فإن دل دليل على الاختصاص به يحمل علىالاختصاص (4) ، كزيادته - - صلى الله عليه وسلم - - في النكاح على أربع (5) نسوة (6) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) القربة ما يتقرب به إلى الله تعالى . المصباح المنير 2/495 .
(2) ما بين المعكوفين ليس في " ج " ، وفي " أ " أو غيرها ، وفي " المطبوعة " أو غير ذلك .
(3) ما بين المعكوفين ليس في " ج " .
(4) وتسمى هذه الأفعال بالخصائص النبوية وهي الأفعال التي لا يشارك النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها أحد من أمته ، ولا بد من دليل على الاختصاص كما بين إمام الحرمين . وهنالك مؤلفات اعتنت بالخصائص النبوية منها : الخصائص الكبرى لجلال الدين السيوطي وهو أوسعها ، والشمائل الكبرى للترمذي وغيرهما ، انظر في ذلك أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - 1/263 .
وانظر في الفعل الخاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - البرهان 1/495 ، الإحكام 1/173 ، شرح العضد 2/22 ، البحر المحيط 4/189 ، أصول السرخسي 2/86 ، كشف الأسرار 3/203 ، تيسير التحرير 3/120 ، الإبهاج 2/264 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/97 ، مفتاح الوصول ص 572 ؤ، إرشاد الفحول ص 35 ، شرح الكوكب المنير 2/178 .
(5) في " ب " أربعة وهو خطأ . (
[ الأفعال غير المختصة بصاحب الشريعة ]
وإن لم يدل (1) لا يختص (2) به ، لأن الله تعالى قال
{ لقَدْ كَانَ لَكُمْ * فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ (3) } (4) فيحمل على الوجوب (5) عند بعض أصحابنا (6) .
في حقه وحقنا لأنه الأحوط .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(
(6) انظر أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - 1/273 .
(1) ورد في " ج " على ، وورد في " هـ " دليل .
(2) في " أ ، هـ " يخصص .
* نهاية 8/أ من " أ " .
(3) ليست في " هـ " .
(4) سورة الأحزاب الآية 21 .
(5) أي الفعل الذي قصد به القربة والطاعة ، فيكون واجباً وليس مطلق الفعل .
(6) كأبي سعيد الاصطخري وابن سريج وأبي علي بن خيران وابن أبي هريرة من الشافعية ، وهو قول الإمام أحمد وأكثر أصحابه ، وهو قول مالك واختاره ابن السمعاني وقال هو أشبه بقول الشافعي ، وهو قول المعتزلة أيضاً . انظر تفصيل ذلك في البرهان 1/488 ، التلخيص 2/230 ، المستصفى 2/214 ، المعتمد 1/377 ، الإحكام 1/174 ، المحصول 1/3/345 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/99 ، المسودة ص 187 ، شرح تنقيح الفصول ص 288 ، شرح العضد 2/22 ، البحر المحيط 4/188 ، شرح الكوكب المنير 2/182 ، كشف الأسرار 3/201 .
ومن أصحابنا من قال يحمل على الندب(1) ، لأنه المتحقق بعد الطلب .
ومنهم(2) من (3) قال يتوقف(4) فيه (5) ، …
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) قال إمام الحرمين في البرهان 1/489 بعد أن ذكر هذا القول ( وفي كلام الشافعي ما يدل عليه ) ، وقال في التلخيص 2/231 ( وإليه صار أصحاب الشافعي - رضي الله عنه - ) ، ونسبه الإمام الرازي للشافعي في المحصول 1/3/346 ، ونقله البيضاوي عن الشافعي ، انظر الإبهاج 2/264 ، وهو رواية عن أحمد ، شرح الكوكب المنير 2/188 ، ونقله الأستاذ أبو إسحاق الشيرازي عن الصيرفي والقفّال وأبي حامد من الشافعية ، التبصرة ص 242 ، واختاره إمام الحرمي في البرهان 1/491-492 ، فقال ( والرأي المختار عندنا أنه يقتضي أن يكون ما وقع منه مقصوداً قربةً محبوباً مندوباً إليه في حق الأمة ) ، وانظر أيضاً شرح تنقيح الفصول ص 288 ، البحر المحيط 4/183 ، إرشاد الفحول ص 37 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/99 ،أصول السرخسي 2/87 ، فواتح الرحموت 2/182، شرح العضد 2/23 .
(2) وهو قول الصيرفي والدقاق وأبي إسحاق الشيرازي والغزالي والرازي من الشافعية ، وهو قول الكرخي من الحنفية ، ورواية عن أحمد اختارها أبو الخطاب الكلوذاني وصححه القاضي الباقلاني .
وفي المسألة قول رابع وهو الإباحة وهو قول أكثر الحنفية واختاره السرخسي والبزدوي والقاضي أبو زيد الدبوسي والجصاص ، انظر البرهان 1/489 ، المستصفى 2/214 ، المحصول 1/3/346 ، المسودة ص 188، الإبهاج 2/65 ، البحر المحيط 4/183 ، أصول السرخسي 2/87 ، كشف الأسرار 3/201،203 ، تيسير التحرير 3/122 ، فواتح الرحموت 2/181 ، إرشاد الفحول ص 37 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/99 ، الإحكام 1/174 ، شرح الكوكب المنير 2/188 .
(3) ليست في " ب " .
(4) في " ج " يتفق وهو خطأ ، وفي " هـ " بالتوقف .
(5) ليست في " هـ " ، وفي " المطبوعة عنه " .
لتعارض (1) الأدلة في ذلك (2).(/41)
وإن * كان على وجه غير وجه (3) القربة والطاعة، فيحمل على الإباحة (4) ، (5) في حقه وحقنا .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في " ج " كتعارض .
(2) أي لتعارض أدلة القولين السابقين الوجوب والندب ، فلا يجزم بوجوب ولا ندب ، وهذا معنى التوقف هنا .
* نهاية 5/ب من " ج " .
(3) ليست في " المطبوعة " .
(4) وهذا ما اختاره إمام الحرمين في البرهان 1/494 ، وأما في التلخيص 2/233 فاختار التوقف ، والمذكور هنا هو مذهب جمهور العلماء ، وهنالك قولان آخران قول بالوجوب وقول بالندب ، انظر المستصفى 2/214 ، أصول السرخسي 2/87 ، كشف الأسرار 3/203 ، تيسير التحرير 3/122 ، الإحكام 1/178 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/99 ، المعتمد 1/377 ، إرشاد الفحول ص 38 ، شرح الكوكب المنير 2/189 ، المسودة ص 187 ، شرح العضد 2/25 ، شرح تنقيح الفصول ص 288 ، البحر المحيط 4/180 ، الإبهاج 2/264 ، مفتاح الوصول ص 571 .
(5) ورد في " هـ ، ط " ( كالأكل والشرب ) .
[ إقرار الرسول - صلى الله عليه وسلم - ]
وإقرار (1) صاحب الشريعة - صلى الله عليه وسلم - على القول (2) من أحد هو قول (3) صاحب الشريعة أي كقوله - صلى الله عليه وسلم - .
وإقراره على الفعل من أحد كفعله(4) ، لأنه معصوم عن أن يقر أحداً على منكر(5) ، مثال ذلك إقراره - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر (6) على قوله بإعطاء سلب القتيل لقاتله (7) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الإقرار لغةً من قرر بمعنى الثبات والسكون ، تاج العروس 7/378 ، المصباح المنير 2/496
والإقرار أو التقرير اصطلاحاً هو أن يسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إنكار قول أو فعل قيل أو فعل بين يديه أو في عصره وعلم به ، البحر المحيط 4/201 ، وانظر البرهان 1/499 ، التلخيص 2/246 ، الإحكام 1/188 ، المنخول ص 229 ، فواتح الرحموت 2/183 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/95 ، إرشاد الفحول ص 41 ، شرح الكوكب المنير 2/194 ، شرح تنقيح الفصول ص 290 ، تيسير التحرير 3/128 ، شرح العضد 2/25 ، مفتاح الوصول ص 584 .
(2) ورد في " المطبوعة " الصادر .
(3) في " ج " كقول .
(4) انظر المصادر السابقة في هامش رقم (1) من هذه الصفحة .
(5) في " ج " المنكر .
(6) أبو بكر الصديق هو عبد الله بن عثمان بن عامر بن أبي قحافة الصحابي الجليل أول من أسلم من الرجال وأكثر الصحابة ملازمة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أول الخلفاء الراشدين الأربعة ، توفي سنة 13 هـ . انظر ترجمته في الإصابة في تمييز الصحابة 4/101 ، تهذيب الأسماء واللغات 2/1/181 ، الأعلام 4/102 .
(7) روى البخاري ومسلم عن أبي قتادة - رضي الله عنه - قال ( خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام حنين فلما التقينا كانت للمسلمين جولة ، قال فرأيت رجلاً من المشركين قد علا رجلاً من المسلمين (
وإقراره خالد بن الوليد (1) على أكل الضب (2) متفق عليهما .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(
فاستدرت إليه حتى أتيته من ورائه فضربته على حبل عاتقه ، وأقبل عليَّ فضمني ضمةً وجد ريح الموت ، ثم أدركه الموت فأرسلني ، فلحقت عمر بن الخطاب فقال : ما للناس ؟ فقلت : أمر الله . ثم إن الناس رجعوا وجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه . قال : فقمت فقلت : من يشهد لي ؟ ثم جلست ، ثم قال مثل ذلك فقال : فقمت فقلت : من يشهد لي ؟ ثم جلست ثم قال ذلك الثالثة فقمت فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما لك يا أبا قتادة ؟ فقصصت عليه القصة . فقال رجل من القوم : صدق يا رسول الله سلب ذلك القتيل عندي فأرضه من حقه ، وقال أبو بكر الصديق : لاهاً الله إذاً لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله وعن رسوله فيعطيك سلبه . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : صدق فأعطه إياه فأعطاني ) واللفظ لمسلم ، انظر صحيح البخاري مع الفتح 7/58 ، صحيح مسلم بشرح النووي 4/414 .
(1) هو خالد بن الوليد بن المغيرة المخزومي القرشي سيف الله تعالى وفارس الإسلام وقائد المجاهدين ، أسلم سنة ثمان للهجرة وتوفي سنة 21 هـ ، انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء 1/366 ، تهذيب الأسماء واللغات 1/1/172 الإصابة في تمييز الصحابة 2/98 .(/42)
(2) روى البخاري ومسلم عن أبي أمامة ابن سهل بن حنيف الأنصاري أن ابن عباس أخبره أن ( خالد بن الوليد الذي يقال له سيف الله أخبره أنه دخل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ميمونة وهي خالته وخالة ابن عباس فوجد عندها ضباً محنوذاً قدمت به أختها حفيدة بنت الحارث من نجد فقدمت الضب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان قلما يقدم يده لطعام حتى يحدث به ويسمى له ، فأهوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الضب فقالت امرأة من النسوة الحضور : أخبرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قدمتن له ، هو الضب يا رسول الله ، فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده عن الضب ، فقال خالد بن الوليد : أحرام الضب يا رسول الله ؟ قال : لا ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه ، قال خالد : فاجتررته فأكلته ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر إلي ) صحيح البخاري مع الفتح 11/464 ، صحيح مسلم مع شرح النووي 5/86 .
وما(1) فُعِلَ في وقته - صلى الله عليه وسلم - في غير مجلسه وعلم به ولم ينكره ، فحكمه حكم ما فُعِلَ في مجلسه(2) ، كعلمه بحلف أبي (3) بكر - رضي الله عنه - أنه (4) لا يأكل الطعام في وقت غيظه ثم أكل * لما رأى الأكل خيراً (5) ، كما يؤخذ من حديث مسلم في الأطعمة (6) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في " ج " وأما وهو خطأ .
(2) انظر شرح العضد 2/25 ، الأنجم الزاهرات ص 181 ، التحقيقات ص 354 ، شرح العبادي ص 128، حاشية الدمياطي ص 14 .
(3) في " ج " أبا وهو خطأ .
(4) ليست في " ج " .
* نهاية 7/أ من " ب " .
(5) ورد في " هـ " له .
(6) روى مسلم في صحيحه بسنده عن عبد الرحمن بن أبي بكر قال ( نزل علينا أضياف لنا . قال : وكان أبي يتحدث إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - من الليل قال : فانطلق ، وقال : يا عبد الرحمن افرغ من أضيافك . قال : فلما أمسيت جئنا بقراهم . قال : فأبوا ، فقالوا : حتى يجيء
أبو منزلنا فيطعم معنا . قال : فقلت لهم : إنه رجل حديد ، وإنكم إن لم تفعلوا خفت أن يصيبني منه أذى . قال : فأبوا ، فلما جاء لم يبدأ بشيء أول منهم ، فقال : أفرغتم من أضيافكم ؟ قال : قالوا : لا والله ما فرغنا . قال : ألم آمر عبد الرحمن ؟ قال : وتنحيت عنه ، فقال : يا عبد الرحمن ، قال : فتنحيت ، قال : فقال : يا غنثر ، أقسمت عليك إن كنت تسمع صوتي إلا جئت . قال : فجئت ، فقلت : والله ما لي ذنب ، هؤلاء أضيافك فسلهم ، قد أتيتهم بقراهم فأبوا أن يطعموا حتى تجيء . قال : فقال : ما لكم أن لا تقبلوا عنا قراكم ؟ قال : فقال أبو بكر : فوالله لا أطعمه الليلة . قال : فقالوا : فوالله لا نطعمه حتى تطعمه . قال : فما رأيت كالشر كالليلة قط ويلكم ما لكم أن لا تقبلوا عنا قراكم ، قال : ثم قال : أما الأولى فمن الشيطان هلموا قراكم . قال : فجيء بالطعام ، فسمى فأكل وأكلوا . قال : فلما أصبح غدا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، برّوا وحنثت . قال : فأخبره ، (
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(
فقال : بل أنتم أبرهم وأخيرهم . قال : ولم تبلغني كفارة ) صحيح مسلم بشرح النووي 5/216 ، وغنثر تعني الثقيل الوخم ، وقيل الجاهل ، وقيل السفيه ، انظر شرح النووي على صحيح مسلم 5/215 .
والحديث رواه مسلم في كتاب الأشربة وليس في الأطعمة كما قال الشارح ولم أجد باباً في صحيح مسلم بعنوان الأطعمة ، ويمكن حمل قول الشارح ( في الأطعمة ) على حكم الأطعمة . والحديث أيضاً رواه البخاري في صحيحه ، صحيح البخاري مع الفتح 13/152 .
[ تعريف النسخ ]
[ تعريفه لغة ً ]
وأما النسخ فمعناه لغة الإزالة (1) ، يقال نسخت الشمس الظل إذا أزالته ورفعته بانبساطها .
وقيل (2) معناه النقل(3) من قولهم نسخت ما في هذا(4) الكتاب إذا(5) نقلته بأشكال كتابته .
[ تعريفه اصطلاحاً ]
وحدُّه(6) شرعاً (7) الخطاب الدال على رفع (8) الحكم …
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وهذا قول أكثر اللغويين والأصوليين ، انظر لسان العرب 14/121 ، تاج العروس 4/319 ، الصحاح 1/433 ، المصباح المنير 2/603 ، البرهان 2/1293 ، المحصول 1/3/419 ، الإحكام 3/102 ، شرح العضد 2/185 ، المستصفى 1/107 ، البحر المحيط 4/63 ، كشف الأسرار 3/155 ، فواتح الرحموت 2/53 ، المعتمد 1/394-395 .
(2) انظر المصادر السابقة ، وقول إمام الحرمين وقيل إشارة إلى تضعيف هذا القول .
(3) في " ب " الفعل وهو خطأ .(/43)
(4) ليست في " هـ " .
(5) ورد في " المطبوعة " أي .
(6) في " ج " وحدُّ .
(7) ورد في " المطبوعة " هو .
(8) في " ج " الرفع .
الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه (1) لكان* ثابتاً مع تراخيه عنه (2) هذا حد للناسخ (3) (4) .
ويؤخذ منه حد النسخ بأنه رفع الحكم المذكور بخطاب إلى آخره ، أي رفع تعلقه بالفعل (5) ، فخرج بقوله الثابت بالخطاب ، رفع الحكم الثابت بالبراءة الأصلية ، أي عدم التكليف بشيء (6) .
وبقولنا (7) بخطاب (8) المأخوذ من كلامه الرفع بالموت والجنون .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في " ج " لولا .
* نهاية 8/ب من " أ " .
(2) عرّف إمام الحرمين النسخ في التلخيص 2/452 بهذا التعريف ، وأما في البرهان 2/1294 ، فذكر هذا التعريف ونسبه إلى المعتزلة وضعّفه . وانظر تعريف النسخ اصطلاحاً في المستصفى 1/107 ، المحصول 1/3/423 ، الإحكام 3/105 ، الإبهاج 2/227 ، المسودة ص 195 ، شرح العضد 2/185 ، أصول السرخسي 2/54 ، المعتمد 1/396 ، فواتح الرحموت 2/53 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/75 ، تيسير التحرير 3/178 ، المنخول ص 289 ، شرح الكوكب المنير 3/526 ، إرشاد الفحول ص 184 .
(3) في " هـ " الناسخ .
(4) أي أن التعريف الذي ذكره إمام الحرمين للنسخ إنما هو في الحقيقة تعريف للناسخ ، لأنه قال : الخطاب الدال … الخ فالخطاب ناسخ وأما النسخ فهو رفع الحكم .
(5) أي بفعل المكلف .
(6) لأن عدم التكليف بشيء لا يسمى نسخاً ، لأنه ليس ثابتاً بخطاب ، بل بأن الأصل براءة الذمة ، شرح العبادي ص 136 .
(7) قال العبادي ( وخرج ( بقولنا : بخطاب المأخوذ من كلامه ) أي المصنف حيث جعل الرفع مدلول الخطاب ، فيكون بالخطاب ، وإنما أضاف القول هنا إلى نفسه ونبه على أخذه من كلام المصنف هو أن النسخ رفع الحكم إلى آخر القيود التي بعده وليس فيها تصريح بأن الرفع بالخطاب ولكنه مأخوذ من جعله الرفع مدلول الخطاب ، فلهذا أضافه إلى (
وبقوله على وجه إلى آخره ، ما لو كان الخطاب الأول مغياً بغاية أو معللاً بمعنى ، وصرح الخطاب (1) الثاني بمقتضى ذلك (2) .
فإنه لا يسمى ناسخاً [ للأول مثاله ] (3) قوله تعالى : { إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ } (4) ، فتحريم البيع مغيا بانقضاء الجمعة ، فلا يقال إن قوله تعالى : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ } (5) ناسخ للأول بل بيَّن غاية التحريم .
وكذا قوله تعالى (6) : { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُمًا } (7) لا يقال نسخه قوله تعالى : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } (8) لأن التحريم للإحرام وقد زال .
وخرج (9) بقوله مع تراخيه عنه (10) ، ما اتصل بالخطاب من صفة أو شرط أو استثناء (11) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(
نفسه لأنه زاد التصريح به على ما يؤخذ من ظاهر كلام المصنف في بادئ النظر ، ونبه على أخذه منه دفعاً لتوهم عدم أخذه منه ، لعدم ذكره بعد الرفع الذي هو أول أجزاء حد النسخ مع الغفلة عن جعله الرفع مدلول الخطاب ) شرح العبادي ص 137 .
(8) في " ب " بالخطاب .
(1) في " هـ " بالخطاب .
(2) أي كونه مغياً أو معللاً وهو ارتفاع الحكم عند وجود الغاية وزوال المعنى . شرح العبادي ص 138 .
(3) ما بين المعكوفين ليس في " ب " .
(4) سورة الجمعة الآية 9 .
(5) سورة الجمعة الآية 10 .
(6) ليست في " أ ، ب " .
(7) سورة المائدة الآية 96 .
(8) سورة المائدة الآية 2 .
(9) ليست في " أ ، ب ، ج " .
(10) ليست في " ج " . (
[ أنواع النسخ في القرآن الكريم ]
ويجوز نسخ الرسم وبقاء الحكم (1) ، نحو ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة ).
قال عمر- رضي الله عنه - (2) :( فإنَّا قد قرأناها ) رواه الشافعي (3) …
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(
(11) لأن هذه الثلاثة ليست متراخية فلا يسمى رفع الحكم بها ناسخاً في الجملة ، شرح العبادي ص 139-140 .(/44)
(1) هذا المنسوخ تلاوةً مع بقاء حكمه ، انظر تفصيل الكلام عليه في البرهان 2/1312 ، التلخيص 2/283 ، المستصفى 1/123 ، المنخول ص 297 ، المعتمد 1/418 ، أصول السرخسي 2/78 ، كشف الأسرار 3/188 ، المحصول 1/3/482 ، الإحكام 3/141 ، الإبهاج 2/241 ، شرح العضد 2/194 ، إرشاد الفحول ص 189 ، شرح المنار لابن ملك ص 721 فواتح الرحموت 2/73 ، شرح تنقيح الفصول ص 309 ، البحر المحيط 4/104 ، المسودة ص 198 ، مذكرة أصول الفقه ص70-71 ، أصول الفقه للشلبي 1/554 .
وقد ذكر إمام الحرمين في التلخيص 2/483 ، أن بعض الناس لا يجيزون هذا النسخ وذكر في البرهان 2/1312 ( وقد منع مانعون من المعتزلة … ) ، وقال الآمدي في الإحكام 3/141 ( خلافاً لطائفة شاذة من المعتزلة ).
(2) هو عمر بن الخطاب بن نفيل العدوي الصحابي الجليل ثاني الخلفاء الراشدين أول من لقب بأمير المؤمنين ، وفي عهده فتحت كثير من البلاد واستشهد في محراب المسجد النبوي سنة 23 هـ ، انظر ترجمته في تهذيب الأسماء واللغات 2/1/3 ، البداية والنهاية 8/137 ، الإصابة في تمييز الصحابة 4/279 .
(3) رواه الشافعي في مسنده 2/81-82 ، وانظر الأم 6/154 ، الحاوي الكبير 13/190 .
والشافعي هو محمد بن إدريس بن العباس الإمام الشافعي ثالث الأئمة الأربعة الأصوليّ الفقيه ، اللغوي المحدّث ، ناصر الحديث ، له الرسالة في أصول الفقه ، والأم في الفقه وغير ذلك ، توفي سنة 204 هـ ، انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء 10/5 ، (
وغيره (1) .
( وقد رجم - صلى الله عليه وسلم - المحصنين ) (2) متفق عليه (3) * .
[ وهما المراد بالشيخ والشيخة ] (4) .
ونسخ ** الحكم وبقاء الرسم (5) نحو { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ } (6) نسخ بآية { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } (7) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(
طبقات الشافعية الكبرى الجزء الأول ، مناقب الشافعي للبيهقي .
(1) ورواه البخاري ومسلم والبيهقي وأحمد وغيرهم ، انظر صحيح البخاري مع الفتح 15/155 ، صحيح مسلم بشرح النووي 4/338-339 ، سنن البيهقي 8/211 ، الفتح الرباني 16/81-82 .
(2) المحصن من أحصن فهو محصن إذا تزوج ، والفقهاء يزيدون على هذا أن يكون النكاح صحيحاً ، طلبة الطلبة ص 129 ، المصباح المنير 1/139 ، تهذيب الأسماء واللغات 2/2/65 ، أنيس الفقهاء ص 175 .
(3) صحيح البخاري مع الفتح 15/130 ، صحيح مسلم بشرح النووي 4/342 .
* نهاية 6/أ من " ج " .
(4) ما بين المعكوفين ليس في " ج " .
** نهاية 9/أ من " أ " .
(5) وقد خالف في ذلك بعض المعتزلة كما خالفوا في نسخ التلاوة وبقاء الحكم ، انظر المصادر السابقة في هامش رقم (1) من الصفحة السابقة .
(6) سورة البقرة الآية 240 .
(7) سورة البقرة الآية 234 . والقول بأن الآية الثانية ناسخة للأولى هو مذهب جمهور المفسرين ،وخالف في ذلك مجاهد فقال إنها محكمة ،انظر تفسير فتح القدير 1/259 ،
تفسير القرطبي 3/174،226 ، رسالة في بيان الناسخ والمنسوخ ص60.
[ ونسخ الأمرين معاً ] (1) نحو حديث مسلم عن * عائشة رضي الله عنها (2) ( كان فيما أنزل عشر رضعات معلومات يحرمن (3) ) فنسخن [( بخمس معلومات يحرمن (4) )] (5) .
وينقسم (6) النسخ إلى بدل وإلى غير بدل (7) الأول كما في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ما بين المعكوفين ورد في " هـ ، ط " على أنه من متن الورقات وليس في أي من نسخ الورقات التي رجعت إليها . والمقصود بنسخ الأمرين معاً ، أي نسخ الحكم والتلاوة معاً انظر المحصول 1/3/485 ، البحر المحيط 4/104 ، أصول السرخسي 2/78 ، المعتمد 1/387 ، شرح تنقيح الفصول ص 309 ، فواتح الرحموت 2/73 ، شرح العضد 2/194 ، الإبهاج 2/242 ، شرح الكوكب المنير 3/553 ، إرشاد الفحول ص 189 .
* نهاية 7/ب من " ب " .
(2) هي عائشة بنت أبي بكر الصديق أم المؤمنين زوجة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أفقه نساء الأمة ، نزلت براءتها من السماء ، توفيت سنة 58 هـ ، انظر ترجمتها في سير أعلام النبلاء 2/135 ، البداية والنهاية 8/95 ، الإصابة في تمييز الصحابة 8/135 .
(3) ليست في " أ ، ب ، ج " .
(4) ليست في " أ ، ب " .
(5) ما بين المعكوفين ليس في " ج " . روى مسلم في صحيحه بإسناده عن عائشة رضي الله عنها قالت ( كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهن فيما يقرأ من القرآن ) صحيح مسلم بشرح النووي 4/25(/45)
(6) ليست في " أ ، ب ، ج ، و ، ص ، المطبوعة " .
(7) النسخ إلى غير بدل هو قول جماهير الأصوليين ، وخالف ذلك جماهير المعتزلة كما قال إمام الحرمين في البرهان 2/1313 ، وخالف في ذلك أيضاً بعض أهل الظاهر ، وفي المسألة تفصيل ، انظر التلخيص 2/478 ، المستصفى 1/119 ، الإحكام 3/135 ، شرح العضد 2/193 ، المحصول 1/3/479 ، شرح تنقيح الفصول ص 308 ، المسودة ص 198 ، شرح الكوكب المنير 3/545 ، المعتمد 1/415 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/87 ، (
نسخ استقبال بيت المقدس باستقبال الكعبة وسيأتي .
والثاني كما في نسخ (1) قوله تعالى : { إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً } (2) .
وإلى ما هو أغلظ(3) كنسخ التخيير بين صوم رمضان والفدية إلى تعيين (4)
الصوم (5) …
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(
فواتح الرحموت 2/69 ، إرشاد الفحول ص 187 ، الأنجم الزاهرات ص 187 ، التحقيقات ص 367 ، أصول الفقه للشلبي 1/544 .
(1) ليست في " هـ " .
(2) سورة المجادلة الآية 12 ، ونسخت هذه الآية بقوله تعالى ( أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله والله خبير بما تعملون ) سورة المجادلة الآية 13 ، فلم توجب الآية الناسخة بدلاً عن التصدق قبل مناجاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما ردهم الله سبحانه وتعالى إلى ما كان عليه الحال قبل نزول الآية المنسوخة . ولكن الشارح المحلي قال بخلاف ذلك في شرحه على جمع الجوامع 2/88 حيث قال ( قلنا لا نسلم أنه لا بدل للوجوب بل بدله الجواز الصادق هنا بالإباحة والاستحباب ).
(3) وهذا قول جمهور الأصوليين ، وذهب بعض الشافعية وبعض أهل الظاهر إلى المنع ، وعزى إمام الحرمين المنع إلى شرذمة من المعتزلة انظر تفصيل المسألة في التلخيص 2/481 ، المعتمد 1/416 ، المستصفى 1/120 ، المحصول 1/3/480 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/87 ، الإحكام 3/137 ، المسودة ص 201 ، شرح تنقيح الفصول ص 308 ، شرح العضد 2/193 ، كشف الأسرار 3/ 187 ، فواتح الرحموت 2/71 ، شرح الكوكب المنير 3/549 ، البحر المحيط 4/95 ، أصول السرخسي 2/62 ، إرشاد الفحول ص 188 ، التبصرة ص 258 ، الإبهاج 2/239 .
(4) في " ج " تعين .
(5) روى البخاري ومسلم عن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - قال ( لما نزلت ( وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ) كان من أراد أن يفطر ويفتدي حتى نزلت الآية بعدها فنسختها ) (
قال الله تعالى { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ } (1) إلى قوله { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } (2) .
وإلى ما هو أخف(3) كنسخ قوله تعالى { إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ } (4) بقوله تعالى { فإن تكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين } (5) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(
صحيح البخاري مع الفتح 9/247 ، صحيح مسلم بشرح النووي 3/211 ، وانظر في هذا النسخ تفسير الألوسي 1/455-456 ، رسالة في بيان الناسخ والمنسوخ ص 53 .
(1) سورة البقرة الآية 184 .
(2) سورة البقرة الآية 184 .
(3) وهذا بدون خلاف بين العلماء انظر المصادر السابقة في هامش رقم (5) من الصفحة السابقة .
(4) سورة الأنفال الآية 65 .
(5) سورة الأنفال الآية 66 ، وانظر في هذا النسخ رسالة في الناسخ والمنسوخ ص 84 .
[ مسائل النسخ بين الكتاب والسنة ]
ويجوز نسخ الكتاب بالكتاب (1) كما تقدم في آيتي (2) العدة وآيتي المصابرة .
ونسخ السنة بالكتاب (3) كما تقدم في (4) نسخ (5) استقبال بيت المقدس الثابت بالسنة الفعلية كما (6) في حديث الصحيحين (7) بقوله تعالى { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } (8) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وهذا باتفاق أهل العلم من المسلمين .
(2) في " ب " آية وهو خطأ .(/46)
(3) قال إمام الحرمين في التلخيص 2/521 ( يجوز نسخ السنة بالقرآن عند جمهور العلماء ويحكى عن الشافعي رحمه الله فيه قولان : في أحدهما بموافقة الجمهور وجوز نسخ السنة بالقرآن وقال في الثاني : لا يجوز ذلك ) وانظر البرهان 2/1307 ، والقول الثاني هو أظهر قولي الشافعي كما في الرسالة ص 108،110 ، وانظر تفصيل المسألة في التبصرة ص 272 ، المستصفى 1/124 ، المحصول 1/3/508 ، البحر المحيط 4/118 ، الإبهاج 2/247 ، أصول السرخسي 2/67 ، شرح المحلي 2/79 ، إرشاد الفحول ص 190 ، الإحكام 3/146 .
(4) في " ج " من .
(5) ليست في " هـ " .
(6) ليست في " ب ، ج ، هـ " .
(7) عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -صلى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهراً وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب أن يوجه إلى الكعبة فأنزل الله عز وجل ( قد نرى تقلب وجهك في السماء ) فتوجه نحو الكعبة ) متفق عليه ، انظر صحيح البخاري مع الفتح 2/48 ، صحيح مسلم بشرح النووي 2/182 .
(8) سورة البقرة الآية 144 .
وبالسنة(1) (2) نحو حديث مسلم ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ) (3) .
وسكت (4) عن نسخ الكتاب * بالسنة وقد قيل بجوازه (5) (6) ومثل له (7) بقوله تعالى { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ } (8) مع حديث الترمذي (9) …
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في " هـ " والسنة ، وفي " المطبوعة " ونسخ السنة بالسنة .
(2) وقد ذكر إمام الحرمين في التلخيص 2/514 ، أن هذا بالإجماع ، انظر تفصيل ذلك في المصادر السابقة في هامش رقم (3) من الصفحة السابقة.
(3) رواه مسلم في صحيحه عن بريدة - رضي الله عنه - ، صحيح مسلم بشرح النووي 3/40 .
(4) أي سكت إمام الحرمين حسبما ورد في نسخة من الورقات عن نسخ الكتاب بالسنة ، وأشار الشارح إلى أنه قد ورد في نسخة أخرى من الورقات ( لا يجوز نسخ الكتاب بالسنة ) ، وهذا بخلاف ما قرره إمام الحرمين في التلخيص والبرهان حيث قال بجواز نسخ الكتاب بالسنة ، ودافع عن ذلك وزيف القول بالمنع ورد على المانعين ، انظر التلخيص 2/515-521 ، البرهان 2/1307-1308 .
* نهاية 9/ب من " أ " .
(5) في " ج " يجوز .
(6) وهذا مذهب أكثر العلماء وقال إمام الحرمين في البرهان 2/1307 ( والذي اختاره المتكلمون وهو الحق المبين أن نسخ الكتاب بالسنة غير ممتنع ) وانظر الإحكام 3/152 ، التبصرة ص 264 ، المستصفى 1/124 ، المحصول 1/3/519 ، المسودة ص 204 ، المعتمد 1/424 ، أصول السرخسي 2/67 ، كشف الأسرار 3/175 ، فواتح الرحموت 2/87 ، وقد رجحه الشارح فيما سيأتي من كلامه .
(7) ليست في " ج " .
(8) سورة البقرة الآية 180 .
(9) الترمذي هو محمد بن عيسى بن سورة أبو عيسى الترمذي ، الإمام الحافظ المحدّث ، صاحب الجامع " سنن الترمذي " وله الشمائل النبوية ، توفي سنة 279 هـ ، انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء 13/270 ، البداية والنهاية 11/71 ، شذرات الذهب 2/174 .
وغيره (1) ( لا وصية لوارث ) .
واعترض (2) بأنه خبر واحد (3) ، وسيأتي أنه لا ينسخ المتواتر بالآحاد .
وفي نسخة ولا (4) يجوز نسخ الكتاب بالسنة (5) أي (6) بخلاف تخصيصه (7) بها كما تقدم لأن التخصيص أهون من النسخ (8) .
ويجوز نسخ المتواتر بالمتواتر(9) ، [ ونسخ الآحاد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رواه الترمذي في سننه 4/376-377 ، وقال الترمذي وهو حديث حسن صحيح ، ورواه أبو داود في سننه ، انظر سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 9/51 ، ورواه النسائي في سننه 6/247 ، ورواه ابن ماجة في سننه 2/905 ، وقال الحافظ ابن حجر ( وهو حسن الإسناد ) التلخيص الحبير 3/92 ، وصححه الشيخ الألباني وفصّل الكلام على طرقه ، انظر إرواء الغليل 6/87-96 .
(2) لأن الكلام مفروض في النسخ بالسنة المتواترة وأما النسخ بسنة الآحاد فسيأتي الكلام عليه كما أشار الشارح .
(3) في " هـ " آحاد .
(4) في " ب " لا .
(5) ورد في " ج " ( بالتواتر ونسخ الآحاد بالآحاد ولا يجوز نسخ المتواتر ) ، وما أشار إليه الشارح من قوله ( وفي نسخة ) ورد في " و " ( ولا يجوز نسخ الكتاب بالسنة ولا المتواتر بالآحاد ولأن الشيء ينسخ بمثله أو بما هو أقوى منه ) وهذا موافق لمتن الورقات المذكور ضمن شرح الأنجم الزاهرات ص 188-189 .
(6) ليست في " ج " .
(7) في " هـ " تخصيصها .
(8) لأن النسخ رفع الحكم بالكلية بخلاف التخصيص ، وقد سبقت هذه المسألة ص 152.(/47)
(9) سواء أكان كتاباً أو سنة ، التحقيقات ص 374 ، وانظر المصادر المذكورة في هامش رقم (6) من الصفحة السابقة .
بالآحاد وبالمتواتر (1) (2) . ولا يجوز نسخ المتواتر ] (3) كالقرآن بالآحاد (4) ، لأنه دونه في القوة . والراجح جواز ذلك ، لأن محل النسخ هو (5) الحكم والدلالة عليه بالمتواتر ظنية كالآحاد (6) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في " هـ " والمتواتر ، وفي " المطبوعة " وبالتواتر .
(2) ورد في " المطبوعة " منهما ، وانظر المصادر المذكورة في هامش رقم (6) من الصفحة قبل السابقة .
(3) ما بين المعكوفين ليس في " ج " .
(4) انظر المصادر المذكورة في هامش رقم (6) من الصفحة قبل السابقة .
(5) ليست في " أ ، ب ، ج " .
(6) سيأتي تعريف المتواتر والآحاد في فصل الأخبار ص 185 ، 187 من هذا الكتاب .
[ التعارض ]
فصل في التعارض(1) .
[ تعارض النصوص ]
إذا تعارض نطقان (2) ، فلا يخلو إما أن يكونا عامين أو خاصين أو أحدهما عاماً (3) والآخر * خاصاً أو (4) كل واحد (5) منهما عاماً من وجه وخاصاً من وجه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) التعارض في اللغة من عرض ويأتي لمعان عديدة منها التمانع ، انظر لسان العرب 9/137 ، تاج العروس 10/74 .
ولم يذكر المصنف ولا الشارح تعريف التعارض اصطلاحاً ، وقد عرّفه الأصوليين بتعريفات كثيرة منها : التمانع بين الأدلة الشرعية مطلقاً بحيث يقتضي أحدهما عدم ما يقتضيه الآخر . التعارض والترجيح 1/23 ، وانظر أيضاً تيسير التحرير 3/136 ، شرح الكوكب المنير 4/605 ، إرشاد الفحول ص 273 ، التحقيقات ص 386 ، أدلة التشريع المتعارضة ص 20 .
(2) المراد بالنطقين الدليلان الظنيان من الكتاب والسنة ، إذ التعارض يكون بين الأدلة الظنية ولا تعارض بين الأدلة القطعية ، ولا بين قطعي وظني ، التحقيقات ص 387 ، وانظر البرهان 2/1143 ، المستصفى 2/137، المحصول 2/2/532 ، المسودة ص 448 ، شرح الكوكب المنير 4/607 ، البحر المحيط 6/111 ، كشف الأسرار 4/77 ، فواتح الرحموت 2/189 ، الإبهاج 3/199 ، التعارض والترجيح للحفناوي ص 49 ، أدلة التشريع المتعارضة ص 26 .
(3) في " ج " عام .
* نهاية 8/أ من " ب " .
(4) في " ج " و .
(5) ليست في " ج " .
[ تعارض العامين ]
فإن كانا عامين فإن أمكن الجمع بينهما جمع(1) بحمل كل منهما على حال (2) ، مثاله حديث ( شر الشهود الذي يشهد قبل أن يستشهد ) (3) ، * وحديث ( خير الشهود الذي يشهد قبل أن يستشهد ) فحمل (4) الأول على ما إذا كان من له الشهادة عالماً بها.
والثاني على ما إذا لم يكن عالماً بها (5) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في " ب " الجمع وفي " هـ " يجمع .
(2) وهذا مذهب جمهور الأصوليين من المالكية والشافعية والحنابلة والمعتزلة ، فإن لم يمكن الجمع قالوا بترجيح أحدهما على الآخر بأحد المرجحات ، وقال الحنفية بترجيح أحدهما على الآخر أولاً ، ثم النظر في تاريخ النصين ثم في الجمع بينهما ثم التساقط ، وفي المسألة أقوال أخرى ، انظر تفصيل ذلك في المعتمد 2/176 ، المستصفى 2/395 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/310 ، فواتح الرحموت 2/189، شرح تنقيح الفصول ص 417، المحصول 2/2/506 ، البحر المحيط 6/108 ، الإبهاج 3/210 ، شرح الكوكب المنير 4/609 ، إرشاد الفحول ص 273 ، كشف الأسرار 4/76 ، التعارض والترجيح 2/5 ، منهج التوفيق ص 115،117 .
(3) روى البخاري ومسلم بإسناديهما واللفظ لمسلم عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( إن خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم … ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السِمَنْ ) صحيح البخاري مع الفتح 6/187 ، صحيح مسلم بشرح النووي 5/69 .
* نهاية 6/ب من " ج " .
(4) في " ب " فحمل على .
(5) وهذا مذهب جماهير العلماء في الجمع بين الحديثين كما قال الإمام النووي ، وذكر في المسألة أقوالاً أخرى وضعّفها ، شرح النووي على صحيح مسلم 5/68 ، وانظر فتح الباري 6/189 .
والثاني رواه مسلم (1) بلفظ ( ألا أخبركم بخير الشهود الذي يأتي * بشهادته قبل أن يسألها ) (2) .
والأول متفق على معناه في حديث ( خيركم قرني ثم الذي يلونهم ) إلى قوله ( ثم يكون بعدهم قوم يشهدون قبل أن يستشهدوا ) (3) .(/48)
وإن لم يمكن الجمع بينهما ، يتوقف فيهما إن لم يعلم التاريخ (4) ، أي إلى أن يظهر مرجح أحدهما ، مثاله قوله تعالى { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهمْ } (5) وقوله تعالى { وَأَنْ تجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ } (6) فالأول يجوز (7) [ جمع الأختين ] (8) بملك اليمين (9) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) روى مسلم بإسناده عن زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ( ألا أخبركم بخير الشهداء ، الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها ) ، صحيح مسلم بشرح النووي 3/380 .
* نهاية 10/أ من " أ " .
(2) انظر الهامش السابق .
(3) انظر ما سبق في هامش رقم (5) من الصفحة السابقة .
(4) وهذا قول أكثر الحنفية وأكثر الشافعية ، وفي المسألة أقوال أخرى ، انظر تفصيل ذلك في البرهان 2/1183 ، المستصفى 2/393 ، كشف الأسرار 4/76 ، شرح تنقيح الفصول ص 417 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/359 ، تيسير التحرير 3/137 ، التحقيقات ص 390 ، إرشاد الفحول ص 275 ، شرح الكوكب المنير 4/612 ، روضة الناظر 2/372 ، شرح العبادي ص 154 .
(5) سورة المؤمنون الآية 6 ، وفي " ب ، هـ " أيمانكم وعليه تكون الآية من سورة النساء الآية 3 .
(6) سورة النساء الآية 23 .
(7) في " هـ " ذلك .
(8) ما بين المعكوفين ليس في " هـ " .
(9) وروي القول بالجواز عن عثمان وابن عباس رضي الله عنهم ، انظر (
والثاني يحرم (1) ذلك (2) ، فرجح التحريم لأنه أحوط (3) (4) .
فإن علم التاريخ فينسخ(5) المتقدم بالمتأخر (6) كما في آيتي عدة الوفاة وآيتي المصابرة وقد تقدمت الأربع .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(
الاستذكار 16/248 ، مصنف ابن أبي شيبة 4/168 ، سنن البيهقي 7/164 ، التلخيص الحبير 3/173 ، الموسوعة الفقهية 36/224 .
(1) في " ب " حرم .
(2) وهذا مذهب جمهور الصحابة والعلماء ، انظر المصادر السابقة في هامش رقم (9) من الصفحة السابقة .
(3) في " ج ، هـ " الأحوط .
(4) أي لأن التحريم أحوط من الحل الذي هو مقتضى الأول ، إذ العمل به مخلص عن المحذور يقيناً بخلاف العمل بالحلّ لاحتمال المحذور فيقع فيه ، انظر شرح العبادي ص 155 ، حاشية الدمياطي ص 17 ، والمصادر السابقة في هامش رقم (5) .
(5) في " هـ " نسخ ، وفي " المطبوعة " ينسخ .
(6) سواء كان من الكتاب أو السنة أو أحدهما من الكتاب والآخر من السنة ، انظر تفصيل ذلك في التحقيقات ص 394 ، الأنجم الزاهرات ص 196 ، المستصفى 2/393 ، المنخول ص 429 شرح المحلي على جمع الجوامع 2/362 ، شرح العضد 2/312 ، المحصول 2/2/545 ، فواتح الرحموت 2/189 ، شرح تنقيح الفصول ص 421 ، إرشاد الفحول ص 279 .
[ تعارض الخاصين ]
وكذا (1) إن كانا خاصين (2) أي فإن أمكن (3) الجمع بينهما جمع (4) كما في حديث ( أنه - صلى الله عليه وسلم - توضأ وغسل رجليه ) وهذا مشهور في الصحيحين (5) وغيرهما (6) .
وحديث ( أنه - صلى الله عليه وسلم - توضأ ورش الماء على قدميه وهما في النعلين ) رواه النسائي (7) والبيهقي (8) وغيرهما (9) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في " ب " وكذلك .
(2) انظر المصادر السابقة في هامش رقم (6) من الصفحة السابقة .
(3) في " ج " كان وهو خطأ .
(4) في " هـ " يجمع .
(5) في " هـ " الصحيح .
(6) رواه البخاري في صحيحه في عدة مواضع منها في كتاب الوضوء باب غسل الرجلين إلى الكعبين من حديث عبد الله بن زيد وفيه ( ثم غسل رجليه إلى الكعبين ) ، صحيح البخاري مع الفتح 1/306 ، ورواه مسلم ، صحيح مسلم بشرح النووي 1/473 ، ورواه أبو داود ، انظر سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 1/140 ، ورواه الترمذي في سننه 1/66 ، ورواه النسائي 1/71 .
(7) سنن النسائي 1/84-85 .
(8) البيهقي هو أحمد بن الحسين البيهقي ، الإمام الحافظ العلامة الثبت الفقيه ، صاحب السنن الكبرى ، ومعرفة السنن والآثار ومناقب الشافعي وغيرها توفي سنة 458 هـ ، انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء 18/163 ، طبقات الشافعية الكبرى 4/8 ، البداية والنهاية 12/100 .
(9) رواه البيهقي في سننه 1/72-73 ، ورواه أيضاً أبو داود انظر سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 1/135 ، ورواه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/35 ، ورواه أحمد انظر الفتح الرباني 2/9- 10 ، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/25 ، (
فجمع بينهما بأن الرش في حال التجديد (1) لما (2) في بعض الطرق ( أن هذا وضوء من لم يحدث ) (3) .(/49)
وإن لم يمكن الجمع بينهما ولم يعلم التاريخ يتوقف فيهما إلى ظهور مرجح (4) لأحدهما (5) ، مثاله ما جاء ( أنه - صلى الله عليه وسلم - سئل عما يحل للرجل من امرأته وهي حائض فقال : ما فوق الإزار ) رواه أبو داود (6) .
وجاء أنه - صلى الله عليه وسلم - * قال ( اصنعوا كل شيء إلا النكاح )
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(
وانظر التحقيق في أحاديث الخلاف 1/161 ، نصب الراية 1/188.
(1) ذكر العلامة ابن القيم ستة مسالك في الجمع بين الحديثين السابقين هذا أحدها ،وقد قال به جماعة من العلماء منهم البيهقي وروي عن الإمام أحمد ، انظر تفصيل ذلك في تهذيب سنن أبي داود لابن القيم مطبوع مع عون المعبود 1/135-142 وانظر التحقيقات ص 396 .
(2) في " هـ " كما .
(3) رواه البيهقي في سننه 1/75 ورواه ابن حبان وقال محققه إسناده صحيح ، انظر صحيح ابن حبان 3/340 ، ورواه النسائي في السنن 1/84-85 ، ورواه أحمد انظر الفتح الرباني 2/11-12 .
(4) وهذا قول أكثر الحنفية وأكثر الشافعية كما قال ابن قدامة في روضة الناظر 2/372 ، وانظر كشف الأسرار 4/76 ، المستصفى 2/393 ، المسودة ص 449 ، شرح تنقيح الفصول ص 417 ، إرشاد الفحول ص 275 ، شرح الكوكب المنير 3/612 ، تيسير التحرير 3/137 ، الأنجم الزاهرات ص 197 ، التحقيقات ص 395 .
(5) ليست في " هـ " .
(6) سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 1/248 وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/42 .وأبو داود هو سليمان بن الأشعث السجستاني ، الإمام الحافظ المحدّث ، صاحب السنن ، وله المراسيل أيضاً، توفي سنة 275 هـ ، انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء 13/203 ، طبقات الشافعية الكبرى 2/293 ، البداية والنهاية 11/58 .
* نهاية 10/ب من " أ " .
أي الوطء (1) رواه مسلم (2).
ومن جملته الوطء فيما فوق الإزار . فتعارضا فيه (3) فرجح بعضهم التحريم احتياطاً (4) * ، وبعضهم الحل لأنه الأصل في المنكوحة (5) .
وإن علم التاريخ نسخ المتقدم بالمتأخر كما تقدم في حديث (6) زيارة القبور (7) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) النكاح لفظ مشترك في لغة العرب يستعمل بمعنى الوطء والعقد دون الوطء ، انظر المصباح المنير 2/624 .
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 1/542 .
(3) ليست في " ج " .
(4) وهذا مذهب جمهور الفقهاء الحنفية والمالكية والشافعية فلا يجوز عندهم الاستمتاع بالحائض فيما دون السرة وفوق الركبة ، انظر شرح فتح القدير 1/147 ، الاختيار 1/28 ، الذخيرة 1/376 ، مغني المحتاج 1/280 ، المجموع 2/362-363 ، جامع الأمهات ص 75 .
* نهاية 8/ب من " ب " .
(5) وهذا قول الحنابلة ونقل عن جماعة من السلف كعكرمة وعطاء والشعبي والثوري وإسحاق ، فيجوز عندهم الاستمتاع بالحائض فيما دون الفرج ، المغني 1/242 ، الإنصاف 1/350 ، التوضيح في الجمع بين المقنع والتنقيح 1/264 ، الفروع 1/262 .
(6) ليست في " ب " .
(7) انظر ص 161 من هذا الكتاب .
[ تعارض العام مع الخاص ]
وإن كان أحدهما عاماً والآخر خاصاً فيخص(1) العام بالخاص(2) ، كتخصيص حديث الصحيحين ( فيما سقت السماء العشر ) بحديثهما ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ) كما تقدم (3) .
وإن كان كل واحد منهما (4) عاماً من وجه(5) وخاصاً من وجه ، فيخص عموم كل واحد منهما بخصوص الآخر (6) بأن (7) يمكن ذلك ، …
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في " المطبوعة " فيخصص .
(2) وهذا قول جمهور الأصوليين ، وقال الحنفية بالتعارض بين العام والخاص ، وعندئذٍ إن جاء الخاص بعد العام من غير تراخٍ فالخاص يخصص العام ، وإن جاء الخاص متراخياً كان الخاص ناسخاً للعام في القدر الذي اختلفا فيه ، وإن لم يعلم التاريخ يعمل بالراجح منهما ، انظر تفصيل المسألة في البرهان 2/1190 ، المستصفى 2/102 ، التبصرة ص 151 ، المعتمد 1/296 ، الإحكام 2/318 ، شرح العضد 2/147 ، المحصول 1/3/161 ، أصول السرخسي 1/142 ، فواتح الرحموت 1/300 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/42 ، المسودة ص 134 ، تفسير النصوص 2/125-127 ، أدلة التشريع المتعارضة ص 77.
(3) انظر ص 136 من هذا الكتاب .
(4) ورد في " المطبوعة " وإن كان أحدهما .
(5) في " ب " جهة .
(6) انظر تفصيل ذلك في البحر المحيط 6/144 ، المحصول 2/2/548 ، الإبهاج 3/215 ، شرح الكوكب المنير 4/674 ، شرح تنقيح الفصول ص 421 ، التحقيقات ص 398 ، الأنجم الزاهرات ص 199 ، شرح العبادي ص 160 .
(7) في " هـ " إن .(/50)
مثاله حديث أبي داود (1) وغيره (2) ( إذا بلغ الماء قلتين (3) * فإنه لا ينجس ) مع حديث ابن ماجة (4) وغيره (5) …
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 1/73 ، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/15 .
(2) ورواه الترمذي ، سنن الترمذي 1/97 ، ورواه النسائي في سننه 1/175 ، ورواه ابن ماجة في سننه 1/172 ، ورواه البيهقي في سننه 1/260 .
(3) القلة الجرة الكبيرة ، والقلة من قلال هجر والإحساء تسع ملء مزادة ، والمزادة شطر الراوية ، المصباح المنير 2/514 ، تعليق الشيخ أحمد شاكر على سنن الترمذي 1/98 .
* نهاية 7/أ من " ج " .
(4) ابن ماجة هو محمد بن يزيد أبو عبد الله بن ماجة القزويني ، الحافظ الكبير ، الحجة المفسّر ، صاحب السنن والتاريخ والتفسير ، توفي سنة 273 هـ ، انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء 13/277 ، البداية والنهاية 11/56 ، شذرات الذهب 2/164 .
(5) سنن ابن ماجة 1/174 ، وقال البوصيري في الزوائد : إسناده ضعيف . ورواه البيهقي في سننه 1/259 ، ورواه الدارقطني في سننه 1/28 ، ورواه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/16 .
واعلم أن الاستثناء المذكور في الحديث ( إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه ) لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بطريق صحيح ، بل هو ضعيف قال الحافظ ابن حجر ( … وفيه رشدين بن سعد وهو متروك ، وقال ابن يونس كان رجلاً صالحاً لا شك في فضله أدركته غفلة الصالحين فخلط في الحديث … قال الدارقطني : ولا يثبت هذا الحديث . وقال الشافعي : ما قلت من أنه إذا تغير طعم الماء وريحه ولونه كان نجساً يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجه لا يثبت أهل الحديث مثله وهو قول العامة لا نعلم بينهم خلافاً . وقال النووي : اتفق المحدثون على تضعيفه ) التلخيص الحبير 1/15 . وقال ابن الملقن ( وفي إسناده رشدين بن سعد وقد ضعفوه ) تحفة المحتاج 1/144 .
وضعفه الزيلعي في نصب الراية 1/94 ، وضعفه ابن الجوزي في التحقيق 1/40-41 ، وضعفه البيهقي في معرفة السنن والآثار 2/82 وضعفه في السنن أيضاً 1/259 ، وانظر التعليق المغني على سنن الدارقطني 1/28 . (
( الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه ) (1) . فالأول خاص بالقلتين عام في المتغير (2) وغيره . والثاني خاص في المتغير (3) عام في القلتين وما دونهما فخص (4) عموم الأول بخصوص الثاني حتى يحكم بأن ماء (5) القلتين ينجس بالتغير وخص (6) عموم الثاني بخصوص الأول حتى يحكم بأن ما دون القلتين ينجس وإن لم يتغير (7) .
فإن لم يمكن تخصيص عموم كل منهما بخصوص الآخر احتيج (8) إلى الترجيح بينهما فيما تعارضا فيه (9) مثاله حديث البخاري (10) * ( من بدل دينه فاقتلوه )
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(
وأما الحديث بدون الاستثناء فهو حديث صحيح ، فقد رواه أبو داود والترمذي والنسائي ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن وصححه الشيخ الألباني ، انظر سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 1/89 سنن الترمذي 1/96 ، سنن النسائي 1/174 ، صحيح سنن أبي داود 1/15 .
(1) ورد في " ج " ( إلا ما غلب على ريحه وطعمه أو طعمه أو لونه ) .
(2) في " ب " بالمتغير .
(3) في " ب " بالمتغير .
(4) في " ج " فيخص .
(5) ليست في " أ ، ب ، ج " .
(6) في " ب " وخصص .
(7) انظر الأنجم الزاهرات ص 199-200 ، التحقيقات ص 399 ، شرح العبادي ص 161-162 ، حاشية الدمياطي ص 17 .
(8) في " ب " احتج وهو خطأ .
(9) ليست في " ج " .
(10) صحيح البخاري مع الفتح 6/492 .
* نهاية 11/أ من " أ " .
وحديث الصحيحين (1) ( أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن قتل النساء ) فالأول عام في الرجال والنساء (2) خاص (3) بأهل الردة .
والثاني خاص بالنساء (4) عام في الحربيات والمرتدات فتعارضا في المرتدة (5) هل تقتل أم لا ؟ (6) [ والراجح أنها تقتل ] (7) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) صحيح البخاري مع الفتح 6/489 ، صحيح مسلم بشرح النووي 4/407 .
(2) وقد خالف في ذلك بعض الحنفية كما قال إمام الحرمين في البرهان 1/360 ( وذهب شرذمة من أصحاب أبي حنيفة إلى أنه لا يتناول الإناث ) ثم ضعّف قولهم ، وانظر شرح العضد 2/125 ، الإحكام 2/269 ، المحصول 1/2/622 ، شرح المحلي 1/428 ، المسودة ص 105 ، شرح الكوكب المنير 3/241 ، تبيين الحقائق 3/285 ، تخريج الفروع على الأصول ص 336 ، منهج التوفيق ص 102 فما بعدها .
(3) في " ج " خاصاً وهو خطأ .(/51)
(4) في " هـ " في النساء .
(5) في " ب " الردة وهو خطأ .
(6) ذهب جمهور الفقهاء من الصحابة والتابعين والمالكية والشافعية والحنابلة إلى أن المرتدة تقتل ، وهو الذي رجحه الشارح . وقال الحنفية لا تقتل المرتدة ، انظر تفصيل المسألة في المغني 9/3 ، الذخيرة 12/40 ، مغني المحتاج 5/436 ، بدائع الصنائع 4/245 .
(7) ما بين المعكوفين ليس في " أ ، ب ، ج " .
[ تعريف الإجماع وبيان حجيته ]
وأما الإجماع(1) فهو اتفاق علماء أهل (2) العصر على حكم الحادثة(3) فلا يعتبر وفاق العوام لهم (4) .
ونعني بالعلماء الفقهاء(5)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الإجماع لغةً يرد بمعنيين العزم والاتفاق ، انظر تاج العروس 11/75 ، لسان العرب 2/358 .
(2) ليست في " المطبوعة " .
(3) عرّف إمام الحرمين الإجماع اصطلاحاً في التلخيص 3/6 بقوله ( اتفاق الأمة أو اتفاق علمائها على حكم من أحكام الشريعة ) ، وانظر تعريف الإجماع اصطلاحاً في اللمع ص 245 ، المستصفى 1/173 ، الإحكام 1/195 ، المعتمد 2/3 ، المحصول 2/1/20 ، شرح العضد 2/29 ، شرح تنقيح الفصول ص 322 ، كشف الأسرار 3/226 ، التوضيح 2/41 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/176 ، شرح ابن ملك ص 737 ، بيان معاني البديع 1/2/977 ، فواتح الرحموت 2/211 ، العدة 4/ 1057، مرآة الأصول ص 226 .
(4) هذا مذهب جمهور العلماء ، وقال بعض المتكلمين يعتبر وفاقهم ، نقله الشيرازي في اللمع ص 258 ، ونقل عن القاضي الباقلاني واختاره الآمدي في الإحكام 1/226 ، وانظر البرهان 1/684 ، التلخيص 3/38 ، المستصفى 1/181-182 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/177 ، شرح العضد 2/33 ، إرشاد الفحول ص 87 ، بيان معاني البديع 1/2/1014 ، تيسير التحرير 3/224 ، كشف الأسرار 3/237 .
وفي المسألة قول ثالث وهو اعتبار قول العامة في المسائل المشهورة دون غيرها ، انظر شرح الكوكب المنير 2/225 ، شرح تنقيح الفصول ص 341 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/177 ، الإحكام 1/226 ، التقرير والتحبير 3/80 .
(5) والمراد بهم الفقهاء المجتهدون المستنبطون للأحكام الشرعية بالأدلة ، وهذا قول جمهور العلماء أن العبرة بالمجتهدين فقط دون غيرهم ، انظر التلخيص 3/42 ، (
فلا يعتبر موافقة الأصوليين لهم (1) .
ونعني بالحادثة الحادثة الشرعية(2) ، لأنها محل نظر الفقهاء بخلاف اللغوية مثلاً ، فإنما (3) يجمع فيها علماء اللغة .
وإجماع هذه الأمة حجة (4) …
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(
اللمع ص 257 ، الإحكام 1/228 ، المسودة ص 331 ، أصول السرخسي 1/313 ، شرح الكوكب المنير 2/224 .
(1) جمهور العلماء على أن الأصولي غير معتبر في أهل الإجماع خلافاً للقاضي الباقلاني والغزالي والفخر الرازي ، انظر تفصيل ذلك في البرهان 1/685 ، التلخيص 3/41-45 ، المستصفى 1/183 ، المحصول 2/1/282 ، الإحكام 1/228 ، التقرير والتحبير 3/81 ، بيان معاني البديع 1/2/1016 .
وهنالك خلاف بين العلماء فيمن يعتد بقوله في الإجماع غير ما ذكر هنا ، انظر تفصيل ذلك في المصادر السابقة .
(2) أي الأمر الشرعي المنسوب للشرع لأخذ حكم الحادثة من الشرع ولو بطريق القياس ، قاله العبادي في شرحه ص 166 .
(3) في " ج " فإنها .
(4) أي قطعية وهذا مذهب جمهور العلماء واختاره إمام الحرمين في التلخيص 3/52 ، قال
ابن النجار ( وهذا مذهب الأئمة الأعلام منهم الأربعة وأتباعهم وغيرهم من المتكلمين ، وقال الآمدي والرازي : هو حجة ظنية لا قطعية ، وقيل ظنية في السكوت ونحوه دون القطعي ) شرح الكوكب المنير 2/214-215 .
وانظر تفصيل ذلك في البحر المحيط 4/442 ، البرهان 1/717 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/195 ، المستصفى 1/204 ، فواتح الرحموت 2/213 ، تيسير التحرير 3/227 ، الإحكام 1/200 ، إرشاد الفحول ص 79 ، شرح العضد 2/30 ، أصول السرخسي 1/295 ، كشف الأسرار 3/227 ، شرح تنقيح الفصول ص 322 ، المحصول 2/1/46 ، الإبهاج 2/352 ، بيان معاني البديع 1/2/988 .
دون غيرها (1) لقوله - صلى الله عليه وسلم - ( لا تجتمع أمتي على ضلالة ) رواه الترمذي وغيره (2) .
والشرع ورد بعصمة * هذه الأمة لهذا الحديث ونحوه (3)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أي من الأمم الأخرى كاليهود والنصارى فإجماعهم ليس بحجة ، انظر شرح العبادي ص 168 ، الأنجم الزاهرات ص 202 .(/52)
(2) رواه الترمذي وقال ( هذا حديث غريب من هذا الوجه ) سنن الترمذي 4/405 ، ورواه أبو داود ، سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 11/219 ، ورواه ابن ماجة في السنن 2/1303 ، وقال في الزوائد ( في إسناده أبو خلف الأعمى واسمه حازم بن عطاء وهو ضعيف وقد جاء الحديث بطرق في كلها نظر ، قاله شيخنا العراقي في تخريج أحاديث البيضاوي ) .
وقال الحافظ ابن حجر بعد أن ذكر الحديث ( هذا في حديث مشهور له طرق كثيرة لا يخلو واحد منها من مقال ) التلخيص الحبير 3/141 .
وحسّنه الشيخ الألباني في ظلال الجنة في تخريج السنة 1/41 ، وفي السلسلة الصحيحة 3/320 ، وانظر موافقة الخبر الخبر في تخريج أحاديث المختصر للحافظ ابن حجر 1/105-107 ، تحفة الطالب بمعرفة أحاديث مختصر ابن الحاجب ص 146 فما بعدها ، تخريج أحاديث اللمع ص 246-247 .
* نهاية 9/أ من " ب " .
(3) ذكر الإمام الرازي ثمانية عشر حديثاً استدل بها على حجية الإجماع في المحصول 2/1/109-114 ، ووجه الاستدلال بهذه الأحاديث على حجية الإجماع ما يلي :
أولاً : إن هذه الأحاديث بمجموعها تفيد التواتر المعنوي لأن كل عاقل يجد من نفسه العلم الضروري بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قصد تعظيم هذه الأمة المحمدية وعصمتها عن الخطأ ، كما علمنا بالضرورة شجاعة علي وجود حاتم .
ثانياً : شهرة هذه الأحاديث عند السلف وأخذهم بها وعدم ردها ، وتحيل العادة اتفاق هذا الجمّ الغفير مع تكرر الأزمان واختلاف مذاهبهم على الاحتجاج بما لا أصل له في إثبات أصل من أصول الشريعة وهو الإجماع المحكوم به على الكتاب والسنة من غير أن ينبه أحد (
والإجماع حجة على العصر الثاني ومن بعده وفي أي عصر كان (1) من عصر (2) الصحابة ومن بعدهم (3) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(
على فساده وإبطاله وإظهار النكير فيه . بيان معاني البديع 1/2/991 ، وانظر الإحكام 1/220-221 ، كشف الأسرار 3/258-259 ، شرح العضد 2/32 ، فواتح الرحموت 2/215 ، التقرير والتحبير 3/85 ، التبصرة ص 354-355 ، المستصفى 1/175 ، شرح الكوكب المنير 2/218-223 .
(1) وهذا مذهب جمهور العلماء وهو أن الإجماع المحتج به غير مختص بإجماع الصحابة ، بل إجماع أهل كل عصر حجة ، قاله الآمدي في الإحكام 2/230 ، وانظر البرهان 1/720 ، التلخيص 3/53 ، المعتمد 2/483 ، المستصفى 1/185 ، المحصول 2/1/283 ، إرشاد الفحول ص 81 ، أصول السرخسي 1/313 ، شرح العضد 2/34 ، العدة 4/1090، نزهة الخاطر 1/372 .
(2) في " هـ " غير .
(3) ذهب أكثر الظاهرية إلى أن الإجماع المحتج به هو إجماع الصحابة فقط ، وهذا قول داود الظاهري وخالفه ابن حزم ، انظر الإحكام لابن حزم 1/659 ، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد ، انظر المسودة ص 317 ، أصول مذهب أحمد ص 331 ، التلخيص 3/53 ، الإحكام 2/230 ، بيان معاني البديع 1/2/1021 ، العدة 4/1092 ،نزهة الخاطر 1/372 .
[ هل يشترط انقراض العصر في حجية الإجماع ؟ ]
ولا يشترط في حجيته (1) انقراض العصر ، بأن يموت أهله على الصحيح(2) ، لسكوت (3) أدلة الحجية عنه .
وقيل يشترط (4) ، لجواز أن يطرأ لبعضهم ما يخالف اجتهاده فيرجع عنه (5) .
وأجيب بأنه لا يجوز له الرجوع عنه (6) ، لإجماعهم (7) عليه (8) .
فإن قلنا (9) انقراض العصر شرط، فيعتبر (10) في انعقاد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في " ب " حجته .
(2) وهذا مذهب جمهور العلماء وبه قال الحنفية والمالكية والشافعية والمعتزلة وهو رواية عن أحمد ، انظر تفصيل ذلك في البرهان 1/692 ، التلخيص 3/68 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/182 ، التبصرة ص 375 ،المعتمد 2/502 ، المحصول 2/1/206 ، الإحكام 1/256 ، التقرير والتحبير 3/86 ، كشف الأسرار 3/243 ، أصول السرخسي 1/315 ، بيان معاني البديع 1/2/1061 ، شرح العضد 2/38 ، التوضيح 2/46 .
(3) ورد في " هـ " أهل .
(4) وهو القول الآخر للإمام أحمد وبه قال أكثر أصحابه ، واختاره ابن فورك وسليم الرازي ، انظر شرح الكوكب المنير 2/246 ، المسودة ص 320 ، التمهيد لأبي الخطاب 2/1/300 ، وفي المسألة أقوال أخرى انظرها في المصادر السابقة .
(5) انظر شرح الكوكب المنير 2/246 ، شرح العبادي ص 171-172 .
(6) ليست في " هـ " .
(7) في " هـ " بإجماعهم .
(8) انظر شرح المحلي على جمع الجوامع 2/183 .
(9) ورد في " هـ " قلنا إن .
(10) في " أ ، ب ، هـ " يعتبرْ . وهي بالجزم وهو جواب الشرط : فإن قلنا وفي إعرابها أوجه
أخرى ، انظر شرح العبادي ص 172-173 .(/53)
الإجماع ، قول من ولد في حياتهم وتفقه وصار من أهل الاجتهاد (1) ، ولهم (2) على هذا القول أن يرجعوا عن ذلك الحكم(3) ، الذي * أدى اجتهادهم إليه .
[ الإجماع السكوتي ]
والإجماع يصح بقولهم وبفعلهم(4) كأن يقولوا بجواز شيء أو يفعلوه فيدل فعلهم له (5) على جوازه لعصمتهم كما تقدم .
وبقول البعض [ وفعل البعض ] (6) وانتشار ** ذلك القول أو الفعل وسكوت(7) الباقين عنه (8) ويسمى ذلك بالإجماع السكوتي (9) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر البرهان 1/722 ، المستصفى 1/186 ، الإحكام 1/235 ، أصول السرخسي 1/314 ، كشف الأسرار 3/245 ، شرح تنقيح الفصول ص 336 .
(2) في " المطبوعة " فلهم .
(3) ليست في " و " .
* نهاية 11/ب من " أ " .
(4) في "ب " وفعلهم .
(5) في " ب " لهم وهو خطأ .
(6) ما بين المعكوفين ليس في " أ " .
** نهاية 7/ب من " ج " .
(7) في " ب " والسكوت . (
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(
(8) في " هـ " عليه .
(9) الإجماع السكوتي هو : أن يفتي مجتهد بحكم ويسكت أهل عصره بعد علمهم بما أفتى به ولم ينكروا عليه ، بيان معاني البديع 1/2/1054 .
وما قرره إمام الحرمين هنا في الورقات وهو أن الإجماع السكوتي حجة ، وهو قول جمهور العلماء وبه قال أحمد وأكثر الحنفية ، وبعض الشافعية كأبي إسحاق الإسفرايني وأبي إسحاق الشيرازي ، ولكن إمام الحرمين اختار في البرهان 1/701 أن الإجماع السكوتي ليس بحجة اتباعاً للإمام الشافعي وهو قول القاضي الباقلاني واختاره الغزالي والفخر الرازي والبيضاوي وأبو عبدالله البصري المعتزلي ، وفي المسألة أقوال أخرى ، انظر الأقوال والأدلة في التبصرة ص 392 ، المستصفى 1/191 ، المحصول 2/1/215 ، أصول السرخسي 1/303 ، فواتح الرحموت 2/232 ، التقرير والتحبير 3/101 ، الإحكام 1/254، شرح العضد 2/37 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/189 ، إرشاد الفحول ص 84 ـ85 ، التوضيح 2/41 ، البحر المحيط 4/494، المسودة ص335 ، شرح الكوكب المنير 2/253 ، نثر الورود 2/438-439، العدة 4/1170 ،معراج المنهاج 2/100 ،المعتمد 2/533 كشف الأسرار 3/228 .
[ حجية قول الصحابي ]
وقول الواحد من الصحابة (1) ليس بحجة (2) على غيره على القول الجديد (3) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) قول الصحابي هو ما نقل وثبت عن أحد أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فتوى أو قضاء في حادثة شرعية لم يرد فيها نص من كتاب أو سنة ولم يحصل عليها إجماع ، أثر الأدلة المختلف ص 339 .
(2) في " هـ " حجة .
(3) هذا ما قرره إمام الحرمين هنا وفي البرهان 2/1362 ، وفي التلخيص 3/451 ، حيث نسب القول بعدم حجية قول الصحابي للشافعي في قوله الجديد .
وقد وقع اضطراب في تحقيق قول الشافعي في الجديد في هذه المسألة ونقل عنه إمام الحرمين في التلخيص 3/451-452 عدة أقوال ، وقد نفى العلامة ابن القيم أن الشافعي في الجديد يقول بعدم حجية قول الصحابي، إعلام الموقعين 4/120-122 ، وقد حقق القول في المسألة الدكتور مصطفى البغا في أثر الأدلة المختلف فيها ص 347-351 .
وذهب إلى عدم حجية قول الصحابي كثير من العلماء كأبي إسحاق الشيرازي والغزالي والفخر الرازي والآمدي وابن الحاجب والشوكاني ، وبعض الحنفية كالكرخي والدبوسي ، وهو رواية عن أحمد ، وإليه ميل إمام الحرمين في التلخيص 3/453 ، وأما في البرهان 2/1361 ، فمال إلى أن قول الصحابي حجة إذا خالف القياس .
وانظر في هذه المسألة المستصفى 1/260 ، التبصرة ص 395 ، المحصول 2/3/174 ، الإحكام 4/149 ، الرسالة ص 596 ، الإبهاج 3/192 ، المعتمد 2/942 ، شرح العضد 2/287 ، كشف الأسرار 3/217 ، أصول السرخسي 2/109 ، تيسير التحرير 3/132 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/354 ، إرشاد الفحول ص 243 ، شرح تنقيح الفصول ص 445 ، تخريج الفروع على الأصول ص 179 .
[ وفي القديم حجة ] (1) (2) لحديث ( أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ) ، وأجيب بضعفه (3) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ما بين المعكوفين ليس في " المطبوعة " .(/54)
(2) وهو ما نسبه أكثر الشافعية إلى الشافعي ، قال إمام الحرمين في التلخيص 3/451 ( فذهب الشافعي في القديم إلى أنه حجة ) ، وكذا نسبه إليه في البرهان 2/1362 ، وأبو إسحاق الشيرازي في التبصرة ص 395 ، والزركشي في البحر المحيط 6/54 . وهذا قول أبي حنيفة وعليه أكثر الحنفية كالجصاص والبزدوي والسرخسي ، وهو قول مالك وأصحابه ، وقول الإمام أحمد المعتمد من مذهبه . انظر أصول السرخسي 2/105 ، كشف الأسرار 3/217،219 ، فواتح الرحموت 2/186 ، تيسير التحرير 3/132 ، أصول مذهب أحمد ص 394 ، شرح تنقيح الفصول ص 445، شرح الكوكب المنير 4/422 ، المدخل إلى مذهب أحمد ص 135 .
وفي مسألة حجية قول الصحابي أقوال أخرى انظرها في المصادر السابقة .
(3) رواه ابن عبد البر في جامع بيان فضل العلم 2/90 ، وقال ( وهذا الكلام لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ) ، وقال الحافظ ابن حجر ( رواه عبد بن حميد في مسنده وفيه راوٍ ضعيف جداً ، ورواه الدارقطني في غرائب مالك ، وفيه من لا يعرف ، ورواه البزار وفيه كذَّاب ، ورواه القضاعي في مسند الشهاب له ، وفي إسناده كذَّاب ) ، ثم نقل الحافظ عن أبي بكر البزار قوله : هذا الكلام لم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . ونقل قول ابن حزم : هذا خبر مكذوب موضوع . التلخيص الحبير 4/190-191 .
وقال الحافظ ابن كثير بعد أن ذكر الحديث ( هذا الحديث لم يروه أحد من أهل الكتب الستة وهو ضعيف ) تحفة الطالب ص 166 .
وحكم الشيخ الألباني على الحديث بأنه موضوع ، السلسلة الضعيفة 1/78 .
وانظر موافقة الخبر الخبر 1/145 ، تخريج أحاديث اللمع ص 270 ، إتحاف السادة المتقين 2/223 ، كشف الخفاء 1/132 .
[ الأخبار ]
[ تعريف الخبر وأقسامه ]
وأما الأخبار
فالخبر (1) ما يدخله (2) الصدق والكذب (3) ، لاحتماله لهما من حيث إنه خبر كقولك قام زيد يحتمل أن يكون صدقاً (4) وأن يكون كذباً (5) وقد يقطع بصدقه أو كذبه لأمر خارجي (6) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الخبر في اللغة ما أتاك من نبأ عمن تستخبر ، أو هو اسم ما ينقل ويتحدث به ، لسان العرب 4/12 ، تاج العروس 6/325 ، المصباح المنير 1/162 .
(2) في " ب " يدل ، وفي " و " يحتمل .
(3) وهذا ما عرّفه به إمام الحرمين في البرهان 1/564 ، ولكنه في التلخيص انتقد هذا التعريف وقال ( إنه مدخول فإنه يقتضي بظاهره اجتماع الوصفين في كل خبر وهذا محال … والأحسن أن نقول : الخبر ما يتصف بكونه صدقاً أو كذباً ) التلخيص 2/276،277 .
والتعريف المذكور هنا في الورقات نسبه الآمدي للمعتزلة كالجبائي وابنه وأبي عبد الله البصري والقاضي عبد الجبار وغيرهم ، الإحكام 2/96 ثم ذكر الآمدي الاعتراضات على التعريف والإجابة عليها .
وانظر تعريف الخبر اصطلاحاً في المعتمد 2/542 ، المستصفى 1/132 ، المحصول 2/1/307 ، فواتح الرحموت 2/100 ، تيسير التحرير 3/22 ، شرح العضد 2/45 ، البحر المحيط 4/216 ، كشف الأسرار 2/360 ، التقرير والتحبير 2/225 ، التمهيد لأبي الخطاب 1/2/1 ، شرح الكوكب المنير 2/289 ، بيان معاني البديع 1/2/1105 .
(4) في " ب " صادقاً .
(5) في " ب " كاذباً .
(6) ورد في " هـ ، ط " لا لذاته .
الأول كخبر الله تعالى .
والثاني كقولك الضدان يجتمعان .
والخبر ينقسم إلى(1) قسمين (2) آحاد ومتواتر (3) .
[ تعريف المتواتر ]
فالمتواتر (4) ما يوجب العلم وهو أن يروي(5) جماعة (6) لا يقع(7) التواطؤ (8) على الكذب عن(9) مثلهم وهكذا إلى أن ينتهي إلى المخبر عنه (10) فيكون في الأصل عن مشاهدة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ليست في " أ ، ب " .
(2) ليست في " ب ، هـ ، ط " ، وورد في " أ ، ب ، هـ " إلى .
(3) وهذا التقسيم جارٍ على طريقة الجمهور فأما عند الحنفية فالقسمة ثلاثية : آحاد ، مشهور ، متواتر . انظر المغني في أصول الفقه ص 191-194 ، أصول السرخسي 1/291 ، كشف الأسرار 2/368 ، تيسير التحرير 3/37 ، فواتح الرحموت 2/111 .
(4) ليست في " ج " ، والتواتر في اللغة هو التتابع ، المصباح المنير 2/647 .
(5) في " هـ ، ط " يرويه .
(6) ورد في " ب " جماعة عن جماعة .
(7) في " ب " يقطع .
(8) ورد في " أ " منهم .
(9) في " و ، المطبوعة " من .
(10) انظر تعريف المتواتر اصطلاحاً في الإحكام 2/14 ، المحصول 2/1/323 ، أصول السرخسي 1/282 ، كشف الأسرار 2/360 ، شرح العضد 2/51 ، (
أو سماع (1) لا عن اجتهاد * كالإخبار عن مشاهدة (2) مكة أو سماع خبر الله تعالى من (3) النبي - صلى الله عليه وسلم - بخلاف الإخبار عن مجتهد فيه كإخبار الفلاسفة بقدم العالم (4) .(/55)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(
الإبهاج 2/285 ، البحر المحيط 4/231 ، شرح تنقيح الفصول ص 349 ، المعتمد 2/652 ، المسودة ص 223 ، تدريب الراوي 2/176 ، بيان معاني البديع 1/2/1121 ، إرشاد الفحول ص 46 ، التقرير والتحبير 2/230 ، شرح الكوكب المنير 2/324 .
(1) أي أن شرط التواتر أن يكون مستنداً إلى الحس ، التحقيقات ص 465 .
وانظر تفصيل الكلام على شروط التواتر في المصادر المذكورة في هامش رقم (10) من الصفحة السابقة .
* نهاية 9/ب من " ب " .
(2) في " ب " شهادة وهو خطأ .
(3) في " ب " عن .
(4) لأن هذا الخبر مستند إلى الدليل العقلي وليس إلى الحس ، انظر التحقيقات ص 466 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/123 ، شرح الكوكب المنير 2/324 .
[ خبر الآحاد وأقسامه ]
والآحاد (1) وهو مقابل (2) المتواتر هو (3) الذي * يوجب العمل(4) ولا يوجب العلم (5) لاحتمال الخطأ فيه .
وينقسم إلى قسمين(6) مرسل ومسند .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الآحاد في اللغة مأخوذ من وحد ، قال صاحب المصباح المنير ( وأما الآحاد فيحتمل أن يكون جمع الواحد مثل شاهد وأشهاد ) 2/650 .
(2) في " ج " المقابل .
(3) في " هـ " وهو .
* نهاية 12/أ من " أ " .
(4) في " ج " العلم وهو خطأ .
(5) وهذا مذهب جمهور العلماء أن خبر الواحد لا يفيد العلم .
وقال الإمامان الشافعي وأحمد في رواية ، إنه يفيد العلم ، وهو قول داود وابن حزم الظاهربين ، ونقل عن جماعة من المحدثين وغيرهم ، انظر شرح الكوكب المنير 2/352 ، المسودة ص 245 ، قواعد التحديث ص 152 ، الإحكام لابن حزم 1/132 .
وانظر تعريف خبر الآحاد اصطلاحاً في المستصفى 1/145 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/129 ، شرح العضد 2/58 ، تيسير التحرير 3/81 ، البحر المحيط 4/255 ، الإبهاج 2/299 ، الإحكام 2/31 ، كشف الأسرار 2/370 .
(6) ليست في " أ " .
[ المسند ]
فالمسند ما (1) اتصل إسناده (2) بأن صرح برواته كلهم .
[ المرسل وحجيته ]
والمرسل ما لم يتصل إسناده (3) بأن أسقط بعض رواته (4) .
فإن كان من مراسيل غير الصحابة رضي الله عنهم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ليست في " ج " .
(2) أي مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يدخل الموقوف ولا المقطوع ولو اتصل إسنادهما ولا المنقطع ولو كان مرفوعاً. وهذا التعريف هو المعتمد المشهور في تعريف المسند ، وعرف ابن عبد البر المسند بقوله ( ما رفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة موصولاً كان أو غير موصول ). وقال الخطيب البغدادي ( هو ما اتصل إلى منتهاه ) ، منهج النقد في علوم الحديث ص 349 -350 ، فتح المالك في ترتيب التمهيد 1/42 ، الباعث الحثيث ص 44-45 .
(3) وهذا اصطلاح الأصوليين في تعريف المرسل ، سواء كان المرسل تابعياً أو غير تابعي ، ووافق الخطيب البغدادي وابن الأثير الأصوليين في تعريفهم للمرسل .
وأما المرسل عند المحدثين فهو أن يقول التابعي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . انظر تعريف المرسل عند المحدثين والأصوليين في تدريب الراوي 1/195-196 ، منهج النقد في علوم الحديث ص 370 ، الباعث الحثيث ص 47-48 ، فتح المالك في ترتيب التمهيد 1/42 ، قواعد التحديث ص 137 ، الإحكام 2/123 ، التلخيص 3/415 ، البرهان 1/632 ، المستصفى 1/169 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/168 ، شرح العضد 2/74 ، شرح الكوكب المنير 2/574 ، كشف الأسرار 2/3 ، البحر المحيط 4/403 ، إرشاد الفحول ص 64 ، مقدمة المجموع 1/60 ، تيسير التحرير 3/102 ، فواتح الرحموت 2/174 .
(4) سواء كان الراوي المسقط صحابياً أو غير صحابي .
فليس(1) بحجة (2) لاحتمال أن يكون الساقط مجروحاً (3) ، إلا مراسيل سعيد بن المسيب (4) من التابعين أسقط الصحابي وعزاها للنبي - صلى الله عليه وسلم - فهي حجة (5) (6) ، فإنها فتشت أي فتش عنها فوجدت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ورد في " المطبوعة " فليس ذلك .
(2) وهذا قول جماهير المحدثين وبه قال الشافعي وكثير من الفقهاء وأصحاب الأصول كما قال الإمام النووي في التقريب ، انظر تدريب الراوي مع التقريب 1/198 ، مقدمة المجموع 1/60.(/56)
وقال أبو حنيفة ومالك وأحمد في رواية ، المرسل حجة ، ونقله إمام الحرمين في التلخيص 2/416 عن جمهور الفقهاء ومالك وأهل المدينة وأبي حنيفة وأهل العراق .
والمشهور عن الشافعي أنه يقبل المرسل بشروط . انظر تفصيل ذلك في البرهان 1/634 ، شرح تنقيح الفصول ص 379 ، الإحكام 2/123 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/169 ، كشف الأسرار 3/2 ، أصول السرخسي 1/360 ، فواتح الرحموت 2/174 ، قواعد التحديث ص 137 فما بعدها ، منهج النقد في علوم الحديث ص 371 ، الباعث الحثيث ص 48-49 ، شرح العضد 2/74 .
(3) الجرح هو أن ينسب إلى قائل ما يرد قوله لأجله . انظر شرح الكوكب المنير 2/440 ، التعريفات ص41.
(4) هو سعيد بن المسيب بن حزن القرشي المخزومي الإمام العَلم ، عالم أهل المدينة من كبار التابعين وسيدهم في زمانه ، ولد في خلافة عمر - رضي الله عنه - ، أحد الفقهاء السبعة ، توفي سنة 94 هـ ، انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء 4/217 ، تهذيب الأسماء واللغات 1/1/219 ، البداية والنهاية 9/105 .
(5) ورد في " ب " ( وإن كان من مراسيل غير الصحابة رضي الله عنهم فليس بحجة ) .
(6) وهذا ما ذهب إليه الإمام الشافعي في القديم فقد قال ( … وإرسال ابن المسيب عندنا حسن ) مختصر المزني ص 78 . وقد اختلف العلماء في معنى عبارة الشافعي السابقة ، فقال الماوردي ( فإن قيل فحديث سعيد بن المسيب مرسل والمراسيل عند الشافعي (
مسانيد أي رواها له الصحابي الذي أسقطه عن النبي- صلى الله عليه وسلم - ، وهو في الغالب صهره أبو زوجته أبو هريرة (1) - رضي الله عنه - .
أما مراسيل الصحابة بأن يروي صحابي عن صحابي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يسقط الثاني ، فحجة (2) لأن الصحابة كلهم عدول .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(
ليست حجة ، قيل أما مراسيل غير سعيد بن المسيب فليست عند الشافعي بانفرادها حجة ، وأما مراسيل سعيد فقد حكي عن الشافعي أنه أخذ بها في القديم وجعلها على انفرادها حجة وإنما خص سعيد بقبول مراسيله لأمور منها : أن سعيداً لم يرسل حديثاً قط إلا وجد من طريق غيره مسنداً ، ومنها أنه كان قليل الرواية لا يروي أخبار الآحاد ولا يحدث إلا بما سمعه عن جماعة أو عضده قول الصحابة رضي الله عنهم ، أو رآه منتشراً عند الكافة ، أو وافقه فعل أهل العصر ، ومنها أن رجال سعيد بن المسيب الذين أخذ منهم وروى عنهم هم أكابر الصحابة وليس كغيره الذي يأخذ عمن وجد ، ومنها أن مراسيل سعيد سبرت فكانت مأخوذةً عن أبي هريرة وكان يرسلها لما قد عرفه الناس من الأُنس بينهما والوصلة ، وإن سعيداً كان صهر أبي هريرة على ابنته فصار إرساله كإسناده عن أبي هريرة ، ومذهب الشافعي في الجديد أن مرسل سعيد وغيره ليس بحجة ) الحاوي الكبير 5/158 ، وانظر اللمع ص 218-219 ، قواعد التحديث ص 144-145 ، التلخيص 2/428 ، تدريب الراوي 1/199-200 ، الباعث الحثيث ص 49 .
وخالف في ذلك كثير من العلماء ومنهم القاضي الباقلاني فلم يرَ فرقاً بين مراسيل سعيد ومراسيل غيره ، انظر البرهان 1/639-640 .
وقال الإمام النووي ( ولا فرق في هذا عنده بين مرسل سعيد بن المسيب وغيره ، هذا هو الصحيح الذي ذهب إليه المحققون ) مقدمة المجموع 1/61 .
(1) أبو هريرة اختلف في اسمه على أقوال أرجحها هو : عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن أكثر الصحابة روايةً عنه ، الإمام الفقيه المجتهد الحافظ ، سيد الحفّاظ الأثبات ، توفي سنة 57 هـ ، انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء 2/578 ، البداية والنهاية 8/107 ، الإصابة في تمييز الصحابة 7/199 . (
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(
(2) وهذا مذهب جماهير أهل العلم من المحدثين والأصوليين والفقهاء ، وخلاف ذلك شذوذ ، انظر تفصيل المسألة في البرهان 1/635 ، التلخيص 2/421 ، اللمع ص 218 ، الإحكام 2/124 ، المستصفى 1/170 ، المسودة ص 259 ، فواتح الرحموت 2/174 ، البحر المحيط 4/409 ، قواعد التحديث ص 148 ، مقدمة المجموع 1/62 ، التقريب مع شرحه تدريب الراوي 1/207 ، الباعث الحثيث ص 50 ، منهج النقد في علوم الحديث ص 373 .
[ الإسناد المعنعن ]
والعنعنة بأن يقال حدثنا فلان عن فلان إلى آخره (1) ، تدخل على الإسناد(2) ، أي على حكمه فيكون الحديث المروي بها في حكم المسند (3) ،
[ لا المرسل ] (4) لاتصال سنده في الظاهر .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(/57)
(1) أي بدون تصريح بالتحديث أو الإخبار أو السماع ، منهج النقد في علوم الحديث ص 351 ، وانظر تدريب الراوي 1/214 ، قواعد التحديث ص 127 .
(2) في " المطبوعة " الأسانيد .
(3) وهذا على مذهب الجماهير من أصحاب الحديث والفقه والأصول فهو متصل كما ذكره الإمام النووي في التقريب وقد شرطوا لذلك شرطين : الأول ألا يكون المعنعن مدلساً . الثاني إمكان لقاء بعضهم بعضاً مجالسةً ومشاهدة ، انظر التقريب مع شرحه تدريب الراوي 1/214 ، فتح المالك في ترتيب التمهيد 1/39 ، قواعد التحديث ص 127 ، منهج النقد في علوم الحديث ص 351 ، الرسالة ص 373 ، كشف الأسرار 3/71 ، تيسير التحرير 3/57 ، الباعث الحثيث ص 52 ، المسودة ص 260 ، شرح العبادي ص 192 ، حاشية الدمياطي ص 20 .
وهنالك قول آخر في المسألة أشار إليه الشارح بقوله ( لا المرسل ) ، فذهب جماعة إلى أن المعنعن ليس بمتصل بل هو منقطع مرسل ، وهذا قول ضعيف ووصفه أبو إسحاق الشيرازي بأنه خطأ ، اللمع ص 219 ، وانظر المصادر السابقة أيضاً .
(4) ما بين المعكوفين ليس في " هـ " .
[ ألفاظ الرواية عند غير الصحابي ]
وإذا قرأ الشيخ (1) وغيره يسمعه يجوز للراوي * أن يقول حدثني(2) وأخبرني (3) (4) .
وإن(5) قرأ هو على الشيخ (6) ، يقول أخبرني ولا يقول حدثني، لأنه لم يحدثه (7) . ومنهم من أجاز حدثني (8) ** .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هذه أرفع طرق تحمل الحديث وهي السماع من لفظ الشيخ عند جماهير المحدثين كما قال الإمام النووي ، التقريب مع شرحه تدريب الراوي 2/208 .
* نهاية 8/أ من " ج " .
(2) ورد في " ب " حدثني فلان .
(3) في " هـ ، المطبوعة " أو أخبرني ، وورد في " ب " أخبرني فلان .
(4) ويجوز للراوي أن يقول حدثنا وأخبرنا وأنبأنا بصيغة الجمع ، تدريب الراوي 2/209 .
(5) في " أ " وإذا .
(6) القراءة على الشيخ تسمى عَرْضَاً ، أي أن التلميذ يعرض ما يقرؤه على الشيخ ، وهذا عند أكثر المحدثين ، قاله الإمام النووي انظر التقريب مع شرحه تدريب الراوي 2/12 .
(7) هذا الذي ذهب إليه إمام الحرمين وأقره الشارح عليه هو قول الشافعي ومسلم والأوزاعي والنسائي والحاكم وغيرهم ، فأجازوا أخبرنا ومنعوا حدثنا ، انظر التلخيص 2/388 ، تدريب الراوي 2/16،20،21 ، الإحكام 2/100 ، كشف الأسرار 3/39 ، المسودة ص 283 ، فواتح الرحموت 2/165 ، قواعد التحديث ص 215-216 ، الباعث الحثيث ص 111 ، منهج النقد في علوم الحديث ص 224 .
(8) أجازه أبو حنيفة ومالك والبخاري ويحيى بن سعيد القطّان والزهري وسفيان بن عيينة ومعظم الحجازيين والكوفيين وهو رواية عن أحمد ، انظر المصادر المذكورة في الهامش السابق .
** نهاية 12/ب من " أ " .
وعليه عرف أهل الحديث (1) لأن القصد الإعلام بالرواية عن الشيخ .
وإن أجازه (2) الشيخ من غير قراءة (3) ، فيقول أجازني * أو أخبرني إجازة (4) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) قول الشارح ( وعليه عرف أهل الحديث ) أي جواز حدثني وأخبرني على خلاف المصطلح الشائع عند المحدثين في التفريق بين حدثني وأخبرني ، قال ابن الصلاح ( الفرق بينهما هو الشائع الغالب على أهل الحديث ) ونحوه قال الإمام النووي ، انظر التقريب مع شرحه تدريب الراوي 2/17 ، الباعث الحثيث ص 112 ، منهج النقد في علوم الحديث ص 224 .
(2) الإجازة مأخوذة من جواز الماء الذي تسقاه الماشية والحرث ، يقال استجزته فأجازني ، إذا أسقاك ماءاً لماشيتك وأرضك ، كذا طالب العلم يستجيز العالم علمه فيجيزه ، قاله الإمام النووي ، التقريب مع شرحه تدريب الراوي 2/42 ، وانظر قواعد التحديث ص 213 ، الباعث الحثيث ص 119 ، منهج النقد في علوم الحديث ص 215 .
وجمهور العلماء على جواز الرواية بالإجازة ومنعها بعضهم وفي المسألة أقوال أخرى ، انظر التلخيص 2/389 ، البرهان 1/645 ، المستصفى 1/165 ، الإحكام 3/100 ، تيسير التحرير 3/94 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/174 ، شرح الكوكب المنير 2/500 ، البحر المحيط 4/396 ، تدريب الراوي 2/29 .
(3) في " ب ، هـ " رواية .
* نهاية 10/أ من " ب " .
(4) ولا يقول حدثني وأخبرني مطلقاً ، وهذا مذهب جمهور المحدثين والأصوليين ، وفي المسألة أقوال أخرى ، انظر الإحكام 2/100 ، فواتح الرحموت 2/165 ، كشف الأسرار 3/44 ، تدريب الراوي 2/52 ، تيسير التحرير 3/95 ، شرح العضد 2/69 ، البحر المحيط 4/399 ، شرح الكوكب المنير 2/522 ، الباعث الحثيث ص 119 ، المسودة ص 288 .
[ القياس ]
[ تعريف القياس ](/58)
وأما القياس(1) فهو رد (2) الفرع إلى الأصل(3) بعلة(4) تجمعهما(5) في الحكم(6) ، كقياس الأرز على البر [ في الربا] (7) بجامع الطعم (8) .
[ أقسام القياس ]
وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
إلى قياس علة
وقياس دلالة
وقياس شبه (9)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) القياس لغةً التقدير ، تقول قست الشيء بالشيء قدرته على مثاله ، انظر لسان العرب 11/370 ، تاج العروس 8/434 ، الصحاح 3/968 .
(2) ورد في " ج " على وزيادتها خطأ .
(3) في " ج " لأصله .
(4) في " أ " لعلة .
(5) في " ب " تجمعها . (
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(
(6) عرّف إمام الحرمين القياس في البرهان 2/745 ، بتعريف القاضي الباقلاني له وهو
( القياس حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بأمر يجمع بينهما في إثبات حكم أو صفة أو نفيهما ) وكذلك في التلخيص 3/145 حيث اختار تعريف القاضي السابق ، وأما التعريف المذكور هنا في الورقات فقد انتقده إمام الحرمين في البرهان 2/747 .
وانظر تعريف القياس عند الأصوليين في المستصفى 2/228 ، المنخول ص 223 ، المعتمد 2/697 ، اللمع ص 275 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/202 ، البحر المحيط 5/7 ، الوصول إلى الأصول 2/209،216 ، تيسير التحرير 3/264 ، الإحكام 3/183 ، شرح العضد 2/204 ، المحصول 2/2/9 ، الإبهاج 3/3 ، المسودة ص 365 ، إرشاد الفحول ص 198 ، فواتح الرحموت 2/246 ، شرح تنقيح الفصول ص 383 ، كشف الأسرار 3/268 ، الحدود ص 69 ، أصول السرخسي 2/143 ، شرح الكوكب المنير 4/6 ، بيان معاني البديع 2/2/650 ، شفاء الغليل ص 18- 19 .
(7) ما بين المعكوفين ليس في " ج " .
(8) وهذه هي علة الربا في الأصناف الأربعة عند الشافعية ورواية عن أحمد ، وفي المسألة أقوال المذاهب الأخرى ، كونه مكيلاً أو موزوناً أو مدخراً ، انظر الاختيار 2/30 ، الحاوي الكبير 5/81 ، الإنصاف 5/11 ، شرح الخرشي 3/412 ، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4/126 ، البحر الزخار 3/331 .
(9) وسيأتي الحديث على هذه الأقسام في كلام المصنف والشارح .
[ قياس العلة ]
فقياس العلة ما كانت العلة فيه موجبة للحكم (1) بحيث (2) لا يحسن عقلاً تخلفه عنها كقياس الضرب على التأفيف للوالدين في التحريم بعلة (3) الإيذاء (4) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر كلام الأصوليين في قياس العلة في التلخيص 3/235 ، اللمع ص 283 ، الإحكام 4/3 ، شرح العضد 2/247 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/341 ، البحر المحيط 4/36 ، إرشاد الفحول ص 222 ، شرح الكوكب المنير 4/209 ، التحقيقات ص 527 ، الأنجم الزاهرات ص 229 ، شرح العبادي ص 199 ، حاشية الدمياطي ص 20 ، شفاء الغليل ص 52- 53 .
(2) ورد في " ب " ( القياس معناه في اللغة التقدير ، يقال قست الثوب بمعنى قدرته ، ويطلق على التشبيه ، يقال يقاس المرء بالمرء أي يشبه به ، وأما معناه اصطلاحاً ما قاله المصنف وهو
ردّ الفرع إلى آخره ) ويظهر لي أن هذه العبارة مقحمة في الشرح .
(3) في " هـ " لعلة .
(4) يشير بذلك إلى قوله تعالى ( فلا تقل لهما إفٍ ولا تنهرهما ) سورة الإسراء الآية 23 .
[ قياس الدلالة ]
وقياس الدلالة هو الاستدلال بأحد النظيرين على الآخر ، وهو أن تكون العلة دالة على الحكم ، ولا تكون موجبة للحكم (1) ، كقياس مال الصبي على مال (2) البالغ في وجوب الزكاة فيه بجامع أنه مال نام (3) .
ويجوز أن يقال لا تجب في مال الصبي كما قال به (4) أبو حنيفة (5) (6) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر كلام الأصوليين على قياس الدلالة في البرهان 2/867 ، اللمع ص 288 ، الوصول إلى الأصول 2/247 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/341 ، شرح العضد 2/205 ، فواتح الرحموت 2/320 ، تيسير التحرير3/ 275 ، شرح الكوكب المنير 4/7 ، البحر المحيط 4/49 ، إرشاد الفحول ص 222 .
(2) ليست في " ج " .
(3) وهذا مذهب جمهور الفقهاء المالكية والشافعية والحنابلة ، ونقل عن جماعة من الصحابة والتابعين في مال الصبي ، بأن الزكاة واجبة في مال الصبي ومستندهم عموم الأدلة من الكتاب والسنة التي دلت على وجوب الزكاة في مال الأغنياء ولم تستثن الصبيان .(/59)
وبناءً على ذلك ففي تمثيل الشارح بأن الزكاة في مال الصبي ثابتة بالقياس تساهل ، انظر تفصيل الأدلة على وجوب الزكاة في مال الصبي في المغني 2/465 ، المجموع 5/329 ، السنن الكبرى 4/107 ، بداية المجتهد 1/225 ، القوانين الفقهية ص 67 ، فقه الزكاة 1/108 .
(4) ليست في " ج " .
(5) في " هـ " أبو حنيفة فيه ، وورد في " ب " رضي الله عنه .
(6) انظر قول أبي حنيفة وأدلته في الهداية مع شرح فتح القدير 2/115 ، فتح باب العناية 1/476 ، تبيين الحقائق 1/252 . (
[ قياس الشبه ]
وقياس الشبه هو (1) الفرع المتردد (2) بين أصلين(3) (4) ، فيلحق بأكثرهما شبهاً كما في العبد إذا أتلف فإنه متردد (5) في الضمان بين الإنسان الحر (6) من حيث أنه آدمي ، وبين البهيمة من حيث أنه مال ، وهو بالمال أكثر شبهاً من الحر ، بدليل أنه يباع ويورث ويوقف وتضمن أجزاؤه بما نقص من قيمته (7) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(
وأبو حنيفة هو النعمان بن ثابت إمام الأئمة وسراج الأمة ، الإمام الفقيه المجتهد ، أول الأئمة الأربعة ، توفي سنة 150 هـ . انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء 6/390 ، الجواهر المضية 1/49 ، أخبار أبي حنيفة وأصحابه للصيمري ، أبو حنيفة للشيخ أبي زهرة .
(1) في " ب ، المطبوعة " وهو .
(2) في " أ ، ج " المردد .
(3) انظر ما قاله إمام الحرمين في التلخيص 3/235 ، وفي البرهان 2/860 ، حول قياس الشبه هل هو معتبر أم لا ؟
وانظر أيضاً اللمع ص 289 ، المستصفى 2/310 ، المعتمد 2/842 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/286، الإبهاج 3/49 ، المحصول 2/2/277 ، الوصول إلى الأصول 2/250 . تيسير التحرير 4/53 ، الإحكام 3/294 ، شرح العضد 2/244 .
(4) ورد في " المطبوعة " ( ولا يصار إليه مع إمكان ما قبله ) .
(5) في " أ " مردد .
(6) في " ج " والحرّ .
(7) وهذا ما قرره الشافعي فألحق العبد بالبهيمة في الضمان ، وأما أبو حنيفة فألحقه بالإنسان الحرّ ، انظر الأنجم الزاهرات ص 232 ، تكملة شرح فتح القدير 9/286-287 ، كفاية الأخيار ص 468 .
[ بعض شروط الفرع والأصل ]
ومن شرط الفرع أن يكون مناسباً * للأصل فيما يجمع به بينهما للحكم (1) ، [ أي أن يجمع بينهما بمناسب للحكم (2) ] (3) .
ومن شرط(4) الأصل أن يكون ثابتاً بدليل متفق عليه بين الخصمين(5) ، ليكون القياس حجة على الخصم .
فإن لم يكن خصم فالشرط ثبوت حكم الأصل بدليل (6) يقول به القيَّاس (7) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نهاية 13/أ من " أ " .
(1) هذا أحد شروط الفرع ، وللأصوليين كلام طويل حول شروط الفرع ، انظر التبصرة ص 465 ، المستصفى 2/330 ، شرح العضد 2/233 ، الإحكام 3/248 ، المحصول 2/2/497 ، البحر المحيط 5/107 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/229 ، شرح الكوكب المنير 4/105 ، فواتح الرحموت 2/257 ، أصول السرخسي 2/149 ، كشف الأسرار 3/426 ، شفاء الغليل ص673 ،إرشاد الفحول ص 209 ، المسودة ص 377 ، التحقيقات ص 547-548 .
(2) في " ب " الحكم .
(3) ما بين المعكوفين ليس في " هـ " .
(4) في " هـ شروط .
(5) هذا أحد شروط الأصل ، وللأصوليين تفصيل حول شروط الأصل ، انظر اللمع ص 293 ، التبصرة ص 447 ، المستصفى 2/325 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/220 ، البحر المحيط 5/86 ، الإبهاج 3/156 ، فواتح الرحموت 2/254 ، تيسير التحرير 3/289 ، المحصول 2/2/483 ، شرح الكوكب المنير 4/27 ، إرشاد الفحول ص 105 ، التحقيقات ص 549-552 ، شفاء الغليل ص 635 .
(6) في " ب " بديل وهو خطأ .
(7) في " أ " القائس .
[ بعض شروط العلة وحكم الأصل ]
ومن شرط(1) العلة أن تطرد في معلولاتها (2) (3) ، ولا تنتقض لفظاً ولا معنى * ، فمتى (4) انتقضت لفظاً بأن صدقت الأوصاف المعبر بها عنها في صورة بدون الحكم .
أو معنى بأن وجد المعنى (5) المعلل به في صورة بدون الحكم (6) فسد القياس (7).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في " هـ " شروط .
(2) في " ب " معلوماتها وهو خطأ .
(3) أي لا تختص ببعض الصور دون بعض ، الأنجم الزاهرات ص 234 ، التحقيقات ص 553
* نهاية 10/ب من " ب " .
(4) في " ب " فهي .
(5) ليست في " ب " .(/60)
(6) عرّف إمام الحرمين النقض في البرهان 2/977 بقوله ( هو تخلف الحكم في بعض الصور مع وجود ما ادعاه المعلل علةً ) . وانظر تعريف النقض في المستصفى 2/336 ، الإحكام 4/89 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/294 ، شرح العضد 2/218 ، الوصول إلى الأصول 2/302 ، شرح تنقيح الفصول ص 399 ، المحصول 2/2/323 ، الإبهاج 3/84 ، البحر المحيط 5/135 ، شرح الكوكب المنير 4/56 ، الحدود ص 76 .
(7) أي لم ينعقد سواء كانت العلة منصوصة أو مستنبطة تخلف الحكم لمانع أو لا ، وهذا منقول عن الإمام الشافعي واختاره الفخر الرازي وهو قول أكثر الشافعية وبعض الحنفية وبعض الحنابلة
وفي المسألة أقوال أخرى ، انظر البرهان 2/855،977 ، التبصرة ص 460 ، المستصفى 2/336 ، المحصول 2/2/323 ، البحر المحيط 5/262 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/294 ، شرح الكوكب المنير 4/57 ، إرشاد الفحول ص 207 ، شرح العبادي ص 208 ، التحقيقات ص 553 ، أصول السرخسي 2/208 ، شرح تنقيح الفصول ص 399 .
الأول كأن (1) يقال في القتل بمثقل (2) أنه قتل عمد عدوان (3) ، فيجب به (4) القصاص (5) ، كالقتل (6) بالمحدد ، فينتقض ذلك بقتل الوالد ولده فإنه لا يجب به قصاص (7) .
والثاني كأن يقال (8) تجب الزكاة في المواشي لدفع حاجة الفقير ، فيقال ينتقض ذلك بوجوده في الجواهر ولا زكاة * فيها .
ومن شرط الحكم أن يكون مثل(9) العلة (10) في النفي والإثبات (11) (12) أي تابعاً لها (13) …
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في " ب " كما .
(2) في " ب ، ج " بالمثقل .
(3) في " ب " عمداً عدواناً .
(4) في " ب " فيه .
(5) وهذا مذهب جمهور الفقهاء ، وخالف في ذلك أبو حنيفة فقال : لا يجب القصاص بالقتل بالمثقل ، انظر المغني 8/261 ، الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4/242 ، الحاوي الكبير 12/35 ، حاشية ابن عابدين 6/527 .
(6) في " ب " فالقتل .
(7) والجواب عن هذا الانتقاض ، بأن عدم القصاص من الوالد في قتل ولده إنما هو لحرمة الأبوة ، انظر الحاوي الكبير 12/23 ، المغني 8/285 ، الأنجم الزاهرات ص 235 .
(8) في " ب " يقول .
*نهاية 8/ب من " ج " .
(9) في " هـ " مثله .
(10) ليست في " هـ " ، وورد في " ب " الحكمة .
(11) انظر المصادر الأصولية السابقة في هامش رقم (7) من الصفحة السابقة .
(12) ورد في " المطبوعة " ( أي في الوجود والعدم ، فإن وجدت العلة وجد الحكم ) .
(13) في " أ ، ب " تابعها .
في ذلك [ إن وجدت ] (1) وجد وإن انتفت انتفى .
والعلة هي الجالبة للحكم (2) بمناسبتها له .
والحكم هو المجلوب للعلة لما ذكر (3) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ما بين المعكوفين ليس في " ج " .
(2) انظر تعريف العلة اصطلاحاً في شرح المحلي على جمع الجوامع 2/231 ، فواتح الرحموت 2/249 ، كشف الأسرار 3/293 ، المستصفى 2/230 ، شرح العضد 2/209 ، الوصول إلى الأصول 2/267 ، المسودة ص 385 ، أصول السرخسي 2/174 ، البحر المحيط 5/111 ، الإبهاج 3/39 ، شرح الكوكب المنير 4/15 ، إرشاد الفحول ص 207 ، أصول السرخسي 2/174 ، الإحكام 3/202 .
(3) في " أ " ذكروا .
[ الأصل في الأشياء]
وأما الحظر والإباحة ، فمن الناس من يقول إن الأشياء بعد البعثة على الحظر (1) ، أي على صفة هي الحظر ، * إلا ما أباحته الشريعة ، فإن لم يوجد في الشريعة ما يدل على الإباحة ، يتمسك بالأصل وهو الحظر .
ومن الناس من يقول بضده (2) ، وهو أن (3) الأصل في الأشياء بعد البعثة أنها على الإباحة ، إلا ما حظره(4) الشرع .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وهذا قول ابن أبي هريرة من الشافعية وأبي بكر الأبهري من المالكية وأبي يعلى وابن حامد والحلواني من الحنابلة وقول بعض الحنفية وبه قال الشيعة الإمامية ومعتزلة بغداد ، انظر التبصرة ص 532 ، اللمع ص 337 ، البرهان 1/99 ، المستصفى 1/63 ، المعتمد 2/868 ، المحصول 1/1/209 ، الإحكام 1/90 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 1/62 ، تيسير التحرير 2/167 ، التمهيد للإسنوي ص 109 ، شرح العضد 1/218 ، البحر المحيط 1/154 ، المسودة ص 474 ، شرح الكوكب المنير 1/325 .
* نهاية 13/ب من " أ " .(/61)
(2) وهذا قول أبي حنيفة وعليه أكثر الحنفية ، وهو قول أبي اسحاق الإسفرايني وأبي حامد المروزي وابن سريج من الشافعية ، وبه قال جماعة من الحنابلة كأبي الخطاب الكلوذاني وأبي الحسن التميمي وهو رواية عن الإمام أحمد ، وبه قال أبو الفرج المالكي ومعتزلة البصرة ، انظر المصادر السابقة في هامش رقم (1) من هذه الصفحة .
(3) ليست في " ج " .
(4) في " ج " حظر .
والصحيح التفصيل (1) ، [ وهو أن ] (2) المضار (3) على التحريم ، والمنافع (4) على الحل .
أما قبل البعثة فلا حكم يتعلق بأحد (5) ، لانتفاء الرسول الموصل إليه (6) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وقال بهذا التفصيل الإمام الرازي والبيضاوي والإسنوي والزركشي وابن السبكي ،
انظر المحصول 2/3/131 ، المنهاج مع شرحه الإبهاج 3/165 ، المنهاج مع شرح الإسنوي 3/118-119 ، البحر المحيط 6/12 .
(2) ما بين المعكوفين ليس في " ج " .
(3) في " ج " والمضار .
(4) في " ج " والمانع وهو خطأ .
(5) قال الآمدي ( مذهب الأشاعرة وأهل الحق أنه لا حكم لأفعال العقلاء قبل ورود الشرع ) الإحكام 1/93 ، وهذا اختيار كثير من الأصوليين ، انظر المعتمد 2/868 ، المستصفى 1/63 ، المحصول 1/1/209 ، شرح العضد 1/218 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 1/62 ، تيسير التحرير 2/167 ، التمهيد للإسنوي ص 109 ، المنهاج مع شرح الإسنوي 1/96 .
(6) في " ب " له .
[ الاستصحاب ]
ومعنى استصحاب الحال (1) الذي يحتج (2) به كما سيأتي .
أن يستصحب الأصل أي العدم الأصلي عند عدم الدليل الشرعي (3) ، بأن لم (4) يجده المجتهد بعد البحث (5) عنه بقدر الطاقة
كأن (6) لم يجد دليلاً على وجوب صوم رجب فيقول لا يجب باستصحاب الحال أي [ العدم الأصلي ] (7) وهو حجة جزماً (8) .
أما الاستصحاب المشهور ، الذي هو ثبوت أمر في الزمن الثاني لثبوته في الأول (9)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في " ج " الحال الحال .
(2) في " ب " لا يحتج ، وفي " أ " يحتاج ، وكلاهما خطأ .
(3) هذا الاستصحاب المعروف بالبراءة الأصلية ، انظر البرهان 2/1135 ، المستصفى 1/218 ، شرح العضد 2/284 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/350 ، البحر المحيط 6/17 ، فواتح الرحموت 2/359 الإبهاج 3/168 شرح الكوكب المنير 4/405 ، إرشاد الفحول ص 237 ، التحقيقات ص 577 ، شرح العبادي ص 218 .
(4) ليست في " ج " .
(5) ورد في " هـ " البحث الشديد .
(6) في " ج " فإن .
(7) في " هـ " ( لعدم الأصل ) ، وفي " ج " ( العدم بالأصل ) .
(8) وهذا باتفاق العلماء ، انظر المصادر السابقة في هامش رقم (3) من هذه الصفحة .
(9) هذا هو الذي ينصرف إليه اسم الاستصحاب عند الإطلاق ، انظر شرح المحلي على جمع الجوامع 2/350 ، شرح الإسنوي 3/124 ، شرح العبادي ص 219-220 ، أثر الأدلة المختلف فيها ص 186 .
فحجة عندنا (1) دون الحنفية (2) فلا زكاة عندنا في عشرين (3) ديناراً ناقصة تروج رواج الكاملة * بالاستصحاب .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وهذا قول الشافعية والمالكية والحنابلة وقول بعض الحنفية ، انظر الإحكام 4/127 ، المستصفى 1/218 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/350 ، المحصول 2/3/148 ، شرح العضد 2/284 ، أصول مذهب أحمد ص 373 ، شرح الكوكب المنير 4/403 ، شرح تنقيح الفصول ص 447 ، أثر الأدلة المختلف فيها ص 188 .
(2) وهو وقول أبي الحسين البصري ، ونقل عن الشافعي ، انظر الإحكام 4/127 ، المعتمد 2/884 ، أصول السرخسي 2/223 ، تيسير التحرير 4/177 ، فواتح الرحموت 2/359 ، أثر الأدلة المختلف فيها ص 189 .
وفي المسألة أقوال أخرى ، انظر المصادر السابقة .
(3) في " ب " العشرين .
* نهاية 11/أ من " ب " .
[ ترتيب الأدلة والترجيح بينها ]
وأما الأدلة فيقدم الجلي منها على الخفي(1) ، وذلك كالظاهر (2) والمؤول فيقدم اللفظ (3) في معناه (4) الحقيقي على معناه المجازي (5) والموجب للعلم على الموجب للظن ، وذلك كالمتواتر والآحاد (6) فيقدم * الأول إلا أن يكون عاماً فيخص بالثاني كما تقدم من تخصيص الكتاب بالسنة (7) .
والنطق من كتاب أو (8) سنة …
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(/62)
(1) انظر البرهان 2/1143 ، المستصفى 2/392 ، الإحكام 4/239 ، فواتح الرحموت 2/189 ، تيسير التحرير 3/136 ، المحصول 2/2/505 ، البحر المحيط 6/108 ، الإبهاج 3/199 ، شرح تنقيح الفصول ص 417 ، 420 . شرح الكوكب المنير 4/599 ، التحقيقات ص 589 .
(2) في " ج " على الظاهر .
(3) ليست في " هـ " .
(4) في " هـ ، ط " المعنى .
(5) جماهير الأصوليين واللغويين على أن الحقيقة مقدمة على المجاز ، وللمسألة عدة صور انظر المعتمد 2/910 ، المستصفى 1/359 ، كشف الأسرار 2/83 ، شرح تنقيح الفصول ص 119 ، مرآة الأصول ص 122 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 1/331 ، فتح الغفار 1/135 ، البحر المحيط 6/166 ، الحقيقة والمجاز في الكتاب والسنة ص 139 فما بعدها .
(6) انظر شرح المحلي على جمع الجوامع 2/210 ، شرح العبادي ص 272 ، التعارض والترجيح 2/130 .
* نهاية 14/أ من " أ " .
(7) انظر ص 134 من هذا الكتاب .
(8) في " هـ " و .
على القياس (1) إلا أن يكون النطق عاماً ، فيخص بالقياس كما تقدم (2) .
والقياس الجلي على الخفي (3) ، وذلك كقياس (4) العلة على قياس الشبه (5) ، فإن وجد في النطق من كتاب أو سنة ما يغير الأصل (6) ، أي العدم الأصلي الذي يعبر عن استصحابه باستصحاب الحال فواضح أنه يعمل بالنطق (7) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وهذا باتفاق الأصوليين ، لأن الكتاب والسنة أقوى من القياس ، انظر المستصفى 2/392 ، تيسير التحرير 3/137 ، المدخل إلى مذهب أحمد ص 196 ، شرح الكوكب المنير 4/605.
(2) انظر ص 137 من هذا الكتاب .
(3) القياس الجلي هو ما قطع فيه بنفي الفارق بين الأصل والفرع ، أو هو ما تسبق إليه الأفهام.
وأما القياس الخفي فهو ما يكون فيه نفي الفارق مظنوناً ، ومثل الشارح للقياس الجلي بقياس العلة ، وللخفي بقياس الشبه ، انظر شرح المحلي على جمع الجوامع 2/339-341 ، إرشاد الفحول ص 222 ، التعريفات ص 96 ، شرح العضد 2/247 ، تيسير التحرير 4/76 ، شرح الكوكب المنير 4/207 ، المحصول 1/3/149 ، شرح العضد 2/247 .
(4) في " أ ، ج " قياس .
(5) للأصوليين تفصيل في الترجيح بين الأقيسة ، انظر البرهان 2/1202 ، المستصفى 2/398 ، المحصول 2/2/593 ، البحر المحيط 6/180 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/375 ، تيسير التحرير 4/88 ، شرح تنقيح الفصول ص 427 ، فواتح الرحموت 2/325 ، شرح العضد 2/317 ، الإبهاج 3/237 ، إرشاد الفحول ص 280 ، شرح الكوكب المنير 4/712
(6) في " هـ ، ط " الأول ، وهو خطأ .
(7) لأن العمل بالاستصحاب حينئذ يكون منافياً للنطق من كتاب أو سنة ، انظر التحققيات ص 600 .
وإلا أي وإن لم يوجد ذلك (1) ، فيستصحب الحال، أي العدم الأصلي أي (2) يعمل به (3) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ليست في " ب " .
(2) ليست في " ج " .
(3) انظر مبحث الاستصحاب ص 206 من هذا الكتاب .
[ شروط المفتي أو المجتهد ]
ومن شرط المفتي(1) وهو المجتهد أن يكون عالماً بالفقه أصلاً وفرعاً خلافاً ومذهباً (2) ، أي بمسائل الفقه ، وقواعده (3) وفروعه (4) ، وبما فيها من الخلاف (5) ، ليذهب إلى قول منه ولا يخالفه ، بأن * يحدث قولاً آخر، لاستلزام اتفاق من (6) قبله بعدم ذهابهم إليه [على نفيه ] (7) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المفتي هو المخبر بحكم الله تعالى عن دليل شرعي ، أو هو المتمكن من معرفة أحكام الوقائع شرعاً بدليل مع حفظه لأكثر الفقه ، انظر صفة الفتوى والمفتي والمستفتي ص 4 ، الفتيا ومناهج الإفتاء ص 9 ، إرشاد الفحول ص 265 ، تيسير التحرير 3/179 ، أحكام الإفتاء ص 26 .
(2) انظر تفصيل الكلام على شروط المجتهد في البرهان 2/1330 ، التلخيص 3/457 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/382، الإحكام 4/162 ، المستصفى 2/250 ، المحصول 2/3/30 ، صفة الفتوى والمفتي والمستفتي ص 16 ، شرح تنقيح الفصول ص 437 ، كشف الأسرار 4/15 ، تيسير التحرير 4/180 ، البحر المحيط 6/199 ، الإبهاج 3/254 ، شرح الكوكب المنير 4/459 .
(3) في " أ ، ج " قواعده .
(4) وهذا معنى قول إمام الحرمين ( أصلاً وفرعاً ) أي عالماً بأصول الفقه وبمسائل الفقه المستنبطة من الكتاب والسنة ، انظر التحقيقات ص 601 .
(5) أي الخلاف بين أئمة الفقه أرباب المذاهب وغيرهم من كبار المجتهدين . ولم يبين الشارح قول المصنف ( ومذهبا ) ، والمقصود بالمذهب ما يستقر عليه رأي المجتهد بعد الخلاف ، التحقيقات ص 602 .
* نهاية 9/أ من " ج " .(/63)
(6) ليست في " ج " .
(7) ما بين المعكوفين ليس في " ج " ، وورد في " هـ " نفيهم .
وأن يكون كامل الآلة(1) في الاجتهاد(2) عارفاً بما يحتاج إليه في استنباط الأحكام من النحو واللغة ومعرفة الرجال (3) الراوين للأخبار (4) ليأخذ برواية المقبول منهم دون المجروح .
وتفسير الآيات الواردة في الأحكام (5) والأخبار الواردة فيها (6) ليوافق ذلك في اجتهاده ولا يخالفه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في " ب ، ط " الأدلة .
(2) بأن يعرف كيفية النظر في استفادة المجهول من المعلوم ويعرف شرائط الحدود والبراهين والأمارات وكيفية تركيب مقدماتها واستنتاج المطلوب منها وشرائط القياس ونحو ذلك ، التحقيقات ص 602 .
(3) انظر البرهان 2/1332 ، التلخيص 3/459 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/384 .
(4) في " ب " الأخبار .
(5) قال الغزالي إنها نحو خمسمئة آية ، المستصفى 2/350 ، وهذه المقصود بها الأحكام ، وإلا فالآيات التي تأخذ منها الأحكام أكثر من ذلك ، انظر شرح الكوكب المنير 4/460 ، إرشاد الفحول ص 250 ، المحصول 2/3/33 ، شرح تنقيح الفصول ص 437 ، كشف الأسرار 4/15 .
(6) قال إمام الحرمين في التلخيص 3/458 ( ومما يشترطه أن يحيط به من سنن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما يتعلق بالأحكام حتى لا يشذ منها إلا الأقل ولا يكلف الإحاطة بجميعها فإن ذلك لا ينضبط ) .
وقال الشوكاني ( واختلفوا في القدر الذي يكفي المجتهد من السنة ، فقيل خمسمئة حديث ، وهذا من أعجب ما يقال ، فإن الأحاديث التي تأخذ منها الأحكام الشرعية ألوف مؤلفة ،
وقال ابن العربي في المحصول هي ثلاثة آلاف ، وقال أبو علي الضرير ، قلت لأحمد بن حنبل : كم يكفي الرجل من الحديث حتى يمكنه أن يفتي ، يكفيه مئة ألف ؟ قال : لا . قلت : ثلاثمئة ألف . قال : لا . قلت : أربعمئة ألف . قال : لا . قلت : خمسمئة ألف . قال : (
وما ذكره * من قوله عارفاً إلى آخره من جملة آلة الاجتهاد .
ومنها معرفته بقواعد الأصول (1) وغير ذلك (2) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(
أرجو . وقال بعض أصحابه هذا محمول على الاحتياط والتغليظ في الفتيا ، أو يكون أراد وصف أكمل الفقهاء ، فأما ما لا بد منه فقد قال أحمد رحمه الله : الأصول التي يدور عليها العلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ينبغي أن تكون ألفاً ومئتين ) إرشاد الفحول ص 251 .
* نهاية 14/ب من " أ " .
(1) قال إمام الحرمين في البرهان 2/1332 ، ( وعلم الأصول أصل الباب ، حتى لا يقدم مؤخراً ولا يؤخر مقدماً ، ويستبين مراتب الأدلة والحجج ) ،وانظر المستصفى 2/353 ، صفة الفتوى والمفتي والمستفتي ص 14.
(2) كمعرفته بمواقع الإجماع والناسخ والمنسوخ وأسباب النزول ونحو ذلك ، انظر شرح العبادي ص 240 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/384 ، المستصفى 2/351 ، المحصول 2/3/33-35 .
[ شروط المستفتي ]
ومن شرط المستفتي أن يكون من أهل التقليد (1)
[ فيقلد المفتي في الفتيا ] (2) .
فإن لم يكن الشخص * من أهل التقليد بأن كان من أهل الاجتهاد فليس له أن يستفتي كما قال وليس للعالم أي (3) المجتهد أن يقلد لتمكنه من الاجتهاد (4) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أهل التقليد هم خلاف أهل الاجتهاد ، وأهل التقليد يقلدون المجتهدين ، فلا يجوز تقليد غير المجتهد ، قال تعالى ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) سورة النحل الآية 43 ، وأهل الذكر هم العلماء . التحقيقات ص 610 ، البرهان 2/1341 ، وانظر تفصيل الكلام على حكم التقليد في البرهان 2/1357 ، الإحكام 4/221 ، المحصول 2/3/101 ، المستصفى 2/389 ، شرح العضد 2/306 ، المعتمد 2/934 ، شرح تنقيح الفصول ص 431 ، إرشاد الفحول ص 267 ، شرح الكوكب المنير 4/541 ، تيسير التحرير 3/246 ، البحر المحيط 6/280 .
(2) ما بين المعكوفين ليس في " المطبوعة " .
* نهاية 11/ب من " ب " .
(3) ليست في " ج "
(4) اتفق العلماء على أن المجتهد لا يقلد غيره في حكم قد اجتهد فيه ، فإن لم يكن قد اجتهد في الحكم فالمسألة فيها تفصيل ، انظر البرهان 2/1339 ، شرح العضد 2/300 ، المعتمد 2/945 ، المستصفى 2/384 ، شرح المحلي 2/393 ، شرح تنقيح الفصول ص 443 ، إرشاد الفحول ص 264 ، كشف الأسرار 4/14 ، البحر المحيط 6/285 ، شرح الكوكب المنير 4/515 ، الإحكام 4/236 .
[ تعريف التقليد ]
والتقليد (1) قبول قول القائل بلا حجة (2) يذكرها .(/64)
فعلى هذا قبول قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يذكره (3) من الأحكام يسمى تقليداً (4) .
ومنهم من قال: التقليد قبول قول القائل وأنت لا تدري من أين قاله (5) ، أي لا تعلم مأخذه في ذلك (6) .
فإن قلنا إن(7) النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول(8) بالقياس، …
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) التقليد لغةً جعل الشيء في العنق ومنه تقليد الهدي وهو تعليق قطعة من جلد في عنق البعير ، انظر المصباح المنير 2/512 .
(2) هذا التعريف للتقليد ذكره إمام الحرمين في البرهان 2/1357 ، وقريب منه ذكر في التلخيص 3/425 ، وانظر تعريف التقليد اصطلاحاً في المستصفى 2/387 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/392 ، الإحكام 4/221 ، شرح العضد 2/305 ، تيسير التحرير 4/241 ، البحر المحيط 6/270 ، فواتح الرحموت 2/400، الحدود ص 64 ، المسودة ص 553 .
(3) في " أ " يذكرها ، وفي " هـ " ذكره .
(4) انظر الإحكام 4/221 ، التلخيص 3/424 ، البرهان 2/1357 ، التحقيقات ص 618-619 ، البحر المحيط 6/270 .
(5) ذكر إمام الحرمين هذا التعريف في البرهان 2/1357 ، وذكره في التلخيص 3/423 ، ونسبه الزركشي إلى القفال ، البحر المحيط 6/270 .
(6) ورد في " ج " ( في ذلك من أين ) .
(7) ليست في " ج " .
(8) في " ج " يأخذ .
بأن يجتهد (1) فيجوز أن يسمى قبول قوله تقليداً ، لاحتمال أن يكون عن اجتهاد (2) .
وإن قلنا إنه لا يجتهد (3) وإنما يقول عن وحي { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى } (4) فلا يسمى قبول قوله تقليداً (5) ، لاستناده إلى الوحي (6) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أي في الأمور الشرعية ، وهذا قول جمهور الأصوليين والفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة ، وهو قول أبي يوسف صاحب أبي حنيفة ، واختاره الغزالي والفخر الرازي والآمدي وابن الحاجب والبيضاوي وأبي الحسين البصري وغيرهم ، انظر تفصيل ذلك في البرهان 2/1356 ، التبصرة ص 521 ، المستصفى 2/355 ، المحصول 2/3/18 ، الإحكام 4/65 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/386 ، شرح العضد 2/291 ، أصول السرخسي 1/92 ، فواتح الرحموت 2/366 ، تيسير التحرير 4/183 ، شرح تنقيح الفصول ص 436 ، البحر المحيط 6/214 ، المسودة ص 506 ، إرشاد الفحول ص 256 ، اجتهاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ص 40 .
(2) وسماه تقليداً الشافعي فيما نقله عنه أبو محمد الجويني والد إمام الحرمين كما ذكره الزركشي في البحر المحيط 6/271 ، وانظر التلخيص 3/424 .
(3) هذا قول ابن حزم الظاهري وقول بعض المعتزلة كالجبائي وابنه وأبي هاشم وهو قول نفاة القياس ، انظر اجتهاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ص 40 ، الإحكام لابن حزم 2/699 ، المعتمد 2/761 ، التبصرة ص 521 ، الإحكام 4/165 ، وفي المسألة أقوال أخرى ، انظر المصادر السابقة في هامش رقم (1) من هذه الصفحة .
(4) سورة النجم الآيتان 3-4 ، وورد في "ج " علمه إلخ .
(5) واختاره ابن السمعاني وادعى القاضي الباقلاني الإجماع على ذلك ، ذكره الزركشي في البحر المحيط 6/271 .
واختار إمام الحرمين التفصيل في المسألة ، انظر البرهان 2/1358 ، وانظر أيضاً التلخيص 4/426 ، الإحكام 4/165 ، المسودة ص 553 ، فواتح الرحموت 2/400 ، شرح الكوكب المنير 4/531 .
(6) في " ب " وحي .
[ الاجتهاد ]
[ تعريف الاجتهاد ومسألة تصويب المجتهد ]
وأما الاجتهاد فهو بذل الوسع في بلوغ الغرض (1) المقصود من العلم ليحصل له .
والمجتهد إن (2) كان كامل الآلة(3) في الاجتهاد كما تقدم فإن اجتهد في الفروع وأصاب فله أجران على (4) اجتهاده وإصابته .
وإن اجتهد فيها * وأخطأ فله أجر واحد على (5) …
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) قد يعترض على تعريف إمام الحرمين للاجتهاد بأنه تعريف للاجتهاد في اللغة وليس للاجتهاد الاصطلاحي ، والاعتراض له وجه ولكن العبادي في شرحه يرى أن هذا التعريف للاجتهاد اصطلاحاً وفصل القول في ذلك في شرحه ص 260-263 .
وعرف الزركشي الاجتهاد اصطلاحاً بقوله ( بذل الوسع في نيل حكم شرعي عملي بطريق الاستنباط ) البحر المحيط 7/197 ، وانظر الإحكام 4/162 ، ، المستصفى 2/350 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/289 ، المحصول 2/3/7-39 ، فواتح الرحموت 2/362 ، شرح تنقيح الفصول 429 ، شرح العضد 2/289 ، الإبهاج 3/246 ، شرح الكوكب المنير 4/458 ، إرشاد الفحول ص 250 ، تيسير التحرير 4/179 ، الحدود ص 64 ، فتح الغفار 3/34 .
(2) في " ج " إذا .(/65)
(3) في " ب " الأدلة .
(4) في " ب " عن .
* نهاية 15/أ من " أ " .
(5) في " ب " عن .
اجتهاده (1) وسيأتي دليل ذلك .
ومنهم من قال كل مجتهد في الفروع مصيب (2) بناءاً على أن حكم (3) الله تعالى في حقه وحق مقلده (4) ما أدى إليه اجتهاده .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هذا القول الأول في مسألة تصويب المجتهد وهو أن المصيب واحد في الفروع وهذا قول جمهور العلماء بما فيهم الأئمة الأربعة وهو قول المعتزلة . انظر البرهان 2/1316-1319 ، التلخيص 3/334 ، الإحكام 2/183 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/389 ، شرح العضد 2/293 ، البحر المحيط 6/241 ، المحصول 2/3/47 ، المستصفى 2/357 ، شرح تنقيح الفصول ص 438 ، فواتح الرحموت 2/381 ، كشف الأسرار 4/16 ، المعتمد 2/949 ، المسودة ص 495 ، شرح الكوكب المنير 4/489 .
(2) وهذا قول جمهور الحنفية وهو رواية عن أبي حنيفة ونسب إلى القاضي الباقلاني وأبي الحسن الأشعري ، وفي المسألة أقوال أخرى ، انظر المصادر السابقة في الهامش السابق .
(3) في " ج " الحكم .
(4) في " ب " من قلده .
[ الاجتهاد في أصول الدين ]
ولا يجوز أن يقال كل مجتهد في الأصول الكلامية أي العقائد (1) مصيب (2) ، لأن ذلك يؤدي إلى تصويب أهل الضلالة من النصارى (3) في قولهم بالتثليث (4) والمجوس (5) في قولهم بالأصلين (6)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في " ب " العلايد وهو خطأ .
(2) وهذا باتفاق أهل العلم من المسلمين إلا ما نقل عن عبيد الله بن الحسن العنبري ، فإنه ذهب إلى أن كل مجتهد في العقائد مصيب ، وقوله باطل ، وقيل إنه رجع عن قوله ، انظر تفصيل ذلك في البرهان 2/1316 ، التلخيص 3/334 ، المستصفى 2/354 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/388 ، الإحكام 4/178 ، شرح العضد 2/293 ، المعتمد 2/988 ، المسودة ص 495 ، البحر المحيط 6/236 ، الإبهاج 3/257 ، شرح الكوكب المنير 4/488 ، إرشاد الفحول ص 259 ، كشف الأسرار 4/17 ، فواتح الرحموت 2/376 .
(3) النصارى هم أتباع الديانة النصرانية التي أنزلت على عيسى عليه السلام ثم حرفوا وغيروا وبدلوا ، انظر الموسوعة الميسرة في الأديان ص 499 .
(4) عقيدة التثليث هي الاعتقاد بوجود إله خالق عظيم له شريكان وهما الابن ( عيسى ) والروح القدس ( جبريل ) انظر المصدر السابق 503-504 .
(5) المجوس هم أصحاب الاثنين المانوية أثبتوا أصلين اثنين مدبرين قديمين يقتسمان الخير والشر والنفع والضرر والصلاح والفساد يسمى أحدهما النور والآخر الظلمة . انظر دائرة معارف القرن العشرين 8/446 فما بعدها ، معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية 3/222 .
(6) في " ج " بأصلين .
للعالم النور والظلمة والكفار في نفيهم التوحيد وبعثة الرسل (1) والمعاد في الآخرة والملحدين في نفيهم * صفاته تعالى كالكلام وخلقه أفعال العباد وكونه مرئياً في الآخرة ** وغير ذلك.
ودليل من قال ليس كل مجتهد في الفروع مصيباً قوله - صلى الله عليه وسلم - :( من اجتهد وأصاب فله أجران ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد ) وجه (2) الدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطَّأ المجتهد تارة وصوبه أخرى .
والحديث رواه الشيخان (3) ولفظ البخاري (4) :( إذا اجتهد الحاكم فحكم فأصاب فله أجران وإذا حكم فأخطأ فله أجر ) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في " ب " الرسول .
* نهاية 9/ب من " ج " .
** نهاية 12/أ من " ب " .
(2) في " و ، المطبوعة " ووجه .
(3) صحيح البخاري مع الفتح 17/84 ، صحيح مسلم بشرح النووي 4/378 ، ولفظهما هو المذكور في الهامش التالي ، وأما اللفظ المذكور في الشرح فلما أقف .
(4) ليس هذا لفظ البخاري بل رواه البخاري بلفظ ( إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر ) صحيح البخاري مع الفتح 17/84 ، ولعل الشارح اطلع على نسخة أخرى للبخاري والله أعلم .
تم الكتاب والحمد لله وحده وصلى الله على من لا نبي بعده اللهم اغفر لنا وللمسلمين * وكان الفراغ من كتابة هذه النسخة المباركة يوم الاثنين المبارك تاسع شهر صفر الحرام من شهور سنة ألف ومئة وعشرين من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام (1) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نهاية 15/ ب من " ب "(/66)
(1) هذه الخاتمة هي خاتمة النسخة " أ " وأما خاتمة النسخة " ب " فهي ما يلي :( والله أعلم تمت بحمد الله وعونه والحمد لله على كل حال وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وكان الفراغ من كتابة هذه النسخة المباركة يوم الجمعة عشرة في شهر ذا القعدة سنة ألف ومئة سنة وأربعين على يد كاتبها أفقر العباد الشيخ محمد غفر الله ولوالديه وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم . تم )
وأما خاتمة النسخة "ج " فهي ما يلي :( والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم وصلى الله على من لا نبي بعده وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله الكريم الغفار الوهاب الرزاق … تمت بهذا المباركة على يد أفقر العباد محمد بن بدر الدين الجماعي الكناني … وكان الفراغ من هذه النسخة المباركة في ربيع الأول في يوم الخميس 22 سنة 1152 هـ ).
يقول محققه عفا الله عنه : نسخت مخطوطة الكتاب في يومين 21 ، 22 شعبان 1417 وفق 1،2 كانون الثاني 1997 ، والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات .
وتمت مراجعته للطبعة الثانية وتصحيح أخطاء الطبعة الأولى صباح الجمعة 15 شوال 1420هـ وفق 21كانون الثاني 2000م .
تم كتاب شرح الورقات لجلال الدين المحلي محققاً
والحمد لله رب العالمين
فهرس الآيات
الآية ... رقمها ... السورة ... الصفحة
( أقيموا الصلاة ) ... 43 ... البقرة ... 81 ، 99
( ولا تقربوا الزنا ) ... 32 ... الإسراء ... 81
( ليس كمثله شيء ) ... 11 ... الشورى ... 94
( واسأل القرية ) ... 82 ... يوسف ... 94
( جداراً يريد أن ينقض ) ... 77 ... الكهف ... 95
( فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً ) ... 33 ... النور ... 99
( وإذا حللتم فاصطادوا ) ... 2 ... المائدة ... 99 ، 154
( ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ) ... 42-43 ... المدثر ... 107
( اعملوا ما شئتم ) ... 40 ... فصلت ... 114
( فاصبروا أو لا تصبروا ) ... 16 ... الطور ... 114
( كونوا قردة ) ... 65 ... البقرة ... 114
( إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا ) ... 2 ، 3 ... العصر ... 117
( فاقتلوا المشركين ) ... 5 ... التوبة ... 118 ، 124
( ولا تنكحوا المشركات ) ... 221 ... البقرة ... 133
( والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ) ... 5 ... المائدة ... 133
( يوصيكم الله في أولادكم ) ... 11 ... النساء ... 134
( وإن كنتم مرضى .. فلم تجدوا ماء فتيمموا ) ... 6 ... المائدة ... 135
( ثلاثة قروء ) ... 228 ... البقرة ... 138
( فصيام ثلاثة أيام ) ... 196 ... البقرة ... 140
( والسماء بنيناها بأييد ) ... 47 ... الذاريات ... 142
( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) ... 21 ... الأحزاب ... 145
( إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة…وذروا البيع ) ... 9 ... الجمعة ... 154
( فإذا قضيت الصلاة … من فضل الله ) ... 10 ... الجمعة ... 154
( وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً ) ... 96 ... المائدة ... 154
( والذين يتوفون … متاعاً إلى الحول ) ... 240 ... البقرة ... 156
( يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً ) ... 234 ... البقرة ... 156
( إذا ناجيتم الرسول… صدقة ) ... 12 ... المجادلة ... 158
( وعلى الذين يطيقونه فدية ) ... 184 ... البقرة ... 159
( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) ... 184 ... البقرة ... 159
( إن يكن منكم … يغلبوا مائتين ) ... 65 ... الأنفال ... 159
( فإن تكن … تغلبوا مئتين ) ... 66 ... الأنفال ... 159
( فول وجهك شطر المسجد الحرام ) ... 144 ... البقرة ... 160
(كتب عليكم إذا حضر .. الوصية للوالدين والأقربين) ... 180 ... البقرة ... 161
( أو ما ملكت أيمانهم ) ... 6 ... المؤمنون ... 166
( وأن تجمعوا بين الأختين ) ... 23 ... النساء ... 166
( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) ... 3-4 ... النجم ... 216
فهرس الأحاديث
الحديث ... الصفحة
صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكعبة ... 81
مثلاً بمثل ... 82
نهي الحائض عن الصلاة ... 111
نهي الحائض عن الصوم ... 111
النهي عن صوم يوم النحر ... 112
النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة ... 112
النهي عن بيع الحصاة ... 112
النهي عن بيع الملاقيح ... 112
جمعه - صلى الله عليه وسلم - بين الصلاتين في السفر ... 121
لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم ... 134
لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ... 135
فيما سقت السماء العشر ... 136
ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ... 136
إقراره - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر بإعطائه سلب القتيل لقاتله ... 148
إقراره - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد على أكل الضب ... 149
إقراره - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر عندما حلف لا يأكل الطعام ... 150(/67)
الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة ... 155
كان فيما أنزل ... 157
خمس رضعات معلومات يحرمن ... 157
نسخ استقبال بيت المقدس ... 160
كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ... 161
لا وصية لوارث ... 162
شر الشهود الذي يشهد قبل أن يستشهد ... 165
خير الشهود الذي يشهد قبل أن يستشهد ... 165
ألا أخبركم بخير الشهود الذي يأتي بشهادته قبل أن يسئلها ... 166
خيركم قرني ثم الذين يلونهم … ثم يكون بعدهم قوم يشهدون قبل أن يستشهدوا ... 166
توضأ - صلى الله عليه وسلم - وغسل رجليه ... 168
توضأ - صلى الله عليه وسلم - ورش الماء على قدميه ... 168
إن هذا وضوء من لم يحدث ... 169
سئل - صلى الله عليه وسلم - عما يحل للرجل ... 169
اصنعوا كل شيء إلا النكاح ... 169
إذا بلغ الماء قلتين فإنه لا ينجس ... 172
الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه ... 173
من بدل دينه فاقتلوه ... 173
نهى - صلى الله عليه وسلم - عن قتل النساء ... 174
لا تجتمع أمتي على ضلالة ... 177
أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ... 183
من اجتهد وأصاب فله أجران ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد ... 220
إذا اجتهد الحاكم فحكم فأصاب فله أجران وإذا حكم فأخطأ فله أجر ... 220
فهرس الأعلام
العلم ... الصفحة
البخاري ، محمد بن اسماعيل ... 81
مسلم ، مسلم بن الحجاج النيسابوري ... 81
النسائي ، عمرو بن شعيب ... 121
الحسن البصري ، الحسن بن يسار البصري ... 122
أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ، عبد الله بن عثمان بن عامر ... 148
خالد بن الوليد - رضي الله عنه - ... 149
عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ... 155
الشافعي ، محمد بن إدريس الشافعي ... 155
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ... 157
الترمذي ، أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة ... 161
البيهقي ، أحمد بن الحسين البيهقي ... 168
أبو داود ، سليمان بن الأشعث السجستاني ... 169
ابن ماجه ، محمد بن يزيد القزويني ... 172
سعيد بن المسيب ... 189
أبو هريرة - رضي الله عنه - ، عبد الرحمن بن صخر الدوسي ... 190
أبو حنيفة ، النعمان بن ثابت بن زوطى ... 198
قائمة المصادر
الإبهاج في شرح المنهاج / علي بن عبد الكافي السبكي وولده تاج الدين / دار الكتب العلمية .
أبو حنيفة / محمد أبو زهرة / دار الفكر العربي .
إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين / محمد مرتضى الزبيدي / دار الفكر .
أثر الأدلة المختلف فيها في الفقه الإسلامي / د. مصطفى ديب البغا / دار الإمام البخاري .
أثر اللغة في اختلاف المجتهدين / عبد الوهاب عبد السلام طويلة / دار السلام .
أحكام الإفتاء في الشريعة الإسلامية / إبراهيم سالم أبو مرّ / رسالة ماجستير مطبوعة على الآلة الكاتبة .
الإحكام في أصول الأحكام / أبو محمد علي بن حزم / مكتبة عاطف / الطبعة الأولى .
الإحكام في أصول الأحكام / سيف الدين أحمد بن علي الآمدي / تعليق عبد الرزاق عفيفي / الطبعة الأولى .
أحكام القرآن لأبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي / تحقيق علي البجاوي / مطبعة عيسى البابي الحلبي .
أخبار أبي حنيفة وأصحابه / القاضي أبو أعبد الله الصيمري / المكتبة الإمدادية / الطبعة الثالثة .
أدلة التشريع المتعارضة / بدران أبو العينين بدران / مؤسسة شباب الجامعة .
إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول / محمد بن علي الشوكاني / دار المعرفة .
إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل / محمد ناصر الدين الألباني / المكتب الإسلامي / الطبعة الأولى .
الإصابة في تمييز الصحابة / الحافظ أحمد بن علي بن حجر / دار الكتب العلمية .
أصول السرخسي / أبو بكر محمد بن أحمد السرخسي / دار المعرفة .
أصول الفقه / محمد أبو النور زهير / دار الطباعة المحمدية .
أصول الفقه / محمد أبو زهرة / دار الفكر العربي .
أصول الفقه الإسلامي / د. زكي الدين شعبان / دار الكتاب الجامعي .
أصول الفقه الإسلامي / د. وهبه الزحيلي / دار الفكر / الطبعة الأولى .
أصول الفقه الإسلامي / محمد مصطفى شلبي / دار النهضة العربية .
أصول مذهب الإمام أحمد / د. عبد الله التركي / مكتبة الرياض الحديثة .
أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن / العلامة محمد الأمين الشنقيطي / دار الكتب العلمية / الطبعة الأولى .
الأعلام / خير الدين الزركلي / دار العلم للملايين / الطبعة الثانية عشرة .
إعلام الموقعين عن رب العالمين / أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن القيم /دار الجيل .
أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - ودلالتها على الأحكام الشرعية / د. محمد سليمان الأشقر / مؤسسة الرسالة / الطبعة الخامسة .
الأم / الإمام محمد بن إدريس الشافعي / دار المعرفة .
الأنجم الزاهرات على حل ألفاظ الورقات في أصول الفقه / شمس الدين محمد بن عثمان المارديني / تحقيق د. عبد الكريم النملة / مكتبة الرشد / الطبعة الثانية .(/68)
أنيس الفقهاء في تعريفات الألفاظ المتداولة بين الفقهاء / الشيخ قاسم القونوي / تحقيق د. أحمد الكبيسي / مؤسسة الكتب الثقافية / الطبعة الأولى .
إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون / إسماعيل باشا البغدادي / دار الفكر .
الإيضاح والتبيان في معرفة المكيال والميزان / نجم الدين بن الرفعة / تحقيق د. محمد الخاروف / دار الفكر .
اجتهاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - / د. نادية شريف العمري / مؤسسة الرسالة / الطبعة الأولى .
الاختيار لتعليل المختار / عبد الله بن محمود الموصلي الحنفي /تعليق محمود أبو دقيقة/ دار المعرفة / الطبعة الثالثة .
الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار / الحافظ ابن عبد البر / تحقيق د. عبد المعطي قلعجي / مؤسسة الرسالة / الطبعة الأولى .
الانصاف في معرفة الراجح من الخلاف / علاء الدين المرداوي / دار إحياء التراث العربي / الطبعة الثانية .
الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث / أحمد شاكر / دار الكتب العلمية .
البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار/ أحمد بن يحيى بن المرتضى / مؤسسة الرسالة .
البحر المحيط في أصول الفقه / بدر الدين محمد الزركشي / وزارة الأوقاف الكويتية .
بدائع الزهور في وقائع الدهور / محمد بن أحمد بن إياس الحنفي / تحقيق محمد مصطفى / الهيئة المصرية العامة للكتاب / الطبعة الثانية .
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع / علاء الدين الكاساني / مؤسسة التاريخ العربي / الطبعة الأولى .
بداية المجتهد ونهاية المقتصد / القاضي محمد بن أحمد بن رشد الأندلسي / دار الفكر.
البداية والنهاية / الحافظ ابن كثير / دار الريان / الطبعة الأولى .
البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع / محمد بن علي الشوكاني / دار المعرفة .
البرهان في أصول الفقه / إمام الحرمين الجويني / تحقيق د. عبد العظيم الديب / الطبعة الأولى .
بلغة السالك لأقرب المسالك / أحمد الصاوي / دار الفكر .
بيان معاني البديع / محمود بن عبد الرحمن الأصفهاني / تحقيق د. حسام الدين عفانه / رسالة دكتوارة مطبوعة على الآلة الكاتبة .
تاج العروس من جواهر القاموس / محمد مرتضى الزبيدي / تحقيق علي شيري / دار الفكر .
تاريخ الأدب العربي / كارل بروكلمان / نقله إلى العربية جماعة من الأساتذة بإشراف محمود حجازي / الهيئة المصرية العامة للكتاب .
التبصرة في أصول الفقه / أبو اسحق الشيرازي / تحقيق د. محمد حسن هيتو /دار الفكر .
تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق / فخر الدين الزيلعي / دار المعرفة .
تحفة الطالب بمعرفة أحاديث مختصر ابن الحاجب / الحافظ ابن كثير / تحقيق عبد الغني حميد الكبيسي / دار حراء / الطبعة الأولى .
تحفة المحتاج إلى أدلة المنهاج / ابن الملقن / تحقيق عبد الله اللحياني / دار حراء / الطبعة الأولى .
تحقيق المراد في أن النهي يقتضي الفساد / الحافظ العلائي / تحقيق د. إبراهيم سلقيني / دار الفكر / الطبعة الأولى .
التحقيق في أحاديث الخلاف / أبو الفرج بن الجوزي / تحقيق مسعد السعدني / دار كتب العلمية / الطبعة الأولى .
التحقيقات في شرح الورقات / حسين بن أحمد الكيلاني المعروف بابن قاوان / تحقيق د. الشريف سعد بن عبد الله بن حسين / دار النفائس الطبعة الأولى .
تخريج أحاديث اللمع في أصول الفقه / عبد الله بن محمد الصديقي الغماري / عالم الكتب / الطبعة الأولى .
تخريج الفروع على الأصول / شهاب الدين محمود الزنجاني / تحقيق د. محمد أديب صالح / مؤسسة الرسالة / الطبعة الثالثة .
تدريب الراوي شرح تقريب النواوي / جلال الدين السيوطي / المكتبة العلمية .
التعارض والترجيح بين الأدلة الشرعية / عبد اللطيف البرزنجي / دار الكتب العلمية / الطبعة الأولى .
التعارض والترجيح عند الأصوليين / د. محمد الحفناوي / دار الوفاء / الطبعة الثانية .
التعريفات / أبو الحسن علي بن محمد الجرجاني / الدار التونسية .
تفسير الألوسي ( روح المعاني ) / محمود الألوسي / دار الكتب العلمية / الطبعة الأولى .
تفسير القرطبي / أبو عبد الله محمد الأنصاري القرطبي / دار القلم / الطبعة الثالثة .
التفسير الكبير / فخر الدين الرازي / دار إحياء التراث العربي .
تفسير النصوص في الفقه الإسلامي / د. محمد أديب صالح / المكتب الإسلامي / الطبعة الثالثة .
تفسير فتح القدير / محمد بن علي الشوكاني / مطبعة مصطفى الحلبي / الطبعة الثانية .
التقريب / أبو زكريا محيي الدين النووي / المكتبة العلمية / مطبوع مع شرحه تدريب الراوي .
التقرير والتحبير شرح التحرير / ابن أمير الحاج / دار الكتب العلمية / الطبعة الأولى .
تكملة شرح فتح القدير ( نتائج الأفكار في كشف الرموز والأسرار ) / قاضي زادة أفندي / دار إحياء التراث العربي .
التلخيص في أصول الفقه / إمام الحرمين الجويني / تحقيق د. عبد الله النيبالي و د. شبير العمري / دار البشائر الإسلامية / الطبعة الأولى .(/69)
التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير / الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني / طبعة عبد الله هاشم اليماني المدني .
تلقيح الفهوم في تنقيح صيغ العموم / الحافظ العلائي / دار الأرقم / الطبعة الأولى .
التمهيد في تخريج الفروع على الأصول / جمال الدين عبد الرحيم الإسنوي /تحيقق د. محمد حسن هيتو / مؤسسة الرسالة / الطبعة الثانية .
التمهيد في أصول الفقه / أبو الخطاب محفوظ الكلوذاني / تحقيق د. مفيد أبو عمشة / رسالة دكتوراة مطبوعة على الآلة الكاتبة .
تهذيب الأسماء واللغات / أبو زكريا محي الدين النووي / دار الكتب العلمية .
تهذيب سنن أبي داود / شمس الدين أبو بكر بن القيم / دار الكتب العلمية / الطبعة الأولى .
التوضيح شرح التنقيح / صدر الشريعة عبيد الله بن مسعود المحبوبي / دار الكتب العلمية .
التوضيح في الجمع بين المقنع والتنقيح / أحمد بن محمد الشويكي / تحقيق ناصر الميمان / المكتبة المكية / الطبعة الأولى .
تيسير التحرير / محمد أمين المعروف بأمير باد شاه / مطبعة مصطفى البابي الحلبي .
جامع الأمهات / جمال الدين بن الحاجب / تحقيق الأخضر الأخضري / طبعة اليمامة / الطبعة الأولى .
جامع بيان العلم وفضله / الحافظ ابن عبد البر / دار الكتب العلمية
الجواهر المضية في طبقات الحنفية / عبد القادر القرشي / تحقيق د. عبد الفتاح الحلو / مؤسسة الرسالة / الطبعة الأولى .
حاشية ابن عابدين ( رد المحتار على الدر المختار ) / محمد أمين الشهير بابن عابدين / مطبعة مصطفى البابي الحلبي / الطبعة الثانية .
حاشية البناني على جمع الجوامع / عبد الرحمن بن جاد الله البناني / مطبعة مصطفى البابي الحلبي / الطبعة الثانية .
حاشية الجرجاني على شرح العضد / علي بن محمد الشريف الجرجاني / مكتبة الكليات الأزهرية .
حاشية الدسوقي على الشرح الكبير / شمس الدين محمد عرفه الدسوقي / دار إحياء الكتب العربية .
حاشية الدمياطي على شرح المحلي على الورقات / أحمد بن محمد الدمياطي / مطبعة مصطفى البابي الحلبي / الطبعة الثالثة .
الحاوي الكبير / أبو الحسن علي بن محمد الماوردي / دار الكتب العلمية / الطبعة الأولى .
الحدود في الأصول / أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي / تحقيق د. نزيه حماد / مؤسسة الزعبي / الطبعة الأولى .
حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة / جلال الدين السيوطي / تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم / دار إحياء الكتب العربية .
الحقيقة والمجاز في الكتاب والسنة / حسام الدين عفانه / رسالة ماجستير مطبوعة على الآلة الكاتبة .
الحكم التكليفي في الشريعة الإسلامية / د. محمد أبو الفتح البيانوني / دار القلم / الطبعة الأولى .
الحكم الوضعي عند الأصوليين / سعيد بن علي الحميري / رسالة ماجستير مطبوعة على الآلة الكاتبة .
دائرة معارف القرن العشرين / محمد فريد وجدي / دار المعرفة / الطبعة الثالثة .
الذخيرة / شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي / تحقيق د. محمد حجي / دار الغرب الإسلامي / الطبعة الأولى .
الرسالة / الإمام محمد بن إدريس الشافعي / تحقيق أحمد محمد شاكر / المكتبة العلمية .
رسالة في بيان الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم /أبو القاسم هبة الله بن سلامة / تحقيق د. حسين الدراويش / الطبعة الأولى .
روضة الناظر وجنة المناظر في أصول الفقه / موفق الدين ابن قدامة المقدسي / تحقيق د. عبد العزيز السعيد / مطابع جامعة الإمام / الطبعة الثانية .
سلسلة الأحاديث الصحيحة / محمد ناصر الدين الألباني / الطبعة الثانية / المكتب الإسلامي .
سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة / محمد ناصر الدين الألباني / المكتب الإسلامي / الطبعة الثانية .
سنن أبي داود / سليمان بن الأشعث السجستاني / دار الكتب العلمية / الطبعة الأولى / مطبوع مع عون المعبود .
سنن ابن ماجة / أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني / تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي / دار الكتب العلمية .
سنن البيهقي ( السنن الكبرى ) / أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي / دار الفكر .
سنن الترمذي / أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة / تحقيق أحمد محمد شاكر / دار الكتب العلمية .
سنن الدارقطني / علي بن عمر الدارقطني / عالم الكتب / الطبعة الثالثة .
سنن النسائي / أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي / دار الكتب العلمية .
سير أعلام النبلاء / محمد بن أحمد الذهبي / تحقيق شعيب الأرناؤوط / مؤسسة الرسالة / الطبعة التاسعة .
شذارت الذهب في أخبار من ذهب / عبد الحي بن العماد الحنبلي / دار الآفاق الجديدة .
شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك / بهاء الدين بن عبد بن عقيل / دار الاتحاد العربي / الطبعة الخامسة عشرة .
شرح ابن ملك على المنار / عبد اللطيف بن عبد العزيز بن ملك / المطبعة العثمانية .
شرح العبادي على شرح المحلي على الورقات / أحمد بن قاسم العبادي / دار المعرفة / مطبوع بهامش إرشاد الفحول .(/70)
شرح العضد على مختصر ابن الحاجب / عضد الملة والدين الإيجي / مكتبة الكليات الأزهرية .
شرح العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية / د. محمد خليل هراس / المكتبة السلفية .
الشرح الكبير / أبو البركات أحمد الدردير / دار إحياء الكتب العربية .
شرح الكوكب المنير / محمد بن أحمد الفتوحي المعروف بابن النّجار / تحقيق د. محمد الزحيلي و د. نزيه حماد / دار الفكر .
شرح المحلي على جمع الجوامع / جلال الدين محمد بن أحمد المحلي / مطبعة مصطفى البابي الحلبي .
شرح تنقيح الفصول / شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي / تحقيق طه عبد الرؤوف سعد / مكتبة الكليات الأزهرية ودار الفكر .
شرح الخرشي على مختصر سيدي خليل / محمد الخرشي / دار صادر .
شرح فتح القدير / كمال الدين بن الهمام / دار إحياء التراث العربي .
شرح مختصر الروضة / نجم الدين سليمان الطوفي / تحقيق د. عبد الله التركي / مؤسسة الرسالة / الطبعة الأولى .
شرح معاني الآثار / أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي / عالم الكتب / الطبعة الأولى .
شرح النووي على صحيح مسلم / أبو زكريا محيي الدين النووي / دار الخير .
شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل / حجة الإسلام أبو حامد الغزالي / تحقيق د. حمدي الكبيسي / مطبعة الإرشاد .
الصحاح / إسماعيل بن حمّاد الجوهري / دار العلم للملايين / الطبعة الثانية .
صحيح ابن حبان ( الإحسان ) / علاء الدين علي بن بلبان / تحقيق شعيب الأرناؤوط / مؤسسة الرسالة الطبعة الأولى .
صحيح البخاري / محمد بن إسماعيل البخاري / مطبعة مصطفى البابي الحلبي / مطبوع مع شرحه فتح الباري .
صحيح الجامع الصغير / محمد ناصر الدين الألباني / المكتب الإسلامي / الطبعة الثانية .
صحيح السيرة النبوية / إبراهيم العلي / دار النفائس الطبعة الأولى .
صحيح سنن أبي داود / محمد ناصر الدين الألباني / المكتب الإسلامي / الطبعة الأولى .
صحيح مسلم / مسلم بن الحجاج النيسبابوري / دار الخير / الطبعة الأولى / مطبوع مع شرح النووي .
صفة الفتوى والمفتي والمستفتي / أحمد بن محمد الحراني الحنبلي / تعليق محمد ناصر الدين الألباني / المكتب الإسلامي الطبعة الثالثة .
الضوء اللامع لأهل القرن التاسع / شمس الدين محمد السخاوي / دار مكتبة الحياة .
الضياء اللامع شرح جمع الجوامع / أحمد بن عبد الرحمن الزليطني / تحقيق د.
عبد الكريم النملة / مكتبة الرشد / الطبعة الثانية .
طبقات الشافعية الكبرى / تاج الدين عبد الوهاب بن علي السبكي / تحقيق محمود الطناحي وعبد الفتاح الحلو / دار إحياء الكتب العربية .
طلبة الطلبة في الاصطلاحات الفقهية / نجم الدين عمر بن محمد النسفي / تعليق خالد العك / دار النفائس الطبعة الأولى .
ظلال الجنة في تخريج السنة / محمد ناصر الدين الألباني / المكتب الإسلامي / الطبعة الثانية .
العدة في أصول الفقه / القاضي أبو يعلى الفراء الحنبلي / تحقيق د. أحمد بن علي المباركي / الطبعة الثانية .
عون المعبود شرح سنن أبي داود / محمد أشرف بن أمير الصديقي العظيم أبادي / دار الكتب العلمية الطبعة الأولى .
فتح الباري بشرح البخاري / الحافظ شهاب الدين أحمد بن علي بن حجر العسقلاني / مطبعة مصطفى البابي الحلبي .
الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني / أحمد عبد الرحمن البنا / دار إحياء التراث العربي .
فتح الغفار شرح المنار / زين الدين بن نجيم الحنفي / مطبعة مصطفى البابي الحلبي .
فتح المالك بتبويب التمهيد لابن عبد البر على موطأ الإمام مالك / ترتيب د. مصطفى صميدة / دار الكتب العلمية / الطبعة الأولى .
الفتح المبين في طبقات الأصوليين / عبد الله مصطفقى المراغي / الطبعة الثانية .
فتح باب العناية بشرح النقاية / علي بن سلطان القاري / دار الأرقم / الطبعة الأولى .
الفتيا ومناهج الإفتاء / د. محمد سليمان الأشقر / مكتبة المنار الإسلامية / الطبعة الأولى .
الفروع / شمس الدين محمد بن مفلح / عالم الكتب .
الفروق / شهاب الدين أحمد القرافي / دار المعرفة .
فقه الزكاة / د. يوسف القرضاوي / مؤسسة الرسالة الطبعة الثانية .
فهرس مخطوطات المكتبة البديرية / خضر إبراهيم سلامة / مطابع دار الأيتام الإسلامية .
فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت / عبد العلي محمد الأنصاري / المطبعة الأميرية / مطبوع مع المستصفى .
قواطع الأدلة في الأصول / أبو المظفر السمعاني / تحقيق د. محمد حسن هيتو / مؤسسة الرسالة الطبعة الأولى .
قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث / محمد جمال الدين القاسمي / تحقيق محمد بهجة البيطار / دار النفائس / الطبعة الثانية .
القوانين الفقهية / ابن جزي المالكي / دار القلم .
كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي / علاء الدين عبد العزيز ابن أحمد البخاري / دار الكتاب العربي .(/71)
كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس / إسماعيل بن محمد العجلوني / مكتبة التراث الإسلامي .
كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون / مصطفى بن عبد الله المعروف بحاجي خليفة / دار الفكر .
كفاية الأخيار في حلّ غاية الاختصار / تقي الدين أبو بكر بن محمد الحصني / دار الخير / الطبعة الأولى .
الكليات / أبو البقاء الكفوي / مؤسسة الرسالة / الطبعة الثانية .
الكواكب السائرة بأعيان المئة العاشر / نجم الدين الغزي / تحقيق جبرائيل جبور / درا الآفاق الجديدة .
الكوكب الدري فيما يتخرج على الأصول النحوية من الفروع الفقهية / جمال الدين عبد الرحيم الإسنوي / تحقيق د. محمد حسن عواد / دار عمّار / الطبعة الأولى .
لسان العرب / ابن منظور / تعليق علي شيري / دار إحياء التراث العربي / الطبعة الأولى .
اللمع في أصول الفقه / أبو إسحاق الشيرازي / عالم الكتب / الطبعة الأولى .
مباحث الحكم عند الأصوليين / محمد سلام مدكور / دار النهضة العربية .
مجمع الزوائد ومنبع الفوائد / نور الدين علي الهيثمي / دار الكتاب العربي / الطبعة الثالثة .
المجموع شرح المهذب / أبو زكريا محيي الدين النووي / دار الفكر .
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية / جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد العاصمي النجدي / مؤسسة الرسالة .
المحصول في علم أصول الفقه / فخر الدين الرازي / تحقيق طه جابر العلواني / مطابع الفرزدق / الطبعة الأولى .
مختصر ابن الحاجب / جمال الدين عثمان بن عمر بن الحاجب / مكتبة الكليات الأزهرية .
مختصر المزني / إسماعيل بن يحيى المزني / دار المعرفة .
المدخل إلى مذهب الإمام أحمد / عبد القادر بن أحمد المعروف بابن بدران / دار إحياء التراث العربي .
مذكرة أصول الفقه / محمد الأمين الشنقيطي / طبع الجامعة الإسلامية .
مرآة الأصول شرح مرقاة الأصول / محمد بن فراموز بن علي ملا خسرو / مطبعة الحج محرم أفندي البوسني .
المستدرك على الصحيحين / أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم / دار المعرفة / الطبعة الأولى .
المستصفى من علم الأصول أبو حامد الغزالي / المطبعة الأميرية .
مسند الشافعي / الإمام محمد بن إدريس الشافعي / دار المعرفة .
المسودة في أصول الفقه / مجد الدين وشهاب الدين وتقي الدين آل تيمية / دار الكتاب العربي .
المصباح المنير في غريب الشرح الكبير / أحمد بن محمد الفيومي / المكتبة العلمية .
المصنف / عبد الله بن محمد بن أبي شيبة / تحقيق عبد الخالق الأفغاني / الدار السلفية / الطبعة الثانية .
المعتمد في أصول الفقه أبو الحسين محمد بن علي البصري / تحقيق محمد حميد الله / المطبعة الكاثوليكية .
معجم المؤلفين / عمر رضا كحالة / مؤسسة الرسالة / الطبعة الأولى .
معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية / د. محمود عبد الرحمن عبد المنعم / دار الفضيلة .
معراج المنهاج شرح منهاج الوصول إلى علم الأصول / شمس الدين محمد بن يوسف الجزري / تحقيق د. شعبان محمد إسماعيل / مطبعة الحسين الإسلامية .
معرفة السنن والآثار / أحمد بن الحسين البيهقي / تحقيق د. عبد المعطي قلعجي / مطابع دار الوفاء / الطبعة الأولى .
المغني على مختصر الخرقي / عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي / مطبعة الفجالة الجدبدة .
المغني في أصول الفقه / جلال الدين عمر الخبازي / تحقيق محمد مظهر بقا / طبعة جامعة أم القرى / الطبعة الأولى .
مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج / محمد الخطيب الشربيني / دار الكتب العلمية / الطبعة الأولى .
مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول / محمد بن أحمد المالكي التلمساني / تحقيق محمد فركوس / المكتبة المكية / الطبعة الأولى .
المفردات في غريب القرآن / الراغب الأصفهاني / تحقيق محمد سيد كيلاني .
مناقب الشافعي / أحمد بن الحسين البيهقي / تحقيق السيد أحمد صقر / دار التراث .
منحة الجليل بتحقيق شرح ابن عقيل / محمد محي الدين عبد الحميد / دار الاتحاد العربي .
المنخول من تعليقات الأصول / أبو حامد الغزالي / تحقيق د. محمد حسن هيتو / دار الفكر / الطبعة الأولى .
منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز / محمد الأمين الشنقيطي / دار الكتب العلمية / الطبعة الأولى .
منهج التوفيق والترجيح بين مختلف الحديث / د. عبد المجيد السوسوه / دار الذخائر / الطبعة الثانية .
منهج النقد في علوم الحديث / د. نور الدين عتر / دار الفكر / الطبعة الثالثة.
موافقة الخبر الخبر في تخريج أحاديث المختصر / علي بن أحمد حجر العسقلاني / تحقيق حمدي السلفي وصبحي السامرائي / مكتبة الرشد / الطبعة الأولى .
الموسوعة الفقهية / وزارة الأوقاف الكويتية / طباعة ذات السلاسل / الطبعة الثانية .
الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة / الندوة العالمية للشباب الإسلامي / الطبعة الثانية .
الموطأ / الإمام مالك بن أنس / تعليق محمد فؤاد عبد الباقي / دار الحديث / الطبعة الثانية .(/72)
نثر الورود على مراقي السعود / محمد الأمين الشنقيطي / دار المنارة / الطبعة الأولى .
نزهة الخاطر العاطر شرح روضة الناظر / عبد القادر بن بدران / مكتبة المعارف .
نصب الراية لأحاديث الهداية / جمال الدين عبد الله بن يوسف الزيلعي / دار المأمون / الطبعة الأولى .
نهاية السول شرح منهاج الأصول / جمال الدين عبد الرحيم الإسنوي / دار الكتب العليمة الطبعة الثانية .
الهداية شرح البداية / برهان الدين علي بن أبي بكر المرغيناني / دار إحياء التراث العربي .
الهداية في تخريج أحاديث البداية / أحمد بن محمد بن الصديق الغماري / عالم الكتب .
هدية العارفين / إسماعيل باشا البغدادي / دار الفكر .
الوجيز في أصول الفقه / د. عبد الكريم زيدان / مكتبة القدس .
الوصول إلى الأصول / أحمد بن علي بن برهان البغدادي / تحقيق د. عبد الحميد أبو زنيد / مكتبة المعارف .
المحتويات فهرس
الموضوع ... رقم الصفحة
مقدمة المحقق ... 5
القسم الأول : الدراسة ... 11
المبحث الأول : دراسة حول إمام الحرمين ... 13
المطلب الأول : التعريف بإمام الحرمين ... 14
اسمه ونسبه ... 14
لقبه وكنيته ... 14
مولده ... 14
نشأته وطلبه للعلم ... 14
شيوخه ... 15
تلاميذه ... 15
ثناء العلماء عليه ... 16
مؤلفاته ... 17
وفاته ... 18
المطلب الثاني : التعريف بكتاب الورقات لإمام الحرمين ... 19
أولاً : نسبة الكتاب إلى مؤلفه وعنوانه ... 19
ثانياً : الموضوعات التي احتوتها ورقات إمام الحرمين ... 20
ثالثاً : أهمية ورقات إمام الحرمين وعناية العلماء به ... 22
المبحث الثاني : دراسة حول الشارح جلال الدين المحلي ... 27
اسمه ونسبه ... 28
لقبه ... 28
مولده ونشأته ... 28
طلبه للعلم وشيوخه ... 28
تلاميذه ... 31
أخلاقه وثناء العلماء عليه ... 33
مؤلفاته ... 34
وفاته ... 36
المبحث الثالث : التعريف بالشرح ... 37
أولاً : عنوان الكتاب ... 39
ثانياً : نسبة الكتاب إلى مؤلفه ... 39
ثالثاً : أهمية شرح جلال الدين المحلي ... 40
رابعاً : وصف النسخ ... 41
المبحث الرابع : منهجي في التحقيق ... 47
صور للنسخ المخطوطة ... 49
القسم الثاني ... 63
المقدمة ... 65
تعريف أصول الفقه باعتباره مركباً إضافياً ... 66
تعريف الأصل ... 66
تعريف الفرع ... 67
تعريف الفقه لغة واصطلاحاً ... 68
أقسام الحكم الشرعي ... 70
تعريف الواجب ... 71
تعريف المندوب ... 72
تعريف المباح ... 73
تعريف المحظور ... 74
تعريف المكروه ... 75
تعريف الصحيح ... 77
تعريف الباطل ... 78
الفرق بين الفقه والعلم ... 79
تعريف العلم ... 79
تعريف الجهل وأقسامه ... 80
تعريف العلم الضروري ... 81
تعريف العلم المكتسب ... 82
تعريف النظر ... 83
تعريف الاستدلال ... 83
تعريف الدليل ... 84
تعريف الظن ... 85
تعريف الشك ... 85
تعريف أصول الفقه باعتباره عَلَماً ... 87
أبواب أصول الفقه ... 90
أقسام الكلام باعتبار ما يتركب منه ... 91
أقسام الكلام باعتبار مدلوله ... 93
أقسام الكلام باعتبار استعماله ... 95
تعريف الحقيقية ... 95
تعريف المجاز ... 96
أقسام الحقيقة ... 98
أقسام المجاز ... 100
تعريف الأمر وبيان دلالة صيغة إفعل ... 103
هل الأمر يقتضي التكرار ؟ ... 106
هل الأمر يقتضي الفور أم لا ؟ ... 108
ما لا يتم الواجب إلا به ... 109
خروج المأمور عن عهدة الأمر ... 110
الذي يدخل في الأمر والنهي وما لا يدخل ... 111
هل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة أم لا ؟ ... 113
هل الأمر بالشيء نهي عن ضده ؟ ... 115
النهي عن الشيء أمر بضده ... 115
تعريف النهي ... 116
النهي يدل على فساد المنهي عنه ... 117
معاني صيغة الأمر ... 120
تعريف العام ... 122
صيغ العموم ... 123
العموم من صفات الألفاظ والفعل لا عموم له ... 127
تعريف الخاص والتخصيص ... 130
أقسام المخصص ... 131
أنواع المخصص المتصل ... 131
أولاً : الاستثناء وشروطه ... 132
الشرط الأول ... 132
الشرط الثاني ... 133
جواز تقديم المستثنى على المستثنى منه وجواز الاستثناء من الجنس ... 135
ثانياً : الشرط ... 137
ثالثاً : الصفة ... 138
التخصيص المنفصل : تخصيص الكتاب بالكتاب ... 139
تخصيص الكتاب بالسنة ... 140
تخصيص السنة بالكتاب ... 141
تخصيص السنة بالسنة ... 142
تخصيص الكتاب والسنة بالقياس ... 143
تعريف المجمل والبيان ... 144
تعريف النص ... 146
تعريف الظاهر ... 147
أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - ... 150
الأفعال المختصة بصاحب الشريعة ... 150
الأفعال غير المختصة بصاحب الشريعة ... 151
إقرار الرسول - صلى الله عليه وسلم - ... 154
تعريف النسخ ... 158
تعريفه لغةً ... 158
تعريفه اصطلاحاً ... 158
أنواع النسخ في القرآن الكريم ... 161
مسائل النسخ بين الكتاب والسنة ... 166
التعارض ... 170
تعارض النصوص ... 170
تعارض العامين ... 171
تعارض الخاصين ... 174
تعارض العام مع الخاص ... 177(/73)
تعريف الإجماع وبيان حجيته ... 181
هل يشترط انقراض العصر في حجية الإجماع ؟ ... 185
الإجماع السكوتي ... 186
حجية قول الصحابي ... 188
الأخبار ... 190
تعريف الخبر وأقسامه ... 190
تعريف المتواتر ... 191
خبر الآحاد وأقسامه ... 193
المسند ... 194
المرسل وحجيته ... 194
الإسناد المعنعن ... 198
ألفاظ الرواية عند غير الصحابي ... 199
القياس ... 201
تعريف القياس ... 201
أقسام القياس ... 201
قياس العلة ... 203
قياس الدلالة ... 204
قياس الشبه ... 205
بعض شروط الفرع والأصل ... 206
بعض شروط العلة وحكم الأصل ... 207
الأصل في الأشياء ... 210
الاستصحاب ... 212
ترتيب الأدلة والترجيح بينها ... 214
شروط المفتي أو المجتهد ... 217
شروط المستفتي ... 220
تعريف التقليد ... 221
الاجتهاد ... 223
تعريف الاجتهاد ومسألة تصويب المجتهد ... 223
الاجتهاد في أصول الدين ... 225
فهرس الآيات ... 228
فهرس الأحاديث ... 230
فهرس الأعلام ... 232
قائمة المصادر ... 233
فهرس المحتويات ... 250
تمت(/74)
شَوْقُ الجهَاد وجلاَلُ النَّصر
في أفغانستان
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
أَأَسكُبُ الشَّوقَ مِنْ جَفْنٍ ومن كَبِدِ ... ... ومِنْ رُؤىً وَصَلَتْ عَهْداً مضىَ بِغَدِ
... ...
الذكْرْياتُ عَلَى أَطْلاَلِها نَهَضَتْ ... ... تُعَانِقُ المجدَ شَوْقَ الأُمِّ لِلْوَلَدِ
... ...
هُنَا اللَّيالي التي فَارَقْتُها زَمَناً ... ... عَادَتْ تُحَدِّثُ عَنْ أَهْلي وعَنْ بَلَديَ
... ...
" كَابُول " داري وإنْ شَطَّ المَزَارُ فُما ... ... يُقَرِّبُ الدَّار إِلا لَهْفَةُ الكَبِدِ
... ...
فَحيْثُما كَانَ ذكْرُ الله عُدْتُ إِلى ... ... حَبْلٍ مِن الله مَوْصولٍ ومُنْعَقِدِ
... ...
أَنا انتسابي إلى الإِسلام : كُلّ هَوَى ... ... ماضٍ ويبقى هوى ديني ومُعْتَقَدِي
... ...
لله دَرُّكِ يا " كَابولُ " أَيُّ شَذاً ... ... أَحْلَى مِنَ الدَّمِ دفَّاقاً مِنَ الوُرُدِ (1)
... ...
أَزكى مِنَ الوَرْدِ فَوَّاحاً بِرَوضته ... ... أَغْنَى مِنَ النَّبْع فَوَّاراً على جَدَدَ (2)
... ...
رَحِيقُهُ : في سبيل الله ، نَفْحَتُه ... ... نَصْرٌ على عِزَّةٍ قَعْسَاءَ لم تَحِدِ (3)
... ...
كَأَنَّهُ عَبَقٌ ، والسَّاحُ تَنْشُرُهُ ... ... مِلءَ الزَّمانِ، عَلَى الآفاق ، في النُّجُدِ
... ...
لله تَسكُبُه الأبْطَالُ صَاعِدةً ... ... عَلَى مَدَارِجِها آفَاق ، مُجْتَهِدِ
... ...
إِلى الجِنَان ! إِلى الفردَوس وثْبَتُها ... ... تَدُقُّ أَبوابها دقًّا بكلّ يَدِ
... ...
للنَّاسِ إِن أَظْلَمُوا نُورٌ بِهِ وإِذا ... ... مَالُوا فمِنْهُ جَلاءُ الحقِّ و السَّدَدِ
... ...
كمْ آيَةٍ عَرَضَتْ مِنْ طِيبها عَبَقا ... ... عَلى عُلاً زَاهِرٍ في أُفْقِهَا الفَرِدِ
... ...
فَقفْ هُنَا أَيُّها الإنْسَان في رَهَبٍ ... ... واخْشَعْ إلى الله في سَاحَاتِها وَعُدِ
... ...
كمْ آيَةٍ عَرَضَتْ مِنْ طِيبها عَبَقا ... ... عَلى عُلاً زَاهِرٍ في أُفْقِهَا الفَرِدِ
... ...
فَقِفْ هُنَا أَيُّها الإنْسَان في رَهَبٍ ... ... واخْشَعْ إِلى الله في سَاحَاتِها وَعُدِ
* * ... ... * *
جَلاَلُ نَصْرِكِ آياتٌ مبيِّنةٌ ... ... للِمؤْمِنين وغَيْظُ الحَاقِدِ النَّكِدِ
... ...
عَشْرٌ مَضتْ ! والدَّمُ القَاني يُفَجِّرهُ ... ... مِن الوَرِيد وَفَاءُ العَهْدِ وَالعُدَدِ
... ...
لقَدْ تَجَاوَزْتِ شَكْوَانا و واقِعَنَا ... ... وَقُمْتِ مِنْ غَفْوَةٍ رَكْضاً إِلى كَبَد (4)
... ...
إِلى الميَادِين يُجْلَى في مَلاحمها ... ... حقُّ ويُحْسَمُ مِنْ أَمْرٍ ومِنْ عُقَدِ
... ...
هُناكَ بَيْنَ اللَّظى صُغْتِ السِّياسَة لا ... ... بَيْنَ الأرائِكِ والأطْبَاقِ والحَفَد (5)
... ...
هُنَاكَ صُغْتِ على الميْدَانِ فَلسفَةً ... ... تَقُولُ إِن شِئتَ نَصْرَاً قُمْ لَهُ وجُدِ
... ...
وَعُذْ بِربِّكَ لا تُشْرِكْ به أَحداً ... ... وَمنْ يَعُذْ بِسِوى الرَّحمن لم يَسُدِ
* * ... ... * *
1412هـ
1991م ... ... ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· ملحمة الجهاد الأفغاني .
(1) الوُردُ أصلها الوُرْد وهي جمع الورد وهو الشجر أو الزهرة ، ومن كل شيء بين الحمرة والصفرة .
(2) جَدَدَ : الأرض الغليظة المستوية .
(3) قعساء : الثابت من العز .
(4) كبد : مشقة .
(5) الحَفَدْ : الأعوان والخَدَم(/1)
شَيْخُ الإِسْلاَم ابْنُ تَيْمِيَةَ وَخِيَانَاتُ الرَّافِضَةِ لِلأُمَّة ...
الحَمْدُ للهِ وَبَعْدُ ؛
كُنْتُ قَدْ جَمَعْتُ جُمْلَةً مِنْ النُّصُوْصِ لِشَيْخِ الإِسْلاَم ابْنِ تَيْمِيَةَ - رَحِمَهُ اللهُ - فِي إِحْدَى المَقَالاَتِ عَنْ خِيَانَاتِ الرَّافِضَةِ لِلأُمَّةِ ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَضَعَهَا هُنا لِيَسْهُلَ الرُّجُوْعُ إِلَيْهَا حَالَ الحَاجَةِ .
وَلِي طَلبانِ :
الطَّلَبُ الأَوَّلُ : لاَ أُرِيْدُ مِنَ الأَحِبَّةِ هُنا الاسْتِعْجالَ فِي نَقَلِ النُّصُوْصِ عَنْ شَيْخِ الإِسْلاَم ابْنِ تَيْمِيَةَ - رَحِمَهُ اللهُ - لِعِلْمِي أَنَّهُم يَرغَبُوْنَ فِي المُشَارِكَةِ - جَزَاهُمُ اللهُ خَيْراً - ، فَالنُّصُوْصُ كَثِيْرَةٌ ، وَلَرُبَّمَا يَضَعُهَا أَحَدُهُمُ وَهِي إَمَا مَوْجُوْدَةٌ هَنا ، أَو سَتَنْقُلُ فِيمَا بَعْدُ .
وَبَعْدَ الانْتهاءِ مِنْ نَقْلِهَا سَيَكُوْنُ المَجَالُ مَفْتُوحاً لِلجَمِيْعِ أَنْ يَدْلُوا بِدَلْوِهِم .
الطَّلَبُ الثَّانِي : لَيتَ مِمَّنْ وهَبَهُم اللهُ عِلْماً فِي عَملِ البانراتِ والفلاشاتِ أَنْ يَضَعُوا هَذِهِ النُّصُوْصَ عَلَى شكلِ بانراتِ وفلاشاتٍ .
شَيْخُ الإِسْلاَم ابْنُ تَيْمِيَةَ وَخِيَانَاتُ الرَّافِضَةِ لِلأُمَّةِ
قَالَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي " مِنْهَاجِ السُّنَّةِ " (3/243) : " إِنَّ أَصلَ كُل فِتْنَةٍ وَبَلِيَّةٍ هُم الشِّيْعَةُ ، وَمَنْ انْضَوَى إِلَيْهِمْ ، وَكَثِيْرُ مِنْ السُّيُوْفِ الَّتِي فِي الإِسْلاَمِ ، إِنَّمَا كَانَ مِنْ جِهَتِهِم ، وَبِهِم تَسْتَرت الزّنَادقَةُ " .ا.هـ.
وَقَالَ أَيْضاً (4/110) : " فَهُم يُوالُونَ أَعْدَاءَ الدِّيْنِ الَّذِيْنَ يَعْرِفُ كُل أَحَدٍ مُعادَاتِهِم مِنَ اليَهُوْدِ وَالنَّصَارَى وَالمُشْرِكِيْنَ ، وَيُعَادُونَ أَوْلِيَاءَ اللهِ الَّذِيْنَ هُم خِيَارُ أَهْلِ الدِّيْنِ ، وَسَادَاتِ المُتَّقِيْنَ ... وَكَذَلِكَ كَانُوا مِنْ أَعْظَمِ الأَسبَابِ فِي اسْتيلاَءِ النَّصَارَى قَدِيْماً عَلَى بَيْتِ المَقْدِسِ حَتَّى اسْتَنْقَذَهُ المُسْلِمُوْنَ مِنْهُم " .ا.هـ.
وَقَالَ أَيْضاً (3/38) : " فَقَدْ رَأَيْنَا وَرَأَى المُسْلِمُوْنَ أَنَّهُ إِذَا ابْتُلِيَ المُسْلِمُوْنَ بَعَدُوِّ كَافِرٍ كَانُوا مَعَهُ عَلَى المُسْلِمِيْنَ " .ا.هـ.
وَقَالَ فِي " مِنْهَاجِ السُّنَّةِ " (3/38) : " فَقَدْ رَأَيْنَا وَرَأَى المُسْلِمُوْنَ أَنَّهُ إِذَا ابْتُلِيَ المُسْلِمُوْنَ بَعَدُوِّ كَافِرٍ كَانُوا مَعَهُ عَلَى المُسْلِمِيْنَ " .ا.هـ.
وَقَالَ فِي " مِنْهَاجِ السُّنَّةِ " (3/244) : " وَقَدْ رَآهُم المُسْلِمُوْنَ بِسَواحِلِ الشَّامِ وَغَيْرِهَا إِذَا اقْتَتَلَ المُسْلِمُوْنَ وَالنَّصَارَى هَوَاهُمْ مَعَ النَّصَارَى يَنْصُرُونَهُم بِحَسَبِ الإِمْكَانِ ، وَيَكرَهُوْنَ فَتَحَ مدائِنهمْ كَمَا كَرِهُوا فَتَحَ عكّا وَغَيْرِهَا ، وَيَختَارُونَ إِدَالَتَهُم عَلَى المُسْلِمِيْنَ حَتَّى إِنَّهُمْ لَمَّا انْكَسَرَ المُسْلِمُوْنَ سَنَةَ غَازَان سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِيْنَ وَخَمْسَمائَة ، وَخَلَتْ الشَّامُ مِنْ جَيْشِ المُسْلِمِيْنَ عَاثُوا فِي البِلاَدِ ، وَسَعَوْا فِي أَنْوَاعٍ مِنَ الفسَادِ مِنَ القَتْلِ وَأَخَذِ الأَمْوَالِ ، وَحَمَلِ رَايَةِ الصَّلِيْبِ ، وَتَفْضِيْلِ النَّصَارَى عَلَى المُسْلِمِيْنَ ، وَحَمَلِ السَّبْيِ وَالأَمْوَالِ وَالسِّلاَحِ مِنَ المُسْلِمِيْنَ إِلَى النَّصَارَى بقُبْرُص وَغَيْرِهَا ، فَهَذَا وَأَمثَالُهُ قَدْ عَايَنَهُ النَّاسُ ، وَتوَاتَر عِنْدَ مَنْ لَم يُعايِنُه " .ا.هـ. ...
كتبه
عَبْد اللَّه بن محمد زُقَيْل ...(/1)
شِرْلُوك هُولْمِز والرسول الكريم؟! كيف؟
أ.
د/إبراهيم عوض
ibrahim_awad9@yahoo.com
http://ibrawa.coconia.net
في هذه المرحلة التاعسة البائسة من التاريخ الإسلامى يتعرض الإسلام لهجمةٍ رهيبةٍ تستهدف محو كل شىء يتعلق به أو بأهله، هجمةٍ تُسْتَخْدَم فيها كل الوسائل والخطط التى لم يحلم بها الشيطان نفسه يوما من الأيام، ويتم الكذب والتدليس بشأنه علانية دون خجل أو حياء، إذ المسلمون حكوماتٍ وشعوبًا هم الآن فى أسوإ حالاتهم وأوضاعهم، وهو ما يغرى الغرب بالاعتقاد بأن هذه فرصة عظيمة لا تتكرر للعمل على تدمير هذا الدين والقضاء على أهله إن استطاع، أو على الأقل: العمل على تغيير هويتهم وانتمائهم، واجتيالهم عن معتقداتهم وعباداتهم وأخلاقهم وعاداتهم وتقاليدهم، مستخدما فى ذلك، ضمن ما يستخدم، خَوَنة المسلمين الذين يَسْهُل، عن طريق الفتات التافه الحقير مثلهم من بقايا المناصب والشهرة والمال والجنس، شراؤهم واقتيادهم من أنوفهم للقيام بمهمة "الكَبْش" الذى تُحَطَّم به أبواب القلاع والحصون، تلك المهمة التى ينهض بها هؤلاء الكِبَاش الأقذار المنحطّون بحماسة منقطعة النظير وكأنهم مؤمنون متبتلون يتقربون إلى الله لنيل رضاه لا إلى المستعمر المجرم الذى ظل يذيق أمتهم العذاب قرونًا ويسرقها ويقتّل رجالها ويعتدى على أعراض نسائها وييتّم أطفالها ويذبّحهم أيضا. وفى إطار هذه الهجمة المجرمة الشرسة ينبغى النظر إلى تلك الكتابات العجيبة التى نعرض لبعضها هنا بين الحين والحين بُغْيَةَ تنبيه الغافلين والمغفَّلين من أبناء الأمة التى تنتسب زورا إلى سيد المرسلين لعلها أن تُفِيق وتستيقظ وتنهض من رقدة العدم فتستعيد شرف الانتماء إلى دين سيد الرسل عليه السلام وتسترجع ما كان لها من عز غابر ومجد تالد بدل هذا الهوان والذل والاستخذاء الذى يحاصرها من كل جانب والذى لا يليق بها وبأعدادها وإمكاناتها المهولة وتاريخها العريض ورقيّها الذى كان ثم أصبح فى خبر "كان". ويدخل فى نطاق هذه الهجمة المقالُ الذى نترجمه اليوم ونعلّق عليه، والذى كتبه رجل فرنسى سبق أن عرضْنا له الاقتراح المجنون بنَكْت شوارع المدينة المنورة بغية التأكد من وجود "الخندق" الذى يصر بخبلٍ عقلىٍّ غريبٍ على أنه لم يكن له وجود، مما يعده برهانا لا تمكن المماراة فيه على أن محمدا نفسه لم يكن له وجود!(/1)
ولكن قبل أن نسوق ترجمة المقال المذكور ننقل تلك السطور التى قرأناها اليوم (الجمعة الموافق للثامن عشر من نوفمبر 2005م) فى صحيفة "القدس العربى" المشباكية تحت عنوان "انتفاضة البؤساء في فرنسا... الأخطر منذ 1968" للكاتب عمر نجيب، والتى تقول: "جزء من ثورة البؤساء في فرنسا نابع كذلك عن ردة الفعل علي الحملة الشرسة التي شُنَّتْ ضد الإسلام والمسلمين خاصة في أوروبا منذ هجمات 11 سبتمبر 2001 ضد الولايات المتحدة. ففي كل مكان بأوروبا استغل أنصارُ الفكر العنصري وأتباعُ الصهيونية الأحداثَ ليشنوا حملة ضد الإسلام والمسلمين. وقد وصل تردي الأوضاع إلى درجة أصبح فيها حتي على الذين لهم أسماء عربية وإسلامية مميزة أن يبدلوها إذا أرادوا أن تكون لهم حظوظ مهما كانت صغيرة للحصول علي عمل ينقذهم من البطالة. ما حدث ويحدث في فرنسا منذ الأيام الأخيرة من شهر أكتوبر 2005 ولَّد يقظة لدي بعض الحريصين علي إقامة مجتمع عادل بدون عنصرية. في هذا الإطار قال المفكر الفرنسي البارز إيف لوكوك إنه اصبح من الضروري على الغرب الآن أكثر من أي وقت مضي تجاوز عقدة الإسلام والمسلمين وإظهار احترامٍ أكبر لمعتنقي هذه الديانة في أوروبا لضمان التعايش السلمي بين الجميع. وقال المفكر الفرنسي في مقابلة مع رويترز: لم يعد مقبولا أن يتم دَوْس كرامة الآخرين وعدمُ احترام ديانتهم، وخصوصا الديانة الإسلامية التي أضحت هدفا لهجوم من الغرب بلا هوادة. وأضاف لوكوك، وهو وجه وصوت تلفزيوني معروف في فرنسا: إن ما يحدث من شَغْب في ضواحي العاصمة باريس وغيرها طبيعي بالنظر إلى عدد من العوامل التي أدت لغضب المسلمين. واعتبر لوكوك الذي اشتهر بجرأة النقد في برنامجه أعمال الشغب أمرا غير مقبول، لكن يبدو أن تراكم الإحساس بالتهميش والاحتقار وعدم احترام خصوصية المسلمين هو الذي جعل الأمر يصل إلى هذا الحد من الغضب. وانتقد المفكر الفرنسي أداء حكومة باريس في إدارة هذه الأزمة قائلا: من الأفضل معالجة المسألة بالاستماع إلى الجالية المسلمة وتوفير مقومات العيش الجيد لها، وخصوصا توفير مزيد من فرص العمل عِوَضَ الالتجاء الفوضوي إلى القوة مباشرة لردع هذه الفئة التي تشعر بالتهميش اجتماعيا واقتصاديا ودينيا. واستغرب لوكوك ربط هذه الأعمال بجماعات إسلامية منظمة مثلما أشارت بعض التقارير الصحافية الغربية معتبرا أن أي حادث مهما كانت سذاجته أو بساطته في فرنسا أو أوروبا من الآن فصاعدا سيتم تحميل المسؤولية فيه للإسلام والمسلمين. وهذا أمر مخجل، ويجب ألا يتواصل حتي تُسْتَأْنَف العلاقات بشكل جيد مع المسلمين". والآن بعد أن انتهينا معا من مطالعة هذه السطور الكاشفة لأوضاع المسلمين فى الغرب وكيف أنها لا تمكن مقارنتها بأوضاع الأقليات فى البلاد الإسلامية التى تعيش فى فردوس ثم تتطاول مع ذلك على الأكثرية المسلمة وتنسب لها المعايب وتختلق لها التهم اختلاقا، فلنذهب، أيها القارئ العزيز، إلى نص ترجمة المقال المخبول الذى يحاول صاحبه التشكيك فى وجود الرسول نفسه صلى الله عليه وسلم بطريقة تافهةٍ مضحكةٍ فاضحةٍ للعقلية الغربية عند تعاملها مع الإسلام والمسلمين، وهذه هى الترجمة:
"ترى أكان محمد وشِرْلوك هُولْمز شخصيتين تاريخيتين حقيقيتين أم لم يكونا إلا أسطورتين من بنات الوهم والخيال؟ أكانا فعلا بشرا من البشر فى يوم من الأيام أم لا يزيدان فى واقع الأمر عن أن يكونا تجسيدا لتطلعات بعض بنى الإنسان؟ أهما يمتّان إلى الحقيقة أم هما مجرد زيف ليس له فى الحقيقة أى وجود؟ أم تراهما قد تم مزجهما من هذا وذاك كى يصدق الناس أنهما كانا موجودين يوما وأن كل ما يمتّ إليهما بسبب هو حقيقى صحيح؟ ربما تبدو المسألة غريبة، ذلك أنك متى عرفت من هو محمد فإنك تعرف أنه كان موجودا، وإذا عرفت من هو شرلوك هولمز فإنك تعرف أنه لم يكن له وجود. لكن هل أنت متأكد من هذا؟ بالنسبة لمحمد فإن أكثر من عشرين فى المائة من سكان الأرض يؤمنون أنه شخص حقيقى كان موجودا فى يوم من الأيام، فهل نستخلص من هذا أن مليار نسمة لا يمكن خداعهم فى مسألة يمكن التحقق من صحتها بهذه البساطة، ومن ثم فإنه كان فعلا موجودا؟ إن كان الجواب بـ"نعم" فإنه ينبغى الوصول إلى نتيجة مشابهة فيما يتعلق بشرلوك هولمز، إذ ذكرت "الويكيبيديا" فى مادة "شرلوك هولمز" أنه، طبقا لاستطلاع قامت به الـ"بى بى سى" عام 1959م، قد تبين أن أكثر من نصف الإنجليز يعتقدون أن شرلوك هولمز كان شخصا حقيقيا وأن 25 مليونًا من الإنجليز بالذات لا يمكن أن يكونوا مخدوعين فى مسألة يسهل التحقق منها إلى هذا الحد. أليس كذلك؟(/2)
الحق أنه من الأفضل أن تقول إنك تَحْسَب أو إنك تعتقد أن محمدا كان موجودا. وفيما يخصك فأنت فى الواقع لم تقابل محمدا، لكن عدم مقابلتك إياه لا يعنى أنه كان موجودا، وإن لم يَعْنِ أيضا أنه لم يكن له وجود. ولسوف يكون الكلام أصحّ لو قلتَ إنك تظن أو إنك تعتقد أن شرلوك هولمز لم يكن له وجود، فأنت فى الحقيقة لم تقابل قَطّ شرلوك هولمز ذاته، لكن عدم مقابلتك شخصا ما لا يعنى أنه لم يكن موجودا، وإن لم يعن أيضا أنه كان له وجود. إن هذا، فيما يبدو، ليبعث على الاضطراب، لكنك إذا اتجهت أخيرا إلى جوهر الموضوع، فعليك أن تجيب على السؤال التالى: ترى ما الذى تعرفه على وجه اليقين فينا يختص بمحمد لأنك قد تحققت منه؟ وكذلك ما الذى تعرفه على وجه اليقين فيما يختص بشرلوك هولمز لأنك قد تحققت منه؟ وعلى أى أساس إذن قد أقمتَ رأيك فى محمد وفى شرلوك هولمز؟
وهاتان الشخصيتان قد عاشتا فى زمنٍ جِدّ مبكِّر بحيث لا يمكن القول بأن هناك من معاصرينا من عرفهما فى حياتهما. وبالنسبة لمرورهما على الأرض، فسواء كان ذلك صحيحًا أو مفترضًا فإننا لا نستطيع إلا أن نشير إلى الآثار التاريخية التى خلّفاها، أو لم يخلّفاها، وراءهما. ولسوف نلقى الآن نظرة على تلك الآثار التى خلفتها هاتان الشخصيتان. ولحسن الحظ فلسنا بحاجة إلى السفر إلى بلاد العرب ولا إلى إنجلترا لنقوم بذلك البحث، إذ هناك من قام بهذا بالنيابة عنا. وبفضل المِشْبَاك فسيكون من السهل الوصول مباشرة إلى المعلومات التى وضعها أولئك الأشخاص تحت تصرف جميع المِشْباكيين المهتمين بالموضوع كى يستطيع كل فرد أن يكوّن بسرعةٍ رأيه الشخصى بكل حرية واستقلال.
فى خُطَى شرلوك هولمز على أعقاب محمد
وسوف نبحث المسألة بطريقتين: الطريقة الأدبية والطريقة الآثارية، ولن نستعين عند الكلام عن كل من الشخصيتين إلا بأفضل المتخصصين. وسوف يكون مرجعنا بالنسبة لمحمد هو المعلومات التى وردتنا عن أشخاص متحمسين لسيرة حياته وشخصيته يُسَمَّوْن: "أهل السنة أو الشيعة"، ويطلَق عليهم جميعا فى فرنسا دون تفرقةٍ اسم "المسلمين". وهذا هو الاسم الذى سوف نعتمده، ولن نستمد أية معلومة إلا من المواقع الإسلامية الناطقة بالفرنسية، وبالذات "إسلام فرانس". أما رأى غير المسلمين، أى الأشخاص الذين لم يدرسوا الوثائق الضخمة المتعلقة بسيرة محمد بعمقٍ، فلن يكون لهم بطبيعة الحال نفس الوزن الذى للمسلمين العارفين بكل ما يتعلق به. وبالنسبة لبعض غير المسلمين فإنهم يفسرون الإحالات والتناقضات فى سيرة محمد على أساس أنه ليس أكثر من أسطورة لفقها على مدار القرون من هنا ومن ههنا كتّاب كانوا يشتغلون بخدمة بعض السادة فى عصرهم بغية تحريك رجال الجيش لشن الحروب من أجلهم. وفى نظر غير المسلمين فإن هؤلاء ظلوا يرددون هذه الأسطورة لأكثر من ألف عام. بيد أن علماء المسلمين يردون بأن هذه الإحالات وتلك التناقضات ليست كذلك فى الحقيقة، بل فى الظاهر فقط، وأن محمدا هو أعظم الأنبياء جميعا وخاتمهم. وقد أضحى وضع الدراسات التى تهدف إلى تأكيد وجود محمد وإثبات أنه أمر لا يقبل المماراة فنا من الفنون. وهناك عدد هائل من الدراسات التى تتعلق بمحمد، بل هناك جامعة تُعَدّ مرجعا عالميا فى هذا الموضوع.
والآن كما فعلنا مع محمد سوف نفعل مع شرلوك هولمز. وسوف يكون مرجعنا بالنسبة لشرلوك هولمز هو المعلومات التى وردتنا عن أشخاص متحمسين لسيرة حياته وشخصيته يُسَمَّوْن: "الهولمزيين أو الشرلوكيين". وفى فرنسا يُسَمَّى الشرلوكيون الإنجليز بـ"الهولمزيين"، وهم أعرف الناس بكل ما يتعلق بشرلوك هولمز، وهذا أمر من الوضوح التام بمكان. وسوف يقتصر اعتمادنا على المراجع الهولمزية، وهى مواقع كثيرة ناطقة بالفرنسية، وبالذات موقع "سوسييتيه شِرْلوك هولمز فرانس". أما رأى غير الهولمزيين، أى الأشخاص الذين لم يدرسوا الوثائق الضخمة المتعلقة بسيرة شرلوك هولمز بعمقٍ، فلن يكون لهم بطبيعة الحال نفس الوزن الذى للهولمزيين العارفين بكل ما يتعلق به. أما غير الهولمزييين فإنهم يفسرون الإحالات والتناقضات فى سيرة شرلوك هولمز على أساس أنه ليس أكثر من أسطورة لفَّقها، من هنا ومن ههنا على مدى أربعين سنةً، كاتبٌ كان يشتغل بخدمة أحد رجال الصحافة فى عصره بغية دفع القراء لشراء صحيفته. وفى نظر المكذِّبين فإن أتباع هولمز ظلوا يرددون كذبةً مضحكةً لأكثر من قرن. بيد أن الهولمزيين، بفضل ما كتبه واطسون، يردّون بأن هذه الإحالات وتلك التناقضات ليست كذلك فى الحقيقة، بل فى الظاهر فقط، وأن شرلوك هولمز هو أعظم مخبرى عصره. وقد أضحى وضع الدراسات التى تهدف إلى تأكيد وجود شرلوك هولمز وإثبات أنه أمر لا يقبل المماراة فنا من الفنون. وهناك عدد هائل من الدراسات التى تتعلق بشرلوك هولمز، وإن لم تكن هناك جامعةٌ يُرْجَع إليها فى هذا الموضوع.(/3)
وفى النهاية فإنه من الناحية الرياضية لا توجد بالنسبة لمحمد وهولمز إلا أربعة احتمالات: إما أن محمدا وهولمز كليهما كانا موجودين، وإما أن هولمز كان موجودا، أما محمد فلا، وإما أن محمدا كان موجودا، أما هولمز فلا، وإما أنه لا محمد ولا هولمز كان موجودا.
أ- المنهج الأدبى:
المعتقدات: بالنسبة للمسلمين يعد محمد شخصًا حقيقيًّا فَعَل كل ما يُحْكَى عنه فى سيرته، تلك السيرة التى وردتنا من خلال معارفه المباشرين، أى صحابته، مثل علىّ وعمر... إلخ. وقد أملى محمد القرآن على أولئك الصحابة. ويتكون القانون العثمانى من مائة وأربع عشرة سورة هى القرآن، وهذا القرآن هو أساس معتقدات المسلمين جميعها. ويوصَى حميع المسلمين بقوةٍ بقراءة ذلك القانون العثمانى فى لغته العربية، لكن لأن هذا غير ممكن بالنسبة لكل العالم نجد أن هناك ترجمات فرنسية للقرآن.
وبالنسبة للهولمزيين فإن شرلوك هولمز هو أيضا شخص حقيقى فَعَل كل ما يُحْكَى عنه فى سيرته، تلك السيرة التى وردتنا من خلال شاهد مباشر هو صديقه الدكتور واطْسون، الذى روى له شرلوك هولمز أحداث حياته. ويتكون القانون الهولمزى من أربع روايات وست وخمسين قصة قصيرة هى أساس معتقدات الهولمزيين جميعها. ويوصَى حميع الهولمزيين بقوةٍ بقراءة القانون الهولمزى فى لغته الإنجليزية، لكن لأن هذا غير ممكن بالنسبة لكل العالم نجد أن هناك ترجمات فرنسية له.
الحالة المدنية- على الجانب الإسلامى: محمد بن مُطَّلِب (570م؟- 8 يوليه 633م). وُلِد فى مكة، ومات فى المدينة عن 63 عاما. من ذرية إسماعيل، وينتسب لقبيلة قريش التجارية. أبوه عبد الله بن عبد المطلب، وعمه أبو طالب، وأمه آمنة. اتخذ زوجات كثيرات، ورُزِق أطفالا كثيرين مات ذكورهم جميعا فى سن صغيرة، ولم تعش بعده من بناته إلا فاطمة التى رُزِقت ذرية ممتدة. كان يعيش فى بلاد العرب: فى مكة أولا، ثم هاجر فيما بعد إلى المدينة.
وعلى الجانب الآخر: شرلوك هولمز (6 يناير 1854م- 1957م). مسقط رأسه مجهول، ومات (؟) فى ساسِكْس عن مائة وثلاثة أعوام. ينتسب إلى صغار ملاك الأراضى. حفيد أخت الرسام الفرنسى فرنيه. أخوه مايكروفت، الذى يكبره بسبعة أعوام. لا يُعْرَف أى قريب آخر له. لم يتزوج أو يُرْزَق أطفالا. كان يسكن لندن: أولا فى مونتاج ستريت، ثم انتقل إلى 221ب بيكر ستريت. اعتزل العمل وأخلد للراحة فى ساسِكْس، وأنفق بقية عمره فى تربية النحل.
السيرة المحمدية:
حياته قبل أن يصبح أعظم الأنبياء: لا نعرف عن طفولته وصباه شيئا يذكر. أثناء رحلته خارج بلاد العرب فيما بين بيت المقدس ودمشق قابل راهبا اسمه بَحِيرَا وجد لديه استعدادا ليكون أعظم الأنبياء جميعا.
نشاطه بعد أن أصبح أعظم الأنبياء: بعد أن اقترن فى سن الخامسة والعشرين بأرملة ثرية أكبر منه سنا لم يبدأ تعاونه مع الملاك جبريل إلا عندما شارف سنه الأربعين. وكانت نصوص الوحى قليلة فى أول الأمر، ثم تضاعفت بعد ذلك حتى بلغت فى النهاية عدة آلاف. منذ فراره من مكة ووصوله إلى المدينة حتى آخر حياته نجده يكرّس حياته لتحطيم النظام الوثنى للمجتمع المكى. ولأنه لم يكن بارعا فى المبارزة فقد أوكل لأتباعه مهمة اغتيال مناوئيه. اتخذ من نبوّته مسوِّغا لقتل المئات فى المعارك الحربية الكثيرة. كان هذا وذاك سببا فى شيوع الرعب منه فى أرجاء الجزيرة العربية. بعث برسل إلى ملوك الأرض من حوله، فبعضهم آمن به، وبعضهم رد الرسل دون مراعاة لاعتبارات المجاملة. بعد نجاحه فى سحق مكة عسكريا والقضاء على المجتمع الوثنى عاد إلى المدينة حيث مات عام 632م عقب مرض لم يدم طويلا بعد أن قام بمهمة أعظم الأنبياء لمدة ثلاث وعشرين سنة. خارج نطاق النبوة كان محمد يكن كراهية عميقة للفنون بوجه عام (الرسم والنحت والعمارة)، وكان يكره الموسيقى ويحطم آلاتها، ويعجز عن تذوق أى شىء غير التراتيل الدينية.
السيرة الهولمزية:
حياته قبل أن يصبح مخبرا: لا نعرف عن طفولته وصباه شيئا ذا بال. أثناء العامين اللذين قضاهما فى الكلية انتبه إلى أن بمستطاعه كسب رزقه من براعته فى الملاحظة والاستنتاج. اكتشف والد صديقه الوحيد آنذاك لديه ميولا لأن يكون مخبرا سريا عظيما.(/4)
حياته بعد أن أصبح مخبرا: بدأ نشاطه عام 1878م وعنده أربع وعشرون سنة. شرع يتعاون مع واطسون بدءا من عام 1881م أو 1882م. كانت تحرياته فى البداية قليلة، ثم تضاعفت مع الأيام. منذ نهاية ثمانينات القرن التاسع عشر حتى عام 1891م كرّس كل نشاطه للقضاء على منظمة البروفيسير مورياترى الإجرامية. وقعت بينهما مبارزة فى الرابع من مايو عام 1891م على قمة قلاع رايشنباخ بسويسرا. لقى مورياترى حتفه، على حين اختار هولمز أن يختفى رسميا. استأنف نشاطه من عام 1894م حتى 1901م. نجح فى حل غموض المئات من الجرائم. فى هذه الأثناء استطاع واطسون تحويل مسار هولمز بعيدا عن المخدرات. أهّلته خدماته للتاج البريطانى لمقابلة الملكة فكتوريا عام 1895م، بَيْدَ أنه رفض لقب "الشيفالييه" فى يونيه 1902م. ترك هولمز وظيفة "المخبر" وأخلد إلى الاستراحة فى نهاية 1903م أو بداية 1904م بعد أن مارس مهنته على مدار ثلاث وعشرين سنة مع فترة توقف لمدة ثلاث سنوات من 1891م إلى 1894م قضاها فى الأسفار. اختار الاعتزال وحده فى مزرعةٍ بسَاسِكْس حيث أخذ يقضى وقته فى تربية النحل. عشية اندلاع الحرب العالمية الأولى كان آخر نشاط معروف له هو القبض على الجاسوس الألمانى فون بورك. خارج نطاق عمله كمخبر كان شرلوك هولمز مغرما بالفنون بوجه عام، وكان مغرما بالموسيقى شديد التحمس لها حتى إنه لم يكن عازفا شديد المهارة للكمان فحسب، بل كان ملحنا ذا موهبة غير عادية.
الوصف الجسدى لمحمد: لم يكن مفرط الطول ولا القصر، مع غلظ الكفين والقدمين. كان متوسط القامة عريض الكتفين ضخم الرأس مهيب الملامح. لم يكن شَعْره قصيًرا جَعْدًا، كما لم يكن طويلا بائن الطول، وكان كَثّ اللحية. كان شَعْر صدره يهبط نازلا إلى سُرّته فى خط طويل. كان واسع الفم أدعج العينين دقيق العظام على نحو ملحوظ حريصا على الإبانة فى أحاديثه كى يسمع الجميع كلامه ويفهموه بسهولة. وكان يميل إلى الصمت ما لم تكن هناك حاجة إلى الكلام.
الوصف الجسدى لهولمز: أول ما يأخذ العَيْنَ منه طولُ قامته ونحافتُه. يبلغ من الطول 180 سنتيمترا، إلا أن واطسون كان يرى أنه أطول من ذلك كثيرا. ضيق الوجه، عريض الجبين، أسود الشعر، داكن الحاجبين كثيفهما، رقيق الشفتين تبدو فيهما أمارات الحزم. كما كان أنفه دقيقا يشبه منقار الصقر، وعيناه رماديتين يقظتين نافذتين تضفيان عليه سيما الاستغراق أثناء تفكيره، وصوته عاليا حادا ذا إيقاع سريع.
أ - المنهج الآثارى:
المخلَّفات التى تركها محمد وراءه: يوجد متحف يضم المئات من هذه المخلفات. وهنا عَرَض الكاتب صورة غريبة غير واضحة لرجلٍ جاثٍ على ركبتيه قال إنها للرسول الكريم عليه الصلاة والسلام. أما فى خانة التمثال فقد ذكر أن الإسلام يحرم نحت التماثيل للكائنات الحية. ثم عَرَض بعض الأشياء التى قال إن الرسول كان يتخذها لاستعماله الشخصى، مُتْبِعًا إياها بصورة لما سماه عمامته، بعدها صور لبعض السيوف وقوسين وعدة أشياء أخرى كمثال على الآلات المفضلة عنده، فضلا عن رسالة من الرسائل التى بعث بها إلى الملوك من حوله، وتسجيل تجميعى لسيرته على قرص دى فى دى، وصورة لقارئ للقرآن كمثال على الصوت المنغم الذى كان شائعا فى عصره، وصور أخرى لمكة والمدينة وجموع الحجيج فى طوافها حول الكعبة، ولغار حراء الذى كان يأوى إليه أثناء تأملاته، ولمقابر البَقِيع التى يزعم أنها مما لا يسع حاجًّا ألا يزوره، وكذلك جبل أُحُد، الذى دارت عنده رَحَى ثانى غزوة من غزواته وأشيع فيها أنه عليه السلام قد قتل، ثم قبره، ليختم هذه الجولة بالقول بأنه، من خلال ما أرسى محمد من مبادئ، قد أضحى مناط إلهام لعدد من العمليات الانتحارية التى يقوم بها هذه الأيام مسلمون يوقنون تمام الإيقان أنهم متى ماتوا فإن كل شىء سوف يقع الضبط كما سبق أن أخبر به الرجل الذى يتخذونه مثلا أعلى.
المخلَّفات التى تركها هولمز وراءه: متحف يضم المئات من هذه المخلفات. ثم يعرض لهولمز صورة شخصية وثلاثة من تماثيله، وقبعته وغليونه وقلمه وعدسته التى كان يستخدمها فى القراءة وبعض أوراقه ومصباحه وساعته، وكتابا له عن كيفية التفرقة بين رماد الأتباغ المختلفة، وتسجيلا تجميعيا لحياته على قرص دى فى دى، ثم صورة لعازف موسيقى كمثال على الصوت المنغم الذى كان شائعا فى عصره، ثم صورا لبيكر ستريت ولندن، ولحجرة الجلوس التى كان يأوى إليها هولمز أثناء تأملاته، ولتجمُّع حاشد فى لندن فى عصرنا، وموضعين من المواضع التى يحرص عشاق هولمز على زيارتها فى سويسرا. أما بالنسبة للمكان الذى دُفِن فيه فيقول إنه غير معروف. ثم يختم الكاتب جولته هذه بالقول بأن هناك هولمزيًّا قد أقدم مؤخرا على الانتحار موقنا تمام الإيقان أنه متى مات فإن كل شىء سوف يقع الضبط كما سبق أن أخبر به الرجل الذى يتخذه مثلا أعلى.(/5)
النتيجة: نخرج من هذا بأننا متى استندنا للمعلومات التى يقدمها لنا الهولمزيون استطعنا أن نلاحظ وجود عدد من البراهين الدالة على أن شرلوك هولمز شخص حقيقى. وبالمثل فإننا بالاستناد للمعلومات التى يقدمها لنا المسلمون نستطيع أن نلاحظ وجود عدد من البراهين الدالة على أن محمدا شخص حقيقى، وأن هذه البراهين ذات طبيعة واحدة.
وعلى هذا
فلو أن هولمزيًّا أحضر طفلا هنديا من أبناء الأمازون إلى أوروبا وحفّظه عن ظهر قلب، وهو يضربه فوق رأسه بالمقرعة، ومن خلال اللغة الإنجليزية التى لا يفهمها، القانون الهولمزى فى مدرسة هولمزية، ثم أزاره المتاحف الهولمزية، والأماكن التى يتخدث عنها القانون الهولمزى، والمدن التى ينتصب فيها تمثال لشرلوك هولمز، وتلك التى تحمل لوحات تذكارية باسم شرلوك هولمز، فمن المؤكد أن هذا الفتى الأمازونى الشجاع لن يساوره بعد ذلك أدنى شك فى وجود المخبر العظيم شرلوك هولمز. وما إن يعود الفتى الأمازونى إلى موطنه فى قلب الأمازون حتى يشرع فى الكلام عن حياة ذلك المخبر العظيم، فيصبح شرلوك هولمز بهذا حقيقة لا تقبل المماراة بالنسبة للقبيلة جمعاء. ولسوف يكون بمستطاع كل فرد من أفراد القبيلة أن يأتى بدوره إلى أوروبا للتحقق بنفسه من وجود شرلوك هولمز، وأن هناك فعلا متاحف خاصة بشرلوك هولمز وعدساته وغلايينه، وأن هناك أيضا لوحة تذكارية تحمل اسم الدكتور واطسون على أحد الممرات فى طريق المحطة بلوزان بسويسرا. ولسوف تعود القبيلة بعد ذلك إلى موطنها أكثر اقتناعا بوجود شرلوك هولمز رغم أن شرلوك هولمز لم يكن له يوما وجود!
وبالمثل
فلو أن مسلما أحضر طفلا هنديا من أبناء الأمازون إلى بلاد العرب وحفّظه عن ظهر قلب وهو يضربه فوق رأسه بالمقرعة ومن خلال اللغة العربية دون ترجمة القانون العثمانى فى مدرسة قرآنية، ثم أزاره المتاحف الإسلامية، والأماكن التى يتخدث عنها القانون العثمانى، والمدن التى عاش فيها محمد، وتلك التى تخلد ذكراه، فمن المؤكد أن هذا الفتى الأمازونى الشجاع لن يساوره بعد ذلك أدنى شك فى وجود النبى العظيم محمد. وما إن يعود الفتى الأمازونى إلى موطنه فى قلب الأمازون حتى يشرع فى الكلام عن حياة ذلك النبى العظيم، فيصبح محمد بهذا حقيقة لا تقبل المماراة بالنسبة للقبيلة جمعاء. ولسوف يكون بمستطاع كل فرد من أفراد القبيلة أن يأتى بدوره إلى بلاد العرب للتحقق بنفسه من وجود مكة كما قالوا له، وأن هناك فعلا متاحف خاصة بسيوف محمد وبعض مخلفاته، وأن هناك أيضا مقابر خاصة بأصحابه فى المدينة. ولسوف تعود القبيلة بعد ذلك إلى موطنها أكثر اقتناعا بوجود محمد رغم أن محمدا ... إلخ! ذلك أنه بالرغم من الدلائل التى يسوقها المسلمون والهولمزيون على وجود هاتين الشخصيتين فإن هناك شكوكا واضحة تتعلق بحقيقتهما التاريخية.
ومن الواضح أنه لا ينبغى الاعتماد على المعطيات المقدمة من قِبَل الهولمزيين لمعرفة ما إذا كان شرلوك هولمز له وجود حقيقى أو أنه لا يزيد عن كونه مجرد أسطورة. إن هولمز ليس فى الواقع إلا قصة مخترعة أو شخصية خيالية. ومع ذلك فالملاحظ أن مفهوم "هولمز" يجسّد على نحوٍ كافٍ أحلام صنف من البشر لدرجة قيام بعض الأشخاص من تلقاء أنفسهم بصنع جميع العناصر المكونة لوجود تلك الشخصية وجودا حقيقيا وتكوين جماعة تقوم على اعتناق تلك الأكذوبة وحراستها وتخليدها لضمان استمرار المتعة التى يحصلون عليها من ورائها.
وبالمثل
فمن الواضح أنه لا ينبغى الاعتماد على المعطيات المقدمة من قِبَل المسلمين لمعرفة ما إذا كان محمد له وجود حقيقى أو أنه لا يزيد عن كونه مجرد أسطورة. إن محمدا ليس فى الواقع إلا قصة مخترعة أو شخصية خيالية. ومع ذلك فالملاحظ أن مفهوم "محمد" يجسّد على نحوٍ كافٍ أحلام صنف من البشر لدرجة قيام بعض الأشخاص من تلقاء أنفسهم (فى القرن السادس الميلادى) بصنع جميع العناصر المكونة لوجود تلك الشخصية وجودا حقيقيا وتكوين جماعة تقوم على اعتناق تلك الأسطورة وحراستها وتخليدها لما يكفله لهم ذلك من ممارسة سلطان شامل يسوّغ لهم كل ما يريدون.
والحق أننا، عندنا نبحث مسألة وجود محمد، سرعان ما نصطدم بركام من الأسئلة هى فى النهاية أسئلة بسيطة من شأنها أن تثير أجوبة لا تقل عنها بساطة، إلا أن هذه الأسئلة لا تجد فى الجواب عليها سوى الصمت المطبق. لماذا؟ ربما لأن أتباع محمد لا يهتمون بالجواب على نوع معين من الأسئلة، إذ يعرفون جيدا ما سيجدونه، أو بالأحرى ما لن يجدوه، عند البحث عن جواب لها".(/6)
هذا ما قاله الرجل الباذنجان، فلننظرْ فى ما قاله ذلك الأخرق المتهور المتظرف فى غير موضع التظرف، المتظرف الذى دمه مثل دم البق، المتظرف بجهل ورعونة، المتظرف تظرف الشياطين الحاقدين الهدامين المدمرين، لعنة الله عليه وعلى أشباهه من بنى الشياطين وإخوانهم وآبائهم وأقاربهم أجمعين! إنه لم يجد من البشر فى دنيا الله الوسيعة أحدًا يقارنه بالرسول الكريم سوى شرلوك هولمز، المخبر السرى الذى لا وجود له إلا فى بطون القصص البوليسية التى لا يقرؤها غالبا إلا العوام وأشباههم للتسلية وإزجاء الفراغ، وكأن النبوة موضوع من موضوعات التسلية وتضييع الوقت فى الكلام الفارغ. هذا ما يريده ذلك الرجل الباذنجان، الرجل الذى ليس هناك مكان يليق به سوى الخانكة على حسب ما قلت فى مقال لى من قبل، فهو ذاته الرجل الأحمق بل المجنون الذى يريد من المسلمين أن ينكتوا طرقات المدينة المنورة وشوارعها ويهدموا بيوتها ومؤسساتها ومساجدها ويشردوا أهلها كى يشبعوا شهوة الحقد والدمار عنده وعند أمثاله من حَوَارِيِّى نيرون الذين يتلذذون برؤية الخراب وسماع نعيق البوم، وهم يعزفون ألحان الفناء التى لا تطرب نفوسهم الخربة المظلمة إلا على أنغامها، والذى كتبتُ عنه من قبل دراسة بعنوان "خذوه فغُلُّوه! ثم فى الخنكة أَوْدِعُوه!". ذلك أن كلامه لا يمكن أن يكون كلام إنسان عاقل، أو حتى من فى عقله مُسْكَة من ترابط! ولذلك قلت إنه هارب من الخانكة، ولا بد من إرجاعه إلى حيث كان مرة ثانية كى نكون فى مأمن من جنونه الخطر، وإلا آذانا فعض أحدنا عضة مسعورة يمكن أن تتسبب فى وفاته، عليه لعائن الله (عليه هو بطبيعة الحال كما لا بد أن يكون القراء الكرام قد فهموا، لا على المعضوض المسكين)!
إنه يريد أن يُضْحِك قراءه من ملاحدة أوربا ومبشريها ومستشرقيها وأذيالهم الأوباش عندنا، وما أكثرهم هذه الأيام من كل عتل زنيم، يريد أن يضحكهم من الرسول الكريم، غير دار فى غمرة خُرْقه وحُمْقه أن القمر لا يناله بل لا يصله نباح الكلاب المسعورة مهما هَرَّتْ وعَوَتْ، إذ القمر عالٍ فى السماء، أما الكلاب العاوية الحمقاء فهى تجرّر أذيالها النجسة مثلها بين ساقيها فى ذلةٍ وضَعَةٍ على هذه الغبراء! ترى بالله من شرلوك هولمز؟ بل من كُونَان دُويِل نفسه من الرسول الكريم العظيم (نعم، الكريم العظيم رغم أنف هذا المجنون اللئيم!)؟ لقد تحولت الكتابة والفكر إلى لعب عيال وأصبح كل من هب ودب ويستطيع أن يمسك بقلم وورقة يتخيل أنه قادر على العبث والتساخف دون معقب ولا حسيب! لا يا أخا الفرنسيس! لا يا من لا يزال يؤرقكم الرسول الكريم ويطير النوم من عيونكم ويحيل حياتكم إلى جنون مطبق رغم وفاته قبل أربعة عشر قرنا! تنبه وحُطّ عينك التى تستأهل خَرْمها فى راسك، واعمل لخلاصك! نعم نحن المسلمين الآن فى عز ضعفنا وتخاذلنا وبلادتنا (وامض فى مثل هذا اللون من الزراية علينا من هنا للصبح بل ليوم الدين، فلن تجد من يخالفك كثيرا!)، لكن هذا شىء، والاقتراب من سيد الأنبياء بجهل ورعونة وقلة أدب شىء آخر!(/7)
هل يجوز فى شرعة العقل (العقل الذى حرمك الله منه، شفى الله الكلاب وضَرَّك!) أن يقارَن رجلٌ قد غيَّر مسار التاريخ والحضارة، وفَضَح زُيُوف أديانٍ وأقوامٍ، وعدّل مسار عقائدها وعباداتها وشرائعها بعد أن اختل ميزانها حُقُبًا طويلاً، وأنهض أمما من العدم وأعطاها فرصة قيادة البشرية فأثبتت أهليتها لهذه القيادة، هل يجوز فى شرعة العقل (يا من حرمك الله من العقل!) أن يقارَن سيد الأنبياء من قِبَل أحد الجهلاء النَّوْكَى الموتورين مثلك بـ"شرموط هولمز"؟ من هولمز هذا الذى تُوجِع به دماغنا؟ ما كُنْيَته؟ ما إنجازاته؟ إنه مجرد شخصية وهمية ليس لها من موضع على هذه الأرض "التى تتسع للبشر والكلاب النابحة العاوية معا للأسف!" إلا فى روايات كونان دُويِل البوليسية، وهى روايات كنا نقرؤها ونحن أطفال صغار ثم نَسِيناها مع اتساع مداركنا وتعمق ثقافتنا، روايات لا تُعَدّ فى الطبقة الأولى ولا الثانية بين هذا اللون من الروايات كما هو معروف رغم تدنّيه بالنسبة للروايات الأخرى، وليس له إلا الإنجازات الوهمية مثله، وهى رغم وهميتها وعدم حقيقيتها تنحصر فى الكشف عن بعض اللصوص والقتلة وما أشبه! فكيف تصحّ مقارنته بعظيم من عظماء البشرية، بل بأعظم عظمائها؟ عظيم هو نبى من الأنبياء، بل سيد الأنبياء وزعيمهم وقائدهم وخاتمهم ومصحِّح الانحرافات والوثنيات التى وقع فيها أقوامهم من بعدهم، ومحوِّل مسار الحضارة والتاريخ، والمتسبب فى رفع أقوام واتضاع آخرين على سنة العدل والإنصاف والعمل الجاد والثمار الطيبة المباركة؟ طيب يا أخى (ولست لى بأخ، ولا يشرفنى أبدا أن تكون، لكنها اللغة وعباراتها!)، طيب يا أخى، خَلِّ فى عين البعيد الأَخِر حصاة ملح، أو "خلِّ عندك مزيّة" كما يقول أهل قريتى وقارِنْه (رغم التسامح الشديد والتنازل البعيد من جانبنا!) بأحد زعماء التاريخ السياسيين أو مصلحيه الاجتماعيين أو قواده العسكريين كى يكون للكلام بعض المعنى الجادّ! أما أن تقول لى: "شرلوك هولمز وكونان دُويِل!"، فليس لهذا معنى عندى ولا عند أى عاقل يحترم نفسه إلا أن البعيد ليس عنده تمييز، أو بالتعبير البلدى: أن البعيد لا يشمّ!
وقبل أن ندخل فى التفاصيل نحب أن نقول إننا نستطيع بهذا الأسلوب المضحك أن نشكك فى أى شخص وفى أى شىء حتى وجود هذا الرجل الباذنجان نفسه، إذ ما أدرانا أنه فعلا موجود، وأنه هو الذى كتب هذا الكلام؟ ومن أدرانا أن نابليون أو القائد الإنجليزى ويلسون أو الرئيس الأمريكى نيكسون أو حتى بوش الأب هم أشخاص حقيقيون؟ إننا، لو استخدمنا هذا النوع من المقارنة بشرلوك هولمز، لانتهينا إلى ذات النتيجة التى يريدنا هذا الأخرق الأحمق المتهور أن ننتهى إليها، ألا وهى أن هؤلاء الناس لم يكن لهم أى وجود! كيف؟ بأن نقول، كما قال هو، إن هؤلاء الناس لهم سِيَرٌ مكتوبةٌ، وتركوا وراءهم من المخلفات الشخصية ما تركوا، ولهم من المعجبين والحواريين كذا وكذا... إلى آخر السخف الذى قاله هذا البعيد، لكن شرلوك هولمز كان له كل هذا، ومع ذلك نحن نعرف أن شرلوك هولمز لم يكن له وجود حقيقى، ومن ثم فهؤلاء الناس لم يكن لهم أيضا وجود حقيقى! إن هذا ليس قياسا منطقيا، بل عته وجنون، وهو يدل على مدى الاضطراب العقلى الذى يصيب القوم حين تأتى سيرة النبى الكريم، إذ تراهم بعد أن كانوا يفكرون تفكيرا سليما قد اختلط فى أذهانهم كل شىء وارتبكت عقولهم وانقلبت أفكارهم رأسا على عقب! والسبب؟ السبب هو محمد، الذى يعرفون أن مبادئه فى التوحيد والكرامة والعزة والعدل والجهاد فى سبيل الله ضد سفلة التاريخ وقراصنة الشعوب وجلاديها وباقرى بطون النساء ومفجِّرى مصارين الأطفال وملطِّخى أجساد الرجال بالخراء ومُرْسِلى الكلاب عليهم تنهش خُصَاهم وغراميلهم ومسلِّطى الآباء والأبناء بعضهم على بعض يتلاوطون قسرا وإجبارا وسارقى ثروات الأمم ومدمِّرى الحضارات الأثيلة الأصيلة والمتشامخين بأنوفهم على "خلق الله" كذبا وزورا ناسين أنهم كانوا لقرونٍ قليلةٍ خَلَتْ متخلفين كما البهائم السائمة! محمد هذا (صلى الله عليه وسلم، ولعن كل من يتطاول على عظمته ونبله، أو يفرح بمن يتطاول على عظمته ونبله، أو حتى يوافق مجرد موافقة على من يتطاول على عظمته ونبله)، محمد هذا يمثل لهؤلاء الأوغاد الأوساخ لقمة ضخمة كبيرة لا يستطيعون أكلها، إذ تقف فى حلوقهم وتخنقهم فى كل مرة يحاولون فيها ازدرادها، فهو لذلك يصيبهم، كلما ذُكِر اسمه الكريم، بالرعب ويبرجل عقولهم رغم كل التخلف والهوان الذى فيه أتباعه. وهذا من أعجب العجب!(/8)
نعم ليس هذا قياسا منطقيا، بل عته وجنون! إذ ما الذى فى المقدمة الخاصة بهولمز مما يؤدى إلى النتيجة التى انتهى إليها الرجل المنكوس العقل والتفكير؟ هل معنى أن لهولمز مخلفاتٍ باسمه وكتبًا كُتِبَتْ عنه أو ناسًا يؤمنون بغبائهم بأنه كان موجودا فعلا (إن صح هذا الذى يقوله ذلك المأفون!)، هل معنى هذا أن ذلك الرجل لم يكن له وجود؟ كلا، إن هذا لا يؤدى لذاك! ومن ثم لا يصح أبدا أن نقيس حياة الرسول أو أى شخص آخر على حالة هولمز. ليس ذلك فقط، بل إن تلك النتيجة معروفة سلفا، ولا تحتاج إلى أى تدليل، ولا علاقة بينها وبين المقدمات المذكورة. وحتى لو كان هناك فعلا تشابه بين المقدمات الخاصة بهولمز والرسول مثلا، وكانت هناك صلة بين المقدمات الهولمزية والنتيجة التى يرتّبها المأفون عليها، فهل يكفى هذا أن تكون النتيجة هنا هى نفسها هناك؟ لا، لأنه لا يكفى أن يكون هناك تشابه بين الطرفين فى الأمور الظاهرية أو العارضة، بل لا بد أن يكون هذا التشابه فى الجوهر والأصول. هذا واضح وضوح الشمس، لكن المخبول يتظارف رغم أن الأمر لا يحتمل شيئا من التظارف على الإطلاق! ترى هل يصح أن نقول مثلا إنه ما دام لكل من الكلب والإنسان رأس وعينان وأذنان وأنف وقلب وكبد... إلخ، فلا بد أن يكون الكلب من الناطقين كالإنسان، أو لا بد أن يكون الإنسان نابحًا كالكلاب، أو أن يكون الكلب من ذوات الاثنتين لا الأربع وليس له ذيل، أو أن يكون الإنسان بالعكس من ذوات الأربع لا الاثنتين وله ذيل؟ أو هل يمكن القول بأنه ما دامت السيارة تأخذ سائلا وتصدر صوتا وتجرى وتخرج دخانا من خلفها، فلا بد أن يكون عندها عقل كما عند الإنسان، وتتزاوج وتكوّن أُسَرًا وتنجب أطفالا كما يفعل الأَنَاسِىّ، ولا بد أن لها حكومات ومدارس ومساجد كما للبشر، لأن البشر مثلها يشربون السوائل ويصدرون الأصوات ويجرون ويخرجون ريحا من خلف؟ بالطبع لا. فهذا مثل ذاك.
إن الرجل الإستنجلينا يعرف، بل يقول ويعترف بلسانه النجس مثله أن شرلوك هولمز ليس له وجود! معنى هذا أنه دخل الميدان، وهو يعلم أنه بَكّاش كبير، ويعلم أننا نعلم أنه بَكّاش كبير، ومع ذلك لا يبالى بمنطق ولا بعقل. ولم لا؟ أليس يتكلم عن الإسلام؟ إنه إذن ليقتحم ساحة مفتوحة على الباهلى لكل من هَبَّ ودَبَّ من الأنعام أمثاله. وهو يقصد هذا كله قصدا بغية النيل من الرسول الكريم ودين الرسول الكريم وأتباع الرسول الكريم، وذلك من خلال الربط بين شرلوك هولمز وهذا الرسول الكريم! فانظر، أيها القارئ العزيز، كيف يريد هذا الملتاث العقل أن يهبط بالرسول الكريم من عليائه إلى مستوى شرلوك هولمز والتسالى التى ترتبط بشرلوك هولمز، وهى تَسَالٍ كتسالى اللُّبّ التى نغرم بها فى مصر غراما كبيرا! ألا تَعْسًا لهذا الكائن الضال المضل الذى يتصور أنه قادر على الإساءة لسيد الأنبياء والمرسلين وسيده وتاج رأسه ورأس الذين نفضوه وخلّفوه رغم أنه وإياهم لا يستحقون شيئا من هذا الشرف العظيم الذى يعود على كل من ينتسب له صلى الله عليه وسلم ولو انتساب العبد للسيد! طيب يا ابن الذين، ما الذى أدخلك هذا المدخل الضيق؟ ألم تجد إلا سيدك أنت وأهلك تتطاول عليه؟ أليس فى وجه الأبعد "بعضشى" من الحياء؟ أليس عنده أنف يشم به ويميز بين ما هو طيب وغير طيب؟ أَوَكُلّ الطائر يُؤْكَل لحمه؟ إن ظُفْر محمد لأشرف منك ومن بلدك جميعا! فاستيقظ أيها الوغد من أوهامك، تلك الأوهام الغبية مثلك والتى سولت لك أن التواقح والتسافه والتباذُؤ على الرسول الكريم يمكن أن يمضى فى سلام ودون تعقيب أو حساب كما يمكن أن يمر التواقح والتسافه والتباذؤ على الذين ينتسبون له زورا وبهتانا ممن يظنون أنهم على سنته وخطاه، لكنهم لا على سنته ولا على خطاه، وإلا ما بلغوا الذى بلغوه الآن من الحضيض الأوطإ من نار الدنيا، وما سيبلغونه كذلك من الدرك الأسفل من جحيم الآخرة إن استمروا على هذا الحال المذل المهين! أين الثريا من الثرى؟ وأين الرسول الكريم من ناس يزعمون أنهم أتباع له، وما هم له بأتباع، بل مجرد كائنات بليدة ترضى بالضَّيْم وكانت سببا بتخلفها وهوانها ومذلتها فى أن يتطاول الأوغاد عليه صلى الله عليه وسلم؟(/9)
لقد جرَّأوا من لم يكونوا يتصورون أنهم يستطيعون فتح فمهم النتن يوما بالإساءة إلى رسول الله، حتى لقد تجرأ مع المتجرئين "زيكو العجيب!"، زيكو الذى ترددتُ طويلا قبل أن أُثْبِت هنا ما أَرْسَله لى بشأنه بعض القراء الغَيَارى، ثم قلت أخيرا: لا بد أن يعرف زيكو حجمه، وكيف ينظر إليه الناس المحترمون. وهذا ما وصلنى عنه: "زيكو أبو طاجن، زيكو المعجون من كل عاجن، زيكو الملسوع الملطوع، زيكو الملدوغ المدموغ، زيكو المحفور المخبور، لعن الله زيكو ومَنْ وراء زيكو، وبالمناسبة فإن أحدا لا يأتى زيكو إلا مِنْ وراء! هذا الزيكو المحتاس، الملعوب منه فى الأساس، يقول عن الرسول الأعظم، صلى الله عليه وسلم، بصوتٍ كلّه تغنُّج وتهيُّج، وتفتُّر وتكسُّر، وتثنٍّ وتغنٍّ، وتخنُّث وتأنُّث، شأن كل عاهرة فاجرة، من الصنف البئيس الرخيص: "الرسول النكَّاح" (يا اختى عليها: ننّوس عين "أبوها"! ملعون أبوها وأخوها وحَمُوها وفُوها (النتن) وهَنُوها (الأشدّ نتنًا ونتانةً وإنتانًا)، وخذ بالك من "هنوها" هذه، وملعونٌ كذلك ذُوها وذَوُوها، وكل الذين نفضوها)، وذلك حقدا من زيكو فَرْخ بيوت البغاء، على الرجال الأسوياء، لوَعْيه أن "النَّكّاح"، خيرٌ مليارَ مرة منه هو وأشباهه "المثقوبى الأركاح"، من كل راهبٍ "شائبٍ عائب، ومشلوحٍ مبطوحٍ منكوح"، كلما ثارت به "وَجْعَاؤه" وأكلته وآلمته وهيّجته وطيّرت البرج الفاضل من عقله هاج وماج، وركبه الانزعاج، وتحول إلى دجاجة من الدجاج، تطلب التكسير والإيلاج، ولو عَكَمه أى فحل وأشبعه مما يتشهاه، وتتحرق إليه عيناه، لهدأت أحواله وسكن بلباله! مسكين يا ناس، شوفوا له حَلاًّ، حَلّ وسطه ووسط الذين وضعوا بذرة هذا الدَّنِس النَّجِس سليل الأنجاس الأدناس! ومنكم لله أيها المنتسبون لمحمد، ومحمد فى الحقيقة منكم براء! منكم لله يا من لا تستحون أن تتظلموا كالأطفال، وتنوحوا إلى هذا وذاك من أشباه الرجال، ممن لا يشرفكم فى شىء أن يُسْكِتوا عنكم زيكو المبطوح، ولن يُسْكتوه، إذ كيف يُسْكتونه، وهذا المنكوح إنما ينطق عن إشارة من أولئك المناكيح كما ينطق التلفاز ويسكت، يا أيها البُغُول، بالريموت كونترول؟ أوليس فيكم رجل من الفحول، يقول لكم: عيب أن تَتَشَكَّوْا من عاشق المُلْمُول؟ ألا إنكم لأغبياء، ولم تكن أمة محمد لتوصف يومًا بالغَبَاء والعَيَاء! ولسوف يكون حسابه سبحانه وتعالى لنا عنيفا ووَعْرًا ومريرا يوم القيامة، وسوف يؤاخذنا مؤاخذة عزيز مقتدر، إذ أتاح لنا أعظم الفُرَص وكرَّمَنا باصطفائنا للقيام على رسالة النبى المصطفى ثم رزقنا فى عصرنا هذا "الذهب الأسود" فـ"ذهبت" منا الكرامة، وأصبح يومنا "أسود"! لقد قصَّرْنا بل تقهقرنا بل تمردنا ثم نافقنا فزعمنا أننا نسير على سبيله عليه السلام وأننا نحبه عليه السلام رغم كل ما نحن فيه من قهر وارتكاس مما هو فى ذاته أعظم دليل على كذب ما نزعمه، فاستحققنا أن يخلع عنا سبحانه الكرامة والفضيلة وأن يُحَكِّم فينا أوساخ البشر الذين لا يَرْعَوْن فيمن تُوقِعه الأقدار تحت سلطانهم إلاًّ ولا ذمة!" انتهى.
كذلك فالرجل المخبول يسمِّى القرآن الكريم بـ"القانون العثمانى"، وهذا ليس اسم القرآن على أى معنى من المعانى، بل كل ما يُنْسَب لعثمان من كتاب الله هو "الرسم"، الذى يوصف بـ"الرسم العثمانى"، أى الخط والإملاء، وهذا كل ما هنالك! وبالمثل يسمِّى هذا الأخرقُ رسولَ الله بـ"محمد بن مطلب"، ولا أدرى من أن أتى بهذه التسمية العجيبة، وبخاصة أنه عقب ذلك يعود فيقول إنه "محمد بن عبد الله بن عبد المطلب" غير دار بالتناقض السخيف الذى وقع فيه! ومع المخبول نمضى فنجد أنه يَكْذِب كذبا حقيرا مثله، إذ يقول إنه لن ينقل عن غير المسلمين أى شىء يتعلق به عليه السلام، لنفاجأ به بعد قليل يقرر أنه صلى الله عليه وسلم "بدأ التعاون مع جبريل وعنده أربعون عاما"، مدلسا على القارئ الذى لا يعرف شيئا فيظن بسلامة طويّته أن هذا ما تقوله المراجع الإسلامية، مع أنه لا أحد من المسلمين يمكن أن يقول هذا بتاتا، علاوة على أن ما تم بين جبريل والرسول لم يكن تعاونا، فنحن لسنا بإزاء خطة ومؤامرة، بل كان وحيا من السماء نزل به الروح الأمين على قلب الرسول الكريم. ونحن حين نقول هذا لا نقصد أن نملى على المغفل المخبول عقيدتنا فيه صلى الله عليه وسلم، بل أن يقول إن هذا هو ما يعتقده المسلمون، لا أكثر، وذلك من باب الأمانة العلمية لا غير!(/10)
ليس ذلك فقط، بل إن الرجل الملتاث العقل والفكر يزعم أن الرسول، لكونه لا يحسن المبارزة، كان يكلف أتباعه باغتيال المناوئين. وهذا كذبٌ صَرَاحٌ وَقَاحٌ، فالرسول هو الذى دُبِّرَتْ له أولاً، ودون داعٍ أو استفزاز من جانبه، خطة لاغتياله لولا أن الله قد أمره بالهجرة، تلك الهجرة التى يسميها الأحمق: "فرارا". أما بعد الهجرة ونشوء دولة للإسلام فى المدينة فقد قامت المعارك بين المسلمين وبين كل من الكفار واليهود والروم اسْتُخْدِمَتْ فيها الأسلحة والخطط الحربية، ومع ذلك لم يتوقف الكفار واليهود عن محاولة اغتيال الرسول لولا لطف الله به فى كل مرة، كما نجح الكفار فى اغتيال عدد كبير من أتباعه عليهم رضوان الله غدرًا وخيانةً وعدمَ إنسانية. ولم يلجأ المسلمون إلى أسلوب القتل فى السر إلا مع الأعداء الألداء الذين تكرر منهم الغدر وخيانة المعاهدات القائمة بينهم وبين المسلمين ونَفِدَ معهم حبل الصبر! وهو تصرف مشروع تماما فى ظل قيام حالة حرب بين الطرفين وتكرر اغتيالات المسلمين على يد الوثنيين المجرمين، ولم يكن الأمر، كما يحب البكاش أن يوهم القراء، مجرد رغبة فى الأذى لدى رسول الله. ومثله القول بأنه، عليه الصلاة والسلام، كان يتخذ من الوحى مسوغا لقتل المئات فى المعارك الحربية، وكأن قتل الأعداء فى الحروب يحتاج إلى تسويغات كالتى يتحدث عنها أحمقنا، أو كأن الرسول والمسلمين هم المعتدون أو على الأقل هم الذين كانوا يبدأون العدوان. إن البشر، منذ ظهورهم على الأرض، وهم يمارسون القتل والقتال دون أن ينتظروا من السماء نصوصا تبرر لهم ما يفعلون، وظلوا حتى الآن يقتل بعضهم بعضا ويقاتل بعضهم بعضا دون حاجة إلى مثل تلك النصوص. فلماذا إفراد الرسول بهذا، وكأنه عليه السلام كان قاتلا دمويا، ولم يكن يدعو إلى الوئام والسلام، على حين أن أعداءه هم الذين كانوا يدعون إلى الحرب، وهم الذين كانوا يبادئونه بها؟ أم إن المجنون كان يريد من الرسول أن يقدم رقبته ورقاب المسلمين جميعا على مذبح الوثنية والأحقاد اليهودية كى يُرْضِىَ شهوة الدماء والبغضاء لدى أحمق الفرنسيس الخِنِّيس؟
ثم هناك قوله عنه صلى الله عليه وسلم إنه "كان يكن كراهية عميقة للفنون بوجه عام (الرسم والنحت والعمارة)، وكان يكره الموسيقى ويحطم آلاتها، ويعجز عن تذوق أى شىء غير التراتيل الدينية"، وهو قول سطحى تافه، إذ كل ما كان الرسول يضعه نصب عينيه هو ألا يعود العرب على أعقابهم كرة أخرى إلى الوثنية التى أنقذهم الله منها على يديه المباركتين، ومن ثم كان نهيه عن التماثيل التى لم يكن عند العرب فى ذلك الوقت فرق بينها وبين الأصنام، علاوة على أن التماثيل لديهم حينئذ كانت مجرد نحت بدائى لا فن فيه ولا جمال، إذ كل ما كان يهمهم هو ما فيها من معنًى وثنىٍّ شِرْكِىّ. أما العمارة والموسيقى، فهل كانت هناك آنذاك عمارة أو موسيقى عربية يمكن أن تُحَبّ أو تُكْرَه؟ ومع هذا فقد أُثِرَ عنه عليه السلام ما يُفْهَم منه أن الغناء (النظيف بطبيعة الحال) هو لون من ألوان الترويح عن النفس والاحتفال بالمناسبات الاجتماعية والعامة. بيد أنه من غير المعقول أن يوافق على مثل ذلك الغناء التافه المبتذَل الذى يطالعنا الآن فى كل مكان، دَعْ عنك الغناء الداعر الذى يستشير الشهوات باللفظ واللحظ والحركات والتلوِّيات وكشف العورات بل السوءات بغية القضاء على كل مقومات التماسك العقيدى والخلقى والاجتماعى كى يَسْهُل اجتياح الأمة التى بناها على عينه وتدميرها والقضاء على كل ما أنجزه بتضحياته الجليلة النبيلة وتضحيات أتباعه الكرام!
وجَرْيًا من الكاتب الأحمق على خطته فى الربط الساخر بين الرسول الكريم وشرلوك هولمز نراه يقول إن "بعض غير المسلمين (وهو يقصد بذلك نفسه وأمثاله من الملتاثين) يفسرون الإحالات والتناقضات فى سيرة محمد على أساس أنه ليس أكثر من أسطورة لفقها على مدار القرون من هنا ومن ههنا كتّاب كانوا يشتغلون بخدمة بعض السادة فى عصرهم بغية تحريك رجال الجيش لشن الحروب من أجلهم. وفى نظر غير المسلمين فإن هؤلاء ظلوا يرددون هذه الأسطورة لأكثر من ألف عام"، وهو نفسه تقريبا ما قاله عن هولمز: "أما غير الهولمزييين فإنهم يفسرون الإحالات والتناقضات فى سيرة شرلوك هولمز على أساس أنه ليس أكثر من أسطورة لفقها من هنا ومن ههنا على مدى أربعين سنة كاتب كان يشتغل بخدمة أحد رجال الصحافة فى عصره بغية دفع القراء لشراء صحيفته. وفى نظر المكذبين فإن أتباع هولمز ظلوا يرددون كذبةً مضحكةً لأكثر من قرن". إنه يحاول أن يوهمنا أن المسلمين كانوا يعرفون ما تعرفه أوروبا ثم العالم كله تبعا لها فى عصرنا الحديث من تسويق للمنتجات عن طريق الدعاية والإعلانات التجارية الكاذبة.(/11)
ثم فلنفترض أن الأمر كان كذلك حقا، أفلم يكن هناك أحد له رأى آخر يخالف به الرأى السائد مثلما هناك الآن ناس فى أنحاء العالم أجمع لا تُعَدّ ولا تُحْصَى يعرفون ويؤكدون أن شرلوك هولمز ليس سوى شخصية قصصية بوليسية لا حقيقة لها، وأنه ليس له أب ولا أم ولا أقارب يمكن الرجوع إليهم بشأنه؟ وفوق هذا فليس هناك بين الأدباء أو النقاد أو المؤرخين من كتب عنه بوصفه شخصية حقيقية لها وجود خارج روايات كونان دويل وخيالاته. وهذا إن صدقنا بوجود من يعتقدون فعلا أنه كان شخصا حقيقيا! يا إلهى، إن هذا ضد طبيعة الأشياء، إذ ما من رأى أو موقف فى عالم البشر إلا وهناك من له رأى أو موقف يناقضه ويعمل على نشره ومعارضة آراء مخالفيه ومواقفهم. وهب أن المسلمين كلهم على بكرة أبيهم فى مشارق الأرض ومغاربها وجهات الشمال منها والجنوب كانوا أولاد ستة وستين، أَوَعلينا أن نتهم البيزنطيين والفرس والبربر ولا أدرى مَنْ أيضا مِنَ البشر الذين عاصروا خلق الأسطورة المحمدية بأنهم اشتركوا فى هذه اللعبة: إما بتواطؤ منهم مع المسلمين، وإما بغباء منهم وسذاجة جعلتهم يبتلعون الطعم بعد أن سقاهم المسلمون "حاجة أصفرة" رغم أن المسلمين "من فرط خيابتهم" لا يلجأون إلى سُقْيَا أحد هذه "الحاجة الأصفرة" لسبب بسيط هو أن دينهم المزيف الملفق يحرّمها تحريم مالك للخمر (وأرجو ألا يضحك القارئ الكريم من العبارة الأخيرة وما فيها من لف ودوران)! وهذا أيضا لو أن البيزنطيين وغيرهم قد اكتفَوْا بذلك الموقف السلبى فسكتوا ولم يتكلموا رغم توفر جميع الدواعى عندهم للكلام وفضح المسلمين الكذابين الملفقين المزورين الذين قَضَوْا على زعامتهم وحرموهم من سيادتهم ومستعمراتهم وجردوهم من السلطان والعز والنغنغة التى كانوا فيها وأذاقوهم من الويلات والمذلات جزاء بغيهم وإجرامهم ما لم يعرفوه طوال تاريخهم! أمّا، ونحن نعرف أن البيزنطيين قد هبّوا منذ البداية فهاجموا الرسول واتهموه بما اتهموه به (بغض النظر الآن عن مدى صدق ذلك أو كذبه) مما يعد دليلا لا يمكن نقضه على أنه عليه السلام حقيقة لا مراء فيها، فمعنى ذلك أن كاتبنا الأخرق يهرف بما لا يعرف. لا، بل يكذب كذبا وقحا، ودون أن يطرف له جفن أو تختلج فى وجهه عضلة! ودعنا كذلك مما عثر العلماء عليه من رسائل بعث بها صلى الله عليه وسلم لملوك الأرض من حوله! ودعنا كذلك من الشعر الجاهلى الذى سجَّل جانبٌ منه أحداث سيرته صلى الله عليه وسلم بما فى ذلك المعارك الطاحنة التى اشتعلت بين الدين الجديد والوثنية البائدة كقصائد حسان وكعب بن مالك وابن رواحة وأبى سفيان بن الحارث وعبد الله بن الزِّبَغْرَى وكعب بن زهير وأمية بن أبى الصلت وغيرهم! ودعنا أيضا من أنه لو كان ما يقوله هذا المأفون صحيحا لما سكت الأمويون مثلا عما تقوله كتب السيرة والتاريخ الإسلامى عن أجدادهم وآبائهم مما لا يشرفهم كما هو معروف ما دامت المسألة تلفيقا فى تلفيق! أم للقراء رأى آخر؟ فلْيأتونى به، ولهم جزيل الشكر منى، والمثوبة من رب العالمين! ودعنا فوق هذا من أن أحدا من الباحثين على مدار القرون الأربعة عشر الماضية من مسلمين وغير مسلمين لم يفكر مجرد تفكير فى إنكار وجود محمد، إلى أن هَلّ علينا بطلعته البليدة غير المأسوف على غبائه وحمقه فأراد أن يحدث حدثا أحمق أخرق مثله، وهيهات. والتاريخ لا يكتبه المجانين المخابيل، وإلا فعلى الدنيا العفاء! ألم يكن هناك، كما لا يزال بيننا الآن، كفار لا يؤمنون بالقرآن ولا بالرجل الذى يقال إنه هو الذى نزل عليه هذا القرآن من السماء، فيفتحوا أفواههم ليهتكوا هذا الزيف الذى ترفضه عقولهم وضمائرهم؟ وإذا كان البكاش المناور يزعم أن الرسول والقرآن جميعا قد لُفِّقَا تلفيقا من أجل مصالح بعض المتسلطين المستبدين سَفَكَة الدماء، أفلم يكن هناك من بين المسحوقين الذين كان يستغلهم هؤلاء المتسلطون السفاكون من فكّر فى فضح تلك اللعبة الحقيرة؟ لقد وصلَنا، كما قلنا، شعرٌ لمشركين ويهود كانوا يهاجمون الدين الجديد ويكذّبون رسوله بما يفيد أنه عليه السلام كان شخصا حقيقيا، لكن لم يصلنا قَطّ شعر ولا نثر يقول إن محمدا هذا لم يكن له وجود، بل مجرد صناعة بشرية قام بها فلان وفلان وفلان من أجل الغاية الفلانية أو العلانية؟ أليس هذا ما يقضى به العقل والمنطق؟ أم هل كان العرب والمسلمون جميعا أمة من الكذابين، أو الكذابين من جهة، والسذَّج الذين يصدقون كل ما يقال لهم كذبًا وافتراءً من جهة أخرى؟ ثم دعنا فوق هذا وذاك من أن القرآن لا يعكس روحا بشريا ولا يشبه أسلوبه أن يكون أسلوب أحد ممن يُتَّهمون بأنهم هم ملفقوه، وإلا فليقل لنا هذا المخبول مَنْ مؤلفه ما دام يقول إنه مصنوع صناعة على يد من يُسَمَّوْن بـ"المسلمين" بعد التاريخ الذى يقال إن محمدا كان يعيش فيه. ونتحدى أى مسعور من أمثال صاحبنا أن يدلنا على الشخص الذى ألف القرآن، لسبب بسيط ومنطقى تمام المنطقية هو أنه ليس من(/12)
تأليف أحد، بل من وحى السماء!
ثم إن المأفون يقول إنه ليس بحاجة للذهاب لإنجلترا ولا لبلاد العرب للتحقق من الأمر، بل يكفى الرجوع إلى ما كتبه الكاتبون على المشباك. فكيف، وهو المتشكك فى كل شىء، يسارع هنا إلى تصديق ما يقرؤه على المشباك وينسى جميع ارتياباته فى كل ما يتعلق بالإسلام؟ كما أنه يقول إن التناقضات التى لاحظها هو وأمثاله على تاريخ الرسول (بافتراض أن هناك فى سيرته عليه السلام تناقضات لا يمكن حلها وتوجيهها) هى دليل على أن أمر محمد كله أسطورة. أترى هذا دليلا سليما فعلا على ما يقول؟ إنه ما من شىء فى الدنيا يخلو من المتناقضات، ادعاءً كانت هذه المتناقضات أو حقيقةً، فلو اتخذنا إذن من وجود المتناقضات دليلا على أسطورية الأشياء والأشخاص لما كان لشىء فى الدنيا وجود البتة! إن عشرات الملايين من الأمريكان مثلا تقول فى صدام حسين ما قال مالك فى الخمر ("مالكٌ" مرة أخرى فى مقال واحد، لاحظ!)، وتقول فى بوش كل ما يستطيع العقل تخيله من قصائد المديح، على حين أن أنصاره يقولون فيه أحسن ما يقال، وفى بوش أسوأ ما يمكن تصوره، وكل ما تسمعه هنا يتناقض تمام التناقض مع ما تسمعه هناك، فهل نخلص من هذا إذن إلى القول بأن الرجلين ليس لهما وجود؟ وهذا مجرد مثال فقط.
أما قوله إنه "من خلال ما أرسى محمد من مبادئ، قد أضحى مناط إلهام لعدد من العمليات الانتحارية التى يقوم بها هذه الأيام مسلمون يوقنون تمام الإيقان أنهم متى ماتوا فإن كل شىء سوف يقع الضبط كما سبق أن أخبر به الرجل الذى يتخذونه مثلا أعلى" فهو، كمعظم ما جاء فى مقاله التافه مثله، خطأ فى خطإ: فالرسول قد شدد فى أحاديثه الكريمة على تحريم الانتحار موضحا المصير البشع الذى ينتظر المنتحر فى الآخرة، كما حذر القرآن المجيد والسنة النبوية المشرفة من اليأس من رَوْح الله ووضّحا أنه ما من مصيبة أو أذيّة تصيب المؤمن ويصبر عليها ولا يتسخط منها إلا كُتِبَ له بها يوم القيامة أجر كبير، وهو ما من شأنه أن يشيع فى نفس المؤمن السكينة والطمأنينة ويغرس فى قلبه أن عين الله تكلؤه ولا تنساه، ومن ثم لا يمكن أن يخطر الانتحار على باله، على عكس كل ملحدٍ كفّار: "إنه لا ييأس من رَوْح الله إلا القوم الكافرون"، "ومن يَقْنَطُ من رحمة ربه إلا الضالون؟"، "فإن مع العسر يسرا* إن مع العسر يسرا"، "ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ* وَلاَ يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ". وفى "صحيح البخارى" عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من تردَّى من جبلٍ فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردَّى فيه خالدًا مخلَّدًا فيها أبدا، ومن تحسَّى سُمًّا فقتل نفسه فسُمّه في يده يتحسّاه في نار جهنم خالدًا مخلَّدًّا فيها أبدا، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يَجَأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلَّدًا فيها أبدا"، وفى "مسند أحمد" عنه أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من قتل نفسه بحديدة فحديدته بيده يَجَأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن قتل نفسه بسُمٍّ فسمّه بيده يتحسّاه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تردَّى من جبل فقتل نفسه فهو يُرْدَى في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا".(/13)
فهذا عن السخط واليأس والانتحار فى الإسلام بإيجاز خاطف، أما ما يقوم به الأبطال المسلمون الأشاوس من أجل أمتهم فى فلسطين المباركة وعراق المجد والنبالة وأفعانستان التى حطمت فَقَار ظهر الاتحاد السوفييتى وسوف يكتب الله لها هى وسائر بلاد الإسلام المحتلة المظلومة شرف تحطيم فَقَار ظهر الأمريكان بمشيئته تعالى وعونه وكرمه إذا استمرت المقاومة واستعانت فى كفاحها بالنفس الطويل والإيمان الذى لا يتزعزع والاطمئنان إلى وعد الله، أما ما يقوم به أبطالنا فى تلك البلاد وأمثالها من بلاد المسلمين فهو استشهادٌ وقُرْبَى إلى الله، وهو ضريبة الدم والحياة يبذلها أولئك الكرام الأحرار الذين يدوّخون الحضارة الغربية الشيطانية الأنانية رغم قلة الحيلة وضيق ذات اليد، وهو ما يجنّن رجال تلك الحضارة المجرمة المستبدة المتغطرسة القاتلة الناهبة المغرمة بقتل الشعوب المستضعفة وسرقة خيراتها وتمزيق أوطانها ثم الزعم بعد ذلك كله بأنهم إنما يعملون على تحضيرهم وترقيتهم والأخذ بيدهم إلى المعالى (شوفوا البجاسة والجبروت والإجرام وقلة الأدب)! إن الانتحار يأسٌ وكفرٌ وسخطٌ وجَزَعٌ وضعفٌ مَشِينٌ لا يليق بالرجال ونزوعٌ إلى الموت والدمار فرارًا من أثقال الحياة، أما الشهادة فهى الحياة والأمل لأمم الشهداء، وهى الخلود والنعيم الأخروىّ والانغمار فى الرضوان الإلهى لأولئك المغاوير أبد الآبدين، وهى الدمار والهلاك لأعداء الوطن والدين. فأين هذا من ذاك؟ إن المأفون وأشباهه إنما يبذلون كل ما عندهم من تدليس وتشكيك وتسخيف من أجل إشاعة الهزيمة فى صفوفنا وقلوبنا وإغرائنا بالاستسلام لسكاكينهم ومدّ رقابنا لهم فى خنوعٍ وضراعةٍ كى يجزروها. هذه كل الحكاية لا أكثر ولا أقل، أما ما يروّجه أولئك الشياطين ومن يُسَمَّوْن بهتانًا ومَيْنًا بـ"علماء الدين" عندنا ممن باعوا ضمائرهم جبنًا أو خبثًا لأعداء الملة والأمة فهو على الجزمة القديمة الملطَّخة بما يليق بأولئك الأبالسة البُعَداء الملاعين، وبهؤلاء العبيد الأنجاس المناكيد! وهل هناك غيره؟ إن أباليس الغرب إنما يحبون الحياة حُبًّا جَمًّا مجنونًا لأنهم لا يؤمنون بالآخرة أبدا، ولا يريدون أن يُحْرَموا من نعيم هذه الدنيا طرفة عين ولا أن يموتوا فيذهبوا كما يعتقدون إلى العدم والخواء، ومن ثم يعرفون أن سر قوتنا فى هذه المرحلة العجيبة الغريبة من تاريخنا إنما هو إيمان أبطال المسلمين بالجنة والشهادة، إذ لا سلاح غيره تقريبا فى أيدينا، فهم يريدون تجريدنا حتى من هذا السلاح (الذى لا يستطيعون أن يقفوا فى وجهه) حتى يسهل عليهم ابتلاعنا والتهام لحومنا ولحوم الذين خلّفونا ومصمصة عظامنا أيضا فوق البيعة حتى لا تقوم لنا من بعدها قائمة. ثم يأتى الأراذل من جُهَلاءِ السَّوْءِ (عليهم دائرةُ السَّوْء) فيُفْتُونهم بما يريدون. ألا لعنة الله على المدلسين الخائنين الملعونين فى كل كتاب وبكل لسان إلى يوم يُبْعَثون، الذين يتبرأ منهم الله والرسول والملائكة والأرض والسماء والأحرار فى كل الأمم والديار!(/14)
ويقول الكذاب المداور المناور أيضا: "لو أن مسلما أحضر طفلا هنديا من أبناء الأمازون إلى بلاد العرب وحفّظه عن ظهر قلب، وهو يضربه فوق رأسه بالمقرعة ومن خلال اللغة العربية التى لا يفهمها، القانون العثمانى فى مدرسة قرآنية، ثم أزاره المتاحف الإسلامية، والأماكن التى يتحدث عنها القانون العثمانى، والمدن التى عاش فيها محمد، وتلك التى تخلد ذكراه، فمن المؤكد أن هذا الفتى الأمازونى الشجاع لن يساوره بعد ذلك أدنى شك فى وجود النبى العظيم محمد. وما إن يعود الفتى الأمازونى إلى موطنه فى قلب الأمازون حتى يشرع فى الكلام عن حياة ذلك النبى العظيم، فيصبح محمد بهذا حقيقة لا تقبل المماراة بالنسبة للقبيلة جمعاء. ولسوف يكون بمستطاع كل فرد من أفراد القبيلة أن يأتى بدوره إلى بلاد العرب للتحقق بنفسه من وجود مكة كما قالوا له، وأن هناك فعلا متاحف خاصة بسيوف محمد وبعض مخلفاته، وأن هناك أيضا مقابر خاصة بأصحابه فى المدينة. ولسوف تعود القبيلة بعد ذلك إلى موطنها أكثر اقتناعا بوجود محمد رغم أن محمدا ... إلخ"! وهذا الذى يقوله الكذاب، ما عدا حكاية اللغة الأجنبية التى يلقَّن بها التلميذ ما يراد له معرفته وحفظه وترديده والإيمان به، وكذلك كلامه عن المقرعة وضرب التلميذ بها فوق دماغه تهكما منه علينا وعلى طريقتنا فى التعليم رغم أن الأساتذة الآن لم يعودوا يضربون أحدا من التلاميذ تقريبا ورغم أن عقاب التلميذ المتكاسل البليد أو المشاكس المفسد ليس شرا كله، فى الوقت الذى يعلّمنا هؤلاء الأرجاس عن طريق الضرب بالقنابل النووية مما يسير على آخر طراز تربوى وتعليمى بطبيعة الحال، هذا الذى يقوله الكذاب ليس خاصا بالتعليم الإسلامى، بل هو مبدأ عام من مبادئ التعليم فى كل مكان وزمان، ألا وهو التكرار وضرب الأمثلة وزيارة المتاحف والمؤسسات المتعلقة بالمادة المدروسة ومعاينة ما فيها على الطبيعة... إلخ. أما زعمه بأن ذلك إنما يتم بلغة لا يعرفها التلميذ فليس له من رد عندى إلا أن البعيد قد تفوَّق فى بجاسته وبجاحته على المومسات والقحاب، إذ السؤال هو: وكيف سيعرف الطفل ما يقال له حتى ليصل إيمانه وإيمان القبيلة كلها إلى هذا المدى المتصلب الذى ذكره ذلك الإبليس دون أن يفهم ما يقال له؟ أعرفتم لماذا قلت إنه قد تفوق على القحاب العاهرات؟
ويتبقى بعد هذا ما سَخَّمَ به هذا الباجسُ البَجِحُ شاشةَ المشباك قائلا:"إن محمدا ليس فى الواقع إلا قصة مخترعة أو شخصية خيالية، ومع ذلك فالملاحظ أن مفهوم "محمد" يجسّد على نحوٍ كافٍ أحلام صنف من البشر لدرجة قيام بعض الأشخاص من تلقاء أنفسهم (فى القرن السادس الميلادى) بصنع جميع العناصر المكونة لوجود تلك الشخصية وجودا حقيقيا وتكوين جماعة تقوم على اعتناق تلك الأسطورة وحراستها وتخليدها لما يكفله لهم ذلك من ممارسة سلطان شامل يسوّغ لهم كل ما يريدون". والسؤال هو: أى صنف من البشر يا ترى يقصده المأفون، هذا الذى يرى فى الأسطورة المحمدية الملفقة تجسيدا لأحلامه وآماله؟ وما تلك الأحلام والآمال؟ إن الذين يضحون بأنفسهم وراحة بالهم وحياتهم وأموالهم وبيوتهم والدنيا جميعا ويتركون أولادهم من بعدهم فى حماية المولى وحده لا يمكن أن يقول عنهم ما قاله مأفوننا (لا شفاه الله من اختلال عقله) إلا وقح سافل، إذ أية مصلحة يا ترى يمكن اتهام أبطال الإسلام الاستشهاديين بأنهم إنما يجرون خلفها، وهم الذين يضحون بكل شىء كما هو معروف؟ وهل من مصلحةٍ أو سلطةٍ يمكن أن يتطلع إليها أو يبكى عليها طالب الشهادة، وقد جاد بالحياة ذاتها؟ إن المصالح والسلطات إنما هى مع الأمريكان والفرنسيس والبريطان، لكن استشهاديينا الكرام قد نفضوا ذلك كله عن نفوسهم ونبذوه وراء ظهورهم واشْتَرَوْا به ثمنا غاليا هو ما عند الله من بِرٍّ ورحمةٍ وجنةٍ عَرْضها السماوات والأرض أُعِدَّت للمتقين المناضلين فى سبيل الوطن والدين مع النبيين والصِّدّيقين، وحَسُنَ أولئك رفيقا!(/15)
صاح قائلاً: .. أبي، إني أكرهك
بقلم / هاني عتمان
مفكرة الإسلام : أبي إني أكرهك ... صرخة مدوية صدرت من الابن ذات يوم مصرحا بها جهرة في وجه أبيه .. [إني أكرهك] كانت بمثابة الصاعقة التي قرعت أذن والده، ووقف الأب مذهولا أمام أفظع كلمة سمعها طيلة حياته .. ويسمعها مِن مَن؟ ممن ظن أنه أكثر الناس حبا له .. من ابنه .. فلذة كبده .. قرة عينه .. حبيب قلبه.
ويقولها لمن؟!! لوالده .. لمن أولاه الرعاية والعناية، وسهر طويلا في سبيل القيام على حياته وجعلها أفضل حياة، يقول ذلك لأبيه؟!! فمن ذا يحب إن هو كره أباه؟!!
شعور من الذهول والشلل الفكري انتاب الأب تجاه هذا الموقف الذي لا يحسد عليه .. ماذا عساه يفعل؟ وما هو رد الفعل المناسب؟ تراه يضربه .. أم يتركه ويمضي .. أم يأخذه بين أحضانه؟!!
إن كل فعل من ذلك لا يلائم هذا الموقف الرهيب.
تُرى أيها القارئ الكريم لو أن أحد أصدقائك حكى لك تلك الواقعة، واستشارك، بم سوف تجيبه؟
أيا كانت إجابتك .. رجاء .. لا تتسرع وتلقي باللائمة على الابن، وكأن الأب هو الضحية، والجاني عليه ولده. فإن ما حدث كانت النهاية، ولم تكن البداية...
قد كان الابن ـ وللأسف ـ ضحية أبيه الذي أوصله إلى أقصى درجات العناء النفسي، والذي جعل من هذه الكلمة [إني أكرهك] بمثابة فوهة البركان الذي ينفث بها عما بداخله .. أقول 'فوهة البركان' فليست هذه الكلمة هي البركان ذاته، فإن ما بداخل هذا الابن من الكبت والضيق ما طفح به الكيل حتى أخرج بعض زفراته في ساعة هم وغم كادت تقتله كمدا.
دعني أوضح لك الأمر قبل أن تتحامل على كاتب المقال.
بديهيات واهمة:
يوجد في مخيلة كثير من الآباء جمل محفورة في أذهانهم أصبحت بمثابة المسلَّمات التي لا تقبل الجدل أو النقاش، أمثال: [كل الأبناء يحبون آباءهم]، [حب الابن لأبيه واجب شرعي]، [فطر الله الأبناء على حب الآباء] ... إلخ.
وأنشأت هذه المسلَّمات في خيال كثير من الآباء أيضا خطوطا حمراء وهمية لا يتصور بحال أن يتخطاها الأبناء، أو حتى أن يقتربوا منها، وعدوا غشيانها من قبيل المستحيلات الممتنعة الوقوع أصلا، وأمثلة هذه الخطوط الحمراء [بغض الابن لأبيه أو أمه].
وربما فرضوا على الابن ذاته شيئا من تلك البديهيات، وطالبوه بالتسليم بها، إن لم يكن بالتصريح فربما بالتعريض، فعلى سبيل المثال: عندما يُسأل الابن عن أحب الناس إليه، فإن الإجابة الحتمية الفورية لابد أن تكون: أمي أو أبي .. أو كليهما.
وفي الحقيقة إن هذه القواعد والمسلَّمات التي وضعها الآباء في مخيلاتهم ما هي إلا أضغاث أوهام عشعشت في عقول كثير من الآباء، لا رصيد لها من الصحة، وسببها الرئيس هو الخلط بين عدة مفاهيم ظنوها مترادفة، وعدم فهم حقيقة بعض الأوامر الشرعية.
مفهوم البر ومفهوم الحب:
إن وجوب بر الابن لوالديه أمر من بديهيات شريعة الإسلام، فهو حق أعقبه الله في كتابه بعد حق توحيده تعالى بالعبودية {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا} .. وجعل الله عاقبة العقوق من أشد العواقب التي يعجل الله حسابها في الدنيا قبل الآخرة قال صلى الله عليه وسلم: [[ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة مثل البغي وقطيعة الرحم]].
ولكن هل يعني وجوب بر الأبناء للوالدين وجوب حبهم؟! بمعنى آخر: هل لا يقبل الله البر من الأبناء ولا يثيبهم عليه إلا بشرط اقتران ذلك بحبهم؟
لقد خلط كثير من الآباء بين وجوب بر أبنائهم بهم من ناحية، ومحبة الأبناء لهم من ناحية أخرى، فظنوا أن كلا الأمرين متلازمان قرينان، لا سبيل لافتراقهما، فالبر عندهم مرادف للحب، والحب قرين للبر.
وفي الحقيقة هذا فهم خاطئ درج عليه الكثير من الآباء، والصحيح أن البر والحب أمران مختلفان تمام الاختلاف في المعنى والمنشأ والصورة الخاصة بكل منهما وفي طريقة التعبير أيضا.
فقد يحب المرء ما أظهر العقوق تجاهه، وعلى العكس قد يبغض ما هو مأمور بالبر به. كيف؟
أضرب مثالا أو مثالين للتوضيح:
من المعلوم أن من شروط كلمة التوحيد 'الحب المنافي للكره'، فلا يتحقق التوحيد في قلب امرئ إلا إذا أحب الله تعالى المحبة التي تنافي الكره تمام المنافاة، بل لابد أن يحب كل ما يحبه الله تعالى ليحقق هذا الشرط اللازم للإتيان بالإيمان الواجب. ولا يُتصور مسلم يظل على إسلامه إن هو صرح ـ والعياذ بالله ـ ببغضه لله تعالى أو النبي صلى الله عليه وسلم.
ومع ذلك فكم من مسلم عاق في حق الله تعالى، تجده مفرطا في أوامره، مرتكبا لنواهيه، ومع ذلك لا نقول بحال أن حب الله قد زال بالكلية من قلبه، وإلا نكون قد حكمنا عليه بذلك بالردة عن الإسلام، وإنما نقول أن إيمانه قد نقص بقدر تفريطه وتقصيره، وما زال حب الله له وجود في قلبه.
ومثال آخر:(/1)
من المعلوم أن من أصول عقيدة أهل السنة والجماعة البراء من أعداء الله، ومنهم أهل الكتاب ـ اليهود والنصارى ـ، وهذا البراء يستلزم البغض لهم، والذي صرح الله به في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة: 1]. فبغض أهل الكتاب من فرائض الشريعة المحكمة، ومع ذلك أمر الله تعالى ببر طائفة منهم فقال: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8].
فلا تعارض بين أن يبر المسلم بتلك الطائفة من أهل الكتاب ويقسط إليهم ولا يظلمهم، وهو مع ذلك مأمور ببغضهم وعدم إظهار الحب لهم.
من هذين المثالين يتبين لنا أن البر ما هو إلا سلوكيات ومعاملات وأخلاق مصدرها الجوارح، وبرهانها الأفعال .. أما الحب فإنه مشاعر وأحاسيس داخل وجدان الإنسان قد تقترن بالفعل، وقد تفارقه، صحيح أن من علامات الحب الطاعةَ والبرَّ، ولكن ليس دائما يكون الدافع للطاعة والبر هو الحب، كما اتضح ذلك من المثال الثاني.
من هنا أقول: إن تلك القاعدة مطردة أيضا في العلاقة التي تربط الابن بوالديه، فكم من ابن يبر والديه ولكن بمشاعر ميتة، فلا يشعر بأدنى عاطفة تجاههما، فما هو إلا مُنَفِّذ لما أُمر به، مؤدٍّ لما فرضه الله عليه ... وفقط.
وفي الحقيقة هذا صنف من الأبناء قد أدى الواجب المفروض عليه شرعا، وأسقط عن كاهله تبعة الحساب الأخروي، فإنه يأتي الله تعالى يوم القيامة وقد برئت ذمته من خطيئة عقوق الوالدين، فإن الله قد فرض على الأبناء الإحسان للآباء فقال: {وبالوالدين إحسانا}، ولم يفرض على الأبناء حب الآباء، بل ترك هذه المشاعر ميدانا يتنافس فيه المتنافسون.
ولكن انتبه .. فإن المتسابقين الحقيقيين في ميدان تلك العاطفة ليسوا هم الأبناء .. وإنما هم الآباء، نعم، ويتضح ذلك من خلال العنصر الآتي.
حب الابن لوالديه فطري أم مكتسب؟
سبق وأن ذكرت في بداية كلامي أن من المسلَّمات الواهمة التي وضعها كثير من الآباء في خيالهم أن [الأبناء فطرهم الله على حب الآباء].
وهي جملة لا وجه لها من الصحة، ولكن يمكننا أن نقول أن الله فطر الأبناء على التعلق بالوالدين، فيجد عندهما السكن والأنس والهدوء والراحة ما لا يجده ـ في الغالب ـ عند غيرهما.
أما مشاعر الحب فهي في الحقيقة أمر آخر يكتسبه الابن على مر الأيام والشهور والسنين.
ودليل ذلك أنك ترى الله تعالى قد أكثر في كتابه من توجيه الأبناء وحثهم على البر بالوالدين، ولم يوجه الله تعالى في كتابه أمرا مباشرا للوالدين بوجوب البر بالأبناء، وذلك لأن الله عز وجل قد [فطر الوالدين على حب الأبناء]، وهذا هو الصحيح في هذه المسألة، نعم .. فإن الأصل أن كلا الوالدين مفطوران على حب ولدهما، إلا ما ندر وشذ، وهذا الحب الفطري يدفع ـ في الغالب ـ إلى البر والإحسان إلى الأبناء.
أما الأبناء فإن الأصل فيهم العقوق، من أجل ذلك أكد الله في أكثر من موضع من كتابه على قضية وجوب أداء حقوق الوالدين.
يقول سيد قطب رحمه الله: 'ومعظم الأوامر تتجه إلى توصية الذرية بالوالدين ـ وإن كانت لم تغفل توجيه الوالدين إلى الذرية ـ ... والذرية بصفة خاصة أحوج إلى توجيهها للبر بالوالدين. بالجيل المُدْبِر المولي؛ إذ الأولاد في الغالب يتجهون بكينونتهم كلها وبعواطفهم ومشاعرهم واهتماماتهم إلى الجيل الذي يخلفهم، لا الجيل الذي خلفهم'.
فإذا كان حب الابن لوالديه أمرًا مكتسبًا، وليس فطريا كما يفهم الكثيرون، إذن فالسؤال الطبيعي هنا، ما هو المحدد الرئيس في إنشاء عاطفة الحب لدى الأبناء تجاه الآباء؟
أقول: إن المحدد الرئيس في إنشاء تلك العاطفة، هو مدى قدرة الوالدين على إشباع الحاجات النفسية والروحية والعاطفية لدى الأبناء. وسأرجئ الكلام على سبل ذلك في موضوع مستقل إن شاء الله تعالى.
والذي أرنو إليه هنا هو توضيح أمر هام .. هو أن مشاعر الحب والمودة والتي يرتجي كل أب وأم أن تقترن بأخلاق البر والإحسان من أبنائهما هي أمر في أيديهما، لا في يد غيرهما، إن شاءا كان الولد بارا بهما محبا لهما، وإن شاءا جعلاه بارا بهما بلا عاطفة، وقد يكون في أحوال أخرى عاقا لهما غير بار ولا محب. ولكل حال من تلك الأحوال أسبابه التي تؤدي إليه، وسوف نُفَصِّل ما أجملناه في مقالات تالية إن شاء الله تعالى.(/2)
صار فرعون مذكرا!
الكاتب: الشيخ أ.د.عبد الله قادري الأهدل
طاغية العصر يَعِد بالعدالة للمعذبين في سجون عملائه في العراق، تحقيقا لنصر المظلومين، وحربا على ظلم الطائفة التي حَملتْها دباباته لتنفذ له مخططه الحاقد الذي يشفي أيضا حقدها الدفين على أهل السنة في الشعب العراقي الذي كان من أقوى الصخور التي يعرف الطاغية وأساتذته من اليهود أن أحلامهم وأحلام الدولة اليهودية المغروزة في قلب الأمة الإسلامية وقلب الأرض المباركة أرض الأنبياء والمرسلين وأرض الأقصى المسجد الثالث في هذا الكوكب ستتحطم عليها.
نعم هذا الراهب العادل الذي زعم أن الله أوحى إليه هو الذي حَمَلَ الطائفة التي تولت تعذيب الشعب العراقي، إلى المنطقة الخضراء في بغداد، وهو الذي حماهم من الشعب الغاضب، وهو الذي أمدهم بما يمكنهم ويبقيهم في وسط قوم لا يطيقون سيطرة عملاء على بلدهم، وزودهم بوسائل التعذيب ولم يكونوا ليبقوا في الشعب العراقي إلا بحمايته.
وهو الذي بدأ التعذيب في سجن أبي غريب وغيره في العراق، وفي غيره من البلدان في أفغانستان وجوانتنامو، وأنشأ السجون السرية التي تعذب استخباراته فيها المسجونين في بلدان العالم.
http://www.islam-online.net/Arabic/news/2005-12/13/article12.shtml
كما يستعمل سفنه في المحيطات والبحار لذلك.
وهو الذي عذب الشعب العراقي ودمره علنا بإحراق مدنه وقراه وقتل الآلاف من أبنائه.
عجيب أمر الفراعنة الطغاة الذين اجتمع ما تفرق فيهم سابقا، في فرعون هذا العصر لاحقا، من الظلم والعدوان على كل ضرورات حياة الناس، وبخاصة المسلمين.
ومع ذلك يصيح في وسائل الإعلام في بعض بلاد المسلمين منكرا ما يقوم به عملاؤه من تعذيب الشعب العراقي، ويعد بالتحقيق العادل في هذا الشأن.
إنه لو كان يوجد في الأرض من عنده قدرة على إقامة العدل والإنصاف هو يستحق أن يحقق معه في كل الجرائم التي يصدر أوامره باجتراحها على الأبرياء من الأفراد والجماعات والشعوب.
ومع يحاول أن يقنع المسلمين بأنه لا يحاربهم ولا يحارب دينهم، وهو الذي سلط جنوده لهدم مساجدهم و تدنيسها بنعالهم، وإهانة القرآن الكريم بتبولهم عليه ورميه في قاذورات دورات المياه.
هل يظن أن الذين يسمعون تصريحاته في العالم فقدوا عقولهم، حتى يصدقوا تمثيله المفضوح!؟
لقد سبقه فرعون مصر – الذي اقتصر عدوانه وتضليله على شعبه و استخف قومه فأطاعوه، وقال متبجحا مظهرا اتصافه بما يتنافى مع طبعه عندما قال: ((ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد)) فعلق على دعواه بعض علمائنا في تفسير الآية قائلا: "صار فرعون مذكرا(/1)
صالح المرِّي الناجي*
أ.د/محمد أديب الصالح
رئيس تحرير مجلة حضارة الإسلام
ـ 1 ـ
في الجعبة اليوم كلمات عن واحد من أولئك الربانيين الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح ، وبين العلم وصدق التوجه إلى الله ، والإخلاص في الدعوة إلى سبيله وهو (صالح المري) .
والمري من الأعلام الذين كان لهم في تاريخنا أثر لا تبليه الأيام ، غناء بالتقوى وتطلعاً إلى الآخرة، إثراءً للقلوب بكل معاني الخير والتذوق لحلاوة الإيمان : فقد أخذ رحمه الله عن التابعين وعاش مع القرآن بكل جوارحه ، وعمل على أن يكون سلوكه طوع الكتاب والسنة وتلك هي خلائق الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، واستقاموا على النهج السوي .
وكان طريقه إلى ذلك تزكية النفس وجهادها ، وحملها على الجادة بمقاييس أهل الآخرة لا بأحابيل أهل الدنيا ، حتى بت تراه ـ كما يقول المؤرخون لحياته ـ وهو دائم الخشية ، كثير التذكار، يرمي ببصيرته إلى الباقية التي لا ينفع فيها مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، لا يني يبكي على نفسه لما يرى أنه تفريط في جنب الله ، فالدنيا دار ممر، والآخرة دار مقر والعاقل كل العاقل ـ في نظره ـ من كان دائماً على ذكر من حقيقة هذه المرحلة التي ينقضي فيها عمر الإنسان ، فلا يغره بالله الغرور، ولا يأخذه البهرج ، ولا تثنيه عن الحقيقة الزخارف. وإلا فأين هو من قول الله تباركت أسماؤه:
[اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد ، كمثل غيث أعجب الكفار نباته ، ثم يهيج فتراه مصفراً ، ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور] الحديد (20) .
وإذا توافر لصالح رحمه الله تلك النظرة الأخروية الخالصة ، والاستعلاء على الركام والحطام مما يلهث وراءه أهل الدنيا وينسون في غمرته ربهم ودينهم ... كانت قدرته على التأثير وتحريك قلوبهم بالموعظة ، والقول البليغ أمراً عجباً ، فلقد كان يعظ من حوله بالكلمة تخرج من أعماق قلبه المزدان بالضياء والدموع الخاشعة ترسلها عيناه فتهش له القلوب ، وتفيض العيون ويصحو الغافل ، الأمر الذي يشعرك أنه على إرث من إرث النبوة فيما يقول وفيما يعمل ، وفيما يخاطب الآخرين عملاً بقوله عليه الصلاة والسلام فيما روى أنس بن مالك عنه :
" لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه (2) ".
ويا نعم ما شهد له بذلك سفيان الثوري عليه الرحمة والرضوان ، قال عبد الرحمن بن مهدي : جلست مع سفيان الثوري في مسجد صالح المري ، فتكلم صالح ، فرأيت سفيان الثوري يبكي ويقول : ليس هذا بقاص ، هذا نذير قوم.
وإنها للكلمة من سفيان ، الكلمة الأمينة الواعية ، التي يعلم رحمه الله أنه مسؤول عنها بين يدي الله رب العالمين ، لما أنه في موضع القدوة للناس . ويقول عفان بن مسلم:
" كنا نأتي مجلس صالح المري نحضره وهو يقص ، فكان إذا أخذ في الحديث بدا كأنه رجل مذعور يهولك أمره من حزنه وكثرة بكائه ، كأنه ثكلى ، وكان شديد الخوف من الله شديد البكاء .ولقد نعلم أن تأثير السلوك والعمل أبلغ من تأثير القول في كثير من الأحيان،فكيف بمن جمع الله له الفضيلتين "!!
وكم كانت لأبي بشر وقفات التذكير القرآني بالوعيد ، وكم كان ينصدع قلبه للآية تحمل المؤمن إلى ساحة التفكر والتدبر فيما تكون عليه العاقبة ، وفيما يؤول إليه الأمر بين يدي رب العالمين ؛ والقرآن بحر لا يدرك ساحله ، ونور من نور الله يهدي للتي هي أقوم ، وشفاء للقلوب والنفوس .
قال خلف بن الوليد : كان صالح المري إذا تحدث قال : هات جونة المسك والترياق المجرب ـ يعني القرآن ـ فلا يقرأ ويدعو ويبكي حتى ينصرف ولم لا ، والله تعالى يقول :
الهوامش :
{إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً} الإسراء: 9.
ـ 2 ـ
من معين القرآن الذي لا ينضب يتحدث أبو بشر عن القيامة وأهوالها وما يؤول إليه أمر الظالمين والمعرضين ، ويأخذ بنفسه وبسامعيه إلى ذلك الجو البعيد عن الأوضار والشوائب ، ويرقى بهم عن ذلك المستوى الهابط الذي يحكم إغلاقه حب الدنيا وكراهية الموت . ولا تسل عن طيب الأثر حين يجد القلب حلاوة الإيمان ، فتفعل الموعظة فيه ، ما يفعل الغيث العميم يهمي على الأرض العطشى فتجود بالخير والنماء .
فمما يروى من أخباره أنه قال ـ وهو يعظ الناس ـ لشاب في مجلسه : اقرأ يا بني ، فقرأ الرجل(/1)
[وأنذرهم يوم الآزفة ، إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع] فقطع عليه صالح القراءة فقال : " وكيف يكون للظالمين حميم أو شفيع ؟ والطالب لهم رب العالمين وبعد أن عرض صورتهم وما يلاقون من أهوال في ذلك المشهد من مشاهد يوم القيامة ذلك اليوم الذي تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ، بعد أن عرض صورتهم قال : إنك والله لو رأيتهم على ذلك لرأيت منظراً لا يقوم له بصرك ، ولا يثبت له قلبك ، ولا يستقر لعظمة هوله على قرار قدمك ... ثم نحب وصاح : يا سوء منظراه ، ويا سوء منقلباه ، وبكى وبكى الناس ، وقام شاب به تأنيث فقال : أكل هذا في يوم القيامة يا أبا بشر؟ قال نعم ، والله يا ابن أخي وما هو أكبر من ذلك لقد بلغني أنهم يصرخون في النار حتى تنقطع أصواتهم ، فلا يبقى منها إلا كهيئة الأنين من المدنف . وأخذت الموعظة طريقها إلى قلب الشاب وحركت تلك البقية الباقية فيه من الخير فنادى بأعلى صوته مناجياً خاشعاً : واغفلتاه عن نفسي أيام الحياة ، ويا أسفاه على تفريطي في طاعتك يا سيداه ، واأسفاه على تضييع عمري في دار الدنيا ، ثم بكى واستقبل القبلة ثم قال : اللهم إني أستقبلك في يومي هذا بتوبة لك لا يخالطها رياء لغيرك ، اللهم فاقبلني على ما كان مني ، واعف عما تقدم من عمل ، وأقلني عثرتي وارحمني ومن حضرني ، وتفضل علينا بجودك أجمعين يا أرحم الراحمين ، لك ألقيت معاقد الآثام من عنقي ، وإليك أنبت بجميع جوارحي صادقاً بذلك قبلي ، فالويل لي إن لم تقبلني .
ومن طرائف ما يروى عن أبي بشر رحمه الله أنه رأى فيما يرى النائم أن صحيفة دفعت إليه وفيها : ما تخوفت عواقبه فوطن نفسك على أن تجتنبه . وكان ذلك ديدنه رضي الله عنه فهو على بينة من أمره ، سيرة العاقل أن يوطن نفسه على اجتناب ما يتخوف عواقبه ، وإلا وقع في حبائل النفس والشيطان ، وأحاطت به خطيئته وكان من الخاسرين .
من أجل هذا كان يأخذ هذه النفس بالصبر على الطاعة والصبر عن المعصية ، ويكثر أن يدعو الله تعالى أن يمن عليه بالخوف الذي يحجزه عن طريق أهل السخط ، ويقويه على الطاعة والإنابة . قال أبو الحسن الباهلي : سمعت ابن عائشة يقول : كان صالح المري يقول في دعائه : اللهم إني أسألك خوفاً حاجزاً عن معصيتك مقوياً على طاعتك ، وأسألك صبراً على طاعتك ، وصبراً عن معصيتك . وقال سعيد بن عامر: كان صالح المري يدعو : اللهم ارزقنا صبراً على طاعتك ، وارزقنا صبراً عند عزائم الأمور.
ولما كان صادقاً مع نفسه في هذا المنهج ، فقد كان صادقاً مع الآخرين لا يدع أن يجد الفرصة المناسبة ليقول ما يجب أن يقوله حرصاً على أداء واجب النصح للمسلمين . قال زكريا بن يحيى حدثنا الأصمعي قال : شهدت صالحاً المري عزى رجلاً بأبيه فقال له : لئن كانت مصيبتك لم تحدث لك موعظة في نفسك ، فمصيبتك بأبيك جلل بجانب مصيبتك في نفسك ، فإياها فابك .
مرة أخرى : رحم الله أبا بشر، وأجزل مثوبته في الآخرين ، وجزاه عن المسلمين كل خير... فلقد كان واحداً من عباد الرحمن الذين عملوا بما علموا ، وأخذوا أنفسهم بحزم الطاعة وعزيمة الرشد ، ففازوا بمنزلة القرب من الله ورضي الله عنهم ورضوا عنه ، وكان لهم في نفوس الآخرين آثار مذكورة مشكورة ما اكثر ما أعادت شارداً إلى الحظيرة ، وهدت ضالاً إلى الطريق المستقيم ، ولكم تذكرنا سيرة هؤلاء الرجال بقوله تعالى :
[تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فسادا] ،
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
ـ 3 ـ
حدث ابن قدامة المقدسي عن رجاء بن ميسور المجاشعي قال :
كنا في مجلس صالح المري وهو يتكلم . فقال لفتى بين يديه : اقرأ يا فتى ! فقرأ الفتى :
[وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع]
فقطع عليه صالح القراءة وقال :
" كيف يكون لظالم حميم أو شفيع ، والمطالب له رب العالمين ؟ إنك والله لو رأيت الظالمين وأهل المعاصي يساقون في السلاسل والأنكال إلى الجحيم حفاة عراة مسودة وجوههم مزرقة عيونهم ذائبة أجسادهم ، ينادون :
يا ويلنا ! يا ثبورنا ! ماذا نزل بنا ؟ أين يذهب بنا ؟ ماذا يراد منا ؟
والملائكة تسوقهم بمقامع النيران ، فمرة يجرون على وجوههم ويسحبون عليها منكبين ، ومرة يقادون إليها مقرنين من بين باك دماً بعد انقطاع الدموع ، ومن بين صارخ طائر القلب مبهوت.. إنك والله لو رأيتهم على ذلك لرأيت منظراً لا يقوم له بصرك ، ولا يثبت له قلبك ، ولا تستقر لفظاعة هوله على قرار قدمك !
ثم نحب وصاح :
يا سوء منظراه ! يا سوء منقلباه !
وبكى ، وبكى الناس . فقام فتى من الأزدكان به تأنيث ، فقال : أكل هذا في القيامة ، يا أبا بشر؟(/2)
قال : نعم والله ، يا ابن أخي ، وما هو أكثر! لقد بلغني أنهم يصرخون في النار حتى تنقطع أصواتهم ، فما يبقى منهم إلا كهيئة الأنين من المدنف .
فصاح الفتى : إنا لله ! واغفلتاه عن نفسي أيام الحياة ! واأسفاه على تفريطي في طاعتك يا سيداه ! واأسفاه على تضييعي عمري في دار الدنيا !
ثم بكى ، واستقبل القبلة ، فقال : اللهم ! إني أستقبلك في يومي هذا بتوبة لا يخالطها رياء لغيرك ، اللهم ! فاقبلني على ما كان في ، واعف عما تقدم من فعلي وأقلني عثرتي ، وارحمني ومن حفدني وتفضل علينا بجودك وكرمك ، يا أرحم الراحمين ! لك ألقيت معاقد الآثام من عنقي ، وإليك أنبت بجميع جوارحي صادقاً لذلك قلبي ، فالويل لي إن لم تقبلني !
ثم غلب فسقط مغشياً عليه ، فحمل من بين القوم صريعاً . فمكث صالح وإخوته يعودونه أياماً. ثم مات ـ والحمد لله ـ فحضره خلق كثير يبكون عليه ويدعون له . فكان صالح كثيراً ما يذكره في مجلسه فيقول : ويأبى قتيل القرآن ، ويأبى قتيل المواعظ والأحزان ! قال : فرآه رجل في منامه ، قال : ما صنعت ؟ قال : عمتني بركة مجلس صالح فدخلت في سعة رحمة الله التي وسعت كل شيء..
(3)
ـ 4 ـ
من كلام صالح بن بشير المري (
4) الواعظ النقي الكثير البكاء من خشية الله ـ رحمه الله : قوله :
يا عجباً لقوم أمروا بالزاد ، وأذنوا بالرحيل ، وحبس أولهم على آخرهم وهم يلعبون .
وعزى رحمه الله رجلاً بأبيه فقال له :
لئن كانت مصيبتك لم تحدث لك موعظة في نفسك ، فمصيبتك بأبيك جلل في مصيبتك في نفسك ، فإياها فابك .
وقال عمار الحلبي : سمعت صالحاً يقول :
ما بينك وبين أن ترى ماذا لله عليك فيما تحب ، إلا أن تعمل فيما بينك وبين خلقه فيما يحب ، فحينئذ لا تفقد بره ، ولا تعدم في كل أمر خيره .
وكان من دعائه :
اللهم إني أسألك خوفاً غير ناهض ولا قاطع ، خوفاً حاجزاً عن معصيتك مقوياً على طاعتك ، وأسألك صبراً على طاعتك وصبراً عن معصيتك .
وكان يتمثل بهذا البيت :
وغائب الموت لا ترجون رجعته
إذا ذوو غيبة من سفرة رجعوا
ثم يبكي ويقول : هو والله السفر البعيد ، فتزودوا لمراحله (فإن خير الزاد التقوى) واعلموا أنكم في مثل أمنيتهم فبادروا الموت واعملوا له قبل حلوله ثم يبكي .
الهوامش :
*
" حضارة الإسلام " السنة 15 العدد 3 جمادى الأولى 1354 حزيران 1974 .
(1) هو صالح بن بشير، أبو بشر المعروف بالمري الناجي ، اشتهر بالصلاح والتقوى ، والإخلاص في الموعظة والقدرة على التأثير، قال ابن حبان : كان من عباد أهل البصرة وأقرأهم . وهو الذي يقال عنه صالح بن بشير المري الناجي ، وكان من أحزن أهل البصرة صوتاً وأرقهم قراءة ، غلب عليه الخير والصلاح حتى غفل عن الإتقان في الحفظ . توفي سنة 172 أو 176 هـ .
(2) أخرجه البخاري في الإيمان (باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه) الجامع الصحيح مع الفتح (1/56) ومسلم في الإيمان رقم 45 ، والنسائي باب علامة الإيمان (8/115) والترمذي في صفة القيامة رقم 2517 وأخرجه ابن ماجه في المقدمة رقم 66 . وفي رواية "حتى يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير" قال الحافظ في " الفتح " : (والمراد بالنفي كمال الإيمان ، ونفي اسم الشيء ـ على معنى نفي الكمال عنه ـ مستفيض في كلامهم ، كقولهم : فلان ليس بإنسان . فإن قيل : فيلزم أن يكون قد حصلت له هذه الخصلة ، مؤمناً كاملاً وإن لم يأت ببقية الأركان ، أجيب بأن هذا وارد مورد المبالغة ، أو يستفاد من قوله : " لأخيه المسلم " ملاحظة بقية صفات المسلم . وقد صرح ابن حبان من رواية ابن أبي عدي عن حسين المعلم بالمراد . ولفظه " لا يبلغ عبدٌ حقيقة الإيمان " ومعنى الحقيقة هنا : الكمال ، ضرورة أن من لم يتصف بهذه الصفة لا يكون كافراً) فتح الباري (1/57) .
(3)نفسه: س 6-ع3و4جمادى1و2/1385-أيلول وتشرين الأول 1965.
(4) ترجم له أبو نعيم الأصفهاني وغيره . قال عبد الرحمن بن مهدي : جلست مع سفيان الثوري في مسجد صالح المري ، فتكلم صالح ، فرأيت سفيان الثوري يبكي وقال : ليس هذا بقاص ، هذا نذير قوم . وعن عفان بن مسلم قال : كنا نأتي مجلس صالح المري نحضره وهو يقص ، فكان إذا أخذ في حديثه كأنه رجل مذعور يذعرك أمره من حزنه وكثرة بكائه كأنه ثكلى ، وكان شديد الخوف من الله كثير البكاء .(/3)
صبرا وشاتيلا في عيون الشعراء
عز الدين فرحات
efarahat@hotmail.com
وظلوا ينزفون على الروابي وشمسهم لمغربها تميل
يذوب الصخر من وجع عليهم وتغتم المرابع والسهول
وتتوالى الأحداث وتسيل بحار الدماء في مذابح يتبع آخرها أولها بل ليس لها من آخر....
ويخرج رجال المقاومة الفلسطينية من بيروت بعد أن أخذوا العهود والمواثيق على الوسطاء بألا يمس المدنيين أذى من اليهود... ولكن من هؤلاء الوسطاء؟... ويخرج الرجال. ولا يبقى إلا النساء والأطفال والشيوخ لا يملكون شيئاً ولا حول لهم ولا قوة، وتدخل قوات اليهود وعملاؤهم لتنتهك ستر الليل فتعمل فيهم القتل، فتهدم الدور على من فيها وتسيل أنهار الدم.
وقعت مجزرة مخيمي صبرا وشاتيلا بين 16 و18 سبتمبر 1982، بعد أن سمحت قوات الجيش الإسرائيلي المسماة "قوات الدفاع الإسرائيلي" التي كانت تحتل بيروت آنذاك تحت القيادة العامة (لأرييل شارون) بصفته وزيرا للدفاع آنذاك لأفراد ميليشيا "الكتائب" بدخول المخيمين؛ وأغلب الظن أن الحصيلة الدقيقة للقتلى من المدنيين الذين أزهقت أرواحهم في هذه المجزرة لن تُعرف أبداً؛ فتقديرات المخابرات العسكرية الصهيونية تشير إلى أن ما يتراوح بين 700 و800 شخص قد قُتلوا في صبرا وشاتيلا أثناء المجزرة التي استغرقت اثنتين وستين ساعة، بينما قالت مصادر فلسطينية وغيرها إن عدد القتلى بلغ بضعة آلاف. من بينهم الأطفال والنساء (بما في ذلك الحوامل) والشيوخ؛ ومُثِّل ببعضهم أشنع تمثيل، ونُزعت أحشاؤهم قبل أو بعد قتلهم. كما ذكر الصحفيون الذي وصلوا إلى الموقع إثر المجزرة أنهم شاهدوا أدلة على عمليات إعدام فوري للشبان. وهذا ما رواه الصحفي توماس فريدمان في صحيفة "نيويورك تايمز"، حيث قال: "رأيت في الأغلب مجموعات من الشبان في العشرينيات والثلاثينيات من عمرهم، صُفُّوا بمحاذاة الجدران، وقُيِّدوا من أيديهم وأقدامهم، ثم حُصدوا حصداً بوابل من طلقات المدافع الرشاشة بأسلوب عصابات الإجرام المحترفة".
فأين العهود والمواثيق بالحفاظ على سلامة المدنيين، وكأن شيئاً من هذه العهود والمواثيق لم يكن... يقول الشاعر حمد محمد الصديق:
أين المواثق والزمام
لا عهد يرعاه اللئام
هذى حصائد أمتي
بعد التفرق والخصام
بعد التخاذل والسكون
وبعد مأساة الختام
هو ذا القعود عن الوغى
هي ذي مراتعه الوخام
هو ما ترى الدنيا
وتشهده من الموت الزؤام
ثم يوجه الخطاب للأمة الإسلامية التي تخاذلت فهانت:
يا أمتي كم هان قد
رك... ذلة بين الأنام
ما عاد يحتمل الخنوع
ففجري الصمت العقام
أَوَ يُدفن الآلاف من أبناء
شعبي في الركام
يستصرخون ولا مغيث
ويذبَّحون ولا انتقام
أو يبلغ الإذلال هذا
المنتهي ؟! يا للملام
ثم يصور المأساة وما حدث لقومه في مذابح صبرا وشاتيلا:
بيروت تشهد كيف
لا ويضيق بالجثث الرغام
وبباد شعب كامل
بالغدر في جنح الظلام
حتى الرضيع وأمه
والشيخ يذبح والغلام
وتسيل أنهار الدم ال
موار تلهب كالضرام
وتصعد الأرواح إلى بارئها تشكو لربها حال العباد. وتطل من عليائها تنتظر وتطالب بالثأر :
وتطل أرواح الضحايا
الأبرياء من الغمام
تشكو إلي الرحمن ما
كانت بمحنتها تسام
تدعو إلى الثأر المرير
إلى الجهاد إلى الصدام
تدعو... ولكن من يجي
ب وكل من تدعوا نيام
وتعذب المرأة المسلمة وتهان في مخيمات اللاجئين.. يقتل الزوج ويتبعه الابن وتهدم الدار، ومازالت المرأة مؤمنة بالله ومؤملة في العودة إلى دارها هناك في فلسطين... تبكي فتختلط الدموع بالدماء.... ويصف لنا الأستاذ يوسف العظم هذه الأحداث على لسان صاحبة الحدث فتبكي المرأة وتقول:
ذبحوني من وريد لوريد
وسقوني المر في كل صعيد
مزقوا زوجي. فلم أعبأ بهم
ومضوا نحو صغيري ووحيدي
غرسوا الحربة في أحشائه
فغدا (التكبير) أصداء نشيدي
دمروا بيتي.. وهل بيتي هنا؟!
إن بيتي خلف هاتيك الحدود
وظنت المرأة الثاكلة أن حمية العرب ونخوة المسلمين مازالت موجودة، هذه النخوة التي حركت المعتصم خليفة المسلمين لينقذ المرأة المسلمة التي صرخت حين وقعت في أسر الروم: (وامعتصماه) فقال لبيك يا أختاه. أما اليوم، فكم من صرخة تنطلق وكم من أنِّة مكتومة وكم من دمعة ساخنة من أم مكلومة.. ولكن أين المعتصم؟
وتلَّفت فلم أعثر على
غير أبناء الأفاعي والقرود
أين بأس العرب مذخور لمن؟
أين أبناء الحمى درع الصمود؟
ودمي سال على تلك الربى
ينثر العطر على حمر الورود
ولغ الغاصب في أشلائنا
غير أنا لم نزل "سمر الزنود"
قل لمن يلهث في "غفلته"
ينشد السلم تمتع بالصديد
ذبحوني من وريد لوريد
ودمي يجتاح أحقاد اليهود
ذبحوني من وريد لوريد
غير أني لم أطأطئ ليهودي
أما الشاعر يحيى برزق فيوجه رسالة إلى اليهود يهددهم فيها بأن لعنة الدماء الفلسطينية ستظل تطاردهم في كل مكان وفي كل شيء حولهم فيقول:
دَمَنَا عَلى أبوابكم
دَمُنَا عَلى أَثْواَبكُمْ
دَمُنَا يُلوِّنُ خُبْزَكُمْ
دَمُنَا طِلا أكْوابِكُمْ
يا مَنْ عَبَدّتُم عِجْل إِس(/1)
رَاِئيلَ في مِحْرابِكُمْ
يا مَنْ تُشَقُ صُدُورَنا
وَقبُورُنَا.. بِحرابكمْ
ثم يتساءل ولعل التساؤلات هنا ليست لليهود وحدهم بل لكل من يدعي العدالة من الدول والمنظمات الدولية التي تنادي بشعارات العدالة وحقوق الإنسان وغير ذلك من الشعارات الفضفاضة:
أَينَ العَدَالَةُ ِمنْ
جَرَائِمِكُمْ وظُلّمَةِ غَابِكمْ
أَينَ الحُقُوقُ ولا حُقُوقَ
غَدَتْ لِغَيرِ كِلاَبكُمْ..
أَينَ الَموَاثِيقُ التيِ..
كُتِبَتْ عَلى أَعْتَابكمْ..
أينَ الحَضَارَةُ والدّمَاءُ
تَسيلُ مِنْ أَنيَابكمْ
أَينَ الطَّهَارَةُ والمَبادِئُ
وُورِيَثْ... بقبابِكمْ
وشارون هذا سفاح صبرا وشاتيلا: تاريخه أسود منذ كلّف بقيادة الوحدة 101 في جيش موشي ديان:
قاد مذبحة قبيّة وذُبح فيها 66 من الأهالي ثلاثة أرباعهم من النساء والأطفال. ونَسفت تلك الوحدة 41 منزلاً ومدرسة على من فيها من الأهالي، ثم جَمع بعد ذلك كل من تبقى من السكان الأحياء وعددهم 42 بين رجل وامرأة وأدار ظهورهم لتُفرّغ فيهم الرصاص، وتحولهم إلى أشلاء ممزقة، وهو نفسه الذي قام باقتحام ساحات المسجد الأقصى صباح يوم الخميس الثامن والعشرين من سبتمبر سنة 2000م في حماية ثلاثة آلاف جندي من الشرطة الإسرائيلية وحرس الحدود، متحدياً مشاعر المسلمين في كل مكان، ويوجه إليه الشاعر فاروق جويدة رسالة يطالبه فيها بالرحيل عن القدس ويذكره فيها بجرائمه السابقة وخصوصاً جريمته في صبرا وشاتيلا يقول فاروق جويدة:
ارحل عن القدس واترك ساحة الحرم
هل يلتقي الطهر يا خنزير بالرممِ ؟
كيف اجترأت على أرضٍ مطهرةٍ
أسرى بها خير خلق الله والأمم ؟
هذا التراب الذي لوثت جبهته
ما زال يصرخ بين الناس في ألم
تاريخك الآن بالأوحال نكتبه
لكل أطفالنا في القبر والرحم
صبرا شاتيلا وأنهارٌ مسافرةٌ
من الدماء وأنّاتٌ بكل فم
في راحتيك دماءٌ أغرَقَت زمناً
وجه الصغار وأذكت نار منتقمِ
كيف اجترأت علي أقداسنا سفها
وجئت كالموت.. بالحراس والخدم
ثم يعود الشاعر لتأنيب النفس وبيان حالة الهوان التي تعانيها الأمة فيقول موجها كلامه لشارون:
من حقك الآن أن تزهو بما فعلت
أقدامك السود بالصلوات والحرم
من حقك الآن أن تختال في سفه
وأن تدوس جبين القدس بالقدم
من حقك الآن أن تسبي مساجدنا
فسيفك الوغد فوق الكل يحتكم
من حقك الآن مادامت عزائمنا
قد هدها العجز واسترخت إلى العدم
ويوضح سبب الهوان الذي تعانيه الأمة:
منذ ابتلينا بداء السلم شردنا
بين الجموع خراب الأرض والذمم
فالسلم بالعجز تابوت ومقبرة
وثوب عار ودعوى كل منهزم
والسلم بالسيف أوطان محررة
ونخوة في ضمير الشعب لم تنم
السلم أن يحرس الفرسان رايتهم
وأن نصون الحمى بالدم والقلم
السلم ألا نرى طفلاً يطارده
سيف جبان وقناص بسيل دم
في كل شبر حزين من شوارعنا
تبكي العيون دماً من سكرة الألم=(/2)
صحافة ضد المقاومة جريدة الشرق الأوسط أنموذجا (1/3)
د. أحمد بن راشد بن سعيّد * 1/4/1426
09/05/2005
مقدمة
صحيفة الشرق الأوسط واحدة من أبرز الصحف العربية, وتقدم نفسها للعرب وللعالم بصفتها (جريدة العرب الدولية). تتخذ الصحيفة مواقف مثيرة للجدل, لاسيما ما يتعلق بالقضايا الكبرى للعرب كفلسطين والعراق والظاهرة الموسومة بالإرهاب. وتولي في تناولها الإخباري والتحليلي اهتماما كبيرا للحركات الإسلامية والناشطين الإسلاميين, واصفة الظاهرة الإسلامية عموما وبلا تمييز بالتطرف والأصولية, وربما كان هذا الموقف سببا في فقدانها كثيراً من الصدقية والاحترام في أوساط تيارات إسلامية وشعبية عديدة لاسيما في السعودية والخليج. وما زاد الطين بلة احتضان الصحيفة لكتاب رأي من التيار الموصوف بالليبرالي, وضعف الرأي الآخر في الصحيفة, واللغة المتشنجة التي يستخدمها هؤلاء الكتاب في تناولهم للقضايا المتصلة بالإسلام والمنتمين إليه. والصحيفة لا تضيق فقط باتجاهات الإسلام السياسي كما تسميها, ولا بتسييس الدين فقط كما يردد بعض كتابها ومحرريها, بل تضيق حتى بالمظاهر والشعائر الإسلامية كتحفيظ القرآن الكريم, والعمل الخيري والإغاثي, وارتداء الحجاب. وقد اتخذت الصحيفة مواقف مؤيدة للحكومة الفرنسية في حملتها لحظر الحجاب في المدارس الرسمية الفرنسية, واختفى تقريبا أي رأي مضاد, سواء في التناول الإخباري, أو في الرأي والتحليل. عبد الرحمن الراشد رئيس تحرير الصحيفة تبنى وقتها الموقف الفرنسي, داعيا إلى تفهم "الدوافع الحقيقية للقرار" الذي يرمي إلى "تخفيف مظاهر التدين" وهو ما سيخدم وضع المسلمين الفرنسيين على المدى البعيد كما قال( 15 كانون الثاني / يناير 2004). وفي مقال آخر أكثر وضوحا بعنوان "حاربوا التطرف لا الحكومة الفرنسية" أكد الراشد أن مظهر المسلمين البارز "يوحي بالتطرف فكرا وكلاما ولبسا" وأن على المثقفين العرب محاربة الإرهاب والتطرف بدلا من الطعن في نوايا الحكومة الفرنسية(3 شباط / فبراير 2004).
لكن أبرز ما يثير التساؤل هو موقف الصحيفة من حيث تناولها الإخباري والتحليلي من المقاومة في فلسطين والعراق, البلدين العربيين الواقعين تحت الاحتلال المباشر, وهو ما تناقشه جزئيا هذه الورقة.
المنهج
ستقتصر هذه الورقة على تناول صفحات الرأي في صحيفة الشرق الأوسط للمقاومة في فلسطين والعراق, ولن تتعرض لتناولها الإخباري. تنطلق الورقة من فرضية أن أعمدة الرأي في الصحيفة تقف في مجملها ضد نهج المقاومة وممارستها وثقافتها. وينبثق من هذه الفرضية السؤال التالي: هل أعمدة الرأي في صحيفة الشرق الأوسط تقف ضد نهج المقاومة وثقافتها في فلسطين والعراق؟
للإجابة عن هذا السؤال, فإن الباحث انتقى كاتبين يوميين وكاتبين أسبوعيين من كتاب الصحيفة, وحلل مضمون إنتاجهم في فترة محددة تحليلا كيفيا. الكاتبان اليوميان هما عبد الرحمن الراشد, وأحمد الربعي, والكاتبان الأسبوعيان هما صالح القلاب, ومأمون فندي. لم يكن هناك مفر من اختيار الكاتبين اليوميين المذكورين, لأنهما الوحيدان اللذان يكتبان بصفة شبه يومية في الصحيفة. أما الكاتبان الأسبوعيان فوقع الاختيار عليهما عمدا لاعتقاد الباحث أنهما من أكثر الكتاب تناولا لقضيتي العراق وفلسطين. كانت فترة الدراسة التي وقع عليها الاختيار هي الواقعة بين الأول من تموز (يوليو) و الحادي والثلاثين من كانون الأول (ديسمبر) عام 2004, وهي الفترة التي اشتدت فيها ضراوة المقاومة العراقية, ولم تتوقف الانتفاضة المشتعلة في فلسطين, رغم استشهاد الشيخ أحمد ياسين, والدكتور عبد العزيز الرنتيسي, و رحيل السيد ياسر عرفات, وما تبع ذلك من ابتهاج إسرائيلي وأميركي محموم ومفتعل بانحسار الانتفاضة, وتراجع خيار المقاومة. شملت الدراسة كل ما نشرته صحيفة الشرق الأوسط لهؤلاء الكتاب, مما له علاقة بشأن المقاومة في فلسطين والعراق. كان مجموع مقالات عبد الرحمن الراشد التي تم تحليلها 24 مقالا, وكان مجموع ما تم تحليله من مقالات الربعي 28 مقالا, أما صالح القلاب, فبلغ مجموع مقالاته المدروسة 6 مقالات, فيما بلغت مقالات مأمون فندي التي تمت دراستها 5 مقالات.
مناقشة
عبد الرحمن الراشد
ينطلق الكاتب اليومي عبد الرحمن الراشد في كتاباته من تعاطف واضح مع السياسة الأميركية في المنطقة, وفي العراق تحديدا, وهذا التعاطف دفعه لانتقاد المقاومة, والتقليل من شأنها, والسعي لربطها بالعدمية والعبث. ومن منطلق الواقعية يطالب الراشد دائما بالرضوخ والاستسلام وعدم مصادمة العالم, كما يردد كثيرا, والعالم كما يراه هو الولايات المتحدة والدول الغربية.(/1)
في عموده المنشور في العاشر من تموز(يوليو) ناقش الكاتب الهجوم الذي شنته بعض الصحف البريطانية على الدكتور يوسف القرضاوي, واحتجاجها على السماح له بدخول بريطانيا, وأيد مواقف هذه الصحف قائلا إن ارتباط اسم الشيخ بتنظيم الإخوان المسلمين "جعله ينظر إلى العالم من نافذة الحزب أكثر من واقع الأمة وقدراتها وحاجاتها", وإنه من الشيوخ الذين "يحرضون الشباب على القتال, وهم لم يغادروا بلدانهم, ولا يسمحون لأولادهم بالشيء نفسه". وأضاف قائلا إن القرضاوي "من أكثر الدعاة إلى الحرب والمواجهة, لكنه يعيش في قطر في بيت مكيف". والراشد يقصد بالحرب والمواجهة هنا المقاومة المشروعة في فلسطين والعراق, فهو يرى أنها ضرب من العنف أو الإرهاب الذي يستحق هو نفسه الإدانة والمقاومة. ويؤكد هذا المعنى في كلامه عن القرضاوي, عندما ينتقد موقف الشيخ من اليهود, وينقل عنه قوله: "اليهود كطائفة ظلمهم واضح بين.. ظلم عظيم, وظلم لا نظير له, وظلم مكشوف.. لا نحاور هؤلاء [اليهود] وأيديهم ملوثة بدمائنا". وعلق الراشد على ذلك بقوله إن القرضاوي سياسيا "يمثل أقصى التطرف بكل أسف".
في عموده المنشور في الثاني عشر من تموز (يوليو) كتب الراشد مقالا بعنوان (ليس جدارا عنصريا) انتقد فيه من يقولون إن هدف الجدار الذي تبنيه إسرائيل في الضفة الغربية المحتلة هو التمييز العنصري ضد الفلسطينيين, لأن "إسرائيل تستطيع أن تفند دعوى تهمة العنصرية بالتذكير أن أكثر من مليون من "مواطنيها" في داخل إسرائيل هم فلسطينيون, ويعيشون معها نصف قرن, ويحملون هوياتها, وتدعي أن لهم نفس الحقوق الممنوحة لليهودي الإسرائيلي". ودعا الراشد إلى عدم الانشغال بموضوع الجدار, والاهتمام "بتفعيل التفاوض, وإعادة الكرة مرة بعد أخرى".
في مقاله المنشور في 17من تموز (يوليو) انتقد الراشد ما وصفه "بالغضبة المضرية" من نبيل أبو ردينة, مستشار الرئيس ياسر عرفات على تيري رود لارسن, مبعوث الأمم المتحدة إلى الشرق الأوسط. وأكد أن لارسن ليس تافها ولا مشبوها كما قال أبو ردينة, وأن تقريره عن قرب انهيار السلطة الفلسطينية "يصب حقيقة في صالح الفلسطينيين".
في عموده المنشور في من 26 تموز (يوليو) تحدث الراشد عما يحدث في العراق, منتقدا "المقاومة" ضد الأميركيين, قائلا إن الحرب هناك "بدأت بمقاومة, ثم أصبحت أرضا تجتذب أفراد تنظيم القاعدة الذي يجمع عناصره, وتقدر بالآلاف من المجندين القدامى والجدد".
في 28 من تموز (يوليو) أكد الراشد المعنى ذاته قائلا "إن جزائريين ومغاربة وخليجيين ولبنانيين وفلسطينيين ويمنيين وسودانيين ينشطون في العراق", وإن "هوية جيش المتطرفين" الذي يتشكل هناك لا ينتمي إلى القاعدة وحدها, "بل صار مظلة تضم تنظيمات متطرفة مختلفة تعمل منفصلة في ثلاث قارات, تجتمع الآن ولأول مرة على أرض واحدة. هذه جميعها تلتقي في رؤيتها المناهضة للواقع السياسي معتبرة جميع الأنظمة كافرة, ولا بد من مواجهتها".
في 3 من آب (أغسطس) كان عنوان عمود الراشد "هل هي المقاومة التي عنها تدافعون؟". تساءل الكاتب وأجاب في ثنايا عموده مؤكدا أن المقاومة العراقية "تريد أن تخلق مناخا عاما من الفوضى, وتحيل البلاد إلى قطع متناثرة, تتيح لها فرصة إدارتها مكسرة". وتبنى المقترح الأميركي بإرسال قوات عربية وإسلامية إلى العراق, وقال إن هدف هذه القوات هو "محاصرة الإرهاب, وليس مقاومته عسكريا".
في 15 من آب (أغسطس) كان عنوان عمود الراشد "علاوي أن يكون أو لا". وصف الكاتب جيش المهدي بالميليشيا, ووصف المقاومين في مدينة الفلوجة بأنهم "فرقة الرعب", وقال إن حكومة علاوي تدير "معارك حاسمة" ضد هؤلاء وأولئك, فإما أن تثبت " أن لها سلطة على كل شبر من البلاد, أو ستنتهي محاصرة في العاصمة. وهذا الحسم بالتأكيد في صالح الجميع". وأضاف أنه إذا "فشلت الحملة العسكرية الحالية سنرى عراقا ممزقا, وحركات تنشق عن أخرى.." وأن نجاح الحملة سيخدم كل دول الجوار, ولذا يجب أن تكون "سريعة وحاسمة وبأقل قدر من الأضرار".
في عموده المنشور في 21 من آب (أغسطس) أكد الراشد أنه لا يوجد خيار أمام حكومة علاوي, "إلا أن تثبت قدرتها على الأرض", أو "سينتهي العراق دولة مساحة نفوذها لا تتجاوز المنطقة الخضراء في بغداد".
في 22 من آب (أغسطس) عاد الكاتب إلى الشأن الفلسطيني, وكتب مقالا بعنوان " أنقذوا عرفات". انتقد فيه الرئيس الفلسطيني, مؤكدا أنه "ارتكب أخطاء جسيمة في تاريخه, حروبا في غير محلها, ومغامرات خاطئة, ورفض مشاريع سلام ثمينة". وهي التهم عينها التي ترددها إسرائيل والإدارة الأميركية ضد عرفات.(/2)
كتب الراشد في 24 من آب (أغسطس) مثنيا على نتائج الاحتلال الأميركي للعراق قائلا إن العراق انتقل بالاحتلال من" عهد صدام المحارب للدين ثلاثين سنة إلى انفتاح كامل يسمح للجميع بظهور حقيقي في الحياة العامة, بما في ذلك المراجع الدينية". كما أثنى الكاتب على الحكومة التي جلبها الاحتلال قائلا إنها "ابتعدت عن الانتماء لأي فريق ديني, بدليل أن معركتها ضد جبهة شيعية في النجف تأتي موازية لمعركتها ضد الجماعة السنية المتطرفة في الفلوجة".
في 28 من آب (أغسطس) احتفل الكاتب بخروج الزعيم الشيعي مقتدى الصدر من النجف, وكان عنوان عموده "هزيمة الصدر بداية لعهد جديد". قال الكاتب إن خروج الصدر من المدينة الشيعية المقدسة يمثل "نهاية فصل واحد مهم في معركة طويلة لبناء العراق الحديث".
كان عنوان عمود الكاتب في 4 من أيلول (سبتمبر) هو "الحقيقة المؤلمة أن كل الإرهابيين مسلمون". لم يصنف الكاتب ممارسات شارون في الأرض المحتلة في خانة الإرهاب, ولا ممارسات الإدارة الأميركية في أبو غريب وغوانتانامو, وحصر تهمة الإرهاب في المسلمين, تماما كما يرى الساسة الأميركيون والإسرائيليون. يقول الكاتب مرددا المقولات والإدعاءات الأميركية إن "الذين يمارسون عمليات اغتصاب وقتل في دارفور مسلمون". وينتقد الكاتب عمليات المقاومة الاستشهادية في فلسطين بطريقة غير مباشرة, فيقول: "..ومعظم الذين نفذوا العمليات الانتحارية ضد حافلات ومدارس وبيوت ومبان في أنحاء العالم في السنوات العشر الماضية أيضا مسلمون".
ويعلق الراشد على هذه الصورة التي رسمها متعجبا: "يا له من سجل سيىء, ألا يقول شيئا عن أنفسنا ومجتمعاتنا وثقافتنا؟". ويستمر في عملية جلد أو تدمير الذات هذه قائلا: "هذه الصور قاسية ومخجلة ومهينة لنا". ويقترح الراشد وصفة للعلاج تبدأ بالاعتراف بصحة هذه التهم كلها, ثم "مطاردة أبنائنا الإرهابيين" الذين هم "نتاج طبيعي لثقافة مشوهة". ويدعو الكاتب القراء إلى الاستماع للشيخ يوسف القرضاوي, الذي وصفه "بشيخ التلفزيون" زاعما أنه "أفتى جهارا بجواز قتل المدنيين الأميركيين في العراق". ويضيف: "تصوروا عالم دين يحث على قتل مدنيين, شيخ في أرذل العمر يحرض صبية صغارا على قتل مدنيين.. كيف لأب مثله أن يواجه أم الفتى بيرغ الذي ذبح ابنها نحرا لأنه جاء للعراق, للعمل في أبراج هندسية؟ كيف نصدقه عندما يقول لنا إن الإسلام دين رحمة ودين تسامح, وهو يحوله إلى دين دم؟". طبعا الراشد لم يتطرق إلى مذابح الفلسطينيين, ولم يورد اسم شهيد فلسطيني واحد, وهو بالمناسبة لم يعلق على جريمة قتل الشيخ أحمد ياسين, إلا بقوله "دعوا الانتقام" لأنه "عمل أعمى, والحرب لا يكسبها العميان" كما قال(28 آذار/ مارس 2004), ولم يعلق ألبتة على استشهاد الدكتور عبد العزيز الرنتيسي. لم يتذكر الراشد أن للشهداء الفلسطينيين أيضا أسماء تسجل وتعلن, واكتفى فقط بذكر اسم الأميركي بيرغ.
في عموده المنشور في 21 من أيلول (سبتمبر) علق الراشد على منع السلطات الألمانية مؤتمرا فكريا عربيا بدعوى أنه سيجتذب متطرفين معادين للعولمة وللولايات المتحدة وإسرائيل, ورأى أن السبب يكمن في تغير "رؤية العالم تجاهنا, بسبب ما صدرناه لهم من مناظر بشعة تحملها المواقع الإلكترونية من حفلات إعدام, وتبثها محطات تلفزيون من أشرطة تهديد, ومؤتمرات تتدارس بإعجاب ومفاخرة أعمال التدمير". وحذر الكاتب من محاولة من وصفهم بالمتطرفين "ركوب القضية الفلسطينية العادلة, لاستغلالها في قضيتهم الدولية". وختم بالقول: "يخطئ الفلسطينيون والمؤمنون بالحق الفلسطيني عندما يخلطون القضايا, ويورطون قضيتهم في محرقة الإرهاب المحكوم عليها بالفشل". الراشد هنا لم يحدد بالضبط ما يعني بالإرهاب, والذي يبدو أنه يقصد العمليات الاستشهادية في الوطن المحتل, التي يصفها عادة بالانتحارية.
في مقال (البراغماتية السورية) المنشور في 23 من أيلول (سبتمبر) قال الكاتب إن براغماتية النظام السوري ساعدته عبر السنين في الخروج من كثير من المآزق, وإن "سورية البراغماتية هي التي لم تنجر30 سنة إلى مواجهات خاسرة مع إسرائيل". وهكذا حكم الكاتب على أن أي شكل من أشكال المقاومة أو رد العدوان أو محاولة تحرير الأرض هو ضرب من العبث أو الكفاح الخاسر. وختم الراشد عموده بالقول إن دمشق تواجه تهما "يسهل تفعيلها" مثل "إخفاء أسلحة دمار شامل, ووجودها العسكري على أرض دولة أخرى بصورة "غير مشروعة", واستضافتها تنظيمات "إرهابية"...", ما يجعل الخيارات التي أمامها "قليلة وخطيرة".(/3)
في 30 من أيلول (سبتمبر) انتقد الراشد تصريح وزير الخارجية الفرنسي ميشيل بارنيه الذي دعا فيه إلى إشراك قوى المقاومة العراقية في المؤتمر الدولي حول العراق, والذي التأم في شرم الشيخ بمصر في الثاني والعشرين من تشرين الثاني (نوفمبر) 2004. تساءل الراشد: "كيف يمكن أن تدعى للحضور مقاومة من الأشباح؟ هل سيصلون إلى القاعة ملثمين كما يظهرون على التلفاز مع ضحاياهم المخطوفين, أو المقطوعة رؤوسهم؟". وأضاف مهاجما المقاومة بأطيافها كافة, وبلا تمييز قائلا إن "المقاومة صاحبة السيارات الانتحارية والرؤوس المقطوعة ليست عراقية, وأيضا لا تعترف بالأمم المتحدة إلا كمنظمة للدول الكافرة, ومشروعها لن يتوقف إلا بقطع آخر رأس في العالم, لا العراق وحده". وتبنى الكاتب الخط الأميركي بالكامل بدعوته إلى دعم الحكومة التي نصبها الاحتلال الأميركي في العراق قائلا إن كان العراق " بحاجة إلى مؤتمر, فهو من أجل التأكيد على سلامة نظام شرعي يجمع ولا يفرق".
في 3 من تشرين الأول (أكتوبر) عاد الراشد مجددا إلى الشأن الفلسطيني, منتقدا الانتفاضة التي كانت "حجارة ومقالع من صبية الشوارع, ثم أصبحت صواريخ وسيارات مفخخة يقودها بالغون". يقول الراشد إن الانتفاضة نجحت في صيغتها الأولى, وأحرجت إسرائيل داخليا وخارجيا, لكن "بعد أن خطفت التنظيمات الانتفاضة تحولت إلى حرب مألوفة, كأي حرب أخرى في سيري لانكا وشمال نيجيريا وإيرلندا الشمالية, مواجهات بين طرفين متقاتلين. خسرت الانتفاضة براءتها ودعايتها بعد أن تبدلت مظاهرها الأولى من جنود إسرائيليين يقتلون أطفالا عزل إلى مسلحين فلسطينيين يقتلون أطفالا إسرائيليين". ساوى الراشد في كلامه بين الطرفين, المحتل الإسرائيلي, والفلسطيني الواقع تحت الاحتلال. ووصف المقاومين الفلسطينيين بالمسلحين, بينما وصف الإسرائيليين الذين يقتلون أطفال فلسطين بالجنود. ومضى الراشد منتقدا القيادات الفلسطينية قائلا إنها أخفقت إخفاقا كبيرا في استثمار الانتفاضة سياسيا, وإنها تنافست على أمر واحد وهو "التبرع بالشهداء مجانا". وأضاف أن الانتفاضة "متناقضة, تظهر محتارة, مرة مثل معارضة عراقية مسلحة, وتارة مثل تنظيم القاعدة".
في 9 من تشرين الأول (أكتوبر) كان عنوان عمود الراشد واضحا في دلالته: "التطرف من الفلوجة إلى طابا". الذي حدث إذن في الفلوجة من مقاومة للغزاة الأميركيين هو تطرف مشابه لتفجيرات طابا. يريد الكاتب أن يشوه وجه المقاومة العراقية بربطها بأعمال غير قانونية, أو مثيرة للجدل, أو موصومة بالتطرف. يقول في خلط واضح للأوراق: "لا يعقل أن نبرر الأعمال الإرهابية في انفجار, ونهاجمها في انفجار آخر, فهي مترابطة فكريا إن لم تكن مترابطة عضويا". ويضيف: "فلا فرق بين هجمات انتحارية في كابل أو الأنبار أو إسلام أباد أو الرياض أو الجزائر أو باريس أو دمشق أو طرابلس أو طابا. كلها تلتقي في حقيقة واحدة, منفذوها عقول متطرفة".
في 30 من تشرين الاول (أكتوبر) استخدم الراشد التوصيفات الأميركية للمشهد العراقي, فوصف المقاومة العراقية بأنها "بعثية", ووصف المقاومين بأنهم "متمردون" و"أصوليون".
في 13من تشرين الثاني (نوفمبر) بدأ الراشد مقالا من 3 حلقات بمناسبة رحيل الرئيس ياسر عرفات. كان عنوان السلسلة "ماذا بعد دفن عرفات؟". تبنى الراشد الرواية الإسرائيلية والأميركية بشأن عرفات قائلا: " عرفات كان طرفا في المشكلة", وغيابه "يمثل فرصة إيجابية". وانتقد الرئيس الراحل بقوله إنه مات عاجزا عن خوض "المعركة الصعبة" لأنه " كان يراعي كل الاحتمالات, وبالتالي اختار أن يخسر الفرص الثمينة من أجل أن يكسب الإجماع الفلسطيني". إذن كان على عرفات أن يكسر الإجماع, ويشق الصف الفلسطيني, ويذهب في طريق التنازلات إلى آخر مدى, وأن يقمع – كما يطالب الإسرائيليون والأميركيون – المنظمات التي ترفض الاستسلام للشروط الإسرائيلية. يطرح الراشد رؤيته أمام القيادة الفلسطينية الجديدة بقوله: "الامتحان الدموي آت للقيادة الفلسطينية التي سيتحدى سلطتها الخارجون عليها, وستواجه عمليات تمرد داخلية, وسيارات انتحارية في تل أبيب والقدس, وقتلى إسرائيليين بالعشرات, وبيانات فلسطينية تتهمها بالخيانة, وبيانات دولية تتهمها بالعجز, ومنظمات فلسطينية تعلن عزمها على قيادة الشأن الفلسطيني, والاقتتال للحصول على شعبية في الشارع الفلسطيني المأزوم والمحبط دائما".(/4)
في الحلقة الثانية دعا الكاتب الحكومات العربية إلى تأييد القيادة الفلسطينية الجديدة, مؤكدا أنه "مع غياب أبو عمار لم يعد هناك مبرر للتقاعس في دعم السلطة لتصبح قادرة على تقديم الرعاية الإنسانية والخدمة المدنية التي عجزت عنها بسبب ما مرت به من حصار ومقاطعة دولية", وأن "الإخفاق في رفع الحصار عن المدن الفلسطينية وعدم دعم السلطة في رام الله سيتسبب في استنساخ عرفات بآخر". وزعم الراشد أن معظم عمليات القوات الإسرائيلية في الضفة الغربية و قطاع غزة كانت للانتقام لا للقضاء على خصومها, وهي الذريعة التي طالما استخدمتها إسرائيل ووسائل الإعلام الغربية المتعاطفة معها لتبرير ممارسات الاحتلال الإسرائيلي العدوانية في الأرض المحتلة.
في الحلقة الأخيرة من سلسلة "ما بعد دفن عرفات" كتب الراشد: "اختتمت الحالة العرفاتية بحالة جمود قاتلة, وساحة مكتظة بالانتحاريين, وقطيعة دولية, وبرود عربي, ومؤسسة سياسية معطلة, وخزينة مفلسة, وصراع على السلطة كاد ألا ينتهي". هذا المشهد الذي يرسمه الراشد حول عرفات يؤكد انحيازه المطلق للصورة النمطية الأميركية للمشهد الفلسطيني التي لا يبرز فيها سوى الجمود والفساد والإفلاس وقطعان بشرية فاقدة للأمل ومقبلة على الموت انتحارا. الحقيقة تقول إنه لم تكن هناك قطيعة دولية, بل قطيعة أميركية إسرائيلية, أما البرود العربي الذي أشار إليه الكاتب فكان مجرد ثمرة لهذه القطيعة. هذا لا يعني طهارة الساحة الفلسطينية في عهد عرفات من الفساد, ولكن الراشد لا يرى في المشهد أكثر مما يسمح به المنظور الأميركي والإسرائيلي الذي قرر عزل عرفات, وسعى لتصوير الشعب الفلسطيني بوصفه شعبا كارها للحياة, عاشقا للعدمية والموت الرخيص.
في مقال له بعنوان (شدوا الأحزمة في الأرض المحتلة) منشور في 29 من تشرين الثاني (نوفمبر) أثنى الراشد على الأداء السياسي للقيادة الفلسطينية الجديدة, لكنه أثار مجددا مسألة حركات المقاومة, وعلاقة السلطة بها. يقول: "بقيت ملفات صعبة, لكن ليس صعبا في هذا الظرف التضامني التوصل إلى حلول لها, مثل سحب قرار الحرب من يد الفصائل والتنظيمات الأخرى مثل حماس والجهاد الإسلامي التي تقرر متى وأين وكيف وأين تقاتل. الوقت حان للتنسيق مع السلطة الفلسطينية, والاعتراف بحقها في اتخاذ القرار الاستراتيجي, كالحرب والسلم". ويتساءل الراشد ماذا ستفعل السلطة الفلسطينية عندما تقرر إيقاف العمليات العسكرية, ثم "تتمرد فصائل على القرار, وتخرق الاتفاق, ويقتل جمع من المدنيين الإسرائيليين؟". ويلجأ الراشد إلى التحريض على فصائل المقاومة متسائلا: "هل ستقبل السلطة بتنظيمات خارجة عن إرادتها, تنفذ عمليات متى ما تريد, وتبني معسكرات كيفما تريد, وتتعامل سياسيا مع جهات خارجية متى ما تريد؟ لا توجد سلطة في العالم تقبل بذلك إلا إذا كانت مجرد دمية لآخرين..لا تملك القيادة الجديدة إلا حسم مسألة المرجعية السياسية الواحدة, ككل نظم العالم, وتفرضها بشكل لا تردد فيه..".
في مقال من حلقتين بعنوان "من ينقذ السنة من السنة", نشرا في يومي 1 و 2 من كانون الأول (ديسمبر) انتقد الراشد المقاومة السنية في العراق متسائلا بتهكم: "هل المسالخ البشرية التي عثر عليها في الفلوجة, وروعت صورها العالم هي بيوت سنية؟ وهل المجالس والعلماء الذين توعدوا أقوى قوة في العالم, ينطقون بالفعل بلسان أضعف فريق في العراق؟". يتجاهل الراشد الصور التي روعت الضمير الإنساني حقا, وهي صور الذبح الجماعي, والإجهاز على الأسرى في المساجد, وسياسة الأرض المحروقة, وحرب الإبادة التي شنتها قوات الاحتلال الأميركية على تلك المدينة العراقية الصغيرة. ويجعل الراشد معيار العدل والحكمة هو الاستسلام للقوي المتجبر, والإقرار بالضعف والخنوع أمام دمويته وإرهابه, عندما يتساءل: هل العلماء الذين توعدوا أميركا ينطقون بلسان السنة الضعفاء؟ من قال إن القوة الأميركية لا راد لقضائها, ولا معقب لحكمها, ومن قال إن السنة هم أضعف فريق في العراق؟
يضيف الراشد شامتا بالسنة العرب:"الفلوجة المعركة رغم ما سببته من أذى كبير, ربما أنقذتهم من متطرفيهم, الذين كانوا يقودونهم نحو الدمار.. تحصنهم في الفلوجة حولها إلى مقبرة لهم.. وما حدث يبرهن كذلك على انعدام خبرة القيادة والمفاوضة عند السنة العرب. وهم بالفعل أناس بلا خبرة سياسية".(/5)
في الحلقة الثانية من مقاله "من ينقذ السنة من السنة" يواصل الكاتب هجومه على السنة العرب, فيقول إنهم "تحت القصف, وخارج سوق الانتخاب, بسبب عنادهم وجهلهم, وترك زمام قيادتهم للمتطرفين الذين يسكنون بينهم, أو يتحدثون باسمهم, وعلى سنة العراق أن يتذكروا أن متطرفي السنة, لم يفلحوا في البلدان ذات الأغلبية السنية, كما في الخليج ومصر والأردن, حتى يمكن أن يفلح تطرفهم في فعل شيء لصالح العشرين في المائة من سكان العراق". لا يضيف الكاتب جديدا هنا سوى أنه رمى السنة العرب في العراق عن بكرة أبيهم بالتطرف, بما فيهم هيئة علماء المسلمين, أبرز الأصوات الوطنية التي تعارض الانتخابات في ظل الاحتلال, بل ذهب إلى خارج حدود العراق فرمى حركات معارضة إسلامية في بلدان عديدة بالتطرف, وكرر المقولة الدعائية الأميركية القاضية بأن سنة العرب أقلية لا تتجاوز نسبتها عشرين في المائة من سكان العراق.
لا يبدو أبدا أن الراشد يضيف جديدا في طرحه. إنه فقط يعيد إنتاج ما تضخه وسائل الدعاية الأميركية حول الأحداث والأشخاص والظواهر في المنطقة العربية بأسلوب فيه كثير من الغطرسة والضحالة والنمطية.
صحافة ضد المقاومة: جريدة الشرق الأوسط أنموذجا (2/3)
د. أحمد بن راشد بن سعيّد * 8/4/1426
16/05/2005
ضمن إطار مقاله عن (صحافة ضد المقاومة – جريدة الشرق الأوسط أنموذجاً) تناول الكاتب في حلقته الأولى عبدالرحمن الراشد ومقالاته التي تعكس تعاطفاً مع السياسة الأمريكية في المنطقة، واليوم نستكمل معكم الحلقة الثانية من مقال الدكتور أحمد بن راشد بن سعيَّد في حديثه عن أحمد الربعي كنموذج ثان عن كتَّاب الصحافة ضد المقاومة.
أحمد الربعي
غلب الشأن العراقي على كتابات أحمد الربعي, ربما لمجاورة بلده الكويت للعراق, وللتجربة المرة التي عاشتها الكويت بسبب الاحتلال العراقي عام 1990. واتفق الربعي مع زميله الراشد في النظر إلى أعمال الاختطاف وقطع الرؤوس بصفتها نماذج للمقاومة العراقية, ومن ثم تصنيف تلك المقاومة في خانة الإرهاب.
في 5 من تموز (يوليو) تحدث الربعي عن ما وصفه "بالصورة القاتمة" التي ترسمها الفضائيات العربية عن العراق, من "حرب وضرب وعويل وبكاء". وقال إن العراق بلد كبير, ولكن الفضائيات لا تنقل عنه سوى "انفجارات الفلوجة, ومعارك النجف", ومشاهد الملثمين الذين "يتحدثون عن القتل والانتقام ويقطعون رؤوس الناس بالسكاكين".
في 17 من تموز (يوليو) انتقد الكاتب السلطة الفلسطينية لما وصفه "بالحملة الشعواء" التي شنتها على تيري رود لارسن مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى الشرق الأوسط, وقال إن لارسن لم يفعل ما يبرر الهجوم عليه, وإن "جريمته الكبرى هي انتقاده للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات, وحديثه عن الفساد في السلطة, ومطالبته بإعطاء صلاحيات أكبر لرئيس الوزراء الفلسطيني". وأضاف: "فلسطين أولا, وبعدها يأتي عرفات وغيره". انضم الربعي إلى الراشد في توجيه سهام النقد إلى عرفات الذي كان يتعرض وقتها لحملة إسرائيلية أميركية تتهمه بالفساد والاستبداد ورفض ما يسمى بالحلول السلمية.
في اليوم التالي, كتب الربعي مقالا بعنوان "القيادة الفلسطينية أولا", كرر فيه الفكرة ذاتها, وأكد أن "ما تفعله القيادة الفلسطينية يطرح مشروع "القيادة أولا", ومصلحة القائد فوق كل مصالح الأمة, وهو أمر مؤسف".
في 20 من تموز (يوليو) واصل الربعي حملته على رئيس السلطة الفلسطينية, وطالبه صراحة بالاستقالة, قائلا: "لقد حان الوقت لرئيس السلطة الفلسطينية أن يرتاح ويريح غيره, فالمرحلة التي يعيشها الفلسطينيون تتطلب وجوها جديدة, ورؤية جديدة, ودماء جديدة. وياسر عرفات, أقدم زعيم عربي, يجب أن يقدم استقالته للمجلس التشريعي الفلسطيني, ويترك للفلسطينيين حق اختيار زعيم جديد في انتخابات نزيهة وبلا تدخلات.. قبل أن يضطر لذلك بضغوطات داخلية وإقليمية. وهو بذلك سيقدم خدمة كبيرة لشعبه".
في 26 من تموز (يوليو) عاد الربعي للحديث عن القضية العراقية, فانتقد بشدة "فضائيات الملثمين", قائلا: ".. يبدو أنه لأول مرة في التاريخ تضع محطات فضائية إمكانياتها تحت خدمة ملثمين لا يعرف أحد من هم, سوى أنهم يمارسون القتل والإرهاب", وأضاف: "إعلام الملثمين هو إعلام لا يحترم المشاهد.. وهو في النهاية تشجيع على القتل".(/6)
ويواصل الكاتب خلطه الأوراق, ووضعه كل أعمال العنف في سلة المقاومة, متجاهلا العمليات النوعية والضربات الموجعة التي توقعها المقاومة في صفوف الاحتلال الأميركي, ومركزا فقط على عمليات الاختطاف والاغتيال والإعدام التي تتم بين حين وآخر في العراق. يقول في مقال له منشور في 3 من آب (أغسطس) إن "مشروع الإرهاب في العراق لم يترك بشرا ولا حجرا إلا واستهدفه, ضرب الشرطة والمدنيين, واختطف سائقين فقراء من جنسيات عديدة للابتزاز, وفجر أنابيب نفط ومحطات كهرباء, واغتال شخصيات عراقية عديدة, ولكن مشكلته الكبرى أنه إرهاب بلا أفق سياسي, وبلا حدود دنيا من الأخلاق, وإن تلبس بلباس المقاومة, ووجد من يصفق له في الإعلام العربي خارج العراق".
في 9 من آب (أغسطس) انتقد الكاتب الزعيم الشيعي مقتدى الصدر, قائلا إنه "ينتمي إلى عائلة قدمت الكثير من الشهداء, وسيكون من سوء التقدير أن يعزل الإنسان نفسه, وأن يدخل في حرب ضد الجميع".
في 10 من آب (أغسطس) كتب الربعي مقالا بعنوان "الاختطاف تجارة مزدهرة" انتقد فيه مجددا "إعلام الملثمين" الذي يساعد على انتشار عمليات الاختطاف في العراق كما قال.
وفي مقال له بعنوان "استهداف بيوت العبادة", منشور في 14 من آب (أغسطس) تحدث الكاتب عن المعركة بين القوات الأميركية وجيش المهدي, منحيا باللوم ضمنا على جيش المهدي, لتحصنه كما قال وراء المساجد والأماكن الدينية. يقول: "المعركة عند مرقد الإمام الحسين وفي العتبات ليست الأولى, ويبدو أنها لن تكون الأخيرة, فاستخدام المساجد والأماكن الدينية للحروب هو أمر يتعارض مع تقاليد الإسلام, فبيوت الله ليست أماكن للقتال, بل أماكن للسلام والطمأنينة". ويضيف: "هناك حالات كثيرة اختبأ بها إرهابيون في المساجد, وخزنوا أسلحتهم في بيوت العبادة, وهناك من يستخدم المساجد كمواقع للتحريض على القتل والعنف.. ", وهذا العمل "استخفاف بمعتقدات الناس, وهو في النهاية عمل جبان يدل على حالة مرضية أكثر منها حالة سياسية".
في 21 من آب (أغسطس) كتب الربعي مقالا بعنوان "ساعات الحسم الأخيرة" قال فيه إنه "ليس أمام الحكومة العراقية من خيار بعد رفض جيش المهدي لكل النداءات والمبادرات السياسية سوى الحسم العسكري, وإلا تحول البلد إلى الفوضى, وتقاسمته الميليشيات المسلحة". وعبر الكاتب عن قلقه على الأميركيين قائلا: " هناك خوف حقيقي من أن يتصرف بعض المراهقين داخل جيش المهدي.. بطريقة تسيء إلى مرقد الإمام علي, وإلى المواقع الدينية الحساسة, بهدف توريط الأميركيين". وختم مقاله بدعوة مقتدى الصدر إلى التخلص من "بعض معاونيه", والموافقة على "الحل السلمي بالشروط الحكومية".
في 28 من آب (أغسطس) كتب الربعي مقالا تساءل في مقدمته: "هل يتعلم السيد مقتدى الصدر وجيش المهدي شيئا من تجربة الأسابيع الماضية؟ هل يدركون أن المعارك التي ليس هدف سياسي, وليست ضمن استراتيجيه محددة هي معارك عدمية لا يمكن أن تحقق هدفا؟". ينظر الربعي إلى أي مقاومة للأميركيين بوصفها معركة عبثية لا جدوى منها, ولا سبيل للنصر فيها. ويدعو الحكومة العراقية إلى المزيد من العنف قائلا: "..لا بد من أن تتصرف الدولة مع أية عمليات عنف في المستقبل بكثير من الحسم والقوة, فمن المستحيل الحديث عن إعادة الإعمار تحت تهديد السلاح والقتل, والسيارات المفخخة, واختطاف الأبرياء". يتحدث الربعي عن عنف المقاومة, ولا يشير ألبتة إلى عنف الاحتلال الأميركي, والقصف الهمجي شبه اليومي للفلوجة, والضحايا الذين يوقعهم هذا القصف في مناطق عديدة متفرقة من العراق.
وينضم الربعي إلى زميله الراشد في انتقاد الشيخ يوسف القرضاوي, ويكتب مقالا في 4 من أيلول (سبتمبر) بعنوان "القرضاوي المعتدل", يقول فيه: "كأنه لا يكفينا هذا القتل اليومي.. فيظهر علينا من يفترض أن يكون داعية إسلاميا معتدلا هو الشيخ يوسف القرضاوي ليفتي بجواز قتل المدنيين الأميركيين في العراق, وليقول بلغة عربية واضحة وصريحة: "إن كل الأميركيين في العراق محاربون, لا فرق بين مدني وعسكري, ويجب قتالهم لأن المدني الأميركي جاء العراق لخدمة الاحتلال".. ولأن السيد الشيخ القرضاوي مثل كثير من الشيوخ المتطرفين لا يموتون عادة, ولا يستشهدون, ولا يحدث ذلك لأبنائهم الذين يتعلمون عادة في أحسن جامعات الغرب, فإن مثل هذه الفتوى سيقرؤها شباب مسلم متحمس, وقد يذهب إلى العراق لتنفيذ الواجب الديني الذي دعا إليه الشيخ القرضاوي". ويضيف الكاتب قائلا: "الفرق بين الجنون والعقل, بين التطرف والاعتدال واضح. فالقرضاوي الذي يعيش حياة الرغد والعز في الدوحة يفتي بقتل المدنيين الأميركيين". ينظر الربعي إلى صاحب الرأي الذي يختلف معه بوصفه متطرفا ومجنونا ومتناقضا, وإذا كان ذلك المخالف عالم دين إسلامي أو منتميا لتيار إسلامي, فإن دعاوى التسامح واحترام الرأي الآخر كلها تتهاوى, وتبرز فقط لغة التهكم والتهميش والازدراء.(/7)
في 6 من أيلول (سبتمبر) كتب الربعي مقالا انتقد فيه فصائل المقاومة الفلسطينية, لعدم تحديد أولوياتها, وتوحيد مواقفها كما قال. وأكد أن "هناك صراعات بين "حماس" و"الجهاد" من جهة, وبقية الفصائل على خلفية الموقف من التسوية السياسية, وقضية العمليات الانتحارية ضد المدنيين الإسرائيليين, وهناك خلافات وصراعات حادة بدأت داخل حركة التحرير الفلسطيني (فتح) وصلت إلى درجة التصفيات الجسدية".
ويعود الربعي إلى الشأن العراقي وإلى موضوع المقاومة تحديدا, فيكتب في 20 من أيلول (سبتمبر) متسائلا: "أليس تشجيع القتل في العراق اليوم بحجة العروبة والإسلام والمقاومة هو الذي يؤدي إلى حصد الأرواح البريئة في العراق"؟
في 27 من أيلول (سبتمبر) يتهكم الربعي بالمقاومة الفلسطينية, ويكرر وصفه العمليات الاستشهادية بالانتحارية, فيقول: ".. يمارس العرب حالة من الفروسية والبطولات والعنتريات التي ما قتلت ذبابة. فعندما تحدث عملية انتحارية في إسرائيل تعلن ثلاث منظمات فلسطينية مسؤوليتها عن الحادث, وهذا يعني أن هناك اثنتين من هذه المنظمات تمارس الكذب..".
في مقال له منشور في 9 من تشرين الأول (أكتوبر) يؤكد الربعي أن "العنف والقتل في العراق هما الاستثناء" و"الاستقرار هو القاعدة", وأن "أقل المتضررين من العنف هم قوات التحالف, لذلك فإن عنفا بلا قاعدة شعبية هو عنف بلا شرعية, وإن حمل عناوين التحرير والاستقلال والإسلام والوطنية".
في 23 من تشرين الأول (أكتوبر) تحدث الربعي بمرارة عن عمليات اختطاف "الأجانب العاملين في المساعدات الإنسانية" في العراق, متسائلا: "كيف يمكن لنا أن نعتذر باسم أطفال العراق, وباسم سمعتنا وسمعة ثقافتنا؟ كيف يمكن أن نفسر خيبتنا وفعلة التفرج التي نمارسها على المستوى الإنساني؟ أية كلمات يمكن أن نستخدمها لنقول للعالم إننا أبرياء من هذه الجرائم, وهل يمكن أن يكون صوتنا أعلى من صوت القتلة والمختطفين وقطاع الطرق الذين يصفق لهم الكثيرون, ويسمونهم مقاومة؟". مرة أخرى يغض الربعي الطرف تماما عن جرائم الاحتلال الأميركي, وفضائحه وممارساته غير الإنسانية, ويواصل عملية (سلخ الذات), ويترحم على (ثقافتنا) التي أفرزت في رأيه الإرهاب والتطرف.
في مقاله المنشور في 25 من تشرين الأول (أكتوبر) ينتقد الربعي علماء الدين السنة في العراق قائلا: "بعض رجال الدين السنة في ما يسمى بالمثلث السني يتصرفون دون شعور لتلك المناطق عبر تشجيع العنف, لكن الأمل ما زال قائما في صحوة متأخرة لهؤلاء للتفكير من جديد بمستقبل أهلهم ووطنهم".
في الأول من تشرين الثاني (نوفمبر) يحذر الربعي من تكرار ما وصفه بمأساة الأفغان العرب, ويورد مصطلح "العراقيين العرب" للإشارة إلى "العرب المتطرفين الذين ذهبوا إلى العراق تحت شعار الجهاد ضد الكفار", محذرا من أن هؤلاء "لا يحاربون الأميركيين فحسب, بل يفخخون السيارات ضد المدنيين العراقيين. ولذلك, فإن خطرهم في حال عودتهم سيكون أكبر".
في 8 من تشرين الثاني (نوفمبر) يعلق الربعي على الفتوى التي أصدرها عدد من العلماء والدعاة في السعودية حول وجوب الوقوف مع أهل الفلوجة ضد الهجوم الأميركي على مدينتهم. يقول الربعي إن الفتوى الداعية إلى "مساعدة "الفلوجة الصامدة المنصورة" هي تحريض للشباب, وتغرير بهم, لدفعهم إلى طريق الانتحار, وهي دليل على أن عددا من الموقعين على الفتوى, ممن اعتقدنا أنهم عادوا إلى طريق الحق, وقطعوا العلاقة بفكر العنف, قد عادوا إلى طريقهم القديم, يحرضون الناس على الموت تحت اسم الجهاد". مقاومة الأميركيين الغزاة في رأي الربعي ليست سوى انتحار, والدعوة إليها ليست سوى تحريض. وحده الربعي وزملاؤه من المدافعين عن المشروع الأميركي في المنطقة يعرفون "طريق الحق", ويحتكرون تعريف الصحيح والخطأ. يتساءل الربعي في ثنايا مقاله: "ألا يكفينا ما حدث؟ ألا تكفي هذه الجرائم التي ارتكبت باسم الإسلام؟..ألا تكفي حسرة قلوب آباء وأمهات, ذهب أبناؤهم إلى أفغانستان والعراق, فانتهوا في سجن غوانتانامو..؟". يكررالكاتب هنا الرواية الأميركية الرسمية للأحداث, من أن أسرى غوانتانامو قتلة وإرهابيون, مع أن أكثرهم لم تثبت عليه تهمة, وعدد غير قليل منهم كانوا أناسا بسطاء, وموظفي إغاثة إنسانية, وقد انتقدت ظروف اعتقالهم وأسبابه منظمات حقوقية دولية عديدة أبرزها منظمة العفو الدولية, وهيومان رايتس ووتش.
في مقاله المنشور في 17 من تشرين الثاني (نوفمبر) يتساء ل الربعي: "متى يأتي الزمن النظيف؟", ويضيف: "من حقنا أن نحلم بأوطان هانئة, وأسر مستقرة, وصناعة وزراعة وإنترنت ولحاق بركب الحضارة, بعد أن استهلكنا نظام طالبان وتورا بورا, ومقاومو الفلوجة, والمحللون السياسيون والاستراتيجيون الذين يكذبون علينا كل يوم في القنوات الفضائية".(/8)
في 20 من تشرين الثاني (نوفمبر) يتحدث الربعي عن المقاومة الفلسطينية, ويدعوها إلى المصارحة بدل المصالحة كما يقول. يتساءل: "لماذا لا تكون هناك جلسات مصارحة تكون مدخلا إلى المصالحة, أو تكون دافعا لطلاق بائن بين أطراف متناقضة". الساحة الفلسطينية كما يرى الربعي "تضم طرفين أساسيين, طرف لديه مشروع للسلام, له تصور لدولتين متجاورتين, وعاصمتين منفصلتين, وصفقة سلام تاريخية, وطرف آخر لا يؤمن بهذا الكلام, وهو يبحث عن الشهادة, وليس عن إقامة دولة, وهو يرفض التفاوض, ويرفض الدولتين, ويعتقد أنها حرب أزلية بلا سقف, يخوضها بالنصوص الدينية وبالسلاح, ولا مجال فيها لغير ذلك..". ويمضي الكاتب في هجومه على الفصائل الإسلامية المقاومة في فلسطين قائلا: "..من الظلم للشعب الفلسطيني محاولة جمع النار والماء, وتركيب خليط من المتناقضات الإيديولوجية والسياسية". ويختم بقوله: ".. ما دامت جماعة حماس والجهاد ترفضان السلام بالصيغة الفتحاوية, أو صيغة الشعبية والديموقراطية وغيرهما, فما الداعي لتجميع المتناقضات". ليس واضحا من كلام الكاتب ما يرمي إليه سوى رفض فكرة التنوع داخل البيت الفلسطيني, أو الدعوة إلى التناحر بين فصائل المقاومة, أو القطيعة والطلاق البائن بينها على حد تعبيره. وللمرء أن يتساءل بكل براءة: ماذا تريد إسرائيل والإدارة الأميركية أكثر من هذه الوصفة الكارثية للمجتمع الفلسطيني.
يعود الربعي إلى الشأن العراقي في 21 من تشرين الثاني (نوفمبر), فيدعو العراقيين إلى كسر حاجز الخوف, والسعي لبناء عراق مستقر, بعيدا عن "الإرهاب والقتل" كما قال.
في 22 من تشرين الثاني (نوفمبر) يتحدث الربعي عن قصة اختفاء ابن الشيخ سلمان العودة, وقلق والده من أنه ربما ذهب إلى العراق للجهاد ضد الاحتلال الأميركي, ثم ثبوت أن الأمر كان مجرد "مزحة" فقط. يلتقط الربعي القصة, ليوجه هذه "النصيحة" للشيخ العودة: ".. نتمنى أن يضع الشيخ العودة نفسه بمكان مئات الآباء والأمهات الذين فقدوا أولادهم, وانتهى هؤلاء إلى الفلوجة, أو قتلوا في أفغانستان, أو قبعوا في سجون غوانتانامو". ثم يتساء ل الكاتب: ".. هل كان الشيخ سلمان العودة يوقع البيان الذي وقعه قبل أيام بشأن الجهاد في العراق, لو أنه مر بتجربة ابنه معاذ, وشعر بحجم المرارة والألم؟". ينتقد الكاتب ما يصفه بغسل أدمغة الشباب, ودفعهم إلى حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل, ووقوعهم ضحية "الفكر المتطرف". كما انتقد من يوقعون على بيانات تدعو الناس إلى الجهاد, بينما "يحرصون على إبعاد أنفسهم, وإبعاد أبنائهم, عن دخول تلك المغامرة, وهم يدفعون بأبناء الفقراء إلى الموت, بينما يدرس أولاد هؤلاء في أفضل الجامعات الغربية, ويعيشون حياة هانئة..". ينتقد الكاتب موقف الشيخ العودة ضمنا, مطالبا برفض "العنف والقتل تحت حجج جهادية واهية".
في الشأن العراقي أيضا يتحدث الربعي في مقاله المنشور في 28 من تشرين الثاني (نوفمبر) منتقدا "التوتر والعنف الذي تمارسه قوى الإرهاب في بعض المناطق", وهو ما يستحيل معه إجراء الانتخابات كما قال.
في 14 من كانون الأول (ديسمبر) يناقش الكاتب وضع القيادة الفلسطينية الجديدة, مؤكدا أن نجاح هذه القيادة "يتطلب أولا توقف بعض الفلسطينيين عن عمليات انتحارية لا تخدم قضيتهم, وخاصة ضد المدنيين".
في مقاله المنشور في 21 من كانون الأول (ديسمبر) يعلق الربعي على جريمة التفجير التي نفذت بحق المدنيين في مدينتي النجف وكربلاء, منحيا باللائمة في ذلك على المقاومة العراقية: " لا بد من أن نبارك للمقاومة العراقية الباسلة, ولمن يدعمونها عبر الفضائيات بهذا "الإنجاز" حيث يقتل مدنيون لا ذنب لهم, وحيث يمارس القتلة في العراق جرائمهم, ويرفعون شعارات الإسلام والوطنية وطرد الاحتلال". ويضيف: "إن هؤلاء الذين يقتلون شيعة العراق, هم أنفسهم الذين يقتلون سنة العراق, واستباحوا الفلوجة, وقتلوا الأكراد, وفجروا الكنائس الآمنة".(/9)
في 28 من كانون الأول (ديسمبر) كتب الربعي مقالا بعنوان "المقاومة العراقية في دمشق" انتقد فيه موقف سورية من احتلال العراق, وتعاطفها مع المقاومة في ذلك البلد. يقول : "إذا أردت أن تعرف ماذا تريد أن تفعل "المقاومة العراقية", فعليك بالإصغاء جيدا إلى الإعلام السوري, أو الإعلاميين المحسوبين على سورية.. آخر ما قالوه في دمشق, تحريض سافر على قتل الشرطة العراقية, واعتبار عصر صدام حسين أفضل من الأوضاع الحالية..". ويضيف: "لا أعرف من الذي يدير ملف العراق في دمشق, ولكني أعرف جيدا أنها إدارة تضر بالعراق, وتضر بسورية.. لقد مللنا ونحن نكرر ضرورة أن تفكر دمشق في مصالحها الوطنية, وأن تخرج من عصر الشعارات والأحلام, إلى فضاء العمل السياسي المحترف..". تزامن هذا الكلام مع حملة أميركية إسرائيلية على دمشق, وبدا أن الربعي يستجيب لأوتار هذه الحملة, ويردد الإدعاءات الأميركية عينها بخصوص الموقف السوري من أحداث العراق. يختم الربعي مقاله متسائلا: "هل نصرخ في واد غير ذي زرع لا يسمعنا فيه أحد؟ ربما..". الأكيد أنه لا يوجد عربي ولا مسلم حقيقي يعير سمعا إلى خطاب التبعية والاستسلام لإرادة العدوان والهيمنة الأميركية.
|1|2|
________________________________________
* أستاذ الإعلام السياسي المشارك - جامعة الملك سعود - الري
صحافة ضد المقاومة: جريدة الشرق الأوسط أنموذجاً(3/3)
د. أحمد بن راشد بن سعيّد * 15/4/1426
23/05/2005
وقفنا في الحلقة الثانية عند تناول الكاتب للنموذج الثاني من نماذج كتَّاب (جريدة الشرق الأوسط) كنموذج (للصحافة ضد المقاومة).. ونتابع معكم اليوم الحلقة الأخيرة من هذه السلسلة، والتي يتناول فيها الكاتب نموذجين آخرين هما: صالح القلاب، ومأمون أفندي.
صالح القلاب
كتب صالح القلاب عن الشأن العراقي, لكن ما كتبه عن فلسطين كان أكثر, نظرا لارتباط بلده الأردن على المستوى الشعبي والرسمي بالقضية الفلسطينية.
في 25 من آب (أغسطس) ناقش القلاب الوضع في العراق, مقارنا الزعيم الشيعي مقتدى الصدر بزعيم حركة طالبان الملا عمر. يقول: "لنتصور ماذا سيحل بالعراق لو أن حكومة إياد علاوي, التي هي رغم سلبياتها الكثيرة خشبة الخلاص الوحيدة والأخيرة, انهارت في لحظة من اللحظات قبل أن تنجز مهمتها بتسليم البلاد إلى حكومة دائمة منتخبة..". ويحذر قائلا: "..إن انهيار هذه الحكومة, ورحيل القوات المحتلة, سيؤديان حتما إلى حكومة كحكومة "طالبان", وإلى رئيس كالملا عمر. وغير مستبعد إذا انتصر جيش المهدي, وأصبح مقتدى الصدر رئيسا لجمهورية إسلامية عراقية أن ينتقل أسامة بن لادن بإرهابه وقواعده إلى بلاد الرافدين..".
في 8 من أيلول (سبتمبر) كتب القلاب عن ذكرى تفجيرات الحادي عشر من ايلول (سبتمبر) 2001 في الولايات المتحدة, وقال إن الرئيس بوش كان سيعلن "أمام اجتماع تاريخي للجمعية العمومية للأمم المتحدة قيام الدولة الفلسطينية المنشودة" لولا وقوع الأحداث, وتتابع العمليات "الانتحارية" ضد الإسرائيليين, "التي تلاحقت بطريقة مثيرة للاستغراب". وقد زعزعت هذه العمليات – كما يقول الكاتب – "الموقف الفلسطيني, وعززت الحجة الإسرائيلية القائلة بأن الفلسطينيين إرهابيون, وإنهم جزء من جبهة "طالبان" وأسامة بن لادن وصدام حسين, في حين أن الإسرائيليين مثلهم مثل الأميركيين ضحايا لهذا الإرهاب, وأن حيفا وتل أبيب يحل بهما ما حل بنيويورك وواشنطن". ويصل الكاتب إلى القول بأنه "كان على العرب, والفلسطينيين تحديدا أن يعرفوا أن ما جرى ليس مجرد هدم بناية, وخطف عدد من الطائرات. وكان عليهم أن يبادروا, وعلى الفور, إلى التخلص من الأوهام التي كانت لا تزال عالقة بهم منذ مراحل الحرب الباردة, وأن يعلنوا هم, حتى قبل الولايات المتحدة, ومعها الغرب كله, الحرب على الإرهاب. كما كان عليهم أن يرموا بكل ثقلهم لوقف العمليات الانتحارية التي أوصلت الوضع الفلسطيني إلى ما وصل إليه". يحمل القلاب العرب والفلسطينيين مسؤولية التدهور والمعاناة في الأرض المحتلة, فالعرب مسؤولون نتيجة لغبائهم وقصر نظرهم وعدم استيعابهم الحرب الأميركية الجديدة على ما يوصف بالإرهاب, والفلسطينيون مسؤولون بسبب دمويتهم وعنفهم غير الأخلاقي الذي يسمونه استشهادا ومقاومة. أما الإدارة الأميركية وإسرائيل فهما بريئتان من كل نقيصة, ولا تقترفان إرهابا بحق الفلسطينيين والعرب.(/10)
في ذكرى مرور أربع سنوات على انتفاضة الأقصى كتب القلاب مقالا في 6 من تشرين الأول (أكتوبر) بعنوان: "أربعة أعوام كانت كارثة للفلسطينيين ودمارا لقضيتهم". اختصر العنوان ما أراد الكاتب أن يقوله, لكنه أوضح مراده بجلاء في ثنايا المقال, عندما أكد أن "التغني بصواريخ "القسام" الكرتونية لا فائدة منه, بل إنه يعزز ما تتذرع به إسرائيل لتبرير الجرائم البشعة التي ترتكبها في غزة, وفي كل الأراضي الفلسطينية". وأضاف: ".. الصراع مع عدو تقوده هذه الحكومة, وفي ظل موازين قوى هي هذه الموازين القائمة, لا يدار من خلال المنطق, ولا من خلال الاستمرار في حشد المبررات لتأكيد الحق, بل على أساس الممكن والمتاح..". إذن لا صورايخ القسام "الكرتونية" تفيد, ولا استخدام المنطق في المواجهة ينفع, ولا التذرع بالحق الأخلاقي في إدارة المعركة يجدي. الحل الوحيد هو الانبطاح, ومد العنق لسكين شارون.
يقول القلاب إننا إذا انظرنا إلى انتفاضة الأقصى " من زاوية الربح والخسارة بالنسبة للفلسطينيين ومشروعهم الوطني ومصالحهم العليا, فإننا سنجد أنها كانت كارثة ومصيبة, بل وأم المصائب". ينتقد الكاتب الفصائل الفلسطينية المعارضة لأنها تنظر بعين حولاء, ولا تجاري الواقع الدولي, كما يقول. ولو أن هذه الفصائل تدرك الواقع "لما بادرت إلى عسكرة انتفاضة الأقصى, ولما كثفت العمليات "الانتحارية", وغبار ما جرى في نيويورك وواشنطن في الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 كان يغطي الكرة الأرضية كلها". ويضع القلاب اليمين الإسرائيلي المتطرف, وحركة المقاومة الإسلامية (حماس) في سلة واحدة, فيقول إنهما رغم تناقضهما فقد "التقيا عند نقطة واحدة, وهي إضعاف القيادة الفلسطينية الممثلة بعرفات وعزلها وذبح عملية السلام". ويضيف: "كان المفترض.. أن تبادر حركة "حماس" وعلى الفور, إلى إيقاف العمليات الانتحارية بمجرد وقوع كارثة الحادي عشر من سبتمبر.. لم تفعل حركة "حماس" هذا, ولم تدرك أنه إذا كانت عسكرة الانتفاضة جائزة قبل الحادي عشر من سبتمبر 2001, فإنها لم تعد جائزة بعد أن وقع ما وقع, وبعد أن اتضح أن الخيارات الفلسطينية غدت محدودة جدا, فإما في خنادق الحرب على الإرهاب التي أعلنها العالم بقيادة الولايات المتحدة, وإما في خنادق الإرهاب الممثل بالقاعدة وأسامة بن لادن وبكل الدول والتنظيمات المؤيدة للعنف والمساندة له والمتورطة فيه". ينبثق من هذا الكلام أمران. الأول أن العمليات الاستشهادية في فلسطين هي عمليات إرهابية, ويجب التبرؤ منها والتخلي عنها. والثاني أن الإرهاب هو ما ترى الولايات المتحدة أنه إرهاب, وهو تنظيم القاعدة وأسامة بن لادن. أما الجرائم الصهيونية واحتلال أراضي بلدان مستقلة بالقوة, وقتل وتشريد الآلاف من أهلها, فذلك لا يدخل في تصنيف الإرهاب. يدافع القلاب بشكل أوضح عن السياسة الأميركية عندما يقول إن الأميركيين ".. كان لديهم استعداد للاستمرار في اعتبار الفلسطينيين جزءا من الجبهة المناهضة للإرهاب, لو أن العمليات الانتحارية لم تتواصل بالشكل الذي تواصلت فيه, ولو أن الانتفاضة لم تتخذ هيئة العمليات الانتحارية". ويضيف متحدثا بلسان الشعب الفلسطيني كله: ".. غير صحيح على الإطلاق أن الشعب الفلسطيني.. راض عن هذه المسيرة ويؤيد العمليات "الانتحارية", ويساند تظاهرة صواريخ القسام..".
في مقال له منشور في 3 من كانون الأول (ديسمبر) تحدث القلاب عن اجتماع عقده الملك عبد الله الثاني ملك الأردن مع بعض وزرائه بعيد أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 في الولايات المتحدة, شدد فيه على "ضرورة الاتصال بالقيادة الفلسطينية, وإبلاغها أن عليها أن تسيطر على الوضع, وألا تسمح بوقوع أية عمليات إرهابية – انتحارية, لأن العالم كله مقبل على مرحلة جديدة, سيكون الفرز فيها بين الإرهاب وضحاياه, ولأنه يجب أن يدرك الفلسطينيون بخاصة, والعرب والمسلمون بصورة عامة خطورة أن يصنفوا على المعسكر الإرهابي". ويضيف الكاتب: ".. لا بد من ممارسة ضغط حقيقي على "حماس", وعلى الدول التي تقف وراءها, لمنعها من القيام بأية عملية "انتحارية" في هذا الظرف الحساس..". ويختم بالقول: "إذا لم تتوقف العمليات "الانتحارية", حتى إن واصلت إسرائيل استفزازاتها, فإنه لن تكون هناك أي فرصة لاستئناف عملية السلام..". وهكذا فالقلاب يصنف العمليات الاستشهادية عمليا في خانة الإرهاب, ويسمي الإرهاب الإسرائيلي المنظم من تقتيل جماعي, واغتيالات للقادة, وهدم للبيوت فوق رؤوس ساكنيها, وتجريف للحقول, ومصادرة للأراضي, وبناء لجدار يلتهم الزرع والضرع, وتشريد وأسر وتعذيب, كل ذلك يسميه استفزازا فقط, ويطالب بتجاهل هذا "الاستفزاز", واستجداء السلام قبل أن يطير من أيدي الفلسطينيين والعرب بسبب جهلهم بالواقع, وعنفهم الأعمى!(/11)
يعود القلاب للشأن العراقي, فيكتب في 22 من كانون الأول (ديسمبر) مقالا يؤكد فيه أن العراق لم يكن "بحاجة إلى حرق المراحل, والقفز من فوقها, والانتقال فورا من "ديكتاتورية" بغيضة, ونظام شمولي تواصل, على مراحله المختلفة, لأكثر من أربعين عاما, إلى انفلات ديموقراطي..". ويوضح قائلا: ".. جاءت جرعة الديموقراطية أكثر مما يتحمله بلد بقي محكوما بالحديد والنار لأكثر من أربعة عقود متلاحقة, فجاءت النتيجة على ما نراه من فوضى صاخبة, تضرب أطنابها في كل مكان". ويضيف الكاتب في إشارة إيجابية للاحتلال الأميركي: "ربما أراد المعنيون, وعلى رأسهم الأميركيون الذين جاؤوا تحت عنوان: "إسقاط النظام الديكتاتوري, واستبداله بديموقراطية على النمط الغربي", إقناع العراقيين والعرب والعالم كله, بأن الاحتلال ليس دائما بالضرورة ضد مصالح الشعوب, وأن تخليص الشعب العراقي من نظام شمولي وفردي وسفاح, واستبداله بنظام صناديق الاقتراع والحريات العامة, يسوغ رؤية الدبابات الأميركية في الشوارع العراقية. لقد أراد الأميركيون, ووافقتهم على ذلك معظم القوى والتنظيمات التي انخرطت في حرب التخلص من نظام صدام حسين, إقناع العراقيين بالفرق بين ما كانوا عليه, وبين خيارهم الجديد..".
في مقاله المنشور في 29 من كانون الأول (ديسمبر) والذي جاء بعنوان "عام فلسطين وعام القضية الفلسطينية", يدعو القلاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى عدم الالتزام بثوابت القضية الفلسطينية قائلا: "لن يكون العام المقبل, وهو أول عام لأبي مازن في مواقع المسؤولية الأولى, سهلا ولا مريحا, لكنه عام واعد. وحتى يصبح هذا العام على غير ما كان عليه العام الماضي الذي هو ثالث ثلاث سنوات عجاف موجعة ومربكة, بل وقاتلة, فإن عليه أن لا يبقى أسيرا للذين يدفعونه إلى الخلف باسم الثوابت التي لم يفرط فيها عرفات". ويطالب الكاتب أبا مازن بما تطالبه به إسرائيل والولايات المتحدة: الوقوف ضد فصائل المقاومة, ونزع سلاحها, وتحقيق الأمن للإسرائيليين, وطمأنة قلوبهم. يقول: "حتى يمكن تجريد اليمين الإسرائيلي من كل أسلحته التي استخدمها على مدى الأعوام الثلاثة الماضية.. فإنه لا بد من إشعار الإسرائيليين بأن هناك إمكانية فعلية وحقيقية لتوفير الأمن لهم, وأن هناك إمكانية فعلية وحقيقية لتصبح العمليات الانتحارية من الماضي, وأنه لن يكون هناك سلاح غير السلاح الرسمي الفلسطيني, ولن تكون هناك أي سلطة موازية للسلطة الفلسطينية".
مأمون فندي
انضم مأمون فندي إلى زميليه الراشد والربعي في انتقاد السلطة الفلسطينية لموقفها الغاضب من تقرير (تيري رود لارسن) عن الوضع الفلسطيني. كتب فندي في 19 من تموز (يوليو) مقالاً بعنوان "مصلحة عرفات قبل حرية فلسطين" انتقد فيه القيادة الفلسطينية, مؤكداً أنه "بات واجباً على العرب مجتمعين مواجهتها دونما مواربة, لأن الأمر في الأراضي المحتلة وصل بالفعل إلى درجة الانهيار". وأضاف: "يبدو أن مصلحة عرفات أهم من مصلحة الشعب الفلسطيني. هذا هو تفسيري للغضبة الفلسطينية على ممثل الأمين العام للأمم المتحدة.. كانت في تقرير (لارسن) مرافعة جادة ومقنعة أمام مجلس الأمن في رأيي (غير المتواضع) هي أفضل من كل مرافعات نبيل أبو ردينة وأبو عمار وجماعته من أهل فلسطين". ويتساءل فندي: ".. لماذا كل هذا الغضب العرفاتي على تقرير يصب في المصلحة الفلسطينية؟ الغضبة أساسها أن (لارسن) انتقد السلطة وأداءها, وطالبها بأشياء واضحة هي محل إجماع المجتمع الدولي الآن". ويواصل فندي سخريته المريرة من السلطة الفلسطينية, فيقول: ".. دعونا نواجه الحقائق: النقطة الأولى التي يجب أن يعرفها العرب, هي أن العالم كله الآن لا يثق بعرفات, باستثناء جماعة نبيل أبو ردينة الذين يفسرون العالم بالمقلوب لأبو عمار.. النقطة الثانية هي أن اللاعبين الأساسيين من العرب في الملعب الفلسطيني, وهما مصر والأردن, أيضاً لا يثقان بالرجل.. إذن من بقي مع أبو عمار بعد أن تركه الأميركان والأوروبيون والروس والمصريون والأردنيون؟ بقي معه (لارسن) ممثل كوفي أنان, وهاهم أبو عمار وناصر القدوة وأبو ردينة يخسرون الأمم المتحدة أيضاً". ويصل فندي إلى القول بأن "عرفات لم يعد يعنيه أي شيء سوى "حرية حركته هو".. حرية عرفات الشخص أهم من حرية الفلسطينيين.. ما يقوم به أبو عمار ليس إستراتيجية تحرير, وإنما مناورات بقاء, الأساس فيها شخصه, وليذهب الشعب الفلسطيني والمنطقة إلى الجحيم". ويختم قائلاً: ".. عرفات لا يريد أن يسجن فقط الشعب الفلسطيني معه, هو يريد أن يسجننا جميعاً".(/12)
في التاسع من آب (أغسطس) كتب فندي داعياً إلى "قيام جماعة التفكير, بدلاً من جماعات التكفير", وقال: "إن التفكير هو الفريضة الغائبة, لا التكفير والتفجير". وأضاف: "لك أن تتخيل هذا العالم كغرفة واحدة, فيها ممثل عن كل الملل والنحل, ممثل عن كل جماعة عرقية ودينية, وبينهم ممثل عن العرب والمسلمين, ترى مع من يتحدث هذا العربي المسلم داخل هذه الغرفة؟". يتحدث فندي بسخرية عن العربي القابع في الغرفة, وقد عزم ألا يحدث أحداً؛ لأنه أعلن الحرب على الجميع. يقول: إن هذا العربي لن يتحدث مع ممثل أميركا, "لأنها دولة إمبريالية, يناصبها العداء, فهي التي تحتل العراق, وتساعد إسرائيل ضد الفلسطينيين, ويعلن عليها العربي المسلم جهادا كجهاد جماعة مقتدى الصدر في النجف, والزرقاوي في الفلوجة وبغداد.. أما إذا صنفنا من هم في الغرفة حسب دياناتهم, فبالطبع لن يتحدث العربي المسلم مع ممثل اليهود الذي يشتبك معه في حرب منذ خمسين عاما..". ويصل فندي إلى التأكيد بأن "العربي المسلم الموجود في الغرفة لن يتحدث مع أحد, ولن يحادثه أحد, لأنه تقريبا معاد للعالم كله..". ويسهب الكاتب ويطيل في بيان هذه "التخيلات", ويمضي متحدثا بلسان العرب والمسلمين: "لقد كفرنا الجميع, وفكرنا قليلا.. كفرنا العالم كله, ورأينا العالم كله بمثابة مؤامرة ضدنا, تخيلنا كل إنسان في العالم وكأنه يصحو في الصباح فقط ليحيك المؤامرات ضدنا..".
في 4 من تشرين الثاني (نوفمبر) كتب فندي مقالا بعنوان "فوز بوش: رسالة أميركا الجديدة" دعا فيه العرب إلى الانقياد لسياسة إدارة بوش في المنطقة. يقول: "فوز بوش هو رسالة أميركية إلى العالم. فحوى هذه الرسالة إلى العالم هو أن الأميركيين يصادقون على رؤية جورج بوش في مكافحة الإرهاب, هذه الرؤية القائمة على محاور ثلاثة: المحور الأول هو القضاء على الجماعات الإرهابية ذات البعد العالمي global reach, المحور الثاني هو ضرب الدول الراعية للإرهاب, أما المحور الثالث فهو تغيير البيئة والمناخ المولد للإرهاب, وفي هذا السياق, يبقى على الدول التي تصنفها أميركا رسميا على لائحة الدول الداعمة للإرهاب, أن تأخذ موضوع استراتيجيه الحرية الأمامية Forward Freedom, والتي تبنتها إدارة جورج بوش مؤخرا, وكذلك موضوع الشرق الأوسط الكبير على محمل الجد". ويوضح الكاتب مراده أكثر بالقول: "ويعني ذلك أن مسألة الإصلاح من الخارج للمنطقة العربية, والضغوط المكثفة تجاهها مسألة حقيقية, وعلى دول المنطقة أن تعيد صياغة سياساتها ومواقفها على هذا الأساس الجديد". يورد الكاتب مفردات الخطاب الأميركي كالإرهاب وحرب الأفكار والحرية والإصلاح والشرق الأوسط الكبير, بوصفها مسلمات وحقائق غير قابلة للنقض, داعيا العرب إلى تبنيها والاستجابة لها, قبل أن يقبلوا بها رغما عن أنوفهم.
في مقال له منشور في 15 من تشرين الثاني (نوفمبر) تحدث فندي عما وصفه "نحو عرفات", ويقصد علاقة علم النحو بحياة الرئيس الراحل ياسر عرفات. يتسم المقال بالتهكم أكثر من اتسامه بالوصف, وينسب كل مسيرة عرفات إلى أفعال النحو وقواعده وحروفه. مثلا يشير في مقاله إلى أن عرفات مات في باريس, ومات كما يقول فعل "معتل الوسط, ويسمى أجوف, مات في المنفى بعد المقاطعة, وأبو عمار لم يكن غريبا على حروف النفي, من لاءات الخرطوم إلى نفيه في الأردن, إلى لبنان بعد أحداث أيلول الأسود, ومن نفيه من لبنان إلى تونس عام 1982.. حروف علة, وحروف نفي, وأفعال مقاربة, تلك كانت حياة عرفات..". ويختم مقاله الطويل بالقول إن عرفات كان "جامدا أحيانا, وكان معتلا في آخر حياته, وكان ناقصا في بعض أفعاله..".
في 6 من كانون الأول (ديسمبر) كنب فندي مقالا بعنوان: "إمارة حماس" زعم فيه أن "مقاطعة حماس للانتخابات الفلسطينية تقع ضمن خطة شارون لتفخيخ الوضع الفلسطيني, وإحلال إمارة حماس في غزة محل الدولة الفلسطينية". وينتقل الكاتب فجأة من غزة إلى بغداد, فيربط بين حماس وهيئة علماء المسلمين العراقية قائلا: "مقاطعة حماس للانتخابات الفلسطينية, هي المعادل الموضوعي لمقاطعة هيئة علماء المسلمين والسنة في العراق للانتخابات العراقية". ويضيف: "وفي كلتا الحالتين, يخدم الإسلاميون الاحتلال عمليا, بينما يقاومونه على الفضائيات, وبرمزيات لا تسمن ولا تغني من جوع..". موقف فندي المتحامل على الإسلاميين جعله يصنفهم خدما للاحتلال, بل ويتهمهم بالعداء الفطري للديموقراطية, وهي التهمة عينها التي تلصقها دوائر غربية كثيرة بالإسلاميين. يقول ساخرا: "حماس لديها حساسية تجاه الانتخابات, ومعها كثير من إسلاميي المنطقة, كحساسية مرضى الانفلونزا للسمك والبيض..".(/13)
بعد ذلك يبدأ الكاتب في صياغة فكرة المقال, وهي في جوهرها تحريضية ضد حماس, والتحذير من هيمنتها على الوضع في غزة, بعد الانسحاب الإسرائيلي منها. يسرد فندي عددا من المظاهر الدالة على نفوذ حماس في القطاع, كالأعلام الخضراء, ومسيرات تشييع الجنائز, وغيرها. وقال إن "هذه السيطرة من قبل حماس في غزة, مرشحة للزيادة, وربما كبديل لسلطة الاحتلال, في غياب دور للأمن الفلسطيني". ويواصل فندي تحريضه الجميع على حماس, مذكرا مصرا بأن حماس حركة إسلامية, وامتداد طبيعي لحركة الإخوان المسلمين. يقول: ".. ستملأ حماس الفراغ الذي يتركه الاحتلال من خلال كتائب القسام, كمقابل للجيش النظامي, جيش حماس السري لضبط الأمن كبديل عن دحلان وجماعته. والتنظيم السري لحماس, هو أقرب إلى التنظيم السري الذي ابتدعته الحركة الأم, وهي حركة الإخوان المسلمين في مصر, وأعتقد أنه واضح لكل من درس ألف باء الحركات الإسلامية أن حماس هي جماعة الإخوان المسلمين – فر ع فلسطين – أو فرع غزة, لأنها تشبهها تماما في الخريطة التنظيمية, وفي البناء الهيكلي, وتتبع نفس التوجه الاستراتيجي". ويمضي فندي محرضا العالم كله على حماس من خلال مقارنتها بحركة طالبان, "وبنفس الطريقة التي حاولت بها حركة الإخوان المسلمين السيطرة على مقاليد الحكم في الجزائر, أو في تونس ( جبهة الإنقاذ هي التي كادت أن تصل إلى الحكم في الجزائر عبر صناديق الاقتراع, وليس الإخوان, والذين سيطروا في النهاية هم العسكر, وهم الذين أجهضوا خيار الشعب), تحاول حماس أيضا السيطرة على النضال الفلسطيني, وإخراج أي قوى أخرى خارج الحلبة, ومن هنا, ومتى ما سيطرت حماس على غزة, فنحن بصدد قيام إمارة حماس في غزة, على غرار إمارة طالبان في أفغانستان..".
ويردف الكاتب قائلا: ".. توحي كل المؤشرات, من الجيش إلى الإعلام إلى الخطاب السياسي للحركة, أنها تتبع أسلوب طالبان في السيطرة على الوضع الفلسطيني برمته, وإزاحة السلطة..". بعد رسم هذه الصورة المثيرة للضحك, يتساءل فندي: "ماذا يعني قيام إمارة حماس في غزة بالنسبة للمنطقة, وبالنسبة لإسرائيل؟". يحاول الكاتب مجددا إثارة حفيظة القيادة المصرية, فيحذر من أن "المتضرر الأول من إمارة حماس ليس إسرائيل, وإنما مصر كجوار لهذه الإمارة الجديدة, بنفس الطريقة التي لم تكن طالبان فيها خطرا على الهند, بل كانت خطرا على باكستان..". ويضيف: "وإمارة حماس لن تقبل بالسلام كما تتبناه خارطة الطريق, فأي دارس لحالة حماس يعرف أنها لا تقبل إلا بفلسطين كلها.. أمل حماس هو تحرير الأرض من البحر إلى النهر. إمارة حماس هي هدية شارون للعالم العربي وهو يخرج من قطاع غزة".
ينتقد فندي المؤيدين لحماس في العالم العربي قائلا إن كثيرين "ممن هم خارج حدود فلسطين يؤيدون سيطرة حماس على الشارع الفلسطيني, ويصفقون لقيام إمارة حماس. ودائما ما أسأل نفسي: كيف يفكر هؤلاء؟". يهتدي فندي إلى تفسيرين لهذا السلوك الشاذ في نظره, الأول أن "هناك الكثير ممن هم في سن الأربعين, وأكبر ممن فاتهم قطار تحزيم أنفسهم بالمتفجرات, قد تضاءلت فرصتهم في أن يصبحوا انتحاريين, ولذلك نجدهم وهم في سن اليأس, يصفقون لأولاد الناس وهم يفجرون أنفسهم". التفسير الثاني أن كثيرين "ممن يحاولون ادعاء الثورية في أرذل العمر, مثل الرجال الذين تصيبهم أزمة منتصف العمر, فتجد بعضهم في سيارة حمراء جالسا إلى جوار فتاة شقراء في عمر بناته. الثوريون في آخر العمر وأرذله هم فئة قريبة من فئة مراهقة العواجيز والتصابي..". ويختم فندي تحليله الفذ بالقول إن قيام "إمارة حماس يعني شيئا واحدا مطابقا لمبدأ شارون في الانسحاب: غزة أولا وأخيرا.. إمارة حماس في غزة هي بداية تدخل خارجي, مثلما هي بداية حرب أهلية فلسطينية".
خاتمة
هناك عدة قواسم يشترك فيها كتاب صحيفة الشرق الأوسط, الذين تمت دراستهم هنا. من أبرز هذه القواسم الهجوم على المقاومة الفلسطينية, سيما التيار الإسلامي في هذه المقاومة. كل الكتاب دعوا صراحة إلى إخضاع فصائل المقاومة الفلسطينية, وقاموا بالتحريض عليها, وقد سفه القلاب استخدام صورايخ القسام لمهاجمة الإسرائيليين, وربط السلاح الاستشهادي بالإرهاب صراحة, بينما استخدم في المقابل وصف "الاستفزاز" للإشارة إلى العدوان الإسرائيلي. الراشد والقلاب انتقدا "عسكرة الانتفاضة", والجميع وصف العمليات الاستشهادية بالانتحارية, وروجوا المصطلحات الأميركية الرسمية المتعلقة بالمشهد الفلسطيني. لقد وضع الكتاب كلهم المقاومة الفلسطينية الإسلامية عمليا في خانة الإرهاب والتطرف.(/14)
في ما يتعلق بالموقف من الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات, فقد اشترك الجميع في توجيه سهام النقد لسياساته ومواقفه. الربعي طالبه بالاستقالة, والراشد دعا العرب إلى دعم القيادة التي خلفته, بدعوى انتفاء موانع مقاطعة القيادة الفلسطينية بعد رحيله. وقد هاجم ثلاثة من الكتاب, وهم الراشد والربعي وفندي موقف عرفات ورموز السلطة من تيري رود لارسن مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى الشرق الأوسط, وأيدوا ما جاء في تقرير لارسن عن وضع السلطة وأدائها.
الراشد والربعي هاجما الشيخ يوسف القرضاوي, لمواقفه الداعية إلى المقاومة في فلسطين والعراق, ووصفاه بالتطرف. كما رددا تقريبا التهم الأميركية الموجهة لسوريا, وحثاها على تفادي الاصطدام مع معطيات الواقع الجديد الذي فرضه الاحتلال الأميركي للعراق.
الراشد والربعي أيضا دعيا إلى دعم الحكومة العراقية المعينة من قبل الاحتلال. وبينما أثنى الراشد على ما سببه الاحتلال الأميركي من "انفتاح كامل" على الدين, أشاد القلاب "بديموقراطية" الاحتلال, لكنه حذر من جرعاتها الزائدة التي ربما غص بها الشعب العراقي, وناء بحملها.
كان هناك ربط بين المقاومة العراقية والإرهاب في خطاب الكتاب الأربعة, وقد انتقد الجميع حركة مقتدى الصدر, ووقف الراشد والربعي في صف الحكومة العراقية ضد هذه الحركة. ووقف الراشد والربعي تحديدا ضد مقاومي مدينة الفلوجة, ووصماهم بالتطرف. كما انتقدا (وشاركهما فندي) العرب السنة في العراق, لمقاومتهم الأميركيين, ورفضهم المشاركة في الانتخابات. وتعرض العلماء والدعاة السعوديون الذين أفتوا بوجوب نصرة أهل الفلوجة لانتقاد لاذع من قبل الربعي الذي وصفهم بالتحريض على العنف, والتغرير بالشباب.
اتسم خطاب الكتاب الأربعة بالتحريض والتهكم وضيق الصدر بالمختلف والآخر, واتهامه بالتطرف والإرهاب, والدعوة إلى إقصائه وتهميشه, واحتكار الحقيقة المطلقة, وتسفيه ثقافة المقاومة بوصفها تقافة للموت والعدمية والانتحار, والتنكر للهوية الإسلامية التي تلهب جذوة هذه المقاومة, وترسم خطها المستقل. يصدق على هؤلاء الكتاب, وهم أبرز كتاب الشرق الأوسط, وصف "كتاب المارينز" الذين يكتبون وفق إيقاع البنتاغون, ويتحدثون تقريبا بلغة واحدة, في صحيفة تزعم احتفالها بالتنوع, وتمثيل العرب كافة. هؤلاء الليبراليون الجدد لا ينطلقون في كتاباتهم من روح وطنية ولا قومية ولا إسلامية بالطبع, بل يصدرون عن الهوى الأميركي والصهيوني, وهذا ما يجعلهم دائما في الخندق المعادي للمقاومة مفهوما وثقافة وممارسة.
بهذه النتيجة تجيب هذه الورقة عن سؤالها اليتيم: هل أعمدة الرأي في صحيفة الشرق الأوسط تقف ضد نهج المقاومة وثقافتها في فلسطين والعراق؟ الجواب كما يكشف بجلاء طرح الكتاب الأربعة: نعم.
المصادر: أعداد من جريدة الشرق الأوسط, وأشير إلى تاريخ كل عدد داخل النص(/15)
صحة القلب
v احتشاء القلب هل من جديد ؟
v الوقاية من مرض شرايين القلب التاجية
v الحمى الروماتيزمية : هل يمكن حماية قلبك منها ؟
v ارتفاع ضغط الدم : القاتل الصامت
v خفقان القلب
v الكولسترول .. بين الوهم والحقيقة
v بطارية القلب
v ماذا بعد عمليات القلب الجراحية ؟ جديد
v الجنس والقلب جديد
v تدلي الصمام التاجي جديد
احتشاء ( جلطة ) القلب
هل من جديد ؟
الدكتور حسان شمسي باشا
لا يكاد يمر يوم إلا ويدخل وحدة العناية القلبية المركزة ، شاب في الثلاثينات أو الأربعينات من عمره ، وقد أصيب بجلطة ( احتشاء ) في القلب . وتخرب الجدار الأمامي أو السفلي من قلبه ، وحدث عطب في القلب قد يتحسن ولكن ربما لا يشفى منه تماما .
ومرض شرايين القلب الذي يصيب تلك الشرايين المغذية لعضلة القلب بالتضيق أو الانسداد ، هو القاتل الأول في أمريكا وأوروبا . وليس هذا فحسب ، بل إن ذلك الوباء الذي اجتاح العالم الغربي قد امتد إلينا ، وزاد انتشار هذا المرض في بلادنا العربية يوما بعد يوم ، حتى أصبح مرض العصر عندنا يصيب شبابنا ونساءنا ، يفتك بالبعض ، ويترك آخرين عرضة لمزيد من النوبات القلبية إذا لم يعالج معالجة حكيمة .
ويتظاهر مرض شرايين القلب التاجية بصورتين ، الأولى : وهي ما يسمى " الذبحة الصدرية " حيث يشكو فيها المريض من ألم عند القيام بجهد ما ، ويزول ذلك الألم عند التوقف عن الجهد ، والسبب في هذا عدم قدرة شرايين القلب تأمين كمية كافية من الدم لعضلة القلب أثناء الجهد بسبب تضيق في مجرى تلك الشرايين .
وأما الصورة الأخرى فهي ما يسمى بـ " جلطة ( احتشاء ) القلب " ، حيث يشكو المريض عادة من ألم شديد في منتصف الصدر يستمر عادة لأكثر من نصف ساعة ، ويترافق بتعرق شديد ، وغثيان وشحوب . والسبب في ذلك هو انسداد أحد شرايين القلب بخثرة مما يمنع وصول الدم تماما إلى جزء من عضلة القلب ، كان يروى بذلك الشريان ، وقد يتخرب هذا الجزء من العضلة تماما ما لم يعط المريض العلاج الذي يحل جلطة القلب في أسرع وقت ممكن بعد حدوث الألم الصدري ، أو يفتح ذلك الشريان المسدود بواسطة بالون خاص محمول على قسطار ، ويتم ذلك أثناء إجراء قسطرة قلبية فورية في الساعات الأولى من حدوث جلطة القلب . وقد لا يكون ذلك متوفرا إلا في مراكز قلبية محدودة .
ومن هنا كانت أهمية الإسراع لنقل المريض المصاب بجلطة القلب فورا إلى أقرب مشفى ، فكل دقيقة لها أهميتها عند ذلك المريض . ولعل البعض يتساءل ما هي أسباب تضيق أو انسداد شرايين القلب التاجية ؟
والحقيقة أن هناك عوامل هامة تهيئ لإصابة المرء بالذبحة الصدرية أو جلطة القلب . فالتدخين سبب رئيسي في إحداث هذا المريض ، وهو مسؤول عن كثير من حالات جلطة القلب خاصة عند الشباب . وارتفاع كولسترول الدم عامل هام جدا ، وارتفاع ضغط الدم غير المعالج أيضا يعتبر أحد أهم العوامل المهيئة لهذا المرض .
وهناك عوامل أخرى تساعد في إحداث هذا المرض وهي مرض السكر والبدانة وعدم القيام بنشاط بدني ، والتعرض للضغوط النفسية ، ووجود قصة لهذا المرض عند الوالدين أو الأخوة والأخوات ، وغيرها .
ولا تنتهي الحكاية عند هذا الحد ، فهناك أبحاث حديثة تلقي الضوء على عدد آخر من العوامل المسببة لهذا المرض .
فما هي تلك المستجدات ؟
هل الهوموسستين هو السبب ؟
ازداد اهتمام الباحثين حديثا بموضوع الهوموسستين ، ومدى علاقته بحدوث مرض شرايين القلب التاجية ، وخاصة في سن مبكرة من العمر ، وراح كثير من الناس في أمريكا يسألون الأطباء فحص مستوى الهوموسستين في دمائهم ، للتأكد من عدم وجود ارتفاع في مستواه .
والهوموسستين حمض أميني مشتق من تحطم حمض أميني آخر يدعى الميثيونين ، وهو حمض أميني طبيعي يوجد كوحدة بناء في كل بروتينات الغذاء . ويمكن له أن يدمر جدران الشرايين إذا ما سمح له بالتراكم فلي دم الجسم أو أنسجته .
ومن المعروف أن هناك مرض يدعى بيلة الهوموسستين Homocysteinuria ، وهو مرض وراثي نادر يرتفع فيه مستوى الهوموسستين إلى عشرة أضعاف معدله الطبيعي ، ويتميز المرض بتخلف عقلي خفيف ، وعدسات أعين في غير موضعها الطبيعي وقامة طويلة . ويترافق هذا المرض بحدوث تصلب مبكر في شرايين القلب التاجية وشرايين الدماغ والأطراف ، ويموت الكثير من هؤلاء المرضى في طفولتهم من جلطات في القلب أو في الدماغ . إلا أن الجديد في أمر الهوموسستين هو أن الدراسات العلمية الحديثة قد أثبتت أن الارتفاع المعتدل في مستوى الهوموسستين في الدم يزيد من خطر حدوث تصلب شرايين القلب و الدماغ والأطراف دون أن يكون هناك مرض " بيلة الهوموسستين " . فقد أكدت دراسة تحليلية نشرت في مجلة JAMA الأمريكية عام 1997 وشملت 27 دراسة طبية ، أن كل ارتفاع بمقدار 5 ميكرومول / ل في مستوى هوموسستين الدم يزيد خطر حدوث مرض شرايين القلب التاجية بنسبة تصل إلى 60 % عند الرجال ، و 80 % عند النساء .(/1)
وأكدت الدراسات العلمية أيضا أن ارتفاع مستوى الهوموسستين في الدم يتناسب عكسيا مع كمية حمض الفوليك وفيتامين ب6 وفيتامين ب12 المتناولة في الطعام .
ومن المؤكد أن العلاج بحمض الفوليك والفيتامين ب6 و ب12 يخفض مستوى الهوموسستين في الدم ، إلا أنه لا توجد في الوقت الحاضر دراسات تثبت أن مثل هذا العلاج يخفض احتمال حدوث مرض شرايين القلب .
وتوصي جمعية تصلب الشرايين العالمية بضرورة قياس مستوى الهوموسستين عند الذين يصابون بمرض شرايين القلب التاجية وهم في سن الشباب . كما ينبغي قياس مستواه عند المرضى الذين أصيبت شرايينهم بتصلب الشرايين وأوردتهم بجلطات في الأوردة .
هل الجراثيم هي السبب ؟
وجهت حديثا أصابع الاتهام إلى عدد من الجراثيم التي يظن الباحثون أنها ربما أن تكون متورطة في إحداث مرض شرايين القلب التاجية . ومن أِهر تلك الجراثيم المتهمة جرثومة
" هليكو باكتر " Helicobacter Pylori والتي يعتقد أنها تسبب قرحة المعدة أيضا .
وأكثرت بعض الدراسات ترافق تصلب الشرايين بالتهاب مزمن بهذه الجرثومة ، وبجرثومة أخرى تدعى " الكلاميديا " وبفيروس يطلق عليه اسم " Cytomegalovirus " ، كما أظهرت الدراسات وجود هذه الكائنات الحية في اللويحات التي تضيق شرايين القلب التاجية ، وعدم وجودها في شرايين القلب الطبيعية . ولا يعني هذا الترافق أن تكون هذه العوامل بالضرورة وراء حدوث تصلب الشرايين ، إلا أن الالتهاب المزمن بأحد هذه الجراثيم يمكن أن يحول اللويحة العصيدية المترسبة على جدار الشريان التاجي والمضيقة للشريان إلى لويحة غير مستقرة ، وهذا ما يؤدي إلى تمزق تلك اللويحة وحدوث جلطة القلب أو الذبحة الصدرية غير المستقرة Unstable Angina .
ويجرى حاليا عدد من الدراسات الكبيرة التي تبحث دور المضادات الحيوية في علاج جلطة القلب أو الذبحة الصدرية غير المستقرة . وحتى ظهور تلك النتائج نظل في حالة ترقب وانتظار ، فربما يأتي اليوم الذي تدخل فيه المضادات الحيوية علاج مرضى جلطة القلب .
ما هو دور الفيبرينوجين في الدم ؟
الفيبرينوجين هو أحد بروتينات البلازما . ويزيد الفيبرينوجين من لزوجة الدم ، وتجمع الصفيحات ، وتشكل جلطة في الشرايين .
وتؤكد الدراسات الحديثة أن ارتفاع مستوى الفيبرينوجين في الدم يعطي مؤشرا يتنبأ بحدوث مرض شرايين القلب عند الأصحاء ، أو نسبة الوفاة من جلطة القلب .
ولا يعرف حاليا فيما إذا كان خفض فيبرينوجين الدم يمكن أن يقلل من خطر حدوث مرض شرايين القلب أم لا .
وبانتظار نتائج الدراسات ، فإن إيقاف التدخين والقيام بتمارين رياضية منتظمة تؤدي إلى خفض حقيقي للفيبرينوجين في الدم ، وتقلل بالتأكيد من خطر حدوث مرض شرايين القلب .
هل ارتفاع التريغليسريد مهم ؟
يعتبر ارتفاع الدهون الثلاثية ( التريغليسريد ) في الدم عاملا هاما من العوامل الهيئة لحدوث مرض شرايين القلب التاجية . فقد أظهرت دراسة نشرت عام 1998 وشملت 46000 رجلا و 10000 امرأة أن كل زيادة في نسبة التريغلسريد في الدم بمقدار 1 ميليمول / ل تترافق بازدياد خطر حدوث مرض شرايين القلب بنسبة تصل إلى 37 % عند الرجال و 14 % عند النساء .
ما هو دور العوامل النفسية ؟
أظهرت دراسة حديثة نشرت في شهر مارس 2000 م أن التعرض المديد للضغوط النفسية يزيد معدل حدوث مرض شرايين القلب التاجية بنسبة تزيد عن الضعف .
وقد أظهرت دراسة White hall التي نشرت حديثا أن العوامل المعروفة المهيئة لمرض شرايين القلب من ارتفاع الكولسترول وارتفاع ضغط الدم والتدخين وربما لا تستطيع تفسير كل الوفيات الحادثة من مرض شرايين القلب
ومن المؤكد أن الضغوط النفسية تلعب دورا هاما في إحداث مرض شرايين القلب . والحقيقة أنه يصعب قياس الضغوط النفسية مثلما نقيس مستوى الكولسترول أو ضغط الدم . ومع ذلك فهناك دلائل قوية من خلال دراسات أجريت على الحيوانات ولإنسان تؤكد أن التعرض المديد للضغوط النفسية يحرض تطور مرض شرايين القلب .
وهناك دراسات أخرى تؤكد أن التعرض الحاد للضغوط النفسية يمكن أن يثير نوبة من نوبات القلب كجلطة القلب أو اضطراب حاد في نظم القلب .
هل السبب مورث خاص ؟
لا شك أن وجود قصة عائلية لحدوث جلطة في القلب عند الأب أو الأم أو أحد الأخوة والأخوات في سن ما قبل الخمسين من العمر يؤهب لحدوث مرض شرايين القلب .
وتتهم بعض الجينات بأن لها ارتباطا بحدوث مرض شرايين القلب عند الشباب ، مثل PIA2 وغيره ، ولكن الأمر يحتاج إلى مزيد من الدراسات قبل ثبوته .
هل لنقص التغذية عند الجنين دور هام ؟(/2)
أكدت عدد من الدراسات أن نقص وزن المولود يترافق بازدياد حدوث مرض شرايين القلب التاجية عند البالغين . وتبعا لفرضية Barker فإن نقص التغذية عند الجنين يمكن أن يؤدي إلى تغيرات وظيفية وتشريحية عند الجنين ، تزيد من تعرض الإنسان في المستقبل إلى عدد من الأمراض المزمنة كارتفاع ضغط الدم ، ومرض السكر ، ومرض شرايين القلب التاجية . وتثير هذه الفرضية عددا من المفاهيم الهامة في الوقاية من المرض ، وتؤكد أن الوقاية من الأمراض تبدأ قبل أن يخلق الإنسان في رحم أمه ، ويستمر حتى وفاته .
وهذا يعني أن صحة الحامل وتغذيتها أمر له تأثير بالغ على صحة الأبناء ويمكن أن تؤثر على صحة المجتمع لقرون عديدة تالية .
والخلاصة أنه إذا أردنا تجنب حدوث مرض شرايين القلب التاجية فعلينا التوقف عن التدخين فورا ، والالتزام بنظام غذائي سليم تقل فيه الدهون ، وتكثر فيه الخضراوات والفواكه ، والقيام بنشاط بدني منتظم كالسير السريع أو السباحة أو الجري بعد استشارة الطبيب إن لم يكن قد مارس ذلك من قبل ، وتخفيف الوزن ، ومعالجة ارتفاع ضغط الدم وارتفاع كولسترول الدم ومرض السكر معالجة حكيمة وبإشراف طبيب دقيق . فإذا ما فعلنا ذلك جنبنا أنفسنا ويلات ذلك المرض بإذن الله .
* * *
الوقاية من مرض شرايين القلب التاجية
الدكتور حسان شمسي باشا
يعتبر مرض شرايين القلب التاجية القاتل الأول في أمريكا وأوروبا . وللأسف الشديد يزداد حدوث هذا المرض في بلادنا ازديادا مريعا ، فأصبحنا نرى شبابا في الثلاثينات والأربعينات من عمرهم ، وقد أصيبوا بجلطة في القلب . فالتدخين ، والإفراط في الأكل ، والكسل ، وعدم الحركة ، والتعرض للضغوط النفسية الشديدة يهيء المناخ لمرض شرايين القلب التاجية .
ما هي شرايين القلب التاجية ؟
شرايين القلب التاجية هي الشرايين التي تغذي عضلة القلب ذاتها . فهناك شريانان تاجيان أساسيان يخرجان من الشريان الأبهر ( الأورطي ) ، ثم يتفرع الشريان التاجي الأيسر إلى فرعي .
ما هو مرض شرايين القلب التاجية ؟
يحدث هذا المرض نتيجة تضيق أو انسداد في الشرايين التاجية ، ويحدث ضيق الشريان بسبب تصلبه ، أي أن الشريان يفقد مرونته وتترسب فيه الدهون والألياف مما يعيق مجرى الدم . ويظهر المرض على صورتين : الذبحة الصدرية ، و جلطة القلب ( احتشاء عضلة القلب ) .
ما هي " الذبحة الصدرية " ؟
ويطلق هذا الاسم على الألم الصدري الذي يحدث عندما لا تستطيع عضلة القلب تأمين حاجتها من الأوكسجين ، نتيجة تضيق في شرايين القلب التاجية . ويحدث هذا الألم عادة خلال الجهد ، ويزول بتوقف المريض عن الجهد .
ما هي جلطة القلب ( احتشاء عضلة القلب ) ؟
تحدث جلطة القلب عندما يسد أحد الشرايين التاجية بجلطة ( خثرة ) ، فلا تسمح للدم بالمرور عبره. فيتخرب جزء من عضلة القلب كان يروى بذلك الشريان المسدود . وجلطة القلب هي القاتل الخفي الذي يقبع وراء كثير من حالات الموت المفاجئ التي تداهم الشخص وهو في أوج عافيته وصحته .
ما هي العوامل المسببة للإصابة بمرض شرايين القلب ؟
هناك مجموعة من العوامل المهيئة للإصابة بهذا المرض . ونطلق على هذه العوامل اسم " عوامل الخطر" Risk factors وتقسم هذه العوامل إلى :
1.عوامل لا يمكن التحكم فيها : كالعمر والجنس والوراثة .
2.عوامل يمكن التحكم فيها والسيطرة عليها : كالتدخين ، وارتفاع كولسترول الدم وارتفاع ضغط الدم ، ومرض السكر ، وعدم القيام بالرياضة البدنية ، والبدانة وغيرها.
وتتضاعف خطورة مرض شرايين القلب إذا كانت لدى المريض عدة عوامل مهيئة للمرض ، فإذا كنت مدخنا فإن خطر حدوث هذا المرض عندك هو ضعف ما هو عليه عند غير المدخنين . وإذا كنت في الوقت ذاته مصابا بارتفاع كولسترول الدم أيضا ، فإن الخطر يزداد إلى أربعة أضعاف .
وإذا كنت مدخنا ومصابا بارتفاع كولسترول الدم ، وارتفاع ضغط الدم ، فإن احتمال حدوث مرض شرايين القلب يصبح ثمانية أضعاف ما هو عليه عند الخالين من هذه الأمراض .
الذبحة الصدرية :
يحدث ألم الذبحة الصدرية غالبا خلف عظم القص في وسط الصدر . وكثيرا ما ينتشر الألم عبر الصدر أو إلى الذراعين ، وخاصة الذراع الأيسر . ويحدث الألم عادة عند الجهد ، ويزول بالراحة أو باستعمال حبوب النيتروغليسرين تحت اللسان .
كيف تشخص الذبحة الصدرية ؟
قد يطلب الطبيب عددا من الفحوص مثل تخطيط القلب الكهربائي ، واختبار الجهد على السير أو بالأشعة النووية . وقد يضطر الطبيب لإجراء القسطرة القلبية للتأكد من التشخيص .
كيف تعالج الذبحة الصدرية ؟
تعالج نوبة الذبحة الصدرية بحبوب النيتروغليسرين تحت اللسان . وتستعمل هذه الحبوب عند الحاجة . ولكن ينصح بعدم تناول أكثر من حبتين في الوقت نفسه .
وهناك عدد من الأدوية التي تستخدم في علاج الذبحة الصدرية كمركبات النترات مثل أيزورديل ، وحاصرات بيتا مثل التنورمين ، أو مضادات الكالسيوم كالأدالات والأملور وغيرها ، وإذا تكررت(/3)
الآلام ولم تستجب للعلاج فقد يحتاج المريض إلى توسيع للشريان التاجي بالبالون ، أو ربما عملية وصل شرايين القلب التاجية CABG .
وينبغي التأكيد على ضرورة التوقف عن التدخين ، وتخفيف الوزن ، ومعالجة ارتفاع ضغط الدم أو ارتفاع كولسترول الدم إذا وجد عند المريض .
جلطة القلب ( احتشاء عضلة القلب ) :
تحدث جلطة القلب حينما يسد أحد الشرايين التاجية بخثرة ( جلطة ) فلا تسمح للدم بالمرور عبره . فيتخرب جزء من القلب كان يغذى بهذا الشريان . فإذا كان هذا الجزء صغيرا فإنه يتطور إلى نسيج " ندبي " scar ، ويعود المريض تدريجيا لحياته العادية . أما إذا كانت مساحة الجزء المتموت واسعة ، أو كان مكان الإصابة هاما وحساسا فمن الممكن أن تحدث اختلاطات خطيرة .
كيف تشخص جلطة القلب ؟
يشكو المصاب بجلطة ( احتشاء ) القلب من ألم شديد جدا عبر الصدر ، وينتشر الألم عادة إلى الذراع الأيسر ، وقد يترافق بغثيان أو ضيق نفس أو إغماء .وقد يبدو المريض شاحبا ومتعرقا . ويحتاج تشخيص هذه الحالة إلى توثيق بواسطة تخطيط القلب الكهربائي وإجراء معايرة أنزيمات القلب في الدم .
كيف تعالج جلطة القلب ؟
ينبغي التأكيد على ضرورة نقل المريض المشتبه بإصابته بجلطة القلب إلى المستشفى بأسرع وقت ممكن. فكل دقيقة لها حساب عند مريض الجلطة القلبية . ووصول المريض إلى المستشفى بسرعة يزيد من فرص استعمال الدواء الحديث الذي يمكن أن يحل جلطة القلب . حيث أن الفائدة المرجوة من استعمال هذا الدواء تكون على أشدها في الساعات الأولى من بداية ألم الجلطة القلبية . ويعطى
المريض فورا حبة من الأسبرين ( ما لم يكن مصابا بقرحة في المعدة ) ومسكنات الألم كالمورفين .
ويدخل المريض إلى غرفة العناية القلبية المركزة حيث يوضع تحت الرقابة المكثفة لمدة 24 ساعة على الأقل .وقد يعطى المريض عددا من الأدوية مثل النيتروغليسرين بالوريد ، وحاصرات بيتا كالتنورمين
والهيبارين ، والكابتوبريل وأمثاله .
ويبقى مريض الجلطة في المستشفى حوالي 7 أيام . وقد يجرى اختبار الجهد قبل خروج المريض من المستشفى . وإذا لم يستطع المريض إكمال هذا الاختبار أو حدث ألم في الصدر فقد يفكر الطبيب بإجراء فحوص أخرى كالقسطرة القلبية .
هل يحتاج مريض الجلطة إلى علاج بعد خروجه من المستشفى ؟
معظم المرضى يحتاجون إلى دواءين أو أكثر . واستعمال الأسبرين وحاصرات بيتا كالتنورمين مثلا أمر روتيني في معظم الحالات للوقاية من حدوث جلطة أخرى .
متى يعود مريض الجلطة إلى حياته العادية ؟
إذا كانت الأمور كلها على ما يرام فإن المريض يزيد من نشاطه تدريجيا يوما بعد يوم . ولكن ينبغي تجنب الأعمال المجهدة في الأسابيع الستة الأولى بعد الجلطة . وإذا لم تكن هناك أية أعراض ، يمكن العودة إلى قيادة السيارة بعد 4 - 6 أسابيع ، وإلى المعاشرة الزوجية بعد حوالي 4 أسابيع كما يمكن العودة إلى العمل بعد حوالي 6 - 8 أسابيع .
هل فات الأوان ؟
سؤال يطرحه الكثيرون . والجواب قطعا : لا . فالأمل عظيم في أن يتمكن كل إنسان من التحكم في طريقة الحياة التي يحياها ف مواجهة عوامل الخطر . فلو تحكمت في واحد من هذه الأخطار خطوت خطوة لزيادة فرصتك في حياة أسلم . وإذا تحكمت بها جميعا ، يمكنك أن تقوم بهجوم مضاد لأولئك القتلة الصامتين لقلب الانسان .
كيف تقي نفسك من مرض شرايين القلب التاجية ؟
1) توقف عن التدخين :
فإذا كنت مدخنا ، فإن أيسر وأكثر الوسائل فعالية في حماية قلبك من حدوث جلطة ( احتشاء ) فيه هي أن تتوقف عن التدخين .
والحقيقة أن فوائد التوقف عن التدخين تبدأ منذ اليوم الأول الذي تقلع فيه عن التدخين . وبعد خمس سنين تقريبا من التوقف عن التدخين فإن احتمال حدوث مرض في شرايين القلب يصبح مساويا لمن لم يدخن في حياته قط . وتذكر أن التدخين يشمل الشيشة والسيجار والبايب فكلها تحتوي على مواد ضارة للصحة بنسب مختلفة . وتؤكد الاحصائيات أن تدخين السجائر ذات القطران أو النيكوتين لا تقلل من مخاطر الاصابة بأمراض القلب .
2) تناول غذاء صحيا :
فقد أكدت الدراسات أنه كلما زادت كمية الدهون المشبعة في الطعام زاد انتشار مرض شرايين القلب . والغذاء الغني بالدهون يرفع كولسترول الدم ، وبالتالي يحدث تصلبا في الشرايين . وبالمقابل فإن الغذاء الفقير بالدهون المشبعة ينقص الكولسترول ويوقف عملية تصلب الشرايين ، ويقلل من احتمال حدوث جلطة في القلب .
3) مارس نوعا من أنواع الرياضة البدنية :
فقد أكدت الدراسات الحديثة أن إجراء تمارين رياضية كالمشي السريع أو الجري أو ركوب الدراجة أو السباحة لمدة 20 - 30 دقيقة مرتين أو ثلاث مرات في الاسبوع يفيد في الوقاية من أمراض شرايين القلب .
والمشي السريع من أفضل أنواع الرياضة البدنية ، والأشخاص النشيطون جسديا يتمتعون بشرايين قلبية أوسع من الأشخاص الخاملين .
4) تجنب البدانة :(/4)
فالبدانة ترفع ضغط الدم وتؤهب لمرض السكر . ولا شك أن اتباع نظام سليم وممارسة الرياضة بانتظام تجعلك تحافظ على وزنك المثالي .
5) عالج ارتفاع ضغط الدم أو مرض السكري :
فلحماية قلبك من مرض الشرايين لا بد من السيطرة على ضغط الدم إن كان مرتفعا عندك ، ومعالجة مرض السكر بحكمة ودراية .
6) تجنب الانفعالات النفسية قدر الامكان .
ولا شك أن أفضل أساليب الوقاية التي تعود عليك بالفائدة المثلى هي تلك التي تؤثر في أطفالك ، فإذا كان غذاؤك قليل الدسم ، واتبعت بعض التمارين الرياضية بانتظام ،وامتنعت عن التدخين ، وكانت هذه العادات الصحية جزءا من حياتك اليومية في البيت ، فإن أطفالك سوف يترعرعون على هذه الأمور ....
===============
الحمى الروماتيزمية
هل يمكن وقاية قلبك منها ؟
الدكتور حسان شمسي باشا
قد يخفى على البعض أن التهاب البلعوم أو اللوزتين - إذا لم يعالج معالجة فعالة - يمكن أن يؤدي إلى إصابة القلب بكثير من المتاعب . فالحمى الروماتيزمية ما هي إلا ارتكاس مناعي يمكن أن يتلو التهاب البلعوم أو اللوزتين،بجرثوم يدعى المكورات السبحية ( streptococci ) . وتصيب الحمى الروماتيزمية المفاصل بالالتهاب ، كما قد تصيب عضلة القلب ، فتظهر أعراض فشل القلب . وإذا لم تعالج معالجة فعالة ، فقد يتلو ذلك - بعد سنين - إصابة صمامات القلب بالتليف والتسمك ، وما يعقبه من تضيق في صمامات القلب أو تسرب فيها . والحمى الروماتيزمية تصيب الأطفال عادة ما بين 5 - 15 سنة .
وفي الوقت الذي كادت تختفي فيه الحمى الروماتيزمية في أمريكا وأوروبا ، فإنها ما تزال تمثل مشكلة طبية كبيرة في بلادنا العربية من المحيط إلى الخليج ، وخاصة في المجتمعات الفقيرة ذات التغذية السيئة ، والتي تعيش في أماكن سكنية مكتظة وغير صحية .
وما تزال أمراض القلب الروماتيزمية أكثر أنواع أمراض القلب المكتسبة عند الأطفال واليافعين شيوعا في عالمنا العربي . وتعتبر سببا رئيسا من أسباب الوفيات والاختلاطات القلبية عند الأطفال في المملكة العربية السعودية .
وتشير الإحصائيات إلى أن ثلاثة أطفال من كل ألف طفل في المملكة يصاب بالحمى الروماتيزمية ، في حين تصيب خمسة أطفال من كل مئة ألف طفل في الولايات المتحدة وأوروبا واليابان . وهذا ما يثير فينا الدوافع لمحاربة هذا المرض والقضاء عليه .
ما هي الحمى الروماتيزمية ؟
تبدأ علامات الحمى الروماتيزمية عادة بعد أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع من التهاب البلعوم أو اللوزتين ، وقد تحدث بعد أسبوع واحد . وتسبب ارتفاعا في الحرارة وآلاما والتهابا وانتفاخا في عدد من المفاصل ، وتبدو المفاصل المصابة حمراء ، منتفخة ، ساخنة ومؤلمة عند الحركة . ويبدو المريض متعرقا وشاحبا . وعادة ما تختفي علامات الالتهاب في المفاصل بعد 24 - 48 ساعة . ولكن إذا لم تعالج الحالة تصاب مفاصل أخرى بالالتهاب.
وأكثر المفاصل إصابة هي مفاصل الرسغين والمرفقين والركبتين والكاحلين . ونادرا ما تصاب مفاصل أصابع اليدين أو القدمين .
وإذا كانت هجمة الحمى الروماتيزمية خفيفة فقد لا تبدو أية أعراض خاصة تشير إلى إصابة عضلة القلب . ولهذا فقد تمر الحالة دون تشخيص .
أما إذا كانت هجمة الحمى الروماتيزمية شديدة فتكون الأعراض أكثر وضوحا ، وقد يشكو المريض حينئذ من ضيق النفس عند القيام بالجهد ، أو حينما يكون مستلقيا في السرير . كما قد تظهر وذمة
( انتفاخ ) في الساقين .
وإذا لم تعالج نوبات الحمى الروماتيزمية أو تكرر حدوثها ، ازداد خطر حدوث إصابة في صمامات القلب ، حيث يحدث تليف وتسمك في صمامات القلب مما يؤدي إلى حدوث تضيق أو تسرب فيها.
وفي الغرب تحدث إصابة الصمامات بعد سنوات عديدة من نوبة الحمى الروماتيزمية ، أما في العالم الثالث ، فتحدث الإصابة القلبية بصورة مبكرة جدا .
كيف تعالج الحمى الروماتيزمية ؟
تعالج هجمة الحمى الروماتيزمية بالراحة التامة في الفراش إلى أن تختفي الحمى تماما ، ويعود عدد ضربات القلب وتخطيط القلب وسرعة التثفل إلى وضعها الطبيعي . ويعطى المريض حبوب الأسبرين ، وقد يحتاج الأمر إلى إعطاء حبوب الكورتيزون .
هل يمكن منع حدوث الحمى الروماتيزمية ؟
والجواب نعم . إذا ما عولج التهاب اللوزتين أو البلعوم الناجم عن المكورات السبحية معالجة صحيحة ، وهذا ما يسمى بالوقاية الأولية Primary Prevention .
كما يمكن وقف تطور الإصابة القلبية باستعمال البنسلين المديد عضليا وبشكل متواصل لمنع حدوث أية هجمات من الحمى الروماتيزمية، وهذا ما يسمى " الوقاية الثانوية " Secondary Prevention .
ما هي طرق الوقاية الأولية من الحمى الروماتيزمية ؟
من المعروف أن معظم حالات ألم البلعوم Sore throat يسببها أحد الفيروسات . إلا أن 10 - 20 % من الحالات يسببها نوع من الجراثيم تسمى المكورات السبحية ( streptococci ) .
والحقيقة أنه يصعبه التفريق بين التهاب البلعوم الفيروسي وبين النوع الجرثومي .(/5)
ولكن هناك بعض الأعراض التي ربما توحي بوجود سبب جرثومي لالتهاب البلعوم أو اللوزتين . وتشمل هذه الأعراض : حدوث الألم فجأة في البلعوم ، والصداع وارتفاع الحرارة وقد يترافق ذلك بألم في البطن وغثيان وإقياء .
وإن وجود عقد بلغمية أمامية في الرقبة ، ونتحات بيضاء على اللوزتين والبلعوم ، يثير الاشتباه بالسبب الجرثومي لالتهاب البلعوم .
كيف يمكن التأكد من وجود التهاب جرثومي في البلعوم ؟
يمكن التعرف على وجود سبب جرثومي لالتهاب البلعوم بأخذ مسحة من الحلق وزرعها في المختبر( مزرعة الجراثيم )
كما أن هناك فحص دم خاص يمكن من خلاله التعرف على حدوث إصابة بالمكورات السبحية .
وإذا كان هذا الاختبار إيجابيا ، أو كان الزرع الجرثومي إيجابيا ، فينبغي الاستمرار بالمضاد الحيوي لمدة عشرة أيام .
كيف يعالج التهاب البلعوم الجرثومي ؟
تعتبر معالجة التهاب البلعوم الجرثومي أهم خطوة في الوقاية الأولية لمحاربة حدوث الحمى الروماتيزمية.
وما زال البنسلين هو الدواء الأمثل في هذه الحالات . ويفضل إعطاء جرعة واحدة من البنسلين المديد Benzathin Penicillin بالعضل للأطفال الذين يشكون من التهاب البلعوم عندما يكون الزرع الجرثومي لمسحة الحلق إيجابيا .
ويمكن استخدام البنسلين عن طريق الفم ، أو الايرثرومايسين عند الذين لديهم حساسية للبنسلين لمدة 10 أيام .
وينبغي التأكيد على ضرورة الالتزام بهذه المدة ( 10 أيام ) حتى ولو اختفت الأعراض التي يشكو منها المريض خلال الأيام الأولى من تناول العلاج .
وليس للـ Ampicillin أو الـ Amoxil أية مزايا تفوق تأثير البنسلين في هذه الحالات .
كيف يمكن منع تكرر حدوث الحمى الروماتيزمية ومنع تطور الإصابة القلبية عند من أصيب أحد صمامات قلبه ؟
لا شك أن الطريقة المثلى لذلك هي بإعطاء البنسلين المديد Benzathin Penicillin بالعضل مرة كل 3 - 4 أسابيع باستمرار . ويمكن استعمال البنسلين عن طريق الفم أو sulfadiazine أو الايرثرومايسين عند من لديه حساسية للبنسلين .
ولكن استعمال الحبوب عن طريق الفم لسنوات يعتبر أقل فعالية في الوقاية من هجمات التهاب البلعوم الجرثومي . وإذا تمكنا من منع تكرر هجمات الحمى الروماتيزمية فإن 70 % من نفخات القصور التاجي(التسرب في الصمام التاجي ) ، و 27 % من نفخات القصور الأورطي تختفي تماما خلال 10 سنين ، ولا يحدث تضيق في الصمامات عندهم .
إلى متى يستمر إعطاء البنسلين المديد بالعضل ؟
ليس هناك اتفاق بين العلماء على المدة التي ينبغي الاستمرار فيها بإعطاء حقن البنسلين عضليا .
والحقيقة أن ذلك يعتمد أساسا على ما إذا كانت هناك إصابة قلبية بالحمى الروماتيزمية أم لا .
ففي حال وجود إصابة قلبية فينبغي استخدام البنسلين المديد بالعضل حقنة كل 3 أسابيع وربما مدى الحياة .
أما إذا لم تكن هناك إصابة قلبية فينبغي إعطاء البنسلين بالعضل كل 3 أسابيع لمدة 5 سنوات بعد هجمة الحمى الروماتيزمية أو ربما لأوائل العشرينات من العمر .
ومن الحكمة أن يقرر الطبيب المعالج تلك المدة الزمنية تبعا لحالة المريض وظروفه المعاشية واستجابته للمتابعة الطبية .
ولا يزال الأمل يحدونا في الحصول على لقاح ( vaccine ) لمنع حدوث الحمى الروماتيزمية في المستقبل القريب .
ماذا عن الحساسية للبنسلين ؟
تساور بعض المرضى مخاوف من حقنة البنسلين ، خشية حدوث تحسس للبنسلين عند المريض ، حتى أن تلك المخاوف حالت دون حصول المريض على معالجة فعالة لالتهاب البلعوم ، كما حالت دون إعطاء المريض وقاية كافية ضد الحمى الروماتيزمية ، ورغم أن الارتكاسات التحسسية للبنسلين قد تحدث عند بعض المرضى ، إلا أن ذلك أمر نادر الحدوث عند الذين يعطون البنسلين المديد عضليا كل 3-4 أسابيع . والارتكاس التحسسي ( كالطفح الجلدي مثلا ) يحدث عند حوالي 3 % من الناس . أما الصدمة التحسسية فتحدث عند 2 بالألف من الحالات فقط .
ومعظم هذه الحالات حدثت عند أطفال يزيد عمرهم عن 12 سنة . ولهذا فإن فوائد الوقاية من الحمى الروماتيزمية وأمراض القلب الروماتيزمية تفوق بكثير مخاطر الارتكاس التحسسي للبنسلين .
فقد أكدت الدراسات أن 90 % من الهجمات الأولى من الحمى الروماتيزمية يمكن منعها إذا ما استعمل البنسلين المديد بالعضل بصورة منتظمة .
أمراض صمامات القلب الروماتيزمية
ذكرنا أنه إذا لم تعالج الحمى الروماتيزمية معالجة فعالة ، ولم تتخذ إجراءات للوقاية منها ، فإن صمامات القلب قد تصاب بالتضيق أو القصور .
تضيق الصمام التاجي :
ينجم تضيق الصمام التاجي عادة عن إصابة الصمام بهجمة من الحمى الروماتيزمية . ونتيجة لهذا التضيق تتوسع الأذينة اليسرى التي تقع خلف الصمام التاجي ، وقد تحدث وذمة في الرئة ( تجمع سوائل في الرئتين ) نتيجة ارتفاع الضغط في الأذينة اليسرى من القلب .
والتضيق التاجي هو أكثر حدوثا عند النساء ، إذ تبلغ نسبة إصابة النساء به أربعة أضعاف ما هي عليه عند الرجال .(/6)
ولا تحدث أعراض المرض عادة في الغرب إلا بعد سنين مديدة من الإصابة بالحمى الروماتيزمية . ولكن ، للأسف الشديد ، نجد في بلادنا العربية حدوث هذه الأعراض في سن مبكرة جدا . وكثيرا ما نشاهد ذلك في العقد الثاني أو الثالث من العمر .
وأول الأعراض عادة حدوث ضيق في النفس عند الجهد ، ما يلبث أن يزداد بازدياد التضيق في الصمام ، فيحدث عند القيام بجهد أقل . وفي النهاية قد يحدث ضيق النفس أثناء الراحة . كما قد يشكو المريض من الخفقان ، وقد يحدث ما يسمى بالرجفان الأذيني ( وفيه يدق القلب ضربات سريعة وغير منتظمة ) .
ويتم تشخيص المرض بالقصة المرضية ، وبإصغاء القلب ، وببعض الفحوص كتخطيط القلب الكهربائي ، وصورة الصدر الشعاعية . إلا أن الفحص الدقيق والمؤكد للتشخيص هو تخطيط القلب بالأمواج فوق الصوتية ( الايكو ) .
أما العلاج ، فقد تعطى المدرات البولية والديجوكسين عند حدوث الأعراض . وإذا استمرت الأعراض فينبغي التفكير بضرورة توسيع الصمام بالبالون أو إجراء عملية جراحية يوسع فيها الصمام ، أو قد يحتاج الأمر إلى تبديل الصمام .
وينبغي التأكيد على ضرورة إعطاء المضاد الحيوي قبل إجراء أية معالجة سنية أو عملية جراحية لمنع حدوث التهاب في شغاف القلب .
قصور الصمام التاجي :
ويطلق عليه بالعامية " تهريب " أو " تسريب " في الصمام التاجي . ومن المعروف أن الدم يسيل في الحالة الطبيعية باتجاه واحد من الأذينة اليسرى إلى البطين الأيسر فالأبهر ( الشريان الأورطي ) . ولكن عندما يحدث قصور في الصمام التاجي يعود قسم من الدم الذي وصل إلى البطين الأيسر ثانية
إلى الأذينة اليسرى . أي أن الصمام الذي ينبغي أن يكون محكم الإغلاق يسمح برجوع الدم نتيجة عدم إغلاقه بشكل تام .
وبسبب عودة الدم إلى الأذينة اليسرى أثناء انقباض القلب ، فإن على القلب أن يعمل بجد أكبر حتى يتخلص من هذا الدم الراجع . وفي النهاية قد يحصل ما يسمى بفشل القلب ( هبوط القلب ) .
وأكثر أسباب القصور التاجي شيوعا هي الحمى الروماتيزمية . إلا أن هناك أسبابا أخرى منها " تدلي الصمام التاجي " ، وجلطة القلب ، وتوسع الصمام بسبب تضخم البطين الأيسر وغيرها .
أما عن الأعراض التي يشكو منها المريض ، فأهمها ضيق النفس والإعياء ، وقد يحدث الخفقان . وهناك اختلاط قليل الحدوث هو التهاب شغاف القلب . ويشخص المرض بالقصة السريرية وبإصغاء القلب ، ويحتاج الأمر إلى صورة شعاعية للصدر وتخطيط قلب كهربائي . ولكن التشخيص الدقيق يكون بإجراء تصوير القلب بالأشعة فوق الصوتية ( الايكو ) . وقد يحتاج الأمر في بعض الحالات إلى إجراء القسطرة القلبية ، وخاصة حينما يعزم الطبيب على إجراء عمل جراحي . ويصف الطبيب المدرات البولية ومثبطات أيس عندما يشكو المريض من ضيق النفس كما يوصف الديجوكسين أحيانا لزيادة تقلص عضلة القلب وتنظيم ضربات القلب . وقد توصف مسيلات الدم )المميعات الدموية) لمنع تشكل خثرة في الأذينة اليسرى .
وينبغي التأكيد على ضرورة إعطاء المضاد الحيوي قبل إجراء أية معالجة سنية أو عملية جراحية لمنع حدوث التهاب شغاف القلب .
وإذا كانت الحالة الشديدة فقد يحتاج المريض إلى إجراء عملية جراحية لإصلاح الصمام أو تبديله .
تضيق الصمام الأبهري ( الأورطي ) :
وهو عبارة عن تضيق في فتحة الصمام الأبهري ، والذي يمر من خلاله الدم إلى أنحاء الجسم . وحدوث تضيق في هذا الصمام يعيق جريان الدم عبره ، مما يجعل القلب يعمل بصورة أشد ، وهذا ما قد يؤدي إلى حدوث تسمك في عضلة القلب .
وأهم أسباب هذا التضيق : إصابة الصمام بالحمى الروماتيزمية ، أو توضع الكالسيوم على الصمام
( خاصة عند المسنين ) . كما قد يكون سببه عيبا خلقيا .
وقد لا يؤدي تضيق الصمام الأبهري إلى أية أعراض . وقد يكتشفه الطبيب صدفة أثناء فحص طبي ، حيث يسمع صوت نفخة ( لغط ) في القلب .
وقد يشكو المصاب من ألم صدري أو ضيق في النفس ، أو نوبات من الإغماء أو وهن عام .
وقد تبدي صورة الصدر الشعاعية علامات تضخم في القلب ، أو تكلس في موضع الصمام . كما قد يظهر تخطيط القلب الكهربائي علامات تسمك في عضلة القلب . ولكن التشخيص الأكيد يوضع بواسطة تصوير القلب بالأشعة فوق الصوتية ( الايكو ) والدوبلر ، حيث يعطى هذا الفحص فكرة واضحة عن شدة التضيق في الصمام ، وحركة الصمام ، وسماكة عضلة القلب .
وإذا تبين للطبيب وجود تضيق شديد في الصمام الأبهري ، أوصى بإجراء قسطرة قلبية ، وخصوصا عند من هم فوق الأربعين من العمر ، للتأكد من شدة التضيق ، والتأكد من عدم وجود إصابة في شرايين القلب التاجية ، وذلك قبل إجراء عملية تبديل الصمام .
أما إذا كان التضيق خفيفا ، أو متوسط الشدة ، فإن المريض يحتاج إلى متابعة دقيقة ، وإجراء فحص الايكو من حين لآخر ، للتأكد من عدم حدوث أي تطور في شدة تضيق الصمام .(/7)
ولا بد من التذكير أن المريض المصاب بمرض صمامات القلب يحتاج إلى مضاد حيوي قبل المعالجة السنية ، أو العمليات الجراحية .
قصور الصمام الأبهري ( الأورطي ) :
وهو عبارة عن تسرب في الدم عبر الصمام الأبهري ، فيعود الدم إلى البطين الأيسر ، والذي هو الحجرة الأساسية التي تضخ الدم إلى الجسم .
ويحدث تسرب الدم عبر الصمام الأبهري نتيجة عدم قدرة الصمام على الانغلاق بشكل سليم . وقد يكون هذا خلقي المنشأ ، أو يكون نتيجة الحمى الروماتيزمية ، أو التهاب في الشريان الأبهر أو التهاب شغاف القلب . وهناك أيضا أسباب أخرى نادرة . وقد يترافق تصلب الشرايين بقصور الصمام الأبهري وتضيق هذا الصمام أيضا .
وقد لا يؤدي قصور الصمام الأبهري إلى أية أعراض ، فقد تكتشف الحالة أثناء فحص طبي لسبب آخر . فيسمع الطبيب صوت نفخة ( لغط ) في القلب .
ونتيجة لتسرب الدم إلى البطين الأيسر ، يقوم هذا البطين بالعمل بصورة أقوى ، مما قد يؤدي في النهاية إلى توسع في البطين الأيسر وتسمك في عضلته . وهذا ما قد يؤدي إلى هبوط ( فشل ) القلب الأيسر . وحينئذ يشكو المريض من ضيق في النفس ، والوهن العام . وقد تحدث وذمة في الرئة نتيجة احتقانها بالسوائل .
وقد تبدي صورة الصدر الشعاعية تضخما في القلب ، وازديادا في عرض الشريان الأبهري . أما تخطيط القلب الكهربائي فقد يبدي علامات تسمك في القلب الأيسر .
ويظهر تصوير القلب بالأشعة فوق الصوتية ( الايكو ) والدوبلر وجود تسرب في الصمام الأورطي وحركة الصمام ، وسماكة البطين الأيسر وحجمه .
أما القسطرة القلبية فيحتاج إليها أحيانا لتحديد شدة القصور في الصمام ، حيث تحقن مادة ظليلة في القلب عبر قثطار يدخل عن طريق الشريان الفخذي عادة ، وتؤخذ صورة شعاعية للقلب .
وإذا اشتكى المريض من أعراض فشل ( هبوط القلب ) أعطي المدرات البولة و " مثبطات أيس " والديجوكسين . وإذا ما كان قصور الصمام شديدا نصح الطبيب بوجوب إجراء عملية تبديل الصمام. وكما هي الحال في أمراض صمامات القلب ، فينبغي إعطاء المضاد الحيوي قبل المعالجات السنية أو العمليات الجراحية .
=============
ارتفاع ضغط الدم ..
القاتل الصامت
الدكتور حسان شمسي باشا
ارتفاع ضغط الدم مرض شائع جدا ، يصيب 10 – 20 % من البالغين في العالم . وتكمن أهمية المرض في أنه يزيد خطر الإصابة باختلاطات قلبية ، أو بالسكتة الدماغية إذا أهمل ولم يعالج معالجة صحيحة .
فالمصابون بارتفاع ضغط الدم أكثر تعرضا من سواهم لهبوط القلب ( قصور القلب ) أو حدوث جلطة في القلب ، أو فشل في الكلى ، أو السكتة الدماغية .
أما إذا ما عولج الضغط المرتفع معالجة فعالة وتمت السيطرة عليه بنجاح ، فإن الصورة تصبح أكثر إشراقا وأشد وتفاؤلا. فالمعالجة الفعالة لارتفاع ضغط الدم تمنع حدوث اختلاطات هذا المرض . ولكن ينبغي اكتشاف هذا المرض في مرحلة مبكرة ، وهذا يقتضي إجراء قياس ضغط الدم بشكل منتظم .
وكثير من مرضى ارتفاع ضغط الدم لا يعرف أنه مصاب بهذا المرض ، لأن معظم المصابين لا يشعر بالمرض ولا يشكو ألما ولا وهنا .
وقد لا تظهر أعراض ارتفاع الضغط إلا حين يتفاقم المرض . وقد يشكو المصاب بارتفاع الضغط من الصداع في الصباح عادة ، أو الشعور بالتعب والإعياء ، أو الدوخة أو الرعاف .
وللأسف الشديد فإن كثيرا من الناس لا يدرك أهمية هذا المرض ، ففي دارسة أجريت في الولايات المتحدة تبين أن 18 % من المصابين بارتفاع ضغط الدم يعرف أن ذلك المرض هو أحد الأسباب الرئيسة لمرض شرايين القلب ، وواحدا بالمائة يعرف أن السيطرة على ضغط الدم هو إجراء وقائي ضد مرض شرايين القلب .
وهناك معتقدات خاطئة عند بعض الناس حول ارتفاع ضغط الدم ، فالبعض يظن أن ارتفاع الضغط مشكلة عابرة يمكن الشفاء منها بتناول الدواء لفترة محددة ، ويتوقف عن تناول الدواء عندما يشعر بالتحسن . والبعض يظن أنه لا داعي لقياس ضغط الدم طالما أنه لا يشكو من أية أعراض .
وآخرون يظنون أن ارتفاع ضغط الدم هو حالة عابرة من حالات التوتر العصبي ، ويعتقد البروفيسور " كابلان " - وهو من أشهر الباحثين في العالم في موضوع ضغط الدم – أن معظم حالات فشل العلاج الدوائي تنجم عن عدم تعاون المريض مع الطبيب ، وعدم تعاطي العلاج بانتظام .
وينبغي التأكيد على مريض ارتفاع الضغط بوجوب مراجعة الطبيب بانتظام لقياس ضغطه وتحديد خطة العلاج .
ومشكلة عدم تناول العلاج بانتظام مشكلة شائعة ، تصيب حتى الأطباء أنفسهم . ويقول البروفيسور كاري :
" لقد كان سلفي في العمل طبيب قلب شهير ، وكان يعاني من ارتفاع حاد في ضغط الدم ، ومع ذلك كثيرا ما كان ينسى تناول الدواء ، ومات ذات يوم نتيجة أحد اختلاطات هذا المرض " .
ولكي يتناول مريض ارتفاع الضغط دواءه في كثير من الأحيان مدى الحياة ، ينبغي أن يكون على قناعة تامة بأن التشخيص صحيح أولا ، وأن يعرف أن إهمال المرض سيؤدي في كثير من الحالات إلى مشاكل لا تحمد عقباها .(/8)
ولهذا ينبغي على المريض أن يتعلم كيف يتعايش مع هذا المرض طيلة حياته . وإن اتباع نظام غذائي معقول ، وتخفيف الوزن ، وتخفيف ملح الطعام ، والقيام بتمارين رياضية كالمشي – مثلا – يجعل الأمل كبيرا جدا في أن يعيش المريض حياة عادية دون أية مشاكل أو اختلاطات ، وقد يتطلب الأمر تناول دواء أو أكثر مدى الحياة .
فإذا كنت أحد ملايين الناس المصابين بارتفاع ضغط الدم ، فلا تنظر إلى ذلك نظرة سوء ، واحمد الله أن هذا المرض قد اكتشف في مرحلة مبكرة ، وأنه يمكن السيطرة على ارتفاع ضغط الدم .. في حين هناك ملايين من الناس لا يعرفون أنهم مصابون بهذا المرض .
ورغم كل التطورات العلمية ، فإننا لا نعرف سبب ارتفاع ضغط الدم في 90 – 95 % من الحالات . أما باقي الحالات فتنجم عن أسباب كلوية أو غدية ، أو عن تناول بعض الأدوية كحبوب منع الحمل والكورتيزون .. وغيرهما
وهناك بعض العوامل التي يبدو أن لها علاقة بارتفاع الضغط ، فإذا كان أحد الأبوين مصابا بارتفاع ضغط الدم ، فمن المحتمل إصابة أي من أولادهما به . وارتفاع ضغط الدم شائع عند البدينين ، كما إن الإفراط في تناول ملح الطعام يزيد من ضغط الدم .
وصايا لمرضى ارتفاع ضغط الدم
1. لا داعي لإجراء تغيير جذري في مسلك حياة المصابين بارتفاع الضغط ، إذا يمكن للمصاب بهذا المرض أن يحيا حياة طبيعية تماما ، فهو قادر على الاستمرار في مزاولة أعماله ، والقيام بنشاط رياضي معتدل ، وهو مرض لا يدعو إلى الحد من نشاط المصابين به ، إنما يتطلب فقد بعض الحذر .
2. كثير من حالات ارتفاع ضغط الدم الخفيف تستجيب للعلاج غير الدوائي الذي يشمل إنقاص الوزن ، وتخفيف الملح ، والقيام بتمارين رياضية بانتظام ، والامتناع عن التدخين ، ولكن ينبغي أن يتم ذلك تحت إشراف الطبيب .
3. ينبغي أن يعرف المصاب بارتفاع ضغط الدم أن علاجه طويل الأمد ، ويتوقف إلى حد كبير على تفهمه لإرشادات الطبيب وتقيده بها . وإذا ما ابتع المريض الإرشادات بدقة قل خطر هذا المرض كثيرا ، أما إذا أهمل الإرشادات عرض نفسه لمخاطر ارتفاع ضغط الدم غير المعالج .
4. إذا كنت مدخنا فتوقف عن التدخين .
5. إنقاص الوزن مفيد في خفض ضغط الدم ، فحاول التخلص من البدانة إن كنت بدينا .
6. لا تضع الملح على طاولة الطعام ، وخفف كمية الملح في الطعام المطهي ، وتجنب الأطعمة الغنية بالملح ، وتناول غذاء غنيا بالبوتاسيوم .
7. قم بتمارين رياضية منتظمة ( ثلاث مرات في الأسبوع مثلا ) ولمدة نصف ساعة ، وأفضل تلك التمارين المشي السريع أو السباحة .
8. وتجنب رفع الأثقال أو أعمال الشد و الدفع ، فهي تزيد من ضغط الدم .
للمزيد من التفاصيل راجع كتابنا بعنوان " ارتفاع ضغط الدم : الأسباب .. الأعراض .. العلاج .. "
وهو من إصدار دار البشير بجدة ، هاتف وفاكس : 6608904
==============
خفقان القلب
الدكتور حسان شمسي باشا
خفقان القلب عرض شائع لا يكاد يخلو منه إنسان في فترة من الفترات . وهو الشعور بضربات القلب ، أو الإحساس بوجود ضربات سريعة وقوية في القلب .
ويحدث الخفقان عادة عقب القيام بجهد عنيف ، أو في حالات الانفعال الشديد ، أو عند التعرض لخوف مفاجئ ، أو عند رؤية المحبوب ... ولكن حدوث الخفقان أثناء الراحة ، وحين يكون المرء هادئ المزاج يثير قلق المريض . والحقيقة أن أكثر أنواع الخفقان شيوعا هو حدوث ضربات قلب مبكرة ( أي أنها أتت قبل موعدها ) ، ويعقب ذلك فترة سكون قصيرة ، يشعر فيها المرء وكأن قلبه قد توقف ، ثم يعود القلب لضرباته العادية .
ويحس المرء حينئذ برفة في القلب ، وكأنه شعور الإنسان عندما يهوي من مكان عال ، أو حين يهبط به المصعد فجأة وبسرعة .
والشعور بهذه الضربات المبكرة لا يعني ، في أكثر الحالات ، وجود مرض في القلب . وكثيرا ما تحدث عند الإفراط في تناول القهوة والشاي ، أو بعد شرب الخمر أو الإكثار من التدخين .
ولا يكاد يمر يوم إلا وأشاهد في عيادتي شبابا أو فتيات يشكين من الخفقان ، وكثير من هؤلاء من يفرط في شرب القهوة أو الشاي ، كمن يشرب إبريقين من الشاي في اليوم أو أكثر ، ثم يتناول الأدوية المنظمة لضربات القلب . وكثيرا ما يكون حل المشكلة ، لا في الدواء ، بل في التخفيف من شرب القهوة والشاي .
ولكن .. قد ينجم الخفقان عن اضطراب في نظم القلب ، كحدوث تسرع في القلب ، عندما تزيد ضربات القلب فوق 100 ضربة في الدقيقة . وقد يكون هذا التسرع منتظما أو غير منتظم .
ويشخص سبب الخفقان بتخطيط القلب الكهربائي ECG وتسجيل ضربات القلب لمدة 24 ساعة بواسطة جهاز تسجيل خاص يحمله المريض في بيته أو عمله . كما ينبغي إجراء فحص دم خاص للتأكد من عد وجود مرض في الغدة الدرقية .
ونصيحة للذين يشكون من الخفقان أن يخففوا من القهوة والشاي والكاكاو والكولا ( بيبسي كولا أو كوكا كولا وأشباهها ) ، وأن يتوقفوا عن التدخين فورا .
============
الكولسترول .. بين الوهم والحقيقة(/9)
الدكتور حسان شمسي باشا
تؤكد الأبحاث العلمية الحديثة أن ارتفاع كولسترول الدم هو أحد العوامل الرئيسة التي تؤدي إلى تصلب الشرايين في الجسم ، وما ينجم عن ذلك من ذبحة صدرية أو جلطة في القلب أو سكتة في الدماغ . ولا صحة للأوهام التي تصدر من حين لآخر بأن انخفاض الكولسترول يزيد من سرطان القولون أو من السكتة الدماغية .
فما هو الكولسترول ؟
الكولسترول مادة دهنية توجد في خلايا أجسام الحيوانات والإنسان . وهو ضروري لقيام الجسم بوظائفه العادية ، ويدخل في تركيب عدد من الهرمونات . وهناك نوع آخر من الدهون في الدم يدعى : " الغليسريدات الثلاثية "
( التريغلسريد ) .
ما هي أسباب ارتفاع دهون الدم ؟
ينجم ارتفاع دهون الدم في الغالب عن إفراطنا في تناول الدهون في الطعام . ولكن هناك بعض الحالات التي تنجم عن خلل وراثي ، أو بسبب مرض آخر كقصور الغدة الدرقية ، ومرض السكر وشرب الخمور والتناذر الكلوي وغيرها .
هل هناك كولسترول ضار و كولسترول مفيد ؟
نعم . هناك نوعان من الكولسترول في الدم . الأول " ضار " ويدعى ( LDL ) ، وهو المسؤول عن ترسب الدهون في جدران الشرايين . وكلما زاد مستواه في الدم زاد خطر حدوث تضيق في شرايين القلب التاجية .والآخر " مفيد " ويدعى ( HDL ) ، وهو يكنس الشرايين من الكولسترول الزائد ويطرحه خارج الجسم عن طريق الكبد . وكلما ارتفاع هذا النوع الأخير قل احتمال إصابة الإنسان بتضيق في شرايين القلب .
متى نقول بأن الكولسترول مرتفع في الدم ؟
تقرر الهيئات الطبية العالمية أن المستوى الطبيعي لكولسترول الدم هو ما دون 200 ملغ % ( 5.2 ميلي مول / ل )
ويمكن التعرف على مستوى الدم عندك بإجراء فحص مخبري للدم ، أو بأخذ قطرة من الدم وفحصها بجهاز خاص .
وإذا كان مستوى عندك مرتفعا ، فعليك باستشارة الطبيب الذي سينصحك بالتزام حمية قليلة الدهون ، وبممارسة رياضة منتظمة كالمشي السريع مثلا ، وربما احتاج الأمر إلى إعطائك دواء خافضا لكولسترول الدم .
الوصايا العشر للمصابين بارتفاع الدهون والكولسترول :
1- الابتعاد عن السمن الحيواني والبلدي والزبدة والكريمة والقشدة ، ويسمح باستعمال السمن المصنوع من زيت الذرة والمازولا في الطبخ .
2- يفضل استخدام زيت الزيتون أو زيت الذرة وزيت دوار الشمس في طهي الطعام أو تضاف للسلطات . ويفضل تجنب زيت النخيل .
3- أفضل أنواع اللحوم والسمك والدجاج بدون جلد ، وينصح بالإقلال من اللحوم بشكل عام وتجنب الدهون في اللحوم ، ويفضل أكل اللحم مشويا أو مسلوقا ( وليس مقليا ) ، وينصح بتجنب الأطعمة المقلية بشكل عام .
4- الابتعاد عن صفار البيض والجمبري والاستاكوزة والمخ والكبد والكلاوي ، ويسمح ببيضة واحدة أو بيضتان في الأسبوع ، أما بياض البيض فمسموح به .
5- ينصح بالاعتدال في تناول الحليب أو اللبن قليل الدسم والجبن قليل الدسم . أما الحليب المقشور ( skimmed milk ) والجبن منزوع الدسم ، فيمكن تناولها دون قيود .
6- ينصح بتجنب الحلويات العربية والكنافة والبقلاوة والكاتو ( الكيك ) والتورتات والحلويات الأفرنجية والشوكولاته والآيس كريم والكريمات .
7- ينصح بالقليل من المكسرات ( peanuts ) مثل الفول السوداني والفستق والبندق لأنها تحتوي على زيوت غير ضارة ، ولكنها غنية جدا بالسعرات الحرارية .
8- ينصح بتناول الخبز الأسمر ( ولو كان رقيقا ) ، والإكثار من الخضار والفواكه والاعتماد على النشويات مثل البطاطس والقمح
( الجريش والفريك ) والمعكرونة بدلا من الاعتماد على الدهون .
9- ينصح بممارسة رياضة المشي السريع لمدة 20 - 30 دقيقة يوميا أو 3 - 4 مرات أسبوعيا على الأقل ، وذلك بعد استشارة طبيب القلب .
10- ينصح بتخفيف الوزن والوصول إلى الوزن المثالي قدر الإمكان .
متى ينصح باستعمال دواء خافض للكولسترول :
ينصح باستعمال دواء خافض للكولسترول :
1. إذا فشلت الحمية الغذائية في السيطرة على كولسترول الدم وإعادته إلى المستوى الطبيعي .
2. ينصح بالبدء باستعمال دواء خافض للكولسترول مع الحمية – إذا كان مستوى الكولسترول مرتفعا – عند المصابين بمرض في شرايين القلب كالذبحة الصدرية أو جلطة القلب ، أو عند الذين أجري لهم توسيع للشرايين التاجية بالبالون ، أو عند الذين أجريت لهم عملية وصل شرايين القلب . ويهدف العلاج الدوائي في تلك الحالات إلى خفض مستوى الكولسترول الضار ( LDL ) إلى ما دون 100 ملغ % ( 2.6 ميلي مول / ل )
3. ولا يجوز ترك مستوى الكولسترول مرتفعا عند هؤلاء المرضى بشكل خاص كي نمنع عودة حدوث جلطة في القلب أو تضيق في الشرايين التاجية .
هل هناك أدوية فعالة تخفض مستوى كولسترول الدم ؟(/10)
نعم . فقد أثبتت مجموعة من الأدوية تدعى ( Statins ) فعاليتها في خفض كولسترول الدم ، وأثبتت الدراسات العلمية الحديثة التي شملت أكثر من 30.000 مريض أن هذه الأدوية قادرة على خفض احتمال عودة جلطة في القلب ، وعلى الإقلال من نسبة الوفيات ، عند المرضى المصابين بمرض في شرايين القلب التاجية .
ومن هذه الأدوية حسب التسلسل الهجائي :
1. Atorvastatin ( Lipitor )
2. Fluvastatin ( Lescol )
3. Pravastatin ( Lipostat )
4. Simvastatin ( Zocor )
للمزيد من التفاصيل راجع كتابنا : " الدهون والكولسترول والقلب " و " قلبك بين الصحة والمرض "
وهما من منشورات دار البشير بجدة ، هاتف وفاكس 6608904 ، ودار القلم بدمشق
=============
بطارية القلب
وهي عبارة عن جهاز صغير يزن 30 جراما أو أقل ، ويوضع تحت الجلد في أعلى الصدر، ويزود القلب بنبضات كهربائية عند الحاجة ليحافظ على معدل طبيعي لضربات القلب .
مم تتكون بطارية القلب ؟
1.مولدة للنبضات الكهربائية ، وهي الجزء الرئيسي من البطارية ، وهي التي تغرس تحت الجلد أعلى الصدر
2. أسلاك كهربائية تصل المولدة ، عبر الوريد ، بالقلب ( إلى البطين الأيمن ) .
ماهي البطارية المؤقتة ؟ قد تترافق " جلطة القلب " بحصار تام في القلب ، فتبطؤ الضربات ، ويحتاج الأمر إلى بطارية مؤقتة تؤمن للقلب العدد الطبيعي من الضربات . وتعلق هذه البطارية بحزام يحمله المريض ، وتوصل إلى القلب بواسطة سلك يمر عبر الوريد . وتزال هذه البطارية عادة بعد أيام أو أكثر حين يعود نظم القلب إلى وضعه الطبيعي . أما البطارية الدائمة فتغرس تحت الجلد في أعلى الصدر كما أسلفنا .
ما هي أنواع بطاريات القلب ؟
تصمم بطارية القلب بشكل تستطيع فيه مراقبة نظم القلب ، والاستجابة لأي بطء في القلب بتزويد القلب بضربات إضافية تصنعها البطارية وتحافظ على معدل الضربات الذي وضعت عليه وهو 70 ضربة في الدقيقة عادة . فإذا ما انخفض عدد ضربات القلب إلى مادون 70 ضربة في الدقيقة انطلقت من البطارية نبضات كهربائية لتحافظ على هذا المعدل المقرر سابقا . غير أن هناك من البطاريات ما تجاري حاجة الجسم ، فيتغير معدل الضربات حسب الحاجة . فإذا ما قام الإنسان بجهد ما زادت البطارية من عدد ضرباتها . ومن البطاريات ما يراقب الأذين والبطين ، فإذا ما قل عدد ضربات أي منهما قامت البطارية بتأمين المزيد من الضربات لتحافظ على المعدل المقرر لضربات القلب . وهذا ما يسمى بالبطارية الفيزيولوجية أو بطارية الحجرتين Dual chamber ، ويقصد بالحجرتين الأذين والبطين .
وهناك حاليا أجهزة متطورة لا تعمل كبطارية فحسب ، بل إنها تراقب حدوث اضطرابات خطيرة في نظم القلب ، فتعيده إلى وضعه الطبيعي وتسمى هذه الأجهزة بـ " جهاز الصدمة القلبية الأوتوماتيكي المزروع Automatic Implantable Cardioverter Device " ويشار إليها اختصارا بالأحرف A.I.C.D وتوضع هذه الأجهزة في مراكز متخصصة وهي باهظة الثمن . وتحتاج إلى متابعة دقيقة .
من يحتاج إلى بطارية القلب ؟
تزرع بطارية القلب عندما يعجز "مايسترو " القلب ( صانع الخطى ) عن القيام بوظيفته الطبيعية ، أو عندما تكون هناك إعاقة لمرور السيالة الكهربائية في القلب
وتزرع معظم بطاريات القلب عندما يشكو المريض من أعراض ناجمة عن بطء غير طبيعي في القلب . وتشمل هذه الأعراض الدوخة ، وفقد الوعي ، أو الشعور بالإعياء الشديد .
ما هي التحضيرات اللازمة قبل زرع بطارية القلب ؟ تزرع بطارية القلب عادة في غرفة القسطرة القلبية ، أو في غرفة العمليات . ويحتاج الأمر إلى إعطاء مخدر موضعي . ويوصى المريض بألا يتناول أي طعام أو شراب خلال الليلة السابقة . وتقوم الممرضة بغسل أعلى الصدر وتعقيمه قبل زرع البطارية .
كيف تزرع البطارية ؟
يؤخذ المريض عادة إلى غرفة القسطرة القلبية أو غرفة العمليات ، ويعقم الصدر مرة أخرى ويعطى المريض مخدرا موضعيا . ثم يجرى جرح صغير في أعلى الصدر تحت عظم الترقوة . ويدخل سلك البطارية عبر الوريد إلى القلب تحت مراقبة جهاز الأشعة وعندها تزرع البطارية تحت الجلد في أعلى الصدر . ويوصل السلك إلى البطارية ، ثم يغلق الجرح فوق البطارية بعد التأكد من أنها تعمل بشكل صحيح .
ماذا يحدث بعد زرع البطارية ؟
قد يشكو المريض من ألم خفيف في مكان البطارية . وتوصف لذلك المسكنات ويخرج المريض من المستشفى عادة بعد يومين ، بعد التأكد من وظيفة البطارية .
قد يستمر الشعور بوجود البطارية تحت الجلد لفترة ما ، ولكن هذا الإحساس يخف مع الأيام . وينبغي على المريض مراجعة الطبيب فور حدوث أي حمى أو احمرار أو ألم في الجرح ، أو عند ظهور سائل من الجرح .
هل هناك بعض الاحتياطات ؟(/11)
ينبغي على المريض الذي غرست عنده بطارية القلب أن يتجنب الحركات الفجائية العنيفة في الساعدين ، وعدم رفع اليد إلى ما فوق الرأس فجأة . وينبغي على المريض الاستفسار من الطبيب عن موعد إمكانية أخذ حمام ، أو القيام بالنشاطات الطبيعية .
هل تتأثر بطارية القلب بالأجهزة الكهربائية ؟
يوصى المريض الحامل لبطارية القلب أن يتجنب محطات البث الإذاعي أو الرادار ، وعدم الدخول في منطقة جهاز المراقبة الأمنية في المطار أو المحلات أو المكتبات .
والدخول عبر مجرى جهاز المراقبة الأمنية في المطار لا يخرب بطارية القلب ، بل إنه يثير صوت جهاز الإنذار وإذا ما انطلق ذلك الصوت فعلى المريض أن يبرز بطاقته الطبية التي تشير إلى أنه حامل للبطارية .
ولا تتأثر بطارية القلب بالأجهزة الكهربائية في البيت مثل الميكروويف وغيرها . ولكن بعض البطاريات تتأثر بآلات الحلاقة الكهربائية ، وبجهاز الرنين المغناطيسي وأخرى مماثلة
ويجب على المريض أن يخبر طبيبه بأن لديه بطارية في القلب قبل إجراء أية عملية جراحية أو معالجة سنية .
وماذا عن متابعة المريض في العيادة ؟
ينبغي إجراء فحص دوري لبطارية القلب بانتظام للتأكد من سلامتها وإعادة برمجتها حسب الحاجة . ويقوم الطبيب بفحص المريض ، وإجراء تخطيط قلب كهربائي وفحص البطارية بواسطة جهاز خاص
المصدر : كتاب " قلبك بين الصحة والمرض " .
تأليف الدكتور حسان شمسي باشا استشاري أمراض القلب في مستشفى الملك فهد للقوات المسلحة بجدة .
وهو من منشورات دار البشير بجدة ت/ف 6608904 – 6657621
=============
ماذا بعد علميات القلب الجراحية ؟
الدكتور حسان شمسي باشا
متى أستطيع العودة لممارسة حياتي العادية ؟
يحتاج المريض عادة إلى فترة تتراوح ما بين 6 - 8 أسابيع للتماثل للشفاء بعد عمليات القلب .
وخلال تلك الفترة ستعود تدريجيا إلى مستوى النشاط الذي كنت تمارسه قبل العملية . ولكن عليك أن تزيد نشاطك تدريجيا بالقدر الذي لا تشعر معه بالتعب والإعياء .
ابدأ نشاطك بالقدر الذي كنت عليه عند خروجك من المستشفى ، وزده تريجيا ويوما بعد يوم . ولا شك أن المشي هو أفضل الرياضات . خذ الأمور بحكمة وروية ولا تجهد نفسك ، ولا تحملها ما لا تطيق .
" لا يكلف الله نفسا إلا وسعها "
وينبغي عدم رفع أي شيء يزيد وزنه على 5 كغ خلال فترة الأسابيع الستة التي تعقب العملية .
ويمكن ممارسة الأعمال التي تحتاج إلى مجهود عضلي بعد 3 أشهر من العملية . أما الأعمال المكتبية أو الإشرافية فيمكن ممارستها بعد 6 أسابيع .
متى يمكنني صعود الدرج ؟
يمكن البدء بصعود الدرج في اليوم الخامس بعد العملية بالقدر المستطاع . ولكن تذكر أن صعود الدرج يحتاج إلى مجهود أكبر من المشي العادي . فخذ وقتك عند صعود الدرج و لا تتسرع . وحاول أن تستريح أثناء صعودك الدرج ولو للحظات .
متى أستطيع الاستحمام ؟
الاستحمام جيد - كما ذكرنا - منذ اليوم الثالث بعد العملية . وستحسن في البداية الجلوس على كرسي عند الاستحمام حتى تسترد قوتك تماما . اغسل الجرح بالماء والصابون بلطف ، وتجنب فرك الجرح . وينصح بأن يرافقك أحد من أهلك لمساعدتك في ذلك . لا تغلق باب الحمام عليك في الفترة الأولى .
متى أستطيع قيادة السيارة ؟
ينصح بعدم قيادة السيارة في الأسابيع الستة الأولى عقب العملية الجراحية . أما السيارات التي تحتاج قيادتها لمجهود عضلي فينصح بعدم قيادتها في الأشهر الثلاثة الأولى .
وخلال ذلك حاول تجنب السفر لمسافات طويلة . وإذا اضطررت إلى ذلك فحاول إيقاف السيارة كل ساعة أو ساعتين . حاول أن تمشي ولو لوقت قصير ثم تابع السفر .
متى أستطيع السفر إلى بلدي بالطائرة ؟
يمكن السفر بعد التأكد من حالة المريض الصحية وسلامة الجروح ، وذلك أثناء زيارة المريض للعيادة بعد أسبوعين من خروجه من المستشفى . ولا مانع في أن يكون السفر بالطائرة أو السيارة .
متى أستطيع ممارسة السباحة ؟
إذا كانت حالة المريض مستقرة ولم تكن هناك أية مضاعفات ، فيمكن السماح للمريض بممارسة السباحة بعد حوالي ثلاثة أشهر من العملية .
متى أستطيع المعاشرة الزوجية ؟
يمكن ممارسة الجماع ( المعاشرة الزوجية ) بصورة شبه طبيعية بعد حوالي ستة أسابيع من العملية .
أشكو من ألم في الصدر . ماذا أفعل ؟
كثيرا ما يشكو المرضى بعد عمليات القلب من ألم في الصدر أو الظهر أو الكتفين . وهذا أمر طبيعي متوقع بعد فتح الصدر . وغالبا ما تختفي هذه الآلام تدريجيا خلال شهرين أو ثلاثة أشهر . وتزول هذه الآلام عادة باستعمال الأقراص المسكنة مثل الباراسيتامول . ويحتاج الأمر إلى شيء من الصبر . قال تعالى : { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } الزمر 10 .
ولكن ينبغي تمييز هذه الآلام عن ألم الذبحة الصدرية . فرغم أن عمليات وصل الشرايين التاجية تزيل عادة ألم الذبحة الصدرية ، إلا أنها قد لا تزيل تماما عند البعض .(/12)
فألم الذبحة الصدرية يحدث عادة عند الجهد ، ويزول بالراحة ، أو باستعمال حبوب النيتروغليسيرين . أما ألم الجرح فقد يزداد بالجهد وخاصة عند تحريك الساعدين أو حمل شيء ما . كما أنه قد يزداد بالضغط على الصدر أو عند السعال .
متى يشفى جرح الصدر ؟
قد يشكو البعض من حكة أو خدر وتنميل مكان الجرح . وقد يلاحظ خروج قليل جدا من المفرزات من جرح الصدر . وغالبا ما تختفي هذه الشكايات تدريجيا .
وينصح بعدم وضع أية مساحيق أو محاليل أو دهون على الجرح . ولكن ينبغي أن تستشير طبيبك فورا إذا ما لاحظت وجود علامات التهاب في الجرح كحدوث تورم في مكان الجرح واحمرار أو سخونة موضعة ، أو خروج مفرزات كثيرة من الجرح .
=============
الجنس .. والقلب
الدكتور حسان شمسي باشا
ربما يتحرج كثير من مرضى القلب عند السؤال عن هذا الموضوع . والحقيقة أن المعاشرة الزوجية ، كأي نوع آخر من الجهد ، تزيد من سرعة ضربات القلب ، وترفع – بشكل عابر – ضغط الدم ، وتزيد حركات التنفس .
وتؤدي زيادة عدد ضربات القلب ، وارتفاع الضغط إلى زيادة حاجة عضلة القلب للأوكسجين ، وهذا ما قد يؤدي إلى حدوث ألم صدري أو خفقان أو ضيق في التنفس عند بعض مرضى القلب .
وقد أظهرت الدراسات التي أجريت على المرضى المصابين بالذبحة الصدرية أو جلطة حديثة في القلب ، أن عدد ضربات القلب قد وصل إلى حوالي 120 ضربة بالدقيقة في ذروة المعاشرة ، واستمر ذلك لمدة 15 ثانية ، وعاد إلى الوضع الطبيعي خلال ثلاث دقائق . كما أن ضغط الدم قد ارتفاع إلى 160 / 85 ملم زئبقي في المتوسط . وقد يحصل مثل ذلك لدى قيام الإنسان بنشاطاته الطبيعية أثناء النهار ولكن استجابة القلب للمعاشرة الزوجية تكون أكثر شدة عند مسن متزوج من امرأة صغيرة السن .
استشارة الطبيب :
كثيرا ما يتردد مرضى القلب عند استشارة الطبيب ، وقد يعود المريض الذي أصيب بجلطة حديثة في القلب إلى المعاشرة الزوجية قبل أن يكون مستعدا لذلك . ولهذا فعلى الطبيب أن يبادر إلى تبيان الأمر عند مريض جلطة القلب ، حتى ولو لم يسأل المريض عن ذلك .
وكثيرا ما يكون السؤال عن إمكانية المعاشرة الزوجية ، والمريض عند الباب وهو خارج من عيادة الطبيب .
المعاشرة الزوجية عند مريض الذبحة الصدرية :
من المعروف أن نوبة الذبحة الصدرية تحدث – عند المصابين بتضيق في شرايين القلب – عند القيام بجهد ما ، أو عند الانفعال الحاد . وقد يكون ذلك الألم أول عرض يثير الشبهة بوجود تضيق في شرايين القلب التاجية .
ويستجيب عادة ألم الذبحة الصدرية الذي قد يرافق المعاشرة الزوجية لتناول حبة من دواء : " النيتروغليسرين " تحت اللسان . وإذا كانت حالة المريض مستقرة فقد لا يحتاج الأمر لأكثر من تناول حبة من النيتروغليسرين تحت اللسان لعدة دقائق قبل المعاشرة الزوجية . ولكن ينبغي إخبار الطبيب بذلك واستشارته ، فقد يرتئي تعديلا في العلاج ، أو ربما احتاج الأمر إلى إجراء فحوص أخرى كالقسطرة القلبية أو غيرها .
وبشكل عام ، ينصح بتجنب المعاشرة الزوجية خلال ساعتين بعد وجبة الطعام ، أو عقب الاستحمام .
ولا شك أن الأدوية التي تستخدم في علاج الذبحة الصدرية من حاصرات بيتا ( كالتنورمين والأندرال وغيرها ) ، أو حاصرات الكالسيوم ( كالأدالات والدلتيازم وغيرها ) تساعد المريض في القيام بواجباته وحياته العادية على أكمل وجه . ويمكن للمريض أن يساعد نفسه بالتخلص من التدخين – إن كان مدخنا – وبتخفيض وزنه – إن كان بدينا - .
المعاشرة الزوجية عند المصاب بجلطة حديثة في القلب :
إذا كانت حالة المريض مستقرة ، ولا يشكو من أي ألم في الصدر بعد حدوث جلطة القلب ( احتشاء القلب ) ، فيمكن العودة إلى المعاشرة الزوجية عادة بعد 3 – 4 أسابيع من حدوث الجلطة .
وكثيرا ما يجرى اختبار الجهد عند مريض جلطة القلب بعد 6 أسابيع من حدوث الجلطة ، وهذا ما يعطي المريض شعورا بالثقة في إمكانية ممارسة النشاطات المعتادة ، بما في ذلك المعاشرة الزوجية .
المعاشرة الزوجية بعد عمليات القلب الجراحية :
إذا كانت حالة المريض الذي أجريت له علمية جراحية في القلب مستقرة ، ولم تكن هناك أية مضاعفات ، فيمكن ممارسة المعاشرة الزوجية بعد حوالي ستة أسابيع من العملية . وإذا كانت لديك أية تساؤلات فلا تتردد في استشارة طبيبك .
المعاشرة الزوجية وفشل القلب :
يشكو المريض المصاب بفشل القلب من ضيق النفس عند القيام بالجهد ، ومن الإعياء والتعب العام
وقد يشكو المريض من ضيق في النفس عند المعاشرة الزوجية . وينصح باستشارة الطبيب ، الذي قد يوصي بتناول حبة إضافية من الحبوب المدرة للبول قبل المعاشرة الزوجية ، وربما احتاج الطبيب إلى تعديل العلاج . أما إذا كان الفشل القلبي متقدما ، فقد يحتاج الأمر إلى إدخال المريض للمستشفى عدة أيام ريثما تتحسن حالته ، ويعود إلى وضعه السابق .
==================
تدلي الصمام التاجي
Mitral Valve Prolapse
الدكتور حسان شمسي باشا(/13)
وهي حالة شائعة وخاصة عند النساء ، وتسمى أيضا : " ارتخاء الصمام التاجي " . وهي عبارة عن مرض خلقي في الصمام التاجي ، تتدلى فيه إحدى وريقات الصمام التاجي أو كلاهما ، مما يؤدي إلى حدوث درجة من القصور في الصمام التاجي . ويسبب نفخة مميزة ، وصوتا خاصا يسمعه الطبيب بالسماعة .
ما هي الأسباب ؟
لا يعرف سببه في معظم الحالات . وهناك بعض الأدلة التي تشير إلى طبيعته الوراثية . وقد ينجم عن مرض شرايين القلب التاجية ، أو اعتلال العضلة القلبية ، أو الحمى الروماتيزمية .
ما هي أعراض تدلي الصمام التاجي ؟
لا يشكو معظم المصابين بهذه الحالة من أية أعراض ، ولا تؤدي هذه الحالة عادة إلى مضاعفات . إلا أن بعض المرضى يشكو من ألم صدري ، أو ضيق النفس ، أو اضطراب ضربات القلب ، أو الإعياء .
ما هو العلاج ؟
لا تحتاج هذه الحالة عادة إلى علاج . ومع ذلك ينبغي التأكد على ضرورة إعطاء المضاد الحيوي قبل المعالجات السنية أو العلميات الجراحية لوقاية الصمام من حدوث التهاب شغاف القلب .
أما في الحالات القليلة التي يشكو فيها المريض من ألم في الصدر أو اضطراب في ضربات القلب ، أو قصور في الصمام التاجي ، فقد توصف بعض العلاجات كحاصرات بيتا ( مثل الأنديرال ) أو الديجوكسين .(/14)
صخرة الخلاص
تابعت –كغيري- فاعليات الملتقى الثقافي، وقد تعجبت من تناقض فعالياته مع مبدأ "الفعاليات" فقد كان أشبه ما يكون باجتماع خاص لحزبٍ معين، وذلك تلمسه من خلال خاصية الفعاليات ومن شارك فيها، فأغلب من ساهم هم من خط أو حزب واحد، ولغة الملتقى كانت حديّة وإقصائية واحدة، كان الملتقى الثقافي أشبه بحفلة عزاء ومناحة لشركة واحدة!
كان الملتقى عن الثقافة، وكان في بلد هو رأس البلاد الإسلامية، وقبلة المسلمين، ومهبط الوحي، وبلد الحرمين الشريفين، فكان المفترض أن يصب الملتقى في رافد هذه الأساسيات لا أن يحاول مخالفتها أو هدمها.
إن الملتقى الثقافي –للأسف- كان أكبر ضربة للثقافة نفسها، وما تعنيه، وأهدافها، فالثقافة في تراثنا العربي أول ما تعني هو "الحوار والمناقشة" وهذا ما تم التضحية به في هذا الملتقى الثقافي، فلم يكن هناك حوار ولا مناقشة بقدر ما كان حفلة تأبين ووليمة عزاء وبكاء ولطم وشق الجيوب، كان الملتقى أحادياً إقصائياً، تم اختيار أفراده بعناية فائقة وكأنهم حزب وكتلة معيّنة وذات توجه واحد!
إن أحق اسم له ليس "الملتقى الثقافي" بل " ثقافة الحزب الواحد" الذي لا يرى ولا يسمع ولا يبصر إلا من خلال رؤيته الخاصة فقط، دون أن يسمح بأي تعبير آخر للآخر.
هذا الملتقى الثقافي ضربة للثقافة نفسها، لأنه المفترض أن يكون مكرساً ومتمماً للشرط الاجتماعي، لا أن يكون مصادماً له، متحفزاً منه، ناقماً عليه.
وهذا الملتقى –أيضاً- ضربة للثقافة لأن الثقافة تعنى عند مثقفي العالم: الدين، والشريعة، والعادات والتقاليد. وهذا الملتقى جاء لينعى على كل ذلك، وليهجوا كل تلك المعاني، فكيف صار ملتقى المثقفين حرباً على الثقافة نفسها؟!
يعرّف "أدورد تيلور" الثقافة بأنها: منظومة متكاملة من العقائد والأخلاق والشريعة والمعرفة والعادات والتقاليد، التي يكتسبها الإنسان، من حيث هو عضو في مجتمع.
ويعرّفها "أرنست باركر" بأنها: ذخيرة مشتركة لأمة من الأمم تجمعت لها وانتقلت من جيل إلى جيل خلال تاريخ طويل، وتغلب بوجه عام عقيدة دينية هي جزء من تلك الذخيرة المشتركة.
ويعرفها كذلك "هنري لاووست" فيقول: هي مجموعة الأفكار والعادات الموروثة التي يتكون فيها مبدأ خلقي لأمة ما، ويؤمن أصحابها بصحتها.
والسؤال هنا:
* هل أتى هذا الملتقى لتكريس وخدمة ثقافتنا (الدين – الأخلاق – العادات والتقاليد)؟
* أم أنه أتى في الواقع ليحثوا ويهيل التراب على ثقافته؟
* هل ما نادى به الملتقى الثقافي يتلاءم مع ثقافة مجتمعه؟ أم أنه طرح رؤى وأحلام تتصادم مع ثقافته المحليّة بشكل صارخ؟
* هل كان المكان الصحيح لهذا الملتقى وطريقة طرحه السعودية أم واشنطن؟
* أليس المثقف أمين على ثقافته الخاصة وخادم لها؟
إني اتفق مع الدكتور "برهان غليون" في أن نخبنا الثقافية الليبرالية فشلت في الاندماج ضمن نظامنا الثقافي، وفشلت في تقديم أي حل لعملية التقدم الاجتماعي أو المادي أو العلمي، بل على العكس تماماً، فقد خلقت وصنعت المشاكل العديدة التي لا حل لها، لقد أصبحت الثقافة والتحرر وسيلة ومرتعاً لتكوين نخبة متميزة، تسعى لتحسين وضعها ومواقعها، واستغلال السلطة، أكثر مما تعمل على التطوير وحل المشكلات الحقيقية!
إن ثقافة لا تقدس ولا تحافظ على هويتها ليست بثقافة، وإن مثقفاً لا يكرس نفسه لخدمة دينه ووطنه وتقاليده لا يمتلك أي ثقافة –إلا أن تكون ثقافة مستوردة ومعلبة- وإن أي ملتقى لا يكون فيه من يمثل ثقافته الحقيقية ليس بملتقى حقيقي.(/1)
صد ق أو لا تصدق
د. توفيق الواعي
darelbhoth*otmail.com
أنا مع الذين تنفطر قلوبهم على أمتهم المنهوبة والمستباحة والحبيسة في بحور الظلمات والقهر، ومع الذين تتفتت أكبادهم لحجم التخلف والانحدار والعفن الذي أصابها، والحقيقة: أن حجم الفساد كبير جداً، وحجم العمالة كثير كثير، وحجم الضياع مهول مهول. ضاع الحق، فضاعت العدالة، وديس القانون فساد الظلم والبغي، ونُهبت الأموال، فضاع الكادحون والمجدون، وتقلد الأقزام، فضاعت الرجولة والعزيمة، وتمكن الجبان، فاتُّهم الشجعان وطورد الإقدام، وتسلط الدكتاتور فاحرق الأخضر واليابس، وصبغ الكون بالسواد، ولوَّث الأجواء بالجراثيم، وطعن الشرف في مقتل، وبدد الأفراح وزرع الأحزان، ونشر الخراب هنا وهناك، وتحكَّمت الأهواء، فضاعت الحكمة، وقُتلت العقول، وفسد كل شيء في الأرض، وتطاول الفساد حتى عانق السماء، وصدق الله العظيم: ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون (71) (المؤمنون).
عجيب أمر هذا الوضع الكنود الفاسد، الذي تسبب وأصيب بعمى الألوان والبصائر، وعجيب أمر هذه السلطات التي أصيبت بالطاعون العقلي والجنون النفسي، وانقلبت موازينها في كل شيء. فبدلاً من حماية أمن المواطنين، أصبحت مهمتها الاعتداء عليهم وهتك أعراضهم، وبدلاً من حبس المجرمين وإرهابهم، تستعين بهم الدولة لضرب وسحل خصومها المطالبين بالعدالة والإصلاح، وبدلاً من التضييق على هؤلاء المسجلين الخطرين، تُصرف لهم الرواتب الخيالية حتى بلغ راتب المجرم الخطر من النساء والرجال 800 جنيه لليوم الواحد في الانتخابات الفائتة، وهو يساوي في الشهر 24 ألف جنيه مصري، لا يحصل عليهم توني بلير في بريطانيا العظمى!!
فمن الذي يتعب نفسه في العلم ويأخذ شهادة في الطب أو الهندسة أو أي كلية أخرى ويتقاضى راتباً بعد بطالة عشر سنوات 200 جنيه مصري في الشهر، لا تطعمه وحده خبزاً فقط، فمن الذي لا يعمل "بلطجياً" وتحميه الدولة ويأخذ هذا الأجر عدا الإتاوات التي يفرضها على الناس ويفعل ما يريد بدون رقيب ولا حسيب؟ وبعد قليل كما يقول أحد الخبراء سيأخذ البلطجي رتبة في الأمن "عقيد بلطجة" وغير ذلك من الرتب، وسلام على أيام زمان! يوم كان السارق تزفه الناس ويلقى الإهانات من كل الشعب ويكون جزاؤه السجن والامتهان، أما الآن فقد تلاحقت الكوارث على خراش، حتى أصبح الإنسان لايدري بماذا يصف هذه الأوضاع الكئيبة التي صارت كما وصف الرسول { قلوب الناس المتنفذين فيها، فقال عن هذا القلب: "أسود مرباد كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أُشرب من هواه".
ولقد ذُهلت حين رأيت البلطجية يخرجون من السجون ويدخلها خيرة رجال الأمة بغير ذنب ولا جريرة، وهم الكوادر التي قل نظيرها وفي أعلى السلم التعليمي والعقلي والثقافي من أمثال: الدكتور محمد مرسي، والدكتور رشاد البيومي، والدكتور إبراهيم الزعفراني، والدكتور حسن الحيوان، والدكتور عصام العريان، والدكتور محمد عبدالوهاب، وتُحَرم الدولة من طاقاتهم وجهودهم وعقولهم وإخلاصهم، أمة تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، أتستطيع أن تقوم بإصلاح أو تنهض نحو التقدم والخير أم تنحط إلى أسفل سافلين؟
ولهذا نسمع عن الجرائم المروِّعة في كل يوم من ضيق الحياة، أو من الفساد والفقر، في الجرائد والمجلات، نسمع عمن "ينتحر بعد أن يحرق زوجته وأطفاله" "ينحر طليقته ويفصل رأسها عن جسدها" "يقتل شقيقه وشقيقته". وهذا ما لفت نظر المراقبين الدوليين في الأمم المتحدة، فأصدروا تقريراً يتهم النظام المصري وأمثاله، بأنه السبب في زيادة معدل الجريمة بكافة صورها، من جراء سياسته الفاشلة التي ساهمت بشكل كبير في تفشي الفقر بين جموع الناس، حتى وصلت أوضاعهم إلى طريق مسدود.
وأرجع التقرير تفشي الجريمة إلى الفقر والضياع والتسلط الأمني وسوء استخدام الثروة بحيث تستحوذ الأجهزة الأمنية والمتنفذون على ثروات الأمة، وتترك قطاعات مهمة كالإسكان والصحة والتعليم بدون مخصصات تسد الرمق.
أما علماء الاجتماع فإنهم يربطون بين زيادة معدل الجريمة وبشاعة صورها وبين انتشار البطالة وتفشي الفساد، وتباطؤ العدالة، بالإضافة إلى تزايد عوامل الظلم والقهر السياسي، مما أدى إلى تفاقم الجريمة وبشاعة صورها بعد أن فقد الكثيرون إنسانيتهم، وتشوَّهت ملامح شخصيتهم بشكل لم يسبق له مثيل، الأمر الذي يعده الخبراء دليلاً على تراجع منظومة القيم والأخلاق بشكل كبير في السنوات الخمس الأخيرة، هذا عدا رصد المنظمة المصرية لحقوق الإنسان لانتشار جريمة التعذيب حتى تحولت إلى ظاهرة عادية، وأصبحت ظاهرة واضحة في أقسام الشرطة في ظل غياب العدالة والنصوص التشريعية والإرادة التي تحمي المواطن.
وأخيراً وليس آخراً، أشياء كثيرة ظهرت في أمتنا وقصص في شعوبنا يحكيها المتندرون تحت عنوان صدق أو لا تصدق:(/1)
هل تصدق أن الأردن تعتقل أربعة نواب عندها بدون تحقيق أو جريمة غير أنهم ذهبوا إلى عزاء جيران لهم في مصابهم الأليم، بموت أحد أفراد أسرتهم، لأنه متهم؟
هل تصدق: أن السلطات التونسية فرضت بطاقة تسمى بطاقة الصلاة يستسمح فيها المواطن الشرطة لأداء الصلاة في المسجد الذي تحدده السلطات؟
هل تصدق أن الخطيب الذي يُحسب على نصرة حماس يُجرَّم ويُهان من قبل الدولة؟
هل تصدق أن محمد دحلان قد ألف في فلسطين فرقاً تسمى "فرق الموت" لا لتقتل الإسرائيليين وإنما لقتل الفلسطينيين الذين لا يخضعون لليهود وإمرته؟
هل تصدق أن عموم الأمة العربية والإسلامية لم تشجب أو تدن بالكلمات مجازر اليهود اليومية؟
هل تصدق أن أحرار فلسطين يعيشون أحراراً، ويموتون شهداء أحراراً، حتى إن جمال أبو سمهدانة أوصى قبل استشهاده ألا يعزي فيه خائن لوطنه، أو عميل، ولهذا مُنع محمد دحلان من العزاء تبعاً لوصية أبي سمهدانة؟
هل تصدق أن رئيس السلطة الفلسطينية يتآمر مع اليهود على شعبه المقهور المقتول؟
هذه هي الحقيقة المرة التي ينبغي أن تصدقها الأمة حتى يأتي الله بأمره، والله قوي عزيز.(/2)
صداع في رأس الدعوة ...
معتز الخطيب ـ إسلام أون لاين ...
ربما تشكل "الجماعات" الإسلامية" الظاهرة الأكثر تعقيدًا في مسيرة العمل الإسلامي، وبالرغم من أن ثمة جهودًا مبذولة لمناقشتها، فإنها لا تزال عصية على الفهم، ومن ثَم على الحل، الأمر الذي يسوغ إعادة قراءتها من جديد.
وربما يمكننا حصر المواقف من الظاهرة -بحسب المناقشات- في ثلاثة: مَنْ يرى أن هذا التعدد والتجمع "بدعة"، ومن ثَم فهو يأمر باعتزال الكل تمسكًا بالأحاديث الآمرة بلزوم "جماعة المسلمين"(**)، ومَن يرى أن التعدد الواقع تعدد تنوع وتكامل وليس تضادًّا؛ تبعًا لاختلاف الاجتهاد والأدوار، ومَن يرى ضرورة وحدة "الجماعة" وفق تصوره هو، لنجد أنه يريد حَمْل الناس على جماعته وطريقته!
لكن الملاحظ أن معالجات هذه الظاهرة تبقى محكومة للمنطق الفقهي، بل بعضها يزجّ بالخلاف في ساحة الاعتقاد، لنجد أن المنطق الحاكم لديه هو ثنائية الحق والباطل؛ وفق أصوله وقواعده (هو)! ما يعني أن ظاهرة "الجماعات" يؤول نقاشها في النتيجة وفق منطق جماعة معينة!
إن معالجتنا هذه تقوم على مقاربة جديدة للمسألة باعتبارها "ظاهرة" يشتبك فيها الشخصي مع الفكري؛ والديني مع الدنيوي، غير أنه لا بد -من وجهة نظري– من تحديد: عن أية جماعات نتحدث؟ وفي أي المجالات؟ الاعتقاد، أم السياسة، أم غير ذلك؟ وربما يكون هذا التحديد أكثر عونًا على بَلْوَرة الظاهرة، والقدرة على الإمساك بأطرافها وتوصيفها في هذه الورقات القليلة.
ولذلك نحن نحصر الحديث في "الجماعات الدعوية"، ونعني بها تلك الجماعات التي تتوجه بخطابها إلى "الجمهور" مستهدفة توصيل رسالتها في إقامة جسر بين مدعو ومدعو إليه، لنستبعد الحديث عن حركات ما يسمّى بـ"الإسلام السياسي"، أو بتعبير أدق: الشق المتعلق بالحكومة وطلب الحكم؛ لأن هذا الشق توصيفه ومشكلاته ستختلف قليلاً، وهو بحاجة لإفراده وحده بالحديث.
والمتأمل في أصول توجه الجماعات الدعوية هذه يرى أنها تختلف في توصيف مشكلة المسلمين -وفق تصورها- ما يجعلها تختلف في ترتيب أولوياتها، والأخذ بالأسباب الموصلة إلى "التمكين" و"صلاح الأمة".
فبعضها يرى الأولوية في تصحيح الاعتقاد -كالجماعات السلفية عامة- وآخرون يرون أن إصلاح النفوس والقلوب وتهذيب السلوك هو الأساس -كالجماعات الصوفية-، وبعض ثالث ينهمك في تدريس العلوم الشرعية من تفسير وفقه، ويعتبر الأمة أحوج إليه من غيره، وآخرون يرون الأولوية في الحديث عن ضرورة "الهجرة" أو ما يسمونه بـ"الخروج"، وحث الناس على إقامة بعض الشعائر، كجماعة الدعوة والتبليغ، هذا فضلاً عمن يرون الإصلاح يبدأ بالدفع بالحل السياسي من أعلى.
هذا الانقسام دفع البعض إلى النظر إليه على أنه نوع من التكامل في معالجة أزمة الأمة، وكلٌّ أخذ بنصيب، ولكن فضلاً عن هذه الرؤى الواحدية التبسيطية التي تختزل الواقع، وتخلِّف حلولاً مبتورة هنا وهناك لا تؤلف كلاًّ في أعيان المدعوين أفرادًا وجماعات، وهو ما يعود على الرؤية "التكاملية" تلك بالنقض، فضلاً عن ذلك كله، إن المتأمل للواقع يجد ثمة خلافات داخل الجماعات ذات الأولوية الواحدة، سلفية كانت أم صوفية أو غير ذلك، إضافة إلى علاقة التناحر القائمة بين جماعات وجماعات أخرى.
هذه العلاقة التناحرية تعود إلى أسباب متعددة، منها ما هو منهجي، ومنها ما هو شخصي. والذي يعنيني أكثر قراءة ما هو شخصي من أسباب العلاقة التناحرية هذه على وجه الإجمال دون تحديد جماعة بعينها.
لكن هذا لن يمنعنا من تأصيل الموقف من التعدد ابتداء، وهو ما يضطرنا إلى الاقتراب من المنطق الفقهي.
{ ... تعدد الجماعات كتعدد المذاهب
{ ... التحزب وإشكالياته
{ ... البيعة.. وصاية أم تعاقد؟!
{ ... تعديل الخطاب.. مدخلاً للإصلاح
تعدد الجماعات كتعدد المذاهب
البعض من الإسلاميين يقف من "التعددية" -سواء على مستوى الأفكار والتصورات أم على مستوى التنظيمات- موقف الرفض والعداء، أو الريبة والشك في مشروعيتها وجدواها. وهذا الرفض -أو هذه الريبة- ينفخ في حالة التناحر القائمة، فالتعددية إقرار بحرية الاجتهاد والاختلاف، ما دام هناك قدر مشترك من الاتفاق حول الأصول العامة ومصادر التشريع الرئيسية، وهذا من شأنه أن يحمل على الاحترام والتنسيق بين الجماعات الدعوية، بل إن التنسيق والاجتماع من شأنه أن يقرِّب الهوَّة بين الجماعات، ومن شأن النقاش والمدارسة أن تقرِّب الكثير من الآراء، وربما تزيل بعض الخلافات الفرعية، وتجبر الخلل القائم لدى كل جماعة، وهنا يمكن تحصيل التكاملية بين الجماعات بتحصيل كل طرف ما عند الآخر مما ينقصه ومن ثَم تبليغه للجمهور.
وإذا كان الاتفاق على الأصول العامة لم يمنع الفقهاء من الاختلاف في فهم النصوص، كلٌّ وفق قواعد مذهبه وطريقته، فما الذي يمنع من اختلاف جماعات العمل الدعوي؟(/1)
يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: "الأصول الثابتة بالكتاب والسنة والإجماع هي بمنزلة الدين المشترك بين الأنبياء، ليس لأحد خروج عنها، ومن دخل فيها كان من أهل الإسلام المحض، وهم أهل السنة والجماعة، وما تنوعوا فيه من الأعمال والأقوال المشروعة فهو بمنزلة ما تنوعت فيه الأنبياء (...) وإن تنوعت الأفعال في حق أصناف الأمة فلم يختلف اعتقادهم ولا معبودهم (...) والمذاهب والطرائق، والسياسات للعلماء والمشايخ والأمراء إذا قصدوا بها وجه الله تعالى دون الأهواء (...) بحسب الإمكان بعد الاجتهاد التام، هي لهم من بعض الوجوه بمنزلة الشرع والمناهج للأنبياء، وهم مثابون على ابتغائهم وجه الله تعالى وعبادته وحده" [الفتاوى 19/117-126].
وفي القدر المتنازَع فيه بين العلماء يقول: "... إن الله أمر كلاًّ منهم أن يطلب الحق بقدر وسعه وإمكانه، فإن أصابه وإلا فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وقد قال المؤمنون: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) [البقرة: 286]، وقال الله: قد فعلت، وقال تعالى: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ) [الأحزاب: 5]، فمن ذمهم ولامهم على ما لم يؤاخذهم الله عليه فقد اعتدى، ومن أراد أن يجعل أقوالهم وأفعالهم بمنزلة قول المعصوم وفعله وينتصر لها بغير هدى من الله فقد اعتدى واتبع هواه بغير هدى من الله.
ومن فعل مثل ما أُمر به بحسب حاله، من اجتهاد يقدر عليه، أو تقليد إذا لم يقدر على الاجتهاد، وسلك في تقليده مسلك العدل فهو مقتصد؛ إذ الأمر مشروط بالقدرة (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا) [البقرة: 286]، فعلى المسلم في كل موطن أن يسلم وجهه لله وهو محسن ويدوم على هذا الإسلام" [الفتاوى 19/127-128].
وبهذا يمكن قياس اختلاف الجماعات على اختلاف الفقهاء، ما دام اختلافًا قائمًا على أصوله الشرعية، ولم يخالف نصًّا قاطعًا ثبوتًا ودلالة، وكان دائرًا حول الأفكار وفي مجال الفروع الاعتقادية والعملية.
وإذا كانت الأمة استطاعت تجاوز محنة التناحر بين المذاهب الفقهية، فالأمل معقود بتجاوز محنة تناحر الجماعات الدعوية، بعد تأصيل الخلاف والقبول بالتعددية كظاهرة صحية، وإدارة الخلاف بالممارسات النقدية الحرة للأفكار باعتبارها تقع في القلب من مفهوم "التناصح".
وهنا يضحى القول بوجوب التزام جماعة معينة لا معنى له بعد أن تم تقرير أنه لا يجب على المسلم الالتزام بمذهب فقهي معين، فكيف بجماعة دعوية؟ قال ابن حزم: "إن اعتقاد وجوب اتباع مذهب من المذاهب وتقليد إمامه في كل ما يقوله والتعصب له واعتقاد العصمة فيه: حرام". فضلاً عن أن هذه الجماعات كلها أو بعضها لا يمثل "جماعة المسلمين" التي أُمرنا بلزومها.
التحزب وإشكالياته
إن الحالة التناحرية السائدة بين كثير من الجماعات تعكس مظاهر التأزم في بنية الفكر الدعوي، وبنية التنظيمات، على مستوى الأفكار وقيم العلاقة مع الآخر المسلم، المفترض أن تقوم على قاعدة "الأخوة الإيمانية"، وعلى المستوى الإجرائي، وتعكس من جانبٍ عزلة الخطاب الدعوي عن المؤثرات الفكرية والثقافية، وإغراقه في شؤونه الفردية، وتصوراته الضيقة.
ومن المفارقة أن يتم هذا في الوقت نفسه الذي يتم فيه الحديث عن "العولمة" و"الحوار" بين الحضارات والأديان، وغير ذلك (بغض النظر عن موقفنا من هذا كله).
لكن السبب الأبرز في حالة التأزم هذه يرجع -برأيي- إلى حالة شَخْصَنَة الدعوة، وأسرها في حدود تصورات وفلك الأشخاص، وهذه الشَّخْصَنَة تبدأ من الفرد (رئيس الجماعة) في حدود تابعيه؛ لتتحول "الجماعة" كلها إلى تجسيد حالة "الفرد" في حدود العلاقة مع الجماعات الأخرى (نحن وهم). وهنا يمكن فهم عقد الولاء والبراء على أساس ذلك الاجتماع، وهو ما حذر منه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قائلاً بعد أن قرر مشروعية الاجتماع على ما أمر به الله ورسوله: فإن حملهم التحزب على "التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل، والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم، سواء كان على الحق والباطل، فهذا من التفرق الذي ذمَّه الله تعالى ورسوله" [الفتاوى 11/92].
في حالة عقد الولاء والبراء المجسِّدة لحالة تفرد الشيخ الأوحد، والجماعة الوحيدة الصحيحة، تنشأ العلاقة التناحرية مع الجماعات الأخرى لتصبح ظاهرة عامة، ويتم في سبيلها تنازع مواطن النفوذ، وهو ما شاهدناه من اقتسام الخطابة في المساجد وفق الجماعات، والسعي في كسب المزيد من الأفراد الجدد (كالمسلمين الجدد!) لهذه الجماعة أو تلك.
هذه الحالة الصراعية شوَّشت مفهوم "الدعوة" الذي يقوم في الأصل على تجسير العلاقة بين الناس المدعوين؛ بينهم وبين الله، وبينهم وبين بعضهم، وهذا من شأنه أن يثير عددًا من الإشكاليات:(/2)
أولها: الخلط بين نصوص الوحي ومبادئه المطلقة والعمل الدعوي والأفهام التاريخية، بين الدين والتدين، من خلال احتكار كل جماعة أحقية تمثيل الإسلام، وهو ما يجر إلى مواجهة الجماعة للأمة كلها باعتبارها الجمهور الذي تستهدفه الجماعة للانتماء إليها! وفي سبيل هذا يتم الانزلاق إلى فكرة "كسب الأفراد" والتنازع في سبيله، الأمر الذي يشتبه مع "التبشير" المسيحي!
وهنا يمكن فهم "البيعة" أو "العهد" الذي تتبناه بعض الجماعات -خصوصًا الصوفية- في جانب منه على أنه مصادرة على الأشخاص للاحتفاظ بهم في مواجهة الجماعات الأخرى، وسبيل لاستمرار وجودها وثبات جوهرها.
ثانيها: إن ادعاء تمثيل جماعة ما للإسلام، يغلب عليها جانب معين تدعو إليه (سلوكي -عقدي – سياسي...) من شأنه أن يُودي بمفهوم "شمولية" الإسلام، لنجد أننا أمام تصور قاصر ومختزل في جانب واحد! وهنا نسجل الخَطَل الذي تقع فيه الجماعات الصوفية وغيرها التي تعزل السياسة عن الدين، فتمارس عَلْمنة صريحة، وكذلك خطأ الحركات السياسية الإسلامية التي تزج بالإسلام في لعبة السياسة فيكون طرفًا من أطراف النزاع على السلطة باسم الإسلام.
ثالثها: أن العمل الدعوي يشكل حالة عامة في المجتمع الإسلامي، ومأمور به كل مسلم في حدود ما يطيق، قولاً وعملاً، وهو ما يميز مفهوم "الدعوة" عن مفهوم "العلم" الذي طُلب فيه النفير لطائفة أو طوائف من مجموع الأمة (فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ ليتفقهوا في الدين) [التوبة: 122]. وهنا يكون التحزب ذريعة تسحب عن الأمة مسؤوليتها في إقامة الدين وعمارة الدنيا، وممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كلٌّ بحسب استطاعته، ويجعل كل ذلك في أيدي جماعة صغرت أم كبرت، ما قد يوحي بإعفاء الأمة من مسؤوليتها.
هذه الإشكاليات تدفع إلى تشكك بعض المدعوين أو كثير منهم، في صدقية هذه الدعوة، ما ينشأ عنه حالة اللامبالاة التي تسيطر على قطاع واسع من الناس، والغريب أن يتم توظيف الخوف من وقوع المحذور في تكريس حالة الفردية نفسها، فيلجأ البعض -بحسن نية- إلى تجريم نقد الدعاة علنًا أو مناظرتهم لبعضهم، ما يورث حالة شبه تقديسية لهم لدى المتلقين!
البيعة.. وصاية أم تعاقد؟!
وأبرز ما تظهر حالة شَخْصَنة الدعوة في صورة البيعة أو العهد، الذي يربط الشيخ بالمريد وتأخذ شكل الطاعة الواجبة، والالتزام التام، والأصل أنها دائمة أو أبدية! وإن كانت تمت مناقشتها فقهيًّا، فلن ندخل نحن في هذا الجدل، وحسبنا أن نؤكد أنها -في الواقع- تكون لشخص واحد، وضمن جماعة معينة واحدة، وتحت تسميات ومسوغات مختلفة، أبرزها ذلك المسوِّغ التربوي بحجة أن الالتزام بشيخ واحد يمنع التشويش، وأن "المربي واحد" لا يتعدد، بخلاف المعلم (وهذا يسود كثيرًا لدى جماعات المتصوفة) وهذه البيعة بعد إزالة ديباجاتها الدينية والتربوية تكشف عن أهواء شخصية، وتتستر على مصالح دنيوية، فضلاً عن الفهم القاصر للتربية والعلم والفرق بينهما، وللدعوة وأهدافها.
ففي التصور العرفاني الصوفي (وهو منشأ القول بالبيعة أو العهد بظني، وإن كان يمكن أن يتم إسقاط حوادث مماثلة كبيعة الرضوان، والمهاجرات، بعد العبث بسياقاتها) يتم قياس الشيخ على النبي، وهنا تكون طاعة الشيخ وخلافته في الجماعة بأمر من النبي وإذن منه -وهو ما سمعته بأذني من أحد أبرز الشخصيات الصوفية-(!!) وحضور النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الصورة ضمن الجماعة الصوفية يجعل من المقبول الاعتقاد بعلم الشيخ بكل أحوال مريده في حال غيبته!
ومن المفارقة حقًّا أن احتقار النفس وتربيتها لدى المريد يعكس في المقابل لدى الشيخ تعظيمًا للنفس وتضخيمًا لها! وقد أدرك الفقهاء خطورة البيعة الطُّرُقية الصوفية، فقابلوها بالإنكار كما في كلام ابن الجوزي وابن تيمية والسبكي والسيوطي. [كما أشار بكر أبو زيد في حكم الانتماء ص: 164].
وإذا كان القرآن قد نص على مهمات بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) [الأعراف: 157] فإن البيعة على تلك الصورة من السمع والطاعة تسعى إلى إعادة تكبيل المدعوّ بأخذ السمع والطاعة، وواجب الالتزام في الجماعة مدى الحياة؛ بحجة أن التربية عملية مستمرة تنتهي بالموت، وفي حال موت الشيخ تنتقل البيعة لخليفته! وهي التفاف على فكرة "ختم النبوة" التي عهدت إلى الناس بالكتاب والسنة دليلاً هاديًا بعد اكتمال الدين، وإلغاء جميع الوساطات والوصايات. وكان من عناصر استمرار التمكين في الأرض: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَر) [الحج: 41]. قال ابن عاشور: "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بتنفيذ قوانين الإسلام بين سائر الأمة من تلقاء أنفسهم" [التحرير والتنوير 16/ 280].(/3)
هذه الإشكاليات من شأنها أن تحمل على نبذ فكرة الجماعات، لكن من الخطأ أن نقع في وهم طلب "الوحدة" التي دعا إليها بعضهم -وفق المنطق الفقهي- معتبرًا أن "الجماعات" بدعة. ذلك أننا أقررنا بأن الاختلاف أمر مشروع ما دام ضمن الأصول، ولا يتناول ما هو معلوم من الدين بالضرورة، ومنبعه الاجتهاد، بل إن الانحراف في الفهم أمر واقع، وهذا يخضع للنقد والمناقشة لا التناحر والمدابرة. وإن الأمة لم تجتمع على مذهب فقهي واحد حتى تجتمع على طريقة أو جماعة في العمل الإسلامي مهما كان منهجها أو توجهها.
وفضلاً عن أن "الوحدة" غير ممكنة فإنها تثير إشكاليات أخرى، أبرزها استبداد الجماعة بالمرجعية؛ ما يلغي حرية الاجتهاد المكفولة لكل مؤهَّل، كما أن التنظيم الواحد يجعله مستعصيًا على التجديد في القول والعمل، وهو ما تفرضه ضرورات الواقع، ورهاناته. (ألم تشهد ظاهرة "الدعاة الجدد" نجاحًا باهرًا بالرغم من حداثة سنهم الدعوي؟)، هذا فضلاً عن أن أخطاء وحدة الجماعة من شأنها أن تحمل على الخلط بين الإسلام والمسلمين، وتناسي المسافة الفاصلة بين المبدأ والتطبيق لعدم وجود جماعة أخرى أو جماعات تمثل تنويعًا آخر في التطبيق يمكن أن يكون شاهدًا على صحة المبدأ.
تعديل الخطاب.. مدخلاً للإصلاح
لكن إذا كانت التعددية أمرًا مشروعًا وواقعًا لا بد منه، فالسؤال المفروض بحثه هو كيف تتحول هذه التعددية من حالة تناحرية إلى حالة تآلفية على مستوى العلاقات، وتنوعية على مستوى الأفكار؟
ثمة مشكلات جوهرية يعاني منها الخطاب على مستوى المفاهيم والتصورات، والأدوات التواصلية مع الجمهور، تكاد تتوحد على مستوى الخطاب كله لو نظرنا إليه على أنه خطاب واحدي في مجموعه. لعلّ أبرزها الوصاية على الحقيقة الواحدة المطلقة، ومع تعدد الجماعات يتعدد الأوصياء، ما يشكِّل جسم الحالة التناحرية القائمة، وهنا يكون إزاحة مفهوم "الوصاية" ونفيه عن العمل الإسلامي شرطًا أساسيًّا لحرية الاجتهاد المنهجي، وتجاوز التناحر، فلا وصاية لأحد على أحد في التصور الإسلامي، وإن الله تكفل بحفظ هذا الدين، وهذا لا يلغي مشروعية الاجتهادات مهما تنوعت، لكنه ينفي مفهوم "الوصاية" سبيلاً لحفظ الدين؛ لأن الحفظ موكل إلى الله تعالى وحده، وشدة الحرص على الدين التي تدفع إلى ممارسة الوصاية تعكس شكًّا في حقيقة حفظ الدين بنا ومن دوننا.
ونفي الوصاية يطاول الأشخاص كما يطاول الأفكار، ومن المؤسف حقًّا أن كثيرًا من الجماعات الدعوية لا تعترف بـ"أهلية" المدعو فتلزمه بجماعتها، وبالسمع والطاعة للشيخ الذي يبقى "يؤهله" على الدوام حتى الممات! وهنا لا بد من تجديد النظر إلى أدبيات العالم والمتعلم، الشيخ والمريد -بتعبير المتصوفة- لأن كثيرًا منها يخرج عن إطار الاحترام والتوقير الواجب شرعًا وعرفًا، إلى ما يشبه التقديس والتمركز حول ذات الشيخ واعتقاد إصابته على الدوام، ما يجر إلى مفهوم "العصمة" له الذي يشكل مفهومًا مركزيًّا في الفكر الشيعي.
وتجديد النظر إلى الأدبيات هذه، من شأنه أن يحرر المدعو من قيود الحجر على التفكير والممارسة النقدية السائدة داخل الجماعات عامة، وهنا يكون إقرار السؤال والمساءلة والاعتراض والمحاججة نفيًا لأسلوب التلقين المتبع لدى الجماعات، بل والمؤسسات الدينية التعليمية الذي صنع نسخًا مكررة تستطيل على الزمان، وتستعصي على التغيير كأنها جواهر ثابتة.
وليس عبثًا بعد هذا أن يتم اعتبار ممارسة "النقد" داخل الجماعات نوعًا من قلة الأدب مع الشيخ، أو التطاول على العلماء، حتى إنه في بعض الأحيان أورث ممارسات متطرفة لا تهدف إلا إلى التهجم على فلان أو عِلان. (بعض هذه الممارسات كان من شيوخ جماعات ضد شيوخ آخرين وبأقذع الشتائم!!).
هذه الممارسات النقدية والمساءلات داخل الجماعة الواحدة، وبين الجماعات من شأنها أن تحدث تفاعلاً إيجابيًّا، واختبارًا للأفكار والتصورات لاختيار الأصلح والأنفع، مع إعذار كلٍّ للآخر، ما دامت الأصول العامة واحدة، والأهداف الكبرى واحدة. وهذا التفاعل لا بد أن يؤثر في النسق التصوري التقليدي الثابت في جوهره أصولاً وفروعًا لدى كل جماعة، وخصوصًا في علاقته بالآخر، وبترتيب أولوياته، وقراءته للحالة الإسلامية. لكن الممارسة النقدية لا تعني "التجريح" في محاولة إثبات شخص بنفي شخص آخر، فنعود للدوران في الشخصنة من جديد!.(/4)
وحالة "الشخصنة" هذه تفسر غياب "آداب الاختلاف" في القول والعمل، في العمل الديني عامة، ذلك أن آداب الاختلاف تتمحور حول نقد الأفكار مع الحفاظ على سلامة الصدور ونقاء العلاقات الشخصية؛ لأن الفكرة تنفصل عن الشخص في صورة الاعتقاد بأحقية الحق المجرد (لا الذي نمثله نحن) ووجوب اتباعه والاقتراب منه بقدر الجهد والإمكان، وأفضلية الاعتراف بالخطأ، وأن الجميع يؤخذ منهم ويُرَد عليهم إلا "الوحي"، وهي الآداب التي كانت سائدة في العصر الأول زمن الصحابة الذين اختلفوا وتفرقوا في الأمصار، وفي عصر أئمة المذاهب الذين كان يعذر بعضهم بعضًا، حتى أن أبا حنيفة كان يقول: "هذا رأيي، وهذا أحسن ما رأيت، فمن جاء برأي خير منه قبلناه".
وهنا قد يفرق بعضهم بين "العلم" و"الدعوة" بأن الثاني يقوم على "تبليغ الحقائق" والجزم بها حتى يتأتى للمدعوين الامتثال لها والتصديق بها، بينما يقوم العلم على الإدراك النسبي والشك المنهجي. لكن هذا محلُّه في تبليغ "الحقائق" وهي "ما عُلم من الدين بالضرورة" وليس في كل ما يقوم به الدعاة، وهذا أحد أهم مَقاتل الدعوة أن تُنزِل المسائل الاجتهادية منزلة أصول المسائل الاعتقادية اليقينية، والفروعُ منزلة الأصول! ثم إن الجماعات الدعوية اليوم يختلط فيها العلم بالدعوة، ما يصعب معه الفصل بينهما.
إن سيادة هذه الممارسات النقدية، المحكومة بآداب الاختلاف من شأنها أن تكثف الوعي بالفكرة والهدف الذي ضمر في ظل هاجس الشيخ الفرد، والجماعة المتفردة، كما من شأنه أن يُفعِّل العمل الدعوي، والنشاط الاجتهادي، نحو التكامل والقبول بالآخر المختلف، وبهذا يكون الإخلاص والتجرد للفكرة لا في فلك الشخص وفي إطار الجماعة الضيقة.
ولكي لا نُغْرِق في التجريد فإن ثمّة خطوات إجرائية يمكن القيام بها كخطوة أولى في محاولة الإصلاح هذه، من خلال تبادل الدعاة بين الجماعات، وعقد المؤتمرات والندوات المشتركة، والتي تناقش موضوع العلاقات بين جماعات العمل الإسلامي، والموضوعات ذات الاهتمام التي تناقش الرؤى المختلفة، والإصدار المشترك لإنتاجات دعوية وعلمية بحيث يتم كسر حدة تحيز الأتباع ضد بعض الأسماء، والحث على قراءتها، والحث على حضور مجالس الدعاة الآخرين والتواصل معهم، وتبادل خطب الجمعة، والتعاقب على المنابر، وعقد لقاءات تعارف ونحو ذلك.
إننا ننظر إلى هذه العملية الإصلاحية على أنها خطوة في طريق التحول من نشاط "الجماعات" إلى نشاط "المؤسسات" بالمعنى الحديث، وفق الأسس التنظيمية الحديثة التي تتمحور حول أهداف واضحة، ووفق سياسات ووسائل إجرائية، وتخضع للتقويم والفحص الدوري، وتتحرر من أَسْر الشيخ الفرد لتتمحور حول الهدف والفكرة، ولا تموت بموت الشخص، ويكون القرار فيها لمجموع أهل الخبرة، دون أن تقع في ربقة "الرسمية" والتراتبية الإدارية، أو المحسوبيات والولاءات والانتماءات، لكن من المهم الإشارة إلى ضعف فكرة "المؤسسة" لدى الإسلاميين، وعدم نجاحهم -حتى الآن- في إنشاء مؤسسات بالمعنى الحديث للكلمة، وحتى ما قام من المؤسسات لم يلبث أن أخذ شكل "جماعة" ودخل في أسر الفرد، ومن هنا تأتي محاولتنا خطوة نحو التقريب لذلك، والأمل بإحلال "المؤسسة" بدل "الجماعة". ...(/5)
صدَّام ... عزيز قوم ذلَّ
بسم الله الرحمن الرحيم
( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَ تَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [ آل عمران : 26 ]
الحمد لله و كفى ، و الصلاة و السلام على عباده الذين اصطفى ، و بعد
فقد أفل نحم صدَّام الطاغيةِ من ساحة الحكم ، و إن كان ذلك لا يتطلب لزاماً أن يأفل من تاريخ الإنسانية إلى الأبد ، لأن صفحات التاريخ بما فيها من خير و شر ، لا يمكن أن تطوى ، و ليس بمقدور أحد أن ينسف مرحلة تاريخية تعد بعشرات السنين بدعوى التخلص من تبعات الظلم و الطغيان التي شهدتها .
فالتاريخ لا يزال شاهداً على أحداث جسام وقعت في مختلف مراحله ، و حاول الكتاب و المؤرخون توجيهها بحسب آرائهم و قناعاتهم التي صبغت بها كتاباتهم ، من دون أن تلغي ما كتبه الآخرون ، و ظلت أسفار التاريخ خير وعاء لما قاله هؤلاء و أولئك ، مقرَّةً بذلك تعدد الرؤى و الآراء ، التي عجز عن الإقرار بها الساسة و الكتاب و القادة و المفكرون .
فكما أن الجنود الذين وقفوا جاثمين أمام نهب تراث الأمة في العراق ، و شواهد تاريخه العريق ، لم يكُن باستطاعتهم تغيير تاريخه الغابر ، فلن يستطيع من أسدلوا الستار على مرحلة من حكم صدام و حزبه ، أن ينسفوا مرحلة من مراحل تاريخه المعاصر ، أو تاريخ العالم الذي عاش فيه مؤثراً و متأثِّراً بقرار إقصاءٍ أو تجميدٍ ، أو اعتقالٍ أو تصفيةٍ .
و نحن إذ نقف أمام حدث جسيم لم يبدأ باعتقال صدام ، و لن ينهيه اعتقاله ، و إن كان أحد أبرز معالمه ، لن نردد - و لا ينبغي لنا أن نردد - ما لا نسمع له نقضاً و لا نقداً من قوة المحتل الجاثم على أرض العراق ، و المستأثر باقتصاده و سياسة أهله ، المتسلط على رقاب بنيه ، و ما ظهر من ثرواته و ما بطن ، و لا من أولئك الذين يسبحون بحمد المحتل ، و يتسابقون على ما يمجه بين أيديهم مما فضل عن حاجته ، أو قصُرَ عن سيطرته .
إننا لا نريد من هؤلاء و لا غيرهم أن يمجدوا صدام ، لأنه أهان نفسه قبل أن يهنه أعداؤه ، و أجرم في حق أمته قبل أن يجرم في حقه أعداؤها ، و أذنابهم و أجراؤهم من أبنائها .
و لا ندعوا لعودته إلى سدة التسلط و الجبروت التي قال بلسان حاله من فوقها ذات يوم : ( أنا ربكم الأعلى ) و ( ما علمت لكم من إله غيري ) ، فقد تحملت الأمة من عبء مظالمه ما تنوء بحمله الجبال ، شأنه في ذلك شأن سائر الطغاة ، و إن كان أسرع في السقوط منهم ، و أجلب على نفسه بخيله و رَجِلِه ، و أسلحة دماره الشامل و المشمول ، ما عُلِمَ منه و ما لم يُعلَم .
و لكننا – و الله غايتنا – نرمي إلى قول كلمة حق ندين الله تعالى بها ، و نؤديها بعد أن ظلت ديناً في أعناقنا ، فكما أفتينا من قبل بردة الرجل عن الإسلام ، و بيَّنا ما كان منه من كفر بواح ؛ إذ صرَّح باعتقادة بمبادئ الكفر ( الحزبية منها و الشخصية ) ، و أعلنها حرباً على الإسلام بلا هوادة ، و حادَّ الله و رسوله ، و لم يكن له من عذر يرفع عنه حكم الكفر ، فقد أقيمت عليه الحجة فقطع لسان من نطق بها ، و انتفت عنه شبهة الإكراه و التغرير لما عرِف في يده من قوة ينزجر أمامه من يلوح له بالإكره ، أو يسعى به إلى التغرير .
فقد قلنا بكفره يومها ، لأن الحق أمامنا أبلج لا لبس فيه ، و لم نقله تبريراً لاستعانة جيرانه بقوى الكفر في حربه ، و لا بسبب غزوه لجارته ( العربية ) ، و لا لأن حاكماً استنطقنا فنطقنا بما نعتقد أو يعتقد .
قلنا بكفره لفساد فكره الذي اتخذه ديناً و ديدناً ، و رأينا أن الحكم عليه بالكفر هو الأصل ، و أن ما سوى ذلك عارض لا يصار إليه إلى بدليل جلي واضح في ظهوره كالشمس في رابعة النهار نشهدُ به أو نَدَع .
و دارت الأيام دورتها فرأينا من الرجل في سنوات حكمه الأخيرة إقبالاً على الإسلام من جديد ، سواء كان ذلك في خاصة نفسه ، و سلوكه الفردي ، أو في توجيهه لأركان حكمه و عناصر حزبه الذين أ َطَرَهُم على الدورات الشرعية ، و حفظ القرآن الكريم أَطْراً ، و رأيناه يستبدل الرسالة الخالدة ( رسالة صعاليك العرب و دعاة القومية المعاصرين و الغابرين ) بما يشير إلى دين الأمة و مكمن عز أبنائها ، فيكتب بخط يده على راية بلاده لفظ ( الله أكبر ) ، و هذه تطورات منهجية لو كتب لها التطبيق لأحدثت انقلاباً فكرياً جذرياً في فكر البعث العراقي و عقيدة أعضائه عقب حرب الخليج الثانية التي قادتها دول التحالف الصليبي لإجلاء الجيش العراقي من الكويت ، و عُرِفت في وقتها بحرب تحرير الكويت .(/1)
بدأت معالم التوجه الجديد للحزب الحاكم في العراق تتضح شيئاً فشيئاً بعد أن شُكلت لجنة حزبية ( تصحيحية ) مكلفة من قبل صدَّام بإعادة صياغة المناهج التي تشكل العقلية الدينية لحزب البعث ، فتقدَّمت اللجنة بتوصيات عُرضت للقيادة واضعةً نصب عينيها أملاً ضئيلاً في إجازتها ، و ذُهل الجميع أمام تبني القيادة لعدد من هذه التوصيات و اعتمادها ضمن ما سمي لاحقاً باسم الحملة الإيمانية ، رغم أن ذلك كان مستبعداً في نظر العارفين بتاريخ النظام الحاكم ، رئيساً و أعضاءً .
و مما أُخِذَ به و قُنِّنَ مِن بَعدُ اعتماد منهج شرعي يُدَرَّس لأعضاء الحِلَق الحزبية بمختلف مستوياتها ، و لهذا الغَرَض تم تأسيس معهد عالٍ تُدَرَّسُ فيه خلال عامين العلوم الشرعية لكوادر الحزب ، بصفةٍ إلزامية يعاقب المتخلف عنها ، و اختيرت للتدريس في المعهد كُتُب عُرِفت بسلاسة التأليف و سلامة المنهج ككتاب فقه السُنَّة ، للسيد سابق ، و منهاج المسلم ، لأبي بكر الجزائري ، إلى جانب مقررات حفظ القرآن الكريم التي بلَغت ثلاثة أجزاء في بعض المستويات .
فكيف إذا أضيف إلى ذلك إلزام كوادر الحزب بشهود الجُمَع و الجماعات في المساجد ، و غير ذلك من الأمور التي يعتبر مجرد تقريرها – و لو نَظَرياً – أمارةً على تحوُّل كبير في مسيرة الحزب الذي قاده صدَّام و رسم معالم مسيرته الرئيسة .
و لم يقف حد ( الإصلاحات ) على التوجه الحزبي و مسيرة ( الرفاق ) بل شمل أنظمةً و أعمالاً تستحق الإشادة و العرفان ، فقد وقفَ الثقات لصدام على أعمال جليلة في مجالات التعليم الشرعي و دعم الجهاد و أهله في بيت المقدس و أكناف بيت المقدس بتجهيز الاستشهاديين ، و خلافة أسرهم بخير ، و إغاثة اللهفان من ضحايا الاحتلال و الاستيطان ، و قمع الفساد و تعقب أهل الفواحش و البغاء المعاصي في أنحاء العراق ، و نحو ذلك مما يعتبر دليلاً على التوجه الجديد للرجل ، فشهد قومٌ بما علموا ، و قيد آخرون بالكتابة و المقال .
و من أعماله المشهودة داخلياً على سبيل الذكر لا الحصر توسعه في بناء المساجد ، و تشجيعه على ذلك بإسقاط الضرائب عمن يبني لله مسجداً . و لو كان مقياس الالتزام بالشريعة السمحة قائماً على توسعة المساجد ، لكان أكثر التزاماً في هذا الباب من أكثر الدول الإسلامية تغنياً و مفاخرة بالتوسعات .
و حينما تسابق حكام المسلمين على إرضاء الغرب بالتضييق على التعليم الشرعي في بلادهم ، و تضييق الخناق على ما يسمونه إرهاباً بتحريف المناهج الشرعية و التضييق على أروقة العلم و مناراته و معاهده و جامعاته ، عَمَدَ صدام إلى السعي في الاتجاه المعاكس لرغبات الغرب الصليبي في هذا المضمار فبنى عدداً من دور التعليم الشرعي و أغدّق عليها العطاء ، و منها : المعهد العالي للإمامة و الخطابة ذي الفروع المنتشرة في المحافظات ، و جامعة صدام للعلوم الإسلامية ، و كلية المعارف بالرمادي ، و كلية العلوم الإسلامية و فيها قسم لأصول الدين ، و آخَر للشريعة ، إلى غير ذلك مما بلغنا و ما لم يبلغنا خبره .
و لولا الإطالة لأسهبنا في ذكر أمارات التوبة التي ظهرت على صدام خلال السنوات العشر الأخيرة ، و من أراد التوسُّع و الإحاطة أحلناه على ما نُشِر في موقع مفكرة الإسلام الإخباري على شبكة المعلومات الدولية ( الانترنت ) ففيها إجادة و إفادة .
و ها نحن أولاء إذ بَلَغَنا عن صدَّام ما يدلُّ على توبته من الكفر ( الأكبر ) المخرج من الملّة قلنا ( و ما شهدنا إلا بما عَلِمنا ) : أفلَح إن صَدَق ، و توقعنا منه ، و رجونا له العَوْد الحميد إلى دين الله المجيد .
و لا شك أن الفتيا بإسلام المرء بعد كفره تقبل بالقرائن الدالة على ذلك ، و كلما تواترت القرائن كانت أقوى في الدلالة على الأمر ، و قد تواترت عن صدام مؤشرات التوبة من الكفر البواح الذي كان متلبساً ( و حزبه ) به لعشرات العقود .
و إنني اليوم إذ لا تنتابني غضاضة ، و لا أرى بأساً في الحكم بما بلغني من توبة الرجل من الكفر ، لا أزعم فيه عدالة و لا أهلية لسياسة و لا سيادة ، فهو و شعبه في شأنٍ عظيم من الجرائم و الطغيان و الظلم ، و لا بد لديوان المظالم أن يفتح في الدنيا أو الآخرة أو فيهما معاً فيحكم فيه بشرعة لا تعرف الإجحاف ، في محكمة لا يظلم فيها أحد .
و إني إذ أستبعد ، و أكاد أجزم باستبعاد أن يجد الرجل من يحاكمه بشريعة الإسلام ، أو مَن ينصفه من غير أهل الإسلام ، لعلى يقين بأن يد العدالة الربانية لا يفلت منها أحد في العاجل أو الآجل ، فالكل صائر إلى مصيره ، واقف بين يدي ربه القائل : ( لا ظلم اليوم ) .
و إن لم تُنصِف الرجلَ محكمةٌ ، فلا أقل من أن تنصفه كلمةُ حق .(/2)
فقد قال الله عز وجل: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَ لَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَ الأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ) [ النساء : 135 ] .
و في الصحيحين عن أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ : ( ألا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ) ثَلاثًا . قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ! قَالَ : ( الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ ، وَ عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ) ، وَ جَلَسَ وَ كَانَ مُتَّكِئًا ، فَقَالَ : ( ألا وَ قَوْلُ الزُّورِ ) قَالَ أبو بكرةَ : فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ .
فمن أمكنه الإفلات من قول الزور في الإعلام ، و العمل به عند الساسةِ و الحكَّام ، شهد بحقٍ أنَّ للرجل توبته إن صدق فيها – و نرجو أن يكون صادقاً – و لم يتألَّ على الله أن يقبلها إن صدرت منه بشَرْطِها ، و له على ذلك ما رواه الإمام مسلم في الصحيح بإسناده عَنْ جُنْدَب البَجَليّ : أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ حَدَّثَ : ( أَنَّ رَجُلاً قَالَ : وَ اللهِ لاَ يَغْفِرُ اللهُ لِفُلاَنٍ ، وَ إِنَّ اللهَ تَعَالَىَ قَالَ : مَنْ ذَا الْذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لاَ أَغْفِرَ لِفُلاَنٍ ، فَإِنَّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلاَنٍ ، وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ ) .
و إن أبى قصار النظر شرعاً و عقلاً إلا أن يدينوا مخالفيهم بتهمة الدفاع عن صدام ، فليس لنا في رد الهوى سبيل ، سوى أن نؤكد على أن الحكم بتوبة المرء من الكفر لا يلزم منه تبرئته مما جنته يداه في حقوق العباد ، إذ لم تثبت توبته من ذلك ، لتخلف شرطها الرابع ؛ و هو رد المظالم إلى أهلها ، و استحلالهم قبل أن لا يكون درهم و لا دينار ، إلا الجنة أو النار ، و لم نعرف عن صدَّام شيئاً من هذا القبيل ، من طريق يمكن التثبت منه ، و يصلح للحكم بلازمه .
و حذار ! حذار ! من أن يتخذ هذا تبرئة لساحة الحاكم الظالم من إسرافٍ في جنب الله ، فنحن لا نمجد طاغوتاً ، و لا نثني على ظالم ، و لا نبايع أنصاف الرجال و أرباعهم أوصياء على خير أمة أخرجت للناس ، و لا نضرب بسيف تُضرَبُ به أعناق المسلمين ، مع كائنٍ من كان .
أما فيما يتعلق بما يجري في العراق من جهاد و إعداد و استعداد لدفع العدو الصائل على الأرض و الأهل و الحُرُمات ، فلم نسمع من عاقل ، و لم يبلُغنا عن ثقة أن صدام يقف وراءه ( فضلاً عن أن يقوده بنفسه ) أو يكون له فيه رأي سديد ، أو إمداد أو إعداد ، و هذا أمر توافق عليه العدو و الصديق ، و أجمع عليه كل من يتابع الأحداث في العراق و يتفحص ضربات المجاهدين التي تقصم ظهور المحتلين ، و تخلخل صفوف العملاء و المنافقين .
و إذا سُلِّمَ جدلاً أن لصدام يدٌ فيما يقوم به المجاهدون من قبيل الدعم المادي ، أو التخلية بينهم و بين عدوِّهم مع قدرته على منعهم ( على فَرَضِهَا ) فهذا أمرٌ يشرِّفه و لا يشرف الجهاد و لا أهله ، و ينبغي للعقلاء أن يكفوا عن نسبة المجاهدين للشرق تارة و للغرب تارة لمجرد التقائهم مع هؤلاء في التصدي لعدوٍّ مشترَك .
و مع ما نذهب إليه مما تقدم بيانه ، فقد وقفنا على كثير من الآراء المخالفة ، و التي تناقض ما قلناه بالكامل ، و تسعى لنقضه من أساسه ، و لا يمنعنا ذلك من استيعاب المخالف ، و قبول رأيه ما دام عن حجة و دليل ، لا يتخلله هوىً و لا تضليل ، فإن العاقل من وسع غيره ، و الموفق من كان سماعه أكثر من مقاله .
غير أن ما يسوؤنا و يسوء كل حرٍّ ، كريم النفس ، عزيز الطبع أن تنساق العامَّة وراء من يبرر باطلاً بباطل ، و منكراً بمنكر ، كما فعل أذناب الغرب بتسليم بلادهم للغزاة انتقاماً من الجناة ، و قبولهم للاحتلال حنقاً و غيظاً مما اقترفته أيدي الحكام من أعمال قتل و تنكيل و اعتقال ، و كأن بطش العدو البعيد بلسم ، و مثله من القريب علقَم .
و هذه موازنة يردها العقل و الفطرة و الشرع على سواء ، فما فتئ البشر ( كما في كوبا ، و صربيا ، و غيرهما ) يصبرون على ضيم القريب ، خوفاً من تسلط عدوٍّ غريب ، حتى شهدنا ما شهدناه في العراق من انقلاب الموازين ، حيث أصبح للباطل دولة ، و للخائن سلطان .
و أصبح يُنظر إلى صدام الطاغية على أنه ممثل أهل السنَّة ( و ربما بقيتهم ) في العراق ، و حُمِّلوا ( زوراً و بهتاناً ) جريرة جرائمه التي اقترفها حيناً من الدهر لم يكن له فيه دين و لا ذمَّةٌ و لا خلاق .(/3)
و يبدوا أن هذه الدعوة ستتخذ ذريعة للقضاء على أهل السنة في العراق على أيدي خونة الكرد ، و منافقي الروافض الذين لم يعرف له عبر التاريخ موقف مشرف يتصدون فيه لمعتدٍ ، أو يدفعون فيه عدوَّاً ، و لذلك لم يفاجأ أحدٌ بوقفتهم الصلبة خلف ( و لا أقول إلى جانب ) غزاة الصليبيين المعاصرين ، و تسليمهم ديارهم و أموالهم و سلاحهم بلا مقابل سوى استئصال شأفة البقية الباقية من القلة المستضعفة ( على يد صدام و من قبله و من بعده ) من أهل السنَّة و الجماعة .
هذه رؤيتي للحدث ، و أنا أرى المحتلين و أذنابهم و حرَّاسهم لا يدعون نهجاً و لا وسيلة يذلون بها العرب و المسلمين إلا بالغوا فيها ، معتزين بباطل لو سمح لأهل الحق بمجابهته وجهاً لوجه لما صمد ساعةً من نهار .
و من مظاهر الإذلال الممعن للعرب و المسلمين على سواء ما واكب اعتقال الطاغية صدام من تصريحات و تقارير مصورة و غير مصورة ، ابتداءً بتصوير جحره ( مع أن الاختفاء فيه أشرف و أكرم بكثير من الارتماء في أحضان الأعداء ) و انتهاءً بتصريحهم بما يريدون به ، و مروراً بعرض صوره و هو يعرض على الطبيب كبقرة هولندية في إصطبل هارٍ .
و أعجب منهم أهل الشماتة و التشفي ، المستجيرون من الرمضاء بالنار ، إذ أنساهم ماضيهم المظلم ظلمات الحاضر و المستقبل تحت سلطة المحتل و سياطه .
و مع ما قد يبرر فرح القوم و ابتهاجهم بسقوط طاغية ظالم ، نقف عاجزين عن تبرير الارتماء القوم في أحضان الأعداء الذين كان لهم – من قبل – دور أساسيٌّ في إيصال صدام إلى السلطة ، و حمايته ، و تبرير جرائمه و مواقفه و كثيرٍ من حروبه ، و – ربَّما – التورُّط في استدراجه إلى بعضها ، قبل أن ينقلب السحر على الساحر ، و يسقيهم من الكأس التي أرادوها له .
و لهذه الأسباب و أسبابٍ أخَر – يسَّر الله بيانها أو تعدادها لاحقاً – ينبغي لنا أن نكف ألسنتنا عن التشفي و الشماتة بسقوط الظالم على النحو الذي بلغنا أو غيرِه ، و نسأل الله أن يختم لنا و له بالحسنى ، و أن يردنا إليه تائبين نادمين ، بما اقترفت أيدينا مقرين ، و على سوء أفعالنا نادمين ، قبل أن لا ينفع درهمٌ و لا دينار إلا من أتى الله بقلب سليم .
و إن كان ما رأيناه مصيرَ من عُرِف بتجبره و ظلمه ، فإننا نستعيذ بالله تعالى من أن يأتي علينا زمان نرى فيه أياً من رموز الأمة الصادقين ، و من كان من أبنائها من المجاهدين العاملين ، فريسة في أيدي أعداء الدين ، و نسأله أن يختم لأوليائه بإحدى الحسنيين ، و أن لا يشمت فيهم أحداً من العالمين ، إنه على ذلك قدير ، و بالإجابة جدير ، فنعم المولى و نعم النصير .
و يحسن بنا في مثل هذا المقام تمثل مقولة الفضيل بن عياض رحمه الله :
( ارحموا عزيز قومٍ ذلَّ ، و غنياً افتقر ، و عالماً بين جُهَّالٍ )
و الله المستعان ، و لا حول و لا قوة إلا بالله العليِّ العظيم .
وكتب
د . أحمد بن عبد الكريم نجيب
Dr.Ahmad Najeeb
alhaisam@msn.com(/4)
صراع الأجيال .. الصداقة بين الأم والفتاة
'أنت من جيل وأنا من جيل لذلك لن تفهميني'
جملة تتردد كثيرًا على ألسنة الفتيات عندما يحتدم النقاش والكلام بين الأم وابنتها, ولا شك أن هناك تصرفات قد تنزعج منها الأم تصدر عن الفتاة مثل:
1ـ العناد: فقد ترفض الابنة القيام بعمل ما ولو كان مفيدًا لمجرد المخالفة ولكي تشعر بالاستقلالية والتميز.
2ـ الانتقاد: فقد توجه الفتاة النقد اللاذع لأمها فتنتقد ملابسها لأنها لا تناسب [الموضة] والأسلوب الذي تتعامل به مع الآخرين تقليدي وغير ذلك مما يسبب للأم الضيق والحرج أحيانًا.
3ـ الخصوصية: فتعيش الفتاة في جو محاط بالخصوصية والأسرار وإن كانت تافهة وتلجأ أحيانًا إلى استفزاز أمها بتصرفات غريبة، وتتهم الأم بالتطفل إذا حاولت التدخل في خصوصياتها.
4ـ التعاون: فقد ترفض الفتاة مشاركة الأم في أعباء المنزل وفي المقابل تضيع أوقاتًا طويلة في الكلام في الهاتف أو مشاهدة بعض البرامج أو قراءة المجلات وهذا بالطبع يزعج الأم.
5ـ العصبية: إن مما يزعج الأم العصبية الزائدة في ابنتها والمشاحنات مع إخوانها وخصوصًا الذكور لاسيما أن الأم تهتم دائمًا بتأكيد الصلات بين الأخوات في الأسرة.
هذه الأمور والاختلاف في طريقة التفكير قد تجعل هناك مسافة وهوة بين الأم والابنة وخصوصًا إذا كان رد فعل الأم كما في المواقف التالية:
إذا لم تذاكر الفتاة تقول الأم: 'عندما كنت في سنك كنت آكل ثم أذاكر وكانت حياتي المذاكرة'
إذا ردت الفتاة على الأم تقول الأم: 'عندما كنت في سنك كنت أسمع كلام ماما ولا أرد عليها'
إذا نقصت الفتاة في الدرجات تقول الأم: 'عندما كنت في سنك كنت أنجح في المدرسة بتفوق شديد'
إن هذه العبارات على العكس تسيء أكثر مما تنفع فيهدف المراهق بكل قوة إلى حماية نفسه ضد هذا الحوار ويقول: 'أنت من جيل وأنا من جيل '
لأن هذه المقارنة دائمًا تحمل معنى الدونية والنقد ويعتبرها المراهق معايرة صريحة له، وخصوصًا أنه لا يتصور فكرة أن الآباء والأمهات كانوا صغارً في يوم من الأيام في مثل سنه.
وقد سألت فتاة ذات تسع سنوات أمها هل كنت صغيرة مثلنا يا أمي؟
ضحكت الأم وقالت: طبعًا وهل ولدت كبيرة هكذا؟
وقد نجد في مجال علم النفس تفسيرًا لفكرة صراع الأجيال, فقد جاء في كتاب التحليل النفسي للمراهقة للدكتور عبد الغني الديدي ما يلي: 'لعل ما يميز مرحلة المراهقة على الصعيد الاجتماعي ما يُعرف بصراع الأجيال، ونعني به التنافر فالمراهق لا ينظر إلى الأمور بالعين التي ينظر بها الأهل: أذواقه في الملبس والمأكل والمشرب قد تصدم أذواق الكبار، وطريقته في التفكير وفي الحكم على الأمور كثيرًا استغراب الأهل ودهشتهم وحتى استنكارهم أحيانًا'
وقد أشارت بعض الدراسات إلى أن العديد من الصراعات التي سجلت بين المراهقين ووالديهم تعود أسبابها إلى الرغبة في الاستقلالية وعدم التبعية للكبار والتحرر والسعي نحو الشخصية المستقلة والسؤال هنا ما مجالات التعارض بين الأهل والمراهق؟
مجالات التعارض:
1ـ هناك تعارض بين حاجات الأهل وحاجات المراهق: فالأهل لهم نمطهم في المعيشة وأذواقهم وروتينهم وللمراهق روتينه وأذواقه وحاجاته ثم إن الأهل قد يشعرون بالإحباط إزاء طلبات أولادهم المتزايدة.
2ـ اختيار الرفاق ومرافق التسلية: فالأهل يريدون التدخل في اختيار الولد لرفاقه يشجعونه أحيانًا على اختيار من لا يرغب في صحبتهم ويطلبون منه الابتعاد عمن يرتاح إليهم.
في جميع الأحوال ينبغي احترام شخصية المراهق لأنه شديد النرجسية شديد الحساسية لكل ما يسيء إلى اعتباره لذاته أو لمعنوياته, ولعل المراقبة غير المباشرة والتلميح الذكي والقدوة الحسنة وملء الفراغ بالنشاطات الدراسية والترفيهية السليمة وإشباع الحاجات بالشكل المتسامي خير من الوعظ المستمر الذي لا يجدي.
أما إذا انعدمت الثقة بين المراهق وبين المربين وانسدت سبل الحوار والتفاهم خاصة في البيئات المتسلطة أو الفوضوية فإن النتيجة ستكون وخيمة وسوف يعمد المراهق عندئذ إلى تأكيد ذاته بالشكل السلبي أو المرضي!!
صراع أم تفاعل؟
الواقع أن العلاقة بين الأجيال هي علاقة تفاعل وليست علاقة صراع حيث إن الأهل والأبناء الأصل أنهم لا يكنون لبعضهم إلا المحبة والاحترام وهذا هو شرعنا الرائع يقول يوسف أسعد في كتابه [رعاية المراهق]:
'ذلك أن التصارع ربما يعني المقاومة التي لا تنتهي إلى حدوث تفاعل؟ أو الوصول إلى محصلة نهائية أما التفاعل فإنه يعني بالضرورة حدوث تداخل واندماج بين الطرفين المتفاعلين، بحيث ينتهي هذا التفاعل إلى نتيجة جديدة ومحصلة عام'(/1)
'ولا شك أن الأسرة المتماسكة هي المؤهلة لرعاية مطالب المراهق النفسية والاجتماعية، وهي الجديرة بحدوث تفاعل بينها وبينه .. بحيث تبزغ شخصية المراهق لا كنسخة من شخصيات الكبار، أو كنسخة من الإخوة والأخوات الكبار، بل تبزغ كنتيجة للتفاعل بين أفكار وقيم واتجاهات الكبار، وبين أفكار وقيم واتجاهات المراهقين'
إن القاعدة الإسلامية في التربية تقوم على ركيزتين متوازيتين:
الأولى: الثبات على قيم الدين والأخلاق.
الثانية: الحرية والحركة نحو المستقبل.
فالحياة الإسلامية تعرف جيدًا ظاهرة الاختلاف بين الأجيال ولكنها لا تعرف أبدًا ظاهرة الصراع بين الأجيال.
صراع الأجيال عند عمر بن الخطاب
لقد تنبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في وقت مبكر من التاريخ الإسلامي حين قال: 'أحسنوا تربية أولادكم فقد خلقوا لجيل غير جيلكم', وكأن أمير المؤمنين يلمح بهذا إلى ما يحدث في حياة البشر من التغيير فيقول: 'أحسنوا تربية أولادكم', أي اضبطوهم بالقيم الثابتة كي لا يجرفهم التغيير فيحيدوا عن سواء السبيل.
أسباب الصراع
لا يفوتنا قبل أن نختم هذا الموضوع أن نذكر بعض الأسباب والعوامل التي قد تؤدي إلى ما يسمى بمشكلة الصراع بين الأسرة والأبناء ومن أبرزها:
1ـ المبالغة في التدليل: عندما لا يجد المراهق نفس القدر من الاهتمام خارج المنزل فسوف تتحول مواقفه إلى مواقف عدوانية أو يتحول إلى سلوك انسحابي أو انطوائي.
2ـ المبالغة في السيطرة والضغط: وهو أسلوب لا يتيح للمراهق فرصة التفكير المستقل، وسيكون رد الفعل قويًا من الأبناء أو يتحول رد الفعل إلى خضوع واستكانة.
3ـ النبذ والإهمال: وهو أخطر عوامل الصراع وقد يكون صريحًا كالكراهية أو ضمنيًا كالإهمال وعدم الاهتمام بالمراهق.
4ـ اختلاف الأجيال: فقد يكون هناك خلاف وتغير في المفاهيم وهنا يأخذ الأهل طريقين: إما التساهل حتى لا يظهروا بمظهر المتخلف أمام الأبناء أو يتمسكوا بقوة بكل ما لديهم من معايير.
تطور الوالدين:
يجب ألا يقف الآباء والأمهات عند تاريخهم السابق وزمانهم، بل يجب أن يطوروا أنفسهم بما يتلاءم مع الزمن الحالي الذي يعيش فيه المراهق، إن تطور الوالدين سوف يعكس ما هو أفضل وأنسب للمراهقين خاصة فيما يرتبط بالأفكار والممارسات العقلية بدلاً من تلك الأفكار المرتبطة بالعقود السابقة. كما يمنع هذا التطور الصراعات غير الضرورية القائمة بين الآباء والمراهقين أو السلوك المختفي للمراهق والذي قد يؤدي إلى الشعور بالذنب، إنه لا يمكن أن تتطور علاقة الصداقة والتفاهم والثقة بين المراهقين ووالديهم، إذا عاش الوالدان وفقًا لأفكار لا يستطيع المراهقون فهمها أو قبولها, وفي النهاية أقول للأم والفتاة كونا صديقتين ولا تكونا نسختين لأصل واحد(/2)
صراع الحضارات أو حوار الحضارات؟
يريد الغرب من المسلمين جواباً واضحاً ونهائياً عن موضوع الحضارات، وهل هم في حالة صراع أم حوار؟ تماماً كما طلب منهم سابقاً جواباً شافياً حول انتشار الإسلام بالجهاد والسيف والإكراه أم لا؟ وهل الجهاد (حرب دفاعية) أم (حرب هجومية)؟ وطلب منهم سابقاً أجوبة عديدة مثل هل يُفصل الدين عن الدنيا والدولة والسياسة أم لا؟ وهل يعترف بالعلمانية والاشتراكية والديمقراطية والحريات أم لا؟ هل يقبل بالتعددية السياسية وتداول السلطة السلمي أم لا؟ فقائمة مطالب الغرب الحاقد طويلة وتكاد لا تنتهي، ويُخطئ من يظن بأن الغرب سيتوقف عن إخراج ما في جعبته من مفاجآت إذا ما أجبناه عن آخر سؤال يسأله لنا جواباً يعجبه ويرضي غروره.
أما عن موضوع صراع الحضارات فهناك ملاحظات رئيسة لا بد من ذكرها سواء رضي الغرب أم سخط وهي:
1- إن من طرح هذه المقولة صمويل هنتنغتون وهو رجلٌ منهم وليس منا، فهم من قال هذه المقولة ولسنا نحن.
2 - إن الصراع يأخذ أشكالاً عدة منها العسكري، ومنها الفكري، والإعلامي، والاقتصادي، والثقافي، وغير ذلك.
3 - إذا كان المسلمون يخوضون صراعاً هذه الأيام فإنه من قبيل الدفاع عن النفس، ومن قبيل ردة الفعل وليس الفعل، بسبب غياب الراعي وغياب من يدير الصراع.
4 - إن الغرب ينظر إلى المسلمين نظرة مصارعين له، حتى لو جلسوا في بيوتهم، وقيدوا أرجلهم، وكموا أفواههم، لأنه يعتبر وجود المسلم الملتزم بدينه المطبق لشرع الله على نفسه، في حالة صراع مادي ومعنوي معه ومع حضارته وفساده، لأنه لا يريد أن يرى على وجه الأرض من يخالفه الرأي، ويخالف عاداته ولباسه ولغته وثقافته، لأن غروره الزائد وغطرسته المتعالية لا تطيق أن يرى النقيض يعيش ويتنفس على وجه الأرض، وهو سيدها والآمر الناهي فيها.
5 - إن المخترعات والأبنية والعمران والعلوم ليست هي المقصودة في الحضارات، وهذا ما يجعل البسطاء يعيشون حالة خلط وضياع تعميهم عن الحقيقة(/1)
صراع الحضارات ومستقبل الدعوة الإسلامية
أ. د. جعفر شيخ إدريس
قُدم هذا البحث لمؤتمر عقدته مجلة البيان بقاعة الصداقة بالخرطوم يوم 17 رجب 1423 هـ الموافق 24سبتمبر سنة 2002
.
هيمنة الحضارة الغربية
إذا أردنا للحديث عن صراع الحضارات أن يكون حديثا تبنى عليه مواقف فكرية وعملية فيحسن أن لا يكون حديثا عاما، بل يحسن أن نشير فيه إلى وقائع وحالات محددة. لذلك نقول:
ما الحضارات التي يقال إنها تتصارع الآن؟
لكي نجيب عن هذا السؤال يحسن أن نتفق على ما نعنيه بكلمة الحضارة، في بحثنا هذا على الأقل. الحضارة كما نستعملها هنا هي الكلمة العربية المقابلة للكلمة الانجليزية civilization . فالحضارة بحسب ما نراه هنا مكونة من جوهر ومظهر. أما الجوهر فهو معتقداتها وقيمها وأنماط السلوك الشائعة فيها، وأما مظهرها فهو انجازاتها المادية من قوة عسكرية واقتصادية، ونظم سياسية وعمران.
الحضارة بهذا المعنى مفهوم محايد، أعني أنه لا يدل بنفسه على مدح أو ذم، شأنه في ذلك شأن عبارات الأمة، والأئمة، والخُلق والدين وغير ذلك. فالأمة قد توصف بالاستقامة أو الزيغ، والأئمة قد يكونون هداة إلى الحق أو موردين لمتبوعهم إلى النار، والخُلق قد يكون حسناَ وقد يكون سيئاً، والدين قد يكون حقاً وقد يكون باطلاً. وكذلك الحضارة قد توصف بالمادية أو الإيمانية، وبالقوة أو الضعف.
فما الحضارات ـ بهذا المعنى ـ التي تتصارع في عصرنا؟
لا نستطيع ـ فيما أرى ـ أن نشير في واقعنا الراهن إلى حضارة ماثلة محددة المعالم إلا حضارة واحدة هي الحضارة الغربية. وذلك أننا حين نتحدث عن الحضارة الغربية نستطيع أن نشير إلى دولٍ قائمة تتمثل فيها هذه الحضارة: فهنالك دول أوربا الغربية، والولايات المتحدة، وكندا، واستراليا ونيوزيلاندا. يجمع بين هذه الدول كونها كلها ذات نظام سياسي واحد هو الديمقراطية الليبرالية العلمانية، وأن بينها علاقات وتعاون، وأن لها تاريخاً واحداً مشتركاً، وأن الديانة النصرانية هي أكثر الديانات انتشاراً بين شعوبها. بل إن هذه الدول لتشترك شعوبها حتى في أزياء رجالها ونسائها، وفي كثير من اذواقها الأدبية والفنية. هذه الدول في مجموعها هي أقوى دول العالم اقتصاداً، وسلاحاً، وتأثيراً إعلامياً. حضارتها هذه هي الحضارة الغالبة المهيمنة على العالم.
هل نستطيع أن نقول مثل هذا عن أية حضارة أخري في واقعنا الراهن؟ كلا. نستطيع أن نشير إلى أقطارٍ أخرى إشارات سلبية بأن نقول إن حضارتها ليست غربية بالمعنى الكامل. فاليابان تشبه دول الحضارة الغربية في نظامها السياسي وفي تقدمها الاقتصادي، وتخالفها في تاريخها، وفي الدين السائد بين أهلها. وهي صديقة للغرب ومتعاونة معه لا مصارعة. وقل مثل ذلك عن الهند.
أما الصين فإنها تشبه الدول الغربية من حيث نموها الاقتصادي، بيد أنها تخالفها في نظامها السياسي والاقتصادي. لكن حتى هذين النظامين ليسا بنابعين من ثقافة صينية أو تاريخ صيني وإنما هما مستوردان من فكر غربي هو الفكر الماركسي.
مجموعة الدول التي كانت تسمى بالاتحاد السوفيتي كانت متشابهة في نظامها السياسي والاقتصادي، وكانت لها قوة عسكرية ورسالة أيدُلوجية ومطامع توسعية، فكانت هي فعلاُ المنافسة للغرب، لكنها حتى في أوج عظمتها لم تكن تمثل حضارة متميزة. أما بعد تفكك اتحادها وسقوط نظامها السياسي والاقتصادي وذهاب بريقها الأيدلوجي، فقد صارت دولاُ ضعيفة تحاول أن تتأسى بدول الحضارة الغربية في أنظمتها، كما تحاول تحسين علاقاتها بتلك الدول، ولا سيما الولايات المتحدة، طمعاً في مالها وجاهها.
ماذا بقي؟ بقيت الدول الإسلامية. هل نستطيع أن نقول إنها تمثل اليوم حضارة بالمعنى الذي وصفنا به الحضارة الغربية؟ نقول آسفين: كلا. فإنه ليس لها نظام سياسي واحد إسلامياً كان أو غير إسلامي، وليست ملتزمة كلها بالإسلام في نظمها الاقتصادية أو التعليمية أو الإعلامية أو غيرها. وليس بينها تعاون حقيقي يذكر رغم انضمامها كلها إلى عضوية المؤتمر الإسلامي.
فليس هنالك إذن حضارة إسلامية قائمة قياماً مادياً يميزها تمييزاً كاملاً عن الحضارة الغربية، ودعك أن تكون في صراع معها. نعم كانت لنا في الماضي حضارة، بل كانت الحضارة الإسلامية هي الحضارة العالمية الوحيدة إلى بداية القرن السابع عشر الميلادي، حضارة اعترف بوجودها وقوتها معاصروها، ويعترف بوجودها المؤرخون والمختصون بالدراسات الإسلامية حتى من الغربيين المعادين.(/1)
وعليه فنستطيع أن نقول إنه ليس هنالك في واقع الأمر صراع بين حضارة غربية وأخرى إسلامية، لأنه لا توجد اليوم حضارة إسلامية بالمعنى الذي توجد به حضارة غربية، أو بالمعنى الذي كانت توجد به حضارة إسلامية. فما مشكلتنا مع الحضارة الغربية إذن؟ مشكلتنا أن الحضارة الغربية ليست راضية حتى بهذا القليل الذي تبقى لنا من الحضارة الإسلامية، بل تريد لنا ولغيرنا أن لا نكون عقبة في طريق مصالحها القيمية أو المادية، بل أن نكون تابعين في كل ذلك لها. ومع أنه لا توجد اليوم حضارة إسلامية، إلا أن الحضارة الغربية ذات حساسية بالغة من أية بادرة بعث لتلك الحضارة لسبب تاريخي. إن قادة الفكر الغربي لا ينسون، كما أن كثيرين منا لا ينسون، أن الحضارة الإسلامية كانت كما قلنا هي الحضارة العالمية حتى القرن السابع عشر الميلادي. استمع إلى المستشرق اليهودي برنارد لويس وهو يقول في شيء من شماتة:
ظل الإسلام لقرون طويلة أعظم حضارة على وجه الأرض ــ أغنى حضارة، وأقواها، وأكثرها إبداعا في كل حقل ذي بال من حقول الجهد البشري. عسكرها، أساتذتها وتجارها كانوا يتقدمون في موقع أمامي في آسيا وأفريقيا وأوروبا، ليحملوا ما رأوه الحضارة والدين للكفار البرابرة الذين كانوا يعيشون خارج حدود العالم الإسلامي.
ثم يمضي ليقول:
ثم تغير كل شيء. فالمسلمون بدلا من يغزو الدول المسيحية ويسيطروا عليها، صاروا هم الذين تغزوهم القوى المسيحية وتسيطر عليهم. مشاعر الإحباط والغضب لما عدوه مخالفا للقانون الطبيعي والشرعي ظلت تتنامى لمدة قرون، ووصلا قمتهما في أيامنا.[1]
فقادة الحضارة الغربية يخشون على حضارتهم من كل بادرة إحياء لتلك الحضارة التي كانت سائدة. ومما يزيد من خوفهم قول المختصين منهم في التاريخ الإسلامي، إن للإسلام مقدرة عجيبة على العودة كلما هُزم.
ما الإجراءات التي يجب أن تتخذ لضمان عدم عودته؟ اختلفت الإجراءات في تفاصيلها بحسب الظروف العالمية، وبحسب التكتيكات الوقتية، لكن أمرين استراتيجيين اثنين لم يتغيرا، هما ضمان عدم رجوع الأمة إلى فهم صحيح للقرآن الكريم، وضمان استمرارها ضعيفة محتاجة إلى الغرب، أي ضمان عدم توفر الشرطين اللازمين لتمكين الأمة وبالتالى لحضارتها، وهما الكتاب الهادي والسيف الناصر[2] قال تعالى:
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحديد:25]
في عهد الاحتلال المباشر لبلدان العالم الإسلامي، كان أول ما فعله المستعمرون اقصاء العلم الشرعي عن المدارس والجامعات، وحصره في دوائر ضيقة روعي أن لا يكون لها علاقة بالمجتمع ولا بالعصر. وفي هذا العهد استغلت ثروات البلاد لتغذي مصانع أوربا وتقوي اقتصادها.
بعد انتهاء عصر الاستعمار والدخول في الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي، انشغل الغرب بعدو ماثلٍ أكبر، فلم ير بأساً من التعاون التكتيكي مع بعض حملة هذا الفهم الصحيح كما حدث في أفغانستان. لكن الهدف الاستراتيجي لم يُنس أبدا؛ فقد ظل الغرب الديمقراطي بقيادة الولايات المتحدة هو ـ إلى حد كبيرـ الذي يصنع الحكومات غير الديمقراطية ويدعمها، مراعاة لمصالحه، وخوفاً من أن تكون الديمقراطية ذريعة لوصول الإسلام إلى السلطة.
أمريكا والنظام العالمي الجديد
وبسقوط الاتحاد السوفيتي واستتباب الأمر للحضارة الغربية، دخل العالم مرحلة جديدة، مرحلة القوة العالمية الكبرى الواحدة، التي لا تدانيها من حيث إمكاناتها الاقتصادية والعسكرية والتقنية والإعلامية قوة أخرى. وبدأت تظهر تبعاً لذلك معالمُ نظامٍ عالميٍ جديد، ما تزال تفاصيله محل نقاش كبير في الولايات المتحدة. لكن يمكن تلخيص اتجاهات هذا النقاش في اتجاهين كبيرين: الدعوة إلى الانفرادية، وضرورة الاستمرار في العمل ضمن الأطر العالمية السائدة.
الاتجاه الانفرادي
يرى أصحاب الاتجاه الانفرادي الذي تقوده عصبة ممن يسمون بالمحافظين الجدد، أن تستبد الولايات المتحدة باتخاذ ما تراه من قرارات وسياسات تحقق مصالحها، وتنشر قيمها من غير تقيد بأعراف ولا قوانين دولية، ولا بمؤسسات عالمية كالأمم المتحدة. وهم يعتمدون في تسويغهم لهذا الرأي وتسويقه على أمرين:(/2)
أولهما: القوة الاقتصادية والعسكرية الهائلة للولايات المتحدة التي لم تعد تدانيها فيها قوة أخرى، هذه القوة التي جعلت الجميع يعترفون بأنه لم تعد توجد الآن إلا قوة عالمية كبرى واحدة. لكن الأعراف الدولية والقوانين العالمية السائدة حتى الآن هي ـ في رأي المحافظين الجدد ـ من مخلفات نظام عالمي قديم، اقتضتها ظروف لم يعد لها الآن وجود. ولذلك فلا جناح على الولايات المتحدة أن لا تلتزم بها مادام الأمر قد استتب لها. إن الولايات المتحدة قد بلغت من القوة شأواً لا تدانيها فيه دولة أخرى. فميزانية وزارة الدفاع هي أكبر من مجموع ميزانيات الدول الاثنتين والعشرين التي تأتي بعدها، ويقولون إنها ستكون بحلول عام خمسة بعد الألفين أكبر من مجموع ميزانيات الدفاع في كل أنحاء العالم! وإذا كانت عادٌ قد قالت فيما مضى "من أشد منا قوة؟" فإن أمريكا تقول اليوم لا أحد أشد منا قوة في الحاضر، ولم يكن أحد أشد منا قوة في الماضي. ولكن كما قال ربنا لعاد، نقول لمن أطغتهم القوة اليوم: "أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة؟"
يقول أصحاب هذا الرأي من المحافظين الجدد: إن على أمريكا أن تكون هي لا المنظمات العالمية، بل ولا حتى حُلفاؤها من الدول الغربية، التي تقرر ما هو حسن وما هو سيء بالنسبة للعالم، وأن تتصرف بحسب حكمها من غير التزام بقرارات يفرضها عليها غيرها. فلسان حالهم يقول "مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَشاد". هذا لا يعني ـ كما يقولون ـ أن لا تستشير الولايات المتحدة غيرها، وأن لا تتعاون مع من يريد التعاون معها، ولكنه يعنى يصورة حاسمة أنه لا أحد له الحق الآن في أن يلزمها بما لا تلزم به نفسها. ولئن لم تفعل هذا فسيكون مثلها كمثل جلفر Gulliver الذي تقيده أقزامُ لليبوت، كما قال أحدهم.
وثانيهما: أن عامة الأمريكان يعتقدون أنهم أصحاب رسالة عالمية. رسالتهم هي رسالة الحرية، فهم لا يرون أنفسهم بأقوى الدول فقط، وإنما هم أخيرها، بل هم خير أمة عرفها التاريخ البشري، فهم بزعمهم أكثر الناس تدينا، وأشدهم استمساكا بالأخلاق الفاضلة. نظامهم السياسي كما يرون أحسن نظام، ودستورهم أحسن وثيقة كتبت في التاريخ، ونظامهم الافتصادي أنجح نظام، وقضاؤهم أعدل قضاء، ونظامهم التعليمي أرشد نظام، ونظامهم الصحي أفيد نظام، بل وسجونهم أكثر السجون إنسانية. أمريكا هي بلد الأحرار وبلد الشجعان وبلد الفرص. وعليه فإن استبدادهم بالأمر سيكون لخير البشرية " لأن الأمريكان كما قال أحد مفكريهم هم "حداة البشرية في سيرها نحو الكمال" لا يملك المرء إلا أن يذكر مرة أخرى مقالة فرعون "مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَشاد".
ولهذا تجد زعماءهم السياسيين يستغلون فيهم هذه النزعة الرسالية وإن شئت فقل الحمية، حمية الجاهلية، فيحرضون شعبهم ـ ولا سيما العسكريين منهم ـ على التضحية من أجل هذه المُثل العليا، لا من أجل المصلحة الوطنية بالمعنى المحدود، لأنهم يعلمون أن الذي يحرك الإنسان هو الاعتقاد في مثل هذه المثل، لا مجرد الدفاع عن أرض أو مصلحة مادية.
وقد ظهر هذا جلياً في الخطاب الذي ألقاه الرئيس جورج بوش لخريجي كلية وست بوينت العسكرية. فمن العبارات التي جاءت في ذلك الخطاب، الذي أنصح بقراءته:
أن أمريكا تدافع عن الحرية، وأن العَلَم الأمريكي حيثما رُفع فلن يكون رمزاً لقوتنا فحسب ولكن للحرية. لقد كانت أهدافنا دائماً أكبر من مجرد الدفاع عن أنفسنا. إننا كلما حاربنا فإنما نحارب من اجل سلام عادل، سلام يختار الحرية الإنسانية. سندافع عن السلام ضد تهديدات الإرهابيين والحكام المستبدين. إننا نريد لغيرنا ما نريد لأنفسنا ــ أمن من العنف، خيرات الحرية، والأمل في حياة أحسن. إن محاربة الإرهاب تحتاج إلى صبر، ولكنها تحتاج أيضا إلى هدف خُلقي. إن أعداءنا اليوم كما كانوا أيام الحرب الباردة شموليون، يؤمنون بمبدأ القوة التي لا مكان فيها للعزة الإنسانية. لقد كان الوضوح الخُلقي ضرورياً في انتصارنا في الحرب الباردة. يرى بعضهم أنه ليس من الدبلوماسية، وربما كان من سوء الأدب، أن نتحدث عن الحق والباطل. لكنني أختلف معهم. نعم إن الظروف المختلفة تقتضي وسائل مختلفة لكنها لا تقتضي أخلاقاً مختلفة. إن الحقيقة الخُلقية واحدة في كل ثقافة وفي كل زمان، وفي كل مكان. إن هنالك صراعاً بين الحق والشر، وستسمى أمريكا الشر باسمه.
لكن الذي يشكو منه كثير من الأمريكان أن هذا الشعور بقيمة أمريكا وتميزها بدأ يضعف جداً في أجيال الشباب الذين هم الآن في المدارس والجامعات. فقد انتشرت بينهم انتشاراً مخيفاً فواحش الإباحية، والشذوذ الجنسي وتعاطي المخدرات، وما استتبعه ذلك من غلبة للاتجاه الفردي والسخرية بالخلق والمثل.(/3)
دل استطلاع لبعض المدارس قبل جيل مضى بأن أكبر المشكلات التي يعاني منها الطلاب هي: عدم احترام الممتلكات، والكسل وعدم أداء الواجبات المنزلية، والحديث في الفصل وعدم الانتباه، التراشق بكور الورق المبلول بالبصاق، ترك المنافذ والأبواب مفتوحة. فلما أعيد ذلك الاستطلاع للمدارس نفسها قبل سنوات قليلة، كانت النتيجة أن أكبر المشكلات هي: الخوف من القتل العنيف بالبنادق أو السكاكين في المدرسة، الاغتصاب، المخدرات، الحمل، الإجهاض.[3]
ولهذا صار كثير من الأمريكان لا يرسلون أولادهم إلى المدارس العامة، بل يفضلون لهم التعليم المنزلي
وكثيرا ما يحزن المرء حين يرى مسلما حاز على البطاقة الخضراء فطار بها فرحا إلى أمريكا ليقذف بالبنين والبنات من أطفاله في هذا المستنقع الآسن.
ومع انتشار الثقافة الغربية، وضعف الوازع الديني بدأ هذا الفساد ينتشر في بلدان العالم كله، بما في ذلك بلادنا الإسلامية.
الاتجاه الائتلافي
أما الاتجاه الائتلافي فلا يجادل أصحابه إخوانهم الانفراديين في كون الولايات المتحدة هي القوة العالمية الكبرى الوحيدة، ولا فيما يتميز به الشعب الأمريكي من صفات، لكنهم يرون أن الانفراد غير ممكن عملياً وإن أمكن فليس في مصلحة بلادهم. ومما يذكرونه في هذا الصدد:
· أن ما صار يوصف الآن بالنظام العالمي القديم كان إلى حد كبير من صنع الولايات المتحدة، وقد كان نظاماً ناجحاً حقق لها ما تريد فما الداعي الآن للانقلاب عليه وتقويضه؟
· أن القوة الحربية للولايات المتحدة ذات علاقة وثيقة باقتصادها، واقتصادها ليس أمراً محلياً تستطيع أن تصنع فيه ما تشاء، بل له ارتباط كبير بالأمم الأخري. فالأسلحة لا ينتجها البنتاجون وإنما تنتجها شركات تجارية. لكن هذه الشركات تعتمد في استمرار حياتها على السوق العالمي، بل إن منتجاتها العالية التقانة لها الآن نصيب الأسد في ما يبيعه الاقتصاد الأمريكي في السوق العالمي. على سبيل المثال فإن مبيعات هذه الشركات من الحاسوبات الرفيعة في السوق العالمي تمثل نصف دخلها.
· أن هذا سيؤدي إلى فوضى عالمية. فإذا جاز لنا أن نبدأ بشن حرب وقائية على العراق، فلماذا لا تفعل الصين ذلك بالنسبة لتايوان، أو الهند بالنسبة لباكسان؟
· وإذا أعطينا أنفسنا حق تغيير النظم، فهل سنعطيها حق الإتيان بنظم نرضى عنها؟ ماذا إذا لم يختر الناس من نريد؟ هل نعود لعصر الاحتلال؟
كيف يكون التعامل مع المسلمين، ولا سيما العرب منهم؟
حوادث الحادي من سبتمبر أكدت للغرب، وللولايات المتحدة بالذات خطر الإسلام لأنه مهما قيل عن الخطأ الذي ارتكبه من قاموا بتلك العملية إلا أن الحقيقة تبقى أنهم شباب متدينون، وأنهم ابتغوا بعملهم الشهادة، وأنهم فعلوا ما فعلوا انتقاماً للمسلمين من ظلم الحضارة الغربية متمثلة في دولتها الكبرى وقائدتها. لذلك عاد الحديث جذعاً عن المواقف التي ينبغي أن تُتخذ لدرء الخطر الإسلامي. ومن المسائل التي ذكروها في ذلك
المسألة الأولى: محاربة ما أسموه بالفهم الحرفي للإسلام
ما أسموه بالفهم الحرفي للإسلام هو في رأيهم الذي يغذي عداوة المسلمين للحضارة الغربية. ومن هنا كثر الحديث عن الإسلام الراديكالي، وعن الوهابي وعن السلفية . يقولون إنه لا يمكن أن يقال للمسلمين تنكروا لدينكم، ولكن الذي يقال لهم هو أن يفهموه فهماً لا يجعله في صدام مع مقومات الحضارة الغربية. مشكلة المسلمين المتشددين، بحسب هذا الرأي، هي أنهم رافضون للحداثة modernity التي تتطلب ـ فيما تتطلب ـ أن تكون الدولة دولة علمانية تعددية. فالمطلوب من المسلمين إذن أن يفعلوا ما فعله الغرب ليكتمل لدينهم التصالح مع هذه الحداثة كما تم للمسيحية والنصرانية.
كيف يكون ذلك؟ يكون
أولاً: بأن لا يعتقد المسلمون أن نصوص دينهم صالحة لكل زمان ومكان بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة، بل عليهم أن يتذكروا كما فعل الليبراليون من النصارى واليهود، أن هذه النصوص ذكرت في ظروف تاريخية وثقافية معينة، فلا يمكن أن تكون بحرفيتها مناسبة مع ظروف تاريخية وثقافية مختلفة عنها. ما الحل إذن؟ الحل هو أن نعيد تفسير هذه النصوص لتتناسب مع العصر، بأن نقول حتى عما يبدو أنه وصف لواقع كقصة قوم لوط إن هذا إنما كان كلاماً مجازياً. فلم يحدث أن دمر الله تعالى قرى أو عاقب قوما لتوجههم الجنسي. (قال أوريلى مدللا على أن القصة كانت رمزية لا حقيقية: لماذا لم يدمر الله سان فرانسسكو إذن؟)(/4)
وثانياً: بأن يفهم المسلمون بأن الحقيقة الدينية حقيقة نسبية، لأنك إذا اعتقدت أن الحق كله معك ـ كما يعتقد المسلمون اليوم ـ فستعتقد أن مخالفيك على باطل ويستحقون لذلك أن يقتلوا، هكذا قال الرئيس السابق كلنتون في محاضرة ألقاها في جامعة جورج تاون بواشنطن بعد أحداث الحادي عشر. وهذا يعنى أن يكون الأفراد داخل الدين الواحد متسامحين مع مخالفيهم في فهم دينهم، لأن لكل إنسان الحق في أن يفهم دينه كيف شاء، وأن يرى الحقيقة من منظاره. وعلى المنتمين إلى الأديان المختلفة أن يكونوا أيضا متسامحين مع مخالفيهم معتقدين بأن كل دين يهدي إلى الحقيقة بطريقته .
وثالثاً: أن يُمنع بالقانون نشر مثل هذا الفكر وتغلق كل المؤسسات التعليمية التي تنشره، وأن يعاقب الذين يروجون له أو يمولون مؤسساته.
ومما يساعد الغرب على تحقيق هذه الأهداف أن الأفكار التي تعتمد عليها قد شاعت منذ زمان بين المثقفين المسلمين، بل بين بعض الإسلاميين منهم . فقد صار الكثيرون منا جزءاً من الحضارة الغربية في فكرهم وقيمهم وطموحاتهم السياسية وعاداتهم وتقاليدهم بل وأزيائهم الرجالية والنسائية، لأنهم صاروا يعتقدون أن الحضارة الغربية هي حضارة العصر التي لا يكون الناس متحضرين إلا بها.
المسألة الثانية: معالجة الأسباب الاجتماعية التي أدت إلى معاداة المسلمين للغرب
يرى بعض المفكرين السياسيين الغربيين أن هنالك أوضاعاً اجتماعية وسياسية بغيضة إلى الناس في العالم العربي بالذات، وأن الغرب ـ ولا سيما الولايات المتحدة ـ هو ـ في نظرهم ـ الذي يقف وراء هذه الأوضاع الظالمة ويدعمها فمن الطبيعي أن يكرهوه. ماذا نفعل إذن؟
يقول بعضهم: إن الحل واضح هو أن نعمل على تحويل أنظمة العالم العربي إلى انظمة ديمقراطية حقيقية يكون الحكم فيها للأغلبية، وتصان فيها الحريات، ويحارب فيها الفساد المالي. يقول الرئيس بوش في خطابه الشهير في كلية وست بوينت:
عندما يأتي الأمر إلى حقوق الناس رجالا ونساء وحاجاتهم فليس هنالك صدام حضارات. إن متطلبات الحرية تصدق على أفريقيا وأمريكا اللاتينية والعالم الإسلامي كله. إن جماهير الناس في الأمم الإسلامية يريدون ويستحقون أن يعطوا كل الحريات والفرص التي للناس في كل أمة. وعلى حكامهم أن يستجيبوا لطموحاتهم.[4]
يقول آخرون: لكن لا تنسوا أن أغلبية الناس في هذه البلاد كارهون لنا، وعليه فإن الحكومات التي يختارونها في النظام الديمقراطي ستكون معادية لنا.
يقول أصحاب الاقتراح أولاً إن هذا الامر ربما يكون كذلك في البداية، ولكن سيظهر لهذه الحكومات أن من مصلحتها ومصلحة شعوبها أن تتعاون مع الغرب وتكون صديقة له. وثانياً إنه ليس من الصعب علينا أن نأتي بحكومات أغلبية حقيقية تكون في الوقت نفسه صديقة لنا. هنالك وسائل كثيرة لتحقيق ذلك.
هذا ما يراه بعض الساسة الأمريكان أما نتنياهو ـ رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق ــ فله نصيحة أخرى للولايات المتحدة. فهو ينصحها بأن تغزو العراق وتغير نظامها من غير اعتبار للأمم المتحدة، وأما بالنسبة لإيران فإنه يقول فض الله فاه
إنه بإمكان الولايات المتحدة أن تُحرض على إحداث ثورة ضد النظام الإسلامي المحافظ في إيران بأن تستغل وجود الآلاف المؤلفة من الأطباق الفضائية فيها لتوجيه برامج أمريكية قذرة كتلك التي تذيعها قناة فوكس يظهر فيها شباب وشابات حسان في حالات مختلفة من حالات العري، يعيشون حياة مادية بهيجة ويمارسون الجنس بطرق إباحية. "هذه مادة هدامة. إن الأولاد في إيران سيحبون أن تكون لهم مثل تلك الملابس الجميلة التي يرونها في تلك الأفلام. سيحبون أن تكون لهم أحواض سباحة وأساليب تلك الحياة الفاتنة[5] [6]
المسألة الثالثة: القضية الفلسطينية
قضية العلاقة مع إسرائيل قضية حساسة بالنسبة لغالبية السياسيين الأمريكيين، لكن هذا لم يمنع بعضهم من أن يقول إن موقف الولايات المتحدة المنحاز لإسرائيل هو من الأسباب الرئيسة لعداوة الشعوب الإسلامية ولا سيما العربية للولايات المتحدة. وأنه ما لم تحل هذه القضية حلا يراه العرب والمسلمون منصفا فإن هذه الكراهية ستستمر ، وسيستمر باستمرارها الإرهاب.
الفكر الأمريكي المعارض
ما ركزنا عليه حتى الآن هو الاتجاهات الشائعة او الغالبة في أمريكا، لكن أمريكا بلد شاسع لا يسود فيه اتجاه واحد سيادة كاملة، بل ما من رأي ديني أو سياسي أو اقتصادي شائع، إلا وله معارضون أشداء قلَّ عددهم أو كثر. وكثيراً ما تكون آراء الفئات المعارضة هذه أقرب إلى الهدي الإسلامي من غيرها. وإليك بعض الأمثلة
· فمنهم من يرى كما نرى أن ما يُسمى بالفهم الحرفي للنصوص الدينية هو الفهم الصحيح الأمين لها. فنحن نوافقهم في المنهج ونستطيع لذلك أن نناقشهم في نصوص كتبهم التي نراها مجانبة للصواب، لكننا لا نستطيع أن ندخل في حوار مثمر مع من كلما ناقشته في صحة نص قال إنه مجازي وأعطاه من المعاني ما يوافق هواه.(/5)
· بل إن من هؤلاء من يدعو كما ندعو إلى تطبيق الحدود المذكورة في العهد القديم كرجم الزاني المحصن، وقتل المرتد، حتى قال أحد الصحفيين المعارضين إذا طبقنا هذه القوانين فسنقتل الغالبية العظمى من الشعب الأمريكي!
· ومنهم من يرى أن العلمانية هي العدو الأكبر، ومادام المسلمون يوافقوننا على ذلك فيجب أن نعدهم أصدقاء لا أعداء في مواجهة هذا العدو.
· ومن غير المتدينين، بل من العلمانيين من يدرس عيوب المجتمع الأمريكي دراسة علمية ممتازة، ينبغي أن يتعلم منها المسلمون المبهورون بالحياة الغربية، فالعاقل من اتعظ بغيره. من هؤلاء فوكوياما في كتابه الانفراط العظيم.
· وهنالك من ينتقد الممارسة الواقعية للديمقراطية ويرى أنها قد حادت عن المفهوم الصحيح لها. إن الكتب والدراسات في هذا المجال تعد بالمئات إن لم نقل الألوف.
· وهنالك من ينتقد الرأسمالية إما أصلا أو ممارسة.
· وهنالك من لا يداهن في نقده للسياسة الأمريكية الخارجية ولا سيما فيما يتعلق بإسرائيل.
· ثم هنالك إخواننا الدعاة المسلمون الذين يهدي الله تعالى بهم ما يقدر بخمسين شخصا في كل يوم! فإذا كانت الحضارة الغربية قد غزت العالم الإسلامي، فإن الإسلام يدخل الآن قلوب الآلاف المؤلفة ممن هم في أرضها، لأن الناس يجدون فيه ما لا يجدون في حضارته رغم قوة سلطانها المادي ورغم سيطرتها وقوة تأثيرها على بقية بلدان العالم.
البعث الإسلامي الحضاري
إذا لم تكن في الأرض اليوم حضارة إسلامية قائمة فعلاً، فإن فرص بعثها ما زالت متوفرة ومشجعة. إن المسلمين ما زالوا بحمد الله تعالى قادرين على الأوبة إلى الكتاب الهادي، وقادرين على السعي لامتلاك السيف الناصر. وذلك:
أولاً: لأن انحراف الأمة عن دينها لم يكن ـ وما كان له أن يكون ـ ردة كاملة عامة عن الدين الحق. فهذا دين تكفل الله تعالى بحفظ كتابه كما تكفل بحفظ العاملين من علمائه. فإذا كان الله تعالى قد قال، وقوله الحق "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" فإن رسوله صلى الله عليه وسلم قد قال ـ غير ناطق عن هوى ـ لا تزالُ طائفة من أمتي ظَاهرين على الحقِ لا يَضُرُهم من خالَفهم ولا من خَذَلهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون.
ثانياً: لأنه إذا كان جوهر الحضارة ـ أو المدنية ـ وأساسها الذي يُشيَّدُ عليه بنيانها هو رسالتها، هو المعتقدات والقيم التي تستمسك وتعتز بها، فإن الجوهر والأساس الإسلامي ما يزال أقوى من منافسه العلماني الغربي. إن الإسلام يما يزال يبرهن عبر تاريخه الطويل بأنه فعلاً فطرة الله التي فطر الناس عليها. فليس على وجه الأرض دين عبر الحواجز الجغرافية والثقافات المحلية ليبقى بين المستمسكين به ـ في جملته ـ الدين الذي أنزله الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم. فكتابه هو الكتاب الذي أنزل على رسوله، وصلوات الناس هي الصلوات كانت تقام في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وزكاته هي الزكاة، وحجه وصيامه هما كما كانا في أشكالهما ومواقيتهما. وبالرغم مما أضيف إلى هذا الدين من بدع إلا أنه يظل رغم ذلك أكثر الأديان احتفاظاً بحقيقته، وقد كان هذا وحده مما أغرى بعض الباحثين عن الحق بالدخول فيه.
ثالثاً: وما يزال هذا الدين يؤكد هذه الحقيقة بسرعة انتشاره المذهلة حتى في موطن الحضارة الغربية. فهم يقولون إن معدل سرعة انتشاره أكبر من معدل سرعة الزيادة في سكان العالم.
رابعاً: لأنه باعتباره دين الفطرة، ما يزال هو الدين الذي يجد الناس في آيات كتابه عِلماً بالإله الحق الموصوف بكل صفات الكمال المُنَزَّه عن كل صفات النقص من الولد والوالد التي تطفح بها بعض الأديان، وهدياً بأنه هو وحده المستحق للعبادة الهادي إلى أنواعها وكيفياتها. ويجدون في آيات كتابه وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم عِلماً بحقيقة أنبياء الله وما كانوا عليه من كمال بشري أهَّلَهُم لأن يكونوا الأسوة التي يتأسى بها كل سالك طريق إلى الله. لكن الأديان المحرفة تجعل من بعضهم آلهة وأنى للبشر أن يتأسى بالإله؟ وتنسب إلى بعضهم جرائم يستنكف عن ارتكابها عامة عباد الله، فأنى يكونون أسوة لغيرهم؟
خامساً: ولأنه دين الفطرة فلا يجد الناس فيه تصادماً بين مقتضيات العقول التي فطرهم الله عليها، ولا مخالفة لحقائق الخلق التي يشاهدونها ويجربونها. فالعقل فيه نصير الدين لا خصيمه، كما هو حاله في بعض الأديان. والعلم التجريبي يشهد له ولا يشهد عليه كما يفعل مع بعض الأديان.
سادساً: ولأن الناس كما يجدون فيه حاجتهم إلى الإيمان الخالص والعبادة السليمة والأخلاق الحسنة فإنهم يجدون فيه هدياً لتنظيم الحياة الاجتماعية تنظيماً يتوافق مع ذلك الإيمان وتلك العبادة وهاتيك الأخلاق، ويعبر عنها ويؤكدها ويحميها؛ فهو الدين الوحيد الذي لا يحتاج إلى علمانية تكمل نقصه، أو تتصالح معه.(/6)
سابعاً: وهو الدين الذي ما يزال يشهد لأحقيته سلوك المهتدين من أبنائه. فهؤلاء هم أكثر أهل الأرض ذكراً وعبادةً لله، وأبعدهم عن مساخط الله، وأكثرهم بذلاً لأنفسهم وأموالهم في سبيل الله، وأكثرهم رحمةً بصغير وتوقيراً لكبير وصلةً لرحم.
وقد اعترف بهذه الحقيقة حتى بعض علماءِ النصارى، ومن أعجبهم بيتر كريفت أستاذ الفلسفة بكلية بوستن، الذي يحث إخوانه النصارى على أن يعدوا المسلمين أصدقاء وأعوانا لهم في حربهم ضد العلمانية التي يرى فيها العدو اللدود للدين والخطر الأكبر على الحياة الاجتماعية. يقول هذا الرجل:
لماذا ينتشر الإسلام بهذه السرعة المذهلة؟ سيسارع علماء الاجتماع وعلماء النفس والمؤرخون والاقتصاديون والديمغرافيون والسياسيون إلى تفسير ذلك النمو تفسيرا دنيويا كل بحسب تخصصه. لكن الإجابة بدهية لكل مسيحي ذي صلة بالكتاب المقدس: إن الله تعالى يفي بوعده، ويبارك أولئك الذين يطيعون أوامره ويخشونه، ويعاقب الذين لا يفعلون ذلك. إن الأمر في غاية من البساطة التي يعسر على الأساتذة الأكاديميين رؤيتها: قارن بين كميات الإجهاض، وزنا المحصنين وغير المحصنين والشذوذ بين المسلمين والنصارى. ثم قارن بين كمية العبادة.[7]
ثامناً: ولأن كثيراً من الناس في الغرب بدؤوا يشعرون بالخطر الذي تسوقهم إليه الحياة العلمانية المجردة عن الدين، خطر تمكينها للاتجاه الفردي في الناس، وإضعافها للوازع الخلقي، وعبادتها للجنس، وتحويلها الحياة إلى جهد لا معنى له ولا غاية. كل هذا يسبب للناس أنواعاً من الشقاء الروحي، فذهب الكثيرون منهم يبحثون عن دين ينقذهم فلم يجد كثير ممن عرف الإسلام منهم أكثر منه إجابة لمطالبهم الروحية والخلقية بالطريقة التي أشرنا إليها سابقاً.
وعليه فإذا كانت الحضارة الغربية قد غزت بلادنا فكرياً وخلقياً وجعلت جزءاً من الصراع بيننا وبينها صراعاً على أرضنا، وبيننا وبين أقوامنا، فإن الإسلام الآن يفعل الشيء نفسه، إنه يغزو أرض الحضارة الغربية ويجعل الصراع بينه وبينها صراعاً على أرضها وبينها وبين من كانوا بالأمس حماتها المدافعين عن حياضها.
تلك بعض فرص الدعوة إلى الإسلام وإلى بعث حضارته، وهنالك وسائل كثيرة لاستغلال هذه الفرص، لكنني لا أريد الآن الدخول في تفاصيلها، ولا في تفاصيل السعي لامتلاك السيف الناصر، فلتفاصيل كل ذلك مجال آخر. وإنما أريد أن أختم هذه المقالة بالتذكير بقواعد للعمل الإسلامي لما أرى من خطورتها ومن عدم الاهتمام الشديد بها. وهي
أولاً: أن أمر العودة للإسلام وحضارته ليس بالحمل الخفيف الذي يمكن أن ينهض به أفراد، أو تقوم به جماعة واحدة أو دولة واحدة، وإنما هو عبءٌ ثقيلٌ يجب أن تتضافر على حمله الجهود. لذلك لا بد أن يقنع كل فرد عامل للإسلام وكل جماعة وكل دولة بأن التعاون بين الساعين لتحقيق هذا الهدف أمر لازم، وأن التشاور فيما بينهم أول خطوات ذلك التعاون، ثم يأتي التنسيق وتوزيع المهام.
ثانياً: وإذا كان التعاون أمراً لازماً فيجب أن يكون السعي لبعث الحضارة الإسلامية أبعد شيء عن الحزبية. إن بعض الناس يخلط بين العمل الجماعي المنظم ـ وهو أمر لا بد منه ـ وبين الحزبية التي تحول التنظيم إلى غاية كثيراً ما يُضحى في سبيلها بالغاية التي أُنشئ من أجلها والتي كان في البداية مجرد وسيلة إليها. الحزبية أن تحصر علاقات الأخوة الإسلامية وواجباتها في من دخلوا ضمن إطار التنظيم، وأن لا يعان على عمل خير بل ولا يعترف به إلا إذا كان من منجزات الجماعة المنظمة.
ثالثاً: الالتزام الصارم الشديد بقيم العدل والصدق والأمانة والوفاء حتى في معاملة الأعداء. لأن هذه القيم قيم مطلقة لا تختص بحال دون حال. قال تعالى:
ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا. وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان.
قال المفسر الكبير ابن كثير: إن العدل واجب على كل أحد، مع كل أحد، في كل حال؟
لكن بعض العاملين للإسلام اليوم يحيدون عن هذه القيم لأوهي الأسباب، ويسلكون سلوك السياسيين الميكيافليين. ناسين أن هذه القيم قيم يحبها الله، وأن الالتزام بها ـ حتى مع الأعداء ـ عبادة لله. وأنك لا يمكن أن تنصر دين الله بارتكاب مساخط الله.
رابعاً: على الأفراد وعلى الجماعات غير الحكومية أن تلتزم التزاماً معلناً وصارماً بالطرق السلمية. هذا هو الذي يدل عليه شرع الله، وهو الذي ينتهي إليه كل من اتعظ بالتجارب المريرة للجماعات التي دخلت في صراعات دموية لم تكن لها بكفء. إنك لا تحمل السلاح على من أنت تحت سلطانه، وإنما الذي يشرع لك هو الدعوة مع كف الايدي وإقامة الصلاة، فإذا كانت لك أرض مستقلة وقوة مادية فآنذاك:
أذن للدين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير.
اللَّهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
أستغفر الله، وأصلى وأسلم على خاتم رسل الله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(/7)
صراعنا مع اليهود...الهوّية والمرتكزات
بقلم: رئيس الجمعية حسن قاطرجي
لا بدّ ابتداءً من التأكيد على أننا نخوض صراعاً مريراً مع اليهود، فهم أشرس شعوب الأرض عداوة لأمة الإسلام كما أخبرنا الله عزّ وجلّ: { لتجدَنّ أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا اليهود ... } .ومن الضروري في معركتنا المعاصرة معهم أن نفهم بأن هويّة هذا الصراع إسلامية حضارية وهكذا يجب أن تبقى، ولا يجوز بحال تقزيمه ليقتصر على الصراع لتحرير الأرض فحسب وإن كان من كامل حقّنا الجهاد لاسترجاع الأرض ولكن لتكون تحت وصاية رسالة الله الخاتمة ...
كما أنه من الضروري أيضاً أن نتذكّر أنّ الأمة الإسلامية انتدبها الله سبحانه وتعالى لهداية الخلق إلى دينه الخاتم (الإسلام)، فقد قال تعالى: { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير } ، وقال سبحانه: { وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين } ، وقال جلّ وعلا مبيِّناً تكليفه وأمْرَه للمؤمنين: { يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السِّلْم كافة } أي في الإسلام كلِّه وبطاقاتكم جميعها وكلكم جميعاً. والتعبير عن الإسلام في هذه الآية بالسلم له دلالة رائعة وبعيدة في أن الإسلام رسالة رحمة ومسالمة للبشرية عندما تهيمن شريعته ويسود دستوره.
ومن الجدير القول: إن الصراع بين الحق والباطل قديم لا يتوقف، وليس من الواقعية أن يتجرّد الحق من قوة البيان ولا من قوة السلاح والسِّنان، وذلك من أجل أن يبقى عزيزاً شاهداً على هُزالة الباطل وضعفه ورافعاً للفتنة عن الناس كل الناس.لذا رفع الله سبحانه وتعالى في كل رسالاته من شأن العلم والحُجّة والبرهان، كما عظّم من شأن القوة والجهاد بالسِّنان.فقال تعالى: { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عن الله والله لا يهدي القوم الظالمين* الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجةً عند الله وأولئك هم الفائزون } .
وانطلاقاً من القاعدة الذهبية في الإسلام أن أي عمل لا بدّ فيه من الإخلاص لقَبوله من الله عزّ وجلّ، فكذلك الجهاد في سبيل الله لا بدّ فيه من الإخلاص وإلا لا يكون - على الإطلاق – في سبيل الله بل في سبيل الهوى والغَلبَة والفساد، فالجهاد لا يكون في سبيل الله حتى يكون متوجّهاً للظفَر بمرضاة الله لا لمطامع الدنيا ومكاسب الوجاهة، كما لا بدّ فيه من أن يكون لإعلاء كلمة الله وإعزاز الحق وتنفيذ دين الله في الأرض، وتأمين كل من يعيش بسلام مع المسلمين، لقوله - صلى الله عليه وسلم - - كما في الصحيحين - :" من قاتل لتكون كلمةُ الله هي العليا فهو في سبيل الله".
من هنا كان مَن يُسالم المسلمين ويفسح المجال لدعوة الإسلام تزحف ليتعرف عليها كل إنسان لابد أن يُقابَل بالسلم والأمان من جانبهم؛ وفي هؤلاء يقول الله عزّ وجلّ: { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يُخرجوكم من ديارهم أن تبرُّوهم وتُقْسطوا إليهم } ، بخلاف من يعاديهم ويتصدى للحق ويفتن الناس عن حرية المعتقد فإن المسلمين يعادونه ويجاهدونه فقد قال الله عزّ وجلّ: { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } .وقال: { وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم } . وعَوداً إلى اليهود فإن تاريخنا الطويل المرير معهم يؤكّد أنهم أشد شعوب الأرض عداوة للحق وشراسة في الكيد للإسلام والمسلمين والآية القرآنية السابقة هيّأتنا لذلك: { لتجدَنّ أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا اليهود ... } .وهذا الصراع مع اليهود مرّ بحلقات مختلفة وجولات مريرة، وفي عصرنا الذي نعيشه تشهد أمتنا منذ احتلالهم لأرض فلسطين المباركة حلقة جديدة من أخطر حلقات الصراع.
وبعيداً عن ملابسات الحرب التي شنّها اليهود المجرمون على لبنان الشهر الماضي وخصوصيات الوضع اللبناني وميزان القوى فيه فإن الجهاد في سبيل الله ضد اليهود اليوم في فلسطين خاصة ليس مجردَ دفعٍ للصائل - أي المعتدي - لحماية المال والعِرض والممتلكات ... ولكنه أبعد من ذلك بكثير فهو جهاد لإعلاء كلمة الله وتطبيق حكم الإسلام على أرض النبوّات ومهد الحضارات ومسرى صاحب خاتم الرسالات سيدنا محمد عليه أفضل الصلوات وأزكى التحيات. لذا فإن من أهم ما يجب التنبيه عليه وتوضيحه للناس في جهادنا ضد اليهود بيان هوية الصراع وتوضيحَ مرتكزات الجهاد الإسلامي التي هي:(/1)
1- الأول: الإخلاص لله وطلب رضاه وحده في الجهاد، فلا يقاتل المجاهد رياءً ولا سُمعة، وإنما يقاتل لله سبحانه وتعالى؛ فقد صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن الرجل يغزو، يريد الأجرَ والذّكْرَ (أي يريد مع الأجر والثواب أن يُذكر على ألسنة الناس وأن يكون له صِيْت وشرف بين الناس)، ما له؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - : " لا شيء له ". فكرّر السائل سؤاله – مستغرباً – ثلاثاً والرسول - صلى الله عليه وسلم - يكرر: " لا شيء له " . ثم أبان - صلى الله عليه وسلم - عن سرِّ ذلك فقال: " إن الله عزّ وجلّ لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً وابتُغي به وجهُه " رواه أبو داود والنَّسائي.
وتجدر ملاحظة أن جواب النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء فيمن يقاتل يريد الأجر من الله والتقرب إليه بجهاده والتحبُّب إليه بأعظم فرائضه، ويريد مع ذلك أيضاً أن يُذكر، فما بالنا فيمن لا يقاتل عبادةً لله بل لا يخطر على ذهنه ذلك كلُّه؟!!
2- الثاني: طَلَب إعلاء كلمة الله وتطبيق الحكم الإسلامي، فقد ورد في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الرجل يقاتل حميةً، والرجل يقاتل شجاعة، والرجل يقاتل رياءً (أي ليراه الناس وليفتخر بذلك بينهم)، فقال - صلى الله عليه وسلم - : من قاتل لتكون كلمةُ الله – أي شرعُه ودينُه – هي العليا فهو في سبيل الله ".
وبالتالي فإن مفهوم المخالفة أنّ من يقاتل لغير ذلك كأنْ يقاتل من أجل زعامة غير إسلامية أو من أجل دولة علمانية أو من أجل إخراج المحتل عن الأرض ولْيحكُمْ فيها بعد ذلك من يحكم، فلا يكون قتاله في سبيل الله ولا يكون قتلُه شهادة.
3- الثالث: القتال تحت راية إسلامية واضحة على هَدْي رسول الله وأصحابه رضي الله عنهم لقوله - صلى الله عليه وسلم - - كما في صحيح مسلم، كتاب الإمارة -: "من قاتل تحت راية عُمِّيّة ... فقُتِل فقِتْلهٌُ جاهلية " وعُمّيَّة من التعمية بمعنى الاختلاط والتلبيس وعدم الوضوح لاختلاط الحق بالضلال فيها.
من هنا يجب علينا في زمن اختلاط المفاهيم واشتداد ظلام التعمية الذي تصنعه العولمة الثقافية ومع شيوع مفاهيم (الصنمية الوطنية) التي يُشيعها السياسيون والمفكرون العلمانيون في كل بلد ... يجب التأكيد على وجوب أن تكون الهوية والمرتكزات واضحة تماماً حتى لا تذهب جهودنا سُدىً ونطيل أمد حسم المعركة مع الكيان الصهيوني الغاصب ... الحسم الموعودين به من قِبَل المعصوم - صلى الله عليه وسلم - - الصادق المصدوق – في نبوءته الشريفة: " تُقاتلكم يهود – وفي رواية للإمام مسلم في صحيحه: تَقْتتلون أنتم ويهود – فتُسَلَّطون عليهم " وهي رواية الإمام البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما.
فاللهم نوِّر بصائرنا بأنوار القرآن وحقائق الإسلام، ولا تُزغ قلوبَنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب. آمين.
23 رجب/ 1427 هـ
18 آب/ 2006 م
بقلم: حسن قاطرجي(/2)
صرخة أسير
أبتاه إني في قيودي مُثقلُ *** و الأرض تحتي يا أبي تتزلزلُ
فالقيد يُثقِلني إذا أنا أرتقي *** و السَّوطُ يَلسعني إذا ما أَنْزِلُ
و تنوش جِسْمي المُكْفَهِرَّ فتُدْمِهِ *** تِلْكَ الكلاليبُ التي تتسلسَلُ
من عاتقي المكلومِ حتى أخمَصِ الـ *** قَدَمَينِ وَيحَ الرِّجْلِ إذْ أَتَنقَّلُ
و إلى المنون أُقادُ لا مِن جُنحةٍ *** كلاّ و لا ذَنْبٍ جَنَيْتُ فأُقْتَلُ
و أثُورُ كالبُركان حينَ تذكُّري *** أمّاً تنوحُ عليَّ أو تَتَململُ
و تجودُ بالعَبَرات وَيْحَ فؤادِها *** قد كَلَّموهُ فجُرحُه لا يُدمَلُ
و يلُوحُ في الآفاق طيفُ قرينةٍ *** تَبكي و يصرُخُ مِن وراها الأنجُلُ
فكأنًّ أنجالي و قد فارقتُهم *** زَهْرٌ أمامَ العادِيات سيذبُلُ
أبتاه فاستوصِ بهم فيما بقي *** فَلَنِعمَ من يرعى و من يتكفّلُ
مَن يخلُف الغازي بُعَيدَ رحيلهِ *** في أهله فله الجزاء الأجْزلُ
هذي بِشارةُ أحمدٍ خيرِ الورى *** خبراً رواه لنا الرعيلُ الأوَّلُ
أمَّا أنا أبتاه فاختَرتُ التي *** قد هابَها جُلُّ الورى و تخاذلوا
و شهَرتُ في وجهِ الطغاةِ مبادِئاً *** أمضى من السيفِ الشهير و أصقلُ
فلقد سئمتُ من الهوان و لم أكُن *** إلا على درب الهدى أستبسِلُ
ألأنني رُمتُ الحياة كريمةً *** و حَيِيتُ ليثاً مِن وراه الأشبُلُ
ذُعِرَ الطغاةُ و زُلزِلتْ أركانُهم *** و انتابَهم فَرَقُ السقوطِ المُذهِلُ
فتواثبوا نحوي بكلّ مكيدةٍ *** و تعاهدوني بالقيودِ و كبَّلوا
و استاقني الجلاّد يُلهبُ أضلُعي *** بسياطِه فتخورُ منِّي الأرجُلُ
و أحاط بي مثلَ السِّوار جنودُه *** بسلاحِهِم و أنا الوحيد الأعزَلُ
يخشون إيماناً يثور بداخلي *** فيحَطّمُ الأوغاَد إن هُم أقبَلوا
كم ساوموني بالوعود لأرتجي *** عفواً من الطَّاغوت أو أتوسَّلُ
أنا لستُ ذا ذنبٍ فأرجو عفوَ مَن *** هتفوا له متملِّقينَ و بجَّلوا
ذاك الذي سامَ العبادَ بِبَطْشِهِ *** سوءَ العذاب و بات منهم يهزَلُ
و أذاقهُم ذُلَّ الصَّغارِ و لم يَزَل *** متغطرساً في المُلك لا يتحوَّلُ
و يجود بالشعب المعنَّى كُلِّه *** بينا بكُرْسِيِّ الإمارة يبخَلُ
فإذا أبى ذاك الهوان موحّدٌ *** صرخ ( المناضِل ) كبِّلوه أو اقتُلوا
فانقادت الأُمَم التي قد سامها *** سُوءَ العذاب على خُطَاه و أَقبَلوا
و أبيتُ أن أشري الحياة بما أرى *** فيهِ عنِ القِيَمِ العِظامِ تنازُلُ
فإذا زبانيةُ الطُّغاةِ تُحيطُني *** بجموعِها و إلى الدَياهِبِ أُنقَلُ
و استَصْدَروا بالشنقِ أمراً عاجلاً *** ما ضَرَّهم لو فيهِ لم يتعجَّلوا
أيُهيبُهم مني الفرارُ و ما دَرَوا *** أنِّي إلى دار الخلود سأرحَلُ
لا تعْدِلُ الدُّنيا جَناحَ بعوضةٍ *** أإلى الحياة عن الشهادةِ أعدِلُ ؟
قد مزَّقوا سِتري الصقيل فلا تَرى *** إلاّ رقاعاً فوق جسميَ تُسدَلُ
لا تحسبَنَّ رِقاعَهُم ستَلُفُّني *** أو تحسبّنِّي بالبياضِ سأرفُلُ
فدِما الشهيدِ إذا قضى أكفانُهُ *** و أنا بأكفان الدِِّما أتسربَلُ
لو يُدرِكُ الجَلاّدُ سِرَّ تبسُّمي *** في وجْهِ هاتيك المنون سيُذْهَلُ
إنَّي إلى حتفي أسيرُ مقيَّداً *** لولا وثاق البؤسِ كنتُ أهروِلُ
هذي القيودُ تُعيقُني و تحُدُّ مِن *** وَثْبي إلى ما قد حييتُ أُأِمِّلُ
فمُنايَ أن أقضي شهيداً مؤمناً *** و أَمامَ ربِّي بالشهادة أمثُلُ
وإلى ضِفافِ العرشِ آوي كلَّما *** خَفَقَتْ بأجنُحِها الطيورُ و أُقبِلُ
نَيْلُ الشَّهادةِ رأسُ كلِّ فضيلةٍ *** مَنْ نالها فلهُ الثواب الأجزَلُ
و الله يجمعنا و يحكُمُ بيننا *** بالعدلِ مَنْ غيرُ المهيمنِ يعدِلُ
و بحمدِ ربي و السلام على النبي *** أبتاهُ أختِمُ ما أقولُ و أُكمِلُ(/1)
صرف الزكاة في عمارة المسجد
د. سعود الفنيسان 25/1/1423
08/04/2002
تسعدنا كثيراً تعليقات وتعقيبات إخواننا زوار الموقع على ما ينشر في هذه النافذة، وليس من منهجنا تجاهل أي رسالة مهما كانت، بيد أنا نراوح – حسب الإفادة- بين أن نخص المرسل بالجواب، أو ننشر سؤاله والجواب عليه إذا ظننا أن في ذلك فائدة لآخرين.
وكان ممن راسلونا قريباً أحد الإخوة الذي عقب على فتوى فضيلة الشيخ ( سعود الفنيسان) عن حكم صرف الزكاة في عمارة المساجد- المصليات.." والموجودة في خزانة الفتاوى" وكأنه استدرك على فضيلة الشيخ سعود نقله عن سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز وشيخه محمد بن إبراهيم رحمهما الله، أنهما يجيزان صرف الزكاة للمساجد.
وقد أحلنا هذا الاستدراك إلى فضيلة الشيخ سعود فأجاب عنه :
مشرف النافذة00
*******
اطلعت على ما كتب احد متابعي نافذة الفتاوى في موقع الاسلام اليوم تنبيهاً لي على الفتوى التي أفتيت بها في موقع (الإسلام اليوم) عن جواز صرف الزكاة على المسجد والمدرسة الإسلامية، وأراد الأخ –جزاه الله خيراً- تنبيهي إلى فتوى للشيخين الإمامين سماحة الشيخ/ محمد بن إبراهيم، وسماحة الشيخ/ عبدالعزيز بن باز –عليهما رحمة الله ورضوانه- وأنهما لا يريان صرف الزكاة في المساجد.
أحب أن أنبه الاخ أنني أعرف رأيهما في هذين الموضعين الذيْن أشار إليهما، وأطلب منه يعيد قراءة ما أفتيت به في موقع (الإسلام اليوم) فإنني قلت بالحرف الواحد: "وقد أفتى بها بعض العلماء في هذا العصر كسماحة الشيخ/ عبدالعزيز بن باز، وشيخه/ محمد بن إبراهيم آل الشيخ –عليهما رحمة الله-، والشيخ يوسف القرضاوي أجازوا صرف الزكاة في عموم مجالات الدعوة إلى الله من إنشاء المراكز وطبع الكتب وتعليم الناس ...الخ.
فقد أجاز الشيخان صرف الزكاة في عموم مجالات الدعوة إلى الله من بناء المراكز والمدارس وطبع الكتب النافعة (انظر فتوى الشيخ محمد بن إبراهيم في فتاواه 4/142) وأجازها كذلك الشيخ ابن باز في أكثر من فتوى له، والنص على ذلك بما فيه المساجد انظره في قرارات مجمع الفقه الإسلامي في مكة المكرمة (القرار الرابع من قرارات المجلس المنعقد في ربيع الآخر سنة:1405هـ).
والشيخ عبدالعزيز بن باز هو رئيس المجلس وقد وافق عليه أغلبية المجلس مع الرئيس، ولم يخالف فيه من الأعضاء الحاضرين البالغ عددهم (17) عضواً سوى ثلاثة فقط من المشايخ هم: صالح الفوزان، وبكر أبو زيد، ومحمد السبيل، وأحب أن أنبه إلى أن السائل المستفتي لموقع (الإسلام اليوم) هو في أمريكا، ومعلوم أنها تبنى على هيئة خاصة مخصصة للصلوات، بل المسجد لا يعدو أن يكون غرفة أو صالة تستعمل مسجداً وقت الصلاة المفروضة، وقبلها وبعدها هي مكان للأكل والشرب واللعب والمزاح مما تنزه عنه المساجد –عادة- فهو أشبه ما يعبر عنه في أكثر الدوائر الحكومية والمؤسسات عندنا بـ(المصلى) ومعلوم أن (المصلى) لا يأخذ حكم المسجد دائماً.
ولو استفتي الشيخان –عليهما رحمة الله- عن هذا المصلى المسمى مسجداً والذي لا يكاد يعدو أن يكون غرفة حيناً، ومستودعاً حيناً آخر، ومجلساً في بعض أحيان أخرى، لو فصّل لهما ذلك أكاد أجزم أن يفصّلا في حكم صرف الزكاة في بناء المساجد إن لم يرجعا عن رأيهما، فضلاً عن أن الشيخ/ عبدالعزيز بن باز له رأيان في المسألة: رأي يجيز صرف الزكاة في بناء المساجد، ورأي مع قول الجمهور بعدم الجواز.
ثم إن المفتي يفتي السائل على نحو سؤاله لا غير، وفقاً لما يفهمه من مصطلحات عنده في سؤال السائل كلفظة (مسجد) مثلاً، ونظرا لاختلاف المصطلحات وتجدد المفاهيم تختلف الفتاوى.
فالمسجد في سؤال السائل ليس (المسجد) عند جمهور المانعين لصرف الزكاة فيه، فليس له مئذنة ولا محراب ولا منبر وأحب أخيراًَ أن أضيف أنني بحثت هذا الموضوع مستوفى بأقوال العلماء السابقين والمعاصرين، رصدت فيه أقوالهم من كتب التفسير والحديث والفقه، نشرته في مجلة البحوث الفقهية المعاصرة العدد(40) سنة: 1419هـ، تحت عنوان (مصرف "في سبيل الله" بين العموم والخصوص)، ثم نقحته وزدت عليه كثيراً واطمأننت على ما توصلت إليه من جواز دفع الزكاة في بناء المساجد وما يلحق بها من وسائل الدعوة إلى الله ، والكتاب تحت الطبع الآن وسيصدر قريباً بإذن الله.
جزى الله أخانا خيراً على تنبيهه ورزقنا وإياه العلم النافع والعمل الصالح آمين، وصلى الله على نبينا محم.(/1)
صرف الفوائد الربوية في احتياجات المسجد
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ المعاملات/ الربا والقرض/الفوائد الربوية وكيفية التخلص منها
التاريخ ... 26/10/1423هـ
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم
فضيلة الشيخ حفظه الله ورعاه: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
سؤال موجه من إدارة مسجد بجنوب هولندا نرجو منكم الإجابة العاجلة عليه، رفع الله درجاتكم، الشق الأول من السؤال: للمسجد مبلغ مودع باسمه في البنك يقدر بحوالي (خمسين ألف يور) ونظرا لأن البنوك هنا تمشي بنظام الفوائد فإن هذا المبلغ تخرج عليه فوائد ربوية والسؤال هنا كيف نتصرف بهذه الفوائد؟؟ وهل يمكن صرفها على المسجد ومرافقه ومرتبات عامليه؟؟ وهل في هذا الرصيد وفوائده زكاة ؟؟نرجو الإجابة التفصيلية مع النصح مأجورين، الشق الثاني من السؤال :جاء إلينا رجل مبعوث من أحد الأشخاص وقال إن فلاناً بعثني وهو يتبرع لكم بفرش المسجد كاملا !! ونحن نعرف أن الشخص الذي بعثه شخص يتعامل ببيع الحشيش والمخدرات ونعلم أيضا أن له مكسباً آخر غير المخدرات وهو مساعدات اجتماعية من حكومة هولندا، وله مصدر تجاري آخر فلهذا قلنا لهذا الشخص المبعوث أخبر فلاناً الذي بعثك بأننا لن نقبل منه حتى نستفتي العلماء في القضية، بالرغم من أن الذي بعثه يصر على أن الفرش من المال الحلال لا من ماله الحرام؟؟؟ نرجو من فضيلتكم التكرم بالإجابة مشكورين.
الجواب
المال المودع في البنك باسم المسجد الواقع بجنوب هولندا لا زكاة فيه لأن من شروط الزكاة: الملكية، وهذا المبلغ لا يملكه أحد وإنما هو وقف على هذا المسجد وأما الربا (الفائدة) فهي في الأصل حرام في القرآن والسنة، غير أن فتاوى العلماء وعدد من المجامع الفقهية المعاصرة أجازوا أخذ الفائدة التي تدفعها البنوك الربوية على أن تنفق بنية التخلص منها – لا بنية التقرب إلى الله وطلب الأجر، لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وهي خبيثة وحرام وإنما جاز أخذها حتى لا يأخذها الكفار والمرابون ويتقوون بها على المسلمين، ولا بأس أن تنفق هذه الفائدة (الربا) على شئون المسجد من فرش وتكييف وصيانة، ولا يعطى العاملون في المسجد – مرتباتهم منها، لأنها سحت وأي جسم نبت من الحرام فالنار أولى به كما جاء في الحديث انظر: المسند (14441) والترمذي (614)، فصرفها في المرتبات لا يجوز لأنه إعانة على الباطل وتعريض الآخذ لعدم إجابة دعائه إذا دعا، كما في الحديث "رب أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يارب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام فأنى يستجاب لذلك" مسلم (1015).
2. أما قبول التبرعات للمسجد ونحوه ممن ماله كله أو بعضه حرام فجائز لا شيء فيه، فالمتبرع إن كان كافراً يجوز للمسلم قبول تبرع الكافر ولا أجر له على تبرعه، فقد قبل النبي – صلى الله عليه وسلم – الهدايا التي تهدى إليه من الكفار كما هو ثابت في الصحيحين وقد بوب البخاري في صحيحه (باب قبول الهدية من المشركين) وساق فيه أحاديث ثم إن قبولها من الكافر من حسن الخلق والمعاملة بالبر والإحسان الذي دلت عليه الآية: "لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" [الممتحنة:8]، فالآية وإن كانت في إحسان المسلمين إلى الكفار نصاً فإنها دالة على قبول المسلم لتبرع الكافر.(/1)
أما لو كان المتبرع مسلماً يتعامل بالمحرمات وكل ماله أو بعضه حرام فقبوله جائز ويثاب المسلم على تبرعه ويحاسب في الوقت ذاته عن ماله هذا من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ فإذا كان من حرام أو مختلطاً بالحرام وأنفقه في وجوه الطاعة فهو محاسب معاقب على الحرام ومثاب على الصدقة، وقد صح عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود – رضي الله عنهما - وعدد من كبار التابيعن جواز الأكل ممن مطعمه حرام، فقد سئل عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه - عن رجل يدعو جيرانه إلى طعامه وهو يأكل الربا علانية ولا يتحرج من مال خبيث يأخذه؟ فقال للسائل: أجيبوه فإنما المهنأ لكم والوزر عليه، وإذا كان الأمر هكذا فإن قبول تبرعات المتبرعين للمسجد جائزة من باب أولى، وعمارة المسجد الحسية المادية تصح من الكافر والمسلم، أما العمارة الحقيقية فهي عمارتها بالعبادة ولا تصح ولا تجوز من كافر، قال تعالى: "أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" [التوبة:19] فدلالة الآية على جواز العمارة الحسية والمادية واضحة، وإنما العمارة الحسية لا تقارن بعمارتها بالعبادة لله وحده والجهاد في سبيله، ومثل هذه الآية قوله تعالى: "مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ" الآية، [التوبة:17] والمراد منع المشركين من دخول المسجد الحرام بعد عام الحديبية، وهي مرتبطة بأول سورة التوبة " بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" [التوبة:1] فهي عن الدخول وليس أفعال السقاية والرفادة، والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد.(/2)
صعود وسقوط الترابي..
قراءة في مسيرة مثيرة للجدل حسن عبد الحميد*
قبل عشرين عاما بالضبط في العام 1986م قمت برفقة أحد زملائي المصريين بجامعة عين شمس بزيارة للشيخ صلاح أبو إسماعيل ـ رحمه الله ـ أحد أبرز رموز الإسلاميين في مصر في ذلك الوقت، وقدمنا إليه كتابا ينتقد آراء الدكتور الترابي زعيم الجبهة الإسلامية القومية حينها، فقلّب الشيخ أوراق الكتاب ثم قال لنا: نحن وإن كنا نختلف مع الترابي في بعض آرائه، لكنا نقف معه لمطالبته بتحكيم الشريعة الإسلامية بالسودان. وبعد هذه الزيارة بتسع سنوات ـ تقريبا ـ كنا في زيارة للشيخ قاضي حسين أمير الجماعة الإسلامية في باكستان، وتطرق الحديث إلى منهج الترابي وآرائه الشاذة المخالفة لكثير مما تعارف عليه أئمة المسلمين وعامتهم، وكان الشيخ قاضي حسين يدافع عن الترابي، ولما سألناه هل قرأت كتب الترابي؟ أجاب الشيخ قاضي حسين: كلا، ولكني أُحسن الظن به.
هذه العبارات التي يرددها الإسلاميون في الخارج تمثل مدخلا يفسر السؤال الذي ظل يحير الإسلاميين في الداخل: لماذا لا يستوعب الناس ما نقوله عن انحرافات الترابي؟ فالترابي ظل في نظر الكثيرين داعيا إلى تطبيق الشريعة الإسلامية في السودان ومنافحا عن حاكمية الإسلام في الحياة السياسية، لذا فإن الكثيرين نظروا إلى الجانب السياسي في شخصية الترابي، وأعرضوا عن آرائه الفكرية الشاذة التي ظل يرددها منذ زمن بعيد بصيغ مختلفة، بل بعضهم لم يسمع بها أصلا.
ولكن كيف صعد الترابي إلى قيادة جماعة تدعو إلى استئناف الحياة الإسلامية في كل أوجه الحياة وهو يضمر هذه الآراء الشاذة حينا ويصرح بها حينا، وكيف كان سقوطه؟
الواقع أن صعود الترابي كان أيضا لأسباب سياسية بحتة، فالدور الذي لعبه الترابي في ثورة أكتوبر التي أطاحت بحكم الفريق عبود في العام 1964م عجّل بتسنم الترابي موقع القيادة وقد بهرالإخوان الفتى القادم من السربون آنذاك ببلاغته وحنكته السياسية فنصبوه زعيما لهم، وتغاضى بعضهم في جماعة الإخوان نفسها وفي الفكر الإسلامي المعاصر، فعلى صعيد جماعة الإخوان المسلمين عمل الترابي باكرا على تذويبها في جبهة الميثاق الإسلامي وطمس أي خصوصية لها تغليبا للجانب السياسي على الجانب التربوي، مما أنشأ مدرستين داخل الإخوان منذ ذلك الوقت، مجموعة تدعو إلى إيلاء اهتمام أكبر بالجانب التربوي، وهذه كانت بقيادة الشهيد الدكتور محمد صالح عمر، والدكتور جعفر شيخ إدريس ـ أمد الله في أيامه ـ وطائفة أخرى تنادي بتغليب الجانب السياسي الجماهيري ولو على حساب الجانب التربوي، وهذه قادها الترابي بنفسه مع آخرين مثل عبد الرحيم حمدي ومحمد يوسف المحامي، وكادت أن تحدث المواجهة بين المدرستين في مؤتمر عام ليتم إقصاء الترابي عن الرئاسة لولا حدوث انقلاب جعفر نميري في مايو من العام 1969م الذي كان انقلابا يساريا خالصا زجّ بالمجموعتين في سجونه فتأجلت المواجهة الداخلية حينا من الزمن.
وفي العام 1977م قاد الترابي الإخوان المسلمين إلى مصالحة مع نظام جعفر نميري إثر المواجهة الدامية التي تمت في يونيو 1976م بين الجبهة الوطنية ـ التي شارك فيها الإخوان المسلمين بفعالية ـ وحكومة نميري، وانخرط الترابي في أجهزة ومؤسسات النظام، مثل الاتحاد الاشتراكي السوداني الذي يعتبر الحزب الوحيد الممسك على مقاليد الأمور في الدولة، وترقى الترابي حتى وصل إلى منصب النائب العام ـ وزير العدل ـ ومستشار رئيس الجمهورية للشئون السياسية، وساعد الترابي في هذا الجانب أن المدرسة التي كانت تناوئه غاب رموزها، مثل الشهيد الدكتور محمد صالح عمر الذي قضى شهيدا في مواجهات مع نظام مايو في العام 1970م، وغاب الدكتور جعفر شيخ إدريس خارج البلاد في غربة طويلة، والبقية انفصلت عن التنظيم وكونت جماعة الإخوان المسلمين التي حظيت بتأييد التنظيم العالمي في العام 1979م وعلى رأسهم الشيخ صادق عبد الله عبد الماجد والدكتور الحبر يوسف نور الدائم.
وهكذا مضى الترابي في الجانب السياسي واسعا، وفي أثناء ذلك ظهرت أفكاره الشاذة مثل إنكار عصمة الأنبياء والتشكيك في عدالة الصحابة والطعن في صحيح البخاري، وبرز في سبعينيات القرن الماضي منهج فكري متكامل يستند إلى فكر المعتزلة الذي مجده الترابي كثيرا في كتبه ومضى ينهج منهجهم في كثير من المسائل. ولكن كل هذه الآراء لم تجد استهجانا من الكثيرين في الداخل والخارج بسبب طغيان الجانب السياسي على شخصية الترابي، وبسبب مراوغة الترابي وتلاعبه بالألفاظ حينما تحدث مواجهات معه حول هذه الآراء.(/1)
ولكن الجانب السياسي الذي أدى إلى صعود الترابي هو نفسه الذي أدى إلى سقوطه إثر المواجهة بينه وبين الفريق البشير رئيس الجمهورية تلك المواجهة التي أدت إلى تجريد الترابي من كل مناصبه الدستورية والسياسية والتنفيذية في ديسمبر 1999م فيما سُمي حينها بقرارات الرابع من رمضان، فقد كان الترابي في بداية انقلاب الإنقاذ في العام 1989م معتقلا مع زملائه السياسيين السودانيين، رغم أن الجبهة الإسلامية التي كان يرأسها الترابي حينها هي التي قامت بالانقلاب، وذلك تمويها لوجهة الانقلابيين وحماية للثورة الوليدة كما ذُكر لاحقا، ولكن بعد الإفراج عن الترابي ـ مع غيره من السياسيين ـ لم يكن يتولى منصبا تنفيديا ولا سياسيا، فقام بتأسيس المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي في بداية التسعينيات من القرن الماضي وجمع فيه الإسلاميين واليساريين والقوميين في العالم الإسلامي وتولى زعامته، فأصبح لديه منصب ذي صبغة عالمية لتنظيم مقره السودان، ولكنه ظل ـ أمام الناس على الأقل ـ بعيدا عن المناصب الرسمية والسياسية في السودان، رغم أنه كان يدير الأمور وراء الكواليس، ولكنه لم يقنع بذلك الدور الخفي، فتقدم خطوة للأمام نحو المناصب السياسية وتولى زعامة المؤتمر الوطني الحزب الحاكم والوحيد حينها، ثم تقدم خطوة أخرى وتولى رئاسة المجلس الوطني ـ البرلمان ـ فأصبح يتولى رئاسة الحزب الحاكم ورئاسة الجهاز التشريعي في آن معا، ثم أراد أن يتقدم خطوة أخرى نحو رئاسة الجمهورية إثر استشهاد الفريق الزبير محمد صالح النائب الأول لرئيس الجمهورية في فبراير 1998م، فتقدم للرئيس ورشح نفسه ليشغل منصب النائب الأول لرئيس الجمهورية، ولكن الرئيس لم يوافق واختار علي عثمان محمد طه للمنصب، ومن هنا بدأت مواجهات الترابي لرئيس الجمهورية مستغلا منصبيه في المؤتمر الوطني والمجلس الوطني، وانتهت تلك المواجهات بقرارات رمضان الشهيرة التي حلت المجلس الوطني أولا، ثم حلت لاحقا الأمانة العامة للمؤتمر الوطني، فخرج الترابي من الحزب والحكومة مكونا المؤتمر الشعبي في العام 2000م وانضم للأحزاب المعارضة.
وهكذا عندما انكشف الغطاء السياسي عن الترابي، رأى الناس بوضوح فساد أفكاره وآرائه في كثير من الأمور رغم أنها ليست جديدة، لكن كان يحجبها عن الناس موقع الترابي السياسي وظهوره ـ في نظر الكثيرين ـ مدافعا عن الإسلام والشريعة، فأراؤه عن زواج الكتابي من المسلمة، وتحريفه لمعنى الحجاب... وغيرها مما ظهر مؤخرا؛ قال بها الترابي قديما، ولكن شاء الله تعالي أن يظهر استهجان المسلمين لها على نطاق واسع الآن بعد أن لم يعد للترابي ما يحجب عن الناس شناعة آرائه.
كنت في زيارة الأسبوع الماضي ـ يوم الأربعاء 12/4/2006م ـ مع أحد الصحفيين إلى أحد قادة الحركة الإسلامية في السودان، وكنا نسأله عن رأيه في آراء الترابي الشاذة، فقال لنا ـ على هامش الحوار ـ كنت في لجنة رأب الصدع ـ التي كونت إثر قرارات رمضان المشار إليها آنفا ـ وكنا نحاول تقريب الشقة بين الرئيس والترابي، فاقترحنا على الترابي أن يتولى الإمامة ويدع الرئاسة للبشير، ولكنه رفض. فقلتُ للشيخ: هذا من لطف الله تعالى بكم، فلو قبل الترابي الإمامة، لوقعتم في حرج كبير لأنكم لن تستطيعوا حينها الرد على إمامكم. فضحك ضحكة عالية مؤمنا وموافقا.(/2)
صرخة جروزني
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
شِيْشَانُ! صُبّي دَمَاً في الأرضِ واغْتَسِلي
بالنّورِ مِنْه ، وضمّي زهْوةَ الأَمَلِ
ورجّعي مِنْ رُبَى غْرُزْني ملاحِمَها
فوَّارةً بِدَمٍ لِلّه مُشْتَعِلِ
مِنْ كُلِّ أرْوعَ سَبّاقٍ بِوثْبِتَه
إلى الشهادة خَطّافٍ على عَجَلِ
تطلَّعتْ كُلُّ دَارٍ مِنْ مَشَارِفهَا
إِلَيْكِ بَيْنَ دَواعِي الشَّوْقِ والوَجَلِ
مَاذا رَأوْا ؟ ! عَجَباً ! هولاً تُفَجِّرُهُ
عِصَابةٌ مِنْ وُحُوشِ الأَرْضِ والهَمَلِ
هَبُّوا إِليْكِ بأَرتالٍ مُدَعّمَةٍ
مِثْلَ الجرادِ إِذا أَوْفَى عَلَى أَسَلِ
جُنُّوا فَهَبُّوا بأَحْقَادٍ مُرَوَّعةٍ
بالمكْرِ بالكَيْدِ منْ غَدْرٍ ومنْ خَتلِ
وأطْبَقُوا وَلَيَالي الموْتِ فاغِرةٌ
فَاها عَلَى وَمَضَاتِ البَرْقِ والشُّعَل
وأَقْبَلوا ! ثمَّ ولَّوْا ، ويحْهُمْ ، فَزَعاً
لَمَّا رأَوْا عَزْمَةَ الإِيَمانِ لم تَزُلِ
رامُوا الفِرارَ فَما أنْجاهُمُ أَملٌ
وخَلْفَهُمْ صَرَخَاتُ القَهْرِ والعَذَلِ
مِنْ مُجْرِمٍ ظَالِمٍ عَاتٍ تَمُدُّلَهُ
أَهواؤه ظُلُماتِ الشَّرِّ والزَّلَلِ
يَرُدُّهُمْ كلَّما ارتَدُّوا عَلى جَزَعٍ
بِعُصْبَةٍ مِنْ قَطِيعِ الأَعْبُدِ الذُّلَلِ
ظنُّوا القِتالَ سُويْعَاتٍ فهَالُهُمُ
أَنّ القِتال طويلُ العَهْدِ والأَملِ
طَارَتْ مِنَ الهَلَعِ القتَّال أفْئدةٌ
وفُزِّعَتْ مِنْ دُنُوِّ المَوْتِ والأَجَلِ
فَلمْ تَعُدْ غير آلاتٍ تُحَرِّكُهُا
هُوْجُ العَواصِف مِنْ مَكْرٍ ومنْ دَغلِ
* * *
* * *
رَامُوا النّجَاةَ ! وَمِنْ أَيْنَ النَّجاةُ وهُمْ
مُرَوَّعُونَ شَجاً بالفَقْدِ والنَّكَلِ
ظَنُّوا النّجاة بأرتالٍ مُدَبّبةٍ
مِنَ الحَديد وألوانٍ من الحِيَلِ
بكلِّ دَبَّابةٍ ترْمى بَوارِجُها
نَاراً تأَجَّجُ في قَصْرٍ وفي نُزُلِ
تَظَلُّ تَزحَفُ لا تَلْقَى سِوَى جُدُرٍ
أو مَسْكَنٍ فَرَمَتْ بالوابل الهَطِلِ
حَتَّى إذا انْطَلَقَتْ في زَهْوِها انْفَجَرتْ
بِرَمْيةٍ مِنْ شَديد البَأْس مُشْتَمِلِ
كَأَنَّما الأَرضُ شُقَّتْ عَنْ فَوارسِها
فَغَيَّبُوهَا بِلَفْحِ النَّارِ والظُّلَلِ
* * *
* * *
وأَطْبَقُوا فَوْقَهُمْ كالجِنِّ قد مَلؤوا
كُلَّ المَسَالِكِ مِنْ وَادٍ ومِنْ جَبَلِ
يهْوِي الجدَارُ وأَبْطالُ الحمى صَعدُوا
نُوراً تَلأْلأَ في أُفْقٍ وفي سُبُلِ
ياللنِّداء عَلاَ ! دوَّى بِسَاحَتِهِمْ
اللَّه أَكْبَرُ مِنْ سَهْل ومن قُلَلِ
لله دَرُّ رِجَالٍ يَنْسُجُونِ دَماً
أكْفْانَهُمْ بِحَنِينِ البِشْرِ والجذَلِ
يَسْتَقْبِلُونِ جِنَانَ الخُلْدِ فَانْفَرجَتْ
أبْوابُها فَرَحاً بالمُؤْمِنَ البَطَلِ
وخَلَّفُوا جُثَثَ الكُفّارِ هَاوِيةً
إِلى الجَحيم عَلَى وَقْدٍ وَفي شُعَلِ
* * *
* * *
أو يَحْتَمُون بأجْواءِ الفَضَاءِ وَمَا
دَرَوْا بِأَنّهُمُ صَيْدٌ لُمِحْتَبِلِ
بِكُلِّ حَوَّامَةٍ في الجوِّ قَاصِفَةٍ
تَنْقَضُّ بِالموْتِ أوْ بالحَادِثِ الجَلَلِ
جُنّتْ قَذائِفها أو جُنَّ قاذِفُها
مَوّارةً بَيْنَ وَادٍ أَو عَلى جَبَلِ
تُلقِي اللَّهيبَ جَحيماً أَوْ تَدُكُّ بِهِ
عَمائِراً أو تُسوِّي شَاهِقَ القُلَلِ
وتَتْرُك المؤمنين الصَّابرين عَلى
دَمٍ تَوهَّج فِي السَّاحَاتِ مُنْهَملِ
كَأنَّما الأرْضُ كَانَتْ قَبْلُ عَاطِلةً
فوُشّيَتْ بِدِمَاء الفَارِسِ البَطَلِ
كأنَّهمْ وبِساطُ الأَرْضِ مُنْتَشِرٌ
لآلِئٌ زَيَّنَتْ مَوْشِيّةَ الحُلَلِ
وخَلَّفُوا طائراتِ الرُّوسِ هاويةً
إِلى الثّرى قطعاً مَيْسُورةَ النَّفَلِ
* * *
* * *
لله دَرُّ " دُدَاييفٍ " وعُصْبَتِه
تَحَصَّنوا بِدُروعِ الحَقِّ والعِلَلِ
أَحْيَوْا مِنَ الأَمِس ذكرى شامِل وَرَنَوْا
إِلى غَدٍ مُشْرقٍ بالبِشر مكتَحِلِ
وواصلوا وثَباتِ السَّابقين عَلَى
صِدْقِ اليقينِ وعَزمٍ غَيْر مُنخذلِ
كأنَّما رُجِّعَ التاريخُ وانْتَفَضَتْ
مَوَاكِبُ الحقِّ تُحْييِ سِيْرةَ الأُوَلِ
قَصْرَ الرئاسَةِ ! فأهْزأ مِنْ صَواعِقهمْ
وَرُدَّها فَوْقُهمْ مَوصُولَةَ الوَهَلِ
نَهضْتَ كالقَلْعَةِ الشَّماءَ فانْقَلبُوا
بِخِزْيِهِمْ وجُذُورُ الحَقِّ لَمْ تُنَلِ
* * *
* * *
هِيَ الحَضَارَةُ يبْنيها غَطَارِفةٌ
مَنْ فارِسٍ صَادِقٍ لله أَو نَبَلِ
هِيَ الحضَارَةُ أمْنٌ كُلّمَا انَتفَضَتْ
إِلى الجِهادِ زُحُوفُ المؤمِنِ البَطَلِ
هُنَا الحَضَارَةُ أَعْمَاقُ الحَيَاةِ بِها
بَيْنَ الجَماجم والأشلاءِ والطُّلَلِ
هذي حَضَارةُ إنْسَانٍ رِسَالتُه
إلى الدُّنا عَزْمَةُ التَّوحِيد والرسُلِ
وخَاتِم الأنْبِيَاءِ المرسَلين دَعا
إِلى هُدىً صَادقٍ بالوحْي مكتملِ
يُزْوَى الفَسادُ بِعزْمٍ غيرِ منهزِمٍ
ويُرْتَقَى لِعُلاً بالحقِّ مُتَّصِلِ
رِسالةُ الله للإنْسْان يَحْملُها
رِجالُها صُدُقاً فَالْحَقْ أو اعْتَزِلِ
تبيّن الرّشْدُ ! مَنْ يَتْرُكْهُ يُلقَ بِهِ
عَلى لهيبٍ تلظّى أوْ عَلَى شُعَلِ
* * *
* * *
أُولئك المجرِمُونَ الظَّالمون بَغَوْا(/1)
وأفْسَدُوا الأرض في ظلمٍ وفي نَكَلِ
أولئك المُجرمون استكبروا وعَتَوا
صَاغوا الحضارة من زَيْغٍ ومنْ مِيَلِ
أيْنَ الحَضَارةُ ؟ لا عَدْلٌ ولا شَرفٌ
مِنْ فَاجرٍ سَاقِطٍ أو فَاجرٍ ثَمِلِ
يُوروْنَ في الأَرْض مِنْ أهوائهم شُعلاً
ومِنْ جَرائِمهمْ وقْداً مِنَ الدَّخلِ
* * *
* * *
لله دَرُّ " دُدَاييف " وقَدْ رَصَدَتْ
أعْدَاؤُهُ خطْوَه رَصْداً عَلَى وَجَلِ
تَجمَّعوا حَوْلَه من كُلِّ ناحيةٍ
كَيْداً يُدارُ بأَيْدي الغَدْر والخَتَلِ
مِنْ كلِّ أَهوجَ جَبَّارٍ وطاغيَةٍ
وكُلِّ باغ وسُلطانٍ مِن الدُّوَلِ
وكُلِّ فَنٍّ مِنَ الإِبداع مُبْتَكَرٍ
يُدَارُ لِلشرِّ بالأَعْوانِ والخَوَل
لَوْلا خِيانَةٍ عَهْدٍ أبرَمُوه لما
وقَعْتَ في شَرَكٍ بالمكْرِ مبتَذَلِ
رَموْكَ ثَّم أصَابُوا مَقْتلا ومَضَوْا
إلى جَرائِمِهمْ موْصُولة الدَّغَل
رَموْكَ مِنْ مُحْكم الصاروخ واسْتَتَروا
سِتْرَ الجَبَان وسِتْر العاجِز الوَكِلِ
تَفَجّرَ الدَّمُ فاهْنأْ مِن بَشائِره
وانْظرْ إلى الأُفْقِ تُشْرِقْ زهوة الأمَلِ
نورٌ يَموجُ وعِطرٌ سالَ فامتلأَتْ
مِنْهُ المرابعُ مِنْ سَهْلٍ ومِنْ جَبَلِ
تَناثَرَ الجَوْهرُ المكْنُونُ فائتلقت
مِنْه اللآلئُ في حَلْي وفي حُلَلِ
تُزَيِّنُ المجْدَ والتاريخ تبْعَثُهُ
حَيّاً يُطوِّفُ في وادٍ وفي قُلَلِ
كَأَنّما الدَّمُ مِنْ أشواقِهِ نَبَتَتْ
أَجْيالُ مُنْطَلِقٍ لله مُبْتَهِل
عَجِبْتُ للمَوتُ يَطوِي فارساً فَتَرى
كتائباً بَعْدَه موصولةَ الكُتلِ
لله درُّ " دُداييف " عَزَائِمُهُ
ترْوي لنا عَبْقَريَّ البذْل والمثَلِ
ومِن دَويِّ زُحوفٍ أطبَقتْ فَغَدتْ
أنْشودةً لَحنينِ الطِّفْل والرَّجُلِ
فاهْنأْ أمامَكَ جَنَّاتٌ منائِرها
للعائِدِين بِصدْق القَلْبِ والعَملِ
* * *
* * *
الرياض
15/9/1415هـ
14/12/1995م
وأضيف مقطع رثاء دوداييف في
1/1/1417هـ الموافق
18/5/1996م ... ... ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· ديوان عبر وعبرات .(/2)
صفات من يتحمّل الخلافة
- أخرج ابن عساكر عن عاصم قال: جمع أبو بكر - رضي الله عنه - الناس، وهو مريض، فأمر من يحمله إلى المنبر، فكانت آخر خطبة خطب بها، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: «يا أيها الناس، احذروا الدنيا، ولا تثقوا بها؛ فإنها غرّارة. وآثِروا الآخرة على الدنيا فأحِبّوها، فبحب كل واحدة منهما تبغض الأخرى. وإن هذا الأمر الذي هو أملك بنا، لا يصلح آخره إلا بما صلح به أوله، فلا يحمله إلا أفضلكم مقدرة، وأملككم لنفسه، وأشدكم في حال الشدة، وأسلسكم في حال اللين، وأعلمكم برأي ذوي الرأي، لا يتشاغل بما لا يعنيه، ولا يحزن بما لا ينزل به، ولا يستحيي من التعلم، ولا يتحيّر عند البديهة، قوي على الأموال، ولا يخون بشيء منها حدة بعدوان ولا يقصر، يرصد لما هو آتٍ، عتاده من الحذر والطاعة – وهو عمر بن الخطاب...» ثم نزل. كذا في كنز العمال.
- وأخرج ابن عساكر كذلك، أن عمر بن الخطاب قال في صفات الخليفة: «إن هذا الأمر لا يحمله إلا الليّن في غير ضعف، والقويّ في غير عنف، والجواد في غير سرف، والممسك في غير بخل،... ولا يطيق هذا الأمر إلا رجل لا يصانع، ولا يضارع [لا يشبه فعله الرياء]، ولا يتبع المطامع،...».
- وأخرج ابن سعد (3/228) عن سفيان بن أبي العوجاء قال: (قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: واللهِ ما أدري خليفة أنا أم ملك؟... فقال له سلمان: إن أنت جبيت من أرض المسلمين درهماً أو أقل أو أكثر، ثم وضعته في غير حقه فأنت ملك غير خليفة، فاستعبر عمر).
- وعند نُعيم بن حمّاد في الفتن... قال سلمان: إنك خليفة ولست بملك... وذلك أنك تعدل في الرعية، وتقسم بينهم بالسوية، وتشفق عليهم شفقة الرجل على أهله، وتقضي بكتاب الله تعالى. فقال كعب: ما كنت أحسب أن في المجلس أحداً يعرف الخليفة من الملك غيري، ولكن الله ملأ سلمان حكماً وعلماً...
- وعند ابن عساكر عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: لما ولي عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه - قال له رجل: لقد كاد بعض الناس أن يحيد هذا الأمر عنك، قال عمر: وما ذاك؟ قال: يزعمون أنك فظ. قال عمر: الحمد لله الذي ملأ قلبي لهم رُحْماً، وملأ قلوبهم لي رُعْباً. كذا في منتخب الكنز قرآن كريم(/1)
صفات الأم الصديقة
عزيزتي الأم القارئة:
نسمع كثيرًا من تشكو من الأمهات من ابنتها وخاصة بعد بلوغ سن المراهقة.
فهل سألت هذه الأم نفسها: كم من الوقت خصصت لرعاية ابنتها ؟ كم من الوقت خصصت للاستماع إليها وبرحابة صدر ؟ كم من الوقت خصصت لمصاحبتها ؟ وهي أحق الناس بحسن الصحبة كما جاء في نص الحديث [[ من أحق الناس بحسن صحابتي يا رسول الله ؟ قال: أمك ثلاث مرات ]].
كم من الوقت خصصت لتوجيه ابنتها والاهتمام بها ؟
عندما نهتم بالابنة ونسمع لها قبل أن يسمع لها غيرنا، سنفهم ما يشغلها وندرك حاجاتها , يشير أكرم عثمان في كتابه التميز في فهم النفس إلى أن المراهقين بحاجة ماسة إلى من يفتح لهم صدره ويصغي إليهم ويحاورهم ويناقشهم باحترام ويعطيهم الفرصة للتحدث والتعبير عما يحسونه به، فالتعاطف من وجهة نظرهم يعطيهم الإحساس بالأمن والطمأنينة والسعادة.
فالمراهق يمتاز عن غيره بالحساسية المرهفة لكل ما يجري حوله لذا فهو أحوج ما يكون إلى اهتمام الآخرين ومحبتهم، إن الإصغاء للمتحدث من الأمور الهامة فقد كان الصحابة يستمعون لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم وكأن على رؤوسهم الطير من شدة الاهتمام به وبما يقول.
وتذكري عزيزتي الأم أن مرحلة المراهقة من أصعب مراحل النمو على النشء وأشدها تأثيرًا على حياته مستقبلاً وأكثرها عناءً وجهدًا بالنسبة للمربين والآباء والأمهات، وفيها تجتمع على المراهق عوامل متعددة مثل التغيرات في الجسم والغدد والطول والوزن والإحساس بالبلوغ، وأيضًا التكليف الرباني له.
فلا تكوني أنت أيضًا أيتها الأم من العوامل التي تجتمع على الإبنة المراهقة بعدم تفهمك لها وتذكري قول الإمام علي رضي الله عنه: [[لاعب ولدك سبعًا وأدبه سبعًا وصاحبه سبعًا ثم اترك حبله على الغارب]].
فالمصاحبة توجيه ومرافقة ومحبة، المصاحبة تزيل الحواجز وتقرب بين الأبناء والآباء والأمهات، فلا يشعر الأبناء بأي حرج من أن يستشيروا أهلهم فيما يعرض لهم من أمور.
المصاحبة تكشف للأهل قدرات الأبناء الحقيقية ودرجة نضجهم العقلي والنفسي.
المصاحبة تقي أبناءنا من الأمراض النفسية والمشكلات الانحرافية، وبالتالي تحقق لهم الصحة النفسية والتوازن الأخلاقي.
عزيزتي الأم القارئة:
إن نجاح الأم في التعامل مع الابنة المراهقة يرتبط ارتباطًا وثيقًا بما لديها من صفات تتسم بها شخصيتها.
وهل نبني قصورًا على الرمال ؟
لقد اهتم الإسلام بالإنسان في كل مراحله بل حتى قبل وجوده في هذه الحياة عندما دعت الشريعة الرجل إلى حسن اختيار الزوجة والعكس كما جاء في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: [[ تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها، وجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين ترتب يداك ]] , [[ إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض ]] , فلن يستقيم البناء إلا إذا كان الأساس سليمًا. وهي نبني قصورًا على الرمال؟
فالأم هي المدرسة التي يتخرج فيها الأولاد وحسن اختيارها ينشأ عنه نجابة الولد واستقامته وصلاح أمره والأب هو الراعي للأسرة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: [[كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته]].
صفات الأم الصديقة:
1ـ أن تكون مثقفة:
وأهم موضوعات هذه الثقافة العلم إجمالاً بالحلال والحرام والحقوق مثل حق الزوج والأولاد. وأساليب التربية وأساليب أعداء الإسلام، والتزام الأخلاق الفاضلة، ومعرفة الخصائص العامة للنمو [الطفل والمراهق]، ومعرفة هذه الخصائص أمر بالغ الأهمية لتعمل على إشباع مطالب الأبناء وحجات نموهم بما يتناسب مع قدراتهم واستعدادهم وبما يجنبهم عوامل الإحباط والقلق والصراع ويحقق لهم التوافق النفسي والاجتماعي.
2ـ الأم القدوة:
فتكون قدوة حسنة لابنتها في الخلق والسلوك وضبط النفس وفي الالتزام بالعبادات [الصلاة والصوم والحجات وحفظ اللسان...] , تقول إحدى الفتيات: [[ أمي لا تصلي فكيف تكون قدوة لي ]] , فالأم التي تهمل الصلاة بحجة المشاغل الكثيرة كيف تطلب من أولادها ما لا تفعله ؟، كيف تطلب من الابنة لسانًا عفيفًا وهدوء وعدم انفعال وهي تُسمعها الكلمات النابية وتحيطها بالانفعالات والعصبية ؟ فالقدوة الحسنة أمام الابنة هي خير الوسائل لإيجاد تربية متوازنة للفتيات.
يقول محمد قطب في كتابه [منهج التربية الإسلامية]: [[من السهل تأليف كتاب في التربية، ومن السهل تخيل منهج، ولكن هذا المنهج يظل حبرًا على ورق ما لم يتحول إلى حقيقة واقعة تتحرك في واقع الأرض، وما لم يتحول إلى بشر يترجم بسلوكه وتصرفاته ومشاعره وأفكاره مبادئ المنهج ومعانيه عندئذ فقط يتحول إلى حركة .. يتحول إلى حقيقة]].
3ـ أن تتصف بالرحمة والرفق واللين في توازن:(/1)
يجمع علماء التربية أن الناشئ إذا عومل من قبل أبويه المعاملة القاسية بالضرب الشديد مثلاً والتوبيخ والتحقير والتشهير والسخرية فإن ذلك له آثاره السيئة على صحته النفسية وسلوكياته والمراهقة في هذه السن في أشد الاحتياج إلى الحب والعطف والرحمة.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تقبلون الصبيان فما نقبلهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [[وأملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة ؟]] , ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: [[إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه]].
فلا بد أن تكون العلاقة بين الأم وابنتها علاقة متوازنة [خير الأمور أوسطها] فلا قسوة مرعبة ولا لين ضعيف، لأن الزيادة في كلا الأمرين كالنقص.
وأفضل السبل أن تكون الأم صديقة لابنتها وتحيا معها حياة فيها ملاطفة ومعايشة وحب دون إفراط ولا تفريط فلا قسوة ترهب الابنة من الحديث مع أمها، ولا تدليل زائد يميع الابنة ويفسدها.
4ـ تجنبي كثرة اللوم والعتاب وإظهار العيوب:
يقول بن قدامة في كتابه [مختصر منهاج القاصدين]: [[ ومتى ظهر من الصبي خلق جميل وفعل محمود فينبغي أن تكرم عليه، ويجازى بما يفرح به، ويمدح بين أظهر الناس، فإن خالف ذلك في بعض الأحوال تغوفل عنه ولا يكاشف، فإن عاد عوتب سرًا، وخوف من إطلاع الناس عليه، ولا يكثر عليه العتاب لأن ذلك يهون عليه سماع الملامة، وليكن حافظًا هيبة الكلام معه]].
وعلى الأم مراعاة الحكمة في توجيه الابنة والتنويع هو مسلك الناجحين وتحين الأوقات المناسبة بما يحتاجه الموقف والظروف والحالة النفسية للابنة الحبيبة.
5ـ الدعاء للابنة الحبيبة لا عليها:
يقول الله تعالى مخبرًا عن إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} [إبراهيم:40] فالأم الصديقة تكون سببًا في صلاح ابنتها بالدعاء لها لا عليها كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم فدعا للأطفال فبارك الله في مستقبلهم بالعمل، والمال، والولد فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ضمني النبي صلى الله عليه وسلم إلى صدره وقال: [[اللهم علمه الحكمة]] أخرجه البخاري , وبفضل دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبح ابن عباس في كبره حبر الأمة، وترجمان القرآن.
واعلمي عزيزتي الأم أن الدعاء للابنة أمامها يكون سببًا للتواصل والقرب بينها وبين الأم إلى جانب الراحة النفسية أن أمها تحبها وتدعو لها وهذا له أثر رائع تلمسه الأم والابنة.
6ـ احرص على تطوير نفسك:
ومن الهام جدًا تطوير النفس وتنمية الثقافة لتواكب العصر، وتحصلي على احترام الأبناء وثقتهم فيلتمسون المشورة والنصح منك , وإذا فقد الأبناء الثقة في كلام الوالدين وخاصة الأم فلن يقبلوا التوجيه ولن يصغى أحد إلى النصح، ويلجأون حينها إلى من يثقون به من صديقة أو معلم، فإن كان الصديق أو المعلم أو غيرهم صالحًا فلا خوف على الأبناء، وإن كان العكس تفاقمت المشكلة , ومن تطوير الذات تعلم بعض الفنون مثل فن الحوار فن الاتصال مع الآخرين , ويمكنك متابعة فن الاتصال مع الآخرين على موقعنا في نافذة فن الإدارة [إدارة العقل] لتحسني فن التواصل مع ابنتك الحبيبة.
وفقنا الله وإياك إلى فهم أبنائنا وتربية أبنائنا وتحقيق الأمرين الهامين:
1ـ التنشئة الإسلامية الصحيحة.
2ـ تحقيق الصحة النفسية للأبناء(/2)
صفات المؤمنين
الحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ?يا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجَالاً كَثِيراً وَنِساءً، واتَّقُوا اللَّهَ الذي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً?[ النساء : 1]. ?يا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وأَنْتُمْ مُسْلِمُون? [آل عمران: 102]. ? يا أيُّهَا الَّذين آمَنوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمالَكُمْ، ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً? [الأحزاب:71].
? إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ?[التوبة:111-112].
هذه هي صفات ومواصفات المؤمنين الصادقين الذين أبرموا صفقة رابحة مع ربهم إذ باعوا النفوس والأموال لخالقهم جل وعلا في مقابل الحصول على سلعة الله الغالية ألا وهي الجنة. وبعد أن ذكر أعلى صفة فيهم وهي بذل النفوس والأموال في الجهاد في سبيل الله ، ذكر بعد ذلك صفات رفيعة تؤهلهم لمجاورة الرب الرحيم في جنات عدن، فقال: التائبون العابدون ، فهم يقلعون عن محارم الله ومساخطه ولا يقربونها وذلك بالتوبة الصادقة والرجوع إلى الله والاستغفار هذا من ناحية وهم من ناحية أخرى يفعلون ما أمرهم الله بفعله، ويأتمرون بأمره ويطيعون الله ورسوله فقال تعالى عنهم (الْعَابِدُونَ)
فالعبادة والعبودية صفة أساسية من صفات المؤمنين، إنهم يحققون الغاية من وجودهم في القيام بعبادة الله جل وعلا ، فالله لم يخلق الجن والإنس إلا ليعبدوه وحده لا شريك له منقادين مختارين كما قال تعالى ?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ?[الذاريات:56] إنهم يحولون الحياة كلها إلى محراب كبير يعبدون الله في كل أحوالهم وفي جميع أوقاتهم، فالعابدون لله حقاً هم المؤمنون الذين يعبدون الله بقلوبهم، ويعبدون الله بألسنتهم ويعبدون الله بجوارحهم ، يعبدون الله وهم في فقر ومسغبة، ويعبدون الله وهم في نعم وخيرات وغنى يعبدون الله في بيوتهم ، فبيوتهم عامرة بالإيمان والقرآن والبر والطاعات... يعبدون الله في أسواقهم بيعاً وشراءً، فلا ربا ولا احتكار ولا كذب ولا نصب ولا احتيال، وإنما يصدقون ويتصدقون ويبرون وينصحون لا يغشون ولا يخادعون فهم كما أخبر الله عنهم : ? رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ ...?[النور:37].
المؤمنون العابدون ، يعبدون الله في معاملاتهم مع الآخرين يتحرون العدل وإقامة الحق مع القريب والبعيد، مع العدو والصديق، ممتثلين أمر الله عز وجل في قوله الكريم: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ... ?[المائدة:8].
المؤمنون العابدون: يعبدون الله حين يكونون حكاماً ومسئولين وذلك بتنفيذ أحكام الله وإقامة شعائر دينه ، والحكم بين الناس بالعدل والقسط، لا يجورون ولا يظلمون وإنما يهدون بالحق وبه يعدلون.
ومن العبادات القلبية التي يعبدون الله بها الحب والبغض.. فهم يحبون الله ورسوله والمؤمنين، ويحبون كل ما يحبه الله، ويكرهون ويبغضون كل ما يكرهه الله ويبغضه.. إن المؤمنين يحبون الله ربهم وخالقهم أكثر مما يحب الكفار والمشركون معبوداتهم، قال تعالى: ? وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ ...?[ البقرة: 165].
فالمؤمنون هم أحباب الله وأصفياؤه ? ... يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ...?[ المائدة: 54].(/1)
ومن العبادات القلبية التي يتعبد بها المؤمنون لربهم الخوف، فهم لا يخافون إلا من خالقهم جل وعلا الذي بيده حياتهم ومماتهم وأرزاقهم، هم العارفون دون غيرهم بعظمة الله وكبريائه ولذا فإنهم يخافون ربهم ويخشونه يرجون رحمته ويخشون عذابه، قلوبهم قد خلصت له فلا شيء غير الله بداخلها يزاحم مراد الرب جل وعلا.
إن قلوب المؤمنين العابدين قلوب طاهرة من الشرك والرياء، ومن النفاق والغل والحسد والحقد، قد سلمت من كل الأدواء والأمراض فأصحابها العابدون لربهم هم السالمون غداً في عرصات يوم القيامة: ? يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ?[ الشعراء:88-89].
ومن عبادات القلوب التي يتعبدون لله بها التوكل على الحي الذي لا يموت، وقد جاءت الآيات الكثيرة آمرة الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالتوكل على الله والاعتماد عليه، وتفويض الأمور كلها إليه كما قال تعالى: ? وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ?[الشعراء:217]. ، ? فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ?[النمل:79] . وقوله: ? ... وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ?[المائدة:23]. وقوله: ?وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ? [آل عمران:122].وقوله: ? ... وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ...?[ الطلاق:3] وقوله: ?الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ?[آل عمران:173].
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له : ? ... إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ?()[آل عمران:173].
وحقيقة التوكل: هو صدق اعتماد القلب على الله جل وعلا في استجلاب المصالح ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة، وتوكيل الأمور كلها إليه سبحانه، وتحقيق الإيمان بأنه لا يعطي ولا يمنع، ولا يضر ولا ينفع إلى الله عز وجل، ومما ينبغي إن يفقه جيداً أن التوكل لا يتنافى مع الأخذ بالأسباب مادام العبد معتقداً أن الأمر كله لله.
فقد أمر الله عباده بالأخذ بالأسباب في مواجهة الأعداء بالخطط المحكمة، وإعداد القوة، وأخذ الحيطة والحذر، كما أمر عباده بالسعي في طلب الرزق، فإذا أخذ المسلم بالأسباب المشروعة واستعان بالله تعالى على نجاح مقاصده فإنه يكون قد حقق التوكل ونال رضا الله تعالى وحصل على عظيم المثوبة في الآخرة كما جاء في صحيح مسلم عن عمران بن حصين رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: "هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون" وقال صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عل الشيطان"، ولقي عمر بن الخطاب رضي الله عنه ناساً من أهل اليمن ، فقال: من أنتم؟ قالوا: نحن المتوكلون ، قال: بل أنتم المتواكلون، إنما المتوكل الذي يلقي حبه في الأرض ويتوكل على الله.
وما أحوج الأمة اليوم وهي تواجه تحديات خطيرة لا قِبل لها بها إلا بتحقيق عبودية التوكل على الله كما يريد الله وذلك بالأخذ بالأسباب الممكنة والمتاحة مع صدق التوكل والاعتماد على الله قال تعالى: ? ... وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ...? [ الطلاق:3] أي كافيه، ومن كان الله كافيه وواقيه فلا مطمع فيه لعدوه، ولا يضره إلا أذى لابد منه كالحر والبرد والجوع والعطش، فأما أن العدو يضره بما يبلغ مراده منه فلا يكون أبداً. قال بعض السلف : "جعل الله لكل عمل جزاء من نفسه، وجعل جزاء التوكل عليه نفس كفايته، فقال: ? ... وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ...? [ الطلاق:3]. فلم يقل: فله كذا وكذا من الأجر كما قال في الأعمال؛ بل جعل نفسه سبحانه كافي عبده المتوكل عليه وحسبه وواقيه، فلو توكل العبد على الله حق توكله وكادته السماوات والأرض ومن فيهن ، لجعل الله له مخرجاً وكفاه ورزقه ونصره وهداه. علينا جميعاً أن نوثق صلتنا بربنا وخالقنا وأن نصدق في عبادته ظاهراً وباطناً ونخلص له ونتوكل عليه فهو ولينا ومولانا نعم المولى ونعم النصير.
الخطبة الثانية:(/2)
قال المشركون من كفار قريش قديماً للرسول صلى الله عليه وسلم: ?... ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ ...?[يونس:15] ، إنه لم يرق للمشركين ما في هذا القرآن من هدى ونور وحق، إنهم يكرهون الحق وينفرون منه كما تنفر الحمر من الأسود كما بين الله حالهم في التكذيب والإعراض فقال عنهم مقرعاً وموبخاً ? فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ ?[المدثر:49-51] ثم كان هذا الطلب الفاجر والاقتراح الساخر حيث طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغير القرآن كلية أو يحذف بعض موضوعاته التي لا تتناسب معهم، وكأن المسألة شخصية أو أن الرسول يملك أن يحذف أو يغير كما يشاؤون ، فجاء الرد الواضح الصريح على الكفار الغابرين والحاضرين الأولين منهم والآخرين:?... قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ ?[يونس:15-17] هذا ما طلبه واقترحته عصابات الكفر والإجرام في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم واليوم فإن عصابات اليهودية والصليبية والوثنية يطالبون المسلمين بالتخلي عن القرآن وترك الدين والإسلام بالكلية أو ترك بعض أجزائه وحذف أحكامه.
وإن الصهيونية بصدد البحث عن ديانة جديدة تصدرها للمسلمين وتملي على الحكام الأخذ بها لتكون بديلاً عن الإسلام السياسي كما يزعمون بمعنى أنهم يريدون من المسلمين أن يتركوا القرآن وأن يتخلوا عن أحكامه وتتم عملية استبدال للدين بهذه الطريقة الإجرامية والتي يتبناها في كل بلد أكابر مجرميها من العملاء المأجورين من الدخلاء على هذه الأمة.
إن حملة شديدة تشن اليوم على مرأى ومسمع من قبل اليهود والنصارى وتهدف إلى تبديل القرآن أو تغييره وإعلان الحرب على معاقل الدين ومحاضنه ومؤسساته ومدارسه تحت مسمى مكافحة الإرهاب وتجفيف منابعه فهل رأيتم أيها المسلمون ظلماً وإجراماً وإرهاباً أعظم من هذا.
وهل سيتحقق هذا الأمر الذي يريدون ، وهل سيرضى أهل الإسلام أن يعيشوا بدين غير دينهم وهل هم على استعداد لأن يتخلوا عن هذا القرآن العظيم الذي شرفهم الله به وكرمهم؟ كلا.. لقد أخبرنا الله جل وعلا بنهاية هذا الكيد وعاقبته فقال سبحانه في خاتمة تلك الآيات البينات التي وضحت موقف المكذبين الساعين لتغيير القرآن أو تبديله: ? فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ?[يونس:17].
فقد دلت هذه الآية أن من يطالب بتغيير القرآن أو بتبديله إنما هو مجرم يمارس أبشع وأفضع صور الإجرام ثم بينت أنهم لا يفلحون ولا ينجحون وإذا لم يفلحوا فقد خابوا وخسروا.
أيها المؤمنون: إن فتناً مضلة تعصف بعالمنا اليوم وتهز النفوس هزاً عنيفاً تغزو العقول والقلوب وتغير الأفكار والثوابت والمعتقدات والمسلمات والسلوك لا يثبت أمامها ولا يصمد في وجهها إلا من رزقه الله صدقاً في الإيمان وقوة في اليقين وحجة وبرهاناً إن الله عز وجل يبتلي عباده بهذه الفتن وبغيرها حتى يظهر المؤمنون الصادقون الذين يؤمنون بالغيب ويعلمون أنهم على الحق ويظهر الأدعياء والمنافقون الذين في قلوبهم أمراض الشبهات والشكوك والأهواء والشهوات قال الله عز وجل: ? وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ?[محمد: 31].
فاثبتوا عباد الله على دينكم وتمسكوا بهدي نبيكم واصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون.
راجعه/ عبد الحميد أحمد مرشد.
(1)ـ البخاري 4/1662، حديث رقم: 4287.
صحيح البخاري: كتاب الطب: باب: من اكتوى أو كوى غيره، وفضل من لم يكتو: الحديث رقم: (5378) عن عمران بن حُصَين رضي الله عنهما . وصحيح مسلم: كتاب الإيمان: باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب: الحديث رقم: (218) عن عمران بن حصين .
صحيح مسلم: باب في الأمر بالقوة وترك العجز. والاستعانة بالله، وتفويض المقادير لله: الحديث رقم: (2664) عن أبي هريرة .(/3)
صفات المنافقين
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ? [ آل عمران : 102] ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ً? [ النساء : 1] والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف الأنبياء والمرسلين ، الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته . وبعد :
فعداوة المنافقين للإسلام وأهله هي أشد ضرراً وأكثر خطراً على الإسلام والمسلمين من الكفار الواضحين. ذلك لأنهم الأعداء ولكن في صورة أصدقاء، وإن واجب الأمة أن تكون يقظة وحذرة من كيدهم وأساليب خداعهم وتضليلهم، ولقد حذر الله نبيه من المنافقين وأمره بأن يحذر منهم وبين له حقيقتهم فقال له: ?هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ? [المنفقون:4] ، ومن نعمة الله تعالى علينا أن ذكر لنا صفات وأخلاق المنافقين في كتابه الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, ومن صفات المنافقين وأخلاقهم التي ذكرها الله عز وجل, براعتهم في حسن القول وتزيينه, ومقدرتهم على خداع الجماهير وتضليلهم، فأنت إذا سمعت المنافق يتحدث يعجبك قوله، إذا تحدثت مع المنافق عن الدين والإيمان وعن الخير والاستقامة والصلاح, أو عن الفساد والمفسدين, أفاض معك في القول، وأظهر أن قلبه يتفطر حسرة وندامة على الفساد الموجود الذي نراه كل يوم ، وأنه يتمنى أن يصلح الناس ويستقيموا على الصراط المستقيم، ويظهر لك الموافقة على كل ما تريد أن تعمله، وقد يتعاون معك ظاهراً، وقد يصف لك طريق الخلاص من الفساد الذي عم وطم. ولكنه في حقيقة أمره يحفر لك الحفر، ويمد لك الأحابيل ويطوقك بالمؤامرات والمكائد.
والله تعالى يدلنا على حقائق أحوالهم، ومكنونات قلوبهم الخبيثة وأنهم يمثلون الخطر الداهم على البشرية والإنسانية ، إنهم يتحذلقون ويتملقون للجماهير، ويظهرون لها كلاماً مزخرفاً مغرياً، يلبسون للناس لباس الضأن اللين ، ألسنتهم أحلى من السكر، وقلوبهم قلوب الذئاب، فقولهم يعجب كل سامع ، ويشهد أحدهم الله على صحة ما يقول وعلى مطابقة قوله لفعله. إن المنافق يحمل بين جنبيه شخصية مزدوجة وكأنما هو شخصان في شخص. حين يكون أحدهم ضعيفاً فإنه يتمسكن حتى يتمكن، ويكون أحدهم في الظاهر خيراً صالحاً فإذا ما حصل له نفوذاً أو نجح له تدبير أو أسند له عمل قيادي على الأمة تحول إلى شيطان رجيم ولكن في صورة إنسان، وأخذ في ظلم العباد وتخريب البلاد وعاث في الأرض الفساد ، استمعوا أيها المؤمنون إلى قول الله تعالى وهو يكشف لنا هذه النفسيات الخبيثة ويفضحها ويعريها للناظرين: ?وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ(204)وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ(205)وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ? [البقرة:204-206].
لقد ابتليت أمة الإسلام على امتداد ساحتها بهذا النوع النكد من الناس، الذين يتملقون ويخادعون ويبرمجون برامجهم وأفكارهم ودعاواهم المغشوشة، ويبرزونها في أحسن المظاهر، وسواء ظهرت في شكل هيئات ومنظمات ، أو كانت في صورة كتل وأحزاب أو غير ذلك. حتى يستلبوا عقول الناس ويكسبوا مودتهم، والثقة بهم، فإذا ما وصلوا إلى التحكم في رقاب الناس وأموالهم وأعراضهم كشروا عن أنيابهم, وظهروا على حقيقتهم من اللدد في الخصومة, ورميهم الآخرين بالسفه ، وتحولوا إلى خصوم ألداء بالباطل، يفتنون الناس بباطلهم ويُبعدونهم عن ضروب الحق والخير والهدى والصلاح, ويُنفسون عن أحقادهم وشدة عداوتهم بالسعي بالإفساد في الأرض وتحطيم الأمة وإرهاقها، وأهلاك الحرث والنسل وعمل كل ما نهى الله عنه رسوله, من الظلم والجور والإرهاب والبطش. وبث جميع أنواع المفاسد الأخلاقية وتفكيك بنية المجتمع ومحاربة الدين، وإذلال أهله، ورفع الأراذل والرويبضات من الناس.
لقد وصف الله تعالى هؤلاء المنافقين المغرضين الذين يعملون على حرب الإسلام والمسلمين. وصفهم بثلاثة أوصاف خطيرة يعتمد عليها السامع ، وينجذب إليها وينخدع:(/1)
أولها: حسن القول المعجِب، الذي يروق ويكون له وقع في القلوب ?وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ? [المنافقون:4].
وثانيها: توسيط الله بجعله شاهداً على هذا القول، وموثقاً له، وهذا من أعظم الجناية على الله عز وجل ، حيث يظنون أن الله لا يعلم سرهم ونجواهم ، وأنه تعالى محيط بهم وبعملهم.
وثالثها: المهارة في الجدل ، وقوة الإقناع لقمع كل معارضة تقف أمام هذا المنافق أو ذاك.
إن هذا النوع من المنافقين الذين بين الله لنا خطرهم يوجدون في كل زمان ومكان، يلبس أهله ألواناً من الإيهام والتضليل, بعضهم يدعي عملاً لخير الوطن والمواطن ، وبعضهم يتبجح بإصلاح البلاد والإخلاص للدين القيم وقد يكثر من شتم اليهود والنصارى، وهم في باطن الأمر يوالونهم وينفذون مخططاتهم وبرامجهم ويتآمرون على أمتهم وأوطانهم.. ولقد تفاقم شر هؤلاء في هذا الزمن وعظم خطرهم وأثرهم لامتلاكهم وسائل الخداع والتضليل الإعلامي.
إن الجماهير كثير ما تخدع بأطروحات المنافقين الذين يحسنون القول ويسيئون العمل . إن المنافقين يحاولون إقناع كل الفرق, يتحدثون مع كل فريق بما يروق له ويعجبه، فنجد المنافق يتكلم مع بعض الناس بالأنظمة الغربية والدساتير الديمقراطية لمعرفته بميولهم إليها.
ويتكلم مع بعض الناس بأحكام الشريعة ونصوص القرآن لاعتقاده أن هذا ينخدع بالحديث عن هذا الجانب وهكذا يحاول إقناع كل فريق بما يعجبه من الكلام ويجعل الله واسطة على صدق ما يقول، إنهم يتدثرون بالإيمان والحلف للتستر على حقيقتهم الإجرامية ونواياهم العدوانية وصدق الله حيث قال فيهم: ?وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ? [التوبة:107].
إن من أخطر ما يقوم به المنافقون في أمة الإسلام هو خداعها وتضليلها وترويج الفساد والانحراف بأساليب ووسائل عديدة من الكذب والدجل والتشدق والتفاصح ولهذا فقد تخوف الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أمته من هؤلاء المنافقين الذين يخدعون الناس بحديثهم وحسن طرحهم وجدالهم فقال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الإمام أحمد والطبراني وغيرهما: "إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان".
ثم تأمل أيها المؤمن إلى هؤلاء المنافقين الذين يحسنون الأقوال ويغشون ويخادعون الأمة تأمل وانظر إلى أعمالهم حين تؤول إليهم مقاليد الأمور تجد مصداق قول الله تعالى: ?وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ? [البقرة :205]. إنهم ينشرون الظلم والمظالم والموبقات والجرائم. يعطلون أحكام الله ويمنعون حقوقه ، ويكثرون من الضرائب والمظالم ويسنون القوانين والأنظمة المخالفة لدين الله ولواقع البلاد ومصالحها، وقد سئل الإمام مجاهد أحد أئمة التفسير رحمه الله عن قوله تعالى: ?وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ? [البقرة :205] ، قال : يلي في الأرض فيعمل فيها بالعدوان والظلم ، فيحبس الله بذلك القطر من السماء، فهلك بحبس القطر الحرث والنسل. ثم قرأ قول الله : ?ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ? [الروم:41]، لقد أفسد المنافقون حياة المسلمين حسياً ومعنوياً ونشروا في الأرض أنواع المفاسد الرامية إلى تعطيل الدين وتهميشه من حياة الناس ثم إفساد أخلاقهم، وفق برامج محددة عبر وسائل الإعلام والتوجيه وإنشاء منظمات لإفساد المرأة والمجتمع وإفساد الحياة الإنسانية في كافة جوانبها.
اجعل أيها المسلم هذه الآيات الكريمات نصب عينيك دائماً وفي مخيلتك حتى لا تقع فريسة الدجل والتضليل وحتى لا يستخف بعقلك المنافقون، وكن على حذر دائم فهم أعداءك المتربصين بك، يتحينون الفرص للانقضاض عليك وعلى أمتك ودينك.
الخطبة الثانية
هناك قضايا ومستجدات برزت خلال هذا الأسبوع المنصرم فهناك المحتفلون بميلاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - كلاماً، والمخالفون له - صلى الله عليه وسلم - عملاً ونظاماً العاملون لهدم شريعته نقضاً وإقداماً، الناكصون عن تنفيذ أحكام الله خوفاً وإحجاماً.
نقول لهؤلاء على رسلكم لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً، ولا تتوقعوا السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة مع استمرار العصيان والمخالفة فإن الله تعالى يقول: ?...فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ? [النور:63].(/2)
والرسول - صلى الله عليه وسلم - يتبرأ ممن بدلوا وغيروا وحرفوا وعطلوا دينه وشريعته وخالفوا سنته فإنه - صلى الله عليه وسلم - في عرصات القيامة قائم على الحوض يستقبل أمته ليشربوا منه ولكن أقواماً من هذه الأمة يُمنَعُون ويُصَدون فيقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - :( يا رب أمتي أمتي، فيقال له: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فيقول: سحقاً سحقاُ لمن غير بعدي) .
فيا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون.
ومن القضايا التي أسعدتنا وأثلجت صدورنا هو الاتفاق الذي تم التوصل إليه بين المملكة العربية السعودية واليمن بعد خلاف ومد وجزر في العلاقات استمرت لأكثر من ستين سنة كانت سبباً للقلق والتخلف واستنزاف الجهود في أمور تسر العدو وتغيض الصديق. فنحمد الله تعالى على هذه البادرة الطيبة التي تحقن الدماء بين المسلمين، والتي ستشيع أن شاء الله على المسلمين في البلدين أمناً واستقراراً وحباً وتعاوناً على الخير ومواجهة للتحديات التي تحيط بأمة العروبة والإسلام والوقوف أمامها صفاً واحداً.
ونسأل الله العلي القدير أن يُقر أعيننا بجمع كلمة المسلمين وتوحيد صوفهم على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فإن أول النصر اجتماع. وألف ميل يبدأ بخطوة وإذا أراد الله أمراً هيأ له أسبابه ?وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ? [يوسف:21].
القضية الثالثة التي تقض مضاجعنا وتعكر علينا حياتنا هي المجاهرة من بعض الصحف بالكفر والفجور وعظائم الأمور التي تمس ديننا وعقيدتنا وهي أغلى ما نملك فإذا مس ديننا وتطاول الزنادقة على الله والرسول والقرآن فلا معنى لبقائنا ووجودنا فبطن الأرض خير لنا من ظهرها.
في بلادنا اليوم علمانيون مرجفون يتطاولون على مقوماتنا وثوابتنا وهم الأذلون، إنهم يُظهرون كفرهم بين الحين والحين إما لإثارة البلابل, والفتن والقلاقل وإما لتمرير مخططات قادمة من الغرب تنخر في الأمة والمجتمع والأسر والأفراد والجماعات، فيصطنعون أزمات داخلية ويدخلون الناس في دوامة الصراع لتمرير تلك المخططات ، ولكنهم مخذولون غير موفقين حيث ينالون من دين الأمة.. والأمة كلها بحمد الله تغار على دينها بمختلف تنظيماتها وتوجهاتها فليست لدينا أقليات غير إسلامية ولله الحمد، والشعب كله مسلم ولكنه لا يدرك ولا يطلع على فضائح ما يقوم به العلمانيون اللادينيون من كراهيتهم للإسلام وحربهم له فإذا ما تبين لهم الأمر فإنهم يغارون على دين الله ويثورون.
ومن تلك المنابر الشاذة والغريبة على أمتنا ومجتمعنا ما يسمى بالملاحق الثقافية، ولا سيما تلك التي تصدر من محافظة تعز وتعرف بالثقافية والتي تصدر عن مؤسسة الجمهورية للصحافة والنشر، فقد دأبت هذه الصحيفة على شن حملة مسعورة آثمة على ديننا وأخلاقنا وقيمنا عبر ما تنشره من صور عارية وكتابات إباحية تزين الجريمة وتغري بها وتطعن في الدين، ومن أبرز ما جاء في أعدادها الماضية إنكار الآخرة، ووصف نعيم الجنة بالتخاريف وأخيراً طلعت علينا في الأسبوع الماضي بتقاليع جديدة حيث تجرأت هذه المرة على سب ذات الله عز وجل ووصفته تعالى بما لا يليق أن يوصف, تعلى الله عما يقولون علواً كبيراً. ولقد استاء كل مسلم اطلع على هذا الكفر أو سمع به وتجاوب المجتمع وأنكر ذلك، ونوقشت القضية في مجلس النواب وطرح الأمر على رئيس الجمهورية وقيادات الدولة وكلهم يعلنون رفضهم وتبرأهم من هذا الكفر والانحراف. ووعدوا بمحاسبة الصحيفة والقائمين عليها ، وكلنا أمل في أن ينال هؤلاء المجرمون اللاعبون العابثون جزاءهم الرادع..
رواه احمد ، أنظر المسند: ج1- ص143 .صححه الألباني في السلسلة الصحيحة ج3 ص11 رقم الحديث: 1013
) أخرجه البخاري في صحيحه ج5 باب: في الحوض رقم الحديث: 6212 أخرجه مسلم ج1 باب استحباب إطالة الغرة ص218 رقم الحديث 249: ولفظه: عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة فقال السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون وددت أنا قد رأينا إخواننا قالوا أو لسنا إخوانك يا رسول الله قال أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد فقالوا كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله فقال أرأيت لو أن رجلا له خيل غر محجلة بين ظهري خيل دهم بهم ألا يعرف خيله قالوا بلى يا رسول الله قال فإنهم يأتون غرا محجلين من الوضوء وأنا فرطهم على الحوض ألا ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال أناديهم ألا هلم فيقال إنهم قد بدلوا بعدك فأقول سحقا سحقا )(/3)
صفات عباد الرحمن.. متى يمتثلها الدعاة؟! ... ...
قال الله _تعالى_: "وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً... وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً" (الفرقان:63-76).
في هذه الآيات الكريمات من خواتيم سورة الفرقان، يصف الله _عز وجل_ أحوال عباده الذين شرفهم بنسبهم إليه.
وقبل أن نتابع أحوالهم عبر بيان كلام العلماء في تفسير الآيات نذكر بأهم الصفات التي ذكرها القرآن لأهل التقى والصلاح الذين هم عباد الرحمن المخلصين:
أهم سمات الصالحين في القرآن..
1ـ إيمانهم بالغيب:
لا شك أن هذه الصفة أخص صفاتهم، فإنها التي تدعوهم إلى العبادة والانقياد الكامل لأمر الله _عز وجل_ ونهيه، وهذه الصفة هي أول صفة وصفهم الله _عز وجل_ بها في كتابه.
قال الله _تعالى_: "ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ" (البقرة:2-4).
وقال: "إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ" (يّس: من الآية11)، وقد كان _صلى الله عليه وسلم_ منذراً لكل الناس، فذكر هؤلاء لأجل أنهم هم الذين انتفعوا بإنذاره، وهذه الآية نظير آية "قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ" (فصلت: من الآية44).
والدعاة إلى الله ينطلقون من الإيمان بالغيب نحو تعديل وإصلاح حال الأرض، فهم يرتبطون بذلك الرباط الذي لا ينقطع، حيث أرواحهم رفرافة إلى الجنة وعقيدتهم سائرة على التوحيد يرتجون القلب السليم ليلقوا به ربهم..
2ـ العفو والصفح:
وهو خلق علمه النبي _صلى الله عليه وسلم_، أن يعفوا عمن ظلمه ويعطي من حرمه، وقد أخبر الله _عز وجل_ أن من اتصف بهذه الصفة فأجره على الله _عز وجل_ "وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ" (الشورى:40).
كما رغبهم الله _عز وجل_ في مغفرته إذا فعلوا ذلك فقال _عز وجل_ في سورة النور: "وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ" (النور: من الآية22). وقال _تعالى_: "وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" (آل عمران: من الآية134). كما قال _تعالى_: "وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى" (البقرة: من الآية237).
فعلى الداعية إلى الله أن يعفوا وأن يصفح وأن يكون خير الناس صفحاً وأن يمثل القدوة والمثال في ذلك قولاً وعملاً وتطبيقاً، فكم أوذي الصالحون وغفروا، فهل تنتقم لنفسك أيها الداعية لقول سوء قيل فيك؟ أفأنت خير من هؤلاء الأخيار؟!
3- الصدق:
فهم يتحرون الصدق في كل شؤون حياتهم..قال _تعالى_: "وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ" (الزمر:33), وقال _تعالى_: "أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ" (البقرة: من الآية177), قال القاسمي: "أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا" في إيمانهم؛ لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال، فلم تغيرهم الأحوال ولم تزلزلهم الأهوال، وفيه إشعار بأن من لم يفعل أفعالهم لم يصدق في دعواه الإيمان، وقد رغب النبي _صلى الله عليه وسلم_ في الصدق، فقال: "وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً" متفق عليه.
وصدق الداعية إلى الله لا يقتصر على قوله وبعض فعله، بل يعم حياته كلها، فيصدق مع نفسه ويسأل نفسه: لمن أقوم بالدعوة إلى الله؟ وهل أرجو الشرف لنفسي؟ وهل أرجو الفخر لنفسي؟ وماذا لو لم أذكر بشيء هل أظل حريصا عليها؟!(/1)
4ـ تعظيم شعائر الله:
قال _تعالى_: "ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ" (الحج:32).
قال القرطبي _رحمه الله_: شعائر الإسلام أعلام دينه...وأضاف التقوى إلى القلوب؛ لأن حقيقة التقوى في القلب، ولهذا قال _صلى الله عليه وسلم_ في الحديث الصحيح: "التقوى ههنا وأشار إلى صدره", فالمتقون يعظمون طاعة الله وأمره فيدفعهم ذلك إلى طاعته، ويعظمون كذلك ما نهى الله عنه فيدفعهم ذلك عن معصيته، وعكس ذلك الاستهانة بالأوامر فلا يؤديها، وبالنواهي فيقع فيها _نسأل الله السلامة_, قال أنس _رضي الله عنه_: "إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، لنعدها على عهد رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ من الموبقات" البخاري.
وعن ابن مسعود _رضي الله عنه_ قال: "إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا" البخاري.
قال العيني: السبب فيه أن قلب المؤمن منور فإذا رأى من نفسه ما يخالف ذلك عظم الأمر عليه، والحكمة في التمثيل بالجبل أن غيره من المهلكات قد يحصل منه النجاة بخلاف الجبل إذا سقط عليه فإنه لا ينجو عادة " جامع الأصول.
والدعاة إلى الله يعلمون الناس تعظيم شعائر الله قولا وفعلا، فواجب عليهم أن إذا ذكروا تذكروا، وإذا نهو انتهوا، وإذا وعظهم واعظ استمعوا، وإذا ردهم للحق راد عادوا إلى الصواب، وهم يعظمون شعائر الله حتى لو فقدوا كل ما يملكون...
أوصاف عباد الرحمن كما في الآيات...
1- أول هذه الأوصاف أنهم يمشون على الأرض هونا "وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً" أي: بسكينه ووقار وتواضع وبغير تجبر ولا استكبار، وليس المقصود أنهم يمشون كالمرضى تضعفا ورياء، فقد كان _صلى الله عليه وسلم_ إذا مشى فكأنما ينحط من صبب، وكأنما الأرض تطوى له، وقد كره السلف المشي بتضعف وتصنع، وقال الحسن البصري _رحمه الله_: إن المؤمنين قوم ذلت منهم والله الأسماع والأبصار والجوارح، و دخلهم من الخوف ما لم يدخل غيرهم، ومنعهم من الدنيا علمهم بالآخرة.
والداعية إلى الله إنما هو نموذج للتواضع وخفض الجناح، فلا يغتر بعلم، ولا يظنن أنه قد اكتسب مكانته بين الناس بجهده، بل هو محض فضل من الله، وكرم لما يحمل من خير، وليبن ذلك في حديثه وسلوكه وفي غضبه ورضاه.
2- وثاني صفاتهم: أنهم "وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً" أي: إذا سفه عليهم الجهال بالقول السيئ لم يردوا عليهم بمثله، بل يصفحون ولا يقولون إلا خيراً كما كان رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ لا تزيده شدة الجاهل إلا حلما.
وللنبي _صلى الله عليه وسلم_ مشاهد كثيرة في حلمه على الناس وفي دفع السيئة منهم بالحلم منه _صلى الله عليه وسلم_ فيقابل السيئة بالحسنة، ففي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة _رضي الله عنه_ أن رجلا أتى النبي _صلى الله عليه وسلم_ يتقاضاه فأغلظ له، فهم به أصحابه، فقال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ "دعوه فإن لصاحب الحق مقالاً".
كذلك في الحديث المتفق عليه عن أنس _رضي الله عنه_ قال: كنت أمشي مع رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي، فجبذه بردائه جبذة شديدة، فنظرت إلى صفحة عاتق النبي _صلى الله عليه وسلم_ وقد أثرت به حاشية الرداء من شدة جبذته ثم قال: يا محمد، مر لي من مال الله الذي عندك فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء.
فهل يمتثل الدعاة إلى الله ذلك الوصف؟ فكم رأينا من داعية غضوب، وكم رأينا من ينتقم لنفسه، وينتصر لها، بل وقد يقع بعضهم في عرض آخر، وقد يغتابه، محتجاً بأنه ينتقده علميا أو فقهيا، وقد يستبيح بعضهم سباب آخرين لمجرد مخالفته في أسلوب عمل..فتأمل!
3- وصفتهم الثالثة: أنهم "وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً" فأخبر الله _سبحانه وتعالى_ عن عبادة أن ليلهم خير ليل، فقال _سبحانه وتعالى_: "وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً" وكما قال _تعالى_: "كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ" (الذاريات:17، 18)، وقال _تعالى_: "تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً" (السجدة: من الآية16)، وأشار _سبحانه وتعالى_ في قوله: "لِرَبِّهِمْ" إلى إخلاصهم فيه ابتغاء وجهه الكريم.
وعن عائشة _رضي الله عنها_ أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ "كان ينام أول الليل، ويقوم آخره فيصلي" متفق عليه.
وعن ابن مسعود _رضي الله عنه_ قال: صليت مع النبي _صلى الله عليه وسلم_ فلم يزل قائما حتى هممت بأمر سوء، قالوا: ما هممت؟ قال هممت أن أجلس وأدعه. متفق عليه.(/2)
وروى مسلم عن حذيفة _رضي الله عنه_ قال: صليت مع النبي _صلى الله عليه وسلم_ ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى فقلت: يصلى بها في ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها، (يعني على آل عمران) ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترتلاً، وإذا مر يتعوذ تعوذ، ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم، فكان ركوعه نحواً من قيامه ثم قال سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد ثم قام طويلاً قريباً مما ركع ثم سجد، فقال: سبحان ربي الأعلى، فكان سجوده قريباً من قيامه.
وروى مسلم عن جابر _رضي الله عنه_ قال: سئل رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أي الصلاة أفضل؟ فقال: "طول القنوت".
والدعاة إلى الله أحوج ما يكون إلى وقوف في جوف الليل وسجود طويل بين يدي الله لتصفو منهم النفوس وتطهر منهم القلوب فيصيرون أهلا لتلقى الأمانة وأداء التبعة.
4- وصفتهم الرابعة: "وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً" فهم وجلون مشفقون من عذاب الله _عز وجل_، خائفون من عقابه، "إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً" أي: ملازما دائما. ولهذا قال الحسن البصري: كل شيء يصيب ابن آدم ويزول عنه فليس بغرام، وإنما الغرام اللازم ما دامت الأرض والسماوات.
فخوف الدعاة إلى الله غير نظرتهم للأهداف، وغير طموحهم ورجائهم، فلا رجاء لهم في الدنيا غير رجاء الخائفين، ولا استقرار لهم في المتاع، ولا هم يتلذذون بلذات الدنيا..
5- وصفتهم الخامسة: "وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً" أي: ليسوا بمبذرين في إنفاقهم، فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليهم فيقصرون في حقهم وقال الحسن البصري: ليس في النفقة في سبيل الله سرف، وروى مسلم عن أبي عبد الرحمن ثوبان بن بجدد مولى رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ " أفضل دينار ينفقه الرجل دينا ينفقه على عياله، ودينار ينفقه على دابته في سبيل الله، ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله.
6- وصفتهم السادسة: "وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً" (الفرقان:68).
روى البخاري في الجامع الصحيح عن عبد الله بن مسعود _رضي الله عنه_ قال: سئل رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أي الذنب أكبر؟ قال: "أن تجعل لله أنداداً وهو خلقك" قال: ثم أي؟ قال: "أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك" قال: ثم أي؟ "أن تزاني حليلة جارك" قال عبد الله وأنزل الله تصديق ذلك "وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ" الآية.
7- وصفتهم السابعة التوبة: "إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً" (الفرقان: من الآية70).
روى أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال: ما من رجل يذنب ذنبا ثم يقوم فيتطهر ثم يصلى ثم يستغفر الله إلا غفر الله له ثم قرأ _صلى الله عليه وسلم_ هذه الآية "وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ" (آل عمران: من الآية135).." أخرجه أحمد في المسند وصححه أحمد شاكر.
وفي الصحيحين عن عثمان أنه توضأ ثم قال: رأيت رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ توضأ نحو وضوئي هذا ثم قال: "من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه".
وفي الصحيحين عن أنس قال: "كنت عند النبي _صلى الله عليه وسلم_، فجاء رجل فقال: يا رسول الله إني أصبت حدا فأقمه عليّ قال: ولم يسأله عنه، فحضرت الصلاة فصلى مع النبي _صلى الله عليه وسلم_، لما قضى النبي _صلى الله عليه وسلم_ الصلاة قام إليه الرجل، فقال يا رسول الله إني أصبت حدا فأقم فيَ كتاب الله، قال: أليس قد صليت معنا؟ قال نعم قال: فإن الله قد غفر لك ذنبك أو قال حدك".
قال ابن عباس _رضي الله عنهما_ في قوله _تعالى_: "وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ" (الحج: من الآية78) قال: "هو سعة الإسلام وما جعل لأمة محمد من التوبة والكفارة".
والدعاة إلى الله لاشك يذنبون، ولكنهم فوراً يسارعون إلى التوبة والاستغفار واتباع السيئة الحسنة، فالصف المؤمن إذا دخله الفساق واستقروا وانتشروا فيه فَقَدَ اتزانه وتخلخل ثباته فلم يعد يصلح لتحمل الأمانة..(/3)
8- وصفتهم الثامنة: "وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً" فهم لا يشهدون الزور، وهو: الكذب والفسق والكفر واللغو والباطل، كما في الصحيحين عن أبي بكرة قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثا قلنا: بلى يا رسول الله، قال: "الشرك بالله وعقوق الوالدين" وكان متكئا فجلس، فقال: "ألا وقول الزور ألا وقول الزور" فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت، يقول ابن كثير _رحمه الله_ والأظهر من السياق أن المراد لا يشهدون الزور أي: لا يحضرونه، ولهذا قال _تعالى_: "وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً" أي: لا يحضرون الزور وإذا اتفق مرورهم به مروا به ولم يندسوا منه شيء، ولذلك قال: "مَرُّوا كِرَاماً".
9- وصفتهم التاسعة: "وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً" أي: هؤلاء المؤمنون وهم عباد الرحمن حالهم بخلاف من إذا سمع آيات الله فلا تؤثر فيه فيستمر على حاله كأن لم يسمعها.
فكم سمعنا عن بكاء الصالحين ودموع العابدين، فهل افتقد الدعاة تلك الدموع؟ أم هل جفت دموعهم لما غابت عن البكاء في سبيل الله، إن دموع الداعية إلى الله هي عطر حلال يعطر به نفسه ويزين به وجهه أمام الله.
10- وصفتهم العاشرة: "وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ" يعني الذين يسألون الله أن يخرج من أصلابهم من ذرياتهم من يطيعه ويعبده وحده لا شريك له، قال ابن عباس: أي يخرج من أصلابهم من يعمل بطاعة الله فتقر به أعينهم في الدنيا والآخرة.
سئل الحسن البصري عن هذه الآية، فقال: والله لا شيء أقر لعين المسلم من أن يرى ولداً، أو ولد ولد أو أخا أو حميما مطيعا لله _عز وجل_، وقال ابن عباس أئمة يقتدى بنا في الخير، قال غيره أجعلنا هداة مهتدين دعاة إلى الخير.
وهنا تتراءى أمام الدعاة إلى الله أهمية التربية الإيمانية ووسائلها ومبادئها، فتربية كل راع لرعيته مسؤولية إيمانية، واهتمام الصالحين بأسرهم وأبنائهم صفة خيرية من صفات عباد الرحمن السابقين.
كاتب المقال: خالد روشه
المصدر: المسلم نت(/4)
صفات ولي الأمر
1- أن يكونوا مؤمنين بالمبادئ والنظم والقوانين الشرعية التي يتحملون المسئولية للقيام بها : ? يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ?[ النساء59 ].
وقال تعالى: ? يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ?[آل عمران118].
2- أن لا يكونوا من أهل الظلم والفسق والفجور والغفلة عن الله سبحانه :
? وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ?[البقرة: 124].
وقال الله عز وجل: ? وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ? [الشعراء:151].
3- أن لا يكونوا عديمي العلم والرشد والبصيرة والكفاءة:
قال الله تعالى: ? ولاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً?[ النساء:5].
وقال سبحانه:? قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ?[ البقرة : 247].
?قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ? [يوسف: 55].
4- أن تتوفر فيهم صفة الأمانة ، حتى يثق الناس بهم، ويطمئنون إليهم.
قال تعالى:?إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً ?[ النساء : 58 ].
الغاية من إقامة الدولة :
1- إقامة العدل بين الناس، والقضاء على كل مظاهر الظلم أيا كان مصدره ونوعه: قال الله عز وجل: ?يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً?[ النساء: 135].
وقال الله سبحانه وتعالى:? وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً ? [النساء : 58].
، وقال عز وجل:? وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ?[ المائدة:2]. ، وقال تعالى: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ?[المائدة: 8]. ،? وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ?[ المائدة42].
2- إقامة معالم الحق والخير والفضيلة وشعائر الدين الإسلامي، وإيجاد النظام المالي الكفيل برعاية الناس وسد حاجاتهم، ونشر الدعوة والخير والبر:
قال الله تعالى: ?الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ?[الحج :41].
الآيات القرآنية:
?إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً ?[ النساء : 58].
? يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ? [النساء59].(/1)
?يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً?[ النساء: 135].
? وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ?[ المائدة42].
?وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ? [المائدة:48].
?أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ?[المائدة:50].
?وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ?[الأنعام: 152].
?وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ?[ الحجرات :9].
?أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً ?[النساء :60].
?فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً?[ النساء :65].
?فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ?[النور :63 ].
? إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ? [النور:51].
?إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ?[محمد:25] .
?قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ?[ الكافرون 1-2] إلى آخر السورة.(/2)
صفة الإقسام على الله
السؤال :
ما صفة الإقسام على الله ؟ و ما حكمه ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
إن الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوُّره ، فإذا تعددت صور المسألة اختلفت أحكامها من صورة إلى صورة ، كما هو الحال في الإقسام على الله تعالى ، إذ إنَّ له صوراً نأتي ـ فيما يلي ـ على ذكرها ، و بيان حكم الشرع في كلٍّ منها :
الصورة الأولى : الإقسام على الله تعالى بمعنى الطلب و الدعاء ممن أخذ بأسباب الإجابة ، و من كانت هذه حاله كان حرياً بأن يستجاب له ، فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : رب أشعث مدفوع بالأبواب ، لو أقسم على الله لأبره ) .
قال النووي رحمه الله : ( أي لو حلف على وقوع شيء أوقعه الله إكراماً له بإجابة سؤاله و صيانته من الحنث في يمينه . و هذا لعظم منزلته عند الله ، و إن كان حقيراً عند الناس . و قيل : معنى القَسَم هنا : الدعاء ، و إبراره إجابته ) .
و روى الترمذي في سننه بإسناد حسَّنه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( كم من أشعث أغبر ذي طمرين لا يُؤبَه له ، لو أقسم على الله لأبره ) .
الصورة الثانية : الإقسام على الله تعالى بصيغةٍ جواب القسم فيها أمرٌ معلوم من الدين بالضروة ، أو مما أخبر الله به عن نفسه أو أخبر به عنه نبيه صلى الله عليه وسلم ، كالإقسام على الله أن يدخل الجنة من مات لا يشرك بالله شيئاً ، و نحو ذلك ، لأنه يفيد الإخبار أو الدعاء ، و إن جاء على صيغة الإقسام ، إذ إن العبرة بالمقاصد و المعاني ، لا بالألفاظ و المباني و هذا أمر مشروع لا بأس به و لا لبس فيه .
و من هذا القبيل ـ و الله أعلم ـ ما فعله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في موقعة شقحب [ رمضان من سنة 702 للهجرة ] حيث كان يحلف لأجناد المسلمين بين يدي المعركة أنهم في هذه الكرَّة منصورون ، فيقولون له : قل : إن شاء الله ، فيقول : ( إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً ) .
قال ابن كثير رحمه الله : و حرّض ابن تيمية السلطان على القتال و بشّره بالنصر ، و جعل يحلف له بالله إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً . و أفتى الناس بالفطر مدة قتالهم ، و أفطر هو أيضاً ، و كان يدور على الأطلاب ، و الأمراء ، فيأكل من شيء معه في يده ، ليعلمهم أن إفطارهم ليتقووا على القتال أفضل ، فيأكل الناس ) [ البداية و النهاية : 18 / 26 ] .
قلتُ : و الظاهر أن مَرَدَّ إقسام شيخ الإسلام على أن الجند منصورون في شقحب ، و عدم استثنائه في ذلك ، إلى إيمانه بوعد الله تعالى لعباده في قوله سبحانه : ( إنا لننصر رسلنا و الذين آمنوا في الحياة الدنيا و يوم يقوم الأشهاد ) [ غافر : 51 ] .
الصورة الثالثة : الإقسام على الله تعالى القائم على ثقة المُقسِم بربِّه ، و عِظَم رجائه فيه ، و هو أمر جائزٌ مالم يفض إلى ردِّ حكم الله و رسوله ، و قد وقع ذلك بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم فأقرَّه و لم يُنكره .
روى الشيخان و غيرهما عن أنس رضي الله عنه قال : كَسَرت الرُّبَيِّعُ ـ و هي عمة أنس بن مالك ـ ثَنِيَّةَ جاريةٍ من الأنصار، فطلب القومُ القصاص . فأتوا النبي صلى الله عليه و سلم ، فأمر بالقصاص . فقال أنس بن النضر ـ أخو الرُّبَيِّعَ ـ : لا و الله لا تكسر سنها يا رسول الله . فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : (يا أنس ! كتابُ الله ـ أي حكمه و قضاؤه - القصاص ) . فرضي القوم و قبلوا الأرش . فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره ) .
قلتُ : و لا يفهَم من هذا الخبر إعراض أنس عن حكم الله و رسوله ، و لا رده أو رفض النزول عليه ، حاشاه - و الله - أن يصدر منه ذلك ، أو يصدر هو عن موقف كهذا ، بل لعلَّه أراد حث أولياء الجارية على قبول الأرش ( و هو العِوَض الماديُّ عن الضرر ) إذا بَلغهم قوله ، أو رجاء أن يَشفَع لأخته عندهم من يرتضونه من الشفعاء ، فيعفون و يصفحون .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري : ( استشكل إنكار أنس بن النضر كسر سن الرُّبَيِّعِ مع سماعه من النبي صلى الله عليه و سلم الأمرَ بالقصاص ، ثم قال : أتكسر سن الرُّبَيِّعِ ؟ ثم أقسم أنها لا تكسر . و أجيب بأنه أشار بذلك إلى التأكيد على النبي صلى الله عليه و سلم في طلب الشفاعة إليهم أن يعفوا عنها . و قيل : كان حلِفُه قبل أن يعلم أن القصاص حتمٌ فظن أنه على التخيير بينه و بين الدية أو العفو . و قيل : لم يُرِد الإنكار المحض و الرد ، بل قاله توقعاً و رجاءً من فضل الله أن يلهم الخصوم الرضا حتى يعفوا أو يقبلوا الأرش ، وبهذا جزم الطيبي فقال: لم يقله رداً للحكم بل نفى وقوعه ، لما كان له عند الله من اللطف به في أموره ، و الثقة بفضله أن لا يخيبه فيما حلف به ، و لا يخيب ظنه فيما أراده بأن يلهمهم العفو ، و قد وقع الأمر على ما أراد .(/1)
و فيه ـ أي في هذا الحديث ـ جواز الحلف فيما يُظنُّ وقوعه ، و ـ جواز ـ الثناء على من وقع له ذلك عند أمن الفتنة بذلك عليه ) .
الصورة الرابعة : الإقسام على الله تعالى بشيء من مخلوقاته كالكعبة و الأنبياء و الصالحين ، سواء كان ذلك بجاههم أو بذواتهم ، و هو أمر مبتدع محدث ، نهى عنه أكثر العلماء .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( و الذي قاله أبو حنيفة و أصحابه و غيرهم من العلماء من أنه لا يجوز أن يسأل الله تعالى بمخلوق ؛ لا بحق الأنبياء و لا غير ذلك يتضمن شيئين :
( أحدهما ) الإقسام على الله سبحانه و تعالى به و هذا منهي عنه عند جماهير العلماء ، كما ينهى أن يقسم على الله بالكعبة و المشاعر باتفاق العلماء .
و ( الثانى ) السؤال به فهذا يجوزه طائفة من الناس ، و نقل فى ذلك آثار عن بعض السلف ، و هو موجود في دعاء كثير من الناس ) [ مجموع الفتاوى : 1 / 222 ] .
الصورة الخامسة : الإقسام على الله تعالى تألِّياً و اعتراضاً على قَدَرِه و مشيئته ، بحيث ينصب المقسِم نفسَه حكماً بين يدي الله تعالى ، و هذا من الافتئات على رب العالمين ، و هو مزلة قدم ، و مورد هَلَكة لمن وقع فيه .
روى مسلم عن جندب بن جنادة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه و سلم حدَّثَ : ( أن رجلا قال : و الله ! لا يغفر الله لفلان . و إن الله تعالى قال : من ذا الذي يتألى علي أن أغفر لفلان ، فإني قد غفرت لفلان ، و أحبطت عملك ) .
و في سنن أبي داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : ( كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين ، فكان أحدهما يذنب و الآخر مجتهدٌ في العبادة ، فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب ، فيقول : أقصِر ! فوجده يوماً على ذنبٍ ، فقال له : أقصِر . فقال : خلِّني و ربِّي ، أبُعِثتَ عليَّ رقيباً ؟ فقال : و الله لا يغفر الله لك ، أو لا يدخلك الله الجنة ، فقبض أرواحهما . فاجتمعا عند ربِّ العالمين ، فقال لهذا المجتهد : أكنت بي عالماً ؟ أو كنت على ما في يدي قادراً ؟ و قال للمذنب : اذهب فادخل الجنة برحمتي . و قال للآخر : اذهبوا به إلى النار ) . قال أبو هريرة : و الذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه و آخرته .
هذا ، و الله أعلم و أحكم ، و ما توفيقي إلا بالله ، عليه توكلت و إليه أنيب .(/2)
صفة العمرة
عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
دار الوطن
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه، وبعد:
فهذه نبذة مختصرة عن أعمال مناسك العمرة، وإلى القارئ بيان ذلك:
1- إذا وصل من يريد العمرة إلى الميقات استحب له أن يغتسل ويتنظف، وهكذا تفعل المرأة ولو كانت حائضا أو نفساء، غير أنها لا تطوف بالبيت حتى تطهر وتغتسل. ويتطيب الرجل في بدنه دون ملابس إحرامه. فإن لم يتيسر الاغتسال في الميقات فلا حرج، ويستحب أن يغتسل إذا وصل مكة قبل الطواف إذا تيسر ذلك.
2- يتجرد الرجل من جميع الملابس المخيطة، ويلبس إزارا ورداء، ويستحب أن يكونا أبيضين نظيفين، ويكشف رأسه. أما المرأة فتحرم في ملابسها العادية التي ليس فيها زينة ولا شهرة.
3- ثم ينوي الدخول في النسك بقلبه، ويتلفظ بلسانه قائلا: (لبيك عمرة) أو (اللهم لبيك عمرة)، وإن خاف المحرم ألا يتمكن من أداء نسكه؛ لكونه مريضا أو خائفا من عدو ونحوه شرع له أن يشترط عند إحرامه فيقول: (فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني)؛ لحديث ضباعة بنت الزبير رضي الله عنها أنها قالت: { يا رسول الله، إني أريد الحج وأنا شاكية، فقال : حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني } [متفق على صحته]، ثم يلبي بتلبية النبي وهي: { لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك } ويكثر من هذه التلبية، ومن ذكر الله سبحانه ودعائه، فإذا وصل إلى المسجد الحرام سن له تقديم رجله اليمنى ويقول: (بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم، اللهم افتح لي أبواب رحمتك)، كسائر المساجد، ثم يشتغل بالتلبية حتى يصل إلى الكعبة.
4- فإذا وصل إلى الكعبة قطع التلبية، ثم قصد الحجر الأسود واستقبله، ثم يستلمه بيمينه ويقبله إن تيسر ذلك، ولا يؤذي الناس بالمزاحمة. ويقول عند استلامه: (بسم الله والله أكبر) أو يقول: (الله أكبر)، فإن شق التقبيل استلمه بيده أو بعصا أو نحوها وقبل ما استلمه به، فإن شق استلامه أشار إليه وقال: (الله أكبر)، ولا يقبل ما يشير به. ويشترط لصحة الطواف: أن يكون الطائف على طهارة من الحدث الأصغر والأكبر؛ لأن الطواف مثل الصلاة غير أنه رخص فيه في الكلام.
5- يجعل البيت عن يساره، ويطوف به سبعة أشواط، وإذا حاذى الركن اليماني استلمه بيمينه إن تيسر، ويقول: (بسم الله والله أكبر)، ولا يقبله، فإن شق عليه استلامه تركه ومضى في طوافه، ولا يشير إليه ولا يكبر؛ لأن ذلك لم ينقل عن النبي . أما الحجر الأسود فكلما حاذاه استلمه وقبله وكبر - كما ذكرنا سابقا - وإلا أشار إليه وكبر. ويستحب الرمل - وهو: الإسراع في المشي مع تقارب الخطا - في جميع الثلاثة الأشواط الأولى من طواف القدوم للرجل خاصة.
كما يستحب للرجل أن يضطبع في طواف القدوم في جميع الأشواط، والاضطباع: أن يجعل وسط ردائه تحت منكبه الأيمن وطرفيه على عاتقه الأيسر. ويستحب الإكثار من الذكر والدعاء بما تيسر في جميع الأشواط. وليس في الطواف دعاء مخصوص ولا ذكر مخصوص، بل يدعو ويذكر الله بما تيسر من الأذكار والأدعية، ويقول بين الركنين: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ في كل شوط؛ لأن ذلك ثابت عن النبي . ويختم الشوط السابع باستلام الحجر الأسود وتقبيله إن تيسر، أو الإشارة إليه مع التكبير حسب التفصيل المذكور آنفا. وبعد فراغه من هذا الطواف يرتدي بردائه فيجعله على كتفيه وطرفيه على صدره.
6- ثم يصلي ركعتين خلف المقام إن تيسر، فإن لم يتمكن من ذلك صلاهما في أي موضع من المسجد. يقرأ فيهما بعد الفاتحة: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ في الركعة الأولى، و: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ في الركعة الثانية، هذا هو الأفضل، وإن قرأ بغيرهما فلا بأس. ثم بعد أن يسلم من الركعتين يقصد الحجر الأسود فيستلمه بيمينه إن تيسر ذلك.
7- ثم يخرج إلى الصفا فيرقاه أو يقف عنده، والرقي أفضل إن تيسر، ويقرأ عند بدء الشوط الأول قوله تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ويستحب أن يستقبل القبلة على الصفا، ويحمد الله ويكبره، ويقول: (لا إله إلا الله، والله أكبر، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده)، ثم يدعو بما تيسر، رافعا يديه، ويكرر هذا الذكر والدعاء (ثلاث مرات).(/1)
ثم ينزل فيمشي إلى المروة حتى يصل إلى العلم الأول فيسرع الرجل في المشي إلى أن يصل إلي العلم الثاني. أما المرأة فلا يشرع لها الإسراع؛ لأنها عورة، ثم يمشي فيرقى المروة أو يقف عندها، والرقي أفضل إن تيسير، ويقول ويفعل على المروة كما قال وفعل على الصفا، ما عدا قراءة الآية المذكورة، فهذا إنما يشرع عند الصعود إلى الصفا في الشوط الأول فقط؛ تأسيا بالنبي ، ثم ينزل فيمشي في موضع مشيه، ويسرع في موضع الإسراع حتى يصل إلى الصفا، يفعل ذلك سبع مرات ذهابه شوط ورجوعه شوط. وإن سعى راكبا فلا حرج ولا سيما عند الحاجة. ويستحب أن يكثر في سعيه من الذكر والدعاء بما تيسر، وأن يكون متطهرا من الحدث الأكبر والأصغر، ولو سعى على غير طهارة أجزأه ذلك.
8- فإذا كمل السعي يحلق الرجل رأسه أو يقصره، والحلق أفضل. وإذا كان قدومه مكة قريبا من وقت الحج فالتقصير في حقه أفضل؛ ليحلق بقية رأسه في الحج. أما المرأة فتجمع شعرها وتأخذ منه قدر أنملة فأقل. فإذا فعل المحرم ما ذكر فقد تمت عمرته - والحمد لله - وحل له كل شيء حرم عليه بالإحرام.
وفقنا الله وسائر إخواننا المسلمين للفقه في دينه والثبات عليه، وتقبل من الجميع، إنه سبحانه جواد كريم.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.(/2)
صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم- للشيخ بن باز رحمه الله
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه ، أما بعد :
فهذه كلمات موجزة في بيان صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم أردت تقديمها إلى كل مسلم ومسلمة ، ليجتهد كل من يطلع عليها في التأسي به صلى الله عليه وسلم في ذلك ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) " رواه البخاري " . وإلى القارئ بيان ذلك
1- يسبغ الوضوء :وهو أن يتوضأ كما أمره الله ، عملاً بقوله سبحانه وتعالى ( يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ) " المائدة ، الآية : 6 " وقول النبي صلى الله عليه وسلم ( لا تقبل صلاة بغير طهور ، ولا صدقة من غلول ) " رواه مسلم في صحيحه " . وقوله صلى الله عليه وسلم ( إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ) .
2- يتوجه المصلى إلى القبلة – هي الكعبة – أينما كان بجميع بدنه ، قاصداً بقلبه فعل الصلاة التي يريدها من فريضة أو نافلة ، ولا ينطق بلسانه بالنية ، لأن النطق باللسان غير مشروع ، لكون النبي صلى الله عليه وسلم لم ينطق بالنية ولا أصحابه رضي الله عنهم .
• ويسن أن يجعل له سترة يصلي إليها إن كان إماماً أو منفرداً ، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك
• واستقبال القبلة شرط في الصلاة إلا في مسائل مستثناة معلومة موضحة في كتب أهل العلم .
3- يكبر تكبيرة الإحرام فيقول : ( الله أكبر ) ناظراً ببصره إلى محل سجوده .
4- يرفع يديه عند التكبير إلى حذو منكبيه ، أو إلى حيال أذنيه .
5- يضع يديه على صدره ، اليمنى على كفه اليسرى والرسغ والساعد ، لثبوت ذلك من حديث وائل بن حجر وقبيصة بن هلب الطائي عن أبيه رضي الله عنه .
6- يسن أن يقرأ دعاء الاستفتاح وهو : " اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب ، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس . اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد " متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم .
• وإن شاء قال بدلاً من ذلك : " سبحانك اللهم وبحمدك ، وتبارك اسمك ، وتعالى جدك ، ولا إله غيرك " لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن أتى بغيرهما من الاستفتاحات الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا بأس ، والأفضل أن يفعل هذا تارة وهذا تارة ، لأن ذلك أكمل في الاتباع . ثم يقول : " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم ويقرأ سورة الفاتحة لقوله صلى الله عليه وسلم ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ) .
• ويقول بعدها : آمين " جهراً في الصلاة الجهرية وسراً في الصلاة السرية ، ثم يقرأ ما تيسر من القرآن ، والأفضل أن تكون القراءة في الظهر والعصر والعشاء من أوساط المفصل ، وفي الفجر من طواله أو أوساطه – أعني في المغرب – كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ويشرع أن تكون العصر أخف من الظهر .
7- يركع مكبراً رافعاً يديه إلى حذو منكبيه أو أذنيه ، جاعلاً رأسه حيال ظهره ، واضعاً يديه على ركبتيه ، مفرقاً أصابعه ، ويطمئن في ركوعه ويقول : " سبحان ربي العظيم " . والأفضل أن يكررها ثلاثاً أو أكثر ، ويستحب أن يقول مع ذلك " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي " .
8- يرفع رأسه من الركوع ، رافعاً يديه إلى حذو منكبيه أو أذنيه قائلاً : " سمع الله لمن حمده " . إن كان إماماً أو منفرداً ، ويقول حال قيامه : " ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ، ملء السموات وملء الأرض ، وملء ما شئت من شيء بعد " .
• وإن زاد بعد ذلك : " أهل الثناء والمجد ، أحق ما قال العبد ، وكلنا لك عبد ، اللهم لامانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد " . فهو حسن ، لأن ذلك قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحاديث الصحيحة .
• أما إن كان مأموماً فإنه يقول عند الرفع : " ربنا ولك الحمد " إلى آخر ما تقدم . ويستحب أن يضع كل منهم يديه على صدره ، كما فعل في قيامه قبل الركوع ، لثبوت ما يدل على ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث وائل بن حجر ، وسهل ابن سعد رضي الله عنهما .
9- يسجد مكبراً واضعاً ركبتيه قبل يديه إذا تيسر ذلك ، فإن شق عليه قدم يديه قبل ركبتيه ، مستقبلاً بأصابع رجليه ويديه القبلة ، ضاماً أصابع يديه . ويكون على أعضائه السبعة ، الجبهة مع الأنف ، واليدين والركبتين ، وبطون أصابع الرجلين ، ويقول : " سبحان ربي الأعلى " ويكرر ذلك ثلاثاً أو أكثر .
• ويستحب أن يقول مع ذلك : " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك .. اللهم اغفر لي " . ويكثر من الدعاء ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ( فأما الركوع فعظموا فيه الرب ، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء ، فقمن أن يستجاب لكم ) .(/1)
• وقوله صلى الله عليه وسلم : ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ، فأكثروا من الدعاء ) " رواهما مسلم في صحيحه " . ويسأل ربه له ولغيره من المسلمين من خيري الدنيا والآخرة ، سواء كانت الصلاة فرضاً أو نفلاً ، ويجافي عضديه عن جنبيه ، وبطنه عن فخذيه ، وفخذيه عن ساقيه ، ويرفع ذراعيه عن الأرض ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( اعتدلوا في السجود ، ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب ) " متفق عليه " .
10- يرفع رأسه مكبراً ، ويفرش قدمه اليسرى ويجلس عليها ، وينصب رجله اليمنى ، ويضع يديه على فخذيه وركبتيه ، ويقول :" رب اغفر لي ، رب اغفر لي ، رب اغفر لي ، اللهم اغفر لي ، وارحمني ، واهدني ، وارزقني ، وعافني ، واجبرني " . ويطمئن في هذا الجلوس حتى يرجع كل فقار إلى مكانه كاعتداله بعد الركوع ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطيل اعتداله بعد الركوع وبين السجدتين .
11- يسجد السجدة الثانية مكبراً ، ويفعل فيها كما فعل في السجدة الأولى .
12-يرفع رأسه مكبراً ، ويجلس جلسة خفيفة مثل جلوسه بين السجدتين ، وتسمى جلسة الاستراحة ، وهي مستحبة في أصح قولي العلماء ، وإن تركها فلا حرج ، وليس فيها ذكر ولا دعاء ، ثم ينهض قائماً إلى الركعة الثانية معتمداً على ركبتيه إن تيسر ذلك ، وإن شق عليه اعتمد على الأرض بيديه ، ثم يقرأ الفاتحة وما تيسر له من القرآن بعد الفاتحة . كما سبق في الركعة الأولى .
ولا يجوز للمأموم مسابقة إمامه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حذر أمته من ذلك ، وتكره موافقته للإمام ، والسنة له أن تكون أفعاله بعد إمامه من دون تراخ ، وبعد انقطاع صوته ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فلا تختلفوا عليه ، فلا تختلفوا عليه ، فإذا كبر فكبروا ، وإذا ركع فاركعوا ، وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا : ربنا ولك الحمد ، وإذا سجد فاسجدوا ) " الحديث متفق عليه " .
13- إذا كانت الصلاة ثنائية – أي ركعتين – كصلاة الفجر والجمعة والعيد ، جلس بعد رفعه من السجدة الثانية ناصباً رجله اليمنى ، مفترشاً رجله اليسرى ، واضعاً يده اليمنى على فخذه اليمنى قابضاً أصابعه كلها إلا السبابة فيشير بها إلى التوحيد عند ذكر الله سبحانه وعند الدعاء ، وإن قبض الخنصر والبنصر من يده ، وحلق إبهامها مع الوسطى ، وأشار بالسبابة فحسن ، لثبوت الصفتين عن النبي صلى الله عليه وسلم . والأفضل أن يفعل هذا تارة ، وهذا تارة ، ويضع يده اليسرى على فخذه اليسرى وركبته ، ثم يقرأ التشهد في هذا الجلوس وهو : " التحيات لله ، والصلوات والطيبات ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، أشهد أن لا إله إلا الله ، واشهد أن محمداً عبده ورسوله " . ثم يقول اللهم صل على محمد ، وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد " .
• ويستعيذ بالله من أربع فيقول : " اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ، ومن عذاب القبر ، ومن فتنة المحيا والممات ، ومن فتنة المسيح الدجال" .
• ثم يدعو بما شاء من خيري الدنيا والآخرة ، وإذا دعا لوالديه أو غيرهما من المسلمين فال بأس ، سواء كانت الصلاة فريضة أو نافلة لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود لما علمه التشهد : " ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو " وفي لفظ آخر : " ثم ليتخير من المسألة ما شاء " وهذا يعم جميع ما ينفع العبد في الدنيا والآخرة ، ثم يسلم على يمينه وشماله قائلاً : " السلام عليكم ورحمة الله .. السلام عليكم ورحمة الله " .
14- إن كانت الصلاة ثلاثية كالمغرب ، أو رباعية كالظهر والعصر والعشاء ، فإنه يقرأ التشهد المذكور آنفاً مع الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم ينهض قائماً معتمداً على ركبتيه ، رافعاً يديه إلى حذو منكبيه ، قائلاً " الله أكبر " ويضعهما – أي يديه – على صدره كما تقدم ، ويقرأ الفاتحة فقط .
• وإن قرأ في الثالثة والرابعة من الظهر زيادة على الفاتحة في بعض الأحيان فلا بأس ، لثبوت ما يدل على ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي سعيد رضي الله عنه ، وإن ترك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد الأول فلا بأس ، لأنه مستحب وليس بواجب في التشهد الأول ، ثم يتشهد بعد الثالثة من المغرب ، وبعد الرابعة من الظهر والعصر والعشاء يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ، ويتعوذ بالله من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ، ومن فتنة المحيا والممات ، وفتنة المسيح الدجال . ويكثر من الدعاء ، ومن الدعاء المشروع في هذا الموضع وغيره : " ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ، وقنا عذاب النار " كما تقدم ذلك في الصلاة الثنائية .(/2)
• لكن يكون في هذا الجلوس متوركاً واضعاً رجله اليسرى تحت رجله اليمنى ، ومقعدته على الأرض ، ناصباً رجله اليمنى ، لحديث أبي حميد في ذلك . ثم يسلم عن يمينه وشماله ، قائلاً : " السلام عليكم ورحمة الله .. السلام عليكم ورحمة الله " .
• ويستغفر الله ثلاثاً ويقول : " اللهم أنت السلام ، ومنك السلام ، تباركت يا ذا الجلال والإكرام ، لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، لا حول ولا قوة إلا بالله ، اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد ، لا إله إلا الله ، ولا نعبد إلا إياه ، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن ، لا إله إلا الله ، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون " .
• ويسبح الله ثلاثاً وثلاثين ، ويحمده مثل ذلك ، ويكبره مثل ذلك ويقول تمام المائة : " لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير " . ويقرأ آية الكرسي ، و " قل هو الله أحد " ، و " قل أعوذ برب الفلق " ، و " قل أعوذ برب الناس " ، بعد كل صلاة ، ويستحب تكرار هذه السور الثلاث ثلاث مرات بعد صلاة الفجر وصلاة المغرب ، لورود الحديث الصحيح بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، كما يستحب أن يزيد بعد الذكر المتقدم بعد صلاة الفجر وصلاة المغرب : قول " لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير " عشر مرات ، لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم
• وإن كان إماماً انصرف إلى الناس وقابلهم بوجهه بعد استغفاره ثلاثاً ، وبعد قوله : " اللهم أنت السلام ومنك السلام ، تباركت يا ذا الجلال والإكرام " . ثم يأتي بالأذكار المذكورة ، كما دلت على ذلك أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، منها حديث عائشة رضي الله عنها في صحيح مسلم ، وكل هذه الأذكار سنة وليست بفريضة .
• ويستحب لكل مسلم ومسلمة أن يصلي قبل صلاة الظهر أربع ركعات ، وبعدها ركعتين ، وبعد صلاة المغرب ركعتين وبعد صلاة العشاء ركعتين ، وقبل صلاة الفجر ركعتين ، الجميع اثنتا عشرة ركعة ، وهذه الركعات تسمى الرواتب ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحافظ عليها في الحضر .
• أما في السفر فكان يتركها إلا سنة الفجر والوتر ، فإنه كان عليه الصلاة والسلام يحافظ عليهما حضراً و سفراً ، ولنا فيه أسوة حسنة ، لقول الله سبحانه : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) " سورة الأحزاب ، الآية : 21 " وقوله صلى الله عليه وسلم : ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) " رواه البخاري " .
• والأفضل : أن تصلي هذه الرواتب والوتر في البيت ، فإن صلاها في المسجد فلا بأس ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( أفضل صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة ) " متفق على صحته "
• والمحافظة على هذه الركعات من أسباب دخول الجنة ، لما ثبت في صحيح مسلم ، عن أم حبيبة رضي الله عنها أنا قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( ما من عبد مسلم يصلي لله كل يوم اثنتى عشرة ركعة تطوعاً غير فريضة إلا بنا الله له بيتاً في الجنة ) وقد فسرها الإمام الترمذي في روايته لهذا الحديث بما ذكرنا .
• وإن صلى أربع ركعات قبل صلاة العصر ، واثنتين قبل صلاة المغرب ، واثنتين قبل صلاة العشاء فحسن ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( رحم الله امرءاً صلى أربعاً قبل العصر ) " رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن خزيمة وصححه " وإسناده صحيح لقوله عليه الصلاة والسلام ( بين كل أذانين صلاة ، بن كل أذانين صلاة ثم قال في الثالثة : " لمن شاء ") " رواه البخاري " .
• وإن صلى أربعاً بعد الظهر وأربعاً قبلها فحسن ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( من حافظ على أربع قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله تعالى على النار ) " رواه الإمام أحمد وأهل السنن بإسناد صحيح ، عن أم حبيبه رضي الله عنها " .
والمعنى : أنه يزيد على السنة الراتبة ركعتين بعد الظهر ، لأن السنة الراتبة أربع قبلها واثنتان بعدها ، فإذا زاد اثنتين بعدها حصل ما ذكر في حديث أم حبيبة رضي الله عنها .
والله ولي التوفيق : وصلى الله وسلم على نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين .
وجوب أداء الصلاة في الجماعة
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى كل من يراه من المسلمين وفقهم الله لما فيه رضاه ، ونظمني وإياهم في سلك من خافه واتقاه آمين :
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته ، أما بعد :
• فقد بلغني أن كثيراً من الناس قد يتهاونون بأداء الصلاة في الجماعة ، ويحتجون بتسهيل بعض العلماء في ذلك ، فوجب علي أن أبين عظم هذا الأمر وخطورته ، وأنه لا ينبغي للمسلم أن يتهاون بأمر عظم الله شأنه في كتابه العظيم ، وعظم شأنه رسوله الكريم ، عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم .(/3)
• ولقد أكثر الله سبحانه من ذكر الصلاة في كتابه الكريم ، وعظم شأنها ، وأمر بالمحافظة عليها وأدائها في الجماعة ، وأخبر أن التهاون بها والتكاسل عنها من صفات المنافقين ، فقال تعالى : ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين ) " سورة البقرة ، الآية :238 "
• وكيف تعرف محافظة العبد عليها وتعظيمه لها وقد تخلف عن أدائها مع إخوانه ، وتهاون بشأنها ؟! وقال تعالى : ( وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين ) " سورة البقرة ، الآية : 43 " .
وهذه الآية الكريمة نص في وجوب الصلاة في الجماعة ، والمشاركة للمصلين في صلاتهم . ولو كان المقصود إقامتها فقط لم تظهر مناسبة واضحة في ختم الآية بقوله سبحانه : ( واركعوا مع الراكعين ) ، لكونه قد أمر بإقامتها في أو الآية ، وقال الله تعالى : ( وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ) " سورة النساء ، الآية : 102 " .
فأوجب سبحانه أداء الصلاة في الجماعة في حال الحرب ، فكيف في حال السلم
• ولو كان أحد يسامح في ترك الصلاة في جماعة لكان المصافون للعدو ، المهددون بهجومه عليهم أولى بأن يسمح لهم في ترك الجماعة ، فلما لم يقع ذلك ، علم أن أداء الصلاة في جماعة من أهم الواجبات ، وأنه لا يجوز لأحد التخلف عن ذلك .
• وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر بالصلاة فتقام ، ثم آمر رجلاً أن يصلي بالناس ثم انطلق برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم ) الحديث .
• وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : ( لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق علم نفاقه أو مريض ، وإن كان المريض ليمشي بين الرجلين حتى يأتي الصلاة ) .
وقال : ( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا سنن الهدى ، وإن من سنن الهدى الصلاة في المسجد الذي يؤذن فيه ) .
• وفيه أيضاً عن قال : ( من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هذه الصلوات حيث ينادى بهن ، فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى ، وإنهن من سنن الهدى ، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم لضللتم ، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ، ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد ، إلا كتب الله له بكل خطوة يخوها حسنة ، ويرفعه بها درجة ، ويحط عنه بها سيئة ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق ، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف ).
• وفي صحيح مسلم أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً أعمى قال : ( يارسول الله ، إنه ليس لي قائد يلائمني إلى المسجد ، فهل لي رخصة أن أصلي في بيتي ؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : هل تسمع النداء بالصلاة ؟ ، قال : نعم ، قال : فأجب )
• والأحاديث الدالة على وجوب الصلاة في الجماعة ، وعلى وجوب إقامتها في بيوت الله التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه كثيرة جداً ، فالواجب على كل مسلم العناية بهذا الأمر ، والمبادرة إليه والتواصي به مع أبنائه وأهل بيته وجيرانه وسائر إخوانه المسلمين ، امتثالاً لأمر الله ورسوله ، وحذراً مما نهى الله عنه ورسوله ، وابتعاداً عن مشابهة أهل النفاق الذين وصفهم الله بصفات ذميمة ، من أخبثها تكاسلهم عن الصالة ، فقال تعالى : ( إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً ( 142 ) مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً ) " سورة النساء ، الآية : 142 ، 143 " .
• ولأن التخلف عن أدائها في الجماعة من أعظم أسباب تركها بالكلية ، ومعلوم أن ترك الصلاة كفر وضلال وخروج من دائرة الإسلام ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة ) " أخرجه مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه " . ولقوله صلى الله عليه وسلم : ( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر ) . والآيات والأحاديث في تعظيم شأن الصلاة ووجوب المحافظة عليها وإقامتها كما شرع الله ، والتحذير من تركها كثيرة ومعلومة .
• فالواجب على كل مسلم أن يحافظ عليها في أوقاتها ، وأن يقيمها كما شرع الله وأن يؤديها مع إخوانه في الجماعة في بيوت الله ، طاعة لله سبحانه وتعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، وحذراً من غضب الله وأليم عقابه .(/4)
• ومتى ظهر الحق واتضحت أدلته لم يجز لأحد أن يحيد عنه لقول فلان أو فلان ، لأن الله سبحانه يقول : ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ) " سورة النساء ، الآية : 59 " . ويقول سبحانه : ( فلحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنةً أو يصيبهم عذاب أليم ) " سورة النور ، الآية : 63 " .
• ولا يخفى ما في الصلاة في الجماعة من الفوائد الكثيرة والمصالح الجمة ، ومن أوضح ذلك التعارف والتعاون على البر والتقوى ، والتواصي بالحق والصبر عليه ، وتشجيع المتخلف ، وتعليم الجاهل وإغاظة أهل النفاق ، والبعد عن سبيلهم ، وإظهار شعائر الله بين عباده ، والدعوة إليه سبحانه بالقول والعمل ، إلى غير ذلك من الفوائد الكثيرة .
وفقني الله وإياكم لما فيه رضاه وصلاح أمر الدنيا والآخرة وأعاذنا جميعاً من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، ومن مشابهة الكفار والمنافقين إنه جواد كريم .
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .
قاله الشيخ العلامة/عبد العزيز بن عبد الله بن باز "رحمه الله" .(/5)
صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلّم
عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
دار الوطن
الحمد لله وحدة، والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه، أما بعد:
فهذه كلمات موجزة في بيان صفة صلاة النبي ، اردت تقديمها إلى كل مسلم ومسلمة ليجتهد كل من يطلع عليها في التأسي به في ذلك لقوله : { صلوا كما رأيتموني أصلي } [رواه البخاري]، وإلى القارئ بيان ذلك:
1- يسبغ الوضوء، وهو أن يتوضأ كما أمره الله عملاً بقوله سبحانه وتعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين [المائدة:6]، وقول النبي صلى الله عليه وسلّم: { لا تقبل صلاة بغير طهور }.
2- يتوجه المصلي إلى القبلة وهي الكعبة أينما كان بجميع بدنه قاصداً بقلبه فعل الصلاة التي يريدها من فريضة أو نافلة، ولا ينطق بلسانه بالنية لأن النطق باللسان غير مشروع، لكون النبي لم ينطق بالنية ولا أصحابه رضي الله عنهم، ويسن أن يجعل له سترة يصلي إليها إن كان إماماً أو منفرداً، لأمر النبي صلى الله عليه وسلّم بذلك.
3- يكبّر تكبيرة الإحرام قائلاً (الله أكبر) ناظراً ببصره إلى محل سجوده.
4- يرفع يديه عند التكبير إلى حذو منكبيه أو إلى حيال أذنيه.
5- يضع يديه على صدره، اليمنى على كفه اليسرى. لورود ذلك من حديث وائل بن حجر وقبيصة بن هلب الطائي عن أبيه رضي الله عنهم.
6- يسن أن يقرأ دعاء الاستفتاح وهو: "اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقّني من خطاياي كما ينقّى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد".
- وإن شاء قال بدلاً من ذلك: "سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك" ثم يقول: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم" ويقرأ سورة الفاتحة، لقوله : { لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب }.
- ويقول بعدها (آمين) جهراً في الصلاة الجهرية، وسراً في السرية، ثم يقرأ ما تيسر له من القرآن، والأفضل أن يقرأ بعد الفاتحة في الظهر والعصر والعشاء من أوساط المفصل، وفي الفجر من طواله وفي المغرب تارة من طوالة، وتارة من قصاره عملاً بالأحاديث الواردة، ويشرع أن تكون العصر أخف من الظهر.
7- يركع مكبراً رافعاً يديه إلى حذو منكبيه أو أذنيه، جاعلاً رأسه حيال ظهره، واضعاً يديه على ركبتيه، مفرقاً أصابعه، ويطمئن في ركوعه ويقول "سبحان ربي العظيم" والأفضل أن يكررها ثلاثاً أو أكثر، ويستحب أن يقول مع ذلك "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي".
8- يرفع رأسه من الركوع، رافعاً يديه إلى حذو منكبيه أو أذنيه قائلاً: "سمع الله لمن حمده" إن كان إماماً أو منفرداً، ويقول بعد قيامه: "ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ملء السموات وملء الأرض، وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد".
- وإن زاد بعد ذلك: "أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد" فهو حسن، لأن ذلك قد ثبت عن النبي في بعض الأحاديث الصحيحة.
- أما إن كان مأموماً فإنه يقول عند الرفع: "ربنا ولك الحمد" إلى آخر ما تقدم. ويستحب أن يضع كل منهم يديه على صدره، كما فعل في قيامه قبل الركوع، لثبوت ما يدل على ذلك عن النبي من حديث وائل بن حجر وسهل بن سعد رضي الله عنهما.
9- يسجد مكبراً واضعاً ركبتيه قبل يديه إذا تيسر ذلك، فإن شق عليه قدم يديه قبل ركبتيه، مستقبلاً بأصابع رجليه ويديه القبلة، ضاماً أصابع يديه، ويكون على أعضائه السبعة: الجبهة مع الأنف، واليدين والركبتين، وبطون أصابع الرجلين. ويقول: "سبحان ربي الأعلى" ويكرر ذلك ثلاثاً أو أكثر.
- ويستحب أن يقول مع ذلك: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي" ويكثر من الدعاء لقول النبي "أما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم".
- وقوله صلى الله عليه وسلم: { أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء } [رواهما مسلم في صحيحه]. ويسأل ربه له ولغيره من المسلمين من خيري الدنيا والآخرة، سواء أكانت الصلاة فرضاً أو نفلاً، ويجافي عضديه عن جنبيه، وبطنه عن فخذيه، وفخذيه عن ساقيه، ويرفع ذراعيه عن الأرض، لقول النبي : { اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب } [متفق عليه].
10- يرفع رأسه مكبراً، ويفرش قدمه اليسرى ويجلس عليها، وينصب رجله اليمنى، ويدع يديه على فخذيه وركبتيه ويقول: "رب اغفر لي، رب اغفر لي، اللهم اغفر لي وارحمني وارزقني وعافني واهدني واجبرني"، ويطمئن في هذا الجلوس حتى يرجع كل فقار إلى مكانه كاعتداله بعد الركوع، لأن النبي كان يطيل اعتداله بعد الركوع وبين السجدتين.
11- يسجد السجدة الثانية مكبراً، ويفعل فيها كما فعل في السجدة الأولى.(/1)
12- يرفع رأسه مكبراً، ويجلس جلسة خفيفة مثل جلوسه بين السجدتين وتسمى جلسة الاستراحة، وهي مستحبة في أصح قولي العلماء. وإن تركها فلا حرج، وليس فيها ذكر ولا دعاء، ثم ينهض قائماً إلى الركعة الثانية معتمداً على ركبتيه إن تيسر ذلك، وإن شق عليه اعتمد على الأرض، ثم يقرأ الفاتحة وما تيسر له من القرآن بعد الفاتحة. ثم يفعل كما فعل في الركعة الأولى.
- ولا يجوز للمأموم مسابقة إمامه، لأن النبي حذر أمته من ذلك، وتكره موافقته للإمام، والسنة له أن تكون أفعاله بعد إمامه من دون تراخ وبعد انقطاع صوته، لقول النبي : { إنما جُعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله، لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، فإذا سجد فاسجدوا } [متفق عليه].
13- إذا كانت الصلاة ثنائية، أي ركعتين كصلاة الفجر والجمعة والعيد، جلس بعد رفعه من السجدة الثانية ناصباً رجله اليمنى، مفترشاً رجله اليسرى، واضعاً يده اليمنى على فخذه اليمنى، قابضاً أصابعه كلها إلا السبابة، فيشير بها إلى التوحيد، وإن قبض الخنصر والبنصر من يده وحلق إبهامهما مع الوسطى، وأشار بالسبابة فحسن، لثبوت الصفتين عن النبي . والأفضل أن يفعل هذا تارة وهذا تارة، ويضع يده اليسرى، على فخذه اليسرى وركبته، ثم يقرأ التشهد في هذا الجلوس. وهو " التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله " ثم يقول " اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، وآل إبراهيم إنك حميد مجيد ".
- ويستعيذ بالله من أربع فيقول "اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال".
- ثم يدعو بما شاء من خيري الدنيا والآخرة، وإذا دعا لوالديه أو غيرهما من المسلمين فلا بأس، سواء أكانت الصلاة فريضة أو نافلة، ثم يسلم عن يمينه وشماله قائلا: "السلام عليكم ورحمة الله.. السلام عليكم ورحمة الله".
14- إن كانت الصلاة ثلاثية كالمغرب، أو رباعية كالظهر والعصر والعشاء، قرأ التشهد المذكور آنفاً، مع الصلاة على النبي ثم نهض قائماً معتمداً على ركبتيه، رافعاً يديه إلى حذو منكبيه قائلاً (الله أكبر) ويضعهما أي يديه على صدره، كما تقدم ويقرأ الفاتحة فقط.
- وإن قرأ في الثالثة والرابعة من الظهر زيادة على الفاتحة في بعض الأحيان فلا بأس، لثبوت ما يدل على ذلك عن النبي من حديث أبي سعيد رضي الله عنه، ثم يتشهد بعد الثالثة من المغرب، وبعد الرابعة من الظهر والعصر والعشاء، ويصلي على النبي ? ويتعوذ بالله من عذاب جهنم ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال، ويكثر من الدعاء، ومن ذلك "اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" كما تقدم ذلك في الصلاة الثنائية.
- لكن يكون في هذا الجلوس متوركاً واضعاً رجله اليسرى تحت رجله اليمنى، ومقعدته على الأرض ناصباً رجله اليمنى، لحديث أبي حميد الساعدي في ذلك. ثم يسلم عن يمينه وشماله، قائلا: "السلام عليكم ورحمة الله... السلام عليكم ورحمة الله".
- ويستغفر الله ثلاثاً ويقول: "اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون".
- ويسبح الله ثلاثا وثلاثين ويحمده مثل ذلك، ويكبره مثل ذلك، ويقول تمام المائة " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير "ويقرأ آية الكرسي، وقل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس بعد كل صلاة. ويستحب تكرار هذه السور الثلاث، ثلاث مرات بعد صلاة الفجر، وصلاة المغرب، لورود الحديث الصحيح بذلك عن النبي ، كما يستحب أن يزيد بعد الذكر المتقدم بعد صلاة الفجر وصلاة المغرب قول "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير" عشر مرات لثبوت ذلك عن النبي .
- وإن كان إماماً انصرف إلى الناس وقابلهم بوجهه بعد استغفاره ثلاثاً، وبعد قوله: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام، ثم يأتي بالأذكار المذكورة، كما دلت على ذلك أحاديث كثيرة عن النبي ، ومنها حديث عائشة رضي الله عنها في صحيح مسلم. وكل هذه الأذكار سنة وليست بفريضة.(/2)
ويستحب لكل مسلم ومسلمة، أن يصلي قبل صلاة الظهر أربع ركعات، وبعدها ركعتين، وبعد صلاة المغرب ركعتين، وبعد صلاة العشاء ركعتين، وقبل صلاة الفجر ركعتين، الجميع اثنتا عشرة ركعة، وهذه الركعات تسمى الرواتب؛ لأن النبي كان يحافظ عليها في الحضر.
- أما في السفر فكان يتركها إلا سنة الفجر والوتر، فإنه كان عليه الصلاة والسلام يحافظ عليهما حضراً وسفراً، ولنا فيه أسوة حسنة، لقول الله سبحانه: قد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [الأحزاب:21]، وقوله عليه الصلاة والسلام: { صلوا كما رأيتموني أصلي } [البخاري].
- والأفضل أن تصلى هذه الرواتب والوتر في البيت فإن صلاها في المسجد فلا بأس، فيقول النبي : { أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبه } [متفق على صحته].
- والمحافظة على هذه الركعات من أسباب في دخول الجنة؛ لما ثبت في صحيح مسلم، عن أم حبيبة رضي الله عنها أنها قالت: سمعت النبي يقول: { ما من عبد مسلم يصلى لله كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعاً غير فريضة إلا بنى الله له بيتاً في الجنة }. وقد فسرها الإمام الترمذي في روايته لهذا الحديث بما ذكرنا.
- وإن صلى أربع ركعات قبل صلات العصر، واثنتين قبل صلاة المغرب، واثنتين قبل العشاء، فحسن؛ لقةله : { رحم الله امرءا صلى أربعا قبل العصر } [رواه أحمد وأبو داود، والترمذي وحسنه، وابن خزيمة وصححه، وإسناده صحيح]، ولقوله عليه الصلاة والسلام: { بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة، ثم قال في الثالثة: لمن شاء } [رواه البخاري].
- وإن صلى أربعاً بعد الظهر وأربعاً قبلها فحسن؛ لقوله : { من حافظ على أربع قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله تعالى على النار } [رواه الإمام الأحمد وأهل السنن بإسناد صحيح، عن أم حبيبة رضي الله عنها].
والمعنى: أنه يزيد على السنة الراتبة ركعتين بعد الظهر؛ لأن السنة الراتبة أربع قبلها واثنتان بعدها، فإذا زاد ثنتين بعدها حصل ما ذكر في حديث أم حبيبة رضي الله عنها.
والله ولي التوفيق... وصلى الله وسلم على نبينا محمد بن عبدالله وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
وجوب أداء الصلاة في الجماعة
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز، إلى من يراه من المسلمين، وفقهم الله لما فيه رضاه، ونظمني وإياهم في سلك من خافه واتقاه، آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فقد بلغني أن كثيرا من الناس قد يتهاونون بأداء الصلاة في الجماعة ويحتجون بتسهيل بعض العلماء في ذلك، فوجب علي أن أبين عظم هذا الأمر وخطورته، ولا شك أن ذلك منكر عظيم وخطره جسيم، فالواجب على أهل العلم التنبيه على ذلك والتحذير منه؛ لكونه منكرا ظاهرا لا يجوز السكوت عليه.
ومن المعلوم أنه لا ينبغي للمسلم أن يتهاون بأمر عظَّم الله شأنه في كتابه العظيم، وعظَّم شأنه رسوله الكريم، عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم. ولقد أكثر الله سبحانه من ذكر الصلاة في كتابه الكريم، وعظم شأنها، وأمر بالمحافظة عليها وأدائها في الجماعة، وأخبر أن التهاون بها والتكاسل عنها من صفات المنافقين، فقال تعالى في كتابه المبين: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:128].
وكيف يعرف الناس محافظة العبد عليها، وتعظيمه لها، وقد تخلف عن أدائها مع إخوانه وتهاون بشأنها؟!، وقال تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43]، وهذه الآية الكريمة نص في وجوب الصلاة في الجماعة، والمشاركة للمصلين في صلاتهم، ولو كان المقصود إقامتها فقط لم تظهر مناسبة واضحة في ختم الآية بقوله سبحانه: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ لكونه قد أمر بإقامتها أول الآية، وقال تعالى: وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ الآية [النساء:102].
فأوجب سبحانه أداء الصلاة في الجماعة في حال الحرب، وشدة الخوف فكيف بحال السلم؟! ولو كان أحد يسامح في ترك الصلاة في جماعة، لكان المصافون للعدو، المهددون بهجومه عليهم أولى بأن يسمح لهم في ترك الجماعة، فلما لم يقع ذلك، علم أن أداء الصلاة في جماعة من أهم الواجبات، وأنه لا يجوز لأحد التخلف عن ذلك. وفي الصحيحين، عن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي أنه قال: { لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلا فيصلي بالناس ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار } الحديث، وفي مسند الإمام أحمد عنه أنه قال: { لولا ما في البيوت من النساء والذرية لحرقتها عليهم }.(/3)
وفي صحيح مسلم، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: { لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد علم نفاقه أو مريض إن كان المريض ليمشي بين رجلين حتى يأتي الصلاة } وقال: { إن رسول الله علمنا سنن الهدى وإن من سنن الهدى الصلاة في المسجد الذي يؤذن فيه }.
وفيه أيضا عنه قال: { من سره أن يلقى الله غدا مسلما فليحافظ على هذه الصلوات حيث ينادى بهن فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى وإنهن من سنن الهدى ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة ويرفعه بها درجة ويحط عنه بها سيئة ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف }.
وفي صحيح مسلم أيضا، عن أبي هريرة رضي الله عنه، { أن رجلا أعمى قال يا رسول الله إنه ليس لي قائد يلائمني إلى المسجد فهل لي رخصة أن أصلي في بيتي؟ فقال له النبي هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال نعم قال فأجب }.
والأحاديث الدالة على وجوب الصلاة في الجماعة، وعلى وجوب إقامتها في بيوت الله التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه - كثيرة جدا، فالواجب على كل مسلم العناية بهذا الأمر، والمبادرة إليه، والتواصي به مع أبنائه وأهل بيته وجيرانه وسائر إخوانه المسلمين؛ امتثالا لأمر الله ورسوله، وحذرا مما نهى الله عنه ورسوله، وابتعادا عن مشابهة أهل النفاق الذين وصفهم الله بصفات ذميمة، من أخبثها تكاسلهم عن الصلاة، فقال تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلًا مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا [النساء:142-143]. ولأن التخلف عن أدائها في الجماعة من أعظم أسباب تركها بالكلية. ومعلوم أن ترك الصلاة كفر وضلال وخروج عن دائرة الإسلام؛ لقول النبي : بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة خرجه مسلم في صحيحه، عن جابر رضي الله عنه، وقال : العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر رواه الإمام أحمد، وأصحاب السنن الأربع بإسناد صحيح. والآيات والأحاديث في تعظيم شأن الصلاة، ووجوب المحافظة عليها وإقامتها كثيرة جداً.
ومتى ظهر الحق واتضحت أدلته، لم يجز لأحد أن يحيد عنه لقول فلان أو فلان؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء:59]، ويقول سبحانه: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].
ولا يخفى ما في الصلاة في الجماعة من الفوائد الكثيرة، والمصالح الجمة، ومن أوضح ذلك التعارف، والتعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق والصبر عليه، وتشجيع المتخلف، وتعليم الجاهل، وإغاظة أهل النفاق، والبعد عن سبيلهم، وإظهار شعائر الله بين عباده، والدعوة إليه سبحانه بالقول والعمل، إلى غير ذلك من الفوائد الكثيرة.
وفقني الله وإياكم لما فيه رضاه وصلاح أمر الدنيا والآخرة، وأعاذنا جميعا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ومن مشابهة الكفار والمنافقين، إنه جواد كريم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(/4)
صفة صوم النبي صلى الله عليه وسلم
راجعها
فضيلة الشيخ
عبدالله بن عبدالرحمن بن جبرين
عضو الإفتاء
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه ، أما بعد:
فهذه نبذة في صفة صوم النبى -صلى الله عليه وسلم- وما فيها من واجبات وآداب وأدعية وفى حكم الصيام وأقسام الناس فيه ، والمفطرات ، وفوائد أخرى على وجه الإيجاز، ونسأل الله تعالى أن يوفق المسلمين لتطبيق سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم في كل صغيرة وكبيرة، والله الموفق0
* تعريف الصيام: هو التعبد لله تعالى بترك المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
* صيام رمضان أحد أركان الإسلام العظيمة، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت الحرام" [متفق عليه] 0
الناس في الصيام
* الصوم واجب على كل مسلم بالغ عاقل قادر مقيم 0
* الكافر لا يصوم، ولا يجب عليه قضاء الصوم إذا أسلم 0
* الصغير الذي لم يبلغ لا يجب عليه الصوم ، لكن يؤمر به ليعتاده 0
* المريض مرضاً طارئاً ينتظر برؤه يفطر ان شق عليه الصوم ويقضى بعد برئه 0
* المجنون لا يجب عليه الصوم ولا الإطعام عنه وإن كان كبيراً ، ومثله المعتوه الذي لا تمييز له، والكبير المخرف الذي لا تمييز له 0
* العاجز عن الصوم لسبب دائم كالكبير والمريض مرضاً لا يرجى برؤه - يطعم عن كل يوم مسكيناً 0
* الحامل والمرضع إذا شق عليهما الصوم من أجل الحمل أو الرضاع ، أو خافتا على ولديهما، تفطران وتقضيان الصوم إذا سهل عليهما وزال الخوف0
* الحائض والنفساء لا تصومان حال الحيض والنفاس ، وتقضيان ما فاتهما0
* المضطر للفطر لإنقاذ معصوم من غرق أو حريق يفطر لينقذه ويقضي0
* المسافر إن شاء صام وإن شاء أفطر وقضى ما أفطره، سواءً كان سفره طارئاً كسفر العمرة أم دائما كأصحاب سيارات الأجرة فيفطرون إن شاءوا ما داموا في غير بلدهم0
أحكام الصيام
1- النية:
وجوب تبييت النية في صوم الفريضة قبل طلوع الفجر، لقول النبى -صلى الله عليه وسلم-: "من لم يُجمِع الصيام قبل الفجر فلا صيام له" [صحيح أبي داود] 0
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له" [صحيح النسائي]0 والنية محلها القلب، والتلفظ بها لم يرد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا عن أحد من أصحابه رضي الله عنهم 0
2- وقت الصوم:
قال تعالى: { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } [البقرة: 187] 0 والفجر فجران:
* الفجر الكاذب: وهو لايُحِلُ صلاة الصبح، ولا يُحرِمُ الطعام على الصائم، وهو البياض المستطيل الساطع المُصعَّد كذنب السرحان 0
* الفجر الصادق: وهو الذي يحرم الطعام على الصائم ، ويحل صلاة الفجر، وهو الأحمر المستطيل المعترض على رؤوس الشعاب والجبال 0
فإذا أقبل الليل من جهة الشرق وأدبر من جهة الغرب وغربت الشمس فليفطر0 قال صلى الله عليه وسلم: "إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم" [متفق عليه]0 وهذا أمر يتحقق بعد غروب قرص الشمس مباشرة وإن كان ضوءها ظاهراً0
3- السحور:
قال -صلى الله عليه وسلم-: "فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر" [رواه مسلم] وقال -صلى الله عليه وسلم-: "البركة في ثلاثة: الجماعة، والثريد، والسحور" [صحيح رواه الطبراني في الكبير]، وكون السحور بركة ظاهرة لا ينبغي تركه، لأنه اتباع للسنة، ويقوي على الصيام0 وهو الغذاء المبارك كما سماه الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "هلمّ إلى الغذاء المبارك" [صحيح أبي داود]، وقال صلى الله عليه وسلم: "السحور أكلة بركة فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء، فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين" [حسن رواه الإمام أحمد] 0 وقال -صلى الله عليه وسلم-: "نعم سحور المؤمن التمور" [صحيح أبي داود]0 وكان من هديه تأخير السحور إلى قبيل الفجر0
4- ما يجب على الصائم تركه:
* قول الزور: قال صلى الله عليه وسلم : "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله عز وجل حاجة أن يدع طعامه وشرابه" [رواه البخاري] 0
* اللغو والرفث: قال : صلى الله عليه وسلم: "ليس الصيام من الأكل والشراب ، وإنما الصيام من اللغو والرفث ، فإن سابَّك أحد أو جَهِل عليك فقل : إني صائم" [صحيح ابن خزيمة] 0
5- ما يباح للصائم:
* الصائم يصبح جنباً: عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم: "كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله ثم يغتسل ويصوم" [متفق عليه] 0
* السواك للصائم: قال صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء " [متفق عليه] 0 فلم يخص الرسول صلى الله عليه وسلم الصائم من غيره، ففي هذا دلالة على أن السواك للصائم ولغيره عند كل وضوء وكل صلاة عام، وفي كل الأوقات قبل الزوال أو بعده.(/1)
* المضمضة والاستنشاق: كان صلى الله عليه وسلم يتمضمض ويستنشق وهو صائم ، لكنه منع الصائم من المبالغة فيهما، قال صلى الله عليه وسلم: "وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً" [صحيح أبي داود] 0
* المباشرة والقبلة للصائم: عن عائشة رضي الله عنها قالت : "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبّل وهو صائم، ويباشر وهو صائم، ولكنه كان أملككم لإربه" [متفق عليه]0 ويكره ذلك للشباب دون الشيخ، قال صلى الله عليه وسلم: "000 إن الشيخ يملك نفسه" [صحيح رواه أحمد] 0
* تحليل الدم وضرب الإبر التي لا يقصد بها التغذية: فإنها ليست من المفطرات، لأنها ليست مغذية ولا تصل إلى الجوف0
* قلع السن: لا يفطر الصائم0
* ذوق الطعام: وهذا مقيد بعدم دخوله الحلق، وكذلك الأمر بمعجون الأسنان0 لما ورد عن ابن عباس رضي الله عنه: "لا باس أن يذوق الخل أو الشيء ما لم يدخل حلقه وهو صائم" [رواه البخاري] 0
* الكحل والقطرة ونحوهما مما يدخل العين: هذه الأمور لا تفطر سواء وجد طعمه في حلقه أم لم يجده ، وقال الإمام البخاري في صحيحه: "ولم ير أنس والحسن وإبراهيم بالكحل للصائم باساً " 0
6- الإفطار :
* تعجيل الفطر من سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وفيه مخالفة اليهود والنصارى ، فإنهم يؤخرون ، وتأخيرهم له أمد ، وهو ظهور النجم 00 قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر" [متفق عليه] 0 وقال - صلى الله عليه وسلم-: "لا تزال أمتي على سنتي ما لم تنتظر بفطرها النجوم" [صحيح ابن حبان] 0
* الفطر قبل صلاة المغرب: عن أنس رضي الله عنه قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفطر قبل أن يصلي" [حسن رواه أبو داود] 0
* على ماذا يفطر؟ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفطر على رطبات قبل أن يصلي، فإن لم يكن رطبات فتمرات، فإن لم يكن تمرات حسا حسوات من ماء" [ صحيح أبي داود ] 0
* ماذا يقول عند الإفطار؟ قال - صلى الله عليه وسلم- : "للصائم عند فطره دعوة لا ترد" [صحيح ابن ماجه] 0 وكان يدعو -صلى الله عليه وسلم- عند إفطاره: "ذهب الظمأ وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله" [صحيح أبي داود] 0
7- مفسدات الصوم :
* الأكل والشرب متعمداً : سواء كان نافعاً أم ضاراً كالدخان0 أما إذا فعل ذلك ناسياً أو مخطئاً أو مكرهاً فلا شيء عليه إن شاء الله 0 قال صلى الله عليه وسلم: "إذا نسي فأكل وشرب فليتم صومه ، فإنما أطعمه الله وسقاه" [متفق عليه] 0
* تعمد القيء: وهو إخراج ما في المعدة عن طريق الفم لقوله صلى الله عليه وسلم: "من ذرعه القيء فليس عليه قضاء، ومن استقاء فليقض" [صحيح أبي داود] فإن قاء من غير قصد لم يفطر 0
* الجماع: وإذا وقع في نهار رمضان من صائم يجب عليه الصوم فعليه مع القضاء كفارة مغلظة وهي عتق رقبة ، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً 0
* الحقن الغذائية: وهي إيصال بعض المواد الغذائية إلى الأمعاء أو إلى الدم بقصد تغذية المريض ، فهذا النوع يفطر الصائم ، لأنه إدخال إلى الجوف 0
* الحيض والنفاس: خروج دم من المرأة في جزء من النهار سواء وجد في أوله أو آخره أفطرت وقضت0
* إنزال المني: يقظة باستمناء أو مباشرة أو تقبيل أو ضم أو نحو ذلك، وأما الإنزال بالاحتلام فلا يفطر لأنه بغير اختيار الصائم 0
* حقن الدم: مثل أن يحصل للصائم نزيف فيحقن به دمه تعويضاً عما نزف منه0
8- القضاء:
* يستحب المبادرة إلى القضاء وعدم التأخير ، ولا يجب التتابع في القضاء 0 أجمع أهل العلم أن من مات وعليه صلوات فاتته فلا يقضي عنه ، وكذلك من عجز عن الصيام لا يصوم عنه أحد في حياته، بل يطعم عن كل يوم مسكيناً 000 ولكن من مات وعليه صوم صام عنه وليه ، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "من مات وعليه صوم صام عنه وليه" [متفق عليه] 0
9- الصوم مع تركه الصلاة:
* من صام وترك الصلاة فقد ترك الركن الأهم من أركان الإسلام بعد التوحيد، ولايفيده صومه شيئاً ما دام تاركاً للصلاة ، لأن الصلاة عماد الدين الذي يقوم عليه، وتارك الصلاة محكوم بكفره، والكافر لا يقبل منه عمل لقوله صلى الله عليه وسلم: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر" [صحيح رواه الإمام أحمد]0
10- قيام الليل ( التراويح ):
* لقد سن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قيام رمضان جماعة، ثم تركه مخافة أن يفرض على الأمة فلا تستطيع القيام بهذه الفريضة0 وعدد ركعاتها ثمان ركعات دون الوتر لحديث عائشة رضي الله عنها: "ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة" [متفق عليه]0
ولما أحيا عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذه السنة جمع إحدى عشرة ركعة، وصلّوا في زمانه ثلاثة وعشرين، وصلّوا بعده تسعاً وثلاثين ركعة، والعمل على ثلاثة وعشرين كما في صلاة الحرمين الشريفين، وهو قول الأئمة الثلاثة وغيرهم0(/2)
ومما ابتلي به المسلمون اليوم في صلاة التراويح السرعة في القراءة وفي الركوع والسجود وغير ذلك0 وهذا مخل بالصلاة ، مذهب لخشوعها ، وقد يبطلها في بعض الحالات 000 والله المستعان
11- زكاة الفطر:
* وهى فرض لحديث ابن عمر رضي الله عنه : "فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر من رمضان على الناس " [متفق عليه ] 0 وتجب زكاة الفطر على الصغير والكبير ، والذكر والأنثى ، والحر والعبد من المسلمين ومقدارها صاع من غالب قوت البلد إذا كان فاضلاً عن قوت يومه وليلته وقوت عياله ، والأفضل فيها الأنفع للفقراء 0
ووقت إخراجها: يوم العيد قبل الصلاة ، ويجوز قبله بيوم أو يومين ، ولا يجوز تأخيرها عن يوم العيد(/3)
صفة للمنافقين يقع بها بعض الصالحين:
قال الله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ.
فإن من صفات المنافقين ، والتي يقع بها أهل الصلاح أحيانا ، هي هذه الصفة ، الفجور في الخصومة ، فمع اختلاف الرأي ، أو وقوع أحد الناس في الخطأ ، خصوصا إن كان من أهل المنافسة ، حيث تكون الصولة لحسد الأقران ، والبغض في غير الله ، فتكون عندئذٍ تلك الصفة المشينة : الفجور في الخصومة .
علامات الفجور في الخصومة :
1. الغلظة في الإنكار ،التي يجب أن توجه للكفار والمنافقين المحاربين .
قال تعالى : " لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ويخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم " لاحظ تبروهم وتقسطوا إليهم ، أين بعضنا عن هذا ، مع العلم أنه في حق الكفار والمنافقين ، فكيف بحق المؤمنين، وإن كانوا مخطئين!!!!
وقد كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله رسالة بعنوان " رحمة أهل البدع والمعاصي " والقصدُ حب الخير للناس وطلب هدايتهم لا التشفي بهم ، ولا تفريج الغيض من المشاكل الإجتماعية أو المادية أو غيرها و" فش الغل والغيض " على عباد الله . والله سبحانه يصف المؤمنين بأنهم " رحماء بينهم " .
2. إساءة الظن . " اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم "
3. لي أعناق نصوص الآخرين ، وتحويرها لتوافق المفهوم الخاطيء .
4. شق الصدر والدخول في النيات .
5. اقتطاع الكلام عن سياقه ، عن عمد وتقصّد .
6. نقل الكلام دون تبيان متى وأين وتحت أي ظرف قيل ! ليُعطي انطباعا للقاريء أو السامع خطأ وجرم ما قيل ، بينما قد يكون هذا الكلام صحيحا في حينه ، أو أن قائله قاله في مكان معيّن ينطبق عليه ما قيل ، أو أن قائله معذور للظرف الذي هو فيه " إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان " .
7. السخرية والاستهزاء والتطاول على الأشخاص والهيئات والتنابز بالألقاب واستحلال العرض .
8. الغيبة والنميمة .
9. الإلزام بلازم المذهب ، أو ما أسمّيه مذهب إذا ً ، على طريقة : هم يقولون كذا إذن هم يقرون كذا ، وقد أفتى شيخ الإسلام في الفتاوى بأن لازم المذهب ليس بمذهب . ولو كان كذلك لكان التضليل بمثقال حبة قمح بالية .
10. الفرح بأخطاء الآخرين .
11. تصوير النصر إذا حققه الآخرون بأنه هزيمة .
12. عدم الدعاء للمسلمين الخصوم أو المخالفين بالهداية والمغفرة .
13. التشهير بخطأ الآخرين من المسلمين ونشر غسيلهم والتفكه بأعراضهم .
هذه بعض العلامات ، وهناك غيرها .
وإليك أيها الأخ الكريم هذا النموذج الراقي :
وهو شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام الدمشقي الشهير بابن تيمية الذي قال عن خصومه الذين وشوا به عند السلطان حتى تسببوا بسجنه أنهم إما مجتهدون مصيبون فلهم أجران وإما مجتهدون مخطئون فلهم أجر واحد وإما مذنبون فالله يغفر لنا ولهم .
ويقول (35/100-104) : إن علماء المسلمين المتكلمين في الدنيا باجتهادهم لا يجوز تكفير أحدهم بمجرد خطأ أخطأه في كلامه .. فإن تسليط الجهال على تكفير علماء المسلمين من أعظم المنكرات .... وقد اتفق أهل ا لسنة والجماعة على أن علماء المسلمين لا يجوز تكفيرهم بمجرد الخطأ المحض بل كل أحد يؤخذ قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال رحمه الله (3/245) : هذا وأنا في سعة صدر لمن يخالفني فإنه وإن تعدى حدود الله في بتكفير أو تفسيق أو افتراء أو عصبية جاهلية ، فأنا لا أتعدى حدود الله فيه ، بل أضبط ما أقوله وأفعله ، وأزنه بميزان العدل ، وأجعله مؤتماً بالكتاب الذي أنزله الله وجعله هدى للناس حاكماً فيما اختلفوا فيه .
رحم الله شيخ الإسلام . ونسأل الله أن أن يعيننا على تفحص قلوبنا وأحوالنا في خصوماتنا واختلافنا وليكن شعارنا عند الحديث عن كل منقصة " وما أبريء نفسي " ولنتهم أنفسنا بالتقصير لنحملها على الإرتفاع في علياء الخلق القويم المقتدي بسيرة سيد المرسلين وخاتم النبيين . والله المستعان.(/1)
صفحات مجهولة من تاريخ الحروب الصليبية
مجاهدون على الطريق
د. عماد الدين خليل
--------------------------------------------------------------------------------
منذ الأيام الأولى لوصول طلائع القوات الصليبية إلى مشارف الجزيرة الفراتية والشام، بدا أن ولاة الموصل السلاجقة سيلعبون دوراً حاسماً إزاء الخطر الجديد، نظراً لطبيعة موقعهم الحصين بعيداً عن الأخطار المباشرة للهجوم الصليبي، ولكونهم يمثلون حلقة الوصل المباشر بين القواعد السلجوقية التي يتلقون أوامر عنها، وبين الإمارات الإسلامية المنتشرة في الجزيرة والشام، والتي وقع على عاتقها عبء التصدي للهجوم الجديد. وكان من أبرز هؤلاء الولاة: آق سنقر البرسقي الذي حكم الموصل في الفترة بين 515 هـ (1121م) و 520 هـ (1126م)
شيء عن الرجل
في عام 515 هـ أصدر السلطان السجلوقي محمود أمره بتولية قائده الشهير آق سنقر البرسقي على الموصل وأعمالها، وكان الرجل قد عمل إلى جانب السلطان في معظم حروبه، وكان مخلصاً له، وقد لعب دوراً كبيراً في المعركة الفاصلة التي وقعت بين السلطان وأخيه مسعود، وقام بدور الوساطة بينهما بعد انتهاء المعركة.
وقد اتبع السلطان محمود التقليد المعروف لدى إعلان تولية أمير على الموصل، إذ أمره بجهاد الصليبيين واسترداد البلاد منهم، كما أوصى سائر الأمراء بطاعته، فسار البرسقي إلى الموصل على رأس جيش كبير، وأقام فيها بعض الوقت ريثما يدبر أمورها ويصلح أحوالها.
امتاز الرجل –أكثر من غيره- بالنشاط الدائب والحركة السريعة، فهو تارة في الشام يجاهد الغزاة، وتارة أخرى في بغداد وجنوبي العراق يقاتل الخارجين عن طاعة السلطان والخليفة العباسي، وتارة ثالثة على مشارف حلب مستجيباً لنداء أهلها بإنقاذهم من الأوضاع الاقتصادية والسياسية السيئة التي تردّوا فيها خلال تعرضهم للهجمات الصليبية، وقد استطاع البرسقي أن يكسب ودَّ الأمراء المحليين وعلى رأسهم طغتكين حاكم دمشق، كما اكتسب عطف الخليفة العباسي باشتراكه إلى جانبه في حروبه ضد الخارجين عليه، فضلاً عن أنه اكتسب محبة الأهالي سواء في الموصل حيث مقر ولايته، أم في المنطقة –بصورة عامة- حيث اشتهر كأحد قادة الجهاد ضد الغزاة.
كان البرسقي –كما يصفه المؤرخون- عادلاً، حميد الأخلاق، شديد التدين، محباً للخير وأهله، مكرماً للفقهاء والصالحين، وكان شجاعاً نال احترام وتقدير الخلفاء والملوك، ليِّناً، حسن المعاشرة، كثير الصلاة، عالى الهمة؛ وبذا أجمع معظم المؤرخين على أنه كان من خيار الولاة.
الصليبيون.. وإهانة كتاب الله
والحق أن أهم ما أنجزه البرسقي خلال فترة ولايته على الموصل هو استلامه شؤون الحكم في حلب وحله لمشاكلها وضمها إلى الموصل، الأمر الذي أتاح قيام وحدة بين البلدين كان لها أبعد الأثر في الصراع الإسلامي الصليبي.
كان الصليبيون قد شددوا هجماتهم على حلب والمناطق الزراعية المحيطة بها، وأنزلوا بها خسائر فادحة، وتولى الهجوم أميرُ أنطاكية والرها، ثم ما لبثوا أن فرضوا الحصار عليها من شتى جهاتها »ووطنوا أنفسهم –كما يقول ابن الأثير- على المقام الطويل، وأنهم لا يغادرونها حتى يملكوها، وبنوا البيوت لأجل البرد والحر«.
وتعدى الأمر ذلك إلى نبش قبور المسلمين وتخريب مشاهدهم.. ويحدثنا المؤرخ الحلبي ابن العديم أنهم أخرجوا جثث الموتى، وعمدوا إلى من لم تتقطع أوصاله منهم فربطوا الحبال بأرجلهم وسحبوهم أمام أنظار المسلمين المحاصرين في حلب، وراحوا يقولون: هذا نبيكم محمد! وأخذوا مصحفاً من أحد مشاهد حلب المجاورة ونادوا: يا مسلمون أبصروا كتابكم، ثم ثقبه أحد الفرنجة بيده وشدّه بخيطين وربطه بأسفل برذونه، فراح هذا يروّث عليه، وكلما أبصر الفرنجي الروث على المصحف صفق بيديه وضحك عجباً وزهواً!
لم يكتفِ الصليبيون بهذا بل راحوا يمثلون بكل من يقع بأيديهم من المسلمين، فاضطروا هؤلاء إلى مجاراتهم بالمثل، وأخذت جماعات من مقاتلي حلب تخرج سراً لتغير على معسكرات الأعداد، وترددت الرسل بين الطرفين للتوصل إلى اتفاق ولكن دون جدوى حتى ضاق الأمر بالحلبيين حيث قلّت الأقوات وانتشر المرض، واتبع أمراؤهم المتسلطون عليهم أشد الأساليب ظلماً وعسفاً، وحينذاك قرروا تشكيل وفدٍ يغادر حلب سراً إلى الموصل للاستنجاد بالبرسقي.
النجدة
كان البرسقي حينذاك (518 هـ) مريضاً، وكان الضعف قد بلغ منه مبلغاً عظيماً، فمنع الناس من الدخول عليه، وعندما استؤذن للوفد الحلبي بالدخول، أذن لهم، فدخلوا عليه واستغاثوا به وشرحوا له الأخطار التي تحيق بحلب ومدى الصعوبات التي يعانيها أهل المدينة، فأجابهم البرسقي: »إنكم ترون ما أنا الآن فيه من المرض، ولكني قد جعلت لله علي نذراً لئن عافاني من مرضي هذا لأبذلن جهدي في أمركم والذب عن بلدكم وقتال أعدائكم«.(/1)
ولم تمضِ ثلاثة أيام على مقابلته للوفد حتى فارقته الحمى وتماثل للشفاء، وسرعان ما ضرب خيمته بظاهر الموصل ونادى قواته أن تتأهب لقتال الصليبيين واستنقاذ حلب، وفي غضون أيام معدودات غدا جيشه على أهبة الاستعداد، فغادر الموصل متجهاً إلى الرحبة، وأرسل من هناك إلى طغتكين أمير دمشق وخير خان أمير حمص يطلب منهما مساعدته في إنجاز مهمته، فلبى هذان الأميران دعوته، وبعثا بعساكرهما للانضمام إلى جيش البرسقي الذي كان قد تحرك آنذاك صوب بالسس القريبة من حلب..
ومن بالسس أرسل البرسقي إلى مسؤولي حلب، وشرط عليهم –مسبقاً- تسليم قلعة حلب لنوابه كي يحتمي بها في حالة انهزامه أمام الصليبيين، فأجابوه إلى طلبه، وما أن استتب الأمر لنواب البرسقي، واطمأن الرجل إلى وجود حماية أمينة في حالة تراجعه، حتى بدأ زحفه صوب قوات الصليبيين التي تطوق حلب.
وصلت طلائع قوات البرسقي حلب يوم الخميس الثاني والعشرين من ذي الحجة سنة 518 هـ، وما أن اقترب البرسقي بقواته المنظمة حتى أسرع الصليبيون في التحول إلى منطقة أفضل من الناحية الدفاعية، فعسكروا في جبل جوش على الطريق إلى أنطاكية، وهكذا غدوا مدافعين بعد أن كانوا مهاجمين، وخرج الحلبيون إلى خيامهم فنالوا منها ما أرادوا، بينما اتجه قسم آخر منهم لاستقبال البرسقي لدى وصوله.
إصلاحات داخلية
وقد أدرك البرسقي ما يرمي إليه الصليبيون بانسحابهم واتخاذهم موقفاً دفاعياً، فلم يتسرع بمهاجمتهم قبل أن يعيد تنظيم قواته من جديد خوفاً من نزول هزيمة فادحة بعسكره قد تعرّض حلب للسقوط، وأرسل طلائعه الكشفية لرد الجيوش المتقدمة إلى معسكراتها في حلب، وقال موضحاً خطته هذه: »ما يؤمننا أن يرجعوا علينا ويهلك المسلمون؟ ولكن قد كفى الله شرهم، فلندخل إلى البلد ونقويه وننظر إلى مصالحه، ونجمع لهم إن شاء الله، ثم نخرج بعد ذلك إليهم«. ومن ثَم دخل البرسقي حلب وبدأ بحل مشاكلها ورفع مستواها الاقتصادي والاجتماعي، فنشر العدل وأصدر مرسوماً برفع المكوس والمظالم المالية وإلغاء المصادرات، وعمت عدالته الحلبيين جميعاً بعدما منوا به من الظلم والمصادرات وتحكم المتسلطين طيلة فترة الحصار الصليبي.
ولم يكتف البرسقي بذلك بل قام بنشاط واسع لجلب المؤن والغلال إلى المدينة كي يخفف من حدة الغلاء، ويقضي على الضائقة التي يعانيها الحلبيون. وما لبث النشاط الزراعي في منطقة حلب أن عاد إلى حالته الطبيعية، حيث استأنف المزارعون العمل في أراضيهم التي شردوا عنها، وساعدتهم الظروف المناخية في أراضيهم التي شردوا عنها، وساعدتهم الظروف المناخية، حيث هطلت مقادير كبيرة من الأمطار فأخصبت الأرض، كما عاد النشاط التجاري إلى عهده السابق اعتماداً على ما تمتعت به المنطقة من أمن واستقرار.
قيمة الانجاز
وهكذا استطاع البرسقي أن يحطم الطوق الذي أحاط به الصليبيون حلب، وأن يخلص هذا الموقع الهام من أخطر محنة جابهته طيلة الحروب الصليبية، ويوحده مع الموصل لأول مرة منذ بدء هذه الحروب، الأمر الذي أتاح لهذا القائد، ولعماد الدين زنكي من بعده، أن يفيد من هذه الوحدة لتحقيق انتصارات عديدة ضد الغزاة، ذلك أن حلب هي القاعدة الثانية في الشمال بعد الموصل، وهي الحصن الأخير الذي وقف بوجه الزحف الصليبي في المنطقة باتجاه الشرق، إذ كانت تتمتع بمركز استراتيجي حيوي من النواحي البشرية والعسكرية والاقتصادية وخطوط المواصلات، وبالرغم من وقوعها بين إمارتين صليبيتين هما الرها وأنطاكية، إلا أنه كان بإمكانها الاتصال بالقوى الإسلامية المنتشرة في الجزيرة والفرات والأناضول وشمالي الشام، مما يعد أساساً حيوياً لاستمرار حركة الجهاد وتحقيق أهداف حاسمة ضد العدو، هذا فضلاً عن عمق وتوثق الصلات الاقتصادية والجغرافية بين حلب والموصل منذ أيام الحمدانيين، ومن ثم تعتبر المدينتان مكملتين إحداهما للأخرى.
وكان مما يزيد في قيمة الاستيلاء على حلب، أنها بفضل موقعها على ثغر المسلمين ومعقلهم تجاه الغزاة، أضْفَتْ على أمير الموصل صفة المدافع عن الإيمان ضد الكفار، كما أن قوة الشعور الإسلامي يجعل من العسير على السطان السلجوقي أن يتخذ ضد أميراها إجراءً صارماً، يضاف إلى ذلك أن البرسقي، باعتباره ممثلاً للسلطان السلجوقي، صار له السلطة الشرعية الوحيدة بين الإمارات التي شكلها البرسقي والممتدة من نهر قويق إلى نهر دجلة نواة لما قام بعدئذ بالشام من دولة إسلامية متحدة زمن الزنكيين والأيوبيين والمماليك، ولم يكن الغزاة الذين وحّد بينهم نظام الملكية في بيت المقدس، يواجهون قبل ذلك سوى بلاد تنازعتها في الشام قوى عديدة وإقطاعات متفرقة زادت من ضعفها. وما حدث –إذاً- من توحيد حلب مع الموصل يعتبر بدء توحيد الجبهة الإسلامية التي قدر لها أن تقضي في يوم من الأيام على قوة الصليبيين في الشام.
بدء العمليات(/2)
لم يكن بوسع الميك بلدوين –بعد أن رأي ما حدث- سوى العودة إلى أنطاكية ومنها إلى بيت المقدس الذي غاب عنه مدة سنتين، إلا أنه لم يمكث هناك زمناً طويلاً، فقد كان البرسقي في نظره شديد الخطورة، إذ كان بوسعه أن يوحد المسلمين بشمال الشام تحت سلطانه، كما خضع لقيادته أميرا دمشق وحلب، وكان البرسقي –بعد أن أقرَّ الأوضاع في حلب- قد غادرها في مطلع عام 519 هـ صوبَ تل السلطان ومنها إلى حصن شيزر، وإذ حرص أميرها سلطان بن منقذ على أن يكون صديقاً لكل رجل عظيم الأهمية فقد سلمه رهائن الصليبيين الذي كانوا قد أودعوا لدى بني منقذ ريثما يتم تنفيذ بنود المعاهدة التي كانت قد عقدت بين الغزاة وأمراء ديار بكر، وقد أقام البرسقي في أرض حماة أياماً لحين وصول طغتكين على رأس قواته، وحين ذلك رحل البرسقي على رأس جيش مؤلف من القوات الإسلامية المتحالفة وهاجم حصن كفر طاب الذي كان بحوزة الغزاة وتمكن من الاستيلاء عليه في مطلع ربيع الآخر حيث وهبه لحليفه أمير حمص الذي كان قد التحق به، ثم حاصر »زردنا« فعجل الملك بلدوين في المسير نحو الشمال وقاد جيوش طرابلس وأنطاكية والرها لإنقاذها، فتحول المسلمون إلى عزاز التابعة لجوسلين وشددوا هجومهم عليها، وتمكنوا من إحداث ثغرات في قلعتها، إلا أن قوات بلدوين ما لبثت أن أدركتهم هناك حيث دارت في السادس من ربيع الآخر معركة عنيفة، وإذا استند المسلمون إلى تفوقهم العددي حاولوا الاشتباك مع خصومهم وجهاً لوجه، غير أنه كان لهؤلاء من التفوق في السلاح والقوة الضاربة ما لم يطق المسلمون مقاومته فحلّت بهم الهزيمة، وقتل منهم عدد كبير. واستطاع بلدوين أن يجمع من الغنائم الوفيرة التي حصل عليها مبلغ ثمانين ألف دينار الذي كان يدين به لافتداء الرهائن، فاستلمه البرسقي، وأعاد الرهائن، كي يتقوى به على عدوِّه ويعيد حشد قواته من جديد، وما لبثت الهدنة أن عقدت بين البرسقي والصليبيين، وقفل عائداً إلى الموصل بعد أن أبقى في حلب حامية عسكرية.
استئناف الصراع
لم يكن الاتفاق بين البرسقي وخصومه نهائياً، نظراً لأن الغزاة لم يحترموا ما اتفقوا عليه من قبل من الشروط، ويذكر المؤرخ الحلبي ابن العديم أن الصليبيين أخذوا يمنعون فلاحي المسلمين من جني ثمارهم ومحاصيلهم وفق ما نصّت عليه شروط الهدنة.
وفي مطلع ربيع عام 520 هـ (1126م) قام بونز أمير طرابلس بمهاجمة حص رفينة الذي كان هدفاً للصليبيين منذ أن استرده منهم أمير دمشق عام 499 هـ، والذي كان يتحكم في المنفذ المؤدي إلى البقيعة من جهة وادي نهر العاصي، ونهض بلدوين ملك بيت المقدس لمساندته، وخرج صاحبه »شمس الخواص« طالباً البرسقي مستصرخاً به، لكن ولده ما لبث أن قام بتسليم الحصن للغزاة بعد حصار دام ثمانية عشر يوماً، وكان الاستيلاء على هذا الحصن ذا أهمية بالغة عند الصليبيين لا لأنه كفل الأمان والسلامة لطرابلس فحسب، بل لأنه أمّن أيضاً طرق الاتصال بين بيت المقدس وأنطاكية، ومن ثم توجه الغزاة إلى حمص وهاجموا المناطق المحيطة بها وخربوا مزارعها، ولم يغادروا المنطقة إلا بعد أن أدركتهم القوة التي بعث بها البرسقي بقيادة ابنه مسعود لنجدة صاحب حمص، وخلال ذلك أعاد المصريون بناء أسطولهم الذي أقلع سنة 520 هـ من الاسكندرية وأغار على الساحل الشامي، ولما سمع البرسقي بذلك أعد خطته على أن يقوم أثناء إغارة الأسطول المصري بهجوم من الشمال، فحشد جيشاً كبيراً وتوجه إلى أنطاكية بقصد نجدة صاحب »رفينة« والواقع أن المصريين أدركوا بعد أن حاولوا القيام بغارة على أرباض بيروت، كلَّفتهم خسائر جسيمة، أن المدن الساحلية مشحونة بحاميات قوية، فلم يسعهم إلا العودة، أما البرسقي فقد سلك طريق »منبج« التي كانت مزارعها وقراها قد تعرضت دوماً لغارات جوسلين أمير الرها، فدارت المفاوضات بين البرسقي وجوسلين لعقد هدنة أخرى على أن تكون الضياع ما بين عزاز وحلب مناصفة بين الطرفين وأن يكون القتال بينهما على غير ذلك.
اتجه البرسقي –بعد أن أمن جانب جوسلين- صوب »الأثارب« وحاصرها في جمادى الآخرة 520 هـ وأرسل فرقة من قواته إلى حصن الدير فأذعن لها، وقامت جيوشه بجمع غلال العديد من مزارع العدو وإرسالها إلى حلب، وعلى الرغم من أن قوات البرسقي استولت على السورين الخارجيين للأثارب، إلا أنها لم يتيسر لها الاستيلاء على المدينة لمبادرة ملك بيت المقدس لإنجادها حيث انحاز إليه الأمير جوسلين، ورغبة منهما في تجنّب الاشتباك مع البرسقي أرسلا إليه قائلين: »ترحل عن هذا الموضع ونتفق على ما كنا عليه في العام الخالي ونعيد (رفينة) عليك«.(/3)
ولم يشأ البرسقي –من جهته- أن يمضي في الحرب كيلا يتعرض المسلمون لما تعرضوا له من قبل في عزاز، فقرر عقد الصلح مع الصليبيين، غير أن بلدوين لم يلبث –بعد أن جلا البرسقي بقواته عن الأثارب- أن أنكر ما سبق أن عرضه على البرسقي من شروط الصلح وأهمها إعادة (رفينة) إلى المسلمين، بل إنه طالب ببلاد جديدة فلم يقبل البرسقي ذلك وأقام فترة في حلب ترددت الرسل أثناءها بين الطرفين دون أن تسفر عن نتيجة، كما أن الغارات التي نشبت بينهما عقب ذلك لم تأت بطائل، فرجع بلدوين إلى القدس في رجب، وتوجه البرسقي إلى حلب يصحبه طغتكين حاكم دمشق الذي كان قد التحق به قبيل ذلك عند قنسرين، إلا أنه ما لبث أن مرض وأوصى إلى البرسقي قبل أن يغادر حلب متوجهاً إلى دمشق، الأمر الذي يشير إلى مدى ثقته وتقديره للبرسقي الذي لم يأل جهداً في مقاومة الغزاة، وبعد أن أناب البرسقي ابنه عز الدين مسعود في حلب، قفل راجعاً إلى الموصل.
تعبيد الطرق
ما من شك في أن هزيمة البرسقي غير المتوقعة في عزاز، هي التي قلبت ميزان القوى في المنطقة ووضعت جداراً صلباً أمام مطامح البرسقي الذي كان يأمل –بعد ضم حلب إلى إمارته- أن يحقق للمسلمين انتصارات حاسمة ضد أعدائهم، وأن يسعى لتهديد إماراتهم في الشمال بعد أن يوجه ضربات قوية لجيوشهم هناك، وهكذا جاءت كارثة عزاز لتنحرف بحركة البرسقي عن هدفها المرسوم، إلا أن قادة الصليبيين لم ينسوا –رغم ذلك- أن البرسقي سيظل يشكل خطراً على وجودهم، إذ أدركوا ما تمنحه إياه سيطرته على حلب وقيادته لقوى المسلمين في الشام، من إمكانية متجددة لإعادة الكرة عليهم، ومن ثم اقتنع كل من الطرفين بمنطق التهادن والمحالفات والسعي لتجنب أي اشتباك قد يجر وراءه صراعاً طويلاً لم تكن للطرفين رغبة جادة في خوضه نظراً لاعتقادهما بعدم جدواه، ولئن كان البرسقي قد أضاع الفرصة إثر هزيمة عزاز، فإنه فتح الطريق ولا ريب –بضمه حلب إلى الموصل- أمام عماد الدين زنكي الذي جاء بعد سنتين لكي يصفي الحساب مع الغزاة.
نهاية الرجل
لم يلبث البرسقي، بعد أيام قلائل من دخوله الموصل، أن اغتيل على أيدي الباطنية الذي كانوا قد تولوا حملة اغتيالات واسعة النطاق لكبار الشخصيات الإسلامية، بسبب الخلافات المذهبية، وقد بلغت هذه الحملة أوجها في القرن السادس الهجري، وكانت الباطنية تشكل –إذاً- مصدر الخطر الوحيد ضد البرسقي، وقد عرف هو ذلك منذ البداية، فكان على غاية من التيقظ لهم والتحفظ منهم، وكان يحيط بنفسه بعدد كبير من الحرس المسلمين الذين كانوا دائماً على أهبة الاستعداد، كما كان يلبس درعاً من حديد، وقد جهد في الحد من خطر الباطنية عن طريق التصدي لهم واستئصال شأفتهم وتتبعهم في كل مكان، وقد تمكن من قتل عدد منهم.
ورغم كل هذه الاحتياطات والاجراءات تمكن الباطنية الذين تمرسوا على الاغتيالات من بغيتهم. ففي التاسع من ذي القعدة سنة 520 هـ توجه البرسقي إلى الجامع العتيق في الموصل لأداء صلاة الجمعة، وقصد المنبر، فما دنا منه وثب عليه ثمانية أشخاص متزيين بزي الزهاد وأثخنوه ضرباً وطعناً، بعد أن تمكن وحراسه من قتل بعضهم، ثم حمل جريحاً ومات في نفس اليوم، وتم قتل جميع من اشترك في الاغتيال فيما عدا واحداً منهم تمكن من الهرب إلى الشام.
وكان البرسقي قد رأى في منامه –في الليلة الفائتة- بأن مجموعة من الكلاب السوداء هاجمته، وقصّ رؤياه على أصحابه فأشاروا عليه بعدم الخروج من داره أياماً، ولكنه رفض اقتراحهم وقال: لا أترك صلاة الجمعة لشيء أبداً.. وكان من عادته أن يحضر صلاة الجمعة مع سائر الناس.
ويُلقي العماد الأصفهاني ضوءاً على الدوافع المباشرة لاغتيال البرسقي، إذ يشير إلى العداء المستحكم بينه وبين (الدركزيني) الباطني وزير السلطان السلجوقي محمد، الذي عمل جاهداً ليقنع السلطان بعزل خصمه فلم ينجح في مسعاه، فاتفق مع الباطنية على اغتياله. وموقف الدركزيني يقودنا إلى موقف الباطنية العام من زعماء المقاومة الإسلامية، هذا الموقف الذي تميّز بالعداء الجارف والرغبة في الانتقام، الأمر الذي كان له أسوأ الأثر على مجرى الصراع بين المسلمين والغزاة.[1]
ومن عجب –يقول المؤرخ ابن الأثير-: أن أمير أنطاكية الصليبي أرسل إلى عز الدين مسعود يخبره بقتل والده قبل أن يصل الخبر إليه شخصياً! وكان قد سمعه الفرنج قبله لشدة عنايته –أي أمير أنطاكية- بمعرفة الأحوال الإسلامية!
لكن ألا يلقي هذا النبأ ظلاً من شك حول إمكانية حدوث اتفاق مسبق بين الباطنية والصليبيين لاغتيال المجاهد المسلم، لا سيما وأن قتلته ربما كانوا –كما يذكر المؤرخ الحلبي ابن العديم- قوماً من أهل حماة القريبة من معاقل الصليبيين؟ كيفما كان الأمر، فإن مقتل البرسقي أصاب المسلمين عامة والموصل خاصة بخسارة فادحة حيث فقدوا باغتياله والياً من نوع ممتاز، فلا غرو أن يحزنوا عليه ويأسفوا لفقده ويستدعوا ابنه عز الدين مسعود ليحل محله.(/4)
وأغلب الظن أن البرسقي كان الوالي الوحيد للموصل، منذ بدء عهد الولاة عام 489 هـ وحتى تولي عماد الدين زنكي عام 521 هـ، الذي لم يطمح إلى مخالفة السلطان السلجوقي والاستقلال عن سلطته بحكم حبه له وإخلاصه لوحدة الدولة السلجوقية إزاء التفتّت والانقسام.
مجلة الأمة – العدد 16- ربيع الآخر 1402 هـ
--------------------------------------------------------------------------------
[1] انظر »لمحة تاريخية عن الدولة العبيدية« في هذا الموقع لتتعرف عن فرقة الحشاشين الباطنية.
**********************(/5)
صفقة موانئ دبي.عولمة باتجاه واحد!
مواقع أخرى*
ساذج كل من يعتقد أن الهدف من العولمة جعل العالم قرية واحدة تتفاعل فيها الشعوب والثقافات سياسياً واقتصادياً وإعلامياً لصالح البشرية جمعاء. ربما كان ذلك صحيحاً لو أن الأمم المنصهرة في العولمة متساوية في الأهمية والتأثير وتريد أن تتحد وتستفيد من بعضها البعض في عالم أوسع. لكن بما أن العالم مقسم إلى جنوب متخلف وشمال متطور، فإن نتيجة الانصهار الكوني ستكون بلا شك في مصلحة الأقوياء خاصة وأنهم هم الذين يدفعون باتجاه إسقاط الحدود بين الدول وتحويل المعمورة إلى ساحة واحدة. لا عجب إذن أن تسمع البعض يقول إن العولمة ما هي سوى الامبريالية القديمة التي غيرت جلدها وشكلها كي تصبح أكثر قبولاً لدى العالم وخاصة لدى أولئك الذين يخشون على ثقافاتهم وهوياتهم وثرواتهم من الجشع الامبريالي والاستعمار الكوني.
وكي لا يعتقد البعض أن هذا الكلام ضرب من ضروب الثرثرة اليسارية السخيفة التي ما لبثت تحذر من الرأسمالية المتوحشة التي تحاول التهام العالم، فإن الذي يفضح مقاصد العولمة المزعومة هم سادتها، فهم الذين يبشروننا بعالم واحد متوحد من جهة ومن جهة أخرى يقيمون الحدود والجدران العازلة والعوائق الكأداء أمام الانفتاح العالمي وخاصة على الصعيدين الاقتصادي والثقافي وهما عصب التعولم المنشود. فقبل سنوات خرج علينا منظرو العولمة ليتحدثوا عن عالم جديد لا حدود فيه ولا سدود، تحكمه حالة انسياب كاملة للمعلومات والافكار ورؤوس الأموال والبضائع والأشخاص وتتراجع فيه سيادات الدول أمام مشاريع الشركات. لكن يبدو أن المقصود بالشركات ليس كل شركات العالم بل الشركات الأمريكية والمتحالفة معها دون غيرها كي تصول وتجول على هواها دون حسيب أو رقيب.
لقد جاءت الحملة الأمريكية الهائلة ضد شركة موانئ دبي العالمية لتميط اللثام عن تلك الكذبة الكبرى المسماة العولمة أو التجارة الحرة. فقد عقدت الشركة صفقة مع السلطات الأمريكية تقوم الشركة الإماراتية بموجبها بإدارة موانىء نيويورك وميامي ونيوارك في نيوجيرسي وبلتيمور في مريلاند ونيو اورلينز في لويزيانا وفيلادلفيا في بنسلفانيا. وقد بلغت قيمة الصفقة حوالي سبعة مليارات دولار. لكن بما أن المطلوب من العولمة أن تتمثل في هيمنة الأقوياء على الضعفاء وسلبهم ونهبهم واستغلالهم فقد ثارت ثائرة الشركات الأمريكية. كيف تسمحون لشركة عربية أن تدير بعض موانئنا وتكسب الملايين من ورائها؟ هذا أمر مرفوض جملة وتفصيلاً. وهل صدقتم كذبة التجارة الحرة وسقوط الحواجز الاقتصادية والتجارية؟ فعلاً إنكم مغفلون. ألا تعلمون أن كل تلك التسميات الكبرى كالديمقراطية والعولمة ما هي إلا شعارات وهمية يستغلها سادة العالم لتمرير مشاريعهم وفرض هيمنتهم؟
لا ضير في أن تستبيح الأساطيل الأمريكية المياه الدولية، ولا ضير في أن تصبح أمريكا جارة لكل بلد في هذا العالم بفعل قواعدها العسكرية الممتدة حتى حدود الصين، ولا ضير في أن تغزو القوات الأمريكية بعض البلدان دون أي رادع، ولا ضير في أن تنهار الحدود أمام الشركات الأمريكية العابرة للقارات، ولا ضير في أن تستباح سيادة الدول بحجة التجارة الحرة، ولا ضير في أن تصبح كل موارد الطاقة في العالم تحت سيطرة العم سام، ولا ضير في أن تفرض المنتوجات الأمريكية على كل القارات تحت التهديد الاقتصادي والابتزاز التجاري، ولا ضير في أن تجتاح الثقافة الأمريكية كل بقاع الأرض. كل ذلك جزء من العولمة. أما أن تتجرأ شركة عربية على الاستثمار في بلاد سادة العولمة وتفوز بصفقة كبيرة فهذا رجس من عمل الشيطان. عليكم أن تفتحوا كل حدودكم أمامنا، لكن إياكم ثم إياكم أن تحاولوا عبور حدودنا.(/1)
ولو اقتصر الأمر على الجانبين التجاري والاقتصادي لقلنا إن الرزق غال ولا بد من حمايته بالنواجذ ضد القادمين من وراء الحدود. لكن الأمر امتد إلى الإعلام لتصبح "السموات المفتوحة" خرافة جديرة بالازدراء والسخرية. فلا بأس أن تخترق وسائل الإعلام الغربية حدودنا وتفتك بعقول شباننا وشاباتنا بدعوى الانفتاح والتعولم، لكن عندما يصل بث بعض قنواتنا الفضائية العربية إلى أوروبا وأمريكا، فيتحرك سادة العولمة لسد السموات في ووجها ومنعها من الوصول إلى المشاهدين الغربيين تحت حجج واهية. وقد شاهدنا كيف تم منع بث فضائية المنار اللبنانية في أوروبا بعد أن أزاحوها من الأقمار الصناعية الغربية، ناهيك عن الضغوط الرهيبة على وسائل الإعلام العربية الأخرى. وهذا يؤكد ما ذهب إليه الكاتب والباحث نصر شمالي عندما تحدث عن "الحرب الذهنية" الأمريكية التي تتضمن شن حروب ثقافية مفتوحة ضد الشعوب. و"يتحقق ذلك عبر وسائل الإعلام التي تمتلكها الولايات المتحدة، والتي تملك القدرة علي الوصول الي جميع الشعوب في أي مكان علي وجه الأرض، وهذه الوسائل الإعلامية تشمل الإعلام الإلكتروني إضافة الي الإذاعة والتلفزة، وتشمل اتصالات الأقمار الصناعية، وتقنيات تسجيلات الفيديو، ووسائل الإرسال الإذاعي عبر الليزر والحزم البصرية، الأمر الذي سيمكّن من اختراق أذهان البشرية في العالم أجمع بفعالية! ويعتقد الأمريكيون أنهم يملكون من أدوات اختراق الذهن البشري العام، وتطويعه وتنظيمه على هواهم" بحيث يلهمون الثقافات الأجنبية بتبني أخلاقياتهم. والمرعب في الأمر أن هناك توجهاً أمريكياً حسب بعض الخطط الاستراتيجية لحرمان الآخرين من الوصول الى الشعب الأمريكي. بعبارة أخرى فإن المطلوب ثقافياً وإعلامياً التأثير في الخارج لكن دون السماح لذلك الخارج أن يؤثر في الداخل الأمريكي الذي حسب التوجه المنشود يجب أن يبقى محمياً إعلامياً وثقافياً من أي تأثيرات خارجية. إنها الحمائية الثقافية في أجلى صورها، فمن جهة يريدون للعالم أن يستقبل إعلامهم وثقافتهم بصدر رحب بدعوى القرية الكونية الواحدة المنفتحة على بعضها البعض، ومن جهة أخرى يتصدون لأي جهة تحاول الوصول إلى عقول شعوبهم. وإذا ظن البعض أن العالم أصبح مفتوحاً للجميع من خلال وسائل الاتصال الحديثة فهذه إسطورة يجب دحضها. وقد رأينا كيف بدأ بعض المفكرين والإعلاميين الأمريكيين يضيقون ذرعاً بكذبة المجتمع المفتوح ويحاولون فضحها من خلال كشفهم للجهات المالكة لوسائل الإعلام والمعرفة في أمريكا التي لا يزيد عددها عن أصابع اليد.
ويحدثونك بعد كل ذلك عن العولمة الاقتصادية والتجارية والثقافية والإعلامية والانصهار الكوني! أليست بربكم عولمة باتجاه واحد إجباري؟
-----------------
بقلم د. فيصل القاسم نقلا عن الشرق القطرية(/2)
صلاة الاستخارة ... ... ...
الحمد لله مغيث المستغيثين، ومجيب دعوة المضطرين، ومسبل النعم على الخلق أجمعين، عظُم حِلمه فستر، وبسط يده بالعطاء فأكثر، نعمه تتْرى، وفضله لا يحصى، من أناخ بباب كرمه ظفر، وأزال الضر عنه وجبر ما انكسر، إليه وحده ترفع الشكوى، وهو المقصود وحده في السر والنجوى، سبحانه وسع سمعه الأصوات، باختلاف اللغات، على تفنن الحاجات ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مجيب الدعوات، وفارج الكربات ، ومجزل النعم على البريات ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أصدق العباد قصداً، وأعظمهم لربه ذكراً وخشية وتقوى، صلى الله وسلم وبارك عليه ، وعلى آله الأتقياء وأصحابه الأصفياء ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد :
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن يقول: إذا هم أحدكم بأمر فليصلِّ ركعتين ثم ليقل : " اللهم إني أستخيرك بعلمك ، واستقدرك بقدرتك ، وأسألك من فضلك العظيم ، فإنك تقدر ولا أقدر ، وتعلم ولا أعلم ، وأنت علام الغيوب . اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر - ويسمي حاجته - خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاقدره لي ، ويسره لي ، ثم بارك لي فيه . وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري عاجله وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه ، واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني به " . [البخاري ]
مفردات الحديث :
الاستخارة : طلب الخيرة في شيء ، وهي استفعال من الخير أو من الخيرة – بكسر أوله وفتح ثانيه ، بوزن العنبة ، واسم من قولك خار الله له ، واستخار الله : طلب منه الخيرة ، وخار الله له : أعطاه ما هو خير له ، والمراد : طلب خير الأمرين لمن احتاج إلى أحدهما .
قال في عاجل أمر وآجله : هذا شك من الراوي ، وأي يقول هذا أو هذا ، وجاء في بعض الراويات الجمع بينهما بلفظ : وعاقبة أمري وعاجله وأجله .
يسمي حاجته : أي يذكرها بدل قوله (أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ) كأن يقول – اللهم إن كنت تعلم أن عملي في المكان الفلاني خير لي … إلخ .
التعليق على الحديث :
واعلم أن العبد يحتاج في فعل ما ينفعه في معاشه و معاده إلى علم ما فيه من المصلحة وقدرته عليه وتيسيره له – وليس له من نفسه شيء من ذلك ، بل علمه ممن علم الإنسان ما لم يعلم ، وقدرته منه ، فإن لم يقدره عليه وإلا فهو عاجز ، وتيسيره منه فإن لم ييسره عليه وإلا فهو بعد إقداره – أرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى محض العبودية وهو جلْب الخِيرَة من العالِم بعواقب الأمور وتفاصيلها وخيرها وشرها ، وطلب القدرة منه ، فإنه إن لم يقدره وإلا فهو عاجز ، وطلب فضله منه ، فإن لم ييسره له ويهيئه له وإلا فهو متعذر عليه ، ثم إذا اختاره له بعلمه وأعانه عليه بقدرته ويسره له من فضله فهو يحتاج إلى أن يبُقيه عليه ويديمه بالبركة التي يضعها فيه ، والبركة تتضمن ثبوته ونموه ، وهذا قدر زائد على إقداره عليه وتيسيره له ، ثم إذا فعل ذلك كله فهو محتاج إلى أن يرضيه به ، فإنه قد يهيئ له ما يكرهه فيظل ساخطاً ويكون قد خار الله له فيه .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ما ندم من استخار الخالق ، وشارو المخلوقين ، وثبت في أمره . وقد قال سبحانه وتعالى : ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ) (سورة آل عمرا ن : 159) ، وقال قتادة : ما تشاور قوم يبتغون وجه الله إلا هدوا إلى أرشد أمرهم.
قال النووي رحمه الله تعالى : باب الاستخارة والمشاورة :
والاستخارة مع الله ، والمشاورة مع أهل الرأي والصلاح ، وذلك أن الإنسان عنده قصور أو تقصير ، والإنسان خلق ضعيفاً ، فقد تشكل عليه الأمور ، وقد يتردد فيها فماذا يصنع …
طرق الاستخارة :
الطريق الأول : استخارة رب العالمين عز وجل الذي يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون .
الطريق الثاني :استشارة أهل الرأي والصلاح والأمانة ، قال سبحانه وتعالى :{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْر}
وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وقال سبحانه وتعالى : { فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ } (سورة آل عمرا ن : 159) ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم هو أسدُ الناس رأياً و أصوبهم صواباً ، يستشير أصحابه في بعض الأمور التي تشكل عليه ، وكذلك خلفاؤه من بعده كانوا يستشيرون أهل الرأي والصلاح .
شروط الاستشارة :
1- أن يكون ذا رأي وخبرة في الأمور وتأن وتجربة وعدم تسرع .(/1)
2- أن يكون صالحاً في دينه ، لأن من ليس صالحً في دينه ليس بأمين وفي الحديث ، عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه يَقُولُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ ، لأنه إذا كان غير صالح في دينه فإنه ربما يخون والعياذ بالله ، ويشير بما فيه الضرر ، أو يشير بما لا خير فيه ، فيحصل بذلك من الشر ما لله به عليم .
ما هو المقدم المشورة أو الاستخارة :
أختلف العلماء هل المقدم المشورة أو الاستخارة ، والصحيح ما رجحه الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله –شرح رياض الصالحين – أن التقديم أولاً الاستخارة ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ …إلى أخره ) ثم إذا كررتها ثلاث مرات ولم يتبين لك الأمر ، فاستشر ، ثم ما أشير عليك به فخذ به وإنما قلنا : إنه يستخير ثلاث مرات ، لأنه من عادة النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا دعا دعا ثلاثاً ، وقال بعض أهل العلم أنه يكرر الصلاة حتى يتبين له للإنسان خير الأمرين .
بعض فوائد الاستخارة :
قال عبد الله بن عمر : ( إن الرجل ليستخير الله فيختار له ، فيسخط على ربه ، فلا يلبث أن ينظر في العاقبة فإذا هو قد خار له ) ..
وفي المسند من حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم ( من سعادة ابن آدم استخارته الله تعالى ، ومن سعادة ابن آدم رضاه بما قضاه الله ، ومن شقوة ابن آدم تركه استخارة الله عز وجل ، ومن شقوة ابن آدم سخطه بما قضى الله ) ، قال ابن القيم فالمقدور يكتنفه أمران : الاستخارة قبله، والرضا بعده .
وقال عمر بن الخطاب : لا أبالي أصبحت على ما أحب أو على ما أكره ، لأني لا أدري الخير فيما أحب أو فيما أكره ، فيا أيها العبد المسلم لا تكره النقمات الواقعة والبلايا الحادثة ، فلرُب أمر تكرهه فيه نجاتك ، ولرب أمر تؤثره فيه عطبك ، قال سبحانه وتعالى : { وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } (سورة البقرة : 216) ، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ما ندم من استخار الخالق ، وشاور المخلوقين ، وثبت في أمره .
و الله تعالى أعلم ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
كاتب المقال: فهد الزهراني
المصدر: رسالة الإسلام
...(/2)
صلاة الجماعة بين اتباع الدليل وتتبع الرخص
د. يوسف بن أحمد بن عبد الرحمن القاسم 15/10/1426
17/11/2005
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره، وبعد:
فقد فرَّق المحققون من أهل العلم بين من أخذ برخص الله تعالى، وبين من تتبع رخص خلقه، فأما الأول فهو أمر مرغب فيه، ومنه حديث: (عليكم برخصة الله التي رخص لكم).
وأما الثاني، وهو تتبع رخص المذاهب الفقهية، والجري وراءها دون دليل ظاهر، فهو يعتبر هروباً من التكاليف، وتخلصاً من المسؤولية، وهدماً لعزائم الأوامر والنواهي. وما الظن بمن ترخَّص بقول أهل مكة في الصرف، وأهل العراق في الأشربة، وأهل المدينة في الأطعمة، وأصحاب الحيل في المعاملات، وقول ابن عباس في المتعة، وإباحة لحوم الحمر الأهلية، وقول من جوَّز نكاح البغايا المعروفات بالبغاء، ومن جوَّز للصائم أكل البرَدَ (وقال: ليس بطعام ولا شراب)، وقول ابن حزم في الغناء وآلات اللهو والمعازف، وقول من أباح صلاة الفريضة في البيوت... وأمثال ذلك من رخص المذاهب، لا شك أنه لو فتح هذا الباب، لكان ذريعة للانحلال من التكاليف الشرعية، واتخاذ الدين هزواً، كما قرر ذلك العلامة ابن القيم، وغيره.
هذا، وإن مما يزيد الأمر خطورة حين يقع التذرع بالخلاف وتتبع الرخص في شعيرة من شعائر الدين الظاهرة، كصلاة الجماعة، بحيث يقال بجوازها في البيوت، بحجة موافقة مذهبٍ أو آخر، مع وجود الأدلة الصحيحة الصريحة الدالة على وجوبها جماعة في المسجد!
وإذا كان نبينا -محمد صلى الله عليه وسلم- قد سأله رجل أن يرخِّص له في ترك الجماعة فيصلي في بيته، فقال له عليه الصلاة والسلام: "لا أجد لك رخصة" فكيف يجرؤ من بلغه هذا الحديث أن يرخِّص للناس في ترك الجماعة؟! وكيف يرخِّص لمن همَّ صلى الله عليه وسلم بتحريق بيوتهم بالنار لتخلفهم عن الجماعة، كما في الحديث الثابت في الصحيحين عن أبي هريرة –رضي الله عنه-.
بل إذا كان ربنا –عز وجل- وهو الشارع الحكيم، الرحيم بعباده –لم يرخص في ترك الجماعة حال الخوف، وزمن القتال، وسوَّغ فيها ما لا يجوز لغير عذر، كاستدبار القبلة، والعمل الكثير، والتخلف عن متابعة الإمام، ونحو ذلك مما تبطل به الصلاة لو فعلت لغير عذر، فكيف يمكن لأحدٍ من خلقه أن يرخِّص بما لم يأذن به الله؟ ولو كان ذلك بحجة موافقة مذهبٍ ما، أو لتأويلٍ ما!!
ومما يجدر التنبيه عليه هنا، أمران:
الأمر الأول: أن من أهل العلم من حكى الإجماع على وجوب صلاة الجماعة، أو ما يشبه الإجماع، ومنهم أبو بكر الكاساني الحنفي (587هـ)، وشيخ الإسلام ابن تيمية الحنبلي (728هـ) رحمهما الله تعالى.
فأما الكاساني، فإنه حكى توارث الأمة للوجوب، حيث قال في بدائع الصنائع (1/155) في معرض استدلاله على وجوب صلاة الجماعة: "وأما توارث الأمة، فلأن الأمة من لدن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إلى يومنا هذا واظبت عليها، وعلى النكير على تاركها، والمواظبة على هذا الوجه دليل الوجوب" أهـ.
وأما ابن تيمية، فإنه وإن حكى خلاف المذاهب الفقهية، كما في المجموع (23/225) فإنه حكى إجماع الصحابة على الوجوب، كما نقله عنه الشيخ عبد الله بن بسام في نيل المآرب (1/211) والجد الشيخ عبد الرحمن بن قاسم في حاشيته الشهيرة على الروض (2/259) حيث قال في معرض تقريره لوجوب الجماعة: "قال الشيخ –يعني ابن تيمية- وهو المشهور عن أحمد، وغيره من أئمة السلف، وفقهاء الحديث، وغيرهم، بل وإجماع الصحابة" أهـ. وحيث إن بعض المنتسبين للعلم -قديماً وحديثاً- يعزو القول بسنية صلاة الجماعة إلى بعض الأئمة دون تمحيص، فقد نبه الشيخ ابن قاسم –رحمه الله- على أن من يقول بأنها سنة، فإنه يقصد السنة المؤكدة الموافقة للواجب، كما أن كثيراً من المتقدمين يطلق القول بالكراهة، ويقصد بها كراهة التحريم لا التنزيه، وهو اصطلاح معروف لدى أهل العلم، وفي هذا يقول الشيخ ابن قاسم في الحاشية (2/256): "ومن قال من الأئمة: إنها سنة، فمؤكدة؛ لتصريحهم بتأثيم تاركها، وسقوط عدالته، وتعزيره، وأنه لا رخصة في تركها إلا لعذر؛ للأخبار، فوافقونا معنى، بل صرح بعضهم بأنها سنة مؤكدة، وأنهم أرادوا بالتأكيد: الوجوب؛ أخذاً بالأخبار الواردة بالوعيد الشديد على تركها" أهـ.
وما قرره الشيخ في الحاشية، سبقه إليه العلامة ابن القيم (751هـ) حيث قال في كتابه الصلاة (1/137) في سياق حديثه عن وجوب صلاة الجماعة: "وقالت الحنفية، والمالكية: هي سنة مؤكدة، ولكنهم يؤثمون تارك السنة المؤكدة، ويصححون الصلاة بدونه، والخلاف بينهم وبين من قال إنها واجبة، لفظي، وكذلك صرح بعضهم بالوجوب" أهـ.
وما قرره ابن القيم هنا يتفق مع ما قرره الحنفية في كتبهم، دون المالكية.(/1)
وهذا التقرير يقودنا إلى التنبيه على الأمر الثاني: وهو وجوب الدقة في عزو الأقوال إلى أصحابها، ومراعاة المصطلحات الخاصة بكل مذهب، فالحنفية –على سبيل المثال- ينسب إليهم القول في صلاة الجماعة بأنها سنة مؤكدة، كما هو مدون في كتبهم، ولكنهم يقصدون بالسنة المؤكدة: الواجب، وهذا ما صرح به علماؤهم، ومنهم علاء الدين السمرقندي (ت 539هـ) في تحفة الفقهاء (1/358) حيث قال: "إن الجماعة واجبة، وقد سماها بعض أصحابنا سنة مؤكدة، وكلاهما واحد" وكذا قال الكاساني (ت 587هـ) في بدائع الصنائع (1/155) وعبارته: "قال عامة مشايخنا: إنها –أي صلاة الجماعة- واجبة، وذكر الكرخي: أنها سنة... وليس هذا اختلافاً في الحقيقة، بل من حيث العبارة؛ لأن السنة المؤكدة والواجب سواء، خصوصاً ما كان من شعائر الإسلام..." أهـ.
وأما الشافعية، فقد صرح إمامهم محمد بن إدريس الشافعي (204هـ) في كتابه الأم (1/154) بما يدل دلالة واضحة أنه يرى الوجوب، حيث قال: "فلا أرخص لمن قدر على صلاة الجماعة في ترك إتيانها إلا من عذر" ومعلوم أن كتاب الأم من مصادر القول الجديد للشافعي –رحمه الله- وكذا عزا هذا القول له النووي في المجموع (4/184) وقال: "وهذا قول اثنين من كبار أصحابنا المتمكنين في الفقه والحديث، وهما أبو بكر ابن خزيمة، وابن المنذر.." أهـ.
وأما الحنابلة، فالرواية المشهورة عن الإمام أحمد –رحمه الله- أن صلاة الجماعة واجبة، وهي المذهب عند الحنابلة، كما صرح به المرداوي في الإنصاف (2/210) ثم قال: "وعليه جماهير الأصحاب" أهـ.
وبهذا يتبين لك –أخي القارئ- عدم دقة القول بأن مذهب الجمهور هو القول بأنها سنة، خلافاً لما هو مثبت في بعض كتب الخلاف العالي، ولذا، فالواجب توثيق رأي كل إمام من كتب المذهب نفسه، وإن كانت كتب المذهب أحياناً تصرح بأن المذهب هو كذا، خلافاً لنص الإمام، كما نبه عليه شيخ الإسلام ابن تيمية، وغيره.
وبكل حال، فقد ذهب المحققون من أهل العلم إلى وجوب صلاة الجماعة في بيوت الله تعالى، وبهذا أفتت اللجنة الدائمة للإفتاء في الفتوى رقم (6036) برئاسة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز –رحمه الله- وذلك اتباعاً لأدلة الكتاب والسنة، ولما عليه صحابة هذه الأمة كما يدل عليه قول ابن مسعود الثابت في صحيح مسلم (1/453): "لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد علم نفاقه، أو مريض، إن كان المريض ليمشي بين رجلين حتى يأتي الصلاة)، وإذا كان هذا حال المريض المرخص له الصلاة في بيته، فما الظن بالصحيح المعافى؟! وهذا الأثر دليل ظاهر على استقرار أمر الوجوب عند الصحابة –رضي الله عنهم- وهو شاهد حسن على ما حكاه ابن تيمية من الإجماع المذكور سلفاً.
ولهذا، وغيره، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (23/252) "والمصر على ترك الصلاة في الجماعة رجل سوء ينكر عليه، ويزجر على ذلك، بل يعاقب عليه، وترد شهادته، وإن قيل إنها سنة مؤكدة" ثم قال: "ومن قال: إنها سنة مؤكدة، ولم يوجبها، فإنه يذم من داوم على تركها، حتى إن من داوم على ترك السنن التي هي دون الجماعة سقطت عدالته عندهم، ولم تقبل شهادته. فكيف بمن يداوم على ترك الجماعة؟ فإنه يؤمر بها باتفاق المسلمين، ويلام على تركها، فلا يمكن من حكم، ولا شهادة، ولا فتيا، مع إصراره على ترك السنن الراتبة التي هي دون الجماعة، فكيف بالجماعة التي هي أعظم شعائر الإسلام؟!!" أهـ.
هذا وقد كان لحمل الناس –في هذا البلد- على إغلاق متاجرهم ومحلاتهم أثناء الصلاة، ومراقبة الهيئات وجهات الحسبة لهذا الأمر بكل دقة، أثر بالغ وحسن في إعانة الناس جميعاً –المقصِّر وغيره- على أداء الصلاة في وقتها، فضلاً عما يترتب على ذلك من المحافظة على أداء الصلاة جماعة، وما ينتج عنه من فوائد كثيرة، من تذكير للغافل، وتعليم للجاهل، وتقوية لأواصر المحبة بين أفراد الجماعة الواحدة، وغير ذلك مما لا يخفى، والله تعالى أعلم.(/2)
صلاة الجماعة في غير المسجد
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين أما بعد: فإذا أردنا الكلام على صلاة الجماعة من جميع النواحي فسوف يطول بنا الأمر ولكن سوف نتعرض لمسألتين مهمتين هما:
المسألة الأولى : هل تصح صلاة الجماعة في غير المسجد؟
المسألة الثانية : هل تضعف صلاة الجماعة في غير المسجد؟
أما المسألة الأولى فمبنى القول فيها على خلاف أهل العلم في حكم صلاة الجماعة، فمن قال منهم بأن صلاة الجماعة فرض على الأعيان، اختلفوا في صحتها في غير المسجد، فمنهم من قال بأن الصلاة في غير الجماعة لا تصح، ومنهم من قال بأن الصلاة تصح مع الإثم، وأما من قال بأن صلاة الجماعة واجبة أو سنة يقولون بجوازها مع الإثم ممن يقول بالوجوب.
وعلى كل حال الذي يظهر من خلال النظر في الأدلة الشرعية أن صلاة الجماعة تصح في غير المسجد ومن تلك الأدلة ما يأتي:
1- عن جابر بن عبد الله الأنصاري- رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وجعلت لي الأرض طيبة طهورا ومسجدا فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان ونصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر وأعطيت الشفاعة) ، فالحديث يدل على أن الصلاة تصح في أي مكان من الأرض وهذا من خصائص أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - .
2- عن عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - أنها قالت: " صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيته وهو شاك فصلى جالسا وصلى وراءه قوم قياما فأشار إليهم ( أن اجلسوا ) " .
ففي الحديث دلالة على صحة الصلاة في غير المسجد ولو لم تصح لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابة أن يذهبوا إلى المسجد لأداء الصلاة لأنهم غير معذورين، فلما لم يأمرهم بالذهاب وتركهم يصلون معه دل على جواز الصلاة في غير المسجد.
3- عن جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه قال : " شهدت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حجته فصليت معه صلاة الصبح في مسجد الخيف قال: فلما قضى صلاته وانحرف إذا هو برجلين في أخرى القوم لم يصليا معه فقال على بهما فجيء بهما ترعد فرائضهما فقال ما منعكما أن تصليا معنا ؟ فقالا يا رسول الله إنا كنا قد صلينا في رحالنا قال فلا تفعلا إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة" .
هذا الحديث فيه دلالة قوية على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر عليهما أنهما صليا في رحالهما؛ بل أقر هما على ذلك،فدل على جواز الصلاة في غير المسجد وصحتها.
4- عموم قوله - صلى الله عليه وسلم - : " صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة "
أما المسألة الثانية: هل صلاة الجماعة تضّعف وإن كانت في غير المسجد؟
لقد اختلف العلماء في المقصود بالصلاة في غير المسجد، والتي تفضلها جماعة المسجد ، فقال بعضهم: هي صلاة المنفرد ، وقال آخرون هي الصلاة خارج المسجد ولو في جماعة ، ولكن الراجح أن الصلاة المفضولة عن صلاة المسجد هي صلاة المنفرد ، ومن صلى جماعة في بيته مع أهله أو ضيفه فله أجر الجماعة ، ولكن هذا الأجر لا يساوي أجر الجماعة في المسجد ، كما أن الجماعة خارج المسجد خير من صلاة المنفرد وإليك الأدلة على ذلك:
استدل القائلون بأن صلاة الجماعة تضعف سواء كانت في المسجد أو في غيره بأدلة منها:
أولاَ: عن قباث بن أشيم الليثي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: " صلاة رجلين يؤم أحدهما صاحبه أزكى عند الله من صلاة أربعة تترى و صلاة أربعة يؤمهم أحدهم أزكى عند الله من صلاة ثمانية تترى و صلاة ثمانية يؤمهم أحدهم أزكى عند الله من صلاة مائة تترى" .
الشاهد من الحديث :أنه لم يقيد الفضل بالصلاة في المسجد بل جاءت مطلقة في أي مكان ،ويشهد لهذا الفهم حديث تضعيف الصلاة في الفلاة - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الصلاة في جماعة تعدل خمسا وعشرين صلاة فإذا صلاها في فلاة فأتم ركوعها وسجودها بلغت خمسين صلاة "-؛إذ لو كان من شرط التضعيف المسجد لما ضعفت في الفلاة.
ثانياَ:عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – "صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسة وعشرين ضعفا وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة وحط عنه بها خطيئة فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه اللهم صل عليه اللهم ارحمه ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة "(/1)
الحديث الوارد في فضل صلاة الجماعة يشمل الجماعة في المسجد وفي غيره؛ إذ النص:" صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة" ، فصلاة الجماعة في غير المسجد لها فضلها، إلا أن الجماعة إذا أديت في المسجد كان ذلك مدعاة لمزيد من الأجر من حيث التطهر في البيت والمشي إلى المسجد، فلا يرفع قدمه إلا رفع درجة ولا حط قدمه إلا حطت عنه خطيئة، والاعتكاف في المسجد وانتظار الصلاة ، ودعاء الملائكة بالمغفرة والرحمة لمن يكون في انتظار الصلاة ، كل هذا وغيره يزداد به أجر صلاة الجماعة في المسجد.
فالمقصود من قوله - صلى الله عليه وسلم- " صلاة الرجل في جماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه" أي صلاته في بيته وفي سوقه منفردا لا جماعة وغلى هذا الفهم ذهب الإمام النووي وابن حجر -رحمهما الله تعالى - حيث قال النووي في (شرح صحيح مسلم) في قوله - صلى الله عليه وسلم - : " صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته , وصلاته في سوقه بضعا وعشرين درجة " المراد صلاته في بيته وسوقه منفردا هذا هو الصواب , وقيل فيه غير هذا , وهو قول باطل نبهت عليه لئلا يغتر به .
ومن كلام الإمام النووي يفهم أن الصلاة في البيت والسوق جماعة تضعف كما تضعف الصلاة في المسجد.
وقال ابن حجر في (فتح الباري ، شرح صحيح البخاري):قوله: ( في بيته وفي سوقه ): قال ابن دقيق العيد: مقتضاه أن الصلاة في المسجد جماعة تزيد على الصلاة في البيت وفي السوق جماعة وفرادى , والذي يظهر أن المراد بمقابل الجماعة في المسجد الصلاة في غيره منفردا , لكنه خرج مخرج الغالب في أن من لم يحضر الجماعة في المسجد صلى منفرد.
وفي (عون المعبود شرح سنن أبي داوود) :وقوله: (على صلاته في بيته) : أي على صلاة المنفرد , وقوله في بيته قرينة على هذا ، إذ الغالب أن الرجل يصلي في بيته منفردا.
وقال في المجموع قال الشافعي والأصحاب: ويؤمر الصبي بحضور المساجد وجماعات الصلاة ليعتادها وتحصل فضيلة الجماعة للشخص بصلاته في بيته أو نحوه بزوجة أو ولد أو رقيق أو غير ذلك وأقلها اثنان كما مر .
وما كثر جمعه " من المساجد كما قاله الماوردي : " أفضل " مما قل جمعه منها وكذا ما كثر جمعه من البيوت أفضل مما قل جمعه منها أي فالصلاة في الجماعة الكثيرة أفضل من الصلاة في الجماعة القليلة فيما ذكر ، قال - صلى الله عليه وسلم - صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما كان أكثر فهو أحب إلى الله تعالى .
وقضية كلام الماوردي أن قليل الجمع في المسجد أفضل من كثيره في البيت وهو كذلك وإن نازع في ذلك الأذرعي بالقاعدة المشهورة وهي أن المحافظة على الفضيلة المتعلقة بالعبادة أولى من المحافظة على الفضيلة المتعلقة بمكانها لأن أصل الجماعة وجد في المسجد منفردا نعم لو كان إذا ذهب إلى المسجد وترك أهل بيته لصلوا فرادى أو لتهاونوا أو بعضهم في الصلاة أو لو صلى في بيته لصلى جماعة وإذا صلى في المسجد صلى وحده فصلاته في بيته أفضل.
قال ابن قدامة في المغني:
ويجوز فعلها في البيت والصحراء وقيل فيه رواية أخرى أن حضور المسجد واجب إذا كان قريبا منه أنه يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد "، ولنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي : " جعلت لي الأرض طيبة وطهورا ومسجدا فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان " ، وقالت عائشة : " صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيته وهو شاك فصلى جالسا وصلى وراءه قوم قياما فأشار إليهم أن اجلسوا ".
" وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لرجلين إذا صليتما في رحالكما ثم أدركتما الجماعة فصليا معهم تكن لكما نافلة " ، وقوله " لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد " لا نعرفه إلا من قول علي نفسه كذلك رواه سعيد في سننه والظاهر أ نه إنما أراد الجماعة وعبر بالمسجد عن الجماعة لأنه محلها ومعناه لا صلاة لجار المسجد إلا مع الجماعة وقيل أراد به الكمال والفضيلة فإن الأخبار الصحيحة دالة على أن الصلاة في غير المسجد صحيحة جائزة
وبهذا السرد للأدلة على جواز صلاة الجماعة في غير المسجد وتضعيف الأجر يتبين لنا جواز صلاة الجماعة في غير المسجد ، ومع ذلك لا يعني أنها تعدل الصلاة في المسجد فللمسجد خصيصة ليست لأي مكان آخر ، فيجب أن نحرص على الصلاة في المسجد وتكثير جماعة المسلمين في المساجد كيف لا ولك بكل خطوة تخطوها إلى المسجد حسنة ،وانتظارك للصلاة صلاة،حيث قال-صلى الله عليه وسلم-(صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسة وعشرين ضعفا وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة وحط عنه بها خطيئة فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه اللهم صل عليه اللهم ارحمه ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة)(/2)
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين.
إعداد/محمد بن حسين الحميدي
صحيح مسلم ( جزء 1 - صفحة 370 ) .
صحيح البخاري ( جزء 1 - صفحة 244 ) .
سنن الترمذي ( جزء 1 - صفحة 424 ) ، وصححه الألباني ، ج1/67، برقم 669.
صحيح البخاري ( جزء 1 - صفحة 231 ) .
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ، ج19/36، 73 ، الجامع الصغير وزيادته ( جزء 1 - صفحة 729 ) .
سنن أبي داود ( جزء 1 - صفحة 209) وصححه الألباني في صحيح أو داوود ، ج1/112، برقم 524.
صحيح البخاري ( جزء 1 - صفحة 232 ).
شرح صحيح مسلم للنووي ج5ص165.
فتح الباري ج2 ص135.
عون المعبود ج2ص186.
مغني المحتاج ( جزء 1 - صفحة 229 ) .
المستدرك ج1ص373،سنن الدار قطني ج1ص419،ضعفه الشيخ الألباني في إرواء الغليل ج2ص251.
المغني ( جزء 2 - صفحة 6 ) .
صحيح البخاري ( جزء 1 - صفحة 232 ) .(/3)
صلاة الغائب على الشيخ أحمد ياسين
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ الجهاد ومعاملة الكفار/أحكام الشهيد
التاريخ ... 1/2/1425هـ
السؤال
ما حكم الصلاة على الغائب، وهل يصلى على شهيد المعركة إذا كان في مكان آخر، ونرجو منكم أن توجهوا كلمة إلى الأمة الإسلامية بمناسبة اغتيال الشيخ أحمد ياسين .
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
الصلاة على ( الغائب ) اختلف فيها أهل العلم على قولين مع الاتفاق على ثبوت صلاة الغائب على النجاشي ملك الحبشة لما توفي في بلاده، كما في الصحيحين البخاري (1245)، ومسلم (951) عن أبي هريرة : " أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه خرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر أربعا " فالحنفية والمالكية لا يجوزون الصلاة على الميت الغائب وهي رواية في مذهب أحمد. ووجه ذلك عندهم أنه لم ينقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه صلى صلاة الغائب على غير النجاشي ، ويرون أن صلاة الغائب خاصة به، وقالوا أيضا أنه مات كثير من الصحابة خارج المدينة ولم ينقل أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - صلى عليهم أو أمر بذلك.
وذهبت الشافعية والحنابلة إلى مشروعية الصلاة على الميت الغائب وتمسكوا بصلاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته على النجاشي عند موته ولا يرون خصوصيتها به لعدم النص على ذلك، وقالوا : الأصل في الأحكام العموم وعدم الخصوصية.
والذي يظهر لي - والله أعلم - بعد النظر والتأمل في النصوص: أن صلاة الغائب جائزة إذا كان المتوفى له شأن بين المسلمين في الصلاح والعلم أو الدعوة إلى الله، أو كان زعيما وأميراً - كما هي الحال في النجاشي - رحمه الله - .
أما إذا كان الميت من آحاد الناس وعامتهم فلا تشرع صلاة الغائب عليه حينئذ .
أما شهيد المعركة فالصحيح أنه يدفن في ثيابه فلا يغسّل ولا يكفن ولا يصلى عليه، وإنما تصلي عليهم ملائكة الرحمة، ويلقى الله بدمائه، وهي أطيب عند الله من ريح المسك، ففي حديث جابر بن عبد الله –رضي الله عنهما- عند البخاري (1343) وغيره: "أن النبي – صلى الله عليه وسلم- أمر بدفن شهداء أُحد في دمائهم، ولم يغسلهم، ولم يصل عليهم"، وفي حديث عبد الله بن ثعلبة – رضي الله عنه -، عند أحمد (22547) والنسائي (2002)، قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "زمِّلوهم بدمائهم؛ فإنه ليس كَلْمٌ يُكْلَمُ في سبيل الله إلا يأتي يوم القيامة يدمي (يسيل) لونه لون الدم وريحه ريح المسك".
وبمناسبة استشهاد الشيخ أحمد ياسين – رحمه الله – زعيم وقائد المقاومة الإسلامية في فلسطين على أيدي إخوان القردة والخنازير، وبمباركة وتأييد من دولة الكفر والاستكبار العالمي، (نسأل الله أن يتقبله وإخوانه الشهداء في الصالحين، وأن يخلف على المسلمين خيراً).
نقول: إن هذا الرجل المسن المصاب بالشلل في بدنه استطاع بروحه وقلبه وإيمانه أن يؤسس ويرعى (منظمة حماس الفلسطينية) التي دوخت - ولا تزال - دولة إسرائيل وأعوانها مع ضعف العدد والعدة للمسلمين هناك.
إن المسلم الواعي لمخطط عدوه والمتمسك بدينه والواثق بنصر ربه لا تؤثر عليه المصائب لو عظمت، ولا النوازل مهما كبرت، فهو يستلهم التاريخ ويقرؤه على ضوء واقعه ومستجداته؛ فها هي حادثة الإفك في المدينة النبوية عصفت بالمسلمين وبيت النبوة أو كادت، يقول الله عنها: "إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ"[النور:11].
إننا والله واثقون أن جريمة قتل الشيخ أحمد ياسين- رحمه الله – هي بداية النهاية لدولة اليهود ومن ورائهم من الكفرة والمجرمين، ولعلنا نسمع قريباً إن شاء الله في هؤلاء المحتلين لبلاد المسلمين من اليهود والنصارى ما يسر به قلب كل مؤمن، وفي المثل قيل: (اشتدي أزمة تنفرجي)، وكفى بقول الله وحكمه: "فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسراً" [الشرح:5 ،6]، "فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً"، ونقول لكل المسلمين ولإخواننا الفلسطينيين خاصة: لا تحزنوا على ما نزل بكم وثقوا أنه خير لكم وشر لعدوكم – إن شاء الله- والذي تولى كبره منهم أو من غيرهم سيحل به العذاب الأليم في الدنيا قبل الآخرة، وإننا بكلام ربنا لمؤمنون وبنصره لمتفائلون.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.(/1)
بسم الله
الرحمن
الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
... إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
{يا أيها الذين آمنوا إتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}.
{يا أيها الناس إتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيراً ونساء وإتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً}.
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً}.
... وبعد:
... فقد اعتاد المصلون في بلادنا فلسطين أن يصلوا صلاة الغائب في مناسبات كثيرة عند وفاة شخص أو أشخاص في بلاد أخرى. وقد رأيتهم يصلون صلاة الغائب على الشهداء الذين يستشهدون في أماكن اخرى فرغبت أن أدرس صلاة الغائب دراسة علمية متأنية فرجعت إلى كتب السنة المشرفة فجمعت الأحاديث التي ذكرت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الغائب وأوردت كلام أهل الحديث عليها.
... وتبين لي بعد البحث والتنقيب أنه لم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه صلى صلاة الغائب الا صلاته عليه الصلاة والسلام على النجاشي وما عدا ذلك فغير ثابت عند المحدثين أهل هذا الشأن، وأتبعت ذلك بدراسة صلاة الغائب عند الفقهاء فذكرت أقوال الفقهاء فيها وأدلتهم وردودهم ورجحت ما أيده الدليل فيما ظهر لي.
... ثم ذكرت بعض المسائل الفقهية المتعلقة بصلاة الغائب مثل صلاة الغائب على الشهداء وقدمت لهذه الدراسة بتمهيد موجز ذكرت فيه ما ينبغي على المسلم من الاستعداد للموت وكراهة تمني الموت والصبر عند الموت وذكرت أنه يندب للمسلم حضور الجنازة وتشييعها. ثم عرفت صلاة الجنازة وبينت أن صلاة الغائب هي صلاة الجنازة مع كون الميت غير حاضر أمام المصلين.
... وأخيراً فإني أشكر أهل الخير الذين طبعوا هذا الكتاب على نفقتهم وأسأل الله العلي العظيم أن يجزيهم خير الجزاء وأن يتقبل منا ومنهم صالح الأعمال.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه الدكتور حسام الدين موسى عفانة
أبوديس - القدس.
فجر يوم الأربعاء الخامس عشر من شعبان 1417هـ.
وفق الخامس والعشرين من كانون الأول 1996.
تمهيد
الموت حق:-
... الموت حق وصدق قدره الله سبحانه وتعالى على كل نفس، وهو سيف مسلط على رقاب العباد لا ينجو منه أحد، قال الله تعالى {كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا الى متاع الغرور} سورة آل عمران الآية 185.
... وقال جل جلاله {كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون} سورة الانبياء الآية 35.
... وقال أيضاً {كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون} سورة العنكبوت الآية 57.
... وهذه الحقيقة القاطعة مسلمة لا شك ولا ريب فيها ويتساوى فيها الناس جميعاً الأنبياء وغيرهم، الصالحون والفاسدون، المؤمنون والكافرون قال تعالى مخاطباً نبينا محمد صلى الله عليه وسلم {إنك ميت وإنهم ميتون } سورة الزمر الآية 30.
... وسيقبض ملك الموت روح كل انسان عند انتهاء أجله بغض النظر عن مكانه قال تعالى {قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بم ثم الى ربكم ترجعون} سورة السجدة الآية 11.
وقال تعالى {أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة} سورة النساء الآية 78.
الاستعداد للموت:-
... إن الانسان في هذه الدنيا كالشخص المسافر الذي يستعد لسفره بإعداد أمتعته وأطعمته وحاجياته والمسلم يستعد للسفر من هذه الدنيا التي هي معبر وممر الآخرة دار المقام والمقر فلا بد له من الاستعداد الدائم للموت ومما يعين على ذلك الاستعداد تذكر الموت فقد ورد في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال (أكثروا من ذكر هادم اللذات الموت) رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة وقال الشيخ الألباني حسن صحيح(1).
... وجاء في الحديث عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم لأصحابه:
... استحيوا من الله حق الحياء. قالوا: إنا نستحي من الله يا نبي الله، والحمد لله. قال: ليس ذلك ولكن من استحيى من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى وليحفظ البطن وما حوى وليذكر المو ت والبلى ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيى من الله حق الحياء) رواه أحمد والترمذي وقال هذا حديث غريب ورواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي وقال الشيخ الألباني : حسن (2).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- صحيح سنن الترمذي 2/266، صحيح سنن النسائي 2/393، صحيح سنن ابن ماجة 2/419 شرح السنة 5/261 مشكاة المصابيح 1/504.
2- إنظر الفتح الرباني 19/90 مشكاة المصابيح 1/504 صحيح سنن الترمذي 2/266.(/1)
... وورد في الأثر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: كفى بالموت واعظاً وكفى باليقين غنى وكفى بالعبادة شغلاً (1) .
... وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: من أكثر ذكر الموت قلَ حسده وقلَّ فرحه.(2).
... ومن الأمور التي تذكر بالموت زيارة القبور فإن الزائر للقبور يتعظ بذلك ويتذكر أن حاله سيصير كحال أصحاب القبور فقد ورد في الحديث عن بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إني كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة ولتزدكم زيارتها خيراً فمن أراد أن يزور فليزر ولا تقولوا هجراً) رواه مسلم وأبو داود وأحمد وغيرهم (3).
... وقوله ولا تقولوا هجراً أي كلاماً باطلاً(4).
... وعن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها ترق القلب وتدمع العين وتذكر الآخرة ولا تقولوا هجرا) رواه أحمد والحاكم وسنده حسن كما قال الشيخ الألباني)(5).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- شرح السنة 5/266.
2- المصدر السابق.
3- صحيح مسلم بشرح النووي 7/40 عون المعبود 9/41 الفتح الرباني 8/158.
4- أحكام الجنائز ص 178.
5- المصدر السابق ص180 وانظر الفتح الرباني 8/158.
كراهية تمني الموت:-
... ومع أن المسلم مطالب بالاستعداد للموت إلا انه يكره في حقه تمني الموت تخلصاً من مصاعب الحياة وهمومها فقد ورد في الحديث عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال {لا يتمنين أحدكم الموت من ضرٍ أصابه فإن كان لا بد فاعلاً فليقل اللهم أحيني ما دامت الحياة خيراً لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً" رواه البخاري ومسلم(1).
... وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال "لا يتمنى أحدكم الموت إما محسناً فلعله أن يزداد خيراً وإما مسيئاً فلعله أن يستعتب" رواه البخاري(2).
... وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن، الرسول صلى الله عليه وسلم قال "لا يتمنى أحدكم الموت ولا يدع به قبل أن يأتيه إنه إذا مات أنقطع عمله وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً" رواه مسلم(3).
... قال الامام النووي بعد أن ساق حديث أنس "فيه التصريح بكراهة تمني الموت لضر نزل به من مرض او فاقة او محنة من عدو أو نحو ذلك من مشاق فأما إذا خاف ضرراً في د ينه أو فتنة فيه فلا كراهة فيه لمفهوم هذا الحديث وغيره. وقد فعل هذا الثاني خلائق من السلف عند خوف الفتنة في أديانهم"(4).
ويطلب من المسلم إذا نزل به الموت أن يتلقاه بالرضى والسرور حباً للقاء الله عز وجل كما قال المنذري(5) لما ثبت في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال "من أحب لقاء الله أحب الله لقائه ومن كره لقاء الله كره الله لقائه. فقلت يا نبي الله أكراهية الموت فكلنا يكره الموت؟ قال ليس ذلك ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه وإن الكافر إذا بشر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله وكره الله لقاءه " رواه البخاري ومسلم (6).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- صحيح البخاري مع الفتح 12/232 صحيح مسلم مع شرح النووي 17/179.
2- صحيح البخاري مع الفتح 12/234-235.
3- صحيح مسلم مع شرح النووي 17/180.
4- شرح النووي على صحيح مسلم 17/179.
5- الترغيب والترهيب 4/232.
6- صحيح البخاري مع الفتح 14/145 وصحيح مع شرح النووي 17/180.
...
الصبر عند الموت:
... لا ريب أن فقد الأحباب من الأهل والأولاد والآباء والأمهات والأقارب والأصدقاء من المصائب الشد يدة الوقع على النفس الانسانية والمطلوب من المسلم عند حلول المصيبة الصبر الجميل فإنه إن صبر واحتسب ذلك عند الله فله جزيل الأجر والثواب.
... يقول الله تعالى {وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا اليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} سورة البقرة الآيات 155- 157.
... وقال تعالى {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } سورة الزمر الآية 10.
... وورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه الا الجنة) رواه البخاري(1).
... وعن أنس رضي الله عنه قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بإمرأة تبكي عند قبر فقال: اتقي الله واصبري فقالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه. قال: فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم. قال فأخذها مثل الموت قال: فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم فلم تجد عنده بوابين فقالت لم أعرفك، فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى" رواه البخاري ومسلم(2).
شهود الجنازة والصلاة عليها وتشييعها:-(/2)
... يستحب للمسلم أن يشهد جنازة أخيه المسلم حتى يصلى عليها ويدفن بل إن ذلك من حق المسلم على أخيه المسلم. وقد ورد في ذلك أحاديث منها:-
... عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: امرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيادة المريض واتباع الجنازة وتشميت العاطس وإبراء المقسم ونصر المظلوم وإجابة الداعي وإفشاء السلام" رواه البخاري ومسلم(3).
... وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله
قيراط ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان. قيل وما القيراطان؟ قال مثل الجبلين العظيمين) رواه البخاري ومسلم(4).
... وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:{من اتبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً وكان معه حتى يصلى عليها ويفرغ من دفنها فإنه يرجع من الأجر بقيراطين كل قيراط مثل أحد ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن فإنه يرجع بقيراط} رواه البخاري(5).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- صحيح البخاري مع الفتح 14/17.
2- صحيح البخاري مع الفتح 3/391، صحيح مسلم مع شرح النووي 6/525.
3- صحيح البخاري مع الفتح 11/151 صحيح مسلم مع شرح النووي 13/216.
4- صحيح البخاري مع الفتح 3/440 صحيح مسلم مع شرح النووي 7/14.
5- صحيح البخاري مع الفتح 1/116.
صلاة الجنازة وحكمها وفضلها:-
... ذهب جماهير الفقهاء إلى أن صلاة الجنازة فرض كفاية إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين وقد نقل الإمام النووي الإجماع على ذلك.(1).
... وقال بعض المالكية صلاة الجنازة سنة(2).
... وقول الجمهور هو الصحيح.
وقد ورد في الحث على صلاة الجنازة أحاديث منها:
... 1- عن مالك بن هبيرة قال: قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم: {ما من مؤمن يموت فيصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون أن يكونوا ثلاثة صفوف إلا غفر له} رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي وحسنه والحاكم وصححه . وقال الإمام النووي حديث حسن(3).
... 2- وعن عائشة رضي الله عنها ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مئة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه" رواه مسلم(4).
... 3- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه" رواه مسلم(5). وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة أنه كان يصلي على الجنازة(6).
تعريف الصلاة على الغائب:
... الأصل في صلاة الجنازة أن تكون على ميت حاضر موجود بين يدي الإمام والمصلين ويكون الميت موضوعاً على الأرض تجاه القبلة.
... وقد اختلف الفقهاء في شرط حضور جثة الميت بين يدي المصلين فإشترط ذلك الحنفية والمالكية وبناء على ذلك لا تشرع عندهم الصلاة على الميت الغائب. جاء في الدر المختار (وشرطها - أي صلاة الجنازة- أيضاً حضوره ووضعه- أمام المصلي وكونه للقبلة فلا تصح على غائب).(7).
... وقال القرافي (ويصلى على كل ميت مسلم حاضر)(8).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- المجموع 5/212، مغني المحتاج 2/26 حاشية ابن عابدين 2/207 الموسوعة الفقهية 16/17.
2- الذخيرة 2/456.
3- الفتح الرباني 7/201، عون المعبود 8/311، سنن البيهقي 4/30، فتح الباري 3/430، المجموع 5/212.
4- صحيح مسلم مع شرح النووي 7/17.
5- المصدر السابق.
6- إنظر صحيح البخاري مع الفتح 3/430، 433، 435، 442، 444، 448، 451 و غير ذلك.
7- الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 2/208.
8- الذخيرة 2/468.
... وأجاز الشافعية والحنابلة الصلاة على الميت الغائب كما سيأتي تفصيل ذلك لاحقاً.
... وبهذا يظهر لنا أن صلاة الغائب هي صلاة الجنازة مع كون الميت غير حاضر أي غائب ومن هنا سميت صلاة الغائب. وبما أن صلاة الغائب هي صلاة الجنازة بالقيد المذكور فهي عبارة عن أربع تكبيرات عند جمهور الفقهاء وقد ثبتت فيها أحاديث كثيرة(1).
وكيفيتها: أن يرفع المصلي يديه في التكبيرة الأولى فقط وهو القول المعتمد في مذهب الحنفية ومذهب المالكية ولا يرفع في سائر التكبيرات وهذا إختيار ابن حزم والشوكاني(2). واختاره أيضا الشيخ الالباني فقال (ولم نجد في السنة ما يدل على مشروعية الرفع في غير التكبيرة الاولى فلا نرى مشروعية ذلك)(3).
... ثم يضع يمينه على يساره على صدره ويقرأ الفاتحة ثم يكبر التكبيرة الثانية دون ان يرفع يديه كما سبق ثم يأتي بالصلاة الابراهيمية ثم يكبر التكبيرة الثالثة وبعدها يخلص الدعاء للميت والسنة أن يدعو بالأدعية المأثورة عن الرسول صلى الله عليه وسلم (4) ثم يكبر التكبيرة الرابعة ثم يسلم تسليمتين(5).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- إنظرها في احكام الجنائز للألباني ص 111-112.(/3)
2- حاشية ابن عابدين 2/212 الذخيرة 2/463، نيل الأوطار 4/71، المحلى 3/408.
3- احكام الجنائز ص116.
4- إنظر هذه الادعية المأثورة في المصدر السابق ص 123-126.
5- إنظر تفصيل صلاة الجنازة في الفقه الاسلامي وأدلته 6/486 فما بعدها فقد ذكر كيفيتها عند المذاهب الأربعة. وإنظر أحكام الجنائز للألباني فقد ذكر كيفيتها كما ثبتت عن الرسول صلى الله عليه وسلم ص 111 فما بعدها.
المبحث الأول
الأحاديث الواردة في صلاة الغائب.
... وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم روايات كثيرة أنه عليه الصلاة والسلام صلى صلاة الغائب على عدد من الصحابة الذين ماتوا في أماكن بعيدة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام ولم يحضر موتهم ولا دفنهم وهؤلاء الصحابة الذين وقفت على الروايات الواردة عن الرسول عليه الصلاة والسلام وتفيد أنه صلى عليهم صلاة الغائب أربعة وهم:
... 1- النجاشي ملك الحبشة.
... 2- معاوية بن معاوية الليثي او المزني.
... 3- زيد بن حارثة.
... 4- جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهم.
... وهذه الروايات بعضها ثابت بطريق صحيح أو حسن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم و بعضها ضعيف لا يثبت ولا يصلح للاستدلال به وهذا عرض لتلك الروايات:
... اولاً: الروايات الواردة في صلاة النبيصلى الله عليه وسلم على النجاشي.
... وردت روايات كثيرة في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي عن جماعة من ا لصحابة وهم جابر بن عبد الله وابو هريرة وعمران بن حصين وحذيفة بن اسيد وعبد الله ابن عباس وعبد الله بن عمر وجرير بن عبد الله وأبي سعيد ومجمع بن جارية وهي:
... 1- روى الامام البخاري بسنده عن عطاء عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على النجاشي فكنت في الصف الثاني أو الثالث"(1).
... 2- وروى الإمام البخاري بسنده عن عطاء أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد توفي اليوم رجل صالح من الحبش فهلم فصلوا عليه قال فصففنا فصلى النبي صلى الله عليه وسلم عليه ونحن صفوف"(2).
... 3- وروى الامام البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : نعى النبي صلى الله عليه وسلم النجاشي ثم تقدم فصفوا خلفه فكبر أربعاً"(3).
... 4- وفي رواية اخرى عند البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نعى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم النجاشي صاحب الحبشة اليوم الذي مات فيه فقال استغفروا لأخيكم"(4).
... 5- وفي رواية أخرى عند البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم صف بهم بالمصلى فكبر عليه أربعاً"(5).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- صحيح البخاري مع الفتح 3/429.
2- المصدر السابق 3/430.
3- المصدر السابق 3/430.
4- المصدر السابق 3/442.
5- المصدر السابق 3/442.
... 6- وروى الامام مسلم بسنده عن أبي الزبير عن جابر ابن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أخا لكم قد مات فقوموا فصلوا عليه. قال فقمنا فصفنا صفين"(1).
... 7- وروى الامام مسلم بسنده عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن أنهما حدثاه عن أبي هريرة أنه قال: نعى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم النجاشي صاحب الحبشة في اليوم الذي مات فيه فقال: إستغفروا لأخيكم"(2).
... 8- وفي رواية أخرى عند مسلم عن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة رضي الله عنه حدثه ان الرسول عليه الصلاة والسلام صف بهم بالمصلى فصلى فكبر عليه أربع تكبيرات"(3)
... 9- وروى الامام مسلم بسنده عن سعيد بن ميناء عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على أصحمة النجاشي فكبر عليه أربعاً"(4).
... 10- وروى الامام مسلم بسنده عن عطاء عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مات اليوم عبد لله صالح أصحمة فأمنا وصلى عليه"(5).
... 11- وروى الامام مسلم بسنده عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم إن اخا لكم قد مات فقوموا فصلوا عليه. يعني النجاشي، وفي رواية زهير "إن أخاكم"(6).
12- وعن حذيفة بن أسيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ذات يوم فقال: صلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم قالوا من هو يا رسول الله؟ قال: أصحمة النجاشي، فقاموا فصلوا عليه" رواه أحمد واللفظ له وابن ماجة والطيالسي بسند صحيح كما قال الشيخ الألباني وقال في موضع آخر صحيح(7).
... 13- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن اخاكم النجاشي قد مات فقوموا فصلوا عليه قال: فنهض ونهضنا حتى انتهى الى البقيع فتقدم وصففنا خلفه فكبر عليه أربعا" رواه أحمد وابن ماجة والطيالسي وأصله في الصحيحين.(8).(/4)
... 14- وعن مجمع بن جارية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ان أخا لكم قد مات فقوموا فصلوا عليه فصففنا صفين" رواه أحمد وابن ماجة وابن أبي شيبة بسند صحيح كما قال الشيخ الألباني وقال في الزوائد: اسناده صحيح ورجاله ثقات(9).
... 15- وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: أنبأنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أخاكم النجاشي توفي فقوموا فصلوا عليه فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفوا خلفه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- صحيح مسلم مع شرح النووي 7/22.
2- المصدر السابق 7/22-23. 5- المصدر السابق 7/23.
3- المصدر السابق 7/22-23.
4- المصدر السابق 7/23. 6- المصدر السابق 7/22.
7- سنن اين ماجة 1/491، الفتح الباري 7/220، إرواء الغليل 3/177، صحيح سنن ابن ماجة 1/256.
8- إرواء الغليل 3/177، الفتح الرباني 7/218-219، سنن ابن ماجة 1/490.
9- إرواء الغليل 3/176، سنن ابن ماجة 1/491 زوائد سنن ابن ماجة مع السنن 1/491.
وكبر أربعاً وهم لا يظنون إلا أن جنازته بين يديه" رواه ابن حبان وإسناده صحيح كما قال الشيخ الأرناؤوط ورواه أحمد بنحوه(1).
16- وفي رواية لأحمد "وما نحسب الجنازة إلا موضوعة بين يديه" قال الشيخ الألباني وإسناده صحيح متصل(2).
17- وفي رواية للترمذي "فقما فصففنا كما يصف على الميت وصلينا عليه كما يصلىعلى الميت" قال الشيخ الألباني صحيح(3).
... 18- وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن اخاكم النجاشي قد مات فإستغفروا له" رواه أحمد وسنده جيد(4) وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات(5).
... 19- وعن ابن عباس رضي الله عنهما ان رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على النجاشي" رواه أحمد (6).
... وقال الهيثمي وفيه رجل لم يسم(7).
... 20- وعن ابن عمر رضي الله عنه ان النبيصلى الله عليه وسلم صلى على النجاشي فكبر عليه أربعاً" رواه ابن ماجة والبزار والطبراني في الاوسط ورجال الطبراني رجال الصحيح كما قال الهيثمي(8) وقال في الزوائد: اسناده صحيح ورجاله ثقات(9).
21- وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على النجاشي حين نعي. فقيل يا رسول الله تصلي على عبد حبشي فأنزل الله عز وجل {وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله} الآية. رواه البزار والطبراني في الأوسط ورجال الطبراني ثقات كما قال الهيثمي(10).
... 22- وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال لما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وفاة النجاشي قال اخرجوا فصلوا على أخ لكم لم تروه قط فخرجنا وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم وصفنا خلفه فصلى وصلينا فلما إنصرفنا قال المنافقون إنظروا الى هذا خرج فصلى على علج نصراني لم يره قط فأنزل الله تعالى {وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله… الخ الآية} قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط وفيه عبد الرحمن بن أبي الزناد وهو ضعيف. وقال الساعاتي: وله شاهد يقويه(11). يشير الى حديث أنس السابق.
... ويضاف الى ما سبق أحاديث أخرى وردت في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي ساقها الهيثمي وتكلم عليها(12).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- صحيح ابن حبان 7/369، الفتح الرباني 7/220.
2- إرواء الغليل 3/176. 6- الفتح الرباني 7/221.
3- صحيح سنن الترمذي 1/304. 7- مجمع الزوائد 3/37.
4- الفتح الرباني 7/220-221. 8- مجمع الزوائد 3/38.
5- مجمع الزوائد 3/39. 9- زوائد سنن ابن ماجة مع السنن 1/491.
10- مجمع الزوائد 3/38.
11- المصدر السابق 3/38 والفتح الرباني 7/221.
12- مجمع الزوائد 3/38-39.
ثانيا: الروايات الواردة في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على معاوية بن معاوية الليثي أو المزني:-
... 1- قال البيهقي (أخبرنا أبو محمد بن عبد الله بن يوسف من أصل كتابه أنبأ أبو سعيد الاعرابي أنبأ الحسن بن محمد الزعفراني نبأنا يزيد بن هارون أنبأ العلاء أبو محمد، قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك فطلعت الشمس بضياء ونور وشعاع لم أرها طلعت فيما مضى فأتى جبرئيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا جبرئيل مالي أرى الشمس طلعت بضياء ونور وشعاع لم أرها طلعت فيما مضى فقال ذاك أن معاوية بن معاوية الليثي مات بالمدينة اليوم فبعث الله عز وجل اليه سبعين ألف ملك يصلون عليه قال: وفيم ذلك؟ قال: كان يكثر قراءة قل هو الله أحد بالليل والنهار وفي ممشاه وقيامه وقعوده فهل لك يا رسول الله أن أقبض لك الأرض فتصلي عليه قال نعم فصلى عليه ثم رجع).(/5)
... قال البيهقي (العلاء هذا - أحد رجال السند - هو ابن زيد ويقال ابن زيدل يحدث عن أنس بن مالك بمناكير. أخبرنا أبو سعد الماليني أنبأ ابو أحمد بن عدي ثنا الجنيدي ثنا البخاري قال: العلاء بن زيد أبو محمد الثقفي عن أنس روى عنه يزيد بن هارون منكر الحديث)(1).
... 2- وقال البيهقي أيضا (أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان ببغداد أنبأ أبو سهل بن زياد القطان ثنا اسماعيل بن اسحق القاضي ثنا عثمان بن الهيثم ثنا محبوب بن هلال عن ابن أبي ميمونة يعني عطاء عن انس بن مالك قال نزل جبريل عليه السلام فقال يا محمد: مات معاوية بن معاوية المزني أفتحب أن تصلي عليه قال نعم قال فضرب جبريل عليه السلام بجناحه فلم تبق شجرة ولا أكمة الا تضعضعت ورفع له سريره حتى نظر اليه وصلى عليه وخلفه صفان من الملائكة كل صف سبعون الف ملك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام يا جبريل: بما نال هذه المنزلة فقال بحبه قل هو الله أحد وقراءته إياها جائياً وذاهباً وقائماً وقاعداً). أخبرنا أبو سعد الماليني أنبا أبو أحمد بن عدي ا لحافظ قال محبوب بن هلال مزني عن عطاء بن أبي ميمونة عن أنس نزل جبريل عليه السلام لا يتابع عليه سمعت ابن حماد يذكره عن البخاري)(2).
... 3- وذكر الهيثمي رواية اخرى لحديث أنس المتقدم وقال (رواه ابو يعلى والطبراني في الكبير وفي إسناد أبي يعلى محمد بن ابراهيم بن العلاء وهو ضعيف جدا. وفي إسناد الطبراني محبوب بن هلال قال الذهبيي لا يعرف وحديثه منكر)(3).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- سنن البيهقي 4/50-51 وانظر دلائل النبوة 5/245.
2- سنن البيهقي 4/51 انظر دلائل النبوة 5/246، أسد الغابة 4/438-439.
3- مجمع الزوائد 3/38.
... 4- وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل وهو بتبوك فقال يا محمد إشهد جنازة معاوية بن معاوية المزني فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل جبريل في سبعين ألفاً من الملائكة فوضع جناحه الأيمن على الجبال فتواضعت ووضع جناحه الأيسر على الأرضين فتواضعن حتى نظر الى مكة والمدينة فصلى عليه رسول الله وجبريل والملائكة فلما فرغ قال يا جبريل بما بلغ معاوية بن معاوية المزني هذه المنزلة. قال بقراءة قل هو الله أحد قائما وقاعدا وراكبا وماشيا) رواه الطبراني في الكبير والأوسط وفيه نوح بن عمر. قال ابن حبان: يقال إنه سرق هذا الحديث. قلت: ليس هذا بضعف في الحديث وفيه بقية وهو مدلس وليس فيه علة غير هذا قاله الهيثمي(1).
... 5- وعن معاوية ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان غازيا بتبوك فأتاه جبريل فقال يا محمد: هل لك في جنازة معاوية بن معاوية؟ فقال: نعم، فقال جبريل بيده هكذا ففرج له عن الجبال والاكام فجاء رسول الله يمشي ومعه جبريل ومع جبريل سبعون الف ملك فصلى على معاوية بن معاوية فقال رسول الله لجبريل بم بلغ معاوية هذا؟ قال: بكثرة قراءة قل هو الله احد كان يقرؤها قائما وقاعدا وراقدا فبهذا بلغ ما بلغ) رواه الطبراني في الكبير وفيه صدقة بن أبي سهل ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات قاله الهيثمي(2).
... هذه الروايات التي وقفت عليها في قصة صلاة النبي عليه الصلاة والسلام على معاوية بن معاوية وقد تكلم علماء الحديث عليها كلاما طويلا في نقدها وبينوا ضعفها وأنها لا تصلح للاستدلال في باب الأحكام الشرعية ومن أهم ما قاله المحدثون في نقد هذه الروايات ما قاله الحافظ ابن حجر في ترجمة معاوية بن معاوية المزني أنقله لأهميته حيث قال الحافظ (معاوية بن معاوية المزني ذكره البغوي وجماعة وقالوا مات في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وردت قصته من حديث أبي أمامة وأنس مسندة ومن طريق سعيد بن المسيب والحسن البصري مرسلة.
... فأخرج الطبراني ومحمد بن أيوب بن الضريس في فضائل القرآن وسمويه في فوائده وابن منده و البيهقي في الدلائل كلهم من طريق محبوب بن هلال عن عطاء بن أبي ميمونة عن أنس بن مالك قال نزل جبريل - ثم ساق حديث أنس المتقدم..... وأول حديث ابن الضريس كان النبي صلى الله عليه وسلم بالشام ومحبوب قال ابو حاتم ليس بالمشهور, وذكره ابن حبان في الثقات.
... وأخرجه إبن سنجر في مسنده وابن الأعرابي وابن عبد البر. ورويناه بعلو في فوائد حاجب الطوسي كلهم من طريق يزيد بن هارون أنبأنا العلاء أبو محمد الثقفي سمعت أنس بن مالك يقول... فذكر نحوه.. والعلاء أبو محمد هو ابن زيد الثقفي واهٍ وأخطأ في قوله الليثي. وله طريق ثالثة عن أنس ذكرها ابن منده من رواية أبي عتاب في الدلائل عن يحيى بن أبي محمد عنه قال ورواه نوح بن عمرو عن بقية عن محمد بن زياد عن أبي أمامة نحوه.
... قلت: وأخرجه أبو أحمد الحاكم في فوائده والطبراني في مسند الشاميين والخلال في فضائل قل هو الله أحد وابن عبد البر جميعا من طريق نوح فذكر نحوه..(/6)
... وقال ابن حبان في ترجمة العلاء الثقفي من الضعفاء بعد أن أنكر له هذا الحديث سرقه شيخ من اهل الشام فرواه عن بقية فذكره. قلت: فما أدري عنى نوحاً او غيره فإنه لم يذكر نوحاً في الضعفاء.
... وأما طريق سعيد المرسلة فرويناها في فضائل القرآن لابن الضريس من طريق علي بن يزيد بن جدعان عنه.
1- مجمع الزوائد 3/38.
2- المصدر السابق 3/38.
... وأما طريق الحسن البصري فأخرجها البغوي وابن منده من طريق صدقة بن أبي سهل عن يونس بن عبيد عن الحسن عن معاوية بن معاوية المزني.. فذكر الحديث وهذا مرسل...
... قال ابن عبد البر: أسانيد هذا الحديث ليست بالقوية ولو أنها في الأحكام لم يكن في شيء منها حجة ومعاوية بن مقرن المزني معروف هو وأخويه وأما معاوية بن معاوية فلا أعرفه)(1).
... وقال الإمام الذهبي في الميزان العلاء بن زيد الثقفي بصري روى عن أنس، قال ابن المديني، يضع الحديث وقال أبو حاتم والدار قطني : متروك الحديث.
... وقال البخاري وغيره: منكر الحديث.
... وقال إبن حبان: روى عن أنس نسخة موضوعة منها الصلاة بتبوك صلاة الغائب على معاوية بن معاوية الليثي. قال ابن حبان وهذا منكر ولا احفظ في أصحاب رسول الله هذا. والحديث سرقه شيخ شامي فرواه عن بقية عن محمد بن زياد عن أبي أمامة(2).
... وقال الامام النووي (وأما حديث العلاء بن زيدل ويقال ابن زيد عن انس أنهم كانوا في تبوك فأخبر جبريل النبي بموت معاوية بن معاوية في ذلك اليوم وأنه قد نزل عليه سبعون ألف ملك يصلون عليه فطويت الأرض حتى ذهب فصلى عليه ورجع. فهو حديث ضعيف ضعفه الحفاظ منهم البخاري في تاريخه والبيهقي واتفقوا على ضعف العلاء هذا وأنه منكر الحديث)(3).
... وقال العلامة ابن القيم (وقد روي عنه أنه صلى على معاوية بن معاوية الليثي وهو غائب ولكن لا يصح فإن في إسناده العلاء بن زيد ويقال ابن زيدل. قال علي بن المديني. كان يضع الحديث ورواه محبوب بن هلال عن عطاء بن أبي ميمونة عن أنس قال البخاري لا يتابع عليه)(4).
... وذكر إبن كثير حديث العلاء عن أنس كما رواه ابو يعلى أيضاً ثم قال (وكذا رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب دلائل النبوة من طريق يزيد بن هارون عن العلاء بن محمد وهو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الاصابة 6/116 وانظر أسد الغابة 4/438-439.
2- عون المعبود 9/12-13.
3- المجموع 5/253.
4 - زاد المعاد 1/520.
متهم بالوضع والله أعلم)(1). ثم ذكر طريقا آخر له عن أبي يعلى ثم قال (ورواه البيهقي من رواية عثمان إبن الهيثم المؤذن عن محبوب بن هلال عن عطاء بن ابي ميمونة عن أنس فذكره وهو الصواب ومحبوب بن هلال قال أبو حاتم الرازي ليس بالمشهور.
... وقد روي هذا من طرق أخرى تركناها إختصاراً وكلها ضعيفة)(2).
... وذكر الشوكاني أن الذهبي قال: لا نعلم في الصحابة معاوية بن معاوية(3).
... وخلاصة كلام المحدثين أن قصة صلاة النبي عليه الصلاة والسلام على معاوية بن معاوية ليست ثابتة بل هي ضعيفة جداً هذا إن لم تكن مكذوبة والله أعلم.
ثالثا: الروايات الواردة في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما:
... 1- قال الزيلعي (وغائبان آخران هما زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب ورد أنه أيضاً كشف له عنهما أخرجه الواقدي في كتاب المغازي فقال حدثني محمد بن صالح عن عاصم بن عمر بن قتادة حدثني عبد الجبار بن عمارة عن عبد الله بن أبي بكر قال: لما إلتقى الناس بمؤتة جلس رسول الله على المنبر وكشف له ما بينه وبين الشام فهو ينظر الى معركتهم فقال عليه السلام: أخذ الراية زيد بن حارثة فمضى حتى إستشهد وصلى عليه ودعا له وقال: استغفروا له وقد دخل الجنة وهو يسعى. ثم أخذ الراية جعفر بن أبي طالب فمضى حتى استشهد فصلى عليه رسول الله ودعا له وقال استغفروا له وقد دخل الجنة فهو يطير فيها بجناحين حيث شاء"... وهو مرسل من الطريقين المذكورين(4).
... وقال في عون المعبود تعليقا على الرواية السابقة (والحديث مرسل والواقدي ضعيف جدا)(5).
... وهذه الرواية التي ساقها الواقدي لا تثبت صلاة الغائب على زيد وجعفر رضي الله عنهما لما يلي:
... اولاً: إن هذه الرواية ضعيفة والواقدي ضعيف جدا فلا تصلح للاستدلال.(/7)
ثانيا: إن المراد بقوله (وصلى عليه) في الموضعين اللذين وردت فيه هو الدعاء له وليست الصلاة المعروفة ويؤكد ذلك أن الروايات الصحيحة في هذه الحادثة لا ذكر فيها للصلاة المعروفة وإنما فيها أن الرسول عليه الصلاة والسلام طلب من المسلمين الاستغفار والدعاء لهما. فقد روى الامام أحمد بإسناده عن أبي قتادة رضي الله عنه بعث رسول الله جيش الأمراء وقال عليكم زيد بن حارثة فإن اصيب زيد فجعفر فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة الانصاري فوثب جعفر فقال: بأبي أنت يا نبي الله ما كنت أرهب أن تستعمل علي زيداً. قال إمضوا فإن لا تدري أي ذلك خير. قال فإنطلق الجيش فلبثوا ما شاء الله ثم إن رسول الله صعد المنبر وأمر أن ينادى الصلاة جامعة فقال رسول الله ناب خبر او ثاب خبر الا أخبركم عن جيشكم هذا الغازي إنهم إنطلقوا حتى لقوا العدو فأصيب زيداً شهيداً فاستغفروا له فاستغفرله الناس ثم اخذ اللواء جعفر بن أبي طالب فشد على القوم حتى قتل شهيداً إشهدوا له بالشهادة فإستغفروا له ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة فأثبت قدميه حتى أصيب شهيداً فإستغفروا له ثم أخذ اللواء خالد بن الوليد.. ) ورواه النسائي والبيهقي وهو حديث صحيح رجاله ثقات)(6).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- تفسير ابن كثير 4/569. 2- المصدر السابق 4/569.
3- نيل الأوطار 4/57. 4- نصب الراية 2/284.
5- عون المعبود 9/15. 6- صحيح السيرة النبوية ص 392 الفتح الرباني 21/136-137.
... وروى الامام البخاري بسنده عن أنس أن النبي نعى زيداً وجعفراً وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم فقال أخذ الراية زيد فأصيب ثم أخذ جعفر فأصيب ثم أخذ ابن رواحة فأصيب وعيناه تذرفان حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم)(1). وليس في هذه الرواية ذكر لصلاة الغائب.
... وورد في رواية أخرى عند الواقدي وعند ابن سعد في الطبقات قوله (فصلى عليه رسول الله أي دعا له وقال إستغفروا لأخيكم قد دخل الجنة وهو يسعى)(2).
... وبعد هذا العرض المفصل للروايات الواردة في صلاة الغائب يظهر لنا جلياً أن الروايات الصحيحة و المعتمدة في هذا الباب هي الروايات الواردة في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي فقط وأما الروايات الأخرى فلا تثبت ولا تصح كما قرر ذلك أهل الحديث.
... قال الذهبي في سياق ترجمة النجاشي (وقد توفي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فصلى عليه بالناس صلاة الغائب. ولم يثبت انه صلى عليه الصلاة والسلام على غائب سواه)(3).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- صحيح البخاري مع الفتح 9/54.
2- سير أعلام النبلاء 1/299 وإنظر البداية والنهاية 4/246، السيرة النبوية لابن هشام 1/381.
3- سير أعلام النبلاء 1/428-429.
المبحث الثاني
اختلاف الفقهاء في مشروعية صلاة الغائب
... إختلف الفقهاء في صلاة الغائب هل هي مشروعة أم لا؟ وهذه أقوالهم وأدلة كل قول:
... القول الأول: ذهب الشافعية والحنابلة في القول المعتمد عندهم إلى أن صلاة الغائب مشروعة وجائزة في حق المسلم الذي يموت في بلد آخر فتستقبل القبلة ويصلى عليه كما يصلى على الميت الحاضر(1). وهذا قول إبن حزم الظاهري وجمهور السلف(2). وبه قال ابن حبيب من المالكية(3).
... القول الثاني: وذهب الحنفية والمالكية إلى أن صلاة الغائب غير مشروعة(4). وهو رواية عن أحمد(5). وهو قول العترة(6). واختلف المالكية هل هي مكروهة او محرمة على قولين في مذهبهم(7).
... القول الثالث: صلاة الغائب مشروعة في حق المسلم إذا مات في بلد لم يصل عليه فيه وإن صلي عليه حيث مات فلا يصلى عليه صلاة الغائب.
... واختار هذا القول أبو داود صاحب السنن والإمام الخطابي وشيخ الإسلام إبن تيمية وتلميذه إبن القيم والروياني من الشافعية والمحقق الشيخ صالح المقبلي ومن المحدثين الشيخ الألباني والشيخ ابن عثيمين وهو قول في مذهب أحمد(8).
... القول الرابع: تجوز صلاة الغائب في اليوم الذي مات فيه المسلم أو ما قرب منه ولا تجوز إذا طالت المدة. حكاه إبن عبد البر عن بعض أهل العلم(9).
... القول الخامس: تجوز صلاة الغائب على الميت الذي يكون بلده في جهة القبلة فقط. فلو كان بلد الميت في غير جهة القبلة لا تصلى عليه صلاة الغائب وقد انفرد بهذا القول ابن حبان(10).
قال المحب الطبري "ولم أر ذلك لغيره"(11).
... هذه أقوال الفقهاء التي وقفت عليها في صلاة الغائب ولكل قول أدلته:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الأم 1/308، المغني 2/382، كشاف القناع 2/121، المجموع 5/252، كفاية الاخيار 1/163، تحفة المحتاج 1/323، مغني المحتاج 2/27، الاقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 1/175، الحاوي 3/51.
2- المحلى 3/399، نيل الأوطار 4/56.
3- الذخيرة 2/458.(/8)
4- حاشية ابن عابدين 2/209، ملتقى الأبحر 1/161، حاشية الطحطاوي ص319، شرح الخرشي 2/142، الذخيرة 2/456،468. بلغة السالك 1/189، بدائع ا الصنائع 1/312.
5- المغني 2/382.
6- نيل الأوطار 4/56.
7- شرح الخرشي 2/142، حاشية العدوي على شرح الخرشي 2/142-143.
8- عون المعبود 9/5، معالم السنن 1/270، زاد المعاد 1/520 الاختيارات العلمية ص51، نيل الاوطار 4/57 ، احكام الجنائز ص89، 91. فتاوى اسلامية 2/18.
9- فتح الباري 3/431-432، سبل السلام 2/209، نيل الاوطار 4/56.
10- صحيح ابن حبان 7/366.
11- فتح الباري 3/432، نيل الأوطار 4/56، سبل السلام 2/209.
الأدلة:
إحتج الفريق الأول بما يلي:
... اولا: ما ثبت ان النبي صلى الله عليه وسلم صلى على النجاشي صلاة الغائب حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي توفي فيه وقال: قد توفي اليوم رجل صالح من الحبش فهلم فصلوا عليه فصف الصحابة خلف النبي صلى الله عليه وسلم وصلوا على النجاشي صلاة الغائب.
... وقد سبق ذكر الأحاديث الواردة في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي.
... ثانيا: احتجوا بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي على قبر الميت إذا فاتته الصلاة عليه والميت في القبر غائب فكذلك الحال إذا كان الميت غائباً في الأصل(1).
... وقد استدلوا على إثبات صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على القبر بأدلة كثيرة منها:
... أ- عن إبن عباس رضي الله عنهما قال: انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الى قبر رطب فصلى عليه وصفوا خلفه وكبر أربعا) رواه البخاري(2).
... ب- وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن إمرأة سوداء كانت تقم المسجد أو شاباً ففقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عنه أو عنها فقالوا: مات . قال أفلا آذنتموني؟ قال فكأنهم صغروا أمرها أو أمره. فقال دلوني على قبره فدلوه فصلى عليها
ثم قال: إن هذه القبور مملؤة ظلمة على أهلها وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم) رواه البخاري(3).
... ج- وعن إبن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر بعد شهر) رواه الدار قطني والبيهقي(4).
... وروى الترمذي بسنده عن الشعبي قال أخبرني من رأى النبي صلى الله عليه وسلم ورأى قبرا منتبذا فصف أصحابه فصلى عليه فقيل له من اخبرك؟ فقال إبن عباس.
... قال الترمذي : حديث إبن عباس حسن صحيح والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو قول الشافعي وإسحاق ورأى ابن المبارك الصلاة على القبر وقال أحمد واسحق يصلى على القبر الى شهر. وقالا: أكثر ما سمعنا عن إبن المسيب أن النبي صلى على قبر أم سعد بن عبادة بعد شهر(5).
... د- وعنه ايضا ان النبي صلى الله عليه وسلم صلى على ميت بعد موته بثلاث. رواه الدارقطني والبيهقي(6).
... هـ- وعن سعيد بن المسيب : ان ام سعد بن عبادة ماتت والنبي صلى الله عليه وسلمغائب فلما قدم صلى عليها وقد مضى لذلك شهر) رواه الترمذي والبيهقي وقال وهو مرسل صحيح(7).
قال إبن القيم (وكان من هديه صلى الله عليه وسلم إذا فاتته الصلاة على الجنازة صلى على القبر فصلى على قبر مرة بعد ليلة ومرة بعد ثلاث ومرة بعد شهر ولم يوقت في ذلك وقتاً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- المجموع 5/247-249. 2- صحيح البخاري مع الفتح 3/448.
3- صحيح البخاري مع الفتح 3/448. 4- صحيح سنن الترمذي 1/304.
5- سنن البيهقي 4/46 6- سنن البيهقي 4/46.
7- سنن البيهقي 4/48.
...
قال أحمد رحمه الله: من يشك في الصلاة على القبر؟ ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فاتته صلى على القبر من ستة أوجه حسان.
... فحدَّ الإمام أحمد الصلاة على القبر بشهر إذ هو أكثر ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى بعده وحدَّه الشافعي رحمه الله بما إذا لم يبل الميت.
... ومنع منها مالك وأبو حنيفة رحمهما الله إلا للولي إذا كان غائباً)(1).
... وذكر صاحب عون المعبود ما قاله الإمام أحمد عن الأوجه التي وردت في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على القبر. ثم قال (قال إبن عبد البر: بل من تسعة وجوه كلها حسان وساقها كلها بأسانيدها في تمهيده.. فالصلاة على قبر ذلك الميت لمن لم يصل عليه ثابت بالسنة المطهرة سواء صلى على ذلك الميت قبله أم لا. وهذا مذهب جماعة من الصحابة والتابعين)(2).
... وذكر الشيخ الألباني كلام الامام أحمد ثم قال (صحيح متواتر ورد من حديث إبن عباس وأبي هريرة وأنس بن مالك ويزيد بن ثابت أخي زيد بن ثابت وعامر بن ربيعة وجابر بن عبد الله وبريدة بن الحصيب وأبي سعيد الخدري وأبي أمامة بن سهل)(3).(/9)
... وبعد عرض أدلة العلماء في إثبات صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على القبر أذكر ما قاله الإمام الشافعي رحمه الله (ورويتم عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه صلى قبر والميت في القبر غائب وإنما الصلاة د عاء للميت وهو إذا كان بيننا ملففا يصلى عليه فإنما ندعو له بالصلاة بوجه علمناه فكيف لا ندعوا له غائبا وفي القبر بذلك الوجه)(4).
واحتج الفريق الثاني (وهم الحنفية والمالكية ) بما يلي:
... اولا: قالوا إن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي من خصوصياته صلى الله عليه وسلم(5) وسيأتي تفصيل هذه القضية عند مناقشة الآدلة.
... ثانيا: قالوا إنه توفي خلق كثير من أ صحابه صلى الله عليه وسلم من أعزهم القراء ولم ينقل عنه أنه صلى عليهم مع حرصه على ذلك حتى قال: لا يموتن أحد منكم الا آذنتموني فإن صلاتي عليه رحمة"(6).
... ثالثا: قالوا: إنه لم يصل صلاة الغائب بعد الرسول عليه الصلاة والسلام أحد وكذلك لم يصل المسلمون على رسول الله عليه الصلاة والسلام صلاة الغائب(7).
... رابعا: قالوا إن من شرط الصلاة على الجنازة حضورها بدليل ما لو كان الميت في البلد لم تجز الصلاة عليها مع غيبتها عنه(8).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- زاد المعاد 1/512.
2- عون المعبود 9/2، انظر الأحاديث التسعة المشار اليها في الفتح الرباني 7/223-229.
3- إرواء الغليل 3/183.
4- معرفة السنن والآثار 5/315.
5- حاشية ابن عابدين 2/209، شرح الخرشي 2/142-143، تفسير القرطبي 2/81-82.
6- حاشية ابن عابدين2/209والحديث رواه النسائي وابن ماجة وابن حبان وهو صحيح على شرط مسلم قاله الشيخ الألباني.أحكام الجنائز ص89 وانظر سنن النسائي 4/85.
7- شرح الخرمشي 2/143.
8- المغني 2/382.
واحتج الفريق الثالث بما يلي:
... 1- احتجوا بما قاله أبو داود صاحب السنن في سننه (باب الصلاة على المسلم يموت في بلاد الشرك) ثم ساق بإسناده عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى للناس النجاشي لليوم الذي مات فيه وخرج بهم الى المصلى فصف بهم وكبر أربع تكبيرات)(1).
... قال الإمام الخطابي معلقاً على الحديث السابق (قلت النجاشي رجل مسلم قد آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقه على نبوته الا انه كان يكتم إيمانه والمسلم إذا مات وجب على المسلمين أن يصلوا عليه إلا أنه كان بين ظهراني أهل الكفر ولم يكن بحضرته من يقوم بحقه في الصلاة عليه فلزم رسول الله ان يفعل ذلك إذ هو نبيه ووليه وأحق الناس به فهذا والله أعلم هو السبب الذي دعاه الى الصلاة عليه بظهر الغيب فعلى هذا إذا مات المسلم ببلد من البلدان وقد قضى حقه في الصلاة عليه فإنه لا يصلي عليه من كان ببلد آخر غائباً فإن علم أنه لم يصل عليه لعائق ومانع عذر كانت السنة أن يصلي عليه ولا يترك ذلك لبعد المسافة. فإن صلوا عليه استقبلوا القبلة ولم يتوجهوا الى بلد الميت إن كان في غير جهة القبلة)(2).
... ونقل إبن القيم عن شيخه شيخ الاسلام إبن تيمية قوله: الصواب أن الغائب إن مات ببلد لم يصل عليه فيه صلى عليه صلاة الغائب كما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي
لأنه مات بين الكفار ولم يصل عليه وإن صلي عليه حيث مات ولم يصل عليه صلاة الغائب لأن الفرض قد سقط بصلاة المسلمين عليه والنبي صلى الله عليه وسلم صلى على الغائب وتركه وفعله وتركه سنة وهذا له موضع وهذا له موضع والله أعلم(3).
... وقال ابن القيم (ولم يكن من هدية وسنته صلى الله عليه وسلم الصلاة على كل ميت غائب فقد مات خلق كثير من المسلمين وهم غُيَّبْ فلم يصل عليهم)(4).
... 2- واحتجوا بما ورد في إحدى روايات حديث صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي وهي (إن أخاكم قد مات بغير أرضكم فقوموا فصلوا عليه) وسندها على شرط الشيخين كما قال الشيخ الألباني(5).
... فهذه الرواية تدل على ان صلاة الغائب تكون مشروعة إذا كان الميت بأرض لم يصل عليه فيها.
... 3- وقالوا إن مما يؤيد عدم مشروعية الصلاة على كل غائب انه لما مات الخلفاء الراشدون وغيرهم لم يصل أحد من المسلمين عليهم صلاة الغائب ولو فعلوا ذلك لتواتر النقل بذلك عنهم(6).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- عون المعبود 9/5-6.
2- معالم السنن 1/270.
3- زاد المعاد 1/520-521.
4- المصدر السابق 1/519.
5- احكام الجنائز ص93.
6-المصر السابق ص93.
واحتج الفريق الرابع: بما ورد في حادثة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي حيث ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قد توفي اليوم رجل صالح من الحبش فهلم فصلوا عليه).
... وورد في رواية اخرى (نعى لنا النبي صلى الله عليه وسلم النجاشي صاحب الحبش في اليوم الذي مات فيه(1). فأخذوا من ذلك أن صلاة الغائب تصح في اليوم الذي مات فيه الميت أو ما قرب منه.(/10)
... وأما ابن حبان صاحب القول الخامس فعبر عن حجته بقوله (العلة في صلاة المصطفى على النجاشي وهو بأرضه ان النجاشي أرضه بحذاء القبلة وذاك أن بلد الحبشة إذا قام الانسان بالمدينة كان وراء الكعبة والكعبة بينه وبين بلاد الحبشة فإذا مات الميت ودفن ثم علم المرء في بلد آخر بموته وكان بلد المدفون بين بلده والكعبة وراء الكعبة جاز له الصلاة عليه.
... فأما من مات ودفن في بلد المصلي عليه الصلاة في بلده وكان بلد الميت وراءه فمستحيل حينئذ الصلاة عليه)(2).
... هذه هي أهم الأدلة التي استدل بها أهل العلم في هذه المسألة مما وقفت عليه.
مناقشة الأدلة:
... إعترض الحنفية والمالكية على أدلة الشافعية والحنابلة بإعتراضات كثيرة وردود عديدة أذكر أهمها ثم أتبع ذلك بالإجابة عليها:
... أولاً: قالوا إن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي من خصوصياته صلى الله عليه وسلم وذلك لعدة أوجه:
... الأول: إن الأرض دحيت(3) له صلى الله عليه وسلم جنوباً وشمالاً حتى رأى نعش النجاشي كما دحيت له جنوباً وشمالاً حين رأى المسجد الأقصى صباح ليلة الإسراء و المعراج حين وصفه لكفار قريش(4).
... قال ابن عابدين (لأنه رفع سريره - أي النجاشي- حتى رآه عليه الصلاة والسلام بحضرته فتكون صلاة من خلفه على ميت يراه الإمام وبحضرته دون المأمومين وغير مانع من الإقتداء)(5).
... وأيدوا قولهم بما ورد من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أخاكم النجاشي توفي فقوموا فصلوا عليه فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفوا خلفه فكبر أربعاً وهم لا يظنون إلا أن جنازته بين يديه)(6).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- تقدم تخريجهما.
2- صحيح إبن حبان 7/366-367.
3- دحيت له أي بسطت جاء في لسان العرب: الدحو: البسط. دحا الأرض يدحوها دحواً بسطها إنظر لسان العرب مادة دحا 4/303، الصحاح مادة دحا 6/2334.
4- شرح الخرشي 2/142-143 - بلغة السالك 1/189-190، بدائع الصنائع 1/312، نصب الراية 2/283 تفسير القرطبي 2/81-82.
5- حاشية إبن عابدين 2/209 وانظر البحر الرائق 2/179.
6- نصب الراية 2/283 والحديث سبق تخرجه.
... ...
... الثاني: إن النجاشي لم يكن في بلاده ولي من المؤمنين يقوم بالصلاة عليه(1).
... الثالث: إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد بالصلاة على النجاشي إدخال الرحمة عليه وإستئلاف بقية الملوك بعده إذا رأوا الإهتمام به حياً وميتاً(2).
... وقد أجاب الشافعية والحنابلة ومن وافقهم عن هذه الإعتراضات بما يلي:
... 1- إن إدعائهم أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي من خصوصياته عليه الصلاة والسلام غير مسلم لأن الأصل عدم الخصوصية(3).
... قال الإمام الخطابي (وزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مخصوصاً بهذا الفعل إذ كان في حكم المشاهدين للنجاشي لما روي في بعض الأخبار أنه قد سويت له أعلام الأرض حتى كان يبصر مكانه. وهذا تأويل فاسد لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فعل شيئاً من افعاله الشريفة كان علينا متابعته والإيتساء به والتخصيص لا يعلم الا بدليل.
... ومما يبين ذلك أنه صلى الله عليه وسلم خرج بالناس الى المصلى فصف بهم فصلوا معه فعلمت ان هذا التأويل فاسد)(4).
... وقال الإمام البغوي (وزعموا ان النبي صلى الله عليه وسلم كان مخصوصاً به.
... وهذا ضعيف لأن الإقتداء به في أفعاله واجب على الكافة ما لم يقم دليل التخصيص ولا تجوز دعوى التخصيص هاهنا لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل عليه وحده إنما صلى مع الناس)(5).
وقال صاحب عون المعبود:
... (قلت دعوى الخصوصية ليس عليها د ليل ولا برهان بل قوله صلى الله عليه وسلم "فهلموا فصلوا عليه" وقوله "فقوموا فصلوا عليه" وقول جابر "فصففنا خلفه فصلى عليه ونحن صفوف" وقول أبي هريرة "ثم قال إستغفروا له ثم خرج بأصحابه فصلى بهم كما يصلى على الجنازة" وقول عمران "فقمنا فصففنا عليه كما يصف على الميت وصلينا عليه كما يصلى على الميت" وتقدم هذه الروايات يبطل دعوى الخصوصية لأن صلاة الغائب إن كان خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم فلا معنى لأمره صلى الله عليه وسلم بتلك الصلاة بل نهى عنها لأن ما كان خاصاً به صلى الله عليه وسلم لا يجوز فعله لأمته. ألا ترى صوم الوصال لم يرخص لهم به مع شدة حرصهم لأدائه والأصل في كل أمر من الأمور الشرعية عدم الخصوصية حتى يقوم الدليل عليها وليس هنا دليل على الخصوصية بل قام الدليل على عدمها)(6).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-تفسير القرطبي 2/81-82 ، نصب الراية 2/283.
2- تفسير القرطبي 2/82.
3- سبل السلام 2/209.
4- معالم السنن 1/270-271.
5- شرح السنة 5/341-342.
6- عون المعبود 9/9.
وقال إبن العربي المالكي (قال المالكية وغيرهم ليس ذلك إلا لمحمد قلنا: وما عمل به محمد تعمل به أمته)(1).(/11)
... 2- وأما قولهم إن الأرض دحيت للنبي صلى الله عليه وسلم فرأى نعش النجاشي أو أحضر النعش بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ، فكلام ينقصه الدليل وقد ردّ ذلك كثير من أهل العلم: قال الإمام النووي (إنه لو فتح هذا الباب لم يبق وثوق بشيء من ظواهر الشرع لإحتمال انحراف العادة في تلك القضية مع أنه لو كان شيء من ذلك لتوفرت الدواعي بنقله)(2).
... وقال الإمام إبن العربي المالكي جواباً على زعمهم بأن الأرض طويت وأحضرت الجنازة بين يديه صلى الله عليه وسلم (قلنا إن ربنا عليه لقادر وإن نبينا لأهل لذلك ولكن لا تقولوا إلا ما رويتم ولا تخترعوا من عند أنفسكم ولا تحدثوا إلا بالثابتات ودعوا الضعاف فإنها سبيل تلاف إلى ما ليس له تلاف(3).
... وقال شمس الحق العظيم آبادي (وأما قولهم رفع له سريره أو أحضر روحه بين يديه فجوابه: أن الله تبارك وتعالى لقادر عليه وأن محمداً صلى الله عليه وسلم لأهل لذلك لكن لم يثبت ذلك في حديث النجاشي بسند صحيح أو حسن وإنما ذكره الواحدي عن إبن عباس بلا سند فلا يحتج به.
... ولهذا قال ابن العربي: ولا تحدثوا إلا بالثابتات ودعوا الضعاف.
... وأما ما رواه أبو عوانه وإبن حبان من حديث عمران بن حصين، فلا يدل على ذلك فإن لفظه "وهم لا يظنون إلا أن جنازته بين يديه” وفي لفظ “ونحن لا نرى إلا الجنازة قدامنا” ومعنى هذا القول أنا صلينا عليه خلف النبي صلى الله عليه وسلم كما يصلي على الميت والحال أنا لم نر الميت لكن صففنا عليه كما يصف على الميت كأن الميت قدامنا ونظن أن جنازته بين يديه صلى الله عليه وسلم لصلاته صلى الله عليه وسلم كعلى الحاضر المشاهد فحينئذ يؤول معنى لفظ هذا الحديث الى معنى لفظ أحمد ويؤيد هذا المعنى حديث مجمع عند الطبراني “فصففنا خلفه صفين وما نرى شيئا".
... ومن ها هنا إندفع قول العلامة الزرقاني حيث شنع على ابن العربي وقال قد جاء ما يؤيد رفع الحجاب بإسنادين صحيحين من حديث عمران فما حدثنا إلا بالثابتات إنتهى، فإن هذا الحديث لا يدل على رفع الحجاب.
... ولئن سلمنا فكان الميت غائباً عن أصحابه صلى الله عليه وسلم الذين صلوا عليه مع النبي صلى الله عليه وسلم (4).
... 3- وأما قولهم بأن النجاشي مات بأرض لم يكن فيها أحد من المؤمنين يقوم بالصلاة عليه.
... فجوابه: إن هذا بعيد لأن النجاشي ملك الحبشة وقد أسلم وأظهر إسلامه فيبعد أن يكون لم يوافقه أحمد يصلي عليه فالعادة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 - عارضة الأهوذي 4/259.
2- المجموع 5/253 وإنظر المغني 2/382.
3- عارضة الأهوذي 4/260و إنظر فتح الباري 3/432.
4- عون المعبود 9/9-10.
تحيل ذلك أي أن يكون ملك على دين ولا يكون له أتباع ثم إنه لم يأت في شيء من الأخبار أنه لم يصل عليه في بلده آحد(1).
... فإن قيل: إنه لم يرد في شيء من الأخبار أنه صلى عليه أحد في بلده.
... فالجواب : (نعم ما ورد فيه شيء نفياً ولا إثباتاً لكن من المعلوم أن النجاشي أسلم وشاع إسلامه ووصل إليه جماعة من المسلمين مرة بعد مرة وكرة بعد كرة فيبعد كل البعد أنه ما صلى عليه أحد من بلده)(2).
... 4- وأما قولهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم خص بتلك الصلاة النجاشي لإدخال الرحمة عليه وإستئلاف بقية الملوك بعده لما يرونه من الإهتمام به حياً وميتاً.
... فالجواب: لو فتح باب هذا الخصوص لانسد كثير من ظواهر الشرع.
... ثم إن بركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ومن صلى معه من الصحابة على النجاشي تلحق بكل ميت وليس الأمر خاصاً بالنجاشي(3).
ثانياً :
... وإعترض الحنفية والمالكية على الإستدلال بقصة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي بأنها ليست تشريعاً للأمة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على غائب سواه بعد تسليمهم بأن تلك الصلاة كانت صلاة غائب.
... قال الزيلعي (ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على غائب غيره وقد مات من الصحابة خلق كثير وهم غائبون وسمع بهم فلم يصل عليهم إلا غائباً واحداً ورد أنه طويت له الأرض حتى حضره وهو معاوية بن معاوية المزني.. وغائبان آخران هما زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب)(4).
والجواب على هذا الإعتراض من وجوه:
... الوجه الأول: أنه لإثبات السنية أو لإستحباب فعل من الأفعال يكفي فيه ورود حديث واحد بالسند الصحيح سواء كان قولياً أو فعلياً أو سكوتياً. ولا يلزم لإثبات السنية كون الحديث مروياً عن جماعة من الصحابة في الواقعات المختلفة وإلا لا يثبت كثير من الأحكام الشرعية التي معمول بها عند جماعة من الآئمة.
... الوجه الثاني: إن صلاة الجنازة إستغفار للميت ودعاء له وقد بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن طريق أدائها بثلاثة أنواع:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- فتح الباري 3/432، المغني 2/383، تفسير القرطبي 2/82.
2- عون المعبود 9/6.(/12)
3- فتح الباري 3/432، تفسير القرطبي 2/82.
4- نصب الراية 3/283-284.
... النوع الأول: أن يكون الميت مشهودا حاضراً قدام المصلين فيصلون عليه وهذا النوع هو الأصل في هذا الباب والعمدة فيه، ولا يجوز غير هذا النوع لمن قدر عليه لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قط أنه صلى على الميت الحاضر الشاهد ثم صلى بعده على قبره أو صلى صلاة الغائب عليه.
... والنوع الثاني: الصلاة على قبر الميت لمن كان حاضراً في تلك البلدة أو القرية لكن ما أمكن من الصلاة على ذلك الميت حتى دفن أو كان غائباً عن ذلك الموضع فلما دخل أخبر بموته فصلى على قبره كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته على المسكينة وأم سعد وأم أبي أمامة وطلحة بن البراء رضي الله عنهم.
... النوع الثالث: أن يكون الميت في بلد آخر وجاء نعيه في بلد آخر فيصلون صلاة الغائب على ذلك الميت من المسافة البعيدة او القصيرة كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنجاشي ومعاوية بن معاوية المزني.
... ولا شك ان العمدة في هذا هو النوع الأول والفرض قد يسقط لصلاة المسلمين عليه.
... وأما النوع الثاني والثالث فدعاء محض واستغفار للميت على سبيل الأستحباب لا الفرضية.
... الوجه الثالث: أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على الميت الغائب فقد روي أنه صلى على أربعة من الصحابة:
... الأول: النجاشي رضي الله عنه وقصته في الكتب الستة وغيرها من حديث جماعة من الصحابة بأسانيد صحيحة.. والأعتماد في هذا الباب على حديث النجاشي ويضم إليه غيره من الروايات.
... والغائب الثاني معاوية بن معاوية المزني.
... والثالث والرابع زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب..)(1).
... ثالثا: زعم بعض الحنفية أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي ليست الصلاة المخصوصة والمعروفة وإنما المقصود بها الدعاء فقط أي الصلاة بمعناها اللغوي(2).
... وهذا الزعم بعيد وباطل وترده الروايات الصحيحة الواردة في الصلاة المخصوصة حيث ورد فيها "فصفوا خلفه فكبر اربعاً وفي رواية أخرى "فتقدم وصففنا خلفه فكبر عليه أربعاً" وفي أخرى "وصلينا عليه كما يصلى على الميت".
... مناقشة أدلة القولين الرابع والخامس القائلين بأن صلاة الجنازة تكون مشروعة في اليوم الذي يموت فيه الميت او ما قرب منه أو إذا كانت بلد الميت في جهة القبلة دون سواه والجواب أن قولهم هذا ما هو الا جمود على قصة النجاشي(3).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- عون المعبود 9/10-11 وقد سبق في المبحث الأول أن الروايات الواردة في صلاة الغائب الصحيحة والثابتة هي المتعلقة بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي فقط وما عدا ذلك لا يثبت .
2- الدر المختار 2/209 حاشية الطحطاوي ص319، بدائع الصنائع 1/312، البحر الرائق 2/179.
3- فتح الباري 3/432. سبل السلام 2/209.
القول الراجح:
... بعد عرض أقوال العلماء في هذه المسألة وأدلتهم ومناقشتها يظهر لي أن القول الراجح هو:
... أولاً: قول جمهور العلماء المثبتين لمشروعية صلاة الغائب لقوة أدلتهم ولضعف أدلة النافين لمشروعيتها وما جاء به المانعون من ردود على أدلة المثبتبن ظهر لنا ضعفه.
... قال الشوكاني (والحاصل أنه لم يأت المانعون من الصلاة على الغائب بشيء يعتد به سوى الإعتذار بأن ذلك مختص بمن كان في أرض لا يصلى عليه فيها وهو جمود(1)، قصة النجاشي يدفعه الأثر والنظر)(2).
... وقال الشيخ الساعاتي (وقصارى القول أن القائلين بمشروعية صلاة الجنازة على الغائب حجتهم أقوى لأنها تتمشى مع الدليل بدون تكلف ولا تأويل...)(3).
... ثانيا: تكون صلاة الغائب مشروعة إذا لم يصل على الميت صلاة الجنازة فتشرع صلاة الغائب في حق المسلم الذي مات في بلاد الكفار ولم يصل عليه احد وكذلك تكون مشروعة في حق من مات غريقاً أو مات في حريق او مات في الأسر ونحوهم ممن لم يصل عليهم صلاة الجنازة.
... والذي يظهر من إستعراض الأدلة في هذه المسألة أن صلاة الغائب ليست مشروعة على كل ميت لأنه غائب لم يكن من هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم الصلاة على كل ميت غائب فقد مات عدد كبير من الصحابة وهم غيب على عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم ولم ينقل أنه صلى عليهم صلاة الغائب ولو فعل ذلك لنقلوه كما نقلوا غيره ولما مات الخلفاء الراشدون وغيرهم من كبار الصحابة لم يصل أحد من المسلمين عليهم صلاة الغائب ولو حصل لنقل.
... قال الشيخ إبن عثيمين( والراجح أنه لا يصلى على أحد الا من لم يصل عليه. ففي عهد الخلفاء الراشدين مات كثير ممن كانت لهم أياد على المسلمين ولم يصل صلاة الغائب على أحد منهم والأصل في العبادات التوقيف حق يقوم الدليل على مشروعيتها.(4).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- لعل صحة العبارة (جمود على).
2- نيل الأوطار 4/58.
3- الفتح الرباني 7/223.
4- فتاوي اسلامية 2/18.
المبحث الثالث(/13)
مسائل تتعلق بصلاة الغائب
المسألة الأولى: حد المدة التي تصلى فيها صلاة الغائب.
... قال الفقهاء الذين أجازوا صلاة الغائب يصلى على الغائب حتى ينقضي شهر على وفاته قال ابن قدامة (وتتوقف الصلاة على الغائب بشهر كالصلاة على القبر لأنه لا يعلم بقاؤه من غير تلاش)(1).
... ودليلهم على ذلك ما أشار إليه ابن قدامة وهو قياس ذلك على الصلاة على القبر لأنه ورد عن النبي صلى الله عليه وسم أنه صلى على القبر بعد شهر من دفن الميت.
... ومدة الشهر هي أكثر ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى بعده فقد ورد ذلك في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر بعد شهر(2).
... وورد في حديث سعيد بن المسيب(أن أم سعد بن عبادة ماتت والنبي صلى الله عليه وسلم غائب فلما قدم صلى عليها وقد مضى لذلك شهر)(3).
المسألة الثانية: من هو الغائب الذي تصلى عليه صلاة الغائب؟
... إختلف الفقهاء القائلين بجواز صلاة الغائب في تحديد من هو الغائب الذي تصلى عليه صلاة الغائب على قولين:
... القول الأول: تصلى صلاة الغائب على من كان غائبا عن البلد الذي تقام فيه الصلاة بأن يكون في محل بعيد عن البلد بحيث لا ينسب اليها عرفا(4).
... وقالوا لا تجوز صلاة الغائب إذا كان الميت في البلد وهذا هو المعتمد عند الشافعية والحنابلة(5) ودليلهم على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على حاضر في البلد إلا بحضرته كما قال الامام النووي(6) بالإضافة الى أنه لا مشقة في الحضور إلى محل الصلاة على الميت بخلاف الغائب عن البلد.
... القول الثاني: تجوز صلاة الغائب على من كان حاضراً في البلد كما لو كان في بلد آخر وهو قول الشافعية وبعض الحنابلة وخص بعض الشافعية الجواز للمعذور لمرض او زمانة او حبس(7) وجزم به إبن أبي الدم الحموي في المحبوس(8).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- المغني 2/383 وإنظر الشرح الكبير 2/355.
2- سبق تخريجه.
3- سبق تخريجه.
4- تحفة المحتاج 1/323.
5- المجموع 5/253، نهاية المحتاج 2/182، تحفة المحتاج 1/323. الفتاوى الكبرى الفقهية2/4.
6- المجموع 5/253، مغني المحتاج 2/27.
7- المجموع 5/253، نهاية المحتاج 2/182، الشرح الكبير2/354.
8- مغني المحتاج 2/28.
... وقال بعض الشافعية يجوز ذلك إذا كان البلد واسعاً ما بين طرفيه مسافة قصر(1).
وقد روي عن ابن حامد من الحنابلة أنه صلى على ميت مات في أحد جانبي بغداد وهو بالجانب الآخر(2).
... والراجح عدم جواز صلاة الغائب على من كان حاضراً بالبلد لأنه لا يعتبر غائبا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الفتاوى الكبرى الفقهية 2/4.
2- الشرح الكبير 2/354.
المسألة الثالثة: - إسقاط الفرض بصلاة الغائب.
... صورة المسألة: إذا مات شخص ودفن دون أن يصلى عليه وقت الدفن ثم صلي عليه في بلد آ خر صلاة الغائب فهل يسقط الفرض بصلاة الغائب عليه.
... اكثر الفقهاء الذين أجازوا صلاة الغائب يرون أن فرض الكفاية يسقط بصلاة الغائب الا ابن القطان من الشافعية فلا يسقط الفرض عنده بصلاة الغائب.
... قال الحافظ ابن حجر (أجمع كل من أجاز الصلاة على الغائب أن ذلك يسقط فرض الكفاية الا ما حكي عن ابن القطان احد اصحاب الوجوه من الشافعية انه قال يجوز ذلك ولا يسقط الفرض)(1).
... وورد في فتاوى إبن حجر الهيتمي (وسئل رضي الله عنه: مات من تجب عليه الصلاة بقرية فدفن بغير صلاة ثم خرج رجل ممن وجبت عليهم منها الى اخرى فصلى فيها على الميت ثم رجع الى قريته فهل يسقط الفرض عنه وعن أهل قريته أم لا؟..
فأجاب بقوله: في فروع إبن القطان ان الصلاة على الغائب جائزة غير أنه لا تسقط الفرض وإنما نتكلم على انه يجوز.
... هذا لفظه وهو كالصريح في أن الصلاة على الغائب لا تسقط الفرض عن أهل بلده مطلقاً.
... لكن تعقبه بعض المتأخرين فقال: ولك أن تقول: المخاطب بفروض الكفاية جميع الامة عند الجمهور فينبغي ان يسقط الفرض بذلك.
... وجرى على هذا الزركشي أيضا فقال: والأقرب يسقط الفرض عنهم أي عن أهل بلده لحصول الفرض وكذلك جرى عليه شيخنا شيخ الاسلام زكريا سقى الله عهده فقال: والأوجه حمل ما ذكره ابن القطان على ما إذا لم يعلم اهل موضعه بصلاة الغيبة. فإن علموا سقط الفرض عنهم لأن فرض الكفاية إذا قام به بعض سقط الفرض عن الباقي.
... وبذلك علم أن المعتمد سقوط الصلاة عن أهل البلد بصلاة الغائب سواء أكان منهم ام من غيرهم لكن إثمهم بتأخير الصلاة عليه الى ان صلى عنه لا مسقط له كما هو ظاهر لأن الفرض يتوجه إليهم اولاً فإذا تباطؤا عنه أثموا بهذا التباطوء وإن قام بالفرض غيرهم)(2).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- فتح الباري 3/432 وإنظر نهاية المحتاج 2/182، مغني المحتاج 2/27.
2- الفتاوى الكبرى الفقهية 2/4.(/14)
المسألة الرابعة: صلاة الغائب على الشهداء:
... الشهيد هو من مات من المسلمين في قتال الكفار وبسببه(1).
... إن صلاة الغائب على الشهيد مبنية على مسألة صلاة الجنازة على الشهيد لذا سأبين أقوال العلماء وأدلتهم في صلاة الجنازة على الشهيد ثم نعرف هل يصلى على الشهيد الغائب صلاة الغائب ام لا؟
... اختلف الفقهاء في صلاة الجنازة على الشهيد كما يلي:
... أولا: قال الحنفية يصلى على الشهيد صلاة الجنازة وهو رواية عن أحمد وبه قال الثوري والخلال(2).
... ثانيا: قال جمهور الفقهاء لا يصلى على الشهيد وبه قال المالكية والشافعية والحنابلة في أصح الروايتين لديهم ونقل عن عطاء والنخعي وحماد والليث وإبن المنذر وغيرهم(3).
واحتج الحنفية على ما ذهبوا إليه بما يلي:
... 1- عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوماً فصلى على شهداء أحد صلاته على الميت) رواه البخاري ومسلم(4).
... 2- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: فقد رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة حين قام الناس من القتال
فقال رجل: رأيته عند تلك الشجرات فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه: فلما رآه ورأى ما مثل به شهق وبكى فقام رجل من الأنصار فرمى عليه بثوب ثم جيء بحمزة فصلى عليه ثم جيء بالشهداء فيوضعون الى جانب حمزة فصلى عليهم ثم يرجعون ويترك حمزة حتى صلى على الشهداء كلهم...).
رواه الحاكم وقال صحيح الاسناد ولم يخرجاه وتعقبه الذهبي فقال فيه متروك(5).
... 3- وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كان النساء يوم احد خلف المسلمين يجهزن على جرحى المشركين الى ان قال: فوضع النبي صلى الله عليه وسلم حمزة وجيء برجل من الأنصال فوضع الى جنبه فصلى عليه فرفع الأنصاري وترك حمزة ثم جيء بآخر فوضع الى جنب حمزة فصلى عليه ثم رفع وترك حمزة حتى صلى عليه يومئذ سبعين صلاة) رواه أحمد ورواه عبد الرزاق في المصنف مرسلا عن الشعبي(6).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الموسوعة الفقهية 26/272.
2- تحفة الفقهاء 1/260، الاختيار 1/97، اللباب في الجمع بين السنة والكتاب 1/360، المغني 3/394، الموسوعة الفقهية 26/274.
3- شرح الخرشي 2/140، المجموع 5/264، المغني 3/394، بداية المجتهد 4/361، الموسوعة الفقهية 26/275-276.
4- إنظر صحيح البخاري مع الفتح 3/454، صحيح مسلم بشرح النووي 15/455.
5- نصب الراية 2/309.
6- المصدر السابق 2/309.
وأما الجمهور فإحتجوا على مذهبهم بما يلي:
... 1- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في الثوب الواحد ثم يقول أيهم أكثر أخذاً للقران؟ فإذا أشير الى أحدهما قدمه في اللحد وقال: أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة. وأمر بدفنهم في دمائهم ولم يغسلوا ولم يصل عليهم) رواه البخاري(1).
... 2- وعن أنس رضي الله عنه أن شهداء أحد لم يغسلوا ودفنوا بدمائهم ولم يصل عليهم) رواه أحمد و أبو داوود والترمذي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وقال النووي إسناده حسن أو صحيح وقال الألباني صحيح (2) وغير ذلك من الأدلة.
... وقد رجح بعض العلماء أن الصلاة على الشهداء مستحبة لا واجبة وأن الصلاة عليهم على التخيير بين فعلها وتركها وهذا قول ابن حزم وإبن القيم وهو رواية عن الامام أحمد وبه قال الشيخ الألباني (3).
... قال ابن القيم (والصواب في المسألة أنه مخير بين الصلاة عليهم وتركها لمجيء الآثار بكل واحد من الأمرين وهذه إحدى الروايات عن أحمد وهي الأليق بأصول مذهبه)(4).
... هذا إيجاز لأقوال العلماء وأدلتهم في الصلاة على الشهداء ولا شك ان صلاة الغائب على الشهداء مبنية على مسألة الصلاة على الشهداء الحاضرين كما قلت وقد تبين لنا أن الحنفية يرون الصلاة على الشهداء الحاضرين والجمهور على خلافهم.
... وبناء على ما تقدم أقول إن الذي يظهر لي في هذه المسألة أن إقامة صلاة الغائب على الشهداء لم يقل به أحد من الفقهاء فيما أعلم. وذلك لأن الحنفية الذين يقولون بإقامة صلاة الجنازة على الشهداء لايقولون بمشروعية صلاة الغائب أصلا.
... والجمهور الذين يقولون بمشروعية صلاة الغائب لا يرون الصلاة على الشهداء لذلك كله لا ارى أن صلاة الغائب على الشهداء مشروعة. ومما يؤكد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ترك الصلاة على الشهداء حال إستشهادهم كما في غزوة بدر وأحد وبقية المشاهد حيث إنه لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى عليهم فمن باب أولى ترك صلاة الغائب على الشهداء.
... قال الشيخ الألباني (لقد إستشهد كثير من الصحابة في غزوة بدر وغيرها ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليهم ولو فعل لنقلوه عنه(5).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- صحيح البخاري مع الفتح 3/453.(/15)
2- إنظر الفتح الرباني 7/205، عون المعبود 8/283، صحيح سنن الترمذي 1/297-298، المجموع 4/265.
3- المحلى 3/336، أحكام الجنائز ص83.
4- تهذيب السنن مع عون المعبود 8/284.
5- أحكام الجنائز ص 83.
المسألة الخامسة: صلاة الغائب على أكثر من ميت غائب.
... إتفق الفقهاء على جواز صلاة الجنازة على أموات متعددين مهما كان عددهم ذكوراً وإناثاً فإنه تجزيء صلاة واحدة عليهم جميعاً. وفي هذه الحالة تصف الجنائز أمام الامام صفا عريضا ويقوم الامام عند افضلهم او صفا طويلاً، واحدا خلف واحد، ويقوم الامام عند اولهم(1).
... هذا إذا كان الأموات حاضرين وأما إذا كان الاموات غائبين فهل يصلى عليهم صلاة غائب واحدة؟
... والذي يغلب على ظني ان الفقهاء الذي أجازوا صلاة الغائب يجيزون صلاة الغائب على مجموعة أموات غائبين كما هو الحال عند اجتماع جنائز كما ذكرت سابقاً ولم أقف على ذكر لهذه المسألة في المصادر التي أطلعت عليها.
... وقد رأيت الناس في بلادنا يفعلون ذلك فيصلون صلاة الغائب على مجموعة من الأموات قلت أو كثرت مع العلم بأن فعل الناس ليس حجة.
... ولا باس بذلك إن كان الأموات الغائبين لم يصل عليهم عند دفنهم كما قلنا في صلاة الغائب على الميت الواحد إذا كان غائبا ولم يصل عليه عند دفنه .
... اقول إن هذا الكلام ما هو إلا رأي فإن كان صواباً فمن الله وإن كان خطأاً فمن نفسي ومن الشيطان والعياذ بالله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- إنظر حاشية ابن عابدين 2/218-219، المغني 2/386، الذخيرة 2/474، القوانين الفقهية ص 65، مغني المحتاج 2/31.
الخاتمة
... 1- صلاة الغائب هي صلاة الجنازة مع كون الميت غير موجود أمام المصلين.
... 2- ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه صلى على النجاشي صلاة الغائب وقد وردت روايات عديدة في ذلك.
... 3- لم يثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الغائب على معاوية بن معاوية الليثي أو المزني والروايات الواردة ضعيفة جداً، إن لم تكن مكذوبة.
... 4- لم يثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الغائب على زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما والروايات الواردة في ذلك غير ثابتة.
... 5- صلاة الغائب مشروعة وجائزة في حق المسلم الذي يموت في بلد آخر إذا لم يصل عليه على الراجح من أقوال أهل العلم فيما ظهر لي.
... 6- لم يكن من هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يصلي على كل ميت غائب فقد مات كثير من المسلمين وهم غُيَّبْ فلم يصل عليهم وهذا يرجح ما رجحته.
... 7- لم يقل أحد من أهل العلم فيما أعلم بمشروعية صلاة الغائب على الشهداء ولا يوجد دليل لمن يصلي صلاة الغائب على الشهداء وقد استشهد كثير من الصحابة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يصل عليهم صلاة الغائب. ...
8- إن الأصل في باب العبادات هو الحظر فلا ينبغي للمسلم أن يتعبد الله سبحانه وتعالى الا بما شرع فعلى المسلم الوقوف عند موارد النصوص ولا يجوز تحكيم العقل في مثل هذه القضايا ولا ينبغي الاعتماد على أقوال الناس بدون دليل شرعي صحيح فإن الخير كل الخير في الاتباع وإن الشر كل الشر في الابتداع.
... وأختم كلامي بعبارة طيبة للإمام الجليل الفضيل بن عياض يرحمه الله حيث قال:
... (إتبع طرق الهدى ولا يضرك قلة السالكين وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين).
والله الهادي الى سواء السبيل.
قائمة المراجع
لناصر الدين الألباني ... أحكام الجنائز وبدعها ... 1-
لعلاء الدين الفارسي ... الاحسان في تقريب صحيح إبن حبان. ... 2-
لشيخ الإسلام إبن تيمية. ... الإختيارات العلمية ... 3-
لعبد الله بن محمود الموصلي الحنفي. ... الإختيار لتعليل المختار ... 4-
لناصر الدين الألباني. ... إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل ... 5-
لعز الدين بن الأثير. ... أسد الغابة في معرفة الصحابة ... 6-
للحافظ إبن حجر العسقلاني. ... الإصابة في تمييز الصحابة ... 7-
للخطيب الشربيني. ... الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع ... 8-
للإمام محمد بن أدريس الشافعي. ... الأم ... 9-
لإبن نجيم الحنفي. ... البحر الرائق شرح كنز الدقائق ... 10-
لعلاء الدين الكاساني. ... بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ... 11-
لإبن رشد الحفيد. ... بداية المجتهد ونهاية المقتصد ... 12-
للحافظ إبن كثير الدمشقي. ... البداية والنهاية ... 13-
لأحمد الصاوي. ... بلغة السالك لأقرب المسالك ... 14-
لعلاء الدين السمرقندي. ... تحفة الفقهاء ... 15-
لإبن حجر الهيتمي. ... تحفة المحتاج لشرح المنهاج ... 16-
للحافظ المنذري. ... الترغيب والترهيب ... 17-
للحافظ إبن كثير الدمشقي. ... تفسير إبن كثير ... 18-
لمحمد بن أحمد القرطبي. ... تفسير القرطبي ... 19-
للعلامة شمس الدين ابن القيم. ... تهذيب سنن أبي داود ... 20-
لمحمد أمين الشهير بإبن عابدين. ... حاشية إبن عابدين ... 21-(/16)
لأحمد الطحطاوي. ... حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ... 22-
لعلي بن أحمد العدوي المالكي. ... حاشية العدوي على شرح الخرشي ... 23-
للإمام المارودي الشافعي. ... الحاوي الكبير ... 24-
لعلاء الدين محمد الحصكفي. ... الدر المختار شرح تنوير الإبصار ... 25-
لأحمد بن الحسين البيهقي. ... دلائل النبوة ... 26-
لشهاب الدين القرافي. ... الذخيرة ... 27-
لشمس الدين إبن القيم. ... زاد المعاد في هدي خير العباد ... 28-
لأحمد بن أبي بكر البوصيري. ... زوائد سنن إبن ماجة ... 29-
للأمير الصنعاني. ... سبل السلام شرح بلوغ المرام ... 30-
لابن ماجة القزويني. ... سنن إبن ماجة ... 31-
لأبي داود السجستاني. ... سنن أبي داود ... 32-
لأحمد بن الحسين البيهقي. ... سنن البيهقي ... 33-
لأبي عيسى الترمذي. ... سنن الترمذي ... 34-
لعلي بن عمر الدار قطني. ... سنن الدار قطني ... 35-
لأحمد بن شعيب النسائي. ... سنن النسائي ... 36-
لشمس الدين الذهبي. ... سير أعلام النبلاء ... 37-
لإبن هشام. ... السيرة النبوية ... 38-
لمحمد بن عبد الله الخرشي المالكي. ... شرح الخرشي على سيدي خليل ... 39-
لعبد الرحمن بن أبي عمر بن قدامة. ... الشرح الكبير على متن المقنع ... 40-
للإمام البغوي. ... شرح السنة ... 41-
للجوهري. ... الصحاح ... 42-
للإمام محمد بن اسماعيل البخاري. ... صحيح البخاري ... 43-
لناصر الدين الألباني. ... صحيح سنن إبن ماجة ... 44-
لناصر الدين الألباني. ... صحيح سنن أبي داود ... 45-
لناصر الدين الألباني. ... صحيح سنن الترمذي ... 46-
لناصر الدين الألباني. ... صحيح سنن النسائي ... 47-
لإبراهيم العلي. ... صحيح السيرة النبوية ... 48-
للإمام مسلم بن الحجاج. ... صحيح مسلم ... 49-
لإبن العربي المالكي. ... عارضة الاحوذي بشرح صحيح الترمذي ... 50-
لشمس الحق العظيم آبادي. ... عون المعبود شرح السنن لأبي داود ... 51-
لإبن حجر الهيتمي. ... الفتاوى الكبرى الفقهية ... 52-
للحافظ إبن حجر العسقلاني. ... فتح الباري شرح صحيح البخاري ... 53-
لأحمد عبد الرحمن البنا ... الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني ... 54-
لوهبة الزحيلي. ... الفقه الإسلامي وأدلته ... 55-
لمنصور البهوتي الحنبلي. ... كشاف القناع عن متن الاقناع ... 56-
لتقي الدين الحسيني الحصني الدمشقي. ... كفاية الأخيار في حل غاية الإختصار ... 57-
لعلي بن زكريا المنبجي الحنفي. ... اللباب في الجمع بين السنة والكتاب ... 58-
للعلامة إبن منظور. ... لسان العرب ... 59-
للحافظ الهيثمي. ... مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ... 60-
للإمام النووي. ... المجموع شرح المهذب ... 61-
لإبن حزم الظاهري. ... المحلى ... 62-
للخطيب التبريزي. ... مشكاة المصابيح ... 63-
للإمام الخطابي. ... معالم السنن ... 64-
لأحمد بن الحسين البيهقي. ... معرفة السنن والآثار ... 65-
لإبن قدامة المقدسي. ... المغني شرح مختصر الخرقي ... 66-
للخطيب الشربيني. ... مغني المحتاج ... 67-
لإبراهيم الحلبي الحنفي ... ملتقى الأبحر ... 68-
الموسوعة الفقهية الكويتية ... 69-
للإمام الزيلعي. ... نصب الراية لتخريج أحاديث الهداية ... 70-
للرملي الشافعي ... نهاية المحتاج لشرح المنهاج ... 71-
لمحمد بن علي الشوكاني. ... نيل الأوطار شرح منتقى الاخبار ... 72-
فهرس الموضوعات
الموضوع ... ... ... ... ... الصفحة
المقدمة ... 5
تمهيد؟ ... 7
الموت حق. ... 7
الاستعداد للموت. ... 8
كراهية تمني الموت. ... 10
الصبر عند الموت. ... 11
شهود الجنازة والصلاة عليها وتشييعها. ... 12
صلاة الجنازة وحكمها وفضلها. ... 13
تعريف صلاة الغائب. ... 14
المبحث الأول: الأحاديث الواردة في صلاة الغائب.. ... 16
الروايات الواردة في صلاة النبي صلاة الله عليه وسلم على النجاشي. ... 16
الروايات الواردة في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على معاوية بن معاوية الليثي. ... 22
الروايات الواردة في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على زيد بن حارثة وجعفر بين أبي طالب. ... 29
المبحث الثاني: إختلاف الفقهاء في صلاة الغائب. ... 32
القول الأول. ... 32
القول الثاني. ... 32
القول الثالث. ... 33
القول الرابع. ... 33
القول الخامس. ... 33
أدلة الفريق الأول. ... 34
أدلة الفريق الثاني. ... 37
أدلة الفريق الثالث. ... 38
أدلة الفريق الرابع. ... 40
أدلة الفريق الخامس. ... 40
مناقشة الأدلة. ... 41
إعتراض الحنفية والمالكية الأول على أدلة الشافعية والحنابلة. ... 41
إجابة الشافعية والحنابلة على الاعتراض السابق. ... 42
إعتراض الحنفية والمالكية الثاني على أدلة الشافعية والحنابلة. ... 47
الجواب عن الإعتراض السابق. ... 47
الاعتراض الثالث للحنفية والجواب عنه. ... 49
مناقشة أدلة القولين الرابع والخامس. ... 49
القول الراجح. ... 50(/17)
المبحث الثالث مسائل تتعلق بصلاة الغائب. ... 52
المسألة الأولى: حد المدة التي تصلى فيها صلاة الغائب. ... 52
المسألة الثانية: من هو الغائب الذي تصلى عليه صلاة الغائب؟ ... 53
المسألة الثالثة: إسقاط الفرض بصلاة الغائب. ... 55
المسألة الرابعة: صلاة الغائب على الشهداء. ... 57
المسألة الخامسة: صلاة الغائب على أكثر من ميت غائب. ... 61
الخاتمة ... 62
قائمة المراجع. ... 64
فهرس الموضوعات. ... 70(/18)
صلاة الفجر
أخي الحبيب
صلاة الفجر تشكو من قلة المصلين فيها مع أنها صلاة مباركة مشهوده أقسم الله بوقتها فقال : ((والفجر وليال عشر))الفجر
وقال تعالى : ((أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً ))الاسراء
أخي الحبيب :
كم أجور ضيعتها يوم نمت عن صلاة الفجر كم حسنات ضيعتها يوم سهوت عن صلاة الفجر أو أخرتها كم من كنوز فقدتها يوم تكاسلت عن صلاة الفجر .
1- صلاة الفجر تعدل قيام ليلة كاملة.
يقظة من قيام + إجابة للأذان + صلاة مع أهل الإيمان = ثواب قيام ليلة.
قال صلى الله عليه وسلم ((من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما قام الليل كله )). اخرجه مسلم
2 - الحفظ في ذمة الله لمن صلى الفجر .
فعن أبو ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من صلى الصبح فهو في ذمة الله))رواه مسلم .
نعم إنها ذمة الله ليست ذمة ملك من ملوك الدنيا إنها ذمة ملك الملوك ورب الأرباب وخالق الأرض والسماوات ومن فيها ومن وصف نفسه فقال (( والأرض قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون))الزمر
ذمة الله التي تحيط بالمؤمن بالحماية له في نفسه وولده ودينه وسائر أمره فيحس بالطمأنينه في كنف الله وعهده وامانه في الدنيا والاخرة ويشعر أن عين الله ترعاه .
وإذا العناية لا حظتك عيونها *** نم فالمخاوف كلهن أمان
فاستمسك بحبل الله معتصما *** فإنه الركن إن خانتك أركان
اللهم احفظنا بحفظك ورعايتك وكن لنا معينا ومؤيدا وناصراً وكافيا
كن من رجال الفجر, وأهل صلاة الفجر, أولئك الذين ما إن سمعوا النداء يدوي, الله أكبر, الله أكبر, الصلاة خير من النوم, هبّوا وفزعوا وإن طاب المنام, وتركوا الفرش وإن كانت وثيرًا, ملبين النداء, فخرج الواحد منهم إلى بيت من بيوت الله تعالى وهو يقول: ((اللهم اجعل في قلبي نورًا, وفي لساني نورًا, واجعل في سمعي نورًا, واجعل في بصري نورًا, واجعل من خلفي نورًا, ومن أمامي نورًا, واجعل من فوقي نورًا)) فما ظنك بمن خرج لله في ذلك الوقت, لم تخرجه دنيا يصيبها, ولا أموال يقترفها, أليس هو أقرب إلى الإجابة, في السعادة يعيشها حين لا ينفك النور عنه طرفة عين.
3- صلاة الفجر جماعة نور يوم القيامة:
قال صلى الله عليه وسلم :
((بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة ))رواه الترمذي وا بن ماجه
والنور على قدر الظلمة فمن كثر سيره في ظلام الليل إلى الصلاة عظم نوره وعّم ضياءه يوم القيامة .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((فيعطون نورهم على قدر أعمالهم فمنهم من يغطي نوره مثل الجبل بين يديه ومنهم من يغطي فوق ذلك ومنهم من يغطي نوره مثل النخلة بيمينه حتى يكون آخر من يغطي نوره على إبهام قدمه يضيء مرة وينطفئ مرة ))
قال تعالى : ((يوم ترى المؤمنين والمؤمنات نورهم يسعى بين أيديهم وبإيمانهم ))الحديد
4- دخول الجنة لمن يصلي الفجر في جماعة :
قال صلى الله عليه وسلم :((من صلى البردين دخل الجنة )) والبردين هما الفجر والعصر
وقال صلى الله عليه وسلم (( لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ))
5- تقرير مشرف يرفع لرب السماء عنك يا من تصلي الفجر جماعة .
قال صلى الله عليه وسلم :
((يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الصبح والعصر ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم الله وهو أعلم كيف وجدتم عبادي فيقولون تركناهم وهو يصلون وأتيناهم وهم يصلون ))
فيا عبد الله يا من تحافظ على صلاة الفجر سيرفع اسمك إلى الملك جل وعلا
ألا يكفيك فخرا وشرفا !!!؟؟
6- قال صلى الله عليه وسلم : ((ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها ))
الله اكبر
إذا كان سنة الفجر خير من الدنيا وما فيها فكيف بأجر الفريضة ألله أكبر سيكون أعظم وأشمل .
7- الرزق والبركة لمن صلى الفجر جماعة : هذا الوقت وقت البركة في الرزق فإن النبي صلى الله عليه وسلم ((اللهم بارك لأمتي في بكورها ))
اللهم زد في أرزاقنا وبارك لنا فيها ووفقنا للصلاة في جماعة يارب العالمين .
يا قومنا هذي الفوائد جمّة *** فتخيروا قبل الندامة وانتهوا
إن مّسكم ضمأ يقول نذيركم *** لا ذنب لي قلت للقوم استقوا
عباد الله كما أن للمحافظ على صلاة الفجر جماعة أجور وكنوز فإن لمن ضيعها آثار مدمرة وعقوبات مخفية :
أولها الإتصاف بصفات المنافقين :
قال تعالى : ((وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤن الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا ))
وقال صلى الله عليه وسلم : (( ليس صلاة أثقل على المنافقين من صلاة العشاء والفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً )) رواة الشيخان عن أبي هريرة .
وها هو ابن مسعود يقول : لقد رايتنا وما يتخلف عن صلاة الفجر إلا منافق معلوم النفاق ))
ويقول بن عمر : كنا إذا فقدنا الرجل في الفجر أسأنا به الظن .
ثانياً / الويل والغي لمن ترك صلاة الفجر :(/1)
قال تعالى : (( فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون ))
وقال عز وجل : (( فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيّا )) مريم
أضاعوها فأخروها عن وقتها كسلاً وسهوا ونوماً
وغي هو واد في جهنم تتعوذ منه النار في اليوم سبعين مرة .
ثالثها : يبول الشيطان في أذنيه كما روى ان بن مسعود قال ذكر رجل عن النبي صلى الله عليه وسلم : نام ليلة حتى أصبح قال ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه .
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الشيطان قد استولى عليه واستخف به حتى جعله مكاناً للبول نعوذ بالله من ذلك .
رابعها :الخبث والكسل طوال اليوم لمن نام عن صلاة الفجر .
وبهذا روى مسلم ان النبي صلى الله قال(( يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد يضرب على كل عقدة عليك ليل طويل فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة فإن توضأ انحلت عقدة فإن صلى انحلت عقده كلها فأصبح نشيطا طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان ))
ليس هذا فحسب بل وتعلن فضيحة على الملأ وتفوح معصية في ألأرجاء : قال أحد التابعين ((إن الرجل ليذنب الذنب فيصبح وعليه مذلته ))
خامسها : كسر الرأس في القبر ويوم القيامة :
فقد ثبت في البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم رآى في رؤيا له :
((أن رجلاً مستلقياً على قفاه وآخر قائم عليه بصخرة يهوي بها على رأسه فيشد في رأسه فتتدهور الحجر فإذا ذهب ليأخذه فلا يرجع حتى يعود رأسه كما كان يفعل به مثل المرة الأولى وهكذا حتى تقوم الساعة فقال صلى الله عليه وسلم هذا جبريل ، قال هذا الذي يأخذ القرآن ويرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة ))
عباد الله كيف نأمل أن ينصرنا الله عز وجل وان يرزقنا ويهزم أعداءنا وان يمكن لنا في الأرض ونحن في تقصير وتفريط في حق الله .
كيف نسمع نداءه في كل يوم حي على الصلاة حي على الفلاح الصلاة خير من النوم ونحن لا نستجيب .
هل أمنا مكر الله ؟
هل نسينا وقوفنا بين يدي الله .
فياعبد الله قم عن الفراش وانهض من نومك واستعن بالله رب العالمين
سادسها : يمنع الرزق وبركته:
قال ا بن القيم :
((ونومة الصبح تمنع الرزق لإنه وقت تقسم فيه الأرزاق ))
رآى بن عباس ابناً له نائما نوم الصبح فقال له قم ا تنام في الساعة التي تقسم فيها الأرزاق .
فيا عبد الله لا تفرط في الصلاة عامة وصلاة الفجر خاصة وشمر عن ساعد الجد واستعن بالله
وهذه أمور تساعدك على اداء صلاة الفجر في جماعة :
أولها : نم مبكراً واترك السمر .
نبينا محمد صلى الله عليه وسلم اخبرنا ان الجسم له حق علينا فإن اطالة السهر له تأثير على صحة الانسان فالنوم المبكر خير والكلام بعد صلاة العشاء ورد النهي عنه من نبينا صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح الا ما استثناه الدليل من مسامرة الزوج زوجته والجلوس مع الضيف ومدارسة العلم اما اذا خشي فوات صلاة الفجر فلا يجوز .
وثانيها : احرص على آداب النوم كالنوم على طهارة وأداء ركعتي الوضوء والمحافظة على أذكار النوم والاضطجاع على الشق الأيمن ووضع الكف الأيمن تحت الوجه وقراءة المعوذتين في الكفين ومسح ما أستطاع من الجسد بهما وغير ذلك من الاداب وادع الله أن يوفقك للقيام .
ثالثها ابذر الخير تحصد الخير : فمن قام عقب أداء طاعة من صلة رحم أو بر والدين و إحسان إلى جار أو صدقة سر, أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو سعي في حاجة مسلم كافأه الله بأن يكون ممن يشهدون الفجر .
ثالثها عدم الإكثار من الأكل والشرب
فأن كثرة الاكل تولد ثقلا في النوم بل حتى الطاعة تقل والخشوع يذهب لان من اكل كثيرا شرب كثيرا فتعب كثيرا فنام كثيرا فغفل كثيرا فخسر كثيرا .
ورابعها : ابتعد عن المعاصي في النهار كي تستطيع أن تقوم للصلاة وذلك بحفظ الجوارح عما لا يحل لها بالبعد عن النظر الحرام وكذلك اللسان والسمع وسائر الاعضاء فمن نام على معصية ارتكبها من غيبة مسلم أو خوض في باطل أو نظرة الى حرام أو خلف وعد أو اكل حرام عوقب بالحرمان من شهود الفجر لان من أساء في ليله عوقب في نهاره ومن أساء في نهاره عوقب في ليله .
اسأل الله أن يوفقنا لطاعته وأن يبعدنا عن معصتيه
خامسها لا تنسى عاقبة الصبر فمن عرف حلاوة الأجر هانت عليه مرارة الصبر والعاقل الفطن له في كل ما يرى حوله عبرة فمن سهر الليالي بلغ المعالي ومن استأنس بالرقاد استوحش يوم المعاد الا إن سلعة الله غالية الا إن سلعة الله الجنة.
اسأل الله أن يوفقنا لطاعته وأن يبعدنا عن معصت(/2)
صلاة الكسوف
قال ابن عثيمين: والكسوف والخسوف بمعنى واحد، يقال: كسفت الشمس، وخسفت، وكسف القمر وخسف. وقال بعضهم: الكسوف للشمس، والخسوف للقمر، ولعل هذا إذا اجتمعت الكلمتان فقيل: كسوف وخسوف، أما إذا انفردت كل واحدة عن الأخرى فهما بمعنى واحد، ولهذا نظائر في اللغة العربية. والكسوف عرّفه الفقهاء بقولهم: ذهاب ضوء أحد النيرين أو بعضه. والحقيقة أنه لا يذهب، وإنما ينحجب، ولهذا نقول: التعبير الدقيق للكسوف: "انحجاب ضوء أحد النيرين"، أي: الشمس أو القمر "بسبب غير معتاد". فسبب كسوف الشمس أن القمر يحول بينها وبين الأرض فيحجبها عن الأرض، إما كلها أو بعضها، لكن لا يمكن أن يحجب القمرُ الشمسَ عن جميع الأرض؛ لأنه أصغر منها، حتى لو كسفها عن بقعة على قدر مساحة القمر لم يحجبها عن البقعة الأخرى؛ لأنها أرفع منه بكثير، ولذلك لا يمكن أن يكون الكسوف كلياً في الشمس في جميع أقطار الدنيا أبداً، إنما يكون في موضع معين، مساحته بقدر مساحة القمر. وإذا قلنا بهذا القول المحقق المتيقن: إنَّ سبب كسوف الشمس هو حيلولة القمر بينها وبين الأرض تبيّن أنه لا يمكن الكسوف في اليوم السابع أو الثامن أو التاسع أو العاشر لبعد القمر عن الشمس في هذه الأيام، إنما يقرب منها في آخر الشهر. ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: لا يمكن أن تكسف الشمس إلا في التاسع والعشرين أو الثلاثين أو آخر الثامن والعشرين؛ لأنه هو الذي يمكن أن يكون القمر فيه قريباً من الشمس؛ فيحول بينها وبين الأرض. كذلك القمر سبب كسوفه حيلولة الأرض بينه وبين الشمس؛ لأن القمر يستمد نوره من الشمس كالمرآة أمام القنديل. فالمرآة أمام القنديل يكون فيها إضاءة نور، لكن لو أطفأت القنديل أصبحت ظلمة، ولهذا سمى الله القمر نوراً، فقال: (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً)[1] ، وقال تعالى: (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً) [2]، وعلى هذا التقدير الواقعي لا يمكن أن يكسف القمر في الليلة العاشرة، أو الثامنة، أو التاسعة، أو الحادية عشرة، أو السابعة عشرة، أو العشرين، أو الخامسة والعشرين، أو السابعة والعشرين، فلا يمكن أن يكسف إلا في ليالي الإبدار أي: الرابعة عشرة، والخامسة عشرة؛ لأنها هي الليالي التي يمكن أن تحول الأرض بينه وبين الشمس؛ لأنه في جهة والشمس في جهة، فهو في جهة الشرق، والشمس في جهة الغرب فيمكن أن تحول الأرض بينهما وحينئذٍ ينكسف القمر، قال تعالى: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً) (الاسراء:12) فالشمس منيرة مبصرة بنفسها، وآية الليل القمر ممحو ليس فيه نور. إذاً هذا هو سبب كسوف الشمس والقمر، وبه نعرف أنه لا يصح التعبير بقولنا: ذهاب ضوء الشمس. لكن يمكن أن يصح التعبير في هذا بالنسبة للقمر؛ لأنه إذا حالت الأرض بينه وبين الشمس ذهب نوره؛ لأن أصله جرم مظلم امّحى النور الذي فيه. ويمكن أن نوجه كلام الفقهاء - رحمهم الله - بأنه ذهاب ضوء أحد النيرين، باعتبار الرؤية، أي: رؤية الناس؛ لأن الناس لا يرون الحاجز بين جرم الشمس أو جرم القمر وهم في الأرض، بخلاف ما لو انحجب ضوؤهما بغمام أو سحاب، فهو معروف. هذا السبب هو السبب الحسي. لكن هناك سبب شرعي لا يُعلم إلا من طريق الوحي، ويجهله أكثر الفلكيين ومن سار على منهاجهم. والسبب الشرعي هو تخويف الله لعباده، كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، وإنما يخوف الله بهما عباده"؛ ولهذا أمرنا بالصلاة والدعاء والذكر وغير ذلك كما سيأتي إن شاء الله. فهذا السبب الشرعي هو الذي يفيد العباد؛ ليرجعوا إلى الله، أما السبب الحسي فليس ذا فائدة كبيرة، ولهذا لم يبينه النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان فيه فائدة كبيرة للناس لبيّنه عن طريق الوحي؛ لأن الله يعلم سبب الكسوف الحسي، ولكن لا حاجة لنا به، ومثل هذه الأمور الحسية يكل الله أمر معرفتها إلى الناس، وإلى تجاربهم حتى يدركوا ما أودع الله في هذا الكون من الآيات الباهرة بأنفسهم. أما الأسباب الشرعية، أو الأمور الشرعية التي لا يمكن أن تدركها العقول ولا الحواس، فهي التي يبيّنها الله للعباد. فإن قال قائل: كيف يجتمع السبب الحسي والشرعي، ويكون الحسي معلوماً معروفاً للناس قبل أن يقع، والشرعي معلوم بطريق الوحي، فكيف يمكن أن نجمع بينهما؟ فالجواب: أن لا تنافي بينهما؛ لأن الأمور العظيمة كالخسف بالأرض، والزلازل، والصواعق، وشبهها التي يحس الناس بضررها، وأنها عقوبة، لها أسباب طبيعية، يقدرها الله حتى تكون المسببات، وتكون الحكمة من ذلك هي(/1)
تخويف العباد، فالزلازل لها أسباب، والصواعق لها أسباب، والبراكين لها أسباب، والعواصف لها أسباب، لكن يقدر الله هذه الأسباب من أجل استقامة الناس على دين الله. قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم:41)، ولكن تضيق قلوب كثير من الناس عن الجمع بين السبب الحسي والسبب الشرعي، وأكثر الناس أصحاب ظواهر لا يعتبرون إلا بالشيء الظاهر، ولهذا تجد الكسوف والخسوف لما علم الناس أسبابهما الحسية، ضعف أمرهما في قلوب الناس، حتى كأنه صار أمراً عادياً، ونحن نذكر قبل أن نعلم بهذه الأمور، أنه إذا حصل الكسوف رعب الناس رعباً شديداً، وصاروا يبكون بكاءً شديداً، ويذهبون إلى المساجد خائفين مذعورين، كما وقع ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام؛ لما كسفت الشمس أول مرة في عهده، وكان ذلك بعد أن ارتفعت بمقدار رمح بعد طلوعها وأظلمت الدنيا، ففزع الناس، وفزع النبي عليه الصلاة والسلام فزعاً عظيماً حتى إنه أُدرك بردائه، أي: من شدة فزعه قام بالإزار قاصداً المسجد حتى تبعوه بالرداء، فارتدى به، وجعل يجره، أي: لم يستقر ليوازن الرداء من شدة فزعه، وأمر أن ينادى الصلاة جامعة؛ من أجل أن يجتمع الناس كلهم. فاجتمعت الأمة من رجال ونساء، وصلى بهم النبي عليه الصلاة والسلام صلاة لا نظير لها؛ لأنها لآية لا نظير لها. آية شرعية لآية كونية، أطال فيها إطالة عظيمة، حتى إن بعض الصحابة - مع نشاطهم وقوتهم ورغبتهم في الخير - تعبوا تعباً شديداً من طول قيامه عليه الصلاة والسلام، وركع ركوعاً طويلاً، وكذلك السجود، فصلى صلاة عظيمة، والناس يبكون يفزعون إلى الله، وعرضت على النبي عليه الصلاة والسلام الجنة والنار في هذا المقام، يقول: "فلم أرَ يوماً قط أفظع من هذا اليوم"؛ حيث عرضت النار عليه حتى صارت قريبة فتنحى عنها، أي: رجع القهقهرى خوفاً من لفحها، سبحان الله! فالأمر عظيم! أمر الكسوف ليس بالأمر الهين، كما يتصوره الناس اليوم، وكما يصوره أعداء المسلمين حتى تبقى قلوب المسلمين كالحجارة، أو أشد قسوة والعياذ بالله. يكسف القمر أو الشمس والناس في دنياهم، فالأغاني تسمع، وكل شيء على ما هو عليه لا تجد إلا الشباب المقبل على دين الله أو بعض الشيوخ والعجائز، وإلا فالناس سادرون لاهون، ولهذا لا يتعظ الناس بهذا الكسوف لا بالشمس ولا بالقمر مع أنه أمر هام، ويجب الاهتمام به(/2)
صلاة...
"شوق إلى الله..."
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
يا مُجيبَ الدعَواتِ جئتُ أُزجي صلَواتي
ضارعاً تخشَعُ عِيداني.. وتَجثو نغَماتي
وتناديكَ صباباتي بكلِّ اللهَجات ..
إنْ تلفَّتُ، فمنكَ النورُ يَطوِي لفَتاتي
أوْ تهامستُ أُحِسُّ النورَ يغْزُو هَمساتي
وإذا أدْعو .. أرى الأنوارَ تُرْدِي كلِماتي
وإذا أَصْمُتُ، يدعُو كلُّ شيء في حياتي..
نشوةُ الإيمان بحرٌ زاخرٌ بالرحَماتِ
وجِنانٌ في فضاء النَّفْسِ خُضْرُ الْعَذَباتِ
تصدحُ الأحلامُ فيها كطيورٍ ناغِماتِ
ويَفيضُ الطُّهرُ منها كعُيونٍ جارياتِ
وتَعُبُّ الرُّوحُ منها كلَّ أطْيابِ الْحياةِ..
* * *
ذلكَ الضَّاربُ في ليلٍ ضَريرِ الظُّلُماتِ
مزَّقَ الشوْقُ حناياهُ لِطيف الْمَغْفِراتِ
غَنَّتِ الْحُبَّ لَياليهِ وجُنَّتْ بالغَداةِ
وتلاشتْ في صَداها كَهزيج السَّاقياتِ..
ظامئٌ للنُّور مَلْهوفُ الحشَا والنَّظَراتِ
أرأيتَ الطيرَ في عَوْدَتها للرَّبَواتِ !
أرأيتَ الرِّيحَ في هَبَّتها بالخَلَواتِ !
أرأيتَ الحُلْمَ في صحْوَة جفْنٍ من سُباتِ !
هكذا ينْفُضُه الوَجْدُ لرُؤيا عَرَفاتِ..
والِهاً يشتاق في واديهِ بعضَ الخُطُواتِ !
يتمنَّى لو تكونُ الرُّوحُ ذَرَّ الحصَياتِ
وتكونُ النفْسُ هَمْساً حائماً بِالشُّرُفاتِ..
أَيُّها البيْتُ.. سَلاماً عُلُوِيَّ النَّفَحاتِ
تُرْبُكَ الميْمونُ قُدْسٌ شاهِقيُّ الحُرُماتِ
كلُّ مَنْ مَرَّ عليهِ مَرَّ مسْحُور السِّماتِ
هُرِعَ الناسُ إلَى بابِكَ من كلِّ الجهاتِ
طرَحُوا الدَّنْيا وخَفُّوا بقُلُوبٍ نادماتِ
حُسَّراً يمْشُونَ لله بأيدٍ ضارِعاتِ
وصُدورٍ حانياتٍ من عذاب المَعْصياتِ
وقلوبٍ جأرَتْ أسرارُها بالتَّلْبِياتِ
وجُفُون من ضياء الله دارت مُسْبَلاتِ
ونُفوسٍ قَانِتاتٍ تائباتٍ عابِداتِ
ذائباتٍ في رحيق النورِ نشْوَى فانياتِ
عاشقاتٍ مَنْبَعَ الطُّهْر منارَ الكائناتِ
سيِّدَ الدُّنيا، شفِيعَ الحقِّ، سرَّ الرَحماتِ
رَبِّ بارِكْنا بِه .. آصالَنا وَالْغُدُواتِ
وابْعثِ الشرقَ بنُورٍ منه يَغْزُو الظُّلُماتِ
ويُعيدُ الميِّتَ الخامدَ حيَّاً لِلْحَياةِ ..
بَعد ما شابتْ به الأغلالُ في أَسْر الطُّغَاةِ
قَيَّضَ اللهُ له ناراً على كفِّ الْعُتاةِ
شبَّها الأحرارُ في وجه القُيود الغاشماتِ
فتلاشت في لظاها بين أطباقِ الرفاتِ ..(/1)
صلة الأرض بالسماء
محمد عمر دولة
لم تعرف الدنيا قوماً يتآلفون مع الكون، ويتعارفون مع الناس بالمودّة والعون، كما عرفت ذلك من المسلمين. ولم تشهد البشرية رجالاً مؤمنين يوفون بالعهد، ويرعون وحي السماء في السرّاء والضرّاء كما هو شأن المسلمين.
فتاريخ أهل الكتاب مُسوّد بالخيانات، مشوّهٌ مثل تحريفهم للتوراة، أمّا اليهود فقد غضب الله عليهم، حينما صاروا (كمثل الحمار يحملُ أسفاراً)، وأمّا النصارى فقد ضيّعوا ما استُحفِظوا عليه من تعاليم المسيح - عليه السلام -، فضلّوا طريق التوحيد إلى متاهات الشرك بالله – تعالى -. وهكذا (كلما جاء أمةً رسولُها كذّبوه)، وقد أخبرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه: (يأتي النبي ومعه الرهط، ويأتي النبي ومعه الرجل والرجلان، ويأتي النبي وليس معه أحد)! وأعلَمَنا - صلى الله عليه وسلم - أن نوحاً - عليه السلام - الذي (ما آمن معه إلا قليل) يأتي يوم القيامة فيُقالُ له: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته. وفي حديث الإسراء نصيحة موسى - عليه السلام - لهذه الأمة في شأن الصلاة، وسلام إبراهيم الخليل - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين مصداقاً لقول الله – تعالى -: (ملة أبيكم إبراهيم هو سمّاكم المسلمين من قبل).
فما الذي أوجب هذه الاستجابة لتلكم التوجيهات الربانية؟ إنه وعي هذه الأمة بفلسفة الوجود – كما وفّقها الله لما اختُلِف فيه من الحق – وإدراكها لحقيقة هذه الحياة، ومعانقتها للدور الرسالي المنوط بها في القيادة والشهادة والدعوة الراشدة إلى العبادة.
والذي تتفتح بصيرته على صفحات الوفاء لأهل الإسلام للذِّكر القادم من السماء، تتفتّق قريحته على أن استمداد الوعي إنما كان من الوحي، واستلهام الصواب ليس إلاّ من تعاليم الكتاب (بل هو آياتٌ بيّناتٌ في صدور الذين أوتوا العلم).
ولك أن تتأمّل جواب أنسٍ - رضي الله عنه - في البخاري لحفيده هشام بن زيد حين سأله عن حنين، قال هشام: "يا أبا حمزة! وأنت شاهدٌ ذلك؟ قال: وأين أغيبُ عنه؟!"، وقول أبي طلحة - رضي الله عنه - في أُحُد وهو يذبُّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بأبي أنت وأمي، لا تُشرِف يصيبك سهمٌ من سهام القوم. نحري دون نحرك"، وقول الصدِّيق - رضي الله عنه - في الموطّأ لمّا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا أدري ما تُحدِثوا بعدي) فبكى أبو بكرٍ ثم بكى، ثم قال: "أئنا لكائنون بعدك؟!"، وما موقف عمر - رضي الله - عند وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى خانته رجلاه فلم تحملاه إلاّ لشدة ارتباطه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وقوّة تعلّقه به. كيف وهو الذي قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - حينما أعرض عنه – كما عزاه ابنُ حجر إلى أبي يعلى – "ما خيرُ حياتي وأنت معرِضٌ عني؟!"، كذلك قول فاطمة - عليها السلام -: "يا أنس! أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التراب؟!"، وقولها: "ثم سارّني فأخبرني أني أول أهل بيته أتبعُه فضحكتُ".
وليت شعري هل عاقب النبيُ - صلى الله عليه وسلم - المتخلّفين عن تبوك بأكثر من مقاطعته لهم. حتى (ضاقت عليهم الأرض بما رَحُبت وضاقت عليهم أنفسهم)، ورحم الله أمَّنا عائشة - رضي الله عنها - فقد أهمَّها في محنة الإفك أنها افتقدت حنان النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت – كما روى البخاري -: "يريبُني في وجعي أني لا أعرِف من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل عليَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فيسلّم ثم يقول: (كيف تيكم؟).
وقد كان هؤلاء الرجال من مدرسة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - يحتسبون النظرة إلى وجه الكريم، والبسمة على شفتيه الشريفتين كما قال عقبة بن عامر - رضي الله عنه -: "فكانت آخر نظرةٍ نظرتُها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"، وقال كعب بن مالك وهو يحدّث عن تخلُّفه في تبوك: "فلمّا سلمتُ عليه تبسَّم تبسُّم المغضَب". ولذلك كانوا – لله درّهم – يفرحون بتضحيتهم بأرواحهم لأجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما هو شأن حرام بن مِلحان – خال أنس – لمّا طُعِن يوم بئر معونة فإنه: "قال بالدم هكذا، فنضحه على وجهه، وقال: فزت وربّ الكعبة"، ويحزنون إذا حُرِموا كما حدّثنا القرآن عن (الذين إذا ما أتوْك لتحملهم قلتَ لا أجدُ ما أحملكم عليه تولّوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألاّ يجدوا ما يُنفِقون).(/1)
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم وهو معلّمهم – يعرف أنهم لا مغنم لهم إلاّ صحبته، ولا مطلب لهم إلاّ رؤية طلعته؛ ولذلك قال لهم يوم حنين: (أولا ترضون أن يرجع الناس بالغنائم – وفي روايةٍ بالشاة والبعير – إلى بيوتهم، وترجعون برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بيوتكم؟). وقال - صلى الله عليه وسلم -: (أعطي أقواماً لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع، وأكِلُ أقواماً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير، فيهم عمرو بن تغلب) قال عمرو: "فما أُحِبُّ أنّ لي بكلمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حُمر النّعم".
هذا الارتباط الوثيق بين المسلمين والدّين، سببه أنهم: (يُمسِّكون بالكتاب) ذلك الحبل المتين، ويتّبعون الرسول الأمين - صلى الله عليه وسلم -؛ ولذلك عبّر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذا الرباط بـ (حلاوة الإيمان) خير تعبير حيث قال: (يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يُقذَف في النار)، وسأل هرقلُ – في حديث الوحي – أبا سفيان قبل إسلامه: "هل يرتد أحدٌ منهم سخطةً لدينه؟ قال: لا"، "قال: كذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب".
فهذا الاستشعار لقيم السماء هو الذي أثمر في قلوبهم ذاك الوفاء. فصاروا يراقبون ثنايا النفس، ويتلمّسون حنايا الوجدان (إذا مسّهم طائفٌ من الشيطان تذكّروا فإذا هم مبصرون)، حتى قيل لامرأةٍ مجذومةٍ نهاها عمر أن تطوف بالبيت – كما في الموطّأ -: "إن الذي كان قد نهاكِ قد مات فاخرجي. فقالت: ما كنتُ لأطيعه حياً واعصيه ميّتاً"، فقد خالطت الطاعة قلبها، وسارت بين لحمها وعظمها. ورحم الله أمّ أيمن، حين زارها الشيخان - رضي الله عنهما -، فلمّا رأتهما بكت. فأخبراها بأن ما عند الله خيرٌ لرسول الله. فقالت: "إنما أبكي لأن الوحي قد انقطع من السماء. فهيّجتهما على البكاء. فطفقا يبكيان معها!
http://www.meshkat.net المصدر:(/2)
صلةُ الأرحام أساس بناء الحياة
يهدِف الإسلام إلى بناءِ مجتمعٍ إسلاميٍّ متراحمٍ متعاطِف، تسودُه المحبّةُ والإخاء، ويهيمِن عليه حبّ الخيرِ والعَطاء، والأسرةُ وِحْدةُ المجتمع ، تسعَد بتقوى الله ورعايةِ الرّحِم، اهتمّ الإسلامُ بتوثيق عُراها وتثبيتِ بُنيانها، فجاء الأمر برعايةِ حقّها بعدَ توحيد الله وبرّ الوالدين، قال جلّ وعلا {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى} وقُرِنَت مع إفرادِ الله بالعبادةِ والصّلاةِ والزّكاة، فعن أبي أيّوب الأنصاريّ رضي الله عنه قال: جاء رجلٌ إلى النبيّ فقال: أخبِرني بعملٍ يدخلني الجنّة، قال " تعبد الله ولا تشرِكُ به شيئًا، وتقيمُ الصلاة، وتؤتي الزكاةَ، وتصِلُ الرّحم " [متفق عليه] وقد أُمِرَت الأمم قبلَنا بصِلة أرحامِها، قال سبحانه {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى} ودَعا إلى صِلتها نبيُّنا محمّدٌ في مَطلعِ نُبوّته، قال عَمْرُو بنُ عبَسَة : قدمتُ مكّةَ أوّلَ بعثةِ النبيّ فدخلتُ عليه فقلت: ما أنت ؟ قال " نبيّ " قلت : وما نبيّ ؟ قال " أرسَلَني الله " قلت : بِمَ أرسلك ؟ قال " بصلةِ الأرحام وكسرِ الأوثان وأن يُوحَّد الله " [رواه الحاكم] وسأل هِرقل أبا سفيانٍ عن النبيّ ما يقول لكم ؟ قال : يقول " اعبُدوا الله وحدَه ولا تشركوا به شيئًا " ويأمرنا بالصّلاة والصِّدق والعَفاف والصّلَة [متفق عليه] وأمَر بها عليه الصلاة والسلام أوّلَ مقدمِه إلى المدينة، قال عبد الله بن سلام : لمّا قدم النبيّ المدينةَ انجفلَ الناس إليه ـ أي: ذهَبوا إليه ـ فكان أوّلَ شيء سمعتُه تكلَّم به أن قال " يا أيّها الناس ، أفشوا السّلام ، وأطعِموا الطّعام ، وصِلوا الأرحامَ، وصَلّوا بالليل والنّاس نِيام، تدخلوا الجنّة بسلام " [رواه الترمذيّ وابن ماجه] وهي وصيّة النبيّ قال أبو ذر: أوصاني خليلِي بصِلة الرّحم وإن أدبَرَت [رواه الطبراني] فصِلةُ ذوي القربَى أمارةٌ على الإيمان " من كان يؤمِن بالله واليومِ الآخر فليصِل رحِمَه " [متفق عليه] وقد ذمّ الله كفّارَ قريش على قطيعةِ رحمِهم فقال عنهم {لاَ يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً}
*لقد خلق الله الرحمَ، وشقَقَ لها اسمًا من اسمِه، ووعَد ربُّنا جلّ وعلا بوصلِ مَن وصلَها، ومَن وصَله الرحيمُ وصلَه كلُّ خير ولم يقطَعه أحد، ومن بَتَره الجبّار لم يُعلِه بشرٌ وعاشَ في كَمَد { وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ } والله يُبقي أثرَ واصلِ الرّحم طويلاً، فلا يضمحِلّ سريعًا كما يضمحِلّ أثر قاطعِ الرّحم، قال النبيّ عليه الصلاة والسلام " قال الله للرّحم : أما ترضينَ أن أصلَ من وصلك وأن أقطعَ من قطعك ؟ قالت : بلى ، قال : فذاك لك " [متفق عليه] "والرحمُ معلّقة بالعرش تقول : مَن وصلني [وصله الله] ومن قطعني [قطعه الله] " .
*صلةُ الرّحم تدفَع بإذن الله نوائبَ الدّهر، وترفع بأمرِ الله عن المرء البَلايا، لمّا نزل على المصطفى { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } رجع بها ترجِفُ بوادرُه حتّى دخل على خديجةَ فقال : " زمِّلوني " فأخبرَها الخبَر، وقال " قد خشيتُ على نفسِي " فقالت له: كلاّ والله، لا يخزيكَ الله أبدًا إنّك لتصلُ الرّحم، وتحمِل الكَلَّ ، وتكسِب المعدومَ، وتَقري الضّيف [رواه البخاري] .
*صلةِ الرّحم أُسُّ بِناء الحياة، محبّةُ للأهل، وبَسطُ الرّزق، وبركةُ العُمر، يقول " صِلة الرّحم محبّةٌ في الأهل، مثراة في المالِ، منسَأَة في الأثر" [رواه أحمد] وعند البخاريّ ومسلم " من أحبَّ أن يُبسَط له في رزقه ويُنسَأ له في أثَره فليصِل رحمَه " قال ابن التّين : " صلةُ الرّحم تكون سببًا للتوفيقِ والطاعةِ والصيانةِ عن المعصيةِ، فيبقى بعدَه الذكرُ الجميل فكأنّه لم يمُت " .
* ِصلة الحرم عبادةٌ جليلة مِن أخصِّ العبادات، يقول عمرو بن دينار: "ما مِن خَطْوةٍ بعد الفريضةِ أعظمُ أجرًا من خَطوةٍ إلى ذي الرّحم " ثوابُها معجَّل في الدنيا ونعيمٌ مدَّخرَ في الآخرة ، قال " ليس شيء أُطِيعَ اللهُ فيه أعْجَل ثوابًا من صِلةِ الرحم " [رواه البيهقيّ] والقائمُ بحقوقِ ذوي القربَى موعودٌ بالجنّة ، يقول عليه الصلاة والسلام " أهلُ الجنة ثلاثة : ذو سلطانٍ مُقسط ، ورجلٌ رحيمٌ رقيقُ القلب بكلّ ذي قُربى ومسلم ، ورجلٌ غنيّ عفيف متصدِّق " [رواه مسلم] .
*صلة الرحم تقوَي المودَّة وتزيدُ المحبَّة وتتوثَّق عُرى القرابةِ وتزول العداوةُ والشّحناء، فيها التعارفُ والتواصلُ والشعور بالسّعادة .(/1)
*صِلة الرّحم والإحسانُ إلى الأقربين طُرقُها ميسَّرة وأبوابها متعدِّدة، فمِن بشاشةٍ عند اللّقاء ولينٍ في المُعاملة ، إلى طيبٍ في القول وطلاقةٍ في الوجه ، زياراتٌ وصِلات، مشاركةٌ في الأفراح ومواساةٌ في الأتراح، وإحسانٌ إلى المحتاج ، وبذلٌ للمعروف ، نصحُهم والنّصحُ لهم ، مساندةُ مكروبِهم وعيادةُ مريضهم، الصفحُ عن عثراتهم ، وترك مُضارّتهم، والمعنى الجامِع لذلك كلِّه: إيصالُ ما أمكَن من الخير، ودفعُ ما أمكنَ منَ الشرّ .
*صلةُ الرّحم أمارةٌ على كَرَم النّفس وسَعَةِ الأفُق وطيبِ المنبَتِ وحُسن الوَفاء، ولهذا قيل: مَن لم يَصْلُحْ لأهلِه لم يَصْلُحْ لك، ومَن لم يذُبَّ عنهم لم يذبَّ عنك، يُقْدِم عليها أولو التّذكرةِ وأصحابِ البصيرة { أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} .
*الأرحام أمَرَ الله بالرّأفة بهم كما نرأَف بالمِسكين، قال عزّ وجلّ { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ } حقُّهم في البذلِ والعطاء مقدّمٌ على اليتامَى والفقراء، قال سبحانَه {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} والسخاءُ عليهم ثوابٌ مضاعفٌ من ربِّ العالمين، قال عليه الصّلاة والسّلام " الصدقةُ على المسكين صدقة، وعلى القريب صدقةٌ وصِلة " [رواه الترمذي] وأوّلُ مَن يُعطَى مِن الصدقة هم الأقربون مِن ذوي المَسكنَة، تصدّق أبو طلحة رضي الله عنه ببستانِه ، فقال له النبيّ " أرَى أن تجعلَها في الأقربين " فقسمَها أبو طلحة على أقاربِه وبني عمّه [متفق عليه] فالباذلُ لهم سخيُّ النّفس كريم الشّيَم، يقول الشعبيّ رحمه الله " ما ماتَ ذو قرابةٍ لي وعليه دينٌ إلاّ وقضيتُ عنه دينه " .
*الجارُ من ذوي الأرحام أخصُّ بالرّعاية والعنايةِ مِن غيره قال سبحانه {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} فدعوتُهم وتوجيهُهم وإرشادهم ونُصحهم ألزمُ من غيرِهم، قال جلّ وعلا {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} وإكرامُ ذوي القراباتِ مأمور به على أن لا يكونَ في التّقديمِ بخسٌ لأحدٍ أو هضمٌ لآخرين، قال سبحانه {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } .
*إنّ ذوي الرّحِم غيرُ معصومين، يتعرّضون للزّلَل، ويقَعون في الخَلل، وتصدُر منهم الهَفوة، ويقَعون في الكبيرة، فإن بَدَر منهم شيءٌ من ذلك فالزَم جانبَ العفوِ معهم، فإنَّ العفوَ من شِيَم المحسنين، وما زادَ الله عبدًا بعفو إلاّ عِزًّا، وقابِل إساءَتهم بالإحسان، واقبل عُذرَهم إذا أخطؤوا، ولك في يوسف القدوة والأسوة، فقد فعل إخوةُ يوسفَ مع يوسفَ ما فعلوا، وعندما اعتذروا قبِل عذرهم وصفَح عنهم الصفحَ الجميل، ولم يوبِّخهم، بل دعا لهم وسأل الله المغفرةَ لهم، {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} فغُضَّ عن الهفواتِ، واعفُ عن الزّلاّت، وأقِلِ العثرات، تجْنِ الودَّ والإخاء واللينَ والصفاء، وتتحقَّقُ فيك الشهامةُ والوفاء ، وداوِم على صِلة الرّحم ولو قطعوا، وبادِر بالمغفرة وإن أخطؤوا، وأحسِن إليهم وإن أساؤوا، ودَع عنك محاسبةَ الأقربين، ولا تجعَل عِتابَك لهم في قطعِ رحمِك منهم، وكُن جوادَ النّفس كريمَ العطاء، وجانبْ الشحَّ فإنّه من أسباب القطيعة، قال عليه الصلاة والسلام " إيّاكم والشّحَّ، فإنّ الشحَّ أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالبُخل فبخِلوا، وأمرهم بالظّلم فظلموا، وأمرهم بالقطيعةِ فقطعوا " [متفق عليه] واعلم أنّ مقابلةَ الإحسانِ بالإحسان مكافأةٌ ومجازاة، ولكن الواصلَ من يَتفضَّلُ على صاحبِه، ولا يُتَفضّلُ عليه، قال عليه الصلاة والسلام " ليسَ الواصلُ بالمكافئ، ولكنّ الواصلَ مَن إذا قُطعَت رحمُه وصَلها " [رواه البخاري] قيل لعبد الله بن مُحَيريز: ما حقّ الرّحم ؟ قال : " تُستَقبَل إذا أقبَلت، وتُتْبَع إذا أدبَرت " وجاء رجلٌ إلى النبيّ فقال: يا رسولَ الله، إنّ لي قرابةً أصِلهم ويقطعونني، وأُحسِن إليهم ويُسيؤون إليّ، وأَحلِم عليهم ويجهَلون عليّ، فقال عليه الصلاة والسلام " لئن كان كما تقول فكأنّما تُسِفُّهم المَلّ، ولا يزال معك من الله ظهير ما دمتَ على ذلك " [رواه مسلم] .(/2)
*الروابطُ تزداد وُثوقًا بالرّحم، وقريبُك لا يَمَلّكَ على القرب ولا ينسَاك في البُعد، عِزّهُ عزٌّ لك، وذُلّه ذُلٌّ لك، ومعاداة الأقاربِ شرّ وبلاء، الرّابح فيها خاسِر، والمنتصِر مهزوم، وقطيعةُ الرّحم مِن كبائر الذّنوب، متوَعَّدٌ صاحبُها باللّعنةِ والثبور، قال تعالى {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} فالتدابرُ بين ذوِي القربَى مؤذِنٌ بزوالِ النِّعمة وسوءِ العاقبةِ وتعجيلِ العقوبة، قال عليه الصلاة والسلام " لا يدخل الجنّةَ قاطع " [رواه البخاري] فعقوبتُها معجَّلة في الدّنيا قبلَ الآخرة، يقول النبيّ " ما مِن ذنبٍ أجدر أن يعجِّلَ الله لصاحبِه العقوبةَ في الدّنيا مع ما يدَّخره له في الآخرة من البغي ـ أي : الظلم ـ وقطيعةِ الرحم " [رواه الترمذي]
*قطيعة الرحم سببٌ للذِلّة والصّغار والضّعفِ والتفرّق، مُجلَبةٌ للهمّ والغمّ، فقاطعُ الرّحم لا يثبُت على مؤاخاة، ولا يُرجَى منه وفاء، ولا صِدقٌ في الإخاء، يشعر بقطيعةِ الله له، ملاحَقٌ بنظراتِ الاحتِقار، مهما تلقَّى من مظاهِر التبجيل، لقد كان الصحابة رضي الله عنهم يستوحِشون مِن الجلوس مع قاطِع الرّحم، يقول أبو هريرة رضي الله عنه ( أُحرِّجُ على كلِّ قاطعِ رحمٍ لَمَا قام من عندنا ) وكان ابن مسعود رضي الله عنه جالسًا في حلقةٍ بعدَ الصبح فقال ( أُنْشِدُ الله قاطعَ رحمٍ لَمَا قام عنَّا فإنّا نريدُ أن ندعوَ ربَّنا، وإنّ أبوابَ السماء مُرتَجَةٌ ـ أي: مغلقة ـ دونَ قاطِع الرّحم ) ومن كان بينه وبين رحمٍ له عداوة فليبادِر بالصّلة ، وليعفُ وليصفح {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} وإنّ لحُسنِ الخُلُق تأثيرًا في الصّلة، والزَم جانبَ الأدَب مع ذوي القربَى، فإنّ مَن حَفِظَ لسانَه أراح نفسَه، وللهديّةِ أثرٌ في اجتلابِ المحبّة وإثباتِ المودّة وإذهابِ الضغائن وتأليفِ القلوب .(/3)
صلح الحديبية ( ذي القعدة ، سنة 6 هجرية )
في ذي القعدة من العام السادس الهجري خرج الرسول صلى الله عليه وسلم للعمرة في جمع من أصحابه يبلغ عددهم في ارجح الروايات ألف وأربعمائة من المسلمين المهاجرين والأنصار ومن لحق به من حلفائه العرب وأخذ معه عليه الصلاة والسلام سبعينة بهيمة من الهدي ، الأغنام والأضاحي وقيل في ذلك أن عدد المسلمين كان سبعمائة فقط ، أي كل عشر ة لهم هدي واحد ، وبينما الرسول صلى الله عليه وسلم في المسيرة وقد أحرم مع أصحابه ليأمن الناس ويعلموا أن مقصده زيارة بيت الله الحرام . التقى عليه السلام برجل يسمى " بشر بن سفيان الكعبي " فقال له : يا رسول الله قد علمت قريش بخروجك وخرجت برجالها وابلها وهم في مكان قرب مكة ويتزعم فرسانهم خالد بن الوليد . فقال عليه السلام " يا ويح قريش لقد أكلتهم الحرب .
ثم طلب عليه الصلاة والسلام من رجل من المسلمين أن يدله على طريق غير طريق التي تقف فيها قريش . فسار الرجل في مقدمة المسلمين ، يوجه الرسول صلى الله عليه وسلم واصحابه إلى طريق آخر غير طريق قريش وكان طريقا وعرا أجهد المسلمين ، فلما رأى ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم طلب من أصحابه أن يستغفروا الله ويتوبوا إليه ، ولما شاهدت قريش الغبار الذي يثره المسلمون قاصدين طريقا آخر عادوا إلى مكة مسرعين خوفا من دخول المسلمين من وموضع آخر ، والتقى الرسول صلى الله عليه وسلم في طريقه برجال من خزاعة وهي قبيلة عربية فلما سألوه عن الذي جاء به اخبرهم عليه الصلاة والسلام انه جاء لزيارة البيت . ولم يقصد الحرب والقتال . عاد القوم إلى مكة يقولون للكفار . يا معشر قريش !! إنكم استعجلتم في الحكم على محمد صلى الله عليه وسلم ، انه لم يأت للقتال وانما جاء زائرا هذا البيت .. فاقسموا ألا يدخل مكة عليهم أبدا .
طلب الرسول صلى الله عليه وسلم من عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يذهب إلى مكة ليبلغ أشرافها هدف مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكة . فقال عمر رضي الله عنه " يا رسول الله إني أخاف قريش على نفسي ، وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني ، يقصد أهله وقبيلته وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها " وأشار عمر أن يبعث الرسول عثمان بدلا منه قائلا " انه رجل أعز مني . وكان اختيار عمر صحيحا . لأنه يعرف مكانة عثمان لديهم . وقوة أبناء عمومته في قريش تجعلهم لا يفكرون في قتله .
ونزل الرسول صلى الله عليه وسلم على رأي صاحبه وخرج عثمان قاصدا مكة ليفاوض أهلها على السماح بدخول المسلمين بقصد الطواف بالبيت العتيق . ولما وصل عثمان إلى مشارف أم القرى ، لقيه رجل من أهله هو أبان بن سعيد بن العاص فرحب به وجعله في حمايته حتى وصل إلى زعيمهم أبي سفيان وحوله أشراف قريش ، بلغهم رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأجابوه إن شئت أن تطوف بالبيت فطف ..! . فقال لن افعل حتى يطوف معي رسول الله . فاحتجزه الكفار في مكة . وبلغ المسلمين انهم قتلوه ، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على القتال حتى الموت . وسميت بيعة الرضوان لأنها كانت تحت الشجرة ونزلت فيها الآيات التالية ( سورة الفتح 18/19 ثم جاءت أخبار عثمان من مكة بأنه لم يقتل ، وخبر مقتله غير صحيح . وبعث الكفار رجلا منهم وهو سهيل بن عمرو العامري . إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليفاوضه في الصلح وكان شرطهم الأول أن لا يدخل الرسول مكة هذا العام . وتفاوض سهيل مع الرسول طويلا ثم جرى بينهما الصلح ولما سمع عمر شروط الصلح وقف غاضبا يقول : يا رسول الله الست برسول الله . قال عليه الصلاة والسلام : بلى .. قال عمر متسائلا أو ليسوا بالمشركين ؟ قال : بلى .. فأجاب عمر : فعلام نعطي الدنية في ديننا ؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : أنا عبد الله ورسوله ولن أخالف أمره ولن يضيعني ..
ثم دعا رسول الله علي بن أبي طالب ليكتب كتاب الصلح بين المسلمين وقريش ، فقال عليه السلام : اكتب يا علي : بسم الله الرحمن الرحيم .. فقال سهيل بن عمرو : لا أعرف هذا اكتب باسمك اللهم …. فكتبها علي رضي الله عنه …ثم اكمل الرسول يملي عليا .. (( هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو )) . فقال سهيل لو شهدت انك رسول الله لم أقاتلك .. ولكن اكتب اسمك واسم ابيك . فقال الرسول صلوات الله وسلامه عليه ..: اكتب يا علي (( هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو )) . وأملاه شروط الصلح كما يلي : أن تضع الحرب أوزارها بين الفريقين لمدة عشر سنوات . أن يرد الرسول من يأتيه من قريش مسلما بدون إذن وليه ..
لا تلتزم قريش برد من يأتي إليها من عند محمد . من أحب الدخول في عقد قريش وعهدها فله ذلك .. ومن أراد أن يدخل في عهد محمد من غير قريش دخل فيه ..(/1)
أن يرجع الرسول صلى الله عليه وسلم هذا العام من غير عمرة ، على أن يأتي في العام التالي فيدخل مكة مع أصحابه بعد أن تخرج منها قريش ويقيم فيها ثلاثة أيام وليس معهم من السلاح إلا السيوف ..
أحس المسلمون بخيبة أمل ورأوا أن الصلح فيه تساهل كبير من ناحيتهم وتشددا من قريش ولذلك عندما أمرهم الرسول أن ينحروا ثم يحلقوا لم يقم منهم أحد ، رغم أنه كرر ذلك ثلاث مرات . حزن الرسول صلى الله عليه وسلم ودخل على زوجته " أم سلمة " أم المؤمنين وذكر لها ما لقيه من المسلمين فقالت : يا نبي الله أتحب أن يطيعوك فيما أردت ؟ إذن فاخرج ولا تكلم أحدا منهم حتى تنحر بدنتك ، وتدعوا حالقك فيحلق شعرك . ففعل عليه الصلاة والسلام بمشورة أم المؤمنين . فلما رأى المسلمون ذلك قاموا جميعا ونحروا وصار بعضهم يحلق للآخر . وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم حكيما ، في عقده صلح الحديبية ، فقد أمن شر قريش لمدة عشر سنوات قادمة ، جعلته يتهيأ لنشر الدعوة خارج قريش ، وفي جميع أرجاء الجزيرة العربية . وعاد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة في موكب صحابي جليل ، فيه رضى بما قسم الله لهم . وفي طريق العودة نزلت سورة الفتح التي بشرت الرسول بفتح قريب ، قال تعالى (( سورة الفتح 1،2،3 . فاستبشر الصحابة بهذه البشرى العظيمة ، وسكنت قلوب المسلمين وراحوا يستغفرون الله ، وكان عمر بن الخطاب يقول : (( مازلت أتصدق وأصوم واصلي واعتق في الذي صنعت يومئذ ( يقصد يوم الصلح ) مخافة كلامي الذي تكلمت به ، حتى رجوت أن يكون خيرا )) .(/2)
صمام الأمان1 -3
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى :
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون
موضوعنا خطير، وأثره كبير، ونفعه إن تحقق عظيم، وضرره إن تخلف جسيم، انتبهوا جيدا، وأصغوا بقلوبكم قبل آذانكم، مقالات أبتدئ بها هذا الحديث لأؤكد على أهمية والعظمة، قال الغزالي رحمه الله –عن موضوعنا-: "هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طوي بساطه، وأهمل عمله، لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة وعمت الفتنة وفشت الضلالة وشاعت الجهالة واستشرى الفساد واتسع الخرق وخربت البلاد وهلك العباد " . نسأل الله عز وجل السلامة .
ويقول أبو بكر بن العربي أيضاً في موضوعنا : "هو ابتداء الدين والإسلام وهو انتهاءه " .
ويقول القرطبي : "هو فائدة الرسالة وخلافة النبوة " .
ويقول النووي رحمه الله كذلك : "هو باب عظيم به قوام الأمر وهلاكه " .
فهل جال بخاطركم ما هو هذا الأمر ؟ هل هو التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، كل ذلك يصدق عليها لكن هذا لا يخفى على أحد ! هل هو فرائض العبادات كالصلاة أو غيرها ، كذلك الأمر فيها عظيم ! غير أن العلم بها وافر، إنه أمر له كل هذه العظمة, ومع ذلك لا يكاد يلتفت الناس إلى أهميته، وزمنا بعد زمن، وعصراً بعد عصر تنحلُّ عراه، وتغيب شمسه، وتذوي جذوته، والأمر يشتد خطراً ويعظم ضرراً، وكثيرون ما زالوا عنه غافلين وبه غير عارفين، وعنه غير سائلين .. هل أدركتم ما هو ؟
أحسب أن بعضا قد أدرك وربما كثيرون لم يدركوا .. إنه قطب الرحى صمام الأمان ، خصيصة هذه الأمة، سمة الدين والعبودية الحقة .. إنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
هل نُدرك أن له هذه العظمة ؟ هل ندرك لما قال أولئك العلماء الأفذاذ هذه المقالات ؟ لم يأتوا بها من عقولهم ولا من بنات أفكارهم، جاءوا بها من نور قرآنهم ومن هدي نبيهم صلى الله عليه وسلم .
ومضات سريعة ننظر فيها إلى هذه الشعيرة في إسلامنا وقرآننا وهدي نبينا صلى الله عليه وسلم، وإن ما أذكره ما هو إلا غيظ من فيض وقليل من كثير.
أولاً: حقيقة العبودية:
أكثر الناس يظنها في حفظ الصلاة والمواظبة على الصيام ومتابعة الحج والعمرة وإخراج الزكاة وليس وراء ذلك شيء، استمع لقول الحق سبحانه وتعالى: { الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور } .
انظر إلى الأوصاف المتعلقة بأهل الإيمان : {التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين }
الصفة ملازمة لحقيقة العبودية وأداء الأركان والفرائض، قال ابن كثير في تعليقه وتفسيره لهذه الآية قال : "ينفعون خلق الله ويرشدونهم إلى طاعة الله بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر مع العلم بما ينبغي فعله ويجب تركه وهو حفظ حدود الله في تحليله وتحريمه علماً وعملاً، فقاموا بعبادة الحق ونصح الخلق " .
أمران متلازمان في دين الإسلام، لا تكمل العبودية إلا بهما، عبودية الحق ونصح الخلق.
واستمع كذلك إلى الوصية العظيمة التي جاءت بها آيات القرآن تعليماً وتوجيهاً وتذكيراً وتربية لنا، وصية لقمان : { يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور } .
تأمل هذا التتابع في سائر الآيات بعد ذكر الصلوات بعد سرد العبادات تأتي هذه الشعيرة ظاهرة واضحة.
قال الرازي في تفسيره: "إذا أكملت نفسك بعبادة فكمل غيرك، فإن شغل الأنبياء وورثتهم من العلماء هو أن يكملوا في أنفسهم ويكملوا غيرهم "
فهل نفقه ذلك من سمت عبوديتنا وحقيقة ربانيتنا ؟
ثانيا: سبب الخيرية:
وكلنا يحفظ الآية وكلنا يرددها { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون}
تأمل هذا المعنى أيضا خيرية واضح نصها وسببها وتقديم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالاحتفاء به وبيان أهميته وتوكيده بتعقيبه بالأمر الذي لا خلاف فيه وهو الإيمان بالله عز وجل، روى ابن جرير في تفسيره عن قتادة قال: بلغنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حجة حجها رأى من الناس رعة –أي نوعا من سوء الأدب والطيش والسفه- قال رأى من الناس رعة فقرأ الآية : {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} ، ثم قال: "من سره أن يكون من هذه الأمة فليؤدي شرط الله فيها " .
قال ابن كثير : " ومن لم يتصف بذلك أشبه أهل الكتاب الذين ذمهم الله جل وعلا بقوله: {كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه} ثم قال: ولما مدح الله في هذه الآية الأمة بهذه الصفات شرع بعد ذلك في ذم أهل الكتاب وتأنيبهم فقال: {ولو آمن أهل الكتاب}"(/1)
فهل نفقه أيضا أن سر خيريتنا وتشريفنا وتفضيلنا وتقديمنا مربطه وأساسه وقطب رحاه هو هذه الشعيرة، ومتى فقدناها فقدنا من الخيرية بقدر ما نفقد منها أو نفرط فيها.
وهل نكاد اليوم نضع الأصبع على الداء ونكشف بالنور موضع الخلل، فندرك أن كثيرا مما أصابنا من هواننا وضعفنا وخلافنا وفرقتنا سببه تفريطنا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ثالثا: سمة الإيمان
شعيرة تفرق بين الإيمان والنفاق جدير أن يعض عليها المؤمن بالنواجذ ، وأن يقبض عليها بكلتا يديه ولو كانت كجمر متقد ؛ لئلا يخرج من سمة الإيمان إلى وصف النفاق والعياذ بالله، الله جل وعلا يقول: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر}
تلك سمتهم بصيغة المضارع الدال على الاستمرار، ولاء يقتضي ذلك الأمر والنهي، يقتضي النصح والتقويم والتكميل، وفي جهة مقابلة : {والمنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف}
كم نرى من صورة لهذا في واقع أمتنا، كم نرى به من لسان ناطق، كم نرى فيه من مشهد حي عبر القنوات، وصور فاتنة آثمة على الصفحات، كم نرى له من رواج قد غضت عنه العيون فكأنها لا ترى، وخرست عن إنكاره الألسن فكأنها لا تنطق، وربما لم تشمئز منه القلوب ولم تنقبض منه النفوس، فكأنما قد غاب عنها هذا الشعور حتى في داخلها، في سويداء قلوبها وأعماق نفوسها .
تأمل هذا وتأمل ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن درة بنت أبي لهب قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فقام رجل فقال: يا رسول الله من خير الناس، قال: ( خير الناس أتقاهم لله وآمرهم بالمعروف وأنكرهم للمنكر وأوصلهم للرحم ) أو كما قال صلى الله عليه وسلم .
قال البيهقي رحمه الله في شعب الإيمان: "إن الله جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرق ما بين المؤمنين والمنافقين –ثم قال رحمه الله- وثبت بذلك أن أخص أوصاف المؤمنين وأقواها دلالة على صحة عقيدتهم وسلامة سريرتهم هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ".
والبرهان الصادق على الإيمان الراسخ واليقين العظيم، والإيمان الصادق الدال على الغيرة والحمية الإيمانية، هو الكاشف عن حقيقة ما يستقر في النفس والقلب من حب الله وحب أوامره وبغض من يبغض الله أو يعاديه أو يعادي أوليائه وأحبابه ودعاته، تلك هي السمة الفارقة، فهل نزن أنفسنا، وهل نعرف المعيار الذي قد نخرج به والعياذ بالله من سمة الإيمان إلى وصف النفاق.
رابعاً: أمر مهم ضابط الصلاح والأمان
إنه لا سلامة للمجتمعات ولا استقامة لها، ولا دوام لحسن وصلاح أحوالها إلا بهذه الشعيرة {فلولا كان من القرون من قبلكم أول بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم}
آية عظيمة تخبرنا عن سر وسبب الفساد والانحلال الذي جرى عبر القرون المتتابعة كيف انحلت واضمحلت الديانة؟ كيف ضعفت أنوار النبوة عبر التاريخ رسولا إثر رسول وأمة إثر أمة؟
{فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض}
لو كان في كل أمة بقية صالحة مصلحة لا تكتفي بصلاح نفسها وعبادة ربها بل تتجاوز ذلك إلى إصلاح غيرها أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر لكان الحال على غير الحال، ولكان الخير أوسع دائرة والصلاح أظهر وضوحا مما هو الأمر عليه.
وجاء الاستثناء للبقية {إلا قليلاً ممن أنجينا منهم} تلك القلة التي تقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يصرف الله بها ما شاء من البلاء، ويكون لها ذلك السبب السعادة والنجاة في الدنيا والآخرة بإذن الله عز وجل .
قال السعدي في تفسير هذه الاية: " في هذا حث للأمة أن يكون فيهم بقايا مصلحون لما أفسد الناس، قائمون بدين الله يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى ويبصرونهم من العمى، وهذه الحالة أفضل حالة يرغب فيها الراغبون وصاحبها يكون إماما في الدين إذا جعل عمله خالصا لرب العالمين "
أتدرون ما شر انتشار أو كثرة الفساد، ألسنا نشكو اليوم أكثر شكوى مما كنا نشكو منه بالأمس، أتسمعون الحديث الصحيح المتفق عليه من قول أم المؤمنين تسأل المصطفى صلى الله عليه وسلم: أنهلك وفينا الصالحون ؟! فأجاب بلسان النبوة الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، قال : ( نعم، إذا كثر الخبث)
وكلنا أو معظمنا يحفظ حديث السفينة، قوم في أعلاها وقوم في أسفلها، إن تركوا من في الأسفل يخرق غرقوا وهلكوا وهلكوا جميعا، وإن أخذوا على يده نجوا ونجوا جميعا، ليس ثمة تصوير أبلغ من أثر ترك النهي عن المنكر والأمر بالمعروف ومآله الوخيم وعاقبته الجسيمة وضرره العميم من مثل هذا الحديث النبوي العظيم.
وروى الإمام أحمد والطحاوي بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه أوشك الله أن يعمهم بعقابه ) .(/2)
وذلك أمر واضح ذكره العلماء وبينوه، قال ابن العربي رحمه الله في هذا المعنى : " الذنوب منها ما يعجل الله عقوبته، ومنها ما يمهل الله به إلى الآخرة، والسكوت عن المنكر تتعجل عقوبته في الدنيا بنقص الأموال والأنفس والثمرات وركوب الذل من الظلمة للخلق " .
وقال بلال بن سعد رحمه الله: "إن المعصية إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، وإذا أعلنت فلم تغير ضرت العامة "
وعن عمر بن عبد العزيز رحمه الله قال: " إن الله لا يعذب العامة بذنب الخاصة لكن إذا عمل المنكر جهارا استحقوا كلهم العقوبة " .
هل نمضي ونزيد ؟!
أحسب في هذا كفاية لندرك عظمة هذا الأمر، هو قطب الرحى هو صمام الأمان، هو سمت العبودية والإيمان، هو مناط الخيرية والتقدم، هو الذي به يكون لنا تقويم كل اعوجاج وتصويب كل خطأ واستدراك كل نقص، به نضيق دائرة الفساد ونردم منابعها، به نجعل القلوب حية مشرقة مفرقة بين الحق والباطل، يبقى لها ذلك السمت الإيماني الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي من حديث وابصة بن معبد رضي الله عنه يوم قال له سيد الخلق صلى الله عليه وسلم: ( استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك ) .
وبين له الإثم فقال: ( الإثم ما حك في القلب وتردد في الصدر وكرهت أن يطلع عليه الناس )
أين هذه القلوب التي تشمئز وتنفر وتضيق وتتبرم بالمنكر إذا رأته أو سمعت عنه، هل هي صاحبة الفرقان المذكور في قول الحق جل وعلا : {يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم } .
يجعل في قلوبكم من الإيمان وشفافيته ونورانيته ما تميزون به بين الحق والباطل والخير والشر، وإن لم يكن لكم عندكم فيه برهان أو دليل واضح أو علم سابق ؛ لأن النفس المؤمنة والقلب المشرق بالإيمان ينفر بطبعه بما وقر فيه من كل معصية ومنكر، يضيق الصدر إذا فقد بعض الناس أموالهم كما أسلفنا في الأسهم، تنزل الدمعة من أعين الناس إذا فقدوا حبيبا أو قريبا أو حلت بهم نكبة، يعظم الهم ويتعاظم الغم إذا حصل كذا وكذا، فأين مثل هذا أو شبهه إذا وقعت المنكرات وعمت ولم تجد لسانا بالمنكر ناطقا، ولا يدا له كاتبة أو مانعة، أين هذا من قلوبنا ونفوسنا، أليس ذلك جديرا بأن نقف عنده وقفات، وإن ملأنا المساجد بالصلوات، وإن أكثرنا من الصيام والتلاوات والدعوات ؛ فإن دين الله عز وجل شامل كامل، وإن هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم قد بين لنا أن من وقر الإيمان في قلبه وتحقق بالعبادة في حياته لا يملك إلا أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، لا يستقيم له حال لا يطمئن له قلب، لا يلين له جنب إلى أن يرى الحق ظاهرا والمنكر متواريا، فإذا تغير الأمر كان الحال على غير الحال، كلنا يدرك هذا المعنى وكلنا مخاطب به وأول من يخاطب به ولاة أمورنا من حكامنا وعلمائنا، وإن كان ذلك لا يعفي آحادنا من المسئولية بأي حال من الأحوال.
يقول الحق سبحانه وتعالى: {لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون }
قال الضحاك رحمه الله في هذه الآية: "ما في القرآن آية أخوف عندي منها أننا لا ننهى"
{لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون}
قال: إنها تخيفني، أولئك أحبار وربانيون وفي أمتنا علماء وأهل علم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم عليهم مسؤولية عظيمة .
نقل ابن جرير في تفسيره قوله بعدما ساق من أقوال السلف في هذه الآية قال:
"وكان العلماء يقولون ما في القرآن آية أشد توبيخا للعلماء من هذه الآية ولا أخوف عليهم منها"
فإلى علمائنا وإلى دعاتنا نبض قلوبنا ونظرة عيوننا، وتعلق أبصارنا بدوركم بقولكم بوقفاتكم بإحقاقكم للحق، بإعلائكم رايته، بثباتكم على الحق والمبدأ، باستنصاركم بالله وعزتكم به وعدم خوفكم من الباطل وأهله مهما كانت سطوتهم وقوتهم.
وإلينا جميعا كذلك، فإن النصوص الشرعية تخاطبنا فردا فردا، هل نريد بالعبادات والطاعات أجرا وتكثيرا لحسناتنا ونريد تكفيرا لسيئاتنا ذلكم كذلك في هذه الشعيرة العظيمة ( من دل على خير فله أجره وأجر من عمله إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ) .
(لئن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم) .
ثم في المقابل في التكفير يأتي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: ( فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه وولده وجاره يكفرها الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) .(/3)
وكلنا يعلم كذلك الدوائر المهمة التي نحتاج أن ننتبه لها، لعل قائلا يقول: مالك جئتنا بهذا الموضوع ولم تعظمه علينا وتجعله كعبء وحمل ثقيل بل كجبال عظيمة فوق رؤوسنا أقول هذا سؤال تعرفون جوابه، فإننا نرى المنكر يجوس خلال الديار، ويدخل إلى عقر بيوتنا، ويشيع بيننا، وفي هذه البلاد بلاد الحرمين الشريفين التي لها كرامة عظيمة بما فيها من هذين البيتين العظيمين والمدينتين المقدستين وما فيها من دستور ونظام حكم يدل في كل حرف من حروفه وكلمة من كلماته على الاستمساك بالشرع والكتاب والسنة، وتنص أنظمتها كلها من حيث دلالتها وصياغتها على التزام الإسلام وعدم ارتكاب ما يخالفه، نرى في الواقع صورا كثيرة تزداد دوائرها وتتسع وتتنوع صورها، وقد آلمني الكثير والكثير مما يرى ثم يزداد ثم يتعاظم، ثم يتكرر ثم يستسلم الناس له، ولا يرون بأسا به، ولا يرون قدرة على إنكاره وكأنه أمر لا مفر منه، وكأنه شيء قد عذر الناس بتركه وترك الأمر والنهي عنه .
جد ذلك لي مجلة جديدة عجيبة غريبة أن تصدر من ديارنا ولا أقول هذا إثارة وتعلمون أني لا أحب ولا أجيد هذا الفن، ولا أقوله تهجما على من وراءها أو من يقوم بها، ولكنها مهمة وواجب الأمر بالمعروف والنهي على المنكر، مجلة كل صورها على غلافها نساء كاشفات الشعر مزينات الوجوه بالألوان المختلفة وعنوانها الرئيس الموجود على صفحة غلافها [ النساء يغتصبن الرجال] ، وداخل العدد، أبحث عما يقولونه عن عقل المرأة وفكرها ودورها وقدرتها على القيادة وغير ذلك مما يرددونه صباح مساء، فلا أرى إلا موضوعات سخيفة وبعض القضايا التي فيها كثير وكثير من التهجم على مجتمع هذه البلاد، والتهجم ضمنا قد يكون واردا، أو يفهم عند من قد يفهمه أنه يشتمل على ما يقوم به المجتمع من أسس الدين ودعائم الأخلاق وركائز القيم، تصف لنا كاتبة أم فلان، وهي امرأة في بيتها وعندها خادمة وعندها تسعة من الأبناء وعندها وعندها وعندها، وتصور تصويرا قبيحا لبيت كأنه من بيوتنا وترى أن كثرة الأبناء وأن بعض الصور كلها من الأمور المذمومة المرذولة .
أقول ألا يصدق ألا يصح ألا يسهل على كل أحد منا أن يكتب كلمات ويرسلها إلى أولئك، علّ الله عز وجل أن يشرح بها صدورهم علهم وكلهم من أهل الإسلام وفيهم بذرة الخير، علهم يرجعون إلى أنفسهم فيحاسبونها علنا على أقل تقدير نقيم حجتنا ونبرئ ذمتنا، وليس في هذا الباب فحسب بل الأبواب كثيرة، وقد اتسع الخرق على الراقع .. نسأل الله السلامة.
نسأله سبحانه وتعالى أن يحفظ علينا ديننا وإسلامنا وأخلاقنا وقيمنا وأن لا يؤاخذنا بفعل السفهاء منا إنه ولي ذلك والقادر عليه، أقول هذا القول واستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
أما بعد معاشر الأخوة المؤمنون :
وأعملوا أن من أعظم دلائل التقوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولنفسي ولكم أبعث هذه الرسائل الثلاث حتى لا تظنوا أن الأمر ليس متعلقا بنا وأن المهمة ليست مرتبطة بأعناقنا بل أزيد الأمر عبئا على عبء وثقلا على ثقل، عل ذلك يدفعنا جميعا إلى أن نسعى إلى إبراء ذمتنا وعتق رقابنا والقيام بواجبنا .
احذر الأعذار، الكثيرة هي الأعذار التي يمكن أن نقولها لنبرر لأنفسنا ترك هذه الشعيرة العظيمة، ما عسى أن ينفع قولي وما فائدة كتابتي، وما الأمر الذي يمكن أن يحصل لو قلت أو سكت، كلاهما سيان، ليس الأمر كذلك، لا تعذر بهذه الأعذار، لأن الله عز وجل قد بين لنا ذلك، فقال في شأن قصة أهل القرية وحيل أصحاب السبت { قالوا لم تعظون قوما الله مهلكم أو معذبهم عذاباً شديداً قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم ينتهون}
لا تدري رُبَّ كلمة تقع موقعا من قلب مرتكب لمعصية ومقترف لإثم فيتذكر بها ويتعظ ويرجع، قال النووي رحمه الله: "قال العلماء رضي الله عنهم: ولا يسقط عن المكلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكونه لا يفيد في ظنه بل يجب فعله فإن الذكرى تنفع المؤمنين والذي عليه الأمر والنهي لا القبول، قال الله تعالى: {ما على الرسول إلا البلاغ}" .
وثانية أرسلها وأحذر منها، مداهنة الأشرار، كم نبتسم في وجوه الناس الذين يرتكبون المنكرات وقد يكون ذلك حال ارتكابهم لها، وإن كنا مصدرين في الناس أو مسموعي الكلمة، فإن ذلك تلبيس للحق بالباطل، كيف أرى مع من يرتكب المنكر حال ارتكابه، دون أن يسمع قول في الإنكار ولا فعل بهذا الإنكار، ولا مقاطعة على أقل تقدير لهذا المنكر، إنه أمر غير مقبول بحال، لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم } .
قال القرطبي: "دل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا صدر منهم منكر لأن من لم يحدث منه ذلك فقد رضي فعلهم "(/4)
ثم قال في قوله: {إنكم إذا مثلهم} "كل من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وقالوا بها فإن لم يقدر على النكير عليهم فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية".
وآخر هذه الإنذارات احذروا هدم آخر الأسوار، سور إنكار القلب وكلكم يعلم حديث أبي سعيد الخدري عن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) .
كلنا يحفظ كذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم، عن حذيفة رضي الله عنه : ( تُعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً ، فأيما قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأيما قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تكون القلوب على قلبين قلب أبيض لا تضره فتنة وقلب أسود مرباداً كالكوز مجخياً لا يعرف معروف ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه) .
وكذلكم نعرف حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه وهو حديث طويل من حديث حذيفة: ( ثم تخلف من بعدهم خلوف يقولون مالا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ) .
فهل نريد أن نفقد حبة الخردل الأخيرة من إيماننا، نسأل الله عز وجل السلامة.
صور كثيرة وحديثنا في هذه الشعيرة وفي صمام الإيمان موصول، نسأل الله عز وجل أن يحفظ بلادنا من المنكرات ، وأن يشيع فيها الخيرات ، وأن يجعلنا من الناطقين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والآخذين بهذه الشعيرة العظيمة ..
================
خطبة « صمام الأمان (2) »
د. علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون
حديثنا موصول عن صمام الأمان الذي يحفظ الإيمان ، ويقيم الدين، ويثبت الصلاح وينفي الشر ويدفع الضر بإذن الله عز وجل، الشعيرة العظمى والقطب الأكبر في ديننا العظيم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وقد سلف لنا حديث يكشف عن أهميته، ويبرز خطورة تركه، والحديث اليوم مباشر إلينا، وموجه لكل واحد منا، كيف الطريق إلى القيام بهذه المهمة، والأخذ بهذه الشعيرة، والتحقق بهذه السمة اللازمة لكل مؤمن ومسلم، لأننا لا نريد أن نرسل الكلام على عواهله ولا أن نصف ونسرد الأدلة متتابعة في الأهمية أو الوجوب ثم لا يكون لنا من وراء ذلك عمل نقوم به ولا مهمة نتصدى لها .
وما جاس المنكر خلال الديار وما دخل إلى عقر الدار، وما ظهرت أعلامه وما كثرت أقلامه، إلا يوم ضعف الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر أو قل عددهم ، فكأنما خرست الألسنة ، وعميت الأعين ، وصمّت الآذان ، وماتت القلوب .. نسأل الله عز وجل السلامة .
فلعلنا نشير هنا إلى الأمر المهم الأول، وهو استشعار الغيرة الإيمانية، واستحضارها في القلب، تلك الغيرة التي تجعل القلب ينقبض والصدر يضيق، والنفس تتحشرج إذا رأت المنكر أو سمعت به، إنها النفس المؤمنة الصافية السامية، إنه القلب المؤمن المشرق الوضاء، الذي بمجرد سماعه أو رؤيته للمنكر تتحرك فيه المشاعر الإيمانية والغيرة الإسلامية، والحمية التي تدل على التشبث بهذا الدين والإتباع للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم .. {ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له}
تعظيم حرمات الله يشتمل على معنيين:
أي تعظيم ما له حرمة وتقديس أن ينتهك أو أن يجترأ عليه، فلا نقبل اجتراء وانتهاكاً لحرمة كتاب الله أو لحرمة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لحرمة ما ثبت من شرع الله عز وجل من الأحكام القطعية الدالة عليها آيات كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
ومثل ذلك في المعنى أيضا أن يكون هناك الغضب لوقوع تلك المنكرات والمعاصي سواء كانت اجتراء على المعظم المحرم، أو كانت ارتكابا للمعصية والحرام .
قال السعدي في تفسيره { حرمات الله } : " كل ماله حرمة وأمر باحترامه ولذلك قال تعظيمها إجلالها بالقلب ومحبتها وتكميل العبودية فيها غير متهاون ولا متكاسل ولا متثاقل " .
وقال ابن كثير رحمه الله : "ومن يجتنب معاصيه ومحارمه ويكون ارتكابها عظيما في نفسه فهو خير له عند ربه " .
تلك هي الغيرة الإيمانية .. ويعضد ذلك ما جاء في سياق الآيات نفسها بعد آيتين : {ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب}
دليل القلب التقي النقي أنه يغضب إذا انتهكت محارم الله، وذلك ما ثبت من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن الله يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله عليه ) رواه البخاري .
وفي رواية مسلم ( إن الله يغار وإن المؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله ) .(/5)
وهذه مهمة عظيمة، لا يمكن أن ننبعث إلى إنكار المنكر وقلوبنا غير منكرة له، ونفوسنا غير متبرمة به، وحزننا غير مخالط لنا لما لهذا المنكر من اعتداء على حرمة الله، أو مخالفة لأمر الله أو مضادة لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وانتبهوا إلى هذه الصورة التي يذكرها لنا ابن القيم رحمه الله ؛ لأنها صورة خطيرة من وجدت فيه دلت على ضعف إيمانه وزعزعة يقينه وعلى ذهاب الدلالات الواضحة على حياة قلبه، قال رحمه الله : "وأي دين وأي خير يرجى فيمن يرى محارم الله تنتهك وحدوده تضاع، ودينه يترك وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يرغب عنها وهو بارد القلب ساكت اللسان " ثم قال: " وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت مآكلهم ورئاساتهم فلا مبالاة بما جرى على الدين - ثم ذكر الأمر الخطير الذي لا بدلنا من الانتباه له - وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم قد بلوا في الدنيا بأعظم بلية تكون وهم لا يشعرون ؛وهي موت القلب ؛ فإن القلب كلما كانت حياته أتمّ كان غضبه لله ولرسوله أقوى وانتصاره للدين أكمل " .
مقياس تعرف بها نفسك .. هل تغضب لحرمات الله المنتهكة وللمعاصي المنتشرة، أم أنه لا يضرك شيئ من ذلك، ولا تلتفت إليه ولا يسوئك في قليل أو كثير، لكن كما قال هو في مقالته: إذا أخذ شيء من مالك أو اعتدي على شيء من حظ دنياك، غضبت وأرغبت وأزبدت وقمت وانتصرت بكل ما بيدك من وسيلة .
فأول أمر لا بد من أن نحرص على وجود فينا : استشعارنا لعظمة وأهمية وضخامة دلالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان والغيرة والحمية الإيمانية ؛ فإن أحييناها وأشعلنا جذوتها وجعلناها حية في قلوبنا جارية مع دماءنا في عروقنا جائلة ، في خواطر عقولنا حاضرة ، في كلمات ألسنتنا فحينئذ تكون البداية الصحيحة التي تدفع إلى إنكار المنكر .
الأمر الثاني: المتابعة والموافقة والانتصار الحقيقي لرسول الله صلى الله عليه وسلم
إن الآمر الأعظم بالمعروف والناهي الأمثل للمنكر هو سيد الخلق عليه الصلاة والسلام، ومن عظيم صفته وسمته في هذا الأمر أن ذكرت صفته في الكتب السابقة منصوصا عليها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما نعلم من قوله عز وجل : { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة ... } .
ما هي الأوصاف ؟
{يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون } .
هذه سمة النبي صلى الله عليه وسلم، وصفته في الكتب السابقة وصفته في سيرته الحية الناطقة
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره في هذه الآية : "هذه صفة الرسول صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة وهكذا كان حاله عليه الصلاة والسلام، لا يأمر إلا بخير ولا ينهى إلا عن شر، ومن أهم ذلك وأعظمه ما بعثه الله به من الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له والنهي عن عبادة من سواه كما أرسل به جميع الرسل قبله " .
ثم ساق عن الإمام أحمد من رواية أبي حميد وأبي أسيد رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم ، وتلين له أشعاركم وأبشاركم ، وترون أنه منكم قريب ، فأنا أولاكم به، وإذا سمعتم الحديث تنكره قلوبكم وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم بعيد فأنا أبعدكم منه) ، قال ابن كثير: "هذا حديث جيد الإسناد ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة " .
ثم ساق عن علي رضي الله عنه قوله: "إذا حدثتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا تظنوا به الذي هو أهدى والذي هو أهنا والذي هو أنجى والذي هو أتقى صلى الله عليه وسلم " .
ما معنى هذا السياق الذي أورد فيه ابن كثير هذا الحدث وهذا الأثر عن علي رضي الله عنه، هو سياق مهم : ( إذا سمعتم الحديث ) قلوبكم تحبه وتعرفه تراه من الفضائل والقيم والأخلاق ومعالي الأمور ( ولانت له أشعاركم وأبشاركم ) تأثرتم به ورأيتموه قريبا منكم، تحبونه وتحبون اتصافكم به (فأنا أولا كم به) فالرسول صلى الله عليه وسلم أولى من الناس أجمعين، بكل خير وبكل فضل وبكل خلق وبكل معروف .
(وإذا رأيتم أو سمعتم الحديث تنكره قلوبكم، وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم، وترونه منكم بعيد) أي ترونه قبيحا تبرءون منه، وتجتنبونه وتحذرون منه فاعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أبعد الناس منه .
وذلك يدلنا على السمت الذي ينبغي أن نحرص عليه وهو طريقنا إلى أداء هذه الشعرية اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم والتفاتا إلى المعنى الحقيقي في اتباعه ونصرته لأن الآية في ختامها : { فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه }(/6)
أي الذين آمنوا به ووقروه واحترموه وعظموا قدره ومقامه ونصروه هم أولئك الذين قاموا بتلك السمات، سمات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذكر الحلال الطيب والتحذير من الحرام الخبيث ونشر السماحة واليسر كما كان عليه الصلاة والسلام .
فإذاً ثمة أمر مهم لكي ننطلق إلى هذه الشعيرة أن نعرف أن قائدنا وقدوتنا هو سيد الخلق صلى الله عليه وسلم وأن حقيقة انتسابنا إليه ومتابعتنا له وانتصارنا وذبنا عن سنته مرتبط بإقامة هذه الشعيرة التي أقامها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وثالث الأمور: الإخلاص والتجرد لله عز وجل؛ فإن المزايدة أو الرغبة في لفت الأنظار أو بيان التقدم بين الناس مفاخرة أو مباهاة أو إظهارا للعلم أو مباهاة به أو انتقاصا للناس أو ازدراء لهم أو ظنا بأن مرتكب المنكر والعياذ بالله قد استوجب النار أو غير ذلك، كلها دلالات لا تبعث على أداء المهمة على الوجه الصحيح ولا يتحقق منها الأثر المرجو ؛ لأن الإخلاص هو قوام كل أمر هو الدافع الأول هو المقصد الأعظم هو الذي تبتغي به وجه الله عز وجل والدار الآخرة، لا ترجو به منفعة الناس بل ولا تخشى من هيبتهم كما سنذكر هذا الإخلاص هو مفتاح وسر التأثير، ألسنا أحيانا نذكر الناس ونعظهم؟ ألسنا نحذر من المنكر ونبين خطره، ألسنا نخاطب هذا وننصح ذاك، فما بال ذلك لا يجدي نفعا ولا يبدي أثرا، سر من أسرار عدم القبول، ليس في إعراض الناس، وليس في جهلهم وليس في مكابرتهم بل سر في إخلاص من أنكر، إخلاص من نصح، إخلاص من ذكر ووعظ، لم يرد بذلك وجه الله، لم يكن منطلقا بذلك من الغيرة على حرمات الله، له مصالح له أفكار، له مقاصد أخرى، فلا يصل حديثه إلى القلوب، ولا يؤثر في النفوس، ولا يقع به التغيير في واقع العمل والحال .
قال ابن النحاس رحمه الله في هذا المعنى كلاماً نفيساً، قال: "فمن أخلص لله النية أثر كلامه في القلوب القاسية فلينها وفي الألسن الذربة فقيدها وفي أيدي السلطة فعقلها، وأما زماننا هذا فقد قيد الطمع ألسن العلماء فسكتوا ولم تساعد أقولهم أفعالهم ولو صدقوا الله لكان خيرا لهم " .
يقوله ابن النحاس هذا القول منذ قرون مضت ليس منذ عشر سنوات أو عشرين، يقول عن زمانه واختلال الأمر في أحوال علماءه، فكيف بحالنا وأحوالنا، ثم يقول ابن القيم في هذا المعنى :
"رأس التقوى والإحسان خلوص النية في إقامة الحق والله سبحانه وتعالى لا غالب له فمن كان معه -أي معه الله عز وجل- فمن الذي يغلبه، أو يناله بسوء "
إن كان الله مع العبد فممن يخاف، وإن لم يكن معه فمن يرجو بمن يثق ومن ينصره من بعده، فإن كنت قد قلت القول لله فأنت مستمد قوتك من نصر الله ومن تأييد الله ولا تخشى أحدا إلا الله ويثبتك الله ، ويزيد في قلبك الجرأة والشجاعة والثبات، وإن كنت لغير الله خفت كل أحد سواه وإن كان مقصدك شيئا من مبتغى الدنيا فإنه لا أثرا لذلك ولا نفع فيه وهذا أمر مهم.
ويتلوه أمر رابع وهو : الشجاعة والجرأة فإن الجبن والذل والخوف عقد الألسنة فلم تعد تقول حقا، ولم تعد تنطق بخير، ولم تعد تنكر منكرا في جملة أحوالها، وتلك الشجاعة من دلائل قوة الإيمان ورسوخ اليقين، وتلك الشجاعة من آثار القبول، وبعض الناس قد لا يفقه هذا، إن مرتكب المنكر ذليل في حقيقة الأمر بذلِّ معصيته ، وذلّ منكره ، وذلّ مخالفته لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفيه ذل أيضا من خشية فضحه بين الناس في بعض الأحوال ، وفيه ذل أيضا بتخويفه من العقوبة الأخروية التي يؤمن بها ، وإن غطى ذلك بانغماسه في تلك المعاصي والمنكرات، فإن المنكر أقوى منه، وأشجع وأقدر على أن تقول الحق وأن تبينه، وكم من قائل بالحق بجرأة مع إخلاصه ومع استشعاره لعظمة هذه الشعيرة وغيرته وحميته الإيمانية قال قولا لمن هو أقوى وأكثر سلطانا وجاها ومالا فكان لقوله أثر في خوف ذاك، وفي اعتذاره وعلى أقل شيء في استتاره وسكوته، غير أننا عندما نرى الباطل منتفشا وربما يكون مرتكبه كما نقول قويا يداخلنا خوف وخشية لا ينبغي أن تكون على تلك الصورة التي نرى كثيراً من شواهدها وأمثلتها .
ولعلنا هنا نشير إلى حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس خطيبا فقال: ( ألا لا يمنعن رجلا هيبة الناس أن يقول بالحق إذا علمه )
والحديث الأشهر الأكثر رواجاً وحفظا بين الناس، حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه:( بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره ، وعلى أثرة علينا وعلى أن لا ننازع الأمر أهله ، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا تأخذنا في الله لومة لائم ) .
تلك البيعة التي بايعها الأنصار في أول الإسلام، قبل أن يكون جهاد وقبل أن يشرع قتال، قالوها وبايعوا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ..(/7)
{يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم}
ومن هنا ندرك من أين تأتي هذه الشجاعة والقوة إنها من الأمر الأول السابق وهو الإخلاص لله عز وجل والثقة به ، والاعتماد عليه والالتجاء إليه ، وحسن الظن به ، والتماس الرجاء فيما عنده من الأجر والثواب، ذلك يدفع المرء إلى أن يكون على هذا المعنى وعلى هذا السمت المهم من سمات قيامه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولقد قالها ولقد فعلها النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم وكثير من أئمتنا وعلمائنا بل وآحاد وأفراد المسلمين في كل عصر ومصر، وتكررت تلك الحوادث ولنا إليها عود من بعد.
وفي هذا المقام نتمم بالسمة الخامسة، وهي العلم والحلم؛ فإن هذه الشجاعة التي ذكرناها قد تصبح تهورا وحمقا، وقد تصل إلى مخالفة شرع الله عز وجل ونحن قوم لا ننطلق من دوافع أنفسنا ومن ردود الأفعال بل نحن منضبطون بأفكار الشرع وبضوابط الكتاب والسنة .
ولذا لا بد من العلم بما يأمر به وبما ينهى عنه وليس شرط أن يكون عالماً بكل شيء أو من كبار العلماء ، لكن إن علم حكماً ، وعلم وجوبه ، وعلم الدليل عليه ، وكان من الأمور الظاهرة المعروفة من الواجبات والأركان أو من المحرمات المنهي عنها قطعاً بلا أدنى شك وبلا أدنى اختلاف فيها، فإن الأمر حينئذ قد حق فيه العلم وصدق فيها وصف العلم به ، وهنا يجمع منع العلم الحلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (ما كان الرفق في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه ) .
فإن الغضبة والحمية للإنكار المنكر والشجاعة فيه لا تمنع، بل العلم والحلم يوجب التدرج ويوجب ما نفقهه من قول الله عز وجل في خطابه جل وعلا لموسى وهارون عليهما الصلاة والسلام عندما بعثا وأرسلا إلى فرعون أطغى أهل الأرض، قال: { فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى } .
البدء كذلك والعلم فيه، العلم بالمصالح والمفاسد وأن لا ينكر منكراً صغيراً يعلم أو يترتب عليه منكراً أكبر، وفيه تفصيلات وفروع مهمة لا بد من معرفتها ولا بد من الإلمام بها لكننا لا نجعل ذلك ذريعة أن نترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا سئلنا لما قلنا نحن لا علم لنا، ولا بد أن يكون الآمر والناهي عالما، فيكون عالما بما يأمر عالما بما ينهى، فهل عندكم شك في أن الخمر محرمة، وأن مرتكبها أو شاربها ينكر عليه والدليل على ذلك واضح والحكم مستفيض ومثل ذلك في أمور الواجبات، هل ينكر أحد وجوب الصلاة أو جوب الزكاة أو جوب الصيام فتارك ذلك مما ينكر عليه ويذكر ويؤمر بالمعروف، فأمور الدين المعلومة من الدين بالضرورة والأحكام التي توافرت أدلتها وعلم حالها وعرف ما يتصل بها في كلام أهل العلم وفي أحوال أمة الإسلام، أمرها بين ظاهر، وكل ذلك مما يعيننا على الأداء لهذه المهمة والشعيرة، أسأل الله عز وجل أن يحيي الغيرة الإيمانية في قلوبنا وأن يرزقنا الإخلاص لربنا وأن يوفقنا للعمل على طاعته والنهي عن معصيته إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
أما بعد معاشر الأخوة المؤمنون :
وإن من دلائل التقوى الغيرة على حرمات الله عز وجل وإنكار المنكر والأمر بالمعروف، ولعلنا نختم بأمر مهم فيما نحتاج إليه وهو أمر الطاعة والعصمة؛ فإن الحمية الإيمانية والشجاعة والجرأة وغيرها لا تكون سببا إلى إثارة الفتنة والبلبلة وإشاعة الفوضى وتجاوز الحدود وممارسة الإنكار بصور لا يسمح بها الشرع، ومن أجل ذلك وأعظمه ترك السمع والطاعة لولي الأمر والخروج عليه والظن بأن إنكار المنكرات طريقه مثل هذا، ويغيب هنا أمور ومسائل كثيرة يضيق المقام عن حصرها، غير أني أشير إلى ربطنا بقضية العلم، وخير الهدي هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعظم من كان يغار على حرمات الله وينكرها هو رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو الذي قال لنا في حديثه الصحيح: ( من كره من أميره شيء فليصبر، فإنه من خرج عن السلطان شبرا فمات، مات ميتة جاهلية ) رواه ابن عباس في صحيح البخاري .
وقال ابن بطال في هذا الحديث: "في الحديث بيان على ترك الخروج على السلطان ولو جار، وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان والجهاد معه وأن طاعته خير من الخروج عليه لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء " .
وقد قال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم من حديث عوف بن مالك عنه عليه الصلاة والسلام: ( خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ، ويصلون عليكم وتصلون عليهم - أي الدعاء بينكم متبادل- وشرارا أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم ) ، فقال رجل : يا رسول الله ، أفلا ننابذهم بالسيوف، قال: ( لا ما أقاموا فيكم الصلاة وإذا رأيتم من ولاتكم شيئاً تكرهونه فاكرهوا عمله ولا تنزعوا يداً من طاعة )(/8)
هذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكل اندفاع طائش وكل عمل خارج عن ضوابط الشرع؛ فإنه هو في ذاته منكر ويترتب عليه من المنكرات ما هو أعظم .
ومن هنا كان من اعتقاد أهل السنة والجماعة المحافظة على الطاعة والعصمة والحرص عليها كما قال الطحاوي: " ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعوا عليهم ولا ننزع يدا من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة ما لم يأمروا بمعصية، وندعوا لهم بالصلاح والاستقامة " .
ومثل هذا المعنى مهم وهو متمم لذلك ؛ فإن الدعوة إلى الغيرة الإيمانية والشجاعة والجرأة منضبط بمثل هذه المعاني في العلم، ولنا تتمة نوضح بها كيف نطبق هذا عملياً ؛ فإنني أرى أن هذا الأمر لا بد فيه من استكمال صورته وتحديد خطواته ورسم معالمه، لأنه إذا تقاعسنا عنه فلم نعرف أهميته ولم نعرف واجبنا كأفراد نحوه، ولم نعرف طريقته وآليته بقينا على ما نحن عليه من التخلف والتقصير في هذه الشعيرة وجاء لنا وحل بنا وشاع فينا من السوء والضر والشر ما يتعاظم بالتقصير في هذه الشعيرة .
نسأل الله عز وجل السلامة والعافية ، وأن يحفظ علينا إيماننا وإسلامنا وأن يقيم في مجتمعاتنا الدين والإيمان والإسلام والخلق والقيم الفاضلة .
============
خطبة « صمام الأمان (3) »
د. علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد معاشر المؤمنين
حديثنا موصول عن صمام الأمان ، الذي تطمئن به وبإقامته النفوس والقلوب، وتصلح الأفعال والأحوال، ويستقيم أمر الأفراد والجماعات، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ..
وقد سلف لنا حديث عن أهميته وخطورته، وثنيّنا بحديث يخصنا في التأهل له والتهيؤ واتخاذ الأسباب لإقامته، واليوم دعوة للجميع لا يستثنى منها أحد، التحق بالقافلة، كن في ركب الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، قال الكيلاني رحمه الله في هذا المعنى :
"كان هو - يعني الرسول صلى الله عليه وسلم - الداعي والدليل إلى رضوان الله عز وجل، ولما اختاره الحق عز وجل أقام له من أمته من يخلفهم فيهم، وهم آحاد أفراد من كل ألف ألف واحد يدلون الخلق ويصبرون على أذاهم مع دوام النصح لهم " .
فكن في هذه القافلة السائرة على خطى محمد صلى الله عليه وسلم، وكن في هذا الركب المتتبع لآثار هدي المصطفى عليه الصلاة والسلام .
وأصيح بنفسي وبكم إلى العمل قبل فوات الأوان ، وقبل اتساع الخرق على الراقع، وقبل انفراط العقد وعدم إمكان التسديد، فكلنا يدرك الصور كثيرة التي تنذر بمخاطر عظيمة، لا أقول كثرة المنكرات، فكلكم يعلم كثرتها ويرى انتشارها ويعرف تكررها .. بل أزيد فوق ذلك، قلة المنكرين، فلا تكاد تسمع لسانا بالحق ناطقا، ولا قلما بالإنكار كاتبا إلا ما رحم الله، ويزداد الأمر خطورة إذا رأينا إعلان المنكرات، فإنها ليست منتشرة ومستترة، بل في كثير منها ظاهرة نراها على القنوات ونسمعها في الإذاعات، ونبصرها على صفحات الصحف والمجلات، ونسمعها في الجلسات والمنتديات، ونزيد في هذه الخطورة زيادة وهي تهوين المنكرات؛ فإن قلت كيف هذه الصور للنساء حاسرات الرؤوس مزينات الوجوه، قيل وهل لا زالت ترى في هذا خطرا الأمر أعظم، ومثل هذا صار أمرا مألوفا أو صار أمرا لا ينكر عليه، أو صار أمرا فيه وما فيه، هل ترى مذيعة الأخبار وهي متزينة هل في ذلك من شيء، لم لا زالت عقولكم محدودة ؟ أصبح المنكر الذي لا شك مطلقا في حرمته ولا خلاف بين أهل العلم بين مجيز ومحرم أو غير ذلك، أصبح هينا سهلا يستغرب من إنكاره ويتعجب ممن يتعجب من وجوده ووروده.
ثم ننتقل إلى خطوة أعظم وأخطر وهي : تسويغ المنكرات، وإضفاء الشرعية عليها؛ سواء كانت شرعية شرعية، أي من مدخل الاختلاف الذي يزعمونه ويوسعونه ويجعلون ما ليس مختلفاً فيه داخل في دائرة الاختلاف ، حتى صار المرء يبحث عن أمر محرم لا شك في حرمته، ولربما يأتينا من يقول غداً وهل في الخمر من حرمة مقطوع بها فيها أقوال وفيها اجتهادات، وربما كما سمعنا من قبل، يأتي ذلك على الربا، ثم يأتي على الطوام الكبرى والكبائر العظمى - والعياذ بالله - بل قد بلغ الأمر إلى أمور أخطر تمس الاعتقاد وجوهر التوحيد وقيل فيه أقوال وفيه أراء وفيه غير ذلك.
وتسويغ آخر، هو التسويغ العالمي الأممي العولمي؛ فنحن جزء من العالم، ما حدث في العالم ويحدث فيه لا بد أن يحدث عندنا مثله، فإذا رقص العالم يجب أن نرقص وإذا تعرى العالم يجب أن نتعرى حتى لا نكون شذوذا في هذا العالم، وهذه من الفرية والفرى العظيمة، حتى يتجدد عندنا القول القرآني الرباني، الذي وصف لنا حالة مشابهة في مجتمع فشا فيه منكر عظيم في عهد لوط عليه السلام وفي قومه حتى قالوا للنفر القلة المتبعين للوط عليه السلام: { أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون}(/9)
لم يعد للأطهار مكان، ينبغي أن يتدنسوا وأن يتلطخوا بأوحال المعاصي والآثام ليستجيبوا لدعوات العالمية والعولمة كما يزعمون، أو تلبيس وتسويغ آخر، برؤى الانفتاح، ورؤى استيعاب الناس وتأليف قلوبهم، ولست أدري كيف يسوغ التأليف بما هو محرم مقطوع بحرمته، وقد رأينا وسمعنا الكثير من ذلك، ولست أعيد القول لكنني أقول وقد صارت الأمور متجاوزة : كثرت المنكرات وقد مرت بقلة المنكرين، ثم صارت في إعلانها ثم مرت بتهوينها ثم انتهت إلى تسويغها، فمتى إذاً يستيقظ النائمون ؟ ومتى يتنبه الغافلون ؟ ومتى يتحرك الغيورون ؟ ومتى ومتى ومتى مما تعلمون .. ومما نريد اليوم أن نبسط القول فيه.
لا بد أن يتحرك الناس من أهل الإيمان والإسلام والغيرة ؛ وإلا فإنهم يحكمون على إيمانهم بالضعف والهزال ، وعلى غيرتهم بالذبول والزوال، وعلى حميتهم بالانتقاص والانتقاض، وكأنهم لم يعودوا يمثلون إسلامهم ولا يحيون إيمانهم، ولا يجددون انتصارهم، ونصرتهم واتباعهم لرسولهم صلى الله عليه وسلم، ولا يحيون ولا يجددون سير أسلافهم، وتاريخهم المشرق الوضيء، ولذا فأقول الحق بالقافلة، سر مع السائرين.
وهذه ومضات أبثها وأجعلها خطوات على الطريق، وقد أسلفت القول منذ بداية حديثنا أننا سنواصل القول لننتقل من القول إلى العمل، ومن التنظير إلى التفعيل ومن مجرد السماع والانفعال إلى التأثر والفعل، عوامل القوة والنجاح، إذا سرنا في هذا الركب وإذا أخذنا هذه المهمة فكل شيء يعيننا بإذن الله.
أولا: قوة الشرع الحاكمة، أنت ناطق بكتاب الله لا تحرم من عند نفسك، أنت واعظ بكلمات الله لا تؤثر بأقوالك، أنت مجدد لغضبة وحمية رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفتعل شيئا من عندك، فقد كان عليه الصلاة والسلام إذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه قائمة، كان يرى في وجهه التغير والاحمرار والغضب، إذا رأى المنكر وإذا رأى الفساد والانحراف .
لما كان بعض أصحابه يوما في مجلس فاختلفوا في القرآن حتى عظم خلافهم، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكأنما فقئ في وجهه حب الرمان أي من شدة احمراره وغضبه، قال : (لا تختلفوا على كتاب ربكم فإذا اختلفتم فقوموا عنه) أي لا تجعلوا ما هو سبب الائتلاف سببا للاختلاف، وهذا في أمر من الأمور فكيف بما هو أعظم من ذلك.
ثم معكم كذلك قوة الأنظمة المانعة، كل أنظمة هذه البلاد المنصوص عليها في الإعلام في التعليم في التجارة كلها مع الإسلام وباسم الإسلام، كلها تقول وتنص أن ما يخالف الإسلام يعد مخالفا للنظام، فلماذا نفتقد الجرأة ومعنا شرع الله ومعنا نظام البلاد ونص نظامها، والقائمون بالمنكرات مخالفون لأنظمتها، الناشرون لهذه الصور في صحفنا ووسائل إعلامنا مخالفون للنصوص المنصوص عليها في السياسة الإعلامية وأنظمة الإعلام، كيف يكون المخالف جريئاً ، وكيف يكون المطالب بالنظام خائفا أو متردداً.
وممعنا كذلك قوة القيادة المؤكدة، هذه البلاد قامت على تحالف وتآزر وتعاضد بين الدعوة والدولة، منذ الإمام محمد بن سعود ومن كان معه الإمام محمد بن عبد الوهاب، ذاك رافع لراية الدين، وهذا مسدد ومعين وموافق ومؤيد بسلاح وقوة الدولة، ومازال ذلك سارياً إن شئت أن تعارض المنكرين الواقعين في المنكر بأقوال الملك عبد العزيز وجدت له في الاختلاط وفي الإنكار على السفور ما أنت حري بأن تقوله، إلى يوم الناس هذا وقائد بلادها وهم يؤكدون أننا نلتزم العقيدة الإسلامية، وأننا نطبق الشريعة الإسلامية ، وأن سر كل ما هو عندنا من الخير إنما مردّه إلى ذلك، فلِمَ لا نقول إن هذه المنكرات تخالف قولكم ! ولِمَ لا نقول هذه الأقوال لمن يخالفون لنقول إنكم أنتم الذين تخالفون ولاة الأمر وتخالفون توجههم ونظام الدولة ؛ فضلاً عن مخالفة شرع الله عز وجل .
ومعنا كذلك قوة المرجعية المؤيدة، أهل العلم وكبار العلماء والمفتي وهيئة كبار العلماء وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. كل أولئك من أهل العلم مؤيدون لكل مسيرة إصلاح ولكل راية ترفع الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وفق الأسس والضوابط الشرعية فلم لا نكاتبهم ونخاطبهم ولم لا نطلب أن تتحرك كل قوى الأمة في هذا الاتجاه.
أنتقل بعد هذا أيضا إلى صورة الخطوات العملية، وأبدأها بالخطوات مع الفاعلين للمنكر، لم نتركهم للشيطان يستولي عليهم، لم نتركهم لضعف أنفسهم يدنو بهم ويسهل بهم، لم نتركهم لأهوائهم تلعب بهم وتأخذ بهم يمنة ويسرة، لم لا نناصحهم مناصحة شفهية مباشرة لمن نعرف بالحكمة بالموعظة الحسنة بالسر المناسب لحال كل واحد، لو فعلنا ذلك لو أن كل مرتكب لمنكر في حيه وجد خمسة أو عشرة من الناس كلهم يقول له : اتق الله إن هذا فيه حرام .. إن هذا يضرك في دنياك .. إن هذا سيكون له عقوبة ووبال في أخراك .. هل ترونه لا يرتدع ؟!
{وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين}
{فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى}(/10)
قلوب مؤمنة فيها حياة وفيها روح، قد يكون ران عليها أثر المعصية، قد يكون استولت عليها الشهوات لكنها ما زالت فيها جذوة الإيمان وبذرة اليقين وحب الخير والصلاح، تتذكر وتتعظ، إن لم تكن قادرا على ذلك وحدك، فاصطحب معك واحداً من الجيران أو من الإخوان أو من المعارف، قم بهذه المهمة وحدك أو مع غيرك، قوموا بها أفرادا تتعاقبون يأتيه هذا اليوم وغدا يأتيه ذاك، وبعد غد يأتيه ثالث حتى يشعر بأن الجميع ينصحونه ويردعونه، وكذلك ممكن أن يكون ذلك في مجموعات متوالية، ثلاثة يزورونه وأربعة يمرون به وخمسة يقابلونه حتى يشعر أن كل من حوله يريدون له الخير ويحبون له أن يعزل عن هذا الطريق الذي يعرضه لسخط الله سبحانه وتعالى.
ومن ذلك المكاتبة المباشرة حتى لمن لا تعرف، هل رأيت كاتباً كتب يوماً مقالاً فيه انحراف ، وفيه خطر ، وفيه دعوة إلى فساد، عنوانه مكتوب .. اكتب له وإن كنت لا تعرفه ولا يعرفك، انطق بالحق فلو أن كل واحدٍ صنع ذلك منا لجاء لهذا الكاتب عشرات بل مئات بل ربما آلاف الرسائل تقول له إنك أخطأت، ربما يرجع، بل نأمل كذلك بنسبة كبيرة أن يغير رأيه أو أن يتوازن أو أن لا يستمر في ذلك أو أن يخشى عاقبة أخراه أو أن يستحي أن يكون شاذا بين الناس، لكنه إن كتب وجد من يؤيده وثاني يكتب مثله ولا أحد يكتب ولا أحد يعترض؛ فإن مثل هذا لا شك أنه من السلبية والتخلي عن المهمة العظيمة التي بتركها يقع الفساد والشر {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } وفي تتمة الآيات {إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير} .
إن لم يكن ولاء على الطاعة وتبادل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في داخل الأمة تفكك بنيانها وتصدعت قوتها، وأصبحت مهددة بأن يدوس الأعداء في خلال ديارها، وأن يتسربوا وينتشروا في أوصالها، وأن يشيعوا الفساد فكرا منحرفا وسلوكا منحرفا في أبناء أمتها .
وهذه صورٌ مهمة .. اكتب لرئيس التحرير ، اكتب للكاتب ، اكتب لمدير تلك القناة ، اكتب ولو كنت تظن أنه لن تكون هناك استجابة، لو أن كل كاتب كتب دون النظر إلى الاستجابة لوصلت الكتابات - كما قلت - إلى الآلاف بل عشرات الآلاف، كم أعدادنا في كل مجتمع خير، كم الذين يملئون المساجد هل يأتون المساجد ليسمعوا ثم يخرجوا دون أن تكون لهم مهمة تجاه دينهم ولا غيرة على حرمات ربهم ، ولا انتصار لسنة رسولهم صلى الله عليه وسلم، إذا فهذه الصورة القبيحة التي ذكرت لكم عنها من كلام ابن القيم رحمه الله.
الخطوات مع المؤثرين:
فلنكتب ولنصل بأنفسنا كذلك إلى المسئولين من أكبر مسئول في الدولة خادم الحرمين، يقول انصحوني ، ويقول قدموا لي ما تريدون ويعلن ذلك .. فلِمَ لا نصنع لم لا نكتب لم لا نصل بقدر مستطاعنا وبقدر من يستطيع منا، لِمَ لا نكتب إلى علماءنا وإلى المفتي وإلى الهيئات وإلى كل ذوي الرأي ! لِمَ لا نكتب إلى أمراء المناطق ومسئولي وأمراء المحافظات ! لِمَ لا نكتب لمسئولي الدائرة التي نعرف أن فيها مخالفة أو منكراً ! لو كل ذلك صنعناه فهل يعيبنا ذلك أو هل نكون مخالفين لشيء ؟ كلا ! قلنا كلمة حق بأسلوب مهذب و نصيحة محكمة مطعمة ومطرزة ومنوّرة بآيات القرآن الكريم وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وأقوال من أقوال قادة هذه البلاد ونصوص من الأنظمة المنصوص عليها في هذه البلاد، إذاً أقمنا الحجة ودعونا إلى خير لعله أن يكون فيه كثير وكثير من الخير .
الكتابة للقضاة وللوجهاء أيضاً من التجار وأصحاب السمعة والسيرة الحسنة في الناس ؛ فإن الناس ربما يسمعون لقولهم أكثر مما يسمعون لقولي وقولك، وربما لو تكلم الوجيه مع المسئول عندما نصل إلى ذلك الوجيه ونخبره عن أثر المنكرات، يكون الأمر فيه خير وتأثير ولو أن كل واحد وكل مجموعة في حي فعلت ذلك لكان من وراء ذلك خير كثير ، ولجددنا سير أسلافنا؛ فقد كانوا ينتدبون لهذه المهمة ويحرك بعضهم بعضا فيها، ليس في عصور متأخرة بل من العصور المتقدمة فهذا هشام بن حكيم رضي الله عنه وأرضاه كان يأمر بالمعروف في رجال معه يصطحبهم يأخذهم معه، يسيرون متعاضدين حتى يروا الناس أن للخير من يأمر به، وأن للمنكر من ينهى عنه، وأن في المجتمع وفي الأمة أحرار أغيار لا يرضون أن ينتكس حال أمتنا وأن تتأخر من بعد التقدم وأن ترجع إلى المعاصي بعد أن سبقت إلى الطاعات وأن نؤكد ونستيقن أنه لن يصلح حال أمتنا إلا بما صلح به حال أولها، استقامة لا يعتريه انحراف (قل آمنت بالله ثم استقم)
وأمر بمعروف ونهي عن المنكر يتدارك كل خطأ وكل غفلة ونسيان .(/11)
وهذا المحدث الزاهد عبد الرحيم البغدادي في بغداد في زمانه كان مما ذكره الذهبي عنه أنه قال وله أتباع وأصحاب يتولون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذكر ابن الجوزي عن ابن عقيل قوله رأينا في زماننا أبابكر الأقفالي في أيام القائم - أي في أيام حكم الخليفة القائم بأمر الله- قال: "كان إذا نهض لإنكار المنكر استتبع معه مشايخ لا يأكلون إلا من صنعة أيديهم" أي ليكونوا أحرارا في قول الحق.
ثم ماذا ؟ ثم يقوم بمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سواء كان بالقول أو بالكتابة بالأسلوب المناسب وتاريخنا مليء بذلك، فهذا الحسن البصري رحمه الله يكتب إلى عمر بن عبد العزيز الخليفة المؤمن الزاهد العادل فيذكره في رسالة طويلة:
"يا أمير المؤمنين إن الأمير العادل أب شفيق .. يا أمير المؤمنين إن الأمير العادل كذا وكذا " ، ثم يختم له فيقول: " وأذكرك يا أمير المؤمنين إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور، فالأسرار ظاهرة والكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فالآن يا أمير المؤمنين وأنت في مهل قبل حلول الأجل وانقطاع الأمل، لا تحكم يا أمير المؤمنين في عباد الله بحكم الجاهلين ولا تسلك بهم سبيل الظالمين ولا تسلط المستكبرين على المستضعفين ؛ فإنهم لا يرقبون فيهم إلاً ولا ذمة فتبوء بأوزارك وأوزارا مع أوزارك وتحمل أثقالك وأثقالا مع أثقالك، ولا تنظر إلى قدرتك اليوم ولكن انظر إلى قدرتك غدا وأنت مأسور في حبائل الموت وموقوف بين يدي الله، في مجمع من الملائكة والنبيين والمرسلين وقد عنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما " .
لو أن كل حاكم من حكامنا وجد من يكتب له ذلك، أفلا يكون في هذا تأثيراً في قلبه ونفسه ؟ أفلا يكون له زجر عن المنكر إن كان واقعا في حكمه أو بأمره أو بمعرفته ؟ أفلا يكون على أقل تقدير مانعا له من الزيادة فيما قد يكون في هذه المنكرات .. لِمَ لا نأخذ الخطوات العملية في هذا الجانب كذلك ؟!
وأنتقل إلى الخطوات الإعلامية وما أدراك ما الإعلام يوم يكون وسيلة إفساد ويوم يكون وسيلة إصلاح، إن كلمتي هذه تسمعونها أنتم، لكنها يوم تكتب في صحيفة قد يقرؤها أضعاف أضعافكم، ولو أنها كانت مبثوثة في قناة لسمعها أضعاف الأضعاف، وكذلكم تكرر وتعاد ويزاد معناها ويأتي مثلها، فكلما كانت الرسالة متكررة وبصور متنوعة أصبح تأثيرها عظيما.
وهذا الذي نراه في التأثير الإفسادي، هذا الذي رأينا أثره في شبابنا الذين اجترءوا اليوم أن يروا امرأة تركب سيارة فيفتحونها وسط الطريق العام ويخرجون منها المرأة ويأخذونها على مرأى من الناس، من يصدق أن مثل هذا قد حدث وكتب في الصحف في بلادنا هذه، إنها الخطوات التي تبدأ قليلاً ثم تعظم حتى تصبح سيلا جارفا، كما قال القائل: "ومعظم النار من مستصغر الشرر" ونعلم جميعا أن أول الغيث قطر ثم ينهمر.
هذه الخطوات الإعلامية نبدأها بالكتابة الصحفية كل من له قدرة أن يكتب ليس لمجرد الرد على من أخطأ بل أن يكتب في أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أن يكتب في خطورة المنكرات، أن يكتب أن كل منكر يشيع فهو سبب في الإخلال بالأمن، سواء ما نرى من كثرة الجرائم أو انتشار المخدرات أو غير ذلك من الأمور مبعثها ضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المجتمع، لأن الأمن ورجاله لا يستطيعون أن يقفوا فوق رأس كل واحد أو يكون عند كل بيت دورية من الشرطة ما لم يكن زاجر ورادع في قلب الإنسان بتربيته الإيمانية الإسلامية وما لم يكن مذكر وواعظ بإحياء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأحياء وأن يكون في كل حي مجموعة تقوم بذلك، فإن كثيرا من هذا يضيع أثره.
ونحن نعلم اليوم كثرة هذه الجرائم، والعالم اليوم منذ عدة سنوات وعندنا ينادي بما يسمى الشرطة المجتمعية، أن يكون المجتمع في كل ناحية منه شرطة، أي تقوم بالتنبه للأخطار ومراقبة الانحرافات والتبليغ عنها أو النهي عنها أو معالجتها، وذلك أمر مهم ومطلوب، إن لم تستطع فكاتب أو اكتب إلى بعض الكتاب الخيرين الصالحين الذين ترى كتاباتهم، بلغهم عن خطورة المنكرات، اذكر لهم بعض ما ترى فسوف يعالجون ذلك بأقلامهم، وسوف يكتبون ما لعله يكون أجرك فيه أعظم من أجرهم، ويكون الأثر له من بعد خيرا عاما بإذنه عز وجل.
كاتب مقدمي البرامج الذين يقدمون برامج نبههم إلى القضايا التي يثيرونها، اجعله بكتابتك يجعل حلقة عن السفور والتبرج وأخطاره، وحلقة عن انحرافات الشباب المراهقين وأسبابها، وحلقة عن التقليد والتبعية التي يسير فيها الشباب والشابات وراء أجيال ووراء مجتمعات غير مسلمة ولا ملتزمة ولا تمت لنا بصلة، لعلنا إن فعلنا ذلك وجهنا على أقل تقدير بعض الإعلاميين ليكونوا أدوات في التنبيه على الأخطار والدعوة على الإصلاح .(/12)
التواصل مع مراكز الدعوة والإرشاد في كل حي مندوبية لهذه الدعوة لم لا نصل إليها لم لا نأخذ منهم ما لديهم من المطبوعات فنوزعها، لم لا نخبرهم ببعض المنكرات ونطلب منهم أن يعقدوا فيها الندوات والمحاضرات أو أن يحرروا فيها تلك المطويات ونعمل على نشرها فإن ذلك أيضا فيه خير كثير.
مراكز الأحياء الآن في هذه المدينة والمحافظة في كل حي يبدأ الآن إنشاء مركزاً يسمى مركز الأحياء، لتقديم الأنشطة الاجتماعية وتوعية الشباب .. لِمَ لا نكون من خلالها ندق نواقيس الخطر ونحذر من هذه المنكرات .. لِمَ لا نجعل ما يسمى بالديوانيات في كل حي عند بعض وجهاء حي، عندما يجتمع الناس على حديث وأنس وطعام وشراب أن يجعلوا هذه الموضوعات مثارة في هذه المنتديات ليتنبه الغافلون، بعضكم معاشر الآباء هنا لا تعرفون ما يصنعه أبناءكم، لا تعرفون أمورا لم تتعاملوا معها، في الانترنت والفضائيات وغيرها، هؤلاء الأبناء يعرفون ويتأثرون وأنتم لا تعلمون أنهم مخالفون، ربما تسمعون وتدركون ما تحتاجون به أن تنظروا إلى بيوتكم وأسركم، وأن تتفقدوا أحوال أبناءكم وبناتكم، وأن تحرصوا على أن تؤدوا واجبكم ودوركم في داخل بيوتكم، وهكذا.. كثيرة هي الوسائل.
الجمعيات الخيرية جمعية البر التي تؤوي اللقطاء من الأبناء الذين خرجوا أو نتجوا عن هذا الانحراف، هي تعاني ويمكن أن تعطينا معلومات ويمكن أن نتعاون معها في حملة نمنع بها مثل هذه المنكرات، والأمر يطول والحديث يعظم والوسائل تكثر والخطوات لا منتهى لها ولكن ندائي الذي أكرره الحق بالقافلة قبل أن يفوت الأوان.
نسأل الله عز وجل أن يحفظ علينا إيماننا وإسلامنا وأخلاقنا ، وأن يقيم في مجتمعاتنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن يجعلنا في هذا السبيل من العاملين إنه ولي ذلك والقادر عليه .
أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية:
أما بعد معاشر الأخوة المؤمنون :
وإن من أعظم التقوى الغيرة لحرمات الله والانتصار لدين الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومن الخطوات كذلك الخطوات الاجتماعية التي يتواصل فيها الناس مع الوجهاء ومع ذوي الكلمة المسموعة في كل حي وفي تلك الديوانيات كما قلنا ، وفي العمل على التواصي مع الأئمة والخطباء، زر إمام مسجدك وحيك قل له اخطب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حدثه عن بعض ما يجري حتى يكون اللسان الناطق بذلك كثيرا .
ولنأخذ كذلك سمة في كل حي إذا كان فيه مكان يمارس فيه شيء من المنكر ننصحه ونعظه؛ فإن لم يتعظ فلنقاطعه، فلنقاطعه شراء ولنقاطعه زيارة، ولنشعره بأننا سنكون كذلك من الذين يبلغون عنه الجهات المسئولة عن مخالفته الجهات النظامية والشرعية قبل ذلك، لو فعلنا ذلك في ضوء الضوابط التي قلناها وأذكر بها أن يكون لنا معرفة شرعية بالمنكر، وأنه منكر محرم ولا نرجم بالقول من عند أنفسنا، وأن نفرق كذلك بين دائرة المنكر الذي لا خلاف في إنكاره وحرمته وبين ما هو دائر في الاجتهاد بين اجتهاد معتبر عند العلماء ثم الانضباط في الوسائل بالحدود المشروعة، فلا عنف ولا عدوان ولا تسلط ولا شيء من ذلك، ثم أيضا بالعمل على الاستعانة بأهل العلم والدعوة بأن يكتبوا في هذه الأمور ويوضحوا لنا المعالم لنقوم بدورنا ونؤدي واجبنا .
ولعلي - وأنا أقول هذه الخطوات - أجعل لكم أمرا فيما بينكم وبين أنفسكم، قد يزعجكم قليلاً ، وقد يحرجكم قليلاً ، لكنني أحسب أنه سينفعنا جميعاً، ليكن لنا نوع من العزم والحزم مع أنفسنا ألا تأتي الجمعة القادمة إلا وقد قام كل واحد منا بخطوة من هذه الخطوات، ذهب فنصح، أو كتب فوعظ أو جمع الناس وطلب، أو أي أمر من هذه الأمور، لو أنك فعلت ثم بلغت غيرك ليفعل، اجعل لنفسك وعلى نفسك أن لا يمر بك هذا الأسبوع إلا وقد قمت بخطوة عملية مباشرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، انتصارا لدين الله واتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وغيرة على هذا الدين وعلى هذه البلاد التي تضم الحرمين الشريفين ولنكن كما قلنا متسلحين بسلاح الشرع ونظام البلاد وكلام قادتها ونصوص أنظمتها، وأقوال علماءها، فكل ذلك مبذول وميسور والحجة قائمة .
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على أن نبرئ ذمتنا ، وأن نؤدي واجبنا ، وأن لا نكون من الشياطين الخرس الذين لا ينطقون بالحق إذا عرفوه ولا ينكرون المنكر إذا رأوه .(/13)
صناعة الترفيه
الكاتب: الشيخ د.علي بن عمر بادحدح
لقد أوضح الله تعالى لنا في كتابه الدنيا وحقيقةَ أعمالها وأبان لنا الآخرةَ وحقيقةَ حياتها فقال: (وما الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدارَ الآخرةَ لهي الحيوانُ لو كانوا يعلمون) إنما الدنيا لهو ولعب في جميع مراحله، تُلهي الناس وتشغَلُهم عن المنفعة الدائمةِ واللذة الحقيقةِ التي خلقوا من أجلها وهي الآخرةْ ولذتِها التي هي دارُ الحيوان، وهذه الدنيا أكثرُ أهلها في لعبٍ ولهو وباطلٍ وغرورٍ وإضاعةِ أوقاتٍ، يقضون حياتهم فيها من أجل المتعة والاستمتاع، حكايتهم فيها كالأولين الذين قالوا: ( إنْ هي إلا حياتنا الدنيا ) ومع ذلك فهي كالأحلام تمر بهم سريعا..
ألا إنما الدنيا كأحلامِ نائم ** وما خيرُ عيشٍ لا يكونُ لدائمٍ
تأمل إذا ما نلت بالأمس لذةً ** فأفنيتها هل أنت إلا كحالمِ
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ألا إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكرُ الله وما والاه وعالم أو متعلم ) فكل ما فيها مذموم إلا ما كان فيه ذكر لله تعالى أو ما يؤدي ويعين على ذكر الله، ولذلك فإن الأذكياء من الصالحين عرفوا حقيقتها وقيمتها، فثمنوها واستثمروها فيما يعود عليهم فيها بالفائدة، فقد كانوا يحذرونها، وما كانوا يذمونها، ذم رجل الدنيا عند أمير المؤمنين عليُ بنُ أبي طالب رضي الله عنه فقال له: يا هذا ..! الدنيا دارُ فسْقٍ لمن صَدَقَها، ودارُ نجاة لمن فهم عنها، ودار غنىً لمن تزود منها..
لا تُتْبِعِ الدنيا وأيامَها ذما ** وإن دارت بك الدائرة
مِن شرف الدنيا ومِن فضلها ** أن بها تُستدرك الآخرة
فالدنيا إذاً بحسب ما يملؤها ويعيش فيها صاحبها من خير أو شر، وهي مع ذلك مليئة باللهو واللعب والزينة، وقد حذرنا خالقها من أن نعيش فيها مبتغين منها هذه الأشياء فقال جل وعلا: (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخرٌ بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد ) فهي في حقيقتها لعبٌ باطل وفَرَحٌ زائل، لعبٌ كلعب الصبيان، ولهوٌ كلهو الشباب، وزينة كزينة النساء، وتفاخر كتفاخر الإخوان ، وتكاثر كتكاثُر السلطان، سريعةُ الانقضاء كثيرةُ التقلب، إن أضحكت قليلا أبكت كثيرا، وإن أغنت في الحال أفقرت في المآل وهكذا، ولقد اتخذ سلفُنا صالحَ الأعمال فيها سُفُنا لما رأوها مليئة بالشهوات والملهيات، فأبحروا فيها إلى شاطئ السلامة شاطئ الآخرة، وحققوا فيها قول الله تعالى: ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ).
مرّ شُريحٌ القاضي رحمه الله على قوم يلعبون، قال: ما لي أراكم تلعبون؟ قالوا: فرغنا، قال: ما بهذا أُمر الفارغ، وقال عمر رضي الله عنه : " إني لأكره أن أرى أحدكم سبهللا لا في عمل الدنيا ولا في عمل الآخرة ".
إن الدنيا التي نعيش في ظلالها اليوم صار فيها أنواع من اللهو والترفيه والتسلية لم تخطر ببال أحد ممن سبقنا، وقد تقدم العلمُ الدنيويُ والصناعةُ ووفرت للإنسان مزيدا من الوقت والجهد بهذه الآلات التي صارت تقوم بالنيابة عن الإنسان في جميع شؤون أعماله الحياتية، حتى أصبح الإنسان اليوم يختلف كثيرا عن إنسان الأمس في مطعمه ومشربه وملبسه ومركبه ولهوه وفي حياته كلها، إن هذه الصناعةَ الحديثةَ التي تعيشها الدنيا اليوم قامت بتغيير نمط الحياة لدى الإنسان في زراعته وصناعته وحياته ووفرت وقته بشكل كبير ما كان يحلم به إنسان الأمس، لكن السؤال الذي ينبغي أن يطرح ليُعقل، أين ذهبت هذه الأوقات الموفَّرة التي وفرتها هذه الحضارة المزدهرة في عالم الإنسان اليوم..؟
لقد نشأ بعد الحرب العالمية الثانية علمٌ لدى الغرب أسموه علمُ اجتماع الفراغ، وكان هذا العلم نتيجةَ كثرةِ الفراغ الذي حصل عند الناس بسبب هذه الكفاءة والتنمية وزيادة الطاقة الإنتاجية والتقدم التقني، فكيف ملئوا هذا الفراغ الذي كان يهدد إنسانيتهم في عالمهم؟ لقد ملئوه بأنواعٍ من الترفيه والتسلية الحديثة، وصار لأجل ذلك صناعاتٌ وشركات ورأس مال هائل، يُنفَق على التسلية والترفيه .. فهل التسلية والترفيه في عالمنا اليوم كتسليتهم؟ هل هذا الترفيه الذي نعيشه ويعيشه أبناؤنا اليوم هو ترفيه مذموم؟ إن سنة الله في عالم الإنسان أن فعله متوسط بين عالم الملائكة وعالم الشياطين، فمُكّن الملائكة بالخير، يفعلون ما يُؤمرون، يسبحون الليلَ والنهار لا يفتُرون ، ومُكّن الشياطينَ بالشر والإغواء فلا يغفلون، وجُعل عالمُ الإنسان متلونا، وإليه أشار صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم بقوله: "ولكن يا حنظلة ساعة وساعة" ففي ساعة الحقوق تؤدون حقوقَ ربكم، وفي ساعةِ الفتور تقضون حظوظ أنفسكم.(/1)
إذا .. هي ساعتان، ساعة تكونُ للعبادة والذكر وأنواعِ الطاعات، وساعة لقضاء حقوق النفس بالمباحات من الأكل والشرب واللباس والنكاح والنوم ونحوِ ذلك من رياضات النفس وملاعبة الزوجة والأبناء، فتُعطى النفس حقوقَها ضمن المباح الذي أذن به الشرع، وقد كان عليه الصلاة والسلام يلاعب الحسن والحسين ويداعبهما ويلاعبهما، وكان يداري زوجاته ، ويداعب أصحابه ويقولون: إنك تداعبنا، قال: إني لأمزح ولا أقول إلا حقا، وإذن لعائشة رضي الله عنها في النظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد بحِرابهم، قال : ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستُرُني بردائه أنظر إلى لِعْبِهم ، بل لقد أُخذت عائشة رضي الله عنها من الأرجوحة وكانت تلعب مع صواحب لها لتحضيرها للعرس ، وقالت : كنت ألعب بالبنات عند النبي صلى الله عليه وسلم وكانت لي صواحب يلعبن معي، قال بنُ مُفلح رحمه الله تعالى:" والعاقل إذا خلا بزوجاته وإيمائه ترك العقل في زاوية ، وداعب ومزاح وهازل ليعطي النفس والزوجة حقهما، وإن خرج لأطفاله خرج في صورة طفل" فانظر إلى هذا اللهو واللعب للأطفال والصغار حتى للمرأة حديثةِ السن، وقد استثنى العلماء من الصور: اللُعَبَ للبنات، والعلة في هذه الرخصة: قال العلماء: " وخُصَّ ذلك من عموم النهي عن اتخاذ الصور، وأجاز العلماءُ بيعَ اللُعبِ للبنات لتدريبهن من صِغرِهن على أمر بُيُوتِهن وأولاده" وكان الصحابة يُعطون الصغار اللُعب لتعوديهم على العبادة كما جاء في حديث الرُّبيِّع بنت معوذ، قالت: كنا نصوم [ أي عاشوراء ] ونصوِّمُ صبياننا، ونجعل لهم اللعبة من العِهن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذلك حتى يكونَ عند الإفطار [ رواه البخاري ]
ومن الأحاديث في هذا الباب : قولُ النبي صلى الله عليه وسلم :" كلُ ما يلهوا به الرجلُ المسلمُ باطلٌ إلا رميَه بقوسه، وتأديبَه فرسه، وملاعبتَه أهله، فإنهن من الحق " [ رواه الترمذي ] فكل ما يشتغل به الرجلُ المسلمُ باطل لا ثواب له وإن كان من المباحات إلا رميَه بقوس أو تأديبَ فرسه لما فيه من الإعانة على الجهاد، وملاعبةِ الأهل، لأن المرأة بغير ممازحة ومداعبة وملاعبة لا تصلح معك، وليس المقصود أنه باطل أي محرم .. لا .. لكنه اللهو الذي يؤجر فيه بخلاف اللهو المباح الآخر فإنه لا يُؤجر عليه إلا ما كان يعين على ذكر الله تعالى أو محتسبا اللهو فيه لأجل النشاط للعبادة كما قال معاذ بن جبل لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه : " أما أنا فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي " وقال علي رضي الله عنه : " روَّحوا عن القلوب ساعة ، فإنها إذا أكرهت عميت " وقال بكر بن عبد الله المُزني : " كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتبادحون بالبطيخ ، فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال " .(/2)
لقد قفز الإنفاق على التسلية والترفيه قفزة عظيمة في هذا الزمن، فينما كانت الأسرة في أوروبا في عام ألف وتسعمِائة وواحدٍ وخمسين تنفق سبعينَ دولارا على الأنشطة الترويحية، قفز هذا المبلغ بعده بعشرين سنة إلى مائتينِ وستين دولارا، ثم أصبحت صناعة الترفيه في العالم في ازدياد وتضخم، وتنفق المنطقة العربية في الموسم الواحد قرابة العشرةَ مليارات دولارا، وينفق السياح العرب أكثر من خمسٍ وعشرينَ مليارَ دولارٍ سنويا في مراكز الترفيه، وهكذا تستقبل بعض مدن العالم الملايين من الزوار للترفيه حتى بُني منتزه واحد بخمسةٍ وخمسين مليارا من الدولارات، وتم تطويرُ حديقة عائلية واحدة بسبعة وعشرين ونصفَ مليون دولار، وافتُتحت منتجعات ومنتزهات ومطاعم ومدن ترفيهية بمئات المليارات، ومرتبات بعض اللاعبين تصل إلى أكثر من خمسين مليون دولار في السنة الواحدة، بينما أشهر الأطباء والمهندسين والمفكرين والباحثين والمخترعين والعلماء والقضاة في العالم لا يصل مرتبه السنوي إلى واحد بالمائة من هذا الرقم، كل هذا في الوقت الذي يموت فيه ملايينٌ من البشر في العالم فقرا وجوعا، وتزداد البطالة في العالم يوما بعد يوم إضافة إلى الأمية التي تنتشر بين شعوب العالم في عالم مليء بالحضارة والمعرفة، إن هذه الأجهزة الكثيرة التي خرجت للناس في هذا الزمن من الستلايت والدجتل والشاشات والفضائيات والألعاب الإلكترونية ومدن الترفيه العالمية لها أثرها العميق في نفوس الناس وعقولهم، واستهلكت بعض الدول خمسين في المائة من مصنوعاتها في المنطقة العربية في بلد واحد، وبيع من البليستيشن أول ما عُرض في اليابان في الخمسة الأشهر الأولى أكثر من مليون جهاز، ويوجد في العالم اليوم من هذه اللعبة أكثر من مائتين وخمسين مليون جهاز، في المنطقة العربية وحدها أكثر من مليوني جهاز، لقد طالت صناعة الترفيه اليوم العالمَ كله، وصار الناس يرفهون عن أنفسهم بأشياء مختلطة ، بين المباح والمحرم كاقتناء الأثَرِيَّاتِ وجمع الطوابعِ والترفيه بالسيارات ما بين تفحيط وتطعيس، وجمعِ الطيور وتربيةِ الحمام، والرياضاتِ المائية والدراجاتِ النارية والزوارقِ البحرية ولُعْبِ الكرة بفنونها المختلفة، والترفيهِ بتسلق الجبال في مختلف الأماكن والصناعات اليدوية من التزيين والتطريز والترفيه بالألعاب النارية وأنواعِ سباق الحيوانات وكذا تصميمُ الحدائق والزراعةِ والترفيه بالطرائفِ والطائراتِ الورقية ونحو ذلك من الفنون المختلفة، وفي المقابل يوجد ترفيه عجيب كالترفيه بالأغاني والصوتيات والفيديو كليب والمخدرات وأماكنِ الشيشة والمقاهي وأبراجِ الحظ والكهانةِ وقلبِ الفنجان، والترفيه بالتعري الجماعي وحفلات ملكات الجمال والرقص وليالي الغنائي الحمراء ورؤية القنوات المختلفة والسياحة ونحو ذلك من هذه الأمور، وهذا العددُ الضخم من أفراد هذه الصناعة التي جعلت هذا الانتشار في العالم، وانشغل الناس ودخلوا في هذه الجوانب الترفيهية المختلفة، وعمت أنواع من المحرمات والفساد العريض في الأرض، وضاعت أوقات كثيرة كان الأولى بها أن تقضى فيما فيه فائدة، ونسي الناس ضوابط الترفيه في حياتهم والله المستعان ..(/3)
إن المتفحص للترفيه والتسلية في عالم اليوم يجد أنها تفتقد ضوابطها الشرعية مما حدا بكثير من خلق الله أن يوجهوا الترفيه والتسلية إلى الوجهة التي يريدون لا إلى ما يريد الشرع، إن الضوابط الشرعية في التسلية والترفيه ينبغي أن تتضمن أمورا منها: أن لا تتضمن شيئا من الشرك والسحر ونحو ذلك من أنواع الدجل والشعوذة كالتسلي بحظ الأبراج وقراءة الفنجان وإتيان الكهان والعرافين، ومما يؤسف له أنه أقيمت قنوات فضائية تعنى بهذا الجانب لنشر الشرك والسحر بين الناس، كما أنه ينبغي أن لا تشغل عن ذكر الله وطاعته وامتثال أمره، فإن الله حرم الخمر والميسر لأنهما يصدان عن ذكر الله وعن الصلاة ، فكل لعبة مباحة وكل تسلية بريئة تصد عن ذكر الله وعن الصلاة فهي محرمة وتزداد تحريما إن كانت محرمة، كما ينبغي أن يكون الترفيه على قدر الحاجة حتى لا يتعلق القلب به، وفي دائرة إطار المباح ومما شرعه الله، فإذا احتوت على أمور محرمة كالمعازف والموسيقى وصور النساء وما أكثرها اليوم في وسائل الترفيه من الشاشات والألعاب وغيرها فإنها حينئذ خرجت عن المباح، كما ينبغي أن لا تشتمل الألعاب على صورٍ من ذوات الأرواح ومن المجسمات وغيرها، فإن النبي صلى الله عليه سلم لعن من صنعها وأمر بإتلافها، ويجب أن يكون الترفيه خاليا من القمار والمراهنات ومن ذلك اللعب على المال، فأي لعبة قامة على مال فهي مراهنة وقمار وميسر، ويشترط في اللعبة أن لا تشتمل على شيء ممن شعارات الكفار الدالة على أديانهم وصلبانهم ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحك الصليب ويطمسه، والحذر الحذر من الألعاب التي تربي في نفوس الأبناء الاعتزاز بالكفار وجيوشهم وأعلامهم وتحبيب شخصياتهم وتقديس صلبانهم كجعل الصليب في اللعبة كونِه يعطي اللاعب صحة أو قوة أو إنعاشا للروح ونحو ذلك، وأن لا تقوم على ابتزاز المسلمين وإهانتهم وإهانة مقدساتهم مع خلوها من الترف والإسراف، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى لنا إضاعة المال ، عباد الله: إن فهم الضوابط الشرعية في الألعاب والترفيه والتسلية مهم لأجل سلامتنا وسلامة أبنائنا ولأجل أن يكون اللعبُ مباحا والتسليةُ بريئة وأن تكون الأوقات التي تُمضى فيها لا تقطع عن الله والدار الآخرة .. اللهم إنا نسألك فعل الخيرات ، وترك المنكرات ، وحب المساكين ، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين ، اللهم إنا نسألك حبك ...(/4)
صناعة الفكرة
بقلم: أحمد بن عبد المحسن العساف*
الكتابة المبهرة هي التي تحتوي على عنصرين مهمين هما: الفكرة والبيان؛ وإذا ما تخلفت الفكرة فالكتابة مجرد زخارف لفظية ومحسنات وسجع قد يطرب لها السامع ثم يملها بل ويمجها حين يعرضها على عقله فلا يكاد يفهم منها معنى أو مغزى. وقد تكون الفكرة حاضرة لكن ينقصها البيان العذب والكلمات الفخمة فتكون كأجمل إنسان لا يجد غير الخَلِق المرقع من الثياب فلا تنفعه ملامحه مادامت بلا حلة تنجذب لها العيون وتنقاد لها النفوس؛ وكم من حق ضاع بسوء التعبير وكم من باطل سرى بطلاوة الكلام وحلو الحديث.
وكم من حق ضاع بسوء التعبير وكم من باطل سرى بطلاوة الكلام وحلو الحديث
أما تلك التي تفقد العنصرين معاً فليست كتابة أصلاً ويصدق عليها وصف الهذيان وهمهمات المجانيين وتكون كما قال ابن دقيق العيد بعد جلوسه إلى الصوفي ابن سبعين: "جلست معه من ضحوة إلى قريب الظهر وهو يتحدث بكلام تفهم مفرداته ولا تعقل مركباته".
وقد ابتلي الناس بمطبوعات ووسائل نشر تقذف يومياً أو أسبوعياً أو دورياً أو غير ذلك مقالات ودراسات وكتباً يكاد يحلف قارئها يميناً مغلظة بين الركن والمقام أنها كتبت بالقدم لا اليد أو أنها كتبت ساعة مس أو صرع أو خبل منقطع أو متصل وما حل بنا هذا البلاء المتناسل إلا من شهوة الكلام وحب التزيد وداء الغرور ومرض الشهرة ولو بشر حال وسوء مقال؛ وبالله الحفيظ نستعيذ من الخذلان.
إن الفكرة عزيزة المنال صعبة البلوغ ولا تتأت لأي أحد ولا تنقاد بسهولة ويسر بل قد تتمنع على الفطاحلة الكبار والأساطين العظام حتى يقول الكبير المقدم فيهم: لا أجد ما أقوله أو لا أستطيع التعبير عما يجيش في نفسي وأضرابها من العبارات التي لا تخفى على من قرأ الكبار وقرأ لهم.
هناك مقالات ودراسات وكتب يكاد يحلف قارئها يميناً مغلظة بين الركن والمقام أنها كتبت بالقدم لا اليد أو أنها كتبت ساعة مس أو صرع أو خبل منقطع أو متصل
والفكرة إما أن تكون جديدة لم يسبق إليها فيكون صاحبها أول من جاء بها، وقد تكون قديمة لكنها تطرح بطريقة جديدة أو من وجه لم يذكره أحد؛ وكم ترك الأول للآخر. ويتبادر كثيراً إلى الذهن سؤال مفاده:كيف نصنع الفكرة؟
لصناعة الفكرة عدة طرق منها
التفكير: وهو أكبر مصنع لها؛ وبواسطته تتولد الأفكار من الطرق التي بعده فكلها يجتاز من خلاله إلى العالم الخارجي.
الملاحظة والتأمل: وهما فرع من التفكير وإنما خصصتهما بالذكر لقربهما وسهولة استخدامهما؛ وكم من شيء أو مشهد يمر بنا كثيراً ولو تأملناه لظفرنا بفكرة أو خاطرة.
الانصات: حيث أن سماع أحاديث الناس منجم للأفكار؛ ولا يذهب بك الظن بعيداً؛ فلست أعني صنفاً واحداً من البشر؛ بل كل من سنحت لك الفرصة أن تستمع إليه _ دون تضييع الوقت _ فاستفد منه ولو كان طفلاً أو عامياً أو ضعيف إدراك، وقد روي عن الجاحظ أنه كان يجلس لكل أحد مما جعل ذهنه متوقداً متدفق الأفكار عن أصناف الناس.
أحداث الساعة: وهي من أكثر المصادر استخداماً من قبل المتحدثين والكتاب.
التخيل والافتراض: ولا بأس في ذلك إن شرعاً أو عقلاً حتى لو كان المفترض ممنوع الوقوع مستحيلاً بدلالة غير آية من التنزيل الحكيم.
الحوار والمناقشة خاصة عندما يكون مع شخص مُلهِمٍ للأفكار حتى لو كنا نخالفه تماماً؛ ولاقتناص الأفكار من المتحدثين براعة قل من يجيدها وقليل من المجيدين من ينسب أفكاره.
قال ابن دقيق العيد بعد جلوسه إلى الصوفي ابن سبعين:"جلست معه من ضحوة إلى قريب الظهر وهو يتحدث بكلام تفهم مفرداته ولا تعقل مركباته"
استخدام الأفكار المتداولة اختصاراً أو زيادة أواستفساراً أو تعقيباً وهذا من أسهل ما يكون.
الاستفادة من الموروث الشعبي المحلي أو العالمي لتوليد الأفكار، ويدخل ضمن ذلك الأمثال والقصص. وكذلك النظر في عادات الشعوب وأخلاقهم.
ومن جملة تسخير الحيوان للإنسان أن في طباعها ونظامها منبعاً لا ينضب للأفكار ومن نظر في حياة الحيوان الكبرى للعلامة الدميري أو غيره تيقن من ذلك.
القراءة: ومهما قال الناس في الكتاب ولذة التنزه في عقول الرجال فلن يوفوه حقه ولا معشاره؛ وأجل وأكرم وأنفس ما يقرأ كتاب الله العزيز وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ثم كتب العلم فكل كتاب استيقن الواحد منا فيه المنفعة أو أمن منه المضرة؛ ويحسن التنبيه إلى أنه لا يجوز السماح للبوارق والقدحات الذهنية أن تجعل صاحبها مستسهل التقول على الله ورسوله بغير علم؛ بل يجب الرجوع إلى التفاسير والشروحات السلفية كي لا تزل قدم بعد ثبوتها.
وبعد ولادة الفكرة وصناعتها ينبغي التريث حتى تنضج على نار هادئة من الفكر النير المتزن قبل نشرها؛ ثم يبحث صاحب الفكرة ما وسعه الجهد وأسعفه الوقت عن فكرة مماثلة أو مناقضة لتجويد الصناعة وحمايتها من العوارض؛ وإن حادث المفكر عقلاً يأنس إليه وروحاً يشعر بطهارتها قبل النشر فخير على خير.(/1)
وتبقى مسائل لابد من الإشارة العاجلة إليها وهي
1. هل الفكرة حسنة لك عند الله أم سيئة ؟
2. هل تنفع فكرتك البلاد والعباد ؟
3. هل هذا هو التوقيت المناسب لعرض الفكرة ؟ وما هو المكان المناسب لنشرها ؟.
4. هل الأفضل لك كثرة الأفكار أم قلتها ؟
5. سجل أفكارك كمشاريع مستقبلية إن ضاق عنها وقتك.
6. للفكرة المبتكرة حق الأقدمية والسبق لكنها قد تواجه بمعارضة شديدة فتنبه !
7. ثمة فرق كبير بين الدرر الغرر وبين العجر البجر؛ فاختر لنفسك وفكرك ما تحب.
وإذا فرغنا من صناعة الفكرة فلا مناص من صياغة الفكرة على الوجه الذي يجلو البهاء ويبين المحاسن؛ وكنت قد كتبت مقالة بعنوان "خطوات نحو الكتابة الراقية" وآمل أن تكون معينةً لقارئها على مزيد من إتقان الصياغة بعد ضبط الصناعة لنحصل على أعلى درجات جودة المنتج الذي يمكث في الأرض وينفع الناس.(/2)
صناعة الهوية
د.هيثم مناع
"من ذا الذي يستطيع أن يقول أن المستقبل لم يأت في النفس بعد، إذا كان في النفس توقع المستقبل؟ ومن ذا الذي يستطيع أن يقول أن الماضي ليس حاضرا، إذا كان في الذاكرة ذكرى الماضي"
أوغستين
ثابت أم متحول، أساسي أم ثانوي، عنصر تقدم أم انكفاء على الذات، معطاء أم مقيد، ديناميكي أم متكلس، فقد شكّل مفهوم الهوية منذ آلاف السنين وحتى اليوم إشكالية غير قابلة للتجاوز في الوضع البشري. الأمر الذي لا يعني بحال عدم القدرة على عقلنة هذه الظاهرة أو تفكيك عناصر تواجدها في المجتمعات البشرية. مفهوم غامض ومعقد ومتشعب برز محركا للتحرر، عامل وحدة للجماعة، وعنصر تمايز وتباعد لها عن الآخر وهميا كان أو حقيقيا. هذا المكون "الثابت" في عتلة التغيير، كان أحيانا المنظم الأساسي لإعادة بناء العلاقات بين البشرية، وأحيان أخرى العائق الأساس أمام مسيرات التحول في تاريخ الأقوام والشعوب.
في واحد من أكثر نصوصه جرأة، يبدأ سيغموند فرويد دراسته "موسى والتوحيد" بالقول:
"أن ننتزع من شعبٍ الإنسان الذي يعتبره خير أبنائه ليست عملية يمكن القيام بها بخفة أو عن طيب خاطر، ولكن لا يمكن اللجوء مهما كانت الحالة لرفض الحقيقة لحساب مصلحة قومية مفترضة، ولنا كل الحق في أن نعتبر كشف جملة الظروف مكسبا لمعارفنا"(1).
كان فرويد قد توصل إلى فرضية تقول بأن المحرر والمشرع والنبي المرسل لليهود لم يكن من العبرانيين وإنما مصريا. وكان السؤال الرئيسي عند باحث ناقش لسنوات مفهوم التميز والهوية، هل للحقيقة التاريخية أهمية عند الباحث رغم البعد الرمزي والأسطوري الضروري لكل هوية تاريخية؟
في القرن السادس قبل الميلاد، كتب هيرقليطس "لا يسبح الإنسان في مياه النهر مرتين"، لأن كل شيء يتحرك، ليس بالإمكان الحديث عن جواهر خالدة. بعد قرن على ذلك، بدأت معالم الخلاف تتبلور أكثر فأكثر في الفلسفة اليونانية القديمة مع بروز اتجاه يسميه كلود دوبار (2) بالأساسيين. هذا الاتجاه، مهما كان تعريفه أو تصوره للهوية، يعتمد على الإيمان بجواهر، "وقائع أساسية"، مكونات أصلية غير قابلة للنقاش، جوهر سرمدي باستعارة تعبير أفلاطون، حاضر باستمرار أو "كائن" خالص. إن الهوية للكائنات الاختبارية هي ما يبقى كما هو رغم كل المتغيرات. هذه القدرة على البقاء فوق حواجز الزمان وترهات المكان وعواقب الأيام هي التي تمنح التشابه قوة وجودية. التصور الذي يمثله برمنيدس Parménide بمأثورته « l’être est, le non-être n’est pas ». "الكينونة خالدة، وما سواها ليس كذلك".
ستختلف الأسماء والأسباب والمقومات وستبقى هذه العملية التأملية للتمايز والتشابه، العام والخاص، النحن والآخر، العالمية والخصوصية، في صلب التكوينات الثقافية للبشرية. ذلك باعتبارها أكثر من سؤال الهوية لوحده، المؤجج الدائم لإعادة اكتشاف الإنسان لنفسه أفرادا وجماعات.. فكما كان يقول الهراطقة في القرون الوسطى، من يقدم مائة دليل على وجود الله لديه مائة شك.
ليست الغاية هنا كتابة تاريخ "الهويات"، بقدر ما هي استقراء المفهوم ومكانته الخاصة والعامة في الأزمنة الحديثة.
لعبت الشعائر دورا هاما في التمايز الثقافي للجماعات. ورغم أن المسيحية شكلت تراجعا في الشعائر الشرقية في تداخلها مع الوثنية الأوربية وتأسيسها لعالمية الدين وفكرة التقدم، فقد ارتبطت إنسانية الإنسان فيها بالعمادة لا بالولادة. الأمر الذي نجده عند العديد من المعتقدات الإحيائية في إفريقيا التي جعلت من وشمها الخاص بطاقة هوية تزرعها على الجسد.. الرغبة في شعيرة متميزة رافقت السيرورة الدائمة للاختلاط الطوعي أو الإكراهي الذي جعل من كل نقاء عرقي أو قبلي أو إثني مجرد أسطورة جميلة يرويها الآباء للأبناء. بهذا المعنى، لم تكن الهوية بنية مغلقة سكونية ثابتة، بل لم يكن بوسع أية جماعة أن تنتمي للعالم دون أن يتغلغل العالم في مقوماتها الداخلية وأن تدغدغ فضوله ببعض الخصائص الخلاقة في وجودها. لعل من الأمثلة الأكثر بلاغة في التاريخ لعملية غسل الدم الدائمة للهوية، التجربة الإسلامية. فقد تحولت من دعوة دينية إلى دولة- مدينة إلى إمبراطورية إلى دين كوني. ذلك بتعبيرات دينية هنا ودنيوية هناك، عبر عمليات انصهار واندماج دائمة في الثقافة والحياة. عمليات ولاء وانتماء وتزاوج وتداخل، كان العنصر المشترك الأساسي بينها المرونة والقدرة على إعادة تمثل صورة الذات، على الأقل في القرون الأربعة الأولى.
الكرامة الجديدة!(/1)
لم تكن معجزة أو نعمة إلهية، بل كلمة مشحونة بالمعاني السلبية والانتقاصية هي التي ستتصدر سلّم المفاهيم الصاعدة مع الثورة الصناعية، لتصبح سريعا مصدر الهواجس والتوترات وتعبيرات القلق في الحياة العملية للناس وتكّون سلّم القيم الجديدة بآن. العمل، هذه الكلمة ستنال بركات الإصلاح المسيحي وهدير النضال النقابي والتوسع الرأسمالي وتصبح مصدر التأمل الفكري والأخلاقي. "محددة القيم" عند آدم سميث، سبب الحياة الأفضل عند الإنساني فورستييه، العمل هو الجوهر عند تورغوت Turgot ، سيترجم هيغل هذا التحول فلسفيا بالقول أن العمل لم يعد وضعا ماديا خارجا عن الإنسان، ودون علاقة بمصيره الفعلي، وإنما جوهر وجوده. فريدريك إنجلز سيفسر بالعمل نظرية داروين في تحول القرد إلى إنسان. ومهما اختلفت المدارس الفكرية الليبرالية والاشتراكية، فقد شكل العمل قاسمها المشترك الأعلى. بهذا المعنى، طرحت الحضارة الغربية العمل كقيمة عامة وعالمية، لا تتموضع في دين أو دنيا، في مركز أو محيط، في لون أو عقيدة أو إيديولوجية، في جنس أو كون.. ومع إعادة تعريف العمل تمت إعادة تعريف الأفراد وعلاقتهم بالجماعة والدولة.
دخلت الثقافة الغربية الأقوى فكرة الشخص باعتبارها نتيجة لمسار تغيرت فيه أنماط التعرف على الذات مع التغيرات العميقة في التنظيم الاقتصادي والسياسي والرمزي للعلاقات الاجتماعية. بدأ هذا الشخص من جنس الرجال أبيض اللون، أوربي المنشأ، مدني الحقوق في الدولة-الأمة كمشروع تاريخي ترى فيه الأمم الأوربية نفسها باعتبارها المركز، المصدر والمرجع الأسمى للآخر. هذا الآخر نادرا ما استحق مصطلح الأمة الذي تم حصره في الدول "المتحضرة". يذكّر بذلك تايلور في استعراضه لولادة مفهوم الإثنية (3) (من اليونانية فاللاتينية ethnos) الذي تم توزيعه بكرم حاتمي على الشعوب المستعمَرَة. وفي حين تشكلت الأمم الأوربية في عنف اقتصاد السوق والحروب، وجدت "الإثنيات" الجنوبية نفسها في مركز الشك بين شيفرات إن لم تكن دائما قابلة للفك والتفسير، فهي قابلة للتغيير ضمن علاقاتها بمكوناتها والمهيمن الدولي والجوار. لكن مع صور تكلّس تظهر للسطح دور إغلاق تكوين متميز محدد، في عمليات السيطرة وإعادة السيطرة الاقتصادية والسياسية والإيديولوجية.
إلا أن الحضارة الغربية التي غزت العالم بالبضاعة والمطبعة والمدفع، أو لنقل الثورة الصناعية وعصر التنوير والاستعمار بأشكاله المتتابعة، تعاملت مع هويتها الخاصة باعتبارها الهوية، مع ثقافتها القومية باعتبارها الثقافة الإنسانية، مع عمليات إنتاج المعرفة فيها باعتبارها المعرفة العالمية. من هنا تحولت أشكال تفسيرها لعالمها الخاص إلى صيغ قاصرة عند التعامل مع عوالم أخرى، وتحولت أشكال النضال الفكري فيها إلى إيديولوجيات خارجها.
ليس هناك من ضرورة لتحميل أبو البقاء الكفوي والجرجاني ما لم يجل بخاطرهما وهما يتحدثان عن "الهوية". ولعل الملاحظات الأبرز في الكتابات التاريخية الإسلامية، تلك التي يقدمها ابن خلدون في مقدمته عن دور الوظيفة في أية علاقة اتصال والتحام وتمايز. سواء لغاية الغلبة والسلطان والقهر أو بهدف الدفاع عن الذات.
جمع عصر التنوير في مشروعه التأسيسي بين الحقوق الطبيعية والعقد الاجتماعي والتحرر من السحر وإقرار تفوق الإنسان بالمعرفة. قطيعة التنوير مع التاريخ المسيحي الأوربي وظلمات القرون الوسطى اعتمدت مبدأ نهاية عصر الإنسان القاصر. نصبت العقل أسطورة جديدة والمعرفة سلطة قادرة على التعيش، ليس فقط من الإنتاج الفكري والمادي الخصب الذي أطلقت عقاله الثورة البرجوازية-المدنية، بل ومن الظلم و"عنف التحيز" في العلاقة مع الآخر كما يذكّر ميشيل فوكو. سيحاول ماركس إعطاء الاقتصاد صالون الشرف في تفسيره للعالم. "المجتمع، يقول ماركس في مخطوطات 1844، -كما يبدو لرجل الاقتصاد السياسي- هو المجتمع المدني، الذي يكون كل فرد فيه مجموعة من الاحتياجات، ولا يوجد بالنسبة للشخص الآخر –كما لا يوجد الآخر بالنسبة له- إلا بقدر ما يصبح كل منهما وسيلة للآخر. فرجل الاقتصاد السياسي ينتهي بكل شيء (تماما كما تفعل السياسة في حديثها عن حقوق الإنسان) إلى الإنسان، أي إلى الفرد الذي يجرده من كل تحديد حتى يصنفه كرأسمالي أو عامل.".(4) الطبقة هي التعبير الأهم للهوية، وصراع الطبقات هو المحدد الأساسي في التاريخ. القوانين الطبيعية للإنتاج الرأسمالي تعانق مجموع مظاهر المجتمع الحيوية، ولأول مرة في التاريخ يخضع كل المجتمع لتطور اقتصادي يكون وحدة.(/2)
لا تخلو كتابات ماركس من ازدراء واحتقار لأشكال الانتماء ما قبل الرأسمالية ولو أنها لم تشكل موضوع دراسة له في ذاتها. لنستحضر مثلا هذا التعريج في إسهامه في نقد فلسفة الحق: "يا له من مشهد ! إن التقسيم اللا متناهي للمجتمع إلى مجموعة من الأعراق Rassen التي يعارض بعضها بعضا بكراهياتها السخيفة، بضميرها المؤنب، بضحالتها الفظة، والتي بسبب الموقف الملبّس والمشبوه لكل عرق إزاء الآخر، يعاملها أسيادها، كلها وبلا تمييز، على أنها كائنات مسموح بوجودها، ولو أنهم يلبسون هذه المعاملة أشكالا مختلفة. حتى واقع كون تلك العناصر مقهورة، محكومة، مقتناة، فإنها مجبرة على اعتبار ذلك وإعلانه هبة من السماء!"(5)
باعتباره النقلة الأوربية ثورة جزئية، سياسية فحسب، في مقابل ثورة البروليتاريا الجذرية والشاملة، وضع ماركس أسس المقاومة للنظام الجديد من داخله وخارجه، فليس للطبقة العاملة وطن، ولن تستبدل طبقة بأخرى بل ستؤرخ لنهاية التاريخ الطبقي وبداية التجمع الحر للأفراد.
لم يجد ماكس فيبر عند ماركس ما يرد على أسئلة جوهرية تتعلق بتشكل وتفتت الجماعات القديمة والجماعات المدنية الجديدة. كما أنه لم يعثر على ما يشفي غليله في تكون تجمعات المصلحة في الفصل التعسفي بين ما سمته الماركسية التقليدية بالبنية التحتية والبنية الفوقية.
من هنا، يعتمد فيبر في قراءته لصيغ الفعل المفهوم بشكل عقلي أولا، الصيغ التي نسميها اليوم بالعضوية والتي استعمل لها تعبير Vergemeinschaftung. تلك التي تصف العلاقات الاجتماعية المؤسسة على المشاعر الذاتية (تقليدية كانت أو عاطفية) للانتماء إلى صيغة جماعية. وهي تشمل نمطين كبيرين يتضمنان صيغتين للرابط الاجتماعي: الأولى ترتكز على قوة التقاليد من روابط تمر عبر النسب والميراث الثقافي، وتلك الناجمة عن التمايز الجماعي والعاطفي حول شخصية كارزمية، حقيقية كانت أو وهمية.
ثانيا، الصيغ المجتمعية Vergesellschaftung التي تصف العلاقات الاجتماعية المؤسسة على التوافق وتناسق المصالح بشكل عقلاني كقيمة وكغاية. وهي تضم نمطين : 1- العلاقة بالقيم وعقلانية الفضيلة، الأمر الذي يعني توافقا عقلانيا في التزام مشترك. 2- علاقة مرتبطة بوسائل لغاية تفرض نفسها بنفسها كالمصلحة الاقتصادية بالتبادل التجاري أو المنافسة من أجل أوضاع معيشة أفضل والتجمع الطوعي للأفراد للدفاع عن مصالحهم.
كما يوضح كلود دوبار، يتبنى ماكس فيبر أطروحة وجود عملية عقلنة تعطي للشكل الثاني الغلبة على الأول دون أن يلغيه. في هذا النطاق، لا يمكن أن نخرج من ماكس فيبر دون الحديث عن "الأخلاق البروتستنتية وروح رأس المال"، عن زواج العقل والمصلحة بين الزهد الطهراني والمبادرة الرأسمالية: حين يصبح تضييع الوقت أولى الخطايا وأكثرها خطورة، ويشكل العمل الغاية التي حددها الله للحياة.. المهنة هي السبيل لخدمة الرب، ونجاح الشركة علامة قيام بالواجب الديني..(6). لعل في هذا التحليل المبكر ما سيعطي صموئيل هنتنغتون المادة الأولية لقراءة متأخرة لهذه الظاهرة في كتابه "من نحن" الذي سنتعرض له.
ستتناول مدارس التحليل النفسي عملية التمايز والهوية الشخصية في المجتمع الغربي. إلا أن نوربرت إلياس سيأخذ حيزا هاما في تناول ظاهرة الهوية في الثقافة الغربية المعاصرة.
يقوم تحليل إلياس على "هوية نحن-أنا". لا يوجد هوية أنا بدون هوية نحن، والهوية لا تخرج عن عملية تاريخية وحضارية تنتقل بالبشرية من الهيمنة الشمولية للنحن إلى حالة متقدمة للتفرد. فالمجتمع يتكون من ممارساتنا وعلاقاتنا المتبادلة، وإن لم تكن هذه العلاقات "حرة"، فهي ليست قوى طبيعية. لا يوجد الفرد إلا في مجتمع، ويتوقف التفرد على نمط التنظيم الاجتماعي. لذا يجب القطع مع منطق الجواهر المعزولة والانتقال لتأمل حول العلاقات والوظائف. "سيرورة الحضارة" هي التعبير الذي سيعبر معه إلياس عما يسميه "سيرورة التفريد" التي تنتقل بالبشر من الأشكال الأولى لتمايز الجماعات على أساس روابط الدم والدين واللغة والتقاليد. وإن تبدو معطيات ما قبل الحضارة الغربية المعاصرة غير واضحة المعالم والدلالات، فحسب إلياس مركزة السلطة في دول من نمط جديد يفترض احتكار العنف الشرعي وجمع الضرائب من قبل أمراء صاروا رؤساء دول. سيجعلهم يبتكرون المراقبة الذاتية على النفس كوسيلة تضمن سلطانهم. بحيث ترافقت العملية السياسية بتحولات نفسية بالغة الأهمية: الحصر الداخلي المتصاعد للعواطف والتحول من العدوانية الموجهة للخارج إلى دفع موجه نحو الداخل. ويعود التشكل البطيء للأنا النفسية كموضوع أخلاقي إلى الصعوبات التي رافقت تشكل الدولة الحديثة. هنا يجري الحديث عن المركزة السياسية والتعقيد في الأوضاع الاجتماعية والكثافة المادية والأخلاقية في المجتمع باعتبارها جزء لا يتجزأ من ولادة معتقدات جديدة فلسفية ودينية.(/3)
لقد فرضت الدولة-الأمة نفسها بالتدريج كصيغة غالبة للنحن المجتمعية في أوربة. وتمتع صعود الفكرة القومية بشرعية متصاعدة للهوية القومية باعتبارها الصيغة السائدة للهوية منذ القرن الثامن عشر حتى القرن الماضي. لم تتشكل عملية "الوعي" القومي دون مخاضات مؤلمة في السيف والوعي. إلا أنها وبقدر ما كانت تتبلور في إيديولوجيات بقدر تركت الباب مفتوحا أمام كل تعبيرات التطرف. فباسم القومية الأكثر "نقاء" وعنفا وشمولية سترتكب جرائم ضد الإنسانية بشكل لا سابق له في التكثيف المكاني والزماني في حربين كونيتين. إلا أن مسيرة الدول منذ منظمة الأمم المتحدة تتوجه نحو (نحن) معولمة. الإنسانية كانتماء مشترك، مترافقة بتعزيز المطالب الإثنية والقومية والدولانية والاعتقادية: (نحن) محلية منظمة في دولة شرعية أو جماعة ثقافية. و(أنا-بالجمع) تتميز عبر جماعتها الثقافية أو المحلية. يبقى أن مصدر الخوف يكمن في تلك الاستمرارية الضمنية، في الثقافة الغربية لتمثل النحن والآخر في منظومة تمايز وتفاضل تشكل بالضرورة عنصرا في تعزيز أشكال الانتماء المحلية باعتبارها وسائل دفاع ذاتية. نوربرت إلياس يتناول هذه المشكلة في كلمة "المتحضر" في التاريخ الأوربي:
"نحن من جهة، البرابرة من جهة أخرى (قبل المسيح)،
المسيحيون من جهة، الوثنيون من جهة أخرى (قبل الهرطقة الدينية)،
المتحضرون من جهة، وغير المتحضرين من جهة أخرى (منذ 1530)،
الحداثيون من جهة، والتقليديون القدامى من جهة أخرى (منذ 1830)،
الجماعة تحمي نفسها دائما بنوع من التفوق الذاتي في تحديدها".
عودة إلى المنسيين
القبيلة، الاثنية، الدولة والدين كلها كانت عوامل فبركة وإنتاج لهويات امتلكت قوة التواجد على اختلاف الامتداد في الزمان والمكان. ولا يمكن الحديث عنها باعتبارها أنماط صافية للجماعات البشرية. فالهوية أيضا سيرورة وبالتالي أزمات. تتكون الهوية عبر أزمات وليس العكس، كونها حركة تتكون عبر الأزمات. بالتالي، ورغم أن أساسها المفهومي قائم على الثبات، فهي في تغير دائم، سريع، أم بطيء، بعوامل ذاتية أو خارجية لا يهم. المهم هو أن عمق أي شعور بالهوية قضية نسبية في المطلق. وفكرة الجمود في الهوية، التي قادت اليسار التقليدي للخوض في مواجهة نظرية وسياسية بين الحرية والهوية، المواطنة والانتماء، النحن والآخر، هي ابنة أحكام مسبقة وثنائيات تحتضر لم يعد لها من معنى إلا لتفسير واقع إيديولوجي نمطي صنعه المثقف والسياسي.
في حين تشكلت الهوية القومية في عملية إعادة تكون داخلية للدولة والمجتمع، كانت الهوية القومية في العالم العربي وليدة ظروف أزمة، بل لنقل بدقة أكثر حالة اغتصاب. لقد جرت محاولة القطيعة مع الأنموذج العثماني في ترجيح للمفهوم الغربي لا في تشجيع لإمكانية استنباط محلية تنجم عن فك الاستعصاء التاريخي. لنأخذ مثل الجنسية والنقابات والمحاكم، لم يجر هضم كاف لهذه المؤسسات في مجتمعاتنا، وبالتالي بقيت بعيدة عن الإحساس الشعبي ومصطنعة بالنسبة للكثيرين. كما ولم يمتنع البعض عن رهن وجودها والتخلص منها بالمستعمر مهما كانت محاسنها. بدون كمال أتاتورك قطعت مجتمعاتنا مع العديد من الهياكل التاريخية من فوق حتى في غياب كوادر مؤهلة لذلك. الأمر الذي يذكرني بأحزاب معاصرة ومنظمات غير حكومية تتحدث عن انتخابات ومراقبة انتخابات وليس لديها العدد الكافي لمراكز الاقتراع في مدينة واحدة، وتطالب بسلطة البروليتاريا في بلد لم يدخله التصنيع بعد. الأمر الذي خلق فجوة بين المؤسسة الحديثة والمجتمع. باعتبار هذه المؤسسات لا تلتقي في القراءة العفوية الأولية مع مصالح الناس.
هذه الفوضى في الهوية والمؤسسات والانتقال بين حقبتين ونمطي إنتاج مختلفين خلقت فراغا هائلا في التكوين السياسي للبشر. من ذلك استفاد جيل كامل استطاع التنفس في ظل الليبرالية الاستعمارية التي أعطت الناس هامشا سياسيا وثقافيا سمح لهم بالتأهيل الذاتي والتكوين المعرفي بشكل يفوق بكثير تأهيل جيل حالة الطوارئ الذي عرفناه. الأمر الذي وفّر تدارك فجوات كبرى في طموح كبير لكسب معركة الزمن والبلوغ الضروري لبناء مستقبل مختلف. إلا أن دولة الاستقلال القطرية جاءت وليدة عوامل تعسفية أو بمحض الصدفة، كما يقول محمد حافظ يعقوب (7). وصار السؤال المركزي: كيف يمكن بلورة هوية سياسية وثقافية ضمن حدود خضعت إما لإرادة موظفين من الدرجة الثانية في الإدارة الاستعمارية أو نتيجة لموازين قوى رجحت هذا الاتجاه أو ذاك؟ وحده الشعور الجماعي للمجتمع السياسي الجديد بالانتماء إلى قضية كبيرة واحدة كان وراء التماسك الضروري لإنجاز الاستقلال الأول، أو التخلص من نفس القيود وتجاوز نفس الإشكالية (الاستعمار المباشر).(/4)
لذا لم يكن الرعيل الأول ابن ما يسمى بالنهضة وحسب، بل ابن الهوية الأكبر التي تسمح بالإطلال على العالم والعيش بالبعد الإنساني، أو على الأقل الكوني. هذا الرعيل أسس لحركة وطنية دينها العلم تعتبر معركتها في اللحمة الوطنية، أي قبول مكونات المجتمع السياسي كافة، وبرنامجها في فتح المدارس وتعلم الناس ومكافحة الهيمنة الخارجية. لم يحمل جيل الاستقلال مكارم هذا الجيل عندما جعل من الدولة الوطنية المفصّلة على مقاس مستعمريها دولة تدخلية في مواجهة مفتوحة مع المجتمع، وبالتالي في موقع معاد بالضرورة للأمة. عندما لم يعد بالإمكان تحقيق الشرعية السياسية من تحت، صار بإمكان التجمعات الحاكمة الجديدة الذهاب بعيدا في فرض تصورها مع قناعة واعية أو غير واعية تعتبر أن الوصول إلى السلطة يسمح لها بإعادة فبركة الهوية السياسية للناس على أنموذجها المسخ.
تبحث الهوية السياسية عن عناصر ارتكاز لها في الهوية الثقافية. ليس لأن الهوية الثقافية هي المعبر عن مصالح الجماعة، ولكن لأنها أصبحت في الصراع غير المتكافئ على السيطرة والهيمنة في العالم. الوسيلة الأكثر اقتصادا لبلورة برنامج متميز للجماعة، برنامج يختصر كل مسافات الابتكار السياسي والتجربة والخطأ والطرق المجهولة المآل. لكن حامل هذه الثقافة وهذه الهوية هو ابن القرن الواحد والعشرين، وليس من أهل الكهف. وبالتالي فهو يحمل في أعماقه كل معالم الصراع بين الاتكاء المريح على عنجهية الخطبة، والمواجهة الفعلية مع عنجهية القوة، الانكفاء على الذات وضرورة إعادة مناقشة مكونات الذات، قوة التعبئة التي تمنحها الهوية الثقافية ومحدوديتها في تعبئة القوة في الحياة العملية. لذا يمكن القول أن الهوية السياسية الدافع والغرض هوية متحركة متعددة المشارب قادرة على التجدد بشكل أسرع من الهوية الثقافية. وهي ابنة أوضاع أكثر منها ابنة ذاكرة جماعية وفردية ضرورية الاستحضار. من هنا شكلت أشكال الانتماء السياسي الترجمة الأكثر صدقا لمعطيات العصر، مهما كانت المرجعية الثقافية والرمزية لها. الأمثلة على هذا لا حصر لها، ولعل أكثرها بلاغة مفهوم التنظيم اللينيني عند حسن البنا، الهوية القومية الغربية في الاتجاهات القومية العربية، استنساخ النموذج الستاليني في نظرية الدولة عند المودودي. ليس فرج الحلو بل مصطفى السباعي من قال "لا أعتقد أن الاشتراكية "موضة" ستزول، بل هي نزعة إنسانية تتجلى في تعاليم الأنبياء ومحاولات المصلحين منذ أقدم العصور". من يستطيع إغفال التقاطعات المركزية بين الحزب القومي القائد والحزب الثوري وحزب الله المخلّص في زمن حالات الطوارئ التي أنجبت إيديولوجيات الطوارئ؟ أين البعد التقدمي لليبرالية العربية في بداية القرن العشرين كمشروع اجتماعي وسياسي تحرري من أفول التعبيرات الليبرالية العربية بعد قرن باعتبارها الترجمة الأمينة للجري الذليل النفس والروح وراء أفول المنابع؟
الانتماء القومي في الخمسينات، كان يعني التخندق في أتون حركة التحرر الوطني التي تجاوزت الثقافة القومية والاعتقادية. أما أن تكون شابا ماركسيا في العالم الثالث في 1968 فهذا يعني فيما يعني أن تكون ابن عصرك. أن تكون إسلاميا في الحقبة نفسها يعني أن ترد على عصرك وظروفك. الجيل الذي تلا تلك الحقبة، اجتمع عنده الانتماء الإسلامي والانتماء للمحيط والرد على العصر قبل أن يضع صلب عينيه، من دروس الواقع ومقتضيات الحياة، أن الانتماء للعصر لا يتعارض بشكل جوهري مع الانتماء للإسلام. لذا حطم الكومبيوتر في أيام الثورة الإيرانية الأولى ثم عاد ينظم دورات تعليمية في التكنولوجيا الحديثة وصولا لحوار الحضارات... في الجبهة العلمانية، كان هناك أغلبية تصر على القول أن العلمانية هي الكل، الإسلامية هي الاستقصاء. في كتابه، "مؤمنون أو مواطنون" يحاول محمد حربي التأكيد على هذا المعطى: المواطنة لا تمنع الإيمان، الإيمان يقيدها.. الواقع كان مختلفا تماما، العلمانية الإستئصالية همشت بل نبذت الإيمان. أما الإسلام السياسي بتياره العريض فقد تعلم من ضربات الواقع معنى التحرر من فكرة الحزب الواحد المخلص القائد التي أشعره القمع وخصمه السياسي والإيديولوجي ليس فقط بهزالتها، بل بالقرف منها. بهذا المعنى كان التعسف الذي عانى منه مدرسة للتسامح وإعادة اكتشاف الذات وقبول الآخر.(/5)
في حين لم ير عدد من المثقفين في السماح للحجاب في بعض الدول الأوربية إلا الإحراج الذي تسببه لدول كتركيا وتونس، كان علمانيون وإسلاميون رافضون للنظام التسلطي في تونس والميراث العسكري في تركيا يروجون أكثر فأكثر لفكرة حرية الاختيار في السفور والحجاب في تركيا كما في إيران. بدأت إذن بالتشكل معالم سياسية لهوية أكثر تماسكا ترى في المواجهة الدائمة بين المواطنة والإيمان حربا أهلية في الكلمة والواقع. ولعل هذه الثغرة في الإنتاج المشوه لحالات الطوارئ تترك الأمل في إمكانية وضع حد لآليات تدنيس الوعي.
الهوية، (بالمعنى الجمودي والساكن والمتمترس وراء حجاب العقل والرافض للثقافة باعتبارها محرك التجديد المجتمعي والفعل الذي يسمح بإعادة إنتاج وابتكار الذات)، لم تعد سوى أنشودة الحماس في لحظات الاعتداء على شرف الأمة. الحركة، التغيير والقدرة على استنباط صورة الغد يحدثنا عنها "المثقف" محمد خاتمي بالقول: "التراث، كما هي الحضارة، شأن بشري يستحق التغيير وإن آمنا بأبعاد ثابتة في مجال حياة الإنسان المعنوية والعقلية والإرادية، فإنه يجب القول، بأن جانبا مهما، إن لم نقل جميعه، مما نصطلح عليه بالتراث، هو نتاج بشري متأثر بالظروف الاجتماعية والتاريخية للمجتمعات، وبالتالي فهو عرضة للتغيير وليس مقدسا وخالدا"(8). لا يختلف هذا الطرح كثيرا عن مأثورة عصام العطار: "كيف نقبل الجمود، بل كيف يمكن الجمود في عالم تتجدد معلوماته ومعطياته ومطالبه ووسائله.. باستمرار لابد لنا من التجدد الدائم والإبداع المتواصل والجهاد المضني في كل مجال.. وإلا فقدنا حياتنا ووجودنا الفاعل المؤثر وأزاحنا الركب البشري عن طريقه وقذف بنا إلى هامش الهامش أو هوة التاريخ. فذهبنا جفاء كما يذهب الزبد وغثاء السيل ومحينا من لوحة الحاضر والمستقبل وتحولنا إلى ذكرى من ذكريات الماضي البعيد"(9).
يبقى من الضروري التذكير بأن الناس يرفضون الشعور بأنهم في أزمة، لأن الهوية عند غالبية البشر أيضا عنصر اطمئنان بامتياز Par excellence، لا بالعقل. ويمكن القول بأريحية أن هناك من يعيش ويموت دون أن يشعر بأنه في أزمة، كالإنسان الذي ينام أقل من حاجته الفيزيولوجية في اليوم ولا يشعر بالإصابة بأي نوع من الأرق. ففي عالم أصبح الخوف فيه إستراتيجية هيمنة وسيطرة للقوة الأعظم، يمكن القول أن البحث عن عناصر اطمئنان ذاتية تصبح الملاذ الضروري للأضعف. لكن هذا الملاذ يحمل كل التناقضات التي دفعت بالجماعة إلى التراجع نحو عناصر يمكن التعرف عليها بسهولة والاطمئنان لها بعفوية.
هناك أيضا إشكالية كبيرة تواكب ولادة وحالات إنضاج واحتضار الهويات.. فكل محاولة دمج لمجموعة من الهويات القادمة من ثقافات متفرقة ومتباعدة وتحويلها إلى هوية واحدة، هذه المشاريع المحددة سلفا لرسم معالم هوية جديدة، تحمل كل مخاطر القمع الاجتماعي والثقافي والنفسي بشكل مباشر أو غير مباشر. إنها تزرع في اللاوعي صدمة الإكراه التي تجعل احتمال ولادة كائن مسخ، ذي هوية مضطربة وغامضة، باعتبار أن الهوية تخلق على امتداد زمني يقيم ويُسقِط. إلا أن هذا السيناريو المنطقي ليس حتمية واحدة. فقد تتجدد أشكال الانتماء وتتصارع إلى أن تصل إلى تعريف واضح ومحدد لهويته الثقافية والقومية التي تعبر عن مصالح أغلبية اقتصادية واجتماعية وثقافية في زمن ومكان محددين. كما يمكن أن تكون مجرد وسيلة دفاع مؤقتة ومحلية في معركة الدفاع عن حقوق جماعية أو فردية. وإما العكس، أي استغلال جماعات بشرية أخرى وأوضاع محددة.
مداعبة العنصرية
في كتابه Who Are We? (11) يدخل صموئيل هنتنغتون عالم الهوية من بابه الأضيق. ولعله في هذا الكتاب يقوم أكثر بعملية تحليل ذاتيautoanalyse بالمعنى النفسي، أكثر منه تحليل أكاديمي بالمعنى الجامعي الذي حاول إضفاءه على أطروحاته حول النظام السياسي وتغيير المجتمعات، أزمة الديمقراطية وأخيرا، صراع الحضارات. فمن جهة، يحاول التربع على كرسي التفوق الأمريكي بعد الحرب الباردة، ومن جهة ثانية، يتقمص أكثر أشكال التعبير عن الهوية انغلاقا. وكأنه يريد عبر ما يقول أن يعكس موضوعة ابن خلدون خالقا حالة ولع للغالب بتقليد أسوأ ردود الفعل عند المغلوب.(/6)
يعود هنتنغتون إلى فكرة دافع عنها منذ 1968 تقوم على الطابع الخاص والمتميز للتجربة الأمريكية الذي يصعب تكراره أو استنساخه : " ليس للتجربة الأمريكية أن تقدم الكثير للدول السائرة في طريق الحداثة، لم تكن الثورة الأمريكية ثورة اجتماعية كما هو حال الفرنسية والروسية والصينية، المكسيكية أو الكوبية، كانت مجرد حرب استقلال. ولم تكن حرب استقلال يقودها السكان الأصليون، بل الفاتحين الأجانب، حرب المستوطنين ضد بلدهم الأصلي." (12). هذه الفكرة يتابعها في رفضه لاعتبار الولايات المتحدة مجتمع من المهاجرين متعدد الأعراق والإثنيات والثقافات. ليعود للتأكيد على أن الأسس التي قامت عليها الولايات المتحدة هي مشروع المستوطنين الأنجلو بروتستانت الذين ألبسوا الدولة ومؤسساتها وثقافتها السائدة ركائز أساسية أولها الرجل الأبيض، ثانيها الثقافة الأنجلو بروتستانتية والدين المسيحي البروتستنتي والإثنية الإنجليزية. هذه الركائز تعززت حتى نهاية القرن التاسع عشر بالحروب الإجبارية التي خاضتها الولايات المتحدة ضد الهنود الحمر والمستعمرين الأوربيين والحرب الباردة. كون العداء للآخر كان أحد قدمي التجربة الأمريكية وكل محاولة لتشكيل هوية الجماعة. باعتبار أن القدم الثانية تقوم على مبادئ الحرية والمساواة والديمقراطية النيابية واحترام الحقوق والحريات الدينية والمدنية وسيادة حكم القانون كعنصر قطيعة وتمايز عن الثقافة الإقطاعية في أوربة والتي كانت سببا رحيلهم الواسع والنهائي.
لقد شكلت هذه الثقافة بمقوماتها الأربعة عنصر استقطاب ودمج للجماعات الأخرى الأقل حجما. إلا أن التقدم في وسائل الاتصال والمواصلات أعاد بناء الجسور بين المهاجرين الجدد وبلدانهم وثقافاتهم الأصلية. الأمر الذي يقف عائقا دون اندماج سريع ويهدد بقاء الهوية الأمريكية واستمرارها. كما أن تكوين هويات فوق قومية مع العولمة وزيادة نفوذ "الليبراليين اليساريين" ذوي الثقافة التعددية يساعد على نمو هويات فرعية على رأسها اللاتينيين الأمريكيين والأفارقة السود.
في كل هذا، هنتنغتون منسجم مع فكرة يدافع عنها منذ أكثر من عقد زمني، تقول أنّ العوامل الإتنية والدينية واللغوية والتاريخية والمؤسّسية تحلّ مكان الأيديولوجيات السياسية كعناصر أساسية في هويّة الشعوب والدول. وفي مختلف أنحاء العالم بدأ الناس يحدّدون هويّتهم أكثر فأكثر من خلال عضويّتهم في مجموعات إتنية أو طوائف دينية أو مجموعات لغويّة أو تاريخية. تتحوّل السياسة المحلّية إلى سياسة الإتنيّات في حين أنّ السياسة العالمية تتحوّل إلى سياسة الحضارات التي هي أوسع مجموعات ثقافية يتماهى الناس معها. هذه الفكرة لا بد لها من ترجمة محلية، لأن الصراع الحضاري للولايات المتحدة مع غير الغربي لا يغير شيئا في أن هذا الصراع يبدأ من المجتمع الأمريكي نفسه وعبر مكوناته.
وكما يختصر علاء بيومي (13)، يعتبر هنتنغتون أن التحديات السابقة يمكن أن تؤدي إلى واحدة من التبعات الأربعة التالية على الهوية الأميركية في المستقبل:
أولا: فقدان الهوية الأميركية وتحول أميركا إلى مجتمع متعدد الثقافات والأديان مع الحفاظ على القيم السياسية الأساسية. ويرى هنتنغتون أن هذا السيناريو يفضله كثير من الليبراليين الأميركيين، لكنه سيناريو مثالي يصعب تحققه.
ثانيا: تحول أميركا إلى بلد ثنائي الهوية (إنجليزي-إسباني) بفعل زيادة أعداد ونفوذ الهجرات اللاتينية الأميركية.
ثالثا: ثورة الأميركيين البيض لقمع الهويات الأخرى. ويرى هنتنغتون أن هذا السيناريو احتمال قائم يدرس إمكانات وقوعه ودوافعه بالتفصيل خلال الفصل قبل الأخير من كتابه.
رابعا: إعادة تأكيد الهوية الأميركية من قبل الجميع والنظر لأميركا كبلد مسيحي تعيش به أقليات أخرى تتبع القيم الأنغلو-بروتستانتينية والتراث الأوروبي والعقيدة السياسية الأميركية كأساس لوحدة كافة الأميركيين.
هنا يعود بنا هنتنغتون لتفوق الأنموذج الأصل وضرورة تعزيزه بالتبشير المسيحي، تطويع اللاتيني والإفريقي المسيحي ودمجه، وإحياء فكرة العدو الذي حدد لونه منذ الثورة الإيرانية حين قال: "الثورة الإيرانية يمكن أن تعتبر حربا معلنة بين الحضارتين الإسلامية والغربية. وماذا نشهد اليوم، صدام بين الإسلام والغرب يقود العالم نحو غياب الاستقرار"(14).
لا ندري بماذا تختلف أطروحات هنتنغتون عن الخطاب العنصري في عشرينات وثلاثينات أوربة. الفارق ربما كان في القدرة الاقتصادية والعسكرية للولايات المتحدة على حماية أطروحات السيطرة من داخل الولايات المتحدة. باعتبارها سيناريوهات في إعادة فبركة الهوية الأمريكية والتعبئة لحرب وقائية محتملة ضد الآخر.(/7)
يبقى من الممتع، وقد اعتدنا قراءة نصوص مناهضي العولمة التقدميين، أن نتوقف عند هذه القراءة المناهضة من موقع محافظ ينصح فيها هنتنغتون قومه بالقول: "إن الوقت قد حان لكي يتخلي الغربً عن وهم العولمة، وأن ينمّي قوة حضارية انسجامها وحيويتها في مواجهة حضارات العالم. هذا الأمر يتطلب وحدة الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، ورسم حدود العالم الغربي في إطار التجانس الثقافي (15).
تعدد الانتماء في ثنائية الانصياع والتمرد
عمقت السيرورة المجتمعية الغربية والثقافة الغربية مفهوم الحقوق الفردية ومفهوم الشخص. وأصبح من الأسئلة الأساسية المطروحة كيف يكون الإنسان في الوقت نفسه مختلفا عن كل الأشخاص، مشابها لأشخاص معينين ومشابها لكل البشر؟ لعل طرح هذه الأسئلة من منظار متعدد الميادين ومواقع متعددة الثقافات سيكون له انعكاسات إيجابية أكيدة على تقدم مبادئ حقوق الإنسان ووسائل النضال من أجلها.
فمن العدمية برأينا الحديث عن عالم الزي الموحد واللغة الموحدة والمطعم الواحد والفن الوحيد النغم باسم العالمية مهما كانت خصائلها. خاصة عندما ينبع هذا الحديث من اعتبار أنموذج للثقافة القومية التعبير عن الثقافة العالمية، كما تحاول مراكز السلطة في الولايات المتحدة اليوم أن تفرض على الناس. دراسة النفس والفرد تظهر إلى أي مدى يختلف الأفراد، وبالتالي صعوبة معالجة المرض نفسه بالضرورة بالطريقة نفسها عند شخصين من بيئة واحدة. فكيف الحال في اختلاف البيئة والمحيط الاجتماعي والفضاء الثقافي؟ كذلك، إن الاندماج القسري في نمط ثقافي استعلائي يعزز إنتاج الانصياع الداخلي والعبودية الخارجية. ما الذي يفسر وجود هذا العدد الكبير من الجنود الذين يقبلون الالتحاق بالمجهول منذ حرب 1914 إلى حرب العراق؟ كيف تعيد مراكز القرار في الغرب إنتاج أشكال الطاعة بحيث، كما يذكر ميشيل فوكو، تكمن الفضيحة في جنوح الإنصياع وليس فقط في جنوحات السلطة. من هنا الملاحظة الجوهرية لناعوم شومسكي في رفضه لهيمنة النمط الأحادي: "كلما أصبح العالم الاجتماعي أكثر حرية وتنوعا، غدت وظيفة غرس الخنوع أكثر تعقيدا، وباتت مشكلة حل ألغاز آليات غسيل الدماغ أكثر انطواء على التحدي".
من هنا، دفاعنا عن مبادئ عالمية لحقوق الإنسان ينطلق: أولا، من مبدأ قبول الفروق المرئية وغير المرئية في الثقافات، سواء كان الأمر يتعلق بمحتوى الثقافة أو بمناهج تناقلها من جيل لآخر أو مدى قدرتها على الاغتناء في الزمان والمكان والتفاعل مع الآخرين. ثانيا، من الحرص على رفض توظيف ما يعرف بالعالمية أو الخصوصية سواء بسواء لأية غايات ترجح القوة على روح العدالة، وتحجم الحقوق لحساب المصالح أو الإيديولوجيات(16). ثالثا، التذكير باستمرار بأن مضمون الفكرة الإنسانية غير مستقر، وهو دائم التحول، كما هي مخاضات انعتاق الوعي. فكل مشروع حضاري يطرح تصوره للعالم ويطرح أيضا مثاله للعدل.
فصل من كتاب المفكر العربي هيثم مناع الجديد: أبحاث نقدية في حقوق الإنسان، يصدر في سبتمبر 2005 عن دار الأهالي والمؤسسة العربية الأوربية للنشر واللجنة العربية لحقوق الإنسان
ملاحظات
1) Sigmund Freud, L’Homme Moïse et la religion monothéiste, folio essais, Paris, traduit par Cornélius Heim, P.63.
2) Claude Dubar, La crise des identités, Puf, Paris, P.2.
3) A. C. Taylor, Ethnie, in : Pierre Bonte - Michel Izard, Dictionnaire de l’ethnologie et de l’anthropologie, Puf, P. 243.
4) كارل ماركس، مخطوطات كارل ماركس، ترجمة محمد مستجير مصطفى، دار الثقافة الجديدة، مصر، 1974، ص 118.
5) كارل ماركس، إسهام في نقد فلسفة الحقوق عند هيجل، مقدمة، راجع الترجمة هيثم مناع، منشورات الجمل، 1986، كولن، ص 6.
6) Max Weber, L’éthique protestante et l’esprit du capitalisme, Paris, Plon, 1964, voir : pp. 207-249.
7) محمد حافظ يعقوب وهيثم مناع (حوار)، مقاربات، العدد 2-3 ،شتاء وربيع 2001، ص69.
8) محمد خاتمي، مطالعات في الدين والإسلام والعصر، دار الجديد، طبعة ثالثة، 1999.
9) عصام العطار، كلمات، الدار الإسلامية للأعلام، بون، 1999، ص 285.
10) نعوم شومسكي، ردع الديمقراطية، ترجمة فاضل جتكر، مؤسسة عيبال، نيقوسيا، ص 369.
11) Samuel Huntington, Who Are We?: The Challenges to America's National Identity.
12) Serge Halimi, Quand Samuel Huntington célèbrait Lénine, Le monde diplomatique, déc. 2003, P.17.
13) علاء بيومي، من نحن، تحديات الهوية الوطنية الأمريكية، عرض الكتب، الجزيرة نت.
14) Samuel P. Huntington, The West: Unique, Not Universal, Foreign Affairs, November/December 1996
مقطع سبق وترجمه د. عبد العزيز بن عثمان التويجري في دراسته: الحفاظ على الهوية والثقافة الإسلامية.(/8)
15) هيثم مناع، موسوعة الإمعان في حقوق الإنسان، الخصوصيات الحضارية وعالمية حقوق الإنسان، الأهالي، أوراب، اللجنة العربية لحقوق الإنسان، باريس، دمشق، 2002، ص160.(/9)
صور بلا ملامح ..
د. أميمة بنت أحمد الجلاهمة 2/3/1426
11/04/2005
منّا المعتدل، ومنهم المعتدل..! منا المنصف، ومنهم المنصف.. ! هكذا نرى أنفسنا.. وهكذا يرون أنفسهم..! والنقاش في الحيثيّات المتعلقة باعتماد مقياس عالميّ يحدّد من هو المنصف، ومن هو دون ذلك يطول ويتشعب، ولن ينتهي بنا إلى اتفاق تامّ المعالم، مهما حاولنا، وجاهدنا للوصول إليه، فالاختلاف أمر بشريّ فُطرنا عليه، وقُدّر علينا نحن البشر، هذه حقيقة علينا التعامل معها بتعقل وتبصّر لنصل إلى أهدافنا كأمة مسلمة ترفع شعار لا اله إلا الله محمد رسول الله، قال سبحانه: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين) [هود:118] كما قال تعالى: (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) [المائدة:48].
إنّ هذا الاختلاف الذي نقرّه ولا ننكره، لا يعفينا من تبيان حقيقة معتقدنا وسموّه، ولا الدفاع عن معطياته الإلهيّة، ولا يعفينا من حوار محدّد السبل والأهداف؛ فلعنا بذلك -وعلى الأقل- نصل إلى نقطة اتفاق ولو نسبيّ، يكون أساس علاقات إنسانيّة مثمرة، فديننا الإسلامي عالمي النزعة والهدف، وما أصابه من تشوّه هو بفعل أيدينا.. إهمالاً وتجاهلاً ورفضاً لذلك الآخر، الذي بادر -وبشغف وحتى قبل إبداء الأسباب- لرسم صور مشوّهة عن حقيقة دينٍ إسلاميٍ سامٍ، وإنسانه المتميز في تطلّعاته وآفاقه المستقبليّة، ضخّم نقاط ضعف قد تواجدت بفعل بعضنا، غافلاً عن زوايا رائعة لمن اتخذ الإسلام دستوراً وفكراً.. فعل ذلك وقد أمسك بزمام الحياة الماديّة بمعظم أبعادها.
إنّ ذلك كله لا يعني الخنوع والجري في سياق من يظنّ أنه متفوّق لا لشيء إلا لأنه يملك أدوات ماديّة يحاول بها تحريك العالم، مهملاً بدوره حقّ الآخر في الاختلاف، فارضاً فكره، معلناً العولمة، التي يرى أنها لن تكون مجدية إلا إذا اكتست بمفاهيمه، منكراً على الآخر تمسّكه بخصائصه الذاتيّة سواء كانت دينيّة أو وطنيّة، سياسيّة منها أم اقتصاديّة أم اجتماعيّة.
كما أن اعترافنا بالتقصير النسبيّ تجاه الآخر لا يعني الإذلال والقبول بتطاول نفوس فُطرت على الإساءة سواء لمن استذلّ لها، أو ترفّع عن مواجهاتها بصُراخ وعويل لا يغني من الحقّ شيئاً، أما من صمد أمام تيارها فحدّث ولا حرج، فقد وقع بهذا الصمود على صكّ عداء دائم، فكيف له أن يصمد أمام من عدّ نفسه سيّد العالم بلا منازع..؟!
وإن كنا اعترفنا بهذا التقصير فلا يعني ذلك أيضاً أنّ غيرنا معفيّ من عنصريّة مقيتة معترف بها من قبل أهلها، ومحارَب لأجلها، فرفضهم للآخر أشدّ ظلمة لرفض بعضنا، وإن كانت الأنظار قد غُضّت اليوم عن عنصريّة أولئك، فالتضخيم كان من نصيب من ينتسبون لهذا الدين دون منازع.
في الآونة الأخيرة تابعت –وبأسًى- ضعف بعضنا تجاه الآخر، وأنا في حقيقة الأمر لا أفهم مردّ هذا الضعف وأساسه، فهم يتباهون بالإعلان أن الآخر كامل بالجملة ونحن المتقهقرون بالجملة، والمضحك في هؤلاء أن الجهل ثم الجهل ثم الجهل وراء قناعتهم تلك.
فقد تأهّلوا لإصدار أمثال هذه الأطروحات المضحكة، بعد حفظهم لعدد بسيط من المصطلحات الفلسفية القديمة منها والحديثة، والتي في جملتها غامضة، وبالكاد يفهمها الخاصة فكيف بالعامة؟! لقد اعتقدوا أنهم كلّما تحدّثوا بما لا يُفهَم دلّ ذلك على تفرّدهم وتفوّقهم، وأنهم بهذا أوجدوا لأنفسهم مكاناً مع أولئك!
الحقّ معهم فقد أوجدوا لهم مكاناً هناك، ولكنه مكان يوازي وضع الكائنات الطفيليّة التي تقتات على جهد غيرها، بغض النظر عن موافقة الآخرين لهذا التطفل من رفضه..سيبقون مرفوضين طفيليّين، ولو لم يظهر العالم لهم ذلك..سيبقون كالأيتام ..لا بل كالخدام على موائد اللئام.
إن عقدة النقص في هذه الفئة هو المحرك الأساسي لفكرها وحديثها وقلمها، فهي تعتمد لإلصاق نفسها بمجتمعات مغايرة ظناً منها أنها بذلك تعلن ولاء الطاعة، وأنها ستصل بهذا الخنوع لمرحلة الرضا التام من سيدها المطاع.
ولهؤلاء أقول .. الإصلاح الذي تدّعون أنكم تطالبون به ينبع من الداخل لا بتوصيات خارجيّة، فوصفة الإصلاح الغربيّة لا ولن تجدي نفعاً.
ولهؤلاء أقول .. الآخر الذي تدورون في فلكه قد لا يرضى عمّن ينافسه، ولكنه لا يملك أمام ثباته إلا أن يحترمه.
وأخيراً أقول لهم: لقد ضاعت دروبكم؛ فلا أنتم لهؤلاء ولا لأولئك، ولا لغيرهم.. أنتم صورة بلا ملا(/1)
________________________________________
صور من عداء المشركين للدعوة
رئيسي :الدعوة :
وقف المشركون من دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم موقفاً لا يتغير في جوهره وهدفه، فهو العداء المستحكم، والسعي الحثيث إلى قتل الدعوة في مراحلها المختلفة، إلا أن هذا الهدف قد ظهر في صور متعددة تتخذ مرحليّة جلية في العداء. وسنلقي الضوء على أهم تلك الصور، ونشير إلى المرحلية التي سلكها المشركون في العداء، معرجاً على موقف أهل الحق - متمثلين في رسول الله وصحبه - من هذه الصور المختلفة.
1- مرحلة عدم الاكتراث بالدعوة:
بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة منذ أن نزل عليه:{ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ[1]قُمْ فَأَنْذِرْ[2]}[سورة المدثر] وكانت دعوته في بادىء الأمر سرية، فقد كان يتخير من يتوسم فيه القبول فيسرُّ له بأمر الدعوة، وهكذا خفي على المشركين الكثير من أتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولكنهم لم يخف عليهم أن للرسول دعوة إلا أن الرسول- وهو في بداية أمره- لم يواجه قومه بتسفيه ما هم عليه، فلم ينشأ عندهم الشعور القوي بالخطر من دعوته، فكان من أثر ذلك أنهم لم يكترثوا بأمره.
جاء في سيرة ابن هشام: 'فلما نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه بالإسلام، وصدع به كما أمره الله لم يبعد عنه قومه ولم يردوا عليه، حتى ذكر آلهتهم وعابها، فلما فعل ذلك أعظموه، وناكروه، وأجمعوا خلافه وعداوته' [تهذيب سيرة ابن هشام / 55].
وهكذا الأمر دائماً، عندما لا يشعر أهل الباطل بأن في دعوة الحق خطراً عليهم، فإنهم لا يبدون اكتراثاً بأمرهم- وإن كانوا لا يخفون بغضهم وكراهيتهم واستهزاءهم بالحق وأهله- ولكن أنى لدعوة أن تنتشر ويظهر أمرها، وتقوم بالأمانة المنوطة بها، وهي تستر ركناً عظيماً من أركانها وهو الكفر بالطاغوت- قد يكون هذا ممكنا في حق فرد، ولكنه لا يكون في حق دعوة بأكملها- .
2 - المحاولات غير المباشرة لإسكات الرسول صلى الله عليه وسلم:
ولما أعلن الرسول كفره بآلهتهم، وتسفيه معتقداتهم، حاول المشركون أن ينهوا الأمر بمحاولة إسكاته عن القيام بدعوته، وذلك عن طريق عمه أبى طالب، فمن ذلك طلبهم منه في المرة الأولى أن يكف ابن أخيه عنهم، أو يتركهم ليروا أمرهم فيه، فردهم أبو طالب رداً جميلاً.[التهذيب / 55].
ولما لم تثن تلك المحاولة الرسول عن عزمه حاولوا مرة أخرى بلهجة أشد. [التهذيب / 56 ] وكان جواب الرسول صريحاً وقاطعاً في أنه لا أمل في ثنيه عن دعوته: [والله ما أنا بأقدر أن أدع ما بعثت به من أن يشعل أحدكم من هذه الشمس شعلة من نار] [التعليق على فقه السيرة / 110].
3 - صياغة الاتهامات لتضليل العامة:
ولما أيقنت قريش أنها لا تستطيع ثني الرسول عن الصدع بدعوته، حولت جُلَّ جهودها إلى إنشاء مناعة عند عامة العرب ضد الإيمان به، أو حتى الاستماع إليه، فاجتمعت قريش قبل موسم الحج بزعامة الوليد بن المغيرة لصياغة الاتهامات المناسبة لصد الوفود عن الاستماع إلى الرسول 'فقال لهم: يا معشر قريش إنه قد حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأياً واحداً، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً، ويرد قولكم بعضه بعضاً'[التهذيب / 57] .
فتقلبت أقوالهم بين ساحر وكاهن وشاعر، ثم استقر رأيهم على اتهامه بالسحر، وإن كانوا في الحقيقة لم يستقروا على اتهام واحد:{ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ[8]}[سورة الذاريات]. وكان من مشيئة الله أن جعل من تلك الاتهامات والتحذيرات دعاية للدعوة: 'وصدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانتشر ذكره في بلاد العرب كلها' [التهذيب / 58].
4 - مرحلة التعذيب لفتنة المؤمنين:
ولما لم تفلح تلك المحاولات في صد الناس عن الإيمان بالدين الجديد، تواصى المشركون فيما بينهم بالتفنن في التعذيب لرد من آمن بمحمد عن دينه، وقد لخص كبيرهم أبو جهل مخططهم في ذلك: 'وكان أبو جهل الفاسق.. إذا سمع بالرجل قد أسلم له شرف ومنعة أنّبه وأخزاه، وقال: تركت دين أبيك وهو خير منك لنسفهن حلمك، ولنفيِّلَنَّ رأيك، ولنضعن شرفك، وإن كان تاجراً قال: والله لنكسدن تجارتك ولنهلكن مالك، وإن كان ضعيفاً أغرى به'[التهذيب / 71، 72].
وبدأت مرحلة التعذيب الرهيب كفعل أبى جهل بآل ياسر، وأمية بن خلف ببلال، ويكفي في تصوير شدة هذا التعذيب ما يرويه سعيد بن جبير قال: قلت لعبد الله بن عباس: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم ؟ قال: نعم والله، إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالساً من شدة الضر الذي نزل به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة، حتى يقولوا له: اللات والعزى إلهك من دون الله ؟ فيقول نعم، افتداء منهم مما يبلغون من جهده' [التهذيب / 72].(/1)
ولقد أصاب الرسول صلى الله عليه وسلم في تلك المرحلة شيء من الأذى، كالذي فعله به عقبة بن أبى معيط حين وضع سلا جزور على رأسه وهو ساجد، وعندما اجتمع عليه المشركون حول الكعبة ففرقهم أبو بكر عنه.
والحقيقة أن التعذيب لم ينته عند مرحلة معينة، بل استمر طويلاً، إلا أن الهدف منه في المرحلة الأولى والدعوة في طفولتها كان المحاولة في رد الأتباع القلائل عن دينهم، وتخويف غيرهم من الدخول في الدين، لكن بعد أن قويت شوكة الدعوة كان التعذيب لمجرد الانتقام، ولتنفيس الغيظ والحنق الذي في نفوس المشركين، أو للأخذ بشيء من ثاراتهم من المسلمين، ومن ذلك ما فعله المشركون بخبيب حين صلبوه.
ولابد لنا هنا من وقفة عند أثر هذه المرحلة على أتباع الدعوة، وعلى سير الدعوة نفسها:
1- أخرجت تلك الابتلاءات نماذج عظيمة في الثبات على دين الله، والتضحية في سبيل العقيدة.
2- وكان فيها تربية صلبة للأصحاب أعدتهم رجالاً لتلك الدعوة، فوق ما ارتفعت به درجاتهم عند الله.
3- وزادت من الترابط بين أتباع الدين الجديد.
4- وأدت إلى شيء من تعاطف العامة من المشركين مع هؤلاء المستضعفين.
وهذه وغيرها مكاسب عظيمة للدعوة، كان الابتلاء سبباً مباشراً لها.
ووقفة أخرى مع موقف الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يرى أتباعه يعذبون:
لقد أبدى الرسول شفقة حانية على أتباعه من المعذبين، فكان يثبتهم على مصابهم، ويعدهم الجنة، وكان يبحث عن كل ما من شأنه أن يخفف المصاب عن أتباعه من حلول عملية، فكان يأمر من أسلم من الضعفاء، أو ممن يخشى عليه الفتنة أن يكتم إسلامه عن أهله، ويأمر بعض من يأتيه من قبائل العرب مسلماً أن يعود إلى قبيلته؛ لأنه لا سند له بمكة. ولما علم أن في الحبشة ملكاً لا يظلم أمرهم بالهجرة إليه فراراً بدينهم.
إذن: كان الرسول يرفع من معنوياتهم، ويذكرهم بالأجر والثواب، ويؤكد نصر الله إياهم بعد حين، وفي نفس الوقت كان يبحث لهم عن حلول عملية تخفف من وقع الفتنة عليهم.. إن التعاطف والسعي لتخفيف وطأة التعذيب على المسلمين أمر مطلوب، وواجب على القيادة المسلمة تجاه أتباعها، أما التخلي عن شيء من المنهج- ولا أقول الأسلوب- تفادياً للمواجهة، واتقاءً لبطش الجاهليين؛ فأمر لا يرضاه الله، وقد عصم منه رسوله، وللأسف فقد سقط في هذا المزلق بعض المخلصين بدافع إخلاصهم وشفقتهم على إخوانهم. ولا يجوز لأحد مهما بلغت به الفتنة أن يهادن في دين الله، أو يحرف في منهجه.
إن بعضهم-وقد شق عليهم ما نزل ببعض إخوانهم- قد بدءوا يبدون التميع، ويبدون التفاوض مع الجاهلية، بمبادئهم لتخفيف الوطأة على إخوانهم. وبدأوا ينطلقون من منطلق: 'كفانا أشلاء ودماء' وبدأ منهجهم يتكيف مع هذا المنطلق في جوهره وليس في أسلوبه فقط. إن أشلاء إخواننا ودماءهم غالية على كل مسلم غيور، ولكننا أيقنا أنها الثمن الذي أراده الله للنصر وللجنة.
إن الدعوة التي اشتدت عليها الفتنة، فبدأت تغير من منهجها؛ قد سقطت في الابتلاء الذي جعله الله سنة في الدعوات:{ الم[1]أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ[2]وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ[3]}[سورة العنكبوت]. { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ[214]}[سورة البقرة].
إن التربية التي ترسخ في النفوس أن الابتلاء سنة الله في الدعوات، مهمة جداً:
مهمة للقادة حتى لا يسقطوا في الابتلاء، ويحرفوا المنهج تفادياً لهم، فيضلوا ويضلوا.
مهم للأتباع حتى يثبتوا بتثبيت الله لهم عند الابتلاء، وحتى لا يتسبب ابتلاؤهم في صب جام غضبهم ولعنتهم على إخوانهم وعلى منهجهم؛ لأنه بزعمهم السبب فيما وقعوا فيه.(/2)
إن أي مسلم غيور، لتذهب نفسه حزناً وهماً على ما يصيب إخوانه في العقيدة، وهو مطالب بأن يبذل وسعه في سبيل التخفيف عنهم- وإن كان ما نقدمه حقيقة قليل جداً، وذلك لتراكم الظلم من كل جهة، ولبخل بعضنا وقعودهم عن بذل كل إمكاناتهم وقدراتهم في سبيل نصرة إخوانهم- ولكن لا يجوز لنا أن يجرفنا الهم والحزن إلى التخلي عن شيء من منهجنا تفادياً للمواجهة، وفي موقف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من خباب رضي الله عنه وهو يأتيه شاكياً عند الكعبة تثبيت لتلك السنة في نفوس أصحابه بضرب المثل بما لاقاه أسلافهم من المؤمنين، ثم ثبته بتأكيد نصر الله لهم ولو بعد حين، يقول خباب: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً وَهُوَ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ وَقَدْ لَقِينَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ شِدَّةً فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَدْعُو اللَّهَ فَقَعَدَ وَهُوَ مُحْمَرٌّ وَجْهُهُ فَقَالَ: [لَقَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ لَيُمْشَطُ بِمِشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ عِظَامِهِ مِنْ لَحْمٍ أَوْ عَصَبٍ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَيُوضَعُ الْمِنْشَارُ عَلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَيْنِ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَلَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ مَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ زَادَ بَيَانٌ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ] رواه البخاري.
وكذلك خرج بأصحابه مثخناً بالجراحات يوم أُحد، وذهب منهم سبعون شهيداً من خيرة الصحابة، وهو عدد ليس بقليل في ذلك الوقت من عمر الدعوة، لقد كانوا عشر جيش المسلمين، فماذا كان من الرسول بعد هذا البلاء المبين ؟
يقول ابن إسحاق:'قدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد أحد رهط من عضل والقارة فقالوا: يا رسول الله إن فينا إسلاماً فابعث معنا نفراً من أصحابك يفقهوننا في الدين، ويقرئوننا القرآن، ويعلموننا شرائع الإسلام، فبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معهم نفرا من أصحابه' [التهذيب/194].
ثم كان ما كان من هذيل في يوم الرجيع، إذ قتل وفد رسول الله جميعهم، وكانوا ستة كما عدهم ابن إسحاق.
ثم ماذا ؟ ثم بعث رسول الله أصحاب بئر معونة على رأس أربعة أشهر من أُحد [التهذيب/200] وقتل فيه أربعون صحابياً من خيار المسلمين غدراً وخيانة. بلاء على إثر بلاء، ولكن الدعوة مستمرة، والمنهج محفوظ، يختار الله من يشاء من المخلصين إلى جواره، وتبقى بقية القافلة في سيرها إلى الله كما أمرها الله.
5 - مطاردة الفارين بدينهم خارج الحدود:
'فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية، بمكانه من الله، ومن عمه أبى طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء قال لهم لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه] فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة، وفراراً إلى الله بدينهم' [التهذيب /72].
ولكن طغاة قريش لم يطب لهم العيش، وهم يرون أتباع الدعوة، وقد أصابوا داراً وقراراً عند ملك الحبشة، فكان ما كان من مؤامرات حتى يخرجوهم من دارهم التي اطمأنوا بها وأمنوا فيها.
وكان من رحمة الله بعباده المؤمنين، ومن حمايته لدعوته وحفظه لها أن رد وفد قريش خائباً، وجعل للمسلمين من عدل النجاشي ملجأ، وإن لم يكن على دين الإسلام في بادىء الأمر.
وهذه الصورة بكل جوانبها لا تزال تكرر نفسها..يضطهد المسلمون في أرضهم، فيفرون بدينهم منها، ويحاول الطغاة أن يتبعوهم بأذاهم حيث ما كانوا، فتدرك المؤمنين رحمة الله فييسر لهم من الأسباب ما يحفظهم من الأذى.
6- المفاوضات [الإغراءات] المادية:
ولما لم تفلح كل تلك المحاولات مرة أخرى في قتل الدعوة، أو حتى في إيقاف انتشارها الواسع، وعندما قوي أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، واشتد أمرهم بإسلام حمزة وعمر وغيرهما، لجأ الطغاة إلى محاولات لإغراء الرسول بأمور الدنيا، كي يتنازل عن دعوته. ومثال تلك المحاولات: مفاوضة عتبة بن ربيعة أرسلته قريش مندوباً عنها ليعرض على الرسول الملك والجاه والمال كي يكف عن دعوته.
ولا تزال تلك الوسيلة تستخدم لشلِّ الدعوة وشراء الدعاة، فيتم بذلك احتواءهم وتسييرهم إلى الوجهة التي يراد لهم السير فيها، وكم من داعية لم يسقط بالترهيب والتهذيب سقط بالإغراء والترغيب.
7 - المفاوضات الدينية والسعي وراء التنازلات:
وتمثل تلك المرحلة أخبث وأخطر ما تفتق عنه تخطيط الطغاة ومكرهم. إن أهل الباطل ليس لهم منهج ثابت محدد يلتزمون به، وإنما يدورون مع مصالحهم حيث دارت، ومصلحتهم العظمى كما يرونها في عداء الحق والسعي لإطفاء نور الله.(/3)
ومن هنا: فإن أهل الباطل لا يجدون غضاضة ولا صعوبة في أن يعترفوا بشيء من الحق، ويتفاوضوا مع أهله إذا كان في ذلك قضاء على الحق وأهله ولو بعد حين.
أما أهل الحق فموقفهم مختلف تماماً، إنهم لا ينطلقون من مصالح معينة، إن لهم منهجاً ثابتاً محدداً أنزله الله إليهم، وأمرهم باتباعه، وحذرهم من مخالفته، وقضيتهم في جوهرها إنما هي استمساك بهذا المنهج الثابت، ومحافظة عليه، والذب عنه حتى الموت.
ومن هنا: فإنهم ليس لهم من الأمر شيء، ولا يملكون أن يتنازلوا عن شيء من هذا المنهج لأي هدف كان، إذ أن منهجهم هو قضيتهم، ومصلحتهم في العض عليه بالنواجذ، وتحقيق أي هدف في الحياة الدنيا- ولو بدا سامياً عند البعض- لا يجوز أن يتم بالتنازل عن شيء من المنهج.
وتدبروا في موقف أهل الباطل من التنازلات:{ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ[9]}[سورة القلم] . إن لديهم الاستعداد للمداهنة، ولا مانع لديهم من التنازلات عن شيء من باطلهم في مقابل تنازل أهل الحق عن شيء من حقهم، يقول ابن كثير في تفسير سورة الكافرون: 'قيل إنهم-أي كفار قريش- من جهلهم دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبادة أوثانهم سنة، ويعبدون معبوده سنة، فأنزل الله هذه السورة فأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فيها أن يتبرأ من دينهم بالكلية فقال:{ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ[2]}[سورة الكافرون] '.
إنه لا فرق البتة بين أن يعبد المشركون آلهتهم أبد الدهر، أو يعبدوها سنة، ويعبدوا الله سنة بعدها، كله باطل، وما يضير المشركين أن يقدموا مثل هذا التنازل، وهم بذلك يكسبون الاعتراف الصريح من أهل الحق بشرعية ما عليه أهل الباطل.
ولكنه فرق أبعد مما بين السماء والأرض، بين أن يعبد المسلمون الله كل عام، أو يعبدوه عاماً، ويعبدون آلهة المشركين عاماً بعده، إن الصورة الأولى هي الحق، والثانية باطل من جملة الباطل وشتان بين الحق والباطل.
وماذا يكسب المسلمون من مثل هذا التنازل؟ اعتراف أهل الباطل بحق أهل الحق في الوجود؟! وماذا يعني لو تم ذلك؟ هل حققنا قضيتنا؟ وكيف نحقق الكفر بالطاغوت وهو قرين الإيمان بالله ونحن نقدم مثل هذه التنازلات؟!
وثبت الله رسوله أمام هذا الكيد الجديد:{ وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا[74]}[سورة الإسراء] وعلّمنا الموقف الذي نقفه من هذا الكيد، وحذرنا من المداهنة في دين الله، بل جعل من أصول ديننا معاداة الكافرين، وبغضهم والبراءة منهم، حتى يقطع كل سبيل إلى الجلوس معهم لتقريب وجهات النظر !!
8- المواجهة المسلحة:
ولما رد الله الذين كفروا بغيظهم في كل مناسبة، ورعى دعوته حتى شبَّت وقوي عودها، وأحسّ المشركون بخطر الدعوة على وجودهم، كانت المواجهات المسلحة-ولابد أن تكون- فكانت بدر، ثم أحد والخندق، وغيرها من السرايا والغزوات، ثم كان يوم الفتح الأكبر، فتح مكة. وصدق الله وعده للمؤمنين وهم بمكة يعذبون، أو وهم في الحبشة يطاردون، أنه ناصرهم على الكافرين.
هذه أبرز صور العداء التي واجهتها الدعوة الأولى، ولا يملك المسلم الذي يعيش في هذا العصر وهو يراجع تلك الصور إلا أن يتساءل:{ أَتَوَاصَوْا بِهِ...[53]}[سورة الذاريات].. إن المحاولات هي ذاتها- وإن أصبحت في كثير من الأحيان أعنف وأشد خطراً على الدعوة، لازدياد كيد العدو من جهة، ولضعف إيمان المسلمين من جهة أخرى-.
من مقالة:'صور من عداء المشركين للدعوة' للشيخ/معن عبد القادر
من:[ مجلة البيان عدد 23 - جمادى الأولى 1410 ه- 1989 م] .(/4)
صور من عيشته - صلى الله عليه وسلم -
الحَمْدُ لِلَّهِ نحمده ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا ومن سيئات أعمالنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ?يا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجَالاً كَثِيراً وَنِساءً، واتَّقُوا اللَّهَ الذي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً? [النساء:1]. ? يا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وأَنْتُمْ مُسْلِمُون? [آل عمران: 102]. ? يا أيُّهَا الَّذين آمَنوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمالَكُمْ، ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً? [الأحزاب:71].وبعد:
فقد كان صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمرون بظروف اقتصادية صعبة ، وعلى الرغم من كل تلك الظروف الصعبة التي كانوا يعيشونها، فقد آمنوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله رضي الله عنهم وأرضاهم .
واسمحوا لي أن أنقل لكم صورة من صور العيش التي كان يعيشها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعض أصحابه الكرام ، فهذا أبو هريرة - رضي الله عنه -يروي قصته فيقول: "والله الذي لا إله إلا هو إن كنت لا أعتمد بكبدي على الأرض من الجوع ، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع ، ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه ، فمر بي النبي - صلى الله عليه وسلم - فتبسم حين رآني ، وعرف ما في وجهي وما في نفسي، ثم قال: "أباهر! قلت: لبيك يا رسول الله ، قال: "إلحق"، ومضى فاتبعته، فدخل فوجد لبناً في قدح، فقال: "من أين هذا اللبن؟" قالوا: أهداه لك فلانٌ أو فلانة، قال "أباهر" قلت : لبيك يا رسول الله ، قال: "إلحق إلى أهل الصفة فادعهم لي". قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام ، لا يأوون على أهل ولا مال ولا على أحد، وكان إذا أتته صدقة بعثها إليهم ولم يتناول منها شيئاً.وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها، فساءني ذلك ، فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة ؟! كنت أحق أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها، فإذا جاؤوا أمرني فكنت أنا أعطيهم ، وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن ؟ ولم يكن من طاعة الله ومن طاعة رسوله بدٌ ، فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا واستأذنوا ، فأُذن لهم ، وأخذوا مجالسهم من البيت، قال: "يا أبا هر"، قلت : لبيك يا رسول الله، قال: "خذ فأعطهم، فأخذت القدح ، فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى ، ثم يرد علي القدح فأعطيه الآخر فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح، حتى انتهيت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد روي القوم كلهم، فأخذ القدح فوضعه على يده فنظر إلي فتبسم، فقال : "يا أبا هر"، قلت : لبيك يا رسول الله، قال: "بقيت أنا وأنت"، قلت : صدقت يا رسول الله، قال: "أقعد فاشرب" ، فقعدت فشربت، فقال: " إشرب، فشربت، فما يزال يقول : "اشرب" حتى قلت : لا والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكاً، قال: "فأرني"، فأعطيته القدح فحمد الله تعالى وسمى وشرب الفضلة" .
هكذا كانت حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو سيد الخلق قلة وبساطة في العيش بل جوعاً وشظفاً فما شبع - صلى الله عليه وسلم - من الطعام ، ومات ودرعه مرهونة في آصع من شعير.
وفي هذا الحديث معجزة من معجزات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث أن اللبن الذي كان لشخص قد شرب منه العشرات من أهل الصفة ، كل واحد يشرب حتى يشبع دون أن ينقص .. إنها معجزة كبيرة أيد الله بها نبيه - صلى الله عليه وسلم - وأكرم بها أصحابه.
ثم إننا نرى قوة الصبر والتحمل وعزة النفس التي كان يتحلى بها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فعلى الرغم مما كان يعانيه أبو هريرة - رضي الله عنه - من جوع لم يبح لنفسه أن يتسول أو يتخذ المسألة مهنة له .. إنها أخلاق حميدة وصفات عظيمة كان يمتاز بها العرب بشكل عام حتى أن أحدهم في الجاهلية كان يقول :
أَُدِيمُ مِطال الجوع حتى أميته
وأضرب عنه الذكر صفحاً فأذهلُ
وأستف ترب الأرض كيلا يرى له
على من الطول امرء متطولُ
وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن
بأعجلهم إذ أجشعُ القومِِِِ أعجلُ(/1)
إن الظروف الصعبة التي يمر بها الإنسان في معاشه تجعله يتطلع دائماً إلى الغنى وحب الخير.. والخروج من الفقر والحاجة .. والصحابة الكرام رضوان الله عليهم كانوا يسرون إذا فتح الله عليهم من الدنيا ويستبشرون، إنها فطرة موجودة في النفس البشرية تحب المال وتتشوف إليه وتتطلع .. لا سيما إذا كان الفقر والحاجة قائمة .. ولقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتعهد أصحابه بالتربية والتوجيه ويربطهم بالله والدار الآخرة باستمرار ويقول:" اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة" ، وفي سنة من السنوات بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه إلى البحرين يأتي بجزيتها، وكان - صلى الله عليه وسلم - قد صالح أهل البحرين وأمّر عليهم العلاء بن الحضرمي، فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين، فسمعت الأنصار بقدومه، فوافوا صلاة الصبح مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما انصرف تعرضوا له، فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين رآهم وقال: "أظنكم سمعتم بقدوم أبي عبيدة وأنه جاء بشيء؟" قالوا: أجل يا رسول الله ، قال: "فابشروا وأملوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم". لقد خشي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه وأمته زهرة الدنيا والتنافس فيها لأن المال مرغوب والإنسان يريد جمع أكثر شيء منه والانفراد به والمغالبة عليه فتقع من ثم العداوات والصراعات والاقتتال وكل ذلك يؤدي إلى الهلاك ولقد وقعت الأمة فيما تخوف منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن مشكلاتنا التي أهلكتنا وألقت بيننا العداوة والبغضاء ما هي إلا بسبب التنافس على حطام هذه الحياة وجمعها ومنعها والمغالبة عليها والأثرة بها.
رجال المال والأعمال الكبار يهيمنون على كل شيء ويحتكرون ويمنعون حق الله إلا القليل النادر منهم .. فيكرههم الناس ويبغضونهم، الحكام اليوم في أكثر بلاد العروبة والإسلام يحتكرون المناصب ويحتكرون التجارة ويعملون بجشع وتسابق محموم مع آجالهم للسيطرة على السياسة والمال .. وغالباً ما يجمعون المليارات من أقوات الشعوب في البنوك الغربية ثم يذهبون من الدنيا ويخرجون منها محملين بأوزار وتبعات فلا نفعوا أمتهم ولا هم انتفعوا بما نهبوه وسرقوه، سلوا شاه إيران ماذا فعل بأرصدته؟! وشاوشسكوا، وموياتوا .. وسوهارتوا .. وكم في العرب من مثلهم يسيرون في الطريق ذاته لا يعتبرون ولا يتنبهون لأنهم سكروا بحب الدنيا فلا يصحون إلا في معسكر الموتى مع الهالكين.
التنافس في الدنيا والتسابق المحموم في جمع حطامها هو الذي قوض ديننا ودنيانا .. هو الذي غير النفوس. من أجل التنافس فيها فقدنا الأمن والاستقرار .. وتفرقت الأسر وتخاصم الجيران .. وفسد القضاء وخرب التعليم وضاعت الأمانة وانتشر كل بلاء ومصيبة بسبب هذه الدنيا التي نتنافس فيها ونتقاتل عليها .. ثم نذهب جميعاً ونتركها خلفنا فلا سلم لنا ديننا ولا استطعنا أن نحصل على دنيانا وأن نبقيها ، بل لا بد وأن تتركنا أو نتركها هما أمران لابد منهما. ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ?[فاطر:5].
مما لاشك فيه أن قلوبنا في غفلة وغمرة .. وبها قساوة وقد ذكر العلماء رحمة الله عليهم وصفة علاجية للقلوب إذا غفلت أو قست ، فعلى أصحابها أن يعالجوها بأربعة أمور:
الإقلاع عما هي عليه ومجالسة الصالحين وحضور مجالس العلم والذكر والوعظ والتذكير .. ومعرفة سيرة الصالحين فإن ذلك مما يلين القلوب وينفعها.
ذكر الموت والإكثار من ذكر هاذم اللذات ومفرق الجماعات ، فإن تذكر الموت يردع عن المعاصي، ويلين القلب القاسي، ويذهب الفرح بالدنيا ويهون المصائب فيها.
مشاهدة المحتضرين وأحوالهم .. وكيف يخرجون من الحياة راغمين . وها نحن في هذا العصر نشاهد الحوادث التي تودي بحياة البشر وتنقلهم من عالمهم إلى عالم الآخرة ، وسواء أكانوا في الجو أم على وجه الأرض أم في قاع المحيطات .. إن التأمل الواعي لمصارع الناس .. يفطم النفس الأمارة. ويبعث على العمل الصالح ويزيد من الاجتهاد.
زيارة القبور الزيارة الشرعية ، والتفكر في أحوالها، قال - صلى الله عليه وسلم - "كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، فزوروها فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة"
روي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه خرج على المقبرة فلما أشرف عليها قال: يا أهل القبور أخبرونا أو نخبركم، أما خبرٌ من قبلنا: فالمال قد اقتسم، والنساء قد تزوجن، والمساكن قد سكنها قوم غيركم، ثم قال : أما والله لو استطاعوا لقالوا : لم نرى زاداً خيراً من التقوى.(/2)
فيا أيها الناس حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا ، تأهبوا للعرض الأكبر على ربكم فيومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية ، وصلوا وسلموا على نبيكم - صلى الله عليه وسلم -.
صحيح البخاري باب كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتخليهم من الدنيا برقم 6087
صحيح البخاري باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أصلح الأنصار والمهاجرة برقم 3584.
البحرين: هو ما بين البصرة وهجر .. وهي تمتد الآن من البصرة في العراق مروراً بالكويت وحتى الأحساء في المملكة العربية السعودية. وقد أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - العلاء إلى المنذر بن ساوى عامل الفرس على البحرين يدعوه إلى الإسلام فأسلم، وصالح مجوس تلك البلاد على الجزية.
صحيح البخاري باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها برقم 6061 . وصحيح مسلم كتاب الزهد والرقائق برقم 2961 ...(/3)
صور من نعيم أهل الجنة ... ... ...
إن حال أهل الجنة في الجنة كله نعيم دائم ، وإنما اخترنا بعض صور النعيم لبيان جزء من كل ..
الصورة الأولى : حال المؤمن مع أزواجه في الجنة
ذكر ابن القيم في كتابه بستان الواعظين حال المؤمن مع أزواجه في الجنة:
قال ابن عباس رضي الله عنه : وذلك أن ولي الله في الجنة على سرير ، والسرير ارتفاعه خمسمائة عام وهو قول الله عز وجل { وفرش مرفوعة } ، قال والسرير من ياقوت أحمر وله جناحان من زمرد أخضر ، وعلى السرير سبعون فراشا حشوها النور ، وظواهرها السندس ، وبطائنها من إستبرق ، ولو دلى أعلاها فراشا ما وصل إلى آخرها مقدار أربعين عاما ، وعلى السرير أريكة وهي الحجلة وهي من لؤلؤة عليها سبعون سترا من نور وذلك قوله عز وجل { هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون } يعني ظلال الأشجار ، على الأرائك يعني السرة في الحجال ، فبينما هو معانقها لا تمل منه ولا يمل منها والمعانقة أربعين عاما فإذا رفع رأسه فإذا هو بأخرى متطلعة عليه تناديه : يا ولي الله أما لنا فيك من دولة ؟ فيقول حبيبتي من أنت ؟ فتقول أنا من اللواتي قال الله فيهن { ولدينا مزيد } ، قال فيطير سريره ، أو قال كرسي من ذهب له جناحان فإذا رآها فهي تضعف على الأولى بمائة ألف جزء من النور فيعانقها مقدار أربعين عاما لا تمل منه ولا يمل منها ، فإذا رقع رأسه رأى نورا ساطعا في داره ، فيعجب فيقول سبحان الله أملك كريم زارنا ، أم ربنا أشرف علينا ؟ فيقول الملك وهو على كرسي من نور بينه وبين الملك سبعون عاما ، والملك في حجبته في الملائكة : لم يزرك ملك ولم يشرف عليه ربك عز وجل ، فيقول ما هذا النور ؟
فيقول الملك لزوجتك الدنيوية وهي معك في الجنة ، وأنها طلعت ورأتك معانقا لهذه فتبسمت فهذا النور الساطع الذي تراه في دارك هو نور ثناياها ، فيرفع رأسه إليها فتقول : يا ولي الله أما لنا فيك من دولة ؟ فيقول : حبيبتي من أنت ؟ فتقول له يا ولي الله أما أنا فمن اللواتي قال الله عز وجل فيهن { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } الآية . قال فيطير سريره إليها فإذا لقيها فهي تضعف عن هذه الأخرى بمائة ألف جزء من النور لأن هذه صلت وصامت وعبدت الله عز وجل ، فهي إذا دخلت الجنة أفضل من نساء الجنة ، لأن أولئك أنبتن نباتا ، فيعانق هذه مقدار أربعين عاما لا تمل منه ولا يمل منها ، ثم إنها تقوم بين يديه وخلاخلها من يواقيت ، فإذا وطئت يسمع من خلاخلها صفير طل طير في الجنة ، فإذا مس كفها كان ألين من المخ ويشم من كفها رائحة كل طيب في الجنة وعليها سبعون حلة من نور لو نشر الرداء منها لأضاء ما بين المشرق والمغرب ، خلقت من نور والحلل عليها أسورة من ذهب وأسورة من فضة وأسورة من لؤلؤ ، وتلك الحلل أرق من نسج العنكبوت وهو أخف عليها من النقش، وأنه يرى مخ ساقها من صفائها ورقتها من وراء العظم واللحم والجلد ، والحلل مكتوب على ذراعها اليمين بالنور { الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن } .
ومكتوب على كبدها بالنور حبيبي أنا لك لا أريد بك بدلا ، وكبدها مرآته ، وهي على صفاء الياقوت وحسن المرجان وبياض البيض المكنون { عربا أترابا } العرب العاشقات لأزواجهن ، والأتراب بنات خمس وعشرين سنة ، مفلجة لو ضحكت لأضاء نور ثناياها ولو سمع الخلائق منطقها لافتتن كل بر وفاجر ، فهي قائمة بين يديه فساقها يضعف على قدميها بمائة ألف جزء من النور ، وفخذها يضعف على ساقها بمائة ألف جزء من النور ، وعجزها ، وعجزها يضعف على فخذها بمائة ألف جزء من النور ، وبطنها يضعف على عجزها بمائة ألف جزء من النور ، وصدرها يضعف على بطنها بمائة ألف جزء من النور ، ووجهها يضعف على نحرها بمائة ألف جزء من النور ، ولو تفلت في بحار الدنيا لعذبت كلها، ولو اطلعت من سقف بيتها إلى الدنيا لأخفى نورها نور الشمس والقمر ، عليها تاج من ياقوت أحمر مكلل بالدر والمرجان على يمينها مائة ألف قرن من قرون شعرها(/1)
وتلك القرون قرن من نور وقرن من ياقوت وقرن من لؤلؤ وقرن من زبرجد وقرن من مرجان وقرن من در مكلل بالزمرد الأخضر والأحمر، مفضض بألوان الجوهر موشح بألوان الرياحين ليس في الجنة طيب إلا وهو تحت شعرها ، الواحدة تضيء مسيرة أربعين عاما ، وعلى يسارها مثل ذلك ، وعلى مؤخرها مائة ألف ذؤابة من ذوائب شعرها ، فتلك القرون والذوائب إلى نحرها ثم تتدلى إلى عجرتها ثم تتدلى إلى قدميها حتى تجره بالمسك ، وعن يمينها مائة ألف وصيفة كل قرن بيد وصيفة ، وعن يسارها مثل ذلك ومن ورائها مائة ألف وصيفة آخذة بذؤابة من ذوائب شعرها ، ومن بين يديها مائة ألف وصيفة معهن مجامر من در فيها بخور من غير نار ويذهب ريحه في الجنة مسيرة مائة عام ، حولها ولدان مخلدون شباب لا يموتون كأنهن اللؤلؤ المنثور كثرة، فهي فهي قائمة بين يدي ولي الله ترى إعجابه وسروره بها وهي مسرورة وعاشقة له ، فتقول له يا ولي الله لتزدادن غبطة وسرورا ، فتمشي بين يديه بمائة ألف لون من المشي في كل مشية تجلى في سبعين حلة من النور وأن الماشطة معها فإذا مشت تتمايل وتنعطف وتتكاسر وتدور ، وتبتهج بذلك وتبتسم فإذا مالت مالت القرون من الشعر معها ومالت الذوائب ومالت الوصفان معها ، فإذا دارت درن معها ، فإذا أقبلت أقبلن معها ، خلقها الرحمن تبارك وتعالى خلقة إذا أقبلت فهي مقابله وإذا ولت فهي مقبلة الوجه لا تفارق وجهه ولا تغيب عنه، ويرى كل شيء منها ، إذا جلست بعد مائة ألف لون من المشي خرجت عجزتها من السرير وتدلي قرونها وذوائبها فيضطرب ولي الله لولا أن الله قضى أن لا موت فيها لمات طربا ، فلولا أن الله تبارك وتعالى قدرها له ما استطاع أن ينظر إليها مخافة أن يذهب بصره فتقول له يا ولي الله تمتع فلا موت فيها.
الصورة الثانية : فرش أهل الجنة
أعدت قصور الجنة وأماكن الجلوس في حدائقها وبساتينها بألوان فاخرة رائعة من الفرش للجلوس والاتكاء ونحو ذلك ، فالسرر كثيرة راقية ، والفرش عظيمة القدر بطائنها من الإستبرق ، فما بالك بظاهرها ، وهناك ترى النمارق مصفوفة على نحر يسر الخاطر ، ويبهج النفس ، والزرابي مبثوثة على شكل منسق متكامل ، قال تعال { فيها سرر مرفوعة * وأكواب موضوعة * ونمارق مصفوفة * وزرابي مبثوثة } ، وقال تعالى : { متكئين على فرش بطائنها من إستبرق ) ، وقال تعالى : { متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين } وقال تعالى { ثلة من الأولين ، وقليل من الآخرين ، على سرر موضونة ، متكيئن عليها متقابلين } ، واتكاؤهم عليها على هذا النحو من النعيم الذي يتمتع به أهل الجنة حين يجتمعون كما أخبر الله تعالى : { ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين } ، وقال { متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان }
والمراد بالنمارق : المخاد والوسائد المساند ، والزرابي : البسط ، والعبقري : البسط الجياد ، والرفرف: رياض الجنة ، وقيل نوع من الثياب ، والأرائك: السرر.
الصورة الثالثة : خدم أهل الجنة
يخدم أهل الجنة ولدان ينشئهم الله لخدمتهم ، يكونون في غاية الجمال والكمال ، كما قال تعالى : {يطوف عليهم ولدان مخلدون ، بأكواب وأباريق وكأس من معين } وقال : {ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا }
قال ابن كثير رحمه الله تعالى : " يطوف على أهل الجنة للخدمة ولدان من ولدان أهل الجنة - مخلدون - أي على حالة واحدة مخلدون عليها ، لا يتغيرون عنها ، لا تزيد أعمارهم عن تلك السن ، ومن فسرهم بأنهم مخرصون، في آذانهم الأقرطة فإنما عبر عن المعنى، لأن الصغير هو الذي يليق له ذلك دون الكبير ، وقوله تعالى { لؤلؤا منثوراً } أي إذا رأيتهم في انتشارهم في قضاء حوائج السادة وكثرتهم وصباحة وجوههم وحسن ألوانهم وثيابهم وحليهم حسبتهم لؤلؤا منثورا ، ولا يكون في التشبيه أحسن من هذا ، ولا في المنظر أحسن من اللؤلؤ المنثور على المكان الحسن
الصورة الرابعة : سوق أهل الجنة
روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن في الجنة لسوقا يأتونها كل جمعة فتهب ريح الشمال، فتحثوا في وجوههم وثيابهم ، فيزدادون حسنا وجمالا، فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسنا وجمالا ، فيقول لهم أهلوهم : والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا، فيقولون والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا )
قال النووي في شرحه لهذا الحديث " المراد بالسوق مجمع لهم يجتمعون كما يجتمع الناس في الدنيا في السوق، ومعنى يأتونها كل جمعة أي أسبوع ، وليس هناك حقيقة أسبوع ، لفقد الشمس والليل والنهار ، وخص ريح الجنة بالشمال لأنها ريح المطر عند العرب ، كانت تهب من جهة الشام ، وبها يأتي سحاب المطر ، وكانوا يرجون السحابة الشامية ، وجاءت في الحديث تسمية هذه الريح المثيرة ، أي المحركة ، لأنها تثير في وجوههم ما تثيره من مسك أرض الجنة وغيره من نعيمها " .
الصورة الخامسة : اجتماع أهل الجنة وأحاديثهم(/2)
يزور أهل الجنة بعضهم بعضا ، ويجتمعون في مجالس طيبة يتحدثون ويذكرون ما كان منهم في الدنيا ، وما منّ الله به عليهم من دخول الجنة ، قال تعالى واصفا ذلك { ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين } ، وأخبر تعالى عن لون من ألوان الأحاديث التي يتحدثون بها في مجتمعاتهم { وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون * قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين * فمنّ الله علينا ووقانا عذاب السموم * إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم } ، ومن ذلك تذكرهم أهل الشر الذين كانوا يشككون أهل الإيمان ويدعونهم إلى الكفران { فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون * قال قائل منهم إني كان لي قرين * يقول أءنك لمن المصدقين * أءذا كنا ترابا وعظاما أءنا لمدينون * قال هل أنتم مطلعون * فاطلع فرآه في سواء الجحيم * قال تالله إن كدت لتردين * ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين * أفما نحن بميتين * إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين * إن هذا لهو الفوز العظيم * لمثل هذا فليعمل العاملون }
الصورة السادسة : التسبيح والتكبير
الجنة دار جزاء وإنعام ، لا دار تكليف واختبار ، وقد يشكل على هذا ما رواه البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم في صفة أول زمرة تدخل الجنة ، قال في آخره ( يسبحون الله بكرة وعشيا ) ولا إشكال في ذلك إن شاء الله تعالى ، لأن هذا ليس من باب التكليف ، قال ابن حجر في شرحه للحديث: " قال القرطبي هذا التسبيح ليس عن تكليف وإلزام ! وقد فسره جابر في حديثه عند مسلم بقوله (يلهمون التسبيح والتكبير كما تلهمون النفس ) ووجه التسبيه أن تنفس الانسان لا كلفة عليه فيه، ولا بد منه ، فجعل تنفسهم تسبيحا ، وسببه أن قلوبهم تنورت بمعرفة الرب سبحانه ، وامتلأت بحبه ، ومن أحب شيئا أكثر منه " .
وقد قرر شيخ الإسلام ابن تيمية أن هذا التسبيح والتكبير لون من ألوان النعيم الذي يتمتع به أهل الجنة ويتلذذون به .
المصدر: موقع إسلاميات
...(/3)
صورة المسلمين والعرب في العالم
1/2
إعداد: خلود العيدان * منيرة الدهش 11/3/1426
20/04/2005
لماذا (صورة المسلمين والعرب في العالم) كانت قضيتنا الأولى؟!
إن حماسنا للبحث في هذه القضية..
كان للإجابة عن تساؤلات تشغل فكر الفرد المسلم العربي تجاه..
صورته، حقيقته، هويته، ولماذا هو مشوه في عيني الآخر؟
وتساؤلات شتى تملأ سماء الفكر العربي (الغض) في هذه المرحلة الحرجة من تاريخه.
كما أن حقيقة أن (لا دخان بلا نار) تلح بشدة للبحث عن الحقيقة أياً كان مذاقها.
فإن كان بهتاناً فلم الاستمرار..ولم لم نوقفه؟
وإن كان حقيقة فإلى متى؟ ولماذا لا نشرع بالتغيير.
ورغم هذه المقدمة المشحونة بعلامات الاستفهام..
إلا أن عذوبة الفهم القرآني لأبجديات البحث في هذا الكون تمنحنا هدوءً ونفساً عميقاً لنشرع في قضيتنا..
فلنتأمل الآية الـ(16) من سورة (لقمان):
(يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير)
ولك أن تعلو وتسمو بجمالية المعنى و(تتأمل) لـ(ـتفهم) ما الذي يجري في زمن اختلطت فيه (الحقائق)؟!
لنشرع الأبواب المغلقة:
لقد وضعنا بين أعيننا الهدف الأسمى الذي يحركنا كشباب مسلم عربي والمسؤولية التي أوجدتنا على هذه الأرض..فوجدنا أن..
(معرفتنا للآخر تمنحنا أفقاً أوسع لإمكانية (فهمه) فـ(تفهيمه)، ولمعرفة واقعنا لـ(ـتغييره)..)
كان اختيارنا لهذه القضية من واقع (الأزمة) التي يمر بها عالمنا الإسلامي والعربي لعلنا نكون إحدى المفاتيح لأبواب مستقبل إسلامي عربي مختلف.
ما سبب التأخير؟ وهل عقارب الساعة في حساباتنا!
لاشك أننا نصحو ونغفو ونحن نرى صورنا مجسدة في شاشات التلفزة أو تشبعها أراء المحللين (التلفزيونيين) ركلاً وضرباً إن صح التعبير..إن رد الفعل الذي (أضحى) طبيعياً! هو المسارعة في (إلقاء القبض) على جهاز التحكم و(اتخاذ القرار) بتغيير القناة لـ(ـيسجل) التاريخ الإنجاز الأعظم لتلك (اليد الناعمة)!
إن التأخير في إنقاذ صورتنا الإسلامية والعربية في عيني الآخر لاشك تحمل أسباب عدة قد يكون أهمها:
القناعة بمبدأ (أن ما باليد حيلة)! ويصاحبها أن (هم) من فعلوا وأخطئوا و،،،
بغض النظر إن كان (هم) عائدة على الآخر أو المسؤول.
نحن هنا لا نغفل الطرف الثاني أياً كان ولكن أنحمله كل العبء؟!!
* تحت المجهر و بعدسة الآخر كيف نبدو!
نظر الأوروبيون إلى حياة المسلمين الأخلاقية نظرة مزدوجة، إذ نظروا إلى حجاب المرأة المسلمة كتعبير عن "السرية والقهر" والفصل بين الرجل والمرأة، وفي نفس الوقت نظروا إليه على أنه مصدر "فجور واستباحة أخلاقية مستترة" خلف الحواجز والأسوار.
وقد انتقلت هذه الصورة المشوهة كما يرى (جون إسبوزيتو) أستاذ دراسات الأديان والعلاقات الدولية بجامعة جورج تاون الأميركية في كتاب "التهديد الإسلامي.. حقيقة أم أسطورة؟" الصادر عام 1992.. انتقلت إلى بعض أهم قادة الإصلاح الفكري والديني في أوروبا وعلى رأسهم زعيم حركة الإصلاح البروتستانتي مارتن لوثر الذي نظر إلى الإسلام على أنه:
"حركة عنيفة تخدم أعداء المسيح لا يمكن جلبها للمسيحية لأنها مغلقة أمام المنطق، ولكن يمكن فقط مقاومتها بالسيف".
كما يقول المستعرب الياباني (نوبوآكي نوتوهارا) في كتابه (العرب وجهة نظر يابانية):
"سافرت إلى البلدان العربية وكنت قد تجاوزت الثلاثين من عمري ورأيت وقرأت وتحدثت إلى الناس في كل مكان نزلت فيه.لقد عاينت بنفسي غياب العدالة الاجتماعية وتهميش المواطن واذلاله وانتشار القمع بشكل لايليق بالإنسان.وغياب كل أنواع الحرية كحرية الرأي السلوك والمعتقد وغيرها.
كما عرفت عن قرب كيف يضحي المجتمع بالأفراد الموهوبين والأفراد المخلصين،ورأيت كيف يغلب على سلوك الناس عدم الشعور بالمسؤولية تجاه المجتمع وتجاه الوطن".
المفاهيم الإسلامية عالمياً:
اعتمد البناء المفاهيمي للإسلام عالمياً على وجود مكثف في الخطاب الإعلامي لـ(ـتصنيفات) على شاكلة "الإرهاب الإسلامي"، "المحاربين الإسلاميين"، "الإرهابيين الإسلاميين"، "الديكتاتور الإسلامي"، "الهجمات الإسلامية"، و"الإرهاب الإسلامي المتشدد"،"الظاهرة الإسلامية".
كما جاء في تعريف العربي أبان المرحلة الستينيات والسبعينيات في القاموس الأمريكي المسمى روجيت ثيساورس Roget Thesaurus بكونه "جلف، نذل، أخرق، مخادع، ساذج". ولم تحذف هذه النعوت القبيحة إلا بعد جهود وضغوط بذلتها المنظمات العربية في أمريكا.
***
الصورة ، الألوان، الظلال ،،، (نحن والآخر) وما الذي قيل؟!
* على المسلمين أن يتوصلوا إلى حل لإشكاليات كثيرة داخلية قبل أن يطالبوننا بصورة أكثر توازنا.
( ناثان كاردلس رئيس تحرير خدمة لوس انجلوس تايمز الأمريكية)
* إنه لم تشوه سمعة جماعة دينية أو ثقافية أو قومية ويحط من قدرها بشكل مركز ومنظم كما حدث للعرب.
(نيكولاس فون هوفمان الصحفي بجريدة "واشنطن بوست")(/1)
*: إن المنطقة العربية ليست راكدة، إنها مكان حيوي. وأمر آخر عن هذه المنطقة إذا نسينا، لقد اجتزنا ثورات، لقد مررنا بثورة الكومنولث والثورة الصناعية لقد اجتاز الغرب صدمات هائلة قبل أن يصل لما هو عليه اليوم، فهل من المتوقع أن يصبح المسلمون بعصا سحرية مستنيرين في غضون سنوات قلائل؟
(حمزة يوسف عمل مستشارا للبيت الأبيض وللجامعة العربية للشؤون الإسلامية، وهو مؤسس معهد الزيتونة في كاليفورنيا، وهو أمريكي المولد واعتنق الإسلام)
*من المستحيل أن نتوقع أي تقدم أخلاقي وفكري ومادي أينما يسود المحمديون.
(الرئيس الأميركي ثيودور روزفلت)
*إذا كان الإسلام قد عانى من جاهلية العرب ربع قرن ، فقد ظل يعاني من جاهلية الغرب قروناً طوالاَ !
وقد تأثر الإعلاميون الغربيون بشكل فاضح بالروح العدائية التي نفخها المستشرقون ومعظمهم من اليهود.
( كتاب " ربحت محمّداً ولم أخسر المسيح")
* هناك من يريد تشويه صورة الإسلام ونحن، رجال الدين، علينا مسؤولية تصحيح ذلك...إن المثقفين المسلمين أخفقوا في المساهمة بشكل ملحوظ في العلوم وغيرها من الميادين في القرنين الماضيين.
( جورج كيري كبير أساقفة الكنيسة الأنجليكانية )
* أنه لابد أن نعمل في الداخل الإسلامي، كما لابد علينا أيضا أن نعمل في الخارج لأنه لم يعد هناك حواجز وفواصل بين الداخل والخارج.
(د/علي جمعة مفتي الديار المصرية)
* المسلمون القدامى كانوا يتعاملون مع الغرب من منطلق الندية والقدرة على الانتقاد والانتقاء، بعكس الفنانين والمثقفين قبل الثورة الذين تعاملوا مع الغرب من منطلق الإحساس بالدونية.
(تقول ذيبا مير حسيني/مخرجة إيرانية)
* أكد ( ناثان كاردلس رئيس تحرير خدمة لوس انجلوس تايمز الأمريكية):
أنه كصحفي أمريكي لايملك من معلومات عن الإسلام إلا ما ينقله الصحفيون والساسة المسلمون أنفسهم!
* إن الصحفي الغربي اعتاد علي التفكير بمنطق السياسة والاجتماع و ليس التفكير بمنطق الدين و العقيدة كما اعتاد الإعلامي العربي والمسلم .
( خوسيه لويس برسبال من راديو كووب الاسباني)
* توجد مساحة ضخمة في وسائل الإعلام الغربية تهاجم الإسلام والمسلمين وتسخر منهم، وتصف “الإرهاب” بأنه إسلامي، في حين أنها لا تصفه بأنه مسيحي أو يهودي أو بوذي.
(د/علي جمعة مفتي الديار المصرية)
* لقد كانت هناك عنصرية ضد المسلمين هنا(فرنسا) من قبل غير أنها زادت سوءا بسبب الخلط اليوم بين الإسلام والمسلمين والإرهاب. إن الجدل الدائر حول حظر الحجاب في المدارس يتذرع بعلمانية المجتمع، بينما في الواقع هو يتشكك بالإسلام.
(يوسف معمري من المجلس الإسلامي لمارسيليا (بفرنسا)
* لدينا بلهاء في الغرب يزعمون أن المسلمين شياطين وبالمثل لدينا بلهاء بين المسلمين يزعمون أن الغرب شيطان.أنا آسف.
البشر كلنا فينا الخير والشر. هناك أشخاص طيبون في الغرب وهناك أشخاص طيبون في العالم الإسلامي - وهناك أشرار في الغرب وهناك أشرار في العالم الإسلامي، ومعظم الناس فيهم خليط من الخير والشر يعتمل داخلهم. إننا لا نعيش في القرون الوسطى. حينما يخرج مليون بريطاني في مظاهرات ويقولون لا تخوضوا الحرب باسمنا ويعتصمون وقوفا وجلوسا في البرد القارس لخمس ساعات، رأيت ذلك في هايد بارك، لا يمكنك أن تقول هؤلاء صليبيون ولا يمكنك أيضا أن تبرر تفجير منازلهم، إنهم أشخاص خيرون يعبأون فعلاَ.
(حمزة يوسف عمل مستشارا للبيت الأبيض وللجامعة العربية للشؤون الإسلامية، وهو مؤسس معهد الزيتونة في كاليفورنيا، وهو أمريكي المولد واعتنق الإسلام)
*إن العقل المسلم قد أغفل السنن الإلهية الكونية والأسباب الطبيعية المباشرة لحدوث الأشياء والتوصل للنتائج وقد أعفى نفسه من التدقيق في اتباع كل سبب بعينه لما يريد أن يتوصل إليه (متوهماً) أن الله سبحانه وتعالى سيحقق له كل شئ بإرادته وهو متقاعس لا لشئ إلا لكونه مسلماً وهذا فهم خاطئ لحقيقة الدين.
(د/محمد جابر الأنصاري)
*أن نظرة الغرب الحديثة للإسلام ولدت في فترة كانت علاقة أوروبا بالإسلام فيها علاقة خوف وقلق، مما دفع الأوروبيين لتعريف الإسلام تعريفا "ضيقا كاريكاتوريا" كدين يملؤه "العنف والشهوة" يقوم على "الجهاد العنيف" في الحياة الدنيا و"الملذات الحسية الموعودة" في الآخرة.
( دانيال فيتكس -وهو أستاذ آداب بجامعة ولاية فلوريدا الأميركية)
* أن معرفة الغرب للإسلام في هذه المرحلة كانت بغرض السيطرة عليه وليس فهمه، وأن عمليه المعرفة هذه تمت بشكل منظم نسبيا تعاونت فيه مؤسسات الفكر والمعرفة الأوروبية تعاونا وثيقا مع مؤسسات الاستعمار الأوروبية الرسمية بهدف مدها بالمعرفة اللازمة للسيطرة على المجتمعات المستعمرة.
( إدوارد سعيد)
*أن "فهم مواجهات أميركا مع الشرق الأوسط بعد عام 1945 يتطلب فهم الخلفية الثقافية والصور النمطية العنصرية التي يعتقد بها غالبية الأميركيين" تجاه الشرق الأوسط والعالم الإسلامي.(/2)
(دوغلاس ليتل في كتاب "الاستشراق الأميركي.. أميركا والشرق الأوسط منذ 1945" الصادر عام 2002)
* وبعد الحرب العالمية الثانية والهولوكوست خفت موجة العداء للسامية إلى حد ما –في أميركا- بعدما بدأ الأميركيون في النظر إلى اليهود على أنهم "غربيون" بينما استمروا في النظر إلى المسلمين على أنهم "شياطين" و"إرهابيون معادون للغرب".
(دوغلاس ليتل في كتاب "الاستشراق الأميركي.. أميركا والشرق الأوسط منذ 1945" الصادر عام 2002)
* هناك جرائم لا نتحمل مسؤوليتها مباشرة ، أي لم نشارك فيها، ولكن لا بد أن نتحمل مسؤوليتها...لذلك فالعالم مسؤول عن الجريمة التي ارتكبت بحق الشعب الفلسطيني)
(المستعرب الياباني نوبوأكي نوتوهارا)
* إننا نجني اليوم الثمار المرة للإهمال العربي و الإسلامي.
(د/ عبد القادر طاش رئيس تحرير صحيفة البلاد السعودية سابقاً)
سجل التاريخ عربياً كان أم غربي فهل نقرأ:
- نيغاتيف الصورة:
وضح ديفد بلانكس ومايكل فراستو في مقدمة كتاب لهما صدر عام 1999 عن "رؤية الغرب للإسلام في العصور الوسطى"،
فيقول الكاتبان:
( إن الأوروبيين في تلك الفترة كانوا محاصرين بحضارة أكثر قوة وتقدما وهي حضارة الإسلام، وأنهم فشلوا في هزيمة هذه الحضارة خلال الحروب الصليبية كما رفضوا فهمها، لكنهم شعروا دائما بتهديدها الحضاري والديني لهم، لذا لعب الإسلام دورا أساسيا في تشكيل الهوية الأوروبية ومن ثم الغربية الحديثة.)
ويرى المؤلفان (أن الإسلام لعب دورا شبهاه "بنيغاتيف الصورة" في تشكيل رؤية الأوروبي المسيحي المثالية لنفسه، إذ عمد الأوروبيون إلى تشويه صورة منافسيهم (المسلمين) كأسلوب لتقوية صورتهم الذاتية عن أنفسهم وبناء ثقتهم في مواجهة عدو أكثر قوة وتحضرا).
- لم يكن لفهمه!:
يرى إدوارد سعيد في سلسلة من مؤلفاته على رأسها "الاستشراق" الصادر عام 1978 أن معرفة الغرب للإسلام في هذه المرحلة كانت بغرض السيطرة عليه وليس فهمه، وأن عمليه المعرفة هذه تمت بشكل منظم نسبيا تعاونت فيه مؤسسات الفكر والمعرفة الأوروبية تعاونا وثيقا مع مؤسسات الاستعمار الأوروبية الرسمية بهدف مدها بالمعرفة اللازمة للسيطرة على المجتمعات المستعمرة.
وخلال هذه المرحلة نظر الغرب إلى الشرق -بما في ذلك العالم الإسلامي– بأسلوب أصبح الآن نموذجا يدرس عن التشويه المتعمد الذي يمكن أن تقوم به حضارة ما لصورة حضارة أخرى. ومن أهم عناصر هذا الأسلوب ما يلي:
1. النظر إلى الشرقي أو إلى المسلم على أنه الآخر المستقل تماما عن الأنا أو الذات الأوروبية.
2. تنظيم علاقة الأوروبي مع الآخر عبر سلسلة من الثنائيات الفكرية يضع كل منها الآخر الشرقي أو المسلم في مقابل الأنا الأوروبي على طرفي نقيض في مختلف جوانب الحياة، فمثلا تم النظر إلى الشرقي على أنه متخلف وحشي في مقابل الغربي المتقدم المتحضر، أو على أنه جاهل فقير في مواجهة الغربي المتعلم الثري، أو على أنه داكن ضعيف في مقابل الغربي الأبيض القوي.
3. وقفت المؤسسات الاستعمارية خلف التقسيم الثنائي السابق لدعمه سياسيا واقتصاديا وثقافيا على أرض الواقع من خلال مساعيها لربط الشرق -بما في ذلك العالم الإسلامي- بأوروبا من خلال روابط مؤسساتية استعمارية تضمن بقاء الشرق الطرف الأضعف على طول الخط في علاقته بالإمبراطوريات الأوروبية. ولذا سعى الاستعمار لتكريس استغلاله واستنزافه الاقتصادي للشرق، وإضعاف اللغات والأديان والثقافات الشرقية الأصلية، ومحاربة ظهور الحركات السياسية والاجتماعية الوطنية في الشرق والعالم الإسلامي على مدار عقود الاستعمار.
4. وقف الغرب موقفا منزعجا ومتشددا وأحيانا انتقاميا تجاه الجماعات الشرقية أو المسلمة التي خرجت عن التقسيم الثنائي السابق وحاولت امتلاك أدوات القوة الغربية مثل اللغة وقوة الاقتصاد وفهم السياسة والقانون وأساليب العمل الإعلامي للتقريب بين مواقف المجتمعات الشرقية المستضعفة والغرب المستعمر.
5. النظرة السابقة لعبت دورا مزدوجا خطيرا في تشكيل صورة الإسلام والمسلمين لدى الغرب: الأول تشويه هذه الصورة، والثاني تبرير الاستعمار الأوروبي واستنزاف أوروبا المنظم لثروات الشرق والعالم الإسلامي تحت عنوان تحريره ومساعدته على الرقي والتحضر.(وهل يذكرنا هذا بعراقنا الحالي!)
- هل شاركنا في التشويه؟!
إن وضعنا كفتي ميزان معتدلة بين أعيننا فسنرى في مقابل كل تقدم من طرفهم تراجع من طرفنا لا مواجهة سريعة ونبذ لتلك الأخطاء التي أودت بصورتنا عالمياً..
وكما قال الأستاذ علاء بيومي مدير الشؤون العربية بمجلس العلاقات الإسلامية الأميركية (كير):(/3)
(إن الخلفية الثقافية والحضارية لصورة الإسلام في الولايات المتحدة ليست السبب الوحيد لما يشوب علاقة أميركا بالعالم الإسلامي في الفترة الحالية من توتر، فهناك عوامل أخرى عديدة تساهم في ذلك من بينها التصرفات المشينة التي تقوم بها بعض الأطراف المسلمة أو الأميركية ضد الطرف الآخر، وتراث الأفكار النمطية السلبية التي يمتلكها كل طرف عن الآخر، ودور المصالح المادية في إشعال الخلاف بين الطرفين.)
***
الجاليات الإسلامية والعربية (هناك) ما الذي يجري؟!
الجاليات المسلمة في العالم ما بين السلب والإيجاب:
- يبدو أن هناك حالياً عوامل تتحكم في التعامل السلبي للغرب مع الجاليات الإسلامية وأبنائها ـ رغم تفاوت ذلك من دولة إلى أخرى ـ ويمكن الإشارة إلى بعضها فيما يلي :
*من يدفع الثمن؟
إن الحكم المسبق على الإسلام؛ والاعتماد على الروايات الشاذة لدعم الأفكار الخاطئة التي تجعل الإسلام في موضع الإدانة كل ذلك عمل على تكريس تلك الصورة القاتمة التي نراها اليوم.
والتي يدفع ثمنها الجاليات المسلمة خارج نطاق العالم الإسلامي.
وعلى الرغم من أن بعض الدول الأوروبية قد خطت خطوات مهمة باعترافها بالإسلام، وتم بالفعل في بعض الدول الأخرى إعطاء حقوق مدنية للمهاجرين.
فإنه لا تزال هناك عراقيل ومعوقات كثيرة لتطبيق ذلك في باقي دول العالم.
كما أن هناك استمراراً في اعتبار بعض المظاهر الإسلامية، كالحجاب مثلاً، رمزاً للتعصب والتحجر الفكري، وهناك من يرفض السماح بدراسة المحجبات بدعوى الحفاظ على مبادئ علمانية المدرسة الأوروبية.
كما أن نظرات الآخر تحاصره في كل مكان، وفي بعض الأحيان تقترن بالإذلال والكراهية والعنصرية المكشوفة.
* أشقائنا في مواجهة الآخر..في أي الاتجاهات يسيرون؟!
- الآثار المترتبة على التوجه الإعلامي الشديد اللهجة تجاه المسلمين:
إن طريقة نقل وسائل الإعلام العالمية للأحداث التي تجري في العالم الإسلامي وخصوصاً متابعتها لبعض الخلافات والحروب، تخلف آثاراً واضحة على تعامل الآخر مع المسلمين هناك.
فغالباً ما يعيش العالم اليوم تحت تأثير كابوس الخوف الذي يثيره اهتمام الإعلام الغربي بظاهرة التشدد والتطرف المرتبط بـ(ـالإسلام) ووصفها بأنها أخطر ما يتهدد قيم الغرب المعاصر.
- الآثار المترتبة على صورة العربي المسلم في المناهج الدراسية في العالم:
العربي المسلم خارج حدود أرضه مغترب شاء أم أبى..فالغربة حقيقة لا مفر منها..
إلا أن هذا الإحساس الذي يصاحبها لا يمنع من أن ذلك الفرد يمارس حياته بكافة مناشطها..ينجح ويخفق..
ينتمي للمكان،يألف الصحبة، يحسن السباحة في محيطه الجديد،يجلس بجانب الآخر على ذات المقعد ويتلقى التعليم نفسه. ويسمع ويقرأ صورته بأعينهم..
فالنظرة له من قبل مجتمعه المدرسي لاشك تترك أثراً عميقاً يتدخل في انتمائه ومغالطات في تكوين هويته الإسلامية والعربية بل ربما تجاوزت ذلك في تذبذب قناعته تجاه دينه وهويته.
* دور الجالية الإسلامية في الإساءة إلى صورة الإسلام في العالم :
وهنا لا بد من التأكيد على أنه تحت تأثير الغربة والتهميش ساهم بعض أفراد الجالية المسلمة أنفسهم في الإساءة إلى صورة الإسلام بالغرب.
ويمكن الإشارة إلى أهم السلبيات في هذا الباب :
ـ استغلال العاطفة الدينية القوية لدى الشباب الذين يبحثون عن انتمائهم، لإثارة مشاعر التعصب والتطرف لديهم.
ـ تعدد المرجعيات الدينية التي تتجاذب بعض القيادات الإسلامية وتؤدي إلى صراعات وقلاقل لا تخدم في شيء صورة الإسلام بالغرب.
ـ استغلال المناخ الملائم للعمل السياسي بالغرب، وتسخير الإسلام لخدمة أهداف سياسية ومصلحية زائلة.
*ماذا عن الصورة الإيجابية التي رسموها هناك؟!
قطعاً هناك نماذج يفخر لصداها كل نبض مسلم عربي..
وهي السند الذي مازالت صورتنا في العالم تحاول الاستناد عليه..
ولكن علينا تدعيم ذلك (السند) لكيلا يحترق (الغصن) الذي سنزرع بفضله إن شاء خالقنا..
مروجاً إسلامية وعربية يتغنى بمرآها العالم أجمع..
إن دعمنا لأشقائنا وتواصلنا معهم لاشك يمهد الطرق للوصول للهدف.
***
(نحن) في مناهجهم!
(المصـ)ـدر،(المصـ)ـداقية..
كلمتان اجتماعهما مطلب في توثيق المعلومات التي تقدم في المناهج الدراسية أياً كانت الأرض ولكنهما أضحيا مجرد كلمتين تربطهما بدايات الحروف فحسب.!
أين؟!
هذا ما يتضح في بعض المناهج لدول مختلفة حول العالم..
ولنكن أكثر وضوحاً فالإسلام،المسلمين والمجتمعات العربية مادة تفتقد للمصدر (الموثوق) في تلك المناهج..
لماذا؟!
(من جانبهم):
تشكل كتب المستشرقين رغم إغفالها للحياد العلمي المصدر الرئيسي إن لم يكن الرسمي في إعداد المناهج خارج نطاق العالم الإسلامي والعربي على أفضل تقدير!
ويمتد بنا إدوارد سعيد إلى جذور الاستشراق قائلاً في كتابه "الاستشراق":(/4)
( أن معرفة الغرب للإسلام في هذه المرحلة كانت بغرض السيطرة عليه وليس فهمه، وأن عمليه المعرفة هذه تمت بشكل منظم نسبيا تعاونت فيه مؤسسات الفكر والمعرفة الأوروبية تعاونا وثيقا مع مؤسسات الاستعمار الأوروبية الرسمية بهدف مدها بالمعرفة اللازمة للسيطرة على المجتمعات المستعمرة.)
(من جانبنا):
أين هي المراجع الإسلامية التي تحاور الطرف الآخر؟!
وأين المسلمين أصحاب (القلم،الفكر،التأريخ والحقيقة) ليمنحوا العالم مصدراً (أصيلاً).
وليضيفوا بلون التوثيق بريق الحقيقة في صورة الإسلام بين دفتي كتاب.
ولن نغفل عن أن المناهج العربية تحظى بنصيب الأسد بالقصور الشديد في إعداد الفرد لفهم الآخر.
وللحقيقة أيضاً جانب:
إن صورة الإسلام في المناهج حول العالم تتفاوت بين اعتدال وبين تشويه بين حقيقة وبين افتراء تبعا لعوامل شتى منها ضعف الجالية الإسلامية ومدى قوة اللوبي الصهيوني داخلها ولا شك مصالح الدولة أولاً وأخيراً!
جولة مع (صورتنا) في المناهج الدراسية حول العالم :
*البرازيل:
يوجد في المناهج الدراسية ما يقارب من أربع إلى خمس صفحات تقدم معلومات خاصة عن الإسلام .
يركزون فيها على قضايا المرأة وإجبارها على الزواج من قبل ولي أمرها و تحكمه في مهرها.
حتى إن بعض الكتب تتحدث عن أن المرأة في الإسلام ليست بشرا!
و لا يوجد لها روح وبعضها يتحدث عن مكة وأن الذي بناها هو محمد صلى الله عليه وسلم وبعض من صناديد العرب!
وخصص كتاب الأدب البرازيلي للصف السادس درسا كاملا عن الإسلام بعنوان " الإسلام اليوم" "ص132" ومن أهم ما قالوه عن الإسلام في هذا الدرس:
"إن الإسلام دين مهم على الأرض العربية ...وإن المسلمين ليسوا من العرب فقط فهناك مسلمون في آسيا وأوروبا وأفريقيا ومصر وباكستان وتركيا. والإسلام الذي أسسه محمد هو الأكثر انتشارا في العالم اليوم".
وهنا تتضح الرؤية لأساسيات الفهم للإسلام في المناهج البرازيلية ولكن لابد من أخطاء تيكمها المصدر الغير موثوق كما يحكمها الفهم الخاطئ لحيثيات المعلومة وإن كانت صحيحة.
فمن أهم المسائل التي يحتج عليها الغرب –كما يقول الكتاب-:
التعصب والمعاملة السيئة للمرأة مثل: إجبارها على الحجاب.
منعها من المشاركة مع أي نشاط مع الأجانب من الرجال.
في حالة السفر يحتجن إلى الإذن من الأب أو الزوج.
يستعملن مداخل مخصصة لهن في البيوت.
عند المرض يجب عليهن الذهاب إلى طبيبة.
معرضات للرجم في حالة الزنا.
وهذه المعاملة التي تعامل بها المرأة – كما يقول الكتاب- تستحق الثورة لأنها تجرح الحقوق الأساسية للإنسان ولا نستطيع أن نقول أن هذه المعاملة موجودة في كل البلاد الإسلامية.
*كوريا:
تتسم المناهج الكورية باعتدال الصورة إلى حد كبير..وتعرض المناهج الدراسية أصل الإسلام وكيف بدأت الدعوة الإسلامية على يد النبي صلى الله عليه وسلم "محمد".
وتعرض الأحداث بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حيث اختار العرب خليفة لهم من أتباعه ويتمتع الخليفة بسلطات سياسية ودينيه قويه ومدد واسع من النفوذ الإسلامي من خلال قتال غير المسلمين ومن خلال الفتوحات السلمية .
ولم يجبر المسلمون أي خاضع لهم (ضحية) على تغيير ديانته مادام التزم بدفع الجزية ( الضرائب).
بشكل عام معظم الكوريين لا يعرفون الإسلام على النحو الصحيح..
يعرفون أن المسلمين يؤمنون بالله وإن لم يعرفوا معنى كلمة " الله" ويعتقد الكوريون أن "الله" إله مختلف.. والمسيحيون منهم يعتقدون أن محمد مؤسس دين الإسلام!ولا يعرفون حتى كلمة"رسول الله". ويعتقدون أن المسيح هو الرب وممثل الرب باعتباره في رأيهم ابن الله..
والبعض يفهم الإسلام على أنه: " يد ترفع القرآن وأخرى تمسك السيف"..(!)
ألمانيا:
Kursbuch Religion,Neuausgabe 7/8, Verlag Moritz Diesterweg Verlag, Frankfurt ammain, 1991 أحد كتب مادة التربية الدينية المقررة على الصفين السابع والثامن في إحدى الولايات الألمانية..
يعرض الإسلام على أن " كل مسلم مكلف بمقاتلة أعداء الإسلام، الذين لا ينصاعون للقرآن، تبعا لمبدأ الجهاد ، حتى تكون كلمة الله هي العليا، وحتى يمكن تحقيق الهدف السياسي المتمثل في جمع المسلمين العرب في دولة واحدة"
ومن المعلومات الساذجة اعتبار أن "أهداف الحج هي تقبيل الحجر الأسود والحق في ارتداء عمامة خضراء أو حمل لقب حاج كما أن موسم الحج ينتهي بوجبة فاخرة في مكان تدعى ( ميكا)"!
وفي كتاب آخر اسمه: Lesehefie Ethik, Wertc und Normen, Philossophie Islam; Prof. Dr. Dr.Peter Antes und Manfred Popperl, Ernst Klett Verlag, Stuttgart, 1.Aufl., 1990.
نرى الكاتب يسوق في ص10 حوارا في منتهى السخف بين ألماني وبين شابة تركية عفيفة ترتدي الحجاب وتلتزم بخلق الإسلام، يحاول فيه الألماني إقناعها بأن الحجاب دليل على التخلف، وقمع الرجل للمرأة، وأنه يحرمها من الذهاب إلى السينما وحياة الشباب.(/5)
والكتاب ينسب إلى طائفة الأحمدية التي يعتبرها إحدى طوائف الإسلام،كما يتوجب الإيمان " برسل الله كلهم، نوح وإبراهيم، وموسى وعيسى وبوذا وكريشنا ومحمد"؟!
وأخيرا نجد في كتاب: Kursbuch Religion 7/8, Lehreband Cawer Verlag, Stuttgart, Dicsterweg Verlag, Frankfurt a. M., 1999.
وهو يختلف عن غيره، لأنه كتاب المعلم، بحيث نتعرف على ما يجب على المعلم تحقيقه في الدرس، لنجد تأكيد فكرة انتشرت أخيرا في ألمانيا، وهي " لا وجود لإسلام واحد، بل هناك أنماط كثيرة لهذا الدين، تختلف عن بعضها البعض بشدة". وتحذير المعلم من تأكيد أن "إلهنا وإلهكم واحد" لان المسلمين لا يقبلون بذلك، ويعتبرون هذا القول إهانة للذات الإلهية؟
وزعم –الكتاب- أن للشيخ في المسجد مكانة لا تسمح لأحد أن يعترض على تفسيره للآيات القرآنية!
وأشار إلى أهميه الصلاة بالقول" إن محمدا طالما شدد على ذلك بقوله أقيموا الصلاة في القرآن"
وهنا يتضح لنا الخلط إن لم يكن التجاهل بأن القرآن ليس من عند الله (سبحانه وتعالى)!
روسيا:
كان العرض السوفيتي للتاريخ وللمسلمين قريب من الموضوعية خاصة في تناوله للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ولكن حين انتهى العهد السوفيتي أصبح الإعلام روسيا تحت سيطرة شبه كاملة للوبي الصهيوني ونجد هذه الصورة جلية في المناهج الدراسية والتربوية في المدارس الروسية، وخصوصا في كتب التاريخ، وبالرغم من وجود مؤرخين و مربيين حافظوا على قدر من الموضوعية إلا أن الغلبة كانت للتيار المنحاز الذي غدت كلمة "عربي" أو "مسلم" صنوا للتخلف والتزمت وممارسة العنف والإرهاب.
ويقر مكسيم براندت مؤلف كتاب " تاريخ القرون الوسطى" للصف السادس بأهمية رسالة التوحيد ودورها في نقل العرب من حال الجاهلية ودركها إلى حال زاهرة لاحقا. إلا أن كتاب يكاترينا اغيبالوفا وغريغوري دونسكوي عن المرحلة ذاتها يحفل بالمغالطات وإخفاء الحقائق . إذ أن المؤلفين يحاولان ( ص72-73) اعتماد مبدأ "التبسيط الافتراضي" إن صح التعبير فيقولان: إن الإسلام " يعد المؤمنين بالشبع والمرح" في الجنة ويتوعد الكفار بـ " نار جهنم" ، وفي مكان آخر يزعمان " أن الإسلام يدعو إلى محاربة أبناء الديانات الأخرى" من دون كلمة واحدة كما ورد في القرآن عن احترام أهل الكتاب. ويزعم الكاتبان أن أهل السنة يختلفون عن الشيعة في كونهم" يعتقدون بوجود كتابين مقدسين هما القرآن والسنة".
ويحمل المؤلف العرب مسؤولية " السعي لتدمير دولة إسرائيل" ويرى أن ذلك سببا لاندلاع حرب 1948م التي قال : إن إسرائيل في أثرها " وسّعت بعض الشيء أراضيها!!" فالتلميذ سيعتقد أن الحديث يدور عن بضعة دونمات تم "غنمها" عقابا للعرب " المعتدين" ويظل جاهلا بان إسرائيل كادت تضاعف مساحة الأرض التي تحتلها.
وهكذا تتكون ملامح صورة العربي: الثري المتخلف والجاهل البعيد عن المدينة والطارئ على الحضارة، وتزداد الصورة قتامة عند مقارنتها بخصوم العرب من المستعمرين البريطانيين والفرنسيين الذين سعوا إلى "تمدين" المنطقة ولكنهم جوبهوا بـ" الجحود".
الهند:
أصدرت منظمة R.S.S (منظمة الخدمات القومية الهندوسية المتطرفة) عدة مؤلفات منها:
"سيدات المغول"، "تراث الحكم المسلم" و "نظم الحكم الإسلامي". وكانت عامرة بالمغالطات!
وأضحت هذه المؤلفات مصدرا أساسيا لواضعي المناهج الدراسية للمدارس الحكومية من قبل الوزارة أو المجلس القومي للبحث والتربية.
ومن النماذج التي تعكس صورة العرب والمسلمين في تلك الكتب :
- كتاب باللغة الهندية ذكر أن الرسول -محمد صلى الله عليه وسلم- حينما بعث كان عمره 48 سنة، والكلمات والنصائح التي كان يوجهها الرسول إلى أتباعه سجلوها ثم جعلوها صحيفة سموها "القرآن"
- وفي كتاب التاريخ لتعليم الثانوية، جاء فيه أن محمدا –صلى الله عليه وسلم- فر من مكة إلى المدينة
خوفا، فجعله (فرارا) وليس هجرة، وتلك إهانة وخسة.
- وورد في كتاب آخر في التاريخ لتعليم المتوسط: أن السلطان أورنك زيب (الذي عده الأستاذ علي الطنطاوي رحمه الله خامس الخلفاء الراشدين) جاء بأعمال معادية للهنادك. واتهموه بأنه قطع جسم أحد البراهمة "كوكل" إربا إربا، و أجبر أسرته لاعتناق الإسلام!
وكذلك أمر بقتل زعيم السيخ "كو بند سنكه" لأنه رفض أن يدخل الإسلام!
وأصدر أمره بأن يبلط ابناه بالجدران لعدم اعتناقهما الإسلام.
وبسبب هذه الإساءة إلى الشعب الهندي عامة والمسلمين خاصة، اجتمع المفكرون وأعضاء هيئة التدريس في المدارس والكليات والجامعات وأيدهم رجال الدين والمحركات الثقافية والتعليمية من المسلمين والبوذيين والمسيحيين والسيخ وغيرهم، وقدموا احتجاجهم الشديد وأصدروا قرارات رفعوها إلى وزارة التعليم والحكومة، ولم يعودوا إلا بالوعود بالتفكير!
إيطاليا:(/6)
تقول الدكتورة كورسيللي- والتي قضت فترة تقترب من عشرين عاما في تدريس المناهج المقررة على الطلاب الإيطاليين في المدرسة الإيطالية بالقاهرة- عن صورة الشخصية العربية: "إنها بصفة عامة تقدم بشكل سيء، وأن الانطباع العام الذي يمكن أن يخرج به الطالب من المناهج المدرسية هو أن العربي شخص متخلف حضاريا، وبعيد كل البعد عن أنماط التفكير الحديثة".
وتضيف أن المناهج الثابتة مثل التاريخ والجغرافيا، فهي تحتاج إلى تحديث، فلا تزال هذه الكتب تتحدث عن الصحراء وسكانها من البدو والحياة البدائية التي يعيشونها، متجاهلة ما طرأ على هذه الحياة من تقدم في جميع المجالات، وخصوصا في مجالات يعمل فيها الإيطاليون أنفسهم، مثل: البترول والكيماويات.
وتقول: يمكن أن نلحظ تقدما في المعالجة الغربية للمجتمع العربي، فمن قبل كان ينظر إليه من المنظور الاقتصادي فقط، باعتباره رجل بترول ثريا ماليا متخلفا فكريا وحضاريا، أما الآن فهناك اتجاه لفهم التكوين الثقافي العربي ولدراسة اللغة العربية، وهناك أقسام للغة العربية في الجامعات الأوروبية حاليا، كما أن هناك جماعات من منظمات ومدارس وكليات تأتي لدراسة اللغة العربية في البلاد العربية. وكل هذا يصب في محاولة فهم العرب على نحو أفضل. ويمكن القول إن الثقافة أصبحت قبل الاقتصاد كمنظور للرؤية الأوروبية للعرب حاليا.
أسبانيا:
في مناهج التعليم الأساسي القديم في أسبانيا، كان يعرف الإسلام بما يلي: "هو الدين الذي ابتدعه محمد، يسمح بتعدد الأزواج ويأمر بقتل غير المسلمين، ويحرم الخمر والخنزير، لأن محمدا كان ثملا ذات يوم فعضه الخنزير، ولما استفاق حرم الخمر والخنزير معا"
من أكثر الأمثلة بشاعة حينها ما ورد في قاموس Tcsoro de la Lengua Castellana
يعرف القرآن بما يلي: "هو ذاك الكتاب اللعين المليء بالسخافات الذي ألفه محمد بمساعدة الأريسي الكافر يحيى الأنطاكي وعالم الرياضيات اليهودي أشكول! وهذا ما يجمع عليه المؤرخون الذين تناولوا حياة ذاك الشرير الفاسد المسمى (محمد)".
وحدث التغير والتصحيح الذي لم يصل بعد لبقية مناهج العالم..
حيث كانت المناهج المدرسية القديمة تذكر أن القرآن :"لاُ يعرف على وجه الدقة إن كان محمد مؤلفه أو ناقله"،وأن "النسخة المعتمدة هي من عمل سكرتيره زيد بن ثابت".
أما الآن فإن المناهج الحديثة تتحدث عن القرآن الكريم بموضوعية من حيث إنه كتاب المسلمين المقدس، وعن بدء الوحي، وجمع القرآن، وتقسيم نزوله....
لم تعد الأوصاف القذعية ترى في كتب المناهج الدراسية عن محمد –صلى الله عليه وسلم- مثل: "المجنون، الذي ظن أنه تلقى وحيا من السماء، والذي ألف القرآن" بل حلت محلها أوصاف جديدة مثل: "الداعي إلى المثل الأخلاقية، الذي أوجد مدرسة متوافقة مع العقلية العربية".
- أما بالنسبة للجهاد، فقد قيل: "الحرب المقدسة هي أهم ما يأمر به الدين المحمدي"، فما زال التعريف للجهاد هو الأمر الوحيد الذي لم ينله تطوير المناهج الدراسية الإسبانية، وسبب ذلك هو أن العقلية الغربية تفرق بين الدين والدولة، فالدولة من حقها شن الحروب، أما الدين فلا.
فرنسا:
لا تفرق نصوص الكتب المدرسية في كتب القراءة الفرنسية في المرحلة الابتدائية بين مفردتي: "البدو" و"العرب" وتستخدمها بغير تمييز للدلالة على الشخصيات نفسها. وتتسم شخصيات "العرب"أو"البدو" في القصص بطابع الدونية إذا كانوا تابعين، أو بطابع عدائي إذا نجحوا في الهرب من نطاق نفوذ الشخصيات الفرنسية. ويبدو نقص الشخصيات العربية أو البدوية خلقيا وعقليا واقتصاديا ومهنيا حينما يتم مقارنتهم بصفات أو أدوار لشخصيات فرنسية في هذه القصص أو الكتب.
إن الصورة التي يمكن استخلاصها للعرب من تحليل كتب القراءة للمرحلة الابتدائية تولد لدى التلاميذ صورة مزيفة عن الآخرين وعن أنفسهم، فهي توحي للتلاميذ الفرنسيين اقتباسا من الماضي بإحساس التفوق الطبيعي، كما توحي للتلاميذ من ذوي الأصل العربي بإحساس سلبي ناشئ عن تحقير شأنهم وتشويه صورتهم.
وتصف كتب التاريخ الفرنسية أداء أوائل الأبطال الوطنيين الفرنسيين بالدفاعي البطولي المنتصر، بينما تميز العرب بمجموعة من الأفعال المعبرة عن التوسع أو العدوان.
أما كتب التاريخ الفرنسية للمرحلة الثانوية، فتتفق على تقديم مضمون الوحي الإسلامي والمبادئ الأساسية للإسلام، وتخصص لها مكانا مهما، ولكن لا يذهب أي كتاب إلى أبعد من هذا التقديم الشكلي للدين الإسلامي
ويجدر الإشارة إلى أن الكتب المدرسية للجمهورية الفرنسية الثالثة (1870-1914 م) كانت تصف الإسلام بأنه "دين مسخ ابتكره محمد الذي ادعى أنه نبي", لكن الكتب المدرسية الحالية تبدي احتراما أكبر للإسلام وتقدمه على اعتبار أنه دين توحيدي عالمي.
أمريكا:
رصدت اللجنة العربية لمكافحة التمييز (ADC) مجموعة من الصور النمطية السلبية الموجودة داخل مناهج التعليم الأمريكية عن المسلمين والعرب.(/7)
وقد قسمت اللجنة صور المسلمين والعرب النمطية السلبية إلى سبع مجموعات رئيسة، وهي:
- أولا: الصور النمطية العامة، وتصف هذه المجموعة العرب جميعا بأنهم "راكبو جمال"، "يضعون نشافات على رؤوسهم"، "عبيد الرمال"، "كل العرب مسلمون وكل المسلمين عرب"، "القبيلة"، "البدو"، "الواحة"، "الجمال"، "الصحراء"، "الحريم"، "الشيخ".
- ثانيا: صور نمطية عن العالم العربي، وتصور هذه المجموعة العالم العربي على أنه "ساحة تنافس يعيش فيها الأبطال الغربيون مغامراتهم العاطفية"، "ألف ليلة وليلة"، "الجن"، "البساط السحري"، "الأميرات"، "وزير شرير ظالم".
- ثالثا: صورة نمطية عن المسلمين، وتصور هذه المجموعة المسلمين على أنهم "سفاحون"، "إرهابيون"، "محاربون"، "مضطهدون للمرأة"، "الجهاد"، "الحرب المقدسة".
- رابعا: صور نمطية عن الفلسطينيين، وتصور هذه المجموعة الفلسطينيين على أنهم "يحاولون تدمير إسرائيل وإغراقها في البحر"، "مفجرو طائرات"، "إرهابيون".
- خامسا: صورة العرب الصالحين، وهؤلاء ينظر إليهم على أنهم "شخصيات ثانوية دونية"، "سلبيون"، "قلما يكونون أبطالا".
- سادسا: صورة الرجل العربي، وينظر له على أنه "شيخ بترول"، "ثري جدا"، "مسرف"، "يريد شراء أمريكا بماله"، "طماعون"، "غير متعلمين"، "غير أمناء"، "ديكتاتور"، "فاسد"، "عنيف"، "بربري"، "يكره اليهود والأمريكيين"، "غير عقلاني"، "عصبي المزاج"، "يخطف النساء والشقراوات الغربيات"!.
- سابعا: صورة المرأة العربية، وينظر لها على أنها "مضطهدة من الرجال العرب والمسلمين"، "حريم مترفات"، "راقصات عاريات"، "سيدات جميلات يقعن في حب الرجل الغربي الذي ينقذهن من شر الرجل العربي"!، "أسيرات منازل"، "سلبيات"، "غير متعلمات"، "بلا وجوه ولا شخصيات ولا أصوات"!.
ولكن تناول هذه الصورة النمطية لا يكفي وحده لتقديم صورة منصفة عن الجهود التي تبذلها المنظمات الأمريكية المختلفة، الخاصة منها والحكومية لمكافحة تحيز المناهج التعليمية الأمريكية ضد أبناء الجماعات العرقية والدينية المختلفة بما في ذلك المسلمون والعرب. فمن الواضح أن في الولايات المتحدة حركة كبيرة وناجحة لمكافحة التمييز ونشر التعددية الثقافية.
وقد اكتسبت هذه الحركة زخما جديدا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر خصوصا فيما يتعلق بتعاملها مع قضايا التحيز ضد المسلمين والعرب في مناهج التعليم الأمريكية. ويمكن رصد هذا الزخم على مستويين أساسيين،
أولهما: اهتمام بعض أكبر المنظمات التعليمية الأمريكية بتطوير أبحاث ومناهج وبرامج دراسية تعالج مشكلة التحيز ضد المسلمين والعرب في المناهج التعليمية الأمريكية بعد أحداث سبتمبر 2001 م.
وثانيهما: اهتمام المؤسسات التعليمية الأمريكية المختلفة على شتى المستويات اهتماما كبيرا بدراسة أحداث الحادي عشر من سبتمبر من حيث أسبابها وأبعادها وآثارها، إلى الحد الذي دفع جامعة مثل جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس ((UCLA إلى وضع 49 مادة بحثية متعلقة بهجمات سبتمبر، الأمر الذي أدى إلى زيادة اهتمام هذه المؤسسات بتدريس المواد التعليمية التي تتناول المسلمين والعرب والإسلام والعالم الإسلامي.
تقول الباحثة مارفين وينجفيلد والباحث بشرى كارمان في دراسة لهما بعنوان "المعلمون الأمريكيون والصور النمطية عن العرب":
يتعلم الطلاب المسلمون والعرب في المدارس الأمريكية العديد من الأفكار الإيجابية عن تاريخ وثقافة جماعات أخرى عديدة، ولكنهم يفتقدون هذه الخبرة التعليمية الإيجابية عند الحديث عن الحضارتين العربية والمسلمة.
وقد وجه إدوارد سعيد نقدا واسعا للمؤسسات الأكاديمية الأميركية فيما يتعلق بأسلوب دراستها للإسلام في كتابه "تغطية الإسلام.. كيف يحدد الإعلام والخبراء رؤيتنا لبقية العالم؟" الصادر عام 1997، إذ يقول إن برامج دراسات الإسلام بالجامعات الأميركية تحددها في الغالب "الضغوط المعاصرة الملحة" المسيطرة على العلاقة بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي، كما يهيمن عليها عدد من الأفكار العامة المنعزلة عن الواقع وعما يدور في العلوم الاجتماعية الأميركية الأخرى.
ويرى سعيد أن الأوضاع السابقة جعلت من "المقبول أن يقال عن الإسلام (بالجامعات الأميركية) ما لا يقبل قوله عن اليهودية أو عن الآسيويين أو عن الأفارقة، وجعلت من الممكن أن تكتب دراسات (أميركية) عن التاريخ والمجتمعات الإسلامية تتجاهل جميع المبادرات الكبرى في نظريات التفسير الاجتماعي".
اسرائيل:
قبل أن نقوم بتقديم بعض من الكتب المقررة،أردنا أن نورد بعضا مما جاء في كتاب (المرتكزات والقيم التربوية الصهيونية):
- اعتبار فلسطين والهضبة السورية (الجولان) أرضا يهودية، والأقطار العربية المحيطة بها دولا أجنبية، لا علاقة لها بفلسطين قوميا، وعقائديا، وتاريخيا.(/8)
- اعتبار العرب -أصحاب الأرض الشرعيين- محتلين في قلب وطنهم فلسطين، واعتبار الفتح الإسلامي احتلالا، وغزوا تاريخيا للأرض التي تعتبر في نظر اليهود ملكا لهم.
- تعمد إغفال التاريخ العربي، والعربي الإسلامي في فلسطين في مختلف العصور.
- الادعاء المتواصل بوجود أرض وممتلكات لليهود خارج حدود فلسطين، في حوران وجنوب الجولان وفي الأردن.
- تحميل العالم بأسره مسؤولية ما جرى لليهود دون تمييز.
- اعتبار سائر المعابد والكنائس والمساجد أماكن أثرية يهودية، بنى المسلمون والمسيحيون دور عبادتهم ومؤسساتهم على أنقاضها، زاعمين أن الحرم المقدس الشريف أقيم على أنقاض هيكل سليمان.
وفي إطار هذه المرتكزات، والأهداف التي وضعها المؤلف –بتكليف من وزارة المعارف والثقافة الإسرائيلية- قام عدد من المؤلفين الإسرائيليين بوضع الكتب الدراسية لمختلف المراحل. نورد بعضا منها، ومما جاء فيها:
كتاب: هذا موطني، تأليف/ ش. شكيد:
كل ما مر بالقدس ليس سوى غزوات عابرة حتى سعدت بعودتنا لتصبح عاصمة إسرائيل مرة أخرى.
شرق الأردن جزء من أرض إسرائيل.
عن طريق استخدام القوة، يتعلم العرب بسرعة كيف يحترمون الحارس اليهودي.
وأيضا كتاب: وقائع شعب إسرائيل من ظهور الإسلام حتى استقلال الولايات المتحدة، تأليف/ ب.أحياه - و- م.هرفاز:
وهذا الكتاب مقرر للصف السابع ابتدائي. ويبرز فيه الحقد على الإسلام، وتزوير التاريخ العربي، وتنتشر فيه المغالطات الصارخة.
مثلا:
اعتبار الإسلام دين المحاربين، والزعم بأن اليهود قد أثروا في العرب، وأن الإيمان الذي جاء به محمد –صلى الله عليه وسلم- إنما كان استلهاما من اليهود. ويزعمون أن الرسول حاول اجتذاب اليهود إليه، فأمر أتباعه أن يتوجهوا في صلاتهم إلى القدس، وأن يصوموا يوم الغفران، وأن اليهود قابلوا ذلك بالسخرية، وعندما أدرك أنهم بعيدون عنه، غير موقفه تجاههم، وأخذ يقسو عليهم، وألغى صوم يوم الغفران، وعين صوما آخر يستمر شهرا يدعى رمضان، كما غير القبلة من القدس إلى مكة.!!!
وكتاب: علم التربية المدنية، تأليف/ شالوم أبخر، لطلاب المدارس الثانوية. والذي ورد فيه الكثير من الافتراءات على العرب، بهدف ترسيخ العداوة والحقد في نفوس الطلاب اليهود. ومن ذلك:
العرب يعدون لحرب إبادة ضد إسرائيل بحيث يقذفون بالسكان اليهود في البحر.
أغراض العرب الظاهرة والمعلن عنها ليس فقط احتلال المنطقة الإسرائيلية، بل أيضا الإبادة الشاملة للاستيطان اليهودي، لذلك فإن القتل الجماعي (المحتمل) الذي تتعرض له إسرائيل لا مثيل له في أي مكان آخر في العالم.
كما تدخل قصص الأطفال للطلبة اليهود ضمن الحرب النفسية التي تقوم بها السلطات الصهيونية لتقوية نفوس أبنائها، وتعزيز موقفها وغرس روح العداء والتفوق والاستعلاء في نفوس الأطفال.
لذا فقد عمدت السلطات الإسرائيلية إلى إصدار سلاسل من القصص لتحقيق غايتها.
ومنها: سلسلة قصص "داني دين". وهو شخصية أسطورية، خارقة، متفوقة قادرة على هزيمة العرب مهما كانت قدرتهم العسكرية.
وقد سأل البروفيسور (اديركوهين –أستاذ آداب الأطفال بجامعة تل أبيب) بعض الأطفال الإسرائيليين عن نوايا العرب تجاههم، فجاءت غالبية العبارات كالتالي "العرب يريدون قتلنا واحتلال مدننا وإلقاءنا في البحر" وهي العبارات التي انعكست وظيفيا في سلوك الأطفال الإسرائيليين في تعبيرهم عن الرغبة في التخلص من وجود العرب في فلسطين باعتباره وجودا لأجانب خطيرين يجب التخلص منهم، أولا إثباتا للحق اليهودي في الأرض، وثانيا لتجنب الخطر العربي.
صورة المسلمين والعرب في العالم2/2
إعداد: خلود العيدان * منيرة الدهش 11/3/1426
20/04/2005
(نحن) في إعلامهم حقيقة،،أم،،خدعة!
(الإعلام)..
القوة العظمى في هذا العصر..
هي العصا (الغير سحرية) التي تصل النقطة العليا بالسفلى من الكرة الأرضية..
وهي التي تدير دفة الحوار دون طاولة مستديرة..
هي حرب و سلم .. حقيقة وخدعة ..
هي فرصة العض عليها (واجب) لأنها لغة الزمن الذي نعيشه..
الصورة بلا ألوان بلا خلفية لابد ناقصة.
أضحى قتل المعلمين والكتّاب والصحفيين والفنانين أفعالاً إسلامية تكتسب شرعيتها من هذا الدين وتعبر عن الكراهية للقيم الغربية!..
هذا بالضبط ما يتصوره بعض محرروا الصحف العالمية..
وحينما يصف الصحفي الكتابة،الإبداع،التعليم أوالفن في المجتمعات الإسلامية فهو يصورها قيماً غربية
تنتمي للنظام الغربي الذي يحاربه الإسلاميون..ولا يمكن اعتبارها جزءً من الثقافة المحلية أو نظام القيم المحلي..
كما يمكن ملاحظة أن الإسلام من خلال تغطية أخباره في الإعلام العالمي قد تمَّ تحويله إلى (نظام من الرموز) Signs تتكرر بشكل مستمر من أشخاص ذوي لحى طويلة وكثَّة ونساء محجبات وأيدٍ مرفوعة غالبًا تمسك بشعارات الجهاد أو الشهادة أو الموت للشيطان وجماهير متعصبة جامحة.
مؤامرة العربي على نفسه.(/9)
حقيقة ترصدها الأستاذة غادة الخضير الكاتبة والمحاضرة في قسم علم النفس بجامعة الملك سعود في قولها:
(إن انشغال الإعلام العربي بقضايا "المؤامرة الغربية" وتركيزهم عليها في حين أن المؤامرة الحقيقية إن وجدت فهي مؤامرة العربي على نفسه بعدم دفاعه عن ذلك التشويه الذي يتعرض له ويخطط لتحسين صورته في الإعلام الغربي).
كما أضافت:
(إن الإعلام الغربي من وجهة نظري إعلام مفصول عن شعبه أي ليس بالضرورة أن ما ينقل يعبر عن الشارع الغربي والذي هو بدوره جاهل بالآخر العربي إلا في ضوء الوجبة الإعلامية التي تقدم له ؛ خاصة وانه قد نصل في تفكيرنا إلى أن الهجمة ضد العرب هي هجمة اتحادية بين وسائل الإعلام الغربي والشارع الغربي وهذا في رائي غير صحيح إذ أن العقل الغربي يستجيب للخدعة الإعلامية شأنه شأن غيره من العقول مما يجعله يستقبل الصورة المرئية أو المسموعة أو المقروءة عن العرب وفقا للطريقة التي تقدم بها أي أن الغرب مخدوع بأعلامه اكثر من انخداع العرب بتلك الصورة المتكاملة عن الشارع الغربي ووسائل إعلامه).
- نحن في عناوينهم:
الصحافة العالمية وإن أخذنا الصحافة البريطانية على وجه التمثيل لا التخصيص..
ساهمت في بناء صلة وثيقة بين كل ماهو (إسلامي) وبين (أفكار)و(أفعال) العنف والإرهاب واحتقار حياة الإنسان وحقوقه ولاسيما المرأة والأقليات..
ونظرة سريعة لعناوين بعض الصحف البريطانية كفيلة يتوضيح مدى ترسيخ هذه الصلة في ذهن القارئ..
"المسلمون البريطانيون يرسلون إلى معسكرات تدريب إسلامية".
"إيطاليا تشدد من إجراءات الأمن بعد تحذير بعمل إرهابي إسلامي".
"كلينتون يرأس قمة ضد الإرهاب الإسلامي".
"فرنسا تخشى من عملية إرهابية إسلامية طويلة".
"متعصبون إسلاميون يقتلون بريطانيًّا في إطار حملة إرهابية".
"المسلمون المتطرفون يتحدون الرؤية الأوروبية العلمانية للدولة".
جدلية الموضوعية والتحيز و (تأطير الإسلام):
هل الإعلام الغربي موضوعي في تصويره للإسلام!
إن الصحافة في الغرب غالبًا متهمة بتقديم صور ذهنية متحيزة عن الإسلام والمجتمعات الإسلامية..
وغالباً من يرفع أيادي التظلم ويقف مستنكراً هو المسلم ذاته..
ولكن البعض يرفعها (تمتة) بينه وبين ذاته ولا يشرع في العمل لتصويب الصورة!
إن الصورة والحرف التي تعتمد عليها الصحافة الغربية بإمكانها تقريب العدسة تصغيرها،تعظيمها،وحتى التحكم بألوانها..
لذلك فالموضوعية دائمًا نسبية وترتبط بنظام مفاهيمي معين وقيم ثقافية، غير أنه مثلما تثير فكرة التحيز جدلاً شديدًا، فإن فكرة الموضوعية أيضًا لا تخلو من بعض المشكلات، حيث لا يستطيع أحد من العاملين بأجهزة الإعلام الغربية ادعاء الموضعية فيما يكتب عن الإسلام؛ لأن الموضوعية- كما أوضح كثير من الدارسين- تنتفي حينما يكون هناك صراع أو خلاف بين النظم والمفاهيم والقيم الثقافية السائدة في مجتمعين مختلفين. الموضوعية إذن وفق ذلك المنظور تصبح "فعلا سياسيا" لممارسة السلطة على الآخرين.
وإذا كانت الموضوعية برأيهم مثار خلاف فماذا عن التأطير!
إن الإطار الذي يحمل الإسلام والمسلمين بداخله يكاد يكون جامداً بل هو كذلك..
لا يحمل مرونة لتوضيح أن ذاك جانب وحتى هذا الجانب يملك مسببات وتبعات لا يظهرها الإطار.!
*يفهموننا من خلالهم..
إن بدايات الظهور الإسلامي في الإعلام الغربي كان مركبًا أساسيًّا في البناء المفاهيمي للصورة النمطية للإسلام في أجهزة الإعلام البريطانية، حيث تم تصوير المسلمين وكأنهم يمثلون كل ما هو معاكس للغرب، وبالفعل فإن بعض الكتابات الغربية – وحتى الإسلامية في بعض الأحيان - أدت إلى التركيز المطلق على أبنية مفاهيمية وقيم ثقافية لكل من الجانبين حينما تبنت النسق الغربي على أنه الإطار المفاهيمي الوحيد الذي يمكن من خلاله فهم الوجود الإسلامي والإخبار عنه.
إذاً أضحى الإعلام الغربي هو المصدر الإعلامي لفهم الإسلام..
وهذا ما أوضحه (نوبوأكي نوتوهارا) في كتابه (العرب وجهة نظر يابانية) حيث قال:
(نحن فهمنا بالتدريج،الآن أصبحت الأمور واضحة،في البداية كررنا ماقاله الاستشراق الغربي لم يكن عندنا مصدر آخر للمعلومات.أحسسنا أنهم لا يقولون الحقيقة أحياناً.والقضية الفلسطينية مثال ممتاز على ذلك،لقد فهمنا متأخرين هذا صحيح ولكننا فهمنا.
حتى الصحافة عندنا كانت تقدم القضية الفلسطينية لليابانيين نقلاً عن الإعلام الأمريكي والأوروبي أما الآن تغيرت الصورة الصحفيون أنفسهم فهموا أن ذلك الإعلام لايقول الحقيقة .. .. لقد فهمنا أن علينا أن نستقبل الكتابات الغربية بحذر وتدقيق وحيطة.يوجد صحفي ياباني معروف درس في إسرائيل وعاد مؤيداً للقضية الفلسطينية لأنه رأى بنفسه التناقض بين ما تقوله وسائل الإعلام الإسرائيلي وبين الواقع.انتهى)
و الإعلام الغربي بذلك قدم الأرضية التي تم فوقها بناء صورة للإسلام أصبحت في حكم التقديس
أو موثوقاً بصحتها على حد قول (إدوارد سعيد).(/10)
ولا بد من الاعتراف بحقيقة أن الغرب قد احتل بالفعل مكانة سائدة في (الخطاب الإسلامي) غير أن بعض التقارير الصحافية الغربية - بل وبعض الكتابات الإسلامية - قدمت تصويرًا للوجود الإسلامي فقط من خلال علاقته بالغرب والهيمنة الغربية وكأنه مضاد للقيم الثقافية الغربية!
وقد أسقط تمامًا من حسابات هؤلاء الكُتَّاب أن فهم ودراسة المجتمعات الإسلامية لا بد وأن يتم في إطار منظومة من العلاقات وليس عنصر واحد مهما كانت قوته!
* الغرب واللا غرب..(ثنائية الإسلام والغرب):
إن الخطاب الإعلامي حول الإسلاميين كان يجنح لاستخدام ثنائيات الإسلام والغرب.
ويصور هاتين الفئتين على أنهما نقيضين!وكأن العالم تم تقسيمه إلى غرب و(لا) غرب.
وفي حال أن الـ(ـلا) مضافة لعالمنا الإسلامي فلابد أن (الأصل) مجرد من اللا.!
وبالتالي نجد أن هناك تناقضًا بين الحداثة التي يمثل الغرب خلاصتها بالحضارة والديمقراطية والعقلانية والحرية، وبين اللاحداثة التي تمثل البربرية واللاعقلانية والعبودية.
*الآراء تعبر عن كاتبها أم ماذا؟!
رأي الكاتب واتجاه القلم حق شرعي أياً كانت الديانة.
وفي المقابل فإن هذا الحق يحفظ للكاتب رأيه كما يحفظ للقضية حق المناعة ضد التحيز والمغالاة.
وهنا نأتي لـ اللب الذي لم نمنح فيه حتى حق القشور!
فالتقارير الصحافية التي تتناول الإسلام والمسلمين لا تقدم على أنها تقارير تحوي وجهات نظر سياسية تمثل كاتب المقال أو أنها قد تحوي - أحيانًا في طياتها - آراء متحيزة، إلا أنها تقدم وكأنها الحقيقة بذاتها لا تشوبها شائبة أو جهل بحقيقتها أو حتى عدم إلمام بحيثيات المجتمع الإسلامي.
وهنا ليس الدفاع منبرنا بل مطالبة فقط بمنبر منصف أياً كانت أخطاء الخطباء.
أياً كان الكاتب فرد أم جهة فرأيه نظرة لا قاعدة معممة..
وهنا يشير دوغلاس ليتل في كتاب "الاستشراق الأميركي.. أميركا والشرق الأوسط منذ 1945" عن دور الإعلام الأميركي في دعم رؤية أميركا الاستشراقية تجاه الإسلام والمسلمين.فيقول: أن من أبرز وجوه هذا الدعم حرص وسائل الإعلام الأميركي –كمجلة ناشيونال جيوغرافيك الأميركية العريقة- على تصوير مظاهر التقدم والازدهار في إسرائيل وما تتمتع به من طرق سريعة واسعة ومنشآت حديثة تشبه نظيرتها الأميركية، وفتيات صغيرات يزرعن الزهور في حدائق منازلهن، في الوقت الذي تم فيه التأكيد في صور العرب على سباقات الخيول وحياة الصحراء والطرق الفقيرة والمباني المتهدمة والعجائز الفقراء المستضعفين أو المسلحين المتهورين.
كما يقول يوسف معمري من المجلس الإسلامي لمارسيليا (بفرنسا):
أن التلفزيون والصحف الفرنسية غالبا ما تنقل رؤية من جانب واحد ولا تعطي للسياسيين وزعماء الدين المسلمين مساحة كافية للإعراب عن رأيهم.
*الفصل بين الخبر والنطاق الاجتماعي!
أصبح أحد معالم التغطية الإخبارية العالمية هو الجنوح لتحقيق الفصل بين الحقائق الإخبارية والنطاق الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي وقعت فيه، والذي أدى لظهورها بالأساس والذي لا يمكن فهم تلك الظواهر فهما صحيحًا إلا من خلاله.
حيث يحتوي التقرير الإخباري على أخبار غير متوازنة: فبينما يشير إلى حوادث عنف لا يتحدث عن الأسباب التي أدت لوقوع تلك الحوادث. وهذا الإجراء من شأنه أن يقدم خطابًا إعلاميًّا خارج سياقه التاريخي حينما ينظر إلى تلك الهجمات وهذا العنف على أنه جزء من الموروث الإسلامي لا يحتاج إلى تفسير أو أن يوضع في نسقه التاريخي والسياسي الذي أدى لظهوره، وبالتالي يصبح كون هذا العنف أو تلك الهجمات أو احتقار المرأة وحق الحياة إسلاميًّا أمرًا بديهيًّا. العنف إذن – كما تبرزه الصحف العالمية - يرتكب لأن هذه الجماعات مسلمة تعتنق الإسلام، وبالتالي يتم الإخبار عن العنف وكأنه أمر محتم لتحقيق النظام الإسلامي.
(إشكالية المصدر إلى متى):
في أعينهم: المرأة و (الإحياء) الإسلامي الذي توفاها!
هناك ميل واضح نحو تقديم تساؤلات حول نواحي معينة في الإسلام - ولا سيما فيما يتعلق بالمرأة – وهذه التساؤلات كانت ومازالت سائدة في كثير من التقارير الإخبارية والمقابلات..
وهذا مانريده..نريد الفهم الأعمق للإسلام بأبنائه ومجتمعاته ولكن يكمن لب المشكلة في (المصدر)..
الذي لطالما كان حائلاً دون الحقيقة.
وهذا ما يتجلى في إحدى التقارير التي تناولت موضوع وضع المرأة في مصر في ظل ما أسمته المحررة بـ الصعود المتنامي للمد الإسلامي.(/11)
تبدأ الجملة الافتتاحية بالمقال على هيئة اقتباسه على لسان إحدى ناشطات حقوق الإنسان في مصر والتي عرفت في المقال على أنها (قبطية)، وتقول بأنها "تألمت بشدة لما آل إليه حال النساء في مصر؛ فبينما كانت نساء مصر في وقت من الأوقات رائدات الحركة النسائية في العالم العربي أصبحن متخلفات بفضل موجات (الإحياء الإسلامي)". وتنتهي الاقتباسة على مدى التقرير، حيث تم تصوير الإسلام – من خلال كلمات هذه الناشطة وسيدتين أخرتين من المدافعات عن حقوق النسوة – على أنه السبب الرئيسي وراء إقصاء المرأة من العمل العام ومعاملتها كمخلوق من الدرجة الثانية.
وصُوِّر الإسلام على أنه دين النسوة ذوي الخلفية الريفية المحافظة، وليس النساء اللائى ينتمين إلى الأوساط المتحررة المثقفة؛ ومن خلال التركيز على (الإحياء الإسلامي) تم تصوير الإسلام وكأنه العامل الوحيد الذي أدى لاضطهاد الفتيات القبطيات وأزال حقوق المرأة وأن النساء اللائى يطالبن بتلك الحقوق يقعن دائمًا تحت طائلة التهديد!
هذه التقارير مثيرة للمخاوف؛ لأنها ورغم حرص المحرر أو المحررة على التحدث إلى عناصر ومصادر محلية، إلا أنها وعلى الرغم من ذلك لا تقدم تقارير محايدة حينما تقوم بإقصاء الرأي السائد.
وهو في مثل هذا التقرير الذي يتطلب رأي النساء المسلمات اللائى يدور حولهن المقال في المقام الأول.
ولك أن تلحظ أنه اختار ناشطة حقوق إنسان قبطية للتحدث عن الاضطهاد الذي تواجهه المرأة من جرَّاء الإحياء الإسلامي.
لا بد أن نلحظ إذن كيف أن هناك مشكلة متعلقة بالمصادر التي توجد في تلك القصص الإخبارية، حيث تجنح معظم هذه التقارير إلى التحدث إلى أولئك الذين (يشبهوننا) أي يشبهون الغرب Those who are like us..
وهذا يثير قضية المصادر التي تُستخدم عند الكتابة عن الإسلام، وهنا يمكن ملاحظة ميل العديد من الصحفيين للتحدث إما إلى أصوات متطرفة تدعم صورة الدين المعروفة كدين عنف وتطرف، أو مصادر محلية ولكنها "مُغرِّبَة" تقدم على أنها ضحية هذا التطرف والعنف وتعاني من غضبة الإسلاميين وغالبًا ما تكون هذه الفئات إما النساء أو الأقليات.
الفن السابع العالمي عدد فردي لا (ينصف):
(إن السينما الأمريكية لديها دائما صورة نمطية للعالم الإسلامي ولشخوصه، لم تحاول أن تغيرها بل سعت عبر تاريخها الطويل لتؤكد على الصفات السلبية في الشخصية العربية والإسلامية من حيث طبيعة التكوين النفسي لهذه الشخصيات.
فهي إما خبيثة، أو ماكرة، غير مؤتمنة، لا يمكن الوثوق بها، قذرة، حسية وغرائزية!)
تغيير مؤقت!لماذا؟!
(وقد تكون هناك بعض الأفلام التي حاولت أن تقدم صورة شخصية العربي بشكل مختلف، إلا أن هذا الاختلاف كان يرتبط بظروف وملابسات سياسية في هذه الفترة. مثل فيلم "المحارب 13" والذي قدم العربي بشخصية مساعدة فاعلة وهذا كان مرتبطا بفترة حرب الخليج الثانية "غزو الكويت" وفيلم آخر وهو "روبن هوت" والذي قدم العربي كعالم وكمحارب شريف. وأيضا كان يرتبط بتلك الفترة وذلك من أجل تمرير عملية المساندة ما بين القوات العربية والإسلامية للولايات المتحدة الأمريكية في حربها ضد العراق.
وهناك أيضا أفلام كثيرة ستظهر بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر واحتلال أفغانستان واحتلال العراق، لتؤكد على الشر الكامن والمتأصل في الشخصية العربية والإسلامية. )
هذا ما قاله الأستاذ علاء عبدالعزيز المدرس المساعد بالمعهد العالي للسينما في مصر.
*هل الإسلام حقاً ظاهرة!
وإن يكن..فعلينا أن نعي..والوعي هنا ليس (فعلاً مضارعاً)..
بقدر ماهو مطلب لفهم (قواعد) الآخر و(نحوه)، و(صرفه) نحو الحقيقة.
فعلينا أن نعي أن الإسلام لم يعد في نظرهم أو لنقل البعض حضارة أو دين!
بل هو ظاهرة تستحق استرعاء انتباه المراقب- وهو هنا الصحفي وصنَّاع السياسة الخارجية-
وبذلك أصبح الإسلام موضوعًا عالميًّا يحتل مرتبة ذات أولوية في الأجندة السياسية الغربية.
إذاً فالظاهرة حسبما هو معروف تبدأ، تنتشر،تصعد،تنحدر،،،تنتهي!
وهي يقيناً بإيماننا بضعفنا وبقوتنا لن تنتهي.
***
الإرهاب و الإسلام هل هما وجهان لعملة واحدة!
الجلي والواضح مدى الاختلاف بيننا وبينهم في التعريف بـ(ـالإرهاب) ومن ثم الاعتراف به ..
فمن النظرة الغربية المسوقة عالمياً عرف الإرهاب كونه كل تهديد للمدنية والمدنيين.
وما بين اتفاقنا الأولي مع رأيهم وبين رفضنا تطويع التعريف لأهدافهم فنحن اتفقنا في التعريف واختلفنا بالاعتراف. والمؤكد أن التفاوت في تطبيق طرفي المعتقد يخل بمصداقيته ومن ثم باعتناقه.
إن ردود الفعل في العالم الإسلامي والعربي تجاه هكذا (تهمة)..
لم تنتظر حتى (تثبت الإدانة) فهناك من اقتنع بأن الإرهاب إسلامي!
وهناك من لم يعد يملك القدرة على التمييز بين عمليات المقاومة وما بين العمليات العشوائية!
وهناك من يقرأ هذه الأسطر ويتساءل معنا ويبحث عن الإجابات بل ويضعها..
- في عيونهم:(/12)
الإرهاب أضحى أمراً فطرياً في الإسلام..!
كما أن التوصيفات التي تم إلصاقها بالنظام الإسلامي قد تمَّ تقديمها وكأنها من طبيعة هذا النظام أو كأنها أمور فطرية لا تحتاج إلى تفسير أعمق من كونها واقع!
إن أكثر الإطارات شيوعًا لتوصيف الإسلام هو إطار(الأزمة)، التي تم اختصارها في فئات العنف والإرهاب والتطرف وكراهية الغرب.
مثل هذا الإطار يعطي أهمية أكثر للضحايا الأبرياء للعنف الذي يرتكبه المسلمون العرب ضد الإسرائيليين- دون الإشارة إلى العكس!
- الإسلاموفوبيا:
يتعرض كتاب (الإسلام والمسلمون في الإعلام البريطاني-المؤلف: إليزابيث بوول)
في أكثر من موضع لمسألة الإسلاموفوبيا (أي الخوف من الإسلام) والإعلام, وكيف يتم تضخيمها والنفخ فيها. فالمشكلة هنا تكمن في أن الإعلام يبحث عن الإثارة ويتابعها, ويبحث في أدق تفاصيل القصص المتعلقة بها.
ويؤدي هذا عادة وفي خضم التنافس على الحصول على الخبر المثير إلى انحدار في المعايير المهنية ومستوى التحري والتدقيق مما يضخم من الأخبار الهامشية, ويعطي أهمية فائقة لأفراد وجهات غير ممثلة للتيار الأعرض من المسلمين.
لكن النتيجة هي أن أصوات أولئك الأفراد, نظرا لتطرفها وأحيانا غرائبيتها, تنتشر انتشارا كاسحا, وتكاد توحي بأنها التي تمثل الصوت الأكثر سماعا في أوساط المسلمين. لهذا فإن الإعلام والأصوات المتطرفة في أوساط الجالية المسلمة يتقاسمان المسؤولية في إثارة الخوف من الإسلام وتشويه صورته العامة ووصمه بـ(ـالارهاب).
- ماذا قاله قادة اليمين عن (الإسـ)ـلام وماذا عن ارتباطه بالإر( هاب):
فرفض فرانكلين غرام وصف الإسلام بأنه "دين مسالم"،
ووصف جيري فالويل الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بأنه "إرهابي"،
وقال بات روبرتسون إن الإرهابيين لا "يحرفون الإسلام!! إنهم يطبقون ما في الإسلام".
- الكم والكيف:
كتب إدوارد سعيد يوم 2 أغسطس/آب 2003 في جريدة ذي غارديان البريطانية يقول "قد أتمنى أن أقول إن الفهم العام للشرق الأوسط وللعرب وللإسلام في أميركا قد تحسن (بعد 11/9)، ولكنه في الحقيقة لم يتحسن"، وأضاف أن رفوف المكتبات الأميركية بعد 11 سبتمبر/أيلول امتلأت بكتب عن الإسلام ولكنها كتب سيئة "مليئة بعناوين رئيسية صارخة عن الإسلام والإرهاب والتهديد العربي والخطر الإسلامي".
لكسر القالب وجبر الكسور لابد أن نعي :
أن اللجوء إلى التطرف أو العنف هو ظاهرة نفسية اجتماعية يمكن أن نجدها في كل المجتمعات شرقية كانت أو غربية، وقد تكون مرتبطة بالدين أو مستقلة عنه، وبالتالي لا يمكن بأي حال من الأحوال ربط الإسلام بالتطرف كما تتوهمه العقلية الغربية المتحاملة على الإسلام.
***
(نحن) ونبض الشارعين الغربي والعربي
ماذا يقول الشارع الغربي و العربي تجاه قضيتنا؟
وهل رؤيتهم للواقع تفوق رؤية أصحاب القرار؟!
هل العربي المغترب يحمل بين حناياه شوق لأرض أكثر خصوبة ونماء..
وألم لواقع يعلوه الجفاف..!
ومن منهم يرغب في الاقتراب من الآخر؟! أم كلاهما يفكر في دربه فحسب؟!
تساؤلات عدة اختزلناها في لقاءات هنا وهناك..
فما الذي قيل؟!!!
أجرت (أبجد حياة) لقاءات عدة..
وقد منحنا (جيراد خريت) رئيس وحدة التحكم بالأمراض المعدية (هولندي)..هذه الإجابات:
- فيم تفكر حينما تسمع كلمة (إسلام)؟ بالحروب والمجاعات!
- ماهي أبرز أخطاء العرب والمسلمين برأيك؟ عدم قبول الآخر.
- هل تعتقد أن تصرفات المسلمين في هذا العصر تمثل الإسلام الصحيح؟أعتقد ذلك.
- من يلجأ للعنف هل هو الإسلام أم المسلمين ؟ ولماذا برأيك؟
لا أفهم الفرق بين الإسلام والمسلمين لكن العنف موجود بالدين الإسلامي .
- هل تسعى للبحث عن معلومات حول الإسلام؟ وما هي مصادرك؟ التلفزيون و الكتاب.
- هل تعتقد أن الإسلام ظلم المرأة؟ ما الذي دفعك لهذا الاعتقاد؟ نعم هناك الكثير من الأخبار شبه اليومية عن قصص من المسلمين داخل المجتمع الهولندي وأحياناً تصل لحد القتل..
أما (جون هيبي) باحث الوراثة الجزئية (بريطاني) فكان هذا نصيبنا من إجاباته:
- فيم تفكر حينما تسمع كلمة (إسلام)؟ العراق
- هل تعتقد أن تصرفات المسلمين في هذا العصر تمثل الإسلام الصحيح؟ إذا قلت لي ما هو الإسلام الصحيح أستطيع أن أجيبك.
- من يلجأ للعنف هل هو الإسلام أم المسلمين ؟ ولماذا برأيك؟ الإسلام دين يعتمد على القسوة ولذا فإن من أفكار الإسلام قتل غير المسلمين..والإسلام لا يقبل الغير.
- ما رأيك بالصراع الاسرائيلي الفلسطيني؟ من أعقد القضايا الموجودة على وجه الأرض وأعتقد أن كلا الطرفين محقين ولهم أخطائهم.
- هل تسعى للبحث عن معلومات حول الإسلام؟ وما هي مصادرك؟لا أسعى لها ولكن لا أتحاشاها.
- هل تعتقد أن الإسلام ظلم المرأة؟ ما الذي دفعك لهذا الاعتقاد؟ نعم الإسلام والمسيحية واليهودية وجميع الأديان ظلمت المرأة فهل تستطيع أن تذكر لي امرأة تمثل دين!
- من هي أبرز شخصية يرتبط اسمها في ذاكرتك مع الإسلام؟ الله.(سبحانه وتعالى)(/13)
وأما (لاي) فني شبكات.. ( الأمريكي) فقد قال حينما سألناه:
- فيم تفكر حينما تسمع كلمة (إسلام)؟ الإسلام يمثل التاريخ وجزء كبير من العالم.
- من يلجأ للعنف هل هو الإسلام أم المسلمين ؟ ولماذا برأيك؟ أعتقد أنهم المسلمين لأنهم يشعرون بالظلم.
- هل تعتقد أن الإسلام ظلم المرأة؟ ما الذي دفعك لهذا الاعتقاد؟ يبدو أنه يقيد حريتها.
- من هي أبرز شخصية يرتبط اسمها في ذاكرتك مع الإسلام؟ ابن لادن.
وكان لـ(دوبرا) أخصائية الأحياء الدقيقة (هولندية) رأي آخر:
- ماهي أبرز أخطاء العرب والمسلمين برأيك؟ لا توجد أخطاء معينة إنما الأخطاء توجد مع الإنسان.
- هل تعتقدين أن تصرفات المسلمين في هذا العصر تمثل الإسلام الصحيح؟نعم أعتقد ذلك.
- ما رأيك بالصراع الاسرائيلي الفلسطيني؟ صراع فيه ظلم من الجانبين
- هل تسعين الى الحوار مع المسلمين ومناقشة القضايا العالمية معهم؟ ليس بالتحديد ولكن إذا أتت الفرصة أحب أن أطلع على الثقافات الأخرى.
- هل تسعين للبحث عن معلومات حول الاسلام؟ وماهي مصادرك؟ أغلب مصادري البرامج الدينية عن الأقليات.
- هل تعتقدين أن الإسلام ظلم المرأة؟ ما الذي دفعك لهذا الاعتقاد؟ نعم تستطيع أن ترى شكل المرأة والحجاب والزواج.
- من هي أبرز شخصية يرتبط اسمها في ذاكرتك مع الإسلام؟ الله.(سبحانه وتعالى)
أما (دين مانس) الأمريكي فقد أجاب حينما سألناه:
- فيم تفكر حينما تسمع كلمة (إسلام)؟
أول ما يرد لذهني هو (الإرهاب).
ماهي أبرز أخطاء العرب والمسلمين برأيك؟
أنهم متخلفين اقتصادياً وتعليمياً.
- من يلجأ للعنف هل هو الإسلام أم المسلمين ؟ ولماذا برأيك؟
أعتقد أنه الإسلام ، فالكتاب المقدس ذكر كثيراً من الآيات عن الجهاد.
- ما رأيك بالصراع الاسرائيلي الفلسطيني؟
أعتقد أن الفلسطينين غير جادين بشأن السلام.
- هل تؤمن بأن الصورة التي يظهر بها العرب والمسلمين في السينما الأمريكية هي الصورة الحقيقية؟
أنا لست من السذاجة بحيث يغسل دماغي إلا أنني أعتقد أن الأفلام لها أساس من الواقع.
وعن (جيمس) نيويورك – أمريكا فكانت هذه إجابته:
- فيم تفكر حينما تسمع كلمة (إسلام)؟
دين عظيم.
- من يلجأ للعنف هل هو الإسلام أم المسلمين ؟ ولماذا برأيك؟
أعتقد أن المسلمين يناقشون مآسيهم بالطريقة الخطأ.
- ما رأيك بالصراع الاسرائيلي الفلسطيني؟
أعتقد أن على الجميع أن يكونوا شديدي الاهتمام بهذا الموضوع، فهذا مهم للسلام في وقتنا الحالي.
كما أرى أن الأمريكيين غير قادرين على الإمساك بزمام الأمور وغير فعالين في إيجاد الحلول لهذه القضية.
هل تسعى للبحث عن معلومات حول الإسلام؟ وماهي مصادرك؟
أرغب بمعرفة المزيد،حتى الآن فمعظم مصادري التلفاز والصحف.
ولكني أخشى ألا أحصل على الصورة الكاملة من خلالهما.
- هل تعتقد أن الإسلام ظلم المرأة؟ ما الذي دفعك لهذا الاعتقاد؟
هذا ما يبدو من الخارج،، ولكن على المرء أن يعرف المزيد حول ذلك ليعلق عليه.
-من هي أبرز شخصية يرتبط اسمها في ذاكرتك مع الإسلام؟
هذا سؤال صعب ، فلا أعرف أحداً!
وأما د/(ألكس فان بلكم) رئيس وحدة الأمراض المعدية والبكتيريا (هولندي):
- ما هي أبرز أخطاء العرب والمسلمين برأيك؟ التخلف العلمي و الدكتاتورية.
- هل تعتقد أن تصرفات المسلمين في هذا العصر تمثل الإسلام الصحيح؟ هل يوجد إسلام آخر لا نعرفه.
- من يلجأ للعنف هل هو الإسلام أم المسلمين ؟ ولماذا برأيك؟ لا أفهم الفرق بين الاثنين.
- هل تسعى للبحث عن معلومات حول الإسلام؟ وما هي مصادرك؟ الإنترنت-الكتاب-الإعلام-الأصدقاء.
- هل تعتقد أن الإسلام ظلم المرأة؟ ما الذي دفعك لهذا الاعتقاد؟أعتقد ذلك فإجبار المرأة على إخفاء الوجه فيه ظلم.
- هل تؤمن بأن الصورة التي يظهر بها العرب والمسلمين في السينما الأمريكية هي الصورة الحقيقية؟ لا.
وكان لـ(جم) مهندس (أمريكي) رأياً مختلفاً:
- فيم تفكر حينما تسمع كلمة (إسلام)؟ دين قوي.
- ماهي أبرز أخطاء العرب والمسلمين برأيك؟ التعلق بالتاريخ
- من يلجأ للعنف هل هو الإسلام أم المسلمين ؟ ولماذا برأيك؟ الإسلام لديه آراء قوية حول الجهاد.
- ما رأيك بالصراع الاسرائيلي الفلسطيني؟ الصراع طال أمده بسبب الحمق وغياب القيادة الرشيدة عند الجانبين.
- هل تسعى الى الحوار مع المسلمين ومناقشة القضايا العالمية معهم؟ أحب أن أتعرف على الإسلام أكثر.
- من هي أبرز شخصية يرتبط اسمها في ذاكرتك مع الإسلام؟ كريم عبدالجبار (لاعب كرة سلة أمريكي مسلم).
كما أجاب على أسئلتنا (آرد هوردس) أخصائي التحكم بالأمراض المعدية (هولندي)
- ماهي أبرز أخطاء العرب والمسلمين برأيك؟ عدم التسامح والحكومات الديكتاتورية.
- من يلجأ للعنف هل هو الإسلام أم المسلمين ؟ ولماذا برأيك؟ في كل الأديان هناك من يفسر على أهوائه.
- ما رأيك بالصراع الاسرائيلي الفلسطيني؟ إحدى الصراعات الذي يأخذ طابع الدين والمقصود به الأرض.(/14)
- هل تؤمن بأن الصورة التي يظهر بها العرب والمسلمين في السينما الأمريكية هي الصورة الحقيقية؟
لا أؤمن بالسينما الأمريكية إطلاقاً.
- من هي أبرز شخصية يرتبط اسمها في ذاكرتك مع الإسلام؟ محمد.
وأخيراً مع (ريموند هاموند) الأمريكي وإجابات مغايرة:
فيم تفكر حينما تسمع كلمة (إسلام)؟
مكة.
- من يلجأ للعنف هل هو الإسلام أم المسلمين ؟ ولماذا برأيك؟
لا أعتقد أنه الإسلام ، فبعض المسلمين يستغلون الإسلام لتعزيز قضيتهم.
ما رأيك بالصراع الاسرائيلي الفلسطيني؟
أعتقد بأنه من المهم للعالم أجمع أن يجلس كلا الطرفين لتوطيد العلاقات والأخذ والعطاء فيما بينهم.
- هل تسعى الى الحوار مع المسلمين ومناقشة القضايا العالمية معهم؟
أنا تواق للفرصة الملائمة لذلك.
- هل تسعى للبحث عن معلومات حول الاسلام؟ وماهي مصادرك؟
نعم، مؤكداً أتمنى معرفة المزيد.والقليل الذي أعلمه مصدره نقا شاتي مع أصدقائي المسلمين
- هل تعتقد أن الإسلام ظلم المرأة؟ ما الذي دفعك لهذا الاعتقاد؟
كلا على الإطلاق، فأعتقد أن المرأة المسلمة لديها العديد من المميزات..وتبدو أكثر سعادة واقتناع من المرأة الغربية في كثير من المجالات.
- من هي أبرز شخصية يرتبط اسمها في ذاكرتك مع الإسلام؟
لويس فرخان.
وقد علق د/وليد عبدالله مغترب عربي مسلم واختصاصي وراثة جزئية بهولندا على هذه الإجابات قائلاً:
في البداية يجب التفريق بين الإجابات المستقاة من أوروبا والأخرى من أمريكا وإن كنا نميل في تعاملنا اليومي إلى تسميتهم بـ(الغرب).
فالنظرة الأوروبية تختلف عن النظرة الأمريكية لأسباب واضحة ولكن دعونا نعود إلى التاريخ لمحاولة فهم هذه الفروق.فعلاقات المسلمين واحتكاكهم مع الأوربيين بدأ مع بداية الإسلام وخاصة في الحروب مع الروم.
وكانت نقطة الالتقاء الثاني عبر الحملات الصليبية وما تلا ذلك من عمليات الاستشراق، ويضاف إلى البعد التاريخي القرب الجغرافي حيث لعب دوراً أساسياً في معرفة الأوربيين وتعرفهم على المسلمين والعرب.
أما على الجانب الآخر فإن الأمريكيين عرف عنهم العزلة والجهل بالآخر حتى أن جيرانهم المكسيكيين يشكون جهلهم بهم وبالطبع لا نستطيع التعميم بكل الأحوال وإلا بذلك كررنا خطأهم في رسم صورة المسلمين والعرب.
لذلك يجب ألا نستغرب إذا وجدنا فروقاً بين المجتمعين ويجب أن يكون التعامل معهما مختلف.
أما عن النقطة الثانية والجديرة بالاهتمام فهي ورود اسم (الله) كشخصية إسلامية وفي اعتقادي أن السبب يعود إلى تأثير الديانة المسيحية فإن عيسى في حياته الدنيوية كان إنساناً (إله) وقد يكون هذا ما أوجد لبساً لديهم وهنا تتضح أهمية المعرفة بالآخر لكيلا تختلط النوايا وتطلق التهم من الجانبين دون أن يعي كل منهم ماهو عليه الطرف الآخر.
أما عن اعتقادهم أن المسألة الفلسطينية مسألة تحل بتقسيم الأرض بين اليهود والمسلمين (العرب) فقد يكون هذا هو الحل الأمثل من وجهة نظر إنسان بعيد عن القضية وهذه أبسط الحلول لإرضاء الطرفين!
فلا نغفل أن الإنسان بطبعه يميل للصلح والإصلاح إذا كان طرفاً غير مشارك.
وإذا أردنا الحديث عن ورود أسماء أخرى كشخصية إسلامية فهو بلاشك تأثير مرحلي من أثر الإعلام الغربي القوي على الإنسان المعاصر وخاصة الأوروبي والأمريكي وكان هذا واضحاً في إجاباتهم عن مصدر معلوماتهم عن الإسلام.
وأخيراً هذه وجهة نظر أشخاص بعينهم دون أن تكون تمثل المجتمع كاملاً.
ولكن هذه محاولة لقراءة ومعرفة أسباب الاختلاف والبحث عن نقاط الالتقاء بين الطرفين.
كما علقت د/ حنان عطاالله الاختصاصية وأستاذة علم النفس في جامعة الملك سعود قائلة:
إن الأجوبة مؤسفة وإن كانت تعكس واقعنا المؤلم،وجميل جداً أن نرى رأي الآخر فينا لأننا كشعوب مازلنا نتغنى ونتفاخر بأننا أفضل الشعوب وحان الوقت لنعرف أين نحن من الأمم.
لقد فات علينا التقييم الذاتي ولابد من صحوة قد تأتي:
- إما من الذات.
- وإما من الآخر.
إن الصورة التي تتضح في الإجابات صورة غير صحيحة عن الدين الإسلامي.
كدين يدعو إلى (التسامح) وإلى (تقبل الآخر).
إننا نملك الكثير من المشاكل في التعامل مع الآخر المختلف عنا لاشك.
كما أننا أضحينا أمة تعيش على الغير لا تملك حتى أحقية صنع سلاحها الذي تحارب به صانعها!
إن المحاربة الحقيقية تأتي عن طريق الإبداع والتقدم العلمي لا العنف والقتل.
إننا مجتمعات تعاني من (بارانويا الاضطهاد) إن صح التعبير وطالما أننا نعاني من هذا المرض الاجتماعي النفسي الخطير فإننا سنشير للغرب بأصابع الاتهام وبالتالي سنظل مشلولي الإرادة وسنقول كما قال إدوارد سعيد (الحسناء النائمة).
لقد حان الوقت أن ندرك أن هناك أديان أخرى متعددة وأن (الإسلام) وإن كان هو الأفضل فليس هو الوحيد.
وذاك المعنى تجسده الآية القرآنية (لكم دينكم ولي دين)(/15)
وأذكر مثالاً من واقعي يجسد الضعف لدينا في قبول الآخر حيث لي صديقة أمريكية قضت في المملكة العربية السعودية قرابة الـ 10 سنوات ولكنها ذكرت لي وبحسرة:
أنها لم تتعرف على الشعب السعودي وقالت أعتقد أنكم شعب (غير صدوق)...!
وقامت bbc)) بإجراء استطلاع يتصدره السؤال التالي:
(ماذا ينبغي برأيك على المسلمين القيام به لتحسين صورتهم في أوروبا؟) وإليكم مقتطفات من هذه الإجابات:
*عثمان(السعودية): سؤال بسيط: هل هذه النظرة السلبية كانت قبل 11 سبتمبر أم بعدها؟ النظرة النمطية للإنسان العربي والمسلم موجودة منذ أبعد الأزمان وتغيرت صعوداً وارتفاعا في دروبه، ولنا أن نقرأ في أدبيات العصور الوسطى ليظهر لنا كيف كان يتم حشد الأوربيين للجهاد المقدس ضد الكفار. أعتقد نحن بحاجة أن نحسن صورتنا أمام أنفسنا لا أمام غيرنا.
*أحمد سيد أبوعطية(مصر): من موقع عملي في القطاع السياحي في مصر لاحظت فعلا النظرة السطحية التي ينظر إليها الأوروبيون إلى الإسلام! إنهم ينظرون إلى الإسلام على أنه من صنع العرب! بمعنى أن العرب هم من وضعوا قواعد الإسلام ويمشون عليها منذ أكثر من 1400 عام!! بل وسألني أحدهم: لماذا لا تغيرون قواعد الإسلام ليصبح أكثر تحضرا؟! فكانت إجابتي له: كيف تغير ما تعتقد أنه ليس من صنعك ولا من صنع البشر!
*أحمد نوفل(مصر): الأوروبيون لا يعلمون الكثير عن عالمنا والسبب في ذلك هو أننا لا نسعى إلى الاتصال بهم وإيضاح الصورة لهم. والعقلية الأوروبية سلسة ويمكنها الاستماع والفهم بشرط مخاطبتهم بالطريقة التي تناسب تكوين عقليتهم، لكن للأسف ونتيجة للقصور الثقافي في مجتمعاتنا فإن القادرين على التعامل مع الأوروبيين قلة نادرة وغالبا هم مقهورون في أوطانهم.
*أحمد صليحة (نيويورك): ليس من المهم أن نحسن صورتنا أمام الغرب، بل المهم أن نتحول إلى طرف فاعل منتج للحضارة والعلم والمعرفة مثل أشقائنا في الصين والهند الآن ،وحينئذ سوف نكسب احترام العالم بأكمله دون أن نضيع مليما واحدا على الدعاية الفارغة.
* ريني موفق(بغداد): أنا مسيحي من العراق وما يحدث الآن من تشويه صورة الإسلام حدث قبل ألف عام تقريبا عندما كانت الحروب الصليبية (التي كانت عارا على المسيحيين) تقتل وتفتك وتغزو البلدان باسم الله. هذا يحدث الآن ولكن من قبل متطرفين إسلاميين يشوهون الدين الإسلامي. فإذا كنت أوروبيا وأرى على التلفاز خمسة مسلحين يمسكون القرآن بيد ويمسكون السيف بيد أخرى ويقطعون رأس إنسان، ماذا تتوقعون مني أن أقول ؟
* توفيق عباس(مصر) إن تخلف المسلمين في جميع المجالات جعل الغربيين لا يحفلون بحضارتهم أو معتقداتهم أو علومهم وخاصة الدينية منها،كما أن قلة الهجرة العكسية من أوروبا إلى بلاد المسلمين واقتصرت على المختصين والمهتمين فقط بعلوم المسلمين.
*سعود الذويخ(الكويت):إن تلك النظرة للمسلمين، تنم عن السطحية التي يتمتع بها نظر الأوروبيين إلى الإسلام، ويعذرون في ذلك لأن المسلمين لم يقوموا بواجبهم نحو إعطاء الصورة الحقيقية للإسلام.
*ليلى(دمشق): لغياب العرب إعلاميا بالإضافة إلى الصورة المشوهة التي يتلقاها الطفل الغربي في كتب التاريخ وأفلام الكرتون عن البربرية الإسلامية ووجود عدد من المسلمين في الغرب من الذين يكفرون بقيمهم و يتبارون في التبرؤ من تاريخهم كأسهل طريق للحصول على إقامة.
أما الإجابات على السؤال التالي فجاءت كما يلي:
هل ترى أن الدول الإسلامية تتحمل جزءا من المسؤولية عن توتر العلاقات مع الدول الغربية، أم أنك تحمل الغرب فقط مسؤولية هذا التوتر؟
*يحيى حسين(الكويت) هنالك عدة أسباب لهذه الفجوة:
أولاً:الجاليات الإسلامية المتمكنة هناك لم تنجح لا باحتواء الدوائر الحكومية الغربية كما فعل اللوبي الصهيوني ولا تحييدهم على الأقل ولا إيصال المفهوم الإسلامي الصحيح.
ثانيا: لا يوجد ارتباط أو أي تنسيق وثيق بين الحكومات العربية والجاليات الإسلامية بدول الغرب للتشاور بل بكل الأسف ربما يتم النظر إليهم كجهات معارضة .
*مالك أبومالك (لبنان):انه صراع بين من يريد أن يكتشف النجوم وبين من يريد أن يكتفي بعدّهاّ..
*حارث الأعظمي(بغداد) عشت أنا شخصيا خلال السبعينات والثمانينات في بريطانيا كممثل للجالية العربية والإسلامية في اتحاد الطلبة البريطاني حيث كانت العلاقة بين الطلبة المسلمين وبقية الجاليات الأوربية المتنوعة في ذلك الاتحاد على أروع ما يكون. أما اليوم فنرى الصورة مختلفة تماما. فالطالب العربي ينظر إليه بعين الريبة والحذر، والزائر العربي والمسلم يعامل بأسلوب غير لائق في المطارات الأوربية ومنذ لحظة الوصول!
*صلاح الفضلي(الكويت): اعتقد آن المشكلة تكمن في الإعلام من الطرفين، يغذيها بعض المثقفين. فالغرب يصورون العرب على أنهم قتلة إرهابيين والمثقفين العرب يصورون الغرب علة أنه ارض فساد و مجون.(/16)
*أبوعلي(بغداد) علينا مواجهة أنفسنا بصراحة والبحث عن عيوبنا. أن محاولة إلقاء اللوم الأكبر على الجانب الأخر ليس بصحيح.
*أحمد سعودي في (بريطانيا) اعتقد أن أسباب هذا التوتر هي عدم فهم ثقافة البعض للآخر وعدم احترام خصوصيات الشعوب. طبعا الإعلام قد يساعد في توسيع الخلاف وقد يجمع بين أطراف الصراع.
*محمد عادل(القاهرة): لمن يريد أن يعرف كيف يتم ردم الهوة بين العالم الاسلامي والغرب يمكنه أن يجد الإجابة الشافية لدى الصينيين. فرغم كونهم العملاق القادم ورغم قوتهم، فقد احتلوا العالم وغزوا كل بيت فيه بمنتجاتهم عالية الكفاءة زهيدة الثمن.
*نصيرة سعودي جزائرية تقطن فرنسا:"نشعر وكأن أصابع الاتهام تسدد لنا، فالمسلمون الذين يعيشون هنا في فرنسا يشعرون وكأنهم يُحمّلون بشكل ما مسؤولية مناخ عدم الأمن الذي يسود أنحاء كثيرة من الغرب الآن".
وتقول "إذا سمعت ما يقوله الفرنسيون في مارسيليا حينما يختلون إلى بعضهم البعض عن العرب فستجد عبارات عنصرية،ومن الصعب جدا العثور على وظيفة إذا كان اسمك عربيا.."
ومن نبض الشارع إلى رؤية الدراسات والأبحاث..
فقد أجرى باحثون أستراليون دراسة تعتمد على استطلاع شمل خمسة آلاف أسترالي وكانت النتيجة تفيد بأن (هناك مشاعر قوية مضادة للمسلمين في أستراليا).
وتصف الدراسة المسلمين بأنهم أحد أكثر الجماعات الدينية والعرقية (تهميشا)، مع وجود الكثير من الأستراليين ممن يؤمنون بأن المسلمين وجميع القادمين من الشرق الأوسط لا يصلحون للعيش في أستراليا!
وقال أكثر من نصف الذين شملهم الاستطلاع إنهم لا يرغبون بزواج قريب أو قريبة لهم بمسلم أو مسلمة.
ويلقي الدكتور(كيفين دان) من جامعة ساوث ويلز الذي سيعرض نتائج البحث في مؤتمر حول الهجرة يعقد في سيدني باللائمة على طريقة وسائل الإعلام في تقديم المسلمين وكراهية الغرب للإسلام.
وقال إن المسلمين يواجهون آراء جامدة تتهمهم بالموقف السلبي من المرأة والتمييز بين الجنسين.
كما أوضحت دراسة قام بها معهد العلاقات الدولية الألماني ان الصورة التي يحملها أغلب الأوروبيين عن المجتمعات الإسلامية سلبية الى حد كبير.
وطرح المعهد سؤالا وهو "ماذا تفكر عندما تسمع كلمة اسلام؟" على عينة تمثل أفراداً ينتمون إلى مختلف الشرائح الاجتماعية، وكانت إجابات نحو ثلاثة أرباع المشاركين أن الإسلام يعني النسبة لهم قمع المرأة والتطرف والإرهاب،ولم يقدم إلا نحو ربع المشاركين إجابات تعكس رؤية افضل للإسلام.
وأوضح باحثون أوروبيون وعرب في ندوة عقدت بمعرض فرانكفورت الدولي للكتاب لبحث هذا الموضوع ان هناك نظرة سطحية شائعة عن الإسلام في أوروبا لا تشتمل على جوانب حضارية وإنسانية كثيرة في الإسلام.
كما قالت وفود نساء مسلمات في مؤتمر عالمي حول المرأة والإسلام في مدينة قرطبة الإسبانية إنهن تعبن من تصويرهن طوال الوقت في صورة الضعيفات مسلوبات الحق.
وقلن إن قرار ارتداء الحجاب أو غطاء الرأس يصور دائما على أنه مركز اهتمامهن في حين أن لديهن في الواقع عدة موضوعات أخرى هي التي تشغل بالهن.
،،،،،،
مشاهدات وجهود لتصحيح الصورة وبناء الجسور
إننا هنا نطل عبر نافذة صغيرة على (بعض) الجهود التي ساهمت وما تزال تقدم للصورة الإسلامية والعربية في العالم بصمات تعلن عن وجود حقيقي متزن وفعال في فكر الآخر عنا..
* جهود فردية في ألمانيا لتصحيح صورة الإسلام..
يقول (أحمد زايد) أستاذ بقسم الدعوة الإسلامية بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر الشريف: :
هناك جهود للتصحيح، لكنها فردية، فقد رأيت مثلا مسلمين فى (ألمانيا) يسعون للوصول إلى كل الأماكن لتصحيح صورة الإسلام -حتى فى الكنيسة- وهناك يقومون بعرض الإسلام والتعريف بحقيقته، وهذا هو محور تركيز المسلمين الآن.. هناك أيضا يتاح للمسلمين الذهاب إلى المدارس غير الإسلامية لعرض الإسلام، ويحدث هذا فى أمريكا بشكل كبير، ومن التجارب أيضا ما رأيته فى المركز الإسلامى فى ألمانيا الذى يقوم بإصدار نشرات توزع على الأفراد فى الأماكن الحكومية لعرض الإسلام.
* رحلة:
(رحلة) برنامج تلفزيوني قدمه الأستاذ (حمزة يوسف) الذي يعمل مستشارا للبيت الأبيض وللجامعة العربية للشؤون الإسلامية، وهو مؤسس معهد الزيتونة في كاليفورنيا، كما أنه أمريكي المولد واعتنق الإسلام.
و يصاحبه مجموعة من الشباب المسلم العربي..
يتضمن البرنامج جولات في أمريكاوكان خط سيرهم يمر نيوميكسيكو، فيلاديلفيا، بوسطن، نيويورك، واشنطن، شيكاغو، سان فرنسيسكو يلتقون فيها بالمسلم وغير المسلم مسيحياً كان أم يهودياً.
وكانت من أهم أهدافهم في البرنامج معرفة آراء الشعب الأمريكي عما يحدث في العراق، وعن رأيهم في الإسلام والمسلمين. وهنا تابعنا عن كثب رأي الآخر فينا ورأينا نماذج المسلمين الرائعة هناك..
كانت رحلة جسراً جديداً يمتد إلى هناك يحمل معه وإلينا (جهداً) يتسحق التقدير.
* مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية (كير):(/17)
يعتبر اكبر منظمات الحقوق المسلمة الأمريكية ولـ(كير) 29 مكتبا وفرعا اقليميا وتهدف الى زيادة فهم المجتمع الأمريكي للإسلام وتشجيع الحوار وحماية الحريات المدنية وتقويه المسلمين الأمريكيين وبناء التحالفات المعنيه بنشر العدالة.
قامت المؤسسة بنشر معلومات تعزز قوى المسلمين الأمريكيين وتزيد من وعيهم السياسي والحقوقي والإعلامي، كما استخدمت كير قوة قواعدها الجماهيرية لمواجهة الأفكار التي تثير الخوف من الإسلام والمسلمين.
ولا نغفل أن جهودها تتركز في منطقة مهمة في خريطة العالم.
سنورد (قطرات) من بحرهم هنا ..
قامت (كير)بحملة علاقات عامة وجماهيرية واسعة لتوعية الرأي العام الأمريكي بأخطاء وأضرار فيلم (الحصار) الذي أنتجته شركة أفلام (20th Century Fox) والذي يصور المسلمين والعرب كخطر حقيقي على المجتمع الأمريكي، فالفيلم الذي تم تصويره في " بروكلين" بمدينة " نيويورك" يحكي عن مؤامرة تفجيرية ينوي المسلمون القيام بها مما كان سببا لقيام الجيش الأمريكي بإعلان حالة طوارئ عسكرية وتنظيم معسكرات اعتقال جماعية ضد المسلمين والعرب الأمريكيين!
وبدلا من تنظيم حملات الاحتجاج التقى مسئولو كير بمنتجي الفيلم لمناقشة مخاوف كير من النتيجة السلبية المحتملة التي قد يتركها الفيلم على مسلمي أمريكا وعلى الرأي العام الأمريكي ورؤيته للإسلام وللمسلمين، واستجابة لتحليلات كير حول الفيلم وافقت شركة (20th Century Fox) على إدخال بعض التعديلات الطفيفة على مشاهد معينة، ولكنها رفضت إعادة النظر في الحبكة الدرامية للفيلم، فقد ادعت الشركة أن الفيلم يناهض فكرة الخوف من الإسلام ويعارض مبدأ انتهاك الحكومة للحقوق الدستورية، لذا رفض مسئولو كير هذه المبررات. وطالبوا المسلمين الأمريكيين بتنظيم مظاهرات سليمة أمام دور العرض السينمائي التي عرضت الفيلم لتوزيع معلومات عن الإسلام ولتوزيع تحليلات للفيلم وأضراره، ونال هذا التحرك الإيجابي إعجاب المراقبين، كما سجلت العديد من وكالات الأخبار أن مبيعات الفيلم خسرت 20 مليون دولارا أمريكيا.
كما أننا لا نستطيع إغفال ما انتشر من مشاعر عداء ضد المسلمين على شبكة الإنترنت عام 1998، وبالتعاون مع شركة AOL ساعدت كير في إيقاف موقع إنترنت حاول تقليد القرآن، وقالت شركة AOL إن الموقع يخرق قواعد الخدمة التي توفرها لكونه صمم بشكل واضح للإيذاء والتشهير.
وفي حادثة هامة أعلنت كلا من كير وشركة Nike للمنتجات الرياضية قرارا بشأن قضية حازت على اهتمام شعبي وإعلامي واسع، إذ صممت الشركة خطئا شعارا على أحد أحذيتها الرياضية يشبه لفظ الجلالة " الله" باللغة العربية
وبعد مفاوضات استطاعت كير وشركة " نايكي" حل الخلاف بينهما بوضع شروط ثنائية وافق عليها الطرفان، وتضمن الاتفاق أن تقوم شركة " نايكي" بالاعتذار على التصميم المسيء وبسحبه من الأسواق العالمية، وكذلك قيام نايكي بإدخال التعديلات الإدارية المناسبة التي تضمن عدم وقوع إدارة التصميم بها في مشاكل مشابهة في المستقبل.
وقد أصبحت قضية Nike من القضايا الشهيرة في وسائل الإعلام الأمريكية حتى أنها باتت تدرس في كلية التجارة والأعمال بجامعة "جورج واشنطن"، كما ظهرت في العديد من الكتب الدراسية الأمريكية الخاصة بعلم التسويق.
إن هذه الأمثلة لم تكن إلا نماذج للعديد من النقاط المضيئة في طريقهم والمحاولات (العملية) لتصحيح صورة العرب والمسلمين في أمريكا..فهل نتابعهم؟ ندعمهم؟ نمد لهم يد العون في الغربة؟!
Http://www.cair-net.org
* اهتمام الغرب بالسينما الإيرانية مؤشر مدخل للتصحيح!
تقول (ذيبا مير حسيني) التي حصل فيلمها الأول والوحيد، الطلاق على الطريقة الإيرانية، على عدد من الجوائز، أخذت مكانها بين نحو ثلاثمئة جائزة حصدتها إيران في السنوات العشر الأخيرة في حديث لها مع بي بي سي أونلاين.
( إن السبب يكمن في أن السينما الإيرانية تقدم صورة مناقضة ومخالفة للصورة التي يحملها الغرب في مخيلته للجمهورية الإسلامية وللإسلام بصورة عامة. فالأفلام الإيرانية تعكس مجتمعا إنسانيا لأبعد الحدود مليئا بالفلسفة والعمق والتناغم الشعري، كما أن بها بعض القيم التي يقدرها الغرب.)
سبب آخر كما تقول ذيبا هو أن السينما الإيرانية تقدم أفلاما مختلفة عن نوعية الأفلام التي تنتجها هوليود، أفلاما غنية بالمشاعر الإنسانية وتعطي لمحة عن مجتمع مختلف مغلق أمام الغرب منذ عشرين عاما..
وهنا إن كان المجتمع الإيراني منغلقاً منذ عشرين عاماً فماذا عن مجتعاتنا الإسلامية ككل التي أغلقت في (إيطار)
يحتاج قوة إعلامية لكسره!
ومن أين تأتي قوة العمل إلا من قوة (الأفراد) بعد خالقهم...
وحينما تصطف النقاط تصبح خطاً...وإن شئنا فقد يكون مستقيماً أيضاً.(/18)
ومن الجانب الآخر كيتي زيجلمانز، وهي أستاذة بجامعة ليدن الهولندية ومن المهتمين بالسينما الإيرانية. تقول: السينما الإيرانية بها غموض غريب وإثارة، كما أنني كمشاهدة غربية لا أستطيع الإمساك بالمعنى الذي يريد المخرج التعبير عنه، صحيح أنني أدركه من الناحية المعنوية لكن لا يمكنني وضع يدي عليه أو لمسه ..
،،،،،
معاً لحلول (عملية)
إن تصحيح صورة الإسلام في العالم وتخليصها من كل ما يشوبها.
هو من المهام المستعجلة المطروحة بل (الملزم) بها المسلمون؛ لأنه لا يمكن لهذه الفجوة بين المجتمع المسلم العربي والآخر أن تستمر في التعمق لدرجة يصعب معها التحكم في الأوضاع العامة والاستقرار الاجتماعي والتعايش بين المسلمين وغيرهم في العالم، كما أن الدين الإسلامي (طهر) يتحتم علينا تبيان حقيقته رغم أنف أخطاء أبنائه..
إن الاستبصار بحقيقة المشكلة وأسبابها..
سواء كانت الأسباب من أحد الطرفين أو كلاهما هو البداية (الصحية) للعلاج الأمثل.
ويذكر المستعرب الياباني (نوبوآكي نوتوهارا) في كتابه (العرب وجهة نظر يابانية) أثناء رحلاته للعالم العربي أنه كانت ترافقه أسئلة بسيطة وصعبة على حد قوله هي:
" لماذا لايستفيد العرب من تجاربهم؟....نحن نعرف أن تصحيح الأخطاء يحتاج إلى وقت قصير أو طويل. فلكل شئ وقت ولكن السؤال هو:كم يحتاج العرب من الوقت لكي يستفيدوا من تجاربهم ويصححوا أخطائهم، ويضعوا أنفسهم على الطريق السليم؟ "
هل بإمكاننا فقط أن نثير تساؤله في نفوسنا ومن ثم نشرع بخطى متفائلة نحو (بعض) الحلول:
*تجديد الخطاب الإعلامي الإسلامي والعربي:
اللغة إن لم تكن حاجز فهي ثغرة وإن لم تكن ثغرة فهي مطلب..
أياً كانت ماهيتها فهي (ضرورة)..
وهناك ضرورة للاعتراف بقصور(شديد) في الخطاب الإعلامي العربي والإسلامي الموجه نحو الآخر.
إن العالم الفضائي العربي مغمض العينين ليس بالضرورة أن يغمضها أحدهم فقد تكون هي لا تريد أن (ترى)!
وهنا علينا أن ندعم الوعي بضرورة (الإبصار) و(الاستبصار) بحقيقة برامجنا، حواراتنا وحتى مسلسلاتنا..
هل الترجمة المكتوبة لمادتنا الإعلامية وعرضها في القنوات العالمية (معضلة)..
وهل تنفيذ برامج بلغتهم وبمضموننا مهمة مستحيلة!
وهل أجبرنا على استخدام (مصطلحات) فرضت علينا.
وهل مازلنا نفكر هل (الساندوتش) شاطر ومشطور وبينهما طازج كما أراده مجمع اللغة العربية!
*الحوار:
إن الحوار وبناء جسور الثقة والتفاهم يمنح (الفهم) الذي نسعى له لتكتمل الصورة الناقصة في ذهن كل منهما. كما أنه يعزز التوجهات الإيجابية بين الطرفين.
في حين تكون القطيعة ومحاربة التوجهات الدينية، والخوف من الإسلام، والقناعة المعممة بأن الغربي فاسد ومتآمر غير مبررة وليست مقبولة ثقافياً ودينياً!
إن فتح حوار حضاري وثقافي وديني حقيقي بين الديانات والحضارات بين الإسلام والغرب، دون أي استعلاء، ومع الاعتراف المتبادل بالمساهمات المشرقة التي قدمها كل منهما في إطار بناء الحضارة الإنسانية؛ والاقتناع المتبادل بأن المشروع الحضاري المعاصر يحتاج للمساهمات الغربية، كما يحتاج أيضاً للمساهمات الرائدة للإسلام حضارياً وثقافياً وأخلاقياً.
ولا يمكن لهذا الحوار الحضاري أن يحقق أهدافه وطموحاته المتوقعة ما لم تراجع وسائل الإعلام والاتصال الغربية سياسة فرض إقتران وهمي بين الإسلام والإرهاب، كلما تعلق الأمر بحادث أو أزمة طارئة.
وحتى يفتح المسلمون ذهنهم للآخر دون الانسلاخ عن مبادئهم،كما أن عليهم أن يكونوا المصدر الفاعل لا المدافع فحسب.
*لماذا ننتظر من (يدافع) .. فيم نملك سلاحاً آخر لإظهار الحقائق؟!
إن تشكيل العرب والمسلمين في (العالم) - هيئات وأفراد - قوى ضاغطة ترفع صوتها مدافعة عن صورتها وهويتها بدلا من انتظار آن يبادر الآخر بالدفاع عنها أو بمهاجمتها ضرورة حتمية..
وضرورة عدم الانتظار لا تعني ألا نمد أيدينا مصافحة للآخر الذي يسعى للتصحيح والمبادرة لإظهار الحقيقة..
فهناك منهم من يدعم قضايانا ويشارك في محو التشويه الذي يعكر صفو ملامحنا الإسلامية.
*(الكتابـ)ـات:
دعا (د/ عبد القادر طاش رئيس تحرير صحيفة البلاد السعودية سابقاً) إلى "ضرورة صناعة صورة بديلة جديدة ربما كان الغرب بعد أحداث سبتمبر أيلول يبحث عنها. وهو ما يشهد عليه الإقبال الكبير على (الكتابات) التي تتحدث عن الإسلام في المرحلة الراهنة."
كتاب أم كتابات أياً كانت..
في صحفنا و صحفهم..لنسمعهم صوتاً مسلماً و عربي..
مضمونها،إقناعه،قوته وأولاً وأخيراً (صدقه) هو المفتاح الذي سيفك الكثير من الطلاسم التي تجهل حقيقة الإسلام والمسلمين.
* نملك (قيماً) يفتقدها كثر فلنبدع فيما لدينا:
إننا نملك مجتمعاً يحوي قيماً شتى وأبعاداً مختلفة وثقافة إسلامية نراها في دقائق الأمور إن أردنا تصفية العدسة التي ننظر بها لمجتمعنا.(/19)
وعليه فإن التدقيق فيما حولنا يعطينا شارات ومداخل لمنح الآخر الأفضل بل لمنح أنفسنا فرصة تنفس الهواء النقي في مجتعاتنا الإسلامية والعربية.
كما أن كل ذا (تخصص) يملك الكثير والكثير في مجال تخصصه..
خيرات الأرض،خيرات الفكر،خيرات اليد الإنسانية معولاً أو قلماً جميعها عناصر نملكها فمتى التنفيذ؟
*الخلافات المذهبية ماذا تفعل هناك؟!
مشكلة الخلافات بين المسلمين خارج العالم الإسلامي تأتى نتيجة نقلهم أخطائهم الاجتماعية والفكرية من بلادهم إلى البلدان الجديدة التي نزحوا إليها، وذلك فضلا عن الخلافات المذهبية فى فهم الدين الإسلامى ومقاصده والتركيز على الخلافات الفقهية في الفروع!
إن (طريقة) الجدل المذهبي لدينا قضية بحد ذاتها..وما ويزيد الأمر صعوبة أن حرية التعبير التي تُمنح لهم هناك تُستغل لتمتد الخلافات..وتكن حينها أخطاء (المسلمين) طاغية على حقيقة (الإسلام)..
وبذلك نشارك في ظلم ديننا وأنفسنا ونظرة الآخر لنا الذي لا يملك إلا ما يرى وما يروى.
.إذا تجاوزنا عن إشكالية المصدر وأخطاء النقل المشوه.
]علينا أن نراعي أننا (نمثل) الإسلام وليس مذهب فحسب[.
* هل يتعلم المسلمون مما يجري شيئاً؟
تعلم المسلمون دروساً بعد الحادثة المفجعة في (أوكلاهوما)، وعرفوا أن سبب اضطهادهم هو شبهة تعميم تورط المسلمين في حوادث الإرهاب، وتنفسوا الصعداء حينما انكشفت هوية الفاعل، وبذلك تزعزعت الفرضيات الخاطئة والشائعة عند عامة الغربيين، عن تحميل المسلمين مسؤولية العنف في العالم.
وفي نفس الوقت كشفت حادثة أوكلاهوما، المخاطر الحقيقية التي يتعرض لها المسلمون بسبب هذه الشبهة. ولو لم يتم إلقاء القبض على الجاني بفترة زمنية قصيرة، لدفع المسلمون ثمنا فادحا لهذه الشبهة وبمرات مضاعفة، كما يدفعونها الآن بعد أحداث نيويورك وواشنطن.
إن ما جرى وما يجري مؤشر بل جرس (نداء) لا (إنذار) لضرورة العمل في إيجاد مخرج من الدائرة التي تحيط بالمسلمين.
إن (الجهد) لا يضيع..ولكن هل بدأنا ببذل الجهود حقاً..؟
إن كانت الإجابة بلا..فإلى متى..
وإن كانت الإجابة بنعم...فلنبحث عمن يعمل ولندعم (معنوياً، مادياً) بدل من أن نتسابق في التصويت على الفضائيات العربية!
* هل نحن ترجمة للآخر:
الإعلام ليس عبارة عن مجموعة واحدة متجانسة، فتغطية الإعلام البريطاني لحدث ما أو موضوع إسلامي، يختلف عن تغطية الإذاعات الفرنسية وكليهما يختلفان عن الأعلام الإيطالي أو النرويجي أو الأمريكي لنفس الحدث، كل حسب توجهاته وسياسة كل دولة.
فلماذا إعلامنا ترجمة للآخر وليس ترجمة لنا ليفهمنا الآخر.!
*الفهم لواقعنا (واجب شرعي):
(الصورة لن تتحسن طالما لازالت هناك رؤى خاطئة للنفس وبالتالي للمجتمع خاصة مع المسافة المتناقضة بين (الرؤية الذاتية) والتي تعتمد على القراءة الخاطئة للذات وبين (الرؤية المجتمعية) التي تعتمد على الرؤية النقدوية للمجتمع بمعنى أن الفرد الذي لا ينتقد ذاته أو سلوكه هو ذاته الذي قد يجتهد في نقد مجتمعه بتناقض ملحوظ،إن الوقوف على هذا التناقض بقراءة واعية كفيل بالمساهمة في تحسين الصورة) هذا ما ذكرته الأستاذة غادة الخضير الكاتبة والمحاضرة في قسم علم النفس بجامعة الملك سعود لـ(ـأبجد حياة) حول مدى إمكانية العقل العربي الإسلامي في فهم واقعه المعاصر.
وهنا نحن نبحث تلك الرؤية لدى الآخر علها (محفزاً) لإدراك الحقائق.
*الجاليات المسلمة سفراؤنا في العالم:
إن واجب الدفاع عن الإسلام وتحسين صورته في الغرب، يفرض على الجاليات المسلمة في أوربا العمل على:
- ترشيد الصحوة الإسلامية وتوجيه شبابها المؤمن نحو منهج الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والمرتكزة على مبدأ الاعتدال والحوار والوئام دون مغالاة أو تشدد أو تعصب.
وذلك تحقيقاً لقوله تعالى:
{ وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً}.
- العمل لإيجاد مناخ اجتماعي تَسَاكُنِيّ خال من كل ما يمكنه أن يضرّ بالعلاقات الطيبة بين الجاليات المسلمة وغيرها، مناخ يعمّه الاستقرار والطمأنينة والتعاون. غير أن على الجالية المسلمة المدعوة لمراعاة قوانين البلاد التي تعمل فيها، وتستفيد في إطار أنظمتها التشريعية والقانونية وعوائدها وظروفها، أن تعمل على تحصين هويتها الإسلامية وعقيدتها الدينية ومقوماتها المتميزة وحقوقها الاجتماعية المشروعة.
- العمل أيضاً لتكثيف الجهود وتنسيقها بين كل العناصر المسلمة وقادة الرأي في العالم، وذلك في إطار العمل الإسلامي المشترك، ومحاولة التخلي عن أسباب الخلافات والصراعات التي لا تفيد الإسلام والمسلمين، وذلك عملاً بقول الله عز وجل { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا }.
- التواصل (المستمر) مع المؤسسات الإسلامية والعربية داخل المجتمع الغربي لاستقاء الجديد و(الأصح) عن عالمهم ولدعم الجهود المبذولة والمشاركة في تغيير الصورة.(/20)
*استطلاعات (الرأي) العامة أولى الخطى نحو التصحيح:
وذكر لـ(أبجد حياة) د/ وليد عبدالله اختصاصي وراثة جزئية:
(أن فهم الفرد العربي المسلم لصورته لدى الآخر لن يكون إلا بإجراء استطلاعات رأي عامة وشاملة من مصادر مختلفة لبدء مسيرة التغيير بنظرة الآخر عن الإسلام والمسلمين.)
وهنا يتضح مطلب علمي منظم وتغيير (حقيقي) حتى في أسلوب العلاج الذي يستخدمه المجتمع الإسلامي العربي لتصحيح صورته.
*الطفل .. لبنة الجيل الجديد:
نفتقد الرسوم المتحركة ذات الطابع الأخلاقي الناضج.
والتي ترسم للطفل العربي المسلم النموذج الذي يتطلع و(يعمل) لأجله..
الطاقات الشابة التي يتمتع بها العالم الإسلامي والعربي لابد تحمل بين حناياها..
حلماً يستحق التنفيذ..
*الرسائل الموجهة للصحف وماذا يقول (القصيبي):
ذكر د/غازي القصيبي في كتابه (حياة في الإدارة ):
(أن هناك مكتب متخصص في إعداد ]رسائل موجهة للصحف[ في لوس أنجلوس وفي كل مدينة أمريكية.
وبوسع كل متعاطف مع إسرائيل يرى مقالاً لا يعجبه عن اسرائيل أن يرسل المقال إلى المكتب،وفي خلال 48 ساعة يصله رد جاهز بالأرقام والتواريخ وماعليه إلا توقيعه وإرساله إلى الصحيفة المعنية.
هذا مايفسر لنا أنه يستحيل أن ينشر أي مقال ضد اسرائيل في أي صحيفة أمريكية دون أن تصل هذه الصحيفة عدة ردود (عقلانية) تعترض على المقال.
كثير من العرب يكتبون رسائل إلى الصحف ولكنهم يكتبونها بطريقة انفعالية تحول بينها وبين النشر، أو تسئ إلى القضية أكثر مما تخدمها إذا نشرت.
كتابة الرسائل إلى الصحف فن قائم بذاته،لاعلاقة له بالبلاغة، ولا بعدالة القضية).
هل نحتاج هكذا مكتب؟! أم هل نملك إنشاء مكتب مماثل؟!
وهل إنشاءه ضرب من المستحيل!(/21)
صورة قلمية لرجل القلب
بقلم: م. فتح الله كولن
رجل القلب بأفقه وعقيدته وتصرفاته يمثل بطولة الروح والمعنى، وإن عمقه وسعته ليس من ناحية المعلومات التي اكتسبها، بل بغني قلبه وصفاء روحه وقربه من الحق تعالى. فقيمة المعارف المطروحة أمامه كعلوم هي بمقدار ما تكون سببا في إرشاد الإنسان إلى الحقيقة، أي أن المعلومات التي لا تساعدنا على فهم حقيقة الوجود والأشياء والإنسان، والمعارف النظرية التي لا تملك فوائد عملية لا تملك قيمة عنده.
صاحب القلب الحي يكون مبرجاً للحياة القلبية والروحية، وعازماً على البقاء بعيداً عن كل التلوثات المادية منها والمعنوية، وحذراً على الدوام من كل الرغبات الجسدية، ويقظاً ومستعداً للكفاح ضد مشاعر الحسد والنفور والكراهية والأنانية والشهوات... كل ذلك ضمن خلق من التواضع والبساطة. يبذل قصارى جهده في كل وقت لمد يد العون لتجلية الحق وإظهاره... هو عنوان الإيثار الذي يشتعل شوقاً لكي ينقل إلى الآخرين ما أحس به وشعر به في عالم الملك والملكوت... صابر ووقور، وبدلاً من الكلام كثير، أو الضجيج الكبير تراه يعيش حسب عقيدته وإيمانه... هو رجل حركة ودعوة وإيمان وقدوة حسنة لغيره بطراز معيشته وأسلوب حياته... هو في حركة دائبة لا تعرف الفتور... يعلّم غيره آداب التوجه إلى الله والفرار إليه... لو سبرت أغواره رأيت ناراً تتأجج فيها... وهو عندما يحترق لا يشكو ولا يظهر أي غم، أو حزن، ولا يفكر في إظهار أي لاعج من لواعج الألم لغيره... يحترق بهدوء ويدفئ أرواح كل من يلجأ إليه، وينفث فيها الحرارة.
هناك على الدوام أفق بعيد في هدف رجل القلب... هو رجل الإيمان المرتبط برضا الحق تعالى، الدائم السير، يقطع المسافات تلو المسافات مثل جواد أصيل لا يعرف الفتور حتى يبلغ هدفه ومبتغاه، دون أن يفكر في شيء من حطام الدنيا.
هو رجل الحقيقة الذي لا يفكر في قعوده وقيامه وفي حركته وسكونه إلا في الحق وكيف يقيمه في الدنيا وينشره. وهو مستعد بكل رحابة صدر للخلي عن كل رغباته ومطالبه في هذا السبيل... يفتح صدره للجميع... يحتضن الجميع بشفقة، ويظهر في المجتمع على الدوام بصورة الملك الذي يفتح جناح الحماية والصيانة، ومع هذا فلا ينتظر من غير الله تعالى شيئاً... يحاول في جميع تصرفاته وسلوكه أن يكون منسجماً مع الجميع. لا يشاكس أحداً ولا يضمر عداوة لأحد. ومع وجود وجهات نظر خاصة به في بعض الأحيان حسب مهنته ومشربه، إلا أنه لا يدخل في أي منافسة أو احتكاك مع أحد، بل على العكس يحب كل من يقدم خدمة لدينه ووطنه وأمته. ويؤيد ويصفق لكل صاحب عمل إيجابي، ويبذل عناية خاصة في هذا التأييد لكي يبقى موقراً لمنزلتهم ولوجهات نظرهم.
رجل القلب يبذل في جميع ما يقوم به من فعاليات وما يبذل من جهود اهتماماً خاصاً بتوفيق الله تعالى وعنايته ورعاية... ويبحث على الدوام عن السبل التي توصله ليكون أهلا لمثل هذه الرعاية والعناية. لذا فهو يبذل عناية خاصة للوحدة وللجماعة التي ذكر القرآن الكريم أنها وسيلة لجلب عناية الله. وهو يسارع لعمل مشترك مع كل من يمشي في صراط مستقيم، بل والأكثر من هذا نراه يسلك طريقاً ما على الرغم منه في ضمن هذا الإطار من سياسة الوفاق التي ينتهجها، وهو يعلم أن الرحمة في الاتحاد، وأنه لا يمكن تحقيق أي شيء بالخلاف والفرقة، لذا يحاول أن يجمع جهود كل من حوله ليكون قريباً من شآبيب رحمة الله وعنايته.
رجل القلب هو عاشق الحق تعالى والمتلهف لنيل رضاه، لذا نراه يربط جميع حركاته وسكناته في كل امر وفي كل ظرف وحين برضاه تعالى ويبدي حرصاً في هذا الصدد ولو أدى به إلى الموت، وهو مستعد لأن يضحى بكل شئ للوصول إلى هذا الهدف... مستعد للتخلي عن أي أمر دنيوي وأخروي.
لا يوجد في عالم رجل القلب ادعاءات أمثال: "أنا عملت" أو "أنا الذي أنجزت" أو "أنا الذي نجحت"، فهو يفرح بكل إنجاز عمله آخرون وكأنه هو الذي أنجزه ويعد نجاحات الآخرين نجاحاً له ويتبعهم تاركاً لهم شرف الريادة ومرتبتها. بل يقوم بأكثر من هذا، فهو يرى أن الآخرين سيكونون أكثر لياقة ونجاحاً، لذا يهيء لهم جواً أكثر أماناً وراحة في أداء خدماتهم وجهودهم، ثم يتأخر خطوة إلى الوراء لكي يكون فرداً عادياً ضمن الأفراد الآخرين.
ونظراً لكون رجل القلب مشغولاً بعيوبه ومجاهداً لنفسه، لذا لا ينشغل بعيوب الآخرين ونقائصهم، بل ولا يجد فرصة للانشغال. ولا يكتفي بعدم تعقب أخطاء الآخرين وعيوبهم، بل يعطي مثالاً جيداً للإنسان الفاضل فيحاول توجيههم إلى آفاق أرحب بالابتسامة، ويدرأ بالحسنة السيئة، ولا يفكر بإيذاء أي شخص وإن تعرض خمسين مرة للأذى.(/1)
يرى رجل القلب أن قضاء عمره في محور الإيمان وإطاره الكامل وتزيينه بالإخلاص القضية الأولى عنده. وهو رجل حقيقة تراه قد نذر جميع أفكاره ومشاعره وسلوكه في سبيل رضا الله تعالى، بحيث لو أُعطيت له الدنيا وما وراءها لما استطعت زحزحته عن هدفه، بل حتى لو أُعطيت الجنات لما انحرف عن وجهته وعن طريقه.
لا يدخل رجل القلب في أي منافسة مع الذين يشاطرونه فكره وطريقه، ولا يشعر نحوهم بأي حسد... على العكس يحاول ازالة عيوبهم وتكملة نواقصهم، ويتصرف تجاههم تصرف عضو الجسد نحو سائر الأعضاء... أي يتصرف بروح الإيثار تجاه رفقائه في الدرب، في جميع الأمور المادية والمعنوية من مقام أو منصب أو منزلة أو شهرة أو نفوذ، ويدفع بهم إلى الصفوف الأمامية بينما يتراجع هو إلى الوراء، ليكون دلاّلاً على نجاحهم ومصفقاً لقابلياتهم وتوفيقهم وفرحاً بهم فرح من يحتفل بالعيد.
ومع أن رجل القلب يبقى مرتبطاً بمنهجه في العمل وحسب اجتهاده ومزاجه ومذاقه إلا أنه يبقى على الدوام محترماً أفكار ومناهج الآخرين وموقراً لهم، ويكون مستعداً للعيش المشترك معهم، ولا يفتر عن البحث عن طرق التعاون المشترك مع من يقاسمهم الفكر نفسه... يبحث عن طرق التعاون والمشاركة هذه ويطور معهم مشاريع العمل المشترك واضعاً كلمة "نحن" بدلاً عن "أنا". بل يكون مستعداً للتضحية بسعادته برحابة صدر في سبيل إسعاد الآخرين دون أن ينتظر من أحد جزاءً ولا شكوراً، بل يعد مثل هذا الانتطار دناءة وسقوطاً يترفع عنه، لذا نراه يبتعد عنه، ويهرب منه مثلما يهرب من العقارب والثعابين، ويهرب من الرغبة في الصيت والشهرة، ويحاول أن يكون منسياً.
لا يعتدي رجل القلب على أحد، ولا يقابل الاعتداء بالاعتداء، ولا يفقد اعتداله حتى في أحرج الظروف، ولا يتوانى أبداً من القيام بكل تبعات رجل القلب، فهو يقابل الإساءة بالإحسان دوماً لأنه يعد القيام بالإساءة من عمل الأشرار، لذا يتصرف كمثال لرجل الإحسان.
يعيش رجل القلب خط القرب من الله (أي الولاية) في ظل القرآن والسنة، وفي إطار من شعور التقوى والعزم والإحسان. وهو حذر على الدوام من المشاعر التي تميت القلب كالأنانية والغرور وحب الشهرة. وهو يعزو إلى الله تعالى كل ما ينسبونه إليه وكل ما يقوم به من أعمال الخير ويقول: "كل شيء منه" فيرجع كل شئ إلى صاحبه، وتراه يتحرج من كلمة "أنا" ويفضل عليها كلمة "نحن" في كل ما يتعلق بالإرادة الإنسانية.
لا يخاف رجل القلب من أي أحد، ولا يضطرب ولا يرتبك أمام أي حدث، بل يستند إلى الله ويتوكل عليه، ويتشبث بالسعي فيصل إلى التوفيق، ولا يتراجع أبداً عما يعتقد أنه حق.
لا يحمل رجل القلب ضغينة نحو أحد، ولا سيما ممن ارتبطوا بالله تعالى وساروا في طريقه. وعندما يرى أصدقاء دربه ضمن عمل سيء فلا يبتعد عنهم، ولا يشهر بهم، ولا يخجلهم، بل ربما يحاسب نفسه ويرى أن معرفته بأي سقطة من سقطات أصدقائه ربما كانت عيباً له.
يحذر رجل القلب من أي سوء ظن بالمؤمنين في التصرفات القابلة للتفسير المعقول بل يحسن الظن بهم في كل ما يرى ويسمع، ولا ينزحلق إلى ظنون سلبية.
يعلم رجل القلب وهو يقوم بكل فعالياته وحركاته بأن هذه الدنيا ليست بدار جزاء، بل دار خدمة. لذا يؤدي ما عليه من مسؤوليات وخدمات ضمن نظام دقيق جداً، ويعد الانشغال بالنتيجة شيئاً ينافي التوقير لله تعالى. وهو يعدّ خدمته للدين وللإيمان وللإنسانية أكبر وظيفة له في طريق الحصول على رضا الله تعالى. ومهما أنجز من أعمال كبيرة فلا يجعل لنفسه أي نصيب مادي أو معنوي ولا يفكر في هذا أصلاً.
لا يقع رجل القلب في اليأس أبداً وإن انفرط نظامه الذي بناه، ولا يهتز أبداً حتى وإن وقف الناس أجمعون ضده. بل يقوم أمام جميع المصاعب وهو يصر على أسنانه متحملاً "هذه الدنيا ليست بدار زعل بل دار تحمل" يصبر ويبحث عن طرق بديلة لحل المشاكل التي تعترض طريقه ولا يفتر عزمه ولا إقدامه حتى في أحلك الظروف، بل يقوم بإنتاج إستراتيجيات مختلفة.
وختاماً نقول ونذكِّر بأنه في أيامنا هذه التي تستهان فيها القيم الإنسانية، وتتراجع فيها الأفكار الدينية، ويطغى فيها في جميع الأرجاء ضجيج الفارغين واللاهين فإننا في حاجة إلى أمثال هؤلاء من رجال القلب كحاجتنا إلى الهواء والماء(/2)
ما أشبه الليلة بالبارحة
حادثة بَرْبَشْتر في الأندلس
صورة لبشاعة الصليبيين وتخاذل المسلمين
د. محمد بن إبراهيم أباالخيل أستاذ مساعد في كلية العلوم العربية والاجتماعية جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالقصيم 26/8/1423
11/11/2001
تدهورت أوضاع المسلمين في الأندلس إبان القرن الخامس الهجري / الحادي عشر الميلادي ، وكان مسلسل التدهور قد ابتدأ بالفتنة بين بني أمية ( حكام البلاد ) أنفسهم من جانب وبينهم وبين غيرهم من جانب آخر . ثم انقسمت البلاد الأندلسية شيعاً وأحزاباً ، فصارت السلطة فيها تتوزع بين أكثر من عشرين دويلة صغارها لم يكن سلطانها يتجاوز بعض الحصون أو القرى . وقد أًطلق على هذا العصر من التاريخ الأندلسي عصر دول الطوائف . والمتأمل في أحوال تلك الدويلات يجد بين حكامها ـ رغم كثرة أعدادهم ـ سمات مشتركة ، من أبرزها افتقاد أكثريتهم إلى الشرعية في حكم الأراضي التي يسيطرون عليها ، والاقتتال العنيف بينهم في سبيل بسط النفوذ على أكبر قدر ممكن من البلاد ، كذلك التناحر على الحكم في داخل الدويلة الواحدة بين أفراد الأسر الحاكمة ، ومنها الاستعانة باليهود والنصارى سواء في شؤون الحكم والإدارة ، أو في ضرب إخوانهم المسلمين . وقد عم أرجاء الأندلس في ظل سيطرة هؤلاء الحكام فساد عريض على كافة المستويات السياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية .
بينما كان المسلمون في الأندلس يعيشون هذه الأوضاع المؤسية إذ تعرضت بلادهم في طرفها الشمالي الشرقي المسمى الثغر الأعلى الأندلسي لحملة صليبية غاشمة شارك فيها عدد من القوى النصرانية ، وكان ذلك في منتصف القرن الخامس الهجري . حيث أن النورمان الذين اعتنقوا النصرانية حديثاً انطلقوا من موطنهم الجديد نورماندي ـ الواقع في الشمال الغربي من فرنسا ـ نحو الأندلس بقيادة زعيمهم جيوم دي مونري ، وذلك بنصيحة ثم تشجيع من بابا روما في ذلك الوقت أسكندر الثاني الذي كان يعرف هذا القائد النورماني جيداً قبل هذه الحملة بسبب قدومه إلى إيطاليا وخدمته للبابوية حيناً من الزمن . وفي طريق الحملة إلى الأندلس التحقت بها جموع من الفرسان الفرنسيين ، ثم نزل الجميع في مملكة قطلونيا النصرانية الكائنة في أقصى الشمال الشرقي من بلاد الأندلس ، ولا يُعلم إن كانوا اخترقوا البلاد الفرنسية ودخلوا قطلونيا من جبال البرتات الفاصلة بين فرنسا وإسبانيا أم أنهم قدموا عن طريق البحر المتوسط ، وسواء كان هذا أو ذاك فالحاصل أن قطلونيا النصرانية أذنت لهم بالنزول في أرضيها ، ثم سمحت لهم بالعبور من خلالها للهجوم على بلاد المسلمين ، ولا يستبعد أن يكون بعض القطلونيين انضموا إليهم .
وواضح مما سبق الصبغة الصليبية التي اكتست هذه الحملة ، فهي انطلقت من قاعدة نصرانية ، وشارك فيها أكثر من بلد نصراني سواء بالجنود أو بالسماح لها بالعبور من خلال أراضيه ، وفوق ذلك دور بابا روما في الإشارة بها وتشجيع قادتها .
تحرك هؤلاء النصارى الصليبيون الذين بلغ تعدادهم زهاء أربعين ألفاً من قطلونيا غرباً بجنوب صوب بلاد المسلمين فحلوا في الثغر الأعلى الأندلسي ، وقصدوا أولاً مدينة وَشْقَة فنازلوها أياماً ، ولما لم ينالوا منها مأرباً بارحوها وساروا شرقاً حتى نزلوا على مدينة بَرْبَشْتر الواقعة إلى الشمال الشرقي من مدينة سرقسطة قاعدة الثغر الأعلى ، وكانت يومئذ من أمنع القواعد الإسلامية في الشمال الأندلسي ، فضربوا حولها الحصار وذلك في جمادى الآخرة سنة 456 هـ / 1046 م . ولقد كان من المنتظر أن يهب ملوك الطوائف جميعاً لدفع هذا الحصار الصليبي عن بربشتر ، دع عنك حكام الثغر الأعلى الذين تقع عليهم مسؤولية الدفاع عنها بالدرجة الأولى . لكن ـ ياللأسف ـ لم يتحرك هؤلاء ولا أولئك فتركوا المدينة تواجه الهجوم الصليبي لوحدها ، ومن المحزن أن هذه المدينة كانت تابعة للمظفر يوسف بن سليمان بن هود ، وكان على عداء صارخ مع أخيه المقتدر أحمد بن سليمان بن هود منذ وفاة والدهما سليمان ، فلم يستطع المظفر انجادهما ، ولم يتحرك أخوه المقتدر لنجدتها مع قدرته على ذلك ، ولم يكن من سبب يمنعه من نجدتها سوى أنها كانت من أملاك أخيه .(/1)
حاصر العدو المدينة ، وصمد المسلمون فيها ، وكان بعض المقاتلين منهم يخرجون من آن لآخر ويشتبكون معه في معارك شديدة ثم يرتدون إلى الداخل كرة أخرى . إلا أن استمرار الحصار أربعين يوماً أحدث في المدينة ضيقاً شديداً ، وقلت الأقوات فيها ، ثم حدث من جراء ذلك تنازع وخلاف بين أهلها ، فعلم النصارى بما جرى فشددوا قبضتهم ، وضاعفوا عدوانهم عليها حتى تمكنوا بعد قتال عنيف من اقتحام الأسوار الخارجية للمدينة ، وقد دافع المسلمون عن أنفسهم أشد دفاع ، وقتلوا من المهاجمين نحو خمسمائة ، ثم انحازوا إلى المدينة الداخلية للتحصن بها ، والدفاع عن أنفسهم ، وبينما كانوا معتصمين فيها وقد عقدوا العزم على المقاومة لآخر رمق إذ قدّم أحد الخونة المنافقين للأعداء معلومة في غاية الأهمية تتعلق بأحد أسرار المدينة الذي بمعرفته يستطيعون إنهاء المقاومة الإسلامية فيها بأقصر زمن ، حيث دلهم على مجرى ( سرب ) الماء الأرضي الذي يمدها بالماء ، فقاموا على الفور بهدمه ، فانقطع الماء عن المحصورين . وهذا المنافق الذي قدم تلك المعلومة للعدو يكثر وجوده حين تحل بالأمة الإسلامية أزمات ، أو تصاب بمحن ، فمثل هذا الصنف مذبذب في ولائه دائماً بين المسلمين وعدوهم ، فإن كانت الدائرة للمسلمين كان في صفهم ، وادعى أنه مخلص لقضيتهم ، وإن رأى الأعداء في سبيلهم إلى النصر والغلبة انحاز في ولائه وهواه إليهم لما يمني نفسه من السلامة من القتل ، والمكافأة على ما بذله من خدمة لهم .
على أي حال اشتد الظمأ بالمسلمين المحاصرين ، وبدا شبح الموت قريباً منهم ، فبعثوا إلى قائد الجحافل الصليبية جيوم دي مونري يطلبون منه الأمان على أنفسهم وأولادهم مقابل تسليم المدينة وترك ما بها من أموال وأمتعة ، فرفض طلبهم ، وتابع هؤلاء المعتدون الحصار حتى تمكنوا من اقتحام المدينة عنوة بعد مواجهات عنيفة مع المسلمين ، فدخلوها دخول الوحوش المفترسة ، فاستباحوا المدينة بمن فيها وبما فيها ، وقتلوا وسبوا الألوف من أهلها . ثم أعلن القائد الصليبي الأمان ، ولما رأى كثرة الجموع الخارجة من المدينة في ظل الأمان الذي قطعه لهم هاله ذلك فأمر بالتخفيف منهم ، فأطيح أرضاً بستة آلاف منهم . وقد مات كثير من الشيوخ والنساء والأطفال بسبب العطش ثم الزحام عند الخروج من المدينة ، كما امتنع نحو سبعمائة في قصبة المدينة ( قلعتها ) فمات معظمهم عطشاً .
أن اقتحام مدينة بربشتر وذبح أهلها بهذه الكيفية يقدم صورة جلية لما تعتمل به قلوب النصارى المتعصبين من تعطش لدماء المسلمين ، فهم لم يقبلوا منهم تسليم المدينة وكل ما يملكون من أموال ومتاع حين عرضوا عليهم ذلك مقابل خروجهم فقط بأنفسهم وأولادهم بل أصروا أن يعملوا السيف في رقابهم حتى بعد إعطائهم الأمان ، فدماء المسلمين عندهم أرخص الدماء . وهم كإخوانهم من الكفار إذا ظهروا على المسلمين لا يرقبون فيهم إلاً ولا ذمة . ومثل هذه الصورة نراها تكرر عبر التاريخ في حقل الصراع بين المسلمين والنصارى حتى عصرنا الشاهد ، وليس ببعيد عنا ما قام ويقوم به النصارى وإخوانهم اليهود في البوسنة والهرسك وكوسوفا وفلسطين والشيشان وغيرها من بلاد المسلمين الممتحنة .
على أن هؤلاء الصليبيين الذين اقتحموا مدينة بربشتر لم يكتفوا بالقتل والسلب والأسر والتعذيب فحسب بل ارتكبوا في حق أهلها المسلمين عملاً شنيعاً لا يقدم عليها إلا أخس الجنود وأنذلهم ، حين قاموا بهتك الأعراض بطرق فضيعة ومؤذية . وندع المؤرخ ابن حيان الأندلسي ( ت 469 هـ ) الذي عاصر الحدث وعايشه ـ يصف طرفاً مما جرى لأهل بربشتر المسلمين ، حيث يقول (( ولما برز من بقي من أهل المدينة عنها إلى فناء بابها بعد من خفف منهم بالقتل ، وهلك بالزحمة ، ظلوا قياماً ذاهلين منتظرين لنزول القضاء بهم ، نودي فيهم بأن يرجع كل ذي دار إلى داره ووطنه بأهله وولده ، وأزعجوا لذلك ، فنالهم من الازدحام قريباً مما نالهم في خروجهم عنها ، فلما استقروا فيها مع عيالهم وذرياتهم اقتسمهم المشركون بأمر سلطانهم قسمة قرروها بينهم ، فكل من صارت في حصته دار حازها ، وحاز ما فيها من أهل وولد ومال ، يحكم كل علج منهم في من سُلط عليه من أرباب الدور بحسب ما يبتليه الله به منهم ، يأخذ كل ما أظهره عليه من نشب ، ويقرره على ما أخفاه عنه ، يعذبه أنواعاً من العذاب حتى يبلغ نفسه عذرها منه ، فربما زهقت نفس المسلم دون ذلك فاستراح ، وربما أنظره أجله إلى أسوأ من ذلك ، فإن عداة الله كانوا يومئذ يتولعون بهتك حُرم أَسْراهم وبناتهم بحضرتهم وعلى أعينهم إبلاغاً في تعذيب قلوبهم ، يغشون الثيب ، ويفتضون البكر ، وزوج تلك وأبو هذه موثق بقيد إساره ، ناظر إلى سُخنة عينه ، فعينه تدمع ، ونفسه تقطع 000 فبلغ الكفرة فيهم يومئذ ما لا تلحقه الصفة على الحقيقة )) (1) .(/2)
ولنا أن نتساءل عن موقف الأمة خاصة في بلاد الأندلس مما حصل لأهل هذه المدينة الأندلسية البائسة . لعل أصدق من يعبر عن ذلك ابن حيان الآنف الذكر الذي عايش الحدث ، وتجرع آلامه ، وعاش في غضون تلك الأيام ، فخبر واقعها ، ودقق في أحداثها ، واطلع على حال أهلها من حكام ومحكومين ، يقول ابن حيان واصفاً حال الأمة تلك الأيام الذي وقع فيها ذلك الحدث (( فمثل دهرنا هذا : فرس بهيم الشية ، ما أن يباهى بقرحة فضلاً عن شدوخ غُرة ، قد غربل أهليه أشد غربلة ، فسفسف أخلاقهم ، واجتث أعراقهم ، وسفه أحلامهم ، وخبّث ضمائرهم ، فاحتوى عليهم الجهل ، واقتطعهم الزَّيف ، وأركستهم الذنوب ، ووصمتهم العيوب ، فليسوا في سبيل الرشد بأتقياء ، ولا على معاني الغي بأقوياء ، شاءُُ من الناس هامل ، يعللون أنفسهم بالباطل . من أدل الدلائل على جهلهم بشانهم اغترارهم بزمانهم ، وبعادهم عن طاعة خالقهم ، ورفضهم وصية رسوله نبيهم عليه السلام ، وذهولهم عن النظر في عاقبة أمرهم ، وغفلتهم عن سد ثغرهم )) . ثم يوضح أثر هذا الواقع الذي كانت الأمة الأندلسية تعيشه في ضعفها أمام أعدائها النصارى بقوله (( حتى لظل عدوهم الساعي لإطفاء نورهم يتبجح عراص ديارهم ، ويستقرىء بسائط بقاعهم ، يقطع كل يوم طرفاً منهم ، ويبيد أمة )) . وأخيراً يرسم بقلمه البليغ رد الفعل المباشر لمن بأيديهم السلطة والتأثير في الأندلس ـ وقتذاك ـ على أحداث الاعتداء النصراني الصليبي على أهل مدينة بربشتر فيقول (( ومن لدينا وحوالينا من أهل كلمتنا صموت عن ذكرهم ، لهاة عن بثهم . ما إن يُسمع عندنا بمسجد من مساجدنا ، أو محفل من محافلنا مذكر بهم ، أو داع لهم فضلاً عن نافر إليهم ، أو مواس لهم ، حتى كأنهم ليسوا منا ، أو كأن فتقهم ليس بمفض إلينا ، وقد بخلنا عليهم بالدعاء بخلنا عليهم بالغَناء ، عجائب مغربة ، فاتت التقدير ، وعرضت للتغيير ، فلله عاقبة الأمور ، وإليه المصير )) .(/3)
على أن الأمة الإسلامية في كل زمان ومكان مهما بلغ بها الضعف والهوان فإن روح الجهاد والفداء ، ومعاني الخير والصلاح باقية فيها ، ما أن تهزها الأحداث والدواهي حتى تسري في كيانها تلك الروح والمعاني وإن اختلفت درجة الاستجابة من بلد إلى بلد ، ومن قوم إلى آخرين . وفي مأساة بربشتر السالفة الذكر لما حدث لها ما حدث هب رجال من طلبة العلم والعلماء في الأندلس ينكرون على الناس وحكامهم تبلد إحساسهم تجاه محنة إخوانهم في تلك المدينة البائسة ، ويقرعونهم على موقفهم المتخاذل أمام النصارى الصليبيين ، ويطالبونهم بالقيام بمسؤوليتهم في إزالة ذلك العدوان الغاشم كل بحسب موقعه وطاقته . فبجانب ما سقناه آنفاً من كلام ابن حيان السابق الذكر الذي كان يتضمن في وقته إنكاراً للتخاذل الإسلامي ، واستنهاضاً للهمم ـ فقد كتب أبو محمد عبد الله بن عبد البر ( ت 458 هـ ) [ وهو ولد أبي عمر بن عبد البر : المحدث والفقيه الأندلسي المشهور المتوفى 463 هـ ] رسالة إلى الأمة جعلها على ألسنة أهل بربشتر يصفون ما جرى لهم من محنة وكرب وشدة ووحشية على أيدي المهاجمين الصليبيين ، ثم ضمنها تحذيراً للمسلمين في الأندلس حكاماً ومحكومين أن يكون الدور عليهم بعد ذلك إن لم يقوموا بواجبهم من النجدة والنصرة ، فمما قاله على لسان البربشتريين بعد شرحه للمعاناة التي عاشوها ، (( فلو شهدتم ـ معشر المسلمين ـ ذلك لطارت أكبادكم جزعاً ، وتقطعت قلوبكم قطعاً ، واستعذبتم طعم المنايا لموضع تلك الرزايا ، ولهجرتْ أسيافكم أغمادها ، وجفت أجفانكم رقادها ، امتعاضاً لعبدة الرحمن ، وحفظة القرآن ، وضعفة النساء والولدان ، وانتقاماً من عبدة الطغيان ، وحملة الصلبان 000 وقد ندب الله مسلمي عباده إلى الجهاد في غير ما آية من الكتاب 000 والرواية عنه عليه السلام في فضل الجهاد 000 أشهر من أن تذكر 000 فالله الله في إجابة داعينا ، وتلبية منادينا ، قبل أن تُصدع صفاتنا كصدع الزجاج ، فهناك لا ينفع العلاج )) . وبعد التأكيد على أن سبب ضعف المسلمين أمام العدو هو اقتراف الذنوب والبعد عن دين الله يعود إلى القول (( فالحذر الحذر ! فإنه رأس النظر من بركان تطاير منه شرر ملهب ، وطوفان تساقط من قَطر مرهب ، قلما يؤمن من هذا إحراق ، ومن ذلك إغراق ، فتنبهوا قبل أن تُنبهوا ، وقاتلوا في أطرافهم قبل أن يقاتلوكم في أكنافكم ، وجاهدوهم في ثغورهم قبل أن يجاهدوكم في دوركم ، ففينا متعظ لمن اتعظ ، وعبرة لمن اعتبر ، فانظروا إلى ثغورنا كيف تهتضم ، وإلى أطرافنا كيف تخترم 000 ودماؤنا مطلولة ، وحدودنا مفلولة ، وأنتم عنا لاهون ، في غمرة ساهون ، وكأنا لسنا منكم ، ولا نحن سداد دونكم مضروبة ، وجُنن نحوكم منصوبة 000 وأنه إن استلبت الأطراف لم تتعذر الأنصاف ، والبعض للبعض سبب ، والرأس من الذنب ، غير أنا دنونا وبعدتم ، وشقينا وسعدتم ، ورأينا وسمعتم ، وليس الخبر كالعيان ، ولا الظن كالعرفان ، ولقد آن أن يبصر الأعمى ، وينشط الكسلان ، ويستيقظ النومان ، ويشجع الجبان )) .
وهناك من المفكرين الأندلسيين من وجه اللوم إلى حكام بأعيانهم على تقصيرهم في حق المسلمين المضطهدين في مدينة بربشتر المنكوبة ، لكونهم أقوى حكام ذلك الزمان في بلدهم ، ومن هؤلاء أبو حفص عمر بن الحسن الهوزني ( ت 460 هـ ) الذي كتب رسالة خاصة إلى المعتضد عباد بن محمد بن عباد الذي كان يحكم غربي الأندلس ، وكان من أكابر حكام الطوائف ، فمما جاء في رسالته تلك قوله عن وقع الحادثة البربشترية في النفوس (( كأن الجميع في رقدة أهل الكهف ، أو على وعد صادق من الصرف والكشف ، وأنى لمثلها بالدفاع عن الحريم )) . وبعد أن يشير إلى عجز المسلمين وخورهم ، وقعودهم عن الجهاد ، يصف طريقة مسلمي الأندلس في تعاملهم مع مخططات العدو التي راح ينفذها في بلادهم ، فيقول (( إن حاربوا موضعاً أرسلناه ، أو انتسفوا قطراً سوغناه ، وإن هذا الأمر له ما بعده )) . ثم إنه نبه المعتضد إلى حقيقة بينة لمن نظر وتدبر في شأن الأندلس فقال في شعر :
أعباد ضاق الذرع واتسع الخَرق ولا غرب للدنيا إذا لم يكن شرق
فهو يلفت الأنظار إلى أن احتلال العدو أرض المسلمين في شرقي البلاد ، إنما هو في حقيقة الأمر فقدان لغربي البلاد أيضاً التي يحكمها المعتضد ، لأن بلاد المسلمين واحدة ،ولأن العدو لن يهدأ له بال ، أو يقر له قرار حتى يلحق غربي البلاد بشرقيها .
ولقد أثمرت الدعوة إلى الجهاد بعد تسعة أشهر من العدوان الصليبي على المسلمين في بربشتر ، فتداعى لها كثيرون ، حيث قدرت بعض المصادر أعدادهم بنحو ستة آلاف مجاهد ، وقد تقدمهم المقتدر بن هود الذي كان من قبل قد تخاذل عن نجدة بربشتر والدفاع عنها ، كما شاركهم المعتضد بن عباد أيضاً الذي يعد من كبار ملوك دويلات الطوائف ، وقد تمخضت هذه الحملة الجهادية عن هزيمة لبقايا النصارى المعتدين ، ومحو أثرهم من مدينة بربشتر .
أهم المصادر والمراجع(/4)
ابن بسام : الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة .
البكري : جغرافية الأندلس ( من كتابه المسالك والممالك ) .
المقري : نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب .
محمد عبد الله عنان : دول الطوائف في الأندلس .
عبد الرحمن الحجي : التاريخ الأندلسي .
(1) ابن بسام : الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة ، ق 3 ، م 1 ، ص 183 – 184 .(/5)
صورٌ من احتسابِ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميةَ
( 1 )
الحمدُ للهِ وبعدُ ؛
شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ عالمٌ رباني شهد له الأعداءُ قبل الأصدقاءِ بعلمه وعمله ، بحرٌ في العلمِ ... في الدعوةِ ... في الاحتسابِ ... أُلفت في سيرتهِ المؤلفاتُ ، وحُققت كتبهُ في الجامعاتِ ، وخُصصت رسائل علمية في فنونٍ مختلفةٍ من علومه ، ردَّ على الفلاسفةِ والمبتدعةِ واليهودِ والنصارى ، عاش في زمنٍ عزت فيه السنةُ ، وغلبتِ البدعةُ ، كان جبلاً شامخاً في الاحتسابِ ، لا يخشى في اللهِ لومةَ لائمٍ ، شجاعٌ في أصعبِ المواقفِ وأحلكِ الظروفِ ، كان اتصالهُ بالناسِ مباشراً ، متحسساً لمشكلاتهم ، حريصاً عليهم ، لم يكن منقطعاً عنهم .
دعونا نأخذُ جانباً واحداً من جوانبِ حياةِ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميةَ - رحمهُ اللهُ - وهو جانبُ الاحتسابِ ، ليتبين أننا لم نتجاوزِ الحدَّ في الثناءِ عليه ، مع اعتقادنا الجازم أنه بشرٌ يقعُ منه الخطأ ، ولا ندعي عصمتهُ ، ولكنهُ عالمٌ رباني بحقٍ ، كان يعيشُ بين الناسِ بعلمهِ وعملهِ ، فرحمهُ اللهُ رحمةً واسعةً .
الصورةُ الأولى : كان شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةُ من أشدِّ الناسِ إنكاراً على البدعِ التي تقعُ في مجتمعهِ ، وخاصةً ما يوقعُ الأمة في الشركِ ، فكان يحتسبُ في إنكارها ، فمن حين سماعه بمنكرٍ ظاهرٍ يستخيرُ اللهَ ويخرج للانكارِ ، وهكذا يكونُ العلماءُ في الأمةِ ، فما فائدةُ العالمِ إذا كان لا يعيشُ هموم الأمةِ ؟!
جاء في '' الجامعِ لسيرةِ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميةَ خلال سبعة قرون '' ( ص 134 ) ، تحت فصلٍ فيما قام به ابنُ تيميةَ وتفرد به وذلك في تكسير الأحجارِ لخادمِ شيخِ الإسلامِ إبراهيم بن أحمد الغياني ما نصه : '' فبلغ الشيخ أن جميعَ ما ذكر من البدعِ يتعمدها الناسُ عند العمودِ المُخَلَّقِ الذي داخل ( البابِ الصغيرِ ) الذي عند ( دربِ النافدانيين ) . فشدَّ عليه وقام ، واستخار اللهَ في الخروجِ إلى كسرهِ ، فحدثني أخوهُ الشيخُ الإمامُ القدوةُ شرفُ الدينِ عبدُ اللهِ ابنُ تيميةَ قال : فخرجنا لكسرهِ فسمع الناسُ أن الشيخَ يخرجُ لكسرِ العمودِ المُخَلَّقِ ؛ فاجتمع معنا خلقٌ كثيرٌ . قال : فلما خرجنا نحوه ، وشاع في البلدانِ : ابنُ تيميةَ طالعٌ ليسكر العمودَ المُخَلَّقَ ، صاح الشيطانُ في البلدِ ، وضجتِ الناسُ بأقوالٍ مختلفةٍ ، هذا يقولُ : '' ما بقيت عينُ الفيجةِ تطلعُ '' ، وهذا يقولُ : '' ما ينزلُ المطرُ ، ولا يثمرُ الشجرُ '' ، وهذا يقولُ : '' ما بقي ابنُ تيميةَ يفلحُ بعد أن تعرّض لهذا '' ، وكل من يقولُ شيئاً غير هذا .
قال الشيخُ شرفُ الدينِ : فما وصلنا إلى عنده إلا وقد رجع عنا غالبُ الناسِ ، خشية أن ينالهم في أنفسهم آفةٌ من الآفاتِ ، أو ينقطعُ بسببِ كسرهِ بعضُ الخيراتِ .
قال : فتقدمنا إليه ، وصحنا على الحجَّارين : '' دونكم هذا الصنم '' فما جسر أحدٌ منهم يتقدمُ إليه . قال فأخذتُ أنا والشيخ المعاول منهم ، وضربنا فيه ، وقلنا : '' جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا '' ] الإسراء : 81 . [ وقلنا : إن أصاب أحداً منه شيءٌ نكونُ نحن فداهُ . وتابعنا الناسُ فيه بالضربِ حتى كسرناهُ ، فوجدنا خلفهُ صنمين حجارة مجسَّدة مصوَّرة ، طول كل صنم نحو شبر ونصف .
وقال الشيخُ شرفُ الدين : قال الشيخُ النووي : '' اللهم أقم لدينك رجلاً يكسر العمودَ المُخَلَّقَ ، ويخرب القبر الذي في جيرون '' فهذا من كراماتِ الشيخِ محيى الدين ( أي النووي ) . فكسرناهُ ولله الحمدُ ، وما أصاب الناسُ من ذلك إلا الخيرَ . والحمدُ للهِ وحدهُ '' .ا.هـ.
فالأمةُ بحاجةٍ لعلماء مثل شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميةَ - رحمهُ اللهُ - في الاحتسابِ على المنكراتِ الظاهرةِ ، والتي توقعُ الناس في الشركِ ، والعالمُ الذي لا يتحركُ ولا يهتمُ بوقوعِ الأمةِ في الشركِ ، فمتى يتحركُ ؟!
لازلنا نعيشُ مع صورٍ من احتسابِ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميةَ - رحمهُ اللهُ - ، والصورةُ التي معنا كانت سبباً لتأليفِ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميةَ - رحمهُ اللهُ - كتاب '' الصارمِ المسلولِ على شاتمِ الرسولِ - صلى اللهُ عليه وسلم - ، وكان تأليفهُ بسببِ رجلٍ يدعى '' عَسَّافاً '' ، وكان نصرانياً
أتركُ الإمامَ ابنَ كثيرٍ يروي لنا الواقعةَ بالتفصيلِ ، وماجرى لشيخِ الإسلامِ - رحمهُ اللهُ - بسببها ، وكيف كان احتسابه ؟(/1)
قال ابنُ كثيرٍ في '' البدايةِ والنهايةِ '' (13/335 - 336) : '' واقعةُ عَسَّافٍ النصراني : كان هذا الرجلُ من أهلِ السويداء ] مكانٌ من جبلِ حوران [ ، قد شهد عليه جماعةٌ أنهُ سبَّ النبيَّ - صلى اللهُ عليه وسلم - ، وقد استجار عَسَّاف هذا بابنِ أحمدَ بنِ حجى أميرِ آل عليٍّ ، فاجتمع الشيخُ تقي الدينِ ابنُ تيميةَ ، والشيخُ زينُ الدينِ الفارقي شيخُ دارِ الحديثِ ، فدخلا على الأميرِ عز الدينِ أيبك الحموي نائبِ السلطنةِ فكلماهُ في أمرهِ فأجابهما إلى ذلك ، وأرسل ليحضرهُ فخرجا من عنده ومعهما خلقٌ كثيرٌ من الناسِ ، فرأى الناسُ عسافاً حين قَدِم ، ومعه رجلٌ من العربِ فسبوهُ وشتموهُ . فقال ذلك الرجلُ البدوي : '' هو خيرٌ منكم '' - يعني النصراني - فرجمهما الناسُ بالحجارةِ ، وأصابت عسافاً ووقعت خبطةٌ قويةٌ فأرسل النائبُ فطلب الشيخين ابنَ تيميةَ والفارقي فضربهما بين يديهِ ، ورسم عليهما في العذراوية ، وقدم النصراني فأسلم ، وعُقد مجلسٌ بسببهِ ، وأثبت بينه وبين الشهودِ عداوةً ، فحُقن دمهُ . ثم استدعى بالشيخين فأرضاهما وأطلقهما ، ولحق النصراني بعد ذلك ببلادِ الحجازِ ، فاتفق قتلهُ قريباً من مدينةِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، قتلهُ ابنُ أخيهِ هنالك ، وصنف الشيخُ تقيُّ الدينِ ابنُ تيميةَ في هذه الواقعةِ كتابهُ '' الصارم المسلول على ساب الرسول '' .ا.هـ.
وقال أيضاً ابنُ كثيرٍ عن عاقبةِ الذي أجار عَسَّافاً النصراني (13/360) : '' وفيها - أي : سنة 694 هـ - : في أواخرِ ربيع الأول جاء الخبرُ بأنّ عسافَ بنَ أحمد بن حجى ، الذي كان قد أجار ذلك النصراني الذي سب الرسولَ قُتل ففرح الناسُ بذلك '' .ا.هـ.
فبسببِ احتسابِ شيخِ الإسلامِ - رحمهُ اللهُ - على عَسَّافٍ النصراني ألف كتابهُ '' الصارم المسلول '' ، والذي عالج فيه شيخُ الإسلامِ - رحمهُ اللهُ - مسائل عدة من أهمها : حكمُ شاتمِ الرسولِ - صلى اللهُ عليه وسلم - ، ورجح - رحمهُ اللهُ - أن الساب يُقتلُ سواء كان مسلماً أو كافراً ، ويُعدُّ الكتابُ من أهم الكتبِ المصنفةِ في المسألةِ ، ومرجعاً لا يستغني عنه من أراد التحقيقَ في شتمِ الرسولِ - صلى اللهُ عليه وسلم - .
وأختمُ بكلامٍ نفيسٍ لأبي حفصٍ البزار في '' الأعلامِ العليةِ '' ( ص 22 ) عن مصنفاتِ شيخِ الإسلام ابنِ تيميةَ - رحمهُ اللهُ - ومنها '' الصارم المسلول '' فقال : '' صنّف عدةَ كتبٍ صغاراً وكباراً ، وذكر فيها ما احتاج إلى ذكرهِ من الأحاديث والآثارِ وأقوالِ الصحابةِ وأسماءِ المحدثين والمؤلفين ومؤلفاتهم ، وعزا كلَّ شيءٍ من ذلك إلى ناقليه وقائليه بأسمائهم ، وذكر أسماءَ الكتبِ التي ذكر فيها ، وفي أي موضعٍ فيها ، كل ذلك بديهة من حفظهِ لأنه لم يكن عنده حينئذٍ كتابٌ يطالعهُ ، ونُقبت واعتُبرت ، فلم يوجد بحمد الله خللٌ ولا تغييرٌ ، ومن جملتها كتاب '' الصارم المسلول على شاتمِ الرسول '' ، وهذا من الفضلِ الذي خصه اللهُ به '' .ا.هـ.
كتبه
عَبْد اللَّه بن محمد زُقَيْل(/2)
صوني عفافك
إلى تلك التي خرجت من بيتها متبرجة تجر حجابها و تقود سيارتها و تقول حرروني ""؟
خرجت تقود العالمين ..إلى الهلاك مدى الدهور
نادت بتحرير النساء ...من التدين و الطهور
ظنت بأن الدين مات ..وما تبقى من غيور
كذبت لعمرو الله ..أن دمائنا ..تغلي تفور
والله لن تضعفي الحجاب..و طرفنا فينا يدور
لن تستطيعي مسه حتى نوارى في القبور
أرواحنا تفدي الحجاب قلوبنا .. بل و النحور
عودي لرشدك يا رشيدة ..قلبي هذي الأمور
قد أحكمت خطط الثعالب كحلت عين الصقور
لم يبق لليوم السعيد سوى الخروج من الخدور
فستخرج الحرباء كاشفة لهاتيك الشعور
و السلحفاة تزينت ..و الخنفساء بها عطور
و أتاننا تجري و يجري خلفها جحش نفور
والقرد قهقه ضاحكا و التيس يغمره السرور
و الذئب يقضي وطره و كذلك الكلب العقور
و اللذة الحمراء ترفل لا عقود ولا مهور
و كأننا في غابة .. الظلم فيها والشرور
و كأنك الخفاش ..يهرب خائفا من كل نور
ممن اردت تحررا ..امن الرسول ..أم الغفور
إياك من خبث الثعالب قولهم كذب وزور
يا أختنا ..توبي لربك..واذرفي الدمع الغزير
أوما تريدين الجنان ..ولا الظلال ..ولا القصور
أوما تريدين السيادة .. بين ولدان .. وحور
أختاه.. فلتحمي حجابك .. واختفي خلف الستور
صوني عفافك يا عفيفة .. واتركي أهل السفور
لا تسمعي قول الخلاعة .. و الميوعة والفجور
فستذكرين نصيحتي .. يوم السماء غدا تمور
يوم يصرخ ظالم: يا ويلتاه ..ويا ثبور
أبو حسان(/1)
صياغة القوة
د. عبد الكريم بكار 2/7/1427
27/07/2006
لاشك أن الوعي المسلم يمر بمرحلة عصيبة في هذه الأيام دون أن يرى سبيلاً عمليًا للخروج من الأزمة. في فلسطين شعب بأكمله يعاني من الجوع والذي والقهر والقتل اليومي وصعوبة الحركة وكسب الرزق.. ويتعرض لبنان للتدمير الشامل حيث يتم حرق كل شيء وتهجير الناس، وتعريضهم أيضًا للجوع في بلد تعوّد كثير من العرب أن يأكلوا من خضاره وفاكهته! هبَّ المسلمون كما يفعلون في كل مرة: مظاهرات في كل مكان، وهتافات واحتجاجات واتهامات، وفضائيات تعجّ بكلام المحللين السياسيين... والنتيجة: جمع شيء من المال لمواساة بعض المنكوبين. لكن اليهود حاصروا الشعبين، ومنعوا دخول أي شيء. وقد اجتمعت أموال جيدة لدى جامعة الدول العربية، وهي عاجزة عن إدخالها إلى المحتاجين إليها داخل فلسطين!! وضع صعْب للغاية، ومعظم الناس عاجزون عن فهمه واستيعابه، وعاجزون عن عمل شيء يشفي الصدور، ويخفف من الكروب. لعلي هنا أضع بعض العلامات في محيط هذه الحالة المأساوية، وذلك عبر النقاط الآتية:
1) هناك حقيقة قديمة وراسخة، نقول: حين يصطدم طرفان، فإن كل واحد منهما يستخدم أعظم ما لديه من قوة ونفوذ في سبيل تحقيق الغلبة، وفي ظل تحالف الغرب مع اليهود وسكوت قسم من العالم على ما يجري يجد القسم الثالث –وهم العرب والمسلمون- أنفسهم عاجزين عن عمل أي شيء. هذه الحقيقة يجب أن تكون واضحة تمام الوضوح، فالرادع الأخلاقي اليوم في أضعف حالاته، واليهود يخافون من أن يسجل أعداؤهم أي نصر حقيقي عليهم؛ لأن هذا يعني تصدع المجتمع اليهودي، وربما انهياره، لأن معظم أبناء ذلك المجتمع من جنسيات أخرى، وباستطاعتهم العودة إلى أوطانهم الأصلية في أي وقت، ولهذا فإن قادة اليهود في فلسطين يتبعون مع أعدائهم سياسة: "اسحق الذبابة بالمطرقة"، وهذا ما يفعلونه اليوم في فلسطين ولبنان.
2) الأزمات لا توجد مشكلات جديدة، بمقدار ما تعبِّر عن مشكلات قديمة، أي نتيجة مشكلات متراكمة، كما أنها تجلو للناظرين ما كان خافيًا عليهم من أمرهم، حين تأتي موجة شديدة من الحر، فإن بعض مرضى القلب يموتون؛ لأنهم لا يتحملون تلك الموجة، وليس لأنها أوجدت لديهم مشكلة جديدة، وهكذا نحن اليوم. حين نشرت بعض الصحف في الدنمارك وغيرها رسومًا تسيء إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- هبّ العالم الإسلامي عن بكرة أبيه، وأظهر من نبل المشاعر ومن الولاء شيئًا مشرفًا وباهرًا، وحدثت مقاطعة واسعة للدنمارك، والآن هدأت العاصفة –وهذا طبيعي- ولم يبق منها إلا الأعمال التي تم تأسيسها من أجل المستقبل أو من أجل مواجهة أزمة جديدة حين نتعرض لأزمة خطيرة نتساءل: أنحن فقراء أم أغنياء؟ أنحن مترابطون أم متفرقون؟ أنحن أقوياء أم ضعفاء؟ أنحن أعزة أم أذلة؟.... وتأتي أجوبة لا حصر لها، وكثير منها متناقض. والجواب هو: أننا فقراء وأغنياء في آن واحد، كما أننا أقوياء وضعفاء أيضًا... وهنا تخطر في بالي المقولة الذائعة في بعض الأوساط الشعبية، عن المزارع والفلاح، وحالهما في الفقر والغنى، يقول الناس: الفلاح يعيش فقيرًا، ويموت غنيًا. وهم يشيرون بذلك إلى أن الفلاح يمتلك أرضًا، قد تساوي الملايين، لكنه يعيش على الكفاف بسبب أن الأرض لا تعطي من الإنتاج ما يتناسب مع قيمتها المرتفعة. هل ذلك الفلاح فقير؟ نعم لأنه –حسب الظاهر- مرتبك في تدبير قوت يومه. هل هو غني؟ نعم لأنه يملك أرضًا تساوي الكثير. هل يصحّ إعطاؤه من الزكاة؟ قد يقول الفقيه: مادام لا يملك النصاب، فإنه يصح إعطاؤه منها. والأرض التي في حوزته هي بمثابة المصنع، أو عتاد المهنيين... هذا هو وضعنا تمامًا، وهذا هو وضع الكثير من دول العالم النامي. وعلى مدار التاريخ كانت الدول التي تعاني من التخلف تملك الإمكانات والثروات والمواد الخام، لكنها تجد نفسها عاجزة عن استغلالها على النحو الأمثل.(/1)
3) هل نستطيع بعد هذا أن نقول: إن المشكلة التي تعاني منها أمة الإسلام لا تتمثل في أنها لا تملك المعطيات، بل تتمثل في أنها لا تملك إدارة المعطيات التي في حوزتها؟ وهل نستطيع القول: إن زماننا لا يعبأ كثيرًا بالقوة الكامنة، ولا يُعدّ ذلك شيئًا خطيرًا، وإنما يهتم بما تملكه الأمم من أدوات وأساليب تستخدمها في إخراج تلك القوة من مكمنها لتصبح شيئًا ملموسًا، وذلك لأن التقدم الحضاري يتمثل أساسًا ليس في إيجاد ما ليس موجودًا، وإنما في الاستفادة من الموجود عن طريق التصنيع والتطوير والتوجيه والتركيز... وإن قارة إفريقية تقدم ألف دليل على صحة ما نقول، كما تقدم دول محدودة الثروات والإمكانات مثل اليابان وسنغافورة واليهود في فلسطين ألفًا آخر من الأدلة على ذلك. إذن نحن في حاجة إلى أن نكفّ وقبل كل شيء عند التحدث عن الإمكانات الهائلة التي لا نعرف كيف نستفيد منها، ونتّجه عوضًا عن ذلك إلى الحديث عن كيفية الاستفادة من تلك الإمكانات في خدمة وجودنا وقضايانا وحل مشكلاتنا، وإذا لم نفعل ذلك، نستشعر بالمزيد من خيبة الأمل والمزيد من مرارة الذل والإنكسار.
صياغة القوة 2
د. عبدالكريم بكار 16/7/1427
10/08/2006
شيء مهم أن نعتقد أنّ من سنن الله -تعالى- في الخلق أنّ هناك أشياء لا تُحصى تحتاج إلى صياغة، وإلى إعادة صياغة، وأشياء كثيرة أيضًا لا تُحصى تحتاج إلى تأهيل وإلى إعادة تأهيل. كل مادة خام تتحدّانا كي نخرجها في شكل ينتفع به الناس. القطن يتحدّى من يحوِّله إلى خيوط، فإذا صار خيوطًا، أخذت الخيوط تتحدّى من يحوِّلها إلى قماش، فإذا قبلنا التحدّي، ونسجناها، وصارت قماشًا، صار القماش يتحدّى الخياطين ليحوّلوه إلى ثياب تدفع عنا الحر والبرد، وتحسِّن مظهرنا، كما تستر عوراتنا، هكذا كلما نجحنا في تحدٍّ، وجدنا تحدّيًا آخر ينتظرنا، ومع كل نجاح نرتقي، ونتقدم، ونتخلص من عبء المواد الخام التي تشكّل مصدر استفزاز لأولي الألباب. هل تريد أن تعرف الفارق بين الأمم القوية والأمم الضعيفة؟ إذا كنت تريد ذلك، فانظر إلى ما يصدّرونه ويستوردونه: الأمم القوية تستورد المواد الخام، وتصنّعها، ثم تصدّرها في شكل سلع ومنتجات باهظة الثمن، يشترون المواد الخام بالقنطار، ويبيعونها في شكل حبوب ومعلبات صغيرة وقطع دقيقة ومتقنة... أما الدول الضعيفة والآخذة في النمو، فإنها على العكس من ذلك؛ إنها تصدّر المواد الخام، وتستورد السلع والآلات والتجهيزات... أي أنها تستورد ما صدَّرته بسبب عجزها عن تصنيعه.
الفرد المسلم هو القوة الهائلة الأساسية التي تحتاج إلى إعادة صياغة، أي يحتاج إلى تحويل من قوة كامنة إلى قوة ملموسة وفاعلة ومؤثرة، إعادة صياغة الفرد تستلزم الكثير من العمل، لكن يمكن أن نذكر بعض الملامح الأساسية في هذا الشأن:(/2)
1- الإنسان الحر هو الإنسان القوي؛ لأن الحرية تسمح له بأن يبرع وينطلق ويتعلم، ويعبر، ويتحمل المسؤولية، ومع أن معظم المسلمين في الأرض يعانون من قدر من القهر والإذلال والكبت -على درجات مختلفة- إلا أن كلمة (الحرية) تخيفنا أكثر مما تخيفنا كلمات (الظلم) و(العسف) و (الإكراه) و(الاستبداد) لماذا هذه الوضعية؟ لا أريد أن أدخل في متاهات صغيرة وفي تحليلات جزئية؛ لكن ربما كان ذلك؛ لأن كثيرين من أهل الغيرة يخشون من أن تؤدي الحرية إلى الفوضى وانتشار الإلحاد والفساد والعري وكل أشكال الانحلال. وهذا اعتراف صريح أو اهتمام بأن البيوت والمدارس لا تربي، وبأن الضمير والوازع الشخصي لدى الشباب، هو ما بين ضعيف ومعدوم، وأن ما نراه من الانضباط في الشوارع والأماكن العامة لا يعدو أن يكون الوجه الجيد من العملية، أما الوجه الرديء، فهو قابع في البيوت، حيث لا خوف من نقد الناس ولا من عقاب الله -تعالى- وإذا كان هذا صحيحًا، فهذا يعني أننا نعاني من نوع من السرطان القاتل الذي يدفع بصاحبه إلى مرحلة (اللاعودة) من غير أن يشعر بأي ألم!! لا أحد يسعد بأن يفهم الناس الحرية على أنها الفوضى، أو الخروج على الأخلاق والقيم والفضائل والثوابت، إنما المراد بأن يكون الأصل في سلوكات الناس وتصرّفاتهم وعلاقاتهم وتعبيراتهم ومواقفهم واختياراتهم هو الجواز، كما قالت القاعدة الفقهية الشهيرة: "الأصل في الأشياء الإباحة"، فإذا منع مانع شرعي واضح ومتفق عليه، أو كان تصرف الناس يضر بمصلحة وطنية عليا وواضحة، فإن على الدولة والمجتمع أن يتعاونا على منع ذلك التصرف. لا شك أن اعتماد هذا التوجُّه يستلزم الكثير من التطبيقات الجديدة والتغييرات المهمة، ولا شك أن بعض الناس سوف يستغلون مناخ الحرية استغلالاً سيئاً، لكن الأضرار ستظل أقل بكثير من شعور الناس بالاختناق وبالقيود الثقيلة، التي تجرّدهم من روح المبادرة وتحمّل المسؤولية، وتضعف لديهم الرقابة الشخصية، وتحوّلهم إلى أناس خائفين حذرين، يتجرّعون الهموم، كما يصبحون عبارة عن كائنات استهلاكية بامتياز! والنتيجة طبعاً مجتمعات ضعيفة وأمة مستخذية! إنك فعلاً لا تستطيع أن تبني مجتمعاً أقوى من مجموع أفراده، تماماً كما أنك لا تستطيع أن تبني من لبنات هشّة جداراً صلباً. لنعد إلى التربية في البيوت من أجل تأسيس شخصية (الطفل الحر) من خلال اعتماد أسلوب الرفق واللطف والحوار في التربية، ومن خلال معاملة الطفل على أنه كائن محترم، والعمل على أن يكون رجلاً كريماً ومسؤولاً وعزيزاً وصادقاً وأبياً.. في المستقبل.
2- لا يمكن للفرد أن يكون قوياً أو بداية مشروع لأمة قوية وعزيزة إذا كان جاهلاً. نعم من لديه علم قد يكون قوياً، وقد يكون ضعيفاً، لكن الجاهل لا يكون إلا ضعيفاً. نحن في هذه المسألة نعاني من مشكلة ذات رؤوس ثلاثة هي:
أ- إعراض معظم الناشئة عن القراءة، ونفورهم من الكتاب، وانصرافهم عن كل ما يشكّل اهتماماً معرفياً.
ب- ضعف أكثر المؤسسات التعليمية في كل المراحل؛ ولا سيما الجامعية.
ج- عدم وجود التنوّع الكافي في المعاهد والكليات العليا بما يلي حاجات الشباب الراغب في إكمال دراسته، وبما يتلاءم مع رغباتهم وظروفهم.
وهذه المشكلة جعلت الارتقاء بنوعية الوظائف والمهن التي يشغلها الجيل الجديد أمراً صعباً، مع أن من الصعب اليوم الارتقاء بأمة من الأمم من غير جعل نسبة عالية من الوظائف على صلة بالمعارف المتقدمة والتقنية الدقيقة. الفرد القوي فرد حرّ ملتزم ومتعلم ومتدرب، وإذا استطعنا أن نحدث اختراقاً على هذين الصعيدين، فإن لنا أن نتفاءل بولادة أمة قوية وعزيزة.
صِياغة القوّة (3)
د. عبد الكريم بكار 30/7/1427
24/08/2006
المواهب الفطرية والقدرات الخلْقية التي زوَّد بها البارئ -عز وجل- بني البشر تكاد تكون ثابتة على مدى التاريخ. وقد ظل الناس في كل زمان ومكان يحاولون الاستفادة من تلك القدرات وتوظيفها وصقلها... لكن يبدو أن محاولاتهم كانت دائمًا تحقق نوعًا من النجاح النسبي والمحدود. وربما أمكننا القول: إن الناس كانوا يستفيدون من قدراتهم الكامنة على مقدار حاجتهم وعلى مقدار تطور وعيهم ومعارفهم؛ ولذا فإن استغلالنا اليوم لطاقاتنا يُعدّ –في الجملة وعلى نحو عام- ممتازًا إذا ما قسناه إلى ما كان السابقون يفعلونه، وهذا لا يحتاج إلى برهان. السؤال الذي أطرحه، وأحاول الإجابة عنه هو:
ما أكثر الأشياء تأثيرًا في تحويل القوى والقدرات الكامنة لتصبح مكونات قوية وظاهرة في أسلوب حياة جديدة؟(/3)
الجواب فيما أظن يكمن في شيئين: المكان الذي يعيش فيه الإنسان، والمهنة أو الوظيفة التي يكسب منها رزقه. وقبل أن أشرع في شرح هذين الأمرين أود أن أقول: إننا هنا لا نتكلم عن حالات فردية أو شاذة، وإنما نتكلم عن ظواهر ومعطيات ووضعيات عامة فقد نجد في البيئة المثقفة والراقية عناصر في منتهى السوء، كما أننا قد نجد في أماكن العمل المعقدة أشخاصًا غير مؤهلين، أو يفكرون بطريقة رديئة، أو يعملون على نحو تخريبي...
مكان العيش:
نعني بمكان العيش هنا تلك السلسلة من الدوائر التي ينفتح بعضها على بعض، وتؤثر على نحو ما في صياغة روح الإنسان ومشاعره وأفكاره وأخلاقه وعاداته... والتي تتمثل في الأسرة والحي والقرية والمدينة والدولة والإقليم. إن أضيق الدوائر هي الأقوى تأثيرًا، وهي الأسرة ثم الأوسع، فالأوسع. لكن ينبغي أن يُقال أيضًا: إن المرء يتأثر في بعض جوانب حياته بالمدرسة والجامعة التي يدرس فيها، وذلك على مستوى طرق التفكير وفهم الحياة والتطلع إلى المستقبل. إن للأسرة الدور الأكبر في رسم الخطوط العميقة في شخصية الطفل، لكن قيامها بذلك الدور على نحو يجعل منه شخصًا متميزًا، يحتاج منها إلى أن توفر جوًا تربويًا يختلف كثيرًا عن الأجواء السائدة لدى معظم الأسر الإسلامية اليوم. وأودّ في هذا السياق أن أبدي الملحوظات الآتية:
1- إن أول ما تحتاجه الأسرة المسلمة من أجل تنشئة جيل جديد هو الاعتقاد بأن التربية الناجحة لا تتحقق من غير اكتساب معرفة تربوية جيدة، فقد أُصبْنا في الأزمنة الغابرة بأفدح الأضرار حين اعتقدنا أن تربية الإنسان تتم على نحو تلقائي وفطري كما تتم تربية الحيوان في البراري، ولذلك فإن معظم الآباء والأمهات يبذلون الكثير من المال والجهد من أجل تهيئة أنفسهم لاستقبال المواليد الجدد، ويملك الكثيرون منهم العزيمة لإنجاب عشرة من الولد دون أن يخطر في بالهم شراء كتاب في التربية، أو سماع محاضرة أو شريط (كاسيت)، أو سؤال خبير من أجل معرفة الطرق والأساليب التربوية الصحيحة، ومعرفة نوعية القيم والمفاهيم التي ينبغي زرعها في نفوس الأطفال وعقولهم! لهذا فإن نشر الثقافة التربوية الجيدة يشكل أولوية كبرى على صعيد صياغة قوة الأمة.
2- ينظر كثيرون منا إلى التربية على أنها عملية تعليمية، فهم يعتقدون أنهم إذا وضّحوا للطفل الخطأ من الصواب، فإن سلوكه سوف يتغير؛ لأن مشكلته كانت الجهل بذلك، وهذا غير صحيح؛ فالتربية في جوهرها عبارة عن تفاعل الصغار مع المعطيات الراسخة في بيئتهم، وليست عملية تلقين يقوم بها الكبار، أو عملية استفادة معرفية ينجزها الصغار. الأطفال يتفاعلون مع اتجاهاتنا ومشاعرنا وسلوكاتنا، ومع أسلوبنا في الحياة. ولعلي أقرّب المسألة عن طريق هذا المثال: لو كان أمامي نبتتان محتاجتان إلى الماء، وقمْت بسقي إحداهما دون أن أتكلم، أما الثانية فناشدتها أن ترتوي، وأن تكبر وتنمو، وحدثتها عن فوائد الماء وضرورة الانتعاش... ما النتيجة المتوقعة لذلك؟ النتيجة معروفة، وهي نمو الأولى وذبول الثانية. وذلك لأن الأشجار لا تتفاعل مع النصائح كيلا تيبس وتموت، وإنما تتفاعل مع الماء العذب. هكذا الأطفال يحتاجون إلى بيئة يتشربون مفاهيمها وقيمها وعاداتها الكريمة والعظيمة، ولا يغني عنها فصاحة الفصحاء ولا علم العلماء. ماذا يعني هذا الكلام؟ إنه لا يعني سوى شيء واحد هو: أن التربية الجيدة تحتاج إلى بيئة جيدة، والبيئة الجيدة تتطلب مربين جيدين. وأعتقد أن علينا إيقاف التداعيات والإحالات المترتبة على سوء أوضاعنا السلوكية عن طريق عقد العزم على شيء جوهري وعظيم، هو أن نجتهد ونحن نربي أبناءنا في تهذيب أنفسنا وإصلاح أوضاعنا الأسرية. إن الذي نحتاجه ليس الالتزام بآداب الشريعة الغراء والوقوف عند حدود الله -تعالى- فحسب، وإنما توفير البيئة الأسرية المدرسية التي تساعد الصغار على اكتشاف أنفسهم واستثمار نقاط التفوق لديهم،كما تولّد في نفوسهم روح الأمل والمبادرة وخُلُق التضحية والعطاء والمثابرة.
إن الطريق إلى إخراج الأمة من حالة (الوهن) التي أشار إليها حديث (القصعة) صار واضحًا، لكن نحتاج من أجل المسير فيه إلى الإخلاص والصدق والعزيمة، وإلى شيء من المعرفة بمتطلبات العيش في زمان كزماننا.
للحديث بقية.(/4)
صيام التطوع وفضائله
مكتب الدعوة و الإرشاد بسلطانة
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستهديه، ونتوب إليه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً رسول الله. ونصلى ونسلم على معلم البشرية الخير محمد بن عبدالله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.
أخي وأختى في الله..
أحييكم بتحية أهل الجنة...
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد ،،
فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : { إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ } [رواه البخاري].
هذا حديث جليل، فيه أن من سعى في نوافل العابادات تقربا إلى الله الرحيم أحبه الله، وقربه منه، ووفقه في سمعه وبصره، وكان الله معه، يحيب دعاءه ويعيذه، مما يخاف ويحذر، وكفى بالله حسيبا، والصيام من أحب الأعمال إلى الله، قال تعالى في الحديث القدسي : { كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ ؛ يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي } [رواه مسلم].
فمن صام يوما تطوعا حاز الدرجات العلى، وأحبه الرحمن، والاستمرار على ذلك جالب للأجر الجزيل والتوفيق العظيم.
وصوم التطوع أنواع
1- صيام يوم وفطر يوم وهوأفضل صيام التطوع.
عن عبدالله بن عمروابن العاص – رضي الله عنهما – أن رسول الله قال: { إِنَّ أَحَبَّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ وَأَحَبَّ الصَّلَاةِ إِلَى اللَّهِ صَلَاةُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ وَكَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا } [متفق عليه].
2- صيام ثلاث أيام من كل شهر (أي ثلاث أيام والأفضل أن تكون أيام البيض).
عن أبي هريرة – – قال: { أَوْصَانِي خَلِيلِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَلَاثٍ بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَرَكْعَتَيْ الضُّحَى وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَرْقُدَ } [متفق عليه].
عن ابن ملحان – – قال: { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُنَا أَنْ نَصُومَ الْبِيضَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسَ عَشْرَةَ قَالَ وَقَالَ هُنَّ كَهَيْئَةِ الدَّهْرِ } [رواه أبوداود].
3- صيام التسعة الأولى من ذي الحجة وآخرها يوم عرفة.
عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال : قال رسول الله : { مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ } [رواه أبوداود].
4- صيام يوم عرفة.
عن أبي قتادة – – قال: { َسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ فَقَالَ يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ } [رواه مسلم].
5- صيام العاشر من محرم.
عن أبي قتادة – – أن رسول الله ، { وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ فَقَالَ يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ } [رواه مسلم].
صيام التاسع والعاشر من محرم.
عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله : { لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ } [رواه مسلم]. قوله قابل : العام المقبل.
6- صيام الإثنين والخميس.
عن أبي هريرة – – عن رسول الله قال: { تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ فَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ } [رواه الترمذي وقال حديث حسن].
7- صيام ست من شوال.
عن أبي أيوب – رضي اللع عنه – أن رسول الله قال: { مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ } [رواه مسلم].
خصال الخير سبب في الدخول الجنة(/1)
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله : { مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ صَائِمًا قَالَ أَبُوبَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَا قَالَ فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ جَنَازَةً قَالَ أَبُوبَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَا قَالَ فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مِسْكِينًا قَالَ أَبُوبَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَا قَالَ فَمَنْ عَادَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مَرِيضًا قَالَ أَبُوبَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ } [رواه مسلم].
فضل تفطير الصائم
عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه، عن النبي قال: { مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا } [رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح].
فضل السحور
عن أنس قال: قال رسول الله : { تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السُّحُورِ بَرَكَةً } [متفق عليه].
وعن ابن عمر – رضي اللع عنهما – قال : قال رسول الله : { إن الله وملائكته يصلون على المتسحرين } [رواه ابن حبان في صحيحه، والطبراني في الأوسط، وأبونعيم في الحلية، والحديث صحيح].
بعض فضائل وفوائد الصيام
إن للصيام فضائل وفوائد نذكر منها ما يلي:
1- للصائمين باب لا يدخل منه أحد غيرهم.
عن سهل بن سعد – – عن النبي قال: { إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَدْخُلُ مَعَهُمْ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ يُقَالُ أَيْنَ الصَّائِمُونَ فَيَدْخُلُونَ مِنْهُ فَإِذَا دَخَلَ آخِرُهُمْ أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ } [متفق عليه].
2- رائحة فم الصئم أطيب عند الله من ريح المسك.
قال النبي : { وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ } [متفق عليه].
3- له فرحة عند فطره.
عن أبي هريرة - – قال: قال رسول الله : { كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ وَلَخُلُوفُ فِيهِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ } [رواه مسلم].
4- أن الصوم يهذب النفس ويدربها على الجوع والعطش والصبر، وكذلك الإحساس بأحوال إخواننا المسلمين اللذين لا يجدون ما يأكلون ولا ما يشربون.
5- إن الصائم ينوي بصومه احتساب الأجر عند الله على الصبر بالصيام، قال تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10].
6- للصائم عند فطره دعوة لا ترد.
الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة
عن عبدالله بن عمروبن العاص – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله : { الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ الصِّيَامُ أَيْ رَبِّ مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ وَيَقُولُ الْقُرْآنُ مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ قَالَ فَيُشَفَّعَانِ } [رواه الإمام أحمد].
فهنيئا لمن تقرب إلى الله بفعل النوافل وخشع قلبه ولانت جوارحه لله فالأجر الجنة وما أعظمه من أجر، فهيا إلى روضات الجنات بالإخلاص وعبادة الله والتقرب إليه ولنهتم بأمر الصيام – صيام النوافل – فهوأعظم العبادات أجرا، وفقنا الله للصالحات. وصللا الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(/2)
صيام رمضان فضله مع بيان أحكام مهمة تخفى على بعض الناس
عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
دار الوطن
من عبد العزيز بن عبدالله بن باز إلى من يراه من المسلمين، سلك الله بي وبهم سبيل أهل الإيمان، ووفقني وإياهم للفقه في السنة والقرآن. آمين.
سلام الله عليكم ورحمة الله وبركاته:
أما بعد: فهذه نصيحة موجزة تتعلق بفضل صيام رمضان وقيامه، وفضل المسابقة فيه بالأعمال الصالحة، مع بيان أحكام مهمة قد تخفى على بعض الناس.
ثبت عن رسول الله أنه كان يبشر أصحابه بمجيء شهر رمضان، ويخبرهم عليه الصلاة والسلام أنه شهر تُفتح فيه أبواب الرحمة وأبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب جهنم، وتغل فيه الشياطين.
يقول : { إذا كانت أول ليلة من رمضان فتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وغلقت أبواب جهنم فلم يفتح منها باب، وصفدت الشياطين، وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة }.
ويقول عليه الصلاة والسلام: { جاءكم شهر رمضان شهر بركة، يغشاكم الله فيه، فينزل الرحمة ويحط الخطايا ويستجيب الدعاء، ينظر الله إلى تنافسكم فيه فيباهي بكم ملائكته، فأروا الله من أنفسكم خيراً، فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله }.
ويقول عليه الصلاة والسلام: { من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدرة إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه }.
ويقول عليه الصلاة والسلام: { يقول الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك }.
والأحاديث في فضل صيام رمضان وقيامه وفضل جنس الصوم كثيرة.
فينبغي للمؤمن أن ينتهز هذه الفرصة وهي ما من الله به عليه من إدراك شهر رمضان؛ فيسارع إلى الطاعات، ويحذر السيئات، ويجتهد في أداء ما افترض الله عليه ولا سيما الصلوات الخمس، فإنها عمود الإسلام، وهي أعظم الفرائض بعد الشهادتين. فالواجب على كل مسلم ومسلمة المحافظة عليها وأداؤها في أوقاتها بخشوع وطمأنينة.
ومن أهم واجباتها في حق الرجال: أداؤها في الجماعة في بيوت الله التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه كما قال عز وجل: وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين [البقرة:43]، وقال تعالى: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين [البقرة:238]، وقال عز وجل: قد أفلج المؤمنون، الذين هم في صلاتهم خاشعون إلى أن قال عز وجل: والذين هم على صلواتهم يحافظون، أولئك هم الوارثون، الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون [المؤمنون:1ـ11]، وقال النبي : { العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر }.
وأهم الفرائض بعد الصلاة: أداء الزكاة كما قال عز وجل: وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة [البينة:5]، وقال تعالى: وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون [النور:56].
وقد دل كتاب الله العظيم وسنة رسوله الكريم على أن من لم يؤد زكاة ماله يعذب به يوم القيامة.
وأهم الأمور بعد الصلاة والزكاة: صيام رمضان، وهو أحد أركان الإسلام الخمسة المذكورة في قول النبي : { بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصم رمضان، وحج البيت } [متفق عليه].
ويجب على المسلم أن يصون صيامه وقيامه عما حرم الله عليه من الأقوال والأعمال؛ لأن المقصود بالصيام هو طاعة الله سبحانه، وتعظيم حرماته، وجهاد النفس على مخالفة هواها في طاعة مولاها، وتعويدها الصبر عما حرم الله، وليس المقصود مجرد ترك الطعام والشراب وسائر المفطرات، ولهذا صح عن رسول الله أنه قال: { الصيام جُنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم }. وصح عنه أنه قال: { من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه }.
فعلم بهذه النصوص وغيرها أن الواجب على الصائم الحذر من كل ما حرم الله عليه، والمحافظة على كل ما أوجب الله عليه، وبذلك يرجى له المغفرة والعتق من النار وقبول الصيام والقيام.
وهناك أمور قد تخفى على بعض الناس:(/1)
منها: أن الواجب على المسلم أن يصوم إيماناً واحتساباً، لا رياء و لا سمعة ولا تقليداً للناس أو متابعة لأهله أو أهل بلده، بل الواجب عليه أن يكون الحامل له على الصوم هو إيمانه بأن الله قد فرض عليه ذلك، واحتسابه الأجر عند ربه في ذلك، وهكذا قيام رمضان يجب أن يفعله المسلم إيماناً واحتساباً لا لسبب آخر، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: { من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدرة إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه }.
ومن الأمور التي قد يخفى حكمها على بعض الناس: ما قد يعرض للصائم من جراح أو رعاف أو قيء أو ذهاب الماء أو البنزين إلى حلقه بغير اختياره، فكل هذه الأمور لا تفسد الصوم، لكن من تعمد القيء فسد صومه، لقول النبي : { من ذرعه القيء فلا قضاء عليه، ومن استقاء فعليه القضاء }.
ومن ذلك: ما قد يعرض للصائم من تأخير غسل الجنابة إلى طلوع الفجر، وما يعرض لبعض النساء من تأخير غسل الحيض أو النفاس إلى طلوع الفجر، فإذا رأت الطهر قبل الفجر فإنه يلزمها الصوم، ولا مانع من تأخيرها الغسل إلى ما بعد طلوع الفجر، ولكن ليس لها تأخيره إلى طلوع الشمس، بل يجب عليها أن تغتسل وتصلي الفجر قبل طلوع الشمس، وهكذا الجنب ليس له تأخير الغسل إلى ما بعد طلوع الشمس، بل يجب عليه أن يغتسل ويصلي الفجر قبل طلوع الشمس، ويجب على الرجل المبادرة بذلك حتى يدرك صلاة الفجر مع الجماعة.
ومن الأمور التي لا تفسد الصوم: تحليل الدم، وضرب الإبر غير التي يقصد بها التغذية، لكن تأخير ذلك إلى الليل أولى وأحوط إذا تيسر ذلك؛ بقول النبي : { دع مايريبك إلى مالا يريبك }. وقوله عليه الصلاة والسلام: { من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه }.
ومن الأمور التي يخفى حكمها على بعض الناس: عدم الاطمئنان في الصلاة سواء كانت فريضة أو نافلة، وقد دلت الأحاديث الصحيحة عن رسول الله على أن الاطمئنان ركن من أركان الصلاة لا تصح الصلاة بدونه، وهي الركود في الصلاة والخشوع فيها وعدم العجلة حتى يرجع كل فقار إلى مكانه، وكثير من الناس يصلي في رمضان صلاة التراويح صلاة لا يعقلها ولا يطمئن فيها بل ينقرها نقراً، وهذه الصلاة على هذا الوجه باطلة، وصاحبها آثم غير مأجور.
ومن الأمور التي قد يخفى حكمها على بعض الناس: ظن بعضهم أن التراويح لا يجوز نقصها عن عشرين ركعة، وظن بعضهم أنه لا يجوز أن يزاد فيها على إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة، وهذا كله ظن في غير محله، بل هو خطأ مخالف للأدلة.
وقد دلت الأحاديث الصحيحة عن رسول الله على أن صلاة الليل موسع فيها، فليس فيها حد محدود لا تجوز مخالفته، بل ثبت عنه أنه كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة، وربما صلى ثلاث عشرة ركعة، وربما صلى أقل من ذلك في رمضان وفي غيره، ولما سئل عن صلاة الليل قال: { مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى } [متفق عليه].
ولم يحدد ركعات معينة لا في رمضان ولا في غيره، ولهذا صلى الصحابة في عهد عمر في بعض الأحيان ثلاثاً وعشرين ركعة، وفي بعضها إحدى عشرة ركعة، كل ذلك ثبت عن عمر وعن الصحابة في عهده.
وكان بعض السلف يصلي في رمضان ستاً وثلاثين ركعة ويوتر بثلاث، وبعضهم يصلي إحدى وأربعين، ذكر ذلك عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم، كما ذكر رحمة الله عليه أن الأمر في ذلك واسع، وذكر أيضاً أن الأفضل لمن أطال القراءة و الركوع والسجود أن يقلل العدد، ومن خفف القراءة والركوع والسجود زاد في العدد. هذا معنى كلامه. رحمه الله.
ومن تأمل سنته علم أن الأفضل في هذا كله هو صلاة إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة في رمضان وغيره؛ لكون ذلك هو الموافق لفعل النبي في غالب أحواله؛ ولأنه أرفق بالمصلين وأقرب إلى الخشوع والطمأنينة، ومن زاد فلا حرج ولا كراهية كما سبق.
والأفضل لمن صلى مع الإمام في قيام رمضان ألا ينصرف إلا مع الإمام ؛ لقول النبي : { إن الرجل إذا قام مع الإمام حتى ينصرف كتب الله له قيام ليلة }.
ويشرع لجميع المسلمين الاجتهاد في أنواع العبادة في هذا الشهر الكريم من: صلاة النافلة، وقراءة القرآن بالتدبر و التعقل، والإكثار من التسبيح، والتهليل، والتحميد، والتكبير، والاستغفار، والدعوات الشرعية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله عز وجل، ومواساة الفقراء والمساكين، والاجتهاد في بر الوالدين، وصلة الرحم، وإكرام الجار، وعيادة المريض، وغير ذلك من أنواع الخير؛ لقوله في الحديث السابق: { ينظر الله إلى تنافسكم فيه، فيباهي بكم ملائكته، فأروا الله من أنفسكم خيراً، فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله }. ولما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: { من تقرب فيه بخصلة من خصال الخير كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه }.(/2)
ولقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: { عمرة في رمضان تعدل حجة } أو قال: { حجة معي }.
والأحاديث والآثار الدالة على شرعية المسابقة والمنافسة في أنواع الخير في هذا الشهر الكريم كثيرة.
والله المسئول أن يوفقنا وسائر المسلمين لكل ما فيه رضاه، وأن يتقبل صيامنا وقيامنا، ويصلح أحوالنا، ويعيذنا جميعاً من مضلات الفتن، كما نسأله سبحانه أن يصلح قادة المسلمين، ويجمع كلمتهم على الحق، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(/3)
صيام يوم السبت
الكاتب: الأستاذ صفوان مرشد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين القائل ?وفوق كل ذي علم عليم ?, والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وآله وصحبه أجمعين القائل"من يرد الله به خيراً يفقه في الدين "وبعد :
فقد أشكل على بعض الناس فهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم "لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم "، بعدما سمع في أيام العشرـ المباركات ـ من ذي الحجة،المرغّب في اغتنامها بالأعمال الصالحة ومنها الصوم ، من ينهاه عن صيام يوم السبت في أيام العشر مستدلاً له بهذا الحديث ، فلزم الوقوف على الحديث لمعرفة أقوال أهل العلم فيه من جهة سنده ومتنه، وبيان فقه الرواية والدراية بإيجاز لهذا الحديث الذي قال عنه ابن القيم في تهذيبه لسنن أبي داود :
"وقد أشكل هذا الحديث على الناس قديماً وحديثاً".
المبحث الأولـ" فقه الرواية للحديث " :
أ) مظان الحديث :
قال الإمام الترمذي رحمه الله :
حدثنا حُمَيْدُ بنُ مَسْعَدَةَ حدثنا سُفْيَانُ بنُ حبيبٍ عن ثَوْرِ بنِ يَزِيدَ عن خالِدِ بنِ مَعْدَانَ عن عبدِ الله بنِ بُسْرٍ عن أخْتِهِ أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تَصُومُوا يَوْمَ السّبْتِ إلاّ فيما افْتَرَضَ الله عَلَيْكُمْ، فإن لَمْ يَجِدْ أحَدُكُمْ إِلا لِحَاءَ عِنَبَةٍ أو عُودَ شَجَرَةٍ فَلْيَمْضُغْهُ". قال أبو عيسى (الترمذي):هذا حديث حسن .
وأخرج الحديث الإمام أحمد في المسند، وأبو داود في سننه وقال عنه: هذا الحديث منسوخ، وأخرجه النسائي وحكم عليه بالاضطراب، وصححه الحاكم وقال على شرط البخاري وأقره الذهبي، قال العراقي:بل رواه أصحاب السنن جميعاً، كما ذكر ذلك المناوي في الفيض، والأبادي في عون المعبود.
ب)أقوال الشراح:
• جاء في عون المعبود شرح سنن أبي داود للآبادي (كتاب الصوم ،باب النهي أن يخص يوم السبت بصوم ) :
قال المنذري: قال أبو داود: هذا الحديث منسوخ، وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه وقال الترمذي حديث حسن هذا آخر كلامه وقيل إن الصماء أخت بسر. وروي هذا الحديث من حديث عبد الله بن بسر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن حديث أبيه بسر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث الصماء عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال النسائي: هذه أحاديث مضطربة انتهى كلام المنذري: والحديث أخرجه أحمد والدارمي وصححه الحاكم على شرط البخاري وقال النووي: صححه الأئمة (قال أبو داود: هذا الحديث منسوخ): ذهب إلى نسخه المؤلف.
وقد طعن في هذا الحديث جماعة من الأئمة منهم مالك بن أنس وابن شهاب الزهري والأوزاعي والنسائي، فلا تغتر بتحسين الترمذي وتصحيح الحاكم، وإن ثبت تحسينه فلا يعارض حديث جويرية بنت الحارث الذي اتفق عليه الشيخان.
وقال ابن القيم في تهذيب سنن أبي داود :
فيما نقله عن أبي بكر ابن الأثرم(ضمن كلام طويل ذكره عند شرحه للحديث، نذكر جملة منه في فقه الدراية للحديث إن شاء الله تعالى ):
قال أبو عبد الله(يعني أحمد ابن حنبل): يحيى بن سعيد ينفيه، أبى أن يحدثني به، وقد كان سمعه من ثور، قال: فسمعته من أبى عاصم......
فقد فهم الأثرم من كلام أبى عبد الله أنه توقف عن الأخذ بالحديث، وأنه رخص في صومه، حيث ذكر الحديث الذي يحتج به في الكراهة. وذكر أن الإمام علل حديث يحيى بن سعيد، وكان ينفيه، وأبى أن يحدث به، فهذا تضعيف للحديث......
فدل على أن الحديث غير محفوظ وأنه شاذ. وقد قال أبو داود قال مالك: هذا كذب.
وذكر بإسناده عن الزهري: أنه كان إذا ذكر له النهي عن صيام يوم السبت، يقول: هذا حديث حمصي.
وعن الأوزاعي قال: ما زلت كاتماً له حتى رأيته انتشر، يعني حديث ابن بسر هذا.
وقالت طائفة، منهم أبو داود: هذا حديث منسوخ.
وقالت طائفة، وهم أكثر أصحاب أحمد: محكم، وأخذوا به في كراهية إفراده بالصوم، وأخذوا بسائر الأحاديث في صومه مع ما يليه.
• وجاء في تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي للمباركفوري :
(كتاب الصوم ـ باب ما جاء في صوم يوم السبت )
قوله: (هذا حديث حسن) وصححه الحاكم على شرط البخاري وقال النووي: صححه الأئمة، كذا في المرقاة.
وقال أبو داود في السنن: هذا الحديث منسوخ انتهى. وقال فيه أيضاً: قال مالك: هذا كذب انتهى.
وقال المنذري: وروى هذا الحديث من حديث عبد الله بن بسر ومن حديث أبيه بسر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن حديث الصماء عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال النسائي: هذه أحاديث مضطربة انتهى كلام المنذري.(/1)
وقال الحافظ في التلخيص: قال الحاكم: وله معارض بإسناد صحيح، ثم روى عن كريب أن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثوه إلى أم سلمة أسألها عن الأيام التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر لها صياماً فقالت يوم السبت والأحد، فرجعت إليهم فقاموا بأجمعهم إليها فسألوها فقالت: صدق، وكان يقول:إنهما يوما عيد للمشركين فأنا أريد أن أخالفهم) ورواه النسائي والبيهقي وابن حبان.
وروى الترمذي من حديث عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين الخ انتهى.
قلت: قد جمع بين هذه الأحاديث بأن النهي متوجه إلى الإفراد والصوم باعتبار انضمام ما قبله أو ما بعده، ويؤيده أنه صلى الله عليه وسلم قد أذن لمن صام الجمعة أن يصوم يوم السبت بعدها، والجمع مهما أمكن أولى من النسخ. وأما علة الاضطراب فيمكن أن تدفع بما ذكره الحافظ في التلخيص . وأما قول مالك إن هذا الحديث كذب فلم يتبين لي وجه كذبه والله تعالى أعلم ..
• وقال المناوي في فيض القدير شرح الجامع الصغير :
الحديث رقم(9818): وأعل بأن له معارضاً بسند صحيح وبقول مالك هذا الخبر كذب وبقول النسائي مضطرب فقيل هكذا أو قيل عبد اللّه بن بسر وقيل عنه عن أبيه وقيل عنه عن الصماء وقيل عنهما عن عائشة وانتصر له وأجيب ووقع اضطراب في الجواب عن الاضطراب
قال ابن حجر: وبالجملة فهذا التلون في حديث واحد بسند واحد مع اتحاد المخرج يوهن روايته ويضعف ضبطه إلا أن يكون من الحفاظ المكثرين المعروفين بجمع الطرق وهنا ليس كذلك وزعم أبو داود نسخه ورجح واعترض.
• وجاء في سبل السلام :(كتاب الصيام ـ باب صوم التطوع وما نهي عن صومه )
بعد ذكرالحديث بسنده ...
(رواه الخمسة ورجاله ثقات إلا أنه مضطرب وقد أنكره مالك وقال أبو داود: هو منسوخ).
قال ابن الأمير الصنعاني :
"أما الاضطراب فلأنه رواه عبد الله بن بسر عن أخته الصماء، وقيل عن عبد الله، وليس فيه ذكر أخته، قيل: وليست هذه بعلة قادحة فإنه صحابي، وقيل: عن أبيه بسر، وقيل: عن الصماء عن عائشة، قال النسائي: هذا حديث مضطرب، قال المصنف: يحتمل أن يكون عند عبد الله عن أبيه وعن أخته بواسطة، وهذه طريقة صحيحة، وقد رجح عبد الحق الطريق الأولى وتبع في ذلك الدارقطني لكن هذا التلون في الحديث الواحد بإسناد واحد مع اتحاد المخرج يوهن الرواية وينبيء بقلة الضبط إلا أن يكون من الحفاظ المكثرين المعروفين بجمع طرق الحديث فلا يكون ذلك دالا على قلة الضبط وليس الأمر هنا كذلك بل اختلف فيه على الراوي أيضاً عن عبد الله بن بسر. وأما إنكار مالك له فإنه قال أبو داود عن مالك إنه قال هذا كذب، أما قول أبي داود: إنه منسوخ، فلعله أراد أن ناسخه قوله:
وعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أنَّ رسُولَ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أَكْثرُ ما كان يَصُومُ من الأيامِ يَوْمُ السّبْتِ وَيْومُ الأحدِ. وكانَ يقُولُ: "إنهما يْوما عيدٍ للمشركين وأَنا أُريد أَنْ أُخالفهم" أَخرجهُ النسائيُّ وصححهُ ابنُ خُزيْمَةَ وهذا اللفظُ له.
ولعلك أخي القارئ قد وقفت على أقوال هؤلاء الأئمة، فيما يتعلق بسند هذا الحديث، وتبين لك اختلافهم في قبول الحديث من عدمه، بسبب مخالفة ظاهر هذا الحديث لأحاديث أصح منه سندا ً وأقوى متنا ً، مما جعل كثيرا ًمن الأئمة يرده بعلل مختلفة كالاضطراب، أو النسخ، أو الكذب.
و مَن قَبِل سنده من الأئمة ودفع الاضطراب عن سنده ، أوّل معناه لكي يندفع التعارض بين ظواهر النصوص الشرعية التي يعارضها ظاهر هذا الحديث المتكلم في سنده كما رأيت...
فخلاصة القول فيه ما أورده الحافظ ابن حجر ونقله بمعناه وزاد عليه الإمام ابن الأمير الصنعاني،وكذلك ما أورده الشيخ الألباني في إرواء الغليل ج/4صـ118ـ125 فقف عليه وتأمله رعاك الله وفقهنا وإياك في دينه واستعملنا جميعا ً في طاعته..وعملا ًبقول من ذهب إلى تصحيح الحديث فنقف على فهم العلماء لهذا النص..
المبحث الثاني” فقه الدراية للحديث” :
• قال المباركفوري في تحفة الأحوذي :
(قوله: (لا تصوموا يوم السبت )أي وحده (إلا فيما افترض عليكم) بصيغة المجهول.
قال الطيبي: قالوا النهي عن الإفراد كما في الجمعة والمقصود مخالفة اليهود فيهما، والنهي فيهما للتنزيه عند الجمهور.
وما افترض يتناول المكتوب والمنذور وقضاء الفوائت وصوم الكفارة، وفي معناه ما وافق سنة مؤكدة كعرفة وعاشوراء أو وافق ورداً. وزاد ابن الملك: وعشرة ذي الحجة أو في خير الصيام صيام داود فإن النهي عن شدة الاهتمام والعناية به حق كأنه يراه واجباً كما تفعله اليهود.
قال القاري: فعلى هذا يكون النهي للتحريم، وأما على غير هذا الوجه فهو للتنزيه بمجرد المشابهة.
• قال الآبادي في عون المعبود، شرح سنن أبي داود في كتاب الصيام.
باب النهي أن يخص يوم السبت بصوم.(/2)
(لا تصوموا يوم السبت): أي وحده (إلا فيما افترض): بصيغة المجهول (عليكم): أي ولو بالنذر. قال الطيبي: واتفق الجمهور على أن هذا النهي والنهي عن إفراد الجمعة نهي تنزيه لا تحريم.
• قال الإمامِ المناوي في فيض القدير، شرح الجامع الصغير:
9818 - (لا تصوموا يوم السبت إلا في فريضة) لفظ رواية الترمذي والحاكم إلا فيما افترض عليكم أي لا تقصدوا صومه بعينه إلا في الفرض فإن قصد صومه بعينه بحيث لم يجب عليه إلا يوم السبت كمن أسلم ولم يبق من الشهر إلا يوم السبت فإنه يصومه وحده.
(...... وهذا النهي للتنزيه لا للتحريم والمعنى فيه إفراده كما في الجمعة بدليل حديث صيام يوم السبت لا لك ولا عليك وهذا شأن المباح والدليل على أن المراد إفراده بالصوم حديث عائشة أنه كان يصوم شعبان كله وقوله إلا في فريضة يحتمل أن يراد ما فرض بأصل الشرع كرمضان لا بالتزام كنذر ويحتمل العموم وقد اختلف في صوم السبت فقال الشافعية: يكره إفراده بصوم ما لم يوافق عادته أو نذره ونقل نحوه عن الحنفية وقال مالك: لا يكره وقال أحمد: هذا الحديث على ما فيه يعارضه حديث أم سلمة حين سئلت أي الأيام كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أكثر صياماً لها قالت السبت والأحد، وحديث(نهى عن صوم الجمعة إلا بيوم قبله أو يوم بعده) فالذي بعده السبت، وأمر بصوم المحرم وفيه السبت.
• قال ابن القيم في تهذيب سنن أبي داود:
(فقال أبو بكر الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسأل عن صيام يوم السبت يفرد به؟
فقال أما صيام يوم السبت يفرد به: فقد جاء فيه ذلك الحديث، حديث الصماء، يعني حديث ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد الله بن بسر عن أخته الصماء عن النبي صلى الله عليه وسلم "لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم".....
قال الأثرم: حجة أبى عبد الله في الرخصة في صوم يوم السبت: أن الأحاديث كلها مخالفة لحديث عبد الله بن بسر. منها: حديث أم سلمة، حين سئلت: "أي الأيام كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر صياماً لها؟ فقالت: السبت والأحد"(أورده الهيثمي في مجمع الزوائد وزاد فيه "ويقول ـ يعني النبي صلى الله عليه وسلم ـ هما يوما عيد للمشركين فأحب أن أخالفهم "رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات وصححه ابن حبان.)
ومنها حديث جويرية: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها يوم الجمعة: أصمت أمس؟ قالت: لا. قال: أتريدين أن تصومي غداً؟" فالغد: هو يوم السبت. وحديث أبى هريرة" نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الجمعة، إلا مقروناً بيوم قبله أو يوم بعده" فاليوم الذي بعده: هو يوم السبت. وقال: "من صام رمضان وأتبعه بست من شوال" وقد يكون فيها السبت. وأمر بصيام الأيام البيض، وقد يكون فيها السبت، ومثل هذا كثير فقد فهم الأثرم من كلام أبى عبد الله أنه توقف عن الأخذ بالحديث، وأنه رخص في صومه، حيث ذكر الحديث الذي يحتج به في الكراهة. وذكر أن الإمام علل حديث يحيى بن سعيد، وكان ينفيه، وأبى أن يحدث به، فهذا تضعيف للحديث.
واحتج الأثرم بما ذكر في النصوص المتواترة على صوم يوم السبت، يعني ان يقال: يمكن حمل النصوص الدالة على صومه على ما إذا صامه مع غيره. وحديث النهي على صومه وحده وعلى هذا تتفق النصوص.وهذه طريقة جيدة.... ثم أطال الإمام ابن القيم في مناقشات وردود حول الحديث وثبوته من عدم ثبوته حتى قالـ :
وعلى هذا: فيكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم "لا تصوموا يوم السبت" أي لا تقصدوا صومه بعينه إلا في الفرض، فإن الرجل يقصد صومه بعينه، بحيث لو لم يجب عليه إلا صوم يوم السبت كمن أسلم ولم يبق من الشهر إلا يوم السبت، فإنه يصومه وحده.
وأيضاً فقصده بعينه في الفرض لا يكره، بخلاف قصده بعينه في النفل، فإنه يكره. ولا تزول الكراهة إلا بضم غيره إليه، أو موافقته عادة. فالمزيل للكراهة في الفرض مجرد كونه فرضاً، لا المقارنة بينه وبين غيره. وأما في النفل فالمزيل للكراهة ضم غيره إليه، أو موافقته عادة، ونحو ذلك.
• وقال ابن الأمير الصنعاني في سبل السلام شرح بلوغ المرام في:( كتاب الصيام باب صوم التطوع وما نُهي عن صومه.)
قال الإمام بعد إيراده للحديث وبيانه لأقوال أهل الحديث في سنده ـ والتي سبق الإشارة إليها في المبحث السابق ـ
وعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أنَّ رسُولَ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أَكْثرُ ما كان يَصُومُ من الأيامِ يَوْمُ السّبْتِ وَيْومُ الأحدِ. وكانَ يقُولُ: "إنهما يْوما عيدٍ للمشركين وأَنا أُريد أَنْ أُخالفهم" أَخرجهُ النسائيُّ وصححهُ ابنُ خُزيْمَةَ وهذا اللفظُ له.
فالنهي عن صومه كان أول الأمر حيث كان صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يحب موافقة أهل الكتاب، ثم كان آخر آمره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مخالفتهم كما صرح به الحديث نفسه.(/3)
وقيل بل النهي كان عن إفراده بالصوم إلا أنه صام ما قبله أو ما بعده. وأخرج الترمذي من حديث عائشة قالت: "كان رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين ومن الشهر الآخر الثلاثاء والأربعاء والخميس" وحديث الكتاب دال على استحباب صوم السبت والأحد مخالفة لأهل الكتاب، وظاهره صوم كل على الانفراد والاجتماع.اهـ
وفي نهاية المبحث نجد أن فهم هذا الحديث عند العلماء الأثبات والمحققين من الأئمة الأعلام ممن احتج بالحديث وقبله للاستدلال، لايكاد يخرج عن أحد ثلاثة أقوال ينحصر فيها الفقه السوي لهذا الحرف من السنة المطهرة وبيانه فيما يلي:
1. جواز قصد يوم السبت بالصيام مع يوم قبله أو يوم بعده بلا كراهة وكذلك فيما كان فريضة ًأو في معناها من السنن المؤكدة كالأيام البيض والعشر من ذي الحجة والنوافل المستحبة والأوراد الخاصة بأهلها من العباد والزهاد، وهذا عملا ً بحديث أم سلمة وجويرية رضي الله عنهما، وفي ذلك مخالفة لليهود بصيام يوم عيدهم
قال ابن القيم رحمه الله :
(فقد يقال: مخالفتهم فيه يكون بالصوم لا بالفطر، فالصوم فيه تحقيق للمخالفة، ويدل على ذلك: ما رواه الإمام أحمد والنسائي وغيرهما من حديث كريب مولى ابن عباس قال "أرسلني ابن عباس وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أم سلمة أسألها: أي الأيام كان النبي صلى الله عليه وسلم أكثرها صياماً؟ فقالت: كان يصوم السبت ويوم الأحد أكثر ما يصوم من الأيام ويقول: إنهما يوما عيد للمشركين، فأنا أحب أن أخالفهم" وصححه بعض الحفاظ. فهذا نص في استحباب صوم يوم عيدهم لأجل مخالفتهم،ولايخفى النهي الشرعي عن صيام أيام العيد عند المسلمين)
2. وكراهة إفراده بالصيام، كراهة تنزيهٍ عند الجمهور من أهل العلم كما سبق بيانه، جمعا ً بين الأدلة .
3. جواز إفراده بالصيام من غير كراهة كما ذهب إليه مالك رحمه الله ،فيما نقله عنه المناوي في فيض القدير...
هذا ما تيسر بفضل الله وعونه جمعه موجزا ً في هذه المسألة "حكم صيام يوم السبت ضمن أيام العشر من ذي الحجة "والتي تصدّر للحديث عنها من لم يستجمع أقوال أهل العلم فيها، فأسأل الله السداد في القول والعمل والتوفيق في الحال والمآل...
__________________________________________________________________
قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في كتابه : "تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير" (2/216-217) :
حديث : (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم) أحمد وأصحاب السنن وابن حبان والحاكم. والطبراني والبيهقي ، من حديث عبدالله بن بسر عن أخته الصماء, وصححه ابن السكن . وروى الحاكم عن الزهري أنه كان إذا ذكر له الحديث قال : هذا حديث حمصي ، وعن الأوزاعي قال : ما زلت له كاتماً حتى رأيته قد اشتهر ، وقال أبو داود في "السنن" : قال مالك: هذا الحديث كذب : قال الحاكم : وله معارض بإسناد صحيح، ثم روي عن كريب أن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثوه إلى أم سلمة أسألها عن الأيام التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر لها صياماً ، فقالت : يوم السبت والأحد، فرجعت إليهم فقاموا بأجمعهم إليها فسألوها ، فقالت : صدق ، وكان يقول : إنهما يوما عيد للمشركين ، فأنا أريد أن أخالفهم، ورواه النسائي والبيهقي وابن حبان، وروى الترمذي من حديث عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من الشهر : السبت ، والأحد والإثنين ، ومن الشهر الآخر: الثلاثاء والأربعاء والخميس.
(تنبيه) قد أعل حديث الصماء بالمعارضة المذكورة ، وأعل أيضاً باضطراب ، فقيل هكذا, وقيل : عن عبدالله بن بسر وليس فيه عن أخته الصماء ، وهذه رواية ابن حبان، وليست بعلة قادحة ، فإنه أيضاً صحابي ، وقيل : عنه عن أبيه بسر، وقيل : عنه عن الصماء عن عائشة، قال النسائي : هذا حديث مضطرب، قلت : ويحتمل أن يكون عند عبدالله عن أبيه. وعن أخته ، وعند أخته بواسطة ، وهذه طريقة من صححه، ورجح عبدالحق الرواية الأولى ، وتبع في ذلك الدارقطني ، لكن هذا التلون في الحديث الواحد بالإسناد الواحد مع اتحاد المخرج، يوهن راويه وينبيء بقلة ضبطه ، إلا أن يكون من الحفاظ المكثرين المعروفين بجمع طرق الحديث، فلا يكون ذلك دالاً على قلة ضبطه، وليس الأمر هنا كذا ، بل اختلف فيه أيضاً على الراوي عن عبدالله بن بسر أيضاً ، وادعى أبو داود : أن هذا منسوخ ، ولا يتبين وجه النسخ فيه ، قلت : يمكن أن يكون أخذه من كونه صلى الله عليه وسلم كان يحب موافقة أهل الكتاب في أول الأمر ، ثم في آخر أمره قال : خالفوهم ، فالنهي عن صوم يوم السبت يوافق الحالة الأولى ، وصيامه إياه يوافق الحالة الثانية ، وهذه صورة النسخ والله أعلم.
كالدارقطني ، وتبعه عبد الحق الإشبيلي وقال الشيخ الألباني: وما رجحه هذا الإمام(يعني عبد الحق) هو الصواب إن شاء الله تعالى لما ذكرنا(/4)
صيد البنكين، وما يترتب عليه
الكاتب: الشيخ أ.د.عبد الله قادري الأهدل
في فلسطين بنكان: أحدهما فلسطيني، والآخر يهودي:
فما رصيد كل منهما؟
رصيد البنك الفلسطيني يتكون من صندوقين:
الصندوق الأول: الحركة الجهادية التي تتبناها الفصائل الفلسطينية الرافضة للاحتلال اليهودي، وأساس هذا الرصيد العزم المصمم على قتال العدو بما يتاح لأصحابها، وعلى رأس ذلك الإيمان بالحق والعدل لأهلهما وهم الشعب الفلسطيني صاحب الأرض والمقدسات.
والتوكل على الله الذي وعد أهل الحق المجاهدين بالنصر على أعدائهم المعتدين، مهما طال الزمن، كما دلت على ذلك التجارب التي كانت نتيجتها في مصلحة أهل الأرض المجاهدين للدفاع عن حقهم المشروع، وفي شمال أفريقيا القريب العهد وفي الشرق والغرب من بلدان العالم دلي قريب، على تحريرها من المحتلين.
كما في الجزائر والمغرب وتونس وليبيا وموريتانيا، وغيرها من البلدان الأفريقية، وكما في اليمن الجنوبي سابقا والهند وشرق وجنوب شرق آسيا، وفي فيتنام لذلك مثال.
فما احتل معتد قوي بلادا ضعيفة وصمم أهلها على طرده إلا كان النصر العسكري حليفهم، مهما ترتبت على ذلك من آثار.
وقد أثبتت الحركة الجهادية أنها رصيد هائل بالنسبة للشعب الفلسطيني، مع ما أصابتها من محن وابتلاءات، فقد أصاب عدوها من الخسائر في الأنفس والاقتصاد والهلع ما لم يكن في حسبان الموازنة المادية بين ما يملك العدو من المال والاقتصاد والجيش والسلاح والدعم الخارجي بكل ألوانه.
ولو أن هذه الحركة نالت من إخوانها في الدين ما يزيد من صمودها، لكان لها شأن أعظم مما نراه الآن من وقوفها الصلب أمام عدوها، برغم ضعفها المادي.
الصندوق الثاني: لبنك الشعب الفلسطيني: الحل السياسي، ولا نريد أن نطيل الكلام، عن إفلاس هذا الصندوق، والتجارب المستمرة من فترة طويلة كافية لإثبات إفلاسه، وإن أبى أهل هذا الصندوق الاعتراف بإفلاسه.
وليسنا نرى له في ظرفنا المنظور أي دعم من قريب أو من بعيد، يمده برصيد يخرجه من إفلاسه.
البنك الثاني: اليهودي، وهو ذو أرصدة مادية هائلة:
نذكر منها الصناديق الآتية:
الصندوق الأول: القوة المادية، وهي شاملة للمال والاقتصاد، والجيش المدرب والسلاح الفتاك والصناعة والزراعة المحميتين بقوة السلاح.
الصندوق الثاني: المستوطنات التي تخللت المناطق الفلسطينية، ومدنها وجعلت تلك المناطق والمدن في في حصار مستمر من المستوطنين ومن الجيش الذي يقوم بحمايتها.
الصندوق الثالث: القبضة الحديدية على مدينة القدس بالذات والإصرار على جعلها العاصمة الأبدية للدولة اليهودية، كما يصرحون بذلك، وقد استجابت بعض دول العالم لنقل سفاراتها وقنصلياتها إلى هذه المدينة، لتكتسب بذلك شرعية دولية، وقد وعدت الإدارة الأمريكية بنقل سفارتها إليها في وقت قريب.
وأقل ما يمكن أن يناله الشطر الشرقي من هذه المدينة من الموقف الدولي، هو الاعتراف بكونها مدينة دولية، كما صرحت بذلك بعض الدول، وبخاصة المركز النصراني دولة الفاتيكان، ولا غرابة أن نجد في النهاية من يعترف بذلك من الدول العربية، إذا رأوا بعض المفاوضين الفلسطينيين مستعدين للتسليم بذلك، ونحن لا ندري ما يجري في الخفاء بين الأجهزة الأمنية التي تسيطر على المفاوضات الفلسطينية اليهودية.
الصندوق الرابع: المسجد الأقصى المهدد صراحة من قبل المتشددين اليهود الذين يريدون هدمه، وإقامة الهيكل المزعوم مكانه، والدولة اليهودية، تظهر للعالم إعلاميا أنها تصدهم عن مرادهم، ولكنها في واقع الأمر هي أخطر عليه من غيرها، لما تقوم به من خداع لهدمه بالحفريات تحته، بحجة البحث عن بقايا هيكلها المزعوم، كما أن تحرشها بمقدساته واضح وما الحركة الجهادية الأخيرة إلا ثمرة من ثمرات تدنيس رئيس الحومة الحالية له.
وسبق ما عمله اليهودي الأسترالي من حرق المسجد الأقصى سنة 1969م الذي قطعت الدولة اليهودية عن رجاله الذين اجتهدوا في إطفاء الحريق الماء وهو دليل على تواطؤها مع المعتدي الذي ادعت أنه مختل العقل، وما يعاملون به المسلمين الفلسطينيين من منعهم من الصلاة فيه معروف!
الصندوق الخامس: الأسرى الذين يقارب عددهم عشرة آلاف شخص من بينهم نساء وأطفال وشيوخ، وهم معرضون لأبشع أنواع التعذيب النفسي والجسدي.
الصندوق السادس: المواقع الأمنية التي يطلقون عليها: الاستراتيجية، وهي الهضاب والأماكن المرتفعة في أي منطقة في الأراضي الفلسطينية، فهم مصرون على عدم التخلي عنها للفلسطينيين، بحجة أنها تؤثر عليهم أمنيا، لأن مدنهم التي داخل الخط الأخضر كما يسمونه، تكون في متناول سلاح المجاهدين الفلسطينيين.
الصندوق السابع: السيطرة على كل الحدود الفلسطينية برا وبحرا وجوا، بحيث لا يملك الفلسطينيون منافذها، بحجة الخوف من إدخال الفلسطينيين سلاحا مهربا قد يعود عليهم بالوبال مستقبلا.(/1)
الصندوق الثامن: منع عودة اللاجئين إلى ديارهم، سواء منهم من هو في مخيمات داخل فلسطين، أو من في البلدان الأخرى.
الصندوق التاسع: استئصال المناهج الثقافية و من مدارس الفلسطينيين وجامعاتهم، إذا كانت تتعارض مع معتقداتهم، ولو كانت آيات من كتاب الله، فكل ما في التاريخ من الشئون الدينية والسياسية والجغرافية، وما يذكره القرآن عنهم يجب حذفه وإلا فلا صلح ولا مهادنة، وهذا ليس خاصا بفلسطين، بل أي دولة عربية أو إسلامية ترغب في العلاقات الدبلوماسية مع اليهود، يجب أن تتعهد بتجهيل أبنائها بتاريخ الإسلام وجغرافيته مع اليهود، وقد تم ذلك مع بعض الدول العربية.
الصندوق العاشر: الدعم المادي الأجنبي بالمال والاقتصاد والدبلوماسية والإعلام والسلاح وغير ذلك، مع منع أي دعم قد يؤثر على اليهود من البلدان الأجنبية عندهم ومنها الشعوب الإسلامية والعربية.
الصندوق الحادي عشر: تنازع المسلمين، ومنهم الدول العربية الذي هو من أمضى الأسلحة يعتمد عليه اليهود، فإن قوتهم في الحقيقة تكمن في التنازع والتفرق، ولو اجتمعت كلمتهم على الحق وظاهر بعضهم بعضا، لما هيمن اليهود هذه الهيمنة، ولو وقفت جميع الدول الأجنبية ضدهم:
((ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم))
الصندوق الثاني عشر: - وقد لا يكون الأخير – الجانب الاستخباري اليهودي، وقوة علاقاته بالاستخبارات الأجنبية العالمية، ومنها بعض الاستخبارات العربية التي تتعاون معها على أبناء جلتها، وفي ذلك ما فيه من العدوان العربي على العربي، وقد رأينا هذا في الجواسيس الفلسطينيين الذين يدلون المعتدين اليهود على قادة الجهاد، أو القادة السياسيين الفلسطينيين، كما حصل للشيخ أحمد ياسين ورفاقه، ويحيى عياش وجنوده، وسيأتي الكلام على ما يترتب على الرصيدين.
ما يترتب على رصيد البنكين
يظهر من الرصيدين أن البنك الفلسطيني ليس له من رصيد ما عدا صندوق الحركة الجهادية، القوي معنويا، الضعيف ماديا، وأن البنك اليهودي ذو رصيد مادي ضخم، مع استمرار نقصه في الرصيد المعنوي.
والذي يترتب على ذلك، أن اليهود يرعبهم رصيد هذا الصندوق الذي هو أشد عليهم من أي رصيد آخر، وإن كانت الأرصدة الأخرى لها أهمية عظيمة في تنمية هذا الرصيد ومده بالقوة والاستمرار، ولهذا حاولوا هم وأعوانهم - وبخاصة الإدارة الأمريكية – القضاء عليه وعلى أهله خشية من استفحاله إلى درجة يصعب عليهم الخلاص منه، فلجئوا إلى ما هو أخف ضررا عليهم، مع كراهيتهم له وترفعهم عليه.
وليس هددهم من ذلك الوصول إلى مصالحة حقيقية مع الفلسطينيين، تترتب عليها قيام دولة مستقلة على جزء يرضى به المفاوضون من رجال السلطة ومن يتبعها من الشعب، بحيث تكون ذات سيادة كاملة بحدودها الأرضية التي تصلهم بجيرانهم من الدول العربية، وحدودهم البحرية، وسيطرتها على مجالها الجوي، وتكوين حكومة مستقلة عن دولة اليهود، بما في ذلك وزارة الخارجية ذات، ووزارة الدفاع اللتين تتمكنان من تسيير عملهما كسائر الدول في العالم، من عقد معاهدات واتفاقات، وشراء أسلحة دفاعية تحتاج إليها أي دولة مستقلة.
ليس هدفهم من المفاوضات ما ذكر، بل هدفهم منح المفاوضين حكما ذاتيا يديرون به شئونهم المدنية، كأي بلدية من بلديات اليهود في أرض ما يسمى بالخط الأخضر بل أقل.
وهذا الهدف لا تختلف فيه الأحزاب اليهودية، ما يطلق عليهم بعض العرب "المعتدلين" أو "الحمائم" كحزب العمل، أو ما يطلقون عليهم "المتشددين، أو "الصقور" كحزب "الليكود" والجماعات المسماة بـ"المتدينة" فكلهم صقور بل وحوش على الشعب الفلسطيني.
وهم يصرحون بذلك وهو مبدأ ثابت في المبادئ الصهيونية، ومن أصرح من أظهر ذلك رئيس الوزراء اليهودي الأسبق (نتنياهو) في كتابه (بلدة تحت الشمس)
ولنذكر من الكتاب جملا قصيرة من الكتاب:
قال: - [لقد أدى انهيار دولة الاتحاد السوفييتي التي كانت تدعم الدكتاتوريين العرب ، وهزيمة العراق (والآن احتلاله) في حرب الخليج، إلى خلق ظروف دولية مريحة لتحقيق الهدف الإسرائيلي-أي تحقيق تسويات سلمية مع العرب، لا تسلب من إسرائيل مكاسبها في حري الأيام الستة.
وعلى أساس هذا المفهوم شرعت إسرائيل لأول مرة في مفاوضات مع كل جيرانها في مؤتمر السلام الذي عقد في مدريد عام 1991م] (صفحة: 54)
ثم قال مؤكدا بعض الثوابت الصهيونية:
-[إن تنازل إسرائيل عن المبادئ الصهيونية، يعتبر تنازلا عن مصدر حياتها، وعندئذ تبدأ بالذبول] (صفحة: 54)
[كان جبل صهيون في قلب مدينة القدس-في نظر هرتسل ونورداو-يمثل رمز إقامة الدولة اليهودية... ولهذا أطلق على حركتهما اسم "صهيونية] (صفحة: 69)
-[إن فكرة عودة صهيون هي على أية حال، جزء لا يتجزأ من سر بقاء الشعب اليهودي، وكانت القوة المحركة في ولادة دولة إسرائيل، وهي المفتاح لاستمرار بقائها] (صفحة: 90)
ثم قال مؤكداً أن الدولة التي أقاموها ويريدون استكمالها ذات أركان ثلاثة تعتبر مقومات لها:(/2)
-[يعتقد أبناء العالم الغربي، بشكل عام أن اليهودية شأنها شأن المسيحية، مجرد دين، لذا فهي لا تشمل وعيا قوميا، لكن اليهودية منذ بدايتها كانت دينا وقومية معا.... وفي أرض الشتات زادت أهمية هذه الازدواجية في اليهودية.]
[فبعد أن فقد اليهود أرضهم وحكومتهم ولغتهم، ووزعوا في أنحاء العالم، أصبح الدين الأداة الرئيسة للمحافظة على هويتهم وطموحاتهم القومية، وداخل هذه الأداة سكب اليهود أحلام العودة إلى صهيون، وتجميع الشتات في أرض إسرائيل.] (صفحة 90 )
-[في 1821م دعا المبشر ليفي برسونس بقوله: "إذا دمرت الإمبراطورية العثمانية، فإن معجزة فقط يمكنها أن تمنع عودة اليهود الفورية إلى أرضهم من كافة أقطار العالم] (صفحة 77)
ثم قال مؤكدا أن اليهود أهل الحق في أرض فلسطين، وليس أهل فلسطين:
-[وإذا كان المبدأ هو أن صاحب القوة هو صاحب الحق، فهذا يعني أن الممثل الأخير هو صاحب الحق، وبناء على هذا التعريف فإن إسرائيل هي صاحبة الحق والسيادة على أرض إسرائيل] (صفحة 83)
ويقول عن المواقع التي يعتبرها مناطق أمنية لا يمكن التفريط فيه:
[لكم هي مهمة محطات الإنذار المبكر التي أقامتها إسرائيل على قمم جبال نابلس وهضبة الجولان، فقد أقيمت هذه القواعد على ارتفاعات توفر إمكانية مراقبة تحركات الجيش السوري وكل جيش عربي يتحرك داخل الأراضي الأردنية، وكذلك النشاطات الجوية في هاتين الدولتين.]
[ولو أن دولة معادية نجحت في السيطرة على هذه المرتفعات لأصبح الوضع معكوسا، سيكون باستطاعة العرب مراقبة كل ما يجري على السهل الساحلي والجليل ولأصبحت إسرائيل عمياء وفاقدة لجزء كبير من قدرتها على تحقيق الإنذار المبكر، لذا فإن لهذه المحطات أهمية حاسمة، ولا بديل لها في حالة الاستعداد لمواجهة هجوم عراقي أو سوري (كان الجيش العراقي يؤرق اليهود، ولذا دمره أولياؤهم ومن ظاهرهم، ويطمعون في تدمير الجيش السوري)]
[ولو كانت هذه المواقع في جبال نابلس والجولان بأيدي العرب خلال حرب الخليج [يقصد احتلال الكويت] لكانت محطات الإنذار هذه تزود صدام حسين بكل ما يجري في الجيش الإسرائيلي. إن الأردن نقلت إلى العراق معلومات استخبارية بصورة دائمة طيلة أيام الحرب].
وبين في موضع آخر أرض فلسطين إنما هي أرض يهودية، وكذلك الأردن هي في الأصل أرض يهودية، ويكفي الفلسطينيين أن يسكنوا في الأردن، قال:
[لقد تم في فرساي التعهد لليهود بإقامة دولة فلسطين، وشمل الوطن القومي آنذاك ضفتي نهر الأردن.]
[هذه المنطقة التي تسمى أرض إسرائيل الانتدابية التي كلفت بريطانيا عام 1920 أن تقيم فيها وطنا لليهود، شملت أراضي دولتي الأردن وإسرائيل اليوم....] (ص67)
وقال عن الحكم الذي يجب أن يناله عرب فلسطين أن إدارة بشر وليس ملك أرض، وفي مناطق خاصة يعينها اليهود،ـ قال:
[ولكي تحافظ إسرائيل على مصالحها هذه، يجب أن توضح بصورة لا تقبل التأويل أن الحكم الذاتي في الضفة الغربية يجب أن يكون حكما ذاتيا فقط، وليس دولة عربية جديدة، ويجب أن تركز إدارة الحكم الذاتي الفلسطيني في الضفة الغربية على مجوعة ألوية، يكون أهمها: جنين، نابلس والخليل....وستضم هذه الألوية الأغلبية العظمى من السكان العرب في الضفة الغربية، وباستثناء مواضيع حيوية، مثل الأمن وأراضي الدولة والمياه التي يجب أن تبقى بأيدي السلطة المركزية لإسرائيلية...] (ص 418)
ويقول عن القدس التي تشمل المسجد الأقصى وما يحيط به:
[...وأخيرا على إسرائيل أن تبدأ فورا باتخاذ إجراءات كفيلة بضمان وحدة القدس تحت السيادة الإسرائيلية، إذ أن إعادة تقسيم المدينة وجعل الجزء الشرقي منها عاصمة فلسطين في المرحلة الأولى من مشروع المراحل يعتبر هدفا لكافة الحركات الفلسطينية....]
ويقول عن عودة اللاجئين الفلسطينيين التي يطالب بها المفاوضون منهم:
[ويجب عليها [أي إسرائيل] العودة إلى مبدأ توطين اللاجئين الفلسطينيين في الأماكن التي يتواجدون فيها حاليا، في لبنان، سوريا، والأردن، وغيرها، وإذا لم تصر إسرائيل على تطبيق هذه المبادئ ستجد نفسها في غضون بضع سنوات، تواجه طلبا عربيا بالعودة إلى مشروع التقسيم لعام 1947 بغية حل المشكلة السكانية التي ستنشأ في مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة...]
وهو يصر في مواطن كثيرة من الكتاب، على أن قوة اليهود العسكرية الرادعة للعرب هي الوحيدة التي ستضمن لها البقاء، وليس السلام مع الدول العربية، لأنها دكتاتورية، والسلام إنما يتحقق مع الدول الديمقراطية، قال:
[... فالسلام بين الدول الديمقراطية، هو حالة انسجام بين شعوب وجماعات تعتمد على قيم ثقافية مشتركة، يكون أمن كافة الأطراف معتمدا بوجودها على هذه الشراكة في القيم.
في حين أن سلام الدكتاتوريات هو سلام الردع، وهو الوضع التي لا تكون فيه حرب، حتى لو لم يسده أي انسجام.... –إلى أن قال-: ولهذا فإن الادعاء بأن الأمن الحقيقي هو السلام، هو قول باطل لا قيمة له...] (ص 313، 314)(/3)
وقال في مكان آخر: [... إن من يحرم من حمل السيف، سرعان ما ينسى كيفية استخدامه، ويبدأ استعداده النفسي للمقاومة يتلاشى...] (ص 430)
ومع إلحاحه على قوة دولته، يصر على وجوب منع العرب من هذه القوة، ليتمكن اليهود من السيطرة على الدول العربية كلها، قال:
[... وفي المقابل فإن سياسة تزويد أسلحة غربية إلى الأنظمة العربية المعتدلة، تخلق ترسانة ضخمة من الأسلحة المدمرة يستخدمها المتعصبون في المستقبل الذين قد يطيحون في يوم ما بالحكام الحاليين على غرار ما فعل القذافي بالملك إدريس الموالي للغر.....] (ص 309)
[قلت: وماذا فعل القذافي غير الاستسلام الكامل للغر!]
وبعد فمن الصعب أن ألخص للقارئ أكثر مما ذكر فالكتاب يقارب 500 صفحة وفيه من التهديد والوعيد للفلسطينيين وللدول العربية كلها ما يدل على أن اليهود لا يريدون سلاما، وأن ادعوه إعلاميا لينالوا المزيد من الدعم الغربي، وبخاصة الأمريكي.
وسبق قول: [ولهذا فإن الادعاء بأن الأمن الحقيقي هو السلام، هو قول باطل لا قيمة له...]
وماذا ترى عند الفلسطينيين من رصيد يستطيعون أن ينالوا به "سلام الشجعان" غير قوة الإيمان و صواريخ القسام والصبر والمصابرة، واتخاذ الحكم الشرعي، وهو الجهاد عند بالممكن عند القدرة، والمهادنة عند العجز.
حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين.
وليعلم القارئ أن نتنياهو هو صاحب كتاب استئصال الإرهاب الذي ألفه قبل أحداث نيويورك، وكأنه يصف ما سيقع في أمريكا وما تتبعه من آثار مدمرة في العالم الإسلامي، وهو من أشد اليهود تطرفا ضد العرب والمسلمين، وقد يخلف صنوه في الشدة والتطرف رئيس الوزراء الحالي "شارون"(/4)
صيفك المثمر
الكاتب: الشيخ د.علي بن عمر بادحدح
إن من أمثلة العرب المشهورة « الصيف ضيعت اللبن » وهو مثل يدل على تضييع الفرصة المتاحة ، وإهدار الإمكانيات المتوفرة ، وحينئذ لا ينفع الندم ، وربما نجد أن أحوال أبنائنا في الصيف يصدق فيها هذا المثل .
إن فترة الصيف تتوقف فيها الدراسة النظامية في المدارس والمعاهد والجامعات ، ويأخذ أكثر الموظفين إجازاتهم من أعمالهم خلالها ، وبالتالي فإن عدد الذين لا يرتبطون بمهمات إلزامية محددة كبير ، فإذا أضفنا المدة والساعات المتاحة لوصلنا إلى ملايين بل عشرات ومئات الملايين من الساعات . والسؤال الكبير : ما هي ثمرة هذه الساعات الطوال والطاقات الكثيرة والأعداد الغفيرة ؟!
وإذا كانت النتيجة لاشيء أو كانت نتائج محدودة فإننا نقول لجميع هؤلاء وللمجتمع كله : « الصيف ضيعت اللبن »
إننا - وللأسف الشديد - نمارس دوراً فكرياً وثقافياً مثبطاً عن الانجاز ، ومعيقا عن الاستثمار ، فهذه الفترة نسميها عطلة " وهي كلمة تدل على التعطيل والعطالة .
وهي - في اللغة - الخلو عن الشيء ، وهناك اسم آخر وهو « الإجازة » وأصل معناها محمود ودلالتها تعني الانتهاء من الشيء والحصول على ثمرته ، فالإجازة في علم من العلوم تعني الانتهاء من تعلمه والتمكن في فنونه ، غير أنها - فيما يتداوله الناس - تستخدم بمعنى قريب من الأول ، بمعنى أنها إجازة تم الانتهاء فيها من الدراسة أو العمل و لاشيء بعدها فهي فراغ بلا عمل ، ووقت بلا إنتاج ، وطاقة بلا استثمار ، وهذا - بالطبع - ليس حال الجميع بل هناك المغتنمون لأوقاتهم ، العاملون على تطوير ذواتهم وتحقيق آمالهم ، ثم إننا نشهد - بحمد الله - في أمتنا بوادر نهضة وحيوية ، ونرى معالم حركة وإيجابية ، وتتجلى صور ذلك في مؤسسات وأنشطة وميادين مختلفة ، وهي - من فضل الله - كثيرة ومتميزة بل مبدعة ومتجددة .
إن العاقل البصير لا بد أن يدرك أن العمر محسوب في الإجازة وغيرها { إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً } بل إن الوعي والجد يوجبان اعتبار الصيف فرصة لإنجاز مالم يمكن إنجازه مع وجود المهمات والمشاغل الأخرى ، ولذا لا بد من مبادرة ذاتية وهمة نفسية وممارسة عملية ، من خلال تلبية الميول والهوايات ، وبرمجة الأفكار والمشروعات مع تحقيق الراحة المنشطة والترفيه المحرك ؛ فإن الراحة إنما تكون لإعطاء الطاقة لمزيد من استئناف العمل بهمة أكبر وطاقة أفضل .
وها نحن نقدم لك صيغة مبتكرة شعارها « صيفك المثمر » تعطيك خيارات متنوعة في عدة مجالات نافعة ، ونجعل لك على كل نشاط درجات محددة والنتيجة الكاملة ( 100 درجة ) ، فاغتنم فرصة التنوع واهتبل جدة الأفكار ، واشحذ همتك ، وبادر بالاختيار ، وحدد المسار ، ونظم الأوقات ، وحقق المنجزات .
وإضافة إلى هذا البرنامج المقترح المبتكر نفتح لك صفحة كاملة عنوانها « صيفك على كيفك » لتجد فيها معلومات عن الأنشطة والبرامج والمحاضرات والدورات فضلا عن المواد المسموعة والمقروءة التي تعينك على حسن الاستثمار للخروج بأفضل الثمار .
:: البرنامج ::
تواريخ مهمة من التقويم الدراسي:
بداية اختبار الفصل الدراسي الثاني ... السبت 29/4/1427هـ الموافق 27/5/2006م
بداية إجازة نهاية العام للطلاب ... الأربعاء 11/5/1427هـ الموافق 7/6/2006م
بداية إجازة نهاية العام للمعلمين ... الأربعاء 18/5/1427هـ الموافق 14/6/2006م
تاريخ عودة المعلمين ... السبت 25/7/1427هـ الموافق 19/8/2006م
بداية اختبارات الدور الثاني ... الاثنين 27/7/1427هـ الموافق 21/8/2006م
بداية الدراسة للفصل الدراسي الأول ... السبت 16/8/1427هـ الموافق 9/9/2006م
مع قرب موسم الإجازة الصيفية تكثر التطلعات وتزيد الاهتمامات لاستثمار الإجازة بما يعود على المرء بالنفع والفائدة، فهي فرصة حقيقية لتحقيق الطموحات في ظل الإجازة من الواجبات الوظيفية اليومية، وقد تكون فرصة لإنجاز الكثير من المشروعات على مختلف المستويات سواءً كانت فردية أو أسرية أو غيرها. ومع قدوم صيف 1427هـ قد تكون الفرصة سانحة لتعويد النفس على الذاتية كشعار لهذا الصيف امتداداً لبرامج أنجزها الفرد في فترات سابقة، ومع تنوع الحاجات يقع المرء في حيرة من أمره لتحديد الأولويات وتحقيق الحاجات.
الأهداف:
1- إقامة واستمرار الروابط الإيجابية النافعة علمياً وتربوياً.
2- التزود الثقافي المنهجي والمحافظة على الحد الأدنى المأمول.
3- الاجتهاد على استضافة أهل العلم والخبرة في لقاءات مطولة.
4- الاستثمار الإيجابي للإجازة ترفيهاً وتربوياً واجتماعياً للزوجة والأبناء والأقارب.
5- تطوير المهارات وصقل المواهب وتنمية الذات من خلال برامج الصيف.
البرنامج المقترح:(/1)
يمكنك أن تستفيد من البرنامج التالي فقد صمم بأسلوب التقييم الذاتي مع تنوع البرامج وكثرة الخيارات التي تحقق الطموحات، وكل ما عليك فعله اختيار البرامج وفق ما هو محدد في النقاط التالية مع إعطاء نفسك الفرصة لتقويم منجزاتك خلال فترة الإجازة الصيفية، فهي تجربة قابلة للتطوير بما ينفع ويفيد.
محور اللقاءات وتبادل الخبرات:
o عقد لقاءات الاستفادة من الوقت وتبادل الخبرات وبحد أدنى (3) لقاءات مطولة ويمكن فيها استضافة (9 نقاط)
o الشخصيات ذات التأثير الإيماني لسماع الموعظة منها. (3 ساعات)
o أصحاب الخبرة الدعوية للاستماع إلي تجاربهم الدعوية. (3 ساعات)
o أصحاب الخبرة في قضية من قضايا المسلمين لك بها اهتمام. (3 ساعات)
اختر أحد البرنامجين التاليين: (11 نقطة)
o تدوين إحدى تجاربك الناجحة بأسلوب المشاريع ليستفيد منها الآخرون .
o تصميم برنامج مقترح في المجال العلمي أو الدعوي أو التربوي أو الاجتماعي كمبادرة للتخطيط والإبداع المستقبلي.
محور البرامج الاجتماعية والدعوية:
• المشاركة الفاعلة بأحد البرامج التالية: (16 نقطة)
o برامج الصيف الطلابية (20 ساعة عمل)
o برامج مراكز الأحياء (20 ساعة عمل)
o برامج المؤسسات الخيرية أو الدعوية (20 ساعة عمل)
• تفعيل برنامج صلة الأرحام والزيارات العائلية لذوي القرابة وبحد أدنى (4) زيارات (4 نقاط)
محور التنمية البشرية والذاتية:
• حضور أحد الأمسيات التدريبية ذات العلاقة بالمحور (4 نقاط)
• قراءة كتاب من القطع المتوسط وبما لا يقل عن ( 100 ) صفحة في أحد مجالات التنمية الذاتية (6 نقاط)
• تعلم إحدى المهارات الذاتية من خلال المشاركة في برنامج تدريبي وبحد أدنى (12) ساعة تدريبية (10 نقاط)
محور الترفيه والسياحة:
• حضور أحد الأمسيات الترفيهية أو الحفلات الختامية للبرامج الصيفية أو الجماهيرية . (4 نقاط)
• تعلم أو ممارسة أحد الأنشطة الرياضية . (6 نقاط)
محور الزوجة والأولاد (اختر 3 برامج):
• رحلة إيمانية إلى مكة المكرمة أو المدينة المنورة لمدة لا تقل عن يوم كامل . (10 نقاط)
• رحلة عائلية سياحية لمدة لا تقل عن أسبوع . (10 نقاط)
• تفعيل برامج النزهات العائلية القصيرة وبحد أدنى ( 4 ) نزهات . (10 نقاط)
• مسابقة تشجيعية ذات حوافز بين الأولاد في أحد الجوانب المفيدة . (10 نقاط)
• حفل تكريم الأولاد بمناسبة ختام العام الدراسي وتوزيع الهدايا . (10 نقاط)
• إلحاق الزوجة والأولاد في البرامج والنوادي الصيفية . (10 نقاط)
تقييم الإنجاز
عند نهاية الإجازة لا بد لك من تقييم نفسك والوقوف على انجازاتها الصيفية ولك أن تكافئ نفسك بإنجازاتها الإيجابية، ولك الاستفادة من المؤشر التالي:
90 نقطة فأكثر ... مكافأة عالية المستوى
80 نقطة إلى أقل من 90 نقطة ... مكافأة متوسطة المستوى
70 نقطة إلى أقل من 80 نقطة ... مكافأة ضعيفة المستوى
أقل من 70 نقطة ... فرصة لتقويم النفس للصيف القادم
وأخيراً :
نقدم لك باقة متنوعة من البرامج والأنشطة والأفكار والمقترحات المختلفة التي تفيدك في برمجة باقي برامجك خلال الإجازة الصيفية فلا تبخل على نفسك بها وهي:
1- برامج مراكز الدعوة والإرشاد والمكاتب التعاونية مثل : الدورة العلمية،المخيمات،المحاضرات،القوافل الدعوية للقرى.
2- برامج الهيئات الخيرية الداخلية والخارجية مثل الندوة العالمية للشباب الإسلامي وهيئة الإغاثة الإسلامية.
3- برامج المهرجانات الصيفية والتي تقام بالتنسيق مع الهيئة العليا للسياحة.
4- برامج التدريب في مختلف المجالات والتي تقام في الصيف من خلال الغرف التجارية ومراكز ومعاهد التدريب.
5- برامج التدريب والتوظيف الصيفي بالتنسيق مع مكتب العمل لطلاب المرحلة الثانوية.
6- برامج التقوية في المواد الدراسية للطلاب والتي تقيمها المدارس خلال فترة الصيف وبرامج تعلم اللغة الإنجليزية.
7- برامج سماع الأشرطة ومشاهدة البرامج المفيدة والقراءة النافعة والاستفادة من الانترنت.
8- برامج الخدمة الاجتماعية والعامة داخل الأحياء مثل مساعدة الضعفاء والفقراء ورعاية الأيتام.
9- برامج الأعمال المنزلية والصيانة.
10- برامج الحفظ والتمكين والمراجعة للقرآن الكريم(/2)
صيفٌ من نوع آخر
الكاتب: الشيخ د.علي بن عمر بادحدح
"صيف من نوع آخر" موضوع حديثنا، ونحن في أوائل هذا الصيف وإجازته الممتدة لأشهر متعاقبة، ولعل أظهر وأبرز ما في الصيف من الناحية الحسية الملموسة، حرّه الشديد الذي يفزع منه الناس إلى الهواء البارد من المكيفات، أو إلى السفر إلى بلاد فيها اعتدال من الطقس، ولا شك أنه لو تأملنا وأردنا أن ننتقل إلى صور أخرى ونمط آخر فإن ثمة ما سيدعونا إلى التأمل والتفكّر والتدبر، سنرى ما يجعلنا نعيد حساباتنا، ونصحح مساراتنا، ونجمع ونطرح أرقامنا، حر شديد أنتقل بكم إلى صيف آخر كان فيه سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وكانت معه الكوكبة المشرقة المنيرة من أصحابه رضوان الله عليهم، وكان الوقت في شدة حر الصيف، في مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام، حين يشتد الصيف يحين أوان نضج الثمار، ويكون الأمر الذي يقعد الناس إلى الأرض ويجذبهم إلى الزرع، ويربطهم إلى التجارة، وإلى نعم الله عز وجل، وهناك في هذه الظروف والملابسات، كان خروج النبي صلى الله عليه وسلم للجهاد في أبعد شقة وأطول مسافة، وفي أشد أوقات العام حرا وحرارة، وفي أكثر الظروف المادية صعوبة وضراوة، وهنا نجم النفاق المخذل، والضعف الظاهر، فقال المنافقون قولتهم: {وقالوا لا تنفروا في الحر، قل نار جهنم أشد حراً} .
انظروا إلى ذلك الصيف كيف كان الخروج من حرّه إلى حر أشد في مواجهة أعظم قوة توجهت إليها جيوش النبي صلى الله عليه وسلم، انظروا إلى التصوير الذي يرويه لنا أبو خيثمة رضي الله عنه عندما تجهز المسلمون وبدءوا في الانطلاق والمسير، في أول الصيف، وكان هو له زوجتان، وعندهم بستان، وقد دنت القطاف وتدلت الأعذاق، واستوت ثمار النخيل، وإذا به يتأخر في التجهز، وإذا بالجواذب تشغله عن الانطلاق، وإذا بمراعاة الزرع والثمار يجعله يسوف في تلك الأوقات حتى جاء يوم قد اشتد حره وأقبل أبو خيثمة إلى بستانه، وإذا كل امرأة من امرأتيه قد هيأت له ماء باردا ورشت له عريشا من الشجر المخضر المظلل، وقف ينظر إلى ذلك وهنا جاءت المفاضلة بين صيف وصيف، وبين حال وحال، فقال:
"رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في الضح –أي في شدة الحر- مجاهدين في سبيل الله وأبو خيثمة مع زوجتيه في الماء البارد، والله لا أدخل حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم " .
انتصر إيمانه وانتصر صيفه الذي وجهه لأمته ودينه وغايته ورسالته والذي شعر فيه بدوره في هذه الأمة في مواجهة المخاطر والصعوبات، فخرج يلحق النبي صلى الله عليه وسلم وجاءته البشارة من بعد بما أثنى به عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي أجواء هذه المعركة والغزوة العظيمة تنزلت آيات كثيرة شغلت مساحة واسعة من سورة التوبة { وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حراً } .. { يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل } .
تأمل هذه الصورة القرآنية البليغة وهي تعبر عن الجواذب الأرضية المقعدة عن الانطلاقة الإيمانية السماوية، وهي تصور لنا ذلك في أحداث السيرة كما في قصة هذا الصحابي الجليل.
ونرى حينئذ صورا كثيرة من صيفنا هذا بحره لا في المكيفات ولا في أجواء السياحات، بل هناك في أرض الإسراء تتجدد مرة أخرى صور صيف من المواجهة لأعداء الله والثبات على دين الله، والإعلاء والإعزاز لدين الله، وصور تجدد لنا ذلك الموقف وتلك الصور، كأنما تحي فينا هذه المعاني، صيف مواجهة واستمرار مجابهة ومضي على جهاد ومقاومة في ظل ظروف صعبة مجتمعة في كل ما يمكن أن يبلغ بها الغاية العظمى في شدتها وقسوتها وضراوتها، غير أنها بإذن الله عز وجل لم تنل من إيمانهم ويقينهم وثباتهم، ليجددوا لنا تلك الصورة ولنسمع مرة أخرى من يقول لا تنفروا في الحر، ومن يقول أو يصور لنا تلك الصورة {أثاقلتم إلى الأرض} .
ويوم نرى تلك الجواذب وهي تتخطف الناس يمنة ويسرة في هذه الصورة نرى صيفاً - كما قلت - من نوع آخر .(/1)
ولعلي أنتقل بكم كذلك إلى صورة صيفية أخرى، صور الشواطئ وما أدراك ما الشواطئ التي تمتلئ في بقاع الأرض إلا ما رحم الله ! تمتلئ بالمصطافين ونرى ذلك في بلاد إسلامية وغير إسلامية، ونرى ما يقولونه من راحة واستجمام، ونرى معه ما في ذلك من عري وفسق وما فيه كذلك من حفلات ماجنة وعورات مكشوفة وغير ذلك، ويقترن هذا مع الصيف بل ويدعى إليه ويروج له ويرغب فيه ويتكرر ذلك لنرى مرة أخرى صيفا آخر في الواقع، وشواطئ أخرى في الواقع، شاطئ غزة حدثتكم أحداث الأمس القريب والأيام الماضية، كيف هو مشتعل لا بحر الصيف بل بنيران القذائف، كلكم ربما سمع أو شاهد الطفلة هدى، وهي ترى أباها وأسرتها تموت بين يديها على تلك الشواطئ التي لم تكن راحة واستجمام؛ بل كانت في صورة أخرى تمثل صورة قصف وإجرام، وبغي وظلم، وصور مؤلمة محزنة، كأن الذين يعيشون على الشواطئ الأخرى لم يسمعوا بها، أو لا يريدون أن يذكرهم أحد بها ليبقوا في غفلتهم أو متعتهم أو لهوهم كما يشاءون، ولكني أحدث نفسي وأحدثكم بلسان تلك الطفلة قائلة:
يا من مررتم فوق جرحي
فوق أشلائي
كأني لست من باقي البشر
شكرا لكم
يا من رأيتم ما أعاني
في حصاري واحتضاري
ثم نمتم تحت أنغام القمر
ماذا جنيت لكي أعيش على العذاب
ونداء جرحي في عواصف صمتكم صوت وغاب
قد كنت أحسب أنكم مني
ولكن ليس مني من سباني
ليس مني من بكاني في ثواني
ثم عاد للوسائد والأماني
لا بد أن نستحضر المقارنة، لا لنجرم أو نحرم الراحة أو المتعة المباحة، ولكن لنعيش آلام وآمال أمتنا ولنعيش واقع عصرنا، ولندرك الحقائق والسهام المصوبة نحو أمتنا، وليس ذلك فحسب بل لنتذكر أيضا آيات ربنا وأحاديث نبينا صلى الله عليه وسلم : {وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق } .
ونستحضر حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: ( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه ) .
أسلمناهم للعدو وبقينا نتفرج، بل ونهرِّج، بل ونستعد لمتع هنا وهناك تتوالى صورها المختلفة وأنماطها المتعددة، أنتقل بكم مرة أخرى إلى صورة ثالثة، صورة الإنفاق المالي في الصيف وما أدراك ما الصيف، خذوا هذه الأرقام حديثة عهد منشورة في هذا اليوم عن صيف العام الذي مضى في بلادنا هذه، ومرة أخرى ليس من تحريم ولا تجريم ولكن انظروا للمقارنة والاعتبار، تقول إحصائية الهيئة العليا:
"إن مجمل ما كان في الصيف الماضي داخل البلاد شكل ثلاثين مليون رحلة جوية واستؤجرت فيها مائة وستة وتسعون مليون ليلة وكان إجمال المبالغ التي أنفقت واحد وثلاثون مليار ريال، وأما في السياحة الخارجية فكانت نحو أربعين مليون رحلة وخمسة وخمسون مليون ليلة وشكلت في مصاريفها أربعة عشر مليار ريال، والمجموع خمسة وأربعون مليار ريال أنفقت "
وأكرر رابعة وخامسة : ليس من تجريم ولا تحريم، لكني أقول احسبوا واحدا بالمائة من هذا الرقم فستجدونه يشكل أربعمائة وخمسون مليون ريال، ولو قلتم عشرة بالمائة لكانت أربعة مليارات ونصف مليار مليون ريال، فلعلي أقول لكل أحد ينفق قليلا أو كثيرا، احسب هذه النسبة واحد بالمائة أو عشرة بالمائة، كلما أنفقت مائة أخرج مقابلها ريالا أو عشرة ريالات اجعلها لمن يعيشون الصيف في حال أخرى غير حالك، لنجسد الصورة المثلى لحقيقة الإيمان والأخوة الإيمانية والرابطة الإسلامية { إنما المؤمنون إخوة } .
والصورة البديعة الرائعة المشرقة التي لم يسجل التاريخ لها مثيلاً :
{والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} .
صنعها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ملحمة خالدة وصفحات ناصعة من الإيثار الذي اقتسموا فيه أموالهم، الذي فتحوا فيه دورهم، التي شكلت أعظم امتزاج روحي معنوي ومادي حسي جعل كل مسلم أخا حقيقيا لأخيه المسلم حتى في آخر رمق من رمق الحياة وتلك الأخوة تتجدد وتتجذر في واقع المسلمين يوم كانوا بإيمانهم وبدينهم مستمسكين، أفليس حقا علينا في صيفنا هذا أن نعطي مثل هذه النسبة؟! لا أقول لا تنفق ولا تذهب، ولكن أقول: لا تنس ولا تغفل، إن القذائف المرسلة إلى هناك لا تنال من إخواننا فحسب، إنها تنال من كرامتنا وعزتنا ومكانة أمتنا، بل في الحقيقة تنال من حقائق ثباتنا على ديننا وتمثيلنا لإسلامنا، وهي التي يمكن أن تكون معادلة كما أشرت من قبل مرارا تغير الواقع تغييرا جذريا بمقاييس الإيمان، {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله} ، {وما ذلك على الله بعزيز } .
والتاريخ يجدد نفسه، والسنن الربانية الماضية لا تتغير ولا تتبدل { ولن تجد لسنة الله تحويلا } ، { ولن تجد لسنة الله تبديلا } .(/2)
وألتفت في مجال الإنفاق كذلك، إلى الإنفاق في حفلات الزواج التي تمتلئ بها أيام وليالي الصيف من أوله إلى آخره، ولست أملك إحصائية لكن الأرقام أكثر مما ذكرناه في هذه الأحوال، ومرة أخرى ما عسى أن ينقص من فرحنا ومن سعادتنا لو وفرنا قليلا من المال بدلا من الطعام الذي يلقى في أماكن النفايات، بدلا من المباهاة والمفاخرة والمظاهر الكاذبة، بدلا من الأموال التي تصرف في غير محلها، وهناك من يتضور جوعا، أو يموت من مرض من إخواننا قريب منا هنا أو هناك، ولعلي أعيد تجديد الصيف مرة أخرى في الصيف الآخر في يوم تبوك الذي أسلفنا الحديث عنه سابقا، يوم جاء عثمان رضي الله عنه وتكفل وحده بتجهيز جيش كامل سمي إذ ذاك جيش العسرة، لأنه جاء والمسلمون في قلة ذات يد وعدم قدرة على تجهيز أنفسهم بأدنى الوسائل والإمكانات فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان القولة الشهيرة التي لو تأملنا فيها لكان كل واحد من وبالأخص كل ثري من أثريائنا يتمنى لو ينفق ماله كله لينال مثل هذه الشهادة النبوية : ( ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم ) .
قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجسد لنا الحقيقة التي ينبغي أن نقارن فيها دائما وأبدا، وفي رواية الترمذي قصة الشيخين الجليلين والصحابيين الكبيرين العظيمين أبي بكر وعمر ..
يوم دعا النبي إلى الإنفاق فقال عمر اليوم أسبق أبا بكر فأخذ شطر ماله كله، وجاء به إلى النبي عليه الصلاة والسلام، قال: فوافيت مقدم أبي بكر، ورسول الله يقول: ماذا أبقيت لأهلك يا أبا بكر، فيقول: أبقيت لهم الله ورسوله، فيقول عمر: والله لا أرزأك شيئا بعد اليوم يا أبا بكر ..
فليتذكر الذين يتسابقون في الإنفاق الذي يقرب أحيانا من حد السفه في تلك الأعراس فليتذكروا المنافسة الصحيحة التي تسجل لهم في صحائف الحسنات، والتي تذخر لهم في العرصات يوم القيامة:
{يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم} .
كثيرة هي صور الصيف وكثيرة هي صور من صيف في نوع آخر قد لا نستطيع أن ننتقل إليه قد لا نجدد أو نعجز الآن أن نجدد صورة عثمان أو نحقق منافسة أبي بكر وعمر، لكنا نقول فتشبهوا بالصالحين إن لم تكونوا مثلهم، على الله عز وجل أن يدركنا برحمته، ولو لم نستطع فعل شيء فلا أقل من أن نشعر بوخز الضمير وضيق الصدور وشيء من حزن وألم، ونحن بين أبنائنا وأزواجنا وفي نعمة ربنا ووفرة أموالنا ورغد عيشنا، وكثرة رزقنا، فأين نحن في ذلك كله من شكر نعم ربنا وأداء واجبنا نحو إخواننا، ليس في أرض فلسطين فحسب بل في كل مكان .
ولعلي أمضي هنا وهناك فآتي بكثير وكثير، وأستحضر معكم حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم : ( من بات آمنا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ) .
وكأني بكل واحد منا يصدق فيه هذا الحديث بحمد الله ونعمته، أمان في السرب، ومعافاة في البدن، ووفرة في الرزق، فالدنيا كلها مجتمعة، وأي شيء سنفعل لو جاءتنا أضعاف مضاعفة من هذه الدنيا، هل سيأكل أحد أكثر من معدته، وهل سينام في أكثر من طول جسمه، ماذا سيصنع بالمال؟ من الذي سيأخذ شيئا من المال معه إلى قبره؟ ليحسن من حاله، أو ليكيف أجواءه أو لينير ظلمته أو ليبدد وحشته، كلنا يوقن بأن شيئا لن يكون من ذلك، فأين هذا اليقين من واقع الحياة، وأين هذه المقارنات التي نقارن فيها مع سيد الخلق صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام وتاريخ أمتنا بل وواقعها المعاصر المشرف في كثير من بقاعها وكثير من رجالاتها، أفليس حري بنا أن نبحث عن صيف من نوع آخر ؟
أحسب أني أثرت السؤال وأثرت الشجى والشجن، وذلك ما أحسب أنه هدف الحديث لعله يعتمل في النفوس وفي العقول ما يدفعنا إلى تغير في السلوك.
ولست بذاكر هذه الصور في صيف آخر في الجوانب التي فيها بعض ما قد ينتقد أو يعاب ويذام ، بل كذلك أنتقل في إيجاز سريع إلى بعض ما يمدح ويثنى عليه ويدعى إليه، أنتقل إلى الدورات القرآنية وإلى حلق القرآن في المساجد، وأقول اجعلوا كذلك صيفكم صيفا آخر، اجمعوا مع القرآن تدبر آياته ومعانيه { أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها } .
والله وضح الغاية من هذا الكتاب فقال : { ليدبروا آياته } .
واجعلوا ما يمر بكم من الآيات يرسم صورة الواقع الحي متحركا فإن القرآن هو روح الحياة وهو نورها الذي نبصر به الطريق { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء } .
والله يقول كذلك :
{أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نوارا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها } .(/3)
أحيوا بالقرآن القلوب وذكروا به العقول وقوموا به السلوك واجعلوا منه محركا جديدا يبعث فينا روح عزة ربما ضعفت وروح يقين ربما تزعزع أو تضعضع، واجعلوا ذلك صيفا آخر لا نقتصر فيه على التلاوة ولا التجويد ولا الحفظ ولا المراجعة والتمكين، بل نتجاوزه إلى التدبر والتأمل و العمل والحياة والتأثر والدعوة حتى نحقق ذلك الوصف أو نتشبه به يوم أوجزته أم المؤمنين عائشة في وصف سيد الخلق صلى الله عليه وسلم ( كان خلقه القرآن ) .
وأنتقل إلى دورات علمية شرعية، فأقول إن علم الشرع ليس مجرد مسائل تحفظ وإنما هو كما قال الحق عز وجل : { إنما يخشى الله من عباده العلماء }
وعندما سئل الشعبي عن العالم قال : " إنما العالم من يخشى " .
فنريد أن نجعل هذه العلوم علوما مؤثرة مغيرة تجعلنا نعيش هذا الدين ونعيش لأجل هذا الدين، ونعيش مع أنصار وأتباع هذا الدين العظيم، الذي امتن الله به علينا، ونعرف قدر العلم وفضله وتدبره وتأمله كما قال الحق سبحانه وتعالى: {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون}
أصحاب العلم ليسوا أصحاب محفوظات، أصحاب بصيرة تذكر وتنير الطريق وتحمل الراية وتتقدم الصفوف كما كان الأئمة كلهم، كما كان الصحابة قبلهم كما كان العلماء إثرهم، كما هو تاريخ أمتنا في منظومتها الخالدة التليدة الفريدة ، ولو مشينا لوجدنا ذلك كذلك في كل شيء، في كل مركز صيفي أقيموا شيئا يعرف بأحوال المسلمين عموما وفي فلسطين خصوصا، اربطوا أنفسكم بأمتكم، اجعلوا محور حياتكم في أعمالكم كلها، يرتبط بهذا المحور العظيم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ..
نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً(/4)
صِدق.. و.. كَذب
عن أدب الدين والدنيا للماوردي
كلمتان تدلان على حالين متباعدتين إحداهما عن الأخرى بُعد السماء عن الأرض، فقد قال النبي صلى اله عليه وسلم لحفيده الحسن بن علي رضي الله عنهما:
"دع ما يريبك إلى مالا يريبك، فإن الكذب ريبة، والصدق طمأنينة"
قال تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين).
ومدح إبراهيم وإدريس عليهما السلام بكثرة صدقهما فقال:
(واذكر في الكتاب إبراهيم أنه كلن صديقاً نبياً).
(واذكر في الكتاب إدريس أنه كان صديقاً نبياً، ورفعناه مكاناً عليا).
وقال تعالى في ذم الكذب:
(ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) آل عمران (16).
فقال: (والخامسة أنّ لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين) النور (7).
ومن الذي يكذب؟
(إنما يفتري الكذب لا يؤمنون بآيات الله) النحل (105).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى:
(ولا تلبسوا الحق بالباطل).
لا تخلطوا الصدق بالكذب.
وقال أحد الحكماء: الكذّاب لص، لأنه يسرق عقلك.
وقال أحدهم: صدق اللسان أول السعادة، والخرس خير من الكذب.
ومدح أحدهم الصدق فقال: لا سيف كالحق، ولا عون كالصدق.
وذم أحد الشعراء الكذب فقال:
وما شيءٌ إذا فكّرتَ فيه بأذهبَ للمروءة والجمال
من الكذب الذي لا خير فيه وأبعدَ بالبهاء من الرجال
وقال بليغ متمكّن: الصادق مصون جليل، والكاذب مَهين ذليل.
وقال صلى الله عليه وسلم موضحاً الصدق ومآله، والكذب ومهلكه:
أ – إن الصدق يهدي إلى البر
ب – وإن البر يهدي إلى الجنة
ج – وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقاً.
أ – وإن الكذب يهدي إلى الفجور
ب – وإن الفجور يهدي إلى النار
ج – وإن الرجل ليكذب حتى يُكتب عند الله كذابا".
والصدق جماع كل خير وأصل كل فضيلة، فمنه ينتج الحب والمودة والثقة والصواب، وراحة البال والأمن.
والكذب جماع كل شر وأصل كل ذم لسوء عواقبه، وخبث نتائجه، فعنه تصدر النميمة التي هي أصل البغضاء، والبغضاء تؤول إلى العداوة، وليس مع العداوة أمن ولا راحة، ولذلك قيل: من قلَّ صدقه قلَّ صديقه.
وللصدق أسباب ودواع منها:
1 – العقل: الذي يرى الكذب قبحاً ينبغي تجنبه، فهو لا يجلب نفعاً، ولا يدفع ضراً، والعقل يدعو إلى فعل ما كان مستحسناً، ويمنع من إتيان ما كان مستقبحاً، وليست مبالغات الشعراء المؤدية إلى الكذب الصراح استحساناً للكذب إلا أنها معبرة عن لطيفة، كقول المتنبي:
كفى بجسمي نحولاً أنني رجل لولا مخاطبتي إياك لم ترني
ولي مع الكذب والصدق في الشعر مواقف نذكرها لاحقاً إن شاء الله تعالى.
2 – الدين: الذي أمر بالصدق، وحظر الكذب، وإن جرَّ الكذب نفعاً أو دفع ضراً، فحبل الكذب قصير والصدق أولى أن يتبع، ولئن كان الكذب ينجي أحياناً، للصْدقُ أنجى وأبقى. والحياة في الدين والشرع ينبغي أن تقوم على الصدق، والصدق وحده.
3 – المروءة: شِمال من أعظم الشمائل(1) تمنع صاحبها من الكذب وتبعثه على الصدق، وتنهاه عن الدنيّة والأعمال القبيحة، وتهيب به أن يفعل ما يكسبه الذكر الحسن.
قال عبد يغوث:
ألم تعلما أن الملامة نفعها قليل، وما لومي أخي من شماليا
وقال عمرو بن الشريد أخو الخنساء:
أبى الشتمَ أني قد أصابوا كريمتي وأنْ ليس إهداءُ الخنى من شماليا
4 – حب الاشتهار بالصدق حتى لا يُرَدَّ عليه القول، ولا يلحقه ندم، وقد قال أحد الحكماء:
ليكن مرجعك إلى الحق، ومنزعك إلى الصدق، فالحق أقوى معين، والصدق أفضل قرين.
وقال بليغ: لا تقل ما تندم عليه، فإنه مثلبة.
وقال أحد الشعراء فأحسن:
عودّ لسانك قول الصدق تحظَ به إن اللسان لما عوّدتَ معتادُ
موكل بتقاضي ما سننت له في الخير والشر، فانظر كيف ترتاد
وقال أحدهم:
فالصدق في أقوالنا أقوى لنا والكذبُ في أفعالنا أفعى لنا
وللكذب أسباب ودواعٍ منها:
1 – اجتلاب النفع واستدفاع الضر: فيرى الكذب أسلم وأغنم، فيرخّص لنفسه فيه اغتراراً بالخدع، وتعلّقاً بالطمع.
ويعتاد الكاذب أن يكذب على الرغم من بُعد أمله لخوف يملأ نفسه الضعيفة، ولكن هذا قبيح، والقبيح لا يكون حسناً والشر لا يصير خيراً، وليس يُجنى من الشوك العنب، ولا من الحنظل الرُّطب. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"تحرّوا الصدق، وإن رأيتم أن فيه التهلكة، فإن فيه النجاة، وتجنبوا الكذب، وإن رأيتم أنّ فيه النجاة، فإن فيه التهلكة".
وما أبلغ قول الفاروق رضي الله عنه إذ قال:
لأن يضعني(2) الصدق، وقلّما وضع، أحبُّ إليّ من أن يرفعني الكذب، وقلّما يفعل.
وقال حكيم: الصدق منجيك وإن خفته، والكذب مرديك وإن أمنته.
وقال الجاحظ: الصدق والوفاء توأمان، والصبر والحلم توأمان، فيهن تمام كل دين، وصلاح طل دنيا، وأضادهن سبب كل فُرقة، وأصل كل فساد.(/1)
2 – أن يؤثر أن يكون حديثه مستعذباً، وكلامه مستظرفاً، فلا يجد صدقاً يعذب، ولا حديثاً يستظرف، فيستحلي الكذب الذي ليست غرائبه معوزة، ولا ظرائفه معجزة، وهذا أسوأ حالاً من الأول، لأنه يصدر عن مهانة النفس ودناءة الهمّة، وقد قال الجاحظ:
"لم يكذب أحد قط إلا لصغر قدر نفسه عنده".
وقال ابن المقفع:
"لا تتهاون بإرسال الكذبة من الهزل، فإنها تسرع إلى إبطال الحق".
ولا يدخل ما قاله النقاد في الشعر: أعذب الشعر أكذبه. لكنّ الأصل في ذلك البيت المشهور:
وإن أعذب بيتٍ أنت قائله بيتٌ يُقال إذا أنشدتَه صدقاً
3 – أن يقصد بالكذب التشفّي من عدوّه، فيسمه بقبائح يخترعها عليه، ويصفه بفضائح ينسبها إليه، ويرى أن معرّة الكذب غنم، وأن إرسالها في العدو سهم وسمّ، وهذا أسوأ حالاً من النوعين الأولين لأنه جمع بين الكذب والمعرّ، والشرّ المضر، وعلى هذا ورد الشرع بردّ شهادة العدو على عدوّه.
قال أحدهم: إن شمائلي لتمنعني أن أقول في عدوّي ما ليس فيه.
قال الشاعر في هذا:
وأحبُّ كلّ مهذب ولو انه خصمي وأرحم كل غير مهذّب
يأبى فؤادي أن يميل إلى الأذى حبُّ الأذيّة من طباع العقرب
4 – أن يكون الكذب سجيّة من سجاياه، حين تترادف عليه دواعي الكذب، فيألفها ويدمنها، وينقاد إليها، ولو رام مجانبة الكذب، عَسر عليه، فصارت العادة طبعاً فيه.
وقد قيل لكذوب: ألا تصدق؟
قال: إذاً أنا ذو وجهين.
وقالت الحكماء: من استحلى الكذب عَسُرَ فطامه.
وقالوا: لا يلزم الكذاب شيء إلا غلب عليه.
إمارات الكذّاب:
وقد تعرف الكذّاب بصفته هذه قبل أن تخبره لما يظهر عليه من أمور تدمغه بالكذب ابتداءً منها:
أ – أن نور الإيمان بعيد عن وجهه، وسيماء المذلة متمكنة فيه.
ب – أنك إذا لقنته أمراً وطلبت إليه أن يعيده عليك، لم يجد حرجاً في أن يزيد، ويختلق.
ج – وأنك إذا رددت عليه قوله، حصر وارتبك وغابت عنه نصرة المحتجين وبرهان الصادقين.
د – أنه سريع التشكك إذا شككته بما حدّثك، وقد قال علي رضي الله عنه:
"الكذّاب كالسّراب".
هـ – وقالت الحكماء في ريبة الكذابين وضعف موقفهم: العينان أنمُّ من اللسان.
وقال بعض الأدباء: الوجوه مرايا تريك أسرار البرايا.
وقال الشاعر يوضح ذلك:
تريك أعينهم ما في صدورهم إن العيون يؤدي سرّها النظر
وإذا اتسم أحدهم بالكذب وعرف فيه، نسبن إليه شوارد الكذب المجهولة، وأضيفت إلى أكاذيبه زيادات مفتعلة حتى يصير الكاذب مكذوباً عليه، وهذا من مساخير القدر، فيجمع بين إثم الكذب ومضرة الكذب عليه. وقال الشاعر:
حَسْبُ الكذوب من البليّة بعضُ ما يُحكى عليه
فإذا سمعتَ بكذبه من غيره نُسبت إليه
ثم إنه إن تحرّى الصدق اتهم، وإن جانب الكذب كذّب حتى لا يصدّقه أحد وإن صدق، ولا يستنكر سامعوه كذبه لما اعتادوه عليه.
كذب مرخّص فيه:
وقد وردت السنة بإرخاص الكذب في:
أ – الحرب: فالقيادة تنشر بعض المعلومات الكاذبة تضلل بها العدو، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "الحرب خدعة".
ب – إصلاح ذات البين على وجه التورية والتأويل دون التصريح به. فإن السنة لا ترد بإباحة الكذب لما فيه من التنفير إنما عن طريق التلميح والتعريض، وقد قال صلى الله عليه وسلم:
"وإنّ في المعاريض لمندوحة عن الكذب".
وعلى هذا فقد سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرّفه بنفسه وأبي بكر قبيل غزوة بدر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:
"نحن من ماء".
فظن السائل أنه عنى قبيلة فقال: من ماء؟ أية ماء؟
وأراد النبي صلى الله عليه وسلم: الماء الذي يُخلق منه الإنسان، فصدق وأخفى الحقيقة.
وكان أبو بكر يمشي خلف النبي صلى الله عليه وسلم في هجرتهما من مكة إلى المدينة، فتلقاه العرب وهم يعرفونه ولا يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا:
- يا أبا بكر من هذا؟
فقال: هادٍ يهديني السبيل.
فظنوا أنه يعني هداية الطريق، وهو يريد هداية سبيل الخير والإسلام، فصدق في قوله، وورّى عن مراده.
وقال الفاروق عمر رضي الله عنه:
"إن في المعاريض ما يكفي أن يعفّ الرجل عن الكذب"
وقال بعض أهل التأويل في قوله تعالى: (ولا تؤاخذني بما نسيت) أنه لم ينس، ولكنه من معاريض الكلام.
وقال ابن سيرين: الكلام أوسع من أن يُصرّح فيه بالكذب.
بعض الصدق المضر:
لا نعجب من هذا العنوان، فبعض الصدق يقوم مقام الكذب في القبح والسوء، ويزيد عليه في الأذى والمضرّة، وهو:
1 – الغيبة: فإنها خيانة، وهناك ستر، يحدثان عن حسد وغدر، وضعف في الدين، قال تعالى:
(ولا يغتب بعضكم بعضاً، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه).
وروي أن امرأتين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتا، وجعلتا تغتابان الناس، فأخبر الرسول (صلى الله عليه وسلم) بذلك فقال:
"صامتا على ما أُحلّ لهما، وأفطرتا على ما حُرّم عليهما".
وقال صلى الله عليه وسلم:
"من ذبَّ عن لحم أخيه بظهر الغيب، كان حقاً على الله عز وجل أن يحرّم لحمه على النار".
وقال عدي بن حاتم:
الغيبة رعي اللئام.(/2)