وكان الحسن البصري رحمه الله يقول:
"الغيبة فاكهة النساء، ولو أنه، رحمه الله، رآنا الآن لقال: إن الرجال والنساء في الغيبة سواء.
والحياة دَين ووفاء، فمن اغتبته له حرمة ولعلّ أحداً يغتابك.
قال الشاعر:
لا تلتمس من مساوي الناس ما ستروا فيهتكَ الله ستراً من مساويكا
واذكر محاسن ما فيهم إذا ذُكروا ولا تَعِبْ أحداً منهم بما فيكا
وقد قيل: لا تُبد من العيوب، ما ستره علام الغيوب.
وما أشد قولهم: اللئيم إذا غاب عاب، وإذا حضر اغتاب.
2 – النميمة: وهي أن تجمع إلى مذمة الغيبة رداءة وشراً، وتضم إلى لؤمها دناءة وغدراً، ثم تؤول إلى تقاطع المتواصلين وتباعد المتقاربين، وتباغض المتحابين.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ألا أخبركم بشراركم؟
قالوا: بلى يا رسول الله.
قال: المشّاؤون بالنميمة، المفسدون بين الأحبة، الباغون العيوب".
وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"ملعون ذو الوجهين، ملعون ذو اللسانين، ملعون كلّ شغّار، ملعون كل قتّات، ملعون كل منان"(3).
وقالوا في الحكم: النميمة سيف قاتل.
وقال أحد الأدباء: لم يمشِ ماش شرُّ من واش.
3 – السعاية: وهي شر الثلاثة لأنها تجمع إلى مذمة الغيبة، ولؤم النميمة، التغرير بالنفوس والأموال، والقدح في المنازل والأحوال. قال صلى الله عليه وسلم:
"الجنة لا يدخلها ديوث ولا قلاّع"(4).
قال أحد الحكماء: الساعي تراه بين منزلتين قبيحتين. إما أن يكون صدق فقد خان الأمانة، وإما أن يكون كذب، فقد خالف المروءة.
وقال أحد الحكماء كذلك: الصدق يزين الناس كلهم إلا الساعي فإنه آثم مذموم وإن صدق.
وقال أحدهم: النميمة دناءة، والسعاية رداءة، وهما رأس الغدر وأساس الشر، فتجنّب سُبُلهما، واجتنب أهلهما.
وسعى رجل في رجل عند الإسكندر فقال:
أتحب أن نقبل منك ما تقول فيه على أن نقبل منه ما يقوله فيك؟
قال: لا.
قال الإسكندر:
فكفّ عنه الشر، يكفّ الشر عنك.
وروي أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام أنّ في بلدك ساعياً ولستُ أخبرك، وهو في أرضك.
فقال: يا رب، دلّني عليه حتى أخرجه.
فقال: يا موسى، أكره النميمة وأنمّ؟!
الهوامش
(1) الشِّمال: الخلق وجمعها شمائل.
(2) وضع من قدره: خفضه.
(3) السغّار: المحرّش بين الناس، يلقي بينهم العداوة ، والقتّات: النمّام. والمنّان: يصنع الخير ويمنّ به.
(4) الديوث: لا غيرة له على النساء، وهو القوّاد.
القلاع: الساعي يقع في الناس عند الحكام، وقيل القوّاد، والنبّاش، والغمّاز(/3)
صِدْقُ الوَفَاءِ
ما كان
لله من وُدٍّ ومن صِلةٍ
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
ما كان لِله مِنْ وُدٍّ ومِنْ صِلَةٍ ... ... يَظلُّ في زَحْمَةِ الأَيَّامِ مَوْصُولا
يظلُّ ريّانَ مِنْ صِدقِ الوَفاءِ بِه ... ... يُغْني الحياةَ هُدىً قد كان مأمولا
كأنّه الزّهَرُ الفوَّاحُ روضتُه ... ... هذي الحَياةُ يَمُدُّ العُمْر تجميلا
ما أَجْملَ العُمرَ في بِرّ الوفاءِ وما ... ... أَحْلى أَمانيه تقديراً وتفعيلا
*** ... * ... ***
وما يكون لِغَيْر الله لا عَجَبٌ ... ... إِذا تَغَيَّرَ تقطيعاً وتبْديلا
لا يُفسِد الودّ مِثْلُ الظنِّ يَفْتَحُ مِنْ ... ... شَرٍّ ولا يَرْتضي للخَيْر تَعْليلا
يَظَلُّ يُغلِقُ أَبوابَ الرضا غضباً ... ... جَهْلاً وينشُر إِفساداً وتَضْليلا
تُبْنَى المودَّةُ مِنْ جُهْدِ السّنينَ رضاً ... ... ويَهْدِمُ الظنُّ ما نَبْنِيه تَعْجِيلا
وتُشْرِقُ النَّفسُ من نُور الهُدى أَملاً ... ... حقّاً ويمْلؤُهُا ظنُّ الهوى قَيلا
يَظلُّ بالظنِّ صَدْرُ المرءِ مُضطرباً ... ... " بالقيل والقال " تَحْويراً و تأوِيلا
*** ... * ... ***
يَجْلو التَّبَيُّنُ ما في الصَّدرِ من رِيَبٍ ... ... ويحفظُ الودَّ مَجْلوّاً ومأمولا
يَبْني التُّقى النُّصحَ بين الناس نَهْجَ وَفَا ... ... ويَحْسب الظنُّ نهجَ النصح تجهيلا
يظَلُّ بِالنُّصْحِ حَبْلُ الوُدِّ مُتَّصِلاً ... ... بِراً وصَفْواً وإحساناً وتنْوِيلا
كمْ مَزّق الظنُّ مَنْ قَدْ كَانَ يجمعهم ... ... صدقُ الهُدى ووفاءً كان مبذولاً
حَالتْ بِهِمْ صُورُ الأيّام واخْتلفَتْ ... ... بِهِمْ ليالٍ وعاد الحبْل مَبْتُولا
وكيف يَصْدقُ ظَنٌ دُونَ بَيِّنَةٍ ... ... تردُّ من شُبْهةٍ ،تَنْفي الأقَاويلا
هذا هو الدِّين والإِيمانُ بَيَّنَهُ ... ... لنا الكتابُ بياناً ليس مجهولاً
فأيْنَ ، ويْحيَ ، أنْداءُ الظِّلال وقَدْ ... ... سَرَى النَّسيمُ بها بُشرى وتهْليلا
*** ... * ... ***
تُلقي النَّميمةُ أَلوانَ الفسادِ وقد ... ... تُخْفي الحقيقةَ تزويراً وتهويلاً
تُزَيِّنَ الشرَّ بين الناسِ ! تَقْطَعُ من ... ... وشائجٍ ! تَقْتُل الإنسانَ تقتيلاَ
ما بين غِيْبةِ مُغْتابٍ وفِرْيَتِهِ ... ... تفرّقَ الناسُ تشتيتاً وتضليلا
تمزَّقت رِحمٌ مَوْصُولةٌ بِهِمِ ... ... فَبَاتَ لحْمُهُمُ مَيْتاً ومأكولا
*** ... * ... ***
نُعْمى مِن الله !حُسْنُ الظنّ بابُ تُقىً ... ... يُدني الحقيقْة أو يَنْفي الأباطيلا
وإِنَّه الصِّدقُ يَجْلو كُلَّ خَافيةٍ ... ... ويُنْزِلُ الحقَّ في الأَحْناءِ تَنْزيلا
صدقٌ ونُصْحٌ وصَفْوٌ في النفوس بَدَا ... ... عَزْماً يَظَلُّ مَعَ الإيمانِ مَبْذولا
لا يَربْطُ النَّاسَ في الإسلام غَيْر عُرى ... ... عَهْدٍ توثَّقَ تكريماً وتفضيلا
عَهْدٍ مع الله شَدَّتهُ النّفوسُ تُقىً ... ... جيلاً يَمُدُّ على حَبْل الوفا جيلا
*** ... * ... ***
... ... الأحد
5 رجب 1425هـ
21 أغسطس 2004م
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(/1)
صِناعة الوعي الوطنيّ
د. مسفر بن علي القحطاني * 1/7/1425
17/08/2004
ازدهرت صناعة المشاريع الإصلاحيّة في أغلب الأقطار الإسلاميّة نتيجة للأزَمَات الدّاخليّة المتفاوتة التي تمرّ بها مجتمعاتهم , وشجّع نموّ هذه الصناعة ما يتوقّع استيراده من مشاريع إصلاحيّة قادمة بقوّة العولمة ونفوذها السياسيّ؛ مما سيُغرق المجتمع بالمنتجات الأجنبيّة ويُضعف كل ما هو محليّ , ولو كان العرض كثيرًا فالطلب قليل، والوهج المستورد سيُعمي عيون الكثير من أهل الحلّ والقرار ..
إنّ قبول الحلول المستوردة بخيرها وشرها مسخ لهُوِيّة الوطن وخطر على مستقبله , والمتأمّل في تجارِب الأمم والحضارات يدرك عِظم الأمر وصعوبته على ثقافة وفكر المجتمع ؛ ولعلّ من أولئك القلائل الذين أبصروا هذا الخطر المفكّر الإسلاميّ مالك بن نبي إذ يقول:"لا يجوز لأحد أنْ يضع الحلول والمناهج مغفلاً مكان أمّته ومركزها ، بل يجب عليه أنْ تنسجم أفكاره وعواطفه وأقواله وخطواته مع ما تقتضيه المرحلة التي فيها أمّته , أما أنْ يستورد حلولاً من الشّرق أو الغرب فإنّ في ذلك تضييعًا للجهد ومضاعفة للدّاء , إذْ كلّ تقليد في هذا الميدان جهل وانتحار ..
ولهذا كان من المهم في ظلّ هذه الأزَمَات إحياء الوعي الوطنيّ وتعميقه في النفوس؛ فهو أوّل وأهمّ دروع التّحصين العلاجيّة والوقائيّة للفرد والأمّة .. ولعلّنا في هذه العُجالة أنْ نثير الاهتمام ببعض المقوّمات التي تعين على تعميق الوعي الوطنيّ في المجتمع ..منها :
1- ضرورة ترسيخ الهدف الأعظم للإنسان وتبيين حقيقة الوجود في الحياة بشكل قويّ وواضح في قلوب الناس وعقولهم لتسري آثاره في واقعهم وحياتهم . والهدف الحقيقيّ من الوجود هو عبادة الله عز وجل، كما أخبر الله تعالى بقوله: )الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) [الملك:2]
وقال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات:56)
فجعل الله كلّ أنشطة الحياة وسيلة لكسب رضوان الله عز وجل ,والنجاح في هذا الابتلاء العظيم، هو الذي يرسّخ جذور التمدّن في عقول الناس وقلوبهم وسلوكهم ويدفعهم إلى العطاء المتواصل، ويزيد من شعورهم نحو الوصول إلى درجة الشهود الحضاريّ على الأمم والمجتمعات (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ...) [البقرة: من الآية143]
والإنسان في كثير من بقاع الأرض يعيش في معاناة واضطراب؛ فالمعدّات الحضاريّة باتت كاملة لكنّ أهداف هذه الحركة المحمومة مشوّشة وغامضة ولا تلامس ما جُبِل عليه الإنسان بفطرته الصّحيحة. والمتأمّل في حال المجتمع العربيّ قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ينظر بوضوح عظم التخلف والانحطاط في المجالات الماديّة والحضاريّة، ولذلك انعدم ذكرهم في مسيرة التاريخ البشريّ إلا بعد بعثته صلى الله عليه وسلم فكانت إيذانًا بانبعاث حضاريّ شامل، ومولد أمّة من أرقى الأمم وأقواها حضورًا في العالم كله..فالناس هم الناس والدّيار هي الدّيار ولكن السبب العظيم في هذا التحوّل العجيب هو ذلك الوحي الإلهيّ الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم )وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا...) [الشورى: من الآية52] لقد كان ذلك الوحي – كما جاء في الآية- الروح التي بعثت ذلك الجسد الخاوي من الحركة والحياة والنور الذي أضاء الظلمات وبددّ حيرة الجاهليّة.
ويصور لنا أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه ذلك التغيّر العجيب في القوم ما أذهل الذئب وأثار عجبه . يقول رضي الله عنه"عدا الذئب على شاة فأخذها فطلبه الراعي فانتزعها منه، فأقعى الذئب على ذنبه. فقال: ألا تتقي الله ؟ تنزع مني رزقاً ساقه الله إليّ ؟ فقال الرّاعي: يا عجبي ذئب يكلمني كلام الإنس! فقال الذئب: ألا أخبرك بأعجب من ذلك ؟ محمد صلى الله عليه وسلم بيثرب يخبر الناس بأنباء ما قد سبق...)
ولهذا يقول ابن خلدون في مقدمته " فصل في أنّ العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينيّة من نبوّة، أو وِلاية، أو أثر عظيم من الدّين على الجملة "(1) .
فالوعي الحضاريّ والتقدم المدنيّ لا يمكن أنْ يحقّق نتائجه ويؤتي ثماره إذا كان منعزلاً عن السّمو الروحيّ والأيمان القلبيّ، إذًا هو الفاعل الحقيقيّ للمدينة الراقية والمحرّك الأساسيّ للأفراد نحو العمل والإنتاج والإنجاز والإتقان المبدع , وهو المنظِّم لعلاقات الأفراد، والموضِّح لأدوارهم وواجباتهم بمنتهى العدل والإنصاف.(/1)
يقول مالك بن نبي :" الحضارة لا تنبعث –كما هو ملاحظ- إلا بالعقيدة الدينيّة , وينبغي أنْ نبحث في حضارة من الحضارات عن أصلها الديني الذي بعثها , ولعلّه ليس من الغلو في شيء أنْ يجد التأريخ في البوذيّة بذور الحضارة البوذيّة وفي البرهميّة نواة الحضارة البرهميّة. فالحضارة لا تظهر في أمّة من الأمم إلا في صورة وحي يهبط من السماء , يكون للناس شرعة ومنهاجًا, أو هي –على الأقل- تقوم أسسها في توجيه الناس نحو معبود غيبيّ بالمعنى العام , فكأنّما قدّر للإنسان ألا تشرق عليه شمس الحضارة إلا حيث يمتدّ نظره إلى ما وراء حياته الأرضية، أو بعيدًا عن حقبته , إذْ حينما يكتشف حقيقة حياته الكاملة , يكتشف معها أسمى معاني الأشياء التي تهيمن على عبقريته وتتفاعل معها .
ومن هنا يستطيع المؤمن إدراك الحقيقة الساطعة التي يفسرها التأريخ في الفقرة التي وردت في أحد الكتب المنزّلة القديمة.
2- أهمية تعميق الإحساس بروح الانتماء لهذا الوطن الذي كرّمه الله عز وجل بأنْ جعله مهبط الرسالة الخاتمة، ومئرز الإسلام، وقبلة المسلمين، ومشعل هدايةٍ ونورٍ للناس أجمعين. فالمحافظة على أمنه واستقراره ورقيّه وتقدمه لا يخص أفراد الوطن فحسب بل المنفعة والفائدة تتعدّى ذلك إلى سائر بلاد المسلمين , ووجوبه الشرعيّ لا يقل عن وجوبه الوطنيّ لمن تأمّل.
ولا يتعمّق هذا الإحساس للانتماء في نفوس الأفراد إلا بقدر الثّقة المتبادلة والمنفعة المتحقّقة بينهم وبين مؤسّسات الدولة المختلفة ( السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة وغيرها) وعندما يحس الفرد بالدونيّة والإهانة والاستغفال ويحرم حقوقه المشروعة ينعكس ذلك على أدائه لواجباته المناطة به، وينقلب تفكيره واهتمامه نحو الفرديّة المطلقة التي تخدم مصالحة الخاصة، ولو أضرّت بالآخرين، وأنانيّة مفرطة يأنف بها عن التضحية لوطنه أو التعاون مع الآخرين، ولو زدنا من تكريس أنواع العقوبة لهم لما زادهم إلا نفورًا واستكبارًا أو بعدًا عن ظِلال الوطن؛ فروح الانتماء للوطن تأتي تلقائيًّا، وتدخل نفسه من غير استئذان نتيجة شعور الفرد بتلمّس المجتمع حاجاته، ومعالجة مشكلاته، والوقوف معه في أزَمَاته.
3- إنّ وجود الأنظمة والقوانين التي تحكم حياة الإفراد، وتنظّم المجتمع شرط في تقدّم المجتمع ورقيّه؛ لأنّها تكون تجسيدًا لمبادئ المجتمع في الحقوق والواجبات . ولذلك تجده في المجتمعات المتمدّنة يظلّ محترمًا من الكلّ. كما كان عليه العهد في صدر الإسلام.
أمّا في المجتمعات المتخلّفة فإنّ القانون يكون أداة لتأمين مصالح الجهات النافذة ولذلك فإنّه لا يلقى التقدير من أحد، و لا يشايعه إلا المستفيدون منه، ولهذا يصبح تطبيق القانون مظهرًا من مظاهر الانهيار الاجتماعيّ وسببًا من أسباب الهلاك؛ لأنه يصبح أداة ظلم وإفساد. وإلى هذا أشار صلى الله عليه وسلم محذرًا أمّته بقوله : " إنّما أهلك الذين كانوا قبلكم أنّهم كانوا إذا سرق فيهم القويّ تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدّ"
ومعظم مجتمعات الأرض محكومة اليوم بقوانين ودساتير، ولدى حكوماتها نظام قضائيّ عتيد.. لكنّ المجتمعات التي ليس لها من المدنيّة سوى القشور، مصابة بداء ( الازدواج القانونيّ) حيث إنّ لديها بجوار كل قانون مكتوب قانونًا غير مكتوب .. وهذا الأخير هو الوجه، والقانون المكتوب هو القناع، والحق دائمًا مع من يدفع أكثر أو يُخيف أكثر.(2)
إنّ التنظيم القانونيّ والرّدع والجزاء عليه يعتبر من الضّرورات لحماية المجتمع من تمرّد أو تهاون بعض أفراده ؛ لكنّ العقوبات في قوانين التحضّر لا تنشئ مجتمعًا أبدًا ولكنّها قد تحميه , والناظر في آيات الحدود والعقوبات يجد أنّها لا تشكّل خمس آيات القرآن الكريم , أما الباقي فهو يستهدف بناء الإنسان من الداخل بتنمية وعيه بمراقبة ذاته وتقويم سلوكه .
4-المُناخ الذي يُصنع فيه الوعي الوطنيّ يتطلّب استعدادًا حقيقيًّا من كل الفئات العرقيّة، والطبقات الاجتماعيّة، وأصحاب الأفكار والثّقافات للتنازل عن جزء من خصوصيّاتهم الفكريّة والاجتماعيّة ؛لصالح الإطار الوطنيّ العام الذي يُراد للجميع الاندماج فيه . وهذا الإحساس بالآخرين والتّضحية من أجلهم أهمّ درجات الرّقيّ في الحياة المدنيّة ..والمتأمّل في الأثر الإسلاميّ الذي مرّ على الجزيرة العربيّة المتصارعة على النفوذ والمتقاتلة على أتفه الأسباب ليجد أنّ الإسلام جمع شتاتهم ودمجهم على اختلافهم وتباينهم في فترة يسيرة وفي هُوِيّة حضارِيّة واحدة ينتمي لها طيف واسع من البشر.(/2)
ولا بأس أنْ نتعلم من الحشرات شيئًا من التّضحية والتفاني من أجل الآخرين ؛ فمثلاً وظيفة الملكة في مجتمع النّحل وضع البيض ومصدر غذائها هو ما تفرزه لها النًّحَلات العاملات من غدد خاصّة في رأسها ! وللجماعة الواحدة ملكة واحدة ، فهي لا تشكو من مشكلة انقسام القيادات !.. أمّا النّحَلات العاملات فهن عُمُد الخليّة ، وهن يقمن بمعظم العمل، فعلى الرّغم من كونهنّ (عاقرات) إلا أنّهنّ يتولّين تربية الصغار وإطعامهم، وتنظيف المستعمرة وتهويتها.. إنّ الجهود الهائلة التي يبذلنها تجعل أجسامهنّ لا تقوى على الاستمرار في الحياة، ولذا فإنّ متوسّط عمر الواحدة منهن قرابة ستة أسابيع فقط، والذّكور مع أنّها تموت بعد عمليّة التلقيح مباشرة ، إلا أنّها تقدم عليه، وكأنّها تفدي النوع بحياتها.
إنّ شعار النّحل المرفوع دائمًا: لا قيمة لحياتي عند تعرض سلامة الجماعة للخطر وهذا هو شعار الشّهداء في أمّة الإسلام.
من أهمّ مقومات الوعي الوطنيّ الحضاريّ تفعيل دور المؤسّسات التربويّة والتعليميّة والإعلاميّة في رفع مستوى الوعي لدى الأفراد والمجتمع.
إنّ التّخطيط الهادف الواعي المتكامل لصياغة شخصيّة الفرد وبناء الوعي الحضاريّ لديه هو ما يجب أنْ تقوم به مؤسّساتنا التعليميّة والتربويّة في كل مراحلها التعليميّة؛ فالمدارس والجامعات والأسر والمناهج الدراسيّة والمعلمون والخطباء وأئمة المساجد .. كلّ أولئك يجب أنْ يسهموا في هذا المشروع العظيم. ويتكاتفوا في تحقيقه تحت شعار: ()وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ... ) [التوبة: من الآية105] كما أنّ الإعلام يعتبر في العصر الحاضر من أهم وأخطر الوسائل في تقدّم الأمم أو تخلّفها، وما لم يحمل مبادئ وقيمًا حضارِيّة رائدة يترفع بها عن الابتذال والإثارة ومحاكاة الغير بعمى وقلّة بصيرة وإلا فإنّه وسيلة هدم سريع مهما كان البناء عتيدًا والبناة كثُرًا.
أكتفي بهذا الإشارات السريعة والعرض الموجز للمقومات الحضاريّة لتعميق الوعي الوطنيّ لدى الأفراد ومؤسّسات المجتمع، و هي أكثر من أنْ تُغَطّى في هذه العجالة .. وأعتقد أنّ الأهمّ من ذلك يكمن في قناعة الفرد بوجوب المبادرة للعمل المنتج والانسياب في خطط المجتمع التنمويّة . ولعلّ ما يثور في الذّهن والنفس من تساؤلات وإشكاليّات هي في حدّ ذاتها وسيلة لإيقاظ الوعي لعلّها أنْ ترشد إلى البناء، وتشعل قناديل النهضة والتقدّم في أنفسنا ومجتمعنا.* رئيس قسم الدّراسات الإسلاميّة والعربيّة بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن
1ـ مقدمة ابن خلدون 1/160
2- انظر: تجديد الوعي ص 128(/3)
...
ضبط النفس
رئيسي :أخلاق :
يتناول الدرس موضوعا من الموضوعات المهمة جداً، وبخاصة في زمن الفتن التي تكاثرت على المسلمين وهو ضبط النفس، وما معناه ، والنصوص التي تدعو إلى ذلك،و الأسباب والدواعي المضادة لضبط النفس،و وسائل ضبط النفس،و ثمار ضبط النفس، ثم وقفات مهمة .
الحمد لله، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً، وبعد،،، فهذا الموضوع من الموضوعات المهمة جداً، وبخاصة في زمن الفتن التي تكاثرت على المسلمين. ضبط النفس: نحن في أمس الحاجة إليه سواء على المستوى الخاص: في داخل بيوتنا، ومع أقاربنا وأهلينا وجيراننا وأصحابنا، وكذلك نحن بحاجة إليه على المستوى الدعوة إلى الله..نحن بأمس الحاجة إليه وبخاصة في هذه الأيام التي نلحظ فيها كثرة الفتن، وكثرة مراحل الاستدراج، وينصب الفخ لكثير من الدعاة، فقد يقع، وقد يقعون فيما ينسب لهم من أعدائهم، فمن أجل بيان خطورة هذا الأمر نقف مع هذا الموضوع المهم .
معنى ضبط النفس: هو بمعنى: كظم الغيظ، ولذلك أثنى الله على الكاظمين الغيظ فقال:} وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ[133]الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ[134]{ [سورة آل عمران] فالمتقين هنا من صفاتهم أنهم يكظمون الغيظ، فكظم الغيظ وهو أحد معاني ضبط النفس، جنة عرضها السماوات والأرض، ولو لم يأتنا إلا هذه الآية؛ لكفانا بها فضلاً وشرفاً.
قال القرطبي في معناه:'كظم الغيظ رده في الجوف، يقال: كظم غيظه أي: سكت عليه، ولم يظهره مع قدرته على إيقاعه بعدوه'. فكظم الغيظ هو منعه من أن يقع.
? فنستطيع أن نعرف ضبط النفس بالكلمات التالية:'هو منعها من التصرف خطأ في المواقف الطارئة، والمفاجئة التي تتطلب قدراً من الشجاعة، والحكمة، وحسن التصرف'.
وقد أوضحت أن بين كظم الغيظ، وضبط النفس؛ ترادفاً وتشابهاً، فالذي يضبط نفسه هو الذي يكظم غيظه، وهو الذي يحبس غضبه.
وقد ورد أحاديث كثيرة فيها بيان فضل كظم الغيظ، وبالتالي ضبط النفس، ومنها:
? وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:[مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُنَفِّذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي أَيِّ الْحُورِ شَاءَ] رواه أبوداود والترمذي وابن ماجة وأحمد.
? وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:[مَا مِنْ جُرْعَةٍ أَعْظَمُ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ جُرْعَةِ غَيْظٍ كَظَمَهَا عَبْدٌ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ] رواه ابن ماجة .وكما أسلفت أن الأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً.
مظاهر عدم ضبط النفس: كيف نعرف أن هذا الإنسان لم يضبط نفسه؟ هناك مظاهر، ودلالات، أذكر هنا أبرزها:
سرعة الغضب والانفعال، والتأثر: وحدوث ردود أفعال لم تدرس عواقبها، نسمع أحيانا أن هناك تصرفات تحدث كرد فعل لم تدرس عواقبها، وهذه هي التي قلت قبل قليل أنها تجر علينا الويلات.
مثلًا: قد يؤذى أحد الدعاة، ويطلب منا في هذا المقام أن ننصر أخانا، لكن ما الذي يحدث بسبب الحماس والانفعال، وبسبب عدم ضبط النفس ؟ قد يتصرف البعض تصرفات تجر إلى ويلات، وتجر إلى مصائب، وتجر إلى أمور لا تحمد عقباها، وهذا أيها الأخوة يحتاج منا إلى نظر وتبصر.. وحينما أشير إلى ذلك لا لكونها واقعة، ولكنني أتحدث عنها لكي لا تقع؛ لأن معالجة المرض قبل وقوعه أولى من معالجته بعد وقوعه.
? لنأخذ مثلًا واحداً: عند مسجد من المساجد جاء رجال الأمن لمنع بيع أشرطة التسجيل عند المسجد، وبسبب الانفعال تحمس بعض الحضور، ووقع احتكاك بين رجال الأمن، وبين هؤلاء الشباب الذين لا نشك في حماسهم وخيرهم وصدقهم، ولكن ماذا تكون النتيجة؟
هل هذا التصرف منهم قد منعَ اتخاذ مثل هذه القرارات؟ لا.. بل زاد الأمر سوءًا، وجر على هؤلاء الشباب أمورًا نحن في غنى عنها. هناك وسائل مشروعة نسلكها لإلغاء مثل هذه القرارات، ولكن أن نستفز بمثل هذه الأمور، هذا ما يريده ويتمناه ويسعى إليه الأعداء، فردود الأفعال غير المدروسة، يكون لها من الآثار كما وقع في بلاد كثيرة ما لا يخفى على أمثالكم.
إطلاق اللسان: بالسب، أو الشتم، أو نحو ذلك، وكم من البيوت خربت؛ لأن الزوج لا يتمكن من ضبط لسانه، فيقع الطلاق، تتصرف المرأة تصرفاً خاطئاً، وقد تثير زوجها بانفعال أو غيره، فأقرب ما يتجه إليه الزوج هو أن يطلقَ لسانه بالطلاق، وأمر الطلاق ليس بالأمر الهين، وكم جاء للعلماء من يقول: إنني كنت مغضباً، وطلقت وأنا لا أشعر.
نعم المرأة تخطئ، والمرأة ضعيفة، لكن كيف نقابل هذا الأمر؟ هل نقابله بالضرب، أو بإطلاق اللسان؟ لا.. انتبهوا إلى هذه القصة؛ لنعرف كيف نقابل مثل هذه الأحداث التي تقع في البيوت:(/1)
? كان الرسول صلى الله عليه وسلم عند عائشة، فأرسلت إحدى زوجاته رضي الله عنهن جميعاً طعاماً للرسول صلى الله عليه وسلم قد أصلحته بصحفة مع جارية لها، فلما جاءت بالطعام، والرسول عند عائشة، أخذت الغيرة عائشة رضي الله عنها- تأتي بطعام واليوم يومها والرسول عندها، الغيرة شديدة بالنسبة للنساء- فقامت عائشة وأخذت الصحفة وكسرتها وانتثر الطعام، فقام صلى الله عليه وسلم يجمع ما انتثر من الطعام ويقول: [غَارَتْ أُمُّكُمْ غَارَتْ أُمُّكُمْ] رواه البخاري وأبوداود والترمذي وابن ماجة والدارمي وأحمد. وهو يبتسم، وأخذ صحفة جديدة، وأرسلها إلى أم المؤمنين بدل ما كسر.
? الله أكبر.. ما هذا الأسلوب! هل نتعامل مع زوجاتنا بهذا الأسلوب؟!هل غضب صلى الله عليه وسلم وضربها؟!هل غضب وتكلم عليها ؟ هل غضب- أقل شيء- وخرج من عندها ؟
لم يفعل ذلك صلى الله عليه وسلم، إنما قام هو يجمع ما انتثر من الطعام، ويقول: [غَارَتْ أُمُّكُمْ غَارَتْ أُمُّكُمْ] ويعطي المرأة الأخرى صحفة بدل الصحفة التي انكسرت. هذا هو خلقه صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الخلق.
وإذا غضبت فكن وقوراً كاظماً للغيظ تبصر ما تقول وتسمع
فكفى به شرفاً تصبر ساعة يرضى بها عنك الإله وترفع
الأسباب والدواعي المضادة لضبط النفس: بعبارة أخرى: ما هي العوامل التي تثير الإنسان؟ الحقيقة أن هناك عدة أسباب تؤدي إلى كون الإنسان لا يضبط نفسه، وكون الإنسان قد يغضب، ويثور، ويستفز، وهي أسباب عامة وخاصة، وأذكر هنا أهم تلك الأسباب:
تحريش الشيطان : فالشيطان ينزغ في مثل هذه المواقف؛ لأنه يريد أن يُوقع المرء في مثل هذه المهلكات من الاستعجال، أو التصرفات التي لا تحمد عقباها.
استفزاز المنافقين وأعداء الله: وهذا يكون بمثل استفزازات الأنظمة، والأفراد سواء بالقول أو الفعل، فهناك استفزازات الآن تجري في كثير من البلاد، يتولاها منافقون، وعلمانيون، وتتولاها أنظمة معادية للإسلام؛ لتوقع الدعاة في الفخ، لأن المستعجلين منهم قد لا يصبروا، فيستعجلوا ويتحمسوا، ولا يضبطوا نفسهم.
الإهانات والضربات الموجه للمسلمين: وحقيقة أن المسلمين يعيشون في وضع لا يحسدون عليه من الذل والمهانة، وهذا يحتاج إلى شيء من ضبط النفس، والتبصر بالعواقب، والنظر في مآلات الأمور، وعدم جعل هذه الأسباب العامة سبباً لهذا الأمر. ولو تأملنا كيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة، وكم مرة يقول الصحابة له:' أنقبل الدنية في ديننا' والرسول صلى الله عليه وسلم يوجههم بالصبر وبضبط النفس، وعدم التحمس والاستعجال.
ارتفاع صوت الباطل وخفوت صوت الحق.
تخاذل بعض القادرين على نصرة دين الله من قول كلمة الحق: فهناك من القادرين من يستطيع أن يقول للظالم يا ظالم، من يستطيع أن ينصر الدعاة، من يستطيع أن يقف مع المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، ولكنه يسكت ويتخاذل، فما الذي يحدث عندها؟ يأتي بعض الشباب ويتحمسون، ولا يستطيعون الصبر، ولا التحمل؛ فيتصرفون بعض التصرفات التي تكون نتائجها غير محمودة.
إفشاء وتشجيع الفساد بجميع الوسائل وحمايته: فهذا سبب من الأسباب التي قد تؤدي إلى عدم ضبط النفس، وإلى الاستعجال، أو إلى التصرفات التي قد لا تحمد عواقبها.
مضايقة الدعوة والدعاة، مع تشجيع وحماية الضد.
الأراجيف والإشاعات: وخاصة أن البعض يتعجلون بتصديق هذه الإشاعات، وهناك أيدي مغرضة تريد الإيقاع بطلاب العلم، وبالشباب.
الأحداث المتلاحقة في العالم الإسلامي: من التعذيب والأذى والامتهان كما في فلسطين وغيرها، يجعل بعض الناس قد لا يتحمل، وقد ينفجر، وقد يتصرف تصرفات غير محمودة العواقب.
الطبائع الفردية: فالناس يختلفون، فهناك من أعطاه الله سعة في الصدر، وتحملًا وقدرة على ضبط النفس، وهناك آخرون سريعو الغضب، سريعو الثورة، فأي سبب يقع في بيته قد يطلق معه زوجته، قد يسيء إلى ابنه، وقد يتعدى هذا الأمر إلى ما يتعلق بأمور المسلمين العامة، فبسبب طبيعته المتعجلة، وبسبب طبيعته الشخصية التي لا تتحمل قد يجني على المسلمين ما لا يحمد عقباه.
وسائل ضبط النفس:
العلم حصن حصين: يمنع من التصرفات الهوجاء، وإليكم الدليل:} رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ[9]{ [سورة الزمر]. ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة، انظروا كيف كان يتصرف في الشدائد، والملمات.
كيف كان إذا استفز- ولطالما استفز صلى الله عليه وسلم- ولم يقبل الاستفزاز.
ثم انظروا إلى أولئك الذين تحدث منهم ردود أفعال وغضب؛ ستجدون أن أقل نسبة في هذا هم العلماء. فالعلم شرف، وحصانة، ومانع من الوقوع في مثل هذه الأمور.. العلم بعاقبة عدم كظم الغيظ، وبعاقبة كظم الغيظ أيضاً، العلم بفضل كظم الغيظ، إذا عندما نتعلم، هذا يكون مساعداً لنا،
فالعلم حصانة من الوقوع في الغضب، أو آثاره.(/2)
تحري الحكمة: }يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ[269]{ [سورة البقرة]. والحكمة هي فعل ما ينبغي كما ينبغي في الوقت الذي ينبغي، فضبط النفس هو الحكمة، فهذا الذي نريده: أن تفعل ما ينبغي، في الوقت الذي ينبغي، وكما ينبغي. فمن تحرى الحكمة هدي إليها:} وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ[69]{ [سورة العنكبوت]. فإذا كنت تتحرى الحكمة في أفعالك، وفي تصرفاتك، فستوفق إليها.
رجاحة العقل: مما يمنع من التصرفات التي لا تحسب نتائجها: رجاحة العقل والرزانة، ولذلك يقول الله جل وعلا:} وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ[186]{ [سورة آل عمران] . ويقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:[لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ] رواه البخاري ومسلم ومالك وأحمد. فالعقل أيها الأخوة مرآة ومانع من الوقوع في المحظور.
ضبط اللسان: لما قال معاذ للنبي صلى الله عليه وسلم:' وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ' قَالَ:[ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ] رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ دَخَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَهُوَ يَجْبِذُ لِسَانَهُ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ:' مَهْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ' فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ:' إِنَّ هَذَا أَوْرَدَنِي الْمَوَارِدَ' رواه مالك. أبو بكر الصديق يقول عن لسانه: 'هَذَا أَوْرَدَنِي الْمَوَارِدَ' ماذا نقول نحن عن ألسنتنا؟!
فالمحافظة على اللسان وضبط اللسان مما يمنع من التصرفات التي لا تحمد عقباها.
يصاب الفتى من عثرة بلسانهوليس يصاب المرء من عثرة الرجل
فعثرته في القول تذهب رأسه وعثرته بالرجل تبرأ على مهل
فالمحافظة على اللسان وضبط اللسان سبب لضبط النفس بل هو جزء من ضبط النفس.
التجرد لله جل وعلا: وهذا سبب أوجهه لأحبتي من الدعاة وطلاب العلم بصفة خاصة، وللأمرين بالمعروف والناهين عن المنكر،وللقائمين بحدود الله.. التجرد من حظوظ النفس، فعند التأمل قد يكون الغضب ليس لله، كيف؟
كم من الناس يغضبون، ثم يتصرفون، ثم يقولون: غضبنا لله، ولو درسنا المسألة دراسة حقيقة مجردة لثبت لنا أنه في الحقيقة لم يكن الغضب لله، بمعنى أنه قد يكون أصل الغضب لله نعم.. مثلاً: قد تأتي لإنسان، فتقول له: قم للصلاة جزاك الله خيرا، فيتلفظ عليك بكلمات، فقد لا تحتمل أعصابك، فتتصرف إما بالضرب، أو بالشتم، أو بغير ذلك.. نعم يحدث هذا، وعندما يقال لك: لماذا هذا التصرف؟ تقول إنني غضبت لله.. تأمل أخي.. أأنت غضبت لله، أم غضبت لنفسك؟!
كثير من الناس يقع في هذا البلاء، وقد غضب لنفسه، ولم يغضب لله ، صحيح أنه كان يأمر بالمعروف، صحيح أنه كان ينهى عن المنكر، وكان أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر لله، لكن ما حدث بعد ذلك من ثورة، وغضب، وتعدٍ لم يكن لله، ولكن لأن هذا الشخص أساء إليك؛ فغضبت لنفسك.
فالتجرد من حظوظ النفس وهو أمر لا يقدر عليه إلا من أعطاه الله قوة وعزماً:} وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ[34]وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ[35] {[سورة فصلت]. فالنتجرد لله، وليكن غضبنا لله لا لأنفسنا، ولو تأملنا وأخذنا الأمور بهدوء، وناقشنا أنفسنا بعد ذلك؛ لوجدنا أن الغضب الذي كثيراً ما يحدث ولايكن غضباً لله، وإنما هو لحظ النفس. إذاً: فالتجرد من حظ النفس يعين على ضبط النفس .
التربية الجادة وحسن الخلق: التربية على التحمل، ربوا أبناءكم، ربوا تلاميذكم على تحمل الإساءة من الآخرين، إننا لا نستغرب الإساءة من الآخرين، ولكننا نستغرب ردود الأفعال من الصالحين. يقول رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:[ اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ] رواه الترمذي والدارمي وأحمد. فالتربية الجادة، والتربية الصالحة تؤدي بإذن الله إلى ضبط النفس.
والرسول صلى الله عليه وسلم كان يشجع أصحابه على ضبط النفس، قَالَ لِأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ:[إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ] رواه مسلم والترمذي وابن ماجة. كان صلى الله عليه وسلم يربي على الحلم ، والتربية على التصرف في الأزمات مما يساعد على التخلص من هذا البلاء.(/3)
معرفة مآلات الأمور: من أعظم الأسباب التي تمنع من التصرفات الخاطئة؛ معرفة عواقب الأمور، وإتقان قاعدة المصالح والمفاسد، الله جل وعلا يقول للصحابة:} وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ[108] {[سورة الأنعام] . إذا كان سب الأصنام سيؤدي إلى سب الله جل وعلا، فلا تسبوا الأصنام.. والرسول صلى الله عليه وسلم جاء ليحطم الأصنام، ومع ذلك نجد أن الله ينهى الصحابة من أن يسبوا الأصنام، لماذا؟ لأن سب الأصنام يؤدي إلى أن المشركين يسبون الله . فالمعرفة بمآلات الأمور، ومعرفة النتائج أمور مهمة جداً، فقد يأخذنا الإنفعال بتصرف أهل السوء تصرفات هوجاء، ومع زحمة الانفعال والغضب والغيرة على دين الله، وعلى محارم الله؛ قد نتصرف ولا نعرف ماذا سيترتب على ذك، ونحن يجب أن نكون أكثر حكمة. فإذا رأيتم منكراً لا نقول لا تغيروه- كلا وحاشا- ولكن ضبط الأعصاب مطلب شرعي لنعرف كيف نتصرف.
?إذاً: اللهَ الله بالحلم وتدريب النفس على ذلك، وإنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، وقدوتنا في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.. عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:' كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَهُ جَبْذَةً حَتَّى رَأَيْتُ صَفْحَ أَوْ صَفْحَةَ عُنُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الْبُرْدِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ أَعْطِنِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ' رواه البخاري ومسلم وأحمد.
? الأحنف، سيد قومه، يقال أنه إذا غضب غضبَ له مائة ألف لا يسألونه فيما غضب، لكن متى يغضب الأحنف؟ قيل له ممن تعلمت الحلم؟ قال تعلمته من قيس بن عاصم حيث كان يوماً جالساً مع أصحابه في مجلسه، فجاءوا له برجل مقيد يرسف بالحديد، وقالوا له: هذا أبن أخيك قتل ابنك. فالتفت إلى أبن أخيه وقال: يا ابن أخي أقتلت ابن عمك وأسأت إلى رحمك، وأثمت نفسك. ثم التفت إلى ابنه، وقال: قم أطلق سراح ابن عمك، وأدي الدية إلى أمك، وجهز أخاك ثم آذنا بعد ذلك، واستمر في مجلسه.
?ميمون بن مهران:كان جالسا مع أصحاب في مجلسه، فجاءت الجارية تحمل مرقة حارة لتقدمها لهم، فعثرت وسقطت المرقة على ميمون بن مهران، فغضب غضباً شديداً، وكاد أن يعاقبها، فقالت له: حسبك، ألم تسمع إلى قوله تعالى:} وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ...[134]{ فكظم غيظه.قالت:} وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ...[134]{ قال قد عفوت عنك. قالت:} وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ[134]{ [سورة آل عمران] فأعتقها .
الإعراض عن الجاهلين: وهذا مما يساعد على ضبط النفس، يقول جل وعلا:} خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ[199]{ [سورة الأعراف]. ويقول:} وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا[63]{ [سورة الفرقان]. ويقول:} وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا[72]{ [سورة الفرقان].
ولقد أمر على اللئيم يسبني فمضيت ثمت قلت لا يعنيني
فالإعراض عن الجاهلين منهج يؤدي إلى ضبط النفس.
دفع السيئة بالحسنة: يقول تعالى:} وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ[34]وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ[35]وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ[36]{ [سورة فصلت]. ويقول رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:[ اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ] رواه الترمذي والدارمي وأحمد.(/4)
الاستشارة : مما يعين على ضبط النفس الاستشارة فيما يجب اتخاذه من المواقف الطارئة، والمفاجئة، والاستعداد لذلك }فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ[159]{ [سورة آل عمران]. فنتشاور عن الحدث قبل وقوعه، فإذا وقع وإذا نحن قد قلبنا النظر، وإذا نحن قد استشار بعضنا بعضا، فنعرف كيف نتصرف، أما إذا أقدمنا دون استشارة، فقد يكون أحدنا يرى الحسن خطأ، والخطأ حسن:} أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ[8]{ [سورة فاطر].
الصبر والتقوى: يقول تعالى:} وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ[120]{ [سورة آل عمران]. ويقول: } وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ[186]{ [سورة آل عمران]. فالصبر من أعظم العلاج في مسألة ضبط النفس.
الالتزام بما ورد في الشرع الذهاب الغضب: وهي وسيلة عظيمة تجمع عدة وسائل، فموضوع ضبط النفس يعني مدافعة الغضب، فكيف يدفع الواحد منا غضبه؟
فمثلا إذا غضب الواحد منا على زوجته أو على ابنه، أو على أقاربه، أو أثاره الغضب على أمر من أمور الشرع، فكيف يذهب هذا الغضب؟ أذكر أبرز الوسائل التي نستطيع أن ندفع بها الغضب، وقد وردت في ذلك أحاديث كثيرة منها:
? الاستعاذة بالله من الشيطان: فَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجُلَانِ يَسْتَبَّانِ فَأَحَدُهُمَا احْمَرَّ وَجْهُهُ وَانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:[ إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ لَوْ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ] رواه البخاري ومسلم وأبوداود وأحمد. إذا التعوذ من الشيطان وسيلة مهمة من وسائل ضبط النفس.
? السكوت:إذا غضبت إياك والكلمة، أخرج واترك الموضع، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:[إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْكُتْ] رواه أحمد .
?السكون وتغيير الحالة التي هو عليها: قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:[ إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ وَإِلَّا فَلْيَضْطَجِعْ] رواه أبوداود وأحمد .
? الدعاء: وهو من أعظم ما يضبط النفس، فالدعاء سلاح، أن يلح الإنسان على الله بالدعاء أن يرزقه حلماً وعلماً ويقيناً وثباتاً، نعم خاصة الثبات، ادعوا الله أن يثبت أقدامكم... هذه أبرز وسائل ضبط النفس.
ثمار ضبط النفس:
?الاتصاف بصفة من صفات المتقين: } الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ[134]{ [سورة آل عمران].
?تفويت الفرص على الأعداء، وحماية الصحوة من المتربصين:والله إن الأعداء يتربصون، ويتمنون أن يقع من شباب الصحوة، ومن طلاب العلم تصرفات تكون مبرراً للإيقاع بهم، ففوتوا الفرصة عليهم، فإن من أعظم ثمار ضبط النفس تفويت الفرصة على الأعداء.
?تجنيب النفس الحسرة والندامة: وكم من الناس في السجون يتحسرون على نزوة حصلت، كم من الرجال في داخل بيوتهم يتأثرون ويتحسرون على خراب بيوتهم.
? القدوة الصالحة: طفل خرج في يوم من الأيام مع مجموعة من الدعاة، فلما وصلوا إلى القرية التي ذهبوا إليها قالوا: كل منا يذهب إلى شارع، ويطرق البيوت على أهل هذه البلدة، ويقول: إن إخواناً لكم قد جاءوا لزيارتكم، وهم سيلقون درساً في المسجد الفلاني.. هذا الطفل ذهب وطرق باب أحد الناس، فخرج عليه صاحب البيت، وربما كان نائماً، أو مشغولاً، أو لسبب من الأسباب، فلما خرج قال للطفل: لماذا طرقت الباب، قال نحن إخوان لكم جئنا من مدينة كذا، ونريد أن نزوركم، وأن تحضروا معنا بعض الدروس، قال: أمن أجل هذا تطرق الباب، ثم بصق في وجهه بغضب. فما كان من هذا الطفل إلا أن مسح البصاق في وجهه وهو يقول: الحمد لله الذي أوذيت في سبيله، ثم انصرف.
هذا الرجل وقف مشدوهاً، فما كان منه إلا أن لحق بالطفل وقال له: قف يا بني، لقد أخطأت عليك، أين إخوانك فأنتم ضيوف علينا، وأريد أن تسامحني، ثم ذهب معه إليهم، وجلس معهم وأكرمهم.. أرأيتم القدوة الصالحة، نحتاج إلى قدوات لضبط النفس.
أخيراً.. وقفات مهمة:(/5)
? الوقفة الأولى:اعلموا أن عدم ضبط النفس مظهر ضعف لا مظهر قوة، يعني إذا جاء إليك إنسان، وقال: إن فلاناً شتمنى، أو تصرف كذا، وأني ضربته، فلا تقل له أنه بطل، أبداً فهو بالحقيقة ضعيف، ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب. يقول الإمام أحمد رحمه الله مبينا هذه المسألة:'الصدع بالحق عظيم يحتاج إلى قوة وإخلاص، فالمخلص بلا قوة يعجز عن القيام به، والقوي بلا إخلاص يخذل، فمن قام بهما كاملًا فهو صدّيق، ومن ضعف فلا أقل من التألم والإنكار بالقلب، وليس بعد ذلك إيمان'. إذاً: عد ضبط النفس مظهر ضعف لا مظهر قوة.
?الوقفة الثانية:هناك فرق عظيم بين ضبط النفس وبين الذل، فقد يقول قائل: أن المعنى أن كل ما جاءنا نصبر عليه، وهذا يؤدي بنا إلى الذل والضعف.. أقول: لا.
فرق بين الذل وبين ضبط النفس: ضبط النفس هو تحمل الأذى في سبيل الله، من أجل الله، ومن أجل دعوته.
ضبط النفس: هو تحمل الأذى، والنظر في مآلات الأمور..ضبط النفس هو مراعاة قواعد المصالح والمفاسد.
فإذا كان تصرفك سيجر علينا مصيبة أعظم فلا، وبارك الله فيك، أما إن كنت قادراً، ولن يترتب على ذلك مفسدة، فأقدم وبارك الله فيك، إن كنت صاحب سلطة فأدب هؤلاء.
أما الذل: فهو تحمل الأذى والإهانة من أجل مصلحة النفس، كثير من الناس يتحمل الأذى والإهانة من أجل مصلحة نفسه، يخشى على وظيفته، أو يخشى أن يسجن، أو يخشى من أي أذى شخصي.. وهذا هو الذل. هؤلاء هم الذين يتربون على الذل، أما أن تتحمل في سبيل الله، فالرسول صلى الله عليه وسلم قد وضع السلى على رأسه الكريمة فما حركه، وصبر صلى الله عليه وسلم، بل شجوا رأسه وصبر صلى الله عليه وسلم.. فيجب أن نفرق بين ضبط النفس وبين الذل حتى لا يقع وهم، أو يتصور أحد منكم أن هناك خلط بين الأمرين..} أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [54]{ [سورة المائدة] . لا نحن لا نقبل بالذل.. ولا نرضى به أبداً.. ولكن هناك فرق بين الأمرين، فلتنتبهوا.
?الوقفة الأخيرة: الغضب من أجل الله إذا انتهكت محارمه مطلوب شرعاً، ولكن بضوابطه الشرعية، ضوابط المصلحة والمفسدة . فالرسول صلى الله عليه وسلم الرحيم الحليم قد غضب غضباً شديداً:
عندما خَرَجَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ وَالنَّاسُ يَتَكَلَّمُونَ فِي الْقَدَرِ وَكَأَنَّمَا تَفَقَّأَ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ مِنْ الْغَضَبِ فَقَالَ لَهُمْ:[ مَا لَكُمْ تَضْرِبُونَ كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ بِهَذَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ] رواه ابن ماجة وأحمد.
وعندما بلغه أن معاذاً كان يطيل الصلاة في الناس غضب صلى الله عليه وسلم وقال:[يَا مُعَاذُ أَفَتَّانٌ أَنْتَ] رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبوداود وابن ماجة والدارمي وأحمد .
وعندما دخل على عائشة ووجد في غرفتها صور.. غضب صلى الله عليه وسلم.
إذاً: الغضب لله في ضوابطه الشرعية، وإذا لم يؤدي إلى مفسدة أعظم، وضبط بهذه الضوابط فهو مطلوب، والذي لا يغضب لله لا خير فيه.. وأسال الله أن ينفعنا بما علمنا، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه وسلم.
من محاضرة:'ضبط النفس' للشيخ/ناصر العمر(/6)
ضدّ الاستبداد ولكن ..
محمد أبو رمان 13/6/1427
09/07/2006
عدة أسباب رئيسة تكمن وراء العودة الفكرية الجديدة إلى عصر النهضة العربي؛ الأول أنّ تراث هذا العصر تعرّض للإهمال قرابة قرن من الزمن بسبب الظروف التاريخية والسياسية السابقة (مرحلة الاستقلال الوطني والحرب الباردة)، فحدثت "قطيعة" معرفية وفكرية معه، مما حال دون تحقيق الإفادة المطلوبة منه والبناء عليه، والثاني أنّ هذا "التراث" على الرغم من مرور قرن على أكثره، إلاّ أنه لا يزال حيّاً يبحث في العلل والأدواء التي لم تتخلّص منها الأمة (المجتمعات العربية) إلى اليوم، بل إنّ الفكر الذي جاء بعد هذا العصر، لم يرْقََ - في مجمله - إلى العمق والتأصيل والتحليق الذي ميز عصر النهضة وتساؤلاته ومناظراته الهائلة، أمّا الثالث فلأن الظروف العامة الحالية أعادتنا مرة أخرى إلى سؤال الإصلاح والنهضة، بعد أن غلب سؤال الهوية والصراع على السلطة فترة طويلة من الزمن، وبعد أن طوّحت بنا الدعوات الأيديولوجية بين الشرق والغرب ومن ثم أعادتنا إلى حيث بدأنا.. أي عصر النهضة.
هذا لا يعني أنّ "عصر النهضة" حمل رؤية أو مدرسة واحدة، فثمة مدارس واتجاهات ومقاربات متعددة لكل منها مقولاتها ورؤيتها في التنمية والنهوض والتغيير. فمع تأكيد رواد النهضة على أنّ "المشكل السياسي" هو الأساس إلاّ أنهم لم يتفقوا على إستراتيجية النهوض والتغيير، هل تتمّ من خلال العمل السياسي العام أم الاقتصادي أم التربية والتعليم والثقافة والإصلاح الديني..؟ في هذا السياق يمكن الحديث عن مدرستين رئيستين بين مدارس فكر النهضة؛ مدرسة "طبائع الاستبداد" عند الشيخ (عبد الرحمن الكواكبي) ومدرسة "المستبد العادل" عند (الإمام محمد عبده). وإن كان الاحتفاء اليوم بالرجلين في أوساط فكرية وثقافية عربية وإسلامية كبيراً، بخاصة في السنتين الأخيرتين اللتين شهدتا مرور قرن على وفاتهما (محمد عبده 1905، الكواكبي 1902)، إلاّ أنّ المقارنة بين المدرستين بحاجة إلى توضيح وقراءة منهجية أدق.
ففي حين يقدم الكواكبي مرافعة تاريخية رائعة ضد الاستبداد وخطورته فإنه لا يجيب عن السؤال الأهم: كيف الخلاص من الاستبداد؟ بقدر ما يرصد ويحلل تداعيات وآثار الاستبداد، ويربط بين الاستبداد الديني والسياسي، أمّا محمد عبده فيرى أنّ وراء "المشكل السياسي" أزمة ثقافية واجتماعية كبيرة، وأنّ إصلاح السلطة لا يمكن إلاّ بإصلاح الأمة والمجتمعات، التي وصلت إلى حالة من الجمود والتأخر والضحالة المعرفية والفكرية؛ إذ صارت ترفض دعوات الإصلاح وتشكك فيها، فإصلاح الأمة مقدمة لإصلاح السلطة.
في هذا السياق يتحدث الإمام محمد عبده وتلميذه محمد رشيد رضا عن دور العلماء والمثقفين والكتاب في الإصلاح الديني والثقافي والاجتماعي، وعن دور الجمعيات والمؤسسات الاجتماعية وعن التربية والتعليم، وهي مهمة صعبة وشاقة وطويلة الأمد، يسهل ويساعد على الوصول إليها وجود حاكم قوي عادل صالح يضع من السياسات الضرورية، ويجسر بين المراحل المطلوبة التي تصل من خلالها الأمة إلى حالة النهوض والاعتماد على الذات والخروج من حقبة الاستبداد إلى الحرية والحياة المؤسسية.
إذن؛ "المستبد العادل" عند الشيخ محمد عبده ورشيد رضا هو فكرة "وظيفية مؤقتة" خلال مرحلة معينة، وصولاً إلى متطلب النهوض، بهدف تسريع عملية الإصلاح والنهضة. ربما يشرح هذه الفكرة بدرجة أكبر رشيد رضا الذي وإن كان يقر بأن الشورى "ملزمة" ليست "محمدة اختيارية" إلاّ أنه يرى أنها ترتبط بمدى"استعداد الأمة"، ويرى أنّ الحكومات انعكاس للوسط الذي تتحرك فيه، وهو المجتمعات "فإذا ارتقت الشعوب ارتقت الحكومات". فوفقاً لهذا الاعتبار يمكن التمييز بين نوعين من المجتمعات، وبالتالي الحكومات؛ الأول استبدادي تكون فيه المجتمعات أقرب إلى حالة "الطفولية" غير قادرة على تحديد المسافات والمصالح، وتكون فيه السلطة "آلة محللة" لكل اجتماع إلا الاجتماع لتأييدها، وتفتقد المجتمعات لـ"روح الحياة"، أما الحالة الثانية فهي السلطة المقيدة، وتكون فيها المجتمعات على مستوى حضاري وثقافي راقٍ تدرك مصالحها وعلاقتها بالحاكم مبنية على عقد اجتماعي، وتنظر إلى الحكام على "أنهم أفراد من الرعية تستأجرهم بمالها، للقيام بأعمال مخصوصة". ومصدر قوة المجتمعات في هذه الحالة هو قوة أفرادها المتمثلة بقوة الفكر والإرادة.(/1)
من الواضح تماماً بالمقارنة بين النموذجين السابقين أنّ رشيد رضا يستبطن في النمط الأول (الاستبدادي) مآلات الواقع العربي في حينه، وفي الثاني الواقع الغربي والأوروبي، وما وصل إليه من مستوى عالٍ من التعليم والسياسة والتنظيم المؤسسي مقارنة بالواقع العربي. وهنا يطرح السؤال الجوهري: إذا كانت المجتمعات العربية لم تبلغ بعد درجة من العلم والتطور الثقافي والاقتصادي والسياسي ما يؤهلها للحفاظ على مصالحها وانتزاع حقوقها، فكيف تُدار؟ وكيف تُجسّر المرحلة حتى تصل إلى المرحلة السياسية المطلوبة؟
نجد الجواب عن السؤال السابق في مقالة لرشيد رضا بعنوان "الإصلاح والإسعاد على قدر الاستعداد"؛ إذ يرى أنه في مثل هذه الحالة لا مانع من التسليم بوجود القائد الداعي للإصلاح، المستبد العادل، الذي يسوق الناس إلى النهضة والعلياء سوقاً، لكونه يحكم "أمة خاملة ورعية جاهلة فيحملها بالقهر والإلزام على ما يُطلب ويُرام"، فإذا ما عجز هذا الحاكم عن "تغيير سرائر الناس، فإنه لا يعجز عن التصرف في ظواهرهم".
من رحم الولع بالإصلاح والنهضة والتغيير ولدت فكرة "المستبد العادل" لدى الشيخ محمد عبده وتلميذه محمد رشيد رضا، في سياق عدم الأهلية الاجتماعية والثقافية آنذاك للوصول إلى الخلاص من "طبائع الاستبداد". إلاّ أن تجربتنا السياسية الممتدة منذ ذلك التاريخ إلى اليوم أثبتت أن "المستبد العادل" الإصلاحي ليس موجوداً، وأن الحاضر دوماً هي "طبائع الاستبداد".
ولمّا يئس نفر من السياسيين والمثقفين العرب من "الاستبداد"، ومن عدم قدرة "الداخل" على الخلاص منه، نظروا إلى أنّ "الاحتلال الجديد" يمكن أن يوفر مدخلاً، ولو في البداية، للتخلص من "طبائع الاستبداد"- وهي نظرة قاصرة بالتأكيد- فإذا بِنا أمام نموذج أسوأ (في العراق) يتمثل بالحرب الأهلية والإرهاب وتدمير البنية الاجتماعية والثقافية المدنية لصالح انتماءات أولية، لتعود المناظرة الفكرية العربية اليوم مرة أخرى إلى السؤال: كيف الخلاص من "طبائع الاستبداد" دون البحث عن "مستبد عادل(/2)
ضرب الحبيب ليس كأكل الزبيب !!
د . حياة بنت سعيد با أخضر 23/12/1425
03/02/2005
ضرب الزوجات ظاهرة تعني تصعير الخد للأخلاق الإسلامية وإدارة الظهر للحقوق المشروعة والمفروضة على الزوج، وعندما نريد أن نطرحها على بساط البحث؛ فإننا نقول لهذا الزوج بهدوء وتذكير بإسلامه وإثارة لمشاعر المودة والرحمة التي زرعها الله تعالى في قلبه فطرة نحو زوجته، وقبل ذلك وبعده إيقاظه من غفلته بأن الله تعالى القادر يبصره في كل وقته ويحيط به علما وأنه توعدنا بقوله (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) [الزلزلة آية 7].
فمن المنطق السابق نقول للزوج:
* · إن الرجولة الحقيقية تكون في ضبط غضبك وسيطرتك على انفعالاتك، وليس في ضعف شخصيتك حتى على نفسك فتغدو بركاناً ثائراً يأكل الأخضر واليابس, يقول تعالى: (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) [فصلت آية 34], ويقول صلى الله عليه وسلم: "ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"
* إن المسلم الحقيقي يتعبد لله بفعل أوامره واجتناب نواهيه بذل وخضوع ومحبة فيقرأ قوله تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)[الروم 21]، وقوله تعالى: ( وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً) [النساء 19]، ويقرأ قوله صلى الله عليه وسلم "خياركم خياركم لنسائهم" [صحيح سنن ابن ماجه رضي الله عنه وقال عنه الألباني: صحيح]، وقوله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص: "يا عبد الله ألم أخبرك أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: فلا تفعل، صم وأفطر وقم ونم فإن لجسدك عليك حقاً وإن لعينيك عليك حقاً وإن لزوجك عليك حقاً" وقوله صلى الله عليه وسلم :من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره واستوصوا بالنساء خيراً فإنهن خلقن من ضلع أعوج وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء خيراً) صحيح البخاري كتاب النكاح .
* بعد قراءة الزوج المسلم لهذه النصوص المقدسة سيعرف معنى الزواج وحقيقة الزوج المسلم الذي يحفظ وصية الرسول صلى الله عليه وسلم في النساء عموماً وزوجته خصوصاً، ويجاهد نفسه ليكون ممن زكاهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأنهم من خيار الناس ويظل يأمل في كل خير يعقبه من حسن معاملته لزوجته فينعم بحياة سعيدة كلها آمال لغد أفضل وأيام قادمة تحمل الخير والمودة والرحمة والحب.
* نقول للزوج المسلم الذي يضرب زوجته: أترضاه لأمك ؟ أترضاه لأختك ؟ أترضاه لابنتك ؟ أترضاه لخالتك؟ فكيف ترضاه لمن تعاشرها؟
* أيها الزوج المسلم اقرأ هذه الأحاديث التي تحمل أكثر من دلالة يقول الحبيب الرحيم بأمته صلى الله عليه وسلم: "لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم يجامعها آخر اليوم" [صحيح البخاري كتاب النكاح]، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خادماً له ولا امرأة ولا ضرب بيده شيئاً" [صحيح سنن ابن ماجه كتاب النكاح]. وأول دلالة له بيان حجم بشاعة هذا الفعل بتشبيه المرأة بالعبد مع البون الشاسع بينهما في حقيقتهما البشرية ومنزلة كل منهما في المنزل. فهل زوجتك كالعبد؟ وحتى العبد لا يجلد؛ بل نهى عن جلده وإيذائه فهل زوجتك أقل قيمة منه؟!
ثم ما تظهر بشاعة هذا الفعل أكثر بكونه يضاجعها آخر اليوم وكأنها قطعة حجر خالية من المشاعر والعواطف، يقلبها كيفما يشاء فكيف يستلذ بمعاشرتها؟ وكيف يطمع في تجاوبها؟ وكيف ينجب منها الولد؟
وأشد هذه العلامات المخالفة الصريحة للرسول -صلى الله عليه وسلم- وكفى به ذنباً عظيماً.
* أيها الزوج المسلم إذا كان الطفل الصغير لا يضرب إلا إذا بلغ العشر وعلى أمر عظيم هو ترك الصلاة فكيف تضرب أمه على خصومة بينكما قد يضحك منها صغاركما؟ وحتى ضرب الصغير أو الضرب عموما له شروطه وآدابه فهل قرأتها ووعيتها؟
* أيها الزوج المسلم، ماذا بقي للزواج إن قام على الضرب والإهانة؟ وماذا يحدث في مجتمعنا المسلم ثم في أجيالنا ونسائنا؟ فكّر؛ فقد تكون أول من يشعل النار التي تحطم كل ما سبق وعقاب الله في انتظارك.
* أيها الزوج المسلم إن لجأت إلى الضرب الذي أباحه الله لك؛ فهل هذا هو العلاج الثالث بعد فشل العلاجين السابقين تماماً وهما: الوعظ والهجر في المضجع؟ وبالتالي يمنع أن يكون الضرب تعذيباً للانتقام والتشفي أو إهانة للإذلال والتحقير والقهر والإرغام على معيشة لا ترضاها؛ بل يكون ضرب تأديب مصحوباً بعاطفة المؤدب المربي ولا يكون له موضع في حالة الوفاق بين الزوجين وإنما هو لمواجهة خطر الفساد والتصدع.(/1)
* تذكر أيها الزوج المسلم خاتمة الآية التي تبيح ضرب الزوجات ضرباً غير مبرح حيث يقول العليم بنا سبحانه: (فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً إن الله كان علياً كبيراً)؛ فهو أكبر سبحانه من كل شيء والعلي والأعلى سواء: علو الذات, أو علو القدر, أو علو قهر، عظيم الذات والصفات, فلا تنسيك قوتك البدنية كل هذا(/2)
ضرب المتهم عند التحقيق!
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ...
التاريخ ... 18/12/1426هـ
السؤال
أعمل في إحدى مراكز الشرطة كمحقق في مختلف القضايا الجنائية والسؤال ما هو حكم استخدام الضرب بشكل عام وفي الحالات التالية:
1- إذا كان الضرب لانتزاع الاعتراف من شخص مشهور بالفساد مع وجود قرائن عديدة على ارتكابه لذلك الجرم إذا كان في إنكاره ضياع للحق العام أو الحقوق الخاصة.
2- ما حكم الضرب للتأديب كتأديب عاق الوالدين أو من يقومون بأذية الناس والجيران في حالة انتهاء القضية دون وصولها للشرع.
3- بعض الأباء يطلبون إيقاف أبنائهم وتعريضهم للضرب من قبل الشرطة لتأديبهم على عصيانهم لهم دون الرفع عنهم للوجه الشرعي.
4- ضرب الأشخاص الذين يحاولون الإنقاص من قيمه الأمن ورجال الأمن بالتلفظ عليهم بحضرة الناس.
5- لوحظ تعدد القضايا لبعض الأشخاص الذين ينتهي موضوعهم في نفس اليوم في القضايا الجنائية إذا لم يتعرضوا للضرب المبرح، كما لوحظ أنهم يفهمون ذلك على أنه ضعف في إجراءات الشرطة، كما لوحظ أن من يتم عقابهم بالضرب حالا لا تتم مشاهدتهم في قضايا أخرى أو مشابهة للقضايا التي قبض عليهم فيها باستثناء أرباب السوابق.
6- هل يدخل من يقوم بضرب الناس من رجال الشرطة في القضايا الجنائية في حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما معناه: "صنفان من أهل النار لم أرهما"...وذكر منهما: "رجال يحملون سياطا كأذناب البقر يضربون بها الناس". آمل الإفادة بشيء من التفصيل، أثابكم الله.
الجواب
الحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فالحالات (1، 2 ،3، 5) في السؤال متشابهة: فأقول: إن قيام المسئول بضرب الجاني أو المعتدي المنتهك لحق من حقوق الله أو حقوق العباد أو كان الضرب لانتزاع الاعتراف من شخص اشتهر بالفساد أو له سوابق من ذلك – فالضرب لهؤلاء وأمثالهم جائز شرعاً. وثبت في السنن أن النبي –صلى الله عليه وسلم- حبس في تهمة. سنن أبي داود (3630)، وجامع الترمذي (1417)، وسنن النسائي (4875). وفي غزوة بدر ظفر المسلمون برجلين على الماء فجأوا بهما إلى الرسول –صلى الله عليه وسلم- وهو يصلي –ورجوا أن يكونا من جيش أبي سفيان وهما يقولان: نحن سقاة قريش. فكانوا إذا ضربوهما قالا: نحن لأبي سفيان وإذا تركوهما قالا: نحن سقاة قريش فلما سلم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- من صلاته قال: "إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم تركتموهما". السيرة النبوية لابن هشام (3/163-164)، وتاريخ الطبري (2/28)، والثقات لابن حبان (1/160-161).
وهذا منه صلى الله عليه وسلم إقرار على الضرب التهمة وإنما أنكر على أصحابه استمرار الضرب بسبب بعد اعتراف المتهم.
وعلى هذا فإن الضرب في هذه الأحوال (1،2،3،5) في السؤال فيما لا يتوقف الحكم فيها على الدعوى (الخصومة) وإنما على الحسبة فقط وعامة الجزاءات المعمول بها عند الشرط هي في الأصل من باب الاحتساب وعلى الضابط وهو يقوم بضرب المتهم المشهور بالفساد أو من له سوابق فيه أن يتذكر أنه يقوم مقام المحتسب فلا يظلم ولا يحابي قريبًا أو صديقًا.
أما الحالة الرابعة في السؤال وهي التأديب بالضرب لمن يحاولون الانتقاص من الأمن أو رجاله عن طريق التلفظ بما لا يليق. ففي هذه الحالة لا يجوز لك تأديب السَّاب المنتهك بالضرب ونحوه فإن هذا من باب التشفي والانتقام لا غير، وحظوظ النفس أسرع ما يدخل إليها الشيطان فتحصل مفسدة أعظم وأكبر مما تلفظ به عليك.
أما الحالة السادسة في السؤال وهي السؤال عن دخول الضابط المحقق في حديث مسلم المذكور فلا يدخل المحقق بضرب المتهم –إذا كان مأذوناً له وكان محتسباً لا يزيد عن قدر الحاجة ولا ينتقم لنفسه أو زميله وصديقه. وإذا اختلت هذه الشروط والأوصاف فهو داخل في الوعيد في هذا. وقد صدقت معجزة الرسول –صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث حيث ترى كثيرا من الشرط في العالم الإسلامي يظلمون الناس فيضربون أبشارهم وربما اعتدوا على أموالهم وأعراضهم . ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظي(/1)
...
ضريبة الغلمان
مفكرة الإسلام : لقد تعرض تاريخ الدولة العثمانية لحملات شرسة وخبيثة من جانب المستشرقين الأوروبيين وأذيالهم من علمانيّ الأمة, فلقد هالهم الفتوحات الهائلة التي حققها العثمانيون بالجبهة الأوربية ولم ينسوا أبدًا أن العثمانيين فقد فتحو القسطنطينية وأسقطوا مملكة الصليب المقدسة هناك, وامتلأت صدورهم حقدًا وغلاً وحسدًا ضد المسلمين عمومًا والعثمانيين خصوصًا, وكان زعماء النصارى من قساوسة ورهبان وملوك ينفخون في أور هذه الأحقاد والضغائن ويستعينوا على ذلك بالأباطيل والأكاذيب والتهم الظالمة في حق العثمانيين, فكانوا يصفونهم بالبرابرة والهمجيين والوحشيين والقراصنة إلى غير ذلك من الاتهامات التي راجت وملأت كتب التاريخ وساعدت على انتشارها وترويجها الأقلام اليهودية الخبيثة والمحافل الماسونية, وإلى هذا الحد فليس مستغربًا أن ترى مثل هذه العداوة وهي عداوة طبيعية أخبرنا عنها المولى جل وعلا: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم} [البقرة: 120], ولكن المحزن حقًا أن نرى من مؤرخي المسلمين والعرب من يجاري المستشرقين في أهوائهم وينقل عنهم أباطيلهم ويضمنها في كتب ويوافقهم على تلك الأكاذيب والتهم كأنها حق ثابت لا ريب فيه, وهذه الأباطيل التي تسربت إلى كتبنا التي كتبها أبناء المسلمين بأيديهم لابد أن تمحى من التاريخ.
جيش الانكشارية:
عندما تولى السلطان 'أورخان بن عثمان' الحكم في الدولة العثمانية عهد إلى تأسيس جيش إسلامي جديد وأدخل نظامًا جديدًا للجيش العثماني عرف بالانكشارية, وكان هذا الجيش الجديد هو رأس الحربة الشديد في كل الفتوحات الإسلامية، وكان لهم أيادٍ بيضاء على الجبهة الأوربية خصوصًا, ولقد زعم معظم المؤرخين الأوروبيين أن جيش الانكشارية هذا قد تكون من خلال ما يعرف بنظام 'الدقشرية' وقد زعموا أن هذا النظام مستقى من شرع الله وما يطلق عليه اسم 'ضريبة الغلمان' وقد قالوا عن هذه الضريبة أنها تبيح للمسلمين انتزاع خُمس عدد أطفال وغلمان أي مدينة نصرانية يفتحونها باعتبارهم خُمس الغنائم، التي هي حصة بيت مال المسلمين ومن هؤلاء المؤرخين الذين روجوا تلك الأكذوبة والفرية 'كارل بروكلمان' و'جب' و'جيبونز' و'سوموفيل', ومن المؤسف أن هذه الفرية قد نقلها المؤرخون المسلمون دون تبين أو تبصر منهم على الرغم من إخلاص العديد منهم وكفاءتهم المعهودة ومنهم 'محمد فريد وجدي' في كتابه 'الدولة العلية' و'محمد كرد علي' في كتابه 'خطط الشام' والدكتور 'علي حسون' في كتابه 'تاريخ الدولة العثمانية' وغيرهم.
والحق الذي لا مرية فيه أن الانكشارية هؤلاء تكونوا كنتيجة أخلاقية واجتماعية لاهتمام العثمانيين بالمشردين واليتامى من أطفال النصارى الذين تركتهم الحروب المستمرة بلا أب أو أم أو كلاهما, فلقد كانت هناك أعدادًا هائلة من هؤلاء الأطفال يهيمون على وجوههم في الطرقات أعقاب الحروب الضخمة بين المسلمين والنصارى فاحتضنهم المسلمون العثمانيون وأشرفوا على تربيتهم تربية إسلامية خالصة على الإيمان والجهاد, ولم يجبر هؤلاء على الدخول في الإسلام كما يروج المستشرقون, فلا يوجد في ديننا ولا شريعتنا ما يعرف بضريبة الغلمان هذه المزعومة الباطلة, كما أن الحقيقة التاريخية الأخرى أن جيش الانكشارية لم يكن مكونًا من أطفال النصارى فقط, بل إن جزءًا كبيرًا منه مكونًا من أبناء المسلمين الذين أرادوا طريق الجندية والجهاد.
فيجب علينا أن ننتبه لهذه الأباطيل جيدًا وأن ننقي كتبنا منها ولا نأخذ الكلام على عواهنه هكذا دون تمحيص وبحث؛ لأن أعداء الإسلام يضربون في هذه الأمة بكل سهم ممكن واليقظة والتفطن هما خير سلاح لمواجهة تلك الأباطي(/1)
ضع نفسك مكان أخيك
عبد العزيز الجليّل
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد:
روى الذهبي - رحمه الله - في السير عن عقيل، ومَعْمَر، عن الزهري، حدثني عروة أن المسْوَر بن مخرمة أخبره أنه وفد على معاوية، فقضى حاجته، ثم خلا به، فقال: يا مسور! ما فعل طعنُك على الأئمة؟ قال: دعنا من هذا وأحسن. قال: لا، والله، لتكلمني بذات نفسك بالذي تعيب عليَّ. قال مسور: فلم أترك شيئاً أعيبه عليه إلا بينت له، فقال: لا أبرأ من الذنب، فهل تعُدُّ لنا يا مسور ما نلي من الإصلاح في أمر العامة؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها، أم تعُدُّ الذنوب، وتترك الإحسان؟ قال: ما تُذكر إلا الذنوب، قال معاوية: فإنا نعترف لله بكل ذنب أذنبناه؛ فهل لك يا مسور ذنوب في خاصتك تخشى أن تُهلك إن لم تُغفر؟ قال: نعم! قال: فما يجعلك الله برجاء المغفرة أحقَّ مني؛ فوالله ما أَلِي من الإصلاح أكثر مما تلي، ولكن والله لا أخيَّر بين أمرين: بين الله وبين غيره، إلا اخترت الله على ما سواه، وإني لعلى دين يُقبَل فيه العمل ويجزى فيه بالحسنات، ويجزى فيه بالذنوب إلا أن يعفو الله عنها. قال: فخصمني. قال عروة: فلم أسمع المسور ذكر معاوية إلا صلى عليه.
من هذا الحوار الجميل المؤدب بين صحابيين جليلين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قد كان في نفس كل منهما شيء على الآخر نستنبط أمراً مهماً في التربية ومعالجة الأخطاء لو سرنا عليه في عتاب بعضنا لبعض لاختفت كثير من مفسدات الأخوة وذات البين، ولسلمت القلوب المخلصة من الإحَن والأحقاد والشحناء والأهواء.
وهذا الأسلوب التربوي المعني هنا مأخوذ من الحوار السابق؛ وذلك لما ذكر المسور بن مخرمة لمعاوية - رضي الله عنهما - كل ما يعرفه من أخطاء معاوية. قال له معاوية - رضي الله عنه -: فهل لك يا مسور ذنوب في خاصتك تخشى أن تهلكك إن لم تُغفَر؟ قال: نعم! فقال معاوية: فما يجعلك برجاء المغفرة أحق مني؛ فوالله ما ألِي من الإصلاح أكثر مما تلي... إلخ.
فهذا هو الشاهد من هذا الحوار المناسب لهذه المقالة المعنون لها بـ(ضع نفسك مكان أخيك).
وعندما يمارس الواحد منا هذا الأسلوب التربوي في عتابه للناس ومعالجة أخطائهم فإن الوئام والألفة ستحل محل الفرقة والشحناء والبغضاء، وهذا الأسلوب ينفع مع مختلف طبقات الناس وشرائحهم كما يتضح ذلك من الصور الآتية:
• ما يكثر من الخلافات العائلية في كثير من البيوت، وذلك بين الزوج وزوجته، أو بين الوالد وولده، أو بين الأخ وأخيه، أو بين الرجل وقرابته، حيث تؤدي كثير من هذه الخلافات بفعل الممارسات الخاطئة لعلاج الخطأ، والأسلوب الغالط للعتاب إلى نهايات مؤسفة قد تكون طلاقاً أو قطيعة أو ظلماً أو عدواناً.
بينما لو أُخذ بالأساليب الشرعية لمعالجة الخطأ، ومن بينها هذا الذي طبقه معاوية - رضي الله عنه - وعبرت عنه بمصطلح (ضع نفسك مكانه).
أقول: لو طبق هذا الأسلوب مع الأساليب الشرعية الأخرى، واختفت حظوظ النفس لساد الوئام، ووضع الخطأ في حجمه الطبيعي، وأمكن محاصرته وعلاجه.
فمثلاً لو أن زوجة أخطأت بحق زوجها أو في بيتها خطأً معيناً، وتأكد الزوج من ذلك فإن مما يخفف غضب الزوج وشدة عتابه لزوجته أن يبحث عن الملابسات التي أحاطت بالزوجة حتى وقعت فيما وقعت فيه من الخطأ، ثم يضع نفسه مكان زوجته عندما أحاطت بها هذه الملابسات، فماذا عساه أن يعمل؟ ثم ينظر إلى توجهات عقل المرأة وطبيعتها، ثم يحاسب نفسه فيما لو وقع في نفس الخطأ الذي وقعت فيه زوجته هل محاسبته ومعاتبته لنفسه بنفس القوة والنقد الذي يوجهه إلى زوجته؟ إن كل هذه التساؤلات ستقلل من حجم الخطأ، وتدفع الزوج إلى معالجته معالجة شرعية تتسم بالعدل والتأني والرغبة في الإصلاح، وليس لمجرد التشفي وتنفيس الغيظ.
ولا يعني هذا التغاضي عن الأخطاء وتسويغها وعدم إصلاحها لا، ولكن المقصود معالجتها بعدل وإنصاف، ووضع النفس مكان من صدر منه الخطأ والملابسات التي أحاطت بصاحب الخطأ حتى توضع الأمور في حجمها الطبيعي من غير تهويل وتضخيم.
ومثل هذا يقال للزوجة في معالجتها لخطأ زوجها، وللوالد مع ولده، والقريب مع قريبه، وكذلك ما يحصل بين عامة الناس وأصحاب المهن المشتركة من خلافات وأخطاء.
• ما يحصل من بعض الأخطاء التي يقع فيها بعض العلماء أو طلبة العلم أو الدعاة التي ينجم عنها – لغياب المعالجة الشرعية العادلة – كثير من العدوان والشحناء والغيبة والأحقاد.(/1)
ولو أننا طبقنا هذا الأسلوب المشار إليه آنفاً في معالجة الخطأ، ووضع الناقد نفسه مكان صاحب الخطأ وبحث عن الملابسات التي أحاطت به في خطئه لتطامن الناقد، وعذر صاحب الخطأ إن وجد له عذراً، أو أنه يضع خطأه في حجمه الطبيعي من غير تضخيم وتهويل، وكذلك لو حاسب الناقد نفسه فيما لو صدر منه الخطأ الذي صدر من العالم أو الداعية الفلاني، فهل مؤاخذته لنفسه بنفس القوة التي يوجهها لغيره؟ لأن مثل هذه المحاسبة تعد من أسباب التطامن والإنصاف، وكما قال معاوية للمسور - رضي الله عنهما - عندما عرَّفه ببعض أخطائه قال له: فهل لك يا مسور ذنوب في خاصتك تخشى أن تهلك إن لم تُغفر؟ قال: نعم!
فكذلك الدعاة وأهل العلم في معالجتهم لأخطاء بعضهم، فلو أن الناقد انتبه لنفسه وما هي عليه من الأخطاء والذنوب لكان في ذلك من التطامن والتواضع مع صاحب الخطأ ما يجعل الناقد يضع الخطأ في حجمه المعقول، ويعامل صاحب الخطأ في حجمه المعقول، ويعامل صاحب الخطأ بالعدل والمحبة والإصلاح بعيداً عن حظوظ النفس والأهواء؛ فإذا انضاف إلى ذلك وجود الخير الكثير والإصلاح عند الشخص المنتقد صار هذا أيضاً من دواعي اضمحلال خطئه في بحر حسناته.
وهذا ما أشار إليه معاوية - رضي الله عنه - بقوله للمسور - رضي الله عنه -: فوالله ما ألي من الصلاح أكثر ما تلي.
ولا يعني هذا – كما تقدم – تمرير الأخطاء وتسويغها، وإنما يعني معالجتها معالجة عادلة تضع الخطأ في مكانه الطبيعي، فلا تُنسى حسنات المخطئ كما لا ينسى الناقد أن له عليه ذنوباً كما على غيره، والسعيد من لم تشغله عيوب الناس عن عيوب نفسه.
• ما يصدر من أهل الابتلاء كالمرضى والفقراء والمسجونين والمهمومين والمحزونين وغيرهم من المواقف التي يعدها أهل الرخاء والعافية مواقف خاطئة؛ لكن ما أن تطبق القاعدة المشار إليها آنفاً في معالجة الخطأ، وهي قاعدة (ضع نفسك مكانه) فيضع من هو معافىً في دينه ودنياه نفسه مكان المبتلى، ويحاول أن يتصور الظروف التي تحيط بصاحب المصيبة إلا كان لذلك أثره على النظرة إلى هذه المواقف التي يعدها خاطئة؛ فإما أن يظهر له أنه معذور بسبب الملابسات التي أحاطت به كما قيل: ويل للشجي من الخلي، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب؛ أو أنه يظهر له الخطأ في حجمه الطبيعي، فيعالجه معالجة من يعرف ملابساته وأسبابه التي أدت إلى ضعف المصاب وقيامه بمواقف خاطئة تقدر بقدرها، وتعالج معالجة من يعرف ضعف الإنسان أمام الأقدار المؤلمة إلا من رحم الله - تعالى -، ولا يدري المعافى لو كان مكان المصاب ماذا عساه أن يفعل؟ نسأل الله - عز وجل - الثبات والعافية.
• كما تنفع هذه القاعدة في مساعدة المحتاجين والملهوفين ممن تعوزهم الحاجة إلى المال أو الجاه، أو تفريج همٍّ، أو إغاثة ملهوف قد انقطعت به السبل، أو جائع أو عطشان، أو غريب تائه عن الطريق، أو مسافر قد تعطلت راحلته... إلخ.
ذلك أن الإنسان عندما يضع نفسه مكان أصحاب هذه الحاجات، وبتصور حجم المعاناة التي يعانيها الملهوف والمكروب والجائع والمنقطع... إلخ. كما يتصور أيضاً وقع الإعانة لهؤلاء في نفوسهم وأثرها علهم وأجرها عند الله - عز وجل - كل ذلك مما يجعل الإنسان يهبُّ لقضاء حاجات الملهوفين والمحتاجين.
ولا يظهر التفاعل مع حاجات المحتاجين كما يظهر عند من مرت به حاجة من الحاجات في حياته كمرض احتاج فيه إلى من يواسيه ويقوم برعايته فيه، أو فقير احتاج إلى من يساعده ويهتم بحالته فيه، أو انقطعت به دابته أو سيارته فاحتاج من يصلحها له ويساعده على مواصلة الطريق... إلخ.
إن كل من مرت به حاجة من الحاجات ثم عافاه الله منها، ورأى بعد ذلك من وقع فيما وقع فيه من الحاجة فإن هذا من أكبر الدوافع التي تدفع إلى مساعدة المحتاج وإغاثة الملهوف؛ لأنه قد وضع نفسه مكان المحتاج، وتصور الظرف الذي يمر به المحتاج وأنه قد مر عليه مثله.
إن هذه القاعدة تنفع مع كل ذي كبد رطبة وليست مع الإنسان وحده، وإذا أخلص العبد في إعانته للمحتاج وأراد وجه الله - عز وجل - فإن الله – سبحانه – يشكر له صنيعه ويجازيه عليه الجنة؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئراً فنزل فيه فشرب، ثم خرج؛ فإذا كلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه ماءً، ثم أمسكه بفيه حتى رقي، فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له، قالوا: يا رسول الله! إن لنا في البهائم أجراً؟ قال: في كل كبد رطبة أجر".
وكما يظهر من هذا الحديث نلاحظ أن الرجل الذي سقى الكلب قد طبق القاعدة التي نحن بصددها وهي (ضع نفسك مكانه).(/2)
فهل يعني هذا الأمر أولئك الذين لا يبالون بحاجات المحتاجين، ولا بإغاثة الملهوفين المكروبين؟ وهلاّ حمدوا الله - عز وجل - وشكروه على العافية، ووضعوا أنفسهم مكان المحتاجين ومعاناتهم؟ فإن الله - عز وجل - قادر على أن يعافي غيرهم ويبتليهم. نسأل الله العافية والسلامة(/3)
ضع نفسك مكانه
روى الذهبي رحمه الله في السير عن عقيل ، ومعمر ، عن الزهري ، حدثني أن المسور بن مخرمة أخبره أنه وفد على معاوية ، فقضى حاجته ، ثم خلا به ، فقال : يا مسور ! ما فعل طعنك على الأئمة ؟ قال : دعنا من هذا وأحسن . قال: لا والله ، لتكلمني بذات نفسك بالذي تعيب عليَّ. قال مسور: فلم أترك شيئاً أعيبه عليه إلا بينت له . فقال : لا أبرأ من الذنب . فهل تعُدُّ لنا يا مسور ما نلي من الإصلاح في أمر العامة فإن الحسنة بعشر أمثالها ، أم تعد الذنوب وتترك الإحسان؟ قال : ما تذكر إلا الذنوب . قال معاوية : فإننا نعترف لله بكل ذنب أذنبناه ، فهل لك يا مسور ذنوب في خاصتك تخشى أن تهلكك إن لم تغفر ؟ قال : نعم ، قال : فما يجعلك الله برجاء المغفرة أحق مني ، فو الله ما ألي من الإصلاح أكثر مما تلي ، ولكن والله لا أخير بين أمرين بين الله وبين غيره إلا اخترت الله على ما سواه ، وإني لعلى دين يقبل فيه العمل ويجزى فيه بالحسنات ، ويجزى فيه بالذنوب إلا أن يعفو الله عنها قال: فخصمني قال عروة فلم أسمع المسور ذكر معاوية إلا صلى عليه([1]) .
من هذا الحوار الجميل المؤدب بين صحابيين جليلين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قد كان في نفس كل منهما شيء على الآخر نستنبط أمراً مهماً في التربية ومعالجة الأخطاء لو سرنا عليه في عتاب بعضنا لبعض لاختفت كثير من مفسدات الأخوة وذات البين ولسلمت القلوب المخلصة من الإحن والأحقاد والشحناء والأهواء .
وهذا الأسلوب التربوي المعني هنا مأخوذ من الحوار السابق وذلك لما ذكر المسور بن مخرمة لمعاوية رضي الله عنه كل ما يعرفه من أخطاء معاوية . قال له معاوية ? : فهل لك يا مسور ذنوب في خاصتك تخشى أن تهلكك إن لم تغفر ؟ قال : نعم، فقال معاوية : فما يجعلك الله برجاء المغفرة أحق مني فو الله ما ألي من الإصلاح أكثر مما تلي .. إلخ .
فهذا هو الشاهد من هذا الحوار المناسب لهذه المقالة المعنون لها بـ(ضع نفسك مكانه ) .
وعندما يمارس الواحد منا هذا الأسلوب التربوي في عتابه للناس ومعالجة أخطائهم [2] .
فإن الوئام والألفة ستحل محل الفرقة والشحناء والبغضاء وهذا الأسلوب ينفع مع مختلف طبقات الناس وشرائحهم كما يتضح ذلك من الصور التالية :
- ما يكثر من الخلافات العائلية في كثير من البيوت وذلك بين الزوج وزوجته ، أو بين الوالد وولده ، أو بين الأخ وأخيه ، أو بين الرجل وقرابته ، حيث تؤدي كثير من هذه الخلافات بفعل الممارسات الخاطئة لعلاج الخطأ والأسلوب الغالظ للعتاب إلى نهايات مؤسفة قد تكون طلاقاً أو قطيعة وهجراناً أو ظلماً وعدواناً .
بينما لو أخذ بالأساليب الشرعية لمعالجة الخطأ ومن بينها هذا الذي طبقه معاوية ? وعبرت عنه بمصطلح (ضع نفسك مكانه) .
أقول : لو طبق هذا الأسلوب مع الأساليب الشرعية الأخرى واختفت حظوظ النفس لساد الوئام ووضع الخطأ في حجمه الطبيعي وأمكن محاصرته وعلاجه .
فمثلاً لو أن الزوجة أخطأت على زوجها أو في بيتها خطأً معيناً وتأكد الزوج من ذلك فإن مما يخفف غضب الزوج وشدة عتابه لزوجته أن يبحث عن الملابسات التي أحاطت بالزوجة حتى وقعت فيما وقعت فيه من الخطأ ثم يضع نفسه مكان زوجته عندما أحاطت بها هذه الملابسات فماذا عساه أن يعمل.
ثم ينظر إلى ضعف عقل المرأة وطبيعتها ، ثم يحاسب نفسه فيما لو وقع في نفس الخطأ الذي وقعت
فيه زوجته هل محاسبته ومعاتبته لنفسه بنفس القوة والنقد الذي يوجهه إلى زوجته، إن كل هذه التساؤلات ستقلل من حجم الخطأ وتدفع الزوج إلى معالجته معالجة شرعية تتسم بالعدل والتأني والرغبة في الإصلاح وليس مجرد التشفي وتنفيس الغيظ.
ولا يعمي هذا التغاضي عن الأخطاء وتبريرها وعدم إصلاحها كلا. ولكن المقصود معالجتها بعدل وإنصاف ووضع النفس مكان من صدر منه الخطأ والملابسات التي أحاطت بصاحب الخطأ حتى توضع الأمور في حجمها الطبيعي من غير تهويل وتضخيم .
ومثل هذا يقال للزوجة في معالجتها لخطأ زوجها، وللوالد مع ولده والقريب مع قريبه وكذلك ما يحصل بين عامة الناس وأصحاب المهن المشتركة من خلافات وأخطاء.
- ما يحصل من بعض الأخطاء التي يقع فيها بعض العلماء أو طلبة العلم أو الدعاة والتي ينجم عنها لغياب المعالجة الشرعية العادلة كثير من العدوان والشحناء والغيبة والأحقاد .
ولو أننا طبقنا هذا الأسلوب المشار إليه آنفاً في معالجة الخطأ ، ووضع الناقد نفسه مكان صاحب الخطأ وبحث عن الملابسات التي أحاطت به في خطئه لتطامن النقد وعذر صاحب الخطأ إن وجد له عذراً أو أنه يضع خطأه في حجمه الطبيعي من غير تضخيم وتهويل ،
وكذلك لو حاسب الناقد نفسه فيما لو صدر منه الخطأ الذي صدر من العالم أو الداعية الفلاني فهل مؤاخذته لنفسه بنفس القوة التي يوجهها لغيره ؟ لأن مثل هذه المحاسبة تعد من أسباب التطامن والإنصاف .(/1)
وكما قال معاوية للمسور رضي الله عنهما عندما عرفه ببعض أخطائه قال له : فهل لك يا مسور ذنوب في خاصتك تخشى أن تهلكك إن لم تغفر ؟ قال : نعم .
فكذلك الدعاة وأهل العلم في معالجتهم لأخطاء بعضهم ، فلو أن الناقد انتبه لنفسه وما هي عليه من الأخطاء والذنوب لكان في ذلك من التطامن والتواضع مع صاحب الخطأ ما يجعل الناقد يضع الخطأ في حجمه المعقول ويعامل صاحب الخطأ بالعدل والمحبة والإصلاح بعيداً عن حظوظ النفس والأهواء ، فإذا أضيف إلى ذلك وجود الخير الكثير والإصلاح عند الشخص المتقد صار أيضاً من دواعي اضمحلال خطئه في بحر حسناته .
وهذا ما أشار إليه معاوية ? بقوله للمسور ? : فو الله ما ألي من الصلاح أكثر مما تلي .
ولا يعني هذا تمرير الأخطاء وتبريرها وإنما يعني معالجتها معالجة عادلة تضع الخطأ في مكانه الطبيعي ولا تنسى حسنات المخطئ كما لا ينسى الناصح أن له عليه ذنوباً كما على غيره، والسعيد من لم تشغله
عيوب الناس عن عيوب نفسه .
- ما يصدر من أهل الابتلاء كالمرضى والفقراء والمسجونين والمهمومين والمحزونين وغيرهم من المواقف التي يعدها أهل الرخاء والعافية مواقف خاطئة لكن ما إن تطبق القاعدة المشار إليها آنفاً في معالجة الخطأ وهي قاعدة ( ضع نفسك مكانه ) فيضع من هو معافى في دينه ودنياه نفسه مكان المبتلى ويحاول أن يتصور الظروف التي تحيط بصاحب المصيبة إلا ولا بد أن يكون لذلك أثر على النظرة إلى هذه المواقف التي يعتبرها خاطئة فإما أن يظهر له أنه معذور بسبب الملابسات التي أحاطت به فكما قيل ويل للشجي من الخلي ، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب ، أو أنه يظهر له الخطأ في حجمه الطبيعي فيعالجه معالجة من يعرف ملابساته وأسبابه التي أدت إلى ضعف المصاب وقيامه بمواقف خاطئة تقدر بقدرها وتعالج معالجة من يعرف ضعف الإنسان أمام الأقدار المؤلمة إلا من رحم الله تعالى ، ولا يدري المعافى لو كان مكان المصاب ماذا عساه أن يفعل .
نسأل الله عز وجل الثبات والعافية .
- كما تنفع هذه القاعدة في مساعدة المحتاجين والملهوفين ممن تعوزهم الحاجة إلى المال أو الجاه أو تفريج هم أو إغاثة ملهوف قد انقطعت به السبل أو جائع أو عطشان أو غريب تائه عن الطريق أو
مسافر قد تعطلت دابته... الخ.
ذلك أن الإنسان عندما يضع نفسه مكان أصحاب هذه الحاجات ويتصور حجم المعاناة التي يعانيها الملهوف والمكروب والجائع والمنقطع.. إلخ . كما يتصور أيضاً وقع الإعانة لهؤلاء في نفوسهم وأثرها عليهم وأجرها عند الله عز وجل ، كل ذلك مما يجعل الإنسان يهب لقضاء حاجات الملهوفين والمحتاجين .
ولا يظهر التفاعل مع حاجات المحتاجين كما يظهر عند من مرت به حاجة من الحاجات في حياته كمرض احتاج فيه إلى من يواسيه ويقوم برعايته فيه أو فقير احتاج فيه من يساعده ويهتم بحاله فيه أو انقطعت به دابته أو سيارته فاحتاج من يصلحها له ويساعده على مواصلة الطريق .. الخ .
إن كل من مرت به حاجة من الحاجات ثم عافاه الله منها ورأى بعد ذلك من وقع فيما وقع فيه من الحاجة فإن هذا من أكبر الدوافع التي تدفع إلى مساعدة المحتاج وإغاثة الملهوف لأنه قد وضع نفسه مكان المحتاج وتصور الظرف الذي يمر به المحتاج وأنه قد مر عليه مثله .
وإن هذه القاعدة تنفع مع كل ذي كبد رطبة وليست مع الإنسان وحده ، وإذا أخلص العبد في إعانته للمحتاج وأراد وجه الله عز وجل فإن الله سبحانه يشكر له صنيعه ويجازيه عليه الجنة ،
فعن أبي هريرة ? أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش ، فوجد بئراً فنزل فيه فشرب ، ثم خرج ، فإذا كلب يلهث ، يأكل الثرى من العطش ، فقال الرجل : لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني ، فنزل البئر فملأ خفه ماءً ثم أمسكه بفيه حتى رقي ، فسقى الكلب ، فشكر الله له فغفر له ، قالوا : يا رسول الله إن لنا في البهائم أجراً ؟ قال : في كل كبد رطبة أجر ))[3] .
وكما يظهر من هذا الحديث نلاحظ أن الرجل الذي سقى الكلب قد طبق القاعدة التي نحن بصددها وهي (ضع نفسك مكانه) .
فهل يعي هذا الأمر أولئك الذين لا يبالون بحاجات المحتاجين ولا بإغاثة الملهوفين المكروبين ؟ وهلا حمدوا الله عز وجل وشكروه على العافية ووضعوا أنفسهم مكان المحتاجين ومعاناتهم ؟ فإن الله عز وجل قادر على أن يعافي غيرهم ويبتليهم .
نسأل الله العافية والسلامة .
______________
[1] سير أعلام النبلاء 3 / 151 .
[2] والمقصود بالأخطاء هنا تلك التي تحصل من الإنسان بحكم ضعفه وتغلب هواه عليه أحياناً وتكون فلتة منه وليست إصراراً ومكابرة وعناداً .
[3] البخاري : 5 / 31 ، مسلم ( 2244 ) .(/2)
ضع يدك على قلبك ؟؟
الكاتب : أبو عبد الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هل جربت ذلك يوماً؟
أن تضع يدك على قلبك وتفكر كيف أن هذه القطعة العجيبة من جسمك تعمل على مدار الساعة دون توقف إنه تعمل يومياً . أثناء يقظتك وأثناء نومك أيضاً . وتغيّر من سرعتها أوتومتيكياً طبقاً لاحتياجات جسمك وستظل تعمل كذلك على مدى الأيام والشهور والسنين حتى الدقيقة الأخيرة من حياتك . دون أن تأخذ إجازة ولو لحظةٍ واحدة ...
هل فكرت يوماً فيما لو كان أمر تشغيل هذه القطعة وتنظيم عملها موكولاً إليك . مثلاً عن طريق عضلةٍ ما يمكن ضغطها باليد .
ما الذي يمكن أن يحدث؟
طبعاً ، ببساطة ، ستفشل في تشغيلها وستموت بعد ساعات فأنت ستتعب قبل ذلك ، وتحتاج أن تغير النبض باستمرار ثم إنك تحتاج أن تنام وقبل كل شيء ، أنت تحتاج إلى أن تكون متفرغاً لهذا العمل لأن أيّ غفلة ستكلفك حياتك وبالتالي لن تستطيع أن تسعى في طلب رزق أو دراسة أو عمل .
إن جهاز القلب هذا هو جهاز واحد فقط ، من عشرات الأجهزة الموجودة في جسم الإنسان ، والتي تقوم بما تعجز عنه مئات المصانع التي يديرها البشر ، فهناك جهاز للتبريد في جلد ابن آدم ، وجهاز للتنفس لاستخلاص الأوكسجين ، والكبد تعمل باستمرار لتنقية الدم من السموم ، وأجهزة أخرى وأخرى كثيرة ، والتي بدونها لم يكن يمكن لأيّ إنسان البقاء حياً .
فتأمل ...
أيها المسلم في عظيم نعمة الله علينا ، حيث جعل هذه الأجهزة تعمل لوحدها دون تدخل منا ، وهذه من الآيات والنعم التي هي في جسمنا فحسب ، قال ربنا عز وجل ( وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) ؟؟ .
فكيف بنعم الله الظاهرة الأخرى علينا من مأكل ومشرب وملبس وأمان ؟ وكيف بالنعم الأخرى التي لا نراها ؟ بل كيف بأعظم نعمة على الإطلاق ، وهي إنعام الله علينا بنعمة الإسلام والهداية ؟ والتي حرمها كثير من البشر ، مع أنهم ما خلقوا بالهيئة المعجزة التي خُلقوا عليها إلا للقيام بهذه النعمة .
إن المتأمل في نعم الله لا يمكنه أن يخرج إلا
بنتيجة واحدة ...
هي أن إنعام الله علينا وفضله يشملنا في كل لحظة من لحظات حياتنا ، وفي كل حركتنا وسكناتنا .
حقاً ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) !! فهو سبحانه كما أخبر قد ( أسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ) .
أليس من حق الله علينا بعد كل تلك النعم أن يُطاع فلا يُعصى ، وأن يُشكر فلا يُكفر ؟
( كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون )
( وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون )
( فكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون )
فالعجب كل العجب لمن يعلم أن كل ما عنده من النعم هي من الله ، ثم هو لا يستحي من الاستعانة بها على ما نهى الله عنه !!
والشكر إنما يكون بامتثال أوامر الله عز وجل ، واجتناب نواهية ، فشكر الجوارح يكون بأن يستعملها الإنسان في ما يرضي الله ، وليس فيما يغضبه .
فالعين لا تنظر إلى ما حرم الله من الصور والعورات .
والأذن لا تسمع ما حرم الله من الغناء والباطل .
واللسان لا يقول ما يغضب الله من الغيبة والفحش .
وهكذا سائر النعم الأخرى من صحةٍ ومالٍ وقوة ، فإنه يجب توظيفها فيما يرضي الله من صنوف الطاعات كالصلاة والصدقة وأعمال الخير والإحسان إلى الخلق وغير ذلك .
ولأن الشكر هو من أعظم القربات إلى الله ، فقد كان من أشد الطاعات على عدو الله إبليس الذي أقسم أن يصرف جهده في جعل الناس لا يشكرون ربهم فقال : ( ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين ) .
إذاً فعلينا أن نحذر من أن نكون مع أكثر الناس الغافلين الذين لا يشكرون الله ، والذين حالهم كما قال الله .. ( ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوبٌ لا يفقهون بها ولهم أعينٌ لا يبصرون بها ولهم آذانٌ لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون ) .
ولنحرص أن نكون مع القليل الذين قال الله فيهم ( وقليل من عبادي الشكور ) ..
ولنأخذ بوصية ربنا عزوجل ( بل الله فاعبد وكن من الشاكرين ) كما أخذ بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقام الليل حتى تفطرت قدماه ، فلما سُئل : أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ قال : " أفلا أكون عبداً شكورًا ؟ " .
فماذا نقول نحن المقصرين الذين لا يزال الله ينعم علينا ويرزقنا ويلطف بنا مع أننا نعصية بالليل والنهار ؟
أفلا نكون ...
عباداً شاكرين !!
عباداً شاكرين !!
عباداً شاكرين !!(/1)
ضعف أو تلاشي الالتزام
يتناول الدرس مرض تراجع الالتزام، وعلامات ذلك، ثم ماهي أسباب تلاشي أو ضعف الالتزام، وما هي آثار ذلك على العاملين في الدعوة وعلى الدعوة نفسها، ثم ذكر علاج ضعف أو تلاشي الالتزام .
مفهوم ضعف أو تلاشي الالتزام في اصطلاح العلماء , والدعاة :
هو: التقصير أو عدم الوفاء بما يتعهد به المسلم، أويوجبه على نفسه من الصالحات، حين يرضى بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا ورسولاً، بل حين يرضى أن يكون في صفوف الدعاة، وضمن قافلة العاملين من أجل التمكين لمنهج الله في الأرض.
مظاهر ضعف أو تلاشي الالتزام:
عدم الدقة، أو عدم الانضباط في الحديث، أو الموعد.
إصدار الأحكام دون تثبت أو تبين.
الفجور في الخصومة، أو عدم رعاية أدب الخلاف.
الإصغاء للإشاعات والأراجيف.
نبذ الطاعات إلا فيما يوافق هوى النفس.
عدم النهوض بالبيت من الأهل والولد إلى المستوى المنشود.
عدم رعاية الآداب، أو السلوكيات الاجتماعية.
عدم التضحية سواء بالنفس، أو بالمال، أو بهما معًا.
عدم الدقة، أو عدم الانضباط في الحركة.
إهمال النفس من التنقية والتزكية.
استعجال النصر دون تأنٍّ، أو تروٍّ، أو تأهّب.
الاجتهاد فيما لا مجال فيه للاجتهاد.
عدم الثبات أمام مطامع الحياة الدنيا، وعند المحن، والشدائد.
إهدار حقوق الأخوة.
التدخل فيما لا يعني.
أسباب ضعف أو تلاشي الالتزام:
1- عدم الفهم أو عدم الإدراك لأبعاد ومعالم الالتزام: ذلك أن عدم الفهم، أو عدم الإدراك لأبعاد ومعالم أي أمر من الأمور يؤدي إلى رفضه، بل ومعاداته، كما قال الله عز وجل: } بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ[39]{ [سورة يونس].
وعليه فإن عدم الفهم، أو الفهم مع عدم الإدراك القلبي لأبعاد ومعالم الالتزام، سينتهي حتمًا بصاحبه إلى التقصير، أو عدم الوفاء بما يقتضيه الدخول في صفوف المسلمين، بل في صفوف الدعاة والعاملين.
ولعل ذلك هو السر في افتتاح آي التنزيل بالدعوة إلى الفهم، والفهم الصحيح والواعي المستنير:} اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ[1]خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ[2]اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ[3]الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ[4]عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ[5]{ [سورة العلق].
2- الوسط ضعيف الالتزام أو غير الملتزم : وقد تلقي الأقدار بالمسلم في وسط ضعيف الالتزام، أو غير ملتزم بالمرة، فيأخذ في الاقتداء والتأسي، أو المحاكاة والمشابهة، لا سيما إذا كان هذا الوسط ممن يقتدى أو يتأسى به، وتكون النتيجة ضعف أو تلاشي الالتزام.
ولعل هذا السبب يكشف لنا عن السر في تأكيد الإسلام على الأسوة والقدوة الطيبة، وذمّه للأسوة وللقدوة السيئة، إذ يقول سبحانه: } يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا[30]وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا[31]{ [سورة الأحزاب]. فيضاعف سبحانه لهنّ العقاب على السيئة، والثواب على الحسنة، بسبب جو الطهر والعفاف الذي يعشن فيه، والذي يساعد على الطاعة والتقوى، وبسبب أن غيرهن يقتدي بهنّ، فيكون عليهنّ عقاب معصيتهن، وعقاب معصية من اقتدى بهن، وكذلك يكون لهنّ ثواب طاعتهن، وثواب طاعة من اقتدى بهن، جزاءً وفاقًا، لا سيما وقد جاء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [ مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا] رواه مسلم.والدعوة كما تكون بالقول تكون بالسلوك: }ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ[125]{ [سورة النحل].ورد أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَأَى عَلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ ثَوْبًا مَصْبُوغًا وَهُوَ مُحْرِمٌ فَقَالَ عُمَرُ: [مَا هَذَا الثَّوْبُ الْمَصْبُوغُ يَا طَلْحَة؟ُ فَقَالَ طَلْحَة:ُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا هُوَ مَدَرٌ فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّكُمْ أَيُّهَا الرَّهْطُ أَئِمَّةٌ يَقْتَدِي بِكُمْ النَّاسُ فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا جَاهِلًا رَأَى هَذَا الثَّوْبَ لَقَالَ: إِنَّ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ كَانَ يَلْبَسُ الثِّيَابَ الْمُصَبَّغَةَ فِي الْإِحْرَامِ فَلَا تَلْبَسُوا أَيُّهَا الرَّهْطُ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الثِّيَابِ الْمُصَبَّغَةِ] رواه مالك .(/1)
3- ضعف الإيمان:وقد يكون ضعف الإيمان، ونزول مستواه في نفس المسلم، هو السبب في ضعف أو تلاشي الالتزام، ذلك أن الإيمان هو مصدر الطاقات المتجددة، بل هو الحارس والحامي لصاحبه من أن يهمل أو يقصّر، أو يصرّ على الأخطاء؛ إذ يقول النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمن قال له: [ إِنَّكَ تُوَاصِلُ] - : [ إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي] رواه البخاري ومسلم. فقد بيّن جمهور علماء المسلمين المراد من هذا الكلام قائلين: 'قوله: [يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي] مجاز من لازم الطعام والشراب، وهو القوة، فكأنه قال: يعطيني قوة الآكل والشارب، ويفيض عليّ ما يسد مسدّ الطعام والشراب، ويقوي على أنواع الطاعة، من غير ضعف في القوة، ولا كلال في الإحساس ...' . وقال ابن حجر:'ويحتمل أن يكون المراد بقوله: [يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي] أي: يشغلني بالتفكر في عظمته والتملي بمشاهدته، والتغذي بمعارفه، وقرّة العين بمحبّته، والاستغراق في مناجاته، والإقبال عليه عن الطعام والشراب'. وعن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [ لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ] رواه البخاري ومسلم والترمذي والدارمي وأحمد . ولهذا لا بد من تعاهد الإيمان وتجديده، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال:قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فسلوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم] رواه الطبراني والحاكم، وقال الهيثمي: إسناده حسن.وفي حديث أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [جَدِّدُوا إِيمَانَكُمْ] قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ نُجَدِّدُ إِيمَانَنَا؟ قَالَ: [ أَكْثِرُوا مِنْ قَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ] روا أحمد، وقال الهيثمي: إسناده جيد.
4- إقبال الدنيا والتعلق بها: وقد يكون إقبال الدنيا ببريقها وزخارفها من الآمال والأولاد، والشهادات والوظائف، والمركز والجاه، وتعلق القلب بها، هو السبب في ضعف أو تلاشي الالتزام، يقول الله عز وجل: }مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِن قَلْبَينِ فِي جَوْفِهِ[4]{ [سورة الأحزاب] وعليه فإذا أقبلت الدنيا، وكان الاشتغال والتعلق بها؛ لم يبق هناك وقت، ولا طاقة، ولا فكر يساعد على الالتزام، والالتزام الدقيق، وحينئذ يكون ضعف أوتلاشي الالتزام. ولعل هذا هوسر تحذير الإسلام الشديد من الإقبال على الدنيا، والتعلق بها، إذ يقول الله عز وجل:}إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللهِ الْغَرُورُ[33]{ [سورة لقمان].
عن عَمْرَو بْنِ عَوْفٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [...فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ] رواه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه وأحمد .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ عَلَيْكُمْ] رواه مسلم وأحمد . وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [ تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ] رواه البخاري وابن ماجه.
5- المحن والشدائد :وقد تكون المحن والشدائد في داخل الصف، أو من خارجه، هي السبب في ضعف أو تلاشي الالتزام، ذلك أن المحنة، أو الشدة عندما تنزل بالإنسان، فإنها تزلزل كيانه، وتكاد تعصف به إلا من رحم الله، لاسيما إذا كان نزولها خاليًا من الترقب والاستعداد، ومعرفة طريق الخلاص، وسبيل المواجهة، وحينئذ يشغل بها عن دوره الحقيقي، ورسالته السامية، ويكون ضعف أو تلاشي الالتزام.(/2)
ولعل هذا هو سر حديث الإسلام المتكرر عن المحن والشدائد، وكيفية التعامل معها، إذ يقول الحق تبارك وتعالى:} وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ[155]الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ[156]أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ[157] {[سورة البقرة] وقال:} لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ[186]{ [سورة آل عمران] وقال:} فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ[195]{ [سورة آل عمران].
وقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي وَمَوْعِدُكُمْ الْحَوْضُ] رواه البخاري . وعَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:[مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ] رواه البخاري ومسلم والترمذي وأحمد.
6- كثرة الأعباء مع طول مشاق الطريق: وقد تكون كثرة الأعباء مع طول ومشاق الطريق هي السبب في ضعف أو تلاشي الالتزام، ذلك أن الإنسان طاقة، وإذا حمّل عبئًا فوق طاقته، فإنه سيأتي عليه لحظة يسقط بعضه أو كله عن كاهله، لاسيّما إذا كانت الطريق طويلة، وبها كثير من العقبات والمعوقات، ولعل ذلك هو سر دعوة الإسلام إلى الأخوّة، و الجماعة إذ هي التي تشارك في حمل الأعباء، وتجاوز طول ومشاق الطريق، يقول الحق سبحانه:} إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ...[10]{ [سورة الحجرات] و يقول سبحانه: }رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ[29] { [سورة الفتح] ويقول سبحانه:} أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ[54] { [سورة المائدة] ويقول سبحانه: } وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي[29]هَارُونَ أَخِي[30]اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي[31]وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي[32]{ [سورة طه]، وقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:[الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ]رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي. و قَالَ:[مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى] رواه االبخاري ومسلم وأحمد.
7- الأبوان: ذلك أن بعض الآباء قد تحمله عاطفة الحب لولده، على الحيلولة بين الولد والالتزام لاسيّما في هذا العصر الذي صار فيه الالتزام بالإسلام، بل والالتزام بالدعاة والعاملين لدين الله تهمة، وتهمة خطيرة تقود صاحبها إلى السجون والمعتقلات، أو النفي والتشريد في الأرض، بل الموت أو القتل، ناسين أو متناسين: أن الآجال بيد الله لابيد البشير:} وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا[145]{[سورة آل عمران] وأن الله وحده هو الذي يعلم نهاية هذه الآجال } وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ[34]{ [سورة لقمان]، وأن أجل الله إذا جاء لا يؤخر:} وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[11]{ [سورة المنافقون] } قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ[154]{ [سورة آل عمران] } أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ[78]{ [سورة النساء].(/3)
بل ناسين أو متناسين: أن موسى عليه السلام الذي ألقي في اليم، وهو صغير لا حول له ولا قوة، نجّاه الله، وكان هلاك فرعون طاغية مصر على يديه:} وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ[7]فَالْتَقَطَهُ ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ[8]{ [سورة القصص] وأن يوسف عليه السلام الذي ألقي من قبل في الجب، أنجاه الله، ومكن له في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء، وقال لإخوته في النهاية:} أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ[90]{ [سورة يوسف].
8- الاستجابة للوساوس والشبهات الشيطانية: ذلك أن الشيطان قاعد للإنسان- لاسيّما المسلم- بالمرصاد، يوسوس بإلقاء الشبهات والأباطيل كي يصرفه عن طريق الله، أو على الأقل يجعل سيره في هذه الطريق محفوفًا بالتضييع والتفريط، وحين يستجيب المسلم إلى هذه الوساوس، وتلك الشبهات، يبتلى بضعف أو تلاشي الالتزام، ولعل هذا هو السر في دوام تحذير الإسلام لنا من الشيطان الرجيم ووسوسته فلا نسمع لها، ولا نستجيب:
يقول الحق سبحانه وتعالى:} يَابَنِي ءَادَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا...[27]{ [سورة الأعراف]. ويقول الله تعالى:}وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ[218]{ [سورة البقرة].ويقول الله تعالى:} مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ[4]الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ[5]مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ[6]{ [سورة الناس].
وعَنْ سَبْرَةَ بْنِ أَبِي فَاكِهٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [ إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ بِأَطْرُقِهِ فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ تُسْلِمُ وَتَذَرُ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ وَآبَاءِ أَبِيكَ فَعَصَاهُ فَأَسْلَمَ ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ فَقَالَ تُهَاجِرُ وَتَدَعُ أَرْضَكَ وَسَمَاءَكَ وَإِنَّمَا مَثَلُ الْمُهَاجِرِ كَمَثَلِ الْفَرَسِ فِي الطِّوَلِ فَعَصَاهُ فَهَاجَرَ ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ فَقَالَ تُجَاهِدُ فَهُوَ جَهْدُ النَّفْسِ وَالْمَالِ فَتُقَاتِلُ فَتُقْتَلُ فَتُنْكَحُ الْمَرْأَةُ وَيُقْسَمُ الْمَالُ فَعَصَاهُ فَجَاهَدَ] فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ وَمَنْ قُتِلَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ وَإِنْ غَرِقَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ وَقَصَتْهُ دَابَّتُهُ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ] رواه أحمد والنسائي.
9- عدم المتابعة من الآخرين: ذلك أن الإنسان إذا شعر أن هناك إهمالاً، أو عدم متابعة له من الآخرين، فإن همته تفتر، وعزيمته تضعف، أما إذا كانت المتابعة المتمثلة في المساءلة والمجازاة، فإن الهمة تعلو، والإرادة تقوى، والعزيمة تشتد، ولعل هذا هو سر متابعة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشديدة لأصحابه في كل تصرفاتهم وسلوكياتهم، وحسبنا هنا هذه الصورة من المتابعة:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ صَائِمًا] قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَا قَالَ: [فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ جَنَازَةً] قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَا قَالَ: [ فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مِسْكِينًا] قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَا قَالَ: [فَمَنْ عَادَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مَرِيضًا] قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ] رواه مسلم.
10- الغفلة عن عواقب ضعف أو تلاشي الالتزام : ذلك أن من غفل عن العواقب الخطيرة لأمر ما، تعاطى هذا الأمر مع تقصير فيه، أو أهمله وألغاه من حسابه بالمرة، ولا يفيق ولا ينتبه إلا حين نزول العواقب؛ فيندم حيث لا ينفع الندم، ويتمنى حين لا تفيد الأماني.
آثار ضعف وتلاشي الالتزام:
آثاره على العاملين:(/4)
1- الحيلولة دون العبودية الحقة: ذلك أن من كان ضعيف أو عديم الالتزام، فإنه يفسح المجال أمام الشر ليستشري والباطل لينتشر، حتى يصل إليه وإلى ذويه، وحينئذ يحال بينه وبين أبسط قواعد الالتزام الإسلامي، كالشعائر التعبدية مثلاً .
2- فقد ثقة الناس:وهذا أمر بدهي، فإن الناس لا يتأثرون بالكلمات قدر ما يتأثرون بالسلوكيات، حتى قيل:'عمل رجل في ألف رجل، خير من قول ألف رجل في رجل'، وعليه فإن من كان ضعيف أو عديم الالتزام؛ يسحب الناس ثقتهم منه، وحينئذ يخسر كثيرًا، وتكون هذه الخسارة في الدنيا قبل الآخرة، وكم قرأنا وسمعنا وشاهدنا أقوامًا استهانوا بأمر الالتزام، فعاقبهم الله بضياع ثقة الناس، وجرّ ذلك عليهم خسرانًا مبينًا حتى في وظائفهم، ودنياهم، ومصالحهم الشخصية.
3- القلق والاضطراب النفسي:ذلك أن ضعيف أو عديم الالتزم إنما هو عاص لله، وللمعصية آثار ضارة أشدها القلق والاضطراب النفسي، ولعل ذلك هو المفهوم من:
قوله تعالى:} وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ[11]{ [سورة التغابن] .
وقوله تعالى:}وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا[124]{ [سورة طه].
وقوله تعالى:}وَمَن يُّعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا[17]{ [سورة الجن].
وقوله تعالى:}الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب[28]{ [سورة الرعد].
وقوله تعالى:}الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ[82]{ [سورة الأنعام].
4- الحرمان من الأجر والمثوبة؛ بل وتحمل الأوزار:ذلك أن ضعيف، أو عديم الالتزام ضيع على نفسه بذلك الأجر، وحرمها من المثوبة، بل وعرضها لتحمل أوزار الذين اقتدوا به، في ضعفه أو عدم التزامه ففتنوا وضاعوا، قال تعالى:}لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورَهِمْ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ[25]{ [سورة النحل].
آثاره على العمل الإسلامي:
1- فتح المجال لمحاولة اختراق هذا العمل لضربه، أو على الأقل تطويقه وإجهاضه.
2- قلة، أو انعدام كسب الأنصار والمؤيدين.
3- منح أعداء الله فرصة التحرش بالعمل الإسلامي لتشويه صورته في عيون العامة.
4- الحرمان من المدد الرباني:قال تعالى:}يَأيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ[7]{ [سورة محمد].
علاج ضعف أو تلاشي الالتزام:
1- الإدراك الذهني بل والقلبي لأبعاد ومعالم الالتزام: بحيث يخالط هذا الإدراك الأحاسيس والمشاعر، بل والخواطر، ويصير سجية للنفس، تفرح وتستريح حين تتمثله في داخلها وفي واقع الحياة، وتحزن وتضيق إذا هي قصرت في هذا التمثيل.
2- التأكيد على دقة الالتزام من ذوي الأسوة والقدوة: حتى يكون ذلك دافعًا لمن دونهم على الاقتداء والتأسي، أو على الأقل المحاكاة والمشابهة.
3- الحرص على تجديد الإيمان وتقويته في النفس: فإن ذلك يولد طاقات وإمكانات؛ تعين على الالتزام، وأبعد من ذلك يكون الحارس والأمين، لئلا يكون تقصير أو إهمال.
4- الفهم الواعي الدقيق لحقيقة الدنيا والآخرة: وعلاقة كل منها بالأخرى، على نحو قوله تعالى:}وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا[77]{ [سورة القصص].
5- إدراك أن طريق الهجرة والفرار إلى الله طريق كلها أشواك وصعاب فيجب الاستعداد لها.
6- حمل ما تقدر النفس على القيام به: حتى لا تضعف، أو تنقطع عن ركب العاملين المجاهدين، قال تعالى:}لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا[286]{ [سورة البقرة]. }لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلاَّ مَا آتَاهَا[7]{ [سورة الطلاق].
7- التحذير المستمر من كيد الشيطان ووسوسته: مع بيان سبيل النجاة من هذه المكايد، وتلك الوساوس.
8- الوقوف على سير وأخبار من عرفوا بدقة وكمال الالتزام: والتاريخ الإسلامي مملوء بذلك من النافع المفيد .
9- الحرص على لزوم الجماعة: وعدم الانفكاك عنها لحظة واحدة، إذ فيها يكون التناصح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، والتعاون، وتجديد النشاط، وإعلاء الهمة، وغير ذلك مما يعد في الحقيقة جوهر ومضمون الالتزام.
10- الاستعانة التامة بالله عز وجل: فإنه سبحانه يعين من لجأ إليه، واستعان به، ولاذ بحماه.
11- محاسبة النفس دومًا للوقوف على جوانب الضعف والخلل فيها: ثم تلافي ذلك بالتوبة والإقلاع عن الخطأ، وجبره بأنواع من الكفارات كالصدقة والصوم، والإكثار من النوافل.
12- الإحسان إلى الأبوين في المعاملة، مع لفت نظرهما بأدب ورقة إلى أن الآجال بيد الله: وأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها.(/5)
13- التذكر الدائم بفوائد وثمرات الالتزام وعواقب ومضار إهداره، أو التخلي عنه: فإن هذا التذكير له دور كبير في عودة النفس إلى صوابها، ونهوضها من جديد.
14- المعايشة المستمرة لكتاب الله عز وجل: فإنه بيان دقيق لحقيقة ومضمون الالتزام، ولِمَ لا يكون كذلك، وهو حكم الله: }وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ[50] [سورة المائدة].
15- المسارعة بالانتفاع بالنعم الآتية من الوقت، والصحة، والمال، والعلم، والشباب، وغير ذلك قبل زوالها: فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [ بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا أَوْ غِنًى مُطْغِيًا أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا أَوْ الدَّجَّالَ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ أَوْ السَّاعَةَ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ] رواه الترمذي .
16- المعايشة الدائمة لسنة وسيرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عن حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ: مَا مَنَعَنِي أَنْ أَشْهَدَ بَدْرًا إِلَّا أَنِّي خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِي حُسَيْلٌ، فَأَخَذَنَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ قَالُوا إِنَّكُمْ تُرِيدُونَ مُحَمَّدًا فَقُلْنَا مَا نُرِيدُهُ مَا نُرِيدُ إِلَّا الْمَدِينَةَ فَأَخَذُوا مِنَّا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ لَنَنْصَرِفَنَّ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلَا نُقَاتِلُ مَعَهُ فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ فَقَالَ: [انْصَرِفَا نَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَنَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ] رواه مسلم وأحمد .
من كتاب: آفات على الطريق للدكتور/ السيد محمد نوح .(/6)
ضعف التأصيل وتأصيل الضعف
إن الدعوة إلى الله عز وجل عبادة عظيمة من أعظم العبادات التي يحبها الله عز وجل ويُتقرب بها إليه سبحانه ولكن شأنها شأن العبادات الأخرى التي يشترط في قبولها عند الله تعالى أن يكون فيها إخلاص ومتابعة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، وشَرَعه لأمته ؛ وهذا هو مفهوم التأصيل . والناظر في واقع الدعوة اليوم وما أثمرته من صحوة عامة وعودة إلى الدين والخير ومقارعة الفساد وأهله ليحمد الله عز وجل على هذه النعمة العظيمة ، ويشكر القائمين على هذه الدعوة من علماء وطلاب علم ودعاة وموجهين ومحسنين ؛ كلٌ في مهمته ، وحسب ما قدم . ومع هذا الخير العظيم الذي لا يماري فيه عاقل محب للخير ؛ فإن هناك أمرين خطيرين ينبغي أن ينتبه إليهما الدعاة المخلصون ؛ لأنهما طالما كانا من معاول الهدم للدعوات الصحيحة ، أو كانا أداتي نخر وإفساد للدعوات الناشئة في بنائها . وهذان الأمران هما :
1 ضعف التأصيل . 2 تأصيل الضعف .
والمقصود بضعف التأصيل : الانطلاق في أمور الدعوة ومناهجها وأساليبها دون الرجوع إلى أصول الشريعة وما كان عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الكرام رضي الله عنهم ، ودون الاهتمام بالمستند الشرعي والدليل العلمي لمنطلقات الدعوة ومناهجها ، والاكتفاء بآراء الرجال ، والتقليد الأعمى دون تمحيص هذه الآراء ، وهل هي توافق مقاصد الشريعة وأصول السيرة النبوية الطاهرة أم لا ؟ ! إن تربية النشء على قدسية أقوال فلان من الناس ، وأنها الحق الذي لا مرية فيه نهج خاطئ منحرف ، ومثال واضح لضعف التأصيل أو انعدامه .
كما أن ربط الصحة والخطأ في أمور الدعوة بالعقل والذوق ورغبات الناس هي الأخرى مثال لضعف التأصيل . والأمثلة كثيرة وليس المقام مقام تفصيل لها .. والمقصود : أن ضعف التأصيل ظاهرة خطيرة ، تُرى دائماً وتظهر في أزمنة الجهل بالشريعة ، وضعف العلم الشرعي ، وترك الأخذ بالدليل الصحيح ، والاستعاضة عن ذلك بآراء الرجال وعقولهم وأهوائهم . وعلاج هذا الانحراف يكون في ربط الدعوة ومناهجها بالدليل ومقاصد الشريعة وقواعدها ، وإحياء العلم الشرعي بين الناس ، وأن لا عصمة إلا للرسول صلى الله عليه وسلم؛ وكل من عداه يؤخذ من قوله ويرد . وإحقاقاً للحق فإن كثيراً من الدعوات اليوم ولله الحمد قد ثبّتت منهج التأصيل والرجوع إلى ما كان عليه سلف الأمة والاهتمام بالدليل ؛ وما ذاك إلا بسبب انتشار العلم وكثرة طلابه والتفافهم على العلماء ؛ وهذا يبشر بالخير إن شاء الله تعالى وإن كان التأصيل الشامل يحتاج إلى جهد كبير ، وتعاون عظيم بين العلماء والدعاة في ذلك .
أما الأمر الثاني فهو تأصيل الضعف : والمقصود بتأصيل الضعف هنا : هو أن يقع الإنسان في ضعف أو خطأ ، وعوضاً عن الاعتراف بهذا الضعف ، ومحاولة النهوض منه ومعالجته .. تراه يتكلف الاستدلال لضعفه هذا ببعض الأدلة الشرعية التي لا تصلح للاستدلال ، وقصده من هذا أن يظهر بمظهر المتقيد بالشرع ، وأنه ينطلق في مواقفه من أصول شرعية ، ولتوضيح هذه المسألة أضرب الأمثلة
الآتية :
1- هناك من يسوّغ كتم الحق بالخوف على النفس من الفتنة ، أو بالخوف على الناس من تبعات قول الحق وما يجر عليهم من المفاسد والفتن ؛ فإن كان من يقول هذا القول قد عُرف عنه التقوى والإخلاص والعلم بمقاصد الشريعة ؛ فإنه والحالة هذه مسؤول عما يقول وهو إن شاء الله تعالى مأجور على اجتهاده ، وليس هو ممن يلبس الحق بالباطل ، أو ممن يؤصّل ضعفه ويسوّغه بمسوغات شرعية . أما إن كان صاحب هذا القول ممن عرف عنه قلة الدين واللهث وراء الدنيا ، وعرف عنه كتم الحق خوفاً على دنيا فانية ، أو طمعاً في متاع زائل فإن موقفه والحالة هذه يُعد صورة من صور تأصيل الضعف ، ولبس الحق بالباطل ؛ حيث أظهر طمعه وخوفه في صورة الحرص على مقاصد الشريعة ومراعاة المصالح والمفاسد . والله سبحانه هو المطلع على ما في القلوب وهو علاّم الغيوب .
2- من المعلوم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل من أصول الشريعة لا تقوم إلا به ، ولكن قد يتركه بعض الناس في بعض الظروف : إما لمسوغ شرعي كتخلف بعض شروطه ، أو لضعف وتخاذل مع بقاء هذه الشعيرة على أصلها في النفوس ، أما لو تحوّل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع مرور الوقت وكثرة المنكرات وضعف الإيمان إلى أن يصبح السكوتُ وتركُ الأمر والنهي هو الأصل الذي يبحث له عن المسوغات الشرعية كدرء الفتنة ونحوها ، ثم يتحول الأمر والنهي إلى حالة استثنائية لا يقام به إلا عند توفر الشروط التي تُضخّم لتصبح أقرب إلى التعجيز منها إلى الإمكان إذا آل الأمر إلى هذه الحالة فإنه عين اللبس ، وهو تأصيل الضعف ؛ حيث انعكس الأمر فأصبح السكوت والضعف عن هذه الشعيرة العظيمة هو الأصل ، وما خالفه من الأمر والنهي هو المستثنى ، ونعوذ
بالله من الخذلان .(/1)
3- من المعلوم أن البراءة من المشركين والكفار أصل عظيم من أصول العقيدة ، لا يصح إيمان العبد إلا بها ، وقد يمر بالمسلم وقت لا يستطيع أن يجاهر بعدائه للكفار ، وقد يداريهم في الظاهر ؛ لكن قلبه ممتلئ ببغضهم والبراءة منهم ؛ لكن الخطير في هذا الأمر أن يستمرئ الناس مداراة الكفار في كل حين حتى يتحوّل الأمر إلى مداهنة وموالاة ، وحتى يؤول في النهاية إلى أن تؤصّل المداهنة الناشئة عن ضعف الإيمان وحب الدنيا ووهن العزيمة ، وتصبح هي الأصل ، وما خالفها طارئ وجزئي لا تُعارَض به ، كمن يؤصّل اليوم التسامح الديني وتقارب الأديان بحجة المصلحة الشرعية ونبذ التعصب . ومثله ما يراد للأمة الإسلامية في السنوات الأخيرة من استسلام مهين مع شرذمة الخليقة وأعداء الرسل اليهود الغاصبين ؛ حيث تحوّل الجهاد في سبيل الله تعالى ومعاداة اليهود والنصارى إلى أمر مستغرب ؛ بل ومستنكر أحياناً ، وأصبح التنازل عن هذا كله هو الأصل الذي لا يجوز خرمه . كما أصبح التعايش السلمي واحترام حدود العدو والسلام الدائم معه واحترام الشرعية الدولية المدّعاة هي الأصول التي لا يُسمح بالتنازل عنها والخروج عليها . وقد أدى هذا الأمر إلى أن يوجد في بعض بلاد المسلمين من يحشد الأدلة والشبهات لتأصيل هذا الخنوع ، وإضفاء الشرعية للسلام الدائم مع اليهود . وهل بعد ذلك مثال أوضح من هذا في تأصيل الضعف والهزيمة والهوان ؟ !
مجلة البيان : العدد : (137) التاريخ : محرم / 1420هـ .(/2)
ضمان العارية
راشد بن فهد آل حفيظ(*) 15/4/1425
03/06/2004
المقدمة
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد :
فإن ضمان العارية من المسائل المهمة التي اختلف فيها الفقهاء - رحمهم الله - وحيث إن الحاجة ماسَّة لمعرفة الراجح من المرجوح من أقوالهم ، والتحقيق في ذلك ، لذا فقد أحببت أن أكتب هذا البحث عن هذه المسألة ، وقد رتبته على النحو التالي :
ــ التمهيد والمراد بمفردات العنوان : وفيه مبحثان :-
المبحث الأول: تعريف الضمان لغة واصطلاحاً ، وفيه مطلبان :
المطلب الأول : تعريف الضمان لغةً .
المطلب الثاني : تعريف الضمان اصطلاحاً .
المبحث الثاني: تعريف العارية لغة واصطلاحاً ، وفيه مطلبان :
المطلب الأول : تعريف العارية لغة .
المطلب الثاني : تعريف العارية اصطلاحاً .
ــ الفصل الأول: حكم العارية وأركانها ، وشروطها ، وفيه ثلاثة مباحث :
المبحث الأول : حكم العارية .
المبحث الثاني : أركان العارية .
المبحث الثالث : شروط العارية ، وفيه أربعة مطالب :
المطلب الأول : شروط المعير .
المطلب الثاني : شروط المستعير .
المطلب الثالث : شروط المستعار (العين المعارة).
المطلب الرابع : شروط الصيغة .
ــ الفصل الثاني : ضمان العارية وما يتعلق به ، وفيه أربعة مباحث :
المبحث الأول : ضمان تلف العارية بالاستعمال بالمعروف .
المبحث الثاني : ضمان تلف العارية إذا كان بغير تعد أو تفريط .
المبحث الثالث : الاختلاف في دعوى التلف بالتعدي والتفريط .
المبحث الرابع : الاختلاف في دعوى الرد .
ـ الخاتمة : وفيها أهم النتائج .
التمهيد
التعريف بمفردات موضوع البحث
المبحث الأول
تعريف الضمان لغة واصطلاحاً .
المطلب الأول
تعريف الضمان لغة .
يُطلق الضمان في اللغة على معان منها :
أولاً : الكفالة والالتزام (1).
ثانياً : الغرم (2).
المطلب الثاني :
تعريف الضمان اصطلاحاً
استعمل الفقهاء لفظ الضمان بمعنيين :
المعنى الأول :-وهو الذي يهمنا ــ الغرامة ، فقد قالوا : هو ( عبارة عن رد مثل الهالك إن كان مثليَّاً أو قيمته إن كان قيماً )(3)
أو هو : (( إعطاء مثل الشيء إن كان من المثليات وقيمته إن كان من القيميات) (4)
المعنى الثاني:- ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام الحق .
أو هو : ضم ذمة الضامن إلى ذمة الأصيل في المطالبة .
أو هو : شغل ذمة أخرى بالحق .
أو هو : التزام حق ثابت بذمة الغير (5)
المبحث الثاني
تعريف العارية لغة واصطلاحاً
المطلب الأول
تعريف العارية لغة .
(( العارية مشددة وقد تخفف ، والعارة : ما تداولوه بينهم ، والجمع : (عواري) مشددة ومخففه ،.. وعاره يعوره ويعيره : أخذه وذهب به أو أتلفه )). (6).
وقيل العارية بالتشديد كأنها منسوبة إلى العار، لأن طلبها عار وعيب .
والعارة : مثل العارية .
يقال يتعورون العواري بينهم .
واستعاره ثوباً فأعاره إياه ، ومنه قولهم : كير مستعار .
وقد قيل مستعار بمعنى متعاور أو متداول (7)
وتعاورنا العواري تعاوراً إذا أعار بعضكم بعضاً وتعورنا تعوراً :
إذا كنت أنت المستعير ، وتعاورنا فلاناً ضرباً إذا ضربته مرة ثم صاحبك ثم الآخر.
وقيل التعاور والاعتوار أن يكون هذا مكان هذا وهذا مكان هذا (8).
المطلب الثاني
تعريف العارية اصطلاحاً
لقد عرَّف الفقهاء الإعارة اصطلاحاً بما يلي :
أولاً : تعريف الحنفية :
للحنفية عدة تعاريف منها :
التعريف الأول : ( تمليك المنافع بغير عوض )(9)
التعريف الثاني : ( إباحة الانتفاع بملك الغير ) (10).
التعريف الثالث : ( هبة المنافع ) (11)
ثانياً : تعريف المالكية :
عرفها بعضهم بما يلي :-
التعريف الأول : ( تمليك منافع العين بغير عوض )(12)
التعريف الثاني : ( تمليك منفعة مؤقتة بلا عوض ) (13).
ثالثاً : تعريف الشافعية :
عرفها بعضهم بما يلي :
التعريف الأول : ( هبة المنافع مع استيفاء ملك الرقبة ) (14).
التعريف الثاني : ( إباحة الانتفاع بما يحل الانتفاع به مع بقاء عينه ليرده )(15)
تعريف الحنابلة : للحنابلة عدة تعاريف منها ما يلي :-
التعريف الأول : ( إباحة الانتفاع بعين من أعيان المال ) (16).
التعريف الثاني: ( إباحة المنافع بغير عوض ) (17)
التعريف الثالث: (إباحة الانتفاع بما يحل الانتفاع به مع بقاء عينه ليردها على مالكها )(18).
التعريف الرابع : ( إباحة نفع عين تبقى بعد استيفائها )(19).
التعريف الخامس : ( هبة المنافع )(20)
التعريف السادس : ( العين المأخوذة للانتفاع بها مطلقاً بلا عوض )(21).
وإذا نظرنا إلى هذه التعريفات وجدنا بينها اتفاقاً في المعنى، وأن الفقهاء عرفوها بمصدرها وهو الإعارة، وعليه فيمكننا أن نعرف الإعارة بما يلي:
إباحة الانتفاع مدة بما يحل الانتفاع به مع بقاء عينه بلا عوض .
الفصل الأول
حكم العارية وأركانها وشروطها
(المبحث الأول )
حكم العارية(/1)
العارية مستحبة عند عامة الفقهاء ، وقد حكى ذلك إجماعاً (22) . قال تعالى: ((وتعاونوا على البر والتقوى)) (23) وقال تعالى : (( وأحسنوا إن الله يحب المحسنين )) (24).
وقيل : تجب مع غنى المالك ، وهو رواية عن الأمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية(25).
قال شيخ الإسلام :
(والصحيح وجوب بذل ذلك (26) مجاناً إذا كان صاحبها مستغنياً عن تلك المنفعة وعوضها ، كما دل عليه الكتاب والسنة ، .....) (27)
(المبحث الثاني )
أركان العارية
أختلف الفقهاء في بيان أركان العارية على قولين :
القول الأول : أن أركان العارية أربعة وهي :
المعير ، والمستعير ، والشي المستعار ، والصيغة .
وإليه ذهب جمهور الفقهاء ـ المالكية (28) ، الشافعية (29) الحنابلة(30).
القول الثاني : أن أركان العارية هو : الإيجاب من المعير .
وإليه ذهب الحنفية (31)
( المبحث الثالث )
شروط العارية
المطلب الأول :
شروط المعير
يشترط للمعير ما يلي :
أولاً : أن يكون عاقلاً ، فلا يصح الإعارة من المجنون والصبي الذي لا يعقل (32) .
ثانياً : أن يكون صحيح التبرع فلا تصح الإعارة من محجور عليه ، من مجنون أو سفيه أو مفلس (33) .
ثالثاً : أن يكون مختاراً ، فلا تصح من مكره (34).
رابعاً : أن يكون مالكاً للعارية إما لرقبتها ، وإما لمنفعتها (35) .
المطلب الثاني
شروط المستعير
يشترط للمستعير ما يلي :
أولاً : أن يكون ممن يصح التبرع عليه ، فلا تصح الإعارة للدواب ، ولا للجمادات ، ولا إعارة مسلم أو مصحف لكافر ، وكذا لا يجوز إعارة السلاح لمن يقاتل به المسلمين وما في معنى ذلك (36) .
ثانياً : أن يكون معيناً فلا تصح الإعارة لغير معين كقوله : أعرت أحدكم (37) .
ثالثاً : أن يكون مختاراًً (38) .
(المطلب الثالث )
شروط المستعار
يشترط للمستعار ما يلي :
أولاً : أن يكون مما ينتفع به مع بقاء عينه كالدور ، والعقار ، والحيوان ، والعبيد ، والثياب ، والحلي ، فلا تصح إعارة طعام لأكل ، أو شمعة لوقود (39).
ثانياً : أن تكون منفعته مباحة ، فتحرم إعارة الجارية للاستمتاع بها، والإناء لشرب الخمر ، والسلاح لقتل مسلم (40).
المطلب الرابع
شروط الصيغة
والمقصود بها الإيجاب من المعير والقبول من المستعير ، فهل يشترط لذلك صيغة مخصوصة ؟ قولان للفقهاء :
القول الأول : أنها تنعقد بألفاظ خاصة ، كأعترتك هذا أو أعرتك منفعته . وإليه ذهب الحنفية (41)، والشافعية (42).
القول الثاني : أن العارية تنعقد بكل لفظ أو فعل دل عليها .
وإليه ذهب المالكية (43) ، والشافعية (44) في قول ، والحنابلة (45) .
وهذا هو القول الراجح ، لعدم ورود الدليل على تخصيص صورة معينة لانعقاد العارية .
الفصل الثاني
ضمان العارية ، وما يتعلق به
(المبحث الأول )
ضمان تلف العارية بالاستعمال بالمعروف.
لقد نُقِلَ الإجماع على عدم ضمان تلف العارية بالاستعمال بالمعروف (46)، ولكن في هذا النقل نظر ؛ لأن الخلاف قد وقع في هذه المسألة على قولين :
القول الأول : أن المستعير لا يضمنه .
وإليه ذهب الحنفية (47)، والمالكية (48)، والشافعية(49) ، والحنابلة (50) .
وعللوا لذلك بما يلي :
( أن الإذن في الاستعمال تَضَمَّنَه’، فلا يجب ضمانه ، كالمنافع ، وكما لو أذن في إتلافها صريحاً )(51).
القول الثاني: أن المستعير يضمنه .
وهو وجه عند الشافعية (52)، والحنابلة (53).
وعللوا لذلك بما يلي :
أنها عين مضمونة(54).
ويمكن مناقشته بما يلي :-
أن العارية أمانة غير مضمونه إلا بالتعدي أو التفريط وعليه فلا تضمن إذا تلفت بالاستعمال بالمعروف.
الترجيح :
والراجح هو القول الأول – بلا شك – لكون العارية أمانة غير مضمونه إلا بالتعدي أو التفريط .
(المبحث الثاني)
ضمان تلف العارية إذا كان بغير تعد أو تفريط
قال تعالى : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها }(55)
وقال صلى الله عليه وسلم : ( أدَّ الأمانة إلى من ائتمنك )(56).
فرد الأمانة واجب ، ومن لازمه حفظها وعدم استخدامها إلا فيما أذن فيه (57).
فيجب على المستعير حفظ العارية وعدم استخدامها إلا فيما أذن فيه ، فإن تعدى أو فرط في ذلك فتلفت العارية فمن ضمانه بالاتفاق (58).
أما إذا لم يتعدَّ ولم يفرط فقد اختلف الفقهاء في ذلك على خمسة أقوال :
القول الأول :- أنه لا يضمن إلا بالتعدي أو التفريط .
وإليه ذهب الحنفية (59) والظاهرية (60)، وبعض الحنابلة (61) ، واختاره العلامة ابن القيم(62)، والشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب (63)، والشيخ عبد الرحمن بن قاسم(64).
واستدلوا لذلك بما يلي :-
الدليل الأول :-
قوله تعالى : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها }(65).
وجه الاستدلال :
أن الواجب في الأمانة ردها وأداؤها ، لا ضمانها – إلا بالتعدي أو التفريط – والعارية أمانة ، لأنها قبضت بأذن صاحبها ، فلا تضمن إلا بالتعدي أو التفريط (66)
الدليل الثاني:(/2)
قوله صلى الله عليه وسلم : ( ليس على المستعير غير المغل ضمان )(67).
وجه الاستدلال : أن الحديث صريح في نفي الضمان عن المستعير الأمين الذي لم يخن .
ونوقش : بأن الحديث ضعيف(68)
القول الثاني : أنه يضمن مطلقاً ، وإليه ذهب الشافعية (69)، والحنابلة (70).
واستدلوا لذلك بما يلي :-
الدليل الأول :-
قوله صلى الله عليه وسلم : في حديث صفوان ( بل عارية مضمونة )(71).
وجه الاستدلال :
أن الحديث صريح في تضمين المستعير مطلقاً .
ونوقش بما يلي :
أولاً : أن هذا الحديث ضعيف (72)
ثانياً : أن المقصود بالضمان في الحديث ضمان الرد لا ضمان التلف ،وذلك لما يلي :
1 .أن في لفظ الحديث الآخر :(( بل عارية مؤداة )) (73)، فهذا يبين أن قوله : ((مضمونة)) المراد به : المضمونة بالأداء .
2. أن صفوان لم يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن تلفها ، وإنما سأله : هل تأخذها مني أخذ غصب تحول بيني وبينها ؟
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لا بل عارية مؤداة )) .
ولو كان سأله عن تلفها وقال : أخاف أن تذهب ، لناسب أن يقول : أنا ضامن لها إن تلفت .
3 . أنه صلى الله عليه وسلم جعل الضمان صفة لها نفسها ، ولو كان ضمان تلف لكان الضمان لبدلها ، فلما وقع الضمان على ذاتها دل على أنه ضمان أداء (74).
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي :
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم لصفوان أبن أمُيه: (( بل عارية مضمونه )) (75) ليس معناه أنها تضمن إذا تلفت ، وإنما معناه أن على المستعير أداءها ، كقوله – صلى الله عليه وسلم – (( على اليد ما أخذت حتى تؤديه ))(76) . (77)
الدليل الثاني : قوله صلى الله عليه وسلم : ( على اليد ما أخذت حتى تؤديه ) (78).
وجه الاستدلال : أن على المستعير أداء العارية ومن لازم ذلك حفظها وضمانها إذا تلفت .
ونوقش بما يلي :
أولاً : أن هذا الحديث ضعيف (79).
ثانياً : أن ضمان العارية التي تلفت بغير تعد أو تفريط مستثنى من الحديث ، لأنها أمانة قبضت بإذن مالكها ، فلا تضمن إلا بالتعدي أو التفريط ، كسائر الأمانات .
قال ابن حزم في المحلى 9 / 172:
((يلزمهم إذا حملوا هذا اللفظ على الضمان أن يُضمِّنوا بذلك المرهون والودائع ، لأنها مما قبضت اليد))
وعللوا لذلك بما يلي :
أنه أخذ ملك غيره ، لنفع نفسه ، ولم يؤذن له في الإتلاف ، فكان ضامناً(80).
ونوقش : بأن يد المستعير يد أمانة ، قد أُذن له في الاستعمال والانتفاع ، وما حصل للمأذون فيه بغير تعد أو تفريط ، فليس بمضمون .
القول الثالث :
أنه لا يضمن في كل شيء ظاهر لا يغاب عليه(81) وما لا فيضمن ، وإلية ذهب المالكية (82)
وحملوا قوله – صلى الله عليه وسلم – : ( بل عارية مضمونه )(83) على الشيء الخفي ، الذي لا يظهر .
وحملوا قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( ليس على المستعير غير المغل ضمان )(84) على الشيء الظاهر ، الذي لا يغاب عليه.
ونوقش : بأن الأدلة متفقة في الدلالة على عدم تضمين المستعير إلا بالتعدي أو التفريط ، وليس بينها تعارض في ذلك حتى نلجأ إلى هذا الحمل ، والتوسط الذي لا دليل عليه (85).
القول الرابع : أنه يضمن إلا إذا شرط نفي الضمان ، وهذا إحدى الروايتين عن الإمام أحمد(86).
واستدلوا لذلك بما يلي :
قوله – صلى الله عليه وسلم – : ( المسلمون على شروطهم )(87).
وجه الاستدلال :
أن الحديث صريح في لزوم الشروط ، وعليه فإذا شرط المستعير عدم الضمان فإنه يسقط ، وما لا فلا .
ونوقش من قبل القائلين بالضمان مطلقاً :
بأن الشروط لازمه ، إلا إذا خالفت مقتضى العقد، ومقتضى عقد العارية الضمان ، وعليه فالشرط باطل (88).
وعلل له بما يلي :
( أنه لو أذن في إتلافها لم يجب ضمانها ، فكذلك إذا أسقط عنه ضمانها )(89).
ونوقش من قبل القائلين بالضمان مطلقاً :
( بأن الإتلاف فعل يصح الأذن فيه ويسقط حكمه ، إذ لاينعقد موجباً للضمان مع الإذن فيه ، وإسقاط الضمان ههنا نفي للحكم مع وجود سببه ، وليس ذلك للمالك ، ولا يملك الأذن فيه )(90).
القول الخامس: أنه لا يضمن إلا بالشرط .
وهذا رواية عن الإمام أحمد(91) ، اختارها أبو حفص العكبري (92)، وشيخ الإسلام ابن تيميه(93)، وتلميذه صاحب الفائق ( ابن قاضي الجبل )(94) ، والشيخ عبد الرحمن بن سعدي(95) .
واستدلوا لذلك بما يلي :
قوله – صلى الله عليه وسلم – : ( المسلمون على شروطهم ) (96).
وجه الاستدلال :
أن الحديث صريح في لزوم الشرط ، وعليه فإذا شرط الضمان على المستعير ضمن ، وما لا فلا .
ونوقش : من قبل القائلين بعدم الضمان .
بأن الشرط لازمة إلا إذا خالفت مقتضى العقد ، ومقتضى عقد العارية عدم ضمان المستعير ، إلا بالتعدي أو التفريط ؛ لأنه أمين فلا يضمن كسائر الأمناء ، حتى ولو شرط عليه الضمان (98).
الترجيح :(/3)
أرجح الأقوال في نظري القول بعدم التضمين إلا بالتعدي أو التفريط ، ثم يليه القول بالتضمين إذا شُِرط ؛ لقوة دليلهما وتعليلهما ، إلا أن الأقرب منهما – والله أعلم – القول بعدم الضمان إلا بالتعدي أو التفريط ؛ لأن العارية أمانة حصلت بيد المستعير على وجه مأذون فيه ، فيده يد أمانة ، وإذا كان كذلك فلا ضمان على الأمين ، فكما أن المستأجر إذا شرط عليه الضمان مطلقاً فالشرط باطل غير صحيح فكذلك المستعير .
المبحث الثالث
الاختلاف في دعوى التلف بالتعدي والتفريط من عدمها
إذا أختلف المعير والمستعير في دعوى تلف العارية ، هل كان بالتعدي و التفريط أم لا ؟
فلا يخلو من حالين :
الأولى : أن يكون بسبب الاستعمال بالمعروف ، وحينئذٍ فالقول قول المستعير بالاتفاق(98).
الثانية :أن يكون بسبب آخر غير ذلك ، وحينئذٍ فقد حصل خلاف بين القائلين بعدم الضمان إلا بالتعدي أو التفريط من جهة ، وبين القائلين بعدم ضمان الشيء الظاهر من جهة أخرى ، وذلك على قولين :
القول الأول :
أن القول قول المستعير ، وإليه ذهب الحنفية (98)
وعللوا ذلك بما يلي :
أن المستعير أمين يده يد أمانة ، وعليه فيقبل قوله كسائر الأمناء (100).
القول الثاني :
أن القول قول المستعير في الشيء الظاهر، الذي لا يغاب عليه وما لا فلا ، وإليه ذهب المالكية(101).
وعللوا ذلك بما يلي :
أن قوله فيما لا يغاب عليه يوافق الظاهر ، فيقبل ، أما قوله فيما يغاب عليه ، وهو الشيء الخفي فيخالف الظاهر ، فلا يقبل (102).
الترجيح :
الراجح هو القول الأول ، لأن المستعير أمين ، فيقبل قوله ، كسائر الأمناء .
المبحث الرابع
الاختلاف في دعوى الرد
إذا اختلف المعير والمستعير في رد العارية فمن يكون القول قوله ؟
لقد اختلف الفقهاء في ذلك على ثلاثة أقوال :
القول الأول : أن القول قول المستعير ، وإليه ذهب الحنفية (103).
وعللوا لذلك بما يلي :
أن المستعير أمين ، وكل أمين ادعى إيصال الأمانة إلى مستحقها قبل قوله (104).
القول الثاني : أن القول قول المعير ، وإليه ذهب الشافعية (105) ، والحنابلة (106).
وعللوا لذلك بما يلي :
أن المستعير مدع ، والمعير منكر ، فكان القول قوله ، لأن الأصل عدم الرد ، ولأن المستعير قبض العارية لحض نفسه (107).
القول الثالث: أن القول قول المستعير في الشيء الظاهر الذي لا يغاب عليه ، ومالا فلا ، وإليه ذهب المالكية (108).
وعللوا لذلك بما يلي :
أن المستعير أمين فيقبل قوله فيما لا يغاب عليه وهو الشيء الظاهر ،أما ما يغاب عليه وهو الشيء الخفي فلا يقبل قوله فيه لأنه خلاف الظاهر (109).
الترجيح : الراجح هو القول الثاني ، لأن المستعير وإن كان أميناً إلا أنه قد قبض العارية لحض نفسه فلا يقبل قوله ، إلا ببينة ، أو قرينة قوية .
الخاتمة
في خاتمة هذا البحث ، أحمد الله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وأسأله – سبحانه – أن يجعل هذا البحث في ميزان حسناتي وأن يجعله عملاً صالحاً مقبولاً.
وأسأله – جل شأنه – أن يغفر لي ولوالدي ، ولعلماء هذه الأمة ، ولجميع المسلمين .
ثم إن هذه الخاتمة تلخيص لأهم النتائج التي توصلت إليها ، وهي كما يلي :-
(1) أن المقصود بضمان العارية رد مثلها إن كان لها مثل ، أو قيمتها إن لم يكن مثل .
(2) أن العارية هي : إباحة الانتفاع مدة بما يحل الانتفاع به مع بقاء عينه بلا عوض .
(3) أن العارية مستحبة بإجماع العلماء، وقد تجب مع غنى المالك وضرورة المستعير وحاجته إليها .
(4) أن أركان العارية : المعير ، والمستعير ، والشيء المستعار ، والصيغة .
(5) أن شروط المعير هي : العقل ، وصحة التبرع ، والاختيار ، والملك .
(6) أن شروط المستعير هي : أن يكون معيناً ، وممن يصح التبرع عليه ، وأن يكون مختاراً .
(7) أن شروط المستعار هي : أن يكون مما ينتفع به مع بقاء عينه ، وأن تكون منفعته مباحة .
(8) أنه لا يشترط للعارية صيغة مخصوصة، بل تنعقد بكل لفظ أو فعل دل عليها .
(9) أن من لازم أداء العارية حفظها ، وعدم استخدامها إلا بالمعروف .
(10) أن تلف العارية بالاستعمال بالمعروف غير مضمون ، وهذا مذهب الجماهير.
(11) أن العارية مضمونه بالتعدي أو التفريط بالاتفاق .
(12) أن العارية أمانة لا تضمن إلا بالتعدي أو التفريط فقط ، حتى ولو شرط الضمان .
(13) أن قوله صلى الله عليه وسلم :- ( بل عارية مضمونه ) ، المراد به مضمونه بالرد والأداء لاضمان التلف .
(14) أن القول قول المستعير ، في دعوى التلف بالتعدي أو التفريط من عدمهما ، لأنه أمين .
(15) أن القول قول المعير ، في دعوى رد العارية من عدمه .
(*) القاضي بالمحكمة العامة بالمخواة
(1) انظر لسان العرب 13 / 257 ، ومختار الصحاح ص 384 ، والمصباح المنير 2/364 ـ 365 .
(2) انظر المصادر السابقة .
(3) غمز عيون البصائر شرح الأشباه والنظائر 2/210 .
(4) مجلة الأحكام العد ليه مادة رقم 415 وانظر معجم لغة الفقهاء ص 256 .(/4)
(5) انظر التعريفات للجرجاني ص 137 – 138 ، ومعجم لغة الفقهاء ص 256 .
(6) القاموس المحيط ص 1310.
(7) الصحاح 2 / 761 0
(8) لسان العرب 4 / 619 .
(9) البحر الرائق 7 / 280 .
(10) الهداية شرح بداية المبتدي 9 / 3 ، والاختيار 3 / 55 .
(11) الاختيار 3/ 55 .
(12) القوانين الفقهية ص245 . ومنح الجليل 7 / 49 .
(13) منح الجليل 7 / 49 ، والشرح الصغير 2 / 205 .
(14) الحاوي 7 / 116 .
(15) غاية البيان ص296 .
(16) المغني 7 / 340 .
(17) الإفصاح 2 / 21 .
(18) المبدع 5 / 137 .
(19) زاد المستقنع بحاشية الروض لابن قاسم 5 / 359 .
(20) المبدع 5 / 137 ، والإنصاف 15 / 65 .
(21) منتهى الإدارات بشرحه دقائق أولى النهي 2 / 391 .
(22) انظر المجموع 14 / 200 ، والمغني 7 / 340 .
(23) سورة المائدة الآية رقم : (2) .
(24) سورة البقرة الآية رقم (195) .
(25) انظر الفروع 4 / 469 ، والاختيارات الفقهية ص 158 ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيميه 28 / 98 .
(26) أي إعادة القدر والدلو والثوب ، الفأس . انظر مجموع الفتاوى 28 / 98 .
(27) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 28 / 98 .
(28) انظر الشرح الصغير 2 / 205 ، والقوانين ص 245 .
(29) انظر روضة الطالبين 426 ، مغني المحتاج 2 / 264 .
(30) انظر كشاف القناع 4 / 62 ، ودقائق أولى النهي شرح منتهى الإرادات 2 / 392 .
(31) انظر بدائع الصانع 8 / 372 .
(32) انظر بدائع الصنائع 8 / 372 ، والمغني 7 / 345 .
(33) انظر الشرح الصغير 2 / 205 ، وروضة الطالبين 4 / 426 ، ومغني المحتاج 2 / 246 ، والفروع 4 / 264 ، وكشاف القناع 4 / 63 .
(34) انظر نهاية المحتاج 5 / 118 ، ومغني المحتاج 2 / 246 .
(35) انظر بداية المجتهد 4 / 129 ، والقوانين صـ 245 ـــ ، وروضة الطالبين 4 / 426 .
(36) انظر القوانين الفقهية صـ 245 ــ ، وروضة الطالبين 4 / 426 ، وكشاف القناع 4 / 63 ، والفروع 4 / 469 .
(37) انظر نهاية المحتاج 5 / 118 .
(38) انظر المصادر السابقة .
(39) انظر بدائع الصنائع 8 / 372 ، وبداية المجتهد 4 / 129 ، والقوانين ص245 ، وروضة الطالبين 4 / 426 ، والمغني 7 / 345 ، والإنصاف 15 / 65 .
(40) انظر بداية المجتهد 4 / 129 ، والقوانين ص 245 ، وروضة الطالبين 4 / 426 ، والمغني 7 / 345 ، والإنصاف 15 / 67 ، والفروع 4 / 469 .
(41) انظر فتح القدير 9 / 6 ، والبحر الرائق 7 / 280 .
(42) انظر مغنى المحتاج 2 / 266 ، ونهاية المحتاج 5 / 124 .
(43) بداية المجتهد 4 / 129 ، والشرح الصغير 2 / 206 ، والقوانين ص 245 .
(44) انظر مغني المحتاج 2 / 266 .
(45) انظر المغني 7 / 345 ، وكشاف القناع 4 / 62 .
(46) انضر بدائع الصنائع 8 / 378، والعناية شرح الهداية 9 / 8 ، والمجموع 14 / 205 .
(47) انظر فتح القدير 9 / 9 ، والعناية شرح الهداية 9 / 8 .
(48) انظر الكافي لابن عبد البر 2 / 809 ـ 810 ، وبداية المجتهد 4 / 132 .
(49) انظر روضة الطالبين 4/ 432 ، وفتح العزيز 11 / 219 .
(50) انظر الفروع 4 / 474 ، والإنصاف 15 / 93 .
(51) المغني 7/ 343 ، والشرح الكبير 15 / 93 .
(52) انظر روضة الطالبين 4 / 432 وفتح العزيز 11 / 219 .
(53) انظر المغني 7 / 343 ، والشرح الكبير 15 / 93 ، والإنصاف 15 / 93 .
(54) انظر المغني 7 / 343 ، والشرح الكبير 15 / 93 .
(55) سورة النساء الآية رقم 58 .
(56) أخرجه أبو داود ، كتاب البيوع ، باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده ، برقم ( 3535)3 / 516، والحديث صححه الألباني في الإرواء 5 / 381 ، وانظر تلخيص الحبير 3 / 209 .
(57) انظر الجامع لأحكام القرآن 5 / 546 ، والمغني 7 / 342 .
(58) انظر الإقناع لابن المنذر 2 / 406 ، ومراتب الإجماع لابن حزم ص 95 ، والكافي لابن عبد البر 2/ 808 ، والمغني 7 / 341 ، والمحلي 9 / 169 ، ومجموع فتاوي شيخ الإسلام 30 / 313 ، 314 ، 316 .
(59) انظر بدائع الصنائع 8 / 378، والهداية 6 / 7 .
(60) انظر المحلى 9 / 186 .
(61) انظر الفروع 4 / 474 ، والإنصاف 15 / 92 ، ومجموع فتاوي شيخ الإسلام ابن تيمية 30 / 314 وزاد المعاد 3 / 482 .
(62) انظر زاد المعاد 3/ 482 ، وإعلام الموقعين 3 / 451 ، والفروع 4 / 474 ، والإنصاف 15 / 90 .
(63) انظر الدرر السنية 6 / 38 ، والإحكام شرح أصول الأحكام 3 / 295 .
(64) انظر الإحكام شرح أصول الأحكام 3 / 295 .
(65) سورة النساء الآية رقم : (58) .
(66) انظر الكافي لابن عبد البر 2 / 808 ، والمغني 7 / 341 ـ 342 ، وزاد المعاد 3 / 482 .
(67) أخرجه البيهقي في سننه 6/91، كتاب البيوع ، باب من قال لا يغرم ، والدار قطني في سننه 3/41كتاب البيوع ، وفي إسناده ضعيفان هما : عمرو بن عبد الجبار وعبيده بن حسان . انظر سنن الدار قطني 3 / 41 ، وتلخيص الحبير 3 / 210 .
(68) انظر سنن الدار قطني 3 / 41 ، وتلخيص الحبير 3 / 210 والمغني 1 / 240 .(/5)
(69) انظر المجموع 14 / 205 ، وروضة الطالبين 4 / 431 .
(70) انظر المغني 7 / 342 ، والفروع 4 / 474 ، والإنصاف 15 / 89 .
(71) أخرجه أبو داود، كتاب البيوع ، باب في تضمين العارية، برقم ( 3562 ، 3563 ، 3564 ) 3 / 526 ، 527 ، والحديث صحيح ، صححه الألباني في الإرواء 5/ 346 ، وانظر تلخيص الحبير 3 / 116 ـ 117 .
(72) انظر تلخيص الحبير 3 / 117 ، وإرواء الغليل 5 / 344 ـ 346 . والمحلى 9 / 168 .
(73) أخرجه أبوداود، في كتاب البيوع ، باب في تضمين العارية، برقم ( 35666) 3 / 528 . والحديث صحيح ، صححه الألباني في الإرواء 5 / 348 ، وحسنه محمد صبحي في تحقيقه لبداية المجتهد 3 / 130 وانظر تلخيص الحبير 3 / 116 ـ 117 .
(74) زاد المعاد 3 / 482 بتصريف يسير جداً .
(75) تقدم تخريجه . هامش رقم (71)
(76) أخرجه أبو داود ، كتاب البيوع ، باب تضمين العارية ، برقم ( 3561) 3 / 526 ، والترمذي ، في أبواب البيوع باب ما جاء في العارية مؤادة برقم( 1266) وقال الترمذي حديث حسن صحيح، وضعفه الألباني في الإرواء 5 / 348، وانظر تلخيص الحبير 3/ 117 .
(77) المختارات الجلية ص159 .
(78) تقدم تخريجه .هامش(76) .
(79) انظر أرواء الغليل 5 / 348 ، والمحلى 9 / 172 .
(80) انظر المغني 7 / 342 .
(81) الشيء الظاهر كالحريق وأخذ السيل وخراب الدار ، والشيء الخفي كدعوى سرقة الجواهر والحلي .
(82) انظر الكافي لابن عبد البر 2 / 808 ، وبداية المجتهد 4 / 130 .
(83) تقدم تخريجه ، هامش (71) .
(84) تقدم تخريجه ، هامش (67) .
(85) انظر المحلى 9 / 169 .
(86) انظر المغني 7 / 342 ، والفروع 4 / 470 ، والإنصاف 15 / 92 .
(87) أخرجه أبو داود ، كتاب الأقضية ، باب في الصلح ، برقم ( 3594 ) 4 / ،16 والحديث صححه الألباني ، في الإرواء 5 / 142 .
(88) انظر المغني 7 / 342 .
(89) المغني7 / 342 .
(90) المغني 7 / 343 .
(91) انظر الفروع 4 / 474 ، والإنصاف 15 / 92 .
(92) انظر الفروع 4 / 474 ، والإنصاف 15 / 92 .
(93) انظر الاختيارات الفقهية ص158 ، والفروع 4 / 474 ، والإنصاف 15 / 92 .
(94) انظر الإنصاف 15 / 92 .
(95) انظر المختارات الجلية ص159 .
(96) تقدم تخريجه هامش (87).
(97) انظر الكافي 2 / 808 ـ 809 ، وبداية المجتهد 4 / 132 .
(98) انظر تنوير الأبصار 12 / 545 ، والدر المختار 12 / 545 ، والكافي 2 / 810 ، بداية المجتهد 4 / 132 ، والمهذب 14 / 205 ، ومغنى المحتاج 2 / 273 ، والإنصاف 15 / 95 ، والمبدع 5 / 146 .
(99) انظر تنوير الأبصار 12 / 545 ، والدر المختار 12 / 545 .
(100) انظر المصدرين السابقين .
(101) انظر الكافي لابن عبد البر 2 / 808 ، وبداية المجتهد 4 / 130 ، والقوانين ص246 .
(102) انظر المصادر السابقة ، وزاد المعاد 3 / 482 ، وإعلام الموقعين 3 / 452 .
(103) انظر تنوير الأنصار 12 / 545 ، والدر المختار . 12 / 545 ، ورد المحتار ( حاشية ابن عابدين ) 12 / 550 ـ 553 .
(104) انظر تنوير الأبصار 12 / 545
(105) انظر مغني المحتاج 2 / 273 ، والمهذب 14 / 205 .
(106) انظر الفروع 4 / 476 ، والروض المربع 5 / 374 .
(107) انظر الروض حاشية ابن قاسم 5 / 373 ، 374 .
(108) انظر الكافي 2 / 808 ، وبداية المجتهد 4 / 130 والقوانين ص446 .
(109) انظر الكافي 2 / 808 ، وبداية المجتهد 4 / 130 والقوانين ص446 .(/6)
ضوء على قصة تأسيس جامعة دارالعلوم / ديوبند (الهند)
بقلم : د. محمود حافظ عبد الرب ميرزا
جامعة "جواهرلال نهرو" دهلي الجديدة
عندما بدأت نيران ثورة التحرير الهندية عام 1857م تلتهب في مدينة دهلي فإن العلماء الذين قاموا فيما بعد بتأسيس دارالعلوم ديوبند، كانوا ينتظرون فرصة للقيام بدور عام في سبيل الحصول على الاستقلال من براثن الاستعمار الأجنبي الغاشم، فانتهزوا هذه الفرصة الثمينة وبدأوا الخوض في غمارها .
اجتمع هؤلاء العلماء ومنهم "الحافظ ضامن"، و"الحاج إمداد الله"، و"مولانا محمد" وغيرهم وبحثوا سبل قيامهم بثورة مباغتة ضد الإنجليز؛ ولكن بعض العلماء كانوا لا يؤيدون المشاركة في هذه الثورة لعدم وجود أسلحة تعادل ما في حوزة القوات الإنجليزية، ونظرًا لذلك تم استدعاء "مولانا محمد قاسم النانوتوي"، و"مولانا رشيد أحمد الغنغوهي" اللذين حاولا حل هذه القضية متبعين ومقتدين بأسوة رسول الله الكريم، فاستعدا للخوض في ميادين الحرب ضد الإنجليز، وتجمع المجاهدون حولهما من كل ناحية وجمعوا كل الأسلحة الموجودة لديهم .
وبدأت عملياتهم الحربية والقتالية من مدينة "تانه بون" التابعة لمظفرنغر القريبة من ديوبند، وبفضله تعالى استطاعوا الاستيلاء عليها من أيدي البريطانيين، وأقاموا فيها الحكم الإسلامي. وانتشرت هذه الأنباء في جميع بقاء الهند فتحركت القوات الإنجليزية التي كانت في مدينة "سهارنبور" إلى مدينة "شاملي"، وعلم العلماء ذلك ففكروا كثيرًا في طريقة مقاومة هؤلاء الجنود التي تمتلك أحدث أنواع الأسلحة والمدافع، وليس في حوزتهم سوى المدافع والبنادق القديمة. وخطرت على بال "مولانا رشيد أحمد الغنغوهي" فكرة رهيبة حاول أن يغامر بها، فقام هو وأتباعه الذين لم يكن يزيد عددهم على أكثر من أربعين مجاهدًا بالاختفاء وراء الأشجار في انتظار مرور هذه القوة البريطانية الزاحفة فانقضوا عليهم وأطلقوا عليهم الرصاص، ففر الإنجليز تاركين مدافعهم وأسلحتهم ليستولي عليها "مولانا رشيد أحمد" وجنوده وحملها إلى "الحاج إمداد الله"، فأثار هذا العمل الجريء شعلة الحماس في نفوس المجاهدين .
فتقدم المجاهدون نحو مدينة شاملي وقاموا بفتحها بعد معركة حامية الوطيس جرت بينهم وبين القوات الإنجليزية، فرفرفت رأية الإسلام في بقاع شاملي أيضًا. واستُشْهِدَ في هذه المعركة قائدُ المسيرة "الحافظ محمد ضامن". ورغم ذلك فإن أنباء الانتصارات قد شدت من أزر الناس فاجتمعوا حول هؤلاء المجاهدون بصورة جماعية . ولكن أنباء سيطرة الإنجليز على مدينة دهلي لعبت دورًا هامًا في إحباط روح المجاهدين فقل عددهم، ولم يجدوا حلا غير إلقاء السلاح أمام أعداءهم، الذين كانوا يبحثون عنهم ويطاردونهم للانتقام منهم، فهاجر "مولانا إمداد الله" إلى مكة المكرمة، وألقي القبض على "مولانا رشيد أحمد الغنغوهي" فظل في السجن فترة تزيد على ستة أشهر وأختفى "مولانا محمد قاسم النانوتوي" حتى صدر قانون العفو العام .
وبعد أن استطاعت الحكومة البريطانية أن تسيطر على حركة التحرير الهندية عام 1857م بدأ العلماء يفكرون وبكل جدية عن أفضل حل لهذه الأزمة فاتفقوا على ضرورة العمل على إنقاذ أبناء المسلمين من الانحلال في الثقافة الغربية والتأثر بحضارتهم وعملياتهم التبشيرية، وأدركوا ضرورة اللجوء إلى تربيتهم تربية إسلامية بفتح مراكز دينية خاصة لهم كبديل للخوض مباشرة في الحروب ضد البريطانيين، فقامت جماعة نحو "الحاجّ إمداد الله" بالهجرة إلى مكة المكرمة وقامت جماعة أخرى بقيادة "مولانا محمد قاسم النانوتوي"، و"مولانا رشيد أحمد الغنغوهي"، وبعض العلماء الآخرين باللجوء إلى ديوبند عام 1862م والقيام بفتح مدرسة دينية باسم "دارالعلوم / ديوبند" للحفاظ على المبادئ الإسلامية السمحة .
لقد شهد مسلمو الهند بعد انتهاء حكومتهم التي امتدت قرابة 800 سنة، ونتائج ثورة التحرير الهندية عام 1857م المؤلمة تأخرهم في جميع مراحل الحياة، علمًا بأن هذه النتائج الوخيمة التي شهدها المسلمون في الهند كانت نتيجة لابتعادهم عن الإسلام وتعاليمه السمحة تدريجيًا حيث أن البريطانيين قد نزعوا الحكومة الهندية من المسلمين، لذا كانوا يعتبرونهم أعداءهم الأصليين، ونتيجة لذلك كانوا يتخذون جميع تلك السياسات التي كانت تضيف العار والذل والهوان إلى سمعة مسلمي الهند ، واعتبروهم قوادًا وزعماء لثورة التحرير الهندية عام 1857م حيث حاولوا ما في وسعهم أن يقضوا على هذا الدين العريق في هذه البلاد بكل طرق ووسائل، فبدأوا يتدخلون في شؤونهم الدينية أيضا ويقومون بفتح مدارس على نمط المدارس الغربية . يقول هنتر :
"لم يكن في مناهج تعليمنا أية مساحة لتعليم الدين الإسلامي، فقد كنا نخالف جميع مصالح المسلمين"(1).(/1)
وتم مصادرة جميع الأوقاف الإسلامية التي كانت تقوم بتولي مهمة رعاية المدارس الإسلامية في الهند منذ القدم. حيث كانت الحكومة الإنجليزية تحاول نشر المسيحية في أبناء البلاد بشتى الطرق حتى تسلم من ظهور أية اعتراضات على حكومتها من الناحية الدينية واتبعت خطة تعليمية سهلت مهمة التنصير حيث استخدمت الكنيسة والمدارس وسيلة للتنصير الجماعي. ولكن رغم جميع تلك التيارات المعادية للإسلام في الهند، إلا أن الله تعالى كان يريد أن يبقى نور الإسلام في الهند ساطعًا، فأحس بعض علماء المسلمين بانهيار القيم الأخلاقية وابتعاد مسلمي الهند التدريجي عن تعاليم الدين، فرفعوا لواء الإصلاح والحركة الإسلامية في الهند ووصلوا إلى النتيجة بضرورة بناء المدارس الإسلامية لصيانة مسلمي البلاد من جميع أنواع الاجتياح الغربي المتمثل في نشر تعاليم المسيحية ، والبدء بالأعمال التبشيرية في أرجاء البلاد المعمورة. كما أن خوف المسلمين وقلقهم على دينهم من الحكومة البريطانية بعد فشل حركة التحرير الهندية عام 1857م لأنها بدأت تقوم بفتح مدارس حديثة غربية وتقوم بتشجيع المبشرين لإبادة الدين الحنيف ومصادرة جميع الأوقاف التي كانت تعتمد عليها المدارس الإسلامية، بدأ يشعرهم بضرورة فتح مدارس تعتمد على عامة الشعب، فخاض بعض العلماء الذين اشتركوا في حركة التحرير الهندية عام 1857م في هذا الميدان العملي لتربية أبناء المسلمين والاحتفاظ عليهم من الانحلال في الحضارة الغربية.
وفي هذه الحالة تم اتباع طريقة خاصة للسير بموجبها متمثلة في إيقاظ المشاعر الدينية في أبناء البلاد، والقيام بفتح مدرسة دينية حتى يتم الحفاظ على الدين الإسلامي من الانتشار والضياع، ومن أبرز الذين قاموا بتأييد هذه الفكرة هم "مولانا محمد قاسم النانوتوي" ورفقاؤه وخاصة "مولانا ذوالفقار علي"، و"مولانا فضل الرحمن"، و"الحاج السيد محمد عابد حسين" وتوصّلوا إلى ضرورة فتح مدرسة دينية في قرية ديوبند بدلاً من مدينة دهلي.(2)
ونظرًا للجهود المتواصلة التي بذلها هؤلاء العلماء تم افتتاح جامعة دارالعلوم عام 1867م بدون أي رسميات أو احتفاليات، وبدأت الدراسة في مسجد صغير يُعْرَف بمسجد "تشته" بطالب واحد اسمه "محمود الحسن" وأستاذ واحد هو "ملا قاري محمود" تحت شجرة رمان في فناء المسجد عام 1867م تحت إشراف العارف بالله "مولانا رشيد أحمد الغنغوهي"(3). وبدأت هذه المدرسة تتخطى مراحل التقدم والازدهار بشكل تدريجي حتى أصبحت تُعرَف بأزهر الهند في جميع أنحاء العالم. يقول العلامة أبوالحسن الندوي:
"إن جامعة ديوبند ليست جامعة دينية فقط، جاز تسميتها بأزهر الهند من كل وجه بل هي تفوق الجامع الأزهر بمصر من بعض الوجوه والنواحي"(4).
علماً بأنه قبل استيلاء الاستعمار الإنجليزي على البلاد كانت المدارس الإسلامية في الهند تعتمد بشكل كلي على ما كان يوقف لها من قبل الأمراء والملوك والحكام المسلمين أو الإقطاعيين الكبار؛ حيث كانوا يتولون جميع نفقات تلك المدارس وميزانياتها السنوية إلا أنه بعد أن سيطرت الحكومة الإنجليزية على زمام البلاد قامت بمصادرة هذه الأوقاف والأراضي بهدف تجفيف منابع الفكر الإسلامي والتعليم الديني للمسلمين في البلاد. فاعتمدت هذه الجامعة بشكل كلي على جمع التبرعات من جميع شعوب البلاد وأهاليها. وبذلك كانوا على اتصال دائم مع جميع قطاعات المسلمين في هذه البلاد. وقد اعترف قادة الإنجليز في الهند بأن استيلاءهم على الأوقاف الإسلامية حرم المسلمين معاهدهم التعليمية التي تم إنشاؤها بجانب المساجد .
وأصبحت هذه الجامعة بمثابة منبع يتجه إليه الطلاب من جميع أرجاء البلاد وكذلك بعض الطلاب من خارجها لينالوا قسطهم من التعليم. وبما أن هذه الجامعة كانت بعيدة عن المجال السياسي في بداية أمرها إلا أنه عندما بدأ "السر سيد أحمد خان" يقوم بمناشدة المسلمين بعدم الانضمام إلى حزب المؤتمر القومي الهندي الذي كان يعارض الحكم الاستعماري ، فإن العلماء قاموا بإصدار الفتاوى التي تم التوقيع عليها من قبل أكثر من مائة عالم تتضمن حث المسلمين على ضرورة تأييدهم لإخوانهم الهندوس والاشتراك معهم في حركة تحرير البلاد، وكان "مولانا رشيد أحمد الغنغوهي"، و"مولانا محمود حسن رئيس دارالعلوم" ديوبند، و"مولانا عبد العزيز لدهيانوي"، و"مولانا محمد لدهيانوي"، و"مولانا لطف الله على كرهي" وغيرهم من المؤيدين والموقعين على هذه الفتاوى(5).
كما أن المدارس الدينية التي أنشأها العلماء بعد فشل حركة التحرير الهندية عام 1857م تعتبر بمثابة إشعاع لفكرة الجهاد وإشعالها في قلوب المسلمين حتى بدأ الإنجليز يشعرون بالخوف والرعب من تلك المراكز ويرتعدون من اعتناق المسلمين لفكرة الجهاد ؛ فيبذلون قصارى جهدهم للقضاء عليها ، إلا أن الشعب المسلم بدأ يحتضن تلك المدارس لتظل قائمة تقوم بتأدية رسالتها على أحسن وجه .(/2)
كما أن الأساس الذي قامت عليه هذه الجامعة يُعتبرُ أساسًا فكريًا خالصًا يتمثل في كون هذه الجامعة تنزل منزلة دعوة تاريخية لإصلاح العقائد، ونشر الكتاب والسنة، وحركة لصيانة الثروة الإسلامية، والاحتفاظ بالثقافة الإسلامية، والمسلمين في هذه البلاد. وتم اختيار هذه الدعوة والحركة كصورة مدرسة بخصوص ظروف البلاد وأحوال المسلمين في الهند آنذاك ؛ حيث ورث مؤسس هذه المدرسة هذه الصورة للدعوة الإسلامية والحركة الإصلاحية من الشيخ "الشاه ولي الله الدهلوي" وأسرته.
يقول العلامة الندوي:
"ومن سمات العلماء المتخرجين في هذه المدارس الدينية البارزة أنهم كانوا طليعة المناضلين لتحرير البلاد وإجلاء المستعمرين من مركز القيادة في هذه الحركة الشعبية القوية، ومنهم انبثقت فكرة النضال ضد الاحتلال في الحقيقة . وقد قاد كثير منهم حركة المقاومة الفعالة والثورات المسلحة بمقدرة وشجاعة ، فمنهم من قُتِل شهيدًا ومنهم من شنق ومنهم من نفي إلى جزائر "أندمان" وإلى منفى جزيرة "مالطا"، ومنهم من قضى شطرًا من حياته في السجون والمعتقلات في داخل البلاد . وتاريخ حركة التحرير والاستقلال مقترن بتاريخ العلماء والشخصيات الدينية في الهند ، متداخل فيه بحيث لايمكن فصل أحدهما عن الآخر"(6).
وقد قال الدكتور أكبر رحماني في كتابة "من عليكره إلى ديوبند" عن جامعة دارالعلوم / ديوبند:
"إن ديوبند تعتبر قرية مشهورة واقعة في مديرية "سهارنبور" وهي مركز هام للدين والأدب ومن أهم شهرتها هي جامعة دار العلوم ديوبند ؛ حيث أن طلاب هذه المدرسة منتشرون في جميع بقاع العالم . وهي جامعة قديمة تأسست في أيام الحكومة البريطانية لتكون درعاً محافظاً للإسلام والحضارة الإسلامية من الانحطاط في أيدي المستعمرين، وقد قدم هؤلاء العلماء تضحيات كبيرة لتحرير البلاد من أيديهم ؛ فنالوا نصيبهم من الأذى والتعذيب وذاقوا ويلات السجن والنفي؛ فهي ليست جامعة بل هي حركة دينية وسياسية تهتم بأمور الدين والإسلام وما يتعلق بالأمور السياسية"(7).
يعرف بأن دارالعلوم / ديوبند كانت في بداية أمرها لا تهتم إلا بالتدريس ونشاطات البحث والمناظرة فقط ، ولم تبدأ بالاهتمام بالأمور السياسية إلا في القرن العشرين ؛ ولكن يجب علينا أن نعرف بأن الجيش يجب أن يتلقى جميع فنون الحرب ومبادئه وأسسه ؛ لكي يتقن أساليب الحرب ويصبح مستعدًا للخوض في غماره ؛ حيث لايجب إرسال جيش بدون تجهيزه وتمرينه فمثل ما ظهرت حركة "الشاه ولي الله الدهلوي" و"عبد العزيز الدهلوي" التي قامت بتجهيز وإعداد حركة "سيد أحمد الشهيد" للخوض في الحرب ضد المستعمرين بكل قوة ونشاط ظهر أثر حركة "محمد قاسم النانوتوي" و"رشيد أحمد الغنغوهي" في بداية القرن العشرين على شكل حركة الكتاتيب الحريرية بقيادة "شيخ الهند محمود الحسن" وجمعية علماء الهند .
فكما يعلم الجميع بأن جامعة "دارالعلوم/ ديوبند" هي أقدم مؤسسة تعليمية إسلامية في الهند، وهي معروفة بإسهامها في حركة تحرير البلاد من براثن الاستعمار الإنجليزي الغاشم مساهمة فعالة، وكان لها دور بارز ومتميز في إثارة حركة التحرير، وإثارة الحقد والكراهية في نفوس الشعب الهندي ضد الإنجليز. ولاتزال هذه الجامعة تؤدي خدمات جليلة لخلق جو الانسجام والوئام فيما بين سكان البلاد، وإصلاح المجتمع الهندي بشكل عام والمجتمع المسلم بشكل خاص عن مظاهر الفساد والدمار وفشو الرشوة والمنكرات، والسعي لتبادر المودة والألفة فيما بين المواطنين من المسلمين والهندوس سواء بسواء. كما أن لها فضلاً كبيرًا في نشر العلوم الإسلامية والتوعية الإسلامية وإعداد الدعاة الصالحين والاحتفاظ بالتراث الإسلامي والعلوم الدينية والعقائد الإسلامية والشعائر الدينية السمحة ومتابعة المسيرة الإصلاحية في أحسن تقويم ، لتعد حقًا بمثابة نهضة حضارية عظيمة للمسلمين . وكان أبناء هذه الجامعة يدركون حقًا مسؤوليتهم تجاه الأمة ؛ فقاموا بدور مثالي في قيادة الحركات الإسلامية وإنقاذ الشعب المسلم من الجاهلية والشرك.
* * *
الهوامش :
(1) سيد محبوب رضوي، تاريخ دارالعلوم ديوبند الجزء الأول ص 139.
(2) سيد محبوب رضوي ، تاريخ العلوم ديوبند ، الجزء الأول ص 119.
(3) عبد المنعم النمر ، كفاح المسلمين في تحرير الهند ص 38.
(4) محمد عبيد الله الأسعدي القاسمي، دارالعلوم ديوبند ص89.
(5) د. محمد هاشم قدواي، جديد هندوستان كى سياسي أور سماجي أفكار ص 386.
(6) محمد عبيد الله الأسعدي القاسمي، دارالعلوم ديوبند ص65.
(7) د. أكبر رحماني، عليكره سى ديوبند تك تعليمي سفر نامه ص 112.
* * *(/3)
ضوء من الحجرات
عبد الله بن عبد الرحمن العيادة 27/8/1426
01/10/2005
النفس في هذه الحياة تسير عبر طريق شائك، ولا تدري كيف ومتى ستكون النهاية؟ وكل منا يطمح إلى النهاية السعيدة الرابحة- حسب وجهة نظره بالطبع- وتختلف الوجهات والأفكار حسب الأشخاص، ولكن كيف نصل إلى النهاية الحتمية الحقيقية الواضحة المعالم، والرابحة، التي تجعل المرء منا يفوز ويربح؟ لأنك ترى كلاً يقول: الطريق الذي أسلكه هو الطريق الحقيقي، فيتيه كثير من البشر عبر أودية التبعية من خلال الأفكار المطروحة، فتحصل النزاعات والخلافات، وقد تصل أحياناً إلى الحروب المدمرة، لتسويق الفكرة التي يراها هي الصائبة، فهل هذا الفعل صائب؟
وكيف نصل إلى الإجابة الصحيحة المقنعة؟
لا نريد أن ندخل في متاهات التعريفات، أو الإقناعات، ولكن لعلنا نختصر الطريق عليك أيها القارئ، لنصل وإياك إلى ساحل الحقيقة التي تجعلك تطمئن إلى أن الطريق الذي تسلكه هو الطريق الصحيح الآمن، وهو النهاية السعيدة بإذن الله.. ولكي نقتنع سوياً، علينا أن نجعل العقل هو الذي يتخذ القرار النهائي في هذه المسألة.
إذاً أين نجد خبر الحقيقة المطلقة التي لا يعتريها الشك أو القصور أو التكرار أو الخلل..؟ لو طرحت هذه الفكرة على أي مسلم لقال لك بدون تردّد: إنها موجودة في القرآن الكريم، الذي هو كلام الله، وهذه هي الإجابة المنطقية المتوقعة البديهية؛ لأن المسلم لا يمكن أن يقول غير هذا، ولو قال غير ذلك، لأوجد خللاً في معتقده وثوابته.
ولكن ذلك المعاند الجاحد الذي ضلّ الطريق واستقى علمه الناقص من أناس ناقصين مثله، فصارت ظلمات بعضها فوق بعض، من الظلمة لا يكاد يرى طريقة فتاه، فكيف نقنعه..؟ أو الذي لا يعترف بالقرآن، كيف نوصل إليه أن الحقيقة موجودة بين دفتيه وبكل دقة؟ الأمر يسير وسهل بإذن الله.
يُقال له: الذي تجد فيه خبراً مستقبلياً ويحدّث حسبما أخبر به، ألا تصدّقه..؟ والذي تجد فيه ذكرى عن خبر ماضٍ يذكره كما يوجد في مكتباتكم، أو يصف شخصاً أنتم تعظمونه، بأوصافه الحقيقية التي أخفيتموها أنتم، أحسن من وصفكم له؟ أو يذكر معلومة طبية مذهلة، لا تُرى إلا عبر المجاهر الطبية المتقدمة، قبل مئات السنين، ثم تأتي الأخبار الطبية من المختبرات، وتعلن أنها مطابقة تماماً لهذه الأخبار، مثل رحلة خلق الإنسان منذ وصول تلك القطرة إلى رحم الأنثى، حتى خروجها إلى الدنيا، أو يورد ذكر معلومة فلكية، أو جغرافية، ثم يأتي العلم الحديث ويعلن اكتشافها، ستجد هذا يسلم لك، وإن لم يفعل، فهو معاند، لا يرغب في معرفة الحقيقة، فهذا دعك منه، ولا ترهق نفسك في الدخول معه في متاهات الجدال العقيم، الذي لا يلد إلا التعب والنصب؛ لأنه قد أطلق الحكم مسبقاً.
فإذا كنا نرغب في أن ننعم بالطمأنينة والراحة والفوز فعلينا أن نتعلم فن السباحة المعرفية، ونلج إلى نهر هذا الكتاب العظيم، وسنرى أننا نبلغ القمة في حياتنا الآن، وهو مطلب يلح كل الخلق على بلوغه، ثم بعد ذلك في الحياة الثانية بعدما نرحل عن مسرح هذه الحياة، إلى الحياة التي نؤمن بها، وهي المستقر الأبدي، الذي لا تحوّل فيه، ولكن يختلف الناس في النهايات، كما ذكر ذلك في هذا الكتاب العظيم، الذي أوجد كل شيء، وهو قادر على كل شيء:(فريق في الجنة وفريق في السعير) أرأيت التقسيم؟ وكيف سينقسم الخلق إلى فريقين..؟ فهل عندك تخيل الآن: كيف سيكون الموقف..؟ وما هي رغبتك أنت..؟
إذاً سأحاول أن أبحر معك في رحلة، عبر قارب التأمل، إلى شاطئ إحدى سوره، لعلنا أن نتذوق من ثمراتها، ما يجعلنا نعيش حياة هادئة، عبر الطريق الذي يرسمه لنا سبحانه، فإذا جاءت اللحظة الحاسمة المباغتة فإذا بنا قد أخذنا حذرنا، لعلنا ننجو، ونكون من الفريق الذي يكون مستقره (فريق في الجنة..) إذاً هذه السورة هي سورة الحجرات..(/1)
حينما يبحر المرء مع هذه السورة العظيمة الكريمة، في هذا البحر الزاخر الذي يشع نوراً وإشراقاً وجمالاً من جميع جوانبه، انظر إلى الأعماق الممتدة أمامك، ألا تشدّك الرغبة إلى أن تصل إلى أعماقه؟ فإذا نظرت إلى جمال هذه السورة أخذتك الدهشة من روعتها وبيانها، وإذا نظرت إلى آياتها عاد إليك الطرف حسيراً، بعدما انبهر بتكامل صورها وبيانها، فمهما قلنا في هذا البيان فقولنا يظل ناقصاً، وقوتنا تبقى عاجزة أن تصل إلى ذرات إبداعاتها. كيف لا، وهي كلام من بيده القدرة والإعجاز، الذي إذا أراد أمراً قال له: كن فيكون، في أقل من لمح البصر.. ونحن سنبحر على مركب صغير، لنقطف من ثمارها اليانعة وننهل من عذب مائها، ونحوز من جواهرها وأصدافها، ونقف مع بعض معانيها لتكون علامات تضيء الطريق للسالكين، الذين بلغ بهم الهم مبلغه، وضاقت عليهم الدنيا بما رحبت؛ فلو تأملوا ما فيها من الآمال، والحلول لما وُجد متعب يشكو على وجه الأرض، لذلك سأعرض عليك هذه التأملات عبر هذه الوقفات التي منّ الله بها علينا، وهي تأملات وخواطر سانحة، فتح الله بها من عنده، بمنّه وكرمه، فما كان فيها من حق ووافق المعنى، فهو من توفيق الله وحده، وليس لي منها أي جهد، وما كان فيها من خلل أو جانب الصواب فهو من تقصيري وسوء فهمي، والله ورسوله منه براء ولكن حسبي أني مجتهد، يرغب في تأمل هذا البحر الزاخر بالجواهر والأصداف، ولهذه الرحلة حكاية عجيبة، فما هي هذه الحكاية ومن هو يا ترى السبب؟
أخي الكريم.. سأعرض عليك هذه التأملات. على مدار حلقات متتابعة، أسبوعية.. بإذن الله عبر هذا الموقع المبارك، فالله أسأل أن يجعل ذلك في ميزان حسناتنا يوم نُعرض عليه، ونحن نتشبث بأي أمل لعلنا ننجو من هول المطلع، وأملنا في رحمة أرحم الراحمين، التي وسعت كل شيء.
د. خديجة كانت السبب
عبدالله بن عبدالرحمن العيادة 10/9/1426
13/10/2005
أحياناً ينساق الإنسان إلى الخير، من حيث لا يدري أو يحتسب، وقد يكون غافلاً عن أمر يريده فيأتيه وهو لم يطلبه، فإذا دخل في غماره إذا بالمعاني العذبة تنساب، وتتدفق كنهر يجري في منحدر محاط بالوديان والأشجار الكثيفة، ذات الثمار اليانعة، فذاق طعمها، بعدما أبحر مع نهرها.
لذلك ما أعظم هذا الدين وأروعه! فهو يكرم من ينتسب إليه، بعد موته وفراقه للدنيا، مثل تكريمه وهو على قيد الحياة، وذلك بأن يُجري له الخير والأجر على العمل الذي يقوم به في حال حياته، إذا كان هذا العمل من العمل المتعدي نفعه إلى الآخرين، ومن أعظم الأعمال التي يتعدى نفعها إلى غيرنا الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وهي رسالة الأنبياء عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم، ومن يسلك هذا الطريق يحز على الأجر العظيم، الذي يجده في صحائفه مدّخراً له يوم يُعرض على ربه، ومصداق ذلك قول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ومن كان السبب في كتابة هذه الكلمات التي أمامك، هو الذي دعاني لذكر هذه المقدمة، إنها امرأة لها حكاية عجيبة، فهذه امرأة تحمل رسالة الدكتوراه، وهي الدكتورة خديجة عبد الماجد عبد العظيم حسان، أستاذ مساعد في كلية التربية للبنات بجدة، الأقسام الأدبية، قسم علم النفس نذرت نفسها ومؤهلها وعلمها لخدمة دينها والدعوة إليه، فقد وظفت كل إمكانياتها لذلك، فانطلقت دعوتها لبنات جنسها من المسلمات؛ فقد أخذت على عاتقها الدفاع عن قضايا المرأة المسلمة، وما يُحاك ضدها من مؤامرات، فكانت ترصد وتتابع ما يصدر في وسائل الإعلام، وما يُقرر في المؤتمرات المشبوهة عن المرأة، فكانت تكتب وتلقي المحاضرات، ولم يقعدها المرض عن ذلك.(/2)
وسبب معرفتي بجهودها، فقد اتصلت عليّ لأول مرة بالهاتف، وبعد أن عرّفت عن نفسها، قالت: إنها مشتركة في موقع على شبكة الإنترنت، وهذا الموقع أخذ على عاتقه الدعوة إلى الله، وطلبت مني المشاركة في الكتابة في هذا الموقع، ثم اقترحت اقتراحاً، ومفاد هذا الاقتراح أن المجتمع اليوم يعيش شبه أزمة في الأخلاق والتعامل وحتى السلوك، ولا بد من التصدي لهذه الأزمة، والكتابة عنها، وإنارة الطريق للناس، فاقترحت أن أقوم بالكتابة والإبحار، عبر سورة الحجرات، لتأمل المعاني التي فيها لمعالجة هذه الظواهر، من السلوكيات المنتشرة اليوم، ويحصل بسببها عداوات كثيرة، فسبحان الله وقع هذا الاقتراح في نفسي، وأحسست أن الله سبحانه وتعالى سيلهمني ويرشدني إلى الصواب، فطلبت منه العون والسداد سبحانه وتعالى، فشرعت في الكتابة، ووجدت أن الطريق سالكة، والمعاني تتدفق كالنهر يجري، وهو من توفيق الله وحده لي، مصداقاً لقوله سبحانه وتعالى:( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (القمر:17). ومَنّ الله سبحانه وتعالى بمنّه وكرمه وتوفيقه وتيسيره بالبدء بهذه التأملات غرة شهر رجب عام 1423هـ، وتم الانتهاء من هذه التأملات لهذه السورة المباركة مساء يوم الجمعة الموافق 23/1/1426هـ.
ولكن حصل شيء لم يكن في تقديرنا فقد انتقلت صاحبة الفكرة إلى جوار ربها قبل الانتهاء من التأملات لهذه السورة، فأسأل الله العظيم، رب العرش الكريم، أن يجزيها خير الجزاء، ويجري لها الأجر والثواب، على ما قامت به من جهد في الدعوة إلى الله، ونحسبها -والله حسيبها- من المجاهدات، ومن الصابرات على البلاء، فقد قدّر الله عليها، وأُصيبت بمرض تليف الكبد، وهو المرض الذي قُبضت فيه، وقد صحبت زوجتي لزيارتها في المستشفى الجامعي بجامعة الملك عبد العزيز في مدينة جدة، وعند دخول زوجتي عليها استأذنتها قائلة: لعل زوجي يقرأ عليك شيئاً من القرآن، فرفضت الفكرة قائلة: بل أنا أقرأ على نفسي، لأني مضطرة، والله سبحانه وتعالى يجيب المضطر إذا دعاه، ويختار لعبده ما يراه سبحانه وتعالى ويريده؛ فلا رادّ لحكمه، فلقيت وجه ربها سبحانه وتعالى مساء يوم الأربعاء الموافق 16/3/1426هـ.
فرحمها الله رحمة واسعة وأسكنها فسيح جناته، ووالدينا والمسلمين أجمعين..
وأذكرك يا من تقرأ هذه التأملات، ألاّ تنساها، ولا تنسانا من دعوة في ظهر الغيب، عسى الله أن يرحمنا، ويتقبل منا، وأسأله سبحانه أن يفتح علينا ويلهمنا، إنه سبحانه هو ولينا، فنعم المولى ونعم النصير، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين..
مدخل تعريفي..
هذه السورة اسمها سورة الحجرات لورود هذه المفردة (الحجرات) في ثنايا النص الكامل، ولهذه الحجرات قصة سنقف عندها في مكانها..
رقم هذه السورة في المصحف (94) ورقم صفحاتها (515) وعدد آياتها (18) آية، والسورة التي قبلها، سورة الفتح والسورة التي بعدها، سورة ق.
نزلت هذه السورة في المدينة النبوية، أي في العهد المدني، وهذا له دلالة معينة، فهي من السور ذات الرموز البنائية التربوية التعاملية التي تحتاجها الأمة.
والمتأمل للسور المدنية، يجدها هكذا، فبعد الانتهاء من البناء العقدي، للنفوس في المرحلة المكية، وصار لديها استعداد لتقبل وتنفيذ أمر الله، بكل طواعية وتلقائية وانقيادية؛ لأن ذرات الإيمان قد امتزجت مع خلايا الدم في عروق المؤمنين، فصاروا أداة لينة في تقبل التكاليف التي أمر بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصار لديهم استعداد للتضحية، والدليل أنهم قدموا أرواحهم رخيصة في سبيل من آمنوا به سبحانه وتعالى.
لهذا صار لا بد من اكتمال المشروع الإسلامي، خلال المرحلة الثانية منه، وهي المرحلة المدنية، فلقد تم البناء الأول في المرحلة المكية، وهي ترسيخ أسس هذا الدين، وهو التجرد من شوائب التبعية، للقبيلة والأسياد، والسجود للأصنام إلى صرف السجود والخضوع، لرب واحد، بدلاً من الأرباب بكل عفوية ومحبة وخوف ورجاء وتلقائية واندفاع.
فصاروا بعد هذا بحاجة ماسة إلى البناء الآخر، وهو البناء التعاملي؛ لأن هذا الدين وأتباعه ينتظرهم دور خطير على مسرح الحياة، لإنقاذ البشرية من دياجير الظلمات، وإخراجهم إلى ساحات النور والهدى، فلا بد أن يُعد هؤلاء الإعداد المتكامل لحمل المشعل، ويقدموا الصورة الحقيقية لهذا الدين كما أراده الله أن يكون.
إلى هنا نصل إلى نهاية هذه الحلقة، إلى اللقاء في الحلقة الثالثة إن شاء والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
ضوء من الحجرات (3)
عبد الله بن عبد الرحمن العيادة 26/9/1426
29/10/2005(/3)
أحياناً تُساق للخير بدون مقدمات، ففي يوم الخميس الموافق 4/4/1426هـ ذهبت لزيارة معرض الكتاب، الذي نظّمته الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، على ساكنها أفضل الصلاة والتسليم، وبينما كنت أتجول في أقسام المعرض، استوقفني جناح خُصّص لبيع أشرطة (الكاسيت)، فوقع بصري على (ألبومات) من عدة أشرطة، مكتوب عليها اسم الشيخ العالم الداعية عطية بن محمد سالم رحمه الله رحمة واسعة، ولشدة محبتي لهذا العالم- فقد عرفته من خلال تلك الدروس الرائعة، التي كان يلقيها في رحاب المسجد النبوي الشريف، وكانت تُنقل عبر أثير إذاعة القرآن الكريم، من المملكة العربية السعودية- اشتريت مجموعة من هذه (الألبومات)، وكان من ضمن المجموعة التي اشتريت، قصة الإسراء والمعراج، فقلت لعلي استمع لهذه القصة وأنا عائد يوم الجمعة، فكان كذلك.
عندما سرت متوجهًا إلى القصيم عبر الطريق السريع، وضعت أول شريط في المجموعة، وبدأ نهر العلم يتدفق، من خلال حديث الشيخ الرائع، والشيخ قد فارق هذه الدنيا بجسده، ولكن بقي منه هذا العلم، فقلت في نفسي، صدق رسول الله –صلى الله عليه وسلم- عندما ذكر ما الذي يبقى للميت بعد موته ينفعه، وذكر "أوعلم يُنتفع به"، فوجدت هذا عمليًا؛ فلهجنا للشيخ بالدعاء أنا ومن معي، بعدما عطّر أسماعنا بالحديث عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ثم استمر الشيخ بالحديث عن قصة الإسراء والمعراج، وبدأ يمهد للحديث، وهذا فن لا يجيده إلا قليل من العلماء، وهو التمهيد للفكرة بتوطئة مقنعة للمتلقي، وهذه نجح الشيخ فيها بدرجة امتياز –ومن أراد التأكد فليستمع إلى تلك الأشرطة- وهي موجودة في مكتبة المسجد النبوي الشريف.
تطرّق الشيخ إلى سورة النحل؛ لأنها السورة التي وردت قصة الإسراء في صدرها، ونالت هذه السورة شرف التسمّي بهذه الحادثة التي اخترقت المعقول وغير المعقول، لتحدث شرخاً في عقول الحيارى الذين تاهوا في لحجج الجهالة؛ إذ لا يصدقون إلا ما تراه عيونهم، أو تحسه عقولهم،أو تسمعه آذانهم، فهؤلاء على عيونهم غشاوة، وفي آذانهم صمم مستحكم، أما أذهانهم فهي الجرداء الخالية من مادة الذكاء والتفكير السليم، و الرجل الذي نال لقب الصّديق، لم يكن بحاجة إلى أي دليل ليصدق هذه الحادثة، فقط قال بكل بساطة ويقين: إن كان محمد –صلى الله عليه وسلم- قد قاله فقد صدق –الله أكبر- ، هنا تكون العظمة والقوة والتحدي، لذلك لقّبه الصادق المصدوق بالصّديق، ليظل هذا علمًا عليه، إلى يوم القيامة؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد أثبت ذلك في كتابه، وجعله قرآنًا يُتلى إلى يوم القيامة، وتأمّل قول الحق تبارك وتعالى: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ...) [الزمر: 33] هما رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر –رضي الله عنه- لتخلد بعد ذلك هذه الحادثة على مر التاريخ. وبينما كنت غارقاً، وسارحاً في بحر الخيال، وأنا أعود بالذاكرة مع الشيخ إلى مواطن حياة المصطفى، وإذا به يعود بي إلى واقعي بلحظة خاطفة لم أحسب لها حساب، فما الذي حدث؟(/4)
قال الشيخ: إن لسورة الإسراء علاقة منطقية بسورة النحل؛ فسرقتني هذه العبارة من إنصاتي وتأمّلي؛ لأنها أحدثت عندي شيئًا، يهمني كثيرًا، وهي سورة الحجرات، فقلت مخاطبًا نفسي المندهشة: ترى هل لسورة الحجرات علاقة منطقية بسورة الفتح التي تأتي قبلها في الترتيب في المصحف، هذه الخواطر مرت والشيخ مسترسل في حديثه العذب، فذكر أن سور القرآن بينها ترابط منطقي عجيب، ليس فيه خلل أو تناقض، ويعطيك دليلاً على عظمة مَن قال هذا القرآن –سبحانه وتعالى- ثم ضرب الشيخ مثالاً لهذا الترابط بين سورتي الفيل وقريش، وأنا لا أزال أفكر بسورتي –الحجرات- لتأتي المفاجأة التي أعادتني إلى واقعي، لأستيقظ على صوت الشيخ مرة أخرى، وهو يذكر سورة الحجرات بالنص، وإن لها علاقة منطقية بسورة الفتح، فذهلت من هذه المفاجأة التي لم أحسب حسابها؛ لأنها كانت مجرد خاطرة مرت بالذهن ليس إلا .... ليسترسل الشيخ بعد ذلك في الحديث عن هذه العلاقة بين سورتي الحجرات والفتح، وخص بالحديث صلح الحديبية، والأحداث المصاحبة له والأحداث التي جاءت من بعده، الذي هو موضوع سورة الفتح، وما حصل من المكاسب العظيمة التي نتجت عن هذا الاتفاق، ثم ذكر الشيخ ما حصل من بعض الصحابة –رضي الله عن الجميع- منهم عمر –رضي الله عنه- من استثفال لتلك الشروط التعسفية، من قريش على رسول الله –صلى الله عليه وسلم- الأمر الذي جعل "سهل" -مندوب قريش- يتحدث نيابة عنهم، برفض الاعتراف برسول الله –صلى الله عليه وسلم-وقوله: لو كنا نقر بها ما منعناك من الدخول، ولكن قال: محمد بن عبد الله، وقبوله لها، عليه الصلاة والسلام، ثم يأمر عليًا –رضي الله عنه- بمسحها، ثم يقول عليًا: لا أمسح اسمك يا رسول الله، فيأخذ الصحيفة ويمسحها هو، عليه الصلاة والسلام، ثم ما حصل من الصحابة من عدم الاستجابة لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- عندما أمرهم بالحلق. هذه الأحداث الجسيمة صوّرتها هذه السورة العظيمة، وخلّدت ذكرها، إلى يوم القيامة، ثم يأتي المقطع الأخير منها بصورة مفاجئة للقارئ، لتثبت أمرًا مهماً، قد استفاض عند كفار قريش، أنهم استطاعوا أن يملوا عليه شروطهم، مع التخلي عن صفته التي ينادي بها، وهي الرسالة، ويقبل هو –عليه الصلاة والسلام- ذلك لأمر يريده الله، فيأتي هذا المقطع ليقطع على كفار قريش فرحتهم، وهو إعادة اللقب إلى صاحبه بأمر إلهي، لا يمكن إلغاؤه أبدًا، فكأنه أخذ الديمومة التي لا تقبل الجدل أو النقاش، (محمد الذي رفضتم الاعتراف برسالته، دونكم الحقيقة (محمد رسول الله) رغماً عن أنوفكم، ثم يكمل المقطع الرائع بوصف أروع، لبقية الثلة التي كانت مع محمد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لتنتهي السورة بنهاية على هذا الوصف الجميل، ليقطع الطريق أيضًا على كل من تسوّل له نفسه المساس بسمعة هؤلاء الأبطال الذين تحلّقوا حول رسول الله –صلى الله عليه وسلم-حيث قال الحق تبارك وتعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ...)[الفتح: من الآية29] ، ولكن بقي هناك أمر آخر، وهو ذلك الاعتراض الذي حدث من بعض الصحابة نتيجة الحرص الشديد على مصلحة الدعوة الفتية، وليس اعتراضًا على أمر الله- حاشاهم ذلك- هذا الاعتراض لم يهمل أو يُغفل عنه، ولكن من الأنسب أن يذكر هنا بل ينقل إلى مكان آخر قريب جدًا، أيضًا لتفويت الفرصة على قريش بعدم التشفي، ومن أجل ألاّ يُنسى من قبل الصحابة رضوان الله عليهم، ويأخذ طابع الشمولية، إذا كان في مكان آخر، فكان من المنطقي أن يُذكر في أقرب سورة مجاورة لسورة الحدث –الفتح- فجعل ذكر العتاب والتحذير في صدر سورة الحجرات، حيث افتتحت السورة بهذا المقطع الرائع الجميل "نداء ثم تحذير" تأمل الروعة والتناسق: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ...) تذكر ماذا قال عمر –رضي الله عنه- ..؟ وماذا قال علي –رضي الله عنه-.. ؟ هنا عاتب الله الصحابة عتابًا رقيقًا وأسبغ عليهم صفة الإيمان، مع التحذير بعدم التقدم بين يدي الله ورسوله، وهو خطاب عام لجميع الأمة، فلابد من الانقياد والتسليم والاستجابة لأمر الله ورسوله.
هنا تتضح لك العلاقة المنطقية بين السورتين، وهو الأمر الذي فاجأني به الشيخ عطية –رحمه الله- واستفدته منه، لذلك أحببت أن ألحقه بهذه الصفحات، لتعم الفائدة فرحم الله الشيخ عطية محمد سالم رحمة واسعة.
وسورتنا التي نحن بصدد الإبحار في نهرها، لها سبب نزول أيضًا، ولها علاقة منطقية بسورة الفتح، كما قرأت.
وسيكون موضوع حديثنا في الحلقة القادمة –إن شاء الله- وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجميعن.
ضوء من الحجرات (4)
عبد الله بن عبد الرحمن العيادة 22/10/1426
24/11/2005
بداية الرحلة:(/5)
قبل أن نبحر في مركبنا باتجاه سواحلها الرائعة، تعالوا نقف مع سبب نزولها.. لهذه السورة المباركة، سبب للنزول، ومعظم آيات القرآن لها أسباب نزول إما للإجابة عن سؤال، أو تقرير حكم، بعد حدث، فمن ذلك صدر سورة المجادلة تقرر فيها حكم الظّهار، بعد موقف من أحد الصحابة، وسورة الكهف إجابة عن سؤال لبعض المشركين، عندما سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعض الأسئلة فجاءت السورة إجابة عن هذه الاستفسارات، وقصة الإفك في سورة النور، عندما رمى ذلك المنافق الأفّاك، أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق الطاهرة المطهرة، رماها بالزنا، في تلك القصة المحزنة، والتي صارت بعد ذلك وسام عز وشرف ورفعة لعائشة -رضي الله عنها وعن أبيها- إلى يوم القيامة، عندما أنزل الله سبحانه وتعالى ميثاق عفافها، وطهرها، قرآناً يُتلى إلى يوم القيامة، أما هذه السورة فهي من النوع الأول جاءت بعد حدث، وهو رفع الصوت في مجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنزل القرآن ليضع القاعدة العامة في التعامل مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند الحديث معه، وكذلك لها علاقة منطقية بالسورة التي قبلها، وهي سورة الفتح، والأحداث التي حصلت وقت صلح الحديبية، وتأخر بعض الصحابة عن تنفيذ أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والقصة معروفة، فجاء هذا العتاب، وجاء الأمر بكيفية التخاطب مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والانقياد لما يأمر به، صلى الله عليه وسلم.
ومما رُوي في أسباب النزول ما رواه أهل التفاسير، ومنهم البغوي، وابن كثير رحمهما الله..
أخبر عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- قال: قدم ركب من بني تميم، على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال أبو بكر: أمر القعقاع معبد بن زرارة، فقال عمر: بل الأقرع بن حابس، قال أبو بكر ما أردت إلا خلافي، قال عمر: ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فنزلت في ذلك (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ...)[الحجرات: من الآية1] حتى انقضت، وهنا وقفة، هذه الرواية من هذا الوجه تثبت أن أبا بكر وعمر مؤمنين (يا أيها الذين آمنوا) لاحظ الخطاب، مناداة بالإيمان "والله أعلم"، وقد أخرج هذه الرواية البخاري في التفسير باب (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [الحجرات:4]. وفي المغازي، الاعتصام بالكتاب والسنة، ذكر ذلك الإمام البغوي في تفسيره.
الرواية الأخرى: عن طريق أنس بن مالك رضي الله عنه: كما وردت في تفسير ابن كثير والبغوي قال: لما نزلت هذه الآية (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي...) الآية، جلس ثابت بن قيس -رضي الله عنه- في بيته وقال: أنا من أهل النار، واحتبس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فسأل النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ فقال: يا أبا عمر، ما شأن ثابت، أشتكى؟ فقال سعد: إنه لجاري وما علمت له شكوى، قال: فأتاه سعد، فذكر له قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال ثابت: أُنزلت هذه الآية، ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتاً على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأنا من أهل النار، فذكر ذلك سعد للنبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم بل هو من أهل الجنة.
وفي رواية أخرى أنه لما نزلت هذه الآية، قعد ثابت بن قيس في الطريق يبكي، فمر به عاصم بن عدي فقال: ما يبكيك يا ثابت؟ فقال: هذه الآية أتخوف أن تكون نزلت في، وأنا رفيع الصوت أخاف أن يحبط عملي، وأن أكون من أهل النار، فمضى عاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وغلب ثابتا البكاء، فأتى امرأته جميلة بنت عبد الله بن أبي بن سلول، فقال لها: إذا دخلت بين فرسي فشدي علي الضبة بمسمار، وقال: لا أخرج حتى يتوفاني الله أو يرضى عني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأتى عاصم، رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبره، فقال له: اذهب فادعه، فجاء عاصم إلى المكان الذي رآه فلم يجده فجاء إلى أهله فوجده في بيت الفرس، فقال له: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعوك، فقال: اكسر الضبة فكسرها فأتيا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -ما يبكيك يا ثابت؟ فقال: أنا صيت وأتخوّف أن تكون هذه الآية نزلت في، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أما ترضى أن تعيش حميداً وتُقتل شهيداً وتدخل الجنة؟ فقال: رضيت ببشرى الله ورسوله، ولا أرفع صوتي أبداً على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأنزل الله (إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله...) الآية، وهذه شهادة من الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- لهذا الصحابي، ثابت بن قيس أنه من أهل الجنة عندما خشي أن تكون هذه الآية نزلت فيه.(/6)
وأنقل لكم المشهد المثير للبشارة النبوية التي أخبر بها صلى الله عليه وسلم، وهي حدث مستقبلي، وهي البشرى التي خصّ بها هذا الصحابي لقاء صدقه وإيمانه، وهي الشهادة في سبيل الله، وهي من دلائل النبوة لنبينا -صلى الله عليه وسلم- قال أنس بن مالك رضي الله عنه: كنا ننظر إلى رجل من أهل الجنة يمشي بين أيدينا، وهو ثابت بن قيس فلما كان يوم اليمامة في حرب مسيلمة الكذاب، رأى ثابت من المسلمين بعض الانكسار، وانهزمت طائفة منهم، فقال: أفٍ لهؤلاء ثم قال ثابت لسالم مولى أبي حنيفة: ما كنا نقاتل أعداء الله مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثل هذا، ثم ثبتا وقاتلا حتى قُتلا (تأمل هذه الكرامة لثابت رضي الله عنه) بعد استشهاده يوم استشهد كان عليه درع فرآه رجل من الصحابة بعد موته في المنام، وأنه قال له: اعلم أن فلاناً، رجل من المسلمين نزع درعي فذهب بها وهي في ناحية من المعسكر، عند فرس يسير في طوله، وقد وضع على درعي برده، فأتى خالد بن الوليد وأخبره حتى يسترد درعي وأتى أبي بكر خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال له: إن عليّ ديناً يُقضى، وفلاناً من رقيقي عتيق فأخبر الرجل خالداً فوجد درعه والفرس على ما وصفه، فاسترد الدرع، وأخبر خالد أبا بكر بتلك الرواية، فأجاز أبو بكر وصيته، قال أنس -رضي الله عنه-: لا أعلم وصية أجيزت بعد موت صاحبها إلا هذه.
انظر أيها القارئ الكريم هذا التكريم لهذا الصحابي الذي استجاب بعدما استقر الإيمان في قلبه، وخاف من التهديد في باطن هذه الآية، أن يحبط عمله، مع العلم أن صوته أصلاً صيتاً، فكانت البشارة له بالإيمان والشهادة والجنة، نسأل الله الكريم من فضله.
وتأمل حال الصديق والفاروق بعد هذه الآية.
قال أبو هريرة وابن عباس: لما نزلت هذه الآية، كان أبو بكر لا يكلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا كأخي السرار (أخرجه الحاكم 2/462) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه) وانظر فتح الباري 8/591).
وقال ابن الزبير: لما نزلت هذه الآية ما حدّث عمر -رضي الله عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- فيسمع النبي -صلى الله عليه وسلم- كلامه حتى يستفهمه مما يخفض صوته. أخرجه البخاري في التفسير باب (لا ترفعوا أصواتكم).
هذه بعض الأقوال في سبب نزول هذه الآيات من السورة، ويتضح جلياً مدى الاستجابة العظيمة الفورية من الصحابة رضوان الله عليهم، لأمر الله، وهو الأمر بإجلال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأن لذلك هدفاً آخر؛ فأنت إن عظّمت أحداً فأنت تؤمن بما يقول ويأمر قطعاً. أليس كذلك؟
وهذا الأمر بالتعظيم أي تعظيم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يشمل كل من يدخل في دائرة الإسلام، إلى يوم القيامة بغض النظر عن أي اعتبار آخر.. مع التفطن لأمر مهم وهو أنك بتعظيمك واستجابتك لرسول الله تنال مغنماً ومكسباً وثواباً...
إلى اللقاء في الحلقة القادمة، إن شاء الله نبحر مع السورة وآياتها نقتبس من أنوارها إضاءات تضيء لنا الطريق، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ضوْء من الحجرات (5)
عبد الله بن عبد الرحمن العيادة 5/1/1427
04/02/2006
أخي الكريم:
أخي الكريم، في هذه الحلقة سنبدأ بإذن الله تأمُّل آيات هذه السورة العظيمة المباركة، فأسأل الله العلي القدير، أن يفتح علينا مغاليق كتابه، وأن يفهّمنا، ويبصّرنا، ويرشدنا إلى سواء السبيل، إنه ولي نعمتنا، والقادر على كل شيء، فما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من تقصير وخطأ فمني ومن تلبيس الشيطان، ولا تبخل عليّ يا من تطّلع على هذه الأحرف بالدعم والنصح، وجُزيتم على كل خير، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين...
النص الكامل للسورة:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم(/7)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ{1} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ{2} إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ{3} إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ{4} وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ{5} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ{6} وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ{7} فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ{8} وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ{9} إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ{10} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ{11} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ{12} يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ{13} قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ{14} إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ{15} قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ{16} يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ{17} إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ"{18} [الحجرات: 1-18].
بسم الله، وعلى بركة الله نبدأ:
(أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم)
(يا أيها الذين آمنوا..) تأمل أخي المسلم الكريم هذا النداء.. ألا يلفت نظرك لشيء؟ إنه نداء خاص جدًا .. لطائفة خاصة جدًا.. من هم..؟ إنهم المؤمنون به سبحانه، مؤمنون بوحدانيّته وألوهيّته وربوبيته وصفاته الكاملة وقدرته المطلقة، التي بشر بها رسوله، محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم.. بغض النظر عن اللون أو الموطن أو اللغة.. فهو نداء وخطاب عام وخاص في نفس الوقت.. وهذا من عظمة كلام الله سبحانه.. أن يجمع بين مختلفين ليكونا متطابقين منسجمين لا تناقض ولا تعارض.. فهو خاص بالمؤمنين بغض النظر عن الهوية واللون واللغة، بشرط أن يدخل تحت خيمة الإيمان.. الإيمان، بماذا؟ هو الإيمان بتفرد الله بكل شيء.
كيف يكون الإيمان بالله..؟(/8)
الله سبحانه له صفات عظيمة (ليس كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى: 11].. وله أفعال حكيمة (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) [الأنعام: من الآية83]، (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) [الأنعام: من الآية18]، وله علم بكل شيء، قبل أن يكون (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) [الحشر: من الآية22]، وله أقوال بليغة (كل آيات القرآن تدل على ذلك) تأمل قوله، يصف نفسه سبحانه: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ،اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ) [الإخلاص: 1-4].. وله قدرة مطلقة (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس:82] وله مخلوقات مغيبة ومرئية، فالمغيبة هو ما سيكون في الآخرة، أي يوم القيامة.. والمرئي، هو ما نشاهده بأبصارنا من مخلوقات الله سبحانه، مثل السماء الدنيا والجبال وغيرها.. فيلزم الإيمان المطلق، بالمغيّبات التي لم تُر، كما يلزم الإيمان بالمرئيات.. هذا الإيمان يجب أن يغلفّه التقديس والتعظيم له سبحانه، وتأسره المحبة والخشوع والرجاء له، وهذا يخرج ما في الأنفس من شك وريبة لأمور قد لا يستوعبها العقل .. فتحدث الحيرة.. ويظهر التردد على سطح التعامل مع أركان هذا الدين.. فلله صفات عظيمة يختص بها سبحانه –وهو لها أهل- وتليق به جل وعلا (هذه الصفات لا يعتريها النقص أو الذبول أو الفناء أو العجز أو الغفلة فهي وحدة متكاملة متجانسة لا تناقض فيها ولا خلل) (ليس كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى: 11]، (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ)[البقرة: من الآية255]، وهذه الصفات معلومة لكل مسلم مؤمن بالله. مع تقديسها والوقوف عند أسوارها الخارجية دون الدخول إلى أعماقها لتحليلها أو تشبيهها أو تمثيلها أو تعطيلها أو حتى تخيّلها. فهي فوق الاستيعاب البشري أو التصوّر العقلي.. مع ملاحظة أن بعض الطوائف حاولوا وصفها أو تخيّلها أو تجسيمها. فتاهوا في سراديب الخيال، والتخبّطات والتصوّرات العقلانية الناقصة، فضلّوا وأضلّوا.. وهذه الصفات الربانية العظيمة مبسوطة في كتاب الله بمواضع مختلفة وأماكن متفرقة.. وقد وضع بعض العلماء الذين وُثق بعلمهم، قاعدة عظيمة للتعامل مع الحيرة والشك الذي يطرأ على قلب المسلم وخاطره، عن كُنه هذه الصفات وكيفيّتها، فقالوا: نثبت لله، ما أثبته الله لنفسه، في كتبه التي أنزلها على أنبيائه ورسله، أو ما أثبته له نبيه –صلى الله عليه وسلم- دون التخيّل في التكييف وتعسّف التأويل أو التمثيل. فذلك خارج عن نطاق الفهم والعقل والمشاهدة؛ لأننا إن تأملنا ذلك نكون قد تجاوزنا الحد المتاح لنا في التصوّر العقلي، الذي لم نُؤمر به أصلاً، ولن نستطيع مهما كنا، وكانت قوانا العقلية أن نصل إلى ذلك، ولأننا سنخترق جدار الانقياد الذي أمرنا به أيضًا.. فمهما بلغ العقل من الذكاء، فلن يصل إلى جزئية لا تُرى بالعين المجردة من صفات الله سبحانه وتعالى.. إذ نحن نرتكب أمرًا عظيمًا إن فعلنا..
أخي القارئ الكريم: هذه السورة العظيمة الجامعة تستحق أن يُطلق عليها سورة العلاقات العامة، فهي بحق قد جمعت -كما تعرف- نماذج من المفردات ذات البعد الهام في إذكاء حسن العلاقة مع الآخرين –بغض النظر عن مواقعهم.
تأمل البداية كيف تكرّرت النداءات لأهل الإيمان، للفت الانتباه لشيء مهم يجب إطراق السمع له –ثم بدأ- السياق العذب يؤسس العلاقة المتينة المبنية على القناعة والتعظيم للشخص الذي يُستمد منه هذا الدين، وهذا له دلاله مهمة فالمتلقي لهذا القرآن وهذا الدين سيأخذه من شخص معين معروف بصفته وباسمه وشخصه، إذاً لا بد من ملء نفوس أتباعه بطاعته واتّباعه وحماية ما جاء به والدفاع عنه، ولا يمكن أن يتمكن هذا في نفوسهم حتى يحبوه.
لذلك جاء الأمر خاصًا وعامًا، خاصًا لمن هم في عصره وعايشوه وعرفوه باسمه وشخصه، وأخذوا هذا الدور منه مشافهة، إذاً لا بد من إيضاح الطريق لهم للتعامل معه -صلى الله عليه وسلم- لذلك جاءت النداءات في صدر هذه السورة. وخطاب عام لمن عرفوه باسمه وصفته ولم تكتحل أعينهم برؤيته –صلى الله عليه وسلم- وهم الذين دخلوا في الإسلام بعد ذلك إلى يوم القيامة؛ لأنه عندما انتهى دوره على مسرح الحياة بعدما بلّغ الرسالة كاملة غير منقوصة، وبعد ما رضي الله هذا الدين بعد إتمامه وكماله .. (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً) [المائدة: من الآية3] جرى عليه –بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- ما جرى على الخلق، وذاق الكأس التي ذاقها الأنبياء من قبله، وكذلك الخلق وهو الرحيل عن هذه الدنيا، فغاب جسده وجسمه وشكله، وبقي هدْيه صلى الله عليه وسلم.(/9)
والذي يريد أن يعتنق هذا الدين بعد رحيله صلى الله عليه وسلم، لابد أن يؤمن ويقبل بمسلمات غيبيّة –دون اعتراض- لأنها قطعية الثبوت والدلالة، وهنا تكمن عظمة هذا الدين.
لذلك جاءت بداية هذه السورة على خطين متوازيين عام وخاص –كما أسلفنا القول-، فهو خطاب خاص للصحابة –رضوان الله عليهم- الذين عاصروه صلى الله عليه وسلم، وعام لمن سيأتي بعده من المسلمين، ولمن سيعتنق الإسلام بعد ذلك، وتلحظ أن الخطاب الخاص بمن سيأتي بعده في ثناياه الأمر بامتثال أمر غيبي لم يره، فعندما يقول الحق تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)[الحجرات:1] يحق للمخاطب الذي لم يشاهد شخص النبي صلى الله عليه وسلم، أن يقول: كيف يأمرني الله بشيء لم أشاهده ولم أعش معه في وقت واحد، وأنتم تقولون أن القرآن صالح لكل زمان ومكان ويشمل عموم المسلمين..؟ وهذا اعتراض له ما يسوّغه.
فإذا اتسعت دائرة فهمنا لكتاب ربنا سبحانه وتعالى، واستوعبنا شمولية الإسلام بشكلها الصحيح، لهان الفهم وسهل الاستيعاب وزال الغموض المصطنع، فنحن إخوان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذين أتينا بعده، كما عبر هو عليه الصلاة والسلام بذلك بأننا إخوانه، والذين رأوه هم أصحابه كما قال لهم عندما قالوا: أو لسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: أنتم أصحابي. إذاً الصحابة عليهم مسؤوليتان، الأولى: الانخفاض والإنصات والإطراق له، والخضوع بالصوت إلى درجة الهمس، ولا ينتج هذا إلا إذا استحكم الحب والانقياد لما يقول، صلى الله عليه وسلم، وهذا يسهل عملية التلقي والاستيعاب لتعاليم الإسلام، لذلك الصحابة هان عليهم الفهم، فضحوا بأرواحهم في سبيل الله من أجل إعلاء دينه، الذي اعتنقوه، وهي المسؤولية الثانية. أما الذين لم تكتحل عيونهم برؤيته صلى الله عليه وسلم -وهم إخوانه- فعليهم مسؤولية خطيرة منقسمة بوحدتها إلى قسمين، القسم الأول: الحب، الذي يجب أن يملأ جنبات القلب بكل ما تعنيه هذه المفردة من المعنى اللغوي والشرعي، لشخصه عليه الصلاة والسلام، والقسم الثاني: الانقياد والاستجابة والاتّباع، ويحاكي هنا خفض الصوت عند سماع ما جاء به، إما من كلام الباري سبحانه وتعالى، أو من حديثه هو صلى الله عليه وسلم –لعله زال اللبس عليك-؟
ولعلي آخذك برحلة إلى الوراء قليلاً إلى العهد النبوي الشريف وأعرض عليك مشهدًا من أحد المجالس لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- والصحابة عنده رضوان الله عليهم، عندما قال أحدهم: لم أستطع أن أملا أملأ عيني من وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حياء وتعظيمًا ومهابة مؤطرة بإطار الحب الصادق فهل يستشعر من جاء بعده هذا المعنى؟
ثم يكمل السياق القرآني أمرًا آخر مندرجاً في نفس المعنى وهو الجهر بالقول (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) [الحجرات: من الآية2]، ولاحظ هنا جمال العبارة ورقتها وصيغة الأمر فهو يحيط بك من جميع الجهات، وقد رتب الباري -سبحانه وتعالى- على هذا المسلك الأجر العظيم، موعده مستقبلي غيبي، له دلالة إيمانية أيضًا؛ لأنك إذا انتظرت أمرًا غيبيًا وأنت مؤمن به، وفيه ما يسرك وهو مستقبلي الحدوث، تجدك تحترم وتقدس وتداوم على هذا الفعل، وهو التعظيم في القلب، والممارسة في الجوارح. فتزداد منزلتك عند الله وأنت لا تشعر، ولا تنس أن فضل ربك لا ساحل له (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الجمعة:4].
ويستمر الثناء والمديح لتلك الفئة التي تمارس هذا العمل، والله سبحانه قد امتحن قلوبهم للتقوى؛ إذ نفذوا هذا الأمر، وهو خفض الصوت وعدم الجهر بالقول لشخص الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعدما أسروا التعظيم له قلوبهم، حيث نفذوا هذا الأمر، كافأهم الله سبحانه وتعالى، بأن أعد لهم ثلاثة أنواع من الثواب، وهذا قد يكون لهم ولغيرهم، الذين جاؤوا من بعدهم والذين سيجيئون، بشرط التقيد بما تقيد به صحابته صلى الله عليه وسلم –والله أعلم- وأنواع الثواب التي تتضح جلية في النص القرآني هي:
1- مغفرة. 2- أجر. 3- نوع الأجر..؟ عظيم، لاحظها في الآية.. قد يكون هناك أجر ويكون غير عظيم، لاحظت الفرق؟ أجر، وهو من النوع العظيم، بالإضافة إلى المغفرة وهو السماح والعفو عن الذنوب الماضية التي قد اقترفت أثناء الحياة وفي فترة التكليف.
للحديث بقية في الحلقة المقبلة إن شاء الله.. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ضوء من الحجرات (6)
عبدالله العيادة 4/2/1427
04/03/2006(/10)
ويستمر الحديث والإبحار مع آيات هذه السورة المباركة الجامعة. الحديث والسياق القرآني ينتقل نقلة نوعية في الهدف المطلوب، بعدما أرسى دعائم الإيمان والإجلال لشخص رسول الله -صلى اله عليه وسلم- في نفوس أتباعه الذين عاصروه، والذين جاؤوا من بعده ليعظموا بذلك ما جاء عن الله سبحانه وتعالى. بداء بدأ يسلط الضوء على مفردات أخرى ذات طابع، فأعاد لفت الانتباه للمؤمنين لتبقى الخصوصية بأن هذا البناء خاص بهم ــ ولامانع أن يستفيد منه غيرهم إن هم أخذوا به ــ وهذا من أسرار وعظمة القرآن والإسلام. فأحكامه تنفع لكل من طبّقها, فمن صفات هذا الدين الشمولية. لكن أين المطبّقون؟
مع ملاحظة أن بعض الأمم الكافرة قد استفادت من تعاليم الإسلام, بينما بعض أبناء أمتنا أعرضوا عنه، فأصابنا ما أصابنا من الذل والمهانة, خذ مثالاً: أمرنا الله سبحانه باتخاذ القوة وعدم الركون أو الثقة في عدونا فما الذي حصل؟ عدونا أخذ بمبدأ الإعداد للقوة مع نظرته الدونية لنا, بينما أمتنا تركت الإعداد مع الركون والثقة بالعدو. فما هي النتيجة..؟ النتيجة واضحة كالشمس في رابعة النهار .. قال الله تعالى: ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم...) [الأنفال:60] فلا يرهب العدو إلا القوة؛ فلو أن الأمة تستيقظ من رقدتها وتنفض غبار الانهزامية، وتثق بربها سبحانه و تعالى، وبوعده، وتتوكل عليه، فأول شيء ستحس به هو الانتصار على النفس المنهزمة من الداخل، ومن المهم جداً أن ننتصر على الهوان الذي يضرب أطنابه في دواخلنا، وقد شربنا الهزيمة قبل أن نواجه عدونا, ولم نفطن إلى أن العدو لايزال في حالة ترقّب وتوجّس لهذا المارد أن يستيقظ، هو يعمل جاهداً بأن يجعل هذا المارد نائماً ومخدراً أطول وقت ممكن, مع إيهامنا بأنه سيحمينا عند الحاجة إذا داهم الخطب؛ فلا حاجة إذاً لإشغال أنفسنا بجمع السلاح وأخذ القوة .. فهل نفطن لذلك؟ ولكن مع الأسف الشديد صدقنا وانطلت الحيلة علينا، وانظر يميناً وشمالاً ترى ما يحزن فؤادك ...؟ ثم تأمل قول ربنا سبحانه وتعالى في هذه الآية العظيمة والتي هي قاعدة مهمة في التعامل مع العدو، قال سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا لاتتخذوا بطانة من دونكم لايألونكم خبالاً ودّوا ما عندتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون) [آل عمران ، 118] ، وتأمل هذه الآية وهي أشد تأثيراً (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردّوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين، بل الله مولاكم وهو خير الناصرين) [آل عمران 150] نعم .. نعم ..
عندما كان الإسلام قليل المنعة، وكان أتباعه قليلين في مكة، أول أيام العهد المكي، كان الكفار لهم صولة وضجيج, وكانوا يؤثّرون في سير الأحداث حتى إنهم حالوا بين الضعفاء وإعلان إسلامهم، ولكن عندما قويت شوكة الإسلام والمسلمين في العهد المدني, خاصة بعد معركة بدر، وعرف المشركون مدى التأثير والتغير الذي طرأ على هؤلاء مع نبيهم، محمد -صلى الله عليه وسلم- أرجفوا وزُلزلوا زلزالاً شديداً، لذلك اندس أناس يسكنون المدينة ويتعايشون مع المسلمين جنباً إلى جنب، وبما أن الشوكة للمسلمين ظهر ما يُسمّى بمفردة النفاق، والمنافقين، وهو إخفاء وإظهار - ولا يتصف بها إلا الحاقد اللئيم الجبان الغدّار- فأظهروا الإسلام، و أخفوا في جوانح أنفسهم الكفر المبطن بالحقد، وهو أخطر من الكفر, والعجب أن النفاق لم يظهر في مكة؟ لأن أهل مكة في ذلك الوقت لا يخجلون من إظهار كفرهم، ويرون أن المسألة تحدٍ لمحمد - صلى الله عليه وسلم- وأنهم كفرسي رهان, ولكن تاهوا في غيهم وتكبّروا وظنوا أنهم على هدى مبين, وسرعان ما ذهبت أحلامهم أدراج الرياح يوم عاينوا الحقيقة، وعرفوا من هو الذي على حق، وذلك بعد معركة بدر الفاصلة التي قلبت موازين القوى لصالح المسلمين؛ فالذين قُتلوا من المشركين جاءتهم الطامة والصاعقة عندما أحاطت بهم الملائكة تقطف رؤوسهم وأرواحهم, وعندما أُلقيت أجسادهم في ذلك القليب، ولكن لم ينفعهم هذا عندما عاينوا الحقيقة؛ لأن المهلة المتاحة لهم قد انتهت, أما الذين لم تنته مهلتهم ولم يُقتلوا فمنهم من أسلم ونجا ومنهم من أذعن واستسلم لقوة الإسلام.(/11)
أما تلك الشرذمة في المدينة، فإنهم أجبن و أحقر من إظهار ما يعتقدون، لذلك شربت نفوسهم الخبيثة التكتّم والتلوّن، ولكن سيماهم في وجوههم من أثر النفاق, وبدؤوا يحيكون الدسائس والخداع، للنيل من المسلمين وعلى رأسهم نبيهم -صلى الله عليه وسلم- لهذا كان المسلمون بحاجة إلى التذكير عن هؤلاء من أجل أخذ الحيطة والحذر، وعدم الانسياق وراء الأخبار الوافدة, فجاء الخطاب موجّهاً للمؤمنين فقط - وهذا خاص لهم - قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا...) ما أجمل هذه الآية! إنها بحق تعتبر إستراتيجية في التعامل مع الأحداث, خاصة وقت الأزمات، التي يكثر فيها الهرج والمرج والإرجاف, فقد يأتيك شخص بخبر ويوهمك أنه يريد الإصلاح, بينما هو غير ذلك, فإذا عرفت حال الناقل فتعاملْ مع خبره على أساس معرفة حاله, فإذا جاءك الفاسق بخبر فلا تهمله مطلقاً ولاتقبله مطلقاً ...لذلك إذا نُقل إليك خبر، استقبله وتأمّله بما آتاك الله من بصيرة وعقل مستقل في التفكير، وهو التثبّت والتحري من هذا الخبر المنقول إليك، من أجل ألاّ تنزلق في مصيدة هذا الخبر, فتكون أسيراً لهذا الخبر الذي حمله إليك هذا الفاسق المغرض, وتتجنب مذلة الاعتذار نتيجة اتخاذك لقرار بُني على ضغط تداعيات ذلك الخبر ـ فما أصعب المهانة! ـ ولعلك تذكر ذلك الأفّاك الأثيم زعيم تلك الطائفة، التي تُلقّب هذا العصر بالطابور الخامس, وهو ابن سلول, عندما رمى (أم عبد الله رضي الله عنها) الطاهرة المطهرة العفيفة، حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم المؤمنين عائشة بنت الصديق، رماها بالزنا، مع الصحابي الجليل، صفوان بن المعطل، -رضي الله عنه- مستغلاً بذلك ذلك الحدث، عندما تأخّرا في اللحاق بركب الجيش, ولحكمة يريدها الله، سرى هذا الخبر في طرقات المدينة، فأُشرب به المنافقون كعادتهم، عند كل حادثة تمس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته, ومع الأسف تلوّث به بعض الصحابة. وكم هي البشائر التي أثمرها هذا الخبر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعائشة -رضي الله عنها- والمسلمون من بعد ذلك، ومن الدروس التي برزت في هذا الخبر هو العتاب الرباني للصحابة الذين تلوّثوا بهذا الخبر، يقرر هذه المسألة وهو التثبّت التام إذا جاء الخبر من فاسق معلوم فسقه (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا...). إذاً هذا ينطبق على كل خبر ينقله فاسق.
وهناك مسألة أخرى تبرز هنا، إذا كان الخبر المنقول يتحدث عن مؤمن أو مسلم مشهود بعدالته وورعه وحبه للخير، فيجب ألاّ ننساق وراء الخبر، ونلغي بذلك عقولنا، ونصدق ما يقوله الناقل بناء على مكانته، أو منصبه، أو ما يحوزه من حطام الدنيا، بل نتحرّى ونسأل صاحب الشأن، و نظن بالمنقول عنه الخبر كل خير، تأمّل هذا النص القرآني (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً وقالوا هذا إفك مبين) (النور:12).
ومن لطف الله سبحانه بعباده الصادقين، الذين انساقوا وراء الخبر، وليس لهم هدف الإساءة لرسول -الله صلى الله عليه وسلم- - في أهل بيته، أو أن يبطنوا النفاق- أن الله سبحانه وتعالى عفا عنهم، مع ما تسبب هذا الخبر من الألم والوجع للبيت الطاهر الشريف، ولكن هي رحمة الله بعباده الذين يتوبون، إذا أذنبوا، مع تذكيرهم بعدم العودة لمثل هذا، وهو الانسياق وراء الأخبار الملفقة، التي تسيء للمؤمنين، تأمّلْ روعة العبارة في هذا السياق القرآني (يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً إن كنتم مؤمنين) [النور:17]. هل لاحظت الشرط في الآية؟ (...إن كنتم مؤمنين) فإذا تحقق الإيمان صدق العبد في توبته مهما كان الذنب........
إلى اللقاء في الحلقة القادمة ... إن شاء الله .......
ضَوْء من الحجرات (7)
عبد الله العيادة 8/4/1427
06/05/2006
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
ولا يزال الحديث موصولاً عن ذلك المقطع الذي يُعدّ بحق وثيقة ودستورًا للأمة المسلمة، وهو هام جدًا، خاصة في هذا الزمن، وهو كيفية التعامل مع الأخبار والأحداث والأنباء المنقولة سواء نقلاً فرديًا أو جماعيًا؛ فقد ينقل لك أحدهم خبرًا، وقد تستمع إلى خبر عبر وسيلة ناقلة.
لذلك جعل القرآن للمسلم ضابطًا شرعيًا في التعامل مع هذه الأنباء، سواء كان يخص فردًا أو جماعة، وهو التريّث والتثبّت والتأكّد من هويّة هذا الناقل، وهويّة الخبر، وفي الآية ملمح رائع وهو الرفع من العقلية المسلمة في التحليل والاستنباط والتدقيق لمعرفة مدى صدق وواقعية الخبر؛ لأنه – للأسف- هناك كثير من أفراد الأمة عندما يسمعون خبرًا، يلغون هذا الجارحة العظيمة التي مُنحت لهم من الخالق سبحانه وتعالى، وينساقون وراء الخبر المنقول، دون التثبّت أو التروي، مع تعطيل منافذ التفكير عندهم، ولو تأمّل الواحد منهم لوجد أنه يملك خاصية التحليل والاستنباط (فتبيّنوا، وفي قراءة، فتثبّتوا.. ).(/12)
ولا يخفى في هذا العصر، أن السباق للخبر المعلن، والصراع اليوم، صراع يُدار حسب ما يُبَثّ من أنباء، تُصاغ فيها العقول المتلقية، ليقبلوا بعد ذلك أي تصرف ينتج عن هذه الأنباء التي بُثّت عبر الأثير، ويكفيك دليلاً ما تصنعه الآلة الإعلامية الغربية، وخاصة الأمريكية، لتسوّغ ما تريد عمله بعد ذلك، ومع الأسف المحرق للفؤاد، نجد أن كثيرًا من الحكومات الإسلامية تتيح المساحات الهائلة عبر إعلامها لتسويق ما يبثه الإعلام الغربي، فتساهم -عرفت أم لم تعرف- في تجهيل الشعوب المسلمة، وإبعادها عن الجرح الذي لايزال ينزف من جسد الأمة، لتقبل بعد ذلك هذه البربرية والهمجية الأمريكية، على أنها حق، مع العلم أنها طغت على شريعة الغاب، التي يسلب فيها القوي حياة الضعيف، لمجرد أنه أقوى منه ليس إلا، (ولا ننسى ذلك الحوار الذي دار بين ذلك الأرنب وشبل ذلك الأسد الذي لم يعرف تفاصيل الحياة إلا ما تلقاه من والده، وذلك عندما لحق بالأرنب، فقال الأرنب: بعدما أجهده الركض والهرب ماذا تريد مني؟ فقال الشبل بكل صفاقة: لابد أن آكلك!! فقال الأرنب: ولكن لم أصنع لك شيئًا لتنهي حياتي بهذه السهولة؟ فقال الشبل: هكذا علمني أبي؟ أن آكل من أقدر عليه، وأنا أقدر عليك!!
فقال الأرنب: فقط لأنك أقوى مني؟ وأنا أضعف منك تأكلني؟ فلم يجب الشبل!!).
تأمّلوا الدم الفلسطيني، والدم الشيشاني، والدم الأفغاني، والدم العراقي، لتبرز لكم حكاية هذا الشبل مع الأرنب.
أعود للحديث، وهو التريّث، والتفكير الهادئ، عندما تدلهم الخطوب، ويجب ألاّ ننساق وراء الزوابع المهلكة، فلن تحيا الأمة إلاّ إذا عرفت كيف تفكر بنفسها هي، لتعرف مقدار ما تملك من قوة كامنة في ثنايا دينها، الذي لو استغلته بشكله الصحيح، وكما أمر ربها سبحانه وتعالى: فذلك كفيل بأن يجعلها تسود العالم أجمع كما كانت في صدورها الأُول.
لو نتأمل الآية التي في نهاية المقطع الماضي، وهذه الآية الجديدة، نجد أن السياق انتقل نقلة نوعية على خط آخر، ومطلب آخر، قال تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) [الحجرات: 7]. سبحان من يعلم خلجات القلوب، وما توسوس به الأنفس، وما تدّخر من الخطرات.
ولأن لكل نفس رغبات تتمنى تحقيقها، مع ملاحظة أنه لا منتهى لطمعها، فهي لو تُركت على سجيّتها، وفُتح لها الباب على مصراعيه، وقيل لها اطلبي ما شئت، أو افعلي ما أردت، فطمعها هنا بحر لا ساحل له.. فلوا أطاع الناس رسول الله-صلى الله عليه وسلم- فيما يريدون فكيف ستكون النتيجة، على هذه القاعدة التي ذكرنا وهي حب الذات؟
لذلك الله -سبحانه وتعالى- ذكّرنا فضله علينا، مع الإشارة إلى ملمح، خفيّ قد يغفل عنه كثير من الناس، وهي سيطرته سبحانه على القلوب، وبالتالي سيطرته على الخطرات التي أُودعت في هذه القلوب، التي لا يعلم بها إلا صاحب القلب، فهو المتحكم فيها، سبحانه وتعالى، فأخبرنا سبحانه، بأنه تفضّل علينا، بأن جعل غريزة حب الإيمان في قلوبنا، من أجل أن نضع رغباتنا النفسية والدنيوية جانباً، ونجعل الإيمان يؤطرها، وبالتالي نقدم التضحيات لهذا الدين؛ لأن لأتباعه رسالة عظيمة تنتظرهم، أكبر وأسمى من الرغبات الشخصية، ولذلك لزم ترسيخ هذه المعاني الرائعة، وهو التجرّد من هوى النفس، وتقديم التضحيات، وتغليب مصلحة الجماعة على المصلحة الفردية، وللوصول إلى (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر: 9] فمتى نؤثر الآخرين..؟ حتى ولو كنا بأمس الحاجة، وبنا خصاصة؟ كما هي الأمة اليوم، بأمس الحاجة إلى تقديم مصلحتها العليا على المصالح الفرية، وأنت ترى اليوم الدول الإسلامية كل دولة تغلب مصلحتها الفردية على المصلحة العامة للأمة الإسلامية عامة، فحين غاب مؤشر الإيمان، أزلنا جدار التضحية، فسقط على رؤوسنا، فصرنا كقطيع الخراف، في ليلة مطيرة، والذئب يسوقها إلى حتفها، وهي تدري، أو لا تدري، وكلا الأمرين عظيم، وعلى الرغم من ذلك تبتسم؟
لو تكرمت: أعد قراءة الآية مرة أخرى، مع تأملها.
والحديث متصل والنهر العذب متدفق، في هذه الرحلة مع كتاب الله، (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ).[فصلت: 42]، عبر هذه السورة الكريمة الاجتماعية، التي تحمل بين آياتها أروع القيم وأحكمها، التي لو استوعبها البشر وطبقوها لحطّت السعادة رحالها في ديارهم، فيه قيم نادرة ومثالية، صالحة لكل زمان ومكان، ولكل جنس من البشر؛ لأن المهم التطبيق الصادق لها، والمؤمن هنا هو أحق بها من غيره، ولكن إذا غفل المؤمن عنها أو استبدل بها قيماً مستوردة، من صنع عقول بشرية يعتريها الخلل والخبال، لا يستغرب ما تكون النتيجة.(/13)
وها نحن ننتقل أيضًا، من زهرة إلى زهرة، ومن وردة إلى أخرى. ألوان مختلفة، وطعم مختلف، ومذاق يجعل النفس تعلو في همتها، وهذه حال من كان القرآن ربيع قلبه، فالربيع من سماته تفتح الزهور واخضرار الأشجار (وكلام ربنا سبحانه وتعالى ربيع وظلال وارفة، فأين السالكون لدروبه، المتنعّمون بحروفه، الناهلون من معينة الذي لا ينضب، ولكن مطايانا تقصر دون بلوغ منتهاه، كيف لا وهو كلام رب الأرض والسماء، أعذب كلام، وأصدق قول، وأجود إحكام، نعود بالحديث إلى قاعدة لم تستطع العقول البشرية رسمها، ومع الأسف الشديد ألقت الأمة بهذه القاعدة على قارعة الطريق، فصارت نهبًا للخلافات التي عصفت بها، فتاهت وسط الضياع، فتسلط الأعداء عليها، فلا نلوم إلا أنفسنا.
ينتقل السياق القرآني نقلة نوعية في الخطاب، ولكنه مكمل لما قبله، وهو الصلح، تأمل قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا)الخطاب خاص هنا للمؤمنين، يوجههم سبحانه، لرفع معنويات فئة من الناس، آمنوا به سبحانه، ولكن ليس لقيم اجتماعية، حسب أعراف القبيلة الجاهلية، التي لا تعترف إلا بالأسياد، حتى ولو كانوا أجهل الجاهلين، ومن عتاة المشركين، وكل إمكانياتهم أنهم وُلدوا من أبوين ينتميان إلى طائفة الأسياد فقط (!؟) وإن جهلوا –ليس إلا- فالإسلام أبطل هذا، وجعل الإيمان هو الفيصل، فمن أخذه أخذ بحظ وافر, من الرفعة والسيادة –رغم أنوف الأسياد- والحكم هنا، هو القادر المتصرف بشؤون الكون؛ إذ حكمه لا رادّ له، (إن أكرمكم عند الله أتقاكم). بالله عليكم هل يوجد عدل مثل هذا..؟ فهو سبحانه جعل التقوى، مقياسًا للكرامة عنده سبحانه وتعالى، وجعلها متاحة للجميع دون عوائق، فأين نحن عنها؟ لذلك خاطب المؤمنين بهذا الخطاب، وهو أن الأمة الإسلامية المؤمنة لها دور ريادي على مسرح الحياة، لذا يجب أن تزيل عن كاهلها أوساخ الجاهلية وتفاهتها، كما قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "دعوها فإنها منتنة"، وإنه لا يوجد في الأمة شيء اسمه الدم المقدس والدم العادي "كلكم لآدم وآدم من تراب" فالجميع في ميزان الإسلام والإيمان واحد، فمن دخل في حديقته، يقف في الصف، جنبًا إلى جنب، مع أخيه المسلم، الذي سبقه، بغض النظر عن الهوية والقبيلة، واللون والموطن، فبلال العبد الحبشي، يقف بجوار أبي بكر الصديق، وصهيب الرومي، يقف بجوار الفاروق، وعبد الملك بن مروان الأموي القرشي الخليفة، يجلس بين يدي عطاء بن أبي رباح، إذاً الأمة لا يمكن أن يكون لها شأن، إلا بهذا، لأن الطاقات والعقول والهمم ليس لها هوية معينة، فالله سبحانه وتعالى، يمنحها لمن يشاء من خلقه، لحكمة يعلمها هو سبحانه، لذلك ينبهنا سبحانه، إلى قاعدة عظيمة مهمة، وهي الاتحاد في الكلمة، لتكون القوة والمنعة، ولا يكون الاتحاد إلا بإزالة التفرقة العنصرية، فقد يكون العبد أو الفقير الذي نظنه حقيرًا ذا بأس أو ذا رأي سديد، فنعمة الرأي والشجاعة والذكاء ليست ملكاً للأسياد فقط، أو وظيفة نمنحها لأبنائنا، إذاً الإسلام لا يقيم وزنًا إلا لعُرى الإيمان فقط، وتأمل الملمح البديع في الآية لمن يفطن له، وهو أنك أيها السيد الشريف الذي تملأ الدنيا ضجيجًا وتحتقر غيرك؛ لأنك وُلدت من السادة –هذه مميزاتك فقط- قد يكون من تحتقر خير منك عند الله، وهذا هو الفيصل والغاية في هذه المعادلة، وهو الهدف الذي تُشدّ إليه –والله- المطايا، لذلك نهانا سبحانه وتعالى، أن يسخر قوم من قوم (لا يسخر قوم من قوم). هذه وحدة متكاملة في التوجيه، ثم يعقبها سبحانه في جملة اعتراضية –(عسى أن يكونوا خيرًا منهم)- فمن يدري؟ الله سبحانه يدري، فهو الخبير سبحانه، يعلم خفايا الأنفس ونبضات القلوب. ومن أجمل اللفتات في صدر هذه الآية، أن الخطاب يشترك فيه الرجال والنساء؛ لأن مجالس النساء، كثيرًا ما يحدث فيها هذا التباهي والتفاخر، ويغفلن كثيرًا عن مساحة الإيمان، التي تعمر قلوب الأخريات اللاتي قد يكنّ خيرًا منهن عند الله، فهوّنوا عليكم أيها الساخرون المتهكّمون المحتقرون لعباد الله (إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً)[الإسراء: 37] ثم تأمّلوا، ما هي بدايتكم؟ وكيف ستكون نهايتكم؟ فمن يتدبر..؟
إلى اللقاء في الحلقة القادمة، إن شاء الله.....(/14)
ضوابط التشبه بالكفار
الشيخ : محمد صالح المنجد
ما هي حدود التشبه بالغرب؟ هل كل ما هو حديث وجديد ويأتينا من الغرب فهو تشبه بهم؟ بمعنى آخر : كيف نطلق الحكم على شيء ما بأنه محرم لأنه تشبه بالكفار؟
الجواب:
الحمد لله:
عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ) رواه أبو داود (اللباس / 3512) قال الألباني في صحيح أبي داود : حسن صحيح. برقم (3401)
قَالَ الْمُنَاوِيُّ وَالْعَلْقَمِيّ : أَيْ تَزَيَّى فِي ظَاهِره بِزِيِّهِمْ، وَسَارَ بِسِيرَتِهِمْ وَهَدْيهمْ فِي مَلْبَسهمْ وَبَعْض أَفْعَالهمْ اِنْتَهَى. وَقَالَ الْقَارِي : أَيْ مَنْ شَبَّهَ نَفْسه بِالْكُفَّارِ مَثَلا مِنْ اللِّبَاس وَغَيْره، أَوْ بِالْفُسَّاقِ أَوْ الْفُجَّار أَوْ بِأَهْلِ التَّصَوُّف وَالصُّلَحَاء الأَبْرَار (فَهُوَ مِنْهُمْ) : أَيْ فِي الإِثْم وَالْخَيْر.
قَالَ شَيْخ الإِسْلام اِبْن تَيْمِيَّةَ فِي الصِّرَاط الْمُسْتَقِيم: وَقَدْ اِحْتَجَّ الإِمَام أَحْمَد وَغَيْره بِهَذَا الْحَدِيث، وَهَذَا الْحَدِيث أَقَلّ أَحْوَاله أَنْ يَقْتَضِيَ تَحْرِيم التَّشَبُّه بِهِمْ كَمَا فِي قَوْله {مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} وَهُوَ نَظِير قَوْل عَبْد اللَّه بْن عَمْرو أَنَّهُ قَالَ : مَنْ بَنَى بِأَرْضِ الْمُشْرِكِينَ وَصَنَعَ نَيْرُوزَهُمْ وَمِهْرَجَانَهمْ وَتَشَبَّهَ بِهِمْ حَتَّى يَمُوت حُشِرَ مَعَهُمْ يَوْم الْقِيَامَة فَقَدْ يُحْمَل هَذَا عَلَى التَّشَبُّه الْمُطْلَق فَإِنَّهُ يُوجِب الْكُفْر، وَيَقْتَضِي تَحْرِيم أَبْعَاض ذَلِكَ، وَقَدْ يُحْمَل عَلَى أَنَّهُ مِنْهُمْ فِي الْقَدْر الْمُشْتَرَك الَّذِي يُشَابِههُمْ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ كُفْرًا أَوْ مَعْصِيَة أَوْ شِعَارًا لَهَا كَانَ حُكْمه كَذَلِكَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ التَّشَبُّه بِالأَعَاجِمِ، وَقَالَ : " مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ " وَذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى. وَبِهَذَا اِحْتَجَّ غَيْر وَاحِد مِنْ الْعُلَمَاء عَلَى كَرَاهَة أَشْيَاء مِنْ زِيّ غَيْر الْمُسْلِمِينَ. أهـ. انظر عون المعبود شرح سنن أبي داود.
والتشبه بالكفار على قسمين:
1. تشبه محرَّم.
2.وتشبه مباح.
* القسم الأول: التشبه المحرّم:
وهو فعل ما هو من خصائص دين الكفار مع علمه بذلك، ولم يرد في شرعنا.
فهذا محرّم، وقد يكون من الكبائر، بل إن بعضه يصير كفراً بحسب الأدلة.
سواء فعله الشخص موافقة للكفار، أو لشهوة، أو شبهة تخيل إليه أنّ فعله نافع في الدنيا والآخرة.
فإن قيل:
س: هل من عمل هذا العمل وهو جاهل يأثم بذلك، كمن يحتفل بعيد الميلاد؟
الجواب : الجاهل لا يأثم لجهله، لكنه يعلّم، فإن أصر فإنه يأثم.
* القسم الثاني: التشبه الجائز :
وهو فعل عمل ليس مأخوذاً عن الكفار في الأصل، لكن الكفار يفعلونه أيضاً.
فهذا ليس فيه محذور المشابهة لكن قد تفوت فيه منفعة المخالفة
* التشبه بأهل الكتاب وغيرهم في الأمور الدنيوية لا يباح إلا بشروط :
1. أن لا يكون هذا من تقاليدهم وشعارهم التي يميّزون بها.
2. أن لا يكون ذلك الأمر من شرعهم ويثبت ذلك أنه من شرعهم بنقل موثوق به، مثل أن يخبرنا الله - تعالى - في كتابه أو على لسان رسوله أو بنقل متواتر مثل سجدة التحية الجائزة في الأمم السابقة.
3. أن لا يكون في شرعنا بيان خاص لذلك، فأما إذا كان فيه بيان خاص بالموافقة أو المخالفة استغنى عن ذلك بما جاء في شرعنا.
4. أن لا تؤدي هذه الموافقة إلى مخالفة أمر من أمور الشريعة.
5. أن لا تكون الموافقة في أعيادهم.
6. أن تكون الموافقة بحسب الحاجة المطلوبة ولا تزيد عنها. "
انظر كتاب السنن والآثار في النهي عن التشبه بالكفار لسهيل حسن ص 58- 59.
2-11-1424 هـ
http://www.muslimat.net المصدر:(/1)
ضوابط السلام في شريعة الإسلام
الشيخ محمد عبد الكريم*
مقدمة
الحمد لله الذي وهبنا العزّة والتمكين، يوم اعتصمنا به وعبدناه، وأعذر إلينا إنذاراً فمسّنا بسياط الذلة والهوان لمّا تمردنا على شريعته وعصيناه، الذي جاد علينا بفائض أنعُمِه فركنّا إلى الفانية ونسيناه، أتقن صِنعته، وأحكم شِرعته، وأوصانا بحبله المتين وعُراه، فالتهينا بما دونه فلم نستمسك به وهجرناه. فغفراً غفراً ربّاه.
والصلاة والسلام على رسول الهُدى، ونبي التُّقى، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن والاه، واقتفى أثره، واستنّ بهداه. أمّا بعد.
فقد ندب إليّ بعض الإخوان، أن أُساهم في هذا المنتدى، بورقات، تلم أطرف ما تناثر من "ضوابط السلام في شريعة الإسلام"، فأجبتهم إلى طلبتهم، وكلّي في مثل هذا الخِضَمّ ضعف زادٍ، وفقد مدادٍ، ثمّ إنّي على يقين أن صفحات معدودات لا تفي؛ إحاطة بجوانب هذا الموضوع الخطير المتفجّر ولا تكفي، خاصّة ونحن على نزر من علمٍ بما بذَله الأعداء من اليهود والنصارى وأشياعهم من بني جلدتنا، من جهد عظيمٍ مضن، ومكر ملتوٍ في وقت مديدٍ مفنٍ، للتوصل إلى إقناع المسلمين الحاضرين بثقافة "السلام" الموهوم مع اليهود، بل وليتجرّع نقيع هذا السمّ الأبناء القادمون جيلاً إثر جيل.
ورغم أن غضب انتفاضة رجب، كانت قد آذنت بصرم هذه الأكذوبة، ووأد تلك الألعوبة، عقب طول اللهث في بيداء مفاوضات الحلّ النهائي، وتهللت أسارير أبناء الأمّة، بدفن هذه الجيفة، ومواراتها في مزبلة التاريخ بلا رجعة. إلاّ أنّ التصريحات الأخيرة المُنكرة، والتي انبعث صداها من أروقة الجامعة العربية، داعية إلى ولوج نفق مظلم آخر، وتسويق مشروع سلام جديد آثم، قد أذكرت الجميع برائحة تلك الجيفة التي ولَّت حذاءً وأوشكت أن تكون في طي النسيان.
وفي ذات الوقت أظهرت بجلاء ما تعانيه أُمّتنا من الفصام النَّكِد، والفارق البعيد بين إرادة الشعوب وآمالها، ومرامي وأهداف النُّخب الحاكمة. إنّها مباينة تامّة، ومناقضة كليّة يحار منها كلّ مراقب. لقد دمّرت هذه الأنظمة شيم الأخلاق السامية شموخاً، والثابتة رسوخاً، والمنبسطة ذيوعاً بين سائر المسلمين رجالاً ونساءً، صغاراً وكباراً، حتى شيمَ النخوة العربية، فبلغ الحال سوءاً إلى الحدِّ الذي أغرى كتّاباً أمريكيين إلى القول مؤخّراً: "إنّ اعتبار غَضْبَة الشعوب العربية أمر لا قيمة له".
وا أسفاً، لقد تقرّحت أكباد الغيورين كمداً مما يجري في الأرض المباركة، في فلسطين كلّ يوم مناظر مفزعة متتابعة، تعجز الأبصار عن ملاحقتها، وعربدةٌ صهيونيّة غادرة تُذهِل كُلّ ذي حجى خسّتها. شهيد تلو شهيد، وأرملة تلو أخرى، ورضيع خلف أمّ، وأمّ خلف رضيع، ومنزلٌ مُهَدَّم، وشيخٌ حزين، وعجوز بائسة! مشاهد حَفَرت معالمها في ثنايا التاريخ، بل في حنايا قلب كلّ مسلم، ملاحم تسطّرها أشلاء الرّجال، بألوان الدم القاني، وجماجم الشهداء، والجميع يراقب ويتفرّج:
بغيُ الطّغاة وذلٌ من ذوي الرحِمٍ =أحلّ سفك دمي في الأشهر الحُرُمِ
يا نادب الحظّ أقصر والتمس عِوَضاً =إنّ الأماني طوع السيف والقلمِ
لولا العزائم ما سادت بها أمم =بالعزّ ترفل لا بالعجز والسّقمِ
الله أكبر ما كانت لذي وهن =ولا تأتت لذي خورٍ وذي صمم
يهتزّ منها طغاة الأرض إن برقت =فوق السيوف بأيدٍ حرّة وفمِ
عذراً إليكَ صلاح الدين في رهطٍ =ولّو تولّوك وانتسبوا لمعتصمِ
لقد بات الوقوف على فقه السلام والموادعة وضوابطه في الشريعة الغرّاء ضرورياً. لكثرة الوالغين فيه ختلاً وخداعاً، ولجرأة لصوص الألفاظ الشرعية على التلبيس بها في المُلمّات ظلماً وعدواناً، ووجد الزعماء من ساسة (السلم) الخانع، أنفسهم مضطرين أن يلتمسوا في كلّ حين سوائم من ذوي الجبب والعمائم، يروجون بهم فواجع الذلّة والاستسلام، كما يسيغون بحلاوة ليِّ ألسنتهم مرارة الزور وبائقات الباطل والبهتان، فبعد أن كانوا بالأمس يعُدون معاهدات السلام مع دولة اليهود دناءة وخيانة، وذلّة للمسلمين ومهانة، ذهب بعضهم ممن لا حياء عنده يقول بجواز تلك المعاهدات التي كانت في أمس الدابر القريب حراماً وذنباً عظيماً، ولا يقنع بذلك حتى يضرب على ما يقوم به المجاهدون الباذلون لأرواحهم في سبيل الله بالحكم عليهم تجريماً وتأثيماً، ليتضاحك اليهود علينا بملء أفواههم!! أما درى هؤلاء الجاسرون من المنتسبين إلى العلم، أنهم قد أغروا الناس سخرية بذواتهم؟، وشهدوا على أنفسهم بما قالوا أنهم من أجهل البشر، لأنّ كل أحد من عامة الناس -ولو كان غلاماً سوقياً، أو عجوزاً أُميّاً- أهل لأن يقال عنه إن لديه من الدراية والعلم ما ليس عندهم. فياله من نطق بباطل كان الصمت للعيِّ في موضعه خيراً لهم وأَستَر عليهم.
نعم لقد صارت الحاجة ماسّة إلى تجلية مفهوم "السلام" بيد أني بين يدي هذه الورقات قبل الحديث عن السلام أمهِّد بجملة من المقدّمات:(/1)
المقدمة الأولى: كان من الأساس الطبيعي ديناً وشرعاً، أن يكون الحديث عن فقه السلام والمُصالحة بين يدي فقه الجهاد والقتال في سبيل الله، أي أن يكون إزاء واقع يبدو فيه عَلَم الجهاد عالياً مرفوعاً، يتناسب مع تسنّمه ذروة سنام شعائر الإسلام، لأن "السلم" حالة استثنائية تعرض للمسلمين في طريقهم وهم قائمون بفريضة الجهاد دفعاً وطلباً، وماضون في سبيل التمكين لدين الله المرضي في كل الأرض شرقاً وغرباً، فالسلام في ذاته ليس غاية (استراتيجية) يسعى المسلمون لتحقيقها مع الكفّار، وذلك لأنّ مهمة المسلم في الحياة بعد تبصّر الحق والسير في طريق الهدى، أن يلتفت إلى التائهين من الناس من حوله، يمضي إليهم ليخرجهم من ظلمات الجهل والشرك، إلى ضياء الحقّ، ونور الإيمان. والأحكام النهائية التي تنتهي إليها حركة الجهاد الإسلامي، تصل بالنّاس في نهاية المطاف إلى ثلاثة أصناف: إمّا محاربين يحاربون، وإمّا مسلمين يدينون بدين الحق والإسلام، وإمّا أهل ذمة يعطون الجزية وهم على عهدهم ما استقاموا، وماعدا هذه الثلاثة هي حالات واقعة يسعى الإسلام إلى تغييرها حتى تنتهي إلى هذه الأوضاع الثلاثة التي تمثل العلاقات النهائية. يقول العلامة ابن القيم -رحمه الله-: "فاستقر أمر الكفّار معه بعد نزول براءة على ثلاثة أقسام: محاربين له، وأهل عهد، وأهل ذمّة، ثم آلت حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام، فصاروا معه قسمين: محارب له، وأهل ذمّة، والمحاربون له خائفون منه، فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام: مسلم مؤمن به، ومسالم له آمن، وخائف محارب" .
وهذا بخلاف الواقع المفروض على الأمّة اليوم من قِبَل الأعداء وأذنابهم، حيث السلام المزعوم هو المُقدّم رتبة على القتال والجهاد في سبيل الله، مع أنّ ثمّة إجماعاً بين أهل العلم قديماً، على أنّ القتال هو أداة الدولة الإسلامية الحركية لتحطيم القوى التي تقف في وجه بسط الإسلام على العالم، فالعلاقة بين دار الإسلام والعالم هي علاقة قتالية تتقدّمها الدعوة. ولكن من المعاصرين من عَكَس الأمر بسبب التأثر بالأفكار الحديثة عن العلاقات الدولية، فرأَوْا أنّ السلم هو أساس علاقة الدولة الإسلامية (دار الإسلام) بالعالم، وعلماؤنا الأسبقون اعتبروا الجانب القتالي مُقَدّماً على الأحكام المرحلية التي أجازت السلم مطلقاً؛ بينما رأى بعض المعاصرين أن أحكام السلم محكمة وتمسّكوا بها وأسسوا علاقة العالم الإسلامي (دار الإسلام) بالآخرين على أنّها علاقة دعوة فقط، وهذا مع الأسف نصف الحقيقة، لأن الدولة الإسلامية الحق دولة دعوة وجهاد، وبهما معاً قوام الدين كله كما قال تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس). فمنهج الحق لا يثبت في الأرض إلاّ بالكتاب الهادي دعوة وهداية والسيف الناصر جهاداً ونكاية، وهذا ليس تسلُّطاً على مصائر البشر للإفساد كما يحلو للأعداء وأذنابهم أن يصوروه، وإنما ذلك لصلاحهم في دنياهم وآخرتهم. إن الجهاد تحتاج إليه الدولة الإسلامية الراشدة، كما يحتاج الطبيب إلى استئصال بعض ما فسد من الجسم، إبقاءً على سلامة الجسد كله من العطب والفساد، وكذلك المجاهدون يستأصلون القوة الفاسدة التي تقف في وجه الحق، وتمنع الدعوة والدعاة من أن يبلّغوا الناس دين الله الهادي إلى سواء الصراط.
المقدمة الثانية: إنّ مفهوم "السلام" من الألفاظ الشرعية القرآنية، فالواجب المحتوم علينا ما دمنا بالقرآن العظيم مؤمنين، ولمعاني مبانيه وحدوده مذعنين، أن نُسلِّم لما دلّت عليه من الأحكام دون العبث بها، أو إخضاعها لأهوائنا، ناهيك بأن تكون الكلمة ودلالتها نهَباً لمعايير الكافرين، إنّ تصور كثير من أبناء المسلمين لأبعاد السلام ومنطلقاته نابع من المعيار الذي وضعه اليهود والنصارى، أي أعداؤنا أنفسهم. ومن عجب أنهم صاغوا لضبط علاقتنا بهم عبر المحافل الدولية التي يهيمنون عليها قسراً وقهراً، معياراً للسلام له مكيالان: لنا أوكسه وأخسره، ولمن يعادينا -أيّاً كان- أرجحه وأربحه، وكم اصطلينا بنار هذا المصطلح الغربي، في كل جولة مفاوضات يكون فيها المسلمون طرفاً خصماً برعاية المنظمات الدولية، ومع ذلك فإن ساستنا ما طاوعتهم أنفسهم أن يراجعوا هذا المفهوم، ويعودوا به إلى أصله الشرعي الذي يحفظ للأمّة مصالحها. ولكن أنى لهم ذلك ومبادئهم "كسحابة الصيف وإلمامة الطيف" يمرون على رزايا الأمّة "مرّ السحاب" دون أن يرفّ لهم جفن، ودلائل إخلاصهم لدينهم وأمتهم أبعد من مناط الثريا. وقد أتاح هذا لأعدائنا التمويه علينا دوماً بطريقة متقنة تمكّنهم من انتهاج المناهج المتعددة، مستفيدين في كل حين من تغير المناخ السياسي كاستفادة الحرباء من تنوع الألوان المحيطة بها.(/2)
المقدمة الثالثة: ما دام الحديث عن "السلام" من حيث وجهته الأساسية هي:"ضوابطه الشرعية، وشرائطه المرعيّة"، فإنه يجدر التنبيه إلى أنّ الضابط والشرط من صميم الحد، ولذلك أحياناً ما يُعرب عنه في سياق التعريف فيذكر بالنص، وإلاّ لزم التنبيه عليه في مقدمة البيان عن الشيء المشروط، وذلك لتوقّف وقوع المشروط -كوناً وقَدَراً، أو شرعاً وديناً- على استصحاب الشرط وحصوله، ولذلك من الخطورة بمكان أن نجازف بوضع الشرط، دون أن ينتصب دليل شرعي معتبر على وجوده وقيامه، لما في ذلك من التعسير والإجحاف، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما بال أناس يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فليس له، وإن شرط مائة شرطٍ، شرط الله أحقّ وأوثق) [رواه البخاري ومسلم]، وفي لفظ للبخاري: (ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحقّ، وشرط الله أوثق...).
وفي المقابل أيضاً إذا تقرر شرط بدليل الشرع نصّاً، أو أظهره مؤهل له إلمام بالشريعة، ومن سياق الأدلة -بأي مسلك معتبر من مسالك النظر والاستنباط لدى العلماء- فلا يجوز بعد ذلك إهمال الشرط، أو تجريد المصطلح الشرعي منه، بحيث يحاول بعض الجافين التوصل إلى المشروط خالياً من ضابطه وشرطه لإيقاعه اعتسافاً؛ ذلك أنّ انعدام الشرط الصحيح لازمه عدم وقوع المشروط صحيحاً.
معاهدات السلام في أدلّة الوحي:
قد رأيت توطئة لكلام أهل العلم في تعريف "السلم"، وتأصيلاً لمسائله ولبيان صحة ما توصلوا إليه من الضوابط. أن نصل إلى ذلك المبتغى بسير حميد؛ من خلال النظر في الأدلّة الواردة في الكتاب والسنّة، وإلقاء بعض الضوء عليها، لما يكتنف بعضها من إشكالات تفسيرية، أوردها من أوردها من العلماء، فإذا انجلى لنا الفهم الصحيح في كلّ منها؛ يسر ذلك علينا دراسة الضوابط المستنبطة من أدلّة السلام مع الأعداء.
نصوص القرآن الكريم:
وردت معاهدات السلام في كتاب الله العزيز في مواطن، وذلك عند حديث القرآن عن العلاقات بين المسلمين والكافرين، هذا وإن كنّا في البداية سنتناول هذه الآيات موضعاً موضعاً، إلاّ أن النظرة الأصولية الفقهيّة تحتّم علينا تناولها مع أدلّة السنة النبوية كوحدة موضوعية متكاملة، وهذا مهم لتصوّر الأحكام الشرعية الغائبة التي تَضبط بناءَ هذه العلاقات.
أولاً: آية الأنفال: وهي أصرحها في بيان حكم مشروعيّة "السلام" مع الأعداء، يقول الله تعالى: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكّل على الله إنّه هو السميع العليم).الأنفال/61
من الخطأ الفادح أن نروم إدراك تأويل آية منتزعة من سياقها، أو معزولة عن سائر ما يتعلّق بها لأنّ عواقب هذا المسلك في كثير من الأحيان، وقوع خطأ في الفهم، أو قصور في التأويل، وغالباً ما يؤثر ذلك مآلاً، في تحديد نوع الحكم الشرعي وتقديره. وحين أغفل بعضهم هذه القاعدة المهمّة، في تفسير هذه الآية، ظنّ أنّ السلام والجنوح إليه هي الحالة الطبيعية التي تستقر عليها علاقة المسلمين بغيرهم.
إن آية السلام جاءت في سياق الحديث عن الإعداد للجهاد، والاستعداد بكلّ عتاد ممكن لقتال أهل الشرك والعناد، قال تعالى في الآية التي سبقت آية السلم: (وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة ومن رباط الخيل ترهبون به عدوّ الله وعدوّكم)، وهكذا يُحْدِثُ الإعدادُ بكلّ قوّة، فِعلَه في قلوب الكافرين، إرهاباً يزعزع أفئدتهم، وتخويفاً ورعباً يزلزل الأرض من تحتهم كما قال صلى الله عليه وسلم: (نُصِرْتُ بالرعب مسيرة شهر)، وكما قال حين فرّ اليهود أمامه في خيبر قائلين: "محمد والخميس"، قال: (الله أكبر خربت خيبر، إنّا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين)، فعند ذلك ومع المضي في القتال، والكفِّ من بأس الكافرين. يفتّ صمود المسلمين في عضد الأعداء، فيجنح من يجنح منهم إلى المسالمة والمصالحة والمهادنة، (فاجنح لها)، أي فمل إليها واقبل ذلك منهم.
ذلكم سياق الآية، وأما ما بعدها، فهو التحريض الصريح على ذات النسق الأول في تأكيد أمر الجهاد والقتال، فيقول تعالى: (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين. يا أيها النبي حرّض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين) الآية.(/3)
إذن الآيات موضوعها العام هو الجهاد وقتال المسلمين لكل كفور، سباقاً وسياقاً. وأمَّا المسالمة والموادعة فإنما هي حالة تخص حكم قوم من أهل لكفر، مالوا إلى المصالحة. بل إنّ من السلف كابن عبّاس ومجاهد وزيد بن أسلم وعطاء الخراساني وعكرمة والحسن وقتادة قالوا: إنّ هذه الآية منسوخة بآية السيف في براءة (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر)، ولكن هذا فيه نظر كما قال الطبري رحمه الله: "لا دلالة عليه من كتاب ولا سنّة ولا فطرة عقل، وقد دللنا في غير موضع من كتابنا هذا وغيره على أنّ الناسخ لا يكون إلاّ ما نفى حكم المنسوخ من كلّ وجه، فأمّا ما كان بخلاف ذلك فغير كائن ناسخاً، وقول الله في براءة: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) [سورة التوبة: 5]، غير نافٍ حكمه حكم قوله: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها)، لأنّ قوله: (وإن جنحوا للسلم) إنمّا عُنِيَ به بنو قريظة، وكانوا يهوداً أهل كتاب، وقد أذن الله جلّ ثناؤه للمؤمنين بصلح أهل الكتاب ومتاركتهم الحرب على أخذ الجزية منهم ..
أما قوله: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) [سورة التوبة: 5] فإنما عني به مشركو العرب من عبدة الأوثان،الذين لا يجوز قبول الجزية منهم، فليس في إحدى الآيتين نفي حكم الأخرى، بل كلّ واحدة منهما محكمة فيما أُنزِلت فيه" .
ثانياً: آية سورة القتال "محمد صلى الله عليه وسلم": (فلا تهنوا وتدعوا إلى السَّلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم). قرأ حمزة وشعبة بكسر السين (السِّلم)، وقوله تعالى: (فلا تهنوا)، أي لا تضعفوا وتذلوا، ومنه قوله تعالى: (فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله) ... وقوله تعالى: (وأنتم الأعلون) جملة حاليّة، أي فلا تضعفوا عن قتال الكفار وتدعوا إلى السلم، أي تبدؤوا بطلب السلم أي الصلح والمهادنة وأنتم الأعلون. أي والحال أنّكم أنتم الأعلون أي الأقهرون والأغلبون لأعدائكم، ولأنكم ترجون من الله من النصر والثواب ما لا يرجون.
وهذا التفسير في قوله (وأنتم الأعلون) هو الصواب. وتدلّ عليه آيات من كتاب الله كقوله تعالى بعده (والله معكم)، لأنّ من كان الله معه هو الأعلى وهو الغالب وهو القاهر المنصور الموعود بالثواب. فهو جدير بأن لا يضعف عن مقاومة الكفار ولا يبدأهم بطلب الصلح والمهادنة" .
والسّياق الذي جاءت فيه الآية، هو خطاب المؤمنين، ودعوتهم إلى مواصلة الجهاد بالنفس والمال، دون تراخ أو دعوة إلى مصالحة الكافرين، مهما كانت الظروف، وأنَّ ذلك هو الأولى والأكمل لأهل هذا الدين. ورُوي عن ابن عباس أن هذه الآية ناسخة لآية الأنفال، وقال السُّدي وابن زيد: معنى الآية: إن دعوك إلى الصّلح فأجبهم ولا نسخ فيها. قال ابن العربي: وبهذا يختلف الجواب عنه، وقد قال الله عزّ وجل: }فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم) [سورة محمد: 35] فإذا كان المسلمون على عزّة وقوّة ومنعة جماعة عديدة، وشدّة شديدة فلا صلح كما قال:
فلا صلح حتى تطعن الخيل بالقنا =وتضرب بالبيض الرقاق الجماجم
"فالصحيح أنّ آية القتال هذه لا تعارض بينها وبين آية الأنفال حتى يقال إن إحداهما ناسخة للأخرى، بل هما محكمتان وكل واحدة منهما منزلة على حالٍ غير الحال التي نزلت عليها الأخرى. فالنهي في آية القتال هذه في قوله تعالى: (ولا تهنوا وتدعوا إلى السلم) إنما هو عن الابتداء بطلب السلم. والأمر بالجنوح إلى السلم في آية الأنفال محله فيما إذا ابتدأ الكفار بطلب السلم والجنوح لها، كما هو صريح قوله تعالى: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله) الآية" .
إن خلاصة الجمع بين الآيتين: أن المهادنة وعقد السلام لا يجوز إلاّ عندما يتحقق ما جاء في آيات سورة محمد صلى الله عليه وسلم، حيث قال تعالى: (إنّ الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم، فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم) [سورة محمد: 34، 35]، فقد حدّدت هذه الآية عدم جواز بدء طلب السلم أو المهادنة، إلاّ إذا تحقق ما يريده الله: من أن المسلمين يكونون هم الأعلون، وبالتالي فإنهم لا يطلبون السلام، ولكن يمنحونه لغيرهم إذا طلب العدو، لما فيه من مصلحة الناس، من حيث تمكينهم من سماع كلمة الله حتى تقوم الحجة على الناس، فلا يكون للناس على الله حجّة بعد الرسل؛ ولهذا جاء الإسلام ووضع أحكاماً لأهل الذمّة من أجل أن يتحقق المبدأ الأساسي في الإسلام، الذي أشار إليه قوله تعالى: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي).(/4)
ثالثاً: آيات سورة النساء: (إلاّ الذين يصلون إلى قومٍ بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلّطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً. ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كلّما ردّوا إلى الفتنة أركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطاناً مبيناً) [سورة النساء: 90 - 91].
هاتان الآيتان دليل على إثبات الموادعة بين أهل الحرب وأهل الإسلام إذا كان في الموادعة مصلحة للمسلمين. كما مرَّ في آيتي الأنفال والقتال.
فالآية الأولى قوله تعالى: (إلاّ الذين يصلون إلى قوم .. ) الآية، فهؤلاء قوم استُثنوا من عموم الأمر السابق بالقتال، وهم الذين يجيئون إلى المصافّ، وقد حصرت صدورهم: أي ضاقت، مبغضين أن يقاتلوكم، ولا يهون عليهم أيضاً أن يقاتلوا قومهم معكم بل هم لا لكم ولا عليكم (ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم) أي من رحمته بكم أن كفّهم عنكم (فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم) أي المسالمة (فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً) أي فليس لكم أن تقاتلوهم ما دامت حالهم كذلك، وهؤلاء كالجماعة الذين خرجوا يوم بدر من بني هاشم مع المشركين فحضروا القتال وهم كارهون كالعبّاس ونحوه، ولهذا نهى النبي يومئذٍ عن قتل العبّاس وأمر بأسره.
وأمَّا قوله تعالى: (ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم) الآية، فهذا فريق آخر في الصورة الظاهرة كمن تقدّمهم، ولكن نيّة هؤلاء غير أولئك، فإن هؤلاء قوم منافقون يظهرون للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه الإسلام ليأمنوا بذلك عندهم على دمائهم وأموالهم وذراريهم، ويصانعون الكفار في الباطن فيعبدون معهم ما يعبدون .. وحكى ابن جرير عن مجاهد أنها نزلت في قوم من أهل مكّة كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون رياء، ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان، يبتغون بذلك أن يأمنوا ههنا وههنا، فأمر بقتلهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا، ولهذا قال: (فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم) المهادنة والصلح، (ويكفوا أيديهم) أي عن القتال (فخذوهم) أُسراء، (واقتلوهم حيث ثقفتموهم) أي أين لقيتموهم (وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطاناً مبيناً) أي بيناً واضحاً .
رابعاً: قول الله تعالى: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين .. ).
هذه براءة، أي تبرؤ من الله ورسوله (إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر)، وأحسن الأقوال في مصير هؤلاء المعاهدين بعد نزول آية السيف ما قاله ابن جرير: "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: الأجل الذي جعله الله لأهل العهد الذين ظاهروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقضوا عهدهم قبل انقضاء مدّته، فأمّا الذين لم ينقضوا عهدهم ولم يظاهروا عليه، فإنّ الله جلّ ثناؤه أمر نبيّه صلى الله عليه وسلم بإتمام العهد بينه وبينهم إلى مدّته، بقوله: (إلاّ الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً فأتموا إليهم عهدهم إلى مدّتهم، إنّ الله يحب المتقين).
وذكر البغوي: أنه لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك أرجف المنافقون، وأخذ المشركون ينقضون عهودهم، فأنزل الله الآيات بالنسبة لهؤلاء مع إمهالهم أربعة أشهر، إن كانت مدة عهدهم أقل، أو قصرها على أربعة أشهر إن كانت أكثر.
وحتى تتضح لنا صورة هذا الانتقال التشريعي ننقل ما قاله العلاّمة ابن القيم في بيان علاقة الجهاد مع السلم من كتابه الفذ "زاد المعاد" حيث يقول: "أول ما أوحى إليه ربّه تبارك وتعالى أن يقرأ باسم ربّه الذي خلق، وذلك أوّل نبوته، فأمره أن يقرأ في نفسه، ولم يأمره إذ ذاك بتبليغ، ثم أنزل عليه: (يا أيها المدثر قُم فأنذر) [سورة المدثر: 1، 2]، فنبأه بقوله: (اقرأ)، وأرسله بـ (يا أيها المدثر)، ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين، ثم أنذر قومه، ثم أنذر من حولهم من العرب، ثم أنذر العرب قاطبة، ثم أنذر العالمين، فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته يُنذر بالدعوة بغير قتالٍ ولا جزية، ويُؤمر بالكفّ والصبر والصفح.(/5)
ثم أُذن له في الهجرة، وأذن له في القتال، ثم أمره أن يقاتل مَن قاتله، ويكفّ عمن اعتزله ولم يُقاتله، ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كلّه لله، ثم كان الكفّار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام: أهل صُلح وهُدنة، وأهل حرب، وأهل ذمة، فأُمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم، وأن يوفي لهم به ما استقاموا على العهد، فإن خاف منهم خيانة، نبذ إليهم عهدهم، ولم يقاتلهم حتى يُعلمهم بنقض العهد، وأُمر أن يقاتل من نقض عهده، ولمّا نزلت (سورة براءة) نزلت ببيان هذه الأقسام كلّها، فأمره أن يقاتل عدوه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية أو يدخلوا في الإسلام، وأمره فيها بجهاد الكفّار، والمنافقين والغلطة عليهم، فجاهد الكفار بالسيف والسنان، والمنافقين بالحجة واللسان.
وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفّار، ونبذ عهودهم إليهم، وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام: قسماً أمره بقتالهم، وهم الذين نقضوا عهده، ولم يستقيموا له، فحاربهم وظهر عليهم، وقسماً لهم عهدٌ مؤقّت لم ينقضوه، ولم يظاهروا عليه، فأمره أن يتم إليهم عهدهم إلى مدّتهم، وقسماً لم يكن لهم عهد ولم يحاربوه، أو كان لهم عهد مطلق، فأُمر أن يؤجلهم أربعة أشهر، فإذا انسلخت قاتلهم، وهي الأشهر الأربعة المذكورة في قوله تعالى: (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) [سورة التوبة: 2]، وهي الحُرُم المذكورة في قوله: (فإذا انسلخ الأشهر الحُرُم فاقتلوا المشركين) [سورة التوبة: 5]، فالحُرُم هاهنا، هي أشهر التسيير، أولها يوم الأذان وهو يوم العاشر من ذي الحجة وهو يوم الحجّ الأكبر الذي وقع فيه التأذين بذلك، وآخرها العاشر من ربيع الآخر، وليست هي الأربعة المذكرة في قوله (إنّ عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم) [سورة التوبة: 36]، فإن تلك واحد فرد وثلاثة سرد: رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرّم، ولم يسير المشركين في هذه الأربعة فإن هذا لا يمكن، لأنها غير متوالية، وهو إنما أجّلهم أربعة أشهر، ثم أمره بعد انسلاخها أن يقاتلهم، فقتل الناقض لعهده، وأجّل من لا عهد له، أو له عهد مطلق أربعة أشهر، وأمره أن يتم للموفي بعهده عهده إلى مدّته، فأسلم هؤلاء كلّهم، ولم يُقيموا على كفرهم إلى مدّتهم، وضرب على أهل الذمّة الجزية" .
أخبار "معاهدات السلام" في سيرة النبي عليه الصلاة والسلام:
أولا: صلح الحديبية:
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية في يوم الاثنين مستهل ذي القعدة من السنة السادسة، وقد قصد بخروجه العمرة، وفي ذلك إظهار لحقيقة مشاعر المسلمين نحو البيت العتيق وتعظيمهم له، وإبطال لدعاية قريش المعادية التي تريد إظهارهم وكأنهم لا يعترفون بحرمة الكعبة .. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتوقع أن تصدّه قريش وتقاتله؛ ولذلك أراد أن يخرج بأكبر عدد من المسلمين، وأخذوا معهم سلاحهم لتوقّع الشر من قريش، فكانوا مستعدين للقتال.
فلما اقترب الرسول صلى الله عليه وسلم من الحديبية بركت ناقته، فقالوا: خلأت القصواء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل)، ثم قال: (والذي نفسي بيده، لا يسألوني خطة يعظمون بها حرمات الله إلاّ أعطيتهم إياها) .
وبيّن الرسول صلى الله عليه وسلم لقريش -عن طريق رجال محايدين أحياناً، وبواسطة رجال أرسلهم لهذا الغرض أحياناً أخرى- أنه لا يريد حرب أحد وإنما يريد زيارة البيت الحرام وتعظيمه. وأرسل فيمن أرسل عثمان بن عفان إلى قريش، فأجاره أبان بن سعيد بن العاص، حتى أبلغهم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سمحت له قريش بالطواف فأبى أن يسبق النبي صلى الله عليه وسلم بالطواف، وقد أخرته قريش فحسب المسلمون أنها قتلته، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه للبيعة تحت شجرة سمرة فبايعوه جميعاً سوى الجد بن قيس وكان منافقاً، وكانت البيعة على الموت .. ولكن عثمان رجع إلى المسلمين بعد البيعة مباشرة، ثم أرسلت قريش رسلاً، كان آخرهم سهيل بن عمرو فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد سهل لكم أمركم)، وقال: (لقد أراد القوم الصلح حيث بعثوا هذا الرجل)، وكانت قريش قد ألزمت سهيل بن عمرو ألاّ يكون في صلحه إلاّ أن يرجع المسلمون دون عمرة في ذلك العام. وقد جرت مفاوضة طويلة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وسهيل بن عمرو انتهت إلى عقد صلح الحديبية.(/6)
وقد وقع اختلاف في مقدمة العقد، حيث أراد الرسول صلى الله عليه وسلم إعطاءه صيغة إسلامية فاعترض سهيل بن عمرو، وكان علي بن أبي طالب يكتب العقد فقال النبي صلى الله عليه وسلم (اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم)، فقال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هي ولكن اكتب "باسمك اللهم" كما كنت تكتب، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلاّ "بسم الله الرحمن الرحيم"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اكتب باسمك اللهم)، ثم قال: (هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله)، فقال سهيل: والله لو كنّا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب "محمد بن عبد الله"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب: محمد بن عبد الله)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (على أن تخلّوا بيننا وبين البيت فنطوف به)، فقال سهيل: وإن لا تتحدث العرب أنّا أخذنا ضغطة، أي قهراً، ولكن ذلك من العام المقبل، فكتب.
فقال سهيل: وعلى ألا يأتيك منا رجل -وإن كان على دينك- إلاّ رددته إلينا. قال المسلمون: سبحان الله، كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً؟ فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسفُ في قيوده، وقد خرج من أسفل مكّة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن تردّه إليّ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنّا لم نقض الكتاب بعد). فقال: والله إذاً لا أصالحك على شيء أبداً. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فأجزه لي). فقال: ما أنا بمجيزه لك، قال: (بل فافعل). قال: ما أنا بفاعل. قال مكرز : بل قد أجزناه.
وقد تمّ الاتفاق على الأمور التالية:
"على وضع الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض. وعلى أنّ من أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بغير إذن وليه ردّه عليهم، ومن أتى قريشاً ممن مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم لم يردّه عليه، وأنّ بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عَيْبَة مكفوفة. وأن لا إسلال ولا أغلال وأن من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه.
فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن مع عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وتواثبت بنو بكر فقالوا نحن في عقد قريش وعهدهم.
وأنّك ترجع منّا عامك هذا، فلا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فتدخلها بأصحابك. وأقمت فيهم ثلاثة معك سلاح الراكب لا تدخلها بغير السيوف في القرب".
والواقع أن المسلمين تذمروا من هذه الاتفاقية وضاقوا بها ذرعاً، خاصة بعد أن جرت التعديلات على الصياغة الإسلامية للعقد، فقد اعتذر على بن أبي طالب عن مسح كلمة "رسول" فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب وكتب ما أراد سهيل بن عمرو. وغضب المسلمون لرد المسلمين الفارين من قريش إليها فقالوا: "يا رسول الله أتكتب هذا؟ قال: نعم. إنه من ذهب إليهم فأبعده الله ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجاً ومخرجا" .
وظهر الغضب الشديد على عمر بن الخطاب، وسائر الصحابة الذين كانوا قد خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي الطريق إلى المدينة نزلت سورة الفتح: (إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً) وقد استمرت الهدنة نحو سبعة عشر شهراً أو ثمانية عشر شهراً.
إنّ هذه الغزوة وما تم فيها من صلح بين رسول الله صلى الله عليه وسلم -وبين أعدائه من المشركين- تحتاج إلى وقفة متأنية ودراسة منهجية حتى لا تتخذ مطية -بحسن نية أو بسوء نية- إلى تزيين التخاذل والاستجداء والاستسلام لأعداء الأمة. إن فيها مواقف متعددة في التعامل مع المشركين ودروساً ينبغي فهمها واستيعابها من قبل أفراد الأمة:
لقد توالت الأحداث مؤكدة الحكمة البالغة والنتائج الباهرة لهذا الصلح الذي سماه الله تعالى (فتحاً مبيناً) وذلك فيما يلي:
1-اعترفت قريش بكيانهم لأول مرة فعاملتهم معاملة الند للند بعد أن كانت تصورهم أمام الناس بأبشع الصور مما كان له صداه العميق في داخل مكة وأرجاء الجزيرة العربية.
2-مبادرة خزاعة للتحالف مع المسلمين علناً دون هيبة قريش حيث "كانت خزاعة عين نصح لرسول الله مسلميها ومشركيها لا يخفون عنه شيئاً كان بمكة" .
3-كان السلام المبرم يتيح الفرصة للمسلمين للتفرغ ليهود خيبر، آخر معاقل يهود التي استُغِلَّتْ للتحريض على المسلمين في الخندق وما بعدها.
4-أتاحت الفرصة لهم لنشر الإسلام، يقول الزهري: "فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة، ووضعت الحرب، وأمر الناس بعضهم بعضاً والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل إلا دخل فيه، ولقد دخل في ذينك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك" .
قال ابن هشام: " والدليل على قول الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمائة ثم خرج في عام الفتح بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف" .(/7)
5-بعد أن وصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة جاءه أبو بصير مسلماً وقد فر من قريش، فأرسلت في طلبه رجلين فسلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهما، وفي الطريق تمكن أبو بصير من قتل أحد الرجلين وفر الثاني إلى المدينة وخلفه أبو بصير، فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال :" قد والله أوفى الله ذمتك قد رددتني إليهم ثم نجاني الله منهم" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد" فما سمع ذلك عرف أنه سيرده عليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر..." .
وقد لحق بأبي بصير كل من تخلص من مكة من المستضعفين، وأخذوا ينتقلون إليه فلحق به أبو جندل بن سهيل بين عمرو وغيره، حتى اجتمعت منهم عصابة، وتعرضوا لقوافل قريش التجارية يقتلون حرسها ويأخذون أموالها "فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم، فمن أتاه فهو آمن، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم" وهم بناحية العيص، فقدموا عليه وكانوا قريباً من الستين أو السبعين" .
ثانياً: قصة همّ النبي صلى الله عليه وسلم موادعة غطفان في غزوة الأحزاب:
لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم كثرة الأحزاب، وتجمع المشركين على المدينة، أراد أن يخفف الضغط على المدينة، فيصالح قبيلة غطفان، لتحييدهم وتخذيل الأحزاب، فعرض على عيينة بن حصن الفزاري والحارث ابن عوف المري، رئيس غطفان، الصلح على ثلث ثمار المدينة، وأن ينصرفا بقومهما ويدعا قريشاً وحدها وكانت هذه المقالة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما مراوضة ولم تكن عقداً فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهما قد رضيا استشار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فقالاً: يا رسول الله، هذا أمر تحبه فنصنعه لك؟ أو شيء أمرك الله به فنسمع له ونطيع؟ أو أمر تضعه لنا؟ فقال: "بل أمر أصنعه لكم، فإن العرب قد رمتكم عن قوس واحدة"، فقال له سعد بن معاذ: "يا رسول الله، وإن قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك وعبادة الأوثان، ولا نعبد الله ولا نعرفه، وما طمعوا قط أن ينالوا منا ثمرة إلا شراء أو قرى، فحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا له، وأعزنا بك، نعطيهم أموالنا، والله لا نعطيهم إلا (السيف) حتى يحكم الله بيننا وبينهم. فسُّر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (أنتم وذاك) وقال لعيينة والحارث: (انصرفا، فليس لكما عندي إلا السيف) .
ثالثاً:
قد صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم طوائف وقبائل وبلداناً ومنهم: مخشي بن عمرو الضمري من بني ضمرة بن بكر وكان هذا في غزوة الأبواء. وصالح أيضاً أكيدر بن عبد الملك وهو رجل من كندة بدومة الجندل، وصالح كذلك آهل نجران، وما زالت الخلفاء والصحابة على ذلك السبيل وفق الضوابط التي سنقف عليها إن شاء الله .
المسالمة والمصالحة عند الفقهاء
إن أصل مادة : (السلام) تأتي من الفعل الماضي الثلاثي (سَلَمَ)، والتي من معانيها الاستسلام، والطاعة والخضوع، والصلح وترك الحرب والمنازعة السلم والأمان والذي يعنينا من هذه المعاني المشتركة في لفظ (سلم)، ما جاء على معنى المصالحة والمسالمة والموادعة: أي ظهور بوادر لغياب الحرب أو توقفها - فالجنود لا يزالون في الميدان، والقادة يفاوضون على ترتيبات السلام.
على ضوء العرض المختصر لما سبق من الآيات الأربعة، ومواقف الرسول صلى الله عليه وسلم في المصالحة والمهادنة، فإن الفقهاء اختلفوا في جواز الصلح مع الكفار وهم في ذلك على قولين:
القول الأول: لا يجوز الصلح أبدا؛ وقالوا نَسَخت آية السيف كل معاهدة مع الكفار، وإن ما مضى في آية الأنفال، إنما كانت أحكاماً أولية، وأما الأحكام النهائية فإنها نزلت فيما بعد في سورة براءة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يكف عن كل من اعتزله فلم يقاتله سواء كان قد عاهد، أو لم يتعاهد معه حتى ذلك الحين، وأنه ظل يقبل السلم مع الكفار وأهل الكتاب حتى نزلت أحكام سورة براءة فلم يعد يقبل إلا الإسلام أو الجزية وقال بهذا جماعة من السلف.
غير أن المحققين من المفسرين والفقهاء ردوا القول بنسخ آية السيف في التوبة لآيات المسالمة والمعاهدة.(/8)
القول الثاني: أنّ المسالمة مع الأعداء جائزة, بحجة آية الأنفال {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها}, وما كان في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ومواقف الصلح والمهادنة. وقال بهذا جماهير الفقهاء ومنهم الأئمة الأربعة ولكنهم مع قولهم بجواز (السلام) مع الأعداء, وضعوا ضوابط وقيوداً, لاستيعاب النصوص الأخرى التي ظاهرها حرمة (السلم). كآية القتال {فلا تهنوا وتدعو إلى السلم وأنتم الأعلون}، فقالوا: إنّ الصلح جائز إذا كان المسلمون في ضعف شديد, وحاجة ماسة إلى المصالحة تمكنهم من استعادة قوتهم, أو يمكنهم الصلح من تحييد العدو المهادن الموادع لمدّة ولأخذ أهبتهم لنزال عدو آخر, يرى المسلمون حاجة ماسة للبدء بقتاله وفل شوكته, أو أن تكون هناك مصالح أخرى يحددها الإمام أو الأمة عبر مجالسها الشورية. ومن ثم تواضع أهل العلم على تعريف (السلم) اصطلاحاً فقالوا:
المسالمة: هي أن يعقد المسلمون أو إمامهم لأهل الحرب عقداً على ترك القتال مدة بعوض وبغير عوض وتسمى مهادنة وموادعة ومعاهدة ومصالحة.
أو هي: مصالحة المسلمين للكافرين على تأخير الجهاد إلى أمدٍ معين لضرورة أو مصلحة .
أقوال الفقهاء في حكم السلام الدائم :
إن السلام والمصالحة من حيث التوقيت بزمان قسمان:
الأول: السلام الدائم:
ومعناه أن تضع الحرب أوزارها، ويحل الوئام للأبد، وصورته الجائزة شرعاً: ما وقع في فتح بيت المقدس ودمشق زمن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث يدفع الكفار الجزية، ويخضعون لسلطان الإسلام ولا ينالون من المسلمين نيلاً، ولا يبغونهم غائلة، وهذا جائز بنص القرآن في سورة براءة: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحقّ من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) ، والشرط في ديمومة هذا الصلح بقاؤهم على ما شارطوا عليه، ودفع الجزية والنصح للمسلمين، وعدم القيام بفتنة أحد من المسلمين عن دينه والإفساح لدعوة الإسلام بالذيوع والانتشار.
أما صورة السلام الأبدي المحرم شرعاً: فهو على نوعين:
أ-أن يقاتل المسلمون الكفار، ويطلبونهم في ديارهم، ثم يلتمس الكفار من المسلمين سلاماً دائماً، على أن يبقى الكفار في ديارهم على كفرهم بالله، ويرجع المسلمون إلى أرضهم دون أن يلزم الكفار بالجزية؛ فهذه مصالحة باطلة، وموادعة في الشرع ساقطة، وذلك لأربعة أمور:
1-تعطيل فريضة الجهاد في سبيل الله، وهو ذروة سنام الديانة، الماضية إلى يوم القيامة.
2-تعطيل فريضة الدعوة التي أوجبها الله تعالى على المسلمين.
3-فيه مخالفة صريح ما أمر الله تعالى به من مقاتلة الكافرين حتى يسلموا أو يعطوا الجزية صاغرين.
4-فيه إقرار الكفار على سلطانهم في الأرض، وإنما السلطان كله لله، كما قال سبحانه: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله).
قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله: (إن النبي r قبل نزول براءة وآية الجزية كان الكفار والمشركين وأهل الكتاب تارة يقاتلهم وتارة يعاهدهم فلا يقاتلونهم ولا يسلمون فلما أنزل الله براءة وأمره فيها بنبذ العهد إلى الكفار وأمره أن يقاتل أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون صار حينئذ مأموراً بأن يدعو الناس ألى قتال من لا بد من قتالهم أو إسلامهم وإذا قاتلهم قاتلهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية لم يكن حينئذ أن يعاهدهم بلا جزية كما كان يعاهد الكفار من المشركين وأهل الكتاب كما عاهد أهل الحديبية) .
ب-أن يستولي الكفار على بعض ديار المسلمين، فيقتلون ويسلبون، ويجعلون الدار دار كفر بعد أن كانت دار إسلام، فهذه الصورة أشد حرمة من سابقتها وهي التي انطبقت على النصارى قديماً حين استولوا على فلسطين وبعض بلاد الشام، وحديثاً يتنزل على ما أقدمت عليه عصابات اليهود في عصرنا من الاستيلاء على فلسطين وأجزاء من بلاد الشام وما ينادون به من هجرة كل يهودي محتال من شذاذ الآفاق الذين ضاق العالم بهم، فقذفهم على شواطئ بلاد الشام كما يقذف البحر زبده الذي يذهب جفاء، فهذه الصورة واضحة البطلان، لما ذكر في الصورة الأولى من الأسباب وأيضاً لما في ذلك من الإقرار على ولاية الكفار وهو محرم إجماعا، ولذلك حرم الشرع زواج المسلمة من الكافر، لما للزوج على زوجته من ولاية، وكذلك حرم تملك الكافر للرقيق المسلم، بل نزع من الكافر ولايته تزويج قريبته المسلمة، فكيف يتصور صحة عقد صلح يؤدي إلى دخول المسلمين تحت ولاية الكفار المطلقة.
القسم الثاني: السلام المؤقت: وهو على نوعين:
1-أن تقع معاهدة السلام محدودة بمدة معينة، نحو عشر سنين مثلاً كما كان في صلح الحديبية، وهذا جائز عند جماهير العلماء مع اختلافهم في أقصى مدة يمكن أن تكون عليها المعاهدة، وستأتي المسألة في الضوابط إن شاء الله.(/9)
2-صلح مؤقت مطلق أي لا تحدد له مدة معلومة بل يقال فيه إن شئنا نقضنا هذا الصلح بعد يوم أو بعد عام أو بعد ذلك، أو أن يقال في عقد الصلح متى شاء أي من الفريقين نقض الصلح على أن يعلم الآخر وينبذ إليه ولا يغدر به، وقد سمى بعض الفقهاء هذا النوع: بالصلح المطلق وممن سماه بذلك العلامة ابن القيم رحمه الله، وقد رد على من ظن هذا صلحاً مؤبداً فقال: (وأصحاب هذا القول كأنهم ظنوا أنها إذا كانت -أي الهدنة- مطلقة تكون الأزمة مؤبدة كالذمة فلا تجوز بالاتفاق ) ، وهذا النوع من الصلح لأهل العلم فيه قولان:
- منهم من منعه وهم الجمهور.
- ومنهم من أجازه وهو ما رجحه ابن القيم في أحكام أهل الذمة مع اتفاقهم جميعاً على عدم صحة الصلح الدائم المؤبد وأنه باطل إلا إذا دخل الكفار به في حكم المسلمين وذمتهم، قال ابن القيم: (والقول الثاني وهو الصواب أنه يجوز عقدها مطلقة وإذا كانت لم يمكن أن تكون لازمة التأبيد بل متى شاء نقضها ..فإنه إذا عقد عقداً إلى مدة طويلة فقد تكون مصلحة المسلمين في محاربتهم قبل تلك المدة) .
ضوابط السلام الشرعية:
الضابط الأول:
إذا تعين الجهاد بطل الصلح, كما إذا دخل العدو أرض المسلمين أو كان طالباً لهم. جاء في فتح العلى لمالك(1/289) في الصلح والمعاهدة في المعيار في باب الجهاد ما نصه:"إذا أوقع الخليفة الصلح مع النصارى, والمسلمون لا يرون إلا الجهاد فمهادنته منقوضة وفعله مردود). وحيثما تعين الجهاد في موضع لم يجز فيه الصلح, كما لو كان العدو غالباً على المسلمين, وكل مُتَنَقَّل في تعيين فرض الجهاد مانع من الصلح لاستلزام إبطال فرض العين الذي هو الجهاد المطلوب في الاستنقاذ".
ونقل القاضي ابن رشد الاتفاق على أنّ الجهاد إذا تعين أقوى من الذهاب إلى حَجَّة الفريضة. لأن الجهاد إذا تعين كان على الفور, والحج فيه أنه على التراخي, فالصلح المذكور يجب نقضه لأنه بمقتضى للشرع غير منبرم فحكمه غير لازم عند كل من حقق أصول الشريعة, والصلح المذكور فيه ترك الجهاد المتعين, وترك الجهاد المتعين وكل تمنع غير لازم.
الضابط الثاني:
أن يكون قبول السلم والمهادنة مع الأعداء, مرتبطاً بالتزام الأمة بما جاء في الآية التي سبقت قوله تعالى (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) وهي قوله تعالى (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) والتي بعدها قوله تعالى (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال). إذ يجب على الأمة أن تنطلق في مفاوضات السلام مع أعدائها عند الحاجة أو المصلحة من منطلق القوة لا من منطلق الضعف, وأنّ على الأمة أن توفر هذه القوة بتنمية القدرات العسكرية بشكل دائم ومتواصل حتى في زمن الهدنة والسلام, لأن المقصود أنّ يظل الأعداء ولو كانوا مسالمين في رهبة من قوة المسلمين. إذ المقصود الأول من الأعداد: تحقيق الردع, وإرهاب العدو, بحيث إنّ ذلك يدفعه إلى تقديم أكبر التنازلات في مفاوضات السلام معه.
وهذا الضابط يبدو جلياً ظاهراً في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم, حيث نجد اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم ابتداء يتجه صوب تكوين قاعدة صلبة, وهذا كان طول مكثه في مكة, رغم اضطهاد قريش وملاحقتها لطلائع الدعوة, حينها لم يكن في خلد النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة رضي الله عنهم أن يدخلوا مع المشركين في اتفاق سلام, أو معاهدة اعتراف بكيان, حتى إذا قامت الدولة الفتية في المدينة النبوية, فُرض قتال قريش ومن حالفها من المشركين, فكانت المعارك الدامية بدر, وأحد, وغزوة الأحزاب, وهذه الأخيرة كانت ً إيذاناً بظهور قوة المسلمين حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد رجوع الأحزاب خاسئين :(الآن نغزوهم ولا يغزوننا, نحن نسير إليهم) مما يدل على تغيير الاستراتيجية الإسلامية من مرحلة الدفاع إلى مرحلة الهجوم, فكان أن قرر النبي صلى الله عليه وسلم بعد انهيار قريش وضعفها وهلاك كثير من قادتها بسبب الحرب, الاستبقاء على حياتهم أملاً في إسلامهم, وإفادة الدعوة منهم, فالناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا,
================
التعقيب على ورقة (ضوابط السلام في شريعة الإسلام) الشيخ محمد سيد حاج*
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
ألجُ مباشرة وأطرح سؤلاً عن قضايا السلام المعاصرة مَن الذي له حق التفاوض؟ وحقّ أن يساوم وأن يُعاهد؟ ومَن له الحق على هذه الأرض المباركة والبقعة الطاهرة؟ فإنّ قول السلطان عبد الحميد قد قضى بأنها وقف للمسلمين. فهل الذين يفاوضون حول هذه البقعة المباركة يعبّرون عن الأمة الإسلامية؟ وبالتالي تصبح الإجابة (لا).
وهنا لا يجوز شرعاً لفاقد الأهلية أن يعقد أو أن يصالح أو أن يهادن باسم المسلمين.(/10)
ثانياً: خصوصية الصراع وعدم التعامل بعقيدة الطرف المفاوض يجعل للقضية أهمية فإن الخصوصيات العقدية والزمانية ـ باعتبار أنّ بيت المقدس نهاية مطاف وبؤرة صراع ومكان نزاع عالمي، والقتال لا يتوقف والدليل ما أخرجه الإمام أحمد في المسند وصححه الألباني في صحيح الجامع: (لا تزال عصابة من أمتي على أبواب بيت المقدس وما حولها يقاتلون لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة). فقوله: (حتى تقوم الساعة) دلّ على أنه صراع طويل ممتد.
وليس من الإنصاف أن يُطلب السلام في ظل مقاومة ضارية موجودة. قد يؤدي هذا إلى التقليل من شأنها أو هزيمتها نفسياً. بل الصحيح في ظل هذا مع وجود المقاومة وشرارة حماسة ودفع لا بد من القول واضحاً: إنّ القضية اليوم لا تحتمل سلاماً. ذلك لأن عيسى عليه السلام ـ وهذه من الخصوصيات الزمانية ـ أنّ الشام وبيت المقدس على وجه الخصوص هو تجمّع الطائفة المنصورة كما نطقت بذلك النصوص والآثار؛ فدلّ على أنّ عيسى عليه السلام سينزل في الوجود كتائب ولذا يحتاج إلى تدريب كتائب في معسكرات جديدة. والدليل أنه سينزل وقد اصطفوا للقتال.فدلّ على أنّ القتال في هذه البقعة له خصوصياته العقدية والتاريخية والزمانية والمكانية. فإنه ما تواردت جيوش ولا سُفكت دماء ولا غُزيت مدينة كمثل بيت المقدس على مر العصور والأزمان مع فقرها المادي. إنها تعني دفعاً معنوياً وقيمياً وحضارياً لأصحاب الديانات كلها ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في تفسير سورة الإسراء ـ أوائلها وفواتحها ـ قال:"بدأ بمكة فإنّ الخلق والأمر بدأ بمكة وانتهى إلى بيت المقدس؛ فإنّ الأمر الكوني والديني سوف ينتهي ببيت المقدس, وكما بدأ الخلق بمكة فسوف ينتهي ببيت المقدس. وإنّ الحشر وأرض الحشر في بيت المقدس أو أرض الشام".
بعد هذه المقدمة أقول: ينبغي على كل جيل أن يضطلع بدوره وأن لا ينهزم في الصراع الدائر اليوم. وعلى الناس أن لا يستسلموا في انتظار عيسى في سفيانية مهزومة تقول: لا حل ولا خلاص حتى ينزل عيسى وينطق الحجر. فحتى ينطق الحجر لا بد من امتداد المقاومة على مر الدهور وهذا لا يُعفي الأجيال من المسلمين.
أسأل سؤلاً كبيراًً: ما هي دوافع السلام المعاصرة؟
أولاً: غياب المرجعية الإسلامية للقادة, إنّ الذين يفاوضون علمانيون حتى النخاع واستسلاميون حتى القاع؛ فدلّ على أنهم لا يملكون مرجعية محدّدة في هذه المسألة. والدليل على أنّ الصراع مع اليهود ابتدأ كصراع وجود قالوا (إسرائيل تُلقى في البحر) وتُحوّل إلى صراع حدود (حدود 67 أو 48 أو غيرها) وانتقل إلى صراع برود. والدليل البرود الذي يواجه به المفاوضون اليوم القضية.
السبب الثاني: الهزيمة النفسية باستحالة تحرير الأقصى إلا بسلام والخوف من الترسانة النووية. وفي هذا ضعف لقضية الإيمان. إنّ كثيراً من الناس يظنّ أنّ إسرائيل وأمريكا بقوتها الموجودة اليوم لا تُهزم. وفي هذا ضعف في الإيمان والتوكل. وما أنّ أمريكا سيّدة العالم اليوم فإنّ للكون ربّاً وإنّ للوجود قاهراً وينبغي أن نلحظ أمراً مهماً ـ يا إخوان ـ لما تعنتت قريش وهي تقرأ أخبار الهالكين من الطغاة برّأت نفسها ـ وكذلك كثير من الناس يبرئون اليهود ـ فأقول بقول الله تعالى (أكفاركم خير من أولائكم أو لكم براءة في الزبر. أم يقولون نحن جميع منتصر. سيهزم الجمع ويولون الدبر).
ثم لا بد من ملاحظة في هذه الهزيمة, إنّ السلام الذي تم في الحديبية كان بعده إعداد, وإنّ المستسلمين اليوم لا يُعدّون. فلوا قالوا نسالم ونهادن ويدرّبون الأمة يعدون الجيوش والأسلحة لقلنا: إنهم يهادنون لمصلحة ولكنهم يهادنون هزيمةً ولا يُرتّبون في زمن الهدنة نتيجةً إيجابيةً. وفي هذا دلالة على بطلان الاستدلال بالحديبية.
ما الذي تم بعد الحديبية؟ أتى النبي صلى الله عليه وسلم للعمرة ومعه أقل من ألف أتى بعد عامين بعشرة آلاف؛ فدلّ على أنها كانت تُراعي مصالح الأمة.
فعقْد هدنة أو مصالحة أو معاهدة بدون رؤية مستقبلية ممن يحملون هم القضية هذا يعتبر من العبث.
والدليل على أنها هدنة ليست لليقظة وإنما للنوم السماح لإسرائيل لاختراق المجتمعات قيمياً وثقافياً عبر التطبيع.
السبب الثالث: التفريق بين أمريكا وإسرائيل باعتبار أنّ أطراف القضية ثلاثة: اليهود والعرب وأمريكا راعية للسلام وهذه قسمة ضيزى. أطراف الصراع اليوم طرفان: طرف عربي وطرف إسرائيلي بروتستانتي. ولا طرف ثالث. فالزعم بأنّ أمريكا طرف ثالث زعم باطل. والتفريق بينها وبين إسرائيل لا مكان له. والدليل أنّ إسرائيل تُمنع سفاراتها في الدول وتُفتح سفارات أمريكا, هنري كسنجر الذي رعى السلام الأول في كامب ديفيد, لما دخل البلاد استقبله القادة في مصر بالضم والتقبيل حتى قال آنذاك في مذكراته وكتب هذا إلى الرئيس نيكسون قال: (استقبلوني بالضم والتقبيل حتى شككت في نفسي أني امرأة).(/11)
ولذلك فإنّ أول رئيس لأمريكا توماس ديغرسون 1879م قال: (إني إذا لم أسمح لإقامة وطن لإسرائيل في بيت المقدس أخون ديني) لأنّ المذهب النصراني البروتستانتي في أمريكا هو مذهب (مارتن لوثر) الذي أمر قبل العودة إلى العهد الجديد بالعودة إلى العهد القديم التوراة. فهي قراءة توراتية في الإنجيل. يؤمنون بما يؤمن به اليهود من ملك من نسل داود منتظر وإلى غير هذا.
مكاسب إسرائيل من السلام؟
وكنت أود ـ كما ذكر الدكتور عبد الله الزبير ـ أن تناقش الاتفاقيات اتفاقيةً اتفاقيةً. ولكن يبدو أنّ الزمن لم يسع.
مكاسب إسرائيل من السلام:
[1] الاعتراف: إنّ مجرد المصالحة مع إسرائيل اعتراف وإكساب لها للشرعية؛ لأنّ إسرائيل أحياناً تسعى إلى السلام وفي سعيها ترجو مكاسب.
[2] الاستقرار لمرحلة كبرى (من النيل إلى الفرات).
[3] اختراق المجتمعات وقيم وأخلاق الشعوب.
[4] الانفتاح اقتصادياً والترويج للاستثمارات واستقطاب رؤوس الأموال والانفتاح السياسي.
[5] الاستنزاف لأمريكا وكسب الدعم العسكري والصفقات المرئية والغير المرئية.
فإذا تنازلت إسرائيل حسب رغبة أمريكا فإنّ هذا تنازل مشروط تكسب من ورائه؛ فدلّ على أنّ لإسرائيل خمس مكاسب: اعتراف واستقرار واختراق وانفتاح واستنزاف.
أودّ بعد ذلك أن أُناقش الورقة في بعض النقاط.
قول بعض المفسرين بأنّ آية: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) منسوخة يخالف ما عليه الفقهاء كما ذكر صاحب الورقة. وذكر الحافظ ابن حجر أنّ الصلح مع الأعداء إلى يوم الدين. والدليل حديث البخاري (ستصالحون الروم صلحاً وتغزون أنتم وهم عدواً من ورائكم) أو في رواية الإمام في المسند (من الشمال) وهذا في أعقاب نزول المسيح وفتح القسطنطينية والملحمة الكبرى. فدلّ على أنه ممتد.
هنا مسائل فقهية ينبغي أن تناقش:
طلب الصلح من المسلمين ينبغي أن يُحرَّر: في حالة الطلب عن جهاد الدفع فإنه يمكن في حالة جهاد الطلب أن يطلب المسلمون صلحاً وإن كان الأصل كما ذُكر أن لا يطلب المسلمون الصلح. ولكن في حالات جهاد الدفع فهنا ينبغي أن يكون في الأمر تفصيل.
السلام في حالة جهاد الطلب واسع, وأما في حالة جهاد الدفع فالجهاد متعين والدفع واجب إلا في حالات الضرورة أو المصلحة. ينبغي أن توضح الورقة بصورة أوضح. فمثلاً إذا قال الدكتور عبد الله الزبير: إنه ليس هناك ضرورة, فقد يرى آخر من أهل العلم أنّ هناك ضرورة. فما هو الفيصل؟ وما هو الفارق بين الضرورات والحاجيات مع استصحاب الواقع وتنزيل هذه القضية.
طلب الصلح من الأعداء ذهب إليه السرخسي من الأحناف في المبسوط ونسبه إلى الشيباني وإلى أبي يوسف القول بأنه يجوز الابتداء به، وذلك في حالة الدفع مستدلّين بقصة غطفان وإن كان ابن القيم يرى أنها مراوغة ولم تكن مهادنة بدليل أنّ النبي صلى الله عليه وسلم صرفهم وقال بعد قول السعدين: (لا نطيهم إلا السيف) (اذهبوا فليس لكم عندي إلا السيف) وإن كانت مراوغة فإنّ فيه معنى السلام. وعرض النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرض إلا أمراً مباحاً لا يتعارض مع الشريعة.
الحديبية يستدل بها كثير من الناس على الصلح الموجود اليوم. فالنبي صلى الله عليه وسلم كان مفاوضاً ذكياً وكان يضع نصرة الأمة نصب عينيه. فهل المفاوض اليوم يضع ذلك أمام عينيه الإجابة لا. النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء الحليس بن علقمة استفاد من التناقضات الثقافية والاجتماعية الموجودة في معسكرات الخصوم بعرض الهدْي على الحليف حتى رجع وكاد أن ينقض حلفه مع قريش. هل المفاوضون يجلسون على طاولة المفاوضات بهذه الصورة؟
وينبغي أن يُضاف ضابط هو (أن تكون بنود الاتفاقيات بيّنة واضحة لا لبس فيها ولا غموض) وقد ذكره مجموعة من الفقهاء منهم الحنابلة وهنا لا بد أن نحكم على الاتفاقيات السرية بالبطلان.
فالآن الاتفاقيات بعضها سري وبعضها علني فلا بد أن تكون العبارات في المعاهدات بيّنة.
ذكر الدكتور عبد الله الزبير الأمان الذي يُعطَى بصورة السلام لأقليات موجودة في المجتمعات المسلمة. وهذا محدد كما ذكره الشيخ صدّيق حسن خان في الروضة الندية أنه يجوز لأفراد المسلمين أن يعطوا الأمان لأفراد. ولا يجوز أن يُعطى هذا للكيانات وللتجمعات قال (هذا للإمام علي سبيل الاجتهاد وتحري المصلحة. ولو جُعل للآحاد لصار ذريعةً لإبطال شعيرة الجهاد). وهذه نقطة مهمة.
وأكتفي بما قيل, واسأل الله تعالى أن يبارك في الجميع
وصلى اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
============
التعقيب على ورقة (ضوابط السلام في شريعة الإسلام) د. عبد الرحيم أبو الغيث*
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا وحبيبنا وقائدنا وقدوتنا محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
وبعد, فأيها الجمع الكريم!
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(/12)
ونحن بين يدي هذه القضية، نسأل الله أن يجزي أخانا الأستاذ محمد عبد الكريم خيراً حينما تناول هذا الموضوع بالكتابة على قلة الذين تناولوه, كقضية قائمة بذاتها.
وهؤلاء الذين حالوا تغيير الواقع الذي يعيشه المسلمون إلى شيء آخر تعطيلاً لطريق الجهاد. والجهاد فريضة ماضية إلى يوم القيامة، والتي ما أصاب المسلمين الذلّ والهوان إلا بعدما تركوها وراء ظهورهم.
إنّ هذا الواقع الذي تناوله الأخ الأستاذ في مقدماته جعلنا نطرح سؤلاً مُلِحّاً: هل أمة الإسلام في الرقعة العربية تعيش مرحلة الهوان التي وصفها الرسول صلى الله عليه وسلم حينما قال: (كيف بكم إذا تجمعت عليكم الأمم كما تجتمع الأكلة على قصعتها؟ قالوا: أمن قلة نحن يا رسول الله؟ قال: لا بل أنتم يومئذ كثير، ولكن غثاء كغثاء السيل ينزع الله المهابة من قلوب أعدائكم ويقذف في قلوبكم الوهن. قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت). إنّ ما أحاط بالحكومات العربية هو هذا الهوان الذي ليس بعده هوان. وإننا لنخشى أن ينتقل هذا الهوان إلى شعوبنا. وتلك هي الطامة الكبرى.
لقد أحسن الأستاذ وهو يكشف حال الذين يدّعون أنّ حالة السلم مقدمة على حالة الجهاد في سبيل الله، ولكن هذا إن تم خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر فتلك هي المصيبة الكبرى...هؤلاء المنهزمون أمام طغيان الغرب وسيادة الغرب ...هؤلاء الذين يشعرون بثقل ضغط الواقع عليهم. تلك مصيبة كبرى.
لقد تناولت الورقة النصوص القرآنية فذكرت آية الأنفال وأنها يجب أن تُفهم في السياق الذي وردت فيه, وآية سورة محمد وآيات سورة النساء وبراءة.
وهناك خلاف بين العلماء يكاد ينحصر في أمرين: في الأنفال وبراءة منهم من قال بإعمالها, ومنهم من قال بالنسخ:
ابن كثير: يقول: لا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص. حكى الشوكاني النسخ تارة, وحكى عدم النسخ أيضاً وقبول السلم, وترك الأمر معلقاً. أما القرطبي فبعد أن حكى النسخ ومال إلى عدم النسخ, عزّزه بما وقع لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما ابن العربي ـ كما ذكر الأستاذ ـ فقد ميّز بين حالتين, حالة قوة المسلمين ومنعتهم فلا يقبلون الهدنة, أو في حالة الضعف فإنهم يقبلونها. والإمام القشيري أجاز الهدنة مع العدو, ولكن قيدها بالمدى الزمني.
هذا ما ذهب إليه المفسرون من الأقدمين. وأحب أن أذكر ما تناوله المعاصرون واكتفي بصاحب الظلال الذي جعل لكل آية صفة معينة, فوصف آية الأنفال بأنها (آية مرحلية) ووصف آية براءة بأنها (أحكام نهائية), وشدّد النكير على هؤلاء الذين يصفون هذا الدين بأنه دين مسالمة وموادعة وأنه يدافع عن نفسه وأنّ الحرب الإسلامية هي حرب دفاعية, شدّد النكير على هؤلاء وأنهم يحاولون أن يضعوا الآيات في غير موضعها.
ولكننا نقول بعد أن استعرضنا كل ذلك من أقوال المفسرين: ما هي معالجة أهل العلم لهذا الواقع؟ شعب مسلم أعزل قد خُذِل من إخوة العقيدة فضلاً عن غيرهم أمام دولة تملك كل آلات الدمار من التقتيل والتخريب ومن خلفها أكبر دولة تُعادي الإسلام والمسلمين؟
هذا الشعب هل يطلب هدنة؟ وبأي الشروط؟ أم بدون شروط؟
لا بد من معالجة هذه القضية ولم أجد رأياً للورقة في هذا الأمر.
الأمر الثاني: صلح الحديبية وما تفضل به الأستاذ وبيّنه, وكذلك موادعة الرسول صلى الله عليه وسلم أو محاولة تحييد فزارة وغطفان والاجتماع بقياداتهم, وما قاله السعدان رضي الله عنهما والرأي الذي كان قوياً وأخذ بالعزيمة.
هذا الصلح وما تم فيه ذكرت الورقة أن ذلك لا ينبغي أن تكون مرجعية بحسن نيّة أو بسوئها لتزيين التخاذل والاستسلام ونحن نقف مع الأستاذ في هذه النتيجة.
ولقد تناولت الورقة الرأي الفقهي في قضية السلام واستعرضت قولين. أحدهما: القول الذي منع جواز الصلح مع أي معاهدة مع الكفار واعتبر أنّ آية براءة حاسمة في هذا المجال.
الثاني: جواز مسالمة الأعداء استناداً إلى آية الأنفال واستئناساً بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة من بعده أحياناً.
هذه الضوابط التي تفضل بها الأستاذ إن حاولنا إعمالها على كليتها خاصة الضابط الرابع والخامس, يجعل إبرام أي سلام أو هدنة مع اليهود أمراً لا سبيل إليه. وهذا الذي انتهت إليه الورقة فقد رفضت كل المعاهدات السابقة واللاحقة, حتى ما ظهر أخيراً في القمة العربية وما قالته الشعوب، والمطالبة التي عمت الشعوب التي أصبحت تغلي كالمِرجل في كثير من بلاد الإسلام تطالب بنقض الوثيقة أو المعاهدة التي قدّمت أو في سبيلها إلى أن تقدّم إلى مجلس الأمن.(/13)
أقول: هذا الواقع لا بد له من معالجة إسلامية, لا بد من محاولة معاهدة مع هؤلاء اليهود وهم مَن نعلم, لا يعتبرون العهد ولا يَفُون بشروط تاريخهم معلوم ينقضون العهود فهل لا بد من عهد حتى يستردّ أهل فلسطين عافيتهم؟ واستعدادهم لجولات قادمات آتيات لا ريب في ذلك, وحتى يقيض الله لأمة الإسلام قائداً في قامة صلاح الدين ليحسم بذلك بعون الله دولة صهيون.
ولكن كلكم يعلم موقفاً على وجه الخصوص من 1948م حينما انطلق من بلادنا هذه. وهنا أسال الله تعالى أن يصب شآبيب الرحمة على المجاهد نور السادات الذي قاد فيالق المجاهدين من السودان، وشوقي الأسد الذي ذهب وقاتل هناك في فلسطين جهاداً في سبيل الله سبحانه وتعالى ويومها كان الاستعمار جاثماً في هذه البلاد ولكن عزيمة أهل السودان حينئذ دفعت بهم إلى أن يؤدوا فريضة الجهاد وإلى أن يتجاوزوا كل هذه الخطوط ليناصروا إخوانهم هناك في فلسطين.
ولنعلم جميعاً أنّ اليهود يقاتلون بعقيدة... يقاتلون بالتوراة.
ولكن جنودنا ـ في الدول العربية ـ كانوا يقاتلون بأغاني أم كلثوم بكل أسف.
ما كان جنودنا يقاتلون بعقيدة. والعقيدة لا تقابلها إلا عقيدة؛ لذا كنا نخسر كل الحروب لأننا لم نتجه غليها بقوة الإيمان.
إن واقع المسلمين اليوم يحتاج إلى ثورات يقودها العلماء العاملون الصادقون الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم, العلم الإسلامي اليوم في حاجة ماسة إلى أمثال ابن باديس والعز بن عبد السلام، نحن في حاجة إلى هذه القمم الشامخة التي تربي الشباب المسلم تربية جهادية قبل أن ينفذ المخطط الأمريكي، والذي بدأ تطبيقه في كثير من الدول والذي استهدف مقررات التربية الإسلامية باعتبار أنّ المنهج هو الذي يفرّخ (الإرهاب)، ومع الأسف فإنّ بعض الدول التي تخاف على عروشها وأنظمتها استجابت لذلك، وهذا مكمن الخطورة. أن استمر الأمر كذلك فسيأتي يوماً نُغلَب في عُقر دارنا على ديننا وعلى عقيدتنا وعلى عبادتنا.
لا أملك إلا أن أشكر الأستاذ على هذا الجهد الطيب الذي بذله وعلى العرض الشيّق الذي تفضل به.
ونحن نسأل الله أن يبارك لنا في علمائنا الشباب الذي نأمل ـ بعون الله تعالى ـ فيهم خيراً؛ لتصديهم للباطل ومقارعتهم له. ونحن في حاجة أن تقف الأمة كلها في موقف واحد وفي قبلة واحدة, وأن نقدم على الأفعال فقد كثرت الأقوال.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
=================
التعقيب على ورقة (ضوابط السلام في شريعة الإسلام) د. عبد الله الزبير عبد الرحمن*
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأصلي وأسلم على حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم وعلى آله الطاهرين وأصحابه الخيّرين الذين شادوا الدين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد, فجزى الله خيراً أخانا الشيخ الأستاذ محمد عبد الكريم على هذه الورقة النافعة الرائعة التي تناولت هذه القضية في هذا الزمان الذي كادت فيه الحقائق كلها أن تنقلب, حيث صار السلام استسلاماً، وصار الحق باطلاً، وصار المسلم المؤمن حيران لا يعرف أين يكون وكيف يكون. وصار قادة العرب والمسلمين الذين كان الأوجب في حقهم أن يقودوا شعوبهم إلي خير الأمة والملة . ولكنهم نكصوا ونكثوا عهودهم وتخلّوا عن مقاصد الإمامة سعياً لتخليد كراسيهم، ولكن العروش لا تبقى والكراسي لا تصمد وإنما الذي يبقى هو الحق ونصرة الحق.
والسلام ـ إخواني ـ بهذه اللفظة الخاصة صار الآن مصطلحاً حديثاً، وهذا المصطلح يطلق علي أمرين: الأول ما يعرف بالسلام الداخلي أو المحلي، وهو يقابل (الأمان) في الاصطلاح الشرعي لدى الفقهاء، ويراد به تأمين الأفراد والطوائف من غير المسلمين داخل الدولة الإسلامية. وهذا النوع من السلام والأمان مكفول لعامة المسلمين وأئمتهم. والأصل فيه حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم عليه وسلم: (ذمة المسلمين واحدة ـ أي أمانهم كما شرح ابن حجر ـ يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)، وحديث: (المسلمون تتكافأ دمائهم وهم يدٌ على من سواهم ويسعى بذمتهم أدناهم)، أي بأمانهم. وقول الله تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه).
فالأفراد في السلام المحلي والأمان يجوز لهم إعطاؤه للأفراد غير المسلمين كما يجوز ذلك للدولة وللحكومة, ولإمام المسلمين وحاكمهم, ووقد عاهد الرسول صلى الله عليه وسلم وأعطى الأمان ليهود المدينة وأمّنعهم على دينهم وملتهم وأشخاصهم.
الأمر الثاني الذي يطلق عليه لفظ السلام في المصطلح الحديث: السلام الدولي, وهو الذي يكون بين الدول وبين الأمم, وهذا أشبه ما يكون في المصطلح الشرعي لدى الفقهاء بالموادعة, وقد عرفها الكاساني بقوله: "هي المعاهدة والصلح على ترك القتال"، وعبر عنها أيضاً بالمسالمة, وبالمصالحة, وبالمعاهدة وهو موضوعنا الأخص في هذه الورقة.(/14)
هذا السلام له حالات بالنسبة للمسلمين وبالنسبة للدولة الإسلامية:
الحالة الأولي: أن يطلبه العدو ويسعى إلينا به, أي يبادر هو لطلب السلام, وفي هذه الحال يقبل إذا قدرت فيه مصلحة الأمة والملة, ولو كانت المصلحة حاجية أو تحسينية, ولا يُشترط أن تكون المصلحة ضرورية. ولا يقبل هذا السلام وهذا العرض وهذه المبادرة إذا كان فيه ضرر على المسلمين بأي حال من الأحوال. يقول النووي رحمه الله تعالى في (المجموع) في الكلام على الهدنة: "أن تعقد لمصلحة وحاجة إليها، بأن يكون في المسلمين ضعف لقلة عدد الرجال، أو رجاء إسلامهم لمخالطتهم المسلمين، أو في قبولهم الجزية، أو أن يعينوه على قتال غيرهم, أما إذا كان فيها ضرر على المسلمين فلا يخفى أنهم لا يجابون".
وقول القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: (إلا الذين يصلون إلا قوم بينكم وبينهم ميثاق)، قال: "في هذه الآية دليل على إثبات الموادعة بين أهل الحرب وأهل الإسلام إذا كان في الموادعة مصلحة للمسلمين", وكذلك أكد هذا المعنى الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري.
والأصل في قبول الإسلام المعروض من الأعداء ـ وليس المبادرة من المسلمين ـ لمصلحة الأمة والملة قوله تعالى: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله) أي إن جنحوا هم للسلم فاجنح أنت لها, وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية :(والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها).
أما الحالة الثانية: أن يبادر المسلمون إلى الأعداء يطلبون المسالمة والموادعة فهذا الأصل فيه المنع والحظر. لماذا؟ لأن الشارع إنما أجاز عقد المصالحة والمسالمة إذا طلبها الأعداء وجنحوا لها لصريح قوله تعالى: ( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) والمفهوم من الآية: فإن لم يجنحوا لها فلا تجنح. وكذلك النص الصريح الواضح قوله تعالى :(فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم) والمؤكدات في هذا الآية كثيرة تؤكد أنّ الأصل في المبادرة بالسلام إلى الأعداء هو الحظر والمنع.
فمن المؤكدات النهي الصريح (فلا تهنوا) والنهي دليل التحريم والمنع وكذلك الإشارة إلى أنّ المبادرة إلى السلم مع العدو هوان وذلة (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم) فإذا دعيتم إلى السلم هنتم وذللتم, وكذلك تعليل المنع والحظر بثلاث علل كلها تؤكد المراد:
العلة الأولى: قوله تعالى (وأنتم الأعلون) والمؤمنون أعلى من الكفار على الدوام، ومن ظنّ غير ذلك فظنه خائب, قال تعالى: (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين)، وقال تعالى في صفة المؤمنين الذين أحبهم: (أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين), وفي الحديث المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ـ ذكره النووي وغيره، وقيل بل هو موقوف على ابن عباس وغيره من الصحابة ـ: (الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه), وعلوُّ المؤمن صفة دائمة, وليست عارضة, لأنّ الله تعالى وصف المؤمنين فقال: (وأنتم الأعلون), فالوصف هنا بالأسمية, ولو كان حالة عارضة لوصفهم بالفعل, والفعل قد يكون مرة أما الوصف بالأسمية أو بالاسم فيجعل الأمر دائماً لا عارضاً.
أما العلة الثانية من المؤكدات لأن الأصل في المبادرة إلى الإسلام المنع والحظر ففي قوله تعالى: (والله معكم) ولا شك أنّ من كان الله معه لا يجوز أن يهون، والله مع المؤمنين, والله تعالى يقول: (الله ولي الذين آمنوا), وهو القائل: (والله ولي المؤمنين)، وهو القائل: (ذلك بأنّ الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم).
والعلة الثانية: (ولن يتركم أعمالكم), ويتركم من الوتر أي النقص, أي لا ينقصكم أعمالكم, والعمل هنا الجهاد, فالله تعالى إن نصر المؤمنين فلا غالب لهم، فكيف يبادرون بطلب السلام من الأعداء؟ ولهذا لا يجوز المبادرة بالسلام إلى العدو إلا في حال الضرورة, أما حالات الحاجة أو حالات المصلحة التحسينية فلا يجوز المبادرة بالسلام إلى عدوٍّ لنا. والضرورات تبيح المحظورات, وبذلك جعلوا شرط المسالمة: الضرورة, ونص على ذلك ملك العلماء الكاساني رحمه الله بقوله :"وشرطها الضرورة"، وبهذا وتأييداً للضابط الرابع والخامس الذين ذكرهما الشيخ محمد عبد الكريم بقوله أنه: لا ضرورة اليوم للمبادرة بطلب السلام مع اليهود, وأنه لا يجوز ذلك بحال. ووجه ذلك أمور.
أولاً: أنه لا قدرة اليوم لذلك, وحد الضرورة: ضعف المسلمين ضعفاً يُصْطلمون معه, ولا يقدرون على قتال عدوهم, وهذا لم يكن بعد ولن يكون إن شاء الله.(/15)
ثانيا: أنّ الحصار المضروب على عرفات وعلى الإخوة من فلسطين لا يجعل الحال حال ضرورة. وهذا لا يجوَّز بحال التنازل عن شبر من أراضي المسلمين ولا الخضوع لشروط الكفار المُذِلّة، ولا المبادرة بالسلام إلى العدوّ المقاتل. ولو أراد أحد أن يستدلّ بأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم همّ في غزوة الخندق بمصالحة غطفان على ثلثي ثمار المدينة, فإنما كان قد همّ ولكنه شاور السّعديْن فقالا له: يا رسول الله إن كان الله أمرك بهذا؛ فسمعاً وطاعة، وإن كان شيء تصنعه لنا؛ فلا حاجة لنا فيه، والله لا نُعطيهم إلا السيف. فعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنّ المسلمين على استعداد لمواجهة الأعداء فنقول: هل شاور الحكام اليوم الذين يبادرون إلى السلام ويتنازلون عن أراضي المسلمين هل شاوروا شعوبهم؟ هل سألوهم: أنتم على استعداد لملاقاة اليهود ومقاتلتهم؟ الشعوب كلَّ يومٍ تنادي، وفي كل يوم يخرجون وينادون أن يُفسح لهم المجال لمقاتلة اليهود، وهذا يعني أنّ كل عهد يعقده الحكام مع أعدائنا اليهود فهو عهد منقوض. بل كيف نسالم من يقاتلنا؟ والله أمرنا ألا نسالمهم بل أمرنا أن نقاتلهم فقال جل وعلا: (فقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلوكم) هم يقاتلوننا ونحن نسعى إليهم! ونستسلم لهم!
ومع كل ذلك ـ كما أكدت الورقة ـ فإن السلام مع اليهود جهل وهوى مهما طال الزمان ومهما انتظرنا ومهما توقعنا تغيّر اليهود السلام معهم, فالسلام مع اليهود كالحرث في الماء وكالزرع في الهواء عُجنوا بالغدر, وعلى قِدر الغدر طُبخوا، فالغدر طبعهم، والخيانة سجيتهم، وشهادة القرآن عليهم: (كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم)، منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يوم الناس هذا. فكيف يُسالَم هؤلاء؟ وكيف يُعاهَد هؤلاء؟ وكيف يُطمئَنُّ إلى هؤلاء؟
ولهذا فإنّ إصرار حكام العرب المسلمين على السعي إلى اليهود بمبادرات السلام وتضمينها التنازل عن أراضي المسلمين مُفْقِدهم شرعية الإمامة، فهم شرعاً ليسوا حكامنا، لأنها مبادرات تنقض عُرى الدين والإمامة خلافةٌ للنبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا به.
وفي الختام ندع توصيةً لدى المنتدى بتحريم كل عقد للسلام مع اليهود. كما نُوصي بتأكيد أنّ القضية الفلسطينية ـ قضية الأمة المحورية ـ قضية إسلامية فحينئذٍ نطالب حكامنا عن الارتفاع عن سنام الكراسي والعروش والعمل لمطالب الكروش, إلى الارتفاع إلى ذروة سنام الإسلام الجهاد. وبالجهاد إن شاء الله نحرر القدس وفلسطين.
وفي الختام أكرر شكري للأخ الأستاذ محمد عبد الكريم لهذه الورقة الناجحة الرائعة.
ونسأل الله تعالى أن يتقبل منا صالح أعمالنا, وأن يجعل عملنا خالصاً. وصلى اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليماً.
=================(/16)
ضوابط العمل في المهجر
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/فقه الأقليات
التاريخ ... 5/2/1424هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ما الضوابط الشرعية للعمل في المهجر؟ أي إذا أنا هاجرت إلى بلاد الغرب، فهل يحل لي هناك (على سبيل المثال) العمل في البنوك الربوية، بناءً على أن هذه الأماكن مملوكة لغير المسلمين؟ وماذا عن العمل في المطاعم أو السوبر ماركت والتي يتم فيها على الأغلب بيع لحوم الخنزير والخمور والعياذ بالله؟
أرجو من فضيلتكم إفادتي بالتفصيل مع الدليل،حيث إني وجدت العديد من الفتاوى غير المكتملة (من حيث الدليل أو طريقة العرض) أو غير الواضحة التي تبيح وتحرم ما ذكرت، هداني الله وإياكم إلى خير ما يحب ويرضى.
الجواب
إذا تعاقد المسلم مع الكافر، على أن يعمل المسلم للكافر أعمالاً مباحة كالخياطة والحدادة، والحراثة، والصيانة، ونحو ذلك، فهو جائز بإجماع المسلمين، فقد روى الإمام أحمد (687) في مسنده "أن علياً بن أبي طالب – رضي الله عنه- أجر نفسه من يهودي يسقي له كل دلو بتمرة"، أما إذا أجر المسلم نفسه لكافر يقوم بخدمته خدمة فيها مهانة كأن يكون له كناساً، أو زبالاً، ونحوه فلا يجوز، قاله مالك وأحمد، وعند الحنفية والقول الجديد للشافعي ورواية لأحمد يجوز ذلك، ما دام المسلم تدعوه الحاجة المادية لذلك وفقاً للقاعدة الشرعية: (تنزل الحاجة منزلة الضرورة عند الاقتضاء)، ولا يوجد فرق له اعتبار بين جواز تأجير المسلم نفسه للكافر يعمل له عملاً ما، وبين حرمة أن يعمل خادماً عنده إذ الخدمة نوع من العمل، ولولا الحاجة التي هي بمنزلة الضرورة ما رضي مسلم أن يعمل تحت إمرة كافر، ولا يجوز للمسلم إن أجر نفسه للغير أن يباشر الحرام القطعي بنفسه؛ كأن يقدم الخمر، أو لحم الخنزير للزبائن، أو يتولى البيع والشراء، أو التصنيع، أو التعليب لها؛ للحرمة القطعية لهذا في القرآن والسنة، مما لا يكاد يجهله مسلم، أما إذا تولى في المطعم أو المحل التجاري أعمالاً أخرى مباحة كالمشروبات، واللحم الحلال، فهذا جائز ولو كان المحل التجاري والمطعم يقدم لزبائنه الحلال والحرام، هذا كله من حيث الحل والحرمة والإثم وعدمه في الشرع ، أما فعل الأفضل والأحوط فهو الابتعاد عن مواطن الشبهات والريب كما في حديث النعمان بن بشير –رضي الله عنهما- " الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه" البخاري (52)، ومسلم
(1599)، والله أعلم، - وصلى الله على نبينا محمد-.(/1)
ضوابط الفتيا في النوازل المعاصرة
الكاتب: الشيخ د. مسفر بن علي القحطاني
إن للنظر والاجتهاد في أحكام النوازل المقام الأسمى في الإسلام لما له من موصول الوشائج بأصوله وفروعه الحظ الأوفى والقدح المعلى ،وهو الميدان الفسيح الذي يستوعب ما جدّ من شؤون الحياة والأحياء ، وتعرف من خلاله أحكام الشرع في الوقائع والمستجدات الدينية والدنيوية
ولا يخفى على أهل العلم والإصلاح ما وقع خلال الأسابيع الماضية من عدوان غاشم على العراق استهدف أرضه ومقدراته وانتهك حقوق شعبه وحرماته ، فكانت نازلة عظيمة أصيبت بها الأمة العربية و الإسلامية في فؤادها وتأثر لها العالم أجمع ، ولعلها بداية السيل الغربي العرم على بلادنا ومقدساتنا وثقافاتنا الإسلامية.
عندها علت صيحات الغيورين محذّرةً من هذه الفتنة ومرشدةً للمخرج الشرعي منها ، فخرج على إثرها عدد من الفتاوى الشرعية للجان وهيئات علمية وكذا لأفراد من أهل العلم ؛ بيّنت أحكام بعض النوازل التي وقعت في الحرب ؛ كحكم جهاد الغزاة من الأمريكان والبريطانيين ، والتعاون مع البعثيين في ذلك ، وحكم مناصرتهم ومظاهرتهم على المسلمين في هذه الأزمة ، وهل يجوز لجيوش المسلمين المشاركة في هذه الحرب بتقديم العون والدعم مهما كان لأولئك المعتدين إلى غيرها من المسائل الواقعة والمتوقعة الحدوث خلال الأيام القادمة .
وقد أدى خروج بعض هذه الفتاوى في الساحة الإسلامية إلى شيءٍ من التباين والاختلاف في أحكامها ، والتنافر والتباعد بين أعلامها ، إضافة للحيرة والاضطراب التي اعترت كثير من المسلمين من جراء هذا الاختلاف ، في حين أننا في أمس الحاجة في هذه الأزمات للتقارب والائتلاف و التعاون وجمع الكلمة على الحق . ومن أجل هذا المقصد العظيم أحببت أن أشارك إخواني الباحثين وطلبة العلم الناصحين بتوضيح أهم ضوابط النظر والاجتهاد في مثل هذه النوازل ، وذكر الملامح الهامة لاجتهادٍ أمثل يستند على نصوص الشرع ويتوافق مع مقاصده الكلية وقواعده العامة.
ومن أجل ذلك قسمت هذا البحث إلى ثلاثة مطالب :
المطلب الأول :مناهج الفتيا في النوازل المعاصرة .
المطلب الثاني:الضوابط التي ينبغي أن يراعيها المجتهد قبل الحكم في النازلة .
المطلب الثالث:الضوابط التي ينبغي أن يراعيها المجتهد أثناء بحث النازلة .
هذا والله أسأل أن يجد القارئ في هذا التأصيل لفقه النوازل ما ينتفع به طلبة العلم والباحثين ويرأب الصدع الذي حدث بين بعضهم من جرّاء أحداث الأزمة الراهنة ، ولا أزعم أخواني القراء الإحاطة والإستقصاء وإنما هي محاولة متواضعة أفتح فيها المجال لأهل العلم والفضل لإشباع هذا الجانب المهم من التأصيل ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ، كما أود التنبيه أني قد استعنت في بحثي هذا بدراستي الموسعة حول هذا الموضوع في رسالتي للدكتوراه والتي كانت بعنوان :(منهج استنباط الأحكام الفقهية للنوازل المعاصرة ، دراسة تأصيلية تطبيقية) والتي سوف تنزل المكتبات قريباً إن شاء الله.
المطلب الأول :مناهج الفتيا في النوازل المعاصرة
برزت في العصر الحاضر مناهج في النظر فيما استجد حدوثه من نوازل وواقعات وبرز لكل منهج منها علماء ومفتون وجهات تبني اجتهادها في النوازل من خلال رؤية هذه المناهج وطرقها في النظر .
وهذه المناهج المعاصرة في الفتيا والاجتهاد ليست وليدة هذا العصر بل هي امتداد لوجهات نظر قديمة واجتهادات علماء وأئمة سلكوا هذه المناهج وأسسوا طرقها .
فلن يكون مقصود بحثنا تأريخ هذه المناهج ورموزها إلا بقدر ما يوضح مناهج الفتوى والنظر في عصرنا الحاضر إذ هي الوعاء لكل ما يجدَ وينزل بالناس من أحكام وواقعات معاصرة .
ويمكن إجمال أبرز هذه المناهج المعاصرة في النظر في أحكام النوازل إلى ثلاثة مناهج، هي كالتالي: -
أولاً : منهج التضييق والتشديد .
من المقرر شرعاً أن هذا الدين بُني على اليسر ورفع الحرج وأدلة ذلك غير منحصرة ، فاستقراء أدلة الشريعة قاضٍ بأن الله عز وجل جعل هذا الدين رحمة للناس ، ويسراً، والرسول صلى الله عليه وسلم أصل بعثته الرأفة والرحمة بالناس ورفع الآصار والأغلال التي كانت واقعة على من قبلنا من الأمم ، يقول الله تعالى :[لَقَدْ جَاءكمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ](1).
ويقول عز وجل : [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ] (2)
، ويقول عليه الصلاة والسلام : (( إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً ولكن بعثني معلماً ميسراً ))(3)
ومن أبرز أوصافه عليه الصلاة والسلام ما قاله ربه عز وجل : [وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ](4).(/1)
ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يترك بعض الأفعال والأوامر ، خشيه أن يشق على أمته كما قال عليه الصلاة والسلام:( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك ))(5)
ونظائره من السنة كثير ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يأمر أصحابه بالتيسير أيضاً على الناس وعدم حملهم على الشدة والضيق ، فقد قال لمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنهما ـ لما بعثهما إلى اليمن : (( يسِّرا ولا تعسِّرا وبشِّرا ولا تنفِّرا ))(6).
إن منهج التضييق و التشدد من الغلو المذموم انتهاجه في أمر الناس سواءً كان إفتاءً أو تعليماً أو تربية أو غير ذلك ، وقد يهون الأمر إذا كان في خاصة نفسه دون إلزام الناس به ، ولكن الأمر يختلف عندما يُتجاوز ذلك إلى الأمر به ، والإلزام به،ويمكن إبراز بعض ملامح هذا المنهج في أمر الإفتاء بما يلي :-
أ-التعصب للمذهب أو للآراء أو لأفراد العلماء :
تقوم حقيقة التعصب على اعتقاد المتعصب أنه قبض على الحق النهائي – في الأمور الاجتهادية – الذي لا جدال ولا مراء فيه ،فيؤدي إلى انغلاقٍ في النظر وحسن ظنٍ بالنفس وتشنيع على المخالف والمنافس ، مما يولد منهجاً متشدداً يتَّبعه الفقيه أو المفتي بإلزام الناس بمذهبه في النظر وحرمة غيره من الآراء و المذاهب؛ مما يوقعه وإياهم في الضيق والعنت بالانغلاق على هذا القول أو ذاك المذهب دون غيره من الآراء و المذاهب الراجحة .
يقول الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ : (( من أفتى الناس ليس ينبغي أن يحمل الناس على مذهبه ويشدد عليهم))(7).
مع العلم بأن مذهب جمهور العلماء عدم إيجاب الالتزام بمذهب معين في كل ما يذهب إليه من قول .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ :-
(( وإذا نزلت بالمسلم نازلة يستفتي من اعتقد أنه يفتيه بشرع الله ورسوله من أي مذهب كان ، ولا يجب على أحد من المسلمين تقليد شخص بعينه من العلماء في كل ما يقول ، ولا يجب على أحد من المسلمين التزام مذهب شخص معين غير الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما يوجبه ويخبر به ، بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ))(8).ولا يختلف الحال والأثر إذا كان التعصب لآراء وأقوال طائفة أو إمام معين لا يُخرَج عن اجتهادهم وافقوا الحق أو خالفوه .
والناظر في أحوال الناس المعاصرة وما أصابها من تغيّر وتطور لم يسبق له مجتمع من قبل مع ما فيه من تشابك وتعقيد ، يتأكد لديه أهمية معاودة النظر في كثير من المسائل الفقهية التي بنيت على التعليل بالمناسبة أو قامت على دليل المصلحة أو العرف السائد ؛ كنوازل المعاملات المعاصرة من أنواع البيوع والسلم والضمانات والحوالات وغيرها ، أو كنوازل الأزمات والحروب كالتي تمر بالأمة هذه الأوقات ،وقد يكون التمسك بنصوص بعض الفقهاء وشروطهم التي ليس فيها نصٌ صريح أو إجماع من التضييق والتشدد الذي ينافي يسر وسماحة الإسلام ، وخصوصاً إن احتاج الناس لمثل هذه القضايا أو المعاملات التي قد تدخل في كثير من الأحيان في باب الضرورة أو الحاجة الملحة .
ومن ذلك ما نراه في مجتمعنا المعاصر من شدة الحاجة لمعرفة بعض أحكام المعاملات المعاصرة التي تنزل بحياة الناس ، ولهم فيها حاجة ماسة ، أو مرتبطة بمعاشهم الخاص من غير انفكاك ، والأصل الشرعي فيها الحل ، وقد يطرأ على تلك المعاملات ما يخلّ بعقودها مما قد يقربها نحو المنع والتحريم ، فيعمد الفقيه لتغليب جهة الحرمة والمنع في أمثال تلك العقود التي تشعبت في حياة الناس ، مع أن الأصل في العقود الجواز والصحة(9)، والأصل في المنافع الإباحة (10).
فيصبح حال أولئك الناس إما بحثاً عن الأقوال الشاذة والمرجوحة فيقلدونها ولن يعدموها ، وإما ينبذون التقيد بالأحكام الشرعية في معاملاتهم وهي الطامة الكبرى، ولو وسَّع الفقهاء على الناس في أمثال تلك العقود وضبطوا لهم صور الجواز واستثنوا منها صور المنع ووضعوا لهم البدائل الشرعية خيراً من أن يحملوا الناس على هذا المركب الخشن من المنع العام والتحريم التام لكل تلك العقود النازلة .(11)
ومن الأمثلة في هذا المجال أيضاً ما يقع في الآونة الأخيرة أيام الحج من تزايد مطرد لأعداد الحجاج وما ينجم عنه من تزاحم عنيف ومضايقة شديدة أدت إلى تغير اجتهاد كثير من العلماء المفتين في كثير من المسائل ، ومخالفة المشهور من المذاهب تخفيفاً على الناس من الضيق والحرج ، وكم سيحصل للناس من شدة وكرب لو تمسك أولئك العلماء بأقوال أئمتهم أو أفتوا بها دون اعتبار لتغير الأحوال والظروف واختلاف الأزمنة والمجتمعات .
فرمي الجمار في أيام التشريق يبدأ من زوال الشمس حتى الغروب ، وعلى رأي الجمهور لا يجزئ الرمي بعد المغرب .(12)
ومع ذلك اختار كثير من المحققين وجهات الإفتاء جواز الرمي ليلاً مراعاة للسعة والتيسير على الحجاج من الشدَّة والزحام .(13)(/2)
ولعل الداعي يتأكد لمعاودة النظر في حكم الرمي قبل الزوال وخصوصاً للمتعجل في اليوم الثاني من أيام التشريق ؛ لما ترتب على الرمي بعد الزوال في السنوات الماضية من ضيق وحرج شديد ، ولا يخفى أن القاعدة في أعمال الحج كما أنها قائمة على اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم قائمة أيضاً على رفع الحرج والتيسير . وقد أفتى بالجواز بعض الأئمة من التابعين وهو مذهب الأحناف (14).
ب - التمسك بظاهر النصوص فقط .
إن تعظيم النصوص وتقديمها أصل ديني ومطلب شرعي لا يصح للمجتهد نظر إذا لم يأخذ بالنصوص ويعمل بها ، ولكن الانحراف يحصل بالتمسك بظواهر النصوص فقط دون فقهها ومعرفة مقصد الشرع منها .ومما يدل على وجود هذا الاتجاه ما ذكره د . صالح المزيد بقوله:(( وقد ظهر في عصرنا من يقول : يكفي الشخص لكي يجتهد في أمور الشرع يقتني مصحفاً مع سنن أبي داود، وقاموس لغوي ))(15).
وهذا النوع من المتطفلين لم يشموا رائحة الفقه فضلاً أن يجتهدوا فيه ، وقد سماهم د . القرضاوي ( بالظاهرية الجدد ) ـ مع فارق التشبيه في نظري ـ حيث قال عنهم : ((المدرسة النصية الحرفية ، وهم الذين أسميهم (الظاهرية الجدد) وجلهم ممن اشتغلوا بالحديث ، ولم يتمرسوا الفقه وأصوله ، ولم يطلعوا على اختلاف الفقهاء ومداركهم في الاستنباط ولا يكادون يهتمون بمقاصد الشريعة وتعليل الأحكام بتغير الزمان والمكان والحال))(16).
وهؤلاء أقرب شيء إلى ألسنتهم وأقلامهم إطلاق كلمة التحريم دون مراعاة لخطورة هذه الكلمة ودون تقديم الأدلة الشافية من نصوص الشرع وقواعده سنداً للتحريم وحملاً للناس على أشد مجاري التكليف ، والله عز وجل قد حذر من ذلك حيث قال سبحانه : [وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ ](17).
فكم من المعاملات المباحة حرمت وكثير من أبواب العلم والمعرفة أُوصدت وأُخرج أقوام من الملَّة زاعمين في ذلك كله مخالفة القطعي من النصوص والثابت من ظاهر الأدلة ؛ وليس الأمر كذلك عند العلماء الراسخين .
يقول الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ : (( لا يجوز للمفتي أن يشهد على الله ورسوله بأنه أحل كذا أو حرمه أو أوجبه أو كرهه إلا لما يعلم أن الأمر فيه كذلك مما نص الله ورسوله على إباحته أوتحريمه أو إيجابه أو كراهيته ..قال غير واحد من السلف : ليحذر أحدكم أن يقول : أحل الله كذا أو حرّم كذا ، فيقول الله له كذبت لم أحل كذا ، ولم أحرمه ))(18).
وهذا التحذير من إصدار أحكام الله تعالى قاطعة في النوازل والواقعات من دون علم راسخ لا شك أنه يفضي إلى إعنات الناس والتشديد عليهم بما ينافي سماحة الشريعة ورحمتها بالخلق .
وقد وقع في العصور الأخيرة من كفّر المجتمعات والحكومات حتى جعلوا فعل المعاصي سبباً للخروج عن الإسلام ، ومن أولئك القوم ؛ ما قاله ماهر بكري أحد أعضاء التكفير والهجرة : (( إن كلمة عاصي هي اسم من أسماء الكافر وتساوي كلمة كافر تماماً ، ومرجع ذلك إلى قضية الأسماء ، إنه ليس في دين الله أن يسمى المرء في آنٍ واحد مسلماً وكافراً (19)!!؟
وكما حدث من بعض طلبة العلم في الأزمة الأخيرة في العراق من التكفير والإخراج من الملة لكل من ظاهر الكفار فقط ؛دون التفريق بين التولي و الموالاة أو دون النظر في حال المعين وما قد يشوبه من إكراه أو تأويل أو غير ذلك
إن هذا المنهج القائم على النظر الظاهر للنصوص دون معرفة دلالاتها أعنت الأمة وأوقع المسلمين في الشدة والحرج ولعله امتداد للخوارج في تشديدهم وتضييقهم على أنفسهم والناس ، أو الظاهرية في شذوذهم نحو بعض الأفهام الغريبة والآراء العجيبة .
ج ـ الغلو في سد الذرائع والمبالغة في الأخذ بالاحتياط عند كل خلاف .
دلت النصوص الكثيرة على اعتبار سد الذرائع والأخذ به حماية لمقاصد الشريعة وتوثيقاً للأصل العام الذي قامت عليه الشريعة من جلب المصالح ودرء المفاسد . ولله در ابن القيم ـ رحمه الله ـ إذ يقول :-
(( فإذا حرّم الرب تعالى شيئاً وله طرق ووسائل تفضي إليه ، فإنه يحرمها ويمنع منها، تحقيقاً لتحريمه ، وتثبيتاً له ، ومنعاً من أن يقرب حماه ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقصاً للتحريم وإغراءً للنفوس به ))(20).(/3)
ويحدث الإشكال في اعتبار قاعدة سد الذرائع عندما تؤول المبالغة في الأخذ بها إلى تعطيل مصالح راجحة مقابل مصلحة أو مفسدة متوهمة يظنها الفقيه ؛ فيغلق الباب إساءةً للشرع من حيث لا يشعر كمن ذهب إلى منع زراعة العنب خشية اتخاذه خمراً،والمنع من المجاورة في البيوت خشية الزنا ، فهذه الأمثلة وغيرها اتفقت الأمة على عدم سده،لأن مصلحته راجحة فلا تترك لمفسدة مرجوحة متوهمة.(21)وقد يحصل لبعض متفقهة العصر الحاضر المبالغة في رفض الاقتباس من الأمم الأخرى فيما توصلت إليه من أنظمة وعلوم ومعارف ومخترعات ؛ معتبرين ذلك من الإحداث في الدين والمخالفة لهدي سيد المرسلين (22).
والناظر في كثير من النوازل المعاصرة في مجال الاقتصاد والطب يرى أنها في غالبها قادمة من الدول الكافرة وأن تعميم الحكم بالرفض بناءً على مصدره ومنشأه تحجر وتضييق . ولا تزال ترد على الناس من المستجدات والوقائع بحكم اتصالهم بالأمم الأخرى من العادات والنظم ما لو أغلَق المفتي فيه على الناس الحكم وشدّد من غير دليل وحجة ؛ لانفض الناس من حول الدين وغرقوا فيها من غير حاجة للسؤال ، ولذلك كان من المهم سد الذرائع المفضية إلى مفاسد راجحة وإن كانت ذريعة في نفسها مباحة كما ينبغي فتح
الذرائع إذا كانت تفضي إلى طاعات وقربات مصلحتها راجحة (23).
ومن ملامح منهج التضييق والتشدد في الفتوى في النوازل:
الأخذ بالاحتياط عند كل مسألة خلافية ينهج فيها المفتي نحو التحريم أو الوجوب سدّاً لذريعة التساهل في العمل بالأحكام أو منعاً من الوقوع في أمرٍ فيه نوع شبهة يخشى أن يقع المكلف فيها ، فيجري هذا الحكم عاماً شاملاً لكل أنواع الناس والأحوال والظروف .
فمن ذلك منع عمل المرأة ولو بضوابطه الشرعية ووجود الحاجة إليه (24).
وكذلك تحريم كافة أنواع التصوير الفوتغرافي والتلفزيوني مع شدة الحاجة إليه في أوقاتنا المعاصرة (25)إلى غيرها من المسائل التي أثبت جمهور العلماء جوازها بالضوابط والشروط الصالحة لذلك .
ويجب التنبيه ـ في هذا المقام ـ على أن العمل بالاحتياط سائغ في حق الإنسان في نفسه لما فيه من الورع واطمئنان القلب ، أما إلزام العامة به واعتباره منهجاً في الفتوى فإن ذلك مما يفضي إلى وضع الحرج عليهم(26).
وقاعدة : استحباب الخروج من الخلاف (27)؛ ليست على إطلاقها بل اشترط العلماء في استحباب العمل بها شروطاً هي كالتالي :-
أ ـ أن لا يؤدي الخروج من الخلاف إلى الوقوع في محذور شرعي من ترك سنة ثابتة أو اقتحام مكروه أو ترك للعمل بقاعدة مقررة .
ب ـ أن لا يكون دليل المخالف معلوم الضعف فهذا الخلاف لا يلتفت إليه .
ج ـ أن لا يؤدي الخروج من الخلاف إلى الوقوع في خلاف آخر .
د ـ أن لا يكون العامل بالقاعدة مجتهداً ؛ فإن كان مجتهداً لم يجز له الاحتياط في المسائل التي يستطيع الاجتهاد فيها
بل ينبغي عليه أن يفتي الناس بما ترجح عنده من الأدلة والبراهين (28).
يقول د . الباحسين في بيان بعض آثار العمل بالاحتياط في كل خلاف حصل:
((ووجه الشبه في معارضة هذه القاعدة لرفع الحرج ، هو أنه إذا كان وجوب الاحتياط يعني وجوب الإتيان بجميع محتملات التكليف ، أو اجتنابها عند الشك بها ، فإن في ذلك تكثيراً للأفعال التي سيأتي بها المكلف أو سيجتنبها ، وفي هذه الزيادة في الأفعال ما لا يتلاءم مع إرادة التخفيف والتيسير ورفع الحرج ، بل قال بعض العلماء : إنه لو بنى المكلف يوماً واحداً على الالتزام بالاحتياط في جميع أموره مما خرج من موارد الأدلة القطعية لوجد من نفسه حرجاً عظيماً ، فكيف لو بنى ذلك جميع أوقاته ، وأمر عامة المكلفين حتى النساء وأهل القرى والبوادي فإن ذلك مما يؤدي إلى حصول الخلل في نظام أحوال العباد ، والإضرار بأمور المعايش))(30) .
ثانياً : منهج المبالغة في التساهل والتيسير
ظهر ضمن مناهج النظر في النوازل المعاصرة منهج المبالغة والغلو في التساهل والتيسير ، وتعتبر هذه المدرسة في النظر والفتوى ذات انتشار واسع على المستوى الفردي والمؤسسي خصوصاً أن طبيعة عصرنا الحاضر قد طغت فيه المادية على الروحية ، والأنانية على الغيرية ، والنفعية على الأخلاق ، وكثرت فيه المغويات بالشر والعوائق عن الخير ، وأصبح القابض على دينه كالقابض على الجمر حيث تواجهه التيارات الكافرة عن يمين وشمال تحاول إبعاده عن دينه وعقيدته ولا يجد مَنْ يعينه بل ربما يجد من يعوقه .
وأمام هذا الواقع دعا الكثير من الفقهاء إلى التيسير ما استطاعوا في الفتوى والأخذ بالترخص في إجابة المستفتين ترغيباً لهم وتثبيتاً لهم على الطريق القويم(31).(/4)
ولاشك أن هذه دعوى مباركة قائمة على مقصد شرعي عظيم من مقاصد الشريعة العليا وهو رفع الحرج وجلب النفع للمسلم ودرء الضرر عنه في الدارين ؛ ولكن الواقع المعاصر لأصحاب هذا التوجه يشهد أن هناك بعض التجاوزات في اعتبار التيسير والأخذ بالترخص وربما وقع أحدهم في رد بعض النصوص وتأويلها بما لا تحتمل وجهاً في اللغة أو في الشرع .
وضغط الواقع ونفرة الناس عن الدين لا يسوّغ التضحية بالثوابت والمسلمات أوالتنازل عن الأصول والقطعيات مهما بلغت المجتمعات من تغير وتطور فإن نصوص الشرع جاءت صالحة للناس في كل زمان ومكان .
يقول الشيخ محمد الطاهر بن عاشور ـ رحمه الله ـ في ذلك : (( فعموم الشريعة لسائر البشر في سائر العصور مما أجمع عليه المسلمون ، وقد أجمعوا على أنها مع عمومها صالحة للناس في كل زمان ومكان ولم يبينوا كيفية هذه الصلوحية ؛ وهي عندي تحتمل أن تتصور بكيفيتين :
الكيفية الأولى : أن هذه الشريعة قابلة بأصولها وكلياتها للانطباق على مختلف الأحوال بحيث تساير أحكامها مختلف الأحوال دون حرج ولا مشقة ولا عسر …
الكيفية الثانية : أن يكون مختلف أحوال العصور والأمم قابلاً للتشكيل على نحو أحكام الإسلام دون حرج ولا مشقة ولا عسر كما أمكن تغيير الإسلام لبعض أحوال العرب والفرس والقبط والبربر والروم والتتار والهنود والصين والترك من غير أن يجدوا حرجاً ولا عسراً في الإقلاع عما نزعوه من قديم أحوالهم الباطلة))(32).
فمن الخطأ والخطر تبرير الواقع والمبالغة في فقه التيسير بالأخذ بأي قولٍ والعمل بأي اجتهادٍ دون اعتبار الحجة والدليل مقصداً مُهِّماً في النظر والاجتهاد .
ولعل من الدوافع لهذا الاتجاه الاجتهادي ؛أن أصحاب هذه المدرسة يريدون إضفاء الشرعية على هذا الواقع ، بالتماس تخريجات وتأويلات شرعية، تعطيه سنداً للبقاء . وقد يكون مهمتهم تبرير، أو تمرير ما يراد إخراجه للناس من قوانين أو قرارات أو إجراءات تريدها السلطة .
ومن هؤلاء من يفعل ذلك مخلصاً مقتنعاً لا يبتغي زلفى إلى أحد ، ولا مكافأة من ذي سلطان ولكنه واقع تحت تأثير الهزيمة النفسية أمام حضارة الغرب وفلسفاته ومسلماته .
ومنهم من يفعل ذلك ، رغبة في دنيا يملكها أصحاب السلطة أو مَن وراءهم من الذين يحركون الأزرار من وراء الستار ، أو حباً للظهور والشهرة على طريقة :
خالف تعرف ، إلى غير ذلك من عوامل الرغب والرهب أو الخوف والطمع التي تحرك كثيراً من البشر ، وإن حملوا ألقاب أهل العلم وألبسوا لبوس أهل الدين .
ولا يخفى على أحد ما لهذا التيار الاجتهادي من آثار سيئة على الدين وحتى على تلك المجتمعات التي هم فيها،فهم قد أزالوا من خلال بعض الفتاوى الفوارق بين المجتمعات المسلمة والكافرة بحجة مراعاة التغير في الأحوال والظروف عما كانت عليه في القرون الأولى(33).
ويمكن أن نبرز أهم ملامح هذا الاتجاه فيما يلي :-
ا - الإفراط بالعمل بالمصلحة ولو عارضت النصوص :
إن المصلحة المعتبرة شرعاً ليست بذاتها دليلاً مستقلاً بل هي مجموع جزئيات الأدلة التفصيلية من القرآن والسنة التي تقوم على حفظ الكليات الخمس فيستحيل عقلاً أن تخالف المصلحة مدلولها أو تعارضه وقد أُثبتت حجية المصلحة عن طريق النصوص الجزئية فيكون ذلك من قبيل معارضة المدلول لدليله إذا جاء بما يخالفه وهذا باطل (34).
فالمصلحة عند العلماء ما كانت ملائمة لمقاصد الشريعة لا تعارض نصاً أو إجماعاً مع تحققها يقينياً أو غالباً وعموم نفعها في الواقع ، أما لو خالفت ذلك فلا اعتبار بها عند عامة الفقهاء والأصوليين إلا ما حُكِي
عن الإمام الطوفي ـ رحمه الله ـ أنه نادى بضرورة تقديم دليل المصلحة مطلقاً على النص والإجماع عند معارضتهما له.(35)
وواقع الإفتاء المعاصر جنح فيه بعض الفقهاء والمفتين إلى المبالغة في العمل بالمصلحة ولو خالفت الدليل المعتبر ومن ذلك ما قاله بعض المعاصرين ممن ذهبوا إلى جواز تولي المرأة للمناصب العالية : (( إن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على الناس في مكة سورة النمل وقص عليهم في هذه السورة قصة ملكة سبأ التي قادت قومها إلى الفلاح والأمان بحكمتها وذكائها ، ويستحيل أن يرسل حكماً في حديث يناقض ما نزل عليه من وحي …ـ إلى أن قال ـ هل خاب قوم ولوا أمرهم امرأة من هذا الصنف النفيس ))(36) .
ولا شك في معارضة هذا الكلام لما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : (( لن يفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة ))(37).
ومن ذلك أيضاً ما أفتى به فضيلة المفتي السابق بجمهورية مصر العربية على جواز الفوائد المصرفية مع معلومية الربا فيها ، ومخالفته للنصوص والإجماع المحرم للربا قليله وكثيره (38).
وظهر في الآونة الأخيرة بعض الفتاوى التي أباحت بيع الخمر من أجل مصلحة(/5)
البلاد في استقطاب السياحة ، وإباحة الإفطار في رمضان من أجل ألا تتعطل مصلحة الأعمال في البلاد ، وإباحة التعامل بالربا من أجل تنشيط الحركة التجارية والنهوض بها ، والجمع بين الجنسين في مرافق المجتمع لما في ذلك من تهذيبٍ للأخلاق وتخفيفٍ للميل الجنسي بينهما !! ؟(39) .
وبعضها جوزت التسوية بين الأبناء والبنات في الميراث(40) ، بل وبعضها جوزت أن تمثل المرأة وتظهر في الإعلام بحجة التكييف مع تطورات العصر بفقه جديد وفهم جديد(41).
وكل هذه وغيرها خرجت بدعوى العمل بالمصلحة ومواكب الشريعة لمستجدات الحياة .
ب – تتبع الرخص والتلفيق بين المذاهب :
الرخص الشرعية الثابتة بالقرآن والسنة لا بأس في العمل بها لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه ))(42).
أما تتبع رخص المذاهب الاجتهادية والجري وراءها دون حاجةٍ يضطر إليها المفتي ، والتنقل من مذهب إلى آخر والأخذ بأقوال عددٍ من الأئمة في مسألة واحدة بغية الترخص ، فهذا المنهج قد كرهه العلماء وحذَّروا منه ، وإمامهم في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما قال : (( إني أخاف عليكم ثلاثاً وهي كائنات : زلة عالم ، وجدال منافق بالقرآن ، ودنيا تفتح عليكم ))(43) .
فزلة العالِم مخوفة بالخطر لترتب زلل العالَم عليها فمن تتبع زلل العلماء اجتمع فيه الشر كله .
وقد حكى بعض المعاصرين خلافاً بين العلماء في تجويز الأخذ برخص العلماء لمن كان مفتياً أو ناظراً في النوازل (44).
ولعل حكاية الخلاف ليست صحيحة على إطلاقها وذلك للأسباب التالية :-
1- أن الخلاف الذي ذكروه في جواز تتبع الرخص أخذوه بناءً على الخلاف في مسألة الجواز للعامي أن يتخير في تقليده من شاء ممن بلغ درجة الاجتهاد ، وأنه لا فرق بين مفضول وأفضل ، ومع ذلك فإنهم وإن اختلفوا في هذه المسألة إلا أنهم اتفقوا على أنه إن بان لهم الأرجح من المجتهدين فيلزمهم تقليده ولا يجوز لهم أن يتتبعوا في ذلك رخص العلماء وزللهم والعمل بها دون حاجه أو ضابط (45).
فلا يصح أن يُحكى خلافٌ للعلماء في مسألة تخريجاً على مسألة أخرى تخالفها في المعنى والمضمون ، ولا تلازم بينها وذلك أن الخلاف في حق العامي ، أما المجتهد المفتي فلا يجوز له أن يفتي إلا بما توصل إليه اجتهاده ونظره (46).
2- أن بعض العلماء جوّز الترخص في الأخذ بأقوال أي العلماء شاء وهذا إنما هو في حق العوام ـ كما ذكرنا ـ كذلك أن يكون في حالات الاضطرار وأن لا يكون غرضه الهوى والشهوة ، يقول الإمام الزركشي ـ رحمه الله ـ في ذلك : (( وفي فتاوى النووي الجزم بأنه لا يجوز تتبع الرخص ، وقال في فتاوٍله أخرى ؛ وقد سئل عن مقلد مذهب : هل يجوز له أن يقلد غير مذهبه في رخصة لضرورة ونحوها ؟ ، أجاب : يجوز له أن يعمل بفتوى من يصلح للإفتاء إذا سأله اتفاقاً من غير تلقّط الرخص ولا تعمد سؤال من يعلم أن مذهبه الترخيص في ذلك ))(47).
فالعلماء لا يجوزون تتبع الرخص إلا في حالات خاصة يبرّرها حاجة وحال السائل لذلك لا أن يكون منهجاً للإفتاء يتبعه المفتي مع كل سائل أوفي كل نازلة بالهوى والتشهي (48).
3 –أن هناك من العلماء من حكى الإجماع على حرمة تتبع الرخص حتى لو كان عامياً ومن أولئك الإمام ابن حزم ـ رحمه الله ـ(49)وابن الصلاح ـ رحمه الله ـ(50)وكذلك ابن عبد البر حيث قال رحمه الله:((لا يجوز للعامي تتبع الرخص إجماعاً))(51).
وقد أفاض الإمام الشاطبي ـ رحمه الله ـ في الآثار السيئة التي تنجم عن العمل بتلقّط الرخص وتتبعها من المذاهب وخطر هذا المنهج في الفتيا(52).
والتساهل المفرط ليس من سيما العلماء الأخيار وقد جعل ابن السمعاني ـ رحمه الله ـ من شروط العلماء أهل الاجتهاد : الكف عن الترخيص والتساهل ، ثم صنف ـ رحمه الله ـ المتساهلين نوعين :
1- أن يتساهل في طلب الأدلة وطرق الأحكام ويأخذ ببادئ النظر وأوائل الفكر فهذا مقصر في حق الاجتهاد ولا يحل له أن يفتي ولا يجوز .
2 - أن يتساهل في طلب الرخص وتأول السنة فهذا متجوز في دينه وهو آثم من الأول(53).
والملاحظ أن منهج التساهل القائم على تتبع الرخص يفضي إلى اتباع الهوى وانخرام نظام الشريعة (( فإذا عرض العامي نازلته على المفتي ، فهو قائل له : أخرجني عن هواي ودلني على اتباع الحق ، فلا يمكن والحال هذه أن يقول له : في مسألتك قولان فاختر لشهوتك أيهما شئت )(54) أو سأبحث لك عن قولٍ لأهل العلم يصلح لك ، وقد قال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ : (( لو أن رجلاً عمل بكل رخصه ؛ بقول أهل الكوفة في النبيذ ، وأهل المدينة في السماع ، وأهل مكة في المتعة كان فاسقاً ))(55).(/6)
ويروى عن إسماعيل القاضي ـ رحمه الله ـ أنه قال : (( دخلت على المعتضد فدفع إلي كتاباً فنظرت فيه وقد جمع فيه الرخص من زلل العلماء وما احتج به كل منهم، فقلت : مصنف هذا زنديق ،فقال: لم تصح هذه الأحاديث ؟ قلت: الأحاديث على ما رويت ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة ، ومن أباح المتعة لم يبح المسكر ، وما من عالم إلا وله زلة ، ومن جمع زلل العلماء ، ثم أخذ بها ذهب دينه ، فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب ))(56).
ولعل واقعنا المعاصر يشهد جوانب من تساهل بعض الفقهاء في التلفيق بين المذاهب وتتبع الرخص كما هو حاصل عند من يضع القوانين والأنظمة أو يحتج بأسلمة القانون بناءً على هذا النوع من التلفيق ، أما حالات الضرورة في الأخذ بهذا المنهج فإنها تقدر بقدرها .
ج – التحايل الفقهي على أوامر الشرع .
وهو من ملامح مدرسة التساهل والغلو في التيسير ؛ وقد جاء النهي في السنة عن هذا الفعل حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم :(( لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل ))(57). وعلى ذلك اتفق أكثر أهل العلم على عدم تجويزه (58) وفي ذلك يقول الإمام القرافي ـ رحمه الله ـ : (( لا ينبغي للمفتي : إذا كان في المسألة قولان : أحدهما فيه تشديد والآخر فيه تخفيف ؛ أن يفتي العامة بالتشديد والخواص من ولاة الأمور بالتخفيف وذلك قريب من الفسوق والخيانة في الدين والتلاعب بالمسلمين ، ودليل على فراغ القلب من تعظيم الله تعالى و إجلاله وتقواه ، وعمارته باللعب وحب الرياسة والتقرب إلى الخلق دون الخالق نعوذ بالله من صفات الغافلين ))(59).
وقد حكى أبو الوليد الباجي ـ رحمه الله ـ عن أحد أهل زمانه أخبره أنه وقعت له واقعة ، فأفتاه جماعة من المفتين بما يضره وكان غائباً ، فلما حضروا قالوا : لم نعلم أنها لك ، وأفتوه بالرواية الأخرى ، قال: وهذا مما لا خلاف بين المسلمين المعتد بهم في الإجماع أنه لا يجوز (60).
وقد فصَّل الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ القول في الحيل الممنوعة على المفتي وما هو مشروع له حيث قال :
(( لا يجوز للمفتي تتبع الحيل المحرمة والمكروهة ، ولا تتبع الرخص لمن أراد نفعه ، فإن تتبع ذلك فسق وحُرِمَ استفتاؤه ، فإن حَسُن قصده في حيلةٍ جائزة لا شبهة فيها ولا مفسدة ، لتخليص المستفتي بها من حرج جاز ذلك ، بل استحب ، وقد أرشد الله نبيه أيوب عليه السلام إلى التخلص من الحنث بأن يأخذ بيده ضغثاً فيضرب به المرأة ضربةً واحدة . وأرشد النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً إلى بيع التمر بدراهم ، ثم يشتري بالدراهم تمراً آخر ، فيخلص من الربا .
فأحسن المخارج ما خلّص من المآثم وأقبح الحيل ما أوقع في المحارم أو أسقط ما أوجبه الله ورسوله من الحق اللازم والله الموفق للصواب ))(61).
وقد وقع كثير من الفقهاء المعاصرين في الإفتاء بجواز كثير من المعاملات المحرمة تحايلاً على أوامر الشرع ؛ كصور بيع العينة المعاصرة ومعاملات الربا المصرفية ، أو التحايل على إسقاط الزكاة أو الإبراء من الديون الواجبة ، أو ما يحصل في بعض البلدان من تجويز الأنكحة العرفية تحايلاً على الزنا ، أو تحليل المرأة لزوجها بعد مباينته لها بالطلاق ،وكل ذلك وغيره من التحايل المذموم في الشرع (62).
ثالثاً : المنهج الوسطي المعتدل في النظر والإفتاء
الشريعة الإسلامية شريعة تتميز بالوسطية واليسر ولذا ينبغي للناظر في أحكام النوازل من أهل الفتيا والاجتهاد أن يكونوا على الوسط المعتدل بين طرف التشدد والانحلال كما قال الإمام الشاطبي ـ رحمه الله ـ : (( المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور فلا يذهب بهم مذهب الشدة ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال .
والدليل على صحة هذا أن الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة ؛فإنه قد مرّ أن مقصد الشارع من المكلف الحمل على التوسط من غير إفراط ولا تفريط ، فإذا خرج عن ذلك في المستفتين ؛ خرج عن قصد الشارع ولذلك كان مَنْ خرج عن المذهب الوسط مذموماً عند العلماء الراسخين …فإن الخروج إلى الأطراف خارج عن العدل ، ولا تقوم به مصلحة الخلق ، أما طرف التشديد فإنه مهلكة وأما طرف الانحلال فكذلك أيضاً ؛ لأن المستفتي إذا ذُهِبَ به مذهب العنت والحرج بُغِّض إليه الدين وأدى إلى الانقطاع عن سلوك طريق الآخرة ، وهو مشاهد ، وأما إذا ذُهِبَ به مذهب الانحلال كان مظنة للمشي على الهوى والشهوة ، والشرع إنما جاء بالنهي عن الهوى واتباع الهوى مهلك ، والأدلة كثيرة ))(63).
ولعل ما ذكرناه من ملامح للمناهج الأخرى المتشددة والمتساهلة كان من أجل أن يتبين لنا من خلالها المنهج المعتدل ؛ وذلك أن الأشياء قد تعرف بضدها وتتمايز بنقائضها.(/7)
وقد أجاز بعض العلماء للمفتي أن يتشدد في الفتوى على سبيل السياسة لمن هو مقدم على المعاصي متساهل فيها ، وأن يبحث عن التيسير والتسهيل على ما تقتضيه الأدلة لمن هو مشدد على نفسه أو غيره ، ليكون مآل الفتوى : أن يعود المستفتي إلى الطريق الوسط (64).
ولذلك ينبغي للمفتي أن يراعي حالة المستفتي أو واقع النازلة فيسير في نظره نحو الوسط المطلوب باعتدال لا إفراط فيه نحو التشدد ولا تفريط فيه نحو التساهل وفق مقتضى الأدلة الشرعية وأصول الفتيا ، وما أحسن ما قاله الإمام سفيان الثوري ـ رحمه الله ـ:((إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة فأما التشدد فيحسنه كل أحد))(65). والظاهر أنه يعني تتبع مقصد الشارع بالأصل
الميسور المستند إلى الدليل الشرعي.
ولاشك أن هذا الاتجاه هو اتجاه أهل العلم والورع والاعتدال ، وهي الصفات اللازمة لمن يتعرض للفتوى والتحدث باسم الشرع ، وخصوصاً في هذا العصر .
فالعلم هو العاصم من الحكم بالجهل ، والورع هو العاصم من الحكم بالهوى ، والاعتدال هو العاصم من الغلو والتفريط ، وهذا الاتجاه هو الذي يجب أن يسود ، وهو الاجتهاد الشرعي الصحيح وهو الذي يدعو إليه أئمة العلم المصلحون(66).
وسيأتي مزيد بيان لبعض الآداب والضوابط المكملة لأصحاب هذا الاتجاه المعتدل من أجل الوصول إلى أدق النتائج وتحقيق الصواب والتوفيق من الله عز وجل ؛ وهو موضوع المطلبين القادمين – بإذن الله ـ .
________________________________________
(1) سورة التوبة ، آية : 128 . (2) سورة الأنبياء ، آية : 107 .
(3) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الطلاق،باب بيان أن تخيير امرأته لا يكون طلاقاً إلا بنية ، رقمه ( 1478 )2/ 1104. (4) سورة الأعراف ، آية : 157 . (5) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الجمعة ، باب السواك يوم الجمعة 2 / 5 . وأخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الطهارة ، باب السواك ، 1 / 220 ، رقمه ( 1732 ) .(6) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الجهاد باب وما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب وعقوبة من عصى إمامه 4 / 79 . وأخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الجهاد ، باب الأمر بالتيسير وترك التنفير 3 / 1358 رقمه (1732 ) .(7) الآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 45 . (8) انظر : تحرير النزاع في المسألة : المجموع 1 / 90 , 91 ؛ شرح المحلى على جمع الجوامع 2 / 393 ؛ شرح تنقيح الفصول ص 432 ؛ المسودة ص 465 ؛ شرح الكوكب المنير 4 / 574 ؛ الوصول إلى علم ألأصول لابن برهان 2 / 369 .
(9) مجموع الفتاوى 20 / 208 , 209 ، (10) انظر : تهذيب الفروق 4 / 120 ؛ الفتاوى الكبرى لابن تيمية 4 / 581 .
(11) انظر : البحر المحيط 1 / 215 ؛ القواعد للحصني 1 / 478 ؛ الإبهاج 3 / 177 ؛ نهاية السول 4 / 352 ؛ الأشباه والنظائر للسيوطي ص 133 ، ويدل على هذه القاعدة ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( الحلال ما أحا الله في كتابه ، والحرام ما حرم الله في كتابه ، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه )) رواه الترمذي في كتاب اللباس ، باب ما جاء في لبس الفراء 4 / 220 . ورواه ابن ماجه في كتاب الأطعمة ، باب أكل الجبن والسمن ، 2 / 1117 .(12) انظر : الفكر السامي 1 / 215 .
(13) انظر : الكافي لابن عبد البر 1 / 355 تحقيق د . محمد بن محمد ولد مايك ، الناشر المحقق 1399 هـ ؛ مغني المحتاج للشربيني 2 / 377 ، دار الكتب العلمية ، الطبعة الأولى 1415 هـ ؛ المبدع لابن مفلح 3 / 250 طبعة المكتب الإسلامي 1400هـ ؛ الإقناع للحجاوي 1 / 390 طبعة دار المعرفة
(14) انظر : بدائع الصنائع 2 / 137 ، المكتبة العالمية ببيروت ؛ الشرح الممتع على زاد المستنقع لابن عثيمين 7 / 385 مؤسسة إمام للنشر الطبعة الأولى 1416هـ ؛ فتاوى الحج والعمرة والزيارة ؛ جمع محمد المسند ص 110 ، دار الوطن الطبعة الأولى .(15) انظر : بدائع الصنائع 2 / 138 ؛ المبسوط للسرخسي 4 / 68 دار الكتب العلمية ، الطبعة الأولى 1414هـ ؛ المغني 3 / 328؛ رسالة في فقه الحج والعمرة د . عبد الرحمن النفيسة ص 22-25 ضمن العدد (33) من مجلة البحوث الفقهية المعاصرة . (16) فقه الأئمة الأربعة بين الزاهدين فيه والمتعصبين له ص 66 . (17) الاجتهاد المعاصر ص 88 .(18) سورة النحل ، آية : 116 .(19) إعلام الموقعين 4 / 134 . (20) نقلاً من كتاب الغلو في الدين د . عبد الرحمن اللويحق ص 273 ، مؤسسة الرسالة الطبعة الثانية 1413هـ .
(21) إعلام الموقعين 3 / 109 . (22)انظر : شرح تنقيح الفصول للقرافي ص 448-449 ؛ الفروق للقرافي 2 / 33 ؛ مقاصد الشريعة الإسلامية د . اليوبي ص574-584
(23)انظر : السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها د . القرضاوي ص 231 ، مكتبة وهبة بمصر ، الطبعة الأولى 1419هـ . (24)انظر : شرح تنقيح الفصول ص 449 ، إعلام الموقعين 3 / 109 .(/8)
(25)انظر : مركز المرأة في الحياة الإسلامية د .القرضاوي ص 130 – 150 ، المكتب الإسلامي ، الطبعة الثالثة 1418هـ ؛ المرأة ماذا بعد السقوط ، تأليف : بدرية العزاز ص 199- 216 ، مكتبة المنار الإسلامية بالكويت .(26) انظر : الاجتهاد المعاصر للقرضاوي ص 88 .
(27)انظر : الموافقات 1 / 184- 194 ؛ العمل بالاحتياط في الفقه الإسلامي تأليف : منيب محمود شاكر ص 118 ، دار النفائس بالرياض ، الطبعة الأولى 1418هـ .
(28)انظر : الأشباه والنظائر للسيوطي ص 257 ؛ الفروق للقرافي 4 / 210 .
(29) انظر : الأشباه والنظائر للسيوطي ص 258 ؛ العمل بالاحتياط في الفقه الإسلامي ص 254-257 ؛ رفع الحرج د . صالح بن حميد ص 337-348 ، دار الاستقامة الطبعة الثانية 1412هـ ؛ رفع الحرج د . يعقوب الباحسين ص 115-130 ، دار النشر الدولي بالرياض ، الطبعة الثانية 1416هـ .
(30) رفع الحرج ص 115 , 116 (31) انظر : الفتوى بين الانضباط والتسيب د . القرضاوي ص 111 . (32) مقاصد الشريعة الإسلامية ص 92 , 93 .
(33) انظر : بعضاً من هذه الفتاوى من كتاب تغليظ الملام على المتسرعين في الفتيا وتغيير الأحكام للشيخ حمود التويجري ص 58 – 88 ، دار الاعتصام بالرياض ، الطبعة الأولى 1413هـ ؛ الاجتهاد المعاصر للقرضاوي ص 62-88 ؛ الفتوى في الإسلام للقاسمي ص 125 . (34) انظر : ضوابط المصلحة د . البوطي ص 110 . (35) انظر : المستصفى 2 / 293 ؛ شرح الكوكب المنير 4 / 432 ؛ شرح تنقيح الفصول ص 446 ؛ البحر المحيط 6 / 78 , 79 ؛ تقريب الوصول ص 412 ؛ إرشاد الفحول ص 242 ؛ ضوابط المصلحة ص 187 ؛ الاستصلاح والمصلحة للزرقا ص 75 ؛ السياسة الشرعية للقرضاوي ص 245-261 ؛ نظرية المصلحة لحسين حامد حسان ص 525-552 .(36) السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث ص 47 , 50 .
(37)أخرجه البخاري في صحيحه , كتاب المغازي ، باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر ، رقمه( 4073 ). (38) انظر : ردّ د . السالوس في كتابه : الاقتصاد الإسلامي والقضايا الفقهية المعاصرة 1 / 330 –356 دار الثقافة بقطر الطبعة الأولى 1416هـ ويتضمن الكتاب الرد على من أجاز الفوائد الربوية مثل د . عبد المنعم نمر و د. . الفنجري وغيرهم .
(39) انظر : رفع الحرج لابن حميد ص 312 و 313 ؛ تزييف الوعي لفهمي هويدي ص 79 ، دار الشروق ، الطبعة الثالثة 1420 هـ فقد نقل عن د . محمد فرحات عدم ملائمة حد السرقة وتحريم الربا للواقع والمصلحة . من خلال كتابه ( المجتمع والشريعة والقانون ) ص 78 و88 .
(40) انظر . السياسة الشرعية د . القرضاوي ص 253 ؛ الاجتهاد المعاصر ص 70 82 .
(41) انظر : مقال د . سعيد الغامدي في مجلة المجتمع العدد (1321 ) في مناقشة د . القرضاوي حول تمثيل المرأة . (42) أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 3 / 162 وقال :" رواه الطبراني في الكبير والبزار ورجال البزار ثقات وكذلك رجال الطبراني" وانظر صحيح الجامع للألباني 1 / 383 رقم ( 1885 ) .
(43) أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 1 / 186 من حديث معاذ وقال : " رواه الطبراني في الثلاثة وفيه عبد الحكيم بن منصور وهو متروك الحديث " وذكر له شواهد لا تخلو من ضعف ، ورواه البيهقي في الشعب 2 /3 / 347 ، وهذا الحديث له شواهد مرفوعة وموقوفة يقوى بها إلى الحسن لغيره . انظر : جامع بيان العلم وفضله 2 / 980 ، الفقيه والمتفقه 2 / 26 ، حلية الأولياء 4 / 196 .
(44). انظر : المستدرك من الفقه الإسلامي وأدلته د. وهبه الزحيلي 9 / 41 طبعة دار الفكر الطبعة الأولى 1417هـ ؛ بحث د . سعد العنزي بعنوان ( التلفيق في الفتوى ) ص 274- 305 ، مجلة الشريعة والدراسات الإسلاميةالعدد ( 38 ) 1420هـ ؛ بحوث مجلة مجمع الفقه الإسلامي ، العدد الثامن 1 / 41 – 565 ، ومن هذه البحوث التي تناولت مسألتنا : بحث د . وهبه الزحيلي و د . عبد الله محمد عبد الله والشيخ خليل الميس ، والشيخ محمد رفيع العثماني ، ود . حمد الكبيسي والشيخ مجاهد القاسمي ، ود . حمداتي شبيهنا ماء العينين وغيرهم . وقد ذهب بعضهم إلى جواز التلفيق وتتبع الرخص ونسبوا القول بالجواز للإمام القرافي وأكثر أصحاب الشافعي والراجح عند الحنفية وأنه اختيار ابن الهمام وصاحب مسلم الثبوت .(/9)
(45) انظر : المستصفى 2 / 390 ؛ شرح تنقيح الفصول ص 432 ؛ فواتح الرحموت 2 / 404 ؛ البحر المحيط 6 / 325 ؛ شرح الكوكب المنير 4 / 571,577 ؛ روضة الناظر 3 / 1024 ؛ الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ص 230 ؛ إرشاد الفحول ص 271 , 272 .(46) انظر : الموافقات ( الحاشية ) 5 / 98 ، الاجتهاد والتقليد د . الدسوقي ص 233 . (47) البحر المحيط 6 / 326 .(48) انظر : الموافقات 5 / 99 ، أدب المفتي والمستفتي ص 125 , 126 .(49) مراتب الإجماع ص 58 .(50) أدب المفتي والمستفتي ص 125(51) جامع بيان العلم وفضله ؛ انظر : شرح الكوكب المنير 4 / 578 ؛ فواتح الرحموت 2/ 406 ؛حاشية العطار على جمع الجوامع 2 / 442 .(52) انظر : الموافقات 5 / 79 – 105 .
(53) تهذيب الفروق 2 / 117 .(54) الموافقات 5 / 97 .
(55) البحر المحيط 6 / 325 ؛ إرشاد الفحول ص 272 .(56) إرشاد الفحول ص 272 .(57) أورده الحافظ ابن القيم في حاشيته على سنن أبي داود وقال فيه : رواه ابن بطة وغيره بإسناد حسن ، وقال أيضاً : وإسناده مما يصححه الترمذي . انظر : عون المعبود 9 / 244 .
(58) انظر : أدب المفتى والمستفتي ص 111 ؛ المجموع 1 / 81 ؛ تبصرة الحكام لابن فرحون 1 / 51 ؛ الموافقات 5 / 91 ؛ إعلام الموقعين 4 / 175 ؛ حاشية العطار على جمع الجوامع 2 / 442 .
(59) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ص 250 .(60) انظر : تبصرة الحكام 1 / 64 .
(61) إعلام الموقعين 4 / 170 , 171 .
(62) انظر : الفتاوى الكبرى 3 / 430 وما بعدها ؛ الموافقات 3 / 108 – 116 ، 5 / 187 .
(63) الموافقات 5/276-278 .(64) انظر : الموافقات 2 / 286 ؛ أدب المفتي والمستفتي ص 111,112 ؛ المجموع 1 / 51 .(65) جامع بيان العلم وفضله 1 / 784 .
(66) انظر : الفتوى في الإسلام للقاسمي ص 59 ؛ الاجتهاد المعاصر ص 91 ؛ الاجتهاد في الإسلام د . القرضاوي ص 178 ؛ الفتوى بين الانضباط والتسيب د . القرضاوي ص 111 ؛ أحكام الفتوى والاستفتاء د . عبد الحميد مهيوب ص 112 – 115؛ دار الكتاب الجامعي بمصر 1404هـ ؛ أصول الفتوى والقضاء د . محمد رياض ص 232 .
المطلب الثاني : الضوابط التي ينبغي أن يراعيها المجتهد قبل الحكم في النازلة
يتعلق بالنظر في النوازل شروط جمة منها العلم والعدالة ؛ فشرط العلم يدخل فيه الإخبار بالحكم الشرعي على الوجه الأكمل بعد معرفة الواقعة من جميع جوانبها .
وشرط العدالة يدخل فيه عدم التساهل في الفتوى بالشرع والمحاباة فيها ، مع مراعاة وجه الحق في كل ذلك والنظر إلى مشكلات الناس برحمة ويسر الشرع ، وحمل أفعالهم على الوسط في أحكامه .
إلى غيرها من الشروط التي ذكرها أهل العلم فيمن يتصدى للنظر والإفتاء ، وهي كالتكملة والتتمة لما ينبغي أن يكون عليه الناظر من العدالة والعلم (1).
إلا أن خطة النظر والاجتهاد والإفتاء في النوازل والواقعات قد أصابتها عوارض أخرجتها عن النهج الذي قرره أهل العلم من مبادئ وأسس للنظر ، وهذا النوع من الخلل إما أن يكون من جهة الزيغ في إصدار الأحكام ، أو في كيفية النظر في تناول هذه المستجدات ، وإما من جهة انحراف الناظر وعدم إخلاصه وتقواه في فتواه واجتهاده ؛ مما جعل بعض الأئمة والعلماء يتذمرون ويشتكون من ذلك في كل عصر يخرج فيه أهل النظر والاجتهاد عن الطريق السوي .
وقد حصل ما يدل على ذلك في عهد مبكر يشهد عليه الإمام مالك ـ رحمه الله ـ حيث قال : (( ما شيء أشد عليّ من أن أُسأل عن مسألة من الحلال والحرام لأن هذا هو القطع في حكم الله ، ولقد أدركت أهل العلم والفقه في بلدنا وإن أحدهم إذا سئل عن مسألة كأن الموت أشرف عليه ، ورأيت أهل زماننا هذا يشتهون الكلام فيه والفتيا ، ولو وقفوا على ما يصيرون إليه غداً لقللوا من هذا ، وإن عمر بن الخطاب وعلياً وعلقمة:(2) خيار الصحابة كانت ترد عليهم المسائل وهم خير القرون الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يجمعون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويسألون ،ثم حينئذٍ يفتون فيها وأهل زماننا هذا قد صار فخرهم الفتيا ، فبقدر ذلك يُفتح لهم من العلم ))(3).(/10)
ويتضح لنا من كلام الإمام مالك ـ رحمه الله ـ المنهجية المثلى التي كان السلف رحمهم الله يتبعونها عند نظرهم واجتهادهم في الأحكام والواقعات من عدم التسرع في الفتوى أو التقصير في بحثها ، والنظر فيها ، أو قلة التحري والتشاور في أمرها ، مما يؤدي إلى انخرامٍ ظاهرٍ في نظام النظر والاجتهاد و الفتيا أو تسيبٍ واعتسافٍ في احترام هذا المقام العالي من الشريعة (4). ومن أجل هذه الأهمية في المحافظة على هذا المقام والتأكيد على ما يحتاجه الفقيه من ضوابط وشروط للنظر لا سيما في النوازل المعاصرة التي يكثر فيها زلل الأقدام وانحراف الأفهام وذلك بما تميز به عصرنا من صراعات ثقافية وتيارات فكرية بالإضافة إلى كثرة المؤثرات النفسية والاجتماعية والسياسية مما يجعلها في عصرنا أشد من أي عصر مضى ، ويزداد أمر الانحراف في الاجتهاد والنظر خطراً تبعاً لاتساع دائرة انتشار هذه الاجتهادات والفتاوى بواسطة وسائل الإعلام الحديثة من طبع ونشر وإذاعة وتلفزة .
إن الضوابط والآداب التي ينبغي أن يراعيها الناظر في النوازل وخصوصاً ما كان منها معاصراً ، منها ما يحتاجه قبل الحكم في النازلة وهذا النوع من الضوابط يكون ضرورياً لإعطاء المجتهد أهلية كاملة وعدة كافية يتسنى بها الخوض للنظر والاجتهاد في حكمها ، وهناك ضوابط أخرى يحتاجها الناظر أثناء البحث والاجتهاد في حكم النازلة ، ينتج من خلال هذه الضوابط أقرب الأحكام للصواب وأوفقها للحق ؛ بإذن الله :
وسيكون البحث في هذا المطلب حول أهم الضوابط التي يحتاجها الناظر في النوازل قبل الحكم في النازلة ؛ على النحو التالي :
أولاً : التأكد من وقوعها
الأصل في المسائل النازلة وقوعها وحدوثها في واقع الأمر ، وعندها ينبغي أن ينظر المجتهد في التحقق من وقوعها والتأكد من حدوثها ، ومن ثمَّ استنباط حكمها الشرعي ، وقد يحصل أن يُسأل الفقيه المجتهد عن مسألة لم تقع تكلفاً من السائل وتعمقاً منه في تخيلات وتوقعات لا تفيد صاحبها ولا تنفع عالماً أو متعلماً ، وذلك لبعد وقوعها واستحالة حدوثها .
ولا يخفى أن التوغل في باب الاجتهاد إنما هو للحاجة التي تنزل بالمكلف يحتاج فيها إلى معرفة حكم الشرع وإلا وقع في الحرج والعنت أو الخوض في مسائل الشريعة بغير علم أو هدى ، أما إذا كان باب الاجتهاد مفتوحاً من غير حاجة وقعت ودون حادثة نزلت،فلا شك في كراهية النظر في مسائل لم تنزل أو يستبعد وقوعها(5).ويؤيد ذلك ما جاء عن سلفنا الصالح من كراهية السؤال عمَّا لم يقع وامتناعهم عن الإفتاء ، فيها وبعضهم ذهب إلى التشديد في ذلك والنهي عنه (6).
ويروى عن الصحابة في ذلك آثار كثيرة منها :-
- أن رجلاً جاء إلى ابن عمر رضي الله عنهما فسأله عن شيء ؛ فقال له ابن عمر رضي الله عنهما : (( لا تسأل عما لم يكن فإني سمعت عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يلعن من سأل عما لم يكن ))(7).
- وكان زيد بن ثابت رضي الله عنه إذا سأله إنسان عن شيء قال : (( آلله ! أكان هذا ؟ فإن قال : نعم ، نظر وإلا لم يتكلم ))(8).
- وعن مسروق قال : كنت أمشي مع أبي بن كعب رضي الله عنه فقال : فتىً : ما تقول يا عماه في كذا وكذا ؛ قال : يا بن أخي ! أكان هذا ؟ قال : لا ، قال : فاعفنا حتى يكون ))(9).
- ويروى عن عبد الملك بن مروان ـ رحمه الله ـ أنه سأل ابن شهاب ـ رحمه الله ـ، فقال له ابن شهاب : أكان هذا بأمير المؤمنين ؟ قال : لا ، قال : فدعه ، فإنه إذا كان ، أتى الله عز وجل له بفرج ))(10).
فهذه الآثار وغيرها كثير ؛ تبين حرص الصحابة والتابعين على عدم الخوض في مسائل لم تقع سواءً بالسؤال عنها أو بالجواب فيها ؛ لأن النظر فيها لا ينفع كما
هو معلوم عن الصحابة رضي الله عنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال فيهم ابن عباس رضي الله عنهما : (( ما رأيت قوماً كانوا خيراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وما سألوا إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض كلهن في القرآن ، وما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم ))(11).
ويوضح ابن القيم ـ رحمه الله ـ مقصد ابن عباس بقوله : ( ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة ) (( المسائل التي حكاها الله في القرآن عنهم، وإلا فالمسائل التي سألوه عنها وبين لهم أحكامها في السنة لا تكاد تحصى ولكن إنما كانوا يسألونه عما ينفعهم من الواقعات ولم يكونوا يسألونه عن المقدرات والأغلوطات وعضل المسائل ، ولم يكونوا يشتغلون بتفريع المسائل وتوليدها ، بل كانت هممهم مقصورة على تنفيذ ما أمرهم به ، فإذا وقع بهم أمر سألوا عنه ، فأجابهم ، وقد قال الله تعالى :[ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ *قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ ](12) ))(13).(/11)
فعلى المجتهد أو المفتي في النوازل أن يتأكد من وقوع النازلة ولا ينظر في المسائل الغريبة والنادرة أو المستبعدة الحصول ، ولكن إذا كانت المسألة ولو لم تقع منصوصاً عليها ، أو كان حصولها متوقعاً عقلاً فتستحب الإجابة عنها ، والبحث فيها ؛ من أجل البيان والتوضيح ومعرفة حكمها إذا نزلت .
وفي هذا يقول الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ بعد أن حكى امتناع السلف عن الإجابة في ما لم يقع : (( والحق التفصيل ، فإذا كان في المسألة نص من كتاب الله أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أثر عن الصحابة لم يكره الكلام فيها وإن لم يكن فيها نص ولا أثر ؛ فإن كانت بعيدة الوقوع أو مقدرة لا تقع لم يستحب له الكلام فيها .
وإن كان وقوعها غير نادر ولا مستبعد ، وغرض السائل الإحاطة بعلمها ليكون منها على بصيرة إذا وقعت استحب له الجواب بما يعلم ولا سيما إن كان السائل يتفقه بذلك ، ويعتبر بها نظائرها ويفرع عليها فحيث كانت مصلحة الجواب راجحة كان هو الأولى والله أعلم ))(14).
ثانياً : أن تكون النازلة من المسائل التي يسوغ النظر فيها
بينا فيما سبق أهمية مراعاة المجتهد وتأكده من وقوع النازلة وترك النظر عما لم يقع أو يستبعد وقوعه عقلاً وذلك حتى لا ينشغل أهل الاجتهاد عما هو واقع فعلاً أو ما لا نفع فيه ولا فائدة .
وإذا قررنا مبدأ النظر في الوقائع الحادثة للناس والمجتمعات ؛ فللمجتهد بعد ذلك أن يعرف ما يسوغ النظر فيه من المسائل وما لا يسوغ ؛ وهذا الضابط لا ينفك عن الذي قبله ، وذلك لان المجتهد قد يترك الاجتهاد في بعض المسائل التي لا يسوغ فيها النظر لأن حكمها كحكم ما لم يقع من المسائل لعدم الفائدة والنفع من ورائها فالضابط الذي ينبغي أن يراعيه المجتهد الناظر ألا يشغل نفسه وغيره من أهل العلم إلا بما ينفع الناس ويحتاجون إليه في واقع دينهم ودنياهم .
أما الأسئلة التي يريد بها أصحابها المراء والجدال أو التعالم والتفاصح أو امتحان المفتي وتعجيزه أو الخوض فيما لا يحسنه أهل العلم والنظر ، أو نحو ذلك فهذه مما ينبغي للناظر أن لا يلقي لها بالاً ؛ لأنها تضر ولا تنفع وتهدم ولا تبني وقد تفرق ولا تجمع .
وقد ورد النهي عن ذلك كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه : (( نهى عن الغلوطات ))(15).
وجاء عن معاوية رضي الله عنه : أنهم ذكروا المسائل عنده ، فقال : (( أما تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن عضل المسائل ))(16).
قال الخطابي ـ رحمه الله ـ في هذا المعني : (( أنه نهي أن يُعترض العلماء بصعاب المسائل التي يكثر فيها الغلط ليستزلوا و يسقط رأيهم فيها ، وفيه كراهية التعمق والتكلف فيما لا حاجة للإنسان إليه من المسألة ووجوب التوقف عما لا علم للمسؤول به ))(17).
فشداد المسائل وصعابها مما لا نفع فيه ولا فائدة إلا إعنات المسئول لاشك أنه مذموم شرعاً ينبغي أن يحذر الفقيه أو الناظر من الانسياق الملهي خلف هذه المسائل والانشغال بها عما هو أهم وأعظم ، كذلك ينبغي للناظر أن لا يقحم نفسه ويجتهد في المسائل التي ورد بها النص إذ القاعدة فيها : (( لا مساغ للاجتهاد في مورد النص ))(18).
والمقصود بهذه القاعدة – على وجه الإجمال – ما قاله الإمام الزركشي ـ رحمه الله ـ أن (( المجتهد فيه وهو كل حكم شرعي عملي أو علمي(19) يقصد به العلم ليس فيه دليل قطعي ))(20).
ويمكن من خلال النقاط التالية إبراز ما يسوغ للمجتهد أن ينظر فيه من النوازل بإجمالٍ :-
1-أن تكون هذه المسألة المجتهد فيها غير منصوصٍ عليها بنصٍ قاطعٍ أو مجمع عليها .
2- أن يكون النص الوارد في هذه المسألة – إن ورد فيها نصٌ – محتملاً قابلاً للتأويل .
3- أن تكون المسألة مترددة بين طرفين وضح في كل واحدٍ منهما مقصد الشارع في الإثبات في أحدهما والنفي في الآخر(21).
4- أن لا تكون المسألة المجتهد فيها من مسائل أصول العقيدة والتوحيد أو في المتشابه من القرآن والسنة .
5- أن تكون المسألة المجتهد فيها من النوازل والوقائع أو مما يمكن وقوعها في الغالب والحاجة إليها ماسة(22).
ثالثاً : فهم النازلة فهماً دقيقاً :
إن فقه النوازل المعاصرة من أدق مسالك الفقه وأعوصها حيث إن الناظر فيها يطرق موضوعات لم تطرق من قبل ولم يرد فيها عن السلف قول ، بل هي قضايا مستجدة، يغلب على معظمها طابع العصر الحديث المتميز بابتكار حلولٍ علمية لمشكلات متنوعة قديمة وحديثة واستحداث وسائل جديدة لم تكن تخطر ببال البشر يوماً من الدهر والله أعلم .
من هذا المنطلق كان لا بد للفقيه المجتهد من فهم النازلة فهماً دقيقاً وتصورها تصوراً صحيحاً قبل البدء في بحث حكمها ، والحكم على الشيء فرع عن تصوره، وكم أُتِي الباحث أو العالم من جهة جهله بحقيقة الأمر الذي يتحدث فيه ؟ فالناس في واقعهم يعيشون أمراً ، والباحث يتصور أمراً آخر ويحكم عليه .(/12)
فلابد حينئذ من تفهم المسألة من جميع جوانبها والتعرف على جميع أبعادها وظروفها وأصولها وفروعها ومصطلحاتها وغير ذلك مما له تأثير في الحكم فيها(23).
ولأهمية هذا الضابط جاء في كتاب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما ما يؤكد ضرورة الفهم الدقيق للواقعة حيث جاء فيه : (( أما بعد، فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة ، فافهم إذا أُدليَ إليك ؛ فإنه لا ينفع تكلم بالحق لا نفاذ له…ثم الفهم الفهم فيما أدلي إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة ثم قايس الأمور عند ذلك ، واعرف الأمثال ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق ))(24).
يقول الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ معلقاً وشارحاً هذا الكتاب بقوله : (( ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم :
أحدهما : فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علماً .
والنوع الثاني : فهم الواجب في الواقع وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع ثم يطبق أحدهما على الآخر ؛ فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجراً … ومن تأمل الشريعة وقضايا الصحابة وجدها طافحةً بهذا ، ومن سلك غير هذا أضاع على الناس حقوقهم ، ونسبه إلى الشريعة التي بعث الله بها رسوله ))(25).
ومما ينبغي أن يتفطن له المفتي أو الناظر التبيّن من مقصود السائل أو المستفتي وطلب المزيد من الإيضاح والاستفصال منه ؛ وذلك حين لا يفهم المفتي صورة النازلة كما يجب ، من أجل التعرف السليم على الحكم الشرعي الذي تندرج تحته تلك النازلة أو حين يكون الأمر يدعو إلى التفصيل والإيضاح .
وقد ضرب ابن القيم ـ رحمه الله ـ عدَّة أمثلةٍ في هذا المجال فمن ذلك :
(( - إذا سُئِلَ عن رجل حلف لا يفعل كذا وكذا ، ففعله ؛ لم يجز له أن يفتي بحنثه حتى يستفصله ؛ هل كان ثابت العقل وقت فعله أم لا ؟ وإذا كان ثابت العقل فهل كان مختاراً في يمينه أم لا ؟ وإذا كان مختاراً فهل استثنى عقيب يمينه أم لا ؟ وإذا لم يستثن فهل فعل المحلوف عليه عالماً ذاكراً مختاراً أم كان ناسياً أو جاهلاً أو مكرهاً؟ وإذا كان عالماً مختاراً فهل كان المحلوف عليه داخلاً في قصده ونيته أو قصد عدم دخوله مخصصه بنيته أو لم يقصد دخوله ولا نوى تخصيصه ؟ فإن الحنث يختلف باختلاف ذلك كله ))(26).
فالمقصود أن يتنبه المفتي والناظر على وجوب الفهم الكامل للنازلة والاستفصال عند وجود الاحتمال لأن المسائل النازلة ترد في قوالب متنوعة وكثيرة فإن لم يتفطن لذلك المجتهد أو المفتي هلك وأهلك(27).
والمتأمل في بعض فقهاء العصر يجد بعضهم يجازف بالفتوى في أمور المعاملات الحديثة مثل التأمين بأنواعه وأعمال البنوك والأسهم والسندات وأصناف الشركات ، فيحرم ويحلل ، دون أن يحيط بهذه الأشياء خبراً ويدرسها جيداً ومهما يكن علمه بالنصوص عظيماً ومعرفته بالأدلة واسعة ، فإن هذا لا يغني ما لم يؤيد ذلك معرفة تامة بالواقعة المسئول عنها وفهمه لحقيقتها الراهنة (28).
رابعاً : التثبت والتحري واستشارة أهل الاختصاص :
بيّنا في الضابط السابق أهمية فهم النازلة فهماً دقيقاً واضحاً كافياً يجعل الناظر متصوراً حقيقة المسألة تصوراً صحيحاً يحسن بعدها أن يحكم بما يراه الحق فيها وقد يحتاج الفقيه أن يستفصل من السائل عند ورود الاحتمال إذا دعى إلى ذلك المقام .
ومما ينبغي أيضاً للناظر أن يراعيه هنا زيادة التثبت والتحري للمسألة وعدم الاستعجال في الحكم عليها والتأني في نظره لها فقد يطرأ ما يغير واقع المسألة أو يصل إليه علم ينافي حقيقتها وما يلزم منها ، فإذا أفتى أو حكم من خلال نظرٍ قاصرٍ أو قلة بحثٍ وتثبتٍ وتروٍ فقد يخطئ الصواب ويقع في محذور يزل فيه خلق
كثير((29).
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يؤيد التثبت والتحري في الفتيا والاجتهاد ؛ ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : (( من أفتى بفتيا غير ثبت ، فإنما إثمه على من أفتاه ))(30).وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام : (( أجرأكم على الفتيا أجرأكم على النار )) (31)
، و يروى عن ابن مسعود رضي الله عنه قوله : (( من أجاب الناس في كل ما يسألونه عنه فهو مجنون ))(32).
وكان ابن مسعود رضي الله عنه يُسأَل عن المسألة فيتفكر فيها شهراً ، ثم يقول: (( اللهم إن كان صواباً فمن عندك ، وإن كان خطأ فمن ابن مسعود ))(33).
وجاء عن الإمام مالك ـ رحمه الله ـ أنه قال : (( إني لأفكر في مسألة منذ بضع عشرة سنة ، فما اتفق لي فيها رأي إلى الآن ))(34) . وقال أيضاً : (( ربما وردت عليَّ المسألة فأفكر فيها ليالي ))(35).(/13)
ولاشك في دلالة هذه الأحاديث والآثار على أهمية التثبت في الفتوى وعدم الاستعجال في إجابة كل أحدٍ دون تروٍ ونظرٍ ، فالمفتي في النوازل إذا وضع نصب عينيه أهمية خطته وشرفها اتخذ الإخلاص والتثبت شعاره ضمن النجاح في القيام بمسئوليته الجسيمة (36).
يقول الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ في ذلك : (( حقيق بمن أقيم في هذا المنصب أن يعدّ له عدّته وأن يتأهب له أهبته وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه , ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصدع به ، فإن الله ناصره وهاديه ، وكيف وهو المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب ))(37).
ومما ينبغي أن يراعيه الناظر في النوازل من التثبت والتحري استشارة أهل الاختصاص ، وخصوصاً في النوازل المعاصرة المتعلقة بأبواب الطب والاقتصاد والفلك وغير ذلك ، والرجوع إلى علمهم في مثل تلك التخصصات عملاً بقوله تعالى :[ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ](38).
فإن كانت النازلة متعلقة بالطب مثلاً ، وجب الرجوع إلى أهل الطب وسؤالهم والاستيضاح منهم ، وإن كانت النازلة متعلقة بالاقتصاد والمال فيُرجَعُ حينئذٍ لأصحاب الاختصاص في الاقتصاد أو للمراجع المختصة في ذلك الشأن ، فالذي لا يعرف حقيقة النقود الورقية المعاصرة أفتى بأنها لا زكاة فيها ، أو أن الربا لا يجري فيها اعتماداً على أنها ليست ذهباً أو فضة(39).
كما أن الذي لا يعرف مجريات ما يسمى ( بأطفال الأنابيب ) لا يستطيع أن يعطي فتوى صحيحة فيها بالحِلِّ أو الحرمة إلا إذا وضحت له حالات هذه العملية
وفروضها ، فيستطيع حينئذٍ أن يعطي الحكم المناسب لكل حالة (40).
ولعل في اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الاستشارة ضمانٌ للمفتي من القول بلا علم وخصوصاً فيما ينزل من مسائل معاصرة ، والاجتهاد الجماعي في وقتنا الحاضر المتمثل بالمجامع الفقهية وهيئات الإفتاء ومراكز البحث العلمي تحقق الدور المنشود الذي ينبغي للمفتي أو المجتهد مراعاته والالتزام به لتتسع دائرة العلم وتزداد حلقة المشورة من أجل الحيطة والكفاية في البحث والنظر .
يقول الخطيب البغدادي ـ رحمه الله ـ معلقاً على أهمية ذلك : (( ثم يذكر المسألة ـ أي المفتي ـ لمن بحضرته ممن يصلح لذلك من أهل العلم ويشاورهم في الجواب ، ويسأل كل واحد منهم عما عنده ، فإن في ذلك بركة واقتداء بالسلف الصالح ، وقد قال الله تبارك وتعالى : [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ ](41) ، وشاور النبي صلى الله عليه وسلم في مواضع وأشياء وأمر بالمشاورة ، وكانت الصحابة تشاور في الفتاوى والأحكام ))(42).
خامساً : الالتجاء إلى الله عز وجل وسؤاله الإعانة والتوفيق
وهذا الضابط من أهم الآداب التي ينبغي أن يراعيها الناظر في النوازل ليوفق للصواب ويفتح عليه بالجواب ، وما ذلك إلا من عند الله العليم الحكيم ، القائل في كتابه الكريم ؛ يحكي عن الملائكة : [ سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ](43).
وقد استحب بعض العلماء للمفتي أن يقرأ هذه الآية وكذلك قوله تعالى : [ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي*وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي *وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي](44)وغيرها من الأدعية والأوراد لأن من ثابر على تحقيق هذه الصلة الملتجئة بالله كان حرياً بالتوفيق في نظره وفتواه (45).
وما أروع ما قاله الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ مؤكداً هذا النوع من الأدب للمفتي : (( ينبغي للمفتي الموفق إذا نزلت به المسألة أن ينبعث من قلبه الافتقار الحقيقي الحالي لا العلمي المجرد إلى ملهم الصواب ومعلم الخير وهادي القلوب أن يلهمه الصواب ويفتح له طريق السداد ويدله على حكمه الذي شرعه لعباده في هذه المسألة ، فمتى قرع هذا الباب فقد قرع باب التوفيق ، وما أجدر من أمّل فضل ربه أن لا يحرمه إياه ، فإذا وجد في قلبه هذه الهمة فهي طلائع بشرى التوفيق، فعليه أن يوجه وجهه ويحدق نظره إلى منبع الهدى ومعدن الصواب ومطلع الرشد وهو النصوص من القرآن والسنة وآثار الصحابة ، فيستفرغ وسعه في تعرف حكم تلك النازلة منها ، فإن ظفر بذلك أخبر به وإن اشتبه عليه بادر إلى التوبة والاستغفار والإكثار من ذكر الله ، فإن العلم نور الله يقذفه في قلب عبده ، والهوى والمعصية رياح عاصفة تطفئ لك النور أو تكاد ولا بد أن تضعفه ، وشهدتُ شيخ الإسلام ـ ابن تيمية ـ قدس الله روحه إذا أعيته المسائل واستصعب عليه ، فرّ منها إلى التوبة والاستغفار و الاستغاثة بالله واللجوء إليه ، واستنزال الصواب من عنده والاستفتاح من خزائن رحمته ، فقلما يلبث المدد الإلهي أن يتتابع عليه مداً ، وتزدلف الفتوحات الإلهية إليه بأيتهن يبدأ .. ))(46)(/14)
ولعل من أشد المزالق التي يقع بها بعض المفتين ضعف الصلة بالله عز وجل وقلة الورع ، مما قد يؤدي إلى سلوك هذا الصنف من المفتين إلى إرضاء أهوائهم أو أهواء غيرهم ممن ترجى عطاياه وتخشى رزاياه ، أو قد يكون باتباع أهواء العامة والجري وراء إرضائهم بالتساهل أو بالتشديد ، وكله من اتباع الهوى المضل عن الحق .
والله عز وجل قد حذر من ذلك حيث قال : [ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الأمْرِ فَاتَّبِعْهَا ولا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُون*إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ](47).
وكذلك قوله تعالى يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم أيضاً بقوله : [وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَ احْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ](48) ، إلى غيرها من الآيات والأحاديث .
وصدق الإمام سفيان الثوري ـ رحمه الله ـ حيث قال : (( ما من الناس أعز من فقيه ورع)) (49) . ويعلل الإمام الشاطبي عزّة وندرة هذا النوع من الفقهاء ؛ بأن أفعاله قد طابقت أقواله فيقول ـ رحمه الله ـ : (( فوعظه أبلغ وقوله أنفع وفتواه أوقع في القلوب ممن ليس كذلك ، لأنه الذي ظهرت ينابيع العلم عليه واستنارت كليته به، وصار كلامه خارجاً من صميم القلب ، والكلام إذا خرج من القلب وقع في القلب ،ومن كان بهذه الصفة فهو من الذين قال الله فيهم : [ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ] (50) ، بخلاف من لم يكن كذلك،فإنه وإن كان عدلاً وصادقاً وفاضلاً لا يبلغ كلامه من القلوب هذا المبلغ،حسبما حققته التجربة العادية))(51).
فما أحوج الفقيه المفتي في عصرنا الحاضر إلى تقوية الصلة بالله والافتقار إليه حتى يكون في حمى الإيمان بالله مستعلياً وعن الخلق مستغنياً وبالحق والصواب موفقاً ـ بإذن الله ـ (52).
فهذه بعض الضوابط التي ينبغي للناظر والمجتهد في النوازل مراعاتها قبل البحث في حكم النازلة .
والحقيقة أن هناك ضوابط وآداب أخرى كثيرة ذكرها أهل العلم ـ ربما يندرج بعضها فيما ذكرنا ـ لعل من أهمها مناسبة للمقام في هذا المطلب ما قاله الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ : (( لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال
1-أن تكون له نية ، فإن لم يكن له نية ؛ لم يكن عليه نور ولا على كلامه نور .
2-أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة .
3-أن يكون قوياً على ما هو فيه وعلى معرفته .
4-الكفاية وإلا مضغه الناس .
5-معرفة الناس )) (53) ، وقد وفّى وكفى الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ في بيانها وشرحها بالدليل والبرهان في كتابه القيم إعلام الموقعين (54).
________________________________________
(1) انظر : التفصيل في شروط الاجتهاد في النوازل في كتب الأصول .
(2) يحتمل أن يكون علقمة بن وقاص الليثي المدني ، وذكر مسلم وابن عبد البر أنه ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وذكره ابن منده في عداد الصحابة وقال الحافظ ابن حجر في التقريب : " ثقة ثبت ، أخطأ من زعم أن له صحبه " التقريب ( 4701 ) ، انظر : تهذيب التهذيب 7 / 240 .
ويحتمل أن يكون علقمة بن قيس النخعي صاحب ابن مسعود رضي الله عنه وكان أشبه الناس به سمتاً وهدياً .وكان بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه ويستفتونه ، توفي عام 62 هـ . وذكر مالكٍ له في الصحابة تجوّز .
انظر ترجمته : تهذيب التهذيب 7 / 237 ، صفة الصفوة 3 / 27 .
(3) ترتيب المدارك 1 / 179 .
(4) انظر : الفقيه والمتفقه 2 / 386-428 ؛ جامع بيان العلم وفضله 1 / 501- 529،559 ؛ الآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 44-55 ؛ تغليظ الملام على المتسرعين إلى الفتيا الشيخ حمود التويجري ص 6-47 ؛ أصول الفتوى والقضاء د . محمد رياض ص 218و219 .
(5) انظر : المحصول للرازي 2 / 493 ؛ نهاية السول ( الحاشية ) 4 / 579 ؛ البحر المحيط 6 / 198 ؛ شرح تنقيح الفصول ص 430 ؛ تقريب الوصول لابن جزي ص 422 ؛ كشف الأسرار للبخاري 4 / 26 .
(6) انظر : جامع بيان العلم وفضله 2 / 1065-1069؛ أدب المفتي والمستفتي ص 109؛ إعلام الموقعين 4 / 170 ؛ جامع العلوم والحكم لابن رجب 1 / 241 ؛ الآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 52-54 ؛ تغليظ الملام للشيخ حمود التويجري ص 23-25 .
(7) أخرجه الدارمي في سننه 1 / 50 ؛ الفقيه والمتفقه 2 / 12 ؛ جامع بيان العلم وفضله 2 / 1067 .
(8) أخرجه الدارمي في سننه 1 / 50 ؛ الفقيه والمتفقه 2 / 13 ؛ جامع بيان العلم وفضله 2 / 1068 .
(9) أخرجه الدارمي في سننه 1 / 56، الفقيه والمتفقه 2 / 14 ، جامع بيان العلم وفضله 2 / 1065
(10) جامع بيان العلم وفضله 2 / 1067 .
(11) أخرجه الدارمي في سننه في المقدمة ، باب كراهية الفتيا رقمه ( 125 ) 1 / 51 .(/15)
وأخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 2 / 1062 .
(12) سورة المائدة : الآيتان : 101 , 102 .
(13) إعلام الموقعين 1 / 56 و 57 .
(14) المرجع السابق 4 / 170 .
(15) رواه أبو داود في سننه كتاب العلم ، باب التوقي في الفتيا ، رقمه ( 3656 ) 4 / 243 ؛ والخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه 2 / 20 رقم 635 . والغلوطات أو الأغلوطات هي : شداد المسائل وفيل : دقيقها ، وقيل ما لا يحتاج إليه من كيف وكيف . انظر : الفقيه والمتفقه 2 / 20 و 21 .
(16) أخرجه الطبراني في الكبير 19 / 368 رقمه ( 865 ) .
(17) معالم السنن للخطابي .
(18) انظر : شرح القواعد الفقهية للشيخ أحمد الزرقا ص 147 ، دار القلم ، الطبعة الثانية 1409 هـ ؛ المدخل الفقهي العام مصطفى الزرقا 2 / 1008 ؛ الوجيز في إيضاح القواعد الفقهية الكلية د . البورنو ص 328 .
(19) المقصود بالعلمي : " ما تضمنه علم الأصول من المظنونات التي يستند العمل إليها " البحر المحيط 6 / 227 .
(20) البحر المحيط 6 / 227 .
(21) انظر : الموافقات 5 / 114 – 118 .
(22) انظر : الرسالة ص 560 ، الفصول في الأصول للجصاص 4 / 13 ؛ جامع بيان العلم وفضله 2 / 844-891 ؛ الفقيه والمتفقه 1 / 504 ؛ الموافقات 5 / 114-118 ؛ إعلام الموقعين 1 / 54-56 ، 2 / 199 ؛ شرح الكوكب المنير 4 / 584-588 ؛ جامع العلوم والحكم 1/ 241 – 252 ؛ البحر المحيط 6/227 ؛ الأحكام في تميز الفتاوى عن الأحكام ص 192 ؛ الآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 55 ؛ إرشاد الفحول ص 253 ؛ الاجتهاد فيما لا نص فيه 1 / 16 , 17 ؛ تغليظ الملام للشيخ التويجري ص 28 , 29 ؛ الفتوى بين الانضباط والتسيب ص 120 .
(23) انظر : جامع بيان العلم وفضله 2 / 848 ؛ الفتوى بين الانضباط والتسيب ص 72 ,73 ؛ ضوابط الدراسات الفقهية للعودة 89-92 .
(24) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى رقم ( 20324 ) 10 / 15 طبعة الباز ، وذكره ابن القيم في إعلام الموقعين 1 / 67 وقال : " هذا كتاب جليل تلقاه العلماء بالقبول ".
(25) إعلام الموقعين 1 / 69 .
(26) المرجع السابق 4 / 146 .
(27) انظر : الفقيه والمتفقه 2 / 387 , 388 ؛ الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ص 236 , 237 ؛ إعلام الموقعين 4 / 143-149 ؛ أصول الفتوى والقضاء د . محمد رياض ص 223 ؛ مجموع الفوائد واقتناص الأوابد تأليف : الشيخ ابن سعدي ص 128 , 129 ، دار ابن الجوزي ، الطبعة الأولى 1418هـ .
(28) انظر : الفتوى بين الانضباط والتسيب ص 74 .
(29) انظر : الفقيه والمتفقه 2 / 390 ؛ الموافقات 5 / 323 ,324 ؛ الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ص 236 ,237 ؛ المفتي في الشريعة الإسلامية د . الربيعة ص 31 .
(30) رواه الإمام أحمد في مستده 1 / 321 ، والبيهقي في سننه 10 / 112 – 116 ، والخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه 2 / 328 قال محققه وإسناده حسن لغيره ، وصححه الحكام في المستدرك 1 / 183 رقم ( 61 ) ووافقه الذهبي ، وبنحوه أخرجه أبو داود في سننه كتاب العلم ، باب التوقي في الفتيا رقمه ( 3649 ) 4 / 243 .
(31) أخرجه الدارمي في سننه ، المقدمة ، باب الفتيا وما فيه من الشدة 1 / 69 .
(32) أخرجه الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه 2 / 416 ، وأخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 2 / 1124 .
(33) إعلام الموقعين 1 / 64 .
(34) ترتيب المدارك 1 / 178 .
(35) المرجع السابق .
(36) انظر : فتاوى الإمام الشاطبي د . أبو الأجفان ص 83 .
(37) إعلام الموقعين 1 / 9 .
(38) سورة الأنبياء ، آية : 7 .
(39) انظر : الاجتهاد في الشريعة الإسلامية د . القرضاوي ص 176 .
(40) انظر : بحث المدخل إلى فقه النوازل د . ابو البصل ص 130 ضمن مجلة أبحاث اليرموك العدد (1) عام 1997م .
(41) سورة آل عمران : آية : 159 .
(42) الفقيه والمتفقه 2 / 390 ، انظر أيضاً : إعلام الموقعين 4 / 197 ؛ أدب المفتي والمستفتي ص 138 .
(43) سورة البقرة ، آية 32 .
(44) سورة طه ، الآيات : 25 – 28 .
(45) انظر : أدب المفتي والمستفتي ص 140 , 141 ؛ المجموع 1 / 86 .
(46) إعلام الموقعين 4 / 131 , 132 .
(47) سورة الجاثية ، الآيات : 18 , 19 .
(48) سورة المائدة ، آية : 49 .
(49) أخرجه الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه 2 / 340 .
(50) سورة فاطر ، آية 28 .
(51) الموافقات 5 / 299 .
(52)انظر : الفتوى بين الانضباط والتسيب ص 75-77 ؛ المفتي في الشريعة الإسلامية د . الربيعة ص 27 ؛ أصول الفتوى والقضاء د . محمد رياض ص 220 – 222 ؛ أصول الفتوى د . الحكمي ص 48 ’ 49 .
(53) إعلام الموقعين 4 / 152 .
(54) المرجع السابق 4 / 152 , 160 .
المطلب الثالث:الضوابط التي ينبغي أن يراعيها المجتهد قبل الحكم في النازلة(/16)
بيّنا فيما سبق بعض الضوابط التي يحتاجها الناظر في النوازل قبل الحكم أو الفتيا في الواقعة ، ولعلنا في هذا المطلب أكثر احتياجاً لسوق بعض الضوابط التي ينبغي مراعاتها ، أثناء الحكم على النازلة ، من أجل بلوغ الناظر الدرجة العليا من المعرفة والفهم للأدلة والقواعد وما يتعلق بالنظر من ظروف وأحوال تؤدي بمجموعها إلى استفراغ المجتهد وسعه وجهده للوصول إلى الحكم الصحيح ـ إن شاء الله تعالى فمن هذه الضوابط ما يلي :-
أولاً :الاجتهاد في البحث عن الحكم الشرعي للنازلة :
والمقصود بذلك أن يبذل المجتهد وسعه في البحث عن الحكم الشرعي للنازلة بتتبع طرق الاستنباط المعروفة
والجري في ذلك على سنن النظر المعهودة ، فقد يجد الحكم منصوصاً عليه أو قريباً منه ، وقد يلجأ إلى القياس على الأدلة ، أو التخريج على أقوال الأئمة ؛ مع مراعاة عدم مصادمة حكمه للنصوص والإجماعات الأخرى أو مخالفتها للعقول الصحيحة والفطر السليمة فهذا مسلمٌ اعتباره في الشريعة .
وسوف نتعرض في الفصل القادم ؛ للبحث في طرق معرفة حكم النازلة بشيء من التفصيل ـ بإذن الله ـ ولكن يجدر بنا هنا أن نذكر بعض الآداب التي ينبغي للناظر مراعاتها من خلال هذا الضابط ومما له صلة في مبحثنا:-أ – أن يذكر دليل الحكم في الفتوى النازلة :
يقول الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ في ذلك : (( ينبغي للمفتي أن يذكر دليل الحكم ومأخذه ما أمكنه ذلك ولا يلقيه إلى المستفتي ساذجاً مجرداً عن دليله ومأخذه ، فهذا لضيق عَطَنِه وقلة بضاعته من العلم ، ومن تأمل فتاوى النبي صلى الله عليه وسلم الذي قوله حجة بنفسه رآها مشتملة على التنبيه على حِكمة الحكم ونظيره ووجه مشروعيته )) (1).
وقال ـ رحمه الله ـ في موضع آخر : (( عاب بعض الناس ذكر الاستدلال في الفتوى وهذا العيب أولى بالعيب ، بل جمال الفتوى وروحها هو الدليل ، فكيف يكون ذكر كلام الله ورسوله وإجماع المسلمين وأقوال الصحابة رضوان الله عليهم والقياس الصحيح عيباً )) (2).
ثم بيّن ـ رحمه الله ـ ما صار إليه الأمر في الفتوى بعد الصحابة والتابعين بقوله : (( ثم طال الأمد وبعد العهد بالعلم ، وتقاصرت الهمم إلى أن صار بعضهم يجيب بنعم أو لا فقط ، ولا يذكر للجواب دليلاً ولا مأخذاً ، ولا يعترف بقصوره وفضل من يفتي بالدليل ، ثم نزلنا درجة أخرى إلى أن وصلت الفتوى إلى عيب من يفتي بالدليل وذمه ، ولعله أن يحدث للناس طبقة أخرى لا يدري ما حالهم في الفتاوى؟ !))(3).
ونُقِل عن الإمام الصيمري ـ رحمه الله ـ وغيره القول بعدم مطالبة المفتي بذكر الدليل في فتواه (4).
ولعل الأقرب إلى الصواب في هذه المسألة ـ والله أعلم ـ : أن ذكر الدليل في الفتوى يرجع إلى حال السائل وطبيعة الفتوى أو النازلة ؛ فإذا كان السائل له علم بالشرع ، ودراية في معاني الأدلة ، أو طلب معرفة الدليل ، فينبغي للمفتي أو الناظر ذكر الدليل والحجة أو الحكمة من المشروعية ؛ تطميناً لقلب السائل وزيادة في علمه وتوثيقاً لفهمه ، أما لو كان المستفتي أمياً لا يفقه معنى الدليل فذكره له مضيعة للوقت وخطاباً لمن لا يفهم .
وكذلك لو كانت النازلة تتعلق بمهام الدين ومصالح المسلمين أو بها غموض قد يطرأ في الذهن فينبغي كذلك للمفتي ذكر الدليل والحجة، والاهتمام ببسط الأدلة ما أمكنه ذلك(5).
ب – أن يبين البديل المباح عند المنع من المحظور :
وهذا الأدب له من الأهمية في عصرنا الحاضر القدر العظيم ، وذلك أن كثيراً من المستجدات الواقعة في مجتمعنا المسلم قادمة من مجتمعات كافرة أو منحلة لا تراعي القيم والثوابت الإسلامية ؛ فتغزو مجتمعاتنا بكل قوة مؤثرة ومغرية كالمستجدات المالية والفكرية والإعلامية وغيرها .فيحتاج الفقيه إزاءها أن يقرّ ما هو مقبول مباح شرعاً ويمنع ما هو محظور أو محرم مع بيانه لحكمة ذلك المنع وفتح العوض المناسب والاجتهاد في وضع البدائل المباحة شرعاً حماية للدين وإصلاحاً للناس، وهذا من الفقه والنصح في دين الله عز وجل .
كما قال الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ : (( من فقه المفتي ونصحه إذا سأله المستفتي عن شيء فمنعه منه وكانت حاجته تدعو إليه ؛ أن يدله على ما هو عوض له منه ، فيسد عليه باب المحظور ويفتح له باب المباح وهذا لا يتأتى إلا من عالم ناصح مشفق قد تاجر مع الله وعامله بعلمه ؛ فمثاله من العلماء : مثال الطبيب العالم الناصح في الأطباء ؛ يحمي العليل عما يضره ، ويصف له ما ينفعه ، فهذا شأن أطباء الأديان والأبدان .
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( ما بعث الله من نبي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم ، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم )) (6) وهذا شأن خلق الرسل وورثتهم من بعدهم ))(7).
ج – التمهيد في بيان حكم النازلة :(/17)
ينبغي للناظر في النوازل التمهيد للحكم المستغرب بما يجعله مقبولاً لدى السائلين، وقد ذكر ابن القيم ـ رحمه الله ـ : (( إذا كان الحكم مستغرباً جداً مما تألفه النفوس وإنما ألفت خلافه ، فينبغي للمفتي أن يُوطِّئ قبله ما يكون مؤذناً به؛ كالدليل عليه والمقدمة بين يديه ، فتأمل ذكره سبحانه قصة زكريا وإخراج الولد منه بعد انصرام عصر الشيبة وبلوغه السن الذي لا يولد فيه لمثله في العادة ، فذكر قصته مقدمة بين يدي قصة المسيح وولادته من غير أب ، فإن النفوس لما آنست بولد بين شيخين كبيرين لا يولد لهما عادة سهل عليها التصديق بولادة ولد من غير أب ))(8).
كما ينبغي أيضاً للناظر إن يعدل عن جواب المستفتي عما سأله عنه إلى ما هو أنفع له منه ولا سيما إذا تضمن ذلك بيان ما سأل عنه وذلك من كمال علم المفتي وفقهه ونصحه وشاهده قوله تعالى : (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ )(9).
وقد يحتاج الفقيه الناظر أيضاً أن يجيب السائل بأكثر مما سأله عنه لما فيها من تكميل موضوع السؤال أو لعلةٍ ترتبط بينهما قد يحتاج إليها السائل فيما بعد أو يستفيد منها عموم أهل الواقعة .
وقد ترجم الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ لذلك في صحيحه فقال : (( باب من أجاب السائل بأكثر مما سأله عنه )) ، ثم ذكر حديث ابن عمر رضي الله عنهما ؛ ما يلبس المحرم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا يلبس القميص ولا العمائم ولا السراويلات ، و لا الخفاف ، إلا أن لا يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل الكعبين ))(10).
وهذا أيضاً من كمال العلم والنصح والإرشاد في بيان أحكام النوازل (11).
ثانياً : مراعاة مقاصد الشريعة .
المراد بالمقاصد الشرعية هي : المعاني والحِكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة فيدخل في هذا : أوصاف الشريعة وغايتها العامة والمعاني التي لا يخلو التشريع عن ملاحظتها ويدخل في هذا أيضاً معانٍ من الحكم ليست ملحوظة في سائر أنواع الأحكام ولكنها ملحوظة في أنواع كثيرة منها (12).
وقد يراد بالمقاصد أيضا:الغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقها لمصلحة العباد(13).
فهذه الأسرار والغايات التي وضعت الشريعة لأجلها من حفظ الضروريات وإصلاح لأحوال العباد في الدارين ؛ معرفتها ضرورية على الدوام ولكل الناس، فالمجتهد يحتاج إليها عند استنباط الأحكام وفهم النصوص وغير المجتهد للتعرف على أسرار التشريع .
ولذلك كان الناظر في النوازل في أمس الحاجة إلى مراعاتها عند فهم النصوص لتطبيقها على الوقائع وإلحاق حكمها بالنوازل والمستجدات ، وكذلك إذا أراد التوفيق بين الأدلة المتعارضة فإنه لابد وأن يستعين بمقصد الشرع ، وإن دعته الحاجة إلى بيان حكم الله في مسألة مستجدة عن طريق القياس أو الاستصلاح أو الاستحسان أو العرف المعتبر تحرى بكل دقة أهداف الشريعة ومقاصدها (14).
فإذا ثبت بما لا يدع مجالاً للشك : (( أن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً )(15) ؛ كان لزاماً على المجتهد والمفتي في الوقائع الحادثة اعتبار ما فيه مصلحة للعباد ودرء ما فيه مفسدة عليهم .
فيستحيل أن تأمر الشريعة بما فيه مفسدة أو تنهى عما فيه مصلحة بدليل استقراء آيات القرآن الكريم وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ، يقول الإمام البيضاوي ـ رحمه الله ـ:((إن الاستقراء دل على أن الله سبحانه شرع أحكامه لمصالح العباد ))(16).
ويؤكد على ذلك الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ وهو من المعتنين بذلك بقوله : (( القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مملوءان من تعليل الأحكام والمصالح وتعليل الخلق بها ، والتنبيه على وجوه الحِكم التي لأجلها شرع الأحكام ولأجلها خلق تلك الأعيان ولو كان هذا في القرآن والسنة في نحو مائة موضع أو مائتين لسقناهما ، ولكنه يزيد على ألف موضع بطرق متنوعة )) (17) .
فينبغي عندئذٍ أن يراعي الناظر في النوازل تحقيق المصالح في حكمه وفتواه حتى لا يخرج عن كليات الشريعة ومقاصدها العليا .
ولعلنا أن نذكر في هذا المقام بعض الجوانب المهمة التي ينبغي أن يدركها الناظر في النوازل من خلال
مراعاته لمقاصد التشريع ، وهي كالتالي : -
أ – تحقيق المصلحة الشرعية عند النظر :
إن اعتبار تحقيق المصلحة الشرعية عند النظر هو من مقصود الشرع الذي حافظ على ما يجلب فيه النفع ويدفع فيه الضرر ، وكثيراً ما يكون اجتهاد الناظر في النوازل بناءً على اعتبار حجِية المصلحة المرسلة التي لم يرد في الشرع نصٌ على اعتبارها بعينها أو بنوعها ولا على استبعادها ولكنها داخلة ضمن مقاصد الشرع الحنيف وجمهور العلماء على اعتبار حجيتها (18).(/18)
ولذلك قال الإمام الآمدي ـ رحمه الله ـ : (( فلو لم تكن المصلحة المرسلة حجة أفضى ذلك أيضاً إلى خلو الوقائع عن الأحكام الشرعية لعدم وجود النص أو الإجماع أو القياس فيها ))(19) .
وواقعنا المعاصر يشهد على اعتبار المصلحة المرسلة في كثير من المسائل المستجدة في الأنظمة المدنية والدولية وصورٍ من التوثيقات اللازمة لبعض العقود المالية والزوجية وغيرها .
وإذا لم يكن للفقيه فهم وإدراك لمقاصد الشرع وحفظ ضرورياته ؛ و إلا أغلق الباب بالمنع على كثير من المباحات أو فتحه على مصراعيه بتجويز كثير من المحظورات .
ولهذا ذكر الأصوليون عدَة ضوابط من أجل تحقق المصلحة المعتبرة والعمل بها عند النظر والاجتهاد ، وهي بإيجاز : -
1- اندراج المصلحة ضمن مقاصد الشريعة .
2- أن لا تخالف نصوص الكتاب والسنة .
3- أن تكون المصلحة قطعية أو يغلب على الظن وجودها .
4- أن تكون المصلحة كلية .
5- ألا يفوت اعتبار المصلحة مصلحة أهم منها أو مساوية لها (20).
ومما ينبغي للناظر في النوازل في هذا المقام ؛ أنه إذا أفتى في واقعة بفتوى مراعياً فيها مصلحة شرعية ما ، فإن عليه أن يعود في فتواه ويغير حكمه فيها في حالة تغيّر المصلحة التي روعيت في الفتوى الأولى ،ولا يخفى أن تغير الفتوى هنا إنما هوتغيرٌّ في حيثيات الحكم لا تغيرٌّ في الشرع ، والحكم يتغير بحسب حيثياته ومناطه المتعلق به ، وهذا أمر ظاهر .
ولعل من الأمثلة على ذلك : السفر إلى بلاد الكفار فإن كانت فيه مصلحة مرجوة تعود على صاحبها بالنفع الديني أو العلمي أو المادي كان السفر جائزاً ، وإذا زالت المصلحة أو قلت فلا يجوز حينئذٍ السفر للمضار المترتبة على ذلك(21).
ب ـ اعتبار قاعدة رفع الحرج :
يقصد بالحرج : (( كل ما يؤدي إلى مشقة زائدة في البدن أو النفس أو المال حالاً أو مآلاً ))
(22) ، فيكون المراد برفع الحرج : ((التيسير على المكلفين بإبعاد المشقة عنهم في مخاطبتهم بتكاليف الشريعة الإسلامية )) (23) .
وقد دلت الأدلة على رفع الحرج من الكتاب والسنة حتى صار أصلاً مقطوعاً به في الشريعة .
كما في قوله تعالى : (( مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ )) (24) ، وقوله تعالى : (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (25) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم :
(( إن هذا الدين يسر ))(26)،
إلى غيرها من الأدلة المتواترة في حجية هذا الأصل .
فإذا تبين لنا قطعية هذا الأصل وجب على المجتهد أن يراعي هذه القاعدة فيما ينظر فيه من وقائع ومستجدات ، بحيث لا يفتي أو يحكم بما لا يطاق شرعاً من المشاق ، كما يجب عليه أن يراعي الترخيص في الفعل أو الترك على المكلفين الذين تتحقق فيهم الأعذار والمسوغات الشرعية المبيحة لذلك ، كما في الترخيص في الضروريات أو التخفيف لأصحاب الأعذار ورفع المؤاخذة عنهم(27).
وهناك شروط لابد للناظر من تحقيقها عند اعتباره لقاعدة رفع الحرج فيما يعرض له من نوازل وواقعات ، وهي :
1 ـ أن يكون الحرج حقيقياً ، وهو ما له سبب معين واقع ؛ كالمرض والسفر ، أو ما تحقق بوجوده مشقة خارجة عن المعتاد ، ومن ثمَّ فلا اعتبار بالحرج التوهمي وهو الذي لم يوجد السبب المرخص لأجله ؛ إذ لا يصح أن يبني حكماً على سبب لم يوجد بعد كما أن الظنون والتقديرات غير المحققة راجعة إلى قسم التوهمات .
2- أن لا يعارض نصاً ، فالمشقة والحرج إنما يعتبران في موضع لا نص فيه ، وأما في حال مخالفته النص فلا يعتد بهما (28).
3ـ أن يكون الحرج عاماً ، قال ابن العربي ـ رحمه الله ـ : (( إذا كان الحرج في نازلة عامة في الناس فإنه يسقط وإذا كان خاصاً لم يعتبر عندنا ، وفي بعض أصول الشافعي اعتباره وذلك يعرض في مسائل الخلاف ))(29).
ج ـ النظر إلى المآلات :
ومعناه أن ينظر المجتهد في تطبيق النص ؛ هل سيؤدي إلى تحقيق مقصده أم لا ؟ فلا ينبغي للناظر في النوازل والواقعات التسرع بالحكم والفتيا إلا بعد أن ينظر إلى ما يؤول إليه الفعل .
وقاعدة اعتبار المآل أصل ثابت في الشريعة دلت عليها النصوص الكثيرة بالاستقراء التام(30).كما في قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإثْمِ) (31).
وقوله تعالى : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ)(32).
وما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم حين أشير إليه بقتل من ظهر نفاقه قوله : (( أخاف أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه ))(33)،
وقوله : (( لولا قومك حديث عهدهم بكفر لأسست البيت على قواعد إبراهيم ))(34).
إلى غيرها من النصوص المتواترة في اعتبار هذا الأصل (35).(/19)
يقول الإمام الشاطبي ـ رحمه الله ـ في أهمية اعتباره عند النظر والاجتهاد : (( النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً كانت الأفعال موافقة أو مخالفه ، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل ، فقد يكون ؛ مشروعاً لمصلحة قد تستجلب أو لمفسدة قد تدرأ ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه ، وقد يكون غير مشروع ، لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحه تندفع به ، ولكن له مآل على خلاف ذلك ، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية ، فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها ، فيكون هذا مانعاً من انطلاق القول بالمشروعية وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة مثلها أو تزيد ، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية ، وهو مجال للمجتهد صعب المورد ، إلا أنه عذب المذاق ، محمود الغب ، جارٍ على مقاصد الشريعة ))(36) .
وكم من أبواب للشر انفتحت بسبب فتاوى لم يُعتبر فيها ما تؤول إليه بعض الوقائع والمستجدات من مفاسد وأضرار ، كما يحصل في بعض البلدان الإسلامية من تجويز عمل المرأة في جميع التخصصات ومشاركتها الرجل في جميع المجالات دون تقدير المفاسد المترتبة على هذا النوع من الاجتهاد . وقد يحصل في اعتبار قاعدة النظر إلى المآل خير ونفعٌ عظيم ؛ تشهد له بعض الفتاوى مثل التي ظهرت في جريمة الاتجار في المخدرات والمسكرات واستحقاق من يفعل ذلك القتل تعزيراً ، فكان فيها إغلاق لباب الشر وحفظ للعباد من أهل الفساد .
ثالثاً : فقه الواقع المحيط بالنازلة :
ويقصد بهذا الضابط أن يراعي الناظر في النوازل عند اجتهاده تغيّر الواقع المحيط بالنازلة سواءً كان تغيراً زمانياً أو مكانياً أو تغيراً في الأحوال والظروف وعلى الناظر تبعاً لذلك مراعاة هذا التغير في فتواه وحكمه .
وذلك أن كثيراً من الأحكام الشرعية الاجتهادية تتأثر بتغير الأوضاع والأحوال الزمنية والبيئية ؛ فالأحكام تنظيمٌ أوجبه الشرع يهدف إلى إقامة العدل وجلب المصالح ودرء المفاسد ، فهي ذات ارتباط وثيق بالأوضاع والوسائل الزمنية وبالأخلاق العامة ، فكم من حكم كان تدبيراً أو علاجاً ناجحاً لبيئة في زمن معين، فأصبح بعد جيل أو أجيال لا يوصل إلى المقصود منه ، أو أصبح يفضي إلى عكسه بتغير الأوضاع والوسائل والأخلاق .
ومن أجل هذا أفتى الفقهاء المتأخرون من شتى المذاهب الفقهية في كثير من المسائل بعكس ما أفتى به أئمة مذاهبهم وفقهاؤهم الأولون ، وصرّح هؤلاء المتأخرون بأن سبب اختلاف فتواهم عمن سبقهم هو اختلاف الزمان وفساد الأخلاق في المجتمعات ، فليسوا في الحقيقة مخالفين للسابقين من فقهاء مذاهبهم، بل لو وُجِدَ الأئمة الأولون في عصر المتأخرين وعايشوا اختلاف الزمان وأوضاع الناس لعدلوا إلى ما قال المتأخرون(37).
وعلى هذا الأساس أسست القاعدة الفقهية القائلة : (( لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان ))(38).
ومن أمثلة هذه القاعدة :
- أن الإمام أبا حنيفة ـ رحمه الله ـ يرى عدم لزوم تزكية الشهود ما لم يطعن فيهم الخصم ، اكتفاء بظاهر العدالة ، وأما عند صاحبيه أبي يوسف ومحمد ـ رحمهما الله ـ فيجب على القاضي تزكية الشهود بناء على تغير أحوال الناس (39).
- كذلك أفتى المتأخرون بتضمين الساعي بالفساد لتبدل أحوال الناس مع أن القاعدة : (( أن الضمان على المباشر دون المتسبب )) وهذا لزجر المفسدين (40).
- ومن الفتاوى ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ـ رحمهما الله ـ في تقييد مطلق كلام العلماء وقالا بإباحة طواف الإفاضة للحائض التي يتعذر عليها المقام حتى تطهر ، (41)وقد عمل بها بعض العلماء المعاصرين مراعاة لتغير أحوال الناس .
- كذلك جواز إغلاق أبواب المساجد في غير أوقات الصلاة في زماننا مع أنه مكان للعبادة ينبغي أن لا يغلق وإنما جُوِّزَ الإغلاق صيانة للمسجد من السرقة والعبث (42).
إلى غيرها من الأمثلة الكثيرة التي غيّر فيها الأئمة المتأخرون كثيراً من الفتاوى بسبب تغير الأزمنة واختلاف أحوال الناس (43)
يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ في فصل :( تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد ) : (( هذا فصل عظيم النفع جداً وقد وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ، ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى مراتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد ، وهي عدل كلها ومصالح كلها وحكمة كلها ، فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور ، ومن الرحمة إلى ضدها ، ومن المصلحة إلى المفسدة ومن الحكمة إلى العبث ، فليست من الشريعة وإن دخلت فيها بالتأويل ))(44).(/20)
ولعل هذا النص النفيس للإمام الجليل ابن القيم ـ رحمه الله ـ يكون مناراً لأهل النظر والاجتهاد يهتدون به في بحثهم واجتهادهم من أجل أن يراعي المجتهد أو المفتي أثناء اجتهاده ونظره الظروف العامة للعصر والبيئة والواقع المحيط بالناس ، فربَّ فتوى تصلح لعصر ولا تصلح لآخر ، وتصلح لبيئة ولا تصلح لأخرى ، وتصلح لشخص ولا تصلح لغيره ، وقد تصلح لشخص في حال ، ولا تصلح له نفسه في حال أخرى .
ولأهمية هذا المقام يمكن أن نذكر بعض الضوابط المهمة التي ينبغي أن يراعيها الناظر عند تغيّر الأزمنة أو الأمكنة أو الظروف لتحقق تغير الفتوى عندها ، ويمكن أن نوجزها فيما يلي :
1-أن الأحكام الشرعية ثابتة لا تتغير بمرور الزمان ولا بتغير الأحوال وكون الحكم الشرعي يختلف من واقعة إلى واقعة بسبب تغير الزمان أو المكان أو الحال ليس معناه أن الأحكام مضطربة ومتباينة بل لأن الحكم الشرعي لازم لعلته وسببه وجارٍ معه،فعند اختلاف أحوال الزمان والناس تختلف علة الحكم وسببه فيتغير الحكم بناءً عليه(45).
2-أن الفتوى لا تتغير بحسب الهوى والتشهي واستحسان العباد واستقباحهم بل لوجود سبب يدعو المجتهد بإعادة النظر في مدارك الأحكام ، ومن ثمَّ تتغير الفتوى تبعاً لتغير مدركها نتيجةً لمصالح معتبرة وأصول مرعية تُرَجَّح على ما سبق الحكم به .
3-أن تغير الفتوى يجب أن يكون مقصوراً على أهل الاجتهاد والفتوى وليس لأحدٍ قليل بضاعته في العلم أن يتولى هذه المهمة الصعبة ، وكلما كان النظر جماعياً من قِبل أهل الاجتهاد كان أوفق للحق والصواب (46).
رابعاً : مراعاة العوائد والأعراف .
المقصود بالعرف أو العادة عند الأصوليين : (( هو ما استقر في النفوس من جهة العقول وتلقته الطباع السليمة بالقبول ))(47).
وقد جرى الفقهاء على اعتبار العادة والعرف والرجوع إليها في تطبيق الأحكام الشرعية في مسائل لا تعد لكثرتها ، منها : سن الحيض ، والبلوغ ، والإنزال ، والأفعال المنافية للصلاة ، والنجاسات المعفو عنها ، وفي لفظ الإيجاب والقبول وفي أحكامٍ كثيرة جداً من مسائل البيوع والأوقاف والأيمان والإقرارات والوصايا وغيرها (48).
ولهذا كانت قاعدة ( العادة محكمة ) بناءً على ما جاء عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ موقوفاً : (( ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن ))(49).
فإذا كانت العادة والعرف لهما اعتبار في الشرع ، مع كثرة ما يطرأ عليهما من تغير وتبديل بحسب الأزمنة والأمكنة وتطور أحوال الناس ، فإن على العلماء مراعاة ذلك التغير بقدر الإمكان . وخصوصاً ما كان من قبيل الفتيا في الأمور الواقعة أو المستجدة لعظم شأنها وسعة انتشارها .
يقول الإمام القرافي ـ رحمه الله ـ في ذلك :((إن إجراء الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد خلاف الإجماع وجهالة في الدين ، بل كل ما هو في الشريعة
يتبع العوائد : يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة ))(50)،
وزاد أيضاً ـ رحمه الله ـ : (( ينبغي للمفتي إذا ورد عليه مستفتٍ لا يعلم أنه من أهل البلد الذي منه المفتي وموضع الفتيا : أن لا يفتيه بما عادته يفتي به حتى يسأله عن بلده ، وهل حدث لهم عرف في ذلك البلد في هذا اللفظ اللغوي أم لا ؟ وإن كان اللفظ عرفياً فهل عُرف ذلك البلد موافق لهذا البلد في عرفه أم لا ؟ وهذا أمر متعين واجب لا يختلف فيه العلماء ، وأن العادتين متى كانتا في بلدين ليستا سواءً أن حكمهما ليس سواء )) (51) .
وقد قرر أيضاً هذا المعنى في موضع آخر بقوله : (( وعلى هذا القانون تراعى الفتاوى على طول الأيام فمهما تجدد العرف اعتبره ، ومهما سقط أسقطه ، ولا تجمد على المسطور في الكتب طوال عمرك .. والجمود على المنقولات أبداً اختلاف في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين ))(52).
وقد حرر الإمام ابن القيم فصلاً مطولاً ـ كما بيناه سابقاً ـ في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد وسرد الكثير من الأمثلة والشواهد (53).
ثم قال ـ رحمه الله ـ في موضع آخر مؤكداً على أهمية مراعاة العرف في الفتوى :-
(( وهذا باب عظيم يقع فيه المفتي الجاهل فيُغرِ الناس ، ويكذب على الله ورسوله ويغير دينه ويحرِّم ما لم يحرمه الله ، ويوجب ما لم يوجبه الله والله المستعان )) (54) .
ولأهمية هذا الضابط وأنه قد يكون مزلةً لبعض أهل الفتيا والنظر ؛ اشترط الفقهاء والأصوليون شرائط يكون فيها العرف معتبراً ؛ صيانة لأحكام الشريعة من التبديل والاضطراب ، وهي أربعة شروط أذكرها مختصرة :-
1-أن يكون العرف مطرداً أو غالباً .
2-أن يكون العرف المراد تحكيمه في التصرفات قائماً عند إنشائها .
3-أن لا يعارض العرفَ تصريحٌ بخلافه .
4-أن لا يعارض العرفَ نصٌ شرعي بحيث يكون العمل بالعرف تعطيلاً له (55).(/21)
ويظهر مما سبق ذكره ، أن مراعاة العوائد والأعراف المتعلقة بالأشخاص والمجتمعات عند النظر والاجتهاد أمر مهم وطلب ضروري لا بد منه لكل مجتهد ومفتٍ ولعل مراعاة ذلك في عصرنا الحاضر آكد لتشعب الناس في البلاد الواسعة المختلفة الظروف والعوائد وتيسر وسائل الاتصال الحديثة للانتقال إلى مكان المفتي أو سماعه؛مما يجب عليه أن لا يطلق الجواب حتى يعرف أعراف السائلين وما يليق بهم من أحكام الشرع ، وليحذر من إطلاق الفتاوى معممة دون تخصيص ما يحتاج منها إلى تخصيص بسبب ظروف السائل وعوائده، وخاصة إذا كانت شريحة المتلقي أو المستمع لهذه الفتوى واسعة الانتشارفي أكثر من بلد كما هو الحاصل
في برامج الفتيا في الإذاعة والتلفاز(56).
خامساً : الوضوح والبيان في الإفتاء .
وهذا الضابط مهم في تبليغ الحكم المتعلق بالنازلة فلا يكفي الإخبار وحده بحكم الواقعة بل لا بد أن يكون ذلك الإخبار واضحاً بيناً لا غموض فيه ولا إبهام فيه، وألا يفضي إلى الاضطراب والاختلاف في معرفة المعنى المقصود بالفتوى .
وقد وضح الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ أهمية هذا الضابط بقوله : (( لا يجوز للمفتي الترويج وتخيير السائل وإلقاؤه في الإشكال والحيرة ، بل عليه أن يبين بياناً مزيلاً للإشكال متضمناً لفصل الخطاب ، كافياً في حصول المقصود لا يحتاج معه إلى غيره، ولا يكون كالمفتي الذي سئل عن مسألة في المواريث فقال : يقسم على الورثة على فرائض الله عز وجل وكتبه فلان ، وسئل آخر عن صلاة الكسوف فقال : يصلي على حديث عائشة ... وسئل آخر فقال : فيها قولان ولم يزد ..))(57) .
ويدخل ضمن هذا الأدب في الفتيا مخاطبة الناس بلغة عصرهم التي يفهمون متجنباً وعورة المصطلحات الصعبة وخشونة الألفاظ الغريبة ، متوخياً السهولة والدقة .
وقد جاء عن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه : (( حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون ، أتريدون أن يكذَّب الله ورسوله )) (58) .
فمراعاة حال السائلين من حيث فهم الخطاب وإدراك معنى الحكم مطلبٌ مهم يجب على الناظر مراعاته وتوخيه دون أن يكون قاصراً على فهم طائفة معينة ، أو خالياً من التأصيل العلمي اللائق بالفتوى تنزّلاً لحال العوام من الناس بل على الناظر مراعاة الوسط والاعتدال بين ما يفهمه العامي ويستفيد منه المتعلم ، ولذلك قال الخطيب البغدادي ـ رحمه الله ـ في ضمن صفات المفتي :
((وليتجنب مخاطبة العوام وفتواهم بالتشقيق والتقعير ، والغريب من الكلام ، فإنه يقتطع عن الغرض المطلوب ، وربما وقع لهم به غير المقصود ))(59).
ولذلك ينبغي للناظر في النازلة أن يعتبر نفسه عند الإجابة مفتياً ومعلماً ومصلحاً وطبيباً مرشداً حتى تبلغ فتواه مبلغها ويحصل أثرها بإذن الله .
.. هذه بعض الضوابط التي جرت الإشارة إليها بإيجاز ليتسنى للمجتهد والمفتي مراعاتها وتوخيها قدر استطاعته .
وهناك الكثير من الآداب والضوابط ذكرها العلماء في معرض حديثهم عن الاجتهاد وأدب المفتي أعرضت عن بعضها لعدم الحاجة إليها في عصرنا الحاضر كما أغفلت بعضها الآخر رجاء عدم الإطالة والتشعب .
ولعلي أكتفي بجملةٍ من الضوابط المجملة ذكرها الإمام الخطيب البغدادي يحسن إيرادها في خاتمة هذا المبحث وهي كما قال ـ رحمه الله ـ :
(( ينبغي ـ أي للناظر المجتهد أو للمفتي ـ أن يكون : قوي الاستنباط ، جيد الملاحظة، رصين الفكر ، صاحب أناة وتؤدة ، وأخا استثبات وترك عجلة ، بصيراً بما فيه المصلحة مستوقفاً بالمشاورة ، حافظاً لدينه مشفقاً على أهل ملته ، مواظباً على مروءته ، حريصاً على استطابة مأكله ، فإن ذلك أول أسباب التوفيق ، متورعاً عن الشبهات ، صادفاً عن فاسد التأويلات ، صليباً في الحق ، دائم الاشتغال بمعادن الفتوى ، وطرق الاجتهاد ، ولا يكون ممن غلبت عليه الغفلة ، واعتوره دوام السهر، ولا موصوفاً بقلة الضبط منعوتاً بنقص الفهم معروفاً بالاختلال ، يجيب بما لا يسنح له ، ويفتي بما يخفى عليه .. ))(60)
وأخيراً : ينبغي للناظر التزام حِمى ( لا أدري ) عند عدم العلم فإن هذا لا يضع من قدره ولا يحط من شأنه ، وذلك أن الإحاطة متعذرة ولابد من أشياء تكون مجهولة وهو محل ( لا أدري ) ومن طمع في الإحاطة فهو جاهل ، ومن تقدم لما ليس له به علم فهو كذاب (61).
وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما :(( إذا ترك العالم لا أدري أصيبت مقاتله ))(62)
وجاء عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قوله : (( العلم ثلاثة : كتاب ناطق ، سنة
ماضية ، ولا أدري ))(63).
والنصوص في ذلك كثيرة وآثار العلماء الربانيين شاهدة على اعتبار هذا الأصل والالتجاء إليه عند عدم القدرة والعلم (64).
وختاماً أسأل الله عزوجل أن يرزقنا وإياكم الإخلاص والتوفيق أن يقينا شر مصارع الجهل والهوى ، فما أصبت فمن الله وحده وماأخطأت فمن نفسي والشيطان وأستغفر الله تعالى من كل ذنب وخطيئة ، والله تعالى أعلم وأحكم وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين.(/22)
(1) إعلام الموقعين 4 / 123
(2) المرجع السابق 4 / 200 .
(3)المرجع السابق 4 / 200 .
(4) انظر : أدب المفتي والمستفتي ص 152 ؛ المجموع 1 / 90 ؛ الوصول إلى علم الأصول لابن برهان 2 / 385 .
(5) انظر : الفقيه والمتفقه 2 / 406 , 407 ؛ أدب المفتي والمستفتي ص 152 ؛ المجموع 1 / 86 ؛ الإحكام في تمييز الأحكام ص 248 ,249 ؛ أصول الفتوى والقضاء د . محمد رياض ص 228 .
(6) أخرجه البخاري في صحيحه بنحوه ، كتاب الأحكام ، باب بطانة الإمام وأهل مشورته البطانة والدخلاء رقمه( 6659 ).
(7) إعلام الموقعين 4 / 122 . انظر : الفتوى في الإسلام للقاسمي ص 83 ؛ المجموع 1 / 87 , 83 .
(8) المرجع السابق 4 / 125 .
(9) سورة البقرة ، آية : 189 .
(10) أخرجه البخاري في صحيحه ، كتاب العلم ، باب من أجاب السائل بأكثر مما سأله رقمه ( 234 ) .
(11) انظر : إعلام الموقعين 4 / 121 ؛ المجموع 1 / 80 .
(12) مقاصد الشريعة الإسلامية للطاهر بن عاشور ص 51 .
(13) نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي تأليف د .أحمد الريسوني ص 7 مطبوعات المعهد العالمي للفكر الإسلامي واشنطن الطبعة الثانية 1412هـ
(14) انظر : مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها د . علال الفاسي ص 7 ؛ أصول الفقه للزحيلي 2 / 1017 ؛ الوجيز في أصول الفقه د. زيدان ص 375 .
(15) الموافقات 2 / 9 .
(16) نهاية السول في شرح المنهاج 4 / 91 .
(17) مفتاح دار السعادة ص408 .
(18) انظر : المستصفى 1 / 141 ؛ شرح تنقيح الفصول ص446 ؛ البحر المحيط 6 / 87’79 ؛ الأحكام للآمدي 4 / 32 ؛ حاشية البناني على جمع الجوامع 2 / 274 – 283 ؛ شرح الكوكب المنير 4 / 432 ؛ تقريب الوصول ص410 ؛ إرشاد الفحول ص242،الوجيز في أصول الفقه د . زيدان ص240 ؛ رفع الحرج د . الباحسين ص270 .
(19) الإحكام 4 / 32 .
(20)انظر : المستصفى 1/ 296 ؛ نهاية السول5 / 77- 90 ؛ شرح الكوكب المنير 4 / 170 , 171 ؛ حاشية البناني على جمع الجوامع 2 / 584 , 285 ؛ شرح تنقيح الفصول ص 446 ؛ إرشاد الفحول ص242 ؛ ضوابط المصلحة د .البوطي ص115-272 .
(21) انظر : الفتوى في الإسلام للقاسمي ص125 ؛ تغير الفتوى د . محمد بازمول ص43,44 ، دار الهجرة للنشر بالثقبة ، الطبعة الأولى 1415هـ . .
(22) رفع الحرج د . صالح بن حميد ص48 .
(23) رفع الحرج د . عدنان محمد جمعة ص25 ، دار العلوم الإنسانية ، دمشق ، الطبعة الثالثة 1413هـ .
(24) سورة : المائدة ، آية : 6 .
(25) سورة الحج ، آية : 78 .
(26) أخرجه البخاري في صحيحه ، كتاب الإيمان ، باب الدين يسر ، رقمه ( 38 ) .
(27) انظر : رفع الحرج د . البا حسين ص42 .
(28) انظر : الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 92 .
(29) أحكام القرآن 3 / 310 ، انظر : الموافقات : 2 / 268 – 278 ؛ الأشباه والنظائر للسيوطي ص 168 ؛ رفع الحرج لابن حميد ص 292-293 .
(30) انظر : الموافقات 5 / 179 .
(31) سورة البقرة ، آية : 188 .
(32) سورة الأنعام ، آية : 108 .
(33) أخرجه البخاري في صحيحه ، كتاب المناقب ، باب ما ينهى عن دعوة الجاهلية رقمه ( 3257 ) ،
وأخرجه مسلم في صحيحه ، كتاب البر والصلة والآداب ، باب نصر الأخ ظالماً أو مظلوماً ، رقمه ( 4682 ) .
(34) أخرجه البخاري في صحيحه ، كتاب العلم ، باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه ،رقمه ( 126 ) .
(35) انظر : الأشباه والنظائر للسيوطي ص 322-325 ؛ إعلام الموقعين 3 / 108 110 ؛ نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي د . حسين حامد حسان ص 193 –199 ، مكتبة المتنبي بمصر 1981م .
(36) الموافقات 5 / 178 .
(37) انظر : مجموع رسائل ابن عابدين 2 / 123 ؛ المدخل الفقهي العام 2 / 923,924 .
(38) انظر : القواعد الفقهية للشيخ أحمد الزرقا ص227 ؛ الوجيز في القواعد للبورنو ص254.
(39) انظر : تبين الحقائق شرح كنز الرقائق 6 / 211 .
(40) انظر : قواعد ابن رجب القاعدة 127 ، 2 / 597 تحقيق مشهور بن حسن آل سلمان ، دار ابن عثمان ، الطبعة الأولى 1419هـ .
(41) انظر : مجموع الفتاوى 26 / 224 –243 ؛ إعلام الموقعين 3 / 19 –31 .
(42) انظر : الوجيز في القواعد د . البورنو ص255 .
(43) انظر : الطرق الحكمية لابن القيم ص162 ، دار الكتب العلمية ، الطبعة الأولى 5141هـ ؛ فتح القدير لابن الهمام 1 / 249 ؛ رسائل ابن عابدين 2 / 123 –126 ؛ شرح القواعد الفقهية للزرقا ص227-229 ؛ بحث : تغير الفتوى مفهومه وضوابطه وتطبيقاته د . عبد الله الغطيمل ص22-60 ؛ من مجلة البحوث الفقهية المعاصرة العدد35 عام 1418هـ .
(44) إعلام الموقعين 3 / 11 .
(45) انظر : إعلام الموقعين 3 / 36- 38 ؛ إغاثة اللهفان 1 / 330 , 331 .(/23)
(46) انظر : تغير الفتوى د . بازمول ص 56 ؛ بحث تغير الفتوى د . الغطيمل ص21,22 من مجلة البحوث الفقهية العدد 35 ؛ وبحث فقه الواقع دراسة أصولية فقهية د . حسين الترتوري ص71-114 من مجلة البحوث الفقهية المعاصرة العدد 34 عام 1418هـ .
(47) كشف الأسرار للنسفي 2 / 718 ؛ انظر التعريفات للجرجاني ص 193 ؛ رسائل ابن عابدين 2 / 112 ؛ حاشية البناتي على جمع الجوامع 2 / 356 ؛ شرح تنقيح الفضول ص 448 ؛ تقريب الوصول ص 404 ؛ شرح الكوكب المنير 4 / 48 ؛ الأشباه والنظائر لابن بخيم ص101 .
(48) انظر : الأشباه والنظائر لابن نجيم ص102-114 ؛ الأشباه والنظائر للسيوطي ص182,183؛ أصول مذهب أحمد ص736 .
(49) أخرجه الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه 1 / 422 ، وأخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 2 / 855 ، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 1 / 177 و 178 وقال : " رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير ورجاله موثوقون " .
(50) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ص218 .
(51) المرجع السابق ص232 .
(52) الفروق 1 / 167 .
(53) انظر: إعلام الموقعين 3/11-30 .
(54) المرجع السابق 4 / 176 .
(55) انظر الأشباه والنظائر لابن نجيم ص110-114 ؛ الأشباه والنظائر للسيوطي ص185,192,193 ؛ رسائل ابن عابدين 2 / 113,114 ؛ المدخل الفقهي العام 2 / 783-881 ؛ رفع الحرج د . الباحسين ص349,352 ؛ أصول مذهب الإمام أحمد ص588-589 ؛ تغير الفتوى د . بازمول ص47-50 .
(56) انظر : أدب المفتي والمستفتي ص115 ؛ المجموع للنووي 1 / 82 ،؛الفتوى بين الانضباط والتسيب ص96-105 ؛ تغير الفتوى بازمول ص47-50 ؛ أصول الفتوى والقضاء د . محمد رياض ص236 ؛ أصول الفتوى د . الحكمي ص57-71 ؛ المفتي في الشريعة الإسلامية د . الربيعة ص30 .
(57) إعلام الموقعين 4 / 136 .
(58) أخرجه البخاري في صحيحه ، كتاب العلم ، باب من حض بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن لا يفهموا 1 / 44 ( 124 ) .
(59) الفقيه والمتفقه 2 / 400 ؛ انظر أصول الفتوى والقضاء د . محمد رياض ص237 ،؛ الفتوى بين الانضباط والتسيب ص115 , 116 .
(60) الفقيه والمتفقه 2 / 333 .
(61) انظر : أصول الفتوى والقضاء د . محمد رياض ص231 .
(62) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 2 / 840 .
(63) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 1 / 753 .
(64) انظر : بيان العلم وفضله 2/ 826 –843 ؛ الفقيه والمتفقه 2 / 360 –370 ؛ الآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 44-51 ؛ إعلام الموقعين 1 / 27 .(/24)
ضوابط المصلحة الدعويّة (1 / 2)
د. مسفر بن علي القحطاني 17/3/1426
26/04/2005
شاع استخدام مصطلح "المصلحة الدعوية" في كثير من الأوساط الدعوية كدليل احتجاج وتأصيل, واستخدم أيضاً كدليل إدانة ضدها من بعض التيارات المضادة للصحوة كاتهام بتسييس الدين وأدلجته. ونظراً لأهمية هذا الموضوع والحاجة لإزالة اللبس والخلط حول هذا المفهوم ومستلزماته الشرعية؛ أحببت أن أسلط الضوء على بعض تلك المسائل الأصولية وأجلي الموقف حول صحة الإستدلال بها في قضايا الدعوة والإصلاح.
فالمصلحة عند الأصوليين لها تعريفات مختلفة اللفظ متقاربة المعنى والمدلول، فقد قال الإمام الغزالي -رحمه الله- في تعريفها: »هي جلب المنفعة ودفع المضرة« (1) ، وقال الإمام الفتوحي -رحمه الله-هي: »إثبات العلّة بالمناسبة« (2)أما شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فقد قال في بيانها: »هو أن يرى المجتهد أن هذا الفعل يجلب منفعة راجحة« (3)
فالمصلحة الشرعية هي ما تضمنته أحكام الشريعة من جلبٍ للمنافع ودفعٍ للمضار في العاجل والآجل، وهذا النوع من المصالح قد جاء النص مقرراً لها بعينها أو نوعها؛ كالأمر بجميع أنواع المعروف والنهي عن جميع أنواع المنكر وككتابة القرآن الكريم صيانة له من الضياع وكتعليم القراءة والكتابة وغيرها مما تضمّنته النصوص الشرعية من مصالح ومنافع، فالمصلحة هنا أصل ثابت ودليل قائم تُبنى عليه الأحكام، وذلك لاعتبار النص لها وشهوده عليها.
أما إذا كانت المصلحة مرسلة، وهي كل مصلحة داخلة في مقاصد الشرع ولم يردْ في الشرع نصٌ على اعتبارها بعينها أو بنوعها، ولا على استبعادها(4)
فهذا النوع من المصالح المرسلة معتبر في حقيقته ضمن مقاصد الشريعة، وجمهور العلماء قد اعتبروا حجية المصلحة المرسلة، وإن أنكرها بعضهم، كما هو منسوب للشافعية والحنفية إلا أن كتبهم واجتهاداتهم قائمة في كثير منها على اعتبار المصلحة المرسلة(5).
فإنها وإن لم ينص دليل خاص على اعتبارها، لكن الاستقراء التام لنصوص الشرع يدل على قيام الشريعة كلها على جلب المصالح واعتبارها، ودرء المفاسد وإلغائها أوتخفيفها.
يقول الإمام الشاطبي ـ رحمه الله ـ: »والشريعة ما وُضعت إلا لتحقيق مصالح العباد في العاجل والآجل ودرء المفاسد عنهم« (6) .
ويقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ : » الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها« (7) .
والصحابة -رضي الله عنهم- جروا في اجتهادهم على رعاية المصالح وبناء الأحكام عليها، فمن ذلك: جمْع صحف القرآن في مصحف واحد، وجمْع المسلمين على مصحف واحد، وتضمين الصُنّاع، وقتل الجماعة بالواحد، وتعريف الإبل الضالة، ومنع صرف الزكاة للمؤلفة قلوبهم وغير ذلك.
يقول الآمدي -رحمه الله- : » فلو لم تكن المصلحة المرسلة حجة أفضى ذلك أيضاً إلى خلو الوقائع عن الأحكام الشرعية لعدم وجود النص أو الإجماع أو القياس فيها « (8)
وبذلك تبقى الشريعة مرنة صالحة للناس لا تقف بهم وسط الطريق بل تحكم أفعالهم وترفع الحرج عنهم والله -عز وجل- قد جعلها رحمة للعالمين.
والدعوة إلى الله -عز وجل- نوع من أحكام الإسلام؛ أمر الله -عز وجل- بها وحث عليها المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فأحكامها ووسائلها راجعة إلى قواعد الشرع وأدلته وأحكامه.
وبناء على ما تقدم نعرف أن المصلحة الدعوية إذا لم يشهد لها الشارع باعتبار أو بإلغاء فهي من قبيل المصلحة المرسلة شرعاً.واعتبارها حجة؛ أمر مقرر عند العلماء، وذلك لقيام الشريعة كلها على جلب المصالح ودفع المضار.
فما يراه الدعاة من أمور الدعوة وقضاياها فيه مصلحة كان حكمه الاعتبار وما رأوا فيه مفسدة كان حكمه الإلغاء والرد. ولكن العلماء خشيةً منهم في دخول الهوى وحظوظ النفس في اعتبار المصلحة أو إلغائها بالنسبة للعلماء أو الدعاة وخصوصاً ما يحدث ويستجد من أمور قد يختلط على الناظر تقدير المصلحة على وجهها الصحيح قرّروا في ذلك ضوابط لا بد منها في الأخذ بالمصلحة، واعتبارها دليلاً يُحتج به في النوازل والحوادث والمستجدات، وعند تغير الظروف والأحوال والأزمنة.
وهذه بعض الضوابط الشرعية في المصلحة الدعوية :-
أولاً: اندراجها ضمن مقاصد الشريعة.
فالمصلحة التي لم ينصّ عليها لا بد أن تكون قائمة على حفظ مقاصد التشريع الخمسة: حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال، وكل ما يفوت هذه الأصول أو بعضها فهو مفسدة، ثم إن درجة حفظ هذه المقاصد يتدرج إلى ثلاث مراحل بحسب الأهمية، وهي ما أطلق عليه علماء الأصول اسم: الضروريّات والحاجيّات والتحسينيّات (9) .
فكل حكم تشريعي في الإسلام لا يخرج عن هذه المقاصد نُص عيه أو لم ينص عليه؛ بمعنى دلت عليه الأدلة الأخرى ومنها المصلحة المرسلة وذلك لاندراجها تحت نوع من تلك المقاصد الشرعية المعتبرة .
ثانياً : أن لا تخالف نصوص الكتاب والسنة .(/1)
ويدل على ذلك عقلاً : أن المصلحة ليست بذاتها دليل مستقل بل هي مجموع جزئيات الأدلة التفصيلية من القرآن والسنة التي تقوم على حفظ الكليات الخمس، فيستحيل عقلاً أن تخالف المصلحة مدلولها، أو تعارضه، وقد أثبتنا حجّيتها عن طريقه، وذلك من قبيل معارضة المدلول لدليله إذا جاء بما يخالفه وهو باطل.
وَأَنْ احْكُمْ { وقد دل على ذلك من القرآن قوله تعالى: بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ } إِلَيْكَ (10) فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ { وقوله تعالى وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ { ( ) وقوله تعالى: } وَالرَّسُولِ } اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ (11) .
فاعتبار المصلحة ورد الكتاب والسنة من تحكيم الهوى وهو منازعة لحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
فلا تعتبر المصالح الموهومة غير المستندة إلى نص، وفيها معارضة للكتاب والسنة مثل مصلحة إيجاب الصيام في كفارة الجماع بدل عتق الرقبة في حق الغني، كما أفتى بذلك القاضي يحيى بن يحيى الليثي ـ رحمه الله ـ لوالي الأندلس في عصره.
ومثال ذلك: تحليل الربا باعتباره مصلحة اقتصادية مهمة، وإباحة الزنا وبيع الخمور تشجيعاً للسياحة واستقطاب الأموال.
ومثاله أيضاً: من ذهب إلى القول بنقل صلاة الجمعة إلى يوم الأحد في البلاد الكافرة.
ومثاله أيضاً إلقاء الرخص الشرعية لعدم الحاجة إليها في عصرنا الحاضر كالقصر والفطر في السفر، أو التسوية بين البنت والابن في الميراث بدعوى المصلحة، وغيرها من الأمثلة الكثيرة(12)
وقد خالف في ذلك الإمام الطوفي ـ رحمه الله ـ كما اشتهر عنه, حيث نادى بجواز تقديم المصلحة مطلقاً على النص والإجماع عند معارضتها لهما(13)
وهذا القول لا شك أنه يؤدي إلى تعطيل الشريعة بنظرٍ اجتهاديٍ عقليٍ محض يجعل المجتهد أو الناظر في النصوص يقبل ما شاء منها، ويرد ما شاء بزعم أنها تخالف المصلحة التي يراها من خلال ظنه وهواه، فالمصلحة إذا عارضت النص والإجماع تعتبر ملغاة ولا يعتد بها، ولذلك قال الشيخ الشنقيطي -رحمه الله- ضمن حديثه عن المصلحة المرسلة: »ألا تكون المصلحة في الأحكام التي لا تتغير كوجوب الواجبات، وتحريم المحرمات والحدود والمقدرات الشرعية، ويدخل في ذلك الأحكام المنصوص عليها والمجمع عليها، وما لا يجوز فيه الاجتهاد« (14) .
فالمصلحة إذا خالفت ما هو منصوص عليه أو مجمع عليه فهي فاسدة غير معتبرة .
ثالثاً: أن تكون المصلحة يقينية:
بمعنى أن يعلم المجتهد أو الناظر في اعتبارها قطعيّة وجودها لا أن يظن أو يتوهم أويشك وجود المصلحة المبحوثة في المسألة، ثم يحكم باعتبارها من خلال هذا الظن غير المعتبر في الشرع.
وقد ذكر الإمام الغزالي -رحمه الله- هذا الشرط وذكره من خلال أمثلة من ذلك؛ ما لو تترس الكفار في قلعة بمسلم فقد قال رحمه الله : »لا يحل رمي الترس – أي هذا المسلم الذي تترسوا به – إذ لا ضرورة فبنا غُنية فنعدل عنها، إذ لم نقطع بظفرنا بها ، لأنها ليست قطعية بل ظنية« (15)، وقال في صدد منع قطع المضطر قطعة من فخذه ليأكلها إلى أن يجد الطعام: »لكن ربما يكون القطع سبباً ظاهراً في الهلاك يمنع منه؛ لأنه ليس فيه تعيين الخلاص فلا تكون المصلحة قطعيّة« (16)
أما إذا كان الظن بوجود المصلحة ظناً راجحاً ناشئاً عن الاجتهاد فإنه يُنزّل منزلة اليقين؛ لأن غلبة الظن معتبرة شرعاً إذا عدم القطع(17)
ويكفي للتدليل على اعتبار الظن الغالب في المصلحة ما اعترض به الغزالي -رحمه الله- على نفسه حيث قال: » بأن استئصال الكفار للمسلمين أمر مظنون فكيف نجيز قتل الترس بهذا المظنون؟ وأجاب:» إنما يجوز ذلك عند القطع أو ظن قريب من القطع، والظن القريب من القطع إذا صار كلياً، وعظم الخطر منه فتحتقر الأشخاص الجزئية بالإضافة إليه« (18)
يقول العز بن عبد السلام -رحمه الله- : "كَذِب الظنون نادر وصدقها غالب – أي في المصالح والمفاسد – وكذلك يُبنى جلب مصالح الدارين ودفع مفاسده على ظنون غالبة متفاوتة في القوة و الضعف والتوسط بينهما، على قدر حرمة المصلحة والمفسدة ومسيس الحاجة« (19) .
رابعاً: أن تكون المصلحة كلية.
بمعنى ألاّ تقتصر على فئة وتضر أخرى، وهذا الشرط ذكره الغزالي -رحمه الله- كذلك وضرب له أمثلة منها: »إذا كان جماعة في مخمصة، ولو أكلوا واحداً منهم بالقرعة لنجوا« وقال: » لا رخصة فيه؛ لأن المصلحة ليست كلية، ومثلها لو كان جماعة في سفينة لو طرحوا واحداً منهم لنجوا وإلا غرقوا بجملتهم، وقال: إنها ليست مصلحة كلية؛ إذ يحصل بها هلاك عدد محصور« (20) .(/2)
ومما يجدر التنبيه له هنا أن المقصود بكلية المصلحة ليس بأن تعمَّ الأمة جمعاء، بل المراد أن المصلحة المتوخاة لفئة معينة لا ينبغي أن يُنظر فيها إلى قوم منهم دون اعتبار بعضهم ممن هم شهود على هذه المصلحة، وهذا ما أكّده الإمام الزركشي -رحمه الله- في بيانه لمعنى مثال الغزالي -رحمه الله- حيث قال: » وصورة الغزالي إنما هي في أهل محلة بخصوصهم استولى عليها الكفار، لا جميع العالم . وهذا واضح « (21)
فالمصلحة الكلية هنا لا تنفي اعتبار المصلحة الجزئية؛ ولكن إذا حصل التعارض بينهما فلا يُنظر حينئذٍ إلى المصلحة الجزئية في مقابل الكلية.(22)
خامساً: عدم تفويت المصلحة لمصلحة أهم منها أو مساوية لها.
وهذا الضابط معتبر عند تعارض المصالح في أيهما يُقدّم، ولا شك أن الذي يُقدّم هو الأهم والأولى في الاعتبار، وميزان الأهمية يرجع إلى ثلاثة أمور؛ كما ذكرها د.البوطي:
أولاً: النظر إلى قيمتها من حيث ذاتها ودرجتها في سلم المقاصد. فالضروريات لا تُقدم عليها الحاجيات أو التحسينيات، كما لا تُقدم التحسينيات على الحاجيات، وهكذا فإن كانت المصالح في درجة الأهمية في سلم المقاصد واحدة؛ ينظر حينئذٍ في:
الثاني: وهو من حيث مقدار شمولها، فالمصلحة العامة تُقدم على المصلحة الخاصة فإن كانوا في الدرجة والشمول سواء اعتبر:
ثالثاً: مدى التأكد من وقوع نتائجها من عدمه. فتُقدم الأكيدة على الظنية كما بينا سابقاً(23)
وهناك بعض المعايير المعتبرة أيضاً في تقديم بعض المصالح على بعض عند التعارض منها:
ا- أن المصلحة الدائمة أولى من المنقطعة، كما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل" متفق عليه (24)
ب- أن المصلحة المتعدية أولى من المصلحة القاصرة، مثل مصلحة العلم أولى من مصلحة العبادة.
ج- أن المصلحة الأطول نفعاً تُقدّم على المصلحة المحدودة، مثل تقديم الصدقة الجارية على غيرها(25)
يقول العز بن عبد السلام -رحمه الله- : »والوقوف على تساوي المفاسد وتفاوتها عزَّة لا يهتدى إليها إلا من وفقه الله تعالى، والوقوف على التساوي أعز من الوقوف على التفاوت، ولا يمكن ضبط المصالح والمفاسد إلا بالتقريب« (26) .
ويزيد ابن القيم -رحمه الله- هذه القاعدة توضيحاً بقوله: »فالأعمال إما أن تشتمل على مصلحة خاصة أو راجحة، وإما أن تشتمل على مفسدة خالصة أو راجحة، وإما أن تستوي مصلحتها ومفسدتها، فهذه أقسام خمسة: منها أربعة تأتي بها الشرائع؛ فتأتي بما مصلحته خالصة أو راجحة آمرة به أو مقتضية له، وما مفسدته خالصة أو راجحة فحكمها فيه النهي عنه وطلب إعدامه، فتأتي بتحصيل المصلحة الخالصة والراجحة وتكميلها بحسب الإمكان وتعطيل المفسدة الخالصة أو الراجحة أو تقليلها بحسب الإمكان. فمدار الشرائع والديانات على هذه الأقسام الأربعة« (27) .
وهذا التقديم والتأخير للمصالح أو المفاسد قد يختلف أحياناً باختلاف أحوال الناس والعوائد وظروف الأزمنة والأمكنة، ولذلك كان من الأمور الدقيقة المهمة، والتي ينبغي فيها على المجتهد أو الناظر أن يكون في غاية التحفظ والحذر.
يقول الشنقيطي -رحمه الله- : »والتحقيق أن العمل بالمصلحة المرسلة أمر يجب فيه التحفظ غاية الحذر حتى يتحقق صحة المصلحة، وعدم معارضتها لمصلحة أرجح منها أو مفسدة أرجح منها أو مساوية لها، وعدم تأديتها إلى مفسدة في ثاني حال« (28) .
|1|2|
________________________________________
(1) المستصفى 2/139
(2) شرح الكوكب المنير 4/432
(3) مجموع الفتاوى 11/ 342
(4) انظر : الاستصلاح والمصلحة المرسلة د. الزرقا ص 39 ، السياسة الشرعية د. القرضاوي ص82 .
(5) انظر : إرشاد الفحول 3/808و809 ، الوجيز د. زيدان ص240، رفع الحرج د. الباحسين ص270، وفي ذلك يقول الإمام القرافي رحمه الله :‘‘ وهي عند التحقيق في جميع المذاهب لأنهم يقومون ويقعدون بالمناسبة ولا يطلبون شاهداً بالاعتبار ؛ ولا نعني بالمصلحة المرسلة إلا ذلك " تنقيح الفصول ص446
(6) انظر : الموافقات 2/9 .
(7) إعلام الموقعين 3/13 .
(8) الأحكام للآمدي 4/32 .
(9) انظر المستصفى 1/141، شرح تنقيح الفصول ص446، البحر المحيط6/78-79،تقريب الوصول ص412، شرح الكوكب المنير4/432، ضوابط المصلحة للبوطي ص110 ومابعدها.
(10) المائدة 49 .
(11) النساء 59 .
(12) المائدة 44 .
(13) انظر : الاجتهاد المعاصر د. القرضاوي ص 68-72، ضوابط المصلحة للبوطي ص120 .
المسلم المعاصر العدد 13 بعنوان :( النص والمصلحة بين التطابق والتعارض ) .
(14) المصلحة المرسلة ص10 .
(15) المستصفى 1/ 296 .
(16) المرجع السابق 1/ 297 .
(17) انظر : درر الحكام شرح مجلة الأحكام مادة ( 1004 ) .
(18) المستصفى 1/300 .
(19) مختصر الفوائد في أحكام المقاصد ص 133و 134 .
(20) المرجع السابق 1/296، وانظر أيضاً : إرشاد الفحول ص243 ، رفع الحرج للباحسين ص 265 .(/3)
(21) البحر المحيط 6/ 80 . ومثال الغزالي الذي أشار إليه الزركشي مسألة تترس الكفار بأسرى من المسلمين وهذا المثال يجري في هذا الضابط أيضاً لأن المصلحة ليست كلية بل تضرر بها أولئك الأسرى من المسلمين . انظر : ضوابط المصلحة للبوطي ص 341 ، نظرية المصلحة لحسين حامد حسان ص 454 ، رفع الحرج للباحسين ص 264 .
(22) انظر : مختصر الفوائد في أحكام المقاصد لابن عبد السلام ص 141و142 .
(23) انظر: ضوابط المصلحة للبوطي ص217 وما بعدها .
(24) رواه البخاري في كتاب التهجد باب من نام عن السحر رقم(1132) ورواه مسلم في كتاب صلاة المسافرين ، باب في صلاة الليل رقم (741 )
(25) انظر: مختصر الفوائد في أحكام المقاصد لابن عبد السلام ص141و142، قواعد الأحكام 1/66 طبعة دار الكتب العلمية .
(26) قواعد الأحكام ص47 تحقيق الخنّ .
(27) مفتاح دار السعادة 2/14 مكتبة محمد علي صبيح .
(28) المصالح المرسلة للشنقيطي ص 21 نقلاً عن معالم أصول الفقه للجيزاني ص245 .
ضوابط المصلحة الدعوية (2/2)
د.مسفر بن علي القحطاني 4/4/1426
12/05/2005
ذُكر في الجزء الأول من المقال أهم الضوابط الشرعية للعمل بالمصلحة المرسلة سواء كان العمل بها في مجال الدعوة والإصلاح أو غيره ذلك , وأحب أن أقرر بعد التمهيد السابق بذكر بعض التنبيهات والإشارات في التطبيقات الدعوية للمصلحة في واقعنا المعاصر، أوجزها فيما يلي:
أولاً :إن اعتبار الأخذ بالمصلحة وبناء الأحكام عليها وجعلها ذريعة لمواقف ومنطلقات تقوم عليها الدعوة ينبغي أن يحتاط له ولا يكون مدخلاً لنوازع النفس والهوى أو باباً مفتوحاً للأدعياء وأنصاف العلماء، أو نوعاً من الإقرار بالمصالح الضعيفة أو الموهومة نتيجة لضغط الواقع ، أو بحجة فقة التيسير ، أو توسعاً في الانفتاح على المجتمعات والرقي في سلم الحضارات .
ومن وسائل الاحتياط والاهتمام في الأخذ بالمصلحة في قضايا الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد أن تكون منطلقة من أهل الاجتهاد من العلماء والباحثين من أهل الفقه والعلم لسعة اطلاعهم وشمول معرفتهم لأحكام الشريعة، وكلما كان النظر والاستدلال من خلال اجتهاد جماعي لا فردي كان أكثر دقة وأقرب إلى الصواب وأقل احتمالاً في الخطأ.
يقول د. عبد المجيد الشرفي في أهمية الاجتهاد الجماعي : »أنه ضمانة لعدم استغلال هذه القاعدة في تعطيل شرع الله بذريعة تغير المصلحة… ولكونه أكثر ضمانة في التحري عن المصلحة وتغيرها ، وأكثر دقة في الابتعاد عن الهوى وأكثر إصابة للحق « (1) .
وكان هذا النهج في النظر هو فعل الصحابة -رضوان الله عليهم- إذا نزل بهم أمر وأرادوا الحكم فيه؛ فكان أبو بكر -رضي الله عنه- يجمع رؤوس الناس وخيارهم ويستشيرهم فإذا اجتمع أمرهم على أمر قضى به، وكان عمر -رضي الله عنه- يفعل ذلك إذا أعياه أن يجد حكم مسألة ما في الكتاب والسنة سأل : هل كان أبو بكر قضى فيه بقضاء؟ فإن كان لأبي بكر قضاء قضى به وإلا جمع علماء الناس واستشارهم فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به . (2)
ثانياً: إن النظر في المصلحة ينبغي أن يمتد إلى ما تؤول إليه من نتائج مصلحية أو ما سوى ذلك من مفاسد، فقصر الأخذ للمصلحة على وقتها من دون اعتبار الأوقات الأخرى، أو على مكان من دون اعتبار الأماكن الأخرى، أو على شخص من دون اعتبار بقية الناس وخصوصاً في الفتاوى والأنظمة العامة مما قد يكون وسيلة أو ذريعة إلى مفسدة أو الوقوع في محظور ، مع اعتبار الأولى من المصالح فالأولى بتقديم المصالح الدائمة أو المتعدية أو الأكثر نفعاً والأطول بقاءً على غيرها من المصالح المرجوحة الأخرى.
يقول الإمام الشاطبي -رحمه الله- عن المجتهد : »لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة من المكلفين بالإقدام أو الإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، فقد يكون مشروعاً لمصلحة فيه تستجاب، أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه… فيكون هذا مانعاً من إطلاق القول بالمشروعية … وهو مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب المذاق محمود الغبّ جارٍ على مقاصد الشرع«(3).
ومن أمثلة اعتبارات المآلات والذرائع في الشرع : قوله تعالى ( وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ …) (4) وقوله تعالى ( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُوْلِي الألْبَابِ ) (5) .
ومنها: النهي عن بيع العينة لأنها ذريعة للربا، وعدم قتل النبي -صلى الله عليه وسلم- للمنافقين كي لا يقال إن محمداً يقتل أصحابه، وعدم هدم وبناء الكعبة على قواعد إبرهيم لأن الناس كانوا حديثي عهد بالكفر، ونهيه للصحابة عن إخراج الأعرابي الذي بال في المسجد لما يتريب على ذلك من ضرر عليه وأذى في المسجد، ونهيه صلى الله عليه وسلم عن التشدد في العبادة والغلو فيها حتى لا يحدث للإنسان ملل أو إفراط في الغلو المحظور. (6)(/4)
وللإمام ابن القيم تقسيم لطيف في أنواع الذرائع ما يسد منها وما يفتح يقول فيه -رحمه الله- : » والذرائع تنقسم إلى أربعة أقسام:
1- أن تكون وسيلة موضوعة للإفضاء إلى المفسدة، كشرب الخمر مفضٍ إلى مفسدة السكر ، والزنا مفضٍ إلى اختلاط المياه وفساد الفراش، وهذا النوع جاءت الشريعة بمنعه.
2- أن تكون وسيلة موضوعة للمباح قصد بها التوسل إلى المفسدة ، كعقد النكاح بقصد التحليل أو عقد البيع بقصد الربا، وهذا ممنوع .
3- أن تكون وسيلة موضوعة للمباح ولم يقصد بها التوسل إلى المفسدة لكنها مفضية إليها غالباً ، ومفسدتها أرجح من مصلحتها ، مثل الصلاة في أوقات النهي ، وسب آلهة المشركين ، وتزيين المتوفى عنها زوجها في زمن العدة. وهذا ممنوع .
4- أن تكون وسيلة موضوعة للمباح وقد تفضي إلى المفسدة ومصلحتها أرجح من مفسدتها، كالنظر إلى المخطوبة أو المشهود عليها، والصلاة ذات الأسباب في أوقات النهي ، وكلمة الحق عند سلطان جائر ، وهذا مشروع في الجملة . « (7)
ثالثاً : إن قاعدة النظر في المآلات قاعدة معتبرة شرعاً كما بينا ذلك وأكده الإمام الشاطبي -حمه الله- بقوله : »النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً كانت الأفعال موافقة أو مخالفة « (8) .
واعتبار المآلات في النظر والاجتهاد أمر مهم للمجتهد يجعل نظره ممتداً إلى ما يؤول إليه حكمه أو ما يتوقع أن يحدث من المكلف أو ما ينتج عنه في المستقبل ليراعي ذلك كله في اجتهاده (9)
ولاشك أن هذه النظرة الاسستشرافية للمستقبل كما يحتاجها المجتهد والمفتي وأهل القضاء؛ فإن الداعية أحوج ما يكون إليها وهو يقرر أحكام الله -عز وجل- في الأرض ويضع الخطط الإصلاحيه والأهداف والوسائل الدعوية لتنزيلها على مختلف أنواع المكلفين وأصناف المجتمعات وأحوال البيئات والأزمنة.
وكل ذلك يتطلب أن يتجاوز الدعاة واقعهم القريب إلى استشراف المستقبل البعيد، وأن تكون لهم دراسات مستقبلية يتوقعون فيها ما يمكن حدوثه أو يحصل تغيّره، ثم وضع برامجهم الإصلاحية مراعين ما يلزم لذلك من احتياطات واستعدادات تكون سياجاً آمناً من مفاجآت المستقبل ومتغيرات الزمان.
وليس في ذلك ادعاءٌ للغيب أو تجاوز للشرع؛ وحاش للدعاة أن يدّعوه؛ بل إن ذلك معتبر ضمن ما ذكرناه من قاعدة اعتبار المآلات، والنواميس التي وضعها الله -عز وجل- في الأنفس والمجتمعات والكون ثابتة لا تتغير ومحكمة لا تتبدل إلا إذا شاء الله -عز وجل- ذلك، فإذا اكتشف الدعاة نظام هذه النواميس والسنن وساروا ضمن قانونها العام فإنهم لن يعدموا خيراً ، إذ قد بذلوا ما في جهدهم من أسبابٍ تحقق لهم العزة والنصر بإذن الله .
وإذا كان واقع الدعوة المعاصرة مع ثقل ما تحمله على كاهلها من واجبات وأعباء لا تعطي لاستشراف المستقبل كبير اهتمام مع ضرورته في وقتنا المعاصر . فإننا نجد كثيراً من دول العالم الغربي ومنذ زمن بعيد قد اهتمت بذلك الأمر اهتماماً بالغاً جعل من دولة السويد أن تضع حقيبة وزارية في حكومتها للاهتمام بالمستقبل منذ عام 1973م ، وفي الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من ستمائة مؤسسة لدراسة المستقبل (10) ؛إلى غيرها من مؤسسات الاستشراف الكثيرة في الغرب والشرق الأسيوي في حين يفتقد عالمنا العربي والإسلامي إلى مثلها وهو يحمل الكثير من الهموم والمشكلات المتجذرة التي تستلزم حلولاً بعيدة وعلاجات طويلة الأمد .
رابعاً : إن اعتبار حجيّة المصلحة المرسلة جعل جمهور الفقهاء يستخرجوا بناءً عليها أحكاماً شرعية لكثير من المسائل التي صدرت بشأنها القوانين والأنظمة ، كقوانين العمل والعمال وأنظمة التجارة والصناعة والزراعة، وفرض عقوبات رادعة لبعض الجرائم كتعاطي المخدرات والاتجار فيها ، إلى غيرها من الأنظمة والقوانين واللوائح التي تنظم المجتمع ولم يرد بشأنها نص من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
فإذا قررنا اعتبار المصلحة المرسلة في تنظيم شؤون المجتمع وإلزام الناس بها فما الذي يمنع من اعتبار المصلحة في تنظيم شؤون الدعوة وتنظيم أمور الدعاة وفق أنظمة وقوانين ولوائح لها قوة التطبيق والإلزام .
خامساً : يمارس بعض الدعاة إلى الله نوعاً من التلفيق الاجتهادي المذموم بغية الوصول إلى الهدف المطلوب والسيطرة المنشودة ومدّ النفوذ والعلو على كل موجه؛ تحقيقاً لمصلحتهم الخاصة وإن كانت وسائلها ممنوعة؛ فالغاية عندهم تبرر الوسيلة مهما كانت، والعبرة بإيجاد مصلحتهم المتوهمة ولو خالفت نصوص الشرع وقواعده الكلية .
إن هذا المبدأ الميكافيلي الذي سيطر على مناهج بعض الدعوات المغرضة حقق لهم انتصارات هامشية وامتداداً سرابياً بين الناس، ولكن على حساب المبادئ الشرعية والثوابت الخلقية في الإسلام .
يظهر هذا الانتهاك في عدة صور عملية واقعية كالطعن والثلب في العقائد والأعراض وتصيد الأخطاء والزلات لكل داعية يخالف منهجهم وتشويه المناهج الأخرى من أجل التصدر والاعتلاء على الساحة الدعوية.(/5)
وقد ترى تقلب المبادئ والمناهج بين الأخذ بالعزائم والتشدد في العقائد والعبادات وامتحان الناس بها وأخذ خواصهم بالرخص الملفقة وإسرارهم بها، يقول عمر بن عبد العزيز منبهاً على خطورة هذا المنهج البدعي الذي ظهر في زمانه : (( من جعل دينه للخصومات أكثر التنقل )) (11) كما نجد السعي الدؤوب في تبرير كل اجتهاد نَحَوْه مهما كان انحرافه وليّ أعناق الفتاوى فضلاً عن نصوص الشرع لتوافق أهواءهم وطموحاتهم الحزبية.
إن دعوة قامت على هذا الجرف الهار لا تلبث أن تنهار وتذهب ريحها ويتفرق جمعها (( إن الله لا يصلح عمل المفسدين )) (12) وسنن الحق سبحانه في أمثالهم جارية والزمن كفيل بإثبات الحق وإظهاره .
فالمصالح الدعوية إن لم تقم على ربانية صادقة مخلصة وتمييز للثوابت عن المتغيرات والمتغيرات عن الثوابت بفقه دقيق وتأصيل عميق، وإلا كانت بداية انحراف وزيغ وفتنة للدعاة تذكيها مع الأيام حركات فاتنة في صفقات غابنة لا مربح لأحد إلا أعداء الدعوة ودعاة السوء والفتنة.
|1|2|
________________________________________
(1) الاجتهاد الجماعي في التشريع الإسلامي د. عبد المجيد الشرفي ص118 .
(2) انظر : الفكر السامي للحجوي 1/286 .
(3) الموافقات 5/177 .
(4) الأنعام : 108
(5) البقرة :179
(6) انظر: الموافقات 5/180و181 .
(7) إعلام الموقعين 3/109 بتصرف .
(8) الموافقات 5/177 .
(9) انظر : الموافقات 5/177و233 ، الأشباه والنظائرللسيوطي ص322-325 ، نظرية المصلحة في الفه الإسلامي د. حسين حامد حسان ص193-199 .
(10) انظر : مدخل إلى التنمية المتكاملة د. عبد الكريم بكار ص 155 .
(11) الشرح والإبانة ص 143 نقلاً عن مناهج أهل الأهواء للعقل ص 90 .
(12) يونس: 81 .(/6)
ضوابط النظر في النوازل والمتغيرات في اجتهادات الفقهاء.
د.صالح بن عبدالله بن حميد
مقدمة
لعل من المناسب التقديم بكلمات مختصرة, وإشارات موجزة حول ضوابط النظر في النوازل والمتغيرات في اجتهادات الفقهاء وكلام أهل الأصول - رحمهم الله – مربوطاً ذلك بخوض بعض المعاصرين المنتسبين إلى الثقافة الإسلامية والفكر الإسلامي, مما يستدعي ترسيخ النظر في الضوابط, وتأكيد ثوابت الشرع المطهر, مع وفائه التام بحاجة البشرية في كل مستجداتها ونوازلها.
نزلت شريعة الإسلام وحياً من عند الله تبارك وتعالى تحمل في أصولها ما يعالج قضايا الإعتقاد ويرسي قواعد العدل والمصلحة, والرحمة في الأحكام واستقامة السلوك.
وخلود الشريعة, وكمالها, وتمام النعمة بها يصدق بنصوصها وأصولها الثوابت منضماً إلى ذلك مجالات الاجتهادات النابعة من أصالة الفكر في تفهم النصوص ومقرراتها, وفي حسن تطبيقها في كل ما يجد في الحياة من وقائع, وما يلم بها من تطورات ومتغيرات بسبب إحداثات الفكر الإنساني, وتلوث البيئات والتحولات في المجتمع وما تقتضيه سنن الله في هذا.
والاجتهاد في تفسير النصوص أو النظر في الوقائع لتنال حكمها في الشرع, كل ذلك طريقه, إما النص في المنصوص عليه, وإما فهم النص فيما لم ينص عليه, ولا يكون ذلك إلا لذي الرأي الحصيف, المدرك لعلم الشرع الشريف.
وفي هذا يقول أبو حامد الغزالي:
"وأشرف العلوم ما ازدوج فيها العقل والسمع, واصطحب فيه الرأي والشرع. وميدان هذا علم أصول الفقه, فإنه يأخذ في هذا سواء السبيل, فلا هو تصرف بمحض العقول بحيث لا يتلقاه الشرع بالقبول, ولا هو مبني على محض التقليد الذي لا يشهد له عقل بالتأييد والتسديد".
وذلكم هو ميدان الاجتهاد من أجل تحصيل الحكم الشرعي في مسألة غير من منصوصة.
وبتعبير آخر:هو بذل المجهود في طلب المقصود من جهة الاستدلال.
والاجتهاد يشمل الدقة في فهم النص, وفي طريقة تطبيق حكمه, أو في مسلك ذلك التطبيق على ضوء الملاءمة بين ظروف النازلة التي يتناولها النص, والمقصد الذي يستشرفه النص نفسه من تطبيقه.
يوضح ذلك شمس الدين ابن القيم في عبارة سلسة مبيناً نهج الصحابة - رضوان الله عليهم – فيقول:
"...فالصحابة - رضي الله عنهم – مثلوا الوقائع بنظائرها, وشبهوها بأمثالها, وردوا بعضها إلى بعض في أحكامها, وفتحوا للعلماء باب الاجتهاد, ونهجوا لهم طريقة, وبينوا لهم سبيلة".
وليس المقصود بالاجتهاد التفكير العقلي المجرد, فهذا ليس منهجاً مشروعاً, بل هو افتئاب على حق الله في التشريع, حتى ولو كان جاداً بعيداً عن الهوى, مادام أنه لم ينطلق من مفاهيم الشرع, ومبادئه, وأصوله, وحقائق تنزيليه, ومثله العليا ومقاصده الأساسية.
ومن أجل هذا فإن نطاق الاجتهاد الشرعي يتمثل في فهم النصوص الشرعية, وتطبيقاتها, ودلالتها, وقواعد الشرع المرعية.
يقول أبو حامد الغزالي:
"اعلم أن العلم في قسمين: أحمدهما شرعي, والآخر عقلي, وأكثر العلوم الشرعية عقلية عند عالمها, وأكثر العلوم العقلية شرعية عند عارفها(ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور).
فالعلوم الشرعية أكثرها عقلي؛لأنه لابد فيها من استعمال طلاقة العقل, وكذلك أكثر العلوم العقلية شرعي عند التحقيق, لأنه لابد من مراعاة قيد الشرع, والجمود والتقليد لا يكونان فقط بالكف عن استعمال العقل, وإنما يكونان أيضاً بالفصل بين ما هو شرعي وما هو عقلي, والاستغناء بأحدهما عن الآخر؛ فعدم استعمال العقل في الشرعي جمود وتحجر, وكذلك عدم الاهتداء بالشرع في العلوم العقلية جمود وتحجر،
لأن الحق الواصل عن طريق الوحي لا يتعارض مع الحق الواصل عن طريق العقل الصحيح بالبحث والنظر".
مصادر التشريع
ومصادر التشريع الأساسية هي الكتاب والسنة والإجماع والقياس, ثم بعدها مصادر توصف بالمصادر التبعية, أي أنها مبنية على هذه المصادر ومنبثقة منها وفي إطارها لا تعدوها ولا تخرج عنها.
-من أبرز هذه المصادر التبعية وما يتعلق بها:
المصلحة المرسلة, والعرف, والاستحسان, والاحتياط, وسد الذرائع, وقاعدة الضرر والضرورات, وعموم البلوى, والاستصحاب, والبراءة الأصلية, والمقام ليس مقام بسط للحديث عن هذه المصادر كلها.
-وفي مدخل هذا الموضوع يقال:
إن هذه المصادر من العرف, والاستحسان, والمصلحة هي المحك الدقيق والمرتقى الصعب في النظر فيما بسطه علماء الأصول والقواعد - رحمهم الله – حينما بحثوا في أعراف الناس وحاجاتهم وضروراتهم, وأثر المتغيرات والأحداث على استمساكهم بدينهم, وانتظام أمور معايشهم, فكان ذلك معتركاً دقيقاً يجب التثبت فيه على ما سوف يتبين إن شاء الله.
-وعليه فإن الحديث سيكون متناولاً مسألتين رئيسيتين:
أولاهما: استعراض لبعض هذه المصادر التي تعد قواعد أساسية ينبني عليها التغير والتجديد, مع إنهاء الحديث في كل مصدر بما يضبطه بخصوصه.
ثانيتهما: ضوابط عامة في النظر في المتغيرات.
أولاً: استعراض لبعض المصادر في التشريع:(/1)
سوف يقتصر الكلام على المصادر التالية:
(المصلحة المرسلة – الاستحسان – سد الذرائع والاحتياط – عموم البلوى – العرف).
1-المصلحة المرسلة:
هي المصلحة التي شهد الشرع لجنسها, بمعنى أنها تدخل تحت أصل شهدت له النصوص في الجملة. وليست هي المصلحة الغريبة التي لم يشهد النصوص لنوعها حتى تكون قياساً, ولا لجنسها حتى تكون استدلالاً مرسلاً, فهذه الأخيرة ليست حجة عند أحد من الأئمة, والغزالي الشافعي, والشاطبي المالكي يحكيان إجماع أهل العلم على رد المصالح الغريبة’ ويُدخلانها في باب الاستحسان الذي رده الشافعي – رحمه الله – وشدد النكير على القائلين به, وهو غير الاستحسان الذي روي عن مالك وأبي حنيفة – رضي الله عنهما – والأخذ به. فهذا الأخير استدلال بنص, أو إجماع, أو عرف, أو مصلحة في مقابلة عموم أو قياس. وهو الذي ستأتي الإشارة إليه.
غير أن الأخذ بالمصلحة المرسلة لابد فيه من أمور:
الأول:أن تكون معقولة بحيث تجري على الأوصاف المناسبة التي إذا عرضت على أهل العقول تلقتها بالقبول.
الثاني:أن يكون الأخذ بها راجعا إلى حفظ أمر ضروري أو رفع حرج لازم في الدين؛ بحيث لو لم يأخذ بالمصلحة المعقولة في موضعها لكان الناس في حرج شديد.
الثالث:الملاءمة بين المصلحة التي تعد أصلاً قائماً بذاته وبين مقاصد الشارع, فلا تنافي أصلاً من أصوله, ولا تعارض دليلاً من أدلته, بل تكون منسجمة مع المصالح التي يقصد الشارع إلى تحصيلها, بأن تكون من جنسها ليست غريبة عنها.
والمصلحة أو الاستصلاح باب واسع ومدخل عريض, قد يدخل منه من لا يفقه في الشريعة ولا يدرك مراميها, ومن أجل هذا منع منه من منع من المجتهدين خشية من هذا الباب.
ومن المقرر والمعلوم أن الشريعة تراعي مصالح العباد, وباب الاجتهاد مفتوح فيما لا نص فيه, ولكن للاجتهاد شروطه وللمصلحة ضوابطها وحدودها.
فليس مرد المصلحة إلى تقرير الناس فيما يكون به الصلاح والفساد, فإذا حسب الناس أن التعامل بالربا – مثلاً – قد بات مصلحة نحتاج إليها, ولا يقوم أمر الناس إلا بها, فهو بمقتضى هذا الضر مصلحة حقيقية, وعلى الشريعة بما التزمته من تحقيق مصالح الناس ورفع الحرج عنهم أن تتسع لقبول هذا الحكم, لأنه قد رأى ذلك علماء في الاقتصاد, وخبراء في التجارة من أجل تنشيط الحركة التجارية والنهوض بها.
وقد يرى بل قد يتفق علماء التربية وعلماء النفس على أن الجمع بين الجنسين في مرافق المجتمع يهذب الأخلاق, ويخفف من شدة الميل الجنسي, ويمكن من استخدام كافة القوى البشرية المتاحة من أجل التنمية, فلا يبقى نصف المجتمع معطلا, فهو مصلحة ينبغي تحقيقها والشريعة تراعي تحقيق المصالح.
وقد يقول الأطباء: أن لحم الخنزير ليس بمستخبث, وإن أكله لا يعقب أي آثار سيئة في الخلق والجسم.
إن تقدير ما به يكون الصلاح والفساد عائد إلى الشريعة نفسها, قد وضع ذلك في مقاصد الشريعة الخمسة وهي: حفظ الدين, وحفظ النفس, وحفظ العقل, وحفظ النسل, وحفظ المال.
وبناء عليه؛ فإن كل ما توهمه الناس مصلحة مما يخالف تلك الأسس العامة في جوهرها, أو الترتيب فيما بينها, أو يخالف دليلاً من الأدلة الشرعية من كتاب, أو سنة أو إجماع أو قياس صحيح ليس من المصلحة في شيء, وإن توهمه من توهمه.
أما نتائج خبرات الناس وتجاربهم فيجب عرضها على نصوص الشريعة وأحكامها الثابتة, فما وافقها أخذ به, والحكم في ذلك للنصوص الشرعية ومقاصد الشريعة, وما خالف ذلك فيجب طرحه وإهماله واعتباره مصلحة ملغاة.
ويجب أن يفهم أن الشارع لم يلغ مصلحة دلت عليها تجارب الناس وعلومهم, بل الواقع أن تقدير هؤلاء المجربين والخبراء للمصلحة كان خطأ, صاحبه خلل نابع من هوى في نفس المجرب, أو خطأ في وسائل التجربة, أو نقص في الاستقراء, فنحن نتهم تقدير هؤلاء, ولا نتهم نصوص الشريعة.
نخلص من ذلك إلى أن الخبرات العادية, والموازين العقلية, والتجريبية المحضة لا يجوز أن تستقل وحدها بفهم مصالح العباد وتنسيقها.
إن مدار المصلحة التي ينبني عليها الحكم الشرعي هي المصلحة الشرعية, والمصلحة الشرعية ليس لها طريق غير الوحي.
أما المصلحة الدنيوية فلا اعتبار لها في نظر المسلم عند مخالفتها للنص الشرعي.
2-الاستحسان:
عرفه ابن رشد المالكي فقال:"إنه طرح لقياس يؤدي إلى غلو في الحكم ومبالغة فيه, فيعدل عنه في بعض المواضع, لمعنى يؤثر في الحكم يختص به ذلك الموضع".
وعرفه أبو الحسن الكرخي الحنفي حيث قال:"هو العدول عن الحكم في مسألة بمثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه بوجه أقوى يقتضي العدول عن الأول".
فالاستحسان نوع من الترجيح بين الأدلة, وحقيقته كما يلاحظ, وكما يصرح به كثير من الأصوليين أنه أخذ بأقوى الدليلين.
أنواع الاستحسان:
ينقسم الاستحسان من حيث ابتناؤه على الأدلة الشرعية إلى أربعة أقسام:
أ.الاستحسان بالنص:(/2)
وذلك يجري في كل أنوا العقود التي قالوا أنها على خلاف القياس كالسلم, والإجارة, والقرض ونحوها. وهي استحسان بالنص لأنها قد ثبتت بنصوص شرعية على غير وفق القاعدة العامة من عدم صحة بيع المعدوم, وعقود الربا, ونحو ذلك. وأغلب إطلاقات الاستحسان في كتب الفروع تتصرف إلى هذا النوع, وعلى الخصوص في فروع الحنفية,فيقولون هذا جائز استحساناً, ويسمونه الاستحسان بالنص.
ب.الاستحسان بالإجماع:
أي أن الاستحسان هو الإجماع كما في مسألة الاستصناع.
ج- استحسان الضرورة:
كما في مسألة الحياض والآبار؛ ووجه الاستحسان في هذه المسألة أن الماء إذا خالطته نجاسة ولو كان كثيراً فإنه ينجس مادام ليس جارياً, ولكن عفي عن ذلك استحسانا للضرورة, وبيان ذلك: أن القياس يأبى طهارتها. لأن الدلو ينجس بملاقاة الماء, فلا يزال يعود وهو نجس, ولأن نزع بعض الماء لا يؤثر في طهارة الباقي, وكذلك خروج بعضه عن الحوض, وكذا الماء ينجس بملاقاة الآنية النجسة, والنجس لا يفيد الطهارة, فاستحسنوا ترك العمل بموجب القياس للضرورة, فإن الحرج مرفوع بالنص. وفي موضع الضرورة يتحقق معنى الحرج لو أخذ بالقياس.
د- الاستحسان بمعنى القياس الخفي:
وقد سمي قياساً خفياً في مقابلة القياس الجلي, وهو القياس المصطلح عليه. والاستحسان بهذا المعنى يقصدون به ما قوي أثره. ومن أمثلته طهارة سؤر سباع الطير, فالقياس الجلي أن سؤره نجس, لأنه من السباع. ودليل النجاسة حرمة أكل لحمه كسائر السباع. وفي الاستحسان هو طاهر لأن السبع ليس بنجس العين بدليل جواز الانتفاع به شرعا كالصيد, وكذلك الانتفاع بجلده وعظمه, ولو كان نجس العين لما جاز كالخنزير, وسؤر سباع البهائم إنما كان نجساً باعتبار حرمة الأكل لأنها تشرب بلسانها وهو رطب من لعابها, ولعابه متولد من لحمها, وهذا لا يوجد في سباع الطير لأنها تأخذ الماء بمنقارها, ومنقارها عظم, وعظم الميتة طاهر, فعظم الحي أولى. فصار هذا الاستحسان وإن كان باطناً أقوى من القياس وإن كان ظاهراً, وهذا النوع من الاستحسان هو الذي يغلب إطلاقه عند الأصوليين.
3.سد الذرائع والاحتياط:
سد الذرائع يعني أن ما كان ذريعة أو وسيلة إلى شيء يأخذ حكمه, فما كان وسيلة إلى الحرام يحرم, وإن كان في أصله حلالاً, ومعنى هذا الأمر الجائز في الأصل يمنع منه في الحالات التي يؤدي فيها إلى مالا يجوز. فعقد البيع حلال مشروع في أصله لقوله تعالى(وأحل الله البيع)ولكن قاعدة سد الذرائع تقتضي بطلان هذا البيع إذا قصد به المحرم, أو كان الباعث الدافع إليه غير مشروع, كما في بيع السلاح لمن يقتل مسلماً, أو لأهل الحرب, وبيع العنب لمن يتخذه خمراً.
أما الاحتياط:"فهو احتراز المكلف عن الوقوع فيما يشك فيه من حرام أو مكروه".
مجال الأخذ بالاحتياط: والمكلف يأخذ بالاحتياط في مجالين:
الأول: تحقق الشبهة.
الثاني: حصول الشك في الحكم الشرعي.
المجال الأول: تحقق الشبهة:
الشبهة التي تعرض للمكلف في الأحكام الشرعية قسمان:
القسم الأول: الشبهة الحكمية:
وهي التي تقع في الحكم الشرعي بمعنى أن حكم الشارع غير ظاهر من الدليل على وجه العلم أو الظن, وهي متوجهة إلى الحكم الشرعي نفسه من حل أو حرمة وغيرهما من أقسام الحكم الشرعي, لذا سميت بالشبهة الحكمية, وهذا يحصل غالباً حين تتعارض الأدلة لدى المجتهد.
القسم الثاني: الشبهة المحلية:
وهي التي ترد على المحكوم فيه الذي هو محل الحكم من حيث دخوله تحت حكم الشارع من حل أو حرمة أو غير ذلك. كاشتباه ميتة بمذكاة ومحرمة بأجنبيات وهو أنواع:-
1-اشتباه بعدد محصور: كما لو اختلطت الميتة بمذكاة أو مذكيات محصورات, أو رضيعة بعشر نسوة فهذه شبهة يجب اجتنابها بالاتفاق.
2-حرام محصور بحلال غير محصور: كما لو اختلطت الرضيعة بنساء البلد, فلا يجب اجتناب نكاح نساء أهل البلاد.
3-حرام لا يحصر بحلال لا يحصر: كاختلاط الحلال بالحرام في أسواق الناس, والأسواق فيها المغصوب, والمسروق, والربوي, مما يقل ويكثر, حسب ورع أهل الزمان, ولا يقال بالمنع من التعامل مع أهل الزمان, أو البلد ما لم يقترن بالأعيان علامات تدل على أنه من الحرام, فإن لم يكن في العين علامة تدل على أنه من الحرام, فتركه ورع, وأخذه حلال, لا يفسق به آكله.
المجال الثاني:
الشك في الحكم الشرعي الطارئ بسبب الشك في الواقع: فيطرأ الشك في الحرمة والوجوب أو الإباحة فيحتاط المكلف لنفسه فانه لا يخرج من عهدة الواجب- مثلاً- إلا بيقين أو ظن غالب. كالشك في عدد الركعات, والنظر في ذلك في أربعة أقسام:
1-التحريم معلوم ثم يطرأ الشك في الحل, فهذه شبهة يجب اجتنابها, ويحرم الإقدام عليها, كما لو رمى صيداً فوقع في الماء فيخرج ميتاً, ولا يدري هل مات بالغرق, أو بسبب جرح الرماية.
2-الحل معلوم ثم يطرأ الشك في التحريم, حكمه الحل, فلا ينجس الماء بمجرد ظن النجاسة.(/3)
3-الأصل التحريم ثم يطرأ ظن غالب على الحل, كمن يرمي صيدا فيغيب عن ناظره ثم يدركه ميتاً وليس عليه أثر سوى أثر رميه, فهو حلال, وان احتمل أنه مات بسبب شدت السقوط.
4-الأصل الحل ثم يطرأ ما يفيد غلبت الظن التحريم, كما لو رأى حيواناً يبول بماء كثير ثم وجد الماء متغيراً واحتمل أن يكون الماء قد تغير بطول المكث فيحكم بنجاسة الماء.
على أن الاحتياط في جملته مطلوب فيما علم أمره وتحقق فيه يقين اختلاط الحلال بالحرام أو ظن غالب, وذلك بقرائن وعلامات توصل إلى ذلك, كما لو كان في بلاد غير المسلمين أو مع فساق لا يتورعون عن اقتراف المنهيات, أما إذا كان في ديار المسلمين, ولم يظهر ما يدعوا إلى الاشتباه فلا ينبغي التدقيق والإلحاح في الأسئلة مع أعيان المسلمين, بل قد يصل الأمر إلى تحريم السؤال إذا كان فيه إيذاء للمسلم المستقيم.
4-عموم البلوى :
يظهر عموم البلوى في موضعين:-
الأول : ماتمس الحاجة في عموم الأحوال , بحيث يعسر الاستغناء عنه إلا بمشقة زائدة .
الثاني: شيوع الوقوع والتلبس , بحيث يعسر على المكلف الاحتراز عنه أو الانفكاك منه إلا بمشقة زائدة.
ففي الموضع الأول ابتلاء بمسيس الحاجة, وفي الثاني ابتلاء بمشقة الدفع.
الضابط في عموم البلوى :
يرجع النظر في عموم البلوى إلى ضابطين رئيسين:-
الأول: الضابط في نزارة الشيء وقلته:
أي أن مشقة الاحتراز من الشيء وعموم الابتلاء به قد يكون نابعاً من قلته ونزارته, ومن أجل هذا عفي عن يسير النجاسات, وعن أثر الاستجمار في محله, عما لا يدركه الطرف , وما لا نفس له سائلة ونيم الذباب(ما يخرج من فضلاته), وما ترشش من الشوارع مما لا يمكن الاحتراز عنه , وما ينقله الذباب من العذرة وأنواع النجاسات.
الثاني: كثرة الشيء وشيوعه وانتشاره:
كما أن عموم الابتلاء ومشقة التحرز قد تكون نابعة من تفاهة الشيء ونزارته, كذلك قد يكون الأمر لكثرته وشيوعه فيشق الاحتراز عنه ويعم البلاء به.
وقد نبه الغزالي إلى أن الغلبة التي تصلح عذراً في الأحكام ليس المراد بها الغلبة المطلقة , وإنما يكفي أن يكون الاحتراز أو الاستغناء عنه فيه مشقة وصعوبة نظراً لاشتباهه بغيره من الحلال والمباح واختلاطه به وامتزاجه معه بحيث يصعب الانفكاك عنه, كما هو ظاهر في بعض صور النجاسات والمستقذرات واختلاط الأموال.
5-العرف:
ويراد به: ما استقر في النفوس من جهة العقول, وتلقته الطباع السليمة بالقبول ".
فهو شامل لما عرفته النفوس وألفته, سواء كان قولا أوفعلا ولم ينكره أصحاب الذوق السليم . ويحصل الاستقرار في النفوس والقبول للطباع بالاستعمال المتكرر الصادر عن الميل والرغبة . ويخرج من ذلك العرف الفاسد, وهو ما استقر لا من جهة العقول كتعاطي المسكرات, وأنواع الفجور التي تستقر من جهة الأهواء والشهوات
كما يخرج ما لم تتلقه الطباع السليمة بالقبول كالكشف عن العورات , وعدم الاحتشام , والألفاظ المستقبحة . ويحسن الوقوف هنا وقفة ـ ونحن بصدد الحديث عن العرف ـ حول مسألة تغير العادات والأعراف ,وبخاصة أن ذلك مزلق خطير, وقد يكون مركباً أثيرا لبعض المتعجلين أو المغرضين. والوقفة ذات شقين: -
أحدهما: تأكيد العلماء لقضية اعتبار الأعراف والعوائد .
وثانيهما: التفسير العلمي الفقهي للمقصود باعتبار الأعراف والعوائد . على أنه يحسن التنبيه على مسألة مهمة تتعلق بتغير الحكم لتغير العادة أو العرف وذلك أنه لا ينبغي أن يفهم من اختلاف الأحكام باختلاف العادات أنه اختلاف في أصل خطاب الشرع, بل معنى هذا الاختلاف أن العادات إذا اختلفت اقتضت كل عادة حكماًَ يلائمها, فالواقعة إذا صحبتها عادة اقتضت حكماً غير الحكم الذي تقتضيه عندما تقترن بغيرها من العادات. فإذا جرت عادة قوم باستقباح كشف الرأس كان التعزير بكشف الرأس مجزئاً , وإذا لم يكن كشف الرأس في عادة قوم مستقبحاً امتنع أن يكون طريقاً كافياً للتعزير ولا بد للقاضي من اتخاذ طريق آخر يكون له وقع الألم في نفس المستحق للتعزير. فخطاب الشرع الذي تعلق بالواقعة المقتضية للتعزير حال صحبتها عادة استقباح كشف الرأس غير الخطاب الذي يتعلق بواقعة مثلها تصاحب عادة عدم استقباح ذلك .
تغير الأحكام بتغير العادات والأعراف:(/4)
يقول الإمام القرافي : (إن الأحكام المترتبة على العوائد تدور معها كيفما دارت, وتبطل معها إذا أبطلت:- وعلى هذا القانون تراعى الفتاوى على طول الأيام, فمهما تجدد في العرف اعتبره ومهما سقط أسقطه, ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك , بل إذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتيك لا تجره على عرف بلدك, واسأله عن عرف بلده وأجره عليه وافته به دون عرف بلدك, والمقرر في كتبك , فهذا هو الحق الواضح. والجمود على المنقولات أبداً ضلال في الدين, وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين ) ويقرر السيوطي في أشباهه أن العادة والعرف مرجوع إليهما في الفقه في مسائل كثيرة ويزيد ابن عابدين الموضوع جلاء إذ يقول:( كثير من الأحكام يختلف باختلاف الزمان لتغير عرف أهله, أو لحدوث ضرورة , أو لفساد أهل الزمان بحيث لو يبقى الحكم على ما كان عليه أولاً , لزم عنه المشقة والضرر بالناس , ومخالفة قوانين الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر )
ثم قال:( ولهذا نرى مشايخ المذهب –يعني الحنفية – خالفوا ما نص عليه المجتهد في مواضع كثيرة بناها على ما كان في زمنه لعلمهم بأنه لو كان في زمنهم لقال بما قالوا من قواعد المذهب)
ويقول الحافظ ابن القيم:
( ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم فقد ضل وأضل , وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم, بل هذا الطبيب الجاهل وهذا المفتي الجاهل أضر على أديان الناس وأبدانهم والله المستعان) يوضح ذلك : أن هناك أوصافاً ربط الشارع الحكم بها , وبني عليها أمور الناس فالعدالة – مثلاً- شرط في قبول الشهادة بنص كتاب الله( وأشهدوا ذوي عدل منكم ) وحينما نراجع كلام أهل العلم وتعريفاتهم للعدالة وأوصاف أصحابها نلاحظ أنهم يربطونها بمألوف الناس , ودلائل التعقل والمروءة , وهذا حق لا مرية فيه . ومن المعلوم أن هذا شيء متغير , فما يكون مألوفاً في بلد أو دلالة مروءة فيه قد لا يكون في البلد الآخر, وكذلك عند اختلاف الزمن . ولكي يزداد الأمر وضوحاً, فإن السير مكشوف الرأس أو الأكل في الأسواق كان في يوم من الأيام, أو بلد من البلدان مظهراً من مظاهر قلة المروءة واستمع في ذلك إلى القرافي في كتابه حين يقول: ( ما الصحيح في هذه الأحكام الواقعة في مذهب الشافعي ومالك وغيرهما المرتبة على العوائد والعرف الذين كانا حاصلين حالة جزم العلماء بهذه الأحكام؟ فهل إذا تغيرت تلك العوائد , وصارت العوائد تدل على ضد ما كانت تدل عليه أولاً فهل تبطل هذه الفتاوى المسطورة في كتب الفقهاء ويفتى بما تقتضيه العوائد المتجددة ؟ أو يقال: نحن مقلدون وما لنا إحداث شرع لعدم أهليتنا للاجتهاد؟ فنفتي بما في الكتب المنقولة عن المجتهدين ؟ )ويأتي الجواب منه –رحمه الله تعالى- ليقول : (إن استمرا ر الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد خلاف الإجماع, وجهالة في الدين. بل كل ماهو في الشريعة يتبع العوائد يتغير الحكم فيه عند تغيره إلى ما تقتضيه العادة المتجددة, وليس هذا تجديدا للاجتهاد من المقلدين حتى يشترط فيه أهلية الاجتهاد, بل هذه قاعدة اجتهد فيها العلماء وأجمعوا عليها فنحن نتبعهم فيها من غير استئناف اجتهاد).
ومن كل ما تقدم يتبين بلا ريب أن للظروف الملابسة للأشخاص أو للوقائع والأحداث أثراً في إدراك العلل وتوجيه الاستدلال بمدركه ودليله , وتبين مسالك تطبيقه ضماناً لمشروعية نتائجه, إذ العبرة بالنتائج العلمية الواقعة أو المتوقعة.
وبيان ذلك أن الظروف المتجددة الواقعة أو المتوقعة والتي تلابس الأشخاص أو الوقائع ينشأ عنها دلائل تكليفيه جديدة تقتضي أحكاماً جديدة تناسبها, وبما أن الظروف تتغاير وتتمايز باطراد, فاقتضى هذا وجوب اعتبارها شرعاً . ولهذا التغير ضوابط ومسارات نشير إليها بإيجاز فيما يلي:-
الضوابط العامة في النظر في المتغيرات:
حينما يكون الحديث عن الاجتهاد ومشروعيته في الإسلام واختلاف أنظار المجتهدين وتوصلهم إلى آراء مختلفة , بل قد يتغير رأي المجتهد في قضية واحدة في وقت بعد وقت فذلك كله يحتاج إلى تأمل وتدبر:-
1/إن كل ذلك لا يجوز أن يفهم منه أن النصوص غير ثابتة أو أنها لا تضع تشريعاً دائماً ثابتاً مستقراً شاملاً في الزمان , والمكان. بل إن الأصل في النصوص هو الثبات والدوام.
ومن أجل هذا يجب لزوم الحذر التام من التساهل أمام نصوص الشرع , أو محاولة التحلل منها, فذلك مزلق خطير, ومركب عسير تزل فيه الأقدام وتضل الأفهام وتنهار الأحكام.(/5)
إن مما يجب أن يعلم في هذا الباب أن شريعة الإسلام قد حكمت في ديار متباعدة الأقطار, مترامية الأطراف حكمت قروناً متوالية وأزمنة متتالية , ولاقت مختلف العادات والتقاليد, وعاشت عصور الرخاء والشدة ,والقوة والضعف, واجهت الأحداث في جميع الأطوار فما قصرت عن حاجة , وما عجزت عن واقعة, ولا قعدت عن مطلب.
والأمر الذي يجب التنبه إليه وهو منطلق مهم من منطلقات هذا الموضوع, هو أن في سنن الله وفي شرعه عنصرين. أحدهما ثابت, والآخر متغير. فالاستمساك بأحدهما وإهمال الآخر يترتب عليه فساد عريض.
الثابت يجب أن يبقى ثابتاً, بل لا يمكن زحزحته فضلاً عن أن يسعى في زحزحته.
والمتغير طبيعته التغير, وجعله ثابتاً والالتزام به دائماً أبداً يوقع في عسر وحرج لا يطيقه المكلف.
ومن أجل مزيد إيضاح فليعلم أن دعاة التحرر في هذه العصور المتأخرة المتأثرين بالتيارات الوافدة من الغرب أو الشرق استمسكوا بالمتغير, وجعلوه ركن تفكيرهم , وأصل حضارتهم, وظنوا أن الحياة تستقيم بهذا المفهوم للحرية , وهي التغير في كل شيء أصولاً وفروعاً.
وبهذا –وكما هو مشاهد- حين لم يكن لهم ثوابت مستقرة, ومحاور راسية يستندون إليها فقد ضاعوا , فلم تنضبط لهم موازين, وفقدوا معنى الثبات.
أما معرفة الثوابت والاستمساك بها, وتمييز المتغيرات, وضبط حركتها حول المحور الثابت حتى لا تخرج عن المسار الصحيح , فبه يكون الدوام والاستقرار والتمشي مع المتغيرات في الأزمنة والأمكنة والناس, مع بقاء الأصول الثوابت, والمحافظة على الجوهر , وهذا هو سر بقاء الشريعة وحيويتها. هذا منطلق.
2/ ومنطلق آخر : وهو منطلق عقدي صرف, من لا يؤمن بالشرع فلا خطاب معه , وذلك هو ما يجيب على هذا التساؤل: كيف يتأتى للشريعة التي نزلت قبل أربعة عشر قرناً أن تواكب ماجد في حياة الناس من تغيرات؟
الجواب-كما أسلفت- عقدي إيماني- نابع من الإيمان بالله الحق العليم الخبير الحكيم , فكأن هذا المتسائل أو المتشكك يظن أن الله لم يكن يعلم –تعالى الله- حين أنزل هذه الشريعة أن أموراً ستجد في حياة الناس تختلف عن الأوضاع التي كانوا عليها يوم نزلت هذه الشريعة.
وحكمته سبحانه ـ لو كانوا يعلمون ـ تقتضي ألا ينزل شريعة غير ممكنة التطبيق في حيز من الزمن ثم يلزم الناس بها إلى يوم القيامة , ألا ساء ما يظنون . ولكي يزداد الأمر وضوحا في هذا الأمر الإيماني لو نظرت إلى بعض الضعاف في هذا المضمار ممن استهوتهم الحضارة المعاصرة , وسولت لهم أنفسهم ما سولت ويحبون ـ أمام الناس ـ أن يبقى لهم الانتساب إلى الإسلام ، مع إتباعهم أهوائهم ، فهم يريدون إسلاماً على مايشتهون ، أو على ما يشتهي إخوانهم في الغيّ من المستشرقين والمستغربين .
فتبدأ مقولتهم بأنهم لايأخذون بأقوال الفقهاء ، والمفسرين ، والشراح ، والمحدثين ، فهم بشر ورجال ، ولا تعبد بآراء الرجال ، ولا يأخذون إلا من الكتاب والسنة ،ثم يتدرج بهم الأمر بأن يأخذوا القرآن ، والمتواتر من السنة ،وما كان قطعياً في ثبوته ودلالاته ، فالسنة فيها الضعيف والمردود والموضوع ،بل حتى أخبار الآحاد فيها عندهم نظر ، ثم يتدرجون ليطعنوا في بعض الدلالات ليقولوا إن القرآن الكريم إنما كان يعالج أوضاعاً وبيئات قد اندرست ، ويهتم بشؤون مجتمعات بدائية وبدوية ، وقد يترقى بهم الحال ليقولوا :( إن القرآن إذا قال إن الخنزير رجس قالوا:إنما كان ذلك في خنازير سيئة التغذية ، أما خنازير اليوم فتلقى عناية خاصة ، وحينما ينظرون في الميراث وفيه : ( فللذكر مثل حظ الأنثيين ) يقولون : إنما كان ذلك قبل أن تخرج المرأة إلى ميادين العمل ، وتثبت وجودها في جوانب الحياة المختلفة ، والخمر حرم في بيئة حارة ، ولو نزل القرآن في بيئة باردة لكان له شأن آخر ).وهكذا نلاحظ التحلل من الأحكام ، حتى ترقى الأمر إلى نسبة الله جل وعز إلى الجهل بشؤون خلقه فيما يضرهم وما ينفعهم تعالى الله عما يقولون علواً كبيرا .
3/ ومنطق ثالث : ذلكم أن الحديث عن التغير والتطور ، ومجاراة العادات والأعراف ، لايعني أن هم المجتهد والفقيه تبريد الواقع ، وتلمس السند الشرعي له والتعسف وسوء التأويل بدعوى أن ذلك هو مفهوم المرونة والتطور .
فالإسلام لم يأت ليخضع لأهواء الناس ، ومجريات حياتهم ، ولكنه جاء ليرفع الناس إلى ميزان الحق ،والعدل، والمصلحة الحقيقية ، ويكف عنهم الإثم والظلم ، ويرفع الآصار والأغلال . إن هذا التشريع لم يضعه المجتمع حتى يخضع له ويستجيب لظروفه وأوضاعه . إنه تشريع إلهي وضع ليرقى بالمجتمع ، وتخضع أوضاعه لهدايته ، فكلمة هذا التشريع هي العليا.
إن مهمة التشريع أن يصوب الخطأ ويقوم العوج, لا أن يبرر الأوضاع ويسوغ التصرفات، إنه يستعصي على الذوبان والتميع.
وفي جانب آخر فإن للاجتهاد من أهله مجالاً كبيراً, اجتهاد في فهم النصوص, واجتهاد –أحياناً- في ثبوت بعضها (أي في مدى تصحيح بعض الأحاديث ودرجة قبولها).(/6)
ثم الاجتهاد فيما نص فيه بخصوصه مضبوط بطرق القياس , والمصلحة المرسلة ,والاستحسان , والنظر في العوائد , والاستصحاب , والبراءة الأصلية وأحكام الضرر والضرورات, وأمثالها من مجالات النظر التي تختلف في تقديرها آراء أهل الاجتهاد باختلاف مداركهم وفهومهم كما سبق إيضاحه. والأصول الثوابت التي لا مساغ للاجتهاد فيها هي القطعيات وما علم من الدين بالضرورة , وما تلقته الأمة بالقبول من الفرائض المحكمات, والنصوص القطعيات, كفرائض الصلاة والزكاة, والصيام, والحج, والمواريث, والحدود , والحجاب, والمحرمات من الربا, والزنا, والخمر والميسر والطلاق والوفاة, وأمثال ذلك.
فهذه دوائر لا تقبل الاجتهاد والجدل ,كأن يقول بعض الناس بتعطيل فريضة الزكاة اكتفاء بالضرائب –فضلاً عما في الضرائب من نقاش- أو تعطيل فريضة الصيام تشجيعاً للإنتاج, أو إلغاء فريضة الحج توفيراً للعملة الصعبة , أو إباحة الزنا والخمر وما يتبعها ترغيباً في السياحة, واستحلال الربا دعماً لمشروعات التنمية والإنتاج.
4/ليس لأحد الحق في أن يقول في دين الله مالا يعلم, فباب الاجتهاد والفتوى يجب أن يكون مقصوراً على أهله ومع الأسف فإن فشو القراءة والكتابة في الناس, والمفهوم الخاطئ لحرية البحث العلمي جعلت أناساً يتجرؤون على أحكام الله ويتجاوزون حدود الله في اقتحام أبواب الحلال والحرام ولم يعرف لهم زاد من العلم سوى ما يسمى بثقافة إسلامية عامة, فجعلوا ساحة الحلال والحرام مباحة لكل من هب ودب , فظهرت أقوال من غير خطم ولا أزمة, ونزعت الثقة في أولي العلم والأئمة.
ومسئولية الحراسة في ذلك يجب أن يتولاها العلماء الربانيون المخلصون, والمراكز والهيئات الإسلامية العريقة المعروفة إذا أخلصت لله, وبنت منهجها وطريقها على خالص شرع الله, فتستعيد مكانها وموضعها, وتحمي حمى الدين وساحة الأحكام كدور الإفتاء, والقضاء الشرعي, وهيئات كبار العلماء.
5/ يعيش المسلمون في هذه الأزمنة حالات من الضعف في كثير من أمورهم وشؤونهم, ومنها أوضاعهم الاقتصادية وبخاصة المستجد من النوازل فيها, وعليه فمن العسير أن تسير معاملات المسلمين على العزائم دون الرخص, وعلى المجمع عليه دون المختلف فيه, وعلى الحلال الخالص دون المشوب, مما يقتضي النظر في هذه الواقعات والنازلات من أجل تلمس الحلول النافعة,والمخارج للأمة ولو قامت على رأي فقيه واحد معتبر خالفه جمع كبير من أهل العلم ما دام هذا رأي يحقق مصلحة للمسلمين ولا يصادم نصاً , بل قد لا يكون من المتعين أن يكون في المسألة رأي سابق لإمام من الأئمة, أو عالم من العلماء ما دام أنه في دائرة الضوابط الشرعية , والأصول العامة , والقواعد الكلية في الشريعة (الأسهم المالية في نظر الشريعة , صفوت الشوادفي. بحث الاستثمار في الأسهم د. علي محي الدين القره داغي, ص32.).
يقول الأستاذ مصطفى الزرقاء –رحمه الله-:(( إن الآراء والنظريات الفقهية في المذاهب المعتبرة, سواء منها الراجح والمرجوح كلها ثروة تشريعية قيمة وقد يظهر تطور المصالح الزمنية, وإعادة النظر أن ما كان من الآراء الفقهية وهو الذي يجب أن يكون الراجح وما كان يظن ضعيف المبنى هو في الحقيقة أقوى وأسد, ولكن مرمى نظر صاحبه قد كان أمام قافلته بمسافات لا تدركها أبصارهم, فيبقى غير معتمد عليه حتى تصل العصور بالأجيال إلى مرمى ذلك النظر, فإذا هو البصر الحديد, والفهم الرشيد.
وفي كل مذهب أنظار فقهية شتى من هذا القبيل يمتاز فيها المذهب بما لم يدركه سواه من المذاهب)) (المدخل, الزرقاء. ج1,ص568.).
ليس كل ما قال فقيه , أو عالم برمته كان حراماً في نفس الأمر , وإنما الحرام ما ثبت تحريمه بالكتاب أو السنة أو الإجماع أو قياس مرجح لذلك أو ما تنازع فيه العلماء رد إلى هذه الأصول( الأسهم المالية في نظر الشريعة , صفوت الشوادفي.ص 38, نقلاً عن شيخ الإسلام ابن تيمية, مجموع الفتاوى"29/211-223").
الاجتهاد الجماعي:
مما مضت به سنة الخلفاء الراشدين –رضوان الله عليهم- أنهم كانوا إذا نزلت بهم نازلة , أو استفتاهم مستفت في مسألة أن يجمعوا لها أعيان الصحابة وكبارهم ليبدي كل واحد منهم رأيه بدءا بما يحفظ من النص الشرعي كتابا وسنة، فإذا لم يوجد نص صاروا إلى الرأي , فيجري التشاور بينهم والمداولة حتى يصلوا إلى رأي يتفقون عليه بالإجماع أو بما يشبه الإجماع, وذلك في كل ما يعرض لهم.
ولقد كان ذلك عاملاً قوياً في الحفاظ على وحدة الأمة وتماسكها فكرياً وسياسياً, واجتماعياً.
وقد أخرج الدارمي في مسنده عن المسيب بن رافع قال:( كانوا- يعني صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم- إذا نزلت بهم قضية ليس فيها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر اجتمعوا لها وأجمعوا فالحق فيما رأوا) "مسند الدارمي, ج1 ص46 وما بعدها.".(/7)
وتتأكد أهمية المسلك الجماعي في الاجتهاد مع متغيرات العصر , وسعة الاتصال والتواصل بين الناس, ولا سيما مع ملاحظة ما يجري من خلال القنوات الفضائية وشبكات المعلومات, وكثرة الخوض فيها من قبل أناس لا صلة لهم بالعلوم الشرعية المتخصصة.
ومن المؤكد أن جانباً من هيبة الأمة ومهابتها في قرونها الأولى المفضلة وحفظها لحقوقها يعود إلى المنهج الجماعي الذي يقي-بإذن الله- من الزلات والهفوات والأخطاء القاتلة, ويحفظ من الشقاق والفرقة.
وفي الغالب فإن الاجتهاد الجماعي يجمع علماء قادرين متخصصين مدركين لأصول الاستدلال ومن ثم تكون لهم هيبتهم ووزنهم في الأمة.
والمجامع الفقهية الموجودة خطوة طيبة في هذا المضمار, وينبغي أن تتسع دائرة التجمع, كما ينبغي أن ينظر في طريقة الاختيار أو الترشيح للأعضاء يبعده عن بعض المؤثرات التي لا علاقة لها بالتخصص العلمي, ومتطلبات الاجتهاد, وشروط الإفتاء.
ومما يعين على إعطاء الاجتهاد الجماعي أثره في استصدار الأحكام الفقهية في مكانتها اللائقة بها كمنتدى لكبار فقهاء الأمة بعيداً عن المؤثرات الخارجية والتوجهات السياسية وغير السياسية, ذلك أنه قد كثر الأدعياء , وانتشر المغررون, والمتهورون, والمتهتكون الذين لو فتح لهم الباب لاجترؤوا على حدود الله, وغيروا معالم الشرع إرضاء لنزوة , وسعياً لشهرة, أو إتباعا لهوى , فيصبح الدين والناس فوضى فيضلوا ويضلوا.
ومن أجل أن يعطى الاجتهاد الجماعي أثره على مستوى الإنتاج والقبول والثقة يحسن مراعاة ما يلي:-
1-ينبغي أن يكون هناك تنسيق كامل بين المؤسسات العلمية الشرعية وبين المراكز الأخرى من طبية, واقتصادية وسياسية, واجتماعية وغيرها, وذلك لتحقيق هدفين رئيسين:-
أحدهما: اتصال المؤسسات الشرعية بالواقع ومستجدات الناس فيكون الاجتهاد مبنياً على تصور صحيح.
ثانيهما: معرفة كل جديد في وقته, وبيان حكمه الشرعي.
2- التنسيق بين دور الإفتاء والمجامع الفقهية والجهات البحثية الشرعية في الجامعات وغيرها لإمدادها بالموضوعات المستجدة , والنوازل, والواقعات وما تحتاج إليه الأمة من بحوث , بدلاً من التكرار أو البحث في قضايا ومسائل لا تطبيق لها, أو أنها ذات أهمية محدودة.
3- إعادة النظر في طريقة تدريس الفقه ولا سيما في المستويات العليا من الكليات الشرعية , ومرحلة ما فوق الجامعة, ويكون هذا النظر من جهتين:-
أولهما: أسلوب البحث والتأليف والتدريس بطريق القواعد الفقهية والأصولية والنظريات الفقهية.
وهو أمر ليس بمستغرب إذا نظرت في بعض طرائق المتقدمين كالشاطبي في كتابه الموافقات وتوجهه نحو إعادة النظر في طرق الكتابة والتأليف في أصول الفقه. ثم توجهه إلى العناية بمقاصد الشريعة ,وكذلك أسلوب ابن رجب في كتابة القواعد الفقهية.
ثانيهما: العناية التفصيلية بالمسائل المستجدة , فلو قارنت في كتابة المتقدمين في الزكاة والأموال الزكوية –ولا سيما زكاة السائمة من بهيمة الأنعام وطرق تفصيلها-لوجدت أنها متمشية مع مصطلحات وقتهم وما هو سائد فيهم من ألفاظ وأسلوب حياة , بينما جد في الوقت الحاضر أنواع من الأموال نحتاج إلى تبسيطها وتقريبها لطلاب العلم في مراحل الطلب , كالأسهم في معرفة أنواعها وشركاتها وكيفية إخراج الزكاة فيها.
وقبل إنهاء هذه المقدمة يحسن إيضاح معنى التجديد في الفقه مما يؤكد كل المعاني السابقة.
التجديد في الفقه
التجديد: من الجدة والقوة, والتجديد: إعادة الجدة.
وفي الحديث:(( إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها)).
والمراد بتجديد الدين هنا-والله اعلم- ما يعيد له القوة ويرجعه إلى أصل صفائه الذي كان عليه حين البعثة وتنزل الوحي, وليس التجديد هو التغيير والتبديل.
إن التجديد هو العودة إلى أصل الشيء عند بدايته وظهوره لأول مرة, وإصلاح ما أصابه من خلل أو ناله من ضعف, ليعود قوياً كما كان حين بدأ, وذلك بإبراز حقائقه الناصعة, وتجلية خصائصه المميزة.
فيكون تجديد الدين وتجديد الفقه بتقوية التمسك به, وإحسان تطبيقه وتنفيذه.
وبناء على ذلك فتجديد الدين لا يكون إلا بالدين وللدين, لا بالدنيا, ولا للدنيا, ولا يكون إلا من داخل الدين, وبمفاهيم الدين, لا من خارج الدين, وبمفاهيم مستوردة وأفكار دخيلة.(/8)
ضوابط تصحيح الأخطاء
يتناول الدرس التعرض لظاهرة غريبة وهي تطفل من ليس بأهل للعلم والمعرفة واقتحامه العلوم الشرعية دون ضوابط وقواعد صحيحة ةتأهل ثم بين جملة من هذه القواعد ومنها أن يفهم على ضوء النصوص الأخرى، معرفة اللغة، فهم مقاصد الشريعة.
الحمد لله, والصلاة والسلام على نبينا محمد, وآله وصحبه وسلم, أما بعد ,,, ففي الماضي والحاضر: كل من جهل شيئاً أنكره ، وسخر ممن يعلمه! وهذه القاعدة تصدق في مجال الشرعيات ، فكثيراً ما ينكر الإنسان شيئا لعدم إطلاعه عليه ، أو معرفته بدليله, وكم كنا نسخر في طفولتنا ممن يصلي في نعليه, ونعلل ذلك بأنه يخاف من سرقتها، فإذا بنا نجد أنها سنة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم فعن أنس أنه سئل : أَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي نَعْلَيْهِ؟ قَالَ: [ نَعَمْ] رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي والدارمي وأحمد.
وكما في حديث أبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم قال: [ إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلْيَنْظُرْ فَإِنْ رَأَى فِي نَعْلَيْهِ قَذَرًا أَوْ أَذًى فَلْيَمْسَحْهُ وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا] رواه أبوداود وأحمد والدارمي.إنه مجرد مثال في قضية جزئية يمكن أن يعمم في قضايا كثيرة وكلية, وأذكر أن بعض العلماء كان يقول :' ما كان بالكوفة أفحش رداًّ للآثار من النخعي؛ لقلة ما سمع منها ، ولا أكثر اتباعا لها من الشعبي؛ لكثرة ما سمع '!
إن كثرة معاناة المتخصص لتخصصه تعطيه قدرة أكثر على التمييز والترجيح والتصحيح .. وكم هو مؤسف أن كثيراً ممن يتحدثون في القضايا الإسلامية العامة لم يُصهروا في جوٍّ علمي شرعي أصيل ، كثيرون تلقوا ثقافة إسلامية عامة فحسب … والمشكلة ليس أنهم يتحدثون كغيرهم فقط ، بل الأدهى من ذلك أن يكون من بينهم من يختط لنفسه أن يكون: مجدداًّ, و مبدعاً, فيعرض بعض الشبهات التي يتلقاها صغار الطلبة, ويدرسون الرد عليها على أنها حقائق عقلية مسلمة ، ويبني عليها تصورات علمية خاطئة .
إن مصيبة الإسلام كبيرة بهذا النمط من التفكير ... أمامنا قضية أولية مسلمة لابد من الإذعان لها في بداية الطريق ، وهي تتمثل في أن الدين وحي إلهي لا يمكن إدراكه بالعقل , ولو كان العقل يستطيع أن يصل بالإنسان إلى الحقيقة الشرعية؛ لما كان لبعثة الرسل, و إنزال الكتب فائدة تذكر . ودور العقل بعد نزول الوحي هو الإيمان به و فهمه و تطبيقه .. ثم الانطلاق في المجالات الدنيوية لاكتشاف المجهول, و عمارة الأرض باسم الله, ومن هنا يمكن القول بأن أول ضوابط التصحيح و الترجيح في المسائل الشرعية الكلية, والجزئية يتعلق بـ ' النص ' , سواء في إثبات النص , أو في إثبات دلالته على المقصود .
فإثبات النص يتطلب معرفة بعلم الحديث رواية و دراية, و ضمن هذا الإطار تندرج مجموعة من العلوم المتكاملة: الرجال والتاريخ و المصطلح والعلل و الأسانيد والتخريج ... و من خلال التعامل مع مجموعة هذه العلوم يتمكن الباحث من الحكم على النص النبوي بالثبوت أو عدمه .
أما النص القرآني فهو بطبيعة الحال غير محتاج إلى هذه المرحلة باعتبار قطعيته التي ليست موضع جدل عند أحد من المسلمين, ثم تأتي المرحلة الأخرى و هي دراسة مدى دلالة النص الثابت على هذه المسألة أو تلك ...إن من النصوص – قرآناً وسنة – ما يكون قطعي الدلالة لا يحتمل إلا معنى واحداً , ومنها ما يكون محتملاً , ودلالته على المسألة دلالة ظنية غير قاطعة .
و قد بُلِيَ العلم الشرعي – بكل أسف – بمتطفلين يصدرون عن هوى كامن في أعماقهم قد أشربوه ، فيفسرون النص وفق مفاهيمهم الخاصة, وربما كانوا ذوي عجمة ليس لهم ذوق صحيح, ولا معرفة بلغة العرب, فيهجمون حتى على القطعي من النصوص بصورة غريبة, و في الكتابات الإسلامية المعاصرة من ذلك حمل بعير , و أنا به زعيم !
ضوابط للفهم الصحيح: فلابد من ضبط الفهم المأخوذ من النص إذاً بضوابط تمنع أن يكون العلم الشرعي كلأ مباحاً لكل من دب ودرج :
1- أن يفهم على ضوء النصوص الأخرى : فلا نفتعل بين النصوص ' خصومة ' وهمية , بل نجمع النصوص و نؤلف بينها, و نضع كل نص في موضعه الصحيح,أحدها خاص والآخر عام , و هذا متقدم و ذاك متأخر , و هذا على حال و غيره ينزل على حال أخرى , و هذا مطلق بينما الآخر مقيد, و بذلك تظهر أهمية معرفة الأصول الفقهية التي تستفاد على ضوءها الأحكام الشرعية, والتي دونها العلماء بدءاً من ' رسالة ' الشافعي , ومرورا بمئات الكتب, و الدراسات المتنوعة التي هي نوع من الاستقراء الدقيق الضابط لطرائق استخراج الحكم من النص .
2- معرفة اللغة : و إلى هذا و ذاك فإن ' اللغة ' هي الجسر الذي يعبر منه المتفقه إلى دلالة النص , سواء بفهم مفرداتها, أو قواعدها, و أوجه دلالتها, وقديماً جنت العجمة على أقوام, فقادتهم إلى مفاهيم غريبة يأباها الحس العربي ولو كان من أمي .(/1)
3- فهم مقاصد الشريعة : و يصطحب الباحث معرفته بمقصود الشارع بما شرع من أحكام حظراً أو إيجاباً, أو كراهية أو استحباباً؛ إذ المقصود فيها تحقيق مصالح العباد أفراداً وجماعات في الحياة الدنيا وفي الآخرة .
وإذا كان من عادة بعض المتسلطين من البشر أن يصدروا أوامر تعسفية لمجرد شهوة التسلط و الطغيان كما هو مشاهد فإن الله تعالى من أسمائه: الحكيم, والحكمة هي: وضع الأمور في مواضعها , وهو – سبحانه – لا يأمر إلا بما فيه مصلحة العباد في الدارين, و إن غابت هذه المصلحة عن عقلي وعقلك؛ لمِا رُكِّب في البشر من الضعف و النقص . والحمد لله أولاَ وآخراً , وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
من محاضرة ضوابط التصحيح للشيخ/ سلمان العودة(/2)
ضوابط في إلقاء الكلمات السريعة
أو القصيرة المعروفة بـ ( الخاطرة)
المقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
إننا نعيش في زمن يتسابق الناس فيه على جودة العرض، وسبل الجذب الآخذة إلى الخير أو الشر. ومن الضروري أن يحتل دعاة الإسلام الذروة في الجودة والحسن لطرق الدعوة إلى الله؛ لأننا نعيش زمن الصراعات، وفي شباب المسلمين صحوة تتطلع في هداية التعليم إلى الأسلوب الأمثل مما دفعني إلى جمع ما تفرق في موضوع البحث من عدة مراجع لتحديد المواصفات الخاصة بالكلمات السريعة المسماة بالخاطرة فأقول:
تختلف المقامات والأحوال، ولذلك قد يقتضي المقام كلمة مطولة أو درساً وما شابه ذلك، وقد يقتضي المقام كلمةً موجزةً قصيرة، وهذا التنوع لا يشك عارفٌ بالسنة الشريفة في وجوده في أيام المصطفى صلى الله عليه وسلم، فعلى سبيل المثال، لو تتبعت كتاباً مثل: (رياض الصالحين) للإمام النووي رحمه الله وهو نموذج متنوع من السنة النبوية لوجدت بعض الأحاديث طويلة إلى حد ما، وبعضها كليمات تُعدُّ على الأصابع، ولا شك أن المقام والحاجة لها دور في الإطالة والقصر، ومن هنا نستطيع أن نقول أن ما يسمى بـ الكلمة السريعة أو )الخاطرة) الآن كان موجوداً من ناحية معناه وحقيقته وإن كان غير معروف بهذه التسمية. وهذه التسمية (الخاطرة) هي من اصطلاحات المتأخرين، ولذلك نريد أن نتعرف على حدود وتعريفات وضوابط ما يُسمَّى بالخاطرة، ونحن لم نجد – بحسب إطلاعنا- من تكلم عن ضوابط الخاطرة مع انتشارها، وسهولتها وحاجة الناس إليها، فحاولنا أن نجمع ما استنبطناه من مواصفاتها وحدودها عسى أن يسهم ذلك في تمييز الخواطر وضبط شأنها، وعدم الخلط بين أصناف الخطاب المتعددة، فإن الخلط بين أصناف الخطاب المختلفة يؤدي إلى مفاسد، من أقلها الإملال وعدم الاستفادة من الكلام، وضبط الأصناف يؤدي إلى وضع الأمور في نصابها، ومراعاة المقام. فنقول وبالله التوفيق:
أولاً: تعريف الخاطرة لغة:
خطر الأمر بباله وعلى باله وفي باله، يخطُر ويخطِر خُطُوراً: مرَّ أو ذكره بعد نسيان.
ومن الأول ( أي: خطر بباله) قول أبي الطيب المتنبي:
بتنا يناولنا المدامَ بكفِّه مَن ليس يخطُر أن نراه ببالِه
ومن الثاني (أي: خطر على باله) قول ابن الفارض:
أرى البعد لم يُخطر سواكم على بالي وإن قرَّب الأخطار من جسمي البالي.
ومن الثالث (أي: خطر في باله) قول الحريري:
وكم أخطر في بالِ ولا أخطر في بالِ
_أي: وكم أمشي في ثوب بالٍ، ولا أمر في بال أحدٍ_.
وخَطَر الشيء بباله من باب (دَخَل)، وأخطره الله بباله، وعلى باله جعله يخطر، وخطر بقلبي من الذكر خَطَرة، أي ذكرة، قال الشاعر:
خطرت خطرة على القلب من ذكـ راكِ وهناً فما استطعت مضيا.
والخاطر اسم فاعل: الهاجس، والجمع: (خواطر).
وقولهم: يصقل الخاطر وينشط الفاتر، أي: يجلو القلب ببسطه إياه، ويقال: شاعر سريع الخاطر، أي عاجل البداهة في النظم، وجاش الشعر في خاطره، أي في نفسه، من قولهم: جاشت القدر، إذا غلت... إلخ.
ثانياً: تعريف الخاطرة اصطلاحاً:
قال أبو البقاء في (الكليات): الخاطر: اسم لما يتحرك في القلب من رأي أو معنى، سمي محله باسم ذلك، يقال فيه: خطر ببالي أمر، وعلى بالي أيضاً، وأصل تركيبه يدل على الاضطراب والحركة، وأطلق الخاطر على القلب والنفس مجازاً من باب إطلاق لفظ الحال على المحل..) أ.هـ بتصرف.
قلت: ونستطيع بعد النظر في المعنى اللغوي لكلمة (خطر) وتعريف (الخاطر) عند أبي البقاء وغبره وكذلك بالنظر في العرف بالنسبة للخاطرة، نستطيع أن نقول:
"الخاطرة: "هي كلمة موجزة قصيرة يلقيها المتكلم خطيباً أو واعظاً من أجل التنبيه على قضية أو مسألة محددة خطرت بباله، أو أعدها مسبقاً في زمن قصير دون استطراد أو إطالة أو مداخلة".
قلت: ولا شك أن هذا التعريف ليس بالتعريف المنطقي الذي يسمونه "التعريف الجامع المانع"، ولكنه تعريف تقريبي اجتهدت فيه أرجو أن يجزئ إن شاء الله.
وقال بعضهم: الخواطر عند أكثر المتصوفة أربعة:
1. خاطر من الحق، وهو علم يقذفه الله تعالى من الغيب في قلوب أهل القرب والحضور من غير واسطة.
2. وخاطر من المَلَك: وهو الذي يحث على الطاعة، ويرغب في الخيرات ويحذر من المعاصي والمكاره ويلوم على ارتكاب المخالفات، وعلى التكاسل عن الموافقات.
3. وخاطر من النفس: وهو الذي يتقاضى الحظوظ العاجلة، ويظهر الدعاوى الباطلة.
4. وخاطر من الشيطان: وهو الذي يدعو إلى المعاصي والمناهي والمكاره.
قلت: وهذا التقسيم فيه ما فيه، ويريد به الصوفية التوصل إلى شطحاتهم، وخواطرنا التي نحن فيها – إن شاء الله- هي من الله الحق، أو من لمة المَلَك وشاهدها أنها حث على مسألة شرعية.
ثالثاً: أسباب الحاجة إلى الخاطرة:(/1)
تختلف الأحوال، وتختلف المقامات والمواقف، فرب موقف يحتاج إلى خطبة أو درس، ورب موقف يحتاج إلى كلمة موجزة قصيرة، وهو ما يسمى بالخاطرة، فوضع الكلمة القصيرة (الخاطرة (مكان الخطبة أو الدرس، أو وضع الخطبة أو الدرس مكان الكلمة القصيرة ( الخاطرة) هو من باب وضع الشيء في غير محله، وهو مناف للبلاغة وفن الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولذلك قالوا: (لكل مقام مقال) أي لكل مقام ما يناسبه من فنون القول والكلام؛ كما أن لكل داء دواء، فكما أنه لا يصلح دواء واحد لكل الأدواء، فكذلك لا يصلح أسلوب واحد لكل المقامات والأحوال، وإنما على الداعية أن يكون كالطبيب الحاذق، الذي يضع الدواء مواضعه، فيصيب البرء بإذن الله تعالى.
رابعاً: مكان الخاطرة: المسجد (غالباً) أو أي مكان يمكن أن يجتمع فيه الناس كالمدرسة أو البيت أو المأتم أو المقبرة أو السوق أو السجن أو المعتقل أو العرس أو المكتب في العمل أو المطار أو.. وغير ذلك من أماكن التجمعات التي لا نستطيع أن نأتي على حصرها..!
يقول العدناني في "طرق الدعوة الإسلامية152)" ): إن الاستفادة من التجمعات الكبيرة كالحج مثلاً، أو الصغيرة كالمؤتمرات والمخيمات، واستقبال الوفود في المناسبات، من أهم الطرق المؤثرة في الدعوة إلى الله، وفي عرضنا لبعض نماذج الوفود من السيرة النبوية، يعطينا فكرة تامة حول ذلك الموضوع، وكيفية توظيفه، في سبيل الدعوة إلى الله عز وجل. لقد قابل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة وفد الأوس والخزرج في موسم الحج، وكانت تلك المقابلة مفتاح الهجرة، ونصرة دين الله، وذلك واضح لكل مثقف درس السيرة النبوية، وبيعة العقبة الأولى والثانية، وكان صلى الله عليه وسلم يعرض دعوته في أسواق العرب الكبرى، عكاظ وذي مجنة وذي مجاز، وكان معه أبوبكر يقوم بدور المعرف بين الرسول صلى الله عليه وسلم، وتلك القبل؛ لأن أبابكر اشتهر بمعرفته لأنساب العرب، فكان يبدأ بعرض موجز عن تلك القبيلة وأمجادها، ثم يعرف بالرسول صلى الله عليه وسلم وبهدفه".
خامساً: زمان الخاطرة: هو الزمن المناسب الذي يراه المتكلم أو الواعظ أو الخطيب، وهو في المسجد غالباً بعد الصلوات، وأنسب الصلوات التي تكون بعدها الخاطرة، هي العشاء، ثم العصر ثم الظهر، ثم المغرب، ثم الفجر، ولا تكون الخاطرة بعد الجمعة إلا للتنبيه على مسألة قد تفوت إذا لم تذكر. وقد يكون في بعض البلدان بين التروايح خاطرة، وقد تصبح درساً إذا طالت. ولا يناسب أن تكون الخاطرة بعد الفجر، وبخاصة في البلاد التي تَعوَّد أهلُها على السهر، مثلما يقع في رمضان في دول الخليج، واليمن أن الناس يسهرون الليل كله أو معظمه فيأتون في صلاة الفجر مرهقين غير متحملين لأي إطالة في الصلاة فضلاً عن خاطرة بعد الصلاة. وبعد المغرب يمكن أن يناسب الخاطرة، ولكن هو أنسب لإلقاء الدروس والمحاضرات، ومعظم الدروس والمحاضرات تكون – غالباً- بين المغرب والعشاء!
سادساً: مدة الخاطرة: تترواح الخاطرة ما بين (5) دقائق إلى (10) دقائق والغاية القصوى – في نظري- من (15) إلى (20) دقيقة، أما إذا زادت على ذلك فقد أصبحت درساً أو خطبة فينبغي في هذه الحالة مراعاة قواعد الدروس والخطب وعدم التعامل معها على أنها خاطرة.
* استثناء: يمكن لبعض الشخصيات التي لها شعبية، وقبول واسع أن ترى أن الجمهور يطلب منها الإطالة، ففي هذه الحالة ينبغي أن تستغل الفرصة، ولكن ينبغي للمتكلم أن يراعي أن الخاطرة ستتحول إلى درس أو خطبة فيراعى فيها سمات الدرس أو الخطبة.
سابعاً: سمات وخصائص الخاطرة :إن الداعية طبيب القلوب، وكما يسهّل طبيبُ الأبدان الدواءَ للمريض ويُسيغه له، فعلى الداعية أن يسوق موعظته في أسلوب طيب جميل، بعيد عن السباب والشتم، وقسوة العبارة، حتى لا ينفر منه المدعوون. وهذا الأمر واضح في سير الأنبياء، ومَن يُقتدى بهم من الدعاة الناجحين؛ من أجل هذا ينبغي أن يُراعى في الخاطرة السمات والصفات الآتية:
1. عدم الإطالة في المقدمة.
2. التركيز في مسألة أو قضية محددة أو جزء من مسألة أو قضية.
3. عدم الاستطراد أو الخروج من النقطة إلى غيرها، بل الالتزام بالنقطة أو المسألة دون الدخول إلى أخواتها أو نظائرها أو أشباهها.(/2)
4. عدم ذكر المصادر أو الأجزاء والصفحات من الكتب أو الأسانيد أو كثرة النقول أو غير ذلك، فيكفي أن تقول قال الله تعالى في سورة كذا، ولا تحتاج إلى ذكر رقم الآية، ويمكن أن تكتفي بقولنا قال الله تعالى دون ذكر السورة لشهرتها أو لسهولة السؤال أو الوصول إلى مكانها، وكذلك في الحديث يكفي أن تقول وفي البخاري كذا.. أو روى مسلم أو في مسلم، أو يكفي أن تقول: وفي الصحيح.. كذا! أو: وفي الحديث الصحيح.. إلخ. فالاختصار والإيجاز أوضح سمات (الخاطرة) وهذا كله من لوازمه، فلا يناسب أن يكون ما يتعلق بالفكرة مختصراً موجزاً، ثم تطيل بذكر أجزاء الكتب وأرقام الصفحات، وأذكر أن أحدهم قام ليقول خاطرة، وكان إذا ذكر حديثاً في مسلم أو البخاري ساق إسناده كاملاً، وهذا لا شك فيه إطالة، ونحن لا نقلل من شأن ذكر الأسانيد وإشاعتها بين الناس ولكن لكل مقام مقال.
5. عدم إيراد الخلافات في المسألة، وإنما يتم التركيز على الأمر المتفق عليه، أو الإتيان بعبارات تحتمل أوجه الخلاف ولا تفيد جزماً برأي منها، وإنما توصل المعلومة المطلوبة التي يغلب عليها الترغيب والترهيب والتعميم.
6. قصر المدة الزمنية، وقد تكلمنا أنها تترواح بين (5) دقائق إلى (10) دقائق.
7. موضوع الخاطرة في الغالب ينبغي أن يكون في الرقائق والترغيب والترهيب والموعظة وهذا كله ضرورة لازمة، ففي النفس دوافع فطرية، تحتاج دائماً للتوجيه والتهذيب، ورب موعظة لطيفة خفيفة مؤثرة، ترد السامع إلى صوابه، وتعيده إلى مكارم الأخلاق، ويختار الداعية ما يناسب المقام من توجيه، ويكون نصب عينيه قوله تعالى: ((وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً)) وقوله تعالى: ((إن الله نعما يعظكم به)) وقوله: ((وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه)) وقوله: ((وهدى وموعظة للمتقين)). فليست الخاطرة مناسبة لمعالجة المسائل الفقهية، حتى إنْ تناول المتكلم مسألة فقهية في الخاطرة فليتناولها من ناحية الترغيب والترهيب، فمثلاً: يمكن أن أتكلم في (خاطرة) عن (الأضحية) وهي مسألة فقهية، ولكن عندما أتكلم عنها في الخاطرة سأتكلم من جهة الترغيب فيها، وأنها يمكن أن تكون داخلة في قوله: (فصل لربك وانحر) وأنه ينبغي للإنسان إذا أراد أن يضحي أن لا يقص من أظافره أو شعره إذا دخل عليه شهر ذي الحجة للحديث المتفق عليه الوارد في ذلك.. إلخ.
8. عدم فتح الباب للمداخلات أو الأسئلة والمناقشات في الخاطرة فوقت وطبيعة الخاطرة (لا تتحمل ذلك)، فإذا قاطع إنسان أو أراد أن يسأل أو يشارك بمداخله، فينبغي للمتكلم ألا يسمح بهذا، بل يؤجله إلى الانتهاء من الكلام، ثم إذا انتهى من ( الخاطرة) حادثه أو أجاب على سؤاله أو مداخلته. فيما بينه وبين السائل في الغالب!
9. ينبغي للمتكلم في ( الخاطرة) ألا يتكلم بالمتشابه من الكلام، بل ينبغي أن يكون كلامه منضبطاً بعيداً عن الاحتمالات الباطلة؛ لأن المتكلم في الخاطرة غالباً يخاطب عوام الناس، فليكن نصب عينية دائماً: (ليس كل حديث صحيح تحدث به العامة) وأيضاً نقول: (ليس كل كلام صحيح تحدث به العامة).
10. ينبغي للمتكلم في الخاطرة أن يتصيد المناسبات للتوجيه التربوي والترغيب والترهيب والتعليق على حدث ما، وقد أرشدتنا إلى ذلك السيرة النبوية المطهرة، فعن عبد الله بن مسعود أنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا). رواه البخاري ومسلم وغيرهما. ولقد انتهز يوسف عليه السلام فرصة سؤال صديقيه في السجن عن تعبير الرؤيا، فدعاهم إلى الإله الواحد (( يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار)). وحدث أن كُسفت الشمس عندما مات ابن خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم إبراهيم فقال الناس: كُسفت الشمس لموت إبراهيم، فقام صلى الله عليه وسلم في الحال وانتهزها فرصة ليصحح أفهام الناس في التوحيد، فقال: "إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ولكنهما آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده، فإذا رأيتم ذلك فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم". إن هذا الطريق وهو استغلال ضرورات المجتمع، فرصة للدعوة إلى الله عن طريق الكلمة السريعة (الخاطرة) وهذا يحتاج من الدعاة إلى التفاني في الدعوة، وقوة إيمان وذكاء، يعرف كيف يستغل ذلك الحدث أو الفرصة للدعوة إلى الله.
11. ينبغي ألا تكون الخاطرة معروضة بصورة أكاديمية نصية، فبعض الناس يحشد في الخاطرة الآيات والأحاديث، في حين أنه يمكن أن يكتفي في الخاطرة بآية أو حديث فقط، أو أن يجمع بينهما، ففي الخاطرة ينبغي أن تتوجه للناس بتوضيح الآيات والأحاديث فالناس يسمعون الآيات في المذياع، والمسجل، ولكن يحتاجون إلى من يفهمهم ويستخرج لهم الفوائد والنكت من الآية أو الحديث.(/3)
12. الخاطرة من طبيعتها أن لا يكون معلناً عنها؛ لأنها في الغالب ترد في ذهن أو خاطر المتكلم فجأة نتيجة شيء رآه في الطريق أو في المسجد أو بدت له فكرة، وقلما يسبقها تحضير، وإنما يُعلن عن الدرس؛ لأنه يحتاج إلى استعداد للمكث مدة على الأقل من نصف ساعة إلى ساعة، أما الخاطرة فإن من لم يكن مستعداً يمكن أن يبقى ويستمع لها حتى ولو كان مشغولاً لقصر زمنها...!
13. تحتاج كل أنواع الخطاب إلى بداية أو استهلال جيد، وهو ما يسمى (حسن الاستهلال) أو أبلغ منه (براعة الاستهلال) وهو الإتيان بمقدمة تشير إلى موضوع الخاطرة، وهذا وإن كان في جميع أنواع الخطاب، فإن الخاطرة في أشد الحاجة إليه؛ لأنها سريعة، فتحتاج إلى سرعة جذب انتباه الناس فالخاطرة أحوج إلى (حسن الاستهلال) و (براعة الاستهلال)!
14. أن يكون الموضوع المختار من صميم ما تجري به الحياة، ليدق على الوتر الحساس، ويملك انتباه السامعين، وما أكثر المواضيع التي تفرضها الحياة بأحداثها الكثيرة.. ولأمر ما نزل القرآن منجما حسب الحوادث ومقتضيات الأحوال. فيكون الموضوع المعالج لإيضاح ما خفي على الأذهان، وللدفاع عن حق مهاجم، وإزالة أوهام سائدة نحو ذلك. ولكل طبقة وضعها الخاص، فمحيط الزراع غير محيط العمال أو المدرسين والطلبة.
15. ضرورة التركيز على تقديم حلول عملية، فلا يكتفي المتكلم بإثارة المشكلة بل ينبغي أن تعرض المشكلة بصورة سريعة ثم يتوجه المتكلم إلى اقتراح بالحلول المناسبة. إن تقديم الداعية لحل لمشكلة من طرق الدعوة إلى الله، وفيها جرأة في تقديم الحلول لرد الظلم وتخليص المجتمع من الفتنة ولو كان الثمن باهظاً، قال تعالى عن نبي الله لوط عليه السلام: {وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ } (78) سورة هود.
16. الالتزام بالوقت أمر مهم، ويجب الحرص في إلقاء الخاطرة كاملة في الوقت المحدد مع الاختصار ولا تظن أن الجمهور غافل عن الوقت فلا تكن أنت الغافل الوحيد.
17. البراهين : قصر الخاطرة لا يمنع من البرهنة على ما تقول، فبعض الناس عندما يسمع أن الخاطرة ترغيب وترهيب في الأساس وأنها كلمة سريعة قصيرة يظن أنها يجب أن تخلو من البرهان , وهذا خطأ فالبرهان يأكد مصداقيتك أمام الناس، وليس كل البراهين تحتاج إلى إطالة، فانظر مثلاً عندما آن الآوان؛ لأن يجهر رسول الله عليه السلام لأهل مكة ببعثته وأن يبلغهم رسالة ربه وقف على جبل الصفا ودعاهم للتجمع ليخطب بهم، فقال: يا معشر قريش إن حدثتكم أن خيلاً وراء هذا الوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ فكان جوابهم: نعم، وذلك لأنهم لم يعرفوا عليه الكذب طوال أربعين عاماً، وبعد أن أكد مصداقيته لديهم قال لهم: (( فإني نذير لكم بين يدي عذابٍ شديد)). راجع تفسير ابن كثير 6/176.
18. سرعة الإلقاء: يستطيع الناس أن يستمعوا بسرعة تفوق السرعة التي يتحدثون بها (وهي تبلغ في المتوسط 800 كلمة في الدقيقة مقابل 250 كلمة في الدقيقة للتحدث) وإذا ما تركنا هؤلاء الناس طويلاً من دون شيء يستمعون إليه فإن اهتمامهم سوف يتشتت. وقد يكون من المطلوب مراراً أن نتحدث بأسرع مما نفعل عادة. وليس هناك معدل واحد مناسب لإلقاء الخطاب، لكن علينا أن نتحدث بأسرع ما يمكننا أن نفعل دون أن نتلعثم أو نقرأ الفقرات بشيء من الغموض أو الإبهام. والوضوح في هذا الصدد مهم، إذ يتعيّن أن تكون كل كلمة مفهومة وكل فقرة جلية مبينة. إن الوضوح من صلب عملية الإلقاء الجيد، ومن الضروري أن ننطق كل كلمة بجلاء وأن نتجنب استخدام الحشو من الكلمات التي تستخدم كلازمة مثل «يعني»، «تعلمون بالطبع»، «أأهـ»، «أهـ»، «أم م م» أو «هـ م م».
19. إثارة الانتباه ويسمى ( عنصر التشويق) ويحصل بعدة طرق:
- التجديد والطرافة: فكلما كانت الخاطرة بصور و أمثلة جديدة كان انتباه السامعين أشد ويبعث فيهم الحيوية، أما الكلام المكرور فيؤدي إلى الملل والسآمة، كالقوالب المحفوظة التي يكررها بعض خطباء اليوم.
20. الأسلوب: توخَّ ما استطعت من استخدام أفضل الأساليب اللغوية في التعبير. فاستخدام الكلمات والعبارات العامية، يصمُ المتحدث بالسطحية وعدم النضج، وينتقص من جدية الأمر، ويقلل من قيمة المحاضرة أو الخطبة، وقد يكون استخدام الكلمات والتعبيرات الجديدة وسيلة فعالة لتحقيق انسجام سريع مع الجمهور، لكن يجب اختيار الكلمات بحذر ودقة. وهناك أساليب بلاغية متعددة تحقق الفاعلية إذا ما استخدمت بذكاء، منها ما يلي:
تكرار النقاط الأساسية، بشرط عدم الإفراط، ويحبذ أن لا يجاوز التكرار ثلاث مرات.
توخِّي الإيقاع والسجع والجرس الموسيقي في اختيار الكلمات، بدون تكلف.
الجناس لإعطاء الحديث نكهة إيقاعية.(/4)
العبارات البليغة السهلة الجامعة التي ترسخ في ذاكرة المستمع.
التشبيه والاستعارة والقياس لنقل الأفكار الصعبة.
الإحصاءات والأرقام التي توصّل الأفكار وتعطي الحديث مصداقية.
توظيف المبنى للمعلوم والأفعال التوكيدية التي تخاطب العواطف والعقول معاً.
عبارات مفعمة بالحيوية واستنتاجات راسخة تجذب الأذهان وتشد انتباه المستمعين.
سرد الأمثال وسوق الأشعار وإيراد الحكَم.
في المقابل، هناك عبارات ينبغي تجنب استعمالها تماماً إلا إذا كان المتحدث يعنيها فعلاً. من هذه العبارات ما يلي:
«لست متأكداً لكنني أعتقد أن...»
«حسب علمي...»
«أعتقد أن...»
علينا «أن نعلم...»
«دائماً»
«أبداً»
«الجميع»
«لا أحد»
كما ينبغي اجتناب التعميم والتجريح والتعالي والسخرية والسطحية ومواجهة العاملين المهتمين وحدهم باللوم والتقصير أو الوقوف منهم موقف الآمر الناهي.
ثامناً: كيفية إعدادها: هناك طريقتان لإعدادها:
الأول: أن الخطيب أو الواعظ ينقدح في ذهنه مسألة وهو قادم إلى الصلاة، أو في المسجد أو يقع أمامه أمر من صياح ورفع لأصوات أو غير ذلك، فيجهز في قلبه كلمة وربما استحضر آيات معينة أو أحاديث وربما فتح المصحف بسرعة فراجع آية أو ضبطها.
الثاني: أن يكون قد طُلب منه كلمة أو خاطرة، كما يقع لتدريب المبتدئين أو يقع في رمضان أن يطلب القائمون على المسجد من خطيب أو واعظ أو مثقف أن يلقي كلمة في الترويحة بين الركعات بعد يوم أو يومين ويحدد له اليوم الذي سيلقي فيه الكلمة، فيستطيع في هذا الفترة أن يجهزها في نفسه فربما لم يراجع مصدراً إذا كان معتاداًَ على الكلام، وربما راجع وأعد، ولذلك في العادة تأتي الخاطرة أوالكلمة – في هذا الوقت- طويلة إلى حدٍ ما، وربما تحولت إلى درس أو شبه درس.
تاسعاً: أخطاء في إلقاء الخاطرة:
1. إطالة المقدمة: المقدمة تتناسب مع ما تقدم له، فمقدمة الكتاب الكبير غير مقدمة الكتاب الصغير، ومقدمة الكتاب غير مقدمة الرسالة، ومقدمة الدرس غير مقدمة الكلمة السريعة (الخاطرة)، فيمكن أن نقول على سبيل التقريب أن المقدمة تكون عشر ما تقدم له، فإذا كانت نصفه أو ربعه فقد تجاوزت حدها، ولم تعد مقدمة يقول أحمد العدناني في "طرق الدعوة الإسلامية"(44):" ومن الخصائص المطلوبة في الخطبة : 1-حسن الافتتاح: بأن تكون المقدمة مناسبة في الطول والقصر، لزمن الخطبة، فالمقدمة تعادل من 8:5% من زمن الخطبة؛ لأن الافتتاح يعني لفت انتباه السامعين في القصد من الخطبة، لأن بعض الخطباء يطيل في المقدمة فيضيع الغرض المطلوب بيانه". ونحن ننبه هنا إلى أنه ينبغي تسمية الأشياء بأسمائها، ومن الظواهر الشائعة وضع الأسماء على غير مسمياتها, فمثلاً: سمعت أحدهم يلقي خاطرة، فيأتي بخطبة الحاجة كلها كمقدمة لكلامه مع أن خطبة الحاجة تصلح أن تكون مجالاً لعدة خواطر فهذا الذي ألقله الأخ الفاضل هو درس وإن سماه خاطرة وإن ألقاه وهو واقف، ويكفي الإنسان في مقدمة الخاطرة أن يقول:" بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد...إلخ" ثم يأتي بالخاطرة، ويمكن أن يفتتح بآية تكون مدخلاً للخاطرة أو يفتتح بسؤال أو بمثل أو حكمة، أو بحديث يكون موضوعاً للخاطرة. وهذا ليس تقييداً بألفاظ معينة في مقدمة الخاطرة, ولكنه تقريب ومثال!
2. من الأخطاء الإطالة، فإن ذلك يؤدي إلى إملال الناس وبخاصة إذا كان الوقت مدعاة للاستعجال، كأن يقوم لإلقاء الخاطرة – بعد الجمعة مثلاً- فالمناسب أن يكون وقتها خفيفاً؛ لأن الناس قد استمعوا إلى خطبتين، وقد طال بقاؤهم في المسجد فلا يناسب وعظ بعد وعظ إلا إذا كان تنبيهاً سيفوت وقته كأن كان هناك خطأ أو مشكلة وقعت أثناء الجمعة لم ينبه عليها الخطيب فأراد أن يستدركها الخطيب، أو أحد المستمعين ولقد رأيت من يقوم لإلقاء خاطرة على الناس بعد الجمعة، فيطول كلامه إلى ثلث الساعة حتى يتململ الناس في أماكنهم.(/5)
3. تحديد الوقت: صحيح أن وقت الخاطرة في المتوسط خمس دقائق؛ ولكن لا يحسن من المتكلم أن يبدأ حديثه بتحديد زمن الكلام، كأن يقول: دقيقة فقط.. أيها الإخوة فأنت إذا قلت هذا قد حددت نفسك، وربما طالت الخاطرة من خمس إلى عشر دقائق، فسوف يحسب لك بعض الناس الوقت ويسخر منك – في سره غالباً- فلا يلزمك هذا حتى وإن كنت ستتكلم دقيقة فقط. تكلم دقيقة ولا تخبرني أفضل.يقول هشام الطالبي في " دليل التدريب القيادي" : "... في عام 1973 دعيت إلى كنيسة في" لوجانسبورت" في ولاية إنديانا، للتحدث عن الإسلام. تكلّم سبعة من القساوسة النصارى عن مللهم المختلفة في البداية ثم تحدث أستاذ هندوسي عن الهندوسية، وقد بدأ حديثه بالقول: «بالرغم من أنني هندوسي، فإنني لا أعرف شيئاً عن الهندوسية. لذلك فإنني سوف أتلو عليكم بضعة فصول من كتاب كتبته سيدة مسيحية أمريكية، قضت بضع سنوات في الهند...» وعندما اقترب من النهاية قال: «أخيراً سوف أقرأ لكم هذا الفصل... أخيراً سوف أقرأ فصلاً آخر... أخيراً سوف أقرأ لكم صفحة أخرى». وحينما قال «أخيراً سوف أقرأ لكم فقرة أخرى» لم يصدقه أحد لأنه أعاد كلمة «أخيراً» أكثر من مرة. لقد تملّك الجمهور الضجر من خطبته. العبرة في ذلك هي أنه مهما كانت الظروف، إياك أن تصدر حُكماً مسبقاً على خطبتك أو تقدم عذراً أو تدلي باعترافات حول طريقة طرحك للموضوع مثل: أنا آسف لم يكن لديّ الوقت الكافي للإعداد، أو إن خطبتي لن تكون جيدة، أو لقد دعاني المنظمون الآن فقط إلى التحدث بيد أني لا أعرف الكثير عن هذا الموضوع، أو بوسعكم أنتم أيها الحفل الكريم أن تقدموا خطبة أفضل ونحو ذلك. تجنب كل ما ورد من هذه العبارات المثبطة والسلبية، وادخل في الموضوع مباشرة وابذل كل ما في وسعك. لا تقوّم نفسك أمام الناس، لأنهم هم الذين سوف يقومونك. فقد تقدم أفضل عرض دون أن تدرك ذلك. وفي هذا الصدد يُروى أن الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه لم يستطع في إحدى المرات أن يلقي خطبة الجمعة من فوق المنبر، وحينما كان ينزل من أعلى المنبر قال «إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن»، وعندما سمع الحاضرون منه ذلك قالوا: «لو كان قال ذلك من فوق المنبر لكانت تلك من أفضل الخطب»." قلت :" العبارة مشهورة عن عثمان رضي الله عنه , وأما حكاية أنه لم يستطع أن يلقي خطبة الجمعة , فهذا مستبعد, وأين إسنادها؟!".
4. ذكر الخلافات: الخاطرة زمنها قصير فتحتاج إلى تركيز الكلام، فينبغي للمتكلم أن يأتي بالمتفق عليه، فإن لم يكن متفقاً عليه، فليأت بالراجح بدون عرض الخلاف، وليأت بعبارات عامة مثل: الأفضل والأحسن، فمثلاً: أردت أن ألقي خاطرة لأنبه الناس إلى أهمية الأضحية، وقد اختلف العلماء فيها هل هي واجبة؟ أم سنة؟ فإذا كانت خاطرة لا يلزمني مناقشة الأقوال وترجيح الاستدلال، وإنما أورد ما في ذبحها من موافقة الهدي وأن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم كان يفعلها وقيمة التقرب بها إلى الله، ومن فَهِم وجوباً فَهِم ومن فَهِم سنة فَهِم، فأنا لم أصرح أو أتكلم عن وجوب أو استحباب، وإنما رغبت فيها وهي ( الأضحية) سواء كانت واجبة أو مستحبة فهي مرغب فيها، فأنا على صواب مع الاحتمالين، فهذا ليس موضع تحقيق ذلك، وإنما يكون هذا في الدروس...!
5. السماح بالمداخلات: المتكلم في الخاطرة يريد أن يُوصِّل فكرة معينة في دقائق معدودة، فلا ينبغي أن يسمح بالمداخلات التي ستطيل الكلام، وتثير شبهات تحتاج إلى ردود، وهذا سيخرج بالخاطرة عن معناها، وحقيقتها، وربما آثار ضوضاء ولغطاً فيشوش على خاطرته ويفسد حلاوتها، وإن كان ولا بد فاعلاً، فإذا اعترضه أحد الناس بمداخلة فليقل له: نعم، انتظر حتى أنتهي، بعد الكلمة ثم ليقف معه جانباً وليجب على أسئلته. ولقد رأيت بعض من قام يلقي خاطرة يثير التساؤلات عند الناس، ويستفزهم بأسئلة وشبهات ربما لم يوردوها وهذا لا يصلح إلا في ظروف معينة وليس الأصل والله أعلم.
عاشراً: نماذج نبوية للكلمة القصيرة (المسماة: بالخاطرة):(/6)
سأتكلم عن فن ( الكلمة القصيرة أو الخاطرة) عند المصطفى صلى الله عليه وسلم، وعندما أريد أن أتكلم عنها عند المصطفى أشعر بحرج خشية أن يفهم أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم بخواطر غير معصومة، كما يخطر في بال أحدنا، فأردت أن أنبه لأمر وهو معلوم من الدين بالضرورة وهو أن ما يتكلم به النبي الكريم صلى الله عليه وسلم معصوم؛ إما لأنه ابتداءً من الوحي، "إن هو إلا وحيٌ يوحى" وإما لأن النبي تكلم به بدون الوحي ابتداءً، ثم أقره الله، فكلام النبي وقوله وفعله – بأبي وأمي هو- معصوم ولو وقع شيء لنزل الوحي مصححاً ومبيناً كما حدث في وقائع متعددة كما هو في سورة "عبس"، وكما في "أسرى بدر" وغير ذلك مما هو مذكور في كتب الأصول والعقائد وغيرها. فإذا كان ذلك كذلك، فإن رأيي أن النبي الكريم استخدم الكلمة السريعة القصيرة في مناسبات عديدة وكثيرة، وتحققت بها نتائج باهرة، وما زالت هذه الكلمة السريعة القصيرة نتعلم منها في ديننا، وهي تمثل نسبة كبيرة من الأحاديث النبوية الشريفة، وهاك نماذج من فنون وتنوع الكلمة القصيرة، واستخدام المصطفى صلى الله عليه وسلم لها:
1- ضرب الأمثال: وضرب المثل يوضح المبهم، ويكشف اللبس ويقع في النفس خير موقع. والناس من قديم الزمان يجدون من طبائعهم الميل إلى الاستشهاد بالمثل، فقد يكون أحدهم بصدد حال يحكيها فيحضره مثل يشابهه في المعنى فيستشهد به، لأن الكلام يزيد به وضوحاً؛ و لأن النفس تستأنس بالمثل، فعلى الداعية أن يحرص على ضرب المثل ويجعلها مفاتيح صدق يفتح بها مغاليق النفوس.
وقد ورد المثل في القرآن الكريم، قال تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (24) سورة يونس.ومن نماذج الموعظة بضرب المثل في السنة الشريفة :
أ-عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً فكانت منها طائفةٌ طيبة، قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا منه وسقوا وزرعوا. وأصاب طائفة منها أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأ. فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه بما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به)). متفق عليه.
ب-عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها، وهو يذُبُّهُّن عنها وأنا آخذٌ بحجزكم عن النار، وأنتم تفلتون من يدي)) رواه مسلم.
ج-وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كلَّ يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيءٌ؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: (فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحوا الله بهن الخطايا). متفق عليه.
د-عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة: ريحها طيب وطعمها طيبٌ، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة: ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة: ليس لها ريح وطعمها مرٌ) متفق عليه.
هـ-عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: خط النبي خطاً مربعاً، وخط خطاً في الوسط خارجاً منه، وخط خططاً صغاراً إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، فقال: هذا الإنسان، وهذا أجله محيطٌ به – أو قد أحاط به- وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخطط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا، نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا) رواه البخاري.
2- انتهاز فرصة الحادثة للتعليق عليها:
أ - عن أنس رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، وقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقال: ( أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟! أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكنِّي أصوم وأفطر، وأصلِّي وأرقُدُ، وأتزوَّج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) متفق عليه.(/7)
ب - عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: كنت أضرب غلاماً لي بالسوط، فسمعت صوتاً من خلفي: (اعلم أبا مسعود) فلم أفهم الصوت من الغضب، فلمَّا دنا منِّي إذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يقول: ( اعلم أبا مسعود، اعلم أبا مسعود)، قال: فألقيت السوط من يدي، فقال: (اعلم أبا مسعود أن الله أقدرُ عليك منك على هذا الغلام) فقلت: لا أضرب مملوكاً بعده أبداً. وفي رواية: فسقط من يدي السوط من هيبته. وفي رواية: فقلت: يا رسول الله هو حرٌ لوجهِ الله تعالى، فقال: أما لو لم تفعل، للفحتك النار، أو لمستك النار) رواه مسلم بهذه الروايات.
ت - عن أنس رضي الله عنه قال: كان غلامٌ يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه فقال له: ( أسلم) فنظر إلى أبيه وهو عنده؟ فقال: أطع أبا القاسم، فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (الحمد لله الذي أنقذه من النار) رواه البخاري.
3- أسلوب القصة:
في فطرة الإنسان ميل إلى القصة، ولها تأثير ساحر على القلوب، سواء كانت تاريخية أم معاصرة، فالداعية يعي هذا الميل فيستخدم القصة في البيان والتربية. وفي القرآن الكريم الكثير من القصص الموجهة، كقصص الأنبياء، والمُكذَِبين بالرسالات وما أصابهم من جزاء التكذيب، فموسى مع فرعون وعيسى مع بني إسرائيل وصالح مع ثمود، وشعيب مع مدين، ولوط مع أهل القرى ونوح مع قومه.. وهكذا، وهذه القصص تاريخ حق وواقع لا شك فيه، وإنها حقيقة لا ريب فيها وأثرها في تربية الأفراد والمجتمعات عميق فإن البشر يعتبرون بما يروى لهم من أخبار، ويقيسون ما يحسون على ما يسمعون، ولذلك قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (27)- (30) سورة المائدة. وهذه القصة تصور أثر الحقد الأعمى وعاقبة الأمور، وأنه ما يعقِّب إلا الندامة والخسار. ولذلك يمكن أن يستفيد الداعية من القصص في خواطره وكلماته القصيرة، فيمكن أن تكون الكلمة القصيرة كلها قصة واحدة مثل قصة " الأبرص والأقرع والأعمى" وقصة " أصحاب الغار" وغيرها من القصص التي علم بها المصطفى صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهاك بعض النماذج من القصص النبوي حتى تستفيد منها:
أ - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئراً فنزل فيها فشرب، ثم خرج فإذا كلبٌ يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان قد بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه ماءً ثم أمسكه بفيه، حتى رقي فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له، قالوا: يا رسول الله إن لنا في البهائم أجراً؟ فقال: في كل كبدٍ رطبةٍ أجراً)) متفق عليه. وفي رواية للبخاري: ( فشكر الله له فغر له، فأدخله الجنة).(/8)
ب - عَنْ أبي هُريْرَةَ رضي اللَّه عنه أَنَّهُ سمِع النَّبِيَّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يَقُولُ: « إِنَّ ثَلاَثَةً مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ: أَبْرَصَ، وأَقْرَعَ، وأَعْمَى، أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْتَليَهُمْ فَبَعث إِلَيْهِمْ مَلَكاً، فأَتَى الأَبْرَصَ فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: لَوْنٌ حسنٌ، وَجِلْدٌ حَسَنٌ، ويُذْهَبُ عنِّي الَّذي قَدْ قَذَرنِي النَّاسُ، فَمَسَحهُ فذَهَب عنهُ قذرهُ وَأُعْطِيَ لَوْناً حَسناً. قَالَ: فَأَيُّ الْمالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قال: الإِبلُ أَوْ قَالَ الْبَقَرُ - شَكَّ الرَّاوِي - فأُعْطِيَ نَاقَةً عُشرَاءَ، فَقَالَ: بارَك اللَّهُ لَكَ فِيها. فأَتَى الأَقْرعَ فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحب إِلَيْكَ؟ قال: شَعْرٌ حسنٌ، ويذْهبُ عنِّي هَذَا الَّذي قَذِرَني النَّاسُ، فَمسحهُ عنْهُ. أُعْطِيَ شَعراً حسناً. قال فَأَيُّ الْمَالِ. أَحبُّ إِلَيْكَ؟ قال: الْبَقرُ، فأُعِطيَ بقرةً حامِلاً، وقَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا. فَأَتَى الأَعْمَى فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قال: أَنْ يرُدَّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَري فَأُبْصِرَ النَّاسَ فَمَسَحَهُ فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ بصَرَهُ. قال: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِليْكَ؟ قال: الْغنمُ فَأُعْطِيَ شَاةً والِداً فَأَنْتجَ هذَانِ وَولَّدَ هَذا، فكَانَ لِهَذَا وَادٍ مِنَ الإِبِلِ، ولَهَذَا وَادٍ مِنَ الْبَقَرِ، وَلَهَذَا وَادٍ مِنَ الْغَنَم. ثُمَّ إِنَّهُ أتَى الأْبرص في صورَتِهِ وَهَيْئتِهِ، فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكينٌ قدِ انقَطعتْ بِيَ الْحِبَالُ في سَفَرِي، فَلا بَلاغَ لِيَ الْيَوْمَ إِلاَّ باللَّهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ، والْجِلْدَ الْحَسَنَ، والْمَالَ، بَعيِراً أَتبلَّغُ بِهِ في سفَرِي، فقالَ: الحقُوقُ كَثِيرةٌ. فقال: كَأَنِّي أَعْرفُكُ أَلَمْ تَكُنْ أَبْرصَ يَقْذُرُكَ النَّاسُ، فَقيراً، فَأَعْطَاكَ اللَّهُ، فقالَ: إِنَّما وَرثْتُ هَذا المالَ كَابراً عَنْ كابِرٍ، فقالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِباً فَصَيَّركَ اللَّهُ إِلى مَا كُنْتَ. وأَتَى الأَقْرَع في صورتهِ وهيئَتِهِ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ما قَالَ لهذَا، وَرَدَّ عَلَيْه مِثْلَ مَاردَّ هَذَّا، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِباً فَصَيّرَكَ اللهُ إِليَ مَاكُنْتَ. وأَتَى الأَعْمَى في صُورتِهِ وهَيْئَتِهِ، فقالَ: رَجُلٌ مِسْكينٌ وابْنُ سَبِيلٍ انْقَطَعَتْ بِيَ الْحِبَالُ في سَفَرِي، فَلا بَلاغَ لِيَ اليَوْمَ إِلاَّ بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بالَّذي رَدَّ عَلَيْكَ بصرَكَ شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا في سَفَرِي؟ فقالَ: قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصري، فَخُذْ مَا شِئْتَ وَدعْ مَا شِئْتَ فَوَاللَّهِ ما أَجْهَدُكَ الْيَوْمَ بِشْيءٍ أَخَذْتَهُ للَّهِ عزَّ وجلَّ. فقالَ: أَمْسِكْ مالَكَ فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ فَقَدْ رضيَ اللَّهُ عنك، وَسَخَطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ » متفقٌ عليه.
« وَالنَّاقةُ الْعُشَرَاءُ » بِضم العينِ وبالمدِّ: هِيَ الحامِلُ. قولُهُ: « أَنْتجَ » وفي روايةٍ: «فَنَتَجَ » معْنَاهُ: تَوَلَّى نِتَاجَهَا، والنَّاتجُ للنَّاقةِ كالْقَابِلَةِ لَلْمَرْأَةِ. وقولُهُ: « ولَّدَ هَذا » هُوَ بِتشْدِيدِ اللام: أَيْ: تَولَّى وِلادَتهَا، وهُوَ بمَعْنَى نَتَجَ في النَّاقَةِ. فالمْوَلِّدُ، والناتجُ، والقَابِلَةُ بمَعْنى، لَكِنْ هَذا للْحَيَوانِ وذاكَ لِغَيْرِهِ. وقولُهُ: « انْقَطَعَتْ بِي الحِبالُ » هُوَ بالحاءِ المهملة والباءِ الموحدة: أَي الأَسْبَاب. وقولُه: « لا أَجهَدُكَ » معناهُ: لا أَشَقُّ عليْك في رَدِّ شَيْءٍ تَأْخُذُهُ أَوْ تَطْلُبُهُ مِنْ مَالِي. وفي رواية البخاري: « لا أَحْمَدُكَ » بالحاءِ المهملة والميمِ، ومعناهُ: لا أَحْمَدُكَ بِتَرْك شَيْءٍ تَحتاجُ إِلَيْهِ، كما قالُوا: لَيْسَ عَلَى طُولِ الحياةِ نَدَمٌ أَيْ عَلَى فَوَاتِ طُولِهَا.
ج-عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حوسب رجلٌ ممن كان قبلكم فلم يوجد له من الخير شيء، إلا أنه كان يخالط الناس، وكان موسراً، وكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر. قال الله عز وجل: ( نحن أحق بذلك منه، تجاوزا عنه) رواه مسلم.
د-عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بينا أيوب عليه السلام يغتسل عرياناً، فخر عليه رِجْلُ جرادٍ من ذهب، فجعل أيوب يحثي في ثوبه، فناداه ربُّه عز وجل: يا أيوبُ، ألم أكن أغنيتك عما ترى؟! قال: بلى وعزتك، ولكن لاغنى بي عن بركتك) رواه البخاري.
4- مطايبة الصغار والضعفاء والنساء بالكلمة القصيرة:(/9)
أ - عن ابنِ عبَّاسٍ، رضيَ اللَّه عنهمَا، قال: «كُنْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يوْماً فَقال: «يَا غُلامُ إِنِّي أُعلِّمكَ كَلِمَاتٍ: «احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَل اللَّه، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، واعلَمْ: أَنَّ الأُمَّةَ لَو اجتَمعتْ عَلَى أَنْ ينْفعُوكَ بِشيْءٍ، لَمْ يَنْفعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَد كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوك بِشَيْءٍ، لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بَشَيْءٍ قد كَتَبَهُ اللَّه عليْكَ، رُفِعَتِ الأقْلامُ، وجَفَّتِ الصُّحُفُ». رواهُ التِّرمذيُّ وقَالَ: حديثٌ حسنٌ صَحيحٌ. وفي رواية غيرِ التِّرْمِذيِّ: «احفظَ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَى اللَّهِ في الرَّخَاءِ يعرِفْكَ في الشِّدةِ، واعْلَمْ أَنّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصيبَك، وَمَا أَصَابَكَ لمْ يَكُن لِيُخْطِئَكَ واعْلَمْ أنّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْب، وأَنَّ مَعَ الْعُسرِ يُسْراً».
ب - عن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنها قال: كنت غلاماً في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا غلام سم الله تعالى، وكل بيمينك، وكل مما يليك) متفق عليه.
5-أسلوب مزج القول بالعمل:
أ - وعَنْ عُقْبَةَ بنِ عامِر رضي اللَّه عنْهُ أنَّ رسُولَ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم خَرجَ إلَى قَتْلَى أُحُدٍ. فَصلَّى علَيْهِمْ بعْد ثَمان سِنِين كالمودِّع للأحْياءِ والأمْواتِ، ثُمَّ طَلَعَ إلى المِنْبر، فَقَالَ: إنِّي بيْنَ أيْدِيكُمْ فَرَطٌ وأنَا شهيد علَيْكُمْ وإنَّ موْعِدَكُمُ الْحوْضُ، وَإنِّي لأنْظُرُ إليه مِنْ مَقامِي هَذَا، وإنِّي لَسْتُ أخْشَى عَلَيْكُمْ أنْ تُشْركُوا، ولَكِنْ أخْشَى عَلَيْكُمْ الدُّنيا أنْ تَنَافَسُوهَا» قَالَ: فَكَانَتْ آخِرَ نَظْرَةٍ نَظَرْتُهَا إلَى رَسُولِ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، متفقٌ عليه. وفي روايةٍ: « وَلَكِنِّي أخْشَى علَيْكُمْ الدُّنيَا أنْ تَنَافَسُوا فِيهَا، وتَقْتَتِلُوا فَتَهْلِكُوا كَما هَلَكًَ منْ كَان قَبْلكُمْ » قَالَ عُقبةُ: فَكانَ آخِر ما رَأيْتُ رَسُولَ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم عَلَى المِنْبرِ. وفي روَايةٍ قال: « إنِّي فَرطٌ لَكُمْ وأنَا شَهِيدٌ علَيْكُمْ، وَإنِّي واللَّه لأنْظُرُ إلَى حَوْضِي الآنَ، وإنِّي أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِن الأرضِ، أوْ مَفَاتِيحَ الأرْضِ، وَإنَّي واللَّهِ مَا أَخَافُ علَيْكُمْ أنْ تُشْرِكُوا بعْدِي ولَكِنْ أخَافُ علَيْكُمْ أنْ تَنَافَسُوا فِيهَا ». وَالمُرادُ بِالصَّلاةِ عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ: الدُّعَاءُ لَهُمْ، لاَ الصَّلاةُ المعْرُوفَةُ.
ب - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة: (رب اغفر وتب علي إنك أنت التواب الرحيم). رواه أبو داود والترمذي.
ج-وعن عائشَةَ رضي اللَّهُ عنها قالت: كان رسُولُ اللَّهِ، صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، كُلَّما كان لَيْلَتها منْ رسول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يَخْرُجُ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ إِلى البَقِيعِ، فَيَقُولُ: «السَّلامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤمِنينَ، وأَتَاكُمْ ما تُوعَدُونَ، غَداً مُؤَجَّلُونَ، وإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاحِقُونَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأَهْلِ بَقِيعِ الغَرْقَدِ» رواهُ مسلم.
د-وعن ابن عَبَّاسٍ رَضَيَ اللَّه عنهما، قال: مَرَّ رسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم بِقُبورٍ بالمَدِينَةِ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بوَجْهِهِ فقالَ: «السَّلامُ عَلَيْكُمْ يا أَهْلَ القُبُورِ، يَغْفِرُ اللَّهُ لَنا وَلَكُمْ، أَنْتُم سَلَفُنا ونحْنُ بالأَثَرِ» رواهُ الترمذي وقال: حديثٌ حسن.
6-أسلوب السؤال:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ما تعدون الشهيد فيكم؟" قالوا :يا رسول الله ,من قتل في سبيل الله ,فهو شهيد. قال :" إن شهداء أمتي إذا لقليل !" قالوا :فمن هم يا رسول الله؟ قال :" من قتل في سبيل الله فهو شهيد , ومن مات في سبيل الله فهو شهيد , ومن مات في الطاعون فهو شهيد , ومن مات في البطن فهو شهيد , والغريق شهيد " رواه مسلم.
الحادي عشر : ثمرات ومميزات الكلمات القصيرة أو السريعة (الخواطر) :
1- تحقيق شيء من واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
2- كثرة جمهورها ومستمعيها.
3- تنوع جمهورها ,فإنه يستمع إليها وينصت لها مختلف الناس من مثقفين وغير مثقفين ومن متعلمين وغير متعلمين ومن طلبة علم وعوام ,بخلاف الدروس فإنه لا يحضرها غالبا إلا طلبة العلم وأشباههم.(/10)
4- سهولة تكرارها ,فربما كررها الداعية في الأسبوع خمس مرات أو أكثر أو أقل بحسب الظروف والمناسبات والحاجة ,حتى أنه ربما أدى خاطرتين في يوم واحد ,لسهولتها على نفوس الناس ولسهولتها في الإعداد على الواعظ أو الخطيب بخلاف الدرس أو الخطبة أو المحاضرة .
5- سهولة أدائها على الخطيب أو الواعظ فلا تحتاج لكثير إعداد لقصر زمانها , بل ربما لم يحتج الخطيب المتمرس في الخاطرة إلى إعداد .
6- لا تحتاج إلى كلفة في الإعلان عنها كالدروس والخطب والمحاضرات.
7- سرعة مواكبتها للأحداث ,فهي ليست مربوطة بموعد أسبوعي كالخطب والدروس والمحاضرات ,فيمكن للخطيب أو الواعظ بمجرد وقوع الحدث أن يجهز في نفسه كلمة فيها تعليق على الأحداث,ويحضر إلى المسجد فيلقيها مباشرة وبسرعة, وهذا مالا يمكن تحقيقه بدرس أو خطبة .
تنبيه :لا يفهم من ارتجالية الخاطرة-كما يبدو من كلامي-أن يتعجل الخطيب أو الواعظ في التعليق على الأحداث بدون ضوابط,بل هذا مفترض فيما كان واضحا ظاهرا للخطيب ولا يؤدي إلى الفتن وأحيلك على موضوع كتبناه في " ضوابط الكلام في الفتن " فراجعه فإنه مهم , ولولا الإطالة والإملال لأعدته لك ملخصا هنا لأهميته .
الثاني عشر: نماذج حديثة في الخاطرة
النموذج الأول
هل تريد أن تكون من أكمل المؤمنين إيماناً؟ هل تريد أن تكون من أقرب الناس مجلساً من الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم؟ هل تريد أن تثقل ميزانك في الآخرة؟ هل تريد أن تكون محبوباً من الله محبوباً من خلقه؟ هل تود أن يتمنى المؤمنون لقياك؟ هل تود أن تكون كالعسل الذي يحلِّي الأطعمة، ويُطيِّب مذاقها؟ هل تود أن تكون بلسماً للجروح؟ إذا أردت هذا كله وزيادة عليه فعليك بـ "حسن الخلق"..!
من المفترض في المؤمن "ادخلوا في السلم كافة" أي أن تسلم لله بقلبك وجوارحك وروحك وأفعالك، فليس من المقبول في الشريعة أن تكون في مقدمة الصفوف في صلاة الفجر، ثم تكون في مؤخرة الصفوف في صلة الأرحام، ومراعاة الجوار، فالإيمان صبغة تصبغ أهلها، فيكونون بلون وطعم الإيمان، فكما من القبيح أن يكون جزء من الثوب بلون وطعم الإيمان، فمن القبيح أن يكون المؤمن وأن يكون في وضع كالصلاة بلون وفي وضع آخر كعاملة الناس بلون مختلف{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } (85) سورة البقرة. و{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} سورة الصف.
وكذلك إذا أحسنت الأدب مع الله بأداء فرائضه من العبادات كالصلاة والصيام والزكاة والحج وغيرها، فينبغي أن تتأدب مع الناس بحسب الخلق فالأدب مع الناس أدب مع الله؛ لأن الله هو الآمر بهذه الأخلاق الحسنة وفي الحديث: (من لا يشكر الناس لا يشكر الله).
وينبغي أن تعلم أن "حسن الخلق" هو واجهة المؤمن، وأول ما يلقى الناس من المؤمن، ولذلك ربما جذب المؤمن الناس بحسن أخلاقه إلى حسن إيمانه فيؤمنون، وقد وقع مراراً مع النبي صلى الله عليه وسلم أن أسلم أناس بمجرد حسن خلقه معهم.
وإذا تأملت التاريخ الإسلامي وجدت أن بلداناً في جنوب شرق آسيا وفي أواسط أفريقيا دخل الإسلام إليها، ولم يصل إليها جيش إسلامي ولا بعثة دعوية، وإنما وصل إليها تجار مسلمون حسنت أخلاقهم فكان سكان تلك البلاد من عبدة الأوثان أو النصارى أو غيرهم يتعجبون من أخلاقهم وأمانتهم فيسألونهم عن سبب هذه الأخلاق وتلك الأمانة فيقولون: الإسلام. فيتعرفون على الإسلام فيسلمون، وبعكس ذلك – في هذا العصر- بعض المسلمين في أوروبا وأمريكا شوهوا الإسلام، وصدوا عنه ببعض الأفعال والأخلاق القبيحة. وفي الختام أقول سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ فقال: "تقوى الله وحسن الخلق" رواه الترمذي.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
النموذج الثاني
عذاب القبر ونعيمه
أخي المسلم/ من فضل الله علينا أن الإيمان بصّرنا بما وراء الحُجُب، فالإيمان بَصَر مع البصر، يُخبرك بما لا يصل إليه بصرك، والكافر محروم محجوب لا يعرف إلا ما تدركه حواسه{كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} (15) سورة المطففين فهم محجوبون في الدنيا قبل الآخرة. فلا يدرك ما يقع بعد الموت ولا يدري شيئاً من أحداث القيامة والبعث، وإذا كان لا يعرف، فمن باب أولى أنه لا يستعد ولا يضبط أموره استعداداً لرحلة الآخرة وهي رحلة طويلة مليئة بالأحداث الجسام العظام، ولذلك أثنى الله على رسله بإعلامهم بالغيب: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ... الآية{. سورة الجن وأثنى على سيد ولد آدم بإعلامه بهذا الغيب العظيم فقال:{مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا } (52) سورة الشورى.(/11)
ومن هذا الغيب الذي لم نكن لنعلمه لولا أن أعلمنا الله إياه أن هناك بعد الموت (فتنة القبر). وأنها تحوي فيما تحوي نعيماً للطائعين وعذاباً للعاصين، قال تعالى{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} (46) سورة غافر .
ونعيم القبر أو عذابه مرحلة بعد الموت ومقدمة لما سيأتي من النعيم أو العذاب، ففي الحديث:(القبر أول منزل من منازل الآخرة، فإن نجا منه، فما بعده أيسر، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه) وقد تواترت الأحاديث النبوية الشريفة في هذا الباب حتى أصبح العلم بهذا – عند المؤمنين- قطعياً لا يدخله شك ولا يدانيه ريب، واعلم أن الشريعة لما ذكرت ما يقع في القبر من ضغطه القبر وسؤال منكر ونكير، وغير ذلك من الأمور العظام ما أرادت الشريعة إدخال الفزع والرعب في نفس المسلم، وإنما أرادت الشريعة أن يستعد المؤمن لهذا الأمر ويتهيأ له بالعمل الصالح فقد قال سفيان الثوري رحمه الله: "من أكثر من ذكر القبر وحده روضة من رياض الجنة، ومن غفل عنه وجده حفرة من حفر النيران".. فلماذا لا يكون قبرك روضة من رياض الجنة؟ ولماذا تخاف من عذاب القبر وتفزع ولا ترجو ولا تحن إلى نعيمه ولذته، فالقبر فيه هذا وذاك ولا يظلم ربك أحداً.
ولذلك عندما حذر الله الناس بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (6) سورة التحريم فذكر بعد هذا أن العذاب سينال الكافرين، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (7) سورة التحريم ، وذكر أن النعيم سينال المؤمنين فقال{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (8) سورة التحريم. فنحن نقول لك نعيم القبر قبل عذابه، وقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (بشروا ولا تنفروا)، وقول أهل العلم عذاب القبر ونعيمه ليس تقديماً للعذاب على النعيم فالواو – في اللغة العربية- لا تعني ولا تفيد ترتيباً حتى نقول أنهم قدموا العذاب على النعيم – فاستعد يا أخي الحبيب للقبر، واسعَ في أن تكون منعماً فيه لا مُعذَّباً وخَفْ من عذابه، واستعذ بالله منه، فإنك لا تنجو من النار إلا بالرجوع إلى الله كما أشارت الآية أن هؤلاء المؤمنين يتوبون إلى الله والله يكفر عنهم السيئات، ويدخلهم الجنات فالجأ إلى ربك ولذ به فلن يحفظك إلا هو، ولكن: (احفظ الله يحفظك).
يا غافلاً وله في الدهر موعظةٌ إن كنتَ في سنةٍ فالدهر يَقظان
حفظنا الله وإياكم، وأعاذنا من عذاب القبر، وجعله علينا روضة من رياض الجنة، وجمعنا في الفردوس الأعلى... آمين... آمين.(/12)
ضوابط في تلقي النصوص الشرعية وفهمها
رئيسي :المنهج :الأحد 9 محرم 1425هـ - 29 فبراير 2004م
لا شك أن لنصوص الكتاب والسنة المنزلة العظيمة اللائقة بهما، كما أن لفهم تلك النصوص الأسلوب الملائم لحصول المقصود منها، وسأورد بعضاً من الضوابط التي يتعين تذكرها إزاء النصوص الشرعية عند تلقيها وفهمها .
1- التسليم والتعظيم: للنصوص الشرعية، والتحاكم إليها وتقديمها على غيرها، كما يجب تعظيم نصوص الوحيين وإجلالها وتوقيرها .
إن التسليم يعني خضوع القلب وانقياده لربه المتضمن لأعمال الجوارح، وصفة التسليم للنصوص الشرعية من أهم صفات أهل الإيمان:{وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى...[22]}[سورة لقمان] .
وكما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - أثناء حديثه عن السلف الصالح - 'وكان من أعظم ما أنعم الله به عليهم اعتصامهم بالكتاب والسنة، فكان من الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان أنه لا يقبل من أحد قط أن يعارض القرآن، لا برأيه، ولا ذوقه، ولا معقولة، ولا قياسه، ولا وجده . فإنهم ثبت عنهم بالبراهين القطعيات والآيات البينات أن الرسول جاء بالهدى ودين الحق، وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم'[الفتاوى 13/28] .
ويوضح -رحمه الله- أهمية هذا الأمر، فيقول: 'جماع الفرقان بين الحق والباطل، والهدى والضلال والرشاد والغي، وطريق السعادة والنجاة، وطريق الشقاوة والهلاك ؛ أن يجعل ما بعث الله به رسله وأنزل به كتبه هو الحق الذي يجب اتباعه، وبه يحصل الفرقان والهدى والعلم والإيمان، فيصدق بأنه حق وصدق، وما سواه من كلام سائر الناس يعرض عليه، فإن وافقه فهو حق، وإن خالفه فهو باطل'[ الفتاوى13/135، 136].
ومبنى العبودية، والإيمان بالله، وكتبه، ورسله على التسليم، وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع، ولهذا لم يحك الله سبحانه عن أمة نبي صدقت نبيها، وآمنت بما جاء به أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فيما أمرها به، أو نهاها عنه، أو بلّغها عن ربها، بل انقادت، وسلمت، وأذعنت . ولقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه على التسليم لله وآياته، وإجلال النصوص الشرعية وتعظيمها، ولقد خرج على أصحابه وهم يقولون : ألم يقل الله كذا وكذا، يرد بعضهم على بعض، فَكَأَنَّمَا تَفَقَّأَ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ مِنْ الْغَضَبِ فَقَالَ: [لَهُمْ مَا لَكُمْ تَضْرِبُونَ كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ بِهَذَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ]رواه أحمد وابن ماجة-وأصله عند مسلم-.
وقد ضرب الصحابة أروع الأمثلة في التسليم والإجلال للنصوص الشرعية:
فهذه امرأة تقدم على أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- وتسألها، فتقول:مَا بَالُ الْحَائِضِ تَقْضِي الصَّوْمَ وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ فَقَالَتْ:'أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ' قُلْتُ لَسْتُ بِحَرُورِيَّةٍ وَلَكِنِّي أَسْأَلُ قَالَتْ:'كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ وَلَا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ' رواه البخاري ومسلم .
ويحدث عمران بن حصين رضي الله عنه، فيقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ] فَقَالَ بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ إِنَّا لَنَجِدُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ أَوْ الْحِكْمَةِ أَنَّ مِنْهُ سَكِينَةً وَوَقَارًا لِلَّهِ وَمِنْهُ ضَعْفٌ فَغَضِبَ عِمْرَانُ حَتَّى احْمَرَّتَا عَيْنَاهُ وَقَالَ أَلَا أَرَانِي أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُعَارِضُ فِيهِ قَالَ فَأَعَادَ عِمْرَانُ الْحَدِيثَ قَالَ فَأَعَادَ بُشَيْرٌ فَغَضِبَ عِمْرَانُ قَالَ فَمَا زِلْنَا نَقُولُ فِيهِ إِنَّهُ مِنَّا يَا أَبَا نُجَيْدٍ إِنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ'- أي ليس ممن يتهم بنفاق، أو زندقة- رواه البخاري ومسلم.
وقد التزم سلف هذه الأمة هذا المنهج، واعتنوا أيما عناية بتحقيقه:
فها هو الأوزاعي يقول : 'من الله تعالى التنزيل، وعلى رسوله التبليغ، وعلينا التسليم' .
وقال رجل للزهري: يا أبا بكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الْخُدُودَ] رواه البخاري ومسلم. وما أشبه هذا الحديث ؟ فأطرق الزهري ساعة، ثم رفع رأسه، فقال:'من الله عز وجل العلم، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم'.
ولما ذكر ابن المبارك حديث: [ لَا يَزْنِي الزَّانِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ...] رواه البخاري ومسلم. فقال فيه قائل: ما هذا؟ على معنى الإنكار. فغضب ابن مبارك، وقال:' يمنعنا هؤلاء الأنان- كثيري الكلام والشكوى- أن نحدث بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلما جهلنا معنى حديث تركناه! لا بل نرويه كما سمعنا، ونلزم الجهل أنفسنا'.(/1)
وكان أبو معاوية الضرير يحدث هارون الرشيد بحديث أبي هريرة : [احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى...] فقال أحد الحاضرين: كيف هذا وبين آدم وموسى ما بينهما؟ فوثب هارون، وقال: يحدثك عن الرسول صلى الله عليه وسلم وتعارض بكيف ؟! فما زال يقول حتى سكت عنه .
يقول شيخ الإسلام أبو إسماعيل الصابوني -معلقاً على هذه القصة- :'هكذا ينبغي للمرء أن يعظم أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقابلها بالقبول والتسليم والتصديق، وينكر أشد الإنكار على من يسلك فيها غير هذا الطريق الذي سلكه هارون الرشيد - رحمه الله - مع من اعترض على الخبر الصحيح الذي سمعه بـ ' كيف' على طريق الإنكار له والابتعاد عنه، ولم يتلقه بالقبول كما يجب أن يتلقى جميع ما يرد عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-' [عقيدة السلف ص117].
إن الناظر إلى واقع المسلمين الآن، يرى ما يدمي القلب بسبب ما قد يقع فيه الكثير من المسلمين تجاه النصوص الشرعية، من جفاء للنص، وهجران للسنة، بل ومعارضة النص الشرعي المعصوم بمعقول، أو ذوق، أو قياس، أو سياسة... ألا فليتق الله أولئك القوم، فإنه والله يخشى على هؤلاء أن يكون لهم نصيب من هذا الوعيد الشديد في الآية الكريمة:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[63]}[سورة النور] . يقول الإمام أحمد رحمه الله:'عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته ويذهبون إلى رأي سفيان- أي الثوري- والله تعالى يقول:{ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ...[63]}[سورة النور] أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك، لعله إذا ردّ بعض قوله؛ أن يقع في قلبه شيء من الزيغ، فيهلك' .
2- الإيمان بجميع ما جاء عن الله، وما صح عن رسوله: وهذا من سمات أهل السنة، فلا يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض كحال أهل الكتاب، ومن شابههم من أهل الأهواء، فأهل الحق يؤمنون بالله وبما جاء عن الله، على مراد الله كما يؤمنون بالرسول صلى الله عليه وسلم، على مراد الرسول، يقول تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً...[208]}[سورة البقرة] . أي: فإن الله تعالى يأمر عباده والمؤمنين به أن يأخذوا بجميع شرائع الإسلام جملة وتفصيلاً. وقال سبحانه:{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا...[7]}[سورة آل عمران]. إن إيمان أهل السنة بجميع النصوص الثابتة في مسألة ما قد أورثهم الخيرية الوسطية بين الفرق، كما كانت هذه الوسطية سبباً في هداية الله لهم فيما اختلف فيه من الحق بإذنه.
وقد حرص سلف الأمة على تطبيق هذا الأصل، فكانوا أهل الوسطية والاعتدال:
ومثال ذلك: أن الزهري رحمه الله حدّث بحديث الرجل المسرف على نفسه، والذي أوصى بنيه بأن يحرقوه بالنار - جهلاً منه بقدرة الله - فبعثه الله وسأله عن سبب صنيعه فقال هذا الرجل: خشيتك يا رب، فغفر له بذلك . ثم حدّث الزهري بحديث المرأة التي دخلت النار في هرة، لا هي أطعمتها ولا أرسلتها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت هزلاً . ثم قال الزهري:' لئلا يتكل رجل، ولا ييأس رجل'.
قال النووي:'معناه: لما ذكر الحديث الأول خاف أن سامعه يتكل على ما فيه من سعة الرحمة، وعظم الرجاء، فضم إليه حديث الهرة الذي فيه من التخويف ضد ذلك؛ ليجتمع الخوف والرجاء، وهذا معنى قوله: 'لئلا يتكل ولا ييأس' وهكذا معظم آيات القرآن العزيز يجتمع فيها الخوف والرجاء؛ لئلا يقنط أحد ولا يتكل.'[شرح النووي على مسلم 17/372].
والإيمان بجميع النصوص يقتضي تحقيق البلاغ المبين لها، فدين الله تعالى لجميع المكلفين، يقول الشاطبي:'الشريعة بحسب المكلفين كلية عامة، بمعنى أنه لا يختص بالخطاب بحكم من أحكامها الطلبية بعض دون بعض، ولا يحاشى من الدخول تحت أحكامها مكلف البتة . كما في النصوص المتضافرة كقوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا...[28]}[سورة سبأ] ...' .
ولكن لا يعني هذا الإخبار بكل نص، ولكل مكلف بإطلاق... بل لا بد من التنبيه إلى أمر مهم يبينه الضابط التالي:
3- مراعاة أحوال المخاطبين: فلكل مقام مقال، وربما صح مقصد المكلف، وحسنت نيته، لكن قصر فهمه عن إدراك المقصود من النص، فساء إدراكه، والتبس عليه الأمر، ويوضح الشاطبي هذا الأمر فيقول:'ومن هذا يعلم أنه ليس كل ما يعلم مما هو حق يطلب نشره، وإن كان من علم الشريعة ومما يفيد علماً بالأحكام، بل ذلك ينقسم، فمنه ما هو مطلوب النشر، وهو غالب علم الشريعة، ومنه ما لا يطلب نشره بإطلاق، أو لا يطلب نشره بالنسبة إلى حال، أو وقت، أو شخص'[الموافقات 4/189].(/2)
وقد طبق الصحابة -رضي الله عنهم- هذا الضابط، فكانوا في دعوتهم وتبليغهم مراعين لأفهام الناس وأحوالهم، فها هو عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وهو يعالج مرض الموت، يقول :وَاللَّهِ مَا مِنْ حَدِيثٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكُمْ فِيهِ خَيْرٌ إِلَّا حَدَّثْتُكُمُوهُ إِلَّا حَدِيثًا وَاحِدًا وَسَوْفَ أُحَدِّثُكُمُوهُ الْيَوْمَ وَقَدْ أُحِيطَ بِنَفْسِي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ النَّارَ] رواه مسلم.
يقول القاضي عياض في شرح هذا الحديث : 'فيه دليل على أنه كتم ما خشي الضرر فيه والفتنة مما لا يحتمله عقل كل واحد، وذلك فيما ليس تحته عمل، ولا فيه حد من حدود الشريعة، ومثل هذا عن الصحابة رضي الله عنهم كثير في ترك الحديث بما ليس تحته عمل، ولا تدعو إليه ضرورة، أو لا تحمله عقول العامة، أو خشيت مضرته على قائله، أو سامعه، لا سيما ما يتعلق بأخبار المنافقين والإمارة، وتعيين قوم وصفوا بأوصاف غير مستحسنة، وذم آخرين ولعنهم، والله أعلم'[شرح النووى على مسلم1/229].
وجاء في حديث معاذ قوله صلى الله عليه وسلم: [مَا مِنْ عَبْدٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ] قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا أُخْبِرُ بِهَا النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا قَالَ: [إِذًا يَتَّكِلُوا] 'فَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا' رواه البخاري ومسلم.
قال ابن الصلاح : 'منعه من التبشير العام خوفًا من أن يسمع ذلك من لا خبرة له، ولا علم، فيغتر ويتكل، وأخبر به صلى الله عليه وسلم على الخصوص مَنْ أَمِنَ عليه الاغترار والاتكال من أهل المعرفة، فإنه أخبر به معاذاً، فسلك معاذ هذا المسلك فأخبر به من الخاصة من رآه أهلاً لذلك'[شرح النووى على مسلم1/241].
وقال ابن رجب في شرحه لأوائل 'صحيح البخاري': ' قال العلماء: يؤخذ من منع معاذ من تبشير الناس لئلا يتكلوا: أن أحاديث الرخص لا تشاع في عموم الناس؛ لئلا يقصر فهمهم عن المراد بها، وقد سمعها معاذ فلم يزدد إلا اجتهاداً في العمل، وخشية الله عز وجل، فأما من لم يبلغ منزلته، فلا يؤمن أن يقصر اتكالاً على ظاهر هذا الخبر'.
وقد عقد الإمام البخاري بابًا، فقال:'باب من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن لا يفهموا، وأورد قول علي رضي الله عنه:' وَقَالَ عَلِيٌّ حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ' .
وللحافظ ابن حجر كلام نفيس، حيث يقول: ' وفيه دليل على أن المتشابه لا ينبغي أن يذكر عند العامة، ومثله قول ابن مسعود 'مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً ' رواه مسلم.
وعن الحسن البصري أنه أنكر تحديث أنس بن مالك للحجاج بن يوسف بقصة العُرَنييَّن؛ لأنه اتخذها وسيلة إلى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي، وضابط ذلك: أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة وظاهره في الأصل غير مراد، فالإمساك عنه عند من يخش عليه الأخذ بظاهره مطلوب' .
وساق مسلم بسنده عَنْ مَنْصُورِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَرِيرٍ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ أَيُّمَا عَبْدٍ أَبَقَ مِنْ مَوَالِيهِ فَقَدْ كَفَرَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ قَالَ مَنْصُورٌ قَدْ وَاللَّهِ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنِّي أَكْرَهُ أَنْ يُرْوَى عَنِّي هَهُنَا بِالْبَصْرَةِ' . والسبب في ذلك- كما ذكر النووي - أن البصرة كانت مملوءة من المعتزلة والخوارج الذين يقولون بتخليد العصاة في النار، ويسلبون عنهم جميع الإيمان، فخشي منصور أن يتأول هؤلاء المبتدعة هذا الحديث على حسب أهوائهم . نسأل الله تعالى لجميع المسلمين الفقه في الدين، وبالله التوفيق .
من:'ضوابط في تلقي النصوص الشرعية وفهمها'
للشيخ/عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف(/3)
ضوابط ينبغي تقديمها قبل الحكم على الأشخاص والطوائف والجماعات
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والسلام على النبي الامين المبعوث رحمة للعالمين ، وعلى اله وصحبه أجمعين وبعد:
فهذه رسالة صغيرة عنوانها : (ضوابط ينبغي تقديمها عند الحكم على الأشخاص والطوائف والجماعات ) وقد جمعت مادتها من مواضع متفرقة ، ورأيت أن نشرها في موضع واحد لا يخلوا من فائدة لطلبة العلم ، وقد ذكرت فيها ضوابط ، أحسب أن من يقدمها قبل الحكم على الطوائف والجماعات والأشخاص يتقي الزلل في الحكم ، لاسيما في هذا الزمن الذي انتشر فيه الخطأ في الأقوال والاعتقادات ، والزلل من الأفراد والجماعات ، والله أسأل أن يجعل عملي هذا خالصا لوجهه الكريم ، وأن يجعله من الزلفى إليه ، ويدخر لي به الثواب لديه ، إنه سميع قريب والله الموفق .
*** أما الضابط الأول:
ــــــــــــــــــــــ
فهو أن المدح أو الذم الشرعيين ، اعني الذي يراد به جعل الشخص أو الطائفة ممدوحة شرعا أو مذمومة شرعا ، مستحقه لما يترتب على ذلك من أحكام ، يجب أن يعلق على ألفاظ الكتاب والسنة ، التي قد علم مدلول ألفاظها ومعانيها ، لئلا يحكم على أحد في الدين بغير ما انزل الله فيه من حدود الشريعة المتعلقة بالأسماء والأحكام ، والتي منها أسماء المدح والذم .
فان استعمل اسم لم يدل الشرع على ذم أهله ، ولا مدحهم ، فلا بد من بيان معناه بيانا واضحا وضبطه ضبطا تاما، يعرف به وجه استحقاق من يصدق عليه مدلوله للذم.
قال شيخ الإسلام ابن تيميه :واما الألفاظ التي ليس لها اصل في الشرع فتلك لا يجوز تعليق المدح والذم والإثبات والنفي على معناها إلا أن يبين انه يوافق الشرع
(طريق الوصول لعبد الرحمن السعدي ص75 نقلا عن درء تعارض العقل والنقل)
وقال رحمه الله : فأما الأسماء التي لم يدل الشرع على ذم أهلها ولا مدحهم فيحتاج فيها الى مقامين:
(أحدهما ) : بيان المراد بها
(الثاني) : بيان أن أولئك مذمومون في الشريعة (مجموع الفتاوى 4/147)
إذا تقرر هذا ، فان الحكم على الشخص ، أو الطائفة ، بأنها مستحقة للذم في الشرع ، وتعليق هذا الحكم بأسماء محتملة لم ترد في الكتاب كما يقال هذه الأيام (الحزبية) ، وإذا أرادوا ذم شخص ما قالوا هو (حزبي) ، أو ( تكفيري ) ونحو ذلك من الألقاب والأسماء المحتملة لمعان شتى ، ويريد بها المتكلم معنى في نفسه هو مذموم ، أن ذك لا يجوز حتى يبين المتكلم بهذه الأسماء مراده ، ثم بين أيضا أن هذا المعنى مذموم شرعا ، فان كان مذموما باعتبار دون آخر ، ومن وجه دون وجه ، فالواجب أن يفصل فيه ويبين أن ما قام فيمن يذمه هو الوجه المذموم ، وقس على هذا كل الألفاظ المتداولة هذه الأيام بين المتنازعين من المنشغلين بالدعوة والعلم .
وأيضا فانه يجب أن لا يكون قيام المعنى المذموم في الشخص ما ، أو طائفة ، هو الفيصل في الحكم عليه بالذم المطلق فان هذا لا يحل ، فقد يكون ما فيه مما يحمد اكثر بكثير من هذا الوصف المذموم ، وقد يكون في الذام من الأوصاف المذمومة اعظم مما في الآخر ، ولا يكون فيه- أيضا- مما يحمد عليه ما في الآخر ،وهذا كثير جدا في المتنابزين بهذه الألفاظ الحادثة بين طلبة العلم وغيرهم .
ومن أمثلة الألفاظ الشرعية المنضبطة في المدح لفظ الإسلام ، وهو أعظم أسماء المدح بعد الإيمان والإحسان في الشريعة ، والأمور التي تخرج الشخص أو الطائفة من الإسلام ، وتجعله مستحقا لاسم الكفر معلومة في الكتاب والسنة منضبطة بنصوصهما ، وكذلك الإيمان .
ومثله اسم أهل السنه ،فان أهل العلم من أهل السنة يطلقون على الرجل انه خارج من أهل السنة ، وأنه من أهل البدع والأهواء بأمور منضبطة ترجع إلى أدلة الكتاب والسنة ، وان كان يقع في سلب هذا الاسم عن الشخص من الخلاف ما لا يقع مثله في اسم (الإسلام ) و(الإيمان) ، لان هذين الاسمين أظهر وأكثر وأشهر في نصوص القران والسنة المهرة وليس الآخر بمنزلتها.
والمقصود هنا انه لابد أن يكون إطلاق الذم والمدح الشرعيين وفق ضوابط شرعية مضطردة ، تدل عليها نصوص الشرع ، فان الذم الشرعي بغير سلطان من الشرع ، وترك الألفاظ الشرعية إلى ألفاظ مشتبهة من اعظم أسباب الانحراف في باب الأسماء والأحكام ، ومن اعظم أسباب الفرقة والتنازع في تاريخ الأمة .
قال شيخ الإسلام رحمه الله : الأسماء التي يتعلق بها المدح والذم من الدين لا تكون إلا من الأسماء التي انزل الله بها سلطانه ودل عليها الكتاب والسنه والإجماع كالمؤمن والكافر والعالم والجاهل والمقتص والملحد...، فأما الأسماء التي لم يدل الشرع على ذم أهلها ، ولا مدحهم فيحتاج فيها إلى مقامين ،أحدهما بيان المراد بها ، والثاني بيان أن أولئك مذمومون في الشريعة (مجموع الفتاوى 4/146)
*** أما الضابط الثاني :
ـــــــــــــــــــــــ(/1)
فهو أن ما قاله بعض السلف في هذا الباب ، في ذم شخص أو طائفة ، أو جرى عليه عمل جمهورهم مراعاة لأحوال في عصرهم اقتضت أن يحكموا بحكم ما في هذا الباب ، لا ينزل منزلة نصوص الشراع العامة المستغرقة لكل ما يصلح دخوله تحت دلالة العموم .
وانما ينظر في ذلك إلى ما اقترن بالحكم من قرائن ، ويعرض على أدلة الشرع العامة ، وتلاحظ العلل وتحقيق مقاصد الشريعة ، ويستخلص الحكم متوافقا مع ذلك كله ، وفيما يلي تفصيل هذه الجملة :
ذلك أنه ربما يقول الإمام من السلف الكلمة لأحوال تقترن بقوله تستدعى منه موقفا أو كلمة أو حكما ما ، لا يكون موافقا للشرع ، لانه غير معصوم من الخطأ ، أو يكون موافقا للشرع في زمن دون زمن ، وموضع دون موضع ، وحال دون حال.
ومن أمثلة هذا ما ذكره الإمام الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء : الأعمش عن شقيق ، قال : كنا مع حذيفة جلوسا فدخل عبد الله وأبو موسى المسجد فقال أحدهما منافق ، ثم قال : إن أشبه الناس هديا ودلا وسمتا برسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله 2/394، وذكر محققه أن الفتوي رواه في تاريخه 2/771
قال الذهبي رحمه الله : قلت ما ادري ما وجه هذا القول ، سمعه عبد الله بن نمير منه ثم يقول الأعمش : حدثناهم بغضب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فاتخذوا دينا المصدر السابق .
ونعم ما قال الأعمش رحمه الله ، لقد قالها حذيفة صلى الله عليه وسلم حال الغضب في حق صحابي استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على اليمن ودعا له :" اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه وادخله يوم القيامة مدخلا كريما " (رواه البخاري 8/34) وولاه المحدث عمر رضي الله عنه أمة الكوفة والبصرة وغزا وجاهد مع النبي صلى الله عليه وسلم وقال عنه :" انه مؤمن منيب أعطى مزمارا من مزامير ا داود " (رواه مسلم 793) ولقد قال كلمة عظيمة ، وقعت ممن هو أجل من حذيفة ، لمن هو أجل من آبى موسى ، كما قالها عمر رضي الله عنه للبدري حاطب رضي الله عنه ، فالله يغفر لهم ويرحمهم ويرضى عنهم أجمعين .
وان كان مثل هذا الذم يقع لمثل هؤلاء الكمل في بعضهم ، ثم هو لم يقبل ، مراعاة لما عساه أن يكون قد اقترن بمقالاتهم من أحوال نفوسهم البشرية ، التى لا تخلوا من عيب ونقص ، فكيف بغيرهم ممن هو بعدهم ودونهم.
وما احسن أن يعتذر عن مثل هذه المقالات بمثل ما اعتذر الإمام الذهبي رحمه الله عن مقاله الحافظ الإمام محمد بن يحيى الذهلي حين بلغه وفاة احمد قال : ينبغى لكل أهل دار ببغداد أن يقيموا عليه النياحة في دورهم .
قال الذهبي :قلت : تكلم الذهلي بمقتضى الحزن لا بمقتضى الشرع.
فالغضب والحزن وجنوح النفس الى الشدة أسباب تحمل على أن يقول غير المعصوم مقالة لا توافق الشرع ذكر الامام الذهبي أيضا قال : قال يعقوب الفسوي وبلغه قوله يحيى بن معين : من فضل عبد الرحمن – يعني ابن مهدي – على وكيع فعليه اللعنه ، قال : كان غير هذا أشبه بكلام أهل العلم , ومن حاسب نفسه ، لم يقل مثل هذا ، وكيع خير فاضل حافظ (سير أعلام النبلاء9/153)
ولهذا وأشباهه فانه من القواعد المتقررة عند أهل الحديث ، اعتبار شدة المتكلم في جرح وتعديل رواة الحديث ، أو تساهله عند تعارض الجرح والتعديل ، فمنهم من لا يقبل جرحه في التجريح ، لمن اشتهرت عدالته ، والعكس بالعكس.
فهذه أحوال تتعلق بشخصية المتكلم وما يعتور نفسه البشرية من النقص الضروري فيها .
وقد يكون إطلاق اللفظ من بعض السلف في هذا الباب ، مراعاة لظروف في عصره اجتهد بسببها أن يبالغ في ذم بدعة، أو شخص ، ناظرا إلى ما يرجوه من عاقبه صد الناس عنها ، فلا يجوز أن تعامل كنصوص الشريعة العامة أيضا.
ومن ذلك أن يقول القائل منهم : من قال كذا فهو جهمي ، كما قال الامام احمد رحمه الله : من قال إن الله خلق آدم على صورة آدم فهو جهمي ، وأي صورة كانت لآدم عليه السلام ، قبل أن يخلقه (المسائل والرسائل المروية عن الامام احمد في العقيدة 1/357)
وقد قال بهذا الذي عد احمد رحمه الله قائله جهميا ، طائفة من أعلام أهل السنه الراسخين في العلم قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله : لم يكن بين السلف من القرون الثلاثة نزاع في أن الضمير في هذا الحديث عائد إلى الله ، فانه مستفيض من طرق متعددة عن عدد من الصحابة ، وسياق الأحاديث كلها يدل على ذلك ، وهو أيضا مذكور فيما عند أهل الكتابين .
ثم قال : لكن لما انتشرت الجهمية في المائة الثالثة, جعل طائفة الضمير فيه عائدا إلى غير الله حتى نقل ذلك عن طائفة من العلماء المعروفين بالعلم والسنة في عامة أمور هم ، كابي ثور وابن خزيمة الأصفهاني وغيرهم (شرح كتاب التوحيد للغيمان2/69) ومعلوم انه لا يصح أن يطلق على مثل إمام الأئمة ابن خزيمة انه جهمي .(/2)
ونظير هذا ما ذكره الامام الخلال في كتاب السنه عن أئمة العلم كمحمد بن احمد بن واصل ، وأبى داود السجستاني ، واحمد بن اصرم المزني ، وأبى بكر بن أبى طالب ، وإسحاق بن راهوية ، انهم شنعوا على من رد خير مجاهد في الإقعاد على العرش الذي ترويه كتب السنه والتفسير بالمأثور عند قوله تعالى :" عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا " فمنهم من قال من رده فهو جهمي ، ومنهم من قال متهم في دينه ، ومنهم من قال كفر (انظر للخلال /214-247)
ومن المعلوم أن كثيرا من أهل العلم لا يصححون إسناد الخبر ، وقد قال المحدث العلامة ناصر الدين الألباني : وذاك الأثر عنه ليس له طريق معتبر، وذكر انه ثبت عن مجاهد من طريقين أن المقام المحمود هو الشفاعة العظمى يوم القيامة وقال : وخلاصة القول : إن قول مجاهد هذا – وان صح عنه – لا يجوز أن يتخذ دينا وعقده ، ما دام انه شاهد من الكتاب والسنه (مقدمة مختصر العلو للعلى الغفار /ص20)
والظاهر والله اعلم ، أن الأئمة قصدوا الرد على الجهمية ، التي تشغب على الأخبار التي ترويها الثقات في باب الصفات ، فكان بعضهم يبالغ عليهم فتصدر منه مثل هذه الكلمات التي لا يجوز أن تنزل منزلة نصوص الشرع ، فيحكم على كل من ضعف خير مجاهد ، أو لم يقل بما دل عليه انه جهمي.
ومن هذا الباب أيضا أن الامام قد يطلق ألفاظا يريد بها سد ذريعة الخوض فيما يشتبه على عوام الناس الحق فيه ، أو يدخل عليهم أهل البدع منه إلى بدعهم ، فلا يكون ذلك كالنص الشرعي الذي يمنع غيره من تحقيق القول ، إذا زالت العلة ، أو اختلف اجتهادهما .
ومن ذلك مقالة احمد المشهورة : في مسالة تلاوتنا للقران ، فانه رحمه الله ، أطلق القول بان من قال : لفظي بالقران مخلوق فهو جهمي ، ومن قال : غير مخلوق فهو مبتدع ، وبعد موته رحمة الله وقع بين أصحابه وبعضهم ، وبين طوائف من غيرهم فتنة واضطراب بسبب التعلق بالمجمل من كلامه ، فقد تمسك بقوله إن من قال اللفظ مخلوق فهو جهمي ، طوائف من المنتسبين إليه والى السنة (كابي عبد الله بن منده ) و(أبى نصر السجزي)، و(أبى إسماعيل الهروي)، و(أبى الهمداني) ، وغيرهم يقولون لفظنا بالقران غير مخلوق ، ويقولون : إن هذا قول احمد ويكذبون – او منهم من يكذب ـ براوية أبى طالب ويقولون إنها مفتعلة عليه ، أو يقولون : رجع عن ذلك ، كما ذكر أبو نصر السجزي في كتابه الإبانة المشهور ) أنظر مجموع الفتاوى 12/208 ، ورواية أبى طالب فيها الإنكار على من قال لفظي بالقران غير مخلوق.
ثم إن هذه المسالة عظم الخطب فيها بين أهل الحديث ، لما فرق الامام البخاري في هذه المسالة فجاء بالتفصيل المحقق - الذي كان عليه احمد أصلا -، لكن لم يفهم كلامه بعض أهل العلم والحديث ، وهو كما قال ابن القيم : ( التلاوة قراءتنا وتلفظنا بالقرآن ، والمتلو هو القران العزيز المسموع بالآذان .. وهذا قول السلف وأئمة الحديث والسنة ، فهم يميزون بين ما قام بالعبد وما قام بالرب ، والقران عندهم جمعيه كلام الله حروفه ومعانيه ، وأصوات العباد وحركاتهم وأداؤهم ، وتلفظهم كل ذلك مخلوق بائن عن الله ) مختصر الصواعق ( 2/306)
ثم قال : فخفي تفريق البخاري وتمييزه على جماعة من أهل السنة والحديث ، ولم يفهم بعضهم مراده، المصدر السابق ( 2/307ـ309)
وقال : (وتمسكوا بإطلاق احمد ، وإنكاره على من قال لفظي بالقران مخلوق وانه جهمي ) المصدر السابق .
ثم ذكر انه قد تركب من هذا مع الحسد الباطن للبخاري رحمه الله ، فتنة وقعت بين أهل الحديث ، ثم ذكر ابن القيم رحمه الله بعض ما حدث من هجر محمد بن يحيى الذهلى للبخاري ، وانه بالغ حتى قال ومن ذهب بعد مجلسنا هذا إلى مجلس محمد بن إسماعيل ، فاتهوه فانه لا يحضر مجلسه إلا من كان على مذهبه .المصدر السابق
ثم قال ابن القيم : فالبخاري اعلم بهذه المسالة ، وأولي بالصواب فيها من جميع من خالفه ، وكلامه أوضح وامتن من كلام أبى عبد الله ، فان الامام احمد سد الذريعة حيث منع إطلاق لفظ المخلوق نفيا وإثباتا على اللفظ (مختصر الصواعق 2/310)
ثم قال :" والذي قصده احمد أن اللفظ يراد به أمران :
(أحدهما ) : الملفوظ نفسه ، وهو غير مقدور للعبد ، ولا فعل له .
(الثاني ) : التلفظ والأداء له وفعل العبد ، فإطلاق الخلق على اللفظ قد يوهم المعنى الأول ، وهو خطأ ، واطلاق نفي الخلق عليه قد يوهم المعنى الثاني وهو خطأ ، فمنع الاطلاقين ، وأبو عبد الله البخاري ميز وفصل ، واشيع الكلام في ذلك وفرق بين ما قام بالرب وبين ما قام بالعبد ، أوقع المخلوق على تلفظ العباد ، وأصواتهم ، وحركاتهم ، واكسابهم ، ونفي اسم الخلق عن الملفوظ وهو القران .المصدر السابق(/3)
وبسبب دقة هذه المسالة ، وانزال كلام الأئمة المقتدى بهم المجمل على منازله الصحيحة ، وذلك بالنظر إلى القرائن التي احتفت بكلامهم قبل إجراء حكمه على الناس ، حدث كما قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله : (ويقع بسببها بين الأمة من التكفير والتلاعن ما يفرح به الشيطان ، ويغضب له الرحمن ، ويدخل به من فعل ذلك فيما نهى الله عنه من التفرق والاختلاف ، ويخرج عما أمر الله به من الإجماع والائتلاف ) مجموع الفتاوى ( 12/431)
وذلك أن الإمام احمد كان رده على اللفظية النافية : الذين ينفون أن يكون القران الذي نتلوه كلام الله اكثر وأشهر واغلظ لوجهين :
الأول : أن قولهم يفضي إلى زيادة التعطيل والنفي ، وجانب أبدا شر من جانب الإثبات ، فان الرسل جاءوا بالإثبات المفصل والنفي المجمل ... لهذا يقال المعطل أعمى والمشبه أعشى .
الثاني : أن الإمام أحمد إنما ابتلي بالجهمية المعطلة فهم خصومه ، فكن همه منصرفا إلى رد مقالاتهم دون أهل الإثبات ، فإنه لم يكن في ذلك الوقت والمكان من هو داع إلى زيادة في الإثبات ، كما ظهر من كان يدعو إلى زيادة في النفي ، والإنكار يقع بحسب الحاجة ،والبخاري لما ابتلي باللفظية المثبتة أي الذين يثبتون مطلق القول بأن اللفظ غير مخلوق ، ظهر إنكاره عليهم كما في تراجم آخر كتاب الصحيح ، وكما في كتاب ( خلق الأفعال) مع أنه كذب من نقل عنه أنه قال : لفظي بالقرآن مخلوق من جميع أهل الأمصار ) أنظر المصدر السابق ( 12/433)
والشاهد من هذا كله ، أن الإمام أحمد رحمه الله إنما راعى أحوالا كان يعيشها فأطلق ألفاظا تلاءمت معها ، وليس ذلك بمانع أن يتكلم غيره بتفصيل ما أطلق بما يتلاءم مع أحوال أخرى كما فعل البخاري ، ولم يفهم الذين عادوه هذا الذي أراده البخاري ، وتمسكوا بالمجمل من كلام أحمد ، ولاريب أن الذين قاموا عليه وهجروه حتى مات في قرية صغيرة ، وقد امتلأت أسماع كثير من الناس بذمه ، ما عاملوه بما يستحق ، وهو الإمام الرضي عن المؤمنين إلى قيام الساعة ، وعند ربهم إن شاء الله يوم القيامة ،وهم ـ مع ذلك ـ إجلاء علماء ، فالله يغفر لهم جميعا ، ويجمعهم في مستقر رحمته ، إنه هو الرحيم الغفور .
ثم إن شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله ، قد بين أن الإمام أحمد رحمه الله عندما قال : إن ( من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي ) أنه ـ وغيره من الأئمة أ أيضا ـ يريدون أنه وافق الجهمية فيها ، ليتبين ضعف قوله ، لا أنه مثل الجهمية ، ولا أن حكمه حكمهم ، فإن هذا لا يقوله من يعرف ما يقول ، ثم قال ( ولهذا عامة كلام أحمد إنما هو يجهم اللفظية ، ولا يكاد يطلق القول بتكفيرهم كم يطلق القول بتكفير المخلوقية ) مجموع الفتاوى ( 12/206)
وهكذا ـ ليت شعري ـ ينبغي أن يفهم كلام الأئمة ، وينزل منازله الصحيحة ، هذا مع أن الله ما جعل العصمة ، ولاضرب الحجة على عباده في غير نبي الرحمة الذي لا ينطق عن الهوى .
وهذا الذي تقدم أمثله يعتبر بها ، وهي كافيه إن شاء الله لاولي الألباب ، وإلا فالتاريخ فيه كثير من هذا ، ومن نوادر ما ورد عن الأئمة في هذا الباب ، قول أبى ثور الفقيه الذي قال عنه احمد : اعرفه بالسنة منذ خمسين سنه تهذيب التهذيب ( 1/118) ، وانما نقم عليه الرأي كما قال : (لم يبلغني إلا خيرا إلا انه لا يعجبني الكلام الذي يصيرونه في كتبهم ) التهذيب (1/118) .
قال ابو الثور : لا يكون الرجل صاحب سنه حي يكون فيه ثلاث خصال يقول : القران ليس بمخلوق ويقول : الإيمان قول وعمل ، ويزيد وينقص ، ويترك قراءة حمزة مختصر العلو 189 ، وحمزة رحمة الله عليه ، هو أحد الأئمة الثقات السبعة ، انعقد الإجماع على تلقي قراءته بالقبول ، فمثل هذا مبالغة لا يلتفت إليها .
قال شيخ الإسلام : (فالعالم قد يتكلم بالكلمة التى يزل فيها فيفرغ اتباعه فروعا كثيرة) مجموع الفتاوى ( 8/422) .
فهذا فيما يتعلق بألفاظ أطلقت من آحاد من أعيان الأئمة ، أما الجمل الثابتة والقواعد الكلية الجامعة التى تواطأ عليها السلف ، ونقلوها ودل الكتاب والسنة عليها ، فامر لا يتطرق إليه ريب ، ولا يرقى إليه شك عند أهل الأثر المتمسكين بالسنة ، وانما الذي شك فيها وهلك أهل الكلام المذموم أهل الفرقة والأهواء ، وذلك مثل ذم الجهمية بطوائفها الثلاث ، وسائر طوائف المبتدعة ، كالقدرية والرافضة ، والخوارج ، والمرجئة ، ذمهم وذم ما اجتمعوا عليه من أصول الضلال ، واتباع الأهواء، وعد ذلك من اعظم المنكرات في الدين التي يجب بإنكارها بحسب مراتب الإنكار وضوابطه الشرعية .(/4)
ومما يدخل فيما ذكرته في أول هذا الضابط من أن ( ما قاله بعض السلف في هذا الباب ، في ذم شخص أو طائفة ، أو جرى عليه عمل جمهورهم مراعاة لأحوال في عصرهم اقتضت أن يحكموا بحكم ما في هذا الباب ، لا ينزل منزلة نصوص الشارع العامة المستغرقة لكل ما يصلح دخوله في العموم ، وإنما ينظر في ذلك إلى ما اقترن بالحكم من قرائن ويعرض على أدلة الشرع العامة وتلاحظ العلل وتحقيق مقاصد الشريعة ويستخلص الحكم متوافقا مع ذلك كله )
يدخل فيه ، هجر المبتدع ، فينبغي أن يعلم هنا هجر المبتدع بقطيعته ، وكذلك أمر كثير من أئمة السلف بهجر أهل البدع ، ومبالغة بعضهم في ذلك ، هو أيضا خاضع لظروف في عصرهم ، اقتضت أن تكون هذه الوسيلة راجحة المصلحة مؤدية لغرضها وهو إضعاف النمكر ، وردع المبتدع عن بدعته غيره عن الوقوع فيها .
قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله : (وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقتلهم وكثرتهم ، فان المقصود به زجر المهجور ، وتأديبه ، ورجوع العامة عن مثل حاله ، فان كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعا ، وان كان لا المهجور و غيره يرتدع بذلك بل يزيد الشر ، والهاجر ضعيف ، بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته ، لم يشرع الهجر بل يكون التأليف لبعض الناس انفع من الهجر ) مجموع الفتاوى 28/206
وقال : ( وهذا كما أن المشروع في العدو القتال تارة والمهادنة تارة وأخذ الجزية تارة ، وكل ذلك بحسب الأحوال والمصالح وجواب الأئمة كأحمد وغيره في هذا الباب مبني على هذا الأصل) المصدر السابق
وقال الشيخ الإمام عبد الرحمن بن حسن : وليعلم أن المؤمن تجب موالاته ومحبته على ما معه من الإيمان ، ويبغض ويعادي على ما معه من المعاصي ، وهجره مشروع إن كان فيه مصلحة وزجر وردع ، وإلا فليعامل بالتأليف وعدم التنفير والترغيب في الخير برفق ولطف ولين لان الشريعة مبنية على جلب المصالح ودفع المضار والله ولى الهداية .(مجموعة الرسائل والمسائل النجدية(2/135))
ولهذا تجد كثيرا من أئمة العلم ، في العصور للتي تلت العصور الأولى ، لا يسلكون –في الغالب- هذا السبيل لإنكار البدع ، أعنى هجر المبتدع ، لعدم إمكانهم ، أو لعدم جدواها ، أو لترجح مفسدتها على مصلحتها ، ويشبه هذا أيضا ترك العلماء في العصور التي تلت العصور الأولى ، استعمال أسلوب الإعراض عن مجادلتهم ، وعدم الإصغاء إلى شبهاتهم، فان أهل العلم بعد العصور الأولى ، قد وضعوا كتبا في الرد عليهم ، ورد باطلهم ، وجرت بينهم وبين أهل البدع مناظرات ، كما كان يفعل ذلك شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله كثيرا .
وكان رحمة لما آتاه الله من الجمع بين مدلول النقل الصحيح ، ومقتضى الفقه ، والفهم الصريح ، ينوع وسائل معاملة أهل البدع ، فيستعمل في موضع وحال ما يناسبه ، ويراعي تغير الزمان والمكان عند الحكم على الواقعين في البدع ، ويرى انه أحيانا يكونون هم في بعض الأزمنة والمواضع أهل الذود عن الإسلام بل السنة أحيانا ، وذلك إذا كان غيرهم في موضعهم وزمانهم ، اعظم ابتداعا منهم واشد ضررا ، قال رحمه الله عن الاشعرية مثلا : ( وإن كان في كلامهم من الأدلة الصحيحة وموافقة السنة ، مالا يوجد في كلام عامة الطوائف ، فانهم اقرب طوائف أهل الكلام الى السنة والجماعة والحديث ، وهم يعدون من أهل السنة والجماعة عند النظر إلى مثل المعتزلة والرافضة وغيرهم ، بل هم أهل السنة والجماعة في البلاد التى يكون أهل البدع فيها هم المعتزلة والرافضة ونحوهم )نقض التأسيس المطبوع 2/87
ومما يوضح أن معاملة أهل البدع تختلف باختلاف الأحوال ، أن الإمام احمد رحمه الله لما توجه إليه الفتح بن خاقان وزير المتوكل بورقة فيها أسماء القضاة الأئمة ، فقراها الفتح على الامام احمد ، أمر بعزل من يعرف منه شيء من ذلك اويتهم به ، فعزل خلق كثير وهو هو عند المسلمين في ذلك بار راشد متبع لامر الله ورسوله .(مجموع الرسائل والمسائل النجدية 3/233)
والذين أمر الإمام احمد بعزلهم هم من قال بقوله الجهمية ، وإنما فعل ذلك ، لان العلماء غيرهم كثير والناس مستغنون عنهم ليس في عزلهم ضرر اكبر من ضررهم العظيم الشنيع على المسلمين .
أما شيخ الإسلام بن تيميه رحمه الله ، فإنه عندما استفتى في قتل من ظلمه ، وهم ممن امتحنه على مثل ما امتحن عليه الامام احمد ، قال: ففهمت مقصوده – يعني السلطان – إن عنده حنقا شديدا عليهم ،لما خلعوه ، وبايعوا الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير ، فشرعت في مدحهم والثناء عليهم ، وشكرهم ، وان هؤلاء لو ذهبوا لم تجد مثلهم في دولتك ، أما أنا فهم في حل من حقي ومن جهتي وسكنت ما عنده عليهم (العقود الدرية ص 187)
قال في العقود الدرية : فكان القاضي زين الدين ابن مخلوف – قاضي الملكية – يقول بعد ذلك : (ما رأينا أتقى من ابن تيميه ، لم نبق ممكنا في السعي فيه ، ولما قدر علينا عفى عنا ) المصدر السابق(/5)
وانما فعل هذا رحمه الله لان عزلهم سيوقع في ضرر اعظم من بقائهم ، فان اكثر القضاء والعلماء قد شاع فيهم كثير من الأقوال المبتدعة ، فلو عزلوا لاحتاج الناس إلى القضاة والفتيا ، ولاضطربت ديانتهم ، وأحوال شريعتهم الظاهرة ، مما يوجب أنواعا من الفساد في الدين ، اعظم ضررا من تلك الأقوال المبتدعة التي هي محصورة في والئك المتفقهة ، وحتى لو كانوا يدعون إليها ، فهي أقل ضررا أيضا .
وكان شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله يقول : فانه يبني على الأصل الذي قدمناه من انه قد يقترن بالحسنات سيئات ، إما مغفورة واما غير مغفورة ، وقد يتعذر أو يتعسر على السالك سلوك الطريق المشروعة المحضة ، إلا بنوع من المحدث لعدم القائم بالطريق المشروعة علما وعملا ، فإذا لم يحصل النور الصافي ، بان لم يوجد إلا النور الذي ليس بصاف ، وإلا بقي الإنسان في الظلمة ، فلا ينبغي أن يعيب الرجل وينهى عن نور فيه ظلمه إلا إذا حصل نور لا ظلمه فيه ، وإلا فكم ممن عدل عن ذلك يخرج عن النور بالكلية ، إذا خرج غيره عن ذلك ، لما رآه في طريق الناس من الظلمه , وانما قررت هذه القاعدة ليحمل ذم السلف والعلماء للشيء على موضعه (مجموع الفتاوى 10/365)
والمقصود هنا أن معاملة كثير من السلف لاهل البدع بالهجر هو أيضا منوط بأحوال اقترنت بذلك كانت موجودة في عصرهم اقتضت أن تكون هذه الوسيلة محققة لغرض الشارع من أنار المنكر والأمر بالمعروف ولا يجوز أن يطلق القول بها مرسلا عن هذه الحكمة احتجاجا بفعل من فعله من السلف والله أعلم .
*** واما الضابط الثالث :
ــــــــــــــــــــــــ
فهو انه من القواعد المتقررة عند أهل العلم – من أهل السنة - أن العالم لا يحكم عليه بالزلة ، فمن غلبت حسناته سيئاته ، وهبت سيئاته لحسناته ، عن القاسم بن محمد أن رجلا قال :عجبت من عائشة حين كانت تصلي أربعا في السفر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتين ؟ فقال له القاسم بن محمد : (عليك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قل من الناس من لا يعاب ) .
قال أبو عمر بن عبد البر : قول القاسم هذا في عائشة ، يشبه قول سعيد بن المسيب حيث قال : ليس من عالم ولا شريف ولا فضل إلا وفيه عيب ، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه ومن كان فضله اكثر من نقصه ذهب نقصه لفضله ) التمهيد 11/170
وقال الإمام الذهبي رحمه الله : ثم إن الكبير من أئمة العلم ، إذا كثر صوابه ، وعلم تحريه للحق واتسع علمه ، وظهر ذكاؤه ، وعرف صلاحه ، وورعه ، واتباعه ، تغفر له زلته ، ولا نضله ونطرحه وننسى محاسنه ، نعم ولا نقتدي به في بدعته وخطئه ، ونرجوا له التوبة من ذلك ) السير 5/271
وقال رحمه الله : (والكمال عزيز ، وانما يمدح العالم بكثرة ماله من الفضائل ، فلا تدفن المحاسن لورطة ولعله رجع عنها ، وقد يغفر له في استفرغه الوسع في طلب الحق ولا حول ولا قوة إلا بالله ) السير 16/285
وقال ابن تيميه رحمه الله : (لو قدر أن العالم الكثير الفتاوى ، أفتى في عدة مسائل بخلاف سنه الرسول صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه ، وخلاف ما عليه الخلفاء الراشدين ، لم يجز منعه من الفتيا مطلقا بل يبين له خطؤه فيما خالف فيه ، فما زال في كل عصر من أعصار الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء المسلمين من هو كذلك ) مجموع الفتاوى (27/311) .
وقال ابن القيم رحمه الله بعد مناقشة أبى إسماعيل الهروي رحمه الله في بعض مسائل التوبة : (ولا توجب هذه الزلة من شيخ الإسلام إهدار محاسنه وإساءة الظن به فمحله من العلم والإمامة والمعرفة والتقدم في طريق السلوك , المحل الذل لا يجهل وكل أحد فمأخوذ من قوله ومتروك إلا المعصوم صلوات الله وسلامه عليه والكامل من عد خطؤه ) مدارج السالكين (1/198)
وقال ابن تيميه رحمه الله : (وكذلك ما يذكر عن امثال هؤلاء – أي أهل البصرة حيث نشا التصوف – من الاحوال من الزهد والورع والعبادة ، وامثال ذلك قد ينقل فيها من الزيادة على حال الصحابة رضي الله عنهم ، وعلى ما سنه الرسول صلى الله عليه وسلم ، آمر توجب أن يصير الناس طرفين :
· قوم يذمون هؤلاء وينتقصونهم وربما أسرفوا في ذلك .
· وقوم يغلون فيهم ، ويجعلون هذا الطريق من اكمل الطرق وأعلاها .
ثم ذكر أن هذا من جنس اختلاف الناس في الكوفيين (أهل الرأي) فصاروا فيهم كالطرفين المذكورين ، ثم قال : والصواب للمسلم : أن يعلم أن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وخير القرون القرن الذي بعث فيهم ، وان افضل الطرق والسبل إلى الله ما كان عليه هو واصحابه ، ثم قال : وان كثيرا من المؤمنين – المتقين أولياء الله قد لا يحصل لهم من كمال العلم والإيمان ما حصل للصحابة فيتقي الله ما استطاع ويطيق بحسب اجتهاده فلا بد أن يصدر منه خطا – إما في علومه وأقواله ، واما في أعماله وأحواله – ويثابون على طاعتهم ويغفر لهم خطاياهم .(/6)
ثم قال : فمن جعل طريق أحد من العلماء والفقهاء ، أو طريق أحد من العباد والنساك افضل من طريق الصحابة فهو مخطئ ضال مبتدع .
ومن جعل كل اجتهاده في طاعة اخطأ في بعض الأمور مذموما معيبا ممقوتا فهو مخطئ ضال مبتدع) مجموع الفتاوى 19/5
ولو ذهبت تجمع ما اقتضته الطبيعة البشرية في الأئمة من الخطأ ، لبلغ ذلك مبلغا يصعب حصره في الأصول قبل الفروع ، ولا يضر ذلك إن شاء الله قائله ، بل العالم إذا كان معروفا بالسنة في عامة أموره طويت زلاته عند المؤمنين .
ومن أمثلة هذا قول ابن تيميه رحمه الله : ( وأنكر بعضهم أي السلف ، أن يكون المعراج يقظة ، وأنكر بعضهم رؤية محمد ربه ، ولبعضهم في الخلافة والتفصيل كلام معروف ، وكذلك لبعضهم في قتال بعض ولعن بعض واطلاق تكفير بعض أقوال معروفة ) مجموع الفتاوى 12/412
وقال : وكان القاضي شريح ينكر قراءة من قرا (بل عجبتُ) ويقول إن الله لا يعجب ، فبلغ ذلك إبراهيم النخعي ، فقال : إن شريحا شاعر يعجبه علمه ، كان عبد الله افقه منه ، فكان يقول (بل عجبتُ ) ، فهذا قد أنكر قراءة ثابتة ، أنكر صفة دل عليها الكتاب والسنه ، واتفقت الأمة على انه إمام من الأئمة ) المصدر السابق
ومن ذلك قول الامام ابن عبد البر عن مجاهد الامام المفسر صاحب ابن عباس : ولكن قول مجاهد هذا مردود بالسنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأقاويل الصحابة ، وجمهور السلف ، وهو قول عند أهل السنة مهجور ، والذي عليه جماعتهم ما ثبت في ذلك عن نبيهم صلى الله عليه وسلم وليس من العلماء أحد إلا وهو يأخذ من قوله ، ويترك ، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومجاهد وان كان أحد المتقدمين في العلم بتأويل القران ، فان له قولين في التأويل اثنين ، هما مهجوران عند العلماء ، مرغوب عنهما ، هذا ، والآخر قوله في قول الله عز وجل ( عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) ثم ساق قوله : ( يوسع له على العرش فيجلسه معه ) ، والقول الأول هو قوله في قوله تعالى : ( إلى ربها ناظرة ) قال : تنظر الثواب ) .المصدر السابق
وهذا وكيع الإمام المشهور ، قال احمد : وقد سئل إذا اختلف وكيع وعبد الرحمن ( يعني ابن مهدي ) ، يقول من نأخذ : ( يعني اختلفا على سفيان الثوري ) قال : نوافق عبد الرحمن اكثر ، وخاصة في سفيان ، كان معنيا بحديثه ، وعبد الرحمن يسلم من السلف ، ويجتنب شراب المسكر ، وكان لا يرى أن يزرع في أرض الفرات) سير أعلام النبلاء (17/153،154)
قال الذهبي : والظاهر أن وكيعا فيه تشيع يسير ، لا يضر إن شاء الله ) المصدر السابق(14/40)
وقوله يشرب المسكر ، أي النبيذ الذي توسع فيه أهل العراق في ذلك العصر .
واما محمد بن نصر المرزوي الامام الحافظ الذي قال عنه الحاكم : إمام عصره بلا مدافعة في الحديث ، سمع من يحيى التميمي ، وإسحاق بن راهوية ، وابن أبي شيبة وغيرهم ، فقد غلط في مسالة اللفظ بالقران ، ومسألة : الإيمان مخلوق )
قال الذهبي : " ولو أن كلما اخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ مغفورا له ، قمنا عليه , وبدعناه وهجرناه ، لما سلم معنا لا ابن نصر ، ولا ابن منده ، ولا من هو اكبر منهما ، والله هو هادي الخلق الى الحق وهو ارحم الراحمين ، فنعوذ بالله من الهوى والفضاضة .
قال ابن حزم عن محمد بن نصر المرزوي: اعلم الناس من كان اجمعهم للسنن واضبطهم لها , واذكرهم لمعانيها ، أدراهم بصحتها وبما اجمع الناس عليه مما اختلفوا فيه ، قال : وما نعلم هذه الصفة بعد الصحابة ، أتم منها في محمد بن نصر المروزي ، فلو قال قائل ليس لرسول الله صى الله عليه وسلم حديث ، ولا لأصحابه إلا وهو عند محمد بن ناصر لما ابعد عن الصدق .
قال الذهبي : قلت : هذه السعة والإحاطة ما ادعاها ابن حزم لابن نصر إلا بعد إمعان النظر في جماعة تصانيف لابن نصر ، ويمكن ادعاء ذلك لمثل احمد بن حنبل ونظراءه .سير أعلام النبلاء(14/133)
وهذا الإمام النسائي رحمه الله ، قال عنه الذهبي : ولم يكن أحد في راس الثلاث مائة احفظ من النسائي ، هو أحذق بالحديث ، وعلله ، ورجاله ، من مسلم ، ومن أبى داود ، ومن أبى عيسى ، وهو جار في مضمار البخاري ، وأبى زرعه ، إلا أن فيه قليل تشيع ، وانحراف عن خصوم الامام على ، كمعاوية ، وعمرو ، والله يسامحه . سير أعلام النبلاء 14/134
وذكر الذهبي عن أبى عبد الله بن منده بإسناد أن النسائي مر بدمشق في آخر عمره ، فسئل بها عن معاوية ، وما جاء في فضائله ، فقال : لا يرضى رأسا براس حتى يفضل ؟ قال : فمما زالوا يدفعون في حضنيه حتى اخرج من المسجد ثم حمل الى مكة فتوفي بها كذا قال وصوابه إلي الرمله. سير أعلام النبلاء ( 14/132 ).(/7)
وقد غلط الإمام الطحاوي في مواضع من عقيدته كقوله (تعالى عن الحدود والغايات والأركان – الخ ) وليس على هدى السلف مثل هذا النفي في الخبر عن صفات الله ، بل كانوا يكرهون – ومثل غلطته في الإرجاء ، ولم يمنع ذلك من عد قيدته من احسن ما كتب في الاعتقاد ، والثناء عليه بسبها وتدرسها في المعاهد العلمية .
وقال ابن تيميه : ولكن لما انتشرت الجهمية جعل طائفة الضمير فيه عائدا إلى غير الله تعالى – يعنى حديث الصورة –حتى نقل ذلك عن طائفة م العلماء المعروفين بالعلم والسنة في عامة أمورهم ، كابي ثورة وابن خزيمة وأبى الشيخ الأصفهاني وغيرهم ولذلك انكر عليهم أئمة الدين وغيرهم من علماء السنة .شرح كتاب التوحيد لعبد الله الغنيمان (2/69)
وقد جعل الإمام احمد عود الضمير الى غير الله من التجهم وهي عنده من ابلغ ما يكون في الذم .
وهذا الإمام ابن عبد البر غلط في مسالة التبرك قال : وفي الحديث دليل على التبرك بمواضع الأنبياء والصالحين ومقامات ومساكنهم والى هذا قصد عبد الله بن عمر بحديثة هذا والله اعلم التمهيد (13/67) .
ومن ذلك أيضا قول ابن عبد البر الامام : (واما قوله : يضحك الله ، فمعناه يرحم الله عبده عند ذاك ويتلقاه بالروح والرحمة والرافة وهذا مجاز مفهوم ) المصدر السابق (18/345) .
وهذا خلاف ما قرره رحمه الله في غير هذا الموضع من وجوب امرار آيات الصفات ، وأحاديثها على ظاهرها اللائق بالله من غير تأويل .
وقد عد من أغلاط الإمام الذهبي رحمه الله تجويزه ، بل عده من افضل مواضع استجابة الدعاء قبور الصالحين ، وذلك كثير في كتابة سير أعلام النبلاء .
وهذا الإمام الذهبي رحمه الله : قد تكلم في أن علوم هل الجنة تسلب عنهم في الجنة ولا يبقى لهم شعور بشيء منها : وقد تعقبه العلامة الشوكاني في : فتاواه المسماة (الفتح الرباني ) وذكر إجماع أهل الإسلام على أن عقول أهل الجنة تزداد صفاء وادركا لذهاب ما كان يعتريهم في الدنيا – وساق النصوص في ذلك منها قوله تعالى : ( يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين ) التعالم لبكر بن عبد الله أبي زيد ص 88
وقد ذكر ابن القيم أن أهل العلم ، لم يعدوا الغلط في مساله فناء النار من البدع التي ننكر على قائلها ، قال رحمه الله : ورواة هذا الأثر أئمة ثقات كلهم ، والحسن سمعه من بعض التابعين غير منكر له ، فدل هذا على انه كان متداولا بين هؤلاء الأئمة لا ينكرونه ، ثم انه يختار القول بالتوقيت في هذه المسالة ) شفاء الغليل 515ـ 525
فهذه مسألة عظيمة جليلة في العقيدة لا ريب قد غلط فيها أجلة من العلماء ، ولم يبدعوا على هذا الغلط ، رغم كونه من مسائل العقيدة .
ومن أشهر أنصار الإمام محمد بن عبد الوهاب وقد أخذ عنه العلم الشيخ المؤرخ حسين بن غنام قال عنه الشيخ صالح العبود : وقد ألف كتابا سماه ( العقد الثمين في شرح أصول الدين ) بإشارة من الإمام عبد العزيز كما يقول ، بعد وفاة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ولا يزال الكتاب مخطوطا وهو كتاب مفيد ، ولكن في مسألة القرآن سلك فيها مسلك الأشعرية وقد نبه على ذلك تلميذه الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ عقيدة المجدد محمد ابن عبد الوهاب رحمه الله صالح العبود ص 530
وأيضا ، لما كتب محمد بن على بن غريب أحمد أكبر تلامذة الإمام محمد بن عبد الوهاب ردا على عبد الله أفتدي الراوي البغدادي ، لما رد على رسالة كتاب التوحيد للإمام محمد بن عبد الوهاب ، ذكر الإمام محمد بن على بن غريب في رده: فالله تعالى كان ولا مكان ثم خلق المكان ، وهو تعالى كما كان قبل أن يخلق المكان ، قال الشيخ صالح العبود : ومثل هذه العبارة ليست على طريقة السلف في العقيدة فإن المعطلة يقصدون بها : نفي استواء الرب على عرشه استواء حقيقيا يليق بجلاله . المصدر السابق ص 516
وهذا الإمام الشوكاني يذهب مذهب الواقفية في مسألة خلق القرآن ، ويري الاكتفاء بقول القائل ( القرآن كلام الله ) ، وقال عن أهل العلم الذين كانوا زمن الفتنة المأمونية ، والمعتصمية ، والواثقية ، يقولون مقالة إمام أهل السنة أحمد بن حنبل ، وهم أهل السنة والحديث ، قال عنهم : وليتهم لم يجاوزوا حد واحد الوقف ، وإرجاع العلم إلى علام الغيوب ، فإنه لم يسمع من السلف الصالح ، من الصحابة والتابعين ، ومن بعدهم إلى وقت قيام المحنة ، وظهور القول في المسألة شئ من الكلام ، ولا نقل عنهم كلمة في ذلك ، فكان الامتناع من الإجابة إلى مادعوا إليه ، والتمسك بأذيال الوقف ، وإرجاع علم ذلك إلى عالمه ، هو الطريقة المثلى ، وفيه السلامة والخلوص من تكفير طوائف من عباد الله ، والأمر لله سبحانه ( فتح القدير 3/ 397)(/8)
ومن المعلوم عن أئمة السلف والسنة القول بأن القرآن كلام الله غير مخلوق ، وأنهم لا يرون الوقف ويذمون الواقفية ، وقد حكى الإمام اللالكائي عن خمسمائة وخمسين نفسا من علماء الأمة وسلفها، كلهم يقولون القرآن كلام الله غير مخلوق ، وقد رد الإمام الدارمي على الواقفية في كتابه ( الرد على الجهمية ) ( انظر ص 342 – 345 ) كما فعل ذلك أيضا الإمام اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة ( 2 / 323 – 329)
وللشوكاني أيضا في تفسيره مواضع يؤول فيها الصفات الخبرية كالمجيء انظر كلامه عند قوله تعالى : ( وجاء ربك والملك صفا صفا ) ( الفجر /22)
وكذا في صفة الوجه انظر تفسره عند قوله تعالى : ( كل شيء هالك إلا وجهه ) وعند قوله تعالى : ( ويبقى وجه ربك ) ..
ولا ريب أنه إمام من أئمة الدين ، وأن هذه المواضع لا يحكم بها عليه بالخروج من السنة ، لا سيما وله في رسالته ( التحف في مذاهب السلف ) كلام سديد في الانتصار المذهب السلف ، لكنه لم يلتزم ذلك في جميع كتبه ، والمقصود هنا أنه لا يحكم عليه بهذه الزلات.
وهذا الإمام الصنعاني المحقق يذهب في باب صفات الله إلى أن القول بتأويل الأحاديث الواردة فيها ممكن ، وإن كان الأحوط عدم التأويل ، ومن المعلوم أن الأمر أعظم من مجرد الاحتياط ، بل هو الحق الذي أجمع عليه السلف وتأويلها من أشنع البدع المنكرة ، ولا يصح أن يقال أنه ممكن ، ذكر ذلك في ( إجابة السائل شرح بغية الآمل ) في أصول الفقه ص 114
لكنها زلة من إمام لا تنقص من قدره إن شاء الله تعالى .
وهذه الأمثلة في أغلاط تتعلق بالعقيدة ، وأما الفروع فالخطأ فيها أكثر ، لكنه أيسر ، وسبيلها أن تطوى لا تروي ، مادامت ليست في أصول العقيدة ، إلا للتنبيه على الخطأ لئلا يتابع عليه العالم في الخطأ ، فإن زلة العالم زلة عالم ، ولا يجوز أن تهدر محاسن المخطئ ، ولا يحكم عليه بالزلة .
وما أحسن مقالة الشيخ طاهر الجزائري رحمه الله ، وهو على فراش الموت عدوا رجالكم ، واغفروا لهم بعض زلاتهم ، وعضوا عليهم بالنواجذ ، لتستفيد الأمة منهم ، ولا تنفروهم لئلا يزهدوا في خدمتكم ( التعالم لبكر أبو زيد ص 91)
ولولا أن ما تقدم نقله من الأمثلة عند أهل العلم مذكورة ، وفي كتبهم المتداولة منشورة ، لما ذكرتها ها هنا ، وليتبين للقارئ الكريم لماذا قرر العلماء القاعدة المذكورة التي تقدمت قبل هذه النقول ، أعني أن العالم لا يحكم عليه بالزلة ، ومن كلام شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله أنه لو كان المخطأ في المسائل العلمية غير معذور لهلك أكثر فضلاء الأمة ، أو كلام نحو هذا .
ولهذا فقد تقرر عند أهل العلم من أهل السنة والجماعة ، أن الحكم على الشخص بالخروج من جملة أهل السنة والجماعة ، والحكم عليه بأنه من أهل الأهواء والبدع ، لا يجوز إلا إن خالف أهل السنة والجماعة في أصل من أصولهم ، ووافق أحد الفرق الضالة فيما يقابله عندهم .
أما إن كان موافقا لأهل السنة في جملة ما يقولون ، وفي عامة أقواله ، ثم زل في مسألة ليست من أصول العقيدة ، فوافق فيها قول طائفة من أهل البدع ، فإنه لا يخرج من جملة أهل السنة والجماعة .
وينبغي أن يعلم أن أصول أهل السنة بعد تجريد التوحيد بأنواعه لله وحده ، وتجريد الإتباع للنبي وعدم معارضة الكتاب والسنة والإجماع بشيء ، لا عقل ، ولا رأي ، ولا ذوق ، ولا سياسة ولا قياس ، ،ولا قول أحد كائنا من كان .
أن أصولهم التي تميزوا بها عن سائر الفرق ترجع إلى أربعة أبواب:
الأول : باب الأسماء والصفات .
الثاني : باب القضاء والقدر.
الثالث : الأسماء والأحكام والوعد والوعيد.
الرابع : الصحابة والإمامة والخلافة ونحو ذلك.
والفرق المخالفة لهم في الأبواب المتقدمة ، ترجع إلى خمسة رؤوس ، الخوارج ، والشيعة ، والمرجئة والقدرية ، والجهنمية .
وأهل السنة هم الوسط في أهل الإسلام ، قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله:
وأما أهل السنة فهم أقل اختلافا في أصول دينهم من سائر الطوائف ، وهم أقرب إلى كل طائفة من كل طائفة إلى ضدها، فهم الوسط في أهل الإسلام كما أن أهل الإسلام ، هم الوسط في أهل الملل : هم وسط في باب صفات الله بين أهل التعطيل وأهل التمثيل، وقال النبي (( خير الأمور أوسطها)) وحينئذ أهل السنة والجماعة خير الفرق ، وفي باب القدر بين أهل التكذيب به وأهل الاحتجاج به ، وفي باب الأسماء والأحكام بين الوعيدية والمرجئة ، وفي باب الصحابة بين الغلاة والجفاة . منهاج السنة ( 3/ 469)
فمن وافق أهل هذه الأهواء في أصل من أصولهم نسب إليهم ، وخرج من السنة ، أما من يقول فيها بمقالة أهل السنة في جميع الأصول المتقدمة ، ثم قد يخطأ في فرع من فروعها ، كالأمثلة التي تقدمت ، أو في بدعة دون ذلك ، فلا يجوز إهدار ما وافق فيه أهل السنة من تلك الأصول العظيمة ، وقصر النظر إلى ذلك الخطأ ، ثم الحكم عليه بالخروج من أهل السنة .(/9)
قال شارح الطحاوية رحمه الله : وهذا أمر متيقن به في طوائف كثيرة وأئمة في العلم والدين وفيهم بعض مقالات الجهمية أو المرجئة أو القدرية أو الشيعة أو الخوارج ، ولكن الأئمة في العلم والدين لا يكون قائمين بجملة تلك البدعة ، بل بفرع من فروعها ، ولهذا انتحل أهل هذه الأهواء لطوائف من السلف المشاهير ( ص / 439)
ولهذا كان الإمام أحمد رحمه الله إمام أهل السنة ، يتهيب إخراج الناس من السنة مالهم يوافق الشخص أهل البدع في أصولهم .
وفي كتاب السنة للخلال : قال أبو جعفر : فقلت يا أبا عبد الله من قال أبو بكر وعمر هو عندك من أهل السنة ؟ قال : لا توقفني هكذا ، كيف نصنع بأهل الكوفة ، قال أبو جعفر وحدثني عنه أبو السري عبدوس بن عبد الواحد قال : إ:خراج الناس من السنة شديد ( ص / 373 )
***وأما الضابط الرابع :
ــــــــــــــــــــــ
فهو أنه حتى لو حكم على الشخص بالبدعة ، وعوقب بالهجر ، أو غيره من باب النهي عن المنكر ، فإن هذا لا يلزم منه أنه مؤاخذ في الآخرة آثم قطعا ، فالمخطئ في المسائل العلمية ، إذا كان مجتهدا قد استفرغ الوسع في التوصل إلى الحق فأخطأ ، فهو معذور إن شاء الله كالمسائل العملية.
قال شيخ الإسلام : فمن كان من المؤمنين مجتهدا في طلب الحق فأخطأ ، فإن الله سبحانه وتعالى يغفر خطأة كائنا من كان ، سواء في المسائل النظرية أو العملية ، هذا الذي عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ( المسائل الماردينية ص 66 )
وقال : (وهذه حال أهل الاجتهاد والنظر والاستدلال في الأصول والفروع ، ولم يفرق أحد من السلف والأئمة بين أصول وفروع ، بل جعل الدين قسمين : أصول وفروع ، لم يكن معروفا في الصحابة والتابعين ، ولم يقل أحد من السلف من الصحابة والتابعين ، أن المجتهد الذي استفرغ وسعه في طلب الحق ، يأثم لا في الأصول ولا في الفروع ، ولكن هذا التفريق ظهر من جهة المعتزلة ، وأدخله في أصول الفقه من نقل ذلك عنهم ، وحكوا عن عبيد الله بن الحسن العنبري أنه قال : كل مجتهد مصيب ومراده أنه لا يأثم ، وهذا قول عامة الأئمة كأبي حنيفة والشافعي وغيرهما ، ولهذا يقبلون شهادة أهل الأهواء ويصلون خلفهم ومن ردها كما لك وأحمد فليس مستلزما لإثمهما . لكن المقصود إنكار المنكر وهجر من أظهر البدعة ، فإذا هجر ولم يصل خلفه ولم تقبل شهادته ، كان ذلك منعا له من إظهار البدعة ( مجموع الفتاوى 13/ 125)
وقد استدل لهذا القول الذي نسبه إلى عامة الأئمة وهو إبطال تقسيم مسائل الدين إلى أصول وفروع ، استدل له ، بنقض الفروق التي ذكرها من قسم هذا التقسيم :
وأولها : أن الأصول هي العلمية الاعتقادية التي فيها العلم فقط، والفروع هي العملية التي فيها العمل ، ونقضه أن من العمليات ما يكفر جاحده بالاتفاق كالصلوات الخمس والزكاة وتحريم الزنا ومن العلميات، ما لا يأثم المتنازعون فيه كتنازع الصحابة هل رأى محمد ربه ونحو ذلك .
والثاني من الفروق : أن الأصول ما عليها دليل قطعي ، والفروع ما ليس عليها دليل قطعي ، ونقضه بأن كثيرا من العمليات عليها دليل قطعي، وكثيرا من العلميات ليس عليها دليل قطعي ، ثم إن كون المسألة قطعية أو ظنية هو أمر إضافي بحسب ما وصل الى الإنسان من الأدلة وقدرته على الاستدلال ، وقوة الذهن وذكاءه ، وليس القطع أو الظن وصفا ملازما للقول في نفسه دائما .
والثالث : أن الأصول هي المسائل المعلومة بالعقل ، والفروع هي المعلومات بالشرع ، ونقضه بأن الحكم على المخطئ بالإثم ، أو الكفر أو الفسق ، هو حكم شرعي ، فما ذكر تموه بالضد أولى .
وإذا بطل هذا التقسيم ، توجه الاستدلال بعموم الأدلة الدالة على أن المخطئ المجتهد الذي استفرغ وسعه لطلب الحق معذور .
ثم قال شيخ الإسلام : (وهذا فصل الخطاب في هذا الباب ، فالمجتهد المستدل من إمام وحاكم وعالم وناظر ومفتي ، وغير ذلك إذا اجتهد واستدل ، فاتقي الله ما استطاع كان هذا هو الذي كلفه الله إياه ) مجموع الفتاوى 19/216 )
وقال : (وإذا ثبت بالكتاب المفسر بالسنة أن الله قد غفر لهذه الأمة الخطأ والنسيان ، فهذا عام عموما محفوظا ، وليس في الدلالة الشرعية ما يوجب أن الله يعذب من هذه الأمة مخطئا على خطئة، وإن عذب المخطئ من غير هذه الأمة ) ( مجموع الفتاوى 13/490 )
ولهذا فإنه لا يلزم من قول النبي صلى الله عليه وسلم (( كلها في النار إلا واحدة )) في حديث الفرق المشهور أن يحكم على كل من حكم عليه في الدنيا أنه من الفرق الضالة بدخول النار ، كسائر أهل الوعيد ، ومن المعلوم أن الوعيد قد يرتفع عن العبد لأسباب وأن منها الجهل .(/10)
قال شيخ الإسلام رحمه الله : (فإن المنازع قد يكون مجتهدا مخطئا يغفر الله خطأه ، وقد لا يكون بلغه في ذلك من العلم ما تقوم به عليه الحجة ، وقد يكون له من الحسنات ما يمحو الله به سيئاته ، وإذا كانت ألفاظ الوعيد المتناولة له لا يجب أن يدخل فيها المتأول ، وذو الحسنات الماحية ، والمغفور له، وغير ذلك فهذا أولى ، بل موجب هذا الكلام أن من اعتقد ذلك نجا في هذا الاعتقاد ، ومن اعتقد ضده فقد يكون ناجيا ، وقد لا يكون ناجيا ، كما يقال من صمت نجا) ( مجموع الفتاوى 3 / 179)
وقوله رحمه الله : وقد يكون له من الحسنات ما يمحو الله به سيئاته تنبيه على :
***الضابط الخامس وهو :
ــــــــــــــــــــــ
أنه يجب عند الحكم على الأشخاص والطوائف والجماعات، موازنة ما فيهم من بدعة وخطأ ، مع فيهم من سنة وصواب .
قال تعالى : ( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين ) ( الأنبياء : 47 )
فقد جعل الله تعالى ذكر الحسنة وإن كانت يسيرة من الميزان القسط ، وقد أمر الله بالقسط في القرآن في مواضع كثيرة ، وأثنى على المقسطين ، قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ) ( المائدة / 80)
وقال : ( كونوا قوامين بالقسط ) وأمر بالعدل فقال : ( ولا يجر منكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ) ، والعدل هو القسط.
وفي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم : (( إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل ، وكلتا يديه يمين : الذي يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا )) ( مسلم 1827)
ومن أجل هذا التوجيه الرباني ، والإرشاد النبوي ، لم يزل علماء الإسلام يراعون عند الحكم على المخالف موازنة ما فيه من خير وسنة مع ما قد يكون فيه من شر بدعة ، بل قد حكى شيخ الإسلام ابن تيميه عن أهل السنة قاطبة هذه الخصلة الحميدة ، قال رحمه الله : (قلت قد ذم أهل العلم والإيمان من أئمة العلم والدين من جميع الطوائف من خرج عما جاء به الرسول ، في الأقوال والأعمال باطنا أو ظاهرا ومدحهم هو لمن وافق ما جاء به الرسول ، ومن كان موافقا من وجه ، ومخالفا من وجه، كالعاصي الذي يعلم أنه عاصي ، فهو ممدوح من جهة موافقته ، مذموم من جهة مخالفته .
وهذا مذهب سلف الأمة وأئمتها من الصحابة ومن سلك سبيلهم في مسائل الأسماء والأحكام ، والخلاف فيها أول خلاف حدث في مسائل الأصول ، حيث كفرت الخوارج بالذنب وجعلوا صاحب الكبيرة كافرا مخلدا في النار ، ووافقتهم المعتزلة على زوال جميع إيمانه وإسلامه وعلى خلوده في النار، لكن نازعوهم في الاسم فلم يسموه كافرا ، بل قالوا هو فاسقا لا مؤمن ولا مسلم ولا كافر فأنزلوه منزلة بين المنزلتين، فهم وإن كانوا في الاسم إلى السنة أقرب ، فهم في الحكم في الآخرة مع الخوارج .
وأصل هؤلاء أنهم ظنوا أن الشخص الواحد ، لا يكون مستحقا للثواب والعقاب والوعد والوعيد والحمد والذم ، بل إما لهذا وإما لهذا فأحبطوا جميع حسناته بالكبيرة التي فعلها ) ( شرح العقيدة الإصفهانية ص 138 )
ولما كان المسلم عند أهل السنة والجماعة ، قد يجتمع فيه شعب من الإيمان ، وأخرى من النفاق والمعاصي والشرك الأصغر ، فإنه يجب أن يراعي عند الحكم عليه ، وموالاته أو معاداته ، يجب أن يراعى اجتماع هذا وهذا فيه .
قال الإمام عبد الرحمن حسن بن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله : وليعلم أن المؤمن تجب موالاته ومحبته على ما معه من الإيمان ويبغض ويعادى على ما معه من المعاصي ( مجموعة الرسائل النجدية 2 / 135 )
وقال الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب : (فإذا تحققتم الخطأ بينتموه ، ولم تهدروا جميع المحاسن لأجل مسألة أو مائة أو مائتين أخطأت فيهن، فإنني لا أدعي العصمة) ( تاريخ نجد 2 / 161 )
وقال الإمام أبو حاتم بن حبان : (لسنا ممن يوهم الرعاع ما لا يستحقه ولا ممن يحيف بالقدح في إنسان وإن كان لنا مخالفا ، بل نعطي كل شيخ حظه مما كان فيه ، ونقول في كل إنسان ما كان يستحقه من العدالة والجرح) ( الثقات 7 / 646 )
ولهذا كله يذكر علماء الإسلام قديما وحديثا محاسن قوم ، وقعوا في بدع مع بيان خطئهم ، ومن أحسن الأمثلة على هذا ، جواب لأبناء الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله ، على سؤال عن الغزالي وكتابه الإحياء ، جاء فيه : الجواب ( أبو حامد ) رحمه الله كما قال فيه بعض أئمة الإسلام : تجد أبا حامد مع ماله من العلم ، والفقه ، والتصوف ، والكلام ، والأصول ، وغير ذلك ، مع الزهد والعبادة وحسن القصد وتبحره في العلوم الإسلامية .(/11)
ثم ذكر في الجواب ما أخطأ فيه أبو حامد رحمه الله ثم جاء فيه : ولهذا كان أبو عمرو بن الصلاح يقول فيما رأيت بخطه : أبو حامد كثر القول فيه ومنه ، فأما هذه الكتب ، يعني المخالفة للحق ، فلا يلتفت إليها ، وأما الرجل فيسكت عنه ، وبفوض أمره إلى الله ، ومقصوده أنه لا يذكر بسوء ، لأن عفو الله عن الناسي والمخطئ وتوبة المذنب ، تأتي على كل ذنب ، ولأن مغفرة الله بالحساب منه ومن غيره وتكفيره الذنوب بالمصائب ، تأتي على محقق الذنوب فلا يقدم الإنسان على انتفاء ذلك في حق معين إلا بيصيرة ، لا سيما مع كثرة الإحسان ، والعلم الصحيح ، والعمل الصالح ، والقصد الحسن .
ثم جاء في الجواب : وأما كتابه الإحياء فمنه ما هو مردود عليه ، ومنه ما هو مقبول ، ومنه ما هو متنازع فيه ، وفيه فوائد كثيرة لكن فيه موارد مذمومة .
ثم ذكر في الجواب أنه تأثر بالفلسفة ، ووقع في أغاليط الصوفية ، وأورد الأحاديث الموضوعة ، وغير ذلك.
وختم الجواب بهذه العبارة الحكيمة : وفيما ذكرنا يتبين لك حال هذا الرجل ، وحال كتابه في إحياء علوم الدين ، وهذا غاية ما نعتقده فيه ، لا نرفعه فوق منزلته فعل الغالين ولا نضعه من درجته ، كما وضعه بعض المقصرين ، فإن من الناس من يغلو فيه ، وفي كلامه الغلو العظيم ، ومنهم من يذمه ويهدر محاسنه ويرى تحريق كتابه ، وسمعنا أن منهم من يقول : ليس هذا إحياء علوم الدين بل إمامته علوم الدين ، والصراط المستقيم حسنة بين سيئتين وهدى بين ضلالتين ( الدرر السنية 11 / 189 )
وهذا الذي ذكره أبناء الإمام المجدد رحمه الله ، من المنهج الحق المعتدل في الحكم على المخالفين ، إنما استقوه من مدرسة والدهم الإمام المجدد ، الذي هو أيضا استقاه من مدرسة شيخ الإسلام المجدد ابن تيميه رحمه الله .
ومن أمثلة كلامه الكثير الذي يدل على هذا النهج ، أعني شيخ الإسلام ابن تيميه ، قوله عن الأشعرية : (ثمن إنه ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساع مشكورة ، وحسنات مبرورة ، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع ، والانتصار لكثير من أهل السنة والدين ، ما لا يخفى على من عرف أحوالهم ، وتكلم فيهم بعلم ، وصدق ، وعدل ، وإنصاف، لكن لما التبس عليهم هذا الأصل المأخوذ ابتداء من المعتزلة ، وهم فضلاء عقلاء احتاجوا إلى طرده والتزام لوازمه ، فلزمهم بسبب ذلك : من الأقوال ما أنكره المسلمون من أهل العلم ، والدين ، وصار الناس بسبب ذلك ، منهم من يعظمهم لما لهم من المحاسن والفضائل ، ومنهم من يذمهم لما وقع في كلامهم من البدع والباطل ، وخير الأمور أوساطها ، وهذا ليس مخصوصا بهؤلاء ، بل مثل هذا وقع لطوائف من أهل العلم ، والدين ، والله تعالى يتقبل من جميع عبادة المؤمنين الحسنات ، ويتجاوز لهم عن السيئات : ( ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقوانا بالإيمان ، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم ) ( درء التعارض 2 / 102 ـ 103 )
ولهذا كله فإنه ينبغي ، إذا كثرت محاسن المرء ، التنويه بها ، وحسن الاعتذار عن خطئه عند الحاجة إلى بيانه ، حتى لو كان خطؤه في أمور جليلة ، إذا كان كثير الصواب ، حسن القصد ، معروفا بالعلم والفضل .
ومن أمثلة على هذا : رد العلامة حمد بن عتيق على أخطاء تفسير العلامة صديق حسن خان ، فإنه قال فيه : ( وبعد ، وصل إلينا التفسير فرأينا أمرا عجبا، ما كنا نظن أن الزمان يسمح بمثله في عصرنا
ثم ذكر أنه لم يتمكن إلا من مطالعة بعضه بسبب الحج ، وأنه وجد فيه مواضع تحتاج إلى تحقيق ، وقال : وظننت أن لذلك سببين : أحدهما أنه له يحصل منكم ، إمعان نظر في هذا الكتاب بعد تمامه ، وذكر الثاني فقال : والثاني أن ظاهر الصنيع أنك أحسنت الظن ببعض المتكلمين ، وأخذت من عباراتهم ، بعضا بلفظه ، وبعضا بمعناه ، فدخل عليك شيء من ذلك ، لم تمعن النظر فيها ، ولهم عبارات مزخرفة تتضمن الداء العضال ، وما دخل عليك من ذلك مغفور إن شاء الله ، بحسن القصد ، واعتماد الحق ،وتحري الصدق ، والعدل ، وهو قليل بالنسبة الى ما وقع فيه كثير ممن صنف في التفسير وغيره .
ثم ذكر بعض المواضع التي استدركها على تفسير صديق حسن خان وهي مواضع تتعلق بالعقيدة والصفات الإلهية . ( انظر الدرر السنية 3 / 11 ـ 12 )
فهذا مثال جيد ، وينبغي أن يحتذي به من يتعقب على من أخطأ في العلم، إذا كان له محاسن يشكر عليها ، أو علم وجهاد يحمد عليه .
ومما ينبغي التنويه به هنا ، أن العمل يكون أحيانا أجل من العلم ، والخطأ فيه ربما يكون أعظم من الخطأ في العلم ، ولهذا يجب عند الحكم على الشخص النظر إلى عمله ، وذكر محاسنه ، فربما كان ما أصاب فيه من العمل ، أعظم مما أخطأ فيه من العلم .(/12)
وهذا الأمر يغفل عنه كثر من المنشغلين بالعلم ، المعرضين عن الاعتناء بالعمل والعبادة، وذلك لأن نفوسهم تعودت على العلم ، فتجد أحدهم يعظم الخطأ في مسألة من العلم دقيقة ، ولا يرفع رأسا للتقصير في جليل مسائل العمل ، وهذا خطأ بلا ريب ، ولهذا تجد أحدهم يؤاخذ المخالف على خطأ في العلم هو مغمور في كثرة وحسن عمله ، وجهاده ، لظنه الباطل أن العلم أجل من العمل مطلقا ، وليس بصحيح ، فإنه وإن كان جنس العلم أجل من العمل ، إلا أن في العمل ما هو أجل وأعظم من كثير من مسائل العلم لاسيما التي ليس تحتها عمل .
قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله : (وأصل هذا ما قد ذكرته في غير هذا الموضع : أن المسائل الخبرية قد تكون بمنزلة المسائل العملية ، وإن سميت تلك ( مسائل أصول ) وهذه ( مسائل فروع ) فإن هذه تسمية محدثة ، قسمها طائفة من الفقهاء والمتكلمين ، وهو على المتكلمين والأصوليين ، أغلب لا سيما إذا تكلموا في مسائل التصويب والتخطئة .
وأما جمهور الفقهاء المحققين والصوفية فعندهم أن الأعمال أهم وآكد من مسائل الأقوال المتنازع فيها ، فإن الفقهاء كلامهم إنما هو فيها ، وكثيرا ما يكرهون الكلام في كل مسألة ليس فيها عمل . كما يقوله مالك وغيره من أهل المدينة ، بل الحق أن الجليل من كل واحد من الصنفين ( مسائل أصول ) والدقيق ( مسائل فروع ) ثم قال : وقد يكون الإقرار بالأحكام العملية أوجب من الإقرار بالقضيا القولبة بل هذا هو الغالب، فإن القضايا القولبة يكفي فيها الإقرار بالجمل ، وهو الإيمان بالله وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، والبعث بعد الموت ، والإيمان بالقدر خيره وشره ، و وأما الأعمال الواجبة فلا بد من معرفتها على التفصيل ، لأن العمل بها لا يمكن إلا بعد معرفتها مفصلة ، ولهذا تقر الأمة من يفصلها على الإطلاق وهم الفقهاء ، وإن كان قد ينكر على من يتكلم في تفصيل الجمل القولية ، للحاجة الداعية إلى تفصيل الأعمال الواجبة ، وعدم الحاجة إلى تفصيل الجمل التي وجب الإيمان بها مجملة .
ثم قال وهو موضع مهم : فالمخطئ قد يكون معفوا عنه ، وقد يكون مذنبا ، وقد يكون فاسقا ، وقد يكون كالمخطئ في الأحكام العملية سواء ، لكن تلك لكثرة فروعها والحاجة إلى تفريعها اطمأنت القلوب بوقوع التنازع فيها والاختلاف بخلاف هذه ) ( 6 / 56/58)
وإذا كان تقسيم العلم مطلقا إلي أصول ، والعمل إلى فروع ، وجعل هذا التقسيم دليلا على أن المخطئ في العلم مخطئ في الأصول ، والمخطئ في العمل مخطئ في فروع الدين ، هكذا على إطلاقه ، وأن الخطأ في أصول الدين بهذا المفهوم أشنع من الخطأ في فروعه ، بهذا المفهوم على الإطلاق ، إنما هو تقسيم محدث ، وقد ترتب عليه كثير من الظلم والجهل على عباد لله ، من أهل الصلاح والخير والجهاد .
فإنه يشبهه من وجه ، تقسيم الدين إلى عقيدة ، وإلى فروع هي العمليات ، وجعل الخطأ في مسائل العقيدة أعظم من الخطأ في العمليات مطلقا ، فإن هذا التقسيم ليس له أصل في الكتاب والسنة ولا اسم العقيدة هو من أسماء القرآن والسنة ، بل الاسم الشرعي هو الإيمان ، ومعلوم أن الإيمان عند أهل السنة ، قول وعمل ، وأن زوال جنس العمل بالكلية يدل على عدم الإيمان ، وأكثر شعب الإيمان إنما هي شعب عملية ، كما أن العمل هو من أعظم أسباب دخول الجنة ، ونيل درجاتها العليا ، وهو من أعظم ما ينجي صاحبه من عذاب القبر ، وعذاب النار ، وما ورد من الأحاديث في ذكر ذلك ، أكثر من أن يحصر في مثل هذا الموضع ، واتفق علماء الأمة على أن المسلم يسعه للنجاة من النار الإيمان المجمل كما قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله : فإن القضايا القولية يكفي فيها الإقرار بالجمل وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والإيمان بالقدر خيره وشره ( ص 6 / 57 ) وأما العمل فلا بد له فيه من معرفة التفصيل وتكرار فعله والصبر عليه حتى يبلغ العبد أجله .
ولهذا لم يزل أهل العلم ، عندما يعدون محاسن الرجل ، يذكرون كثرة عمله ، وصبره وجلده على فضائل الأعمال ويفضلونه بهذا .
هذا ما لم يكن له من وجه آخر من البدع المغلظة ، والأقوال المخالفة ، ما يترجع به ذمه .
والمقصود أن الخطأ فيما يسمى هذه الأيام ( بالعقيدة ) ، قد يكون أهون من الخطأ في العمل ، ولهذا يجب النظر إلى محاسن عمل الشخص ، عند الحكم عليه وإن وجد منه خطأ في العقيدة ، وتذكر محاسن عمله وينصف في الحكم عليه ، هذا مع أنه قد يكون له أيضا ، من الموافقة للاعتقاد الصحيح في أكثر أموره فلا يغفل هذا أيضا ، ويكون الحكم عليه بهذا المجموع كله علمه ، وعمله ، ما أصاب فيهما ، وما أخطأ .(/13)
ولا يعني هذا التهوين من شأن العقيدة والعلم فإن العلم أصل العمل وأساسه ، والعقيدة قبل كل شيء ، والانحراف فيها أشنع في الغالب من الانحراف العملي ، ولهذا جاء عن السلف أن البدعة أحب الى إبليس من المعصية ، لكن هذا كله باعتبار الجنس ، أما عند التفصيل ، فلا بد من مراعاة تفاضل بعض العمل على بعض العلم .
وبهذا يتبين أن من يحكم على الشخص بالذم المطلق لمجرد أنه أخطأ في مسألة في العقيدة ، ويجعل هذا وحده موجبا لاستحلال عرضه ، وإهدار محاسنه ، وتفضيل غيره عليه ، ممن ليس له مثل خطئه، لكنه مع ذلك من أهل التقصير في العمل الصالح ، مع قله الورع والخوض في الحرام ، بل قد يكون من الظالمين الفاسقين ، أن هذا الحاكم قد حكم بالجور ، وهو متعلق بمجمل من القول ، لا يغني من الحق شيئا ، مما ينادي عليه بأنه عري عن تحقيق العلم .
*** الضابط السادس:
ــــــــــــــــــ
يجب في الحكم على من ينتمون إلى نسبة تجمعهم ، وهي ليست من النسب المذمومة أو المحمودة مطلقا ، كالنسبة إلى المذاهب الفقهية ، والتصوف ، وكما تنتسب بعض الجماعات الإسلامية المعاصرة إلى نسب ترجع إلى أسماء شرعية ، كالإخوان أو الأنصار ونحو ذلك ، يجب التفصيل في الحكم على من يدخلون تحت هذه النسب إذا كانوا ـ كما هو الحال الواقع ـ مختلفين في أحوالهم ، وأعمالهم ، واعتقاداتهم ، ولا يجوز الحكم عليهم بحكم واحد مطلقا ذما أو مدحا .
ومن الأمثلة على هذا ، المنتمون إلى المذاهب الفقهية قديما ، وقد كانت طوائف لها أوقافها، ومدارسها ، وعلمائها ، بل ومحاريبها في الصلاة، ثم الحكم عليهم يتنوع بحسب المحكوم عليه ، ففي الشافعية السلفي ، كابن سريج ، وأبي بكر الجرجاني كبير الشافعية في زمنه ، وفيهم الأشعري الصوفي كالغزالي ، وفي المالكية السلفي كالطلمنكي ، وابن أبي زمنين ، والقيرواني ابن أبي زيد ، وفيهم الأشعري كابن العربي صاحب أحكام القرآن .
وفي الحنفية السلفي كالطحاوي ، وفيهم النسفي صاحب العقائد المشهورة بالنسفية ، وفي الحنابلة ابن الجوزي وله مخالفات معروفة ، وفيهم شيخا الإسلام ابن تيميه وابن القيم .
ويجمعهم جميعا الانتماء إلى مذاهبهم الفقهية ، بمعنى تقيدهم بأصولها ، وتلقيهم العلم على شيوخها ، وتدريسهم في مدارسها ، وتولي القضاء وغيره مما هو معروف في تلك الأزمنة .. ولا يجوز الحكم عليهم بحكم واحد ذما أو مدحا كما هو ظاهر ، وإنما يحكم على كل إنسان بما يعتقد .
ونظير هذا أيضا الحكم على التصوف والصوفية ، فإنه انتسب الى هذا الاسم خلق كثير ، وهم متباينون تباينا عظيما في الاعتقاد، واتباع الشريعة ، والتقيد بالكتاب والسنة في الأعمال ، والنسك والزهد.
لكنهم جميعا تجمعهم هذه النسبة ، ولا يدل ذلك على أنهم جميعا ينتظمون تحت حكم واحد ، لمجرد انتسابهم لاسم واحد.
قال ابن تيميه رحمه الله : وقد تكلم بهذا الاسم قوم من الأئمة ، كأحمد بن حنبل ، وغيره وقد تكلم به أبو سليمان الداراني ، وأما الشافعي فالمنقول عنه ذم الصوفية ، وكذلك مالك ـ فيما أظن ـ وقد خاطب به أحمد لأبي حمزة الخراساني ، وليوسف بن الحسين الرازي ، ولبدر بن أبي بدر المغازلي ، وقد ذم طريقهم طائفة من أهل العلم ، ومن العباد أيضا من أصحاب أحمد ، ومالك ، والشافعي ، وأبي حنيفة ، وأهل الحديث ، والعباد ، ومدحه آخرون .
والتحقيق فيه : أنه مشتمل على الممدوح والمذموم كغيره ، من الطريق ، وأن المذموم منه ما قد يكون اجتهاديا ، وقد لا يكون ، وأنهم في ذلك بمنزلة الفقهاء في الرأي ، فإنه قد ذم الرأي من العلماء والعباد ، طوائف كثيرة ، والقاعدة التي قدمتها تجمع ذلك كله وفي المتسمين بذلك من أولياء الله وصفوته ، وخيار عباده ما لا يحصى عده ، كما في أهل الرأي من أهل العلم والإيمان من لا يحصى عده إلا الله ( مجموع الفتاوى 10/ 370 )
وقال : ولأجل ما وقع في كثير منهم من الاجتهاد والتنازع فيه تنازع الناس في طريقهم ، فطائفة ذمت الصوفية والتصوف وقالوا : إنهم مبتدعون ، خارجون عن السنة ، ونقل عن طائفة من الأئمة في ذلك من الكلام ما هو معروف ، وتبعهم على ذلك طوائف من أهل الفقه والكلم ، وطائفة غلت فيهم ، وادعوا أنهم أفضل الخلق وأكملهم بعد الأنبياء وكلا طرف هذه الأمور ذميم .
والصواب أنهم مجتهدون في طاعة الله ، كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله، ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده ، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين ، وفي كل من الصنفين من قد يجتهد فيخطئ ، وفيهم من يذيب فيتوب أو لا يتوب ، ومن المنتسبين إليهم من هو ظالم لنفسه ، عاص لربه ( مجموع الفتاوى 11 / 18 )
هذا مع أن الصوفية قد دخل فيها من أهل الزندقة والإلحاد والفسق مالا يحصيه إلا الله ، وصارت هذه الأيام منبع البدع والضلال والصد عن سبيل الله ، مما يوجب على أهل العلم والإيمان فضحهم وجهادهم .(/14)
والمقصود هنا أنه لا بد من التفصيل في الحكم على من يدخلون تحت اسم يجمعهم ، وهم مع ذلك مختلفون في أحوالهم وأعمالهم واعتقاداتهم ، إذا كان ما يجمعهم ليس مما دل الكتاب والسنة على نفيه وبطلانه ، وإنما هو من الأسماء المحتملة ، كما قال ابن تيميه : ثم لفظ الفقر والتصوف قد أدخل فيها أمور يحبها الله ورسوله ، فتلك يؤمر بها ، وإن سميت فقرا أو تصوفا ، لأن الكتاب والسنة إذا دل على استحبابها ، لم يخرج عن ذلك بأن تسمى باسم آخر ، كما يدخل في ذلك أعمال القلوب بالتوبة ، والصبر ، والشكر، والرضا ، والخوف، والرجاء ، والمحبة ، والأخلاق المحمودة ، وقد أدخل فيها أمور يكرهها الله ورسوله ، كما يدخل فيه بعضهم نوعا من الحلول ، والاتحاد ، وآخرون نوعا من الرهبانية المبتدعة في الإسلام ، وآخرون نوعا من مخالفة الشريعة ، إلى أمور ابتدعوها إلى أشياء أخر ، فهذه الأمور ينهى عنها بأي اسم سميت ، وقد يدخل فيها أمور مسائل الأحكام فهذه للمصيب فيها أجران ، وللمخطئ أجر ، وقد يدخل فيها التقييد بلبسه معينة ، وعادة معينة في الأقوال والأفعال بحيث من خرج عن ذلك عد خارجا عن ذلك ، وليست من الأمور التي تعينت بالكتاب والسنة بل إما أن تكون مباحة وإما أن تكون ملازمتها مكروهة ، فهذا بدعة ينهي عنها وليس هذا من لوازم طريق الله وأوليائه.
فهذا وأمثاله من البدع والضلالات ، يوجد في المنتسبين إلى طريق الفقر ، كما يوجد في المنتسبين إلى العلم أنواع من البدع في الاعتقاد ، والكلام المخالف للكتاب والسنة ، والتقيد بألفاظ واصطلاحات لا أصل لها في الشريعة ، فقد وقع كثير من هذا في طريق هؤلاء ، والمؤمن الكيس يوافق كل قوم فيما وافقوا فيه الكتاب والسنة ، وأطاعوا فيه الله ورسوله ، ولا يوافقهم فيما خالفوا فيه الكتاب والسنة أو عصوا فيه الله ورسوله ، ويقبل من كل طائفة ما جاء به الرسول كما قال صلى الله عليه وسلم : من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهورد ومتى تحري الإنسان الحق والعدل بعلم ومعرفة كان من أولياء الله المتقين وحزب الله المفلحين وجند الله الغلبين ( مجموع الفتاوى 11/ 28 )
ولهذا فإنه من الخطأ البين الحكم على الجماعات الإسلامية المعاصرة التي ـ في الغالب ـ تنتسب الى أسماء شرعية ، وتظهر القيام بشعائر الدين التي لا اختلاف فيها ، كالدعوة والتبليغ ، وتحكيم الشريعة الإسلامية ، وإقامة المجتمع الإسلامي ، والدولة الإسلامية التي تحكم بأحكام الشريعة ، والجهاد والذود عن دين الإسلام والوقوف في وجه أعدائه من الملل الأخرى ، ثم هم يختلفون في اعتقاداتهم وأحوالهم وأعمالهم من بلد إلى بلد ، ومن أتباع شيخ إلى أتباع آخر ، ولكن متفقون على شعارات شرعية محمودة ، من الخطأ البين الحكم على جميع من ينتظم تحتها بحكم واحد ، وذلك لأن ما يجمعهم هوـ في الظاهر ـ أمور محمودة في الشريعة ، وإذا كان المنتسبون الى الأسماء المحتملة كا لتصوف ،والرأي ، والمذاهب الفقهية ، لا يجوز الحكم عليهم بحكم واحد فكيف بهؤلاء .
***الضابط السابع :
ــــــــــــــــــ
اختلاف الأئمة في الحكم على طائفة ، أو شخص ، قد اشتبه حاله ، لتعارض ما فيه من خير وشر ، أو ما يظن أنه شر ، فيقدم بعضهم إحسان الظن فيه ، ويغلب الآخر ضده ، هذا الاختلاف ، لا ينبغي أن يجعل من قضايا النزاع ، التي يتعصب عليها وينفخ فيها نار الغضب ، فإن هذا كثير في الأمة منتشر جدا ، ولا يكاد ينضبط هذا الخلاف ، ونادرا ما يتفق العلماء على المدح المطلق أو الذم المطلق ، اللهم إلا فيمن اشتهر في الإمامة في الدين فيطبق على مدحه ، أو ترأس ضلالة فعرف بها وانتصب للدعوة إليه فأطبقوا على ذمه .
وما عدا ذلك فقد يطبق العدد الكبير على ذم من ليس أهلا لذلك ، لشيء لا يبلغ به ذلك المبلغ من الذم.
فقد ذكر الذهبي رحمه الله في ترجمت أحمد بن عبد الملك الذي خرج له البخاري ، وغيره ، وروي عنه أحمد وأبو زرعة ، وأبو حاتم ، قال أحمد : رأيته حافظا لحديثه ، صاحب سنة ، فقيل له : أهل حران يسيئون الثناء عليه ، فقال : أهل حران قل ما يرضون عن إنسان ، هو يغشى السلطان بسبب ضيعة له .سير أعلام النبلاء (10/262)
فهؤلاء المنسوب إليهم إساءة القول في هذا الحافظ ، قد ذكر عنهم الإمام أحمد ، أنهم قل ما يرضون عن إنسان ، ولا ريب هم علماء ، وإلا فعامة الناس لا يستحقون أن يذكر عنهم الحكم على المحدثين ، ومع ذلك فقد ذكر ـ رحمه الله ـ أن غشيانه السلطان لا يبلغ إلى درجة إساءة الظن ، مادام له محمل حسن يحمل عليه ، وإذا كان مثل هذا يكون من العدد الكبير فكيف بغيرهم ؟
ولهذا وأمثاله قال الذهبي ـ رحمه الله -: ( وقد كان طائفة من المحدثين يتنطعون فيمن له هفوة صغيرة تخالف السنة ) ( سير أعلام النبلاء 10 / 466 )(/15)
ولا ريب لم يرد الأئمة الكبار ، فاختلافهم في الحكم لا يدخل في هذا ، فهذا الإمام أحمد رحمة الله يصبر نفسه عن سماع حديث من في قلبه غصص منه ، ويروي عنه أصحابه فلا يكون ذلك مما يوجب شيئا في نفوس بعضهم على بعض ، قال أبو زرعة : رحم الله أحمد بن حنبل ، بلغني أنه كان في قلبه غصص من أحاديث ظهرت عن المعلي بن منصور ، كان يحتاج إليها ، وكان المعلي أشبه القوم ـ يعني أصحاب الرأي ـ بأهل العلم وذلك أنه كان طلابه للعلم رحل وعني ، فتصبر أحمد عن تلك الأحاديث ولم يسمع منها حرفا ، وأما على بن المديني ، وأبو خيثمة ، وعامة أصحابنا فسمعوا منه ، المعلي صدوق ( 10/367)
ومن الأمثلة على هذا الضابط ، اختلاف العلماء في عكرمة ، فقد تركه قوم ورغبوا عنه لظنهم فيه ، رأي الخوارج منهم الإمام مسلم رحمه الله ، وروى له البخاري وأئمة ، ولم يوجب ذلك شقاقا بين المختلفين فيه ، فإن الرجل قد تعارض الكلام فيه تعارضا شديدا ، ورجح ابن حجر رحمه الله أنه وافق الخوارج في بعض قولهم فنسب إليهم ولا تصح النسبة هدي الساري ص 428
ومن هذا أيضا ، الحكم على طائفة كأهل الرأي والتصوف ، فإن أهل الحديث متفاوتون في الشدة على أهل الرأي ، فمنهم من يطلق أقوالهم عظيمة مبالغ فيها ، كا لاستتابة ونحوها ، ومنهم من لا يبلغ إلى هذا الحد ، والناظر في ترجمة الإمام أب حنيفة رحمه الله ـ إمام أهل الرأي ـ في تاريخ بغداد ، يتحير من تعارض الأقوال فيه ، ولا شك أنه كما قال الألباني حفظه الله : فلا يجوز الطعن فيه ، بل يجب التأدب معه ، لأنه إمام من أئمة المسلمين ، الذين بهم حفظ هذا الدين ، ووصل إلينا ما وصل من فروعه ، وأنه مأجور على كل حال أصاب أو أخطأ شرح الطحاوية ص 9
فهذا ثناؤه فيمن قال عنه ابن عبد البر : (لم يشتغل أهل الحديث من نقل مثالبه ورواية سقطاته مثل ما اشتغلوا به من مثالب ابي حنيفة والعلة في ذلك ما ذكرت لك لا غير) التمهيد (14/)
وكان قد ذكر رد الآثار الصحاح بالرأي ، ولا يجوز الحط على أحد خالف رأيه في هذا الإمام ، الذي كثر عليه الطعن ، خالف رأيه رأي الطاعنين ، مع كثرتهم وجالتهم ، فكيف إذا خالف في غيره ، من الذين لا يؤخذ عليهم ما أخذ عليه ـ رحمه الله ـ من المقالات والآراء .
وأما أهل التصوف في الأزمنة المتقدمة ، فكذلك ربما اختلف الرأي في الكبراء المنتسبين إليه كالتستري ، وأبي سليمان الداراني ، وغيرهما فبعض الأجلة من العلماء الكبار ، من أهل العصر يجلهم ، ويثني عليهم ، فقد عدهما الشيخ حمد بن ناصر بن معمر من المشايخ المقتدى بهم . عقيدة محمد بن عبد الوهاب السلفية ، صالح العبود ص 334
ولما سئل الإمام محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه عن التصوف والمتصوفة قال : مطلق لفظ التصوف بدعة ، لكن جنس الأسماء ليست مثل الاعتقادات والمتصوفة على قسمين : متصوفة سنين ومتصوفة بدعيين ثم ذكر أن مبتدعتهم جعلوا التصوف نافذة إلي وحدة الوجود . فتاوى ابن إبراهيم (1/261) وأنظر ( 8/341ـ 342)
فأين هذا الرأي من هذين الإمامين فيهم ، من رأي الشيخ حمد الفقي ـ رحمه الله ـ الذي ضاقت نفسه ـ غضبا للدين بلا ريب ولما رأي من الصوفية في عصره ـ عن الاعتذار عن المتقدمين منهم بشيء ، وضاق ذرع أيضا عن اعتذار ابن القيم في مدارج السالكين ، فتعقب ذلك في غالب المواضع .
ومما ينبغي التنبه لنا هنا أن التصوف الآن ـ بل من أزمنة مديدة ـ مجمع البدع ، والانحرافات ، والضلالات ، وليس منهم صوفي إلا ويجمع مع هذه البدعة أخرى من سبل الشيطان ، مما يوجب القيام التحذير منهم بكل سبيل ، لكن الكلام على المتقدمين ليس كالكلام على المتأخرين ، بل هذا عام في كل الطوائف .
قال ابن تيميه رحمه الله : (وإن كان المؤسس مسبوقا بها ، وهو إن كان قد نقل منها ما نقله من كتاب أبي بكر بن فورك ونحوه ، وهم أيضا مسبوقون بأمثالها / فقد كان من هو أقدم منهم من يذكر من التأويلات ما هو أمثل من ذلك، إذ كل ما تقدم الزمان كان الناس أقرب إلى السداد في الثبوتات ، والقياسات الشرعيات ، والعقليات ، وكان قدماء الجهمية أعلم بما جاء به الرسول وأحسن تأويلا من هؤلاء كما تقدم ذكره ) بيان تلبيس الجهمية ج3/ق 126 مخطوط
وهذا التنبيه إذا لم يلم به الباحث في الفرق ، والطوائف ، والأعلام ، يتعجب غاية العجب من تعارض حكم أئمة كبار، في بعض الطوائف المتقدمة ، مع ما يراه منهم في عصره ، لأنه أوقف نظره وبحثه في الاسم الذي يشملهم ، ولم يعلم أن ذلك الاسم لم يعد هذا الاسم ، لدخول بدع أخرى فيه ، فيصير الاشتراك في الأسماء أقرب الى الاشتراك اللفظي ، فالاسم واحد والحقيقة متفاوتة متباينة.
غير أنه لا بد من شئ مشترك بينهم ، دخل منه الآخرون على الأولين ، ولو لم يكن إلا ذلك الاسم المبتدع ، وهذا مما ينادي بوجوب التحذير من الأسماء والنسب المبتدعة ، كاسم التصوف ، وغيره ووجوب التسمي بالأسماء الشرعية ، والنسب والواردة في الكتاب والسنة .(/16)
غير أن هذا شأن ، والحكم على الناس بميزان العدل ، والإنصاف شأن آخر ، كما أن النهي عن البدع ، والتحذير منها ـ لأنها بعد الشرك أعظم المنكر ـ شأن والحكم على الواقع فيها شأن آخر ، بل إن هذا في الكفر والشرك أيضا ، فإن التحذير منه أعظم الواجبات المتحتمات ، ومع ذلك الحكم على الواقع فيه باب آخر ، فليس كل من وقع في الكفر سمي كافرا ، وليس كل من وقع في البدعة سمي مبتدعا ، فلابد من شروط ذكرت في مواضعها من كتب العقيدة في باب الأسماء والأحكام .
والمقصود هنا أن الاختلاف في الحكم على الشخص ، أو الطائفة ممن هم من هذا الجنس ، لا ينبغي أن يوجب التفرق ، والشحناء بين من هم متفقون على أصل الاعتقاد ، في أسماء الله وصفاته ، وأفعاله والقدر ، والأسماء ، والأحكام ، والوعد والوعيد ، والإمامة والصحابة ، وسائر الأصول التي أجمع عليها السلف ، ما داموا مجتمعين على الدعوة إلى هذه الأصول ، وإنكار ما خالفها ، مع أن الموفق في هذا الباب ، هو من يوافق كل طائفة على ما معها من الحق ، ويخالفها فيما معها من الخطأ ، ويحكم على الشخص أو الطائفة بمثل هذا الحكم العدل ، والقسطاس المستقيم ، فإن هذا هو القسط الذي أمر الله به ورسوله عليه الصلاة والسلام وعلى آله وصحابته أجمعين والحمد لله رب العالمين .(/17)
ضياء وأوحال
محمد المجذوب
كذب الذي زعم الحياة iiدميمةً
هي موطن العملِ الذي نشري iiبه
كم بسمةٍ محت الشقاء iiوجددت
وتحية تلقى بها ذا iiمحنةٍ
وعبارة بيضاءَ لو مرت iiعلى
تهبُ السقيم شفاءه، وتمس iiذا
.. وكصفحةٍ هذا الوجودُ iiنقيةٍ
لك أن تسطر فوقها ما iiتشتهي
فبكلمة عذُبت تبثُّ iiهناءةً
والأشقياء هم الذين iiتنكبوا
لكأنهم شغفوا بكل iiقبيحةٍ
مثل الوباء إذا أناخ بساحةٍ
.. لا.. لن يرى هذي الحياة دميمة ... وهي التي تكسو الدميم iiجمالا
نُعمى الجنان ونأمن الأوجالا
لأخي القنوط بسحرها iiالآمالا
فتحيلُ في فيه الأُجاجَ iiزُلالا
قفر لرفَّ أزاهراً iiوظلالا
ضِغن فيغدو للصفاء iiمثالا
جلّ الذي قد صاغها iiوتعالى
إن شئت رشداً أو أردت iiضلالا
وبلفظةٍ خبُثت تجرُّ iiوبالا
سبل الضياء وعانقوا iiالأوحالا
فقلوبهم بالمنكرات iiحُبالى
ملأ الديار فجائعاً iiوثكالى
إلا الأُلى زرعوا الحياة نكالاً(/1)
ضيفٌ ألَمَّ بِرأسي غَيرَ مُحْتَشِمِ
المتنبي
ضيفٌ ألَمَّ بِرأسي غَيرَ iiمُحْتَشِمِ
إبْعَدْ بَعِدتَ بَياضًا لا بياضَ iiلَه
بِحُبِّ قاتِلتي وَالشَّيبِ iiتَغْذِيَتي
فَما أمُرُّ بِرسمٍ لا iiأُسائِلُهُ
تَنَفَّسَتْ عَن وفاءٍ غَير iiمُنصَدِعٍ
قبَّلتُها ودمُوعي مَزجُ أَدمُعِها
قَد ذُقتُ ماءَ حَياةٍ من iiمُقبَّلها
تَرنو إليَّ بعَينِ الظَّبيِ iiمُجْهشَةً
رُوَيدَ حُكمِكِ فينا غَيرَ iiمُنصفَةٍ
أَبْدَيتِ مِثْل الذي أَبْدَيْتُ من iiجَزَعٍ
إذاً لَبَزَّكِ ثَوبَ الحُسنِ iiأَصغَرُهُ
ليسَ التعَلُّلُّ بِالآمالِ مِن iiأَرَبي
وَلا أظُنُّ بَناتِ الدهْرِ iiتَترُكُني
لُمِ الليالي التي أخنَت على جِدَتي
أرَى أُناسًا ومَحْصولي على iiغَنَم
ورَبَّ مالٍ فَقيرًا من iiمَروءَتِه
سيَصحَبُ النَّصلُ مِنّي ِمثلَ iiمَضْرِبِهِ
لَقَد تَصَبرتُ حَتَّى لاتَ iiمُصْطَبَرٍ
لأترُكَنَّ وُجوهَ الخَيْلِ ساهِمَةً
والطَعْنُ يحرِقُها والزجرُ iiيُقلِقُها
قد كَلَّمَتها العَوالي فَهي كالحِةٌ
بكُلِّ مُنصَلِتٍ ما زالَ iiمُنتَظِري
شيخٌ يَرى الصَّلَواتِ الخَمسَ iiنافِلَةً
وكُلَّما نُطِحَت تَحتَ العَجاجِ iiبِهِ
تُنسي البِلادَ بُروقَ الجَوِّ iiبارِقَتي
رِدِي حِياضَ الرَّدى يا نَفْسِ iiواتَّركي
إِن لم أَذَركِ على الأَرماحِ سائِلَةً
أَيملِكُ المُلكَ والأَسيافُ iiظامِئَةٌ
مَنْ لو رَآنيَ ماءً ماتَ من ظَمَإٍ
مِيعادُ كُلِّ رَقيقِ الشَّفْرَتَينِ غدًا
فَإن أجابوا فما قَصدي بها لَهُمُ ... السَّيفُ أحسَنُ فِعْلاً مِنْهُ iiباللَّمَمِ
لأنْتَ أسْوَد في عَيني مِنَ iiالظُّلم
هَوايَ طفلاً وَشَيبِي بالغَ iiالحُلُمِ
وَلا بِذاتِ خِمارٍ لا تُريقُ iiدَمي
يَومَ الرحيل وشَعْبٍ غَير iiمُلتَئمِ
وقبَّلتني على خَوْفٍ فَمًا iiلِفَمٍ
لَو صابَ تُرباً لأَحيا سالِفَ iiالأُمَمِ
وتمسحُ الطَّلَّ فَوقَ الوَردِ iiبالعنَمِ
بِالناسِ كُلِّهِمِ أفديكِ مِن iiحَكَمِ
ولَم تُجنِّي الذي أَجْننْتُ مِن iiأَلَمِ
وَصِرتِ مِثليَ في ثَوبَينِ مِن iiسَقَمِ
ولا القَناعَة بالإقْلال مِنْ iiشِيمي
حَتى تَسُدَّ عَلَيها طُرْقَها iiهِمَمي
بِرِقَّةِ الحال واعْذِرني ولا iiتَلُمِ
وَذكْرَ جُودٍ ومحصولي على iiالكَلِمِ
لم يُثْرِ مِنها كَما أثْرى منَ iiالعُدُمِ
ويَنْجَلي خَبَري عَنْ صِمة الصِّمَمِ
فالآنَ أَقحَمُ حَتّى لاتَ iiمُقتحَمِ
والحربُ أَقومُ من ساقٍ على iiقَدَمِ
حَتَّى كأنَّ بِها ضَرباً مِنَ iiاللَّمَم
كأنَّما الصَّابُ مَذْرور على iiالُّلجُمِ
حَتَّى أدَلتُ لَهُ مِن دَولَةِ iiالخَدَمِ
ويَستَحِلُّ دَمَ الحُجاجِ في iiالحَرَمِ
أُسدُ الكتائب رامَتْهُ ولم iiيَرِم
وتكتفي بالدَّمِ الجاري عَنِ الدِّيَمِ
حِياض خَوفِ الرَّدى لِلشاءِ والنَّعَمِ
فلا دُعيتُ ابْنَ أُمِّ المجدِ iiوالكَرَمِ
والطَّيرُ جائِعَةٌ لحمٌ على iiوَضَمِ
ولَو عَرَضْتُ لَهُ في النومِ لم iiيَنَم
ومَن عَصَى مِن مُلوكِ العُربِ iiوالعَجَمِ
وإن تَوَلَّوا فما أَرضَى لها iiبِهِمِ(/1)
ضيق الأفق أو قصر النظر
يتناول الدرس ضعف أو خلل البصيرة الذي يؤدي إلى حصر التفكير و الرؤية في حدود ضيقة لا تتجاوز المكان والزمان، وذكر أسباب ذلك، وأثر هذا الضعف على العاملين وعلى العمل الإسلامي، ثم عرض وسائل علاج هذا الضيق وقصر النظرة .
مفهوم ضيق الأفق , أو قصر النظر :
ضيق الأفق لغة: يعني: انحسار، أو انكماش جهة أو ناحية النظر والتأمل، وكذلك قصر النظر يعني: ضعف، أو اختلال البصر أو البصيرة، أو هما معًا.
ضيق الأفق في الاصطلاح الشرعي والدعوي: هو ضعف أو خلل في البصيرة؛ يؤدي إلى حصر التفكير، أو الرؤية في حدود ضيقة لا تتجاوز المكان والزمان، أو بعبارة أخرى: هو ضعف، أو خلل في البصيرة؛ يؤدي إلى رؤية القريب وما تحت القدمين فقط، دون النظر إلى البعيد، ودون تقدير الآثار والعواقب، قال تعالى: }أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ[46]{ “سورة الحج”.
أسبابه:
1- النشأة الأولى: فقد ينشأ الإنسان في بيئة لا تهتم بتنمية الذكاء الفطري، أو المواهب لدى أفرادها، وتكون العاقبة انحسار دائرة التفكير، أو النظر والتأمل إلا من رحم الله .
2- صحبة نفر من ذوي الأفق الضيق والنظر القصير:وقد يحيط بالإنسان صحبة ذات أفق ضيق، ونظر قصير، فتسري آثار ذلك إلى هذا الإنسان، فإذا به يواجه كل المواقف بنفس النمط، وعلى هذا المنوال، إذ:”الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ” رواه أبوداود والترمذي وأحمد .
3- الانزواء أو العزلة:وقد يؤثر الإنسان الانزواء أو العزلة، إما لعدم القدرة على التوفيق بين الفردية والجماعية، وإما إيثارًا للعافية والسلامة، ومثل هذا وإن جنى كثيرًا من ثمار العزلة أو التفرد، فإنه يخسر أول ما يخسر الخبرة أو التجربة، تلك التي تستفاد من ملازمة الجماعة والارتماء في أحضانها، والتي تساعد على اتساع الأفق، وبعد النظر، وحين يخسر الإنسان الخبرة أو التجربة، فإنه يظل ذا أفق ضيق، ونظر قصير محدود.
4- عدم الفهم لدور أو لرسالة الإنسان في الأرض:وقد لا يفهم الإنسان دوره، أو رسالته في الأرض، من أنه خليفة فيها: }وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً[30]{ “سورة البقرة” وأن هذه الخلافة إنما هي سيادة:} هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا[61]{ “سورة هود” وعبودية: }وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[56]{ “سورة الذاريات” وإن تحقيق هذا الدور، أو الرسالة يقتضي التبصر والتدبر: }وَفِي الْأَرْضِ ءَايَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ[20]وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ[21]” {سورة الذارات” والعمل الدائم بالليل والنهار:}وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ[ 105] { “سورة التوبة”
وقد لايفهم الإنسان ذلك كله، فيقعد وينام، أوينطلق على غير هدى وبصيرة، وأنى لهذا أن يكون واسع الأفق، أو بعيد النظر؟!
5- عدم الفهم لحقيقة ومضمون الإسلام:قد لا يفهم المسلم حقيقة ومضمون الإسلام، من أنه دين شامل للحياة جميعًا، وإلى قيام الساعة: }الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا[3] {“سورة المائدة” وأن الدعوة إليه والتمكين له في الأرض يقتضي الحكمة التي من لوازمها اتساع الأفق، وبعد النظر، كما قال سبحانه وتعالى:} قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [108] {“سورة يوسف” قد لايفهم المسلم ذلك، فيدعو إلى هذا الإسلام، ويعمل على التمكين له دون أن يجهد نفسه في تحصيل الحكمة، وأنى لمن حرم الحكمة أن يكون واسع الأفق بعيد النظر؟!
6- عدم الإلمام بواقع الأعداء وأسلوبهم في العمل: وقد يكون المسلم غير ملمّ بواقع الأعداء، وأسلوبهم في العمل، من أنهم كثرة، وأن لديهم العتاد والعدد، وأن أسلوبهم في العمل يقوم على الدهاء والمكر والخديعة، قد لايلمّ المسلم بذلك كله، فتضيع عليه فرصة اكتساب الخبرة والدراية والتجربة، وأنى لمن لم يكتسب خبرة ولا دراية، ولا تجربة، أن يكون واسع الأفق بعيد النظر؟!
7- الإعجاب بالنفس بل الغرور والتكبر: وقد يكون الإنسان معجبًا بنفسه، مغرورًا، متكبرًا، فيحمله ذلك على الترفع، والاستعلاء ، أن يكتسب من غيره خبرة، أو مهارة، أو تجربة، فيبقى طول حياته محدود الأفق، قصير النظر.
8- الغفلة عن العواقب والآثار المترتبة على ضيق الأفق وقصر النظر:وقد يكون المسلم غافلاً عن العواقب، أو الآثار المترتبة على ضيق الأفق، أو قصر النظر، فيقنع بما هو عليه دون أن يجهد نفسه، أو أن يعمل فكره في تلاشي هذه العواقب، أو تلك، ومثل هذا يظل طول حياته ضيق الأفق، محدود النظر.(/1)
9- الجهل بأخبار وحوادث الماضي: وقد يكون المسلم جاهلاً بأخبار وحوادث الماضين، وكيف كانوا يتصرفون بإزاء المواقف المباغتة أو المفاجئة، ومثل هذا يعيش محرومًا من الخبرة والدراية، والتجربة، التي هي أساس اتساع الأفق، وبعد النظر، وصدق الله سبحانه وتعالى الذي يقول عن أخبار وحوادث الماضين :}لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ[111]{ “سورة يوسف” وقال تعالى:}فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ[176]{ “سورة الأعراف”.
10- ضعف الصلة بالله:وقد يكون المسلم ضعيف الصلة بالله عز وجل بأن يكون غير محترز من المعاصي والسيئات، لاسيما الصغائر منها، أو أن يكون مفرطًا في عمل اليوم والليلة، أو أن يكون مهملاًلجانب فعل الخيرات، فيعاقب على ذلك كله بالحرمان من الحكمة التي هي أساس سعة الأفق، وبعد النظر، ولعل ذلك هو المفهوم من قوله تعالى في كتابه الحكيم:}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا[29]{ “سورة الأنفال”. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ] رواه البخاري.
مظاهر أو سمات ضيق الأفق وقصر النظر:
1- التبرم الشديد بالمنهج الدعوي للحركة الإسلامية: ووصف هذا المنهج بالتخلف، وعدم القدرة على مواكبة ظروف ومستجدات العصر، بل وصف القائمين عليه بالركون إلى الدنيا إيثارًا للعافية والسلامة.
2- حصر الجهد في جوانب ثانوية: تستهلك طاقة كبيرة ووقتًا طويلاً، مثل العمل على بناء مسجد، أو إنشاء جمعية خيرية أو إلقاء موعظة، أو تأليف كتاب، أو قراءة ومطالعة، أو عيادة مريض، أو محاولة جمع الناس على رأي واحد في مسائل الفروع، أو المسائل المختلف فيها، وهكذا دواليك.
3- الصلابة أو الشدة عند التقصير في أمر مستحب أو مسنون وعدم تمعر الوجه عند تضييع الواجبات والفرائض:فتراه مثلاً: يقيم الدنيا، ولايقعدها على من لايهتم بتقصير ثيابه، أو لا يحافظ على السواك، أو لا يلبس الساعة في اليد اليمنى، ولا يتحرك فيه شعرة عندما يرى حكم الله معطلاً في الأرض، وأهل الباطل يصدون عن سبيل الله، ويسومون أولياء الله سوء العذاب.
4- علاج المشكلات عن طريق المسكنات دون البحث عن الداء ثم علاجه:فمثلاً: نسمع ونرى علاج مشكلة الحانات والبارات، ومراكز الفيديو الداعرة، إنما يكون بالتكسير، وإشعال الحرائق، وحقيقة العلاج يجب أن ينصرف إلى إيجاد السلطان الذي يقيم شرع الله في الأرض، فإن الله يزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن، ثم إحداث وعي في الأمة يغير العرف العام، ويجعلها تحمل مسئولية أو أمانة تطبيق شرعة الله بنفسها.
5- استعجال النتائج أو قطف الثمار قبل أوانها: وقد قيل:' من استعجل الشيء قبل أوانه؛ عوقب بحرمانه'.
آثار ضيق الأفق أو قصر النظر:
آثاره على العاملين:(/2)
1- تبديد الجهد وهدر الطاقات: في أمور نافعة ومفيدة لكنها ثانوية، بل هامشية، وإذا بدّدت الجهود، وأهدرت الطاقات في مثل هذه الأمور، فإن المسلم العامل سيعجز بعد ذلك، ويفقد القدرة على مواجهة المهام الجسام، والتبعات الضخمة.ولعل هذا الأثر هو المفهوم من توجيه القرآن للمسلمين أوّل مرة: أن يقيموا الإسلام في أنفسهم، وأن يحسنوا الترابط فيما بينهم:} قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى[14]وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى[15]{ “سورة الأعلى” }قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا[9]وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا[10]{ “سورة الشمس” دون أن يستجيبوا لأي إثارة، أو يردوا على أي أذى أو اضطهاد يوجه إليهم من عدوهم: }أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ{ “سورة النساء” }وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ[97]فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ[98]وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ[99]{ “سورة الحجر”.كل هذا من أجل أن تنمو طاقاتهم، وتتضاعف جهودهم، بل ويحتفظ بهذه الجهود، وتلك الطاقات لتوجه نحو النافع، والمفيد، في الوقت المناسب وفي اللحظة المناسبة، وقد كان .. فإن أولئك الذين جاهدوا أنفسهم وترابطوا فيما بينهم، وأوذوا، فصبروا طول المرحلة المكية، وسنتين من المرحلة المدنية، نجحوا في أول مواجهة مع عدوهم في بدر، رغم عدم التكافؤ بين الفريقين، لا في العدد، ولا في العُدد، وسجّلت لهم صور تدل على مدى امتلائهم وشحنهم من داخلهم ضد أعداء الله وأعدائهم، ولعل من أبرز هذه الصور ما صنعه بلال بن رباح مع أمية بن خلف:
فعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: [ كَاتَبْتُ أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ كِتَابًا بِأَنْ يَحْفَظَنِي فِي صَاغِيَتِي بِمَكَّةَ وَأَحْفَظَهُ فِي صَاغِيَتِهِ بِالْمَدِينَةِ فَلَمَّا ذَكَرْتُ الرَّحْمَنَ قَالَ: لَا أَعْرِفُ الرَّحْمَنَ كَاتِبْنِي بِاسْمِكَ الَّذِي كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَكَاتَبْتُهُ عَبْدَ عَمْرٍو فَلَمَّا كَانَ فِي يَوْمِ بَدْرٍ خَرَجْتُ إِلَى جَبَلٍ لِأُحْرِزَهُ حِينَ نَامَ النَّاسُ فَأَبْصَرَهُ بِلَالٌ فَخَرَجَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى مَجْلِسٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ لَا نَجَوْتُ إِنْ نَجَا أُمَيَّةُ فَخَرَجَ مَعَهُ فَرِيقٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فِي آثَارِنَا فَلَمَّا خَشِيتُ أَنْ يَلْحَقُونَا خَلَّفْتُ لَهُمْ ابْنَهُ لِأَشْغَلَهُمْ فَقَتَلُوهُ ثُمَّ أَبَوْا حَتَّى يَتْبَعُونَا وَكَانَ رَجُلًا ثَقِيلًا فَلَمَّا أَدْرَكُونَا قُلْتُ لَهُ ابْرُكْ فَبَرَكَ فَأَلْقَيْتُ عَلَيْهِ نَفْسِي لِأَمْنَعَهُ فَتَخَلَّلُوهُ بِالسُّيُوفِ مِنْ تَحْتِي حَتَّى قَتَلُوهُ وَأَصَابَ أَحَدُهُمْ رِجْلِي بِسَيْفِهِ وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ يُرِينَا ذَلِكَ الْأَثَرَ فِي ظَهْرِ قَدَمِهِ ] رواه البخاري .
2- اليأس والقنوط: وذلك أن ضيّق الأفق، أو قصير النظر، سيواجه في طريقه كثيرًا من العقبات والصعاب، ولن يستطيع؛ لضيق أفقه، أو لقصر نظره استيعاب هذه العقبات، وتلك الصعاب، ومحاولة التغلب عليها، وتكون النتيجة: اليأس والقنوط، بل القعود عن أداء الدور والقيام بالواجب. ولعمري ذلك هو أهم ما يسعى إليه أعداء الله؛ ليخلو لهم الجو، ويفسح أمامهم المجال
خلال لكِ الجو، فَبِيضي، واصفِري
3- قلة بل تلاشي كسب الأنصار والمؤيدين: ذلك أن ضيّق الأفق، أو قصير النظر نادرًا ما يحالفه التوفيق والنجاح، ومن يفقد التوفيق والنجاح؛ لايبقى لديه ما يغري به الناس، حتى يكسب منهم نصيراً، أو على الأقل مؤيدًا، والواقع يؤيد ذلك: فكم من ضيّق أفق أو قصير نظر، يعيش ويموت، وليس من حوله إلا أفراد يعدون على الأصابع، فضلاً عن نفور كثير من الناس منه، وإعراضهم عنه.
4- الحرمان من التوفيق الإلهي: ذلك أن ضيّق الأفق، أو قصير النظر، يريد من كل الناس السير وفق تصوره الضيق، ورؤيته المحدودة، ولن يستجيب له الناس، وحينئذ يسلقهم بألسنة حداد، ويجعل من لحومهم غذاءً شهيًا، وأنى لمن يلغ في أعراض الناس، ويعيش على لحومهم، أن يمنحه ربه توفيقًا أو تأييدًا؟!
آثاره على العمل الإسلامي:
1- التشويه: ذلك أن ضيق الأفق، وقصر النظر سيوجّه العمل الإسلامي إلى علاج المشكلات عن طريق المسكنات، دون النظر في الأسباب، وبترها من جذورها على النحو الذي ذكرنا آنفًا، ومثل هذا الأسلوب في العمل غير مجد، فضلاً عما سيصاحبه من طول الطريق، وكثرة التكاليف، وحينئذ يجدها أعداء الله فرصة للتشويه، وتقديم الإسلام وصورة العمل له، على أنهما غير قادرين على مواجهة مشكلات العصر، ووضع الحلول المناسبة لها.(/3)
2- المصادرة: وذلك أن العمل الإسلامي يواجه كثيرًا من العقبات والصعاب التي يضعها أعداء الله في طريقه، وضيق الأفق أو قصر النظر سيؤدي إلى الصدام بهذه العقبات وتلك الصعاب، وعدم القدرة على استيعابها أو التحايل عليها، وحينئذ تكون المصادرة، وعدم السماح بالاستمرار.
3- الضرر، أو على الأقل الإجهاض: وذلك أن ضيق الأفق أو قصر النظر سيحرم العمل الإسلامي من الأنصار والمؤيدين، بل من التوفيق والعون الإلهي، ويوم يحرم العمل الإسلامي من ذلك، فإنه يسهّل على أعداء الله ضربه، أو على الأقل إجهاضه، والرجوع به إلى الوراء عشرات السنين.
علاج ضيق الأفق:
1- التعويد على حمل المسئولية في الصغر: فإن ذلك يكسب الإنسان كثيرًا من الخبرات والتجارب، وينمّي لديه مواهبه أو ذكاءه الفطري، فإذا شب بعد ذلك، كان واسع التصور بعيد الرؤية. ولنا في أنبياء الله ورسله، لاسيما محمد صلى الله عليه وسلم الأسوة، والقدوة، إذ حملوا بأنفسهم مسئولية الحياة في الصغر، ومنذ نعومة أظفارهم، الأمر الذي ساعدهم على تنمية مواهبهم، وقدرتهم على سياسة النفوس وإصلاحها بعد الرسالة، وقد لفت النبي صلى الله عليه وسلم النظر إلى هذا الأسلوب التربوي حين قال: [ مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى الْغَنَمَ] فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَنْتَ فَقَالَ: [ نَعَمْ كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ] رواه البخاري.
2- إخراج النفس عن ذوي الأفق الضيق وإلحاقهم بأصحاب الخبرات والتجارب: الذين اتسموا بسمة التصور الواسع، والرؤية البعيدة، وملازمة هؤلاء دومًا، مع التواضع وخفض الجناح لهم، فإن ذلك يؤدي بمرور الزمن إلى تنمية المواهب الفطرية، وتعلم الحكمة التي يعدّ اتساع الأفق، أو بعد النظر أمارة من أماراتها ، وسمة من سماتها.
3- الفقه الدقيق لرسالة الإنسان: وسبيل القيام بهذا الدور، وهذه الرسالة.
4- الإلمام التام بواقع الأعداء وسبيلهم أو مناهجهم في العمل: فإن هذا الإلمام كثيرًا ما يحمل صاحبه على قدح زناد الفكر، والاحتيال من أجل إبطال هذه السبيل، أو هذا المنهج، وذلك هو ما نعنيه بسعة الأفق، وبعد النظر.
5- الفهم الدقيق لحقيقة ومضمون الإسلام: وسبيل العمل، أو التمكين له في الأرض، فإن هذا الفهم كثيرًا ما يحمل على جمع الهمّة من أجل التطبيق والتنفيذ، الأمر الذي يساعد على سعة الأفق، وبعد النظر.
6- معايشة الرسول صلى الله عليه وسلم في سيرته: فإنها حافلة بالكثرة من المواقف التي تساعد على سعة الأفق، وبعد النظر، وحسبنا من هذه المواقف:
ما أثر عنه صلى الله عليه وسلم من أنه لم يحطم الأصنام الموجودة في جوف الكعبة وعلى سطحها إلا في العام الثامن من الهجرة يوم فتح مكة، لأنه كان يرى أن البدء بتحطيم هذه الأصنام قبل تحطيم الأصنام الموجودة بداخل النفوس، تلك التي توجه وتدعو إلى الشرك والإثم والرذيلة، سيساعد على إعادة بناء هذه الأصنام من الذهب، بدلاً من الحجارة، بل سيضاعف من عددها، لذا تركها، وعمد إلى إصلاح النفوس من داخلها، تطبيقًا لقوله تعالى: } إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ[11] { “سورة الرعد” حتى إذا صلحت هذه النفوس، واستقامت على منهج الله، وترابطت فيما بينها قادها صلى الله عليه وسلم وفتح بها مكة، وحطم بها هذه الأصنام.
وكذلك ما أثر عنه صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، إذ قبل هذا الصلح، رغم القسوة التي انطوت عليها شروطه، حتى ضايق ذلك كثيرًا من الصحابة وعلى رأسهم عمر رضي الله عنه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان ينظر بعين النبوة، وكان يرى أن هذه الشروط، وإن بدا أنها قاسية، فإنها ستسفر عن خير كثير للمسلمين، وذلك هو ما أكّده الواقع، فقد زاد عدد المسلمين بعد الحديبية إلى أضعاف أضعاف ما كانوا قبله، حسبنا أن عدد المقاتلين في غزوة الخندق وهي التي كانت في السنة الخامسة من الهجرة، كان ثلاثة آلاف، وإذا به يصل يوم فتح مكة إلى عشرة آلاف، وما حدث هذا إلا بسبب الاختلاط بين الفريقين، واطّلاع المشركين على أخلاق المسلمين، وأحوالهم، نتيجة الهدنة، ووضع الحرب بين الفريقين لعشر سنوات. وكذلك جاء المشركون بعد فترة من إبرام هذا الصلح يطالبون بإلغاء شرط: 'ومن جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم مسلمًا، رده إلى المشركين ' بعد ما أذاقهم أبو بصير ورفاقه الأمرّين، وبعد ما قطعوا طريق تجارتهم حتى اضطروهم إلى أكل الجيف والميتة، وأوراق الشجر من شدة الجوع، هذه المواقف، وغيرها، تعلّم كيف تكون سعة الأفق، وبعد النظر.
7- حسن الصلة بالله بترك المعاصي والمواظبة على عمل اليوم والليلة: ومن التفاني في فعل الخيرات، فإن ذلك يورث الحكمة التي عنوانها : سعة الأفق، وبعد النظر.
8- دوام الاطلاع على خبرات وتجارب الآخرين: فإنها مشحونة بالكثير والكثير الذي يكسب الخبرات، والتجارب، وينمّي المواهب، والقدرات .(/4)
9- النظر في عواقب قصر النظر أو ضيق الأفق: سواء على العاملين، أو على العمل الإسلامي على النحو الذي شرحنا آنفًا، فلعل ذلك يشحذ الهمم، أو يحرك العزائم، فتسعى إلى سعة الأفق، ونفاذ البصيرة.
من كتاب: آفات على الطريق للدكتور/ السيد محمد نوح(/5)
طائعة متميزة في رمضان _ رمضان برؤية جديدة
هل سألتِ نفسك يوما من الأيام ما هي رسالتك في الحياة ؟
زهرتي الطائعة:
إن رسالتك المتفردة التي تمنحها لك شريعة الإسلام تبنى كلها على إجابة لأخطر سؤال ظهر على وجه الأرض منذ بدء الخليقة وحتى قيام الساعة وهذا السؤال هو:
لماذا خلقنا على ظهر الأرض؟
ما مهمة الإنسان الحقيقية التي وجد للقيام بها؟
هذا السؤال الذي حير الفلاسفة والمفكرين الذين حرموا من نور الوحي فضلوا وأضلوا أما عقيدتنا الخالدة فهي فقط وحدها التي تملك الإجابة الصحيحة الوحيدة ممثلة في قوله تعالى:
? وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ? الذاريات 56
نعم زهرتي الطائعة فهذا هدفك الأعظم في الحياة أن تمضيها كلها في تحقيق مرضاة الله عز وجل فيكون جزاؤك السعادة والنجاح في الدنيا والآخرة.
ولكن هل يعني هذا أنك مطالبة بالعكوف على سجادة الصلاة في بيتك أو في المسجد، وترك الدنيا من أجل التفرغ للعبادة ؟! كلا بالطبع إن هذا المفهوم المغلوط الناقص لكلمة العبادة هو الذي أوجد ذلك الفصام النكر بين الدين والدنيا وبين الدنيا والآخرة في حس كثير من المسلمين.
فالعبادة في مفهومها الصحيح كما يعرفها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هي: 'كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة'.
فكل فعل لك في هذه الحياة سواء كان طاعة مشروعة أو عملا مباحا إذا ابتغيت به مرضاة الله عز وجل فإنه عبادة تثابين عليها من الله عز وجل.
وانظري إلى حديث رسولنا الكريم صلي الله عليه وسلم أن المسلم عندنا يأبي شهوته المباحة يؤجر عليها وتكون له صدقة فيقول صلى الله عليه وسلم:'......... وفي بضع أحدكم صدقة'
فتعجب الصحابة من ذلك قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟
قال :' أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر'.
وانظري معي إلى قول الأستاذ محمد قطب في شأن العبادة:
'والعبادة تشمل كل نشاط الإنسان في الأرض ? قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ? [162] سورة الأنعام
*وها هو النبي صلى الله عليه وسلم يبين لنا هذا المفهوم العظيم ويعقد الصلة بين الدنيا والآخرة فيقول صلى الله عليه وسلم: 'إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها'.
تأملي معي هذا الحديث المعجز، لقد كان من المتوقع والقيامة قد أوشكت أن تقوم أن يأمرنا صلى الله عليه وسلم بالتوبة والإستغفار ونسيان الدنيا والإقبال على الآخرة، ولكنه صلى الله عليه وسلم يأمرنا بغرس الفسيلة ، فسيلة النخل التي لا تثمر إلا بعد سنين طويلة.
وما ذاك إلا ليعلمنا هذا الدرس العظيم:
'وهو أن طريق الآخرة هو هو طريق الدنيا بلا اختلاف ولا افتراق، إنهما ليسا طريقين منفصلين أحدهما للدنيا والآخر للآخرة وإنما هو طريق واحد يشمل هذه وتلك، ليس هناك طريق للآخرة اسمه العبادة وطريق للدنيا اسمه العمل إنما هو طريق واحد أوله في الدنيا وآخره في الآخرة، وهو طريق لا يفترق فيه العمل عن العبادة، ولا العبادة عن العمل كلاهما شئ واحد في نظر الإسلام، أما هذا الفصل المتعسف بين الدنيا والآخرة أو بين العمل والعبادة فليس من الإسلام في شئ، الإسلام أن يأكل المسلمون باسم الله، ويتزوجوا باسم الله، ويتعلموا باسم الله وفي سبيل الله، ويعملوا وينتجوا ويتفوقوا باسم الله، لا تشغلهم الدنيا عن الآخرة ولا الآخرة عن الدنيا لأنهما طريق واحد لا يفترقان.
فأنت عزيزتي المرأة المسلمة مطالبة بعمارة الأرض وصناعة الحياة تماما كما أنك مطالبة بالصيام والصلاة.
والخلاصة:
أننا الآن نستطيع أن نضع رسالة عامة لابد وأن يحملها كل مؤمن ومؤمنة في الحياة وهي إرضاء الله تعالى من خلال:
الالتزام بمنهج الإسلام في نفسه وماله وأهله.
صناعة الحياة من خلال التفوق في التخصص المهني سواء في الوظيفة أو الدراسة أو غير ذلك .........
والمسلم مخير في صورة هذه الرسالة بمعنى أنه يختار التخصص الذي يناسبة في الحياة ليتفوق فيه ويساهم من خلاله في خلافة الله عز وجل في الأرض ؟
اتفقنا عزيزتي المرأة المسلمة أن الهدف العام ورسالتك في الحياة هي:
' إرضاء الله تعالى من خلال النجاح في تخصصك '
وهذه الرسالة العامة لا يمكن أن تتحول إلى واقع عملي إلا إذا تم تحويلها إلى رؤية واضحة تمتد لتشمل جميع جوانب حياتك وهذه الجوانب هي:
الجانب الإيماني ـ الجانب الإسري ـ الجانب المهني ـ الجانب الصحي ـ الجانب المالي ـ الجانب الاجتماعي ـ الجانب الثقافي العلمي ـ الجانب الترفيهي ـ الجانب التطوعي ـ الجانب التطويري.
وإذا تساءلت عزيزتي المرأة المسلمة ما علاقة هذا الكلام بالحديث عن رمضان في رؤية جديدة ؟
أقول إن الجانب الإيماني هو من أهم الجوانب على الإطلاق الذي يتوقف عليه نجاح المؤمنة في بقية الجوانب العشرة.(/1)
حيث أنه فوق كونه أساس العلاقة مع الله، ولا ينجوا الإنسان يوم القيامة من النار ولا يفوز برضوان الله وجنته إلا بالنجاح فيه، إلا أنه أيضا يحقق الاستقرار والتوازن النفسي ويمنح الإنسان شعورا بالطمأنينة والسكينة والسعادة والصحة النفسية مما يولد لديه دافعية كبيرة للتقدم والنجاح.
يقول الله عز وجل ? مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ? النحل 97.
ويقول أيضا: ? أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ? الرعد 28.
وفي علم النفس أن وراء كل سلوك دافع، والمؤمن دافعه أخروي إيماني موصول بربه والدوافع الأخروية أقوى أنواع الدوافع وأعظمها قدرا ومكانة وأكثرها ملازمة للإنسان، لأنها تدفع الإنسان في السر والعلن وفي كل الأوقات والأحوال وأينما كان، ولأنها دوافع تؤدي به إلى السمو والاستعلاء والعزة والشرف، فالدافع الديني هو ميزة الإنسان وخصوصية، والدافع العبادي هو مناط رفعة وكرامة.
عزيزتي المرأة المسلمة..
من هذا المنطق تبدأ معا هذه السلسلة من المقالات 'طائعة متميزة في ومضان'
بفكر جديد ورؤية جديدة وعبادة وعمل جديدين وفقنا الله إلى صالح الأعمال في رمضان وفي غيره..
اللهم بلغنا رمضان، وأعنا على صيامه وقيامه، واجعلنا من عتقائه يارب العالمين.(/2)
طاعة ولي الأمر
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ العقائد والمذاهب الفكرية/ نواقض الإيمان/الحكم بغير ما أنزل الله
التاريخ ... 20/3/1423
السؤال
هل رئيس الجمهورية له حق الطاعة بالرغم أنه لا يعمل بشريعة الإسلام؟ وما العمل إذاً للعودة بالعمل بها؟ أرجو رد فضيلتكم؛ لأن هذا الموضوع قد أثار جدلاً وخلافات بين جميع طلاب الجامعة عندنا.
الجواب
كل رئيس أو حاكم لا يحكم بشريعة الله فهو كافر؛ لقوله –تعالى-: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" [المائدة:44]، وقوله: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً" [النساء:65]، وليس لمن هذه حاله ولاية شرعية على مسلم "ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا" [النساء:141]، هذا جواب مجمل لشخص غير معين.
أما إذا أريد تطبيق هذا الحكم على شخص بعينه يحكم بغير ما أنزل الله ففي الأمر تفصيل لا يخلو من ثلاث حالات، هي:
1-إذا كان يحكم بغير ما أنزل الله من القوانين الوضعية وهو يعلم حكم الله في مسألة أو مسائل، ويرى أن الحكم فيها بما أنزل الله لا يصلح لهذا الزمان فهو كافر كفراً أكبر ينقله عن الملة وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم؛ لأن لسان حاله أو مقاله رد لحكم الله، وقد نصب نفسه مشرعاً معه -سبحانه-.
2-وإن حكم بغير ما أنزل الله في أمر ما وهو يعلم حكم الله، ويرى أن حكم الله وحكم غيره من المتبعين للطاغوت سواء وهو بالخيار له الأخذ بأحدهما مما يراه ينفع نفسه أو ينفع الناس في زعمه، فهو كافر كفراً أكبر كالذي قبله تماماً.
3-إن حكم بغير ما أنزل الله وهو يعتقد أن حكم الله أصلح للخلق في دينهم ودنياهم، وإنما حكم بخلافه متأولاً، أو مجبراً، أو مكرهاً، أو لشهوة عنده فمن هذه حاله لا يكفر كفراً ينقله عن ملة الإسلام وهو مرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب وهذا الذي يسميه العلماء كفراً دون كفر.
والصنفان –الأول والثاني- لا يجوز للمسلمين أن يقبلوا ولايتهم بحال، وهم آثمون بذلك.
أما الصنف الثالث فواجب المسلمين نصحهم وتوجيههم والإنكار عليهم، وإن استطاع المسلمون عزلهم وتعيين من هو أصلح منهم جاز لهم ذلك بشرط أمن الفتنة من سفك دماء، أو انتهاك أعراض، أو إهدار أموال، وإذا لم يكن تولية حاكم أصلح من هذا فيجب أن يسمع له ويطاع ما لم يأمر بمعصية الله؛ لحديث عبد الله بن عمر بن الخطاب في الصحيحين (البخاري (2955) ومسلم (1839)): "السمع والطاعة على المرء فيما أحب أو كره إلا أن يؤمر بمعصية الله فإن أمر بمعصية الله فلا سمع ولا طاعة". وينبغي التنبيه إلى أن كلاً من المشرع –الواضع- للقوانين الوضعية، والمدافع –المحامي- عنها هما والحاكم بها سواء بسواء، بل إن المشرع والمدافع عنها بالباطل أعظم جرماً وكفراً من الحاكم بها.
وحديث عبد الله بن عمر أصل من أصول الحكم حدد فيه الرسول –صلى الله عليه وسلم- سلطة الحاكم على المحكوم، وحفظ للمحكومين دينهم وعزتهم أمام الحاكم وغيره، والمراد بالمعصية في الحديث، هي: المعصية الصريحة الواضحة المنصوص عليها في الكتاب أو السنة، وليست المعصية –المختلف فيها- التي يتأولها الآمر أو المأمور ويتحايل كل منهما ليبرر معصيته، وكثير من الحكومات اليوم –التي تحكم بالقوانين الوضعية- تأمر شعوبهاً أفراداً أو جماعات بأعمال تسير بها حياة الناس كوضع أنظمة للمرور وقوانين السفر والتجارة والصناعة...إلخ، مما فيه مصلحة ولا يخالف نصاً صريحاً في القرآن أو السنة، وتلزم بها الناس وتعاقب من يخالفها أو يخرج عليها بعقوبات مالية أو بدنية، ففي مثل هذه الحال يجب على الناس السمع والطاعة؛ لأنهم لم يؤمروا حينئذ بمعصية وإنما أمروا بطاعة، ولكننا -مع الأسف- نجد كثيراً من الناس ومن الشباب خاصة لا يطيعون فيما أمروا به في هذا إذا لم يوافق هواهم أو رغبتهم، بل إن بعض الناس يجتهد في التقصير في أداء ما أمر به بالخروج على هذه النظم قربة إلى الله –سبحانه-! وهذا فهم سقيم وتأول فاسد ترده النصوص الشرعية كحديث عبد الله بن عمر هذا، وحديث عبادة بن الصامت في الصحيحين (البخاري (7199) ومسلم (1709)): "بايعنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وأثرة علينا ما لم نؤمر بمعصية فإذا أمرنا بمعصية فلا سمع ولا طاعة"، ومعناه: أن الصحابة بايعوا رسول الله أن يسمعوا ويطيعوا لمن سيتولى أمرهم على مر الزمان وجميع الأحوال من قوة، أو ضعف، أو محبة، أو كراهية، أو جور، أو عدل ما لم يؤمروا بمعصية واضحة وصريحة، فهذه النصوص النبوية وأمثالها ترد هذه التأولات والتخرصات، ثم لو أخذ بها لسادت المجتمع الفوضى، وانتشر فيه الظلم والتعدي بين الناس، وانتهكت فيه الأعراض، وسلبت فيه الأموال....إلخ.(/1)
وحين نقول: يجب أن يسمع ويطاع لمثل هذا الحاكم الآمر، لا يعني أنه عادل في حكمه هذا، بل قد يكون ظالماً متعدياً، كما يحتمل أن يكون المحكوم –المأمور- ظالماً أو مظلوماً، والظلم من كل أحد وعلى كل أحد حرام: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماًَ فلا تظالموا" مسلم (2577) ولكنه حرام على الآمر فقط، أما المأمور فيجب عليه التنفيذ حيث لم يؤمر بمعصية، ثم إن الظلم في مثل هذه الأمور المتأولة أمر تقديري تختلف فيه الأنظار والآراء والغالب أن المأمور ينظر لنفسه ويحكم لها؛ لأنه ربما يرى أنه مهان فمن النادر أن يكون تقديره للظلم الواقع عليه صواباً.
ومما يلاحظ في عامة النصوص التي تأمر بالسمع والطاعة في غير معصية أنها لم تذكر أو تقيد صفة هذا الآمر هل هو كافر صريح، أم متأول، أم مسلم ظالم، أم فاسق، فقد يأمر الحاكم الكافر الصريح في كفره بعض المسلمين بأمر ليس فيه معصية لله، كما هو الحال في الأقليات المسلمة في ديار الغرب، حيث يطالب المسلمون بالتقيد بأنظمة وقوانين تلك البلاد الكافرة، وقل مثل ذلك في كثير من المسلمين في البلاد العربية والإسلامية التي تحكم حكوماتها بالقوانين الوضعية، مع الحكم بالشريعة في الأحوال الشخصية مثلاً المسلمون وإن لم يكونوا أقلية في ديارهم لكنهم مضيق عليهم فلا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر، بل ربما منعوا من رفع دعواهم إلى المحاكم لرفع الأذى والظلم عنهم، فحال الأقليات المسلمة في ديار الغرب وحال المسلمين المستضعفين في ديارهم سواء بسواء، فواجب الجميع السمع والانقياد إذا أمروا بطاعة، ويجب عليهم الإنكار أو الامتناع والرفض إذا أمروا بمعصية.
وأخيراً أنصح السائل وإخوانه بالابتعاد عن الخلاف والجدل فيما لا طائل تحته ولا ينتج ثمرة، وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه. آمين.(/2)
طاقة التحمل!
د. عبدالكريم بكار 18/2/1425
08/04/2004
كلما تأمل المرء في أسرار التشريع وفي طبائع الأشياء ظهر له جليًّا أن بارئ الخليقة ومرسل الرسل ومنزّل الكتب واحد –جل شأنه-؛ وأظن أننا كلما امتلكنا رؤية أعمق وأشمل لتاريخنا وواقعنا ظهرت حاجتنا إلى أن نعمل في ظلال هدي الشريعة الغراء وفي إطار (طاقة التحمل) على كل الصعد التي تعرفنا على سنن الله في الخلق في مسائلها وقضاياها، وذلك حتى لا نهدم ونحن نريد البناء، ولا نُفسد ونحن نريد الإصلاح...
في الإمكان أن نقول: إن كل شيء تحمَّله فوق طاقته فإنك تخسره، أو تكاد. وخسارتنا لما نحمَّله فوق طاقته أشكال وألوان.. فقد تتجلى الخسارة في فقده وانعدامه، كما لو ضغطنا على كأس زجاج رقيق أكثر من طاقته على الاحتمال. وقد تتجلى الخسارة في فقده لوظيفته مع بقاء مادته، كما لو حمّل مهندس بناء حديد التسليح في عمارة ينشئها أوزاناً فوق الأوزان التي يتحملها عادة؛ مما يؤدي إلى انهيار البناء بسبب اعوجاج الحديد. وتتمثل الخسارة في بعض الأحيان لهذا الذي نحمَّله فوق طاقته في فقد فاعليته، أي أنه يؤدي عمله لكن على غير الوجه المطلوب، كما أن النتائج تكون أقل من المتوقع. إنك لا تستطيع أن تحمَّل مركبة ضعف حمولتها العادية، ثم تسرع بها كما يسرع الذي يقود مركبة تحمل حمولة عادية. وقد تتجسَّد الخسارة في عدم القدرة على الاستمرار في السعي إلى آخر الطريق كالمسافر الذي يتناول ما لديه من طعام وشراب على نحو مسرف، فإنه سيجد نفسه في مرحلة من المراحل عاجزاً عن متابعة المسير بسبب تحميله لزاده ما لا يحتمل من الاستهلاك، وكالذي يحمَّل بدنه ما لا يحتمل بإطلاق العنان لشهواته، فيجد نفسه هرماً قبل الأوان. وهناك أنواع أخرى للخسارة ...
إن لدينا الكثير من النصوص التي تؤكد مراعاة الشريعة لهذا المبدأ العظيم، منها قوله – سبحانه- : ( لا يكلف الله نفساً إلا وسعها)[سورة البقرة:286]، وقوله : ( وما جعل عليكم في الدين من حرج)[سورة الحج:78]، وقوله : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)[سورة البقرة:185]، وقوله: ( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم)[سورة النساء:148]، وقوله: ( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة)[سور النساء:129]. وقال عليه الصلاة والسلام: "لولا أن أشق على أمتي لفرضت عليهم السواك مع الوضوء، ولأخرت العشاء إلى نصف الليل"، وقال لعائشة- رضي الله عنها- " لولا حداثة قومك بكفر لنقضت البيت، فبنيتُه على أساس إبراهيم، وجعلتُ له خلفاً فإن قريشاً لما بنت البيت استقصرت".
إنه لا يريد أن يحمّل إيمان قريش الغضّ أكثر مما يحتمل، ولذلك امتنع عن ذلك العمل الذي قد يهيجهم، ويدفعهم إلى الاستنكار.
إن الشريعة راعت حال المكلفين وقدرتهم على النهوض بحقوق الالتزام، ولهذا فليس في ديننا -بحمد الله- ما يشقّ اعتقاده أو يشقّ عمله. وحين يعيش المسلم في ظروف خاصة أو طارئة فإن الشريعة تلمح ذلك، وتجنح به إلى الرخصة والتيسير، وصار من القواعد الفقهية المشهورة أن الأمر كلما ضاق اتسع. وفلسفة الرخصة في الإسلام تقوم على أن التخفيف في التكليف يساعد المسلم على أن يبقى في إطار الاستجابة لأمر الله، وفي إطار الشعور بالقيام بحقوق العبودية عوضاً عن الشعور بالضيق والمشقة والحرج والسعي إلى التماس الأعذار للتقصير والإعراض عن أمر الله بالكلية. ومن هنا كانت رخصة قصر الصلاة وجمعها للمسافر، وجواز التيمم في ظروف معينة، وجواز الإفطار في رمضان للمريض والمسافر، ورفع القلم عن النائم والمجنون والطفل، والإعذار بالجهل في الكثير من المواطن، وعدم المؤاخذة بما لا يستطيعه المسلم من العدل بين نسائه في المحبة والأنس والاستمتاع.
ولدينا العديد من النصوص التي توجه المسلم إلى ألاّ يحمَّل نفسه مالا يطيق حتى لا يقع في شكل من أشكال الخسارة التي أشرنا إليها. وهي نصوص كثيرة في الحقيقة، منها ما رواه الشيخان من قوله صلى الله عليه وسلم : " إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم؛ فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدري يذهب يستغفر؛ فيسب نفسه" . إن الخسارة هنا واضحة فحمل النفس على العبادة مع شدة النعاس، قد يؤدي إلى عكس المقصود، فيدعو المرء على نفسه عوضاً من الاستغفار. وقال عليه الصلاة والسلام : " لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه. قالوا: وكيف يذل نفسه؟!. قال : يتعرض من البلاء مالا يطيق".
بين الكم والكيف علاقة عكسية، وفي معظم – إن لم نقل جميع- الحالات لا يكون الكم إلا على حساب الكيف، كما لا يكون الكيف إلا على حساب الكم.. نعم يمكن نقض هذه العلاقة إذا كانت أعمارنا وطاقاتنا وأموالنا... غير محدودة، وأنى لنا بهذا؟(/1)
حين يعرّض المسلم نفسه لابتلاءات قاسية فإنه يضع نفسه على حافة الخطر حيث لا ضمانة لصبره على ما جرّه لنفسه من البلاء، ولا ضمانة لنجاحه في الاختبار الصعب الذي قرر الدخول فيه. وقد رأينا الكثير الكثير من ذوي القلوب الطيبة وقد نكثوا على أعقابهم نتيجة الذل الذي صاروا إليه بسبب تحميلهم لأنفسهم ما لم يحملهم الله – تعالى- إياه، وكانت النتيجة أنهم انتهوا إلى لا شيء: لا كم ولا كيف!.
إن المثابرة إحدى الفضائل الإسلامية، وهي لا تكون أبداً إلا إذا جعلنا أنشطتنا في إطار طاقاتنا، وإلا إذا تجنبا إرهاق الأنفس.
تقول عائشة- رضي الله عنها- : " دخل عليّ النبي – صلى الله عليه وسلم- وعندي امرأة . قال: من هذه؟ قلت: فلانة تذكر من صلاتها- أي تتحدث عن كثرة صلاتها- فقال: مه. عليكم بما تطيقون، فوالله لا يملّ الله حتى تملوا وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه".
وفي حديث مسلم عنه – صلى الله عليه وسلم- : " هلك المتنطعون" قالها ثلاثاً. والتنطع هو التعمق والتشدد في غير موضع تشديد. الشريعة الغراء تدعو إلى اليسر لأنه من أهم منطلقاتها، ولأن التجربة أثبتت أن الإيغال في أي أمر يكون في الغالب على حساب أمور أخرى؛ ومن النادر أن ترى رجلاً صرف جل اهتمامه وعنايته لأمور معينة دون أن يقع في التفريط في أمور أخرى، لا تقل في أهميتها عما يبالغ في العناية به، فالكيف كما ذكرت لا يكون إلا على حساب الكم.
في المقال القادم سأتناول بإذن الله – تعالى- بعض التطبيقات المعاصرة لمسألة خسران الأشياء التي تحمَّلها فوق طاقتها.
ومن الله الحول والطول.(/2)
طاووس بن كيسان*
الدكتور محمد أديب الصالح
هو أبو عبد الرحمن بن كيسان من أكابر التابعين وأول الطبقة من أهل اليمن ... توفي رحمه الله بمنى أو بالمزدلفة سنة خمس ومائة للهجرة .
تقرأ سيرته فيشدك ما ترى من العلم والعمل والزهادة في الدنيا والتقشف في العيش والإكثار من العبادة والتبتل ... إلى الصحابة رضوان الله عليهم حيث تجد فيه نهجهم ... وتلمس في سلوكه وفهمه لدين الله طريقتهم في أخذهم عن رسول الله عليه الصلاة والسلام ... فقد أخذ نفسه بميزان الأمانة في العلم والإخلاص في العمل ...
والخوف من الله مخافة أراحته من عناء الدنيا والتطلع إلى زخرفها ... ووحد الوجهة ... فعمل بصدق لله ... وأحسن الأدب في الوقوف عند بابه فكفاه الله مؤونة الوقوف على باب عباده من الأغنياء أو الأمراء وصدق فيه قول أهل المعرفة : اعمل لوجه واحد يكفك الوجوه كلها ...
ثم إنه كان لا يخاف في الله لومة لائم ، ومواقفه مشهورة مذكورة في الصدع بالحق حيث وجب ذلك. ويأبى لورعه القرب من السلاطين وأعوانهم . قال سفيان بن عيينة : اجتنب السلطان ثلاثة : أبو ذر وطاووس والثوري .
وكان من آثار ذلك ما نجد في شذرات من حياته المملوءة بجلائل الأعمال والفضائل ... فقد طال عمره وحسن عمله ... وقدم لنفسه ولأمته الخير الكثير من علم وربّى بالقدوة الحسنة والكلمة الطيبة والتي تشهد لها نصوص الكتاب والسنة وينير سبيلها إلى القلوب وفاء بالعهد وإخلاصاً لا تشوبه شائبة . والاستمساك بأهداب هذا الدين القويم ... صنيع من حمل عنهم هذا الدين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
حدث أبو عبد الله الشامي قال : أتيت طاووساً فخرج إليّ ابنه وهو شيخ كبير.. فقلت : أنت طاووس ؟ فقال : أنا ابنه ، قلت : فإن كنت ابنه فإن الشيخ قد خرف !! فقال : إن العالم لا يخرف ، فدخلت عليه ، فقال لي طاووس : سل وأوجز ، قلت : إن أوجزت أوجزت لك ، قال : تريد أن أجمع لك في مجلسي هذا ، التوراة ، والإنجيل ، والزبور، والفرقان ؟ قلت : نعم ، قال : (خف الله تعالى مخافة لا يكون عندك معها شيء أخوف منه ، وارجه رجاء هو أشد من خوفك إياه ، وأحب للناس ما تحب لنفسك).
أرأيت إلى هذا الإيجاز الجامع ما أبلغه ... فإذا تصورنا بعقل المؤمن وقلبه ما تعنيه هذه الوصية لرأيناها تجمع أطراف علاقة العبد بخالقه عز وجل ، وعلاقته بنفسه ، ثم بإخوانه المؤمنين ... ولا بدع فطاووس يغترف من بحر النبوة بما تلقى من حقائق العلم وسلامة العمل عن أولئك الذين عاشوا في متنزل الوحي ... وتربوا على الذي أراده لهم رسول الله عليه الصلاة والسلام .
ومن هذا المعين الصافي خرجت هذه الكلمات التي يقولها العظماء .. قال عطاء رحمه الله : جاءني طاووس فقال لي : (يا عطاء إياك أن ترفع حوائجك إلى من أغلق دونك بابه ، وجعل دونك حجاباً ، وعليك بطلب حوائجك إلى من بابه مفتوح إلى يوم القيامة ، طلب منك أن تدعوه ووعدك بالإجابة) رحمه الله وأجزل مثوبته ، لقد أخذ نفسه بهذا قبل أن يوصي به الآخرون فكان عند قوله تعالى :
[وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون](1) . وقوله صلى الله عليه وسلم : \" وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله ...\"(2).
والحمد لله رب العالمين .
الهوامش :
*حضارة الإسلام السنة 21 ـ 12 /1400 الأعداد 8 ـ 10 .
(1) سورة البقرة : 185 .
(2) من حديث طويل أخرجه الترمذي رقم 2518 في صفة القيامة ، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وقال حديث حسن صحيح وأخرجه الإمام أحمد سند رقم 2669 ، 2763 ، 2804 وهو حديث صحيح .(/1)
طب البقاء لمن يستحق وإبادة من تبقى!! د. ست البنات خالد*
اليوجينا(تحسين النسل جينياً باختيار الأزواج الحاملين لصفات وراثية مرغوبة)
"وما علينَا إلا البلاغُ المُبِينُ" (سورة يس: 17)
"قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ." (سورة البقرة: 32)
لا بد أن الكثيرين منا لم يسمعوا بهذا المصطلح "اليوجينيا" ولا يعرفون حتى ماذا يعني ولا ماذا يخبئ وراءه من حرب إبادة يجهل معظمنا قواعدها، فلا شك أن الاهتمام بالنواحي الصحية للفرد والأسرة والمجتمع وتحسين النسل هو الهدف الرئيسي لشعوب العالم المتقدمة بغية تكوين مجتمع يتمتع أفراده بالقوة البدنية والعقلية , لكن أن يتعدى هذا الأمر إلى التمييز بين الناس وإبادة شعوب بكاملها فهو أمر خطير لا بد من التوقف عنده. وتحسين النسل وراثياً يطلق عليه اسم “يوجينيا Eugenics” وهي كلمة مشتقة من عبارة يونانية تعني الفرد الطيب الحسب والنسب، النبيل العرق ويتم هذا التحسين بانتقاء مجموعة من الأفراد هم الأكثر صلاحية من غيرهم لامتلاكهم صفات وراثية مرغوبة وتشجيعهم على الزواج بمن كان مثلهم وحملهم على التكاثر ومساعدتهم على تربية أطفالهم وإجراء الفحوصات الجينية للراغبين في الزواج قبل إتمامه للوقوف على مدى ما تحمله جيناتهم من تشوهات أو أمراض وراثية وذلك لتجنب إصابة أبنائهم بالأمراض والتشوهات التي قد تنتقل إليهم من أسلافهم كأمراض القلب والأوعية الدموية وأمراض الدم مثل أنيميا الخلايا المنجلية والثلاسيميا ومرض نزف الدم (هيموفيليا) ومرض البول السكري وتليف الرئة الكيسي أو الحويصلي وضمور العضلات، وأمراض الجهاز المناعي والتشوهات الكروموسومية الجسمية والجنسية وغيرها.
ومعظم الناس لم يسمعوا عن اليوجينيا ومن سمع عنها يعتقد أنها قد انتهت مع هزيمة هتلر عام 1945 بعد أن جاء بفكرتها السير فرانسيس جالتون الذي صاغ المصطلح عام 1883م إذ رأى أن التطور الصحيح للجنس البشري قد انحرف، حيث قادت نزعة الخير لدى الأثرياء وإنسانيتهم، إلى تشجيع (غير الصالحين) على الإنجاب الأمر الذي أفسد آلية الإنجاب الطبيعي، ومن ثم أصبح جنس البشر في حاجة إلى نوع من الإنجاب الصناعي، أطلق عليه اسم “اليوجينيا “ ويعني “علم تحسين الإنسان عن طريق منح السلالات الأكثر صلاحية فرصة أفضل للتكاثر السريع مقارنة بالسلالات الأقل صلاحية”. ويرجع تاريخ تربية أناس افضل إلى أفلاطون فعلى رأس “جمهوريته” كان فلاسفة يتمتعون بالصحة الطيبة والقدرة العالية على التفكير أما محدودو الذكاء فكانوا يشغلون المواقع الدنيا من الهيراركية وكان على حكام الجمهورية أن يدبروا أمر تزاوج المرغوبين وأن يتيحوا لكل من يُبلي بلاء حسنا في الحروب فرصا أكبر للإنجاب، وهذه الأفكار الأفلاطونية تعادل ما نسميه اليوم “اليوجينيا الإيجابية”. ويوضح البروفيسور أحمد مستجير في كتابه الثورة البيولوجية تحت عنوان “سقط القناع” أن جوهر التطور هو الإنجاب الطبيعي، وجوهر اليوجينيا هو استبدال الإنجاب الطبيعي بإنجاب اصطناعي واعٍ، بهدف الإسراع في تطوير الصفات المرغوبة والتخلص من الصفات غير المرغوبة بهدف تحسين الأجيال القادمة على حساب الأجيال المعاصرة. وأشار إلى أن الفرض المستتر هو أن هناك من البشر من هم أفضل من غيرهم، من يستحقون أن ينجبوا أكثر من الآخرين وأن يُمثلوا في الجيل التالي بنسبة تفوق نسبتهم في الجيل الحالي ويتم ذلك بزيادة نسل من "يستحقون" (اليوجينيا الإيجابية) أو بتقليل نسل من "لا يستحقون" (اليوجينيا السلبية) موضحا أن التحوير المتعمد لجنس البشر لأهداف اجتماعية هو ما تطمح إليه اليوجينيا، فعندما يتغلب الإنسان على تطوره البيولوجي، سيكون وضع الأساس للتغلب على كل شيء آخر، سيصبح الكون أخيرا طوع بنانه.(/1)
وتحت عنوان "سَقَطَت اليوجينيا.. ولم يسقط اليوجينيون .. حروب وراثية" نبه إلى أن موضوع بحث “اليوجينيا” يتمثل في دراسة العوامل الواقعة تحت التحكم الاجتماعي التي قد تحسّن أو تفسد الخصائص الطبيعية الموروثة للأجيال في المستقبل جسدياً أو ذهنياً, فقد ذاعت حركة اليوجينيا في أوائل القرن العشرين في أوروبا وأمريكا عندما كان علم الوراثة لا يزال طفلاً يحبو وانضم إليها وتعاطف معها الكثيرون من كبار المفكرين والعلماء والساسة والفلاسفة ورجال المال منهم براتراند راسل ، ج . د . برنال ، جوليان هكسلي ، رونالد فيشر ، برنارد شو ، هافلوك إليس ، د. هـ . لورانس ، ألدوز هكسلي ، هـ . ج . ويلز، روزفلت ، تشرشل ، جون روكفيلر. وقد قيل إن اليوجينيا رغبةٌ طبيعية في الإنسان الفرد و في الجماعة فلم يكن لدى الوالدين في فجر التاريخ أي مانع من قتل طفل لتوفير فرصة أفضل لبقاء أخيه بدلاً من موت الاثنين كما كانت محاولاتُ الإبادة الجماعية للأعداء وسيلةً معروفةً لتحسين فرصة بقاء العشيرة. وقد جمع الباحثون في هذه المعامل بيانات تتعلق بوراثة الإنسان وذلك بفحص السجلات المرضية وإجراء دراسات على العائلات الممتدة والدراسات على التوائم وأوصوا بالتدخل في تكاثر البشر لرفع تكرار الجينات الطبية اجتماعيا في العشيرة وخفض تكرار الجينات الرديئة إلا أن لهذا التدخل وجهين: الأول إيجابي من خلال معالجة وراثة البشر وتوليد أناس افضل أما الثاني فهو سلبي من خلال تحسين نوعية السلالة البشرية بتخليصها من (المنحطين بيولوجياً) من خلال منع (المتخلفين) عن الإنجاب أو مقاومة دخولهم الجماعات البشرية عن طريق الهجرة وبوسائل غير مشروعة. كان اليوجينيون قبل نهاية الحرب العالمية الثانية يعملون في العلن أما بعدها فقد اضطروا للعمل في الخفاء نظرا لارتباط مبادئهم بالنازية فبدأوا بممارسة "اليوجينيا المستورة أو الخفية"، ويوزعون الأدوار فيما بينهم لإعادة بناء اليوجينيا فجماعه تؤكد أيديولوجيا تفوق الجنس الآري الأبيض ، وأخرى تعمل كي يصبح الإجهاض قانونيا في العالم بأسره وثالثة تطور وسائل منع الحمل ورابعة تعيد تسمية السيطرة على موارد العالم فتطلق عليها اسم "الحفاظ على الموارد" كمقدمه لاستعادة السيطرة عليها عندما يحين الأوان وخامسة تعمل في توجيه تدريس علوم البيولوجيا لتجمع في النهاية كل هذه الأجزاء المتناثرة وتصاغ في صورة سياسية اجتماعية. ويعمل اليوجينيون من خلال منظمات أخرى لا يحمل عنوانها كلمة “يوجينيا” ويسعون بمزيج من العرقية والعنصرية والدارونية إلى الإجهاض ووأد الأطفال وما سمّوه القتل الرحيم للمرضى المسنين إلى قتل المرضى والتعقيم وتدريس الجنس بصورة فاضحة تؤدي إلى حمل المراهقات والإجهاض وحبوب منع الحمل وغالباً ما يصلون إلى قلوب الناس وعقولهم عبر وسائل الإعلام والادعاءات الكاذبة بمقولة "لا بد أن يترك الخيار للمرأة" كتعبير تقدمي جميل بقيته "في اختيار وسيله تحديد نسلها"!! واستبدال كلمة "الانتخاب" بكلمة "الاختيار" و"القدرة المعرفية" ب "معامل الذكاء" وأصبحت "الجمعية الأمريكية لليوجينيا" تعرف باسم "جمعية دراسات البيولوجيا الاجتماعية" واستغلال الغموض والثغرات بالقوانين ليمكنوا الأطباء اليوجينيين من موالاة النشاط اليوجيني على أنه إجراءات طبية طبيعية تتم بناءاً على رغبة المريض وهدفهم الرئيسي هو تخفيض أعداد سلالات بذاتها وتحويلها إلى شظايا عقيمة لاعتقادهم بوجود الكثير من المرضى، الكثير من المتخلفين الكثير من الصينيين الكثير من الهنود، الكثير من العرب، الكثير من الناس، يزاحمون الإنسان الأبيض اليوجيني الأسمى ويربضون فوق أراض وفيرة الثروة لا يستحقونها. ويعتبر كبح جماح النمو السكاني من أبرز مهام اليوجينيا شجعته نخبة من البيض تستخدم قوة المال في دفع الدول الفقيرة إلى أن تطلب إبادة جزء من شعبها بهدف الاستيلاء على موارد العالم الثالث. وفي فجر القرن العشرين أصيب كبار رجال الصناعة الأمريكيين بالذعر عندما لاحظوا المعدل الكبير لنمو الأقليات والفقراء ووصول الملايين من المهاجرين إلى أمريكا كل عام وتوقعوا تغييرا جذريا للوضع العنصري والعرقي للأمة في نفس الوقت الذي يهاجر فيه السود من الجنوب إلى الشمال بأعداد غير مسبوقة وخوفاً من أن تتزايد الأقليات لتفوق البيض عدداً رأى رجال الصناعة أن الحل هو “اليوجينيا” فبدأ كبارهم مثل روكفيلر وهنري فورد وأندرو كارنيجي وآفريل هاريمان وبريسكوت بوش بتمويل حركة يوجينية تشجع الإجهاض والتعقيم والقتل الرحيم كسبيل لمواجهة هذه “المشكلة” الجديدة، بل إن عائلة هاريمان شركاء بريسكوت بوش، جد الرئيس الأمريكي الحالي جورج دبليو بوش، قد قامت بتوفير التمويل لألمانيا النازية كما أنشأت مكتب التسجيل اليوجيني في كولد سبرينج هاربور وهو موقع مشروع الجينوم البشري حاليا. وقد حققت اليوجينيا بعد الحرب نجاحا كبيرا في تطوير ونشر “تنظيم(/2)
النسل” أبعد من كل خيال حيث تم خلال الخمسة والعشرين عاماً الماضية في العالم أكثر من مليار ونصف المليار عملية إجهاض فتناقص متوسط عدد الأطفال للمرأة بأكثر من الثلث في ظرف ثلاثين عاماً ونقص المتوسط في كل الدول النامية من 1.6 طفل إلى 6.3 طفل.
ثم أخذت اليوجينيا تطرق مدخلا جديدا هو تحويل نمط الحياة والثقافة لسكان العالم الثالث كي يتوافق أكثر مع نظرة الغرب المتحررة نحو الجنس والتناسل. وتوالت الأبحاث على مر السنين وكان التقدم الأكثر إثارة هو ابتكار المادة الوراثية المهجنة أو “دي إن إيه” المطعّم عام 1973 التي يمكن من خلالها قص قطعة من المادة الوراثية ثم وصلها بأخرى . ويعتمد محور اليوجينيا الحديثة على استخدام خارطة الجينوم البشري لمحاولة إنماء الذكاء في الرجل الأبيض واستخدام أساليب الهندسة الوراثية لتطوير أسلحة بيولوجية تبيد مجموعات عرقية معينة دون غيرها أو نشر أمراض معينة في أعراق دون أخرى وتهتم بدراسة الجينات ومواصفاتها لكي تتمكن تحديد “العرق اليهودي” ومواصفات جينية خاصة يستطيعون استخدامها كشيفرة خاصة تميزهم أمام هذه الأسلحة فلا تسبب لهم أي ضرر وتفتك بغيرهم من الأجناس. وقد خيم شبح اليوجينيا على التفكير في مشروع الشيفرة الوراثية البشرية في الولايات المتحدة ومن المتوقع لأول تتابع بشري كامل أن يكون عن شخص تركيبي له كروموسومات الجنسية (XY) ما يجعله عرفاً ذكراً ولكنه سيحمل في الواقع كروموسومات ذكرية أنثوية من بضع أمم من الولايات المتحدة والدول الأوروبية واليابان أي مزيجا متعدد الجنسيات متعدد السلالات. . ومن المعروف أن لتحديد النسل مخاطر متعددة على صحة المرأة فقد ثبت علمياً أن استخدام أي نوع من وسائل تحديد النسل يعود بآثار وخيمة على الحالة الصحية للأم، فالجهاز التناسلي للمرأة يهيمن على وظيفة مجموعة من هرمونات التناسل تفرز من الفص الأمامي للغدة النخامية والمبيض وفي الحالة الطبيعية تفرز هذه الهرمونات بنسب مقدرة ومعينة بحيث إذا حدث فيها أي زيادة أو نقص أدى ذلك إلى حدوث حالة مرضية وبالتالي فإن الوسائل المستخدمة لمنع الحمل لها أضرار على من يتعاطينها أهمها اختلال التوازن الهرموني في الجسم وزيادة الوزن وتجمع كميات كبيرة من السوائل وحدوث التهابات شديدة في الجهاز التناسلي للمرأة وزيادة احتمالات تعرضها للنوبات القلبية المميتة خصوصاً لمن تجاوزن الثلاثين من العمر ولا سيما من تخطين الأربعين كما ثبت أن استعمال موانع الحمل ولا سيما الحبوب، قد يؤدي إلى الإصابة ببعض الأورام السرطانية. وفي الوقت الذي انتشرت دعوات تحديد النسل في معظم البلدان الإسلامية بحجة مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية وتُرصد لهذه الحملة أموال طائلة كان من الممكن توظيفها في مشاريع اقتصادية واجتماعية أكثر جدوى تؤكد التقارير أن ما يصرف على إنجاح حملة تحديد النسل في عام واحد من سيارات وأطباء وممرضين وممرضات وأدوية ومهمات وعمليات جراحية ومستشفيات وغيرها يكفي لرعاية أكثر من مليون طفل في حين أن زيادة الأطفال لا تتجاوز ربع مليون طفل .(/3)
طبيعة الكفار في عداوتهم ومحاربتهم للمؤمنين
قال تعالى ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ? [آل عمران:118].
قال تعالى: ? أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ?[ التوبة:13].
وقال تعالى:? إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ?[ الممتحنة:2].
وقال تعالى:? إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ?[ الممتحنة:9].
وقال تعالى:? وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ?[الأنفال :30].
وقال تعالى: ?وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً ?[النساء:89].
وقال تعالى:?وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ?[ البقرة:217].
راجعه: عبد الحميد أحمد مرشد.(/1)
المجموعة الأولى
اجتناب الظنّ
قال الله سبحانه وتعالى :
( يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظنّ إنّ بعض الظنّ إثمٌ ولا تجسّسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه . واتقوا الله إنّ الله توابٌ رحيم ) [ الحجرات : 12 ]
* * * * * *
أُخوّة الإسلام
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إياكم والظنَّ فإن الظن أكذب الحديث . ولا تحسّسوا ولا تجسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ، وكونوا عباد الله إخواناً كما أمركم . المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يحقره . التقوى هاهنا . التقوى هاهنا " ويشير إلى صدره " . بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم . كل المسلم على المسلم حرام : دمه وعرضه وماله إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم وأعمالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم . " صحيح مسلم : 15/61ـ65
هذا الحديث الشريف يعالج ناحية من أهم نواحي الخلل في واقع المسلمين اليوم . أيها المسلم ! احفظه وتدبرْه واعمل به .
* * * * * *
لا غربة
قال بعض الحكماء : ثلاث لا غربة معهن : مجانبة الرّيب ، وحسن الأدب ، وكف الأذى .
* * * * * *
طرفة
قال رجل لعبد الملك بن مروان : إني أريد أن أُسِرَّ إليك شيئاً . فقال عبد الملك لأصحابه : إذا شئتم ! فنهضوا . فاراد الرجل الكلام . فقال له عبد الملك قف : لا تمدحني فإني أعلم بنفسي منك ، ولا تكذبني فإنه لا رأي لكذوب ، ولا تغتب عندي أحداً . قال : يا أمير المؤمنين ! أفتآذن لي في الانصراف ؟ ! قال : إذا شئت !
من طرائف الشعر
أبيات لإبراهيم السوّاق ، فغيرتُها لمخاطبة الأخ لأخيه :
فهبني يا أخي أني أسأتُ وبالهجران قبلك قد بدأتُ
فأين الفضل منكَ فدتك نفسي عليَّ إذا أسأتَ كما أسأت
المجموعة الثانية
عباد الرحمن
قال الله سبحانه وتعالى :
( وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً ، والذين يبيتون لربهم سجداً وقياما ، والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما ، إنها ساءت مستقراً ومقاماً ، والذين إذا أنفقوا لم يُسْرفوا ولم يَقْتروا وكان بين ذلك قواما ) . [ الفرقان : 63ـ 67 ]
* * * * * *
توقير الكبير ورحمة الصغير
عن ابن عباس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ليس منّا مَنْ لم يرحم صغيرنا ويوقّر كبيرنا ، ويأمر بالمعروف وينه عن المنكر ) . [ الترمذي : 8/1921 ]
* * * * * *
ذكر الله في المجالس
يروى عن لُقْمان الحكيم أنه قال لابنه : إذا أتيتَ مجلسَ قومٍ فارْمِهِمْ بسَهْمِ الإسلام ، ثم اجلس ، فإن أفاضوا في ذكر الله فَأَجِلْ سَهْمَكَ مع سِهامهم ، وإن أفاضوا في غيره فَخَلِّهمْ وانْهَضْ .
قوله : " فارمهم بسهم الإِسلام " يعني تحيّة الإسلام . وقوله " فَأجِلْ سهمك مع سهامهم " ، يقول : ادْخُلْ معهم في أمرهم .
* * * * * *
طرفة
خرج الحجاج متصيداً بالمدينة ، فوقف على أعرابي يرعى إبلا له ، فقال له : يا أعرابي ، كيف رأيت سيرة أميركم الحجاج ؟ قال له الأعرابي : غشوم ظلوم ! لا حيّاه الله ! فقال : فلم لا شكوتموه إلى أمير المؤمنين عبد الملك ؟ قال : فأظلم وأغشم ! فبينا هو كذلك إذ أحاطت به الخيل ، فأومأ الحجاج إلى الأعرابي ، فأُخذ وحُمل : فلما صار معه قال : من هذا ؟ قالوا له الحجاج ! فحرك دابته حتى صار بالقرب منه ، ثم ناداه : يا حجاج ! قال : ما تشاء يا أعرابي ؟ قال : السر الذي بيني وبينك أحب أن يكون مكتوماً ! قال : فضحك الحجاج وأمر بتخلية سبيله .
من طرائف الشعر
قال صالح بن عبد القدوس :
متى يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم
[ من القائل ، لعبد الله خميس : 3/368 ]
المجموعة الثالثة
الدعوة إلى الله ورسوله
قال الله سبحانه وتعالى :
( ومن أحسن قولاً ممّنْ دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنّني من المسلمين ) . [ فصلّت : 33 ]
* * * * * *
الحكمة والشعر
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : ( إن من الشعر لحكمة ) [ الترمذي 10/2844]
* * * * * *
معرفة منازل الناس
قال الأحنف : ( ما نازعني أحدٌ قطٌ إلا أخذت أمري بإحدى ثلاث : إن كان فوقي عرفت قدره ، وإن كان دوني أكرمت نفسي عنه ، وإن كان مثلي تفضلّت عليه ) .
* * * * * *
طرفة
دعا أبو علقمة بحجام يحجمه ، فقال له : انْقِ غسل المحاجم ، واشدّد قضب الملازم ، وأرهف ظبات المشارط ، وأسرع الوضع ، وعجل النزع ، وليكن شرطك وخزاً ، ومصّك نهزاً ، ولا تردنّ آتياً ، ولا تكرهنّ آبياً . فوضع الحجام محاجمه في جونته ومضى عنه .
من طرائف الشعر
إذا كان دوني من بُلِيتُ بجهله أبيت لنفسي أن تُقارَعَ بالجهل
وإن كان مثلي ثم جاء بزلةٍ هويتُ لصفحي أن يضاف إلى العدل
وإن كنت أدنى منه قدراً ومنصبا عرفت له حق التقدم والفضل
المجموعة الرابعة
التوبة والعمل الصالح
قال الله سبحانه وتعالى :(/1)
( والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً ، يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا ، إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيما ، ومن تاب وعمل صالحاً فإنه يتوب إلى الله متابا ) . [ الفرقان : 68ـ 71 ]
* * * * * *
لله أشدّ فرحاً بتوبة العبد
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة ، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها ، فأتى شجرة واضطجع في ظلها ، وقد أيس من راحلته ، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده ، فأخذ بخطامها ، ثم قال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي وأنا ربك ، أخطأ من شدة الفرح . [ صحيح مسلم : 49/1/2747 ]
* * * * * *
فقد المال
من أمثال العرب : " لم يذهب من مالك ما وعَظك " .
أي : إذا ذهب من مالك شيء فحذّرك أن يحٌلَّ بك مثله فتأديبه إِياك عِوَضٌ من ذهابه .
* * * * * *
طرفة
سمع أعرابي أبا المكنون النحويّ في حلقته وهو يقول في دعاء الاستسقاء : اللهم ربنا وإلهنا ومولانا ، فصلِّ على محمد نبينّا ، اللهم ومن أراد بنا سوءاً فأحط ذلك السوء به كإحاطة القلائد بأعناق الولائد ، ثم أرسخه على هامته كرسوخ السِّجِّيل على أصحاب الفيل ؛ اللهم اسقنا غيثاً مُغيثاً مريئاً مربعاً مجلجلاً مسحنفراً هزجاً ، سحّاً سفوحاً ، طبقاً غدقاً مثعنجراً نافعاً لعامتنا وغير ضار لخاصتنا . فقال الأعرابي : يا خليفة نوح ، هذا الطوفان ورب الكعبة ، دعني حتى آوي إلى جبلٍ يعصمني من الماء .
البلاغة والبيان
قيل لأعرابيّ : من أبلغ الناس ؟ قال : أسهلهم لفظاً وأحسنهم بديهة .
وقيل لآخر : ما البلاغة ؟ قال : نَشر الكلام بمعانيه إذا قَصر ، وحُسن التأليف له إذا طال .
وقيل لآخر ما البلاغة ؟ فقال : قَرع الحجة ودنّو الحاجة .
وقيل لآخر ما البلاغة ؟ قال : الإيجاز في غير عجز ، والإطناب في غير خَطَل .
من طرائف الشعر
قالت تماضر بنت عمر بن الشريد السلميّة ـ الخنساء ـ لأخيها صخر :
وما بلغتْ كف امرئٍ مُتناوِلٍ من المجد إلا حيث ما نِلتَ أطولُ
وما بلغ المهدون في القول مدحةً ولو أطنبوا إلا الذي فيك أفضلُ
وجارك محفوظ منيع بنجوةٍ من الضيم لا يبكي ولا يتذلّل
المجموعة الخامسة
صدق التوكل
قال الله سبحانه وتعالى :
( ....... ومن يتق الله يجعل له مخرجا . ويَرْزُقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا ). [ الطلاق : 2 ـ 3 ]
* * * * * *
خير الأمور
عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : " اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى " . [ رواه مسلم : 2087/2721 ]
* * * * * *
ذلّ المعصية وعزّ الطاعة
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : من سرّه الغنى بلا مال ، والعزُّ بلا سلطان ، والكثرة بلا عشيرة ، فليْخرجْ من ذُلِّ معصية الله إلى عز طاعته ، فإنه واجد ذلك كله .
* * * * * *
طرفة
أطال رجل المُكث في مجلس الصاحب ولم يقتد بغيره في القيام ، فقال : " الفتى من أين ؟ " قال : " من قُمْ " ، قال : " فإذا قُمْ " .
من طرائف الشعر
وما العجز إلاّ أن تُشاورَ عاجزاً وما الحزم إلا أنْ تَهُمّ فتفعلا
المجموعة السادسة
الذين لا يريدون علوّاً
في الأرض ولا فسادا
قال الله سبحانه وتعالى :
( تلك الدّار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّاً في الأرض ولا فساداَ والْعَاقِبةُ للمتّقين ، مَنْ جاء بالحسنة فله خير منها ومَنْ جاء بالسّيئة فلا يُجْزى الذين عَمِلُوا السّيئات إلا ما كانوا يَعْملون ).
[ القصص :83-84]
* * * * * *
اتّقوا الدّنيا واتّقوا النساء
عن أبي سعيد الخُدْري رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
( إنّ الدنيا حُلوةٌ خَضِرة ، وإنّ الله مُسْتخلفكم فيها ، فينظر كيف تعملون، فاتّقوا الدّنيا واتّقوا النساء فإنّ أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء ) .
[ رواه مسلم : 48/26/2748 ]
* * * * * *
حكمة
قال سفيان الثوري : " ما بقي لي من نعيم الدنيا إلا ثلاثٌ : أخ ثقةٌ في الله أكتسب في صحبته خيراً ، إنْ رآني زائغاً قوّمني ، أو مستقيماً رَغّبَني ، ورزقٌ واسعٌ حلال ليست لله عليّ فيه تبعة ، ولا لمخلوق عليّ فيه منّة ، وصلاةٌ في جماعة أُكفى سهوها وأُرزق أجرها .
[ مفتاح سحر البيان : لعلي بن عائد ص113 ]
* * * * * *
حسن البيان
قال الأصمعي : خطبنا أعرابيّ بالبادية فقال : أيها الناس ، إن الدنيا دار مفرّ ، والآخرة دار مقرّ ، فخذوا من مفرّكم لمقرّكم ، ولا تَهْتكوا أستاركم عند مَنْ لا تَخْفى عليه أسراركم .
[ مفتاح سحر البيان : لعلي بن عائد ص93]
من طرائف الشعر
قال طرفة بن العبد :
ويأتيك بالأخبار مَنْ لم تُزَوّد ... ... ستُبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً(/2)
بتاتاً ولم تَضرب له وقت موعِد ... ... ويأتيك بالأنباء مَنْ لم تبع له
فما اسطعتَ من معروفها فَتزوّدِ ... ... لَعَمرُكَ ما الأيّامُ إلا مُعارةٌ
و لا نائلٌ يأتيك بعد التّلدّد ... ... ولا خيرَ في خيرٍ ترى الشَّرّ دونه
فإنّ القرينَ بالمُقارِن مُقتد ... ... عن الْمَرء لا تسألْ وأبصرْ قرينه
أفي اليومِ إقدامُ المنيّةِ أمْ غدِ ... ... لَعَمركَ ما أدري وإنّي لواجلٌ
و إنْ تَكُ قُدّامي أجِدْها بمَرْصَدِ ... ... فإنْ تَكُ خَلفي لا يفُتها سَواديا
[ جمهرة أشعار العرب : 160 ] ... ...
المجموعة السابعة
الأمانة
قال الله سبحانه وتعالى :
( إنّا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقْن منها وحملها الإنسان إنّه كان ظلوماً جهولا ) . [ الأحزاب : 72 ]
* * * * * *
آية المنافق
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال :
( آية المنافق ثلاث ، إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا أؤتمن خان ) [ صحيح الجامع الصغير:16ـ الشيخان والترمذي ]
* * * * * *
البيان
كلُّ شيء كشف لك قناع المعنى الخفيّ حتى يتأدّى إلى الفهم ويتقبّله العقل ، فذلك البيانُ الذي ذكره الله في كتابه ، ومنّ به على عباده ، فقال تعالى :
( الرحمن علّم القُرآنَ . خلَقَ الإنسانَ علّمُه البيان ) [ العقد الفريد:2 /3 ]
* * * * * *
طرفة
ولّى يوسف بن عمر صاحب العراق أعرابيّاً على عمل له ؛ فأصاب عليه خيانة فعزله ، فلمّا قدم عليه قال له : يا عدوّ الله ! أكلت مال الله ! قال الأعرابيّ : فمالَ مَنْ آكل إذا لم آكل مال الله ؟ لقد راودت إِبليس أن يعطيني فلْساً واحداً فما فعل . فضحك منه وخلّى سبيله . [ العقد الفريد :59 ]
القصد
قال الشاعر :
وإذا نطقتَ فلا تكنْ أشِراً واقصدْ فخيرُ الناس مَن قَصدا
[ العقد الفريد : 107 ]
المجموعة الثامنة
عمل الخير مهما قلّ
قال الله سبحانه وتعالى :
( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذرّةٍ خَيْراً يَره ) . [ الزلزلة : 7 ]
* * * * * *
أيّ الأعمال أفضل
عن أبي ذرّ جندب بن جنادة رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله أيّ الأعمال أفضل ؟ قال : ( الإيمان بالله والجهاد في سبيله ، قلتُ : أيّ الرقاب أفضل ؟ قال : أنفسها عند أهلها ، وأكثرها ثمناً ، قلتُ : فإنْ لَمْ أفعلْ ، قال : تُعين صانعاً أو تَصْنع لأخْرقٍ . قلت : يا رسول الله أرأيت إنْ ضَعُفْتُ عن بعض العمل قال : تكفُّ شرّك عن النّاس ، فإنّها صدقة منك على نفسك "
[ مسلم : 1/36/136 ]
* * * * * *
النهج والتخطيط
إذا غاب النهج والتخطيط على أساس الإيمان والتوحيد والمنهاج الرباني في واقع أيّ أمة ، فلا يبقى لديها إلا الشعارات تضجّ بها ولا تجد لها رصيداً في الواقع إلا مرارة الهزائم وتناقض الجهود واضطراب الخطا ، ثم الشقاق والصراع وتنافس الدنيا في الميدان ، والخدر يسري في العروق ، ثم الشلل، ثم الاستسلام!(1)
* * * * * *
طرفة
وقفت امرأة على قيس بن سعد بن عبادة فقالت : أشكو إليك قلّة الجِرْذان. فقال : ما أحسن هذه الكِناية ! املأوا لها بيتها خُبزاً ولحماً وسمناً .
[ العقد الفريد : ص175 .]
من طرائف الشعر
قد يجمع المالَ غيرُ آكله ويأكل المالَ غيرُ من جمعه
[ مفتاح سحر البيان : 58]
---
(1) المسلمون بين الواقع والأمل : موعظة وذكرى . للدكتور عدنان علي رضا النحوي ص11.
المجموعة التاسعة
ومَنْ يُوق شُحّ نفسه
قال الله سبحانه و تعالى :
( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون ) . [ الحشر : 2 ]
* * * * * *
لاحقّ لأحد في فضل
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال :
( بينما نحن في سفر مع النّبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على راحلة له، فجعل يُصَرّف بصره يميناً وشمالاً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من كان معه فضل ظهر فَلْيعد به على من لا ظهر له ، ومن كان له فضل من زاد فَلْيعد به على من لا زاد له . فذكر من أصناف المال ما ذكر ، حتى رأينا أنّه لا حقّ لأحدٍ منّا في فضل ) . [مسلم:31/4/1728 ]
* * * * * *
اللغة العربية لغة القرآن الكريم
إن نقل القرآن والسنة إلى لغة أخرى غير العربية لا تستوفي المعاني كما هي مستوفاة باللغة العربية ، فبعض الألفاظ في القرآن الكريم يتعذر نقلها إلى لغة أخرى ، فكلمات مثل: [ الولاء ، وآية ، والإحسان ، التقوى ، عَرض هذا الأدنى ، قدم صدق ، وأُمْلي لهم ، إمام ، عاكفين ] ، وكلمات كثيرة ، وتعبيرات قرآنية كثيرة ، أعجزت العرب أن يأتوا بمثلها ، فأنّى للّغات غير العربيّة أن تأتي بمثلها ؟! فكلمة " آية " تترجم في الإنجليزية إلى " sign " وشتّان بين معنى هذه وتلك وبين ظلالهما ، إنّ لفظة " آية " لفظة معجزة بنفسها ، تُوحي بالإعجاز والسّمو الذي لا يُبْلغ (1)
* * * * * *
طرفة(/3)
سُئل أعرابيٌ حاجة فردّ السّائل ولم يُعْطه ، فقال له : أين الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ؟ فقال : ذهبوا مع الذين لا يسألون النّاس إلحافاً .
من طرائف الشعر
رأيتُ فُضيلاً كان شيئاً ملفّقاً فكشّفه التّمحيصُ حتّى بدا ليا
أأنتَ أخي ما لم تكنْ لي حاجةٌ فإنْ عرضتْ أيقنتُ أن لا أخاليا
فلا زاد ما بيني وبينك بعدما بَلوتُك في الحاجات إلا تماديا
فلستَ براءٍ عيبَ ذي الوُدّ كُلَّهُ و لا بعضَ مَا فيه إذا كنتَ راضيا
فعينُ الرّضَا عن كُلّ عيبٍ كَليلةٌ ولكنّ عينَ السُّخطِ تُبدي المساويا
كِلانا غَنيّ عن أخيه حياتَهُ و نحنُ إذا مُتْنَا أشدُّ تَغانيا
[ العقد الفريد : 276-277 ]
---
(1) لماذا اللغة العربية ؟ للدكتور عدنان علي رضا النحوي ص43 .
المجموعة العاشرة
تفاوت الدرجات
قال الله سبحانه وتعالى :
( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنّما يتذكّر أولوا الألباب ) . [ الزمر : 8]
* * * * * *
أولوا الأحلام
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
( ليَليني أُولُوا الأحلام والنُّهى ، ثُمّ الذين يلونهم ، ثلاثاً ، وإيّاكم وهيْشاتِ الأسواق ) . [ صحيح الجامع الصغير رقم 547]
* * * * * *
حكمة
يقول نصر بن سيّار والي خراسان : " كلُّ شيء يبدو صغيراً ويكبر ، إلا المصيبة تبدو كبيرةً وتصغر ، وكل شيء يرخُص إذا كثر ، إلا الأدب فإنّه إذا كثر كان أغلى " . [ لطف اللطائف :36 ]
* * * * * *
طرفة
ثقيل الظلّ
أهدى رجل من الثقلاء إلى رجل من الظرفاء جملا ، ثم نزل عليه حتّى أبرمَه ، فقال فيه :
يا مُبْرماً أهدَى جَمَلْ ... ... خذْ وانصِرف ألْفَى جملْ
قال وما أَوقارُها ؟ ... ... قلتُ زَبيب وعسلْ
قال ومَن يقودُها ... ... قلتُ له ألفا رجلْ
قال ومَن يسوقُها ... ... قلتُ له ألفا بطلْ
قال وما لِباسُهم ... ... قلت حُلِىِّ وحُلَلْ
قال وما سِلاحُهم ... ... قلت سُيوف وأَسَل
قال عبيد لي إذن ... ... قلت نعم ثم خَوَلْ
قال بهذا فاكتُبوا ... ... إذن عليكم لي سِجلّ
قلت له أَلْفى سِجِل ... ... فاْضْمَنْ لنا أنْ تَرتَحِل
قال وقد أضْجَرْتُكم ... ... قلت أَجَلْ ثم أجلْ
قال وقد أبْرَمْتُكم ... ... قلت له الأمْرُ جَلَل
قال وقد أثقلتكم ... ... قلت له فوق الثقل
قال فإني راحِلٌ ... ... قلت العجَلْ ثم العَجَل
يا كَوْكبَ الشُّؤْمِ ومَن ... ... أَرْبَى على نَحْسِ زُحَلْ
في جبلٍ فوق جَبَلْ
[ العقد الفريد : 135 ]
المجموعة الحادية عشر
الإنفاق في سبيل الله
قال الله سبحانه وتعالى :
( وما تُنفِقوا مِنْ خَيرٍ فلأنفسكم وما تُنْفِقُون إلا ابتغاء وجه الله وما تُنْفِقوا مِْن خيرٍ يُوفّ إليكم وأنتم لا تُظْلمون ). [ البقرة : 272]
* * * * * *
دُعَاءُ الْمَلَكين
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما من يومٍ يُصْبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان ، فيقول أحدهما: اللهم أعط مُنفقاً خَلَفاً ، ويقول الآخر : اللهم أعط مُمْسِكاً تَلَفَاً ). [ رواه الشيخان ـ صحيح الجامع الصغير وزيادته رقم :15/797 ]
* * * * * *
أبخل من أبي حباحب
أبو حباحب الذي ضُرب به هذا المثل هو واحد من الأعراب ، ويضرب هذا المثل للبخيل الذي لا يتحول أبداً عن بخله حتى لو جاع وتلوّى من جوعه . وفي نفس المعنى يقال : " أبخل من كُسع ". [ موسوعة الأمثال العربية الفصحى ، لمصطفى فتحي :10 ]
* * * * * *
طرفة
وُلّي أعرابيّ البحرين ، فجمع يهودها وقال : ما تقولون في عيسى بن مريم ؟ قالوا : نحن قتلناه وصلبناه . فقال الأعرابيّ : لا جَرَمَ ، فهل أدّيتمْ ديته ؟ فقالوا : لا . فقال : والله لا تخرجون من عندي حتى تؤدّوا إليّ ديته ، فما خرجوا حتّى دفعوها . [ فراسة المؤمن لإبراهيم الحازمي ص161 ]
من طرائف الشعر
وما طَمع العواذل في اقتصادي ... ... ملأتُ يدي من الدنيا مراراً
وهل تجبُ الزكاة على الجواد
[ العقد الفريد :1/161 ] ... ... ولا وجَبتْ عَليّ زكاة مال
المجموعة الثانية عشر
عزم الأمور
قال الله سبحانه وتعالى :
( ولَمَنْ صَبَرَ وَ غَفَرَ إِنّ ذلك لَمِنْ عَزْمِ الأُمُور ) [الشورى : 43 ]
* * * * * *
لا تغضبْ
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم :
( أوصني ، قال : لا تغضب ، فردّد مراراً ، قال : لا تغضب ) [ رياض الصالحين :639 ]
* * * * * *
المقدرةُ تُذْهِبُ الحفيظةَ
أصل هذا المثل هو أن رجلاً من أعيان قريش كان يسعى وراء عدوّ له ، وظلّ يلاحقه طويلاً إلى أن ظفر به ، فقال : لولا أن المقدرة تذهب الحفيظة لانتقمت منك . ثمّ تركه .
و الحفيظة تعني : الغضب ، ومعنى المثل ، أن القدرة على الشيء تُذْهب غضبك منه . [ موسوعة الأمثال لمصطفى علي : 241 ]
* * * * * *
أفرس الناس
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه :" أفرس الناس ثلاثة : العزيز حين تفرّس في يوسف عليه السلام فقال لامرأته :(/4)
( أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً ) [ يوسف : 21]
وصَفُورا بنت شعيب حين قالت :
( يا أبتِ استأجرْه إنّ خيرَ مَن استأْجرت القويّ الأمين ) [ القصص : 26 ]
وأبو بكر الصديق رضي الله عنه حين استخلف عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أمر الأمة ." [ لطائف المعارف لأبي منصور الثعالبي : 71 ]
* * * * * *
طرفة
يروى عن الأصمعيّ أنّه قال : هجم عليّ شهر رمضان وأنا بمكة ، فخرجتُ إلى الطائف لأصومَ بها هَرباً من حرّ مكّة ، فلقيني أعرابي ، فقلت له : أين تريد ؟ قال : أريد هذا البلد المبارك لأصوم هذا الشهر المبارك فيه ، فقلت : أما تخاف الحرّ ؟ فقال : من الحرّ أفرُّ . [ الكامل : 262 ]
* * * * * *
من طرائف الشعر
قال كعب بن زهير :
أُنْبئْتُ أنّ رسول الله أوْعدني والعفْوُ عند رسول الله مأمولُ
مَهْلاً ! هداك الله الذي أعطاك نافلة الـ ـقرآن فيها مواعيظٌ وتفْصيل
لا تأخُذَنّي بأقوالِ الوشاة و لم أُذْنِبْ وإنْ كثُرَتْ فيّ الأقاويل
[ جمهرة أشعار العرب : 286 ]
* * * * * *
المجموعة الثالثة عشر
إفشاء السلام
قال الله سبحانه وتعالى :
( وإذا حُيِّيتُمْ بتحيّة فحيّوا بأحسنَ منها أو ردّوها إنّ الله كان على كُلِّ شيءٍ حَسِيباً )
[ النساء : 86 ]
* * * * * *
أيّ الإسلام خير ؟
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنّ رجلاً سألَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أيُّ الإسلام خير ؟
قال : ( تطعم الطعام ، وتقرأ السلام على منْ عرفت ومنْ لمْ تعْرفْ )
[ مسلم : 1/14/39 ]
* * * * * *
إلا في خمس
قال حاتم الأصم : كان يقال : العجلة من الشيطان إلا في خمس : إطعام الطعام إذا حضر ضيف ، وتجيهز الميت إذا مات ، وتزويج البكر إذا أدركت ، وقضاء الدين إذا وجب ، والتوبة من الذنب إذا أذنب .
[ طرائف وملح لموسى الأحمدي : 32 ]
* * * * * *
أحوال النبي صلى الله عليه وسلم على يوم الاثنين
ولد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين ، وبُعث يوم الاثنين ، وهاجر يوم الاثنين ، وتوفّي يوم الاثنين .
[ لطائف المعارف لأبي منصور الثعالبي : 110]
* * * * * *
طرفة
نظر رجل في الجُبّ فرأى وجهه فعاد إلى أمّه فقال : في الجُبّ لصٌّ ، فجاءت الأم فاطلعت ، فقالت : أي والله ، ومعه فاجرة .
[ مفتاح سحر البيان للمالكي :17]
* * * * * *
من طرائف الشعر
للداعية الشاعر الدكتور عدنان علي رضا النحوي :
كلٌّ يقول : "أنا الذي " ! فإذا "الذي " وَعد الوعُودَ مضى ولّما يَفْعَلِ
وإذا الجميعُ مع المصائب عُذّلٌ كلٌّ يَلُومُ سِواه ! يا للعُذَّلِ
[ ملحمة الإسلام من فلسطين إلى لقاء المؤمنين : 211 ]
المجموعة الرابعة عشر
خفض الجناح
قال الله سبحانه وتعالى :
( واخفضْ جَنَاحَك لَمَن اتّبعك منَ المؤمنين )
[ الشعراء : 215 ]
* * * * * *
لا تحْقرنّ من المعْروف شيئا
عن أبي ذرّ رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( لا تَحْقرنّ من المعروف شيئاً ولو أنْ تَلْقى أخاك بوجْه طليق )
[ مسلم : 45/43/2626 ]
* * * * * *
مثل
خالطوا الناس وزايلوهم
أي : عاشروا الناس في الأفعال الصالحة ، ولا تتبعوهم في أخلاقهم الذميمة
[ موسوعة الأمثال العربية الفصحى : 102 ]
* * * * * *
أحسَنُ زوجين في الإسلام
عثمان بن عفان ، ورقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك أنّه يُرْوى أنّ النبي صلى الله عليه وسلم بعث بشيء من الطعام مع رجل إلى عثمان ، فاحْتُبِس. فلمّا رجع قال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن شئت أخبرتك ما الذي حبسك ! ) قال نعم يا رسول الله ! قال : ( كنت تنظر إلى عثمان ورقية تَعجُّباً من حُسْنهما ) قال : صدقت يا رسول الله .
[ لطائف المعارف لأبي منصور الثعالبي : 70 ]
* * * * * *
طرفة
استأذن رجل على إبراهيم النخعيّ فقال : أبا عمران في الدار ؟ فلم يجبه ، فقال: أبي عمران في الدار ؟ فناداه : قل الثالثة وادخل .
[ معجم الأدباء : 17]
* * * * * *
من طرائف الشعر
أحسنَ من عقله ومن أدَبِهْ ... ما وهب الله لامرئٍ هبةً
فَفقْدُهُ للحياة أجملُ بهْ ... هما جمال الفتى وإنْ فقدا
[ معجم الأدباء : 19] المجموعة الخامسة عشر
إنّما المؤمنون إخوة
قال الله سبحانه وتعالى :
( إنّما المؤمنون إخوةٌ فأصْلِحُوا بين أخَويْكُمْ واتَّقوا الله لعلّكُمْ تُرْحمون )
[ الحجرات : 10 ]
* * * * * *
المبايعة
عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال :
( بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، والنصح لكل مسلم )
[ رياض الصالحين: 88]
* * * * * *
حكمة
قال بعض الحكماء : " مسكين ابن آدم لو خاف من النار كما يخاف من الفقر لنجا منهما جميعاً ، ولو رغب في الجنة كما يرغب في الغنى لفاز بهما جميعاً ، ولو خاف الله في الباطن كما يخاف خلقه في الظاهر لسعد في الدارين جميعاً ".
[ مفتاح سحر البيان لعلي المالكي :97 ]
* * * * * *
الأدب الذي يُحسنُ أخذه(/5)
قال ابن السكيت : خُذْ من الأدب ما يعلقُ بالقلوب وتشتهيه الآذان ، وخذ من النحو ما تقيم به الكلام ، ودع الغوامضَ ، وخُذ من الشعر ما يشتمل على لطيف المعاني ، واستكثر من أخبار الناس وأقاويلهم وأحاديثهم ولا تولعنّ بالغثّ منها .
[ معجم الأدباء : 22]
* * * * * *
طرفة
كان رجل يدّعي الشعر ، ويستبرده قومه ؛ فقال لهم : إنّما تستبردوني من طريق الحسد . قالوا : فبيننا وبينك بشارٌ العقيلي ، فارتفعوا إليه ، فقال له أنشدني . فأنشده ؛ فلمّا فرغ قال له بشار : إني لأظنّك من أهل بيت النبوّة ! قال له : وما ذلك ؟ قال : إنّ الله تعالى يقول : ( وما علّمناه الشّعرَ وما ينبغي له ) فضحك القوم وخرجوا عنه .
[ العقد الفريد : 6/198 ]
* * * * * *
من طرائف الشعر
أنشد أبو الفضل الرياشي :
فكنتُ في الشعر له ناظما ... طلبتُ يوماً مثلاً سائراً
لا طالبَ العلم ولا عالما ... لا خيرَ في المرء إذا ما غدا
[ معجم الأدباء : 18 ]
المجموعة الخامسة عشر
إنّما المؤمنون إخوة
قال الله سبحانه وتعالى :
( إنّما المؤمنون إخوةٌ فأصْلِحُوا بين أخَويْكُمْ واتَّقوا الله لعلّكُمْ تُرْحمون )
[ الحجرات : 10 ]
* * * * * *
المبايعة
عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال :
( بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، والنصح لكل مسلم )
[ رياض الصالحين: 88]
* * * * * *
حكمة
قال بعض الحكماء : " مسكين ابن آدم لو خاف من النار كما يخاف من الفقر لنجا منهما جميعاً ، ولو رغب في الجنة كما يرغب في الغنى لفاز بهما جميعاً ، ولو خاف الله في الباطن كما يخاف خلقه في الظاهر لسعد في الدارين جميعاً ".
[ مفتاح سحر البيان لعلي المالكي :97 ]
* * * * * *
الأدب الذي يُحسنُ أخذه
قال ابن السكيت : خُذْ من الأدب ما يعلقُ بالقلوب وتشتهيه الآذان ، وخذ من النحو ما تقيم به الكلام ، ودع الغوامضَ ، وخُذ من الشعر ما يشتمل على لطيف المعاني ، واستكثر من أخبار الناس وأقاويلهم وأحاديثهم ولا تولعنّ بالغثّ منها .
[ معجم الأدباء : 22]
* * * * * *
طرفة
كان رجل يدّعي الشعر ، ويستبرده قومه ؛ فقال لهم : إنّما تستبردوني من طريق الحسد . قالوا : فبيننا وبينك بشارٌ العقيلي ، فارتفعوا إليه ، فقال له أنشدني . فأنشده ؛ فلمّا فرغ قال له بشار : إني لأظنّك من أهل بيت النبوّة ! قال له : وما ذلك ؟ قال : إنّ الله تعالى يقول : ( وما علّمناه الشّعرَ وما ينبغي له ) فضحك القوم وخرجوا عنه .
[ العقد الفريد : 6/198 ]
* * * * * *
من طرائف الشعر
أنشد أبو الفضل الرياشي :
فكنتُ في الشعر له ناظما ... طلبتُ يوماً مثلاً سائراً
لا طالبَ العلم ولا عالما ... لا خيرَ في المرء إذا ما غدا
[ معجم الأدباء : 18 ]
المجموعة السابعة عشر
الله نُورُ السَّمَوَاتِ والأرْضِ
قال الله سبحانه و تعالى :
( الله نُورُ السّمواتِ والأرْضِ مثلُ نُوره كَمِشْكَاةٍ فيها مصْبَاحٌ المصْباحُ في زُجَاجةٍ الزُجاجةُ كأنَّها كَوكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقدُ مِنْ شجَرةٍ مُباركةٍ زيْتونةٍ لا شرْقِيَّةٍ ولا غربِيّةٍ يَكادُ زَيْتها يُضِيءُ ولوْ لمْ تمْسَسْه نارٌ نُورٌ على نورٍ يَهْدي الله لِنُوره مَنْ يشاءُ ويَضْرِبُ الله الأمْثَالَ للنّاس والله بكُلِّ شيءٍ عليمٌ )
[ النور : 35]
* * * * * *
كانوا خيراً منكم
قال ابن مسعود رضي الله عنه : أنتم أكثر صياماً ، وأكثر صلاةً ، وأكثر اجتهاداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وهم كانوا خيراً منكم ! قالوا : لمَ يا أبا عبد الرحمن ؟! قال : هم كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة .
* * * * * *
سبحان الله
روي أنّ امرأة دخلت على نبيّ الله داود عليه السلام ، فقالت : " ربّك ظالم أم عادل يا نبي الله ؟! " فقال داود عليه السلام : " ويحك يا امرأة هو العدل الذي لا يجور " ثمّ قال لها ما قصّتك ؟ قالت : أنا أرملة عندي ثلاث بنات أقوم عليهنّ من غزل في خرقة حمراء ، وأردت أن أذهب إلى السوق لأبيعه وأبلّغ به أطفالي، فإذا أنا بطائر قد انقضّ عليّ وأخذ الخرقة والغزل ، وذهب وبقيت حزينة لا أملك شيئاً أبلّغ به أطفالي . فبينما المرأة مع داود عليه السلام في الكلام إذا بالباب يطرق على داود فأذن له بالدخول ، وإذا بعشرة من التجار كلّ واحد بيده مائة دينار . فقالوا : يا نبيّ الله أعطها لمستحقّها . فقال لهم داود عليه السلام : ما كان سبب حملكم هذا المال ؟ قالوا : يا نبيّ الله كنّا في مركب فهاجت علينا الريح وأشرفنا على الغرق ، فإذا بطائر قد ألقى علينا خرقة حمراء ، وفيها غزل فسدّدنا به عيب المركب فهانت علينا الريح ، وانسدّ العيب ونذرنا الله أن يتصدّق كلّ واحد منّا بمائة دينار . وهذا المال بين يديك فتصدّق به على من أردت . فالتفت داود عليه السلام إلى المرأة وقال لها : ربّ يتّجر لكِ في البحر وتجعلينه ظالماً . وأعطاها الألف دينار ، وقال : أنفقيها على أطفالكِ .
* * * * * *
طرفة(/6)
قال رجل لأبي بكر الصّديق رضي الله عنه : والله لأسُبنّك سبّاً يدخل القبر معك . قال : معكَ يدخل لا معي .
* * * * * *
من طرائف الشعر
للداعية الشاعر الدكتور عدنان علي رضا النحوي :
أحال النَّوى بيني وبينك يا أخي ... ... فَصَرّمَ وُدّاً صادقاً وإخاءَ
أَلمْ تَحمِلِ الأيّامُ ذِكْرى وِدَادِنا ... ... وصُحْبَةَ أعوامٍ مَضَيْنَ وفاءَ ..!
أُعلِّلُ نَفْسي أنْ يَعُودَ إلى اللقا ... ... وفاءٌ يَضُمُّ الصّحْبَ والخُلَصاء
وأنْ نَصْدُقَ الرّحمن عهداً على التّقى ... ... وَدَرْباً شَقَقْناه يداً وعَناءَ
... ... [ جراح على الدرب : 225 ]
المجموعة الثامنة عشر
وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيا إلا لَعبٌ ولَهْوٌ
قال الله سبحانه و تعالى :
(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إلا لَعِبٌ ولَهْوٌ ولَلدَّارُ الآخرةُ خَيْرٌ للّذينَ يَتَّقُونَ أفَلا تَعْقِلُونَ)
[ الأنعام :32]
* * * * * *
تقلّب الليالي والشهور
رُوي عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أنّه قال : "ما من يوم ولا ليلة ولا شهر ولا سنة إلا والذي قبله خير منه ، سمعت ذلك من نبيكم صلى الله عليه وسلم "، وكان معاوية ـ رضي الله عنه ـ يقول : " معروف زماننا منكر زمان قد مضى ، ومنكره معروف زمان لم يأت " .
[ المستطرف في كلّ فنّ مستظرف : ج2 58 ]
* * * * * *
حكمة
• يقال : بتقلّب الدّهر تُعْرف جواهر الرجال.
• ويقال : زمام العافية بيد البلاء ورأس السلامة تحت جناح العطب.
[ المستطرف في كل فنّ مستظرف: ج2 58]
* * * * * *
طرفة
أكل أعرابي مع أبي الأسود رُطباً فأكثر ، ومدّ أبو الأسود يده إلى رطبة ليأخذها فسبقه الأعرابي إليها فسقطت منه في التراب ، فأخذها أبو الأسود ، وقال : لا أدعها للشيطان يأكلها . فقال الأعرابي : والله ولا لجبريل وميكائيل لو نزلا من السماء ما تركتها .
[ ثمرات الأوراق في المحاضرات : 247 ]
* * * * * *
من طرائف الشعر
قال الشاعر :
إذا المرءُ لم يَدْرِ ما أمْكَنهْ ... ... ولمْ يأتِ منْ أمْرهِ أزْيَنَهْ
وأعْجَبه العُجْبُ فاقتادهُ ... ... وتاهَ به التيهُ فاسْتَحْسنهْ
فَدعْهُ فقد ساءَ تدبيرُهُ ... ... سيضحكُ يَوْماً ويبكي سَنَهْ
... ... ... [ موسوعة الأمثال العربية الفصحى : 115]
المجموعة التاسعة عشر
فامشوا في مَنَاكِبَها
قال الله سبحانه وتعالى :
( هُوَ الذي جَعَلَ لَكم الأرض ذَلُولاً فامْشُوا في مناكِبِها وكُلُوا من رِزْقِه وإليه النُّشُور ).
[ الملك : 15]
* * * * * *
التعفّف عن السؤال
عن أبي عبد الله الزبير بن العوام رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(لأنْ يأخذ أحدكم أحْبُلَه ثمّ يأتيَ الجَبَل فيأتي بحُزمة من حطبٍ على ظهره فيبيعها فيكفُّ الله بها وجهه خيرٌ له من أن يسأل الناس أعْطَوْهُ أو مَنَعُوه ).
[ رواه البخاري ]
* * * * * *
غَثُّكَ خيرٌ من سَمين غيرك
الغثُّ : القليل ، ومعنى المثل : إنّ قليلك إذا قنعت به خيرٌ لك من كثير غيرك ، ويضرب للقناعة بالقليل الذي تملكه وعدم التطلع فيما يملكه غيرك .
[ موسوعة الأمثال العربية الفصحى ، لمصطفى فتحي :184 ]
* * * * * *
مسألة فقهيّة نحويّة
حُكي أنّ أبا يوسف القاضي دخل على الخليفة وعنده الكسائي ، فقال له : لو تفقّهتَ يا كسائي كان أنبلَ بك ! قال : يا أبا يوسف ، إني سائلك عن مسألة ، قال وما مسألتك ؟! قال : ما تقول في رجل أقرَّ أنّ لفلانٍ عليَّ مائة درهم إلا عشرَ دراهم ، إلا درهماً ، كم ثبت عليه من الإقرار ؟ قال : تسعة وثمانون . قال الكسائي : أخطأت يا أبا يوسف . قال : لِمَ ؟! قال : لأن الله تعالى قال : ( إنّا أرسلنا إلى قوم مجرمين إلا آل لوط إنا لمنجّوهم أجمعين ، إلا امرأته قدّرنا إنّها لمن الغابرين ) أخبرني يا أبا يوسف ، المرأة مستثناة من القوم ، أم من الآل ؟ قال : من الآل ، قال : فكم ثبت عليه من الإقرار ؟ قال : أبو يوسف : صدقت ، ثبت عليه من الإقرار واحدٌ وتسعون درهماً.
[ معجم القواعد العربية في النحو والصرف لعبد الغني الدقر :449 ]
* * * * * *
طرفة
اجتمع غلمان المدينة يوماً على أشعب يعابثونه ، ولما آذوه ، قال لهم : إن في دار فلان عرساً ، فانطلقوا إلى هناك لتأكلوا وتشربوا . فانطلقوا وتركوه . ولمّا مضوا قال في نفسه : لعلّ الذي قلته لهم صحيح . ومضى في أثرهم حتى وصل إلى الدار فلم يجد شيئاً !
* * * * * *
من طرائف الشعر
قال أبو العتاهية :
لئنْ كنت في الدنيا بصيراً فإنَّما ... ... بلاغك منها مثل زاد المسافر
إذا أبقت الدنيا على المرء دينه ... ... فما فاته منها فليس بضائر
[ المستطرف :59 ]
المجموعة العشرون
طلب العلم
قال الله سبحانه وتعالى :
( … وقُلْ ربِّ زِدْني عِلْماً ).
[ طه: 114]
* * * * * *
لا حَسَدَ إلا في اثنتين
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(/7)
( لا حَسدَ إلا في اثنتين رجلٌ آتاه الله مالاً فسلَّطه على هُلْكَتِه في الحقِّ ، ورَجلٌ آتاه الله الحِكْمَة فهو يقضي بها ويُعلّمها ).
[ رواه الشيخان]
* * * * * *
حكمة
قال رجل لبنيه : يا بنيّ أصلحوا من ألسنتكم فإنَّ الرجل تنوبه النائبة يحتاج أن يتجمَّل فيها فيستعير من أخيه دابّة ومن صديقه ثوباً ولا يجد من يعيره لساناً . وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " تعلّموا العربية فإنّها تثبّتُ العقلَ، وتزيدُ في المروءة " .
[ معجم الأدباء : 28 ]
* * * * * *
هلمَّ جرّا
أي : تعالوا على مهلكم ولا تتعجلوا . وأصل ذلك من الجرّ عند سوق الإبل والغنم لترعى العشب أثناء سيرها . ويشيع استخدام هذا القول بمعنى دوام الأمر واتصاله وخصوصاً في الحديث وفي الكتابة فيقال : كذا وكذا وهلم جرا .
[ موسوعة الأمثال العربية الفصحى ، لمصطفى فتحي :261 ]
* * * * * *
طرفة
قيل لطفيلي أيّ سُورة تُعجبك من القرآن ؟ قال : المائدة . قيل فأيّ آية ؟ قال ذرهم يأكلوا ويتمتعوا . قيل : ثمّ ماذا ؟ قال : آتنا غداءنا . قيل ثمّ ماذا ؟ قال: ادخلوها بسلام آمنين . قيل ثمّ ماذا ؟ قال : وما هم منها بمخرجين .
* * * * * *
من طرائف الشعر
قال الشاعر :
أرى العلم نوراً والتأدّبَ حليةً ... ... فخذ منهما في رغبةٍ بنصيبِ
وليس يتمُّ العلم في الناس للفتى ... ... إذا لم يكن في علمه بأديبِ
[ معجم الأدباء :19 ]
المجموعة العشرون
طلب العلم
قال الله سبحانه وتعالى :
( … وقُلْ ربِّ زِدْني عِلْماً ).
[ طه: 114]
* * * * * *
لا حَسَدَ إلا في اثنتين
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( لا حَسدَ إلا في اثنتين رجلٌ آتاه الله مالاً فسلَّطه على هُلْكَتِه في الحقِّ ، ورَجلٌ آتاه الله الحِكْمَة فهو يقضي بها ويُعلّمها ).
[ رواه الشيخان]
* * * * * *
حكمة
قال رجل لبنيه : يا بنيّ أصلحوا من ألسنتكم فإنَّ الرجل تنوبه النائبة يحتاج أن يتجمَّل فيها فيستعير من أخيه دابّة ومن صديقه ثوباً ولا يجد من يعيره لساناً . وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " تعلّموا العربية فإنّها تثبّتُ العقلَ، وتزيدُ في المروءة " .
[ معجم الأدباء : 28 ]
* * * * * *
هلمَّ جرّا
أي : تعالوا على مهلكم ولا تتعجلوا . وأصل ذلك من الجرّ عند سوق الإبل والغنم لترعى العشب أثناء سيرها . ويشيع استخدام هذا القول بمعنى دوام الأمر واتصاله وخصوصاً في الحديث وفي الكتابة فيقال : كذا وكذا وهلم جرا .
[ موسوعة الأمثال العربية الفصحى ، لمصطفى فتحي :261 ]
* * * * * *
طرفة
قيل لطفيلي أيّ سُورة تُعجبك من القرآن ؟ قال : المائدة . قيل فأيّ آية ؟ قال ذرهم يأكلوا ويتمتعوا . قيل : ثمّ ماذا ؟ قال : آتنا غداءنا . قيل ثمّ ماذا ؟ قال: ادخلوها بسلام آمنين . قيل ثمّ ماذا ؟ قال : وما هم منها بمخرجين .
* * * * * *
من طرائف الشعر
قال الشاعر :
أرى العلم نوراً والتأدّبَ حليةً ... ... فخذ منهما في رغبةٍ بنصيبِ
وليس يتمُّ العلم في الناس للفتى ... ... إذا لم يكن في علمه بأديبِ
[ معجم الأدباء :19 ]
المجموعة الحادية والعشرون
ما خَلْقُكُمْ ولا بَعْثُكُمْ إلا كنفسٍ واحدة
قال الله سبحانه و تعالى :
( وَلوْ أنَّما في الأرضِ من شجرةٍ أقلامٌ والبحرُ يَمُدّه من بعده سبعةُ أبحرٍ ما نَفِدتْ كلماتُ الله إنَّ الله عزيزٌ حَكيمٌ . ما خَلْقُكُمْ ولا بَعْثُكُمْ إلا كنفسٍ واحدةٍ إنَّ الله سميعٌ بصير )
[ لقمان :27-28]
* * * * * *
أَحْبِبْ لأخيك ما تُحبّ لنفسك
عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال:
( لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه )
[ متفق عليه ]
* * * * * *
حكمة
من سدّ أذنيه عن النصيحة فقَدَ فرصة عظيمة لمعرفة أخطائه ، وفرصة أعظم لمعرفة سبيل الإصلاح والعلاج ، وتعرَّضَ أكثر للمتاهة والضلال .
[ المسلمون بين الواقع و الأمل . د .عدنان النحوي : 11 ]
* * * * * *
طرفة
زرّ غِبّاً تزدد خبّاً
تردد ثقيلٌ على ظريفٍ وأطال تِرْداده عليه حتى سئم منه ، فقال له الثقيل: من تراه أشعر الشعراء ؟ فأجاب الظريف : هو ابن الوردي بقوله :
غِبْ وزُرْ غِبّاً تزدْ حباً فمنْ ... ... أكثرَ الترداد أضْنَاهُ المَلَلْ
فقال الثقيل : أخطأت فإنّ النجاريّ أشعر منه بقوله :
إذا حققتَ مِنْ خلٍّ وداداً ... ... فَزُرْهُ ولا تخفْ منه ملالا
وكُنْ كالشمس تطْلعُ كُلّ يومٍ ... ... ولا تكن في زيارته هِلالا
فأجاب الظريف : إنَّ الحريري أشعر منه بقوله :
ولا تَزُرْ مَنْ تحبّ في كُلِّ شهرٍ ... ... غيرَ يومٍ ولا تزدْه عليه
وإن لم تصدقني فقد وهبتك الدار بما فيها ، وخرج وهو يقول :
إذا حَلَّ الثقيلُ بأرض قومٍ ... ... فَمَا للسَّاكنين سِوى الرَّحيلُ
فخجل الثقيل وذهب في سبيله .
* * * * * *
من طرائف الشعر
قال جرير وددتُ أني قلتُ بيتي مزاحم العقيل ، ولم أقل شيئاً من الشعر :(/8)
وددتُ على ما كان من سرف الهوى ... ... وغرُّ الأماني أنَّ ما شئت أفعل
فترجع أيام تَقَضّتْ وعيشةٌ ... ... تولّتْ ، وهل يُثْنى من الدهر أوّل
[المصون : لأبي أحمد الحسن بن عبد الله العسكري : 44 ] المجموعة الثانية والعشرون
الرقيب العتيد
قال الله سبحانه وتعالى :
( ما يَلْفظُ من قولٍ إلا لديه رقيبٌ عتيد )
[ ق : 18 ]
* * * * * *
وما يُعذّبان في كبير !
عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم مرّ بقبرين فقال : ( إنَّهما ليُعذّبان وما يُعذّبان في كبيرٍ .أمّا أحدهما فكان لا يستنزه من البول ، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة )
[ أحمد والشيخان وأبو داود]
* * * * * *
وصيّة
أوصى عبد الحميد الكاتب الكُتّاب فقال :
" تنافسوا معشر الكتّاب في صنوف العلم والأدب ، وتفقّهوا في الدين ، وابدأوا بعلم كتاب الله عزّ وجل والفرائض ، ثمّ العربيّة فإنها ثقاف ألسنتكم ، وأجيدوا الخطّ فإنه حلية كتبكم . واروا الأشعار واعرفوا غريبها ومعانيها ، وأيام العرب والعجم وأحاديثها وسيرها ، فإنَّ ذلك معين على ما تسعون إليه بهممكم . ولا يضعفنّ نظركم الحساب فإنه قوام كتاب الخراج منكم … "
[ أدب الوصايا والمواعظ ، للدكتور عدنان النحوي : 216 ]
* * * * * *
حكمة
عاتبتْ أعرابيةٌ أعرابيةً مثلها على هوى لها فقالت لها : أما علمت يا أختاه إنّه قيل في الحكمة الغابرة والأمثال السائرة : " لا تلومنّ من أساء بك الظنّ ، إذا جعلت نفسك هدفاً للتهمة ، ومن لم يكن له عوناً على نفسه مع خصمه لم يكن معه شيء من عُقْدة الرأي ، ومن أقدم على هوى يعلم ما فيه من سوء المغبة ، سلّط على نفسه لسان العذل وضيع الحزم. فأجابت الأعرابية المعذولة : أو ما علمت أنت أيضاً أنَّ الهوى ليس أمره إلى الرأي فيملكه ، ولا إلى العقل فيدبره . وهو أغلب قدرة ، وأمنع جانباً من أن ينفذ فيه رأي الحازم ، وهلا سمعت قول الشاعر:
ليس خطب الهوى بخطب يسير ... ... لا يُنبيك عنه مثل خبير
ليس أمر الهوى يدبر بالرأ ... ... ي ولا بالقياس والتفكير
إنما الأمر في الهوى خطرات ... ... مُحدّثات الأمور بعد الأمور
* * * * * *
طرفة
نظر طفيلي إلى قوم ذاهبين فلم يشكّ في أنّهم مدعون إلى وليمة . فقام وتبعهم ، فإذا هم شعراء قد قصدوا السلطان بمدايح لهم ، فلما أنشد كل امرئ منهم شعره ، أخذ جائزته ، فلم يبق إلا الطفيلي وهو جالس ساكت . فقال السلطان : أنشد شعرك ! فقال الطفيلي : لست بشاعر وإنما أنا من الغاوين الذين قال الله تعالى في حقهم : ( والشعراء يتبعهم الغاوون ) فضحك السلطان وأمر له بجائزة كجائزة الشعراء .
* * * * * *
من طرائف الشعر
قال الشاعر :
لا تكن طالباً لما في يد النّا ... ... س ، فيزورّ عن لقاك الصديقُ
إنَّما الذلّ في سؤالك للنّا ... ... س ، ولو في سؤال أين الطريقُ
المجموعة الثالثة والعشرون
كُتب عليكم الصيام
قال الله سبحانه وتعالى :
(يا أيها الذين آمنوا كُتِبَ عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون )
[ البقرة : 183 ]
* * * * * *
صيام يوم في سبيل الله
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ( ما من عبدٍ يصوم يوماً في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً )
[ متفق عليه ]
* * * * * *
حكمة
رجل يسأل الحسن البصري عن الدنيا والآخرة :
" تسألني عن الدنيا والآخرة ، إنَّ مثل الدنيا والآخرة كالمشرق والمغرب ، متى ازددت من أحدهما قرباً ازددت من الآخر بُعْداً . وتقول لي صف لي هذه الدار ! فماذا أصف لك من دارٍ أولها عناء وآخرها فناء ، وفي حلالها حساب ، وفي حرامها عقاب ، من استغنى فيها فُتِن ومن افتقر فيها حزن " .
[ من كتاب " أدب الوصايا والمواعظ " للدكتور عدنان علي رضا النحوي ، ص : 215 ]
* * * * * *
طرفة
أخذ عبد الملك بن مروان رجلاً كان يرى رأي الخوارج ، رأي شبيب ، فقال له : ألستَ القائل :
ومنّا سويدٌ والبطينُ وقعنبٌ ... ... ومنّا أميرُ المؤمنينَ شبيبُ
قال : إنما قلتُ : " أميرَ المؤمنين " . أي : يا أمير المؤمنين ، فأمر بتخلية سبيله.
[ معجم الأدباء : 28 ]
* * * * * *
من طرائف الشعر
قال أبو العتاهية :
ما الناسُ إلا مع الدنيا وصاحبها ... ... فكيف ما انقلبتْ يوماً به انقلبوا
يعظّمون أخا الدنيا ، فإن وثبت ... ... عليه يوماً بما لا يشتهي وثبوا
لا يحْلبون لحيٍّ درّ لَقْحَتَه ... ... حتى يكون لهم صفو الذي حلبُوا
المجموعة الرابعة والعشرون
اذكروا الله كثيراً
قال الله سبحانه وتعالى :
( يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً وسبّحوه بكرةً وأصيلا )
[ الأحزاب : 41 ]
* * * * * *
سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم :
( كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان ، حبيبتان إلى الرحمن ، سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم )(/9)
[ متفق عليه ]
* * * * * *
حكمة
سئل إبراهيم بن أدهم ما بالنا ندعو فلا يُسْتجاب لنا ؟!
فقال : لأنكم عرفتم الله فلم تطيعوه وعرفتم الرسول فلم تتبعوا سنته ، وعرفتم القرآن فلم تعملوا به ، وأكلتم نعم الله فلم تؤدوا شكرها ، وعرفتم الجنَّة فلم تطلبوها ، وعرفتم النار فلم تهربوا منها ، وعرفتم الشيطان فلم تحاربوه ووافقتموه، وعرفتم الموت فلم تستعدّوا له ، ودفنتم الأموات فلم تعتبروا ، وتركتم عيوبكم واشتغلتم بعيوب النَّاس .
* * * * * *
ما هي " أبجد " ؟!
أبجد هي أولى ألفاظ ثمانية جمعت حروف الهجاء العربية الثمانية والعشرين بلا تكرار وهي :
" أبجد ، هوّز ، حطّي ، كلمن ، سعفص ، قرشت ـ أو قُرشت ـ ، ثخذ ، ضظغ ".
* * * * * *
طرفة
قال خالد بن صفوان للفرزدق وكان يُمازحه : ما أنت يا أبا فراس بالذي لمَّا رأينه أكبرنه وقطّعن أيديهنَّ . فقال الفرزدق : ولا أنت يا أبا صفوان بالذي قالت فيه الفتاة لأبيها : ( يا أبت استأجره إنَّ خير من استأجرتَ القويُّ الأمين ).
* * * * * *
من طرائف الشعر
كتب سابق البربري إلى عمر بن عبد العزيز فقال :
باسم الذي أُنزلتْ من عنده السُّورُ ... ... والحمدُ لله ( أمَّا بعد ) يا عُمَرُ
إنْ كنتَ تعلم ما تأتي وما تَذرُ ... ... فكنْ على حذرٍ قد ينفعُ الحذرُ
واصبرعلى القدر المقدور وارض به ... ... وإن أتاك بما لا تشتهي القدرُ
إنَّ التُّقَى خيرُ زادٍ أنتَ حامِلُه ... ... والبرّ أفضل شيءٍ ناله بشرُ
مَنْ يطلب الظلم لا يظفر بحاجته ... ... وطالبُ العدل قد يُهدَى له الظفرُ
والعلم يجلوا العمى عن قلب صاحبه ... ... كما يُجلِّي سوادَ الظُّلْمَة القَمَرُ
لا تبطرنْ واهجرْ الدنيا وزُخْرفَها ... ... واحذرْ فإنَّ زوال النعمةِ البطرُ
المجموعة الخامسة والعشرون
إنَّ الله مع الصَّابرين
قال الله سبحانه وتعالى :
( واستعينوا بالصّبر والصلاة إنَّ الله مع الصَّابرين )
[ البقرة : 103]
* * * * * *
الصبر ضياء
عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم :
( الطهور شطر الإيمان ، والحمد لله تملأ الميزان ، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السموات والأرض ، والصلاة نورٌ والصدقة برهان ، والصبر ضياء ، والقرآن حجّة لك أو عليك ، كلَّ النَّاس يغدو ، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها )
[ رواه مسلم ]
* * * * * *
حكمة
الناس ثلاثة
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لكُميْل النخعي :
" الناس ثلاثة : عالم ربَّاني ، ومتعلّم على سبيل نجاة ، وهمج رعاع أتباع كلِّ ناعق ، مع كل ريح يميلون ، لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق، يا كميل العلم خير من المال : العلم يحرسك وأنت تحرس المال ، والمال تُنْقصه النفقة ، والعلم يزكو على الإنفاق ، ومنفعة المال تزول بزواله ..." [ العقد الفريد :1/69 ]
* * * * * *
طرفة
دخل ابن عَبْدل على عبد الملك بن بشر بن مروان لما ولي الكوفة فقعد بين السماطين ، ثم قال : أيها الأمير ، إني رأيت رؤيا فأذن لي في قصصها فقال قل . فقال :
أَغْفيْتُ قبل الصُّبح نوم مسهّدٍ ... ... في ساعةٍ ما كنْتُ قبلُ أنامُها
فرأيتُ أنََّك رُعْتَني بوليدةٍ ... ... مَفْلوجةٍ حَسَنٍ عليَّ قيامها
وببدْرةٍ حُمِلتْ إليَّ وبغلةٍ ... ... شهباء ناجيةٍ يَصرُّ لجامُها
فقال له الأمير : كلّ شيء رأيت فهو عندي إلا البغلة فإنها دهماء فارهة . قال : امرأتي طالق ثلاثاً إن كنتُ رأيتها إلا دهماء ، إلا أني غلطت .
[ العقد الفريد : 1/187 ]
* * * * * *
من طرائف الشعر
ثلاثٌ يعزُّ الصّبر عند حلولها ... ... ويذهل عنها عقل كلّ لبيب
خروج اضطرارٍ من بلادٍ تُحِبّها ... ... وفرقةُ إخوانٍ وفَقْدُ حبيب
المجموعة السادسة والعشرون
بالمؤمنين رؤوف رحيم
قال الله سبحانه وتعالى :
( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عنتم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رؤوفٌ رحيم )
[ التوبة : 128]
* * * * * *
من لا يَرحم لا يُرْحم
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قبَّل النبي صلى الله عليه وسلّم الحسن بن علي ـ رضي الله عنهما ـ وعنده الأقرع بن حابس فقال الأقرع : إنَّ لي عشرةً من الولد ما قبّلتُ منهم أحداً ، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "من لا يَرحم لا يُرحم " .
[ متفق عليه : رواه النووي في رياض الصالحين ]
* * * * * *
مثل
رُبَّ مَمْلولٍ لا يُستطاعُ فِراقُه
عن قصة هذا المثل رُوي أن المنذر بن الجارود " لاحظ أن " أبا الأسود الدؤلي " كان يلبس عباءة قديمة مهترئة لا يخلعها أبداً ، فقال له : لقد أدمنت لبس هذه العباءة يا أبا الأسود ، أما تملّ منها ؟ فقال أبو الأسود : " ربّ مملولٍ لا يُستطاع فراقه " . فعلم المنذر أنه لا يملك سواها ، فأهداه عباءة جديدة . فقال أبو الأسود :
كساني ولم أستكسه فحمدته ... ... أخٌ لك يُعطيك الجزيل وناصرُ
وإنَّ أحقَّ النَّاس إنْ كنتَ حامداً ... ... بحمدك من أعطاك والوجهُ وافرُ(/10)
* * * * * *
حكمة
لنفسي من نفسي عن الناس شاغل
قيل للربيع بن هيثم : ما نراك تعيب أحداً . فقال : لست على نفسي راضياً حتى أتفرّغ لذمّ النّاس ، وأنشد :
لنفسي أبكي لست أبكي لغيرها ... ... لنفسي من نفسي عن الناس شاغل
* * * * * *
طرفة
قال الهيثم بن عدي : أُتي الحجاج بحروريّة فقال لأصحابه : ما تقولون في هذه ؟! قالوا : اقتلها أصلح الله الأمير ونكِّل بها غيرها !
فتبسّمت الحرورية ، فقال لها : لِمَ تبسّمتِ ؟ فقالت : لقد كان وزراء أخيك فرعون خيراً من وزرائك يا حجّاج ، استشارهم في قتل موسى فقالوا : أرجه وأخاه ، وهؤلاء يأمرونك بتعجيل قتلي . فضحك الحجاج وأمر بإطلاقها .
[ العقد الفريد :ج1 : 39 ]
* * * * * *
من طرائف الشعر
قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى :
بقدر الكدِّ تُكْتسب المعالي ... ... ومن طلب العلا سهر الليالي
ومن رام العلا من غير كدٍّ ... ... أضاع العمر في طلب المحال
تروم العزَّ ثمَّ تنام ليلاً ... ... يغوص البحرَ مَنْ طَلَبَ اللآلي
المجموعة السابعة والعشرون
التثبّت في القول
قال الله سبحانه وتعالى :
( ولا تقْفُ ما ليسَ لَكَ به علمٌ إنَّ السمعَ والبصرَ والفؤادَ كُلُّ أولئك كان عنه مسؤولاً )
[ الإسراء : 36]
* * * * * *
عدم التّحدّث بكلّ ما يُسمع
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(كفى بالمرء كذباً أن يُحدّث بكلِّ ما سمع )
[ رواه مسلم ، والنووي في رياض الصالحين: : 444 ]
* * * * * *
قالوا في المزاح
قال أكثم بن صيفي : المزاحة تذهب المهابة .
وقال عمر بن العزيز : وإياك والمزاح فإنه يجرُّ إلى القبيحة ويورث الضغينة .
ومن أمثلة العرب في ذلك : " المزاح سباب الحمقى " .
* * * * * *
أحسن الكلام
قال الجاحظ :
أحسن الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيره ومعناه في ظاهر لفظه ، فإذا كان المعنى شريفاً ، واللفظ بليغاً وكان صحيح الطبع بعيداً عن الاستكراه ومنزهاً عن الاختلال مصوناً عن التكلف صنع في القلوب صنيع الغيث في التربة الكريمة.
* * * * * *
طرفة
أنشد رجل أبا عثمان المازني شعراً فقال له كيف تراه ؟! فقال : أراك عملت عملاً طيباً في نفسك بإخراجك هذا الشعر من جوفك لأنك لو تركته لأورثك المرض .
* * * * * *
من طرائف الشعر
قال الشاعر :
رَضيتُ ببعض الذُّلِّ خوْفَ جميعِه ... ... كذلك بعضُ الشَّرِّ أهْونُ من بعض
المجموعة الثامنة والعشرون
الدعاء للإخوان
قال الله تعالى : ( والذين جاءوا مِنْ بعدهمْ يقولون ربَّنا اغفِرْ لنا ولإخوانِنَا الذين سَبقُونا بالإيمانِ ولا تَجعلْ في قُلُوبِنا غِلاًّ للذين آمنوا ربَّنا إنَّك رؤفٌ رحيم)
[ الحشر : 10 ]
* * * * * *
الدعاء للأخ بظهر الغيب
عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنَّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
( ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال الملك : ولك بمثل )
[ صحيح الجامع الصغير وزيادته :5737 ]
* * * * * *
الصلاة على النبي في الدعاء
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : إذا دعوت الله فاجعل في دعائك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فإنَّ الصلاة عليه مقبولة ، والله أكرم من أن يقبل بعض دعائك ويردّ بعضاً .
[ العقد الفريد : ج3 ص : 153]
* * * * * *
قولهم في الدعاء
قال سفيان الثوري دخلت على جعفر بن محمد رضي الله عنهما فقال لي: يا سفيان إذا كثرت همومك فأكثر من " لا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم " وإذا تداركت عليك النَّعَمُ فأكثر من " الحمد لله " ، وإذا أبطأ عنك الرّزق فأكثر من الاستغفار .
[ العقد الفريد : ج3 ص: 156]
* * * * * *
الوصايا الخمس
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : " أوصيكم بخمس لو ضُرِبتْ عليها آباط الإبل لكان قليلاً : لا يَرْجُوَنَّ أحدكم إلا ربَّه ، ولا يخافنَّ إلا ذنبه ، ولا يستحي إذا سُئِلَ عمَّا لا يعلم أن يقول لا أعلم ، وإذا لم يعلم الشيء أن يتعلَّمه ، واعلموا أنَّ الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد فإذا قُطِعَ الرأسُ ذهبَ الجسدُ " . [ العقد الفريد :ج3 ص 82 ]
* * * * * *
طرفة
قال الأصمعي : سمعت أعرابيّاً يقول في دعائه : " اللهم إنَّ ذنوبي إليك لا تضُرُّك، وإنَّ رحمتك إيَّاي لا تنقصك ، فاغفر لي ما لا يضرُّك ، وهَبْ لي ما لا ينفعك " [ العقد الفريد :ج3 ص 83 ]
* * * * * *
من طرائف الشعر
قال الشافعي :
ما حكّ جلدك مثل ظفركْ ... ... فتولّ أنت جميع أمرك
وإذا قصدت لحاجةٍ ... ... فاقصدْ لمعترف بفضلك
[ ديوان الإمام الشافعي :ص 68]
المجموعة التاسعة والعشرون
الحبُّ في الله
قال الله سبحانه وتعالى :
( والذين تبوَّءوا الدَّارَ والإيمانَ من قبلهم يُحبُّون مَنْ هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجةً ممَّا أوتوا ويُؤْثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة )
[ الحشر : 9]
* * * * * *
منابر من نور(/11)
عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " قال الله عزَّ وجل المتحابُّون في جَلالي لهم منابرُ من نورٍ يغبطهم النبيُّون والشهداءُ )
[ رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح ]
* * * * * *
أقلل الكلام إلا من تسع
قال الربيع بن خُثَيْم وهو من التابعين : " أقلل الكلام إلا من تسع : تكبير وتهليل ، وتسبيح وتحميد ، وسؤالك الخير ، وتعوُّذك من الشرّ ، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر ، وقراءتك القرآن " [ العقد الفريد : ج3 ص85 ]
* * * * * *
حكم ومواعظ
قال الأصمعي : صنع الرشيد طعاماً وزخرف مجلسه وأحضر أبا العتاهية وقال له : صف لنا ما نحن فيه من نعيم هذه الدنيا ، فقال أبو العتاهية :
عِشْ ما بَدَا لك سالماً ... ... في ظلِّ شاهقة القصورِ
فقال الرشيد أحسنت ثمَّ ماذا ؟! فقال :
يُسْعى إليكَ بما اشْتهيْـ ... ... ـتَ لدى الرَّواحِ أو البُكُورِ
فقال : حسن ثمَّ ماذا ؟! فقال :
فإذا النُّفوسُ تَقَعْقَعت ... ... في ظلِّ مشرجة الصدورِ
فهناك تَعلم موقناً ... ... ما كُنتَ إلا في غُرورِ
فبكى الرشيد . فقال الفضل بن يحيى البرمكي : بعث إليك أميرُ المؤمنين لتسرَّه فحزنته . فقال الرشيد دعه فإنَّه رآني في عمى فكره أن يزيدنا منه . [ ديوان أبي العتاهية : ص 143]
* * * * * *
طرفة
نازع محمد بن الفضل بعض قرابته في ميراث ، فقال له : يا ابن الزنديق! قال له : إن كان أبي كما تقول وأنا مثله ، فلا يحلُّ لك أن تنازعني في هذا الميراث ، إذ كان لا يرث دينٌ ديناً ! [ العقد الفريد : ج4 ص 96 ]
* * * * * *
من طرائف الشعر
قال الشاعر الداعية عدنان النحوي :
ربِّ ضاقت بي السبيلُ ودمعي ... ... فاضَ ! كم كان قبل ذاك عصيَّا
ثقلت فوق منكبيَّ ذنوبي ... ... مَنْ يُزيح الذنوب عن منْكَبيَّا ؟!
بين آمال توبة ودواعي ... ... رهبةٍ لم يزل دُعائي خَفيَّا
خَاشعاً في تضرُّعٍ حملتْه ... ... رَعَشاتٌ تموجُ في شفتيَّا
[ ديوان عبر وعبرات : ص :29]
المجموعة الثلاثون
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى :
( وَمنْ أحسن قولاً ممّن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين . ولا تستوي الحسنة ولا السيّئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليّ حميم )
[ فصّلت : 33ـ34]
* * * * * *
عن أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه قال :
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم ، فإنما أهلكَ الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم )
[ رواه البخاري ومسلم ]
* * * * * *
حكمة
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : ( ويل لمن غلبت وحداته عشراته )
يقصد زادت سيئاته على حسناته . لأن السيئة بمثلها والحسنة تجزى بعشر أمثالها .
* * * * * *
وقال شاعر :
ما النّاسُ إلا معَ الدنيا وصاحبها ... ... فحيثما انْقلَبَتْ يوماً به انقَلَبوا
يُعظِّمون أخا الدنيا وإنْ وثبتْ ... ... يوماً عليه بما لا يشْتهي وثبوا
... ...
... ... [ العقد الفريد : الجزء 3 الصفحة 109]
* * * * * *
طرفة
في حفل حاشد في إحدى المدارس وقف مدير المدرسة خطيباً متحمساً ، وقال إنه في سبيل تحقيق أهدافه سيركل بقدمه كل من يعترض طريقه هكذا ( وضرب بقدمه في الهواء ) .
ويبدو أنه كان يحتذي حذاءً واسعاً فطار حذاؤه في الهواء كقذيفة تشبه تلك التي سيقذف بها الخصوم ! ولك أن تتصور بقية مكونات المشهد !
[ نزهة القارئ : د. عمر الأسعد ]
* * * * * *
مرّت امرأة من بني نُمَيْر على مجلس لهم في يوم ريح ، فقال رجل منهم : إنها لرشحاء ! قالت : والله يا بني نمير ما أطعتم الله ولا أطعتم الشاعر ، قال الله تبارك وتعالى : ( قل للمؤمنين يغضّوا من أبصارهم ) وقال الشاعر : ( فغضّ الطَّرفَ إنك من نميرٍ ) .
[ العقد الفريد : الجزء 4 الصفحة 110]
المجموعة الواحدة و الثلاثون
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى :
( إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون )
[ الحجرات : 10]
وقال :
( لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألّفت بين قلوبهم ولكن الله ألّف بينهم إنه عزيز حكيم )
[ الأنفال : 63]
* * * * * *
عن أبي حمزة أنس بن مالك رضي الله عنه ـ خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه )
[ رواه البخاري ومسلم ]
* * * * * *
حكمة
ذكر مالك في الموطأ :
قيل للقمان : ما بلغ بك ما نرى ؟ يريدون الفضل ! فقال لقمان : صِدق الحديث وأداء الأمانة وترك ما لا يعنيني .
* * * * * *
من أمثال العرب في حفظ اللّسان
لعمر بن عبد العزيز : التقيُّ مُلْجَم .
لأبي بكر الصّدّيق : إن البلاء موكّلٌ بالمنطق .
لابن مسعود : ما شيءٌ أولى بطول سجن من اللسان .
لأكثم بن صيفي : مقتل الرجل بين فكيه .
[ العقد الفريد : الجزء 3 الصفحة 14 ]
* * * * * *(/12)
وقال الشاعر المتلمِّس :
وأَعلَمُ عِلْمَ صِدْق غَيْرَ ظنٍّ ... ... لَتقْوى اللهِ مِنْ خير العَتادِ
وحفظُ المال أيْسرُ من بغاهُ ... ... وسير في البلاد بغير زادِ
وإصْلاحُ القليلِ يزيدُ فيه ... ... ولا يبقى الكثيرُ مَعَ الفساد
[ العقد الفريد : الجزء 3 الصفحة 73]
* * * * * *
طرفة
من أطرف ما قرأت على الواجهة الداخلية لإحدى سيارات الأجرة :
إذا غضب السائق فأرواح الركاب في خطر
أغلق الباب بهدوء كيلا يغضب السائق
[ نزهة القارئ : د. عمر الأسعد ]
* * * * * *
قال رجل لثمامة بن أشرس : إنّ لي إليك حاجة قال / وأنا لي إليك حاجة . قال : وما حاجتك ؟ قال : فتقضيها ؟ قال نعم فلمّا توثق منه قال : فإن حاجتي إليك أن لا تسألني حاجة .
[ العقد الفريد : الجزء 4 الصفحة 114](/13)
طرق تناول التفسير الموضوعي
بقلم / د. عبد الحميد غانم
تعددت طرق تناول التفسير الموضوعي تعدداً ناسب مراحله وأدواره، ومكّن من رصد تطوره المنهجي حتى بلغ طور النضج والاستقرار على النحو الآتي:
تتبع الكلمة
يعد تتبع الكلمة أقدم طرق تناول التفسير الموضوعي المدون، وتتحدد ملامحه في تتبع كلمة قرآنية، بجمعها من الآيات بذاتها أو على صورة إحدى مشتقاتها، ثم الإحاطة بتفاسير هذه الآيات ومحاولة استنباط دلالات تلك الكلمة القرآنية من خلال استعمال القرآن لها دون أن ينبني على ذلك الاستنباط الدلالي هدايات أو توجيهات قرآنية معينة، وإنما تدور هذه الطريقة في إطار دلالة الكلمة في موضعها المفرد فحسب(1).
ومعلوم أن كثيراً من الكلمات قد اكتسب معاني شرعية لم تكن موجودة من قبل، مثل: الصلاة، الحج، الزكاة، الصوم، كما أن كلمات أخرى قد تحولت باستخدام القرآن لها إلى مصطلحات قرآنية ذات وجوه جديدة في الدلالة والاستعمال، مثل: الأمة، الصدقة، البر، الجهاد، الكتاب، المنافقون، أهل الكتاب، الصدّيق، الشفاعة، الكفر، الشيطان.
ولا شك أن من يتتبع تلك الكلمات في مظانها القرآنية سيخرج بمعالم جديدة لنظام قرآني متفرد في تناول الكلمة، وما يترتب على ذلك التناول من دلالات تبدو في مواضعها التي جاءت فيها دون الربط بينها في بقية المواضع.
ويعد مقاتل بن سليمان البلخي (ت 150 هـ) أول من بدأ هذا التناول في كتابه: (الأشباه والنظائر في القرآن الكريم) فأتى على الكلمات التي اتحدت في اللفظ واختلفت في الدلالة بحسب السياق القرآني، من ذلك تفسيره للطعام في القرآن على أربعة وجوه، وانظر إليه وهو يعالج هذا الفن التفسيري فيقول:
فوجه منها: الذي يأكله الناس كما في قوله ـ تعالى ـ: {الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ} [قريش: 4].
ووجه منها: الذبائح، فذلك قوله ـ تعالى ـ: { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ } [المائدة: 5] ، يعني: ذبائحهم.
ووجه: مليح السمك؛ فذلك قوله ـ تعالى ـ: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96] ، يعني: مليح السمك.
ووجه: يعني شربوا؛ فذلك قوله ـ تعالى ـ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] يعني: شربوا الخمر قبل التحريم، ومنه قوله ـ تعالى ـ: {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249](2).
وكتب يحيى بن سلام ت 200 هـ (التصاريف) ففسر القرآن بتتبع ما اشتبهت أسماؤه وتصرفت معانيه على طريقة مقاتل(3).
وتابعهما الدامغاني ت 478 هـ في كتابه: (إصلاح الوجوه والنظائر) فقال تحت مادة [ خ ي ر ] ما يلي(4): [خ ي ر ] تأتي على عدة أوجه: المال، الإيمان، الإسلام، أفضل، العافية، الأجر، الطعام، الظَفَر، الغنيمة.
فوجه منها: الخير بمعنى المال، ومنه قوله ـ سبحانه ـ في سورة البقرة: {إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إن تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة: 180]، يعني مالاً. وقوله ـ تعالى ـ: {قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ } [البقرة: 215] . وكقوله ـ تعالى ـ: {وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ} [البقرة: 110]، وقوله ـ تعالى ـ: {وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنفُسِكُمْ } [البقرة: 272]. أي لا تنفقوا مالاً. وقوله ـ تعالى ـ: {وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إلَيْكُمْ} [البقرة: 272]. يعني: من مال، وقوله ـ تعالى ـ: { إنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي} [ص: 32] يعني: حب المال، وقوله ـ تعالى ـ: {فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] يعني: مالاً.
والثاني: الخير يعني الإيمان كقوله ـ تعالى ـ: {وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 23] يعني لو علم إيماناً، وقوله ـ تعالى ـ: {وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْرًا} [هود: 31] يعني إيماناً.
والثالث: الخير يعني الإسلام كما في قوله ـ تعالى ـ: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ} [البقرة: 105] يعني الإسلام، ونظيرها قوله ـ تعالى ـ: {مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ} [القلم: 12] يعني الإسلام؛ نزلت في الوليد بن المغيرة منع ابن أخيه أن يسلم.
والرابع: خير يعني أفضل، ومنها قوله ـ تعالى ـ: {وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ } [المؤمنون: 118] يعني أفضل الراحمين، قوله ـ تعالى ـ: {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يونس: 109] أي أفضل الحاكمين، ونحوه قوله ـ تعالى ـ: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} [الزخرف: 52] يقول أفضل من هذا.(/1)
والخامس: الخير يعني العافية مثل قوله ـ تعالى ـ: {وَإن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إلاَّ هُوَ وَإن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام: 17] يعني العافية.
والسادس: الخير يعني الأجر في قوله ـ تعالى ـ: {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} [الحج: 36] يعني لكم فيه أجر. يعني البُدْن.
والسابع: الخير يعني الطعام كما قوله ـ تعالى ـ: {فَقَالَ رَبِّ إنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] يعني الطعام.
والثامن: الخير يعني الظفر والغنيمة والطعن في القتال نحو قوله ـ تعالى ـ: {وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} [الأحزاب: 25].
وكتب الراغب الأصفهاني ت 502 هـ مصنفه الشهير (المفردات في غريب القرآن) فقال عند تعقبه لكلمة [الأمة]:
والأمة: كل جماعة يجمعهم أمر ما: إما دين أو زمان أو مكان، سواء كان ذلك الأمر الجامع تسخيراً أو اختياراً. وجمعها: أُمَم.
وقوله ـ تعالى ـ: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم } [الأنعام: 38] أي: كل نوع منها على طريقة قد جبله الله عليها بالطبع. فهي بين ناسجة كالعنكبوت، وبانية كالسُرْفَة(5) ومُدَّخرة كالنمل، ومعتمدة على قوت وقتها كالعصفور والحمام إلى غير ذلك من الطبائع التي تخصص بها كل نوع. وقوله ـ تعالى ـ: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً } [البقرة: 213] أي صنفاً واحداً وعلى طريقة واحدة في الضلال والكفر، وقوله ـ تعالى ـ: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود: 118] أي في الإيمان، وقوله ـ تعالى ـ: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ} [آل عمران: 104] أي جماعة يتخيرون العلم والعمل الصالح يكونون أسوة لغيرهم، وقوله ـ تعالى ـ: {إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 22] أي على دين مجتمع. وقوله ـ تعالى ـ: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45] أي حين. وقرئ: (بعد أمَه)(6) أي بعد نسيان. وحقيقة ذلك: بعد انقضاء أهل عصر أو أهل دين. وقوله ـ تعالى ـ: {إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ} [النحل: 120] أي قائماً مقام جماعة في عبادة الله. نحو قولهم: فلان في نفسه قبيلة. وقوله ـ تعالى ـ: {لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ } [آل عمران: 113] أي جماعة. وجعلها الزجّاج هاهنا للاستقامة، وقال تقديره: ذو طريقة واحدة. فترك الإضمار(7).
تتبع الموضوع يمثل هذا التناول نقلة منهجية في فن التفسير الموضوعي، تجاوزت إطار التعامل مع كلمة قرآنية واحدة في استخدامات القرآن لها إلى التعامل مع موضوع معين يتعرض له القرآن الكريم بأساليب متنوعة، فيُعنى الباحث بتتبع الموضوع في سور القرآن، مستخرجاً الآيات التي تناولته، محيطاً بطرق المفسرين في عرضها، مستنبطاً عناصره من القرآن ذاته، في محاولة لتقديم العلاج القرآني لتلك القضية أو إلقاء أضواء قرآنية عليها.
ولا شك أن عملية التصور الأولي لأبعاد الموضوع جزء من نجاح الباحث في خدمة هذه الطريقة؛ إذ الفهم يأتي بعد التصور. ويأتي من بعد ذلك اختيار العنوان وجمع الآيات المتعلقة به وترتيبها بحسب نزولها؛ لأن ما نزل بمكة كان في الأعم الأغلب يتعلق بأسس عامة، بخلاف التنزيل المدني الذي اتسم بتحديد معالمه، ثم يأتي دور تفسير هذه الآيات وفهم دلالتها وما ترمي إليه ألفاظها وما تحمله من الروابط بينها، مع الإحاطة قدر الإمكان بمعانيها مجتمعة، وفهم التوجيهات القرآنية التي تحيط بها وتنساب في ثناياها، والاجتهاد في تلمس الهدايات القرآنية المنبثة في نصوصها الكريمة.
والواقع أن هذا النوع من التفسير الموضوعي هو الأشهر في عرف أهل الاختصاص؛ بحيث إذا أطلق اسم التفسير الموضوعي يكاد الذهن لا ينصرف إلا إليه. ويمكن تفسير نقاط العمل فيه على النحو الآتي:
1 - تصور الموضوع ومحاولة تحديده وعنونته.
2 - تتبعه في سور القرآن الكريم وجمع الآيات التي تعرضت له.
3 - الوقوف على أقوال أهل التفسير في تلك الآيات وترتيب نزولها وأماكنها.
4 - استنباط عناصر الموضوع من طرق عرض القرآن الكريم له، وأقوال أهل التفسير فيه.
5 - التنسيق بين تلك العناصر بما تقتضيه طبيعة البحث والتسلسل المنطقي لأفكاره.
6 - وضع مقدمة تكشف عن طريقة القرآن الكريم في عرض أفكار ذلك الموضوع.
7 - تقسيم الموضوع إلى أبواب وفصول ومباحث ومسائل، مستدلاً على ذلك التقسيم بالآيات ذاتها.
8 - ربط الموضوع بواقع الحياة ومشكلاتها محاولاً تقديم الحلول القرآنية لها(8).
ولقد كثرت المصنفات التي تناولت هذا النوع قديماً، فطالت:
1 - إعجاز القرآن. 2 - الناسخ والمنسوخ.
3 - أحكام القرآن. 4 - أمثال القرآن.
5 - مجاز القرآن. 6 - تأويل مشكل القرآن(9).(/2)
أما الحديث منها فلا تكاد تنتهي موضوعاته؛ إذ كلما جدّت صنوف المعارف جدّ البحاثة من أهل العلم في استشراف هدايات القرآن بحثاً عن التوجيهات الربانية في هذا الشأن سواء ما تعلق منها بالكون في أرضه وسمائه، أو بالإنسان في خلقه وتكوينه وغرائزه وعقله وأخلاقه، أو بالحياة الاجتماعية وأخذ العبر من سير الأقوام والأمم الماضية، أو بالعلاقات الدولية وأمور الاقتصاد والسياسة وأنظمة الحرب والسلم، أو حتى ما يتعلق بأحوال الغيب.
ومن قواعد المنهجية العلمية الصحيحة لهذا النوع من التناول خاصة، أن يتجنب الباحث الإسرائيليات والروايات الضعيفة والقصص والتاريخ، ويُعنى بشرح الكلمات الغريبة وتوجيه القراءات وإبراز النكت البلاغية التي تعرض له أثناء البحث وذلك في الحاشية.
وأن يحافظ في وعي على تسلسل أفكار بحثه، وتعانق فقراته، وسلاسة أسلوبه، وإشراقة بيانه؛ فإن عمله إنما يدور حول أشرف الكلام وهو كلام رب العالمين.
وقد عُني بذلك المنهج لفيف من أهل العلم من أمثال: الدكتور عبد الغني الراجحي في كتابه: (المناهج الجديدة)، والدكتور محمد البهي في كتابه: (نحو القرآن)(10)، والدكتور محمد محمود حجازي في رسالته للدكتوراه المعنونة بـ «الوحدة الموضوعية في القرآن» وفيها يقول: «قد عرفنا أن القرآن نزل منجماً، وكل وحدة في النزول ضُمت لأخواتها في مجموعة واحدة [السورة القرآنية]، هذه الوحدة إذا ضمت إلى وحدات أخرى لم تكن كالوحدة الحسابية إذا ضمت إلى زميلتها؛ وإنما هي وحدة ضمت إلى وحدة كما يضم العضو في الجسم إلى العضو الآخر»(11) ثم يقول: «وأعجب العجب أن هذه الوحدة التي نزلت في موضوع خاص إذا أخذتها وضممتها إلى الوحدات الأخرى التي نزلت في هذا الموضوع نفسه لرأيت العجب تماسكاً وتكاملاً وارتباطاً ووحدة في الموضوع»(12)، وقدّم صورة لهذه الوحدة الموضوعية عند كلامه على سورة المائدة، فقال بعد عرضه لموضوعية السورة: «أرأيت أن الوحدة الموضوعية لم تتم إلا بضميمة كل ما ذكر من آيات في السور كلها، وهذا ما نريد أن نصل إليه. فنقول: لا يمكن تحقق كمال الوحدة الموضوعية بالنسبة لكل سورة فيها الموضوع على انفراد، وها نحن عرفنا أن سورة المائدة كغيرها من السور اشتملت على عدة موضوعات لا تعطينا وحدة كاملة إلا إذا ضم لها ما ذكر في غيرها. وكل ما ذكر في السور الأخرى له وجهان: وجه اتفاق ووجه اتحاد يتعاونان في تكوين موضوع واحد يتكامل مع بقية أجزائه المذكورة في السور الأخرى»(13).
تتبع السورة
القرآن الكريم كتاب هداية ربانية تُمثل آخر اتصال بين وحي السماء وأهل الأرض، لكونه الكتاب الإلهي الخاتم المرشد إلى الصحيح في الاعتقاد والخير في السلوك؛ فلا غرو أن تكون طريقته في التأليف مغايرة لما أَلِفه الناس، فليست سُوَره مجرد فصول من كتاب بحيث تستقل كل سورة عن غيرها، وإنما طريقة القرآن ككتاب هداية تستلزم أن يسلك طرقاً عديدة يدخل منها إلى النفس، وكما أن الهدايات تجتمع في القرآن بتمامه فإن هذه الهدايات منبثة أيضاً في سوره بصورة تجل عن الوصف، يراها من ينعم النظر فيها، فيجد لكل سورة وحدة تجتمع حولها آياتها وإن تعددت موضوعاتها، ويحس فيها روحاً تسري بين أجزائها، ووشائج تربط بينها، ومقصداً يجمعها.
وهذا النوع من الدراسة هو الذي يميز التناول الثالث للتفسير الموضوعي، فدائرته تحيط بالسورة القرآنية الواحدة، وتتجلى مهمة الباحث في الكشف عن الهدف الجامع الذي تدور حوله السورة، وطريقته: أن يستوعب الباحث أهداف السورة المنبثة في أسباب نزولها وترتيبها ومكيها ومدنيها وأسمائها وعدد آيها ومقاصدها الفرعية وأساليب عرضها والمناسبات بين مقاطعها(14).
فالسورة في مجملها كلٌّ لا تنفصم عراه وطائفة ملتئمة من الآيات لا تحتمل تقطيعها، وإنما النظر إليها يكون في كلها لا في بعضها، ولا تتم الفائدة إلا باعتبارها كياناً حياً واحداً، وهو ما يرتب على إدراك مقصدها النظر إليها كلها واستيفاء معانيها بتمامها.(/3)
يقول الشاطبي (791 هـ) في الموافقات: «اعتبار جهة النظم في السورة لا يتم به فائدة إلا بعد استيفاء جميعها بالنظر؛ فالاقتصار على بعضها غير مفيد للمقصود منها، كما أن الاقتصار على بعض الآية في استفادة حكم ما لا يفيد إلا بعد كمال النظر في جميعها. فسورة البقرة مثلاً كلام واحد باعتبار النظم وإن احتوت على أنواع من الكلام بحسب ما ثبت فيها؛ فمنها ما هو كالمقدمات والتمهيدات بين يدي الأمر المطلوب، ومنها ما هو كالمؤكد والمتمم، ومنها ما هو المقصود في الإنزال وذلك تقرير الأحكام على تفاصيل الأبواب. ومنها الخواتم العائدة على ما قبلها بالتأكيد والتثبيت، وما أشبه ذلك، ولا بد من تمثيل شيء من هذه الأقسام فيه يَبِين ما تقدم: فقوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] إلى قوله ـ تعالى ـ: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187] كلام واحد وإن نزل في أوقات شتى، وحاصله: بيان الصيام وأحكامه وكيفية آدابه وقضائه وسائر ما يتعلق به من الجلائل التي لا بد منها ولا ينبني إلا عليها»(15).
وعلى ذلك فإن اعتبار جهة النظم في السورة الواحدة لا تتم به فائدة إلا بعد استيفاء جميعها بالنظر، وكذا في الآية، فسورة البقرة كلام واحد باعتبار النظم وإن احتوى على أنواع من الكلام، وسورة الكوثر نازلة في قضية واحدة، وسورة العلق نازلة في قضيتين: الأولى: حتى قوله: {عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 5]، والأخرى: بقية السورة، وسورة المؤمنون المكية نازلة في قضية واحدة وهي: الدعاء إلى عبادة الله تعالى؛ وإن اشتملت على ما قرره القرآن المكي في معانيه الثلاث: تقرير الوحدانية، وتقرير النبوة، وإثبات المعاد. ومن أراد الاختبار في سائر سور القرآن فالباب مفتوح(16).
ويدل البقاعي (ت 885 هـ) على مناسبات القرآن واتصاله بالوحدة الموضوعية في السورة القرآنية الواحدة فيقول: «فعلم مناسبات القرآن: علم تعرف منه علل ترتيب أجزائه، وهو سر البلاغة لأدائه إلى تحقيق مطابقة المقال لمقتضى الحال. وتتوقف الإجادة فيه على معرفة مقصود السورة المطلوب ذلك فيها»(17).
وليس من شك في أن لكل سورة شخصيتها المستقلة وأهدافها الواضحة؛ فمن المعلوم أن السور المكية قد عرضت أسس العقيدة الإسلامية الثلاثة بشكل مفصل: الألوهية، والرسالة، والبعث بعد الموت. ويمكن للباحث أن يتناول من كل سورة مكية أحد الأسس الثلاثة بجانب اشتمال الكثير منها على أمهات الأخلاق والتنفير من مرذولها، في حين تشتمل السور المدنية على الكليات الشرعية، وتُحيل إلى الحوار وإقامة البرهان وتفنيد مزاعم المعارضين وأهل الكتاب وفضح المنافقين(18).
ولقد ظفر هذا التناول الموضوعي للقرآن بعناية أكابر الأقدمين، فوردت في تفاسيرهم إشارات إلى بعض أهداف السور، خاصة القصير منها، ووردت لطائف تَوخَّوْا من خلالها أوجه المناسبة بين مقاطع بعض السور كما فعل الفخر الرازي 606 هـ في تفسيره الكبير(19)، وابن قيم الجوزية 751 هـ في (التفسير القيم) الذي جمعه: محمد أويس الندوي.
يقول محمد أحمد السنباطي: عن منهج ابن القيم في التفسير: «يظهر أن الأساس الأول لمنهج ابن قيم الجوزية يتمثل في إبراز الوحدة الموضوعية للسورة القرآنية، وهي التي نزلت السورة لها، وتعد أساساً لفهم آياتها؛ بحيث ترى أن كل جزء من السورة يبدو خادماً ومخدوماً فيها»(20).
كما تمثل هذا التناول بوضوح في تفسير: (نظم الدرر في تناسب الآيات والسور) للبرهان البقاعي وكتاب (مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور) وفيه يقول البقاعي: «إن من عرف المراد من اسم السورة عرف مقصودها، ومن حقق المقصود منها عرف تناسب آيها وقصصها وجميع أجزائها... فإن كل سورة لها مقصد واحد يدار عليه أولها وآخرها ويستدل عليه فيها؛ فترتب المقدمات الدالة عليه على أكمل وجه وأبدع منهج، وإذا كان فيها شيء يحتاج دليلاً استدل عليه. وهكذا في دليل الدليل وهلم جراً»(21).
تتبع العلاقات ويضرب المثال على ذلك فيقول: «سورة آل عمران مقصودها التوحيد لذلك بُدئت به وخٍُتمت بما بُنيَ عليه من الصبر وما معه من التقوى، وسورة مريم مقصودها شمول الرحمة ففُتحت بذكر الرحمة وخُتمت بأن كل من كان على نهج الخضوع لله يجعل له وُدّا ثم كُرِّر الوصف بالرحمن فيها تكريراً يلائم مقصودها»(22).(/4)
يعد هذا النوع أكثر أنواع التناول الموضوعي تطوراً وإضافة؛ فهو لا يتتبع كلمة قرآنية ليستنبط دلالاتها، ولا يعرض لموضوع قرآني فيجمع آياته ويربط بينها. كما أنه لا ينظر للسورة القرآنية الواحدة كوحدة موضوعية بالبحث عن مقصدها الأكبر الذي تدور عليه، وإنما يضيف إلى عنايته بالوحدة الموضوعية لكل سورة البحث عن آفاق العلاقة بما يجاورها من سور، فينظر في فواتح السور وخواتيمها ويربط بينها مجتمعة تارة ومتفرقة تارة أخرى جامعاً بين موضوعات السور ما استقام له الجمع، بحيث تبدو سور الكتاب وقد التقت معانيها ومقاصدها كدائرة اتصل كل مبتدأ فيها بمختتمها»(23).
وقد عني بهذا التناول كوكبة من علماء التفسير فكتب فيه السيوطي (أسرار التنزيل)(24)، و (نتائج الفكر في تناسب السور) الذي عدَّل تسميته إلى (تناسق الدرر في تناسب السور)(25)، وهو (أسرار ترتيب القرآن)، وكتب أبو الفضل الغُماري (جواهر البيان في تناسب سور القرآن)، وانبثّ ذلك في عملي البقاعي (نظم الدرر)، و (مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور).
وعرض الشاطبي لذلك النوع من التناول الموضوعي في القرآن فقال: «والمدني من السور ينبغي أن يكون منزلاً في الفهم على المكي، وكذلك المكي بعضه مع بعض، والمدني بعضه مع بعض على حسب ترتيبه في النزول.
والدليل على ذلك أن معنى الخطاب المدني في الغالب مبني على المكي، كما أن المتأخر من كل واحد منهما مبني على متقدمه، دل على ذلك الاستقراء؛ وذلك إنما يكون ببيان مجمل أو تخصيص عموم أو تقييد مطلق أو تفصيل ما لم يفصّل أو تكميل ما لم يظهر تكميله.
وأول شاهد على هذا أصل الشريعة نفسها؛ فإنها جاءت مصححة لما أُفسد من ملة إبراهيم عليه السلام، ثم نزلت فيها سورة الأنعام مبيّنة لقواعد العقائد وأصول الدين من أول إثبات الربوبية إلى إثبات الإمامة. ثم لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان أول ما نزل سورة البقرة التي قررت قواعد التقوى المبنية على سورة الأنعام؛ فبيّنت العبادات والعادات والمعاملات والجنايات وحفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، فكان غيرها من السور المدنية المتأخرة عنها مبنياً عليها، كما كان غير سورة الأنعام من السور المكية مبنياً عليها، وإذا نظرت إلى سائر السور بعضها مع بعض في الترتيب وجدتها كذلك حذو القُذة بالقذة، فلا يغيبن عنك هذا المعنى فإنه من أسرار علوم التفسير»(26).
فعلى الناظر في القرآن لفهم معناه: التوسط والاعتدال بالجمع بين فهم اللسان الذي جاء به وهو العربية، وفهم معاني ما تركّب من الكلام؛ فإن كل عاقل يعلم أن مقصود الخطاب ليس هو التفقه في العبارة وإنما التفقه في المُعَبّر عنه والمراد به، كما يعلم أن المساقات تختلف باختلاف الأحوال والأوقات.
فلا محيص للمتفهم عن التعلق بأول الكلام وآخره ليحصل له المقصود منه، فإن فرّق النظر لم يتوصل إلى المراد، ولا يصح تفريق النظر إلا في موطن واحد وهو النظر في فهم الظاهر من ذلك الموطن بحسب ما يقتضيه اللسان العربي، فإذا صح له الظاهر رجع به إلى الكلام كله فبدا له مقصود المتكلم منه(27).
ثم الكتاب ـ بعد كل ما تقدم ـ مبني على مقاصد منها الجواهر. وأعلاها: العلم الأشرف الذي تُراد كل العلوم له، ولا يُراد هو لغيره، وهو علم معرفة الذات الإلهية وما يليق بجلالها من صفات وأفعال، ثم علم الآخرة المشتمل على معرفة الصراط والمآل، ومنها الدرر، ويمثلها: بيان ما ينجّي من الأقوال والأعمال.
وسر الكتاب حاصل في دعوة العباد إلى ربهم المعبود، ولذلك انحصرت سوره في ستة أنواع: ثلاثة مهمة؛ تناولت معرفة الله ـ تعالى ـ والصراط والمآل، وثلاثة مُتمة؛ تناولت أحوال الأولياء والأعداء وسبل الطاعة.
وانشعبت علومه إلى: علوم اللباب وهي قصص القرآن، ومحاجَّة الكفار ومنه انشعب علم الكلام لرد البدع والضلالات، وعلم الحدود ومنه انشعب علم الفقه، وعلوم الصرف وهي علوم اللغة والنحو والقراءات والتفسير، فهذه مجامع العلم التي تنشعب من القرآن ومراتبها(28).
________________________________________
(1) مباحث في التفسير الموضوعي، الدكتور مسلم، ص 23 بتصرف.
(2) الأشباه والنظائر، البلخلي، 188.
(3) مباحث في التفسير الموضوعي، الدكتور مسلم، ص 20.
(4) إصلاح الوجوه والنظائر، الدامغاني، 167، وبعدها طبعة دار العلم للملايين.
(5) السُرْقَة: بضم السين وسكون الراء وفتح الفاء دودة القز، القاموس المحيط، الفيروزآبادي، 1508، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الرابعة، 1415هـ.
(6) هي قراءة الحسن البصري، انظر: تفسير ابن كثير، 2/498، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثانية، 1407هـ.
(7) المفردات في غريب القرآن، الراغب، 19، وانظر: آل عمران 113، طبعة دار الفكر، بيروت.
(8، 9) مباحث في التفسير الموضوعي، الدكتور مسلم، ص 27 ـ 28 بتصرف.
(10) الإمام محمد عبده ومنهجه، الدكتور عبد الغفار، ص 222 ـ 224.(/5)
(11، 12) الوحدة الموضوعية، الدكتور حجازي، ص 91.
(13) المصدر السابق، ص 125.
(14) مباحث في التفسير الموضوعي، الدكتور مسلم، ص 28 ـ 29، بإيجاز.
(15) الموافقات، الشاطبي، 3/415، دار الفكر العربي، بيروت، الطبعة الثالثة، 1395هـ، وانظر: البقرة، 183 ـ 187.
(16) الموافقات، الشاطبي، 3/415، وبعدها بإيجاز.
(17) مصاعد النظر، 1/142. وبعدها.
(18، 19) مباحث في التفسير الموضوعي، الدكتور مسلم، ص 29 بتصرف.
(20) منهج ابن القيم في التفسير، محمد أحمد السنباطي، ص 84، وبعدها.
(21) مصاعد النظر، 1/149 ـ 150.
(22) المصدر السابق، 1/150 ـ 153.
(23) مدخل إلى القرآن الكريم، دراز، ص 119، ومباحث في التفسير الموضوعي، الدكتور مسلم، ص 44 ـ 46.
(24) أسرار ترتيب القرآن، السيوطي، ص 65، الطبعة الأولى، 1396 ـ 1976م، دراسة وتحقيق عبد القادر أحمد عطا.
(25) المصدر السابق، ص 67.
(26) الموافقات، الشاطبي، 3/406 ـ 407 بإيجاز يسير.
(27) الموافقات،الشاطبي، 3/409، وبعدها بإيجاز.
(28) جواهرالقرآن، الغزالي، ص 17 وبعدها، تحقيق الدكتور محمد رشيد القباني، دار إحياء العلوم، بيروت، الطبعة الثالثة، 1411هـ.(/6)
طريق النجاح
طالب النفوذ إلى الله والدار الآخرة بل وإلى كل علم وصناعة ورئاسة بحيث يكون رأسا في ذلك مقتدى به فيه، يحتاج أن يكون شجاعاً مقداماً حاكماً على وهمه، غير مقهور تحت سلطان تخيله، زاهداً في كل ما سوى مطلوبه، عاشقاً لما توجه إليه. عارفا بطريق الوصول إليه والطرق القواطع عنه، مقدام الهمة ثابت الجأش لا يثنيه عن مطلوبه لوم لائم ولا عذل عاذل، كثير السكون دائم الفكر غير مائل مع لذة المدح ولا ألم الذم، قائماً بما يحتاج إليه من أسباب معونته لا تستفزه المعارضات، شعاره الصبر وراحته التعب، محبا لمكارم الأخلاق، حافظا لوقته، لا يخالط الناس إلا على حذر كالطائر الذي يلتقط الحب بينهم، قائماً على نفسه بالرغبة والرهبة، طامعا في نتائج الاختصاص على بني جنسه، غير مرسل شيئا من حواسه عبثا ولا مسرحا خواطره في مراتب الكون. وملاك ذلك هجر العوائد وقطع العلائق الحائلة بينك وبين المطلوب، وعند العوام أن لزوم الأدب مع الحجاب خير من اطراح الأدب مع الكشف(/1)
طريق النهضة؟!
أ / ياسر بن علي الشهري 27/8/1426
01/10/2005
الحادثة التي هزّت الرأي العام المحلي في الأسبوع المنصرم، والتي أخذت ردود أفعال تصل إلى حد الإجماع على شجب واستنكار تلك الصورة -المؤلمة- بكل تفاصيلها؛ كشفت عن استمرارنا في أسلوبنا التقليدي في مواجهة هذه الحوادث التي بدأت تظهر للعيان لما زادت وسائل التوثيق والأرشفة.
وبعيداً عن مناقشة تلك الصورة التي تكشف المسافة بين الصورة الذهنية التي رسمها الإعلام لعلاقة الجنسين ببعضهما، والصورة التي رسمها محمد -صلى الله عليه وسلم -لذات العلاقة "أترضاه لأمك"، فإن مما يستوقف المتابع تهميشنا المتعمد لكل الأساليب والوسائل والآليات الوقائية، والتي تبدأ من العناية بالجوانب المعرفية والهداية الفكرية، ثم تمتد إلى السلوك.
لقد استسلمنا لموقعنا "المرموق" بين دول العالم الثالث، ولم نعد ندرك أن الخروج من هذا العالم -المتخلف بالمعايير المادية- سهل ويسير إذا ما استطعنا التخطيط لأمور حياتنا في ضوء دراسة أوضاعنا ومعطيات واقعنا، وتنبأنا بمستقبلنا، وعملنا على تحسينه قدر المستطاع.
ولعل من المصادفات العجيبة أن تلك الحادثة وقعت فيما يسمى بـ"طريق النهضة" فيرى المتأمل تلازماً بين مكونات الصورة، وهذا المسمى وفقاً للكثير من الجهود الفكرية والإعلامية التي تُضخ في مجتمعات المسلمين.
لقد تعرّض "طريق النهضة" لكل أنواع التزوير والتلاعب في زماننا هذا، فكل صاحب فكرة أو فلسفة يدّعي لها أنها طريق النهضة، وننصت له ونستمع لقوله -رغماً عن أنوفنا- وفينا ما إن تمسكنا به لن نضل أبداً، ولقد قيل ويُقال كل يوم على مرأى ومسمع منا لشبابنا وبناتنا: إن هذا التحرر والانفلات هو "طريق النهضة"، وأنه لا ينقصهم سوى المسارح والمراقص ودور السينما، وكل مكان يسمح بالتقاء الجنسين.
إن كل أولئك –الضحايا- الذين قدموا ذلك المشهد "المحزن" وأمثالهم؛ لم
يصلوا "طريق النهضة المزيف" إلا وقد شُحنوا شحناً عاطفياً مبتذلاً أفقدهم عقولهم، فطريق النهضة الجديد والذي تتولى وسائل الإعلام كِبر التوجيه نحوه، طريق عربدة وفجور، واختلاط وسفور، طريق يرفض الآداب والأخلاق، ويعشق الاستعراض والنجوميّة، وهذه السلوكيات ليست إلا ثمرة من ثمرات حملاتها الإعلامية المخططة، والمستقبل يوحي بخطورة ما سيبتكره الشباب في هذا المجال، لتوفّر المعرفة والرغبة وتحوّلها إلى أعمال جماعيّة استعراضيّة.
إن الكم الهائل من قنوات العربدة –تصل حوالي السبعين- أدّت إلى تكثيف معرفة الأجيال الناشئة حول إباحية العلاقة بين الجنسين والاقتداء بالمجتمعات المنفتحة في علاقاتها الاجتماعية، فهذه الوسائل لا تستهدف إحداث تغييرات بسيطة في السلوكيات، وإنما تستهدف تغييراً مثيراً في أسلوب الحياة وقيمها، ودليل ذلك تطابقها إلى حد كبير مع وسائل الإعلام الغربية في المضمون والقيم التي تتبناها وأسلوبها التعليمي (الفعل، الصورة، القصة، الحركة الراقصة، والغناء) وتقرير وزارة الخارجية الأمريكية (أصدقاؤنا يقومون بمهمة الحرة) خير دليل.
ومما زاد الأمر خطورة تزامن هذه المعرفة المكثفة مع ضعف في المؤسسات التربوية الأخرى (الأسرة والمدرسة والمسجد) إما لتقليدية أسلوبها، أو لإضعاف دورها نتيجة لما تتعرّض له من الاتهام والتحجيم والمنافسة.
إننا في زمن تتسارع فيه المتغيرات على جميع المستويات، وهو ما يؤكد حاجتنا إلى توسيع دائرة الاهتمام بالأعمال والخطط الوقائية التي يكفلها تطبيق الشريعة الإسلامية، وانسجام وتكامل كافة أنشطة المجتمع، لتقليل حجم الخسارة المادية والمعنوية التي تأخذها منا الخطط العلاجية.
إن فئة الشباب شريحة اجتماعية كبيرة جداً في مجتمعنا وهي مهملة ومنسية من التخطيط الوقائي خاصة في الجوانب المعرفية، فلم تنل هذه الشريحة حقها من الرعاية والاهتمام، ولن يكون ذلك إلا باستثمار طاقاتها وإغراقها في ميادين العمل لآخرتها ولرقي أمتها، ومضاعفة ساعات طلب المعرفة والدراسة والبحث والعمل، وترقية الاهتمامات من خلال حملات نشر الوعي والفضيلة، وهذا ما يصعب الوصول إليه في ظل الارتجال الإداري، وغياب مراكز البحث والدراسة والتحليل، وضعف دور المؤسسات المتخصصة في التنظير لمسيرتنا التربوية والإعلامية والفكرية، وانشغالنا بمعالجة ظاهرة دون أخرى أو على حسابها!!(/1)
طريق الهداية ' المراتب - الأسباب - الموانع '
رئيسي :تزكية :
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، أما بعد،،،
فإن المسلم يقف بين يدي ربّه في كل يوم وليلة يسأل ربه مسألةً عظيمة، هو أحوجُ إليها من حاجته إلى الطعام والشراب، وهو مُحتاجٌ لها مع كلّ نفس، هذه المسألة هي سؤالُ هدايةِ الصراط المستقيم: }اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ[6]صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ[7]{[سورة الفاتحة] . والذين أنعم الله عليهم هم أهلُ طاعةِ الله، ورسولِه صلى الله عليه وسلم .
فما هي الهداية؟
الهداية: دِلالة بلطف إلى ما يوصل إلى المطلوب، وعرّفها ابن القيم بقوله:' هي معرفة الحق والعملُ به' .
فَعُلِمَ من هذا أن الهداية تُستطاع بفعل الأسباب بعد توفيق الله، ولذا قال سبحانه: } قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ[108] {[سورة يونس] .
وقال سبحانه:}وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ[17]{[سورة محمد] .
ولا بُدّ من فعل الأسباب والمجاهدة في الله حتى تحصل الهداية التامة، لقوله تعالى:} وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ[69]{[سورة العنكبوت] . قال ابن القيم[الفوائد 87]:' علّق سبحانه الهداية بالجهاد، فأكمل الناس هداية أعظمهم جهاداً' أي في ذات الله، كما في الآية السابقة . ولا يُتصوّر أن ملكاً من الملائكة سوف يأخذ بيد العبد للهداية، فيأخذ بيده إلى المسجد، أو يأخذ بيده ويُساعده على إخراج منكرات بيته أو محلِّه، بل لا بُدّ أن تُبذل الأسباب أولاً، ثم يسأل العبدُ ربَّه التوفيق؛ ولذا كان الأنبياء والرسل يبذلون الأسباب المستطاعة ثم يسألون ربّهم التوفيق والإعانة .
وقد قسّم ابن رجب الناس إلى ثلاثة أقسام، فقال:' الأقسام ثلاثة: راشد، وغاو، وضال ؛ فالراشد عرف الحق واتبعه، والغاوي عرفه ولم يتبعه، والضال لم يعرفه بالكلية؛ فكلُّ راشدٍ هو مهتد، وكل مهتدٍ هدايةً تامة فهو راشد؛ لأن الهداية إنما تتم بمعرفة الحق والعمل به أيضًا' اهـ .
وقد وصَف الله أتباع إبليس بأنهم من الغاوين، فقال:} إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ[42]{[سورة الحجر] . ووصَف الله الذي أوتيَ الآيات فردّها بأنه من الغاوين، فقال:}وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ[175]وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ[176]{[سورة الأعراف] .
فدلّ هذا على أن الهداية نعمة لا تحصل بتمامها إلا بفعل الأسباب ، وقد قال تعالى:} كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ[86]{[سورة آل عمران] .
قال بعض العلماء في تفسير الآية:' أي أنه لا يهديهم ؛ لأن القوم عرفوا الحق وشهدوا به وتيقّنوه وكفروا عمداً، فمن أين تأتيهم الهداية ؟ فإن الذي تُرتجى هدايته من كان ضالا ولا يدرى أنه ضال، بل يظن أنه على هدى فإذا عرف الهدى اهتدى، وأما من عرف الحق وتيقنه وشهد به قلبه، ثم اختار الكفر والضلال عليه، فكيف يهدي اللهُ مثل هذا؟!' .
مراتب الهداية:
قسّمها ابن القيم رحمه الله إلى أربع مراتب:
'المرتبة الأولى:الهداية العامة، وهي هداية كل مخلوق من الحيوان والآدمي لمصالِحِهِ التي بها قام أمْرُه: قال تعالى:} سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى[1]الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى[2]وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى[3]{[سورة الأعلى] . قدّر له أسباب مصالحه في معاشه وتقلباته وتصرفاته وهداه إليها والهداية تعليم، وقال تعالى حكاية عن عدوه فرعون أنه قال لموسى:} قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى[49]قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى[50]{[سورة طه] . وهذه المرتبة أسبقُ مراتب الهداية وأعمُّها . اهـ .(/1)
المرتبة الثانية:هداية البيان والدلالة التي أقام بها حجته على عباده: وهذه لا تستلزم الاهتداء التام، قال تعالى:} وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ[17]{[سورة فصلت] .
يعني: بيّنا لهم ودَلَلْناهم وعرّفناهم، فآثروا الضلالة والعمى .
المرتبة الثالثة: وهذه المرتبة أخص من الأولى وأعم من الثانية، وهي: هداية التوفيق والإلهام: قال تعالى:}وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[25]{[سورة يونس] . فَعَمّ بالدعوة خلقه، وخص بالهداية من شاء منهم . قال تعالى:} إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ[56]{[سورة القصص] . مع قوله:}وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[52]{[سورة الشورى] .فأثبت هداية الدعوة والبيان، ونفي هداية التوفيق والإلهام. وهذه الهداية الثالثة هي الهداية الموجبة المستلزمة للاهتداء، وتَخَلُّف الهدى عنها مستحيل .
المرتبة الرابعة: الهداية في الآخرة إلى طريق الجنة والنار: قال تعالى:} احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ[22]مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ[23]{[سورة الصافات] . وأما قول أهل الجنة:} وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ...[43]{[سورة الأعراف] . فيُحتمل أن يكونوا أرادوا الهداية إلى طريق الجنة، وأن يكونوا أرادوا الهداية في الدنيا التي أوصلتهم إلى دار النعيم، ولو قيل: إن كلا الأمرين مراد لهم كان أحسن وأبلغ' . انتهى كلامه رحمه الله .
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ اقتصاص الخلق بعضهم من بعض، ثم قال: [...فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَأَحَدُهُمْ أَهْدَى بِمَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا]رواه البخاري .
أسباب الهداية:
أولاً: التوحيد: فهو أعظم أسباب الهداية، ولذا قال على لسان خليله إبراهيم:}الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ[82]{[سورة الأنعام] . فهذا وعدٌ بالهداية لأهل التوحيد .
ثانياً: امتثال ما أَمَرَ الله بهِ ورسولُه، واجتناب ما نَهى الله ورسوله عنه: قال عز وجل:}وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا[66]وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا[67]وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا[68]{[سورة النساء] . وإذا كانت الذنوب سبباً لسوء الخاتمة، وللطبع على القلب، كان تركها سبباً للهداية، وأشد في الثّبات على دين الله . فالمحافظة على الصلاة – مثلاً – وإقامتها كما أمر الله، مما أُمِرَ به المسلم، ثم هي سبب في الابتعاد عن الفواحش والمنكرات:} إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ[45]{[سورة العنكبوت] .
وبها يستعين العبد على الصبر على ما ينوبه في الحياة، وبها يستعين العبد على الشدائد:} وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ[45]{[سورة البقرة] . والأعمال الصالحة عموماً مما يُقرِّب إلى علاّم الغيوب .
وقال جلّ ذكره في وصف كتابه:} يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[16]{[سورة المائدة] .
ثالثاً:الإنابة والتوبة والرجوع إلى الله: قال تعالى:}اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ[13]{[سورة الشورى] .
رابعاً: الاعتصام بالله: قال سبحانه:} فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا[175]{[س
خامساً: الإخلاص لله تعالى: فإذا لم يكن العمل خالصاً لله عز وجل كان سبباً في ضلال وانتكاس صاحبِه، وكان وبالاً على صاحبه يوم القيامة .(/2)
سادساً: الدعاء، والاجتهاد فيه: فقد ثبت عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: [اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى] رواه مسلم . ومن دعائه صلى الله عليه وسلم: [ اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ] رواه النسائي وأحمد . وفيما يرويه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن ربِّه تبارك وتعالى أنه قال: [...يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ...] رواه مسلم . فاسأل ربك الهداية، فقد قال خليلُ الله إبراهيمُ: { لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ[77] } [سورة الأنعام] .
سابعاً: المجاهدة على فعل الطاعات، وترك المنكرات، والصبر على ذلك: قال تبارك وتعالى: { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ[69][سورة العنكبوت] } .
ثامناً: كثرة ذكر الله: فإن الإعراض عن ذكر الله سبب في الضلال، كما في قوله تعالى: { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ[36]وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ[37] } [سورة الزخرف] .
وهذه الهداية لا تكونُ مهيأةً في كلِّ وقتٍ للعبدِ المسلم، فإن الحقّ سبحانه وتعالى قال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ[24] } [سورة الأنفال] .
وفي هذا حثٌ على المبادرةِ بالاستجابة لله ولرسوله، قبل أن يأتي يومٌ يَبْحَثُ فيه المسلمُ عن قلبه فلا يجده، أي أنه يُحالُ بينه وبين قلبه .
موانع الهداية كما ذكرها ابن القيم باختصار:
السبب الأول: ضعف معرفته بهذه النعمة، وأنه لم يقدرها قدرها .
السبب الثاني: عدم الأهلية: فإذا كان القلب قاسيا لا يقبل تزكية ولا تؤثر فيه النصائح لم ينتفع بكل علم يعلمه كما لا تُنبت الأرض الصلبة ولو أصابها كل مطر وبُذر فيها كل بذر، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: [ مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتْ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتْ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ] رواه البخاري ومسلم.
السبب الثالث:قيام مانع: وهو إما حسد أو كبر، وذلك مانع إبليس من الانقياد للأمر، وهو داء الأولين والآخرين إلا من عصم الله، وبه تخلف الإيمان عن اليهود الذين شاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفوا صحة نبوته ومن جرى مجراهم .
السبب الرابع: - مما ذكره ابن القيم - مانع الرياسة والملك: وإن لم يقم بصاحبه حسد ولا تكبرٌ عن الانقياد للحق، لكن لا يمكنه أن يجتمع له الانقياد وملكه ورياسته فيضن بملكه ورياسته كحال هرقل وأضرابه من ملوك الكفار الذين علموا نبوته وصدقه، واقرُّوا بها باطنًا، وأحبوا الدخول في دينه لكن خافوا على ملكهم . اهـ .
السبب الخامس: مانع الشهوة والمال: وهو الذي منع كثيراً من آهل الكتاب من الإيمان خوفًا من بطلان مأكلهم وأموالهم التي تصير إليهم من قومهم، وقد كان كفار قريش يصدون الرجل عن الإيمان بحسب شهوته، فيدخلون عليه منها، فكانوا يقولون لمن يحب الزنا: إن محمدا يُحَرِّم الزنا، ويحرم الخمر .
السبب السادس: محبة الآهل والأقارب والعشيرة: يرى أنه إذا اتبع الحق وخالفهم؛ أبعدوه وأخرجوه من بين أظهرهم، وهذا سبب بقاء خلقٍ كثير على الكفر بين قومهم وأهاليهم وعشائرهم . ومن ذلك أن بعض أهل الباطل ممن انتحلوا مذاهب هدّامة لما تبيّن لهم الحق ما منعهم أن يتّبعوه ويهتدوا إلا أنهم يخشون أن تذهب مكانتُهم أو تتلاشى .(/3)
السبب السابع: محبة الدار والوطن: وإن لم يكن له بها عشيرة ولا أقارب لكن يرى أن في متابعة الرسول خروجه عن داره ووطنه إلى دار الغربة والنوى، فيضنّ بوطنه . وقد ورد في الحديث: [ إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ بِأَطْرُقِهِ فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ تُسْلِمُ وَتَذَرُ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ وَآبَاءِ أَبِيكَ فَعَصَاهُ فَأَسْلَمَ ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ فَقَالَ تُهَاجِرُ وَتَدَعُ أَرْضَكَ وَسَمَاءَكَ وَإِنَّمَا مَثَلُ الْمُهَاجِرِ كَمَثَلِ الْفَرَسِ فِي الطِّوَلِ فَعَصَاهُ فَهَاجَرَ ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ فَقَالَ تُجَاهِدُ فَهُوَ جَهْدُ النَّفْسِ وَالْمَالِ فَتُقَاتِلُ فَتُقْتَلُ فَتُنْكَحُ الْمَرْأَةُ وَيُقْسَمُ الْمَالُ فَعَصَاهُ فَجَاهَدَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ وَمَنْ قُتِلَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ وَإِنْ غَرِقَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ وَقَصَتْهُ دَابَّتُهُ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ] رواه النسائي وأحمد.
السبب الثامن: مَنْ تخيّل أن في الإسلام ومتابعة الرسول إزراءً وطعنًا منه على آبائه وأجداده وذمّاً لهم: وهذا هو الذي منع أبا طالب وأمثاله عن الإسلام؛ استعظموا آباءهم وأجدادهم أن يشهدوا عليهم بالكفر والضلال .
ولذا لما حضرت أبا طالبٍ الوفاة قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي طَالِبٍ: [يَا عَمِّ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ] فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ يَا أَبَا طَالِبٍ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ وَيَعُودَانِ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأَبَى أَنْ يَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. رواه البخاري ومسلم . فهذا مانعٌ من موانع الهداية، بالإضافة إلى صُحبة السوء، فإنها تمنع من الهداية والالتزام بشرع الله، فيُسمعون صاحبهم الذي ربما أراد الاستقامة على دين الله عبارات النبز والاستهزاء والسخرية؛ حرصاً منهم على بقائه ضالاً كحالهم .
السبب التاسع: متابعة من يعاديه من الناس للرسول وسبقه إلى الدخول في دينه وتخصصه وقربه منه: وهذا القدر منع كثيرا من اتِّباع الهدى ؛ يكون للرجل عدو ويبغض مكانه، ولا يحب أرضًا يمشي عليها، ويقصد مخالفته ومناقضته، فيراه قد اتبع الحق فيحمله قصد مناقضته ومعاداته على معاداة الحق وأهله وإن كان لا عداوة بينه وبينهم وهذا كما جرى لليهود مع الأنصار . ومن ذلك قول بعض أهل الباطل: الخير فيما خالف العامة .
السبب العاشر: مانع الإلف والعادة والمنشأ: فيربى الرجل على المقالة، وينشأ عليها صغيرًا، فيتربى قلبه ونفسه عليها كما يتربى لحمه وعظمه على الغذاء المعتاد، ولا يعقل نفسه إلا عليها، ثم يأتيه العلم وَهْلَةً واحدة يريد إزالتها وإخراجها من قلبه وأن يسكن موضعها فيعسر عليه الانتقال، ويصعب عليه الزوال، وهذا السبب- وإن كان أضعف الأسباب معنى فهو- أغلبها على الأمم وأرباب المقالات والنحل ليس مع أكثرهم، بل جميعهم- إلا ما عسى أن يشذ- إلا عادة ومربي تربى عليه طفلًا لا يعرف غيرها، ولا يحسن به فدين العوايد هو الغالب على أكثر الناس، فالانتقال عنه كالانتقال عن الطبيعة إلى طبيعة ثانية.
وقد أخبر الله عن المشركين أنهم ما منعهم من الهداية واتِّباع الرسول إلا أنهم وجدوا آبائهم على هذا الدين وهم ألِفوه ونشأوا عليه: { وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ[23]قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ[24] } [سورة الزخرف] .
ومن الأسباب التي يُمكن أن تضاف:
السبب الحادي عشر: الشرك بالله : فإنه أعظمُ أسباب الضلال، قال الله على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: { قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ[56] } [سورة الأنعام] .(/4)
السبب الثاني عشر: اتِّباع الهوى، قال سبحانه وتعالى لنبيِّه داود عليه الصلاة والسلام: { يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ[26] } [سورة ص] .
فاحرص رعاك الله أن تكون مشعل هداية لبيتك، فانقل ما تسمعه إلى زوجتك وبيتك . و ليُعلم أن الهداية نعمة عُظيمة، فلا تحصل إلا بفعل الأسباب، وببذل الوسع في تحصيلها . وإن تعجب فاعجب لمسلم يسأل ربَّه في اليوم والليلة سبع عشرة مرة هداية الصراط المستقيم، وأن يُعيذه من طُرق المغضوب عليهم وهم اليهود، وطرق الضالين وهم النصارى، ثم يتّبع طريقتهم، ويسلك أثرهم ويتشبّه بهم .
من محاضرة ' طريق الهداية [ المراتب - الأسباب - الموانع ]
' للشيخ / عبد الرحمن بن عبد الله السحيم(/5)
طريقة القرآن فى تقرير التوحيد ونفى ضده ... ...
يكاد القرآن أن يكون كله لتقرير التوحيد ونفى الشرك ، وفى أكثر الآيات يكرر الله تعالى توحيد الإلهية وإخلاص العبادة لله تعالى وحده لا شريك له . قال تعالى : (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)(التوبة: من الآية31)
ويخبر تعالى أن جميع الرسل تدعو قومها إلى أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا .
قال تعالى (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)(النحل: من الآية36)
وقال سبحانه (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ) (لأعراف:65)
وقال تعالى (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ.. .. .. ... الآية)(لأعراف: من الآية73)
وقال تعالى (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ... ... الآية )(لأعراف: من الآية85)
وقال تعالى (وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (العنكبوت:16)
وقال تعالى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ) (المؤمنون:23)
ويقرر الله تعالى أنه ما خلق الجن والإنس إلا ليعبدوه وأن الكتب والرسل اتفقت على هذا الأصل الذى هو أصل الأصول
قال تعالى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذريات:56)
وقال عز من قائل (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الانبياء:25)
ومن لم يدن بهذا الدين ـ الذى هو إخلاص العمل لله ـ فعمله باطل .
قال تعالى (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)(الزمر: من الآية65)
قال تعالى (ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام:88)
ويدعو الله تعالى عباده إلى ما تقرر فى فطرهم وعقولهم من أن المنفرد بالخلق والتدبير والمتفرد بالنعم الظاهرة والباطنة هو الذى لا يستحق العبادة إلا هو ، وأن سائر الخلق ليس عندهم نفع ولا ضر ولادفع ولن يغنوا عن أحد من الله شيئا وانظر فى هذا قوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة:21/22)
وقال تعالى بعد آيات فى الخلق والتدبير (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُون * وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) (النحل:17/22)
ويدعوهم الله تعالى إلى هذا الأصل بما يمتدح به ويثنى على نفسه الكريمة من تفرده بصفات العظمة والمجد والجلال والكمال وأن من له هذا الكمال المطلق الذى لا يشاركه فيه مشارك أحق من أخلصت له الأعمال الظاهرة والباطنة والآيات فى ذلك أكثر من أن تحصى فمنها قوله تعالى فى أعظم آية فى القرآن (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (البقرة:255)(/1)
وقال تعالى (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الحشر:22/24)
وتارة يقرر الله تعالى هذا التوحيد بأنه هو الحاكم وحده فلا يحكم غيره .
قال تعالى (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ )(يوسف: من الآية40)
وتارة يقرر هذا بذكر محاسن التوحيد وأنه الدين الواجب شرعا وعقلا وفطرة على جميع العبيد كما قال الله تعالى (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الروم:30)
ويذكر الله تعالى مساوئ الشرك وقبحه واختلال عقول أصحابه بعد اختلال أديانهم ويسلك القرآن فى هذا مسالك شتى ـ فمنها التنديد بما يتخذه الناس آلهة من دون الله وإظهار حالها من العجز الشنيع والفقر البالغ .
قال تعالى فى آخر سورة الأعراف (أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ * وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ * إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ) (لأعراف:191/195)
وقال تعالى : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) (النحل:20/21)
وقال تعالى : (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ) (الانبياء:43)
وقال تعالى : (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ)(فاطر: من الآية:13/14)
ومنها التشنيع بحال العابدين لهذه الآلهة الباطلة ورميهم بالضلال والسفه حيث رضوا لأنفسهم أن يعبدوا ما لا يسمع ولا يبصر ولا يملك لهم ضرا لا نفعا ولا تغنى شفاعته عنهم شيئا كقوله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام (أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (الانبياء:67) وقوله لهم أيضا (قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (الانبياء:54)
وقال تعالى (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ) (الاحقاف:5)
ومن طريقة القرآن فى تقرير التوحيد الدعوة إليه بذكر ما رتب عليه من الجزاء الحسن فى الدنيا والآخرة والحياة الطيبة فيهما وما رتب على ضده من العقوبات الآجلة والعاجلة وكيف كانت عواقبهم أسوأ العواقب وشرها وبالجملة فكل خير عاجل وآجل فإنه من ثمرات التوحيد وكل شر عاجل وآجل فإنه من ثمرات ضده والله أعلم ... ...(/2)
طريقك إلى القلوب
غزوان مصري
gazwan@gazwan.com
هل أنت طيب المعاملة، ولطيف المعشر مع الناس؟ هل أنت هين في المواقف التي لا تستدعي الشدة؟ هل أنت متواضع مع الناس جميعاً؟ هل تستطيع أن تأكل مع خادمك؟ إن كنت كذلك فأنت رجل محبوب.
هل أنت عبوس مقطَّب الحاجبين؟ هل تعتقد أن الناس تنفر من حولك؟ هل أنت ثقيل الظل؟ هل تظن أنك بخيل؟ هل تكره أن يكون الناس بخير؟ هل تعتقد أن سيرتك في الناس سيئة؟ إن كنت كذلك فباستطاعتك أن تجعل حياتك أكثر إثارة وأفضل سعادة، وأن تجعل شخصيتك أكثر تميزاً من خلال تطبيق قواعد فن التعامل مع الناس..
1 – "تلطَّف ولن بين أيدي الناس" "ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما انتزع من شيء إلا شانه".
2 – "ابتسم" "تبسمك في وجه أخيك صدقة".
3 – "نادهم بأحب الأسماء إليهم وكنِّهم" "اذكر أخاك بما يحب، وناده بأحب الأسماء إليه"
4 – "المداعبة" "المداعبة والملاطفة طريقك إلى القلوب"
5 – "المدح والثناء والإطراء الجميل" "إن الإطراء الجميل مفتاح القلوب"
6 – "الصفح والإعتذار" {وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم}
7 – "إظهار المحبة" "محبة الناس كنز لا يفنى"
8 – "إحسان الظن" "أحسن الظن بأخيك المسلم وقل: قد يكون له عذر لا أعلمه"
9 - "إياك والجهل" "العلم يرفع بيوتاً لا عماد لها، والجهل يهدم بيت العز والشرف"
10 – "الهدية" "تهادوا تحابوا"
11 – "حيِّ وصافح بحرارة" "إفشاء السلام"
12- "قم ولا تتحرج" "قوموا احتراماً وإجلالاً لمن يفضل"
13 – "الدعاء الصالح" "لا تنسنا من دعائك الصالح يا أخي"
14 - "لا تجرح .. ولا تعنِّف" "يسِّروا ولا تعسِّروا"
15 – "كن شكوراً" "من لم يشكر الناس، لم يشكر الله"
16 – "الزيارة القصيرة المرحة" "زر غِبَّاً، تزدد حباً"
17 – "التفقد والسؤال الدائم" "من أصبح لا يهتم بالمسلمين فليس منهم"
18 – "لا تكن ثرثاراً" "لا تكثر من قيل وقال وكثرة السؤال، حتى لا تكون ثقيل الظل كريه المقال".
19 – "كن خدوماً" "من مشى في حاجة أخيه، خير له من اعتكاف شهر في مسجدي هذا".
20 – "لا تكثر من اللاءات" "إذا كثرت اللاءات، فسدت المودات"
21 – "آثر على نفسك" "الإيثار أعلى مراتب الأخوة"
22 – "إياك وكلمة أنا" "من تواضع لله رفعه"
23 – "افرح لفرحهم.. واحزن لحزنهم" "شارك الناس في أحاسيسهم، تكسب ودَّهم"
24- "شاور واستشر" "ما خاب من شاور واستشار"
25- "كن حليماً" "إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة"
26- "كن شجاعاً" "كن شجاعاً ، تكن مطاعاً"
27- "إياك والإستهزاء" {ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب}
28- "لا تكن بليداً" "كن ذا همة تصل إلى القمة"
29- " الصبر" "الصبر مفتاح الفرج"
30- "لا تجادل" {وجادلهم بالتي هي أحسن}
31- "ادع وأجب" "اجتمعوا على طعامكم".
32- "كن طيب الكلمة، منتقى العبارة" {فقولا له قولاً ليِّناً}.
إنك بإرادتك وبعزيمتك تستطيع أن تقوِّم وأن تغيِّر من سلوكك الجاف إلى سلوك لطيف كي تكون مميزاً محبوباً.
(بتصرف من كتاب: طريقك إلى القلوب "الأستاذ عدنان المرهون")، مكتبة الصحوة الإسلامية.
...(/1)
طريقك إلى فقه الواقع(*) 16/2/1426
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأتم التسليم..
أما بعد:
فإن المتأمل في حال الأمة الإسلامية في العصور المتأخرة يتألم لما آلت إليه الحال، وما وصلت إليه من مستوى يندى له الجبين، وقد قلبت النظر في هذا الواقع متلمساً الأسباب، وباحثاً عن سبل العلاج، محاولاً المساهمة في الخروج فوجدت أن جهلنا بواقعنا سبب رئيس من أسباب مصيبتنا، وأيقنت أن فقه الواقع علم هجره الكثير من طلاب العلم ورواد الصحوة، فأحببت في هذا المقال أن أذكر بعض «مقومات فقه الواقع» علها تعين طالب العلم على الانطلاق منها.
إن لكل علم أصوله وقواعده التي يبنى عليها، وبدون تلك الأصول والقواعد يصبح علماً لا هوية له، ويخضع للأهواء والأمزجة وفقه الواقع له مقوماته التي عنها ينبثق ومنها ينطلق وهذه المقومات تصونه من استباحة المدعين، وتعين الراغبين في التخصص فيه، والغوص في بحوره، وبمقدار اكتمال هذه المقومات تتكامل شخصية المنتمي إليه، وحسب تخلف أي واحد منها ينثلم العلم ويضعف صاحبه.
أولاً: القناعة بأهميته:
لا يمكن أن يتخصص في هذا العلم من كان يظن أن فقه الواقع مجرد مزيد من الثقافة أو أن الأمة بحاجة إليه. البوابة الرئيسة للولوج فيه: القناعة التامة بأهميته وضرورته، وأن تعلمه فرض كفاية. على طالب العلم أن يدرك أن من أسباب تخلف الأمة في عصرها الحاضر جهلها بواقعها، وغفلة بعض طلاب العلم عما يكيده الأعداء ويخططون له. انشغل بعض طلاب العلم والدعاة في قضايا مهمة ولا شك ولكنهم غفلوا عن قضايا أكثر أهمية، ومنها فقه الواقع، فخلا الجو لأعدائنا، فالمقوم الأول أن نتقنع بأهمية هذا العلم وأثره في حياة المسلمين، وحاجة الأمة إليه حاضراً ومستقبلاً.
ثانياً: التأصيل الشرعي:
من الملحوظ في واقعنا أن أكثر المعنيين بفقه الواقع ممن لم يدرسوا العلوم الشرعية ولم يتخصصوا فيها بل إن عباقرة العلم السياسي المعاصر – حسب ما تنشر وسائل الإعلام – من غير المسلمين، وهذا سببه عزوف كثير من طلاب العلم عن التخصص في هذا الجانب، بل إن بعضهم لديه قناعة أن هذا الأمر لا يعنيه , حتى رأينا من طلاب العلم من يفسر الحديث المشهور (من حسن إسلام المرء تركته مالا يعنيه)، بترك الأمور السياسية وفقه الواقع لغيره، لذا فإن أقوى مقوم من مقومات فقه الواقع هو التأصيل الشرعي وأحق الناس في هذا الجانب هم العلماء وطلاب العلم، ولا يستلزم أن يكون المتخصص في فقه الواقع أحد خريجي كلية الشريعة، وإنما لا بد أن يكون لديه من العلم الشرعي ما يحتاج إليه في تخصصه مما لا يعذر بجهله من فرض العين أو الكفاية.
ثالثاً: سعة الإطلاع وتجدده:
يختلف هذا العلم عن كثير من العلوم ، فهناك بعض الفنون يستطيع طالبها أن يتقنها في مدة محددة، ثم ينتقل عنها إلى غيرها، بينما بعض أنواع العلوم يحتاج إلى التخصص والاستمرار في متابعة وملاحقة الجديد فيها، وفقه الواقع يحتاج إلى شيئين مهمين:
1- سعة الإطلاع: نظراً لتشعب هذا العلم وشموله، فيحتاج إلى كثير من الفنون، سواء العلوم الشرعية كالعقيدة والفقه أو العلوم الاجتماعية كالتاريخ، أو العلوم المعاصرة كالسياسية والإعلامية... وهلم جراً، وإذا قصر في علم من هذه العلوم أو غيرها مما يحتاج إليه، فسينعكس ذلك سلباً على قدرته على فقه الواقع وتقويم الأحداث والحكم عليها.
2- التجديد والاستمرار: فهذا العلم يحتاج إلى قدرة فائقة على المتابعة والبحث في كل جديد، فهو يختلف عن كثير من العلوم، لذا يلزم المتخصص أن يكون لديه دأب لا يكل في متابعة الأحداث ، ودراسة أحوال الأمم والشعوب، فلو انقطع عنه مدة من الزمن أثر على تحصيله وقدرته في فهم مجريات الأحداث وتقويمها.
ومن هنا أصبح لزاماً على طالب العلم أن يعي هاتين الحقيقتين، وهما:
- سعة الإطلاع وتنوعه.
- التجديد والاستمرار فيه.
رابعاً:- القدرة على الربط والمقارنة والتحليل:
هناك عناصر أساسية للوصول إلى حقائق الواقع وتوقع المستقبل، وهي:
1- جمع الأخبار والمعلومات.
2- المقارنة والربط بين الأحداث.
3- تحليل المعلومات والوصول إلى نتائجها.
أما الأول فمسألة آلية يستطيعها كثير من العامة.
وأما الثاني والثالث فتحتاج إلى عاملين أساسيين:
الأول: الموهبة.
الثاني: الاكتساب.
فلو ضعف أحد العاملين أمكن تداركه بالثاني، ومن هنا فمسألة الربط والمقارنة ثم التحليل مسألة مهمة وأساسية، وبدونهما تكون النتائج خاطئة.
خامساً: التفاعل الإيجابي مع الواقع:
من أجل أن تفقه الواقع لا بد أن تعيش هذا الواقع وأن تكون عنصراً متأثراً ومؤثراً فيه، والذي يعيش على هامش الحياة لا يستطيع أن يدرك أبعاد هذا العالم وما يجري فيه، ولهذا فمن لوازم هذا العلم أن تتفاعل مع الأحداث تفاعلاً إيجابياً.
سادساً: حسن اختيار المصادر:(/1)
مشكلة فقه الواقع تباين المصادر وتعارضها، فمصادر الفقه كتب الفقه وأصوله، ومصادر اللغة كتب اللغة، أما مصادر فقه الواقع فإنها متعددة ومتنوعة ومتباينة، فمن مصادر إسلامية إلى مصادر مادية، ومن مراجع قديمة إلى مراجع معاصرة، ومن أخبار المسلمين إلى أخبار الكفار والملحدين وهكذا.
وبهذا يعيش المتخصص في هذا العلم في حيرة من أمره كيف يختار هذه المصادر، فيحتاج الأمر إلى دقة وعناية، وكذلك نظراً لكثرة مصادر هذا العلم وتنوعها، لا يستطيع المتخصص الإحاطة بها، فيحتاج إلى حسن اختيار توفيراً للجهد، واكتفاء بالأحسن عن الحسن والفاضل عن المفضول، والأهم عن المهم.
فهذه هي مقومات فقه الواقع ، من أقامها انقاد له هذا العلم وتمكن منه، ومن قصر فيها انعكس ذلك على علمه وإدراكه.. أسأل الله أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
____________
(*) هذه الكلمة مستلة من كتابي فقه الواقع، ومن أراد مزيد بسط للمقال فليراجع الكتاب.(/2)
طريقنا إلى القلوب
الكاتب: الشيخ د.إبراهيم بن عبدالله الدويش
وطريقنا -أعني كل مسلم ومسلمة - يحبُ أن تشيع الألفة والمحبة بين أفراد المجتمع الإسلامي.
وكل مسلم ومسلمة يحب الخير والبر والمعروف والإحسان ومكارم الأخلاق.
أما القلوب فهي قلوبنا جميعا، فنحن بحاجة لفن التعامل مع بعضنا البعض.
بحاجة إلى تعميق روابط الأخوة الإسلامية ومعانيها، نحن بحاجة -أيها الأحبة- إلى تحقيق القاعدة الشرعية:
(لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) كما في حديث أنس المتفق عليه.
بحاجة إلى الحوار الهادئ والتعامل المهذب والاحترام المتبادل إلى أن نظهر محاسن هذه العقيدة لنصبح نحن المسلمين قدوات لبعضنا، ومفاتيح خير لغيرنا من أهل الملل والنحل.
بحاجة إلى أن نكسب قلوب بعضنا وأن نكسب قلوب أهل الأديان الأخرى بصدق التوحيد وحسن المعاملة وجميل الأخلاق لتذوق طعم الإيمان ولتعرف حقيقة الإسلام.
نريد أن نكسب القلوب ليس بالمجاملة ولا بالمداهنة ولا بتمييع ديننا ولا بتمزيقه ولا بالتنازل عن المبادئ والأهداف.
وإنما بمكارم الأخلاق، كما قال صلى الله عليه وسلم :
(إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) والحديث عند أحمد في المسند.
ولماذا كسب القلوب؟
ليس من أجل الدنيا، ولا متاعها ولا زخرفها ولا من أجل أنفسنا وإظهار محاسنها وتواضعها، لا والله.
بل ولا من أجل تملق الناس وطلب محامدهم وثنائهم.
إنما من أجل ربنا تعبدا وتقربا، فإن الله يحب معالي الأخلاق، ويبغض سفسافها.
واتباعا لحبيبنا وقدوتنا صلى الله عليه وسلم فقد كان أحسن الناس خلقا.
وكسب لحب وقرب نبينا يوم القيامة كما قال صلوات الله وسلامه عليه :
(إن من أحبكم إلى وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقا). حسنّه الترمذي.
وتطبيقا لتعاليم شرعنا وآداب ديننا قولا وعملا، وسرا وعلنا، فقد قال صلى الله عليه وسلم:
(وخالق الناس بخلق حسن).
وشوقا للجنان وتثقيلا للميزان يوم أن نلقى الله فقد قال صلى الله عليه وسلم:
(فأكثر ما يدخل الناس الجنة تقوى الله وحسن الخلق) صححه الترمذي وقال غريب.
وما من شئ أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلقٍ حسن،
وتخلقا وتأدبا وإيمانا فأكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا.
والله عز وجل يقول عن رسوله صلى الله عليه وسلم:
( ولو كنتَ فضاً غليظَ القلبِ لانفضوا من حولِك).
إذا فهذه الفضائل وأمثالها مما يحثنا ويشجعنا على اكتساب محاسن الأخلاق وتطبيع نفوسنا عليها، إخلاصا لوجه الله، وطلبا لرضاه فهي عبادة عظيمة وقربة من أجل القُربات فإن العبد ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم.
كما في حديث عائشة وصححه الألباني *رحمه الله*.
إذا فهذا طريقنا للقلوب، هذا هو طريقنا للقلوب خططته لكثرة شكاية الناس بعضهم من بعض.
فالزوج يشكو من سوء تعامل زوجه.
والطالب يتظلم من أخلاق أستاذه.
والموظف يتسخط من رئيسه ومديره.
والمكفول يئن ويتوجع من سوء تصرف كفيله.
حتى الصاحب لم يسلم من صاحبه وخليله.
فبحثت عن العلاج فكان هذا الموضوع. إذا فهو رسالة إلى كل مسلم ومسلمة.
إلى كل الطيبين والطيبات، إلى كل المعلمين والمعلمات.
إلى كل الأزواج، إلى كل موظف.
إلى كل مسلم يسافر خارج البلاد.
إلى كل أحد يحب أن يرى الألفة والمحبة ترفرف على المجتمع الإسلامي.
أيها المسلمون لنحرص على مكارم الأخلاق والتحلي بها وذلك بالصبر ومجاهدة النفس وترويضها هذا أولا.
وثانيا بصحبة الصالحين والنظر في سيرهم وأخلاقهم.
وثالثا بمداومة القراءة والإطلاع في كتب الأخلاق.
"كالأدب المفرد" للبخاري
و"مكارم الأخلاق" لأبن أبي الدنيا وللخرائطي
وكتب الشمائل وأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم
ومن أجمل الكتب المعاصرة التي وقفت عليها في هذا الموضوع "الأخلاق الفاضلة" للرحيلي وهو كتاب جميل
و"هذه أخلاقنا" للخازن دار و"سوء الخلق" للحمد وغيرها كثير.
إذا فلنحرص على التحلي بالأخلاق ومن يتصبر يصبره الله.
فإن أردت الوصول للقلوب، بل وإلى رضاء علام الغيوب سبحانه وتعالى فتنبه لهذه النقاط الثلاث الماضية، ثم أحرص على سماع هذا الموضوع وإسماعه مرات ومرات فإنما العلم بالتعلم وأستعن بالله وأكثر الدعاء والتضرع إليه:
(أن كما أحسنت خلَقي فأحسن خُلقي) كما كان صلى الله عليه وسلم يقول، كما عند أحمد وصححه الألباني.
وقل (اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء) كما في الترمذي وهو صحيح.
وقل أيضا بل وردد في كل وقت (اللهم أهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، وأصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت) كما في صحيح مسلم.
فهذا أحسن الناس خلقا والذي أثنى الله عليه فقال:
(وإنك لعلى خلقٍ عظيم) لا يترك صلى الله عليه وآله وسلم الدعاء والتضرع إليه أن يعينه على تهذيب نفسه والتحلي بأحسن الأخلاق، فكيف بي وبك؟ بل كيف بنا جميعا؟ فإنه لا حول لنا ولا قوة إلا بالله جل وعلا.
* العقيدة والأخلاق:
للأخلاق صلة وثيقة بالإيمان والعقيدة، قال أبن القيم يرحمه الله :(/1)
(الدين كله خُلق، فمن زاد عليك في الخُلقِ زاد عليك في الدين).
يقول صاحب رسالة جميلة بعنوان "صلة الأخلاق بالعقيدة والإيمان" :
(إن المتمعن في أحوال الناس يجد كثيرا من المسلمين يغفل عن الاهتمام والاحتساب في هذا الجانب، وقد يجهل الصلة الوثيقة بين محاسن الأخلاق وقضية الإيمان والعقيدة، فبينما تجد الشخص يظن أنه قد حقق التوحيد ومحض الإيمان تراه منطويا على ركام من مساوئ الأخلاق والنقائص التي تخل بإيمانه الواجب أو تحرمه من الكمال المستحب، كالكبر والحسد وسوء الظن والكذب والفحش والأثرة وغير ذلك، وقد يكون مع ذلك جاهلا بضرر هذه الأمور على عقيدته وإيمانه أو غافلا عن شمولية هذا الدين لجميع مناحي الحياة، كما قال تعالى (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين)، إن تحقيق التوحيد -الكلام لا زال لصاحب الرسالة- إن تحقيق التوحيد وتكميل الإيمان ليس باجتناب الشرك الأكبر فحسب بل باجتناب كل ما ينافي العقيدة وكل ما يخل أو يقدح في كمال التوحيد والإيمان… إلى أخر كلامه هناك)).
إذا فليست العقيدة متون تردد، ونصوصا تحفظ بل لا بد أن تتحول إلى واقع عملي في الحياة، والتعامل بين الناس ولما حصل هذا التصور عند بعض الناس ظهر انفصام نكد وازدواجية بين مفهوم الإيمان ومقتضياته يأتي الحديث عنها إن شاء الله تعالى.
* واقعنا ومكارم الأخلاق:
إن الناس اليوم في عرض الأرض وطولها بحاجة إلى من يقف معهم ويعينهم وإلى من يزيل عنهم الهم والقلق، إلى من يدلهم إلى طريق السعادة والراحة النفسية، بحاجة إلى من يأخذ بأيديهم إلى طريق النجاة والأمان.
حتى وإن قامت الحضارات، وصنعت المخترعات، وتوالت الإنجازات فكل ذلك من أجل سعادة الإنسان وتكريمه، لكن مع الأسف البشرية اليوم تغرق في بحر الدنيا، يلهث الكثيرُ منهم وراء المال والتجارة، وراء الشهوات والملذات، وراء الرياسة والريادة بأي طريق وبأية صورة ومهما كان الثمن، المهم الوصول للمراد، وهذا هو الواقع الغالب على الناس اليوم -إلا ما شاء الله-.
في خضم هذا اللهثان وفي وسط هذا الإغراق يتلفت البعض ليبحث عن المثل وعن المبادئ وعن الأخلاق والآداب في صفوف الناس، ربما سمع عن التبشير وهو شعار أعلنه المنصرون وتسموا به بل وتمثلوه وللأسف.
يقول أحد الأخوة :
(في يوم من الأيام كنت أراجع طبيبا في أحد المستشفيات، وكنت أرى حسن تعامله وإظهار حرصه بالمريض وحالته، تبادر إلى ذهني أنه أحد المنصرين فقد كنت أقرأ وأسمع عن وسائلهم وأساليبهم، يقول: لكني قطعت هذا الخاطر أخذا بحسن الظن خاصة وأنه عربي، وفي بلد مسلم، لكني عرفت فيما بعد أنه يدين بالنصرانية وربما كان منصرا أو مبشرا كما يقولون) انتهى كلامه.
أيها الأخوة والأخوات:
أليس المسلمون أولى بهذه التسمي "التبشير"؟ وبهذه الأخلاق؟
ألم يقل الحق عز وجل :
(وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين)؟
ألم يقل صلى الله عليه وسلم :
(يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا)؟
ألسنا كمسلمين أولى بهذا التلطف والتودد للناس؟
ألسنا أولى بالتحلي بالأخلاق وبث الأمل في النفوس؟
لماذا هذا الجفاء والإعراض؟ وهذا التنفير والانقباض عند بعض المسلمين؟
لقد أثرت الماديات والحضارات على أخلاقنا وتعاملنا مع بعضنا بشكل كبير، حتى ظن البعض أنه لا يمكن الجمع بين التقدم الحضاري والكسب المادي وبين التحلي بالأخلاق والآداب، حتى قال أحدهم:
لئن كانت الدنيا أنالتك ثروةً*****وأصبحت منها بعد عسرٍ أخا يسرِ
لقد كشف الإثراء عنك خلائق*****من اللؤم كانت تحت سترٍ من الفقرِ
فإننا لا نكاد نسمع عن ذي شرف أو تاجر أو منصب وقد تحلى ببعض الأخلاق والآداب إلا ويتذاكره الناس إطراء ومدحا وتعجبا أن يكون بمثل هذا المكان ويتمتع بمثل هذه الأخلاق.
أيها الأخوة:
إن من ينظر ويقرأ عن دين الإسلام خاصة في باب الآداب والأخلاق والمعاملات ليعجب أشد العجب من عظمة هذا الدين ودقة مراعاته للمشاعر والعواطف، وحرصه على نشر المحبة والمودة.
أسمعوا لهذا الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت، قال النبي صلى الله عليه وسلم :
(إذا أحدث أحدكم في صلاته فليأخذ بأنفه ثم لينصرف) صحيح عند أحمد.
لماذا يأخذ بأنفه، وما علاقة الأنف بما صنع؟
إنها عظمة هذا الدين ودقة العناية بمشاعر النفس، والحفاظ على أحاسيسها، يأخذ بأنفه ليوهم من بجواره أن به رعافا فلا يفتضح أمره فيُحرج ويخجل.
قال الخطابي في بذل المجهود شرح سنن أبي داوود قال إنما أمره أن يأخذ بأنفه ليوهم القوم أن به رعافا، وفي هذا الباب من الأخذ بالأدب في ستر العورة وإخفاء القبيح والتورية بما هو أحسن وليس داخلا في باب الرياء والكذب، وإنما هو من باب التجمل واستعمال الحياء وطلب السلامة من الناس.
أرضى للناس جميعا مثل ما ترضى لنفسك
إنما الناس جميعا كلهم أبناء جنسك
غير عدل أن توخى وحشة الناس بأنسك
فلهم نفس كنفسك ولهم حس كحسك(/2)
من ينظر للواقع يرى العجب في الإفلاس الأخلاقي الذي تعيشه كثير من المجتمعات الإسلامية اليوم، بل هناك من انبهر بالحضارة الغربية فنقلها للمسلمين بقضها وقضيضها وإيجابها وسلبها، ونحن مع دعاة التقدم والحضارة في الاستفادة من التكنولوجيا والصناعة وكسب المهارات والخبرات.
لكننا وعلى لسان كل مسلم صادق وغيور، لا وآلف لا لاستيراد العادات والتقاليد الغربية الانحلال الخلقي بإسم الحرية وحقوق المرأة، أما إقحام الفضيلة والستر والعفاف ومكارم الأخلاق في التقدم والتخلف المزعوم فخدعة مكشوفة لا تنطلي إلا على غافل ساذج في فكره دخل أو في قلبه مرض.
إن في أخلاقنا وآدابنا كمسلمين بل وعادتنا وتقاليدنا كعرب ما يملئ قلوبنا بالفخر والاعتزاز والرفعة والسيادة، فالله أختار لنا مقاما عزيزا ومكانا شريفا فقال جل وعز :
(وكذلك جعلناكم أمة وسطاء لتكونوا شهداء على الناس، ويكون الرسول عليكم شهيدا).
فأسألكم بالله هل هذا المقام يناسب ما يفعله بعض الغافلين والغافلات من تشب وتقليدا بأهل الكفر والشرك في عاداتهم ولباسهم وسيئ أخلاقهم؟
فأنت أيها المسلم يجب أن تكون متبوعا لا تابعا، وقائدا لا منقادا بصفاء عقيدتك وثبات مبدئك، وتعاليم دينك السمحة، وحسن أخلاقك.
فلم لا نعتز بالشخصية الإسلامية؟
ولم لا نعلن للعالم كله أننا أهل دين وخُلق؟ وأن لنا صبغة خاصة تميزنا عن ما سوانا؟ هي :
(صبغة الله، ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون).
* الدعاة الصامتون
إننا نملك كنزا عظيما هو كنز الإيمان، لكنه الإيمان حقيقة لا صورة، الإيمان الذي لامست حلاوته شغاف القلوب فظهرت تلك الحلاوة على جوارح ذلك المسلم، أقواله وأفعاله وصفاته، فيوم ذاق طعم الإيمان عرف حقيقة الاستقامة والالتزام فأثر ذلك في سلوكه وصدقه ومعاملته.
يذكر التاريخ لنا أن الإسلام وصل إلى جنوب الهند وسيلان وجزر المالديف وسواحل الصين والفلبين وإندونيسيا وأواسط أفريقيا عن طريق تجار مسلمين لكنهم مسلمون بحق، لم يؤثر عليهم بريق ولمعان الدينار والدرهم، بل تجسد الإسلام في سلوكهم وأمانتهم وصدقهم، فأعجب الناس بهذه الأخلاق، فبحثوا وسألوا عن مصدرها، فدخلوا الإسلام عن رغبة واقتناع.
إن من أكبر وسائل التأثير على النفوس هو التميز في الأخلاق المتمثل في القدوة الصالحة، بل هو أعظم وسيلة لنشر الإسلام في كل مكان.
ومن تتبع سيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام وجد أنه كان يلازم الخلق الحسن في سائر أحواله، وخاصة في دعوته إلى الله تعالى، فأقبل الناس ودخلوا في دين الله أفواجا، بفضل الله تعالى ثم بفضل خُلقه عليه الصلاة والسلام.
فكم دخل في الإسلام بسبب خُلقه العظيم؟ فهذا يسلم ويقول :
(والله ما كان على الأرض وجه أبغض علي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي).
وذاك يقول:
(اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحد) تأثراً بعفو النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يتركه على تحجير رحمة الله التي وسعت كل شئ بل قال له :
(لقد تحجرت واسعا).
والأخر يقول :
(فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه)
والرابع يقول:
( يا قومي أسلموا، فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة)
والخامس يقول :
( والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إلي، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي)
والسادس يقول بعد عفو النبي صلى الله عليه وسلم عنه قال:
( جئتكم من عند خير الناس) ثم يدعو قومه للإسلام فأسلم منهم خلق كثير.
والأمثلة كثيرة في سيرته صلى الله عليه وسلم.
كلُ الأمور تزول عنك وتنقضي…….إلا الثناءُ فإنه لك باقي
ولو أنني خيرتُ كلَ فضيلةٍ…….. ما اخترت غير محاسن الأخلاقِ
ذكر لي أحد الأخوة:
( أن شبابا من العرب في إحدى الدول الغربية استأجروا غرفا من عجوز غربية، فلما انتهت مدة الإيجار رفضوا التسديد، وهربوا بحجة أنها كافرة، وأنهم أي الكفار هم الذين نهبوا أموالنا كعرب )
سبحان الله بأي منطق وأي عقلية يتعامل هؤلاء؟ إنه الهوى والجهل بتعاليم وآداب هذا الدين، ألم يعقد العلماء أبوابا في كتب العقيدة والفقه في معاملة المسلم لغير المسلم؟
ومعاملة المحارب للمسلمين وغير المحارب؟
كيف نريد أن نفخر بالإسلام ونحن أول من جهل أحكامه وتخلف عن آدابه؟
قال محدثي :
( وكنت أرغب الإيجار من هذه العجوز فرفضت، خاصة عندما علمت أنني مسلم، وقالت أنتم أيها المسلمون لصوص، يقول وسألتها عن سبب هذا الاتهام؟ فحدثتني بقصتها مع هؤلاء الشباب، قال فحرصت على تغيير هذه الصورة عنا كمسلمين، وبعد محاولات وإغراءات وتعهدات بالدفع مقدما وافقت على تأجيري ووافقت رغم ارتفاع السعر، وسكنت ولا زلت أقدم لها العون وأظهر لها آداب الإسلام وأجاهد نفسي على التحلي بالفضائل مع تذكيرها في بعض الأحيان بأن هذا من آداب الإسلام، وأن ديننا يحثنا على هذه الأخلاق.
يقول فلما حان رحيلي وعند لحظة الوداع فإذا بها تقول لي ودمعتها على خدها:(/3)
(يا بني وصية لك أن لا تموت إلا على هذا الدين).
رحم الله علي ابن أصمع لما حضرته الوفاة جمع بنيه فقال:
( يا بني عاشروا الناس معاشرة إن عشتم حنوا إليكم، وإن متم بكوا عليكم).
أيها الأخ إنما الدنيا حديث فإن استطعت أن تكون منها حديثا حسنا فافعل، إننا بحاجة إلى من يجسدون مبادئ الإسلام في سلوكهم، ويترجمون فضائله وآدابه في حركاتهم وسكناتهم حتى مع الكفار.
فمن أهم مظاهر علاقة المسلم بالكافر غير المحارب للمسلمين كف الأذى والظلم وعدم التعدي عليه وعلى حقوقه، والتزام مكارم الأخلاق معه من الصدق والأمانة وغيرها من أخلاق الإسلام الحميدة، وجواز إيصال البر والمعروف إليه.
ففي صحيح البخاري أن عمر ابن الخطاب أهدى حلة له إلى أخ له مشرك بمكة كانت قد جاءته من النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي البخاري أيضا أن ابن عمر ذبحت له شاة في أهله فلما جاء قال:
(أهديتم لجارنا اليهودي؟ )
وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
( مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه).
وإنما الإشارة لها لارتباطها بالأخلاق، لكن تنبه واحذر كل الحذر أن تختلط عليك الأمور.
ففرق بين حسن المعاملة ومكارم الأخلاق والبر والإحسان للكافر غير المحارب وبين الموالاة والمحبة والمودة له، أو تفضيله على أحد من المسلمين أو مجاملته على حساب دينك وعقيدتك كتهنئتهم أو إهدائهم بمناسبة أعيادهم أو نحو ذلك، فإن ذلك كله حرام لا يجوز، وضابط ذلك النصوص من الكتاب والسنة، وأقول أئمة السلف رضوان الله عليهم أجمعين، فإن ما عنيت بهذا الموضوع معاملة المسلم للمسلمين، أما معاملته للآخرين من أهل الملل والنحل فله أصوله وضوابطه.
* الأخلاق تصنع الأعاجيب:
إن النفس أيا كانت ومهما بلغت من الانحلال والفساد والتجبر والعناد فإن فيها خيرا كثيرا قد لا تراه العيون أول الأمر،
فقط شئ من العطف على أخطائهم،
شئ من الود الحقيقي لهم، شئ من لعناية به،
لنحاول - أيها الأخوة - تلمس الجانب الطيب في نفوسهم،
إبداءهم بالسلام، ابتسم لهم، أثني على الخير الذي فيهم،
وقبل ذلك كن صادقا ومخلصا غير متصنع ولا مجامل، عندها ستتفجر ينابيع الخير في نفوسهم، وسيمنحونك حبهم وثقتهم مقابل القليل الذي أعطيتهم إياه من نفسك، لقد جرب ذلك كثيرا.
أذكر أنني قابلت أحد هؤلاء فسلمت وابتسمت وأثنيت على صفة طيبة فيه، وأنا صادق، فلن يعدم إنسان مزية حسنة تكون مفتاحا لقلبه، فانكشف لي قلب لين رقيق سرعان ما سالت دمعات على وجه تلطخ بسواد المعصية والشهوة، وكان قد شكا جفاء بعض الناصحين وتعجلهم عليه.
أيها الأخوة، كم نخطئ عندما نحكم على الآخرين بمجرد النظر للظاهر، فهذا عمرو ابن العاص يحدث عن نفسه فيقول (لقد رأيتني وما أحد أشد بغض لرسول الله مني، ولا أحب إلى أن أكون قد استمكنت منه فقتلته).
وبعد أن أسلم وعرفه عن قرب انقلب الحال فقال:
( وما كان أحد أحب إلي من رسول الله، ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له، ولو سُئلت أن أصفه ما أطقت، لأني لم أكن أملئ عيني منه) كما في صحيح مسلم.
إننا نظلم أنفسنا ونظلم الآخرين عندما نحقد على هؤلاء ونتخوف منهم، والحل هو أن تنمو في نفوسنا بذرة الحب والعطف على الآخرين، والصبر عليهم.
وباختصار إنها الأخلاق وفن التعامل مع الناس.
يا أهل القرآن، ألم نقرأ في القرآن قول الحق عز وجل :
( وقولوا للناس حسنا).
ألم نقرأ قول الحق ( وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن، إن الشيطان ينزغ بينهم).
في الآية الأولى قولُ حسن، وفي الثانية أحسن.
فأين نحن من قول الحسن فضلا على قول أحسن الحسن.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
( إن الله كتب الإحسان على كل شئ، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته) كما في صحيح مسلم.
فإذا كانت الرحمة والإحسان تصل إلى هذه الدرجة من الرفق وحسن التعامل حتى مع الحيوان، فكيف بالرحمة والإحسان مع بني الإنسان؟
قال أحد الأخوة "
( في موسم للأمطار وأنا على سيارتي مررت بغدير ماء لم أنتبه له، فتراشقت المياه على الجانبين، كان النصيب الأكبر منها لشباب جلسوا على عتبة أحد الأبواب، ويا ليت شعري لو رأيت حالهم قد تبدلت، فالثياب البيضاء كأنها سوداء، والشعرات السوداء خضبت بالطين والماء، فرجعت إليهم فلم أنتبه إلا على أصوات السب واللعان ومناداتي للرفس والطعان، يقول فرجعت إليهم مسلما معتذرا متأسفا، فيا سبحان مقلب القلوب، تحول السب واللعان إلى ترحيب وسلام، ودعوة إلى الطعام بل إلى إخاء ووئام) انتهى كلامه.
فيا أيها الأحبة، أقول باختصار إنها الأخلاق تصنع الأعاجيب، نخطئ كثيرا عندما نعتزل بعض الناس لأننا نشعر أننا أطهر منهم روحا، أو أطيب منهم قلبا، أو أذكى منهم عقلا.
قال رجل لعبد الله ابن المبارك عظني، قال ابن المبارك:
(إذا خرجت من منزلك فلا يقعن بصرك على أحد إلا رأيت أنه خير منك).(/4)
وليس معنى هذا أن نتخلى عن مبادئنا ومُثلنا السامية، أو نتملق أو نجامل، لا ولكنها الحكمة والموعظة الحسنة وفن التعامل مع الآخرين. هذا مقتبسُ من رسالة بعنوان " أفراح الروح.
أيها المحب، أنظر لفن التعامل ومحاسن الأخلاق ماذا تفعل.
هذا عكرمة ابن أبي جهل ورث عداوة الإسلام عن أبيه وقاتل المسلمين في كل موطن، وتصدى لهم يوم فتح مكة ثم فر إلى اليمن، بعد أن أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه.
فتأتي زوجه أم حكيم بع إسلامها لرسول الله تطلب الأمان لزوجها فيقول لها - بابي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم :
( هو آمن، ويقول لأصحابه يأتيكم عكرمة ابن أبي جهل مؤمنا مهاجرا، فلا تسبوا أباه، فإن سب الميت يؤذي الحي ولا يبلغ الميت).
فيأتي عكرمة بين يدي المصطفى صلى الله عليه وسلم، فيقول عكرمة أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله، وأنت أبر الناس وأصدق الناس، وأوفى الناس، أما والله يا رسول الله لا أدع نفقة كنت أنفقها في الصد عن سبيل الله إلا أنفقت ضعفها في سبيل الله، ولا قاتلت قتالا في الصد عن سبيل الله إلا أبليت ضعفه في سبيل الله.
لمسة حانية من نبي الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم نقلت أبن فرعون هذه الأمة إلى صف أولياء الرحمن، وجعلته يندم هذا الندم ويعزم هذا العزم، ويتحول هذا التحول. إنها الأخلاق تصنع الأعاجيب.
*همسة في أذن موظف
أيها الموظف، أين كان موقعك، وفي أي مكان كنت
إنك لم تجلس على هذا الكرسي الذي أنت عليه إلا من أجل خدمة الناس، وقضاء حوائجهم وأداء الأمانة التي تحملتها، أفلا ترى أنك بحسن الاستقبال والابتسامة وإظهار الاهتمام بالمراجع وحاجته تملك قلوب الآخرين حتى وإن لم تقضي حاجتهم، وربما خرجوا من عندك بنفس راضية ولسان يلهج بالثناء والدعاء بل ربما أثنوا عليك ورفعوا ذكرك بكل مجلس، كل هذا وأنت لم تقضي حاجتهم، بل ملكتهم بحسن الأخلاق، فكيف لو استطعت قضاء حاجتهم وتيسير أمرهم.
أيها الحبيب، أنظر إلى هذه النتيجة التي وصلت إليها كسبت القلوب، والذكر الحسن، وقبل ذلك كله كسبت رضاء الله تعالى عز وجل،
ألم يقل صلى الله عليه وسلم :
( ابتسامتك في وجه أخيك صدقة)،
ألم يقل صلى الله عليه وسلم:
(والكلمة الطيبة صدقة)،
ألم يقل صلى الله عليه وسلم :
(من كان في حاجة أخي كان الله في حاجته)،
ألم يقل صلى الله عليه وسلم:
( والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)،
ألم يقل صلى الله عليه وسلم:
(خير الناس أنفعهم للناس).
إذا فأنت أيها الموظف في عبادة وأنت على مكتبك، فقط استعن بالله وأخلص النية الله، وأتصف بمكارم الأخلاق، وأحرص على نفع الناس وستجد التوفيق في الدنيا والآخرة. ذكر حسن وجميل وحب وتقدير هذا في الدنيا، وأجر كبير من العليم الخبير في الآخرة، كل هذا من خلال عملك ووظيفتك، أجر وغنيمة والموفق من وفقه الله.
وربما قلت الناس لا يرضيهم غلا تلبية رغباتهم، وتنفيذ ما يريدون، بل ربما قلت أن ميزان الناس اليوم في الحكم على الآخرين هو مصالحهم الشخصية.
فأقول لك نعم هذه هو واقع الحال، ونحن لا نبرأ أنفسنا ولكن أخي الحبيب هب أنك بذلت لهم ما استطعت وتخلقت معهم بأحسن الأخلاق ولم يرضوا عنك، أليس حسبك أن يرضى الله عنك، فإنه يعلم أنك قدمت وبذلت ما بوسعك، إذا فأجرك على الله.
وإن لم يرضى الناس فتذكر دائما أن من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس. فأحرص على فضائل الأخلاق وفن التعامل مع لناس فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول :
( خياركم أحاسنكم أخلاقا ) كما في البخاري ومسلم.
يا من رزقه الله مكانة ووجاهة اعلم أن زكاتها الشفاعة والإعانة للمحتاجين على أن لا يبخس بها حق الآخرين، فإن الشفاعات من أعظم العبادات إذا قصد بها وجه الله.
كتب الحسن ابن سهل كتاب شفاعة فجعل الرجل يشكره، فقال الحسن يا هذا علام تشكرنا إنا نرى الشفاعات زكاة مروءتنا، ثم أنشد يقول:
فرضت علي زكاة ما ملكت يدي ……. وزكاة جاهي أن أعين وأشفعا
فإذا ملكت فجد فإن لم تستطع ……. فأجهد بوسعك كله أن تنفعا
* همسة إلى المعلمين والمعلمات
أيها المعلمون والمعلمات:
( إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها ليصلون على معلم الناس الخير)، كما في الترمذي.
( ومن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا)،كما في صحيح مسلم.
وإني لأظنك أيها المعلم وأنت أيتها المعلمة من معلمي الناس الخير، وممن يدعو إلى الهدى، فأنتم تجلسون الساعات بل الأيام والشهور والسنوات مع أولاد وبنات المسلمين، ولله در ابن المبارك وهو يقول :
(نحن إلى قليل من الأدب، أحوج منا إلى كثير من العلم).
وأفضل وأيسر وأحسن طريق عرفته في التعليم هو التواضع وفن التعامل ومكارم الأخلاق مع الطلاب والطالبات، ولا يستطيعه إلا من رزقه الله الإخلاص بعلمه وتعليمه، نسأل الله الكريم من فضله.(/5)
احترام الطلاب والطالبات وإشعارهم بالحب والاهتمام بمشاكلهم وهمومهم والتجاوز عن أخطائهم والابتسامة والصبر والرفق بالتوجيه مع قوة المادة العلمية، كلها من علامات الشخصية الناجحة للمعلم والمعلمة.
أما الشدة وكتم الأنفاس وشد الأعصاب ورفض المناقشة والتمسك بالرأي وعدم التنازل عنه بحجة قوة الشخصية أمام الطلاب والطالبات فهي أوهام لا تزيد الطين إلا بله. فإن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق مالا يعطي على العنف كما في صحيح مسلم.
أيها المعلمون والمعلمات، رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
( من يحرم الرفق يحرم الخير كله) كما في صحيح مسلم.
والقلوب التي تجلس أمامكم كل نهار مهما بلغت من الغفلة والقسوة فهي أحوج ما تكون إلى الرفق والعطف، فإن الرفق وحسن الأخلاق واللمسات الحانية والكلمات العذبة مفاتيح عجيبة في التأثير والتوجيه، فكم عبرة أجهشتها ودمعت أسالتها، ولكنه - وأقوله مرة وثالثة وعاشرة- الإخلاص لله، فمن يؤته فقد أوتي خيرا كثيرا، فليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة واللبيب بالإشارة يفهم.
* هل يمكننا تغيير أخلاقنا
ربما يقول البعض لقد شببت على الشيء فلا أستطيع أن أغير أخلاقي، وهناك من يرى أن الأخلاق ثابتة في الإنسان لا تتغير فهي غرائز فطر عليها، وطبائع جبل عليها، وهناك من يرى أنها تتغير فليس ذلك صعبا ولا مستحيلا.
والحق أن الأخلاق على نوعين:
فمنها ما هو غريزي فطري ومنها ما يكتسب بالممارسة والمجاهدة، ولو كانت الأخلاق لا تتغير لبطلت الوصايا والمواعظ، ولما قال الله عز وجل :
(قد افلح من تزكى).
وقال (قد أفلح من زكاها).
ولما قال صلى الله عليه وسلام:
(إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحرى الخير يعطه، ومن يتوق الشر يوقه).
ومن نظر إلى الحيوان وحاله قبل التدريب وبعده أدرك أن الأخلاق عند الإنسان سعلة التغيير لمن رزق الهمة والعزيمة، وحمل نفسه على مكارم الأخلاق وفضائلها.
يقول ابن حزم رحمه الله متحدثا عن تجربته مع نفسه وعن محاولاته في التخلص من عيوبه وعن النتائج التي حصل عليها من جراء ذلك يقول :
( كانت في عيوب فلم أزل بالرياضة والإطلاع على ما قالت الأنبياء صلوات الله عليهم، والأفاضل من الحكماء المتأخرين والمتقدمين في الأخلاق وآداب النفس أعاني مداواتها حتى أعان الله عز وجل على أكثر ذلك بتوفيقه ومنه، وتمام العدل ورياضة النفس والتصرف بالأمور هو الإقرار بها -أي الإقرار بالعيوب- ليتعظ بذلك متعظ يوما إن شاء الله)
ثم أخذ رحمه الله يعدد بعض العيوب في نفسه، ولولا خشية الإطالة لذكرتها لعظيم الفائدة، من أرادها فلينظر في كتابه " الأخلاق والسير في مداواة النفوس ".
ثم قال ومنها - أي العيوب - حقد مفرط قدرت بعون الله تعالى على طيه وستره، وغلبته على إظهار جميع نتائجه وأما قطعه البتة فلم أقدر عليه، وأعجزني أن أصادق من عاداني عداوة صحيحة أبدا. انتهى كلامه يرحمه الله.
ويقول أحد الأخوة:
(وقع في قلبي شيء عظيم على أحد أخواني لخير أعطاه الله إياه، فما زال الشيطان بي ونفسي الضعيفة وكنت أهتم وأغتم وأكثر التفكير والخواطر خاصة وأنني كنت متهيئا لهذا الخير الذي آتاه الله أكثر منه.
يقول فما زلت مع نفسي أدفع الخواطر والأفكار الرديئة تارة، و أُنبهها تارة، وأذكّرها بفضل سلامة الصدر وتمني الخير للآخرين، وأني أحب لهم ما أحب لنفسي تارة أخرى.
وتارة أذكّرها بخطر الحسد وأضراره وما زلت أستعين بالله وأدعوه حتى انتصرت عل نفسي واستطعت ترويضها، وما زلت مع نفسي بكثيرٍ من هذه المواقف حتى وجدت أنها اعتادت على سلامة الصدر وحسن الظن بالآخرين وتمني الخير لهم. عندها شعرت بسعادة ولذة عجيبة وأقبلت على شئوني وأعمالي بقلب سليم، وفتح الله علي بأمور كثيرة فتحا عجيبا ولله الحمد والمنة، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.) انتهى كلامه.
إذا فلا بد من رياضة النفس وتدريبها أيها الأحبة، وذلك بالمجاهدة والصبر وقوة الملاحظة والنظر في عواقب الأمور قبل الإقدام وطلب النصح من الآخرين ونحو ذلك مما يعين على تغيير الأخلاق والطبائع للأحسن، هداني الله وإياك لأحسن الأخلاق فإنه لا يهدي لأحسنها إلا هو.
* سهام للصيد:
أي صيد القلوب، أعني تلك الفضائل التي تستعطف بها القلوب، وتستر بها العيوب وتستقال بها العثرات، وهي صفات لها أثر سريع وفعال على القلوب، وإلا فإن فضائل ومكارم الأخلاق كثيرة، إليك أيها المحب سهاما سريعة ما أن تطلقها حتى تملك بها القلوب فأحرص عليها وجاهد نفسك على حسن التسديد للوصول للهدف وأستعن بالله.
•السهم الأول الابتسامة
قالوا هي كالملح في الطعام، وهي أسرع سهم تملك به القلوب وهي مع ذلك عبادة وصدقة:
( فتبسمك في وجه أخيك صدقة ) كما في الترمذي.
وقال عبد الله ابن الحارث:
( ما رأيت أحدا أكثر تبسم من رسول الله صلى الله عليه وسلم) عند أحمد بسند حسن.
•السهم الثاني البدء بالسلام(/6)
سهم يصيب سويداء القلب ليقع فريسة بين يديك لكن أحسن التسديد ببسط الوجه والبشاشة، وحرارة اللقاء وشد الكف على الكف، وهو أجر وغنيمة فخيرهم الذي يبدأ بالسلام، قال عمر الندي:
(خرجت مع ابن عمر فما لقي صغيرا ولا كبيرا إلا سلم عليه).
وقال الحسن البصري:
(المصافحة تزيد في المودة).
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:
(لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق).
وعند مالك في الموطأ أنه صلى الله عليه وسلم قال:
(تصافحوا يذهب الغل، وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء).
قل ابن عبد البر هذا يتصل من وجوه حسان كلها.
•الهدية سهم ثالث لصيد القلوب
ولها تأثير عجيب فهي تذهب بالسمع والبصر والقلب، وما يفعله الناس من تبادل الهدايا في المناسبات وغيرها أمر محمود بل ومندوب إليه على أن لا يكلف نفسه إلا وسعها، قال إبراهيم الزهري:
(خرجت لأبي جائزته فأمرني أن أكتب خاصته وأهل بيته ففعلت، فقال لي تذكر هل بقي أحد أغفلناه، قلت لا قال بلى رجل لقيني فسلم علي سلاما جميلا صفته كذا وكذا، اكتب له عشرة دنانير) انتهى كلامه.
انظروا أثّر فيه السلام الجميل فأراد أن يرد عليه بهدية ويكافئه على ذلك.
•سهم رابع الصمت وقلة الكلام إلا فيما ينفع
وإياك وارتفاع الصوت وكثرة الكلام في المجالس، وإياك وتسيُّد المجالس وعليك بطيب الكلام ورقة العبارة:
(فالكلمة الطيبة صدقة) كما في الصحيحين، ولها تأثير عجيب في كسب القلوب والتأثير عليها حتى مع الأعداء فضلا عن إخوانك وبني دينك، فهذه عائشة رضي الله عنها قالت لليهود:
( وعليكم السام واللعنة) فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(مهلا يا عائشة فإن الله يحب الرفق في الأمر كله).
والحديث متفق عليه، وعن أنس رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(عليك بحسن الخلق وطول الصمت فو الذي نفسي بيده ما تجمل الخلائق بمثلهما) أخرجه أبو يعلى والبزار وغيرهما.
قد يخزنُ الورعُ التقي لسانه …… حذر الكلام وإنه لمفوه
•السهم الخامس حسن الاستماع وأدب الإنصات
وعدم مقاطعة المتحدث فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقطع الحديث حتى يكون المتكلم هو الذي يقطعه، ومن جاهد نفسه على هذا أحبه الناس وأعجبوا به بعكس الأخر كثير الثرثرة والمقاطعة، وأسمع لهذا الخلق العجيب عن عطاء قال ( إن الرجل ليحدثني بالحديث فأنصت له كأني لم أسمعه وقد سمعته قبل أن يولد).
•السهم السادس حسن السمت
وجمال الشكل واللباس وطيب الرائحة، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول:
( إن الله جميل يحب الجمال ) كما في مسلم.
وعمر ابن الخطاب يقول:
( إنه ليعجبني الشاب الناسك نظيف الثوب طيب الريح).
وقال عبد الله ابن أحمد ابن حنبل:
( إني ما رأيت أحدا أنظف ثوبا وأشد تعهدا لنفسه وشاربه وشعر رأسه وشعر بدنه، ولا أنقى ثوبا وأشده بياضا من أحمد ابن حنبل)
•السهم السابع بذل المعروف وقضاء الحوائج
سهم تملك به القلوب وله تأثير عجيب صوره الشاعر بقوله:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم …….. فطالما أستعبد الإنسانَ إحسانُ
بل تملك به محبة الله عز وجل كما قال صلى الله عليه وسلم :
( أحبُ الناس إلى الله أنفعهم للناس).
والله عز وجل يقول:
( وأحسنوا إن الله يحب المحسنين).
إذا أنت صاحبت الرجال فكن فتى …….. مملوكا لكل رفيق
وكن مثل طعم الماء عذبا وباردا ……… على الكبد الحرى لكل صديق
أيها الأخوة والأخوات:
عجبت لمن يشتري المماليك بماله كيف لا يشتري الأحرار بمعروفه، ومن انتشر إحسانه كثر أعوانه.
•السهم الثامن بذل المال
فإن لكل قلب مفتاح، والمال مفتاح لكثير من القلوب خاصة في مثل هذا الزمان، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:
(إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلى منه خشية أن يكبه الله في النار) كما في البخاري.
صفوان ابن أمية فر يوم فتح مكة خوفا من المسلمين بعد أن استنفذ كل جهوده في الصد عن الإسلام والكيد والتآمر لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيعطيه الرسول صلى الله عليه وسلم الأمان ويرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويطلب منه أن يمهله شهرين لدخول في الإسلام، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم بل لك تسير أربعة أشهر، وخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين والطائف كافرا، وبعد حصار الطائف وبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر في الغنائم يرى صفوان يطيل النظر إلى وادٍ قد امتلئ نعما وشاء ورعاء، فجعل عليه الصلاة والسلام يرمقه ثم قال له يعجبك هذا يا أبا وهب؟ قال نعم، قال له النبي صلى الله عليه وسلم هو لك وما فيه، فقال صفون عندها، ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلا نفس نبي، اشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أيها الأحبة، لقد استطاع الحبيب صلى الله عليه وسلم بهذه اللمسات وبهذا التعامل العجيب أن يصل لهذا القلب بعد أن عرف مفتاحه.
فلماذا هذا الشح والبخل؟(/7)
ولماذا هذا الإمساك العجيب عند البعض من الناس؟ حتى كأنه يرى الفقر بين عينيه كلما هم بالجود والكرم والإنفاق.
•السهم التاسع إحسان الظن بالآخرين والاعتذار لهم
فما وجدت طريقا أيسر وأفضل للوصول إلى القلوب منه، فأحسن الظن بمن حولك وإياك بسوء الظن بهم وأن تجعل عينيك مرصدا لحركاتهم وسكناتهم، فتحلل بعقلك التصرفات ويذهب بك كل مذهب، وأسمع لقول المتنبي:
إذا ساء فعل المرءِ ساءت ظنونه …… وصدق ما يعتاده من توهم
عود نفسك على الاعتذار لإخوانك جهدك فقد قال ابن المبارك:
( المؤمن يطلب معاذير إخوانه، والمنافق يطلب عثراتهم ).
ومن علامات شقاء الأمة أن تشغل بنفسها عن أعدائها.
•أعلن المحبة والمودة للآخرين
فإذا أحببت أحدا أو كانت له منزلة خاصة في نفسك فأخبره بذلك فإنه سهم يصيب القلب ويأسر النفس ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:
( إذا أحب أحدكم صاحبه فليأته بمنزله فليخبره أنه يحبه) كما في صحيح الجامع.
وزاد في رواية مرسلة (فإنه أبقى في الألفة وأثبت للمودة)، لكن بشرط أن تكون المحبة لله، وليس لغرض من أغراض الدنيا كالمنصب والمال، والشهر والوسامة والجمال، فكل أخوة لغير الله هباء، وهي يوم القيامة عداء:
(الأخلاء يوم إذا بعضهم لبعض عدو إلا المتقين).
والمرء مع من أحب كما قال صلى الله عليه وسلم - يعني يوم القيامة -، إذا فاعلان المحبة والمودة من أعظم الطرقِ للتأثير على القلوب. فإما مجتمع مليء بالحب والإخاء والائتلاف، أو مجتمع مليء بالفرقة والتناحر والاختلاف.
لذلك حرص صلى الله عليه وسلم على تكوين مجتمع متحاب فآخاء بين المهاجرين والأنصار، حتى عرف أن فلانا صاحب فلان، وبلغ ذلك الحب أن يوضع المتآخيين في قبر واحد بعد استشهادهما في إحدى الغزوات.
بل أكد صلى الله عليه وسلم على وسائل نشر هذه المحبة ومن ذلك قوله صلوات الله وسلامه عليه:
(لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تأمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم) كما في مسلم.
أيها الأخوة، المشاعر والعواطف والأحاسيس الناس منها على طرفي نقيض وللأسف، فهناك من يتعامل مع إخوانه بأسلوب عقليا جامد جاف مجرد من المشاعر والعواطف، وهناك من يتعامل معهم بأسلوب عاطفي حساس رقيق ربما وصل لدرجة العشق والإعجاب والتعلق بالأشخاص.
والموازنة بين العقل والعاطفة يختلف بحسب الأحوال والأشخاص، وهو مطلب لا يستطيعه كل أحد لكنه فضل الله يأتيه من يشاء.
•السهم الحادي عشر المداراة
فهل تحسن فن المدارات؟ وهل تعرف الفرق بين المداراة والمداهنة؟ روى البخاري في صحيحه من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها :
( أن رجلا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما راءه قال بئس أخو العشيرة، فلما جلس تطلق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وأنبسط إليه، فلما أنطلق الرجل، قالت له عائشة يا رسول الله حين رأيت الرجل قلت كذا وكذا، ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، يا عائشة متى عهدتني فاحشا؟ إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس لقاء فحشه) قال ابن حجر في الفتح ( هذا الحديث أصل في المداراة) ونقل قول القرطبي (الفرق بين المداراة والمداهنة أن المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معا، وهي مباحة وربما استحبت، والمداهنة ترك الدين لصلاح الدنيا).
إذا فالمداراة لين الكلام والبشاشة للفساق وأهل الفحش والبذاءة، أولا اتقاء لفحشهم.
وثانيا لعل في مداراتهم كسبا لهدايتهم بشرط عجم المجاملة في الدين، وإنما في أمور الدنيا فقط، وإلا انتقلت من المداراة إلى المداهنة فهل تحسن فن المداراة بعد ذلك؟ كالتلطف والاعتذار والبشاشة والثناء على الرجل بما فيه لمصلحة شرعية، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
( مداراة الناس صدقة) أخرجه الطبراني من حديث جاب.
وقال أبن بطال:
(المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس، وترك الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة)
إذا هذه أسهم للصيد فأحسن التسديد وهي على سبيل المثال، وذكرت منه ما أشرت إليه أنفا وإلا فهي كثيرة.
* الازدواجية في الأخلاق:
لقد شكا الكثير من التقلب والمزاجية والازدواج في الشخصية التي يعيشه بعض الناس اليوم، فمثلا الزوجة المسكينة تسمع عن أخلاق زوجها، وسعة صدره وابتسامته وكرمه، ولكنها لم ترى من ذلك شيئا.
فهو في بيته سيئ الخلق ضيق الصدر عابس الوجه صخاب لعان بخيل ومنان، أين هذا وأمثاله من قول الرسول صلى الله عليه وسلم:
( خيركم خيرُكم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) كما عند ابن ماجة وابن حبان والحاكم.
وأين هو عن قول النبي صلى الله عليه وسلم:
(أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وخياركم خيارُكم لنسائهم) كما عند الترمذي بسند صحيح.
قال سلمة أبن دينار:(/8)
( السيئ الخلق أشقى الناس به نفسه التي بين جنبيه، هي منه في بلاء، ثم زوجته ثم ولده حتى إنه ليدخل بيته وإنهم لفي سرور فيسمعون صوته فينفرون منه فَرَقا منه أي خوفا منه، حتى أن دابته تحيد مما يرميها بالحجارة، وإن كلبه ليراه فينزو على الجدار، حتى أن قطه ليفر منه) انتهى كلامه.
وقل مثل ذلك مع الوالدين، فكم أولئك الذين نسمع عن حسن أخلاقهم وكرمهم وابتسامتهم وجميل معاشرتهم للآخرين، أما مع اقرب الناس إليهم وأعظم الناس حقا عليهم الوالدين فجفاء وهجر وبعد ويكفي بلاغة وقوة ورقة قول الحق عز وجل:
( ولا تقل لهما أف).
ومن نظر لحالنا مع آبائنا وأمهاتنا علم ضعف إيماننا وتقصيرنا بأعظم الحقوق علينا بعد توحيد الله والله المستعان.
ومن الازدواجية أيضا، ربما ترى المرأة مثقفة متعلمة جميلة، بل ربما حرصت على صفاء وجهها وبياض أسنانها وتبذل الغالي والنفيس من أجل جمالها وأناقتها، فإذا عرفتها عن قرب وعاشرتها فإذا هي سيئة الأخلاق سريعة الغضب تتذمر وتتسخط، ترفع صوتها على زوجها وتعبس في وجه أختها.
آه لو حرصت النساء على أخلاقهن كحرصهن على جمالهن،
فليس الجمال بأثواب تزيننا ….. بل الجمال جمال العلم والأدب
اعلمي اخيتي في الله أن الجمال الحقيقي هو جمال الأخلاق والأدب، فأفٍ ثم تفٍ لجمال اللباس والشكل مع قلة الحياء والتكشف والعري وضياع القيم والمبادئ،
مررت على المروءة وهي تبكي ……. فقلت علاما تنتحب الفتاة
فقالت كيف لا أبكي وأهلي …….. جميعا دون خلق الله ماتوا
أيتها الأخت، إن الله جعل للإنسان عورتين، عورة الجسم وعورة النفس، وجعل للأولى سترا هو اللباس، وللثانية سترا هو الأخلاق ونبه على الأهم وهو الثاني لأن لباس الإنسان لا يغني عن أخلاقه ألبّته فقال عز وجل:
( يا بني آدم إنا أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا، ولباس التقوى ذلك خير).
اخيتي، إن المرأة العاقلة إذا نطقت جاءت بكل ملاحة وإن سكتت جاءت بكل مليح، فأتقي الله أيتها المرأة واستري عورة النفس بلباس التقوى والحياء ومكارم الأخلاق.
ومن الازدواجية في الأخلاق ما نراه من بعض الناس من حسن الكلام وسعة الصدر والابتسامة، فإذا جاء البيع والشراء والتعامل بالدينار والدرهم تراه مماطلا مماكسا، يجادل ويخاصم وربما تلاشت معاني الأخوة وحقوقها.
قيل لمحمد ابن الحسن ألا تصنف كتابا في الزهد قال:
(صنفت كتابا في البيوع).
يعني رحمه الله أن الزاهد هو من يتحرز عن الشبهات والمكروهات في التجارات وفي سائر المعاملات، وهذا من فقه وذكاء محمد رحمة الله عليه.
يروى أن مسروقا عليه دين ثقيل وكان على أخيه خيثمة دين فذهب مسروق فقضى دين خيثمة وهو لا يعلم، وذهب خيثمة فقضى دين مسروق وهو لا يعلم.
وقال مطرف ابن عبد الله لبعض إخوانه:
( يا أبا فلان إذا كانت لك حاجة فلا تكلمني وأكتبها في رقعة فإني أكره أن أرى في وجهك ذل السؤال).
إذا أعسرتُ لم يعلم رفيقي …… وأستغني فيستغني صديقي
حيائي حافظ لي ماء وجهي ……. ورفقي في مطالبتي رفيقي
ولو أني سمحت بماء وجهي ……. لكنت إلى العلاء سهل الطريق
عن رباح ابن الجراح قال:
( جاء فتح الموصلي إلى منزل صديق له يقال له عيسى التمار فلم يجده، فقال للخادم أخرجي لي كيس أخي فأخرجته فأخذ منه درهمين، وجاء عيسى فأخبرته الخادم، فقال إن كنت صادقة فأنتي حرة، فنظر فإذا هي صادقة فعتقت).
وعن جميل أبن مرة قال:
(مستنا حاجة شديدة، فكان مورق العجلي يأتينا بالصرة فيقول أمسكوا هذه لي عندكم، ثم يمضي غير بعيد فيقول إن احتجتم إليها فأنفقوها)
وقال سفيان ابن عيينه سمعت مساورا الوراق يقول:
( ما كنت لأقول لرجل إني أحبك في الله فأمنعه شيء من الدنيا). مواقف اغرب من الخيال لكنها مكارم الأخلاق عند سلفنا الصالح رضوان الله تعالى عليهم، وصدق الأخوة والمحبة في الله.
نسأل الله الكريم من فضله، ونسأل الله عز وجل حسن التأسي بهم رضوان الله عليهم.
ومن مظاهر الازدواجية أيضا أن ترى بعض الشباب يعجبك حسن مظهره، ويجذبك سحر عطره، وتصفيف شعره، ولولا الحياء لأطنبت في الوصف مما يرى ويشاهد على بعض شبابنا هذه الأيام من حرص على المظاهر والأشكال، ومع ذلك انحراف في السلوك والأخلاق فلا مانع لديه أن يكذب وأن يلعن ويشتم وربما يزني ويسرق أو يغش ويخدع، لا مانع لديه أن يتخلى عن دينه وأخلاقه من أجل شهوة، فأفسد المسكين جمال الظاهر وجمال الباطن.
أيها الشاب ليس الإنسان إنسانا بجسمه وصورته لا والله، ولا بثيابه ومظهره، بل هو إنسان بروحه وعقله وخُلقه وخَلقِه،
يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته ……. أتعبت نفسك في ما فيه خسرانُ
أقبل على النفس وأستكمل فضائلها …….فأنت بالنفس لا بالجسم إنسانُ
أيها الشاب، هل ينفه الفتيان حسن وجههم إذا كانت الأخلاق غير حسان، إن في قلبك فطرة الخير ففتش عنها وأشعل جذوة الخير فيها.
أيها الشاب، إن من تمام سعادتنا أن نتمتع بمباهج الحياة وشهواتها، لكن في حدود الشرع:(/9)
( وأبتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة، ولا تنسى نصيبك من الدنيا).
أيها الشاب، كن رحلاً رجلَه في الثرى وهامة همتَه في الثريا، وتجمل بمكارم الأخلاق والآداب فإنها زينة الرجال.
ومن الازدواجية في الأخلاق أولئك الذين نرى عليهم أثر الصلاح وسيما الخير:
ثم نراهم في أفعالهم وتصرفاتهم يناقضون تلك السمات والآثار، حتى أصبحوا فتنة لغيرهم فأنت لا تسيء لنفسك فقط، بل لنفسك ولغيرك بل وربما لدينك، فإن من يرى سوء الأخلاق منك فسيقول هذه أخلاق الصالحين، وهذا هو الالتزام الذي يذكرون، فعلى هذا وأمثاله أن يراجعوا صلاحهم فقد لا يكون لهم من الصلاح إلا الاسم والرسم.
مدحوا عند الفضيل ابن عياض رجلا وقالوا إنه لا يأكل الخبيص، فقال رحمه الله:
(وما ترك أكل الخبيص؟ انظروا كيف صلته للرحم، انظروا كيف كظمه للغيظ، انظروا كيف عطفه على الجار والأرملة والمسكين، انظروا كيف حسن خلقه مع إخوانه) انتهى كلامه.
قل لي بربك أيها القدوة هل الاستقامة مظهر فقط؟ أم هي حسن تعامل مع فئة من الناس فقط؟
أم أنها سلوك منك وحسن تعامل مع الناس في كل شيء وفي جميع الأحوال، ففي الحديث الصحيح:
( أعظم ما يدخل الناس الجنة تقوى الناس وحسن الخلق) أخرجه الترمذي وابن ماجة.
قال ابن القيم في الفوائد :
(جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين تقوى الله وحسن الخلق في هذا الحديث لأن تقوى الله يصلح ما بين العبد وبين ربه، وحسن الخلق يصلح ما بينه وبين خلقِه، فتقوى الله توجب له محبة الله، وحسن الخلق يدعو الناس إلى محبته) انتهى كلامه رحمه الله.
ويجب التنبه هنا لأمر مهم اختلط على كثير من الناس إما جهلا وهو الغالب أو بقصد من قلب في دخن ودغل وهو قليل جدا إن شاء الله.
أيها الأخوة إن تخلى المسلمون عن أخلاقهم ومبادئ عقيدتهم فليس معنى هذا أن نتهم الإسلام، أو نتردد بالالتزام بتعاليمه وشرائعه، وإلا فما معنى أن يحكم أناس مسلمون على الإسلام وعلى أهل الصدق منه بالغلو والتطرف والغلظة والفظاظة وسوء الخلق لمجرد أن منتسبا للإسلام أخطئ في تصرفه أو قوله أو تلبس لباس الصادقين من المسلمين؟
إن من أشنع أنواع الظلم أن يؤاخذ الإنسانُ بخطأ غيره فإن الله عز وجل يقول:
(ولا تزر وازرة وزر أخرى )،
أين الإنصاف وأين العدل ؟
والله عز وجل يقول:
(ولا يجرمنكم شنأن قوم على أن لا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى).
لماذا نتسرع بالحكم على الجميع ونعمم الأخطاء لمجرد أخطاء فردية؟
أين هؤلاء الشانئون من مئات وآلاف من المسلمين والمسلمات ممن نبلت أخلاقهم وعزت نفوسهم.
إنني أعرف وتعرف وأسمع وتسمع وأرى وترى أعدادا ليست بالقليلة ممن ملكوا القلوب بجمال ألفاظهم وأسروا النفوس بحسن أفعالهم، قلوب صافية وأيد حانية وألسن عفيفة، علم وعمل وحب للدين والوطن.
فلماذا لا يذكر هؤلاء ويشهر أمرهم ويتحدث عن نبلهم؟ لماذا ننظر بعين واحدة ونقع على الجروح فقط؟
انظر لنفسك أيها الحبيب، أيها الأخ الشاب وأنت تشكو من هؤلاء، ألست مسلما؟
أولست تخطئ؟ ألست تزل؟
فلربما شكا منك الناس، فأنت تشكو وأنت تُشكى.
ولكن ما أجمل أن بعذر بعضنا بعضا، وأن نعفو عن الزلات ونستر السيئات ونشهر الحسنات، تناصح وتغافر يطفئ نار الفرقة والاختلاف.
عامل الناس جميعا على أنهم بشر يصيبون ويخطئون، غُض الطرف وتغافل وأصبر فليس الغبي بسيد في قومه…….لكن سيد قومه المتغابي.
ولك أن تسرح بخيالك لترى المجتمع يعيش بهذه المعاني الجميلة فهي من أعظم مكارم الأخلاق، فإن أبيت فأتهم ذلك الشخص ولا تعمم وأتقي الله فإن الجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان.
* أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم
مكارم الأخلاق تشعر الجميع أنك تحبهم بل كل واحد يشعر أنه أحب الناس إلى قلبك، فهل تستطيع هذا، إنك تملك القلوب بأيسر الطرق وأفضلها، هكذا كانت أخلاق قدوتنا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم.
فعن عمرو ابن العاص قال:
( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل بوجهه وحديثه علي حتى ظننت أني خير القوم فقلت يا رسول الله أنا خير أو أبو بكر؟ فقال أبو بكر، فقلت يا رسول الله أنا خير أم عمر؟ فقال عمر، فقلت يا رسول الله أنا خير أم عثمان؟ فقال عثمان. يقول عمرو فلما سألت رسول الله فصدقني فلوددت أني لم أكن سألته) كما في الشمائل لترمذي.
إذا فعمرو ابن العاص ظن أنه أحب الناس وأقرب الناس لقلب رسول صلى الله عليه وسلم.
أخي الحبيب لعلك تسال كيف استطاع النبي صلى الله عليه وسلم كسب القلوب إلى هذا الحد؟ بل كسب حتى قلوب أعدائه.
إليك شيئا من شمائله وأخلاقه بإيجاز، رزقني الله وإياك حسن الإقتداء والتأسي به صلى الله عليه وسلم.
كان أشد الناس حياء، (أنا أشد الناس حياء).
لا يثبت بصره على أحد، لا يجفو على أحد، يقبل معذرة المعتذرين إليه،
يمزح ولا يقول إلا حقا، يضحك من غير قهقهة، ترفع الأصوات عليه فيصبر،
لا يحتقر مسكينا لفقره، ما ضرب بيده أحدا قط إلا في سبيل الله،(/10)
وما انتقم من شيء صنع إليه قط إلا أن تنتهك حرمة الله،
ما كان يجزي بالسيئةَ السيئة ولكن يعفو ويصفح،
كان يبدأ من لقيه بالسلام، كان إذا لقي أحدا من أصحابه بدأه بالمصافحة ثم أخذ بيده فشابكه ثم شد قبضته عليها،
كان يجلس حيث انتهى به المجلس، كان يكرم من يدخل عليه حتى أنه ربما بسط ثوبه ليجلس عليه، كان يؤثر الداخل عليه بالوسادة التي تحته، فإن أبى أن يقبلها عزم عليه حتى يفعل،
كان يعطي كل من جلس إليه نصيبه من وجهه وسمعه وبصره وحديثه،
كان يدعو أصحابه بكناهم إكراما لهم واستمالة لقلوبهم،
كان أبعد الناس غضبا وأسرعهم رضاء،
كان أرأف الناس بالناس وخير الناس للناس، فعن أنس رضي الله عنه:
( أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له إن لي إليك حاجة، فقال اجلسي في أي طريق المدينة شئت أجلس إليك) متفق عليه.
وبكلمة جامعة مانعة كان خلقه القرآن، ولذلك أثنى الله عليه فقال:
(وإنك لعلى خلق عظيم).
إذا فمن أراد أن يرى هدي هذا الدين واقعا يعاش فلينظر في سيرة الحبيب صلى الله عليه وسلم،وليدرسها دراسة فهم وتدبر بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، يكفي أن كل أحد يقول يوم القيامة نفسي نفسي وهو يقول أمتي أمتي.
يا من يذكرني بعهدِ أحبتي…… طاب الحديثُ بذكرهم ويطيبُ
أعد الحديثَ علي من جنباته…… إن الحديثَ عن الحبيبِ حبيبُ
ملئ الضلوعَ وفاض عن أجنابها……. قلبُ إذا ذكرَ الحبيبُ يذوبُ
ما زال يخفقُ ضاربا بجناحه……… يا ليت شعري هل تطيرُ قلوبُ
* خلاصة الدرس بهذه النقاط:
- ليس مراد المسلم الصادق من حسن تعامله وأخلاقه ولإحسان للناس هو كسب القلوب أو رضاء المخلوقين، أو انتزاع صيحات الإعجاب والمدح والثناء منهم، فمن القبيح أن نتحلى بالأخلاق من أجل كسب القلوب فقط، فلا يظن ظان عند سماعه لعنوان الدرس هذا الظن.
بل هدفنا دائما هو رضاء الله، والله هو الذي أنزل القرآن وأرسل الوحي اللذان منهما نستمد الأخلاق والآداب، ومن أرضى الله، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس.
فتقدير الناس وحبهم له حاصل بحرصه على رضاء الله وإخلاص الأمر له، وقليلون أولئك الذين يحرصون على كسب القلوب لنشر المحبة والإخاء وجمعها على حب الله، وكثير أولئك الذين يحرصون على كسب القلوب ومودة الآخرين من أجل مصالح الدنيا والشفاعات وتسهيل المهام، وهذا النوع من الكسب تبتذل فيه النفوس، ويذبح الحياء وربما يباع الدين بالدنيا من أجله، نعوذ بالله من حال هؤلاء.
- إن لم تكن الأخلاق أصيلة في نفسك تحرص على اكتسابها والتحلي بها وتداوم على تزكية النفس وتهذيبها، ولن تتصنع الأخلاق أبدا فإن فاقد الشيء لا يعطيه، وإن نجحت مرة أو مرتين فسرعان ما تسفر الأحداث والمواقف عن زيوف النفس وتصنعها وما تخفيه من نوايا ومأرب وأغراض، أما بحثنا عن طريق القلوب فمن أجل علام الغيوب من عفو وصفح ونفع وصبر وطلاقة وجه وطيب وطيبِ كلام ليصبح البعيد قريبا والعدو صديقا فيحبك الناس ومن أحبه الناس ملك قلوبهم وأثر في أفعالهم وإلا فكيف نريد أن يقبل الناس منا وفي قلوبهم لنا جفوة وف نفوسهم نفره.
- أيها الأخوة والأخوات، لا يمكننا التأثير على نفوس الناس أبدا وكسب قلوبهم إلا بتلمس الخير فيهم، والحرص على مكارم الأخلاق معهم، إذا لنملك القلوب لتحبنا القلوب وحينها سترون النتيجة والتأثير فإن من أحبه الناس ملك قلوبهم، وليس معنى هذا أن نترك النصح للآخرين والإنكار عليهم ولا أن نجاملهم في معاصيهم وأخطائهم.
معاشر الأخوة، اسمعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول:
(إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخُلق) أخرجه البزار بسند حسن من حديث أبي هريرة.
- قد لا يستطيع أحدنا أن يملك قلوب الناس بماله ولا بجاهه، وإن تملق الناس له وتصنعوا، فربما أن قلوبهم تمقته، بينما أنت يا صاحب الأخلاق تملك الناس بحسن الأخلاق، يحبك الناس، يرفعونك ويقدرونك، فقط وخالق الناس بخلقٍ حسن كما وصى بذلك النبي صلى الله عليه وسلم معاذ أبن جبل.
قال ابن المبارك (والخُلق الحسن هو بسط الوجه، وبذل المعروف، وكف الأذى)
وقال الإمام أحمد ( الخُلق الحسن أن لا تغضب ولا تحقد)
وقيل (حسن الخُلق بذل الندى وكف الأذى واحتمال الأذى)
وقيل ( هو بذل الجميل وكف القبيح)
وقيل (هو التحلي عن الرذائل والتحلي بالفضائل)
ويكفي في هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم :
(البر حسن الخلق) كما في صحيح مسلم.
قال ابن القيم رحمه الله (وهذا يدل على أن حسن الخُلق هو الدين كله، وهو حقائق الإيمان وشرائع الإسلام ولهذا قابله بالإثم في الحديث) انتهى كلامه.
- لا تغتر بحسن أخلاقك في الرخاء، بل جرب نفسك في أوقات الشدة والغضب، وكل الأحوال التي يحتاج فيها للأخلاق فعلا، فالإيثار عند قلة الزاد، والحلم عند الغضب، والعفو عند المقدرة، أما في الرخاء فلا فخر ولا فضل.
- انظر للناس فما كرهته فيهم من أخلاق فأبتعد عنه، فإنهم يكرهون منك ما تكرهه منهم.(/11)
- أسال نفسك هل أنت كالنحلة لا تقع إلا على الورود والأزهار، أم أنت كالذباب لا يقع إلا على الأوساخ والأقذار.
- مدار الموضوع كله في آية في كتاب الله تعالى وهي قاعدة في فن التعامل والإحسان للخلق هي قوله تعالى:
( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم).
لكن هل كل أحد يوفق لهذا؟ لا فإن الله تعالى يقول:
( وما يلقاها إلا الذين صبروا، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم)
وقد جمع الله مكارم الأخلاق في آية أخرى فقال:
( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين).
- الأخلاق الإسلامية معك في كل زمان ومكان، مع ربك ومع الناس وفي بيتك، وفي عملك، وفي البيع والشراء، وفي الجلوة والخلوة، مع الكبير والصغير، والرئيس والمرؤوس، فهي أصيلة في نفسك في كل الأحوال ومع كل الأشخاص في كل مكان.
- حسن الخُلق أركانه أربعة، الصبر والعفة والشجاعة والعدل. وسوء الخلق أركانه أربعة الجهل والظلم والشهوة والغضب.
- ونحن نطالب الناس بمكارم الأخلاق لا ننسى أنهم بشر ومهما جهدوا فلا بد من الهنات والغفلات، فلا نطالب بالمثاليات، خاصة في مثل هذه الأوقات، ولكن أنظر إلى نفسك وعامل الناس كما تحب أن يعاملوك.
يقول ابن المقفع في الأدب الصغير هذه الجملة الجميلة:
( وعلى العاقل أن يحصي على نفسه مساوئها في الدين وفي الأخلاق وفي الآداب، فيجمع ذلك كله في صدره أو في كتاب، ثم يكثر عرضه على نفسه ويكلفها إصلاحه، ويوظف ذلك عليها توظيفا من إصلاح الخلة والخلتين والخلال في اليوم أو الجمعة أو الشهر، فكلما أصلح شيئا محاه، وكلما نظر إلى محو أستبشر، وكل ما نظر إلى ثابت أكتئب) انتهى كلامه.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسِنها إلا أنت، وأصرف عنا سيئها لا يصرفُ عنا سيئها إلا أنت، اللهم إنك ترى مكانَنا وتسمع كلامَنا وتعلم سرنا وعلانيتنا، ولا يخفى عليك شيءُ من أمرنا، نحن البؤساء الفقراء المستغيثون المستجيرون، والوجلون المشفقون، المقرون المعترفون، نسألُك مسالةَ المساكين، ونبتهل إليك ابتهال المذنبين وندعوك دعاء الخائفين، دعاء من خشعت لك رقابُهم، وذلت لك أجسادهم، وفاضت لك عيونهم، ورغمت لك أنوفهم.
اللهم أصلح فساد قلوبِنا اللهم اصلح فساد قلوبنا وأرحم ضعفنا وحسن أخلاقنا
اللهم إنا لأنفسِنا ظالمون، ومن كثرةِ ذنوبِنا خائفون، ولا يغفر الذنوب إلا أنت يا أرحم الراحمين فأغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم.
اللهم أجمع كلمة المسلمين على التوحيد يا أرحم الراحمين
اللهم آلف بين قلوبهم……………
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إلي(/12)
طغيان الحب بلاء *
أ.د ناصر العمر
14/6/1427
في قصة امرأة العزيز مع نبي الله يوسف _عليه السلام_ من الدروس والعبر شيء كثير، ومن تلك الدروس بيان أن الحب إذا تجاوز حدود الشريعة أضر بالمحب والمحبوب، أما المحب فربما أغلق الحب عقله، فبدرت منه تصرفات غير مرضية بل منكرة، هم وغم وغفلة وسهو وانشداه، كأنه لا يعيش في دنيا الناس، قال أعرابي: إن لم يكن العشق ضرباً من السحر، فإنه لسعة من جنون! وهذا الذي قال منقول عن حكيم العجم سقراط قال: العشق جنون، وهو ألوان كما أن الجنون ألوان.
قال غيلان بن عقبة:
هو السحر إلا أن للسحر رقية ... وإني لا ألقى من الحب iiراقيا
ولابن الرومي:
أهوى الهوى كل ذي لب فلست أرى ... إلا صحيحاً له أفعال iiمجنون
ولآخر:
أصحوت اليوم أم شاقتك هر ... ... ومن الحب جنون iiمستعر
قال الأصمعيّ: سئل أعرابيّ عن الحبّ، فقال: وما الحب؟ وما عسى أن يكون؟ هل هو
إلا سحر أو جنون. ثم قال:
هل الحُبُّ إلا زفرةٌ بعد iiزفرةٍ،
وفيض دموع العين منِّيَ iiكلما ... ... وحرٌّ على الأحشاء ليس له iiبرد؟
بدا علمٌ من أرضكم لم يكن يبدو!
وقال: قلت لأعرابيّ: ما الحب؟ فقال:
الحبُّ مشغلةٌ عن كلِّ iiصالحةٍ ... ... وسكرة الحبِّ تنفي سكرة الوسنِ
وقال بعضهم مررت بدربٍ، فإذا جماعة وقوف على مجنون فوقفت، فهش إلي، وقال:
اسَقِّني قبلَ تَباريحِ iiالعَطَش!
حُبُّ مَن أهوَاهُ قد iiأدْهَشَني ... ... إنّ يومي يومُ طشٍّ بعدَ iiرَشّ
لا خلَوْتُ الدهرَ من ذاكَ الدّهَش
ومن طريف قولهم:
طَرَقَت بعدَ هَجعَةٍ أمُّ وَرْقَا،
ثمّ فَضّتْ خَتْمَ العِتَابِ iiوَقَالتْ:
مِثلَ ما ماتَ مِنْ بَني عُذرَةَ iiكُلْ
قَتَلَ الحُبُّ قَيسَ لُبنى iiوَمجنُو
وَتَحَدّى كُثيّراً iiوَجَميلاً،
قُلتُ: عِندي على هَوَاكِ شُهُودٌ:
وَسَلي عَنْ أضَالِعي iiزَفَرَاتٍ، ... خَوْفَ وَاشٍ وَحَاسِدٍ iiيَتَوَقّى
أنتَ لوْ كنتَ عاشِقاً متَّ عِشقَا
لُ صَحيحِ الهَوَى فغُودرَ iiمُلقَى
نَ بَني عَامِرٍ وَأمرَضَ iiخَلقَا
وَلَقيَ مِنْهُ عُرْوَةُ كُلَّ iiمَلقَى
أدمُعٌ مُستَهلّةٌ، لَيسَ تَرْقَا
ما تُلاقي مِنْ حَرّهنّ iiوَألقَى
فانظر إلى تلك الحال المتهمة! ومثل هذا كثير وهكذا الحب إن ترك له العنان ليستفحل دون أن يداوى بالدواء الشرعي يصم ويعمي، كما حصل لامرأة العزيز.
وأما إضرار الحب -إذا هو طغى- بالمحبوب، فمثاله ما أودى إليه حال امرأة العزيز، انظر كيف أودى حبها بيوسف إلى السجن الطويل. و من الحب ما قتل! وبعض الناس يحسب أن هذا للمحب العاشق فحسب ويرون فيه كثيراً من أخبار العشاق، والصحيح أنه صحيح في المحب والمحبوب وربما تعداهما لثالث لمعارض، وقد ذكروا شيئاً من هذا في أخبارهم وأنشأ بعضهم وزعموا أنه قتل زوجه غيرة:
يا طَلعَةً طَلَعَ الحِمامُ iiعَلَيها
حكَمتُ سيفي في مجال iiخِناقِها،
ما كانَ قتلِيها لأني لم iiأكُنْ
لكن بخلتُ على العُيونِ بحُسنِها، ...
... فجَنى لهَا ثَمَرَ الرَّدى بيَدَيها.
وَمدامعي تجري على iiخَدّيْها.
أخشى إذا سقَطَ الغُبارُ iiعليها.
وأنِفتُ من نَظرِ العيونِ إليها
وأما ما كان دون ذلك فهو كثير، وانظر إلى حب كُثَيِّر –وهو من أشهر العذريين- كيف جعله يقول:
ألا ليتنا يا عز كنا لذي iiغنًى
كلانا به عر فمن يرنا iiيقل
إذا ما وردنا منهلاً صاح أهله ... ... بعيرين نرعى في الخلاء ونغرب
على حسنها جرباء تعدي وأجرب
علينا فما ننفك نُرمى ونُضرب
فزعموا أن بعضهم قال له: تمنيت لها ولنفسك الرق والطرد والمسخ، فأي مكروهٍ لم تتمن لها ولنفسك! لقد أصابها منك قول القائل: معاداة عاقلٍ خير من مودة أحمق!
والشاهد مما سبق هو أن الحب إن زاد ولم يداوى دواءً شرعياً بالزواج، أو قطع أسبابه، وشغل النفس بما هو أنفع عاد ضرراً على صاحبه، وعلى محبه، وربما على غيرهما، وقد كان حب امرأة العزيز ليوسف من هذا القبيل.(/1)
طفل عربي
محمد المجذوب
تبارك المبدعُ iiبي
نفسُ ملاكٍ مثل iiسلـ
يهفو بها قلب iiنبيّ
قد زين الله بيَ iiالد
فمنظري لديهما
وضحكتي iiسلواهما
إذا نطقتُ فبما
وإن صمتُّ فاق iiصـ
بلعبتي أقرأُ iiأن
وقد تفهمت iiبها
فليس من شيء iiيسا
ولا أرى iiمستوجباً
أليس كل الخلقِ iiمن
أبي وأختي iiوأخي
فاسترشدوا iiبفطرتي
وأحسنوا iiتنشئتي
علَّ بيَ اللهُ iiغداً ... من كل سرٍّ iiعجبِ
سالِ الضحى لم iiتُشَبِ
مَنْ رأى قلبَ iiنبي!
نيا لأمي وأبي
يُزري بقدرِ iiالذهب
عندَ احتدام iiالنُّوَب
أُحسُّ لم iiأذبذب
متي رائعاتِ iiالخطب
العيش محضُ iiلَعِبِ
أن الورى iiكالُّلعب
وي خفتي أو iiطربي
لِبغضة أو شغب
شيخٍ وبنتٍ iiوصبي
في النوع أو في النسبِ!
واقتبسوا من iiأدبي
في العالم iiالمكتسب
يبعث مجدَ iiالعرب(/1)
طفل فلسطيني ثائر
شعر: عبد الله يوركي حلاق
عربيٌّ عربيٌّ عربي وليَ الفخر بهذا النسبِ
مذهب الفرقة لا أعرفه فاخشعوا إن تسألوا عن مذهبي
أنا صبّ تيّمتْني لغةٌ صانها القرآنُ أسنى الكتب
وجهة المحراب عندي هيكلٌ فيه عيسى والنبيُّ العربي
كم عصرنا من عناقيد المُنى وشربنا نخبَ صيدٍ نجُب
وملأنا أكؤساً من أدب وأدرنا أكؤساً من طرب
لم تزل في كل كأسٍ جرعةٌ يتشهاها الذي لم يشرب
يستقي التاريخ من شّلالنا ويروِّي كلَّ عصرٍ مجدب
دمنا يصرخُ في أعماقنا ما لكمْ في صممٍ عن عتبي
يا أباةَ الضيم، قد طال المدى واستبدَّ الشوقُ بالحرِّ الأبي
بيتُ لحمٍ ولِدَ الفادي بها وجبال القدس مِعراج النبي
أوَ نرضى أن نراها مسرحاً للبغايا وعبيد الذهب
في عرين الليث يثوي ثعلبٌ لا يضيرُ الليثَ مكرُ الثعلب
نحن في شوقٍ إلى وثبتنا ياجبال القدس ثوري واغضبي
وارقدي يا بنت صهيونِ على أملٍ واه وزندٍ أجربِ
هل يمرُّ الأردنُ السمحُ على عصبة الغدرِ ورمل النقَب
ماؤه دمع اليتامي فأثاروا لليتامى يا أباة العرب
أنت مثلي عربيٌّ تائقٌ لوغى، للثأر، لا للخُطب
جبنَ الحقُّ فيا حقُّ انتحرْ إن تلذ بالصمت أو بالهرب
لم أعد أؤمن إلا بالقوي فهي أجدى من سلاح الأدب
ألفُ شعرٍ لايوازي طلقةً أفرغت في مهجة المغتصب
فاضرب البغي ومزق شمله خائنٌ أنتَ إذا لم تضرب
لم يعد يجديك سيفٌ قاطع فتسلمْ باصقاتِ اللهب
قلعةُ الطغيان لايهدمها غير صاروخ وزندٍ يعربي
يبحث اللاجئ عن منقذه في متاهات الوعود الخلَّب
كوخه المرميُّ في بأسائه سقفُ قشٍّ مسندٌ بالقصب
يتهاوى، كلما الريح عدَت في الليالي السود، واهي العصب
رُبَّ طفلٍ صاح من أعماقه أين حيفا؟ أين يافا ؟ يا أبي
أين سهل اللدِّ ؟ هل يرجعه جيشنا يوم النضال الأشيب
أين تربُ القدسِ، هل تلثمهُ شفتي في غدِنا المرتقب
من تُرى يقطف من "بيارتي" ومَنِ الطفل الذي في ملعبي
وهل البيت الذي كان لنا خربٌ أم صامدٌ لم يخرب
وهل الكرمة في باحته لم تزل تعطي شهيَّ العنب
جدتي قالت إذا لم ترجعوا وطني، حلَّ عليكم غضبي
يا أبي إني مشوقٌ للحمى ولغسلِ العار يومَ الطلب
أعطني ما شئت من أسلحةٍ يا أبي، وامضِ إلى الهيجاء بي
إنني طفلٌ ولكن باسلٌ مرحباً بالموتِ إن لم لأغلِب
سوف تغدو "تل أبيبٌ" تلّةً من رمادٍ، رغم أنف الأجنبي
هذه آمالُ طفلٍ ثائر يا يمينَ المجدِ ما شئتِ اكتبي(/1)
طفل نصراني في روضتنا ...
كان مستغرباً أن يلتحق طفل نصراني في روضتنا، خاصة وأنها روضة إسلامية ذات مناهج خاصة، وكان ذلك عندما اتصلت بي إدارة الروضة تعلمني بأن هنالك طفل نصراني يريد والداه أن يلحقاه بالروضة، فهل نقبله؟
فقلت : ولم يريد والداه أن يسجلاه في روضتنا وهم يعلمون بأن روضتنا إسلامية؟
فقيل لي : بسبب ما تتمتع به الروضة من سمعة طيبة. فقلت لا بأس بأن يلتحق الطفل بروضتنا، ولكن لا بد من أن نعامله بما لا يشعره بفروق بينه وبين زملائه الأطفال، فقد أصبح واحداً من أفراد أسرتنا، وهكذا انتظم الطفل في الروضة، وكنت أتابع أحواله وأحوال عائلته باهتمام بالغ ، وبعد مرور إسبوعين من دوامه فوجئنا بقدوم والديه يخبراننا بنية سحبه من الروضة بسبب اشتعال الخلافات في أسرتيهما وتدخل الكنيسة في الأمر مما أجبرهما على سحب طفلهما عنوة دون رغبتهما، وقد قدما الشكر الموفور لأسرة الروضة بما بذلته من اهتمام بالغ بطفلهما، وهكذا ينسحب الطفل من الروضة ويبقى السؤال : لم عارضت أسرهما انضمام الطفل إلى الروضة؟
ولم تتدخل الكنيسة بقضية خاصة تحمل والدي الطفل على سحبه ؟
لقد فكرت كثيراً في الأمر ثم قلت لنفسي: ألم تستغرب دخول هذا الطفل إلى الروضة وهي حالة شاذة لم يسبق لها مثيل؟
ألا يعتقد النصارى ببطلان ديننا؟
إذن لم يدخل هذا الطفل روضتنا وأهله يعتقدون بفساد عقيدتنا وانحراف مناهجنا؟ فالأمر الطبيعي هو أن لا يلتحق النصارى بمؤسسات إسلامية تعلم أبنائهم الدين الباطل والخرافات ، ولكنني نظرت إلى الموضوع من وجه ثاني، فقلت في نفسي : هنالك أكثر من عشر مؤسسات تبشيرية في القدس وحدها تجمع أكثر من 5000 طالب وطالبة كلها تحت إدارة الأديرة التبشيرية 85% من الطلبة مسلمون، ويدفعون لتلك المؤسسات ثلاثة أضعاف ما يدفع للمؤسسات الإسلامية، علماً بأن هذه المؤسسات تبشيرية بكل ما تحمل الكلمة من معنى، فلمَ يرسل المسلمون أبناءهم إلى هذه المؤسسات وهم يعلمون بذلك؟
بل لم يتباهى الناس بأن أبناءهم في المدارس التبشيرية ويعتبرون ذلك حضارة وتقدماً ؟
ألا يعتقد المسلمون بفساد عقيدة النصارى؟
ألا يعلم المسلمون بانحراف مناهج التعليم لدى هذه المؤسسات؟
هل أصبح النصارى أكثر حرصاً على عقيدتهم التي يعتقد المسلمون ببطلانها من المسلمين الذين يعتقدون صحة عقيدتهم ووجوب الولاء والبراء؟
طفل نصراني في روضة إسلامية يحرك الكنيسة والأقرباء ويجعل لكل فرد من أفراد الطائفة الحق في التدخل والعمل على منع هذه المهزلة،
فمن لأبناء المسلمين؟
من لهؤلاء المسلمين الذين يتربون على عقيدة النصارى ؟
بل من لهؤلاء المسلمين الذين يرتدون على أعقابهم ويدخلون في عقيدة النصارى بسبب تربيتهم في تلك المؤسسات؟
ليست هذه مبالغات بل هي حقائق واقعية ، وإني لأعرف قصصاً كثيرة من ذلك، فماذا فُعل بذلك الشاب الذي تزوج أبوه من امرأة نصرانية ، وسجل في تلك المؤسسات؟ إنه اليوم نصراني يدين بعقيدة التثليث.
بل كم من فتاة مسلمة تزوجت بشاب نصراني بسبب تربيتهما معاً على تلك الأفكار المدمرة ؟
إنها ليست قضية طفل نصراني سحبه أبواه من روضة إسلامية ، ولكن القضية لم سحباه؟ ولم نبقي نحن أبنائنا ؟؟؟(/1)
طفلي يخاف من المدرسة.. ماذا أفعل؟
لمشاهدة الصورة بحجم اكبر إضغط علي الصورة
مجاهد مليجي
أكد خبراء علم النفس والتربية أن الخوف من المدرسة مشكلة تواجه الأسر المختلفة مع بدء العام الدراسي، ويأخذ أشكالاً مختلفة طبيعية ومرضية حسب طبيعة العلاقة بين الطفل والأم والبيئة المحيطة، وأنه كلما اتسعت دائرة معارفه بالإضافة إلى الأم كان ذلك بمثابة حماية للطفل من الخوف والاضطراب النفسي أثناء دخول المدرسة، وينصحون المسئولين بأن يقيموا مِهرجانات احتفال ببدء العام الدراسي؛ لتحبيب الأطفال فيها، كما ينصحون أولياء الأمور باصطحاب أبنائهم إلى المدرسة والبقاء معهم أول يوم من أجل مساعدتهم على التواصل مع المدرسة.
أنواع الخوف:
الخوف من المدرسة نوعان: أحدهما طبيعي، والآخر مرضي. هذا ما أكده في البداية الدكتور سيد صبحي أستاذ الصحة النفسية وعميد كلية التربية النوعية بجامعة عين شمس، مؤكدًا أن الخوف العادي السوي هو بسبب النقلة التي تعرض لها الطفل فجأة من بيئة اجتماعية، وهي البيت إلى بيئة جديدة وهي المدرسة ، خاصة نع تغيير المدرسة لتغير محل الإقامة أو اللإنتقال لمرحلة دراسية جديدة، لا يجد فيها عناية مركزة مثل البيت، ويرى زملاء جدد وهو خوف عادي يمكن أن يزول مع الوقت ويتأقلم معه ويتفاعل مع بعض الأنشطة الموجودة بالمدرسة ويصبح الطفل محب للمدرسة.
ويوضح أن الخوف المرضي غير الطبيعي ينتج عن ارتباط الطفل بالبيت بصورة مبالغ فيها نتيجة تعلقه بالأم أو تدليلها الشديد له، وبالتالي تظهر رغبته في عدم الانفصال عنها ورفضه الذهاب إلى المدرسة، ونتيجة الضغط وإصرار الأسرة على استقلاله تضطرب نفسية الطفل.
ويرى د. صبحي أن حل هذه المشكلة في الثقافة والوعي التربوي بالسمات العامة لكل مرحلة، فضلاً عن التدرج في انفصال الطفل عن أسرته والقيام برحلات استكشافية لمدرسة الغد، والتعرف على مبانيها وأسوارها وبعض مدرسيها قبل بداية العام الدراسي، وبهذا الاحتضان والتشجيع من جانب الأسرة يتغلب الطفل على ما يواجهه من مشاكل.
أما بالنسبة للخوف الطبيعي فهو شيء فسيولوجي يحدث نتيجة الذهاب لمكان جديد ومجتمع أوسع من مجتمع الأسرة دون تهيئة، وهذا يحدث للكبار أيضًا إذا أقبلوا على عمل جديد.
وإذا كان بعض الأطفال يخافون من الذهاب إلى المدرسة فإن هناك فئة أخرى ترفض الذهاب تمامًا إليها ربما بسبب قسوة بعض المدرسين أو للواجبات الكثيرة أو عدم الاهتمام بمشاعر الطفل، والتعامل معه بصورة لا آدمية، والأخطر، ما نلاحظه من اختفاء أبوة المدرس التي تفشت بسبب عدم إعداد المعلم تربويًّا.
أمي ..أمي:
بينما ترى الدكتورة سناء أحمد أستاذة الصحة النفسية بجامعة القاهرة أن الطفل الذي يدخل المدرسة لأول مرة قد يسبب له ذلك أزمة نفسية، خاصة الأطفال المرتبطين بأمهاتهم بصورة قوية للغاية تصل إلى حد الحالة المرضية، وتشجع للأسف الأم طفلها على هذا الارتباط بدلاً من أن تساعده على توسيع المجتمع الذي يعيش فيه تدريجيًّا، باعتبار أن الأم هي بيئة الطفل الوحيدة خلال أول عامين، ثم بعد ذلك تتسع دائرة بيئته لتشمل والده ثم أعمامه وجدته وأقاربه من الأطفال المماثلين له في العمر، ويقع على عاتق الأم هذه المهمة حتى تمهد لطفلها الانتقال إلى روضة أطفال وحضانة، ثم بعد ذلك المدرسة، وحتى لا يرتبط الطفل بها بعلاقة وطيدة يصعب كسرها في بداية الالتحاق بالمدرسة.
وغالبًا ما يُصاب هؤلاء الأطفال نتيجة الارتباط بالأم بارتفاع في درجة الحرارة وزيادة في ضربات القلب، ويُصاب بمغص وقيء وتبول لا إرادي، والسبب نفسي وليس عضويًّا، مما يسبب إرهاقًا للوالدين عندما يعرض على طبيب عضوي ولا يجد عنده شيئًا، وهنا يبرز دور الأم التي لم تعمل حسابًا لهذا اليوم، ولكي تتفادى هذه المشكلة تذهب معه أول يوم إلى المدرسة، وثاني يوم تقضي معه نصفه، وهكذا بالتدريج حتى ينفصل عنها تدريجيًّا، ثم تختار له مدرسة عطوفة متفهمة تحل محلها بالنسبة للطفل كنوع من العلاج الذي غالبًا ما يعاني منه الطفل الأول، والمدلل، والمرتبط بالأم بصورة شديدة خاصة في حالة سفر الأب أو انشغاله التام عنهم.
وهناك أوقات قد يرفض الطفل فيها الذهاب إلى المدرسة عندما يقترب موعدها؛ لأن المناهج كانت صعبة وفترة المدرسة فترة حبس لحرية الطفل وشقاء وضرب من المدرسين في نفس الوقت، وزعيق (وشخيط) وشد أعصاب وامتحانات… إلخ. وهؤلاء الأطفال من هذه العينة التي تكره المدرسة ولا ترغب في الذهاب إليها تأتي لها أعراض نفسية جسمية أو جسمية، علاوة على فزع أثناء النوم وكوابيس.(/1)
وتقول د. سناء: إن الحل لمواجهة هذه المشكلة أن نحاول تغيير الصورة السلبية العالقة بذهن الطفل عن المدرسة خلال العام المنصرم، وإقناعه بأن المدرسة ستكون هذا العام أحسن من العام السابق، ولا بد أن تقوي الأم علاقتها بالمدرسة والبحث عن مُدرِّسة حنونة غير عنيفة تحتضن الطفل في هذه الحالة؛ لأن هناك أطفالاً حساسين للغاية، ويهدفون إلى الكمال خاصة بين الأولاد عنها بين البنات؛ حيث يحرص الولد على الحصول على الدرجات النهائية، ويخاف ضياع درجات منه فيصاب بالقلق النفسي، هذا فضلاً عن أن الطفل الذي قد حدث له شيء مشين في المدرسة كاعتداء جنسي أو أهين أمام أصحابه أو ما شابه ذلك، فإنه يظهر عليه أعراض "نفسية/ جسمية" مع حلول موعد المدرسة، وهنا على الأم أن تذهب به إلى الأخصائي الاجتماعي بالمدرسة، ثم تعرضه على طبيب نفسي لعلاجه من الإصابة بانعدام الثقة، نتيجة لما تعرض له في المدرسة حتى إذا لزم الأمر يتم نقله من المدرسة.
عقاب للأهل؟
وتضيف: إنه من أسباب عدم الذهاب إلى المدرسة قد يكون معاندة الطفل للأب والأم؛ فيصر على عدم الذهاب إلى المدرسة ظنًّا منه بأنهم المستفيدون من ذهابه إليها، وفي هذه الحالة نبحث عن السبب داخل منزل الطفل ويمكن أن يكون خلافات بين الأب والأم أو زواج الأب وهجر الأم. ويكون سلوك الطفل في هذه الحالة نوع من العدوانية ضد أبيه أو ضد الأم عندما تنشغل عنه وتهمله، كما أنه من الأسباب أيضًا أن الطفل قدراته ضعيفة، وهو في مدرسة عادية، وهو لا يستطيع أن يُحصِّل وتعرض للإحراج والإهانة من المدرس أمام الفصل وضحك عليه زملاؤه؛ فهنا يقرر عدم الذهاب مطلقًا مرة أخرى، موضحة أن هذه الحالة لا بد أن يتم فيها إجراء اختبارات ذكاء تناسب قدراته؛ حيث هناك مدارس متعددة في دول الخليج وبعض الدول العربية لمن يعانون من نقص في الذكاء عن المتوسط أو يعانون من تشتت الأفكار وعدم الانتباه أو المشاكل الأسرية، كل ذلك لو لم يتم التغلب عليه من الممكن أن يجعل الطفل عدوانيًّا تجاه الآخرين؛ لأنه يشعر بأنهم أحسن منه وتتولد لديه انعدام الثقة.
الهروب:
وتشير الخبيرة التربوية إلى ظاهرة هروب الطفل من المدرسة، معللة ذلك بأنه نوع من الانحراف في السلوك نتيجة التعرف على شلة فاسدة، أو نتيجة ضعف الإمكانات الذهنية له، أو عدم القدرة على التركيز وعدم ملائمة النظام التعليمي له، أو الطفل في حد ذاته منحرف سلوكيًّا، وبيئته تساعده على ذلك؛ فيتجه نحو إدمان والمخدرات والإجرام، فضلاً عن أنه من السهل أن يكذب ويسرق ويوقع بين أفراد أسرته بنقل الكلام.
ويرى عبد التواب يوسف أديب الأطفال ومستشار الطفولة بالمجلس الأعلى للطفولة بالقاهرة أنه يجب أن تخطط الأسرة الواعية لتدريب الطفل على البعد عن المنزل لبعض ساعات في اليوم في دور الحضانة تمهيدًا لدخوله المدرسة، وذلك لإتاحة الفرصة له للتعامل مع الآخر؛ لأنه أمر غاية في الأهمية كما تحكيه لنا رواية روبنسن كروز التي تحاكي قصة حي بن يقظان.
ويضيف: إن واجب المدرسة لإزالة الرهبة من الأطفال الجدد والقدامى من بداية العام الدراسي الجديد لا بد أن يكون من خلال حفل استقبال لطيف يحبب المدرسة إلى نفوس الأطفال في أيامه الأولى، كما يحدث في أوروبا وأمريكا بأنهم يقيمون الاحتفالات والكرنفالات الضخمة في الشوارع المحيطة بالمدارس، يسير بها الأطفال ابتهاجًا بالعام الجديد؛ حيث يقضي أولياء الأمور جزءاً كبيرًا من اليوم الأول مع أطفالهم في هذه الاحتفالات بالمدارس، كما يجب على هيئة التدريس في مدارس الأطفال الابتدائية أن يكون لديهم مهارة التعامل مع الأطفال، وتحبيب المدرسة إليهم في الأيام الأولى على وجه الخصوص، وتدربهم على التعاون مع الآخرين واللعب معهم، وخلق صداقات جديدة؛ حيث يقول كتاب لليونسكو: "إن أُمًّا صَاحَبت طفلها إلى المدرسة في أول يوم، ووجدته مستغرقًا في التفكير؛ فسألته: فِيمَ تفكر؟ فأجاب: أفكر كيف أكون صديقًا لزملائي الأطفال، سألته: وهل وجدت الطريقة؟ أجاب: نعم، أتلفت حولي، فإذا وجدت زميلاً في حاجة للمساعدة بادرت بمساعدته، وبذلك نصبح أصدقاء" وهكذا هذا التدريب يزيل الخوف من نفوس الأطفال تجاه مدارسهم ويحببها إليهم.(/2)
طفولة النبي كتاب يكشف الجوانب الإنسانية في حياة الرسول
مفكرة الإسلام: صدر حديثا عن الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة كتاب بعنوان طفولة النبي صلي الله عليه وسلم للكاتب عبد التواب يوسف.
لقد ظلت سيرة الرسول صلي الله عليه وسلم وستظل مقصداً للدارسين علي تعدد خطوط اقترابهم يأخذ كل منهم من النبي الكريم مايرويه وحينما تقصد هذا النبع سنجد علي شاطئه علماء وفلاسفة وأدباء ومتصوفة وكلهم من رسول الله ملتمس والكاتب عبد التواب يوسف أحد أبرز المبدعين الذين جعلوا من كتبهم معبراً بين السيرة والأجيال الجديدة.
وفي الكتاب يتناول الكاتب الجانب الإنساني في حياة محمد صلي الله عليه وسلم منذ الإرهاصات والأحداث التي سبقت مولده الشريف كحفر بئر زمزم ومحاولة أبرهة الحبشي هدم الكعبة الشريفة إلى أن يقف بنا علي عتبات شبابه وما ورد في ذلك من موت أمه وجده ورعاية عمه أبو طالب له مركزاً في هذا التناول علي كشف الأبعاد الإنسانية الرائعة التي أهلت الرسول الكريم لان يحمل مشعل النور والرحمة والهداية للعالمين، ويرصد الكتاب الذي يقع في 96 صفحة ملونة من الطباعة الفاخرة في ستة فصول صفات سيد الخلق الصادق الأمين والتي لخصها الكاتب في سمة التفكير الذي صار عنده عادة وعبادة مشيراً إلي أن محمد رسول الله تعلم في مدارس الحياة بدءاً من مدرسة جده عبد المطلب ثم مدرسة الرعاة حيث كان الرعي فرصة انطلاق خارج مكة حيث الماء والعشب ومواصلة رياضة السباحة وقد تحدث الرسول ص عن الرعي كثيراً بعد ما كبر فقال: ما من نبي إلا ورعي الغنم وقال عبارة شهيرة استوحاها من عمله في صغره كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ويحكي الكتاب الموجه للطفل في لغة سهلة وبسيطة عميقة المعاني عن مواصلة رسول الإنسانية العلم في مدرسة عمه أبي طالب المدرسة الإعدادية التي تحقق فيها حسن تربية الأبناء في شخص محمد لينطلق منها إلى مدرسة الرحلات والتجارة التي تدرب فيها الرسول صلي الله عليه وسلم علي أساليب التجارة وعرف البيع والشراء والمقايضة مدركاً في الوقت ذاته أن رأس مال التاجر أمانته وصدقه وشرفه.(/1)
طلاق الغضبان و مراجعة الزوجة المكلّقة
السؤال :
عقدت قراني على فتاة ولم أدخل بها ومع ذلك حصلت بيننا خلوة و استمتعت بها من دون جماع ، ثم نشب بيننا خلاف تفاقم حتى أدى إلى تلفّظي في لحظة غَضَب بالطلاق في حقّها ، مع كوني آنذاك قادراً عل التحمّل ، و كنت واعياً لما أقول ، و ما لبثنا أن ندمنا و قرّرنا الرجوع إلى الحياة الزوجيّة ، فهل تعتبر الطلقة التي تلفّظت بها واقعةً رغم أنّي كنتُ في حالة غَضَب ؟
و ما المدة التي يستطيع الزوج فيها مراجعة زوجته بعد الطلقتين الأولى و الثانية سواء كانت الزوجة مدخولاً بها أو لا ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
أوّلاً : إنّ الحالة المذكورة في السؤال رغم أنّها حالة غضب لا تمنع من وقوع الطلاق ، لأنّ الطلاق لا يوقعه عاقلٌ إلاّ إذا كان في حالة غضبٍ في الغالب ، و لو كان مجرّد الغضب مانعاً من وقوعه ، لما كاد الطلاق يقع أصلاً .
أمّا الغضب الذي يمنع من وقوع الطلاق فهو الغضب المغلق ، أي الذي يُغلِق على صاحبه تمام التفكّر و التدبّر لما يصدر عنه ، و يؤثّر في عقل صاحبه ، فلا يعي معه ما يقول أو ما يترتّب على قواه .
قال ابن القيّم [ في إعلام الموقعين : 4 / 50 ] : ( أن يطلق أويحلف في حال غضب شديد قد حال بينه وبين كمال قصده و تصوره فهذا لا يقع طلاقه ... و قسم شيخ الاسلام ابن تيمية قدس الله روحه الغضب الى ثلاثة أقسام :
قسم يزيل العقل كالسكر فهذا لا يقع معه طلاق بلا ريب
و قسم يكون في مبادئه بحيث لا يمنعه من تصور ما يقول ، و قصده فهذا يقع معه الطلاق .
و قسم يشتد بصاحبه ، و لا يبلغ به زوال عقله بل يمنعه من التثبت و التروي و يخرجه عن حال اعتداله فهذا محل اجتهاد ....
و التحقيق أن الغلق يتناول كل من انغلق عليه طريق قصده و تصوره كالسكران و المجنون و المبرسم و المكره و الغضبان فحال هؤلاء كلهم حال إغلاق ، و الطلاق إنما يكون عن وَطَر فيكون عن قصد من المطلِّق ، و تصور لما يقصده فإن تخلف احدهما لم يقع طلاق ) .
و لا يمنع من وقوع الطلاق عدم جدّية الزوج المُقدِم عليه ، لما رواه الترمذي و حسّنه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه و سلّم قال : ( ثلاث جدهن جد ، و هزلهن جد ؛ النكاح و الطلاق و الرجعة ) .
قال أبو عيسى الترمذي رحمه الله : ( العمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم وغيرهم ) ، أي في عدم التفريق بين الجدّ و الهزل في الأمور الثلاثة .
قلتُ : و الذي يظهر من حال السائل أنّ ما تعرّض إليه من استفزاز كان بوسعه ضبطه ، و عدم التسرّع بسببه إلى إيقاع الطلاق ، و عليه فإن طلاقه واقع ، و هو طلقةٌ واحدة ، و تبقى له اثنتان ، فليتّق الله و ليتريّث و لا يعجل فيما يستقبل من أمره .
أمّا المدّة التي يحق للزوج خلالها مراجعة زوجته من طلاقٍ غير بائن ( الطلقة الأولى ، و الطلقة الثانية ) فهي مدّة العدّة ، فإن راجعها خلال عدّتها كانت رجعته صحيحة ، و دامَ عقد النكاح بينهما ، أمّا إن خرَجت من العدّة فيما دون الثلاث طلقات فلا يحق له إرجاعها إلا بعقدٍ و مهرٍ جديدين .
هذا ، و الله المستعان ، و عليه التكلان
و الحمد لله ربّ العالمين .(/1)
طلب الدعاء من المسلمين
السؤال :
عندنا إمام استحسن في كل يوم جمعة بعد الموعظة أو الدرس كما نسميه عندنا و قبيل خطبة الجمعة أن يقوم ببعض الأدعية لأناس مخصوصين ( كمن يُريد الزواج ، أو الشفاء ، أو ينشد الرزق أو الولد ، أو غير ذلك ) يبعثون بها إليه في قصاصات أو أوراق صغيرة .
فما حكم الشرع في هذا الفعل المحدث الذي أحدثه في كل يوم جمعة ؟
الجواب :
تضمن السؤال عدَّة مسائل فيما يلي بيان الحكم الشرعي فيها فُرادى :
المسألة الأولى : الموعظة التي يؤديها بعض الأئمة في كثير من البلدان ( و خاصَّةً بلدان الغرب ، و المغرب العربي ) و اتِّخاذ ذلك عادةً يُتعبَّد بها ، إنما هو من البدع المحدثة التي ما أنزل الله بها من سلطان ، بل هي من أشنَع البدع لأنها تضاهي ما جاء به الشرع الحنيف من الوعظ يوم الجمعة بالخطبتين و حسب .
و ينطبق على هذه البدعة قول الإمام الشاطبي في تعريف البدعة [ كما في كتابه الشهير الاعتصام : 1 / 37 ] بانَّها طريقةٌ في الدين مختَرَعةٌ ، تضاهي الشرعيَّة ، و يُقْصَد بالسلوك عليها ما يُقصَد بالطريقة الشرعية ، أو المبالغة في التعبد لله تعالى .
قلتُ : و أي وعظٍ أو درسٍ يكون يوم الجمعة بين يدي الخطبتين ، أو بعدهما ، أو بينهما ( كما يُفعَل في بعض البلاد بدعوى الحاجة إلى خطبة مترجمة ) ، إنما يراد به ما يراد بالخطبتين نفسهما من النصيحة و التذكرة و بيان الحلال و الحرام ، لذلك كان هذا الفِعلُ من المضاهاة لما جاءت به الشريعة ، مع ما فيه من إرادة التقرب إلى الله تعالى ، و يلزم من ذلك الجزم بأنه من البدع المحدثة ، و الله المستعان .
المسألة الثانية : طلب الدعاء من الغير أمر مشروع في ذاته ، حتى لو كان الطلب من الفاضل للمفضول ، لما رواه أحمد و ابن ماجة و أبو داود و الترمذي عَن عُمَرَ بن الخطَّاب رضي الله عنه ، أنَّهُ استأذنَ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ و سَلَّم في العُمرَةِ ، فأذن له رسول الله ، و قال : ( أيْ أُخَيَّ ! أشرِكنَا في دعائِكَ و لا تَنْسنَا ) قال أبو عيسى : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
و زاد في آخر رواية أحمد و أبي داود : فقال عمر : ( ما أحب أن لي بها ما طلعت عليه الشمس ) .
و قد كان الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين يسألون النبي صلى الله عليه و سلم الدعاء ، كما في حديث عكاشة بن محصن رضي الله عنه الشهير في الصحيحين و غيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : ( يدخل الجنة من أمتي زمرةٌ هي سبعون ألفاً ، تضيء وجوههم إضاءة القمر ) . فقام عُكَّاشة بن مِحْصَن الأسدي ، يرفع نَمِرة عليه ، قال : ادع الله لي يا رسول الله أن يجعلني منهم ، فقال : ( اللهم اجعله منهم ) . ثم قام رجل من الأنصار فقال : يا رسول الله ، ادع الله أن يجعلني منهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( سبقك عُكَّاشة ) .
و لا زالت الأمة تتواصى بالدعاء ، و لا يُنكَر هذا على سائل و لا مسؤول ، بل كانوا يحتسبون على ذلك الأجر ، و يرجون تأمين الملائكة عليه .
فقد روى مسلمٌ في صحيحه عن صفوان بن عبدالله - زوج الدرداء - قال :
قدمت الشام ، فأتيت أبا الدرداء في منزله فلم أجده ، و وجدت أم الدرداء . فقالت : أتريد الحجَّ العامَ ؟ فقلت : نعم . قالت : فادع الله لنا بخير . فإن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقول : ( دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مُستجابةٌ ؛ عند رأسه مَلَكٌ مُوكَّل . كلما دعا لأخيه بخير ، قال المَلَك الموكل به : آمين ، و لك بِمِثْلٍ ) .
فخرجتُ إلى السوق فلقيتُ أبا الدرداء . فقال لي مثل ذلك ؛ يرويه عن النبي صلى الله عليه و سلم .
و نظائر هذا كثيرة من فعل الصحابة الكرام فمن بَعدَهُم .
المسألة الثالثة : لا بدَّ في العبادة المشروعة أن توافق السنَّة في السبب ، و الجِنسِ ، و القَدْر ، و الكيفيَّة ، و الزمان ، و المكان ، كما هو مقرَّرٌ عندَ أهل العلم حتى تخلوا عن الابتداع [ انظر : الإبداع في كمال الدين و خطَر الابتداع ، للشيخ ابن عثيمين رحمه الله ، ص : 20 – 23 ] .
فإن خالفت السنَّة في شيء من ذلك فهي بدعة مردودة على صاحبها ، لما في الصحيحين و غيرهما من حديث عائشة رضي الله عنها أنَّ رسول الله صلى الله عليه و سلَّمَ قال : ( من أحدث في أمرنا هذا ) أي ديننا ( ما ليس فيه فهو ردٌّ ) أي : مردودٌ عليه .
و ما ذكره الأخ السائل من اتخاذ الدعاء للغير على وجه الخصوص بكيفية معينة ، و في وقتٍ معيَّن ، يخالف السنَّة في الدعاء للغير بظهر الغيب ، و هي الإطلاق و عدم التقييد بزمان و لا مكان ، لذلك كان فعل الإمام المذكور بدعةً لا يقَرُّ عليها ، بل يجب النكير عليه لفعلها على النحو المذكور ، كما يجب التبيين لمن يقصده بسببها بأنها ردٌّ على صاحبها ، لما تقدَّم في حديث أم المؤمنين رضي الله عنها ، و الله تعالى أعلَم و أحكَم .(/1)
هذا و الله الهادي إلى سواء السبيل ، و بالله التوفيق .(/2)
طلب المرأة ممن أراد أن يتزوجها طلاق زوجته الأولى
الشيخ الأمين الحاج محمد أحمد السؤال
تقدم لي شخص من جيراننا متزوج منذ 3 سنوات وعلى خلاف دائم مع زوجته التي لم تنجب رغم محاولات العلاج. هذا الشخص يريد الانفصال عن زوجته عن تراضٍ غير أنّ زوجته لا تريد الانفصال وهو يصر على رضائها هل يجوز لي أن أرغمه على الانفصال منها؟ وهل إذا وافقت على زواجه من أخرى أقبل الزواج منه؟ هذا الزوج طلّق زوجته من قبل للمشاكل الكثيرة التي سببتها له, فهي تسئ الظن بكل الناس بل وتعتقد أنه ربما يتزوج من أرملة أخيه.
الإجابة
الحمد لله:
لا يجوز لك بحال أن ترغميه على الانفصال منها, ولا أن تشترطي عليه ذلك إذا أردت زواجه, فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك أشدّ النهي فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يحل لامرأة تسأل طلاق أختها لتستفرغ صحفتها, فإن لها ما قُدِّر لها) أخرجه البخاري.
أما زواجك منه إن ارتضيتيه فلك ذلك وافقت زوجته أم لم توافق فليس من شروط صحة الزواج الثاني موافقة الزوجة الأولى.
ولك أن تستشيري أهلك ومن يليك ويعرفه عن حاله بعد أن تستخيري الله عز وجل فلا خاب من استخار ولا ندم من استشار فإن أشاروا عليك فتوكلي على الله.
أما بالنسبة له هو فالأفضل في حقه أن يمسكها ويتزوج عليها إن شاء. إذ عدم الإنجاب ليس من العيوب التي تُطلّق بها المرأة لأنه ليس في يديها, وإن أراد طلاقها فلا يُشتَرط رضاها والله أعلم.(/1)
طلب الولاية عند الكافر 16/4/1426
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد، فإن الذي يقرأ القرآن ينبغي أن يتدبر معانيه، ويقف مع آياته فيأخذ منها العظات والعبر والدروس التي تفيده في واقعه وتنفع أمته، ولهذا فإني أقف اليوم في سلسلة الوقفات مع سورة يوسف مع قوله: "اجعلني على خزائن الأرض"، هنا يرد سؤال قد يمس الواقع وهو: هل يجوز تولي الوزارة عند كافر؟
لأن يوسف _عليه السلام_ طلب الوزارة وتولاَّها والملك كافر كما ذكر المفسرون، وهذا سؤال كبير، وهو اليوم يتكرَّر في بعض الدول التي تكون كافرة أو في البرلمانات، ما حكم ذلك؟
أولاً: قال بعض العلماء: لم يكن الملك كافراً، وقالوا: لقد كان فرعون يوسف صالحاً وإنما طغى فرعون موسى.
وبعضهم قال: بل كان كافراً. ولعل هذا أولى لقول موسى أو مؤمن آل فرعون في سورة غافر: "ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولاً كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب". وكذلك دعوته لسجينين تدل على أن البيئة كانت كافرة.
وإذا كان الأمر كذلك فهل نقول هذا شرع من قبلنا وليس شرعاً لنا؟
أقول: في ذلك نظر، للخلاف في هذا القاعدة بين أهل العلم، ولأن الله _جل وعلا_ قد قال هنا: "لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ" (يوسف:7)، وقال في آخر السورة: "لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ" (يوسف: من الآية111).
ولهذا أجاز بعضهم التولي عند الكافر للمصلحة مطلقاً، وقال جمع من العلماء إنه يجوز أن يتولَّى المسلم عند كافر إذا أمكنه فعل الحق بشرط عدم مشاركته في ظلمه.
والخلاصة لدينا ثلاثة أقوال:
الأول: لا يجوز التولية عند كافر؛ لأنه إعانة له ومساعدة له .
وآخرون قالوا: يجوز ما كانت في ذلك مصلحة، ولم يذكروا شروطاً.
والقول الأعدل هو قول من قال يجوز بشرط تمكنه من قول الحق وعمل الحق، ولن تكون مثل هذه المشاركة إعانة على الظلم.
والذي يترجح والعلم عند الله _جل وعلا_ بعد تأمل ودراسة هذه المسألة، وبخاصة في ظروف المسلمين الحالية كوجود عدد من المسلمين في بقاع الأرض في دول كافرة، فالهند مثلاً عدد المسلمين فيها قرابة مئتي مليون ومع ذلك الدولة كافرة، وفي أمريكا المسلمون بالملايين، وهؤلاء يحتاجون إلى من يرعى شؤونهم ويحقق لهم كثيراً من المصالح التي يصعب تحقيقها إلا بالمشاركة فيها. فالقول بأنه لا يجوز التولية في هذه البلاد بإطلاق فيه مشقة وتضييق على المسلمين ولعل القول الثالث هو الوسط وهو جواز مشاركة الظالم أو الكافر في الولاية بشروط أهمها:
أولاً: أن يكون اشتراكه في هذه الولاية لا يترتب عليه أو يلزم منه اعتراف وإقرار لظلم أو كفر، ولهذا يقال لمن يريد أن يشترك في ذلك إذا كان اشتراكك في هذه الولاية يقتضي إقراراً منك بالكفر أو اعترافاً بالكفر أو مساعدةً على الظلم أو إقراراً له فلا تجوز، وأنت في عافية وسلامة من أن تكون شريكاً أومقراً للظلم أو الكفر ومعترفاً به .
ثانياً: أن لا تكون فيه مساعدة ظاهرة على الظلم فضلاً في أن يقع في الكفر، وهذه غير الأولى أي أن ولايته عندما يتولاها لا يمارس فيها الظلم تبعاً لهذا الحاكم الكافر.
ثالثاً: أن تكون مصلحة المشاركة راجحة على المفسدة، لأن الذي سيشارك في ولاية ظالمة أو ولاية كافرة، سيرتكب مفسدة، صغيرة أو كبيرة، لكن هناك مفاسد وهناك مصالح، فإذا كانت المفسدة التي سيرتكبها تتضاءل عند المفسدة الكبرى من عدم المشاركة فنقول له شارك، بمعنى آخر نقول المفسدة الكبرى تدفع بالمفسدة الصغرى، فإذا كنت تعلم أنك سترتكب مفسدة بسبب ولايتك، لكن اعتذارك عن المشاركة سيوقع مفسدة أعظم، فنقول شارك إذا تقرر ذلك واتضح بشرط ألا يرتكب ناقضاً من نواقض الإسلام، وأقول هذا لأنني رأيت بعض من يشترك في بعض هذه البرلمانات يضع يده على الدستور ويقسم بالله أنه سيحافظ على هذا الدستور ويدافع عنه مع أن هذا الدستور كفر!
ولعل من الأدلة على ما رجحته أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أمر بالمجاهدة مع البر والفاجر، ولاشك أن المجاهدة مع الفاجر فيها مفسدة لكن تتضاءل هذه المفسدة عند المفسدة الكبرى بترك الجهاد، فنقول من أجل إقامة الجهاد في سبيل الله فشارك معه؛ لأن مصلحة المشاركة في الجهاد أعظم بكثير من المفسدة التي يقع فيها الإنسان خاصة إذا اتقى الله _جل وعلا_، وبهذا الرأي نصل إلى جواز المشاركة بهذه الضوابط الشرعية، أما المنع المطلق فلا، أو السماح المطلق فلا، ومع ذلك فالمسألة تحتاج إلى مزيد من البيان ومزيد من التحرير وهي من مسائل الاجتهاد، ولكنها إشارة تناسب المقام.
أسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يبرم لهم إبرام رشد يعز فيه وليه ويذل فيه عدوه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/1)
طلحة بن عبيد الله أحد العشرة المبشرين بالجنة )
طلحة بن عبيد الله بن عثمان التيمي القرشي المكي المدني ، أبو محمد لقد كان في تجارة له بأرض بصرى ، حين لقي راهبا من خيار رهبانها ، وأنبأه أن النبي الذي سيخرج من أرض الحرم ، قد أهل عصره ، ونصحه باتباعه وعاد الى مكة ليسمع نبأ الوحي الذي يأتي الصادق الأمين ، والرسالة التي يحملها ، فسارع الى أبي بكر فوجده الى جانب محمد مؤمنا ، فتيقن أن الاثنان لن يجتمعا الا على الحق ، فصحبه أبو بكر الى الرسول -صلى الله عليه وسلم- حيث أسلم وكان من المسلمين الأوائل.
ايمانه
لقد كان طلحة -رضي الله عنه- من أثرياء قومه ومع هذا نال حظه من اضطهاد المشركين ، وهاجر الى المدينة وشهد المشاهد كلها مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- الا غزوة بدر ، فقد ندبه النبي -صلى الله عليه وسلم- ومعه سعيد بن زيد الى خارج المدينة ، وعند عودتهما عاد المسلمون من بدر ، فحزنا الا يكونا مع المسلمين ، فطمأنهما النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن لهما أجر المقاتلين تماما ، وقسم لهما من غنائم بدر كمن شهده وقد سماه الرسول الكريم يوم أحُد ( طلحة الخير ) وفي غزوة العشيرة ( طلحة الفياض ) ويوم حنين ( طلحة الجود ).
بطولته يوم أحد
في أحد أبصر طلحة -رضي الله عنه- جانب المعركة الذي يقف فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- فلقيه هدفا للمشركين ، فسارع وسط زحام السيوف والرماح الى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرآه والدم يسيل من وجنتيه ، فجن جنونه وقفز أمام الرسول -صلى الله عليه وسلم- يضرب المشركين بيمينه ويساره ، وسند الرسول -صلى الله عليه وسلم وحمله بعيدا عن الحفرة التي زلت فيها قدمه ، ويقول أبو بكر -رضي الله عنه- عندما يذكر أحدا :( ذلك كله كان يوم طلحة ، كنت أول من جاء الى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال لي الرسول ولأبي عبيدة بن الجراح :"دونكم أخاكم " ونظرنا ، واذا به بضع وسبعون بين طعنة وضربة ورمية ، واذا أصبعه مقطوعة ، فأصلحنا من شأنه ).
وقد نزل قوله تعالى :" من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ، ومنهم من ينتظر ، وما بدلوا تبديلا "
تلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه الآية أمام الصحابة الكرام ، ثم أشار الى طلحة قائلا :( من سره أن ينظر الى رجل يمشي على الأرض ، وقد قضى نحبه ، فلينظر الى طلحة ) ما أجملها من بشرى لطلحة -رضي الله عنه- ، فقد علم أن الله سيحميه من الفتنة طوال حياته وسيدخله الجنة فما أجمله من ثواب.
عطائه وجوده
ووهكذا عاش طلحة -رضي الله عنه- وسط المسلمين مرسيا لقواعد الدين ، مؤديا لحقوقه ، واذا أدى حق ربه اتجه لتجارته ينميها ، فقد كان من أثرى المسلمين ، وثروته كانت دوما في خدمة الدين ، فكلما أخرج منها الشيء الكثير ، أعاده الله اليه مضاعفا ، تقول زوجته سعدى بنت عوف :( دخلت على طلحة يوما فرأيته مهموما ، فسألته : ما شأنك ؟ فقال : المال الذي عندي ، قد كثر حتى أهمني وأكربني وقلت له : ما عليك ، اقسمه فقام ودعا الناس ، وأخذ يقسمه عليهم حتى ما بقي منه درهما ).
وفي احدى الأيام باع أرضا له بثمن عال ، فلما رأى المال أمامه فاضت عيناه من الدمع وقال :( ان رجلا تبيت هذه الأموال في بيته لا يدري مايطرق من أمر ، لمغرور بالله ) فدعا بعض أصحابه وحملوا المال معه ومضى في الشوارع يوزعها حتى أسحر وما عنده منها درهم.
وكان -رضي الله عنه- من أكثر الناس برا بأهله وأقاربه ، وكان يعولهم جميعا ، لقد قيل :( كان لا يدع أحدا من بني تيم عائلا الا كفاه مئونته ، ومئونة عياله ) ( وكان يزوج أياماهم ، ويخدم عائلهم ، ويقضي دين غارمهم ) ويقول السائب بن زيد :( صحبت طلحة بن عبيد الله في السفر و الحضر فما وجدت أحدا ، أعم سخاء على الدرهم ، والثوب ، والطعام من طلحة ).
طلحة والفتنة
عندما نشبت الفتنة في زمن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- أيد طلحة حجة المعارضين لعثمان ، وزكى معظمهم فيما ينشدون من اصلاح ، ولكن أن يصل الأمر الى قتل عثمان -رضي الله عنه- ، ل لكان قاوم الفتنة ، وما أيدها بأي صورة ، ولكن ماكان كان ، أتم المبايعة هو والزبير لعلي -رضي الله عنهم جميعا- وخرجوا الى مكة معتمرين ، ومن هناك الى البصرة للأخذ بثأر عثمان.
وكانت ( وقعة الجمل ) عام 36 هجري طلحة والزبير في فريق وعلي في الفريق الآخر ، وانهمرت دموع علي -رضي الله عنه- عندما رأى أم المؤمنين ( عائشة ) في هودجها بأرض المعركة ، وصاح بطلحة :( يا طلحة ، أجئت بعرس رسول الله تقاتل بها ، وخبأت عرسك في البيت ؟) ثم قال للزبير :( يا زبير : نشدتك الله ، أتذكر يوم مر بك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن بمكان كذا ، فقال لك : يا زبير ، الا تحب عليا ؟؟ فقلت : ألا أحب ابن خالي ، وابن عمي ، ومن هو على ديني ؟؟ فقال لك : يا زبير ، أما والله لتقاتلنه وأنت له ظالم ) فقال الزبير :( نعم أذكر الآن ، وكنت قد نسيته ، والله لاأقاتلك ).(/1)
الشهادة
وأقلع طلحة و الزبير -رضي الله عنهما- عن الاشتراك في هذه الحرب ، ولكن دفعا حياتهما ثمنا لانسحابهما ، و لكن لقيا ربهما قريرة أعينهما بما قررا ، فالزبير تعقبه رجل اسمه عمرو بن جرموز وقتله غدرا وهو يصلي ، وطلحة رماه مروان بن الحكم بسهم أودى بحياته .(( الصواب أن قاتله من جيش علي رضي الله عنه وليس مروان ))
وبعد أن انتهى علي -رضي الله عنه- من دفنهما ودعهما بكلمات أنهاها قائلا :( اني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير وعثمان من الذين قال الله فيهم :( ونزعنا ما في صدورهم من غل اخوانا على سرر متقابلين ) ثم نظر الى قبريهما وقال :( سمعت أذناي هاتان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول :( طلحة و الزبير ، جاراي في الجنة ).
قبر طلحة
للمّا قُتِلَ طلحة دُفِنَ الى جانب الفرات ، فرآه حلماً بعض أهله فقال :( ألاّ تُريحوني من هذا الماء فإني قد غرقت ) قالها ثلاثاً ، فأخبر من رآه ابن عباس ، فاستخرجوه بعد بضعة وثلاثين سنة ، فإذا هو أخضر كأنه السِّلْق ، ولم يتغير منه إلا عُقْصته ، فاشتروا له داراً بعشرة آلاف ودفنوه فيها ، وقبره معروف بالبصرة ، وكان عمره يوم قُتِلَ ستين سنة وقيل أكثر من ذلك.
" من سره أن ينظر الى رجل يمشي على الأرض وقد قضى نحبه ، فلينظر الى طلحة " حديث شريف.(/2)
طلعت كالربيع أنفاسها المسكُ
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
ملأ المجرمونَ ويْحَهُمُ الأَرْ ... ... ضَ لهيباً وفتنةً من عَذابِ
ملؤوا الأرضَ زمجرَاتِ وُحُوشٍ ... ... وفحيحاً بين الرُّبى والشِّعَابِ
الذئابُ التي عَوتْ ! وضُباحٌ ... ... مِنْ أفاعٍ ومن عواءِ كِلابِ
أغلقَ المجرمون كلَّ سبيلٍ ... ... لصلاحٍ وأوصدوا كلَّ بابِ
ثمَّ شدّوا على الأيادي وثاقاً ... ... وعلى أَرجلٍ وفوق الرقابِ
أطلقوها على الورى وثباتٍ ... ... من أظافيرهم وعضّةِ نَابِ
لا يُبالون لو تناثرت الأَرْ ... ... ضُ شظايا من فتنة و احْتراب
أو تراها تفجرّتْ بِدماءٍ ... ... مَلأت كلَّ ساحةٍ ودرابِ
أو تهاوت تلك العمائر وانْهـ ... ... ـارتْ على أهلها وفوقَ صحابِ
حَسْبُهُمْ شَهْوَةٌ ومُتعة رجسٍ ... ... ينهبون الأهواءَ أيّ انتهابِ
روّع المجرمون في الأرض أهليـ ... ... ـها وتاهوا على أمانٍ كذابِ
فامرحي يا ذئاب ما شِئْتَ عَوّي ... ... وانْهشي أضلعاً وعضِّي بنابِ
وانبحي يا كلابُ ما شئت جولي ... ... روّعي الناسَ وادخلي كلّ بابِ
وانفُثي السمَّ يا أَفاعي زُعَافاً ... ... في طعامٍ مُطيّبٍ أو شرابِ
وانفثي السمّ يا أفاعي اسكبيه ... ... في عروقٍ غَفَتْ وفي أصلابِ
لكِ حق ! ويالها من حقوقٍ ... ... مَنَحتْها شريعةٌ من غابِ
أطْلَقَ المجرمُون في الأرض زيفاً ... ... من حُقوقٍ لِغاصِبٍ نَهَّابِ
ملؤوا الأرْض حُلكة من ظلامٍ ... ... وهوى فِتْنَةٍ ودنيا خرابِ
ثمَّ قالوا : حرِّيّة وسلامٌ ... ... وإخاءٌ من زخرُفٍ وسَرابِ
ودعاوى عدالةٍ كَذَبَتْ في السـ ... ... ــاح في كلِّ دعوةٍ وخطابِ
من يزيحُ الظلام عن هذه الأر ... ... ضِ ويُزوي بمجرمٍ صخّابِ
إِنّها أُمة الرسالةِ والحـ ... ... ــقِّ وعَهْدٍ مُوَثّق الأسبابِ
أمّة تَحْمِلُ الرسالة للنّا ... ... سِ خشوعاً للخالقِ الوهّابِ
إنها خير أمّةٍ أُخرجَتْ للنّـ ... ... ـاس هَدْياً من سُنّةٍ وكتابِ
طلعتْ كالربيعِ أنفاسُها المـ ... ... ـسكُ وطيبٌ يموجُ بين الروابي
وتراه يرفّ بين ظلالٍ ... ... وجَمالٍ على الروابي مُذابِ
يُشْرِقُ النّصْرُ عِزَةً وسلاماً ... ... من ثنايا ملاحِمٍ وضرابِ
ها هُنا يُنشَرُ السَّلام فَتَغْنى ... ... كلُّ ساح بِنَفْحَةٍ من مَلابِ
ها هنا تلتقي الأُخُوّة والعدْ ... ... لُ وحرِّيَّةٌ وصدقُ خطابِ
إنّه الحقُّ يَمْلأُ الأفْقَ يسري ... ... نورُهُ في تموّجٍ وانسكابِ
فاهنئي يا دُنا ! فما عاد مَكرٌ ... ... من شِعارٍ ولا أمانٍ كذابِ
*** ... ... ***
... ... 7/11/1424هـ
30/12/2003م(/1)
طمس الحقائق
سعد احمد الغامدي
الحمد لله الذي اهتدى بهديه ورحمته المهتدون ، وضلّ بعدله وحكمته الضالون ، { لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون } . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، بلّغ الرسالة ، وأدّى الأمانة ، ونصح الأمّة ، وجاهد في الله حقّ جهاده ، وتركنا على المحجّة البيضاء ، ليلُها كنهارها ، لا يزيغ عنها إلا هالك . صلى الله عليه ، وعلى آله وصحبه وأتباعه ، وسلّم تسليماً كثيراً:
طمس الحقائق وما أدراك ما طمس الحقائق كيد قديم منذو عهده صلى الله عليه وسلم يطمسون الحقيقه ويعلنون غيرها ويسمونها بغير اسمائها سلسله متصله حتى يومنا هذا ولكن الاشنع فى طمس الحقائق فى هذا الزمان ان طمس الحقائق اصبحت بطريقة منظمه ومكائد مخططه بعد ان كانت فى عهده صلى الله عليه وسلم يقوم بها افراد معدودين كشفهم الله جل وعلى لنبيه وعدهم صلى الله عليه وسلم لحذيفه رضى الله عنه .اما فى ذا الزمان فالامر مختلف حيث اصبح لطمس الحقائق منظرون ومدربون ومؤسسات بل وجامعات يتخرج الاف من الناس على العمل على طمس الحقيقه وتغليف الباطل وتزيينه با اغلفه براقه تخدع اعين الدهماء من الناس حتى يروا الحسن قبيح والقبح حسن.
ان المتامل فى حلقاتُ الكيدِ بالمسلمين يرا انها تتتابَع، ومكرُ المتربِّصين يتسارع، وقِوى الحقّ والباطل تتصارع، وصدق الله اذ يقول (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِىّ عَدُوًّا مّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ والْجِنّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ).
وتأتي على الأمّة الفواجعُ والزّوابع لتُظهر دخيلةَ أهل طمس الحقائق وسوءَ طويَّتهم، وتكشفَ رداءَ المداوَرة، وتمزِّق ثوبَ المراوغة، وصدق الله ومن أصدق من الله قيلا: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ وَلَوْ نَشَاء لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُم).
ويأتي الهجومُ المعلَن والعداء المبطَّن على الإسلام وعلمائه وأهله وأسُسِه وثوابته ومناهجِه وبلاده مِن ذوي الفكر المقبوح والتوجُّه المفضوح؛ ليؤكِّد بجلاءٍ أنَّ مِن بين صفوف الأمّة أدعياء أخفياءَ، كاذبون في الولاء والانتماء، سلكوا مسالكَ عدائيّة، وطرحوا في تضاعيف الصّحف أفكارًا علمانيّة لا دينيّة. شمَخَ كلُّ واحدٍ منهم بأنفٍ من الجهل طويل، واحتسى مِن قيح الخُبث وقبيح الأباطيل، ونطق بالزّور وافترى الأقاويل. قومٌ بُهت دنَّسوا وجهَ ما كتبوا عليه من قِرطاس، ولطَّخوه بعقائدِ الشكِّ والجُحود والوسواس. مقالاتٌ شوهاء وكلِمات عرجاء وحماقاتٌ خرقاء. وسبحان ربي اذ يقول
(وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لغلهم يرجعون)
بعد هذه المقدمه اليكم ايها النجباء بعض الصفات الخبيثه لاهل طمس الحقائق اخبرنا بها العالم بما تخفى الصدور الذى لاتخفى عليه خافيه فى الارض ولا فى السماء سبحان وتعالى حتى يحذر المومنين منهم ويكونون على بينه من امرهم.
1-يدعون انهم مؤمنون والله يكذبهم ويقول
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ)
2- يدعون انهم مُصْلِحُونَ والله يكذبهم ويقول
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ)
3- يدعون انهم هم على الحق وان غيرهم سفهاء ولذالك اذا ادعو الايمان قالوا أَنَصِيرُ نَحْنُ وَهَؤُلَاءِ بِمَنْزِلَةِ وَاحِدَة وَعَلَى طَرِيقَة وَاحِدَة وَهُمْ سُفَهَاء والله يكذبهم ويقول
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ)
4- يظهرن بوجهين، ويتكلمون بلسانين، ويمشون بين الفريقين كالشاة حائرة بين القطيعين، تميل إلى هذا القطيع تارة وإلى ذاك أخرى مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء يظهرون الايمان وَالْمُوَالَاة وَالْمُصَافَاة غُرُورًا مِنْهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَنِفَاقًا وَمُصَانَعَة وَتَقِيَّة وَلِيُشْرِكُوهُمْ فِيمَا أَصَابُوا مِنْ خَيْر وَمَغْنَم " وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينهمْ " يَعْنِي إِذَا اِنْصَرَفُوا وَذَهَبُوا وَخَلَصُوا إِلَى شَيَاطِينهمْ يعنى سَادَتهمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ وَرُؤَسَاؤُهُمْ من رؤوس الكفر وقياداته وصناع الفساد وأنصار الباطل ودعاة الفتنة قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ والله يفضحهم ويكشف خبث نياتهم فيقول جل وعلا(/1)
(وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ)
(لَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مّنَ للَّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مّنَ لْمُؤْمِنِينَ) .
5- شجعان في السلم فإذا جد الجد لاذوا بغيرهم ( يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) خوافون جبناء ، ( لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ)
6- يظهرون انهم لايريدون الا الحسنى فايدافعون عن المراة تحت مسمى حاجاتها و حقوقها وهم ينشدون فى الحقيقة التفسخ الأخلاقي بزعمهم تحرير المرأة، لتخرج لتقود السيارة والطياره والدبابه و لابد لها من بطاقة يريدون أن تفسخ المرأة حياءها وأن يحل المجتمع رباط الأخلاق باسم الترفيه والسياحة أو عبر مسلسلات تهدم الدين والخلق والله يفضح مخططهم ويقول جل وعلى ( وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ لْحُسْنَى وَ للَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)
7- يدعون الوطنية والعمل لخير الوطن ويروجونه تحت شعار حب الوطن ويسارعون عند أي حادثة لإبراز ما في قلوبهم من غلٍ وحقد، ويعجبون بقولهم: (وَيُشْهِدُ للَّهَ عَلَى مَا فِى قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ لْخِصَامِ)
8-ادعاء التغاضى والتسامح مع من استهزء بآيات الله فاذا جلس جالسهم مجلساً يسمع فيه آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فيسكت ويتغاضى ملتمساً لنفسه أعذاراً، ومدعياً أنه صوت من التسامح واللباقة والدهاء والكياسة وسعة الأفق وحرية الرأي، وما درى أن هذه هي الهزيمة تدب في أوصاله وتنخر في فؤاده، وما فرق بين حرية الفكر وجريمة الكفر: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى لْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءايَاتِ للَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مّثْلُهُمْ إِنَّ للَّهَ جَامِعُ لْمُنَافِقِينَ وَ لْكَافِرِينَ فِى جَهَنَّمَ جَمِيعاً ) .
9- يأتون بظواهر العبادات خاليه جوفاء من الايمان والخشوع وقد قام بهم الرياء وهو أقبح مقام، وقعد بهم الكسل، وهو بئس القعيد (وَإِذَا قَامُواْ إِلَى لصَّلاةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَاءونَ لنَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ للَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً ) . تكاسلاً وثقلاً وشحاً وبخلاً لا يرجون ثواباً ولا يخشون عقاباً، فيهم من تلبس بالغش والخديعة حتى أصبح لا يؤمن جانبه، لا يبالي أن يخلف وعداً، وينكث عهداً، ولا يتورع عن ظلم الغير أو الاستيلاء على الأموال والحقوق العامة والخاصة لا يزغه إيمان ولا حياء عن الخيانة فيما ائتمن عليه، يخادع الناس بكلامه ولطافة خلقه، ولكن بخلاف ما يظهر، قد امتلأ قلبه حقداً وغلاً ومراوغة، يبيع دينه بعرض من الدنيا ويهدر كرامته في سبيل غرض شخصي أو حاجة دنيوية غير مبالٍ بحرمة فعله وعظيم إثمه (إِذْ يَقُولُ لْمُنَافِقُونَ وَ لَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ )
10- لا يعتبرون من الفتن، ولا يرجعون عند الكوارث ولا يستفيدون من الحوادث يصف الله حالهم بقوله جل وعلا (أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ) .
11- الأيمان الكاذبة مركبهم، والحلف الفاجر وقايتهم، وَيَحْلِفُونَ عَلَى لْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ . ويقولالله تعالى فى هم: ( تَّخَذْواْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً ).
12- الاتصال بأعداء الله وأعداء المؤمنين، ويودون لو تولى العدو أمر المسلمين، وتصرف في شؤونهم ودولهم وأن تكون الغلبة له، والى هذا يشير سبحانه وتعالى (بَشّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ).
هذه بعض صفات اهل طمس الحقائق واجزم ان هناك صفات اخرى ولكن يكفى من السوار ما احاط باالمعصم
ايه الاخوة(/2)
إن بلية الإسلام بهم – كما يقول الإمام شمس الدين ابن القيم رحمه الله – شديدة، لأنهم منسوبون إليه وهم أعداؤه على الحقيقة، يخرجون عداوته في كل قالب، حتى ليظن الجاهل أنهم على علم وإصلاح، فلله كم من معقل للإسلام قد هدموه، وكم من حصنٍ قد قلعوا أساسه وخربوه، وكم من علم طمسوه، وكم من لواء مرفوع قد وضعوه، وكم ضربوا بمعاول الشبه في أصول رأسه ليقلعوها، استعان بهم الشيطان على الفتن والتحريش في تاريخ الإسلام العريض، وما كثر القتل وتعددت الأهواء، وانتشرت المذاهب الباطلة، والسبل الضالة، إلا بما وضعوه من التفسيرات المنحرفة والتأويلات المتعسفة، وما عبثوا به من المصطلحات وزيفوا من المبادئ، وفي أخبار الزنادقة ومن لف لفهم ممن يظهر الإسلام ويبطن الكفر ما يدل على عظيم البلاء وخطر الابتلاء، فلا يزال الإسلام وأهله في محنة وبلية، ما أكثرهم وهم الأقلون، وما أجبرهم وهم الأذلون، وما أجهلهم وهم المتعلمون: (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مّنكُمْ وَلَاكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ) .
فالله وحده المستعان على ما يصفون وعليه التكلان فيما يجترؤون. اللهم طهر قلوبنا من النفاق وأعمالنا من الرياء وألستنا من الكذب وأعيننا من الخيانة.
امام وخطيب جامع الامير محمد بن فهد
سعد احمد الغامدي
الظهران الدانه(/3)
طوفان
محمد المجذوب
قيل إن الصاروخ معجزةُ العصر ومجلى تفوقِ iiالإنسانِ
قلتـ: حقاً.. لكنَّ أعجب منه سَبْقُه في عوالم البهتان
ذرع الأرض بالأباطيل حتى لم يدع لليقين بعض iiمكان
وعلى جثةِ العدالة باسم العدل أرسى قواعد iiالطغيان
فإذا الناس والعقائدُ والأخلاقُ "نردٌ" في راحتي iiأُلعُبان
.. موجةٌ للفسادِ والزيف لم يحلم بها قطُ مصنع iiالشيطان
شوهت فطرةَ العقولِ ولما تألُ هدماً في بنيه الوجدان
فإذا "الطيبون" في قبضةِ الظلم سياط على القلوب iiالحواني
وإذا "المبصرون" في غمرة التضليل عُميٌ في خدمة الأوثان
وإذا إخوة العقيدة بالأمس حِرابٌ في مُهجةِ ii"الإخوان"
وإذا المجرمون في ظلمة التزوير ينبوع رحمةٍ iiوأمان
ودعاةُ الإيمان في منطق البغي غُواةٌ يقودهم كل جاني!!
... لم يعد للسلامِ والوعيِ والحق نصيبٌ في ذلك iiالطوفان
كان يوم الكذابِ أول نيسانَ فعمَّ الكذابُ كل iiزمان
* * ii*
.. لا تقولوا الصاروخُ معجزةُ العصر فما تستسيغ ذا iiأذُنان
إنما بدعة العصور جميعاً ما تعاني عقولنا من iiهوان(/1)
طويت الصفحات
آخر النظرات
تلك اللحظة التي يلقي فيها الإنسان آخر النظرات على الأبناء والبنات والإخوة والأخوات يلقي فيها آخر النظرات على هذه الدنيا وتبدو على وجهه معالم السكرات وتخرج من صميم قلبه الآهات والزفرات.
( و جاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد )
............
بداية الرحلة
( كل نفس ذائقة الموت )
إنها بداية الرحلة إلى الدار الآخرة.... إنها بداية عظيمة.... إذا ضعف جنانك وكثرت خطوبك إذا عرضت عليك عند كشف الغطاء ذنوبك فتخيل نفسك طريحاً بين أهلك وقد وقعت في الحسرة وجفتك العبرة وثقل منك اللسان واشتدت بك الأحزان وعلا صراخ الأهل والإخوان ويدعى لك الأطباء ويجمع لك الدواء فلا يزيدك ذلك إلا هما وبلاء
..........
ماذا تتمنى ؟
الله أكبر من ساعة تطوى فيها صحيفتك إما على الحسنات أو على السيئات.... تتمنى حسنة تزاد في الاعمال... تتمنى حسنة تزاد في الأقوال.... تتمنى صلاح الأقوال والأفعال ( ربي لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين )... تحس بقلب متقطع من الألم ... تحس بالشعور والندم أن الأيام انتهت وأن الدنيا قد انقضت.
..........
يصلون عليك
( كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام )
لا حول ولا قوة إلا بالله سكنت الحركات... وخمدت النبضات وغدت جثة هامدة لا روح فيها كأن لم تغن فيها.... عبدالله .. تخيل نفسك هذه الجثة التي يصلى عليها الآن... إنها لحظة رهيبة... كيف حالك.... إلى أين مآلك ... ما هي أمنياتك.... تصور أن المسلمين الآن يصلون عليك.... عليك أنت
..........
وحملوها على الأعناق
وصلى المسلمون على الجنازة وحملوها على الاعناق... إن كانت صالحة قالت: قدموني قدموني... وإن كانت غير ذلك قال: يا ويلها أين تذهبون بها... إلى المقبرة هناك حيث التربة... حيث الغربة.... حيث الجماجم... حيث الدود.... حيث القبور... أول منازل الآخرة
..........
بيت الغربة
ثم ألبسوك الكفن وحملت وأخرجت من بين أحبابك وجهزت لترابك وأسلمت إلى الدود وصرت رهيناً بين اللحود وصار القبر مأواك إلى يوم القيامة ومثواك....
( لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد )
.........
أول مراحل الآخرة
فلا إله إلا الله من ساعة نزلت فيها أول مراحل الآخرة واستقبلت الحياة الجديدة فإما عيشة سعيدة أو عيشة نكيدة... إنها اللحظة التي يحس الإنسان فيها بالحسرة والألم على كل لحظة فرط فيها في جنب الله
( حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت، كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون )
..........
ينادي فلا مجيب
فلا إله إلا الله من دار تقارب سكانها وتفاوت عمارها فقبر يتقلب في النعيم والرضوان العظيم... وقبر في دركات الجحيم والعذاب المقيم ينادى ولا مجيب ويستعتب ولا مستجيب... انقطعت الأيام بما فيها وعاين الإنسان ما كان يقترفه فيها
.........
كل هذه الجموع
إنه يوم تجتمع فيه الخصوم وينصف فيه الظالم من المظلوم فتنشر فيه الدواوين لحكومة إله الأولينوالآخرين... كل هذه الجموع وكل هذه الأمم أقيمت في ذلك المشهد العظيم لكي تنهال عليها الأسئلة وتعد لها درجاتها ودركاتها بما تجيب هناك
( يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء ، لمن الملك اليوم لله الواحد القهار، اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم، إن الله سريع الحساب )
..........
قم للعرض
هناك حيث تقف بين يدي الله والشهود حاضرة والعيون إلى الله ناظرة.... هناك حيث يوقف العبد بين يدي الله جل جلاله... فينادي منادي الله.... يا فلان ابن فلانة قم للعرض على الله فلا ينادى أحد بأبيه لكي تزول الأحساب والأنساب
( فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون )
.........
فماذا تختار
ها أنت قد علمت أن الموت مصير كل حي سوى الله وكل منا سيصل يوماً ما إلى اليوم الأخير من حياته.... صبح ليس بعده مساء.... ومساء ليس يليه صبح ...!!!
وتبدأ تلك السلسلة الرهيبة من الاحداث العظام عبر (( الموت )) بوابة الدار الآخرة ولا ينتظر المرء بعد موته إلا جنة نعيمها مقيم أو نار عذابها أليم
فماذا تختار ؟؟؟
أبوعبدالرحمن(/1)
طيوف الأعْراسِ والأَجْوَادِ في أفغانستان
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
يَا دِيَارَ الأَفغان ! يَا قِمَمَ المَجَـ
ـدِ ! حَنِينَ الآبَاءِ و الأَجْدَاد !
كُلَّ يَوْمٍ عَلى مِرَابِعِكِ الحُمْـ
ـرِ طُيوفُ الأَعْراسِ والأَعْيَادِ
كُلُّ " زغْرودَة " تَضُمُّ شَهيداً
لِشهَيدٍ بَمَوكِبٍ صعّادِ
يَا جِبَالَ الأَفْغَان ! يا قَلْعَة المَو
تِ ! وَيَا حِصْنَ أُمَّةٍ وَبِلادِ !
عَزْمَةُ مِنْ رِجَالِهَا وَهَبَتْهَا
مَنْعَةً والهُدَى وخَفْقَ صِعَادِ
يَا جَلالَ الإِيمانِ بالله يُعْطِي
مَنْعَةً في مواقِعٍ وَزِنَادِ
قِمَمَ المَجْدِ ! ما رأَيْتُكِ إِلاَّ
صَاعِدَاتٍ إلى عُلاً وارْتِيادِ
وكَأَنّي أرَى الذُّرا وَثَباتٍ
في سياقٍ وَلَهْفَةٍ وامْتِدَادِ
لَمْ تَزَلْ في سِبَاقِهَا مُشْرِقَاتٍ
عَجَزَ الشَّوقُ عَنْ لِحَاقِ جِيادِ
*
*
*
يَا رُبُوعَ الأفْغَانِ ! إِنَّ هَوَانا
شَبَّ في صِدْقِهِ وطيب جِهَادِ
بَيْنَنَا مِنْ وشائجِ الدِّيْنِ قُرْبَى
وَحِبَالٌ مِتِينَةُ مِنْ وِدَادِ
أَنْتِ "أَرْضُ الشُّمُوس" ،" لأْلأة النُّو
رِ " نِدَاءُ الوَفَاء ، زَهْوَةُ حَادِ
أَنْتِ مَيْدَانُنَا الغَنيُّ عَلَيْه
من عَطاءِ التَّاريخ وَفْرَةُ زَادِ
كُلَّمَا مَرّتِ العُصُورُ عَلَيْه
وَهَبَتْهُ مِنْ طارِفٍ وتِلادِ
مِنْ سَنا لُؤْلُؤٍ وَمَاسَةِ " كوهي "
وَبَرِيقٍ مُمَوَّجٍ واتِّقَادِ (1)
فَأَتَى " مَوْكِب الهُدَى " فَحَبَاهَا
آيَةً مِنْ جَوَاهِرٍ وَقِلادِ
فَخَبَتْ كُلُّ مَاسَةٍ حَمَلَتْهَا
وَزَهَتْ مَاسَةُ التُّقَى والرّشادِ
جَوهَرُ مِنْ رَوائعِ الحُسْنِ أَخَّا
ذٌ وَآيٌ ماضٍ مَعَ الآمَادِ
أَيُّ حُسْنٍ أَجَلُّ مِنْ آي حَقٍّ
وَكِتَابٍ وَسُنَّةٍ واجْتهَادِ
في مُحَيَّاكِ طَلْعَةُ الحُسْنِ رَفَّثْ
وَعَلى مِعْصَمٍ وَفي أَجْيَادِ
وَعَلى تاجِكِ المُنَّور غَارُ
مِن فُتُوحٍ وَحِليَةُ مِنْ جِلادِ
فإذَا أَنْتِ يا رُبُوعُ عَروسُ
مَهْرُهَا في الوَغَى وفي استشْهَادِ
وَلَيَالي أَفراحِها خَطَراتُ
بَيْنَ وَمْضِ القَنَا وَوَقْدِ زِنَادِ
*
*
*
أَيُّ نُورٍ سَرَى بأَرضِكِ يُحُيي
مُهَجاً أَسْلَمتْ لِرَبِّ العِبَادِ
كُلَّ يَومٍ نَرَى عطاءَكِ فَذّاً
في مَيَادِينِ حِكْمَةٍ وَجِهَادِ
فادْفَعِيهَا على الميادين ، جَلِّي
مِنْ بُطُولاتِها ومِنْ أمْجَادِ
مِنْ إِمَامٍ عَلى " الحديثِ " مُقِيمٍ
وَإِمَامٍ عَلى لِسَانِ الضَّادِ
وَرِجال تَخَاطَفَ المَوْتُ مِنْهُمْ
أَنْفُساً في مَلاحِمٍ وَطِرادِ
فإِذَا أَنْتِ مَطْمَعٌ لِحَسُودٍ
وإذ أَنْتْ لَهْفَةُ القُصَّادِ
فَامْلأي الأُفْقَ مِنْ رِجَالِكِ هُزِّي
مِنْ جِبَالٍ وَزَلْزِلي مِنْ أَعَادِي
وادْفَعي وَثْبَةً إِلى الحَقِّ وابْني
شَامخَاتٍ عَلى الذُّرَا والوِهَادِ
واصْهَري في لَهِيْبِهَا "جُنْحَةَ الشَّـ
ـوقِ" وضُمِّي الأَبْنَاءَ في الأكْبَادِ
واجْعَليهَا بِرَحْمَةِ الله صَفَّا
لَم تُمزِّقْهُ نَزْوَةُ الحُسّادِ
أَنتِ أَقَوَى من العَدُوِّ وأَعْلى
بِيَقينٍ بالله ، باسْتِشْهَادِ
أَنتِ رُوحٌ سَرَى ، أَعِيدي إِليْنا
نَبَضَاتِ العُروق والأَجسَادِ
*
*
*
1412هـ
1991م ... ... ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· ملحمة الجهاد الأفغاني .
(1) " ماسة كوهي " : وتسمّى " كوهي نور " وهي ماسة مشهورة في الهند وقعت في يد " نادر شاه " ملك الأفغان حين توجه إلى الهند ليقضي على إمبراطورية المغول في جيش عدده (80.000) ثمانون ألف جندي . فانتصر عليهم في " كارنال " ووقعت بيده كنوز ضخمة ومنها هذه الماسة العجيبة . كما حمل معه " عرش الطاووس " الذي لا يزال في طهران ويتوج عليه ملوك الفرس . ثم استولى على هذه الماسة بعد ذلك " رانجي سينيخ " حاكم البنجاب حين طلب " شاه شجاع " حاكم أفغانستان مساعدته فخدعه وسرق الجوهرة ولم يسعفه . وأعني بهذا البيت أن الأيام قد تحمل لأفغانستان مثل هذه الماسة ولكن ماسة التقوى والإيمان أعظم بكثير حتى تبهت أمامها أي ماسة مهما كانت عظيمة .(/1)
طَلَل
عمر أبو ريشة
"مر بصرح روماني قديم، لا يستطيع غير الظن أن يتحدث عن ماضيه، واسترعى انتباهه خلوه من الشوك وتألق ترابه النظيف. فقال في نفسه إن الموت يقف أمام ضحيته، مجروح الكبرياء، لأنه لا يستطيع أن يفتك بها أكثر مما فتك."
يَغيبُ به المرء عن iiحسّه
أعاليه تبحث عن أُسّه
وأسأل يوميَ عن أمسه
وتغفو الجُفونُ على iiأُنسه؟
وتجري المقاديرُ في iiنحسه؟
وأستنهض الميْتَ من رَمْسِه؟
تكاد تحدّثُ عن iiبؤسه
ولا ينعب البومُ في iiرأسه
تريد التفلّت من iiحبسه
وباتت تخاف أذى iiلمسِه
وينتحرُ الموتُ في يأسه ... قفي قدمي، إن هذا iiالمكان
رمالٌ، وأنقاضُ صرحٍ iiهوتْ
أقلّب طرفي به iiذاهلاً
أكانت تسيلُ عليه iiالحياة
وتشدو البلابلُ في iiسَعدهِ
أأستنطق الصخرَ عن iiناحتيهِِ
حَوافرُ خَيلِ الزّمانِ iiالمُشتّ
فما يرضعُ الشوكُ من صدره
وتلك العناكبُ iiمذعورةٌ
لقد تعبتْ منه كفُّ الدَّمار
هنا ينفُض الوهمُ iiأشباحَهُ(/1)
طُرق اختيار وتولية الخلفاء الراشدين
د. التاج إبراهيم دفع الله أحمد*
(دراسة تحليلية)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد:
فإنَّ من الموضوعات المهمة في زماننا هذا وفي كل زمان التعريف بالطريقة الصحيحة التي يتم بها اختيار الخليفة أو الحاكم أو رئيس الدولة، وأفضل القرون التي مرَّت على الأُمَّة الإسلامية، هو قرن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وبعده الخلفاء الراشدين الأربعة. لذا فإنِّي سأتناول في هذا البحث الطريقة التي تمت بها تولية كل من الخلفاء الراشدين الأربعة، في المباحث التالية:
المبحث الأول: مرحلة تولية أبي بكر الصديق رضي الله عنه .
المبحث الثاني: مرحلة تولية عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
المبحث الثالث: مرحلة تولية عثمان بن عفان رضي الله عنه .
المبحث الرابع: مرحلة تولية علي بن أبي طالب رضي الله عنه .
وأختم البحث بخاتمة ألخِّص فيها أهم النتائج التي توصّلت إليها.
ولكني أرى في البدء أن أنبِّه إلى الحقائق التالية:
[1] أنَّ الخليفة وكيل الأُمَّة في حراسة الدين والدفاع، عنه وفي إدارة شؤون الدولة.
[2] أنه يستمد سلطانه أو سيادته من الأُمَّة التي يمثلها، والتي وكَّلته في القيام بمهام منصبه.
[3] أنَّ عقد الوكالة مثله مثل سائر العقود، يقوم على إيجاب من الأصيل وقبول من الوكيل.
[4] أنَّ الوكيل ينعزل بعزل موكِّله، كما تنتهي وكالته بموته هو، وكذلك ليس له أنْ يقيم غيره مقامه إلاَّ برضا الأُمَّة وموافقتها.
المبحث الأول
مرحلة تولية أبي بكر الصديق
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرى أنَّ أحق الناس بخلافته في أمته هو أبو بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه ، وله في ذلك إشارات كثيرة رواها رجال التاريخ الثقات، كما رواها أصحاب الطبقات، ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم : (لو كنت متخذاً خليلاً غير ربِّي لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أُخوَّة في الإسلام ومودَّة)(
[1])، وقوله أيضاً: (أرحم أُمتي بأمتي أبو بكر)([2]).
وفي هذا أيضاً يروي الإمام البخاري عن جبير بن مطعم عن أبيه (رضي الله عنهما) قال: أتت النبي صلى الله عليه وسلم امرأة فكلَّمته في شيء، فأمرها أنْ ترجع إليه، فقالت: يا رسول الله أرأيت إنْ رجعت فلم أجدك كأنها تريد الموت ـ وفي رواية أخرى كأنها تعرض بالموت ـ قال: (إنْ لم تجديني فأتِ أبا بكر)([3]).
بل إنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد هَمَّ فعلاً بالعهد إلى أبي بكر بالخلافة بعده، وفي هذا يروي البخاري أنَّه صلى الله عليه وسلم قال في حديث له: (لقد هممتُ أو أردتُ أنْ أرسل إلى أبي بكر وابنه فأعهد، أنْ يقول القائلون أو يتمنى المتمنون، ثم قلت: يأبى الله ويدفع المؤمنون، أو يدفع الله يأبى المؤمنون)([4]).
وفي أثر آخر أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال للسيدة عائشة (رضي الله عنها) لما مرض: (لقد هممت ـ أو أردت ـ أن أرسل إلى أبي بكر وابنه فأعهد، أن يقول القائلون، أو يتمنى المتمنُّون، ثم قلت: يأبى الله، ويدفع المؤمنون ـ أو يدفع الله ويأبى المؤمنون ـ)([5]).
وعن ابن أبي مليكة قال: سمعت عائشة (رضي الله عنها) وقد سُئلت: يا أم المؤمنين من كان رسول الله مستخلفاً لو استخلف؟ قالت: "أبا بكر، ثم قيل لها: مَنْ بعد أبي بكر؟ قالت: عمر .....إلخ"([6]).
هكذا كان رأي الرسول عليه الصلاة والسلام في أبي بكر، وأنه أحق الناس بخلافته من بعده، وهو بلا ريب كان رأي المسلمين جميعاً، فإذا بويع بالخلافة كان ذلك أمراً طبيعياً، وكان أمراً يتقبله المسلمون أحسن قبول.
وبعد هذا ننتقل إلى خطوة أخرى لنرى كيف واجه المسلمون الأمر بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكيف عالجوا هذه المشكلة التي لم يكن لهم بمثلها عهد من قبل، ولنعرف كيف نجحوا في علاجها (في سقيفة بني ساعدة) علاجاً باهراً جعل المستشرق "ماكدونالد" يقول: "إنَّ اجتماع السقيفة يذكرنا إلى حد بعيد بمؤتمر سياسي دارت فيه المناقشات وفق الأساليب الحديثة، ولنعرف أخيراً كيف تمت ولاية أبي بكر أمر المسلمين"([7]).
وبعد فقد حفلت كتب التاريخ والسُّنَّة المعتمدة برواية ما كان في اجتماع السقفية بشأن اختيار خليفة لرسول الله([8]).
وإنْ كان الباحث لا يستطيع أنْ يطمئن كل الاطمئنان إلى كل ما رُوِيَ عن الاجتماع الخطير والنصوص التي تبودلت بين المهاجرين وبين الأنصار وألفاظها، فإنَّ الإنسان عرضة دائماً للنسيان، وإنْ كان من أقوى الناس حافظة وذاكرة.
لكن فقد روى الإمام محمد بن إسماعيل البخاري في صحيحه قال: اجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة ـ كان سيد الخزرج ـ رضي الله عنه في سقيفة بني ساعدة فقالوا: منَّا أمير ومنكم أمير، فذهب إليهم أبو بكر وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجرَّاح، فذهب عمر يتكلَّم فأسكته أبو بكر، وكان عمر يقول: والله ما أردتُ بذلك إلاَّ أنِّي قد هيأتُ كلاماً قد أعجبني خشيتُ ألا يبلغه أبو بكر.(/1)
فتكلَّم أبو بكر، فتكلَّم أبلغ الناس فقال في كلامه: نحن ـ أي المهاجرين ـ من قريش الأمراء، وأنتم الوزراء، فقال الحباب بن المنذر: لا والله لا نفعل، منَّا أمير ومنكم أمير، فقال أبو بكر: لا ولكنا الأمراء وأنتم الوزراء، هم ـ يريد المهاجرين من قريش ـ أوسط العرب داراً، وأعربهم أنساباً، فبايِعوا عمراً أوأبا عبيدة.
فقال عمر: بل نبايعك أنت، فأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذ عمر مبايعته وبايعه الناس، فقال قائل: قتلتم سعد بن عبادة، فقال عمر: قتله الله.
هكذا روى البخاري ما كان من بيعة أبي بكر([9])، وقريب منه ما رواه ابن سعد في طبقاته.
ولكن نرى من الخير أنْ نوضِّح ذلك إذ يروي ابن سعد عن إبراهيم التيمي: لما قُبضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى عمر أبا عبيدة بن الجرَّاح فقال: (ابسط يدك لأبايعك، فإنَّك أمين هذه الأُمَّة على لسان رسول الله)، فقال أبو عبيدة لعمر: (ما رأيت لك فهَّة([10]) قبلها منذ أسلمت، أتبايعني وفيكم الصِّدِّيق وثاني اثنين؟!)([11]).
أخبرنا أبو عون عن محمد قال: لما توفى النبي صلى الله عليه وسلم أتوا أبا عبيدة فقال: أتأتونني وفيكم ثالث ثلاثة؟! قال أبو عون: قلت لمحمد: ما ثالث ثلاثة؟ قال: ألم تر إلى تلك الآية (ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا)[12]).
وعن عبد الله بن عباس قال: سمعتُ عمر بن الخطاب ـ وذكر بيعة أبي بكر ـ فقال: "وليس فيكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر"([13]).
وعن القاسم بن محمد أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لما توفى اجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة، فأتاهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح. قال: فقام الحباب بن المنذر ـ وكان بدرياً ـ فقال: منَّا أمير ومنكم أمير، فإنَّا والله ما ننفس هذا الأمر عليكم أيها الرهط، ولكنَّا نخاف أنْ يليها ـ أو قال يليه ـ أقوام قتلنا آباءهم وإخوتهم، فقال له عمر: إذا كان ذلك فَمُتْ إنْ استطعت، فقال أبو بكر: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، وهذا الأمر بيننا وبينكم نصفين، كقدَّ الأبْلُمة ـ يعني الحوصة ـ. فبايع أول الناس بشير بن سعد أبو النعمان([14]).
وينبغي أنْ نلاحظ هنا قول البخاري: فأخذ عمر بيده فبايعه الناس، أي أنَّ بيعته كانت عامة.
ذكر الإمام الطبري في حديث طويل له رواه بسنده، أنه لما قُبِضَ النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة "11هـ" اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة وقالوا: نولي هذا الأمر بعد محمد صلى الله عليه وسلم سعد بن عبادة، وأخرجوه إليهم وهو مريض، وأخذوا يتداولون في الأمر وفيما يقولونه للمهاجرين.
وأتى عمر الخبر فأقبل إلى منزل النبي صلى الله عليه وسلم ، فأرسل إلى أبي بكر وكان في الدار هو وعلي بن أبي طالب ـ في شغل بجهاز الرسول صلى الله عليه وسلم ـ أن اخرج فقد حدث أمر لا بُدَّ لك من حضوره، فخرج إليه فقال له عمر: أما علمت أنَّ الأنصار قد اجتمعت في سقيفة بني ساعدة يريدون أنْ يولوا هذا الأمر سعد بن عبادة، وأحسنهم مقالة من يقول: مِنَّا أمير ومن قريش أمير؟
فخرجا إليهم ولقيا أبا عبيدة بن الجرَّاح في الطريق، فصحبهما إلى اجتماع الأنصار، وأراد عمر أنْ يتكلَّم كلاماً رآه من قبل، فقال له أبو بكر: رويداً حتى أتكلَّم، فبدأ أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنَّ الله بعث محمداً رسولاً إلى خلقه، وشهيداً على أمته، ليعبدوا الله ويوحدوه، وهم يعبدون من دونه آلهة شتى، ويزعمون أنها لهم عنده شافعة، وإنما هي حجر منحوت وخشب منجور، ثم قرأ (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله)( [15])، وقالوا(مانعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى )([16]).
فعظم على العرب أنْ يتركوا دين آبائهم، فجعل الله المهاجرين الأولين من قومه بتصديقه والإيمان به، والمواساة له، والصبر معه، على شدة أذى قومهم لهم وتكذيبهم إياهم، وكل الناس لهم مخالف...فهم أول مَنْ عَبَدَ الله في الأرض، وآمن بالله وبالرسول، وهم أولياؤه وعشيرته، وأحق الناس بهذا الأمر من بعده، ولا ينازعهم ذلك إلاَّ ظالم.
وأنتم يا معشر الأنصار مَنْ لا ينكر فضلهم في الدين ولا سابقتهم العظيمة في الإسلام رضيكم الله أنصاراً لدينه ورسوله، وجعل إليكم هجرته، وفيكم جلة أزواجه وأصحابه، فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا بمنزلتكم، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء، لا تفتاتون في مشورة ولا نقضي دونكم الأمور.
ثم قام الحباب بن المنذر فتكلَّم طالباً من الأنصار أنْ يملكوا عليهم أمرهم، فإنه لن يجترئ مجترئ على خلافهم، وإنَّ الناس لن يصدروا إلاَّ عن رأيهم، لأنهم أهل العز والثروة، وأُلوا العدد والمنعة، وذووا البأس والنجدة ثم قال: أبى هؤلاء إلاَّ ما سمعتم، فَمِنَّا أمير ومنكم أمير.(/2)
فما كان من عمر إلاَّ أنْ رَدَّ عليه: هيهات لا يجتمع اثنان في قرن([17])، والله لا ترضى العرب أنْ يؤمروكم ونبيهم من غيركم، لكن العرب لا تمتنع أنْ تولي أمرها مَنْ كانت النبوة فيهم وولى الأمر منهم، ولنا بذلك على مدى مَنْ أتى من العرب الحُجَّة الظاهرة والسلطان المبين، مَنْ ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته؟! ونحن أولياؤه وعشيرته، إلاَّ مدل باطل، أو متجانب لإثم، أو متورط في هلكة.
فَرَدَّ الحباب على مقالة عمر رداً شديداً، ولكن البحث العلمي يقضينا الإتيان بنصه وذلك إذ يقول: "يا معشر الأنصار املكوا على أيديكم، ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر، فإنْ أبوا هذا ما سألتموه فأجلوهم عن هذه البلاد، وتولوا عليهم هذه الأمور، فأنتم ـ والله ـ أحق بهذا الأمر منهم، فإنه بأسيافكم دان لهذا الدين من دان ممن لم يكن يدين، أنا جذيلها([18]) المحكك وعذيقها([19]) المرجَّب([20])، أما والله إنْ شئتم لنعيدها جذعة.
فقال عمر: إذاً يقتلك الله. قال: بل إياك يقتل. فقال أبو عبيدة: يا معشر الأنصار، إنكم أول من نصر وآزر، فلا تكونوا أول من بدَّل وغيَّر.
ثم قام بشير بن سعد من الأنصار ـ وهو أبو النعمان بن بشير ـ فقال: يا معشر الأنصار إنَّا والله لئن كنا أولي فضيلة في جهاد المشركين وسابقة في هذا الدين ما أردنا به إلاَّ رضا ربنا، وطاعة نبينا، والكدح لأنفسنا، فما ينبغي لنا أنْ نستطيل على الناس بذلك، ولا نبتغي به من الله عرضاً، فإنَّ الله ولي المنة علينا بذلك، ألا أنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم من قريش، وقومه أحقُّ به وأوْلَى، وأيم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر أبداً، فاتقوا الله، ولا تخالفوهم، ولا تنازعوهم.
فقال أبو بكر: هذا عمر وهذا أبو عبيدة فأيهما شئتم فبايعوا، فقالا: لا والله لا نتولى هذا الأمر عليك، فإنك أفضل المهاجرين وثاني اثنين إذ هما في الغار، وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل دين المسلمين، فمن ذا ينبغي له أنْ يتقدمك أو يلي هذا الأمر عليك، أبسط يدك نبايعك.
فلما ذهبا إليه ليبايعاه سبقهما إليه بشير بن سعد فبايعه، ثم قام إليه الأوس جميعاً فبايعوه، وذلك حيث رأوا ما صنع بشير وما تدعو إليه قريش وما تطلب الخزرج من تأمير سعد بن عبادة، وبهذا انكسر الأمر على سعد بن عبادة وعلى الخزرج جميعاً.
ثم أقبلت "أسلم" بجماعتها حتى ضاقت بهم السكك فبايعوا أبا بكر، ثم أقبل الناس من كل جانب فبايعوه أيضاً"([21]).
وكان بعد ذلك أنْ جلس للناس فبايعوه جميعاً ومنهم علي بن أبي طالب ابن عم الرسول وزوج ابنته، فإنه أقبل على البيعة راضياً حين رأى أنَّ كلمة المهاجرين والأنصار قد اجتمعت عليه، فلم يرض لنفسه أنْ يخالف ما أجمع عليه المسلمون([22]).
إنَّ الإمام علياً رضي الله عنه لم يتخلف عن البيعة ستة أشهر، ثم بايع مكرهاً بعد تهديد سيدنا عمر رضي الله عنه على الرغم مما يقوله بعض الرواة، ولكنه ـ كما قلنا ـ بايع كما بايع غيره حين عرف اجتماع المسلمين على بيعة الصديق، لأنه ما كان ليرضى أنْ يخالف ما رضيه المهاجرون والأنصار جميعاً([23]).
وهكذا تمت بيعة أبي بكر العامة، وإنْ قال عمر: "إنَّ بيعة أبي بكر كانت فلتة وقَّى الله شرها". وذلك لأنها لم تكن في أول أمرها عن تشاور هادئ، ولكن المسلمين لم يترددوا فيها، بل أقبلوا عليها بعد أنْ وضح الأمر لهم راضية بها قلوبهم طيبة بها نفوسهم، وفيها كان الخير العام للأُمَّة الإسلامية جميعاً([24]).
المبحث الثاني
مرحلة تولية عمر بن الخطاب
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الفاروق: (إنَّ الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه)([25])، ويقول أيضاً: (لقد كان فيمن قبلكم محدثون ـ أو "ملهمون" في رواية أخرى ـ فإنْ كان في أمتي فعمر)([26]).
ومن هذا نعلم أيّ منزلة كانت لسيدنا عمر رضي الله عنه لدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد استحق هذه المنزلة لإصابته الحق، وشجاعته في الدفاع عن الدين وانتصاره له، وإخلاصه للإسلام والمسلمين.
لهذا كانت الأنظار تتطلع إليه في كل حال، يطلب رأيه في مشكلات الأمر في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وخلافة الصديق الذي كان وزيراً له يعينه على ما حمله من أمور المسلمين.
ولما أحسًّ أبو بكر رضي الله عنه أنَّه يلقى ربه جمع الناس وقال لهم: "إنه قد نزل بي ما ترون، ولا أظنني إلاَّ ميتاً لما بي من المرض، وقد أطلق الله إيمانكم من بيعتي، وحَلَّ عنكم عقدتي، وَرَدَّ عليكم أمركم، فأْمِّرُوا عليكم من أحببتم، فإنكم إنْ أمَّرتم في حياتي كان أجدر ألا تختلفوا بعدي"([27]).(/3)
ولما لم يجمع المسلمون على إسناد الأمر لواحد منهم؛ رجعوا إلى سيدنا أبي بكر ووكلوه في أنْ يختار لهم من يرى منه الخير لهم وللدين، فطلب إمهاله حتى ينظر لله ولدينه ولعباده، وحينئذ مَدَّ استشارته لأولي الرأي وكبار الصحابة، فجعل يدعوهم واحداً بعد الآخر ليقف على آرائهم في هذا الأمر الجلل، وهنا نترك الحديث لابن سعد إذ يقول: "إنَّ أبا بكر لما استعز به ـ اشتد به المرض ـ دعا عبد الرحمن بن عوف فقال: أخبرني عن عمر بن الخطاب، فقال عبد الرحمن: ما تسألني عن أمر إلاَّ وأنت أعلم به مني فقال أبو بكر: وإنْ، فقال عبد الرحمن: هو والله أفضل من رأيك فيه.
ثم دعا عثمان بن عفان فقال: أخبرني عن عمر، فقال: أنت أخبرنا به فقال: على ذلك يا أبا عبد الله، فقال عثمان: اللهم علمي به أنَّ سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا مثله، فقال أبو بكر: يرحمك الله، والله لو تركته ما عدوتك.
وشاور معهما سعيد بن زيد أبا الأعور وأسيد بن حضير، وغيرهما من المهاجرين والأنصار (رضي الله عنهم جميعاً)، فقال أُسيد رضي الله عنه : "اللهم أعلمه الخيرة بعدك، يرضى للرضى ويسخط للسخط، الذي يسُّر خير من الذي يعلن، ولا يلي هذا الأمر من أحد أقوى عليه منه"([28]).
ويذكر الطبري أنه لما سأل عبد الرحمن بن عوف عن رأيه في عمر (رضي الله عنهما) قال: "يا خليفة رسول الله، هو والله أفضل من رأيك فيه، رجل ولكن فيه غلظة، فقال أبو بكر رضي الله عنه : ذلك لأنه يراني رقيقاً، ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيراً مما هو عليه، ويا أبا محمد قد رمقته فرأيتني إذا غضبت على الرجل في الشيء أراني الرضا عنه، وإذا لنت به أراني الشدة عليه، لا تذكر يا أبا محمد مما قلت لك شيئاً"([29]).
كما يذكر أنَّ الصديق رضي الله عنه بعد أنْ استشار أيضاً سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه وعرف رأيه في سيدنا عمر رضي الله عنه قال له: "لو تركته ما عدوتك وما أدري لعله تاركه والخيرة له ألاَّ يلي من أموركم شيئاً، ولوددتُ أني كنت خلواً من أموركم، وأني كنت فيمن مضى من سلفكم، ويا أبا عبد الله لا تذكرنَّ مما قلتُ لك من أمر عمر ولا مما دعوتك له شيئاً"([30]).
هذا ثم يذكر ابن سعد بعد ما نقلناه عنه آنفاً أنَّ بعض الصحابة سمعوا بدخول عبد الرحمن وعثمان على أبي بكر وخلوتهما به، وأنه استقر رأيه على استخلاف عمر، فدخلوا عليه وقال قائل منهم: "ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلافك لعمر علينا وقد ترى غلظته؟
فقال أبو بكر رضي الله عنه : "أجلسوني أبالله تخوفوني؟ خاب والله من تزوَّد من أمركم بظلم، أقول: استخلفت عليهم خير أهلك، أبلغ عني ما قلت لك من وراءك"([31]).
ويظهر أنَّ هذيْن اللذيْن دخلا على أبي بكر هما علي وطلحة (رضي الله عنهما)، فقد روى ابن سعد في موضع آخر من كتابه الكبير عن السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ قال: "لما حضرت أبا بكر الوفاة استخلف عمر، فدخل عليه علي وطلحة فقالا: من استخلفت؟ قال: عمر، قالا: فماذا أنت قائل لربك؟ قال: أبالله تفرقاني؟ لأنا أعلم بالله وبعمر منكما، أقول استخلفت عليهم خير أهلك"([32]).
على أنه يؤخذ من الطبري أنَّ الذي دخل على الصديق واعترض على استخلافه عمر هو أبو طلحة، فقد روى عن أسماء بنت عميس وكانت إحدى زوجتيه في الإسلام، أنها قالت: دخل طلحة بن عبيد الله على أبي بكر، فقال: استخلفتَ على الناس عمر وقد رأيتَ ما يلقى الناس منه وأنت معه، فكيف إذا خلا بهم، وأنت لاقٍ ربك فسائلك عن رعيتك؟!
فقال أبو بكر وكان مضطجعاً: "أجلسوني"، فأجلسوه فقال لطلحة رضي الله عنه : "أبالله تفرقني ـ أو أبالله تخوفني؟! ـ إذا لقيت الله ربي فسألني قلت: استخلفت على أهلك خير أهلك".
وبعد ذلك يروي الطبري أنَّ أبا بكر رضي الله عنه بعد أنْ تمت استشارته لمن رأى استشارتهم في هذا الأمر الجلل، دعا عثمان خالياً فقال له: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين، أما بعد، قال: ثم أغمي عليه فذهب عنه، فكتب عثمان: أما بعد، فإني قد استخلفتُ عليكم عمر بن الخطاب ولم آلكم خيراً، ثم أفاق أبو بكر فقال: أقرأ عليّ فقرأ عليه، فكبَّر أبو بكر وقال: أراك خفت أنْ يختلف الناس إنْ افتلتت نفسي في غشيتي؟ قال: نعم، قال: جزاك الله خيراً عن الإسلام وأهله، وأقرها أبو بكر رضي الله عنه ([33]).
ومهما يكن من أمر فقد أشرف أبو بكر رضي الله عنه على الناس وأسماء بنت عُمَيْس تمسكه فقال: "أترضون بمن استخلفتُ عليكم؟ فإني والله ما ألوت من جهد الرأي ولا وليت ذا قرابة، وإني قد استخلفتُ عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا". فقالوا: "سمعنا وأطعنا".
ثم أمر أبو بكر عثمان فخرج إلى الناس ومعه عمر وأسيد بن سعيد القرظي فقال عثمان للناس: أتبايعون لمن في هذا الكتاب؟ فقالوا: نعم، وقال بعضهم ـ وهو علي ـ: قد علمنا به وهو عمر، وأقروا بذلك جميعاً ورضوا به وبايعوا([34]).(/4)
وذكر ابن سعد بعد هذا أنَّ أبا بكر دعا عمر خالياً بعد أنْ تمَّت له البيعة على هذا النَّحو، فأوصاه بما أوصاه به، ثم خرج من عنده، فرفع أبو بكر يديه مداً فقال: "اللهم إني لم أرد بذلك إلاَّ صلاحهم، وخفتُ عليهم الفتنة فعملتُ فيهم بما أنت أعلم، واجتهدتُ لهم رأيي فوليتُ عليهم خيرهم وأقواهم عليهم وأحرصهم على ما أرشدهم، وقد حضرني من أمرك ما حضر فاخلفني فيهم، فهم عبادك ونواصيهم بيديك، أصلح لهم واليهم، واجعله من خلفائك الراشدين، يتبع هدي نبي الرحمة وهدي الصالحين بعده وأصلح له رعيته"([35]).
هكذا تولى عمر بن الخطاب إمارة المؤمنين ورياسة دولة العرب والمسلمين، بعد أنْ استشار فيه أبو بكر أولي الرأي من المهاجرين والأنصار، وبعد أنْ رضي به المسلمون جميعاً وبايعوه ببيعة عامة.
وهنا ينبغي أنْ نشير إلى رأي مستشرق ناقد معروف، هو يوليوس فلهوزن، وهو رأي عجيب محض في الخطأ، إذ يقول بعد أنْ تكلَّم عن ولاية أبي بكر وعمر الخلافة: "وكان أبو بكر وعمر يعلمان أنهما لم يتوليا الخلافة بفضل حق شرعي، بل من طريق الاغتصاب، وهما لم يستطيعا أنْ يسبغا على رياستهما التي كانت غير شرعية في أول الأمر ثوباً شرعياً إلاَّ فيما بعد..."([36]) إلى آخر ما قال.
ونحن لا ندري كيف يرضى باحث منصف متجرِّد كما هو معروف عنه لنفسه أنْ يصدر هذا الحكم الجائر، هذا الحكم الذي يكذبه الواقع والتاريخ الصحيح، بعد ما رأينا اجتماع المسلمين على خلافة أبي بكر، وبعد ما عرفناه من أنَّ العهد إلى عمر كان بعد مشاورة أولي الرأي من المهاجرين والأنصار، ثم تمت بعد ذلك بيعة العامة منهم ومن سائر المسلمين([37]).
وأخيراً علينا أنْ نلاحظ هنا أنَّ الخليفة السابق أعلن للمسلمين أنَّ الله نزع بيعته من أعناقهم، وطلب منهم أنْ ينظروا في تأمير واحد منهم عليهم بعده، وسنرى بعد الكلام عن مراحل بيعة عثمان ثم علي بعده ما لكلام أبي بكر هذا من مغزى عظيم ودلالة واضحة في أنَّ العهد من الخليفة السابق لا يكون وحده الطريق لتولية الخلافة لمن يعهد إليه، وأنَّ هذا العهد ليس إلاَّ ترشيحاً لمن يراه.
المبحث الثالث
مرحلة تولية عثمان بن عفان رضي الله عنه
هنا لا تجدنا أمام عهد من الخليفة القائم لمن يخلفه في رياسة الدولة الإسلامية، ولكن تجدنا أمام طريقة أخرى لاختيار الخليفة، وهي طريقة جديدة تعتمد كل الاعتماد على الشورى لاختيار الأصلح لدين الله وولاية أمور الأُمَّة.
وذلك بأنَّ عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه كان يسأل وهو صحيح أنْ يستخلف فيأبى، ثم صعد المنبر يوماً فتكلَّم بكلمات وقال: "إنْ مِتُ فأمركم إلى هؤلاء الستة الذين ما فارقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض وذكرهم، وهم: علي، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص"([38]).
فلما طعنه العبد أبو لؤلؤة بخنجره المسموم أواخر شهر ذي الحجة في السنة الثالثة والعشرين من الهجرة وأيقن هو ومَنْ حوله بالموت طلب إليه أنْ يعهد لمن يراه خيراً للإسلام والمسلمين فقال فيما قال كما يذكر الطبري([39]): "إن استخلف فقد استخلف من هو خيرمني ـ يريد أبا بكر ـ، وإنْ أترك فقد ترك من هو خير مني ـ يريد الرسول صلى الله عليه وسلم ـ ولن يضيع الله دينه".
ثم قال: "ما أريد أنْ أتحملها حياً وميتاً، عليكم بهؤلاء الرهط الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنهم من أهل الجنة، سعيد بن عمرو بن نفيل منهم ولست مدخله، ولكن الستة: علي وعثمان ابنا عبد مناف، وعبد الرحمن وسعد خالا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والزبير حواري رسول الله وابن عمته، وطلحة الخير بن عبيد الله، فليختاروا منهم رجلاً، فإذا ولوا والياً فأحسنوا مؤازرته وأعينوه". كما أمر أنْ يحضرهم عبد الله في الاجتماع للتشاور على ألا يكون له من الأمر شيء.
فلما أصبح دعا الخمسة الأولين ـ إذ كان طلحة غائباً ـ وقال لهم: "إني نظرت فوجدتكم رؤساء الناس وقادتهم، لا يكون هذا الأمر إلاَّ فيكم وقد قُبِضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنكم راضٍ، إني لا أخاف الناس عليكم إن استقمتم، ولكني أخاف عليكم اختلافكم فيما بينكم فيختلف الناس، انهضوا إلى حجرة عائشة بإذن منها فتشاوروا واختاروا رجلاً منكم. ثم قال: "لا تدخلوا حجرة عائشة، ولكن كونوا قريباً منها". ووضع رأسه وقد نزفه الدم، فدخلوا فتناجوا".
وهنا يذكر المؤرخون ما وضعه عمر من النهج القويم الحكيم حتى لا تتفرَّق الكلمة وليصلوا في مدة ثلاثة أيام إلى اختيار من يتولى أمر المسلمين.
ومن هؤلاء ابن سعد إذ روى أنَّ سيدنا عمر دعا أصحاب الشورى وقال لهم: "تشاوروا في أمركم فإنْ كان اثنان واثنان فارجعوا في الشورى، وإنْ كان أربعة واثنان فخذوا طفَّ ـ جانب ـ الأكثر، وإنْ اجتمع رأي ثلاث وثلاثة فاتبعوا طف عبد الرحمن بن عوف واسمعوا وأطيعوا"([40]).(/5)
وكذلك روى أيضاً بعد هذا أنه رضي الله عنه لما طُعِنَ قال: ليصل لكم صهيب ثلاثاً وتشاوروا في أمركم، والأمر إلى هؤلاء الستة فمن بخل أمركم ـ أي خالفكم ـ فاضربوا عنقه"([41]).
ثم أرسل إلى أبي طلحة قبل أنْ يموت بساعة فقال: "يا أبا طلحة كن في خمسين من قومك من الأنصار مع هؤلاء النفر أصحاب الشورى، فلا تتركهم يمضي اليوم الثالث حتى يؤمروا أحدهم، اللهم أنت خليفتي عليهم".
كما ذكر المؤرخون أيضاً ما كان منهم حين اجتمعوا حتى انتهوا إلى اختيار سيدنا عثمان وبيعته([42]).
ونحن نختار أولاً ما ذكره الإمام البخاري في صحيحه، إذ يذكر بسنده أنَّ المسور بن مخرمة أخبره أنَّ الرهط الذين ولاهم عمر اجتمعوا فتشاوروا، فقال لهم عبد الرحمن بن عوف: "لستُ بالذي أنافسكم في هذا الأمر، ولكنكم إنْ شئتم اخترتُ لكم منكم". فجعلوا ذلك إلى عبد الرحمن، وحينئذ مال الناس عليه يشاورونه.
فلما كانت الليلة الثالثة التي بويع عثمان صباحها قال المسور: "طرقني عبد الرحمن بعد هجع من الليل فضرب الباب حتى استيقظت، فقال: أراك نائماً، فوالله ما اكتحلت هذه الثلاث بكثير نوم، انطلق فادع ليّ الزبير وسعداً، فدعوتهما له فشاورهما وفي رواية فسارَّهما.
ثم دعاني فقال: أدع ليّ علياً، فدعوته فناجاه حتى إبهار الليل، ثم قام علي من عنده وهو على طمع، وقد كان عبد الرحمن يخشى من علي شيئاً، ثم قال: ادع لي عثمان، فدعوته فناجاه حتى فرًّق بينهما المؤذن بالصبح.
فلما صلَّى الصبح واجتمع بأولئك الرهط عند المنبر أرسل إلى من كان حاضراً من المهاجرين والأنصار، وأرسل إلى أمراء الأجناد وكانوا قد وافوا تلك الحجة مع عمر، فلما اجتمعوا تشهد عبد الرحمن ثم قال: أما بعد، يا علي إني قد نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان، فلا تجعلنَّ على نفسك سبيلاً، وقال لعثمان: أبايعك على سُنَّة الله ورسوله والخليفتين من بعده، فبايعه عبد الرحمن وبايعه الناس المهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون.
هكذا روى البخاري قصة أهل الشورى والعقد والحل، باختصار هذا ومن البديهي أنْ يكون الطبري المؤرخ قد تناول هذه المسألة بتفصيل وافٍ أكثر مما فعله البخاري إمام المحدثين، ولذلك لا نرى بداً من أنْ نعرف كيف كانت الشورى كما قصَّها علينا هذا المؤرخ([43]).
إنه يقول: "فلما دفن عمر جمع المقداد أهل الشورى في بيت المسور بن مخرمة ـ ويقال: في بيت المال، ويقال: في حجرة عائشة بإذنها ـ وهم خمسة، معهم ابن عمر وطلحة غائب وأمروا أبا طلحة أنْ يحجبهم.
وجاء عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة فجلسا بالباب، فحصبهما سعد وأقامهما، وقال: تريدان أنْ تقولا: حضرنا وكنا في أهل الشورى؟
وتنافس القوم في الأمر وكثر بينهم الكلام، فقال أبو طلحة: "أنا كنت لأن تدافعوها أخوف مني لأن تنافسوها، لا والذي ذهب بنفس عمر لا أزيدكم على الأيام الثلاثة التي أمرتم، ثم أجلس في بيتي فانتظر ما تصنعون".
فقال عبد الرحمن: "أيكم يخرج منها نفسه ويتقلدها على أنْ يوليها أفضلكم؟". فلم يجبه أحد، فقال: فأنا انخلع منها، فقال عثمان رضي الله عنه : أنا أول من رضي فإنِّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أمين في الأرض أمين في السماء، فقال القوم: قد رضينا، وعلي ساكت.
فقال: "ما تقول يا أبا الحسن؟ قال: اعطني موثقاً لتؤثرنَّ الحق، ولا تتبع الهوى، ولا تخص ذا رحم، ولا تألو الأُمَّة".
فقال: "أعطوني مواثيقكم على أنْ تكونوا معي على من بدَّل وغيَّر، وأنْ ترضوا من اخترت لكم، عليّ ميثاق الله ألا أخص ذا رحم لرحمه، ولا آلو المسلمين".
فأخذ منهم ميثاقاً وأعطاهم مثله، وقال لعلي: "إنك تقول إني أحق من حضر بالأمر لقرابتك وسابقتك وحسن أثرك في الدين، ولم تبعد، ولكن أرأيت لو صُرِفَ هذا الأمر عنك فلم تحضر مَنْ كنت ترى مِنْ هؤلاء الرهط أحقّ بالأمر؟ قال: عثمان.
وخلا بعثمان فقال: تقول: شيخ من بني عبد مناف وصهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمه ولي سابقة وفضل، لم تبعد، فلم يصرف هذا الأمر عني ولكن لو لم تحضر فأيّ هؤلاء الرهط تراه أحق به؟ قال: عليّ.
فلقي عليٌّ سعداً فقال: "اتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام، إنَّ الله كان عليكم رقيباً، أسألك برحم ابني هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم برحم عمي حمزة منك ألا تكون مع عبد الرحمن لعثمان ظهيراً فإني أدلي بما لا يدلي به عثمان".
ودار عبد الرحمن لياليه يلقى أصحاب رسول الله ومَنْ وافى المدينة مِنْ أمراء الأجناد وأشراف الناس يشاورهم ولا يخلو برجل إلاَّ أمره بعثمان.
حتى إذا كانت الليلة التي يستكمل صبيحتها الأجل أتى منزل المسور بن مخرمة بعد أبهار من الليل فأيقظه فقال: ألا أراك نائماً ولم أذق في هذه الليلة كثير غمض، انطلق فادع الزبير وسعداً، فدعاهما، فبدأ بالزبير في مؤخر المسجد فقال له: خل ابني عبد مناف وهذا الأمر قال: نصيبي لعليّ.(/6)
ثم قال سعد: أنا وأنت كلالة فاجعل نصيبك لي فاختار قال: إنْ اخترت نفسك فنعم، وإنْ اخترت عثمان فعليٌّ أحب إليَّ أيها الرجل بايع لنفسك وأربع على رؤوسنا، قال: يا أبا إسحاق إني قد خلعت نفسي منها على أنْ اختار ولو لم أفعل وجعل الخيار إليَّ لم أردها.
وأرسل المسور إلى عثمان، فكانا في نجيهما حتى فرَّق بينهما أذان الصبح، فلمَّا صلوا الصبح جمع الرهط وبعض من حضره من المهاجرين وأهل السابقة والفضل من الأنصار وإلى أمراء الأجناد، فاجتمعوا حتى ازدحم وضاق المسجد بأهله، فقال: أيُّها النَّاس إنَّ النَّاس قد أحبوا أن يلحق أهل الأمصار بأمصارهم وقد علموا مَنْ أميرهم، فقال سعيد بن زيد: إنَّا نراك لها أهلاً، فقال: أشيروا عليّ بغير هذا، فقال عمَّار: إن أردت ألا يختلف المسلمون فبايع علياً، فقال المقداد بن الأسود: صدق عمَّار، إن بايعت عليَّاً قلنا: سمعنا وأطعنا([44]).
فقال عبد الله بن أبي السرح: إن أردت ألاَّ تختلف قريش فبايع عثمان، فقال عبد الله بن أبي ربيعة: صدق، إن بايعت عثمان قلنا: سمعنا وأطعنا.
وهنا شتم عماراً بن أبي السرح وقال: متى كنت تنصح المسلمين، ثم تكلم بنو هاشم وبنو أمية، فقال عمَّار: إنَّ الله عزَّ وجلَّ أكرمنا بنبيه وأعزنا بدينه، فأنَّى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم؟ فقال رجل من مخزوم: لقد عدوت طورك يا ابن سمية، وما أنت وتأمر قريش لأنفسها، فقال سعد بن أبي وقاص: "يا عبد الرحمن أفرغ قبل أنْ يفتتن الناس"([45]).
فقال عبد الرحمن: "إني قد نظرت وشاورت فلا تجعلنَّ أيها الرهط على أنفسكم سبيلاً ثم دعا عليَّاً فقال له: عليك عهد الله وميثاقه لتعملنَّ بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده، قال: أرجو أن أفعل وأعمل بمبلغ علمي وطاقتي. ثم دعا عثمان فقال له مثل ما قال لعليّ، قال: نعم، فبايعه.
وهنا يذكر الطبري أنَّ علياً رضي الله عنه غضب مما حصل وجابه عبد الرحمن بن عوف برأيه في أنَّه حابا عثمان، فقال له ابن عوف: "يا علي لا تجعل على نفسك سبيلاً، فإنِّي قد نظرت وشاورت النَّاس فإذا هم لا يعدلون بعثمان".
وفي الطبري أيضاً أنَّ طلحة قَدِمَ المدينة في اليوم الذي بويع فيه عثمان، فقيل له: بايِعْ عثمان، فقال: أكل قريش راضٍ؟ قيل: نعم، فأتى عثمان فقال له عثمان: أنت على رأس أمرك إنْ أبيت رددتها، قال: أتردها؟ قال: نعم، قال: أكل الناس بايعوك؟ قال: نعم، قال: قد رضيت لا أرغب عمَّا قد أجمعوا عليه، وبايِع([46]).
ثم يذكر هذا المؤرخ بعد ذلك أنَّ النَّاس ازدحموا على عثمان يبايعونه، حتى غشوه عن المنبر، فصعد عبد الرحمن مقعد النبي صلى الله عليه وسلم من المنبر وأقعد عثمان على الدرجة الثانية فجعل النَّاس يبايعونه، وتلكأ علي، فقال عبد الرحمن (فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما)([47]) فرجع عليّ يشق الناس حتى بايع.
هذا وقد يظن ظانٌّ أنَّ في عقد سيدنا عبد الرحمن بن عوف البيعة إلى سيدنا عثمان شيئاً من المحاباة له ومن الظلم لسيدنا علي، بل إنَّ بعض المغرضين قد يظنون أنَّ هذه البيعة غير صحيحة.
ومن أجل هذا أو ذاك رأينا من الخير أنْ نأتي برأي الباقلاني في هذه البيعة وملابساتها، وذلك إذ يقول في باب ذكر الدلالة على صحة عقد عبد الرحمن لعثمان بن عفان ـ رضي الله عنهما ـ([48]): "فإنْ قال قائل: ما الدَّليل على صحة عقد عبد الرحمن لعثمان؟ قيل له: الدَّليل على ذلك أنَّهم تشاوروا لياليَ وأيَّاماً، ونظروا في أمرهم، ورضوا بعبد الرحمن أميناً ومشيراً في هذا الباب، وعلمنا ضرورة أنَّه عقد لعثمان، وأنَّ الباقين منهم ومِنْ سائر الأُمَّة انقادوا لعثمان وخاطبوه بأمير المؤمنين، وعثمان بصفة مَنْ يصلح العقد له والعهد إليه، وعبد الرحمن في فضله ونُبْلِهِ وسابقته وعلمه، وما لا حاجة لنا إلى الإطالة في ذكره من فضائله، ممَّن يصلح لعقد هذا الأمر، بل هو من جملة أهل الحل والعقد.
وقد ظهر من تبرُّئه منها وزهده فيها مع كونه مرضياً عندهم وعند سائر الأُمَّة، ما يدلُّ على قوة إيمانه وشدة خوفه وحذره وعظيم مناصحته للأُمَّة، فهو أبعد الناس عن التهمة في هذا الباب، وأشدهم إيثاراً وتوخياً لأداء الأمانة، وحسن النظر للأُمَّة، هذا معلوم من حاله وفعله وما بعد ذلك من الروايات التي لا تليق بما وصفناه ملغاة مطرحة.
فإنْ قالوا: أفليس قد روى أنَّ علياً قال لعبد الرحمن لما عقد لعثمان: "أعذر هذا يا عبد الرحمن وأنكِر ما كان منه؟".
قيل لهم: هذه من الوساوس وحديث النَّفس، لأنَّ المعلوم الذي لا شك فيه مبايعة علي لعثمان، وتصرُّفه معه وإقامته الحدود بين يديه.(/7)
وإنْ قالوا: "وكيف يكون عقد عبد الرحمن لعثمان صحيحاً، وقد عقد له على شرط تقليده في الأحكام لأبي بكر وعمر وما رُوِيَ عنه من أنَّه قال لعلي: "نبايع لك هذا الأمر على أنْ تحكم بكتاب الله وسُنَّة الشيخين من بعده"، وأنَّ عليَّاً قال: "ليس مثلي مَنْ استظهر عليه، ولكن أجتهد رأْيي". وأنَّه عرض ذلك على عثمان فرضيَ بالشرط وضمنه وعقد له عليه، وقد اتفقنا على أنَّ التقليد من العالِم لغيره حرام في الدين؟
يقال لهم: هذا الخبر أيضاً من أخبار الآحاد، وليس هو مِمَّا يُعلم صحته ضرورة ولا بدليل، فإنْ كان التقليد حراماً فإنَّ الصحابة قد كانت أعلم بذلك واتقى لله من أنْ تدخل في الحرام على غير إنكار له، وكان يجب على عليّ رضي الله عنه مع امتناعه من قبول الشرط أنْ يقول: هذا حرام في الدِّين لا يحل فعله، وليس لنا أن نطعن على الصحابة شيئاً نضيفه إليهم لا نجيزه علينا بروايات الآحاد، فسقط أيضاً التعلق بهذه الروايات.
وقد يمكن أيضاً ـ إنْ كانت هذه الرواية صحيحة ـ ألاَّ يكون عبد الرحمن أراد بسنة الشيخين اتِّباعهما على التقليد في الأحكام، وإنِّما أراد السيرة بالعدل والإنصاف، وألاَّ يكون قال ذلك أيضاً على شكٍ منه في أنَّ عليَّاً سيحكم بالإنصاف والعدل إنْ صار الأمر إليه، وإنِّما قال ذلك على مذهب التقرير له والتأكيد والتبرئة له، ليقع الرضا من الجماعة، وتزول الفتنة ويستميل بذلك قلوب السامعين له.
فيكون عبد الرحمن مصيباً في اشتراطه وتقريره وتأكيد الأمر ويكون عليّ مصيباً في الامتناع منه، ويكون عثمان مصيباً أيضاً في قبول الاشتراط لِمَا علمه من أنَّ عبد الرحمن ما قصد إلاَّ التأكيد والتقرير واشتراط السيرة بالعدل.
ويدلُّ على ذلك ويؤكده علمنا وعلم سائر النَّاس أنَّ أحكام أبي بكر وعمر في كثير من الفقهيات مختلفة، كتوريث الجد، والمفاضلة في العطاء من عمر، وتسوية أبي بكر بين النَّاس فيه، وغير ذلك، وأنَّ عثمان لا يمكنه ولا يجوز أنْ يحكم بحكميهما المختلفين، فدلَّ ذلك على أنَّه إنِّما أراد اشتراط السيرة بالعدل والإنصاف"([49]).
المبحث الرابع
مرحلة تولية عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه
ما أكبر الفرق بين الظروف التي وَلِيَ عليّ فيها الخلافة، وبين الظروف التي وَلِيَ فيها كلٌ مِن الثلاثة السابقين؟
ففي أمر أبي بكر ما كان إلاَّ يسير اختلاف ثم اجتمعوا على توليته، وفي عمر لم يكن خلاف البتةَ بعد أنْ عَهِدَ إليه الصِّديق عن مشورة ورضا من كبار المهاجرين والأنصار، وفي عثمان كان شمل الأُمَّة جميعاً أيضاً، وكان عمر قد وضع للمسلمين نظاماً للشورى، ثم اختار أهل الشورى من بينهم لولاية أمر المسلمين، وعلى إثر ذلك كانت البيعة العامَّة.
ولكن بالنسبة لعلي رضي الله عنه نرى أنَّ باب الشر قد فُتِحَ وذلك بالثورة التي ذهب ضحيتها سيدنا عثمان رضي الله عنه شهيداً، والتي يعرف التاريخ ما كان لها من آثار مشؤومة، ولذلك لم يُجمع المسلمون على اختيار الإمام عليّ رضي الله عنه بولاية أمر المسلمين عامة، ويتبيَّن هذا بوضوح من أقوال المؤرِّخين على اختلافهم في كثير من النُّقول التي تجدها في كتبهم([50]).
يذكر ابن سعد في إجمال أنَّه لمَّا قُتِلَ عثمان يوم الجمعة لثماني عشرة ليلة مضت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، بُويع لعلي ابن أبي طالب بالخلافة بالمدينة، بعد يوم من مقتل عثمان، بايعه طلحة والزبير وجميع من كان بالمدينة من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم .
ثم ذكر طلحة والزبير أنَّهما بايعا مُكرهين، وخرجا من المدينة إلى مكة ثم من هذه إلى البصرة مطالبين بدم سيدنا عثمان، فخرج عليّ إليهم والتقى بهم وبمن انضم إليهم من أهل البصرة وغيرهم "يوم الجمل" في جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين، وظفر بهم وقتل طلحة والزبير في هذه المعركة، ثمَّ انصرف عليّ إلى الكوفة.
ونجد في تاريخ الطبري تفصيلاً لِمَا ذكره ابن سعد من إجمالٍ وتحريرٍ للقول في بيعة عليّ، متى بُويع، وكيف بويع، إنْ كان لتحرير ذلك من سبيل.
إنَّه يروي بسنده أنَّ محمداً بن الحنفية قال: كنت مع أبي حين قُتِلَ عثمان رضي الله عنه ، فقام فدخل منزله، فأتاه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنَّ هذا الرجل قد قُتِلَ، ولا بُدَّ للنَّاس مِنْ إمام، ولا نجد اليوم أحداً أحقُّ بهذا الأمر مِنْكَ، ولا أقدم منك سابقةً من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فقال: لا تفعلوا فإنِّي أكون وزيراً خيرٌ مِنْ أنْ أكون أميراً، فقالوا: لا والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك، قال: ففي المسجد، فإنَّ بيعتي لا تكون خفية، ولا تكون إلاَّ عن رضا المسلمين.
فقال عبد الله بن عباس: فلقد كرهت أنْ يأتيَ المسجد مخافة أنْ يُشغب عليه، وأبى هو إلاَّ المسجد، فلمَّا دخل، دخل المهاجرون والأنصار فبايعوه ثم بايعه النَّاس.
وإذاً فقد بويع عليّ يوم مقتل عثمان ـ رضي الله عنهما ـ.(/8)
وفي نقلٍ آخر ساقه الطبري نرى أنَّ البيعة كانت على رأس خمسة أيام من مقتل سيدنا عثمان، وذلك بعد أنْ فرَّ منها بنو أُميَّة وغيرهم إلاَّ من لم يجد للفرار سبيلاً.
فقد اجتمع أهل المدينة لهذا الأمر، فقال لهم أهل مصر: أنتم أهل الشورى وأنتم تعقدون الإمامة وأمركم عابر على الأُمَّة، فانظروا رجلاً تنصِّبونه ونحن لكم تبع، فقال الجمهور: علي بن أبي طالب نحن به راضون.
على هذا النحو أو قريب منه تمت بيعة الإمام عليّ بالخلافة، فقد بايعه أهل المدينة إلاَّ مَنْ تركها منهم، وبايعه منهم طلحة والزبير وقد كانا من الستة الذين عيَّنهم سيدنا عمر للشورى واختيار واحد منهم للخلافة بعد موته، بايعاه طائعيْن أو مكرهيْن، فقد جاء بهذا وذاك بعض الروايات التي ذكرها المؤرِّخون ومنهم الطبري.
كما بايعه كثير من المسلمين في مصر وغير مصر من البلاد الإسلامية، ولكن لم يبايعه أهل الشام الذين كان معاوية بن أبي سفيان يتزعَّمهم، إذ كانوا يتعللون بوجوب الثأر لسيدنا عثمان أولاً.
وإذا كُنَّا قد عرفنا أنَّ الإمام عليّ لم يُجمع المسلمون على بيعته، فقد يتساءل البعض عن الدَّليل على صحة ولايته أمور المسلمين جميعاً؟
وهنا يترك الحديث للباقلاني إذ يقول([51]): "فإن قال قائل: ما الدَّليل على إثبات إمامة عليّ وأنَّه أهل لِمَا قام به وأُسْنِدَ إليه ومُستحقٌ لإمامة الأُمَّة؟ قيل له: الدَّليل على ذلك كمال خِلال الفضل واجتماعها له لأنَّه مِنْ السَّابقين الأولين، ومِمَّن كَثُرَ بلاؤُهُ وجهادُهُ في سبيل الله، وعَظُمَ غناؤُهُ في الإسلام.
ولِمَا رُوِيَ فيه من الفضائل المشهورة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو قوله: (أقضاكم عليّ، وأفرضكم زيد)([52]) مع العلم بأنَّ القضاء يشتمل على معرفة أبواب الحلال والحرام وأحكام الشرع وما يحتاج إلى عمله إمام الأُمَّة.
ونحو قوله صلى الله عليه وسلم : (حُبُّ عليٍّ إيمان، وبغضه نفاق)([53])، وقوله صلى الله عليه وسلم في خيبر: (لأبعثنَّ رجلا فرار، يُحبُّ الله ورسوله، ويُحبُّهُ الله ورسوله ليس بفرار)([54])، ودفع الراية إليه
وقوله صلى الله عليه وسلم : (مَنْ كنت مولاه فعليٌّ مولاه)بعد قوله (ألستُ أوْلَى بالمؤمنين مِنْ أنفسهم؟)([55]) فأوجب مِنْ موالاته على باطنه وظاهره والقطع على طهارة سريرته، ما أثبته لنفسه، وأعلمهم أنَّ عليَّاً ناصرٌ للأُمَّة، مجاهدٌ في سبيل الله بظاهره وباطنه، لأنَّ المَوْلَى يكون بمعنى النَّاصر المُعين باتفاق أهل اللُّغة.
ومِنْ فضائله قوله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك لمَّا لَحِقَ به وشكا خوْض النَّاس في شأنه: (أما ترضى أنْ تكون منِّي بمنزلة هارون من موسى إلاَّ أنَّه لا نبيَ بعدي)([56])، أي إنِّي استخلفك على المدينة كما استخلف موسى أخاه هارون لمَّا توجَّه لكلام ربِّهِ مِنْ غير بغضٍ ولا قلى.
فهكذا تكلَّم الباقلاني عن فضائل أخرى كثيرة تُنْسب إلى عليّ رضي الله عنه ، ثمَّ قال: وبعد هذه الخصال، ودون هذه الفضائل، يصلح للخلافة من استحق الإمامة([57]).
خاتمة
أهم النتائج:
وفي ختام هذا البحث يجب أنْ نلاحظ الحقائق التالية:
[1] أنَّ الخليفة وكيل عن الأُمَّة في حراسة الدِّين، والدِّفاع عنه، وفي إدارة شؤون الدولة.
[2] أنَّه يستمد سلطانه أو سيادته من الأُمَّة التي يمثلها والتي وكَّلته في القيام بمهام منصبه.
[3] أنَّ عقد الوكالة مثله مثل سائر العقود، يقوم على إيجاب من الأصيل وقبول من الوكيل.
[4] أنَّ الوكيل ينعزل بعزل مُوكِّله، كما تنتهي وكالته بموته هو، وكذلك ليس له أن يقيم غيره مقامه إلاَّ برضا الأُمَّة وموافقتها.
فإذا وضعنا هذه الحقائق تبيَّن لنا أنَّ تولية الخليفة لا يمكن شرعاً وقانوناً أنْ يكون بمجرد عهد الخليفة القائم لأحد بعده حتى لو قَبِلَ منه هذا الأخير، بل لا بُدَّ من رضا الأُمَّة بهذا العهد، وبيعتها لِمَنْ صدر العهد إليه.
وهكذا نرى من دراسة الوقائع التي تمت بها تولية كل من الخلفاء الراشدين الأربعة دراسة تحليلية، إنَّ تولية الخليفة لا تتم إلاَّ بالبيعة عن رضا واختيار، وأنَّ عهد الخليفة السابق ليس إلاَّ ترشيحاً لمن يراه أهلاً للخلافة، فإنْ وافقت الأُمَّة على ترشيحه بايعوه، وإلاَّ كان لهم أن يبايعوا غيره([58]).
المصادر والمراجع
القرآن الكريم:
[1] محمد بن سعد كاتب الواقدي, الطبقات الكبرى، أول تاريخ قومي للعرب, دار التحرير, القاهرة, 4/رمضان/1388هـ, 24/نوفمبر/1968م.
[2] البخاري الجعفي, أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزية, صحيح الإمام البخاري, دار مطابع الشعب, مؤسسة مناهل العرفان, بيروت, لبنان.
[3] البخاري, محمد بن إسماعيل, الجامع الصحيح, تحقيق: مصطفى ديب البغا, ط/3, دار ابن كثير, اليمامة, بيروت, 1987م.
[4] صحيح الإمام البخاري لشرح فتح الباري: تحقيق وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي ومحب الدين الخطيب, دار الريان للتراث, ط/1, 1407هـ, 1986م.(/9)
[5] موطأ الإمام مالك، تحقيق وتعليق الدكتور: تقي الدين الندوي، دار القلم، دمشق، ط/1، 1412هـ، 1991م.
[6] د. محمد يوسف موسي, نظام الحكم في الإسلام، راجع هذه الطبعة وحقق نصوصها حُسين يوسف موسي, ط/2, 1975م, دار الكتاب العربي للطباعة والنشر.
[7] سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز, الخليفة الزاهد, تصنيف: الحافظ جمال الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي القرشي البغدادي( 510-597هـ), ضبطه وشرحه وعلق عليه: أ. نعيم زرزور, دار الكتب العلمية, ط/1, 1404هـ, 1984م, بيروت, لبنان.
[8] الإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري, تاريخ الأمم والملوك، ج/2, راجعه وصححه وضبطه لجنة من العلماء الأجلاء, مطبعة الاستقامة بالقاهرة, شارع نوبار باشا/12, 1375هـ, 1939م.
[9] أبو جعفر محمد بن جرير الطبري, تاريخ الطبري, تاريخ الرسل والملوك، (242هـ-310هـ)، ج/1، تحقيق: أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف بمصر، 1990م.
[10] د. السيِّد عبد العزيز سالم، تاريخ الدولة العربية، أستاذ التاريخ الإسلامي والحضارة، كلية الآداب، جامعة الإسكندرية، مؤسسة شباب الجامعة للطباعة والنشر.
[11] ت.ج. دي بور (T. J . De Boer)، تاريخ الفلسفة في الإسلام، جامعة أمستردام، نقله إلى العربية وعلَّق عليه: د. محمد عبد الهادي أبو ريدة، ط/4، منقَّحة ومهذَّبة، القاهرة، مطبعة لجنة التأليف والتربية والنشر، 1377هـ، 1957م.
[12] أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر، التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، تحقيق: سعيد أحمد أعراب، 1401هـ، 1981م، مطابع الشويخ "ديسبريس" تطوان، رقم الإيداع القانوني (579/1981م).
[13] ابن العربي: أبو بكر محمد بن عبد الله، أحكام القرآن، تحقيق: علي محمد البيجاوي، ط/2، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، دمشق، 1387هـ، 1967م، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط/1، 1408هـ، 1988م.
[14] ابن ماجه، أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني، السنن مع حاشية السندي، ط/2، دار الفكر، بيروت، لبنان.
[15] القرطبي: أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري، الجامع لأحكام القرآن، دار العلم، ط/3، 1386هـ، 1966م.
[16] النووي: أبو زكريا محي الدين بن شرف النووي (ت: 676هـ)، شرح النووي على صحيح مسلم، مؤسسة مناهل العرفان، بيروت.
[17] الحافظ عماد الدِّين ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، دار الأندلس، حائل، ومكتبة العلوم والحكم، المدينة المنوَّرة، 1413هـ، 1993م.
[18] البوطي: محمد سعيد رمضان، فقه السيرة النبوية، ط/11، دار الفكر، بيروت، دار الفكر، سوريا، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع، 1991م.
[19] العلاَّمة: أحمد بن محمد بن علي الفيومي، المصباح المنير، دار الحديث، القاهرة، ط/1، 1421هـ، 2000م.
[20] ابن فارس، مُجمل اللُّغة، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان، 1414هـ، 1994م، بدون رقم طبعة.
[21] أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، تاريخ عمر بن الخطَّاب، مطبعة التوفيق، الأدبية بمصر.
[22] سميح عاطف الزين، الثقافة والثقافة الإسلامية، دار الكتاب اللبناني ومكتبة المدرسة، بيروت، لبنان، 1403هـ، 1983م.
[23] محمد بن سعد الواقدي، الطبقات الكبرى، دار التحرير، القاهرة، 1388هـ، 1968م.
------------------------------------------------
([1]) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب "قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سدوا الأبواب إلاَّ باب أبي بكر)، حديث رقم (3654)".
([2]) أخرجه ابن ماجه في مقدمة السنن، فضائل خباب، حديث رقم (153)، دار الفكر العربي للطباعة والنشر والتوزيع، بدون رقم طبعة ولا تاريخ نشر.
([3]) صحيح البخاري، كتاب الخلافة، باب "وجوب إقامة الخليفة"، 3/81.
([4]) الجامع الصحيح، كتاب الخلافة، باب "وجوب نصب خليفة واحد"، 9/80.
([5]) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المرض، باب "ما يُرخَّص للمريض أن يقول: إنِّي وَجِعٌ"، حديث رقم (5666)، وفي الأحكام باب الاستخلاف، حديث رقم (7217).
([6]) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب "من فضائل أبي بكر رضي الله عنه ، حديث رقم (2385/6072)".
([7]) د. محمد يوسف موسى: نظام الحكم في الإسلام، ص 93.
([8]) الطبري، 3/199.
([9]) صحيح البخاري، كتاب الخلافة، باب "وجوب إقامة الخليفة"، 3/81.
([10]) الفهة: السقطة والجهلة ونحوها، يقال: رجل فه وامرأة فهة.
([11]) الطبقات، 3/180.
([12]) سورة التوبة، الآية (40).
([13]) صحيح البخاري، كتاب الخلافة، باب "وجوب إقامة خليفة"، 1/81.
([14]) المرجع السابق، نفس الصفحة.
([15]) سورة يونس، الآية (18).
([16]) سورة الزمر، الآية (3).
([17]) القرن: الحبل يشد به البعيران معاً. انظر: المصباح المنير، ص 297، تأليف العلاَّمة أحمد بن محمد بن علي الفيومي، دار الحديث، القاهرة، ط/1، 1421هـ، 2000م.(/10)
([18]) الجذيل: أصل الشجرة القائم، وكانت الإبل الجربى تحك جسدها فيه. انظر: ابن فارس، مجمل اللغة، ص 125، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان، 1414هـ، 1994م، بدون رقم طبعة.العذيق: سباطة البلح بالنخلة. المرجَّب: الذي يحافظ عليه أصحابه فيبنون حوله بناء لدعمه. والمراد من التشبيه بها أنَّ المتكلم عظيم بين قومه وأنه سديد الرأي يستشار في المسائل العظيمة.
([19]) العذيق: العذق (بالفتح) النخلة بحملها عند أهل الحجاز، وعذيقها مصغر عذق، تصغير تعظيم. والعذق(بالكسر) العرجون بما فيه من الشماريخ. أبو الفيض السيد محمد مرتضى الحسين الواسطي الزبيدي: تاج العروس من جواهر القاموس: 13/319، تحقيق علي شيري، دار الفكر، بيروت
([20]) المرجَّب: الذي يحافظ عليه أصحابه فيبنون حوله بناء لدعمه. انظر: المصباح المنير، ص 133، مرجع سابق. والمراد من التشبيه بها أنَّ المتكلم عظيم بين قومه وأنه سديد الرأي يستشار في المسائل العظيمة.
([21]) الطبري، تاريخ الأمم والملوك، 4/37ـ41، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، ط/1، 1407هـ، 1987م.
([22]) انظر: الطبري، مرجع سابق، 4/26، 27.
([23]) الثقافة والثقافة الإسلامية، سميح عاطف الزين، ص 588.
([24]) د. محمد يوسف موسى: نظام الحكم في الإسلام، ص 98.
([25]) صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب "مناقب عمر ابن الخطَّاب رضي الله عنه "، ج/1، ص 388.
([26]) المرجع السابق، نفس الصفحة.
([27]) ابن الجوزي: سيرة عمر بن الخطاب، ص 44.
([28]) الطبقات الكبرى، 3/122.
([29]) د. محمد موسى: نظام الحكم في الإسلام، ص 100.
([30]) تاريخ الأمم والملوك، 4/51.
([31]) طبقات ابن سعد، ج/3، ص 180.
([32]) تاريخ الطبري، ج/4، ص 51.
([33]) المرجع السابق، نفس الصفحة.
([34]) ابن سعد، 3/200.
([35]) المرجع السابق، نفس الصفحة.
([36]) تاريخ الدولة العربية، نقله من الألمانية إلى العربية د. محمد عبد الهادي أبو ريده، ص 34.
([37]) د. محمد يوسف موسى: نظام الحكم في الإسلام، ص 103.
([38]) الطبقات الكبرى، 3/61.
([39]) تاريخ الأمم والملوك، 5/34.
([40]) طبقات ابن سعد، 3/59.
([41]) د. محمد يوسف موسى: نظام الحكم في الإسلام، ص 105.
([42]) تاريخ الطبري، 5/13.
([43]) تاريخ الأمم والملوك، 5/36.
([44]) أحكام القرآن لابن العربي، ج/2، ص 611.
([45]) د. محمد يوسف موسى: نظام الحكم في الإسلام، ص 110.
([46]) تاريخ الأمم والملوك، 5/38-41.
([47]) سورة الفتح، الآية (10).
([48]) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر، ص 208 وما بعدها.
([49]) فقه السيرة النبوية، محمد سعيد رمضان البوطي، ص 89.
([50]) ابن سعد، 3/31، والطبري، 5/152.
([51]) التمهيد، ص 227.
([52]) أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الفضائل، باب "فضائل علي بن أبي طالب"، ص 529، حديث رقم (305).
([53]) سنن ابن ماجه، كتاب ما جاء في حب علي وبغضه، ج/12، ص 220، حديث رقم (1203).
([54]) أخرجه ابن ماجة في مقدمة السنن، باب في فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (فضل علي بن أبي طالب) رضي الله عنه حديث رقم 117 ج/ا ص 44 .
([55]) أخرجه ابن ماجة في مقدمة السنن، باب في فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (فضل علي بن أبي طالب) رضي الله عنه حديث رقم 121 ج/ا ص 45 .
([56]) أخرجه الترمذي في المناقب باب بدون ترجمة حديث رقم 3824 ج/5 ص 596.
([57]) تاريخ عمر بن الخطَّاب، أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، ص 213.
([58]) د. محمد يوسف موسى: نظام الحكم في الإسلام، ص 120.
* أستاذ مساعد بكلية الشريعة والقانون ـ جامعة أم درمان الإسلامية(/11)
طِفْلٌ مِنْ فلسطين *
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
رَأيْتُ طِفْلاً عَلَى سَاحَاتِها كُسِرتْ
يَدَاهُ والسَّاقُ عَنْ كَيْدٍ و عَنْ عَمَدِ
وبَيْنَ جَفْنَيْهِ شَيءٌ لَسْتُ أَعْرِفُه
كَأَنَّهُ الدَّمْعُ بَيْنَ المَاءِ والجَمَدِ
فَقَال إِنِّي حَبَسْتُ الدَّمْعَ يَمْنَعُهُ
مِنِّي الإِباءُ وصِدْقُ العَزْمِ والجَلدِ
ولا يَرَاني عَدُوّي ! إنْ تَكُنْ كُسِرَتْ
يَدَايَ فالعَزْمُ لَمْ يُكْسَرْ ولَمْ يَكَدِ
لَكنْ يَكادُ يُذُيبُ الدَّمْعَ يَدْفَعُهُ
على خُدُودِيَ هَجْرُ الأهْلِ ، ضِيقُ يَدي
أنا انْتِسَابيْ لِدَارِ المسلمين فَهَلْ
أَظَلُّ في عَالمٍ نَاءٍ ومُنْفَردِ
كُلٌّ يُصَفِّقُ لي ! والنَّارُ تَأْكُلُني
والنَّاسُ في شُغُلٍ عنِّي و في زُهُدِ
أينَ الملايين مِنْ أَهْلي ومِنْ رَحَمي
أيْنَ المَدَافعُ في زَحْفٍ و في حَشَدِ
أَظَلُّ أَحْمِلُ أَحْجَاري وأقْذِفُهَا
إلى مَتَى ؟! وعَدُوّي كَاملُ العُدَدِ
ولَمْ أَجَدْ مَدْفَعاً في السَّاحِ يَحْمِلَني
ولا الرَّصَاصةَ ! إلا في حَشَا كَبِدي
صُبُّوا جُمُوعَكُمُ في سَاحِهَا فَهُنَا
خَصْمٌ تَطَلَّعَ للآفَاق والصُّعُدِ
إذا رَكَنْتُمْ أَتَى مِنْ كُلِّ نَاحِيةٍ
يَسْطُو ويُفْسِدُ في رزقٍ و في وَلَدِ
ويُفْسِدُ النَّاسَ عَنْ دِين وعن خُلُقٍ
وتِلْكَ حَالِقَةُ الآفَاتِ والعُقَدِ
سَأَجْعَلُ الحَجْرَ المَوَّارَ قُنْبُلَةً
وأُلهِبُ الأرضَ مِنْ نَارٍ و مِنْ وَقَدِ
وأَمْلأُ الأُفْقَ هَدَّاراً بِقَاذِفِةٍ
مِن الصَّواريخِ أُلْقِيها على لُدَدِ
سَيَنْثَني الطَّفْل عِمْلاقاً بِسَاحَتِها
يَدُكُّ مِنْ قُلَلِ الكُفَّارِ أو عُمُدِ
وَيِنْثَنِي حَجَرُ الأطْفَالِ عَاصِفَةً
تَجْتَاحُ مِنْ قَلْعَةٍ فِيهِمْ ومِنْ سُدَدِ
حَتَّى يَقُولَ بَنُوْ الدُّنْيا وقد ذُهِلُوا :
هُنَا إذن أُمَّةُ الإسلامِ لَمْ تُبَدِ
عَادتْ لِيَسْعَدَ في أفْيَائِهَا أُمَمٌ
ويَنْعَمَ النَّاسِ فِيْ أَمْنٍ وفِيْ رَغَدِ
نَمْضي لِنَحْمِلَ للدُّنْيَا رِسَالَتَنَا
ونَدْعُوَ الخَلْقَ للإيمَانِ والرَّشَدِ
ونَدْعُو النَّاسَ أنْ لا يُشْرِكوا أبداً
و لا يُنَافِقَ إنْسَانٌ إلى أَحَدِ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1409/8/8هـ
1989/3/15م
* ملحمة الجهاد الأفغاني : ص : 134- 135 .(/1)
ظاهرة التآكل الروحي(1من4) تنشأ من خلل في التوازن بين طاقات العقل والبدن والروح د. حمدي شعيب
hamdyshoaib*otmail.com
هناك ذنوب تنسف الحسنات حتى لو كانت مثل الجبال، وهي التي تتم في جنح الظلام، وبعيداً عن أعين الناس. عَنْ ثَوْبَانَ عَنِ النَّبِيِّ { أَنَّهُ قَال:َ "لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا. قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ. قَالَ: أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا"(1).
وما تجرأوا على هذا إلا أنهم يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى" من القول وكان الله بما يعملون محيطا (108) (النساء).
القسم الثاني: التصدعات الباطنة
وهي الآثار النفسية الخفية، والروحية الباطنة.. حيث تعمل الذنوب عملها في تركيبة الإنسان الثلاثية دون استشعار العبد لها، خاصة الجانب الروحي؛ فتؤدي إلى حدوث تآكلات روحية، وكأنها قوارض أو أكلة.
وينتج عن ذلك ظاهرة اعتلالية تربوية وروحية؛ تسمى (ظاهرة التآكل الروحي).
1 فما معنى ظاهرة التآكل الروحي؟
هي ظاهرة تنشأ من خلل في التوازن التربوي بين طاقات العبد الثلاثة، وهي طاقة العقل، وطاقة البدن، وطاقة الروح. حيث يقل حظ الجانب الروحي في أعمال العبد، مثل التفريط في بعض الفرائض، وغيرها من أعمال اليوم والليلة من السنن، مثل الذكر والدعاء والاستغفار، وتلاوة القرآن.
وينشأ نوع من الخلل أو الانفصام المركب:
داخلياً يستشعر العبد قسوة وجفاءً مع نفسه، وخارجياً يستشعر جفاءً مع الوجود كله.
والنتيجة هي الشعور بأن النفس والوجود يتنكران له فما هي بالنفس وما هو بالوجود الذي يعرفهما.
ويمتد هذا الشعور بغياب لذة الطاعة وألم البعد عنه سبحانه إلى حالة من غياب الرغبة في الحياة عموماً، وضياع اللذة في المعيشة في الدنيا، ثم فوق ذلك؛ استشعار خيبة الأمل في النجاة في الآخرة:
ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى" 124 . (طه)
2 هل هي سنة إلهية؟
وعندما نقول إنها سنة إلهية، فإننا نقصد أن هذه الظاهرة هي محصلة لفعل قوانين ربانية، وقواعد إلهية ثابتة، أو هي نتيجة لوجود أسباب بشرية وزمانية ومكانية انطبقت عليها القوانين الإلهية فكان الجزاء في صورة تلك الظاهرة.
وعندما نقول إن التآكل الروحي سنة إلهية اجتماعية؛ نقصد أنها من القوانين الربانية والقواعد الإلهية، المنظمة لعالم الأحياء، أو الأنفس، خاصة البشر.
أي أن لها أسباباً أوجدتها.
وهذه الأسباب أوجدت خللاً.
وهذا الخلل أوجب العقاب الإلهي؛ أو الجزاء.
وهذا العقاب تحكمه قوانين؛ تعرف بالسنن الإلهية الاجتماعية.
والأسباب أو الظروف البشرية هنا؛ هي التقصير بكل درجاته.
والنتيجة المترتبة؛ وهي حالة القسوة القلبية والانفصال عن المنظومة الكونية العابدة.
والمعادلة أو القانون أو سلسلة تتابع هذه السنة الإلهية هي :
(أسباب تعود إلى العبد خلل تربوي عقاب إلهي على هيئة جزاء من جنس العمل).
وتدبر هذا الحوار؛ بين العبد وربه؛ فلقد تساءل العبد ما جرمه وما سبب هذا العقاب، وكانت الإجابة منه عز وجل؛ حيث يبين الحق سبحانه هذا القانون القرآني العام، أو السنة الإلهية الاجتماعية؛ التي تنطبق على كل من أسرف في الذنوب، وقصر في الطاعة.
ولهذا يقول: قال رب لم حشرتني أعمى" وقد كنت بصيرا 125 ؛ أي في الدنيا. قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى 126 (طه) فإن الجزاء من جنس العمل.
ثم يبين الحق سبحانه هذا القانون القرآني العام، أو السنة الإلهية الاجتماعية؛ والتي تنطبق على كل من أسرف في غية وكذب بآياته سبحانه:
وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى 127 (طه).
حذار من.. المثيرات.. والقوادح !!
وأخيراً؛ إذا كانت السنن الإلهية ما هي إلا سلسلة أو متوالية من التفاعلات يحكمها قانون رباني ثابت وعام ومتكرر إن وجدت ظروفه البشرية والمكانية والزمانية، وكأنها معادلة كيمائية تحتاج إلى ظروف معينة وعامل مساعد؛ يحركها أو يقدح شرارة التفاعل.
فعلى العبد دوماً أن يخشى أي عامل إثارة يقدح زناد معادلات القوانين الربانية؛ فتعمل عملها فيه كفرد وفي مؤسسته التي ينتمي إليها، ثم في أمته.
وهذه تسمى أيضاً مثيرات أو قوادح السنن الإلهية.(/1)
وإذا كانت الدموع المرة التي سكبها أبوالدرداء رضي الله عنه، عند أسوار قبرص في يوم من أيام الله؛ نتيجة لخشيته من خطر الذنوب على الفرد والأمم؛ فإن أفتك ما يتعرض له العبد والأمم أيضاً؛ من مثيرات للسنن الإلهية بعد الذنوب؛ هي سهام الليل التي يرسلها المظلومون!!!.
لذا ينبغي للعبد ألا يعرض نفسه لهذه الأنات المكبوتة :
ألا أقولُ لشخصٍ قد تَقَوَّى
على ضعفي ولم يخشْ رقيبَه
خبأتُ له سهاماً في الليالي
وأرجو أن تكونَ له مصيبَة.
الهوامش:
(1) سنن ابن ماجه كتاب الزهد 4235
(2) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير تفسير سورة طه 125- 126.
ظاهرة "التآكل" الروحي.. أسبابها(2 من4) د.حمدي شعيب
hamdyshoaib*otmail.com
قال الله تعالى : وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى" إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم (118) التوبة .
هكذا قص القرآن الكريم، تلك النتيجة التي انتهت إليها حالة هؤلاء الثلاثة الكرام من جيل الخيرية؛ وهم كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية رضي الله عنهم، حين تخلفوا عن ركب الجهاد، في غزوة العسرة؛ غزوة تبوك، وصدقوا مع الله سبحانه ثم معه صلى الله عليه وسلم فلم يفعلوا كما فعل المنافقون الذين اعتذروا، ولكنهم أعلنوا على لسان كعب رضي الله عنه: " والله ما كان لي من عذر"(1). أي ليس لهم أي حجة أو عذر للتخلف. كانت تلك النتيجة؛ شعوراً غريباً لم يألفه كعب رضي الله عنه، منذ دخوله لهذا العالم وأنسه بهذا المنهج، وكان ألماً نفسياً ضاقت به نفسه ضيقاً شديداً حتى تنكر لها الوجود؛ السابح الساجد لربه.
وتأمل هذه اللمحات الطيبة:
1 التربية النبوية القرآنية، كانت سريعة وقاسية؛ ليختبر صدقهم مع الله عز وجل ثم مع النفس، وحكى عنها كعب رضي الله عنه، "فقال: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا نحن الثلاثة من بين من تخلف عنه"(2).
2 المشاركون في هذه المقاطعة، كل الخلائق، من البشر، من الجماد بل والوجود كله، استجابة وجندية وطاعة لأمره سبحانه، وتدبر مشاركة الأرض: "فاجتنبنا الناس أو قال: تغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي كنت أعرف"(3).
3 لقد كانت المحنة من القسوة؛ بحيث أفرزت هذا الشعور؛ شعور أن الأرض والوجود كله يشارك في المقاطعة، والشعور أنه قد غدا شاذاً عن هذه المنظومة العابدة الساجدة الذاكرة لربها.
4 هذا الشعور لا يحسه إلا نفس مؤمنة عاشت طويلاً متناسقة ومتوافقة، وكانت معروفة لهذه المنظومة.
لقد كانت هنالك علاقة حب وود، ليس فقط مع المجتمع؛ بل مع الأرض، ومع الوجود كله، ثم انقطعت، بمجرد تقصير في طاعة لله عز وجل!.
وكم من شواذ لا يستشعرون شذوذهم!؟.
وما ذلك إلا لغياب الرابطة السابقة مع هذه المنظومة. وعندما تغيب هذه الرابطة؛ يغيب الرصيد في بنك الخير والطاعة والعبودية!.
وتأمل يونس بن متى عليه السلام، وهو يبين فضل هذا الرصيد الذي نفعه في محنته: وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى" في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين 87 الأنبياء).
إنه الرصيد العظيم للأيام العظيمة؛ للمحن المركبة، والظلمة المركبة.
5 إنه لألم عظيم أن تستشعر الرفض والشذوذ فيمن حولك، خاصة في المواقف الصعبة؛ وإنها لمصيبة كبرى أن تفتقد الرصيد، عند اللحظات الفاصلة، وهل هناك أصعب من المشاعر عند مشهد النهاية؟
وتدبر مصيبة آل فرعون، عند مشهد نهايتهم، ولحظات رحيلهم: فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين 29 (الدخان).
فلم "تك لهم أعمال صالحة، تصعد في أبواب السماء، فتبكي على فقدهم، ولا لهم في الأرض بقاع عبدوا الله تعالى فيها ففقدتهم، فلهذا استحقوا ألا ينظروا ولا يؤخروا لكفرهم وإجرامهم وعتوهم وعنادهم. عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من عبد إلا وله في السماء بابان: باب يخرج منه رزقه وباب يدخل منه عمله وكلامه، فإذا مات فقداه وبكيا عليه" وتلا هذه الآية: فما بكت عليهم السماء والأرض . وذكر أنهم لم يكونوا قد عملوا على الأرض عملاً صالحاً يبكي عليهم ولم يصعد لهم إلى السماء من كلامهم ولا من عملهم كلام طيب ولا عمل صالح فتفقدهم فتبكي عليهم.
أتى ابن عباس رضي الله عنهما رجل فقال: يا أبا العباس، أرأيت قول الله تعالى: فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين 29 ؟ فهل تبكي السماء والأرض على أحد؟ قال رضي الله عنه: نعم إنه ليس أحد من الخلائق إلا وله باب في السماء منه ينزل رزقه، وفيه يصعد عمله، فإذا مات المؤمن فأغلق بابه من السماء الذي كان يصعد فيه عمله وينزل منه رزقه ففقده، بكى عليه، وإذا فقده مصلاه من الأرض التي كان يصلي فيها ويذكر الله عز وجل فيها بكت عليه، وإن قوم فرعون لم تكن لهم في الأرض آثار صالحة ولم يكن يصعد إلى الله عز وجل منهم خير، فلم تبك عليهم السماء والأرض.(/2)
قال مجاهد: ما مات مؤمن إلا بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحاً، قال: فقلت له: أتبكي الأرض؟ فقال: أتعجب؟ وما للأرض لا تبكي على عبد كان يعمرها بالركوع والسجود؟ وما للسماء لا تبكي على عبد كان لذكره وتسبيحه فيها دوي كدوي النحل"(4).
6 ضرورة الفهم لأي قضية، حتى لا يساء الظن، ولا تترك في النفوس أي أقاويل.
وإنه لشعور أليم؛ أن يساء فهم موقفك؛ خاصة عند الابتلاء؟
والشعور الأكثر إيلاماً؛ ألا تُترك لك الفرصة أن تصحح موقفك.
التآكل الروحي
هذه اللمحات الطيبة، ما هي إلا بعض الإضاءات؛ التي تركز على جانب واحد من الجوانب العديدة في قصة محنة كعب رضي الله عنه ؛ وهو الجانب المرتبط بسنة إلهية اجتماعية، تفسر لنا ظاهرة تربوية؛ وهي (ظاهرة التآكل الروحي).
وهي ظاهرة تنشأ من خلل في التوازن التربوي بين طاقات العبد الثلاث، وهي طاقة العقل، وطاقة البدن، وطاقة الروح. حيث يقل حظ الجانب الروحي في أعمال العبد، مثل التفريط في بعض الفرائض، وغيرها من أعمال اليوم والليلة من السنن، مثل الذكر والدعاء والاستغفار، وتلاوة القرآن.
وينشأ نوع من الخلل أو الانفصام المركب:
أولاً: داخلياً يستشعر العبد قسوةً وجفاءً مع نفسه.
ثانياً: خارجياً يستشعر العبد قسوةً وجفاءً مع الوجود كله.
والنتيجة هي الشعور بأن النفس والوجود يتنكران له فما هي بالنفس وما هو بالوجود اللذان يعرفهما.
وبمعنى آخر؛ هي الظاهرة التي تبحث في حالة صدأ القلب، أو حالة الجفاء الروحي، التي يستشعرها العبد المؤمن، عندما يقصر في طاعته سبحانه، فلا يستشعر للعبادة حلاوة، ولا للطاعة لذة، ويقاسي ألم البعد عنه عز وجل، ويتحول هذا إلى شعور بوحدة قاسية، ومسافات شاسعة، وحواجز نفسية تفصل بينه وبين الخلائق، خاصة الصالحين. ويمتد هذا الشعور بغياب لذة الطاعة وألم البعد عنه سبحانه إلى حالة من غياب الرغبة في الحياة عموماً، وضياع اللذة في المعيشة في الدنيا، ثم فوق ذلك؛ استشعار خيبة الأمل في النجاة في الآخرة: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى" 124 (طه).
"وهو تحذير منه سبحانه، لكل معرض خالف أمره وما أنزله على رسوله، وأعرض عنه وتناساه وأخذ من غيره هداه فإن له معيشة ضنكاً؛ أي ضنك في الدنيا فلا طمأنينة له ولا انشراح لصدره"(5).
الهوامش:
(1) و(2) و(3) متفق عليه.
(4) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير الدخان، 29 بتصرف.
(5) المرجع السابق، سورة طه، 124 بتصرف.
ظاهرة التآكل الروحي خطورتها.. وأعراضها (3من4) د.حمدي شعيب
hamdyshoaib*otmail.com
الخطورة تأتي من أن هذا التآكل يهدد الأساس الذي يُخرج ناشئة الليل؛ وهم الربانيون.
ويعطل حركة انبعاث أو عملية إيجاد هؤلاء الربانيين الذين سيحملون القول الثقيل؛ وهي الأمانة التي كان من قدر الإنسان أن يحملها؛ وهو المنهج الرباني؛ أو هو القرآن الكريم الذي أنزله سبحانه ليس إلى البشرية فقط، بل إلى الوجود كله، وتدبر مغزى هذه التوجيهات الكريمة المبكرة في عمر الدعوة والداعية: يا أيها المزمل (1) قم الليل إلا قليلا (2) نصفه أو انقص منه قليلا (3) أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا (4) إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا (5) إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا (6) (المزمل).
فكيف سيتخرج هذا الرباني المنشود، دون قيام ليل، ودون ترتيل للقرآن الكريم وتدبر له؟!
وكيف سيحمل المنهج الرباني، دون المرور على محطة السَّحر؛ التي هي أفضل الأوقات واللحظات ليتوافق السمع مع البصر مع اللسان مع الفؤاد؛ أي كل كيانه، لفقه الرسالة وفهم المنهج؟!
وكيف يسير وحده على طريق مبارك يلزمه مشاركة الوجود معه، ودون التوافق مع سننه سبحانه الإلهية؟!
وكيف سيتوافق مع هذه السنن الإلهية؛ ويستشعر مشاركة الوجود معه في عبادته من قيام واستغفار بالسحر وترتيل للقرآن الكريم؛ إلا في تلك اللحظات الخاصة؟!
وكما ورد عنه {؛ أن هذه اللحظات، يحتكرها فقط عباد الرحمن!
هل ظاهرة التآكل الروحي سنة إلهية؟!:
وعندما نقول إنها سنة إلهية، فإننا نقصد أن هذه الظاهرة هي محصلة لفعل قوانين ربانية، وقواعد إلهية ثابتة، أو هي نتيجة لوجود أسباب بشرية وزمانية ومكانية انطبقت عليها القوانين الإلهية فكان الجزاء في صورة تلك الظاهرة. ونذكر أن السنن الإلهية؛ هي:
1 سنن إلهية كونية ؛ تنظم عالم المادة في الآفاق.
2 سنن إلهية اجتماعية ؛ تنظم عالم الأحياء أو الأنفس.
وهذه السنن الإلهية تتميز بسمات ثلاث؛ هي العموم والثبات والاطراد أي التكرار إن وجدت الظروف البشرية والمكانية والزمانية.
وعندما نقول إن ظاهرة التآكل الروحي سنة إلهية اجتماعية؛ نقصد أنها من القوانين الربانية والقواعد الإلهية، المنظمة لعالم الأحياء، أو الأنفس، خاصة البشر؛ أي أن لها أسباباً أوجدتها.
وهذه الأسباب أوجدت خللاً.
وهذا الخلل أوجب العقاب الإلهي؛ أو الجزاء.
وهذا العقاب تحكمه قوانين؛ تعرف بالسنن الإلهية الاجتماعية.(/3)
والأسباب أو الظروف البشرية هنا؛ هي التقصير بكل درجاته. والنتيجة المترتبة؛ هي حالة القسوة القلبية والانفصال عن المنظومة الكونية العابدة. والمعادلة أو القانون أو سلسلة تتابع هذه السنة الإلهية؛ هي كالتالي:
أسباب تعود إلى العبد:
خلل تربوي.
عقاب إلهي على هيئة جزاء من جنس العمل.
وتدبر هذا الحوار؛ بين العبد وربه؛ فلقد تساءل العبد ما جرمه وما سبب هذا العقاب، وكانت الإجابة منه عز وجل؛ والتي تنطبق على كل من أسرف في الذنوب، وقصر في الطاعة.
ولهذا يقول: قال رب لم حشرتني أعمى" وقد كنت بصيرا 125 (طه)؛ أي في الدنيا. قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى 126 (طه)؛ أي لما أعرضت عن آيات الله وعاملتها معاملة من لم يذكرها بعد بلاغها إليك تناسيتها وأعرضت عنها وأغفلتها كذلك اليوم نعاملك معاملة من ينساك؛ فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا (الأعراف:51)، فإن الجزاء من جنس العمل)(1).
ثم يبين الحق سبحانه هذا القانون القرآني العام الآخر، أو السنة الإلهية الاجتماعية الأخرى؛ والتي تنطبق على كل من أسرف في غية وكذب بآياته سبحانه:
وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى 127 (طه).
أعراض هذه الظاهرة:
أولاً: الأعراض العامة:
وهي الآثار العامة الكثيرة للذنوب؛ أي العقوبات التي نغفل عنها ولا ندري ما سببها، والتي منها: "حرمان العلم والفقه في الدين، ووحشة يجدها العاصي في قلبه بينه وبين الله سبحانه، والوحشة بينه وبين الناس، واستشعار الظلمة بالقلب، وضعف البصيرة، وحرمان الطاعة، ووهن القلب والبدن، وقصر العمر ومحق البركة، والوقوع في سلسلة الذنوب، وزيادة إرادة المعصية، وهوان العبد على الله عز وجل، واستصغار الذنوب، وذهاب الحياء، والحرمان من دعاء الرسول { والملائكة واستغفارهم للمؤمنين والمؤمنات، وعدم توقير القلب لله سبحانه، ونسيان الله سبحانه لعبده، وزوال النعم وحلول النقم"(2).
ثانياً: الأعراض الخاصة:
وهي التي نقصد بها الأعراض التي تؤثر على الجانب الدعوي التربوي.
ويمكن تقسيمها إلى قسمين:
الأول: استشعار الغربة الداخلية مع النفس؛ مثل:
1 عدم الشعور بحلاوة العبادة، مثل الفرائض، وقراءة القرآن الكريم والذكر.
2 تسرب اليأس إلى النفس.
3 فقدان الأمل بموعوده سبحانه وموعود نبيه {.
4 عدم الشعور بلذة البذل الدعوي، وكأنه عمل روتيني وظيفي.
5 عدم الإقبال على حضور اللقاءات التربوية ومجالس العلم والذكر.
6 التقصير في عمل اليوم والليلة؛ من صلاة وذكر وقراءة قرآن كريم.
7 عدم الشعور باللهفة للقاء أولياء الله من الدعاة والصالحين المتحابين في الله.
8 الشعور بالضيق والحزن والاكتئاب، واستفحال هموم الدنيا والرزق.
9 الفتور في العبادة.
الثاني: استشعار الغربة الخارجية؛ وهذا على أنواع ومراتب:
(أ) الشعور بالغربة مع المؤسسة التربوية؛ مثل:
1 عدم الهمة في إنجاز التكاليف.
2 التقصير في الواجبات.
3 المطالبة بالحقوق .
4 كثرة النقد.
5 استشعار الجفوة بينه وبين أعضاء المؤسسة، وضعف رابطة الأخوة والمحبة.
6 الفتور في الدعوة.
(ب) الشعور بالغربة مع المجتمع؛ مثل:
ضعف الشعور بمفهوم الخروج إلى الناس، ومقتضياته؛ مثل:
1 التقصير في الواجب الدعوي؛ والمهمة الرئيسة للمسلم مع مجتمعه؛ من أمر بمعروف ونهي عن منكر.
2 التقصير في فعل الخير.
3 ضعف الشعور بحب الناس والقرب منهم.
4 الفتور المتمثل في الانعزال، وبغض مخالطة الناس.
(ج) الشعور بالغربة مع الوجود الكبير؛ مثل:
1 الشعور بعدم الأنس بالوجود الكبير؛ مثلما حدث مع كعب بن مالك رضي الله عنه.
2 عدم التفاعل مع الخلائق والاندماج في المنظومة العابدة، وغياب الشعور بلذة العبودية الجماعية الشاملة.
وتدبر هذا الأنس المؤمن، والتفاعل بين الخالق ونعمه، ومع الخلائق وامتنانهم بنعم خالقهم، وتأمل هذا الربط الطيب بين ذكر الرحمن، وبين ذكر نعمة تعليم القرآن الكريم وتفهيمه، ونعمة خلق الإنسان، ونعمة تعليمه النطق والبيان، وبين حركة الشمس والقمر المقدرة بإتقان وحساب دقيق، وسجود النجم والشجر؛ ونعمة رفع السماء بلا عمد، ووضع الموازين والمقاييس السماوية الربانية للوجود، ثم الأمر بالطاعة لهذه الموازين والسنن بالقسط والعدل، ثم ربط هذا كله بنعمة عظيمة مغفول عنها؛ ألا وهي نعمة تمهيد الأرض للخلائق للعيش بسلام.
كل ذلك في منظومة عابدة ساجدة لا يشذ عنها إلا هالك، ولا يغفل عنها إلا جاحد، ولا ينكرها إلا ضال.
قال تعالى: الرحمن (1) علم القرآن (2) خلق الإنسان (3) علمه البيان (4) الشمس والقمر بحسبان (5) والنجم والشجر يسجدان (6) والسماء رفعها ووضع الميزان (7) ألا تطغوا في الميزان (8) وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان (9) والأرض وضعها للأنام 10 (الرحمن)
الهوامش:
(1) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير سورة طه 125 126.(/4)
(2) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي: الإمام ابن القيم رحمه الله المكتبة السلفية القاهرة الطبعة الثالثة 1400ه 60 إلى 125 بتصرف كبير.
ظاهرة التآكل الروحي (4من 4) علاجها د.حمدي شعيب
hamdyshoaib*otmail.com
الدعاء والاستغفار.. الذكر والصلاة وصحبة الصالحين من أهم سبل العلاج
تحدثنا عن خطر التآكل الروحي من قبل. ونتناول هنا سبل علاج هذا التآكل الروحي العام منها والخاص.
أولاً: السبل العامة: وهي طرق العلاج العامة المشروعة؛ لأسباب التقصير في طاعته سبحانه، الباعثة على الخلل في مسيرة العبد، مما يترتب عليه جزاء من جنس العمل ألا وهو حالة الجفاء القلبي؛ أو ما يعرف بظاهرة التآكل الروحي. ونقول إنها عامة، للحالات العامة؛ أي تفيد أي عبد قاسى من هذه الظاهرة.
ومن هذه السبل:
1 الذكر، 2 تلاوة القرآن الكريم، 3 الصلاة، 4 صحبة الصالحين، 5 الاستغفار، 6 الدعاء، 7 قراءة التاريخ، 8 التفكر في خلق السماوات والأرض، 9 زيارة القبور.
ثانياً: السبل الخاصة: وهي السبل الخاصة المشروعة، للحالات الخاصة؛ والمفيدة لأسباب خاصة من التقصير في طاعته سبحانه، حيث يستشعر العبد أنه يمتلك قوة معينة تنطلق من أدائه لعبادة معينة.
فإذا فتش في ذاته وتلمس سبباً معيناً من أسباب التقصير، وجد على الفور قوة ربانية معينة، تنطلق من طاعة معينة؛ فتعينه على معالجة هذا السبب الخاص، فيظل يعالج سبباً سبباً، حتى يبرأ من كل أسباب التقصير، فينمحي الخلل، فيجازيه الحق سبحانه جزاءً من جنس عمله.
أي يبدأ في طاعة معينة تعالج سبباً معيناً اكتشفه في نفسه، ويجتهد فيها ويداوم عليها فترة، بينه وبين ربه الودود الكريم، فينمحي الخلل النفسي الداخلي، فيستشعر أنه بدأ المسير المبارك؛ فيجازيه الحق الحنان المنان الرحيم سبحانه؛ بأن يهديه إلى طاعة أخرى وييسرها له، فالطاعة عنده سبحانه تؤدي إلى طاعة، فيسمو روحياً، ويظل يترقى مادام سائراً على طريقه: والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين (69) (العنكبوت).
قوة الدعاء:
ونعني بها تنمية فن استمطار التوفيق الإلهي، وذلك بالدعاء الخاشع، والثقة فيما عنده سبحانه، وحسن الظن به.
وإذا كان للدعاء أهمية، كباب عظيم من أبواب التربية الروحية عند الفرد المسلم، فهو في حق الداعية أوجب وأهم، وذلك لأن الداعية في طريقه يحتاج إلى ركائز ثلاثة؛ هي:
1 الفكرة الربانية؛ أي القاعدة التي توجه كل سكناته وحركته، فيكون سلوكه في الحياة ترجمة لها.
2 العمل الدؤوب؛ أي سلوكه في خدمة هذه الفكرة، وهو الجهد البشري المطلوب لأي عمل، "إياك نعبد".
3 والدعاء الخاشع، وهو طلب التوفيق الإلهي، "إياك نستعين".
فما من عمل موفق إلا ويقوم على دعامتين: جهد بشري وتوفيق إلهي.
وللقوة الدُعائية دورها التربوي الروحي، وأسرارها الطيبة البعيدة؛ والتي منها:
أ تدبر أمره سبحانه بالدعاء، ثم تحذيره للذين يستكبرون عن التوجه لله بأن يوجهوا أذلاء صاغرين لجهنم: وقال ربكم \دعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين 60 (غافر).
ب تدبر بعض ما ورد في فضل الدعاء وأسراره، وكيف أن بعض الدعوات المخلصة قد استحالت إلى قوى مادية حركت الصخرة التي عجز ثلاثة من الرجال أن يحركوها عن باب الغار!. وذلك في قصة (الثلاثة والصخرة) التي رواها الحبيب {(1).
وهذه أسرار مباركة للدعاء، لا يشعر بها إلا من مر بتجربة خاصة يستشعر فيها كيف أن الحق سبحانه يمن على عباده المتقربين إليه، المتذللين إليه بأنواع العبادة المختلفة، فيجدونها وقد استحالت من مجرد قوى معنوية، إلى قوى مادية ربانية ذات آثار ملموسة ومعلومة. وبذلك تفتح للعبد أبواب متعددة من أبواب التربية الروحية.
وهذه (القوة الدعائية)، لا يدرك سرها إلا من عايش جو هذه الآية: أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء (النمل:62).
"فالمضطر في لحظات الكربة والضيق لا يجد له ملجأ إلا الله يدعوه ليكشف عنه الضر والسوء، ذلك حين تضيق الحلقة، وتشتد الخنقة، وتتخاذل القوى، وتتهاوى الأسناد، وينظر الإنسان حواليه فيجد نفسه مجرداً من وسائل النصرة وأسباب الخلاص: لا قوته، ولا قوة في الأرض تنجده. في هذه اللحظة تستيقظ الفطرة فتلجأ إلى القوة الوحيدة التي تملك الغوث والنجدة، ويتجه الإنسان إلى الله ولو كان نسيه من قبل في ساعات الرخاء، فهو وحده دون سواه، الذي يجيب المضطر إذا دعاه، فيجيبه ويكشف عنه السوء، وينجيه من الضيقة الآخذة بالخناق"(2).
ج تدبر ما ورد في دعاء الخليل عليه السلام: فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم (إبراهيم:37). وكيف طلب منه سبحانه، أن يربط بين مشروعه الحضاري العظيم؛ وهو مشروع الحج، وبين أفئدة البشر، كعلاقة وجدانية قلبية، وعامل خفي يخاطب القلوب ويجذبها، كما جذبت فكرة هذا العمل العظيم عقول البشر.
وهذا يبين الفرق بين المشروع الحضاري الذي يقوم على فكرة ربانية، والمشاريع الأخرى القائمة على أفكارٍ مغايرة.(/5)
فالمشروع الحضاري الإسلامي، يخاطب الفطرة البشرية، ويحيط الإنسان من كل جوانبه؛ على أساس التوازن بين الجانب العقلي والجانب البدني، والجانب الروحي،
آدابه:
وحتى تؤتي هذه (القوة الدُعائية) أُكلها، كان على المسلم، أن يلتزم بالآداب العشر لسلاح الدعاء:
1- أن يترصد الأوقات الشريفة.
2- أن يغتنم الأحوال الشريفة. كحال الزحف في سبيل الله، وعند نزول الغيث، وحالة السجود.
3- أن يدعو مستقبلاً القبلة، ويرفع يديه.
4- أن يخفض الصوت بين المخافتة والجهر.
5- ألا يتكلف السجع في الدعاء.
6- أن يتضرع ويخشع رغبة ورهبة.
7- أن يجزم الدعاء ويوقن بالإجابة ويصدق رجاءه فيه.
8- أن يلح في الدعاء، ويكرره ثلاثاً، ولا يستبطئ الإجابة.
9- أن يفتتح الدعاء بذكر الله، وأن يصلي عليه { ويختتم بها.
10 وهو الأدب الباطن، وهو الأصل في الإجابة: أن يسبق الدعاء التوبة ورد المظالم)(4).
الاستغفار
أو القوة الاستغفارية التي يستشعرها كل من استجاب لنداء التوبة، فأكثر من الاستغفار، فيجد أن لديه قوى خفية لم يعهدها من قبل، ويستشعر أن هنالك فيوضات وبركات تزيده يقيناً بموعوده سبحانه: ويا قوم \ستغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى" قوتكم ولا تتولوا مجرمين 52 (هود).
وهكذا
ومن خلال تدبر القوى الخفية للعبادات والأسرار الدفينة للطاعات، يستطيع المسلم أن يتلمس باقي القوى العبادية الأخرى، والتي تناسب حالته الخاصة وظروفه
الخاصة.
ومن خلال هذه اللمحات التربوية، في هذه المحاولة المتواضعة، نرجو أن نكون قد وفقنا بعونه تعالى، في تحليل هذه السنة الإلهية الاجتماعية، التي تفسر (ظاهرة التآكل الروحي) عند المسلمين عامة، وعند الدعاة خاصة.
الهوامش:
(1) متفق عليه. (2) في ظلال القرآن: سيد قطب 20-2658 . (3) رواه أبو داود وحسنه الترمذي. (4) تهذيب موعظة المؤمنين: القاسمي 70-72 بتصرف(/6)
ظاهرة الهجرة
بقلم: صبحي درويش
soubhidarwish@hotmail.com
الهجرة ظاهرة كونية وهي إحدى سنن الحياة والصراع من اجل البقاء. وهي قديمة قدم الإنسان علي هذه الأرض ولا يهاجر الإنسان فقط، بل سمك السلمون والنحل والطيور والفراشات.إنها قانون وجودي.إن هجرة البشر وسمك السلمون والنحل والطيور والفراشات كلها تخضع لقوانين مثل الطفو في الفيزياء، والانحلال والتفاعل في الكيمياء،والنسبية في الكون، والكوانتوم في ميكانيكا الكم. فالماء يتحرك حتى يحدث السواء في الارتفاع. وبرادة الحديد تنجذب حول القطب المغناطيسي تحت قانون الاستقطاب. ولكن هجرة الإنسان غير هجرة السمك والنحل والطيور فهي حركة ثقافية.إن الناس لا يهاجرون إلى الصحراء، ولا يهاجرون إلى دول يحكمها الظالمون والمتجبرون، ولا يهاجرون إلى بلدان فقيرة. ولكنهم يهاجرون إلى حيث العمران والخير والغنى، ويهاجرون إلى حيث الأمان والعدل والحرية، فرارا من الظلم والاضطهاد بكل صوره الفكرية والنفسية والسياسية والاقتصادية.وكذلك يهاجر الناس عندما يبتلون بطاعون الحزب الواحد وعندما يعيشون في وطن تحول إلى سفاري تسرح فيها الضواري، ليس فيها أية ضمانة لأي شيء، في أي مكان وزمان ولو لقطة.و يرحل البدو عندما تضن الأرض بخيراتها. وتطير الطيور حيث الحب والدفء.ويفر البشر إلى بلاد الحرية والى مجتمعات ينعم فيها الإنسان بالضمانات من كل لون ضد المرض والشيخوخة والبطالة وينام قرير العين بدون خوف من أباطرة الأمن ورجال المخابرات.ويهاجر الشبان الطموحون للتحصيل المعرفي إلى حيث الإنتاج المعرفي ويلجأ المال حيث الأمان والاستقرار السياسي.يرى الفيلسوف الألماني (ايمانويل كانت)في كتابه (نحو السلام الدائم) أن الهجرات كانت تأريخا للاضطهاد السياسي.فكان الاضطهاد في طرف منه خيرا في انتشار الإنسان في الأرض.فمع كل اضطهاد تنشق مجموعة منه لتعمر بقية الأرض.
وهكذا عمرت الأرض بالإنسان بآلية الألم. ولم يحض القرآن على الهجرة من فراغ. «إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا. إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلةً ولا يهتدون سبيلا». إن التأمل الكوني مفيد ودراسة التاريخ وفهمه يسعفنا في فهم الحاضر والواقع التاريخي الراهن لكي نخرج من نفق التشاؤم والتفاؤل.وحسب المؤرخ البريطاني الحجة (توينبي) في كتابه (مختصر دراسة التاريخ) فالهجرة صيرورة تنطبق أيضا على الأنبياء والمعتقدات من خلال قانون الاعتزال والعودة. ويخبرنا التاريخ أن بوذا هرب من نيبال إلى الصين فانتشرت دعوته.وهجرة حواريي المسيح قلبت مصير روما.ومن هروب علماء القسطنطينية بعد اجتياح العثمانيين القسطنطينية زرعت بذور النهضة الأوربية. يجب أن نغادر حينما يتحول الوطن إلى سجن.لان الفتنة أشد من القتل، والظلم يفسد الشيم، والاستبداد يحول الإنسان إلى كائن مسخ يتقن الكذب والتمثيل بأفضل من القرود.
وتحت كلمة الأمن نشر الرعب، وجعل للأمن تسعة عشر جهاز أمن كل يغتصب المواطن بطريقته. وتحت دعوى الحرية قتلت الحريات وأسس الاستبداد بأشجار تنبت في أصل الجحيم طلعها كأنه رؤوس الشياطين. وفي سيرة الأنبياء والصالحين تجارب غنية بأحداثها ، زاخرة بدلالاتها ، متنوعة بمعطياتها وحتى لا نخرج عن موضوع الهجرة نذكر إبراهيم عليه السلام وقد ترك بلاد الرافدين ووفرة المياه وخضرة النيل ليأوي إلى واد غير ذي زرع عند بيته المحرم.ترك كل ذلك خلف ظهره ليأمن على ذريته في ارض غير ذي زرع، لأن أعظم زرع هو الإنسان في مناخ الحرية.ومع الديكتاتورية لا أمان ولا ضمان لأي شيء .(/1)
وهاجر فتية أهل الكهف فرارا من الاضطهاد السياسي ومعهم كلبهم،وفر موسى عليه السلام بدوره من جو الحضارة الفرعونية المقيت التي اعتاد أهلها أكل البصل والثوم مع الاهانة والإذلال إلى صحراء مدين ليتزوج هناك ويعيش، ولم يرجع إلى مصر إلا برسالة، ولم يكن له أن يعيش قط في بلد يرفع القبور لأشخاص فانين على هيئة أهرامات تناطح السحاب في مناخ ميت مميت من الديكتاتورية. ويخبرنا التاريخ أن أكبر الهجرات جاءت بأفضل النتائج فمع طوفان نوح تطهرت الأرض. ومع هجرة كولومبس تقرر مصير الغرب وانقلبت محاور التاريخ وانتقلت الحضارة من المتوسط إلى الأطلنطي. وأصبح الغرب يملك جميع مفاتيح التجارة الدولية بين القارات ويملك ثلاثة أخماس الكرة الأرضية، وأربعة أنهار من كل ستة أنهار، وخمسة فدادين، من كل سبعة فدادين صالحة للزراعة، وثمانية قروش، من كل تسعة قروش ونصف حسب (الصادق النيهوم) في كتابه (محنة ثقافة مزورة) . وانتشرت لغة ريتشارد قلب الأسد لتصبح اللغة العالمية، وبُني لأحفاده بيت على ظهر القمر. الهجرة ليست لكل الناس ولا يمكن ولو اشتهوها. ولا ينجح في الولوج إليها كل من فر حتى يلج الجمل في سم الخياط.ونحن نعرف اليوم من يهاجر في العادة رغبة هم زبدة القوم وأكثرهم فعالية فيتبخرون إلى سماء الغرب مثل الماء ويبقى في الأسفل مثل طحل القهوة من كتب عليه الشقاء والبلاء والغباء.وحسب الكاتب خالص جلبي «الهجرة ثلاثة أنواع: من جمهوريات الخوف والبطالة. وبالانسحاب الاجتماعي. أو بالانتحار بكاسيتات الوعاظ الجدد. ولو فتحت السفارة الكندية أو الأسترالية أبوابها في عاصمة عربية بدون قيود لهرع إليها الشباب في طوابير كجراد منتشر مهطعين إلى الداعي يقولون هذا يوم سعيد. ومن قفز فنجح في الوصول إلى جنة المهجر لم يرجع لبلده إلا زائرا يتمتع بلحظات السعادة مرتين: على متن الطائرة (قبل دخول) الوطن و(بعد الخروج) منه بعد أن يكتوي أياما في جحيمه. وإذا احتاج إلى إنجاز أمر دار في حلقات البيروقراطية مثل الحمار في الرحى.ويكون مثله مثل من غادر الجنة إلى جهنم. واكتوى بالنيران بعد أن ودع الجنة ورضوانا».يقول المثل الشركسي: من يخسر وطنه يخسر كل شيء.
حتى يجد وطنا جديدا لن يكون وطنا. ويقول أيضا «أن من هاجر واحتك بالحضارات الأخرى يصل إلى وضع لا يحسد عليه، فلم يعد الشرق يعجبه ولا الغرب يسعده، فهو نفسيا في الأرض التي لا اسم لها.والهجرة قرار مصيري، لكنه يبقى معاناة أفضل من المعاناة في جمهوريات تجمدت في مربعات الخوف والبطالة، وتوقف الزمن فيها عند كافور الإخشيدي. وعلى من يتخذ قرار الهجرة أن يتذكر ثلاثة أمور: انه قرار لا يتعلق به وحده بل ذريته من بعده. ثانياً انه قد يكون هجرة بغير عودة. وثالثا ليتذكر قول الفيلسوف ديكارت أن من يكثر التنقل يصبح غريبا في بلده».إن الهجرة إلى الغرب تحولت إلى نعمة الانفكاك في الزمن من العبودية في ظل الانظمة الاستبدادية بعد أن تحول المواطنون إلى أقنان.«ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله». ويرى الدكتور خالص جلبي في آية الهجرة بعدان سعة بالتحرر من ضيق الأرض والرزق والعقيدة إلى رحابة الأرض وسعة الرزق والتسامح الديني.(/2)
وهي قوة تجبر المجرمين وترغم أنوفهم بتغيير مسلكهم تجاه شعوبهم من المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا. فحركة الهجرة تعتبر بذلك نواة التغيير غير المباشرة والمعكوسة ضد أماكن اضطهاد الناس فهي ضرورية سواء طلبها الناس أو فروا إليها.ولم يختار المسلمون الهجرة مبتدأ لتأريخهم عن فراغ. والهجرة النبوية حدث أكبر من أن تعلق عليه سورة واحدة فالهجرة إيمان بالمستقبل وثقة بالغيب، وهي فكرة لا رحلة، وهي ليست تخلصا من فتنة بل لإقامة مجتمع آمن. ولن نغادر حركة الهجرة قبل أن نستمد منها تعاليم قد تعيننا على فهم وتفسير تاريخ البشرية وتاريخنا على وجه الخصوص..إن أي حدث تاريخي إنما يجيء تعبيرا عن إرادة الله التي تصوغه من خلال إرادة الإنسان.ولا يمكن دراسة تاريخ الكون وتاريخ البشرية والطبيعة والأحياء إلا من هذا المنطلق.إن الفعل الإلهي يتخذ أشكالا ثلاثة لخلق الحدث وصياغته كما يرى المؤرخ الدكتور عماد الدين خليل، أولها مباشرة الفعل التاريخي والشكل الثاني يتم عن طريق السببية التاريخية وأما الشكل الثالث للفعل الإلهي فيجيء عن طريق الحرية الإنسانية ذاتها، والتي هي في مداها البعيد جزء من إرادة الله في خلق الأفعال والأحداث.إن معظم مذاهب التفسير التاريخي قدمت معطياتها متخطية الإجابة عن السؤال المهم: ماهي العلاقة بين الله وبين الطبيعة بما فيها القوى المادية والإنسان بما انه مادة وروح في صنع التاريخ وإقامة الحضارات؟ سواء كان التفسير السحري (الميتافيزيقي) للتاريخ الذي تطور وعبر عن نفسه بالتفسير اللاهوتي الذي ساد تفكير مثقفي العصور الوسطى الأوربية أو التفسير الفردي البطولي للتاريخ أو التفسيرات الطبيعية التي بلغت أقصى حدتها بالمادية التاريخية.والواقع أن التفسير الحضاري تقدم خطوات تتسم إلى حد ما بالاتزان والتعقل والموضوعية والشمول الذي يستند إلى نظرة كلية وإدراك عميق لمقومات الحدث التاريخي.صحيح أنهم أعلنوا أن الحدث التاريخي لا تصنعه قوة واحدة..
لكنهم لم ينجوا من الوقوع في أسر المذهبية المحدودة، والنظرة الذاتية،واضطراب التجربة النفسية في عملية الاستشراف والاستقراء التاريخي، الأمر الذي أدى إلى تأرجح مواقع رؤيا هم، والوقوع بالتالي في كثير من الأخطاء، ليس هذا بطبيعة الحال مجال سردها وتحليلها. وفلسفة القرآن لقانون الهجرة محددة وواضحة وهي إما إلى مجتمع لا استضعاف فيه وإما بناء مجتمع لا أثر للاستضعاف فيه. ولما كان الحرمان الذي تعاني منه شعوب دول منابع الهجرة من حقوقها وما تتعرض له من تعسف وظلم وقهر من قوى الاستبداد والطغيان هو احد أهم أسباب الهجرة إذن يتعين علي الدول الغربية المستاءة من تنامي ظاهرة الهجرة أن تعمل كل ما بوسعها لتطوير تلك الدول ودعم توجهات إطلاق الحريات وتداول السلطة بالتوازي مع تحسين الأوضاع الاقتصادية فيها، لاسيما أن بمقدورها كقوى سياسية واقتصادية كبرى الضغط والمساعدة علي حد سواء هذا إن لم نقل إنها وراء تلك الأنظمة وإنها هي المسببة لتلك الظروف ، وإلا فطالما بقيت أكثرية بلدان الكرة الأرضية تحيا حياة دون خط الفقر فسيظل زخم الهجرة متواصلا حتي لو أحيطت أوروبا بأسوار شاهقة.
وقف جحا يوما بين أصحابه وقال: أنا جاهز بكل الشروط للزواج من ابنة السلطان، قالوا حسنا يا جحا وما الذي يمنعك من الزواج؟ قال بقي شرط واحد لم يكتمل قالوا: وما هو؟ قال أن ترضى ابنة السلطان الزواج بي.(/3)
ظاهرة ضعف الإيمان
المقدمة
إن الحمد لله نحمده نستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهديه الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله ، ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) آل عمران /102 .
( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً ) النساء /1 .
( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً ، يصلح لكم أعمالك ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً ) الأحزاب /70 ، 71 .
أما بعد :
فإن ظاهرة ضعف الإيمان مما عم وانتشر في المسلمين ، وعدد من الناس يشتكي من قسوة قلبه وتترد عباراتهم : " أحس بقسوة في قلبي " " لا أجد لذة للعبادات " " أشعر أن إيماني في الحضيض " ، " لا أتأثر بقراءة القرآن " ، " أقع في المعصية بسهولة " ، وكثيرون آثار المرض عليهم بادية ، وهذا المرض أساس كل مصيبة وسبب كل نقص وبلية .
وموضوع القلوب موضوع حساس ومهم ، وقد سمي القلب قلباً لسرعة تقلبه قال عليه الصلاة والسلام : ( إنما القلب من تقلبه ، إنما مثل القلب كمثل ريشة معلقة في أصل شجرة يقلبها الريح ظهراً لبطن ) رواه أحمد 4/408 وهو في صحيح الجامع 2364 . وفي رواية ( مثل القلب كمثل ريشة بأرض فلاة الريح ظهراً لبطن ) . أخرجه ابن أبي عاصم في كتاب السنة رقم 227 وإسناده صحيح : ظلال الجنة في تخريج السنة للألباني 1/102 .
وهو شديد التقلب كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ( لقلب ابن آدم أسرع تقلباً من القدر إذا استجمعت غلياناً ) المرجع السابق رقم 226 وإسناده صحيح : ظلال الجنة 1/102 . وفي رواية ( أشد تقلباً من القدر إذا اجتمعت غلياناً ) رواه أحمد 6/4 وهو في صحيح الجامع رقم 5147 . والله سبحانه وتعالى هو مقلب القلوب ومصرفها كما جاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء ) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك ) رواه مسلم رقم 2654 .
وحيث ( أن الله يحول بين المرء وقلبه ) وأنه لن ينجو يوم القيامة ( إلا من أتى الله بقلب سليم ) وأن الويل ( للقاسية قلوبهم من ذكر الله ) وأن الوعد بالجنة لـ ( من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب ) كان لابد للمؤمن أن يتحسس قلبه ويعرف مكمن الداء وسبب المرض ويشرع في العلاج قبل أن يطغى عله الران فيهلك والأمر عظيم والشأن خطير فإن الله قد حذرنا من القلب القاسي والمقفل والمريض والأعمى والأغلف والمنكوس والمطبوع المختوم عليه .
وفيما يلي محاولة للتعرف على مظاهر مرض ضعف الإيمان وأسبابه وعلاجه ، أسأل الله أن ينفعني بهذا العمل وإخواني المسلمين وأن يجزي بالجزاء الأوفى من ساهم في إخراجه وهو سبحانه المسؤول أن يرقق قلوبنا ويهدينا إنه نعم المولى وهو حسبنا ونعم الوكيل .
أولاً : مظاهر ضعف الإيمان
إن مرض ضعف الإيمان له أعراض ومظاهر متعددة فمنها :
1- الوقوع في المعاصي وارتكاب المحرمات : ومن العصاة من يرتكب معصية يصر عليها ومنهم من يرتكب أنواعاً من المعاصي ، وكثرة الوقوع في المعصية يؤدي إلى تحولها عادة مألوفة ثم يزول قبحها من القلب تدريجياً حتى يقع العاصي في المجاهرة بها ويدخل في حديث ( كل أمتي معافى إلا المجاهرين ، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله فيقول : يا فلان عملت البارحة كذا ، وكذا ، وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه ) رواه البخاري : فتح 10/486 .
2- ومنها : الشعور بقسوة القلب وخشونته : حتى ليحس الإنسان أن قلبه قد انقلب حجراً صلداً لا يترشح منه شيء ولا يتأثر بشيء ، والله جل وعلا يقول : ( ثم قست قلوبهم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة ) البقرة /74 ، وصاحب القلب القاسي لا تؤثر فيه موعظة الموت ولا رؤية الأموات ولا الجنائز ، وربما حمل الجنازة بنفسه وواراها بالتراب ، ولكن سيره بين القبور كسيره بين الأحجار .
3-ومنها : عدم إتقان العبادات : ومن ذلك شرود الذهن أثناء الصلاة وتلاوة القرآن والأدعية ونحوها ، وعدم التدبر والتفكر في معاني الأذكار ، فيقرؤها بطريقة رتيبة مملة هذا إذا حافظ عليها ، ولو اعتاد أن يدعو بدعاء معين في وقت معين أتت به السنة فإنه لا يفكر في معاني هذا الدعاء والله سبحانه وتعالى : ( … لا يقبل دعاء من قلب غافل لاه ) رواه الترمذي رقم 3479 وهو في السلسة الصحيحة 594 .(/1)
4- ومن مظاهر ضعف الإيمان : التكاسل عن الطاعات والعبادات ، وإضاعتها ، وإذا أداها فإنما هي حركات جوفاء لا روح فيها ، وقد وصف الله عز وجل المنافقين بقوله: ( وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى ) النساء /142 . ويدخل في ذلك عدم الاكتراث لفوات مواسم الخير وأوقات العبادة وهذا يدل على عدم اهتمام الشخص بتحصيل الأجر، فقد يؤخر الحج وهو قادر ويتفارط الغزو وهو قاعد ، ويتأخر عن صلاة الجماعة ثم عن صلاة الجمعة وقد قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم : ( لا يزال قوم يتأخرون عن الصف الأول حتى يخلفهم الله في النار ) رواه أبو داود رقم : 679 وهو في صحيح الترغيب رقم 510 . ومثل هذا لا يشعر بتأنيب الضمير إذا نام عن الصلاة المكتوبة ، وكذا لو فاتته سنة راتبة أو وِرْد من أوراده فإنه لا يرغب في قضائه ولا تعويض ما فاته ، وكذا يتعمد تفويت كل ما هو سنة أو من فروض الكفاية ، فربما لا يشهد صلاة العيد ( مع قول بعض أهل العم بوجوب شهودها ) ولا يصلي الكسوف والخسوف ، ولا يهتم بحضور الجنازة ولا الصلاة عليها ، فهو راغب عن الأجر ، مستغن عنه على النقيض ممن وصفهم الله بقوله : ( إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين ) الأنبياء /90 .
ومن مظاهر التكاسل في الطاعات ، التكاسل عن فعل السنن الرواتب ، وقيام الليل ، والتبكير إلى المساجد وسائر النوافل فمثلاً صلاة الضحى لا تخطر له ببال فضلاً عن ركعتي التوبة وصلاة الاستخارة .
5- ومن المظاهر : ضيق الصدر وتغير المزاج وانحباس الطبع حتى كأن على الإنسان ثقلاً كبيراً ينوء به ، فيصبح سريع التضجر والتأفف من أدنى شيء ، ويشعر بالضيق من تصرفات الناس حوله وتذهب سماحة نفسه ، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم ، الإيمان بقوله : ( الإيمان : الصبر والسماحة ) السلسلة الصحيحة رقم 554 ، 2/86 . ووصف المؤمن بأنه : ( يألف ويؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف ) السلسلة الصحيحة رقم 427 .
6- ومن مظاهر ضعف الإيمان : عدم التأثر بآيات القرآن ، لا بوعده ولا بوعيده ولا بأمره ولا نهيه ولا في وصفه للقيامة ، فضعيف الإيمان يمل من سماع القرآن ، ولا تطيق نفسه مواصلة قراءته فكلما فتح المصحف كاد أن يغلقه .
7- ومنها : الغفلة عن الله عز وجل في ذكره ودعائه سبحانه وتعالى : فيثقل الذكر على الذاكر ، وإذا رفع يده للدعاء سرعان ما يقبضهما ويمضي وقد وصف الله المنافقين بقوله : ( ولا يذكرون الله إلا قليلاً ) النساء /142 .
8- ومن مظاهر ضعف الإيمان : عدم الغضب إذا انتهكت محارم الله عز وجل لأن لهب الغيرة في القلب قد انطفأ فتعطلت الجوارح عن الإنكار فلا يأمر صاحبه بمعروف ولا ينهى عن منكر ولا يتمعر وجهه قط في الله عز وجل ، والرسول صلى الله عليه وسلم يصف هذا القلب المصاب بالضعف بقوله في الحديث الصحيح : ( تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها } أي : دخلت فيه دخولاً تاماً { نكت فيه نكتة سوداء } أي : نقط فيه نقطة { حتى يصل الأمر إلى أن يصبح كما أخبر عليه الصلاة والسلام في آخر الحديث : ( أسود مربادا } بياض يسير يخالطه السواد { كالكوز مجخياً } مائلاً منكوساً { لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه ) رواه مسلم رقم 144 . فهذا زال من قلبه حب المعروف وكراهية المنكر واستوت عنده الأمور فما الذي يدفعه إلى الأمر والنهي . بل إنه ربما سمع بالمنكر يعمل في الأرض فيرضى به فيكون عليه من الوزر مثل وزر شاهده فأقره كما ذكر عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح : ( إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها - وقال مرة أنكرها - كمن غاب عنها ، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها ) رواه أبو داود رقم 4345 ، وهو في صحيح الجامع 689 . فهذا الرضا منه وهو - عمل قلبي - أورثه منزلة الشاهد في الإثم .
9- ومنها حب الظهور وهذا له صور منها :
- الرغبة في الرئاسة والإمارة وعدم تقدير المسؤولية والخطر ، وهذا الذي حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بقوله : ( إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة فنعم المرضعة وبئس الفاطمة ) ( قوله : نعم المرضعة أي أولها لأن معها المال والجاه واللذات ، وقوله : بئس الفاطمة أي : آخرها لأن معه القتل والعزل والمطالبة بالتبعات يوم القيامة ) رواه البخاري رقم 6729 . وقال عليه الصلاة والسلام: ( إن شئتم أنبأتكم عن الإمارة وما هي ، أولها ملامة ، وثانيها ندامة ، وثالثها عذاب يوم القيامة إلا من عدل ) رواه الطبراني في الكبير 18/72 وهو في صحيح الجامع 1420 . ولو كان الأمر قياماً بالواجب وحملاً للمسؤولية في موضع لا يوجد من هو أفضل منه مع بذل الجهد والنصح والعدل كما فعل يوسف عليه السلام إذاً لقلنا أنعم وأكرم ، ولكن الأمر في كثير من الأحيان رغبة جامحة في الزعامة وتقدم على الأفضل وغمط أهل الحقوق حقوقهم واستئثار بمركز الأمر والنهي .(/2)
- محبة تصدر المجالس والاستئثار بالكلام وفرض الاستماع على الآخرين وأن يكون الأمر له ، وصدور المجالس هي المحاريب التي حذرنا منها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : ( اتقوا هذه المذابح - يعني المحاريب - ) رواه البيهقي 2/439 وهو في صحيح الجامع 120 .
- محبة أن يقوم له الناس إذا دخل عليهم لإشباع حب التعاظم في نفسه المريضة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من سره أن يمثل } أي ينتصف ويقوم { له عباد الله قياماً فليتبوأ بيتاً من النار ) رواه البخاري في الأدب المفرد 977 انظر السلة الصحيحة 357 . ولذلك لما خرج معاوية على ابن الزبير وابن عامر فقام ابن عامر وجلس ابن الزبير } وفي رواية : وكان أرزنهما { فقال معاوية لابن عامر : اجلس فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من أحب أن يمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار ) رواه أبو داود رقم 5229 والبخاري في الأدب المفرد 977 وهو في السلسلة الصحيحة 357 . ومثل هذا النوع من الناس يعتريه الغضب لو طبقت السنة فبدئ باليمين ، وإذا دخل مجلساً فلا يرضى إلا بأن يقوم أحدهم ليجلس هو رغم نهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله : ( لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه ) رواه البخاري فتح 11/62 .
10- ومنها : الشح والبخل ولقد مدح الله الأنصار في كتابه فقال : ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) وبين أن المفلحين هم الذين وقوا شح أنفسهم ولا شك أن ضعف الإيمان يولد الشح بل قال عليه الصلاة والسلام : ( لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبداً ) رواه النسائي : المجتبي 6/13 وهو في صحيح الجامع 2678 . أما خطورة الشح وآثاره على النفس فقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ( إياكم والشح فإنما هلك من كان قبلكم بالشح ، أمرهم بالبخل فبخلوا وأمرهم بالقطيعة فقطعوا وأمرهم بالفجور ففجروا ) رواه أبو داود 2/324 وهو في صحيح الجامع رقم 2678 . وأما البخل فإن صاحب الإيمان الضعيف لا يكاد يخرج شيئاً لله ولو دعى داعي الصدقة وظهرت فاقة إخوانه المسلمين وحلت بهم المصائب ، ولا أبلغ من كلام الله في هذا الشأن قال عز وجل : ( ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ) سورة محمد /38 .
11- ومنها : أن يقول الإنسان ما لا يفعل قال الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ، كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) الصف /2،3 . ولا شك أن هذا نوع النفاق ، ومن خالف قوله عمله صار مذموماً عند الله مكروهاً عند الخلق ، وأهل النار سيكتشفون حقيقة الذي يأمر بالمعروف في الدنيا ولا يأتيه ، وينهاهم عن المنكر ويأتيه .
12- ومنها : السرور والغبطة بما يصيب إخوانه المسلمين من فشل أو خسارة أو مصيبة أو زوال نعمة ، فيشعر بالسرور لأن النعمة قد زالت ، ولأن الشيء الذي كان يتميز عليه غيره به قد زال عنه .
13- ومن مظاهر ضعف الإيمان : النظر إلى الأمور من جهة وقوع الإثم فيها أو عدم وقوعه فقط وغض البصر عن فعل المكروه ، فبعض الناس عندما يريد أن يعمل عملاً من الأعمال لا يسأل عن أعمال البر وإنما يسأل : هل هذا العمل يصل إلى الإثم أم لا؟ هل هو حرام أم أنه مكروه فقط ؟ وهذه النفسية تؤدي إلى الوقوع في شرك الشبهات والمكروهات ، مما يؤدي إلى الوقوع في المحرمات يوماً ما ، فصاحبها ليس لديه مانع من ارتكاب عمل مكروه أو مشتبه فيه ما دام أنه ليس محرماً ، وهذا عين ما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، بقوله : ( من وقع في الشبهات وقع في الحرام ، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه .. ) الحديث في الصحيحين واللفظ لمسلم رقم 1599 بل إن بعض الناس إذا استفتى في شيء وأخبر أنه محرم ، يسأل هل حرمته شديدة أو لا ؟! وكم الإثم المترتب عليه ؟ فمثل هذا لا يكون لديه اهتمام بالابتعاد عن المنكر والسيئات بل عنده استعداد لارتكاب أول مراتب الحرام ، واستهانة بمحقرات الذنوب مما ينتج عنه الاجتراء على محارم الله ، وزوال الحواجز بينه وبين المعصية ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( لأعلمن أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاً ، فيجعلها الله عز وجل هباء منثوراً ) قال ثوبان : يا رسول الله صفهم لنا ، جلهم لنا ، أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم قال : ( أما أنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون ولكنهم أقوام إذا خلو بمحارم الله انتهكوها ) رواه ابن ماجة رقم 4245 قال في الزوائد إسناده صحيح ورجاله ثقات وهو في صحيح الجامع 5028 .(/3)
فتجده يقع في المحرم دون تحفظ ولا تردد ، وهذا أسوأ من الذي يقع في الحرام بعد تردد وتحرج وكلا الشخصين على خطر ، ولكن الأول أسوأ من الثاني ، وهذا النوع من الناس يستسهل الذنوب نتيجة لضعف إيمانه ولا يرى أنه عمل شيئاً منكراً ولذلك يصف ابن مسعود رضي الله عنه حال المؤمن وحال المنافق بقوله : ( إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه ، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا ) أي دفعه بيده . رواه البخاري فتح 11/102 ، وانظر تغليق التعليق 5/136 المكتب الإسلامي .
14- ومنها : احتقار المعروف ، وعدم الاهتمام بالحسنات الصغيرة وقد علمنا صلى الله عليه وسلم أن لا نكون كذلك فقد روى الإمام أحمد رحمه الله عن أبي جري الهجيمي قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت يا رسول الله ؟ إنا قوم من أهل البادية فعلمنا شيئاً ينفعنا الله تبارك وتعالى به فقال : ( لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستقي ، ولو أن تكلم أخاك ووجهك إليه منبسطاً ) مسند أحمد 5/63 وهو في السلسلة الصحيحة 1352 . فلو جاء يريد أن يستسقي من بئر وقد رفعت دلوك فأفرغته له ، فهذا العمل وإن كان ظاهره صغيراً لا ينبغي احتقاره ، وكذا لقيا الأخ بوجه طلق ، وإزالة القذر والأوساخ من المسجد ، وحتى ولو كان قشة فلعل هذا العمل يكون سبباً في مغفرة الذنوب ، والرب يشكر لعبده مثل هذه الأفعال فيغفر له ، ألم تر أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( مر رجل بغصن شجرة على ظهر طريق فقال : والله لأنحين هذا عن المسلمين لا يؤذيهم فأًدخل الجنة ) رواه مسلم رقم 1914 .
إن النفس التي تحقر أعمال الخير اليسيرة فيه سوء وخلل ويكفي في عقوبة الاستهانة بالحسنات الصغيرة الحرمان من مزية عظيمة دل عليها قوله صلى الله عليه وسلم : ( من أماط أذى عن طريق المسلمين كتب له حسنة ومن تقبلت له حسنة دخل الجنة ) رواه البخاري في الأدب المفرد رقم 593 وهو في السلسلة الصحيحة 5/387 . وكان معاذ رضي الله عنه يمشي ورجل معه فرفع حجراً من الطريق فقال { أي الرجل } ما هذا ؟ فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من رفع حجراً من الطريق كتب له حسنة ومن كانت له حسنة دخل الجنة ) المعجم الكبير للطبراني 20/101 ، السلسلة الصحيحة 5/387 .
15- عدم الاهتمام بقضايا المسلمين ولا التفاعل معها بدعاء ولا صدقة ولا إعانة ، فهو بارد الإحساس تجاه ما يصيب إخوانه في بقاع العالم من تسلط العدو والقهر والاضطهاد والكوارث ، فيكتفي بسلامة نفسه ، وهذا نتيجة ضعف الإيمان ، فإن المؤمن بخلاف ذلك ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن المؤمن من أهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ، يألم المؤمن لأهل الإيمان كما يألم الجسد لما في الرأس ) مسند أحمد 5/340 وهو في السلسلة الصحيحة 1137 .
16- ومن مظاهر ضعف الإيمان : انفصام عرى الأخوة بين المتآخيين ، يقول عليه الصلاة والسلام : ( ما تواد اثنان في الله عز وجل أو في الإسلام فيفرق بينهما أول ذنب { وفي رواية : ففرق بينهما إلا بذنب } يحدثه أحدهما ) البخاري في الأدب المفرد رقم 401 وأحمد في المسند 2/68 وهو في السلسلة الصحيحة 637 . فهذا دليل على شؤم المعصية قد يطال الروابط الأخوية ويفصمها ، فهذه الوحشة التي يجدها الإنسان بينه وبين إخوانه أحياناً هي نتيجة لتدني الإيمان بسبب ارتكاب المعاصي لأن الله يسقط العاصي من قلوب عباده ، فيعيش بينهم أسوأ عيش ساقط القدر زري الحال لا حرمة له ، وكذلك يفوته رفقة المؤمنين ودفاع الله عنهم فإن الله يدافع عن الذين آمنوا .
17- ومنها : عدم استشعار المسئولية في العمل لهذا لدين ، فلا يسعى لنشره ولا يسعى لخدمته على النقيض من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين لما دخلوا في الدين شعروا بالمسئولية على الفور ، وهذا الطفيل بن عمرو رضي الله عنه كم كان بين إسلامه وذهابه لدعوة قومه إلى الله عز وجل ؟! لقد نفر على الفور لدعوة قومه ، وبمجرد دخوله في الدين أحس أن عليه أن يرجع إلى قومه فرجع داعية إلى الله سبحانه وتعالى، والكثيرون اليوم يمكثون فترات طويلة ما بين التزامهم بالدين حتى وصولهم إلى مرحلة الدعوة إلى الله عز وجل .
كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يقومون بما يترتب على الدخول في الدين من معاداة الكفار والبراءة منهم ومفاصلتهم ، فهذا ثمامة بن أثال رضي الله عنه - رئيس أهل اليمامة - لما أسر وجيء به فربط إلى المسجد وعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام ثم قذف الله النور في قلبه فأسلم وذهب إلى العمرة فلما وصل مكة قال لكفار قريش : " لا يصلكم حبة حنطة من اليمامة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم " رواه البخاري فتح 8/87 . فمفاصلته للكفار ومحاصرته لهم اقتصادياً وتقديم كافة الإمكانات المتاحة لخدمة الدعوة حصلت على الفور ، لأن إيمانه الجازم استوجب منه هذا العمل .(/4)
18- ومن مظاهره الفزع والخوف عند نزول المصيبة أو حدوث مشكلة فتراه مرتعد الفرائص ، مختل التوازن ، شارد الذهن ، شاخص البصر ، يحار في أمره عندما يصاب بملمة أو بلية فتنغلق في عينيه المخارج وتركبه الهموم فلا يستطيع مواجهة الواقع بجنان ثابت ، وقلب قوي وهذا كله بسبب ضعف إيمانه ، ولو كان إيمانه قوياً لكان ثابتاً ، ولواجه أعظم الملمات وأقسى البليات بقوة وثبات .
19- ومنها : كثرة الجدال والمراء المقسي للقلب ، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح : ( ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أتوا الجدل ) رواه أحمد في المسند 5/252 وهو في صحيح الجامع 5633 . فالجدل بغير دليل ولا قصد صحيح يؤدي إلى الابتعاد عن الصراط المستقيم ، وما أكثر جدال الناس اليوم بالباطل يتجادلون بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ، ويكفي دافعاً لترك الخصلة الذميمة قوله صلى الله عليه وسلم : ( أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً ) رواه أبو داود 5/150 وهو في صحيح الجامع 1464 .
20- ومنه : التعلق بالدنيا ، والشغف بها ، والاسترواح إليها ، فيتعلق القلب بالدنيا إلى درجة يحس صاحبه بالألم إذا فاته شيء من حظوظها كالمال والجاه والمنصب والمسكن ، ويعتبر نفسه مغبوناً سيء الحظ لأنه لم ينل ما ناله غيره ، ويحس بألم وانقباض أعظم إذا رأى أخاه المسلم قد نال بعض ما فاته هو من حظوظ الدنيا ، وقد يحسده ، ويتمنى زوال النعمة عنه ، وهذا ينافي الإيمان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يجتمعان في قلب عبد الإيمان والحسد ) . رواه أبو داود 5/150 وهو في صحيح الجامع 1464 .
21- ومنها : أن يأخذ كلام الإنسان وأسلوبه الطابع العقلي البحت ويفقد السمة الإيمانية حتى لا تكاد تجد في كلام هذا الشخص أثراً لنص من القرآن أو السنة أو كلام السلف رحمهم الله .
22- ومنها : المغالاة في الاهتمام بالنفس مأكلاً ومشرباً وملبساً ومسكناً ومركباً ، فتجده يهتم بالكماليات اهتماماً بالغاً ، فينمق هندامه ويجهد نفسه بشراء الرقيق من اللباس ويزوق مسكنه وينفق الأموال والأوقات في هذه التحسينات ، وهي مما لا ضرورة له ولا حاجة - مع أن من إخوانه المسلمين من هم في أشد الحاجة لهذه الأموال - ويعمل هذا كله حتى يغرق في التنعيم والترفه المنهي عنه كما في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه لما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وأوصاه فقال : ( إياك والتنعيم ، فإن عباد الله ليسو بالمتنعمين ) رواه أبو نعيم في الحلية 5/155 وهو في السلسلة الصحيحة 353 وعند أحمد بلفظ إياي : المسند 5/243 .
ثانياً : أسباب ضعف الإيمان
إن لضعف الإيمان أسباباً كثيرة ومنها ما هو مشترك مع الأعراض مثل الوقوع في المعاصي والانشغال بالدنيا وهذا ذكر لبعض الأسباب مضافاً إلى ما سبق : -
1- الابتعاد عن الأجواء الإيمانية فترة طويلة وهذا مدعاة لضعف الإيمان في النفس ، يقول الله عز وجل : ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون ) الحديد /16 . فدلت الآية الكريمة على أن : طول الوقت في البعد عن الأجواء الإيمانية مدعاة لضعف الإيمان في القلب ، فمثلاً : الشخص الذي يبتعد عن إخوانه في الله لفترة طويلة لسفر أو وظيفة ونحو ذلك فإنه يفتقد الجو الإيماني الذي كان يتنعم في ظلاله ، ويستمد منه قوة قلبه والمؤمن قليل بنفسه كثير بإخوانه ، يقول الحسن البصري رحمه الله تعالى : ( إخواننا أغلى عندنا من أهلينا فأهلونا يذكروننا الدنيا ، وإخواننا يذكروننا بالآخرة ) وهذا الابتعاد إذا استمر يخلف وحشة تقلب بعد حين إلى نفرة من تلك الأجواء الإيمانية ، يقسو على أثرها القلب ويظلم ، ويخبو فيه نور الإيمان . وهذا مما يفسر حدوث الانتكاسة لدى البعض في الإجازات التي يسافرون فيها أو عقب انتقالهم إلى أماكن أخرى للعمل أو الدراسة .
2- الابتعاد عن القدوة الصالحة ، فالشخص الذي يتعلم على يدي رجل صالح يجمع بين العلم النافع والعمل الصالح وقوة الإيمان ، يتعاهده ويحذيه مما عنده من العلم والأخلاق والفضائل ، لو ابتعد عنه فترة من الزمن فإن المتعلم يحس بقسوة في قلبه ، ولذلك لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ووري التراب قال الصحابة : ( فأنكرنا قلوبنا ) ، وأصابتهم وحشة لأن المربي والمعلم والقدوة عليه الصلاة والسلام قد مات ، وجاء وصفهم أيضاً في بعض الآثار ( كالغنم في الليلة الشاتية المطيرة ) ولكنه عليه الصلاة والسلام ترك فيمن ترك وراءه جبالاً كل منهم يصلح للخلافة وصار بعضهم لبعض قدوة ، أما اليوم فالمسلم في أشد الحاجة إلى قدوة يكون قريباً منه .(/5)
3- ومن الأسباب : الابتعاد عن طلب العلم الشرعي والاتصال بكتب السلف والكتب الإيمانية التي تحيي القلب ، فهناك أنواع من الكتب يحس القارئ بأنها تستثير في قلبه الإيمان ، وتحرك الدوافع الإيمانية الكامنة في نفسه وعلى رأسها كتاب الله تعالى وكتب الحديث ثم كتب العلماء المجيدين في الرقائق والوعظ والذين يحسنون عرض العقيدة بطريقة تحيي القلب ، مثل كتب العلامة ابن القيم وابن رجب وغيرهم ، والانقطاع عن مثل هذه الكتب مع الإغراق في قراءة الكتب الفكرية فقط أو كتب الأحكام المجردة عن الأدلة أو كتب اللغة والأصول مثلاً من الأشياء التي تورث أحياناً قسوة القلب ، وهذا ليس ذماً في كتب اللغة أو الأصول ونحوها بل هو تنبيه لمن أعرض عن كتب التفسير والحديث ، فلا تكاد تجده يقرأ فيها مع أنها هي الكتب التي تصل القلب بالله عز وجل فعندما تقرأ في الصحيحين ( مثلاً ) تشعر أنك تعيش في أجواء العصر الأول مع الرسول صلى الله عليه وسلم ومع الصحابة ، وتتعرض لنفحات إيمانية ، من سيرتهم ، وحياتهم ، وتلك الأحداث التي جرت في عصرهم :
أهل الحديث هم أهل الرسول وإن لم يصحبوا نفسه ، أنفاسه صحبوا
وهذا السبب - وهو الابتعاد عن الكتب الإيمانية - آثاره بادية على أولئك الذين يدرسون دراسات لا علاقة لها بالإسلام كالفلسفة وعلم النفس والاجتماع وغيرها من الموضوعات التي صيغت بمعزل عن الإسلام ، وكذا من يعشق قراءة القصص الخيالية وقصص الحب والغرام وهواة تتبع الأخبار غير النافعة من الصحف والمجلات والمذكرات وغيرها من الاهتمام بها والمداومة على متابعتها .
4- ومنها : وجود الإنسان المسلم في وسط يعج بالمعاصي فهذا يتباهى بمعصية ارتكبها وآخر يترنم بألحان أغنية وكلماتها وثالث يدخن ورابع يبسط مجلة ماجنة وخامس لسانه منطلق باللعن والسباب والشتائم وهكذا ، أما القيل والقال والغيبة والنميمة وأخبار المباريات فمما لا يحصى كثرة .
وبعض الأوساط لا تذكّر إلا بالدنيا كما هو الحال في كثير من مجالس الناس ومكاتبهم اليوم ، فأحاديث التجارة والوظيفة والأموال والاستثمارات ومشكلات العمل والعلاوات والترقيات والانتدابات وغيرها تحتل الصدارة في اهتمامات كثير من الناس وأحاديثهم .
وأما البيوت - فحدث ولا حرج - حيث الطامات والأمور المنكرات مما يندى له جبين المسلم وينصدع قلبه ، فالأغاني الماجنة ، والأفلام الساقطة ، والاختلاط المحرم وغير ذلك مما تمتلئ به بيوت المسلمين ، فمثل هذه البيئات تصاب فيها القلوب بالمرض وتصبح قاسية ولا شك .
5- ومنها : الإغراق في الاشتغال بالدنيا حتى يصبح القلب عبداً لها والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : ( تعس عبد الدينار ، وعبد الدرهم ) رواه البخاري رقم 2730 . ويقول عليه الصلاة والسلام : ( إنما يكفي أحدكم ما كان في الدنيا مثل زاد الراكب ) رواه الطبراني في الكبير 4/78 وهو في صحيح الجامع 2384 . يعني الشيء اليسير الذي يبلغه المقصود . وهذه الظاهرة واضحة في هذه الأيام التي عم فيها الطمع المادي والجشع في الازدياد من حطام الدنيا وصار الناس يركضون وراء التجارات والصناعات والمساهمات وهذا مصداق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم : ( إن الله عز وجل قال : إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ولو كان لابن آدم واد لأحب أن يكون إليه ثان ولو كان له واديان لأحب أن يكون إليهما ثالث ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ثم يتوب الله على من تاب ) رواه أحمد 5/219 وهو ففي صحيح الجامع 1781 .(/6)
6- ومن الأسباب أيضاً : الانشغال بالمال والزوجة والأولاد ، يقول الله عز وجل : ( واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة ) الأنفال /28 . ويقول عز وجل : ( زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب ) آل عمران /14 ومعنى هذه الآية أن حب هذه الأشياء وفي مقدمتها النساء والبنون إذا كان مقدماً على طاعة الله ورسوله فإنه مستقبح مذموم صاحبه ، أما إن كان حب ذلك على وجهه الشرعي المعين على طاعة الله فهو محمود صاحبه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( حبب إليّ من الدنيا النساء والطيب وجعل قرة عيني في الصلاة ) رواه أحمد 3/128 وهو في صحيح الجامع 3124 . وكثير من الناس ينساق وراء الزوجة في المحرمات وينساق وراء الأولاد منشغلاً عن طاعة الله ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الولد محزنة مجبنة مجهلة مبخلة ) رواه الطبراني في الكبير 24/241 وهو في صحيح الجامع 1990 . قوله مبخلة : إذا أراد الإنسان أن ينفق في سبيل الله ذكره الشيطان بأولاده فيقول : أولادي أحق بالمال أبقيه لهم يحتاجونه من بعدي فيبخل عن الإنفاق في سبيل الله ، وقوله : مجبنة أي إذا أراد الرجل أن يجاهد في سبيل الله يأتيه الشيطان فيقول تقتل وتموت فيصبح الأولاد ضياعاً يتامى ، فيقعد عن الخروج للجهاد ، وقوله : مجهلة أي يشغل الأب عن طلب العلم والسعي في تحصيله وحضور مجالسه وقراءة كتبه . وقوله : محزنة أي إذا مرض حزن عليه وإذا طلب الولد شيئاً لا يقدر عليه الأب حزن الأب ، وإذا كبر وعق أباه فذلك الحزن الدائم والهم اللازم .
وليس المقصود ترك الزواج والإنجاب ولا ترك تربية الأولاد ، وإنما المقصود التحذير من الانشغال معهم بالمحرمات .
وأما فتنة المال فيقول عليه الصلاة والسلام : ( إن لكل أمة فتنة ، وفتنة أمتي المال ) رواه الترمذي 2336 وهو في صحيح الجامع 2148 . والحرص على المال أشد إفساداً للدين من الذئب الذي تسلط على زريبة غنم وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه ) رواه الترمذي رقم 2376 وهو في صحيح الجامع 5620 . ولذلك حث النبي صلى الله عليه وسلم على أخذ الكفاية دون توسع يشغل عن ذكر الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنما يكفيك من جمع المال خادم ومركب في سبيل الله ) رواه أحمد 5/290 وهو في صحيح الجامع 2386 . وقد تهدد النبي صلى الله عليه وسلم المكثرين من جمع الأموال إلا أهل الصدقات فقال : ( ويل للمكثرين إلا من قال بالمال هكذا وهكذا وهكذا أربع عن يمينه وعن شماله ومن قدامه ومن ورائه ) رواه ابن ماجه رقم 4129 وهو في صحيح الجامع 7137 . يعني في أبواب الصدقة ووجوه البر .
7- طول الأمل : قال الله تعالى : ( ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون) وقال علي رضي الله عنه : ( إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق وأما طول الأمل فينسي الآخرة ) فتح الباري 11/236 . وجاء في الأثر : ( أربعة من الشقاء جمود العين وقسوة القلب وطول الأمل والحرص على الدنيا ) " ويتولد من طول الأمل الكسل عن الطاعة والتسويف والرغبة في الدنيا والنسيان للآخرة والقسوة في القلب لأن رقته وصفاءه إنما يقع بتذكير الموت والقبر والثواب والعقاب وأهوال القيامة كما قال تعالى : ( فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم ) وقيل : من قصر أمله قل همه وتنور قلبه لأنه إذا استحضر الموت اجتهد في الطاعة … " فتح الباري 11/237 .
8- ومن أسباب ضعف الإيمان وقسوة القلب : ( الإفراط في الأكل والنوم والسهر والكلام والخلطة ، فكثرة الأكل تبلد الذهن وتثقل البدن عن طاعة الرحمن وتغذي مجاري الشيطان في الإنسان وكما قيل : " من أكل كثيراً شرب كثيراً فنام كثيراً وخسر أجراً كبيراً " فالإفراط في الكلام يقسي القلب ، والإفراط في مخالطة الناس تحول بين المرء ومحاسبة نفسه والخلوة بها والنظر في تدبير أمرها ، وكثرة الضحك تقضي على مادة الحياة في القلب فيموت ، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح : ( لا تكثروا الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب ) رواه ابن ماجه 4193 وهو في صحيح الجامع . وكذلك الوقت الذي لا يملأ بطاعة الله تعالى ينتج قلباً صلداً لا تنفع فيه زواجر القرآن ولا مواعظ الإيمان .
وأسباب ضعف الإيمان كثيرة ليس بالوسع حصرها ، ولكن يمكن أن يسترشد بما ذكر على ما لم يذكر منها ، والعاقل يدرك ذلك من نفسه ، نسأل الله أن يطهر قلوبنا ويقينا شر أنفسنا .
ثالثاً : علاج ضعف الإيمان(/7)
روى الحاكم في مستدركه والطبراني في معجمه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب فأسالوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم ) رواه الحاكم في المستدرك 1/4 وهو في السلسلة الصحيحة 1585 وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/52 رواه الطبراني في الكبير وإسناده حسن . يعني بذلك أن الإيمان يبلى في القلب كما يبلى الثوب إذا اهترأ وأصبح قديماً ، وتعتري قلب المؤمن في بعض الأحيان سحابة من سحب المعصية فيظلم وهذه الصورة صورها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الصحيح : ( ما من القلوب قلب إلا وله سحابة كسحابة القمر ، بينا القمر مضيء إذ علته سحابة فاظلم ، إذ تجلت عنه فأضاء ) رواه أبو نعيم في الحلية 2/196 وهو في السلسلة الصحيحة 2268 . فالقمر تأتي عليه أحياناً سحابة تغطي ضوءه ، وبعد برهة من الزمن تزول وتنقشع فيرجع ضوء القمر مرة أخرى ليضيء في السماء ، وكذلك قلب المؤمن تعتريه أحياناً سحب مظلمة من المعصية ، فتحجب نوره ، فيبقى الإنسان في ظلمة ووحشة ، فإذا سعى لزيادة إيمانه واستعان بالله عز وجل انقشعت تلك السحب ، وعاد نور قلبه يضيء كما كان .
ومن المرتكزات المهمة في فهم قضية ضعف الإيمان وتصور علاجها هو معرفة أن الإيمان يزيد وينقص وهذا من صميم اعتقاد أهل السنة والجماعة ، فإنهم يقولون أن الإيمان نطق باللسان واعتقاد بالجنان ( أي القلب ) وعمل بالأركان ( أي الجوارح ) يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان ، وقد دلت على هذا الأدلة من الكتاب والسنة فمنها قوله تعالى : ( ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ) وقوله : ( أيكم زادته هذه إيماناً ) وقوله صلى الله عليه وسلم عليه وسلم : ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) البخاري فتح 1/51 . وأثر الطاعة والمعصية في الإيمان زيادة ونقصاناً أمر معلوم مشاهد ومجرب فلو أن شخصاً خرج يمشي في السوق ينظر إلى المتبرجات ويسمع صخب أهل السوق ولغوهم ثم خرج فذهب إلى المقبرة فدخلها فتفكر ورق قلبه فإنه يجد فرقاً بيناً بين الحالتين فإذا القلب يتغير بسرعة.
وعن علاقة المفهوم بموضوعنا يقول بعض السلف : " من فقه العبد أن يتعاهد إيمانه ، وما ينقص منه ، ومن فقه العبد أن يعلم أيزداد إيمانه ؟ أو ينقص ؟ وإن من فقه الرجل أن يعلم نزغات الشيطان أنى تأتيه ؟ " شرح نونية ابن القيم لابن عيسى 2/140 .
ومما ينبغي معرفته أن نقص الإيمان إذا أدى إلى ترك واجب أو فعل محرم فهذا فتور خطير مذموم يجب عليه التوبة إلى الله والشروع في علاج نفسه أما إذا لم يؤد الفتور إلى ترك واجب أو فعل محرم وإنما كان تراجعاً في عمل مستحبات مثلاً فعلى صاحبه أن يسوس نفسه ويسدد ويقارب حتى يعود إلى نشاطه وقوته في العبادة وهذا مما يستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم : ( لكل عمل شرة - يعني نشاط وقوة - ولكل شرة فترة - يعني ضعف وفتور - فمن كانت فترته إلى سنتي فقد أفلح ومن كانت إلى غير ذلك فقد هلك ) رواه أحمد 2/210 وهو في صحيح الترغيب رقم 55 .
وقبل الشروع في الكلام عن العلاج يحسن ذكر ملاحظة وهي : أن كثيراً من الذين يحسون بقسوة قلوبهم يبحثون عن علاجات خارجية يريدون الاعتماد فيها على الآخرين مع أن بقدورهم - لو أرادوا - علاج أنفسهم بأنفسهم وهذا هو الأصل لأن الإيمان علاقة بين العبد وربه وفيما يلي ذكر عدد من الوسائل الشرعية التي يمكن للمرء المسلم أن يعالج بها ضعف إيمانه ويزيل قسوة قلبه بعد الاعتماد على الله عز وجل وتوطين النفس على المجاهدة : -
1- تدبر القرآن العظيم الذي أنزله الله عز وجل تبياناً لكل شيء ونوراً يهدي به سبحانه من شاء من عباده ، ولا شك أن فيه علاجاً عظيماً ودواء فعالاً قال الله عز وجل : ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ) أما طريقة العلاج فهي التفكر والتدبر .
( وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يتدبر كتاب الله ويردده وهو قائم بالليل ، حتى إنه في إحدى الليالي قام يردد آية واحدة من كتاب الله ، وهو يصلي لم يجاوزها حتى أصبح وهي قوله تعالى : { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } سورة المائدة /118 ) رواه أحمد 4/149 وفي صفة الصلاة للألباني ص : 102 .(/8)
وكان عليه الصلاة والسلام يتدبر القرآن وقد بلغ في ذلك مبلغاً عظيماً ، روى ابن حبان في صحيحه بإسناد جيد عن عطارة قال : دخلت أنا وعبيد الله بن عمير على عائشة رضي الله عنها ، فقال عبيد الله بن عمير : ( حدثنا بأعجب شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكت وقالت : قام ليلة من الليالي - تعني يصلي - فقال : يا عائشة ، ذريني أتعبد لربي ، قالت : قلت : والله إني لأحب قربك وأحب ما يسرك قالت : فقام فتطهر ثم قام يصلي فلم يزل يبكي حتى بل حجره ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض ، وجاء بلال يؤذنه بالصلاة فلما رآه يبكي قال : يا رسول الله تبكي وقد غفر الله لك تقدم من ذنبك وما تأخر قال : أفلا أكون عبداً شكوراً ، لقد نزلت علي الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها : { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض … } آل عمران /190 ) السلسلة الصحيحة 1/106 . وهذا يدل على وجوب تدبر هذه الآيات .
والقرآن فيه توحيد ووعد ووعيد وأحكام وأخبار وقصص وآداب وأخلاق وآثارها في النفس متنوعة وكذلك من السور ما يرهب النفس أكثر من سور أخرى ، يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( شيبتني هود وأخواتها قبل المشيب ) السلسلة الصحيحة 2/679 . وفي رواية (هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت ) رواه الترمذي 3297 وهو في السلسلة الصحيحة برقم 955 . لقد شيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لما احتوته من حقائق الإيمان والتكاليف العظيمة التي ملأت بثقلها قلب الرسول صلى الله عليه وسلم فظهرت آثارها على شعره وجسده ، ( فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ) .
وقد كان صحابته صلى الله عليه وسلم يقرأون ويتدبرون ويتأثرون وكان أبو بكر رضي الله عنه رجلاً أسيفا رقيق القلب إذا صلّى بالناس وقرأ كلام الله لا يتمالك نفسه من البكاء ومرض عمر من أثر تلاوة قول الله تعالى : ( إن عذاب ربك لواقع ماله من دافع ) الأثر بأسانيده في تفسير ابن كثير 7/406 . وسمع نشيجه من وراء الصفوف لما قرأ قول الله عن يعقوب عليه السلام : ( إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ) مناقب عمر لابن الجوزي 167 . وقال عثمان رضي الله عنه : لو طهرت قلوبنا ما شبعت من كلام الله ، وقتل شهيداً مظلوماً ودمه على مصحفه وأخبار الصحابة في هذا كثيرة ، وعن أيوب قال سمعت سعيداً - ابن جبير - يردد هذه الآية في الصلاة بضعاً عشرين مرة ( واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ) سير أعلام النبلاء 4/324 . وهي أخر آية نزلت من القرآن وتمامها ( ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ) . وقال إبراهيم بن بشار : الآية التي مات فيها علي بن الفضيل : ( ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ) في هذا الموضع مات وكنت فيمن صلّى عليه رحمه الله . سير أعلام النبلاء 4/446 . وحتى عند سجدات التلاوة كانت لهم مواقف فمنها قصة ذلك الرجل رحمه الله الذي قرأ قول الله عز وجل: ( ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً ) الإسراء /109 . فسجد سجدة التلاوة ثم قال معاتباً نفسه : هذا السجود فأين البكاء ؟ .
ومن أعظم التدبر أمثال القرآن لأن الله سبحانه وتعالى لما ضرب لنا الأمثال في القرآن ندبنا إلى التفكر والتذكر فقال : ( ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ) وقال : ( وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون ) .
تفكر أحد السلف مرة في مثل من أمثال القرآن فلم يتبين له معناه فجعل يبكي ، فسئل ما يبكيك ؟ فقال : إن الله عز وجل يقول : ( وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ) العنكبوت /43 . وأنا لم أعقل المثل ، فلست بعالم ، فأبكي على ضياع العلم مني .
وقد ضرب الله لنا في القرآن أمثلة كثيرة منها : مثل الذي استوقد ناراً ، ومثل الذي ينعق بما لا يسمع ، ومثل الحبة التي أنبتت سبع سنابل ، ومثل الكلب الذي يلهث ، والحمار يحمل أسفاراً ، والذباب ، والعنكبوت ، ومثل الأعمى والأصم ، والبصير والسميع ، ومثل الرماد الذي اشتدت به الريح ، والشجرة الطيبة ، والشجرة الخبيثة ، والماء النازل من السماء ومثل المشكاة التي فيها مصباح ، والعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء والرجل الذي فيه شركاء متشاكسون ، وغيرها ، والمقصود الرجوع إلى آيات الأمثال والاعتناء بها عناية خاصة .
ويلخص ابن القيم رحمه الله ما على المسلم أن يفعله لعلاج قسوة قلبه بالقرآن فيقول : " ملاك ذلك أمران : أحدهما : أن تنقل قلبك من وطن الدنيا فتسكنه في وطن الآخرة ، ثم تقبل به كله على معاني القرآن واستجلائها ، وتدبر وفهم ما يراد منه ، وما نزل لأجله ، وأخذ نصيبك من كل آياته ، وتنزلها على داء قلبك ، فإذا نزلت هذه الآية على داء القلب برئ القلب بإذن الله " .(/9)
2- استشعار عظمة الله عز وجل ، ومعرفة أسمائه وصفاته ، والتدبر فيها ، وعقل معانيها ، واستقرار هذا الشعور في القلب وسريانه إلى الجوارح لتنطق عن طريق العمل بما وعاه القلب فهو ملكها وسيدها وهي بمثابة جنوده وأتباعه فإذا صلح صلحت وإذا فسد فسدت .
والنصوص من الكتاب والسنة في عظمة الله كثيرة إذا تأملها المسلم ارتجف قلبه وتواضعت نفسه للعلي العظيم وخضعت أركانه للسميع العليم وازداد خشوعاً لرب الأولين والآخرين فمن ذلك ما جاء من أسمائه الكثيرة وصفاه سبحانه فهو العظيم المهيمن الجبار المتكبر القوي القهار الكبير المتعال ، هو الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون ، وهو القاهر فوق عباده ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ، عزيز ذو انتقام ، قيوم لا ينام ، وسع كل شيء علماً ، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، وقد وصف سعة علمه بقوله : ( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ) الأنعام /59 . ومن عظمته ما أخبر عن نفسه بقوله: ( وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه ) الزمر/67 . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماوات بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض " رواه البخاري 6947 .ويتضعضع الفؤاد ويرجف القلب عند التأمل في قصة موسى عليه السلام لما قال : ( رب أرني أنظر إليك ) فقال الله : ( لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخر موسى صعقاً ) الأعراف /143 . ولما فسر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية قرأها وقال بيده : ( هكذا - ووضع الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر - ثم قال عليه الصلاة والسلام : ( فساخ الجبل ) الحديث رواه الترمذي برقم 3074 وأحمد 3/125 ، 209 وساق ابن كثير طرق الحديث في تفسيره 3/466 ، قال ابن القيم : إسناده صحيح على شرط مسلم ، وخرجه الألباني وصححه في تخريج السنة لابن أبي عاصم حديث 480 . والله سبحانه وتعالى : ( حجابه النور ، لو كشفه لحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ) رواه مسلم برقم 197 . ومن عظمة الله ما حدث به الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقال : ( إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا للذي قال الحق وهو العلي الكبير) رواه البخاري 7043 . والنصوص في هذا كثيرة والمقصود أن استشعار عظمة الرب بالتأمل في هذه النصوص وغيرها من أنفع الأشياء في علاج ضعف الإيمان ويصف ابن القيم رحمه الله عظمة الله بكلام عذب جميل فيقول : ( يدبر أمر الممالك ويأمر وينهى ويخلق ويرزق ويميت ويحيي ويعز ويذل ويقلب الليل والنهار ، ويداول الأيام بين الناس ، ويقلب الدول فيذهب بدولة ويأتي بأخرى ، وأمره وسلطانه نافذ في السماوات وأقطارها وفي الأرض وما عليها وما تحتها وفي البحار والجو ، قد أحاط بكل شيء علماً وأحصى كل شيء عدداً .. ووسع سمعه الأصوات فلا تختلف عليه ولا تشتبه عليه ، بل يسمع ضجيجها باختلاف لغاتها على تفنن حاجاتها ، فلا يشغله سمع عن سمع ، ولا تغلطه كثرة المسائل ، ولا يتبرم بإلحاح الملحين ذوي الحاجات ، وأحاط بصره بجميع المرئيات فيرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء ، فالغيب عنده شهادة والسر عنده علانية .. ( يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن ) يغفر ذنباً ، ويفرج هماً ، ويكشف كرباً ، ويجبر كسيراً، ويغني فقيراً ، ويهدي ضالاً ، ويرشد حيراناً ، ويغيث لهفاناً ، ويشبع جائعاً ، ويكسو عارياً ، ويشفي مريضاً ، ويعافي مبتلى ، ويقبل تائباً ، ويجزي محسناً ، وينصر مظلوماً ، ويقصم جباراً ، ويستر عورة ، ويؤمن روعة ، ويرفع أقواماً ، ويضع آخرين ... لو أن أهل سماواته وأهل أرضه ، وأول خلقه وأخرهم ، وإنسهم وجنهم ، كانوا على أتقى قلب رجل منهم ، ما زاد ذلك في ملكه شيئاً ولو أن أول خلقه وأخرهم وإنسهم وجنهم كانوا على أفجر قلب رجل منهم ما نقص ذلك من ملكه شيئاً ، ولو أن أهل سماواته وأهل أرضه ، وأول خلقه وأخرهم ، وإنسهم وجنهم ، وحيهم وميتهم ، ورطبهم ويابسهم ، قاموا على صعيد واحد فسألوه فأعطى كلا منهم ما سأله ، ما نقص ذلك مما عنده مثقال ذرة .. هو الأول الذي ليس قبله شيء ، والآخر الذي ليس دونه شيء ، تبارك وتعالى أحق من ذكر ، وأحق من عبد ، وأولى من شكر ، وارأف من ملك ، وأجود من سئل … هو الملك الذي لا شريك له ، والفرد فلا ند له ، والصمد فلا ولد له ، والعلي فلا شبيه له ، كل شيء هالك إلا وجهه ، وكل شيء زائل إلا ملكه .. لن يطاع إلا بأذنه ، ولن يعصى إلا بعلمه ، يطاع فيشكر ، ويعصى فيغفر، كل نقمة منه عدل ، وكل نعمة منه فضل ، أقرب شهيد ، وأدنى(/10)
حفيظ ، أخذ بالنواصي، وسجل الآثار ، وكتب الآجال ، فالقلوب له مفضية ، والسر عنده علانية ، عطاؤه كلام وعذابه كلام ( إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ) الوابل الصيب ص : 125 بتصرف .
3- طلب العلم الشرعي : وهو العلم الذي يؤدي تحصيله إلى خشية الله وزيادة الإيمان به عز وجل كما قال الله تعالى : ( إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ ) فلا يستوي في الإيمان الذين يعلمون والذين لا يعلمون ، فكيف يستوي من يعلم تفاصيل الشريعة ومعنى الشهادتين ومقتضياتهما وما بعد الموت من فتنة القبر وأهوال المحشر ومواقف القيامة ونعيم الجنة وعذاب النار وحكمة الشريعة في أحكام الحلال والحرام وتفصيل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، وغير ذلك من أنواع العلم كيف يستوي هذا في الإيمان ومن هو جاهل بالدين وأحكامه وما جاءت به الشريعة من أمور الغيب ، حظه من الدين التقليد وبضاعته من العلم مزجاة ، ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) .
4- لزوم حلق الذكر وهو يؤدي إلى زيادة الإيمان لعدة أسباب منها ما يحصل فيها من ذكر الله ، وغشيان الرحمة ، ونزول السكينة ، وحف الملائكة للذاكرين ، وذكر الله لهم في الملأ الأعلى ، ومباهاته بهم الملائكة ، ومغفرته لذنوبهم ، كما جاء في الأحاديث الصحيحة ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده ) صحيح مسلم رقم 2700 . وعن سهل بن الحنظلية رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما اجتمع قوم على ذكر فتفرقوا عنه إلا قيل لهم : قوموا مغفوراً لكم ) صحيح الجامع 5507 .قال ابن حجر رحمه الله : ويطلق ذكر الله ويراد به المواظبة على العمل بما أوجبه أو ندب إليه كتلاوة القرآن ، وقراءة الحديث ، ومدارسة العلم . فتح الباري 11/209 . ومما يدل على أن مجالس الذكر تزيد الإيمان ما أخرجه الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه عن حنظلة الأسيدي قال : لقيني أبو بكر فقال كيف أنت يا حنظلة قال : قلت نافق حنظلة ، قال : سبحان الله ما تقول قال : قلت نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين ، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات - يعني المعاش من مال أو حرفة أو صنعة - فنسينا كثيراً ، قال أبو بكر فو الله إنا لنلقى مثل هذا ، فانطلقت أنا أبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت : نافق حنظلة يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما ذاك ) قلت : يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كانا رأي عين فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات ، نسينا كثيراً . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ) ثلاث مرات صحيح مسلم رقم 2750 .
وكان الصحابة رضوان الله عليهم يحرصون على الجلوس للذكر ويسمونه إيماناً ، قال معاذ رضي الله عنه لرجل : ( اجلس بنا نؤمن ساعة ) إسناده صحيح : أربع مسائل في الإيمان ، تحقيق الألباني ص : 72 .
5- ومن الأسباب التي تقوي الإيمان الاستكثار من الأعمال الصالحة وملء الوقت بها، وهذا من أعظم أسباب العلاج وهو أمر عظيم وأثره في تقوية الإيمان ظاهر كبير ، وقد ضرب الصديق في ذلك مثلاً عظيماً لما سأل الرسول صلى الله عليه وسلم ، أصحابه ( من أصبح منكم اليوم صائماً ؟ قال أبو بكر أنا ، قال فمن تبع منكم اليوم جنازة ؟ قال أبو بكر أنا ، قال، فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً ، قال أبو بكر أنا ، قال فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر أنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة ) رواه مسلم كتاب فضائل الصحابة باب 1 حديث 12 .
فهذا القصة ، تدل على أن الصديق رضي الله عنه كان حريصاً على اغتنام الفرص ، وتنويع العبادات ولما وقع السؤال من النبي صلى الله عليه وسلم مفاجئاً دل ذلك على أن أيام أبي بكر رضي الله عنه كانت حافلة بالطاعات ، وقد بلغ السلف رحمهم الله في ازديادهم من الأعمال الصالحة وملء الوقت بها مبلغاً عظيماً ، ومثال ذلك عبارة كانت تقال عن جماعة من السلف منهم حماد بن سلمة قال فيه الإمام عبد الرحمن بن مهدي : " لو قيل لحماد بن سلمة : أنك تموت غداً ما قدر أن يزيد في العمل شيئاً " سير أعلام النبلاء 7/447.
وينبغي أن يراعي المسلم في مسألة الأعمال الصالحة أموراً منها :(/11)
المسارعة إليها لقوله تعالى : ( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض ) وقال تعالى : ( سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض ) ومدلول هذه الآيات كان محركاً للمسارعة عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وروى الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه عن أنس بن مالك في قصة غزوة بدر لما دنا المشركون قال ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض ) قال يقول عمير بن الحمام الأنصاري يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض قال : نعم قال : بخ بخ - كلمة تطلق لتفخيم الأمر وتعظيمه - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما يحملك على قولك بخ بخ ) قال : لا والله يا رسول الله إلا رجاءة أن أكون من أهلها قال : فإنك من أهلها ، فاخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن ثم قال : لئن أنا حييت حتى أكل تمراتي هذه لحياة طويلة قال : فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل . صحيح مسلم 1901 . ومن قبل أسرع موسى للقاء الله وقال : ( وعجلت إليك ربي لترضى ) وامتدح الله زكريا وأهله فقال : ( إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين ) وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( التؤدة في كل شيء - وفي رواية خير - إلا في عمل الآخرة ) رواه أبو داود في سننه 5/157 وهو في صحيح الجامع 3009 .
الاستمرار عليها بقول الرسول صلى الله عليه وسلم ، عن ربه في الحديث القدسي : ( ما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه ) صحيح البخاري 6137 . وكلمة ( ما يزال ) تفيد الاستمرارية ، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( تابعوا الحج والعمرة ) رواه الترمذي رقم 810 وهو في السلسلة الصحيحة 1200 . والمتابعة تعني كذلك الاستمرار وهذا المبدأ مهم في تقوية الإيمان وعدم إهمال النفس حتى لا تركن وتأسن ، والقليل الدائم خير من الكثير المنقطع . والمداومة على الأعمال الصالحة تقوي الإيمان وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم : أي الأعمال أحب إلى الله ؟ قال : ( أدومها وإن قل ) رواه البخاري فتح11/194. وكان النبي صلى الله عليه وسلم ، إذا عمل عملاً أثبته . رواه مسلم كتاب صلاة المسافرين ، باب 18 حديث 141 .
الاجتهاد فيها : إن علاج قسوة القلب لا يصلح أن يكون علاجاً مؤقتاً يتحسن فيه الإيمان فترة من الوقت ثم يعود إلى الضعف بل ينبغي أن يكون نهوضاً متواصلاً بالإيمان وهذا لن يكون إلا بالاجتهاد في العبادة . وقد ذكر الله في كتابه من اجتهاد أوليائه في عبادته أحولاً عدة فمنها : ( إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجداً وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون ، تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون ) . وقال الله تعالى عنهم : ( كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون وفي أموالهم حق للسائل والمحروم ) . والاطلاع على حال السلف في تحقيق صفات العابدين شيء يبعث على الإعجاب ويقود إلى الاقتداء فمن ذلك أنه كان لهم سُبُع من القرآن يختمونه كل يوم وكانوا يقومون الليل في الغزو والقتال ويذكرون الله ويتهجدون ، حتى في السجن ، يصفون أقدامهم ، تسيل دموعهم على خدودهم ، يتفكرون في خلق السموات والأرض ، يخادع أحدهم زوجته كما تخادع المرأة صبيها ، فإذا علم أنها نامت انسل من لحافها وفراشها لصلاة القيام ، يقسمون الليل على أنفسهم وأهليهم ونهارهم في الصيام والتعلم والتعليم واتباع الجنائز وعيادة المرضى وقضاء حوائج الناس تمر على بعضهم السنون لا تفوتهم تكبيرة الإحرام مع الإمام ينتظرون الصلاة بعد الصلاة يتفقد أحدهم عيال أخيه بعد موته سنوات ينفق عليهم ، ومن هذا حاله فإيمانه في ازدياد .(/12)
عدم إملال النفس : ليس المقصود من المداومة على العبادات أو الاجتهاد فيها إيقاع النفس بالسآمة وتعريضها للملل وإنما المقصود عدم الانقطاع عن العبادات ما يطيق ويسدد ويقارب وينشط إذا رأى نفسه مقبلة ويقصد عند الفتور ، ويدل على هذه التصورات مجموعة من الأحاديث منه قوله صلى الله عليه وسلم : ( إن الدين يسر ، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا .. ) صحيح البخاري 39 . وفي رواية : ( والقصد القصد تبلغوا ) صحيح البخاري 6099 ، وقال البخاري رحمه الله باب ما يكره من التشديد في العبادة ، عن أنس رضي الله عنه قال : دخل النبي صلى الله عليه وسلم فإذا حبل ممدود بين الساريتين فقال : ( ما هذا الحبل ) قالوا هذا حبل لزينب فإذا فترت تعلقت قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا ، حلوه ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد ) صحيح البخاري 1099 . ولما علم النبي صلى الله عليه وسلم أن عبد الله بن عمرو بن العاص يقوم الليل كله ويصوم النهار متتابعاً نهاه عن ذلك وبين السبب بقوله : ( فإنك إذا فعلت هجمت عينك - يعني غارت أو ضعفت لكثرة السهر - ونفهت نفسك - يعني كلت ) . وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( اكلفوا من العمل ما تطيقون فإن الله عز وجل لا يمل حتى تملوا وإن أحب الأعمال إلى الله عز وجل أدومه وإن قل ) رواه البخاري ، فتح 3/38 .
استدراك ما فات منها : فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من نام عن حزبه من الليل ، أو شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر ، كتب له كأنما قرأه من الليل ) رواه النسائي وغيره ، والمجتبي : 2/68 ، صحيح الجامع 1228 . وعن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة داوم عليها وكان إذا فاته القيام من الليل غلبته عيناه بنوم أو وجع صلى ثنتي عشرة ركعة من النهار ) رواه أحمد 6/95 . ولما رأته أم سلمة رضي الله عنها يصلي ركعتين بعد العصر وسألته أجابها عليه الصلاة والسلام بقوله : ( يا ابنة أبي أمية سألت عن الركعتين بعد العصر وإنه أتاني ناس من عبد القيس فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان ) رواه البخاري فتح 3/105 . ( وكان إذا لم يصل أربعاً قبل الظهر صلاهن بعده ) رواه الترمذي رقم 427 وصحيح سنن الترمذي رقم 350 . ( وكان إذا فاته الأربع قبل الظهر صلاها بعد الظهر ) صحيح الجامع 4759 . فهذا الأحاديث تدل على قضاء السنن الرواتب ، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في صومه صلى الله عليه وسلم شعبان أكثر من غيره ثلاث معان أولها : أنه كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر فربما شغل عن الصيام أشهراً فجمع ذلك في شعبان ليدركه قبل صيام الفرض " أي رمضان " تهذيب سنن أبي داود 3/318 ، وكان صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان ، فلما فاته الاعتكاف مرة لعارض السفر اعتكف في العام المقبل عشرين يوماً . فتح الباري 4/285 .
رجاء القبول مع الخوف من عدم القبول ، وبعد الاجتهاد في الطاعات ، ينبغي الخوف من ردها على صاحبها ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية : ( والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة ) قالت عائشة : هم الذين يشربون الخمر ويسرقون ؟ قال : ( لا يا ابنة الصديق ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يقبل منهم أولئك الذين يسارعون في الخيرات ) رواه الترمذي 3175 وهو في السلسلة الصحيحة 1/162 . وقال أبو الدرداء رضي الله عنه : " لأن أستيقن أن الله قد تقبل مني صلاة واحدة أحب إلي من الدنيا وما فيها ، إن الله يقول : ( إنما يتقبل الله من المتقين ) تفسير ابن كثير 3/67 . ومن صفات المؤمنين احتقار النفس أمام الواجب من حق الله تعالى : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لو أن رجلاً يجر على وجهه من يوم ولد إلى يوم يموت هرماً في مرضاة الله عز وجل لحقره يوم القيامة ) رواه الإمام أحمد ، المسند 4/185 وهو في صحيح الجامع 5249 .فمن عرف الله وعرف النفس يتبين له أن ما معه من البضاعة لا يكفي ولو جاء بعمل الثقلين ، إنما يقبله سبحانه وتعالى بكرمه وجوده وتفضله ويثيب عليه بكرمه وجوده وتفضله .(/13)
6- تنويع العبادات : من رحمة الله وحكمته أن نوع علينا العبادات فمنها ما يكون بالبدن كالصلاة ومنها ما يكون بالمال كالزكاة ومنها ما يكون بهما معاً كالحج ومنها ما هو باللسان كالذكر والدعاء وحتى النوع الواحد ينقسم إلى فرائض وسنن مستحبة والفرائض تتنوع وكذلك السنن مثل الصلاة فيها رواتب ثنتي عشرة ركعة في اليوم ومنها ما هو أقل منزلة كالأربع قبل العصر وصلاة الضحى ومنها ما هو أعلى كصلاة الليل وهو كيفيات متعددة منها مثنى مثنى أو أربع ثم أربع ثم يوتر ومنها خمس أو سبع أو تسع بتشهد واحد ، وهكذا من يتتبع العبادات يجد تنويعاً عظيماً في الأعداد والأوقات والهيئات والصفات والأحكام ولعل من الحكمة في ذلك أن لا تمل النفس ويستمر التجدد، ثم إن النفس ليست متماثلة في انجذابها وإمكاناتها وقد تستلذ بعض النفوس بعبادات أكثر من غيرها ، وسبحان الذي جعل أبواب الجنة على أنواع العبادات كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة : يا عبد الله هذا خير فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة ) رواه البخاري رقم 1798 . والمقصود المكثرون من أصحاب النوافل في كل عبادة أما الفرائض فلا بد من تأديتها للجميع ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( الوالد أوسط أبواب الجنة ) رواه الترمذي رقم 1900 وهو في صحيح الجامع 7145 . أي بر الوالدين ، يمكن الاستفادة من هذا التنوع في علاج ضعف الإيمان والاستكثار من العبادات التي تميل إليها النفس مع المحافظة على الفرائض والواجبات التي أمر الله بها ، وهذا ويمكن للمرء المسلم إذا استعرض نصوص العبادات أن يجد أنواعاً فريدة لها آثار ومعان لطيفة في النفس قد لا توجد في غيرها وهذان مثالان :
روى أبو ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ثلاثة يحبهم الله ، وثلاثة يشنؤهم الله - أي يبغضوهم - أما الثلاثة الذين يحبهم الله الرجل يلقى العدو في الفئة فينصب لهم نحره حتى يقتل أو يفتح لأصحابه ، والقوم يسافرون فيطول سراهم حتى يحبوا أن يمسوا الأرض فينزلون فيتنحى أحدهم فيصلي حتى يوقظهم لرحيلهم والرجل يكون له الجار يؤذيه جواره فيصبر على أذاه حتى يفرق بينهما موت أو ظعن ) مسند أحمد 5/151 وهو في صحيح الجامع 3074 .
أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل يشكو قسوة قلبه فقال له صلى الله عليه وسلم : ( أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك ؟ أرحم اليتيم ، وامسح رأسه ، وأطعمه من طعامك ، يلن قلبك وتدرك حاجتك ) الحديث رواه الطبراني وله شواهد ، انظر السلسلة الصحيحة 2/533 . وهذا شاهد مباشر لموضوع علاج ضعف الإيمان .(/14)
7- ومن علاجات ضعف الإيمان : الخوف من سوء الخاتمة ، لأنه يدفع المسلم إلى الطاعة ويجدد الإيمان في القلب ، أما سوء الخاتمة فأسبابها كثيرة منها : ضعف الإيمان والانهماك في المعاصي وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لذلك صوراً مثل قوله صلى الله عليه وسلم : ( من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ - أي يطعن - بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً ومن شرب سماً فقتل نفسه فهو يتحساه - أي يشربه في تمهل ويتجرعه- في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً ) صحيح مسلم رقم 109 . وقد حدثت في عهده صلى الله عليه وسلم وقائع من هذا فمنها قصة الرجل الذي كان مع عسكر المسلمين يقاتل الكفار قتالاً لم يقاتله أحد مثله فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أما إنه من أهل النار ) فتتبعه رجل من المسلمين فأصاب الرجل جرح شديد فاستعجل الموت فوضع سيفه بين ثديه واتكأ عليه فقتل نفسه . القصة في صحيح البخاري ، فتح 7/471 . وأحوال الناس في سوء الخاتمة كثيرة سطر أهل العلم عدداً منها ، فمن ذلك ما ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب " الداء والدواء " أنه قيل لبعضهم عند موته قل لا إله إلا الله فقال : لا أستطيع أن أقولها، وقيل لآخر قل لا إله إلا الله فجعل يهذي بالغناء ، وقيل لتاجر - ممن ألهته تجارته عن ذكر الله - لما حضرته الوفاة قل لا إله إلا الله فجعل يقول هذه قطعة جيدة هذه على قدرك هذه مشتراها رخيص حتى مات . طريق الهجرتين ص : 308 ، ويروى أن بعض جنود الملك الناصر نزل به الموت فجعل ابنه يقول له : قل لا إله إلا الله فقال : الناصر مولاي فأعاد عليه القول وأبوه يكرر الناصر مولاي ، الناصر مولاي ثم مات ، وقيل لآخر قل لا إله إلا الله فجعل يقول الدار الفلانية أصلحوا فيها كذا والبستاني الفلاني افعلوا فيه كذا ، وقيل لأحد المرابين عند موته قل لا إله إلا الله فجعل يقول عشرة بأحد عشر يكررها حتى مات . الداء والدواء ص : 170 ، 289 . وبعضهم قد يسود لونه أو يتحول عن القبلة وقال ابن الجوزي رحمه الله لقد سمعت بعض من كنت أظن فيه كثرة خير وهو يقول في ليالي موته " ربي هو ذا يظلمني " - تعالى الله عن قوله- فاتهم الله بالظلم وهو على فراش الموت ثم قال ابن الجوزي رحمه الله : فلم أزل منزعجاً مهتماً بتحصيل عدة ألقى بها هذا اليوم . صيد الخواطر 137 . وسبحان الله كم شاهد الناس من هذا عبراً ؟ والذي يخفى عليهم من أحوال المحتضرين أعظم وأعظم . الداء والدواء 171 .
8- الإكثار من ذكر الموت : يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( أكثروا من ذكر هاذم اللذات يعني الموت ) رواه الترمذي رقم 2307 وهو في صحيح الجامع 1210 . وتذكر الموت يردع عن المعاصي ويلين القلب القاسي ولا يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه ولا ذكره في سعة إلا ضيقها عليه ومن أعظم ما يذكر بالموت زيارة القبور ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بزيارتها فقال : ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، ألا فزوروها فإنها ترق القلب ، وتدمع العين ، وتذكر الآخرة ، ولا تقولوا هجراً ) رواه الحاكم 1/376 وهو في صحيح الجامع 4584 . بل يجوز للمسلم أن يزور مقابر الكفار للاتعاظ والدليل على ذلك ما ورد في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم : ( زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال : استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يأذن لي ، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي ، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت ) رواه مسلم 3/65. فزيارة القبور من أعظم وسائل ترقيق القلوب وينتفع الزائر بذكر الموت وكذلك ينتفع الموتى بالدعاء لهم ومما ورد في السنة في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم للاحقون ) رواه مسلم رقم 974 . وينبغي لمن عزم على الزيارة أن يتأدب بآدابها ويحضر قلبه في إتيانها ويقصد بزيارته وجه الله وإصلاح فساد قلبه ثم يعتبر بمن صار تحت التراب وانقطع عن الأهل والأحباب فليتأمل الزائر حال من مضى من إخوانه ودرج من أقرانه الذين بلغوا الآمال وجمعوا الأموال كيف انقطعت آمالهم ولم تغن عنهم أموالهم ومحا التراب محاسن وجوههم وافترقت في القبور أجزاؤهم وترمل بعدهم نساؤهم وشمل ذل اليتيم أولادهم وليتذكر آفة الانخداع بالأسباب والركون إلى الصحة والشباب والميل إلى اللهو واللعب وأنه لا بد صائر إلى مصيرهم ، وليتفكر في حال الميت كيف تهدمت رجلاه ، وسالت عيناه ، وأكل الدود لسانه ، وأبلى التراب أسنانه . التذكرة للقرطبي ص : 16 وما بعدها بتصرف .
يا من يصيح إلى داعي الشقاء وقد ******** نادى به الناعيان الشيب والكبر
إن كنت لا تسمع الذكرى ففيم ترى ****** في رأسك الواعيان السمع والبصر
ليس الأصم ولا الأعمى سوى رجل ********* لم يهده الهاديان العين والأثر(/15)
لا الدهر يبقي ولا الدنيا ولا الفلك ******** الأعلى ولا النيران الشمس والقمر
ليرحلن عن الدنيا وإن كرها ************* فراقها الثاويان البدو والحضر
الأبيات لعبد الله بن محمد الأندلسي الشنتريني : تفسير ابن كثير 5/436 .
ومن أكثر ذكر الموت أكرم بثلاثة أشياء : تعجيل التوبة ، وقناعة القلب ، ونشاط العبادة ، ومن نسي الموت عوقب بثلاثة أشياء : تسويف التوبة ، وترك الرضا بالكفاف، والتكاسل بالعبادة ، ومما يؤثر في النفس من مشاهد الموت رؤية المحتضرين فإن النظر إلى الميت ومشاهدة سكراته ونزعاته وتأمل صورته بعد مماته ما يقطع عن النفوس لذاتها ويمنع الأجفان من النوم والأبدان من الراحة ويبعث على العمل ويزيد في الاجتهاد . دخل الحسن البصري على مريض يعوده فوجده في سكرات الموت فنظر إلى كربه وشدة وما نزل به فرجع إلى أهله بغير اللون الذي خرج به من عندهم فقالوا له الطعام يرحمك الله فقال : يا أهلاه عليكم بطعامكم وشرابكم والله لقد رأيت مصرعاً لا أزال أعمل له حتى ألقاه . التذكرة 17 .
ومن تمام الشعور بالموت الصلاة على الجنازة ، وحملها على الأعناق والذهاب بها إلى المقبرة ودفن الميت ، ومواراة التراب عليه وهذا يذكر بالآخرة قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( عودوا المرضى واتبعوا الجنائز تذكركم الآخرة ) رواه أحمد 3/48 وهو في صحيح الجامع 4109 . وبالإضافة إلى ذلك فإن في اتباع الجنازة أجراً عظيماً ذكره النبي صلى الله عليه وسلم ، بقوله : ( من شهد الجنازة من بيتها - وفي رواية : من اتبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً - حتى يصل عليها فله قيراط ، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان من الأجر ) قيل يا رسول الله وما القيراطان قال : ( مثل الجبلين العظيمين ) ( وفي رواية كل قيراط مثل أحد ) . رواه الشيخان وغيرها والسياق مجموع من الروايات : أحكام الجنائز للألباني ص : 67 .
وكان السلف رحمهم الله يذكرون الموت عند نصح رجل يواقع معصية ، فهذا أحد السلف رحمه الله وكان في مجلسه رجل ذكر آخر بغيبة فقال واعظاً الذي يغتاب : " اذكر القطن إذا وضعوه على عينيك " أي عند التكفين .
9- ومن الأمور التي تجدد الإيمان بالقلب : تذكر منازل الآخرة ، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى : " فإذا صحت فكرته أوجبت له البصيرة فهي نور في القلب ، يبصر به الوعد والوعيد ، والجنة والنار ، وما أعد الله في هذه لأوليائه وفي هذه لأعدائه ، فأبصر الناس وقد خرجوا من قبورهم مهطعين لدعوة الحق ، وقد نزلت ملائكة السماوات فأحاطت بهم ، وقد جاء الله وقد نصب كرسيه لفصل القضاء ، وقد أشرقت الأرض بنوره ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء ، وقد نصب الميزان وتطايرت الصحف ، واجتمعت الخصوم ، وتعلق كل غريم بغريمه ولاح الحوض وأكوابه عن كثب ، وكثرة العطاش ، وقل الوارد ، ونصب الجسر للعبور ، ولز الناس إليه وقسمت الأنوار دون ظلمته للعبور عليه والنار يحطم بعضها بعضاً تحته ، والمتساقطون فيها أضعاف أضعاف الناجين ، فينفتح في قلبه عين يرى بها ذلك ويقوم بقلبه شاهد من شواهد الآخرة يريه الآخرة ودوامها والدنيا وسرعة أنقضائها . مدارج السالكين 1/123 . والقرآن العظيم فيه ذكر كثير لمشاهد اليوم الآخر في سورة ق والواقعة والقيامة والمرسلات والنبأ والمطففين والتكوير ، وكذلك في مصنفات الحديث مذكورة فيها تحت أبواب مثل القيامة ، والرقاق ، والجنة ، والنار ومن المهم كذلك في هذا الجانب قراءة كتب أهل العلم المفردة لهذا الغرض مثل حادي الأرواح لابن القيم ، والنهاية في الفتن والملاحم لابن كثير ، والتذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة للقرطبي ، والقيامة الكبرى والجنة والنار لعمر الأشقر وغيرها ، والمقصود أن مما يزيد الإيمان العلم بمشاهد القيامة كالبعث والنشور ، والحشر ، والشفاعة ، والحساب ، والجزاء ، والقصاص ، والميزان ، والحوض ، والصراط ، ودار القرار ، والجنة أو النار .(/16)
10- ومن الأمور التي تجدد الإيمان : التفاعل مع الآيات الكونية روى البخاري ومسلم وغيرهما : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى غيماً أو ريحاً عرف ذلك في وجهه ) فقالت عائشة : يا رسول الله ، أرى الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر ، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية ، فقال : ( يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب قد عذب قوم بالريح وقد رأى قوم العذاب فقالوا : ( هذا عارض ممطرنا ) رواه مسلم 899 . وكان صلى الله عليه وسلم يقوم فزعاً إذا رأى الكسوف كما جاء في صحيح البخاري عن أبي موسى رضي الله عنه قال : ( خسفت الشمس فقام النبي صلى الله عليه وسلم فزعاً يخشى أن تكون الساعة ) . فتح الباري 2/545 . وأمرنا عليه الصلاة والسلام عند الكسوف والخسوف أن نفزع إلى الصلاة وأخبر أنهما من آيات الله التي يخوف بها عباده ، ولا شك أن تفاعل القلب مع هذه الظواهر والفزع منها يجدد الإيمان في القلب، ويذكر بعذاب الله ، وبطشه ، وعظمته ، وقوته ، ونقمته ، وقالت عائشة : ( أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي ثم أشار إلى القمر فقال : يا عائشة : استعيذي بالله من شر هذا فإن هذا هو الغاسق إذا وقب ) رواه أحمد 6/237 وهو في السلسلة الصحيحة . ومن أمثلة ذلك أيضاً : التأثر عند المرور بمواضع الخسف والعذاب وقبور الظالمين ، فقد روى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه لما وصلوا الحجر : ( لا تدخلوا عليهم هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين ، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم لا يصيبكم ما أصابهم ) رواه البخاري رقم 423 . هذا والناس اليوم يذهبون إليها للسياحة والتصوير فتأمل !!.
11- ومن الأمور بالغة الأهمية في علاج ضعف الإيمان ذكر الله تعالى وهو جلاء القلوب وشفاؤها ، ودواؤها عند اعتلالها ، وهو روح الأعمال الصالحة وقد أمر الله به فقال : ( يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً ) ووعد بالفلاح من أكثر منه فقال : ( واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون ) وذكر الله أكبر من كل شيء قال الله تعالى : ( ولذكر الله أكبر ) وهو وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمن كثرت عليه شرائع الإسلام فقال له : ( لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله ) رواه الترمذي 3375 وقال حديث حسن غريب وهو في صحيح الكلم 3 . وهو مرضاة للرحمن مطردة للشيطان مزيل للهم والغم وجالب للرزق فاتح لأبواب المعرفة وهو غراس الجنة وسبب لترك آفات اللسان ، وهو سلوة أحزان الفقراء الذين لا يجدون ما يتصدقون به فعوضهم الله بالذكر الذي ينوب عن الطاعات البدنية والمالية ويقوم مقامها ، وترك ذكر الله من أسباب قسوة القلب :
فنسيان ذكر الله موت قلوبهم *********** وأجسامهم قبل القبور قبور
وأرواحهم في وحشة من جسومهم******* وليس لهم حتى النشور نشور
ولذلك لا بد لمن يريد علاج ضعف إيمانه من الإكثار من ذكر الله قال تعالى : ( واذكر ربك إذا نسيت ) . وقال الله تعالى مبيناً أثر الذكر على القلب : ( ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) الرعد /28 . وقال ابن القيم رحمه الله تعالى عن العلاج بالذكر : " في القلب قسوة لا يذيبها إلا ذكر الله تعالى فينبغي للعبد أن يداوي قسوة قلبه بذكر الله تعالى. وقال رجل للحسن البصري رحمه الله : يا أبا سعيد أشكو إليك قسوة قلبي قال أذبه بالذكر . وهذا لأن القلب كلما اشتدت به الغفلة اشتدت به القسوة ، فإذا ذكر الله تعالى ذابت تلك القسوة كما يذوب الرصاص في النار ، فما أذيبت قسوة القلوب بمثل ذكر الله عز وجل و " الذكر شفاء القلب ودواؤه ، والغفلة مرضه وشفاؤها ودواؤها في ذكر الله تعالى قال مكحول ذكر الله تعالى شفاء ، وذكر الناس داء " الوابل الصيب رافع الكلم الطيب 142 .
وبالذكر يصرع العبد الشيطان كما يصرع الشيطان أهل الغفلة والنسيان . قال بعض السلف : إذا تمكن الذكر من القلب ، فإذا دنا منه الشيطان صرعه كما يصرع الإنسان إذا دنا منه الشيطان فيجتمع عليه الشياطين - أي يجتمعون على الشيطان الذي حاول أن يتقرب من قلب المؤمن - فيقولون ما لهذا ، فيقال : قد مسه الإنسي ! مدارج السالكين 2/424 . وأكثر الناس الذين تمسهم الشياطين هم من أهل الغفلة الذين لم يتحصنوا بالأوراد والأذكار ، ولذلك سهل تلبس الشياطين بهم .(/17)
وبعض الذين يشكون من ضعف الإيمان تثقل عليهم بعض وسائل العلاج كقيام الليل والنوافل فيكون من المناسب لهم البدء بهذا العلاج والحرص عليه فيحفظون من الأذكار المطلقة ما يرددونه باستمرار مثل : " لا إله إلا الله لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير " و " سبحان الله وبحمده ، وسبحان الله العظيم " و " لا حول ولا قوة إلا بالله " وغيرها ، ويحفظون كذلك من الأذكار المقيدة التي جاءت في السنة ما يرددونه إذا حان وقته زماناً أو مكاناً مثل أذكار الصباح والمساء والنوم والاستيقاظ والرؤى والأحلام والأكل والخلاء والسفر والمطر والأذان والمسجد والاستخارة والمصيبة والمقابر والريح ورؤية الهلال وركوب الدابة والسلام والعطاس وصياح الديكة والنهيق والنباح وكفارة المجلس ورؤية أهل البلاء وغيرها ، ولا ريب أن من حافظ على هذه سيجد الأثر مباشراً في قلبه . لشيخ الإسلام ابن تيمة رسالة مفيدة في الأذكار اسماها الكلم الطيب اختصرها الألباني باسم صحيح الكلم الطيب .
12- ومن الأمور التي تجدد الإيمان مناجاة الله والانكسار بين يديه عز وجل ، وكلما كان العبد أكثر ذلة وخضوعاً كان إلى الله أقرب ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء ) رواه مسلم 482 . لأن حال السجود فيها ذلة وخضوع ليست في بقية الهيئات والأوضاع ، فلما ألزق العبد جبهته في الأرض - وهي أعلى شيء فيه - صار أقرب ما يكون من ربه . يقول ابن القيم رحمه الله في كلام جميل بلسان الذلة والانكسار للتائب بين يدي الله : " فلله ما أحلى قول القائل في هذه الحال : أسألك بعزك وذلي إلا رحمتني ، أسألك بقوتك وضعفي ، وبغناك عني وفقري إليك ، هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك ، عبيدك سواي كثير ، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك ، أسألك مسألة المساكين ، وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل ، وأدعوك دعاء الخائف الضرير ، سؤال من خضعت لك رقبته ورغم لك أنفه ، وفاضت لك عيناه ، وذل لك قلبه " فعندما يأتي العبد بمثل هذه الكلمات مناجياً ربه فإن الإيمان يتضاعف في قلبه أضعافاً مضاعفة .
وكذلك إظهار الافتقار إلى الله مما يقوي الإيمان والله سبحانه وتعالى قد أخبرنا بفقرنا إليه وحاجتنا له فقال سبحانه : ( يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد ) فاطر /15 .
13- قصر الأمل : وهذا مهم جداً في تجديد الإيمان ، يقول ابن القيم رحمه الله : " ومن أعظم ما فيها هذه الآية ( أفرأيت إن متعناهم سنين ، ثم جاءهم ما كانوا يوعدون، ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون ) الشعراء /205 ( كأن لم يلبثوا إلا ساعة من نهار ) فهذه كل الدنيا فلا يطول الإنسان الأمل ، يقول : سأعيش وسأعيش ، قال بعض السلف لرجل صلّي بنا الظهر ، فقال الرجل : إن صليت بكم الظهر لم أصل بكم العصر ، فقال : وكأنك تؤمل أن تعيش لصلاة العصر ، نعوذ بالله من طول الأمل .
14- التفكر في حقارة الدنيا حتى يزول التعلق بها من قلب العبد قال الله تعالى : ( وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن مطعم ابن آدم قد ضرب للدنيا مثلاً ، فانظر ما يخرج من ابن آدم وإن قزحه وملحه ، قد علم إلى ما يصير ) رواه الطبراني في الكبير 1/198 وهو في السلسلة الصحيحة رقم 382 . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه أو علماً أو متعلماً ) رواه ابن ماجه رقم 4112 وهو في صحيح الترغيب والترهيب رقم 71 .
15- ومن الأمور المجددة للإيمان في القلب : تعظيم حرمات الله ، يقول الله تعالى : ( ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ) الحج /32 . وحرمات الله هي حقوق الله سبحانه وتعالى ، وقد تكون في الأشخاص وقد تكون في الأمكنة وقد تكون في الأزمنة، فمن تعظيم حرمات الله في الأشخاص القيام بحق الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً ، ومن تعظيم شعائر الله في الأمكنة تعظيم الحرم مثلاً ، ومن تعظيم شعائر الله في الأزمنة تعظيم شهر رمضان مثلاً : ( ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه ) الحج /30 ، ومن التعظيم لحرمات الله عدم احتقار الصغائر وقد روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : ( إياكم ومحقرات الذنوب ، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه ) وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهن مثلاً كمثل قوم نزلوا أرض فلاة فحضر صنيع القوم فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود ، والرجل يجيء بالعود ، حتى جمعوا سواداً فأججوا ناراً وأنضجوا ما قذفوا فيها . رواه أحمد 1/402 وهو في السلسلة الصحيحة 389.
خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى(/18)
يقول ابن الجوزي في صيد الخاطر : " كثير من الناس يتسامحون في أمور يظنونها هينة وهي تقدح في الأصول ، مثل إطلاق البصر في المحرمات ، وكاستعارة بعض طلاب العلم جزءاً لا يردونه ) وقال بعض السلف : " تسامحت بلقمة فتناولتها فأنا اليوم من أربعين سنة إلى خلف " وهذا من تواضعه رحمه الله .
16- ومن الأمور التي تجدد الإيمان في القلب : الولاء والبراء أي موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين ، وذلك أن القلب إذا تعلق بأعداء الله يضعف جداً وتذوى معاني العقيدة فيه ، فإذا جرد الولاء لله فوالي عباد الله المؤمنين وناصرهم ، وعادى أعداء الله ومقتهم فإنه يحيى بالإيمان .
17- وللتواضع دور فعال في تجديد الإيمان وجلاء القلب من صدأ الكبر ، لأن التواضع في الكلام والمظهر دال على تواضع القلب الله ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( البذاذة من الإيمان ) رواه ابن ماجه 4118 وهو في السلسلة الصحيحة رقم 341 ومعناه أراد التواضع في الهيئة واللباس انظر النهاية لابن الأثير 1/110 . وقال أيضاً : من ترك اللباس تواضعاً لله وهو يقدر عليه ، دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها ) رواه الترمذي رقم 2481 وهو في السلسلة الصحيحة 718 . وقد كان عبد الرحمن بن عوف رضي الله لا يعرف من بين عبيده .
18- وهناك أعمال للقلوب ، مهمة في تجديد الإيمان مثل محبة الله والخوف منه ورجائه وحسن الظن به والتوكل عليه ، والرضا به وبقضائه ، والشكر له والصدق معه واليقين به ، والثقة به سبحانه ، والتوبة إليه وما سوى ذلك من الأعمال القلبية .
وهناك مقامات ينبغي على العبد الوصول إليها لاستكمال العلاج كالاستقامة والإنابة والتذكر والاعتصام بالكتاب والسنة والخشوع والزهد والورع والمراقبة وقد أفاض في هذه المقامات ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين .
19- ومحاسبة النفس مهمة في تجديد الإيمان يقول جل وعلا : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد ) الحشر /18 وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا " ويقول الحسن لا تلقى المؤمن إلا وهو يحاسب نفسه، وقال ميمون بن مهران إن التقي أشد محاسبة لنفسه من شريك شحيح .
وقال ابن القيم رحمه الله : وهلاك النفس من إهمال محاسبتها ومن موافقتها واتباع هواها .
فلا بد أن يكون للمسلم وقت يخلو فيه بنفسه فيراجعها ويحاسبها وينظر في شأنها ، وماذا قدم من الزاد ليوم المعاد .
20- وختاماً فإن دعاء الله عز وجل من أقوى الأسباب التي ينبغي على العبد أن يبذلها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم ) .
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تجدد الإيمان في قلوبنا ، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا ، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين ، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .(/19)
ظاهرة عمل الأطفال
طه بن حسين بافضل 16/9/1426
19/10/2005
من المحزن جدا أن ترى طفلا ًلم يبلغ الحلم قد طغت ملامح الإجهاد على وجهه، وانطبعت صورة الإحباط على قسماته، ناهيك عن ما يحمله من مظاهر السخط والتمرد على مجتمعه وجماعته، تتساءل: ما الذي جرّ المسكين الصغير إلى هذا الواقع المرير، والوضع العسير؟؟
لقد غدت عمالة الأطفال ظاهرة منتشرة انتشاراً واسعاً في أرجاء المعمورة فهي ليست مقصورة على الدول الفقيرة النامية بل حتى في الدول المتحضرة، وبقدر سعة انتشارها بقدر تنامي واتساع القلق العالمي من وجودها وتغلغلها في واقع المجتمعات على حد سواء، ففي الحادي عشر من شهر يونيو حزيران من كل عام تحتفل المنظمات الدولية والحكومات باليوم العالمي ضد عمل الأطفال . وفي هذا دليل واضح وجلي على عدم الرضا بهذه الظاهرة وأنها غيرُ مرغوب فيها.
إن عمل الأطفال يعد للوهلة الأولى نشاطاً غير مستحسن لدى الطبيعة البشرية السوية، فالطفولة مرحلة من مراحل نمو الإنسان وهي بحاجة ماسة إلى العناية والتأديب والتربية والتدريب وليست إلى الإهمال والتعب والشقاء.
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد من كان دون الحلم عن المشاركة معه في الغزوات كما حدث ذلك في غزوة أحد، إذ في مشاركة الأطفال في الحروب - حيث تتطاير الرقاب، وتسيل الدماء، وتزهق الأرواح - مشقة كبيرة تحتاج إلي جسم يطيق أهوالها وآلامها.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يعلمهم و يربيهم على مكارم الأخلاق وأصولها :(يا غلام إني أعلمك كلماتٍ احفظ الله يحفظك ..) ويقول لآخر :(يا غلام سمِّ الله وكل بيمينك..)
ومن سنن الله في خلقه أن جعل الأب هو القائم على أمر الأسرة يوفر لها حاجاتها، ويبعد عنها مخاوفها، ويصلح ما اعوج من سلوك أفرادها . والأطفال من زينة الحياة الدنيا وهم الذرية التي تبعث الإعتزاز والفرح والسرور في نفسية الآباء، فمن المستهجن أن تنقلب السنن وينعكس الحال .
إذاً لماذا يعمل الأطفال؟ :
بعد التأمل إلى الأسباب التي أدت إلى ظهور الظاهرة فيمكن إرجاعها إلى ثلاثة أسباب رئيسة :
أولاً : الفقر:
فتزايد حدة الفقر الذي يصيب الأسر سواء كان في المجتمعات النامية أو المتحضرة يجعل الأطفال يُزَجون رغبوا أم كرهوا في ميدان العمل بعجره وبجره ،حتى يشاركوا في إعالة الأسرة التي أصبحت قاب قوسين أو أدنى من معاينة الموت جوعاً.
فمن المناظر المخزية في زماننا هذا الذي يرفع البعض عقيرته ليصفه بأنه الزمن الحضاري أن ترى أعداداً من الناس يعيشون على ما تجود به لهم مخلفات القمامة من مواد غذائية خطرة على الصحة العامة والشخصية.
فالفقر عدو لدود تعوذ منه النبي صلى الله عليه وسلم، ولذا كان حرياً بالمجتمعات أن تشمر عن ساعد الجد في التخفيف من حدته وانتشاره إذ ما يولده من مآسٍ وخرابٍ على المجتمع ،كفيل بأن يجعل العقلاء يفيقون من سباتهم العميق.
ثانيا : الجهل:
فالأسرة تجهل قيمة العلم والتعلم؛ ولذا تجد أنها لا تبالي أن تخرج ابنها من الدراسة وتدفع به إلى المصنع ليوفر لها حاجتها كما أن مستويات التعليم خصوصاً في البلدان النامية لا زالت تعيش ركوداً وجموداً وتحجراً؛ فهي بدلاً من أن ترغّب الطلاب في الدراسة وتشجعهم على المواصلة فيها ،من خلال خلق الأجواء الصحية، وحسن المعاملة بالمتعلم، والرفق به، وتسخير كل الطاقات نحو ترشيد عقله ووعيه، وبنائه بناءًا سليماً، وكذا مساعدة أسرته إن كانت محتاجة بحيث يغنيها عن أن تستخدم هذا الطفل في أعمال فوق طاقته ومقدرته فهي بالعكس من ذلك تهمل جوانب كثيرة منها بحجة كثرة الأعباء الملقاة على عاتق هذه الدول أو تلك! وللأسف الشديد تجد دولاً تصدر النفط والطاقة لم تفق من سباتها إلا بعد أن يظهر بها آلاف مؤلفة من الأطفال يعملون سخرة في المعامل والمصانع ويحتار الإنسان أين كان موقع التعليم وترغيب الناس إليه من أولويات عمل حكومات تلك الدول؟، ومن إفرازات تهالك التعليم أن ترى كثرة ظهور المدارس الأهلية الخاصة التي لا يستطيعها إلا من لديه دخل وفير أما الفقير فليس له إلا مدارس الدولة التي هي بنيان متصدع، وكرسي مفرقع، وكتاب مرقع.
ثالثاُ: الأزمات :
ونقصد بها الحروب والكوارث الطبيعية التي من أهم إفرازاتها تشريد العديد من الأسر من مأوى عيشهم إلى أماكن يصبحون فيها عالة على الآخرين، وهنا تظهر العصابات التي تطغى عليها مظاهر الانتماء الفاضح إلى شهوة الربح وكسب الأموال بطرق مشبوهة وأساليب تعد في عرف الدول جرائم حرب تجب محاكمة مرتكبيها.
ولعل ما حدث إبان كارثة (تسونامي) في جنوب شرق آسيا من عمليات خطف للأطفال شاهد مهم على التوجهات الخاطئة التي تقوم بها عصابات تجارة الأطفال من الاستفادة منهم والمتاجرة بهم بغية الكسب السريع وملء الجيوب من أقصر الطرق.
ماذا يعمل الأطفال ؟(/1)
الدارس الفاحص لهذه الظاهرة يجد أن الأطفال غالباً ما يعملون أعمالاً يغلب عليها الجانب السلبي فهي إلى المشقة والإرهاق أقرب منها إلى البساطة والاستمتاع.
ولذا فقد تنادت المنظمات الدولية للدفاع عن حقوق الطفل وحمايته من أسوأ أشكال العمل، ويمكن حصرها فيما يلي:
أولاً: الأعمال التي تؤدي إلى استرقاق الأطفال من خلال بيعهم والاتجار بهم فيصبحون سلعاً تباع وتشترى وليت الأمر يقف عند هذا الحد بل يتعداه إلى إجبارهم وتجنيدهم قسراً في أعمال شاقة ومرهقة.
ثانيا: الأعمال التي تؤدي إلى امتهان كرامة وعرض الطفل من خلال استخدامه في إنتاج أعمال إباحية أو أداء عروضٍ إباحيةٍ.
ثالثا: الأعمال التي تؤدي إلى سلوك الطفل سلوكاً منحرفاً ومخرباً وذلك من خلال مزاولة أنشطة محرمة وغيرها ولا سيما إنتاج المخدرات والاتجار بها.
رابعا: الأعمال التي تؤدي إلى الإضرار بصحة الأطفال أو سلامتهم فتراهم يعملون في الورش المتنقلة والثابتة ويحملون أثقالاً وأوزاناً تؤثر على نموهم بشكل أو بآخر أو ما نراه في الشوارع من مشاهد تسيء للطفولة وذلك من خلال صور مختلفة كطفل يبيع أكياس النايلون أو يقف لينظف سيارة أو يشارك في تفريغ حمولة شاحنة أو بيع دخان أو نقل اسطوانات الغاز.
ولعل الصورة آنفة الذكر حول عمل الأطفال هي صورة قاتمة بشعة خالية من المحسنات أو اللمحات الجميلة، وكأن عمل الأطفال خطيئة المجتمعات النامية والمتحضرة على حد سواء، بينما يذكر البعض أن هناك قسما إيجابياً في عمل الأطفال وهو ما يدخل فيه كافة الأعمال الطوعية أو حتى المأجورة التي يقوم الطفل بها والمناسبة لعمره وقدراته ويكون لها آثاراً إيجابية تنعكس على نموه العقلي والجسمي والذهني وخاصة إذا قام الطفل بها باستمتاع مع مراعاة الحفاظ على حقوقه الأساسية ؛ لأنه من خلال العمل يتعلم الطفل المسؤولية والتعاون والتسامح مع الآخرين .
إحصاءات وأرقام :
ليس هناك تقدير دقيق يمكن الاستناد إليه يحدد عدد الأطفال العاملين في العالم.
إذ أن منظمة العمل الدولية وهي المصدر الرئيس للمعلومات حول ذلك تقول:( إن البيانات الإحصائية المتوافرة غير كافية إلى حد كبير وتعوزها المصداقية) كما أن كثيراً من التعقيدات تحيط بعملية جمع البينات ذاتها.
ولذا نرى مدى التخبط الواضح في التقديرات والإحصاءات ويمكن التعريج حول هذه الأرقام المرصودة:
أما في عام 1973م فقد أشارت تقارير شاملة بأن عدد الأطفال العاملين يبلغ (73) مليون طفل أي ما يعادل (13%) من مجموع الأطفال بين سن (10) و(14) سنة .
وفي عام 1955م وصلت أعداد الأطفال العاملين إلى (250) مليون طفل من سن (5-14).
ثم بينت التقديرات العالمية لسنة 2002م بأن 211 مليونا من الأطفال ما بين (5-14) على امتداد العالم يمارسون نشاطاً اقتصادياً.
مما سبق ذكره تبين :
1) مدى التفاوت الكبير بين التقديرات العالمية والتي كان من المفترض أن تكون بحجم الظاهرة الموغلة في القدم على مدار تاريخ الحضارات القديمة وصولاً إلى الحضارة المعاصرة.
2) تأخر اهتمام المنظمة الدولية بهذه الظاهرة كما سنرى عند الحديث عن الجهود الدولية في ذلك.
3) الرقم الحقيقي بالضرورة أكبر من الإحصاءات المعلنة فنسبة التسجيل تقل في الإحصاءات الرسمية لدول العالم الثالث عموما عن الواقع الفعلي؛ وذلك لضعف الإمكانيات والقدرات لدى هذه الدول كما أن هذه الإحصاءات لا تشمل غالبا تلك الأعداد الأقل من الأطفال العاملين الموجودين في دول العالم المتقدم أوروبا وأمريكا الشمالية واستراليا واليابان .
4) أن هذه الظاهرة هي بحاجة لمزيد من الدراسة الدقيقة والفاحصة والتي ستفرز بالضرورة تقديرات اكثر دقة ومصداقية.
الجهود الدولية في مواجهة الظاهرة:
لم تكن جهود المنظمات الدولية بالشكل المرضي والمأمول بل هي لا تتجاوز عقد المؤتمرات وإقرار الاتفاقيات وإصدار التوصيات، أما في الواقع العملي في الوصول إلى حماية فعلية للطفل من أسوا أشكال العمل فهذا لم يتحقق في ظني بعد، ويمكن الإشارة إلى عدد من الجهود في ذلك:
أولاً: على مستوى العالم العربي :
يمكن التنويه لأهم ما تحقق في العقدين الأخيرين من القرن العشرين .
1) مصادقة عدد من الدول العربية على اتفاقية رقم (138) لعام 1973م
2) الخطة العربية لرعاية الطفولة وحمايتها وتنميتها 1992م.
3) الخطة العربية لثقافة الطفل 1993م.
4) البيان العربي لحقوق الأسرة 1994م.
5) الاتفاقية العربية لتشغيل الأحداث رقم (16) لعام 1996م الصادرة عن منظمة العمل العربية.
6) القانون النموذجي لرعاية المنحرفين والمهددين بخطر الانحراف 1996م.
7) وثيقة القانون العربي الموحد للأحوال الشخصية 1988م.
8) مشروع الدليل التشريعي النموذجي الجامع لحقوق الطفل العربي 1999م.
ثانيا : على مستوى الجهود الدولية فقد تحقق ما يلي:
1) اتفاقية الحد الأدنى لسن العمل رقم (138) عام 1973م والتوصية رقم (146) المرتبطة بها.(/2)
2) الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل الصادرة عن الأمم المتحدة عام 1989م (RCR) .
3) البرنامج الدولي للقضاء على عمل الأطفال منذ عام 1991م (IPEC) .
4) قانون رقم (12) لسنة 1996م المتعلق بأحكام حماية الأطفال .
5) اتفاقية خطر أسوأ أشكال عمل الأطفال رقم (182) والتي أبرمت في الدورة (87) لمؤتمر العمل الدولي يونيو 1999م وقد تم التمهيد لها بمؤتمرات حاشدة رعتها بعض الدول :
مؤتمر استكهولم بالسويد 1996م.
مؤتمر أمستردام بهولندا فبراير 1997م.
مؤتمر أوسلو بالنرويج أكتوبر 1997م.
الآثار المدمرة لعمالة الأطفال:
تعد ظاهرة عمل الأطفال بوجه عام ظاهرة سلبية النتائج فما تفرزه من عواقب وخيمة على الطفل كفيل بان يتنادى الجميع للحد من خطورتها ويمكن إجمال تأثيراتها السلبية فيما يلي:
1) صحياً :
إذ أن ما يتعرض له الطفل من جروح وكدمات أو الوقوع من أماكن مرتفعة أو وقع شيء ثقيل عليه أو خنق من غازات سامة وصعوبة التنفس وغير ذلك يؤدي بالضرورة إلى انحراف في التناسق العضوي والقوة والبصر والسمع.
2) اجتماعياً وأخلاقياً:
إن الظروف التي فرضت على هذا الطفل الانخراط في العمل والسعي نحو سد حاجة الأسرة هي بالمقابل قد رسخت في ذهنه الشعور بالانقطاع عن الجماعة وضعف الانتماء لها وكذا السلبية المقيتة نحو المشاركة الفاعلة مع الآخرين ،كما يورث انعدام القدرة على التمييز بين الخطأ والصواب وكتمان ما يحصل له من آلام ومصاعب، وإحساسه بأنه عبد لصاحب العمل.
3) معرفيا :
انقطاع الطفل عن الدراسة وانهماكه في أعمال متواصلة صباحاً ومساءًا كفيل بأن يؤثر على تطوره العملي وتنخفض قدراته على القراءة والكتابة والحساب كما أن قدراته على الإبداع تقل وربما تضمحل.
4) عاطفيا:
الواقع المرير الذي يمر بالأطفال العاملين عادة ما يفقدهم احترامهم لذاتهم وارتباطهم الأسرى وتقبلهم للآخرين فتنقلب نفسياتهم إلى شكل من الشر فيه نوع من الجفاء والجحود والنكران مما يلقاه من عنف متواصل من عمله وصاحب العمل والزملاء.
المعالجات
بعد هذه الإطلالة السريعة لظاهرة عمل الأطفال وما نتج عنها من مظاهر سلبية تحدث مع استمرار نشوء الظاهرة هشاشةً في بنيان الجيل القادم إذ يقبل على الحياة وهو منهك القوى ضعيف المعرفة همه لقمة عيشه وبقاء حياته في هذه الدنيا.
وللتغلب على هذه الظاهرة يمكن وضع الحلول الآتية لعلها تكون عوناً في الوصول إلى الهدف المنشود.
أولاً: الحد من تزايد رقعة انتشار الفقر في المجتمعات النامية على وجه الخصوص وفي الأقليات القاطنة في المجتمعات المتقدمة.
إذ إن التقليل من ظاهرة الفقر تعني الكثير لهذه المجتمعات؛ حيث تقل الجريمة ويتضاءل انتشار الفاحشة ويسود التراحم في الجماعة وتقل الأحقاد الضغائن وربما تضمحل من النفوس.
إن انتشار الغنى في نفوس أبناء الأمة وحياتهم المعيشية يعني التقدم والازدهار والتحضر المنشود لمجتمعهم. ولذا فإننا عندما ننظر لهذا الطفل العامل نرى أنه دفع دفعاً من أسرته لكي يوفر لها لقمة العيش فالأب ربما يكون متوفى أو عاجزاً والأم مقعدة أو متوفاة أو أن الأسرة كسولة برمتها ولم تجد إلا أن تدفع بابنها الصغير للعمل حتى يحقق لها ما تريد على حساب صحته ومستقبله.
فهنا يجب على الدول الإسلامية على وجه الخصوص اتخاذ التدابير اللازمة والعلاجات الناجعة في ذلك فمثلا:
- أخذ هؤلاء الأطفال أي محاضن خاصة لصقلهم وتربيتهم وتعليمهم.
- كفالة الأسر المحتاجة بإعانة شهرية تسهم في التغلب على الصعوبات التي تتعرض لها.
- فتح مناخ عمل يناسب الآباء والأمهات ليدر لهم بمعاش يكفيهم عن مؤنة ذل السؤال أو دفع أبنائهم إلى ميدان العمل .
ثانياً : أهمية نشر الوعي في صفوف الأسر بأهمية التعليم ومكانته ودوره في القيام بالنهضة والتقدم والتطور في حياة الأفراد والمجتمعات ،وكذا محاولة إقناع الآباء والأمهات بضرورة دفع أبنائهم إلى محاضن التعليم حتى إذا ارتقى في سلمه، واكتملت قواه؛أصبح قادراً بعد ذلك على خوض غمار الحياة ومواجهة أعباءها بجدارة.
ثالثاً : يجب على الدول توفير الوظائف وتوزيعها التوزيع المناسب بين أفراد الأمة، أما أن يجلس صاحب الشهادة العليا عاطلاً عن العمل لسنوات عدة فإن هذا يورث انطباعاً لدى الأب أنه لاجدوى من تعلم ابنه مادام أنه لن يوظف، مما يجعله يقوم بإلحاق ابنه بأحد المصانع أو المتاجر سعياً وراء المادة.
رابعاً : ضرورة إصلاح محاضن التربية والتعليم وتجديدها وتطويرها والاهتمام بها، حتى تكون محبوبة في نفوس الطلاب، وأن تواكب مدارس الدولة المتغيرات وإدخال التقنيات الحديثة في وسائل التعليم وتهيئة الجو والمكان المناسبين وتفعيل جانب الأنشطة، وخلق متسع كبير ليخرج الطفل ما لديه من إبداعات ومهارات ومواهب، ثم يكافأ على مجهوده وإتقانه، كل ذلك حتى لا يصيبه الملل والسآمة من الدراسة.(/3)
خامساً: التنفيذ الصارم للاتفاقيات الدولية والتوصيات الملحقة بها فيجب على الجميع أفراداً وحكومات ومنظمات دولية الانطلاق من مرحلة التنظير و إشباع الظواهر السيئة لعمل الأطفال بحثاً وتقريراً إلى مرحلة التطبيق والإشراف والمتابعة لمدى تنفيذ ما تم بحثه وإقراره .
إن هذه الاتفاقيات الدولية والتوصيات الملحقة ببعضها خطوة مهمة في سبيل التخفيف من هذه الظاهرة وستظل حبيسة الأدراج إذا أهملت وتعامل معها المختصون بنوع من الرتابة وعدم الجدية وسيظل الطفل يعاني المرارة والقسوة فهو بين سندان إهمال المجتمع ومطرقة جشع أرباب الأموال وكبار التجار .(/4)
ظل اليمين وبيان الـ26
عبد الله العجمي 19/10/1425
02/12/2004
لم يخالجني الشك طرفة عين أن هناك من سيقرأ بيان العلماء والمشايخ السعوديين في نصرة الشعب العراقي والذي عُرِف ببيان الـ26 قراءة أمريكية يمينية!
والسبب في عدم دهشتي هذه هو أن منطق الأشياء وسيرورتها يقود إلى هذه النتيجة.
وقبل أن أوصم بأنني أمارس التخوين أوالتنقيب في خائنة الأعين وما تخفي الصدور فدعوني أبتدىء مبيناً أنني لا أخوِّن أحداً بعينه فتخوين المُعَّين كتكفيره لا يصح بلا شروط تقع وموانع ترتفع.
اليوم وقبل ساعات من الآن كنت أسائل نفسي : هل الحكم على كتابات أحد من الناس في منعطف تأريخي حاد ووضع فكري مأزوم ينبغي أن يتِّم بالنظر إلى مجمل أعمال الكاتب ومدى موضوعيته واللذين هما نتاج لصيق لحياته الاجتماعية والفكرية والتحولات النوعية فيهما؟
أم أننا مُلزمون بنقد مضمون ما يكتب دون النظر إلى أي اعتبارات زمانية أو مكانية أخرى؟
ألا يجب أن يُصدر الحكم قبل النظر والبحث الموضوعي في الطرف المستفيد مما يكتبه هذا الكاتب أو ذاك ويوجهه ؟
أليس هذا ما يفترضه المنطق ؟
ألا يمكن أن يوجد رأيٌ ورأيٌ آخر ورأي عميل أم أن الأمر مقتصر على الثنائية المحصورة في الرأي والرأي الآخر ؟ لو قبلنا بوجود الرأي العميل- كوناً وشرعاً وعُرفاً فكرياً - هل يمكن إدخال الرأي العميل في إطار التنوع والاختلاف لأوجه الحوار الفكري الموضوعي ؟
أعتقد أننا بحاجة لقليل من الذكاء الذي يخوِّلنا فهم تداعيات الأشياء والأفكار والمواقف من حولنا، وقليل من البصيرة النافذة القادرة على فتح دفة كتاب التاريخ بيد، وطالع المستقبل في اليد الأخرى.
لسنا أغبياء كفاية لنصدق أن تقرير راند حول الإسلام العلماني المستنير لم يكن موضع تنفيذ، ومادةً يعول عليها على أرض الواقع منذ سنوات طويلة، فالأمريكان يملكون الكثير من مراكز الدراسات والمعاهد البحثية الجامعية والمؤسسات الفكرية الموجهة لقرءاة التحولات الاجتماعية والفكرية والسياسية في كل أنحاء العالم وعلى رأسها الشرق الأوسط، بل والخليج العربي على وجه الخصوص، والذي يُمثل نفطه بالنسبة للأمريكان العمود الفقري ومصدر القوة الأمريكية اليوم...
ستعمل أمريكا، كما عملت قبلاً حين أنشأت منظمة الحرية الثقافية إبان الحرب الباردة، من أجل استقطاب الأقلام المؤيدة لسياساتها في كل مكان. إنْ بعلمٍ ومال واتفاق، وإنْ بجهل وغباء، وإنْ بتقاطع مصالح يقود إلى تصفية خصم مُشترك...
من يظن أن بلدان الخليج بمعزل عن نشأة فكر يواطىء النظرة الأمريكية لنا ولثوابتنا ولقضايانا فهو محتاج لغسيل ظنه الآثم بقرءاة ما يكتبه أصحاب هذا الفكر في صحفنا السيارة.
ألا يقرأ ما يصف به البعض من بني جلدتنا الاحتلال الأمريكي للعراق؟
إنَّهم يسمونه تحريراً !! في الوقت الذي يسميه الأمريكان أنفسهم احتلالاً... ألا يحق لك أن تشك بعد هذا في هذه الأمركة العربية المتقدمة التي لم يصل لها الأمريكان أنفسهم ؟
انظر إلى الخندق الأمريكي الغازي للفلوجة، وتمعن جيداً في تلك الوجوه الإعلامية والصحفية والتي تقف في ذات الخندق... لا تتفاجأ... نعم إنهم عرب. بل أقرب. بل أقرب.
غزت أمريكا الفلوجة فقتلت من المدنيين العزل وفعلت ما لم يفعله الطاغية صدام حسين، بل قتلت الجرحى الذين يجأرون بالشكوى إلى الله في المساجد، ولم تُفرِّق بين شيخِ وامرأة وطفل، بل جعلت الفلوجة "مدينة المساجد" مدينة أشباحٍ غروزنيِّة أو غرونكيِّة حيث تمتلىء شوارعها وبيوتها بالأجساد المتفحمة والجُثث المتعفنة لضعفة القوم من النساء والأطفال والشيوخ الذين قضوا رمياً بالرصاص أو قصفاً بالطائرات، أو نسفاً بالصواريخ، أو قذفاً بالقنابل غير الذكية، حتى لم يبق حفنة رمل لم تعطر بدماء الشهداء؛ جراء البغي الأمريكي الغاشم، دون أن تجد هذه الجثث أدنى التفاتة من جيش الغزاة البربري، بل ودون أن يسمح البرابرة الجدد للأهالي والمُسعفين بدفن الضحايا ومواراة أجسادهم الثرى، ذاك الحق الذي كفلته الفطرة السوية من زمن ابني آدم!
هذا الكمَّ من الوحشيِّة والقتل والتدمير الذي طال المدنيين لم يكن له ما يُسوِّغه سوى شهوة الانتقام والقتل والعربدة التي لم تجد لها ما يردعها.على الجانب السياسي كان صوت الأمة عالياً – الله أكبر!!! – بالشجب الحيي والاستنكار الرقيق والتنديد الخجول كورق محارم ماركة السياسة العربية المُسجلة في ديوان الذل والهوان والخرس الشيطاني. أما على الجانب العسكري فكان جهد القلة من إخوتنا المرابطين على ثغور الفلوجة، والضاربين للعالم أروع الأمثلة في التضحية والصمود والدفاع عن كرامتنا التي مُرِّغت بالتراب، بل والدفاع عن كرامة بني البشر الذين أراد الجلاد الأمريكي جعلهم سِخرة له في " أميستاد " جديدة!(/1)
في خضم هذه الهمجية الأمريكية، خرج بيان الـ26 واضحاً في تأييد وتأطير شرعية المقاومة ضد الغزاة المحتلين، ومطالباً المقاومة بوضوح أظهر من الشمس في رابعة النهار بتجنَّب المدنيين والعُزَّل والعاملين في المنظمات والجمعيات الخيرية، ومحذراً من الفرقة والاختلاف والدخول في الصراعات المذهبية والطائفية والعشائرية.
من قرأ البيان يعلم يقيناً أنه لم يدعُ الشباب للالتحاق بصفوف المقاومة العراقية لا من قريب ولا من بعيد، رغم أن البيان لو فعل ذلك لما كان خارجاً عن الشرع، بل يعلم الجميع أن هذه المسألة، أعني كون الجهاد فرض عينٍ على غير أهل البلد المُحتل، مسألة غير محسومة شرعاً بل هي تخضع للنظر وحسابات المصالح والمفاسد والضرورات الشرعية الأخرى...
لكن بعض الكُتّاب والصحفيين والمُفكرين لا ينفكون يُصيبونك بالدهشة حين تقرأ ما يكتبونه رداً على هذا البيان وأصحابه...حتى لتجزم بأحد أمرين : إما أن القوم لم يقرؤوا البيان، وإما أنهم لا يملكون القدرة الكافية لفهم مدلولات البيان وإشاراته ولغته الواضحة جداً، وكلا الأمرين مؤلم...هذا طبعاً على افتراض النيِّة الصادقة، وإلا فمن يقرأ بعض الكتابات يشعر بالنَفَس الاستئصالي المُقارب للنفَس اليميني المسيحي، والرغبة الملحة في تصفية الخصوم عن طريق استعداء السلطة، واستخدام توصيفات مُنفِرة ومُشوِّهة لمضمون بيان العلماء والمشايخ ووصمه بصبيانية فجَّة بأنَّه بيان "مقاولات" أو "عصيد" أو بأنه خطاب سياسي "قاعدي"!!، دون أدنى احترام لآداب الخلاف في الرأي وأخلاقيات المهنة وأمانة الكلمة التي يجب أن لا توظف بطريقة اعتسافية وانتهازية لصالح التشفي والسخرية والضرب غير الأمين تحت الحزام...
كتابات كثيرة كُتبت، وأحبار كثيرة أريقت، تشجب وتستنكر وتهاجم دعوة أصحاب البيان المزعومة، ولا أدري أين هي هذه الدعوة، للشباب بالذهاب إلى العراق !! وقد قرأت في أحد المقالات شجباً من هذا النوع، وحين راسلت صاحبه بريدياً سائلاً إياه عن موضع هذه الدعوة التي يشجبها ويستنكرها بحدة، أجاب بأن نَفَس البيان يُشير إليها!
فلفتُّ انتباههُ إلى أن البيان – لا نَفَسهُ – يُصرِّح بوضوح بعدم تأييده لذهاب الشباب إلى العراق لأسباب كثيرة ذُكِرت في البيان، فلمَ يضربُ صفحاً عن الظاهر البيِّن إلى المجمل المسكوت عنه؟!
العجيب أننا قرأنا بيان الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين والذي كان أشد قوة وآثاراً في الأوساط العربية والإسلامية وأثار حفيظة الغزاة أكثر مما أثارها بيان الـ26 خصوصاً وهو يدعو المسلمين صراحة ممن هم " خارج " العراق وداخلها إلى مقاومة المحتل وطرده لكن يبدو أن حفيظة ظل اليمين في السعودية " مُخصصة " فلا تنتفض إلا ضد الفتوى السعودية فقط!
إننا مع كل أسف في مواجهة تيِّار " بلطجة " صحفيِّة وفكريِّة، لا تستفيد من أخطائها إلا بالقدر الذي يستفيده البلطجي لارتكاب جريمة أخرى جديدة ونظيفة!! جريمة تضع الوطن بمبانيه ومشايخه وعلمائه في مواجهة مُختلَقة وغير حقيقية وقودها سوء الظن والنفاق واعتساف الحقائق والاستهانة بخطر الكلمة التي قد تشعل الكثير من الحرائق الوطنية...
هل نحن أمام " أميستاد " وطنيِّة ؟
محاكمات ظالمة ومقاصل صحفية ثورية تأخذ الناس بالظنة أو بالفهم المغلوط أو بالتزييف وفق أجندات خفيِّة مستهترة...
ألم يتساءل أصحاب هذا الفكر لمرة واحدة فقط فلا أطمع بالمزيد :هل نجح الفصل العنصري في مكان واحد من العالم، رغم كل ما حشده واعتسفه وحذفه؟
دمتم بخير.(/2)
ظلال الهجير
هبة عبد الله*
امتدت الظلال ولك ايها المسافر حق الاستظلال، وكما أن للطريق حقا على كل عابر فآت هذا الطريق حقه.. فها هو طريق الدعوة وهؤلاء هم أخوان الطريق.. لا تزال أفياءهم تمتد، وتترامى لتشملك.
[ومن مقتضى حقوق الأُخوة واجبات الصحبة، وهي مجموعة الحقوق بين أهل الأُخوة الإيمانية.. تزداد، وتتأكد عند رفقة الطريق. بأخوة العقد، والتعاهد على الدعوة في سبيل الله ومنها - أي الحقوق ـ:
- القيام بالحاجات مع البشاشة والاستبشار.. ولها مراتب: أدناها القيام بذلك عند السؤال، وأوسطها القيام بها دونما سؤال، وأعلاها تقديمها على حوائج النفس.
- السكوت عن ذكر المعايب والمماراة والجدل المذموم معه، وعدم سؤاله فيما يحرجه، وكتمان سره، مع ترك إساءة الظن، وستر العيوب والتغافل عنها.
- التودد باللسان (إبداء السرور بما يفرحه، وذب الغيبة عنه).
- الدعاء له في الحياة وبعد الموت.
- الوفاء والإخلاص.
- التخفيف وترك التكلف والتكليف.
- التوقير من غير كِبْر، والإحسان إليه ما استطاع].
وبعد إيتاء الطريق حقها نواصل المسير في الظلال؛ لنرى هل من اختلاف بعد ائتلاف؟!
[قد قالت العرب بهذا المعنى أيضًا؛ فجاء في أمثالها السائرة (لا يزال الناس بخير ما تباينوا فإن تساووا هلكوا).
إذ ربما تندفع نقيصة هذا بفضيلة ذاك.. ومن اختلاف المواهب تتحقق المقاصد (ومن رام إخوانا تتفق أحوال جميعهم رام متعذرًا، بل لو اتفقوا لكان ربما وقع خلل في النظام، إنه ليس كل واحد من الإخوان يمكن الاستعانة به في كل حال، ولا المجبولون على الخلق الواحد يمكن أن يتصرفوا في جميع الأعمال وإنما بالاختلاف يكون الائتلاف].
وفَيْءُ آخر يحمل سر الإلفة.. ترى ما هو؟!.
[...فمن أحب أن يقابل اللهُ إساءتَه بالإحسان فليقابل هو إساءة الناس إليه بالإحسان، ومن علم أن الذنوب والإساءة لازمة للإنسان لم تعظُم عنده إساءة الناس إليه.. فليتأمل هو حاله مع الله: كيف هي؟! مع فرط إحسانه إليه وحاجته هو إلى ربه..]. إذًا فَسِرُّها هو التسامح، ومن بعده احتمال الغضب.. [قال الإمام الشافعي: قيل لسفيان بن عيينة: إن قومًا يأتونك من أقطار الأرض تغضب عليهم يوشك أن يذهبوا ويتركوك. قال: هم حمقى إذاً مثلك، أن يتركوا ما ينفعهم لسوء خلقي].
ويسهل الاستماع بتخفيف الأثقال؛ [لهذا قيل عن حقوق الأخ: (فأول حقوقه اعتقاد مودته، ثم إيناسه بالانبساط إليه في غير محرم، ثم نصحه بالسر والعلن، ثم تخفيف الأثقال عنه، ثم معاونته فيما ينوبه من حادثة أو يناله من نكبة؛ فإن مراقبته في الظاهر نفاق، وتركه في الشدة لؤم)].
[وفي المعاتبة خير (فإن كثرة العتاب سبب للقطيعة، واطِّراحُ جميعه دليل على قلة الاكتراث بأمر الصديق، وقد قيل: علة المعاداة قلة المبالاة، بل تتوسط حالتا تركه وعتابه.. فيسامَح بالمتاركة ويستصلَح بالمعاتبة؛ فإن المسامحة والاستصلاح إذا اجتمعا لم يلبث معهما نُفور، ولم يبق معهما وجد)].
كذا فإن [حسن التصرف نبذ التكلف (فإن الملق مصايد العقول، والنفاق تدليس الفطن، وهما سجيتا المتصنع، وليس فيمن يكون النفاق والملق بعض سجاياه خير يرجى، ولا صلاح يؤمل.. ولأجل ذلك قالت الحكماء: إعرِف الرجلَ من فعله، لا من كلامه، واعرِف محبته من عينه لا من لسانه)].
[وأخيرًا ميزان الإنصاف (إن من كثرت حسناته وعظمت، وكان له في الإسلام تأثير ظاهر فإنه يُحتمَل له ما لا يُحتمَل لغيره، ويُعفَى عنه ما لا يُعفَى عن غيره؛ فإن المعصية خبث، والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث.. بخلاف الماء القليل فإنه يحمل أدنى خبث، وهذا أمر معلوم عند الناس، مستقر في فطرهم. إن من له ألوف من الحسنات فإنه يسامَح بالسيئة والسيئتين ونحوها.. حتى إنه ليختلج داعي عقوبته على إساءته، وداعي شكره على إحسانه فيغلب داعي الشكر داعي العقوبة كما قيل:
وقال آخر:
ولنمنع التعصب (أكثر الجهالة إنما رسخت في قلوب العوام بتعصب جماعة من جهال أهل الحق، وأظهروا الحق في معرض التحدي والإدلاء، ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير والإزدراء؛ فثارت في بواطنهم دواعي المعاندة والمخالفة، ورسخت في قلوبهم الاعتقادات الباطلة، وتعذر على العلماء المتلطفين محوهاه مع ظهور فسادها).
فهنيئًا لمن كان في القافلة؛ فاستزاد من الخير؛ حتى وصل مرتبة الإحسان: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين)]
اللهم لا تحرمنا أفياءَ صادقِ الإخاء.. في الدنيا بظلال محبتهم، وفي الآخرة تحت ظل عرشك العظيم..
ـــــــــــــــــــــــ
* ما بين المعكوفتين [ ]: اقتباسات من كتاب (مسافر في قطار الدعوة) للدكتور عادل الشويخ.(/1)
ظلم الزوجة لزوجها
من المعروف أن الظلم في الغالب يصدر من القوي للضعيف ومن الرئيس للمرؤوس، أما أن يصدر من الضعيف إلى القوي ومن المرؤوس إلى الرئيس فهذا أمر يحتاج إلى إيضاح، وهو ما نحن بصدده في هذه الصورة ؛ حيث إن تصور ظلم الزوج لزوجته أمر ميسور كما مر بنا في الصورة السابقة، أما صدوره من الزوجة لزوجها فقد لا يتضح إلا بالأمثلة التالية:
1- ترك طاعته بالمعروف والنشوز عليه ؛ ففي هذا ظلم للزوج بترك حق من حقوقه التي أوجبها الله عز وجل ورسوله - صلى الله عليه وسلم - على المرأة؛ قال الله تعالى : (( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً)) (النساء:34).
وقال صلى الله عليه وسلم : (( إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه، فأبت فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح )) [1].
ويلحق بمعصية الزوج ترك خدمته بالمعروف والتعالي عليه وإلجائه إلى خدمة نفسه وإشغال وقته بذلك .
والحاصل من كل ما سبق أن طاعة الزوجة لزوجها في غير معصية الله تعالى وفيما تقدر عليه واجبة ، وهي حق من حقوق الزوج على زوجته، وتصير المرأة ظالمة لزوجها بتفريطها في ذلك .
2- الخروج من بيته بدون إذنه , وهذه المسألة فرع عن سابقتها؛ لأن من لوازم طاعة الزوج أن لا تخرج من بيته إلا بإذنه, وفي مخالفة المرأة لذلك تفريط في حق من حقوق الزوج إلا أن تعلم إذنه المسبق لها لبعض الأماكن وأنه لا يمانع في ذلك، فهذا ينوب مناب الإذن لها .
ويلحق بهذه المخالفة إذن الزوجة لأحد بدخول بيت زوجها مع علمها بكراهيته لذلك ؛ فهذا أيضًا يعد من ظلم الزوجة لزوجها ومنعه حقًا من حقوقه؛ قال صلى الله عليه وسلم : (( فحقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذَنَّ في بيوتكم لمن تكرهون )) [2].
3 - سوء العشرة مع الزوج وإساءة الأدب معه بقول أو فعل والتسبب في إيصال الأذى والغموم والهموم إليه .
كل ذلك مما تعاقب عليه المرأة ، وتصبح بذلك ظالمة معتدية على حق عظيم من حقوق الزوج، ألا وهو الأدب معه، وحسن العشرة، وتوفير السكن النفسي والجسدي للزوج، والذي هو من غايات الزواج وأهدافه .
4- عدم تمكينه من نفسها دون عذر شرعي لها, وفي هذا ظلم للزوج من عدة جوانب ؛ من ذلك معصيته وعدم طاعته، وفي هذا ترك لحق من حقوق الزوج ، ألا وهو الطاعة بالمعروف ، وقد سبق ذكر ذلك في النقطة الأولى، وظلم له أيضًا لكونها تسببت بذلك في تطلعه
لغيرها، وعدم غض بصره , وقد يؤدي به الأمر إلى الوقوع في الفاحشة, وبذلك تشترك معه في الإثم لعدم إعانته على غض بصره وتحصين فرجه.
5- كما تعتبر ظالمة له أيضًا بإحزانه وبث القلق والغم في نفسه, ويلحق بذلك صوم الزوجة تنفلاً دون إذن الزوج ؛ لأن في ذلك تفويتًا لحق الزوج في قضاء وطره من زوجته عند حاجته لذلك .
وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ((لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه)) [3].
6- إنكار جميل الزوج ومعروفه وعدم شكر أفضاله عليها بمجرد أن ترى في يوم من الأيام ما تكره ؛ وفي هذا ظلم للزوج وهو الذي سمَّاه الرسول صلى الله عليه وسلم كفران العشير؛ وذلك لما سُئل أيكفرن بالله ؟ قال: ((يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان؛ لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئًا قالت: والله ما رأيت منك خيرًا قط )) [4].
7- قلة حياء الزوجة ودينها بإطلاق بصرها إلى الرجال الأجانب أو التبرج أمامهم أو الخضوع بالقول معهم, إن كل ذلك فوق ما فيه من الإثم والمخالفة فيه الظلم والخيانة للزوج بتشويه سمعته وعرضه عند الناس .
8- إهمال تربية أولاده في صغرهم ، وعدم الحرص على صحتهم وتغذيتهم ونظافتهم ؛ مما يجعل الزوج يشغل باله بهم ويتحمل جزءًا كبيرًا من ذلك، مما ينعكس أثره على صحة الزوج وضياع وقته وتفويت مصالحه في الخارج مع أن هذه الحقوق يقع أغلبها على الزوجة, ويلحق بهذا قيام الزوجة بالوقيعة بين الزوج وأولاده، وشحن صدور الأولاد على أبيهم مما ينشأ عنه حقد الأولاد وكراهيتهم له .
9- إرهاق الزوج بالنفقات الباهظة من غير حاجة إليها ؛ مما ينشأ عنه تحمل الزوج للديون الكبيرة من الناس . وفي هذا هم الزوج وغمه وتعريضه لحقوق الخلق؛ وقد لا يستطيع الوفاء بها مما يؤدي به إلى السجن وغيره، وكل ذلك بسبب الزوجة الظالمة الحمقاء .
10- غيبة الزوجة لزوجها عند أهله أو أهلها أو قرابتها, وفي هذا ظلم للزوج لأن الغيبة حرام بين المسلمين وهي بين الأقارب أشد حرمة وظلمًا .(/1)
11- السعي بالنميمة بين الزوج ووالديه أو إخوانه وأخواته أو غيرهم من الأقارب ؛ مما يكون له أكبر الأثر في تقطيع الأرحام وإفساد أواصر الود والمحبة بين الزوج وأقرب الناس إليه، ويلحق بذلك غيبة الوالدين أو الأخوة والأخوات عند الزوج، وإيغار صدره بذلك مما ينشأ عنه ترك الولد لوالديه وبعده عنهم؛ كل ذلك بسبب الزوجة الظالمة الباغية .
12- الاعتداء على أموال الزوج الموفي للزوجة حقوقها بسرقة أو احتيال أو ضغوط معينة حتى يذعن للزوجة كارهًا للتنازل عن أمواله؛ كل ذلك يعد ظلمًا وعدوانًا على الزوج وأمواله
13- السكوت على منكرات الزوج في نفسه أو بيته، وعدم مناصحته وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وأشد ظلمًا من هذه تلك الزوجة التي تعين زوجها على المنكرات أو تحثه وتلح عليه بها . فما أشد ظلمها لنفسها وزوجها وأولادها نعوذ بالله من ذلك .
14- ومن أشهر المنكرات التي تتسبب فيها الزوجة غالبًا: إدخال آلات اللهو والفساد في البيت وارتداء الألبسة المحرمة لها ولبناته، والسفر إلى بلاد الفساد والرذيلة ودخول السوق بلا محرم والخلوة بالسائق الأجنبي وغير ذلك .
15- طلب الزوجة الطلاق من زوجها من غير سبب شرعي إلا المضارة للزوج ومساومته والتعالي عليه؛ قال الرسول صلى الله عليه وسلم : (( أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة )) [5] .
_____________________________
[1] البخاري في بدء الخلق (3237) .
[2] الترمذي في الرضاع (1163) وقال : حسن صحيح .
[3] البخاري في النكاح (5195) .
[4] البخاري في النكاح 9/261 ، مسلم في الكسوف (907) .
[5] أبو داود في الطلاق 2/268 (2226) ، قال الحافظ في الفتح 9/304 : وصححه ابن خزيمة وابن حبان .(/2)
ظلم المرأة في ظل الحضارة الغربية
موقع إسلاميات
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد / فتعاني المرأة الغربية من الويلات في ظل الحضارة الغربية المعاصرة ومن تلك الويلات التي فتكت بالمرأة الغربية ظواهر وعلامات نحاول أن نبينها في هذه المقالة:
أولاً : استخدام المرأة في الدعاية والإعلان
لا يخفى على المتأمل في واقع المرأة الغربية أنها استغلت استغلالا سيئاً من خلال الإغراء بها في وسائل الدعاية والإعلان لمنتجات مختلفة، بعضها متعلق بالمرأة والآخر لا علاقة لها بالمرأة ..ففي مجال الأفلام تستخدم المرأة استغلالا تجاوز كل الحدود الشرعية والإنسانية في عرض المرأة عرضا فاتنا صارخاً ، والمجلات الهابطة لا يمشي سوقها إلا إذا ملئت المجلة بصور النساء الجميلات ..ففتاة الغلاف تختار بعناية لجذب الزبائن ..وهناك في الغرب ..فئات كثيرة من التجار يضعون في محلاتهم التجارية نساء جميلات تقف عند أبواب متجارهم لجذب الزبائن والتأثير عليهم، والتلطف معهم حتى يدخل المحل .
وهكذا فالمرأة تبتز بشكل بشع في المجتمعات الغربية .(وحسب بحث الماجستير للباحثة جيهان البيطار(حول أخلاقيات الإعلان) فقد جاء فيها :
* 93% تستخدم السيدات .
* 73% منها يتم تقديمها من خلال حركة المرأة .
* أكثر من النصف يحتوي إثارة في المضمون [1]
ثانياً : فتح مجالات عمل لا تتناسب مع طبيعة المرأة .
فبناء على نظرية المساواة المزعومة في العالم الغربي طالبوا بأن تعمل المرأة كما يعمل الرجل، فهي تعمل في المناجم وصناعة المواد الثقيلة وتنظيف الشوارع وقيادة الشاحنات وحمل السلاح وحراسة الأمن وغيرها من الأعمال التي لا تليق إلا بالرجال، وهذا من ظلم المرأة، والتي سببت لها آثاراً عظيمة على أنوثتها وعفافها وصحتها الجسدية والنفسية.
ثالثاً: العنف والاعتداء على المرأة .
وصور الاعتداء على المرأة إما أن يكون بالضرب أو التحرشات الجنسية أو الاغتصاب وأخيرا القتل .
الاعتداء عليها بالتحرشات الجنسية :
لقد كشف مسح استطلاعي أعدته وزارة الداخلية البريطانية أن 80% ( نعم.. ثمانون في المائة) من ضابطات الشرطة ، أي بنسبة أربعة إلى خمسة ، يتعرضن للمضايقات الجنسية خلال نوبات العمل الرسمية .
شارك في الاستطلاع 1800 ضابطة في عشر مديريات أمن في إنكلترا وويلز ، وأشرفت عليه الدكتورة (جنيفر بروان) وهي باحثة اجتماعية في الوحدة الملحقة في مديرية أمن (نيوهامبشاير) أليست نسبة مفزعة ؟ أربعة أخماس الشرطيات ـ عفوا ضابطات الشرطة ـ يتعرضن للمضايقات الجنسية ، ومتى ؟ خلال نوبات العمل الرسمية !! خلال العمل على حفظ الأمن !! [2]
هذا في حق حامية الأمن، أما في حق الساهرات على مصلحة المرضى فهناك أفعال يندى لها الجبين .
أشارت دراسة صدرت عن جمعية علم النفس البريطانية إلى أن 60 % من الممرضات اللاتي تم استطلاع آرائهن قد عانين من التحرش الجنسي من مرضاهن الرجال .
وأوضحت الدراسة أن أشكال التحرش الجنسي تمثلت في ممازحات صفيقة ، واقتراحات تتضمن الدعوة إلى ممارسة الجنس، بالإضافة إلى الملامسة الجسدية مباشرة، واتضح أن معظم الممرضات يعانين في صمت، ويفضلن عدم الإبلاغ عن تلك الحوادث بنسبة 76% .
وقد دعت الباحثة النفسية البريطانية سارة فينيز خلال مؤتمر لجمعية علم النفس البريطانية عقد في لندن ، إلى ضرورة صياغة توجيهات ولوائح داخلية تلزم الممرضة بالإبلاغ عن جميع حالات التحرش الجنسي التي تعاني منها خلال العمل ، على أمل أن يؤدي ذلك إلى الحد من تلك الظاهرة المسيئة لمهنة التمريض ومؤامرة الصمت التي تحيط بها .
وقد أشارت الدراسة إلى أن الرجال (المرضى) لا يتورعون عن الإتيان بأفعال يندى لها الجبين خلال قيام الممرضات بمساعدتهم [3].
هل رأيتم وتأملتم لا آلام المرضى ،ولا اقتراب الموت ، ولا أجواء المستشفى ؛ جميعها لم يمنع هؤلاء المرضى من القيام بتلك الأفعال التي وصفتها الدراسة بـ ( يندى لها الجبين) .
علماً أن الدراسة لم تتحدث عن الأطباء والممرضين ، واكتفت بالمرضى ، ولا ندري كم تبلغ النسبة حين تضاف إليها اعتداءات أولئك ؟!!
الاعتداء عليها بالاغتصاب :
أعلن مركز الضحايا الوطني الذي يناصر حقوق ضحايا جرائم العنف : أن معدل الاغتصاب في الولايات المتحدة أصبح يبلغ 1.3 امرأة بالغة في الدقيقة الواحدة ؛ أي 68000 امرأة في العام .
وأضاف المركز أن واحدة من كل ثماني بالغات في الولايات المتحدة تعرضت للاغتصاب ليكون إجمالي من اغتصبن اثني عشر مليونا ومائة ألف امرأة على الأقل .
ويشير المسح إلى أن 61 % من حالات الاغتصاب تمت لفتيات تقل أعمارهن عن 18 عاماً ، وأن 29 % من كل حالات الاغتصاب تمت ضد أطفال تقل أعمارهم عن 11 عاما.
وأظهرت الأرقام زيادة معدل الاغتصاب عن العام الذي سبقه بنسبة 59 % !! [4](/1)
وتقول دراسة أمريكية : إن جرائم الاغتصاب شأن هجمات واعتداءات الغرباء ، تنخفض خلال الشتاء ؛ لأن الناس لا يخرجون كثيراً ... وبالتالي فإن فرص الالتقاء تكون أقل [5].
ولو أردنا أن نترجم هذا الكلام إلى نتيجة علمية فإننا نقول : عندما يقل الاختلاط .. يقل الاغتصاب .
أي أن الإسلام العظيم حين يحد من الاختلاط، ويضيق من فرصه ومجالاته فإنه يحد من جرائم الاغتصاب ، ويحد من فرصها ومجالاتها .. وهذه مجتمعاتنا المسلمة ، رغم عدم التزامها التام بالإسلام تنخفض فيها نسب جرائم الاغتصاب ..وإذا كانت بعض مجتمعات المسلمين بدأت تعاني من تزايد جرائم الاغتصاب فيها ، فإنما هذا بقدر بعدها عن الإسلام والتزامها بأوامره [6].
رابعاً: استغلال المرأة في التجارة الجسدية .
لقد استغلت المرأة هناك جسدياً حتى ظهرت ظاهرة تسمى بتجارة الرقيق الأبيض بلغت أرباحها بالملايين وإليك بعض الأرقام :
ألقت الشرطة التشيكية القبض على أربعة رجال وامرأة كانوا يشكلون عصابة لاستدراج الفتيات التشيكيات إلى الغرب عن طريق وعدهن بالعمل في الغناء والرقص في النوادي الليلية مقابل رواتب مغرية فيما كان الهدف من ذلك إجبارهن على ممارسة الدعارة أو المشاركة في تمثيل أفلام جنسية.
وذكرت بلانكا كوسينوفا المتحدثة الصحافية باسم رئاسة الشرطة التشيكية أن العصابة استدرجت 25 فتاة تشيكية، وأن أحد أفرادها أجنبي من دولة من جنوب شرق أوروبا غير أنه انتحر قبل إلقاء الشرطة القبض عليه، أما زعيم العصابة فألقت الإنتربول القبض عليه في برشلونه وسيسلم إلى القضاء التشيكي لاحقا. ورغم هذا النجاح للشرطة التشيكية إلا أن ظاهرة استدراج أو "تصدير" الفتيات من تشيكيا ومن دول أوروبا الشرقية الاخرى بمختلف الأساليب لا تزال تعتبر من الظواهر المقلقة التي تعيشها هذه الدول منذ سقوط الأنظمة الشيوعية فيها، وما أعقب ذلك من تراجع مستويات المعيشة وسهولة الانتقال عبر الحدود واللهث وراء المال بأي ثمن كان.
ويؤكد تقرير حديث لمنظمة الهجرة الدولية أنه يجري سنويا بيع نصف مليون امرأة إلى شبكات الدعارة في العالم، وأن النساء من دول أوروبا الشرقية يشكلن ثلثي هذا العدد، أما أعمارهن فتتراوح بين الثامنة عشرة والخامسة والعشرين
وتعترف منظمة الشرطة الأوروبية "أوروبول" بأن تجارة الرقيق الأبيض منظمة بشكل جيد أما المنظمات غير الحكومية المهتمة بهذه المسألة وبعض الأجهزة الأمنية في أوروبا الشرقية فتؤكد أن الكثير من النساء يقعن في فخ الاستدراج الذي يجري عادة عن طريق نشر إعلانات مكثفة في مختلف الصحف في دول أوروبا الشرقية عن الحاجة إلى مربيات أو نادلات في المطاعم أو مغنيات أو راقصات أو عارضات أزياء للعمل في الغرب أو في بعض الدول البلقانية بعروض مغرية. وبعد وصول الفتيات إلى (أماكن العمل) تصادر جوازات سفرهن ويحتجزن لعدة أسابيع يتعرضن خلالها للإهانات والتعذيب ثم يجبرن على ممارسة الجنس مع كثير من الرجال إلى أن يروضن تماماً ثم يبيعهن القوادون إلى عصابات مختلفة الأمر الذي يجعل عودتهن إلى بلدانهن أو الوصول إلى الشرطة صعبا.
وتؤكد العديد من المصادر المتابعة لتجارة الرقيق الأبيض في أوروبا أن العديد من الدول والمناطق في البلقان غدت مفترق طرق بالنسبة للكثير من النساء ولاسيما اللواتي يستدرجن من جمهوريات رابطة الدول المستقلة كأوكرانيا أوملدوفيا وروسيا البيضاء، فالنساء الأكثر جمالاً يرسلن إلى أوروبا الغربية ولاسيما إلى المانيا وفرنسا وإيطاليا ، في حين أن الأقل جمالا وجاذبية يرسلن إلى تركيا واليونان والشرق الأوسط.
ويؤكد الكسندر لوناس الجنرال في الشرطة الرومانية الذي يترأس المركز الإقليمي لمكافحة الجريمة المنظمة أن مدينة برتشكو الواقعة في البوسنه والهرسك واقليم كوسوفو أصبحا من المعاقل الرئيسية لتجارة الرقيق الابيض، وأن أغلب الفتيات اللواتي يجري الاتجار بأجسادهن تتراوح أعمارهن بين 18-24 عاماً.
وكمثال حي على الطريقة التي تتبع للاستدراج يورد الجنرال قصة بطلة ملدوفيا السابقة في القفز سفيتلانا البالغة من العمر 28 عاما التي استجابت لإعلان نشر في إحدى صحف بلادها طلب فتيات للعمل في يوغوسلافيا السابقة في جني الخضار وبدلا من أن تمارس بهذا العمل انتهى مطاف هذه الفتاة الشقراء القادمة من كوسوفو في مكان قريب من الحدود مع ألبانيا وهناك باعها واشتراها ستة من أصحاب بيوت الدعارة وعندما تمردت على ذلك دفعت ثمنا كان سبعة كسور في أضلاعها ثم نقلت بعد ذلك ومن المستشفى مباشرة إلى منزل معاون النائب العام السابق في جمهورية الجبل الأسود زوران، غير أن الأخير لم يساعدها لأنه هو نفسه كان ينظم حفلات الجنس الصاخبة لمسؤولين كبار في هذه الجمهورية البلقانية الصغيرة ولم تتمكن من الهرب إلا بعد إلقاء القبض عليه وسجنه.(/2)
وفي دليل على الحجم الخطير الذي وصلت إليه هذه التجارة يقول تقرير حديث للمجلس الأوروبي إن أرباح القوادين ومجموعات المافيا التي تعمل في هذا المجال في دول الاتحاد الأوروبي ارتفعت في الأعوام العشرة الماضية بنسبة 400% وإن شبكات الدعارة هذه تعرض الآن نصف مليون امرأة للبيع يبلغ الدخل الذي تحققه النساء فيها للقوادين ومزوري الوثائق ومهربي البشر وغيرهم 13 مليار يورو سنويا.
وتعيد الدراسات الاجتماعية هنا سبب تفشي ظاهرة تجارة الرقيق الأبيض في دول أوروبا الشرقية باحجام كبيرة إلى تفشي الفقر وانتشار الفساد على نطاق واسع لدى أجهزة الأمن والقضاء وسهولة الانتقال عبر الحدود ووجود طلب كبير في الغرب على الفتيات الأوروبيات الشرقيات ورخص أسعارهن إضافة الى تعاون المافيات المحلية مع المافيات الغربية في ظل ضعف أداء أجهزة الأمن. ويسود اعتقاد لدى المنظمات غير الحكومية المتابعة لهذه المسألة بأن العديد من دول أوروبا الشرقية ستظل ولسنوات طويلة أخرى مراكز رئيسية في أوروبا لتجارة الرقيق الأبيض.)
وصدر عن منظمة الهجرة العالمية عام 1997 أن نحو 175 ألف امرأة تم الاتجار بهن عبر البلقان استقدمن من آسيا الوسطى إلى دول الاتحاد الأوروبي. 1000 ألف امرأة ألبانية وقعن فريسة لهذه التجارة.
(و أكد خبراء في الأمم المتحدة، أن تجارة الرقيق الأبيض، أصبحت تحتل المركز الثالث عالمياً، بين النشاطات غير المشروعة.
وجاء في ندوة عقدها مسؤولون من مكتب الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة والمخدرات في البرازيل، وشارك فيها خبراء دوليون، ومسؤولون من الإنتربول، وشرطة اسكوتلانديارد، أن هذه التجارة تحقق عوائد بلغت أكثر من سبعة مليارات من الدولارات في العام الواحد، ويبلغ عدد ضحاياها أكثر من أربعة ملايين شخص، يهاجرون من بلادهم بصورة غير مشروعة سنوياً، الأمر الذي دفع وزير العدل البرازيلي إلى وصف الدعارة بأنها "مرض العصر )
خامساً : حرمانها من الحياة الزوجية السعيدة
في « مانهاتن» المدينة الأميريكية التي اخترعت بدعة العزاب المتمايليين تعيش النساء أزمة حادة .
فقد تبين من آخر إحصاء؛ أن هنالك امرأتين تعيشان دون زواج ؛ مقابل كل رجل أعزب ،وهذا يعني أن جيلا من النساء يتعرضن لخطر العنوسة
وتذكر الإحصائيات العلمية أن المرأة التي يتراوح عمرها ما بين 35ـ 39 عاماً لا تتوفر لها فرص الزواج إلا بنسبة 38% فقط .
ففي نيويورك - مقصد الشاذين والمتسكعين - أصبح العجز في عدد الرجال الذين يمكن الزواج منهم حادا جداً ..إلى درجة أن آلاف النساء الجميلات والذكيات والناجحات أصبحن يائسات من نجاح محاولاتهن الظفر بأزواج لهن !
ولقد جعل هذا الوضع النساء الأخريات - الأقل جمالا ونجاحا - يقتنصن كل فرصة سانحة للقاء رجال ، وإقامة علاقات معهم ، حتى دون زواج ، إلى حد قيام بعضهن بدفع تحويشة العمر للحصول على حصة بيت على الشاطئ تمضي فيه الصيف مع رجل ! كما أن بعضهن يلجأن إلى الإعلان في الصحف والمجلات عن حاجتهن إلى رجال) [7]
العجيب أن المرأة هناك هي التي تبحث عن الزوج وتحاول جاهدة أن تكرم صديقها وخليلها حتى يقبلها زوجة له ، بل وصل الأمر إلى أنها تخشى أن تفاتحه بالزواج فيتركها ويبحث عن أخرى .
يقول الدكتور عبد الله الخاطر- رحمه الله - : ( كنت أستغرب عند بداية إقامتي في بريطانيا أن المرأة هي التي تنفق على الرجل ، وكنت أشاهد هذه الظاهرة عندما أركب القطار ، أو أدخل المطعم ، إذ ليس في قاموس الغربيين شيء اسمه (كرم) وبعد حين زال هذا الاستغراب ، وأخبرني المرضى عن أسباب هذه الظاهرة ، وفهمت منهم بأن الرجل لا يحب الارتباط بعقد زواج، ويفضل ماأسموه (صديقة) والمرأة تسميه (صديقاً) وليس هو أو هي من الصدق في شيء ، وكم أساءوا لهذه الكلمة النبيلة ، فالصديق يعني: الصدق والمحبة والمروءة والنخوة والكرم والوفاء ، وما إلى ذلك من معان طيبة كريمة .
والصديق عندهم يعيش مع امرأة شهوراً أو سنيناً ، ولا ينفق عليها ، بل هي تنفق عليه في معظم الحالات ، وقد يغادر البيت متى شاء ، أو قد يطلب منها مغادرة بيته ، إن كانت تعيش معه في البيت ، ولهذا فالمرأة عندهم تعيش في قلق وخوف شديدين ، وتخشى أن يرتبط صديقها(!!) بامرأة ثانية ويطردها ، ثم لا تجد صديقاً آخر .!!
وكما يقولون (بالمثال يتضح المقال) فسوف أختار مثالا واحدا من أمثلة كثيرة تبين وضع المرأة عندهم :(/3)
رأيت في عيادة الأمراض النفسية امرأة في العشرينات من عمرها وكانت حالتها منهارة ، وبعد حين من الزمن شعرت بشيء من التحسن ، وأصبحت تتحدث عن وعي ، فسألتها عن حياتها فأجابت ؛ والدموع تنهمر من عينيها ، قالت : مشكلتي الوحيدة أنني أعيش بقلق واضطراب ، ولا أدري متى سينفصل عني صديقي، ولا أستطيع مطالبته بالزواج مني، لأنني أخشى من موقف يتخذه ، ونُصحتُ بالعمل على إنجاب طفل منه ، لعل هذا الطفل يرغبه في الزواج ، وبعدها أنت ترى الطفل ، كما أنك تراني لا ينقصني جمال ، ومع هذا وذاك فأبذل كل السبل ؛ من تقديم خدمات ! وإنفاق مال ! ، ولم أنجح في إقناعه بالزواج ، وهذا سر مرضي ، وسبب قهري ، إني أشعر بأنني وحدي في هذا المجتمع ، فليس لي زوج يساعدني على أعباء الحياة ، ولي أهل ولكن وجودهم وعدمهم سواء ، وليتني بقيت بدون طفل لأنني لا أريد أن يتعذب ويشقى في هذه الحياة كما تعذبت وشقيت ..
وهذه المريضة ليست من شواذ المجتمع الغربي ، بل الشواذ هم الذين يعيشون حياة هادئه ) [8]
سادساً : الضياع النفسي والروحي
المرأة الغربية محرومة من الاستقرار والراحة فهي دائماً في قلق واضطراب وخوف رهيب من المستقبل المجهول ، ( ففي فرنسا وحدها عشرة ملايين أرملة يستشرن منجمات - عرّافات - كل عام ؛ بسبب خوفهن من المستقبل ، تحت وطأة الضياع النفسي والروحي ) هذا ما أكدته مَنْ وُصفت بأنها «المنجمة الفرنسية المعروفة ليليان جرتييه» .
فكم مليوناً من النساء في سائر أوروبا ، وفي أمريكا ، وفي باقي دول العالم ؟ ألسن عشرات من الملايين الأخرى ؟! وحتى لا يقول أحد : إنما تذهب هؤلاء الفرنسيات إلى المنجمات والمنجمين تسلية وليس اعتقادا ؛ فإننا ننقل ما قالته المنجمة الشهيرة نفسها عن النساء اللاتي يقصدنها: «إنهن يعتقدن أنني أمثل المفتاح السحري الذي يحل مشكلاتهن من مرة واحدة وفي زمن قياسي» !! ولهذا فهن « يفرغن جيوبهن من أجل الهدف نفسه » أي إنهن يدفعن بسخاء [9]
سابعاً: تعريضها للأمراض المختلفة
تتعرض المرأة الغربية لأمراض مختلفة ومتنوعة ما بين الأمراض الجنسية إلى أمراض السرطان إلى غيرها من الأمراض كل ذلك بسبب تلك الحضارة الغربية التي أوصلتها إلى هذه المأساة العظيمة .
فمن تلك الأمراض :
* سرطان الجلد
(أكدت أبحاث أجريت مؤخراً ؛ أن النساء اللواتي يأخذن حمامات الشمس بالمايوه البيكيني ؛ يتعرضن للإصابة بسرطان الجلد 13 ضعاف عن النساء اللواتي يرتدين المايوه من قطعة واحدة تغطي الظهر ،أفلا يعني هذا أن المرأة المحجبة ..أقل نساء الأرض عرضة للإصابة بسرطان الجلد ..لأنها تستر جسدها كله عن أشعة الشمس ؟!
يقول أحد الأطباء إنه يوجد كل إنسان أوروبي حوالي ثلاثين ندبة ، ويعود سبب وجود الندبات المرضية منها إلى أشعة الشمس ،ويتحول بعضها تلقائيا إلى النوع الخبيث ) [10].
ومن تلك الأمراض وعدد المصابين بها[11]:
* مرض السفلس
(أعلن الدكتور (برك جونز) عام 1974م أن خمسين مليون شخص يصابون بمرض السفلس كل عام ) [12]
_ ( بلغ عدد المصابين المسجلين رسمياً لعام (1418هـ -1998م) – حسب تقرير منظمة الصحة العالمية – فيبلغ حوالي خمسة ملايين شخص. ويبلغ عدد الوفيات – حسب ذات التقرير - ( 159,000 ) تسعة وخمسون ومائة ألف شخص)
* مرض السيلان
(يعتبر هذا المرض من أكثر الأمراض المعدية انتشاراً في الوقت الحاضر، وقد يصاب به 200-500 مليون شخص في كل عام، معظمهم في سن الشباب ممن تتراوح أعمارهم بين 15و28 سنة. وغالبيتهم من طلاب المدارس والجامعات.
ففي الولايات المتحدة الأمريكية - مثلاً - يتراوح عدد الإصابات المسجلة رسمياً بالسيلان ما بين 4و5ملايين إصابة.
أما في البرازيل فتسجل يومياً حوالي عشرين ألف إصابة جديدة في العيادات والمستشفيات.
وفي فرنسا يقدر عدد المصابين بالسيلان سنوياً بـ 500 ألف رجل وامرأة وطفل.
وقد بلغ عدد المصابين بالسيلان لعام (1418هـ -1998م) حسب تقرير منظمة الصحة العالمية حوالي خمسة ملايين شخص.
أما الوفيات فيبلغ عددهم حسب ذات التقرير ثمانية آلاف شخص .
* مرض الهربس الزهري
يحتل الهربس الزهري - أو القوباء التناسلية - المرتبة الخامسة من حيث الانتشار في سلسلة الأمراض الجنسية.
وقد تضاعف عدد المصابين في العالم بهذا المرض منذ عام (1390هـ -1970م).
ففي الولايات المتحدة الأمريكية تسجل سنوياً مليون إصابة جديدة، ويقدر عدد المصابين فيها بحوالي 25 مليون شخص.
وتشكل هذه الإصابات 15% من مجموعة الأمراض الجنسية.
وفي اليابان يفوق عدد الإصابات الجديدة بالقوباء عدة مرات عدد الإصابات بالسيلان والسفلس.
وفي أوربا الغربية يشكل الهربس التناسلي 20% من مجموع الأمراض المتناقلة عبر الجنس، فقد تم رصد أكثر من عشرة آلاف حالة في بريطانيا وحدها عام (1400هـ -1980م).(/4)
وقد ذكر الدكتور (مورس) [13]اختصاصي أمراض الهربس أن نتيجة الدراسة التي قام بها في بريطانيا تشير إلى أن انتشار هذا المرض يزداد يوماً بعد يوم، وأن أكثر الإصابات به تقع بين الشباب والشابات الذين تتراوح أعمارهم بين 15-30 سنة. وأن هذا المرض يتناسب طردياً مع الجنس وطرق ممارسته وازدياده في المجتمع بطرق غير صحيحة، فيما يقل بالمقابل عند الذين يحبون العفاف ويسعون إليه.
وقد انتقل المرض إلى عواصم عالمية أخرى مثل: بروكسل وأمستردام وكوبنهاجن وستوكهولم وبرلين وباريس وجنوب إفريقية) .
* مرض الإيدز
( إن عدد الإصابات بوباء الإيدز منذ اكتشافه في أوائل الثمانينات حتى يومنا هذا في تصاعد مستمر ومخيف.
فحسب إحصاءات منظمة الصحة العالمية التي كشف النقاب عنها في المؤتمر العالمي الخامس ضد مرض الإيدز المنعقد في مونتريال بكندا عام (1409هـ –1989م)، فإن عدد الإصابات بمرض الإيدز حتى عام (1405هـ -1985م) لم يتجاوز 70,000 إصابة.
ثم ارتفع هذا العدد ما بين عامي (1406و1408هـ -1986و1988م)، ليصبح حوالي 300,000 إصابة.
ويقدر عدد الإصابات ما بين عامي (1409و1410هـ- - 1989و1990م) بأنه يتراوح ما بين 700,000 إصابة ومليون ونصف المليون إصابة.
وقد بينت منظمة الصحة العالمية بأنه إذا لم يستطع الأطباء إيجاد وسيلة فعالة للقضاء على هذا الوباء في السنوات المقبلة، فإن عدد الإصابات سيبلغ في أواخر هذا القرن خمسة ملايين إصابة.
ولكن يبدو أن توقعات منظمة الصحة العالمية عن عدد المصابين بهذا المرض كانت متواضعة جداً. فقد بلغ عدد المصابين بالإيدز بنهاية عام (1418هـ –1998م) 70,930,000 إصابة (35 مليون مصاب من الذكور، و34 مليون مصاب من الإناث تقريباً ).
وبلغ عدد الوفيات 2,285,000 شخص .
وذلك حسب الإحصاءات الصادرة عن المنظمة نفسها عام (1419هـ -1999م).
فهذه لمحة خاطفة عن حال المرأة في عصر الحضارة المسماة ( حضارة القرن العشرين) .
وما هي بحضارة ، وإنما هي قذارة وفجارة
إيهِ عصرَ العشرين ظنوك عصراً نيِّرَ الوجه مُسْعِدَ الإنسانِ
لست (نوراً) بل أنت (نارٌ) وظلمٌ مذ جعلت الإنسان كالحيوانِ [14]
وصدق الله تعالى إذ يقول: ? وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً ?[طه: 124]
_________________________________
[1] مجلة البيان عدد ربيع الآخر 1420هـ
[2] جريدة الشرق الأوسط في عددها (5170 ) . نقلا من ( إنهم يتفرجون على اغتصابها ) محمد العويد . ص 23
[3] الوطن الكويتية العدد (5711) . نقلا من ( إنهم يتفرجون على اغتصابها ) محمد العويد . ص 27 .
[4] جريدة صوت الكويت العدد 542 . نقلا من : إنهم يتفرجون على اغتصابها ص 40.
[5] جريدة الشرق الأوسط العدد (5130) .
[6] انظر : ( إنهم يتفرجون على اغتصابها ) محمد العويد . ص 13 .
[7] انظر : وبضدها تتبين المسلمات ، محمد العويد ص 11 .
[8] انظر : مشاهداتي في بريطانيا ص 10 د . عبد الله الخاطر رحمه الله .
[9] انظر : وبضدها تتبين المسلمات ص 7-8 بتصرف . محمد العويد .
[10] انظر : من أجل تحرير حقيقي للمرأة ص 153 بتصرف .
[11] انظر : قضايا المرأة في المؤتمرات الدولية ص . د . فؤاد آل عبدالكريم ص 673 وما بعدها .
[12] انظر : غضب الله تعالى يلاحق المتمردين ( الأيدز ) لفؤاد بن سيد الرفاعي ص 40 وما بعده .
[13] الدكتور مورس لونقستن، أستاذ الفيروسات الطبية في كلية طب جامعة مانشستر - بريطانيا. انظر: الأمراض الجنسية عقوبة إلهية/عبدالحميد القضاة ص90.
[14] عودة الحجاب (2/56) .(/5)
ظلمات الظلم [1/2]
د. نايف بن أحمد الحمد 21/6/1427
17/07/2006
- الظلم هو
- حكمه
- الظلم ظلمات
- الاستعاذة بالله من الظلم
- نزه تعالى نفسه عن الظلم في آيات كثيرة
- الظلم محرم ولو كان شيئا يسيرا
- أنواع الظلم
- صور الظلم
- أشد صور ظلم المخلوقين القتل
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد : فقد كثر في هذه الأزمنة ظلم العباد لأنفسهم بارتكاب الذنوب والمعاصي وظلمهم لغيرهم بأكل أموالهم بالباطل أو أكل لحومهم بألسنتهم قدحا وذما وسبا وقذفا وشتما وكذبا وكذا ظلمهم لربهم شركا وكفرا ولكثرة الآثار السيئة دنيا وأخرى لهذا الأمر فقد رغبت أن أكتب كلمات عن هذا الموضوع مذكرا نفسي وإخواني بخطورته فأقول مستعينا بالله تعالى :
الظلم هو : وضع الشيء في غير موضعه، والجور، ومجاوزة الحد (1).
قال ابن رجب رحمه الله تعالى " الظلم المطلق أخذ ما ليس له أخذه ولا شيء منه من مال أو دم أو عرض "(2) ا.هـ
حكمه : فمحرم بالكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، والعقل .
قال تعالى: "وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً" [الأحزاب:58] قال الطبري رحمه الله تعالى " إن الذين يؤذون ربهم بمعصيتهم إياه وركوبهم ما حرم عليهم ...(فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً) يقول : فقد احتملوا زورا وكذبا وفرية شنيعة والبهتان أفحش الكذب " ا.هـ التفسير 22/44 وقال ابن كثير رحمه الله تعالى " وقوله تعالى (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا) أي ينسبون إليهم ما هم برآء منه لم يعملوه ولم يفعلوه (فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً) وهذا هو البهت الكبير أن يحكي أو ينقل عن المؤمنين والمؤمنات ما لم يفعلوه على سبيل العيب والتنقص لهم ومن أكثر من يدخل في هذا الوعيد الكفرة بالله ورسوله ثم الرافضة الذين ينتقصون الصحابة ويعيبونهم بما قد برأهم الله منه ويصفونهم بنقيض ما أخبر الله عنهم فالله عز وجل قد أخبر أنه قد رضي عن المهاجرين والأنصار ومدحهم وهؤلاء الجهلة الأغبياء يسبونهم وينتقصونهم ويذكرون عنهم ما لم يكن ولا فعلوه أبدا فهم في الحقيقة منكسو القلوب يذمون الممدوحين ويمدحون المذمومين "(3)ا.هـ
ومن الآيات الدالة على تحريم الظلم قوله تعالى بعد ذكره جملة من الأحكام ( وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً ) (النساء:30) أي ومن يفعل ما حرمته عليه من نكاح مَن حرمت نكاحه وتعدى حدوده وأكل أموال الأيتام ظلما وقتل النفس المحرم قتلها ظلما بغير حق ومَن يأكل مال أخيه المسلم ظلما بغير طيب نفس منه فسوف نصليه نارا(4). قال ابن كثير رحمه الله تعالى : " ينهى الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن أن يأكلوا أموال بعضهم بعضا بالباطل أي بأنواع المكاسب التي هي غير شرعية كأنواع الربا والقمار وما جرى مجرى ذلك من سائر صنوف الحيل وإن ظهرت في غالب الحكم الشرعي مما يعلم الله أن متعاطيها إنما يريد الحيلة على الربا .... ومَن يتعاطى ما نهاه الله عنه متعديا فيه ظالما في تعاطيه أي عالما بتحريمه متجاسرا على انتهاكه ( فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً ) الآية وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد فليحذر منه كل عاقل لبيب ممن ألقى السمع وهو شهيد "(5) ا.هـ
وقال تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ) (النساء:10) قال ابن تيمية رحمه الله تعالى " وكل عمل يؤمر به فلا بد فيه من العدل فالعدل مأمور به في جميع الأعمال والظلم منهي عنه نهيا مطلقا ولهذا جاءت أفضل الشرائع والمناهج بتحقيق هذا كله وتكميله فأوجب الله العدل لكل أحد على كل أحد في كل حال "(6)ا.هـ
وعلى كل حال فهناك آيات كثيرة قاضية بتحريم الظلم جملة وتفصيلا وسيأتي قريبا جملة من الأحاديث النبوية المتضمنة تحريمه وقد أجمع العلماء سلفا وخلفا على تحريمه .
الظلم ظلمات يوم القيامة يقول النبي صلى الله عليه وسلم " اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة " (7)(/1)
وقد عدَّ النبي صلى الله عليه وسلم الأمور التي يتظالم فيها الناس فقال عليه الصلاة والسلام ( إن دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ وَأَبْشَارَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هذا في شَهْرِكُمْ هذا في بَلَدِكُمْ هذا ) (8) وقال صلى الله عليه وسلم ( لَا تَحَاسَدُوا ولا تَنَاجَشُوا ولا تَبَاغَضُوا ولا تَدَابَرُوا ولا يَبِعْ بَعْضُكُمْ على بَيْعِ بَعْضٍ وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ ولا يَخْذُلُهُ ولا يَحْقِرُهُ التَّقْوَى ها هنا -وَيُشِيرُ إلى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - بِحَسْبِ امْرِئٍ من الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ كُلُّ الْمُسْلِمِ على الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ) (9) قال ابن رجب رحمه الله تعالى : " فإذا كان المؤمنون إخوة أُمروا فيما بينهم بما يوجب تآلف القلوب واجتماعها ونهوا عما يوجب تنافر القلوب واختلافها "(10).ا.هـ وقال رحمه الله تعالى " فتضمنت هذه النصوص كلها أن المسلم لا يحل إيصالُ الأذى إليه بوجه من الوجوه مِن قول أو فعل بغير حق "(11) ا.هـ
وقال النووي رحمه الله تعالى : " قال العلماء الخذل ترك الإعانة والنصر ومعناه إذا استعان به في دفع ظالم ونحوه لزمه إعانته إذا أمكنه ولم يكن له عذر شرعي ولا يحقره .. لا يحتقره فلا ينكر عليه ولا يستصغره " (12)ا.هـ
الاستعاذة بالله من الظلم
فقد كان من أدعية النبي صلى الله عليه وسلم الاستعاذة بالله من الظلم فعن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ( اللهم إني أَعُوذُ بِكَ من الْفَقْرِ وَالْقِلَّةِ وَالذِّلَّةِ وَأَعُوذُ بِكَ من أَنْ أَظْلِمَ أو أُظْلَمَ ) (13). وقد جاء ذلك بصيغة الأمر فعن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال : قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ( تَعَوَّذُوا بالله مِنَ الْفَقْرِ وَالْقِلَّةِ وَالذِّلَّةِ وأن تَظْلِمَ أو تُظْلَمَ ) (14) قال ابن رجب رحمه الله تعالى : " فمن سلم من ظلم غيره وسلم الناس من ظلمه فقد عوفي , وعوفي الناس منه وكان بعض السلف يدعو : اللهم سلمني وسلم مني " (15)ا.هـ بل جعل النبي صلى الله عليه وسلم الاستعاذة بالله من الظلم من الورد اليومي فعن زَيْدِ بن ثَابِتٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَّمَهُ دُعَاءً وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَعَاهَدَ بِهِ أَهْلَهُ كُلَّ يَوْمٍ قال ( قُلْ كُلَّ يَوْمٍ حين تُصْبِحُ لَبَّيْكَ اللهم لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ في يَدَيْكَ وَمِنْكَ وَبِكَ - وفيه-أعوذ بِكَ اللهم أَنْ أَظْلِمَ أو أُظْلَمَ أو اعتدي أو يُعْتَدَى علي أو أكتسب خَطِيئَةً مُحْبِطَةً أو ذَنْباً لاَ يُغْفَرُ ) (16) بل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة بالله من الظلم كلما خرج المرء من بيته وما أكثر ما يخرج الإنسان من بيته فعن أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خَرَجَ من بَيْتِهِ قال ( بِسْمِ اللَّهِ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ من أَنْ أَزِلَّ أو أَضِلَّ أو أَظْلِمَ أو أُظْلَمَ أو أَجْهَلَ أو يُجْهَلَ عَلَيَّ ) (17) فالحث على هذا الدعاء فيه إشعار ببيان خطورة الظلم بأنواعه لذا تأكد الاستعاذة بالله منه كلما خرج من بيته لأن الخروج من البيت مظنة الظلم بسبب كثرة الاختلاط بالناس على اختلاف مشاربهم وتعدد أهوائهم قال الطيبي رحمه الله تعالى : " إن الإنسان إذا خرج من منزله لا بد أن يعاشر الناس ويزاول الأمر فيخاف أن يعدل عن الصراط المستقيم فإما أن يكون في أمر الدين فلا يخلو من أن يَضل أو يُضل وإما أن يكون في أمر الدنيا فإما بسبب جريان المعاملة معهم بأن يَظلم أو يُظلم وإما بسبب الاختلاط والمصاحبة فإما أن يَجهل أو يُجهل فاستعيذ من هذه الأحوال كلها بلفظ سلسل موجز وروعي المطابقة المعنوية والمشاكلة اللفظية " ا.هـ(18) وقال المناوي رحمه الله تعالى : " أي أفعل بالناس فعل الجهال من الإيذاء والإضلال ويحتمل أن يراد بقوله أجهل أو يجهل علي الحال الذي كانت العرب عليها قبل الإسلام من الجهل بالشرائع والتفاخر بالأنساب والتعاظم بالأحساب والكبرياء والبغي ونحوها.." (19) ا.هـ
نزه تعالى نفسه عن الظلم في آيات كثيرة(/2)
قال تعالى (تِلْكَ آَيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ) (آل عمران:108) وقال تعالى ( إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ) (النساء:40) وقال تعالى ( وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً )(الكهف: 49) وقال تعالى ( وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا ) (طه:112) قال ابن تيمية رحمه الله تعالى : " قيل : الظلم أن يحمل عليه سيئات غيره والهضم أن ينقص من حسنات نفسه " (20)ا.هـ وقال تعالى ( وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ ) (غافر:31) وقال تعالى (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) (ق :29) وفي الحديث القدسي قال تعالى ( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ) (21) قال ابن القيم رحمه الله تعالى : " الصواب الذي دلت عليه النصوص أن الظلم الذي حرمه الله على نفسه وتنزه عنه فعلا وإرادة هو ما فسره به سلف الأمة وأئمتها أنه لا يحمل المرء سيئات غيره ولا يعذب بما لم تكسب يداه ولم يكن سعى فيه , ولا ينقص من حسناته فلا يجازى بها أو ببعضها إذا قارنها أو طرأ عليها ما يقتضي إبطالها أو اقتصاص المظلومين منها وهذا الظلم الذي نفى الله تعالى خوفه عن العبد بقوله ( وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا ) قال السلف والمفسرون : لا يخاف أن يحمل عليه من سيئات غيره ولا ينقص من حسناته ما يتحمل فهذا هو العقول من الظلم ومن عدم خوفه "(22) ا.هـ.
الظلم محرم ولو كان شيئا يسيرا قال عليه الصلاة والسلام ( مَن اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة ) فقال رجل : وإن كان شيئا يسيرا ؟ فقال ( وإن قضيبا من أراك ) (23) قال الزرقاني رحمه الله تعالى : " لئلا يتهاون بالشيء اليسير ولا فرق بين قليل الحق وكثيره في التحريم أما في الإثم فالظاهر أنه ليس من اقتطع القناطير المقنطرة من الذهب والفضة كمن اقتطع الدرهم والدرهمين وهذا خرج مخرج المبالغة في المنع وتعظيم الأمر وتهويله "(24) ا.هـ.
أنواع الظلم :
الظلم ثلاثة أنواع :1/ ظلم العبد نفسه بالشرك . 2/ ظلم العبد نفسه فيما بينه وبين الله . 3/ ظلم العبد لغيره من العباد . عن عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت : قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ( الدَّوَاوِينُ عِنْدَ اللَّهِ عز وجل ثَلاَثَةٌ دِيوَانٌ لاَ يَعْبَأُ الله بِهِ شَيْئاً وَدِيوَانٌ لاَ يَتْرُكُ الله منه شَيْئاً وَدِيوَانٌ لاَ يَغْفِرُهُ الله فَأَمَّا الدِّيوَانُ الذي لاَ يَغْفِرُهُ الله فَالشِّرْكُ بِاللَّهِ قال الله عز وجل إنه من يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ الله عليه الْجَنَّةَ وَأَمَّا الدِّيوَانُ الذي لاَ يَعْبَأُ الله بِهِ شَيْئاً فَظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ من صَوْمِ يَوْمٍ تَرَكَهُ أو صَلاَةٍ تَرَكَهَا فإن اللَّهَ عز وجل يَغْفِرُ ذلك وَيَتَجَاوَزُ إن شَاءَ وَأَمَّا الدِّيوَانُ الذي لاَ يَتْرُكُ الله منه شَيْئاً فَظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضاً الْقِصَاصُ لاَ مَحَالَةَ ) (25) قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : " فالظلم ثلاثة أنواع فالظلم الذي هو شرك لا شفاعة فيه , وظلم الناس بعضهم بعضا لابد فيه من إعطاء المظلوم حقه لا يسقط حق المظلوم لا بشفاعة ولا غيرها ولكن قد يعطى المظلوم من الظالم كما قد يغفر لظالم نفسه بالشفاعة فالظالم المطلق ما له من شفيع مطاع وأما الموحد فلم يكن ظالما مطلقا بل هو موحد مع ظلمه لنفسه وهذا إنما نفعه في الحقيقة إخلاصه لله فبه صار من أهل الشفاعة "(26)ا.هـ.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى : " ظلم العبد نفسه بينه وبين ربه عز وجل فإن هذا الديوان أخف الدواوين وأسرعها محوا فإنه يمحى بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية والمصائب المكفِّرة ونحو ذلك بخلاف ديوان الشرك فإنه لا يمحى إلا بالتوحيد وديوان المظالم لا يمحى إلا بالخروج منها إلى أربابها واستحلالهم منها ولما كان الشرك أعظم الدواوين الثلاثة عند الله عز وجل حرَّم الجنة على أهله فلا تدخل الجنةَ نفسٌ مشركة وإنما يدخلها أهل التوحيد فإن التوحيد هو مفتاح بابها فمن لم يكن معه مفتاح لم يفتح له بابها وكذلك إن أتى بمفتاح لا أسنان له لم يمكن الفتح به " ا.هـ(27)وقال رحمه الله تعالى : " وأما حديث الدواوين فإنما فيه أن حق الرب تعالى لا يؤوده أن يهبه ويسقطه ولا يحتفل به ويعتني به كحقوق عباده وليس معناه أنه لا يؤاخذ به البتة أو أنه كله صغائر وإنما معناه أنه يقع فيه من المسامحة والمساهلة والإسقاط والهبة ما لا يقع مثله في حقوق الآدميين "(28)ا.هـ
صور الظلم :(/3)
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسم قال : ( المسلم مَن سلم المسلمون مِن لسانه ويده ) (29) وقد رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظ ( المسلم مَن سلم المسلمون مِن لسانه ويده والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم ) (30) قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى " ففسَّر المسلم بأمر ظاهر وهو سلامة الناس منه وفسَّر المؤمن بأمر باطن وهو أن يأمنوه على دمائهم وأموالهم وهذه الصفة أعلى من تلك فإن من كان مأمونا سلم الناس منه وليس كل من سلموا منه يكون مأمونا فقد يترك أذاهم وهم لا يأمنون إليه خوفا أن يكون ترك أذاهم لرغبة ورهبة لا لإيمان في قلبه "ا.هـ(31)
فالظلم لا يخرج عن صورتين :
1/ ظلم باللسان : كالسب والشتم والغيبة والنميمة والسخرية والقذف وشهادة الزور .
2/ ظلم بالفعل : كالقتل والضرب والسرقة وأكل الربا والزنا واللواط والتجسس وأكل أموال الناس بالباطل وتتبع العورات وعدم تسليم العمال والخدم رواتبهم ومستحقاتهم ،وتجاوز الحدود في العقارات وخيانة الأمانة وغيرها .وقد ورد ذكرهما في الحديث السابق وفي قوله عليه الصلاة والسلام ( سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ) (32) فالسباب صورة من صور الظلم ويكون باللسان أما القتل فصورة أخرى للظلم ويكون فعلا .
أشد صور ظلم المخلوقين القتل : قال تعالى ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً ) (النساء:93) وقال عليه الصلاة والسلام ( كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا مَن مات مشركا أو مؤمن قتل مؤمنا تعمدا ) (33) وقال عليه الصلاة والسلام ( لا يزال المؤمن في فسحة مِن دينه ما لم يصب دما حراما ) (34) وقال عليه الصلاة والسلام ( مَن أَشَارَ إلى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ فإن الْمَلَائِكَةَ تَلْعَنُهُ حتى يَدَعَهُ وَإِنْ كان أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ ) (35).
وقال عليه الصلاة والسلام ( مَن قَتَلَ مُعَاهَدًا لم يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ من مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا ) (36).
قال عليه الصلاة والسلام ( اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ) قالوا يا رَسُولَ اللَّهِ وما هُنَّ ؟ قال ( الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَالسِّحْرُ وَقَتْلُ النَّفْسِ التي حَرَّمَ الله إلا بِالْحَقِّ وَأَكْلُ الرِّبَا وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَالتَّوَلِّي يوم الزَّحْفِ وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ ) (37).
وقال عليه الصلاة والسلام : ( مَن أَخَذَ من الأرض شيئا بِغَيْرِ حَقِّهِ خُسِفَ بِهِ يوم الْقِيَامَةِ إلى سَبْعِ أَرَضِينَ ) (38).
________________________________________
(1) عون المعبود 4/ 282 منهاج السنة 1/139 مرقاة المفاتيح 5/234
(2) شرح حديث لبيك /103وانظر مفتاح دار السعادة 2/107
(3) تفسير ابن كثير 3/519
(4) انظر تفسير الطبري 5/36
(5) تفسير ابن كثير 1/480
(6) الرد على المنطقيين 1/425
(7) رواه مسلم (2578) من حديث جابر رضي الله عنه .
(8) رواه البخاري (6667) ومسلم (1679) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه .
(9) رواه مسلم ( 2564) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(10) جامع العلوم والحكم 1/332 .
(11) جامع العلوم والحكم 1/336
(12) شرح مسلم 16/120
(13) رواه أحمد (8039) أبو داود (1544) والنسائي (5460) وصححه ابن حبان (1030) والحاكم1/725
(14) رواه أحمد (10986) والنسائي(5461) وصححه ابن حبان(1003) والحاكم1/713
(15) شرح حديث لبيك /102
(16) رواه أحمد (21710) والطبراني في المعجم الكبير (4932) وفي الدعاء (320) قال الهيثمي " رواه أحمد والطبراني وأحد إسنادي الطبراني رجاله وثقوا " ا.هـ مجمع الزوائد 10/113
(17) رواه أحمد (26747) والنسائي ( 5486) وصححه النووي في الرياض رقم (82)
(18) مرقاة المفاتيح 5/354
(19) فيض القدير 5/123
(20) التحفة العراقية/78 مفتاح دار السعادة 2/107
(21) رواه مسلم (2577) من حديث أبي ذر رضي الله عنه .
(22) مفتاح دار السعادة 2/108
(23) رواه مسلم (137) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه .
(24) شرح الزرقاني 4/5
(25) رواه أحمد (26073) والحاكم 4/619 وصححه قال العراقي رحمه الله تعالى " أحمد والحاكم وصححه من حديث عائشة وفيه صدقة بن موسى الدقيقي ضعفه ابن معين وغيره " ا.هـ المغني عن حمل الأسفار 2/987
(26) مجموع الفتاوى 7/78
(27) الوابل الصيب /33
(28) مدارج السالكين 1/327
(29) رواه البخاري (10) ومسلم(40) .
(30) رواه أحمد (8918) والنسائي (4995) وصححه ابن حبان (180)
(31) الفتاوى 7/264
(32) رواه البخاري (48) ومسلم ( 64) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه .(/4)
(33) رواه أحمد (16953) والنسائي في الكبرى(3446) من حديث معاوية رضي الله عنه وأبو داود(4270) والنسائي في الكبرى (15639) وابن حبان (5980) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه وصححهما الحاكم 4/391 .
(34) رواه البخاري(6469) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما .
(35) رواه مسلم (2616) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(36) رواه البخاري (2995) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما .
(37) رواه البخاري ( 2615) ومسلم ( 89) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(38) رواه البخاري (2322) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما .
ظلمات الظلم [2/2]
د. نايف بن أحمد الحمد 10/8/1427
03/09/2006
حكم ظلم الكافر والمعاهد :
تحريم مساعدة الظالم
دعوة المظلوم والتحذير منها :
عقوبات الظالم
واجبنا تجاه الظالم :
التوبة من الظلم
حكم ظلم الكافر والمعاهد :
يظن بعض الناس أن أموال غير المسلمين ودماءهم مستباحة على كل حال فتجده يتساهل في عدم تسليم العمال من غير المسلمين مستحقاتهم من رواتب أو أجرة عمل وقد ينكر ذلك ظانا أن كفرهم يسوِّغ له أكلها ولا شك أن هذا خطأ بيِّن وظلم ظاهر عن أَنَسَ بن مَالِكٍ رضي الله عنه قال : قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ( اتَّقُوا دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ وَإِنْ كان كَافِراً فإنه ليس دُونَهَا حِجَابٌ ) (1).
وعن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنه قال ( ألا مَن ظَلَمَ مُعَاهِدًا أو انْتَقَصَهُ أو كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ أو أَخَذَ منه شيئا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ يوم الْقِيَامَةِ ) (2).
تحريم مساعدة الظالم
كثير مِن الظلمة لا يباشر الظلم بنفسه بل تجد له أعوانا يعينونه ويسهِّلونه عليه ولا يعلمون أنهم في الإثم سواء قال تعالى ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )(المائدة:2) وعن جَابِرٍ رضي الله عنه قال : لَعَنَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم آكِلَ الرِّبَا وموكله وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ وقال( هُمْ سَوَاءٌ ) (3) قال النووي رحمه الله تعالى : " هذا تصريح بتحريم كتابة المبايعة بين المترابيين والشهادة عليهما وفيه تحريم الإعانة على الباطل " ا.هـ(4) وقال الخطابي رحمه الله تعالى " سوّى رسول الله بين آكل الربا وموكله إذ كل لا يتوصل إلى أكله إلا بمعاونته ومشاركته إياه فهما شريكان في الإثم كما كانا شريكين في الفعل وإن كان أحدهما مغتبطاً بفعله لما يستفضله من البيع والآخر منهضماً لما يلحقه من النقص " ا.هـ(5)
وقد توعد النبي صلى الله عليه وسلم مَن أعان ظالما بعقوبات منها : قوله صلى الله عليه وسلم ( مَن أعان على خصومة بظلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع ) (6).
وقال صلى الله عليه وسلم : ( مَن أعان على خصومة بظلم فقد باء بغضب من الله ) (7)
وقال صلى الله عليه وسلم : ( مَن أعان على خصومة بظلم فقد باء بغضب من الله ) (8)
ويقول عليه الصلاة والسلام ( مَن أعان ظالما ليُدحض بباطله حقا فقد برئت منه ذمة الله وذمة رسوله ) (9).
دعوة المظلوم والتحذير منها :
من الأمور التي قد تفتك بالظالم فتكا عظيما دعوة المظلوم تلك الدعوة التي قالها صادقا مَن تفطر قلبه كمدا بسبب الظلم وقد وعده الله تعالى بالإجابة قال عليه الصلاة والسلام ( وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ تُحْمَلُ على الْغَمَامِ وَتُفْتَحُ لها أَبْوَابُ السماء وَيَقُولُ الرَّبُّ عز وجل وعزتي لأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ ) (10)
وقال عليه الصلاة والسلام : ( واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب ) (11)
قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه :
أدِّ الأمانة والخيانةَ فاجتنب *** واعدل ولا تظلم يطيب المكسب
واحذر من المظلوم سهما صائبا *** واعلم بأن دعاءه لا يحجب (12)
وقال ابن الوردي رحمه الله تعالى
إياك مِن عسف الأنام وظلمهم واحذر من الدعوات في الأسحار (13)
وقال عليه الصلاة والسلام ( اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة ) (14) قال المناوي رحمه الله تعالى " كناية عن سرعة الوصول لأنه مضطر في دعائه وقد قال الله سبحانه وتعالى ( أَمَّنْ يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ) (النمل:62) وكلما قوي الظالم قوي تأثيره في النفس فاشتدت ضراعة المظلوم فقويت استجابته والشرر ما تطاير من النار في الهواء شبه سرعة صعودها بسرعة طيران الشرر من النار " ا.هـ (15)
وقالوا قد جُننتَ فقلتُ كلا***وربِّي ما جننتُ ولا انتشيت
ولكني ظُلمتُ فكدت أبكي *** مِن الظلم المبرِّح أو بكيتُ (16)(/5)
قال ابن القيم رحمه الله تعالى " سبحان الله كم بكت في تنعم الظالم عين أرملة واحترقت كبد يتيم وجرت دمعة مسكين ( كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ ) (المرسلات:46) ( وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ) (ص :88) ما ابيض لون رغيفهم حتى اسود لون ضعيفهم وما سمنت أجسامهم حتى انتحلت أجسام ما استأثروا عليه لا تحتقر دعاء المظلوم فشرر قلبه محمول بعجيج صوته إلى سقف بيتك , ويحك نبال أدعيته مصيبة وإن تأخر الوقت , قوسه قلبه المقروح , ووتره سواد الليل , وأستاذه صاحب ( لأنصرنك ولو بعد حين ) وقد رأيتَ ولكن لستَ تعتبر احذر عداوة مَن ينام وطرفه باك يقلب وجهه في السماء يرمي سهاما ما لها غرض سوى الأحشاء منك فربما ولعلها إذا كانت راحة اللذة تثمر ثمرة العقوبة لم يحسن تناولها ما تساوي لذة سنة غم ساعة فكيف والأمر بالعكس " ا.هـ (17)
كذا دعا المضطر أيضا صاعد *** أبدا إليه عند كل أوان
وكذا دعا المظلوم أيضا صاعد ***حقا إليه قاطع الأكوان (18)
والمظلوم لا يضيع من حقه شيء إن أدركه في الدنيا وإلا أخذه وافيا يوم القيامة : قال عليه الصلاة والسلام : ( لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء ) (19).
لا تظلمنَّ إذا ما كنت مقتدرا*** فالظلم يرجع عقباه إلى الندم
تنام عيناك والمظلوم منتبه *** يدعو عليك وعين الله لم تنم
عقوبات الظالم
توعد الله تعالى الظالم بعقوبات كثيرة :
قال تعالى ( مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ )(غافر:18)
وقال تعالى ( وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ)(الزمر:24)
والله تعالى يمهل ولا يهمل : قال عليه الصلاة والسلام " إن الله ليملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته "ثم قرأ ( وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ) (هود:102) (20) .
ولا تعجل على أحد بظلم *** فإن الظلم مرتعه وخيم
فالظالم خصمه الله تعالى يوم القيامة : قال عليه الصلاة والسلام (قال الله تعالى : ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة : رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حرا فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يؤته أجرته ) (21).
أما والله إن الظلم لؤم *** وما زال المسيء هو الظلوم
إلى ديان يوم الدين نمضي *** وعند الله تجتمع الخصوم
ستعلم في الحساب إذا التقينا *** غدا عند الإله مَن الملوم (22)
ومن العقوبات فضحه يوم القيامة قال عليه الصلاة والسلام ( والله لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ شيئا بِغَيْرِ حَقِّهِ إلا لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُهُ يوم الْقِيَامَةِ فَلَأَعْرِفَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُ بَعِيرًا له رُغَاءٌ أو بَقَرَةً لها خُوَارٌ أو شَاةً تَيْعَرُ ) (23).
وتوعد النبي صلى الله عليه وسلم الظلمة بدخول النار:
عن خولة الأنصارية رضي الله عنها قالت : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول ( إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة ) (24) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى : " يتخوضون في مال الله بغير حق أي يتصرفون في مال المسلمين بالباطل " ا.هـ (25) .
وكذا القصاص من الظالم يقول النبي صلى الله عليه وسلم ( مَن ضَرب بسوط ظلما اقتص منه يوم القيامة ) (26).
وعدَّ النبي صلى الله عليه وسلم الظالم مفلسا يوم القيامة مع وجود أعمال صالحة له : قال عليه الصلاة والسلام :( أتدرون مَن المفلس يوم القيامة ) ؟ قالوا المفلس فينا مَن لا درهم له ولا متاع . قال ( إن المفلس مِن أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه أُخذ من خطاياهم فطُرحت عليه ثم طُرح في النار ) (27) ( فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ) (القصص:40)
الظلم نار فلا تحقر صغيرته*** لعل جذوة نار أحرقت بلدا
واجبنا تجاه الظالم :
أولا : وجوب مناصحة الظالم وردعه ونصرة المظلوم : فعن أبي سعيد رضي الله عنه قال : سمعت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول ( مَن رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بيده فَإِنْ لم يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لم يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ ) (28) وعن أَنَسٍ رضي الله عنه قال : قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ( انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أو مَظْلُومًا ) قالوا : يا رَسُولَ اللَّهِ هذا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا قال ( تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ ) (29) قال النووي رحمه الله تعالى " أما نصر المظلوم فمن فروض الكفاية وهو من جملة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وإنما يتوجه الأمر به على من قدر عليه ولم يخف ضررا " ا.هـ (30).(/6)
وقال ابن بطال رحمه الله تعالى : " نصر المظلوم فرض كفاية وتتعين فرضيته على السلطان " ا.هـ (31) وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى : " نصر المظلوم هو فرض كفاية وهو عام في المظلومين وكذلك في الناصرين بناء على أن فرض الكفاية مخاطب به الجميع وهو الراجح ويتعين أحيانا على من له القدرة عليه وحده إذا لم يترتب على إنكاره مفسدة أشد من مفسدة المنكر فلو علم أو غلب على ظنه أنه لا يفيد سقط الوجوب وبقي أصل الاستحباب بالشرط المذكور فلو تساوت المفسدتان تخير وشرط الناصر أن يكون عالما بكون الفعل ظلما " (32) ا.هـ
وقال العيني رحمه الله تعالى : " قال العلماء نصر المظلوم فرض واجب على المؤمنين على الكفاية فمن قام به سقط عن الباقين ويتعين فرض ذلك على السلطان ثم على من له قدرة على نصرته إذا لم يكن هناك من ينصره غيره من سلطان وشبهه " ا.هـ (33).
وقال عليه الصلاة والسلام (الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ ولا يَخْذُلُهُ ولا يَحْقِرُهُ ) (34) قال النووي رحمه الله تعالى : " قال العلماء الخذل ترك الإعانة والنصر ومعناه إذا استعان به في دفع ظالم ونحوه لزمه إعانته إذا أمكنه ولم يكن له عذر شرعي ولا يحقره .. لا يحتقره فلا ينكر عليه ولا يستصغره " ا.هـ (35) .
وعن الْبَرَاءِ رضي الله عنه قال : أَمَرَنَا رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِسَبْعٍ وَنَهَانَا عن سَبْعٍ أَمَرَنَا بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعِ الْجَنَازَةِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ أو الْمُقْسِمِ وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ وَإِجَابَةِ الدَّاعِي وَإِفْشَاءِ السَّلَامِ وَنَهَانَا عن خَوَاتِيمَ أو عن تَخَتُّمٍ بِالذَّهَبِ وَعَنْ شُرْبٍ بِالْفِضَّةِ وَعَنْ الْمَيَاثِرِ وَعَنْ الْقَسِّيِّ وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالْإِسْتَبْرَقِ وَالدِّيبَاجِ (36).
ثانيا : أن نعلم أن ترك الأخذ على يديه آذِنٌ بعقوبة الجميع
عن أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه قال : أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إذا اهْتَدَيْتُمْ ) وإني سمعت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول ( إِنَّ الناس إذا رَأَوُا الظَّالِمَ فلم يَأْخُذُوا على يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ الله بِعِقَابِهِ ) (37).
وقد جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه دينا كان عليه فاشتد عليه وقال : أُحرِّج عليك إلا قضيتني . فانتهره الصحابة فقالوا : ويحك تدري مَن تكلم ؟ فقال : إني أطلب حقي . فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( هلا مع صاحب الحق كنتم ) ثم أرسل إلى خولة بنت قيس فقال لها ( إن كان عندك تمر فأقرضينا حتى يأتينا تمر فنقضيك ) فقالت : نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله فاقترضه فقضى الأعرابي وأطعمه فقال : أوفيت أوفى الله عنك . فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( إنه لا قُدِّست أمة لا يأخذ الضعيفُ فيها حقه غير مُتَعتَع ) (38)" غير متعتع بفتح التاء أي مِن غير أن يصيبه أذى يقلقه ويزعجه." ا.هـ (39).
أما متى ينصر المظلوم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى : " ويقع النصر مع وقوع الظلم وهو حينئذ حقيقة وقد يقع قبل وقوعه كمن أنقذ إنسانا من يد إنسان طالبه بمال ظلما وهدده أن لم يبذله وقد يقع بعد وهو كثير " ا.هـ (40)
أما الحكمة من نصر المظلوم فيذكرها ابن الجوزي رحمه الله تعالى بقوله : " وأما نصر المظلوم فلمعنيين أحدهما إقامة الشرع بإظهار العدل والثاني نصر الأخ المسلم أو الدفع عن الكتابي وفاء بالذمة " ا.هـ (41).
التوبة من الظلم(/7)
باب التوبة مفتوح للظالم وغيره إذا توافرت شروطها قال تعالى ( وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً ) (النساء:110) وقال تعالى ( فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (المائدة:39) . فمَن تاب مِن ذنب توبة صادقة تاب الله تعالى عليه قال تعالى ( وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ( 68) يُضَاعَفْ لَهُ العَذَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ( 69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) ( الفرقان :70) وشروط التوبة : أولا : الإقلاع عن الذنب . ثانيا : العزم على عدم العود . ثالثا : الندم على ما فات لحديث ابن مسعود -رضي الله عنه- قال : قال رسول – صلى الله عليه وسلم – ( الندم توبة ) (42). رابعا : أن تكون قبل بلوغ الروحِ الحلقومَ وقبل طلوع الشمس من مغربها قال تعالى (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً) (النساء:18) وقال النبي صلى الله عليه وسلم ( مَن تاب قبل أن تطلع الشمس مِن مغربها تاب الله عليه ) (43) خامسا : وإن كان الذنب حقا لآدمي أعاده إليه أو تحلله منه فعن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال ( مَن كانت عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ منها فإنه ليس ثَمَّ دِينَارٌ ولا دِرْهَمٌ مِن قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِن حَسَنَاتِهِ فَإِنْ لم يَكُنْ له حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِن سيئآت أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عليه ) (44) وقد سبق ذِكْر حديث المفلس المتضمن نحو هذا .
وأختم بقول ابن الجوزي رحمه الله تعالى : " اعلم أن الظلم يشتمل على معصيتين : إحداهما : أخذ مال الغير بغير حق , والثانية : مبارزة الأمر بالعدل بالمخالفة , والمعصية فيه أشد من غيرها لأنه لا يقع غالبا إلا بالضعيف الذي لا يقدر على الانتصار إلا بالله عز وجل وإنما ينشأ الظلم عن ظلمة القلب لأنه لو استنار بنور الهدى لنظر في العواقب فإذا سعى المتقون بنورهم الذي اكتسبوه في الدنيا من التقوى ظهرت ظلمات الظالم فاكتنفته " ا.هـ (45) والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
________________________________________
(1) رواه أحمد(12571) والضياء (2748) والقضاعي في مسند الشهاب(960) والطبراني في الدعاء (1321) قال المنذري رحمه الله تعالى " رواه أحمد ورواته إلى أبي عبد الله محتج بهم في الصحيح وأبو عبد الله - الأسدي- لم أقف فيه على جرح ولا تعديل " ا.هـ الترغيب والترهيب 3/130
(2) رواه أبو داود (3052) والبيهقي 9/212 قال العجلوني رحمه الله تعالى " وسنده لا بأس به ولا يضر جهالة من لم يسم من أبناء الصحابة فإنهم عدد منجبر به جهالتهم ولذا سكت عليه أبو داود وهو عند البيهقي في سننه من هذا الوجه وقال عن ثلاثين من أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آبائهم " ا.هـ كشف الخفاء 2/285
(3) رواه مسلم (1598)
(4) شرح صحيح مسلم 11/26
(5) مرقاة المفاتيح 6/43
(6) رواه الحاكم 4/11 والطبراني في الأوسط (2921) واللفظ له من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وصححه الحاكم والمناوي في التيسير 2/401
(7) رواه أبو داود (3598) والبيهقي 6/82 من حديث ابن عمر رضي الله عنهما .
(8) رواه أبو داود (3598) والبيهقي 6/82 من حديث ابن عمر رضي الله عنهما .
(9) رواه الحاكم 4/112 والطبراني في الكبير (11539)وصححه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما .
(10) رواه أحمد (8030) وابن ماجه(1752) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وصححه ابن حبان (874) وابن خزيمة(1901)
(11) رواه البخاري (2316) ومسلم (19) من حديث معاذ رضي الله عنه .
(12) ديوان علي رضي الله عنه /50
(13) ديوان ابن الوردي /314 الموسوعة الشعرية /229
(14) رواه الحاكم 1/83 مِن حديث ابن عمر رضي الله عنهما ورواه ابن أبي شيبة (29370) موقوفا على أبي الدرداء رضي الله عنه .
(15) فيض القدير 1/142
(16) شرح حماسة أبي تمام للشنتمري 1/168 الموسوعة الشعرية/229
(17) بدائع الفوائد 3/762
(18) النونية 1/408
(19) رواه مسلم (2582) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(20) رواه البخاري (4568) .
(21) رواه البخاري (2150) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(22) ديوان أبي العتاهية /209(/8)
(23) رواه البخاري (6578) ومسلم (1832) من حديث أبي حميد رضي الله عنه .
(24) رواه البخاري (2950)
(25) فتح الباري 6/219 فيض القدير 2/450
(26) رواه البخاري في الأدب(186) والبيهقي 8/45 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال المناوي رحمه الله تعالى : " إسناده حسن " ا.هـ التيسير بشرح الجامع الصغير 2/429
(27) رواه مسلم (2580)
(28) رواه مسلم ( 49)
(29) رواه البخاري ( 2312)
(30) شرح صحيح مسلم 14/32 عمدة القاري 8/10
(31) عمدة القاري 12/289
(32) فتح الباري 5/99
(33) عمدة القاري 12/290
(34) رواه مسلم ( 2564) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(35) شرح مسلم 16/120
(36) رواه البخاري (1182) ومسلم (2066) .
(37) رواه أحمد (30) وأبو داود (4338) والنسائي في الكبرى (11157) وصححه ابن حبان (304) وغيره .
(38) رواه أبو يعلى(1091) وابن ماجه (2426) واللفظ له قال البوصيري " هذا إسناد صحيح رجاله ثقات " ا.هـ المصباح 3/68
(39) لسان العرب 8/35
(40) فتح الباري 5/99
(41) كشف المشكل 2/237
(42) رواه ابن ماجه ( 4252) وابن حبان (612) والحاكم 4/271 وحسنه الحافظ ابن حجر في الفتح 13/471
(43) رواه مسلم ( 2703) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(44) رواه البخاري ( 6169) .
(45) كشف المشكل 2/559 فتح الباري 5/100فيض القدير 3/127 تحفة الأحوذي 6/151(/9)
ظلوم كَفّار..!
نبيلة الخطيب
الإنسان ذلك المخلوق الذي تميز على سائر المخلوقات بميزات كثيرة ,فهو المخلوق الوحيد الذي نفخ الله فيه من روحه وجعل له السمع والبصر والفؤاد ,أوجد فيه سبحانه الإرادة , فهو قادر على أن يقول نعم وان يقول لا , أن يفعل وان لا يفعل , وهذه الخاصية ليست إلا في الانسان " إنا هديناه السبيل إما شاكرا بما كفورا " (1), هذا من التكريم للإنسان فهو حر مختار , وأي فعل يقع منه على غير إرادة منه فهو فعل غير محاسب عليه ولا مؤاخذ " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا "(2) ( رفع عن أمتي الخطأ و النسيان وما استكرهوا عليه ) ,يقول تعالى على لسان الشيطان " وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن وعدتكم فاستجبتم لي " (3)، ولقد ميز الله تعالى الإنسان بالعلم ورفعه بذلك على سائر المخلوقات ومنها الملائكة " وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين , قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا انك أنت العليم الحكيم" (4) . وهذا العلم الإنساني يزيد ولا ينقص " وقل رب زدني علما "(5) ومن تكريم أو تميز الانسان أن الله تعالى سخر له ما في السماوات وما في الأرض " وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار ، وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار "(6) وكل هذا جزء من التكريم لبني آدم "ولقد كرمنا بني آدم "(7) ومن أعظم التكريم والتميز أن خصه الله تعالى بالهدى والإيمان فجعل منه وفيه الأنبياء الذين يتلقون عن الله الهدى والنور كي لا يضل الانسان ولا يشقى ، ليعيش على هذا الكوكب حياة الطمأنينة والخير والأخوة والتراحم والتعاطف والإيثار ..
لكن هذا الانسان بكل هذه الامتيازات يبقى ضعيفا " يريد الله أن يخفف عنكم ، وخلق الانسان ضعيفا " (8) وقد يقع عليه الظلم والعنت وانتهاك حقوقه من بني جنسه " إن الانسان لظلوم كفار "(9)
وإنما يقع الظلم من الانسان عندما يتجرد من المعاني الإنسانية الفطرية التي من أعظمها وأجلها حب الإنسان لأخيه الإنسان ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )
وعندما يفقد الإنسان الإحساس بأخيه الإنسان (والله لا يؤمن من بات شبعان وجاره جائع وهو يعلم ) وكذلك عندما يهبط إلى الأرض متثاقلا إليها لا يهمه إلا خشاش الأرض يأكل ويتمتع فاقدا كل إحساس بمصاب الآخرين من بني جنسه إذا اشتكى منه عضو لا يتداعى له سائر الأعضاء بحمى ولا سهر ، مشبع بالأنانية وحب الذات ، لا يؤثر أخاه على نفسه بل يأكل نفسه هنيئا مريئا .....
هذا الانسان الضعيف الذي يطغى ، ويعرض عن الحق وينأى بجانبه ، الذي خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا ، يحتاج حتى تنضبط حركته وتستقيم إرادته ولا يشتط في غلوائه ، فيظلم نفسه التي بين جنبيه أولا ثم نفسه الإنسانية ،يحتاج إلى ضوابط وكوابح وترغيب وترهيب مع الإرشاد والتعليم والتربية . يحتاج إلى قوانين فيها كل ذلك تبين له حقوقه ، وتوفرها له وتبين له واجباته المناطة به وتلزمه بها حتى يتحقق التوازن بين الأخذ والعطاء...
ومما يؤسف له أن الانسان يطلب الحق الذي هو له بتهربه من الواجب الذي هو عليه وتأخذه الغفلة الشديدة عن الحقيقة أن الحق الذي يطلبه هو واجب على الآخرين تجاهه وان الواجب الذي عليه هو حقوق الآخرين ،فإذا لم يؤد الواجب لم يصله الحق ...
وعندما قام الانسان وأنشأ الجمعيات والمنظمات وسماها "حقوق الانسان " لم يستطع أن يوضح المسالة آنفة الذكر ، فظن الانسان أن له حقا يجب أن يصله وغفل عن أن عليه واجباً يجب أن يوصله .
اضرب مثلا : فعندما يقطع الإسلام يد السارق فانه بذلك يعطي حق الآخرين من الأمن على أموالهم أولا ويمنع السارق في الوقت نفسه من القيام بالسرقة خوفا على يده من القطع ثانيا ويحمي السارق نفسه من أن يعتدي أحد عليه وعلى ماله هو .
فحكم القطع أعطى حق الأمن للناس جميعا من خلال واجب تطبيق هذا الحكم وواجب كفاية الناس سكنا ومطعما وتعليما وعلاجا . أرأيتم كيف تداخل الحق والواجب ؟! بشكل مدهش والشاهد على نجاعة ونجاح هذا الحكم (المثال) لم تقطع خمسة أيد طيلة ألف عام ، فعندما لم يستطع الحاكم القيام بالواجب _كفاية الناس عام المجاعة (حق الأمن الغذائي ) لم يعاقبهم على عدم القيام بواجب الأمانة . هذا مثال واحد بسيط على التلازم بين الحق والواجب والأمثلة أكثر من أن تحصى . ومن هنا إني أرى قصورا أو عدم توفيق في مسمى حقوق الانسان .
وهذا لا يعني الرفض أو تسميته بالبدعة أو الإحداث .كما يرى البعض من المسلمين " إن فكرة حقوق الانسان بتسميتها وفلسفتها ومضامينها المتداولة اليوم ، هي فكرة غربية وثقافة غربية " ولكنها "تعد تطورا إيجابيا نوعيا في تاريخ البشرية التواقة دوما إلى عديد ومن الشعارات والنداءات والمكتسبات التي جاءت بها حركة حقوق الانسان الحديثة *** احمد الريسوثي *كتاب الأمة عدد 87.(/1)
وهناك قد يرى أن الإسلام اسبق في إقرار حقوق الانسان وذلك من خلال رؤيته أن " مقاصد الشريعة .. أساس لحقوق الانسان " في هذا المختصر : فحفظ الدين يضمن حق التدين ، وحفظ النفس يضمن حق الحياة ، وحفظ العقل يضمن حق التفكير وحرية الرأي والتعبير ، وحفظ العرض أو النسل يضمن حقوق الأسرة ، وحفظ المال يضمن حق التملك *** د. محمد الزميلي * كتاب الأمة عدد87 *.
ومن المسلمين من يرى أن حقوق الانسان في الثقافة المعاصرة من مزايا العصر ، ويدعوا إلى الأخذ بها جملة برمتها.
وكما أن البعض كما ذكرت يجعل من فكرة حقوق الانسان غربية وثقافة غربية فهناك من يقول : ( ليس صحيحا ليس مفهوم حقوق الانسان غربي خالص أو انه غريب عن تاريخنا وثقافتنا فان حلف الفضول يمثل أحد معالم التطور التاريخي لحقوق الانسان كما انه ربما أول جمعية للدفاع عن هذه الحقوق) *** د. علي الدين هلال * في صحيفة أردنية يومية .
وكما ألمحت سابقا فان العقل البشري يظل قاصرا وضعيفا وقد تتحكم فيه مصالح وانفعالات في ظرف ما وتحت مؤثرات معينة ، وهذا لا يعني أن ينعدم الجهد البشري الإنساني من كل صواب أو خير أو حق أو إرادة وسعي لذلك ، فلا إفراط ولا تفريط ، الحكمة ضالة المؤمن وكما قال عليه الصلاة والسلام "نحن أولى بموسى منهم " فهذا منهج في التعامل مع المنجز البشري ،نأخذ الحق والصواب نحافظ عليه ونحفظه ونزيده حسنا وبهاء وجمالا وننفي الخبث ولا باس من التقاطع مع الآخرين بما يفيد الإنسانية .
من الظلم للإسلام أن يقارن بغيره ولكن بعض البيان لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .
إن نظرة خاطفة تظهر كم أعطى الإسلام للإنسان وكيف يتعامل معه . فمن خصائص الإسلام الإنسانية أنه دين الإنسان والقران هو كتاب الانسان ولو تتبعنا ورود كلمة الانسان في القران الكريم لوجدنا أنها تكررت ثلاثا وستين مرة ،وتكررت بني آدم ست مرات وكلمة الناس تكررت مائتين وأربعين مرة ، وان أول ما نزل على قلب المصطفى صلى الله عليه وسلم سورة العلق ذكر فيها الانسان مرتين " خلق الانسان من علق ... علم الانسان ما لم يعلم " فالوجهة والخطاب للإنسان كونه إنسانا دون تمييز "خلقكم من نفس واحدة" " وما أرسلناك إلا كافة للناس "(كلكم لآدم وآدم من تراب )، "ليس لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى ".
إنها الوحدة الإنسانية والنفس الواحدة " من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض كأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " فالإسلام يحترم الانسان لأنه إنسان حرم إيقاع الظلم عليه بأي وسيلة وأي سبب " إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا " *** حديث قدسي * .
ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب مهما كان نوع أو جنس أو لون أو دين هذا الواقع عليه الظلم .
هذه النظرة للإنسان عند المسلمين دين وثقافة وإيمان وقيم ، لا يجادلون فيها ولا يتجاوزونها .
أما من انتكست فطرتهم وارتكست طبيعتهم وأرضعوا الحقد والبغضاء والتعالي والاستكبار فانهم لا يقيمون للمعنى الإنساني وزنا إذا كان الانسان غير ذاتهم العنصرية " ليس علينا في الأميين سبيل " ( إنما أهلك من كان قبلكم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، فوالذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ) .
وإن ما سمعناه وشاهدناه من إهانة للإنسان في سجون العراق لهو الشاهد والدليل القريب على أن المرتكسين فطريا وثقافيا مهما بلغوا وتبجحوا فإنهم لن يكونوا مؤهلين لقيادة ركب البشرية نحو الخير والسعادة والفضيلة ، ولن يوصلوا الإنسان إلى ساحل الأمن والأمان ، وما دعواتهم ورفعهم لشعارات حقوق الإنسان إلا عصا غليظة يحطمون بها رؤوس مخالفيهم هم ، والخارجين على قوانينهم هم ، ومن المفارقات الفاضحة أن وزارة الخارجية الأمريكية أجلت إعلان تقريرها السنوي لحقوق الانسان في العالم وسط فضيحة أمريكا في سجون العراق ، وقد انكشفت عورتها وبان زيف ادعاءاتها .
إن ما حدث في سجون العراق ليس حالات فردية, إنه ثقافة ومنهج وتفكير وقيم ولقد اعترف وزير الدفاع الأمريكي أن لديه أشرطة فيها اكثر مما ظهر في وسائل الإعلام وكان يعلم بذلك .
إذن الضجة والفضيحة سببه انكشاف الأمر وليس وقوعه ووجوده فقد كان ولن ينتهي ، وأنا على يقين بان أمريكا ستعمل على ألا تنكشف مرة ثانية لا أن تقلع وتنتهي لأنها لا تستطيع إلا الاستعلاء والاحتقار للآخر . إنها الثقافة .
أرأيتم كم من بلد وأرض دخلها الإسلام سلما وحربا ، لم يسجل التاريخ حالة واحدة أسيء فيها لأي إنسان من إهانة أو ظلم ، بل إن التاريخ سجل بحروف من نور بعض المخالفات ومعالجاتها وما قصة القبطي مع ابن عمرو بن العاص والي مصر وكيف تعامل معه الخليفة الراشد عمر بن الخطاب بحاجة إلى ذكر فأطفالنا يحفظونها ونرددها بكل فخر واعتزاز .(/2)
وعندما انسحب المسلمون من دمشق لمواجهة الروم في المعركة الحاسمة في اليرموك ، أرجع المسلمون ما أخذوه من أهل دمشق من أموال .. رفض أهل دمشق وطلبوا من المسلمين البقاء في المدينة حتى لا يعود إليهم الرومان ثانية ؟!
ويقيني أيضا أن الذين أوقعوا علينا الظلم ولا يزالون يصبون علينا أصناف العذاب من القتل والتشريد والإبادة والإهانة في أصقاع الأرض المختلفة ، إذا دالت دولتنا وتمكنا منهم لن نقول لهم إلا ما قال نبي الرحمة والإنسانية الذي قال الله فيه " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " سنقول لهم اذهبوا فانتم الطلقاء وسندعوهم برحمة الله الرحمن الرحيم إليهم " قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فان تولوا فقولوا اشهدوا بانا مسلمون " لن نقول كما قالت أمريكا : من ليس معنا فهو ضدنا ، بل " لا إكراه في الدين " ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر )
أي والله لن يكون منا إلا ذلك فاعتبروا يا أولي الألباب ، بل وأكثر من ذلك فإن من آمن بالله واليوم الآخر واستجاب لأمر الله تعالى فهو الأخ " فان تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين "
ولفتة أخيرة فان بلقيس لما آمنت قالت " أسلمت مع سليمان لله رب العالمين " فهي ألان مع النبي سليمان سواء .
الهوامش:
(1) الآية3: الإنسان
(2) الآية286: البقرة
(3) الآية22: إبراهيم
(4) الآية31: البقرة
(5)الآية114: طه
(6) الآيتين32و33: إبراهيم
(7) الآية70: الإسراء
(8) الآية28: النساء
(9) الآية34: إبراهيم(/3)
ظَاهِرَةُ تَبَلُّدِ الْإِحْسَاسِ
رئيسي :تزكية :الأربعاء 19جمادى الأولي 1425هـ - 7 يوليو 2004
الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على نبينا محمد، و على آله و صحبه أجمعين، وبعد،،،
فإننا نعيش كرباً شديداً، و تسلطاً من الأعداء كبيرًا، و حالة المسلمين لا تبعث على السرور، مما أصابهم من التردي في كثير من الأحوال، و لكن الله رحيم يأتي بالفرج، وفي الناس رجاء، وخير، لكنه يحتاج إلى بعث، ولابد من العلاج لهذه الحالة. ومن أمراضنا التي تحتاج إلى علاج: تبلد الإحساس .
لماذا هذا الموضوع؟
للإجابة على هذا التساؤل نقول:
أولاً: لبعد كثير من المسلمين عن دينهم: فقد أصابتنا الذلة لمّا تركنا الجهاد في سبيل الله، و تبايعنا بالعينة، و تعاملنا بالربا، و رضينا بالزرع، فسلط الله ذلاً لن ينزعه حتى نرجع إلى ديننا، فَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ]رواه أبوداود وأحمد.
وأصبح الحال كما قال الشاعر:
نهارُك يا مغرورُ سهَوٌ وغفلةٌ وليلكُ نومٌ والرّدَى لك لازمُ
وشغلُك فيما سوف تكره غِبَّهُ كذلك في الدنيا تعيشَ البهائمُ
ثانيًا: لموت الشعور بالذنب والتقصير عند الكثيرين: حتى ظن الكثير منهم أنهم على خير عظيم، بل ربما لم يرد على خاطره أصلاً أنه مقصر في أمور دينه، فبمجرد قيامه ببعض الأركان و الواجبات؛ ظن نفسه قد حاز الإسلام كله، و أن الجنة تنتظره، و نسي مئات الصغائر التي يرتكبها صباحاً و مساء، من المعاصي التي استهانوا بها، والتي هي سبب للخسارة في الدنيا و الآخرة، فضلاً عن الكبائر، و الموبقات، و الفواحش، و الرشوة، و السرقة، و العقوق، و الكذب، و قطع الأرحام، و الخيانة، و الغش، و الغدر، و غير ذلك.
ثالثًا: لطغيان المادة والالتهاء بالدنيا عن الآخرة: فهؤلاء الغافلون قد أغلقت المادة أعينهم، و ألهتهم الحياة الدنيا عن حقيقة مآلهم، و إذا استمروا، ولم يتوبوا ويفيقوا من غفلتهم؛ فإن العذاب ينتظر:
أما والله لو علم الأنامُ لما خُلِقُوا لما غَفَلُوا ونامُوا
لقد خُلِقُوا لما لو أَبْصَرَتْهُ عيونُ قلوبِهم تاهُوا وهامُوا
مماتٌ ثم قبرٌ ثم حشرٌ وتوبيخٌ وأهوالٌ عظامُ
لهذه الأسباب كان لابد من تناول هذا الموضوع، وذلك من خلال العناوين التالية:
أولًا: ماذا نعني بتبلد الإحساس؟
معنى التبلّد: إنه ذل و استكانة، قال الفيروز آبادي: التبلد ضد التجلّد، و كذا قال ابن منظور.
معنى الإحساس: هو العلم بالحواس، وبليد الحس: ميت. و في قوله تعالى:{ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ...[60]}[سورة الأنعام]. قال البيضاوي:' ينيمكم و يراقبكم، سمّي النوم وفاة لما بينهما من المشاركة في زوال الإحساس'.
ثانيًا: مظاهر تبلد الإحساس:
1- قسوة القلوب: قال تعالى معاتبًا المؤمنين:{ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ[16]}[سورة الحديد].
استبطأ الله قلوب المؤمنين فعاتبهم بهذه الآية..وهكذا قسوة القلب بطول الأمد، وبُعد العهد من النبوة والعبادة و الرسالة..هذه الغفلة المستحكِمة اليوم لابد من علاجها.
2- إلف كثير من المنكرات وعدم مقاومتها: فَتَبَلَّدَ الإحساس..هذا التبرج، والاختلاط، والغناء، والفحش، و هذه الدعارة الفضائية، والخوف من أن ينسلخ من القلوب كره المعصية و قُبحها؛ لأن المعاصي إذا توالت على النفوس، ألِفَتها وعاشت و تعايشت معها، و الواجب هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي ثُمَّ يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُغَيِّرُوا ثُمَّ لَا يُغَيِّرُوا إِلَّا يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ مِنْهُ بِعِقَابٍ]رواه أبوداود وابن ماجة وأحمد. فما حال شبابناوبناتنا؟ وما حال أسواقنا؟ ما حال بيوتنا؟ ما هذا التبلد في الإحساس الذي أصابنا حتى لم نعد ننكر كثيراً من المنكرات؟!
كثير من المنكرات منتشرة، لا تجد من يقاومها وينكرها، حتى الدعوة خفّت عند الكثيرين، شغل بالتجارة، شغل بالوظائف، شغل بالدنيا، وهكذا حياة الكثيرين: نوم، طعام، ثم ألعاب إلكترونية وغيرها، صفق بالأسواق، معاكسات، مغازلات، ثم سهر على القنوات، ثم نوم. ثم كثير من التفريط في الواجبات الشرعية وارتكاب للمحرمات!(/1)
3- الغفلة في مواطن الذكرى، وعن تذكر الموت، والجهل بما يكون بعده: فَتَبَلَّدَ الإحساس..ولو سألت بعض الناس: ماذا سيكون في القبر؟ وماذا سيكون في الآخرة؟ لجهل كثيراً مما يكون، بل تراهم حتى في مواضع التذكّر في المقابر يضحكون و يمزحون مع بعضهم، وهكذا تبلد إحساس.
4- الغفلة عن شكر النعمة: تَبَلَّدَ الإحساس حتى في النعم، أناس عندهم أموال..بيوت..أثاث..صحة..خير..وظائف.. طعام وشراب..لباس..كماليات وأشياء عجيبة في بيوتهم، لكن الحقيقة كما قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ] رواه البخاري.
5- عدم التأثر بالقرآن: مَن الذين يتأثرون بسماع القرآن الكريم؟ يتبلد الإحساس عند الكثيرين إذا سمعوا القرآن،
وهو عند كثير منهم أصوات من مقرئين يعجبهم لحنها وجمالها، لكن ليس لقلوبهم منها نصيب قال تعالى:{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ[2]}[سورة الأنفال] . فيخشعون لذكره، و سماع آياته، و الأصل في المؤمن التدبّر والعلم بما أنزل الله، و العمل. إن حال المسلم مع كتاب الله ينبغي أن يكون اجتماع على تلاوته ومدارسته في مجالس تنزل عليها السكينة، وتغشاها الرحمة، وتحفها الملائكة.
6- تَبَلُّدٌ في الإحساس في قطاعات كثيرة من الناس: فَتَبَلَّدَ إحساس أركان الأسرة:
فالأب: لا يهتم بتربية أولاده، ولا بإيقاظهم للصلاة، لا يمنع المنكرات في البيت.. وهكذا .
والأم:لا تقوم على حجاب بناتها، ولا تمنع منكرات الحفلات.
والابن: تعود على شلة السوء، وسماع الغناء، والألعاب المحرمة، والمعاصي داخل وخارج البيت .
حتى بعض الذين هم في سدة التوجيه: من معلم و نحوه، كم منهم ينكر المنكرات؟!، كم منهم يعلّم؟!، يوجّه؟ يربّي؟ يعظ؟ يقص القصص؟ يذكّر؟ قليل الذين يبذلون من أوقاتهم في هذا.. حتى الطلاب تبلد إحساس كثير منهم، فهو لا يفيد و لا يستفيد.
7- عدم التأثر والتفاعل تجاه مصائب المسلمين وقضاياهم: وإذا وعظت أحدهم في هذا، قال: ما لنا ولهم، هؤلاء بعيدون عنا، هؤلاء في بلد بعيدة.. أين مفهوم الأمة الواحدة و الجسد الواحد؟!، المصائب هذه التي تصيب المسلمين، أليس الذي لا يهتم بأمر المسلمين ناقص الإيمان؟ أليس الذي لا يحزن لما أصاب إخوانه المسلمين من المصائب ناقص الإيمان؟ أين أنت من قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى]رواه البخاري ومسلم. أجيوش الأعداء في البر والبحر والجو وكثير من المسلمين نائمون؟! أالخطر يدق الأبواب وتبلد في الإحساس وكأن شيئاً لا يحدق ولا أخطار قريبة؟!
8- تفسير كل ما يحدث بالتفسيرات المادية البحتة: فهذا من تبلد الإحساس، فمثلاً: الزلازل، يقولون هذه ارتطام طبقات الأرض. ما أحد -إلا من ندر- يقول: هل هذا عذاب؟، هل هذا انتقام إلهي؟ كذلك في الأوبئة و الأمراض، يقولون هذا سببه كذا، و فيروس كذا.. من الذي يفسر ذلك بأنه عقوبة إلهية لأهل المعاصي؟ ولمّا يحدث كسوف، تجد كاميرات، و ناس تصوّر، و نظّارات تقي من الأشعّة، ما هذا التبلد؟ إلى هذه الدرجة ؟
ثالثًا: من أسباب تبلد الإحساس:
1- ضعف الإيمان بالله، واليوم الآخر: ولهذا يغفل العبد، وهذا نقص في العقل؛ لذلك أهل النار يقولون:{ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ[10]}[سورة الملك].
2- طغيان المادة على الناس، وحب الدنيا: والانشغال بها، فصارت القضية مادة في مادة، حتى صارت المادة تدخل في أمور دينية ، فصلة الرحم تُقطّع لأجل المادة، بر الوالدين يُنسى لأجل المادة، إطعام المسكين يُنسى، إكرام الضيف يُنسى... عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ] رواه البخاري .
لماذا جعله عبدًا للدينار؟ لأنه يرضى ويسخط من أجله، يحب ويبغض من أجله، يحيا ويعمل من أجله..وهكذا، وهناك مَنْ عبدوا الوظائف، ونسوا أهليهم و دينهم؛ بهذا الركض وراء التجارات، والصناعات، والمُساهمات، و: [لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى ثَالِثًا وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ]رواه البخاري ومسلم.
3- كثرة المعاصي: ومن آثارها في تبلد الإحساس(/2)
1- انسلخ من كثير من القلوب قبحها واستقباحها، حتى صارت عادة لكثير من العصاة الذين يحيون عليها ويعيشون من أجلها. حتى في وقت الابتلاء يعصون الله، إذا كان على سرير المستشفى يسمع الأغاني و يرى النساء المتبرجات وهو في حال الكربة، فأي حالٍ وصل إليه هؤلاء؟! إذا كان في الوقت الذي يؤمّل فيه أن يتوب، و يحتمل أن يرجع إلى الله هذا حاله، فما هي النتيجة المتوقعة؟!
2- المجاهرة بالمعصية في الشوارع، في الأسواق، فالنساء متبرجات أمام الناس ، أليس هذا مجاهرة بالمعصية؟
وهؤلاء الشباب بهذه المناظر العجيبة من التشبّه بالكفار وتقليدهم، الذين يعملون المنكرات في الأسواق علانية، يجلس في المطعم أمام الناس من وراء الزجاج علانية، و وُجِدت فواحش في مطاعم، فما معنى ذلك؟
3- إدمان الذنوب.. وموت القلوب:
رَأيْتُ الذّنُوبَ تُمِيتُ القلوب وقَدْ يُورِثُ الذّلّ إدمَانُها
وتَركُ الذّنُوبِ حياةُ القُلُوبِ وخُيْر لنفْسِكَ عِصْيَانُها
4- إلف المعصية وتعودها: والتعود عليها مصيبة أكبر من اقترافها لأول مرة { أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ[100]}[سورة الأعراف]. وبعد الطبع يتبلد الإحساس، فالإنسان بعد ذلك لا يتأثر، لا يرعوي، لا يرجع، لا يتوب، لا يندم، لا يبكي، لا تدمع عينه، قَالَ حُذَيْفَةُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [ تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ]رواه مسلم. و لذلك بعض الناس تقول:وماذا فيها؟ و كأنك تتكلم عن قضية عادية مثل أكل أو شرب، مع أنه مقيم على كبيرة من الكبائر.
4- الإباحية والتعرّي و كشف العورات: في مواقع وقنوات ومجلات، فما هو أثر الإباحية في تبلد الإحساس؟ و دعونا ننتقل لكلام بعض الكفرة في هذا الموضوع لعله يكون عند بعض الناس أوقع، وجد عالم النفس دكتور إدوارد دورنستين من جامعة وسكنسون بأمريكا :أن الذين يخوضون في الدعارة و الإباحية غالباً ما يؤثر ذلك في أنفسهم عدم الاكتراث لمصائب الآخرين وتقبّل جرائم الاغتصاب.
هذا الكافر يلاحظ على قومه أن من انتشار الإباحية تصير نفوسهم فيها تقبُّل لجرائم الاغتصاب وتصير عندهم شيء طبيعي.
كما وجد عدد من الباحثين: أن مثل هذه الإباحية تُورث عدم المبالاة لهذه الجرائم وتحقيرها، و قام الباحث الكندي جيمس شيك بدراسة عدد من الرجال الذين تعرضوا لمصادر مواد إباحية بعضها مُقتَرفة بالعنف وبعضها لا يخالطه العنف، و كانت نتيجة هذه الدراسة أن الباحث وجد في كلتا الحالتين تأثيراً ملحوظاً في مبادئ و سلوك هؤلاء، و تقبّلهم بعد ذلك لاستعمال العنف لإشباع غرائزهم..هذا كلام أبحاث علمية من أناس كفار في رجال تعرضوا لتوالي صور و أفلام مكثفة من المواد الإباحية فكانت هذه النتيجة: تبلد الإحساس، يعني تقبُّل الجرائم، يعني تصبح الجريمة شيء عادي، ليست قبيحة، ليست مرفوضة، هنا الخطر، أن لا يصبح المنكر مرفوضاً، أن لا يصبح المنكر قبيحا.
5- من أسباب تبلد الإحساس:الظلم: الإنسان إذا تعود على الظلم؛ تبلد إحساسه، فلو جاء شخص وقال له: ألا تخشى أن يخسف الله بك الأرض؟ ألا تخشى أن ينزل الله عليك عذاباً؟ ألا تخشى أن يأخذ الله روحك؟ إن الله يمهل و لا يهمل، ستجد تبلد إحساس في القضية:{ ولا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ[42]}[سورة إبراهيم]. إمهال ليزدادوا إثماً ثم يأخذهم، فإذا أخذهم كان الأخذ أليما شديدًا.
6- إدمان المخدرات و شرب الخمور: ألا توجِد هذه تبلد في الإحساس؟! الآن مدمني المخدرات هؤلاء هل عندهم إحساس بواقع المسلمين، و المعاصي، و انتشار الفساد، و قضية النهوض بالأمة، فإذا صار نسبة كبيرة يتعاطونها فالإحساس هذا ماذا سيكون حاله؟
7- تحول بعض العبادات إلى عادات: وتمر مروراً عادياً جداً.
8- التعود على رؤية أهل البلاء كالأطباء مع أهل البلاء ، ومغسل الموتى ، وحفار القبور: إذا كثُر الإمساس قل الإحساس، لذلك لابد دائماً من مراجعة دورية لهذه القضايا التي يمر عليها يومياً و ربما يكون له فيها موعظة وعبرة و هو لا يعتبر ولا يستفيد.
9- عدم محاسبة النفس من أسباب تبلد الإحساس.
10- طول الأمل، وعدم التفكر في الموت من ذلك.
11- الأمنيات الزائفة.(/3)
12- التسويف.
13- مخالطة البطّالين.
14- كثرة الانشغال بالمباحات.
15- عدم الاشتياق إلى الجنة و إلى لقاء الله.
16- اللهو.
17- المناصب.
18- الأموال.
19- الألعاب الإلكترونية.
20- ترقيق كل فتنة لما قبلها: فمثلاً: كان بعض الناس يقول أن الذي لديه هذه القنوات المجاورة هذا يعتبر الآن شيء جيد، قنوات عرب سات، و لما جاءت قنوات عرب سات صار يقول: هذا ليس عنده إلا قنوات عرب سات هذا طيب لأن هناك أشخاص لديهم الديجيتل، و هكذا كل حال أنسانا ما قبله.
رابعًا:علاج تبلد الإحساس: ينبغي أن نعالج نفوسنا بأمور منها:
1- احتساب الأجر في الأعمال: قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهَا حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فَمِ امْرَأَتِكَ] رواه البخاري ومسلم. فاحتسب الأجر يا أخي
2-التوبة لعلها تزيل تبلد الإحساس: التوبة سبب نور القلب، ومحو أثر الذنب، و استجلاب محبة الرب، وإغاثة الله للتائبين:{ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ...[52]}[سورة هود].
3- تدبر القرآن العظيم:{ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا[24]}[سورة محمد]. و ما تستطيع تتدبر إلا بمعرفة التفسير، على الأقل معاني كلمات الآية لكي تستطيع أن تتدبر.
4- التفكر في السموات والأرض يزيل التبلد ويحيي القلب.
5- الاعتناء بالمواعظ لنوقظ هذا الإحساس:{ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ[55]}[سورة الذاريات].
'وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا بَعْدَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوب'ُرواه أبوداود والترمذي وابن ماجة وأحمد. هذه الموعظة التي ينبغي أن تكون بالأسلوب المؤثر، بالآيات والأحاديث، وليست بكلام البشر فقط، إنها موعظة تحيي النفوس.
6- الجهاد في سبيل الله: قال النبي صلى الله عليه و سلم: [ عَلَيْكُمْ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يُذْهِبُ اللَّهُ بِهِ الْهَمَّ وَ الْغَمَّ] رواه الطبراني في الأوسط وهو صحيح.
7- رحلات الطاعة والرحلة في طلب العلم، ولقاء العلماء: وطلبة العلم، هذه الرحلات العلمية فيها تغيير، و فيها مفاجئات، وفيها إذهاب لتبلد الإحساس، رحلات الطاعة عموماً: رحلة الحج، رحلات العمرة، رحلات طلب العلم، رحلات صلة الرحم.
8- محاسبة للنفس: تتذكر ماذا قمت من حق الله؟ ماذا قمت من حق الوالدين؟ وحق الناس؟ والجيران والأرحام؟ حاسب نفسك، كم آية حفظت؟، كم حديثاً قرأت؟ كم مسألة علمية جديدة تعلمت؟، كم ركعة ركعت؟ هل قرأت وردك من القرآن؟ اسأل نفسك. ثم الانتباه، {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [201]}[سورة الأعراف]، الإنسان يقع في معاصي، لكن إذا وقع تذكر، وهذا هو الفرق بين معصية المؤمن ومعصية الفاسق الفاجر، أولئك إذا عصوا ما تذكروا، المؤمن إذا عصى تذكر فرجع.
9- استعمال النعم في الطاعة.
10- كثرة ذكر الموت: قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ- يَعْنِي الْمَوْتَ-]رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد. ، يقول سعيد بن الجبير:' لو فارق الموت قلبي خشيت أن يفسد علي قلبي'
11- زيارة المقابر لأنها تذكر بالآخرة.
وأخيرًا: ينبغي أن ندرك حجم المأساة التي تعيشها الأمة، فهناك أناس بالرغم من كل المصائب العظيمة ليس عندهم أي انفعال ولا تصرف، ليس عنده ردة فعل إطلاقاً؛ لأنه لا يحس، يرى هجوم أعداء الإسلام الآن على المسلمين، يقولون عن نبينا إرهابي، و القرآن كتاب إرهاب، و الإسلام دين إرهاب... يقولون هذا علناً، و يصرّحون به في وسائلهم، فكل هذا الهجوم على الدين ما أنشأ عندنا غيرة ، ولا تحركاً للدفاع عنه، هذا جيري في برنامج ستون دقيقة يصف الرسول محمد صلى الله عليه و سلم بأنه إرهابي، و قال:' هذا كان رجلاً عنيفاً، رجل حرب،...إلخ، و بات
روبرتسون هذا القائد اليميني المتطرف-و كلهم متطرفون- في قناة فوكس يصف النبي صلى الله عليه و سلم بأنه مجرد متطرف ذو عيون متوحشة هكذا، و يقول عنه: سارق، قاطع طريق.
إذا رأى الإنسان المسلم أن الدين هكذا يُعمل به، ماذا يجب أن يتحرك في نفسه؟، لو كنت غير قادر على عمل شيء، فالله يثيبك على نيتك وعلى إحساسك، أما أننا نمكث هكذا بلا شيء،
فما المعنى بأن نحيا فلا نُحيي بنا الدينا وما المعنى بأن نجتر مجداً ماضياً حينا
و حيناً نُطلق الآهات ترويحاً و تسكينا(/4)
لابد أن نعمل، و هناك مجال كبير للعمل للإسلام، الدعوة باب مفتوح، عندنا جيران، أصحاب، أصدقاء، أقارب، يحتاجون إلى الدعوة؟ ماذا بذلنا معهم؟ نحتاج إلى عمل، و إذا سمع الإنسان التنصير ماذا يُنفَق عليه من ميزانيات ضخمة، لابد أن يكون في المقابل هناك انفعال لأن تعمل لهذا الدين، عام 99 فقط ميزانية التنصير 200 مليار دولار، و أشياء تحدث كثيرة من المؤتمرات والجهود العظيمة، ثم المسألة الآن في هذا الخِضم من الهجمة الشرسة على الإسلام وبلاد الإسلام وأهل الإسلام، و صلى الله وسلم على نبينا محمد.
من محاضرة:'ظَاهِرَة تَبَلُّدِ الْإِحْسَاسِ' للشيخ/ محمد صالح المنجد(/5)
عاجل جداً إلى مستخدم الإنترنت
دار القاسم
الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإليك أخي في الله.. إليك يا مستخدم الإنترنت.. إليك أهدي هذه الرسالة في كلمات يسيرة، وموعظة قصيرة أذكرها لك في عدة وقفات، وأسأل الله عز وجل أن ينفعني وإياك بها.. اللهم آمين.
الوقفة الأولى: ما هي الإنترنت؟ وكيف نشأت؟
في بداية أيلول سبتمبر عام 1969 م أمكن امتداد المعلومات بين جهازي حاسب آلي بينهما بضعة أمتار في كاليفورنيا عن طريق الهاتف، ليدشن ذلك ولادة هذه الشبكة نسيج العنكبوت وكانت قد نشأت كفكرة في مختبرات وزارة الدفاع الأمريكية في جزء من برنامج حظر الهجوم والذي يرمي إلى بناء شبكة لا يوجد لها مركز تصلح للإستخدامات العسكرية، وقد قفز عدد الذين ارتبطوا بهذه الشبكة وتطور أمرها تطورا سريعا حتى بلغ عددهم (180) مليون مستخدم مرتبطين عن طريق (35) مليون جهاز حاسب آلي في العالم، فيما اعتبره بعصر الناس أهم اختراع في القرن العشرين.
الوقفة الثانية: الإنترنت من اشراط الساعة الصغرى:
قال تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96]، وقال سبحانه: عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:ه]، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه وسلم: { لا لقوم الساعة حتى تظهر الفتن ويكثر الكذب وتتقارب الأسواق ويتقارب الزمان } وفي رواية { ويقترب الزمان ويكثر الهرج، قيل وما الهرج، قال: القتل } [أرواه الإمام أحمد].
قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله- في تعليقه على تقارب الزمان المذكور في الحديث: (يفسر بما وقع في هذا العصر من تقارب ما بين المدن والأقاليم وقصر المسافة بينها بسبب اختراع الطائرات والسيارة والإذاعة وما إلى ذلك والله أعلم) أ. هـ.
أخي الكريم: لو طبقت ما في هذا الحديث من تقارب الزمان وتقارب الأسواق لوجدته مطابقا لما في الإنترنت خصوصا إذا علمنا أن بعض المواقع تحوي (350 ألف) سلعة تستطيع أن تطلع عليها جميعا بمجرد كتابة عنوان ذلك الموقع والإتصال عليه، وهذا دليل على قرب قيام الساعة وحدوث أغلب أشراط الساعة الصغرى.
ومن الأحاديث التي أخبرنا أنها ستقع من أشراط الساعة الصغرى قوله فيما رواه عنه أنس رضي الله عنه: { إن من أشراط الساعة... (فذكر منها) ويظهر الزنا! } [رواه البخاري ومسلم]. وكذا في الإنترنت نعلم انتشار الزنا وظهوره إذا علمنا أن هناك (455 ألف) موقع لبث الدعارة والجنس من خلال الشبكة العنكبوتية على مستوى العالم... وإذا علمنا كذلك إنتشار هذه الشبكة حيث يبلغ عدد المشتركين بها في آخر الإحصائيات (211 مليون) شخص. وهذا مما يدل على سرعة انتشار هذه الشبكة بشكل سريع جدا..
الوقفة الثالثة: الإنترنت والدعوة إلى الله:
هذه الوقفة يقصد بها الدعاة إلى الله ومن يستطيع أن يقدم خدمة لهذا الدين من طلبة العلم والمشايخ ومن هم في عزلة عن الفتن... وليس لأولئك الذين يريدون الفرجة والإستطلاع الزائد. إن حضورنا الإسلامي على هذه الشبكة ضئيل جدا جدأ، وهذا أمر محزن بالنسبة لكوننا خير أمة أخرجت للناس، إن العالم مليء بالجرائم والإعتداءات، وهو يعيش فراغ روحي بلا شك.
عالم يعيش بلا ضوابط ولا حنان ولا أخوة.. وإذا كان ديننا الدين الإسلامي هو الدين الذي أنزله الله سبحانه على رسوله وجعله الدين الذي لا يقبل سواه سبحانه قال تعالى: إن الدين عند ألله الإسلام [آل عمران:19]. وقال سبحانه: ومن يبتغ غيرالإسلام دينا فلن يقبل منه [آل عمران:85]، فإنه يجب علينا أن نقوم بواجبنا من تبليغ هذا الدين ونشره في جميع أنحاء العالم... واستخدام جميع الوسائل المتاحة لتبليغ هذا الدين ونحن مأمورون بتبليغ هذا الدين ونشره قال تعالى: لتكونوا شهداء على الناس . [البقرة:143]. وهذا أمر لا مفر منه ولا مجال لنا في تركه إذا أردنا أن نعلي هذا الدين وأن ننشره بطريقة صحيحة بين الناس. ولابد لذلك من مخططات وتنظيمات ووضع برامج لتحقيق ذلك الهدف المنشود لنا جميعا ألا وهو نشر الدين الإسلامي بطريقة واضحة... بهدي القران الكريم والسنة النبوية الصحيحة، والواقع يدل على أن الناس متعطشون لمعرفة الحقائق عن الإسلام بل إن هناك أعداد كثيرة دخلت في الإسلام عن طريق الإنترنت.. هذا أحدهم يرسل رسالة إلى من تحدث معه عن الإسلام يقول فيها: إنني أسلمت وقد أخبرتك لتشاطرني الفرحة. وآخر يقول: أريد أن أسلم وأمارس لعبة كرة السلة هل يتعارض الإسلام مع لعب كرة السلة؟، وثالث يقول: أريد أن اسلم وأخشى من عدم استطاعتي أداء الصلاة في مكتبي في الشركة.. ورابع يقول: أنا من كولومبيا و70% من كولومبيا مخدرات، وأنا متورط في المخدر وأريد أن أسلم، ما موقف الإسلام مني؟ وغيرها الكثير من الرسائل التي تحتاج إلى ردود بسيطة ليدخل أصحابها في الإسلام.
الوقفة الرابعة: الإنترنت واللإستخدام السيء:(/1)