إن التصدي لهؤلاء المستهترات ـ إذا وجدن ـ أن تصدر قوانين صارمة بتشديد العقوبة على كل من تسوّل له نفسه استغلال الحجاب لتسهيل الجرائم وإشباع الأهواء، فمثل هذا التشديد جائز شرعًا في شريعة الله الغراء التي حرصت على صيانة النفس ووقاية العرض، وجعلتهما فوق كل اعتبار، وإذا كان التخوف من سوء استغلال الحجاب مخطرة محتملة إلا أن المخطرة في التبرج والسفور بنشر الفاحشة وفتح ذرائعها مقطوع بها لدى كل عاقل [عودة الحجاب (3/415)].
الشبهة الرابعة: عفة المرأة في ذاتها لا في حجابها:
يقول البعض: إن عفة الفتاة حقيقة كامنة في ذاتها، وليست غطاء يلقى ويسدل على جسمها، وكم من فتاة محتجبة عن الرجال في ظاهرها وهي فاجرة في سلوكها، وكم من فتاة حاسرة الرأس كاشفة المفاتن لا يعرف السوء سبيلًا إلى نفسها ولا إلى سلوكه [إلى كل فتاة تؤمن بالله. د.محمد سعيد البوطي (97)].
الجواب:
إن هذا صحيح، فما كان للثياب أن تنسج لصاحبها عفّة مفقودة، ولا أن تمنحه استقامة معدومة، وربَّ فاجرة سترت فجورها بمظهر سترها.
ولكن من هذا الذي زعم أن الله إنما شرع الحجاب لجسم المرأة ليخلق الطهارة في نفسها أو العفة في أخلاقها؟! ومن هذا الذي زعم أن الحجاب إنما شرعه الله ليكون إعلانًا بأن كل من لم تلتزمه فهي فاجرة تنحط في وادي الغواية مع الرجال؟!
إن الله عز وجل فرض الحجاب على المرأة محافظة على عفة الرجال الذين قد تقع أبصارهم عليها، وليس حفاظًا على عفتها من الأعين التي تراها فقط، ولئن كانت تشترك معهم هي الأخرى في هذه الفائدة في كثير من الأحيان إلا أن فائدتهم من ذلك أعظم وأخطر، وإلا فهل يقول عاقل تحت سلطان هذه الحجة المقلوبة: إن للفتاة أن تبرز عارية أمام الرجال كلهم ما دامت ليست في شك من قوة أخلاقها وصدق استقامتها؟!
إن بلاء الرجال بما تقع عليه أبصارهم من مغرياتِ النساء وفتنتهن هو المشكلة التي أحوجت المجتمعَ إلى حلّ، فكان في شرع الله ما تكفّل به على أفضل وجه، وبلاء الرجال إذا لم يجد في سبيله هذا الحلّ الإلهي ما من ريب سيتجاوز بالسوء إلى النساء أيضًا، ولا يغني عن الأمر شيئًا أن تعتصم المرأة المتبرجة عندئذ باستقامةٍ في سلوكها أو عفة في نفسها، فإن في ضرام ذلك البلاء الهائج في نفوس الرجال ما قد يتغلّب على كل استقامة أو عفة تتمتّع بها المرأة إذ تعرض من فنون إثارتها وفتنتها أمامهم [إلى كل فتاة تؤمن بالله (97-99)].
الشبهة الخامسة: دعوى أن الحجاب من وضع الإسلام:
زعم آخرون أن حجاب النساء نظام وضعه الإسلام فلم يكن له وجود في الجزيرة العربية ولا في غيرها قبل الدعوة المحمدية [يا فتاة الإسلام اقرئي حتى لا تخدعي للشيخ صالح البليهي (124)].
الجواب:
1- إن من يقرأ كتب العهد القديم وكتب الأناجيل يعلم بغير عناء كبير في البحث أن حجاب المرأة كان معروفًا بين العبرانيين من عهد إبراهيم عليه السلام، وظل معروفًا بينهم في أيام أنبيائهم جميعًا، إلى ما بعد ظهور المسيحية، وتكررت الإشارة إلى البرقع في غير كتاب من كتب العهد القديم وكتب العهد الجديد.
ففي الإصحاح الرابع والعشرين من سفر التكوين عن (رفقة) أنها رفعت عينيها فرأت إسحاق، فنزلت عن الجمل وقالت للعبد: من هذا الرجل
الماشي في الحقل للقائي، فقال العبد: هو سيدي، فأخذت البرقع وتغطت.
وفي النشيد الخامس من أناشيد سليمان تقول المرأة: أخبرني يا من تحبه نفسي، أين ترعى عند الظهيرة؟ ولماذا أكون كمقنعة عند قطعان أصحابك؟
وفي الإصحاح الثالث من سفر أشعيا: إن الله سيعاقب بنات صهيون على تبرجهن والمباهاة برنين خلاخيلهن بأن ينزع عنهن زينة الخلاخيل والضفائر والأهلة والحلق والأساور والبراقع والعصائب.
وفي الإصحاح الثامن والثلاثين من سفر التكوين أيضًا أن تامار مضت وقعدت في بيت أبيها، ولما طال الزمان خلعت عنها ثياب ترملها وتغطت ببرقع وتلففت.
ويقول بولس الرسول في رسالته كورنثوس الأولى: "إن النقاب شرف للمرأة، وكانت المرأة عندهم تضع البرقع على وجهها حين تلتقي بالغرباء وتخلعه حين تنزوي في الدار بلباس الحداد [يا فتاة الإسلام (128-126) باختصار].
فالكتب الدينية التي يقرؤها غير المسلمين قد ذكرت عن البراقع والعصائب مالم يذكره القرآن الكريم.
2- وكان الرومان يسنون القوانين التي تحرم على المرأة الظهور بالزينة في الطرقات قبل الميلاد بمائتي سنة، ومنها قانون عرف باسم "قانون أوبيا" يحرم عليها المغالاة بالزينة حتى في البيوت [يا فتاة الإسلام (126)].
3- وأما في الجاهلية فنجد أن الأخبار الواردة في تستّر المرأة العربية موفورة كوفرة أخبار سفورها، وانتهاكُ سترها كان سببًا في اليوم الثاني من أيام حروب الفجار الأول؛ إذ إن شبابًا من قريش وبني كنانة رأوا امرأة جميلة وسيمة من بني عامر في سوق عكاظ، وسألوها أن تسفر عن وجهها فأبت، فامتهنها أحدهم فاستغاثت بقومها.(/3)
وفي الشعر الجاهلي أشعار كثيرة تشير إلى حجاب المرأة العربية، يقول الربيع بن زياد العبسي بعد مقتل مالك بن زهير:
من كان مسرورًا بمقتل مالك فليأت نسوتنا بوجه نهار
يجد النساء حواسرًا يندبنه يلطمن أوجههن بالأسحار
قد كن يخبأن الوجوه تسترًا فاليوم حين برزن للنظار
فالحالة العامّة لديهم أن النساء كن محجبات إلا في مثل هذه الحالة حيث فقدن صوابهن فكشفن الوجوه يلطمنها، لأن الفجيعة قد تنحرف بالمرأة عما اعتادت من تستر وقناع.
وقد ذكر الأصمعي أن المرأة كانت تلقي خمارها لحسنها وهي على عفة [المرأة بين الجاهلية والإسلام، محمد الناصر وخولة درويش (169، 170)].
وكانت أغطية رؤوس النساء في الجاهلية متنوعة ولها أسماء شتى، منها:
الخمار: وهو ما تغطي به المرأة رأسها، يوضع على الرأس، ويلفّ على جزء من الوجه.
وقد ورد في شعر صخر يتحدث عن أخته الخنساء:
والله لا أمنحها شرارها ولو هلكت مزقت خمارها
وجعلت من شعر صدارها
ولم يكن الخمار مقصورًا على العرب، وإنما كان شائعًا لدى الأمم القديمة في بابل وأشور وفارس والروم والهند [المرأة بين الجاهلية والإسلام (171)].
النقاب: قال أبو عبيد: "النقاب عند العرب هو الذي يبدو منه محجر العين، ومعناه أن إبداءهن المحاجر محدث، إنما كان النقاب لاصقًا بالعين، وكانت تبدو إحدى العينين والأخرى مستوره" [ غريب الحديث (2/440-441)، عند شرح قول ابن سيرين: "النقاب محدث"].
الوصواص: وهو النقاب على مارِن الأنف لا تظهر منه إلا العينان، وهو البرقع الصغير، ويسمّى الخنق، قال الشاعر:
يا ليتها قد لبست وصواصًا
البرقع: فيه خرقان للعين، وهو لنساء العرب، قال الشاعر:
وكنت إذا ما جئت ليلى تبرقعت فقد رابني منها الغداة سفورها
[انظر: المرأة بين الجاهلية والإسلام (171-172)]
الشبهة السادسة: الاحتجاج بقاعدة: "تبدل الأحكام بتبدّل الزمان":
فهم أعداء الحجاب من قاعدة: "تبدل الأحكام بتبدل الزمان" وقاعدة: "العادة محكّمة" أنه ما دامت أعرافهم متطوّرة بتطوّر الأزمان فلا بدّ أن تكون الأحكام الشرعية كذلك [عودة الحجاب (3/403)].
الجواب:
لا ريب أن هذا الكلام لو كان مقبولًا على ظاهره لاقتضى أن يكون مصير شرعية الأحكام كلها رهنًا بيد عادات الناس وأعرافهم، وهذا لا يمكن أن يقول به مسلم، لكن تحقيق المراد من هذه القاعدة أن ما تعارف عليه الناس وأصبح عرفًا لهم لا يخلو من حالات:
1- إما أن يكون هو بعينه حكمًا شرعيًا أيضًا بأن أوجده الشرع، أو كان موجودًا فيهم فدعا إليه وأكّده، مثال ذلك: الطهارة من النجس والحدث عند القيام إلى الصلاة، وستر العورة فيها، وحجب المرأة زينتها عن الأجانب، والقصاص والحدود وما شابه ذلك، فهذه كلها أمور تعدّ من أعراف المسلمين وعاداتهم، وهي في نفس الوقت أحكام شرعية يستوجب فعلها الثواب وتركها العقاب، سواء منها ما كان متعارفًا عليه قبل الإسلام ثم جاء الحكم الشرعي مؤيّدًا ومحسّنًا له كحكم القسامة والديه والطواف بالبيت، وما كان غير معروف قبل ذلك، وإنما أوجده الإسلام نفسه كأحكام الطهارة والصلاة والزكاة وغيرها.
فهذه الصورة من الأعراف لا يجوز أن يدخلها التبديل والتغيير مهما تبدلت الأزمنة وتطورت العادات والأحوال؛ لأنها بحدّ ذاتها أحكام شرعية ثبتت بأدلة باقية ما بقيت الدنيا، وليست هذه الصورة هي المعنية بقول الفقهاء: "العادة محكَّمة".
2- وإما أن لا يكون حكمًا شرعيًا، ولكن تعلّق به الحكم الشرعي بأن كان مناطًا له، مثال ذلك: ما يتعارفه الناس من وسائل التعبير وأساليب الخطاب والكلام، وما يتواضعون عليه من الأعمال المخلّة بالمروءة والآداب، وما تفرضه سنة الخلق والحياة في الإنسان مما لا دخل للإرادة والكليف فيه كاختلاف عادات الأقطار في سن البلوغ وفترة الحيض والنفاس إلى غير ذلك.
فهذه الأمثلة أمور ليست بحد ذاتها أحكامًا شرعية ولكنها متعلَّق ومناط لها، وهذه الصورة من العرف هي المقصودة من قول الفقهاء: "العادة محكمة"، فالأحكام المبنيّة على العرف والعادة هي التي تتغيّر بتغيّر العادة، وهنا فقط يصحّ أن يقال: "لا ينكر تبدّل الأحكام بتبدل الزمان"، وهذا لا يعدّ نسخًا للشريعة، لأن الحكم باق، وإنما لم تتوافر له شروط التطبيق فطبِّق غيره. يوضّحه أنّ العادة إذا تغيرت فمعنى ذلك أن حالة جديدة قد طرأت تستلزم تطبيق حكم آخر، أو أن الحكم الأصلي باق، ولكن تغير العادة استلزم توافر شروط معينة لطبيقه [عودة الحجاب (3/403-404)].
الشبهة السابعة: نساء خيِّرات كنّ سافرات:
احتجّ أعداء الحجاب بأن في شهيرات النساء المسلمات على اختلاف طبقاتهن كثيرًا ممن لم يرتدين الحجاب ولم يتجنّبن الاختلاط بالرجال.(/4)
وعمد المروجون لهذه الشبهة إلى التاريخ وكتب التراجم، يفتشون في طولها وعرضها وينقبون فيها بحثًا عن مثل هؤلاء النساء حتى ظفروا بضالتهم المنشودة ودرتهم المفقودة، فالتقطوا أسماء عدد من النساء لم يكن يبالين ـ فيما نقلته الأخبار عنهن ـ أن يظهرن سافرات أمام الرجال، وأن يلتقين معهم في ندوات أدبية وعلمية دونما تحرز أو تحرج [عودة الحجاب (3/409)].
الجواب:
1- من المعلوم والمتقرر شرعا أن الأدلة الشرعية التي عليها تبنى الأحكام هي الكتاب والسنة والإجماع والقياس، فضمن أيّ مصدر من مصادر التشريع تندرج مثل هذه الأخبار، خاصة وأنّ أغلبها وقع بعد من التشريع وانقطاع الوحي؟! [ عودة الحجاب (3/409)].
2- وإذا علِم أن أحكام الإسلام إنما تؤخذ من نص ثابت في كتاب الله تعالى أو حديث صحيح من سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-أو قياس صحيح عليهما أو إجماع التقى عليه أئمة المسلمين وعلماؤهم لم يصحّ حينئذ الاستدلال بالتصرّفات الفردية من آحاد الناس أو ما يسمّيه الأصوليون بـ"وقائع الأحوال"، فإذا كانت هذه الوقائع الفردية من آحاد الناس لا تعتبر دليلًا شرعيًا لأيّ حكم شرعيّ حتى لو كان أصحابها من الصحابة رضوان الله عليهم أو التابعين من بعدهم فكيف بمن دونهم؟!
بل المقطوع به عند المسلمين جميعًا أن تصرفاتهم هي التي توزن ـ صحة وبطلانًا ـ بميزان الحكم الإسلامي، وليس الحكم الإسلامي هو الذي يوزن بتصرفاتهم ووقائع أحوالهم، وصدق القائل: لا تعرف الحقّ بالرجال، اعرف الحقّ تعرف أهله [عودة الحجاب (3/409-410)].
3- ولو كان لتصرفات آحاد الصحابة أو التابعين مثلًا قوة الدليل الشرعي دون حاجة إلى الاعتماد على دليل آخر لبطل أن يكونوا معرّضين للخطأ والعصيان، ولوجب أن يكونوا معصومين مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس هذا لأحد إلا للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أما من عداهم فحقَّ عليهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل بني آدم خطاء)، وإلاّ فما بالنا لا نقول مثلًا: يحل شرب الخمر فقد وجِد فيمن سلف في القرون الخيِّرة من شربها؟! [ عودة الحجاب (3/410)].
4- وما بال هؤلاء الدعاة إلى السفور قد عمدوا إلى كتب التاريخ والتراجم فجمعوا أسماء مثل هؤلاء النسوة من شتى الطبقات والعصور، وقد علموا أنه كان إلى جانب كل واحدة منهن سواد عظيم وجمع غفير من النساء المتحجّبات الساترات لزينتهن عن الأجانب من الرجال؟! فلماذا لم يعتبر بهذه الجمهرة العظيمة ولم يجعلها حجة بدلًا من حال أولئك القلة الشاذة المستثناة؟!
يقول الغزالي: "لم تزل الرجال على مر الأزمان تكشف الوجوه، والنساء يخرجن منتقبات أو يمنعن من الخروج" [ إحياء علوم الدين (2/74)]، ويقول ابن رسلان: "اتفق المسلمون على منع النساء من الخروج سافرات" [ انظر: عون المعبود (4/106)].
ولماذا لم يحتج بمواقف نساء السلف من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان في تمسكهم بالحجاب الكامل واعتباره أصلًا راسخًا من أصول البنية الاجتماعية؟! [ عودة الحجاب (3/410-411)].
الشبهة الثامنة: الحجاب كبت للطاقة الجنسية:
قالوا: إنّ الطاقة الجنسية في الإنسان طاقة كبيرة وخطيرة، وخطورتها تكمن في كبتها، وزيادة الضغط يولّد الانفجار، وحجاب المرأة يغطّي جمالها، وبالتالي فإنّ الشباب يظلون في كتب جنسيّ يكاد أن ينفجر أو ينفجر أحيانًا على شكل حوادث الاغتصاب وغيرها، والعلاج لهذه المشكلة إنما يكمن في تحرير المرأة من هذا الحجاب لكي ينفس الشباب الكبت الذي فيهم، وبالتالي يحدث التشبع لهذه الحاجة، فيقلّ طبقًا لذلك خطورة الانفجار بسبب الكبت والاختناق [أختي غير المحجبة ما المانع من الحجاب؟ لعبد الحميد البلالي (7)].
الجواب:
1- لو كان هذا الكلام صحيحًا لكانت أمريكا والدول الأوربية وما شاكلها هي أقلّ الدول في العالم في حوادث الاغتصاب والتحرّش في النساء وما شاكلها من الجرائم الأخلاقية، ذلك لأن أمريكا والدول الأوربية قد أعطت هذا الجانب عناية كبيرة جدًا بحجة الحرية الشخصية، فماذا كانت النتائج التي ترتبت على الانفلات والإباحية؟ هل قلّت حوادث الاغتصاب؟ هل حدث التشبّع الذي يتحدّثون عنه؟ وهل حُميت المرأة من هذه الخطورة؟
جاء في كتاب "الجريمة في أمريكا": إنه تتم جريمة اغتصاب بالقوة كل ستة دقائق في أمريك [هذا بالنسبة لعام (1988م) على ما في الكتاب]. ويعني بالقوة: أي تحت تأثير السلاح.
وقد بلغ عدد حالات الاغتصاب في أمريكا عام 1978م إلى مائة وسبعة وأربعين ألف وثلاثمائة وتسع وثمانين حالة، لتصل في عام 1987م إلى مائتين وواحد وعشرين ألف وسبعمائة وأربع وستين حالة. فهذه الإحصائيات تكذّب هذه الدعوى [أختي غير المحجبة (8، 10) بتصرف].(/5)
2- إن الغريزة الجنسية موجودة في الرجال والنساء، وهي سرّ أودعه الله تعالى في الرجل والمرأة لحِكَم كثيرة، منها استمرار النسل. ولا يمكن لأحد أن ينكر وجود هذه الغريزة، ثم يطلب من الرجال أن يتصرفوا طبيعيًا أمام مناظر التكشف والتعرّي دونما اعتبار لوجود تلك الغريزة [أختي غير المحجبة (12)].
3- إن الذي يدّعي أنه يمكن معالجة الكبت الجنسي بإشاعة مناظر التبرّج والتعري ليحدث التشبع فإنه بذلك يصل إلى نتيجتين:
الأولى: أن هؤلاء الرجال الذين لا تثيرهم الشهوات والعورات البادية من فئة المخصيّين، فانقطعت شهوتهم، فما عادوا يشعرون بشيء من ذلك الأمر.
الثانية: أن هؤلاء الرجال الذين لا تثيرهم العورات الظاهرة من الذين أصابهم مرض البرود الجنسي.
فهل الذين يدعون صدقَ تلك الشبهة يريدون من رجال أمتنا أن يكونوا ضمن إحدى هاتين الطائفتين من الرجال؟! [ أختي غير المحجبة (12-13)].
الشبهة التاسعة: الحجاب يعطل نصف المجتمع:
قالوا: إن حجاب المرأة يعطل نصف المجتمع، إذ إن الإسلام يأمرها أن تبقى في بيته [أختي غير المحجبة (64)].
الجواب:
1- إن الأصل في المرأة أن تبقى في بيتها، قال الله تعالى: ?وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى? [الأحزاب:33]. ولا يعني هذا الأمر إهانة المرأة وتعطيل طاقاتها، بل هو التوظيف الأمثل لطاقاته [أختي غير المحجبة (64)].
2- وليس في حجاب المرأة ما يمنعها من القيام بما يتعلق بها من الواجبات، وما يُسمح لها به من الأعمال، ولا يحول بينها وبين اكتساب المعارف والعلوم، بل إنها تستطيع أن تقوم بكل ذلك مع المحافظة على حجابها وتجنبها الاختلاط المشين.
وكثير من طالبات الجامعات اللاتي ارتدين الثوب الساتر وابتعدن عن مخالطة الطلاب قد أحرزن قصب السبق في مضمار الامتحان، وكن في موضع تقدير واحترام من جميع المدرسين والطلاب [يا فتاة الإسلام اقرئي (39-40)].
3- بل إن خروج المرأة ومزاحمتها الرجل في أعماله وتركها الأعمال التي لا يمكن أن يقوم بها غيرها هو الذي يعطل نصف المجتمع، بل هو
السبب في انهيار المجتمعات وفشو الفساد وانتشار الجرائم وانفكاك الأسَر، لأن مهمة رعاية النشء وتربيتهم والعناية بهم ـ وهي من أشرف المهام وأعظمها وأخطرها ـ أضحت بلا عائل ولا رقيب.
الشبهة العاشرة: التبرج أمر عادي لا يلفت النظر:
يدّعي أعداء الحجاب أن التبرج الذي تبدو به المرأة كاسية عارية لا يثير انتباه الرجال، بينما ينتبه الرجال عندما يرون امرأة متحجبة حجابًا كاملًا يستر جسدها كله، فيريدون التعرّف على شخصيتها ومتابعتها؛ لأنّ كلَّ ممنوع مرغوب [المتبرجات (117)].
الجواب:
1- ما دام التبرج أمر عادي لا يلفت الأنظار ولا يستهوي القلوب فلماذا تبرّجت؟! ولمن تبرجت؟! ولماذا تحمّلت أدوات التجميل وأجرة الكوافير ومتابعة الموضات؟! [ المتبرجات (117)].
2- وكيف يكون التبرج أمرًا عاديًا ونرى أن الأزواج ـ مثلًا ـ تزداد رغبتهم في زوجاتهم كلما تزينّ وتجمّلن، كما تزداد الشهوة إلى الطعام كلما كان منسقًا متنوعًا جميلًا في ترتيبه ولو لم يكن لذيذ الطعم؟! [ المتبرجات (117)].
3- إن الجاذبية بين الرجل والمرأة هي الجاذبية الفطرية، لا تتغير مدى الدهر، وهي شيء يجري في عروقهما، وينبه في كل من الجنسين ميوله وغرائزه الطبيعية، فإن الدم يحمل الإفرازات الهرمونية من الغدد الصماء المختلفة، فتؤثر على المخ والأعصاب وعلى غيرها، بل إن كل جزء من كل جسم يتميز عما يشبهه في الجنس الآخر؛ ولذلك تظهر صفات الأنوثة في المرأة في تركيب جسمها كله وفي شكلها وفي أخلاقها وأفكارها وميولها، كما تظهر مميزات الذكورة في الرجل في بدنه وهيئته وصوته وأعماله وميوله. وهذه قاعدة فطرية طبيعية لم تتغير من يوم خلق الله الإنسان، ولن تتغير حتى تقوم الساعة [التبرج لنعمت صافي (23-24)].
4- أودع الله الشبق الجنسي في النفس البشرية سرًّا من أسراره، وحكمة من روائع حكمه جلّ شأنه، وجعل الممارسة الجنسية من أعظم ما ينزع إليه العقل والنفس والروح، وهي مطلب روحي وحسي وبدني، ولو أن رجلًا مرت عليه امرأة حاسرة سافرة على جمال باهر وحسن ظاهر واستهواء بالغ ولم يلتفت إليها وينزع إلى جمالها يحكم عليه الطب بأنه غير سوي وتنقصه الرغبة الجنسية، ونقصان الرغبة الجنسية ـ في عرف الطب ـ مرض يستوجب العلاج والتداوي [الفتاوى للشيخ محمد متولي الشعراوي بمشاركة: د.السيد الجميلي. انظر: المتبرحات (119-120)].(/6)
5- إن أعلى نسبة من الفجور والإباحية والشذوذ الجنسي وضياع الأعراض واختلاط الأنساب قد صاحبت خروج النساء مترجات كاسيات عاريات، وتتناسب هذه النسبة تناسبًا طرديًا مع خروج النساء على تلك الصورة المتحللة من كل شرف وفضيلة، بل إن أعلى نسبة من الأمراض الجنسية ـ كالأيدز وغيره ـ في الدول الإباحية التي تزداد فيها حرية المرأة تفلّتًا، وتتجاوز ذلك إلى أن تصبح همجية وفوضى، بالإضافة إلى الأمراض والعقد النفسية التي تلجئ الشباب والفتيات للانتحار بأعلى النسب في أكثر بلاد العالم تحللًا من الأخلاق [المتبرجات (120) وللمزيد من ذلك انظر: المرأة المتبرجة وأثرها السيئ في الأمة لعبد الله التليدي (12-25)].
6- أما أن العيون تتابع المتحجبة الساترة لوجهها ولا تتابع المتبرجة فإن المتحجبة تشبه كتابًا مغلقًا، لا تعلم محتوياته وعدد صفحات وما يحمله من أفكار، فطالما كان الأمر كذلك، فإنه مهما نظرنا إلى غلاف الكتاب ودققنا النظر فإننا لن نفهم محتوياته، ولن نعرفها، بل ولن نتأثر بها، وبما تحمله من أفكار، وهكذا المتحجبة غلافها حجابها، ومحتوياتها مجهولة بداخله، وإن الأنظار التي ترتفع إلى نورها لترتد حسيرة خاسئة، لم تظفر بِشَروَى [الشَّروى كجدوى: المثل. (القاموس المحيط، مادة: شرى)] نقير ولا بأقلّ القليل.
أما تلك المتبرجة فتشبه كتابًا مفتوحًا تتصفّحه الأيدي، وتتداوله الأعين سطرًا سطرًا، وصفحة صفحة، وتتأثّر بمحتوياته العقول، فلا يترك حتى يكون قد فقد رونق أوراقه، فتثنت بل تمزق بعضها، إنه يصبح كتابًا قديمًا لا يستحق أن يوضع في واجهة مكتبة بيت متواضعة، فما بالنا بواجهة مكتبة عظيمة؟! [ المتبرجات (118)].
الشبهة الحادية عشرة: السفور حقّ للمرأة والحجاب ظلم:
زعموا أن السفور حقّ للمرأة، سلبها إياه المجتمع، أو سلبها إياه الرجل الأناني المتحجر المتزمت، ويرون أن الحجاب ظلم لها وسلب لحقه [قضية تحرير المرأة لمحمد قطب (21)].
الجواب:
1- لم يكن الرجل هو الذي فرض الحجاب على المرأة فترفع قضيتها ضدّه لتتخلّص من الظلم الذي أوقعه عليها، كما كان وَضعُ القضية في أوربا بين المرأة والرجل، إنما الذي فرض الحجاب على المرأة هو ربها وخالقها الذي لا تملك ـ إن كانت مؤمنة ـ أن تجادله سبحانه فيما أمر به أو يكون لها الخيرة في الأمر، ?وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًٌ? [الأحزاب:36] [ قضية تحرير المرأة (19)].
2- إن الحجابَ في ذاته لا يشكل قضية، فقد فرض الحجاب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونفذ في عهد، واستمر بعد ذلك ثلاثة عشر قرنًا متوالية وما من مسلم يؤمن بالله ورسوله يقول: إن المرأة كانت في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-مظلومة.
فإذا وقع عليها الظلم بعد ذلك حين تخلّف المسلمون عن عقيدتهم الصحيحة ومقتضياتها فلم يكن الحجاب ـ بداهة ـ هو منبع الظلم ولا سببه ولا قرينه، لأنه كان قائمًا في خير القرون على الإطلاق، وكان قرين النظافة الخلقية والروحية، وقرين الرفعة الإنسانية التي لا مثيل لها في تاريخ البشرية كله [قضية تحرير المرأة لمحمد قطب (19-20)].
الشبهة الثانية عشرة: الحجاب رمز للغلو والتعصب الطائفي والتطرف الديني:
زعم أعداء الحجاب أن حجاب المرأة رمز من رموز التطرف والغلو، وعلامة من علامات التنطع والتشدد، مما يسبب تنافرا في المجتمع وتصادما بين الفئتين، وهذا قد يؤول إلى الإخلال بالأمن والاستقرار.
الجواب:
1- هذه الدعوى مرفوضة من أساسها، فالحجاب ليس رمزا لتلك الأمور، بل ولا رمزا من الرموز بحال، لأن الرمز ما ليس له وظيفة إلا التعبير عن الانتماء الديني لصاحبه، مثل الصليب على صدر المسيحي أو المسيحية، والقلنسوة الصغيرة على رأس اليهودي، فلا وظيفة لهما إلا الإعلان عن الهوية. أما الحجاب فإن له وظيفة معروفة وحِكَما نبيلة، هي الستر والحشمة والطهر والعفاف، ولا يخطر ببال من تلبسه من المسلمات أنها تعلن عن نفسها وعن دينها، لكنها تطيع أمر ربها، فهو شعيرة دينية، وليس رمزا للتطرف والتنطع.
ثم إن هذه الفرية التي أطلقوها على حجاب المرأة المسلمة لماذا لم يطلقوها على حجاب الراهبات؟! لماذا لم يقولوا: إن حجابَ اليهوديات والنصرانيات رمز للتعصب الديني والتميز الطائفي؟! لماذا لم يقولوا: إن تعليق الصليب رمز من رموز التطرف الديني وهو الذي جرّ ويلات الحروب الصليبية؟! لماذا لم يقولوا: إن وضع اليهودي القلنسوة الصغيرة على رأسه رمز من رموز التطرف الديني وبسببه يحصل ما يحصل من المجازر والإرهاب في فلسطين المحتلة؟!
2- إن هذه الفرية يكذّبها التاريخ والواقع، فأين هذه المفاسد المزعومة والحجاب ترتديه المرأة المسلمة منذ أكثر من أربعة عشر قرنا؟!(/7)
3- إن ارتداء المرأة للحجاب تم من منطلق عقدي وقناعة روحية، فهي لم تلزَم بالحجاب بقوة الحديد والنار، ولم تدعُ غيرها إلى الحجاب إلا بالحكمة والحجج الشرعية والعقلية، بل عكس القضية هو الصحيح، وبيان ذلك أن إلزام المرأة بخلع حجابها وجعل ذلك قانونا وشريعة لازمة هو رمز التعصب والتطرف اللاديني، وهذا هو الذي يسبب التصادم وردود الأفعال السيئة، لأنه اعتداء على الحرية الدينية والحرية الشخصية
ثانيًا: المساواة:
الشبهة الأول: النساء شقائق الرجال:
انطلاقًا من هذا الأصل يقرّر أعداء الحجاب أنَّ النساء والرجال سواء، لهنَّ ما لهم، وعليهنّ ما عليهم، ولا فرق بين الصنفين في جميع الأحكام؛ لأن النساء شقائق الرجال [المرأة المسلمة أمام التحديات لأحمد الحصين (232)].
الجواب:
1- الفوارق بين الرجل والمراة الجسدية والمعنوية والشرعية ثابتة قدرًا وشرعًا وحسًّا وعقلًا.
بيان ذلك أن الله –سبحانه- خلق الرجل والمرأة شطرين للنوع الإنساني: ذكرًا وأنثى، ?وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى? [النجم:25]، يشتركان في عمارة الكون، كلّ فيما يخصه، ويشتركان في عمارته بالعبودية لله –تعالى- بلا فرق بين الرجال والنساء في عموم الدين، في التوحيد والاعتقاد وحقائق الإيمان والثواب والعقاب، وبلا فرق أيضًا في عموم التشريع في الحقوق والواجبات كافة، ?مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياةً طَيّبَةً? [النحل:97].
لكن لمَّا قدر الله وقضى أن الذكر ليس كالأثنى في صفة الخلقة والهيئة والتكوين، ففي الذكورة كمال خَلقي وقوّة طبيعية، والأنثى أنقص منه خلقة وجبلّة وطبيعةً لما يعتريها من الحيض والحمل والمخاض والإرضاع وشؤون الرضيع وتربية جيل الأمة المقبل، ولهذا خلقت الأنثى من ضلع آدم عليه السلام، فهي جزء منه، تابع له ومتاع له، والرجل مؤتمن على القيام بشؤونها وحفظها والإنفاق عليها وعلى نتاجهما من الذرية؛ كان من آثار هذا الاختلاف في الخلقة الاختلاف بينهما في القوى والقدرات الجسدية والعقلية والفكرية والعاطفية والإرادية، وفي العمل والأداء والكفاية في ذلك، إضافة إلى ما توصّل إليه علماء الطبّ الحديث من عجائب الآثار من تفاوت الخلق بين الجنسين.
وهذان النوعان من الاختلاف أنيطت بهما جملة كبيرة من أحكام التشريع، فقد أوجبا الاختلاف والتفاوت والتفاضل بين الرجل والمرأة في بعض أحكام التشريع، في المهمات والوظائف التي تلائم كلّ واحد منهما في خلقته وتكوينه، وفي قدراته وأدائه واختصاص كل منهما في مجاله من الحياة الإنسانية؛ لتتكامل الحياة، وليقوم كل منهما بمهمته فيها [حراسة الفضيلة (15-17) باختصار].
2- لو حصلت المساواة في جميع الأحكام مع الاختلاف في الخلقة والكفاية لكان هذا انعكاسًا في الفطرة، ولكان هذا هو عين الظلم للفاضل والمفضول، بل ظلم لحياة المجتمع الإنساني؛ لما يلحقه من حرمان ثمرة قدرات الفاضل، والإثقال على المفضول فوق قدرته [حراسة الفضيلة (23)].
3- وبجانب رفض مبدأ المساواة المطلَق فإن هناك قدرًا من المساواة بين الرجل والمرأة، والذي ينبغي أن يطلق عليه لفظ العدل وليس المساواة.
أ- فالمرأة تساوي الرجل في أصل التكليف بالأحكام الشرعية مع بعض الاختلاف في بعض الأحكام التفصيلية.
ب- والمرأة تساوي الرجل في الثواب والعقاب الدنوي والأخروي في الجملة، ?وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصلاةَ وَيُؤْتُونَ الزكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ? [التوبة:71].
ج- والمرأة تساوي الرجل في الأخذ بحقها وسماع القاضي لها.
د- والمرأة كالرجل في تملكها لما لها وتصرفها فيه.
هـ- وهي كالرجل في حرية اختيار الزوج، فلا تكره على ما لا تريد [المرأة وكيد الأعداء. د/ عبد الله بن وكيل الشيخ (22)، وللتوسع انظر: المرأة المسلمة، للشيخ وهبي غاوجي (32-48)].
الشبهة الثانية: القوامة للرجل دون المرأة:
يتخذ أعداء الإسلام من كون الرجال هم القوامين على النساء بمقتضى أحكام الشريعة الإسلامية مجالًا للثرثرة ضدّه، ولتحريض المرأة المسلمة حتى تتمرّد على تعاليمه، فيغمزون الإسلام بأنه لم يسوّ بين الرجال والنساء في مسألة القوامة [أجنحة المكر الثلاثة لعبد الرحمن حسن حبنكة الميداني (597، 601)].
الجواب:
1- إن قوامة الرجال على النساء مسألة تفرضها ضرورة الحياة الفضلى من الناحيتين الفطرية والفكرية.(/8)
أمَّا الناحية الفطرية فإن الخصائص النفسية المزود بها كلّ من الرجل والمرأة بصفة عامة تؤهّل الرجل بشكل أمثل لتحمّل مسؤوليات إدارة شؤون الأسرة والقيام على رعايتها والتصدي لزعامتها، وفي المقابل نلاحظ أن خصائص المرأة بشكل عام تحبِّب إليها أن تجد لدى الرجل ملجأ وسندًا وقوة إرادة واستقرارَ عاطفة وحكمة في تصريف الأمور وسلطانًا ترى في الانضواء تحته أنسها وطمأنينتها وأمنها وراحة بالها.
ولذلك يلاحظ أثر هذا التكوين الفطري ظاهرًا في كل مجموعة إنسانية، ولو لم تلزِمها به أنظمة أو تعاليم، وربما شذّ عنه نفر قليل اختلّت فيه خصائص الذكورة والأنوثة، وهي حالات شاذّة لا تستحقّ تعديلًا في أصل القاعدة الفطرية.
وأمَّا الناحية الفكرية فإن الحكمة في المجتمعات الإنسانية تقضي بأن يكون لكل مجتمع صغُر أو كبر قيّم يقوده ويدير شؤونه حمايةً له من الفوضى والتّصادم والصراع الدائم، والأسرة أحد هذه المجتمعات التي تحتاج إلى قيّم تتوافر فيه مؤهّلات القوامَة بشكل أمثل.
2- لدى أهل الفكر في مسألة القوامة داخل الأسرة مجموعة من الاحتمالات:
أولًا: أن يكون الرجل هو القيّم في الأسرة باستمرار.
ثانيًا: أن تكون المرأة هي القيّم في الأسرة باستمرار.
ثالثًا: أن يكون كلّ من الرجل والمرأة قيّمًا على سبيل الشركة المتساوية.
رابعًا: أن يتناوبا القوامة وفقَ قسمةً زمنية.
خامسًا: أن يتقاسما القوامة، بأن يكون لكل منهما اختصاصات يكون هو القيّم فيها.
أما الشركة في القوامة سواء أكانت في كلّ شيء وفي كلّ وقت، أو كانت على سبيل التناوب الزمني، أو كانت على سبيل التقاسم في الاختصاصات، فإنها ستؤدّي حتمًا إلى الفوضى والتنازع ورغبة كلّ فريق بأن يعلو على صاحبه ويستبدّ به، وقد أيّدت تجارب المجتمعات الإنسانية فساد الشركة في الرئاسة.
أما إسناد القوامة إلى المرأة دون الرجل فهو أمر ينافي ما تقتضيه طبيعة التكوين الفطري لكل منهما، وهو يؤدي حتمًا إلى اختلال ونقص في نظام الحياة الاجتماعية لما فيه من عكس لطبائع الأشياء، فلم يبق إلا الاحتمال الأول، وهو أن يكون الرجل هو القيم في الأسرة [أجنحة المكر الثلاثة (559-600) باختصار].
3- أهمّ خصائص القوامة المثلى رجحان العقل على العاطفة، وهذا الرجحان متوافر في الرجال بصفة عامّة أكثر من توافره في النساء، لأن النساء بمقتضى ما هن مؤهلات له من إيناس للزوج وحنان عليه وأمومة رؤوم وصبر على تربية الطفولة تترجح لديهن العاطفة على العقل، ولن تكون قوامة مثلى لأيّ مجتمع إنساني صغيرًا كان أو كبيرًا إذا كانت العاطفة فيها هي الراجحة على العقل.
ولئن كان بعض الرجال تتحكّم فيهم عواطفهم أكثر من عقولهم، وبعض النساء تتحكم فيهن عقولهن أكثر من عواطفهن، فذلك أمر نادر لا يصحّ أن تتغيّر من أجله قاعدة عامة [أجنحة المكر الثلاثة (600)].
4- ومن مرجّحات إسناد القوامة في الأسرة إلى الرجل أنه هو المسؤول في نظام الإسلام عن النفقة عليها، ومسؤوليته عن النفقة على أسرته تجعله أكثر تحّفظًا واحترازًا من الاستجابة السريعة للشهوات العابرة والانفعالات الحادة الرعناء، بخلاف المرأة في ذلك، لأنها بحكم عدم مسؤوليتها عن النفقة وعن السعي لاكتساب الرزق يقلّ لديها التحفظ والاحتراز، وتكون في أغلب أحوالها ذات استجابة سريعة لشهواتها وانفعالاتها التي قد تتطلب منها نفقات مالية باهظة، أو تدفعها إلى الشحّ المفرط [أجنحة المكر الثلاثة (600)].
5- أعطى الإسلام للمرأة حقّ التدخل في اختيار زوجها، وبهذا فهي تختار القيّم عليها، ولها أن تلاحظ فيه المقدرة على القوامة الرشيدة[الإسلام في قفص الاتهام، شوقي أبو خليل (235)].
الشبهة الثالثة: مستلزمات القوامة:
قال الله تعالى: ?الرّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَفِظَاتٌ لّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِى الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرً? [النساء:34].
يتصيّد أعداء الإسلام من قوله تعالى في هذا النص القرآني: ?وَاضْرِبُوهُنَّ? شبهةً ينتقدون بها تعاليم الإسلام وأحكامه ليضلّوا بها الأجيال الناشئة من فتيان المسلمين وفتياتهم [أجنحة المكر الثلاثة (602)].
الجواب:
1- لما اقتضت الحكمة أن يكون الرجل هو القيّم على زوجته ووليَّ أمرها اقتضت أيضًا أن يكون لكلّ منهما حقوق على الآخر وواجبات نحوه.
ومن حقوق الزوج على زوجته أن لا تكون ناشزًا خارجة عن طاعته ما لم يأمرها بما فيه معصية لله، أو هضم لحقوقها التي شرفها الله لها.(/9)
وأية مؤسّسة اجتماعية لا بدّ أن يكون في يد صاحب الأمر فيها وسائل يضبط بها نظامَ هذه المؤسسة حتى لا تتعرّض للفوضى، فالفساد، فالتفكّك والانحلال.
وأبرز عناصر وحدة مؤسسة اجتماعية إنما هو عنصر طاعة أعضائها لصاحب الأمر فيها، والخروج عن هذه الطاعة نشوز يجعل المؤسّسة منحلة أو في حكم المنحلّة.
ولمَّا كان في طبائع الناس نزوع إلى التحرّر من قيود الطاعة كانت المؤسسات الاجتماعية الإنسانية عرضة للانحلال والتفكك باستمرار مالم تهيمن على أفرادها الضوابط الاجتماعية المعنوية والمادية، ومن الضوابط الاجتماعية التي تصون وحده الجماعة وسائل التربية والتأديب التي تسمح بها الأعراف الإنسانية الكريمة.
وقد أرشدت الحكمة النظرية والتطبيقية الناس إلى استخدام طائفة من وسائل التربية والتأديب، وهي تتفاوت فيما بينها رغبة ورهبة، ورفقًا وشدّة.
ويختار بعض أولي الأمر أسلوب العنف والقسوة فيفشلون، ويختار بعضهم أسلوب الرفق واللين باستمرار فيتطاول عليهم الباغون المنحرفون، فينزعون منهم سلطانهم.
أما الحكماء العقلاء فيستخدمون الوسائل كلها، إلا أنهم يضعون كلًا منها في موضعه، وبذلك يسلم لهم الأمر، وهذا ما أرشد إليه الإسلام أولياء الأمور بشكل عام[أجنحة المكر الثلاثة (603)].
2- لقد أرشد الإسلام إلى استخدام وسائل التربية والتأديب الحكيمة، وجعلها على مراحل:
المرحلة الأولى: الموعظمة، ولها درجات كثيرة، تبدأ بمعاريض القول والإشارات الخفيفة والتلويح، ثم ترتقي إلى لفت النظر والتنبيه والتصريح مع الرفق في الموعظة، ثم التصريح المصحوب بشيء من العنف، ثم الزجر والتعنيف، وأخيرًا قد تصل درجة التوبيخ والإنذار.
المرحلة الثانية: الهجر في المضطجع، وهو أبلغ أنواع الهجر وعقابٌ ليس بالهين على زوجة عاقلة حريصة على زوجها، وللهجر في المضطجع درجات بعضها أقسى من بعض، يعرفها العقلاء الحكماء من الرجال. وجعل الإسلام الهجر لا يزيد على أربعة أشهر: ?لّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ? [البقرة:226]، وبعد ذلك إما أن يعودوا إلى معاشرتهن، وإمَّا أن يكون لزوجاتهم الحقّ بأن يطالبن بالفراق.
المرحلة الثالثة: مرتبة الضرب غير المبرّح الذي لا يصل إلى أدنى الحدود الشرعية.
فغالب الظن أن أي امرأة توجّه لها أشدّ درجات الموعظة فلا تستقيم ثم تهجَر أبلغ أنواع الهجر فلا تستقيم أيضًا، إلا أن تكون مبلّدة الحس سيّئة العشيرة كريهة الطبع، فهي تستحقّ التأديب بالضرب، أو أن تكون كارهة تبغي الفراق لكن لا تصرّح به لغرض في نفسها، فإذا كانت كارهة راغبة في الفراق فإن لديها من الوسائل ما يبلغها مرادها دون أن تكاره الزوج بالنشوز والعصيان، ويمكنها أن تعرب عمّا في نفسها منذ استخدام المرتبة الأولى والثانية.
أما إذا لم تعلن رغبتها بمفارقته فالظاهر من أمرها أنها امرأة إما أن تكون ممن يصلحهن الضرب، أو أن يكون نصيبها الفراق، إلا أن إهانتها بالفراق ووسمها بأنها امرأة لا تصلح للمعاشرة الزوجية أقسى عليها وأشدّ من إهانتها بالضرب غير المبرح [أجنحة المكر الثلاثة (603-605) باختصار].
3- بالإضافة إلى ذلك فإن التجاربَ النفسية قد دلت أن بعض الناس مصابون بانحراف نفسي غريب المزاج، يلذ لهم أن يتلقوا معاملة قاسية مؤلمة جسدية أو نفسية، فلا يطيب مزاجهم ولا يعتدلون إلا بالضرب أو ما يشبهه من مؤلمات، وأكثر ما يكون هذا اللون من الانحارف في صنف النساء، ويطلق عليه علماء النفس اسم (الماسوشزم) [ أجنحة المكر الثلاثة (606)].
4- إن وجودَ التشريع الذي يأذن للزوج بتأديب زوجته بالضرب في آخر المراحل لا يعني أن هذا السلاح سيستخدمه كل زوج، فمعظم الأسر المؤدّبة بآداب الإسلام لا تعرف في حياتها الهجر في المضاجع فضلًا عن الضرب، لأن التربية الإسلامية العامة للرجال والنساء متى ما استوفت شروطها فلا بد أن تجعل الأسر الإسلامية في وضع من الوئام والتفاهم والود لا يسمح بأكثر من استخدام الدرجات الخفيفة من درجات الموعظة التي يشترك فيها كل من الزوجين [أجنحة المكر الثلاثة (606)].
الشبهة الرابعة: نقصان العقل والدين:
زعموا أن الإسلام أهان المرأة وجعلها ناقصة عقل ودين، وجعل شهادة نصف شهادة الرجل.
الجواب:(/10)
1- ورد هذا الكلام في حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم-في أضحى أو في فطر إلى المصلى، فمر على النساء فقال: (يا معشر النساء، تصدقن فإني ريتكن أكثر أهل النار)، فقلن: وبم يا رسول الله؟ قال: (تكثرن اللعن وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للبّ الرجل الحازم من إحداكن)، قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: (أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟!) قلن: بلى، قال: (فذلك من نقصان عقلها. أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟!) قلن: بلى، قال: (فذلك من نقصان دينها)[ أخرجه البخاري في الحيض، باب ترك الحائض الصوم (304)، وأخرجه مسلم ف الإيمان (80) بمعناه].
قال الشيخ عبد العزيز بن باز: «بين عليه الصلاة والسلام أن نقصان عقلها من جهة ضعف حفظها وأن شهادتها تجبر بشهادة امرأة أخرى؛ وذلك لضبط الشهادة بسبب أنها قد تنسى فتزيد في الشهادة أو تنقصها كما قال سبحانه: ?وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى? [البقرة:282].
وأما نقصان دينها فلأنها في حال الحيض والنفاس تدع الصلاة وتدع الصوم ولا تقضي الصلاة، فهذا من نقصان الدين، ولكن هذا النقص ليست مؤاخذة عليه، وإنما هو نقص حاصل بشرع الله عز وجل هو الذي شرعه عز وجل رفقًا بها وتيسيرًا عليها...
ولا يلزم من هذا أن يكون نقص عقلها في كل شيء ونقص دينها في كل شيء، وإنما بين الرسول -صلى الله عليه وسلم-أن نقص دينها من جهة ما يحصل لها من ترك الصلاة والصوم في حال الحيض والنفاس، ولا يلزم من هذا أن تكون أيضًا دون الرجل في كل شيء وأن الرجل أفضل منها في كل شيء، نعم جنس الرجل أفضل من جنس النساء في الجملة، لكن قد تفوقه في بعض الأحيان في أشياء كثيرة، فكم لله من امرأة فوق كثير من الرجال في عقلها ودينها وضبطها، وإنما ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم-أن جنس النساء دون جنس الرجال في العقل وفي الدين من هاتين الحيثيتين اللتين بينهما النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد تكثر منها الأعمال الصالحة فتربو على كثير من الرجال في عملها الصالح وفي تقواها لله عز وجل وفي منزلتها في الآخرة، وقد تكون لها عناية في بعض الأمور فتضبطها ضبطًا كثيرًا أكثر من ضبط بعض الرجال في كثير من المسائل التي تعنى بها وتجتهد في حفظها وضبطها، فتكون مرجعًا في التاريخ الإسلامي وفي أمور كثيرة، وهذا واضح لمن تأمّل أحاول النساء في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-وبعد ذلك » [ مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (4/292-293)].
2- أما أن شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل فقد جاء معللاً في النص القرآني بقوله تعالى: ?أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى? [البقرة:282]، والضلال هنا ينشأ من أسباب كثيرة، فقد ينشأ من قلة خبرة المرأة بموضوع التعاقد، مما يجعلها لا تستوعب كل دقائقه وملابساته، ومن ثم لا يكون من الوضوح في عقلها بحيث تؤدي عنه شهادة دقيقة عند الاقتضاء، فتذكرها الأخرى بالتعاون معًا على تذكر ملابسات الموضوع كلّه. وقد ينشأ من طبيعة المرأة الانفعالية، فإن وظيفة الأمومة العضوية تستدعي مقابلًا نفسيًا في المرأة حتمًا، يستدعي أن تكون المرأة شديدة الاستجابة الوجدانية الانفعالية لتلبية مطالب طفلها بسرعة وحيوية لا ترجع فيهما إلى التفكير البطيء، وذلك من فضل الله على المرأة وعلى الطفولة، وهذه الطبيعة لا تتجزأ، فالمرأة شخصية موحدة هذه طابعها حين تكون امرأة سوية، بينما الشهادة على التعاقد في مثل هذه المعاملات في حاجة إلى تجرد كبير من الانفعال، ووقوف عند الوقائع بلا تأثير ولا إيحاء، ووجود امرأتين فيه ضمانة أن تذكر إحداهما الأخرى إذا انحرفت مع أي انفعال، فتتذكر وتفيء إلى الوقائع المجردة [في ظلال القرآن (1/336)].
3- وما تقدّم هو بالنسبة للشهادة على الحقوق المالية، أما في الأمور الأخرى التي يضعف فيها تدخل العواطف الإنسانية فإن شهادة المرأة فيها مثل شهادة الرجل، وذلك حينما يكون الاعتماد على مجرد الذكاء والحفظ، ومن أجل ذلك قبلت التعاليم الإسلامية رواية المرأة لنصوص الشريعة وأخبارها في التاريخ والعلوم، وساوتها في ذلك بالرجل، وقبلت أيضًا شهادة المرأة الواحدة في إثبات الولادة والرضاع، وجعلتها مثل شهادة الرجل، إلى غير ذلك من أمور يضعف فيها تدخل العواطف الإنسانية[أجنحة المكر الثلاثة (597) باختصار].
ثالثًا: تعليم:
الشبهة الأولى: الإسلام لا يشجع تعليم المرأة:
يموه بعض المغرضين ويزعم بعض الجاهلين أن الإسلام لا يشجّع على تعليم المرأة، وأنه يفضّل أن تبقى جاهلة أو أقرب إلى الجهل[1].
الجواب:(/11)
1- إن أول ما بدئ به من الوحي قول الله لرسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-: ?اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الَّذِى خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ? [العلق:1-5].
ولقد بدأ الوحي بالأمر بالقراءة لأنها أهم وسائل تثبيت المعرفة ومتابعة حلقاتها، والقراءة إنما تكون بعد الكتابة، ومن أجل ذلك أظهر الله منته على عباده إذ علم بالقلم، فعلم الإنسان -كل الإنسان بشطريه الذكر والأنثى- ما لم يعلم.
وهذه الدعوة التي دعا الله بها الإنسان إلى العلم منذ اللحظات الأولى التي بدأ بها إنزال تعاليم الإسلام أكبر برهان يدل على التسوية التامة بين شطري الإنسان الذكر والأنثى في ميدان دعوتهما إلى العلم والمعرفة[2].
2- وقد حرص الإسلام كل الحرص على تعليم المرأة ما تكون به عنصرَ صلاح وإصلاح في مجتمع إسلامي متطور إلى الكمال، متقدم إلى القوة والمجد، آمن مطمئن سعيد. ولتحقيق هذا الهدف حرص على اشتراكها في المجامع الإسلامية العامة الكبرى منها والصغرى، فأذن لها بحضور صلاة الجماعة، وأن تشهد صلاة الجمعة وخطبتها، ورغبها في أن تشهد صلاة العيد وخطبتها حتى ولو كانت في حالة العذر المانع لها من أداء الصلاة، وأمرها بالحج والعمرة، وحثها على حضور مجالس العلم، وخاطب الله النساء بمثل ما خاطب به الرجال، وجعلهن مندرجات في عموم خطاب الرجال في معظم الأحوال حرصًا على تعليمهن وتثقيفهن وتعريفهن أمور دينهن ومشاركتهن في القضايا العامة[3].
وقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يخصص للنساء أيامًا يجتمعن فيها، ويعلمهن مما علمه الله، إضافة إلى الأيام التي يحضرن فيها مع الرجال، ليتزودن من العلم ما يخصهن ويتعلق بشؤونهن مما ينفردن به عن الرجال بمقتضى تكوينهن الجسدي والنفسي.
عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: جاءت امرأة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-فقالت: يا رسول الله، ذهب الرجال بحديثك، فاجعل لنا من نفسك يومًا نأتيك فيه، تعلمنا مما علمك الله، قال: (اجتمعن يوم كذا وكذ)، فاجتمعن فأتاهن النبي -صلى الله عليه وسلم-فعلمهن مما علمه الله الحديث[4].
وثبت أن الشفاء بنت عبد الله المهاجرة القرشية العدوية علّمت حفصة أم المؤمنين الكتابة بإقرار من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-[5]، وهذه أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر -رضي الله عنه- ما كانت من أفقه نساء العالم، كثيرة الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
3- والتاريخ الإسلامي حافل بأخبار نساء المسلمين اللاتي بلغن من العلم درجة رفيعة ومكانة عالية، فكان منهن الأديبات والشاعرات والفقيهات. فهذه زبيدة زوجة هارون الرشيد كانت عالمة. وكريمة بنت محمد المروزية جاورت بمكة، وروت صحيح البخاري، وكانت نابغة في الفهم والنباهة وحدة الذهن بحيث يرحل إليها أفاضل العلماء. وزينب بنت أبي القاسم كانت عالمة، أدركت جماعة من أعيان العلماء وأخذت عنهم، وأجازها أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري والمؤرخ ابن خلكان. وعائشة بنت محمد بن عبد الهادي بن عبد الحميد ابن قدامة المقدسي، سمعت صحيح البخاري على حافظ العصر المعروف بالحجار، وروى عنها الحافظ ابن حجر، وانفردت في آخر عمرها بعلم الحديث. وذكر عبد الواحد المراكشي أنه كان بالربض الشرقي في قرطبة 470 امرأة كلهن يكتب المصاحف بالخط الكوفي. وغير هذا كثير.
فلم يكن الإسلام مانعًا لتعلم المرأة وتقدمها في حضارة الحياة العلمية والعملية، ولم يكن مجحفًا في حقها ومهينًا لكرامته[6].
الشبهة الثانية: نصوص نهي المرأة عن التعلم:
قالوا: إن من المرويات عن عندكم حديث عائشة -رضي الله عنه-ا مرفوعا: (لا تنزلوهن الغرف، ولا تعلموهن الكتابة، وعلموهن المغزل وسورة النور)[7].
الجواب:
هذا الحديث قد تلكم العلماء في بيان ضعفه وشدّة وهنه لأن في سنده محمد بن إبراهيم الشامي. قال ابن الجوزي: "هذا الحديث لا يصح، محمد بن إبراهيم الشامي كان يضع الحديث"[8]. ونقل الذهبي عن الدارقطني تكذيبة[9]. وقال ابن حجر: "منكر الحديث"[10]. وقال شمس الحق العظيم آبادي: "هو منكر الحديث ومن الواضاعين"[11].
وأما تصحيح الحاكم للرواية التي أخرجها فقد تعقبه الحافظ ابن حجر بقوله: "بل عبد الوهاب بن الضحاك متروك، وقد تابعه محمد بن إبراهيم الشامي عن شعيب بن إسحاق، وإبراهيم رماه ابن حبان بالوضع"[12].
وقال شمس الحق آبادي: "وأحاديث النهي عن الكتابة كلها من الأباطيل والموضوعات ولم يصحح العلماء واحدًا منها، ما عدا الحاكم الحافظ أبا عبد الله، وتساهله في التصحيح معروف، وتصحيحه متعقب عليه... ومن قال: إن البيهقي أيضًا صحح حديث النهي وتبعه جلال الدين السيوطي فهذا افتراء عظيم على البيهقي والسيوطي".(/12)
إلى أن قال: "وخلاصة الكلام أنه لا ريب في جواز تعليم الكتابة للنساء البالغات المشتهيات بواسطة النساء الأخريات أو بواسطة محارمهن، أما البنات غير البالغات وغير المشتهيات فيتعلمن ممن شئن.
وليست الكتابة سببًا للافتتان لأنها إن كانت سببًا للفتنة لما أباحها الشارع، ?وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّ? [مريم:64]، والتي تصاب بفتنة إنما تصاب بأمر غير الكتاب"[13].
قال الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود: "أما ما يذكر من نهي النساء عن الكتابة فإن الحديث مكذوب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد حقق العلماء بطلانه فسقط الاحتجاج به.
وقول الحق هو أن المرأة كالرجل في تعلم الكتابة والقراءة والمطالعة في كتب الدين والأخلاق وقوانين الصحة والتدبير وتربية العيال ومبادئ العلوم والفنون، من العقائد الصحيحة والتفاسير والسير والتاريخ وكتب الحديث والفقه، كل هذا حسن في حقها، تخرج به عن حضيض جهلها، ولا يجادل في حسنه عاقل، مع الالتزام بالحشمة والصيانة وعدم الاختلاط بالرجال الأجانب"[14].
________________________________________
[1] أجنحة المكر الثلاثة (586).
[2] أجنحة المكر الثلاثة (586-587) باختصار.
[3] أجنحة المكر الثلاثة (588).
[4] أخرجه البخاري في العلم، باب: هل يجعل للنساء يوم على حدة في العلم؟ (101)، ومسلم في البر والصلة (2634).
[5] أخرجه أحمد (6/372)، وأبو داود في الطب، باب: ما جاء في الرقى (3887)، والحاكم (4/56-57) وصححه، ووافقه الذهبي والألباني في السلسلة الصحيحة (178)، وهو في صحيح سنن أبي داود (3291).
[6] المرأة المسلمة أمام التحديات (62، 64)باختصار.
[7] أخرجه الطبراني في الأوسط (6/34)، والحاكم في المستدرك (2/396)، والبيهقي في الشعب (2/477)، وقال الحاكم: "صحيح الإسناد".
[8] انظر: عقود الجمان في جواز تعليم الكتابة للنسوان، لأبي الطيب شمس الحق آبادي (22).
[9] ميزان الاعتدال (4/445).
[10] تقريب التهذيب (2/141).
[11] عقود الجمان في جواز تعليم الكتابة للنسوان (22).
[12] انظر: عقود الجمان (24).
[13] عقود الجمان (34، 36).
[14] المرأة المسلمة أمام التحديات (64-65).
رابعًا: العمل:
الشبهة الأولى: دعوى وجوب عمل المرأة لأنها نصف المجتمع:
يقول المنادون بتحرير المرأة: يجب أن تشتغل المرأة لأنها نصف المجتمع، وحتى يكمل النصف الآخر، فتزداد الثروة الوطنية، وحبسها بين أربعة جدران فيه هدر لكرامتها وشلّ لحركتها وتعطيل لطاقاتها ولنتاجها العلمي والعملي والفكري[1].
الجواب:
1- لا ينازع أحد يفقه أحكام الإسلام في أن عقود المرأة وتصرفاتها التجارية صحيحة منعقدة لا تتوقف على إجازة أحد من ولي أو زوج. ولا ينازع أحد في أن المرأة إذا لم تجد من يعولها من زوج أو أقرباء ولم يقم بيت المال بواجبه نحوها أنه يجوز لها أن تعمل لتكسب قوته[2].
2- إن المرأة -بوجه عام- في الإسلام لا يصح أن تكلف بالعمل لتنفق على نفسها، بل على ولي أمرها من أب أو زوج أو أخ أو غيرهم أن يقوم بالإنفاق عليها لتتفرّغ لحياة الزوجية والأمومة، وآثار ذلك واضحة في انتظام شؤون البيت والإشراف على تربية الأولاد وصيانة المرأة من عبث الرجال وإغرائهم وكيدهم، لتظل لها سمعتها الكريمة النظيفة في المجتمع[3].
3- راعى الإسلام طبيعة المرأة وما فطرت عليه من استعدادات، وقد أثبتت الدراسات الطبية المتعددة أن كيان المرأة النفسي والجسدي قد خلقه الله على هيئة تخالف تكوين الرجل. وقد أثبت العلم أن الخلاف شديد بين الرجل والمرأة ابتداء من الخليّة، وانتهاء بالأنسجة والأعضاء؛ إذ ترى الخلاف في الدم والعظام وفي الجهاز التناسلي والجهاز العضلي وفي اختلاف الهرمونات وفي الاختلاف النفسي كذلك، فنرى إقدام الرجل وصلابته مقابل خفر المرأة وحيائها، وجاءت الأبحاث الحديثة لتفضح دعوى التماثل الفكري بين الجنسين، ذلك أن الصبيان يفكرون بطريقة مغايرة لتكفير البنات، وتخزين القدرات والمعلومات في الدماغ يختلف في الولد عنه في البنت، ودماغ الرجل أكبر وأثقل وأكثر تلافيف من دماغ المرأة، وباستطلاع التاريخ نجد أن النابغين في كل فن لا يكاد يحصيهم محصٍ، بينما نجد أن النابغات من النساء معدودات في أي مجال من هذه المجالات[4].
4- إن وظائف المرأة الفسيولوجية تعيقها عن العمل خارج المنزل، ويكفي أن ننظر إلى ما يعتري المرأة في الحيض والحمل والولادة لنعرف أن خروجها إلى العمل خارج بيتها يعتبر تعطيلًا لعملها الأصلي ذاته، ويصادم فطرتها وتكوينها البيولوجي.
فخلال الحيض مثلًا تتعرض المرأة لآلام شديدة:
أ- فتصاب أكثر النساء بآلام وأوجاع في أسفل الظهر وأسفل البطن.
ب- ويصاب أكثرهن بحالة من الكآبة والضيق أثناء الحيض، وتكون المرأة عادة متقلبة المزاج سريعة الاهتياج قليلة الاحتمال، كما أن حالتها العقلية والفكرية تكون في أدنى مستوى لها.(/13)
ح- وتصاب بعض النساء بالصداع النصفي قرب بداية الحيض، فتكون الآلام مبرحة، تصحبها زغللة في الرؤية.
د- ويميل كثير من النساء في فترة الحيض إلى العزلة والسكينة، لأن هذه الفترة فترة نزيف دموي من قعر الرحم، كما أن المرأة تصاب بفقر الدم الذي ينتج عن هذا النزيف.
هـ- وتصاب الغدد الصماء بالتغير، فتقل إفرازاتها الحيوية الهامة للجسم، وينخفض ضغط الدم ويبطؤ النبض، وتصاب كثير من النساء بالدوخة والكسل والفتور أثناء فترة الحيض.
وأمَّا خلال فترة الحمل والنفاس والرضاع فتحتاج المرأة على رعاية خاصة، حيث ينقلب كيانها خلال فترة الحمل فيبدأ الغثيان والقيء، وتعطي الأم جنينها كل ما يحتاج إليه من مواد غذائية مهضومة جاهزة، ويسحب كل ما يحتاج إليه من مواد لبناء جسمه ونموه حتى ولو ترك الأم شبحا هزيلًا يعاني من لين العظام ونقص الفيتامينات وفقر الدم.
وتضطرب نفسية الأم عادة، وتصاب في كثير من الأحيان بالقلق والكآبة لذلك يجب أن تحاط بجو من الحنان والبعد عن الأسباب التي تؤدي إلى تأثرها وانفعالها، وتنصح بعدم الإجهاد، ويحث الأطباء الأمهات على أن يرضعن أولادهن أطول مدة ممكنة، وفي أغلب الأحوال لا تزيد هذه المدة عن ستة أشهر نتيجة للحياة النكدة التي يعيشها الإنسان في القرن العشرين[5].
5- للمرأة في بيتها من الأعمال ما يستغرق جهدها وطاقتها إذا أحسنت القيام بذلك خير قيام:
أ- فهي مطالبة بتوفير جو الزوجية الندي بالمودة والرحمة، العبق بحسن العشرة ودوام الألفة، ?هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَ? [الأعراف:189].
فليست المرأة متعة جسدية يقصد من ورائها الصلة الجنسية فحسب، بل هي قبل ذلك وبعده روح لطيفة ونفس شريفة، يصل إليها زوجها ينوء كاهله بالأعمال، وتتكدر نفسه بما يلاقيه في عمله، فما يلبث عندها إلا يسيرًا وإذا بكاهله يخف وبنفسه ترفّ، فتعود إلى سابق عهدها من الأنس واللطف، والمرأة العاملة إن لم ينعدم منها هذا السكن فلا أقلّ من أنه يضعف كثيرًا.
ب- وهي مطالبة بالقيام بحق الطفل وحاجاته المتنوعة. فهناك حاجات عضوية من الجوع والعطش والنظافة، وحاجة إلى الأمن النفسي الناتج من الاعتدال في النقد، والمحافظة على الطفل من عواقب الإهمال، وحاجات إلى التقدير الاجتماعي بعدم الاستهجان أو الكراهية وعدم التكليف بما لا يطيق. وهناك الحاجة إلى اللعب، والحاجة إلى الحرية والاستقلال.
ج- وهي مطالبة بالقيام بشؤون البيت العادية، وهي تستغرق جهدًا كبيرًا.
ومن العجيب أن عمل المرأة في البيت يصنف في ضمن الأعمال الشاقة، فهو يتطلب مجهودًا كبيرًا علاوة على ساعات طويلة تتراوح بين 10 و12 ساعة يوميًا.
فهذه جوانب كبيرة لعمل المرأة في المنزل، لا تستطيع الوفاء بها على وجه التمام مع انشغالها الكبير بالعمل[6].
6- من الآثار السلبية على عمل المرأة وخروجها من بيتها:
أ- آثار على الطفل: إن المرأة العاملة تعود من عملها مرهقة متعبة، فلا تستطيع أن تتحمل أبناءها، وقد يدفعها ذلك إلى ضربهم ضربًا مبرحًا، حتى انتشرت في الغرب ظاهرة الطفل المضروب، وظهر من إحدى البحوث التي أجريت على نساء عاملات أن هناك 22 أثرًا تتعلق بصحة الطفل، منها: الاضطرار إلى ترك الطفل مع من لا يرعاه، والامتناع عن إرضاع الطفل إرضاعًا طبيعيًا، ورفض طلبات الأطفال في المساعدة على استذكار الدروس، وترك الطفل المريض في البيت أحيانًا.
إنَّ من أعظم وأخطر أضرار عمل المرأة على طفلها الإهمال في تربيته، ومن ثم تهيئة الجو للانحراف والفساد، ولقد شاع في الغرب عصابات الإجرام من مدخني الحشيش والأفيون وأرباب القتل والاغتصاب الجنسي، وأكثرهم نتاج للتربية السيئة أو لإهمال الأبوين.
ب- آثار سلبية على الزوج، ومنها: مضايقة الزوج بغيابها عن البيت عندما يكون متواجدًا فيه، وإثارة أعصابه بالكلام حول مشكلات عملها مع رؤسائها وزملائها، وتألم الزوج بترك امرأته له وحيدًا في حالات مرضه الشديد، وقلق الزوج من تأجيل فكرة إنجاب طفل آخر وغير ذلك.
ج- آثار سلبية على المجتمع، منها:
- عمل المرأة بدون قيود يساهم مساهمة فعالة في زيادة عدد البطالة، فهي بعملها تكسب مالًا قد يضيع فيما لا فائدة فيه، ويحرم من ذلك المال رجل يقوم على نفقة أسرة كاملة.
- ساهم عمل المرأة مساهمة فعالة في قضية العنوسة، فالمرأة التي ترغب العمل لا توافق على زواج قد يقطعها عن الدراسة التي هي بريد العمل، وإذا عزفت عن الزواج في السن المبكر فربما لا تجد من يتقدم لها بعد ذلك.
- الحد من عدد الأولاد، وذلك أمر طبيعي عند المرأة التي تريد العمل وتحتاج إلى الراحة، وقد وجد من دراسة أجريت على 260 أسرة عاملة أن 67.31% أطفالهن من 1-3، و8.46% أطفالهن من 4-6، و1.92% أطفالهن من سبعة فما فوق[7].
7- أقوال الغربيين في عمل المرأة ونتائجه:(/14)
يقول الإنجليزي سامويل سمايلس[8]: "إن النظام الذي يقضي بتشغيل المرأة في المعامل مهما نشأ عنه من الثروة للبلاد فإن نتيجته كانت هادمة لبناء الحياة المنزلية، لأنه هاجم هيكل المنزل، وقوض أركان الأسرة، ومزق الروابط الاجتماعية، فإنه بسلبه الزوجة من زوجها والأولاد من أقاربهم صار بنوع خاص لا نتيجة له إلا تسفيل أخلاق المرأة، إذ وظيفة المرأة الحقيقية هي القيام بالواجبات المنزلية مثل ترتيب مسكنها وتبرية أولادها والاقتصاد في وسائل معيشتها، مع القيام بالاحتياجات البيتية، ولكن المعامل تسلخها من كل هذه الواجبات بحيث أصبحت المنازل غير منازل، وأضحت الأولاد تشب على عدم التربية وتلقى في زوايا الإهمال، وطفأت المحبة الزوجية، وخرجت المرأة عن كونها الزوجة الظريفة القرينة المحبة للرجل، وصارت زميلته في العمل والمشاق، وباتت معرضة للتأثيرات التي تمحو -غالبًا- التواضع الفكري والأخلاقي الذي عليه مدار حفظ الفضيلة"[9].
وتقول الكاتبة الشهيرة أنارورد: "لأن يشتغل بناتنا في البيوت خوادم أو كالخوادم خير وأخف بلاء من اشتغالهن في المعامل، حيث تصبح البنت ملوثة بأدران تذهب برونق حياتها إلى الأبد. ألا ليت بلادنا كبلاد المسلمين، فيها الحشمة والعفاف والطهارة رداء الخادمة والرقيق، يتنعمان بأرغد عيش، ويعاملان كما يعامل أولاد البيت، ولا تمس الأعراض بسوء. نعم، إنه لعار على بلاد الإنجليز أن تجعل بناتها مثلًا للرذائل بكثرة مخالطة الرجال، فما بالنا لا نسعى وراء ما يجعل البنت تعمل بما يوافق فطرتها الطبيعية من القيام في البيت وترك أعمال الرجال للرجال سلامة لشرفها؟!"[10].
ويقول الفيلسوف براتراندرسل: "إن الأسرة انحلت باستخدام المرأة في الأعمال العامة، وأظهر الاختبار أن المرأة تتمرد على تقاليد الأخلاق المألوفة، وتأبى أن تظل أمينة لرجل واحد إذا تحررت اقتصاديًا"[11].
الشبهة الثانية: الاحتجاج بزيادة الثروة القومية:
يحتج المنادون بوجوب اشتغال المرأة بأن اشتغالها يزيد في الثروة القومية للبلاد، وأن البلاد تخسر كثيرًا بقصر عمل المرأة على أعمال البيت، عدا ما فيه من تعويدٍ على الكسل وقتل وقتها بما لا يفيد[12].
الجواب:
1- إن اشتغال المرأة يؤثر على الحياة الاقتصادية تأثيرًا سيئًا، باعتبار أن اشتغالها فيه مزاحمة للرجل في ميدان نشاطه الطبيعي، مما يؤدي إلى نشر البطالة في صفوف الرجال[13].
2- إذا ثبت أن اشتغال المرأة يؤدي إلى بطالة الرجل كان من المحتمل أن يكون هذا الرجل الذي زاحمته زوجها أو أباها أو أخاها، فأي ربح اقتصادي للأسرة إذا كان اشتغال المرأة يؤدي إلى بطالة عميدها والمكلف بالانفاق عليها؟![14].
3- إنَّ مصالح الشعوب لا تقاس دائمًا بالمقياس المادي البحت، فلو فرضنا أن اشتغال المرأة يزيد في الثروة القومية، إلا أنه من المؤكد أن الأمة تخسر بذلك خسارة معنوية واجتماعية لا تقدر، تلك هي خسارتها لانسجام الأسرة وتماسكها، فأي الخسارتين أبلغ ضررًا في الأمة: الخسارة المادية أم الخسارة الاجتماعية؟![15].
4- هذه النظرة المادية لا تنطبق على واقع حياتنا وحياة المجتمعات الأخرى حتى في الشيوعية، فهنالك في كل مجتمع فئات معطلة عن الانتاج المادي، فالجيوش والموظفون لا يزيدون في ثروة الأمة المادية، وقد رضيت كل الأمم بأن يتفرغ الجيش لحماية البلاد دون أن تلزمه بالعمل والكسب، فهل يقال: إن هذا تعطيل للثروة البشرية ويؤدي إلى انخفاض الثروة القومية في البلاد؟!
إنَّ حياة الناس ليست كلها تحسب بحساب الربح والخسارة المادية، فالكرم والشهامة والتضحية والوفاء وبذل العون للآخرين كل ذلك خسران مادي، لكنه ربح عظيم لا يتخلى عنه الناس الشرفاء الذين يعتزون بكرامتهم الإنسانية.
وليست صيانة الأسرة ورعاية الطفولة وتربية الأولاد بأقل شأنًا في نظر الإسنان الراقي من تلك القيم الأخلاقية التي لا تقاس بالمقياس المادي البحت[16].
5- أمَّا من يقول: إن وجود المرأة في البيت يعوّدها الكسل ولذلك تسمن نساؤنا أكثر من الغربيين، فإن هؤلاء لا يعرفون متاعب البيت وأعماله، وكيف تشكو المرأة من عنائه، فما يمسي المساء إلا وهي منهوكة القوى، تروح عن نفسها بالاجتماع إلى جاراتها وصديقاتها. والبنت ما دامت في المدرسة فهي تتلقى العلم فلا يجوز إرهاقها بالعمل معه، وإذا انتهت من المدرسة لا تمكث في بيت أبيها وأمها إلا بمقدار ما تتهيأ للانتقال إلى بيت الزوجية، فهي في هذه الحالة تتلقى دروسًا عملية عن أمها في إدارة البيت، وأعماله وشؤونه، فلا يجوز مع ذلك إرهاقها بالعمل خارج البيت.
فأعمال المرأة في البيت -بنتًا كانت أم زوجة- لا تقل عن أعمالها خارج البيت مشقة وعناءً، وكثيرًا ما تكون أكثر مشقة وإرهاقً[17].
الشبهة الثالثة: الاستعانة بالخادمات في رعاية البيت:(/15)
يقول دعاة خروج المرأة من بيتها للعمل: ما تقولون في المرأة إذا أرادت العمل المشروع خارج البيت وجاءت بالخادمة تنوب عنها في عمل البيت وحضانة الأطفال وتربيتهم؟![18].
الجواب:
1- يبقى العمل في حقها محظورًا خارج البيت ما دامت غير مضطرة إليه، ولا يعفيها من ارتكاب هذا المحظور جلب الخادمة، ولا يدفع عنها الإخلال بأداء واجباتها في البيت، لأن تربية الأطفال من قبل أمهم وإحاطتهم بعطف الأمومة وحنانها لا يمكن تحصيله عن طريق الخادمات[19].
2- قول هذا المعترض يعني أنه لا يقيم وزنًا ولا اعتبارًا للخادمات، وأنهن في نظره غير جديرات بالرعاية والاهتمام، وأنهن بمنزلة أدنى من غيرهن، ومثل هذا النظر غير صحيح ولا يجوز، لأننا عندما نقول بمنع عمل المرأة خارج البيت فهذا القول حكم عام يشمل جميع النساء الخادمات والمخدومات، فكيف نسوّغ للخادمات العمل خارج بيوتهن وهو محظور عليهن، ونسمح للمخدومات في العمل خارج بيوتهن وهو محظور عليهن؟! وهل هذا إلا من قبيل ارتكاب محظورين للخلاص من محظور واحد؟![20].
3- وجود الخادمة في البيت أو المربية له آثار سلبية كثيرة على الأطفال خصوصا وعلى الأسرة عموم[21].
______________
[1] المرأة المسلمة أمام التحديات (96).
[2] المرأة بين الفقه والقانون للدكتور مصطفى السباعي (170).
[3] المرأة بين الفقه والقانون (171).
[4] المرأة بين الجاهلية والإسلام لمحمد الناصر وخولة درويش (225-226) باختلاصار وتصرف يسير.
[5] المرأة بين الجاهلية والإسلام (226-227) باختصار.
[6] تأملات في عمل المرأة د. عبد الله بن وكيل الشيخ (22-26) باختصار.
[7] تأملات في عمل المرأة (35-45).
[8] وهو من أركان النهضة الإنجليزية كما قال الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله.
[9] انظر: المرأة بين الفقه والقانون (202).
[10] انظر: المرأة بين الفقه والقانون (178).
[11] انظر: المرأة بين الفقه والقانون (179).
[12] المرأة بين الفقة والقانون (192).
[13] المرأة بين الفقة والقانون (193).
[14] المرأة بين الفقة والقانون (193).
[15] المرأة بين الفقة والقانون (193).
[16] المرأة بين الفقة والقانون (194-195).
[17] المرأة بين الفقة والقانون (195-196).
[18] المفصل في أحكام المرأة. د. عبد الكريم زيدان (4/266).
[19] المفصل في أحكام المرأة (4/266).
[20] المفصل في أحكام المرأة (4/266).
[21] تأملات في عمل المرأة (39) وهذه الآثار هي نتائج دراسات أجريت على منطقة الخليج.
خامسًا: الولاية والقيادة:
الشبهة الأولى: دعاة التحرير وموقعة الجمل:
يقول دعاة تحرير المرأة: إنَّ عائشة -رضي الله عنها- قادت الجيش الإسلامي في موقعة الجمل، وهذا دليل شرعي على أنَّ المرأة يجوز لها قيادة الجيوش والجهاد كالرجل، ومن ثَمَّ احتج دعاة التخريب وطبلوا وزمروا بهذه الحادثة داعين إلى اشتغال المرأة بالسياسة والإدارة وغيره [1].
الجواب:
1- إنَّ عائشة -رضي الله عنها- لم يرها أحد، لأنها كانت في هودج وهو الستار الذي يوضع فوق الجمل، فهي لا تُرى ولا يُسمع صوتها من داخل الهودج [2].
2- إنَّ عائشة -رضي الله عنها- لم تقصد بفعلها هذا الاشتغال بالسياسة وأن تتزعم فئة سياسية، ولم تخرج محاربة ولا قائدة جيش تحارب، وإنما خرجت -رضي الله عنها- لتصلح بين فئتين متحاربتين، وفعل عائشة -رضي الله عنها- ليس فيه دليل شرعي يصح الاستناد عليه، ففعلها هذا اجتهاد منها -رضي الله عنها- [3].
3- وقد أنكر عليها بعض الصحابة هذا الخروج، وفي مقدمتهم أم المؤمنين أم سلمة -رضي الله عنها-، وكتبت إليها كتابًا بذلك [4].
وكذلك سعيد بن العاص والمغيرة بن شعبة -رضي الله عنهما-، فقد نصحا أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- بعدم خروجها من بيتها، وأنَّ الرجوع إلى بيتها خير لها من خروجها هذا.
وعبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- نصح أم المؤمنين وأمرها بالتزام بيتها وترك الخروج لثأر الصحابي عثمان بن عفان -رضي الله عنه-. وكذلك أبو بكرة وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- [5].
4- إذا وجد في التاريخ نساء قدن الجيوش وخضن المعارك فإنهن من الندرة والقلة بجانب الرجال ما لا يصح أن يتناسى معه طبيعة الجمهرة الغالبة من النساء في جميع عصور التاريخ وفي جميع الشعوب [6].
الشبهة الثانية: دعوى أن عمر بن الخطاب ولى امرأة:
ادعى المنادون بجواز تولي المرأة الحكم والقضاء بما نُسب إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنَّه استعمل امرأة -وهي الشفاء- على حسبة السوق [7].
الجواب:
قال ابن العربي في هذا الخبر: "لم يصح، فلا تلتفتو إليه، فإنَّما هو من دسائس المبتدعة في الأحاديث" [8].
وحاشا عمر أن يعمل عملًا يخالف فيه سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-وخليفته الأول أبا بكر الصديق -رضي الله عنه-، فإن صح الخبر فربما كان الأمر متعلق بالنساء [9].
الشبهة الثالثة: اعتبار النهي للتنزيه:(/16)
اعتقد البعض أنَّ النهي عن تولي المرأة للإمامة والقضاء نهي تنزيه، ويعتقد أنَّ توليتها تنفي عمن ولاها الفلاح فقط، وهذا في نظر البعض مسألة سهلة وهينة [10].
الجواب:
هذا من المكابرات العظيمة والأخطاء الجسيمة، فقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة) نفي لكل الفلاح عمّن اتصف بهذه الصفة، ومعنى الفلاح الفوز بالجنة والبقاء فيها ورضا الرب -سبحانه وتعالى- عن العبد، هذا من الناحية الدينية، أمَّا في الأمور المعاشية فمعناه الظفر المطلوب والنجاة من المرهوب. فأيّ خسارة للأشقياء الذين نفى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-عنهم الفلاح؟! وأي نجاح بعد هذا يؤملون؟! ولو لم يكن في ذلك خسران إلا مخالفة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فقد قال تعالى محذرًا عن مخالفة أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ?فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌٌ? [النور:63] [11].
شبهات حول المرأة .. سادسًا: الاختلاط
الشبهة الأولى: حديث الفارسي:
استدلّ بعض دعاة الاختلاط بين الرجال والنساء بحديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن جارًا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فارسيًا كان طيب المرق، فصنع لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم جاء يدعوه، فقال: (وهذه؟) لعائشة، فقال: لا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا)، فعاد يدعوه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وهذه؟) قال: لا، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا)، ثم عاد يدعوه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وهذه؟) قال: نعم، في الثالثة. فقاما يتدافعان حتى أتيا منزله [12].
قالوا: ففي هذا الحديث تسويغٌ للمسلم أن يصحب زوجته إلى المآدب يقيمها جار أو صديق [13].
الجواب:
1- هذا الحديث لا يدل على أكثر من شيء واحد وهو أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-اصطحب عائشة معه إلى بيت الرجل الفارسي، وهو كما دلت أحاديث كثيرة أخرى على اصطحاب الصحابة نساءهم إلى المساجد، وكما دلت أحاديث أخرى على زيارة كثير من الصحابة لأمهات المؤمنين عامة وعائشة -رضي الله عنها- خاصة، من أجل رواية الحديث أو أخذ الفتاوى أو السؤال عن بعض أحوال النبي عليه الصلاة والسلام.
فأي تعارض بين هذه الدلالة التي لا إشكال فيها ولا نزاع وبين الحكم الإلهي القاضي باحتجاب المرأة عن الرجال والأمر لهم إذا جاؤوا يسألونهن حاجة أن يسألوهن من وراء حجاب؟! [14].
2- أمَّا أن يرفض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الاستجابة لدعوة الفارسي إلا أن تصحبه عائشة -رضي الله عنها- فشيء ثابت لا إشكال فيه ولا منقصة، بل إن فيه الصورة البارزة الحية لجميل خلقه -صلى الله عليه وسلم- مع أهله وعظيم رحمته وعاطفته تجاهها، فقد كانت تمر الأيام الطويلة ولا يوقد في بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نار لطعام، وإنَّما طعامه وطعام أهله الأسودان: التمر والماء [15]، أفيترك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-أهله -وهي إنما ترضى بالشظف أسوة به- ليجلس من ورائها إلى مائدة شهية عامرة عند جاره الفارسي؟! ما كان خلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-ليرضى بذلك.
وأمَّا أن يكون في ذلك ما يدل على أنَّ عائشة -رضي الله عنها- ذهبت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متبرجة وجلست أمام الفارسي سافرة واختلطت العائلات على نحو ما يتم اليوم فهو شيء لا دلالة عليه، وحمل الحديث على هذا المعنى كحمل الشرق على أن يولد من داخله الغرب [16].
الشبهة الثانية: حديث زوجة أبي أسيد الساعدي:
عن سهل بن سعد -رضي الله عنهما- قال: لمَّا عرس أبو أسيد الساعدي دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فما صنع لهم طعامًا ولا قربه إليهم إلا امرأته أم أسيد، بلّت تمرات في تور [17] من حجارة من الليل، فلمَّا فرغ النبي -صلى الله عليه وسلم- من الطعام أماثته له [18]، فسقته تتحفه بذلك [19].
قالوا: فالحديث يدل على أنَّه يسوغ للمسلم أن يدع زوجته تستقبل ضيوفه وأن تشرف بنفسها على تكريمهم، وأن هذا ليس مما يأباه الإسلام [20].
الجواب:
1- لقد علم الفقهاء وعلماء المسلمين جميعًا أنَّه لا ضير في أن تتقدم المرأة بِسرتها الإسلامي الكامل فتقدم إلى ضيوف في دارها طعامًا أو شرابًا تكرمهم به وزوجها أو قريبها جالس. وهذا هو الذي وقع من امرأة أبي أسيد في حفل عرسه.
قال ابن حجر: "وفي الحديث جواز خدمة المرأة زوجها ومن يدعوه، ولا يخفى أنَّ محل ذلك عند أمن الفتنة ومراعاة ما يجب عليها من الستر" [21].
وليس كثيرًا في حفل يحضره رسول الله -صلى الله عليه وسلم-أن تكرم العروس مقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فتتولى بنفسها إكرام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتقديم الضيافة إليه، وليس في ذلك ما يشينها، كما أنَّه ليس فيه ما يلصق به عليه الصلاة والسلام أي: منقصة.(/17)
وإنَّما الشين واقع فيما لو عثر المتعلق بهذا الحديث على أنَّها برزت أمام الرجال سافرة بادية الجسم والزينة، وهذا ما لا يمكن أن يعثر عليه، وما لا دليل عليه في الحديث [22].
2- لقد ظهر الكثير من نساء الصحابة في صفوف القتال يضمدن الرجحى ويسقين العطاش ومنهن أم سليم -رضي الله عنها-، فمن قال: إنَّ ذلك دليل على أنَّ المرأة لا حرج عليها في أن تختلط بالرجال كما تشاء وأن تتزين كما تريد؟!
إنَّ قول القائل: «قامت العروس بنفسها تقدم الشراب إلى رسول الله، إذًا فللمرأة أن تعرض زينتها ومفاتنها أمام الرجال" ليس إلا كقول الآخر: "لقد شرع الله التجارة بالمال والسعي في الأرض من أجل الرزق، إذًا فلا بأس أن يخدع ويغبن» [23].
الشبهة الثالثة: الاختلاط في التعليم للصغار:
ينادي بعض الناس بالاختلاط في المدارس للصغار بحجة أنَّ ذلك لا يضرهم ولا يؤثر عليهم، وبحجة أنَّ المرأة أشد لباقة وأحسن معايشة للصغار [24].
الجواب:
1- إنَّ هذه الخطوة يتبعها خطوات، ويصبح الأمر سهلًا، ويأتي من يقره عبر المراحل الدراسية الطويلة على تلك الحال الممقوتة، فأول الغيث قطرة، ومعظم النار من مستصغر الشرر، والإسلام العظيم وضع القواعد والأسس الثاتبة التي لا تتغير ولا تتبدل أحكامها وقوانينها، ومنع الحيل وأمر بسد الذرائع [25].
2- إنَّ فكرة الاختلاط في التعليم أو غيره بين الرجال والنساء فكرة ماسونية وبذورها استعمارية دخيلة على الأمة، وهي أشد ضررًا على هذه الأمة من الدعوة إلى السفور علانية والتبرج ونزع الحجاب؛ لأنها تشتمل على هذا كله وأكثر منه [26].
3- إنَّ الطفل يبدأ في النمو والتفتح والتطلع إلى المعرفة من السنة السادسة وهذا أمر واقع وثابت بالتجربة.
فها هو يدرس ويتعلم ويحفظ ويحرص على العلم والتعلم والمعرفة من هذا السن بل قبلها، وتجد أن الإسلام أمر الأبوين بأن يأمرا صغيرهما بالصلاة من بعد السنة السابعة بنين وبنات، وأمر بعزل البنين عن البنات في سن العاشرة وهو سن التمييز، فالابن يبدأ تفتحه وتحرك غرائزه من هذا السن، ويبدأ يدرك فيها كثيرًا من أمور الحياة.
وبالتجربة فإنَّ بعض الصغار من بنين وبنات يبلغون سن الرشد من بعد التاسعة، وقد يتخلف بعضهم في الدراسة الأولى فيصل عمره إلى الثانية عشرة تقريبًا أو أكثر وهو في الصف الثاني أو الثالث، وهذه بداية سن المراهقة [27].
4- إذا رجعنا إلى الإحصائيات التي تأتي من البلاد المختلطة عرفنا تمامًا النسبة العالية في انتشار جرائم الزنا واللواط بين الصغار، ونسبة الحوامل فيمن سنهن في حدود الثانية عشرة من أعمارهن، وكثرة الشذوذ بين الجنس الذكري، تقول اللادي كوك: «إن الاختلاط يألفه الرجال، ولهذا طمعت المرأة بما يخالف فطرتها، وعلى قدر كثرة الاختلاط تكون كثرة أولاد الزنا، وها هنا البلاء العظيم على المرأة» [28].
وذكر الأستاذ سيد قطب من مشاهداته في أمريكا أنَّه ظهر أنَّ نسبة الفتيات الحوامل في إحدى المدارس الثانوية هناك 48% [29].
5- ومن نتائج الاختلاط في التعليم ضعف سوية التعليم وتدني نسبة الاستفادة العلمية، ومن يزور بعض الفروع الجامعية المختلطة أو ينظر في نتائج الامتحانات آخر العام الدراسي يتبين له ذلك.
وقد زار بعض الكتاب مدرسة في بلجيكا ولاحظ أنَّ جميع طلابها بنات، فلمَّا سأل عن ذلك أجابته المديرة بقولها: «قد لمسنا أضرار اختلاط الأطفال حتى في سن المرحلة الابتدائية» [30].
ويخمّن القاضي لندسي الأمريكي أن 45% من فتيات المدارس يدنسن أعراضهن قبل خروجهن منها، وترتفع هذه النسبة كثيرًا في مراحل التعليم العالية [31].
الشبهة الرابعة: الاختلاط يخفف الشهوة:
يدعي دعاة الاختلاط أنَّ اختلاط الرجال بالنساء يمكن أن يخفف من حدة إثارة الدافع الجنسي لدى كل من الرجل والمرأة [32].
الجواب:
1- الأمر بالعكس تمامًا، فإن الاختلاط يزيد من شدة إثارة الدافع الجنسي، ولو أنَّ اختلاط الرجل بالمرأة غير المحرمة يخفف من حدة الدافع الجنسي لدى كل من الرجل والمرأة لوجدنا أنَّ هذا الدافع يخف تدريجيًا ثم يصل إلى درجة الانعدام عند كل واحد من الزوجين بعد فترة من زواجهما لشدة اختلاط أحدهما بالآخر بشكل مستديم، ولكن الواقع هو عكس ذلك، إذ يستمر هذا الدافع لدى كل منهما ما دام أنه سوي في صحته الجسمية والعقلية [33].
ولقد ظهر زيف هذه الخرافة يومًا بعد يوم في مجتمع يتزايد فيه الاختلاط بدون قيود، ففي كل يوم يزداد فيه الاختلاط تزداد فيه الشهوة الجنسية استعارًا. وتشير بعض التقارير إلى أن أكثر من تسعين في المائة من النساء غير المتزوجات في أوربا وأمريكا يمارسن الزنا إما بطلاقة أو من حين لآخر [34].(/18)
2- قد يكون ما يذهب إليه دعاة تهذيب الشهوة صحيح من بعض نواحيه، وإن كان كثير من الشهوات الجامحة الجارفة يستعصي على الترويض، وأغلب الظن أن إدمان الخضوع للتجربة على تعاقب الأيام قد ينتهي إلى ما يريده المروضون من دعاة التهذيب، ولكن أي شيء يمكن أن يسمى هذا الذي يسعون إليه؟ أليس هو البرود الجنسي؟! إذا رأى الرجل المرأة فلم يثِر فيه هذا اللقاء ما يثور عادة في الرجال عند رؤية النساء ولم يطرأ على الرجل أي تغيير جنسي جسدي وكان قصارى ما يستتبعه ذلك كله هو أن تسري في جسده نشوة لا تدفع به إلى الحالة الإيجابية العضوية أليس يكون قد بلغ ما يسمى بالبرود الجنسي؟! أليس البرود الجنسي مرضًا يسعى المصابون به إلى الأطباء يلتمسون عندهم البرء والشفاء من أعراضه؟! فكيف نجعل هذا المرض غاية من الغايات نسعى إليها باسم التنفيس عن الكبت أو تهذيب الغريزة الجنسية؟! وكيف يكون الحال لو تصورنا التهذب في سائر الخلق، فبطل تجاذب السالب للموجب أو فتر، فأصبح من غير المؤكد أن يترتب على التقائهما الشوق الشديد والميل العنيف الذي لا يقاوم إلى الاندماج الكامل، أليس يفسد الكون كله؟!
إنَّ حدة الشهوة وقوتها سبيل إلى تحسين النسل وداعية إلى إبراز أحسن خصائصه وأفضل صفاته، كما أن فتور الشهوة وبرودها سبيل إلى ضعف النسل وداعية إلى تدهور خصائصه وانحطاط صفات.
ونتيجة خطيرة لشيوع البرود الجنسي وهي انتشار الشذوذ الجنسي، فهي راجعة إلى أنَّ الرجل الذي ألف أن يقع نظره على مفاتن المرأة فلا يثور يحتاج لكي يثور إلى مناظر وأوضاع تخالف ما ألف، ومصيبته بالبرود الجنسي تحرمه من الإحساس بذكورته، فيعاني أشد الألم ممَّا يحسه في أعماق نفسه من الذلة والمهانة، ويدفعه ذلك إلى أن يحاول تحقيق متعة الاتصال الجنسي وإثباتها من كل الوجوه، عن طريق التقلب بين الخليلات وبائعات الهوى، والتماس الشاذ الغريب من الأساليب والأوضاع رجاء انبعاث ما ركد من ذكورته، وقد تدفعه مع ذلك إلى إغراق نفسه في الخدرات تعويضًا لما فقده من لذة أو إلى الإجرام أو المغامرة إثباتًا لذكروته من وجه آخر [35].
3- من نتائج الاختلاط عند الغرب بأقلام علمائهم:
يقول الدكتور جون كيشلر أحد علماء النفس الأمريكيين في شيكاغو: إنَّ 90% من الأمريكيات مصابات بالبرود الجنسي و40% من الرجال مصابون بالعقم، وقال: إنَّ الإعلانات التي تعتمد على صور الفتيات العارية هي السبب في هبوط المستوى الجنسي للشعب الأمريكي، وبسبب الاختلاط الذي سبب ما سبب في المجتمع البريطاني أصبحت المرأة التي تركت أنوثتها واتصفت بصفات الرجالات تسمى بالجنس الثالث، فهذا الجنس الثالث يخالف الرجال طبيعة وتركيبًا ويخالف النساء وظائف وأعمالً [36].
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا،،،
________________
[1] المرأة المسلمة أمام التحديات (109).
[2] المرأة المسلمة أمام التحديات (109).
[3] المرأة المسلمة أمام التحديات (109).
[4] المرأة المسلمة أمام التحديات (109).
[5] انظر تفصيل ذلك في المرأة المسلمة أمام التحديات (109-111).
[6] المرأة بين الفقه والقانون (41).
[7] حكم تولي المرأة الإمامة الكبرى والقضاء، الأمين الحاج محمد أحمد (48).
[8] الجامع لأحكام القرآن (13/183).
[9] حكم تولي المرأة الإمامة الكبرى والقضاء (48).
[10] حكم تولي المرأة الإمامة الكبرى والقضاء (49).
[11] حكم تولي المراة الإمامة الكبرى والقضاء (49-50).
[12] أخرجه مسلم في الأشربة (2037).
[13] ماذا عن المرأة؟ (171).
[14] إلى كل فتاة تؤمن بالله (71).
[15] أخرجه البخاري في الهبة، باب الهبة وفضلها والتحريض عليها (2567)، ومسلم في الزهد والرقائق (2972).
[16] إلى كل فتاة تؤمن بالله (72-73) باختصار.
[17] إناء يكون من نحاس وغيره، وبين هنا أنه من حجارة. فتح الباري (9/160).
[18] أي: مرسته بيدها. فتح الباري (9/160).
[19] أخرجه البخاري في النكاح، باب: قيام المرأة على الرجال في العرس وخدمتهم بالنفس (5182)، ومسلم في الأشربة (2006).
[20] ماذا عن المرأة (171).
[21] فتح الباري (9/160).
[22] إلى كل فتاة تؤمن بالله (76-77).
[23] إلى كل فتاة تؤمن بالله (77).
[24] مهلًا يا دعاة الاختلاط، د. محمد بن ناصر الجعوان (30).
[25] مهلًا يا دعاة الاختلاط (28).
[26] مهلًا يا دعاة الاختلاط (29).
[27] مهلًا يا دعاة الاختلاط (37-38).
[28] مهلًا يا دعاة الاختلاط (39-40).
[29] انظر: المرأة المسلمة. وهبي غاوجي (238).
[30] المرأة المسلمة (238-239).
[31] المرأة المسلمة (242).
[32] عوامل الانحراف الجنسي ومنهج الإسلام في الوقاية منها وعلاجها. عبد الرحيم صالح عبد الله (117).
[33] عوامل الانحراف الجنسي (117-118).
[34] عوامل الانحراف الجنسي (118-119).
[35] الإسلام في قفص الاتهام. شوقي أبو خليل (243-245) باختصار وبعض تصرف.
[36] الإسلام في قفص الاتهام (246-247).(/19)
شبهات حول عصر الصحابة
1- عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة:
يمكن تلخيص الخطوط العريضة لعقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة بما يلي :
أولاً : الاعتقاد الجازم بأنهم أفضل الخلق بعد الأنبياء عليهم السلام :
قال تعالى : ( ياأيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين).
في هذه الآية أثنى الله على جميع المؤمنين الذين اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم يكفونه في جميع أموره ، وفي ذلك تنويه بفضلهم وبيان لشرفهم.
وقال صلى الله عليه وسلم : ( لا تسبوا أصحابي ، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أُحُدٍ ذهباً ما أدرك مُدّ أحدهم ولا نصيفه). رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما.
وبالمناسبة فإن وزن جبل أحد هو (45) خمسة وأربعون ألف مليون طن ذهب تقريباً. سبحان الله !! رقم فلكي بالفعل ، ولكن حتى يعرف كل إنسان حجمه مقارنة بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن فضل الصحابة رضوان الله عليهم يقول ابن تيمية رحمه الله : ( ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة ، وما من الله به عليهم من الفضائل علم يقينا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء ، لا كان ولا يكون مثلهم ، وأنهم هم الصفوة من قرون هذه الأمة، التي هي خير الأمم وأكرمها عند الله تعالى).
ثانياً: عدالتهم :
العدالة: ملكة في النفس ، تحمل صاحبها على الاستقامة ، وملازمة التقوى ، والمروءة ، ولم تتحقق العدالة في أحد مثل تحققها في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجميعهم رضي الله عنهم عدول ، تحققت فيهم صفة العدالة.
قال تعالى : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً).
والآية ناطقة بعدالة الصحابة رضي الله عنهم قبل غيرهم ممن جاء بعدهم من هذه الأمة، وقال صلى الله عليه وسلم : (ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب). رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما.
وهذا القول صدر من الرسول صلى الله عليه وسلم في أعظم جمع من الصحابة في حجة الوداع ، وهذا من أعظم الأدلة على ثبوت عدالتهم حيث طلب منهم أن يبلغوا ما سمعوه منه لمن لم يحضر ذلك الجمع دون أن يستثني منهم أحداً.
وعن عدالة الصحابة رضوان الله عليهم يقول ابن تيمية رحمه الله : ( وأهل السنة والجماعة مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره ، بل تجوز عليهم الذنوب في الجملة ، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر ، حتى إنه يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم ، وقد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم خير القرون ، وأن المدّ من أحدهم إذا تصدق به كان أفضل من جبل أحد ذهباً ممن بعدهم.
ثم إذا كان قد صدر من أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه ، أو أتى بحسنات تمحوه ، أو غفر له بفضل سابقته ، أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم الذين هم أحق الناس بشفاعته ، أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفر به عنه ، فإذا كان هذا في الذنوب المحققة ، فكيف بالأمور التي كانوا فيها مجتهدين ، إن أصابوا فلهم أجران ، وإن أخطأوا فلهم أجر واحد ، والخطأ مغفور لهم.
ثم القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل ، نزر، مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم ، من الإيمان بالله ورسوله ، والجهاد في سبيله ، والهجرة والنصرة ، والعلم النافع ، والعمل الصالح).
ثالثاً : وجوب محبتهم والدعاء والاستغفار لهم :
وذلك لما شرفهم الله به من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والجهاد معه ، وصبرهم على أذى المشركين ، والمنافقين ، والهجرة عن أوطانهم وأموالهم ، وتقديم حب الله ورسوله على ذلك كله ، وهم نقلة هذا الدين الذين أخرج الله بهم الناس من الظلمات إلى النور ، ففضلهم مستمر على كل مسلم جاء من بعدهم إلى يوم القيامة.
قال تعالى: ( والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين ءامنوا ربنا إنك رءوف رحيم).
ويترتب على ذلك أيضاً نشر محاسنهم وعدم تتبع زلاتهم.
رابعاً: تحريم سبهم رضوان الله عليهم :
قال تعالى : ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه).
ووجه الدلالة على تحريم سبهم أن الله تعالى رضي عنهم ، والرضى من الله صفة قديمة ، فلا يرضى إلا عن عبد علم أنه يوافيه على موجبات الرضى ، ومن رضي الله عنه لم يسخط عليه أبداً.
وقال تعالى : ( إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً).
ومما يؤذي الرسول صلى الله عليه وسلم ، سب أصحابه رضوان الله عليهم ، فدلت الآية على تحريم سبهم.
وقال صلى الله عليه وسلم : ( من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين).
خامساً: عقيدة أهل السنة والجماعة فيما شجر بين الصحابة :(/1)
نظراً لأهمية هذه القضية فلا بأس من استعراض طائفة من أقوال السلف – رحمهم الله – في هذا الموضوع المهم حتى يقف القارئ بنفسه على منهج أهل السنة والجماعة فيما شجر بين الصحابة رضوان الله عليهم.
وفيما يلي بعض النصوص التي تبين ذلك :
- سئل عمر بن عبد العزيز – رحمه الله - عن قتال يوم الجمل ، ويوم صفين ، فقال : ( دماء لم أغمس فيها يدي ، أغمس فيها لساني ؟!).
- قال الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله:( صفة المؤمن من أهل السنة والجماعة ، من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله... وترحم على جميع أصحاب محمد ، صغيرهم وكبيرهم ، وحدث بفضائلهم ، وأمسك عما شجر بينهم).
- قال الذهبي – رحمه الله : ( كما تقرر الكف عن كثير مما شجر بين الصحابة وقتالهم رضي الله عنهم أجمعين ... لتصفو القلوب ، وتتوفر على حب الصحابة ، والترضي عنهم ، وكتمان ذلك متعين على العامة... فالقوم لهم سوابق ، وأعمال مكفرة لما وقع منهم ، وجهاد محّاء ، وعبادة ممحصة).
- وقال أيضا: ( فأما ما تنقله الرافضة وأهل البدع في كتبهم من ذلك فلا نعرج عليه ولا كرامة ، فأكثره باطل وافتراء ، فدأب الروافض رواية الأباطيل ، أو رد ما في الصحاح والمسانيد).
- قال ابن حجر الهيتمي – رحمه الله : ( ويجب الإمساك عما وقع بينهم من الاختلاف ، صفحاً عن أخبار المؤرخين ، لا سيما جهلة الروافض ، وضلال الشيعة ، والمبتدعين القادحين في أحد منهم).
- أما ابن تيمية- رحمه الله – فقد لخص منهج أهل السنة والجماعة في هذه القضية بعبارات جامعة مانعة بقوله: ( ولهذا أوصوا بالإمساك عما شجر بينهم ، لأنا لا نسأل عن ذلك... لكن إذا ظهر مبتدع يقدح فيهم بالباطل ، فلا بد من الذب عنهم ، وذكر ما يبطل حجته بعلم وعدل).
أخي القارئ الكريم ، مما سبق نخلص إلى أن الأصل في منهج أهل السنة والجماعة هو السكوت عما شجر بين الصحابة – رضوان الله عليهم – لكن إن دعت الحاجة إلى الحديث في هذه المسألة الشائكة فينبغي مراعاة الضوابط التالية التي ذكرها أهل العلم في ثنايا حديثهم ، وهي :
أ - وجود ضرورة شرعية تستدعي مناقشة هذا الأمر كالمنافحة عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإظهار عذرهم ، والرد على أهل البدع القادحين في أحد منهم.
ب - إن من يتصدى لهذا الأمر يجب عليه أن يتسلح بالحجة والبرهان حتى لا يفتي بغير علم.
ج - إن من يتصدى لهذا الأمر يجب عليه أن يلزم العدل والإنصاف حتى لا يظلم نفسه ويظلم غيره.
د- الإمساك عن مناقشة هذا الأمر والتحدث به أمام العامة.
---------------------
شبهات حول عصر الصحابة (2) : منهج دراسة عصر الصحابة رضوان الله عليهم
لما كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هم نقلة هذا الدين فقد توجهت إليهم سهام الزنادقة في كل عصر للنيل منهم.
وفي ذلك يقول أبو زرعةالرازي – رحمه الله : ( إذا رأيت الرجل يتنقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق ، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حق ، والقرآن حق ، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن ، أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة ، والجرح بهم أولى ، وهم زنادقة).
كما تحدث الطحاوي – رحمه الله - عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : (وحبهم دين وإيمان وإحسان ، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان).
والنيل من الصحابة - رضوان الله عليهم – ليس مقصوداً لذاته فقط ، بل إن الهدف الأهم لدى الزنادقة هو النيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن طريق الطعن في أصحابه – رضوان الله عليهم – وفي ذلك يقول مالك - رحمه الله: ( إنما هؤلاء أقوام أرادوا القدح في النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم يمكنهم ذلك، فقدحوا في أصحابه حتى يقال : رجل سوء ، ولو كان رجلاً صالحاً لكان أصحابه صالحين).
هذا وتعد كتب التاريخ والأدب أوسع باب دخل منه أعداء الإسلام للنيل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد ساعدهم في تنفيذ مآربهم ذلك الكم الهائل من الروايات الضعيفة والمكذوبة المنتشرة في المصادر التاريخية والأدبية عن عصر الصحابة - رضوان الله عليهم.
من أجل ذلك كله وجدت أن أفضل منهج لدراسة عصر الصحابة – رضوان الله عليهم – هو المنهج النقدي لدى المحدثين – رحمهم الله – لكونه يجمع بين الضوابط الشرعية والمنهجية العلمية ، هذا مع الاستفادة في الوقت نفسه من منهج النقد التاريخي.
وعلى أية حال ، ومن دون الدخول في تفاصيل علمية جافة ، فإنه يمكن تلخيص الخطوط العريضة لهذا المنهج بالنقاط التالية:
أولاً : وهي نقطة مهمة ينبغي للمسلم أن يتنبه لها في كل عمل من أعماله ، ألا وهي : إخلاص النية لله سبحانه وتعالى ، إذ ببركة الإخلاص يفتح الله سبحانه وتعالى على العبد كثيراً من الأمور التي تستغلق عليه.(/2)
ثانياً : معرفة أن المصادر التاريخية أشبه ما تكون بالمواد الخام التي تحتاج إلى التكرير والتصفية قبل الاستفادة منها ، وذلك أن مؤلفيها لم يشترطوا الصحة فيما يدونونه من أخبار ، بل ساروا في عملية التدوين على منهج الجمع ، فجمعوا في كتبهم الغث والسمين من الأخبار ، وهذه النقطة مع الأسف تجاهلها كثير من الباحثين المعاصرين ، وراحوا يتعاملون مع المصادر التاريخية وما فيها من نصوص على أنها من المسلمات ، وهذا بلا شك انعكس بدوره على النتائج التي توصلوا إليها في أبحاثهم.
فالإمام الطبري – رحمه الله – على سبيل المثال قد سار في تاريخه على منهج الجمع فقيد في تاريخه الغث والسمين من الأخبار، دون اشتراط الصحة في ذلك ، بل إنه – رحمه الله - قد أشار إلى هذه المسألة في مقدمته حيث قال : ( فما يكن في كتابي من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارؤه ، أو يستشنعه سامعه ، من أجل أنه لم يعرف له وجهاً في الصحة ، ولا معنى في الحقيقة ، فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا ، وإنما أتي من قبل بعض ناقليه إلينا ، وأنا إنما أدينا ذلك على نحو ما أدي إلينا).
إن الاعتماد على مجرد النقل من المصادر دون نقد ، أو تمحيص أمر لا تحمد عقباه، لذا فقد حذر منه العلماء ، وفي ذلك يقول ابن خلدون – رحمه الله : ( وكثيراً ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل ، من المغالط في الحكايات والوقائع ، لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثاً أو سميناً).
والنقل من المصادر التاريخية دون نقد أو تمحيص آفة كثير من البحوث ، وسببه عدم مراعاة المنهج العلمي في التعامل مع النصوص التاريخية ، وفي ذلك يقول ابن خلدون – رحمه الله : ( أما بعد ، فإن فن التاريخ من الفنون التي تتداوله الأمم والأجيال... وتسمو إلى معرفته السوقة والأغفال ، وتتنافس فيه الملوك والأقيال ... إذ هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول ، والسوابق من القرون الأول ، تنمو فيها الأقوال ، وتضرب فيها الأمثال ، وتطرف بها الأندية إذا غصها الاحتفال ، وتؤدي لنا شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال ، واتسع للدول فيها النطاق والمجال ، وعمروا الأرض حتى نادى بهم الارتحال ، وحان منهم الزوال ، وفي باطنه نظر وتحقيق ، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق ، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق ، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق ، وجدير بأن يعد في علومها وخليق).
ثالثاً : دراسة ميول مؤلفي المصادر ومعرفة توجهاتهم العقدية ، لما لذلك من تأثير في مصداقية ما ينقلونه من أخبار.
رابعاً : فيما يتعلق بالروايات المسندة فإنه من الأهمية بمكان دراسة رجال إسناد كل رواية ومعرفة أحوالهم جرحاً وتعديلاً ، وذلك إن ميول الرواة ، سواء منها : القبلية ، أو السياسية ، أو العقدية ، تؤثر بلا شك على مصداقية ما ينقلونه من أخبار ؛ وفي ذلك يقول محمد بن سيرين – رحمه الله - : (إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم).
كما تحدث عبد الله بن المبارك - رحمه الله - عن أهمية الإسناد فقال : (الإسناد من الدين ، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء).
وهنا يجدر التنبيه على أن المحدثين قد وضعوا معايير علمية دقيقة في تجريح أو تعديل الرواة ، مراعين في ذلك طبيعة الخبر المروي ، وميول راوي الخبر.
خامساً : فيما يتعلق بمتن الراوية ، مسندة كانت أم غير مسندة ، فينبغي مراعاة الأمور التالية :
1- خلو النص من المخالفات العقدية والشرعية.
2- خلو النص من الأمور القادحة بعدالة الصحابة – رضوان الله عليهم – وذلك لثبوت عدالتهم في الكتاب والسنة. وعن عدالة الصحابة – رضي الله عنهم – يقول الخطيب البغدادي – رحمه الله : (على أنه لو لم يرد من الله عز وجل ورسوله فيهم شيء ، لأوجبت الحال التي كانوا عليها ، من الهجرة والجهاد والنصرة ، وبذل المهج والأموال ، وقتل الآباء والأولاد ، والمناصحة في الدين ، وقوة الإيمان واليقين ، القطع على عدالتهم ، والاعتقاد بنزاهتهم ، وأنهم أفضل من جميع المعدلين ، والمزكين ، الذين يجيئون بعدهم أبد الآبدين ، هذا مذهب كافة العلماء ، ومن يعتد بقوله من الفقهاء).
كما تحدث الذهبي – رحمه الله - عن عدالتهم فقال : ( فأما الصحابة – رضي الله عنه – فبساطهم مطوي ، وإن جرى ما جرى ، إذ على عدالتهم ، وقبول ما نقوله العمل ، وبه ندين الله تعالى).
3- إن مجتمع الصحابة – رضوان الله عليهم – وهو خير القرون كما أخبر بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وهو المجتمع الذي تخرج من مدرسة النبوة ، لذا فإن أحوال ذلك المجتمع ما هي إلا انعكاس لأخلاقيات صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذين كانوا أول المخاطبين بقوله تعالى : (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله).(/3)
أما من ينظر إلى ذلك المجتمع من خلال كتب الأدب فقد ظلم نفسه ، وظلم معها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذين اصطفاهم الله سبحانه وتعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم.
وحتى يعلم القراء الكرام بحجم جناية بعض كتب الأدب على مجتمع الصحابة - رضوان الله عليهم – فإني أحيلهم إلى الرسالة العلمية الجادة التي ألفها د.عبدالله الخلف ، والموسومة بـ ( مجتمع الحجاز في العصر الأموي بين الآثار الأدبية والمصادر التاريخية). وهي رسالة دكتوراه من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية .
سادساً : الاستعانة بالأدلة العقلية لرفع الظلم عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
سابعاً : اعتماد كتب السنة مصدراً أساسياً لدراسة عصر الصحابة – رضوان الله عليهم – وذلك لاحتوائها على عشرات النصوص التاريخية التي يندر وجودها في كتب التاريخ ، وهذه الخطوة بالرغم من توسيعها لقاعدة المصادر ، فقد غفل عنها كثير من الباحثين المعاصرين ، وهذا بدوره قد انعكس سلباً على مستوى أبحاثهم.
وللدلالة على أن كتب السنة تعد منجماً غنياً بالنصوص التاريخية ، فإني أحيل القراء الكرام إلى رسالتين علميتين تؤكدان هذا المعنى.
الرسالة الأولى : للدكتور / يحيى اليحيى ، وعنوانها : (الروايات التاريخية عن الخلافة الراشدة والدولة الأموية في فتح الباري ، جمعاً وتوثيقاً) وهي رسالة دكتوراه من الجامعة الإسلامية.
الرسالة الثانية : للدكتور / سعد الموسى ، وعنوانها : (النصوص التاريخية في مسند الإمام أحمد ، عن عصر الخلافة الراشدة) وهي رسالة دكتوراه من جامعة أم القرى.
ومن أجل التوسع في معرفة تفاصيل هذا المنهج فيمكنكم الرجوع إلى الأبحاث والكتب التالية :
1- د. أكرم ضياء العمري : منهج النقد عن المحدثين مقارناً بالمثيولوجيا الغربية.
2- د. أكرم ضياء العمري : دراسات تاريخية.
3- د. محمد مصطفى الأعظمي : منهج النقد عند المحدثين.
4- د. مسفر الدميني : مقاييس نقد متون السنة.
5- د. محمد السلمي : منهج كتابة التاريخ الإسلامي.
6- د. محمد السلمي : منهج نقد الروايات التاريخية.
7- د. أسد رستم : مصطلح التاريخ.
وإتماماً للفائدة فإنني أحيل القراء الكرام إلى مجموعة من الرسائل العلمية التي طبقت هذا المنهج كلياً ، أو جزئياً ، في الجامعات السعودية ، وفيما يلي قائمة بأسماء بعض تلك الرسائل :
1- د.يحيى اليحيى : مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري عن عصر الخلافة الراشدة ، دراسة نقدية. وهي رسالة ماجستير من الجامعة الإسلامية.
2- د. عبدالعزيز المقبل : خلافة أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – من خلال كتب السنة والتاريخ ، دراسة نقدية للروايات. وهي رسالة ماجستير من الجامعة الإسلامية.
3- د.عبدالسلام آل عيسى : المرويات الواردة في شخصية عمر – رضي الله عنه – وسياسته الإدارية ، دارسة نقدية للروايات ، وهي رسالة دكتوراه من الجامعة الإسلامية.
4- د. محمد الغبان : فتنة مقتل عثمان بن عفان – رضي الله عنه – وهي رسالة ماجستير من الجامعة الإسلامية.
5- د. محمد العواجي : خلافة عثمان – رضي الله عنه – (باستثناء الفتنة) من خلال كتب السنة والتاريخ ، دراسة نقدية. وهي رسالة ماجستير من الجامعة الإسلامية.
6- د.عبدالحميد فقيهي : خلافة علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – دراسة نقدية للروايات. وهي رسالة ماجستير من الجامعة الإسلامية.
7- د.محمد الشيباني : مواقف المعارضة من خلافة يزيد بن معاوية ، دراسة نقدية للروايات. وهي رسالة ماجستير من الجامعة الإسلامية.
8- د. عبد العزيز ولي : أثر التشيع على الروايات التاريخية في القرن الأول الهجري . وهي رسالة دكتوراه من الجامعة الإسلامية.
9- د.خالد يماني : مرويات عمر بن شبه في تاريخ الطبري عن عصر الخلافة الراشدة ، دراسة نقدية. وهي رسالة دكتوراه من جامعة أم القرى.
10- د.عبدالله حيدر : مرويات ابن إسحاق في تاريخ الطبري عن عصر الخلافة الراشدة ، دراسة نقدية ، وهي رسالة ماجستير من جامعة أم القرى.
11- د. خالد الغيث : استشهاد عثمان – رضي الله عنه – ووقعة الجمل في مرويات سيف بن عمر في تاريخ الطبري، دراسة نقدية. وهي رسالة ما جستير من جامعة أم القرى.
12- د. خالد الغيث : مرويات خلافة معاوية – رضي الله عنه – في تاريخ الطبري ، دراسة نقدية مقارنة . وهي رسالة دكتوراه من جامعة أم القرى.
=====================
شبهات حول عصر الصحابة (3) : تقويم الرجال ومؤلفاتهم
فيها إخلال بالمنهج الصحيح في التعامل فيما شجر بين الصحابة رضوان الله عليهم.(/4)
مع أن السلف - رحمهم الله - قد أوصوا بالسكوت عما شجر بينهم ، وقيدوا الحديث في هذه المسألة الشائكة بضوابط محددة ينبغي مراعاتها عند تناول هذا الموضوع، هذا بالإضافة إلى أن هذه الكتب والأشرطة قد سارت على منهج النقل من بعض المصادر دون نقد أو تمحيص فترتب على ذلك انتشار بعض الروايات المكذوبة على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفيها ما فيها من مطاعن في حق أولئك الصحب الكرام؛ لذا كان من باب فرض الكفاية الانتصار لأولئك الصحب الكرام والذب عنهم بالحجة والبرهان.
إن تقويم الرجال ومؤلفاتهم عند أهل السنة والجماعة قاعدته العدل والإنصاف ، الذي هو من خصائص هذه الأمة التي قال عنها الله سبحانه وتعالى : ( وكذلك جعلنكم أمة وسطا) ، كماأن العدل والإنصاف من لوازم الإيمان حيث قال تعالى : (يأيها الذين ءامنوا كونوا قومين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعلمون) .
ومما ينافي العدل والإنصاف اتباع الهوى الذي يضل عن سبيل الله ، قال تعالى : ( ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب) ، كما أن غلبة الهوى على النفس البشرية تجعل الناس ( يعرفون الحق بالرجال ، لا الرجال بالحق) ، مع أن الأصل كما قال علي – رضي الله عنه : (لا تعرف الحق بالرجال ، بل اعرف الحق تعرف أهله).
وقد لخص ابن القيم – رحمه الله – منهج أهل السنة والجماعة في موضوع التقويم فقال : ( وهم أهل العدل والإنصاف الذين أعطوا كل ذي حق حقه ، وأنزلوا كل ذي منزلة منزلته ، فلم يحكموا للصحيح بحكم السقيم المعلول ، ولا المعلول بحكم السقيم ، بل قبلوا ما يقبل ، وردوا ما يرد).
وقال – رحمه الله : ( ولا نتعصب لطائفة على طائفة ، بل نوافق كل طائفة على ما معها من الحق ، ونخالفها فيما معها من خلاف الحق ، لا نستثني من ذلك طائفة ولا مقالة ، ونرجو من الله أن نحيا على ذلك ونموت عليه ، ونلقى الله به ولا قوة إلا بالله).
وعلى طالب العلم أن يتقي الله في نفسه وفي إخوانه إذا وقف على شيء من الخلل فإنه يبين ما وقف عليه بالحسنى دون تشف أو سخرية من إخوانه، قال تعالى : ( والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم ) ؛ منطلقين في ردودنا من قوله تعالى : ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)..
وختاماً نذكر القارئ الكريم بقول الإمام مالك – رحمه الله : ( كل يؤخذ منه ويرد إلا صاحب هذا القبر) ، وأشار إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
=================
شبهات حول عصر الصحابة (4): ماذا فعلت عائشة رضي الله عنها عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
استشهد بعض المعاصرين في سردهم لخبر وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم برواية فيها زيادة منكرة عند العلماء لأنها تحمل في طياتها إساءة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وللسيدة عائشة رضي الله عنها ، حيث تتضمن اتهاماً لأم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها– بأمر من أمور الجاهلية مثل : الولولة ، والصراخ ، واللطم ، جزعاً لوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وفيما يلي نص الرواية :
بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يردد : ( بل الرفيق الأعلى ، بل الرفيق الأعلى) تقول - المراد عائشة – رضي الله عنها - : وهو يرددها سقط رأسه على كتفي ، ومات النبي صلى الله عليه وسلم وشخص بصره إلى السماء. فمن حمقي ، وقلة عقلي أنزلت رأس النبي صلى الله عليه وسلم على وسادة ، وأخذت أولول ، وأصرخ ، وألطم).
وهذه الزيادة المنكرة مردودة من عدة أوجه :
الوجه الأول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختر أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – من بين نسائه ليقضي عندها تلك السويعات التي بقيت له في الدنيا لحمقها وقلة عقلها ، بل اختارها صلى الله عليه وسلم لفقهها ، وعلمها ، وحبه لها ، رضوان الله عليها.
عن هشام بن عروة بن الزبير ، عن أبيه : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان في مرضه جعل يدور في نسائه ويقول : (أين أنا غداً ؟) حرصاً على بيت عائشة ، قالت عائشة : فلما كان يومي سكن)[رواه البخاري في صحيحه]،[ سكن: أي سكت عن قول : أين أنا غداً ].
وعن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة – رضي الله عنها – قالت : (إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتفقد يقول : (أين أنا اليوم ؟ أين أنا غداً ؟) استبطاء ليوم عائشة. قالت : فلما كان يومي قبضه الله بين سحري ونحري)[ رواه مسلم في صحيحه].[ سحري : أي صدري ].(/5)
وهذا الفضل العظيم الذي خص الله - سبحانه وتعالى - به أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – جعل الإمام البخاري يخرّج بعض أحاديث مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته في باب فضل عائشة – رضي الله عنها – وكذلك فعل الإمام مسلم في صحيحه ، وهذا من فقههما ودقة فهمهما ، رحمهما الله.
وعن هشام ، عن أبيه قال : ( كان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة. قالت عائشة : فاجتمع صواحبي إلى أم سلمة ، فقلن : يا أم سلمة ، والله إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة ، وإنا نريد الخير كما تريد عائشة ، فمري رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمر الناس أن يهدوا إليه حيث كان، أو حيث ما دار. قالت: فذكرت ذلك أم سلمة للنبي صلى الله عليه وسلم ، قالت : فأعرض عني ، فلما عاد إليّ ذكرت له ذلك ، فأعرض عني ، فلما كان الثالثة ذكرت له فقال : ( يا أم سلمة ، لا تؤذيني في عائشة ، فإنه والله ما نزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها) [ رواه البخاري في صحيحه].
وقد علق الذهبي على جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة بقوله : (وهذا الجواب منه دال على أن فضل عائشة على سائر أمهات المؤمنين بأمر إلهي وراء حبه لها ، وأن ذلك الأمر من أسباب حبه لها).
الوجه الثاني : إن حال عائشة - رضي الله عنها – مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وفاته لم يتصف بالحمق وقلة العقل ، بل كان حالها حال الزوجة المؤمنة الصابرة الراضية بقضاء الله سبحانه وتعالى.
عن عائشة – رضي الله عنه – قالت : (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات ، ومسح عنه بيده ، فلما اشتكى وجعه الذي توفي فيه طفقت أنفث على نفسه بالمعوذات التي كان ينفث ، وأمسح بيد النبي صلى الله عليه وسلم عنه) [ رواه البخاري في صحيحه].
وعن عروة بن الزبير ، أن عائشة - رضي الله عنها – قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صحيح يقول إنه : ( لم يقبض نبي حتى يرى مقعده من الجنة ثم يُحيا أو يخيّر) ، فلما اشتكى ، وحضره القبض ، ورأسه على فخذ عائشة ، غشي عليه ، فلما أفاق شخص بصره نحو سقف البيت ، ثم قال : (اللهم في الرفيق الأعلى). فقلت: إذاً لا يختارنا ، فعرفت أنه حديثه الذي كان يحدثنا وهو صحيح ) [ رواه البخاري في صحيحه] .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : ( توفي النبي صلى الله عليه وسلم في بيتي وفي يومي ، وبين سحري ونحري ، وكانت إحدانا تعوذه بدعاء إذا مرض، فذهبت أعوذه فرفع رأسه إلى السماء وقال : ( في الرفيق الأعلى ).
ومر عبد الرحمن بن أبي بكر وفي يده جريدة رطبة ، فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم ، فظننت أن له بها حاجة ، فأخذتها فمضغت رأسها ونفضتها فدفعتها إليه ، فاستن بها كأحسن ما كان مستناً ، ثم ناولنيها ، فسقطت يده ، أو سقط من يده ، فجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة ) [ رواه البخاري في صحيحه].
الوجه الثالث: إن عائشة – رضي الله عنها – لا يخفى عليها أن هذا الأمر من عمل الجاهلية ، لقوله صلى الله عليه وسلم: ( ليس منا من لطم الخدود ، وشق الجيوب، ودعا بدعوة الجاهلية) [ رواه البخاري في صحيحه].
وهي من هي فقها وعلماً ، وعن فقهها وعلمها يقول الذهبي – رحمه الله: (عائشة أم المؤمنين بنت الإمام الصديق الأكبر ، خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم... القرشية التيمية ، المكية ، النبوية ، أم المؤمنين ، زوجة النبي صلى الله عليه وسلم ، أفقه نساء الأمة على الإطلاق ).
وقال أيضاً : ( ولا أعلم في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، بل ولا في النساء مطلقاً ، امرأة أعلم منها).
وقال عنها ابن كثير – رحمه الله : ( ومن خصائصها أنها أعلم نساء النبي صلى الله عليه وسلم ، بل هي أعلم النساء على الإطلاق).
وقد شهد ببراءة السيدة عائشة – رضي الله عنها – من هذا العمل الذي هو من أعمال الجاهلية الصحابي الجليل قيس بن عاصم – رضي الله عنه – وهو يوصي أبناءه عند وفاته ، حيث قال : ( يا بني خذوا عني فإنكم لن تأخذوا عن أحد هو أنصح لكم مني ، لا تنوحوا علي ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُنح عليه، وقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن النياحة) [ الألباني ، صحيح الأدب المفرد للبخاري . الألباني ، صحيح سنن النسائي]. والشاهد هو قول هذا الصحابي الكريم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينح عليه.
=================
شبهات حول عصر الصحابة (5) : موقف علي بن أبي طالب من بيعة أبي بكر الصديق رضي الله عنهما
يستشهد بعض المعاصرين بالروايات التي تتحدث عن تأخر علي عن بيعة الصديق – رضي الله عنهما – إلى ما بعد وفاة فاطمة – رضي الله عنها.
قلت: هذه البيعة التي ذكرها المحاضر هي البيعة الثانية لعلي – رضي الله عنه – وذلك أن عليا – رضي الله عنه – بايع أبا بكر بيعتين، الأولى : بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. والثانية: بعد وفاة فاطمة – رضي الله عنها.(/6)
ومن هنا جاء الالتباس فحسب البعض أن علياً لم يبايع أبا بكر إلا بعد وفاة فاطمة ، رضوان الله عليهم أجمعين؛ وفي ذلك يقول ابن كثير – رحمه الله : ( ولكن لما وقعت هذه البيعة الثانية ، اعتقد بعض الرواة أن علياً لم يبايع قبلها فنفى ذلك ، والمثبت مقدم على النافي كما هو مقرر ، والله أعلم).
أما البيعة الأولى فقد أخرجها الحاكم ، والبيهقي ، وفيما يلي نصها : عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال : ( لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قام خطباء الأنصار ، فجعل الرجل منهم يقول : يا معشر المهاجرين ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استعمل رجلاً منكم قرن معه رجلاً منا ، فنرى أن يلي هذا الأمر رجلان ، أحدهما منكم ، والآخر منا ، قال : فتتابعت خطباء الأنصار على ذلك ، فقام زيد بن ثابت فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين ، وإن الإمام يكون المهاجرين ، ونحن أنصاره كما كنا أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقام أبو بكر – رضي الله عنه – فقال : جزاكم الله خيراً يا معشر الأنصار ، وثبت قائلكم ، ثم قال : أما لو فعلتم غير ذلك لما صالحناكم ، ثم أخذ زيد بن ثابت بيد أبي بكر فقال : هذا صاحبكم فبايعوه ، ثم انطلقوا.
فلما قعد أبو بكر على المنبر نظر في وجوه القوم فلم ير علياً فسأل عنه ، فقام ناس من الأنصار فأتوا به ، فقال أبو بكر : ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه ، أردت أن تشق عصا المسلمين ؟! فقال: لا تثريب يا خليفة رسول الله ، فبايعه.
ثم لم ير الزبير بن العوام فسأله عنه حتى جاؤوا به. فقال : ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحواريه ، أردت أن تشق عصا المسلمين ؟! فقال مثل قوله: لا تثريب يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبايعاه).
قال الحاكم : (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين و لم يخرجاه).
وقال البيهقي : ( قال أبو علي الحافظ : سمعت محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول : جاءني مسلم بن الحجاج فسألني عن هذا الحديث : فكتبته له في رقعة وقرأته عليه فقال : هذا حديث يسوى بدنة ، فقلت : يسوى بدنه ، بل يسوى بدرة !)
وقال ابن كثير: (هذا إسناد صحيح).
وهنا توجب سؤال عن سبب تجديد علي – رضي الله عنه – البيعة لأبي بكر – رضي الله عنه – ؟
وجواب ذلك أن فاطمة – رضي الله عنها – كانت أشد الناس توجعاً لوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حيث حزنت لفراق والدها صلى الله عليه وسلم حزناً شديداً ، وأخذت تذبل – رضوان الله عليها – من جراء ذلك يوماً بعد يوم ، حتى توفيت بعد ستة أشهر من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن كثير عن توجع فاطمة – رضي الله عنها – : ( ويقال: إنها لم تضحك في مدة بقائها بعده عليه السلام ، وأنها كانت تذوب من حزنها عليه ، وشوقها إليه).
وقد أدى ذلك إلى كثرة ملازمة علي – رضي الله عنه – لأم الحسنين – رضوان الله عليهم أجمعين – وقلة ملازمته لأبي بكر الصديق – رضي الله عنه – فأشاع المنافقون أن علياً – رضي الله عنه ، كاره لخلافة الصديق – رضي الله عنه – مما دفع علياً إلى تجديد بيعته لأبي بكر الصديق بعد وفاة فاطمة – رضوان الله عليهم أجمعين – وذلك حسماً منه لمادة الفتنة ، ورداً عملياً على هذه الشبهة.
===============
شبهات حول عصر الصحابة (6) : ماذا بين أبي بكر الصديق وفاطمة الزهراء رضي الله عنهما!!
إن الحديث عن موقف فاطمة رضي الله عنها من ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتنفه شيء من الغموض الناتج عن الاختصار الذي سارت عليه معظم الروايات التي تحدثت عن هذه القضية ، لذا فإن الجمع بين الروايات المتعددة والمتفرقة في بطون الكتب كفيل بتجلية هذا الغموض.
وخلاصة هذا الأمر ما أخرجه البخاري في صحيحه ، أن فاطمة رضي الله عنها (أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فقال أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (لا نورث ، ما تركنا صدقة) وإني والله لا أغير شيئاً من صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كانت عليها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولأعملن فيها بما عمل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته ، فلم تكلمه حتى توفيت).
قلت : وقد يظن بعض القراء أن الزهراء رضي الله عنها لم ترض بحكم الله سبحانه وتعالى في ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن حاشا لفاطمة رضي الله عنها أن تقف هذا الموقف ، وهي من هي ديناً وتقى وورعاً ، غير أن الرواية تحتاج إلى شيء من التفسير حتى تزول هذه الشبهة.
وخلاصة الأمر أن فاطمة رضي الله عنها عتبت على الصديق رضي الله عنه في أمر آخر مختلف تماماً ، إلا وهو أنها رضي الله عنها كانت ترغب أن يكون زوجها علياً رضي الله عنه قيًّماً على صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما هو موضح في رواية البيهقي.(/7)
ولكن الصديق رضي الله عنه كان يرى أن خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القيًّم على ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما جملة ( فهجرته فلم تكلمه) الواردة في الرواية ، فقد بين الترمذي في سننه ، وعمر بن شبة في تاريخ المدينة ، أن المقصود هو أن فاطمة رضي الله عنها تركت تكليم الصديق رضي الله عنه في أمر الميراث.
أي أنها تركت تكليمه في أن يكون زوجها علياً رضي الله عنه قيًّماً على صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحرصاً من الصديق رضي الله عنه على تطييب خاطر فاطمة رضي الله عنها فقد عادها في مرضها، وترضاها حتى رضيت رضوان الله عليها ، وهو ما أخرجه البيهقي ( أن أبا بكر عاد فاطمة ، فقال لها علي : هذا أبو بكر يستأذن عليك .
قالت: أتحب أن آذن له ؟
قال : نعم .
فأذنت له ، فدخل عليها فترضاها حتى رضيت).
وهذا الفعل من أبي بكر رضي الله عنه يدل على محبته العظيمة لآل البيت ، كيف لا ، وهو القائل في الرواية التي أخرجها البخاري في صحيحه : ( والذي نفسي بيده ، لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليّ أن أصل من قرابتي).
ولما توفيت فاطمة رضي الله عنه تولت أسماء بنت عميس زوج أبي بكر الصديق رضي الله عنهما تغسيل الزهراء ، كما أن الصديق كان ممن صلى عليها عند وفاتها رضوان الله عليهم أجمعين.
================
شبهات حول عصر الصحابة (7) : هل أمر الفاروق رضي الله عنه بقتل بعض أهل
يحسن بنا- في مطلع هذا المقال - التذكير بأمر الشورى الذي يعد من الفضائل الباهرة لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه.
وابتداء هذا الأمر ، أنه لما طعن أبو لؤلؤة المجوسي عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - اختار الفاروق – رضي الله عنه - ستة من الصحابة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ من أجل أن يختاروا واحداً منهم خليفة للمسلمين.
وهو ما أخرجه البخاري في صحيحه ، من طريق عمرو بن ميمون قال : ( فقالوا : أوص يا أمير المؤمنين ، استخلف ، قال : ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر ، أو الرهط ، الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض : فسمى علياً ، وعثمان ، والزبير ، وطلحة ، وسعداً ، وعبد الرحمن ، وقال : يشهدكم عبد الله بن عمر ، وليس له من الأمر شيء).
وفي رواية أخرى للبخاري ، من طريق عمرو بن ميمون قال : قال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه : ( إني لا أعلم أحداً أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض ، فمن استخلفوا بعدي فهو الخليفة ، فاسمعوا له وأطيعوا. فسمى عثمان ، وعلياً ، وطلحة ، والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص).
وعن سبب اختيار عمر – رضي الله عنه – لأصحاب الشورى – رضوان الله عليهم يقول الطبري رحمه الله : ( لم يكن في أهل الإسلام أحد له من المنزلة في الدين ، والهجرة ، والسابقة ، والعقل ، والعلم ، والمعرفة بالسياسة ، ما للستة الذين جعل عمر الأمر شوى بينهم.
فإن قيل : كان بعض هؤلاء الستة أفضل من بعض ، وكان رأي عمر أن الأحق بالخلافة أرضاهم ديناً ، وأنه لا تصح ولاية المفضول مع وجود الفاضل.
فالجواب : أنه لو صرح بالأفضل منهم لكان قد نص على استخلافه ، وهو قصد أن لا يتقلد العهدة في ذلك ، فجعلها في ستة متقاربين في الفضل ، لأنه يتحقق أنهم لا يجتمعون على تولية المفضول ولا يألون المسلمين نصحاً في النظر والشورى ، وأن المفضول منهم لا يتقدم على الفاضل ، ولا يتكلم في منزلة وغيره أحق بها منه، وعلم رضى الأمة بمن رضي به الستة).
وبعد أن تبين لنا أمر الشورى من خلال أصح كتاب بعد كتاب الله نعود إلى رواية منكرة ترددها بعض الألسنة والأقلام ، وفيما يلي نصها :
( إن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أمر بلالاً :
إذا اختلف أهل الشورى فاقتل الأقل.
يعني إذا اتفق أربعة ضد ثلاثة اقتل الثلاثة.
وإذا اتفق خمسة ضد اثنين اقتل الاثنين.
وإذا اتفق ستة ضد واحد اقتل الواحد.
قال : أقتله يا أمير المؤمنين ؟!
قال : اقتله ، لا أريد خلافاً بين المسلمين! ).
قلت : إنا لله وإنا إليه راجعون ، هذا الخبر الباطل سنداً ومتناً مخالف لما ثبت في الصحاح عن حقيقة الشورى.
وحقيقة الأمر في هذه الجزئية من قصة الشورى ما أخرجه الإمام أبو بكر الخلال ، بإسناد صحيح ، من طريق عمرو بن ميمون قال : ( قال عمر لما حضر : ادعوا لي علياً ، وعثمان ، وطلحة ، والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعداً ، قال : فلم يكن أحد منهم إلا علي وعثمان.
فقال : يا علي ، لعل هؤلاء يعرفون لك قرابتك ، وما آتاك الله من العلم والفقه ، فاتق الله ، وإن وليت هذا الأمر فلا ترفعن بني فلان على رقاب الناس.
وقال : يا عثمان لعل هؤلاء القوم يعرفون لك صهرك من رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنك وشرفك ، فإن أنت وليت هذا الأمر فاتق الله ولا ترفعن بني فلان على رقاب الناس.(/8)
ثم قال : ادعوا لي صهيباً ، فقال : صل بالناس ثلاثاً ، وليجتمع هؤلاء القوم ، وليخلوا هؤلاء الرهط ، فإن اجتمعوا على رجل فاضربوا رأس من خالفهم).
أي أن عمر – رضي الله عنه – أمر بقتل من يخالف أصحاب الشورى ويرفض من يرشحونه خليفة للمسلمين ، ويدعو إلى نفسه ، وذلك عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم : (من أتاكم وأمركم جميعاً على رجل واحد ، يريد أن يشق عصاكم ، أو يفرق جماعتكم فاقتلوه) [ أخرجه مسلم في صحيحه ].
وفي نهاية هذا المقال أختم بكلام جميل لابن كثير – رحمه الله – تحدث فيه عن الأخبار المنكرة التي هدفها الإساءة إلى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حيث قال : (هي مردودة على قائليها وناقليها ، والله أعلم. والمظنون بالصحابة خلاف ما يتوهم كثير من الرافضة ، وأغبياء القصاص الذين لا تمييز عندهم بين صحيح الأخبار وضعيفها ، ومستقيمها وسقيمها ، ومبادها وقويمها ، والله الموفق للصواب).
===============
شبهات حول عصر الصحابة (8) : حقيقة تولية عثمان رضي الله عنه أقاربه!!
من الشبه التي أثيرت حول الخليفةالراشد الثالث ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه توليته أقاربه.
أحبتي في الله ، من أجل معرفة حجم هذه القضية ينبغي التعرف على أسماء الولاة في خلافة عثمان رضي الله عنه، وهم :
1- سعد بن أبي وقاص ( الكوفة ).
2- أبو موسى الأشعري ( البصرة ، الكوفة).
3- المغيرة بن شعبة ( الكوفة ، أذربيجان، أرمينيا).
4- عمرو بن العاص ( مصر).
5- جرير بن عبدالله البجلي ( قرقيسياء، همذان).
6- حبيب بن مسلمة الفهري( قنسرين ، أرمينيا).
7- عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ( حمص).
8- عبد الله بن سوار العبدي ( البحرين ).
9- عثمان بن أبي العاص الثقفي ( عمان ، البحرين).
10- الربيع بن زياد الحارثي ( سجستان).
11- قيس بن الهيثم السلمي ( خراسان).
12- يعلى بن أمية التميمي ( اليمن).
13- خالد بن العاص المخزومي (مكة).
14- عبد الله بن عمرو الحضرمي ( مكة).
15- عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي ( الجَنَد ، صنعاء).
16- أبو الأعور عمرو بن سفيان السلمي ( الأردن).
17- علقمة بن حكيم الفراسي الكناني ( فلسطين).
18- عمير بن عثمان بن سعد ( خراسان).
19- عبد الله بن عمر الليثي ( سجستان).
20- عبد الرحمن بن غبيس ( كرمان).
21- عبيد الله بن معمر التميمي ( فارس).
22- أمين بن أحمر اليشكري ( خراسان).
23- عمران بن الفضيل البرجمي ( سجستان).
24- عاصم بن عمرو التميمي ( كرمان).
25- الحصين بن أبي البحر ( سواد البصرة).
26- الأحنف بن قيس ( مرو الشاهجان، مرو الروذ).
27- حبيب بن قرة اليربوعي ( بلخ).
28- خالد بن عبد الله بن زهير ( هراة).
29- الأشعث بن قيس ( أذربيجان).
30- سعيد بن قيس ( الري).
31- هرم بن حسان اليشكري ( على بعض مدن فارس ).
32- هرم بن حيان العبدي( على بعض مدن فارس ).
33- الخريت بن راشد ( على بعض مدن فارس ).
34- المنجاب بن راشد ( على بعض مدن فارس ).
35- الترجمان الهجيمي ( على بعض مدن فارس ).
36- النسير العجلي ( همذان ).
37- السائب بن الأقرع ( أصبهان).
38- مالك بن حبيب اليربوعي ( ماه ).
39- حكيم بن سلامة الحزامي ( الموصل).
40- سلمان بن ربيعة الباهلي ( الباب ، أرمينيا ).
41- عتيبة بن النهاس ( حلوان).
42- حبيش الأسدي ( ماسباذان).
43- حذيفة بن اليمان ( جوخي ، أرمينيا ، أذربيجان).
44- زيد بن ثابت ( نائب عثمان على المدينة ).
45- سبرة بن عمرو العنبري ( اليمامة).
46- عمير بن سعد الأنصاري ( حمص).
47- عبد الله بن قيس الفزاري ( على نواحي البحر من بلاد الشام).
أما أقرباء عثمان رضي الله عنه من الولاة فهم التالية أسماؤهم:
1- معاوية بن أبي سفيان ( الشام).
2- سعيد بن العاص ( الكوفة).
3- الوليد بن عقبة ( الكوفة ).
4- عبد الله بن عامر بن كريز ( البصرة ، فارس).
5- عبد الله بن سعد بن أبي السرح ( مصر).
6- عبد الرحمن بن سمرة ( سجستان).
7- علي بن عدي العبشمي ( مكة ).
8- مروان بن الحكم ( البحرين).
من خلال هذا الحصر لأسماء الولاة نلاحظ أن عددهم يزيد عن الخمسين والياً ، في حين بلغ عدد أقرباء عثمان – رضي الله عنه – من أولئك الولاة ، ثمانية ولاة فقط ، وبنسبة تبلغ السبع تقريباً ، ومعظمهم من الصحابة الذين تقلدوا بعض المناصب قبل استخلاف عثمان – رضي الله عنه – ، ونسبة السبع تعد نسبة ضئيلة قياساً على كثرة أقرباء عثمان – رضي الله عنه – مما يدل على أنه كان يختار من يتوسم فيه الكفاءة الإدارية أو العسكرية منهم أو من غيرهم ، وذلك أن عهد عثمان – رضي الله عنه – كان عهد جهاد وفتوحات ، مما يستوجب تجنيد جميع طاقات الأمة وعدم تعطيلها.
وتولية الأقارب لم ينفرد بها عثمان – رضي الله عنه – وفي ذلك يقول ابن تيمية – رحمه الله : (وبالجملة فعامة من تولى الأمر بعد عمر كان يخص بعض أقاربه : إما بولاية ، وإما بمال).(/9)
وقال أيضاً : (ونحن لا ننكر أن عثمان – رضي الله عنه – كان يحب بني أمية ، كما أننا لا ننكر أن علياً ولى أقاربه).
وقال أيضاً : (ووجدنا علياً إذ ولي قد استعمل أقاربه : ابن عباس على البصرة ، وعبيد الله بن عباس على اليمن ، وقثماً و معبداً ابني العباس على مكة والمدينة ، وجعدة بن هببرة ، وهو ابن أخته أم هانئ بنت أبي طالب ، على خراسان ، ومحمد بن أبي بكر ، وهو ابن امرأته وأخو ولده ، على مصر).
وتولية عثمان – رضي الله عنه – أقاربه لم تمنعه من إقامة الحدود عليهم أو عزلهم إن أذنبوا ، فقد أقام حد الخمر على الوليد بن عقبة – رضي الله عنه – وعزله عن الكوفة ، كما أنه عزل سعيد بن العاص – رضي الله عنه – عن الكوفة حين أخرجه منها بعض أهلها وعين عليهم من يحبون !
وقد علق ابن تيمية – رحمه الله – على هذه المسألة بقوله: (مجرد إخراج أهل الكوفة لا يدل على ذنب يوجب ذاك ، فإن القوم كانوا يقومون على كل والٍ ، قد قاموا على سعد بن أبي وقاص وهو الذي فتح البلاد ، وكسر جنود كسرى ، وهو أحد أهل الشورى ، ولم يتول عليهم نائب مثله ، وقد شكوا غيره مثل عمار بن ياسر ، وسعيد بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، وغيرهم ، ودعا عليهم عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – فقال : (اللهم إنهم قد لبّسوا علي فلبّس عليهم).
وإذا قدر أنه أذنب ذنباً ، فمجرد ذلك لا يوجب أن يكون عثمان راضياً بذنبه ، ونواب علي قد أذنبوا ذنوباً كثيرة ، بل كان غير واحد من نواب النبي صلى الله عليه وسلم يذنبون ذنوباً كثيرة ، وإنما يكون الإمام مذنباً إذا ترك ما يجب عليه من إقامة حد ، أو استيفاء حق ، أو اعتداء ، ونحو ذلك).
=============
شبهات حول عصر الصحابة (9) : ابن سبأ.. حقيقة أم خيال ؟!
دور اليهود في إشعال الفتنة:
أحبتي في الله ، نقف هذه المرة - في هذا المقال- لنتعرف على دور اليهود في إشعال الفتنة داخل الصف المسلم ، ومدى حقدهم على صحابة رسول صلى الله عليه وسلم ، وهو حقد ينم عن نفسية خبيثة كافرة بأنعم الله.
أو ليسوا هم الذين تجرأوا على الله سبحانه وتعالى وقالوا عنه : ( لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق * ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد). (آل عمران : 181 – 182).
أو ليسوا هم الذين قالوا عن الله سبحانه وتعالى : ( وقالت اليهود يد الله مغلولة) إن تلك النفسية التي تعبد الهوى ، قد فضحها الله سبحانه وتعالى في أكثر من موضع من كتابه الكريم ، قال تعالى : ( ولقد ءاتينا موسى الكتب وقفينا من بعده بالرسل وءاتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون * وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلاً ما يؤمنون * ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين * بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغياً أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباء وا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين * وإذا قيل لهم ءامنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقاً لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين * ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون) (البقرة : 87 – 93).
وقال سبحانه وتعالى : ( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة * رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة * فيها كتب قيمة * وما تفرق الذين أتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة * وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة * إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية * إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية * جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه) (سور البينة).(/10)
وحقيقة هذا الأمر أنه بعد ما فشل أعداء الإسلام في رهانهم على حركة الردة لوأد الإسلام داخل الجزيرة العربية لجأوا إلى الخيار العسكري الذي كان وبالاً عليهم ، حيث انهارت جيوش الروم وفارس في اليرموك والقادسية ونهاوند وغيرها من المعارك التي كان من نتائجها سقوط دولة الفرس وطرد الروم من الشام ومصر ، عند ذلك أيقن سدنة الجاهلية بفشل الخيار العسكري في وقف مواكب الإيمان القادمة من جزيرة الإسلام ، فعمدوا إلى اغتيال الفاروق – رضي الله عنه - بمؤامرة نفذها أبو لؤلؤة المجوسي حتى تنشغل الأمة عن الجهاد بمشكلاتها الداخلية ، ولكن المخطط لم يسر كما أراد له أعداء الإسلام ، فقد بايع المسلمون عثمان بن عفان – رضي الله عنه – بعد استشهاد عمر – رضي الله عنه – وعادت رايات الجهاد في عهده كما كانت من قبل ، بل إن عهد عثمان – رضي الله عنه – شهد ركوب المسلمين البحر للمرة الأولى فأصبحوا يجاهدون المشركين في البر والبحر معاً.
أمام هذه الفشل الذريع الذي حصده أعداء الإسلام في صراعهم مع المسلمين نجدهم يتجهون إلى تفعيل سلاحهم المفرق للصفوف والجماعات ألا وهو سلاح النفاق ، حيث قامت طائفة منهم بزعامة اليهودي عبدالله بن سبأ ، بادعاء الإسلام من أجل هدمه من الداخل ، وهي الخطة نفسها التي طبقها اليهودي ( بولس) من قبل مع أتباع عيسى عليه السلام ، وملخص ذلك أنه عن طريق الغلو في عيسى عليه السلام تمكن اليهودي ( بولس ) الذي انتحل النصرانية ، من إدخال الشرك على أتباع عيسى عليه السلام بعد أن رفعه الله سبحانه وتعالى إليه ، وبذلك تمكن من إفساد عقيدتهم ، وحرفهم عن ملة التوحيد.
هذا المخطط حاول ابن سبأ تطبيقه مع المسلمين ، وذلك عن طريق الغلو في علي ابن أبي طالب – رضي الله عنه – لكونه زوج فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووالد الحسن والحسين حفيدي المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وهذا مدخل مهم لتنفيذ مخطط ابن سبأ.
• حقيقة شخصية عبد الله بن سبأ ؟
تردد فيما سبق ذكر شخصية عبد الله بن سبأ ، وهذه الشخصية قد ورد ذكرها في عدد من المصادر السنية والشيعية ، وفيما يلي تبيان ذلك:
أولاً: المصادر السنية:
1- ابن أبي عاصم.
2- ابن حبيب البغدادي.
3- ابن قتيبة الدينوري.
4- الطبري.
5- الشهرستاني.
6- ابن عساكر.
7- ابن الأثير.
8- ابن تيمية.
9- ابن كثير.
10- ابن حجر.
ثانياً : المصادر الشيعية:
1- الناشئ الأكبر.
2- الأشعري سعد بن عبد الله القمي.
3- الحسن بن موسى النوبختي.
4- الكشي.
5- الصدوق.
6- أبو جعفر محمد بن الحسن الملقب بشيخ الطائفة.
7- ابن أبي الحديد.
8- الحسن بن علي الحلّي.
9- يحيى بن حمزة الزيدي.
10- المرتضى أحمد بن يحيى.
11- علي القهبائي.
12- الأردبيلي.
13- محمد باقر المجلسي.
14- نعمة الله الجزائري.
15- محمد باقر الخونساري.
16- ميرزا النوري الطبرسي.
17- المامقاني.
18- محمد حسين المظفري.
19- شريف يحيى الأمين.
20- د. محمد جواد مشكور.
21- صائب عبد الحميد.
ومع هذا الحصر والتوثيق للمصادر التي ذكرت شخصية ابن سبأ فإن هناك فئة من الباحثين المعاصرين تصر على القفز فوق الحقائق وتتجاهل معطيات التاريخ لتشكك في إثبات شخصية ابن سبأ ، ومن هؤلاء:
1- ليفي دلافيدا .
2- فريد ليندر.
3- يوليس فلهوزن.
4- ليوني كيتاني .
5- د. طه حسين.
6- د. علي النشار.
7- د. حامد حفني داود.
8- الكاتب الشيعي مرتضى العسكري.
9- الكاتب الشيعي محمد جواد مغنية.
10- الكاتب الشيعي علي الوردي.
وبعد دراسة أراء المشككين في دور ابن سبأ في الفتنة اتضح أن المستشرقين كانوا سباقين إلى هذا الأمر ، ثم تابعهم من جاء بعدهم دون الإشارة إلى ذلك.
=================
شبهات حول عصر الصحابة ( 10 ) : جهود السبأية في إشعال الفتنة أيام عثمان رضي الله عنه
على بن أبي طالب – رضي الله عنه – استتر ابن سبأ وأتباعه خلف شعار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتقمصوا دور الناصح الأمين المشفق على الأمة ، وراحوا يعملون تحت هذا الشعار على محورين :
المحور الأول : إثارة الناس على ولاة عثمان – رضي الله عنه –ونسبتهم إلى الظلم ، وذلك عن طريق نشر الأكاذيب عنهم ، وتضخيم أخطائهم غير المقصودة. بعد ذلك تطور الأمر ، وأصبحوا يتهمون عثمان – رضي الله عنه – بالظلم، واستخدموا في سبيل ذلك أسلوب تزوير الرسائل ، حيث زوروا رسائل على لسان عثمان – رضي الله عنه – ورسائل أخرى على ألسنة الصحابة فيها اتهام لعثمان – رضي الله عمه – بالظلم ، وأنه غير وبدل .
وعن ذلك يقول ابن كثير : ( وهذا كذب على الصحابة ، وإنما كتبت كتب مزورة عليهم ، كما كتبوا من جهة علي وطلحة والزبير إلى الخوارج كتباً مزورة عليهم أنكروها).(/11)
وقال أيضاً: ( قالت عائشة – رضي الله عنها – حين قتل عثمان : تركتموه كالثوب النقي من الدنس ، ثم قتلتموه. وفي رواية : ثم قربتموه ، ثم ذبحتموه كما يذبح الكبش ! فقال لها مسروق : هذا عملك ، أنت كتبت إلى الناس تأمريهم أن يخرجوا إليه. فقالت: لا ، والذي آمن به المؤمنون، وكفر به الكافرون ، ما كتبت لهم سوداء في بيضاء ، حتى جلست مجلسي هذا. قال الأعمش: فكانوا يرون أنه كتب على لسانها . وهذا إسناد صحيح إليها ، وفي هذا وأمثاله دلالة ظاهرة على أن هؤلاء الخوارج ، قبحهم الله ، زوروا كتباً على لسان الصحابة إلى الآفاق يحرضوهم على قتال عثمان).
وبالإضافة إلى تزوير الرسائل من قبل السبئية فإن هناك عاملاً آخر أسهم في إثارة الدهماء على عثمان – رضي الله عنه – ألا وهو ضعف التربية الإيمانية لدى بعض الداخلين في الإسلام حديثاً ، والذين يجهلون منزلة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعن ذلك الأمر يقول الحافظ أبو نعيم الأصبهاني : ( وكثر في أيامه – أيام عثمان رضي الله عنه – من لم يصحب الرسول ، وفقد من عرف فضل الصحابة – رضي الله عنهم أجمعين).
كما تحدث ابن خلدون عن ذلك الأمر بقوله : ( وكان أكثر العرب الذين نزلوا هذه الأمصار – أي : البصرة والكوفة والشام ومصر - جفاة ، لم يستكثروا من صحبة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا ارتاضوا بخلقه ، مع ما كان فيهم من الجاهلية من الجفاء والعصبية والتفاخر ، والبعد عن سكينة الإيمان).
المحور الثاني : التباكي على علي – رضي الله عنه – وأنه قد ظلم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك عن طريق بث فكرة الوصي ، أي أن علياً - رضي الله عنه – وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأحق الناس بالخلافة من بعده.
ومن خلال فكرة الوصي حاول ابن سبأ التشكيك في شرعية خلافة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين ، لأنهم كما يزعم ابن سبأ قد وثبوا على وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا وهو علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
هذا ومن الملاحظ أن هذه الأفكار قد أخذت طريقها إلى المذهب الشيعي وأصبحت من أركانه.
وعن فكرة الوصي يقول المحدث الشيعي محمد بن يعقوب الكليني (ت 329هـ) في كتابه الكافي في الأصول ، ما نصه : ( ولاية علي مكتوبة في جميع صحف الأنبياء، ولن يبعث الله رسولاً إلا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله ، ووصية علي عليه السلام).
وهذا الغلو في علي بن أبي طالب رضي الله عنه يعد مصداقاً لما جاء في كتاب السنة لابن أبي عاصم حيث أخرج من طريق علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : ( ليحبني قوم حتى يدخلوا النار فيّ ، وليبغضني قوم حتى يدخلوا النار في بغضي). قال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله: وإسناده صحيح على شرط الشيخين.
وقد علق الشيخ الألباني على هذا الحديث قائلاً : واعلم أن هذا الحديث موقوف على علي رضي الله عنه ، ولكنه في حكم المرفوع – إلى النبي صلى الله عليه وسلم – لأنه من الغيب الذي لا يعرف بالرأي.
هذا وقد كان من آثار هذه الدعاية أن أصبح مصطلح الإمام يطلق على شخص علي رضي الله عنه دون من قبله من الخلفاء الراشدين، وكأن علياً رضي الله عنه هو الخليفة الشرعي الوحيد دون إخوانه الذين سبقوه ، وهم أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين.(/12)
شبهات وردود
يتعلق من يقيم بدعة المولد بشبهات منها :
1 - دعواهم أن في ذلك تعظيماً للنبي صلى الله عليه وسلم .
والجواب عن ذلك أن نقول : إنما تعظيمه صلى الله عليه وسلم بطاعته وامتثال أمره واجتناب نهيه ومحبته صلى الله عليه وسلم ، و ليس تعظيمه بالبدع والخرافات والمعاصي ، والاحتفال بذكرى المولد من هذا القبيل المذموم. وأشد الناس تعظيماً للنبي صلى الله عليه وسلم الصحابة ومع هذا التعظيم ما جعلوا يوم مولده عيداً واحتفالاً ، ولو كان ذلك مشروعاً ما تركوه.
2 ـ يقولون : إن في إقامة المولد إحياء لذكر النبي صلى الله عليه وسلم .
والجواب عن ذلك أن نقول : إحياء ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يكون بما شرعه الله من في الأذان والإقامة والخطب والصلوات وفي التشهد والصلاة عليه وقراءة سنته واتباع ما جاء به ؛ وهذا شيء مستمر يتكرر في اليوم والليلة دائماً ، لا في السنة مرة .
3 ـ قولهم : إن إقامة المولد من قبيل البدعة الحسنة ؛ لأنه ينبئ عن الشكر لله على وجود النبي الكريم !
ويجاب عن ذلك بأن يقال : ليس في البدع شيء حسن ؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) ، ويقال أيضاً : لماذا تأخر القيام بهذا الشكر ـ على زعمكم ـ إلى آخر القرن السادس ، فلم يقم به أفضل القرون من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين ، وهم أشد محبة للنبي صلى الله عليه وسلم وأحرص على فعل الخير والقيام بالشكر ؛ فهل كان من أحدث بدعة المولد أهدى منهم وأعظم شكراً لله - عز وجل - ؟ حاشا وكلاَّ .
4 ـ قد يقولون : إن الاحتفال بذكرى مولده صلى الله عليه وسلم ينبئ عن محبته ؛ فهو مظهر من مظاهرها وإظهار محبته صلى الله عليه وسلم مشروع !
والجواب أن نقول : لا شك أن محبته صلى الله عليه وسلم واجبة على كل مسلم أعظم من محبة النفس والولد والوالد والناس أجمعين ـ بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، ولكن ليس معنى ذلك أن نبتدع في ذلك شيئاً لم يشرعه لنا ، بل محبته تقتضي طاعته واتباعه و إحياء سنته والعض عليها بالنواجذ ومجانبة ما خالفها من الأقوال والأفعال ، ولا شك أن كل ما خالف سنته فهو بدعة مذمومة ومعصية ظاهرة ، ومن ذلك الاحتفال بذكرى مولده وغيره من البدع . وحسن النية لا يبيح الابتداع في الدين ؛ فإن الدين مبني على أصلين : الإخلاص ، والمتابعة ، قال تعالى : ( بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) ( البقرة : 112 ) ، فإسلام الوجه هو الإخلاص لله ، والإحسان هو المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم وإصابة السنة .
* الشيخ صالح بن فوزان الفوزان
-------------------
ما من صاحب دعوة إلا ويحرص على تأييد دعوته بما يقدر عليه من جمل وألفاظ ودلائل، حتى يضمن قبولها ورواجها.. ولا نجد في أصحاب الدعوات من يحرص على صدق جمله وصحة دلائله، إلا إن كان يدعو إلى اتباع السنة وتقليد السلف، فهو الوحيد الذي يحرص على الصدق والصحة في كل ما يتلفظ به، يحرص أن يكون كما هو ظاهرا وباطنا..
بخلاف أهل الأهواء والبدع وأهل الفساد والتخريب، فإنهم:
يرفعون شعار الإسلام وهم يهدمونه..
ويرفعون شعار السنة وهم يخالفونها..
ويدعون اتباع السلف وليس كذلك..
وفي سبيل تدعيم مذاهبهم الباطلة الزائغة يوردون الكلام الكثير والأدلة المتنوعة، التي لا تصحح مذهبهم ولا تعطيه الشرعية..
يوردونها وهم يعلمون أنها ليست صحيحة، يوردونها لعلمهم بوجود طائفة كبيرة من الناس لا تفقه في الدين شيئا، وليس لديها العقل والفهم الصحيح للأمور، بل يغرها كثرة الكلام ومجرد تسويد الصحائف بالأحرف والجمل، فتظن بصاحبها الفهم وامتلاك الحجة الصحيحة..
فهذه الطائفة هي البيئة الخصبة لرواج ترهات وخزعبلات أهل البدع والأهواء، الذين يكرسون جهدهم في الرد والمناظرة والتأليف، بأي كلام كان، مع تتبع الشبه والسقطات من هنا وهناك من أجل التغرير بهؤلاء العامة وخداعهم، ونشر مذهبهم بينهم، فهم يجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق..
وقد نجحوا في ذلك، وأضلوا أناسا كثيرين، ولبسوا على آخرين، ومن هنا فمن المستحسن على كل مسلم أن يتفقه في دينه، حتى لا يكون عرضة للضلال والانحراف عن دينه على أيدي أهل الأهواء والبدع..
وفي بدعة المولد مثال على ذلك، حيث نجد من الداعين إليه من يخلط في كلامه، ويتلاعب بالحقائق، ويتغابى عن الواضحات، ويجادل بالباطل.. فيورد لأجل نشر بدعة المولد في المسلمين أدلة غير صحيحة، من ذلك:
أولا: قولهم أن المولد بدعة حسنة.
يقسم بعض العلماء كالعز بن عبد السلام البدعة إلى خمسة أقسام: واجبة، مندوبة، محرمة، مكروهة، مباحة، كمثل الأحكام التكليفية الخمسة، ويعتمدون في هذا على قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما جمع الناس في صلاة التراويح على إمام واحد: "نعم البدعة هذه"...(/1)
وهناك قول آخر: أن كل بدعة ضلالة، وليس في الدين ثمة بدعة حسنة، ودليلهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار).
فنحن هنا بين أمرين:
إما أن نتبع قول النبي صلى الله عليه وسلم أو نتبع قول الصحابي...
والذي لا ريب فيه ولا يختلف فيه اثنان، أنه إذا عارض قول الصحابي قول النبي صلى الله عليه وسلم فالواجب الأخذ بقول النبي صلى الله عليه وسلم..
وهنا إذا افترضنا أن عمر خالف قول النبي صلى الله عليه وسلم، فالواجب الأخذ بقول النبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي يصف البدعة بأنها ضلالة، وقوله: "كل بدعة" نكرة في سياق العموم، يعم كل شيء، فكل محدثة في الدين فهي بدعة..
هذا وجه..
وجه آخر، عمر رضي الله عنه في الحقيقة لم يبتدع شيئا في الدين، بل صلاة التراويح مشروعة، وقد صلاها النبي صلى الله وسلم وأم فيها الناس ثلاث ليال، ثم ترك ذلك خشية أن تفرض، فلما مات وانقطع الوحي سنها عمر وأحياها، فهو في ذلك لم يأت بجديد، بل فعل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، فأين البدعة هنا؟..
أما الجواب عن قوله: " نعم البدعة هذه".. فلها تخريجات عدة:
منها: أنه قصد البدعة اللغوية، أي أنها بدعة باعتبار إحيائها وإعادة العمل بها بعد أن توقف.
ومنها: أن هذا منه على سبيل الرد والمناظرة، ومعناه: إذا كان هذا الفعل بدعة، فنعم البدعة هذه، كأنه كان جوابا على معترض، وهذا مثل قوله تعالى: { قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين}.
ذلك من حيث قول عمر رضي الله عنه، أما من حيث الاحتجاج به على صحة المولد فيقال:
لا نسلم أن المولد بدعة حسنة، فكل بدعة ضلالة، بنص الحديث، وهو عام في كل محدث في الدين، والمولد محدث في الدين، ثم إن عمر رضي الله عنه الذي يحتج هؤلاء بقوله: "نعم البدعة هذه"، على وجود البدعة الحسنة، لم يحتفل بالمولد أبدا، فكيف يحتجون بقوله في البدعة الحسنة، ولا يحتجون بتركه للمولد؟..
وكيف يحتجون بفعله للتراويح الذي له أصل في السنة، على فعل المولد الذي ليس له أصل في السنة؟..
ثانيا:
قولهم: لو كان المولد بدعة لكونه لم يكن في عهد النبي لكان كل شيء بدعة..
المجيزون للمولد يحتجون في بعض الأحيان بأدلة ليست بشيء..
فمثلا يقولون: إذا قلتم المولد بدعة لأنه لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فذلك يعني أن الفرش وإنارة المساجد بدعة، وكذا استخدام كل جديد..
فيقال لهؤلاء: هذا هو السبب في وقوعكم في مثل هذه البدعة، قلة العلم والتفقه في الدين، وعدم التفريق بين المتمايزات بسبب ذلك، فكل من له أدنى فهم في الكتاب والسنة يعرف الفرق بين الشيء المحدث في الدين الذي هو البدعة، وبين الشيء المحدث في الدنيا..
فالمولد من المحدثات في الدين ذاته، فهو عبادة يقصد صاحبها التقرب بها إلى الله تعالى بتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم في يوم يعتقد أنه ولد فيه..
أما الفرش والإنارة ونحوها فهذه ليست من المحدثات في الدين، بل هي من المحدثات في الدنيا، فهي أمور دنيوية محضة، ويمكن تسخيرها في خدمة الدين، كأي شيء آخر، فإذن لا علاقة لها بالموضوع من وجه.. والبدعة تنقسم إلى لغوية وشرعية:
فاللغوية: هو الشيء الذي لم يسبق، قال تعالى: { بديع السموات والأرض}، أي مخترعهما على غير مثال سابق.
والشرعية: هو كل أمر محدث في الدين يضاهي الشرعية، يقصد فاعله التقرب إلى الله تعالى.
ثالثا:
زعموا أن سبب ترك الصحابة للمولد كون النبي صلى الله عليه وسلم حيا في ضمائرهم.
هذا جواب ليس بسديد..
فإن الصحابة كانوا أسبق إلى الخير في كل شيء، ولم يكونوا يتوقفون عن خير أبدا، فلو كان المولد خيرا لفعلوه ولو مرة واحدة، لكنهم ما فعلوه، لعلمهم أن ذلك من الإحداث في الدين..
ثم لو سلمنا لهم جدلا ما قالوه، أفليس غير الصحابة بحاجة إلى التذكير؟..
وقد علمنا أن زمن الصحابة استغرق القرن الأول بكامله، وقد حدث في هذا العهد تغير كبير، وتحول خطير في حياة المسلمين، دخل كثير من الناس في دين الله أفواجا، فتعسر توجيه وتربية كل هذه الأفواج، وبعد الكثير عن دين الله، حتى عمت الشهوات وكثرت الحروب لأجل الدنيا والتنازع فيها، كل ذلك ألم يكن داعيا وحاملا للصحابة أن يخترعوا المولد، لا من أجل أنفسهم، بل من أجل الناس الذين معهم وانعدم ذكر النبي صلى الله عليه سلم من ضمائرهم، فما عادوا يذكرون إلا دنياهم؟..
لقد بلغ من سخط الصحابة على الناس ما لم يسعهم السكوت معه، روى البخاري في صحيحه عن أم الدرداء قالت: " دخل علي أبو الدرداء مغضبا فقلت له: ما لك؟، قال: والله ما أعرف فيهم شيئا من أمر محمد صلى الله عليه وسلم إلا أنهم يصلون جميعا"..
وقال الحسن البصري: سأل رجل أبا الدرداء فقال: رحمك الله، لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، هل كان ينكر شيئا مما نحن عليه؟، فغضب منه، واشتد غضبه، وقال: وهل كان يعرف شيئا مما أنتم عليه؟.(/2)
وروى البخاري عن الزهري قال: "دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي، فقلت له: ما يبكيك؟، فقال: ما أعرف شيئا مما أدركت إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضيعت".
وآثارهم في هذا المعنى متعددة، فالناس في زمن الصحابة كانوا بحاجة إلى التذكير، فلو كان التعليل في عدم فعل الصحابة للمولد أنهم ليسوا محتاجين إلى ذلك، فإن غيرهم ممن كان في عهدهم كانوا بحاجة، والصحابة مدركون لذلك، ومع ذلك لم يفعلوه..
ثم ما زال الناس في رقة من الدين قرنا بعد قرنا، والسلف يعاينون أحوال الناس ومع ذلك لم يخطر ببال أحدهم الاحتفال بالمولد تذكيرا وإحياء لسيرة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، حتى انقضى عهد السلف والقرون الثلاثة الأولى، وما أحدث المولد إلا في منتصف القرن الرابع..
ثم إن قولهم ذلك يفتح الباب لكل بدعة ويصبغها بالمشروعية، إذ يمكن لكل صاحب بدعة أن يحتج لبدعته - إذا قيل إن الصحابة لم يفعلوه - بأن الصحابة لم يكونوا بحاجة إلى ذلك لكمال إيمانهم، وأن الناس بحاجة إلى ذلك اليوم..
يمكنهم أن يقولوا ذلك في بدعة الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج والنصف من شعبان وشهر رجب وغير ذلك.
خلاصة القول: أن ما ذكروه ليس بحجة لا من حيث الشرع، ولا من حيث المنطق والعقل، ولا من حيث الواقع..
ثم التذكير بالنبي صلى الله عليه وسلم وإحياء ذكره في ضمائر الناس له طرق كثيرة وليس محصورا في الموالد.
رابعا:
قولهم أن الترك لا يقتضي التحريم.
هذه الحجة يدندن حولها كثير من المبتدعة، ويتخذونها غرضا لتثبيت بدعهم، فكلما قيل لهم: إنه النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله، والصحابة من بعده، قالوا لك:
الترك لا يقتضي التحريم..
وينسبون مثل هذا الكلام إلى الأصوليين، بل ويبالغ بعضهم ويغلو عندما يزعم أنه إجماع..
ويقال في رد هذه الشبهة: نعم، الأصوليون لم يجعلوا الترك من أنواع التحريم، فالتحريم يكون بالنص ونحوه مما يدل على التحريم، لكن ههنا فرق لابد من التنبه له، هو سبب هذا الإشكال:
كلام الأصوليين إنما هو في العادات لا في العبادات..
فالأصل في العادات الإباحة، في الترك في باب العادات لا يدل على التحريم، فمثلا النبي صلى الله عليه وسلم لم يأكل الضب هل هذا يدل على تحريمه؟.. لا، لأن الترك لا يدل على التحريم، هذا في باب العادات، والنبي صلى الله عليه وسلم لم لم يأكل لحم الغزال؟.. لكن تركه لا يدل على التحريم، وهكذا كل شيء من المنافع الدنيوية الأصل فيها الإباحة، إلا إذا ورد ما يمنع، وهذا من التوسيع والرحمة.
وأما العبادات الأصل فيها التحريم إلا إذا ورد الإذن، وعلى ذلك فما تركه الشارع فهو محرم، إذ لو كان مشروعا لفعل، فالترك دل على عدم المشروعية، فكل ما نوقعه من عبادات، من صلاة وصيام وحج وزكاة كلها لم يكن لنا القيام بها لولا إذن الشارع، وهذا هو مقتضى التسليم وعدم التقدم بين يدي الله ورسوله..
ولو كان لكل إنسان الحق أن يخترع عبادة كيفما شاء، لم يكن من داع لإرسال الرسول لتبليغ رسالة الرب إلى الخلق، بل يترك لكل قوم وكل إنسان أن يخترع ما شاء من العبادات، وهذا باطل.
والدليل على أن الأصل في العبادات المنع قوله عليه السلام: ( وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة). وعلى ذلك فالمولد هل من باب العبادات أو من باب العادات؟..
لننظر فيما يكون في المولد، إنه اجتماع لتلاوة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مع إنشاد المدائح النبوية بأصوات ملحنة، ثم تقام الولائم لأجل ذلك، وهم يفعلون ذلك في كل عام مرة على الأقل في تاريخ محدد..
وهذا بلا ريب عبادة محضة، والأدلة على ذلك:
أولا: من حيث إنهم يتخذون ذلك اليوم عيدا، والعيد هو ما يعتاد مجيئه في كل زمن، فالجمعة عيد، لأنه كل أسبوع، والفطر والأضحى عيد، لأنه كل عام، وعلى ذلك فقس المولد، فهو يحتفل به كل عام، وهذا تشريع، واتخاذ ليوم لم يأذن به الشارع أن يكون عيدا، ونحن نعلم أن المسلمين ليس لهم إلا عيدين يحتفلون فيهما، الفطر والأضحى، ولا يجوز لهم أن يتخذوا عيدا ثالثا ورابعا، والحاصل في المولد أنه صار عيدا يحتفل به، أي صار عيدا ثالثا في الإسلام، وهذه هي الضلالة.
ثانيا: أن الموالد ذكر، والذكر عبادة.
ثالثا: أن أهل الموالد يقصدون التقرب إلى الله تعالى بما يفعلون، والتقرب عبادة.
إذن الموالد عبادة وليست عادة، فتدخل في باب: الأصل في العبادات المنع إلا بنص، ولا تدخل في باب: الأصل في العادات الإباحة إلا بنص..
ومن ثم لا يجوز الاحتجاج بقاعدة: " الترك لا يقتضي التحريم".. إذ هذه القاعدة يعمل بها في العادات لا في العبادات.
إن دعوى أن "الترك لا يقتضي التحريم".. هكذا بإطلاق يصادم النص النبوي: (وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة)..(/3)
فهذا النص لا معنى له إذا عمل بتلك الدعوى على إطلاقها دون تفصيل، فإن المحدثات هي التي لم تكن في عهد النبوة من العبادات، تركت فلم تفعل، والنبي صلى الله عليه وسلم يحذر منها، ويطلق وصف البدعة، وهؤلاء يقولون:
الترك لا يقتضي التحريم، وأنه يمكن لنا أن نفعل عبادة لم تكن في عهد النبوة..
فكيف نجمع بين القولين؟…
لا شك أنهما لا يجتمعان، فإما أن نأخذ بقول النبي صلى الله عليه وسلم أو قولهم.. ولا ريب أننا ملزمون بقول النبي صلى الله عليه وسلم لا بقولهم.
خامسا:
زعموا أن الموالد مثل المحاضرات والدروس والعلمية.
يجاب عن هذا بالاعتراض، فليست الموالد كالمحاضرات والدروس العلمية..
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه، ويقرر لهم الدروس والخطب، وخصص يوما للنساء يعلمهن فيه، فإذن الدروس والخطب والمحاضرات مشروعة، شرعها النبي صلى الله عليه وسلم بفعله وأمره: ( بلغوا عني ولو آية)..
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يجمع الناس ليخطب فيهم نادى بهم ليجتمعوا، فيجتمعوا، فيلقي عليهم ما أراد تعليمهم، والإعلان عن الدروس والمحاضرات هو من هذا النوع الذي كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم مثلا بمثل، سواء بسواء..
فأين هذا من المولد؟..
هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بين جواز جمع الناس لتعليمهم أمور دينهم، إذ لا يمكن تعليم الناس إلا بهذه الطريقة، أو قل هو طريق عظيم لتعليم الناس، لكنه ما بين للناس جواز أن يجتمعوا لأجل المولد، الذي في الحقيقة ليس فيه تعليم بشيء، إلا شيئا واحدا هو ذكر أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يصل الأمر إلى الغلو والمنكر..
وهذه الموالد حتى في حال خلوها من الغلو والمنكرات ليس فيها تعليم ولا تفقيه..
والدليل أنك تجد جل الذين يؤمون الموالد لا يفقهون في دين الله شيئا، وذلك أنهم لا يجدون في الموالد شيئا من العلم والفقه إلا المدائح النبوية الغالية والرد على الخصوم في جواز الاحتفال بالمولد...
أما قضايا الفقه والعقيدة وأحوال المسلمين فلا تجد منها شيئا، فكيف يكون طريقا للعلم؟، وكيف يصح تشبيه الموالد بالمحاضرات والدروس العلمية؟..
إن الذي يتابع ويحضر الدروس العلمية والمحاضرات تجده بعد مدة متفقها واعيا، مستدلا على طريق السنة، عارفا بحقيقة أحوال المسلمين، بخلاف الذي يؤم الموالد، لا تجد عنده شيء من ذلك، وهذا مما يؤكد الفرق بين الأمرين.
تلك أبرز شبه القوم، وقد علمنا بطلانها، وتبين لنا كيف أن القوم يحتجون بأي شيء، ولو كان مخالفا للدليل الصريح والعقل الصحيح، وكثير منهم يجادلون بالباطل، ويتبعون أهواءهم، ويكلمون بكلام كثير لا يقصد منه الوصول إلى الحق، بل تغرير عموم القارئين والمستمعين الذين يتابعون ما يدور من كلام.
وأخيرا.. فلا نجد المحتفلين بالمولد مقتدين بسلف الأمة، إنما هم مقتدون بالنصارى، حيث إن النصارى يحتلفون بعيد ميلاد المسيح، وهذا من جملة تحريفهم وابتداعهم في الدين النصراني، وهؤلاء يفعلون كما يفعلون، فقد تركوا التشبه بأهل الإيمان وصاروا متشبهين بأهل الكفر والتحريف..
الساحات / أبو سارة(/4)
شبهة حول تحريم التأمين التجاري
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ المعاملات/التأمين
التاريخ ... 17/12/1424هـ
السؤال
أرجو توضيح المسألة التالية مأجورين: إذا قلنا إن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، كما هو مقرر في القواعد الفقهية، وإذا عرفنا أن العلة من تحريم الميسر وما يدخل تحته من بيع الغرر هي إثارة العداوة والبغضاء بين المسلم وأخيه، وإذا غلب على الظن أنه في معاملة من المعاملات المنطوية على بيع غرر- التأمين التجاري على سبيل المثال- لا توجد تلك العلة المحرمة، فهل يُقال: بجواز التأمين لعدم العلة الموجبة لتحريمه، وهي إثارة العداوة والبغضاء؟ وكيف نوجه ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية تأييداً لذلك في مجموع الفتاوى(14/460)؟. وجزاكم الله خيراً.
الجواب
القاعدة الفقهية: (الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً) هذا في الفرع المقيس على الأصل، وليس في الأصل المقاس عليه، فإن الميسر محرم قطعاً بالنص لا بالتعليل من لفظ "اجتنبوه" في قوله –تعالى-: "يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون" [المائدة: 91].
وليس صحيحاً أن العلة في التحريم في الميسر هي إثارة العداوة والبغضاء، وإنما يصار إلى التحريم بالعلة عند قياس الفرع على الأصل عند عدم وجود النص في الفرع، وذكر إيقاع العداوة والبغضاء في الميسر في الآية الثانية تأكيد للتحريم المنصوص عليه في الآية الأولى، وإحالتكم إلى مجموع الفتاوى غير دقيقة والصواب: (14/471)، ثم فهمك لكلام ابن تيمية غير صحيح، وإنما كلامه في حكم أخذ العوض على المسابقة للإعداد للجهاد في سبيل الله هل يدخل هذا في الميسر أو لا؟ ووجه بأنه ليس من الميسر، ثم إن إلحاق الفرع (المقيس) بحكم يصل المقيس عليه قد يكون معللاً بأكثر من علة أي علتين أو ثلاث، ويثبت الحكم بالحل أو الحرمة ما دامت علة "الأصل" موجودة في "الفرع"، فالتأمين التجاري محرم لأكثر من علة، وهو حرامٌ لعلة الغرر المؤكد وجودها في العقد، وهو حرامٌ لوجود الجهالة فيه أيضاً، حيث لا يدري كم سيأخذ من التعويض فقد يأخذ أكثر مما دفع أو أقل منه أحياناً، وقد لا يأخذ شيئاً إذا رأت الشركة أنه أخل بشرط من شروط العقد، ثم أيضاً في عقد التأمين أكلٌ لأموال الناس بالباطل، علاوة ما يجري فيه من ربا الفضل والنسيئة ما دام كلا الطرفين يتعاملان بالنقد.
ثم هل شركات التأمين القائمة اليوم تريد من فعلها المصلحة العامة للأمة من إعزاز الإسلام ورفع اقتصادياته وللقضاء على سلبيات المجتمع من التضخم والبطالة التي لو كانت حالها هكذا لخرجنا فعلها كما خرج ابن تيمية المسابقة بعوض من الميسر المحرم تحقيقاً للمصلحة، ولكن الشركات تسعى فقط لزيادة أرباحها ومكاسبها لمصلحتها الخاصة وضد المصلحة العامة للأمة، فلو كانت شركات التأمين التجاري بأنواعه مملوكة للدولة ملكية تامة، ولا تأخذ الدولة منها أرباحاً بل تقدم التأمين خدمة لرعاياها كما هو الحال في نظام (التقاعد) للموظفين، لو كان الأمر هكذا لاختلف الحكم الشرعي من الحرمة إلى الجواز. والله أعل(/1)
شبهة عن مشروعية زيادة العبادة في يوم المولد النبوي
هيثم الحداد*
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين وبعد، فقد سألني بعض الاخوة عن جواب لشبهة نسبها إلى بعض الدعاة، الذين لا نشك في إخلاصهم وحماسهم، لكن لا نستبعد أن تكون هذه الشبهة قد دخلت عليهم من عدم تخصصهم في العلم الشرعي، هذا إن صحت النسبة له، حيث يقول:
إن تخصيص يوم ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم بعبادة زائدة، لا سيما الصيام، أمر مشروع، دل عليه حديث أبى قتادة حينما سُئِلَ النبي عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ قَالَ ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ وَيَوْمٌ بُعِثْتُ أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ، رواه مسلم، وغيره.
فذكر أن علة الصيام هي كون النبي ولد فيه، وبعث فيه، فجعل مناط تخصيصه بعبادة زائدة، كونه يوم ميلاده، ويوم مبعثه، وبما أن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، فلا شك أن تخصيص يوم ميلاد النبي بعبادة زائدة، لا سيما الصيام، أمر أقل ما يقال فيه إنه مشروع، ثم نسب لهذا الداعية أنه لا يقر الموالد التي تعمل في بعض البلاد العربية، والاحتفالات التي تقام من أجل هذه المناسبة، كما لا يقر ما يجري فيها من منكرات ,, فحصر الخطأ في هذا، مما يهيئ القارئ أو المستمع لقبول رأيه، فليس هو من الذين يقرون الموالد، لكنه متوسط القول، مستدل بالأدلة .
والجواب على هذه الشبهة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد،
فلا شك أن هذه الشبهة، قوية أمام من لم يتسلح بسلاح العلم الشرعي، لا سيما طرق الاستدلال، وطرائق الاستنباط، والتي تدرس في أصول الفقه، ولهذا فإننا ننصح طلبة العلم دائمًا، بالتعمق في دراسة أصول الفقه، الذي يورث الإنسان بتوفيق الله منهجًا معتدلاً في النظر والاستدلال.
أما من تضلع من أصول الفقه، وفهم طرق الاستدلال، فإن هذه الشبهة ستتهاوى أمامه بمجرد النظر إليها، وهذا بيان ذلك:
أولا: إن النبي سئل عن صيام يوم الاثنين، ولم يسأل عن صيام يوم الثاني عشر من ربيع الأول، فالعلة إذًا: تخصيص يوم الاثنين، بالصيام، وليس تخصيص يوم الثاني عشر من ربيع الأول بالصيام، ولهذا فإن النبي نفسه وهو المشرّع، لم يخصص يوم الثاني عشر بالصيام، بل خصص يوم الاثنين بالصيام، وفرق كبير بين السببين، فالصواب أن العلة هي كون يوم الاثنين، يوم مولده، ويوم بعثه فيه، ويوم إنزال القرآن عليه.
ثانيا: فلو قال قائل: فأنتم تقرون بأن النبي نظر إلى ميلاده، واعتبره مؤثرًا في الحكم، حيث قال: ذلك يوم ولدت فيه، فنقول، نعم هذا صواب، لقد نظر إلى يوم ميلاده وجعله مؤثرًا في الحكم، ولكن بقي النظر في يوم الميلاد ما هو، هل هو الاثنين، أم الثاني عشر من ربيع الأول، ولا شك أن النبي جعل الميزة لكونه يوم الاثنين، لا لكونه الثاني عشر من ربيع الأول، ولو نظر النبي للأخير، لخصّه عينَه بذلك الصيام، ولرأينا النبي يتحرى في كل سنة شهر ربيع الأول، بل يتحرى يوم الثاني عشر منه، بصرف النظر، هل كان يوم اثنين، أو جمعة، أو غيرها، وهذا لم يرد، حسب ما قرأنا، في حديث صحيح، بل ولا وضعيف أيضا.
ومما يؤكد هذا، أن العلماء أنفسهم، اختلفوا في تحديد يوم مولده، فقيل هو يوم الثاني، أو الثامن، أو العاشر، أو الثاني عشر، أو السابع عشر، إلى غير ذلك من الأقوال التي حكاها جمع من أهل العلم، منهم الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية والقسطلاني في المواهب اللدنية.
وهذا الاختلاف الكبير في تاريخ المولد دليل قطعي على أن النبي وأصحابه لم يعيروا هذا اليوم أي اهتمام عندما تمر كل سنة، فضلا عن أن يخصها النبي أو أصحابه بمزيد عباده.
ثالثا: أن النبي لما بين سبب صيامه لذلك اليوم، جعل السبب أو العلة مركبة، فقال (قَالَ ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ وَيَوْمٌ بُعِثْتُ أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ) فذكر ثلاثة أسباب، أو بتعبير أصولي، ذكر علة مركبة من ثلاث أوصاف، ميلاده، ومبعثه، وإنزال القرآن، والصواب صحة التعليل بالعلة المركبة، وأنها لا تؤثر إلا إذا اجتمعت الأوصاف المركبة منها كلها، وعندئذ فلا تجتمع هذه الأوصاف لتكون علة الحكم إلا في يوم الاثنين، فلا تنطبق البتة على يوم الثاني عشر من ربيع الأول، فإنزال القرآن حدث في ليلة القدر، من شهر رمضان المبارك، بالإجماع كما هو نص القرآن، فهي علة قاصرة على هذا اليوم، فلا تتعدى إلى غيره.
ثالثا: أن النبي سئل عن صيامه، فأجاب، فالحكم إذًا الصيام، والعلة، هي اجتماع الأوصاف الثلاثة، فهل يقاس غير الصيام على الصيام، بمعنى هل يخص يوم الاثنين بعبادة غير الصيام؟ محل نظر، لكن هذا خارج موطن بحثنا، فالشبهة لا تتعلق بتخصيص يوم الاثنين، بل بتخصيص يوم الميلاد، أعني المناسبة السنوية، فلا ينسحب حكم هذا على هذا.(/1)
رابعا: وربما تستحق أن تكون أول مرتكزات هذا الجواب، إلا أننا أخرنا البحث فيها لأنها طريقة معروفة في الجواب يعتمد عليها كثير ممن ينتسبون إلى السلف الصالح، ممن لا يقرون الموالد أصلا، فإذا قرأها من قامت في ذهنه تلك الشبهة أعرض عن هذا الجواب، لأنه صادر ممن لا يقرون الاحتفالات اعتمادًا على جواب معروف وهو أن السلف لم يفعلوها، فإذا أعرض عن القراءة، قويت الشبهة عنده، وانصرف عن سماع ما يدفعها حتى لو كان بطريق آخر.
وهذا المرتكز يعتمد على أصل أصيل في فهم هذا الدين، ألا وهو وجوب اتباع فهم السلف الصالح لدين الإسلام، وأدلة وجوب اتباع فهم السلف الصالح كثيرة جدًا، أهمها أن فهم السلف الصالح نفسه إجماع منهم على أن الدين يفهم بهذه الطريقة، فمن فهم الدين بغير هذه الطريقة فقد خالف الإجماع، ومنها أن الأخذ بغير فهمهم، مخالفة لقول النبي (خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) متفق عليه.
فجعل خير القرون، صحابته، فخيريتهم تتضمن خيرية فهمهم، فلا يجوز العدول عن خير فهم للدين إلى غيره.
وعليه، فيجب علينا عند النظر والاستدلال لا سيما عند طروء شبهة، أن لا نغفل فهم السلف الصالح للأدلة، وكيف عملوا بها، وما أجمل العبارة التي تقول لو كان خيرًا لسبقونا إليه، وقد روي عن عبد الله بن عمر بن الخطاب قوله (من كان مستنا فليستن بمن قد مات أولئك أصحاب محمد كانوا خير هذه الأمة، أبرها قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة ونقل دينه فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم فهم أصحاب محمد كانوا على الهدى المستقيم)
فلو كان القول بتخصيص يوم ميلاد النبي أعني ميلاده السنوي في شهر ربيع الأول، بعبادة زائدة لسبقنا إليه السلف الصالح، الصحابة، والتابعون، وأتباعهم، لكن لما لم يفعلوا ذلك، علم أنه لا خير فيه، وهذا لا يحتاج إلى مزيد استدلال.
هذا، ما تيسر من الجواب على عين هذه الشبهة، وإلا فمسألة المولد النبوي، وما يحدث فيه، قد أشبعه العلماء بحثا ودراسة، وهي موجودة متيسرة والحمد لله، نسأل الله تبارك وتعالى أن لا يزيغ قلوبنا، وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، إنه سميع قريب مجيب الدعاء، انتهى الجواب، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(/2)
شبهة من أنكر رؤية الله تعالى يوم القيامة
من مسائل الاعتقاد التي تضافرت على إثباتها دلائل الكتاب والسنة، وأجمع السلف الصالح عليها، مسألة رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، حيث دلت الأدلة الشرعية على أن المؤمنين يرون ربهم عيانا لا يضارون في رؤيته كما لا يضارون في رؤية الشمس والقمر.
فمن أدلة الكتاب على الرؤية قول الحق - سبحانه -: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة}(القيامة: 22-23)، قال ابن عباس في تفسير الآية: " تنظر إلى وجه ربها إلى الخالق". وقال الحسن البصري: "النضرة الحسن، نظرت إلى ربها - عز وجل - فنضرت بنوره - عز وجل -".
ومن أدلة رؤيته - سبحانه - يوم القيامة قوله - تعالى -: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون}(المطففين: 15)، قال الإمام الشافعي: " وفي هذه الآية دليل على أن المؤمنين يرونه - عز وجل - يومئذ "، ووجه ذلك أنه لما حجب أعداءه عن رؤيته في حال السخط دل على أن أولياءه يرونه في حال الرضا، وإلا لو كان الكل لا يرى الله - تعالى -، لما كان في عقوبة الكافرين بالحجب فائدة إذ الكل محجوب.
ومن أدلة رؤيته - سبحانه - يوم القيامة أيضا قوله - تعالى -: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة}(يونس: 26) والزيادة وإن كانت مبهمة، إلا أنه قد ورد في حديث صهيب تفسير النبي - صلى الله عليه وسلم - لها بالرؤية، كما روى ذلك مسلم في صحيحه عن صهيب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال: يقول الله- تبارك وتعالى -: تريدون شيئا أزيدكم، فيقولون: ألم تبيض وجوهنا، ألم تدخلنا الجنة، وتنجينا من النار، قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم - عز وجل -، ثم تلا هذه الآية {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة}.
هذا ما يتعلق بالأدلة من كتاب الله - تعالى -في إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، أما أحاديث السنة فقد نص أهل العلم على أن أحاديث الرؤية متواترة، وممن نصَّ على ذلك العلامة الكتاني في نظم المتناثر، و ابن حجر في فتح الباري، و العيني في عمدة القاري، و ابن حزم في الفصل، و ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل وغيرهم، ومن جملة تلك الأحاديث:
1- حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن ناساً قالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر؟ قالوا: لا، يا رسول الله، قال: هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا، يا رسول الله، قال: فإنكم ترونه كذلك) رواه مسلم. ومعنى " تضارون" أي لا يزاحم بعضكم بعضا، أو يلحق بعضكم الضرر ببعض بسبب الرؤية، وتشبية رؤية الباري برؤية الشمس والقمر، ليس تشبيها للمرئي بالمرئي، وإنما تشبيه الرؤية في وضوحها وجلائها برؤية العباد الشمس والقمر إذ يرونهما من غير مزاحمة ولا ضرر.
2- حديث جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنكم سترون ربكم عيانا) رواه البخاري.
3- حديث صهيب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال: يقول الله- تبارك وتعالى -: تريدون شيئا أزيدكم، فيقولون: ألم تبيض وجوهنا، ألم تدخلنا الجنة، وتنجينا من النار، قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم - عز وجل -، ثم تلا هذه الآية {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} رواه مسلم.
4- حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن) متفق عليه.
5- حديث عدي بن حاتم - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه ترجمان، ولا حجاب يحجبه) رواه البخاري.
أما الإجماع فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية - كما في مجموع الفتاوى 6/512 -: " أجمع سلف الأمة وأئمتها على أن المؤمنين يرون الله بأبصارهم في الآخرة ".
ورغم هذا الإجماع وتلك الأدلة التي بلغت حد التواتر - والتي لم نذكر سوى اليسير منها - إلا أن المعتزلة أنكرت رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، وزعمت أن ذلك محال، وسلكوا في سبيل تأييد قولهم ونصرته مسلكين، المسلك الأول: الاعتراض على استدلالات أهل السنة، والمسلك الثاني: الاستدلال لمذهبهم، وسوف نعرض لكلا المسلكين بعد ذكرهما بالنقد والتمحيص ليستبين ضعف ما بنو عليه مذهبهم وفساده.
اعتراضات المعتزلة على أدلة أهل السنة
اعترض المعتزلة على ما أورده أهل السنة من أدلة الكتاب باعتراضات، من ذلك قولهم: أن المراد بالنظر في قوله - تعالى -: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} هو انتظار الثواب لا النظر بالأبصار.(/1)
وأجاب أهل السنة عن ذلك بأن تفسير النظر في الآية بمعنى الانتظار خطأ بيّن، لأن النظر إذا عُدِّي بإلى كان ظاهرا في نظر الأبصار، يقول العلامة اللغوي أبو منصور الأزهري في كتابه تهذيب اللغة (14/371): " ومن قال: إن معنى قوله: {إلى ربها ناظرة}: بمعنى منتظرة فقد أخطأ، لأن العرب لا تقول: نظرت إلى الشيء بمعنى انتظرته، وإنما تقول: نظرت فلاناً، أي: انتظرته، ومنه قول الحطيئة:
وقد نظرتكم أبناء صادرة *** للورد طال بها حوزي [الحوز: السير الشديد]
فإذا قلت: نظرت إليه لم يكن إلا بالعين، وإذا قلت: نظرت في الأمر احتمل أن يكون تفكراً وتدبراً بالقلب " ا. هـ.
ومما يدل على أن النظر هنا ليس بمعنى الانتظار أن الآية سيقت مساق الامتنان بذكر نعيم أهل الجنان، ولو فُسِّر النظرُ بالانتظار لما عدّ ذلك من النعيم، فإن الانتظار تنغيص وكدر -كما لا يخفى - إضافة إلى أن أهل الجنة لا ينتظرون شيئا فمهما تمنوا شيئا أتوا به.
واعترض نفاة الرؤية على الاستدلال بقوله - تعالى -: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} بأنه ليس في الآية تصريح بالرؤية، والزيادة يمكن تفسيرها بأوجه مختلفة كمن فسرها بمضاعفة الحسنات، أو المغفرة والرضوان، وعليه فلا يصح حملها على الرؤية، وإلا أصبح ذلك تكلفا وقولا على الله بغير علم.
والجواب على ذلك من وجهين:
الوجه الأول: أن ما ذُكِرَ من أوجه التفسير لا ينافي تفسيرها بالرؤية، فالزيادة هنا مبهمة، وهي شاملة لكل ما يتفضل الله به على عباده بعد مجازاتهم بجنته، يقول الإمام الطبري - بعد أن ذكر أقوال المفسرين في الزيادة كمن فسّرها بتضعيف الحسنات، أو المغفرة والرضوان، ومن فسرها بالرؤية -: " وغير مستنكر من فضل الله أن يجمع ذلك لهم، بل ذلك كله مجموع لهم إن شاء الله. فأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يعمَّ ".
الوجه الثاني: أن تفسير من فسّر الزيادة بالرؤية لم يأت اعتباطا، وإنما جاء بناء على التفسير النبوي لها، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - عندما ذكر رؤية المؤمنين لربهم تلا هذه الآية: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة}، ولو لم يكن كلامه - صلى الله عليه وسلم - تفسيرا للآية التي قرأها، لما كان في قراءتها فائدة، ولكان ذكرها في الحديث لغوا وحشوا، وحاشاه - صلى الله عليه وسلم - من ذلك.
أما اعتراضهم على أحاديث السنة فيتلخص في ردهم الاستدلال بها بدعوى أنها أحاديث آحاد، لا يقبل الاستدلال بها في مسائل الاعتقاد، وهي دعوى مردودة بلا شك، وتدل على جهل قائلها بعلم الحديث وطرقه ورجاله، ذلك أن أهل العلم بالحديث قد نصوا صراحة على تواتر أحاديث الرؤية، وقد سبق ذكر من نص على ذلك، ويقول العلامة ابن الوزير اليماني - كما في الروض الباسم - ردا على من زعم أن أحاديث الرؤية أحاديث آحاد، وأنها من رواية جرير بن عبدالله البجلي فحسب: " وهذا من الإغراب الكثير والجهل العظيم، فإنّ المحدّثين يروون في الرّؤية أحاديث كثيرة تزيد على ثمانين حديثاً عن خلق كثير من الصّحابة أكثر من ثلاثين صحابيّاً..وروى حديث الرؤية علماء الحديث كلّهم في جميع دواوين الإسلام من طرق كثيرة " ا.هـ، ولو سلمنا جدلا بكون أحاديث الرؤية أحاديث آحاد فلا يجوز ترك الاستدلال بها إذا صح سندها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد بينا صحة الاستدلال بأحاديث الآحاد على مسائل الاعتقاد في مقال بعنوان " أحاديث الآحاد حجة في العقائد والأحكام"
استدلالات المعتزلة على نفي رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة
استدل المعتزلة على نفي الرؤية بآيات منها قوله - تعالى -: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير}(الأنعام: 103) قالوا: ومتعلق الإدراك المنفي إدراك البصر فكان ذلك ظاهرا في نفي الرؤية.
وأجاب العلماء عن ذلك بأن المنفي هو الإحاطة لا مطلق البصر، بمعنى أن رؤية المؤمنين ربهم لا تعني أنهم يحيطون به - سبحانه -، ولا أنهم يدركون برؤيتهم له حقيقة ذاته، وممن ذهب إلى هذا التفسير ابن عباس - رضي الله عنهما - حين عارضه سائل بقوله - تعالى -: {لا تدركه الأبصار}(الأنعام: 103) فقال له: ألست ترى السماء؟ فقال: بلى، قال: أتراها كلها؟ قال: لا. فبين له أن نفى الإدراك لا يقتضى نفى الرؤية.
وعن قتادة في قوله - تعالى -: {لا تدركه الأبصار} قال: " هو أجل من ذلك وأعظم أن تدركه الأبصار" وعن عطية العوفي في تفسير الآية قال: " هم ينظرون إلى الله لا تحيط أبصارهم به من عظمته، وبصره يحيط بهم".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " فإذاً المعنى أنه يُرى ولا يُدرك ولا يُحاط به، فقوله: {لا تدركه الأبصار}، يدل على غاية عظمته، وأنه أكبر من كل شيء، وأنه لعظمته لا يدرك بحيث يحاط به، فإن الإدراك هو الإحاطة بالشيء، وهو قدر زائد على الرؤية ".(/2)
ومما استدل به المعتزلة على نفي الرؤية، قوله - تعالى -: {يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة}(النساء: 153)، يقول الجاحظ المعتزلي في رسائله: " قد رأينا الله استعظم الرؤية استعظاماً شديداً، وغضب على من طلب ذلك وأراده، ثم عذب عليه، وعجب عباده ممن سأله ذلك، وحذرهم أن يسلكوا سبيل الماضين، فقال في كتابه لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة} فإن كان الله - تعالى - في الحقيقة - يجوز أن يكون مرئياً، وببعض الحواس مدركاً، وكان ذلك عليه جائزاً، فالقوم إنما سألوا أمراً ممكناً، وقد طمعوا في مطمع، فلم غضب هذا الغضب، واستعظم سؤالهم هذا الاستعظام، وضرب به هذا المثل، وجعله غاية في الجرأة وفي الاستخفاف بالربوبية ".
والجواب على ذلك أن الله غضب عليهم هذا الغضب، واستعظم سؤالهم هذا الاستعظام لكونه وقع على سبيل التعنت، والربط بين إجابة سؤالهم والإيمان به - سبحانه -، كما في الآية الأخرى: {وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون}(البقرة: 55) فالله غضب عليهم لا لأن رؤيته غير جائزة، بل لأنهم ربطوا بين إيمانهم به - سبحانه - وبين رؤيته، وهذا منتهى التعنت والاستهتار.
ومما استدل به منكرو الرؤية قوله - تعالى -: {وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا }(الفرقان: 21) قالوا: ألا ترى أن الله قد عدَّ قول الكفار " أو نرى ربنا " من أسباب الكفر والعتو، أليس في ذلك أعظم الأدلة على امتناع رؤيته - سبحانه - واستحالتها.
والجواب على ذلك كالجواب على سابقه، بدليل قولهم: {لولا أنزل علينا الملائكة}، فهل يقول قائل: إن نزول الملائكة على البشر ممتنع ومستحيل بهذه الآية؟!! كلا لا يقول بذلك أحد، حتى الذين ينفون الرؤية، لأن نزول الملائكة على بعض البشر ثابت بأدلة الشرع ولا يمنعه العقل، وإنما عدّ الله ذلك من أسباب الكفر والعتو لإعراضهم عن الحق رغم وضوحه، وتوقفهم عن الاستجابة له حتى يحصل لهم ما طلبوا من تلك الآيات.
والآية السابقة إنما وردت في سياق ذكر تعنت المشركين وفرضهم شروطا مسبقة على إيمانهم، وليس لأن المشركين طلبوا رؤية الله بدافع الشوق والرغبة، يقول الإمام الطبري في تفسير الآية: " يقول - تعالى -ذكره: وقال المشركون الذين لا يخافون لقاءنا، ولا يخشون عقابنا: هلا أنزل الله علينا ملائكة، فتخبرنا أن محمدا محق فيما يقول، وأن ما جاءنا به صدق، أو نرى ربنا فيخبرنا بذلك، كما قال جل ثناؤه مخبرا عنهم {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا}(الإسراء: 90) ثم قال بعد {أو تأتي بالله والملائكة قبيلا}(الإسراء: 92) يقول الله: لقد استكبر قائلوا هذه المقالة في أنفسهم، وتعظموا، {وعتوا عتوا كبيرا} يقول: وتجاوزوا في الاستكبار بقيلهم ذلك حدَّه ".
ومما استدل به المعتزلة على إنكار الرؤية قوله - تعالى -لموسى وقد سأله رؤيته - سبحانه -: {لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخرّ موسى صعقا}(الأعراف: 143). قالوا: وهذا النفي عام في الدنيا والآخرة فلو حصل في زمن ما لكان منافيا لمقتضى الآية، وقالوا: إن حرف النفي "لن" عند علماء اللغة يفيد النفي المؤبد، أي لن يكون هذا أبدا.
وأولوا طلب موسى رؤية ربه بأنه كان بدافع إقامة الحجة على قومه الذين ألحوا عليه أن يروا الله جهرة.
والرد على استدلالهم هذا من وجوه:
الوجه الأول: أن سؤال موسى ربه أن يراه دليل على جواز رؤيته - سبحانه -، إذ موسى أعلم بالله من أن يسأله مستحيلا في حقه، ودعوى أنه إنما سأله ليقيم الحجة على قومه عارية عن الدليل بل هي محض تخرص، فموسى إنما سأل ربه منفردا ودون سابق طلب من قومه كما تدل عليه الآيات في قوله - تعالى -: {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين. ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخرَّ موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين}(الأعراف: 142-143). فواضح أنه لا دلالة في منطوق النص ولا في مفهومه على أن طلب موسى الرؤية كان لإقناع بني إسرائيل باستحالتها، كيف وقد طلب الرؤية حال اعتكافه وخلوته، ثم لماذا يطلب التوبة من سؤاله الرؤية إذا كان إنما سألها لإقامة الحجة على بني إسرائيل.(/3)
الوجه الثاني: أن الله لم ينكر عليه سؤاله، ولو كان ما سأله محالا وممتنعا لأنكر الله عليه سؤاله كما أنكر على نوح - عليه السلام - سؤاله نجاة ابنه، وقال - سبحانه - لنبيه نوح - عليه السلام -: {إني أعظك أن تكون من الجاهلين}.
الوجه الثالث: أنه - تعالى -قال: {لن تراني} ولم يقل إني لا أُرى، أو لا تجوز رؤيتي، أو لست بمرئي، والفرق بين الجوابين ظاهر، ألا ترى أن من كان في كمِّهِ حجر فظنه رجلٌ طعاماً فقال أطعمنيه، فالجواب الصحيح أن يقول: إنه لا يؤكل، أما إذا كان طعاما، صح أن يقال إنك لن تأكله، وهذا يدل على أنه - سبحانه - مرئي ولكن موسى لا تحتمل قواه رؤيته في هذه الدار، لضعف قوى البشر فيها عن رؤيته - تعالى -، يوضحه قوله: {ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني} فأعلمه أن الجبل مع قوته وصلابته لا يثبت للتجلي في هذه الدار فكيف بالبشر الذي خلق من ضعف.
الوجه الرابع: تجليه - سبحانه - للجبل: {فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا} فإذا جاز أن يتجلى للجبل الذي هو جماد، فكيف يمتنع أن يتجلى لرسله وأوليائه في دار كرامته.
الوجه الخامس: قوله - تعالى -: {ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني} حيث علّق - سبحانه - رؤيته على استقرار الجبل، واستقرار الجبل أمر ممكن، والمعلّق على الممكن ممكن.
الوجه السادس: أن دعواهم أن "لن" تفيد النفي المؤبد مردودة كما قد نص على ذلك أئمة اللغة، يقول ابن مالك في ألفيته:
ومن رأى النفي بلن مؤبدا *** فقوله اردد وسواه فاعضدا
ومما يدل على بطلان ادعاء أن "لن" تفيد النفي المؤبد، قوله - تعالى -عن الكفار: {ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم} أي: الموت، فلو كانت "لن" تفيد التأبيد المطلق لما صح أن يتمنى كافر الموت لا في الدنيا ولا في الآخرة، لكن الله ذكر أن الكفار يتمنون الموت في الآخرة، كما في قوله - سبحانه -: {ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك}(الزخرف: 77) فدل على أن "لن" لا تفيد النفي بإطلاق بل يمكن تقييدها بأدلة أخرى، وعليه فيكون معنى قوله - تعالى -لموسى: {لن تراني} أي في الدنيا.
ومما استدل به منكرو الرؤية قوله - سبحانه -: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم}(الشورى: 51). ووجه استدلالهم بالآية على نفي الرؤية أن الله حصر تكليمه للأنبياء في ثلاثة أوجه: وهي الوحي بأن يلقي في روعه ما يشاء، أو يكلمه بواسطة من وراء حجاب، أو يرسل إليه رسولا فيبلغه عنه، فيستلزم ذلك انتفاء رؤيته حال التكلم.
والجواب أن الآية تتحدث عن صور الوحي لا عن الرؤية، والوحي إنما يقع في الدنيا لا في الآخرة، فالآية موافقة لمذهب السلف في نفي الرؤية في الدنيا ولا تعارض أدلة إثباتها في الآخرة.
هذا ما يتعلق بما استدلوا به من القرآن الكريم، أما من السنة فقد استدلوا ببعض الأحاديث كحديث أبى ذر - رضي الله عنه - أَنَّهُ سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل رأيت ربك؟ قال: (نور أنّى أراه) رواه مسلم. قالوا: هذا الحديث ينفي الرؤية مطلقا حيث استبعد حصول الرؤية بقوله: (أنّى أراه) وأنّى بمعنى كيف. ولو علم - صلى الله عليه وسلم - بأنه سيراه في الآخرة لأخبر أبا ذر - رضي الله عنه -.
والجواب عن هذا الاستدلال بأنه خطأ بيِّن، فسؤال أبي ذر - رضي الله عنه - للنبي - صلى الله عليه وسلم - هل رأيت ربك؟ متعلق بحادثة المعراج، وهي حادثة وقعت في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهي في الدنيا وليست في الآخرة، وعليه فالنفي النبوي لا ينسحب على الرؤية في الآخرة.
وكونه - صلى الله عليه وسلم - لم يخبر أبا ذر في نفس الحديث بأنه سيراه في الآخرة غير لازم، لأن سؤاله - رضي الله عنه - عن واقعة المعراج فحسب، فجاء الجواب مقتصرا على تلك الحادثة.
أما المروي عن مجاهد في هذه المسألة، وما نقل عنه من تفسير قوله - تعالى -: {إلى ربها ناظرة} فهو رأي تفرد به، وعدَّه العلماء شذوذا، قال الإمام القرطبي تفسيره: " قال ابن عبد البر: " مجاهد وإن كان أحد الأئمة بالتأويل، فإن له قولين مهجورين عند أهل العلم: أحدهما هذا يعني أن الله - سبحانه - يجلس نبيه - صلى الله عليه وسلم - معه على كرسيه- والثاني في تأويل {وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة} قال: معناه تنتظر الثواب، وليس من النظر ".
ومع هذا فلا يدل قوله هذا على أنه - رحمه الله - لا يرى الرؤية، وإنما غاية ما فيه أنه ذهب في تفسير الآية مذهبا مخالفا لمذهب من أثبتها، ولا يعني انتفاء دلالة الآية عنده على الرؤية انتفاء دلالة غيرها من الأدلة الأخرى، ولا سيما الأحاديث والتي بلغت حدَّ التواتر.
تلك كانت شبهات من أنكر رؤية الباري - سبحانه -، وتلك كانت ردود أهل السنة عليهم، والتي ظهر بها مدى صحة مذهب السلف في إثبات الرؤية، ومدى ضعف وتهافت أدلة من أنكرها والله أعلم.
27/09/2005
http://www.islamweb.net المصدر:(/4)
شجاعة وإيمان
أ.د/محمد أديب الصالح
رئيس تحرير مجلة حضارة الإسلام
ذكروا أن هشام بن عبد الملك قدم حاجاً إلى بيت الله الحرام، فلما دخل الحرم قال: ائتوني برجل من الصحابة.
فقيل: يا أمير المؤمنين قد ماتوا.
قال: فمن التابعين.
فأتي بطاووس اليماني(1) فلما دخل عليه خلع نعليه بحاشية بساطه ولم يسلم بأمير المؤمنين ولم يكنه، وجلس إلى جانبه بغير إذنه، وقال:
كيف أنت يا هشام؟
فغضب هشام من ذلك غضباً شديداً حتى هم بقتله. فقيل له:
أنت يا أمير المؤمنين في حرم الله وحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يكون ذلك.
فالتفت إلى طاووس وقال له:
ما حملك على ما صنعت؟
قال: وما صنعت؟
قال: خلعت نعليك بحاشية بساطي، ولم تسلم بإمرة المؤمنين، ولم تكنني، وجلست بإزائي بغير إذني، وقلت يا هشام كيف أنت؟!
فقال له طاووس:
أما خلع نعلي بحاشية بساطك، فإني أخلعه بين يدي رب العزة في كل يوم خمس مرات ولا يعاتبني ولا يغضب علي.
وأما قولك لم تسلم علي بإمرة المؤمنين، فليس كل المؤمنين راضياً بإمرتك فخفت أن أكون كاذباً.
وأما قولك لم تكنني فإن الله عز وجل سمى أنبياءه فقال: يا داود، يا يحيى، يا عيسى، وكنى أعداءه فقال: تبت يدا أبي لهب.
وأما قولك جلست بإزائي فإني سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: إذا أردت أن تنظر إلى رجل من أهل النار، فانظر إلى رجل جالس وحوله قوم قيام...
فقال له: عظني.
فقال له: سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يقول:
إن في جهنم حيات وعقارب كالبغال تلدغ كل أمير لا يعدل في رعيته!
ثم قام فخرج. فوقف له هشام وجميع من في مجلسه.
الهوامش
* مجلة حضارة الإسلام –السنة 6 –العدد2 –ربيع 1385 –آب 1965
(1) طاووس بن كيسان الخولاني أبو عبد الرحمن من أكابر التابعين تفقهاً في الدين، ورواية للحديث، وتقشفاً في العيش، وشجاعة في قول الحق، وجرأة على وعظ الخلفاء والملوك. مولده ومنشأة في اليمن. توفي رضي الله عنه حاجاً بالمزدلفة أو منى سنة 106 للهجرة وكان يأبى القرب من الملوك والأمراء قال ابن عيينة: متجنبو السلطان ثلاثة: أبو ذر، وطاووس، والثوري(/1)
...
شخصيات من القران الكريم
... بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الواحد الأحد ، الصمد ؛ الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد ، والصلاة والسلام على معلم الناس الخير ؛ البشير النذير ، والسراج المنير ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين ؛ أما بعد.
فانه في خضم أزمات الحياة المادية ، يجب على المسلم أن يخلو بربه تعالى ، ويتمتع بلذة مناجاته ، والتشرف بالخلوة به ، والتنعم بتدبر رسالته الخالدة ؛ التي أنزلها لتكون نبرأسا للعالمين ، القران الكريم ، وكان من جملة اهتماماتي بهذه الرسالة الخالدة ، أن يسر الله تعالى في كتابه بعض الكلمات عن بعض الشخصيات التي ورد ذكرها في القران الكريم ، فكانت هذه الرسالة (( شخصيات من القران الكريم )) سائلا الله تعالى أن يتقبلها مني ، وان ينفع بها المسلمين .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
كتب
د. عائض بن عبد الله القرني
هذه قصة أبينا آدم ، عليه السلام ، قصة الخلق وسجود الملائكة له ، وقصة الخطيئة ، ونحن مثله أو اكثر ، ومن شابه أباه فما ظلم ،وتلك شنشنة نعرفها من أحزم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (()وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إبليس أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) (البقرة:34)
هنا قضايا هائلة وأحداث عالمية ؛ عاشها آدم ، عليه السلام ، وسمعها الأنبياء والرسل والملأ الأعلى .
أولها : يقول سبحانه وتعالى : ((وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ)) أي : كلفنا وأمرنا وتعبدنا الملائكة أن يسجدوا لآدم .
(وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ)) وفي هذه الكلمة قضايا :
أولها : ما هو هذا السجود الذي يريده ، سبحانه وتعالى ، من الملائكة ؟ وهل يصرف السجود لغير الله ؟
في الحديث : أن معاذا أتى من الشام قال : يا رسول الله ، رأيت العجم يسجدون لملوكهم وأنت أولى أن نسجد لك .
قال r (( لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعظم حقه عليه ولكن لا يكون إلا لله ))[1].
فلا يسجد إلا لله ، وهذه السجدة هي سجدة التشريف ، ويوم تضع جبينك في الأرض على التراب يرفعك الله درجات ، ففي حديث ثوبان قال : قال رسول الله r : ( إنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك بها درجة ))[2]، وعن ربيعة الاسلمي قال : قلت يا رسول الله ، أريد مرافقتك في الجنة ، فقال : (( فأعني على نفسك بكثرة السجود))[3].
كلما سجدت كلما رفعك الله ، وكلما تحررت من العبادة لغير الله ، من عبادة الوظائف والطواغيت ، والمناصب ، والدراهم والدنانير ، ارتعت في مقامات العبودية .
فهل هذا السجود الذي أمر الله به الملائكة لآدم السجود على الأرض مثل ما نسجد للصلاة ؟
لأهل العلم رأيان أو قولان :
يقول الأول : معناه : الانحناء والخضوع ، وهو : أن يهدهد رأسه وان يخضع .
والقول الثاني : معناه : أن يسجد للأرض فالسجود لله ، ولكن تكريما لآدم ، وإجابة لأمر الله سبحانه وتعالى .
والرأي الثاني هو الصحيح ، وكان في شرع من قبلنا السجود للإكرام ، قال ، سبحانه وتعالى ، في قصة يوسف : (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً )(يوسف: من الآية 100) أما عندنا في شريعتنا فلا يسجد إلا لله ، ولا يسجد لعظيم مهما كان ،ولا ينحني له ، فان الانحناء محرم.
وفي هذا : قضايا أثارها ابن تيمية وابن القيم ،وغيرهما ، هل الملائكة افضل أو بني ادم افضل ؟
قال بعضهم : الملائكة افضل ؛ لأنهم اقرب إلى الله ، ولان الله رفع أمكنتهم ، ولان الله ما جعل عندهم شهوات ، فانهم عقول بلا شهوات ، وابن آدم شهوة وعقل ، والحيوان شهوة بلا عقل .
ومنها : انهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون ، وكل ما في السماء من ملك ، كلهم سجود إلى قيام الساعة ، وهناك ملائكة لهم اختصاصات عجيبة ومجال التوسع في بسط الكلام عنها يكون في موضوع الحديث عن الملائكة.
واستدلوا بأدلة : منها: انهم يستغفرون لمن في الأرض ، والفضل يستغفر للمفضول ، ليس المفضول يستغفر للفاضل .
وقال قوم : بل بنو آدم افضل ؛ لأنهم ركبت فيهم الشهوة ، وصارعوا الشهوات ، يعني : الصالحين ، أما الكفرة فلا يوازنون بالحمير ولا بالخنازير ولا بالكلاب ( إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً)(الفرقان: من الآية 44) .
والصالحون كما يقول بن تيمية : العبرة بكمال النهآيات لا بنقص البدآيات .
فأما في الدنيا فالملائكة افضل ؛ لأنها اقرب إلى الله ، ولأنهم لا يذنبون ولا يخطئون ولا يعصون الله ،وأما في الأرض فإذا قرب الله بني آدم ودخلوا الجنة – نسأل الله من فضله ، اصبحوا افضل من الملائكة.
بالله لفظك هذا سال من عسل أم قد صببت على أفواهنا العسل
((وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسجدوا)(/1)
أولا : خلق الله آدم من طين لازب ، ما حمأ مسنون ،قالوا : من فخار ، والطين اللازب ، هو : الطينة اللزجة كالغراء ، فلما خلقه الله تركه أربعين يوما طينا ، تدخل الرياح من فمه وتخرج من دبره ، انظر إلى الخلق الضعيف ، وانظر إلى اصل النشأة ، وانظر إلى الناس جميعا ؛ ملوكا ومملوكين ، ورؤساء ومرؤوسين ، وأغنياء وفقراء ، كلهم من هذا الطين ، ثم انظر إلى المتكبرين المتجبرين في الأرض .
الذي ما ينظر بعين البصيرة ، إنما ينظر بعين البصر يتيه تيهانا ، ويهيج هيجانا ، ويمشي وكأنه ليس من ذاك الأصل .
أحد وزراء بني أمية وزير متكبر متجبر ، عنده بغال ، وعنده خيول وسيوف ، وعنده حشم ، مر والحسن البصري جالس ، فقام له الناس إلا الحسن البصري .
فالتفت الوزير قال : ما عرفتني ؟
قال الحسن البصري لما عرفتك ما قمت .
قال : من أنا ؟
قال : أنت الذي خرج من مخرج البول مرتين ،أن تتحمل العذرة ، و أصلك تعاد إلى جيفة قذرة ، وأتيت من نطفة مذرة ، فسكت ، فكأنما أغشي على وجهه النار .
دخل المهدي العباس مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فقام الناس له جميعا ، إلا ابن ابي ذئب المحدث الكبير ما قام ، جلس فسلم على الحضور ، ثم التفت إلى ابن ذئب قال : ما لك لا تقوم لنا وقد قام لنا الناس ؟ قال : أردت إن أقوم لك فتذكرت قوله تعالى : ()يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (المطففين:6) فتركت القيام لذلك اليوم ، قال : اجلس ، والله ، لقد أقمت كل شعرة من رأسي .
عن طاووس بن كيسان العالم الثقة الزاهد العابد المحدث تلمي ابن عباس قال : دخلت الحرم فطفت ، ثم صليت ركعتين عند المقام ، ثم جلست انظر في الناس أتفكر في هذه الخليقة ، وهي ، والله ،عبرة من العبر ، انظر إلى المطارات إذا كنت في انتظار أو مغادرة ، وانظر إلى الصالات والمستشفيات ، اختلاف الصور ، اختلاف الأبدان ، اللمحات ، النظرات ، السمات ، كل واحد من الناس عالم مستقل في نفسه ، هموم وغموم وأحزان وأقطار ، شقي وسعيد ، فقير وغني ، سالم من الهموم ، ومتورط في المدلهمات ، فسبحان الباري .
ومع ذلك ، فالله يراقب كل حركة من الناس ، كل يوم هو في شأن ، ما تفعل من حركة ، ولا سكنة ولا كلمة ولا خطوة إلا والله معك ، يموت هذا بعلم من الله ، ويولد هذا بعلم من الله ، ويمرض هذا والله بعلمه ، ويشفى هذا والله يعلمه .
فجلس طاووس ينظر فإذا بجلبة السلاح والحرأس والرماح ، فالتفت قال : فإذا هو الحجاج ابن يوسف ، قال : فالتفت فإذا جلبة السلاح فسكنت مكاني وإذا بأعرابي ، إعرابي لكنه مسلم متصل بالله يطوف بالكعبة ، فلما انتهى من الطواف أتى ليصلي ركعتين ،فنشبت حربة في ثيابه فارتفعت فوقعت على الحجاج ، فمسكه الحجاج بيده .
فقال له الحجاج : من أين أنت ؟
قال : من أهل اليمن .
قال : كيف تركتم أخي ؟ وكان أخوه محمد بن يوسف عاملا على اليمن .
قال : من أخوك ؟
قال : أنا الحجاج أخي محمد .
قال : تركته سمينا بطينا – انظر إلى الإجابة ما أحسنها ..
قال : ما سألتك عن حالته وسمنه وبطنته سألتك عن عقله ؟
قال : تركته غشوما ظلوما .
قال : أما تدري انه أخي ؟
قال : أتظن انه يعتز بك اكثر من اعتزازي بالله ؟
قال طاووس : والله ، ما بقيت في رأسي شعرة إلا قامت .
قال ابن عبد الهادي ك دخل ابن تيمية الإسكندرية ، دخل يريدون سجنه ، فأخرجوه من سجنه إلى سجن آخر ، لماذا يسجن ؟ يسجن لتثبت لا اله إلا الله في الأرض ، يرد على المبتدعة والملاحدة والزنادقة والمعتزلة والجهمية والاشاعرة ، فقال له أحد المبتدعة : يا ابن تيمية ، واله ، كل هؤلاء يطالبون بدمك ، ويريدون قتلك الآن .
فقال ابن تيمية أتخوفني بالناس ، ثم نفخ في كفه قال : واله ، كأنهم ذبان ، لكن من مثل ابن تيمية ؟
قال بعض المفسرين : لما خلق اله ، سبحانه وتعالى، آدم تركه أربعين يوما هكذا ، فكان يمر به الشيطان فينظر إليه من طين فينخ فيه فيجلجل نفخه فيه فعرف انه ضعيف لا يتماسك.
وقال الله عز وجل : ( وَخُلِقَ الْإنسان ضَعِيفاً)(النساء: من الآية 28))) وخلق ظلوما جهولا ، وخلق عجولا ، وهي في الإنسان طبعة إلا إذا رتبها ونقاها وسيرها بالكتاب والسنة فإنها تصلح ، بإذن الله .
فلما نفخ الله فيه من روحه ، سبحانه وتعالى ، وهذا شرف ، أحياه الله للملائكة : اسجدوا لآدم .
ولنا إن نتساءل ، لماذا أمر الله الملائكة بالسجود لآدم ؟
أولا : يمتحنهم لطاعة هل يطيعونه أم لا ؟
ثانيا : يرى من يعصي منهم .
ثالثا : يرى الناس فضل آدم ، عليه السلام ، فقاموا فسجدوا جميعا إلا إبليس تكبر ، ولماذا تكبر ؟
قال ابن عباس : كان إبليس اعلم الملائكة لكن ما نفعه علمه ، بل زهى وتكبر وافتخر.(/2)
وقال في بعض الروآيات – أوردها ابن كثير وغيره - : كان إبليس ملك السماء الدنيا ، هو مسؤول عن السماء الدنيا ، فأبى إن يسجد لما قال الله للملائكة اسجدوا ، فأتى يعترض ، ويقول لرب العزة الذي خلق السماوات والأرض ، ويعلم ما تحت الثرى . يقول : خلقتني من نار وخلقته من طين ، ااسجد وأنا اشرف العناصر ، عنصري من نار وعنصره من طين ؟ والنار اشرف من الطين فكيف تسجد النار للطين ؟ هذه الكلمة هي بداية الخذلان وبداية اللعنة وبداية الحرمان ، اعتراضه هو الكبر ()وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى)(البقرة: من الآية 34)) هذه اشد المفتريات ، رفض إن يسجد وأبى وامتنع ، وما كفى في اللفظ إن يقول : أبى ، بل قال : واستكبر ، ولذلك كانت أركان الكفر ثلاثة :
الحسد ،والكبر ، والكذب .
فمن كان فيه كبر ، فقد اخذ ثلث الكفر ، وما عليه إلا الباقي .
الكبر هذا هو شعار إبليس ، نعوذ بالله .
ومن علامات المتكبر : انه لا يستفيد من غيره ، ولا يرى الفضل لغيره ، ولا ينقاد للحق إذا عرفه ، ويعرف بلفظه ويعرف بمشيته ،ويعرف بنحنحته ، ويعرف بسعلته .
قالت العرب : أحمق الناس المتكبر ، ولذلك أحمق الطيور الطاووس ؛ لأنهم متكبر .
ذكروا لبعض الحمقى من السلاطين المتكبرين ، ما الله به عليهم ، سلطان من السلاطين عزل عن منصبه ، فذهب إلى قرية من قراه ، ففرشوا له ملاحفهم وعمائمهم في الطريق ؛ لأنهم جاد عليهم بمال وهو في عمله ، فالتفت إلى الناس وقال : لمثل هذا فليعمل العاملون .
ومر وزير من الوزراء العباسيين على الجسر – جسر بغداد – وقف قبل الجسر ، وقال : والله ، إني أخشى إن لا يحمل الجسر شرفي ، وان ينكسر بي في النهر .
وذكروا عن الحجاج بن أرطأ : أحد المحدثين ، رحمه الله ، انه دخل المجلس فجلس في طرف الناس ، فقالوا : اجلس في الصدر ، قال : حيثما جلست فأنا صدر ، في أي مكان اجلس فأنا صدر ، وهذه من عبارات الكبر التي اكتسبت في أصل ذاك العنصر أو أخذت بالاقتباس .
وفي هذه الآية : () أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ)(البقرة: من الآية 34)).
قال المفسرون : كيف يقول : وكان من الكافرين ولم يكن هناك كافر ، بل أول الناس آدم ؟
قالوا : سوف يكون في علم الله انه من الكارين ، وهو الرأي الصحيح .
قال : ()وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أنت وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) (البقرة:35) سجد الملائكة ، و أراد الله إكرام آدم فأسكنه جنة الخلد ، وقد أورد ابن القيم وغيره في الجنة التي أسكنها وزجه أقوال ، هل هي جنة في الأرض وبستان في الأرض ، ام هي جنة الخلد؟
والصحيح : إنها جنة الخلد ، أدخله الله في جنة الخلد .
قالوا : فاستوحش ، عليه السلام ، وما كان معه أحد ، فجلس فارغا والتفت يريد إن يجلس مع أحد ، لكن من يجلس معه ؟ الملائكة لهم جنس خاص ، الجن جنس خاص ، وهو يريد من جنسه .
ولما استوحش آدم ، عليه السلام ، نومه الله ، كما يقول أهل التفسير ، - منهم ابن كثير - : نومه ، وأخذ من ضلعه الأيسر حواء ، ما أضعفنا ، وما أذلنا ،وما أقلنا ، وما أحوجنا إلى رحمة الله ، إنسان هذا خلقه ، وهذه أمه ، ثم يأتي الإنسان ، ويظن انه واحد العالم ، فريد العصر ، وان الناس ليسوا بشيء ، يركب الكبائر ، ويأتي بكل جرم ،وكل ما خطر له ، ويسنى تلك النشأة.
خلق الله حواء ، فالتفت آدم إليها بعد إن استيقظ ، فرآها بجانبه فعرف انها زوجته فسكن إليها ()وَمِنْ آياتهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أنفسكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً )(الروم: من الآية 21) لماذا سميت حواء ؟ قالوا : لأنها من الحياة ، والله اعلم .
قال الله لهم : كلوا من الجنة واسكنوا في الجنة ،وتمتعوا في الجنة ، هذه قصورها ، وهذه أنهارها، وهذه ثمارها ، وهذا كل ما لذ وطاب ، لكن هذه الشجرة لا تأكلان منها ، لماذا ؟ امتحان وابتلاء من الله ليرى عودتهم ، وليرى صدقهم ، وليرى إيمانهم .
ما هي هذه الشجرة ؟ اختلف أهل العلم فيها على أقوال .
قيل: السنبلة .
وقيل : العنب .
وقيل : التين .
وذلك كله لا يهم ، يقول ابن جرير : إن الله لم يحددها أسما بعينها ، ولم يسمها لنا ، ولم يأت بها قران ولا سنة فلماذا نتكلم ؟
فاحب شيء للإنسان ما منع عنه الآن ، لو تدخله غرفة مكيفة مفروشة ، عنده ما لذ وطاب من الطعام والشراب ومرتاح ، فتقول : أحذر لا تخرج من هذه الغرفة ، وإن خرجت عاقبناك عقابا أليما ، فيأتي ويقول : منعني من الخروج ، حبسني في هذا المكان ، حسنا الله عليه .
قال علي بن أبي طالب : لو منع الناس من فت البعر لفتوه .(/3)
ولذلك انظر إلى الخمر الآن ، تذهب العقل واللب وتفسد الأسر ، وتسبب المذابح بين الأهل والأقارب ، وترتكب بها الطامات، ومع ذلك يسافر لها بعض الذين لا يرجون لله وقارا ، ولا يخافون لله هيبة ، ولا رقابة ، يسافرون إلى بلادها ، بل بعض الناس بلغ الثمانين من عمره ، وهو يعاقر الخمر ويشربها ، وقد ذهب لبه وعقله وأرادته ، وهو ممنوع منها ، وكذا الزنا وكذا النظر إلى المحرمات والربا وغيرها ؛ لأنه منع .
وهذه هي التكاليف ، ولو كانت المسالة بلا منع ولا حظر ، لما كان هناك ابتلاء ، وكان الناس في الجنة ، وما عرف الطيب من الخير والمؤمن من الكافر .
فلما منعه الله ، أتى إبليس يوسوس له ، هذه العداوة ،والسؤال كيف دخل معه إبليس الجنة ؟
سبق ، وان ذكرنا ، انهم كانوا في السماء ، وخلق الله آدم في السماء ،ثم اسجد له الملائكة ، ورفض إبليس ، وجعل الله عز وجل آدم وحواء في الجنة وإبليس بمنأى ، فلما حذرهم الله من الشجرة أتى إبليس يوسوس لآدم وحواء ، فأين وسوس لهما ؟
لأهل العلم ثلاثة آراء وأقوال :
القول الأول : قالوا : هو مطرود محروم ، لكنه دخل يوسوس ولا يتنعم ، فهو مطرود من رحمة الله ، لكن جعله الله يذهب ؛ لأنهم سال الله إن يمهله ليغوي آدم وذريته إلا قليلا ، فانظره الله ، فهو يدخل بلا حجاب ، ويدخل بلا حرس ، ويدخل عليك وأنت في فراشك ، وأنت في السيارة والطائرة ، وهو معك يجري منك مجرى الدم .
والقول الثاني : قالوا : أخذته الحية ، حية شارقة مارقة ابتلعت إبليس ،ثم دخلت الجنة ، أوردها أهل التفسير .
والقول الثالث : قالوا : وسوس من بعيد ، ما دخل الجنة ، لكن اخذ يوسوس فوصلت الوسوسة .
والراجح، هو : الرأي الأول ، انه دخل مطرودا محروما لكن أتى يوسوس فانظر إلى وسوسته () وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ)(لأعراف: من الآية 20) فصدقه آدم .
الإنسان يصدق إبليس ، حتى الآن ، ولو كان مؤمنا ، يأتيك فيقول مثلا : جارك ما تكلم عليك بتلك الكلمة إلا لمقصد في نفسه ، ما هو مقصده ؟ قال : امتهانك واحتقارك والازدراء بك ، فيقول : صدقت ،ويذهب بسيفه وخنجره يقاتل جاره .
يغض طرفه في السوق ،قال : أنت ما نظرت إلى السحر الحلال ، لو نظرت إلى الجمال نظرة واحدة فقط ، حتى ترد نفسك بنظرة واحدة ، ينظر النظرة فيكون هلاكه فيها .
وتسمع الأغنية الماجنة يقول : ما عليك من الغناء ن هذا حلال ،والعلماء الذين قالوا بتحريمه ليس عندهم دليل ثابت ، اسمع وتمتع قليلا ، وأنت ما ارتكبت جريمة ، لا شربت خمرا ولا زنيت ، أنت تستمتع إلى أغنية ، فيسمع الذي يقول : هل رأى الحب سكارى مثلنا فيسكر ، ثم يزني ، ثم يرتكب الفواحش يدهده على وجهه في النار .
فوسوس لآدم ، فاستمع له آدم ، فأكل من الشجرة ،وأكلت حواء ، فلما أكلا سقط اللباس الذي يواري عوراتهما ، وعليهما لباس الجنة وحسن الجنة وحلي الجنة ، وبهاء الجنة تناثر في الأرض .
لا اله إلا الله ، ما أشده من موقف ، هذا موقف المسكنة ، موقف الذنب والخطيئة .
يقولون : إن يوسف ، عليه السلام ، لما هم بالمرأة وهمت به سمع هاتفا يقول : يا يوسف ، لا تزني فان من زنى كالطائر الذي عليه ريش نتف ريشه .
وهذه مغبة المعصية ، انظر كيف سلب الحياء والجمال والحلي وكل نعمة ، فأصبح في موقف هو وحواء عراة ، فأخذا أوراق الشجر ، عليه السلام ، وعليها السلام ، يغطيان عوراتهما من الناظرين إن كان ملائكة أو غيرهم ، فأتاهم الخطاب مباشرة ( اهبطا ) (طه :123) فالعصارة لا يجاورون الواحد الأحد ، وهذه ، والله ، اعظم مصيبة منينا بها .
يقول ابن القيم :
ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم
يقول : نحن سبينا من الجنة ، سبانا إبليس وأنزلنا في الأرض ، فيا ليت !! متى نعود لأوطاننا ، نحن أهل الأوطان أهل الأنهار أهل القصور .
يا راقدا يرنو بعيني راقد ومشاهد لأمر غير مشاهد
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي نزل النعيم وفوز خلد واحد
ونستي إن الله أهبد آدما من جنة المأوى بذنب واحد
فكيف بنا نحن وقد أتينا بعشرات من الذنوب ؟
فحي على جنات عدم فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم
هبط ، عليه السلام ، وانظر إلى الهبوط من علو من جنة الخلد ن هبط ووقع في الأرض ، ارض يابسة ارض قاحلة .
نقل أهل العلم ، عن ابن عباس : أما آدم فهبط في الهند ، وبيده غصن شجرة ، وقالوا : وأما حواء فهبطت بجدة ، ونقل غيرهم : هبط آدم على الصفا وهبطت حواء على المروة ،ولا يهمنا هبط هنا أو هنا ، فان المقصود : إن الله اهبطهم إلى الأرض ، أما آدم ، عليه السلام ، فهبط بغصن شجرة ، فنزل هذا الغصن فنبت في الهند ،فقالوا : كل بخور ، وكل طيب يأتي من الهند من آثار ذاك العود.
()وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّة)(البقرة: من الآية 35) .(/4)
اسكن لفظ فيه حياة ، ما قال : اقعد ، ولا قال : اجلس ، بل قال : اسكن ، وهذه الكلمة فيها من اليقين والطمأنينة والفرح والبشر ما الله به عليم ( اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً )(البقرة: من الآية 35) هنا ليس الرغد إلا في الجنة، قد يطلق مجازا على الدنيا : عيش رغيد ، لكن إذا سمعت الإنسان يقول : أنا في عيش رغيد مستمر ، فلا تصدقه .
هشام بن عبد الملك قال لوزرائه : تعالوا نحصي الأيام التي أتاني السرور فيها منذ توليت الخلافة ، تولى سنوات الخلافة ، فحسبها فوجدها ثلاثة عشر يوما ، سنوات كلها تصفي 13 يوما سلم فيها من النكود والزلازل والفتن والمحن ، يعني 13 يوما استقر حاله فقط .
فقال لوزرائه : لا جرم – يعني : لا جرم : لا ريب ، لا شك – أخلون غدا في بستاني ، وعلي الحرأسة لأسعد من الصباح إلى المساء .
قالوا : فخرج في بستان له في روضة دمشق وقال للحرس : لا تستقبلوا رسولا ، يعني : رسولا موفدا ، ولا تأذنوا لأحد ، ولا تسمعوني مشكلة واتركوني في هذا البستان يوما كاملا .
فجلس في هذا المكان من الصباح ، فلما قرب الظهر وإذا هو بسهم فيه دم وقع بجانبه ، فرفع السهم فوجده طار من اثنين تقاتلا خارج البستان وأتى إليه السهم ، قال : ولا يوم واحد – حتى يوم واحد – ما نسلم من المشاكل .
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت بانيها
إن بناها بخير طاب مسكنه وان بناها بشر خاب بانيها
يقول أبو الفتح البستي أحد العلماء :
يا عامرا لخراب الدار مجتهدا بالله هل لخراب الدار عمران
ومن العجيب ، انك تجد الشيخ الكبير ، عمره يناهز الثمانين ، ومع ذلك تجده حريصا على طلب الدنيا ولذلك قال r : ( يهرم ابن آدم وتشب منه اثنتان : الحرص على المال . والحرص على العمر )[4].
هذا هو الإنسان وهذه طبيعته ، ولا يعرف حقيقة الدنيا إلا من عرف الله ورسول الله والدار الآخرة .
عندما أتت هارون الرشيد سكرات الموت قال : أخرجوني أرى الجيش ، فخرج جيشه فإذا هم تسعون ألفا ، فنظر إليهم ، وقال : يا من لا يزول ملكه ارحم من زال ملكه .
الوليد بن عبد الملك بنى قصورا في دمشق ما يعلمها إلا الله ، وهو الذي وسع المسجد النبوي ووسع المسجد الأقصى ، وأتى بالمشاريع الهائلة ، بنى قصورا وحدائق لا يعلمها إلا الله ، فلما أتته سكرات الموت لبط وجهه في الأرض وضرب وجهه ، وقال : ()مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ) (الحاقة:28) )هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ) (الحاقة:29) وهذا عبد الملك بن مروان عندما حضرته سكرات الموت سمع غسالا ، بجانب القصر ، قال : يا ليتني كنت غسالا يا ليت أمي لم تلدني ، قال سعيد بن المسيب لما سمع الكلمة : الحمد لله الذي جعلهم يفرون الينا وقت الموت ولا نفر إليهم .
أما ميمون بن مهران وهو أحد الصالحين الكبار ، فقد حفر قبرا له في قعر بيته ، في حوشه في داره ، فإذا أراد أن ينام توضا ونزل في القبر وبكى كثيرا ، ثم خرج من القبر قال : يا ميمون ، عدت إلى الدنيا فاعمل صالحا .
()وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً )(البقرة: من الآية35)
هذا الرغد لا يكون إلا في الجنة ؛ رغد لا هم ولا غم ولا حزن ، فأهلها لا يبولون ولا يتغوطون ولا يمرضون ، ورشحهم المسك ، قلوبهم على قلب امرئ واحد ، خلا من كل حقد وحسد وغيظ وبغضاء ، لا يخافون موتا ولا جوعا ولا هرما ، ولا يصيبهم سوء أبدا (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أنفسهُمْ خَالِدُونَ (102) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأكبر وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) ) الأنبياء (101-103).
( وقلنا يا آدم اسكن ... فتكونا من الظالمين . قربا من الشجرة فظلما أنفسهما ، فنزلا إلى الأرض .
أولهما : الوضوء دائما إن تكون على طهارة الوضوء هذا حصن حصين .
الأمر الثاني : الأذكار ، الأذكار دائما وأبدا ، خاصة آية الكرسي ، فهي تحرق الشياطين ، والمعوذات وقل هو الله أحد ، ولا اله إلا الله محمد رسول الله ، ولا اله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، مائة مرة ، وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من قالها في يوم مائة مرة كتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة ، وكانت له عدل عشر رقاب ، وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ،ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به ، إلا رجل عمل بعمله أو زاد عليه ))[5].
ومن الحروز من الشيطان : إن تتبع أمر الرحمن من غض البصر ، وحفظ الأذن ، وحفظ اليد ، وحفظ البطن ، وحفظ الفرج ، فهذه من الحروز.
ومن الحروز أيضا : إن إذا غضبت فلا تتكلم ، وان تسكت ليزيل الله عنك سبحانه وتعالى وسوسة الشيطان .(/5)
()فَأَزَلَّهُمَاالشَّيْطَانُ عَنْهَا)(البقرة: من الآية36)) الشيطان من الجن على كل حال ، بعضهم يكون من الملائكة ، وبعضهم يكون من الجن ، لكن قال سبحانه وتعالى : (كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ)) الكهف 50) هذا الشيطان .
والشيطان ، فيه حجم كبير ، وحجم صغير على كل المستويات ، إذا كان الإنسان ضعيفا يرسل له شيطانا من الدرجة الثالثة ، وإذا كان الإنسان من الغليظين يرسل له شيطانا أقوى ، والمؤمن شيطانه ضعيف ، ضعيف جدا يقول : أنهكه وأضناه كالجمل الضعيف ؛ لأنهم كلما حاول الشيطان أن هذا العبد قال : استغفر الله ، وعاد إلى الله وتاب إلى الله ، و انهدم المبنى يجره معه ، فإذا أراد أن يدخله بيته ، قطع الحبال وفر ، فهو دائما في صراع.
ومن المؤمنين من لم يستطع لهم إبليس أبدا ،حاول وحاول ثم ترك ، أما بعض الناس فيأخذهم يمينا وشمالا .
رسولنا r يقول : ( كل منكم له قرين وكل به ) يعني: من الشياطين .
قالوا : حتى أنت ، يا رسول الله .
قال : ( حتى أنا ، لكن الله أعانني عليه فأسلم ))[6] ، أعانه الله على شيطانه فأسلم ، أعلن الإسلام فلا يأمره إلا بخير ، واما نحن فالقرين مضاد دائما ، لكن نتحفظ منه بالآيات والأحاديث .
يقول ابن عباس : الشيطان جاثم على قلب ابن آدم يأتي كالحية ، هكذا جاثم على القلب ، فإذا سكت وغل الإنسان وسوس ، وإذا ذكر الله خنس ، وهو يجري من الإنسان مجرى الدم .
(فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ )(البقرة: من الآية36) من النعيم المقيم وقرة العين ، أخرجهما إلى الدنيا .
( وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ) ، إذن : العداوة بين الناس قضاء كوني قدري من الواحد الأحد ، ولكن تزول العداوة بالإيمان ، والله عز وجل يقول : (وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ) [ هود : 118:119].
ولكل شيء آفة من ضده حتى الحديد سطا عليه المبرد
الحديد ، وهو الحديد ، سلط عليه الله المبرد ، وهذا يقسمه نصفين، كل شيء له عدو ، تجد الشاة ما تخاف من الحمار، ولا تخاف من الجمل ،لكن إذا رأت الذئب خافت وثبتت مكانها ، ولا تأخذ خطوة لأنهم عدوها ، والحمار له عدو وهو الضبع ، والثعبان للإنسان ، وهذه المواشي للأسود ولغيرها ، لكن هي فصائل .
يقول أهل العلم : من العداء الذي جعله الله في الأرض العداء الذي جعله بين الأجناس ، ولذلك نجد بعض الحيوانات تتوافق وبعضها تتعادى .
قال : ( بعضكم لبعض عدو ) فالله هو الذي جعل هذا العدوان لهذا الأمر ، والناس كذلك بينهم عداء ، والعداء على قسمين بين الناس :
قسم بحق ، وهو عداء أهل الحق لاهل الباطل (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً (31) ) [ الفرقان ] وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) [ البقرة ]
وأما العداء الباطل ، فعداء المؤمنين بعضهم لبعض وهذا يحصل ، ولكن على المؤمن أن يصلح ، وان يكظم الغيظ ،وان يحسن ، وان يحلم ،وان يصبر ، (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) [آل عمران ]
ويقول سبحانه وتعالى : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) [ الأعراف ]
ويقول سبحانه وتعالى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) [فصلت ]
يقول علي ، رضي الله تعالى عنه و أرضاه ، في معركة الجمل لما رأى طلحة مقتولا ، مسح التراب عن وجهه ،وقبله وقال : يعز علي ، يا أبا محمد ، أن أراك مجندلا على التراب ، ولكن أسال الله أن أكون أنا وإياك ممن قال فيهم الله عز وجل : (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) [ الحجر]
يعني : لابد من شيء بين المؤمنين ، حتى نجد من الدعاة والعلماء من يكون فيه غل ،لكنه ينزعه ، سبحانه وتعالى، يوم القيامة ، فيصبحون أصفياء إخوانا أصدقاء أحباء ، وهذا لا يكون إلا في الجنة ، ولكن في الدنيا لا بد أن يسود الإخاء ، يقول أبو تمام في مسالة الدين والإسلام :
إن كيد مطرف الإخاء فإننا نغدو ونسري في إخاء تالد
أو يختلف ما الغمام فماؤنا عذب تحدر من غمام واحد
أو يفترق نسب يؤلف بيننا دين اقمناه مقام الوالد
هذا هو نسبنا ، نسب الدين .
() بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ)(البقرة: من الآية36) تستقرون في الأرض ، ومتاع إلى زمن قريب ، ووالله ، انه زمن قصير ، وانه عيش بسيط سهل ، أنها كلمحة البصر .(/6)
عاش نوح ، عليه السلام ، ألف سنة ، فلما أتته سكرات الموت قالوا له : كيف وجدت الحياة ؟
قال : وجدت الحياة كأنها بيت له بابان ، دخلت من هذا وخرجت من هذا .
وقال علي ، وهو يبكي في ظلام الليل : يا دنيا يا دنية طلقتك ثلاثا ، عمرك قصير ، وسفرك طويل ، وزادك حقير ، اه من قلة الزاد ، وبعد السفر ،ولقاء الموت !!
كل الدنيا ليست إلا لمحة (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ إنكم كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) )[المؤمنون ]
(ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ) هي : الدنيا متاع فقط ، يعني خير متاع تتمتع فيه إلى حين ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، أو إلى حين الموت (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21)) [ ق ] ، فحين تفيض روحك فلا عليك من العالم أن يتأخر بعدك ، أو يتقدم إذا قامت قيامتك .
()فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة:37) يا رب ، لك الحمد ، ولك الشكر ، ولك الثناء الحسن .
أذنب آدم وانزل واهبط ، فاخبره الله بكلمات يقولها ليتوب الله عليه ، قال له : قل : (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16)) [القصص ] ، وقال له ولحواء قولا : (قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أنفسنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)) [الاعراف] ، فمد يديه ، عليه السلام ، وقال : ربنا أننا ظلمنا أنفسنا ، فان لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ، فتاب الله عليهما ، فمن فعل مثل أبيه في الذنب فليفعل مثله في التوبة .
( فتلقى آدم من ربه كلمات ) وقالوا : الكلمات ، هي : لا اله إلا الله سبحانك أني كنت من الظالمين .
وقولوا : الكلمات : لا اله إلا الله الحكيم العليم ، لا اله إلا الله رب العرش العظيم ، لا اله إلا الله رب السماوات والأرض رب العرش الكريم .
وقالوا : الكلمات قال : استغفر الله الذي لا اله إلا هو ، وكلها تدخل في الاستغفار ، إنما علمه الله كلمات فأنقذه بالكلمات ، وهذه هي التوبة ، وفي حديثه r مرفوعا : (( يا ابن آدم انك ما دعوتني ورجوتني على ما كان منك ، غفرت لك ولا أبالي ، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ، ولا أبالي ، يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ، ثم جئتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة )[7]
إن كان لا يرجوك إلا محسن فبمن يلوذ ويستجير المجرم
ما لي إليك وسيلة إلا الرجا وجميل عفوك ثم إني مسلم
وقال الأول :
سبحان من يعفو ونهفو دائما ولم يزل مهما هفا العبد عفا
يعطي الذي يخطئ ولا يمنعه جلاله عن العطا لذي الخطأ
انظر ما أكثر المعاصي : زنا ، وربا ، وقطيعة رحم ، وعقوق والدين ، وضياع أوقات ، وتفلت على أمر الله ، وترك للصلوات ، والرزق يأتينا من كل مكان.
يعطي الذي يخطئ ولا يمنعه جلاله عن العطاء لذي الخطا
( فتلقى آدم من ربه كلمات ) فقالوا آدم وقالتها حواء ، فغفر الله لهما وتابا عليهما ، انه هو التواب الرحيم ، ما أحسن الكلمات .
النصرانية تفتك الإنسان إذا أذنب قالت له : خزيت وبعدت ليست لك توبة ، واليهودية كانت التوبة عندهم قتل أنفسهم .
قال سبحانه وتعالى : (فَاقْتُلُوا أنفسكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ) [البقرة :54] ، والإسلام يقول لك : إذا أذنبت توضأ وصل ركعتين ، واستغفر الله من الذنب ، وتب توبة نصوحا(/7)
ما اسهل الإسلام وما ايسر الإسلام ،وما أوسع باب الله ، عطاؤه ممنوح ، فضله يغدو ويروح ، وبابه مفتوح ، ولذلك أرهقتنا الذنوب ؛ لأننا ما عرفنا طريق التوبة (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه انه هو التواب الرحيم )(وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أنفسهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135))[ آل عمران] ، (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أنفسهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53))[ الزمر ] ، ويقول تعالى في الحديث القدسي : (( يا عبادي إنكم تذنبون بالليل والنهار ، وأنا أغر الذنوب جميعا فاستغفروني اغفر لكم ))[8].
(()قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة:38) قلنا : اهبطوا منها جميعا من الجنة ، قيل : هبط آدم وحواء ، وبعضهم يقول : مع آدم وحواء الحية والشيطان () فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً )(البقرة: من الآية38) ما هو الهدى ؟
الهدى : دين الله الذي يبعث به رسله ، كل الرسل اتوا بالهدى وكل له شريعة، وهم يتفقون انهم أتوا بالإسلام ( فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(البقرة: من الآية38) .
ما الفرق بين الخوف والحزن؟
الخوف على أمر مستقبل تخاف من أمر يأتيك ، والحزن على أمر فات ، فلا خوف عليهم ،ولا هم يحزنون ،وهذا كقوله سبحانه وتعالى (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً )[طه : 123،124]
قال ابن عباس : كتب الله ، عز وجل ، على نفسه أن من اتبع هذا القران ، فاحل حلاله وحرم حرامه ، أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً)[طه : 124] معه دراهم ودنانير ودور وقصور وسيارات ، لكن عليه الضنك ، وعليه اللعنة ,وعليه الغضب (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آياتنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126))[طه ]
( قلنا اهبطوا منها جميعا فأما يأتينكم مني هدى ) ، وقد أتى والله .
والله لقد أسمعت دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم راعي الغنم في الصحراء .
والله ، لقد سمعت بدعوته العجائز في بيوتهن ، وفي خدورهن.
والله ، لقد نفذ إلى العاتق من النساء ، إلى البكر من النساء ، إلى العذراء من النساء .
من دعوته ما وصل علماء الصحابة في مدينة الرسول r .
والله ، لقد سارت دعوته مسير الشمس ، ومسير الليل والنهار ، فما هو عذرنا إذا قلنا ما آتانا ، ما بين لنا ، ما وضحت الطريق ،ولا والله قد وضحت كل الوضوح ،وقد بينت كل البيان (لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70))[يس] فمن هو الحي ؟؟ أهو الذي يأكل ويشرب ويزمر ويغني لياليه وأيامه ؟ هذا صحيح يسمى حيا مجازا ، حياة الشاة لأنه يأكل ويشرب ، لكن قلبه ليس بحي (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا) [الأنعام : 122] لا سواء ، فالحياة هنا هي حياة الإيمان ، حياة القران ، حياة الذكر ، حياة الاتصال بالله ، حياة حفظ الوقت ، حياة طلب العلم ، حضور مجالس الخير ، واستماع إلى كلام الخير ، هذه هي الحياة أما غيرها فهي حياة (الخواجات ) .
والله ، كيف ينعم الإنسان كيف يهدأ باله وهو ليس مستقيما ؟ والله ليس راض عنه ، تجد عنده قصور ،عنده دور ، عنده مناصب ، لكن الله غضبان عليه من فوق سبع سماوات ، كيف يهدأ ؟ كيف يرتاح ؟ وبعد أيام يرتحل إلى الله (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94))[الأنعام] أتى r يخرج الناس من الظلمات إلى النور ، فمن أطاعه اهتدى ، ومن عصاه تردى .
حوار في السماء
يقول الله تبارك وتعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29))[البقرة](/8)
هذه الآية يستدل بها أهل العلم على أن كل ما في الأرض فيه الإباحة ،وانه مباح ، وهي قاعدة أصولية أخذوها من هذه الآية .
إن الله عز وجل قد احل الطيب المفيد وحرم الخبيث الضار ، وقوله تعالى : ( خلق لكم ) فلكم هنا للملكية أي : مباحا لكم وطيبا لكم ، ومهيئا لكم ؛ بشرط أن يكون هذا الشيء نافعا ومفيدا ، أما إذا كان ضارا فلا ، بل هو محرم .
وإنما ذكر الله هذه الآية ؛ كما قال أهل التفسير بعد قوله ، سبحانه وتعالى : ()كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ)(البقرة: من الآية28)) ليذكر منته على الخلق سبحانه وتعالى .
()هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً)(البقرة: من الآية29)).
جميعا :تعود إلى ما في الأرض .
وبعضهم يقول : تعود إلى الناس : لكم أيها الناس جميعا .
والأقرب : أنها تعود على ما في الأرض .
() ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ)(البقرة: من الآية29)) فسبحان الخالق ! ولكن نحن لا نتدبر ولا نتفكر ولا نعي .
يقول بعض أهل العمل : إن المساس يبطل الإحساس ، فمن كثرة تعودنا على رؤية السماء ، ورؤية القمر ، ورؤية الشمس ، ورؤية النجم ، أصبحنا لا نتدبر ولا نتفكر ، لكن إذا خرج مصنوع جديد صنعه الإنسان تفكرنا فيه وتدبرنا.
أعرابي يمشي في ليلة من الليالي ، ليلة مظلمة ، وفجأة طلع عليه القمر ، والقمر أزهى شيء عند العرب ، فدائما يشيدون به في أشعارهم ،ودائما يصفون الجمال بالقمر والبدر ، فنظر في القمر ، وقال : سبحان من سواك ! سبحان من رفعك ! إن قلت : جملك الله فقد جملك الله ، وإن قلت : رفعك الله فقد رفعك الله ،وإن قلت : بهاك الله وحسنك الله فقد حسنك الله ، والمقصود أن ما يعتاده الإنسان لا يأبه به دائما لطول العهد.
() ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ )(البقرة: من الآية29)) ربما يقول أحدكم : هذه تدل على استواء الله على العرش .
فأقول : هذه الآية لا تدل على ذلك ، بل غيرها يدل على ذلك بوضوح ؛ كقوله ،سبحانه وتعالى (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5))[طه] فهذه هي التي تدل على ذلك.
أما هذه الآية فقالوا : أي : قصد ، سبحانه وتعالى ؛ لأنه عدى ذلك بإلى.
وهنا سؤال يطرح بين طلبة العلم : هل خلق الله الأرض خبل خلق السماء ؟ أم العكس ؟ فهو سبحانه يقول : ( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات ) فكأن الأرض خلقت قبل السماء .
لكن في آية أخرى يقول سبحانه وتعالى (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11))[فصلت] ، ويقول سبحانه وتعالى (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30))[النازعات] ، وقبلها قوله : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27)) .
فان في هذه الآية : دلالة على أن الأرض خلقت بعد السماء.
وفي آية البقرة : دلالة على أن السماء خلقت قبل الأرض . فما هو الجواب لهذا التساؤل؟
قد أجاب عن هذا حبر الأمة ، وترجمان القران ابن عباس ، رضي الله عنهما : بان الله خلق الأرض ، ثم استوى إلى السماء ، ثم دحا الأرض ، سبحانه وتعالى ، فالأرض أخذت مدة يومين ، والسماء أربعة أيام ، فكلها ستة أيام .
قال : () ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ )(البقرة: من الآية29)) . هنا لم يذكر ، سبحانه وتعالى ، الأرض .
وذكر ، سبحانه وتعالى ، في القران (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)[ الطلاق 12] يعني : سبع اراضين مثلهن ، ومما اكتشف ، كما سمعنا من كثير من الثقات الذين اعتنوا بعلم الهيئة والجيولوجيا ، أن الأرض سبع طبقات طبقة على طبقة ، وكل طبقة لها لون آخر ، ولها مزاج آخر ، ولها تكيف آخر ، ولها تضاريس تختلف عن الأخرى .
إما السماوات ؛ فهي سبع مرتفعة ، بين السماء والسماء مسيرة خمسمائة عام.
وبعض أهل العلم يقول : سماء من حديد ، وسماء من نحاس ، وسماء من فضة ، لكن ما علمت على هذا دليلا من المعصوم صلى الله عليه وسلم ، لكنها كواكب تدور فيها.
وقد راى r السماوات السبع ، وقابل فيها الملائكة والأنبياء السابقين ، كما في حديث الإسراء .
أسرى بك الله ليلا إذ ملائكته والرسل في المسجد الأقصى على قدم
كنت الإمام لهم والجمع محتفل اعظم بمثلك من هاد ومؤتمم
لما خطرت به التفوا بسيدهم كالشهد بالدر أو كالجند بالعلم
حتى بلغت مكانا لا يطار له على جناح ولا يسعى على قدم
فبلغ r منزلة علية .
قال ، سبحانه وتعالى : (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ) [البقرة 29] فبعد أن خلق الله الأرض أتى إلى السماء ، فسواهن سبع سماوات وخلقها بلا عمد ترونها .
يقول بعض أهل العلم : (بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا) [ لقمان 10] .
لها عمد لكن لا ترونها ، ولكن الصحيح بلا عمد ، هكذا قائمة على قبة الفلك.
فانظر : هل ترى في خلق الرحمن من تفاوت ؟(/9)
فانظر : هل ترى فيها من فروج؟
فانظر : هل ترى فيها من عيب؟
لان الذي بناها هو الله ، ولو كان مخلوقا لرأيت النقص ولرأيت العيب.
ولذلك يقول بعض العلماء : لا يخلو عمل ابن آدم من نقص (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82)) [النساء] .
أتى رسام هندي إلى ملك من ملوك الهند بلوحة ، قد رسم فيها سنبلة قمح ، ثم رسم على السنبلة عصفورة ، ثم عرضها للناظرين ، فأعجبت المشاهدين فهل الملك من حسن الرسمة.
فأخذها هذا الملك وعرضها للناس ، وأعطى ذاك الرجل جائزة ، وقال للناس : من أراد منكم أن ينظر فلينظر.
فاجمع أهل الهند على أن لا عيب فيها .
فأتى رجل من غير الهند اعور ، فدخل عند الملك وقال : رأيت عيبا باللوحة!.
قالوا : ما هو العيب ؟
قال : العصفور إذا نزل على السنبلة تميل ولا تبقى مستقيمة ، وهذا لما رسمها جعلها مستقيمة!
قال الملك : صدقت وشطب على اللوحة ، واسترد الجائزة من الرسام !
قوله : () وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(البقرة: من الآية29))فيها قضايا :
أولها : أن هذا عام لا مخصص له ؛ فالله عليم بكل شيء .
وإذا قلت للإنسان : انك بكل شيء عليم ، فلا بد من مخصص ؛ لقوله تعالى : (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)) [يوسف] .
ولكن من معتقد أهل السنة والجماعة : أن الله مع علمه بائن عن خلقه ، مستو على عرشه.
ومن زعم أن الله حال مع خلقه ، قد افترى على الله ، وكذب على الله .
بل الله ، عز وجل ، موصوف بصفات الكمال ، مستو على عرشه ، ينزل كل ليلة في ثلث الليل إلى سماء الدنيا ، فينادي فيقول : هل من سائل فأعطيه ؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ هل من داع فأجيبه ؟ فإذا طلع الفجر عاد سبحانه عودة تليق بجلاله ، ونزولا يليق بجلاله ، لكن لا يغيب عنه شيء فهو يعلم السر وأخفى .
فما تناجى متناجيات إلا علم الله ما دار بينهما ، وما فكرت أنت فيه علم ما فكرت فيه ، وهو يعلم السر و أخفى.
قالوا : ما أخفى من السر ؟
قيل : الشيء الذي تريد أن تفكر به.
وقف صفوان بن أمية عند ميزاب الكعبة مع عمير بن وهب ، وهو يحاوره فقال : أتقتل محمداً؟
قال : اقتله ، لكن من لي بأطفالي وذريتي وزوجتي.
قال : اهلك أهلي ، وأطفالك أطفالي ، اذهب واقتله ، وأنا أكفيك أطفالك.
فذه وتسلح بسيفه ،ولكن غارة الله أقوى من عمير بن وهب.
يا غارة الله جدي السير مسرعة في سحق أعدائنا يا غارة الله
وصل إلى المدينة ، يحمل قلبا كله حقد ، وكله ضغينة ، وكله بغضاء ، يريد الانقضاض على سيد البشر ليقتله ، ليرتكب اعظم جريمة ، واعظم لعنة في التاريخ ، فدخل المدينة ، رآه الرجل المسجد الملهم عمر بن الخطاب.
قد كنت اعدى اعدايها فصرت لها بفضل ربك حصنا من اعاديها
فانطلق إليه عمر ، وكان رجلا سديدا ملهما ، فأخذ بتلابيبه وأتى يجره حتى ادخله المسجد.
فرآه r فقال : (( اتق الله يا عمير بن وهب ما لك ؟))
قال : يا رسول الله أتيت لأفك الاسارى اسارى بدر ، وأفك أصحابي من الاسارى.
قال : (( كذبت وإنما جلست أنت وصفوان بن أمية تحت ميزاب الكعبة ، فقال لك : كيت وكيت ، وقلت له : كيت وكيت )).
قال : اشهد أن لا إله إلا الله ، واشهد انك رسول الله[9] ! (يَا أيها النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)) [التحريم] إلى قوله : (قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3)) [التحريم] فقد آخره تعالى بما تبيته عائشة وحفصة رضي الله عنهما ، له .
يا من يرى مد البعوض جناحها في ظلمة الليل البهيم الاليل
ويرى نياط عروقها في جسمها والمخ في تلك العظام النحل
اغفر لعبد تاب من زلاته ما كان منه في الزمان الأول
فعلمه ، تعالى ، وسع المخلوقات ، وما علم الناس في علمه ، سبحانه وتعالى ، إلا كما يأخذ العصفور من البحر بمنقاره مرة واحدة.
ذهب موسى رضى الله عنه والخضر رضى الله عنه في رحلة بحرية ، فأتى عصفور فأخذ بمنقاره قطرة ماء .
فقال الخضر لموسى : يا موسى أتدري ما مقدار علمي وعلمك في علم الله ؟ قال : الله اعلم .
قال : كما أخذ هذا العصفور من هذا الماء[10] .
هذا علم المخلوق إلى علم الخالق ، سبحانه وتعالى .
قال سبحانه وتعالى : ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)(البقرة: من الآية30) الآن ابتدأت قصة أبينا المجهود التائب إلى الله ، ومن يشابه أباه فما ظلم!
فما معنى الخليفة ؟ قالوا : هو آدم .
والصحيح : أن الخليفة ، يعني : قوما يخلفون قوما ، وهذا الذي رجحه ابن كثير ؛ كما قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) [الأنعام 165] فبعضنا يخلف بعض قرنا بعد قرن ، وجيلا بعد جيل ، وأمة بعد أمة .
قال الشاعر :
خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد
صاح هذه قبورنا تملأ الرحب فأين القبور من عهد عاد(/10)
يقول : قبورنا ملأت الدنيا فكيف بالقبور التي سلفت وسلفت وسلفت ؟
وحكمة خلق الخليفة أن يسكن الأرض لمقاصد:
منها : أن يعمر الأرض كما قال تعالى : (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) [هود :61] .
ومنها : أن يأتي من ذرتيه الأنبياء والرسل صلى الله عليه وسلم والشهداء والعلماء والصائمون والمصلون .
ومنها : أن يبتليه ، سبحانه وتعالى .
كما قال : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإنسان مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2))[الإنسان].
ومنها : أن يظهر ، سبحانه وتعالى ، قدرته للعالمين ، لأنه لا يكون الملك ولله المثل الأعلى ملكا ، إلا إذا كانت له رعية يتصرف فيهم يقتل هذا ويعفو عن هذا ، ويعطي هذا ويولي هذا ويعزل هذا .
فالله أراد أن يظهر سلطانه في الأرض ، وحكمته البالغة وقدرته النافذة ، ويظهر رحمته وعقابه فأتى بآدم.
ومنها : انه أراد سبحانه وتعالى أن يظهر غفرانه ، ويظهر شديد عقابه ، فانه الغفور الرحيم شديد العقاب ، فكيف نعرف انه غفور رحيم إذا لم يغفر ؟
( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ )(البقرة: من الآية30)) هذا مجتمع من الملائكة الأطهار في السماء ، ومن حكمته سبحانه وتعالى انه لم يجعل في الأرض من الملائكة ، ولم يجعلهم من الجن ولا من الحيوانات ؛ لان الحيوان شهوة بلا عقل ، والملك عقل بلا شهوة ، والإنسان عقل وشهوة ، فإذا أطاع ارتقى إلى افضل من الملائكة ، وإذا عصى انحدر تحت البهائم.
وذكر عن بعض المفسرين أن الملائكة قالت : يا رب ، لو أنزلتنا في الدنيا كنا حبسنا شهواتنا وما عصيناك أبدا .
فقال ، سبحانه وتعالى : ( إني اعلم ما لا تعلمون ).
فانزل الله ملكين ( هاروت وماروت ) وأعطاهم الشهوة مع العقل .
فلما نزلا في الأرض جلسا في المحكمة يحكمان بين الناس ، فأتت امرأة جميلة ، فتنت هاروت وماروت ، فبقيت بهما حتى زنيا بها.
فخيرهم الله ، عز وجل بين عذاب الدنيا وبين عذاب الآخرة .
قالوا : نريد عذاب الدنيا فنكسهما ، سبحانه وتعالى ، في بئر هاروت وماروت في العراق بأرجلهما .
والقصة ذكرها مجاهد بسند ضعيف كما في (( سير أعلام النبلاء )) ، وذكرها كثير من المفسرين[11] .
المقصود: أن الله علم انه لا يصلح للأرض إلا آدم وذرية آدم.
والقرطبي يذهب إلى أن إقامة الخليفة واجب بهذه الآية ، وفي استدلاله نظر ؛ لان الخليفة هنا هو الذي يخلف بعضهم بعضا .
() قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ)(البقرة: من الآية30)0
كيف تعترض الملائكة على الله عز وجل ؟
كيف وقد قال ، تعالى عنهم في آية أخرى : (لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6))[التحريم ].
والصحيح : أن هذا ليس اعتراضا ، وإنما أرادوا أن يظهر الله لهم الحكمة .
قم لماذا قالوا : ( يفسد فيها ) فما هو دليلهم على انه سوف يكون فساد؟
قال بعضهم : إن الجن عمرت الأرض فترة من الفترات ، فتقاتلوا وافسدوا في الأرض ، فظنت الملائكة أن آدم سيكون مثلهم ، ذكر هذا ابن كثير وغيره.
والإفساد يكون بالمعاصي والظلم والمنكرات.
(وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ) فكأنهم يقولون : نحن أولى منهم فنحن أهل التسبيح والتقديس.
قال سبحانه وتعالى : (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ أي : اعلم حكمة لا تعلمونها ، واعلم سرا لا تدركونه ، واعلم مقصدا لا تصلون إليه .
قال أهل العلم : مما علمه ، سبحانه ، من هذا انه سوف يكون من ذرية آدم : رسل ، وأنبياء ، وشهداء ، وعلماء ، ودعاة ، وصالحون ، كإبراهيم وموسى وعيسى ونوح ومحمد ، عليهم الصلاة والسلام ، وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي ومعاذ وزيد بن ثابت ، ومالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد ، وابن تيمية وابن القيم وابن كثير ، وأمثالهم كثير .
قال تعالى : ()وَعَلَّمَ آدَمَ الْأسماءَ كُلَّهَا )(البقرة: من الآية31) أراد الله ، سبحانه وتعالى ، أن يجعل خصيصة لآدم ، فعلمه الأسماء كلها : أسماء البشر والحيوانات والمخلوقات .
قال ابن عباس : علمه اسم كل شيء : البقرة والحمار والفرس ، فهذا الجبل اسمه جبل، وهذه سارية ، وهذا مسجد ، وهذه شجرة ،وهذه زهرة ، وهذا ماء ، وهذا رجل ، وهذا طير ، وهذه دابة إلى غير ذلك من الأسماء .
ففي الحديث عن النبي r : (( أن موسى عليه السلام التقى بآدم فقال له : يا آدم أنت أبونا خلقك الله بيده ،و أسكنك جنته ، وعلمك أسماء كل شيء ))[12].
لأن الخليفة والمسؤول لا بد أن يكون على علم وبصيرة ،ولذلك لما اختار الله لنبي إسرائيل طالوت قالوا : كيف يكون علينا ملكا ، ولم يؤت سعة من المال ؟
قال الله : (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ )[البقرة 247] ففي العلم عالم ، وفي الجسم كذلك طويل يصلح للملك .(/11)
والحسن من كرم الوجود وخيره ما أوتي القواد والزعماء
() ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ)(البقرة: من الآية31)) أتى سبحانه وتعالى بالحيوانات والحشرات والدواب والعجماوات ، وقال للملائكة : ما أسماء هؤلاء ؟
فسكتوا ، ثم قالوا : لا ندري ، اله اعلم ، ( فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأسماءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)(البقرة: من الآية31)) أي : صادقين في إنكم أولى بالخلافة في الأرض ، وسكون الأرض من آدم .
أو إنكم اعلم من آدم .
(قَالُوا سُبْحَانَكَ )(البقرة: من الآية32)) ما احسن الرد ، (سُبْحَانَكَ) تنزيه له تعالى عن النقص .
( لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا )(البقرة: من الآية32) فهذا أدب طالب العلم أن يقول : لا علم لنا إلا ما علمنا الله ، والله اعلم ، ولا يتسرب بالفتيا ، ولا يفتي بجهل ؛ لأنهم سو يخطئ ، ويصيبه من الخذلان والحرمان ما الله به عليم ، وينطفئ نوره ، ويأخذ ذمم وحجج الناس على كتفه ، ويكون جسرا إلى جهنم للناس .
ولذلك كان الصحابة من اشد الناس حذرا من الفتيا ، فكانوا يتدافعون الفتيا .
ويقولون : كان يتغير وجه الواحد منهم إذا سئل عن مسالة يخاف أن يغلط فيها .
قال علي ، رضي الله عنه : ما أردها على صدري إذا سئت عن مسالة لا اعرفها ، فقلت : لا ادري .
قالوا : نضرب لك أكباد الإبل من العراق ، وتقول : لا ادري .
قال : اذهبوا إلى الناس ،وقولوا لهم : مالكا لا يعرف شيئا ! ()قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (البقرة:32) فعلم بلا حكمة اضطراب ، وحكمة بلا علم جهل ، والإنسان يجمع في اصله بين صفتين : ظلوما جهولا .
قال ابن تيمية : ظلوما : يحكم بلا عدل ،وجهولا : يحكم بلا علم .
ولذلك يشترط في الحاكم أن يكون عالما عادلا ، وهما صفتان جميلتان جليلتان .
()قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأسمائِهِمْ )(البقرة: من الآية33) أي : بأسماء هؤلاء المخلوقات ، ) فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ)(البقرة: من الآية33)
فالباطن لا يعلمه إلا الله ، أما الظاهر فيعلمه الناس (يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخرة هُمْ غَافِلُونَ (7)) [الروم] (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخرة بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66))[النمل] .
وفي هذه الآية : شرف العلم ، وانه من اعظم المطالب في الحياة ، وان من جلس في حلقة العلم عند أهل العلم جميعا هو افضل ممن تنفل ، ومن يصلي ومن يقرأ القرآن وحده .
وأن من طلب مسالة ليعمل بها ، ويرفع الجهل عن نفسه فهو احسن من أن يركع سبعين ركعة.
واللم له وسائل ، فلا يكفي القراءة وحدها ، ولا يكفي الجلوس عند العلماء ، ولا يكفي حضور الدروس والمحاضرات ، بل تجمع الجميع : التدبر والحفظ والجلوس مع العلماء ، ولو كانوا اقل منك علما وبصيرة ، فإن الله يمنحك بالجلوس في مجالس الذكر والعبادة فتحا عظيما ، حتى يقول معاذ في سكرات الموت : ما كنت احب الحياة إلا لمزاحمة العلماء بالركب في حلق الذكر .
وكان معاذ يجلس في حلقة بعض الناس الذين هم اصغر منه علما واقل فقها ؛ ليفتح الله عليه من المعارف.
فعلى المسلم أن يحرص على طلب العلم ، وان يقوي علمه ومطالعته ، وان يكون عنده وسائل عديدة في العلم .
الغريق
قال ، سبحانه وتعالى (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وأنتمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وأنتمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)) [البقرة] .
لا زال الحديث مع بني إسرائيل ، ولا زال الخطاب لبني إسرائيل ، حيث يحدثهم الله بنعمه عليهم فيناديهم قائلا :
أما نجيناكم من آل فرعون ؟
أما واعدنا موسى وأعطيناه التوراة لمصلحتكم ؟
أما عفونا عنكم ؟
أما فرقنا بكم البحر ؟
أما فعلنا وفعلنا ؟
فلماذا هذه الجرائم ؟ ولماذا هذه العظائم ؟
فهي - ولله المثل الأعلى – كأن تؤدب ابنك ، فتقول : أما علمتك ؟ أما بنيت لك بيتا ؟ أما اشتريت لك سيارة ؟
وفي هذه دروس أولها :
مجمل القصة أن موسى ، عليه السلام ، يقاتل قتالا بريا وبحريا ، وصراعا ميدانيا وعلميا ، يرسله الله أي فرعون في ديوانه ، وفي إيوانه ، وفي قصره،ويجعل معه أخاه هارون ؛ لأنهم افصح منه لسانا ،وهو لا شك افضل من أخيه .(/12)
وقال بعض المؤرخين بأن هارون أكبر منه بسنة ، ولكن الله اصطفاه دونه .
فقال له : (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24)) ، فقال : (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25)) لأنهم أمر صعب وتكليف لا يحتمله .
تخيل انك راعي غنم ،ومعك عصا تهش بها على غنمك ، ثم تكلف بالدخول على طاغية من طغاة الدنيا ، هو فرعون حاكم مصر ، وحرسه كما قال أهل العلم : ستة وثلاثون الفا ، منتشرون في كل مكان ،بجوار القصر وخارجه وداخله.
قال : (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26)) ما أحسن الدعاء ! الله هو الذي ألهمه أن يدعو بهذا الدعاء ، (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27)) يا رب أنت تعلم أن لساني يتلعثم فحله لي .
قال الحسن البصري : رحم الله موسى ، ما سأل إلا أن تحل عقدة واحدة من لسانه .
وسبب طلبه من الله أن يحلل هذه العقدة ؛ كما قال موسى : (يَفْقَهُوا قَوْلِي) ليفهموا قوله ويفقهوه ، ولم يقل : اجعلني اعظم خطيب في مصر ، ولا افضل متحدث في مصر ، ولكن (يَفْقَهُوا قَوْلِي) فقط لأبلغ الرسالة.
(وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29)) يساعدني ، ويكون من أهلي ؛ لأنهم لو كان من غير أهلي ربما كان حاقدا أو حاسدا .
ثم عينه باسمه ؛ لان اهله كثيرون ، كبار وصغار وأبناء عمومة وأقارب فقال : (هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً (35)).
فجاء الجواب مباشرة (قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36)) لم يقل سؤالاتك ، لأنها سؤال واحد في علم الله (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أراد شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82))[يس ]
(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37)) فبدأ اله من هذه الآية يذكره بشريط حياته ، وبتلك النعم التي أسداها له في الماضي لعله يتذكرها ولا ينساها ، فيشكر ولا يكفر .
لما ذهبا واصبحا في عرض الطريق أوصاهما الله بأدب الدعوة ، فقال : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44))انتبهوا من الخبيث لينوا في الخطاب ، وعليكم بالأسلوب السهل ، والله يعلم في علم الغيب أن فرعون لا يؤمن فهو من أهل النار .
لماذا ؟ (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23))[الانفال] فيقول موسى وهو في الطريق وفرائصه ترتعد ، فهناك أمامه سيوف ورماح وخناجر ، وجيش وأسطول ، وفرعون وهامان وقارون ،فقال هو وأخوه : ()قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى) (طه:45) أي : أن يستعجل بالعقوبة أو أن يطغى في الحكم.
قال الله – وما احسن العبارة - : ( إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)(طه: من الآية46)) .
لا إله إلا الله ! انتم في الإيوان ،وعلمي معكم .
انتم في الصحراء ، وأنا معكم بعلمي وإحاطتي .
انتم في البحر وأنا معكم بعلمي (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا)[المجادلة 7] الله معكم بعلمه و إحاطته وشهوده.
الزم يديك بحبل الله معتصما فانه الركن إن خانتك أركان
ثم كان اللقاء التاريخي المشهود بين فرعون رئيس الضلالة ، وبين موسى كليم الله ، فكان ما كان من إظهار الحجة أمامه ، ومشاهدته لمعجزة العصا واليد .
ففكر وقدر ، فاختار المبارزة في الميدان أمام الجموع الهائلة والحشود الضخمة ، لتكون النهاية الفاصلة : إما الهزيمة ، وإما الظهور في الأرض .
فتواعدا ضحى يوم الزينة ،وهو يوم العيد الأكبر عندهم .
فجاء السحرة من كل مكان تلبية لسلطان الزمان ، وربهم الأعلى فرعون ، واصطفوا متهيئين للانقضاض بسحرهم على عصا موسى ؛ التي سمعوا بها ، وما رأوها ، وظنوها كحبالهم التي معهم .
فاختار موسى أن يلقوا هم بالأول لكي تكون الخاتمة له ، وهذا من حكمته أن يجعلهم يخرجوا ما في كيدهم ،وآخر ما عندهم من حيل ومغالطات.
ثم يأتي هو فيقصم ظهرهم بعد أن عرف منتهاهم .
فألقوا حبالهم ، فكانت تتراقص كالحيات ، وهذا أقصى ما لديهم أن يجعلوا الحبال تتراقص ويسحروا أعين الناس بها .
فألقى موسى عصاه بعد أن داخله شيء من خوف طبيعي ينتاب البشر لما رأى حياتهم الكثيرة .
فقال له تعالى : (لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى)(طه: من الآية68) الأعلى مكانة ، والأعلى حجة وغلبة .
فالقى العصا ، فأخذت تلتقم سحرهم وحبالهم واحدة تلو الأخرى ، فدهش السحرة ؛ لأنهم لم يروا في حياتهم منظرا كهذا ، قد خبروا السحر وعلموه ، ولكنهم في حياتهم كلها التي ضاعت بين تلكم الخزعبلات لم يشاهدوا كمثل هذا اليوم .
فعلموا انه ليس بسحر ، وإنما معجزة من رب الأرباب .(/13)
فخروا سجدا لله رب هارون وموسى.
فكانت النهاية الأليمة لفرعون وحزبه ، عندما انهارت على رؤوسهم الحيل والتدابير .
فلما سقط الخيار الجدلي ، كان لا بد عند فرعون أن يختار الفصل والحسم العسكري ، أمر بمطاردة موسى وقومه بعد أن تشاور مع وزرائه ، فأتوه بذلك لكي لا يكسب مزيدا من الناس حوله .
فخرج فرعون بجيش قوامه كما يقال ألف ألف ، وأما موسى فلم يكن معه إلا بني إسرائيل من الأطفال والنساء وقليل من الرجال ، ولكن الله معه.
فلما بلغ موسى وقومه البحر رأوا عجاجة في السماء ، فالتفتوا فإذا فرعون وجيشه ، وقد اقتربوا منهم ، فجزعوا وهلعوا من الموقف ، فالبحر أمامهم ، وفرعون وجنوده من خلفهم .. فأين المفر .
أما موسى فقد علمه الله طيلة تلك السنين انه ناصره في كل موقف .
فأصبح هذا عنده عقدية ويقينا فقال : (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)) أي : لن يضيعني في آخر الجولة بعد أن كان معي سابقاً.
فاقترب موسى من البحر وضربه بعصاه انفلق ، واصبح كالجبل العظيم ، وحسر عن القاع وبنو إسرائيل ينظرون مبهوتين دهشين من هذا المنظر .
فأمرهم موسى بالدخول في البحر والمضي ، بعد أن جعله الله طريقا يابسا ، فسلكوه وهم لا زالوا في عجبهم .
وأما فرعون فانه اقترب من البحر ولم يعثر على موسى وقومه ، وإنما شاهد هذا المنظر الغريب الذي يشاهده لأول مرة ، فتقهقر في البداية .
وفي هذا الموضع يورد المفسرون بعض الأخبار الإسرائيلية التي لا باس بالاستئناس بها؛ لأنها لا تعارض نصا عندنا ، وإنما هي من جملة الأخبار .
قالوا : إن فرس فرعون رأى بغلة في البحر ، قيل : بغلة كان يركبها جبريل فأرادها ، لأن الفرس يهيج عند رؤية البغلة ، فاقتحم بفرعون البحر ، فتبعه الجنود لأنه قائدهم ، فلما اكتملوا في وسط البحر انصك عليهم واضطرب ، فقتلوا جميعا جزاء نكالاً.
فقال فرعون في اللحظات الأخيرة : (آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ)[يونس :90] .
ولكن لم ينفعه ذلك (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91))[يونس 91] فلفظه البحر جثة ميتة ليراها من خلفه ، ويعلموا انه رجل حقير لا يستحق أن يجعل ملكا ، فضلا عن أن يجعل ربا الها .
فقال تعالى مذكرا بني إسرائيل بهذه النعمة العظيمة عندما اهلك عدوهم الطاغية فرعون وآله وجنوده (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49))[البقرة] .
والنجاة معنوية وحسية :
فالحسية أن تنجو من العذاب ، ومن السجن ، ومن المرض.
وأما المعنوية فان تنجو من الفسق ، ومن المعصية ، ومن المعتقدات الباطلة.
يقول حسان ن رضي الله عنه ، في هجو الحارث بن هشام ، الذي كان من سادات قريش:
إن كنت كاذبة الذي حدثتني فنجوت منجى الحارث بن هشام
ترك الاحبة أن يقاتل دونهم ونجا بفضل طمرة ولجام
أي : انه فر يوم بدر على خيل له ، وترك أهل بدر من المشركين يقتلهم المسلمون ، فلم يدافع عنهم .
وقال معاوية ،رضي الله عنه :
نجوت وقد بل المرادي سيفه من ابن أبي شيخ الأباطح طالب
أي :أن الله نجاني يوم مقتل علي ، رضي الله عنه ؛ لأن الخوارج كان في مخططهم أن يقتلوا عليا ومعاوية وعمرو بن العاص ، رضي الله عنهم جميعا ، ولكنهم لم يستطيعوا إلا قتل علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، لحكمة قدرها الله .
فقال معاوية هذا .
قوله :( يسومونكم سوء العذاب )[ يعني: تلقون منهم شدة ومشقة وعنتا ، وهو اشد العذاب لا اقله .
يقول عمرو بن كلثوم في (( معلقته ):
إذا ما الملك سام الناس خسفا أبينا أن نقر الخسف فينا
يقول هذا عندما ذهب هو وأمه إلى عمرو بن هند ، فقال أم عمرو بن كلثوم لأم عمرو بن هند : ناوليني هذا الطبق ، تريد إذلالها .
فرفضت ، فضربتها كفا على وجهها ،فصاحت تنادي ولدها وتولول ، فقام ابنها وقتل عمرو بن هند ،وقال معلقته في تلك الساعة .
فكان الإسرائيليون خدما عند أهل مصر في ذلك الزمان ، يقومون بالأعمال الحقيرة عندهم ؛ من كنس وطبخ وتحضير للطعام وهكذا .
(يذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ )(البقرة: من الآية49) أي : بعد أن علم فرعون بواسطة السحرة ، انه سيقتل في مصر على يد طفل ذر لبني إسرائيل يولد بعد ذاك الزمان .
فأخذ لغبائه يقتل كل ولد يولد لبني إسرائيل ، ولكن الله تعالى بإرادته غلب إرادة هذا السفيه ، فجعل الله موسى يتربى في قصر فرعون اذلالا له وتحقيرا .
() وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ)(البقرة: من الآية49) ، أي : نقمة شديدة حلت بكم ، فلا تنسوها ولا تنسوا نعمة الله إذ نجاكم منها.
ولكنهم نسوا واعرضوا ، فلا زالوا في سخط من الله إلى اليوم
وفي هذا الدرس دروس وعبر :(/14)
أولها : أن اعتصامنا بلا اله إلا الله ، فلا اله إلا الله من اجلها الكتب نزلت ،ومن اجلها الرسل أرسلت ، ومن اجلها الدنيا دمرت خمس مرات ، ومن اجلها أقيمت المعالم ، وبثت .
الأجيال ،وبذلت الأموال ، ورفعت السيف ، فلا اله إلا الله لا بد أن تسيطر على كل واحد منا ، على الملك ، على الأمير، على الوزير ، على العالم ، على القاضي ، على المسؤول ، لا بد أن يعتقد في ضميره أن لا إله إلا الله على الصحفي يوم يكتب ، على الشاعر ، يوم ينظر ، على الأديب يوم يتوج أن يكون عبدا لله ، وإذا لم يفعل ذلك فسوف يكون من أعداء الله ومن المحادين لله .
والقضية الثانية : أن الدين يكون بالصلاة ، ولا صلاة إلا بدين ، ولا دين بغير صلاة.
والقضية الثالث : أنا إذا لم نجعل في أذهاننا الإيمان باليوم الآخر ، فوالله لا نعيش في سلام ولا أمن ، ولا في استقرار ولا في طمأنينة ، لأن الذين نسوا اليوم الآخر تقاتلوا ودمروا بعضهم ، وأطلقوا صواريخهم وقتلوا الآمنين والنساء والأطفال ودمروا البيوت ، لأنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر .
والقضية الرابعة: أن الله ، عز وجل ، ينصر أولياءه ، ولو ظهروا على الساحة انهم مهزومون ، أو انهم قليلون ، أو انهم مضطهدون ، فالنصر معهم والعاقبة لهم .
والقضية الخامسة :أن الله ، عز وجل ، يطلب من العبد أن يحفظ النعم والأيادي ، وان يتذكر المعروف ، وان يتذكر الجميل .
والقضية السادسة : أن على الداعية أن يعرف مداخل القلوب ، وان لا يكون عنيفا في أسلوبه مجرحا للشعور منتهكا للقيم.
دخل أحد الأعراب على هارون الرشيد ، الخليفة العباسي الكبير ، فقال الأعرابي : يا هارون .
قال : نعم .
قال : إن عندي كلاما شديدا قاسيا فاسمع له
قال : والله لا اسمع له .
قال : ولم
قال : لان الله أرسل من هو خير منك إلى من هو شر مني ، قال : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) ).
فأسلوب الأدب ومراعاة الشعور ، و إقامة حقوق الناس مطلوبة في الدعوة ليصل الداعية إلى القلوب .
والقضية السابعة : أن لا خوف على المسلم ، فالنفوس بيد الله ، والأرزاق في خزائن الله ، فهو الذي يحيي ويميت ، وهو الذي يغني ويعدم ،وبيده مقاليد الأمور سبحانه وتعالى .
هذا درس من دروس التوحيد ؛ لأن أغلبية سور القران دائما تحلق بنا مع موسى ، ولا تكاد تقرا سورة في الغالب إلا وتسمع (وَلَقَدْ أرسلنَا مُوسَى)[هود 96] فسلام على موسى في الأولين ، وسلام عليه في الآخرين ، وشكر الله سعيه يوم رفع لا إله إلا الله .
وأما فرعون ، وآل فرعون ، حالهم كما ذكر المولى ، عز وجل : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46))[غافر] .
المناظرة
يقول تعالى : (وَإِذْ قَالَ إبراهيم لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74))[الأنعام ] إمام التوحيد يريد أن يثبت التوحد أولا ، وهو قد أثبته في نسه قبل أن يثبته لأبيه ثم يثبته للناس .
إمام التوحيد يعيش صراعا رهيبا في نفسه ، حتى يعلم أن لا إله إلا الله .
والله ، إذا أراد أن يرسل رسولا من الرسل ابتلاه بالمصائب والأزمات ، حتى يعلم أن لا إله إلا الله ، ولا نافع إلا الله ، ولا ضار إلا الله ، ولا محيي ولا مميت إلا الله .
مكث صلى الله عليه وسلم يذوق التوحيد ، ويتجرع التوحيد من صغره ، فلما بلغ الأربعين انزل الله عليه (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ)[محمد : 19].
يقول أهل التفسير : خرج إبراهيم ، عليه السلام ، إلى البحر وجد جيفة حيوان قد ألقيت على الشاطئ ، فأتت الذئاب والوحوش والكلاب والطيور تفترسها.
فوقف متأملا وقال : سبحان الله ، أيعيد هذه الله بعد أن تأكلها الطيور والوحوش؟
ثم التفت ورفع يديه وقال : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى)[البقرة : 260] .
هل شك في القدرة ؟ وقدرة الواحد الأحد ثابتة وهو يعرف ذلك ، وهو الذي علم الناس بان الله قدير ،وهو الذي أتى بهذا العلم( علم التوحيد الخالص ).
عند البخاري أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : (( نحن أحق بالشك من إبراهيم ))[13].
ولأهل العلم معنيان في هذا الكلام منه صلى الله عليه وسلم :
1- المعنى الأول : لو كان إبراهيم يشك ، لكنا نحن أكثر منه شكا ؛ لأنهم ارفع منا إيمانا .
2- والمعنى الآخر : انه لا يسلم من الشك أحد حتى نحن ؛ لأن إبراهيم وهو أفضلنا قد انتابه شيء منه ، والأول اصح وأولى .
قال : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى)[البقرة : 260]بعد أن أصبحت في بطون الوحوش والطيور والعجماوات والكلاب والزواحف .
قال الله ، عز وجل : ( أولم تؤمن )؟(/15)
أفيك شك من لا إله إلا الله ؟ ومن قدرة القدير ؟ وقدرة الواحد الأحد ؟ الذي يقول فيها الإمام مالك : تعدد الأصوات والنغمات واختلاف اللغات يدل على قدرة الله .
وقيل لأحدهم : ما دليل القدرة ؟
قال : نقض العزائم .
أي : انك تعزم على أمر ، ثم ينق عزيمتك . مثلا : تصمم على السفر ثم يلقى سفرك لسبب أو لآخر.
يقول أبو العلاء المعري ، وهو من احسن أبياته – ولو أن له أبياتا قبيحة -:
تقضون والفلك المسير ضاحكا وتقدرون فتضحك الأقدار
يقول : انتم في الأرض خفافيش تقدرون ، وتتوقعون ، ويأتي الله فيلغي تقديراتكم ويفنيها (أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62))[الأنعام ] (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً)[الأنعام : 115].
قال ابن كثير : صدقا في الأخبار ، وعدلا في الأحكام
وهذا التعريف من الدرر ، وهذا هو الإكسير والمعنى القليل .
(قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي)
يعني : أريد أن يطمئن القلب ، وهو دليل على أن درجة الإحسان أعلى من درجة الإيمان ، وان من رأى الشيء كان أكثر يقينا ممن سمع به .
يقول الشاعر أبو الطيب المتنبي:
خذ ما رأيت ودع شيئا سمعت به في طلعة البدر ما يغنيك عن زحل
وهذا مثل ما يذكر أن علي بن أبي طالب قال : والله ، لو كشف لي الله الغطاء، فرأيت الجنة والنار ، ما زاد ما عندي من إيمان مثقال ذرة . يعني : انه بلغ درجة اليقين .
يقول حافظ الحكمي عنه :
هو رسوخ القلب في الإيمان حتى يكون الغيب كالعيان
ما دام بان هناك جنة ، فقد صدقوا بذلك وأيقنوا ، وهذا كحال الصحابة الذي يقول أحدهم في معركة أحد : ( إياك عني يا سعد ، والذي نفسي بيده أني لأجد ريح الجنة من دون أحد ).
هذا هو اليقين ، لا علم الدكتوراة التي جعلت الإنسان في القران الخامس عشر لا يعرف يصلي جماعة في المسجد ، ثم يقول : هذا هو العلم !! (يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخرة هُمْ غَافِلُونَ (7))[الروم] .
قال : ( ولكن ليطمئن قلبي ) فقال له الله : (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إليك)(البقرة: من الآية260) وسبق أن قلت : لا يهمنا استطرادات المفسرين في ذكر نوع الطيور ، هي بط أو حمام أو اوز ؟ إنما هو طير ، ولو كان هناك مصلحة ، لكان سمي لنا الطير .
(فَصُرْهُنَّ) قيل : قطعهن ، فقطعها إبراهيم وخلطها ونثرها على أربعة جبال ونزل في وسط الوادي .
قال :( ثم ادعهن ) ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً)(البقرة: من الآية260) فنزل فدعاهن ، وأحياها الله ورد الأرواح فيها ، فكان إبراهيم يقدم الرأس للطائر لا يقبله ؛ لأنه ليس رأسه ، ويقدم الرجل للطائر فلا يقبلها ؛ لأنه ليست رجله.
ثم قال : () وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(البقرة: من الآية260)).
لماذا قال الله قبلها في قصة صاحب الحمار : (أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(البقرة: من الآية259)) ، وهنا قال : ( عزيز حكيم ).
قال أهل العلم : لأن إبراهيم هو أستاذ التوحيد وصاحب العقيدة ، وهو لا يصل إلى أن لا يعلم أن الله على كل شيء قدير ، ولكنه بعد القصة ازداد علما بعزة الله وحكمة الله فقيل له : (وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)[البقرة :260] .
فذهب إبراهيم إلى أبيه ، وهو أول ما يدعو أباه .
(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ )(الأنعام: من الآية74) قيل : انه ليس بأبي بالنسب ، والصحيح انه ابوه بالنسب .
قال : ( أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً)(الأنعام: من الآية74)) هذه القضية الكبرى .
إن من مبادئ الجدل : انك إذا أردت أن تهدم شيئا أن تورث الشك في نفس من تجادل.
فإذا أردت أن تجادل معتنقي النصرانية مثلا ، فتقو لهم : هل الله ثالث ثلاثة ؟ هل يعقل أن الواحد ثلاثة ؟ تعالوا بنا إلى الحساب ، هل سمعتم أن الواحد يصبح ثلاثة ؟ من هنا نهدم عقائدهم .
قال : (أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً) أتتخذ الحجارة آلهة ؟ فهل هي تسمع أو تعقل أو ترى ؟
(إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ).
نعم ! يطلب من الداعية أن يكون حكيما ولا يواجه بعنف ، لكن إبراهيم هنا استخدم الأسلوب المناسب للموقف المناسب ، وهذا لا ينافي الحكمة ، فان الله لما أرسل موسى وهارون قال : ( فقولا قولا لينا ) مع العلم أن موسى يقول لفرعون :( لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102) )[الاسراء] ، لأنه سمع اليقين والعلم والخبر ولكنه تكبر ، فاستدعى ذلك الاغلاظ معه.
كحال إبراهيم ، عليه السلام ، هنا.
(وَكَذَلِكَ نُرِي إبراهيم مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75))[الانعام]
ما الذي يدل على الله ؟ الشجر والزهرة والغدير والسماء والأرض .
وفي كل شيء له آية تدل على انه واحد(/16)
كلها تشير على الوحدانية (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)[يونس : 101] الرابية : الهضبة ، والتل والماء كلها تدل على الله .
يقول علماء الكلام : لا بد قبل أن تقول اشهد أن لا إله إلا الله ، واشهد أن محمدا رسول الله ، فانه عليك أن تتفكر بالنظر والاستدلال حتى تشهد .
وهذا خطأ عند علماء السنة ، ونبه عليه الشيخ عبد العزيز بن باز ، رحمه الله ، في تعليقه على (( فتح الباري )) وقال : لا ، بل الواجب أن تشهد أن لا إله إلا الله ، وتشهد أن محمدا رسول الله ، لا النظر والاستدلال .
قال r (( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله و أني رسول الله ))[14].
وقال سبحانه : (وَكَذَلِكَ نُرِي إبراهيم مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) وهذا دأب الأنبياء ، فالرسول r قبل البعثة ما كان يقرأ ، ولا يكتب ، لكنه كان يقرأ في الكون وفي كتاب الكون ، وقيل في قوله تعالى : (اقْرَأْ)[الاسراء : 14] وهي أول سورة نزلت عليه ، أي : اقرأ في الكون.
ولذلك يكثر القران من التذكير بآيات الله في الآفاق وفي الأرض (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20))[الغاشية:]
( وليكون من الموقنين ) هذه درجة الرسوخ واليقين .
واليقين له شروط:
منها : أن تتدبر آيات الكون .
ومنها : أن تكثر من العبادة ،وهو طريق أهل السنة ؛ لان المناطقة لم يكونوا متعبدين ، بل كان يهم فجور .
والمعتزلة من افجر الناس ، حتى أن بعضهم كان ممن يشرب الخمر .
قال : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً)).
جن معناها : ستر ، وإنما سمي الجن جنا ؛ لأنهم يستترون .
وقال عمر بن أبي ربيعة:
وكان مجني دون ما كنت اتقي ثلاث شخوص كأعيان ومعصر
قال : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً) هذا أسلوب القران وهذا إبداع القران ، من يستطيع أن يصوغ مثل هذا الكلام ؟
الله وحده جل جلاله .
(فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً) فلا تظهر الكواكب إلا في الليل ، وإبراهيم أراد أن يجري الحوار أمام الناس ، وهو يدري أن الله هو الواحد الأحد ، وهو النافع الضار ، كان يريد أن يلفت أنظارهم إلى أن هذه الكواكب لا تنفع ولا تضر ولا تدبر أمرا هي لا تستحق العبادة.
(هَذَا رَبِّي) يقول إبراهيم : الكوكب ربي ، فسمعه قومه سكتوا ما أنكروا ، لأن أمته كانت تعبد الكواكب ، وتعبد الشجر والحجر ، وتعبد صبرة التمر .
(فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) أفل : أي : غاب .
لماذا قال هذا ؟ لأنه يريد أن يثبت لهم أن الله حي لا يموت (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ)[الفرقان: 58] وهذا سر الأسرار ، بان الحي الذي لا يموت هو الله .
أما غيره أحياء يموتون.
(فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) فكأن قومه وافقوه وسكتوا ، فما دام إبراهيم لا يحب الآفلين فقد أصاب إبراهيم .
(فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي)[الانعام] هذا في الليلة الثانية .
(فَلَمَّا أَفَلَ) قال : وهذا أيضا لا يصلح للعبادة ؛ لأنه يختفي فلا يراقب عباده .
(قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) .
(فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أكبر) لأنه يبحث عن الكبير ، ولذلك من صفات الواحد الأحد انه الأكبر .
وكانت العرب تأخذ أكبر الحجارة لعبادتها!
(فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ).
أخيرا قال : هذه كلها خزعبلات ؛ لأن قومه يعبدون الكوكب والشمس والقمر ، فلما أفلت جميعها صرف نفسه عن هذا وقال : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)) الحنيف : المائل من الشرك إلى التوحيد.
وهذا هو الذي أتى به صلى الله عليه وسلم ، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يحب كل الأنبياء والرسل ،كان يحب إبراهيم حبا خاص (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإبراهيم لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ)[آل عمران : 68] .
ويقول في حديث الإسراء : (( ورأيت إبراهيم عليه السلام وكان أشبه الناس به صاحبكم ))[15] أي : هو صلى الله عليه وسلم .
(وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ) الآن بدأت المناظرة .
(قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ) يقول : أنا اهتديت والحمد لله ، ولكنكم تريدون أن تزيلوني عن هذا المعتقد الحق ، وهذا من الخبث بأنهم لم يكتفوا بضلالهم ، بل يريدون أن يضلوه معهم كشأن بعض الناس الذين يريدون غواية الصالحين.
(وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً) سبحان الله !.(/17)
بعض أهل العلم له تعليق على هذه الآية ؛ بأن إبراهيم يعلم أن الله لو شاء لجعله مثلهم ،ولم يهده إلى التوحيد ،ولكنه عصمه سبحانه وتعالى.
معنى ذلك : أن العبد مفتقر إلى الله مهما بلغ في الهداية .
(وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أحد أبدا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ) [النور :21].
والله ، سبحانه وتعالى ، إنما عصم الرسول r من القتل بآية في سورة المائدة هي : (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)[المائدة : 67] فهو العاصم سبحانه من كل شيء .
ثم قال إبراهيم : ( وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً)(الأنعام: من الآية80).
و أهل السنة والجماعة يقولون : ( يعلم الله ) ، ولا يقولون ( يعرف ) ؛ لأنه ليس من الألفاظ الشرعية أن تقول : ( عرف الله هذه المسالة ) مثلا ، بل تقول : ( علم الله هذه المسالة ؛ لان العرفان يسبقه جهل ، فهو علم نسبي مؤقت ،أما علم الله هو مطلق لا محدود.
وقد علم الله الغيب واختص به سبحانه دون غيره فقال (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ)[النمل : 65].
وقد جاء في السنة والآثار عدة حوادث تبين سعة علمه تبارك وتعالى ، وقد مر بنا بعضها في دروس سابقة ، كقصة عمير بن وهب الذي اجتمع مع صفوان بن أمية عند البيت يخططان لاغتيال الرسول r ، أخبر الله رسوله بمخططهم ، فلما جاء عمير في المدينة اخبره صلى الله عليه وسلم بما تم بينهما وهما في مكة وهو في المدينة فأسلم عمير رضي الله عنه .
وهكذا في قصة خولة بنت ثعلبة التي اشتكت زوجها ، فان عائشة كانت في طرف البيت ، لكنها لم تعلم حرفا مما كانت تقوله المشتكية للرسول صلى الله عليه وسلم ، فانزل الله (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ)[المجادلة : 1] .
قال إبراهيم : (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ)[الأنعام : 81] أي : أن المؤمن لا يخاف هذه الخرافات الوثنية في كل زمان ومكان .
قيل للإمام احمد : أيخاف المؤمن ؟
قال : لو اخلص لما خاف .
ولذلك لم نسمع أن الرسول صلى الله عليه وسلم تأخر في معركة ما – وحاشاه ذلك -؛ لأنه اعظم المخلصين والموحدين.
يقول علي : كنا إذا اشتدت الحرب وحمي الوطيس نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال إبراهيم : (وَلا تَخَافُونَ إنكم أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81))[الأنعام ] . أي : إنكم انتم اولى بالخوف مني ، لأنني أنا موحد وأنتم مشركون .
(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمانهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82))[الأنعام] ، لما نزلت هذه الآية قال الصحابة : اينا لم يظلم نفسه يا رسول الله ؟ .
قال: (( ليس ما تظنون ألم تسمعوا قوله سبحانه : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم)ٌ (13))[لقمان][16] ؟
أي : أن الظلم في هذه الآية المقصود به الشرك لا المعاصي والكبائر التي قد يعاقب بها الإنسان في الآخرة ، لكنه يكون من أهل الجنة أخيرا .
وبهذا انتهت مناظرة إبراهيم مع قومه ، حيث أبطل لهم عباداتهم وطقوسهم الوثنية ، وأثبت لهم التوحيد الخاص ، وأنه مصدر عزة المؤمن وشجاعته .
وأنهم الأحق بالخوف منه والحذر من عذاب الله في الآخرة أن استمروا على شركهم .
فثبت بهذا أن ( التوحيد أولا ) هو بداية الرسل وانطلاقتهم ، لا كما يظن بعض المجتهدين منا ، حيث يقدمون أولويات أخرى غيره ، فلعلهم أن يراجعوا مسلكهم في قادم الأيام.
الذبيح الأول
عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، قال : أول من تمنطق من النساء : هاجر ، وذلك لتخفي أثرها عن سارة لما هاجر بها إبراهيم ، عليه السلام ، إلى مكة ، فنزل بها مكة قريبا من رابية وهو مكان البيت اليوم ، فكانت هذه الرابية مرتفعة عن الأرض .
فلما أنزلها ، عليه السلام ،هناك ، كان معها جراب من تمر ،وسقاء من ماء ، ومعها ابنها إسماعيل ، فتولى وتركهم .
فالتفتت إليه هاجر ، وهي مولاة ، وقالت : لمن تتركنا يا إبراهيم ؟
فلم يجبها بشيء.
فقالت : آلله أمرك بهذا ؟
قال : نعم .
قالت : إذا لا يضيعنا ربنا .
فلما اختفى وراء الجبل التفت ، ودعا اله عز وجل ، ورفع يديه ، وقال : (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إليهم وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37))[إبراهيم] ثم تولى عنهم وتركهم .
فنفد الماء ، ونفد الطعام من التمر ، عن هاجر وابنها ، فذهبت لترى في جبال مكة أين تجد الماء .
قال ابن عباس : لكأني بها تسعى بين الجبلين ، يعني : بين الصفا والمروة سبعة أشواط.(/18)
فطافت سبعة أشواط فهو طوافنا اليوم ، فعادت إلى مكانها ، وأخذ ابنها يضرب الأرض برجله من شدة العطش.
فنزل ملك من السماء – قيل : جبريل ، وقيل : غيره – ففحص بجناحه فخرج الماء ، فأخذت هي تعدل الماء وتقيم التراب حول الماء وتقول : زم زم .
وهذا من عادة قبائلهم انهم إذا اشتغلوا يتسلون بالكلام .
قال r : (( رحم الله ام إسماعيل لو تركت زمزم لصارت عينا معينا ))[17].
ثم نزل هناك ركب من جرهم ،وجرهم قبيلة انتقلت إلى مكة ، وهي من القبائل العربية التي سوف يتزوج منهم إسماعيل .
نزلوا في طرف مكة ، فرأوا غرابا عائفا فوق ماء زمزم.
فقال هؤلاء الركب : إن هذا الطائر معه الماء .
فاقتربوا ، فلما رأوا هاجر ، قالوا : ننزل حول الماء .
قالت : لا .
فاصطلحوا معها أن ينزلوا على حسن الجوار .
فنزلوا ، فأعطوها الطعام ، وأعطتهم الماء .
فلما شب إسماعيل ، عليه السلام ، تزوج منهم .
وكان شابا ظريفا عاقلا ، قد آتاه الله الحكم صبيا ، فأصبح أرحامه قبيلة جرهم .
فلما شب فيهم ، عليه السلام ، أتاه أبوه بعد حين يزوره ، فوجد امرأة إسماعيل ، عليه السلام ، وهي في البيت ، فطرق عليها ، وهو شيخ حسن الهيئة ، عليه هندام الوقار والسكينة ،وعليه بشريات التوحيد.
فقال : أين زوجك ؟ وهو ابنه ، ولكن لم تعرفه .
قالت : خرج يطلب لنا صيدا .
قال : كيف انتم ؟
قالت : في حالة ضيقة وفي شر حال ؟
قال : إذا أتى زوجك فأقرئيه مني السلام ، ومريه أن يغير عتبة بابه أو بيته .
فأتى إسماعيل فسألها : هل أتاكم من أحد؟قالت : أتاني شيخ حسن الهيئة ، سألنا عن هيئتنا وطعامنا ، وأمرني أن أقرئك منه السلم ، وان تغير عتبة دارك
قال : ذلك أبي ،ويأمرني بفراقك ، فالحقي بأهلك .
ثم تزوج زوجة أخرى صالحة ، فأتاهم إبراهيم يزورهم مرة ثانية .
فخرجت المرأة .
قال : أين زوجك ؟
قالت: خرج يطلب لنا الصيد .
قال : كيف حالكم ؟
قالت بأحسن حال ، والحمد لله .
قال : إذا أتى زوجك فأقرئيه مني السلام ، ومريه أن يثبت عتبة داره .
فأتى إسماعيل فأخبرته ن وقالت :يقرئك السلام ، ويأمرك أن تثبت عتبة دارك.
قال : ذلك أبي وهو يأمرني أن أمسكك فانك زوجة صالحة[18] .
أول مسالة : زواجه ،علي السلام ، من سارة .
كانت سارة امرأة صالحة جميلة ، تزوجها إبراهيم ، عليه السلام ، وعلمها التوحيد ، وأرضعها لبن لا إله إلا الله منذ الصغر ،فنشأت موقرة .
قال ابن كثير : اجمل النساء في العالمين سارة ومريم
وقيل : عائشة بنت الصديق ، رضي الله عنها وأرضاها.
هاجر إبراهيم ، عليه السلام ، بسارة ،فمر بملك من ملوك الدنيا جبار عنيد ، كان كل ما سمع بفتاة جميلة اغتصبها من أهلها .
فلما وصل إبراهيم بزوجته هذه ، وهو في الطريق سمع بها الملك ، فأرسل جنوده فأخذوا هذه المرأة الصالحة العابدة القوامة الزاهدة.
ولكن من يعتمد على الله ، ومن استحفظ بحفظ الله حفظه .
فتوجه إبراهيم إلى الله ، عز وجل ، ودعاه أن يحفظ زوجته.
فأخذوها من بين يديه ، فقال لها بينه وبينها : إذا قدمت على الملك وسألك عن نسبك ، فقولي : أنا أخت إبراهيم .
وصدق ، فإنها أخته في العقيدة والدين ، وأخته في النسب الأول ، فكلهم من آدم وحواء .
فوصلت إلى هذا الجبار ، ودخلت عليه ، فاقترب منها ، وهي متوضئة طاهرة .
فدعت الله عليه فجفت يده وجفت رجله .
قال : ادعي الله لي أن يطلق يدي ورجلي .
فدعت له .
فأتى يقترب .
فدعت عليه فجفت يده ورجله .
فاقترب ثالثة.
فدعت عليه فجف الثالثة.
فقال : أتيتموني بشيطانة ، اذهبوا بها .
فذهبوا بها أخدمها هاجر التي هي أم إسماعيل .
فقالت لإبراهيم : منع الله الفاجر وأخدمنا وليدة[19] .
فقال لها إبراهيم لما عادت : والله ، لقد رأيتك منذ ذهبتي إلى الآن .
فلما اخذ هاجر أتت بإسماعيل فغارت منها سارة، والغيرة في طبيعة النساء ملاحظة ؛ كأن الغيرة ولدت مع النساء منذ خلق الله المرأة إلى اليوم .
فذهب إبراهيم بهاجر إلى مكة .
وسبحان الله ! كيف اختار الله مكة من بين بلاد الأرض وبلاد المعمورة لتكون مهبط الوحي ، وليكون منها الإشعاع الرباني والرسالة الخالدة ، وليتخرج منها أساتذة التوحيد ؛ الذين رفعوا علم لا إله إلا الله ، فهي بحق جبال تصهر الرجال بحرارتها ، وبشظف عيشها ، فتخرجهم رجالا يقودون عجلة التاريخ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
فمكة مسقط رأس رسول الهدى r ، ومكة ولد فيها أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وخالد ، والصنف المختار من أصحاب رسول الهدى r .
وص إبراهيم ، عليه السلام، إلى مكة .
قالوا : كان البيت في رابية مرتفعة .
وقيل أن يأمره الله بالبناء اختار الله ذاك الموقع .
قال بعض أهل العلم : لأنها وسط الدنيا ، وقد اثبت العلم الحديث فيما سمعنا وقرأنا ، أن من صعد على سطح القمر رأى أن وسط الدنيا هو الجزيرة العربية أو ما يقاربها ، ووسط الدنيا هي الكعبة .
ولذلك سماها الله أم القرى ، فهي تبث الإشعاع في كل مدينة.(/19)
فلما وصل إبراهيم هناك وضع الأهل والمتاع وتولى إلى الله ، عز وجل ،واختفى وراء الجبل ، وابتهل إلى الله ، كما سبق .
تزوج إسماعيل ، كما مر ، من جرهم ، وجرهم هؤلاء ذكرهم زهير بن أبي سلمى يوم يقول :
فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله رجال بنوه من قريش وجرهم
يمينا لنعم السيدان وجدتما على كل حال من سحيل ومبرم
يمدح هرم بن سنان ، وقيس بن زهير لما تداركا عبسا وذبيان في حروبهم .
وفي أول زيارة من إبراهيم لإسماعيل ، كان قد بلغ إسماعيل مبلغ الصبيان ودرج على الأرض ، فأحبه إبراهيم وشغف به واصبح كالخليل لخليله .
قد تخللت مسلك الروح مني ولذا سمي الخليل خليلا
فأراد الله أن يخلص قلب إبراهيم من هذا الحب ، ومن هذا الابن له سبحانه وتعالى لأنه خليل الرحمن .
فلما وصل إلى مكة رأى فيما يرى النائم ا قائلا يقول له : اذبح ابنك .
فتعوذ بالله من الشيطان وتوضأ وصلى.
فرأى الرؤيا مرتين .
فعلم إنها رؤيا حق .
ولذلك قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى : ( باب ) رؤيا الأنبياء حق .
فقال إبراهيم لإسماعيل :( إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ)[الصافات: 102] .
ويا لها من مصيبة !
ويا لها من مسالة شاقة على الأنفس !
ومثل في نفسك أن تؤمر أن تذبح بيدك وسكينك احب أبنائك إليك .
ما هو شعورك ؟
وما هي عواطفك ؟
فقال إسماعيل في هدوء صبر وإيقان : (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102))[الصافات].
قال أهل التفسير : خاطبه بالأبوة في مقام الحنان حتى وهو يعتدي على روحه بأمر الله عز وجل .
() سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)(الصافات: من الآية102)) قالوا : ما أحسن هذا الاعتراض .
لم يقل : ستجدني من الصابرين ، وإنما قال : (إِنْ شَاءَ اللَّهُ).
فصبري بالله واتكالي على الله .
(فَلَمَّا أَسْلَمَا) الضمير يعود إلى إبراهيم وإسماعيل ،اسلم إبراهيم نفسه إلى الواحد الأحد ، وأسلم إسماعيل نفسه إلى الله سبحانه وتعالى .
(وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) قال أهل التفسير : ما استطاع أن يبطحه على ظهره فجعله على وجهه ليذبحه من قفاه .
لماذا ؟
خشية أن يرى وجه ابنه فتدركه الرحمة والرأفة فيعصي أمر الله .
(وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) قال أهل العلم : ولم يقل :أجلسه وأقعده ، إنما (وَتَلَّهُ) بقوة ليرى الله انه ينفذ الأمر بحماس وقوة .
وإبراهيم صاحب مواقف خالدة في القران ، فهو صاحب الروغتين : روغة الكرم وروغة الشجاعة (فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26))[الزاريات] ( فراغ عليهم ضربا باليمين ).
لان المسلم ينبغي عليه أن يأخذ أحكام الله ، وتنفيذ أوامر الله بالقوة .
أما البرود ، وأما الكسل ، وأما الخنوع ، فهو ليس من دين الله .
ولذلك يقول الله ليحيى : ( يا يحيى خذ الكتاب بقوة ) .
ويقول الله عن المنافقين : ( وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى ) .
فلما أرسل السكين عليه أتى لطف الله عز وجل ورحمته ، سبحانه وتعالى ، فما أصبحت السكين تذبح ، ومن عادة السكين أن تذبح ،ولكن حكمة الله عز وجل أن منعها من الذبح .
فالبحر يغرق ، ولكن قدرة الله منعته أن يغرق موسى عليه السلام .
والنار تحرق ، وهذه من سنن الله الكونية، ولكنها لا تحرق إبراهيم عليه السلام .
والسكين تذبح ، ولكن قدرة الله عز وجل تجعلها لا تذبح أبدا .
فمنعتها من عنق إسماعيل ؛ لأنه بريء طاهر عفيف.
فقال سبحانه : ()وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) (الصافات:107)
) نزل عليهم من الجنة ، فأخذ السكين وذبح الذبح العظيم ( الكبش ) ورد السكين إلى نصابها .
فمدحه الله أبد الدهر وأثنى عليه وقال : ()إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) (الصافات:106) فهو بلاء خالد ، لكن خلد الله ذكره يوم قال : ()وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) (الشعراء:84)) فرفع الله ذكره ابد الدهر .
فيأتي إبراهيم في المرة الثانية ليبني بيت الله سبحانه وتعالى ،وكان إسماعيل قد شب وأصبح فتى يستطيع البناء معه .
فقال له إبراهيم : يا إسماعيل إن الله يأمرني أن أبني البيت .
قال : وأمرك ربك ؟
قال : نعم ، وتعينني على ذلك .
قال : نعم ، أعينك عليه .
قال ابن عباس : كأني بإبراهيم ، وقد ارتفع على الجدار ،وإسماعيل يناوله الحجارة ، وهو يضعها ويبني .
أتدرون ماذا كان نشيدهم الخالد؟
كانا يقولان : () رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(البقرة: من الآية127)).
والفاجر يفجر ويعصي ويزني ، ويكذب ويغتاب ، ويقول : رحمة الله وسعت كل شيء !
فلما بقي مكان الحجر أمر الله ، عز وجل ، إبراهيم أن يبقي مكانه .
فالتفت إلى الحي القيوم ،ودعا أن يبارك الله ، عز وجل ، في هذا البناء .
فأتاه جبريل بالحجر الأسود أبيض كاللبن ، كالجوهرة البيضاء من الجنة ، فسلمه إلى إبراهيم وقال : ضع هذا الحجر في هذا المكان ليستلمه الناس .(/20)
قال صلى الله عليه وسلم :(( نزل الحجر من الجنة ابيض من اللبن فسودته خطايا بني آدم ))[20].
وصح عنه r في حديث انه قال : (( إن لهذا لحجر لسانا وشفتين يشهد لمن استلمه يوم القيامة بحق ))[21].
فمن استلم الحجر الأسود أو قبله ، وهو صادق ومشتاق ومخلص ، انطق الله الحجر الأسود يوم القيامة بلسان ناطق يشهد لمن استلمه بحق في الحياة الدنيا .
والحجر الأسود له قصة في التاريخ ، فانه اعتدي على عرضه وعلى كرامته في عصر القرامطة ،يوم أن وفدوا من الاحساء إلى البيت العتيق ، ووفد معهم الفاجر ( أبو سعيد الجنابي ) وأخذ بسيفه يقتل الحجيج ، ويقول : يخلق الخلق وأفنيهم أنا .
يقول : إن الله يخلق الخلق وأنا أفنيهم .
ثم تقدم بدبوس من حديد في يد فقال : يا معشر المسلمين ، يا أيها الحمير ، تقولون إن الله يقول : ( ومن دخله كان آمنا ) ، نحن دخلناه الآن فأين الأمن ؟
فقال له بعض العلماء : هذا من باب الأمر لا من باب الخبر .
يعني : أن الله يأمرنا أن نؤمن البيت ، وأنت قد أخفته .
فتقدم بخنجر فطعم العالم فقتله ، ثم أتى إلى الحجر الأسود فضربه ثلاث ضربات بهذا الدبوس ، فانفلق منه ثلاث فلق .
وأخذوا الحجر ، واركبوه على سبعمائة جمل ، كلما مشى الجمل قليلا أصابه الجرب ، وأهلك الله الجمل فسقط الحجر من عليه ، فيركبونه على جمل آخر ، يموت الجمل ، الآخر حتى مات سبعمائة جمل .
ووصل إلى الاحساء ، وبقي معهم حتى اجتمع سلاطين الدولة الإسلامية ،ودفعوا مبلغ هائلا من الدراهم والدنانير والذهب حتى أعيد الحجر إلى مكانه .
ولله حكم في ترك هؤلاء الغوغاء يأخذون الحجر.
وله حكم في الأحداث التي وقعت في التاريخ ، فهو الحكيم سبحانه )لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) (الانبياء:23)
وبنى إبراهيم ، عليه السالم ، البيت ، ونزل ووقف عند المقام الذي نحن نصلي فيه اليوم .
فقال الله عز وجل : ( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً )(البقرة: من الآية125)) .
فوقف هناك ودعا الله كثيرا .
فأمره الله أن ينادي في الناس جميعا أن يحجوا إلى هذا البيت ،وان يأتوا إلى بيت الرحمن ، فبيت الرحمن جل جلاله فيه الهداية والنور ،وفي السماء الدنيا ببيت آخر كالكعبة يطوف به كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه ابد الدهر ، فيأتي غيرهم فيطوفون ... وهكذا .
فارتفع إبراهيم على جبل من جبال مكة فنادى في الناس .
قال ابن عباس : فسمعه الناس في أصلابهم (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يأتينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ) [الحج 27-28].
(يَأْتُوكَ رِجَالاً ) قالوا : أي انهم مترجلين ماشين .
(وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ) أي : على كل بعير ضامر من شدة السفر .
فعاد إبراهيم بعد ذلك إلى فلسطين لأمر يعلمه الله .
وأما إسماعيل فأقام هناك ، وتزوج من جرهم ، فهو جد رسولنا r ، وفي حديث ضعيف في سنده كلام ، يقول r : (( أنا ابن الذبيحين ))[22] فالذبيح الأول هو إسماعيل الذي عرضه لذبح إبراهيم ، والذبيح الآخر هو عبد الله أبو الرسول r مباشرة .
فان عبد المطلب لما جفت بئر زمزم نذر نذرا إذا اخرج الله الماء أن يذبح أحد أبنائه ، وكانوا عشرة منهم : عبد الله والحارث وحمزة وأبو طالب والعباس وأبو لهب .
فلما خرج الماء اقرع بين العشرة فخرج السهم على عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم ففداه .
فأتى السهم الآخر فوقع على عبد الله ، ففداه بعشرين ، حتى وصل مائة ناقة ففداه بها .
فكان الرسول r ابن الذبيحين .
والذبيح الأول على الصحيح هو إسماعيل ن لا إسحاق كما يدعي اليهود حسدا لنبينا أن يكون ابنا للذبيح المختار .
هذه لمحات عن قصة هذين النبيين الجليلين ، وبقي في حياة إبراهيم، عليه السلام ، عبر ومواقف ، كمحاجته مع النمرود ، وطلبه أن يرى كيفية أحياء الموتى من الله ، عز وجل ، وقد ذكرت هذا في مواضع أخرى .
الكريم ابن الكريم
قصة يوسف فيها عبر وفوائد جمة لمن تأملها .
وفيها متعة وتشويق للنفس البشرية
فهي تحكي أطوار حياة نبي من أنبياء الله ، منذ الصغر إلى أن تقلد المنصب الكبير في عصره .
وفي هذه الورقات نقوم بجولة عجلى على مقطعين من مقاطع السورة نستلهم منها العبر والدروس النافعة لنا .
يقول سبحانه (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لَأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رأيت أحد عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رأيتهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإنسان عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إبراهيم وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6))[يوسف] .(/21)
وقال r : (( الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم : يوسف بن يعقوب بن اسحاق بن إبراهيم ))[23].
دخل عمر ، رضي الله عنه ،مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجد قاصا يقص على الناس من أخبار الجاهلية والأمم السابقة فقال عمر : من هذا ؟
قالوا : قاص يقص علينا .
فعلاه عمر بالدرة وقال : أتقص يا عدو نفسك والله يقول : ()نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ )(يوسف: من الآية3).
ومن أحسن القصص : قصة يوسف ، عليه السلام .
وبطلها هو : يوسف صلى الله عليه وسلم الذي مر بأربع مشاهد:
1- مشهد الفراق لأبيه عندما فارقه أربعين سنة لم يشاهده فيها .
2- ومشهد الفتنة مع امرأة العزيز التي تعرضت له ، وهي من اجمل خلق الله .
3- ومشهد السجن عندما سجن في ذات الله ،ومحص ليخرج برضوان الله .
4- ومشهد الوزراة والملك عندما اعتلى على مناصب القوة ومراكزها في عصره .
قال تعالى في أول السورة ( الر ) فمن هذه الحروف نتكلم .
ومن هذه الحروف نقول كلماتنا.
فيا أيها الفصحاء .. يا قريش اللسناء .. يا قريش البليغة . تعالوا فصوغوا من هذه الحروف قرانا ، كما صغنا قرآننا .
فالمادة موجودة والخام معروف.
ولكن هل تستطيعون ؟
لا !!! لن تستطيعوا ، ( فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا )(البقرة: من الآية24))
ثم قال تعالى : ( تلك آيات الكتاب المبين ) كتاب بين واضح ، (ِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (يوسف:2) فيا من نام وما استيقظ ... استيقظ بهذا القران .
ويا من غفل ولم يصح ... اصح بهذا القرن .
ويا من فقد عقله ... اعقل بهذا القران .
ثم يقول ، تبارك وتعالى ، مقدما للقصة المدهشة التي ما سمع الناس بمثلها ()نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ )(يوسف: من الآية3) ، فأروع القصص وأصدق القصص هي قصص القران .
()نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) (يوسف:3). كنت أميا لا تقرا ولا تكتب .
كنت في صحراء مع أمة أمية جاهلية ليس عندها أي قصص ، وليس عندها علم ، فاسمع الآن القصص .
ثم ينتقل بنا القران إلى يوسف صلى الله عليه وسلم ، والى أبيه يعقوب ، إلى الأنبياء المطهرين والأسرة العريقة ذات الكرم والجود والتقوى .
وما كان من خير آتاه فإنما توارثه آباء آبائهم قبل
وهل ينبت الخطى إلا وشيجة وتغرس إلا في منابتها النخل
يصحو يوسف ، عليه السلام ،وهو غلام فيما يقارب العاشرة فيجلس أمام أبيه ، ومن أجب الأعاجيب عند الطفلان يرى في النوم رؤيا ليفرح بها ويقصها على أبيه وأمه ، وبعضهم يزيد فيها وينقص .
وأما يوسف صلى الله عليه وسلم فما زخرف وما زاد ، بل جلس أمام أبيه ، وقال : يا أبتاه !! إني رأيت البارحة أحد عشر كوكبا في السماء والشمس والقمر .
ولو سكت لما كان في القصة عجب ؛ لأن الكل يرى النجوم والكواكب والشمس والقمر ، ولكن سر الرؤيا كان في الخاتمة (رأيتهُمْ لِي سَاجِدِينَ)(يوسف: من الآية4)).
ففزع يعقوب بهذه الرؤيا ، وفطن لأنه من الأنبياء ، وعلم أن ابنه هذا سوف يكون له شأن أيما شأن ، وسوف يكون وارثه في النبوة .
فخاف أن يخبر إخوانه بهذه الرؤيا ، فيأتي الشيطان فيفسد ما بينهم وبينه .
فقال : ( يا بني ) للتحبيب ) لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ )(يوسف: من الآية5) حذاري حذاري أن يسمعوا هذه القصة ، فلا تخبرهم أبدا انك رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر يسجدون لك .
ولكن يوسف ، عليه السلام ، نسي لصغره الوصية ، فأخبر بها إخوانه عندما جلس معهم .
ولذلك علمنا صلى الله عليه وسلم أن أحدنا إذا رأى رؤيا أن لا يقصها إلا على من يحب[24] .
فثار الحقد والحسد في قلوب إخوانه ، وبدءوا يدبرون له المكايد .
فعلم يعقوب بأنهم علموا الرؤيا فتضايق وخاف منهم على أخيهم .
ثم قال تعالى : (لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيات لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (8)) فهم إضافة إلى تلك الرؤيا التي أثارتهم ، قد ازدادوا بغضا ليوسف عندما رأوا أباهم يقربه ويحبه ويبش له دونهم .
وفي هذا : تنبيه للآباء بأن لا يفضلوا أحد أبنائهم على الآخرين ؛ لأنه في النهاية إن لم يصرفه الله عن السوء سيكون مثل إخوة يوسف ، ولا شك .
ولا تغررك الأفعال الظاهرة ، فإن بعض القلوب والنفوس تكتم شعورها لتفرغه في الوقت المناسب .
المهم : أنهم دبروا لأخيهم مكيدة ما سمع التاريخ بمثلها .
فهو طفل صغير عاقل تقي ورع من أبناء النبوة ،لكنهم قرروا قتله أو إخفاءه .
(يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً)
لماذا كل هذا ؟(/22)
(يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) أي : سوف تختلون بأبيكم وينفرد بحبكم ، (وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ ) فتتوبون من الخطأ ، وتستغفرون الله من الجريمة ،ويتوب الله عليكم .
قال ابن عباس ، رضي الله عنهما : نووا التوبة قبل الذنب .
(قَائِلٌ مِنْهُمْ) وهو أكبرهم (لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ) فالقتل جريمة نكراء عند هذا الأخ الذي تحركت غيرته على أخيه نوعا ما ، فجعلته يختار عدم القتل ، ولكن (وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ ) ي : في بئر عميقة ، (إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ) أي : مصممين على هذه الفعلة .
فلما اجتمعوا، اجمعوا أمرهم على هذه المكيدة.
ولكن ، من يخرج يوسف من بيد يدي أبيهم ، عليه السلام :
فأتوا يوما وقالوا : (قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ) أنحن خونة ؟ أتشك فينا ؟ هل ضربناه ؟ هل حسدناه ؟ (مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ) فنحن نحبه والله ، وننصح له ، ولا نريد إلا الخير له .
ثم أكدوا طلبهم وقرنوه ببعض الأعذار المغرية والتطمينات فقالوا : (أرسلهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) أي : يرعى معنا الغنم ، بل ويلعب أيضا ؛ لأن الصغار دائما يحبون اللعب ، ولا تخف فنحن سنحفظه من اللصوص ومن الذئاب لأننا عصبة كثيرون.
فقال ، عليه السلام : (إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ) أجد وحشة والله على هذا الابن أن يذهب من بيتي ، (وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) لما كانوا قالوا في الأخير : (أَكَلَهُ الذِّئْبُ) لأن هذا ليس في أذهانهم منذ البداية ، فهو ، عليه السلام ، قد سهل لهم العذر والمكيدة.
فخرجوا به، فلما اصبحوا في الصحراء ، والغنم ترتع وتأكل وهم يلعبون ، والجو ساكن وهادئ ، والطيور تغرد وتزغرد ، والنسيم يعل وينهل على الأعشاب ، ولكن القلوب تغلي بالحقد على الأخ الحبيب القريب والصغير .
فأخذوه ، وقيدوه بحبل ، وأنزلوه في البئر .
فأخذ يستغيث ويظن أنهم يمزحون ، وقد خيروه بين القتل وبين أن يلقى في البئر .
كفى بك داءان ترى الموت شافيا وحسب المنايا أن يكن امانيا
تمنيتها لما تمنيت أن ترى صديقا فأعيا أو عدوا مداجيا
فأنزلوه ، وهو يتشبث بالحبل ، ويبكي .
قال ابن عباس ، وهو يبكي ، حينما قرا سورة يوسف : هدأتالحيتان في البحر من التسبيح ، ولم يهدأ يوسف ، عليه السلام ، من التسبيح.
فلما نزل في قعر البئر ، قطعوا الحبل ، فبقي في حفظ الله ، وفي رعاية الله .
وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالحوادث كلهن أمان
قطعوا الحبل ، وتركوه في البئر ، وهو يلهج بذكر الله في الصحراء ، وحيدا ليس معه إلا الله .
الذئاب حوله ، والجو مكفهر ، لا خبز ولا ماء ولا طعام ، ولا أهل ولا جيران ولا أحبة ولا مؤنس يؤنس ، وإنما الذئب يعوي في صحراء مدوية.
عوى الذئب استأنست بالذئب إذ عوى وصوت إنسان فكدت أطير
وإخوته بفعلهم هذا قد أخطأوا في ثلاث مواطن:
الأول : انهم نفذوا جريمتهم في أول يوم يذهب فيه معهم ،وهذا دليل على شدة تعجلهم بالانتقام منه ، وإزالته من أمام أعينهم .
ولو أعادوه ليطمئن أبوهم لما شك فيهم ، ولكنها حكمة الله التي فضحتهم .
الثاني : انهم خلعوا قميصه ،ولم يمزقوه ، وقالوا : أكله الذئب .
وهذه غفلة منهم ؛ لأن الذئب إذا أراد الأكل لا يخلع القميص بل يمزقه !!
الثالث : أنهم عندما عادوا لأبيهم وأخبروه قالوا : () وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَ)(يوسف: من الآية17)) أي : بمصدق.
وهذا كقولهم في المثل : ( كاد المريب أن يقول خذوني ).
فأوحى الله إلى يوسف (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي: ستمر الأيام وتخبرهم بهذا الصنيع منهم بعد سنين طويلة .
فعاد الإخوة إلى أبيهم في العشاء يبكون .
ولماذا العشاء ؟
لماذا لم يعودوا في العصر ؟
قيل : لئلا يرى أبوهم الدم بوضوح ،فيكتشف انه ليس بدم آدمي.
وقيل : ليتوهم أنهم تأخروا في مطاردة الذئب !
فسألهم : ما الخبر ؟
ما هذه الدموع الساخنة ؟ ( دموع التماسيح!).
فسألهم : ما الخبر ؟
ما هذه الدموع الساخنة ؟ ( دموع التماسيح!).
فقالوا : (إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ) أي : نتسابق ونجري (وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا) لكي لا يصل أو يبعد عن أعيننا (فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ) أي : جاء الذئب وأكله ونحن لاهون في مسابقتنا ولعبنا .
ثم قالوا : حتما لن تصدقنا (أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ) لكن انظر إلى الدليل :
أخرجوا له القميص وجعلوه قريبا منه ليلمح آثار الدم عليه . لكنه ، عليه السلام ، علم المكيدة من اللمحات والنظرات والريبة ، و القميص الذي لم يمسسه مزق واحد ، فقال : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أنفسكُمْ أَمْراً) لقد كدتم مكيدة (جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) .(/23)
قال ابن تيمية ، رحمه الله : الصبر الجميل هو الذي لا شكوى فيه .
والصبر الجميل : هو الذي لا تظهر فيه الفقر والمسكنة إلا لله .
والصبر الجميل : أن تتجمل أمام خلق الله .
قيل لأحد العباد : ما هو الصبر الجميل ؟
قال : أن يقطع جسمك قطعة قطعة ، وأنت تبتسم.
وقال آخر : الصبر الجميل أن تبتلى ، وقلبك يقول : الحمد لله .
ثم تولى يبكي حتى ابيضت عيناه.
وبالفعل صبر يوسف ، عليه السلام ، حتى أرسل الله ، عز وجل ، برحمة منه قافلة تمر من ذلك المكان ،وبالقرب من البئر ، فذهب و أردهم وأدلى دلوه في البئر يستقي الماء ، فتعلق يوسف ، عليه السلام ، بالدلو ، فلما سحب الرجل الدلو رأى غلاما جميلا قد أوتي شطر الحسن ، فقال لأصحابه : (يَا بُشْرَى) فانتبهوا ، فقال : (هَذَا غُلامٌ) أي : خادم وعبد لي ، سوف أبيعه .
ثم يقول عز من قائل : (وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً) قيل : أخفاه بعضهم عن بعض وجعلوه بضاعة .
وقيل : أخفوه من الناس ، خوفا أن يجدوا أباه أو أقاربه ، وما علموا أن إخوانه هم الذين تركوه وهم الذين طرحوه وهم الذين هجروه و أبعدوه .
(وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) فالله يتابع سيرة هذا النبي ، وقصة هذا الرسول الكريم ، عليه الصلاة والسلام .
وذهبوا به (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ) وشرى هنا : بمعنى باع .
(بِثَمَنٍ بَخْسٍ) لأن الدنيا وما فيها لو دفعت في مثل يوسف عليه لإسلام ، لكانت بخسا ، ولكانت غبنا ، ولكانت خسارة .
(دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ) ولم يقل موزونة ، لأن المعدود دائما اقل من الموزون ، (وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) أي : لا يرغبون فيه ، ولا يريدون أن يكون معهم .
(الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ) ولم يسمه الله باسمه .
قيل : لأن القصة ليوسف ، عليه السلام ، فما كان لأحد أن يزاحمه فيها .
وقيل : لأن كلمة العزيز لا يستحقها العزيز ؛ لأن العزيز من اعزه الله بطاعته ،والشريف من دخل في عبودية الله.
ومما زادني شرفا وفخرا وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا
فقال لامرأته : (أَكْرِمِي مَثْوَاهُ) وهذا مبالغة في الإكرام ، أي : احسني طعامه وشرابه وكسوته ومنامه ، (عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا) فيخدمنا في أغراضنا ، ويقضي لنا بعض حوائجنا ، (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) لأن العزيز كان حصورا لا يأتي النساء ، وكانت امرأته عقيما.
فأراد أن يتخذ هذا الغلام ولدا يترعرع في بيتهم ، يهدؤون ويرتاحون إليه ، وهم لا يشعرون انه لن يكون لهم ولدا ، بل سوف يكون نبيا من الأنبياء ، ورسولا يحمل رسالة السماء إلى الأرض ، وداعية إصلاح يحرر الشعوب ويقود الأجيال إلى الله .
ومكث ، عليه السلام ، في قصر العزيز تقيا عابدا متألها متعلقا بالحي القيوم .
وتمر الأيام ، ويزداد حسنا إلى حسنه ،وجمالا إلى جماله .
فتراوده المرأة التي عاش معها تلك السنين الطويلة.
فيا للفتنة!
ويا للمحنة!
شاب أعزب فيه الشهوة ، وليس له أهل يعود إليهم ، وغريب لا خشى على نفسه من السمعة القبيحة ، كما يخشى صاحب الوطن ، (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ) تعرضت له كثيرا ، وتجملت له دائما ؛ لأنها ذات منصب وذات جمال ، فهي كملكة في قصر ملك .
ولكن الله معه يحفظه ويسدده .
وفي يوم من الأيام عملت على إغلاق الأبواب كما قال تعالى : (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ) وكانت سبعة أبواب ، فغلقت كل باب ، ولم يقل سبحانه : أغلقت ، وإنما (وَغَلَّقَتِ) زيادة في المبنى ليزيد المعنى .
فخلت معه ولكن الله سبحانه وتعالى يراهما (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219))[الشعراء].
(هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا) .. فخلا بالمعصية ، لكن ما خلا عن عين الله .
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
استحيي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
(وَهَمَّ بِهَا) أي : هاجت الشهوة في قلبه ، عليه السلام ، (لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ) .
فما هو برهان ربه يا ترى ؟
تلك أقوال المفسرين ، أعرضها عليكم ، ثم نخرج بالراجح ، إن شاء الله :
1- قال ابن عباس ، رضي الله عنه : لما هم يوسف بها سمع هاتفا يهتف يقول : يا يوسف ، إنني كتبتك في ديوان الأنبياء ن فلا تفعل فعل السفهاء.
2- وقال السدي : سمع هاتفا يهتف ويقول : يا يوسف ، اتق الله ، فانك كالطائر الذي يزينه ريشه ، فإذا فعلت الفاحشة فقد نتفت ريشك.
3- وقال بعض المفسرين : رأى لوحة في القصر مكتوب عليها (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً (32))[الاسراء]
4- وقال غيرهم : رأى كفا مكتوبا عليه (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10))[الانفطار] أي : إننا نحفظ تصرفاتكم وحركاتكم وسكناتكم.
5- وقيل : بل رأى يعقوب أباه في طرف الدار قد عض على إصبعه وهو يقول : يا يوسف ، اتق الله ، أورده ابن جرير وابن كثير .(/24)
6- وقال بعض أهل العلم من المفسرين أيضا : لما همت به وهم بها قالت : انتظر ، فقامت إلى صنم في طرف البيت فسترته بجلباب على وجهه .
قال : ما لك ؟
قالت : هذا الهي استحي أن يراني.
فدمعت عينا يوسف ، وقال : أتستحين من صنم لا يسمع ولا يبصر ، ولا يملك ضرا ولا نفعا ، ولا حياة ولا نشورا ، ولا أستحي من الله الذي بيده مقاليد الأمور .
7- ويرى ابن تيمية ، شيخ الإسلام ، وغيره من أهل العلم : أن برهان ربه الذي رآه ، هو : واعظ الله في قلب كل مؤمن ، فقد تحرك واعظ الله ، والحياء من الله ، والخجل من الحي القيوم في قلب يوسف ، عليه السلام ، فارتدع عن المعصية وعاد منيبا إلى الله (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41))[النازعات] فتذكر الوقوف بين يدي الله فتراجع.
فهل آن لشباب الإسلام أن يتحرك واعظ الله في قلوبهم ؟
وهل آن للمسلمين أن يجعلوا من يوسف ، عليه السلام ، قدوة لهم ؟
فيا من يتطلع على عورات المسلمين ، أليس لك في يوسف ، عليه السلام ، قدوة ؟
يا من يعامل ربه بالمعاصي ! ويرتكب الجرائم ! ويحرص على الزنا! أما رأيت يوسف ؟؟ وقد خلا بامرأة جميلة ذات منصب ، فتذكر واعظ الله في قلبه ؟
ويا من دعا إلى التبرج والسفور !! أما رأيت ما صنعت الخلطة بالنبي المعصوم الذي كان أن يزل وان يهلك ؟ وأنت تنادي المرأة أن تتبرج وتسفر عن وجهها وتخالط الرجال !!.
يقول صلى الله عليه وسلم : (( لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما ))[25].
ويقول صلى الله عليه وسلم : (( لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة ))[26].
ثم قال الله له : (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ) لنعمر مستقبله باليقين ، ولنجعله من ورثة جنة رب العالمين مع المؤمنين الخالدين (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) ، وإذا اخلص العبد لله حماه الله من الفتن ، ووقاه المحن ، وجنبه الشرور .
يقو سعيد بن المسيب ، رحمه الله : إن الناس في كنف الله وستره ، فإذا أراد أن يفضح بعضهم رفع ستره ، سبحانه وتعالى ، عنهم ثم قال الله عز وجل : (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ) هو يهرب من الفاحشة وهي تلاحقه .
يهرب إلى الله ، ويفر إلى الحي القيوم وهي تلاحقه (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ) شقت قميصه وهي تلاحقه وتدعوه إلى نفسها ، وهو يلتجئ إلى الله ويصيح بأعلى صوته ، وصوته يدوي في القصر (معاذ الله ربي احسن مثواي )قال بعض المفسرين : يعني بذلك زوجها الذي احسن مثواه ، وهو يسمي (ربا) عندهم أي : سيدا ، كقولنا : ( رب الناقة ) أي : سيدها.
وقال السدي وغيره : إنه الهي الحي القيوم ،اجتباني ورباني وعلمني وحفظني وحماني وكفاني وآواني فكيف أخونه في أرضه ؟
يا من أراد أن يتجاوز المحرمات ويتعدى الحرمات تذكر معروف الله .
(وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ) إن هذه القصة مذهلة ومدهشة ، فكلها مفاجآت وبغتات.
فبينما هي تلاحقه ، وإذ بسيدها أو بزوجها عند الباب .
ولكن انظر إلى كيد النساء ومكرهن ، فهي قد سبقت يوسف بالكلام ، واتهمته بأنه يريدها عن نفسها! ثم أصدرت الحكم عليه وقالت : (قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أراد بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) .
قال ابن عباس : يضرب بالسياط.
فقال يوسف بلسان الصادق الناصح الأمين التقي الورع الزاهد العابد : (قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) وصدق لعمر الله ، (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أهلها) قيل : من أبناء عمها ، وقيل : رجل من الخدم .
والصحيح الذي عليه الجمهور : انه طفل صغير ، كان بالغرفة لا يتكلم أنطقه الله الذي أنطق كل شيء .
ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : (( أربعة تكلموا في المهد : ماشطة امرأة فرعون ، والغلام الذي مع جريج ، وعيسى عليه السلام ، والغلام الذي شهد ليوسف عليه السلام ))[27] وسنده جيد.
وقال لهم : انظروا إن كان القميص قد شق من خلفه فهي الكاذبة ، وهو الصادق ؛ لأنها هي التي مزقته ، فهي التي تجري خلفه .
وإن كان قد شق من الإمام فهو الكاذب – وحاشاه – وهي الصادقة ، لأنه سيكون هو الذي هاجمها .
فوجدوا انه هو الصادق ، عليه السلام ، فنصحه زوجها بأن لا يخبر أحدا ، ولا يشيع الخبر في الناس ، فقال : (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا) .
وأما المرأة فنصحها برفق ولين ، على الرغم من جريمتها!!
فقال : (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ) فقط استغفري وتوبي !
فأنقذه ، سبحانه وتعالى ، من البئر عندما كاد له اخوته ، وأنقذه ، سبحانه وتعالى ، من الفتنة عندما كادت له امرأة العزيز .
ولكن بقيت محنته القادمة التي سيتعرض لها في السجن ، ولعلها تأتي في موضع آخر .
• فوائد من قصة يوسف :(/25)
ولكن نستفيد من هذين المقطعين من قصة يوسف ، عليه السلام ، امورا عظيمة ، تهم حياتنا في البيت أو في المجتمع .
أولا: أن هذا القران معجز وبليغ ، وقد تحدى به الله العرب الفصحاء فلم يستطيعوا أن يأتوا بمثله .
قال سبحانه : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88))[الاسراء].
ثانيا: أن الرؤيا منها ما يكون حقا ، ومنها ما يكون باطلا ، فإذا كانت من الرجل الصالح ، ولم تكن بأمر مستحيل ، فهي صادقة ، بإذن الله .
ثالثا : أن على المسلم إذا رأى رؤيا أن لا يخبر بها إلا من يحب ، ولا يخبر بها كل الناس .
أما الرؤيا السيئة ، فلا يخبر بها أحدا ؛ لأنها لن تضره ، بإذن الله .
رابعا : أن الناس قد فطر كثير من منهم على الحسد.
قال الحسن : ما خلا جسد من حسد ، ولكن الكريم يخفيه ، واللئيم يبديه .
وهو من اعظم الذنوب ؛ لأنه يأكل الحسنات ، كما تأكل النار الحطب.
وهو يذهب بالتقوى ، ويغضب الرب سبحانه ، قال سبحانه : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)[النساء : 54] وهو أول أمر عصي به الله ، وذلك عندما حسد إبليس آدم.
والواجب على الحاسد : أن يتقي الله ، وان يعلم أن الأمور بيد الله ، والفضل له يعطيه من شاء ، فانك إذا حسدت أحدا فقد اعترضت على قضاء الله وحكمته .
يقول الشاعر:
ألا قل لمن ظل لي حاسدا أتدري على من أسأت الأدب
أسات على الله سبحانه لأنك لم تر لي ما وهب
وواجب الحاسد : أن يستغفر ويتوب ، ويدعو لأخيه بخير ، وأن لا ينافسه إلا على أمور الآخرة المقربة عند الله ، أما الدنيا فإنها تأتي وتذهب.
خامسا: عدم تفضيل بعض الأبناء على بعض ، كما سبق ؛ لأن هذا يورث الحسد والبغضاء بينهم ، وعدم إعطاء أحدهم شيئا دون الآخر .
ولذلك لما أتى النعمان بن بشير يشهد الرسول صلى الله عليه وسلم على عطيته لأحد أبنائه ، قال له صلى الله عليه وسلم : (( أأعطيت كل أبنائك مثله ؟)).
قال : لا
قال : (( لا تشهدني على جور ))[28].
سادسا : أن الحافظ ، هو : الله سبحانه دون غيره ، فالجأ إليه في الضوائق والشدائد ليحفظك سبحانه ، ومن عرف الله في الرخاء عرفه في الشدة.
سابعا: وجوب الصبر عند الفتنة ، خاصة فتنة النساء ، والالتجاء إلى الله ليصرفها عنك ، وخير ما يصرفها كما قال سبحانه هو التقوى والإخلاص.
هذه أبرز الفوائد من هذين المقطعين من هذه السورة العظيمة.
جولة مع بني إسرائيل
قال تعالى : (وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وأنتمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52))[البقرة].
وقال سبحانه في سورة الأعراف : ( وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ)(لأعراف: من الآية 142).
كيف واعده سبحانه ؟
يقول الرازي وغيره : إما انه واعده قبل أن يلتقي ، سبحانه وتعالى ،بموسى في اللقاء التاريخي ليتلقى كلام الله .
وهذا أمر عجيب !
فقبل أن يكلمه الله واعده أن يأتي بعد أربعين.
وقيل بل مدة المكالمة أربعين ليلة ، أي : أن الوقت والزمن الذي تستغرقه المكالمة مع الله هو أربعون ليلة.
فلما نجى الله موسى ، عليه السلام ، قال لبني إسرائيل مكانكم اجلسوا ، وكانوا ستمائة ألف ، لكنهم خبثاء حقراء ، أهل تمرد على الله ، إلا من رحمه الله .
قالوا : أين تذهب
قال : اذهب آل الله ليكلمني.
قالوا : لا بد أن تأتي معك بشيء لنعلم هل كلمك أم لا .
فذهب ، عليه السلام .
وفي بعض السير انه مكث ثلاثين يوما صائما .
فلما كان في الطريق وجد ثار الصيام ( الخلوف ) في فمه .
فأخذ سواكا فتسوك.
فلما كله الله ، قال يا موسى ، وتستاك ؟
قال لأكلمك يا ربي ، وأنا طاهر الفم .
لأن في الحديث الصحيح : (( السواك مطهرة للفم مرضاة للرب ))[29].
قال : يا موسى ، إما تعلم أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك.
عد فصم عشرة أيام ثم تعال
فلما أتم الأيام عاد فكلمه ، وأوصى إليه ما أوصى .
فقال : ( رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إليك)(لأعراف: من الآية 143)).
قال الله : (لنْ تَرَانِي )(لأعراف: من الآية 143)).
(فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً )(لأعراف: من الآية 143)
فاستفاق وقال : ( سُبْحَانَكَ تُبْتُ إليك وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)(لأعراف: من الآية 143).
حينها عاد موسى ، وقد أعطاه الله الألواح ، وكب الله له التوراة بيده كما في ((الصحيح )).
أما بنو إسرائيل في تلك الفترة ، فقد جمعهم رجل مجرم ،اسمه : ( السامري ).
وكان رجلا داهية منافقا ، يزعم أن جبريل رباه بالوحي الذي ينزل به من عند الله .
وكان اسمه الحقيقي ( موسى ) أيضا .
فلذلك يقول الشاعر :(/26)
فموسى الذي رباه فرعون مؤمن وموسى الذي رباه جبريل كافر
أتى هذا السامري ، فقال لبني إسرائيل : عندي لكم نبأ عجيب.
قالوا ما هو النبأ العجيب ؟
قال : موسى ذهب يبحث عن إلهه ، وإلهه هنا .
قالوا : أين ؟
قالوا : هذا العجل .
وكان قد أخذ حلي النساء ، وذهب النساء ، وفضة النساء ، ثم سبكها ، ثم صور لهم عجلا ، فكان ينفخ فيه فإذا هو يصلصل .
قال : ( هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ)(طه: من الآية 88) أي : نسي موسى الهه وتركه هنا .
سبحان الله !
عجل ، لا يملك لهم ضرا ولا نفعا ، ولا يرد لهم قولا ولا رشدا ولا حكمة .
ولكن العقول السخيفة .
فأتى موسى ، عليه السلام ، وإذا هم عاكفون على العجل ، فقال : ما هذا ؟
قالوا : هذا إلهنا .
فألقى الألواح من الغضب .
انظر إلى الغضب ماذا يفعل ؟
فكلام الله لا يلقى في الأرض .
وعمد إلى هارون أخيه ، وهو أكبر منه سنا ، فأخذه بلحيته أمام الناس ، وأراد أن يقتله .
فقال : لا تشمت بي الأعداء لقد استضعفوني ؛ لأن موسى كان يرهب بني إسرائيل إذا كان فيهم ، فلا يستطيعون المخالفة ، بخلاف هارون ،عليهما السلام جميعا .
ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم في عمر بأن فيه شبها من موسى.
ولذل فبعض المؤمنين يكون قويا في الحق ، وبعضهم يكون ضعيفا لا يستطيع قول الحق أو إنكار المنكر .
ذكروا في التاريخ أن الخليفة المعتضد كان من ابرز خلفاء بني العبا ، فأتى عالم من العلماء فوجد الخمر يباع في السوق .
فاخذ سكينا وعمد إلى جرار الخمر فقطع مائة قربة ، ثم أتى إلى الطبول فشقها .
فذهبوا إلى الخليفة ليخبروه فقال : افصلوا رأسه عن جسمه .
فدخل على الخليفة ، فقال له الخليفة : ما هبتني ؟
قال : والله ، ما أقدمت عليها إلا من بعد ما تصورتك اقل من الذباب .
قال : أما علمت إني المعتضد؟
قال : علمت .
قال : ماذا تصورت إني افعل بك ؟
قال : تصورت انك تفصل رأسي عن جسمي ، والمصير الجنة .
قال : لماذا شققت مائة قربة ، وتركت قربة واحدة ،وقطعت الطبول وتركت طبلة ؟
قال : لما بدأت أشق القرب والطبول أعجبتني نفسي ، فرفعت السكين خشية من الرياء في إنكار المنكر .
فسامحه الخليفة ، وقال :علمت انك صادق .
فقال هارون لأخيه موسى : ) ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(لأعراف: من الآية 150).
فاستغفر له ولأخيه .
فقال موسى لهم : لقد كلمني ربي وهذه الالواح .
وسيأتي إكمال ذلك ، ولكن نعود إلى الآيات .
يقول ، سبحانه وتعالى )وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وأنتمْ ظَالِمُونَ) (البقرة:51)
الظلم ظلمات يوم القيامة .
والظلم على قسمين .
1- ظلمك لنفسك وهو أن تحرمها طريق السعادة .
فأظلم الناس من ظلم نفسه .
إذا رأيت الإنسان يشرك بالله فقد ظلم نفسه ظلما ما بعده ظلم ، وهكذا إذا كان يعطل الصلاة في المسجد ،ويعق والديه ، ويقطع رحمه ، ويرتكب المعاصي .
2- وظلم الناس هو النوع الثاني .
والظلم ظلمات يوم القيامة .
والله عز وجل لا يفصل في العرصات يوم العرض الأكبر ، حتى يفصل بين الناس في المظالم .
حتى أن الشاة القرناء يقتص منها للشاة الجلجاء الجماء التي لا قرون لها .
قوله : ( ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (البقرة:52)
بعدما عبدوا العجل .
وقد ورد في القرآن العفو ، وورد الرضا ، وورد المغفرة . فما الفرق بينهما ؟
الرضا اعظم المنازل ، نسأل الله أن يرضى عنا وعنكم .
الرضا أن يعفو عنك ، ولا يعاتبك ، ولا يقررك بشيء ، بل يعفو عنك أبدا ، ويرضى عنك ، ولا يعاتبك في شيء .
وهذا مثل – ولله المثل الأعلى – إنسان أخطأت معه ، فأتيت عنده فرضي عنك رضاء تاما ، وقال : إنما رضيت عنك لأني احبك .
أما المغفرة فيقول : غفرت لك ،لكن قلبي يعلمه الله ، لكن ما أجازيك وأتعرض لك ، اذهب .
أما العفو فهو المسامحة مع العتب .
يعفو عنك فيقول : أنا عفوت عنك ، لكن لماذا فعلت هذا الفعل ؟ فيأخذ في معاتبتك .
قال سبحانه وتعالى : (ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ ) لماذا لم يقل : ثم رضينا عنكم .
كيف يرضى عن بني إسرائيل أهل الفضائح في التاريخ ؟
لكن قيل : بان هؤلاء الذين عاشوا مع موسى r ، رضي الله عنهم وعفا عنهم ، أما غيرهم فلا ، كما سيأتي .
(ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.)
للشر أقسام : شكر بالقلب ، وشكر باللسان ، وشكر بالجوارح .
فتشكر الله ، سبحانه وتعالى ، بلسانك فتقول : لقد انعم الله علي ، فلله الحمد والشكر والمنة والفضل .
وهذا معروف عند العرب ، فإن العربي أو السلطان من العرب ، أو الملك من العرب إذا أعطى عطية فإنه يشكر عليها عندهم .
وهكذا غيره من الكرماء ومن الناس المشهورين .(/27)
كما فعل زهير بن أبي سلمى مع هرم بن سنان ؛ الذي مدحه بقصائد طويلة شكرا له على ما قدم ، وفدى بماله في الحرب التي وقعت .
فقال فيه زهير :
لمن الديار بقنة الحجر اقوين من حبي ومن هجري
دع ذا وهات القول في هرم خير البداة وسيد الحضر
لو لم يكن شخصا سوى رجل كان المنور ليلة البدر
والشكر بالقلب : أن تعتقد أن هذه النعمة من الله .
قال داود : يا رب كيف أشكرك ؟ وقد أنعمت علينا بالنبوة .
قال : يا داود أتعرف أن ذاك مني ؟
قال : نعم يا رب .
قال : فقد شكرتني ، )وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)(النحل: من الآية 53)
وهذا شكر القلب
وشكر الجوارح أن تستعملها في مرضات الله عز وجل .
انعم الله عليك بالشباب ، فانك تستخدمه في طاعته سبحانه ، إما إن استخدمته في معصيته فما شكرته .
ا ) لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(المائدة: من الآية 6)لكن ما شكروا الله .
ثم قال سبحانه وتعالى : )وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (البقرة:53)
هل هناك فرق بين الكتاب والفرقان ؟
ثلاثة أقوال لأهل العلم :
قيل : الفرقان هو جزء من التوراة .
وقيل : هو كتاب مستقل .
وقيل : هو التوراة ، أي : من باب الترادف.
والصحيح : انه يدخل في التوراة ، وانه من باب الخاص بعد العام ، أي : أن الفرقان جزء من التوراة .
والفرقان على قسمين :
فرقان ظاهر ، وفرقان باطن .
فالفرقان الظاهر ، هو القرآن ، وهو السنة ، وهو العلم النافع .
وفرقاننا ، يا مسلمون ، هو الكتاب والسنة ؛ نفرق به بين الحق والباطل .
وأما الفرقان الباطل ، فهو فرقان في القلب يأتي من التقوى )يَا أيها الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (لأنفال:29)
ويحصل الفرقان كلما اتقيت الله ، وأكثرت من النوافل ، وصدقت مع الله ، وأخلصت نيتك ، رزقك الله فرقانا به بين الخير والشر والصادق والكاذب والهدى والضلال .
قال سبحانه وتعالى )وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (البقرة:53) هداية القرآن وهداية الفرقان.
لكن ما اهتدوا .
أتدرون ماذا فعل بنو إسرائيل بهذا الميراث ؟
يقول سبحانه وتعالى : )وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) (البقرة:78) أي : يتمتمون بالتوراة ، فحرفوها وبدلوها واشتروا بها ثمنا قليلا ، فغضب الله عليهم ولعنهم في الدنيا والآخرة.
إذا لا يوثق بمعلوماتهم أبدا ؛ لأنهم بدلوا وغيروا .
والمقصد من الكتاب والفرقان : الهداية .
والهداية لا تحصل عندنا إلا بالقران وبالسنة .
وهنا اقف وقفة بسيطة ، وهي انه وجد من غلاة الصوفية من يقول : علمنا علم الخرق ، وعلمكم علم الورق ، أي : أن علمهم يأتيهم مباشرة من الله دون حاجة الىتعلم الحديث والفقه وغيرها.
حتى نقل ابن القيم أن أحد علمائهم يقول : أنتم تأخذون علمكم من عبد الرزاق ، ونحن نأخذ علمنا من الرزاق .
أي : عبد الرزاق بن همام أحد المحدثين الكبار ، وقد جاء عبد الرزاق ، ما عرفتم الخلاق .
قال سبحانه : )وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إنكم ظَلَمْتُمْ أنفسكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أنفسكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة:54)
يقول موسى لهم : كفارتكم عند الله من الذنوب : أن تقتلوا أنفسكم .
فلله الحمد والشكر أن جعل توبتنا أن نعود إلى الله دون حاجة لقتل أنفسنا .
مهم عصى العبد وتاب ، تاب الله عليه ، بأن ينزع من الذنب ويستغفر ويصلي ركعتين )قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أنفسهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر:53)
لكن بنو إسرائيل توبتهم تكون بقتل النفس .
فقالوا : كيف نقتل أنفسنا ؟
قال : خذوا سكاكين .
فأنزل الله عليهم غمامة ، كما قال ابن كثير : حتى لم يعد يعرف الواحد منهم ولده من أخيه من خاله .
فأخذوا يتقاتلون بالسكاكين ، ثم كشف الله عنهم الغمام ، فإذا القتلى سبعون ألف قتيل !
هذه توبتهم .
(فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) فتاب عليهم ربهم .
وان بنو إسرائيل إذا أذنب العبد منهم ذنبا كتبت خطيئته على جبينه ، فيأتي في الصباح أمام الناس ليجلس معهم في المنتدى ، أو في المجلس ، أو في السوق ،وإذا مكتوب عليه : ( سرق البارحة ) (سرق عشرة ريالات) ( شرب الخمر ) (زنى)... الخ .
لكن نحن سترنا الله ، وحفظنا من الفضيحة ،وآوانا الله .
فلله الحمد والشكر .
يذنب العبد فلا يعلم بذنبه إلا الله .(/28)
تصور في نفسك أن عليك رقيبا من الناس ، أو أن والدك دائما يراقب حركاتك وسكناتك ، فهل تعصي ؟
هذا هو بشر ، فما ظنك بالمحيط بل شيء سبحانه ؟
ولذلك صح في الحديث أن الله يقرر العبد بذنبوه فعلها في الظلام ، وليس عنده إلا الله الذي يشاهده يوم ارتكب ذنبه ، فيغفرها الله له .
أما المجاهر بالمعاصي فإنه يهلك عند الله ؛ لأنه تبجح بمعصية الرحمن ولم يستح ، قال صلى الله عليه وسلم : (( كل أمتي معافى إلا المجاهرين )) [30]، فالواجب على العبد أن يستر ذنبوه وعيوبه عن الناس ، ويتوب فيما بينه وبين مولاه ، قبل أن يفضحه فيفتضح أمامهم.
وواجب على المسلم أيضا أن لا يحاول نشر وإشاعة المعاصي والنكرات ، بالتحدث عنها بان يقول : حدثت جريمة قتل البارحة ، أو زنا أو لواط ، أو غير ذلك من الجرائم.
بل يبلغ الجهات المختصة دون نشرها على الناس .
لأن مثل هذا الفعل يجعل النفس تستمرئ سماع هذه الأخبار فتستهين بالمعصية .
ولأنها تحبط بعض النفوس عن الخير والعمل الصالح .
ولذلك في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : (( إذا قال الرجل : هلك الناس ، فهو أهلكهم ))[31] روي بالنصب (( أهلكهم )) ، ورويت بالرفع (( أهلكهم )).
أما على النصب فمعناه من الفعل الماضي ، أي : هو الذي تسبب في إهلاكهم بكثرة نشره للسيئات .
وأما على الرفع فهو أهلكهم ، يعني : أشدهم هلاكا ، لأنه اعجب بنفسه .
فكأنه بذلك يزكي نفسه .
فيا من أذنب في الليالي والأيام .
ويا من ترك الصلاة والصيام.
ويا من هجر البيت الحرام .
ويا من رآه الظلام عاصيا للواحد العلام .
عد إلى الله .
إن الملوك إذا شابت عبيدهم في رقهم عتقوهم عتق ابرار
وأنت يا خالقي أولى بذا رما قد شبت في الرق فأعتقني من النار
قال سبحانه وتعالى : )وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأخذتكُمُ الصَّاعِقَةُ وأنتمْ تَنْظُرُونَ) (البقرة:55) .
دائما بنو إسرائيل مثل الأطفال .
طفلك الآن إذا أجلسته في حجرك ارتقى إلى كتفك .
فإن أجلسته على كتفيك صعد على رأسك .
لقد آذوا موسى ، عليه السلام ، كثيرا .
ضرب لهم الحجر ، فتفجرت اثنتا عشرة عينا .
فقالوا : أعطنا الطعام .
فدعا الله لهم ، فأنزل المن والسلوى فأكلوا .
فقالوا : لا نريد المن والسلوى ، أعطنا فولا وبصلا وكراثا .
فقال : ) أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ )(البقرة: من الآية 61) .
فهبطوا مصر .
فلما أرادوا أن يدخلوا الباب ، طلب منهم أن يقولوا : حطة .. أي : اغفر يا رب ذنوبنا وحطها عنا.
فدخلوا يزحفون ويقولون : حبة في شعيرة ، استهزاء واستهتارا .
فلما دخلوا قال لهم : هناك عدو نريد أن نقاتله .
قالوا : ) فَاذْهَبْ أنت وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)(المائدة: من الآية 24) .
وهكذا شأنهم في كل أحوالهم معه لمن تأمل سورة البقرة .
قال سبحانه وتعالى : )وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً)(البقرة: من الآية 55) أتى موسى : بالصحف – كما سبق – وقال : كلمني الله وهذه هي الصحف .
قالوا : لا ، حتى نرى الله .
سبحان الله !
فهذه الأمة تتوارث الخبث صاغرا عن صاغر .
قال بعضهم : معنى جهرة ، أي : عيانا .
وقيل : علانية .
فقال الله عن نفسه )لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ)(الأنعام: من الآية 103).
والناس في إثبات الرؤية ثلاثة أقسام :
1- المعتزلة قالوا : لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة وقد كذبوا .
أما في الدنيا فلا يرى ، وأما في الآخرة فيرى ، كما قال سبحانه )وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ) (القيامة:22) )إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) (القيامة:23)
فنسأل الله أن يرينا وجهه .
واستدل الشافعي بقوله تعالى : )كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) (المطففين:15) فلما حجب أهل المعصية عن النظر إلى وجهه علم أن أهل الطاعة ينظرون إليه ، سبحانه وتعالى .
2- والصوفية أو بعض غلاة الصوفية قالوا : يرى في الدنيا والآخرة .
وقد كذبوا ، أما في الدنيا فلا يرى ، وأما في الآخر فيرى كما سبق .
3- وأما أهل السنة ، فقالوا وقد صدقوا : انه سبحانه لا يرى في الدنيا لقوله تعالى : ) لَنْ تَرَانِي )(لأعراف: من الآية 143) ، ولكن يرى في الآخرة ، ولا يراه إلا الصالحون المؤمنون .
نسأل الله من فضله
)وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأخذتكُمُ الصَّاعِقَةُ وأنتمْ تَنْظُرُونَ) (البقرة:55)
قيل : الصاعقة صوت نزل عليهم من السماء
ومعنى :( وأنتمْ تَنْظُرُونَ) قال أهل العلم : ينر بعضكم إلى بعض .
وقيل : قتل بعضهم بالصاعقة ، فلما ماتوا أحياهم الله ، ثم قتل الآخرين ثم أحياهم .
)ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (البقرة:56)(/29)
بعثهم الله فأحياهم بعدها أخذتهم الصاعقة ليشكروا .
فما شكروا .
)وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ) (البقرة:57) وهذه من النعم الجليلة أن يكون الجو جميلا معتدلا .
الهواء بارد ، والظل وارف ، والماء سلسال ، والجمال في الطبيعة ، والشجر تتظلل به ، وزقزقة العصافير في كل مكان .
فكن الغمام يسير معهم إذا ارتحلوا وإذا حلوا .
(وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى).
المن : شبه الحلوى .
والسلوى : طير يشوى لهم .
فكان يأتيهم رغدا من كل مكان ، يجدونه على الشجر ، ينزل دون عناء أو تعب منهم .
(كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) ولم يقل : كلوا مما رزقناكم . ليبين انه حلال ؛ لأن الرزق قد يكون حراما ، وقد يكون حلالا .
ولكن الطيب هو الحلال .
(وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أنفسهُمْ يَظْلِمُونَ)
الله ، عز وجل ، لا تنفعه طاعة الطائع ، ولا تضره معصية العاصي .
قال سبحانه في الحديث القدسي : (( يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وإنسكم وجنكم كانوا على افجر قلب رجل واحد ما نقص ذلكم مما عندي شيئا ))[32].
وإما الإنسان هو الذي يظلم نفسه بمعاصيه وذنوبه .
نسأل الله أن لا يجعلنا من الظالمين .
هذه جولة عجلى على بعض أحداث هؤلاء القوم الأذلاء ؛ لنعرف ماضيهم وتاريخهم من قرآننا ؛ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
فنعلم انهم أمة ظالمة قد غضب الله عليها ؛ لأنها كثيرا ما عصت رسله وأنبياءه .
ونعرف شيئا من طباعهم ، وعلى رأسها المكر والخديعة وعدم الوفاء بالعهود.
فلا نثق بهم اليوم ، ونحاول أن نقيم معهم العهود ؛ التي هي سرعان ما تنتقض كما علمنا ذلك القرآن .
بقرة بني إسرائيل
سورة البقرة هي أطول سورة في القرآن ، ويصفها بعض العلماء بأنها سورة النسف والإبادة لبني إسرائيل ، واحتوت على كثير من أحوالهم مع أنبيائهم .
ومن تلك الأحوال ما سميت السورة باسمها ، ألا وهي قصة ( البقرة ) ، فإن بني إسرائيل تعنتوا فيها وعقدوا الأمور ، وتشددوا فشدد الله عليهم .
وملخص القصة : أن أحد بني إسرائيل كان غنيا جدا ، وكان له أبناء أخ يحقدون عليه لغناه ، فتآمروا على قتله وسلبه ماله ، فقتلوه في ظلام الليل دون أن يشعر بهم إلا رب السماوات .
ثم أرادوا أن يخفوا جريمتهم ، فتباكوا في الصباح على عمهم .
وذهبوا إلى موسى نبي الله ، وأخبروه ، وتحاكموا إليه ليبحث لهم عن قاتل عمهم !
فقام موسى فابتهل إلى الله بان يخبره بقاتل الرجل ، فأوحى الله إليه بان يأمرهم بقتل بقرة ، وأخذ شيء من أعضائها، وضرب الميت بها ليقوم ويخبرهم بقاتله .
فقال لهم موسى : )وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) (البقرة:67) ولو ذبحوا أي بقرة لانتهى الأمر ونفذوا الطلب .
لكنهم تعنتوا وتشددوا مع نبيهم ، وقالوا : (أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً)
أي : أنهم استغربوا هذا الحكم ، وهذه الطريقة لإظهار القاتل ، وهذا من الاعتراض على الله .
فقال لهم موسى : (أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ).
فعلموا انه صادق .
ثم قالوا : )قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ) (البقرة:68) .
فقال (إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ).
أي : ليست بالكبيرة المسنة ، ولست بالصغيرة البر ، بل بينهما .
فتعنتوا أكثر واكثر ، وقالوا : )قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا) (البقرة:69) .
فقال : (إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ)
وهذا من اجمل الألوان .
فذهبوا ثم عادوا وقالوا متعنتين : )قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا) (البقرة:70) .
قال : )قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ) (البقرة:71) أي: ليست مهيئة للزرع ولا للحرث ، فهي معززة، أي : لا تحرث ولا تزرع .
ثم قال : (مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا)أي : ليس فيها علامات تخالف الأصفر الفاقع.
(قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ) أي : كأنهم يقولون أنت في الأول لم تأت بالحق ، سبحان الله ، فمن يأت بالحق إذا لم يأت به نبي الله ؟
ثم ذهبوا فوجدا البقرة عند عجوز في إحدى النواحي ، ليس لها إلا هي ، فتغالت في ثمنها ، حتى ملؤا لها جلد البقرة ذهبا .
فلما ذبحوها ضربوا ببعضها القتيل ، فقام من ميتته بإذن إله ، واخبر بقاتله ، ثم مات من جديد .
هذه هي القصة باختصار .
وفعل بني إسرائيل مع نبيهم في هذه القصة ، هو من التعنت والتشدد والأذى لرسول الله .
وهم لم يفعلوا كما فعل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ؛ الذين قالوا قبل بدر : والله ، لو سرب بنا إلى برك الغماد ( موضع ) لسرنا مع .
وكان الواحد يسمع كلامه r فيصدقه ، وينفذه دون أن يراجعه r ، أو يكثر عليه .(/30)
ومعلومة لديكم : قصة عمير بن الحمام لما سمع الرسول r يبشر بالجنة ، وأنهم ما بينهم وبينها إلا أن يقتلهم المشركون ، فرمى التمرات التي بيده وقاتل حتى قتل تصديقا له r [33]، ولم يتعنت كما تعنت أحفاد القردة والخنازير .
وفوائد هذه القصة ( بقرة بني إسرائيل ) عديدة منها :
أولا : أن العقل لا يحق له أن يعترض على الوحي الآتي من السماء ، ويوم يبدأ بالاعتراض والتشكيك تبدأ اللعنة ويحل الغضب .
ثانياً : أن على المسلم أن يتقلى الأوامر والرسالة باستسلام ، وان يسلم وجهه طوعا لله ، ويرخي قيادة لمولاه .
ثالثا : فضل أمة محمد r ، حيث لم يتعنتوا كما تعنت بنو إسرائيل ،كما سبق .
رابعا : انه لا تعايش بين المسلمين ، وبين هؤلاء الأنجاس ، مهما كان الأمر ؛ لأننا نختلف عنهم في جميع أمورنا .
لا كما يزعم البعض من إمكانية التعايش السلمي معهم ؛ لأن الحية لا تلد إلا حية .
فما دام أولئك أجدادهم ، فإن الأبناء سيكونون مثلهم ، أو شرا منهم في التعنت والخبث .
خامسا من فوائد القصة ، كما ذكر الإمام احمد ، أن البقرة تذبح ولا تنحر .
وقد استشهد الإمام بهذه الآية ) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً)(البقرة: من الآية 67) ولم يقل : تنحروا .
وهذا من اللطائف .
سادسا : استدل بها الإمام مالك على جواز بيع ( السلم ) أي : البيع بالصفات دون حضور السلعة ؛ لأن الله ذكر لهم الصفات فقط ، فاستجابوا بالصفات فأقرهم الله .
سابعا : أن على المسلم أن لا يتعنت في أموره الدينية والدنيوية ،ولا يتشدد ؛ لأن التشدد مصيره الهلاك أو التعب في الحياة .
ثامنا أن الله إذا أمر بأمر فهو على ظاهره ، ولا نبحث ونستفسر عن أشياء لم يردها الله ، فنصرفه عن ظاهره بسببها .
تاسعا : أن من نفذ الأمر في أول وقته فهو المأجور ، مثل الصلاة في أول وقتها .
قال ابن مسعود : يا رسول الله ، أي العمل افضل ؟
قال : (( الصلاة على وقتها ))[34].
وهكذا الحج في أول العمر افضل ممن يؤخره إلى ما بعد المشيب .
إخوان
القردة والخنازير
قال الله ،سبحانه وتعالى : )قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) (البقرة:97)
قال انس ، رضي الله عنه : أتى عبد الله بن سلام اليهودي الذي اسلم آل رسول الله r أول ما قدم المدينة فقال : يا رسول الله إني أسألك عن ثلاث لا يعلمها إلا نبي
قال : (( ما هي ؟)).
قال : ما هو أول اشراط الساعة ،وما هو أول طعام أهل الجنة ،ولماذا يشبه الولد أمه أو أباه .
فقال r ، وهو يجيب على الأسئلة الثلاثة العويصة المشكلة ، التي لا تعلم إلا بوحي من فوق سبع سماوات .. قال : (( أخبرني بهن جبريل آنفا )).
قال ابن سلام : جبريل عدو اليهود من الملائكة .
فقال r : (( أما أول اشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب )).
(( وأما أول طعام أهل الجنة فزيادة كبد الحوت )).
(( وأما أن الابن يشبه أمه أو أباه ، فإذا سبق ماء الرجل أشبه أباه ، وإذا سبق ماء المرأة أشبه أمه )).
قال عبد الله : صدقت بابي و أمي، والله ما علمها إلا نبي ، اشهد أن لا إله إلا الله ، واشهد أن محمدا رسول الله ، يا رسول الله إن اليهود قوم بهت يبهتون ( أي : أهل زور وافتراء ) فاسألهم عني .
فجعله r في مشربة ( وهي الغرفة الصغيرة ) ، وجمع أحبار اليهود وقال : (( كيف ابن سلام فيكم ؟)).
فقالوا : سيدنا وابن سيدنا ،فقيهنا وابن فقيهنا ، خيرنا وابن خيرنا .
قال : أفرأيتم إن اسلم .
قالوا : أعاذه الله من ذلك .
فرد عليهم ابن سلام ، وقال : اشهد أن لا إله إلا الله ، وان محمدا عبده ورسوله .
فانخنسوا ، وقالوا : شرنا وابن شرنا ، وسيئنا وابن سيئنا ، وخبيثنا وابن خبيثنا[35] .
ساق الإمام البخاري هذا الحديث على هذه الآية ؛ لأنه يريد أن يفسر كل آية تفسيرا صحيحا بسنده ؛ لأنه اشترط الصحة حتى في التفسير .
والشاهد في الحديث أن اليهود يعادون جبريل .
فلما قال r : إن جبريل اخبرني بها آنفا ، قال ابن سلام : ذلك عدو اليهود من الملائكة.
ولماذا عادى اليهود ، عليهم اللعنة ، جبريل ، عليه السلام .
لثلاثة أسباب قالها أهل العلم .
الأول انه نقل الرسالة منهم إلى غيرهم ، فظنوا أن عندهم صكا شرعيا على الرسالة لا تنزل إلا فيهم ، فغضبوا لذلك وعادوه .
الثاني : لنه ينزل بالخسف والتدمير ، فالله ، عز وجل ، إذا أراد أن يدمر أمة أرسل إليهم جبريل ، وله ستمائة جناح ، ومن ذلك انه دمر قرى قوم لوط ، عليه السلام ، وكانت أربع قرى ، وفيها أربعمائة ألف ، وقيل : ثمانمائة ،فرفعها في الجو إلى السماء حتى سمع الملائكة نباح كلابهم وصياح ديكهم ، ثم أنزلها على وجهها في الأرض .
فهم يقولون : انه ليس مثل ميكائيل ، يأتي بالنبات والمطر والغيث في تؤدة وسكينة.(/31)
الثالث : انه فضح مفترياتهم واخبر بأباطيلهم ، واخبر الرسول r بأسرارهم من تحريف للكتاب وقتل للأنبياء .
والآن لنقرأ القرآن والحديث النبوي ، وهما يتحدثان عن بني إسرائيل ، و أول سورة في القرآن ذكر فيها هؤلاء الخبثاء هي سورة البقرة التي من قرأها ظن أنها عن بني إسرائيل .
ولا بد من معرفة صفات هؤلاء الأعداء الماكرين ؛ لأنه من اعظم الأشياء التي تبصر الملم والمؤمن بألاعيبهم الحديثة التي لا تتبدل عن القديمة ، وتكشف له عن المزيد من خططهم وكيدهم .
وهي تزيد المؤمن يقينا بالله ، سبحانه وتعالى ، وبهذا الدين .
قال تعالى )وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيات وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) (الأنعام:55)
ولذلك من عرف الجاهلية ، أو مسالك المفسدين كان اشد تمسكا بهذا الدين القويم بخلاف من لم يعرف إلا الإسلام .
قال عمر ، رضي الله عنه : إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشا في الإسلام أناس ما عرفوا الجاهلية .
ولذلك كان الصحابة من اشد الناس إيمانا ؛ لأنهم عرفوا مسالك الجاهلية ومفاسدها .
وقبل أن نتعرف على صفات أحفاد القردة والخنازير ، لا بد أن نلم بسبب هذا الحديث السابق .
لقد هاجر r من مكة إلى المدينة ، فأمست مكة في ثوب حزن وفي حداد من مفارقة الحبيب ، وبكى عليه الغار الذي صاحبه أيام الشباب .
فانطلق r إلى المدينة ، وكانت في جاهلية جهلاء ، فلما قدم علها :
استفاقت على أذان جديد ملؤ آذانها أذان بلال
فكان عبد الله بن سلام الحبر اليهودي من الذين أبصروه صلى الله عليه وسلم عند مجيئه ، وعبد الله بن سلام هذا هو الذي نزل في فيه قوله تعالى : )قُلْ أَرأيتمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ )(الاحقاف: من الآية 10) .
فذهب عبد الله لما رأى الناس يجتمعون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فنظرت في وجهه فإذا هو ليس بوجه كذاب ؛ لأن وجه الكذاب يعرف بالنظر إليه ، وأما الصادق فنظراته صادقة ولمحاته صادقة .
لو لم تكن فيه آيات مبينة لكان منظره ينبيك بالخبر
قال ابن سلام ، فسمعته يتكلم r ، واسمع إلى الكلمات التي كأنها الدر أو الجواهر ، بل أغلى من الجواهر .
بالله لفظك هذا سال من عسل أم قد صببت على أفواهنا العسلا
أم المعاني اللواتي قد أتيت بها أرى بها الدر والياقوت متصلا
لو ذاقها مدنف قامت حشاشته ولو رآها غريب داره لسلا
قال r : (( أيها الناس أطعموا ، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام ،وأفشوا السلام تدخلوا الجنة بسلام ))[36]، فلما سمع عبد الله هذا الكلام آمن .
قال r : (( لو آمن بي عشرة من أحبار اليهود لآمن بي اليهود))[37] ، لكنهم لم يكملوا عشرة لأن الله كتب عليهم اللعنة .
• مكائد اليهود ومفاسدهم :
1- فمنها دخولهم مع الباب يزحفون بعد أن قال لهم الله عز وجل : ) وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ )(البقرة: من الآية 58) قال بعض المفسرين : هي بيت المقدس ، وقيل : بل أريحا .
فلما فتح الله على موسى ، عليه السلام ، تلك البلاد ، قال لهم : إن نعمة الله عليم يوم نصركم ، ويوم أنقذكم من فرعون الطاغي أن تدخلوا متواضعين سجدا من باب المدينة ، كما دخل صلى الله عليه وسلم يوم الفتح ، قيل في بعض الروايات : بان دموعه سالت تواضعا لله فرفعه الله ؛ لأن من يتواضع لله يرفع.
فقال لهم موسى ، عليه السلام : ادخلوا لله متواضعين لما نصركم وأنقذكم ، فأبوا ..
وقال الله ، عز وجل ، لهم : (وَقُولُوا حِطَّةٌ) أي : يا ربي احطط عنا ذنوبنا ، كقولك : ( غفرانك)
فقال لهم موسى : قولوا: حطة ،وهي كلمة خفيفة.
فدخلوا يزحفون ويقولون : حنطة في شعيرة ! )فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ )(البقرة: من الآية 59) .
لما بدلوا هذا الكلام غضب الله عليهم ، سبحانه وتعالى ، من فوق سبع سماوات ، وأخزاهم وأذلهم .
2- ومن جرائمهم وكيدهم : انهم قتلوا في غداة واحدة عشرات من الأنبياء ؛ لأنه كان يبعث لهم جملة من الأنبياء في زمن واحد .
وأتوا بيحيى ، عليه السلام ، فذبحوه وقطعوا رأسه ،عليه السلام ،وألقوه في حضن أبيه زكريا ، فانتفض زكريا ، عليه السلام ، فطاردوه بالسيف ، وفي (( التفسير )): انه هرب منهم ، واختفى في شجرة في وسطها معجزة من الله .
فلما علموا انه في الشجرة شقوها نصفين ، وشقوا معها زكريا ،عليه السلام.
فكانوا يقتلون الأنبياء ، لذلك قال الله ، س ، لهم : )َقَتْلَهُمُ الْأنبياء بِغَيْرِ حَقٍّ )(آل عمران: من الآية 181)، ولكن هل هناك قتل للأنبياء بحق ما دام قد قال سبحانه وتعالى : (قَتْلَهُمُ الْأنبياء بِغَيْرِ حَقٍّ) !
لا ، ولكن هذا من ظلمهم وعتوهم فهو سبحانه يقول لهم : ليس عندكم جزء ، ولو صغير من الحق لتقتلوهم .(/32)
3- ومنها : قتلهم النفس في قصة البقرة، فقد كان هناك اخوة لهم عم غني ، فأتوا إلى عمهم فذبحوه ، وأخذوا تركته ، وخافوا أن يكتشف نبي عصرهم الجريمة، فتباكوا على عمهم بأنه قتل ولا يدرى من قتله ، فأوحى الله للنبي أن يأمرهم بذبح بقرة،ويأخذوا شيئا من أطرافها ويضربوا به على الميت فإنه سوف يتكلم ويخبرهم بمن قتله .
4- ومنها: قصة القرية حاضرة البحر ، وهي قصة محزنة،عندما قال الله لبني إسرائيل : ) لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ )(النساء: من الآية 154) يعني : لا تصيدوا السمك يوم السبت ، اصطادوا في كل الأيام ، لكن يوم السبت لا تصطادوا الحوت والسمك ، فقالوا : سمعنا وعصينا ، وهم دائما يقولون سمعنا وعصينا .
فقالوا : يا أيها الناس ، نخاف أن الله يخسف بنا ، إن عصيناه ، فلا تصطادوا السمك يوم السبت .
فابتلاهم الله بان كان يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة لا يأتيهم فيه أي سمكة ،أما في السبت فتكثر الأسماك وتأتي شرعا ، ففكروا طويلا في الأمر ،حتى هداهم مكرهم إلى حيلة على الله ، سبحانه وتعالى ، بزعمهم الفاسد.
فقالوا : الله ، عز وجل ، نهانا عن الصيد مباشرة يوم السبت ، لكن لو حفرنا أخاديد حتى تقع فيها الأسماك فلا تذهب ، فنأتي يوم الأحد ونصيدها لكان أولى لنا .
فحفروا الأخاديد ومجاري المياه ، فأخذت الأسماك تدخل ، وهم يسدون عليها طريق البحر .
ويأتون يوم الأحد فيأخذونها.
فقال لهم الصالحون منهم : يا أيها الناس ، قد ألحدتم في دين الله ، وعصيتم الله ، وتجاوزتم حد الله ، فلم يسمعوا منهم ، واستمروا في غيهم .
فكان هؤلاء الصالحون هم أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهم حفاظ المجتمع وعباد الله ، وأما أولئك فهم أهل الفساد في المجتمع .
ولكن قد ظهر فريق ثالث معهم ، هم : أهل السلبية ؛ الذين لم ينكروا ولم يفعلوا ، وإنما نصحوا أهل الإنكار بان يتركوا إنكارهم ،فقالوا ) لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً)(لأعراف: من الآية 164) أتركوهم .. دعوهم ،الله يحاسبهم ، فلستم المسؤولين عنهم .
فرد عليهم أهل الأمر والنهي قائلين : إنما نفعل هذا ) مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)(لأعراف: من الآية 164) .
وهذا واجب الداعية أن يأمر وينهى لأمرين :
الأمر الأول : أن يعذر عند الله بان بلغ النصيحة والرسالة .
والأمر الثاني : لعل العصاة أن يتقوا الله ، عز وجل ، ويعودوا عن معاصيهم .
وفي الصباح الباكر سمع الصالحون صياحا مثل صياح القردة والخنازير ، فأشرفوا على السور ، فإذا بالمفسدين قد انقلبوا إلى قردة وخنازير ! سبحانك ربي .
وفي بعض الروايات من (( التفسير )): أنهم كانوا يعرفون بعضهم من مناظرهم .
والسؤال عند أهل العلم : هل القردة التي نراها الآن هي من نسل إخوان القردة التي نراها الآن فهي من نسل آخر وخلق آخر .
وقد ورد في الحديث (( إن الله إذا مسخ شيئا لم يجعل له نسلا ولا عقبا ))[38].
وقد ورد في الحديث : (( إن الله إذا مسخ شيئا لم يجعل له نسلا ولا عقبا )).
5- ومن كيدهم وإفسادهم انهم قالوا لموسى : (فَاذْهَبْ أنت وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)(المائدة: من الآية 24) فنحن لا نريد الحرب والقتل ، فدعا عليهم ، عليه السلام ،بان يتيهوا في الأرض .
فتاهوا أربعين سنة ، يأتون إلى طرف سيناء يريدون أن يخرجوا ، فيقولون : أخطأنا الطريق فيعودون ،فإذا وصلوا إلى الناحية الأخرى من جديد.
أتدرون ماذا فعل الله بهم ؟
لقد تكفل الله بهم ، وأنعم عليهم نعمة ما أنعمها على أحد من الناس ، فقد فجر لهم من صخرة مربعة اثنتي عشر عينا ؛ لأنهم كانوا اثني عشر سبطا ( أي : قبيلة).
فقالوا : أين الطعام يا موسى ؟ هذا ماء بارد يا موسى ، لكن أين الطعام ؟
قال : ماذا تريدون ؟
قالوا : نريد أحسن طعام .
قال : المن والسلوى، فأعطاهم الله المن والسلوى.
فقالوا : هذا الماء وهذا الطعام لكن أين الظل ؟ فظلل الله عليهم الغمام، فكان الغمام يسير معهم أفواجا.
فقالوا : ادع لنا ربك يخرج من نبات الأرض ، لقد مللنا المن والسلوى .
فقال موسى : (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ)(البقرة: من الآية 61) ، فهم أمة لم تعتد على الخير والمعروف ، وإنما تربت على الفساد والتعنت . فطلب منهم أن يهبطوا مصرا فإن لهم ما سألوه .
6- ومنها : انهم آذوا موسى واتهموه بما برأه الله منه ، فقالوا : هو مصاب بمرض في موضع عورته ؛ لأنه لا يتكشف أمامنا ، فموسى كان حييا ستيرا ، لا يتكشف إذا أراد الغسل ، فظن هؤلاء الخبثاء انه مريض أو به إذ في موضع من جسمه .
ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إن موسى عليه السلام اخذ عليه إزارا ، فلما نزل يغتسل وضعه على حجر ، ففر الحجر بالثوب ، فخرج على أثره ، فأتى الحجر جهة بني إسرائيل ، فأقبل موسى فعلموا انه ليس به داء .(/33)
فقال موسى : ثوب يا حجر وأخذ يضرب الحجر ))[39].
7- ومن مفاسدهم ومكايدهم : انهم كانوا يقيمون الحد على الضعيف ويعطلونه عن الشريف .
قال r لمن أراد أن يشفع لمن استحق حدا من حدود الله : (( إنما هلك الذين من قبلكم بأنهم كانوا اذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطع محمد يدها ))[40]. وحاشاها أن تسرق .
أما هؤلاء فكانوا مثلا إذا زنى فيهم الرجل وكان شريفا أخذوه وحمموه بالفحم وطافوا به ، أما إذا كان الزاني ضعيفا فانهم يقيمون عليه الحد فيرجمونه حتى يموت .
8- ومن مفاسدهم وكيدهم: عبادتهم العجل .
قال يهودي لأمير المؤمنين علي بنابي طالب مستهزئا : كيف تطلبون من رسولكم أن يجعل لكم شجرة ذات أنواط كالمشركين؟
فقال علي ، رضي الله عنه : وأنتم ما خرجتم من البحر إلا وقلتم لموسى : ) اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ )(لأعراف: من الآية 138) !
الشاهد : انهم عبدوا العجل بتخطيط ومكر من زعيمهم السامري ؛ الذي كان مرافقا لموسى ،عليه السلام .
وفي هذا حكمة نستفيدها بأنه ليس من شروط الصلاح أن ينشأ المرء في بيت صالح ، فهذا السامري نشأ على الوحي مع موسى يسمعه صباحا ومساء ، فكأن جبريل قد رباه ، ولكنه في نهاية الأمر يصبح من المشركين الملحدين الذين يصدون عن سبيل الله .
فلا تدهش إذا رأيت أكبر المفسدين يخرج من بيت أحد المصلحين ، ولا يغيب عن بالك قصة نوح مع ابنه .
وهكذا العك ، فقد ينشأ الصالح في بيت فاسد ، كموسى ، عليه السلام ، الذي تربى عند فرعون في قصره ، فكان أحد رسل الله .
الشاهد : أن السامري خرج مع بني إسرائيل ، وصنع لهم من حلى الذهب الذي أخذوه من الفراعنة عجلا ذهبيا يخور بسبب الريح ، ويخرج أصواتا توهم السذج بأنه يتكلم . فعبدوه من دون الله .
فلما عاد موسى من مخاطبة ربه تعالى ، غضب عليهم لما رآهم يسجدون لهذا العجل الذي لا ينفع ولا يضر .
كيف هذا ؟ وهو قد تعب في تعليمهم وتوضيح الحق لهم وتربيتهم .
فسبحان الله ! هذه هي النهاية مع هؤلاء القوم الفسدة .
وفي هذا حكمة لنا : بان لا نيأس إذا رأينا الناس بعد تعبنا في الدعوة وإلقائنا المحاضرات والدروس تلو الدروس ، ثم وجدناها لم يستفيدوا شيئا مما قلنا ، لا نيأس ؛ لأن علينا البلاغ ، والهداية منه سبحانه وتعالى .
فنصحهم موسى وغضب على أخيه هارون الذي تركهم يعبدون العجل ، ولم يواجه السامري بحزم.
فأخبرهم ، عليه السلام ،بان توبتهم أن يقتلوا انفهم ، بان يظلهم الله بالغمام حتى لا يرى بعضهم بعضا فيتقاتلوا ، ففعلوا ذلك ، وتقاتلوا في الظلام ، حتى قتل بعضهم بعضا جزاء لعبادتهم العجل ،فتاب الله عليهم .
9- ومنها : انهم كانوا يذيبون الشحم ويبيعونه وهو محرم عليهم ، قال صلى الله عليه وسلم : (( قاتل الله اليهود ، لما حرم الله عليهم الشحوم أذابوها فجملوها فباعوها ))[41]، لأن الشحوم محرمة عليهم .
10- ومنها : أنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه ،وهذا ما نخشى الوقوع فيه . قال r : (( إنما اهلك الذين من قبلكم أن الرجل كان يلقي الرجل فيقول : يا عبد الله ،اتق الله ولا تفعل كذا ، ثم لا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه من آخر النهار ))[42].
أي : انهم داهنوا أهل المعاصي ، وانساقوا معهم ، فلم ينكروا عليهم ، أو أنكروا إنكارا لطيفا جدا لم يصل إلى درجة الموالاة والمعاداة التي أمر الله بها .
قال الله : )لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) (المائدة:78))كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (المائدة:79) .
فمن رأى المنكر ، ولم ينه ، ولو بقلبه فهو كبني إسرائيل .
وقد ورد أن الله أمر جبريل أن يزلزل قرية عن مكانها فقال : يا رب فيها رجل صالح يعبدك ويكبر ويسبح .
فقال سبحانه وتعالى : فبه فأبدا ، فإنه لم يتمعر وجهه من اجلي[43].
11- ومنها : انهم لم يستفيدوا من علمهم ، يقول عز من قائل : ) كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً)(الجمعة: من الآية 5) فالحمار تأتي به ، وتركب عليه المجلدات العلمية الثمينة ، (( كفتح الباري )) و (( المغني )) و (( رياض الصالحين )) ، فهو لن يدري بما فيها ، ولن يستفيد أي فائدة منها . فهو كبني إسرائيل حفظوا التوراة ، لكن ما نفذوا أحكامها )فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ)(المائدة: من الآية 13).
وهذا تنبيه لهذه الأمة الإسلامية أن لا تكون كبني إسرائيل ، تعلم ولا تعمل ، بل لا بد من العمل مع العلم ، وإلا فما فائدة العلم ؟(/34)
وأنا اعجب من أناس حازوا على الشهادات العالية في الشريعة، ولكنهم لم ينزلوا إلى ساحة الميدان بعد ، ولا زالوا يحبسون علمهم عن كثير من الناس الجهلة ؛ الذين يحتاجون لعلمهم في البوادي والقرى ، وهذا من تثبيط الشيطان لهم ، عافاني الله وإياكم .
12- ومنها : أنهم قالوا ) نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُه)(المائدة: من الآية 18) .
وهذا كذب وزور ، فالله ليس بينه وبين أحد من خلقه نسب أو صلة، إنما هو الأمر والنهي .
فرد الله عليهم قائلا سبحانه : )قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ)(المائدة: من الآية 18).
13- ومنها : انهم قالوا : بان الله فقير ونحن أغنياء ، وكذبوا أخزاهم الله ، بل الله اكرم الكرماء و أغنى الأغنياء .
قال تعالى : )لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا )(آل عمران: من الآية 181) .
14- ومنها : انهم قالوا : بان يد الله مغلولة ، ) غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ)(المائدة: من الآية 64)
فليس هناك اكرم منه ،سبحانه ، ولكنه الخبث والنفوس الوقحة حتى مع مولاها تبارك وتعالى .
15- ومنها : انهم قالوا : ) لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ)(البقرة: من الآية 113) وهم أيضا ليسوا على شيء ،بل كلاهما مخرف مبدل ، فهم مغضوب عليهم ، والنصارى ضالون كما قال تعالى : ) غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ)(الفاتحة: من الآية 7).
16- ومنها : انهم قالوا : ) عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ)(التوبة: من الآية 30) وافتروا عليه ، سبحانه وتعالى ، فهو )لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) (الاخلاص:3) .
17- ومنها : انهم قالوا : ) لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى )(البقرة: من الآية 111)، فقال تعالى ردا عليهم : ) تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ )(البقرة: من الآية 111).
أي : أنها أماني خيالية، لا حقيقة لها في الواقع ، إلا لمن آمن برسوله r .
18- ومنها : انهم قالوا : ) قُلُوبُنَا غُلْف)(البقرة: من الآية 88) أي : لا نحتاج إلى علمك يا محمد r ، فقال تعالى : ) بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً)(النساء: من الآية 155).
19- ومنها : انهم قالوا : ) لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أياماً مَعْدُودَة)(البقرة: من الآية 80) فرد تعالى عليهم قائلا سبحانه : ) قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)(البقرة: من الآية 80).
فهم كاذبون في زعمهم هذا ، بل يدخلون النار ، ويعتق الله كل مسلم بواحد من هؤلاء الأنجاس .
نسأل الله العتق من النار .
وهناك صفات أخرى ومكايد ومخازي يعلمها من تدبر كتاب الله الذي فضحهم ، لا سيما سورة البقرة .
والله اعلم ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
________________________________________
[1] صحيح .
أخرجه احمد (18913) ، وابن ماجه (1853) عن عبد الله بن أبي أوف رضي الله عنه ، وانظر : (( المشكاة))(3255).
[2] أخرجه مسلم (488).
[3] أخرجه مسلم (489).
[4] أخرجه مسلم ( 1047) عن انس بن مالك ، رضي الله عنه .
[5] أخرجه البخاري (3293) ، ومسلم (2691) عن ابي هريرة ، رضي الله عنه .
[6] أخرجه مسلم(2814) ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه .
[7] صحيح
أخرجه الترمذي (3540) عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، وصححه ، وانظر تصحيح أهل العلم له في (( جامع العلوم والحكم )) لابن رجب الحنبلي .
[8] أخرجه مسلم (2577) عن أبي ذر ، رضي الله عنه .
[9] أخرجه ابن هشام في (( السيرة )) (3/212) ، والطبري في (( التاريخ )) (2/44) ، والطبراني في (( الكبير )) (118) ، والأصبهاني في (( الدلائل )) (1/140) عن عروة بن الزبير ، وانظر : (( الاصابة )) (7/168، 169) ، وهو مرسل جيد.
[10] أخرجه البخاري (122) ، ومسلم (2380) عن ابن عباس ، رضي الله عنهما.
[11] انظر : (( مجمع الزوائد )) (5/68) ، و (( تفسير الطبري )) (1/479).
[12] أخرجه البخاري (7440) ، ومسلم(182) عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه .
[13] أخرجه البخاري (3372) ، ومسلم (238) عن أبي هريرة ، رضي الله عنه .
[14] أخرجه البخاري (25) ، ومسلم (22) من حديث ابن عمر ، رضي الله عنهما .
[15] أخرجه ملم (172) عن أبي هريرة ، رضي الله عنه .
[16] أخرجه البخاري (32) ،ومسلم (124) عن عبدالله بن مسعود ، رضي الله عنه .
[17] أخرجه البخاري (2368 ، 3364) عن ابن عباس ، رضي الله عنهما .
[18] أخرجه البخاري (3364) عن ابن عباس ، رضي الله عنهما .
[19] أخرجه البخاري (2217 ) ، ومسلم (2371) عن أبي هريرة ، رضي الله عنه .(/35)
[20] حسن أخرجه احمد (2792 ،2935، 3038) ، والترمذي (877) ، وحسنه عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، وانر : (( المشكاة )) (2577).
[21] صحيح . اخرجه احمد (2394) ، والترمذي (961) ، وصححه ، وابن ماجه (2944) ، والدارمي (1839) عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، وانظر: ((المشكاة )) (2578).
[22] أخرجه الحاكم في (( المستدرك )) (4048) ، وانظر : (( كشف الخفا )) (1/230) ، و(( الضعيفة)) للألباني (331).
[23] أخرجه البخاري (3390،3382،4688) عن ابن عمر ، رضي الله عنهما .
[24] كما في الحديث الذي اخرجه البخاري (7044) ، ومسلم (2261) عن أبي قتادة ، رضي الله عنه .
[25] صحيح . اخرجه احمد (115) ، والترمذي (2165) ، وصححه ، عن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، وانظر (( المشكاة )) (3118).
[26] صحيح . أخرجه احمد (22465) ،وابو داود (2149) ، والترمذي (2777) ، وصححه ، عن بريدة بن الحصيب ، رضي الله عنه .
[27] سنده جيد . أخرجه احمد (2817) ، والبيهقي (2/389) ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، بنحوه . وقال ابن كثير في (( التفسير )) (3/16) : إسناده لا باس به .
[28] أخرجه البخاري (2650) ، ومسلم (1623) عن النعمان بن بشير ، رضي الله عنه .
[29] صحيح ، أخرجه البخاري معلقا في كتاب الصوم ، باب سواك الرطب ، ووصله احمد (23683) ، والنسائي (5) ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، وانظر : الإرواء (66)، وهو صحيح .
[30] أخرجه البخاري (6069) ، ومسلم (2990) عن أبي هريرة ، رضي الله عنه .
[31] أخرجه مسلم (2623) عن أبي هريرة ، رضي الله عنه .
[32] اخرجه مسلم (2577) عن أبي ذر ، رضي الله عنه .
[33] أخرجه مسلم (1901) عن انس ، رضي الله عنه ، وانظر (( الاصابة )) (7/162).
[34] أخرجه البخاري (527، 5970) ، ومسلم (85).
[35] أخرجه البخاري (4480)
[36] صحيح . اخرجه الترمذي (3485) وقال : هذا حديث صحيح ، وابن ماجه (1334،3251) ،والدارمي (1460) عن عبد الله بن سلام ، رضي الله عنه .
[37] أخرجه البخاري (3941) ، ومسلم (2793).
[38] أخرجه مسلم (2663) عن أم حبيبة ، رضي الله عنها.
[39] أخرجه البخاري (278،3404،4799) ، ومسلم (339) عن أبي هريرة ، رضي الله عنه .
[40] اخرجه البخاري (3475) ، ومسلم (1688) عن عائشة ، رضي الله عنها .
[41] اخرجه البخاري (4633)، ومسلم (1581) عن جابر ، رضي الله عنه .
[42] صحيح . اخرجه أبو داود (4336) ، والترمذي (3047) ، وصححه ، وابن ماجه (4006) عن ابن مسعود ، رضي الله عنه .
[43] انظر : (( تفسير القرطبي ) (6/237).(/36)
شخصيات ومواقف
بقلم : الأستاذ أشرف شعبان أبو أحمد / جمهورية مصر العربية
(1) نهى الزيني
في الوقت الذي ينقسم فيه الناس بين ساكت عن الحق وناطق بباطل، وبين خانع لأصحاب السلطة وخائف من جور القائمين على النظام. وفي الوقت الذي تضيع فيه أجزاء كثيرة من الحقيقة في كل أمر وفي كل شأن من حياتنا وتشوه معا لم الأجزاء الباقي منها. وفي الوقت الذي يتم فيه تزوير الانتخابات في كل مستوياتها ومراحلها وأنواعها، على مرأى ومسمع من الجميع، ولا يقوم أي مسؤول بإقرار ذلك، يخرج علينا في حالة فريدة ونادرًا ما تحدث، من بين المسؤولين على الانتخابات، القائمين على العملية الانتخابية، من يوثق لعملية تزوير قام بها نفر من هؤلاء المسؤولين أنفسهم. حين سجَّلت المستشارة "نهى الزيني" نائبة رئيس هيئة النيابة الإدارية شهاداتها عن واقعة تزوير وقعت أمامها كرئيسة لجنة انتخابية في دائرة بندر دمنهور، حيث قالت: إنها شاهدت بنفسها حصول المرشح "جمال حشمت علي" أربعة وعشرين ألف صوت من أصوات الناخبين، بينما حصل منافسه "مصطفى الفقي" على ثمانية آلاف صوت فقط، وعلى الرغم من ذلك أعلن رئيس اللجنة فوز مصطفى الفقي. وقد أيد شهادتها مائة وسبعة وثلاثون قاضيًا من رؤساء اللجان الفرعية، الذين شاركوا في الإشراف على مائة وستين لجنة، هي مجموعة لجان دائرة دمنهور. ولكي تعلنها على الملأ فقد نشرتها في صدر صفحات إحدى الجرائد، وأعقب ذلك تداول سائر الصحف الوطنية لها، وأذاعتها الفضائيات، وتناقلها أطواف الشعب وفئاته، حيث أصبحت حديث العامة والخاصة في أمسياتهم وسهراتهم، بينما تجاهلتها الصحف المسماة بالقومية.
وسرعان ما انقلب السحر على الساحر، فمن كانوا يتغنون بالأمس القريب بإشراف القضاة على الانتخابات، وعن نزاهة الانتخابات تحت الإشراف القضائي، وكيف أن هذا الإشراف عصم العملية الانتخابية عن توجيه أية تهمة أو شائبة إليها، إذا بهم ينقلبون على القضاء والقضاة. فيتهمون القضاة بانشغالهم بالأمور السياسية وهو ما يتعارض مع طبيعة عملهم؛ بل يتهمونهم بانتمائهم وعلاقتهم مع من جاءت شهادة الحق في صفهم. بل منهم من وظف طاقاته وإمكانياته للبحث عن كل شيء في حياة المستشارة "نهى الزيني" ولادتها، نشأتها، دراستها، أسرتها، علاقاتها برؤسائها ومرؤوسيها وجيرانها وزملائها السابقين والحاليين وأهلها، لعله يجد خطأ ما أو قصورًا ما يشوه به تلك الصورة الجميلة التي انطبعت في ذهن العامة عن "نهى الزيني". ولن يعجز النظام عن الإتيان ببعض رجال الحكومة المحسوبين ظلمًا وبهتانًا على القضاة ممن يعارضون شهادتها وينفونها شكلاً ومضمونًا؛ بل ويشهدون بعكس ما قالته .(/1)
لم تكن شهادتها نابعة من أجل الشهرة وجذب الأضواء نحوها أو من أجل أية منفعة دنيوية، فوجودها في مثل هذا المنصب يُغنيها هي وغيرها عن أية أغراض. ولم تكن مغامرة غير محسوبة العواقب أو مصيدة للتشهير بهذا المرشح، لمعرفتها بمدى قوة وإمكانية من يقفون وراءه، وقدرتهم على تغيير وتزييف الحقائق، ومدى الضغوط التي سوف تتعرض إليها من جراء ذلك. كما لم تكن نكاية فيه أو تضمانًا مع المرشح الآخر فنشأتها الطيبة وطبيعة عملها تتطلبان منها الانحياز التام للحق وللحق فقط مهما كان علاقتها بصاحب الحق. ولكن شهادتها نبعت من إيمانها بالله، نحسبها كذلك والله حسيبها ولا نزكي على الله أحدًا . نبعت من قوله تعالى (يَآ أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا كُوْنُوْا قَوَّامِيْنَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءَ للهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِيْنَ) سورة النساء آية 135 ومن قوله عز وجل في سورة المائدة آية 8 (لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى ألاَّ تَعْدِلُوْا اِعْدِلُوْا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْواى) لذا فيا سيدتي الفاضلة لن أعطركِ بكلمات المديح والثناء فأنتِ في غنى عنها ولن توفيك حقك، ولن أكرر ما يقوله البعض من إن ملايين المصريين معك ولن يترددوا لحظة في الوقوف بجانبك وحولك أمام كل قوى الظلم مهما عظمت، أو غير ذلك مما حفظه الناس من شعارات، فمثل هذا الكلام تعودنا سماعه ولم نتعود رؤيته على أرض الواقع؛ ولكني أقول توقعي أن تنفردي بنفسك أمام من لم تُعْجِبُهم شهادتُك كما انفردتي بنفسك وأنت تسطرينها، وتوقعي تخلي الكثير عنك، فلم تكوني في حاجة إليهم وضميرك يمليها عليك، كما أنك ليست في حاجة لأذكرك بأن الله معك ولن يخذلك فهو نعم المعين ونعم النصير. وأخيرًا لا أملك إلا أن أتوجه إليك بالشكر كما علَّمَنا الإسلام تجاه كل صانع للمعروف، فعن الرسول صلى الله عليه وسلم إنه قال (من صنع إليكم معروفًا فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه) فإن المكافأة على المعروف من المروءة التي يحبها الله ورسوله، كما دل الحديث ولا يهمل المكافأة على المعروف إلا اللئام من الناس. وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال (لايشكر الله من لايشكر الناس) لذا أتوجه إليك قائلاً: جزاك الله كل خير..
(2) مصطفى الفقي
ما أسهل الكلام الذي يعبر عن مواجعنا وأمانينا، وما أكثر انبهار الناس وتصفيقهم وصفيرهم كلما شدا به من يجيد فن الإلقاء أو ذو الصوت العذب، وطالما إن الكلام على هذا الوتر وبهذه النغمة يُعْجِب المستمعين فما المانع من الاسترسال فيه. وما أجمل من ارتداء الثوب الذي يُعْجَبُ به الناسُ خاصة لو كان هذا ثوب المفكر والمحلل والكاتب والسياسي المخضرم الذي يحترق من أجل الوطن، وطالما الناس يُعْجِبُهم هذا الثوبُ فما المانع من ارتدائه والظهور به في المناسبات العامة؟ ولكن ما أصعب أن لايؤمن المتحدث بما يشدو به فلا يخرج عن كونه بوق. وما أقبح ألا يعبر ما يرتديه عن قناعاته فلا يخرج عن كونه مانيكان، وهذا وذاك لايعرفان إلا بالمواقف والأفعال.(/2)
للدكتور مصطفى الفقي مكانة مميزة لدى بعض رجال الفكر والسياسية في مصر والعالم العربي، فهو بالنسبة لهم مفكر كبير له قيمته وله إسهاماته الفكرية وكتاباته في شتى الميادين، وهو عضو مشارك في غالبية اللقاءات الفكرية ومعارض الكُتَّاب والليالي الثقافية والندوات والمؤتمرات السياسية. ورغم أنه أحد أعمدة النظام الحاكم لكن آراءه التي كان يختلف في بعضها عن آراء النظام الحاكم كانت تُعْجِبُ أصحابَ الفكر المناوئ للحكم وترسخ شجرة إعجابهم به، واحترامهم له، بل كانوا يعتبرونه محسوبًا عليهم أكثر من حسبانه على الحزب الحاكم. وما إن جاءت الفرصة ليرى الجميع أفكار مصطفى الفقي وهي تترجم على أرض الواقع وتتحول أقواله إلى أفعال، ويتوج هو قدوة ونموذجًا يحتذي به المفكرون والسياسيون أمثاله، إذا به يفاجئ الجميع في انتخابات مجلس الشعب لعام 2005م وبعد أن أظهرت نتيجة الاقتراع فوز منافسه بمقعد البرلمان، وهذا ما أعلنته بعض أجهزة الأعلام، وشهد به بعض رجال القضاء من القائمين على العملية الانتخابية، إذا بالنتيجة تتغير وتنقلب رأسًا على عقب ويعلن فوزه وخسارة منافسه. مما تسبب في صدمة لكل المتابعين للانتخابات وغير المتابعين لها مصريين كانوا أو غير مصريين. لذا كان لابد لنا أن نتسفسر كيف سيسمح الدكتور مصطفى الفقي لنفسه أن يصول ويجول في المجلس، ويتحدث بملء فمه حديث الواثق المتمكن، باسم أناس لم ينتخبوه ولم يعطوه صوتهم ولم يفوضوه في أمرهم؟. وهل سيعود لسابق عهده، كما كان يفعل في المؤتمرات والندوات، يحاور ويناقش ويصوغ الدليل وراء الآخر والبرهان عقب الآخر والحجة تلو الأخرى، وهو يعلم، ومن قبله الكبير والصغير، القاصي والداني، أنه ليس في مكان بمكانه، وعلى مقعد ليس بمقعده؟ ومن ذا الذي سيحاورهم ومن ذا الذي سيناقشهم؟ الذين أتوا به إلى هذا المقعد أم الذين اغتصب منهم هذا المقعد؟ وإن اختلف مع أي من الفريقين هل سيصمد أمام تلميحاتهم بفضلهم عليه وإمكانية إزاحته كما أتوا به؟ أم سيصمد أمام من سيعيرونه باستيلائه على حق غيره؟. أيظن أن يتهافت الجميع على استجواباته أو رده على استجواب موجه للحكومة كما كانوا يتهافتون على ندواته؟ وألا يزال يظن أن رصيد الحب والاحترام الذي كان يكنه الناس له لم يختل بعد هذا الفوز الزائف. لقد كان فوزه بهذا المقعد، وهو في غنى عن أية مكاسب تعود عليه من عضوية مجلس الشعب، خسارة ما بعدها خسارة، خسارة لنفسه، عندما ينفرد بها في لحظة صدق يراجعها ويحاسبها، عندما يتذوق مرارة نصر لم يحققه ولم يستحقه، وخسارة لتاريخه ولمكانه ومكانته لدى النخبة المثقفة في أنحاء العالم العربي لأن فعله ناقض قوله، وهذا وحده يكفي لسقوط الإنسان من اعتبارات الناس.
أما خسارتنا نحن جميعًا فهي على الرغم من الظهور الطاغي للدكتور مصطفى الفقي في كافة أجهزة الأعلام المسموعة والمقروءة وعبر شاشات التلفزيون والقنوات الفضائية، ورغم مكانته العلمية، وتدرجه في المناصب الجامعية، وعمادته للجامعة البريطانية، وكتاباته وكتبه التي تحتل مبيعاتها أرقامًا لا بأس بها، ورغم قناعة الكثير والكثير جدًا من المفكرين والسياسيين به وبأفكاره، إلا أن ما حصده من أصوات دلت وبينت قيمة المثقف عند عامة الناس ووضحت أن عامة الناس وهم الكثرة الغالبة في مجتمعاتنا لم تعد تبالي بكلام الثقافة والسياسية قدر اهتمامها بحاجاتها اليومية ومتطلباتها الحياتية ومن يوفرها لها، فلم يعد كلام السياسيين يشبع البطون الجائعة ويغطى عورة الأجساد العارية .
وقد أحال السيد وزير العدل ورئيس اللجنة العليا للانتخابات الموضوع برمته إلى النيابة العامة للبت فيه، ولأن تحقيق النيابة يمكن أن يطول بعض الوقت، ولأن ذاكرة الأمة أضعف من أن تتبع قرار المحكمة، ولأن مجلس الشعب يمكن أن يغض النظر عن قرار المحكمة استنادًا إلى حقه الدستوري في أن يكون سيد قراره، له القول الفصل في صحة العضوية، وبالتالي تضيع فرصة إظهار الحقيقة، ولأن كل هذا له عواقب عدة، فلما لايقوم الدكتور مصطفى الفقي بالفصل في هذا الموضوع؟ بأن يتقدم باستقالته، أو يطالب بإعادة الانتخابات، أو إعادة فرز صناديق الانتخابات، إن كانت لا تزال مغلقة بالشمع الأحمر المدموغ بأختام القضاة، في حضور مراقبين ينتمون لمؤسسات المجتمع المدني، لأن ظهور الحقيقة سوف يعيد له الاعتبار، ويزيل الحرج عن الحزب الذي رشحه، وسوف يمكنه من مقاضاة كل هؤلاء الذين شهروا به، خاصة أنه قد أعلن قبل الانتخابات أنه سينسحب لو قامت السلطة بالتزوير من أجله، ولو فعلها لدخل التاريخ من أنظف أبوابه!..
(3) ميلاد حنا(/3)
قطاع كبير من أبناء هذا الوطن لا يهتم، لا بالحكم ولا بالحكومة، ولا يعنيه أيهما يمسك بتلابيب الحكم زيد كان أم عبيد، ينصب اهتمامه على لقمة العيش ولقمة العيش فقط، فغالبيتهم من الفقراء البسطاء، الكادحين وراء لقمة يوم بيوم، ليس للغد أو بعد الغد نصيب فيما تناله أيديهم اليوم. هؤلاء لا يهتمون بصاحب العمل الذي سيكسبون منه قوت يومهم مسلمًا كان أو نصرانيًا أو يهوديًا أو غير ذلك، وهؤلاء هم الذين عايشوا الاحتلال الأجنبي بكل صوره وأشكاله، وعايشوا الحكومات الوطنية المتعددة بكل مساوئها وأطماع القائمين على الحكم فيها. مثل هؤلاء لم ولن يفوضوا أحدًا في الحديث عنهم وباسمهم، ولا يستطيع أحد ليس من بينهم أن يدعي لنفسه الحق في التحدث نيابة عنهم. فكون أن يخرج الدكتور ميلاد حنا متحدثاً ليس عن المسيحيين من أبناء هذا القطاع فقط، بل عن كل مسيحيي مصر قائلاً: إذا وصل "الإخوان المسلمون" إلى الحكم فسيرحل المسيحيون من مصر. دفعنا أولاً للاستفسار عن من ذا الذي خوله الحديث باسم كل أقباط مصر؟ ومن ذا الذي يعطي الحق لأي فرد التحدث عن الآخرين، وماذا لو خرج ثاني أو ثالث يومًا بعد يومٍ يعلن عنهم أو عن غيرهم فعلهم كذا وكذا لو حدث كذا وكذا، وكل فرد يزايد عما أعلنه الآخر؟. وقد جاء فوز "الإخوان المسلمون" نزولاً على إرادة الشارع المصري الذي خرج عن بكرة أبيه لينتخبهم، وفوجئ بالمحاولات الفذة والفجة التي بذلت لمنع الناخبين من التصويت لصالحهم، وحديثه هذا فيه إيذاء لمشاعر المسلمين الذين رأى بعضهم في جماعة "الإخوان المسلمين" حلاً لما نحن فيه جميعًا؟ أليس من حق كل فرد أو جماعة اختيار من يرونه صالحًا لتمثيلهم؟ أيريد أن نلغي اختيار الشعب إرضاء له، وحتى لا تقحط الأرض وتجدب السماء ولا نحرم من البركات التي تحل علينا من وجوده معنا، أيريد أن ننتخب نوابًا على شاكلة من انتخبوا في المجالس السابقة؟ ولماذا لم يعلن رحيله عندما وصل للحكم من هم ليسوا أهلاً له، وعانينا ومازلنا نعاني منهم الأمرين؟ أم في وجود الإخوان ستستتب الأمور وسيلقى المناضلين والرفقاء بأسلحتهم؟ لذا وجب الرحيل لأرض لا يزال فيها نضال. وهل تعني الديمقراطية خضوع الأغلبية لرأي الأقلية؟ وإذا كان نجاح "الإخوان" يعود كما يدعي البعض لتقديمهم للمساعدات المادية من صناديق الزكاة التي يضعون أيديهم عليها، ولاستغلالهم للشعارات الدينية في مخاطبة الجماهير، فلما لم تقم الحكومة بذلك وهي التي تضع يدها ورجلها وكل جوارحها على صناديق الزكاة في جوامع مصر كافة، وهل تقديم المساعدات المادية كان السبب في نجاح "الإخوان" في انتخابات نقابة الأطباء، والأطباء أربأ الناس عن الحاجة للمساعدات المالية؟ وهل استغلالهم لسذاجة وطيبة المواطنين ومخاطبة مشاعرهم بالشعارات الدينية كان السبب في نجاحهم في انتخابات نقابتي المهندسين والمحامين ، ومن بين أبناء هاتين النقابتين من هو أكبر عقلاً وأرجح تفكيرًا من مرشحي الإخوان؟ انظر يا دكتور ميلاد إلى المصلين يوم الجمعة وقد أكتظت بهم المساجد فيفترشون الحصر والسجاجيد وأوراق الجرائد خارجها للصلاة، وانظر إلى رواد الكنائس يوم الأحد، لتحكم من هم في حاجة لبناء دور عبادة جديدة لاستيعابهم، كما أن العبرة ليس بكثرة عدد دور العبادة ولكن العبرة بمن يعمرها ويتردد عليها ويأتمر بما يتعلمه فيها. كما أن بناء مدارس ومؤسسات إنتاجية ومستشفيات يؤمها مسلمون ومسيحيون للعلاج والاستشفاء خير وأنفع من اللعب على وتر أن "الإخوان" لن يسمحوا ببناء كنائس جديدة. ومع ذلك فعلاقة "الإخوان المسلمين" بالأقباط علاقة مميزة لم ترق إليها علاقة أي حزب بهم، فقد قدموا دعمًا لمرشحين أقباط في الانتخابات البرلمانية الجارية، وتقديرًا منهم لبعض الشخصيات القبطية لم يرشح "الأخوان" أحد أمامهم، وهو ما لم يفعله أي حزب آخر، كما كان هناك تنسيق بين الأخوان والأقباط في انتخابات النقابات وانتخابات مجلس الشعب لعامي 1987م وعام 2000م. كما لابد أن نشير إلى أن انتخابات مجلس الشعب الحالية كشفت عن تأييد مسيحي ربما غير مسبوق لمرشحي "الإخوان" .(/4)
ثم يأتي السؤال ومن ذا الذي سيرحل من أقباط مصر؟ أهؤلاء الذين لايملكون ثمن تذاكر الانتقال من محافظة لأخرى فضلاً عن السفر للخارج، لا أظن أحدًا منهم يفكر في الرحيل من مصر لمجرد أن حكمها "الأخوان المسلمون" إلا إذا كان هناك من يمول خروجهم من مصر كما تفعل إسرائيل عند استقدامها ليهود إثيوبيا للاستيطان في فلسطين. أم هؤلاء الذين بات في فكرهم أن الاستقواء بالخارج هو موضة هذا العصر ومفخرته، بعد إن كانت محاولة الاتصال بالخارج تهمة وعار يلصق بصاحبها، وهل ستنضم لهؤلاء الذين يشكلون لوبي مسيحي في الخارج يستعدي القوى العالمية ضد مصر ويطالبهم بقطع المعونات عنها، أم هل ستنضم لمن يحلمون بحكم مصر من على دبابة أمريكية؟ وماذا لو ساءت علاقة مصر بالدول التي سترحل إليها، وماذا لو وصل الخلاف إلى قرار بغزو مصر تحت أي حجة، وما أكثر هذه الحجج ، فما هو موقفك من المقاومة الوطنية التي سوف تندلع ضد المحتل، وسوف يشترك فيها مسلمون وأقباط؟ عمومًا مصر ليست دولة بترولية ولا تفيض فيها الموارد ولكنها دولة مكتظة بالسكان، نيلها أصابه التلوث ومناخها تبدلت أحواله وكل ما هو جميل فيها يثير أعداؤها على احتلالها أصبح في خبر كان. ولن يضر مصر ولن يخذلها خروج فرد أو اثنان أو ثلاثة أو حتى بضع عشرات أو مئات أو ألوف أو ملايين منها، ولن تزداد الدول الأجنبية قوة ومنعة بهم، فمصر بها سبعون مليون نسمة لا شك أن حكومتنا تتمنى رحيل عشرة أو عشرين أو ثلاثين مليونًا منهم إلى غير رجعة، بل من ضمن ما تتمناه هو أن يكد هؤلاء ويعملوا بالخارج ويدروا عليها بالعملة الصعبة، لذا فليرحل من يريد أن يرحل فمطارات الوطن وموانيه وطرقه تتسع لكل من يريد الرحيل..
(4) مدحت وردة
بعد كل فوز لأي فريق لنا من فرقنا الرياضية بمختلف أنواعها ومسمياتها بإحدى المسابقات الرياضية سواء كانت على المستوى المحلي أو الأفريقي أو العالمي. أتذكر ذلك المظهر المشرف الذي ظهر به اللاعب مدحت وردة كابتن فريق كرة السلة الذي فاز ببطولة إفريقيا عام 1987م، فكما أمرت التعاليم الإسلامية كان الشورت الذي يرتديه يغطي عورته من السرة حتى الركبة، ولم يعقه إطلاق لحيته عن إحراز النصر، وزاد انبهارنا عندما رأيناه يرفع المصحف عالياً بعد الفوز بالبطولة، وعدم تقبيله للكأس كما هو مألوف بين اللاعبين، وسجود سجدتي شكر لله هو من كمال وتمام الشكر لله فما توفيقنا إلا بالله، والكثير من اللاعبين يحتاجون لمثل هذه الأمور خاصة ونحن مقبلون على العديد من البطولات، يستحسن بنا الالتزام بتعاليم الإسلام وأخلاقه ليرى العالم كله الإسلام كسلوك وخلق بعيدًا عن مهاترات السياسية وتشويه المغرضين وطعن الحاقدين .
* * *
* *
6 شارع محمد مسعود متفرع من شارع أحمد إسماعيل وابور المياه - باب شرق - الإسكندرية ، جمهورية مصر العربية.
الهاتف : 4204166 ، فاكس : 4291451
الجوّال : 0101284614
Email: ashmon59@yahoo.com
مجلة الموقف العربي العدد 186 الصادر بتاريخ 29 نوفمبر 2005م الموافق 27 شوال 1426هـ ص 11. جريدة الحلوة الصادرة بتاريخ 29 نوفمبر 2005م الموافق 27 شوال 1426هـ العدد 35 ص 3. جريدة الدستور الصادرة بتاريخ 30 نوفمبر 2005م الموافق 28 شوال 1426هـ العدد 37 ص 5. جريدة المصري اليوم الصادرة بتاريخ 1/12/2005م العدد 536 ص 13. جريدة نهضة مصر العدد 514 الصادر بتاريخ 3 ديسمبر 2005م الموافق غرة ذوالقعدة 1426هـ ص 6 .
جريدة المصري اليوم العدد 534 الصادر بتاريخ 29 نوفمبر 2005م الموافق 27 شوال 1426هـ ص 5 . جريدة الغد العدد 39 الصادر بتاريخ 30 نوفمبر 2005م الموافق 28 شوال 1426هـ ص 7 . جريدة الأهرام العدد 43458 الصادر بتاريخ 30 نوفمبر 2005م الموافق 28 شوال 1426هـ ص 10 . جريدة آفاق عربية العدد 737 الصادر بتاريخ 1 ديسمبر 2005م الموافق 29 شوال 1426هـ ص 20 .
جريدة روز اليوسف العدد 98 الصادر بتاريخ 29 نوفمبر 2005م الموافق 27 شوال 1426هـ ص 7. جريدة الحياة ص 10 الصادرة بتاريخ 30 نوفمبر 2005م الموافق 28 شوال 1426هـ العدد 15582. جريدة الخميس 1/12/2005م العدد 48 ص 9 . جريدة الميدان بتاريخ 29 شوال 1426هـ الموافق 1 ديسمبر 2005م ص 4 العدد 632. جريدة الأهرام 3/12/2005م ص 6 العدد 43461. جريدة النبأ الوطني 4/12/2005م العدد 848 ص 9. جريدة الفجر العدد 28 الصادر بتاريخ 5 ديسمبر 2005م الموافق 3 ذوالقعدة 1426هـ ص 4 .(/5)
شخصية الأمة وهويتها
لكل أمة شخصية تتميز بها عن غيرها من الأمم، وشخصيتها إنما تعبر عن هويتها الحضارية والتراثية. والأمم الأصيلة هي تلك التي تحافظ على مفاهيمها الحضارية وميولها العقائدية من الزوال والذوبان، وأما الأمم الهجينة فهي التي لا تملك ثوابت حضارية أو عقائدية، ويكون كل شيء في شخصيتها عرضة للتغيير والتبديل، وتكون حضارتها فيها قابلية للتزاوج والتداخل مع الحضارات الأخرى.
إلا أن الحضارات الرئيسية والتي تدعي أن لها شخصية منفتحة على غيرها تراعي دائماً حدوداً معينة لا تتجاوزها، وتحافظ على ما تعتبره ثوابت لديها فلا تتعداها لأنها تعتبرها خطوطاً حمراء يحظر تخطيها بأي وجه من الوجوه. ومن هنا كان لا بد من معرفة حدود تلك الحضارات وخطوط التمازج والتداخل فيها، لأن شخصية الأمة لا بد وأن يُراعى فيها سمات التميز والاستقلالية، وصفات التواصل والاستمرارية.
وحتى لا نُغرق في بحث الحضارات والشخصيات الحضارية بحثاً فكرياً نظرياً لا فائدة منه، دعونا نتناول الحضارتين الرئيستين في العالم اليوم وهما الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية تناولاً سياسياً عملياً، نعالج فيه مسألتين مهمتين وهما تقبل الآخر والثابت والمتغير في كلا الحضارتين.
أولاً: تقبل الآخر في كلا الحضارتين: بالرغم من إكثار الغرب في الحديث عن حوار الأديان ولقاء الحضارات وتعدد الثقافات، إلا أن الحقيقة هي أن هدفه الحقيقي من ذلك يكمن في عزل الثقافة الإسلامية وحمل أتباعها على اعتناق الحضارة الغربية.
فمثلاً إشاعة الغرب لمفهوم (الإسلام المعتدل والإسلام المتطرف)، فإنه يرمي من إشاعته تلك إلى تمزيق العالم الإسلامي وخلق فجوة بين المجموعات الإسلامية فيه، واستقطاب أكبر نسبة من المسلمين ليكونوا من الموالين له.
ففكرة قبول الآخر التي يتشدق بها الغربيون هي فكرة في اتجاه واحد وتنحصر في قبول المسلمين للغرب وليس العكس. والأدلة على ذلك كثيرة، فالرئيس الأميركي بوش مثلاً في خطابه عن حالة الاتحاد في العام 2002م قال بالنص: "نحن سوف ننتصر عليهم (ويقصد المسلمين في أفغانستان والعراق) وسوف نحلق لحى رجالهم، وننزع حجاب نسائهم، ونُدخل أفلام الجنس إلى غرف نومهم"، وأما رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير فَحدّدَ أربعة معايير لقبول المسلمين أو رفضهم في الغرب، أو بمعنى آخر لاعتبارهم ذلك الآخر المقبول لدى الغرب أو عدم اعتبارهم. وهذه المعايير هي:
1. إزالة دولة (إسرائيل): فالذي يصر على إزالة إسرائيل من المسلمين لا يُعترف به ولا يعتبر من (الآخر) المقبول لدى الغرب.
2. رفض الوجود الغربي في بلاد المسلمين: فمن يرفض ذلك الوجود لا يُعترف به ولا يصنف ضمن ذلك (الآخر) المقبول عند الغربيين.
3. المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية: فمن يطالب بتطبيق الشريعة لا يُعترف به كذلك، ولا يدخل في عداد (الآخر) الذي يقبل في الغرب.
4. إقامة دولة الخلافة الإسلامية التي تضم جميع البلدان العربية والإسلامية: فمن يسعى لتوحيد البلدان الإسلامية في دولة إسلامية فهو مرفوض أيضاً من الغرب، ولا يُعترف به ولا يدخل في (الآخر) المقبول عند الغربيين.
هذه هي معايير الغربيين الحقيقية في تقبلهم للأخر، وهي معايير تعسفية تتدخل في جوهر الحضارة الإسلامية والعقيدة الإسلامية، وهي تدل كذلك على أن الغرب ليس فقط لا يعترف بالآخر الإسلامي وحسب، بل هو يريد أن ينسف هذا الآخر وأن يزيله من الوجود.
والحقيقة أنه لا قيمة للمسلمين ولا معنى للحضارة الإسلامية إذا لم تحاول الشعوب الإسلامية تطبيق الشريعة الإسلامية وإقامة الدولة الإسلامية، وكذلك لا شخصية ولا هوية للأمة الإسلامية إذا بقي النفوذ الغربي في بلاد المسلمين، وإذا بقيت دولة يهود مغتصبة لفلسطين.
فالغرب إذاً يحاول إلغاء الآخر والهيمنة عليه تحت شعار قبوله والاعتراف به. أما الإسلام فلا يعبث بشؤون (الآخر)، ولا يضع معاييراً لقبوله أو عدم قبوله كما يفعل الغرب، فصحيح أن الإسلام لا يعترف بالتمازج والتقاطع مع الحضارات الأخرى؛ لأنه يرى أن هذه الحضارات مخالفة لفطرة الإنسان؛ لأنها غير مبنية على أساس التوحيد، ولكنه مع ذلك فهو لا يُكره أتباعها على اعتناق الإسلام، قال تعالى:{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } (البقرة256).
فشخصية الأمة الإسلامية لا تتقبل الميوعة والتأثر بغيرها، وهي متميزة تميزاً واضحاً عن غيرها ولا تحتمل التمازج والتخالط والتشارك في المفاهيم، قال تعالى: {صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ} (البقرة138) والصبغة كما قال المفسرون هي دين الإسلام الذي فطر الله الناس عليه، والذي يظهر أثره على صاحبه كالصبغ في الثوب؛ لأنه دين الفطرة والتوحيد.(/1)
وهذا الدين جاء للبشرية جميعها وجاء ليظهر على جميع الملل والأديان الأخرى، قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } (الأعراف158)، وقال جل من قائل: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } (التوبة33).
وشخصية الأمة الإسلامية هي شخصية خير وعدل، فلا يجوز أن تتلوث بشخصيات الأمم الأخرى لكي لا تفقد صفات العدل والخيرية والوسطية، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} (البقرة 143).
وعلى البشرية أن تدرك حقيقة أن الإسلام إنما هو آخر دين بعثه الله لها، وأن محمداً صلّى الله عليه وسلّم هو آخر نبي أرسله الله لها وعلى البشرية أن تفهم هذا وتعمل وفقاً له، قال تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (أل عمران 85)، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (يونس57)، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً} (النساء174)، فالبرهان هو النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم وهو حجة على البشرية والنور هو القرآن الذي ينير حياتها.
ثانياً: الثابت والمتغير في كلا الحضارتين: تختلف الحضارة الغربية عن الحضارة الإسلامية من حيث أن الأولى فيها مساحة كبيرة من المفاهيم المتغيرة والمتبدلة، وأن هذا التغير والتبدل إنما يخضع للأمزجة والأهواء، ولأصحاب المصالح والثروات، لذلك تتغير القوانين والأحكام لتخدم مصالح الرأسماليين والطبقات الأرستقراطية في البلدان الغربية، بينما في الحضارة الإسلامية لا يوجد تغيير ولا تبديل، فالثابت صفة دائمية في الإسلام في عقائده وأحكامه، وأصوله وفروعه، وكلياته وجزئياته، قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً}(النساء65)، وقال سبحانه: {أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً}(الأنعام114)، وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}(البقرة208).
فهذه النصوص القرآنية الكريمة توجب على المسلمين الرجوع إلى الكتاب والسنة رجوعاً تاماً في كل شيء، وعليهم أن لا يجدوا حرجاً في ذلك، بل وأن يسلموا تسليماً مطلقاً بكل ما ورد في الأدلة الشرعية، فالله سبحانه هو الحكم والحاكم، فلا يجوز التحاكم إلى غيره، ويجب الدخول في الإسلام دخولاً شاملاً بكافة شرائعه وأحكامه ومعالجاته، وإلا فيخشى من الوقوع في حبال الشيطان واتباع خطواته والعياذ بالله.
فمن أجل الحفاظ على قوة الشخصية الإسلامية ونقائها وبقائها فعالة مؤثرة، على المسلمين الالتزام الصارم بكل ما أتانا به الله سبحانه، قال تعالى:{فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ}(هود14) فهذا هو الشعار الذي يجب أن نرفعه وهو أن ندعو (الآخر) للاستجابة لهذا الدين مع يقيننا واعتقادنا به بشكل لا يتطرق إليه شك أو ارتياب، والإعلان على رؤوس الأشهاد بأننا مسلمون اعتقاداً وعملاً وإيماناً وسلوكاً.
لذلك كان لا بد من أجل الحفاظ على شخصية الأمة الإسلامية وهويتها من وجود دولة إسلامية حقيقية تضع الإسلام موضع التطبيق، وتحمل رسالته إلى العالم عن طريق الجهاد. {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً}(الفتح28).
أحمد الخطيب
29/8/2005م(/2)
شخصية الداعية وكيف تُبنى ؟
يتناول الدرس أخطار النفس وانحرافاتها التي قد يصاب بها الدعاة وتفتك بهم أشد من فتك الأعداء، ثم شرح العناصر التي تتكون منها الشخصية الإسلامية .
دعاة الإسلام في خطر ! لا أعني أنهم في خطر من عدوهم، ومن مكائد خصومهم، ومن مؤامرات الحاقدين عليهم وعلى الإسلام .. فهذه أخطار قد تهون ـ على ضراوتها وشدتها ـ أمام أخطار النفس وانحرافاتها .. فالداعية بخير ما برئ من عيوب نفسه وأمراضها، بالغ ما بلغت قوة الأعداء والخصوم.
ومن هنا نفهم وصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه للمسلمين حيث يقول: [كونوا أشد احتراسًا من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله . واعلموا أن عليكم في سيركم حفظة من الله، فلا تعملوا بمساخط الله وأنتم في سبيل الله].
أقول هذا لأنني أدرك أن درب الدعاة في هذا العصر درب محفوفة بالإغواء والإغراء .. لقد هدمت جاهلية القرن العشرين كل معنى من معاني الفضيلة والخير والكرامة .. وأسفرت عن وجه كالح شاحب ترسم فيه وتتوافر أسباب الغواية والفتنة والشذوذ .. وأزكمت مادية هذا العصر الأنوف حتى أصبح الإنسان لا يفكر إلا بها، ولا يعيش إلا بها، ولا يحكم على الأشياء إلا من خلالها.. أعمت بصره وبصيرته، وأماتت حسه وشعوره:} فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا...[176]{ 'سورة الأعراف'.
هذه التركة المثقلة بالأعباء والمهمات كان على دعاة الإسلام أن يواجهوا مسئولية حملها بالعدة الكاملة من إيمانهم وأخلاقهم وأفكارهم، وبل ما يملكون من أسباب القوة والمنعة العقيدية والخلقية .
حصنوا جبهات المقاومة:
لذلك كان أخطر ما يواجه الدعاة في هذا الزمن، تصدع جبهات المقاومة في نفوسهم، وتسليمهم أحيانًا بما يسمى: [بالأمر الواقع] والرضى بالترقيع في إسلامهم، والقبول بأنصاف الحلول من مبادئهم وأهدافهم .. وكثيرًا ما كانت سياسة التراخي والتساهل هذه تستدرج البعض إلى مخالفة المسلمات الأساسية، والخروج عن دائرة التصور والتفكير والسلوك الإسلامي.
وإذا سلمنا بضخامة الأعباء، وكبر المسئوليات التي تنتظر الدعاة في حاضرهم ومستقبلهم .. وما هم معرضون له من محن وفتن، وأصبح من أهم ما ينبغي أن يحرصوا عليه، ويبادروا إليه هو توفير عوامل [الصيانة] لنفوسهم وعقولهم؛ ليقووا على مغالبة ما يعترض سبيلهم من عقبات.
الشخصية الإسلامية:
إن الاهتمام بتكوين الشخصية الإسلامية يجب أن يسبق أي عمل آخر؛ فالشخصية الإسلامية حجر الزاوية في بناء الحركة الإسلامية .. وكما أن الحركة الإسلامية لا يمكن أن تنهض بدورها الكبير في قيادة الأمة بغير الدعاة والعاملين، كذلك فإن هؤلاء الدعاة لا يمكن أن يقوموا بالدور الخطير ما لم تكتمل شخصيتهم الإسلامية اكتمالاً طبيعيًا سليمًا..
العناصر التي تتكون منها الشخصية الإسلامية:
العقلية الإسلامية : إن العقلية الإسلامية إحدى مقومات الشخصية الإسلامية.. وهي بالتالي ملكة التفكير والتصور الإسلامي الصحيح للكون والإنسان والحياة، فالأفكار والأحكام والمحسوسيات والمغيبات يجب أن تخضع كلها لتقييم إسلامي صحيح. وبهذا تكون العقلية الإسلامية قاعدة فكرية تعكس مفاهيم الإسلام وأحكامه في كل شأن من الشئون.
فالعقلية الإسلامية هي [العقلية] التي تنظر إلى الأشياء ـ كلّ الأشياء ـ من خلال الإسلام .. وتحكم على الأمور ـ كلّ الأمور ـ بمنظار الإسلام، فيكون الإسلام بالنسبة إليها مقياس كلّ قضية، وحلّ كل مشكلة، وزمام كلّ أمر .. ولعل أهم الأسباب التي تؤدي بالدعاة إلى الانحراف ـ أحيانًا ـ اضطراب فهمهم وتصورهم للإسلام، وللعمل الإسلامي.
ولتكوين العقلية الإسلامية لابد من توفر العوامل التالية :
أولاً: الفهم الصحيح للكتاب والسنة: الذي من شأنه أن يقيم في ذهن الداعية الخطوط الأساسية للحياة الإنسانية كما يريدها الإسلام .
ثانيًا: الإدراك الكامل لأهداف الفكر الإسلامي: من حيث هو ضابط مسلكي وأخلاقي، دافع للعمل، جاعل سلوك الإنسان متقيدًا ومتكيفًا بحسبه في الحياة الدنيا ونحو الآخرة. وأنه ليس مجرد نظريات ومثاليات مجردة .. وهذا ما يجعل المفهوم الإسلامي واقعيًا وإيجابيًا، وذا مفعول عميق وقوي في بناء الشخصية الإسلامية .
ثالثًا: الاستيعاب الكامل والكافي لجوانب التصور الإسلامي: دونما انحصار في جانب من الجوانب . فكثيرًا ما يؤدي التفريط الجانبي إلى ظواهر وانحرافات خطيرة. فالعقل ينمو نموًا طبيعيًا ما دام يتناول من الأبحاث والثقافات ما يكفل له غذاءً وفيرًا ومتنوعًا .. ويقف عن النمو والإنتاج، بل قد يتأخر ويكف عن التفكير إذا أهمل، أو قدم له الضحل الخفيف من القراءات والمطالعات ..(/1)
يقول الدكتور صبري القباني في كتابه الأول من سلسلة [طبيبك معك]: إن الدماغ يستطيب تنوع الأبحاث. فينسجم ويستعيد استساغة الفكر.. والتفكير ذو النمط الواحد يكده ويجهده .. مثله في ذلك مثل الأذن تمج النغم الواحد المتواتر .. ومثل عضلات القدم التي يرهقها هبوط المنحدر السحيق، كما يضنيها صعود المرتقى الطويل..لذلك يجب أن نقدم لأدمغتنا دراسات منوعة لتحتفظ بجدتها ونشاطها.
من هنا نلاحظ أن الذين ينصرفون إلى المطالعات [الروحية أو الأدبية] فحسب يصابون بالانعزالية والانطوائية .. كذلك الذين يعكفون على البحوث العلمية المجردة ولا يقدمون للعقل أغذيته الأخرى الضرورية قد يقعون فريسة عوارض عصبية ونفسية جامحة .
وحتى يتحقق للعقل اتزانه وعمقه يجب أن ينفتح على كل ما في الحياة من معرفة وعلم وثقافة، يأخذ منها بقدر.. ويدع منها بقدر، وفي حدود ما يستسيغه التصور الإسلامي السليم .. والعقلية الإسلامية لا يمكن أن تكون إسلامية صافية ما لم تطل على العالم من نافذة الإسلام.. تفكر وتقدر، تستحسن وتستقبح، توازن وتقارن، كل ذلك على ضوء الإسلام، ووفق أصوله وقواعده.
النفسية الإسلامية: والنفسية الإسلامية ثاني مقومات [الشخصية الإسلامية] بل هي الانعكاس الحسي لتفاعل الفكرة الإسلامية وأثرها في حياة الفرد .. فميول الإنسان وغرائزه مربوطة ارتباطً وثيقًا بمفاهيمه وتصوراته الفكرية .. ومن هنا كانت النفسية الإسلامية هي الكيفية التي يمارس الداعية على ضوئها غرائزه وميوله وحاجاته العضوية.
وقد يكون من أهم ما تجب العناية به، ووضع المناهج له؛ تحويل المفاهيم والأفكار الإسلامية إلى سلوك وخلق أي إلى نفسية إسلامية . وهذا ما يفرض إحكام الربط بين العقلية والنفسية أي بين التفكير والتطبيق .. لقد ندد الإسلام بانفصال [جزئي الشخصية] عن بعضهما البعض فقال تعالى:} يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ[2]{ 'سورة الصف'.
وحتى تستقيم النفس على قواعد الإسلام التوجيهية والتشريعية، فلا يطغيها ترخص، أو يشقيها تكلف، ينبغي أن يراعي في ترويضها العوامل التالية:
لا تفريط ولا إفراط: حرص الإسلام من أول يوم على رد النفس البشرية إلى فطرتها .. وفق منهج دقيق متناسق يحفظ للروح والعقل والبدن حقوقهم من غير تفريط ولا إفراط .. وعلى هذا الأساس ينبغي أن تروض النفس .. فتنشأ نشأة طبيعية، وتنمو نموًا فطريًا لا إسراف فيه ولا إسفاف .. ومثل الذين يسرفون في حقوق أرواحهم كمثل الذين يسرفون في حقوق أبدانهم سواء بسواء، أولئك لا يمكن أن تستقيم شخصيتهم وتتزن وفق مقاييس الإسلام وأصوله.
فالداعية الموفق هو الذي يتابع قلبه بما يصلحه ويزكيه وينقيه، ولا يغفل عن مراقبة نفسه، ولا يقصر في محاسبتها .. عملاً بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: [الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ] رواه الترمذي وابن ماجه. وإلى ذلك أشار عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوله: [حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتهيأوا للعرض الأكبر].
وهو إلى جانب ذلك لا يبخل على بدنه بما أحل له من طيبات المأكل والمشرب والملبس، حسبه في ذلك قول الله تعالى:} قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ...[32]{ 'سورة الأعراف'.. }قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ...[33]{ 'سورة الأعراف' .
صحيح أن النفس أمارة بالسوء .. وأنها بحاجة إلى ترويض وإحجام حتى يسلس قيادها .. ولكن كما أن لنا عليها واجبات، فإن لها علينا حقوقًا .. ومن طالبها بواجباتها سألته حقوقها، ومن حرمها حقها جمحت به وأردته .. وهذا ما ينطق به مدلول الآية الكريمة:} لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ...[286]{ 'سورة البقرة'. ويقول الأستاذ سيد قطب في تفسير هذه الآية: [هي العقيدة التي تعترف بالإنسان إنسانًا، لا حيوانًا، ولا ملكًا، ولا شيطانًا .. تعترف به كما هو بكل ما فيه من ضعف، وكل ما فيه من قوة .. وتأخذه وحدة مؤلفة من جسد ذي نوازع، وعقل ذي تقدير، وروح ذي أشواق.. وتفرض عليه من التكاليف ما يطيق. وتراعي في التنسيق بين التكليف والطاقة بلا مشقة ولا إعنات].(/2)
هذا وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من كل تفريط ونهي عن كل إفراط، فَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا امْرَأَةٌ قَالَ: [ مَنْ هَذِهِ] قَالَتْ: فُلَانَةُ تَذْكُرُ مِنْ صَلَاتِهَا قَالَ: [ مَهْ عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ فَوَاللَّهِ لَا يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا]رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه وأحمد. و[ مَهْ] : كلمة نهي وزجر .. ومعنى [لَا يَمَلُّ اللَّهُ] :لا يقطع ثوابه عنكم حتى تملوا فتتركوا، فينبغي لكم أن تأخذوا ما تطيقون الدوام عليه؛ ليدوم ثوابه وفضله عليكم.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [ إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ] رواه البخاري ومسلم والنسائي وأحمد . ويقول الإمام النووي في تفسير هذا الحديث: [وهذه استعارة وتمثيل، ومعناه: استعينوا على طاعة الله عز وجل بالأعمال في وقت نشاطكم وفراغ قلوبكم، بحيث تستلذون العبادة ولا تسأمون، وتبلغون مقصودكم، كما أن المسافر الحاذق يسير في هذه الأوقات ويستريح هو ودابته في غيرها فيصل المقصود بغير تعب، والله أعلم].
والنفس يشق عليها تقمص طبيعية ليست فيها، وممارسة خصال ليست منها .. وهي إن صبرت على هذا التكلف باديء الأمر؛ فستمله في النهاية. والعاقل من سما بنفسه دونما ملل منها .. وسعى مع الأيام على تعويدها حمل المزيد من التكاليف والأعباء من غير إعياء لها .. وبذلك يبلغ بها ما يريده منها .
حقيقة التجرد : ونفس الداعية لا يمكن أن تستكمل خصالها الإسلامية، وخصائصها الربانية ما لم تتجرد لله، وتتحرر من كل ما يستبد بها أو يطغيها .. فإن كان المال فلتزهد فيه .. وإن كانت الشهوة فلتتحرر منها.. ليكن الغنى بالنفس لا بالفلس .. ولتكن العزة بالله لا بالجاه .. لتكن المرأة وسيلة إحصان وطاعة لا عامل انحلال وميوعة .
هذه بعض الملامح الخاطفة لمعالم الشخصية الإسلامية: خصائصها وصفاتها، قد تحتاج إلى مزيد من التفصيل والتبسيط . وحسبي أن يكون فيها ما يحقق بعض الرجاء .. والله ولي التوفيق.
من:' مشكلات الدعوة والداعية' للأستاذ/ فتحي يكن(/3)
شراب حلو يورث الشرق
عطاء
كانت تتردد في ذهني ...عبارة قرأتها قديماً لابن القيم رحمه الله....
(( شراب الهوى حلوٌ لكن يورثُ الشرق))..
((شراب الهوى حلوٌ لكن يورثُ الشرق))..
(( شرابُ الهوى حلوٌ لكن يورث الشرق))..
عجزَ الفكرُ أن يصلَ إلى هذه الحقيقة الواضحة التي وصل إليها ذلك العالم الرباني..
إلا أنّه وصلَ إلى جُزء ٍ من الحقيقة الساطعة التي لا يختلف عليها إثنان .
.وهي أنّ الهوى حلوٌ,,
حلاوة... حسية ومعنوية...يجدها كل من يملك وجداناً وشعوراً...
و له حلاوة يجد ذوقها أحدنا في قلبه كما يجد حلاوة الشهد في فمه.قطرةً قطرةً...
.... بل أعظم من ذلك!!
فالقلب حين يذوق تلك الحلاوة تتبعه الجوارح في المتعة الناشئة من ذلك الوجد..
فيتجه الملك برعيته... ويسوقها نحو داعي الهوى سوقاً.. فتنصاع لأمره..مذعنة راضية
...... ليزداد الكل إغراقاً في ذلك الشعور المولود.
يالحلاوة تلك المشاعر التي تتولد داخلك.. حين يهوى فؤادك شيئاً...تشعر بحلاوة الكون من حولك تشاركك وجود تلك اللحظة..يكاد فؤادك يطير فرحاً..بل يكاد يبلغ الشعور الماتع ذروته
حتى تكاد تظن أنك قد استحلت في لحظة... قلوباً صغيرة نابضة تسمع قرعها في أذنك..فكأنها
تلح طرقاً على جدران الشعور العاري..ليتجه بكليته نحو مايهوى ويريد...
ويحلق الفؤاد دونما جناح ..فيخف الجسد ..وتنشط النفس لتحقيق مرادها..فتكون نفوساً في
نفس ...وعزائم في عزيمة.. وقوىً خارقة لاتعرف اليأس..بل تكاد تخترق كثافة الجسد لتنفذ بقوة
إلى كل عرقٍ نابض ..فتستحيل أنت أنت..ريشةً..خفيفة..تحملها النفس على بساط الريح لتريها ألواناً للكون لم ترها..فتستبدل ذلك اللون الرمادي الكئيب...بألوانٍ أخرى يعرفها من شرب من كأس الهوى وذاق ووجد حلاوته...
والمتعة الناشئة عن ذلك الشعور تلون الكون بفرشاة قرمزية اللون...
ألواناً ليست بالألوان التي اعتادها البصر.أو ألفها...فيغيب التمييز..وتنساق النفس نحو المحبوب لتظفر به ولو لاقت حتفها في ذلك....
وتزداد القوة الدافعة إلحاحاً عليك حين ترسم لك فرشاة الهوى على صفحة الكون.. قطرة الشهد وهي تسيل.قطرة..قطرة. لتستقر على صفحة الفؤاد برودة تنفذ إلى الأعماق فيذوب القلب
وجداً وذوقاً...
يااااااااااااااه...ما أحلاه من شعور..!!
ألم نقل منذ البداية.....(( أنّ شراب الهوى حلوٌ))
لكننا نغفل عن شطر الحقيقة المؤلم والمزعج ونصم عنه الآذان ونحبس العقل عن
إدراك عاقبته..
وهو أنه..........
(( يورث الشرق))...
(( يورث الشرق))..
والشرق حالة مزعجة.. قاطعٌة للمرء عن لذته..معكرةٌ صفوأُنسه..مكدرة عذب مائه...
ترى كيف يقطع الشرق المرء عن لذته ...؟؟!!
ألا تشعر أنك منزعج لتلك العبارة القاطعة عن المتعة..!!؟؟
(( يورث الشرق))
فمهما كانت تلك اللذة عظيمة ....فإن حشرجة وغصة تذهب متعتها..
وتقطع لذتها..إن لم تكن تلك الحلاوة سبباً للهلاك..
ومن نظر في العاقبة ....
أحضر دولة العقل فاكتسح ظلمةالهوى...وبدد سطوته..وأضعف سلطانه.. ليخر صريعاً...
على أعتاب الحقيقة الصادقة..
ولايكون ذلك إلا بعزيمة صادقة....
يخالف فيها أحدناهواه..
..إذ أنه داءٌ ودواؤه مخالفته..
فمنا من أبحر بمركبه فشق عباب بحرٍ متلاطم الأمواج لايدري أنه سيلاقي منيته..
ومنا من أوثق قدميه بميثاق الصدق.. فلم تغادر قدماه شطّ الأمان بل حُبستا حيث وقف..
وصاحبه ..يلوّح له من بعيد.. وهو نشوانٌ..في سكرته سادر...ويناديه لحاقاً بي..إذ علته
موجة...فألقته بعيداً....
ترى كم مرة نمر بهذه التجربة ونتجرع مرارة الحقيقة الساطعة..؟؟!!
فلمَ لانفقه الدرس..ونقف على أطلال الذين هووا.....فهووا ..!!
**** إضاءة ****
قال عبدالملك بن قريب : مررت بأعرابي به رمدٌ شديد , ودموعه تسيل على خديه
فقلت: ألا تمسح عينيك ؟ قال : نهاني الطبيب عن ذلك , ولاخير فيمن إذا زُجر لاينزجر
,وإذا أمر لايأتمر ,
فقلت: ألا تشتهي شيئاً ؟؟
فقال: بلى , ولكني أحتمي , إنّ أهل النار غَلبت شهوتهم حميتهم فهلكوا..(/1)
شرح الصدور بتحريم رفع القبور
محمد بن علي الشوكاني
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله المطهرين وصحبه المكرمين. وبعد،
فاعلم أنه إذا وقع الخلاف بين المسلمين في أن هذا الشيء بدعة أو غير بدعة، أو مكروه أو غير مكروه، أو محرم أو غير محرم، أو غير ذلك، فقد اتفق المسلمون ـ سلفهم وخلفهم ـ من عصر الصحابة إلى عصرنا هذا ـ وهو القرن الثالث عشر منذ البعثة المحمدية ـ أن الواجب عند الاختلاف في أي أمر من أمور الدين بين الأمة المجتهدين هو الرد إلى كتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. الناطق بذلك الكتاب العزيز (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) ومعنى الرد إلى الله سبحانه الرد إلى كتابه، ومعنى الرد إلى رسوله صلى الله عليه وسلم الرد إلى سنة بعد وفاته. وهذا مما لا خلاف فيه بين جميع المسلمين. فإذا قال مجتهد من المجتهدين: هذا حلال، وقال الآخر: هذا حرام، فليس أحدهما أولى بالحق من الآخر وإن كان أكثر منه علما أو أكبر منه سنا أو أقدم منه عصرا، لأن كل واحد منهما فرد من أفراد عباد الله ومتعبد بما في الشريعة المطهرة مما في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومطلوب منه ما طلب الله من غيره من العباد. وكثرة علمه وبلوغه درجة الاجتهاد أو مجاوزته لها لا يسقط عنه شيئا من الشرائع التي شرعها الله لعباده. بل العالم كلما ازداد علما كان تكليفه زائدا على تكليف غيره. ولو لم يكن من ذلك إلا ما أوجبه الله عليه من البيان للناس وما كلفه به من الصدع بالحق وإيضاح ما شرعه الله لعباده (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه) إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون).
فلو لم يكن لمن رزقه الله طرفا من العلم إلا كونه مكلفا بالبيان للناس لكان كافيا فيما ذكرناه من كون العلماء لا يخرجون عن دائرة التكليف. بل يزيدون بما علموه تكليفا. وإذا أذنبوا كان ذنبهم أشد من ذنب الجاهل وأكثر عقابا. كما حكاه الله عمن يعمل سوءا بجهالة ومن عمله بعلم. زكما حكاه في كثير من الآيات عن علماء اليهود حيث أقدموا على مخالفة ما شرعه الله لهم، مع كونهم يعلمون الكتاب ويدرسونه. ونعى ذلك عليهم في مواضع متعددة من كتبه، وبكتهم أشد تبكيت. وكما ورد في الحديث الصحيح: "إن أول من تسعر بهم جهنم العلام الذي يأمر الناس ولا يأتمر وينهاهم ولا ينتهي."
وبالجملة فهذا أمر معلوم، أن العلم وكثرته وبلوغ حاملة إلى أعلى درجات العرفان لا يسقط عنه شيئا من التكاليف الشرعية بل يزيدها عليه شدة، ويخاطب بأمور لا يخاطب بها الجاهل ويكلف بتكاليف غير تكاليف الجاهل، ويكون ذنبه أشد وعقوبته أعظم. وهذا لا ينكره أحد ممن له أدنى تمييز بعلم الشريعة، والآيات والأحاديث الواردة في هذا المعنى لو جمعت لكانت مؤلفا مستقيما ومصنفا حافلا. وليس ذلك من غرضنا في هذا البحث، بل غاية الغرض من هذا ونهاية القصد منه هو بيان أن العالم كالجاهل في التكاليف الشرعية والتعبد بما في الكتاب والسنة، مع ما أوضحناه لك من التفاوت بين الرتبتين، رتبة العالم ورتبة الجاهل في كثير من التكاليف واختصاص العالم منها بما لا يجب على الجاهل.(/1)
وبهذا يتقرر لك أن ليس لأحد من العلماء المختلفين، أو من التابعين لهم والمقتدين بهم أن يقول: الحق ما قاله فلان دون فلان، أو فلان أولى بالحق من فلان. بل الواجب عليه- إن كان ممن له فهم وعلم وتمييز- أن يرد ما اختلفوا فيه إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فمن كان دليل الكتاب والسنة معه فهو على الحق وهو الأولى بالحق. ومن كان دليل الكتاب والسنة عليه لا له كان هو المخطئ، بل هو معذور، بل مأجور، كما ثبت في الحديث الصحيح أنه " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر " فناهيك بخطأ يؤجر عليه فاعله، ولكن هذا إنما هو للمجتهد نفسه، إذا أخطأ، ولكن لا يجوز لغيره أن يتبعه في خطئه، ولا يعذر كعذره، ولا يؤجر كأجره، بل واجب على من عداه من المكلفين أن يترك الاقتداء به في الخطأ ويرجع إلى الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة. وإذا وقع الرد لما اختلف فيه أهل العلم إلى الكتاب والسنة كان من معه دليل الكتاب والسنة هو الذي أصاب الحق ووافقه، وإن كان واحدا، والذي لم يكن معه دليل الكتاب والسنة هو الذي لم يصب الحق، بل أخطأه، وإن كان عددا كثيرا، فليس لعالم ولا لمتعلم ولا لمن يفهم- وإن كان مقصرا- أن يقول: إن الحق بيد من يقتدي به من العلماء، إن كان دليل الكتاب والسنة بيد غيره. فإن ذلك جهل عظيم، وتعصب ذميم، وخروج من دائرة الإنصاف بالمرة، لأن الحق لا يعرف بالرجال، بل الرجال يعرفون بالحق. وليس أحد من العلماء المجتهدين والأئمة المحققين بمعصوم، ومن لم يكن معصوما فإنه يجوز عليه الخطأ كما يجوز عليه الصواب، فيصيب تارة ويخطئ أخرى. ولا يتبين صوابه من خطئه إلا بالرجوع إلى دليل الكتاب والسنة، فإن وافقهما فهو مصيب، وإن خالفهما فهو مخطئ ولا خلاف في هذه الجملة بين جميع المسلمين أولهم وآخرهم، سابقهم ولاحقهم، كبيرهم وصغيرهم، وهذا يعرفه كل من له أدنى حظ من العلم، وأحقر نصيب من العرفان، ومن لم يفهم هذا ويعترف به فليتهم نفسه، ويعلم أنه قد جنى على نفسه بالخوض فيما ليس من شأنه، والدخول فيما لا تبلغ إليه قدرته، ولا ينفذ فيه فهمه. وعليه أن يمسك قلمه ولسانه، ويشتغل بطلب العلم، ويفرغ نفسه لطلب علوم الاجتهاد التي يتوصل بها إلى معرفة الكتاب والسنة وفهم معانيهما، والتمييز بين دلائلهما، ويجتهد في البحث في السنة وعلومها، حتى يتميز عنده صحيحها من سقيمها، ومقبولها من مردودها، وينظر في كلام الأئمة الكبار من سلف هذه الأمة وخلفها حتى يهتدي بكلامهم إلى الوصول إلى مطلوبه. فإنه إن لم يفعل هذا وقدم الاشتغال بما قدمنا، ندم على ما فرط منه قبل أن يتعلم هذه العلوم غاية الندم، وتمنى أنه أمسك عن التكلم بما لا يعنيه، وسكت عن الخوض فيما لا يدريه، وما أحسن ما أدبنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه من قول "رحم الله امرءا قال خيرا أو صمت "، وهذا في الذي تكلم في العلم قبل أن يفتح الله عليه بما لابد منه، وشغل نفسه بالتعصب للعلماء، وتصدى للتصويب والتخطئة في شيء لم يعلمه ولا فهمه حق فهمه، ولم يقل خيرا ولا صمت، فلم يتأدب بالأدب الذي أرشد إليه رسول الله ا!قي. وإذا تقرر لك من مجموع ما ذكرناه وجوب الرد إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بنص الكتاب العزيز وإجماع المسلمين أجمعين، عرفت أن من زعم للناس أنه يمكن معرفة المخطئ من العلماء من غير هذه الطريق عند اختلافهم في مسألة من المسائل فهو مخالف لما في كتاب الله، ومخالف لإجماع المسلمين أجمعين، فانظر أرشدك الله إلى أي جناية جنى على نفسه بهذا الزعم الباطل وأي مصيبة وقع فيها بهذا الخطأ الفاحش، وأى بلية جلبها عليه القصور والتقصير، وأي محنة شديدة ساقها إليه التكلم فيما ليس من شأنه؟.
وها أنا أوضح لك مثالا لما ذكرناه من الاختلاف بين أهل
العلم، ومن كيفية الرد إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ليتبين المصيب من المخطئ، ومن بيده الحق ومن بيده غيره، حتى تعرف الحق حق معرفته، ويتضح لك غاية الاتضاح، فإن الشيء إذا ضربت له الأمثلة وصورت له الصور بلغ من الوضوح والجلاء إلي غاية لا يخفي معها على من له فهم صحيح وعقل رجيح، فضلا عمن لم يكن له في العلم نصيب، وفي العرفان حظ، ولنجعل هذه المسألة التي جعلناها مثالا لما ذكرناه وإيضاحا لما أمليناه: هى المسألة التي لهج بالكلام فيها أهل عصرنا ومصرنا، خصوصا في هذه الأيام لأسباب لا تخفي، وهي:
مسألة رفع القبور، والبناء عليها، كما يفعله الناس من بناء المساجد والقباب على القبور.(/2)
فنقول: اعلم أنه قد اتفق الناس، سابقهم ولاحقهم، وأولهم وآخرهم من لدن الصحابة رضوان الله عنهم إلى هذا الوقت: أن رفع القبور والبناء عليها بدعة من البدع التي ثبت النهى عنها واشتد وعيد رسول الله لفاعلها، كما يأتي بيانه، ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين أجمعين، لكنه وقع للإمام يحي بن حمزة مقالة تدل على أنه يرى أنه لا بأس بالقباب والمشاهد على قبور الفضلاء، ولم يقل بذلك غيره، ولا روي عن أحد سواه، ومن ذكرها من المؤلفين في كتب الفقه من الزيدية فهو جرى على قوله واقتداء به. ولم نجد القول بذلك ممن عاصره، أو تقدم عصره عليه لا من أهل البيت ولا من غيرهم. وهكذا اقتصر صاحب البحر الذي هو مدرس كبار الزيدية، ومرجع مذهبهم ومكان البيان لخلافهم في ذات بينهم، وللخلاف بينهم وبين غيرهم، بل اشتمل على غالب أتوال المجتهدين وخلافاتهم في المسائل الفقهية، وصار هو المرجوع إليه في هذه الأعصار، وهذه الديار لمن أراد معرفة الخلاف في المسائل، وأقوال القائلين بإثباتها أو نفيها من المجتهدين: فإن صاحب هذا الكتاب الجليل لم ينسب هذه المقالة- أعنى جواز رفع القباب والمشاهد على قبور الفضلاء- إلا إلى الإمام يحيى وحده. فقد قال ما نصه:
مسألة الإمام يحيى: لا بأس بالقباب والمشاهد على قبور الفضلاء والملوك؟ لاستعمال المسلمين ولم ينكره. انتهى.
فقد عرفت من هذا أنه لم يقل بذلك إلا الإمام يحيى، وعرفت دليله الذي استدل به، وهو استعمال المسلمين مع عدم النكير، ثم ذكر صاحب البحر هذا الدليل الذي استدل به الإمام يحيى في الغيث واقتصر عليه، ولم يأت بغيره.
فإذا عرفت هذا تقرر لك أن هذا الخلاف واقع بين الإمام يحيى وبين سائر العلماء، من الصحابة والتابعين، ومن المتقدمين من أهل البيت والمتأخرين، ومن أهل المذاهب الأربعة وغيرهم. ومن جميع المجتهدين أولهم وآخرهم، ولا يعترض هذا بحكاية من حكى قول الإمام يحيى في مؤلفه، ممن جاء بعده من المؤلفين. فإن مجرد حكاية القول لا يدل على أن الحاكي يختاره ويذهب إليه، فإن وجدت قائلا من بعده من أهل العلم يقول بقوله هذا ويرجحه، فإن كان مجتهدا كان قائلا بما قاله الإمام يحيى ذاهبا إلى ما ذهب إليه بذلك الدليل الذي استدل به، وإن كان غير مجتهد فلا اعتبار بموافقته. لأنها إنما تعتبر أقوال المجتهدين لا أقوال المقلدين، فإذا أردت أن تعرف: هل الحق ما قاله الإمام يحيى، أو ما قاله غيره من أهل العلم. فالواجب عليك رد هذا الاختلاف إلى ما أمرنا الله بالرد إليه. وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فإن قلت: بين لي العمل في هذا الرد حتى تتم الفائدة، ويتضح الحق من غيره، والمصيب من المخطئ في هذه المسألة. قلت: افتح لما أقوله سمعا، واتخذ له فهما، وأرهف له ذهنا. وها أنا أوضح لك الكيفية المطلوبة. وأبين لك مالا يبقى عندك بعده ريب، ولا يصاحب ذهنك وفهمك عنده لبس، فأقول:
قال الله سبحانه: (وما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا! فهذه الآية فيها الإيجاب على العباد بالائتمار بما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم والأخذ به، والانتهاء عما نهى عنه صلى الله عليه وسلم وتركه. وقال سبحانه: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله)، ففي هذه الآية: تعليق محبة الله الواجبة على كل عبد من عباده باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن ذلك هو المعيار الذي يعرف به محبة العبد لربه على الوجه المعتبر، وأنه السبب الذي يستحق به العبد أن يحبه الله، وقال الله سبحانه: (من يطع الرسول فقد أطاع الله) ففي هذه الآية: أن طاعة الرسول طاعة لله، وقال: (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا! فأوجب هذه السعادة لمن أطاع الله ورسوله، وهى أن يكون مع هؤلاء الذين هم أرفع العباد درجة عنده، وأعلاهم منزلة. وقال: (ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها لي ذلك الفوز العظيم. ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين). وقال سبحانه: (ومن يطع الله ورسوله ويخشى الله ويتقه فأولئك هم الفائزون ! وقال سبحانه: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) وأنزل الله على رسوله أن يقول: (أطيعوا الله وأطيعون ) والآيات الدالة عل هذا المعنى في الجملة أكثر من ثلاثين آية.
ويستفاد من جميع ما ذكره: أن ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى عنه كان الأخذ به واتباعه واجبا بأمر الله سبحانه. وكانت الطاعة لرسول الله في ذلك طاعة لله، وكان الأمر من رسول الله أمرا من الله.(/3)
وسنوضح لك ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير حديث من النهى عن رفع القبور والبناء عليها، ووجوب تسويتها، وهدم ما ارتفع منها، ولكنا هنا نبتدي بذكر أشياء في حكم التوطئة والتمهيد لذلك، ثم ننتهي إلى ذكر ما هو المطلوب، حتى يعلم من اطلع على هذا البحث أنه إذا وقع الرد فيما قاله الإمام يحيى وما قاله غيره في القباب والمشاهد إلى ما أمر الله بالرد إليه، وهو كتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كان في ذلك ما يشفي ويكفي، ويقنع ويغني ذكر بعضه، فضلا عن ذكر جميعه، وعند ذلك يتبين لكل من لهم فهم، ما في رفع القبور من الفتنة العظيمة لهذه الأمة، من المكيدة البالغة التي كادهم الشيطان بها. وقد كان بها من كان قبلهم من الأمم السابقة، كما حكى الله سبحانه وتعالى ذلك في كتابه العزيز.
وكان أول ذلك في قوم نوح، قال الله سبحانه: (قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا، ومكروا مكرا كبارا، وقالوا لا تذرن آلهتكم، ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا) " كانوا قوما صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم فصوروهم. فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس، فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر، فعبدوهم، ثم عبدتهم العرب بعد ذلك "، وقد حكى معنى هذا في صحيح البخاري عن ابن عباسي رضى الله عنهما، وقال قوم من السلف: " إن هؤلاء كانوا قوما صالحين من قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم طال عليهم الأمر فعبدوهم ".
ويؤيد هذا ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها: " أن أم سلمة رضى الله عنها ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة، وذكرت له ما رأت فيها من الصور. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله "، وأخرج ابن جرير في تفسير قوله تعالى: (أفرأيتم اللات والعزى) قال: " كان يلت السويق للحاج، فمات فعكفوا على قبره ".
وفي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله البجلي رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت يقول: " ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك ".
وفي الصحيحين من حديث عائشة رضى الله عنها قالت: " لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة على وجهه، فإذا اغتم كشفها، فقال- وهو كذلك- لعنة الله على اليهود والنصارى فقد اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"- يحذر ما صنعوا.
وفي الصحيحين مثله أيضا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وفيهما أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "، وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه " لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يكون مسجدا ".
وأخرج الإمام أحمد في مسنده بإسناد جيد، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد "، وأخرج أحمد وأهل السنن من حديث ابن عباس رضى الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: " لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج ". وفي صحيح مسلم وغيره عن أبى الهياج الأسدي قال: " قال لي علي بن أبي طالب رضى الله عنه: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن لا أدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرا مشرفا إلا سويته". وفي صحيح مسلم أيضا عن ثمامة بن شفي نحو ذلك.
وفي هذا أعظم دلالة على أن تسوية كل قبر مشرف بحيث يرتفع زيادة على القدر المشروع؟ واجبة متحتمة. فمن إشراف القبور: أن يرفع سمكها أو يجعل عليها القباب أو المساجد. فإن ذلك من النهي عنه بلا شك ولا شبهة. ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعث لهدمها أمير المؤمنين عليا. ثم أمير المؤمنين بعث لهدمها أبا الهياج الأسدي في أيام خلافته.
وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه والنسائي وابن حبان من حديث جابر قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه، وأن يوطأ ".
وزاد هؤلاء المخرجون لهذا الحديث عن مسلم " وأن يكتب عليه". قال الحاكم: النهى عن الكتابة على شرط مسلم، وهي صحيحة غريبة.(/4)
وفي هذا التصريح بالنهى عن البناء على القبور، وهو يصدق على ما بني على جوانب حفرة القبر، كما يفعله كثير من الناس من رفع قبور الموتى ذراعا فما فوقه. لأنه لا يمكن أن يجعل نفس القبر مسجدا، فذلك مما يدل علي أن المراد بعض ما يقربه مما يتصل به، ويصدق على من بنى قريبا من جوانب القبر كذلك، كما في القباب والمساجد والمشاهد الكبيرة، على وجه يكون القبر في وسطها أو في جانب منها. فإن هذا بناء على القبر، لا يخفى ذلك على من له أدنى فهم، كما يقال: بنى السلطان على مدينة كذا، أو علي قرية كذا سورا. وكما يقال: بنى فلان في المكان الفلاني مسجدا، مع أن سمك البناء لم يباشر إلا جوانب المدينة أو القرية أو المكان. ولا فرق بين أن تكون تلك الجوانب التي وقع وضع البناء عليها قريبة من الوسط، كما في المدينة الصغيرة والقرية الصغيرة والمكان الضيق، أو بعيدة في الوسط كما في المدينة الكبيرة والقرية الكبيرة والمكان الواسع، ومن زعم أن في لغة العرب ما يمنع من هذا الإطلاق فهو جاهل لا يعرف لغة العرب، ولا يفهم لسانها ولا يدري بما استعملته في كلامها.
وإذا تقرر لك هذا علمت أن رفع القبور ووضع القباب والمساجد والمشاهد عليها قد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعله تارة.. كما تقدم. وتارة قال: " اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "، فدعا عليهم بأن يشتد غضب الله عليهم بما فعلوه من هذه المعصية. وذلك ثابت في الصحيح، وتارة نهى عن ذلك. وتارة بعث من يهدمه. وتارة جعله من فعل اليهود والنصارى. وتارة قال: "لا تتخذوا قبري وثنا ". وتارة قال: " لا تتخذوا قبري عيدا " أي: موسما يجتمعون فيه كما صار يفعله كثير من عباد القبور؟ يجعلون لمن يعتقدون من الأموات أوقاتا معلومة يجتمعون فيها عند قبورهم، ينسكون لها المناسك، ويعكفون عليها، كما يعرف ذلك كل أحد من الناس من أفعال هؤلاء المخذولين، الذين تركوا عبادة الله الذي خلقهم ورزقهم ثم يميتهم ويحييهم.. وعبدوا عبدا من عباد الله، صار تحت أطباق الثرى، لا يقدر على أن يجلب لنفسه نفعا ولا يدفع عنها ضرا، كم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أمره الله أن يقول (لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا). فانظر كيف قال سيد البشر وصفوة الله من خلقه بأمر ربه أنه لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا وكذلك قال فيما صح عنه " يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا "
فإذا كان هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفسه وفي أخص قرابته به وأحبهم إليه، فما ظنك بسائر الأموات الذين لم يكونوا أنبياء معصومين ولا رسلا مرسلين؟ بل غاية ما عند أحدهم أنه فرد من أفراد هذه الأمة المحمدية، وواحد من أهل هذه الملة الإسلامية؟ فهو أعجز وأعجز أن ينفع أو يدفع عنها ضررا.
وكيف لا يعجز عن شيء قد عجز عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم آ وأخبر به أمته كما أخبر الله عنه، وأمره بأن يقول للناس بأنه لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، وأنه لا يغنى عن أخص قرابته من الله شيئا؟. فيا عجبا! كيف يطمع من له أدنى نصيب من علم، أو أقل حفظ من عرفانأن ينفعه أو يضره فرد من أفراد أمة هذا النبي الذي يقول عن نفسه هذه المقالة؟ والحال أنه فرد من التابعين له المقتدين بشرعه.
فهل سمعت أذناك- أرشدك الله- بضلال عقل اكبر من هذا الضلال الذي وقع في عباد أهل القبور؟! (إنا لله وإنا إليه راجعون).
وقد أوضحنا هذا أبلغ إيضاح في رسالتنا التي سميناها " الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد " وهي موجودة بأيدي الناس. فلاشك ولا ريب أن السبب الأعظم الذي نشأ منه هذا الاعتقاد
في الأموات هو ما زينه الشيطان للناس من رفع القبور، ووضع الستور عليها، وتجصيصها وتزيينها بأبلغ زينة، وتحسينها بأكمل تحسن. فإن الجاهل إذا وقعت عينه على قبر من القبور قد بنيت عليه قبة فدخلها، ونظر على القبور الستور الرائعة، والسرج المتلألئة، وقد سطعت حوله مجامر الطيب، فلا شك ولا ريب أنه يمتلئ قلبه تعظيما لذلك القبر، ويضيق ذهنه عن تصور ما لهذا الميت من المنزلة؟ ويدخله من الروعة والمهابة ما يزرع في قلبه جمن العقائد الشيطانية التي هي من أعظم مكائد الشيطان للمسلمين، وأشد وسائله إلى ضلال العباد ما يزلزله عن الإسلام قليلا قليلا، حتى يطلب من صاحب ذلك القبر مالا يقدر عليه إلا الله سبحانه، فيصير في عداد المشركين.
وقد يحصل له هذا الشرك بأول رؤية لذلك القبر الذي صار على تلك الصفة وعند أول زورة له إذ لابد أن يخطر بباله أن هذه العناية البالغة من الأحياء بمثل هذا الميت لا تكون إلا لفائدة يرجونها منه، إما دنيوية أو أخروية، فيستصغر نفسه بالنسبة إلى من يراه من أشباه العلماء زائرا لذلك القبر، وعاكفا عليه ومتمسحا بأركانه.(/5)
وقد يجعل الشيطان طائفة من إخوانه من بني آدم يقفون على ذلك القبر، يخادعون من يأتي إليه من الزائرين، يهولون عليهم الأمر، ويصنعون أمورا من أنفسهم، وينسبونها إلى الميت على وجه لا يفطن له من كان من المغفلين. وقد يصنعون أكاذيب مشتملة على أشياء يسمونها كرامات لذلك الميت، ويبثونها في الناس، ويكررون ذكرها في مجالسهم، وعند اجتماعهم بالناس، فتشيع وتستفيض، ويتلقاها من يحسن الظن بالأموات، ويقبل عقله ما يروى عنهم من أكاذيب، فيرويها كما سمعها، ويتحدث بها في مجالسه، فيقع الجهال في بلية عظيمة من الاعتقاد الشركي، وينذرون على ذلك الميت كرائم أموالهم، ويحبسون على قبره من أملاكهم ما هو أحبها إلى قلوبهم، لاعتقادهم أنهم ينالون بجاه ذلك الميت خيرا عظيما وأجرأ كبيرا، ويعتقدون أن ذلك قربة عظيمة، وطاعة نافعة، وحسنة متقبلة، فيحصل بذلك مقصود أولئك الذين جعلهم الشيطان من إخوانه من بني آدم على ذلك القبر.
فإنهم إنما فعلوا تلك الأفاعيل وهولوا على الناس بتلك التهاويل، وكذبوا تلك أكاذيب، لينالوا جانبا من الحطام من أموال الطغام الأغتام . وبهذه الذريعة الملعونة، والوسيلة الإبليسية تكاثرت الأوقاف على القبور، وبلغت مبلغا عظيما، حتى بلغت غلات ما يوقف على المشهورين منهم ما لو اجتمعت أوقافه لبلغ ما يقتاته أهل قرية كبيرة من قرى المسلمين. ولو بيعت تلك الحبائس الباطلة لأغنى الله بها طائفة عظيمة من الفقراء، وكلها من النذر في معصية الله.
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا نذر في معصية الله". وهى أيضا من النذر الذي لا يبتغي به وجه الله؟ بل كلها من النذور التي يستحق بها فاعلها غضب الله وسخطه. لأنها تفضي بصاحبها إلى ما يفضي به اعتقاد الإلهية في الأموات من تزلزل قدم الدين؟ إذ لا يسمح بأحب أمواله وألصقها بقلبه إلا وقد زرع الشيطان في قلبه من محبة وتعظيم ذلك القبر وصاحبه والمغالاة في الاعتقاد فيه ما لا يعود به إلى الإسلام سالما. نعوذ بالله من الخذلان.
ولاشك أن غالب هؤلاء المغرورين المخدوعين لو طلب منهم طالب أن ينذر بذلك الذي نذر به لقبر ميت على ما هو طاعة من الطاعات وقربة من القربات لم يفعل، ولا كاد.
فانظر إلى أين بلغ تلاعب الشيطان بهؤلاء؟ وكيف رمى بهم هوة بعيدة القعر، مظلمة الجوانب؟ فهذه مفسدة من مفاسد، القبور وتشييدها، وزخرفتها وتجصيصها.
ومن المفاسد البالغة إلى حد يرمى بصاحبه إلى وراء حائط الإسلام، ويلقيه على أم رأسه من أعلى مكان الدين: أن كثيرا منهم يأتي بأحسن ما يملكه منن الأنعام وأجود ما يحوزه من المواشي فينحره عند ذلك القبر، متقربا به إليه، راجيا ما يضمر حصوله له منه. فيهل به لغير الله، ويتعبد به لوثن من الأوثان إذ أنه لا فرق بين نحر النحائر لأحجار منصوبة يسمونها وثنا، وبين قبر لميت يسمونه قبرا. ومجرد الاختلاف في التسمية لا يغني من الحق شيئا، ولا يؤثر تحليلا ولا تحريما فإن من أطلق على الخمر غير اسمها وشربها، كان حكمه حكم من شربها وهو يسميها باسمها، بلا خلاف بين المسلمين أجمعين.
ولاشك أن النحر نوع من أنواع العبادة التي تعبد الله العباد بها، كالهدايا والفدية والضحايا، فالمتقرب بها إلى القبر والناحر لها عنده لم يكن له غرض بذلك إلا تعظيمه وكرامته، واستجلاب الخير منه واستدفاع الشر به. وهذه عبادة لاشك فيها. وكفاك من شر سماعه. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم (إنا لله وإنا إليه راجعون) والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: " لا عقر في الإسلام " قال عبد الرزاق: (كانوا يعقرون عند القبر، يعني بقرا وشياها "(/6)
وبعد هذا كله فاعلم أن ما سقناه من الدلالة وما هو كالتوطيد لها وما هو كالخاتمة تختم بها البحث: يقضى أبلغ قضاء وينادى أرفع نداء، ويدل أوضح دلالة، ويفيد أجلى مفاد: أن ما رواه صاحب البحر عن الإمام يحيى، غلط من أغاليط العلماء، وخطأ من جنس ما يقع للمجتهدين وهذا شأن البشر. والمعصوم من عصمه الله. وكل عالم يؤخذ من قوله ويترك، مع كونه رحمه الله من أعظم الأئمة أنصافا وأكثرهم تحريا للحق وإرشادا وتأثيرا، ولكننا رأيناه قد خالف من عداه بما قال: من جواز بناء القباب على القبور رددنا هذا الاختلاف إلى ما أوجب الله الرد إليه. وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فوجدنا في ذلك ما قدمنا ذكره من الأدلة الدالة أبلغ دلالة، والمنادية بأعلى صوت بالمنع من ذلك والنهي عنه، واللعن لفاعله والدعاء عليه. واشتداد غضب الله عليه، مع ما في ذلك من كونه ذريعة إلى الشرك، ووسيلة إلى الخروج عن الملة كما أوضحناه. فلو كان القائل بما قاله الإمام يحيى بعض الأئمة أو أكثرهم لكان قولهم ردأ عليهم، كما قدمناه في أول هذا البحث. فكيف والقائل به فرد من أفرادهم؟ وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " كل أمر ليس عليه أمرنا فهو رد "، ورفع القبور وبناء القباب والمساجد عليها ليس عليها أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما عرفناك ذلك فهو رد على قائله، أي مردود عليه.
والذي شرع للناس هذه الشريعة الإسلامية هو الرب سبحانه بما أنزله في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
فليس لعالم- وإن بلغ من العلم إلى أرفع رتبة وأعلى منزلة- أن يكون بحيث يقتدى به فيما خالف الكتاب والسنة أو أحدهما، بل ما وقع منه من الخطأ بعد توفية الاجتهاد حقه يستحق به أجرأ. ولا يجوز لغيره أن يتابعه عليه. وقد أوضحنا هذا في أول البحث بما لا يأتي التكرار له بمزيد.
فائدة
وأما ما استدل به الإمام يحيى حيث قال: (لاستعمال المسلمين ذلك ولم ينكرونه) فقول مردود، لأن علماء المسلمين مازالوا في كل عصر يروون أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في لعن من فعل ذلك ويقررون شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم ذلك في مدارسهم ومجالس حفاظهم يرويها الآخر عن الأول والصغير عن الكبير، والمتعلم عن العالم من لدن أيام الصحابة إلى هذه الغاية. وأوردها المحدثون في كتبهم المشهورة من الأمهات والمسندات والمصنفات وأوردها المفسرون في تفاسيرهم، وأهل الفقه في كتبهم الفقهية، وأهل الأخبار والسير في كتب الأخبار والسير فكيف يقال: إن المسلمين لم ينكروا على من فعل ذلك، وهم يروون أدلة النهي عنه واللعن لفاعله، خلفا عن سلف في كل عصر. ومع هذا فلم يزل علماء الإسلام منكرين لذلك مبالغين في النهي عنه.
وقد حكى ابن القيم عن شيخه تقي الدين- رحمهما الله- وهو الإمام المحيط بمذهب سلف هذه الأمة وخلفها. أنه قد صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد على القبور، ثم قال: وصرح أصحاب أحمد ومالك والشافعي بتحريم ذلك. وطائفة أطلقت الكراهية، لكن ينبغي أن يحمل على كراهة التحريم، إحسانا للظن بهم، وأن لا يظن بهم أن يجوزوا ما تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن فاعله والنهى عنه. انتهى.
فانظر كيف حكى التصريح عن عامة الطوائف؟ وذلك يدل على أنه إجماع من أهل العلم على اختلاف طوائفهم ثم بعد ذلك جعل أهل ثلاثة مذاهب مصرحين بالتحريم، وجعل طائفة مصرحة بالكراهة وحملها على كراهة التحريم. فكيف يقال: إن بناء القباب والمشاهد على القبور لم ينكره أحد؟.
ثم انظر كيف يصح استثناء أهل الفضل برفع القباب على قبورهم وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، كما قدمنا أنه قال: " أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا" ، ثم لعنهم بهذا السبب.
فكيف يسوغ من مسلم أن يستثني أهل الفضل بفعل هذا المحرم الشديد على قبورهم، مع أن أهل الكتاب الذين لعنهم الرسول صلى الله عليه وسلم وحذر الناس ما صنعوا لم يعمروا المساجد إلا على قبور صلحائهم.
ثم هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد البشر وخير الخليقة وخاتم الرسل، وصفوة الله من خلقه، ينهى أمته أن يجعلوا قبره مسجدا أو وثنا أو عيدا، وهو القدوة لأمته. ولأهل الفضل من القدوة به والتأسي بأفعاله وأقواله الحظ الأوفر. وهم أحق الأمة بذلك وأولاهم به. وكيف يكون فعل بعض الأمة وصلاحه مسوغا لفعل هذا المنكر على قبره؟ وأصل الفضل ومرجعه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وأي فضل ينسب إلى فضله أدني نسبة. أو يكون له بجنبه أقل اعتبار؟ فإن كان هذا محرما منهيا عنه ملعونا فاعله في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما ظنك بقبر غيره من أمته؟.
وكيف يستقيم أن يكون للفضل مدخل في تحليل المحرمات وفعل المنكرات؟ اللهم غفرا، والحمد لله الذي هدانا للحق ووفقنا لاتباعه، وصلى الله على محمد عبد الله ورسوله وعلى آله أجمعين.
تمت بحمد الله رسالة شرح الصدور(/7)
شرح دعاء قنوت الوتر
...
...
التاريخ : 10/10/2005
الكاتب : الشيخ ابن عثيمين رحمه الله ... الزوار : 2862
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الشرح
اللهم اهدنا فيمن هديت
«اللهم اهدنا فيمن هديت» أي دلنا على الحق ووفقنا للعمل به؛ وذلك لأن الهداية التامَّة النافعة هي التي يجمع الله فيها للعبد بين العلم والعمل؛ لأن الهداية بدون عمل لا تنفع، بل هي ضرر؛ لأن الإنسان إذا لم يعمل بما علم صار علمه وبالاً عليه.
مثال الهداية العلمية بدون العمل: قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } [فصلت: 17]، أي بينَّا لهم الطريق وأبلغناهم العلم، ولكنهم ـ والعياذ بالله ـ استحبوا العمى على الهدى.
ومن ذلك أيضًا من الهداية التي هي العلم وبيان الحق، قول الله تبارك وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلّم: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [الشورى: 52]، أي تدل وتبين وتعلم الناس الصراط المستقيم. وأما الهداية التي بمعنى التوفيق فمثل قوله تعالى {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [القصص: 56]. هذه هداية التوفيق للعمل، فالرسول صلى الله عليه وسلّم لا يستطيع أن يوفق أحدًا للعمل الصالح أبدًا، ولو كان يستطيع ذلك لاستطاع أن يَهْدِي عمه أبا طالب، وقد حاول معه حتى قال له عند وفاته ـ أي قال لعمِّه عند وفاة عمِّه: «يا عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله»، ولكن قد سبقت من الله ـ عزَّ وجلَّ ـ الكلمة بأنه من أهل النار ـ والعياذ بالله ـ فلم يقل: «لا إله إلا الله»، وكان آخر ما قال: «هو على ملة عبد المطلب»، لكن الله ـ عزَّ وجل ـ أذن لرسوله صلى الله عليه وسلّم أن يشفع له، لا لأنه عمه، لكن لأنه قام بالدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلّم وعن الإسلام، فشفع النبي صلى الله عليه وسلّم في عمه فكان في ضحضاح من نار وعليه نعلان من نار يغلي منهما دماغه وإنه لأهون أهل النار عذابًا، قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار».
فإذا قلنا في دعاء القنوت: «اللهم اهدنا فيمن هديت» فإننا نسأل الهدايتين، هداية العلم وهداية العمل، كما أن قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]، يشمل الهدايتين هداية العلم، وهداية العمل، فينبغي للقارئ أن يستحضر أنه يسأل الهدايتين: هداية العلم وهداية العمل.
وقوله: «فيمن هديت» هذه من باب التوسل بإنعام الله تعالى على من هداه، أن ينعم علينا نحن أيضًا بالهداية. ويعني: أننا نسألك الهداية فإن ذلك من مقتضى رحمتك وحكمتك ومن سابق فضلك فإنك قد هديت أناسًا آخرين.
وعافنا فيمن عافيت
«وعافنا فيمن عافيت» عافنا من أمراض القلوب وأمراض الأبدان. وينبغي لك يا أخي أن تستحضر وأنت تدعو، أن الله يعافيك من أمراض البدن، وأمراض القلب؛ لأن أمراض القلب أعظم من أمراض البدن ولذلك نقول في دعاء القنوت: «اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا».
أمراض الأبدان معروفة لكن أمراض القلوب تعود إلى شيئين:
الأول: أمراض الشهوات التي منشؤها الهوى.
الثاني: أمراض الشبهات التي منشؤها الجهل.
فالأول: أمراض الشهوات التي منشؤها الهوى، أن يعرف الإنسان الحق، لكن لا يريده؛ لأن له هوًى مخالفًا لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلّم.
والثاني: أمراض الشبهات التي منشؤها الجهل؛ لأن الجاهل يفعل الباطل يظنه حقًّا وهذا مرض خطير جدًّا. فأنت تسأل الله المعافاة والعافية من أمراض الأبدان، ومن أمراض القلوب، التي هي أمراض الشبهات، وأمراض الشهوات.
وتولنا فيمن توليت
وقولنا: «تولنا فيمن توليت» أي كُنْ وليًّا لنا، والولاية نوعان: عامَّة وخاصَّة.
فالولاية الخاصَّة: للمؤمنين خاصَّة، كما قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 752]، فتسأل الله تعالى الولاية الخاصة التي تقتضي العناية بمن تولاه الله عزَّ وجلَّ والتوفيق لمايحبه ويرضاه.
أما الولاية العامة، فهي تشمل كل أحد، فالله ولي كل أحد، كما قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: 16]، وهذا عام لكل أحد، ثم قال: {ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام: 26].
لكن عندما نقول: «اللهم اجعلنا من أوليائك»، أو «اللهم تولنا»، فإننا نريد بها الولاية الخاصة، وهي تقتضي العناية والتوفيق لما يحبه ويرضاه.
وبارك لنا فيما أعطيت(/1)
وقولنا: «وبارك لنا فيما أعطيت» البركة هي الخير الكثير الثابت، ويعيد العلماء ذلك إلى اشتقاق هذه الكلمة، فإنها من البِرْكة، بكسر الباء وهي مجمع الماء، فهي شيء واسع ماؤه كثير ثابت. فالبَرَكَة هي الخيرات الكثيرة الثابتة. والمعنى أي: أنزل لي البركة فيما أعطيتني.
«فيما أعطيت» أي أعطيت من المال والولد والعلم وغير ذلك مما أعطى الله عزَّ وجلَّ، فتسأل الله البركة فيه؛ لأن الله إذا لم يبارك لك فيما أعطاك، حرمت خيرًا كثيرًا.
ماأكثر الناس الذين عندهم مال كثير لكنهم في عداد الفقراء؛ لأنهم لا ينتفعون بمالهم، يجمعونه ولا ينتفعون به. وهذا من نزع البركة.
كثير من الناس عنده أولاد، لكن أولاده لا ينفعونه لما فيهم من عقوق، وهؤلاء لم يُبَارَكْ لهم في أولادهم.
تجد بعض الناس أعطاه الله علمًا كثيرًا لكنه بمنزلة الأمي، لا يظهر أثر العلم عليه في عبادته، ولا في أخلاقه، ولا في سلوكه، ولا في معاملته مع الناس، بل قد يُكْسِبه العلم استكبارًا على عباد الله، وعلوًّا عليهم، واحتقارًا لهم، وما علم هذا أن الذي منَّ عليه بالعلم هو الله، تجده لم ينتفع الناس بعلمه، لا بتدريس، ولا بتوجيه، ولا بتأليف، بل هو منحصر على نفسه، وهذا بلا شك حرمان عظيم، مع أن العلم من أبرك ما يعطيه الله للعبد؛ لأن العلم إذا علَّمْته غيرك ونشرته بين الناس، أُجِرتَ على ذلك من عدة وجوه:
الأول: أن في نشرك للعلم نشرًا لدين الله ـ عزَّ وجلَّ ـ فتكون من المجاهدين في سبيل الله؛ لأنك تفتح القلوب بالعلم، كما يفتح المجاهد البلاد بالسلاح والإيمان.
الثاني: من بركة نشر العلم وتعليمه أن فيه حفظًا لشريعة الله عزَّ وجلَّ، وحماية لها؛ لأنه لولا العلم لم تحفظ الشريعة.
الثالث: من بركة نشر العلم، أنك تُحْسِن إلى هذا الذي علمته؛ لأنك تبصره في دين الله ـ عزَّ وجلَّ ـ فإذا عبد الله على بصيرة كان لك مثل أجره؛ لأنك أنت الذي دللته على الخير، والدال على الخير كفاعله.
الرابع: أنَّ في نشر العلم وتعلميه زيادة له، فعلم العالم يزيد إذا علّم الناس؛ لأنه استذكار لما حفظ وانفتاح لما لم يحفظ، كما قال القائل:
يزيد بكثرة الإنفاق منه وينقص إن به كفًّا شددتا أي: إذا أمسكته ولم تعلمه نقص.
وقنا شر ما قضيت
«وقنا شر ما قضيت» الله عزَّ وجلَّ يقضي بالخير ويقضي بالشر. أما قضاؤه بالخير فهو خير محض في القضاء والمقضي.
مثال القضاء بالخير: القضاء للناس بالرزق الواسع، والأمن والطمأنينة، والهداية والنصر.. إلخ. هذا خير في القضاء والمقضي.
القضاء بالشر: خير في القضاء، شر في المقضي.
مثال ذلك: القحط (امتناع المطر) هذا شر، لكن قضاء الله به خير، كيف يكون القضاء بالقحط خيرًا؟ لو قال قائل: إن الله يقدّر علينا القحط، والجدب، فتموت المواشي، وتفسد الزروع، فما وجه الخير؟
نقول: استمع إلى قول الله سبحانه وتعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 14]، إذًا لهذا القضاء غاية حميدة، وهي الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى من معصيته إلى طاعته، فصار المقضي شرًّا والقضاء خيرًا.
وعلى هذا فـ«ما» هنا اسم موصول.
والمعنى: قِنَا شرَّ الذي قضيت، فإن الله تعالى يقضي بالشرِّ لحكمة بالغة حميدة، وليست (ما) هنا مصدرية أي شر قضائك لكنها اسم موصول بمعنى الذي، لأن قضاء الله ليس فيه شر، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلّم فيما أثنى به على ربه: «والخير بيديك والشر ليس إليك» لهذا لا ينسب الشر إلى الله سبحانه وتعالى.
إنك تقضي ولا يقضى عليك
«إنك تقضي ولا يُقضى عليك» الله عزَّ وجلَّ يقضي قضاء شرعيًّا وقضاء كونيًّا، فالله تعالى يقضي على كل شيء وبكل شيء؛ لأن له الحكم التام الشامل.
«ولا يقضى عليك» أي لا يقضي عليه أحد، فالعباد لا يحكمون على الله، والله يحكم عليهم، العباد يُسألون عما عملوا، وهو لا يُسأل: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 32].
إنه لا يذل من واليت
«إنه لا يذل من واليت، ولا يعزّ من عاديت» وهذا كالتعليل لقولنا فيما سبق: «وتولنا فيمن توليت»، فإذا تولى الله الإنسان فإنه لا يذل، وإذا عادى الله الإنسان فإنه لا يعز.
ومقتضى ذلك أننا نطلب العز من الله سبحانه، ونتقي من الذل بالله عزَّ وجلَّ، فلا يمكن أن يذل أحد والله تعالى وليه، فالمهم هو تحقيق هذه الولاية. وبماذا تكون هذه الولاية؟(/2)
هذه الولاية تكون بوصفين بيّنهما الله عزَّ وجلَّ في كتابه، فقال عزَّ وجلَّ: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} [يونس: 26، 36]، وصفات أحدهما في القلب، والثاني في الجوارح. (الذين آمنوا) في القلب، (وكانوا يتقون) هذه في الجوارح، فإذا صلح القلب والجوارح؛ نال الإنسان الولاية بهذين الوصفين، وليست الولاية فيمن يدعيها من أولئك القوم الذين يسلكون طرق الرهبان وأهل البدع الذين يبتدعون في شرع الله ما ليس منه، ويقولون نحن الأولياء. فولاية الله عزَّ وجلَّ التي بها العز هي مجموعة في هذين الوصفين:الإيمان والتقوى.قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أخذًا من هذه الاية: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } [يونس: 36]، «من كان مؤمنًا تقيًّا كان لله وليًّا»، وصدق رحمه الله؛ لأن هذا الذي دلَّ عليه القرآن.
ولا يعز من عاديت
«ولا يعزّ من عاديت» يعني أن من كان عدوًّا لله فإنه لا يعز، بل حاله الذل والخسران والفشل، قال الله تعالى: {مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ} [البقرة: 89]، فكل الكافرين في ذل وهم أذلة.
ولهذا لو كان عند المسلمين عز الإسلام وعز الدين وعز الولاية؛ لم يكن هؤلاء الكفار على هذا الوضع الذي نحن فيه الان، حتى إننا ننظر إليهم من طرف خفي، ننظر إليهم من طريق الذل لنا، والعز لهم؛ لأن أكثر المسلمين اليوم مع الأسف لم يعتزوا بدينهم، ولم يأخذوا بتعاليم الدين، وركنوا إلى مادة الدنيا، وزخارفها؛ ولهذا أصيبوا بالذل، فصار الكفار في نفوسهم أعز منهم. لكننا نؤمن أن الكفار أعداء لله وأن الله كتب الذل على كل عدو له، قال الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ} [المجادلة:02]. وهذا خبر مؤكد،ثم قال: {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 12]، فمن عادى الله عزَّ وجلَّ فهو ذليل لا يمكن أن يكون عزيزًا إلا في نظر من لا يرى العزة إلا في مثل ما كان عليه هذا الكافر، وأما من نظر أن العزة لا تكون إلا بولاية الله عزَّ وجلَّ والاستقامة على دينه فإنه لا يرى هؤلاء إلاَّ أَذَلَّ خلق الله.
تباركت ربنا وتعاليت
«تباركت ربنا وتعاليت» هذا ثناء على الله عزَّ وجلَّ بأمرين: أحدهما التبارك، والتاء للمبالغة؛ لأن الله عزَّ وجلَّ هو أهل البركة «تباركت» أي كثرت خيراتك وعمت ووسعت الخلق؛ لأن البركة كما قلنا فيما سبق هي الخير الكثير الدائم.
وقوله: «ربنا» أي يا ربنا، فهو منادى حذفت منه ياء النداء.
وقوله: «وتعاليت» من العلو الذاتي والوصفي. فالله سبحانه وتعالى عليٌّ بذاته وعليٌّ بصفاته. عليٌّ بذاته فوق جميع الخلق، وعلوه سبحانه وتعالى وصف ذاتي أزلي أبدي، أما استواؤه على العرش فإنه وصف فِعْلِيٌّ يتعلق بمشيئته سبحانه وتعالى، والعرش:هو أعلى المخلوقات، وعليه استوى الله عزَّ وجلَّ، يعني علا عليه علوًّا يليق بجلاله وعظمته، لا نكَيِّفُه ولا نمثِّله وهذا العلو أجمع عليه السلف الصالح لدلالة القرآن والسنة والعقل والفطرة على ذلك(3).
وأما العلو الوصفي فمعناه أن الله له من صفات الكمال أعلاها وأتمها، وأنه لا يمكن أن يكون في صفاته نقص بوجه من الوجوه.
وفي دعاء القنوت جملة يكثر السؤال عنها مما يدعو به أئمتنا في قنوتهم، يقولون: «هب المسيئين منا للمحسنين» فما معناها؟
أقرب الأقوال فيها أنها من باب الشفاعة، يعني أن هذا الجمع الكبير فيهم المسيء، وفيهم المحسن، فاجعل المسيء هدية للمحسن بشفاعته له فكأنه قيل وشفع المحسنين منا في المسيئين.
تم بحمد الله وتوفيقه وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.(/3)
شرح ركن الإسلام الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح أركان الإسلام
عناصر الشرح :
1-مقدمة عن الإسلام وأركانه عموما.
2-الدرس الأول : شرح ركن الإسلام الأول ." لا إله إلا الله محمد رسول الله " وعناصر شرحها هي:
أ-معنى شهادة أن لا إله إلا الله.
1-معنى "لا إله إلا الله".
2-مكانة "لا إله إلا الله".
3-فضائلها.
4-أركانها .
5-شروطها.
6-آثارها.
ب-معنى شهادة أن محمدا رسول الله.
مقدمة عن الإسلام وأركانه عموما .
الأركان جمع ركن والركن هو جانب الشيء الأقوى.
وأركان الإسلام هي أصوله وأساساته العملية التي لا تصح إلا بها وهي أركان تعبديه يفعلها المسلم استجابة لأمر الله وامتثالاً لشرعه , قد نعلم بعض حكمها وفوائدها وربما نجهل كثير منها
التعريف بالإسلام
الإسلام هو الإذعان لله تعالى وتسليم العقل والقلب لعظمة الله تعالى وكماله وهو استسلام تام لله تعالى بالتوحيد وانقياد له بالطاعة وإفراده بالعبادة وحده والبراءة من الشرك وأهله.
والإسلام بمعناه الخالص: هو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الدين كله عقيدة وشريعة ومنهج حياة .
والإسلام هو الذي رضيه الله دينا للخلق وأتم به النعمة على العالمين وأكمله برسالة محمد بن عبد الله رسول رب الخلق أجمعين(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) المائدة[3]
والإسلام دين الله الذي اختاره وكلف به عباده وأرسل به رسله قال تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) آل عمران[19] وهو الذي لا يقبل الله من احد دينا سواه " ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه "
ولقد بعث الله محمد صلى الله عليه وسلم , والشرك عقيدة العرب قاطبة , روى البخاري عن أبي رجاء العطاردي قال(( كنا نعبد الحجر فإذا وجدنا حجرا هو خير منه ألقيناه وأخذنا الآخر , فإذا لم نجد حجرا جمعنا حثوة من تراب , ثم جئنا بالشاة فحلبنا عليه ثم طفنا به)).
أما حال الأمم عامة قبل ظهور دعوته صلى الله عليه وسلم, فقد بينها القرآن الكريم في آيات كثيرة منها قوله تعالى (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)يونس[18] وقوله سبحانه: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) الزمر[3] وقوله تعالى (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُون , وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)الأعراف[28] إلى قوله سبحانه (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) الأعراف[30] وقال عز وجل: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) الأنعام[136] .
والآيات في هذا المعنى كثيرة , ودلت الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم , وما ذكره كتاب السيرة النبوية والمؤرخون والثقات بأحوال الأمم : أن أهل الأرض قد تنوع شركهم قبل مبعثه عليه الصلاة والسلام, فمنهم من يعبد الأصنام والأوثان , ومنهم من يعبد أصحاب القبور , ومنهم يعبد الشمس والقمر والكواكب, ومنهم من يعبد غير ذلك, وسط هذا الليل البهيم من الظلمات والضلالات التي عمت الأرض وفقد الدين الإلهي وعمت الفوضى وانتشر الظلم والفساد والاستعباد السياسي والفوضى الإقتصادية والتمزق الإجتماعي، شع في مكة نور آذن بإنقاذ البشرية وتحريرها وإنقاذها من ظلمات الجاهلية يرفع لواءه محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام الذي أكرمه الله بالرسالة فقام بها وبلغها إلى الناس كافة ودعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم , أن يعبدوا الله وحده, وأن يدعوا ما هم عليه وآباؤهم من الباطل كما قال الله عز وجل ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدونَ) الأعراف[158].
وقال سبحانه: ( الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) إبراهيم [1].(/1)
وقال سبحانه (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا, وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا )الأحزاب[46] . وقال تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) البينة[5] . وقال عز وجل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقونَ) البقرة[21] وقال سبحانه: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) الإسراء[23] والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وقد أوضح سبحانه في آيات كثيرات أن هؤلاء المشركين كانوا مع شركهم وكفرهم يعترفون بأن الله خالقهم, ورازقهم , وإنما عبدوا غيره على أنه واسطة بينهم وبين الله كما سبق في قوله سبحانه: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ) يونس [18] وما جاء في معناه من الآيات , ومن ذلك قوله سبحانه : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقونَ ) يونس[31] وقوله سبحانه : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) الزخرف[87] , وغيرها من آيات كثيرات صريحة في هذا المعنى .
وإذا نظرنا إلى هذه الأركان الخمسة نرى أن كل واحد يتعلق بجانب هام من الإنسان , وأن كل واحد في زاوية يكون ركنا قويا وعمودا شديدا لبيت الإسلام الذي يأوي إليه المؤمن , فكلمة الشهادة تستحوذ على القلب وتظهر آثارها على الجوارح.
والصلاة تتعلق بجميع الأعضاء بالإضافة إلى كونها الصلة الوثيقة بين العبد وخالقه.
ويأتي دور توثيق الصلة بين الناس وذلك من خلال دفع الزكاة من الأغنياء إلى الفقراء .
ثم إن الإنسان مؤلف من روح وجسم , ومن صفاء وشهوة فلو ترك الإنسان لأدى ذلك إلى البعد عن الله تعالى, ولذلك شرع الصوم لتصفية روحه وتصفية نفسه وصقلها , وبعد أن امتلأ القلب بالإيمان والجوارح والخشوع لله تعالى وسخرت الأموال لما يريده الله تعالى , يأتي دور تقوية الروابط الاجتماعية بين العالم الإسلامي , وذلك من خلال مؤتمرهم الكبير الحج الذي يأتي إليه الناس من كل فج عميق .
ويمكن أن يعبر عن الأركان بأن كلمة الشهادة امتحان للقلب , والصلاة امتحان للأعضاء ومدى استطاعة العبد تنظيم نفسه وأوقاته , وأن الزكاة امتحان للإنسان في ماله, والصوم امتحان لمدى قدرته على ترك الشهوات لأجل خالقه ومولاه تعالى, وأن الحج امتحان لمدى قدرته على تحمل المشاق , وأتعاب السفر في سبيل الله تعالى.
الركن الأول من أركان الإسلام
"شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله"
معنى لا إله إلا الله ومفهومها:
إن كلمة التوحيد العظيمة تشتمل على معان عظيمة وجليلة ولن يستطيع العبد أن يعمل بمقتضى تلك الكلمة إلا بعد أن يفهم تلك المعاني ويحيط بها وذلك ليعمل بها على علم وبصيرة , وقد ورد ذكر هذه الكلمة في كتاب الله العزيز أكثر من ثلاثين مرة.
ومعنى الشهادة : الإخبار عن علم به واعتقاد لصحته وثبوته .
الشهادة شرعا: الإقرار والاعتراف والتصديق والاعتقاد بأنه لا يستحق العبادة إلا الله وحده لا شريك له, فمعنى لا إله إلا الله إذ هو الإعتقاد واليقين بأن الله تعالى وحده هو المستحق للعبادة والطاعة المطلقة , وأنه تعالى هو الرب المتصرف في الكون وبيده وحده مقاليد السماوات والأرض , والتزام ذلك والعمل به, فعبادة الله وعدم الإشراك به هو معنى لا إله إلا الله , قال تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ )محمد[19].يعني اعلم أنه المستحق للعبادة وأنه لا عبادة لغيره بل هو المعبود وحده وأنه الإله الحق الذي لا تنبغي العبادة لغيره عز وجل .(/2)
فمن شهد أن لا إله إلا الله فقد أذعن الإذعان المطلق لله تعالى والتسليم له وحده بالعبادة والطاعة والتقديس والخضوع وأعلن البراءة من كل ما يعبد ويقدس من دون الله وأن كل آلهة يعبدها الناس من إنسان أو حيوان أو ملك أو جماد أو فكر أو شهوة أو هوى أو مبدأ أو منهج ونحوها مما يعبد من دون الله كلها باطلة وقد دلت الأحاديث الكثيرة وأجمعت الأمة على أن كلمتي الشهادة "لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله " هما الركن الأول للإسلام وعليهما تبنى الأعمال ولا يقبل أي عمل دونهما فقد روى أئمة الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان والحج لمن استطاع إليه سبيلا))
مكانة لا إله إلا الله
هذه الكلمة يعلنها المسلمون في أذانهم وإقامتهم، وخطبهم ومحادثاتهم، وهي كلمة قامت بها الأرض والسماوات , وخلقت لأجلها جميع المخلوقات , وبها أرسل الله رسله, وأنزل كتبه وشرع شرائعه, ولأجلها نصبت الموازين, ووضعت الدواوين , وقام سوق الجنة والنار, وبها انقسمت الخليقة إلى مؤمنين وكفار, فهي منشأ الخلق والأمر والثواب والعقاب, وهي الحق الذي خلقت له الخليقة ، وعنها وعن حقوقها السؤال والحساب ، وعليها يقع الثواب والعقاب، وعليها نصبت القبلة وعليها أسست الملة، ولأجلها جردت سيوف الجهاد، وهي حق الله على جميع العباد ، فهي كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام، وعنها يُسأل الأولون والآخرون، فلا تزول قدما العبد بين يدي الله حتى يُسأل عن مسالتين: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ وجواب الأولى بتحقيق لا إله إلا الله معرفة وإقراراً وعملاً ، وجواب الثانية بتحقيق أن محمداً رسول الله معرفة وانقياداً وطاعة.
هذه الكلمة هي الفارقة بين الكفر والإسلام ، وهي كلمة التقوى ، وهي العروة الوثقى وهي التي جعلها إبراهيم كلمة باقية في عقبه كما قال تعالى: (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) 28[الزخرف].
وهي التي شهد الله بها لنفسه وشهد بها ملائكته وأولو العلم من خلقه، قال تعالى:(شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) 18[آل عمران].
فضل لا إله إلا الله:
لكلمة التوحيد وكلمة الإخلاص فضائل عظيمة ولها مكانة رفيعة منها: أن من قالها صادقاً من قلبه أدخله الله الجنة ومن قالها كاذباً حقنت دمه وأحرزت ماله في الدنيا، وفي الآخرة وحسابه على الله. ولهذه الكلمة العظيمة فضائل كثيرة ذكر جملة منها الحافظ بن رجب في رسالته المسماة (( كلمة الإخلاص )) ومنها : 1- أنها ثمن الجنة 2- ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة. 3- وهي نجاة من النار وتوجب المغفرة 4- وهي أحسن الحسنات.
5- وهي تمحو الذنوب 6- وهي تخرق الحجب حتى تصل إلى الله عز وجل 7- وهي الكلمة التي يصدق الله قائلها 8- وهي أفضل ما قاله النبيون 9- وهي أفضل الذكر 10- وهي أفضل الأعمال وأكثرها تضعيفاً وتعدل الرقاب، وتكون حرزاً من الشيطان 11- وهي أمان من هول الحشر 12- وهي شعار المؤمنين إذا قاموا من قبورهم 13- ومن فضائلها أنها تفتح لقائلها أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء. 14- ومن فضائلها أن أهلها وإن دخلوا النار لتقصيرهم في حقوقها فإنهم لابد أن يخرجوا منها.
هذه عناوين الفضائل التي ذكرها ابن رجب – رحمه الله – في رسالته (( كلمة الإخلاص من ص 54-66 واستدل لكل واحدة منها)) .
أركان لا إله إلا الله :
لا إله إلا الله لها ركنان:
1-النفي، فشطرها الأول (( لا إله )) يبطل الشرك بجميع أنواعه ويوجب الكفر بكل ما يعبد من دون الله.
2-الإثبات، وشطرها الثاني (( إلا الله )) يثبت أنه لا يستحق العبادة إلا الله.
وقد جاء معنى ذلك في كتاب الله قال تعالى: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )256 [البقرة].
(فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ) وهو معنى الركن الأول ،(وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ) معنى الركن الثاني.
وقال تعالى:(إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ، إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) الزخرف [26، 27].
:(إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ِ) هو الركن الأول :(إِلا الَّذِي فَطَرَنِي) هو معنى الركن الثاني.
شروط لا إله إلا الله سبعة:
ذكر العلماء أن لكلمة الإخلاص شروطاً سبعة وبعضهم عددها ثمانية.
ونظمها بعضهم في قوله:
علم يقين وإخلاص صدقك مع * * * محبة والاتقياد والقبول لها
وزيد ثامنها الكفران منك بما * * * سوى الإله من الأوثان قد ألها(/3)
1-العلم: فإذا علم العبد ان الله عز وجل هو المعبود وحده وأن عبادة غيره باطلة وعمل بمقتضى ذلك فهو عالم بمعناها ، قال تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إلا اللَّهُ) وقال تعالى:(إلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ )، وقال صلى الله عليه وسلم: (( من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة)).
2-اليقين: فيجب على من أتى بها أن يوقن بقلبه ويعتقد صحة ما يقول من أحقية إلهية الله تعالى ، وبطلان إلهية من عداه. قال تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) البقرة[4].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( أشهد أن لا إله إلا الله وأنِّي رسول الله لا يلقى الله بها عبد غير شاك فيها إلا دخل الجنة )) رواه مسلم.
وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( قال له من لقيت وراء هذا الحائط يشهد أنه لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة ))رواه مسلم .
وقال تعالى في وصف المؤمنين: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا) [الحجرات:15] ، أي لم يشكوا بل هم موقنون تمام الإيقان، فأما المرتاب فهو من المنافقين ، قال تعالى: (إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) [التوبة: 45].
3-الإخلاص المنافي للشرك، وذلك بأن تصدر منه جميع الأقوال والأفعال خالصة لوجه الله وابتغاء مرضاته ليس فيها شائبة، قال تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)[البينة:5] وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه)) رواه البخاري.
وعن عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله )) رواه البخاري.
4-الصدق المنافي للكذب: وذلك بان يصدق مع الله في إيمانه صادقاً في عقيدته صادقاً في أقواله ، صادقاً في دعوته ، قال تعالى: (يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اللَّه وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) التوبة[119] و عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (( ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله صادقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار)) رواه البخاري.
5-المحبة المنافية للبغض: فيحب هذه الكلمة وما تدل عليه وأهلها العاملين بمقتضاها، فيحب الله ورسوله ويقدم محبتهما على كل محبوب (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) [البقرة:165].
6-الانقياد المنافي للشرك: وهو الاستسلام والإذعان لما تدل عليه هذه الكلمة العظيمة ، قال تعال: (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ) [الزمر:54]، والاستسلام هو الانقياد لأوامر الله ، وقال تعالى:( وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى) [لقمان 22]. وقال تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ) [النساء:125]. وقال تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء:65].
7- القبول المنافي للرد: أي يقبل كلما اقتضته هذه الكلمة يقبله ولسانه، قال تعالى: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا) فمن قالها ولم يقبل ذلك كان ممن قال الله فيهم: (إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يسْتَكْبِرُونَ، وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ)[الصافات:35و36] .
8- الكفر بما يعبد من دون الله: قال تعالى:(لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ) [البقرة:256].
وقال صلى الله عليه وسلم: (( من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله )) رواه مسلم.
من آثار لا إله إلا الله:
لهذه الكلمة إذا قيلت بصدق وإخلاص وعمل بمقتضاها ظهراً وباطناً، آثار حميدة على الفرد والجماعة من أهمها:
1-اجتماع الكلمة التي ينتج عنها حصول القوة للمسلمين والانتصار على عدوهم لأنهم يدينون بدين واحد وعقيدة واحدة كما قال تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) [آل عمران:103].(/4)
وقال تعالى: (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) [الأنفال:62و63].
والاختلاف في العقيدة يسبب التفرق والنزاع والتناحر، قال تعال: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) [الأنعام:159]، وقال تعالى: (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) [المؤمنون:53] ، ويظهر ذلك في حال العرب قبل الإسلام وبعده.
2-توفر الأمن والطمأنينة في المجتمع الموحِّد الذي يدين بلا إله إلا الله، قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات:10] وقال تعالى (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح:29]، وقال تعالى: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا)[آل عمران:103].
3-حصول السعادة والاستخلاف في الأرض وصفاء الدين (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) [النور:55] فربط الله سبحانه هذه المطالب بعبادته وحده لا شريك له.
4- حصول الطمأنينة النفسية والاستقرار الذهني لمن قال لا إله إلا الله عاملاً بمقتضاها قال تعالى: (ءَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ القهَّار ) [يوسف:39].
5-حصول السمو والرفق لأهل لا إله إلا الله في الدنيا والآخرة، قال تعالى: (حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ) [الحج:31]. فدلت الآية على أن التوحيد علو وارتفاع وأن الشرك هبوط وسفول.
6- عصمة الدم والمال والعرض، قال صلى الله عليه وسلم: (( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها )) قوله بحقها معناه: أنهم إذا لم يقوموا بحقها من التوحيد والابتعاد عن الشرك لا تنفعهم.
معنى شهادة أن محمدا رسول الله
الاعتقاد الجازم الذي لايخالطه شك بأنه رسول رب العالمين إلى الخلق أجمعين ، ويتضمن ذلك : الطاعة له فيما أمر به، والتصديق بكل ماأخبر به عن الله عز وجل في الكتاب والسنة واجتناب كل مانهى عنه وزجر، وأن لايعبد الله إلا بما شرعه دون زيادة او نقصان 0ويتبع ذلك الاقرار له بانه رسول الله إلى الناس جميعا بشيرا لمن اطاعه، ونذيرا لمن عصاه، ليخرجهم من الظلمات إلى النور ومن الضلالة إلى الهداية ومن التيه إلى النهج القويم، وأنزل معه الكتاب(القرآن)مهيمنا على الكتب وناسخا لها ومشتملا على المنهاج الكامل عقيدة وشريعة، به سعادة البشرية في الدنيا وخلاصها في الآخرة، ذلك الكتاب المحفوظ المعجز. فطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم من طاعة الله. قال تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ). آل عمران[31]. وقال تعالى:(قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ). آل عمران[32].
وتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم في الأخبار الماضية والمستقبلة مما كان من أمور الغيب واجتناب ما ينهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أوجب الواجبات، قال تعالى : (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) . الحشر[7]. وقال صلى الله عليه وسلم : (ما أمرتكم من أمر فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه). وألا يعبد الله إلا بما شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا كان من شرطي قبول العمل المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قال صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد). وقد جعل الله سنة الرسول- صلى الله عليه وسلم – وهي: أقواله وأفعاله وتقريراته تشريعا تجب طاعته والتزامه بأمر الله.
مستلزمات شهادة أن محمدا رسول الله(/5)
ومن مستلزمات شهادة أن محمدا رسول الله، الإقرار بأنه خاتم الرسل وانه يجب على جميع البشرية إتباعه، لقول الله عزوجل: (لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا )الفرقان[1] وقوله سبحانه: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا)،سبأ[28] وقوله صلى الله عليه وسلم : (بعثت إلى الثقلين: الجن والإنس)، وقوله صلى الله عليه وسلم : (والله لا يسمع بي رجل من هذه الأمة – يهودي ولا نصراني- ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار). وغير اليهودي والنصراني من باب أولى لأن أولئك أهل كتاب وأتباع رسل. وقال صلى الله عليه وسلم : (وبعثت إلى الناس كافة إلى قيام الساعة).
التلازم بين ركني الشهادة
لا يصح الإيمان بالله والإقرار له بالعبودية إلا بالإيمان برسوله- صلى الله عليه وسلم – وإتباعه في جميع شؤون الحياة، لأن الله عزوجل أمرنا بذلك وجعل طاعته وعبادته لا تستقيم ولا تصح إلا من خلال شرعه الذي أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ). النساء[65] وقال تعالى: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ).النور[54] وقال تعالى : (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا). وقال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
وأركان شهادة أن محمدا رسول الله ركنان:
1-الاعتراف برسالته صلى الله عليه وسلم.
2-اعتقاد عبوديته صلى الله عليه وسلم لله كما قال عليه الصلاة والسلام: (إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله). فلا يرفع فوق منزلته صلى الله عليه وسلم فيكون له خصيصة من خصائص الألوهية فيعتقد أنه يعلم الغيب أو ينفع ويضر أو أنه يقضي الحاجات ويفرج الكربات، وقد وصفه الله بالعبودية في أشرف المقامات:
أ-في إنزال القرآن، قال سبحانه: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ). الفرقان[1] .
ب-في الإسراء، قال سبحانه: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ). الإسراء[1].
ج-في مقام الصلاة والدعاء، قال سبحانه: (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ ). الجن[19].
د-في مقام الحفظ والكفاية، قال سبحانه: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ). الزمر[36].
لقد أكرم الله نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ومن عليه بخصال كثيرة وصفات عظيمة رفع بها قدره وأعلى شأنه بين جميع خلقه:
1-أنه صلى الله عليه وسلم ذكر فيمن ذكر من الأنبياء في الوحي في قوله سبحانه:(إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا). سورة النساء[163].
2-أنه خاتم النبيين، قال سبحانه:(مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا). الأحزاب[40].
3-وهو أول المسلمين في هذه الأمة، قال سبحانه: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ). الأنعام[14].
4-ومن عظيم قدره أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم، قال تعالى: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ). الأحزاب[6].
5- ومن عظيم قدره أنه الشافع المشفع يوم المحشر، وأنه نبي الرحمة، خير الخلق، وعموم رسالته للثقلين، وأنه سيد ولد آدم وأنه نبي الإسلام.
وقفة :
للشهادتين آثار عظيمة على الفرد والمجتمع في العبادات والمعاملات والآداب والأخلاق.
وبعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بدين الإسلام الخاتم ليس للعرب وحدهم، بل وللناس كافة، أشرقت في وقت كانت البشرية كلها بأمس الحاجة إلى من يخرهم من الظلمات إلى النور.(/6)
شرح ركن الإيمان الأول
الركن الأول:الإيمان بالله تعالى
الإيمان بالله هو: الاعتقاد الجازم بأن الله رب كل شيء ومليكه، وأنه الخالق المدبر للكون، وأنه هو الذي يستحق العبادة وحده لا شريك له، وأن كل معبود سواه باطل، وعبادته باطلة، وأنه سبحانه متصف بصفات الكمال ونعوت الجلال منزه عن كل نقص وعيب. ويشمل الإيمان بالله تعالى:
1-توحيد الربوبية:
هو إفراد الله عز وجل بالخلق والملك والتدبير.
فإفراده بالخلق أن يعتقد الإنسان أنه لا خالق له إلا الله، قال تعالى: (أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ) [الأعراف: 54]. وقال تعالى: ( هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ) [فاطر: 3]. وقال تعالى: (قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) [المؤمنون: 88].
وأما إفراد الله بالتدبير فهو أن يعتقد الإنسان أنه لا مدبر إلا الله وحده، كما قال تعالى: (قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ) [يونس : 31].
وهذا القسم من التوحيد لم يعارض فيه المشركون الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم بل كانوا مقرين به، قال تعالى: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) [الزخرف : 9].
ولم ينكره أحد معلوم من بني آدم إلا ما كان من فرعون فإنه أنكره مكابرة، قال تعالى حكاية عنه: (فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى) [النازعات : 24].
وأنكر توحيد الربوبية على سبيل التشريك المجوس حيث قالوا إن للعالم خالقين هما الظلمة والنور، وإن جعلوا النور خيراً من الظلمة.
2-توحيد الألوهية:
يقال له توحيد العبادة؛ فباعتبار إضافته إلى الله يسمى توحيد الألوهية، وباعتبار إضافته إلى الخلق يسمى توحيد العبادة، وهو: إفراد الله عز وجل بالعبادة. فالمستحق للعبادة هو الله تعالى، وكل معبود سواه فعبادته باطلة. قال تعالى: (لا تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً) [الإسراء : 22].
وهذا القسم كفر به وجحده عامة الخلق، ومن أجل ذلك أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء : 25].
3-توحيد الأسماء والصفات:
هو الإيمان بالله وصفاته كما جاءت في القرآن العظيم، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم على ما يليق بالله سبحانه؛ وذلك بإثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم ونفي ما نفاه الله عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.
قال تعالى: (ليس كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) [الشورى: 11].
وهذا النوع من أنواع التوحيد هو الذي ضلت فيه بعض الطوائف، وانقسموا فيه إلى فرق كثيرة. ومما يلحق بالإيمان بالله عز وجل الإيمان بالغيب.
مفهومه وأثره في عقيدة المسلم:
أولا:الإيمان بالغيب:
الغيب مصدر يستعمل في كل غائب عن الحاسة، علم أو لم يعلم. والإيمان بالغيب، أي بما لا يقع تحت الحواس، ولا يدرك ببداهة العقول إنما يعلم بخبر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
والإيمان بالغيب من صفات المؤمن كما قال تعالى: (الم ( 1 ) ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ( 2 ) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ( 3 )[البقرة].
وقيل في معنى إيمانهم رأيان:
(أ)أنهم يؤمنون بما كان غائباً عن الحاسة، مما جاء الخبر به عن الله تعالى وعن رسله – عليهم الصلاة والسلام.
(ب)أنهم يؤمنون بالله – تعالى – حال غيبته كما يؤمنون به حال الحضور بخلاف المنافقين. ولا منافاة بين المعنيين فلا بد من الأمرين في المؤمن.
ثانياً: أثر الإيمان بالغيب في عقيدة المسلم:
للإيمان بالغيب آثار كبيرة تنعكس على سلوك الإنسان، وسيرته في الحياة، فهي دافع قوي لأعمال الخير ومكافحة الشر منها:
(أ)الإخلاص في العمل- فإن المؤمن بالله وثوابه وعقابه سيمتثل أوامر الله، ويحذر من نواهيه رغبة في الثواب، وخوفاً من العقاب في الآخرة، لا طمعاً في الجزاء والشكر الدنيوي من الناس كما أخبر الله – تعالى – عن عباده المطعمين الطعام مع حبهم له بقوله عنهم : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً(8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُوراً )(9)[الإنسان].(/1)
(ب)القوة في الحق- ما وعد به أهل الإيمان يجعل المرء يسير في امتثال أوامر الله تعالى، وبيان الحق والدعوة إليه وبيان الباطل والتحذير منه ومحاربته، وان عدم المعين فهو قوي بالله – تعالى – تهون عليه الحياة الدنيا وعذابها بجانب الحياة الآخرة. وقد اخبر الله – تعالى – عن خليله إبراهيم عليه السلام قوله لقومه: (وَتَاللَّهِ لأكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ( 57 ) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلا كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ ( 59 )[الأنبياء].
(ج) احتقار المظاهر الدنيوية- وهذا يكون نتيجة عمران القلب بالإيمان بزوال الدنيا وملذاتها، وأن الحياة الآخرة هي حياة البقاء والسعادة وليس من العقل إيثار الفاني على الباقي، يقول تعالى: (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (64)[العنكبوت].
وأخبر- سبحانه وتعالى – عن امرأة فرعون التي استهانت بما هي فيه من متاع الحياة الدنيا، وطلبت النجاة من فرعون وعمله ابتغاء الدار الآخرة لما استنار قلبها بنور الإيمان بالله – تعالى – والدار الآخرة بقوله: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [التحريم : 11].
(د)ذهاب الغل والأحقاد: إن السعي لتحقيق رغبات النفوس بغير طرقها الصحيحة يورث الغل والأحقاد بين الناس، والإيمان بالغيب من وعد الله – تعالى – ووعيده يجعل المرء محاسباً لنفسه في جميع تصرفاته طمعاً في الثواب وخوفاً من العقاب، والإيمان الصادق بتحقق الثواب يجعل النفس المؤمنة مندفعة إلى الإحسان والإيثار طمعاً في الثواب الباقي، الأمر الذي تصفو معه النفوس وتسود المحبة بين الأفراد والجماعات كما أخبر الله – تعالى – عن الذين امتثلوا ذلك بقوله: ( وَالَّذِينَ تَبَوَّؤوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)[الحشر].
تلك بعض آثار الإيمان بالغيب، ولا تتخلف إلا بضعف الإيمان، وإذا تخلفت أصبح المجتمع حيوانياً يأكل حيه ميته، ويقهر قويه ضعيفه، فيعم الخوف وينتشر البلاء وتتخلف الفضيلة وتسود الرذيلة، أعاذنا الله من ذلك.(/2)
شرح ركني الإسلام الثاني والثالث
الركن الثاني من أركان الإسلام: إقام الصلاة .
تقدم في شرح الركن الأول أن هذا الدين العظيم وهو الإسلام يقوم على أسس وقواعد خمس: وهي أركانه، كما جاء في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما المقدم ذكره.
وتقدم أن الشهادتين أول أركان الإسلام وأهمها، وهذه الكلمة العظيمة ليست عبارة تنطق باللسان فحسب، وإن كان بهما يصبح مسلما ظاهرا، بل الواجب العمل بمدلولهما، ويتضمن ذلك إخلاص العبادة لله وحده، والإيمان بأنه المستحق لها، وأن عبادة ما سواه باطلة.
كما يقتضي مدلولها محبة الله سبحانه، ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه المحبة تقتضي عبادة الله وحده وتعظيمه واتباع سنة نبيه، كما قال تعالى: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (آل عمران : 31 ).
كما أن مدلولهما طاعة رسول الله فيما أمر به، قال تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الحشر : 7)، وجاء في الحديث المتفق على صحته:
"ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما..الحديث"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين".
وأما الصلاة فهي أهم وآكد الأركان بعد الشهادتين، إذ هي عمود الدين ، وأول ما يحاسب عنه العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإذا صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، وهي عبادة تؤدى في وقتها المحدد، قال تعالى: (إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً) (النساء : 103 ).
وأمرنا الله سبحانه وتعالى بالمحافظة عليها فقال تعالى: (حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ) (البقرة : 238 )
فدل ما تقدم على أن من أهم الواجبات المحافظة عليها في أوقاتها وأن لها أوقاتا معلومة تؤدى فيها.
وقد توعد الله سبحانه وتعالى من يتهاون بها ويؤخرها عن وقتها، قال تعالى: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً) (مريم : 59 )
وقال سبحانه: (فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ ( 4 ) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ( 5 ))(الماعون)
فتأخير الصلاة عن وقتها هو من تضييعها، وليس معنى أضاعوها تركوها، لأن الترك كفر والعياذ بالله تعالى.
والصلاة هي العلامة المميزة بين الإسلام والكفر والشرك. روى مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة). وفي حديث بريدة رضي الله عنه: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر) أخرجه الإمام أحمد وأهل السنن بإسناد صحيح.
والصلاة: صلة بين العبد وبين ربه، تقام خمس مرات في اليوم والليلة على هيئة وصفة مخصوصة، شرعها الله، فيتوجه العبد إلى ربه مستقبلا القبلة خاشعا لله تعالى.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم إذا صلى يناجي ربه) رواه البخاري.
وقال تعالى في الحديث القدسي: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد: الحمدلله رب العالمين قال تعالى: حمدني عبدي.وإذا قال الرحمن الرحيم قال تعالى: أثنى عليّ عبدي. وإذا قال : مالك يوم الدين قال: مجدني عبدي، فإذا قال : إياك نعبد وإياك نستعين قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين انعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال: هذا لعبدي ولعبدي ماسأل)رواه مسلم.
والصلاة: روضة عبادات فيها من كل زوج بهيج، تكبير يفتتح به الصلاة وقيام يتلو فيه المصلي كلام الله وركوع يعظم فيه الرب وقيام من الركوع يملؤه بالثناء على الله وسجود يسبح الله تعالى فيه بعلوه، ويبتهل إليه بالدعاء وقعود للدعاء والتشهد وختام بالتسليم.
والصلاة: عون في المهمات ونهي عن الفحشاء والمنكرات قال الله تعالى: (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ) [البقرة: 45] وقال تعالى: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ) [العنكبوت: 45].
الصلاة : تربط الإنسان الضعيف المحتاج بربه – تعالى– الغني القوي، وتحرره من عناء الدنيا ومتاعب الحياة في أوقات معيّنة يناجي فيها ربه ويتوجه إليه معظّماً له طالباً منه العون (الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة : الآيات 2- 5] .(/1)
الصلاة: نور المؤمنين في قلوبهم ومحشرهم قال النبي صلى الله عليه وسلم:( الصلاة نور) [رواه مسلم] ، وقال: (من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة) [أحمد وابن حبان والطبراني].
الصلاة: سرور نفوس المؤمنين وقرة أعينهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (جعلت قرة عيني في الصلاة) [ أحمد والنسائي]. وقرة العين، عين السعادة والراحة والطمأنينة والأمن.
الصلاة: تُمْحَى بها الخطايا وتُكَفَّرُ بها السيئات، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه (وسخه) شيء؟ قالوا: لا يبقى شيء، قال: فكذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا) [البخاري ومسلم]، وقال صلى الله عليه وسلم: ( الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما لم تغش الكبائر ) [مسلم].
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله تعالى شرع لنبيكم سنن الهدى وإنهن من سنن الهدى ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيّكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم وما من رجل يتطهّر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة ويرفعه بها درجة ويحط عنه سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق ولقد كان الرجل يؤتى به يهادي بين الرجلين حتى يقام في الصف [أخرجه مسلم].
الصلاة: صلة بالله العلي الكبير الحي القيوم يستمد منها القلب قوة وتستمد منها النفس طمأنينة وتستمد منها الروح سعادة وهناء.وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا همه الأمر أو أصابه عناء قال: (أرحنا بها يا بلال)
الخشوع في الصلاة: (وهو حضور القلب) والمحافظة عليها من أسباب دخول الجنات، قال تعالى: (قدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ( 1 ) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ( 2 ) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ( 3 ) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ( 4 ) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ( 5 ) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ( 6 ) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ( 7 ) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ( 8 ) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ( 9 ) أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ( 10 ) (الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (المؤمنون : 11 ) [المؤمنون]
فالصلاة الخاشعة تكسب صاحبها الأمن والطمأنينة وتغمره السعادة، ويسكن من الهموم والغموم وتؤسس قوة الاعتماد على الله، وتدفعه لاستمداد العون منه – تعالى – ومن ثم يشعر المسلم بلذة فيها تفوق اللذات (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ) [البقرة : 153] ويشعر المصلي برقابة الله له واطلاعه عليه فلا يحدث منه ما لا يليق ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَر) [العنكبوت:45]
الإخلاص لله تعالى في الصلاة وأداؤها كما جاءت به السنة هما الشرطان الأساسيان لقبولها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) [البخاري ومسلم]. وقال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) [البخاري].
والواجب أن تؤدى الصلاة جماعة في المسجد لما لها من الفضل العظيم، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصلاة جماعة أفضل من صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة) [متفق عليه]. ولقد همَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بحريق البيوت على رجال يتخلفون عن صلاة الجماعة. في حديث متفق عليه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر) [أخرجه ابن ماجه والدارقطني وابن حبان والحاكم بإسناد صحيح.] وذلك يدل على عظم شأن أدائها في الجماعة.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم من لم يطمئن في صلاته أن يعيدها.
والصلاة مظهر من مظاهر المساواة والإخوة والانتظام، وتوحيد وجهتهم إلى الكعبة المشرفة قبلتهم. وكان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إليها لقوله تعالى: (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ )[البقرة:153]، وكان يقول لبلال: (يا بلال أرحنا بها) لأن المسلم إذا وقف للصلاة إنما يقف أمام خالقه سبحانه وتعالى: فيستريح قلبه، وتطمئن نفسه، وتخشع جوارحه، وتقر عينه بربه مولاه عز وجل.
حكم ترك الصلاة:(/2)
ومن المنكرات الظاهرة: ترك الصلاة من كثير ممن يدعي الإسلام؛ وترك الصلاة كفر كما صح عن رسل الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( بين الرجل والكفر أو الشرك ترك الصلاة) وقال: ( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)، ومن ضيع الصلاة فهو لما سواها أضيع. فهي عمود الإسلام ولا دين ولا إسلام لمن تركها. وترك الصلاة من أسباب دخول النار، قال تعالى عن المجرمين: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ( 42 ) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ( 43 )[المدثر] وقال تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الروم : 31 ] وقال تعالى: (فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) [التوبة : 11] ، فجعل إقامة الصلاة شرطاً في قبول التوبة والدخول في الإسلام وقال تعالى: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ ( 48 )) [المرسلات] وأجمع علماء السلف والخلف على قتل من أصرّ على تضييعها وتكاسل عن أدائها، والآيات والأحاديث في كفر تارك الصلاة ومضيعها أكثر من أن تحصر.
وقد أصبح حال كثير من الناس اليوم لا يصلي الفجر حتى تطلع الشمس – والعياذ بالله- وإن من إضاعة الصلاة ترك الجماعة مع القدرة على ذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له ) وقال: ( لا صلاة لجار المسجد إلا بالمسجد) وجار المسجد من سمع النداء. وقال ( من سمع النداء فلم يجب صُب في أذنيه الآنُكُ يوم القيامة)، ولا يتخلف عن صلاة الجماعة إلا منافق، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه. ومن إضاعة الصلاة تخفيفها وعدم الطمأنينة فيها ومسابقة الإمام فيها، فمن سابق الإمام فلا وحده صلى ولا بإمامه اقتدى، ناصيته بيد الشيطان. وتخفيف الصلاة وعدم الطمأنينة ومسابقة الإمام مناف للخشوع الذي هو ثمرة الصلاة وروحها، ولا تقبل صلاة من دون خشوع بل تلف كما يلف الثوب الخَلِق ويضرب بها وجه صاحبها وتقول: ضيعك الله كما ضيعتني، كما صح ذلك في الأحاديث الواردة عنه صلى الله عليه وسلم. والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز المنان الرحيم الرحمن.
الركن الثالث: من أركان الإسلام الزكاة، وهي قرينة الصلاة في آي القرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهي فريضة اجتماعية سامية تشعر المؤمن بسمو أهداف الإسلام: من عطف ورحمة وحب وتعاون بين المسلمين، وليس لواحد منَّة أو فضل فيما يقدمه من مال، إنما هو حق واجب، ولأنه في الحقيقة مال الله الذي استخلفه فيه قال تعالى: (وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ)[النور: 33] ، وقال تعالى: (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) [الحديد : 7] ، ولأهميتها قاتل أبوبكر الصديق رضي الله عنه بعض قبائل العرب عندما منعوا زكاة أموالهم، وقال: "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة"، وتابعه الصحابة رضي الله عنهم على ذلك.
ولقد توعد الله سبحانه وتعالى من بخل عن الإنفاق فقال تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [التوبة : 34]. ومعنى الزكاة دفع المسلم من ماله وممتلكاته، ماأوجبها الله - تعالى- تبدأ من نسبة 5ر2بالمئة ولا يزيد عن 10بالمئة في أحوال قليلة و تدفع لأصناف في المجتمع المسلم من المحتاجين أو لبعض المصالح العامة حددها الشارع كالإصلاح بين الناس والجهاد وبها تحصل منافع كثيرة للمجتمعات والأفراد والدول من التكافل الاجتماعي وشيوع التآلف والقضاء على ظاهرة الشح، والبخل والحسد والحقد.
وتجب الزكاة على المسلم إذا بلغ نصاباً من أي نوع من أنواع المال الزكوي إذا حال عليه الحول ما عدا الحبوب والثمار، فإن الزكاة تجب فيه عند نضجها وتمام استوائها، وإن لم يحل عليها الحول. وتعطى لمستحقيها كما وردت أصنافهم في القرآن الكريم في سورة التوبة، قال تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [التوبة : 60].(/3)
وقال سماحة شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله – في كلمة له حول فريضة الزكاة: { والتذكير بفريضة الزكاة التي تساهل بها الكثير من المسلمين؛ فلم يخرجوها على الوجه المشروع، مع عظم شانها، وكونها أحد أركان الإسلام الخمسة التي لا يستقيم بناؤها إلا عليها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت) متفق على صحته.}
فوائد الزكاة:
1-فرض الزكاة على المسلمين من أظهر محاسن الإسلام، ورعايته لشؤون معتنقيه، لكثرة فوائدها، ومسيس حاج فقراء المسلمين إليها.
2-فمن فوائدها تثبيت أواصر المودة بين الغني والفقير، لأن النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها.
3-ومنها تطهير النفوس وتزكيتها، والبعد عن خلق الشح والبخل، كما أشار القرآن الكريم، إلى هذا المعنى في قوله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا)[التوبة : 103]
4-ومنها تعويد المسلم صفة الجود، والكرم، والعطف على ذوي الحاجة.
5-ومنها استجلاب البركة، والزيادة والخلَف، كما قال تعالى: (وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سبأ : 39] وقول النبي: (يقول الله عز وجل: يا ابن آدم أنفق ننفق عليك) .... إلى غير ذلك من الفوائد الكثيرة.
وعيد الله لمن تساهل عن إخراج الزكاة:
وقد جاء الوعيد الشديد في حق من بخل بها أو قصّر في إخراجها، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( 34 ) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ( 35 )) [التوبة]فكل مال لا تؤدى زكاته فهو كنز، يعذب به صاحبه يوم القيامة كما دل على ذلك الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي حقها إلا إذا كان يوم القيام صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وظهره، كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يُقضى بين العباد فيرى سبيله إمَّا إلى الجنة، وإما إلى النار). ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم صاحب الإبل والبقر والغنم الذي لا يؤدي زكاتها، وأخبر أنه يُعذّب بها يوم القيامة.
وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مُثّلَ له يوم القيامة شجاعاً له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه – يعني شدقيه – ثم يقول:" أنا مالك أنا كنزك") ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية: (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [آل عمران : 180].
والزكاة تجب في أربعة أصناف:
الخارج من الأرض كالحبوب والثمار، والسائمة من بهيمة الأنعام، والذهب والفضة، وعروض التجارة.
ولكل من هذه الأصناف الأربعة نصاب محدود، لا تجب الزكاة فيما دونه.
فنصاب الحبوب والثمار خمسة أوسق، والوسق ستون صاعاً بصاع النبي صلى الله عليه وسلم فيكون مقدار النصاب بصاع النبي صلى الله عليه وسلم من التمر والزبيب والحنطة والأرز والشعير ونحوها ثلاثمائة صاع، بصاع النبي صلى الله عليه وسلم وهو أربع حفنات بيدي الرجل المعتدل الخِلقة، إذا كانت يداه مملوئتين.
وأما نصاب السائمة من الإبل والبقر والغنم، ففيه تفصيل مبين في الأحاديث الصحيحة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي استطاعة الراغب في معرفته سؤال أهل العمل عن ذلك، ولولا قصد الإيجاز لذكرناه لتمام الفائد(/4)
شرح ركني الإسلام الرابع والخامس
الركن الرابع :صوم رمضان لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة : 183 ) وفي الصوم يتدرب المسلم على كبح جماح نفسه عن الملذات والشهوات المباحة لمدة من الزمن ، وله فوائد صحية علاوة على الفوائد الروحية، وفيه يشعر المسلم بحاجة أخيه المسلم الجائع والذي قد تمر عليه الأيام دون طعام أو شراب كما يحصل الآن لبعض إخواننا في كثير من بقاع الأرض.
ومعنى الصوم: التعبد لله – تعالى – بالإمساك عن الطعام والشراب والجماع، وما يلحق بهما مما هو في حكمهما من طلوع الفجر إلى غروب الشمس خلال شهر رمضان.
وشهر رمضان أفضل الشهور وقد أنزل الله فيه القرآن الكريم، قال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة : 185 ) ، وفيه ليلة خير من ألف شهر، قال تعالى: ( َّإنا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ( 1 ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ( 2 ) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ( 3 ) )[القدر]. والصائم يغفر له ما تقدم من ذنبه إذا كان صومه إيماناً واحتساباً كما صح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيمانا واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ))[متفق عليه].
والواجب على الصائم أن يحفظ صيامه باجتناب الغيبة والنميمة والكذب والاستماع إلى الملاهي والحذر من سائر المحرمات، ويسن له الإكثار من قراءة القرآن ومن ذكر الله والصدقة والاجتهاد في العبادة وخاصة في العشر الأواخر.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله-:
إن صيام رمضان أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام، قال تعالى: ( َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( 183 ) أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( 184 ) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( 185 )) [البقرة].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (( بني الإسلام على خمس، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان)). وأجمع المسلمون على فريضة صوم رمضان إجماعاً قطعياً معلوماً بالضرورة من دين الإسلام، فمن أنكر وجوبه فقد كفر، فيستتابُ فإن تاب وأقر بوجوبه وإلا قُتل كافراً مرتداً عن الإسلام لا يُغسل ولا يُكفن ولا يُصلى عليه ولا يدعى له بالرحمة، ويدفن لئلا يؤذى الناس برائحته ويتأذى أهله بمشاهدته.
فرض صيام رمضان في السنة الثانية من الهجرة فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع سنين، وكان فرض الصيام على مرحلتين:
•المرحلة الأولى: التخيير بين الصيام والإطعام مع تفضيل الصيام عليه.
•المرحلة الثانية: تعيين الصيام بدون تخيير فعن سَلَمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: لما نزلت: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ )[البقرة:184]. كان من أراد أن يُفطر ويفتدي (يعني فَعَلَ) حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها، يعني بها قوله تعالى: (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) [البقرة:185] فأوجب الله الصيام عيناً بدون تخيير. ولا يجب الصوم حتى يثبت دخول الشهر، فلا يصوم قبل دخول الشهر لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (( لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون رجل كان يصوم صومه فليصم ذلك اليوم)) [رواه البخاري]-(مجالس شهر رمضان، 15-16).(/1)
وللصيام فوائد وحكم معنوية ومادية منها: ترويض النفس وتعويدها على الانضباط والصبر، وللصيام فوائد صحية كثيرة أقر بها الطب قديماً وحديثاً، حينما يخفف الإنسان من الطعام والشراب بعض الوقت، كما أن الصوم يصفي القلوب ويعمرها بالإيمان والتقوى واليقين، ولا سيما وهو عمل تعبدي غالباً ما يكون بين العبد وربه. ومع الصيام يشعر المسلم بالصفاء والنقاء، ويقوى قلبه وتسمو نفسه وتسعد روحه عندما يمارس هذه العبادة طاعة لله واستجابة لأمره ورغبة في وعده: (( للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه)).
أما الركن الخامس: فهو حج البيت الحرام قال تعالى: (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران : 97]، وفرض الحج مرة واحدة في العمر، وكذلك العمرة ويجبان على المسلم العاقل البالغ الحر المستطيع، ويصحان من الصبي ولكن لا يسقط عنه بذلك فرضهما إذا بلغ واستطاع، والمرأة التي ليس لديها محرم يرافقها في الحج والعمرة يسقطان عنها لصحة الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنهي عن سفر المرأة دون محرم، والحج مؤتمر إسلامي يلتقي فيه المسلمون حيث يأتون إليه من كل فج عميق ومن سائر أرجاء الدنيا من جنسيات وألوان ولغات يلبسون لباساً واحداً يقفون على صعيد واحد والجميع يؤدون عبادة واحدة لا فرق بين كبير وصغير ولا غني وفقير ولا اسود وأبيض الكل سواسية كما قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات: 13].
والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة كما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((العمرة إلى العمرة كفارة لم بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة )) وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه )).
قال الشيخ ابن باز- رحمه الله – في التحقيق والإيضاح: إن الله عز وجل أوجب على عباده حجّ بيته الحرام، وجعله أحد أركان الإسلام، قال تعالى: (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران: 97].
وفي الصحيحين، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام)).
وروى سعيد في سننه، عن عمر بن الخطاب أنه قال: (( لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار ينظروا كل من كان له جدَةٌ – أي سعة المال – ولم يحج ليضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين )). وروي عن علي انه قال: (( من قدر على الحج فتركه فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً)).
ويجب على من لم يحج وهو يستطيع الحج أن يبادر إليه، لما روي عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( تعجلوا إلى الحج- يعني الفريضة – فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له)) [رواه أحمد].
ولأن أداء الحج واجبٌ على الفور في حق من استطاع السبيل إليه، لظاهر قوله تعالى: (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [آل عمران: 97].
وقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته: (( أيها الناس، إن الله فرض عليكم الحج فحجوا))[أخرجه مسلم].
وقد وردت أحاديث تدل على وجوب العمرة منها قوله صلى الله عليه وسلم: ((الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتَحُجَّ البيت وتعتمر، وتغتسل من الجنابة، وتتم الوضوء، وتصوم رمضان))[أخرجه ابن خزيمة، والدارقطني، من حديث عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، وقال الدارقطني: هذا إسناد ثابت صحيح].
ولا يجب الحج والعمرة في العُمر إلا مرة واحدة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (( العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة)).
وتمثل أركان الإسلام الخمسة الأسس العلمية والشعائر الظاهرة للدين ولا يتم الين إلا بمجموعها.[انظر فيما تقدم التحقيق والإيضاح ومجموع فتاوى ومقالات 2: 206-212].
قال سماحة الإمام عبد العزيز بن باز – رحمه الله:(/2)
وللإسلام ركائز أخرى، وإن لم تكن في الأركان لكنها تُعين على وجوده حياً مُطبقاً في واقع المسلمين، منها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولقد وصف الله سبحانه وتعالى هذه الأمة بأنها خير أمة أخرجت للناس لأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، قال تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) [آل عمران : 110]، قال بعض السلف: من أراد أن يكون من خير هذه الأمة فليؤد شرطها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وجانب آخر مهم في الإسلام يجب أن يهتم به المسلمون وهو الجهاد في سبيل الله لما يترتب عليه من عز المسلمين وإعلاء كلمة لا إله إلا الله وحماية أوطان المسلمين من عدوان الكافرين، ولهذا ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله)) وفي المسند وجامع الترمذي بإسناد صحيح عن معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله)) وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في خطبة خطبها بعدما بايعه المسلمون: (( لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل )) ففي الجهاد إحقاق للحق وإزهاق للباطل وإقامة لشرع الله وحماية للمسلمين وأوطانهم من مكائد أعدائهم).
[مجموع فتاوى ومقالات متنوعة 2: 211-212](/3)
شرح موقف أهل السنة بالبرهان بضرورة صوم رمضان برؤية أي بلد من البلدان
الشيخ رضا أحمد صمدي
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل الدين يُسْرا ، وما جعل علينا فيه مِنْ حَرَج ، ملة أبينا إبراهيم ، هو سمانا المسلمين من قبل ، وفي هذا ليكون الرسول شهيدا علينا ، ونكون شهداء على الناس.
والصلاة والسلام على مَن أَرْشَدَ الأمة لأَقْوم سبيل ، وهداهم لأيسر طريق ، فأكمل الله به الدين ، وأتم به النعمة ، فتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك .
وبعد : فقد حدث في العام (1421هـ) أن اختلف الناس في هذه البلاد حول بدء صوم رمضان ، فذهب فريق إلى اعتماد أقوال الفلكيين ، وذهب فريق آخر إلى الأخذ برؤية البلدان الأخرى ، وذهب فريق ثالث إلى التشكيك في رؤية بعض البلدان وأخذ بعضها دون بعض وذهب فريق رابع إلى الأخذ بالرؤية في داخل البلاد وعدم الاعتداد بما عداها .
ومن جَرَّاء هذا الاختلاف اختلف صوم المسلمين ، فمنهم من صام :
1- يوم الأحد 26 من نوفمبر
2- ومنهم من صام يوم الإثنين 27 من نوفمبر
3- ومنهم من صام يوم الثلاثاء 28 من نوفمبر .
فكان الذين صاموا يوم الأحد من الذين وصلتهم الأنباء بثبوت الرؤية في الصين وهونج كونج وليبيا وجزيرة فيجي في الباسيفيك ، والذين صاموا يوم الإثنين لم يعتدوا برؤية من رآها في البلدان من المتقدمة وصام تبعا لرؤية غالبية الدول العربية والإسلامية وهو يوم الإثنين ، أما الفريق الثالث فهو الآخذ بالرؤية المحلية .
وينبغي التنويه أن الفريقين الأولين كلاهما من الآخذين بمذهب جمهور العلماء الذي يرى لزم الأخذ برؤية الهلال متى ما ثبتت وأين ما ثبتت ، دون تحديد بقطر أو اعتبار بأقوال الفلكيين .
وأما الفريق الثالث فهم الذين يعملون بالصحيح في مذهب الشافعية أن لكل مطلع رؤيته وأنه لا يتبع أهل مطلع رؤية مطلع آخر .
وأما الذين قالوا باتباع أقوال الفلكيين فإنهم صاموا يوم الثلاثاء أيضا باعتبار أن حساباتهم في هذه البلاد تشير إلى إمكانية رؤية الهلال يوم الإثنين دون غيره ، فعليهم إذا صوم الثلاثاء .
ومما زاد الأمر سوءا أن الاختلاف في عيد الفطر كان أشد مما كان عليه في بدء صوم رمضان ، فقد كان عيد الفطر في العالم على أربعة أيام متوالية .
1- يوم الإثنين 25 من ديسمبر . وذلك في بعض الأنحاء في نيجيريا .
2- يوم الثلاثاء 26من ديسمبر . وذلك في بعض الأنحاء في الصين وتايلند وفي ليبيا .
3- يوم الأربعاء 27من ديسمبر . وذلك في معظم دول العالم العربي والإسلامي وليس في كل الدول كما يزعم البعض .
4- يوم الخميس 28من ديسمبر . وذلك في موريشيوس وبروناي والهند وباكستان وبنجلاديش .
هذا الاختلاف زاد الأمر سوءا ، وأشعر الناس أن الأمة في اختلاف شديد ، ولكن اختلف التقدير في معرفة سبب هذا الاختلاف ، وهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .
وفي هذه الأوراق القليلة سنحاول أن نجلي بالحجة والبرهان أن صوم يوم الأحد 26 من نوفمبر ويوم العيد الثلاثاء 27هو الصواب الذي لا صواب غيره ، ونسأل الله أن يثبتنا على هذا الموقف وجميع محبي سنة النبي صلى الله عليه وسلم إلى يوم الدين.
الرد على أتباع الفلكيين .
انتشرت مجموعة من المعتنين بالحساب الفلكي في هذه البلاد ، وكان لهم جهد مشكور في عمل التقاويم الإسلامية ، لكن حظهم من العلوم الشرعية كان ضئيلا ، فظن القوم أن علمهم هذا يخول لهم الحديث عن الأمور الشرعية والحلال والحرام .
والأساس الذي بنينا عليه موقفنا في عدم اعتبار قول الفلكيين هو قوله صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما : ( نَحْنُ أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لا نَكْتُبُ ولا نَحْسُبُ ، الشهر هكذا وهكذا ) يعني تسعة وعشرون وثلاثون .
وقد أجمع أهل العلماء الذي يعتد بقولهم على عدم اعتبار أقوال أهل الفلك والحساب في إثبات الرؤية ( كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية ) ، بناء على هذا الحديث الذي بين فيه صلى الله عليه وسلم كيفية الرؤية وأنها لا تعتمد على الحساب والكتابة ، وأنه مَبْنِيٌّ على العَدِّ العادي .
ولا يقال إن هذا فيه دعوة إلى الجهل والتخلف ، فمن اتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقد كفر ، ومن خَطَّأَ أهلَ العلم لِفَهْمِهِمْ أن هذا الحديث يمنع من اعتماد الحساب في الأمور الأخرى مثل الفرائض والتجارة ونحو ذلك فقد افترى على العلماء وعليه جزاء المفترين.(/1)
غاية ما في الحديث بيانُ سهولة أمر ثبوت الرؤية وأنه لا يؤخذ فيه بالحساب لأن المقصود بالكتابة والحساب في ذلك الزمان العلوم التي تؤهل صاحبها لعمل الحساب الفلكي ،ولا شك أن هذا قليل في الأمة بل في كل الأمم ، وليس المقصود النهي عن مجرد الكتابة ، وكيف لنا أن نفهم أن هذا الحديث ينهى عن تعلم الكتابة والحساب ورسول الله صلى الله عليه وسلم حَضَّ على تعلم الكتابة فقال : ( قَيِّدُوْا العِلْمَ بِالكِتَابَةِ ) رواه الخطيب البغدادي في تقييد العلم وله طرق يكون بمجموعها حسنا . كما حَضَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على تعلم الحساب ، فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( تَعَلَّمُوْا الفَرَائِضَ وعَلِّمُوْهَا) رواه ابن ماجة وفي إسناده مقال خفيف .
وبهذا يظهر عدم صحة مذهب من يرى اتباع حسابات الفلكيين ، حتى لو كانت صحيحة في نفس الأمر ، إلا أن الشارع لم يُعَلِّقْ عليها حكما شرعيا معتبرا ، حتى في تقدير العدة والنذور وتعليق الأحكام الشرعية على الأزمنة فمرده إلى التقدير الشرعي البسيط .
وهناك أمر آخر جدير بالتنبيه عليه ، وهو أن الرؤية التي ثبتت في الصين وفي هونج كونج وفي فيجي وفي ليبيا ( أي في مشرق الأرض ومغربه ) هي رؤية عين ، ورؤية العين يقينية ، والعددُ الذي رَأَى الهلال نَافَ على العشرين ( ستةَ عَشَرَةَ منهم في الصين ) ، ومثل هؤلاء يمثلون خبرا يفيد التواتر ، فلو حصل النفي من البلاد الأخرى بعدم الرؤية لا يكون نَفْيُهُمْ هذا تَوَاتُرَاً ، لأنَّ عَدَمَ العِلْمِ لَيْسَ عِلْمَاً بالعَدَم ، ولا يمكن أن يجتمع هؤلاء من مشارق الأرض ومغاربها على الكذب أو الجهل بطريقة الرؤية حال كون تلك الرؤية استند بعضها إلى حساب فلكي كما في ليبيا ، وبعضها استند إلى انتشار أفق الرؤية مثل ما كان في الصين ، حيث ثبت في شمالها وجنوبها .
ومعلوم أن الحسابات لا تخطئ ، ولكن الحاسب يخطيء ، ومعلوم أن التقدير العددي لا يَتَخَلَّف ، ولكن يقينيته عند المقدِّر والحاسب لا عند كل الناس ، فكيف نجعل ما هو يقين عن فرد يقينا عند سائر الناس ؟
الرد على من قال بالصوم برؤية كل بلد دون رؤية البلاد الأخرى
لاشك أن الخلاف في هذه المسألة مُعْتَبَرٌ ، وأن القائلين به من العلماء معدودون في الأئمة الأعلام ، ولكن هذا لا يدل على صحة المذهب والقول ، بل كل قول مَرَدُّه إلى الله والرسول صلى الله عليه وسلم .
ونحن ما زلنا نؤكد على أن الأمة لن تجتمع أو تَتَوَحَّدَ إلا بأن تُوَحِّدَ رؤيتها ، وتأخذ كل البلاد بالرؤية السابقة في أي بلد ظهر ، ولا مانع من الاستئناس بأقوال الفلكيين ، لكن لا تكون هي المحك في رفض الرؤية وقبولها ، بل المحك إنما هو في ثبوت الرؤية بالوجه الشرعي المعتبر الذي سنذكره لاحقا إن شاء الله .
والمذهب القائل بالأخذ برؤية البلد المحلية دون سائر البلاد معمول به في معظم الدول الإسلامية لغلبة التقليد واتباع المذاهب ، وعدم الأخذ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس أحد حجة في مسائل الشرع حتى لو كانت بلاد الحرمين ، لأن الحجة لا تكون إلا فيما أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فمعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم تأكد أمره بتعليق الصوم والإفطار على الرؤية ، حيث قال فيما رواه البخاري وسلم : ( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا له ..,...) وفي رواية : ( إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا .. ) وهذا خطاب عام للأمة كلها أن تصوم بالرؤية ، لا تخصيص فيه ببلد أو بقوم أو بعشيرة أو بحدود سياسية أو بهيئة أو جمعية ، وفي سنن أبي داود بسند صحيح عن ابن عمر قال : تَرَاءَى الناس الهلال فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصامه وأ مر الناس بصيامه .
وعن ابن عباس قال جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني رأيت الهلال قال أتشهد أن لا إله إلا الله أتشهد أن محمدا رسول الله قال نعم قال يا بلال أذن في الناس أن يصوموا غدا . رواه أبو داود والترمذي وقال : والعمل على هذا الحديث عند أكثر أهل العلم قالوا تقبل شهادة رجل واحد في الصيام وبه يقول بن المبارك والشافعي وأحمد وأهل الكوفة قال إسحاق لا يصام إلا بشهادة رجلين ولم يختلف أهل العلم في الإفطار أنه لا يقبل فيه إلا شهادة رجلين . ( ملحوظة : قد ثبت الخلاف كما بينه صاحب الفتح وسبل السلام ونيل الأوطار وغيرهم ) .
قال الصنعاني في سبيل السلام عند شرح هذا الحديث : فيه دليل على قبول خبر الواحد في الصوم ودلالة على أن الأصل في المسلمين العدالة إذا لم يطلب صلى الله عليه وسلم من الإعرابي إلا الشهادة وفيه أن الأمر في الهلال جار مجرى الإخبار لا الشهادة .(/2)
وكل هذا صريح في عموم الأخذ بالرؤية دون تقييد أو تخصيص ، وأما ما استدل به القائلون باختلاف المطالع من حديث كُرَيْب عن ابن عباس في صحيح مسلم وغيره ، ومُلَخَّصُه أن كُرَيْبَاً كان بالشام ورأى الهلال مع معاوية بن أبي سفيان ليلة الجمعة ، ثم عاد إلى ابن عباس في الحجاز آخر شهر رمضان ، فلما سأله ابن عباس متى رأيتم الهلال : قال رأيناه ليلة الجمعة ، فأخبره ابن عباس أنهم رأوه في الحجاز ليلة السبت ، فقال له كريب : ألا تكتفي برؤية معاوية وأصحابه ( وكان إذ ذاك هو الخليفة ) فقال ابن عباس : لا ، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فهذا الحديث ليس صريحا في إثبات اختلاف المطالع ، فإن الحجة فيه إنما هو فيما أمره النبي صلى الله عليه وسلم ، وكلام ابن عباس : هكذا أمرنا .. لا يحتمل إلا أن أمر رسول الله صلى الله وسلم هو قوله صلى الله عليه وسلم : ( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته .. ) ، ففهم ابن عباس من ذلك أن له رؤية مستقلة وأنه لايلزمه اتباع معاوية .
وإذا كان هذا فهم ابن عباس فليس بحجة ، لأن قول الصحابي ليس بحجة عند جماهير العلماء إذا انفرد ، ولأن حديث كريب يتحدث عن العلم بالرؤية عند نهاية الشهر كما في بعض روايات الحديث ، وفي مثل هذه الحالة لايلزم أهل بلد رؤية البلد الآخر ، وفرض المسالة المختلف فيها فيما لو علم أهل بلد رؤية بلد آخر في أول الشهر هل يلزمهم أم لا ؟
وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح عن الحسن البصري في رجل كان بمصر من الأمصار فصام يوم الإثنين وشهد رجلان أنهما رأيا الهلال ليلة الأحد فقال لا يقضي ذلك اليوم الرجل ولا أهل مصره إلا أن يعلموا أن أهل مصر من أمصار المسلمين قد صاموا يوم الأحد فيقضونه.
وهذه الفتوى من الحسن البصري تثبت أن ما قاله ابن عباس إنما هو رَأْيٌ ارْتَآَهُ ، وفَهْمٌ فَهِمَهُ من الحديث وليس هو حديث النبي صلى الله عليه وسلم نفسه كما قد يَفْهَمُ البعض.
والعجيب أن في حديث كريب جواز مخالفة الرعية للإمام في صوم رمضان وفطره ، لأن ابن عباس خالف معاوية ولم يأخذ برؤيته ، ومع ذلك فأصحاب هذا المذهب يلزمون الناس بالأخذ برؤية حاكم كل إقليم دون غيره .
والأعجب من ذلك أن كل أهل العلم ممن قالوا بهذا الحديث لم يعلقوا الرؤية بالحدود السياسية وإنما علقه بعضهم بمطلع الهلال وبعضهم ربطه بمسافة القصر ، ولم يقل أحد من أهل العلم البتة أن الرؤية يعمل بها في إطار الحدود السياسية الجغرافية ، فهذا زور وبهتان وكذب على الشرع وعلى العلماء الأعلام .
وقس على ذلك ما حدث هذا العام ، فإن الرؤية التي ثبتت في الصين وهونج كونج تعتبر رؤية شرعية على كل المذاهب ، لأن الصين مطلع واحد مع تايلند ، ولو قدر أن الصين كانت في حدود تايلند لأخذوا بالرؤية ولكنها السياسية وآفاتها التي تفرض على البعض تحريف الدين وتشويهه .
هذا ومما تجدر الإشارة إليه أن شيخ الإسلام ابن تيمية أناط المسألة على بلوغ الخبر بوجه معتبر ، ولم يحدد ذلك بمطلع أو بمسافة أونحو ذلك .
وبهذا البيان يتضح لنا ضعف حجة أصحاب هذا المذهب ، والأمر يحتمل أكثر من هذا ولكن رغبة في الاختصار لجأنا إلى تسهيل العبارة وتقصيرها .
الرد على الرافضين للرؤية الشرعية للهلال في الصين هذا العام
مضى معنا أن ابن عمر رأى الهلال وحده فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالأخذ برؤيته ، وكذلك مر معنا حديث الأعرابي الذي أخبر برؤية الهلال فاعتبر الرسول صلى الله عليه وسلم خبره وأمر الناس بالصيام .
وقد مضى علينا دهور عديدة ونحن نقرر هذا المعنى ونؤكد عليه في كل مناسبة ، وقد أجمع أهل العلم على قبول خبر الجَمْع الكثير في رؤية الهلال ، واختلفوا في قبول خبر الواحد ، والجمهور على قبوله ، لكنهم أجمعوا على أن المعتبر في الرائين أن يكونوا مسلمين ، وأنه لا تقبل شهادة الكافر والذي علم فسقه وفجوره .
ولو رأى هلال رمضان مسلم واحد فلا أظن أن هناك خلاف بين أهل السنة القائلين باتحاد المطالع في قبول خبره والعمل بمقتضاه .
وما زال أهل السنة في تايلند يعملون برؤية السعودية مع أنها في كثير من السنين كانت تدخل رمضان برؤية واحد ، وكان ذلك الواحد لا نعرف عنه أي شيء سوى أنهم اعتمدوا شهادته في إحدى المحاكم .
وقد حصلت المشكلة في هذه السنة حينما تواتر الخبر برؤية الهلال في الصين ، فاضطرب بعض أهل السنة وحاق بهم من القلق والشك والحيرة ما الله به عليم ، وهدى الله أهل الإيمان واليقين والسنة الحقة على الثبات على ما كانوا عليه ، فنحمد الله تعالى على ما أنعم من توفي وهداية.
وحاصل الرؤية التي ثبتت في الصين أنها وردت إلينا في تايلند عن أكثر من ثلاثة طرق :(/3)
الأول : عن طريق أحد التجار المسلمين التايلنديين المعروفين بالاستقامة والعلم وبدوره في مساعدة الدعوة الإسلامية ، وقد أخبر هذا التاجر أن الرؤية ثبتت في الصين عن طريق ستة عشر نفرا ، وقد اتصل هاتفيا بأحد أئمة المساجد في الصين ممن رأوا الهلال فأخبره بثبوت الرؤية .
الثاني : عن طريق اتصال هاتفي بأحد المسلمين الصينيين الذين درسوا بالمدينة المنورة فأخبر بأن بعض الأنحاء في الصين ستصوم يوم الأحد 26 نوفمبر لأنها رأت الهلال .
الثالث : عن طريق صحيفة القبس الكويتية عدد 26 نوفمبر ، حيث ذكرت الصحيفة أن هونج كونج أعلنت ( ثبوت رؤية الهلال ليلة الإثنين الموافق 25 نوفمبر ) وبذلك يكون يوم الأحد هو أول أيام رمضان .
وهناك طرق أخرى لتجار تايلنديين آخرين في الصين أكدوا صحة هذه الأخبار .
وقد تأيدت هذه الرؤية بالرؤية التي ثبتت في ليبيا ، وتأكدت كل هذه الرؤى بالحساب الفلكي في ليبيا وغيرها من البلدان بأن أول رمضان هو 26 من نوفمبر .
ومعلوم أن كل هذا يفيد التواتر الحقيقي في إثبات الخبر ، لأن الرؤية إذا حصلت في أقصى المشرق وأقصى المغرب ، وبعدد يزيد على العشرة ( في الصين فقط ستة عشرة ) فإن هذا يمنع في العادة التواطؤ على الكذب ، ويمنع في العادة أيضا أن يكونوا كلهم جاهلين بطريقة الرؤية وكيفيتها ، خاصة أن الحساب الفلكي في ليبيا عضد إمكانية الرؤية .
وقد صرح شيخ الإسلام ابن تيمية بأن أهل العلم أجمعوا أنه لا اعتبار بقول الفلكيين في نفي الرؤية ، إلا خلافا شاذا يحكى عن بعض الشافعية وهو مسبوق بالإجماع القديم فلا يعتد به .
ومعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علق الصوم والإفطار على الرؤية ، ومنع الاعتماد على الحساب في الحديث الذي أوردناه عند الرد على الفلكيين .
فكل هذا يثبت أن الرؤية التي ثبتت في الصين رؤية شرعية لا يجوز ردها ، وأن كل ما قيل في ردها واه لا يمت إلى الشرع بصلة ، وسنتعرض لبعض الشبهة الواهية التي يتلقفها العوام والجهلة حتى ننزع الريبة من قلوب الناس .
1- من ذلك قولهم إن الرؤية التي ثبتت في الصين خالفتها معظم الدول الإسلامية حيث لم تر الهلال في ذلك اليوم . وهذه الشبهة أوهى من بيت العنكبوت ، لأن الدول الإسلامية نفت الرؤية ، والنافي لا علم عنده ، والرائي عنده زيادة علم فيقدم ، ولأن عدم العلم ليس علما بالعدم ، ومَنْ عَلِمَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يعلم . وأهل العلم لم يشترطوا أن يرى الهلال معظم الدول ، ومن قال بهذا فقد أفترى على الرسول صلى الله عليه وسلم وأتى بما ليس له أصل في الشرع ، والدول الإسلامية كلها تعمل بقول جمهور العلماء وتأخذ برأي الواحد في هلال رمضان وبشهادة اثنين في هلال شوال ، وما زال العمل عليه في كل البلاد وعلى مر مئات السنين ، ولم يقل أحد أبدا بأن الرؤية إذا خالفها معظم الناس فلم يروا لا يؤخذ بقول الرائي . ولو افترضنا أن الرؤية ثبتت في تايلند وحدها ، وخالفتها كل دول العالم ، ألن نأخذ بهذه الرؤية أم أننا سنقول إن الدول خالفتنا ولن نصوم ؟؟؟
2- وبعض من يدعي العلم استدل بأن الذين لم يروا الهلال عددهم يبلغ التواتر ومن رآه في الصين آحاد ، فيقدم المتواتر على الآحاد . وفضلا عن أن هذا ليس له أصل في قضية الرؤية ، بل هو محض رأي أمام نصوص صريحة صحيحة في الأخذ برؤية الآحاد ، فضلا عن هذا فإن ما قاله غير صحيح ، بل زور ، فالذين رأوه في الصين أكثر ن ستة عشرة ، أضف إلى ذلك ليبيا وجزيرة فيجي ، أضافة إلى تعضد ذلك بالحساب الفلكي في ليبيا ، فكل هذا يفيد التواتر ، أما عدم الرؤية فلا يفيد أي تواتر ، لأن النافي جاهل بالأمر ، يعني ليس له علم بشيء ، فكيف نقول إنه تواتر ، والتواتر معناه معروف عند أهل العلم ، ويجب أن يستند إلى شيء محسوس لا إلى مجرد نفي ، ولو اجتمع أهل الأرض قاطبة على نفي الإله فهذا جهل لا يكون تواترا ، لأنهم ينفون ، والتواتر يكون في الإثبات أو ما استند إلى أمر محسوس .
3- وبعض أهل الأهواء اتهم الصينيين بأنهم لا وزن لهم ، وأنه لم يعرف لهم بأي دور إسلامي ، وأنه ليس لهم هيئة إسلامية معترف بها ، وبالتالي رؤيتهم لا قيمة لها ، وهذا أيضا من الزور والبهتان ، فالمسلمون الصينيون عددهم أكثر من سبعين مليون ولهم هيئات ومساجد كثيرة ، والتزامهم بالشرع أقوى من كثير من المسلمين كما يعلم ذلك من عاين الأمر بنفسه ، يعني أضعاف عدد المسلمين في تايلند ، والذين رأوا الهلال مسلمون توثق لدينا إسلامهم ، وهاتفنا أحدهم ، ويعلم كل الناس أن مجرد الظن والشك لا يمكن أن يقدح في عدالة المسلم ، ولو فتحنا هذا الباب فإننا لا يجوز لنا أن نقبل رؤية السعودية لأننا نعلم سوء أحوال الكثير من الناس هناك ، فهل هذه حجة في رد خبرهم ؟؟(/4)
4- اتهم البعض مصدر خبر رؤية الصين بأنهم قاديانيون وشيعة وما إلى ذلك من التهم الباطلة ، وأقل ما يمكن أن يقال في مثل هؤلاء : قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين . وإلا فما أسهل الاتهام ، وما أيسر الشتم والسب ، ولكن ميزان الإسلام دقيق وصارم ، وكل من ثبت له الإيمان بيقين لا نخرجه منه بظن ، ومثل هؤلاء ليس لهم شبهة دليل واحد على كلامهم ، إلا مواقف شحناء وبغضاء في الزمن الماضي السحيق يريدون أن يحملوا وزرها لأبناء الجيل الجديد ، وما أظلم وأجهل وأجرأ من يجعل المواقف الشخصية معيارا في قبول الأخبار التي ينبني عليه الأحكام الشرعية مثل ما هو حالنا مع رؤية هلال رمضان .
5- يشنع البعض على رؤية الهلال في الصين بأنها ثبتت بالهاتف ، وهذه حجة من لاحجة له ، ولو قلنا إن الهاتف لا يعتبر في قبول الأخبار فيجب أن نبطل كل العقود التجارية التي تتم عبر الهاتف والإنترنت ، وأن نبطل الخبر المأخوذ عن القنوات الفضائية لأنها قد تكون من بث مدسوس لا يعلم أصله . ولا ريب أن هذا سيفتح بابا لا يغلق ، ونحن أمرنا بان نتثبت في حدود المستطاع ، ولم نطالب بان يحصل لنا اليقين الكامل في كل الأخبار ، لأن الأصل في الرؤية أنها مبنية على التيسير ( شأن كل أمور الدين ) ، ومع ذلك قد تم التوثق من تلك الرؤية بالأخبار الأخرى غير طريق الهاتف ، وكلها تعاضدت على تأكيد خبر الرؤية في الصين وثبوت الهلال . وهؤلاء الذين يتحدثون عن عدم اعتبار الهاتف في إيصال الخبر كانوا في الماضي يتلقون خبر الرؤية في السعودية عن طريق الهاتف من بعض العاملين التايلنديين في السعودية .
6- وبعض من لا علم له يقول : إن الرؤية التي حصلت في الصين مشكوك فيها ، ومثل هؤلاء يطلقون كلاما لا خطام له ولا زمام ، ونحن نطالبهم ونسألهم : ما هو المطلوب حصوله حتى يكون خبر رؤية الهلال غير مشكوك فيه ؟ هل لابد أن يعرض في قناة فضائية ؟ هل لابد أن يكون من السعودية ؟ هل لابد أن يأخذ به فلان وفلان ؟؟ إنه الهوى ليس غير ، ولو أنهم أنصفوا وطبقوا الشرع وكلام أهل العلم لعلموا أن الرؤية التي ثبتت في الصين رؤية شرعية تامة ، ثببت بالوجه الشرعي المعتبر ، ولا يمكن أن ينقضها أي ناقض ، سواء من الناحية العلمية الفلكية أو من الناحية الشرعية في قبول الشاهد وعدالته .
هذه بعض الشبه التي تثار بين الحين والحين ، ولا ريب أن هناك شبه أخرى ، ولكن لو ظللنا نتعقب كل الكلام الذي يقال فسيكون مضيعة للوقت ، وحسبنا أن ما عرضناه هنا كاف في هداية طالب الحق ، وإرشاد الحائر إلى الموقف الواضح الصحيح ، لأنه لا يصح إلا الصحيح .
وفي الختام نؤكد : أن تطبيق السنة لا يمكن أن يكون مفرقا ، وأن المجمع والموحد لنا جميعا هو أن نطبق سنة النبي صلى الله عليه وسلم .
إننا ندعو للتوحد تحت راية السنة المطهرة ، وأن يتجرد الناس من الأهواء ، وبخاصة الدعاة وبعض أهل العلم ممن تصدروا لقيادة المجتمع ، وندعو إلى ترك الحديث عن الماضي ولنتكلم عن المستقبل وماذا يمكننا أن نفعل فيه إذا ثبتت الرؤية مرة أخرى في الصين أو في لاوس أو في كمبوديا ؟؟؟ إننا نمد أيدينا مبسوطة لكل راغب أن يثبت معنا على سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، فهل من مجيب ؟؟؟
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه(/5)
شركات الأسهم
د. علي بن سعيد الغامدي 7/6/1427
03/07/2006
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فقد عمت البلوى بكثير من المعاملات المالية المعاصرة، وأصبح تحصيل المال بأيسر الأسباب وأسرعها مطلب الكسول والعامل، النبيه والخامل، وفي العقدين الأخيرين كثرت مسائل البيوع والمعاملات المالية المختلفة، وتداخلت أعيان تلك المسائل، واشتبه الحلال بالحرام، فلا تدرك أحكام تلك المسائل إلا بالتنقيب والبحث؛ حتى يحرر الفاصل بين الحلال والحرام، ومن تلك المعاملات: المشاركة في شركات الأسهم، فلا بد من البحث والنظر الدقيق في نظام هذه الشركات، وكيفية معاملتها مع المشتركين، ومن ثم إصدار الحكم الشرعي إزاء هذا النوع من المعاملات الذي طم وعم في عصرنا الحاضر، وانخدع به كثير من الناس؛ ظانين حلَّه وإباحته، غير مطلعين على أقوال أهل العلم في هذا النوع من المعاملات.
وهذا بيان يعبر عن رأيي الشخصي إزاء هذه القضية، مع احترامي لآراء طلبة العلم المجتهدين في هذا الباب، والخلاف لا يفسد للود قضية.
وقد جعلته مقسماً إلى فقرات، وهي:
1) نشأة شركات الأسهم.
2) نظام شركات الأسهم المعمول به اليوم.
3) موقف العلماء من نظام شركات الأسهم الوضعي.
4) الأسباب الحاملة على الاشتراك في شركات الأسهم.
5) مخالفة نظام شركات الأسهم للتشريع الإسلامي في الشركات.
6) مفاسد مترتبة على المساهمة في شركات الأسهم.
7) البدائل الشرعية العملية للمساهمة القائمة على غير الشريعة الإسلامية.
والله ولي التوفيق
أولاً: نشأة شركات الأسهم:
إن نشأة شركات الأسهم في دول العالم الثالث تابع لنشأتها في دول الغرب؛ حيث إن القانون الذي يحكم تلك الشركات هو المطبق الآن في العالم الإسلامي وغيره.
وقد نشأت الشركات في الغرب على أساس استعماري، وأول ما يذكر في تاريخها (شركة المغامرين المكتشفين الإنجليز)، ثم ظهرت بعد ذلك (شركة الهند الشرقية)، وهي شركة بريطانية احتكرت تجارة الهند. وكذلك (شركة الهند الشرقية)، وهي شركة هولندية احتكرت التجارة في جزر الهند الشرقية (إندونيسيا وما جاورها).
ثم ظهرت الشركات التي نشأت في مصر من أجل الاستيلاء على خيراتها، وخاصة تجارة القطن، وقد طبق على تلك الشركات القانون الفرنسي. ثم تبعتها -أي: مصر- جميع الدول التي تحتاج إلى الخبرة المصرية باعتبارها بوابة العالم العربي والإسلامي.
وقد اشتهر من القانونيين في ذلك الحين السنهوري، فهو كما يقال: (أبو القانون) وقد ألف موسوعة ضخمة في القانون، وكل ذلك مبني على قانون نابليون؛ أول قانون في العالم ينشأ ويأخذ صبغة النظام.
ثم نشأت شركات الرقيق في أفريقيا التي كانت تبيع الرقيق السود لأمريكا وغيرها، وقد ساد عند الناس -من جراء ذلك- أن كل أسود يعتبر رقيقاً ولو كان أصله حراً.
ثم نشأت شركات البترول، والتي سيطرت على بترول العالم الإسلامي، وتحكمت في إخراجه وتوزيعه وتسويقه بنسب محدودة مع الحكومات.
ومما \سبق يتبين أن الشركات المساهمة ارتبطت في نشأتها تاريخياً بالاستعمار والاحتكار، وما يعرف بالمذهب الرأسمالي، والذي انبثق من فلسفة نفعية وهي ما يسمى: بالبرجماتية، وهو مذهب لا يحل حلالاً ولا يحرم حراماً، وهدفه الوصول إلى أكبر قدر ممكن من المال بأقل كلفة.
ولِما كان لهذه الشركات من الآثار السلبية والضغوط ظهر ما يعرف بنظام الاشتراك، وظهر ما يعرف باسم: المؤسسات العامة التي تدرأ عن الدول الغربية خطر الثورات والاضطرابات العمّالية، وتقبل مساهمات العمال في تلك الشركات، ولتظهر الدولة بمظهر العدالة الاجتماعية؛ لتبقى المحافظة على النظام الرأسمالي النفعي ولو لبس ثوباً آخر.
نشأ مع هذه الشركات نظامان خادعان:
1- الانتخابات.
2- مجلس الإدارة.
وهما أكذوبتان لا يعرفهما أكثر الناس؛ فإن الانتخابات التي تجري في هذه الشركات تنبني على الديمقراطية التي يحكم فيها الشركاء أنفسهم بأنفسهم، والذي يحكمهم في الحقيقة هم فئة متسلطة معينة مجهزة من وراء الكواليس، لا يعرفها إلا من يدبّر الأمر.
وكذلك أكذوبة مجلس الإدارة في الشركة المساهمة أو في المؤسسات العامة، فهو الآمر الناهي المتصرف بما يشاء كيف شاء، والمساهم فيها لا يعلم شيئاً مما ما يدور في تلك الإدارات أبداً.
ثانياً: نظام شركات الأسهم المعمول به اليوم:(/1)
عند وضع النظام المعمول به في شركات الأسهم أُلغي الفصل الخاص بالشركات من نظام المحكمة التجارية، وأُحل محلّه النظام المعمول به حالياً، وهو مأخوذ من القانون المدني المصري، وقد جاء في مقدمته: "بالرغم من أن الشركات التي أسست في تلك الفترة القصيرة قد شملت في أعرافها كافة أوجه النشاط المالي والتجاري والصناعي، وبلغت رءوس الأموال المملوكة لها عدة مئات من الملايين، وزاد إقبال الدوائر الحكومية والأفراد على التعامل معها- فإن نصوص الأنظمة التي تحكمها لا تزيد حتى الآن على بضع مواد وردت في نظام المحكمة التجارية لم تكن كافية لمواجهة كافة المسائل المتعلقة بالشركات عند إنشائها؛ إما خلال مزاولة نشاطها، وإما عند انقضائها وتصفيتها.
وإزاء هذا القصور لجأ الأفراد في تأسيس شركاتهم ومعالجة أمورها إلى اقتباس القواعد المعمول بها في الدول الأخرى، فاختلفت السبل، واختلطت الأمور في كثير من الأحوال اختلاطاً عززت مهمة الوزارة في مراقبتها والإشراف عليها، من هنا بدت الحاجة ملحة إلى وضع نظام شامل للشركات ينص على الأحكام الواجبة الاتباع في تأسيسها ومزاولتها نشاطها..."اهـ.
إذاً: فالمشكلة الشاخصة عند المقننين هي أنهم لم يجدوا عندنا تشريعاً يضبط الشركات -مع تشعبها وكثرتها- إلا بضع مواد في نظام المحكمة التجارية، الذي كان في أصله امتداداً للقانون العثماني المستمد من فرنسا.
والخلاصة التي نريد الوصول إليها: أن نظام الشركات القائم الآن هو نظام قانوني مستمد من القانون المدني المصري المستمد من القانون الفرنسي.
ثالثاً: موقف العلماء من نظام شركات الأسهم الوضعي:
والسؤال الذي يطرح نفسه عند وضع هذا النظام: أين الشريعة الإسلامية؟! أين الفقه الإسلامي؟! أين علماء الشريعة وفقهاؤها وهم متوافرون وعلى رأسهم فضيلة العلامة سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي الديار السعودية آنذاك؟!
وإذ قد ثبت أن في الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي ما يكفي لوضع نظام متكامل للشركات، فتُرك واستمد نظام الشركات من القانون المدني المصري المستمد من القانون الفرنسي؛ فكيف يجوز الدخول في أسهم الشركات بأي وجه من الوجوه؟!
وكان قد عرض هذا النظام على سماحة المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله عند صدوره عام (1369هـ) للمرة الثانية، وبعد دراسته قال رحمه الله: "وبعد دراسة النظام وجدناه نظاماً وضعياً قانونياً لا شرعياً؛ فتحققنا بذلك أنه حيث كانت تلك الغرفة هي المرجع عند النزاع فإنه سيكون فيها محكمة، وسيكون الحكام فيها غير شرعيين؛ بل نظامييين قانونيين، ولا ريب أن هذه مصادمة لما بعث به الله نبيه صلى الله عليه وسلم من الشرع، الذي هو وحده المتعين للحكم به بين الناس، والمستضاء منه عقائدهم وعباداتهم، ومعرفة حلالهم وحرامهم، وفصل النزاع عندما يحصل التنازع، واعتبار شيء من القوانين بالحكم بها ولو في أقل القليل لا شك أنه عدم رضاً بحكم الله ورسوله، ونسبة حكم الله ورسوله-صلى الله عليه وسلم - إلى النقص وعدم القيام بالكفاية في حل النزاع وإيصال الحقوق إلى أربابها".
بل مما ورد في كلامه رحمه الله: كفر من اعتقد في تلك الأنظمة والقوانين كفاية وغنية عن حكم الله ورسوله، قال رحمه الله: "واعتقاد هذا كفر ناقل عن الملة".
وقال رحمه الله: "والأمر كبير مهم، وليس من الأمور الاجتهادية، وتحكيم الشرع وحده دون كل ما سواه شقيق عبادة الله وحده دون ما سواه، وقد قال الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)) [النساء:59].
وقال تعالى: ((فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً)) [النساء:65]".
والخلاصة: أن أصل النظام واستمداده، ثم واضعه، وجهة التحاكم فيه؛ كلها مرجعها ومآلها إلى غير شرع الله، وهذا في الجملة.
وحتى تصح المشاركة والمساهمة في الشركات القائمة؛ لابد من إصلاح وضعها، واستمداد نظامها من الشريعة الإسلامية وفق الضوابط الشرعية، وحسبما نص عليه أهل العلم، وقد أبلى علماؤنا وفقهاؤنا في كتاب الشركات بلاءً حسناً، حتى إن الموفق ابن قدامة رحمه الله كتب فيه أكثر من ثمانين صفحة (1).
رابعاً: الأسباب الحاملة على الاشتراك في شركات الأسهم:
لعل أهم الأسباب التي حملت أكثر الناس على الوقوع في المساهمات دون دراسة وتحقق ما يلي:
1- الدعاية والإعلان، وترغيب الناس في ارتفاع قيمة الأسهم فور بداية التداول.
2- كثرة الطمع في الإثراء السريع بدون تعب.(/2)
3- تقصير بعض المسلمين في أداء الزكاة والحقوق الواجبة عليهم؛ فسلط الله على أموالهم من يستنزفها ويضحك عليهم.
4- سد باب القرض الحسن، الذي جعله النبي صلى الله عليه وسلم في الأجر بثمانية عشر ضعفاً، والصدقة بعشر حسنات، وكون القرض مرتين يقوم مقام صدقة.
5- التساهل في الفتوى، فتجد البعض يقولون: هذه شركات نقية، وأخرى مختلطة، وثالثة محرمة، دون دراسة لواقع تلك الشركات ومخاطر المساهمات، وما يقع فيها من الكذب والتحايل والجهالة والغرر ما الله به عليم.
وكل يوم تسمع فتوى غير الأخرى، فشيخ يقول: ساهم في الشركات السعودية وقلبك مطمئن دون تفريق، وآخر يفصل ويدخل بعض الشركات في النقية، ثم لا يلبث أن يظهر له عدم نقائها فيلحقها إما بالمختلطة أو بالمحرمة.. وقد أحدث هذا الاختلاف بلبلة بين الناس، فلا يدرون من يصدقون!
خامساً: مخالفة نظام شركات الأسهم للتشريع الإسلامي في الشركات:
بعد النظر في نظام شركات الأسهم الموضوع لها والمستمد من القانون المدني المصري المستمد من القانون الفرنسي -يتبين لكل منصف أن هناك مخالفات شرعية واضحة، لا يتردد الناظر فيها عن القول بتحريم التعامل مع هذه الشركات، بناءً على القول بتحريم إقامة وتأسيس هذه الشركات ابتداءً.
وهذه المخالفات نجملها فيما يلي:
1- الأصل أن عقد الشراكة بين اثنين فأكثر عقد جائز بإجماع الفقهاء، أي أن لكل أحد من الشركاء أن يفسخ العقد متى شاء، ويتفاسخ الشركاء بالطريقة التي نص عليها الفقهاء رحمهم الله.
أما نظام شركات الأسهم فإنه يجعل عقد الشراكة عقداً إلزامياً؛ بدليل: أن المساهم في أي شركة لا يستطيع أن يبيع حصته على الشركاء؛ بل لابد أن يكون ذلك عن طريق الشركة وبواسطة البنوك، فلو أراد شخص أن يتخلص من أسهمه في شركة بسبب تعاملها بالربا، أو لكونها تبيح بيع الأسهم وتداولها قبل أن يبدأ العمل بها، فلا يجوز له ذلك في نظامهم إلا أن يأتي بمشترٍ يحلّ محلّه، أو يصبر على الحرام، فلو خرج مليون مشترك فلابد أن يحل محلهم بعددهم، وهذا مخالف لنظام الشركات في الإسلام، الذي يجعل للشريك الحق في فسخ عقده وسحب سهمه متى شاء، وبدون أي شروط أو قيود.
2- الأصل أن الشركات تنبني على عقود مشاركات تضبطها، ولا تلزم بنمط معين بحيث تصبح وكأنها ليست عقوداً اتفاقية بين الشركاء، فالعقد هو الذي يضبطها، وهو الذي يلزم الشركاء بالعمل وفق ما جاء فيه، وما تم الاتفاق عليه بين الشركاء أنفسهم.
أما في ظل النظام القائم لشركات الأسهم فإن القانون هو الذي يحكم وليس العقد، ومن يخرج عن القانون ولو ابتغاء التصحيح يدخل تحت طائلة العقوبات التي يقررها القانون، وفي هذا مخالفة صريحة للتشريع الإسلامي في الشركات، وفيه إلزام للشركاء بما لم يلزموا به شرعاً.
3- النقص الظاهر في القانون المنظم للشركات؛ إذ لا يشتمل في مواده إلا على نوعين من الشركات هما: شركة الأموال، وشركة المضاربة؛ على نقص في النوع الثاني، أما شركة الأبدان، وشركة الوجوه، وشركة المفاوضة، فلا وجود لها في نظام الشركات القائم؛ لأن أعمال الشركات تدار من خلال البنوك، وهي لا تعرف إلا المال.
4- اجتماع الأجرة مع نسبة الأرباح؛ وهذا مخالف للقول الصحيح وما عليه جمهور أهل العلم؛ حيث إن القول المختار بالدليل: أنه لا يجمع العامل في المضاربة بين نسبة الربح والأجرة؛ لأنه ربما استهلكت الأجرة كامل الربح، فلم يبق لصاحب رأس المال شيء، فشركات الأسهم تجمع بين أخذ نسبة من الأرباح من أموال المساهمين، وبين أخذ أجرة زائدة على الأرباح، ومن ذلك: مكافأة مجلس الإدارة التي تستوعب أكثر عائد من الأرباح كما هو معلوم، وفي هذا غبن وإضرار بالمساهمين في هذه الشركات لا تقره الشريعة الإسلامية.
5- نسبة الخسارة إذا حصلت؛ فإن المقرر في الشريعة الإسلامية أن الخسارة -وتسمى: الوضيعة- على قدر رأس المال، بخلاف النظام المعمول به في هذه الشركات.
ووجه المخالفة: أن الشريعة تضع الخسارة على حسب رأس المال ما لم يحصل تعد أو تفريط، فيتحمل المتعدي والمفرط الخسارة، ففي العنان -وهي الشراكة بالأموال من الأطراف المتشاركين- لا يكون العدل إلا إذا كانت الخسارة حسب رأس المال؛ لأنه ليس أحد أولى من أحد، بخلاف نظام الشركات؛ فإن الخسارة تكون حسب الشروط المتفق عليها بين الشركاء، والتي يقرها ذلك النظام.
وهذا بخلاف الربح؛ فربما يتفقون على أن يكون لأحدهما نسبة أعلى؛ نظراً لما يقدمه من خبرة، وما إلى ذلك، وهذا مقتضى العدل والإنصاف.
وفي المضاربة: إذا خسر المضارب دون تعدٍ أو تفريط منه فيكفيه خسارة عمله، بينما في نظام الشركات لو شرط صاحب رأس المال أن لا خسارة عليه؛ ضمنها العامل، وهذا ظلم ظاهر، ومخالف للشريعة الإسلامية.
6- تقييد المعاملات وتسلّط مجلس الإدارة، ومن ذلك:(/3)
أ )تحويل الشركة الكبيرة إلى شركة مساهمة دون وجه حق، وهذا أشبه بنظام التأميم والمصادرة والمشاركة بالقوة، وقد تبين لي أن الشركات الكبرى التي أفلست كانت تطرح مساهمات لأجل خداع الناس، فمجرد الإعلان عن طرح أسهم تلك الشركة ينكب عليها الناس، فتغطي خسارتها وتزيد الضعف، وقد فطن المتربصون لذلك ممن أفلست شركاتهم فاستغلوا جهل الناس بالوضع الاقتصادي وإدارة اللعبة.
لكن إذا كانت الشركة رابحة فلا يجوز إلزامها بأن تطرح مساهمة؛ لما في ذلك من الظلم.
ب )استغلال مجلس الإدارة واستئثاره بالأصوات؛ مدعياً أن لديه توكيلات أو تفويضات، وهي في الحقيقة شراء أسماء ليس لها علاقة بالشراكة لا من قريب ولا من بعيد، ولا يخفى ما في هذا من التسلط والظلم والاستبداد الذي يأباه الإسلام ولا يقره.
7- دعوى التقادم: فنظام الشركات ينصُّ على أنه إذا وقع خطأ في الشراكة، ولم يتقدم المساهم بالشكوى خلال سنة من وقوع ذلك الخطأ؛ سقطت دعواه، بدعوى التقادم، وفي هذا القانون مخالفة للتشريع الإسلامي؛ فإن الحق لا يسقط في الشريعة الإسلامية إلا بالأداء أو الإبراء، ولا دخل لمسألة التقادم في إسقاط الحقوق.
8- فيما يتعلق بإثبات الحق: فإن الشريعة الإسلامية تعتبر البينة على المدعي، وهي ما أبان الحق وأظهره من شهود، أو اعتراف، أو قرينة ظاهرة.
لكن نظام الشركات لا يعتد بالبينة إلا بما هو مكتوب؛ بل يجعل ذلك ركناً في عقد الشراكة، ولا يعتد إلا بتوثيق ذلك كتابياً من الشركة، ولا يعتد بغير ذلك من البينات، فلو كانت البينة مائة شاهد لما نظر إليها، وإنما ينظر إلى ورقة معتمدة من الشركة ولو كانت مزورة!!
9- التذبذب في أسعار الأسهم؛ بحيث لو استقال وزير من وزراء التجارة في الدول المشهورة، أو اعتدي على وزير، أو نحو ذلك؛ فلا تسمع إلا ارتفاع الأسهم وانخفاضها، وهذا يدل على عدم الاستقرار، وقد ثبت لدي -كما أخبرني بعض المتعاملين عن طريق شبكة الإنترنت- أنه في حال ارتفاع الأسهم وإرادته البيع يقفل في وجهه الخط ولا يستطيع الوصول للبيع، فالأمر فيه تلاعب وسيطرة من متنفذين وراء الأكمة.
وكم من متعامل يدخل صالة التداول ويخرج فرحاً جذلاً يكاد يطير من الفرح! وكم من باكٍ شاكٍ يعضّ أصابع الندم بسبب ما سبق من التذبذب والتلاعب! وهذا يكفي في تحريم التعامل مع شركات الأسهم؛ لأن في ذلك غرراً لا يرضاه الإسلام.
10- المخالفة الشرعية فيما يصدر عن الشركات مما يتعلق بالصكوك، وهي التي تصدرها الشركات المساهمة.
فقد جاء في نظام الشركات في الفصل الرابع منه في المادة (98): «أن الصكوك التي تصدرها الشركة المساهمة، تكون في شكل سندات أو حصص تأسيس أو أسهم.
فأما السندات فهي أن تطرح سندات يشتريها كبار المستثمرين بقيمة عاجلة مقابل زيادة تدفع مع قيمة السندات آجلاً».
وهذه العملية ربا قطعاً باتفاق جميع المسلمين، حتى القانونيين منهم.
وأما حصص التأسيس فيقول النظام عنها: «هي براءة اختراع أو التزام حصل من شخص اعتباري عام يكون مشاركاً بحصة تأسيس».
وهذه الحصة قد تكون خدمة معنوية يقدمها أحد الناس، فتسجل له حصة تأسيس، ويصدر له صك مقابل ذلك، وهذا فيه من الجهالة والغرر الشيء الكثير؛ إذ ليس هناك ضابط يحدد الخدمة وما يقابلها.
وقد تكون رشوة؛ كأن تكون الحصة مقابل تسهيل إجراءات إدارية أو جمركية.
ولا نشك أن الشركات العالمية -والكل تبع لها- يدخلها كثير من الغش والخداع والرشاوي باسم الإكراميات تارة، وباسم غيرها تارات أخرى، وهذا النوع أيضاً يلحق بالسندات، فهو حرام.
وأكثر الشركات القائمة تتعامل بهذين النوعين من الإصدارات.
أما النوع الثالث -وهو المهم- فهو الأسهم، وقد أصبح حديث الناس، واستولى على جل أوقاتهم وأموالهم، وأشغلهم أيما إشغال.
والأسهم نوعان: أسهم بالاسم، وأسهم لحامل السند:
فأما الأسهم لحامله: فهي حرام؛ لما في ذلك من إضاعة الحقوق، ولما يعتريها من الجهالة؛ حيث لا يعرف الشريك من هو شريكه، ولو ضاعت الأوراق الخاصة بالسندات فوقعت في يد شخص آخر، لأصبح حاملاً له وهو غير مستحق له.. فمن هنا نشأ التحريم.
وأما الأسهم التي بالاسم: فهي نوعان أيضاً: أسهم عادية، وأسهم ممتازة.
ومعنى الامتياز في الأسهم: أن يكون لأصحابها ميزة، وهي التي يبقى لأصحابها الحق عند إفلاس الشركة أو تصفيتها في أخذ حقوقهم كاملة.
ومن المعلوم أن هذا التمييز باطل؛ إذ أن الأصل هو التساوي بين الشركاء وعدم التمييز بينهم بأي وجه من الوجوه، فهم شركاء في الربح وفي الخسارة، أما إذا جعلنا لأحد المساهمين ميزة بأن نضمن له عدم الخسارة، أو أن له الحق في أن يسحب ماله متى شاء دون غيره؛ فهذا حرام بلا شك؛ لما فيه من الظلم لباقي الشركاء، وعدم تساويهم؛ لأنه ليس لبعضهم فضل على بعض فيما اشتركوا فيه.(/4)
ومن هذا التمييز نوع يسمى: أسهم التمتع، وهي التي يستحق أصحابها ربحاً بعد بيع أسهمهم وسحب أموالهم؛ وهذا حرام؛ لأنه لم يبق له حق في الشراكة بعد سحب ماله، فعلى أي أصل يعطى مثل ما يعطى بقية الشركاء وقد سحب أسهمه؟!
وأما الأسهم العادية: فلا تخلو من حالتين:
الحالة الأولى: أن تقوم الشركة على أصول شرعية، وتمارس جميع أعمالها على نقاء وبُعد عن الربا والكذب والجهالة والغرر والنجش، وتطبق جميع الضوابط الشرعية التي نص عليها أهل العلم في كتبهم، فهذه تباح المشاركة فيها؛ بل يندب دعمها ولو قلّت أرباحها؛ لما في ذلك من إحياء سنة المشاركة، والتوحد على إقامة المشاريع المربحة والمنتجة، ولكونها تستوعب قدراً كبيراً من الطاقات الشابة، فتقضي على البطالة، ويكثر الإنتاج ويعم الخير.
لكن مثل هذه الشركات عزيزة الوجود؛ لأن قيامها مرهون بوجود نظام إسلامي يحميها ويرعاها، إلا أن إقامتها غير مستحيلة، وممكنة إذا صلحت النيات، واجتمعت الخبرات من علماء الشريعة وعلماء الاقتصاد المعاصر لبناء تلك الشركات على أصول شرعية في جميع أحوالها ونشاطها، وقد تحقق أرباحاً تفوق الخيال بمباركة الله تعالى لها؛ لكونها قائمة على أصول شرعية.
الحالة الثانية: ما هو منتشر الآن من قيام شركات على نظم قانونية بحتة، لاتحل حلالاً ولا تحرم حراماً، تتعامل بالربا، وتقترض بالربا، وتأخذ الأرباح الربوية، فتسجل تحت بند (أرباح بنكية)، أو يقال: (أرباح أخرى)، فمتى عُرف هذا عن أي شركة من الشركات فإنه يحرم المساهمة فيها أياً كانت نسبة الربا؛ لأن الله تعالى يقول: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)) [البقرة:278]، و(ما) من ألفاظ العموم. وقال صلى الله عليه وسلم: (وكل ربا موضوع تحت قدمي هاتين). و(كل) أيضاً من ألفاظ العموم، فيدخل في ذلك الربا بكل صوره وأشكاله ونسبه؛ فهو حرام بتحريم الله تعالى له وتحريم رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تفريق بين نسبة وأخرى منه.
والشركات القائمة الآن منها ما هي صريحة في تعاملها بالربا، فهذه لا يجوز الدخول في أسهمها؛ لا مساهمة، ولا بيعاً، ولا شراءً، ولا تداولاً، ولا تورقاً.
ومنها شركات لا تأخذ الربا والفوائد البنكية، لكنها تعطيها؛ حيث تقترض من البنوك لحاجتها إلى المال وتدفع لهم فوائد ربوية، ولاشك أنها كالمعطي له؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (الآخذ والمعطي فيه سواء)، ولا أظن شركة تسلم من هذا النوع، فلو لم تكن آخذة للربا فهي معطية له.
سادساً: مفاسد مترتبة على المساهمة في شركات الأسهم:
هناك مفاسد عظيمة مترتبة على هذا النوع من أنواع الشركات، وهذه المفاسد منها ما هو متعلق بالشركات نفسها، ومنها ما هو متعلق بالمساهمين.. وهاكها فيما يلي:
1- إن تجارة الأسهم يعتريها الكذب والمخادعة والجهالة بالحال، فقد يعلن عن أسعار بعض أسهم الشركات بسعر وهي لم تصل إلى ذلك؛ لإغراء الناس بالشراء، ولا تكاد تستقر الأمور حتى يتراجع المؤشر.. وهكذا، فهناك لعبة يمارسها المتنفذون مع الهوامير في تجارة الأسهم، فإذا أرادوا بيع الأسهم رفعوا الأسعار، وإذا أرادوا الشراء خفضوا أسعارها، وجمهرة المشاركين هم المتضرر الحقيقي في هذه اللعبة القذرة وهم لا يعلمون!!
2- ومن العجيب أنه قد تخسر شركة من الشركات إلى حد الإفلاس، وإذا بها تعلن عن أسهم للمشاركين، فإذا بها ترد خسارتها؛ بل وأكثر من ذلك، حتى إن شركة مشهورة بلغت خسارتها أكثر من سبعمائة مليون ريال، وكانت الفكرة -بدلاً من إعلان الإفلاس- طرحها مساهمة، فأقبل الناس عليها لشهرتها، فغطت العجز وزاد ميزان الفائض!! وفي هذا مخادعة وكذب، وأكل لأموال الناس بالباطل.
بل إن بعض الشركات أعلنت عن تكبدها خسائر فادحة، ثم طرحت أسهماً، فتنافس الناس عليها!!
3- والأعجب من هذا كله أنك لا تكاد تسمع بمساهمة إلا وانكب الناس عليها دون دراسة لجدواها، أو معرفة لكيفية ممارستها، والكثرة الكاثرة من المساهمين يقترضون بالآجل، فيشترون الأسهم بزيادة ويبيعونها بخسارة كبيرة؛ للحصول على المال من أجل المضاربة في الأسهم، وبعضهم يبيع منزله أو سيارته ويغامر بماله، فربما ربح (وقليل ما هم)، ومثل هؤلاء يمدحون المتاجرة بالأسهم؛ لأنه لا يمدح السوق إلا من ربح فيه!
والكثرة الكاثرة إما أن يخسروا، أو يربحوا ربحاً زهيداً، فمثلاً: تجد قيمة السهم في بعض الشركات بمبلغ ألف وستمائة ريال، وعند توزيع الأرباح السنوية قد لا يحصل المساهم إلا على بضعة عشر ريالاً لمدة عام أو أكثر، فهل هذا معقول؟!!
4- ومن المفاسد: أن بعض الشركات تبدأ في بيع وشراء الأسهم وهي لم تقمْ بعدُ على وجه الواقع، فهذا بيع وشراءٌ للمال بالمال، وهو حرام بالاتفاق.(/5)
5- مما لاشك فيه أن طرح أسهم الشركات للاكتتاب من أعظم ما أشغل الناس حتى عن أداء الواجبات، فمنهم من أشغلته عن الصلاة، أو استولت على فكره فلا يدري كم صلى إمامه !
ومن الموظفين من يغلق بابه ويدخل عن طريق الإنترنت في عملية البيع والشراء، ويستغرق ذلك ساعات طويلة، وبذلك يضيع عمله، وإذا سئل عنه قالوا: عنده اجتماع في الداخل!! ونندب القارئ الكريم إلى الدخول إلى موقع (تداول) لكي يحكم عن قرب ومشاهدة، فينظر السّعار الذي يصاحب هذا النوع من المعاملة، وكذلك يطل على منتديات المستثمرين فينظر ما يدار من حديث بين المشاركين، وما يقع فيه من سورة للمغالبة والكسب.
ومن الموظفين والمعلمين من يستأذن، أو يخرج بغير إذن ليذهب إلى صالة تداول الأسهم في البنوك، تاركاً عمله مضيعاً طلابه، ولو دخلت عليهم وهم محدقون بالشاشات ولا يدرون ما حولهم؛ لعلمت كيف أشغلتهم الأسهم وتداولها حتى عن أنفسهم! وما أدى إلى إضاعة الحقوق والواجبات فهو حرام، وهذا من أهداف اليهود عليهم غضب الله!!
6- الانشغال بالأسهم يعطل كثيراً من الأعمال الإنتاجية؛ كالتجارة الحلال، والزراعة، والصناعة؛ نظراً لاستيعاب السوق لرءوس الأموال التي يمكن توظيفها في مشاريع إنتاجية تدر أرباحاً حلالاً وطيبة، وتقضي على البطالة، وتفتح بيوتاً، وتسد كثيراً من الحاجات.
7- ومما يجب التنبيه عليه: أن اليهود مسيطرون على إدارات البنوك العالمية الكبرى، وغيرها تبع لها، ومكاتب تجمع لها المال؛ ليكون تحت سمعهم وبصرهم وتحكمهم، فلا يكاد ينتهي الاكتتاب في شركة حتى تقوم أخرى، وبهذا يضمنون سيطرتهم على المال، وأكثر الناس لا يدري عن اللعبة القذرة لليهود عليهم لعائن الله!
سابعاً: البدائل الشرعية العملية للمساهمة القائمة على غير الشريعة الإسلامية:
وبعد هذا كله لقائل أن يقول: إذاًَ فما هي البدائل الشرعية لهذه الشركات؛ حتى يتسنى لنا أن نتعامل تعاملاً إسلامياً بعيداً عن المحرمات والمشتبهات؟
فنقول:
هناك بدائل شرعية عن هذه المعاملة، ومنها:
1- إيقاف الإعلان والدعاية للمساهمات في جميع الشركات؛ حتى تصحح الأوضاع من جذورها وفق الشرع الحنيف.
2-إصدار فتوى موحدة من أهل الاختصاص في أنظمة المشاركات القائمة؛ ليعرف الناس الحلال من الحرام، ومن ثم إلغاء ما قام على الحرام.
3-المسارعة في تكوين لجان من ذوي الاختصاص الشرعي والاقتصادي لحل الإشكال القائم، ومع صدق النية فلن يستغرق الأمر زمناً طويلاً، مع الدعم من الجهات المختصة.
4-ومن المهم جداً إلغاء المحاكم القانونية تماماً، وتحويل جميع القضايا إلى المحاكم الشرعية وديوان المظالم، بعد إعادة النظر في لوائحه؛ لتتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية، ويوحد القضاء.
5-إحياء طريقة الجمعيات التعاونية بين الموظفين، ووضع أنظمة لها، واختيار من يديرها، مع إخضاعها لرقابة شرعية ومتابعة لمنع التلاعب بأموال الناس، ويرخص لها من الجهة المسئولة عن ذلك.
6-إحياء سنة المضاربة، وتشغيل الأموال في التجارة، وإقامة المشاريع الزراعية الناجحة وحمايتها، وتشييد المصانع، وتشجيع الحرفيين على العمل والإنتاج، بدلاً من المضاربات بالأسهم؛ فكم من خسائر مادية وصحية ونفسية تتكبدها الأمة بسبب تجارة الأسهم!
7-إحياء سنة القرض الحسن، ووضع نظام له يكفل سداد الحقوق واقتضائها من المقترضين؛ منعاًً للمماطلة، عن طريق معاملة بنكية إسلامية، وإحياء سنة الرهن الإسلامي، والاستقطاع من الراتب عن طريق المصارف الإسلامية، ولها مقابل ذلك رسوم معقولة.
8-توزيع الثروة توزيعاً عادلاً، وخاصة أموال الزكاة، فلو أخرجت الزكاة على وجهها الصحيح لقضي على الفقر والحاجة، وفجرت الطاقات الكامنة؛ حيث يعطى من لديه خبرة أو مهنة آلات من أموال الزكاة ليتكسب بها، فيقضى على ما يسمى بالبطالة، ويوكَّل بذلك رجال مخلصون لدينهم ووطنهم وأمتهم، ولا مانع من أن يكون للزكاة وزارة مستقلة تعنى بجمع أموال الزكاة على الوجه الحقيقي، وتخرج في مصارفها المشروعة المنصوص عليها.
وبناءً على ماسبق: فإني أدعو سماحة المفتي واللجنة الدائمة للفتوى أن تسعى عاجلاً غير آجل إلى تكوين لجنة من أهل الاختصاص الشرعي والاقتصادي يعكفون على دراسة أنظمة الشركات، وطريقة المساهمات والتداول، وتصدر عنهم فتوى قاطعة تريح المجتمع من هذه البلبلة، والأمر جد خطير، وما لا يدرك كله لا يترك جله.
والواجب إقامة الشركات على قواعد الشرع المنظمة لها، وإذا طرأ جديد من الأنظمة فيدرس ويجتهد فيه وفق أصول الاجتهاد والنظر، لا وفق تتبع الرخص في المذاهب؛ فإن من تتبع الرخص تزندق.(/6)
ولا أشك أن نظام الشركات القائم مخالف للشريعة في أساسه وليس في جزئيات فقط، فالأصل أن تقوم الشراكة على ما نص عليه الشرع، وما بينه أهل العلم في كتبهم، ويعمل بالاجتهاد بشرائطه فيما لا نص فيه، وعندئذ نكون قد قدمنا للأمة والشريعة الإسلامية خدمة عظيمة عملية، وليس مجرد تنظير أو أفكار بعيدة عن الواقع.
وختاماً: أسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفع بهذه الكلمات كل من قرأها، وأرجو أن تجد آذاناً صاغية وقلوباً واعية، والله تعالى يعلم أنني لم أكتب هذه الأسطر إلا إعذاراً وإنذاراً، وليس بيني وبين أحد عداء أو تقصد، وإنما هو رأيي أبديه، فإن كان صواباً فمن الله وحده، وإن كان خطأ فمن نفسي ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
________________________________________
(1) يراجع المغني في طبعته الجديدة (7/108-195)(/7)
شركات التأمين
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ المعاملات/التأمين
التاريخ ... 9/3/1425هـ
السؤال
ما حكم الاشتراك في شركات التأمين؟ ارجو التفصيل في ذلك، وهل يوجد شركات شرعية؟ وهل بالإمكان تحويلها إلى شركات شرعية؟
الجواب
شركات التأمين على نوعين:
1 – شركات تأمين إسلامية جميع أعمالها وعقودها متفقة مع أحكام الشريعة.
2 – شركات تأمين غير شرعية تقوم على التأمين التجاري المحرم، وربما سمت نفسها بشركة تأمين تعاونية وهي ليست من التأمين التعاوني الحلال بشيء، وغالب شركات التأمين المنتشرة في العالم الإسلامي من هذا النوع -مع الأسف- يسمون الشيء بغير اسمه تغريراً بالناس وتلبيساً عليهم، وشركات التأمين التجاري لا يجوز ابتداء الاشتراك فيها؛ لقيامها على الجهالة والغرر والربا وأكل أموال الناس بالباطل، فالاشتراك فيها طوعاً واختياراً إعانة على الباطل، وذلك حرام لا يجوز، أما إذا كان إجبارياً كما في التأمين الطبي لبعض المؤسسات الحكومية والأهلية فالأمر جائز حينئذ للضرورة والإكراه، وعلى الإنسان أن لا يأخذ تعويضاً أكثر مما دفع للشركة أو دفع عنه من قبل مرجعه.
أما هل يوجد شركات شرعية للتأمين؟ نعم يوجد شركات تأمين إسلامية، ولكنها قليلة جداً في العالم الإسلامي نظراً لحداثة ظهور التأمين بصفة عامة، فضلاً عن التأمين الإسلامي الذي لا يزال في بداياته. يوجد شركة للتأمين الإسلامي في ماليزيا ولها فرع في البحرين، وسيكون لها فرع في مدينة جدة قريباً. ويوجد شركة إسلامية للتأمين في السودان، وفي الأردن، وبعض البلاد الإسلامية الأخرى، وبالمناسبة كل المصارف الإسلامية في المملكة ودول الخليج والعالم العربي أوصت الهيئات الشرعية فيها بإيجاد شركات تأمين إسلامية منفردة أو مجتمعة، وهذه المصارف تتعامل فيما بينها بالتأمين على ممتلكات المصرف ومدخراته، لكنني لا أعلم في بلادنا شركة إسلامية للتأمين تقوم بالتأمين على ممتلكات الأفراد وفقاً لأحكام الشريعة، ولكنها ستوجد قريباً -بإذن الله- وأنني متفائل بهذا جداً.
أما هل يمكن تحويل شركات التأمين التقليدية (التجارية/الحالية) إلى شركات تأمين إسلامية؟ فالجواب: نعم؛ وبكل تأكيد إذا صحت النية، ووجد العزم الأكيد من قبل المساهمين المؤسسين للشركة، أما كيف يكون ذلك، فالجواب باختصار :-
أولاً: أن يدخل المشتركون (حَمَلة وثائق التأمين) بأقساطهم في الشركة بنية التبرع بما زاد عن حاجتهم فيما لو عوضوا عن بعض ما لحقهم من أضرار، وإن لم يحصل لهم ضرر أصلا،ً فما قدموه تبرع منهم للمحتاجين والمنكوبين ما لم تغطي أقساطهم ما قد يصرف لهم من تعويضات، فبهذا يكون كل المشتركين الذين يحملون وثيقة التأمين شركاء متعاونين فيما بينهم في دفع الضرر أو تخفيفه طلباً للأجر والنفع العام.
ثانياً: يجوز لشركة التأمين ممثلة برئيسها أو مجلس إدارتها تشغيل جزء من أقساط المشتركين باستثماره عن طريق المضاربة الشرعية باعتبار أصحاب الأقساط هم الممولون، والشركة هي المضاربة منها بجهد الإدارة ومنهم المال يتفق على نسبة الربح بينهما في وثيقة العقد، ويوزع ربح المشتركين بينهم أو خسارتهم بحسب أقساطهم المدفوعة، ولو أن أحد المشتركين أخذ تعويضاً عن ضرر لحق به يعادل أو يساوي ما دفعه من أقساط، فإنه لا يستحق شيئاً من الربح.
وبعد هذا كله فإن التأمين بمعناه الشامل مما قد تقتضيه الحياة المعاصرة اليوم، وقد عم أو كاد وألزم به كثير من دول العالم الإسلامي، وما لم يلزم به اليوم فسيلزم به غداً أو بعد غد، ومن هنا يلزم بل يجب على أهل العلم والذكر وأهل اليسار والغنى أن يسارعوا في دراسة التأمين وبيان أهميته للناس، والمسارعة في إنشاء شركات تأمين إسلامية بغرض التعاون بين الناس لنفع المحتاجين والمنكوبين، مع تنمية المال واستثماره استثماراً شرعياً حتى تنموا أموالهم بالحلال وتصلح أحوالهم بالأمن والأمان، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد(/1)
شركة بزناس)
المطلب الأول
التعريف بالشركة
تقوم المعاملة فيها بالتسويق لمنتجاتها عن طريق أسلوب التسويق الهرمي والنظام الشبكي، ويتم بيع أو تأجير برامج ومنتجات معينة، وبعد الشراء يتحول المشتري إلى سمسار يجلب المشترين إلى الشركة؛ لغرض الحصول على عمولة مالية بشروط محددة ، وصورته أن يأتي شخص إلى الشركة بواسطة شخص أخر ليشتري منتج بقيمة مائة دولار، وبعد الشراء يأتي بشخصين عن اليمين واليسار ليشترون المنتج بقيمة مائة دولار ، وعندما يصل العدد تسعة أفراد تحت المشتري الأول، يشترطون للحصول على العمولة، أن يكون المشترون الجدد، موزعين على طرفين، ثلاثة على طرف وستة على الطرف الثاني، فإذا نقص الطرف عن ثلاثة حتى وان زاد الطرف الثاني على تسعة أو أكثر لا يعطى الجائزة
وبالنسبة لعمولة الشركة ،تعطيه الشركة مبلغ خمسة وخمسون دولارا وهكذا إذا اجتمع تسعة أفراد من سلسلته يحصل على خمسة وخمسين دولارا لمدة سنة كاملة وتنقطع السلسلة بعد سنة ، وقد تنقطع فجأة فيخسر مجموعة كبيرة من الناس دون الحصول على شيء ، والعمولة التي تعطي الزبون من مجموع ربح مشتريات الذي أتى بهم إلى الشركة .
وتتلخص في أن يشتري الشخص منتجات الشركة مقابل فرصة بأن يقنع آخرين بالشراء، ويأخذ هو مكافأة أو عمولة مقابل ذلك ثم كل واحد من هؤلاء الذين انضموا للبرنامج سيقنع آخرين ليشتروا أيضاً، ويحصل الأول على عمولة إضافية، وهكذا.
المطلب الثاني
أقوال العلماء
القول الأول : القول بالحرمة
القائلون بالحرمة مجموعة من مِشايخي الذين درست عليهم، ومنهم: شيخي الشيخ عبد الكريم زيدان في سماعي له في مناقشة هذه الشركة وفتوى موقعة من مجموعة من مشايخي وهم الشيخ العلامة / محمد بن إسماعيل العمراني والدكتور/ حسن مقبول الأهدل والدكتور/ عبد الوهاب بن لطف الديلمي، والدكتور/أمين على مقبل.
وجه التحريم:
القمار من جهة الشركة:
تأجير البرامج وبيعها بأكثر من قيمتها في السوق ومن مجموع الزوائد تعطى العمولة وهذا قمار، وأما المبلغ الزائد مع الشركة فأكله من أكل المال بالباطل.
القمار من جهة المشترك:
دفع الزيادة على أمل الحصول على المكافأة إذا جاء بالعدد المطلوب وهذا التردد قمار لأنه قد يحصل وقد لا يحصل.
القول الثاني : القول بالإباحة
ومن القائلين بالإباحة الدكتور /أحمد الحجي الكردي
1- أن هذا من باب السمسرة الجائز شرعا.
2- أنه من عقود المعاملات المبنية على التراضي لوجود القبول والرضى.
ثالثا: المناقشة والترجيح
القول بأنها من باب السمسرة الجائزة قول مردود لأن السمسرة إما أن تكون على أساس "الجعالة" أو على أساس "الإجارة".
أولا: السمسار في العادة يجب أن يحصل على عمولة عن كل زبون، وهنا لا يحصل على أي عمولة قبل أن يبلغ عدد الزبائن الذين أحضرهم تسعة زبائن، وعليه فإنه يعطى عمولة من مجموع الربح المتحصل للشركة من الزبائن، أي أنه يربح من حق الآخرين ، فالسمسرة عقد يحصل بموجبه السمسار على أجر لقاء بيع سلعة، أما التسويق الهرمي فالمسوّق هو نفسه يدفع أجراً لكي يكون مسوّقاً، وهذا عكس السمسرة كما أن الهدف من التسويق الهرمي ليس بيع بضاعة أو خدمة، بل جذب مسوّقين جدد ليجذبوا بدورهم مسوّقين آخرين، وفي نهاية المطاف يتوقف فتخسر مجموعة كبيره من الناس.
ثانيا: منتج الشركة لا يساوي ثمنها، وفيه غرر وغبن.
ثالثا: غالبًا ما يشتري الزبون منتجات الشركة، لا بقصد الانتفاع بهذه المنتجات، بل بقصد الانتفاع بالعمولات الاحتمالية وتكون النتيجة أن المنشئة هي الغانم الأكبر، بالإضافة إلى قلة من الزبائن يحصلون على عمولات كبيرة مغرية أما الأكثرية الساحقة المتبقية فإما أنهم لا يحصلون على شيء، أو أنهم يحصلون على شيء قليل. معنى هذا أن هناك قلة غانمة، وكثرة غارمة، وأن القلة تغنم ما تغرمه الكثرة، وهذا هو القمار.
وعليه فان التعامل مع هذه الشركة من باب القمار المحرم قال تعالى: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ?[ سورة: المائدة – آية 192] ، وقال - صلى الله عليه وسلم - :" من قالَ لصاحبه تعال أقامرك فليتصدق " وهو قائم على أكل أموال الناس بالباطل ، واستنزاف أموالهم ، بطرق ماكرة ، وحيل ملتوية ومحرمة ، والله يحرم أكل المال بالباطل قال تعالى: ? ياأَ يُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْولَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تجارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً? [ سورة : النساء - آية 29] .(/1)
ووجه التحريم يظهر بالأتي :
1- أكل لأموال الناس بالباطل بسبب وجود من يخسر لمصلحة من يربح فالخسارة وصف لازم ، فإذا حصل وأخذ المشترك مالاً أخذ مالا بدون وجه حق فيكون من المحرم ، والشركة تأخذ أرباحا كثيرة بعمليات تجعلها دائما رابحة تأكل المال بالباطل وبدون وجه حق وهذا من القمار المحرم.
2- أن الأكثرية تخسر ليربح فرد أو فردين أو أكثر وهذا هو تعريف اليانصيب المحرم.
3- بالنسبة للمنتج منتج غير حقيقي ووهمي وفيه جهالة وكونه مبنيا على الغرر المحرم شرعا لأنه مقامرة ، واشتماله على الخداع والغش وبيع الوهم
4- قيمة المنتج قيمة غير حقيقية وغبن على المشتري.
5- تربية الناس على الكسب بالحظ والمصادفة وهذا تشجيع على البطالة، والذي يسير في هذا الطريق وسيلة للكسب ينعزل عن الحركة الاقتصادية في المجتمع ويجمد طاقته ويعتمد على الكسب الموهوم وهذا ما يعمله القمار،وهذه حكمة من حكم تحريم القمار.
كتبه الفقير إلى ربه : عبد الوهاب الشرعبي
أخرجه البخاري ، ج5/ 2264، برقم 5756.(/2)
شركيات يقع فيها كثير من الناس
1- النذر:
س : ما حكم النذر لغير الله ؟
ج : النذر لغير الله شرك ، لكونه متضمناً التعظيم للمنذور له ، والتقرب إليه ، ولكون الوفاء به له عبادة إذا كان المنذور طاعة ، والعبادة يجب أن تكون لله وحده ، بأدلة كثيرة ، منها : قول الله عز وجل : { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } [ الأنبياء ]. فصرفها لغير الله شرك .
2- الذبح لغير الله :
س : ما حكم الشرع فيمن يذبح على الأضرحة ، ويطلب منها الغيث والعون في النفع ودفع الضر ؟
ج : الذبح على الأضرحة شرك أكبر ، ومن فعل ذلك فهو ملعون ، لما ثبت عن علي رضي اللع عنه أنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم :(( لعن الله من ذبح لغير الله )) .
3- الرقى :
س : ما حكم كتابة شيء من آيات القرآن الكريم وشربها ؟
ج : لم يثبت شيء من ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا عن خلفائه الراشدين ، ولا عن سائر الصحابة رضى الله عنهم ، فتركها أولى . والله أعلم .
4- الكهانة :
س : ما حكم إتيان الكهان ؟
ج : يحرم إتيان الكهان للعلاج ونحوه ، حتى لو اعتقد الشخص أن الشفاء بيد الله ، وأن ما يعلمونه سبب للأدلة الصحيحة الواردة في ذلك .
5- الكبائر :
س : ما حكم ترك الصلاة ؟
ج : ترك الصلاة جاحداً لوجوبها كفر بالإجماع ، وتركها تهاوناً وكسلاً كفر على الراجح من قول العلماء .
[فتاوى اللجنة الدائمة في العقيدة ](/1)
شروط الإسلام
دار القاسم
الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن واله.
أما بعد: فاعلم أخي المسلم رحمنا الله و إياك أن الأصول الثلاثة التي يجب على كل مسلم ومسلمة تعلمها هي: معرفة العبد ربه، ودينه، ونبيه محمداً .
ربنا: الله الذي ربانا و رب جميع العالمين بنعمته و هو: معبودنا .. ليس لنا معبود سواه.
ديننا: الإسلام: هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة، والبراء من الشرك وأهله.
نبينا: محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم وهاشم من قريش وقريش من العرب، والعرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام.
وأصل الدين وقاعدته أمران:
الأول: الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له والحرص على ذلك والموالاة فيه وتكفير من تركه.
الثاني: الإنذار عن الشرك في عبادة الله والتغليظ في ذلك والمعاداة فيه.
شروط لا إله إلا الله
1- العلم: بمعناها نفياً وإثباتاً .. بحيث يعلم القلب ما ينطق به اللسان.
قال تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد:19]، وقوله: إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف:86].
وقال : { مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَم أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه دَخَلَ الْجَنَّة } [رواه مسلم]. ومعناها: لا معبود بحق إلا الله، والعبادة: هي كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
2- اليقين: هو كمال العلم بها المنافي للشك و الريب.
قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات:15].
وقال : { أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ لَا يَلْقَى اللَّهَ بِهِمَا عَبْدٌ غَيْرَ شَاكٍّ فِيهِمَا إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ } [رواه مسلم].
3- الإخلاص: المنافي للشرك ..
قال تعالى: أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:3]، وقوله تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء [البينة:5].
قال : { أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ أَوْ نَفْسِهِ } [رواه البخاري].
4- المحبة: لهذه الكلمة ولما دلت عليه، والسرور بذلك.
قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ [البقرة:165].
وقال : {ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَمَنْ أَحَبَّ عَبْدًا لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَنْ يَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ} [متفق عليه].
5- الصدق: المنافي للكذب المانع من النفاق.
قال تعالى: فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:3].
وقال تعالى: وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [الزمر:33].
وقال : {مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صَادِقًا مِنْ قَلْبِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ } [رواه أحمد].
6- الانقياد لحقوقها: وهي الأعمال الواجبة إخلاصاً لله وطلباً لمرضاته.
قال تعالى: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ [الزمر:54].
وقال تعالى: وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [لقمان:22].
7- القبول: المنافي للرد .. فقد يقولها من يعرفها لكن لا يقبلها ممن دعاه إليها تعصباً أو تكبراً.
قال تعالى: إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ [الصافات:35].
نواقض الإسلام
اعلم أخي المسلم علمنا الله و إياك .. أن أهم نواقض الإسلام عشرة:
الأول: الشرك في عبادة الله تعالى: قال تعالى: إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ [النساء:48]، ومنه الذبح لغير الله ... كمن يذبح للجن أو للقبر.
الثالي: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم ويتوكل عليهم.
الثالث: من لم يكفر المشركين أو يشك في كفرهم أو صحح مذهبهم كفر.
الرابع: من اعتقد أن غير هدي النبي أكمل من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه، كالذي يفضل حكم الطواغيت على حكمه، فهو كافر.
الخامس: من أبغض شيئاً مما جاء به الرسول ولو عمل به كفر.(/1)
السادس: من استهزأ بشيء من الدين أو بثوابه أو بعقابه، كفر. قال تعالى: قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ، لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65-66].
السابع: السحر: فمن فعله أو رضي به .. كفر. قال تعالى: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ [البقرة:102].
الثامن: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين .. قال تعالى: وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة:51].
التاسع: من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج من شريعة محمد ، فهو كافر.
العاشر: الإعراض عن دين الله .. لا يتعلمه ولا يعمل به. قال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ [السجدة:22].
اعلم أخي المسلم: هداك الله إلى الحق .. أنه لا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف .. إلا المكره. وكلها من أعظم ما يكون خطراً. وأكثر ما يكون وقوعاً .. فينبغي للمسلم أن يحذرها ويخاف منها على نفسه. نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله و صحبه أجمعين.(/2)
شروط الانتفاع بالقرآن
(وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ) (ق:36-40).
يقول تعالى لمشركي العرب : (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً) ؛أي كانوا أشد منكم قوة، وأكثر أموال وأولاداً، فلما كفروا لم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم من شئ لما جاء أمر ربك، كما قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَاد * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) (الفجر:6 – 14) لكل ظالم وكل طاغية وأن أمهلهم فلن يمهلهم (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ). متفق عليه.
(وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (هود:102) (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ)(الحشر:الآية2)(أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُر * أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ) (القمر:43-46) (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ).
قال العلماء: ذكر الله سبحانه في هذه الآية شروط الانتفاع بالقرآن والتأثر به . وقالوا تمام التأثير متوقف على وجود: المؤثر، والمحل القابل، وشروط لحصول الأثر، وانتفاء المانع.
فمثلاً: هذه الكهرباء السارية في هذه الأسلاك إذا أردنا الحصول على أثرها وهو الضوء، فلابد من توفر هذه الأمور الأربعة:
الأول: لابد من وجود المؤثر؛ وهو التيار الكهربائي، فإذا كان التيار غير موجود لا يمكن أن يحصل الأثر.
الثاني: لابد من وجود المحل القابل للأثر؛ وهو المصباح السليم الصالح.
الثالث: لابد من وجود شرط حصول الأثر؛ وهو أن تضغط على الزر المخصص لهذا الأمر.
الرابع: لابد من انتفاء الموانع التي يمنع وجودها من الحصول على الأثر؛ كوجود خلل بالأسلاك ونحو هذا.
فإذا وجد المؤثر وهو التيار والمحل القابل وهو المصباح الصالح، ووجد الشرط وهو الضغط على الزر، وانتفت الموانع من قطع السلك وغيرها حصل الأثر المطلوب وهو الضوء.
كذلك القرآن الكريم يؤثر في القلوب، ويزيدها أيمانا، ويذهب بقساوتها ويشفيها من أمراضها ولكن لابد لحصول هذا الأثر من توافر هذه الأمور الأربعة السابقة.
فإذا أردت الانتفاع بالقرآن فلابد من تلاوته أو الاستماع إليه وهذا هو المؤثر.
وأما المحل القابل فهو القلب الحي السليم؛ لأن الله تعالى يقول (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ * لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّا) (يس:70)، فالقلب الميت المريض لا ينتفع بالقرآن.
وأما شرط الانتفاع فهو: (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)، فلابد من الاستماع والإنصات ولابد من تفرغ القلب عن الشواغل، فالشواغل موانع تمنع من الانتفاع وإن حصل استماع، فإذا حصل المؤثر وهو القرآن والمحل القابل وهو القلب الحي، ووجد الشرط وهو الإصغاء وانتفى المانع وهو انشغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب وانصرافه عنه إلى شئ أخر، حصل الأثر وهو الانتفاع والتذكرة.
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ) ، خلق السماوات آية من آيات إمكان البعث – كما سبق - : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الاحقاف:33) .
وقوله تعالى: (وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ) تكذيب لليهود – عليهم لعائن الله المتتابعة –حيث زعموا أن الله تعالى خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استراح في اليوم السابع ! ولذا اتخذوا يوم السبت عطلة، لعنهم الله.(/1)
قال تعالى لنبيه (صلى الله عليه وسلم) (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ) واستعن على الصبر بذكر الله: (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) ؛ والمراد صلاة وأذكار الصباح ، وصلاة العصر وأذكار المساء.
عن جرير بن عبد الله قال : كنا جلوساً عند النبي (صلى الله عليه وسلم)، فنظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: ( أما إنكم ستعرضون على ربكم، فترونه كما ترون هذا القمر لا تضامون فيه فإن استطعتم على ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا) . ثم قرأ (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ). متفق عليه.
وقوله تعالى: (وَأَدْبَارَ السُّجُودِ)؛ أي وسبح بحمد ربك أدبار السجود؛ أي عقب الصلوات المفروضة، ولقد استجاب (صلى الله عليه وسلم) لأمر ربه وقام به خير قيام
، فكان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، وكان إذا أنصرف من صلاة استغفر ثلاثة، وقال: (اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، رب قني عذابك يوم تبعث عبادك، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، لا إله إلا الله وحد لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد )
وقال (صلى الله عليه وسلم) لمعاذ بن جبل (رضى الله عنه) ( والله إني لأحبك، فلا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك). وجاءه فقراء المهاجرين فقالوا: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى وبالنعيم المقيم، فقال (صلى الله عليه وسلم): (وما ذاك؟) قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق،؟ فقال (صلى الله عليه وسلم): (أفلا أعلمكم شيئاً إذا فعلتموه سبقتم ممن بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من فعل مثل ما فعلتم؟ تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين ). فقالوا: يا رسوا الله، سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، فقال (صلى الله عليه وسلم) (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ). اللهم تفضل علينا في الدنيا بالهداية لطاعتك، وفي الآخرة بالدخول في رحمتك يا أرحم الراحمين.(/2)
شروط المفسر وآدابه
الشيخ/مناع القطان
بسم الله الرحمن الرحيم
شروط المفسر وآدابه
بقلم فضيلة الشيخ / مناع القطان
البحث العلمي النزيه أساس المعرفة الحقة التى تعود على طلابها بالنفع ، وثمرته من أشهى الأكل لغذاء الفكر وتنمية العقل، ولذلك ولذلك فإن تهيؤ أسبابه لأي باحث أمر له اعتباره في نضج ثماره ودنو قطوفه ، والبحث في العلوم الشرعية عامة وفي التفسير خاصة من أهم ما يجب الاعتناء به والتعرف على شروطه وآدابه ، حتى يصفو مشربه ، ويحفظ روعة الوحي وجلاله.
شروط التفسير
وفد ذكر العلماء للمفسر شروطاً نجملها فقيما يأتي :
1. ... صحة الاعتقاد : فإن العقيدة لها أثرها في نفس صاحبها ، وكثيراً ما تحمل صاحبها ، وكثيراً ما تحمل ذويها على تحريف النصوص و الخيانة في نقل الأخبار ، فإذا صنف أحدهم كتاباً في التفسير أوَّل الآيات التي تخالف عقيدته ، وحملها باطل من مذهبه ، ليصد الناس عن اتباع السلف، ولزوم طريق الهدى.
2. ... التجرد من الهوى : فالأهواء تدافع أصحابها إلى نصرة مذهبهم ، فيغرون الناس بلين الكلام ولحن البيان كدأب طوائف القدرية والرافضة والمعتزلة ونحوهم من غلاة المذاهب.
3. ... أن يبدأ أولاً بتفسير القرآن بالقرآن، فما أجمل نته في موضع فإنه قد فصل في موضع أخر، وما أختصر منه في مكان فإنه قد بسط في مكان أخر.
4. ... أن يطلب التفسير من السنة؛ فإنها شارحة للقرآن موضحة له، وقد ذكر القرآن أن أحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما تصدر منه عن طريق الله : (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ) ... (النساء: الآية105)، وذكر الله السنة مبينة للكتاب : ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) .... (النحل: الآية44) ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه ) ، يعنى السنة . قال الشافعي رضي الله عنه : (كل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن) ، وأمثلة هذا في القرآن كثيرة ، جمعها صاحب الإتقان مرتبة مع السور في آخر فصل في كتابه كتفسير السبيل بالزاد والراحلة ، وتفسير الظلم بالشرك ، وتفسير الحساب اليسير بالعرض.
5. ... فإذا لم يجد التفسير من السنة رجع إلى أقوال الصحابة ؛ فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرائن والأحوال عند نزاله ، ولما شاهدوه من القرائن والأحوال عند نزوله، ولما لهم من الفهم التام ، والعلم الصحيح ، والعمل الصالح.
6. ... فإذا لم يجد التفسير في القرآن ولا في السنة ولا في أقوال الصحابة ، فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين ، كمجاهد بن جبر، وسعيد بن جبير، وعكرمه مولى ابن عباس ، وعطاء بن أبي رباح،و الحسن البصري، ومسروق بن الأجدع، وسعيد بن المسيب، ووالبيغ بن أنس، وقتادة، والضحاك بن مزاحم، وغيرهم من التابعين، ومن التابعين، من تلقى جميع التفسير عن الصحابة، وربما تكلموا فى بعض ذلك بالاستنباط والاستدلال، ووالمعتمد فى ذلك كله النقل الصحيح، ولهذا قال أحمد: ( ثلاث كتب لا أصل لها: المغازي، والملاحم، والتفسير) ؛ يعني بهذا التفسير الذي لايعتمد على الروايات الصحيحة في النقل.
7. ... العلم باللغة العربية وفروعها؛ فإن القرآن نزل بلسان عربي ويتوقف فهمه على شرح مفردات الألفاظ ومدلولاتها بحسب الوضع قال مجاهد: ( لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم في كتاب الله أن لم يكن عالماً بلغات العرب). والمعاني تختلف باختلاف الأعراب، ومن هنا مست الحاجة إلى اعتبار علم النحو، والتصريف الذي تعرف به الأبنية، والكلمات المبهمة ويتضح معناها بمصادرها ومشتقاتها وخواص تركيب الكلام من جهة إفادتها المعنى، ومن حيث اختلافها بحسب وضوح الدلالة وخفائها، ثم من ناحية وجوه تحسين الكلام- وهي علوم البلاغة الثلاثة: المعاني، والبيان، والبديع- من أعظم أركان المفسر؛ إذ لابد له من مراعاة ما يقتضيه الإعجاز، وإنما يدرك الإعجاز بهذه العلوم
8. ... العلم بأصول العلوم المتصلة بالقرآن، كعلم القراءات؛ لأن به يعلم كيفية النطق بالقرآن ويترجح بعض وجوه الاحتمال على بعض، وعلم التوحيد، حتر لا يؤول آيات الكتاب التي في حق الله وصفاته تأويلاً يتجاوز به الحق، وعلم الأصول، وأصول التفسير خاصة مع التعمق في أبوابه التي لا يتضح المعنى ولا يستقيم المراد بدونها، كمعرفة أسباب النزول والناسخ والمنسوخ ونحو ذلك.
9. ... دقة الفهم؛ التي تمكن المفسر من ترجيح معنى على آخر، أو استنباط معنى يتفق مع نصوص الشريعة.
آداب المفسر
1. ... حسن النية وصحة المقصد؛ فإنما الأعمال بالنيات، والعلوم الشرعية أولى بأن يكون هدف صاحبها منها الخير العام، إسداء المعرف لصالح الإسلام، وأن يتطهر من أعراض الدنيا ليسدد الله خطاه، والانتفاع بالعلم ثمرة الإخلاص فيه.(/1)
2. ... حسن الخلق: فالمفسر في موقف المؤدب، ولا تبلغ الآداب مبلغها في النفس إلا إذا كان المؤدب مثالاً يحتذى به في الخلق والفضيلة، والكلمة النابية قد تصرف الطالب عن الاستفادة مما يسمع أو يقرأ وتقطع عليه مجرى تفكيره.
3. ... الامتثال والعمل:- فإن العلم يجد قبولاً من العاملين أضعاف ما يجد من سمو معارفه ودقة مباحثه- وحسن السيرة يجعل المفسر قدوة حسنة لما يقرره من مسائل الدين، وكثيراً ما يصد الناس عن تلقي العلم من بحر زاخر في المعرفة لسؤ سلوكه وعدم تطبيقه
4. ... تحري الصدق والضبط في النقل: فلا يتكلم أو يكتب إلا عن تثبت لما يرويه حتى يكون في مأمن من التصحيف واللحن.
5. ... التواضع ولين الجانب: فالصلف العلمي حاجز حصين يحول بين العلم والانتفاع بعلمه.
6. ... عزة النفس: فمن حق العلم أن يترفع عن سفاسف الأمور، ولا يغشى أعتاب الجاه والسلطان كالسائل المتكفف.
7. ... الجهر بالحق: فأفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر .
8. ... حسن السمت: الذي يكسب المفسر هيبة ووقار في مظهره العام وجلوسه ووقوفه ومشيته دون تكلف
9. ... الأناة والروية: فلا يسرد الكلام سرداً بل يفصله ويبين عن مخارج حرفه.
10. ... تقديم من هو أولى منه: فلا يتصدى للتفسير بحضرتهم وهم أحياء، ولا يغمطهم حقهم بعد الممات، بل يرشد إلى الأخذ عنهم وقراءة كتبهم.
11. ... حسن الإعداد وطريقة الأداء : كأن يبدأ بذكر سبب النزول ومعاني المفردات وشرح التراكيب، وبيان وجوه البلاغة، والإعراب الذي يتوقف عليه تحديد المعنى، ثم يبين المعنى العام ويصله بالحياة العامة التي يعيشها الناس في عصره، ثم يأتي إلى الاستنباط والأحكام. أما ذكر المناسبة والربط بين الآيات أولاً وآخراً فذلك حسب ما يقتضيه النظم والسياق.
والله الموفق.(/2)
شروط النصر
الحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ?يا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجَالاً كَثِيراً وَنِساءً، واتَّقُوا اللَّهَ الذي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً?[ النساء:1]. ?يا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وأَنْتُمْ مُسْلِمُون? [آل عمران:102]. ? يا أيُّهَا الَّذين آمَنوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمالَكُمْ، ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً? [الأحزاب:71].
تعاني الأمة الإسلامية ومنذ زمن ليس بالقصير من الضعف والتفرق، والاختلاف والتناحر والتخلف، فهي تابعة وليست قائدة كما أراد الله لها أن تكون، مقلدة ومحاكية لغيرها، ليست مبتدعة ولا مبتكرة، إنها غارقة في مشكلاتها تعاني الأمّرين من تناقضاتها وصراعاتها. وإن الأمراض قد تعددت ، والأوبئة المنتشرة غدت مزمنة في جسدها الكبير. ولقد حاول كثيرون تشخيص الداء، فتباينوا في التشخيص كما تباينوا في وصف العلاج، فذهبوا مذاهب شتى فزاد الأمر تعقيداً، ووسّعوا في الجراحات ومكّنوا للأدواء وأوصلوا الأمة إلى مرحلة اليأس والاستسلام والقنوط . لقد شرقوا وغربوا وذهبوا كل مذهب، ثم رضوا من الغنيمة بالإهاب. لقد قال بعضهم: إن سبب تخلف الأمة وضعفها إنما هو في التحرر من قيود الدين وأحكامه.
وقال آخرون : إن القومية هي الحل الذي ينبغي أن تأخذ به الأمة وتتجمع على أساسه فلم يفلحوا.
ويرى البعض : أن سبب ضعف الأمة وتخلفها إنما هو بسبب تحجب المرأة المسلمة وصيانتها والحل عندهم يكمن في تحرر المرأة وتخليها عن دينها وأخلاقها وآدابها، إنهم يريدونها أن تكون كالكافرات في أوربا وأمريكا.
هناك من يرى أن المشكلة اقتصادية والصراع إنما هو اقتصادي فأخذوا بالفكر الشيوعي والاشتراكية التي أضفوا عليها صفة العلمية. وكانت النتيجة تكريساً للفقر والتخلف والحرمان كما هو معلوم للجميع.
هناك من يرى أن لا خلاص للأمة إلا بأن تنسلخ من هويتها وترتبط بأوربا وتأخذ بفكرها ومناهجها من الخير والشر والحق والباطل، في الحلو والمر وفي كل شيء ، وهناك من الأفكار والتصورات التي أخذت بها الأمة في القرن الماضي فلم تجن من ذلك إلاّ الحزن المبين والضياع والتيه الذي لا نهاية له.
أيها المؤمنون : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمنا كيف تبنى الأمم وتسود ، وكيف تقوى وتنتصر وكيف تسمو وتسعد، وترقى في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، ولن تفلح الأمة ولن تخرج من تيهها وضعفها وهوانها إلا إذا تعرفت على طريقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسارت عليه في بناء النفوس وفي بناء المجتمعات والشعوب على حد سواء ألم يكن العرب بل والعالم قبل بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - يعاني من الأمراض المستعصية التي نشكوا منها الآن.
ظلم وظلام، فساد وطغيان كان يملأ الأرض قبل بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - ولقد ذكر الله المؤمنين بفضله ونعمته عليهم حيث أنقذهم مما كانوا فيه في جاهليتهم، أنقذهم ببعثة عبده ورسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - حيث قال تعالى: ?... وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ... ?[آل عمران:103].
فكيف بدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعوته في ذلك الليل الغاسق والظلام الدامس الذي كان يلف البشرية بمجموعها ، لقد بدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين في مكة بتأسيس الإيمان واليقين وغرس عقيدة التوحيد، وتثبيتها بإقامة الأدلة والبراهين القاطعة الساطعة، أدلة تكوينية مبثوثة في عناصر الكون ومظاهر الطبيعة الناطقة بأن الله ليس له شريك.
وأدلة تنزيلية، تنزل بها الوحي لهداية العقول وتنوير القلوب، وتحصين هذه العقيدة الراسخة التي هي المقصود الأعظم والغاية العظمى لجميع رسالات الله تعالى إلى أهل الأرض كما قال سبحانه: ? وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ...?[ النحل:36] ،?وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ?[الأنبياء: 25].(/1)
لقد كانت هذه المرحلة مرحلة بناء الإيمان واليقين في النفس الإنسانية ، أطول مراحل سير الرسالة الخالدة زمناً، كانت حافلة مليئة بالحجج الفكرية والعقلية، وأبلغها في إيقاظ الفطرة البشرية، كان الجهاد فيها جهاداً بالكلمة ، بالقرآن الكريم في دلائل آياته على عظمة الكون وخالقه ومدبره سبحانه وكان سلاح الجهاد في تلك المرحلة الصبر الجميل والتحمل الكبير ، يقول الله عز وجل في جهاد هذه المرحلة مخاطباً خاتم أنبيائه ورسله: ? وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً ?[الفرقان: 51-52] ، ويالها من مهمة ما أعظمها، ففي هذه الآية من الحث والتهييج للرسول والمؤمنين ما فيها.. فإن الكفار قديماً وحديثاً يجدّون ويجتهدون ، في حرب الإسلام وتهوين شأنه، وكأن الآية تقول للرسول - صلى الله عليه وسلم - قابل صدهم وإعراضهم وعنادهم بجدك واجتهادك ، واستمسك بالوحي الذي أنزل عليك وعض عليه بالنواجذ فإنك بذلك تغلبهم وتعلوهم: ?... وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً ?، وجعله جهاداً كبيراً لما يحتمل فيه الرسول من المشاق العظام والمهام الجسام، لأنه - صلى الله عليه وسلم - نذير لجميع القرى ، والأمم وذلك لعموم رسالته لأن الله لو بعث في كل قرية نذيراً، لوجبت على كل نذير مجاهدة قريته، فاجتمعت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك المجاهدات كلها، فكبر جهاده وعظم - صلى الله عليه وسلم - .
وكما اكتمل بناء العقيدة الإيمانية والتوحيدية في النفوس المؤمنة في هذه المرحلة وظهر شامخاً راسخ الدعائم والأركان، ثابت القواعد لا تهزه أعاصير الحياة ولا تقف أمامه ترهات الكفر والإلحاد، ولا تؤثر فيه سخافات الوثنية وأباطيل الشرك والجهالات.
لقد غرس محمد - صلى الله عليه وسلم - في أفئدة وقلوب أصحابه الإيمان بالله واليوم الآخر، كانوا على يقين جازم لا يخالطه ريب أنهم سيقومون لرب العالمين، يحاسبون بأعمالهم صغيرها وكبيرها، فإما إلى نعيم مقيم دائم لا ينتهي ولا ينقطع وإما إلى عذاب خالد شديد في نار وقودها الناس والحجارة فكانوا بين الخوف والرجاء، يرجون رحمة ربهم ويخافون عذابه ، كانوا موقنين أن الدنيا بعذابها ونعيمها لا تساوي جناح بعوضة في جنب الآخرة، كانت هذه العقيدة تهون عليهم متاعب الدنيا ومشاقها ومرارتها، حتى لم يكونوا يكترثون لها.
إن الإيمان العميق إذا خالطت بشاشته القلوب يزن الجبال ولا يطيش.. وهذا ما ربى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صحابته الكرام. إنهم لما آمنوا بالله العزيز الحميد وصدقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تصديقاً جازماً لا يخالطه شك ولا ريب .. صنعوا العجائب وحققوا وأنجزوا.
لما اكتمل بناء العقيدة في ضمائر وقلوب المؤمنين في مكة وهم قلة والمشركون واقفون في طريق الدعوة عقبه كأْداء يصدون عن سبيل الله ويتوعدون من يؤمن ، وينزلون به ألواناً من العذاب واستمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة عشر عاماً يدعوا إلى ربه ويجاهد ويصبر ويصابر، حتى أذن الله للنور أن ينتشر فيمّم النبي - صلى الله عليه وسلم - وجهه شطر قبائل العرب ووفودهم في موسم الحج يعرض عليهم دعوة الله ويطلب منهم النصرة والحماية، فوجد هذا النور والخير طريقه إلى قلوب الأوس والخزرج من سكان المدينة وسرعان ما انتشر الخير وسرى النور في المدينة كما يسري نور البدر في ظلمات الليل فيبددها، والماء العذب في الأرض الجدبة فينبتها، واحتضنت المدينة الإسلام والمسلمين كما تحتضن الأم الرؤوم أولادها ، ووجد المسلمون في الأنصار خير إخوان، وأعواناً عرفتهم الدنيا في تاريخها الطويل.
لقد انتقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الهجرة إلى طور جديد، طور يبني فيه الأسس الراسخة ويقيم الدعائم الثابتة لبناء المجتمع الإسلامي وإقامة الدولة الإسلامية، التي تطبق أحكام الله وتقيم شعائر الدين وتبلغ الإسلام رحمة للعالمين ، فما هي يا ترى تلك الأسس التي أقام عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المجتمع الإسلامي في المدينة المنورة ، هذا ما سيتم تبيينه في خطب لاحقة إن شاء الله.
الخطبة الثانية:
أيها المؤمنون: لا تزال الدماء تسفك والأنفس تزهق والبيوت تدمر والاقتصاد ينهار، واليهود يسرحون ويمرحون على مرأى ومسمع من العالم، كل همّهم هو أن توقف الانتفاضة الشعبية الجهادية.. والشعب الأعزل يواجه الطائرات بالمقالع والمدافع والدبابات بالحجر.. والطائرات العربية والصواريخ العربية والأموال العربية، مشلولة بالذل والصغار، قادة الأمة غير جادين في نصرة القضية الفلسطينية منذ قيام دولة إسرائيل وحتى الآن، لم توجد إسرائيل أصلاً إلا بحماية الحكام الخونة لها وحراستهم لأمتها وحدودها، ومحاربتهم لكل المجاهدين والفدائيين طوال الخمسين عاماً الماضية .(/2)
تعلقت آمال الشعوب وتطلعت إلى القادة العرب الذين اجتمعوا أخيراً وتفرقوا دون أي موقف مشرف يذكر.. لأنهم ليسوا أهلاً للقيام بشرف الجهاد وتحرير فلسطين.
أيها الناس إن النصر لا ينزل على الجبناء القاعدين ، إن النصر له شروط وله مقدمات.. إذا توفرت في الأمة وأخذ بها الزعماء والقادة فإن النصر حليفها لا محالة. أما إذا لم نأخذ بها ولم نسارع في تطبيقها فإن المأساة ستستمر والمحن ستزداد والبلاء سيضاعف، لا يذهبن الوهم بنا على أن نقول: مهما كان فينا من عيوب فإن أعداءنا كفار وظلمة ومعادون ومستكبرون عن الحق وسوف ينصرنا الله عليهم.. كلا.. لقد أرانا الله تبارك وتعالى شيئاً من مظاهر الانكسار والضعف والهزيمة في صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيهم النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد بسبب مخالفتهم لأمر واحد من أوامر الرسول مع أنهم كانوا يواجهون أعتى وأكفر خلق الله يومئذ.
أيها المؤمنون: إن من شروط النصر ومقدماته :
أن تقلع الأمة عن كبائر الإثم والفواحش، أما أن تظل أمورنا على ما هي عليه ، ترك للفرائض والواجبات وانتهاك للحرمات، بارات للخمر وتصنيع له ، أماكن الدعارة والقمار، أوكار للفساد، وتحطيم الأخلاق، إباحة الربا ومحاربة الدين.. هذه الحالة الاستثنائية التي تعيشها الأمة لا بد أن تختفي من حياتها فذلك شرط من شروط النصر ومقدمة ضرورية له.
من شروط النصر الاستعداد والإعداد ورفع وتيرة الأمة بكاملها وتدريبها وإعدادها للتضحية والجهاد فهؤلاء اليهود أعداء الله يأخذون بكل أسباب القوة المادية ، تصنيع للأسلحة تدريب وتسليح لليهود المدنيين ، فلماذا لا يأخذ حكامنا بأسباب النصر في جانب إعداد التصنيع ، أين المصانع العسكرية ، لماذا تخدرت الشعوب العربية والإسلامية ، وترسم السياسات من أجل إذلال الأمة ونزع هويتها وتجريدها من أسلحتها، وإشغالها باللهو واللعب والعبث والفسوق والاستمرار في هذه السياسات يمنع النصر ويحول بين الأمة وبينه ، قال تعالى: ? وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ?[التوبة:46].
فالإعداد للجهاد وإحياء فريضة الجهاد هو الخيار الوحيد، وهو قدر هذه الأمة، إن تقاعس حكامنا اليوم فسوف يأتي الله بغيرهم ممن يحبّهم ويحبونه.
من شروط النصر الهامة رفع مستوى الأمة إيمانياً وجهادياً ، على الحكومات أن تفتح الأبواب الموصدة أمام العلماء والدعاة لتوعية الأمة وتذكيرها وتعليمها وتربيتها على الإيمان والجهاد. وتجفيف منابع الفساد في إعلامها، وتعليمها وسائر أمورها.
ومن شروط النصر ومقدماته هو توحيد الأمة وجمع طاقاتها .. والعمل على رسم السياسات الجادة وإيجاد البرامج التي تجمع الأمة ولا تفرقها وتقويها ولا تضعفها إن كثيراً من الزعامات في الإعلام العربي تسهم في إضعاف وحدة الأمة وتفريق كلمتها بسياسات خبيثة لا تخدم سوى أعداء الأمة المتربصين بها.
هذه الشروط والخطوات ما لم يقم بها الحكام ويترجمونها إلى واقع عملي فإنهم خائنون لدينهم وأمتهم متعاونون مع أعداء الأمة متآمرون عليها.. والوقت كفيل بإفراز الصادقين وظهور المتآمرين والخائنين لكل الناظرين.(/3)
شروط تكفير المعين
عبد الرحمن بن فؤاد الجار الله
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين،،، أما بعد:
الشرط الأول: إقامة الحجة: قال - تعالى -: ((وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)) (الإسراء: من الآية15). ومن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه (153) من طريق يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب عن عمرو أنَّ أبا يونس حدثه عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " والذي نفس محمدٍ بيده لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلتُ به إلا كان من أصحاب النار".
والمراد ببلوغ الحجة أي: الحجة الرسالية. قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (3/229): "ومن جالسني يعلم ذلك مني أنِّي من أعظم الناس نهياً عن أنْ ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية إلا إذا عُلم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة وفاسقاً أخرى وعاصياً أخرى"ا. هـ.
ويُشترط لقيام الحجة: أن يتمكن من العلم بما أنزل الله ويقدر على العمل به.
وشرط فهم الحجة: هو فهم الدلالة والإرشاد.
وشرط قيام الحجة تتعلق به أحكامٌ في الدنيا وأحكامٌ في الآخرة، ففي الآخرة لا يعذبُ الله أحداً إلا بعد قيامها للآية السابقة. وأما ما يتعلق بأحكام الدنيا، فالشخص الكافر الذي لم تبلغه دعوة الإسلام فإنه يُحكم عليه بأنه كافر، فلا يُقال كما يقول البعض: أنه ليس بمؤمنٍ ولا كافر.
وشرط إقامة الحجة في من ارتكب شيئاً من المُكفرات وهو مسلمٌ أصلاً مسألةٌ مرتبطة بالتفاصيل والقواعد التي سبق ذكرها فلا يُكفر في مسائلٍ تخفى عليه، أو قد تخفى على مثله، إلا بعد إقامة الحجة عليه، وأما إنْ كانت من المعلوم من الدين بالضرورة فإنه لا يحتاج أن تُقام عليه الحجة بها؛ لأنها معلومةٌ لديه أصلاً، وأما إنْ لم تكن معلومةً لديه كان عدم العلم بها بتقصيرٍ وتفريطٍ منه، وهذه المسألة كما سيأتي مرتبطة بمسألة الإعذارِ بالجهل فهناك جهلٌ يُعذر به وهناك جهلٌ لا يُعذر به.
و أما فهمُ الحجة فهل هو شرطٌ أم لا؟
أطلق بعضهم القول بأنَّ فهم الحجة شرط، وبعضهم أطلق القول بأنه ليس بشرطٍ، وكليهما خطأ، ففهم الحجة بمعنى أنه لابد أن يعلم ما خُوطب به علماً تفصيلياً، لم يدل عليه دليل، فالشخص الكافر مثلاً لتقُمْ عليه الحُجة فلابد أنْ يعلم دقائقَ ما خُوطب به وتُشرح له تفاصيلُ الإيمان فهذا ليس بشرطٍ في الحقيقة، بدليلِ أنَّ هناك من يكون منه عدم العلم لإعراضه وتقصيرٍ منه.
قال الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف في إجماع أهل السنة النبوية على تكفير المعطلة الجهمية في معرض كلامه عن الحُجة(1/159): "فهمها نوعٌ وبلوغها نوعٌ آخر، فقد تقوم الحجة على من لم يفهمها"ا. هـ.
وإنما معنى الشرط في فهم الحجة أنْ يُخاطب بخطابٍ يفهمه، فلا يصح أن نُخاطب الأعجمي بلسانٍ عربي لا يفهمه ونقرأ عليه القرآن وهو لا يفهمه ثم نقول: قد قامت عليه الحجة، فلابد أن يفهم فهم دلالةٍ وإرشادٍ.
فالنصوص جاءت بالسماع وليس الفهم فلم يقل النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث السابق: لا يفهم، بل قال: لا يسمع بي...وكذلك قول الله - تعالى -: ((وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ)) (التوبة: من الآية6).
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الرسائل الشخصية (1/244): "فإنَّ الذي لم تقم عليه الحجة هو الذي حديث عهد بالإسلام والذي نشأ ببادية بعيدة أو يكون ذلك في مسألة خفية مثل الصرف والعطف فلا يكفر حتى يُعرَّفُ، وأما أصول الدين التي أوضحها الله وأحكمها في كتابه فإن حجة الله هو القرآن فمن بلغه القرآن فقد بلغته الحجة، ولكن أصل الإشكال أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة وبين فهم الحجة فإن أكثر الكفار والمنافقين من المسلمين لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم كما قال - تعالى -: {أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا}... "ا. هـ.
وقال - رحمه الله - في الرسائل الشخصية (1/220): "بأنَّ المعين لا يُكفر إلا إذا قامت عليه الحجة فإذا كان المعين يكفر إذا قامت عليه الحجة فمن المعلوم أنَّ قيامها ليس معناه أنْ يفهم كلام الله ورسوله مثلَ فهمِ أبي بكر - رضي الله عنه - بل إذا بلغه كلام الله ورسوله وخلا من شيء يعذر به فهو كافر كما كان الكفار كلهم تقوم عليهم الحجة بالقرآن... "ا. هـ.
الشرط الثاني: شروط الفاعل:
1- أن يكون مكلفاً: أي بالغاً عاقلاً.
2- أن يكون متعمداً: أي قاصداً لفعله.
3- أن يكون مختاراً بإرادته.
الشرط الثالث: شروط الفعل:
1- أن يكون الفعل مكفراً لا شبهة فيه.
2- أن يكون فعل المكلف أو قوله صريح الدلالة على الكفر.(/1)
والفرق بين هذين الشرطين: فالأولُ: أنْ لا تكون فيه شبهة، فالشبهة في مثلِ القولِ بخلق القرآن. والثاني: أنْ يكون الفعلُ صريح الدلالة، مثل: قولِ الرجل: (لا صلى الله على من صلى عليه) فهذا القول محتملٌ وليس بصريحٍ في الدلالة، فهل يريد بالضمير (ـه) أنَّه يعود على الرسول - صلى الله عليه وسلم - أم على الشخص؟.
3- أن يكون الدليل الشرعي المُكفِّر لذلك الفعل صريحَ الدلالة على التكفير.
الشرط الرابع: يشترطُ في إثباتِ فعل المكلف أنْ يثبت بطريقٍ شرعيٍ صحيحٍ، لا بظنٍ أو بتخريصٍ أو بشكٍ، وذلك بأنْ يكون الإثبات إما بالإقرار أو البيِّنَة.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
http://www.saaid.net المصدر:(/2)
شروط لا إله إلا الله وأركان الإسلام ونواقضه
شروط الإسلام
الحمد لله.. والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فاعلم أخي المسلم رحمنا الله وإياك أن الأصول الثلاثة التي يجب على كل مسلم ومسلمة تعلمها هي:
معرفة العبد ربه، ودينه، ونبيه محمّداً صلى الله عليه وسلم.
ربنا: الله الذي ربانا ورب جميع العالمين بنعمته وهو: معبودنا.. ليس لنا معبود سواه.
ديننا: الإسلام: هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله.
نبينا: محمّد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم وهاشم من قريش وقريش من العرب، والعرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام.
وأصل الدين وقاعدته أمران:
الأول: الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له والحرص على ذلك والمولاة فيه وتكفير من تركه.
الثاني: الإنذار عن الشرك في عبادة الله والتغليظ في ذلك والمعاداة فيه.
شروط لا إله إلا الله
1- العلم: بمعناها نفياً وإثباتاً.. بحيث يعلم القلب ما ينطق به اللسان.
قال تعالى: { فاعلم أنَّه لا إله إلا الله } [محمّد: 19]،
وقوله سبحانه: { إلا من شهد بالحقِّ وهم يعلمون } [الزخرف: 86].
وقال صلى الله عليه وسلم: « من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة » [رواه مسلم]. ومعناها: لا معبود بحق إلا الله، والعبادة: هي كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
2- اليقين: هو كمال العلم بها المنافي للشك والريب.
قال تعالى: { إنَّما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثُمَّ لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصَّادقون } [الحجرات: 25].
وقال صلى الله عليه وسلم: « أشهد أن لا إله إلا الله، وآني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبدٌ غير شاك فيهما إلا دخل الجنة » [رواه مسلم].
3- الإخلاص: المنافي للشرك..
قال تعالى: { ألا لله الدين الخالص } [الزمر: 3]، وقوله تعالى: { وما أُمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء } [البينة: 5].
قال صلى الله عليه وسلم: « أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً مخلصاً من قلبه » [رواه البخاري].
4- المحبة: لهذه الكلمة ولما دلت عليه، والسرور بذلك.
قال تعالى: { ومن النَّاس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبُّونهم كحبِّ اللهِ والَّذين آمنوا أشدُّ حُباً للهِ } [البقرة: 165].
وقال صلى الله عليه وسلم: « ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار » [متفق عليه].
5- الصدق: المنافي للكذب المانع من النفاق
قال تعالى: { فلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذين صَدَقُوا ولَيَعْلَمَنّ الكاذبين } [العنكبوت: 3].
وقال تعالى: { والَّذي جاء بالصِّدق وصدَّق به أولئك هُمُ الْمتَّقون } [الزمر: 33].
وقال صلى الله عليه وسلم: « من مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمّداً رسول الله صادقاً من قلبه دخل الجنة » [رواه أحمد].
6- الانقياد لحقوقها: وهي الأعمال الواجبة إخلاصاً لله وطلباً لمرضاته.
قال تعالى { وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له } [الزمر: 54].
وقال تعالى: { ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسنٌ فقد استمسك بالعُروة الوُثقى } [لقمان: 22].
7- القبول: المنافي للرد.. فقد يقولها من يعرفها لكن لا يقبلها ممن دعاه إليها تعصباً أو تكبراً.
قال تعالى: { إنَّهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا اللهُ يستكبرُون } [لصافات: 35].
نواقض الإسلام
اعلم يا أخي المسلم علمنا الله وإياك.. أن أهم نواقض الإسلام عشرة:
الأول: الشرك في عبادة الله تعالى:
قال تعالى: { إنَّ الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفرُ ما دون ذلك لمن يشاء } [النساء: 48]، ومنه الذبح لغير الله... كمن يذبح للجن أو القبر.
الثاني: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم ويتوكل عليهم.
الثالث: من لم يكفر المشركين أو يشك في كفرهم أو صحّح مذهبهم كفر.
الرابع: من اعتقد أن غير هدى النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه، كالذي يفضل حكم الطواغيت على حكمه، فهو كافر.
الخامس: من أبغض شيئاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولو عمل به كفر.
السادس: من استهزأ بشيء من الدين أو بثوابه أو بعقابه، كفر.
قال تعالى: { قُل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون . لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } [التوبة: 65 - 66].
السابع: السحر: فمن فعله أو رضي به.. كفر.
قال تعالى: { وما يُعلِّمان من أحدٍ حتى يقولا إنَّما نحن فتنةٌ فلا تكفر } [البقرة: 102].
الثامن: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين..
قال تعالى: { ومن يتولَّهُم منكم فإنَّه منهم إنَّ الله لا يهدي القوم الظالمين } [المائدة: 51].(/1)
التاسع: من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمّد صلى الله عليه وسلم، فهو كافر.
العاشر: الإعراض عن دين الله.. لا يتعلمه ولا يعمل به.
قال تعالى: { ومن أظلم مِمَّن ذُكِّر بآيات ربه ثُمَّ أعرض عنها إناَّ من المُجرمين مُنتقمون } [السجدة: 22].
اعلم أخي المسلم: هداك الله إلى الحق.. أنَّه لا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف.. إلا المكره. وكلها من أعظم ما يكون خطراً. وأكثر ما يكون وقوعاً.. فينبغي للمسلم أن يحذرها ويخاف منها على نفسه. نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه.
دار القاسم: المملكة العربية السعودية_ص ب 6373 الرياض 11442
هاتف: 4092000/ فاكس: 4033150
البريد الالكتروني: sales@dar-alqassem.com
الموقع على الانترنت: www.dar-alqassem.com(/2)
شعائر الله وعلاقتها بالأمن الفكري
د . عبد الحكيم الفيتوري 12/7/1424
09/09/2003
عملية الغزو الثقافي الفكري الهائلة، لا تستطيع قوة الفكر لوحدها أن تقف في وجهها، وتحدّ من قدرتها في التأثير على المجتمعات الإسلامية؛ فالفكر المجرّد الجاف قد يفقد قابليته على التحدي والمقاومة إذا لم يكن نافذاً إلى أعماق النفس الإنسانية، وإذا لم يخرج من الذهن إلى الروح فيمتزج معها ويتحول من مجرد قناعة فكرية إلى عملية انشداد نفسي وتلبس كامل لا يقبل الانفصام، ومن هنا جاءت الإشارة في أول سورة نزلت من السماء إلى الأرض؛ فقال تعالى في مطلع سورة العلق: (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق ، اقرأ وربك الأكرم ، الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم) هذا في جانب القراءة والفكر، وختم السورة بأهمية العبادة مع الفكر؛ فقال سبحانه : (كلا لا تطعه واسجد واقتراب).
فالعلم والفكر والتفكر، وكثرة السجود والاقتراب منه سبحانه يمثلان صمام الأمن بالنسبة للمفكر الإسلامي من الانحراف وطاعة الشيطان والأهواء والسقوط عن الطريق (كلا . لا تطعه)!!.
ولعل الساحة الإسلامية المعاصرة فيها قائمة من المفكرين والمنظرين المحسوبين على جهة إسلامية معينة قد انسلخوا آخر المطاف عن مذاهبهم الّتي طالما رفعوا لواءها ونادوا بها ودافعوا عنها، والسبب بسيط جداً، وهو أن هؤلاء لم تكن قناعاتهم الفكرية قد انعكست على نفسياتهم ونفذت إلى قلوبهم؛ بل ظلت محصورة ضمن جدران الذهن.
والإسلام وإدراكاً منه لهذه النقطة بالذات أولى الجانب النفسي والروحي للإنسان المسلم أهمية كبيرة، ولم يقصر تربيته للمسلم على الجانب الفكري؛ بل على الجانب النفسي أيضاً، إن لم يكن اهتمامه بهذا الجانب يفوق اهتمامه بالجانب الأول.
لقد أكّد الإسلام على ضرورة الانشداد النفسي للمبدأ والتفاعل الروحي مع الفكرة الإسلامية، والتمازج الفكري النفسي من أجل أن تكون الشخصية الإسلامية شخصية قوية ومؤثرة في الحياة الاجتماعية، وقادرة على أداء دورها الرسالي في هذا الكون، وإيصال صوت الإسلام إلى كل مكان، ومن أجل أن تتحصن بالوقاية من كافة الأمراض والأوبئة الفكرية والثقافية الّتي لابدّ وأن تواجهها خلال عملية الصراع المستمر بين الخير والشر، وبين الفكر التوحيدي والأفكار المادية القائمة على الانحراف، قال تعالى: (الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً ويتفكرون في خلق السماوات والأرض) ذكر وتفكر وقال: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً) كثرة سجود واقتراب في أوقات الاستجابة، وبهذين الأمرين الفكر والذكر كانوا أئمة الدين والدينا (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون).
ولا يخفى أن العبادات الإسلامية عامل صيانة، وعنصر وقاية فاعل يقي الإنسان المسلم من كل عوامل التهديد الفكري والثقافي، لا سيّما إذا قامت على القناعة ومورست بوعي وتعبّد صادق، نظراً لما تضخه في النفس الإنسانية من طاقات هائلة من الانجذاب إلى الفكر الّذي تحمله، والتفاعل معه بشكل يجعل من المستحيل على الأفكار المضادة أن تؤثر عليها.
ومن هنا ندرك أن المفكر الإسلامي يجب أن يتمتع برصيد عبادي كبير، وأن يكون الجانب التعبدي لديه قوياً جداً بحيث يستطيع به أن يخوض عباب الحياة الاجتماعية غير عابئ بكل ما يواجهه خلال تلك العملية الشاقة من ضغوط وتحديات ومخاطر، لأنّ الطاقة العبادية الّتي يمتلكها تذلل كلّ العقبات؛ بل وستخلق لديه شعوراً باللذّة وهو يرى أن كلّ ما يتعرض له إنّما هو في سبيل الله ومن أجله، وفي طريق الوصول إليه سبحانه.
ويصح القول بعد ذلك : إنه لا يمكن للمفكر الإسلامي أن يكون مفكراً إسلامياً بالمعنى الصحيح لمجرد أنّه يحمل أفكاراً إسلامية، ويمتلك رصيداً فكرياً إسلامياً؛ بل لابدّ وأن يكون متعبداً تمام العبودية لله تعالى، وعلى اتّصال قوي به سبحانه، من أجل ألا تبنى تلك الأفكار على فراغ، وألا تظل مجرد أفكار عائمة في الذهن؛ بل تتفاعل مع الروح، وتنطبع في الضمير، وتتجذر في النفس، وبهذا فقط يمكن للأفكار الإسلامية أن تكون رصينة ومحكمة ومؤثرة، وذات حظ كبير من القدرة على مقاومة أعاصير الأفكار المضادة، كما قال تعالى : ( فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون) ، ثم قال سبحانه : (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين) فعينة الله مع الذاكرين والشاكرين والمصلين والصابرين، والله مع المحسنين!.(/1)
فالجانب العبادي إذاً يلعب دوراً كبيراً في تعزيز الجانب الفكري ووقايته من كافة ما يمكن أن يواجه من أخطار، وهو ما يكشف عن عظم المسؤولية الملقاة على عاتق علماء المسلمين ومفكريهم في الاهتمام بالجانب العبادي لديهم ، والارتفاع به كي يشكل مع الجانب الفكري حصانة تتصدى لكافة التحديات الفكرية والثقافية المعاصرة ، وكي يؤدي المفكر المسلم دوره الرسالي المناط به أحسن أداء، ولا معنى لتلك الادعاءات الفارغة الّتي يطلقها والّتي تقلل من أهمية الجانب العبادي والممارسات التعبدية ، وتكتفي بالإيمان الغريزي وتؤكد أكثر ما تؤكد على تعزيز الجانب الفكري فحسب!!
فالممارسة العبادية والارتباط الدائم بالله تعالى والالتحام به من خلال تلك الممارسة، هي الضمانة الأقوى، إن لم تكن الوحيدة للحفاظ على الشخصية الإسلامية، وصيانة الثقافة الإسلامية والفكر الإسلامي، وإذا عرفنا ذلك استطعنا أن نستنتج عمق وسعة التدريب الروحي والنفسي الّذي يمارسه الإنسان من خلال العبادات المتنوعة، على القصد الموضوعي وعلى البذل والعطاء، وعلى العمل من أجل هدف أكبر في كل الحقول المختلفة للجهد البشري.
باختصار نقول: إنّ بقاء المسلم على ارتباط بالله تعالى من خلال الممارسات العبادية المستمرة؛ سيحفظ له فكره وثقافته وصلته القوية بالإسلام، ويحافظ على هويته الإسلامية، ويُفشل أية محاولة غريبة يراد بها مسخ هذه الهوية وإضاعتها؛ لأنّ العابد الحقيقي هو الّذي يطبق في حياته ما تحدث به مع الله في عبادته، والعبادة بالنسبة إليه «عهد» والحياة (ساحة الوفاء بهذا العهد)، وهذا العهد يشتمل على شرطين أساسيين: الأول؛ التحرر من كل حاكمية ، والثاني؛ التسليم المحض أمام ما أراده الله وارتضاه وندب إليه في كتابه العزيز وسنة نبيه المصطفى -صلى الله عليه وسلم-.(/2)
شعب الإيمان من استكملها استكمل الإيمان ...
...
08-12-2004
الحمد لله الذي لا يبلغ أحد كفاء نعمته، ولا معادلة فضله وإحسانه، والصلاة والسلام على عبده المجتبى ورسوله المصطفى وخاتمة عقد رسالاته المبعوث للناس أجمعين برسالة رب العالمين، والداعي إلى صراط الله المستقيم، ودينه القويم سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم... وبعد،،،
فهذا جمع لشعب الإيمان في ترتيب لم يسبق إليه وتنسيق بديع قد وفق الله إليه: يعرف قارئه بحقيقة الإيمان، وكيفية بنائه، وأين تقع أسسه وأركانه، وسوره وأبوابه، وزخارفه ونقوشه وألوانه، وكيف يتذوق المؤمن حلاوته، ويعيش في بستانه وجنته.
وأسأل الله أن يرزقني تمامه وكماله كما رزقني بدايته وافتتاحه، وأن يلهمني رشدي ويقيني شر نفسي.
الإيمان هو الدين كله:
اعلم -رحمني الله وإياك- أن الإيمان هو الدين كله، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الإيمان بضع وستون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان].
فدل ذلك على أن كل ما أمر الله به من خبر يجب تصديقه، أو عمل يوجب أو يستحب فعله، فهو داخل في مسمى الإيمان.
فالشهادتان، والصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والصدق، والصبر، والأمانة، والحلم، والحياء.. كل ذلك من شعب الإيمان.
ولما كان الأمر يستلزم ترك ضد المأمور. كان الإيمان هو الدين كله أمراً ونهياً.
وبيان ذلك أن الأمر بالتوحيد نهى عن الشرك ولا يكون العبد موحداً لله إلا إذا ترك الشرك كله، فشهادة أن لا إله إلا الله تقتضي نفي كل شريك مع الله، وإثبات الألوهية لله وحده، وكذلك الأمر بالصلاة نهي عن إضاعتها، والأمر بالحياء نهي عن الفحش والفجور، وسقوط المروءة، والأمر إماطة الأذى عن الطريق نهي في ذات الوقت عن أذية المسلمين، وإلقاء الأذى في الطريق!!
وهكذا تصبح كل شعبة من شعب الإيمان قد أمر العبد بها يقابلها شعبة من شعب الكفر أو النفاق، أو الظلم، قد نهى عنها العبد.
ومجيء النص بالنهي عن شعب الكفر والشرك والنفاق والظلم هو من باب التأكيد والبيان، وإلا فالأمر بالشيء يستلزم بالضرورة النهي عن ضده.
الشعبة الأولى: لا إله إلا الله:
أول شعبة من شعب الإيمان وأعلاها هي شهادة أن لا إله إلا الله، وهذه الشعبة هي أعظم الشعب وأعلاها وأهمها ويتضمن شهادة أن لا إله إلا الله المعاني الآتية:
(1) معنى الإله: الإله في اللغة هو المعبود حقاً كان أو باطلاً فكل ما يقدس، ويعبد، ويرجى منه النفع، ويخاف منه الضر تسميه العرب إلهاً، ولذلك سموا الشمس (الإلهة) وسموا أصنامهم آلهة، واتخذوا الملائكة آلهة بعد ما اعتقدوا أنهم بنات الله، وأن لهم شفاعة عند الله، وكان لكل قبيلة من العرب صنماً لهم، حتى اجتمع عليها وقت الرسالة ثلاثمائة وستين صنماً لم تحطم إلا بعد فتح مكة.
ولما دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى عبادة الله وحده.
قالوا: {أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب} {وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد}. الآيات
وقال قوم إبراهيم لما حطم إبراهيم عليه السلام أصنامهم: {من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين} {قالوا أأنت فعلت هذا بآبائنا يا إبراهيم}
وتسمية الكفار أصنامهم ومعبوداتهم آلهة إنما هو من باب إطلاق الأسماء على غير مسمياتها لأن هذه المعبودات التي عبدوها من دون الله ليست آلهة في ذاتها، وعندما عبدت وهي لا تستحق العبادة، فإن الإله في الكون كله لا يكون إلا واحداً، ومحال أن تتعدد الآلهة وبيان هذا في الفقرة التالية.
لا يستحق الألوهية إلا الخالق الرازق المالك:
الألوهية لا يستحقها إلا من خلق عبده، وأوجده من العدم، ورزقه،وملكه، فمن هذه صفته فهو الذي يستحق أن يعبده العبد وأما من لا يخلق، ولا يرزق، ولا يملك فكيف يكون إلهاً معبوداً. فمن عبد مخلوقاً مثله، مساوياً له في الاحتياج والفقر، أو مخلوقاً أعلى منه، ولكنه كذلك محتاج إلى غيره، فقير إلى إلهه ومولاه، فهو ضال بلا شك، ومن عبد من لا يملك لعابده نفعاً ولا ضراً، فقد وضع العبادة في غير محلها وأضل من ذلك من عبد من دونه في الخلق كالصنم الذي لا يسمع ولا يبصر، ولا يغني عن عابده شيئاً، بل هو نفسه محتاج إلى عابده لأنه هو الذي يصنعه، ويقيمه ويدافع عنه، فكيف يرجو العبد من لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا يملك لعابده نفعاً ولا ضراً، وأضل من هذا من يعبد عدوه الذي لا يريد له إلا الضر، ولا يسعى إلا في هلاكه ولو عبده ما عبده ما انفك عن عداوته، ولا قصر في خباله، وهذا حال عابد الشيطان سراً أو جهراً، قالاً أو حالاً علم أنه يعبده أو جهل أنه يعبده، لا أضل من هذا إذ كيف يقدس الإنسان من لا يريد به إلا الضر، ولا يسعى له إلا في الهلاك والشر.
والعجب أن عامة البشر على هذا الضلال!! فهي تعبد وتؤله من لا يملك لهم ضراً ولا نفعاً، أو من يضرهم ولا ينفعهم.(/1)
الإله لا يكون إلا واحداً:
والألوهية محال أن تكون في الكون إلا لإله واحد لأنه لو فرض أن يوجد في الكون إلهين لفسد هذا الكون بالضرورة لأن وجود إلهين كل منهما يخلق ويرزق ويملك ويحيي ويميت سيوجب بالضرورة أن يعلو كل منهما على الآخر، وأن يعادي كل منهما الآخر، ويحاربه ليكون الملك له وحده، والخضوع له وحده، أو أن يذهب كل إله منهما بما خلق، وينفصل كل منهما عن الآخر، قال تعالى: {بل جئناهم بالحق وأنهم لكاذبون ما اتخذوا الله من ولد وما كان معه من إله، إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون}
ولو كان هناك أكثر من إله لحصل الفساد في الكون. قال تعالى: {قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذاً لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً}
أي لو كان هناك آلهة مع الله كما يدعي المشركون لاتخذ هؤلاء الآلهة طريقهم إلى مغالبة صاحب العرش. تعالى الله أن يوجد من يغالبه، بل جميع الموجودات هي من مخترعاته ومصنوعاته، وكل شيء في الوجود غيره إنما هو من صفته وإبداعه وخلقه وهو في قبضته ومشيئته وتحت قهره وحكمه، لا يخرج صغير أو كبير عن أمره وقضائه. قال تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون} والمعنى لو كان في السموات والأرض آلهة إلا الله لفسدت السماوات والأرض وذلك بحرب هؤلاء الآلهة بعضهم بعضاً، ومغالبتهم للرب الإله!! سبحانه وتعالى أن يوجد من يغالبه أو يشاركه في صغير أو كبير في الملك.
وحدة الخلق دليل على وحدة الخالق:
ومن أعظم الأدلة على أن الإله واحد لا إله غيره ولا رب سواه، هو وحدة الخلق، فالسموات والأرض ومن فيهما وما فيهما في وحدة متناسقة متجانسة وكأنها أجزاء في آلة واحدة، أو أعضاء في جسد واحد أو لبنات في بناء متناسق بديع، كل لبنة منه في مكانها الصحيح، ولو اقترح تعديل شيء أو تبديل شيء عن موضعه، ونقله إلى غير مكانه لأدى ذلك إلى فساد عظيم، فالشمس في مكانها من الأرض تماماً، ولو اقتربت منا شيئاً لاحترقنا، ولو بعدت عنها شيئاً لتجمدنا، والقمر في مكانه منا تماماً، ولو اقترب منا لأغرقتنا البحار ولو ابتعد عنها لانهارت الحواجز بين العذب والمالح من بحارنا، والهواء الذي نستنشقه وبه حياتنا من حيث خواصه ومكوناته مناسب للحياة تماماً، وأي تبديل فيه يعني نهاية الحياة على الأرض، وهكذا كل شيء إنما هو بمقدار وميزان. قال تعالى: {إنا كل شيء خلقناه بقدر}، وقال تعالى: {ولقد جعلنا في السماء بروجاً وزيناها للناظرين* وحفظناها من كل شيطان رجيم* إلا من استرق السمع فاتبعه شهاب مبين* والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون* وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين* وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقر معلوم* وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماءً فأسقيناكم وما أنتم له بخازنين* وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون* ولقد علما المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين* وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم} (الحجر:16-25)
وهذه الوحدة المتناسقة في الخلق كله من الذرة الصغيرة إلى المجرة الكبيرة من أعظم الأدلة على أن الخالق إله واحد لا إله إلا هو سبحانه وتعالى وأنه ليس هناك من ينازعه أو يغالبه أو يشاركه.
الإله الواحد لم يجعل لأحد معه شركة في خلق أو أمر أو ملك أو عباده:
والرب الإله الواحد الذي خلق الخلق كله، وأبدع العالم وحده، وهو رب العالمين، وليس معه رب غيره، قد جعل الخلق له وحده، ولم يشأ أن يكون لغيره خلق ذرة واحدة من هذا الكون حتى لا يدعي مدعى أن له شركة معه في الملك، وهكذا فالملائكة لا يخلقون، والجن لا يخلقون والإنس لا يخلقون، بل كلهم مخلوقون، وكما جعل الله سبحانه وتعالى الخلق له وحده، فقد جعل الرزق له وحده، لأن الرزق فرع الخلق فهو الذي ينزل المطر، ويخرج الزرع، ويقدر أقوات عباده، وهو الذي ذخر الأرض بما ذخر من المعادن والخيرات. قال تعالى: {الله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار* وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار* وأتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار} (إبراهيم:32-34)(/2)
وقال تعالى: {والله أنزل من السماء ماءاً فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون* وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين* ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً إن في ذلك لآية لقوم يعقلون* وأوحي ربك إلي النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون* ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللاً يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون* والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد من علم شيئاً إن الله عليم قدير* والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه من أنفسكم أزواجاً وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمت الله هو يكفرون* ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقاً من السموات والأرض شيئاً ولا يستطيعون* فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون} (النحل:65-74)
وقال تعالى: {خلق السموات والأرض بالحق تعالى عما يشركون* خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين* والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون* ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون* وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف رحيم* والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون* وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين* هو الذي أنزل من السماء ماءً لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون* ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون* وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذل لآيات لقوم يعقلون* وما ذرأ لكم في الأرض مختلفاً ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون* وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبلغوا من فضله ولعلكم تشكرون* وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهاراً وسبلاً لعلكم تهتدون* وعلامات وبالنجم هو يهتدون* أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون* وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم* والله يعلم ما تسرون وما تعلنون* والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً وهو يخلقون* أموات غير أحياءٍ وما يشعرون أيان يبعثون* إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون} (النحل:3-22)
وهكذا فإن الرب الإله سبحانه وتعالى هو الذي خلق السموات والأرض وما فيهما، وجعل جميع العالمين ممن أسكنهم السموات والأرض (الملائكة والجن والإنس، والطير، والوحش) كلها فقيرة محتاجة إلى إلهها وخالقها إذ هو المتكفل وحده سبحانه وتعالى بإيجادها وإحيائها، وموتها ورزقها، وهو العليم بها الذي لا يغيب عنه صغير ولا كبير من أمرها. قال تعالى: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين}
وقال تعالى: {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون}
خلق الله الخلق لحكم عظيمة ومنها أن يعبدوه وحده لا شريك له:
وقد خلق الله سبحانه وتعالى هذا الخلق الذي لا يحصيه غيره، ولا يحيط به علماً سواه لحكمة عظيمة يعلمها هو سبحانه وتعالى، ومن ذلك ما أخبرنا به جل وعلا وهو أن يعبده وحده لا شريك له ونسبحه وننزهه، ونقدسه، ونحمده، وأخبرنا أنه يحب ذلك وأنه لا يرضى من عباده سواه. قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين}
وقال تعالى: {أفحسبتم إنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم، ومن يدع مع الله إلهاً آخر فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون}
وقال تعالى: {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل}
وقال تعالى: {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار أم نجعل الذي آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار}
وقال تعالى: {وما خلقنا السمات والأرض وما بينهما لاعبين، ولو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين}
وقال تعالى: {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين، ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون، إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين} (الدخان:38-40)
الله غني عن خلقه أجمعين والمخلوقات كلها فقيرة إليه:(/3)
والرب الإله الواحد سبحانه وتعالى غني عن خلقه كلهم فلا يحتاج إلى شيء من مخلوقاته لا إلى عرشه ولا إلى كرسيه ولا ملائكته ولا الجن والإنس ولا السموات والأرض بل هو الغني سبحانه وتعالى عن كل ما سواه، الحي القيوم الذي لا يؤوده شيء، ولا يصيبه نصب ولا لغوب، ولا يكرثه أمر، ولا يعجزه شيء وكل المخلوقات في حاجة إليه إذ هو سبحانه وتعالى خالقها ومدبر شؤونها، ومقيمها حيث تقوم ومزيلها كيفما يشاء، ووقتما يشاء، وهو الذي أعطى كل شيء قدره ومقداره، وحده وأركانه وتصرفه وبقاءه، وهو الذي يملك فناءه وزواله لا إله غيره، ولا رب سواه.
والعبادة التي خلق الله الخلق من أجلها لا تنفعه كما أن معصية العصاة لا تضره، ولا يستطيع أحد أن يزيد في ملك الله شيئاً ولو ذرة، ولا أن ينقص من ملكه شيئاً، ولو ذرة واحدة.
ولا يبلغ أحد من خلق الله نفع الله فينفعه، ولا ضر لله فيضره [يا عبادي إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا أخري فتضروني].
الرسل جميعاً من أجل هذه الرسالة:
ومن أجل هذه المهمة أرسل الله الرسل. قال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} والطاغوت هو كل من عبد من دون الله راضياً بذلك، مريداً لذلك، ورأس الطواغيت هو إبليس الملعون وذريته الداعين الناس إلى معصية الله، وعبادة الأصنام والآلهة الباطلة، والأصنام طواغيت.
وقد أخبرنا سبحانه وتعالى أن عباد الطواغيت هم وآلهتهم التي عبدوها يلقون جميعاً في النار: العابد والمعبود. قال تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون}
وأما الذين عبدوا من دون الله بغير رضاهم كعيسى ابن مريم عليه السلام، وأمه عليها السلام، فإنهم مبرءون من الإثم، مبعدون من النار وذلك أن الذين عبدوهم قد عبدوهم بغير رضاهم، فإن عيسى لم يطلب من عابديه أن يعبدوه بل ما أمرهم إلا ليعبدوا الله وحده لا شريك له، وأخبرهم أنه عبد الله وليس إبناً لله، وأن الأمر كله والخلق كله لله، وأنه ليس له مع الله أمر أو شركة، ولذلك يبكت من عبدوا عيسى عليه السلام يوم القيامة ويفضحون على رؤوس الأشهاد، ويظهر لكل الناس في الموقف العظيم يوم القيامة أنهم كانوا كاذبين في ادعائهم أن عيسى إن الله وأنه إله كامل من إله كامل يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويدخل الجنة،ويدخل النار، ويدين الأحياء والأموات، ويجلس يوم القيامة على يمين أبيه ليدين الخلق ويحاسبهم. تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً أن يكون له ولد أو أن يكون معه إله...
وقد قص الله سبحانه وتعالى علينا في القرآن كيف ستكون الندامة الكبرى يوم القيامة لمن عبدوا المسيح ابن مريم فقال الله سبحانه وتعالى: {يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب* إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلاً وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين* وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون* إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين* قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين} (المائدة:109-113)
وهكذا يظهر للجميع كذب من قال إن عيسى هو ابن الله إله من إله، يخلق ويرزق ويحيي ويميت، ويدين الأحياء والأموات، وأنه يعبد كما يعبد الله، وهذه أكبر كذبة في الأرض، وقد صدقها الملايين من البشر بعد الملايين، وعاشت عليها أجيال وقتل في سبيلها خلق لا يحصيهم إلا الله، وأنفق في سبيل نشرها وترويجها أموال لا يحصيها إلا الله وذلك منذ ظهرت هذه الكذبة قبل نحو ألفي عام وإلى يومنا هذا فسبحان من يضل من يشاء ويهدي من يشاء والعجب أن الذي افتروا هذه الكذبة الكبيرة لم يستطيعوا أن يقيموا عليها دليلاً عقلياً واحداً، ولا عندهم بها إثارة علم، فكيف يعقل أن يكون بشر مولود من رحم امرأة يأكل ويشرب ويبول ويتغوط وينام ويمرض ويجوع ويعطش ويتألم إلهاً خالقاً للكون رازقاً للبشر متصرفاً في العباد!!(/4)
والعجب أن الذين افتروا هذه الفرية وأصموا آذانهم عن سماع الحق من قول عيسى نفسه، ومن قول الذين آمنوا به حقاً وصدقاً ومن قول الرسول الخاتم المبعوث بالرسالة الخاتمة إلى الناس أجمعين، ومثيل ذلك وبعده من قول رب العالمين وإله الخلق أجمعين الذي أنزل في التوراة والإنجيل والقرآن أنه الواحد الأحد الذي لا إله إلا هو ولا رب سواه وأنه لم يتخذ قط صاحبة ولا ولداً، والعجب أن يصموا آذانهم عن كل ذلك ويغلقوا أعينهم عن رؤية الحق، ولا يفتحوها إلا يوم القيامة حيث لا ينفعهم عند ذلك السمع والبصر قال تعالى: {اسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين}
والمعنى ما أسمعهم وما أبصرهم يوم القيامة!! عندما يقفون بين يدي الله الرب الإله الواحد سبحانه وتعالى حيث يعلمون علم اليقين أنه لا إله هو، وأنه لم يكن له ولد أو كان معه إله غيره... ولكن هؤلاء الظالمين الذين لا يقحمون آذانهم وأعينهم إلا يوم القيامة قد كانوا في ضلالهم سادرين غافلين، مكابرين مصرين في الدنيا. قال تعالى حاكياً حال هؤلاء الضلال في الدنيا والآخرة: {ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون* ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون* وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراطي مستقيم* فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم* اسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين* وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون* إن نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون} (مريم:34-40)
لا إله إلا الله أظهر الحقائق على الإطلاق وأكثر الحقائق تكذيباً على الإطلاق:
كون أن الله سبحانه وتعالى هو الإله الحق الذي لا إله إلا هو هي أعظم الحقائق ظهوراً فبراهين هذه الحقيقة وأدلتها لا يمكن حصرها، ولا يستطيع أحد عدها، ومع ذلك فلا يوجد حقيقة حصل لها من التكذيب ووقع فيها من الضلال والعناد ما وقع في هذه الحقيقة.
فإن عامة البشر إلا القليل منهم مكذب في هذا الأمر أو ضال، وقليل من العباد من هداهم الله إلى شهادة أنه سبحانه الإله الواحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد والذي لا إله غيره، ولا رب سواه، ولكن عامة الإنس والجن مكذبون جاحدون ضالون عن هذه الحقيقة فسبحان من له الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله، وسبحان من هدى من شاء إلى معرفته وطاعة وعبادته، وأضل من شاء فأصمه وأعمى بصره.
وسبحان الله القائل: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون} (الأعراف:179)
والحمد لله رب العالمين،،
بقلم: عبدالرحمن بن عبدالخالق(/5)
شعبان بين السنة والبدعة
* سبب تسميته بـ شعبان
قال بن حجر - رحمه الله - : سمّي شعبان لتشغيلهم في طلب المياه أو الغارات بعد أن يخرج شهر رجب الحرام وقيل غير ذلك . أهـ ( الفتح 4/251 )
* ما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم في شهر شعبان
عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله لم أرك تصوم شهر من الشهور ما تصوم من شعبان ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : (( ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم )) رواه النسائي
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : (( لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شهرًا أكثر من شعبان ، وكان يصوم شعبان كله )) رواه البخاري
* فضل ليلة النصف من شعبان :
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إن الله ليطلع في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن )) رواه ابن ماجة وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة 1144
* البدع المشتهرة في شعبان
* صلاة البراءة : وهي تخصيص قيام ليلة النصف من شعبان وهي مائة ركعة .
* صلاة ست ركعات : بنية دفع البلاء وطول العمر والاستغناء عن الناس .
* قراءة سورة { يس } والدعاء في هذه الليلة بدعاء مخصوص بقولهم (( اللهم يا ذا المن ، ولا يمن عليه ، يا ذا الجلال والإكرام .. ))
* اعتقادهم ان ليلة النصف من شعبان هي ليلة القدر .. قال الشقيري : وهو باطل باتفاق المحققين من المحدثين . أهـ ( السنن والمبدعات 146 ) وذلك لقوله تعالى { شهر رمضان وذلك لقوله تعالى { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } وقال تعالى { إنا أنزلناه في ليلة القدر } وليلة القدر في رمضان وليس في شعبان .
* تاريخ حدوث هذه البدعة
قال المقدسي : (( وأول ما حدثت عندنا سنة 448هـ قدم علينا في بيت المقدس رجل من نابلس يُعرف بابن أبي الحميراء وكان حسن التلاوة ، فقام يصلي في المسجد الأقصى ليلة النصف من شعبان ، فأحرم خلفه رجل ثم انضاف ثالث ورابع فما ختمها إلا هو في جماعة كثيرة .. )) الباعث على انكار البدع والحوادث 124-125
قال النجم الغيطي : إنه قد أنكر ذلك أكثر العلماء من أهل الحجاز منهم عطاء وابن أبي مُليكة وفقهاء المدينة وأصحاب مالك وقالوا : ذلك كله بدعة . أهـ ( السنن والمبتدعات للشقيري 145 )
واعلم رحمك الله أن ما أوقع هؤلاء في هذه البدعة القبيحة هي اعتمادهم على الآتي :
* عن علي رضي الله عنه مرفوعا قال : (( إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها )) وقد رواه بن ماجه في السنن 1388 وهو حديث موضوع
* وحديث (( إن الله تعالى ينزل ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا فيغفر لأكثر من عدد غنم بني كَلْب )) وقد رواه بن ماجة 1389 وهو حديث ضعيف
والحاصل أن هذه الأمور لم يأت فيها خبرٌ ولا أثرٌ غير الضعاف والموضوعات :
قال الحافظ ابن دحية : (( قال أهل التعديل والتجريح : ليس في حديث النصف من شعبان حديثٌ يصح ، فتحفّظوا عباد الله من مُفترٍ يروي لكم حديثًا يسوقه في معرض الخير ، فاستعمال الخير ينبغي أن يكون مشروعًا من الرسول صلى الله عليه وسلم ، فإذا صح ّ أنه كذب خرج من المشروعية ، وكان مستعمله من خدم الشيطان لاستعماله حديثًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُنزل الله به من سلطان )) أهـ ( الباعث على انكار البدع والحوادث لأبي شامة المقدسي 127)
* حكم الاحتفال بليلة النصف من شعبان ؟؟
سئل سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله عن ليلة النصف من شعبان ؟ وهل لها صلاة خاصة ؟
فأجاب : ليلة النصف من شعبان ليس فيها حديث صحيح .. كل الأحاديث الواردة فيها موضوعة وضعيفة لا أصل لها وهي ليلة ليس لها خصوصية ، لا قراءة ولا صلاة خاصة ولا جماعة .. وما قاله بعض العلماء أن لها خصوصية فهو قول ضعيف فلا يجوز أن تخص بشيء .. هذا هو الصواب وبالله التوفيق(/1)
شعبان.. تدريب وتأهيل لرمضان
كيف نستغل شهر شعبان في الاستعداد لاستقبال شهر رمضان والاستفادة منه إيمانيا على أفضل وجه ؟ ... السؤال
الدكتور عبد الحكم صالح
المستشار
الرد ...
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد:
فكما هو معروف يأتي شهر رمضان المبارك بمشيئة الله تعالى موسما للطاعات والقربات والإكثار من الأعمال الصالحة؛ لأن الله عز وجل قد شاء أزلا أن يجعل شهر رمضان وحدة زمنية من اثنتي عشرة وحدة يتشكل منها العام.
جعل الله هذه الوحدة الزمنية فرصة تفيض فيها رحمات الله على عباده، وألطافه على الطائعين من خلقه إنعاما منه ورحمة وكرما.
ففي رمضان تتضاعف ثوابات الأعمال بكم أكثر بكثير من غيره من الشهور. ويكفي أن نستمع إلى قول المصطفى صلى الله عليه وسلم عن رمضان "من تطوع فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى 70 فريضة فيما سواه".
فأي خصلة من خصال الخير في رمضان كأنها فريضة تامة في الثواب. وخصال الخير لا حصر لها ولا عدد؛ مثل: إماطة الأذى عن الطريق، والبشاشة في وجوه الناس، والكلمة الطيبة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعطف على الفقير، والإحسان إلى المسكين، ومؤازرة الأرملة، ورحمة المصاب، والمسح على رأس اليتيم، وما إلى ذلك من خصال الخير اليسيرة الهينة التي لا تتناهى عددا.
أي خصلة من مثل هاتيك الخصال؛ يحصل المرء منها على ما يوازي ثواب فريضة؛ كالصلاة والزكاة في غير رمضان، وأداء فريضة في رمضان الحد الأدنى لها في الثواب أنها توازي 70 فريضة في غير رمضان. ومعنى هذا أن رمضان فرصة نفيسة ماسية من الظلم البين للنفس التفريط في شيء منها.
ومن المعروف أن الفرق الرياضية الحريصة على إحراز الفوز في المباريات التي تشترك فيها؛ تحرص على أن تعد لهذا الفوز في المباريات بالاستمرار في التدريب قبل المباراة بأيام. وربما بأسابيع كما تحرص على تدريب تسخيني قبل الدخول في المباراة مباشرة.
ومن المعروف كذلك أن الجيوش العتيدة التي تراهن على إحراز الانتصارات؛ تكدح وتثابر قبل دخول المعارك في تدريبات دائبة متواصلة؛ كي تتشكل قواها وملكات أفرادها بصورة تكفل لها الانتصار في أي معركة تفرض عليها.
ومضيا في هذا المضمار... مضمار الإعداد للنفس قبل حينونة الفريضة لكي يدخل الإنسان على الفريضة مهيئا قويا؛ شرع لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سننا قبلية قبل فرائض الصلوات؛ كأنها عمل تأهيلي يمارسه العبد قبيل دخوله ساحة الفريضة؛ حتى تتضاعف همته وقواه لإنجاز الفريضة على أفضل ما يكون.
وفي السياق نفسه، تتجه حكمة المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ لتأخذ بأيدي المسلمين في دورة تأهيلية تدريبية وتربوية؛ لصقل همم المسلمين وشحذ قواهم من خلال سنن وتطوعات عبادية. ينشط بها المسلم في الوحدة الزمنية السابقة لشهر رمضان (وهي شهر شعبان).
فإذا كانت السنة تنقسم إلى قولية وفعلية وتقريرية؛ فإن من السنن القولية والفعلية ما يؤكد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر من الصيام في شهر شعبان. ومن المعروف أن مناخ الصيام يرتفق معه الإكثار من القيام والبر والطاعات والقربات.
وإذا كان المسلم مطالبا بأن يتحلى بالتزام سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فإن مما ينبغي للمسلم أن يكثر من الصيام ومن الطاعات والقربات والنوافل في شهر شعبان؛ وأن يتجرد من القيم السلبية. ويتجافى عما يخضعه لوسوسة الشيطان وصراع النفس الأمارة بالسوء؛ حتى يكون في رمضان عبدا ربانيا يسارع في الخيرات.(/1)
شعر الرقباء
شعر : أحمد مطر
فكرت بأن أكتب شعراً
لا يهدر وقت الرقباء
لا يتعب قلب الخلفاء
لا تخشى من أن تنشره
كل وكالات الأنباء
ويكون بلا أدنى خوف
في حوزة كل القراء
هيأت لذلك أقلامي
ووضعت الأوراق أمامي
وحشدت جميع الآراء
ثم.. بكل رباطة جأش
أودعت الصفحة إمضائي
وتركت الصفحة بيضاء!
راجعت النص بإمعان
فبدت لي عدة أخطاء
قمت بحك بياض الصفحة..
واستغنيت عن الإمضاء!(/1)
شعراؤنا الأحبة.. والبكاء على الأطلال أو التخدير بالنصر
د مهدي قاضي
أولاً تحية إجلال وتقدير أقولها لكل الشعراء الأفاضل في عصرنا(المشهور منهم وغير المشهور) الذين أبكوا عيوننا وصوروا لنا مأساة ومآسي أمتنا أبلغ تصوير , وجسدوا لنا بروائعهم آلامنا أروع تجسيد. فأدامهم الله لنا ونفع أمتنا الجريحة المكلومة بهم. ولكن ......
1) ليسمح لي هؤلاء الأحبة الأجلاء بأن أقول بأني لاحظت ملاحظه ويبدو أنها أصبحت ظاهرة وهي أن الكثير من الشعر المتحدث عن مآسينا الأخيرة أصبح أشبه ما يكون بما يعبر عنه بـ "البكاء على الأطلال".
وسواء كان البكاء على أطلال المذابح أو على أطلال الواقع المحبط الذي تعيشه أمتنا في شتى صوره.
نعم شعرائنا الأجلاء الأحبة لقد ألهبتم مشاعر الأمة وأثرتم فيها تأثيراً عظيما إيجابياً لا ننكره ولكن نريد منكم وأنتم تؤثرون فينا عن آلامنا نريد منكم أن تكلمونا عن الحل ودورنا وواجباتنا.....
خاصة الحل الحقيقي والواجب الأساس الذي أصبح ملحاً جدا أن تتحرك له الأمة وبسرعة ألا وهو واجب العودة الى الله والإلتزام بدينه كاملاً وعيش الإسلام حقيقة لا خيالاً والذي به ومنه ستنطلق الأمة للجهاد الهادر الذي سننتصر به وقتئذ بإذن الله عندما نكون حقاً قد نصرناه سبحانه باتباع أوامره وتحكيم شرعه فنكون حققنا شرط النصر فيتحقق لنا النصر (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) الآية.
نعم نريدكم أن تكلمونا عن هذا الجانب بشكل أكبر وأوضح.....نريد عندما تلهبوا مشاعرنا بوصفكم مآسينا أن تلهبوها أيضا للعودة والإصلاح وتغيير المسار وخاصة إشعار الفرد المسلم- الذي أصبح محط الأمل- بدوره هو نفسه في العودة والتغيير (وحبذا ألا تنسوا) دوره في الدعوة الى ذلك وإصلاح أمته (عودة و دعوة).
نريدكم أن تذكرونا بشكل أكبر وبشكل مفصل وأدق عن مأساتنا الكبرى التي وبلا شك نتج عنه إستمرار عجز الأمة عن إيقاف مآسيها الأخرى. نعم مأساتنا الكبرى هو بعد الأمة عن حقيقة دينها والإلتزام بأوامره وتطبيقه التطبيق الحقيقي الكامل.
2) أحبتنا لا ترموا بكل قضية مأساتنا إلى جزء واحد منها وهو غياب الجهاد , وعلى الرغم من أهميته الكبرى وحاجتنا الماسة إليه إلا أنه جزء فقط من مأساتنا.
وأيضاً هذا الجزء المفقود كيف يتحقق ....أيحقق وأمتنا خدرت نفسها وخدرت بالمعاصي التي لا شك أنها تبعدنا عن الجهاد وعن التحرك له , بل وتعوقنا عن تحقيق النصر فيه لو إتجهنا له ونحن بنفس حالنا من الغفلة ومجاهرة الجبار بالمعاصي وبما يغضبه.
بل والله إنه قد يحدث من قضية إرجاع سبب مأساتنا إلى فقط عدم وجود الجهاد تخدير للبعض عن واجباته التي يجب أن يقوم بها لكي تعز الأمة وتعود الى طريق الجهاد الذي تنصر فيه, فهو مستمر والمجتمعات تستمر (على الرغم من تحرقهم على الواقع) في الغفلة التي تسوق الأمة بعيدا عن طريق الجهاد وطريق النصر فيه, ويعتذر عن التغيير للصلاح عندما يخبر به وأنه الطريق لإستعادة المجد والعزة لأنه إختزل كل مشكلة الأمة في موضوع غياب الجهاد ونسي أن أعظم ما يعوقه ويعوق الأمة عن الجهاد الصادق الذي تنصر فيه هو توبتها وبعدها عن الغفلة ونصرها لله كي ينصرها سبحانه.
نعم لقد أصبح غياب الجهاد للبعض شماعة يعلق عليها تقصيره في واقع أمته مع أن تقصيره الفردي وغيره في صدق التمسك بالدين هو أحد أهم أسباب تأخر حصول الجهاد الصادق وتحققه في مجتمعات المسلمين.
** أيضا أحياناً تختزل مشكلة الأمة وأمراضها في قضية عدم وجود مثل صلاح الدين ولا ننكر في ان الأمة في أشد الحاجة لمثله.... ولكن كيف يأتي لنا مثل صلاح .... إن صلاح الأمة وصدقها مع الله هو الأساس الذي يخرج لنا مثل صلاح الدين, وصلاح الدين الأيوبي نفسه كان أحد ثمار المنهج الإصلاحي الذي سبقه وعاصره ,وزاده هو وآل زنكي من قبله قوة وتأصلا في مجتمعاتهم آنذاك.
ونفس المشكلة تتكرر فتستمر الأمة في غفلتها وأمراضها وتلقي بمسؤولياتها المقصرة فيها على شماعة عدم وجود مثل صلاح الدين وما درى الفرد المسلم والمجتمعات الإسلامية أنها بتقصيرها هي السبب في عدم وجود أمثال صلاح الدين.
** وليس المقصود هو عدم الحديث عن الجهاد وصلاح الدين بل نحتاج جداً لذكرهما , بل ذكرهما والتذكير بهما يحفز الهمم وقد يوقظ بعض الغافلين ويدفعهم للتغيير ولكن.....
لنذكر بالجهاد مع التذكير بالطريقة العملية لتحقيقه وتحقيق النصر فيه,
ولنذكر بأبطالنا مثل صلاح ولكن ليكن كوسيلة لتحفيز الأمة للعودة إلى الدين والنخوة له والجهاد الصادق في سبيله,وليكن حافزا لنا لنكون على مثل ما كان عليه صلاح الدين من صلاح وتقوى سبقت بطولته وإنجازاته.(/1)
وذلك حتى يكون ذكره حافزا لنا في معرفة واجباتنا ومسؤوليتنا في الإصلاح لا أن يكون ذكره وذكر عدم وجود أمثاله - كما ذكر سابقاً- شماعة!!!! يستغلها الشيطان لكي تلقي الأمة عليها أخطائها بينما هي سادرة في غفلتها ولهوها وذنوبها والتي هي أساس مأساتها وكل التخبط والتقرق والضياع والهوان الذي تعيشه.
3) أحبتنا وأجلاءنا لا شك أن التذكير بالنصر له إيجابياته ويمنح الأمل وسط هذا الواقع المحبط الذي نعيشه ولكن......
عندما نذكر ونحمس بالنصر بدون التوضيح الكافي بطريقه... نكون كمن يطمئن من كان نائماً غافلاً مريضاً والعدو يقطع جزء من جسده ويتجه للإجهاز عليه ونحن نطمئنه بأنه سيتغلب عن هذا العدو بينما هو نائم غافل مما سيمكن العدو منه بشكل أكبر لأنه اطمئن لإمكانية إنتصاره على هذا العدو على الرغم من غفلته ونومه , أو كمن يطمئن الطالب الكسول بأنه سينجح في الإمتحان بينما هو مستمر في كسله. لذا إسمحوا لي أن أقول أنني شعرت في العديد من القصائد( بل وحتى في بعض المقالات) عن مآسينا الأخيرة بأن مثل هذا يحدث.
لا أقول لا نتفائل بالنصر, ولكن أن نطمئن أمتنا به بينما هي مستمرة في غفلتها الشديدة وبدون دلالتها بوضوح على طريق النصر وطريق تحقيقه نكون قد فعلنا مثل ما ذكر سابقاً.
أحبتنا إن أمتنا تحتاج إلى التفاؤل ولكنها....
تحتاج أكثر ما تحتاج إلى من يهزها بقوة لتستيقظ من نومها العميق وبعدها الشديد,
تحتاج أكثر من التفاؤل إلى من يحذرها من حدوث مآسيٍ أخرى ويحذرها من حدوث عقاب من الجبار سبحانه لها فهي....
لم تفق وترجع إلى الله وهي في أشد مآسيها وذلها وهوانها,
لم تعد وتتوب وهي ترى المسلمين يذبحون ذبح النعاج بما فيهم أطفالهم الأبرياء,
لم تعد وهي ترى الآلاف !!!! من أخواتهن يغتصبن!!!! .
لم تعد وتتوب وهي ترى الأعداء يتربصون بها من كل جانب!!
لم تعد وتتوب وهي ترى العالم يعيش في قمم من الضياع والتعاسة والكفر والضلال وهي المسؤولة عن تبليغه طريق النجاة ....أولاً بتمثلها هي نفسها للإسلام حقيقة وصدقاً(فهو الأهم لنشر الدين) وثانياً بتبليغه الإسلام بكل عزم وهمة.
إن مثل هذه الأمة التي لم تفق وتعود وهي ترى كل هذه البلايا....
تحتاج أكثر ما تحتاج إلى من يخوفها من وقوع العقاب عليها وحصول مثل ما حصل لإخوانهم عليهم.
وإن أردنا أن نخفف بعض إحباطاتها فلنذكرها بقوة ووضوح ودقة بالطريق والوسيلة والطريقة التي بحصولها والبدء بتحقيقها نتفاءل التفاؤل الحقيقي الذي يكون تفاؤلا مفيداًً لا أماني قد تضر أكثر مما تفيد.
4) ولنا طلب آخر أحبابنا عندما تُذكِّرون بأن الحل لمآسينا يكون بالعودة إلى إسلامنا ؛ وهو أن توضحوا بقدر إستطاعتكم دور الفرد في هذا التغيير وهذه العودة ومسؤوليته هو في تحقيقها. والأثر العملي لمثل هذا الخطاب الموجه للفرد أكبر وأفضل بإذن الله.
حتى لا يحدث من أن ينشد البعض ويتغنى بأن عزنا في الدين وفي الإسلام وهو نفسه بعيد عن تحقيق حقيقة الدين والصدق فيه.
ونتمنى بقدر الإمكان أن يلمس شعركم التذكير ببعض المنكرات التي انتشرت وفشت في الأمة . وهذا أيضا يضاعف الأثر الإيجابي لشعركم المبارك ويضاعف الفوائد العملية المجنية منه.
فما أقيم أن تحوي القصيدة ِذكر أن الأمة بعدت عن تحكيم شرع الله, ووقعت في أخطاء عقدية, وبعدت عن إحترام أوامره في إعلامها , وتساهلت بالنظر الى الحرام في الشاشات وغيرها, ووقعت في أخطاء سلوكية, ولم تصدق في همتها لرفعة شأن أمتها في شتى المجالات, ورضيت بالحديث وتركت العمل للإصلاح والدعوة والتغيير وووووووو.
إننا نطمع في عطاآت عملية أكبر من شعركم الرصين المؤثر المبارك.
وكما أتحفتمونا وأتحفتم الأمة بشعركم الذي جسد آلام الأمة بأقوى تجسيد وأشعرنا وأبكانا, فنريد وننتظر بتوق كبير شعركم القوي الذي أيضاً يجسد لنا الحل الحقيقي وطريقه ووسائله فأنتم بما وهبكم الله من أقوى من يؤثر في الجموع ويدل على الطريق بإذن الله..... و (إن من البيان لسحراً).
** أخيراً أدعوكم أحبتنا وأجلاءنا أن تكرمونا بقراءة المقالين القادمين والتي سأكتب روابطها, وأقتطع أجزاءً منها أكتبها بعد الروابط.
أ - مقال (أمة الإسلام : فلنعد قبل أن تأتينا الطامات وتحل علينا العقوبات!! ..وليكن شعارنا عودة ودعوة ) :
فلنعد قبل أن تأتينا الطامات وتحل علينا العقوبات!!
- ومن هنا أبعث نداء حارا أرسله إلى كل مسلم في أرجاء الأرض خاصة الدعاة والمفكرين والكتاب والشعراء بأن يركزوا على تبيين طريق النصر لأمتنا بخطابات قوية مؤثرة, دقيقة مفصلة, تصف الداء والدواء, علَّ أمتنا تصحو من غفلتها وتنتبه للداء الأساسي الذي أصابها ونتجت عنه كل الأعراض والأمراض والبلايا الأخرى , وعلَّها تلتفت لمسؤولياتها وتبدأ العمل.
وتبيين كيد الأعداء مهم , والحديث عن آلامنا مهم, ولكن الأهم هو إيضاح طريق النجاة والخلاص والنصر ,.... والسعي لتحقيقه.(/2)
ب - مقال (كلمة للدعاة والمصلحين ( الخطاب الدعوي و مذابح المسلمين) :
كلمة للدعاة والمصلحين ( الخطاب الدعوي ومذابح المسلمين )
- أيضاً وعلى الرغم من سرور قلوبنا بما نقرؤه ونسمعه من العديد من الصادقين من تألم على الواقع والجراح إلا أننا من كثرة الجراح, وفي غياب التذكير بالحل الحقيقي بوضوح, أصبحنا نمل أحيانا من كثرة البكاء والتباكي على واقع الأمة المتكرر,
فهل الهدف هو البكاء للبكاء؟
أو هل الهدف هو البكاء والتألم فقط لجمع المال لهم ؟والذي لاشك في أهميته إلا أنه حل جزئي ووقتي خاصة إذا لم يربط بالحل الحقيقي .
فالمفترض أن يكون الهدف الأكبر من البكاء والتألم هو جعل ذلك شعلة للأمة للانطلاقة نحو التغيير في واقعها والعودة إلى الله والدعوة إليه التي بها تنتصر الأمة وتحل كل مشاكلها .
- - يتكلم الكثير من الخطباء والشعراء والكتاب وغيرهم عند تألمهم على المحن عن الجهاد وعزة الأمة ووحدتها ونخوتها, ولاشك أن هذه أسس هامة جداً ونحن بأمس الحاجة إليها وبها بإذن الله يتحقق النصر ولكن......
كيف السبيل إليها؟
وهل وضِّح للناس كيف نصل لطريق الجهاد؟ وكيف النصر فيه.
وكيف تحدث العزة والوحدة؟
هل نريد من المسلمين أن يثبوا فجأة للجهاد رغم كل العوائق وأهمها الذنوب والمعاصي؟ , ونتمنى أن يحدث ذلك ولكن المخدر بشكل عام عادة لا يقوم فضلا من أن يثب وثوباً حقيقياً.
ثم لو حصل الجهاد من أمتنا بدون تركها المعاصي ومجاهرة الجبار بها فلن يحصل النصر الحقيقي التام.
- حبذا أيضا لو كان في خطابنا الدعوي- نثرا كان أو شعرا أو خطابة- تبيين وتذكير ببعض المنكرات التي انتشرت في الامه. وهذا افضل من العموميات في الكلام عن العودة والذنوب لكي يتضح للفرد المسلم نقاط خلله وتقصيره ,ومن ثم يكون خطابنا أقوى في النتيجة العملية الناتجة منه بإذن الله.(/3)
شرح أركان الإسلام ...
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .. أما بعد:
سأنقل لكم شرح فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله لكتاب الثلاثة الأصول لأركان الأسلام.....
ومن المعروف بأن أركان الإسلام خمسة: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله{1} وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام.
والدليل على ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: : بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوة رمضان، وحج بيت الله الحرام .
ودليل الشهادة قوله تعالى: " شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ{2} " [سورة آل عمران، الآية:18].
معناها: لا معبود بحق إلا الله، (( لا إله )) نافياً جميع ما يعبد من دون (( إلا الله )) مثبتا العبادة لله وحده لا شريك له في عبادته، كما أنه لا شريك له في ملكه {3} وتفسيرها الذي يوضحها، قوله تعالى: "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ {4} لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء {5} مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلا الَّذِي فَطَرَنِي {6} فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ {7} * وَجَعَلَهَا {8} كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ {9} لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ " [سورة الزخرف، الآية: 25 و 26 و 27].
وقوله: " قُلْ {10} يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ {11} سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ {12} فَإِن تَوَلَّوْاْ {13} فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ {14} " [ سورة آل عمران، الآية: 64].
ودليل شهادة أن محمداً رسول الله قوله تعالى: " لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ{15} عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ{16}حَرِيصٌ عَلَيْكُم {17} بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ{18}" سورة التوبة، الآية:128].
ومعنى شهادة أن محمداً رسول الله: طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع {19}.
ودليل الصلاة، والزكاة {20}، وتفسير التوحيد قوله تعالى: " وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ{21} وَذَلِك {22} دِينُ الْقَيِّمَةِ {23} " سورة البينة، الآية:5].
ودليل الصيام {24}قوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {25}" [سورة البقرة، الآية: 183].
ودليل الحج {26} قوله تعالى: " وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ{27}" [سورة آل عمران، الآية:97].
(1) شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ركن واحد وإنما كانتا ركنا واحداً مع أنهما من شقين لأن العبادات تنبني على تحقيقهما معاً، فلا تقبل العبادة إلا بالإخلاص لله عز وجل وهو ما تتضمنه شهادة أن لا إله إلا الله، واتباع الرسول عليه الصلاة والسلام وما تتضمنه شهادة أن محمداً رسول الله.
(2) في الآية الكريمة شهادة الله لنفسه بأنه لا إله إلا هو، وشهادة الملائكة وشهادة أهل العلم بذلك وأنه تعالى قائم بالقسط أي العدل ثم قرر ذلك بقوله: ((لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )) وفي هذه الآية منقبة عظيمة لأهل العلم حيث أخبر أنهم شهداء معه ومع الملائكة والمراد بهم أولو العلم بشريعته ويدخل فيهم دخولاً أولياً رسله الكرام.
وهذه الشهادة أعظم شهادة لعظم الشاهد والمشهود به، فالشاهد هو الله وملائكته، وأولو العلم، والمشهود به توحيد الله في ألوهيته وتقرير ذلك ((لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )) .
(3) قوله ومعناها أي معنى لا إله إلا الله الا معبود بحق إلا الله فشهادة أن لا إله إلا الله أن يعترف الإنسان بلسانه وقلبه بأنه لا معبود حق إلا الله عز وجل لانه (( إله )) بمعنى مألوه، والتأله التعبد، وجملة (( لا إله إلا الله )) مشتملة على نفي وإثبات، أما النفي فهو (( لا إله )) وأما الإثبات فهو (( إلا الله )) و (( الله )) لفظ الجلالة بدل من خبر (( لا )) المحذوف والتقدير (( لا إله حق إلا الله )) وبتقديرنا الخبر بهذه الكلمة (( حق )) يتبين الجواب عن الإشكال التالي:(/1)
وهو كيف يقال (( لا إله إلا الله )) مع أن هناك آلهة تعبد من دون الله وقد سماها الله تعالى آلهة وسماها عابدوها آلهة، قال تبارك وتعالى: " ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ " [سورة الحج، الآية: 62] ويدل لذلك أيضا قوله تعالى: " أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى * إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى " [سورة النجم، الآيات: 19 - 23] وقوله تعالى عن يوسف عليه الصلاة والسلام: " مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ " [سورة يوسف، الآية:40] إذن فمعنى (( لا إله إلا الله )) لا معبود حق إلا الله عز وجل، فأما المعبودات سواه فإن ألوهيتها التي يزعمها عابدوها ليست حقيقية أي ألوهية باطلة.
(4) إبراهيم هو خليل الله إمام الحنفاء، وأفضل الرسل بعد محمد صلى الله عليه وسلم وأبوه آزر.
(5) (براء) صفة مشبهة من البراءة وهي أبلغ من بريء. وقوله: (( إنني برآءٌ مما تعبدون )) يوافق قول (( لا إله )).
(6) خلقني ابتداء على الفطرة وقوله: (( إلا الذي فطرني )) يوافق قوله (( إلا الله )) فهو سبحانه وتعالى لا شريك له في عبادته كما أنه لا شريك له في ملكه ودليل ذلك قوله تعالى: " : أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ " [سورة الأعراف، الآية:54] ففي هذه الآية حصر الخلق والأمر لله رب العالمين وحده فله الخلق وله الأمر الكوني والشرعي.
(7) (( سيهدين )) سيدلني على الحق ويوفقني له.
(8) (( وجعلها )) أي هذه الكلمة وهي البراءة من كل معبود سوى الله.
(9) (( في عقبه )) في ذريته.
(10) (( لعلهم يرجعون )) أي إليها من الشرك.
(11) الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم لمناظرة أهل الكتاب اليهود والنصارى.
(12) (( تعالوا إلى كلمةٍ سوآء بيننا وبينكم )) هذه الكلمة هي ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فلا نعبد إلا الله وهي معنى (( لا إله إلا الله ))، ومعنى (( سوآءٍ بيننا وبينكم )) أننا نحن وإياكم سواء فيها.
(13) أي لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله عز وجل بحيث يعظم كما يعظم الله عز وجل، ويعبد كما يعبد الله، ويجعل الحكم لغيره.
(14) (( فإن تولوا )) أعرضوا عما دعوتموهم إليه.
(15) أي فأعلنوا لهم وأشهدوهم أنكم مسلمون لله، بريئون مما هم عليه من العناد والتولي عن هذه الكلمة العظيمة (( لا إله إلا الله )).
(16) قوله (( مِّنْ أَنفُسِكُمْ )) أي من جنسكم بل هو من بينكم أيضاً كما قال تعالى: " هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ " [سورة الجمعة، الآية:2].
(17) أي يشق عليه ما يشق عليكم.
(18) أي على منفعتكم ودفع الضر عنكم.
(19) أي ذو رأفة ورحمة بالمؤمنين، وخص المؤمنين بذلك لأنه صلى الله عليه وسلم مأمور بجهاد الكفار والمنافقين والغلظه عليهم، وهذه الأوصاف لرسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على أنه رسول الله حقاً كما دل قوله تعالى: " مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ " [سورة الفتح، الآية: 29]. وقوله تعالى: " قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ " [سورة الأعراف، الآية: 158]. والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً تدل على أن محمداً رسول الله حقاً.
(20) معنى شهادة " أن محمداً رسول الله " هو الأقرار باللسان والإيمان بالقلب بأن محمد بن عبد الله القرشي الهاشمي رسول الله - عز وجل - إلى جميع الخلق من الجن والإنس كما قال تعالى: " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ " [سورة الذاريات، الآية: 56] ولا عبادة لله تعالى إلا عن طريق الوحي الذي جاء به محمدً صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: " تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً " [سورة الفرقان، الآية:1].(/2)
ومقتضى هذه الشهادة أن تصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبر، وأن تمتثل أمره فيما أمر، وأن تجتنب ما عنه نهى وزجر، وأن لا تعبد الله إلا بما شرع، ومقتضى هذه الشهادة أيضاً أن لا تعتقد أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حقاً في الربوبية، وتصريف الكون، أو حقاً في العبادة، بل هو صلى الله عليه وسلم عبد لا يعبد، ورسول لا يكذب، ولا يملك لنفسه ولا لغيره شيئاً من النفع أو الضر إلا ما شاء الله كما قال الله تعالى: " قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ " [سورة الأنعام، الآية: 50]. فهو عبد مأمور يتبع ما أمر به، وقال الله تعالى: " قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً * قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً " [سورة الجن، الآيتين: 22،21]. وقال سبحانه: " قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ " [سورة الأعراف، الآية: 188].
وبهذا تعلم أنه لا يستحق العبادة لا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا من دونه من المخلوقين، وأن العبادة ليست إلا لله تعالى وحده. قال تعالى: "قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ " [سورة الأنعام، الآيتين: 163،162]. وأن تنزله المنزلة التي أنزله الله تعالى إياها وهو أنه عبدالله ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه.
(21) أي أن الصلاة والزكاة من الدين قوله تعالى: "وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ " [سورة البينة، الآية:5]. وهذه الآية عامة شاملة لجميع أنواع العبادة فلابد أن يكون الإنسان فيها مخلصاً لله عز وجل حنيفاً متبعاً لشريعته.
(22) هذا من باب عطف الخاص على العام، لأن إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة من العبادة ولكنه سبحانه وتعالى نص عليهما لما لهما من الأهمية فالصلاة عبادة البدن، والزكاة عبادة المال وهما قرينتان في كتاب الله عز وجل.
(23) أي عبادة الله مخلصين له الدين حنفاء، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة.
(24) أي دين الملة القيمة التي لا إعوجاج فيها لأنها دين الله عز وجل ودين الله مستقيم كما قال الله تعالى:
" هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ " [سورة الأنعام، الآية: 153].
وهذه الآية الكريمة كما تضمنت ذكر العبادة والصلاة فقد تضمنت حقيقة التوحيد وأنه الإخلاص لله عز وجل من غير ميل إلى الشرك، فمن لم يخلص لله لم يكن موحداً ومن جعل عبادته لغير الله لم يكن موحداً.
(25) أي دليل وجوب الصيام قوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ " [سورة البقرة، الآية: 183]. وفي قوله: " كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ " فوائد:
أولاً:
أهمية الصيام حيث فرضه الله عز وجل على الأمم من قبلنا وهذا يدل على محبة الله عز وجل له وأنه لازم لكل أمة.
ثانيا:
التخفيف على هذه الأمة حيث إنها لم تكلف وحدها بالصيام الذي قد يكون فيه مشقة على النفوس والأبدان.
ثالثا:
الإشارة إلى أن الله تعالى أكمل لهذه الأمة دينها حيث أكمل لها الفضائل التي سبقت لغيرها.
(26) بين الله عز وجل في هذه الآية حكمة الصيام بقوله: " لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ " أي تتقون الله بصيامكم وما يترتب عليه من خصال التقوى وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الفائدة بقوله: " من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه "
(27) أي دليل وجوب الحج قوله تعالى: " وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ "
وهذه الآية نزلت في السنة التاسعة من الهجرة وبها كانت فريضة الحج ولكن الله عز وجل قال: " مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً " ففيه دليل على أن من لم يستطع فلا حج عليه.(/3)
(28) في قوله تعالى: " وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ " دليل على أن ترك الحج ممن استطاع إليه سبيلاً يكون كفراً ولكنه كفر لا يخرج من الملة على قول جمهور العلماء لقول عبدالله بن شقيق: " كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة " .
تم بحمد الله شرح أركان الإسلام ويليه باذن الله شرح أركان الإيمان.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(/4)
شوق ودماء في البوسنة والهرسك
ألقيت هذه القصيدة في أسبوع البوسنة والهرسك في مدينة الرياض ، وفي ندوة شعْريّة أقيمت لذلك ، يوم الثلاثاء الأول من شهر رمضان المبارك لعام 1415هـ ، الموافق 31/1/1995م
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
يا لَهْفَةَ الشَّوقِ ! دَوِّي مِنْ معاقِلهِ
شَوْقاً تُرَجّعُهُ الآفَاقُ والعُصُرُ
شوقاً إِلى الحقِّ ! مِنْ أَنفاسِه عَبقتْ
دُنيا وأورقَ منه الزّهْرُ والشَّجَرُ
شوقاً يُلِحُّ ، وأَكبادٌ تَموج به
وساحَةٌ لم تَزَلْ تَهْفُو وتَسْتَعِرُ
سَاحٌ تمدُّ مَيادينَ الجِهادِ بِهِ
تَوَاصَلتْ وثباتُ الحقِّ والزُّمَرُ
تكادُ تَخْتَرقُ الأزْمانَ ماضِيَةً
يَمُوجُ مِنْ شَوقِها آمَالُها الغُرَرُ
* * *
* * *
تَلَفَّتَتْ كلُّ دَارٍ وهي ذَاهِلةٌ
إِليكِ يَسْألُ مِنها الوَجْدُ و الحذَرُ
لله درُّكِ مَنْ أَنتِ التي انتفضَتْ
رُبُوعُها وَجَرتْ في ساحِها العِبَرُ
تهيجُ بالحقِّ والتوحِيدِ غضْبَتُها
تُتْلَى بِساحَاتِها الآياتُ والسُّوَرُ
هذي الرَّوابي التي كانَتْ مُنَضَّرَةً
وكلُّ ما فوقَها زاهٍ بها خَضِرُ
ما بالُها اليَومَ قَدْ أَضْحَتْ منوَّرة
بالوَردِ فَاحْمرَّ مِنهُ العُشْبُ والزّهَرُ
أَنا " سَراييفُ " ! لا تَعْجَبْ ! هُنا قِممُ
عُلاً يَرِفُّ وَمَجْدٌ ليسَ يَنْدَثِرُ
أَنا " بِهَاتْشُ " و " مُسْتَارٌ " وغَيرُهما
من كُلِّ ناحيةٍ يأتي لَكَ الخَبرُ
هُنَا الأَشَاوِسُ !إنْ جدَّ الوغى التحمت
هذي النِّصَالُ فطارَ الوقْدُ والشَّرَرُ
وَرُجَّتِ الأَرْضُ ! جُنَّت من ملاحمها
لِلّهِ يَدْفَعُها الإِيمانُ والقَدَرُ
هذي الرُّبوع التي يبني معاقِلَها
أُولئك الصِّيدُ والسُّبَّاقُ والصّبُرُ
قد شمّروا لجِنَانِ الخُلْدِ واسْتَبَقُوا
تزاحمت غَزَماتُ الحقِّ والأُثُرُ
سَلي كما شِئتِ يا دنيا ! فَساحتنا
يُجيبُكِ اليومَ مِنْها الصَّبرُ والظفَرُ
* * *
* * *
تَدَفّق الدَّمُ فوَّاراً بها فَزَهَتْ
وأينَع الزّرْعُ في الساحَاتِ والثمَرُ
فهذه الأرْضُ كم روَّيْتُها فَرَبَتْ
وأينَع الزّرْعُ في الساحَاتِ والثمَرُ
وفي سمائيَ ، لو أبْصَرْت ، من دَمِنا
لآلئٌ زيّنَتْها : النّجمُ والقَمَرُ
وكَلُّ دمْعَةِ ثكلى أصبَحَتْ شُعَلاً
تَشُقُّ مِنْ ظلمة الدنيا وتستعِرُ
كَأنّ تلك مصابيحُ الهدى اْئتَلقَتْ
نوراً يظلُّ مَعَ الأيّام ينتَشِرُ
وكلُّ صَرْخةِ طفلٍ ! والمدى انتهبتْ
أَشلاءَه فَرَمَاهَا المْجرِمُ القذرُ
رَمَى ابْتِسَامَتَهُ والموتُ ينزِعُها
ولهفَةُ الشَّوقِ مِنْ عَينَيْه تنحَسِرُ
وأُمُّه ، ويداها حَوْلَه ، سَقطَتْ
دَماً وفَوَّحَ مِنْهُ نشْرُهُ العَطِرُ
وفاضَتِ الرُّوحُ ! لا دُنيا تُرَجِّعُها
ولا الحَنينُ ولا الأشْواقُ والذِّكَرُ
وغابَ عن وجْهِهِ دُنْيا طُفولَتِه
وأَشْرَقتْ مِنهُ من أَحْلامه الصُّوَرُ
هُناك في السَّاحِ تلقاها مُجلجِلَة
كأنَما امتدَّ مِنْ ميدانِهَا العُمُرُ
* * *
* * *
لله درُّ " سراييفو " وإِخوَتِها
أنشودَةٌ والهوى زَاهٍ بَها نَضِرُ
وكُلُّ لْحنٍ غَنيٍّ مِنْ مَلاحِمِها
عَلى فَمِ الدّهْر لحنٌ مِنْكِ مبتكَرُ
لَقَدْ بَنيْتِ إِلى الإِنسان صرحَ هُدى
من الجهادِ ، فَعزَّ الصّرحُ والوزرُ (1)
فَعلِّميه طريقَ الحقِّ كمْ جَمحَتْ
به الدروبُ إِلى الأهواءِ والحُفَرُ
وكم رمَتَهُ على الأَشواك شَهْوَتُهُ
فظلَّ يَدْمَى عَليْهِ جُرْحُه الغَبِرُ
وأَيقظيه ! فكم أغْفَى على سُرُرٍ
فغيّبتْهُ على أحْلامِه السُّرُرُ
وكم تمرَّغَ في وحْلِ الهَوَان وكمْ
رمَاهُ في الذُّلِّ حُبُّ العَيْشِ والخَوَرُ
* * *
* * *
لله درُّ " سراييفو " إذا وَثبَتْ
تَوَاثَبَتْ دُوَلُ الآفاقِ والبَشَرُ
وكُلَّما خَيَّم الليْلُ البَهيم بِهَا
زَهَتْ وأشْرَقَ من جَوْلاتِها العِبَرُ
فلقِّني الصِّرْبَ مهما طال كِبرُهمُ
وعلّمي الرّوسَ أَنّ الحقَّ مُنْتَصِرُ
وَذكّري حِلْفَ أُوْرُوبَّا وَقَدْ فَزعُوا
فقدْ خَلَتْ قبلَ ذاك الآي والنّذُرُ
وعلّمي دار واشنطُنْ ! فكم نَكَثوا
أَمْراً وكم نقضُوا عَهْداً وكم غَدَروا
والمجرِمُونَ عَتَوا في الأرض واقْتَحموا
كُلَّ المسالِك لم يُبْقُوا ولم يَذَروا
وغرَّهُمْ مِنْ بَلاءِ الله أنّهمُ
حَشْدُ فأَعْمى القلوبَ الكِبْرُ والبَطَرُ
فعلّمِي عُصَبةَ الإجرامِ كُلَّهمُ
أَنَّ اللياليَ قد دارَتْ بها السِّيَرُ
وأَشْرَقَ الفجرُ والإسلام تحملُه
هذي الصُّدورُ وهذا العزمً والقَدَرُ
وأَنّهُ لم تَزَلْ في الأرضِ طائفةٌ
بالله ظاهرةٌ لله تَنَتصِرُ
* * *
* * *
تَلفَّتي يا " سراييفو " إِلى قمَمٍ
يَمُورُ فوقَ ذُراها العاصِفُ الخَطِرُ
تَلفَّتي لذرا " الشيشان " إِن بَها
دَماً تأَلق منهُ الفَجرُ والسَّحَرُ
ورَجِّعِي مِنْ ذُرا " كَشمير " صَرْختَها
دوّتْ فأَجْفَلَ من هَوْلٍ بها البَصَرُ
ومن ربى المسجد الأَقصى وقد خفتتْ
أَنوارُه ُ وعلاه الغيظ والكَدَرُ
وكُلُّ دَارٍ مِنْ الإِسْلامِ هَائِجَةٍ
عَدَا عَلَيْها عَدوٌّ ظالمٌ أَشِرُ(/1)
فأمسِكُوا بيدٍ عَهداً يقودكمُ
نُورٌ مِنَ الله في الآفَاق مُنتشِرُ
وأيقِظُوا أُمّةً أغْفَتْ وما عَلمِتْ
أَنَّ العِدَى بَصرِيح الكفر قَدْ جَهَرُوا
وأنّهم نَزَلُوا في كُلِّ نَاحِيَةٍ
شَرّاً يظلُّ مع الأيّام يَنْفَجرُ
غَفَتْ كأنّ الدُّجَى مَازَال مُنْعَقِداً
جَرَى مَعَ الدَّم في أَوصَالِها الخَدَرُ
هُبِّي ! فَتِلكَ الميادينُ الحياةُ بَها
تُجلى وتُغسَلُ في أَنْوارِهَا الفِطرُ
هُبّي وخُوضي غِمارَ الموتِ واقتحمي
هذي الميادين ! جَدَّ الأمرُ والخطرُ
وزلزلي قِمَمَ الكُفَّارِ واقْتَلِعي
جُذُورَ من فسَقوا في الأرض أَو كفروا
أولئك المعتَدُون المجْرِمُون هُمُ
جُنّتْ مطامِعُهُمْ والنَّابُ والظُّفُرُ
* * *
* * *
الاثنين
29شعبان 1415هـ
30 كانون الثاني 1995م ... ... ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· ديوان عبر وعبرات .
(1) الوزَر : الملجأ .(/2)
شقي أم سعيد
عن أبي عبدالرحمن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق " إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم علقه مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك , ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ,ويؤمر بأربع كلمات : بكتب رزقه , وأجله , وعمله , وشقي أم سعيد . فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار , وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة " رواه البخاري ومسلم
*الشرح :
هذا الحديث الخامس من الأحاديث النووية وفيه بيان تطور خلق الإنسان في بطن أمه وكتابه وأجله ورزقه وغير ذلك .
فيقول عبدالله بن مسعود رضي الله عنه " حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق " الصادق في قوله المصدوق فيما أوحي إليه وإنما قد عبدالله بن مسعود هذه المقدمة , لأن هذا من أمور الغيبالتي لا تعلم إلا بوحي فقال " إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ... الخ " .
*ففي هذا الحديث من الفوائد : بيان تطور خلقة الإنسان في بطن أمه , وأنه أربعة أطوار .
الأول : طور النطفة أربعون يوما ...والثاني : طور العلقة أربعون يوما ...والثالث : طور المضغة أربعون يوما ... والرابع : الطور الأخير بعد نفخ الروح فيه فالجنين يتطور في بطنأمه إلى هذه الأطوار .
*ومن فوائد هذا الحديث : أن الجنين قبل أربعة أشهر لا يحكم بإنه إنسان حي , وبناء على ذلك لو سقط قبل تمامأربعة اشهر فإنه لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه , لأنه لم يكن إنسانا بعد .
*ومن فوائد هذا الحديث : أنه بعد أربعة أشهر تنفخفيه الروح ويثبت له حكم الإنسان الحي , فلو سقط بعد ذلك فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه كلما لو كان ذلك بعد تمام تسعة أشهر .
*ومن فوائد هذا الحديث : أن للأرحام ملكا موكلا بها لقوله : " فيبعث إليه الملك " أي الملك الموكل بالأرحام .
*ومن فوائد هذا الحديث : أن أحوال الإنسان تكتب عليه وهو في بطن أمه .. رزقه .. عمله ..أجله .. شقة أم سعيد , ومنها بيان حكمة الله عزوجل وأن كل شيء عنده بأجل مقدر وبكتاب ى يتقدم ولا يتأخر .
*ومن فوائد هذا الحديث : أن الإنسان يجب أن يكون على خوف ورهبة , لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر " إن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها "
*ومن فوائد هذا الحديث : أنه لا ينبغي لإنسان أن يقطع الرجاء فالإنسان قد يعمل بالمعاصي دهرا طويلا ثم يمن الله عليه بالهداية فيهتدي في آخر عمره .
فإن قال قائل : ما الحكمة في أن الله يخذل هذاالعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار ؟
فالجواب : إن الحكمة في ذلك هو أن هذا الذي يعمل بعمل أهل الجنة إنما يعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وإلافهو في الحقيقة ذو طوية خبيثة ونية فاسدة , فتغلب هذه النية الفاسدة حتى يختم له بسوء الخاتمة نعوذ بالله من ذلك . وعلى هذا فيكون المراد بقوله " حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع " قرب أجله لا قربه من الجنة بعمله .(/1)
شكاوى وحلول
يسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً ، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً ) ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله قولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً )
أما بعد :
فقد وردت إليّ أسئلة من بعض الإخوان في بعض الدروس والمحاضرات تتضمن أموراً مما يُعانون ومشكلات مما يواجهون من أمراض قلبية ومصاعب نفسية وعقبات واقعية .
وكانت الإجابات عن تلك الأسئلة المكتوبة والمشكلات المعروضة في سلسلة دروس بعنوان شكاوى وحلول .
وقد أعدت النظر فيها بعد إعدادها للكتابة وأقدمها اليوم إلى إخواني رجاء الدخول في حديثه صلى الله عليه وسلم : ( من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة .. والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه ) صحيح مسلم والله أسأل أن يوفقني وإخواني المسلمين لفعل الخيرات واجتناب السيئات والنجاة يوم الحسرات إنه خير مسؤول وهو كل شيء قدير .
النوم عن صلاة الفجر
أخ يشتكي ويقول : إن صلاة الفجر تفوتني في كثير من الأيام ، فلا أصليها في وقتها إلا نادراً ، والغالب ألا أستيقظ إلا بعد طلوع الشمس ، أو بعد فوات صلاة الجماعة في أحسن الأحوال ، وقد حاولت الاستيقاظ بدون جدوى ، فما حل هذه المشكلة ؟ .
الجواب : الحمد لله حمداً كثيراً وبعد : فإن حل هذه المشكلة – كغيرها – له جانبان : جانب علمي ، وجانب عملي .
أما الجانب العلمي فيأتي من ناحيتين :
الناحية الأولى : أن يعلم المسلم عظمة مكانة صلاة الفجر عند الله عز وجل ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( من صلّى الصبح في جماعة فكأنما صلّى الليل كله ) مسلم ص 454 رقم 656 ، الترمذي 221 .
وقال عليه الصلاة والسلام : ( أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً ) رواه الإمام أحمد المسند 2/424 ، وهو في صحيح الجامع 133 ، وقال : ( من صلّى الفجر فهو في ذمة الله فلا يطلبنكم الله بشيء من ذمته ) ومعنى في ذمة الله : أي في حفظه وكلاءته سبحانه ، " من كتاب النهاية 2/168" والحديث رواه الطبراني 7/267 ، وهو في صحيح الجامع رقم 6344 . وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم : ( يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ، ثم يعرج الذين باتوا فيكم ، فيسألهم وهو أعلم بهم : كيف تركتم عبادي ، فيقولون : تركناهم وهم يصلون ، وأتيناهم وهم يصلون ) رواه البخاري الفتح 2/33 .
وفي الحديث الآخر : ( أفضل الصلوات عند الله صلاة الصبح يوم الجمعة ، في جماعة ) رواه أبو نعيم في الحلية 7/207 ، وفي السلسلة الصحيحة 1566 . وفي الحديث الصحيح : ( من صلّى البردين دخل الجنة ) رواه البخاري الفتح 2/52 . والبردان الفجر والعصر .
الناحية الثانية : أن يعلم المسلم خطورة تفويت صلاة الفجر ومما يبين هذه الخطورة الحديث المتقدم :
( أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ) وفي الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : ( كنا إذا فقدنا الرجل في الفجر والعشاء أسأنا به الظن ) رواه الطبراني في المعجم الكبير 12/271 ، قال الهيثمي رجال الطبراني موثقون المجمع 2/40 . وإنما تكون إساءة الظن بذلك المتخلف عن هاتين الصلاتين لأن المحافظة عليهما معيار صدق الرجل وإيمانه ، ومعيار يقاس به إخلاصه ، ذلك أن سواهما من الصلوات قد يستطيعها المرء لمناسبتها لظروف العمل ووقت الاستيقاظ ، في حين لا يستطيع المحافظة على الفجر والعشاء مع الجماعة إلا الحازم الصادق الذي يُرجى له الخير .
ومن الأحاديث الدالة على خطورة فوات صلاة الفجر قوله صلى الله عليه وسلم : ( من صلّى الصبح فهو في ذمة الله ، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء ، فإن من يطلبه من ذمته بشيء يدركه ثم يكبه على وجهه في نار جهنم ) رواه مسلم ص 454 ، ومعنى من يطلبه من ذمته بشيء يدركه أي من يطلبه الله للمؤاخذة بما فرط في حقه والقيام بعهده يدركه الله إذ لا يفوت منه هارب ، حاشية صحيح مسلم ترتيب عبد الباقي 455 .
هاتان الناحيتان كفيلتان بإلهاب قلب المسلم غيرة ، أن تضيع منه صلاة الفجر فالأولى منهما تدفع للمسارعة في الحصول على ثواب صلاة الفجر ، والثانية هي واعظ وزاجر يمنعه من إيقاع نفسه في إثم التهاون بها .(/1)
وأما الجانب العملي في علاج هذه الشكاية فإن هناك عدة خطوات يمكن للمسلم إذا اتبعها أن يزداد اعتياداً ومواظبة على صلاة الفجر مع الجماعة ، فمن ذلك :
1-التبكير في النوم : ففي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره النوم قبل صلاة العشاء والحديث بعدها ، فلا ينبغي للمسلم أن ينام قبل صلاة العشاء والمُشاهد أن غالب الذين ينامون قبل العشاء يمضون بقية ليلتهم في خمول وكدر وحال تشبه المرضى .
ولا ينبغي كذلك أن يتحدث بعد صلاة العشاء ، وقد بين أهل العلم سبب كراهية الحديث بعدها فقالوا : لأنه يؤدي إلى السهر ، ويُخاف من غلبة النوم عن قيام الليل ، أو عن صلاة الصبح في وقتها الجائز أو المختار أو الفاضل .
والمكروه من الحديث بعد صلاة العشاء كما قال الشراح : هو ما كان في الأمور التي لا مصلحة راجحة فيها ، أما ما كان فيه مصلحة وخير فلا يكره ، كمدارسة العلم ، ومعرفة سير الصالحين وحكايتهم ، ومحادثة الضيف ، ومؤانسة الزوجة والأولاد وملاطفتهم ، ومحادثة المسافرين بحفظ متاعهم وأنفسهم ، إلى آخر ذلك من الأسباب المباحة . فما الحال إذا تفكرنا فيما يسهر من أجله كثير من الناس اليوم من المعاصي والآثام إذن فعلى المسلم أن ينام مبكراً ، ليستيقظ نشيطاً لصلاة الفجر ، وأن يحذر السهر الذي يكون سبباً في تثاقله عن صلاة الفجر مع الجماعة .
حقاً إن الناس يتفاوتن في الحاجة إلى النوم ، وفي المقدار الذي يكفيهم منه ، فلا يمكن تحديد ساعات معينة يُفرض على الناس أن يناموا فيها ، لكن على كل واحد أن يلتزم بالوقت الكافي لنوم يستيقظ بعده لصلاة الفجر نشيطاً ، فلو علم بالتجربة والعادة أنه لو نام بعد الحادية عشر ليلاً مثلاً لم يستيقظ للصلاة ، فإنه لا يجوز له شرعاً أن ينام بعد هذه الساعة .. وهكذا .
2- الحرص على الطهارة وقراءة الأذكار التي قبل النوم ، فإنها تعين على القيام لصلاة الفجر .
3- صدق النية والعزيمة عند النوم على القيام لصلاة الفجر ، أما الذي ينام وهو يتمنى ألا تدق الساعة المنبهة ، ويرجو ألا يأتي أحد لإيقاظه ، فإنه لن يستطيع بهذه النية الفاسدة أن يصلي الفجر ، ولن يفلح في الاستيقاظ لصلاة الفجر وهو على هذه الحال من فساد القلب وسوء الطوية .
4- ذكر الله تعالى عند الاستيقاظ مباشرة ، فإن بعض الناس قد يستيقظ في أول الأمر ، ثم يعاود النوم مرة أخرى ، أما إذا بارد بذكر الله أول استيقاظه انحلت عقدة من عُقد الشيطان ، وصار ذلك دافعاً له للقيام ، فإذا توضأ اكتملت العزيمة وتباعد الشيطان ، فإذا صلّى أخزى شيطانه وثقل ميزانه وأصبح طيب النفس نشيطاً .
5- لا بد من الاستعانة على القيام للصلاة بالأهل والصالحين ، والتواصي في ذلك ، وهذا داخل بلا ريب في قوله تعالى : ( وتعاونوا على البر والتقوى ) وفي قوله ( والعصر إن الإنسان لفي خسر ، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر )
فعلى المسلم : أن يوصي زوجته مثلاً بأن توقظه لصلاة الفجر ، وأن تشدد عليه في ذلك ، مهما كان متعباً أو مُرهقاً ، وعلى الأولاد أن يستعينوا بأبيهم مثلاً في الاستيقاظ ، فينبههم من نومهم للصلاة في وقتها ، ولا يقولن أب إن عندهم اختبارات ، وهم متعبون ، فلأدعهم في نومهم ، إنهم مساكين ، لا يصح أن يقول ذلك ولا أن يعتبره من رحمة الأب وشفقته ، فإن الرحمة بهم والحدَبَ عليهم هو في إيقاظهم لطاعة الله : ( وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليهم )
وكما يكون التواصي والتعاون على صلاة الفجر بين الأهل ، كذلك يجب أن يكون بين الإخوان في الله ، فيعين بعضهم بعضاً ، مثل طلبة الجامعات الذين يعيشون في سكن متقارب ومثل الجيران في الأحياء ، يطرق الجار باب جاره ليوقظه للصلاة ، ويعينه على طاعة الله .
6- أن يدعو العبد ربه أن يوفقه للاستيقاظ لأداء صلاة الفجر مع الجماعة ؛ فإن الدعاء من أكبر وأعظم أسباب النجاح والتوفيق في كل شيء .
7- استخدام وسائل التنبيه ، ومنها الساعة المنبهة ، ووضعها في موضع مناسب ، فبعض الناس يضعها قريباً من رأسه فإذا دقت أسكتها فوراً وواصل النوم ، فمثل هذا يجب عليه أن يضعها في مكان بعيد عنه قليلاً ، لكي يشعر بها فيستيقظ .
ومن المنبهات ما يكون عن طريق الهاتف ، ولا ينبغي للمسلم أن يستكثر ما يدفعه مقابل هذا التنبيه ، فإن هذه نفقة في سبيل الله ، وأن الاستيقاظ لإجابة أمر الله لا تعدله أموال الدنيا .
8- نضح الماء في وجه النائم ، كما جاء في الحديث من مدح الرجل الذي يقوم من الليل ليصلي ، ويوقظ زوجته ، فإن أبت نضح في وجهها الماء ، ومدح المرأة التي تقوم من الليل وتوقظ زوجها ، فإن أبى نضحت في وجهه الماء رواه الإمام أحمد في المسند 2/250 وهو في صحيح الجامع 3494 .(/2)
فنضح الماء من الوسائل الشرعية للإيقاظ ، وهو في الواقع منشط ، وبعض الناس قد يثور ويغضب عندما يوقظ بهذه الطريقة ، وربما يشتم ويسب ويتهدد ويتوعد ، ولهذا فلا بد أن يكون الموقظ متحلياً بالحكمة والصبر ، وأن يتذكر أن القلم مرفوع عن النائم ، فليتحمل منه الإساءة ، ولا يكن ذلك سبباً في توانيه عن إيقاظ النائمين للصلاة .
9- عدم الانفراد في النوم ، فلقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيت الرجل وحده رواه الإمام أحمد في المسند 2/91 وهو في السلسلة الصحيحة رقم 60 . ولعل من حِكم هذا النهي أنه قد يغلبه النوم فلا يكون عنده من يوقظه للصلاة .
10- عدم النوم في الأماكن البعيدة التي لا يخطر على بال الناس أن فلاناً نائماً فيها ، كمن ينام في سطح المنزل دون أن يخبر أهله أنه هناك ، وكمن ينام في غرفة نائية في المنزل أو الإسكان الجماعي فلا يعلم به أحد ليوقظه للصلاة ، بل يظن أهله وأصحابه أنه في المسجد ، وهو في الحقيقة يغّط في نومه .
فعلى من احتاج للنوم في مكان بعيد أن يخبر من حوله بمكانه ليوقظوه .
11- الهمة عند الاستيقاظ ، بحيث يهب من أول مرة ، ولا يجعل القيام على مراحل ، كما يفعل بعض الناس الذين قد يتردد الموقظ على أحدهم مرات عديدة ، وهو في كل مرة يقوم فإذا ذهب صاحبه عاد إلى الفراش ، وهذا الاستيقاظ المرحلي فاشل في الغالب ، فلا مناص من القفزة التي تحجب عن معاودة النوم .
12- ألا يضبط المنبه على وقت متقدم عن وقت الصلاة كثيراً ، إذا علم من نفسه أنه إذا قام في هذا الوقت قال لنفسه : لا يزال معي وقت طويل ، فلأرقد قليلاً ، وكل أعلم بسياسة نفسه .
13- إيقاد السراج عند الاستيقاظ ، وفي عصرنا الحاضر إضاءة المصابيح الكهربائية ، فإن لها تأثيراً في طرد النعاس بنورها .
14- عدم إطالة السهر ولو في قيام الليل ، فإن بعض الناس قد يطيل قيام الليل ، ثم ينام قبيل الفجر بلحظات ، فيعسر عليه الاستيقاظ لصلاة الفجر ، وهذا يحدث كثيراً في رمضان ، حيث يتسحرون وينامون قُبيل الفجر بقليل ، فيضيعون صلاة الفجر ، ولا ريب أن ذلك خطأ كبير ؛ فإن صلاة الفريضة مقدمة على النافلة ، فضلاً عمن يسهر الليل في غير القيام من المعاصي والآثام ، أو المباحات على أحسن الأحوال ، وقد يزين الشيطان لبعض الدعاة السهر لمناقشة أمورهم ثم ينامون قبل الفجر فيكون ما أضاعوا من الأجر أكثر بكثير مما حصلوا .
15- عدم إكثار الأكل قبل النوم فإن الأكل الكثير من أسباب النوم الثقيل ، ومن أكل كثيراً ، تعب كثيراً ، ونام كثيراً ، فخسر كثيراً ، فليحرص الإنسان على التخفيف من العشاء .
16- الحذر من الخطأ في تطبيق سنة الاضطجاع بعد راتبة الفجر ، فربما سمع بعض الناس قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا صلّى أحدكم فليضجع على يمينه ) رواه الترمذي رقم 420 وهو في صحيح الجامع 642 . وما ورد من أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا صلّى سنة الفجر يضطجع ، ثم يُؤذنه بلال للصلاة ، فيقوم للصلاة ، وربما سمعوا هذه الأحاديث ، فعمدوا إلى تطبيق هذه السنة الثابتة ، فلا يحسنون التطبيق ، بحيث يصلي أحدهم سنة الفجر ، ثم يضطجع على جنبه الأيمن ، ويغط في سبات عميق حتى تطلع الشمس ، وهذا من قلة الفقه في هذه النصوص ، فليست هذه الاضطجاعة للنوم ، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤذنه بلال للصلاة وهو مضطجع ، وكان أيضاً كما في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وابن حبان إذا عرس ( قبل ) الصبح وضع رأسه على كفه اليمنى ، وأقام ساعده رواه أحمد في المسند 5/298 وهو في صحيح الجامع رقم 4752 ، وهذه الكيفية في النوم تمنع من الاستغراق ؛ لأن رأس النائم في هذه الحالة يكون مرفوعاً على كفه وساعده ، فإذا غفا سقط رأسه ، فاستيقظ ، زد على ذلك أن بلالاً كان موكلاً بإيقاظه صلى الله عليه وسلم لصلاة الفجر .
17- جعل قيام الليل في آخره قبيل الفجر ، بحيث إذا فرغ من الوتر أذن للفجر ، فتكون العبادات متصلة ، وتكون صلاة الليل قد وقعت في الثلث الأخير - وهو زمان فاضل – فيمضي لصلاة الفجر مباشرة وهو مبكر ونشيط .
18- اتباع الهدي النبوي في كيفية الاضطجاع عند النوم ، بحيث ينام على جنبه الأيمن ، ويضع خده الأيمن على كفه اليمنى ، فإن هذه الطريقة تيسر الاستيقاظ ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم بخلاف النوم بكيفيات أخرى ، فإنها تؤثر في صعوبة القيام .
19- أن يستعين بالقيلولة في النهار ، فإنها تعينه ، وتجعل نومه في الليل معتدلاً ومتوازناً .
20- ألا ينام بعد العصر ، ولا بعد المغرب ، لأن هاتين النومتين تسببان التأخر في النوم ، من تأخر نومه تعسر استيقاظه .
21- وأخيراً فإن الإخلاص لله تعالى هو خير دافع للإنسان للاستيقاظ للصلاة ، وهو أمير الأسباب والوسائل المعينة كلها ، فإذا وجد الإخلاص الذي يلهب القلب ويوقظ الوجدان ، فهو كفيل بإذن بإيقاظ صاحبه لصلاة الصبح مع الجماعة ، ولو نام قبل الفجر بدقائق معدوادات .(/3)
ولقد حمل الإخلاص والصدق بعض الحريصين على الطاعة على استعمال وسائل عجيبة تعينهم على الاستيقاظ تدل على اجتهادهم وحرصهم وتفانيهم ، فمن ذلك أن أحدهم كان يضع عنده عدة ساعات منبهة إذا نام ، ويجعل بين موعد تنبيه كل واحدة والأخرى بضع دقائق ، حتى إذا أطفأ التي دقت أولاً دقت الثانية بعدها بقليل وهكذا ، وكان أحدهم يربط في يده عند النوم خيطاً ، ويدليه من نافذة غرفته ، فإذا مر أحد أصحابه ذاهباً إلى المسجد جذب هذا الخيط فيستيقظ لصلاة الفجر .
فانظر يا رعاك الله ماذا يفعل الإخلاص والتصميم ، ولكن الحقيقة المرة هي أن ضعف الإيمان ، وقلة الإخلاص تكاد تكون ظاهرة متفشية في الناس اليوم ، والشاهد على ذلك ما نراه من قلة المصلين ونقص الصفوف في صلاة الفجر ، بالرغم من كثرة الساكنين حول المسجد في كثير من الأحياء .
على أننا لا ننكر أن هناك أفراداً يكون ثقل النوم عندهم أمراً مرضياً قد يُعذرون به ، لأنه أمر خارج عن الإرادة فمثل هذا عليه أن يلجأ إلى الله بالتضرع ، ويستفيد ما استطاع من الوسائل الممكنة ، وأن يراجع الطبيب لمحاولة إيجاد علاج .
وأخيراً هذا تنبيه على أمر مشتهر بين الناس وهو زعمهم بأن هناك حديثاً مفاده أنّ من أراد الاستيقاظ لصلاة الفجر فعليه أن يقرأ قبل النوم آخر سورة الكهف ، وينوي بقلبه القيام في ساعة معينة ، فيقوم ، ويزعمون أن ذلك مجرب ، ونقول لهم : إنه لم يثبت بذلك حديث ، فلا عبرة به ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم .
كثرة الضحك
وهذه شكوى من ظاهرة كثرة الضحك بين الناس ، وبخاصة الشباب يقول السائل :
مجالسنا التي نجلس فيها مع الإخوان والزملاء يكثر فيها الضحك كثرة مفرطة ، وهذه الظاهرة تتفشى وتنتشر فما هو العلاج ؟ .
الجواب : إن علاج هذه الشكوى يأتي من جانبين : جانب علمي ، وجانب عملي .
أما الجانب العلمي : فيضمن أمرين :
أولها : أن نعلم كيف كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الضحك ، فهو خير قدوة في ذلك وفي كل شيء .
فقد ورد في الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم ان لا يضحك إلا تبسماً رواه أحمد في المسند 5/97 وهو في صحيح الجامع 4861 . في الحديث الآخر أنه صلى الله عليه وسلم كان طويل الصمت قليل الضحك . رواه أحمد في المسند 5/86 وهو في صحيح الجامع 4822 . وقالت عائشة رضي الله عنها : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قط مستجمعاً ضاحكاً ، حتى أرى منه لهواته وإنما كان يتبسم . رواه أبو داود رقم 5098
ففي الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تكثروا الضحك ، فإن كثرة الضحك تميت القلب ) رواه ابن ماجه رقم 4193 وهو في السلسلة الصحيحة رقم 506 . وفي رواية : ( فإن كثرة الضحك فساد القلب ) وإن من التفريط بعد ذلك أن يركب المسلم ثبجاً يعلم أن فيه العطب .
هذا هو الجانب العملي في الحل بإيجاز .
وقبل الدخول في الجانب العملي لا بد أن نعلم أن الضحك ليس أمراً محرماً أو أن المسلم لا بد أن يكون عبوساً خشناً مكفهر الوجه ؛ فإن الضحك أمر جبلي طبعي : ( وأنه هو أضحك وأبكى ) ولكن المشكلة التي نحن بصدد علاجها والتحذير من آثارها .
- هي أن تكون المجالس مدوية بالقهقهات المتجاوبة .
- هي أن يُفسد المؤمن قلبه بكثرة الضحك وفغر الفم ، بدلاً من أن يكون جاداً سليماً .
- هي أن يجعل الداعية كثرة إضحاك الناس وسيلة كما يزعم لكسب الناس ، من أجل التأثير عليهم وإفادتهم ، وما علم أنهم يلتفون حوله ليضحكوا فقط ، وما أقل استفادتهم منه .
إن المشكلة هي أن يجعل بعض الناس كثرة الضحك متنفساً له من همومه وكروبه ، مستبدلاً الذي هو أدنى بالذي هو خير ، أذكر أن شاباً كان يعاني يوماً من هموم تخلفه في دراسته ، ومشكلاته مع أهله ، وغير ذلك ، فخرج من بيته ، فصادفه في الطريق أخ له ، فقال : أين أنت ذاهب ؟ فقال : أنا مهموم مغموم ، وسأذهب إلى فلان الفلاني ، لكي يضحكني وينسيني أحزاني .. هكذا قال ، وما شعر أن إضحاك هذا الشخص له إنما هو بمثابة المخدر ، يُنسي المرء أتراحه ما دام تحت تأثيره ، فإذا انتهى عادت إليه كما كانت .
وكان خليقاً إلا يغفل عن العلاج النبوي للهم والحزن والكرب ، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلّى صحيح الجامع 4703 وكان إذا كربه أمر قال : ( يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث ) صحيح الجامع 4777 وفي الحديث الصحيح الآخر : كان إذا نزل به هم أو غم قال : ( يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث ، الله ربي ولا أشرك به شيئاً ) صحيح الجامع 4791 .
وفي دعاء الهم والغم المشهور : ( اللهم إني عبدك ، وأنا عبدك ، وابن أمتك .. الخ الحديث )
وهذه وطاءة لابد من الإلمام بها قبل الخوض في الجانب العملي في مداواة ظاهرة الإفراط في الضحك ، ذلك الجانب الذي يمكن تحقيقه بوسائل منه :(/4)
1- تذكر الموت ، والقبر ، واليوم الآخر ، وما فيه من الحساب ، الصراط والنار ، وسائر الأهوال ، وتربية هذا التذكر بتدبر النصوص التي تصور هذه المشاهد ، وبالقراءة في شرح تفاصيلها ، وبمجالسة أهل الزهد والقلوب اللينة .
2- التأمل في واقع المسلمين ، وما يعانون منه من ابتعاد عن الدين ، وتخلف في جميع المجالات ، وما يتعرضون له من قهر وإيذاء وإبادة شرسة ، وما يحاك حولهم من تآمر عالمي ، فإذا تأمل المسلم هذه الأحوال تأملاً عميقاً صادقاً ، فلا بد أن يكون له أثر في ضحكه وبكائه .
3- أن يستشعر ثقل الأمانة الملقاة على عاتقه تجاه أمته ، فإن أمته تتطلب جهوداً ضخمة لإنقاذهما من أوهاق التردّي والسقوط ، فإذا جعل هذا الأمر همه فإنه سيمضي شُعلة من النشاط لإصلاح أهله وأصدقائه وأحبابه ومجتمعه بقدر المستطاع ، ولن يجد وقتا للتهريج المقيت ، والضحك الكثير والاهتمامات التافهة .
4- تجنب مخالطة الشخصيات الهزلية المعروفة بكثرة الإضحاك والتهريج ، والابتعاد عن المجالس التي تكون فيها ، مع محاولة النصح لهم ولمجالسيهم .
ومرت قبل قليل إشارة إلى أن بعض الدعاة قد يجعل الإضحاك وسيلة لكسب الناس ، حتى قال بعض العامة أين الشيخ الذي يضحك ؟ نريد الشيخ الذي يضحك وهذه دركة نربأ بالأمة أن تهوي فيها ، فإن دين الله عظيم متين : ( إنه لقول فصل وما هو بالهزل ) ( خذوا ما آتيناكم بقوة ) وفي الحديث : ( لو تعلمون ما أعلم ؟ لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله ) لو أننا أدركنا حق الإدراك ماذا يراد منا ، وماذا أمامنا ، لما اكتحلت أجفاننا بنوم هنيء .
5- أن يجتهد في رد الضحك ما استطاع عن نفسه وعن غيره فقد يجتمع المجلس مع القوم تعودوا أن يكون غالب وقتهم ضحكاً وقهقهة ، فعليه أولاً أن يكظم الضحك عن نفسه كما يرد التثاؤب ، وثانياً أن يرشد الحاضرين ويُعينهم على أنفسهم ، وهذا يحتاج إلى رجل جاد حازم لبق ، والناس ولله الحمد فيهم خير كثير ، واستعداداً للاستجابة لداعي الإصلاح والتقويم ، وهذا الإرشاد يمكن أن تُسلك إليه سبل مختلفة : كأن تذكر لهم مساوئ الضحك والإضحاك ، مثل أنه يقود إلى الكذب والاختلاق ، حيث يضطر "المهرج" إذا لم يجد قصة أو حادثة حقيقة إلى صناعة قصص من نسج الخيال ، ليجعلها مادة للإضحاك ، وهذا الشخص قد توعده النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك القوم .. ويل له ، ويل له ) صحيح الجامع 7136 . كما أن من مساوئه أنه يؤدي إلى اهتزاز الشخصية وسقوطها من الأعين ، فإن مُضحك القوم وإن ظهر له أنه ذو مكانة بينهم ليس إلا محتقراً لديهم ، ولا يقدرونه ولا يوقرونه ، وقل مثل ذلك في الذي لا تراه إلا مغرقاً من الضحك .
6- تغيير الموضوع الذي قاد إلى الضحك إلى موضوع آخر مفيد ، فإذا رأيت أن الحاضرين قد تجاوزوا حدّ الاعتدال في الضحك ، وأسلموا قيادهم لدواعيه ، فتسلل إلى قلوبهم بالأسلوب المناسب ، لنقلهم إلى عالم الجد واستثمار الوقت ؛ بقراءة في كتاب نافع ، أو بطرح موضوع مهم للنقاش وإبداء الآراء ، أو دعوة للاتفاق على عمل إصلاحي خيري ، أو غير هذا أو ذاك من الأمور التي يحبها الله ويرضاها .
7- فإذا بلغ السيل الزبى ، وجاوز الأمر حده ، بأن أبى الجالسون إلا الإغراق في الضحك ، والمضي في طريق الغفلة ، فإن آخر العلاج الكي ، قم من المجلس وفارقه ، حماية لنفسك ، ووقاية لقلبك من الفساد ، بعد أن أديت ما عليك من واجب التوجيه والنصح ، ( ولا تزر وازرة وزر أخرى )
الوساوس الشيطانية
وهذا سائل يقول :
إنني أشكو من كثرة الوساوس المتعلقة بذات الله عز وجل ، تطوف بخاطري أفكار لا أستطيع أن أذكرها ، لأنها لا تليق بالله سبحانه ولكني أعاني من ترددها على ذهني كثيراً ، في الصلاة وخارج الصلاة ، حتى شككت في إيماني ، وارتبت هل أنا مسلم أو لا ، فما علاج هذه المصيبة ؟ .
الجواب : الحمد لله حمداً كثيراً وبعد :
فقد وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم جملة أحاديث فيها حل هذه المشكلة ، وعلاج هذه الشكوى ولله الحمد :
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( إن الشيطان يأتي أحدكم فيقول فمن خلق الله فإذا وجد أحدكم ذلك فليقل آمنت بالله ورسله فإن ذلك يذهب عنه ) صحيح الجامع 1657 . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الشيطان يأتي أحدكم فيقول : من خلق السماء ؟ فيقول : الله ، فيقول : من خلق الأرض ؟ فيقول : الله ، فيقول : من خلق الله ؟ فإذا وجد ذلك أحدكم فليقل : آمنت بالله ورسوله ) صحيح الجامع 1656 .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( من وجد من هذا الوسواس ، فليقل : آمنت بالله ورسوله ثلاثاً فإن ذلك يذهب عنه ) صحيح الجامع 6587 .
وقال عليه الصلاة والسلام : ( يأتي الشيطان أحدكم ، فيقول : من خلق كذا ؟ من خلق كذا ؟ حتى يقول : من خلق ربك ؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته ) صحيح الجامع 7993 .(/5)
وقال صلى الله عليه وسلم : ( يوشك الناس يتساءلون ، حتى يقول قائلهم : هذا الله خلق الخلق ، فمن خلق الله ؟ فإذا قالوا ذلك ؛ فقالوا : الله أحد ، الله الصمد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد ثم ليتفل عن يساره ثلاثاً ، وليستعذ من الشيطان ) صحيح الجامع 8182 .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( تفكروا في آلاء الله ، ولا تفكروا في الله ) صحيح الجامع 2975 . وقال صلى الله عليه وسلم : ( تفكروا في خلق الله ، ولا تفكروا في الله ) صحيح الجامع 2976 .
من هذه النصوص نستطيع أن نستخلص ست وسائل للتغلب على هذه الوساوس والأفكار :
1- أن يقول المرء إذا انتابته هذه الخواطر : آمنت بالله ورسوله .
2- أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ، فيقول مثلاً : ( أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، من همزه ونفخه ونفثه ) .
3- أن يتفل عن يساره ثلاثاً .
4- أن ينتهي عما هو فيه ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " ولينته " ، وهذه وسيلة مهمة ؛ فإن الاستطراد مع الشيطان في هذه الوساوس يزيد نارها اشتعالاً وضراماً ، والواجب أن يقطع المسلم هذه الخواطر بقدر المستطاع ، وأن يشغل ذهنه بالمفيد النافع .
5- أن يقرأ سورة الإخلاص ( قل هو الله أحد ) فإن فيها ذكر صفات الرحمن ، ولذلك كانت تعدل ثلث القرآن ، وقراءة هذه السورة العظيمة وتدبرها كفيل بقطع هذه الوساوس .
6- أن يتفكر الإنسان في خلق الله ، وفي نعم الله ، ولا يتفكر في ذات الله ، لأنه لن يصل بعقله القاصر إلى تصور ذات الله ، قال تعالى : ( ولا يحيطون به علماً )
السهر
وهذه شكوى من مشكلة السهر ، وعدة أسئلة تدعو إلى حل هذه المشكلة ، فإن كثيراً من الناس يضيعون أوقاتاً طويلة جداً في السهر .
والجواب : إن السهر ليس نوعاً واحداً ، وإنما ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول : السهر في طاعة الله تعالى وهو سهر محمود ، ومنه السهر في مصالح المسلمين العامة ، كالجهاد والرباط في الثغور ، ومنه السهر في إحياء الليل بالقيام وتلاوة القرآن : ( كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون ، وبالأسحار هم يستغفرون )
ولا ننسى في هذا المقام الصحابي الجليل الذي كان يحرس المسلمين ليلاً ، ويقضي وقت الحراسة في الصلاة ، فرُمي بسهم من المشركين ، فأصابه السهم ، فأخذ دمه يسيل ، وهو مع ذلك ماض في صلاته يتلذذ بمناجاة ربه الكريم .
وورد عن بعض أهل العلم أنهم تذاكروا الحديث حتى طلع الفجر ولقد كان الدعاة المخلصون ولا زالوا يسهرون الليل في مناقشة الأمور التي تؤرق الغيورين على الأمة ، وتقض مضاجعهم ، وتطرد الوسن عن عيونهم ، ومن ذلك مثلاً ما كان يجري بين الشيخين : عبد الحميد بن باديس والبشير الإبراهيمي ، مؤسس جمعية العلماء المسلمين بالجزائر ، فقد كانا في فترة وجودهما في المدينة يسهران الليل كله إلى الفجر ، يناقشان أوضاع الأمة الإسلامية ، وما تردت إليه من البدع والخرافات والتخلف ، ويخططان لانتشال المجتمع الجزائري من هذا التردي .
هذا النوع من السهر سهر محمود كله ، إذا لم يؤد إلى تضييع مصلحة راجحة أو واجب شرعي أعلى منه ، فإن بعض الناس قد يسهرون في أمر شرعي ، ثم تفوتهم صلاة الفجر ، وهذا خطأ وخلل .
القسم الثاني : السهر المباح : وهو ما كان على أمر مباح ، شريطة ألا يؤدي إلى تضيع واجب ، فمن ذلك مثلاً محادثة المسافرين لبعضهم لتهوين مشقة السفر على أنفسهم ، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم مع بعض نسائه ، يؤانسها وهو في طريق سفر .
ومنه مسامرة الضيف ومؤانسته بالحديث .
ومنه سهر كثير من الناس اليوم في أعمالهم الليلة ، في هذه النوبات التي أوجدتها الأحوال المادية ولا ريب أن بعض مصالح المسلمين تقتضي أن يكون هناك من يعمل ليلاً ، كالعمل في الأمن ، والمستشفيات ، والمطارات ، والكهرباء ، وغير ذلك .
القسم الثالث : السهر في معصية الله عز وجل كالسهر في مشاهدة الأفلام ، والألعاب المحرمة كلعب الورق ، أو في أكل لحوم الناس بالغيبة والشتائم والبهتان وما شابه ذلك من أنواع المعاصي .
وهذا السهر محرم ، يأثم أصحابه ويستحقون العقوبة من الله ، وقد كثروا في هذا الزمان ؛ لأسباب بعضها مذكور في قول الشاعر :
إن الشباب والفراغ والجدَه مفسدة للمرء أيّ مفسده
هذه هي أقسام السهر الثلاثة ، فيجب أن نفرق بين كل قسم والآخر .
وفي زماننا هذا انتشر السهر لأسباب منها :
1- السهر للمصالح الدنيوية ، مثل سهر بعض التجار في تدبير أمور تجارتهم ، وسهر بعض الطلاب في مذاكرة المقررات الدراسية ، وينبغي لهؤلاء ومن شكلهم أن يجتهدوا في ترتيب أوقاتهم ترتيباً يُغنيهم عن السهر المؤدي إلى المفاسد .(/6)
2- طبيعة العصر الحاضر التي غيرت الأوضاع الاجتماعية ، فلئن كان القدماء يشرعون في الهدوء والهجعة منذ حلول الظلام ، فإن وجود الكهرباء في عصرنا يحمل الناس على أن يمارسوا كثيراً من الأنشطة والأعمال والعلاقات التي لم يكونوا ليمارسوها في الظلام ، حتى لقد أصبح ليل بعض الناس كنهارهم .
3- انصراف كثير من الناس إلى ما يبث من برامج وفنون في وسائل الإعلام المختلفة : من إذاعة وتلفاز ، وما يسمى الفيديو وغيره .
4- جعل أكثر الناس زياراتهم وبرامجهم وعلاقاتهم العائلية وغير العائلية في الليل بسبب طبيعة الأعمال والدراسة ، فأصبحت تجد من النادر أن يزورك أحد في النهار ، إلا في عطلة الأسبوع ، وحتى مجالس العلم صار كثير منها يقام بعد صلاة العشاء .
5- انهماك بعض الناس في الثرثرة والأحاديث المتداعية الطويلة ، وربما أزعجوا الآخرين بثرثرتهم وضحكاتهم ، ولعل انتشار هذه الظاهرة في أوساط الطلاب في الإسكانات الجامعية أكثر وضوحاً ، حيث يقوم بعض الضيوف الثقلاء بزيارتهم في سكنهم ، ويمضون معهم الليل في القيل والقال ، ويلحقون الضرر بأنفسهم وبغيرهم ، ثم يضيعون كثيراً من الواجبات .
6- الأرق : والأرق يسببه في كثير من الأحيان مقارفة المعاصي والبعد عن الله تعالى ، فإن البعيد عن ربه لا يمكن أن يذوق الطمأنينة والأنس ، وإنما هو في قلق دائم ووحشة واضطراب .
كما أن للمشكلات العائلية والمادية والدراسية والعملية وغيرها أثراً بارزاً في إحداث القلق والأرق لدى الشخص حتى تنجلي أسبابها .
على أننا لا ننكر أن هناك من يحرمه الأرق من لذيذ الكرى بسبب خوفه من الله ، وحرصه على صلاح أمته الأسيرة .
وبعد استعراض أقسام السهر وأبرز أسبابه ، نتجه لبيان الأسباب المعينة على علاج هذه الشكوى التي أصبحت وباء فاشياً .
وعلاجها من الناحية العلمية التأملية : أن يتفكر المرء في ما يترتب على السهر من الأضرار الجسمية ، وتفويت المصالح العظيمة ، فمن ذلك :
1- تضييع الواجبات الشرعية ، مثل تضييع صلاة الفجر كما أسلفنا إما بالتخلف عن الجماعة ، أو بقضائها في غير وقتها ، أو بأدائها مع الجماعة لكن دون خشوع وإحساس بسبب الإعياء الشديد الذي يجعله يصارع النعاس ولا يفقه من صلاته شيئاً ، فلا يدري ما قرأ الإمام ، ولا في أي ركعة هو ، ولا يتدبر ما يقوله في سجوده وركوعه وقيام وقعوده ، ولذلك نهى رسول صلى الله عليه وسلم عن الحديث بعد صلاة العشاء .
2- الأضرار الجسدية : ذلك أن جعل الليل للحركة والنهار للسكون مصادم للطبيعة التي خلقها الله في الأرض والنفوس : ( وجعلنا الليل لباساً وجعلنا النهار معاشاً ) ( قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء ) ( قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه … )
ولهذا فإننا نجد القوم الذين تنكبوا الصراط ، وخالفوا الفطرة ، في حالة صحية سيئة مضطربة ، وإن نوم ساعة من الليل قد يعدل نوم ضعفها في غيره ، كما هو مجرب ومشاهد .
3- تقصير كثير من الموظفين في أعمالهم ، بحيث يأتي الموظف إلى عمله منهكاً متأخراً ، فيكون أداؤه ضعيفاً ، وتعامله مع المراجعين سيئاً ، وربما كان في بعض راتبه شبهة بسبب تقصيره في عمله .
وقل مثل ذلك في شأن الطلاب الذين يسهرون ، ثم يأتون للمدرسة أو الجامعة متأخرين ، وقد ضربوا بالمحاضرات الأولى عرض الحائط ، ثم يجلس أحدهم كرسياً على كرسي ، لا يستوعب معلومة ، ولا ينتبه لشرح .
4- أنه يؤدي إلى النوم في غير وقت النوم ، فينام السهران مثلاً بعد العصر ، والنوم بعد العصر لغير الحاجة كرهه السلف ، أما الحاجة فلا بأس به . ثم إن هذا يسبب صداعاً وتفويتاً لوقت حيوي من اليوم .
5- أنه يعيق عن بعض العبادات التطوعية ، فإحياء الثلث الآخر من الليل مثلاً ، كيف يستطيعه السهران ؟! والتسحر لصيام التطوع ، كيف يطيق الاستيقاظ له ؟! ولا شك أن الإعياء والإجهاد سيثنيه عن النهوض ، فيفوت على نفسه خيراً كثيراً .
6- فوات بركة البكور في أول النهار ، فإن الذين يسهرون ينامون بعد صلاة الفجر ، فيحرمون أنفسهم من الوقت الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : ( بورك لأمتي في بكورها ) صحيح الجامع 2841 . ولا يقدرون على المكث في المسجد إلى طلوع الشمس لذكر الله ، ولا يخرجون إلى أرزاقهم مبكرين في وقت البركة والفضيلة ، وقد عم ذلك فينا ، حتى أصبحنا نرى من النادر أن يفتح تاجر متجره في وقت مبكر مثلاً .
إذا علم العاقل بهذه الأضرار الناجمة عن السهر ، وبفداحة الخسارة التي يمنى بها من جرائه ، فلا ريب أنه سيسعى سعياً حثيثاً لتصحيح وضعه ، واستدراك ما فاته ، وبذلك يكون قد وضع رجله في أول طريق العلاج .
وهذه إشارات إلى جوانب عملية في حل المشكلة يسترشد بها من يريد الوصول إلى ذلك العلاج :(/7)
1- بذل الوسع في تعويد النفس على النوم المبكر ، فإن السهر في الأصل عادة ، فإذا انبرى المرء لجهاد نفسه بحزم وبتصميم فإنه ينتصر عليها بإذن الله في بضعة أيام ويسير في ركاب المبكرين في النوم .
2- الزواج فإن كثيراً من الشباب العزاب غير منضبطين في حياتهم ، بل يسهرون معاً ، ويشجع بعضهم بعضاً على السهر ، إذ ليس وراءهم أولاد ولا زوجات ، أما المتزوج فإنه يشعر أن في عنقه مسؤولية زوجته وأولاده ، فيحرص على العودة إليهم مبكراً لئلا يقلقوا ، أو يخافوا أو يحتاجوا إليه في هجعة الليل ، وهو ليس في البيت ، ومن جرب عرف .
3- تنمية الإحساس بالمسؤولية في شتى المجالات التي تعينه ؛ فإن المرء يحس أن على كاهله حملاً لابد أن يؤديه ، لا يمكن أن يهدر وقته ويفرط فيه ، في حين نجد غير المبالي يبدد كنوز الأوقات في سفاسف الأمور ، ولا يقدرها قدرها .
4- تعويض الحاجة إلى النوم بالقيلولة ، بدلاً من النوم في غير أوقات النوم ، فإن النوم بعد العصر أو قبل العشاء مضر كما أسلفنا وقد أوصى عليه الصلاة أمته بقوله : ( قيلوا فإن الشياطين لا تقيل ) صحيح الجامع 4431 هذه بعض الوسائل العملية لعلاج مشكلة السهر ، والله الهادي إلى سواء السبيل .
سرعة الغضب
وهذه شكوى من شخص يقول : إنني شديد الانفعال ، سريع الغضب ، وإذا حصل لي استفزاز ، فسرعان ما أثور فأكسر وأشتم وألعن وأرمي بالطلاق وقد سببت لي هذه المشكلة حرجاً كبيراً ، وكرهني أكثر الناس ، حتى زوجتي وأولادي وأعز أصدقائي ، فماذا أفعل للتخلص من هذا الداء الوبيل وإطفاء هذه النار الشيطانية ؟ .
الجواب : الغضب نزعة من نزعات الشيطان ، يقع بسببه من السيئات والمصائب ما لا يعلمه إلا الله ، ولذلك جاء في الشريعة ذكر واسع لهذا الخلق الذميم ، وورد في السنة النبوية علاجات للتخلص من هذا الداء وللحد من آثاره ، فمن ذلك :
1- الاستعاذة بالله من الشيطان : عن سليمان بن صرد قال : كنت جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم ورجلان يستبان ، فأحدهما احمر وجهه وانتفخت أوداجه ( عروق من العنق ) فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد ، لو قال أعوذ بالله من الشيطان ذهب عنه ما يجد ) . رواه البخاري ، الفتح 6/377 . وقال صلى الله عليه وسلم : ( إذا غضب الرجل فقال أعوذ بالله ، سكن غضبه ) صحيح الجامع الصغير رقم 695 .
2- السكوت : قال رسول صلى الله عليه وسلم : ( إذا غضب أحدكم فليسكت ) رواه الإمام أحمد المسند 1/239 ، وفي صحيح الجامع 693 ، 4027 . وذلك أن الغضبان يخرج عن طوره وشعوره غالباً فيتلفظ بكلمات قد يكون فيها كفر والعياذ بالله أو لعن أو طلاق يهدم بيته ، أو سب وشتم يجلب له عداوة الآخرين ، وبالجملة فالسكوت هو الحل لتلافي كل ذلك .
3- السكون : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس ، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع ) .
وراوي هذا الحديث أبو ذر رضي الله عنه ، حدثت له في ذلك قصة : فقد كان يسقي على حوض له فجاء قوم فقال : أيكم يورد على أبي ذر ويحتسب شعرات من رأسه ؟ فقال رجل أنا فجاء الرجل فأورد عليه الحوض فدقه " أي كسره أو حطمه والمراد أن أبا ذر كان يتوقع من الرجل المساعدة في سقي الإبل من الحوض فإذا بالرجل يسيء في هدم الحوض " وكان أبو ذر قائماً فجلس ثم اضطجع فقيل له : يا أبا ذر لم جلست ثم اضطجعت ؟ قال فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وذكر الحديث " الحديث بقصته في مسند أحمد 5/152 وانظر صحيح الجامع رقم 694 " . وفي رواية كان أبو ذر يسقي على حوض فأغضبه رجل فقعد .. فيض القدير المناوي 1/408 .
ومن فوائد هذا التوجيه النبوي منع الغاضب من التصرفات الهوجاء لأنه قد يضرب أو يؤذي بل قد يقتل كما سيرد بعد قليل وربما أتلف مالاً ونحوه ، ولأجل ذلك إذا قعد كان أبعد عن الهيجان والثوران ، وإذا اضطجع صار أبعد ما يمكن عن التصرفات الطائشة والأفعال المؤذية ، قال العلامة الخطابي رحمه الله في شرحه على أبي داود : ( القائم متهيئ للحركة والبطش والقاعد دونه في هذا المعنى ، والمضطجع ممنوع منهما ، فيشبه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمره بالقعود والاضطجاع لئلا يبدر منه في حال قيامه وقعوده بادرة يندم عليها فيما بعد ) . والله أعلم سنن أبي داود ، ومعه معالم السنن 5/141 .
4- حفظ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم : عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم أوصني قال : لا تغضب ، فردد ذلك مراراً ، قال : لا تغضب رواه البخاري فتح الباري 10/465 .
وفي رواية قال الرجل : ففكرت حين قال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال ، فإذا الغضب يجمع الشر كله . مسند أحمد 5/373
5- لا تغضب ولك الجنة حديث صحيح : صحيح الجامع 7374 ، وعزاه ابن حجر إلى الطبراني ، انظر الفتح 4/465(/8)
إن تذكر ما أعد الله للمتقين الذين يتجنبون أسباب الغضب ويجاهدون أنفسهم في كبته ورده لهو من أعظم ما يعين على إطفاء نار الغضب ، ومما ورد الأجر العظيم في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم ومن كظم غيظاً ، ولو شاء أن يمضيه أمضاء ، ملأ الله قلبه رضاً يوم القيامة رواه الطبراني 12/453 وهو في صحيح الجامع 176 . وأجر عظيم آخر في قوله صلى الله عليه وسلم : ( من كظم غيظاً وهو قادر على أن يُنفذه ، دعاه الله عز وجل على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره من الحور العين ما شاء ) رواه أبو داود 4777 وغيره ، وحسنه في صحيح الجامع 6518 .
6- معرفة الرتبة العالية والميزة المتقدمة لمن ملك نفسه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ليس الشديد بالصرعة ، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ) رواه أحمد 2/236 والحديث متفق عليه وكلما انفعلت النفس واشتد الأمر كان كظم الغيظ أعلى في الرتبة ، قال عليه الصلاة والسلام : ( الصرُّعة كل الصرعة الذي يغضب فيشتد غضبه ويحمر وجهه ، ويقشعر شعره فيصرع غضبه ) رواه الإمام أحمد 5/367 ، وحسنه في صحيح الجامع 3859 . وينتهز عليه الصلاة والسلام الفرصة في حادثة أمام الصحابة ليوضح هذا الأمر ، فعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يصطرعون ، فقال : ما هذا ؟ قالوا : فلان الصريع ما يصارع أحداً إلا صرعه قال : أفلا أدلكم على من هو أشد منه ، رجل ظلمه رجل فكظم غيظه فغلبه وغلب شيطانه وغلب شيطان صاحبه ) رواه البزار قال ابن حجر بإسناد حسن ، الفتح 10/519 .
7- التأسي بهديه صلى الله عليه وسلم في الغضب :
وهذه السمة من أخلاقه صلى الله عليه وسلم ، وهو أسوتنا وقدوتنا ، واضحة في أحاديث كثيرة ، ومن أبرزها : عن أنس رضي الله عنه قال : كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعليه برد نجراني غليظ الحاشية ، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة ، فنظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم " أي ما بين العنق والكتف " وقد أثرت بها حاشية البرد ، ثم قال : يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك ، فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم فضحك ، ثم أمر له بعطاء رواه البزار قال ابن حجر بإسناد حسن ، الفتح 10/519 .
ومن التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم أن نجعل غضبنا لله ، وإذا انتهكت محارم الله ، وهذا هو الغضب المحمود فقد غضب صلى الله عليه وسلم لما أخبروه عن الإمام الذي يُنفر الناس من الصلاة بطول قراءته ، وغضب لما رأى في بيت عائشة ستراً فيه صور ذوات أرواح ، وغضب لما كلمه أسامة في شأن المخزومية التي سرقت ، وقال : أتشفع في حد من حدود الله ؟ وغضب لما سُئل عن أشياء كرهها ، وغير ذلك ، فكان غضبه صلى الله عليه وسلم لله وفي الله .
8- معرفة أن رد الغضب من علامات المتقين :
وهؤلاء الذين مدحهم الله في كتابه ، وأثنى عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأعدت لهم جنات عرضها السماوات والأرض ، ومن صفات أنهم : ) ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ) وهؤلاء الذين ذكر الله من حسن أخلاقهم وجميل صفاتهم وأفعالهم ، ما تشرئب الأعناق وتتطلع النفوس للحوق بهم ، ومن أخلاقهم أنهم : ( إذا ما غضبوا هم يغفرون ) .
9- التذكر عند التذكير :
الغضب أمر من طبيعة النفس يتفاوت فيه الناس ، وقد يكون من العسير على المرء أن لا يغضب ، لكن الصدِّيقين إذا غضبوا فذُكروا بالله ذكروا الله ووقفوا عند حدوده ، وهذا مثالهم .
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً استأذن على عمر رضي الله عنه فأذن له ، فقال له : يا ابن الخطاب والله ما تعطينا الجزل " العطاء الكثير " ولا تحكم بيننا بالعدل فغضب عمر رضي الله عنه حتى هم أن يوقع به ، فقال الحر بن قيس ، وكان من جلساء عمر : يا أمير المؤمنين إن الله عز وجل قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : ( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ) وإن هذا من الجاهلين ، فو الله ما جاوزها عمر رضي الله عنه حين تلاها عليه ، وكان وقافاً عند كتاب الله عز وجل رواه البخاري الفتح 8/304 . فهكذا يكون المسلم ، وليس مثل ذلك المنافق الخبيث الذي لما غضب أخبروه بحديث النبي صلى الله عليه وسلم وقال له أحد الصحابة تعوذ بالله من الشيطان ، فقال لمن ذكره : أترى بي بأس أمجنون أنا ؟ اذهب رواه البخاري فتح 1/465 نعوذ بالله من الخذلان .
10- معرفة مساويء الغضب :
وهي كثيرة مجملها الإضرار بالنفس والآخرين ، فينطلق اللسان بالشتم والسب والفحش وتنطلق اليد بالبطش بغير حساب ، وقد يصل الأمر إلى القتل ، وهذه قصة فيها عبرة .(/9)
عن علقمة بن وائل أن أباه رضي الله عنه حدثه قال : إني لقاعد مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل يقود آخر بنسعة " حبل مضفور " فقال : يا رسول الله هذا قتل أخي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أقتلته ؟ قال : نعم قتلته ، قال : وكيف قتلته ، قال : كنت أنا وهو نتخبط ( نضرب الشجر ليسقط ورقه من أجل العلف ) من شجرة ، فسبني فأغضبني فضربته بالفأس على قرنه ( جانب الرأس ) فقتلته .. إلى آخر القصة . رواه مسلم في صحيحه 1307 .
وقد يحصل أدنى من هذا فيكسر ويجرح ، فإذا هرب المغضوب عليه عاد الغاضب على نفسه ، فربما مزق ثوبه ، أو لطم خده ، وربما سقط صريعاً أو أغمي عليه ، وكذلك قد يكسر الأواني ويحطم المتاع .
ومن أعظم الأمور السيئة التي تنتج عن الغضب وتسبب الويلات الاجتماعية وانفصام عرى الأسرة وتحطم كيانها ، هو الطلاق ، واسأل أكثر الذين يطلقون نساءهم كيف طلقوا ومتى ، فسينبئونك : لقد كانت لحظة غضب .
فينتج عن ذلك تشريد الأولاد ، والندم والخيبة ، والعيش المر ، وكله بسبب الغضب ، ولو أنهم ذكروا الله ورجعوا إلى أنفسهم ، وكظموا غيظهم واستعاذوا بالله من الشيطان ما وقع الذي وقع ولكن مخالفة الشريعة لا تنتج إلا الخسار .
وما يحدث من الأضرار الجسدية بسبب الغضب أمر عظيم كما يصف الأطباء كتجلط الدم ، وارتفاع الضغط ، وزيادة ضربات القلب ، وتسارع معدل التنفس ، وهذا قد يؤدي إلى سكتة مميتة أو مرض السكري وغيره ، نسأل الله العافية .
11- تأمل الغاضب نفسه لحظة الغضب :
لو قدر لغاضب أن ينظر إلى صورته في المرأة حين غضبه لكره نفسه ومنظره ، فلو رأى تغير لونه ، وشدة رعدته ، وارتجاف أطرافه ، وتغير خلقته ، وانقلاب سحنته ، واحمرار وجهه ، وجحوظ عينيه وخروج حركاته عن الترتيب وأنه يتصرف مثل المجانين لأنف من نفسه ، واشمأز من هيئته ، ومعلوم أن قبح الباطن أعظم من قبح الظاهر ، فما أفرح الشيطان بشخص هذا حاله ! نعوذ بالله من الشيطان والخذلان .
12- الدعاء :
هذا سلاح المؤمن دائماً يطلب من ربه أن يخلصه من الشرور والآفات والأخلاق الرديئة ، ويتعوذ بالله أن يتردى في هاوية الكفر أو الظلم بسبب الغضب ، ولأن من الثلاث المنجيات : العدل في الرضا والغضب صحيح الجامع 3039 كان من دعائه عليه الصلاة والسلام : ( اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيراً لي ، وتوفني إذا علمت الوفاة خيراً لي ، اللهم وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة ، وأسألك كلمة الإخلاص في الرضا والغضب ، وأسألك القصد في الفقر والغنى وأسألك نعيماً لا ينفد ، وقرة عين لا تنقطع ، وأسألك الرضا بالقضاء ، وأسألك برد العيش بعد الموت ، وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك ، في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة ، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين ) . رواه النسائي في السنن 3/55 والحاكم وهو في صحيح الجامع 1301 . والحمد لله رب العالمين .(/10)
شكوى
للشاعر محمد إقبال
كنا جبالا في الجبال وربما سرنا على موج البحار بحارا
بمعابد الإفرنج كان أذاننا قبل الكتائب يفتح الأمصار
لم تنس أفريقيا ولا صحراؤها ... سجداتنا والأرض تقذف نارا
وكأن ظل السيف ظل حديقة خضراء تنبت حولنا الأزهار
لم تخش طاغوتا يمار بنا ولو نصب المنايا حولنا أسوارا
ورؤوسنا يارب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنما وجوارا
كنا نرى الأصنام من ذهب فنهدمها ونهدم فوقها الكفار
لو كان غير المسلمين لحازها كنزا وصاغ الحلي والدينارا
ومن الألى ِِِِحملوا بعزم أكفهم باب المدينة يوم غزوة خيبرا
أم من رمى نار المجوس فأطفئت وأبان وجه الحق أبلج نيرا
ومن الذي بذل الحياة رخيصة ورأى رضاك أعز شئ فاشترى
نحن الذين إذا دعوا لصلاتهم ... والحرب تسقي الأرض جاما أحمرا
جعلوا الوجوه إلى الحجاز وكبروا في مسمع الروح الأمين فكبرا
ما بال أغصان الصنوبر قد نأت عنها قماريها بكل مكان
وتعرت الأشجار من حلل الربى وطيورها فرت إلى الوديان
يارب إلا بلبلا لم ينتظر وحي الربيع ولا صبا نيسان
ألحانه بحر جرى متلاطما فكأنه الحاكي عن الطوفان
يا ليت قومي يسمعون شكاية هي في ضميري صرخة الوجدان
اسمعهموا يارب ما ألهمتني ... وأعد إليهم يقظة الإيمان
أنا أعجمي الدن لكن خمرتي صنع الحجاز وكرمها الفينان
إن كان لي نغم الهنود ولحنهم لكن هذا الصوت من عدنان(/1)
شمس الحرية
عبد لله
فجّرتُ بحار iiالحرية
من عهد محمدنا iiالهادي
أن أصدع دوماً بجهادي ... وقطعت عهوداً.. أبدية
للساعة.. حتماً iiمقضيّة
لا أرضى للدّين iiدنيّة
لا أرضى للدين دنيّة
من جرح النكبة في iiبلدي
من سحنة أمي.. أو iiولدي
من نبض الثورة في كبدي ... من وهج جحيم iiالقبليّة
من دمع صبيٍّ.. iiوصبيّة
فسيسفرُ فجر iiالحريّة
وسيسفر فجر الحريّة
من آي كتاب iiالرحمنِ
من سيف صهيب بن سِنان
من فجري الزاهي iiالألوان ... من هَدي رسول iiالبشريّة
وجراح بلالٍ.. iiوسميّة
فستشرقُ شمس iiالحرية
وستشرق شمسُ الحريّة
قسماً.. يا بستاني الأخضرْ
قسماً.. للشهدا في iiتدمر
أن أثأر يوماً أو iiأظفر ... من قادسَ للجبلِ الأخضرْ
في كابل في تل iiالزعتر
بالجنة داراً iiأزليّة
كي تشرقَ شمس الحرية
قسماً يا قدس ويا iiحلب
وتنادى النكس وقد iiكذبوا
فذرى الجوزاء iiستلتهب ... قسماً.. فالأُسْدُ وإن iiصُلبوا
أن زال الرّهطُ.. ولن يثبوا
وبطون الأرض iiالمطويّة
تقذف أشبالَ الحريّة
قسماً بمآذن حطين
قسماً للشهدا في الدين
مليون صلاح iiللدين ... وثرى اليرموك iiالقدسيّة
حمزة.. وبنان.. وسميّة
ستقضّ عروش iiالوثنية
كي تشرق شمسُ الحرية
سأسعّر جرحي iiبركانا
لأردّ الظلم كما iiكانا
وأعود لروضي iiولهانا ... وأصبّ دموعي iiنيرانا
-أنقاض رمادٍ.. ودخانا
أتنسم عطرَ iiالحرية
فلتشرقْ شمس الحرية
سأخوض البحر بإيماني
وسأنشر طيب iiالريحان
وسيشدو الكون iiبألحاني ... وأجوب غريبَ iiالشطآن
ويغنّي للنور iiجناني
ترنيمة صبحي iiالعذريّة
فلتشرق شمس الحرية
سأفجّر أرضي iiأنهارا
وسيغدو شعبي iiإعصارا
ثوارٌ.. قواد iiتتلو ... حُمَماً.. ستدكّ الأسوارا
في القدس ومصر وبخارى
تهتف بنشيد iiالحرية
فلتشرق شمس الحرية
أقبلْ يا فجرَ iiالأسرار
وارفع أعلامَ iiالأحرار
كي يخفق في الكون شعاري ... ولتسحق ليلَ iiالفجّار
في عرض سمائي iiودياري
الله المولى.. iiأُحَميّة
الله المولى أحميّة(/1)
شمعة في وجه الظلاميين الجيلي حامد*
امتلأ عالمنا حتى أخره بالمتناقضات!؛ حتى تاهت خطى المعاني عن الوصول إلى جوف الألفاظ؛ وظلت الألفاظ خاوية إلا من خيوط العنكبوت، وافتراءات البشر!!..
فنحن نسمع عن حملة عسكرية دافعها الشفقة بأهل العراق تسعى لتخليصهم من قبضة الطاغية الظالم (صدام حسين) الذي قتل منهم بضع آلاف في (حلبجة)، وبضع عشرات في (الدجيل)؛ بحجة أنهم خانوه؛ وحاولوا اغتياله!!.. ولكن أمريكا - التي جاءت من أقاصي الدنيا وهي ترفع شعار الرأفة المفرغ إلا من عصير القسوة، والموت الأسود، والدم الأحمر - ماذا سيكون جوابها إذا سُئِلَتْ عن هذا الكم الذي لا يحصر من القتلى، والجرحى، والمشردين؟، ولماذا استخدمت الفسفور الأبيض في قتل أناس تزعم أنها جاءت لتخلصهم؟!..
إن هذا كله خداع!!.. إنها جاءت لتخلص العالم منهم؛ لأنهم مسلمون!!..
إن أمريكا وغيرها من أعداء الدين، والإنسانية يستخدمون الألفاظ الحسنة في تمرير النيات السيئة، وتبرير الأعمال الإجرامية.
جاء في التقارير الدعائية العسكرية في تبرير الحملات الهمجية الأمريكية على بعض الشعوب الإسلامية: (إن الحرب المقدسة جاءت لنشر الحرية في الشعوب المستعبدة)!!..
اقْرَأ الواقع!؛ لتستعيد ترتيب هذه الجملة؛ لتصير: (جلب الاستعباد للشعوب الحرة)!؛ فسجون العراق ملئت حتى نادت بمزيد من السجون الإضافية، والانتخابات يراد لها أن تخرج كما تريد أمريكا لا كما يريد الشعب العراقي؛ وهذا ليس من الحرية في شيء؛ لذلك يتم التأخير، والتزوير.
إن تعبئة الألفاظ بمعاني لا تناسبها هي سمة بارزة لعالمنا اليوم؛ فمثلا: (قوات الاحتلال الإسرائيلية تقتل الإنسان، وتجرف الأراضي، وتقطع الأشجار، وتصادر الأموال، وتقيد حركة المرور، وتعطل الناس عن العمل، وتخنق فلسطين بسلاسل من المراقبة الجوية، والبرية، والبحرية)؛ ويسمي العالم كل ذلك الإذلال والإرهاب والإجرام بـ (إجراءات سلامة للكيان الصهيوني, وعملية شرعية - يتحد فيها المنطق، والمعنى، واللفظ، والعقل - من أجل رد العدوان)!!.. عدوان بأبسط أنواع الأسلحة (الحجارة) يصيح على إثره العالم المخمور الذي يحسب الديك حمارا!!.. أ هذه عملية إرهابية؟!.
علَّمنا التاريخ أن بعض أفراد العالم - ومنذ فجر تكوينه - إذا أرادوا أن يحاربوا الحق اضطروا للتنصل عن معاني الألفاظ، أو استخدموها في غير مكانها!!.. ومثال ذلك ما ورد في القرآن الكريم عن قصة هابيل وقابيل، وكذلك قوله تعالى: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون)!!..
درج بعض كتاب الصحافة - تمشيا مع نبض العالم، وتقليدا له في تفريغ المعاني؛ وتعبئة الألفاظ بما يناسب المزاج - على تسمية الأئمة بالظلاميين، وبعض الوزراء - أصحاب التدين، والخلق - بأصحاب الهوس الديني!!.. وأنا والله أحتار غاية الحيرة من هذه الجراءة!؛ كيف لسكير؛ كثير الغثيان أن يقول مثل هذا الكلام على رجل رطب اللسان بذكر الرحمن، وقراءة القران؟!، كيف لمن يقوم الليل؛ تعلو أنفاسه وتهبط انفعالا مع ما تقذفه القنوات الفضائية الفاسدة وغير الفاسدة أن يقول مثل هذا الكلام على من يقضي ليله تهجدا، وتبتلا؛ ويدرك الفجر حاضرا؟!.. (ظلاميُّون) لفظة تناسب كل داع لتحرير الإعلام ليعكس للناس واقع الغرب بكل سفوره وفجوره، وكل داع لتحرير العقل من كل الحواجز حتى يعمل في مدى أكبر من مداركه وطاقته؛ ولا مانع عنده من أن يتكلم في ذات الله بما يشير عليه عقله؛ وإذا سئل: (هل أنت مسلم؟!) قال: (لا داعي لخلط الأوراق؛ المسألة مجرد فكرة، والإسلام يحترم الأفكار)!!..
ظلامي كل من دعا لتحرير المرأة من قيود الدين حتى تكون بين يديه دمية عارية عن الكرامة مثلما هي عارية عن الثياب.. ظلامي كل من ينادي بإقصاء نصوص الدين، وإبعاد المتدينين عن سدت الحكم.. ظلاميُّون من قالوا: (إن الخلافة وَهْمٌ، وأساطير؛ وأن الجهاد ما عاد له في هذا العالم المتحضر مكان).. ظلاميُّون من عشقوا معانقة أضواء الكاميرات وهم في رقص مع المغنيات، وابتهاج بالممثلين والممثلات.. ظلاميُّون من أرادوا للإنسان أن يكون حيوانا؛ لا هَمَّ له إلا بطنه وفرجه!!..
بشرى سارة للإظلاميِّين!؛ لارتباط هذه العلامة (تعبئة الألفاظ) بِدُنُوِّ وقت التغيرات الإلهية؛ والرجوع بالبشرية إلى محطة الإسعاد؛ قبل أن تسقط في شفير الهلاك؛ جراء أفعال الظلاميِّين (شذوذ جنسي, أمراض فتاكة, مخدرات, قوانين تشريعية لحماية المثلين, انعدام للأسرة، حروب طاحنة، و... إلخ)!!..
ستشرق شمس الفضيلة من جديد؛ دونما استئذان، أو استجداء؛ ولا يضرها ضباب لندن، وعشاق لندن، ولا دعاية هوليوود، وعشاق هوليوود.. وأَقْتَرِحُ على الظلاميِّين استخدام العربات المظللة، والنظارات المظللة؛ علها تخفف عليهم وهج شمس الحق, وتوهمهم بأنهم ما زالوا يعيشون في(/1)
شموخ
شعر: عصام العطّار
وما أبالي إذا التاريخُ أنصفني أوْ جارَ في حُكمهِ أو ضلَّ أوْ كذَبا
وما أُبالي لسانَ الدَّهرِ توَّجني بالحمدِ أو أعملَ الأنيابَ والقُضُبا
الظالمونَ على شتّى مذاهبهمْ مالوا عليَّ، وما باليتُهمْ، عُصَبا
اللهُ قَصدي وهذا الكونُ أجمعهُ لم يستثرْ رَغَباً في النفسِ أو رَهبا
حَسبي طَهارةُ قلبي في مقاصدهِ والنَهْجُ ما رَضيَ الرحمنُ أو طَلبا
إنْ نلتُ مرضاتَهُ فالشَّمسُ دونَ يَدي فكيفَ أقبلُ في آماليَ الشُّهُبا
* * *
نَمشي إلى الغايةِ الكُبرى على ثقةٍ عزمٌ حديدٌ و نهجٌ غيرُ مُنبَهمِ
وأنفسٌ قدْ شَراها اللهُ صادقةٌ أقوى من الموتِ والتَّشريدِ والألمِ
ما طأطأتْ قطُّ للطّاغوتِ صاغرةً خوفاً وعَجزاً وما ألقتْ يدَ السَّلمِ
* * *
ما قيَّدَ الفِكرَ منّا جَورُ طاغيةٍ أو أوهَنَ العزمَ بطشُ المستبدينا
غرامُنا الحقُّ لم نقبلْ به بَدَلاً إنْ غيَّرتْ غِيَرُ الدُّنيا المُحبينا
في الخوفِ و الأمنِ ما زاغتْ مواقفُنا والعُسرِ واليُسرِ قدْ كنّا مَيامينا
فما رآنا الهُدى إلا كواكبَهُ وما رآنا النَّدى إلا عناوينا
وما رآنا العِدى إلا جبابرةً و ما رآنا الفِدا إلا قرابينا
نُفوسُنا السَّلسَلُ الصَّافي فإنْ غضبتْ للحقِّ ثارتْ على الباغي بَراكينا
عِشنا أبيّينَ أحراراً فإنْ هَلكتْ في الحقِّ أنفسُنا مِتنا أبيّينَا
يا شامُ قدْ عظُمتْ قَدراً مَطالبُنا يا شامُ قدْ بَعُدتْ شأواً مَرامينا
نمضي مع الله لا ندري أتُدْنينا أقدارُنا منكِ أم تأبى فتُقصينا
نمضي مع الله لا تدري جَوارينا متى وأين تُرى نُلقي مَراسينا
نمضي مع الله قُدماً لا تُعَوِّقنا عن المضيِّ –وإن جلَّتْ- مآسينا
نمضي مع الله والإسلامُ يَهدينا اللهُ يُمسكنا واللهُ يُزجينا
نمضي مع الله والجُلَّى تُنادينا راضينَ راضين ما يختارُ راضينا(/1)
شموع دافئة .. لمشاعر باردة
د.مسفر بن علي القحطاني * 27/10/1425
10/12/2004
قبل أسابيع قليلة حلّ علينا فصل الشتاء ضيفاً عزيزاً طالما انتظرناه وهو بعيد، واشتقنا إليه ونحن نمسح عرق الصيف الملتهب .. وكم بحث عنه البعض في أصقاع الأرض خلال إجازة الصيف هروباً من لهيب شمس النهار ورطوبة جوّ الليل .. وها نحن هذه الأيام نستقبله لمّا حضر بالفرار إلى الأسواق والاستنجاد بالمعاطف والثياب الثقيلة؛ صداً لهجوم رياحه الباردة وقرصات ليله اللاذعة..وقد يدور في خلد البعض الحنين لأجواء الصيف، فعدو الأمس أصبح صديق اليوم..وكل ذلك من أجل البحث عن الدفء..تلك النعمة العظيمة والمنحة الجزيلة التي لا يعرف قدرها إلا من حُرِمها...غير أن المتأمّل في واقعنا اليوم يجد أن هناك نوعاً من الناس قد حُرم ذلك الدفء ليس لأن جسده عُرضة للبرد بل لأن قلبه وعواطفه وإحساسه بالغير قد أُصيبت بنزلة برد؛ٍ فلم تعد أنواع التدفئات أو المضادات تكفيه، أو تبعث في روحه ووجدانه حياة الدفء من جديد، وهذا المرض الشتوي قد لازم كثيراً من الناس في جميع فصول حياتهم، وأعراضه المزمنة تظهر بغير خفاء على أحوالهم ومواقفهم تجاه مجتمعهم وأمتهم. منها على سبيل المثال:
البرود القاتل في علاقاتنا الاجتماعية، وصلتنا لأرحامنا التي أصبحت في هذا الزمن طقوساً رسميّة خالية من دفء العاطفة وحرارة المحبة الصادقة، وانقطعت حبال الودّ إلا من خلال الأثير أو البريد، وربما يأتي دورها وتسفّها رياح التغريب وماديّة الحياة لتجعلها ذكريات تتّندر بها أجيالنا القادمة، أو تتنهد شوقاً لماضيها القريب؟!
وأما عوارضه الأخرى فذلك البرود القلبي تجاه ما يحصل لإخواننا المسلمين في كل مكان من مصائب ونكبات وكوارث ومجاعات حتى أصبحت صور النساء الباكيات والأطفال الأبرياء وهم يفترشون الأرض ويلتحفون السماء في شتاء قارس، يزداد مرارة مع ألم الجوع وقهر الحرب وصقيع الثلج، ولا يحرك فينا شعور الأخ لأخيه، وكأن المشاهد والمآسي أفلام للتسلية وأحاديث "للمؤانسة"، فهل تنسى كغيرها من المآسي في سكرة حرب الإرهاب واحتفالات عيد الميلاد؟
إن أعراض هذا المرض قد ساعد أيضاً في انتشار الفيروس القاتل الذي بدأ يدبُّ في نفوس الشباب والأجيال القادمة، وهو داء البرود النفسي والخمول الفكري، وعدم الحرص على الإنتاج والإنجاز وبلوغ الأهداف، والرضا بالعيش الهيّن والسعي وراء الأفكار الرخيصة والموضات الفارغة.
وكأنّ الهمم والعقول قد التحفت تحت أطباق من المعاطف الوثيرة لتعلن بياتاً شتوياً لا أمد لانقضائه ولا نهاية لامتداده .. فهذه العوارض السابقة للبرود القلبي والوجداني قد يوجد لها في قائمة الدواء علاج من خلال طب إحياء المشاعر والعواطف الصادقة، ومن داخل محراب الإيمان الدافئ المشتعل بشموع الرحمة والمودة والصدق مع الله، لعلنا ننجو من صقيع ذلك الشتاء، ومن قرصات برده اللاذعة قبل أن يموت فينا الإحساس .. فحينها لا صيفاً عرفنا ولا شتاء!!* رئيس قسم الدراسات الإسلامية والعربية جامعة الملك فهد للبترول والمعادن(/1)
شهادة التاريخ...
ما الذي فعلناه وما الذي فعلوه؟
أ. د .عماد الدين خليل 1/12/1426
01/01/2006
[ 3 ]
وما هي إلا لمحات فحسب مما تحدّث عنه توماس أرنولد فأطال الحديث، ولن تغني الشواهد هنا عن متابعة هذا الكتاب ـ الوثيقة ـ الذي يجيء على يد باحث يحترم العلم بالقدر الذي لم نألفه لدى الغربيين في تعاملهم مع عقيدتنا وتاريخنا إلا نادراً(1).
ما الذي كان يحدث في المجتمعات الأخرى بين أبناء الدين الغالب وبين المنتمين للأديان والمذاهب الأقل انتشاراً؟
يقول غوستاف لوبون: "لقد أُكرهت مصر على انتحال النصرانية، ولكنها هبطت بذلك إلى حضيض الانحطاط الذي لم ينتشلها منه سوى الفتح العربي. وكان البؤس والشقاء مما كانت تعانيه مصر التي كانت مسرحاً للاختلافات الدينية الكثيرة في ذلك الزمن. وكان أهل مصر يقتتلون ويتلاعنون بفعل تلك الاختلافات، وكانت مصر، التي أكلتها الانقسامات الدينية وأنهكها استبداد الحكام، تحقد على سادتها الروم، وتنتظر ساعة تحريرها من براثن قياصرة القسطنطينية الظالمين"(2).
ويقول الندوي: "ثارت حول الديانة النصرانية وفي صميمها مجادلات كلامية شغلت فكر الأمة واستهلكت ذكاءها وتحولت في كثير من الأحيان إلى حروب دامية، وقتل وتدمير وتعذيب ، وإغارة وانتهاب واغتيال، وحوّلت المدارس والكنائس والبيوت إلى معسكرات دينية تتنافس، وأقحمت البلاد في حرب أهلية، وكان أشد مظاهر هذا الخلاف الديني ما كان بين نصارى الشام والدولة الرومية، وبين نصارى مصر، أو بين الملكانية والمنوفيسية بلفظ أصح. وقد اشتد الخلاف بين الحزبين في القرنين السادس والسابع حتى صار كأنه حرب بين دينين متنافسين، أو كأنه خلاف بين اليهود والنصارى، كل طائفة تقول للأخرى: إنها ليست على شيء... وشهدت مصر من الفظائع ما تقشعر منه الجلود، فرجال كانوا يُعذّبون ثم يُقتلون إغراقاً، وتوقد المشاعل وتسلط نارها على الأشقياء حتى يسيل الدهن من الجانبين إلى
الأرض، ويُوضع السجين في كيس مملوء من الرمال ويُرمى به في البحر، إلى غير ذلك من الفظائع "(3).
وحدث بين اليهود والنصارى ما هو أشد هولاً، ففي السنة الأخيرة من حكم فوكاس
(610م) على سبيل المثال، أوقع اليهود بالمسيحيين في أنطاكية، فأرسل الإمبراطور قائده أبنوسوس ليقضي على ثورتهم، فذهب وأنفذ عمله بقسوة نادرة، فقتل الناس جميعاً،
قتلاً بالسيف، وشنقاً وإغراقاً وتعذيباً ورمياً للوحوش الكاسرة. وحدث ذلك بين اليهود والنصارى مرة بعد مرة. وهذه واحدة من نماذج التعامل بين الطرفين يوردها المؤرخ المصري المقريزي: " في أيام فوقا ملك الروم بعث كسرى ملك فارس جيوشه إلى بلاد الشام ومصر فخرّبوا كنائس القدس وفلسطين وعامة بلاد الشام، وقتلوا النصارى أجمعهم، وأتوا إلى مصر في طلبهم، وقتلوا منهم أمة كبيرة، وسبوا منهم سبياً لا يدخل تحت حصر، وساعدهم اليهود في محاربة النصارى وتخريب كنائسهم، وأقبلوا نحو الفرس من كل مكان فنالوا من النصارى كل منال، وأعظموا النكاية فيهم، وخرّبوا لهم كنيستين في القدس، وأحرقوا أماكنهم وأسروا بطريك القدس وكثيراً من أصحابه... وكان هرقل قد ملك الروم، وغلب الفرس، ثم سار من قسطنطينية ليمهد ممالك الشام ومصر ويجدد ما خربه الفرس، فخرج إليه اليهود من طبرية وغيرها وقدموا له الهدايا الجليلة، وطلبوا منه أن يؤمنهم ويحلف لهم على ذلك، فأمّنهم وحلف لهم، ثم دخل القدس وقد تلقاه النصارى بالأناجيل والصلبان، فوجد المدينة وكنائسها خراباً، فساءه ذلك، وأعلمه النصارى بما كان من ثورة اليهود مع الفرس، وأنهم كانوا اشد نكاية لهم من الفرس، وحثوا هرقل على الوقيعة بهم وحسنوا له ذلك، فاحتج عليهم بما كان من تأمينه لهم وحلفه، فأفتاه رهبانهم وبطاركتهم وقسيسوهم بأنه لا جرم عليه في قتلهم، فمال إلى قولهم وأوقع باليهود وقيعة شنعاء أبادهم جميعهم فيها، حتى لم يبق في ممالك الروم بمصر والشام منهم إلا من فر واختفى"(4).
أما ما فعله النصارى بالمسلمين عندما تمكنوا منهم، فيكفي أن نشير إلى ما نفذته السلطة والكنيسة الاسبانيتين عن طريق محاكم التحقيق مع بقايا المسلمين في الأندلس بعد سقوط آخر معاقلهم السياسية: غرناطة، مما قصه علينا بالتفصيل العلمي الموثق محمد عبد الله عنان في كتابه القيم (نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصرين)(5)، وما فعلته قوى الاستعمار الصليبي في آسيا وإفريقية مع الشعوب الإسلامية عبر القرون الأخيرة، وما تفعله القيادات الإفريقية النصرانية مع المسلمين.
[ 4 ]
في العصر الأموي والعصور العباسية التالية، حين ازداد المجتمع الإسلامي تعقيداً واتساعاً، و أخذت منحنيات الإبداع الحضاري تزداد صعوداً واطراداً، وتزداد معها المؤسسات الإدارية نضجاً ونمواً، أخذ الموقف من غير المسلمين يتألق بالمزيد من صيغ التعامل الإنساني أخذاً وعطاء.(/1)
لقد فتح المسلمون، قواعد وسلطة، صدورهم لغير المسلمين يهوداً ونصارى ومجوساً وصابئة، وأتاحوا للعناصر المتميزة من هؤلاء وهؤلاء احتلال مواقعهم الاجتماعية والوظيفية في إطار من مبدأ تكافؤ الفرص، لم تعرفه أمة من الأمم عبر تاريخ البشرية كله: لقد ساهم غير المسلمين في صنع الحضارة الإسلامية وإغنائها، دونما أي عقد أو حساسيات من هذا الجانب أو ذاك، كما فُتح الطريق أمامهم للوصول إلى أعلى المناصب، بدءاً من الكتابة في الدواوين وانتهاء بمركز الوزارة الخطير نفسه، وأُتيح لأبناء الأديان والمذاهب الأخرى أن يتحركوا في ساحات النشاط الاقتصادي والمالي بحرية تكاد تكون مطلقة، فنمّوا ثرواتهم وارتفعوا بمستوياتهم الاجتماعية بما يوازي قدراتهم على العمل. والنشاط، وملؤوا بهذا وذاك مساحة واسعة في ميدان النشاط الاقتصادي والمالي جنباً إلى جنب مع مواطنيهم المسلمين، بل إن بعض الأنشطة المالية والاقتصادية كادت تصبح من اختصاص أهل الكتاب، تماماً كما كانت الترجمة في المجال الثقافي من نصيبهم، وكما كانت بعض الوظائف الإدارية والكتابية في المجال الإداري من نصيبهم كذلك.
إنه مجتمع تكافؤ الفرص، والحرية العقديّة، والانفتاح. لقد استجاب المسلمون للتحدي الاجتماعي، وكانوا في معظم الأحيان عند حسن ظن رسولهم - صلى الله عليه وسلم- بهم، وهو يوصيهم قبل انتقاله إلى الرفيق الأعلى أن يكونوا رفقاء بأهل الذمة!!
الوقائع كثيرة، تيار من المعطيات التاريخية نفذت في ساحة المجتمع الإسلامي عبر القرون الطوال، نفذت على مختلف الجبهات ووفق سائر الاتجاهات الحضارية والإدارية والاقتصادية، والاجتماعية عموماً.. ونلتقي بشهادة فيليب حتي في كتابه (تاريخ العرب المطول) فهي تحمل دلالتها ولا ريب كشاهد على معطيات هذا التيار الواسع: " تمتع أهل الذمة بقسط من الحرية لقاء تأديتهم الجزية والخراج. وارتبطت بالفعل قضاياهم في الأمور المدنية والجنائية برؤسائهم الروحيين، إلا إذا كانت القضية تمسّ المسلمين... ".
" لقد كانت ميسون زوجة معاوية نصرانية، كما كان شاعره نصرانياً، وكذلك كان طبيبه وأمير المال في دولته... "(6).
"وأقام الذميون في مزارعهم ومنازلهم الريفية، وتمسكوا بتقاليدهم الثقافية، وحافظوا على لغاتهم الأصلية؛ فكانت لهم الآرامية والسريانية لغة في سوريا والعراق، والإيرانية في فارس، والقبطية في مصر... وفي المدن تقلد النصارى واليهود مناصب هامة في دوائر المال والكتابة والمهن الحرة، وتمتعوا في ظل الخلافة بقسط وافر من الحرية، ونالوا كثيراً من التساهل والعطف. وشهد بلاط العباسيين مناقشات كتلك التي جرت في بلاط معاوية
وعبد الملك، وقد ألقى تيموتاوس بطريك النساطرة في سنة (781 م) دفاعاً عن النصرانية أمام المهدي، لا يزال محفوظاً نصه إلى اليوم. كذلك تحدّرت إلينا رسالة للكندي تصرح أنها بيان لمناقشة جرت سنة (819 م) في حضرة المأمون في مقابلة بين محاسن الإسلام والنصرانية...
" وكان للعهدين القديم والجديد من الكتاب المقدس ترجمات عربية معروفة، وهناك أخبار تذكر أن رجلاً يُدعى (أحمد بن عبد الله بن سلام) كان قد ترجم التوراة إلى العربية منذ ولاية هارون الرشيد. ولدينا ما يثبت أيضاً أقساماً من التوراة كانت قد نُقلت إلى العربية في القسم الأخير من القرن السابع.
" ثم إننا نعرف وزراء نصارى قاموا في الشطر الثاني من القرن التاسع منهم عبدون بن صاعد.. وكان للمتقي وزير نصراني، كما كان لأحد بني بويه وزير آخر. أما المعتضد فقد جعل في المكتب الحربي لجيش المسلمين رئيساً نصرانياً. وقد نال أمثال هؤلاء النصارى من أصحاب المناصب العالية ما ناله زملاؤهم المسلمون من الإكرام والتبجيل... وكانت أكثرية أطباء الخلفاء أنفسهم من أبناء الكنيسة النسطورية. وقد نُشر أخيراً براءة منحها المكتفي سنة ( 1138 م ) لحماية النساطرة، وهي توضح مدى العلاقات الودية بين رجال الإسلام الرسميين وبين رجال النصرانية.
" ومن أعجب الظواهر في حياة النصرانية في ظل الخلفاء، أنه كان لها من القوة والنشاط ما دفع بها إلى التوسع فافتتحت لها مراكز تبشيرية في الهند والصين..".(/2)
" ولقد لقي اليهود من محاسن المسلمين فوق ما لقيه النصارى بالرغم مما في بعض الآيات القرآنية من تنديد بهم. والسبب أنهم كانوا قليلي العدد فلم يُخش أذاهم. وقد وجد المقدسي سنة (985م) أن أكثر الصيارفة وأرباب البنوك في سورية يهود، وأكثر الكتبة والأطباء نصارى. ونرى في عهد عدد من الخلفاء وأخصهم المعتضد أنه كان لليهود في الدولة مراكز هامة. وكان لهم في بغداد مستعمرة كبيرة ظلت فيها مزدهرة حتى سقوط المدينة. وقد زار هذه المستعمرة بنيامين التطيلي حوالي سنة (1169م) ، فوجد فيها عشر مدارس للحاخامين، وثلاثة وعشرين كنيساً، وأفاض بنيامين في وصف الحفاوة التي لاقاها رئيس اليهود البابليين من المسلمين، بصفته سليل بيت داود النبي عليه السلام ورئيس الملة الإسرائيلية، وقد كان لرئيس الحاخامين هذا من السلطة التشريعية على أبناء طائفته ما كان للجاثليق على جميع النصارى.
وقد روى إنه كانت له ثروة ومكانة وأملاك طائلة فيها الحدائق والبيوت والمزارع الخصبة.
وكان إذا خرج إلى المثول في حضرة الخليفة ارتدى الملابس الحريرية المطرزة، وأحاط به رهط من الفرسان، وجرى أمامه ساع يصيح بأعلى صوته: " أفسحوا درباً لسيدنا ابن داود .."(7).
وما يُقال عن العصرين الأموي والعباسي، يمكن أن يُقال عن العصور التي تلتهما: الفاطميون والأيوبيون والمماليك والعثمانيون، لولا بعض ردود الأفعال الغاضبة التي
اعتمد فيها العنف لأول مرة بسبب من مواقف عدائية معلنة اتخذتها هذه الفئة أو تلك من
أهل الكتاب، فمالأت خصوم المسلمين، ووضعت أيديها بأيدي الغزاة الذين قدموا لإبادتهم وإفنائهم، وتآمرت سراً وجهراً لتدمير عقيدتهم وإزالة ملكهم من الأرض. ويمكن أن يذكر المرء ـ ها هنا ـ المواقف العدائية العديدة التي اتخذها نصارى الشام والجزيرة والموصل والعراق عامة، خلال محنة الغزو المغولي؛ إذ رحبت جماعات منهم بالغزاة، وتآمرت معهم ضد مواطنيهم المسلمين، فاحتضنهم الغزاة واستخدموهم في فرض هيمنتهم، واتخذوهم مخالب لتمزيق أجساد المسلمين الذين عاشوا معهم بحرية وإخاء عبر القرون الطوال، ويمكن أن نتذكر كذلك التجارب المرة نفسها التي مارستها جماعات من اليهود والنصارى في العصر العثماني، وردود الأفعال العثمانية إزاءها.. الخ. لكن هذه الحالات لم تكن في نهاية التحليل، ومن خلال نظرة شمولية لحركة المجتمعات الإسلامية عبر التاريخ، سوى استثناءات أو نقاط سوداء محدودة على صفحة واسعة تشع بياضاً، على العكس تماماً مما شهدته المجتمعات الأخرى؛ حيث كانت حالات الحرية والعدالة وتكافؤ الفرص بين أصحاب الدين الحاكم ومخالفيه نقاطاً استثنائية بيضاء في صفحة تنفث حقداً ودخاناً.
ومن عجب أن مرحلة الحروب الصليبية نفسها، تلك التي دامت حوالي القرنين من الزمن، وكان الغزاة فيها يحملون الطائفية والكراهية ضد كل ما هو إسلامي، والتي
جاءت لكي تدمر على المجتمع الإسلامي أمنه واستقراره، وتفتنه عن دينه لصالح الكنيسة المتعصبة، هذه التجربة المرة لم تسق القيادات والمجتمعات الإسلامية إلى ردود فعل طائفية تقودهم إلى عدم التفرقة، وهم يتحركون بسيوفهم، بين الغزاة وبين النصارى المحليين، رغم أن فئات من هؤلاء تعاونت علناً مع الغزاة ووضعت أيديها في أيديهم، وتآمرت معهم على إنزال الدمار بالإسلام والمسلمين.
ولحسن الحظ فإن الغزاة الذين انطلقوا أساساً من نقطة التعصب والمذهبية، مارسوا الطائفية نفسها إزاء رفاقهم في العقيدة ممن ينتمون لأجنحة نصرانية أخرى، بدءاً من البيزنطيين الأرثوذكس، وانتهاء بجل الفئات النصرانية المحلية، ممن لم تدن بالمذهب الكاثوليكي الذي انضوى تحت لوائه معظم الغزاة، ولولا ذلك لامتدت مساحة التعاون بين الطرفين، فيما كان يمكن أن يؤدي إلى نتائج أكثر وخامة.
المهم إننا لم نشهد عبر مرحلة الحروب الصليبية هذه، بثوراً طائفية، في نسيج المجتمع الإسلامي، كرد فعل لغزو وهو في أساسه ديني متعصب.. لم نسمع بمذبحة ارتكبها المسلمون ضد رفاقهم في الأرض، ولا بعمل انتقامي غير منضبط نفذوه ضد مواطنيهم وأهل ذمتهم!!
وما من شك في أن هذا الانفتاح الذي شهده المجتمع الإسلامي إزاء العناصر غير الإسلامية، والفرص المفتوحة التي منحها إياهم، قاد بعض الفئات ـ كما رأينا ـ إلى ما يمكن عدّه استغلالاً للموقف السمح، ومحاولة لطعن المسلمين في ظهورهم، وتنفيذ محاولات تخريبية على مستوى السلطة حيناً، والعقيدة حيناً، والمجتمع نفسه حيناً ثالثاً،
وإننا لنتذكر هنا ـ على سبيل المثال كذلك ـ ما فعلته الطوائف اليهودية بدءاً من محاولات السبئية، وانتهاء بمؤامرة الدونمة لإسقاط الخلافة العثمانية، وما فعلته بعض الطوائف المجوسية في العصر العباسي فيما يشكل العمود الفقري للحركة الشعوبية، التي استهدفت العرب والمسلمين على السواء.(/3)
لكن هذه الخسائر التي لحقت بالمسلمين، من جراء تعاملهم الإنساني، مع مخالفيهم في العقيدة، والمخاطر التي تعرضوا لها عبر تاريخهم الطويل، من قبل هؤلاء الخصوم الذين استغلوا الفرصة، وسعوا إلى ممارسة التخريب والتآمر والالتفاف، لا تسوّغ البتة، اعتماد صيغ في التعامل، غير تلك التي اعتمدها المسلمون في تاريخهم الاجتماعي الطويل .. وتقاليد غير تلك التي منحهم إياها، ورباهم عليها كتاب الله، وسنة رسوله عليه السلام، وتجارب الآباء والأجداد.
إن الخسائر الجزئية ـ مهما كانت فداحتها ـ لأهون بكثير من الخسارة الكبرى ذات البعد الإنساني، وإن الإسلام نفسه - قبل غيره من الأديان- كان سيخسر الكثير، لو حاول أن يسعى إلى تحصين نفسه بالحقد والطائفية، والردود المتشنّجة التي تجاوز حدودها المعقولة والمسوّغة.
وإن الإنسان نفسه كان سيغدو الضحية، لو أن المجتمع الإسلامي خرج على التقاليد النبيلة المتألقة التي علّمه إياها رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ؛ لأنه ـ فيما عدا التاريخ الإسلامي ـ فإنه ليس ثمة في تاريخ البشرية، قديماً وحديثاً، مرحلة كتاريخ الإسلام احترم فيها فكر المخالفين وصينت عقائدهم، وحُميت حقوقهم، بل كانوا ـ على العكس تماماً ـ هدفاً للاستعباد والهوان والضياع، بل التصفية والإفناء.
لم يكن هدف الفتوحات الإسلامية جميعها، منذ عصر الرسول القائد - صلى الله عليه وسلم- وحتى سقوط العثمانيين، فرض العقيدة الإسلامية بالقوة كما يتعمد البعض أن يصور أو يتصور.
إنما نشر السيادة والمنهج الإسلامي في العالم. إنها محاولة جادة لتسلم القيادة من الأرباب والطواغيت، وتحويلها إلى أناس يؤمنون بالله واليوم الآخر، ولا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً.
وتحت ظلال هذه القيادة، كان بمقدور الناس، وقد حُرّروا تماماً من أي ضغط أو تأثير مضاد أن ينتموا للعقيدة التي يشاؤون، ولما كانت عقيدة الإسلام هي الأرقى والأجدر والأكثر انسجاماً مع مطالب الإنسان بأي مقياس من المقاييس، كان من الطبيعي أن تنتشر بين الناس، وأن ينتمي إليها الأفراد والجماعات بالسرعة التي تبدو للوهلة الأولى أمراً محيراً، ولكن بالتوغل في الأمر يتبين مدى منطقية هذا الإقبال السريع الذي يختزل الحيثيات، انتماءً إلى الإسلام وتحققاً بعقيدته.. إنه الجذب الفعّال الذي تملكه هذه العقيدة، والاستجابة الحيوية لحاجات الإنسان في أشدها اعتدالاً وتوازناً وانسجاماً، تلك التي يحققها هذا الدين.
إن سير توماس أرنولد، وهو رجل من الغرب سبق وان أشرنا إليه، يتفرغ السنين الطوال لمتابعة هذه المسألة، ثم يعلنها في كتابه المعروف (الدعوة إلى الإسلام) بوضوح لا لبس فيه، واستناد علمي على الحقائق وحدها بعيداً عن التأويلات والتحزّبات والميول والأهواء. ونكتفي هنا ببعض الشهادات التي قدمها هذا الباحث كنماذج تؤكد البعد الإنساني للسلوكية التي اعتمدها الإسلام في الانتشار. يقول الرجل: "يمكننا أن نَحكُم من الصلات الودية التي قامت بين المسيحيين والمسلمين من العرب بأن القوة لم تكن عاملاً حاسماً في تحويل الناس إلى الإسلام. فمحمد نفسه عقد حلفاً مع بعض القبائل المسيحية، وأخذ على عاتقه حمايتهم ومنحهم الحرية في إقامة شعائرهم الدينية، كما أتاح لرجال الكنيسة أن ينعموا بحقوقهم ونفوذهم القديم في أمن وطمأنينة"(8). "إن الأخبار الخاصة بزوال المسيحية من بين القبائل العربية النصرانية التي كانت تعيش في بلاد العرب الشمالية، لا تزال بحاجة إلى شيء من التفصيل، والظاهر أنهم قد انتهوا إلى الامتزاج بالمجتمع الإسلامي الذي كان يحيط بهم عن طريق ما يسمونه الاندماج السلمي، والذي تم بطريقة لم يحسسها أحد منهم، ولو(/4)
أن المسلمين حاولوا إدخالهم في الإسلام بالقوة عندما انضووا بادئ الأمر تحت الحكم الإسلامي، لما كان من الممكن أن يعيش المسيحيون بين ظهرانيهم حتى عصر الخلفاء العباسيين"(9) ، "ومن هذه الأمثلة التي قدمناها عن ذلك التسامح الذي بسطه المسلمون الظافرون على العرب المسيحيين في القرن الأول من الهجرة، واستمر في الأجيال المتعاقبة، نستطيع أن نستخلص بحق أن هذه القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام إنما فعلت ذلك عن اختيار وإرادة حرة، وإن العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا بين جماعات مسلمة لشاهد على هذا التسامح"(10) ، "لما بلغ الجيش الإسلامي وادي الأردن وعسكر أبو عبيدة في فحل، كتب الأهالي المسيحيون في هذه البلاد إلى العرب يقولون: (يا معشر العرب أنتم أحب إلينا من الروم وإن كانوا على ديننا، أنتم أوفى لنا وأرأف بنا وأكف عن ظلمنا وأحسن ولاية علينا. ولكنهم غلبونا على أمرنا وعلى منازلنا) ، وأغلق أهل حمص مدينتهم دون جيوش هرقل، وأبلغوا المسلمين أن ولايتهم أحب إليهم من ظلم الإغريق وتعسفهم"(11) ، " أما ولايات الدولة البيزنطية التي سرعان ما استولى عليها المسلمون ببسالتهم، فقد وجدت أنها تتمتع بحالة من التسامح لم تعرفها طوال قرون كثيرة، بسبب ما شاع بينهم من الآراء اليعقوبية والنسطورية، فقد سُمح لهم أن يؤدّوا شعائر دينهم دون أن يتعرض لهم أحد، اللهم إلا إذا استثنينا بعض القيود التي فُرضت عليهم منعاً لإثارة أي احتكاك بين أتباع الديانات المتنافسة. ويمكن الحكم على مدى هذا التسامح ـ الذي يلفت النظر في تاريخ القرن السابع ـ من هذه العهود التي أعطاها العرب لأهالي المدن التي استولوا عليها، وتعهدوا لهم بحماية أرواحهم وممتلكاتهم وإطلاق الحرية الدينية لهم في مقابل الإذعان ودفع الجزية(12) " وقد زار عمر الأماكن المقدسة يصحبه البطريق، وقيل: إنه بينما كانا في كنيسة القيامة- وقد حان وقت الصلاة- طلب البطريق إلى عمر أن يصلي هناك، ولكنه بعد أن فكر اعتذر وهو يقول: إنه إن فعل ذلك فإن أتباعه قد يدعون فيما بعد أنه محل لعبادة المسلمين"(13) " وكان المسيحيون يؤدون الجزية مع سائر أهل الذمة الذين كانت تحول ديانتهم بينهم وبين الخدمة في الجيش مقابل الحماية التي كفلتها لهم سيوف المسلمين"(14) ، " ولما كان المسيحيون يعيشون في مجتمعاتهم آمنين على حياتهم وممتلكاتهم، ناعمين بمثل هذا التسامح الذي منحهم
حرية التفكير الديني، تمتعوا- وخاصة في المدن- بحالة من الرفاهية والرخاء في
الأيام الأولى من الخلافة"(15) ، " زار راهب دومنيكاني من فلورنسا ويدعى
(Ricoldos de Monre Crucis) بلاد الشرق حوالي نهاية القرن الثالث عشر وبداية القرن الرابع عشر، وتحدث عن روح التسامح التي تمتع بها النساطرة إلى عصره في ظل الحكم الإسلامي فقال: "قرأت في التاريخ القديم وفي مؤلفات للعرب موثوق بها أن النساطرة أنفسهم كانوا أصدقاء لمحمد وحلفاء له، وأن محمداً نفسه قد أوصى خلفاءه أن يحرصوا على صداقتهم مع النساطرة، التي يرعاها العرب أنفسهم حتى ذلك اليوم بشيء من العناية"(16) ، وإذا نظرنا إلى التسامح الذي امتد على هذا النحو إلى رعايا المسلمين من المسيحيين في صدر الحكم الإسلامي، ظهر أن الفكرة التي شاعت بأن السيف كان العامل في تحويل الناس إلى الإسلام بعيدة عن التصديق"(17) ، "إننا لم نسمع عن أي محاولة مدبرة لإرغام الطوائف من غير المسلمين على قبول الإسلام، أو عن أي اضطهاد منظم قُصد منه استئصال الدين المسيحي. ولو اختار الخلفاء تنفيذ إحدى الخطتين لاكتسحوا المسيحية بتلك السهولة التي أقصى بها فرديناند وإيزابيلا دين الإسلام من أسبانيا، أو التي جعل بها لويس الرابع عشر المذهب البروتستانتي مذهباً يعاقب عليه متبعوه في فرنسا، أو بتلك السهولة التي ظل بها اليهود مبعدين عن إنجلترا مدة خمسين وثلاثمائة سنة. وكانت الكنائس الشرقية في آسيا قد انعزلت انعزالاً تاماً عن سائر العالم المسيحي الذي لم يوجد في جميع أنحائه أحد يقف في جانبهم بصفتهم طوائف خارجة عن الدين. ولهذا فإن مجرد بقاء الكنائس حتى الآن ليحمل في
طياته الدليل القوي على ما قامت عليه سياسة الحكومات الإسلامية بوجه عام من تسامح نحوهم"(18) ، " جلب الفتح الإسلامي إلى الأقباط في مصر حياة تقوم على الحرية الدينية التي لم ينعموا بها قبل ذلك بقرن من الزمان. وقد تركهم عمرو أحراراً على أن يدفعوا الجزية، وكفل لهم الحرية في إقامة شعائرهم الدينية، وخلصهم بذلك؛ من التدخل المستمر الذي عانوا من عبثه الثقيل في ظل الحكم الروماني.. وليس هناك شاهد من الشواهد يدل على أن ارتداد الأقباط عن دينهم ودخولهم في الإسلام على نطاق واسع كان راجعاً إلى اضطهاد أو ضغط يقوم على عدم التسامح من جانب حكامهم الحديثين. بل لقد تحول كثير من هؤلاء القبط(/5)
إلى الإسلام قبل أن يتم الفتح، حين كانت الإسكندرية حاضرة مصر وقتئذ لا تزال تقاوم الفاتحين، وسار كثير من القبط على نهج إخوانهم بعد ذلك بسنين قليلة"(19).
هذه لمحات عن منطقة محدودة فحسب هي العراق والشام، ومصر إلى حد ما، من العالم الذي امتد إليه الإسلام وتعامل معه، فهنالك بلاد فارس وأواسط آسيا، وإفريقية، وأسبانيا، وجنوبي أوروبا وشرقيها، والهند والصين، وجنوب آسيا، مما تحدث عنه أرنولد فأطال الحديث.
________________________________________
(1) ينظر المرجع نفسه للإطلاع على المزيد من الشواهد.
(2) حضارة العرب ، ترجمة عادل زعيتر ، ط3 ، دار إحياء الكتب العلمية ، القاهرة
ـ 1956 م ، ص 336.
(3) ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ، ط5 ، مكتبة دار العروبة ، القاهرة ـ 1964 م ،
ص 29 ـ 30.
(4) المرجع نفسه ، ص 36 ـ 37.
(5) وهو الكتاب الرابع من دولة الإسلام في الأندلس ، ط2 ، مطبعة مصر ، القاهرة
ـ 1958 م.
(6) تاريخ العرب المطول ، ط4 ، دار الكشاف ، بيروت ـ 1965 م ، 1/ 301 ـ 302.
(7) المرجع نفسه 2 / 432 ـ 438 وينظر : ول ديورنت : قصة الحضارة ، ترجمة
محمد بدران وآخرين ، ط2 ، لجنة التأليف والترجمة والنشر ، القاهرة ـ 1964 ـ 1967 م، 13 / 131 ، وآرثر ستانلي تريتون : أهل الذمة في الإسلام ، ترجمة وتعليق د. حسن حبشي، ط2 ، دار المعارف ، القاهرة ـ 1967 م ، ص 170.
(8) الدعوة إلى الإسلام ، ص 65.
(9) المرجع نفسه ، ص 68.
(10) المرجع نفسه ، ص 69 ـ 70.
(11) المرجع نفسه ، ص 73.
(12) المرجع نفسه ، ص 74.
(13) المرجع نفسه ، ص 75.
(14) المرجع نفسه ، ص 79.
(15) المرجع نفسه ، ص 81.
(16) المرجع نفسه ، هامش 1 ، ص 81.
(17) المرجع نفسه ، ص 88.
(18) المرجع نفسه ، ص 98 ـ 99.
(19) المرجع نفسه ، ص 123 ـ 124.
شهادة التاريخ ... (1)
أ. د. عماد الدين خليل 16/11/1426
18/12/2005
[ 1 ]
ليس من مهمة هذا البحث متابعة المعطيات الفقهية الخصبة والمتميزة بصدد التعامل مع الآخر، وإنما التأشير على بعض الممارسات التاريخية كشواهد فحسب، من بين سيل من الوقائع لا يكاد يحصيها عدّ، تؤكد فيما لا يدع أي مجال للشك في أن النصارى واليهود من أهل الكتاب، وغيرهما من الفرق الدينية الأخرى، عاشوا حياتهم، ومارسوا حقوقهم الدينية والمدنية على مداها في ديار الإسلام، فيما لم تشهده ولن تشهده أية تجربة تاريخية في العالم.
إن التاريخ هو الحكم الفصل في قدرة المذاهب والأديان على التماسّ مع الواقع، وتحويل "الكلمة" إلى فعل منظور.
ابتداءً.. ما الذي أرادت التأسيسات القرآنية أن تقوله فانعكس ـ بالتالي ـ في نسيج الفعل التاريخي بين المسلم وغير المسلم؟
إن التغاير والاختلاف قائمان في صميم العلاقات البشرية، والتوحّد في وجوهه كافة لا ينفي التغاير، كما أن هذا لا ينفي التوحّد، إنهما يتداخلان ويتوازيان ويؤثر أحدهما في الآخر، بل قد يرفده بعناصر القوة والخصب والنماء. قد تحدث حالات تقاطع تقود أحياناً إلى النفي والتعارض، لكن الخط الأكثر عمقاً وامتداداً هو أن التجربة البشرية من لحظات تشكلها الأولى وحتى يقوم الحساب، إنما هي تجربة تتعدد فيها الانتماءات وتتغير العلاقات وتتنوع القناعات، وأن هذا التغاير في حدوده المعقولة، ومن خلال تعامله مع الثوابت التوحيدية، هو الذي يمنح التاريخ البشري، ليس فقط تفرده وخصوصيته، وإنما قدرته على الفعل والصيرورة.
في المنظور القرآني يبدو التنوع مستقطباً عبر مجراه الطويل بكلمتي الإيمان والكفر، أو الحق والباطل، ترفده جداول وأنهار متشابكة تجيء من هذا الصوب أو ذاك، ومن خلال هذا التغاير تتحرك مياه التاريخ فلا تركد ولا تأسن، وتحفظ بهذا قدرتها على التدفق والنقاء.
إن الإرادة الحرة والاختيار المفتوح اللذين مُنحا للإنسان فرداً وجماعة، للانتماء إلى هذا المذهب أو ذاك، يقودان بالضرورة إلى عدم توحد البشرية وتحوّلها إلى معسكر واحد.. إن قيمة الحياة الدنيا وصيرورتها المبدعة تكمن في هذا التغاير، وإن حكمة الله سبحانه شاءت ـ حتى بالنسبة للكتلة أو المعسكر الواحد ـ أن تشهد انقساماً وتغايراً وتنوّعاً وصراعاً.
والقرآن الكريم يحدثنا عن هذا التغاير في أكثر من صورة ووفق أشد الصيغ واقعية ووضوحاً: ( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات) [المائدة : 48] ، ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) [هود: 118ـ 119] ،
( تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ...)[البقرة: من الآية 253]، (...ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات، ولكن اختلفوا، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد) [البقرة:من الآية 253].(/6)
بل إن القرآن انطلاقاً من منظوره الواقعي لحركة التاريخ البشري، يبين في أكثر من موضع أن (الأكثريات) البشرية تقف دائماً بمواجهة الحق الذي لا تنتمي إليه إلاّ القلة الطليعية الرائدة، نظراً لما يتطلبه هذا الانتماء من جهد وتضحية وعطاء
لا يحتملها الكثيرون: (بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون) [المؤمنون: 70].
وكثيراً ما يكون اختلاف الألسنة والألوان، الذي يعقبه تغاير الثقافات وتعدد
الأعراق، أحد العوامل الأساسية التي تكمن وراء التنوع التاريخي الذي هو بحد ذاته صيغة من صيغ الإبداع الإلهي في العالم: ( ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم إذا أنتم بشر تنتشرون)[الروم:20].
(ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين) [الروم : 22].
أما عن الهدف من وراء هذا التغاير فإن القرآن يجيب: (...ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض، ولكن الله ذو فضل على العالمين) [البقرة: 251].
( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً، ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز) [الحج: 40].
تلك هي الأمور الأساسية، إن هذا التغاير والتدافع المركوز في جبلة بني آدم يقود إلى (تحريك) الحياة نحو الأحسن، وتخطي مواقع السكون والفساد، ومنح القدرة للقوى الإنسانية الراشدة كي تشد عزائمها قبالة التحديات، وأن تسعى لتحقيق المجتمع المؤمن الذي ينفذ أمر الله وكلمته في العالم.
وثمة آيات أخرى تبين كيف أن هذا التغاير الذي يعقب تدافعاً وصراعاً إنما هو ميدان حيوي للكشف عن مواقف الجماعة البشرية، والتعرف على أصالة المؤمنين. ففي جحيم
القتال، وعلى وهجه المضيء يتضح الذهب من التراب، ويتميز الطيب من الخبيث، وتتحول التجربة إلى منخال كبير يسقط، وهو يتحرك يميناً وشمالاً، كل الضعفة والمنافقين والعاجزين والمتردّدين في مواصلة الحركة صوب المصير المرسوم: ( ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم) [محمد: 31] ، (ليميز الله الخبيث من الطيب، ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً فيجعله في جهنم، أولئك هم الخاسرون). [الأنفال: 37].
وما أكثر ما يتساءل الإنسان عن الحكمة من التقاتل، وما أكثر ما تخيل الفلاسفة والمفكرون عالماً لا يشهد قتالاً ولا تُسفك في ساحته الدماء، ولكن هيهات ما دامت المسألة مرتبطة في جذورها بالوجود البشري المتغاير المتنوع. ولا يزال الصراع أمراً لا مفر منه إذا ما أريد للحياة الإنسانية أن تتحرك وتتقدم وتتجاوز مواقع السكون والفساد: (كتب عليكم القتال وهو كره لكم، وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم، والله يعلم وأنتم لا تعلمون) [البقرة: 216].
إلا أن القرآن ـ وهو يتحدث عن الصراع الناجم عن التغاير البشري في المذاهب والأجناس واللغات والمصالح والبيئات الجغرافية ـ لا يقصر المسألة على التقاتل والتدافع، إنما يمدها إلى ساحة أوسع، ويعطي للتغاير البشري آفاقاً بعيدة المدى، تبدأ بإشهار السلاح، وتمتد لكي تصل إلى الموقف الأكثر إيجابية، والذي يجعل هذا التغاير سبباً لعلاقات إنسانية متبادلة بين الأمم والأقوام والشعوب للتقارب والتعاون والتعارف، مع بقاء كل منها على مذهبه أو جنسه أو لونه أو لغته أو بيئته الجغرافية: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله اتقاكم، إن الله عليم خبير)
[الحجرات: 13].
[ 2 ]
وجاء تاريخنا الإسلامي لكي يمنح مساحة واسعة للتغاير، وقبول الآخر، والتحاور معه.. والوقائع في هذا السياق كثيفة جداً ،ولذا سنكتفي بالتأشير على بعضها.
فمنذ بدايات مبكرة قدم عصر الرسالة إزاء أهل الذمة، يهوداً ونصارى، موقفاً منفتحاً رسمت من خلاله تقاليد العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين، ووُضعت أصولها ونُظّمت صيغها، وعندما مضت حركة التاريخ صوب العصور التالية مضت معها هذه التقاليد والأصول والصيغ تعمل في مجرى العلاقات الاجتماعية، وما حدث بين الحين والحين من خروج عليها فإنه لم يتجاوز أن يكون شذوذاً على القاعدة ازدادت تأكيداً بمرور الأيام.(/7)
ما الذي أراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقوله وينفذه إزاء غير المسلمين من أهل الكتاب؟ إن بمقدور القارئ أن يرجع إلى كتب السيرة للعثور على الجواب الشامل بجزئياته وتفاصيله(1)، ولكننا نود أن نشير مجرد إشارة إلى العهد الذي كتبه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أعقاب غزوة تبوك عام 9 هـ لنصارى نجران، ذلك العهد الذي يمثل قمة من قمم العدل والسماحة والحرية، والذي لم يفرض عليهم فيه سوى جزية عينية متواضعة، وقد جاء فيه: " ولنجران وحاشيتهم جوار الله ... ومن سأل منهم حقاً فبينهم النصف غير ظالمين ولا مظلومين... ولا يُؤاخذ أحد منهم بظلم آخر. وعلى ما في هذه الصحيفة جوار الله وذمة النبي - صلى الله عليه وسلم- أبداً، حتى يأتي الله بأمره إن نصحوا وأصلحوا فيما عليهم"(2)، وقد دخل يهود نجران في هذا الصلح(3).
كما نود أن نشير إلى العهود التي كتبها لعدد من التجمعات اليهودية في شمال
الجزيرة ، بعد غزوة خيبر ( 7 هـ ) والسنين التي تلتها؛ إذ بعث إلى بني جنبة بمقنة القريبة من أيلة على خليج العقبة: "أما بعد، فقد نزل علي رسلكم راجعين إلى قريتكم، فإذا جاءكم كتابي هذا فإنكم آمنون لكم ذمة الله وذمة رسوله، وإن رسول الله غافر لكم سيئاتكم وكل ذنوبكم، لا ظلم عليكم ولا عدى، وإن رسول الله جاركم مما منع منه نفسه.. وإن عليكم ريع ما أخرجت نخلكم وصادت عروككم (مراكبكم) واغتزل نساؤكم، وإنكم برئتم بعد من كل جزية أو سخرة، فإن سمعتم وأطعتم فإن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم-
أن يكرم كريمكم ويعفو عن مسيئكم، وأن ليس عليكم أمير إلا من أنفسكم أو من أهل رسول الله...". وكتب لجماعة أخرى من اليهود تدعى (بني غاديا): "... إن لهم الذمة وعليهم الجزية ولا عداء"، كما كتب لبني عريض كتاباً آخر يحدد فيه ما عليهم أن يدفعوا للمسلمين لقاء حمايتهم لهم وعدم ظلمهم إياهم(4).
وكتب لأهل جرباء وأذرح من اليهود: "إنهم آمنون بأمان الله وأمان محمد، وأن عليهم مائة دينار في كل رجب وافية طيبة، والله كفيل عليهم بالنصح والإحسان للمسلمين، ومن لجأ إليه من المسلمين"(5) وبذلك تمكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- من تحويل هذه التجمعات اليهودية إلى جماعات من المواطنين في الدولة الإسلامية يدفعون لها ما تفرضه عليهم من ضرائب نقدية أو عينية، ويحتمون بقوتها وسلطانها، ويتمتعون بعدلها وسماحتها. ولقد ظل اليهودـ والنصارى بطبيعة الحال ـ كمواطنين وليسوا كتلاً سياسية أو عسكرية ـ يمارسون حقوقهم في إطار الدولة الإسلامية لا يمسسهم أحد بسوء، وعاد بعضهم إلى
المدينة، بدليل ما ورد عن عدد منهم في سيرة ابن هشام وفي مغازي الواقدي. وهناك الكثير من الروايات والنصوص التاريخية التي تدل على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم- كان يعامل اليهود بعد غزوة خيبر بروح التسامح، حتى إنه أوصى عامله معاذ بن جبل: "بأن لا يفتن اليهود عن يهوديتهم"، وعلى هذا النحو عومل يهود البحرين؛ إذ لم يُكلّفوا إلا بدفع الجزية، وبقوا متمسكين بدين آبائهم(6). وجاء الراشدون لكي يشهد المجتمع الإسلامي تنفيذاً في العلاقات الإنسانية بين المسلمين وغيرهم لا يقل تفرداً وتألقاً عما شهده عصر الرسالة. فلقد كان العصر الجديد عصر الفتوح والامتداد الإسلامي في مشارق الأرض ومغاربها، وكانت مساحات واسعة من الأراضي التي بلغها الإسلام تضم حشوداً كبيرة من اليهود والنصارى والمجوس والطوائف الدينية الأخرى. لقد أصبح المجتمع الإسلامي بحركة الفتح هذه مجتمعاً عالمياً ضم جناحيه على أعداد كبيرة من الأجناس والأديان والأقوام والجماعات والمذاهب والفرق والاتجاهات، ونريد أن نعرف كيف تم التعامل معها عبر عمليات الفتح أولاً، وبعد استقرار الوجود الإسلامي ثانياً، وهل تمكن المسلمون من الاستجابة لتحديات التنوع المذهبي في مجتمعهم العالمي الجديد؟
يقول السير (توماس أرنولد) الذي سنعتمد على عدد من شهاداته بهذا الصدد في كتابه المعروف: (الدعوة إلى الإسلام The Preaching to Islam) الذي يتضمن تحليلاً مدعماً بالوثائق والنصوص للصيغ الإنسانية التي اتبعها الإسلام في تعامله مع أبناء المذاهب الأخرى.(/8)
" ... لما قدم أهل الحيرة المال المتفق عليه ذكروا صراحة أنهم إنما دفعوا هذه الجزية على شريطة "أن يمنعونا وأميرهم البغي من المسلمين وغيرهم"، وكذلك حدث أن سجل خالد في المعاهدة التي أبرمها أهالي المدن المجاورة للحيرة قوله: "فإن منعناكم فلنا الجزية وإلا فلا". ويمكن الحكم على مدى اعتراف المسلمين الصريح بهذا الشرط من تلك الحادثة التي وقعت في حكم الخليفة عمر: لما حشد الإمبراطور هرقل جيشاً ضخماً لصد قوات المسلمين كان لزاماً على المسلمين-نتيجة لما حدث- أن يركزوا كل نشاطهم في المعركة التي أحدقت بهم. فلما علم بذلك أبو عبيدة قائد العرب كتب إلى عمال المدن المفتوحة في الشام يأمرهم أن يردوا عليه ما جُبي من الجزية من هذه المدن، وكتب إلى الناس يقول: " إنما رددنا عليكم أموالكم لأنه بلغنا ما جمع لنا من الجموع، وإنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم ونحن لكم على الشرط، وما كتبنا بيننا إن نصرنا الله عليهم"، وبذلك رُدّت مبالغ طائلة من مال الدولة، فدعا المسيحيون بالبركة لرؤساء المسلمين وقالوا: "ردكم الله علينا ونصركم عليهم ـ أي على الروم ـ فلو كانوا هم لم يردوا شيئاً وأخذوا كل شيء بقي لنا"(7).
" يكشف تاريخ النساطرة عن نهضة رائعة في الحياة الدينية وعن نواحي نشاطهم منذ أن صاروا رعية للمسلمين. وكان أكاسرة الفرس يدللون هذه الطائفة تارة ويضطهدونها تارة أخرى؛ إذ كان السواد الأعظم من أفرادها يقيمون في ولايات هؤلاء الأكاسرة، بل مرّوا بحياة أشد من هذه خطورة، وخضعوا لمعاملة خشنة قاسية حين جعلتهم الحرب بين فارس وبيزنطة عرضة لشك الفرس فيهم، بأنهم كانوا يمالئون أعداءهم من المسيحيين. ولكن الأمن الذي نعموا به في بلادهم في عهد الخلفاء قد مكنهم من أن يسيروا قدماً في سبيل أعمالهم التبشيرية في الخارج، فأرسلوا البعوث الدينية إلى الصين والهند، وارتقى كل منهم إلى مرتبة المطرانية في القرن الثامن الميلادي. وفي العصر نفسه تقريباً رسخت أقدامهم في مصر، ثم أشاعوا فيما بعد العقيدة المسيحية في آسيا، حتى إذا جاء القرن الحادي عشر كانوا قد جذبوا عدداً كبيراً ممن اعتنقوا المسيحية من بين التتار. وإذا كانت الطوائف المسيحية الأخرى قد أخفقت في إظهار مثل هذا النشاط القوي، فليس هذا الإخفاق خطأ المسلمين؛ إذ كانت الحكومة المركزية العليا تتسامح مع جميعهم على السواء، وكانت فضلاً عن ذلك تصدهم عن أن يضطهد بعضهم بعضاً. وفي القرن الخامس الميلادي كان (برصوما)، وهو أسقف نسطوري، قد أغرى ملك الفرس بأن يدبر اضطهاداً عنيفاً للكنيسة الأرثوذكسية، وذلك بإظهار نسطور بمظهر الصديق للفرس، وإظهار مبادئه بأنها أكثر ميلاً إلى مبادئهم.
" ويُقال: إن عدداً يبلغ (7800) من رجال الكنيسة الأرثوذكسية مع عدد ضخم من العلمانيين، قد ذُبحوا في هذا الاضطهاد. وقام خسرو الثاني باضطهاد آخر للأرثوذكس بعد أن غزا هرقل بلاد فارس، وذلك بتحريض أحد اليعاقبة الذي أقنع الملك بأن الأرثوذكس سوف يظهرون بمظهر العطف والميل إلى البيزنطيين. ولكن مبادئ المسلمين على خلاف غيرهم؛ إذ يظهر لنا أنهم لم يألوا جهداً في أن يعاملوا كل رعاياهم من المسيحيين بالعدل والقسطاس. مثال ذلك أنه بعد فتح مصر استغل اليعاقبة فرصة إقصاء السلطات البيزنطية ليسلبوا الأرثوذكس كنائسهم، ولكن المسلمين أعادوها أخيراً إلى أصحابها الشرعيين بعد أن دلل الأرثوذكس على ملكيتهم لها"(8).
"ومما يدل على أن تحوّل المسيحيين إلى الإسلام ـ في مصر ـ لم يكن راجعاً إلى الاضطهاد، ما وقفنا عليه من الشواهد التاريخية الأصلية، وهو أنه في الوقت الذي شغر فيه كرسي البطريركية تمتع المسيحيون بالحرية التامة في إقامة شعائرهم، وسُمح لهم بإعادة بناء كنائسهم، بل ببناء كنائس جديدة، وتخلّصوا من القيود التي حتمت عليهم أن يركبوا الحمير والبغال، وحوكموا في محاكمهم الخاصة، على حين أُعفي الرهبان من دفع الجزية ومُنحوا امتيازات معينة"(9).
________________________________________
(1) ينظر : عماد الدين خليل : دراسة في السيرة ، ط15 ، دار النفائس ، بيروت ـ 1997م ، الفصلان الثامن والتاسع.
(2) محمد بن سعد ( ت 230 هـ ) كتاب الطبقات الكبرى ، تحقيق ادوارد سخاو ورفاقه ، مصور عن طبعة ليدن ، بريل ـ 1325 هـ ( بدون تاريخ ) 1/2/36 ، 84 ـ 85 ، أحمد بن يحيى البلاذري
( ت 279 هـ ) ، فتوح البلدان ، تحقيق صلاح الدين المنجد ، مكتبة النهضة ، القاهرة 1957 م ، 1/76 ـ 78 ، أحمد بن واضح اليعقوبي ( ت 282 هـ ) ، تاريخ اليعقوبي ، تحقيق محمد صالح بحر العلوم ، المكتبة الحيدرية ، النجف ـ 1964 م ، 2 / 71 ـ 72.
(3) البلاذري : فتوح البلدان 1 / 78.
(4) ابن سعد : الطبقات 1/2/28 ـ 30.
(5) المصدر نفسه 1 / 2 / 38.
(6) عماد الدين خليل : دراسة في السيرة ص 358.(/9)
(7) الدعوة إلى الإسلام ، ترجمة وتعليق حسن إبراهيم حسن ورفاقه ، ط3 مكتبة النهضة ، القاهرة ـ
1971 ، ص 79.
(8) المرجع نفسه ، ص 86 ـ 88.
(9) المرجع نفسه ، ص 130.(/10)
شهادة الهانم وشهادة البواب ...
أم معاوية ...
...
من بين اعتراضات المتبجحين على أحكام الله ، الداعين إلى تخدير المرأة .... اعتراضهم على كون شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل .... حيث جعل الإسلام نصاب الشهادة التي تثبت الحقوق لأصحابها شهادة رجلين عدلين أو رجل وامرأتين قال تعالى: ? وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى?[البقرة: 282]
فيعترض المعترضون بأن هذا انتقاص للمرأة ولكرامتها .... بينما الواضح أن هذا التفاوت لا علاقة له بالإنسانية ولا بالكرامة ولا بالأهلية ، إذ أن هذا الأمر وهو اشتراط اثنتين مع رجل واحد هو أمر خارج عن كرامة المرأة واعتبارها واحترامها ، فالأصل في المرأة القرار في بيتها والقيام عليه وعلى تربية أولادها ورعايتهم ورعاية زوجها وهذا يقتضيها لزوم بيتها في غالب الأوقات .... وخاصة أوقات البيع والشراء .... فإذا ما اضطرت في بعض الأحوال إلى مخالطة الرجال في شئون العمل والحياة فإنها تتحفظ في هذا الاختلاط .... هذا إن دعت إليه ضرورة .... فالأصل فيها إذن عدم حضور العقود المالية وحالات البيع والشراء إلا نادراً فإذا حضرت شيئاً من ذلك فإن قلة ممارستها له، وعدم حرصها على تذكره حين مشاهدته تجعلها تمر به عابرة لا تلقى له بالا ولا تستوعبه من جميع جوانبه فإذا جاءت تشهد به أمام القاضي كان احتمال نسيانها أو خطئها ووهمها هو الغالب .... فإذا شهدت امرأة أخرى بمثل ما تشهد به زال احتمال النسيان والخطأ.
والحقوق لابد من التثبت فيها ومن بَذْل القاضي غايةَ جهده لإحقاق الحق وإبطال الباطل. ومن هنا كان التعليل في الآية نفسها ? أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى ?[البقرة:282] .... .
وقد ذهب كثير من الفقهاء انطلاقا من هذا المعنى نفسه إلى أن شهادة النساء لا تقبل في الجنايات .... وليس ذلك إلا لأنها - يعنى المرأة - غالباً ما تكون قائمة بشئون بيتها .. لا يتيسر لها أن تحضر مجالس الخصومات التي قد تنتهي بجرائم قتل أو نحوه .. فإذا حضرتها فقََلَّ أن تستطيع البقاء إلى أن تشهد جريمة القتل بعينها وتظل رابطة الجأش .. والغالب على المرأة في مثل هذه الأحوال إما أن يغمى عليها أو أن تسارع بالفرار .... فإن لم تستطع أغمضت عينيها وصرخت وما إلى ذلك مما تفعله النساء في هذه الأمور .....
فإذا فعلت هذا فكيف يمكن لها أن تؤدى الشهادة كاملة وتصف الجريمة ومرتكبيها وأدواتها وكيفية وقوعها؟!!.
وإذا كانت الحدود تدرأ بالشبهات فإن شهادة المرأة في القتل وأشباهه تحيط به الشبهة أي شبهة عدم التثبت من وصف الجريمة.
ويؤكد هذا المعنى في الاحتياط لشهادتها فيما ليس من شأنها أن تحضره غالباً .... أن الشريعة قبلت شهادتها وحدها فيما لا يطلع عليه أحد غيرها أو ما تطلع عليه هي من دون الرجال .... فقد قرروا أن شهادتها وحدها تقبل في إثبات الولادة والثيوبة والبكارة وغيرها لدى المرأة ـ هذا حين كان لا يتولى توليد النساء وتطبيبهن والاطلاع على عوراتهن إلا النساء ـ فرحم الله زماناً مضى ....!.
فليست المسألة إذا مسألة كرامة وإهانة .. وأهلية وعدم أهلية ، إنما هي مسألة تثبت في الأحكام واحتياط في القضاء بها وهذا كل ما يحرص عليه كل تشريع عادل .....
فإذا كان الأمر كذلك! فماذا نقول لمن يشغبون علينا بين الحين والآخر ويشنعون على الإسلام في هذه القضية وغيرها ، ويعترضون على حكم أقره العليم الخبير الحكيم .... ويدَّعون أن الإسلام انتقص المرأة .... حتى لقد قالت إحدى المتبجحات الرافضات لشرع الله وحكمه من اللواتي ضللن وأضللن .... قالت: "كيف تعدل شهادتي النصف من شهادة بواب عمارتي! .... وأنا ومن أنا ـ تعني مركزها الوظيفي والثقافي والتخريبي في المجتمع ـ وهو ومن هو؟" نقول لها ولأمثالها قول الله عز وجل: ? وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ?[المؤمنون:71]
? وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً?[الأحزاب:36]
?تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ?[البقرة:229]
? وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ?[الشعراء:227] وفي هذا كفاية .... ورحم الله امرءا عرف قدر نفسه!.(/1)
شهادة لا إله إلا الله معناها وفضلها
د / عبدالله بن عبدالعزيز الجبرين [*]
معنى شهادة ( لا إله إلا الله ) إجمالاً : لا معبود بحق إلا الله تعالى [1] أي أنه لا أحد يستحق أن يعبد إلا الله تعالى ، فلا يجوز أن يدعى إلا الله تعالى ، ولا يجوز أن يصلى ، أو ينذر ، أو يذبخ ، إلا لله تعالى وهكذا بقية أنواع العبادة .
قال علامة اليمن الإمام المجتهد محمد بن إسماعيل الصنعاني : ( ومعناها : إفراد الله بالعبادة والإلهية ، والبراءة من كل معبود دونه ) [2] .
فـ ( لا ) نافية للجنس . و ( إله ) اسمها ، وخبرها محذوف تقديره ( حق ) .
و ( إله ) من ( أَله ) بالفتح ، ( يأله ) ، ( إلاهه ) ، والمعنى ( عبد ) ، ( يعبد ) ،
( عبادة ) [3] .
و ( الإله ) هو المعبود المطاع ، الذي تألهه القلوب بالمحبة ، والتعظيم ، والخضوع ، والخوف ، وتوابع ذلك من بقية أنواع العبادة.
واسم ( الله ) علم على ذات الرب تعالى المقدسة ، لا يطلق إلا عليه سبحانه وتعالى ، وأصله ( إله ) حذفت الهمزة ، وعوض مكانها ( أل ) التعريف [4] .
فهذه الكلمة العظيمة تشتمل على ركنين أساسين :
الأول : ( النفي ) ، وهو نفي الإلهية عن كل ما سوى الله تعالى ، ويدل عليه كلمة ( لا إله ) فهي تنفي أن يكون غير الله تعالى مستحقاً للعبادة .
الثاني : ( الإثبات ) ، وهو إثبات الإلهية لله تعالى ، ويدل عليه كلمة ( إلا الله) فهي تثبت أن الله تعالى هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له [5] فالله جل وعلا هو المستحق للعبادة وحده ؛ لأنه الخالق ، الرازق ، المالك ، المدبر لجميع الأمور ، فيجب على جميع العباد أن يفردوه بالعبادة شكراً له على نعمه العظيمة عليهم ، كما سبق بيان ذلك مفصلاً عند الكلام على توحيد الربوبية .
فهذه الكلمة هي حقاً : كلمة التوحيد ، والعروة الوثقى ، وكلمة التقوى ، وفي شأنها تكون السعادة والشقاوة ، في الدنيا ، وفي القبر ، ويوم القيامة ، فبالتزامها والقيام بحقوقها تثقل الموازين ، وبه تكون النجاة من النار بعد الورود ، والفوز بجنات النعيم ، وبعدم التزامها أو التفريط في حقوقها تخف الموازين ، ويكون العذاب في القبر ، وفي يوم القيامة ، وفي نار الجحيم .
وهي حق الله على جميع العباد ، وهي أول واجب ، وآخر واجب ، فهي أول ما يدخل به العبد في الإسلام ، وآخر ما يخرج به من الدنيا [6] .
شروطها ونواقضها :
دلت النصوص الشرعية الكثيرة على أن الفوائد والفضائل العظيمة لكلمة التوحيد ( لا إله إلا الله ) ، التي سبقت الإشارة إلى بعضها ، والتي من أهمها : الحكم بإسلام صاحبها ، وعصمة دمه ، وماله ، وعرضه ، ودخول الجنة ، وعدم الخلود في النار ، أنها لا تحصل لكل من نطق بهذه الكلمة ، بل لا بد من توافر جميع شروطها ، وانتفاء جميع نواقضها ، فكما أن الصلاة لا تقبل ولا تنفع صاحبها إلا إذا توافرت جميع شروطها : من الوضوء واستقبال القبلة وغيرهما ، وانتفت مبطلاتها ، كالكلام ، والضحك ، والأكل ، والشرب وغيرها ، فكذلك هذه الكلمة ، لا تنفع صاحبها إلا باستكمال شروطها ، وانتفاء نواقضها .
ولذلك لما قيل لوهب بن منبه : ( أليس مفتاح الجنة : لا إله إلا الله ؟ قال : بلى ، ولكن ليس مفتاح إلا له أسنان ، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك ، وإلا لم يفتح لك ) .
ولما قيل للحسن البصري : إن ناساً يقولون : من قال : لا إله إلا الله دخل الجنة ؟ قال : ( من قال لا إله إلا الله فأدى حقها وفرضها دخل الجنة ) .
ومن أجل عدم تحقق بعض هذه الشروط لم تنفع هذه الكلمة جميع المنافقين الذين نطقوا بها ، وفعل كثير منهم بعض شعائر الإسلام الظاهرة .
ويدل على وجوب توفر شروط هذه الكلمة وعلى وجوب انتفاء موانعها على وجه الإجمال قوله : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، فإذا قالوا : لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله ) [8] فيدخل في حقها : الإتيان بشروطها ، واجتناب نواقضها [9] .
وقد دلت النصوص الشرعية على أن لهذه الكلمة العظيمة سبعة شروط ، هي:
الشرط الأول : العلم بمعناها الذي تدل عليه ، فيعلم أنه لا أحد يستحق العبادة إلا الله تعالى ، قال تعالى : ( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ( محمد : 19 ) .
الشرط الثاني : اليقين المنافي للشك ، فلا بد أن يؤمن إيماناً جازماً بما تدل عليه هذه الكلمة من أنه لا يستحق العبادة إلا الله تعالى فإن الإيمان لا يكفي فيه إلا اليقين ، لا الظن ولا التردد ، قال تعالى : ( إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) ( الحجرات : 15 ) .
فمن كان غير جازم في إيمانه بمدلول هذه الكلمة أو كان شاكًّا مرتابًا أو متوقفاً في ذلك لم تنفعه هذه الكلمة شيئاً .(/1)
الشرط الثالث : القبول المنافي للرد ، فيقبل بقلبه ولسانه جميع ما دلت عليه هذه الكلمة ، ويؤمن بأنه حق وعدل ، قال الله تعالى عن المشركين : ( إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ ) ( الصافات : 35-36 ) .
فمن نطق بهذه الكلمة ولم يقبل بعض ما دلت عليه إما كبرًا ، أو حسدًا ، أو لغير ذلك ، فإنه لا يستفيد من هذه الكلمة شيئًا .
فمن لم يقبل أن تكون العبادة لله وحده ، ومن ذلك عدم قبول التحاكم إلى شرعه أو لم يقبل بطلان دين المشركين من عُبَّاد الأصنام ، أو عُبَّاد القبور ، أو اليهود ، أو النصارى ، أو غيرهم ، فليس بمسلم .
الشرط الرابع : الانقياد المنافي للترك ، فينقاد بجوارحه ، بفعل ما دلت عليه هذه الكلمة من عبادة الله وحده ، قال الله تعالى : ( وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ) ( لقمان : 22 ) ومعنى ( يسلم وجهه ) : ينقاد ، ومعنى ( وهو محسن ) : أي موحد .
فمن قالها وعرف معناها ولم ينقد للإتيان بحقوقها ولوازمها من عبادة الله والعمل بشرائع الإسلام ، ولم يعمل إلا ما يوافق هواه أو ما فيه تحصيل دنياه لم يستفد من هذه الكلمة شيئاً .
الشرط الخامس : الصدق المنافي للكذب ، وهو أن يقول هذه الكلمة صدقاً من قلبه ، يوافق قلبه لسانه ، قال الله تعالى : ( الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ ) ( العنكبوت : 1-3 ) .
ولذلك لم ينتفع المنافقون من نطقهم بهذه الكلمة ؛ لأن قلوبهم مكذبة بمدلولها ، فهم يقولونها كذباً ونفاقاً .
الشرط السادس : الإخلاص المنافي للشرك ، فلا بد من تصفية العمل بصالح النية عن جميع شوائب الشرك ، قال الله تعالى : ( إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ ) ( الزمر : 2 ) .
فمن أشرك بالله تعالى في أي نوع من أنواع العبادة لم تنفعه هذه الكلمة .
الشرط السابع : المحبة ، فلابد أن يحب المسلم هذه الكلمة ويحب ما دلت عليه ، ويحب أهلها العاملين بها الملتزمين لشروطها ، ويبغض ما ناقض ذلك .
قال تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُباًّ لِّلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ العَذَابَ أَنَّ القُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العَذَابِ ) ( البقرة : 165 ) .
أما نواقض ( لا إله إلا الله ) ، وتسمى ( نواقض الإسلام ) ، ( نواقض التوحيد ) ، وهي الخصال التي تحصل بها الردة عن دين الإسلام ، فهي كثيرة ، وقد ذكر بعضهم أنها تصل إلى أربعمائة ناقض [11] .
وهذه النواقض تجتمع في ثلاثة نواقض رئيسة ، هي :
1- الشرك الأكبر . 2- الكفر الأكبر . 3- النفاق الاعتقادي .
_________________
(*) الأستاذ بكلية المعلمين بالرياض .
(1) ينظر تفسير الآية (163) من سورة البقرة في تفسيري الطبري ، و القرطبي ، فتح المجيد (1-126،121) ، مجموعة التوحيد (1-178) .
(2) تطهير الاعتقاد ص : (18) .
(3) ينظر تفسير البسملة في تفسيري الطبري و ابن كثير ، وشرح الطيبي للمشكاة (1-98) ، ورسالة (معنى لا إله إلا الله) للزركشي الشافعي ص : (73 -111) ، والقاموس المحيط ، والصحاح ، مادة (أله) .
(4) تنظر المراجع السابقة ، وتجريد التوحيد للمقريزي ، ص : (24،18) ، وتحقيق كلمة الإخلاص لابن رجب ، ص : ( 23 ،25، 30) ، وفتح المجيد ، ص : (76،73) ، و (126،124) ، وتفسير الشوكاني (1-18) ، والدرر السنية (2- 257- 296- 298- 305- 326- 331) ، ومجموعة الرسائل (4-16) .
(5) الكواشف الجلية ، ص : (35) ، وينظر الأصول الثلاثة : الأصل الثاني ، ص : (15) ، قرة عيون الموحدين ، ص : (13) ، الدرر السنية (2-271) مجموعة الرسائل (4-34 ، 38) .
(6) وهي سبب لعصمة دم المسلم وماله وعرضه إلا بحقها ، وبها انقسمت الخليقة إلى مؤمنين وكفار، وأبرار وفجار ، وفيها يكون الولاء والبراء ، وأهلها هم أهل الله وحزبه ، والمنكرون لها أهل غضبه ونقمته وهي الشهادة العظمى ، وأول وأعظم أركان الإسلام ، فهي أصل الدين وأساسه ، وبقية أركان الدين وفرائضه متفرعة عنها ، متشعبة منها ، مكملات لها ، مقيدة بالتزامها والعمل بمقتضاها(/2)
وهي أعظم نعمة أنعم الله بها على عبد من عباده ، وأفضل ما ذكر الله به ، وأثقل شيء في ميزان العبد يوم القيامة وهي رأس الإسلام ، ومفتاح دار السلام ، وأصدق الكلام ، وأحسن الحسنات ، وشهادة الحق ، والقول الثابت ، والمثل الأعلى ، وعنها يكون السؤال للأولين والآخرين يوم الحساب وبها تؤخذ الكتب باليمين أو الشمال ، وبها قامت السموات والأرض ، وعليها أسست الملة ، ونصبت القبلة ينظر رسالة (مسألة في التوحيد وفضل لا إله إلا الله (ليوسف بن عبدالهادي ص : (89-117) وقد ذكر 199 فضيلة من فضائلها ، وينظر الإيمان لابن منده (1- 116-315) ، مجموع الفتاوى (3-94) ، مدارج السالكين (3-462 ، 465) ، زاد المعاد (1-34) ، تحقيق كلمة التوحيد لابن رجب ص : (6652) ، التمهيد للمقدسي ، مجموعة التوحيد (1-175) ، الدرر السنية (2-326 ، 350) ، فتح المجيد (1-74 ، 75 ، 125) ، مجموعة الرسائل (4-295) ، مجموعة التوحيد (1-137 ، 141) قرة عيون الموحدين ، ص : (19-20) ، القول السديد ، ص : (19-20) ، معارج القبول (2/ 410-415) .
(7) رواه البخاري تعليقاً في فاتحة الجنائز من صحيحه ورواه موصولاً البخاري في تأريخه (1-95) و أبو نعيم في الحلية (4-66) ، و الحافظ في تغليق التعليق (2-453 ، 454) .
(8) رواه البخاري (1399) من حديث عمر ، ورواه مسلم (20 ، 21 ، 22) من حديث عمر ، ومن حديث أبي هريرة ، ومن حديث عبدالله بن عمر ، ومن حديث جابر ، واللفظ له .
(9) التوضيح عن توحيد الخلاف ص : (97) ، تيسير العزيز الحميد ، ص : (69) ، مجموعة الرسائل ، ص : (852 ، 853) .
(10) ينظر شرح صحيح مسلم للنووي (1-219) ، توضيح كلمة الإخلاص لابن رجب ، ص:(4815) ، الدرر السنية (2- 259253) ، مجموعة الرسائل (4-295 ، 296) ، معارج القبول (2- 100-110) ، رسالة (الشهادتان معناهما وما تستلزمه كل منهما (، ص : (103-113) .
(11) الدرر السنية (1-100) .(/3)
شهادة ليسانس للبيع
أنا يا سادتي الكرام، ليسانسية في الحقوق من أربعة أيام فقط وقد اتخذت لهذه الشهادة الجميلة الكبيرة المزينة بعشرة أختام وتوقيعات لأصحاب الفخامة والدولة والمعالي، وما لست أدري ماذا: رئيسي الجمهورية والوزارة ومندوب العميد ورئيسي الجامعة والمعهد.. والداعي، الفقير إلى الله تعالى حامل الشهادة!
اتخذت لها إطارا جميلا ثمينا حصلت عليه بوسيلة من الوسائل لا أحب أن أكشف سرها للقراء، ولكن لهم أن يثقوا أني لم أنفق فيها قرشا واحدا، وعلقتها في داري في الغرفة التي كان يجب أن تكون غرفة استقبال، وأن تكون منظمة مرتبة لا كما هي الآن: يضل الداخل إليها بين أكمام الكتب المنتشرة فيها، والتي تدور أبدا كما تدور تلال الصحراء الكبرى، وينقلب عاليها سافلها كلما فتشت عن كتاب، علقتها هناك إلى جانب أخواتها البكالوريا والكفاءة والابتدائية… ووقفت سبعا وسبعين دقيقة خاضعا أمامها خاشعا، وذكرت تلك الأعوام الستة عشر التي أنفقتها في تحصيلها وكان خيرا لي أن أقضيها في حانوت حلاق أجيرا أتمتع بالجمال والمال، أو ممثلا في جوقة أعيش عيش النعيم والتعظيم، أو عاملا في مطبعة يدور عليَّ الزمان فإذا أنا (صاحب جريدة كبرى)... أو لو قضيتها في تلاوة الروايات والأقاصيص أنال منها لذة ومتعة –إذا لم أنل فائدة ونفعا- وتأملت فيها معظما مبجلا، وتجرأت فلمستها (أي الشهادة) بيدي في ابتسامة بلهاء، كما يلمس الإنسان تحفة ثمينة، ليزيد إحساسه بها، أو أثرا مقدسا، ليتبرك به (ليس في الأشياء ما هو مقدس في نظر المسلم يتبرك به للنفع أو للضر، حتى الحجر الأسود لا يضر ولا ينفع، وإنما يقبل اتباعا وتعبدا)...
وجلست بعد ذلك أفكر ماذا أصنع بها، بعد أن زالت من نفسي رغبة النجاح، ونشوة الظفر، وأغلقت الأبواب، وأطفأت الأنوار، وأشعلت البخور... وتلوت أسماء الجن واستصرخت الملك الأحمر والأخضر، ثم أحرقت الشهادة فخرج من لهيبها مارد طويل، وقام أمامي في خشوع... فقلت له:
ما اسمك أيها المارد؟
ليسانس يا سيدي.
ماذا تقدر أن تصنع؟
كل شيء يا سيدي: أزحزح لك أصحاب الكراسي الجهال عن كراسيهم، لتجلس يا صاحب الليسانس عليها.
أتثق من قدرتك على ذلك؟
نعم يا سيدي على أن تمنع عني عدوي الألد.
ومن هو عدوك أيها المارد؟
شيطان قوي مرعب، لا يغلبه أحد، يقال له (الالتماس).
لا أقدر أن أمنعه عنك، فماذا تستطيع غير ذلك؟
آتيك بالأموال التي كدسها المحتالون والكذابون في خزائنهم، وأسلمها إليك وإلى أصحابك (أصحاب) الليسانس.
بارك الله... هيا اذهب، هاتها.
ولكني أخاف.
من تخاف أيها المارد؟
شيطانا قويا فاجرا، أعمى له أيد من نار حيثما ضرب بها، انفتحت ثغرة إلى الجحيم، ومن رضي عنه هذا الشيطان، ملّكه ما يريد ويشتهي.
وما اسم هذا بين الأبالسة؟
الحظ يا سيدي.
وماذا تستطيع غير ذلك أيها المارد؟
أمنحك يا سيدي الزعامة وانتزعها لك من هؤلاء الجاهلين.
عال عال... أسرع.
ولكني أخشى صديق الزعماء، وهو شيطان بأربعة وأربعين رجلا يمشي إلى الجهات كلها في وقت معا، ويصيح في الأنحاء كلها: يعيش يعيش.
أعوذ بالله، هذا شرّ الأبالسة... ما اسمه؟
التدجيل يا سيدي.
إذن ما جاء بك أيها الليسانس الضعيف العاجز، اذهب من وجهي.
* * * * * * * * * *
وبعد فماذا نصنع أيها الناس بهذه الشهادة؟
لقد عرضت على أحد المحامين لما لي عليه من الجرأة بأنه أستاذي في المعهد، ليقبلني عنده متمرنا، فـ … أبى!
وقالوا: أن هناك من يقبل المتمرنين، ولكنه لا يعطيهم شيئا، يعني أن المتمرنين يشتغلون على أرواح أمهاتهم، وينفقون ماء حياتهم، ويكسرون رؤوسهم وأقدامهم –ولا مؤاخذة- في أشغال المكتب الذي يشتغلون فيه، ليأخذ الأساتذة ثمرة أتعابهم.. لماذا بالله؟ لأنهم أساتذة!.. تشرفنا..
وإن ذهبنا نطلب وظيفة قضائية، وجدنا كل وظيفة مشغولة، وكل شاغل وظيفة يخشى أن تنزو نزوة في رأس رئيس له، فيلقيه كما تلقى النواة نزع عنها (حلوها).
وإن تركنا هذا البلد ويممنا شطر بلد آخر، أنكروا شهادتنا ومعهدنا، ولم تغن منهم شيئا هذه التوقيعات وهذه الأختام.
وإن رغمت أنوفنا وعملنا في هذه المكاتب (بلا شيء) ولوجه الله، على أن نعمل عملا آخر في ذنب النهار، نشتري به خبزنا، قالوا: لا يجوز... أي أنهم لا يرحموننا ولا يتركوننا إلى رحمة الله، يحسبون أن المحامي المتمرن يشبع ويمتلئ بطنه، ويكسى ويجد الراحة والدفء إذا أكل المحامي الأستاذ عشرة ألوان، واتخذ عشر حلل.
* * * * * * * * * *
فيا أيها القراء الكرام... إني أعرض شهادتي ولقبي الكريم للبيع برأس المال (الرسوم والأقساط)، أما فوسفور دماغي، وأيام عمري، فلا أريد لشيء منه بديلا، وأجري على الله.
فمن يشتري؟… المراجعة في جريدة الف باء الغراء.
شهادة بيضاء ناصعة كبيرة، خطها جميل، ذات إطار بديع… جديدة (طازة)! من يشتري؟(/1)
شهر الصيام والقرآن والتقوى " 3 "
الشيخ محمد الهدار ـ صحيفة أخبار بنغازي / الشبكة
الحمد لله الذي جعل الصيام جنة،وسببا قويا موصلا للجنة وأشهد أن لاإله إلا الله صاحب كل ذي فضل ومنة، وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله خير من سار علي النهج القويم وسن لأتباعه السنة ، صلوات الله وسلامه عليه وعلي آله وأصحابه وأتباعه إلي يوم دخول المؤمنين الجن...
أما بعد أيها الإخوة المسلمون عرفنا في الحلقتين السابقتين بعض الأمور اليسيرة المتعلقة بفوائد وفضائل الصيام والمتعلقة بتلاوة القرآن الكريم ، واليوم نتعرض في هذه الحلقة لقضية مهمة جدا وهي التي شرع الله الصيام في هذه الشهر من أجلها ألا وهي تقوي الله تعالي وهذا واضح من قوله تعالي "لعلكم تتقون" والتقوى تعتبر هي الغاية المنشودة من وراء كل التشريعات التعبدية والأخلاقية التي نادي بها دين الإسلام وهي المطلب الأسمى الذي نادي به جميع الأنبياء والرسل ابتداء بآدم وانتهاء بمحمد عليهم صلوات الله وسلامه جميعا وهذا يؤكده ويجليه قوله تعالي "ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله" ..
إخوة الإيمان إن الحديث عن التقوى عذب وشائق ومهم وطويل ،كيف لا وهي الأساس ، ورأس الحكمة كما قيل ، وهي التي من أجلها بعث الله الرسل وأيدهم بالمعجزات والبراهين ، وخلق من أجلها الجنة والنار ، فمن أتي بها وحرص عليها فجنة نعيم ، ومن تركها وأهمل أمرها فنار جهنم والعياذ بالله ، وقد اعتبرها الله سبحانه وتعالي خير زاد فقال عز من قائل"وتزودوا فإن خير الزاد التقوى" وجعلها خير لباس فقال الحكيم:" ولباس التقوى ذلك خير" وجعل الهدي الذي تضمنه الكتاب العزيز لايستفيد منه إلا المتقون فقال سبحانه :"ألم ذلك الكتاب لاريب فيه هدي للمتقين" وبين بعض خصالهم وصفاتهم في الآيات التي بعد الآيات السابقة فقال:"الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك علي هدي من ربهم وأولئك هم المفلحون" والتقوى تجمع الخيرات ، لأنها امتثال للأوامر واجتناب للمناهي.
جاء في كتاب التحرير والتنوير للعلامة ابن عاشور قوله "المتقي من اتصف بالاتقاء وهو طلب الوقاية ، والوقاية:الصيانة والحفظ من المكروه ، فالمتقي هو الحذر المتطلب للنجاة من شيء مكروه مضر والمراد هنا المتقون الله ، أي الدين هم خائفون غضبه واستعدوا لطلب مرضاته واستجابة طلبه فإذا قرئ عليهم القرآن استمعوا له وتدبروا ما يدعوا إليه فاهتدوا ، والتقوى الشرعية هي امتثال الأوامر واجتناب المنهيات من الكبائر وعدم الاسترسال علي الصغائر ظاهرا أو باطنا أي اتقاء ماجعل الله الاقتحام فيه موجبا غضبه وعقابه ، فالكبائر كلها متوعد فاعلها بالعقاب دون اللمم.."
قلت ومما يشهد لهذا الكلام قوله تعالي :"إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما" .. كما يشهد له كذلك قوله : صلي الله عليه وسلم في الصحيح " الصلوات الخمس والجمعة إلي الجمعة ورمضان إلي رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر " هذا ولقد ذكر القرطبي وابن كثير أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل أبي بن كعب عن التقوى : فقال له: أما سلكت طريقا ذا شوك؟ قال: بلي ، قال: فما عملت؟ قال: شمرت واجتهدت ، قال: فذلك التقوى.. وقد أخذ هذا المعني ابن المعتز فقال:
خل الذنوب صغيرها..... وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرنصغيرة إن الجبال من الحصى
فتقوى الله تعد بمثابة الرأس للجسد، والروح للبدن ،لأنها هي التي تجعل المرء يبتعد عن المحرمات وتشحذ همته لفعل المأمورات ، وهي التي يفرق بها المؤمن بين الحق والباطل وذلك لأن من يتفي الله يجعل له فرقانا كما قال سبحانه "يأيها الذين ءامنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا " وهي كذلك سبب لسعة الرزق والمخرج من كل ضيق يؤكد ذلك قوله جل وعلا في سورة الطلاق :"ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب " فاحرصوا إخوة الإيمان على تقوى الله في هذا الشهر استفادة تكون زادكم وعدتكم بقية العام ، بارك الله لي ولكم في الصيام والقرآن والتقوى....... والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..(/1)
شهر القرآن يا أهل الفرقان
1/9/1424
المشرف العام على موقع المسلم-أ.د ناصر بن سليمان العمر
شهر القرآن يا أهل الفرقان
مقدمة:
الحمد لله ذي الحجج البوالغ، والنعم السوابغ، والنقم الدوامغ، حمداً لاانقطاع لراتبه، ولا إقلاع لسحائبه، وصلى الله وسلم على أفضل مبعوث، وخير وارث وموروث، وعلى آله الطيبين، وصحبه أجمعين.
وبعد فإن حبل الله فينا كتابه
فجاهد به حبل العدا متحبلا
وأخلق به إذ ليس يخلق جِدة
جَديدا ً مواليه على الجِدِّ مُقبلا
وقارئه المرضي قرَّ مثاله
كالاترجِّ حاليه مُريحاً ومُوكلا
وإن كتاب الله أوثقُ شافع
وأغنى غناءً واهباً متفضلا
وخير جليس لا يمل حديثه
وترداده يزداد فيه تجملا
وحيث الفتى يرتاع في ظلماته
من القبر يلقاه سناً متهللا
جزى الله بالخيرات عنا أئمة
لنا نقلوا القرآن عذباً وسلسلا
ولنا أن نذّكر ببعض واجبنا تجاه هذا الحبل الممدود والعهد المعهود، الذي من استنار به أبصر ونجا، ومن أعرض عنه زل وهوى، ولاسيما في شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان،
وأذكر بعض الجوانب التي ينبغي أن نعتني ونشغل الأوقات بها:
أولاً: حفظه أو ماتيسر منه
فحافظ القران هو العالم المقدم "بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم" [العنكبوت:49]. روى الإمام مسلم في الصحيح، أن نافع ابن عبد الحارث لقي عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بعسفان، وكان عمر -رضي الله عنه-استعمله على مكة، فقال له عمر -رضي الله عنه- :من استخلفت على أهل الوادي؟ قال: استخلفت عليهم ابن أبزى. قال: وما ابن أبزى؟ فقال: رجل من موالينا، فقال عمر -رضي الله عنه- :استخلفت عليهم مولى! فقال: إنه قارئ لكتاب الله، عالم بالفرائض، قاض، فقال عمر- رضي الله عنه-: أما إن نبيكم - صلى الله عليه وسلم- قد قال: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين" (1).
بل صاحب القرآن رفيق الملائكة السفرة، الكرام البررة، روت أمنا عَائِشَة-رضي الله عنها- عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم- أنه قَالَ : "مَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ حَافِظٌ لَهُ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ" (2)، ويوم القيامة " يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَأُ بِهَا" (3)
ولعل سر ذلك أن من استنار بنور الوحي أبصر الطريق!
نزه فؤادك عن سوى روضاته
فرياضه حلٌ لكل منزه
والفهم طِلِّسْمٌ لكنز علومه
فاقد إلى الطِلِّسم تحظ بكنزه
لا تخش من بدع لهم وحوادث
مادمت في كنف الكتاب وحرزه
من كان حارسه الكتاب ودرعه
لم يخش من طعن العدو ووخذه
لا تخش من شبهاتهم واحمل
إذا ما قابلتك بنصره وبعزه
ثانياً: تدبره والعمل به
ذم الله أقواماً، فقال: "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا" [محمد:24]، قال ابن كثير: " أي: بل على قلوب أقفالها فهي مطبقة لا يخلص إليها شيء من معانيه" (4) وبالمقابل امتدح أقواماً، فقال: " وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِين" [المائدة:83]،وقال: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ" [الأنفال:2].
ثبت في صحيح البخاري من حديث أنس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: " المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل به كالأترجة؛ طعمها طيب، وريحها طيب، والمؤمن الذي لا يقرأ القرآن ويعمل به كالتمرة؛ طعمها طيب، ولا ريح لها، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كالريحانة؛ ريحها طيب، وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كالحنظلة؛ طعمها مر أو خبيث، ولا ريح لها" (5).
طوبى لمن حفظ الكتابَ بصدره
فبدا وضيئاً كالنجوم تألَّقا
الله أكبر ! يالها من نعمة
لما يقال " اقرأ ! " فرتل وارتقا
وتمثلَ القرآنَ في أخلاقه
وفعاله فبه الفؤادُ تعلقا
وتلاه في جنح الدجى متدبِّراً
والدمعُ من بين الجفون ترَقرَقَا
هذي صفاتُ الحافظين كتابه
حقاً فكن بصفاتهم متخلِّقَاً
يا حافظ القرآن لست بحافظٍ
حتى تكون لما حفظتَ مُطبِّقَاً
ماذا يفيدُكَ أن تسمَّى حافظاً
وكتابُ ربك في الفؤاد تمزَّقَا
يا أمتي القرآنُ حبلُ نجاتنا
فتمسكي بعراهُ كي لا نغرقا
قال القرطبي - رحمه الله- في تفسيره : " فيجب على حامل القرآن وطالب العلم أن يتقي الله في نفسه ويخلص العمل لله، فإن كان تقدم له شيء مما يكره فليبادر التوبة والإنابة وليبتدئ الإخلاص في الطلب وعمله، فالذي يلزم حامل القرآن من التحفظ أكثر مما يلزم غيره، كما أن له من الأجر ما ليس لغيره " (6).(/1)
قال الفضيل بن عياض : "حامل القرآن حامل راية الإسلام لا ينبغي له أن يلهو مع من يلهو، ولا يسهو مع من يسهو، ولا يلغو مع من يلغو تعظيماً لحق القرآن"(7) .
لما حارب المسلمون مسيلمة الكذّاب، وقُتل حامل رايتهم زيد بن الخطاب، تقدّم لأخذها سالم مولى أبي حذيفة، فقال المسلمون : يا سالم، إنا نخاف أن نُؤتى من قبلك، فقال : بئس حامل القرآن أنا إن أتيتم من قِبَلي ، فقطعت يمينه فأخذ اللواء بيساره، فقطعت يساره فاعتنق اللواء، وهو يقول: "وما محمد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل" [آل عمران:144]، "وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير"[آل عمران:146]. فلما صُرع قيل لأصحابه : ما فعل أبو حذيفة؟ قيل : قُتل(8).
أخيراً يا أخا الإسلام!
لتكن لك في رسول الله أسوة حسنة، سأل سعد بن هشام أمَّ المؤمنين عائشة - رضي الله عنها-، فقال: أخبريني عن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقالت: "كان خلقه القرآن" (9)، ولذلك زكاه ربه- سبحانه-، فقال: "وإنك لعلى خلق عظيم"[القلم:4].
جعلنا الله وإياكم من أهل القرآن، الحافظين لحروفه، الواقفين عند حدوده، المتدبرين لآياته، فلمثل هؤلاء يجيء القرآن شفعياً يوم القيامة (10).
وصلى اله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
--------------------------------------------------------------------------------
1 رواه مسلم في الصحيح 1/559، ورواه جمع من الأئمة بأسانيد صحيحة.
2 رواه البخاري في صحيحه 4/1882، ورواه غيره.
3 رواه الترمذي بسند لا بأس به، وقال: هذا حديث حسن صحيح، ورواه الإمام أحمد في المسند بأكثر من طريق 2/192 و 2/471، ورواه أيضاً أبوداود في السنن 2/73، والنسائي في الكبرى 5/22، والبيهقي في الشعب 2/347، وغيرهم.
4 تفسير ابن كثير 4/180.
5 رواه البخاري في صحيحه 4/1928.
6 تفسير القرطبي 1/19.
7 انظر فيض القدير 3/368.
8 الجهاد لابن المبارك ص 98، وانظر مستدرك الحاكم 3/252.
9 حديث صحيح رواه الإمام أحمد في المسند من غير طريق 6/91، 6/163، 6/216، ورواه غيره.
10 ثبت ذلك عند مسلم 1/553، وغيره.(/2)
شهر انتصار الإنسان
د. يوسف القرضاوي ...
الدكتور يوسف القرضاوي
الإنسان كائن عجيب، خلقه الله مزدوج الطبيعة، فيه عنصر مادي طيني، وعنصر روحي سماوي، فيه الطين والحمأ المسنون، وفيه الروح الذي أودعه الله فيه، وهذا واضح في خلق الإنسان الأول آدم أبي البشر "إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِين" (ص: 71،72). فلم يستحق آدم التكريم وسجود الملائكة بعنصره الطيني، بل بالنفخة الروحية فيه.
وهذا الخلق المزدوج مقصود لخالق الإنسان؛ لأنه مخلوق ليعيش في عالمين: عالم المادة، وعالم الروح، وله تعامل مع الأرض وتواصل مع السماء. فهو في حاجة إلى ما يخرج من الأرض ليأكل، ويشرب، ويلبس، ويعيش: "وَمَا جَعْلَنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِين" (الأنبياء: 8). كما أنه في حاجة إلى ما ينزل من السماء من وحي الله؛ ليرقى في مدارج المعرفة بالله، والإدراك للحق، والمحبة للخير، والتذوق للجمال، وعمل الصالحات؛ ولهذا زوَّد الإنسان بالغرائز التي تعينه على عمارة الأرض والاستمتاع بطيباتها، كما زوَّد بالملكات الروحية التي تسمو به وتصله بالرب الأعلى.
وهذه الغرائز والشهوات المربوطة بالعنصر الطيني في الإنسان، قد تهبط به وتهبط حتى يغدو كالأنعام أو أضل سبيلاً، وتلك الملكات والأشواق الروحية قد تعلو به وتعلو حتى يلتحق بالملائكة المقربين، وقد يفضل بعضهم بمجاهدته.
ومهمة الدين أنه يعلِّي الجانب الروحي على الجانب الطيني في الإنسان، فلا تطغى قبضة الطين على نفخة الروح، وليس هذا بالأمر الهين، فإن للطين ضغطه ووطأته على الإنسان، بضروراته وحاجاته ورغباته، والنفس أميل إلى اتباع الشهوات، واستثقال طريق الحق والهدى؛ لهذا كان لا بد للإنسان من مجاهدة نفسه، بسلاح الصبر وسلاح اليقين، حتى يصل إلى الإمامة في الدين، كما قال تعالى: "وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُون" (السجدة: 24). فبالصبر يُقاوم الشهوات، وباليقين يُقاوم الشبهات، حتى يحصل على الهداية الإلهية التي يتطلع إليها الأبرار من الناس "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِين" (العنكبوت: 69).
ولقد شرع الإسلام وسائل للإنسان؛ لينتصر بها على الجانب الطيني في كيانه، وفي مقدمتها: العبادات الشعائرية التي اعتبرت من أركان الإسلام من الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج.
والصيام يعتبر من أعظم ساحات الجهاد الروحي للإنسان في الإسلام، ففيه يمسك الإنسان طوعًا عن الطعام، والشراب، والشهوات، كشهوة الجنس، ابتغاء وجه الله تعالى، فهو يمتنع بإرادته عن تناول هذه الأشياء التي يشتهيها، ولا يمدّ يده إليها، وهي ميسورة له، فهو يجوع وبجواره طيب الغذاء، ويظمأ وأمامه بارد الماء، ويمتنع عن مباشرة زوجه، وهي بجانبه، ولا يتناول السيجارة وعلبتها في جيبه، إنه اختبار حقيقي لمدى إيمان الإنسان، وإرادة الإنسان. والمؤمن قطعًا ينجح في الامتحان الصعب، ويحقق الاستعلاء الاختياري، الذي يثبت بحق انتصار الإنسان، حين تنتصر فيه الروح على الطين والصلصال والحمأ المسنون، تنتصر أشواق الروح الصاعدة، على غرائز الجسم الهابطة، وتنتصر إرادة الإنسان على شهوة الحيوان.
فمن الفوارق الجوهرية بين الإنسان والحيوان: أن الحيوان يفعل ما يشتهي في أي زمان وفي أي مكان وفي أي حال، ليس لديه عقل يمنعه، ولا دين يردعه، ولا ضمير يحجزه، فإذا أراد أن يبول بال في الطريق أو البيت أو في أي مكان، وإذا أراد أن يأكل وأمامه ما يؤكل لم يزعه وازع عن الأكل، فكل ما يأكله مثله حلال له، أما الإنسان فهو الذي يتحكم في غرائزه، ويحكم عقله ودينه في أفعاله، حتى يتشبه بالملائكة فيدع الأكل والشرب ومباشرة النساء طوعًا واختيارًا، مبتغيًا مثوبة الله وحده، مترفعًا عن حياة الذين عاشوا خدمًا لأجسادهم وغرائزهم، أسارى لشهواتهم، وهم الذين خاطبهم الشاعر "أبو الفتح البستي" قديمًا في قصيدته حين قال:
يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته ... أتطلب الربح مما فيه خسران؟!
أقبل على الروح واستكمل فضائلها ... فأنت بالروح لا بالجسم إنسان!
لهذا نسب الله تعالى - في الحديث القدسي - الصيام لذاته المقدسة حين قال: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به، يدع طعامه من أجلي، ويدع شرابه من أجلي، ويدع زوجته من أجلي، ويدع شهوته من أجلي".
شهر التطهير(/1)
من أجل الله وحده، ترك الإنسان لذَّاته وشهواته، وصام عنها شهرًا كاملاً من تبين الفجر إلى غروب الشمس، إيمانًا واحتسابًا، فكان هذا الشهر تطهيرًا له من دنس السيئات التي ربما توَّرط فيها طوال عامه، وكأن هذا الصيام حَمَّامٌ روحي يغتسل فيه سنويًّا من أدران خطاياه، فيخرج منه نظيفًا طاهرًا، وهو ما عبَّر عنه الحديث النبوي الذي قال فيه (صلى الله عليه وسلم): "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه".
وإذا كانت الصلوات الخمس حمامًا أو مغتسلاً يوميًّا، يغتسل فيه المسلم كل يوم خمس مرات، فإن صيام رمضان مغتسل سنوي، يكمل ما تقوم به الصلوات الخمس من تطهير.
يؤكد هذا أن رمضان ليس شهر صيام فقط، بل هو صيام بالنهار، وقيام بالليل، ففيه تمتلئ المساجد بالمصلين الذين يقومون الليل بصلاة التراويح، وفيه جاء الحديث "ومن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه" . فما أجملها وأرقاها من حياة للإنسان المؤمن، أن يكون بالنهار صائمًا، وبالليل قائمًا، وهو يحس بنشوة روحية لا يتذوقها من غلظ حجابه، ولا يعرف قدرها من سجن في رغباته المادية، فحُرِم تلك السعادة الروحية، التي قال عنها بعض أهلها: نحن نعيش في سعادة لو علم بها الملوك لجالدونا عليها بالسيوف!، ولكن من حسن حظهم أن الملوك والسلاطين لا يعرفون قيمتها، فتركوها لهم، يستمتعون بها وحدهم بلا منازع.
تذكير بنعم الله
في شهر رمضان يحسُّ المسلم بمقدار نعمة الله عليه في الشبع والري، فإن إلف النعم يفقد المرء الإحساس بقيمتها، ولا تُعرف النعم الكثيرة إلا عند فقدها؛ ولهذا قيل: الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى، والإنسان إذا أمسك طوال النهار عن الطعام حتى عضَّه الجوع، وعن الشراب حتى مسَّه الظمأ، حتى إذا جاء المغرب، فأشبع جوعه، وروى ظمأه، أحس بمقدار هذه النعمة، وقال حامدًا الله تعالى: ذهب الظمأ، وابتلَّت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله.
هنا يحس الإنسان بفرحة فطرية، حين حلَّ له ما كان محرمًا عليه طوال يومه، وهو ما عبَّر عنه الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) بقوله: "للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه".
شهر التعاطف
بالصوم كذلك يشعر الإنسان بآلام الآخرين، وبجوع الجائعين، وحرمان المحرومين، حين يذوق مرارة الجوع، وحرارة العطش، فيعطف عليهم قلبه، وتنبسط إليهم يده. ولهذا عُرِف رمضان بأنه شهر المواساة والبرِّ والخيرات والصدقات، وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في رمضان أجود ما يكون، فهو أجرى بالخير من الريح المرسلة، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما.
ولقد حُكِي عن يوسف الصدِّيق (عليه السلام) أنه كان لا يشبع من طعام، وبيده خزائن الأرض في مصر، فلما سُئِل في ذلك، قال: أخشى إذا شبعت أن أنسى جوع الفقراء!.
إن رمضان شهر فريد في حياة الفرد المسلم، وفي حياة الأسرة المسلمة، وفي حياة الجماعة الإسلامية، وأنا أسميه (ربيع الحياة الإسلامية) فيه تتجدد الحياة كلها: تتجدد العقول بالعلم والمعرفة، وتتجدد القلوب بالإيمان والتقوى، ويتجدد المجتمع بالترابط والتواصل، وتتجدد العزائم باستباق الخير؛ إذ تكثر حوافزه، وتقل أسباب الشر ودواعيه، وتطرد ملائكة الخير شياطين الشر، وقد عبَّر عن ذلك الحديث الشريف: "إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب جهنم، وصفدت الشياطين"، وفي رواية: "ونادى منادٍ: يا باغِي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر".
هذا الاحتفاء السماوي الكبير بمقدم رمضان: تفتيح أبواب الجنان، وتغليق أبواب النيران، وتصفيد كل شيطان: دليل على أن لهذا الشهر منزلة جليلة، وأن له في حياة المسلمين رسالة عظيمة، وهي ما عبَّر عنها القرآن الكريم بتهيئة الجماعة المؤمنة للتقوى، كما قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون" (البقرة: 183).
ومن راقب حياة المسلمين في كل عام قبل قدوم رمضان، وبعد رحيل رمضان؛ يستيقن من هذه الحقيقة الاجتماعية الثابتة بالمشاهدة، وهي توافر الخير وعمل الصالحات في هذا الشهر، وقلة الشر والجرائم فيه؛ ولهذا يجتهد الوعَّاظ والخطباء في أواخر الشهر أن يُغروا جماهير الناس باستمرار هذه النيَّات الصالحة، والعزائم الصادقة على عمل الخير، وخير العمل، وكثيرًا ما سمعناهم يقولون في خطبهم ودروسهم: من كان يعبد رمضان فإن رمضان قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. بئس القوم قوم لا يعرفون الله إلا في رمضان، كن ربَّانيًّا، ولا تكن رمضانيًّا!.
وإنك لتعجب من تأثير هذا الشهر في بعض الناس الذين انقطع حبل الصلة بينهم وبين الله ربهم وخالقهم ورازقهم، فإذا هم يعودون إليه في رمضان، ويعرفون المسجد، وتلاوة القرآن. وبعضهم يصومون هذا الشهر وإن لم يزاولوا الصلاة.
ولكن.. كيف نستقبله؟(/2)
وإنك لترى أثر ذلك في أجهزة الإعلام، فنراها في هذا الشهر العظيم تستحي من تقديم ما لا تستحي منه في سائر الشهور، من أغانٍ، وأفلام، وتمثيليات، ومسلسلات، ومسرحيات، بل تُعِدّ لهذا الشهر برامج خاصة، تغذِّي الروح، وتنمِّي الإيمان، وتُعلي القيم، وتزكِّي الأنفس، وتطارد الفحشاء والمنكر والبغي، لولا ما يشوبها في بعض الأقطار من بدعة راجت سوقها، ما أنزل الله بها من سلطان، وهي ما سمَّوه (فوازير رمضان) التي اشتكى منها العلماء والعقلاء، وقالوا: إن رمضان بريء منها، ولا يجوز أن تُنسب إليه بحال من الأحوال.
وكذلك تحسّ وتشاهد أثر هذا الشهر في الحياة الاجتماعية، حيث تزداد الأسرة تماسكًا، فيفطرون معًا، ويتسحرون معًا، ويزداد المجتمع تواصلاً، فيزور الناس بعضهم بعضًا، ويدعو بعضهم بعضًا على الإفطار، ويحسُّ الفقراء بأنهم في هذا الشهر أحسن حالاً، وأوسع عيشًا من الشهور الأخرى؛ بسبب موائد الرحمن، التي يقدمها المُوسِرون للمُعوزين من الناس؛ لينالوا أجر تفطير الصائم، وتنتعش المشروعات الخيرية بما يقدم إليها من مساعدات من أهل الخير، من الزكوات المفروضة التي يؤثر كثير من المسلمين إخراجها في رمضان، ومن الصدقات المستحبة التي يتسابق الناس إليها في هذا الشهر الكريم.
ألا ما أحوج أمتنا إلى أن تستفيد من هذا شهر رمضان، فهو موسم المتَّقين، ومتّجر الصالحين، وميدان المتسابقين، ومغتسل التائبين؛ ولهذا كان السلف إذا جاء رمضان يقولون: مرحبًا بالمُطهِّر! فهو فرصة للتطهر من الذنوب والسيئات، كما أنه فرصة للتزود من الصالحات والحسنات.
فلنتخذ من رمضان (معسكرًا) إيمانيًّا؛ لتجنيد الطاقات، وتعبئة الإرادات، وتقوية العزائم، وشحذ الهمم، وإذكاء البواعث؛ للسعي الدؤوب لتحقيق الآمال الكبار، وتحويل الأحلام إلى حقائق، والمثاليات المرتجاة إلى واقع معيش.
ورحم الله أديب العربية والإسلام مصطفى صادق الرافعي الذي قال: لو أنصفك الناس يا رمضان لسمَّوك (مدرسة الثلاثين يومًا)!.(/3)
شهر رجب بين المبتدَع والمشروع
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد : فإنه في هذه الأيام يكثر السؤال عن شهر رجب ( فضله وصيامه ..) ولعلي في هذه العجالة أذكر بعض الأحكام المتعلقة بهذا الشهر فأقول مستعينا بالله تعالى :
• رجب أحد الأشهر الحُرم
قال تعالى ( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (التوبة:36) والأشهر الحرم هي محرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة عن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب شهر مضر الذي بين جمادى وشعبان ) رواه البخاري (4662) ومسلم ( 1679) .
* وقد سُميت هذه الأشهر حُرما :
1/ لتحريم القتال فيها إلا أن يبدأ العدو . لذا يُسمى رجب الأصم لأنه لا يُنادى فيه يا قوماه أو لأنه لا يُسمع فيه صوت السلاح .
2/ لتحريم انتهاك المحارم فيها أشد من غيرها .
وسُمي رجبٌ رجباً لأنه كان يُرجَّب أي يُعظَّم . ( لطائف المعارف / 225)
* دعاء دخول رجب :
عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا دخل رجب ( اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان ) رواه أحمد 1/259 والبزار (616 زوائد) والطبراني في الأوسط (3939) والبيهقي في الشعب ( 3815) وهو من رواية زائدة بن أبي الرقاد عن زياد النميري قال البخاري ( منكر الحديث ) ا.هـ شعب الإيمان 3/375 وضعفه الحافظان ابن رجب وابن حجر رحمهما الله تعالى ( لطائف المعارف/234) .
• ذبح العتيرة ( الذبيحة ) في رجب ( الرجبية )
استحب بعض العلماء ذبح عتيرة في شهر رجب مستدلين بحديث مخنف بن سليم رضي الله عنه قال : كنا وقوفا مع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات فسمعته يقول : ( يا أيها الناس على كل أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة هل تدرون ما العتيرة ؟ هي التي تسمونها الرجبية ) رواه أحمد 5/76 وأبو داود ( 2788) والنسائي (4224) والترمذي (1518) وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب ولا نعرف هذا الحديث إلا من هذا الوجه من حديث بن عون .ا.هـ وضعفه ابن حزم ( المحلى 7/356 ) وعبد الحق كما في ( تهذيب السنن 4/92) والخطابي في ( المعالم 4/94) وقال ابن كثير " وقد تُكلم في إسناده " ا.هـ ( التفسير 3/225) .
والجمهور على أنها منسوخة بما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا فَرَعَ ولا عَتِيرَة ) رواه البخاري ( 5474) ومسلم (1976) ( أنظر : المحرر 1/250 المغني 9/367 المبدع 3/306 فتح الباري 9/512 لطائف المعارف / 226 بدائع الصنائع 5/62 البحر الرائق 8/197) قال أبو داود : قال بعضهم : الفرع أول ما تنتج الإبل كانوا يذبحونه لطواغيتهم ثم يأكلونه ويلقى جلده على الشجر والعتيرة في العشر الأول من رجب . ( السنن 3/ 104) وذهب بعض العلماء كابن سيرين وأبي عبيد وإسحاق بن راهوية والشافعية إلى أن المنسوخ هو الوجوب . ( المجموع 8/335 تهذيب السنن 4/94 لطائف المعارف /226 الفروع 3/415 المبدع 3/306 وفتح الباري 9/511 نيل الأوطار 5/232 عون المعبود 7/ 343 تحفة الأحوذي 5/85) .
• العمرة في رجب :
يخص بعض المسلمين شهر رجب بعمرة ظنا منهم أن لها فضلا وأجرا والصحيح أن رجبا كغيره من الأشهر لا يخص ولا يقصد بأداء العمرة فيه ، و الفضل إنما في أداء العمرة في رمضان أو أشهر الحج للتمتع , ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر في رجب وقد أنكرت ذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها . ( رواه البخاري 1775) .
• بدع شهر رجب :
من العبادات التي أحدثها الناس في شهر رجب ما يلي :(/1)
أولا : صلاة الرغائب : وهي اثنتا عشرة ركعة بعد المغرب في أول جمعة بست تسليمات يقرأ في كل ركعة بعد الفاتحة سورة القدر ثلاثا والإخلاص ثنتي عشرة مرة وبعد الانتهاء من الصلاة يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم سبعين مرة ويدعو بما شاء . وهي بلا شك بدعة منكرة وحديثها موضوع بلا ريب وذكرها ابن الجوزي في ( الموضوعات 2/124) وقال النووي رحمه الله تعالى " واحتج به العلماء على كراهة هذه الصلاة المبتدعة التي تسمى الرغائب قاتل الله واضعها ومخترعها فإنها بدعة منكرة من البدع التي هي ضلالة وجهالة وفيها منكرات ظاهرة وقد صنف جماعة من الأئمة مصنفات نفيسة في تقبيحها وتضليل مصليها ومبتدعها ودلائل قبحها وبطلانها وتضلل فاعلها أكثر من أن تحصر " ا.هـ ( شرح مسلم 8/20 الأدب في رجب للقاري /43 نيل الأوطار 4/337 ) وقال الخطابي رحمه الله تعالى " حديث صلاة الرغائب جمع من الكذب والزور غير قليل " ا.هـ ( الباعث لأبي شامة / 143)وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى " فأما الصلاة فلم يصح في شهر رجب صلاة مخصوصة تختص به والأحاديث المروية في فضل صلاة الرغائب في أول جمعة من شهر رجب كذب وباطل لا تصح وهذه الصلاة بدعة عند جمهور العلماء ... وأول ما ظهرت بعد الأربعمائة فلذلك لم يعرفها المتقدمون ولم يتكلموا فيها " ا.هـ( لطائف المعارف / 228) .
ثانيا : صلاة النصف من رجب :
وهو من الأحاديث الموضوعة ( الموضوعات لابن الجوزي 2/126)
ثالثا : صلاة ليلة المعراج :
وهي صلاة تصلى ليلة السابع والعشرين من رجب وتسمى : صلاة ليلة المعراج وهي من الصلوات المبتدعة التي لا أصل لها صحيح لا من كتاب ولا سنة ( أنظر : خاتمة سفر السعادة للفيروز أبادي /150 التنكيت لابن همات /97) ودعوى أن المعراج كان في رجب لا يعضده دليل قال أبو شامة رحمه الله تعالى " ذكر بعض القصاص أن الإسراء كان في رجب وذلك عند أهل التعديل والتجريح عين الكذب " ا.هـ ( الباعث /232 مواهب الجليل 2/408) .
وقال أبو إسحاق إبراهيم الحربي رحمه الله تعالى " أُسري برسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة سبع وعشرين من شهر ربيع الأول" ا.هـ ( الباعث /232 شرح مسلم للنووي 2/209 تبيين العجب /21 مواهب الجليل 2/408 ) .
ومن يصليها يحتج بما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( في رجب ليلة كُتب للعامل فيها حسنات مائة سنة وذلك لثلاث بقين من رجب ..) رواه البيهقي في الشعب 3/374 وضعفه كما ضعفه الحافظ ابن حجر في تبيين العجب (25) وقال القاري " ضعيف جدا " الأدب في رجب / 48 أقول : أمارات الوضع ظاهرة عليه فقد أجمع العلماء على أن أفضل ليلة في السنة ليلة القدر وهذا الخبر يخالف ذلك .
ومن بدع تلك الليلة : الاجتماع وزيادة الوقيد والطعام قال الشيخ علي القاري " لا شك أنها بدعة سيئة وفعلة منكرة لما فيها من إسراف الأموال والتشبه بعبدة النار في إظهار الأحوال " ا.هـ الأدب في رجب /46
* صيام رجب
رجب كغيره من الأشهر لم يرد في الترغيب في صيامه حديث صحيح بل يُشرع أن يصام منه الإثنين والخميس والأيام البيض لمن عادته الصيام كغيره من الأشهر أما إفراده بذلك فلا .
أما ما يذكره الوعاظ والقصاصون في الترغيب في صيام شهر رجب كحديث ( إن في رجب نهرا يقال له رجب ماؤه أشد بياضا من الثلج وأحلى من العسل من صام يوما من رجب شرب منه ) وهو حديث موضوع رواه ابن الجوزي في الواهيات (912) وقال الذهبي " باطل " ا.هـ الميزان 6/524
وحديث ( رجب شهر عظيم يضاعف الله فيه الحسنات فمن صام يوما من رجب فكأنما صام سنة ومن صام منه سبعة أيام غلقت عنه سبعة أبواب جهنم ومن صام منه ثمانية أيام فتح له ثمانية أبواب الجنة ومن صام منه عشر أيام لم يسأل الله إلا أعطاه ومن صام منه خمسة عشر يوما نادى مناد في السماء قد غفر لك ما مضى فاستأنف العمل ومن زاد زاده الله ) رواه البيهقي في الشعب (3801 ) والطبراني في الكبير (5538) وعده الحافظ ابن حجر من الأحاديث الباطلة ( مواهب الجليل 2/408 ) وقال الهيثمي " وفيه عبدالغفور – يعني ابن سعيد - وهو متروك " ا.هـ مجمع الزوائد 3/188 وقد ذكر الحافظان ابن الجوزي وابن حجر رحمهما الله تعالى جملة من الأحاديث الباطلة والموضوعة في فضائل شهر رجب ( أنظر مواهب الجليل 2/408 )
وأختم بما ذكره الحافظان ابن القيم وابن حجر رحمهما الله تعالى تلخيصا لما ذكرناه :
قال ابن القيم " كل حديث في ذكر صوم رجب وصلاة بعض الليالي فيه فهو كذب مفترى " ا.هـ المنار المنيف /96
وقال الحافظ ابن حجر " لم يرد في فضل شهر رجب ولا في صيامه ولا صيام شيء منه معيَّن ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه حديث صحيح يصلح للحجة " ا.هـ تبيين العجب / 11 ( وأنظر : لطائف المعارف /228 ) أسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن يوفقنا لاتباع السنة واجتناب البدعة إنه جواد كريم والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
د. نايف بن أحمد بن علي الحمد(/2)
شهر رمضان فرصة للتقويم والإصلاح
ناصر بن عطية ـ الشبكة
أقبل شهر رمضان المبارك ببركاته وميزاته وخيراته, أقبل هذا الشهر الطيب على المسلمين في كل أنحاء المعمورة , وليبيا الحبيبة بلد إسلامي عريق, وأهل ليبيا مسلمون على منهج أهل السنة والجماعة, ليبيا الحبيبة بلد الجهاد , بلد القرآن والفقه.
شهر رمضان له نكهة خاصة , لأنه شهر الصيام , شهر تقوية الإرادة , شهر العبادة والتقرب إلى الله عز وجل بالطاعات وأعمال الخير والبر, شهر الجهاد, شهر تصفد فيه الشياطين ,وتفتح فيه أبواب الجنة, شهر لتقويم النفس , شهر رمضان هو شهر الله عز وجل, شهر الفرص الثمينة, شهر التطهير من الأدران والأوساخ التي علقت بالقلب والفكر والروح, شهر لتجلية الصدأ العالق بالقلب, , وما أكثر البقع السوداء التي تعلق بقلوبنا خصوصا في عصرنا هذا, عصر الفتن, كقطع الليل المظلم.
يا أبناء المجتمع الليبي المسلم
إنها فرصة أن نتقرب إلى الله عز وجل بكل ما يحب ويرضى, نتقرب إلى الله بكل ما نستطيع من فرائض وسنن ونوافل وقيام ليل وتهجد وقراءة قرآن بتدبر وإدمان, نعم إدمان في تلاوة القرآن, لأننا هجرنا القرآن الكريم دستور الأمة وشفاء لما في الصدور, فلماذا لا نستغل الفرصة في هذا الشهر بتلاوته وبتدرج لدرجة الإدمان؟ لدرجة أن لا ندع يوما يمضي حتى نقرأ ولو آية واحدة بتدبر وبتمعن.
وإنها فرصة أن نتقرب إلى الله بقيام الليل وبالتبتل إليه, نقيم الليل متضرعين إلى الله عز وجل راجين مغفرته ورحمته ونصره , ولا نقيم الليل في السهر على المسلسلات والأغاني وغيرها من الملهيات التي لا تسمن و لا تغني من جوع.
يا ليتنا أن نجعل من هذا الشهر العظيم فرصة بأن ننظم وقتنا الذي سنحاسب عليه يوم القيامة.
فكل له وقت, ونحن لا نحث على ترك المفيد في الفضائيات وغيرها من وسائل الإعلام, فكل هذه الأشياء لها إيجابيات و لها سلبيات, فلنحسن اختيار الوقت المناسب والبرنامج المناسب والمسلسل المناسب, الأعمال التي ترشد إلى الهداية والنور, ولا ترشد إلى الضلالة والشرود والحيرة, وما أكثر الأعمال التي تحث على ذلك, وما أقل الأعمال التي تحث على كل خير.
الغيبة والنميمة والحسد, ما أكثر هذه الآفات وهذه الأمراض في بلدنا الحبيب, ولكن هل نستطيع أن نحد منها؟ هل نستطيع أن نعالج أنفسنا ونقومها ونصلحها بالتخلي تدريجيا عن هذه الأخلاق المشينة ؟ المشوهة للسمعة والشخصية؟
إي والله نستطيع لو توفرت فينا الإرادة الصادقة بعد الإستعانة بالله عز وجل والتوكل عليه.
والله وتالله من نوى إصلاح نفسه وعلاجها من الغيبة والنميمة لرضا الله عز وجل فإن الله سيوفقه وإن تعثر في البداية, ولكن الاستمرار والإيحاء لأنفسنا بأننا نستطيع فسوف نوفق, ونعتقد أن اللمم غير محاسبين عنها, وأفضل شيء أن نكثر من الاستغفار لو أحسسنا بالإثم وبفلتات اللسان ومنزلقاته.
لنترفع عن النفاق والكذب والرياء, لنترفع عن كل مشين, لنترفع عن التعصب القبلي, فكلنا مسلمون أولا وأخيرا, فلا داعي للتفريق بين الشرقاوي والغرباوي, وبين الغرياني و الترهوني والطبرقي, كلنا أبناء بلد مسلم , هذه البقعة المباركة وهي جزء لا يتجزأ من أمة الإسلام, أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه الغر الميامين.
لنترفع يا إخوة الإيمان عن كل مشين, نحاول, نجرب, ما المانع من إصلاح أنفسنا؟ لنصلح أنفسنا ليصلح حالنا بعون الله, لنكن من المفلحين وليس من الخاسرين الضالين, ولندعو الله في كل صلاة بأن يهدينا ويهدي كل ضال وعاصي, وأن ينتقم من الظالمين.
والله العظيم لا يصلح حالنا إلا بالرجوع إلى منبع الحق والخير, إلى ديننا الحنيف, إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وإلى ما أجمع عليه علماء الإسلام.
لنرجع لديننا ونطبق تعاليمه على حسب المستطاع, لنرجع إليه بعزيمة صادقة وبنية خير لأنفسنا ولبلدنا ولأمتنا المجاهدة المصابرة.
وإننا نقولها نصيحة من القلب :
يا من تريد اصلاح نفسك ففرصتك في هذا الشهر العظيم الطيب المبارك,نجتهد في الإصلاح من رمضان والى ما بعد رمضان, ومسيرة الإصلاح لا تتوقف.
يا من تكذب توقف عن كذبك وصم عنه, يا من تنافق وتبغض وتحقد توقف عن هذا يرحمك الله, يا من تغتاب توقف توقف توقف, ابدأ بنفسك وبعيالك وبأولادك, التغيير ممكن, التعديل ممكن, التقويم ممكن, لو صدقت مع الله فإنه سيوفقك.
ونعني بالتوقف هو أن نصوم عن هذه الأخلاق الرذيلة. فصيامنا ليس أن نمسك عن الطعام والشراب والمعاشرة وغيرها, بل كذلك أن نمسك ألسنتنا عن الغيبة والنميمة وغير ذلك من الأعمال المشبوهة والمحرمة والتي تغضب الله عز وجل.
والله يا إخوة الإيمان عزتنا في ديننا وليس في شيء آخر , لقد قالها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " نحن قوم أعزنا الله بالإسلام, فإذا ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله" .
يا من يحس في نفسه الذل...
أسألت نفسك من أين هذا الذل؟
أنا أجيبك:(/1)
إنه من عدم تتبعك لأبسط تعاليم وقواعد ديننا الحنيف, في الأخلاق والمعاملة والعبادة. وفي علاقتك مع الله أولا وأخيرا. لأن العلاقة مع الرحمن هي مفتاح كل خير. فلو أحسنت علاقتك مع الله فسيحسن حالك.
لو تريد العزة فارجع للإسلام أعزك الله...وسترى العزة مهما صارت الأمور من حولك ومهما اشتد الظلم والفساد, نعم سترى وتحس بالعزة , بعزة الإسلام, ستشعر بحلاوة الإيمان في حركاتك وسكناتك وقلبك وروحك.
إنها فرصة يا من تحمل في قلبك ذرة إيمان, فرصة أن تقوم وتصلح وترتقي إلى العلا, إلى السمو إلى معالي الأخلاق.
وفي الختام ندعو الله عز وجل أن يعيننا وان يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام, ونسأله عز وجل أن ينصرنا بالإسلام, وان يفرج عن كل مكروب , وأن ينصر المجاهدين أينما كانوا وتعينوا, إنه القادر على ذلك جل شأنه....والحمد لله رب العالمين...ورمضان كريم.(/2)
شهوة تبني مسجدا وستار أكاديمي
عزيزي الشاب:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تحية لك من عند رب العالمين مباركة طيبة
لعلك ستشاركني الفرحة والسرور عندما تتابعني إلى آخر المقال فلقد وصل إلي على موقع الرسائل الإلكترونية الخاص بي رسالة من أخ فاضل يحثني فيها على نشر خبر عن مشروع لجمع مبلغ وقدره مليون جنيه لصالح فلسطين ولكن ما لفت انتباهي أكثر هو شعار هذه الحملة وهو ' صانكي يدم ' أو ' كأنني أكلت ' أما سبب الحملة فهو مقالة انتشرت عبر المواقع والمجموعات الإسلامية عنوانها ' شهوة تبني مسجدا ' وقد أكرمهم الله تعالى بجمع مبلغ وقدره 120,000 مائة وعشرون ألف جنيه وما زالت الأخبار تتوالى كما قام القائمون على هذه الحملة بإشراك منتديات أخرى كمنتدى عمرو خالد ' صناع الحياة ' ومنتدي ' ملتقى الإخوان ' ومنتدى ' ساحة كل الطلبة ' وهي منتديات لمناقشة القضايا العامة للأمة والشباب.
إن هذا المشهد المذهل لجمع من شباب المسلمين وهم يبعثون الحياة في كلمات كتبت لهو مشهد يؤكد أن الخير في أمة النبي صلي الله عليه وسلم إلى يوم القيامة وهو بالأحرى يؤكد أن شباب هذه الأمة لا ينقصه إلا التوجيه والإشارة لينطلق بعد ذلك فينشئ ويخطط ويبدع وينطلق.
تأملات في العدد:
اعتدت على الدخول إلى الموقع, موقع مفكرة الإسلام كل فترة للإطلاع على المقالات التي نزلت ومستوى الدخول عليها حيث أنه من المفترض أن ذلك إحدى الدلالات على مدى موافقة المواضيع المكتوبة لمعايشة واقع شباب الأمة وتحديد المشكلات الرئيسية ولتغيير مستوى الكتابة ونوعية المواضيع تبعا لدرجة الاهتمام والقبول للمقالات المعروضة وكان من اللافت للانتباه مستوى الدخول على مقالة ' شهوة تبني مسجدا ' ولما تأملت المغزى من وراء ذلك عن لي أن من أسباب ذلك فيما أرى أمور منها:
الشهوة: القضية التي أصبحت تمثل عند شباب الأمة كارثة الكوارث التي يظل الشاب طول عمره حتى يكرمه الله بالزواج بل وحتى بعد الزواج في كثير من الأحيان يعاني ويتلوى من آثارها وهي في الحقيقة من القضايا التي تم تضخيمها لتأخذ حجما أكبر من حجمها الطبيعي وقد عالجنا هذا المعنى في مقالات أخرى.
إنها تبني: معنى إيجابي جديد للشهوة بل إن هذا المعنى هو الذي لفت انتباهي وأنا أقرأ قصة خير الدين كجي أفندي رحمه الله أنه امتلك كل هذه القدرة لتحويل الحلم إلى حقيقة بل الأكثر من ذلك أنه امتلك حلما كهذا أصلا فما هذه الهمة العالية والشعور العجيب بارتفاع القيمة الذي كان خير الدين كجي أفندي يمتلكه بين جوانحه ويملأ عليه روحه ونفسيته.
أظن أن خير الدين كجي أفندي لم يكن ليعتقد رحمه الله أو يتصور أن ينال وهو الفقير المجهول كل هذا القدر من الاهتمام والعناية بل وتكون قصته تلك سببا في كل هذا الخير وهو في قبره منذ عشرات السنين إن خير الدين كجي أفندي لم يبني مسجدا واحدا فقط كلا لقد بنى في قلب كل من عرف قصته جامعا ضخما وقلعة حصينة لن يجد الإحباط وانتقاص الإنسان من قيمة نفسه لها سبيلا ولا ثغرة ينفذ منها إن مسجد صانكي يدم هو الباكورة في سلسلة المساجد وحجر الأساس في صروح الإيجابية المقامة على أنقاض النفسيات المهزومة والرؤوس المطأطئة ألا تعجب معي من مشهد هذا الرجل وكيف جازاه الله تعالى على فعله بما تعدى قيمة فعله أضعافا مضاعفة فحفظ الله ذكره لا لمال ولا جاه ولانسب ولا سلطان ولا حلاوة لسان أو حتى إحسان للآخرين كلا بل لهمة عالية لنصرة الدين والتعامل بإيجابية مع الحياة وعنوان ذلك كله القيام بواجب الاستخلاف في الأرض.
' لا تحقرن من المعروف شيئا ' صدق الحبيب المصطفى صلي الله عليه وسلم ' رب همة أحيت أمة ' عجبا لأمر هذه الأمة لم يطلب منها ربها إلا أول الجهد ثم هو يبارك سبحانه فيما بقي إلى ما شاء من الزمان ' ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله'.
شهوة تبني مسجدا وستار أكاديمي:
إن ظاهرة ستار أكاديمي ظاهرة لا يصح إغفال دراستها وتأملها لكل باحث على الحقيقة في أحوال شباب الأمة وكل منشغل بوسائل الارتقاء لهؤلاء الشباب وهي نموذج صارخ وواضح على حقيقة طاقات الأمة بل هي أبسط طاقة من هذه الطاقات فقد كان كل المطلوب والتفاعل المرجو منحصرا في الاتصال بالبرنامج للترشيح فقط وقد وجد استجابة مرتفعة للغاية فقد وصلت لأرقام بالملايين من شباب الأمة ولكن لماذا ؟(/1)
لماذا هذه الاستجابة العالية ؟ ليست القضية بالتأكيد أن الملايين التي اتصلت تحب الفساد وتعشق الاختلاط وتستمع بمرأى شباب المسلمين يمرحون مع الشابات كلا فمن نظر إلى الأمر بهذه الصورة إنما نظر من زاوية شديدة الضيق إن هذا البرنامج متعدد الجنسيات العربية قد ساهم في خلق ما فشلت فيه الحكومات من شعور بالوحدة بل والمعنى الأدق الشعور بالانتماء إلى شيء ما بغض النظر عن شكله ومبادئه ومنطلقاته إن الشباب المسلم في أشد الحاجة إلى الشعور بالانتماء والرغبة في إحداث فرق إنه يريد أن يشعر أنه يحقق شيئا ما أي شيء لقد رأى نفسه سببا في نجاح مرشحه لأنه أعطى صوتا له لقد أحدث صوته فرقا أخيرا إن لهذا الشعور له ما له في كيان الإنسان أن يشعر أن له قيمة في عالم يصب كله في طمس هذه القيمة وإشعاره بالضآلة والعجز حتى عن إدارة أبسط شؤونه وتقرير أدق اختيارات حياته ومستقبله.
الشباب والشابات المسلمين المسلمات في أشد الحاجة إلى الشعور بالانتماء وإثبات الذات , يريدون أن يصرخوا : نحن يمكننا تحقيق الكثير ولكن نرجوكم أن تفسحوا لنا الطريق , حقيقة رآها أهل الباطل ومحبي نشر الفاحشة في أوساط الشباب فتلقفوها وبادروا بالعمل عليها وأخرجوها لنا في هذه الصورة ' ستار أكاديمي '.
ونحن وإن كنا نؤكد على شكر جهود كل علمائنا ومشايخنا الذين وضحوا الموقف الشرعي من التعامل مع ' ستار أكاديمي ' إلا أننا ننادي بضرورة إيجاد البديل وملأ الفراغ لدور حقيقي يقوم به شباب الإسلام ولعل في الدور الرائد الذي يقوم به الداعية الإسلامي الأستاذ عمرو خالد حفظه الله من توجيه الأمة إلى هذه الطاقات بل إلى التأكيد على الحقيقة التي ذكرناها من عطش شباب الأمة الشديد إلى الانتماء لفكرة وقضية والرغبة في الشعور أنهم إنما يقدرون على تقديم شيء حقيقي ملموس ينفع الأمة ويجعلهم يشعرون بقيمتهم لعل كل هذا الذي سبق هو الذي يكفل هذا النجاح المبارك لبرنامجه ' صناع الحياة '.
ستار أكاديمي والجهاد في سبيل الله:
هل تصدق معي إذا قلت لك أن الكثير ممن كانوا يشجعون برنامج ' ستار أكاديمي ' كانوا في الوقت ذاته تدمع أعينهم عندما يرون شباب وأطفال ونساء وشيوخ المسلمين يقتلون ويهانون وتنتهك أعراضهم , صدق أو لا تصدق ولكنها حقيقة تؤكد أن ما رأيناه لم يكن سعيا من شباب الأمة نحو الفساد بقدر ما كانت رغبة لإحداث فرق ولعل هذا يوضح لنا لجوء شباب الأمة دوما عند النظر لحال المسلمين إلى طلب الخروج للجهاد والقتال سواء في الأراضي المقدسة أو العراق أو غيرها من بقاع أراضي الإسلام المدنسة بنجس الاحتلال إنهم يلجؤون إلى طلب الجهاد بالنفس والاستشهاد في سبيل الله لا لشيء إلا لأنهم باتوا لا يشعرون بقدرتهم على خدمة الأمة في غير ذلك من أبواب الجهاد باللسان والمال والقلم والدعوة والتميز في التخصص العلمي وغيرها إنهم يرون ذلك كله دون المستوى ولم ذلك ؟ لأنهم لا يشعرون بأثر ذلك وقيمته في عموم الأمة وهكذا ينصرفون إلى طلب الجهاد بالنفس والاستشهاد في سبيل الله هناك باعتباره وسيلة إحداث الفرق كما يرون دائما على وسائل الإعلام وشاشات الفضائيات بينما الثغرة الأولى بالدفاع عنها منهم هي في بلادهم بارتقائهم وتعليمهم للناس أمور دينهم وبنشر قيمة الإيجابية وروح مسجد 'صانكي يدم' في قلوب شباب الأمة كلهم وليس هذا تقليلا من شأن الجهاد والعمليات الاستشهادية ضد الكفار المحتلين لبلاد الإسلام بل هو تبرير لمشهد عجيب لا يمكن أن نعقله لشاب يرى نفسه أهلا للخروج لبذل روحه في سبيل الله ثم هو ذاته لا يملك القدرة على قيام الليل باستدامة أو إصلاح شأن من حوله من أهله وغيرهم أو لا يملك التخلي عن معصية تتملكه فهو يريد الشعور بقيمته أولا وقدرته على التغيير حتى يبدأ خطوات هذا التغيير.
الإخوة الأحباب الكرام:
هذه خواطر دارت بذهني وأنا أقرأ هذه الرسالة الإلكترونية حول حملة جمع المليون جنيه لصالح فلسطين , لكنها كانت كفيلة بإمدادي بمزيج قوي من الأمل والتفاؤل والنشاط , شاكرا لكم جميعا كرم قراءتكم سائلا المولى جل وعلا أن يبارك لنا في شباب الإسلام ويرفع قدرهم ويعلي شأنهم في الدنيا والآخرة اللهم آمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(/2)
شهيد
فؤاد المنشاوي
يا شهيداً قد غرست الحب iiفينا
عرفت الدين تسبيحاً iiوسيفاً
وأن الدمع في المحراب iiيُروي
طلبت الموت كي تحظى iiبخلد
صدقت الله في أمر عظيم
رصاص البغي في الظلماء يروي
وعملاق بجنح الليل iiيهوي
تركت الزينة الحمقاء iiزهداً
ذكرت الله في الهيجاء iiحتى
سلكت الدرب تطرقه iiبجد
وفي الفردوس تحظى في iiنعيم
ترى المختار والصديق iiفيها
فأنت اليوم في فوز عظيم
وبعض الناس في قال وقيل
ونحن اليوم في الهيجاء iiنرجو
فطب نفساً أخا الإسلام iiإنا ... ودمع العين سقيا العارفينا
وتسليماً لرب iiالعالمينا
بظل السيف قوماً iiظامئينا
فأنت اليوم بين iiالخالدينا
ورب العرش يرضي iiالصادقينا
بعيداً عن عيون الناظرينا
تمزقه حراب iiالغادرينا
فأنت اليوم رمز iiالزاهدينا
قتلت النفس بين iiالذاكرينا
إلى الفردوس قصد iiالسالكينا
شفاء النفس رؤيا الصالحينا
ترى الشهداء بين iiالسابقينا
وقد كنا لفوز iiطالبينا
ولن تلقى لجعجعة iiطحينا
كريماً لا يردُّ السائلينا
على درب الشهادة ما iiحيينا(/1)
شهيد
عمر أبو ريشة
"ألقيت في الحفلة التذكارية في حماه ودمشق للشهيد البطل سعيد العاص الذي استشهد في جبل النار في فلسطين".
نام في غيب الزمان الماحي جبل المجد والندى iiوالسماحِ
أسكرته أجيالُ نعمته البكرِ بفيض الأعراسِ iiوالأفراحِ
حين أنفاسه تموج على الكون بعبق النبوّة iiالفوّاحِ
وترفُّ الحياةُ فيه على آثار عيسى من غدوةٍ iiورواحِ
بسمةٌ للنعيم مرَّتْ وأبقتْ ما يبقّي السكير في الأقداحِ
فتمشَّتْ عليه دُهمُ الليالي وكسته من نسجها بوشاحِ
وطوت سفره العجيب الموشّى بأساطير عهده iiالوضّاحِ
فإذا الأعصر الخوالي مطافٌ لخيالات شاعرٍ iiصدّاحِ
وإذا الطرف ليس يعثر إلا بقيود مغموسة iiبجراحِ!!
ورقابٍ محنيةٍ تتشظّى مزقاً فوق منجل iiالسفّاحِ
ليس بدعاً إذا تعالى وضيعٌ واستباح الحمى الحرام iiإباحي
قد تحوك الأقدارُ من لبدة الليث وشاحاً للغانيات iiالملاحِ!
* * *
يا ظلام الأجيال قًصَّ جناحيك فهذي طلائع iiالإصباحِ
مرودٌ كحَّلَ الجفون الكسالى فأفاقت على السنا iiاللمَّاحٍِ
فصحا من عيائه الجبل الهاجع واهتزَّ مفعمَ iiالأتراحِ
وتعالى صياحه يتوالى فاشرأبّت نسوره iiللصياحِ
تركتْ في الوكون أفراخها الزغبَ وهبّت على أزيز iiالرياحِ
وتبارت عصائباً فالفضا الرحبُ بساطٌ من مخلبٍ وجناحِ!!
غضب البغيُ فانبرى يحشد الهولَ ويرنو إلى الأذى iiبارتياحِ
شقّ فكّي جهنم فأسالت في الروابي لعابها والبطاحِ!
فاقشعرت من وهجه القللُ الصمُّ وأجّتْ شوامخُ iiالأدواحِ
وتدجَّى الدخان يحجب عينَ الشمس عن مأتم الثرى iiالمستباحِ!
فتهاوت تلك النسور وأزرت بالمنايا، على اللظى iiالمجتاحِ
تنشب المخلبَ المعقَّفَ في البغي وتزجي المنقار في iiإلحاحِ
ولسانُ اللهيب يلعب بالريش ويطوي الجراحَ فوق iiالجراحِ
غضبةٌ للنسور، لا النصر فيها بمتاحٍ، ولا الونى iiبمباحِ!
لم تزحزح تلك المخالبُ إلا بعدما جُرّدت من iiالأرواحِ!
فتلاشى الدخان عن وثبات البغي في بركة الدم iiالنضّاحِ
وسرى الليل مالئاً جبل النار سكوناً.. لولا نشيد iiالأضاحي!
* * *
يا دماء النسور تجري سخاءً بغرام البطولة iiالفضاحِ!
أنبتي العزّ سرحةً يتفيَّا بأظاليلها شتيتُ iiالنواحي
أنتِ دمع السماء إن لهثَ الحقلُ وجفَّت سنابلٌ iiوأقاحي
أي بردٍ خلعته أحمرَ اللون على كاهل الجهاد iiالصُراحِ
فيه إيماءةٌ إلى نهبة العلياء من قبضة الزمان iiالوقاحِ
ليس يبلى على الزمان "وللعاص" خيوطٌ في نسجه iiاللواحِ
تحفظ البيد ذكريات لياليه وتهفو لعهده النزَّاحِ!
وتحن الغياض في الشام شوقاً لتثنيه مثقلاً iiبالسلاحِ
يا شهيد الجهاد يا صرخة الهول إذا الخيل حمحمت في الساحِ!
أيُّ مهرٍ لم تدمِ خاصرتيه من حفيف المهماز يوم اكتساحِ
أي عَودٍ ما زغردت لك فيه كلُّ ميّاسة القوام iiرَدَاحِ!
كلما لاح للكفاح صريخٌ صحتَ لبيك يا صريخ iiالكفاحِ
تحمل الحملة القوية والإيمان أقوى في قلبك iiالمفراحِ
فكأن الحياةَ لم تلق فيها ما يروّي تعطش iiالملتاحِ
هبة في يديك كانت ولما رامها المجدُ عفتها iiبسماحِ!
* * *
وكأني أراك في زحمة الهول على سرج ضامرٍ طوَّاحِ
وأخوك الجسور في القمم السود مطلٌ على الروابي iiالفساحِ
لوّحت كفُّه بمنديله الأحمر شوقاً إلى اللقاء iiالمتاحِ
فحسبتَ الأجيال تهتف يا "خالد" جاهدْ في فيلق ii"الجرّاحِ"
فترنحت واندفعت وهيهات يلين الجواد بعد iiجماحِ!!
واقتحمت اللظى فكنت مع الصيد فراشاً على فم المصباحِ!!
* * *
إيْ فتى المجد، إنه العمر، يوم لخسار، وآخر iiلرباحِ!
إن من سامك المنون لقومٌ لم يحيّوا على الحجى iiوالفلاحِ
كيف زاغت حلومهم فتمشى البغي ما بينهم طليق iiالسراحِ
ما عهدنا الإنجيل إلا مناراً لسلام وقائداً iiلصلاحِ
غمرت آية الدماء وسُلَّتْ باسمه السمحِ مديةُ iiالسفَّاحِ!
أرخصوا خشبةَ الصليب وباعوها وقوداً إلى اللئام iiالشحاحِ
وأهانوا مهد المسيح وردّوه على طهره فراشَ iiسفاحِ!!
خفروا ذمة العهود وصموا الأذن عن صرخة الهضيم iiاللاحي
كم وعودٍ معسولةٍ سكبوها في فؤاد العروبة iiالمسماحِ
فحشدنا لهم جيوش ولاء ومددنا أكفّنا iiللصفاحِ
وسفكنا الدم الزكيَّ وزيّنا جبين الرحى بغار iiالنجاحِ
وأردنا الأسلابَ منهم فكنا نحن أسلابهم ونحن iiالأضاحي
* * *
جبلَ النار لن تنام كما نمتَ جريحَ العلى كسيحَ iiالطماحِ
لك حبٌ في قاسيون وصنين وسيناء ما له من iiبراحِ
أنت للعرب كالمنارة في الساحل لاحتْ لأعين الملاَّحِ!(/1)
شواهد اليقين في إستدلال الخليل على رب العالمين
د. سامي السويلم 13/4/1423
24/06/2002
قصة الخليل - صلي الله عليه وسلم- مع الكواكب التي وردت في سورة الأنعام: قصة ذات شجون.
ما حقيقة موقف الخليل - عليه السلام- في تلك الليلة التي قص علينا القرآن؟ هل كان "ناظراً "، يبحث عن إلهه الحق، ويستدل عليه بالتفكر في آياته؟ أو كان عارفاً بالله تعالى لكنه " يناظر " قومه، يقيم الحجة عليهم من خلال الحوار والتنزل في العبارة ونحو ذلك؟
إذا رجعنا إلى قواعد أهل السنة والجماعة في التفسير، من التمسك بنصوص الوحي دون تأويل أو تحميل للنصوص ما لا تحتمله، فالنصوص واضحة في أن القصة كانت عن الخليل -عليه السلام-: (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ...)(فلما جنّ عليه الليل رأى كوكباً) (لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين). فالسياق عن الخليل لا عن مناظرة بينه وبين قومه.
وإذا رجعنا لتفسير الصحابة والتابعين، وجدناهم متفقين على أنه عليه السلام كان ناظراً.
وإذا رجعنا لأئمة السلف: كابن جرير، وابن خزيمة، والخطابي، وجدناهم كذلك.
لكن إذا رجعنا إلى عامة كتب التفسير، لأهل السنة وغيرهم، من بعد القرن الثالث الهجري، نجدها ترجح القول بالمناظرة، وبعضها لا يذكر القول بالنظر إلا على سبيل الاستنكار. وسبب ذلك: القول إن الأنبياء لا يجوز عليهم ما صدر عن الخليل من قوله للكوكب: {هذا ربي}، حتى قبل البعثة، حتى لو كان ذلك في مقام الاستدلال والبحث عن الحقيقة. وبعضهم يحكي ذلك إجماعاً.
وحقيقة الأمر أن هذا الإجماع لا وجود له، حتى بين الأشاعرة الذين بالغوا أكثر من غيرهم في هذا الجانب. كما أن أصول أهل السنة والجماعة -كما يقررها شيخ الإسلام ابن تيمية- لا تستوجب ما ذكروه، بل تنافيه.
فأصول أهل السنة وسلف الأمة لا تتفق مع هذا التفسير الذي ساد وانتشر حتى يظن الباحث أنه لا وجود للقول الآخر، إلا في مقام الإنكار، مع أنه هو ظاهر الآيات وهو الثابت عن أئمة السلف رضي الله عنهم.
لكن شجون القصة لا تقف عند هذا الحد!!
فما وجه الاستدلال الصحيح بأُفُول الكوكب على بطلان ربوبيته؟ فنحن نعلم أن هناك استدلالات باطلة للفلاسفة والمتكلمين بالأفول على بطلان الربوبية، ونعلم الرد عليها. لكن، بحسب البحث في المصادر المتاحة، لا نعثر على تحديد وجه استلزام الأفول للنقص والعجز المنافي للربوبية، حتى إن العلامة ابن الوزير اختار التوقف في هذا الموضوع: "لأنه ليس مما نطق به القرآن ولا مما نعلمه".
هذه القضايا، وكثير من المسائل المتفرعة عنها والمتصلة بها، هي محل البحث في هذه الورقات.
لقد انطلق البحث من قناعة راسخة أن ما تميز به أهل السنة والجماعة ليس مجموعة من المسائل التي قررها أئمة السلف فحسب، ونرددها نحن اليوم. إنه - بالإضافة إلى ذلك- منهج: منهج في دراسة نصوص الكتاب والسنة، منهج في التحليل والتفكير، ومنهج في النقد والترجيح. وكانت قصة الخليل - عليه السلام - مثالاً نموذجياً لتطبيق هذا المنهج، لتكون النتائج مؤكدة لما قرره السلف والأئمة، خلافاً لما توارد عليه أكثر المتأخرين، حتى من أهل السنة أنفسهم. كما كانت النتائج متفقة مع منهج القرآن نفسه في تقرير التوحيد وإبطال ربوبية الأصنام، ومنهجه في الدعوة إلى التدبر والتفكر في آيات الله. وبعد ذلك كله فالنتائج تؤكد براءة الخليل -عليه السلام- من الشرك ومن المشركين، ويقينه بتوحيد خالقه وبارئه -سبحانه وتعالى- ولولا هذا اليقين لما وجدت أحداث القصة ابتداء. والمقام لا يتسع لتفصيل أكثر حول الموضوع، فالبحث متاح في الملف المرفق لمن يرغب الاطلاع عليه.
لقد كُتِبَ هذا البحث على مدى سنوات، وأفاد كثيراً من مناقشات عدد من الباحثين وطلبة العلم والأساتذة، على رأسهم فضيلة العلامة جعفر شيخ إدريس، حفظه الله ونفع به. لكن عهدة البحث على كاتبه، ورحم الله من نصح لأخيه، فالدين النصيحة كما نطق بذلك رسولنا صلى الله عليه وسلم.(/1)
شيء عن الفكر الوضعي
أ. د. عماد الدين خليل 1/5/1427
28/05/2006
-1-
كثيراً ما يتساءل المرء: لمإذا يصر الفكر الوضعي (1) عموماً والغربي بخاصة، على التشبث بجانب واحد من الفكرة ذات الجوانب العديدة، ويقف عند مساحة محدودة منها بينما هنالك مساحات شتى؟! ولمإذا يصر على تبسيط الظاهرة وحملها على ان تطل على الإنسان بوجه مسطح واحد بينما هنالك وجوه عدة؟! ولمإذا يتشنج على طبقة واحدة من الحقيقة بينما هي تتضمن طبقات وطبقات؟
إن السبب قد يحمل بعداً نفسياً ذاتياً صرفاً، فالمفكر الوضعي الذي يكتشف جانباً من الحقيقة، أو مساحة من الظاهرة، أو وجهاً ما من الفكرة، يسعى للاعتقاد بأن ما اكتشفه هو الجانب الوحيد للحقيقة، والمساحة الكلية للظاهرة، والوجه المتفرد للفكرة .. ويبذل جهداً متواصلاً لإقناع أتباعه بذلك، ولشدة التكرار والالحاح يتوهم هؤلاء أن مايقوله هو الحق، وإن اكتشافه الفكري هو الصواب، وإنه يتضمن أطراف الحقيقة أو الفكرة أو الظاهرة كافة ..
إنه نوع من الرغبة في تعبيد الناس للمفكر، وكسب إعجابهم وانبهارهم من خلال أطروحاته الفكرية المعززة باستنتاجات ومعطيات متواصلة لتأكيد أنها الحق المطلق، وأن ما وراءها الباطل والضلال. وهو يبني موقفه هذا، أو كسبه غير المشروع إذا صح
التعبير، على ماقد يتضمنه العقل البشري من قصور وعدم قدرة على الإلمام بجوانب
الحقيقة، وافتقاده النظرة الكلية التي تستشرف أطراف الظاهرة من كل مكان .. هذا العقل الذي يظل يعاني من نقصه هذا طالما هو لم يستهد بدين سماوي .. ببرنامج عمل موضوعي يجيء من السماء ويمنح الإنسان والعقل الإنساني، بما يتضمنه من علم إلهي شامل، القدرة على تجأوز النظرة أحادية الجانب، والتوغل لإدراك جوانب الحقيقة ومساحاتها وطبقاتها جميعاً.
-2-
إن المفكر الوضعي ليمارس هنا نشاطاُ ضد المنهج، ضد الموضوعية والتجرد العلمي .. وهذه الضدية تجيء على حساب الحقيقة.
نعم قد يكسب المفكر الجولة، وقد يلتف حوله المريدون والأتباع، وقد يوحي لفترة طويلة من الزمن أنه وضع يده على مفاتيح الحقيقة، وأنه سبر غورها العميق، ولكن الخاسر في هذه اللعبة التي تكررت على الساحة الأوروبية عشرات القرون، هو الحقيقة، والإنسان الذي يتوخى معرفتها وإدراكها في نهاية الأمر.
ويقوم هذا النشاط الذي يمارسه المفكر ضد المنهج والموضوعية على محأولة توسيع مساحة (الاكتشاف) لجعله يلف الظاهرة كلها ... مطّه بأي أسلوب لكي يحيط بالفكرة من جوانبها كافة .. إرغامه على التضخم لكي يوازي الحقيقة طولاً وعرضاً وعمقاً ..
-3-
والمشكلة أن هذا الاكتشاف الذي يحمل قيمته الكبيرة بحد ذاته، قد يغطي مساحة من الظاهرة .. قد يفسر جانباً من الفكرة .. قد ينشر شعاعه على جهة محدودة من الحقيقة لكي يضيئها .. ولكن تبقى دائماً مساحات وجوانب أخرى من الظواهر والأفكار والحقائق لايكفي الاكتشاف- إن على مستوى النوع أو على مستوى الكم- لتفسيرها وإضاءتها، لابد من اكتشافات أخرى وإضاءات متتالية، تأخذ طابع التتابع والتكامل، وتُسلّط على الحقائق والظواهر والأفكار جميعاً، ويسهم فيها خط طويل من المفكرين، وعقول متألقة لايحصيها عد .. وعند ذلك قد تصل إلى تفسير هذه الظاهرة أو تلك، وقد لاتصل أساساً ..
-4-
لكن العلوم الإنسانية شهدت صيغة أخرى في العمل .. صيغة الانفراد، والذاتية،
والادّعاء، والتضخّم .. ولذا لم تستطع أن تقدم للإنسان عشر معشار ما قدمته العلوم النظرية والتطبيقية .. ولهذا - أيضاً - آلت إلى الفشل والسقوط الواحدة تلو الأخرى ..
فعلى سبيل المثال، لمإذا يصر عقل فذ (كهيغل) على جعل الجدل، أو
الديالكتيك، أو التقابل المتضاد بين الحقائق والتجار، يقتصر على نطاق (الفكرة) ؟ ولمإذا يجيء (ماركس) و (انغلز) بعده لكي يديناه على أحادية نظرته، بل على وضعها
المقلوب، لكنهما لا يلبثان أن يقعا في الخطأ نفسه، فيتشنجان على نظرية الديالكتيك المادي أي الجدل في نطاق المادة وحدها؟
إنهما يتهمان (هيغل) بأنه وضع فلسفة (تمشي على رأسها) لكنهما وهما يسعيان لتعديل الوضع الفلسفي، قدما فلسفة تمشي على بطنها بحثاً عن الخبز وحده.
أما كان من الأولى أن يتجاوز ( هيغل ) تشبثه بالفكرة، وأان يبعد (ماركس)
و (انغلز) قليلاً عن الأرضية المادية، وأن يحاول الطرفان وضع صيغة للجدل أكثر شمولية تتضمن الفكري والمادي معاً؟
ثم لمإذا يصر الطرفان على أن الجدل بين الأفكار أو الصيغ المادية يأخذ طابع التناقض والتضاد، ويقود دوما إلى الاصطراع؟ ألا يتحتم أن تضاف إليه صيغ أخرى للعلاقة تأخذ طابع (التبادل) بدلاً من التضاد؟
تبادل في الاخذ والعطاء دونما ضرورة لصراع محتوم، ودونما اطّراح لبعض العناصر من هذا الجانب أو ذاك، بل بلورته وتثبيته وإضافته للموحد الجديد ..
وغير (هيغل) و (ماركس) و (انغلز) كثيرون جداً ..
-5-(/1)
إن ثمة أسئلة كثيرة تخطر على بال الإنسان وهو يتعامل مع الفكر الوضعي، ولئن لم تحظ بأي جواب فإن ثمة مايشبه القناعة تبرز لكل ذي عينين: إن النظرة أحادية الجانب، تلك التي تأخذ بخناق هذا الفكر، إن هي إلا انعكاس لنوع من الادعاء والغرور، وربما الكذب، سواء شئنا أم أبينا .. والمفكرون الغربيون هم كما يصفهم كتاب الله:
(إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ
الْهُدَى) (2).
تلك هي أزمة الفكر الوضعي من جهة المفكر نفسه، أي من الزاوية التي يطل بها على العالم، والمنهج الذي يعتمده في التعامل مع الظواهر والحقائق والأشياء ..
ولكننا نريد أن نقف لحظات في الجهة الأخرى، جهة العقل الغربي المتلقي وهو يتعامل مع معطيات مفكريه: مذاهب ومدارس وعقائد ونظريات .. جهة المثقفين الغربيين وهم ينتمون إلى هذه المدرسة أو تلك وإلى هذا المذهب أو النظرية أو ذاك ..
فهاهنا أيضاً نُجابَه بعدد من الأخطاء المنهجية في طبيعة هذا التعامل، ويكمن أكبر هذه الأخطاء وأشدها وضوحاً في المشكلة نفسها التي يعاني منها المفكر واضع النظرية أو مصمم المذهب، تلك هي - مرة أخرى - النظرة أحادية الجانب، حيث يمارس المثقف مايمكن عده خداعاً وتضليلاً على حساب الحقيقة، أو مايمكن عده خطأ منهجياً على أقل تقدير.
إنه يصدق فعلاً أن (الاكتشاف) الذي حققه هذا المفكر أو ذاك، ومطّه ونفخ فيه لكي يجعل منه نظرية، أو مذهباً، يفسر كل شيء، ويلقي ضوءه على كل معضلة أو مسألة غامضة في الوجود والعالم، يصدق أن هذا الاكتشاف هو الحق المطلق .. الرؤية المتفردة .. الكشف النهائي للسنن والقوانين التي تحرك العالم وتفسر معطياته في الوقت ذاته.
وهم، أي المثقفون، يدفعون أنفسهم إلى نوع من الاستسلام لهذا التصور، يصل بهم أحياناً حد الوثنية والتعبد، فيفقدون القدرة على أي تفكير مستقل يخرج بهم عن دائرة المذهب الذي انتموا إليه، والمفكر أو الفيلسوف الذي آمنوا به .. بل إنهم يعدون أي محاولة لتجاوز أطروحات المذهب خروجاً على التعاليم المقدسة، وهرطقة يستحق صاحبها أشد العقاب.
-6-
وإذا كان المفكر الوضعي يتخذ موقف المعلم المطلق، أو صاحب الاكتشاف
المقدس، لتحقيق حاجة ذاتية في تركيبه الخاص، فما الذي يجعل المثقف المتلقي، أو
التابع، يتخذ موقف التسليم المطلق والانقياد الأعمى للفكرة أو الاكتشاف، ويتشنج عليهما ويعدّهما الحق الذي ليس وراءه سوى الضلال؟
قد يلعب البعد النفسي دوره هنا أيضاً .. فإن الانتماء لمذهب ما، والمبالغة في الاعتقاد بأنه الحق المطلق واليقين الكامل، يمنح الذات فرصة للتحقق والتوازن والامتلاء، ويشبع فيها حاجات كانت في كثير من الأحيان بمثابة الدافع القوي للسلوك البشري.
لكن هذا وحده لايكفي .. إنه - مرة أخرى - القصور العقلي .. عدم قدرة الإنسان على بلوغ اليقين المطلق، أو رؤية الحقيقة كاملة، طالما هو رافض للتلقي عن العلم
الشامل، ومن ثم يجد نفسه أسير التجزيئية، والقصور، والرؤية ذات البعد الواحد.
وهو من أجل تجاوز محنته، بل بسبب من اعتقاده بقدرته العقلية الفائقة- يندفع للتصديق بهذه النظرية أو تلك، والتسليم بهذا الكشف أو ذاك، لا لأنها بحد ذاتها تحمل الصواب المطلق، بل لأنه هو نفسه لا يملك المقاييس الموضوعية النهائية للحكم عليها، ومن ثم فقد يمتلك القناعة الكافية، المتناسبة مع قدراته المحدودة في أن هذا الذي يطرحه مفكر أو فيلسوف ماهو الصدق واليقين والحق، وأن الانتماء إليه يمنح الفكر معادلاته الموضوعية، وتوازنه، واستقراره.
-7-
إن المشكلة، مرة أخرى، تكمن في غياب الرؤية الدينية، وانعدام المقاييس الموضوعية التي تنبثق عن العلم الإلهي الشامل .. وهنا، في الساحة التي يتفرد فيها بالسلطان العقل ذو القدرات النسبية، يصبح الانتماء مجرد اجتهاد شخصي قد يخطئ وقد يصيب، وهو حتى إذا أصاب فإنه لا يتحقق بالمعرفة الكلية اليقينية الشاملة، لأنه ليس بمقدور عقل بشري أن يبلغ شواطئها.
وهنا قد يسأل المرء: إذا حدث وأن طرح مفكر ما كشفاً أو نظرية تناقض في جوهرها كشف مفكر آخر أو نظريته، فمن يكون من أتباع كلا المفكرين على حق، ومن يكون على ضلال؟
إن هذا التناقض الطولي بين مفكر وآخر يعملان في مجال واحد، من مثل التناقض بين (ماركس) و (هيغل) يكفي وحده أن يهز قناعات الأتباع بكل الربوبيات والصنميات الفكرية، لكن هذا لايحدث، لأن القصور الفكري وضياع المقاييس الشمولية، فضلاً عن الحاجات والدوافع النفسية في الاحتماء بهذه النظرية أو تلك، والامتلاء بقناعاتها، يمنع مثل هذا المصير.
-8-(/2)
مهما يكن من أمر فإن بعض المفكرين بسبب من تضخم إحساسهم بالقدرة على الكشف، وبأن كشفهم هذا قادر على الامتداد لتغطية جوانب الحقيقة كافة وتفسير كل شيء، بسبب من هذا يتجاوزون - أحياناً - دوائر تخصصهم، ويوغلون في مجالات ودوائر أخرى للمعرفة قد لايملكون من الأدوات والوسائل مايمكنهم من أن يحققوا فيها ماحققوه هناك في حقل تخصصهم وإبداعهم.
وإذا كان الدافع لهذا السلوك واضحاً، فما الذي يدفع (الأتباع) إلى تقبل هذا الموقف واعتبار معطيات المفكر- حتى في مجالات تبعد عن تخصصه- بمثابة الحقيقة النهائية هي الأخرى؟
ان هذا بالذات هو مايحدث بالنسبة للماركسيين - على سبيل المثال - وهم يتعاملون مع اكتشافات ( ماركس ) في حقول الاقتصاد والفلسفة والتاريخ ، فيرونها جميعا بمثابة الامور التي تتجأوز حدود الحقائق الاختبارية الى نوع من القدسية التي يتحتم الا يمسها احد بأية صيغة من صيغ التساؤل والشك .
فإذا كان ( ماركس ) متضلعا في حقل الاقتصاد وقدم في دائرته كشوفا ذات قيمة كبرى ، فما الذي يحتم على اتباعه قبول كل معطياته وكشوفاته في مجالين اخرين قد لايكون صاحب القول الفصل فيهما وهما الفلسفة والتاريخ ..
ان الفلسفة التي تتعامل مع المادة لايمكن ان تمنحنا قناعات كافية ان لم تبدأ من المختبر وتنبثق عن اسس فيزيائية علمية كما يفعل رجال من امثال ( هايزنبرغ ) و
( اينشتاين ) و ( كاريل ) وغيرهم .
والبحث في التاريخ ، مالم يستكمل تفاصيل وجزئيات كل عصر وبيئة لايمكن ان يمنحنا نتائج نهائية .
-9-
وعلى ضوء هاتين البديهيتين يمكن ان نقيم معطيات ( ماركس ) في هذين
الحقلين ، ونحن لازلنا نذكر عبارة الباحث الاقتصادي ( أوسكار لانكه ) ، وهو احد اكبر اخصائيي اقتصاد الدول النامية . فهو بعد ان يستعرض جهود الكتاب الذين اهتموا بدراسة اقتصاد مجتمعات ماقبل الراسمالية منذ عصر ( ماركس ) وحتى عصر ( بورشييف ) ، يقول مامعناه (( ولكن هذه الدراسات جميعها مفككة ، لذلك فان الاقتصاد السياسي للنظم الاجتماعية ما قبل الراسمالية لما يخرج بعد الى حيز الوجود باعتباره فرعا منظما من فروع الاقتصاد
السياسي )) (3).
ولكن هل يكفي هذا كله لفك الارتباط الوثني بين الاتباع والارباب ، وتجأوز تقاليد قرون طوال سادت الفكر الغربي ولا تزال ؟.
________________________________________
(1) المقصود هنا هو المدلول اللغوي لا الاصطلاحي لكلمة (الوضعية).
(2) سورة النجم ، الآية 23.
(3) أنظر كتابه ( الاقتصاد السياسي ) ، ترجمة د. محمد سلمان الحسن ( عن محمد علي نصر الله : أضواء على نمط الإنتاج الآسيوي ، مجلة آفاق عربية ، سنة 2 ، عدد 6 ، 1977 م ).(/3)
شيء عن اليهود في تاريخنا :
ما الذي يفعله اليهود بالفلسطينيين وقد أصبحوا تحت هيمنة ما يسمى بالدولة العبرية.. وما الذي فعلته الدولة الإسلامية معهم بعد إذ أصبحوا من رعاياها ؟
لنرجع قليلاً إلى التاريخ ... الشواهد كثيرة ... كثيرة جداً ... ولذا سنؤشر على بعضها حسبما يسمح به المجال ... فلعل فيه الكفاية.
يقول المؤرخ اليهودي إسرائيل ولفنسون في كتابه (تاريخ اليهود في بلاد العرب): (هناك أمر يستوقف النظر وهو أنه كان بين الغنائم التي غنمها المسلمون في غزوة خيبر صحائف متعددة من التوراة ، فلما جاء اليهود يطلبونها أمر النبي بتسليمها لهم ، ويدل هذا على ما كان لهذه الصحائف في نفس الرسول من المكانة العالية ، مما جعل اليهود يشيرون إلى النبي بالبنان حيث لم يتعرض بسوء لصحفهم المقدسة ، ويذكرون بإزاء ذلك ما فعله الرومان حين تغلبوا على أورشليم وفتحوها سنة 70 ق . م إذ أحرقوا الكتب المقدسة وداسوها بأرجلهم ، وما فعله المتعصبون من النصارى في حروب اضطهاد اليهود في الأندلس حين أحرقوا أيضاً صحف التوراة . هذا هو البون الشاسع بين الفاتحين ممن ذكرناهم وبين رسول الإسلام).
ورغم الانتصار الحاسم الذي حققه الرسول (صلى الله عليه وسلم) ضد يهود خيبر، بعد مقاومة شديدة ، وبعد سلسة من الأعمال العدائية والمؤامرات بما في ذلك تأليب الأحزاب ضد دولة الإسلام في المدينة ، ودفع بني قريظة هناك إلى نقض عهدها مع الرسول (صلى الله عليه وسلم) في أشد الظروف حلكة وعسراً ، فإنهم ، أي يهود خيبر ، عندما طلبوا منه أن يحقن دماءهم أجابهم إلى ذلك ، فلما نزلوا إليه عرضوا عليه أن يبقيهم في أرضهم لقاء أن يدفعوا للمسلمين نصف حاصلاتهم ، فوافق الرسول (صلى الله عليه وسلم) على العرض تقديراً منه لإمكاناتهم الزراعية ورغبة في الإفادة من أية طاقة في إعمار الأراضي واستثمارها.
ولما سمع يهود فدك ، القرية اليهودية المجاورة ، بما حل برفاقهم في خيبر من معاملة طيبة ، بعثوا إلى رسول (صلى الله عليه وسلم) يعلنون رغبتهم في المصالحة على مناصفة أراضيهم ، وكذلك فعل مع (وادي القرى) رغم مقاومتها للمسلمين ، ولما بلغت يهود تيماء أنباء الانتصارات الإسلامية صالحوا الرسول (صلى الله عليه وسلم) على الجزية وأقاموا في بلدهم.
وقد ظل اليهود بعدئذ مواطنين ، يمارسون حقوقهم في إطار الدولة الإسلامية ، لا يمسهم أحد بسوء ، وعاد بعضهم إلى المدينة ، بدليل ما ورد عن عدد منهم في (سيرة ابن هشام) وفي (مغازي الواقدي).
وهناك الكثير من النصوص والروايات التاريخية التي تدل على أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان يعامل اليهود بعد غزوة خيبر بروح التسامح حتى أنه أوصى عامله على اليمن (معاذ بن جبل) (بألا يفتن اليهود عن يهوديتهم) وعلى هذا النحو عومل يهود البحرين ، إذ لم يكلفوا إلا بدفع الجزية ، وبقوا متمسكين بدين آبائهم .
وأهم من كل ذلك تلك الحقوق والامتيازات التي منحها الرسول ( صلى الله عليه وسلم) لآل بني حنينة الخيبرية وبني جنبة بمقنا القريبة من أيلة على خليج العقبة ، إذ بعث إليهم (أما بعد فقد نزل علي رسلكم راجعين إلى قريتكم ، فإذا جاءكم كتابي هذا فإنكم آمنون لكم ذمة الله وذمة رسوله ، وإن رسول الله غافر لكم سيئاتكم وكل ذنوبكم ، لا ظلم عليكم ولا عدى ، وإن رسول الله جاركم مما منع منه نفسه ، وأن عليكم ربع ما أخرجت نخلكم ، وصادت مراكبكم واغتزلت نساؤكم ، وأنكم برئتم بعد من كل جزية أو سخرة فإن سمعتم وأطعتم فإن على رسول الله أن يكرم كريمكم، ويعفو عن مسيئكم ، وأن ليس عليكم أمير إلا من أنفسكم أو من أهل رسول الله) . وكتب لجماعة أخرى من اليهود تدعى (بني غاديا) (إن لهم الذمة وعليكم الجزية ولا عداء) كما كتب (لبني عريض) كتاباً آخر يحدد فيه ما عليهم أن يدفعوا للمسلمين لقاء حمايتهم لها وعدم ظلمهم إياهم وكتب لأهل جرباء وأذرح من اليهود (إنهم آمنون بأمان الله وأمان محمد ، وأن عليهم مائة دينار في كل رجب وافية طيبة ، والله كفيل عليهم بالنصح والإحسان للمسلمين ومن لجأ إليهم من المسلمين).(/1)
وجاء الراشدون (رضي الله عنهم) لكي يشهد المجتمع الإسلامي تفرداً في العلاقات الإنسانية بين المسلمين وغيرهم لا يقل تفرداً وتألقاُ عما شهده عصر الرسالة ، فلقد كان العصر الجديد عصر الفتوح والامتداد الإسلامي في مشارق الأرض ومغاربها ، وتحول الدولة الإسلامية إلى دولة عالمية ، وكانت مساحات واسعة من الأراضي التي بلغها الإسلام تضم حشوداً كبيرة من اليهود والنصارى والمجوس والطوائف الدينية الأخرى . لقد أصبح المجتمع الإسلامي بحركة الفتح هذه مجتمعاً عالمياً ضم تحت جناحيه أعدادا كبيرة من الأجناس والأديان والأقوام والجماعات والمذاهب والفرق والاتجاهات ، ولقد حظي اليهود أسوة بغيرهم بمساحة مدهشة من العدل والحرية والسماحة وتكافؤ الفرص ، فيما لم يشهدوا عشر معشاره في أية بقعة أخرى في الأرض خارج دار الإسلام ، ويكفي أن نرجع إلى كتاب المؤرخ البريطاني المعروف السير توماس أرنولد (الدعوة إلى الإسلام) لكي نضع أيدينا على حشود الشواهد التاريخية في هذا المجال.
في العصر الأموي ، والعصور العباسية التالية ، حيث ازداد المجتمع الإسلامي تعقيداً واتساعاً ، وحيث أخذت منحنيات الإبداع الحضاري تزداد صعوداً واطرادا ، وتزداد معها المؤسسات الإدارية نضجاً ونمواً ، أخذ الموقف من غير المسلمين يتألق بالمزيد من صيغ التعامل الإنساني أخذاً وعطاء.
لقد فتح المسلمون ، قواعد وسلطة ، صدرهم لغير المسلمين ، يهوداً ونصارى ومجوساً وصابئة ، وأتاحوا للعناصر المتميزة من هؤلاء وهؤلاء احتلال مواقعهم الاجتماعية والوظيفية في إطار من مبدأ تكافؤ الفرص لم تعرفه أمة من الأمم عبر تاريخ البشرية كله . لقد أسهم غير المسلمين في صنع الحضارة الإسلامية وإغنائها دونما أية عقد أو حساسيات من هذا الجانب أو ذاك ، كما فتح الطريق أمامهم للوصول إلى أعلى المناصب ، بدءاً من الكتابة في الدواوين وانتهاء بمركز الوزارة الخطير نفسه ، وأتيح لأبناء الأديان والمذاهب الأخرى ، بما فيهم اليهود ، أن يتحركوا في ساحات النشاط الاقتصادي والمالي بحرية تكاد تكون مطلقة ، فنموا ثرواتهم وارتفعوا بمستوياتهم الاجتماعية ، بما يوازي قدراتهم على العمل والنشاط ، وملأوا بهذا وذلك مساحة واسعة في ميدان النشاط الاقتصادي والمالي جنباً إلى جنب مع مواطنيهم المسلمين ، بل إن بعض الأنشطة المالية والاقتصادية كادت أن تصبح من اختصاص أهل الكتاب ، تماماً كما كانت الترجمة في المجال الثقافي من نصيبهم ، وكما كانت بعض الوظائف الإدارية والكتابية من نصيبهم كذلك.
إنه مجتمع تكافؤ الفرص ، والحرية العقدية ، والانفتاح ، لقد استجاب المسلمون لتحديات التنوع الديني ، وكانوا في معظم الأحيان عند حسن ظن رسولهم (صلى الله عليه وسلم) بهم وهو يوصيهم قبل انتقاله إلى الرفيق الأعلى ، أن يكونوا رفقاء بأهل ذمته.
الوقائع كثيرة ، تيار من المعطيات التاريخية نفذت في ساحة المجتمع الإسلامي عبر القرون الطوال ، وعلى مختلف الجبهات ، ووفق سائر الاتجاهات الحضارية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية عموماً.
لقد تمتع أهل الذمة بقسط وافر من الحرية لقاء تأديتهم الجزية ، وارتبطت قضاياهم في أمورهم المدنية والجنائية برؤسائهم الروحيين ، وأقاموا في مزارعهم ومنازلهم الريفية ، وتمسكوا بتقاليدهم الثقافية وحافظوا على لغاتهم الأصيلة ، وفي المدن تقلدوا مناصب هامة في دوائر المال والكتابة والمهن الحرة ، وكان للعهدين القديم والجديد من التوراة والإنجيل ترجمات عربية معروفة ، ولقد لقي اليهود من محاسن المسلمين فوق ما لقيه النصارى وقد وجد المقدسي سنة (985م) أن أكثر الصيارفة وأرباب البنوك في سورية من اليهود ، ونرى في عهد عدد من الخلفاء وأخصّهم المعتضد العباسي مراكز هامة في الدولة لليهود ، وكان لهم في بغداد أحياء وأسواق كبيرة ظلت مزدهرة حتى سقوط المدينة ، وقد زارها الرحالة اليهودي بنيامين التطيلي حوالي سنة (1169م) فوجد فيها عشر مدارس للحاخامين ، وثلاثة عشرين كنيساً ، وأفاض بنيامين في وصف الحفاوة التي لاقاها رئيس اليهود البابليين من المسلمين بصفته سليل بيت داود النبي (عليه السلام) ورئيس الملة الإسرائيلية ، وقد كان لرئيس الحاخامين هذا من السلطة التشريعية على أبناء طائفته ما كان للجاثليق على جميع النصارى ، وقد روي أنه كانت له ثروة ومكانة وأملاك طائلة فيها الحدائق والبيوت والمزارع الخصبة ، وكان إذا خرج إلى المثول في حضرة الخليفة ارتدى الملابس الحريرية المطرزة وأحاط به رهط من الفرسان ، وجرى أمامه ساع يصيح بأعلى صوته (أفسحوا درباً لسيدنا ابن داود ).
مجلة المنار ، العدد 69 ، ربيع الثاني 1424هـ.(/2)
شيء مما يقوله "الآخر" عن رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم)
أ. د. عماد الدين خليل 4/2/1426
14/03/2005
هل نستطيع ونحن نعيش ذكريات الهجرة النبوية الشريفة سنة بعد أخرى، أن نجعل حلقات السيرة حقلاً للاكتشاف؟ أن نجتاز دروبها وساحاتها فتمنحنا الدهشة، والإعجاب، وتفجرّ في عقولنا وأرواحنا جداول الحب.. والعشق.. واليقين.. أن تكهرب أوصالنا، بمفرداتها المتألقة، فتضعنا وجهاً لوجه قبالة الحقائق الإنسانية العارية التي لم يرِن عليها صدأ، ولا اعتراها زيف أو تزوير؟
في علم الجمال .. معروف أن الإلف والاعتياد يقتلان الدهشة، ويطمسان على ألق الحقائق والتجارب والأشياء، نتفقد بمرور الوقت قدرتها على الإثارة والانبهار..
إن ( كاستون ياشلار ) ـ مثلاًـ في "جماليات المكان " يؤكد على هذا المعنى المرة تلو المرة .. ويسحبه "كويّو" و "لانجر" و "سانتايانا" و "كاسيرر" و "مارلو" و "ميرلوبونتي" وغيرهم من علماء الجمال وفلاسفته، على ظواهر الطبيعة والخبرات البشرية كافة.
فماذا لو حاولنا كسر الطوق، وتجاوزنا حصار الإلف والعادة، وتسطحّها باتجاه العودة كرّة أخرى إلى مواقع الدهشة والإعجاب والانبهار؟
ومن يدري .. فلعل أولئك الذين أخذوا يتعاملون مع مفردات السيرة من الخارج.. من خارج دائرة الإسلام، لم يكونوا بحاجة إلى بذل جهد كهذا.. ووجدوا أنفسهم يقفون بعفوية بالغة، وجهاً لوجه، أمام حقائق هذه السيرة في صفائها العجيب، وقدرتها الفذّة على التأثير.
فماذا لو وقفنا عبر الصفحات التالية عند اثنين فحسب من هؤلاء وحسبما يتيحه المجال، لمتابعة بعض ما قالاه، وهو كثير غزير .. وها هما يعانيان التجربة فتدهشهما حقائقها المتألقة، وتأسرهما مقولاتها الربانية، وشخصيته نبيّها الإنسان:
الدكتور نظمي لوقا من أقباط مصر..؟
ونصري سلهب من مسيحيي لبنان؟
ولكل من الرجلين أكثر من كتاب عن جوانب من حياة الرجل النبي الذي قدّر له أن يقلب موازين العالم ويغيّر خرائط الدنيا..
(محمد الرسالة والرسول) و (محمد في حياته الخاصة) لنظمي لوقا (لقاء المسيحية والإسلام) و (في خُطا محمد) لنصري سلهب، ومن هذه الكتب الأربعة سنقتبس بعض المقاطع :
د. نظمي لوقا
[ 1 ]
" ما كان محمد - صلى الله عليه وسلم- كآحاد الناس في خلاله ومزاياه، وهو الذي اجتمعت له آلاء الرسل -عليهم السلام- وهِمّة البطل فكان حقاً على المنصف أن يكرم فيه المثل ويُحيّي فيه الرجل"(1).
[ 2 ]
" لقد تخطّف الموت فلذات أكباد الرسول - صلى الله عليه وسلم- ليكون ذلك إيذاناً بأن البشر الرسول ليس له امتياز على سائر بني آدم، فتسقط دعوى الناس في التقصير عن الاهتداء به "(2).
[ 3 ]
" إن هذا الرسول، حينما وقعت له تجربة الوحي أول مرة، وهو يتحنّث في غار حراء، صائماً قائماًً، يقلّب طرفه بين الأرض والسماء .. لم يأخذ هذه التجربة مأخذ اليقين، ولم يخرج إلى زوجه خروج الواثق بها، المتلهّف على شرفها. بل ارتعدت فرائصه من الروع، وقد ثقلت على وجدانه تلك التجربة الفذّة الخارقة .. ودخل على زوجه، وكأن به رجفة الحمى.. "(3).
[ 4 ]
" إن لُباب المسألة كلّها أنك كنت يا أبا القاسم أكبر من سلطانك الكبير يدهش رجل بين يديك ويرتعش فتقول: هوّن عليك، لست بملك! إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة.. إن مجد هذه الكلمة وحدها يرجح في نظري فتوح الغزاة كافة وأبّهة القياصرة أجمعين. أنت بأجمعك في هذه الكلمة، وما أضخمها أيها الصادق الأمين! "(4).
[ 5 ]
أي الناس أولى بنفي الكيد عن سيرته من أبي القاسم، الذي حوّل الملايين من عبادة الأصنام الموبقة إلى عبادة الله رب العالمين، ومن الضياع والانحلال إلى السموّ والإيمان. ولم يفد من جهاده لشخصه شيئاً مما يقتتل عليه طلاب الدنيا من زخارف الحطام"(5).
[ 6 ]
" في آخر خطبة له، وقد تحامل على نفسه وبرز إلى المسجد، قال : ( أيها الناس، ألا من كنت جلدت له ظهراً فها ظهري فليستقد منه، ومن كنت أخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه. إلا وإن أحبّكم إليّ من أخذ مني حقاً إن كان له، أو حلّلني فلقيت ربي وأنا طيّب النفس).. ما أعظم وأروع! فما من مرة تلوت تلك الكلمات، أو تذكرتها، إلاّ سرت في جسمي قشعريرة. كأني أنظر من وهدة في الأرض إلى قمة شاهقة تنخلع الرقاب دون ذراها. أبعد كل ما قدّمت يا أبا القاسم لقومك من الهداية والبّر والرحمة والفضل؛ إذ أخرجتهم من الظلمات إلى النور .. تراك بحاجة إلى هذه المقاصة كي تلقى ربك طيب النفس، وقد غفر
لك من قبل ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ ولكن العدل عندك بدأ. العدل عندك خلق وليس وسيلة .." (6).
[ 7 ](/1)
" بماذا يقاس الإيمان، إن لم يكن مقياسه الثبات عليه في أشد الظروف حلكة، وأدعاها للناس؟ وان لم يكن مقياسه أصبر في سبيله على المكاره؟ وإنها لمكاره من كل نوع. لعلّ المعنوي منها أقسى من المادي .. لم يساوم هذا الرسول ولم يقبل المساومة لحظة واحدة في موضوع رسالته، على كثرة المساومات واشتداد المحن.. فحيثما تعرض الأمر لدعوته وعقيدته فلا محل لمجاملة مهما قويت بواعثها. أهذا شأن من يملك من الأمر شيئاً ؟ أهذا شأن من لا تسيطر عليه قوة قاهرة أقوى من مراده وهوى نفسه؟ لقد ضُرِب وشُبِح وأُهِين في كل مكان فلم يعنه من ذلك شيء سوى خوفه أن يكون بالله عليه غضب فالا يمكن ربه غاضباً عليه فلا يبالي. وقريش تمنّيه بانقلاب الحال إلى ملك مؤهل وثراء مذلل فلا يفكر بشيء من ذلك طرفة عين ، ويعرض عنه بغير مبالاة. فالا يمكن نوراً هو الصدق الصادق فقد ارتكست مقاييس تجعل من صاحب هذه المواقف مساوماً .. طالب مغنم .. "(7).
نصري سلهب
[ 1 ]
" في مكة .. أبصر النور طفل لم يمر ببال أمه، ساعة ولادته، أنه سيكون أحد أعظم الرجال في العالم، بل في التاريخ، ولربما أعظمهم إطلاقاً"(8).
[ 2 ]
" غدا اسم محمد - صلى الله عليه وسلم - أشهر الأسماء طُرًّا، وأكثرها ترداداً على الشفاه وفي أعماق القلوب. وحسبه شهرة وترداداً أن ملايين المؤمنين في العالم يؤدون، كل يوم أكثر من مرة، شهادة مقرونة باسم الله وباسمه "(9).
[ 3 ]
من ينعم التفكير في سيرة هذا الرجل - صلى الله عليه وسلم- يرَ نفسه منساقاً إلى الإقرار بأن ما حققه وقام به يكاد يكون من دنيا غير التي يعرفها البشر"(10).
[ 4 ]
" هنا عظمة محمد - صلى الله عليه وسلم- -. لقد استطاع خلال تلك الحقبة القصيرة من الزمن، أن يحدث ثورة خلقية وروحية واجتماعية، لم يستطعها أحد في التاريخ بمثل تلك السرعة المذهلة"(11).
[ 5 ]
" لا ليس بين الرسل واحد كمحمد - صلى الله عليه وسلم -عاش رسالته عمقاً
وصعداً، بعد مدى، ذوب كيان، عصف بيان، عنف إيمان"(12).
[ 6 ]
" لكأني بمحمد - صلى الله عليه وسلم- آلى على نفسه أن يترك للمؤمنين ثروة روحية وأخلاقية، ينفقون منها فلا تنضب ولا تشح؛ لأنها بحجم روحه، وهل أن روح النبي تنضب أو تشح؟" (13).
[ 7 ]
" إن محمداً - صلى الله عليه وسلم- كان أمّياً لا يقرأ ولا يكتب، فإذا بهذا الأميّ يهدي الإنسانية أبلغ أثر مكتوب حلمت به الإنسانية، منذ كانت الإنسانية، ذاك كان الكتاب الذي أنزله الله على رسوله "(14).
[ 8 ]
" ليس في القرآن كله ذكر لمعجزة أو لأعجوبة صنعها النبي- صلى الله عليه وسلم- فحسبه أن المعجزة الكبرى كانت بوساطته. حسبه أن الله اختاره من دون لبشر لينزل عليهم تلك الثروة التي لم يروِ التاريخ أن ثروة بحجمها جاءت على لسان رجل واحد. حسبه أن يكون قد نثر تلك الثروة بحرفيتها على الناس، فأفادوا منها جميعهم. وستظل مدى الدهر ينبوعاً يرِدُه العِطاش إلى الحقيقة والجِياع إلى ملكوت الله "(15).
[ 9 ]
" إن أولى الآيات البيّنات كانت تلك الدعوة الرائعة إلى المعرفة، إلى العلم عبر القراءة.. اقرأ .. وقول الله هذا لم يكن لمحمد - صلى الله عليه وسلم - فحسب، بل لجميع الناس، ليوضح منذ الخطوة الأولى، بل منذ الكلمة الأولى، أن الإسلام جاء يمحو الجهل، وينشر العلم والمعرفة "(16).
[ 10 ]
" ذلك العظيم الذي كان يحاول تغيير التاريخ، ويعدّ شعباً لفتح الدنيا من أجل الله.. ذلك الأمي اليتيم الفقير الذي خاطب الأباطرة والملوك والأمراء من ندّ إلى ندّ، بل كمن له عليهم سلطان.. ذلك الملهم الذي كان همّه أن يعيد الصلة بين الأرض والسماء. ذلك الرجل وجد الوقت الكافي ليلقي على الناس دروساً في آداب المجتمع، وفي أصول المجالسة وكيفية إلقاء السلام! "(17).
[ 11 ]
" هذا الرجل الذي ما عرف الهدوء ولا الراحة ولا الاستقرار، استطاع، وسط ذلك الخضّم الهائج، أن يرسي قواعد دولة، وأن يشرّع قوانين، ويسن أنظمة، ويجود بالتفاسير والاجتهادات، ولم ينسّ أنه أب وجدٌّ لأولاد وأحفاد فلم يحرمهم عطفه وحنانه. فكان بشخصيّته الفذّة، الغنيّة بالقيم والمعطيات والمؤهّلات، المتعددة الأبعاد والجوانب الفريدة بما أسبغ الله عليها من نعم وصفات، وبما حباها من إمكانات، كان بذلك كله عالماً قائماً بنفسه " (18).
[ 12 ]
" لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم- رسولاً وحسب، يهدي الناس إلى الإيمان، إنما كان زعيماً وقائد شعب، فعزم على أن يجعل من ذلك الشعب خير أمة أخرجت للناس. وكان له ما أراد "(19).
________________________________________
(1) محمد: الرسالة والرسول، الطبعة الثانية، دار الكتب الحديثة، القاهرة ـ 1959 م، ص 28.
(2) نفسه ، ص 88.
(3) نفسه ، ص 170 ـ 171.
(4) نفسه ، ص 188 ـ 189.
(5) محمد في حياته الخاصة، دار الكتب الحديثة، القاهرة ـ 1969 م، ص 14.
(6) محمد الرسالة والرسول، ص 182 ـ 183.
(7) نفسه، مقتطفات من الصفحات 159 ـ 168.(/2)
(8) في خطى محمد: دار الكتاب العربي، بيروت ـ 1970 م، ص 42.
(9) نفسه ، ص 42.
(10) نفسه ، ص 195.
(11) نفسه ، ص 196.
(12) نفسه ، ص 371.
(13) نفسه ، ص 369.
(14) نفسه ، ص 94.
(15) نفسه ، ص 337.
(16)
(17)
(18)
(19)(/3)
شيء من الترويح
سامي بن عبدالعزيز الماجد 12/6/1423
21/08/2002
لا يشك من له أدنى دراية بطبائع النفوس أن الناس ليس لهم مندوحة عن الترويح، وأن للنفس من الترويح زاداً كما أن لها من الجد أزواداً .
ولذا لفت النبي – صلى الله عليه وسلم – أصحابه إلى مراعاة طبيعة النفس هذه من غير مناسبة، فأمرهم أن يستجمّوا من الترويح المباح ما يبعث نفوسهم على الجدّ، ويقيمها على الجادة حتى تقوى على السير وتستدّ، كما في حديث حنظلة – رضي الله عنه – المشهور: (والذي نفسي بيده إنْ لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعةً وساعةً) أخرجه مسلم . وفي الحديث الآخر : ( روَّحوا القلوب ساعة وساعة).
وفقه ذلك أصحابه: فهذا أبو الدرداء – رضي الله عنه – يقول: إني لأجُمُّ فؤادي ببعض الباطل – أي اللهو الجائز – لأنشط للحق .
وقال علي – رضي الله عنه - : أجمّوا هذه القلوب؛ فإنها تملُّ كما تملُّ الأبدان.
وعن عبد الله بن عَمْرو موقوفاً : ( إنّ هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق ، ولا تبغَّض إلى نفسك عبادةَ الله؛ فإنَّ المنبتَّ لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى) إلى غير ذلك من الأحاديث والآثار التي تقرر حاجة النفس للترويح .
فالترويح إذاً رخصة قد أخذ بها الإسلام، وهو يربي النفوس ويهذبها، وأدلة ذلك هي من الشهرة بحيث لا تُنكر ولا تُجهل .
غير أننا ندركُ من واقع الناس اليوم أنهم غيرُ محتاجين إلى حدوٍ إلى الترويح، أو إكراهٍ عليه؛ فحالُهم يشهد عليهم بأنهم قد عبَّوا منه حتى الثُمالة، فالخوف عليهم إنما هو من الإفراط لا من التفريط .
ويتساءل بعض الناس: إذا كان الواقع هو هذا، فلماذا – إذاً – تقرير هذه المسألة، ولماذا ذكر أدلتها وشواهدها ؟!.
ويأتي الجواب؛ ليجعل المسألة أوسع مما يصوره هذا التساؤل، الذي يختزل المسألة في مشكلة إفراط في الترويح؛ ليختزل حلَّها في خطاب موعظة يردها إلى حدّ الاعتدال .
إننا نقرر هذه المسألة، ولكن لا نقف عندها كثيراً، وإذا كنا نقصد إلى تبيين شروط الترويح المباح وحدوده، فمن المناسب أن نجعل تقرير هذه المسألة تقدمة بين يدي هذا الأمر المقصود .
ثم إننا – معشر الدعاة وحملة راية الإصلاح- حين نقرَّر هذه المسألة – مسألة حاجة النفس للترويح – ونجعلها موصولةّ بسبب إلى الإسلام ... نفعل ذلك؛ ليعلم غيرنا أنه ليس ثمة حكم من أحكام الإسلام يُدغم بغُنّة عندنا، وأننا لا نوارب أن نعرَّف الناس بأحكام الإسلام كلها، دقها وجلها، وعزائمها ورُخصها .
ونقرَّر هذه المسألة – كذلك- لأن الناس بحاجة إلى أن نزيدَهم من معالم وسطية الإسلام وسماحته، ونريد أن نبين لهم كيف أن الشرع قد سَيَرَ النفس خبَرَها، فراعى ضعفها ورخص لها، فلن يلقى أحدٌ من الإسلام غضاضة، ولن يجد في أحكامه حرجاً ولا عنتاً .
ومن هنا يظهر التلازم المطلوب، فإذا رضي الناس بتقرير الشرع لحاجة الترويح، لزمهم أن يرضوا منه بالحدَّ الذي فرضه عليهم ألا يجاوزوه في شأن الترويح ( تلك حدود الله فلا تعتدوها) .
كما أننا – حين نتذاكر هذه النصوص المبيحة للترويح - ... نذكرُها ليعلمَ الناسُ أن إنكارنا حيت يتوجّه إلى بعض صور التسلية والترويح، فلا ينبغي أن يُظن أن سببه هو جهلنا بأدلة إباحته، حتى نحتاج إلى أن نُذكّرَ بها؛ فما نصوص الشرع في ذلك بالتي تعزُبُ على من له أدنى علم بخصائص الشرع ومقاصده، بل وليس سببه- كما يتوهم بعضهم- أننا ننازع في إقرار الشرع لحاجة النفس للترويح، وهل يسعُ أحداً المنازعة في ذلك بعد وضوح أدلته وشهرتها؟!.
وما ذلك الإنكار إلا بسبب تلك الممارسات الخاطئة في الأخذ بهذه الرخصة، والتي تريد الإيغال في أمر حدَّه الشرع بمقدار، فهذا الإيغال والإسراف هو الذي ينبغي أن يقوم عليه الإنكار ويتجه إليه الاحتساب.
أما كيف نرد الشباب عن هذا الإفراط في اللهو واللعب؟ فهذا هو الأمر الذي يعنينا الآن كثيراً كثيراً، فتستنفر له الجهود، وتحشد له الحشود، وهو التساؤل الذي يُلحّ علينا لإبداع شتى الطرق واستغلال مختلف المهارات والوسائل الحديثة لإشباع نهمة الشباب من الترويح، ولكن في حدود المباح، وبمضمون هادف .
وحين نقصد إلى هذه الغاية المرجوة، نلتمس لنفوسنا صوراً من صور الترويح، ينبغي أن نعلمَ ونعلّم ناشئتنا أن الترويح ليس أمراً مقصوداً لذاته، ليس في نظر الشرع فحسب، بل في نظر كل عاقل يلتمس لنفسه ولأمته مصالحها، ويأخذ بأسباب نهضتها وصلاحها.
فالترويح في هذا النظر الصحيح مقصودٌ به طردُ الملل والسآمة عن النفس، ولذا فإنه يكفي منه ما يجدد للنفس نشاطها ويعيد لها بهجتها، كما البدن يكفيه البُلغةُ من الطعام، و ( حُسْبُ ابن آدمَ لُقيماتٌ يُقمْن صُلبَه ) ، فإن زاد على تلك اللُّقيمات فثمًّ الأدواءُ والتخمةُ، و(البِطنةُ التي تُذهب الفطنة).(/1)
بل علينا أن نوسع من دائرة الترويح ومفهومه؛ لنجعله يجاوز حدود اللهو واللعب، حتى نُري الشباب – بالتجربة- أن الترويح يصح أن يحمل في طواياه المعلومة المفيدة والمهارات النافعة .
لقد أكثر الشباب من أسباب الترويح وأغرقوا في وسائل الترفيه، حتى أصبح الترويحُ نفسه أمراً مملاً يحتاج إلى ما يرفعه وطردُه، والرتابة تبعث على الملل والسآمة على أي شيء كانت.
وأحسب أن من أسباب إيغال الشباب في اللهو وإكثارهم من وسائل الترفيه إلى حد الإملال، هو أنهم لا يجدون شيئاً يُؤويهم غيرها، وإن وجدوا شيئاً من البرامج النافعة، فهي مختزلة في أمثلة محدودة معدودة، تُعرض عليهم في صورة باهتة باردة لا تقاوم إغراء الملهيات المحرًّمة، ولا تتوافر فيها وسائل التشويق، ولا يظهر فيها إبداع التجديد.
ولست أريد أن أبرئ الشباب أو أسوَّغ أخطاءهم؛ فما هم في ممارساتهم المنكرة بِبُرآء، وما هذا بالعذر الذي يبيح لهم احتقاب الآثام، بل ولا أريد أن أهوَّن من خطر منكراتهم وإهدارهم لثروة الفراغ بقدر ما أريد أن أبين عن مقدار تقصيرنا وخذلاننا لهم، وأن نستشعر أننا شركاؤهم في هذا الخلل الفادح.
من الحقائق المؤلمة حقاً أن مفهوم الترويح لدى الشباب أصبح مختزلاً في سياحة خارجية منفلتة الزمام، أو سهرٍ على طرب ولهو، وأخفُّها – وليس بالخفيف- رياضة أو لعب ختامه تباغض وشحناء، إلى غير هذه الصور مما هو قريب منها في مفسدة الأثر .
وقد تداعت الأصوات على اختلاف مشاربها ووجهاتها إلى ضرورة تنشيط السياحة الداخلية؛ مناهضة لسياحة الخارج، ومنافسة لها، واستيعاباً لفراغ الشباب.
وعلى اتفاقنا جميعاً بأن تنشيط السياحة الداخلية أصبحت ضرورة مُلحة لشغل الفراغ درءاً لما يخبَّئه من ويلات، ولصرف الناس – ولو بعضهم- عن السياحة الخارجية المنكرة – غير أنه ظهر هذا التنشيط تشوبُه مقاصد فاسدة، ومحاولات شاذجة مموجة يغلبها الاستغلال والطمع، غايتُها – فيما تزعم- منافسة السياحة الخارجية، وتوفير سُبُل جديدة للترويح يسدُّ بها الشباب فراغه ... فإذا بها تُكرَّس في العقول ذلك المفهوم الخاطئ لمعنى السياحة الترويح .
لقد أصبحت هذه المحاولات تنافس على احتواء فراغ الشباب، ولو كانت هذه المنافسة لا تخالف الشرع، لوجب أن يتسع لها ميدان المنافسة، ولساغ أن نؤثرها على ما عندنا.
غير أنها ختطّت مسارب إلى الهوى والسفاسف، واستجَّرت إليها الشباب، فلا نجدنا إلا مأمورين إلى أن نضطرها إلى أضيق الطريق، فلا يبقى لها سلطان إلا على الذين يتولونها، ويتقفَّرون مواطن المنكر عن إصرار.
لننظر ماذا قدّمت هذه المحاولات البائسة للناس بديلاً عن السياحة الخارجية ؟!
لقد قدمت لهم المهرجانات التسويقية، تتقاطر إليها الأفواجُ منخدعة بدعاياتها، فإذا بها تستنزف أموالهم في الكماليات ومقامرات المسابقات، وتغذي فيهم إدمان التسوق، وكأننا نريد أن نثبت للعالم بالواقع المشهود أننا أمة مستهلكة من الطراز الفريد .
كنا نزعم أن من مفاسد السياحة الخارجية – ولو بالنطرة الدنيوية- تصدير الأموال الطائلة، وهذا يهدد اقتصاد كل بلد ولا شك ، ولكن ألسنا نجد هذه المهرجانات التسويقية تمارس هذا الدور بالوكالة- ولو طريق مُلْفت -؟، بلى، أنها استنزاف لأموال الناس وتصدير لآلاف آلاف الأموال إلى الخارج، فهو تصدير مقنَّع ينطلي على الأغرار.
ثم نأتي إلى المهرجانات الغنائية فإذا هي مواطن يأزرُ إليها الشيطان، لهو وطرب يغذي في الشباب أوهام الحب والغرام، ويثير فيهم كوامن الغريزة، ويذكي نارها، زيادة على ما فيه من الصد عن ذكر الله وعن الصلاة .
نعم، لقد شغلت هذه المهرجانات الغنائية فراع الشباب، ولكن في الحرام ومهيجاته، فكأنها تريد أن تستعجلهم إلى الحرام قبل أن يُشغل فراغهم بالحلال المفيد .
أما إن السيئ لا يدفعه السيئ، ولا الخبيث يُمحى بالخبيث. ولكن السيئ يدفعه الحسن، والخبيث يذهبه الطيب .
إنه لا يكفينا أن نحذر الناس من ارتياد هذه المواطن الآثمة – وهو بلا شك واجب-، ولكن ينبغي أن نشهر لها كل سلاح، وإظهار عوارها الفاضح وتبيين مفاسدها الظاهرة هو من جملة الأسلحة التي يجب أن نأخذ بها في محاربة تلك المظاهر الفاسدة.
بل ينبغي أن تتفجر – في سبيل مناهضتها ومحاربتها- كوامن الطاقات عن أساليب جديدة في إيجاد البديل، وليس – بالضرورة – أن يرد هذا البديلُ أولئك المتجفلين إلى تلك المواطن الآثمة كلَّهم ، ولكن حسبنا منه أن يرد بعضهم الذين لم ينجفلوا إليها لولا الفراغ الذي لا يعدوا كيف يصرفونه.
وبعد: فنحن مسؤولون عن تبعة كل هذه الممارسات الخاطئة، فما تكاثرت هذه الصور إلا على حين فترة من النشاط الدعوي والتربوي والتثقيفي .(/2)
على أنه قد بدت تلوح في هذه الأيام – بعد إبطاء – محاولات جادة؛ لتصبح مفهوم الترويح وشغل الفراغ لدى الشباب ، وتفتّقت للجادين الناصحين حِيَلٌ كثيرة لإيجاد البديل النافع واستخراج الشباب من تلك المواطن الموبوءة، وهي تفتقر التشجيع والدعم والتأييد والحضور والمشاركة والدعاء. وهي تشي بأن لدينا الكثير والكثير من الإبداع.
نجمت هذه الإبداعات الماتعة في أروقة الجامعات وفي المراكز الصيفية، على قلة الموارد وضعف الإمكانات، احتسب فيها نخبة من الشباب والفتيات عملهم ووقتهم في سبيل الله. ولكن لا تزال بعض القلوب المريضة تتوجس من هذه المراكز خيفة، فهي تخاف أن تكون منبتة للإرهاب مرضعة للغلو .
أما هذا التوجس فلن يُذهبه عنهم دفاعنا، ولكننا ندعو أصحاب هذه القلوب المريضة الشكّاكة إلى زيارة – ولو خاطفة – لتلك المراكز، فهي لا تعمل في الخفاء، ولا تنتمي إلى منظمات سرية، ولكنها تعمل تحت إشراف الدولة ونظرها، وأبوابها مُشرعة، لا تُوصد على زائر .
لقد كان ينبغي لهؤلاء أن يتوجسوا سبعين خيفة، ولكن من تلك الأفواج المتقاطرة على الخطوط الجوية الساخنة والجسور الممتدة إلى أوكار الدعارة وحانات الخمور، فهؤلاء منهم يُخشى البلاء، وهم سفراءُ الوباء .
ونرجع إلى إبداعات أهل الخير، فإن نذكرها نذكر مخيم الشباب الذي تشرفُ عليه التوعية الإسلامية بوزارة المعارف، يقام حيث يجتمعُ الشباب لِيَرَوا أن الترويح يتأتى وهو في سعة من المنكرات والفواحش، وقد حُشد في المخيم البرامج النافعة والمسلية في براءة من أجواء الإثم والمنكر، ولم تكن لتقتصر على محاضرات وعظية، يجتمع لها الشباب في سويعة ثم ينفضُّون ولكنها امتدت لتملأ فراغ الشباب من إيراد الشمس إلى منتصف الليل لتشمل بعض الألعاب لمسلية في جوّ أخوي، وأمسيات شعرية، ومحاضرات علمية ونفسية وتربوية لتلامس هموم الشباب وآلامهم، فتلتمس لها علاجاً ناجعاً .
فجزى الله خيراً من سنَّها، ومن دعى إليها، ومن أعان عليها، ومن شارك فيها، ومن حضرها، ومن فرح بها .
لقد علمتنا هذه البرامج الرائعة – التي جمعت بين التسلية والفائدة – أن تلك الجموع الهادرة إلى النزوات والشهوات لا يصلحها ولا يردّها عن آثامها أن نجبهها بالسخط وإلاكفهرار، ثم نتخزل عنها لتعيش عزلة شعورية عن المجتمع، فتعمه في طغيانها وتمد غلوائها وفسقها .
ولكنها بحاجة إلى أن نحوطها بقلوب وامقة مشفقة تُشعرهم – ونحن نكفكفهم عن منكر، أو ندعوهم إلى معروف – أننا بهم رُحماء، عليهم حريصون مشفقون، فلسنا نريد به عنتاً، ولا نقصد بهم شماتة، بل نرجو لهم السلامة، ونُبدي لهم المحبة والنصيحة، ونشاركهم شجوهم، وتحسس معاناتهم وآلامهم .
فهذان طريقان لا بد أن نأخذ بهما ونحن نروم تربية الناشئة وتهذيب أخلاقها:
01 المحاورة التي تزرع في قلوب الناشئة القناعة فيما تتوجه أو توجَّه إليه من الأعمال، وتستجلي للمذنب ولمن همَّ بالذنب قُبح الذنب وشؤمَه على صاحبه .
02 والدعاء لهم بالهداية حتى في تلك اللحظة التي نراهم فيها متلبسين بمعصية ... الدعاء الذي يزدهيه ويزدريه كثيرون .
فهذا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يؤتى برجل قد شرب الخمر،فقال: ( اضربوه)، قال أبو هريرة : فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعضُ القوم: أخزاك الله . فقال – صلى الله عليه وسلم - : ( لا تعينوا عليه الشيطان) أخرجه البخاري وغيره .
قال أهل العلم : أي لا تدعوا عليه بهذا الدعاء؛ فإن الله إذا أخزاه استحوذ عليه الشيطان، فإذا سمع منكم ذلك انهمك في المعاصي وحمله اللجاجُ والغضب على الإصرار، فيصير الدعاء وصلة ومعونة في إغوائه وتسويله.
ويظل من الخطأ الذي تفرزه العقول المريضة أو الضعيفة أن تفهم مما سبق تهويناً من أمر العقوبة والتعزيز وإقامة الحدود، فهذا نظرُ من لا قدرة لعقله أن يستوعب إلا علاجاً واحداً، فإما عقوبة صارمة فلا شيء غيرها، وإما توعية وتبصير، لا يَخُفُّه رقابة ولا زجرٌ وتعزيز للمذنب.
أما العقول السليمة التي اتسعت مداركها وعمُق نظرُها فهي لا تشك أن الأخذ بالطريقين جميعاً يتأتى لنا لو عزمنا عليها؛ فتكتمل العملية التربوية بالتوعية وإيجاد البديل مع مراعاة تجديد الوسائل، ومع ذلك تبقى العقوبة سيفاً مصلتاً على كل مذنب، لا تناله شفاعة الشافعين، ولا منافاة الأمرين(/3)
شيء من الصراحة في عمل المرأة المسلمة الدعوي
نجدت لاطة
المتتبع للعمل الدعوي سواء أكان في المساجد أم في خارجها يجد قصوراً ملحوظاً في القسم النسائي ، و بعض الجماعات لا تفرد قسماً خاصاً بالنساء . الأمر الذي أدّى إلى ندرة الدعايات اللائي اشتهرن ، وإذا الواحد منا أراد أن يتذكر أسماءهنّ فلا يتذكر إلا زينب الغزالي في مجال الدعوة , وعائشة عبد الرحمن ( بنت الشاطئ ) في مجال العلم والثقافة .
وفي المقابل نجد كثرةً في جانب الرجال تفوق ـ بنسبة كبيرة جداً ـ على عدد النساء , وقد تصل نسبة النساء الداعيات إلى واحد بالمائة أمام الرجال الدعاة .
في حين تعج السيرة النبوية بأسماء الصحابيات اللواتي كان لهن دور كبير في خدمة الإسلام في نواحيه المختلفة كالدعوة والعلم والجهاد . فالمرأة المسلمة في العصر الأول لم تجلس مكتوفة الأيدي , ولم تدع للرجل أن يأخذ نصيب الأسد في خدمة هذا الدين . لأن الأمر الإلهي موجّه لكلا الجنسين سواء بسواء , وقد قال تعالى :
" والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم " التوبة71 . فالخطاب القرآني هنا ردٌّ طبيعي وعمل مضاد على أعوان الشر الذين وصفهم الله تعالى بقوله :"المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف .. " التوبة آية 68 . فالشر يدعو إليه أصحابه من الرجال والنساء ,والخير ينبغي أيضاً أن يدعو إليه أصحابه من الرجال والنساء . وأي تقصير من أحد الجنسين سيؤدي إلى غلبة الفريق الآخر .
وقد قدمت المرأة المسلمة في العصر الأول نماذج رائعة في خدمة الدين ونشره . فمن يُنكر دور عائشة رضي الله عنها في توصيل العلم النبوي إلى الناس ، ومن ينكر دور أم عمارة وخولة بنت الأزور في الجهاد ، ومن ينكر دور أسماء بنت أبي بكر في الهجرة ؟ وتروي كتب السيرة أن أبا طلحة الأنصاري كان الذي دعته إلى الإسلام إحدى النساء الأنصاريات التي أصبحت فيما بعد زوجته .
أما المرأة المسلمة اليوم فقد غُيّبت عن العمل الإسلامي في كل نواحيه ، ففي جانب العمل المسجدي لا نرى دوراً ملحوظاً ، وفي جانب العلم والثقافة نرى قصوراً واضحاً ، وفي جانب الجهاد لا نرى شيئاً أبداً . وعلى سبيل المثال لم نرى ولم نسمع عن مجاهدة واحدة في الجهاد الأفغاني السابق ، ولا في الجهاد الفلسطيني الحالي الذي تتزعمه حركة حماس ، اللهم إلا في الآونة الأخيرة حين اشتد الحصار في مدينة رام الله حيث ظهرت بعض الاستشهاديات ولكن لم يتجاوز عددهم أصابع اليد .
فلماذا هذا الغياب والتغييب لدور المرأة المسلمة ؟ هل عصرنا لا يحتمل وجود داعيات وعالمات ومجاهدات ؟ أم أن الأمر يعود للخلل الفكري في تصورنا لدور المرأة المسلمة ؟
أنا أرى أن الخلل الفكري الذي أصاب تصورنا هو السبب الرئيسي ، بل هو السبب الأوحد لذلك . وأعود بالقارىء إلى بدايات القرن العشرين , فعندما فتحت الجامعة المصرية أبوابها للطالبات لم يقبل الأزهر أن يفتح المجال لهن . فتخرجت من الجامعة المصرية دفعات عديدة من الطالبات اللواتي تثقفن على الطريقة الغربية في التعليم . ثم بعد عشرين سنة قَبِل الأزهر أن يفتح قسماً خاصاً بالطالبات . ولكن بعد أن أخذت المرأة التي تخرجت من الجامعة المصرية الأماكن الحساسة في المجتمع , وبعد أن أصبحت الفئة المثقفة من النساء هُنّ ممن يحملن الأفكار الغربية بدءأً بهدى الشعراوي وانتهاءً بنوال السعداوي . وحدث في الدول العربية الإسلامية مثلما حدث في مصر تماماً . وكانت النتيجة الطبيعية أن تخرج أجيال نسائية تربّت على أفكار هذه الفئة من النساء , فتحولت المرأة المسلمة في عموم حياتها عن منهج الإسلام وتعاليمه , اللهم إلا من رحم ربي وقليل هنّ , وانتشر السفور بشكل كبير بحيث أصبحت المتحجبات قلةً في المجتمع .
وقد تنبّه إلى هذا الخلل الكبير الذي أصاب مجتمعنا الإسلامي بعض العلماء وبعض المفكرين , فراحوا يُعيدون النظر في دور المرأة المسلمة في بناء المجتمع الإسلامي السليم بشكل عام , وفي دورها في العمل الدعوي بشكل خاص . فيقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله في هذا الشأن : " المسلمون في العصر الحديث حرموا المرأة حق العبادة في المساجد , ويوجد في مصر نحو سبعة عشر ألف مسجد لا تُرحب بدخول النساء , ولم يُبنَ في أحدها باب مخصص للنساء كما فعل رسول الله حين بنى مسجده بالمدينة المنورة . وهم رفضوا أن يكون للمرأة دور في إحقاق الحق وإبطال الباطل وصيانة الأمة بنشر المعروف وسحق المنكر . ولم تدخل المرأة الأزهر إلا بعد تطويره الحديث مع أن النبي جعل طلب العلم فريضة على الرجال والنساء . وعندي أن إفلات النهضة النسائية من قيود الإسلام الحقيقية يرجع إلى هذا العجز والغباء (1 ) .(/1)
ويقول الدكتور ماهر حتحوت في هذا الشأن أيضاً : " لقد أسقطوا المرأة تماماً من حسابات الحركة الإسلامية سواء في تكوينها أو في مجالات النشاط المتاحة لها أو في أسلوب معاملتها . ورغم أنه أفلت من هذا الحصار قليلات من الأخوات الفاضلات المناضلات ، إلا أن العموم كان على غير ذلك تماماً وعلى نقيض . ولا أنسى يوم دعيت لتجمع عربي مسلم وطلب مني أن أتحدث عن حقوق المرأة في الإسلام ، وجالت عيني في القاعة فإذا هي خالصة للرجال دون امرأة واحدة . وتساءلت عن حقوق أية امرأة تتحدثون ؟ وما جدوى حديث الحقوق إذا أُلغي الوجود ؟ . "(2 )
وفي المقابل فقد قامت المرأة التي تربّت على الثقافة الغربية بنشاط ملحوظ ومدروس في كافة مرافق المجتمع , فتواجدت في المراكز الثقافية والمؤسسات الاجتماعية والمنتديات والمؤتمرات وشاركت في المهرجانات والوسائل الإعلامية المختلفة كأي عنصر فعّال في المجتمع , ولم تدع مجالاً يمكن أن تؤدي فيه دوراً إلا ووضعت بصمات لها فيه .
في حين تراخت المرأة المسلمة الداعية , واقتصر نشاطها على بعض المساجد ضمن حدودٍ ضيّقة ٍ جداً . فأفسحت ـ بتقصيرها ـ للمرأة التي تربّت على الثقافة الغربية أن تأخذ حصة الأسد في توجيه الأجيال النسائية . وقد كان التقصير بسبب بعض الحجج الواهية التي لا سند لها في الشرع . وأقول ـ صراحة ً ـ والحزن ملأ نفوسنا ـ لو كان للمرأة الداعية دور فعّال كدور المرأة العلمانية لكان حال الأجيال النسائية اليوم يختلف تماماً عمّا هو عليه الآن .
وأنا هنا أفتح باب المصارحة مع بعض العاملين في الحقل الإسلامي ممن يخافون خوفاً ـ لا داعي له ـ على المرأة الداعية من مشاركتها في بناء المجتمع , ظناً منهم أنهم يطبقون شرع الله في ذلك . فأقول لهؤلاء إن ديننا دين رجال ونساء , وقد أعطى لكل منهما دوراً في الحياة . وإن دور المرأة المسلمة ليس في بيتها فقط , وإنما في كل مرافق المجتمع , ولكن بالقدر الذي حدده لها الشرع , بحيث تقوم بتأدية دورها ضمن سياج شرعي . ولكن حين لا يقوم المجتمع بتوفير هذا السياج الشرعي , فلا يعني أن تحبس المرأة نفسها في بيتها . وإنما تسعى ـ كما يسعى الرجال المؤمنون ـ إلى إيجاد المجتمع الإسلامي ضمن مراقبة ذاتية.
فديننا الحنيف يسمح للمرأة أن تشارك في بناء المجتمع الإسلامي السليم ، لا سيما حين تكون هذه المشاركة لأجل الدعوة . فلا يوجد مانع شرعي من أن تتواجد المرأة الداعية في المساجد والمراكز الثقافية وفي كل مرفق من مرفق المجتمع . فتقوم بمهمة الدعوة بين جيل النساء ، وتشارك في الندوات والمؤتمرات والمهرجانات المختلفة وغير ذلك من التجمعات الثقافية والاجتماعية .
وستضطر المرأة الداعية إلى كثرة الخروج من البيت . وقد يكون خروجها على حساب بعض المهام البيتية , ولا حرج ولا غضاضة في ذلك ما دام خروجها لأجل الدعوة . ولكيلا تحدث خلافات في البيت تحاول الزوجة الداعية أن تتفاهم مع زوجها على مواعيد الخروج من البيت . فكما أن كثيراً من النساء يخرجن من البيت من أجل الرزق والعمل برضى الزوج فلا مانع من أن تخرج المرأة الداعية لأجل الدعوة ، وعلى الزوج أن يتفهّم ذلك . و ما المانع من أن يضغط الزوج ـ في حال كونه من الإسلاميين ـ على نفسه فلا يتضايق إذا رجع إلى البيت فلم يجد الطعام جاهزاً إذاكان السبب هو خروج الزوجة للعمل الدعوي ؟ ألسنا نرى بعض الدعاة يسمح لزوجته بالعمل الوظيفي لزيادة الدخل المالي للعائلة ؟ فلماذا يتضايق عندما تُطرح عليه فكرة خروج الزوجة من البيت للدعوة ؟ هناك يسمح لها من أجل المال ، و هنا لا يسمح لها من أجل الدعوة .
وبعض الإسلاميين لا يجد حرجاً أبداً من إرسال ابنته إلى الجامعة ( وهي في الغالب جامعة مختلطة ) فيحدث احتكاك كبير بين الطلاب والطالبات لاسيما في المختبرات والمعامل العلمية , ثم تجده يعترض على ابنته إذا أرادت الخروج إلى المسجد للمشاركة في الأعمال الدعوية , وذلك بحجة أن هذا الزمن زمن الفتن وأن الأَوْلى للمرأة أن تجلس في بيتها . أليست هذه المفارقات تدل على ضبابية في التفكير والتصور ؟ .
ودعوتي إلى خروج المرأة من البيت للدعوة المقصود فيه المرأة الداعية , ولا أقصد المرأة المسلمة العادية , لأن المرأة الداعية تكون ـ عادةً ـ متسلحة بالثقافة الإسلامية ومشحونة بالإيمان الذي تكتسبه من العبادات المختلفة , ولديها الهمّ الدعوي الذي يحولها إلى صخرة ٍ صلبة ٍ أمام الفتن والمغريات . فتختلط بالمجتمع وفي نصب عينها هدف تغيير هذا المجتمع إلى مجتمع إسلامي .(/2)
ولا أعني أن تقوم المرأة الداعية بدعوة الشباب والرجال , وإنما تترك هؤلاء إلى إخوانها الدعاة . فتتجه هي إلى النساء , فتحاول ـ ما استطاعت ـ أن تنزوي بهن عن التجمعات التي يكثر فيها الذكور فتقيم معهن حوارات ومناقشات وصَداقات لتعريفهن بأمور الدين . وأُركز هنا على الصداقات النسائية , والمثل المشهور يقول " الصاحب ساحب " لأن اللقاءات السريعة في التجمعات الثقافية لا تعطي نتائج مرضية , فلا بدّ من جلسات مطولة ولقاءات مركّزة . ويمكن أن تتعاون الأخوات الداعيات على صحبة واحدة ـ مثلاً ـ أو على صحبة مجموعة صغيرة , ومن خلال اللقاءات المتعددة بهن يمكن الوصول إلى الهدف المنشود .
وقدوة المرأة الداعية في هذا الاختلاط الصحابيات الجليلات اللواتي تواجدن في كل مكان تواجد فيه الرجال كالمسجد والهجرة والغزوات . فقد كانت المرأة الصحابية تحضر دروس العلم في المسجد النبوي , وتشارك في الهجرة , وتخوض المعارك ، وتتقاتل مع المشركين وجهاً لوجه , ولم يمنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك , بل ولم يعترهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ خوف لا داعي له عليها جرّاء هذا الاختلاط الشديد بين الصحابية و المشركين . مع أنه كان من المحتمل أن تشتبك الصحابية بالأيدي مع المشركين في حال وقوع السيف من يدها ، و كان من المحتمل أيضاً أن تقع في الأسر و تتعرّض للاغتصاب . و مما يروى عن خولة بنت الأزور (وهي صحابية جليلة) أنها كانت تخترق صفوف الروم في معركة اليرموك وتصل إلى نهاية جيشهم ، ثم تعود إلى أوله ، و فعلت ذلك مراراً ، حتى أن خالد بن الوليد رضي الله عنه ذهل من جرأتها و شجاعتها . و مع ذلك لم يمنعها و لم يعترهِ خوف عليها كخوف الإسلاميين اليوم على المرأة المسلمة الداعية من اختلاطها بالمجتمع .
والمشكلة تكمن في كون النساء يشكلن نصف المجتمع ، و ترك هذا النصف بدون دعوة يسبب مشكلات جمة ، بدءاً من كون المرأة سلاحاً خطيراً في حال استغلال أعداء هذا الدين لأنوثتها و جسدها ، و انتهاءً بكون المرأة مربية للأجيال .
وما دام الرجال الدعاة لا يقومون بدعوة النساء كان من الضروري بمكان أن تتكفل النساء الداعيات بدعوتهن .
أما أن يخبىء كل واحد منا زوجته و أخواته و بناته في البيت ثم ننتظر بعد ذلك أن يتغير المجتمع ، فهذا بعيد المنال ، و بعيد عن المفهوم الصحيح لمهمة المسلم والمسلمة في الحياة ، لا سيما في هذا العصر الذي تكالب علينا الأعداء من كل حدب و صوب .
وأنا لا أدري مَن سيقوم بدعوة النساء إذا جلست المرأة الداعية في البيت ؟
ومن الغريب في الأمر أن البعض يقول بأنه يكفي على المرأة الداعية أن تقوم بتربية أولادها على التديّن ، فأقول إن تربية الأولاد هو جزء من العمل الدعوي للمرأة و لا بد أن يرافقه دعوة الناس .
و يرى الشيخ فيصل المولوي في كتيّبه ( دور المرأة في العمل الإسلامي ) أن خروج المرأة المسلمة من البيت للدعوة فرض عليها و ليس مندوباً و لا مستحباً أو غير ذلك ، فيقول : " إن الإسلام اليوم معرّض للخطر ، و إن الشعوب الإسلامية كلها في خطر ، و إن واجب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و الدعوة إلى الله ، كل ذلك من أهم الواجبات الشرعية المطلوبة من الأمة كلها رجالاً و نساءً . و للمرأة دور كبير في هذا المجال يفرض عليها الخروج من منزلها و يفرض على زوجها أن يأذن لها بذلك لتُسهم بدورها في بناء مجتمع نسائي مسلم يكون جزءً من المجتمع الإسلامي الكامل المنشود " 3 " .
فالإسلام اليوم يحتاج إلى تضحيات كبيرة ، و خروج المرأة الداعية من بيتها للدعوة هو جزء من هذه التضحيات . و علينا سواءً أكنا آباء أم أزواجاً أم إخوة أم أبناءً أن نتفهّم و نعي هذا الأمر جيداً ، و أن نعمل على حضّ نسائنا على الخروج من البيت لأجل الدعوة .
الهوامش :
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كتاب " حصاد الغرور " محمد الغزالي ، دار الثقافة ، ط 3 ، 1985 ، صفحة 257 و ما بعدها .
(2) مقال " قل للمؤمنين و للمؤمنات " نُشر في مجلة ( نوافذ ) اليمنية . العددان السابع و الثامن ، شباط و آذار 1998 .
(3) فصل " المرأة و الرجل أمام التكاليف الشرعية " صفحة 25 .(/3)
شيء من خبر الكتاب والقراءة -
... بقلم: أحمد بن عبد المحسن العساف (1)
القراءة مفتاح المعرفة وطريق الرقي ؛ وما من أمة تقرأ إلا ملكت زمام القيادة وكانت في موضع الريادة وخير شاهد ما نعاصره من تفوق النصارى في الغرب والبوذيين في اليابان وتراجع المسلمين الذين نزل كتابهم العزيز المقدس مبتدئاً بالأمر " اقرأ " ؛ والأمر ذاته يصدق في حق الأفراد من الناس. والقراءة نزهة في عقول الرجال كما قال المأمون وتجربة ماتعة لا يكاد يهجرها من سحرته الكتب وهام بالمؤلفات وعشقها فهي سميره وحديثه ورفيقه ومحور حديثه وموضع اهتمامه .
والقراءة ذات شان عظيم حتى عند من لا يستمتعون بها ولذا تكثر الأسئلة حولها ويحرص المهتمون على ما ينفعهم فيها ما بين قراءة كتب موجهة أو الالتحاق ببرامج تدريبية أو استضافة ذوي التجارب للاستفادة منهم ؛ وهذا كله مسلك مبارك يؤازر ويثنى عليه . ومع أهمية الموضوع إلا أني كنت أهاب الكتابة فيه وأتجنبها قدر المستطاع وما دعاني للكتابة حولها إلا كثرة السؤال ممن لا يسع المرء إلا أن يجيبهم فأحببت اتخاذ هذه المقالة مادة أحيل عليها من يسأل عسى الله أن ينفع بها ويجعلها من الصدقة الجارية .
أولاً : لماذا نقرأ ؟
والجواب ليس عندي حتماً لأن كل إنسان يعرف هدفه من القراءة ؛ وفي الغالب فأهداف القراء هي :
1. أهداف تعبدية : كقراءة القرآن وكتب العلم وهي أشرف أنواع القراءة وأجلها ولا ينبغي لمسلم العدول عنها ألبته .
2. أهداف وظيفية : كمن يقرأ في صلب تخصصه وطبيعة عمله .
3. أهداف تطويرية : وهي قراءة ما يصقل الشخصية ويعزز المواهب .
4. أهداف ثقافية ومعرفية : مثل القراءة العامة للمعرفة والإطلاع وزيادة المخزون الثقافي .
5. أهداف ترويحية : إذ القراءة بحد ذاتها إيناس للنفس فكيف إن كان المقروء من النوادر والملح والحكايات المستطرفة والأعاجيب؟
6. أهداف واقعية : بالتفاعل مع الواقع كالعروس يقرأ قبل الزواج أو من يسمع عن منظمة التجارة الدولية فيقرأ عنها .
ثانياً : أسباب العزوف عن القراءة :
1. أسباب تربوية : حيث تغيب ثقافة الكتاب عن بعض البيوت والمحاضن التربوية .
2. أسباب شخصية : كالجهل والغرور والنظرة القاصرة للنفس ويدخل ضمنها ضعف المستوى التعليمي .
3. أسباب اقتصادية: بسب غلاء أسعار الكتب أو فقر الإنسان أو قصور دخله عما هو أهم أو ما يظنه أهم إضافة إلى استغراق بعض الأعمال جل اليوم .
4. أسباب إدارية : وتبرز عند من لا يحسن تنظيم وقته ولا يعرف أولوياته ولا يرتب أدواره الحياتية .
5. أسباب ترفيهية : فبعض الناس رفاهيته هي الأصل ولا مكان للجدية إلا في ركن قصي يضيق ولا يتسع . ولعل انتشار وسائل الإعلام والانترنت مما يدعم هذا الجانب .
6. أسباب منفعية : حيث يقول قائلهم : وأي شيء ناله القراء من كتبهم ؟! هل صاروا " نجوماً " كمن يحسن التحكم في قدمه أو حنجرته أو بعض جسده ؟
ثالثاً : كيف نتعود على القراءة ؟
1. لابد من وجود قيمة معنوية للكتاب في البيت والمسجد والمدرسة .
2. أهمية المكتبة المنزلية العامة ومكتبة المسجد أو الحي ومكتبة المدرسة .
3. البحث عن القدوات والأمثلة الحية ؛ وكلما كانت القدوة قريبة كالأب والزوج والجار والمعلم وإمام المسجد كان أثرها أبين وأسرع .
4. زيارة المكتبات العامة والتجارية ومكتبات العلماء والمثقفين الخاصة .
5. تحديد ساعات يومية للقراءة والالتزام بها .
6. البدء بالكتب اللطيفة وذات الموضوعات المحببة للنفس .
7. اقرأ في المجالات التي تشعر بمسيس حاجتك لها لتعرف نفاسة القراءة فلا تفرط بها .
رابعاً : كيف نقرأ ؟
1. حدد عدداً من الكتب لقراءتها خلال السنة ؛ بمعدل كتابين أو أكثر شهرياً . على أن تكون خطتك مرنة وقابلة للتكيف حسب المتغيرات .
2. استخدم قلم الرصاص في التعليق ومحاورة المؤلف ؛ وقلم الرصاص أفضل من غيره للطف أثره وسهولة محوه وتغييره . ويمكن استخدام الأقلام الفسفورية للإشارة إلى أمر مهم وأفضلها القلم الأصفر لأنه لا يظهر في تصوير الأوراق .
3. اجعل مكان قراءتك مضاءاً بالمريح المعين من الأنوار وليكن جيد التهوية مهيئاً بكل ما قد تحتاجه من أوراق وأقلام وملصقات وغيرها . واحذر من وسائل الاتصال في أثناء خلوتك الثقافية .
4. قد تخلو بعض الكتب من عناوين جانبية فضعها على جوانب الصفحة لسهولة الوصول إليها مستقبلاً ولحملك على مزيد من التركيز في أثناء القراءة .
5. استخدم الملصقات اللطيفة لتحديد موضع التوقف ولا تثني ورق الكتاب أو تضع القلم داخله .
خامساً : ماذا تقرأ ؟
1. لا بد من العناية بأركان الثقافة في خطة القراءة، وهذه الأركان مشتركة بين جميع الأمم والحضارات وإن اختلفت في الماهية، وهي :
• الدين : فلا مناص من إكثار القراءة في علوم الشريعة الغراء إلى درجة التضلع من بعضها فهي أشرف العلوم وأجلها وأسماها لارتباطها بالرب العظيم سبحانه .(/1)
• اللغة : فليس مثقفاً من لا يعرف لغته ؛ ويجمع حشفاً وسوء كيلة إذا أحسن لغة أجنبية وهو أجهل بلغته من دابته التي يمتطيها . وقد يحوز السوء كله حين يترجم من لغة أجنبية إلى لغته التي لا يجيدها.
• التاريخ : فمن جهل ماضيه صعب عليه فهم حاضره وصنع مستقبله .
2. ويتبع ذلك بناء قاعدة معرفية أفقية واسعة بالقراءة في أساسات الفنون وتواريخ العلوم بحيث يتكون لديك إلمام عام بكثير من العلوم .
3. ثم يتخصص القارئ في مجال يرى نفسه مقبلة عليه أو الحاجة إليه عظيمة .
4. ومن الحكمة أن يعتني القارئ بالنظر في القضايا المستجدة التي تطرأ بين الحين والآخر ويتأكد هذا الأمر في شان العلماء والدعاة والكتاب .
سادساً: لمن تقرأ ؟
1. ابدأ بأكابر أهل الدين لتعرف الإسلام بدراية وعلم؛ وليكن لك حبل متين مع علماء السلف رضوان الله عليهم.
2. ثم اقرأ لفضلاء أهل العصر الذين يوثق بعلمهم وأمانتهم .
3. اقرأ للأدباء والمفكرين والكتاب الذين لا يعرف عنهم سوء نية أو طوية باستقراء ما كتبوه .
4. اقرأ لأهل الحضارات والملل ما يفيدك ويزيدك .
5. اقرأ للمخالفين حتى تعرف وجهة نظرهم (بشرط أن يكون لديكَ علم يدرأ الشبهات، واحذر مخالفي العقيدة إن لم يكن لديكَ مزيد علم بها، فشبههم تحتاج لعلم راسخ) .
6. اقرأ للأعداء حتى تأمن شرهم عليك وعلى أمتك .
وليكن واضحاً أن القراءة للصنفين الأخيرين مظنة الزلل فلا يقدم عليها القارئ إلا بعد مشورة وتمكن ودعاء دائم بالهداية للحق .
سابعاً : أين تقرا ؟ :
1. اتخذ مكاناً في الدار للقراءة وليكن ملائماً من جميع النواحي .
2. إذا كنت مسافراً أو في مكان انتظار فلا تنس كتابك .
3. اجعل في سيارتك كتاباً مما لا يحتاج إلى متابعة القراءة لتنظر فيه إن اضطررت إلى الانتظار بسبب عطل أو مخالفة أو غير ذلك .
4. مكان العمل مناسب للقراءة بعد الفراغ من كل مهمة توكل إليك على الوجه المطلوب ودون تفريط بأمانتك.
ثامناً : متى تقرأ ؟ :
1. جدول القراءة ضمن برنامجك اليومي واحرص على الوقت المتصل بلا انقطاع .
2. تحين أوقات الانشراح والسعادة واجعلها للقراءة .
3. وإذا ما خلا البيت من الصبية وأمهم فاهتبلها فرصة !
4. إذا أردت أن تكتب أو تخطب أو تشارك في منشط ثقافي فاقرأ .
5. إذا كثرت همومك فاجعل من الصلاة والقراءة روحاً لك .
6. يبقى لكل إنسان وقته المفضل للقراءة فاكتشف نفسك في الأبكار والأصائل والأسحار .
تاسعاً: ماذا تفعل بعد القراءة ؟ :
1. اكتب في نهاية الكتاب ما يشير إلى فراغك منه وستكون من ذكرياتك الجميلة .
2. راجع أفكار الكتاب الرئيسة وفوائده .
3. سل نفسك إن كانت تحتاج إعادة قراءة الكتاب .
4. وسلها أيضاً إن كانت تحتاج لكتاب يعرض وجهة نظر أخرى .
5. تواصل مع المؤلف شاكراً أو ناقداً أو مستوضحاً.
6. ناقش الكتاب مع لداتك وأصحابك .
7. انقل فوائد الكتاب لسجلك الخاص إن كنت تتبع هذه الطريقة .
8. أوص غيرك بقراءة الكتاب أو بتجنبه حسب تقييمك .
9. إن حوى الكتاب انحرافات خطيرة فاحتسب بتبليغ الجهات المسؤولة والعلماء ولا تنس مراسلة الناشر والمؤلف والمكتبة لمناصحتهم برفق وأدب .
عاشراً : كيف تستفيد من قراءتك ؟ :
1. لا تقرأ إلا بتركيز وانتباه وحولك القلم .
2. ضع عناوين داخلية لموضوعات الكتاب وأسئلة يجيبها خاصة إن خلا منها الكتاب .
3. تعامل مع فوائد الكتب بفعالية كما سيأتي .
4. كرر قراءة بعض الكتب خاصة المهمة بالنسبة لك .
5. من المناسب الاتفاق بين زملاء متقاربين في العمر والاهتمامات لقراءة كتاب معين أو القراءة حول موضوع ما دون تحديد عنوان ثم مناقشته.
الحادي عشر : طرق مقترحة للتعامل مع الفوائد :
1. أشر لفوائد الكتاب في الصفحات البيض الأول .
2. انقل الفوائد لدفاتر خاصة .
3. استخدم نظام البطاقات التي تسهل الوصول للمعلومة مباشرة؛ وهي طريقة يستعملها بعض المعاصرين تقوم على جعل فوائد كل علم في بطاقات خاصة ثم تفريع هذا العلم في بطاقات وهكذا.
4. إذا وجدت معلومة عن موضوع في كتاب لا يمت لهذا الموضوع بصلة فانقلها لكتاب متخصص عن هذا الموضوع أو أشر إليها في حواشي الكتاب المتخصص.
الثاني عشر : كتب الإحماض والتسلية :
1. من أفضل طرق دفع الملل اتخاذ كتابين للقراءة أحدهما أصل والآخر لتجديد النشاط وبعث الحيوية وهو كتاب " الإحماض " والتسلية .
2. تتميز كتب الإحماض بتوسط الحجم غالباً وسلاسة الأسلوب ووضوح الفكرة ولا يشترط في قراءته التتابع .
3. تقرأ هذه الكتب حين التعب أو السأم أوالانشغال .
4. كتاب " السرير " وهو ما يقرأه الإنسان قبل نومه كتاب تسلية في الغالب.
5. ويحسن بالقارئ تخصيص كتاب إحماض في السيارة ليقرأه إن اضطر للانتظار بسبب عطل أو حادث أو مخالفة – لاقدر الله - .
6. وللمرأة في مطبخها كتاب تسلية وإمتاع .
7. ينبغي على القارئ ألا يتعود على كتب التسلية فينصرف عن المؤلفات الجادة .(/2)
8. لكتب الإحماض فوائد في إخصاب الخيال وتجديد النشاط ورفع الهمة .
9. وصف الكتاب بأنه للإحماض ليس فيه غض ولا تنقيص من قدر المؤلف أو الناشر أو الكتاب ؛ بل لهم الشكر والثناء على الإمتاع والمؤانسة وعلى إبقاء علاقة الواحد منا بالكتاب حتى في أصعب الأحوال .
الثالث عشر : أسلوب الفراشة :
1. هو الانتقال من كتاب لآخر قبل الفراغ من الأول وهكذا في عادة يندر معها أن يرى القارئ غلاف الكتاب الأخير .
2. من أضرار هذه الطريقة : فقدان الفائدة الكاملة – الخلل في فهم المؤلف والكتاب- غياب الجدية في الطلب- خداع النفس .
3. للتغلب على هذه المصيبة الثقافية :
-اتخذ كتاباً للقراءة وقت النشاط وآخر للإحماض حين التعب أو لدفع الملل .
-قسم الكتاب إلى عدة أقسام وحدد فترة زمنية مناسبة لقراءة الكتاب .
- استخدم أسلوب التلخيص وتقييد الفوائد ومحاورة الكاتب على حواشي الصفحة وكتابة الاعتراضات والتحفظات ومواطن الاستفهام لتطرد الملل والسآمة وتشعر بلذة المثاقفة والقراءة الناقدة ؛ وفائدة أخرى تتمثل في تجاوز القداسة التي نضعها بتفكيرنا الخاطئ لكل مطبوع ؛ إذ لا قداسة إلا لكتاب الله وللصحيح من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم .
- لا تقرأ كتباً جادة متتابعة أو في أوقات الانشغال وكثرة الصوارف والشواغل وما قد يعتري الإنسان من مكدرات ومنغصات _ سلمك الله ومن يقرأ منها _ .
-ركز على قصار الكتب مدة سنة كاملة مثلاً حتى تتعود على رؤية دفتي الكتاب الذي تقرأه .
-اعتن بالفن الذي تعشق القراءة فيه؛ علماً أني جئت بكلمة " العشق " متعمداً لدلالة معناها في السياق الذي أريده .
-اتفق مع الأصدقاء على قراءة كتاب مشترك ونقاشه؛ ولتكن لك معهم دورية ثقافية وسترى أثرها عياناً لا خبراً .
-للمجلات النافعة أثر في التعويد على القراءة ؛ فإذا ما وقعت بين يديك مجلة نافعة فليكن من التهامها هنيئاً مريئاً طريقاً لالتهام الكتب كاملة فهي بالتأكيد ألذ وأشهى .
الرابع عشر : تزاحم الكتب :
وبالنسبة لتزاحم الكتب وقلة الأوقات وصعوبة اختيار ما سيُقرأ؛ فكل عنوان مغرٍ بالقراءة وكل كتاب يتطاول بعنقه ليُرى وكل موضوعٍ ينادي _ بغير لسان _ أنا الأهم دون غيري ، فإن هذا الأمر يصيب كل المثقفين وبخاصة نهمي القراءة وأقترح عليك هذه الحلول :
1- استخدام فقه الموازنات ومراعاة المصالح والمفاسد " وليس الفقيه مَنْ عرف الخير من الشر ، لكن الفقيه مَنْ عرف خير الخيرين وشر الشرين " ؛ فاختر من الكتب ما تراه مهماً وأجل الأقل أهمية وإلحاحاً .
2- اعتن بواجب الوقت ؛ فقبل رمضان يحسن مثلاً القراءة في أحكام الصوم دون الحج . ومثل ذلك يُقال لو كنت ستشارك في محفل أو ندوة عن العولمة مثلاً أو طُلب إليك الكتابة أو التحدث في موضوع ما .
3-استخدام الملخصات مفيد للغاية في هذا الباب؛ وفكرة الملخصات تقوم على اجتماع عدد من الأصدقاء في دورية للحديث عن كتب انتهوا من قراءتها وتلخيصها .
4- تحديد خطة ثقافية سنوية بواقع كتابين شهرياً مثلاً ؛ واختيار العناوين بعناية مع إفساح المجال للحالات الطارئة، وهذا يكون بالتزام المرونة في الخطة .
5- ويحسن في الخطة التركيز على موضوعات بعينها يرى واحدنا مسيس حاجته إليها ، ولا إشكال أبداً لو خصص الإنسان سنة كاملة للقراءة في فن معين .
6- لا تحرص على قراءة كل شيء؛ فكم من مطبوع لا قيمة له أبداً .
7- اتخذ كتابين للقراءة في وقت واحد ؛ على أن يكون الأول هو الأصل والثاني للإحماض كما سبق .
الخامس عشر : التغلب على الملل والكسل :
الملل من كواذب الأخلاق كما قال عمرو بن العاص رضي الله عنه ؛ ولذا فلا بد من أن تُجهز عليه أثناء القراءة لتسلم وتغنم؛ وأقترح ما يلي :
1- الدعاء والتوكل على الله دوماً .
2- حدث نفسك أنك جاد ومثابر وقادر على تجاوز هذه المشكلة .
3- تعرف على الساعة الذهبية في يومك لتجعلها حكراً على القراءة الجادة .
4- اقرأ المقدمة والفهرس وملخص الفصول وقائمة المراجع ؛ ولهذه الطريقة فوائد منها :
• تتعرف أكثر على الكتاب مما يزيل الجفوة ويقضي على الرهبة والخوف من حجمه وجديته .
• تزداد حماستك للكتاب ولأجزائه المثيرة خصوصاً .
• تتمكن من تصور الكتاب وموضوعاته ومدى ترابطها ثم تحدد وقتاً لإنهائه وتقسيماً مناسباً لفصوله ومباحثه ؛ علماً أن التوقيت نوع من التحدي المحفز .
5- أثناء القراءة وخاصة الجادة لا بد من محاورة الكاتب ومناقشته على صفحات الكتاب لتكون قارئاً بإيجابية غير مسلِّم بالمطبوع 100 % _ خلا كتاب ربنا جل جلاله وما صح من حديث حبيبنا صلى الله عليه وسلم _ ؛ وهذه الطريقة ستنفي الملل خلف أسوار الصين وتساهم في فتح مسامات الذهن وبناء العقلية النقدية .
6- إذا استغلق شيء فدعه ثم عد إليه في وقت آخر بعد دعاء الله بفك المستغلق فإن كان وإلا اسأل عن هذا المستغلق أهل الشأن والمعرفة والأفضل سؤال المؤلف نفسه إن تيسر الوصول إليه .(/3)
7- إنما العلم بالتعلم؛ وسعي الإنسان لاكتساب العادات الحميدة أمر حسن محمود ؛ فهكذا يبدأ التغيير : فكرة ثم قرار ففعل فعادة ثم شخصية مثقفة واعية فمصير ومآل كريم بإذن الله .
وللتغلب على الكسل أقترح ما يلي :
1- الاستعاذة بالله منه صباح مساء حسبما جاء في الورد المحفوظ " اللهم إني أعوذ بك من الهم والغم والحزن ومن العجز والكسل ... " الحديث .
2- النظر في سير الأسلاف وهمتهم العالية من خلال تراجمهم وأخبارهم المدونة . وكذلك التعرف إلى نماذج من القدوات المعاصرة .
3- استثارة الهمة واستحثاثها فلابد للقمة من همة تبلغها .
4- محاولة التعرف على تجارب القراء وأخذ الأُسى _ جمع أسوة _ منها .
5- اعتماد المشاريع الثقافية واستصحاب التحدي وتحديد الوقت لكل كتاب مع فرض غرامة على التأخر .
6- إذا داهمك الكسل فجابهه بمطلبك العالي ورغبتك السامية وحينها سيولي حسيراً كسيراً .
7- أربأ بك من أن يقعد بك الكسل وهو بئس القعيد ؛ وقد قيل لبحر بن الأحنف بن قيس : ما يمنعك من أن تكون كأبيك ؟ قال : الكسل ! .
السادس عشر : بين الاستيعاب وشرود الذهن :
1. استيعاب المقروء وفهمه والاستفادة منه وتوظيفه أحد غايات القراءة السامية ؛ ولذا فلا مناص من القراءة بتمعن وتركيز لتحصيل أعلى قدر من الاستيعاب .
2. سل نفسك بعد نهاية كل فصل : بما خرجت ؟ وماذا استفدت ؟
3. اقرأ كالداخل لامتحان بين يدي أستاذ بصير نقاد صعب المراس كثير الجدل .
4. اجعل زمان ومكان القراءة من المساعدات على التركيز ولا يكونا جالبين للشرود كمن يقرأ في مكان مزدحم أو ذي مناظر بهيجة ، ولا تقرأ حال النعاس أوالجوع أوالمتابعة لأشياء أخرى كالتلفاز مثلاً .
5. إذا شعرت بصعوبة الكتاب أو استغلاقه على الفهم فدعه على أن تعود إليه إن تهيأت نفسك لقراءته .
6. ألزم نفسك بملخص لكل كتاب أو مقالة حول موضوعه ثم قيم عملك .
7. القراءة الصامتة أفضل للتركيز؛ لكن قد يكون في رفع الصوت أحياناً فائدة لاجتماع الأذن والعين في مهمة الاستيعاب .
8. سرعة القراءة ليست مطلباً باستمرار؛ فبعض الكتب لا ينفع معها إلا التروي والتريث .
السابع عشر : بين السرعة والنهم :
1. متوسط قراءة الإنسان في لغته بين 200-300 كلمة في الدقيقة .
2. سرعة القراءة ليست هدفاً ولا تصلح مع كل كتاب .
3. يمكن الاستفادة من سرعة القراءة في أثناء البحث عن معلومة معينة أو في قراءة كتاب ماتع أو القراءة التصفحية .
4. من آليات تسريع القراءة : استخدام القلم للتتبع وقراءة عدة كلمات مرة واحدة بوضع العين عليها وعدم الرجوع إلى ما سبق خاصة إذا أمكن فهمه من دلالة السياق .
5. نهم القراءة ليس مطلباً إلا إذا توافر فيه شرطان : جودة المقروء وحسن الفهم على ألا ينشغل الإنسان بالنهم الثقافي عن أمور أفضل وأولى .
6. بعض المعاصرين يقرأون من 8-12 ساعة يومياً ؛ وقد تزيد مدة القراءة عند بعضهم .
7. كي تكون نهماً يجب أن تتخلى عن قدر كبير من الراحة واللهو ليتسنى لك تحقيق مطلبك الأعلى ؛ وقيمة كل إنسان ما يطلب كما قال ابن القيم رحمه الله .
الثامن عشر : أنواع القراءة :
1. القراءة التعبدية : وهي قراءة القرآن الكريم .
2. القراءة العلمية : وهي قراءة كتب العلم لنفسك أو لأهلك أو لمسجدك وهي طريقة مناسبة لتحصيل العلم لمن لم يتمكن من الدروس العلمية على أن يكتفي المرء بالقراءة دون الفتوى إلا كناقل ضابطٍ عن ثقة عالمٍ مأمون .
3. القراءة التخصصية : في كتب التخصص ومراجعه .
4. القراءة الخاصة : وهي القراءة في الفن الذي يحبه الإنسان وقد يكون هذا الفن تخصصه وقد لا يكون .
5. القراءة الثقافية : في المعارف العامة والحضارات وعادات الشعوب .
6. القراءة الموسمية : كمن يقرأ عن الصيام والاعتكاف قبيل رمضان .
7. القراءة البحثية : وهي القراءة لكتابة مقالة أو بحث أو خطبة أو للمشاركة في المجامع الثقافية والعلمية . ويدخل ضمنها القراءة لمؤلف واحد أو في فن واحد .
8. القراءة الاضطرارية : وهي أن يقرأ الإنسان ما يكثر الحديث حوله ليدفع عن نفسه معرة الجهل به ؛ وقد لا يكون المقروء من محاور اهتمامه .
9. القراءة النقدية : وهي القراءة في الكتب المخالفة لنقدها على أن لا يكون النقد هدفاً بحد ذاته .
10. القراءة المكررة : وهي تكرار قراءة الكتاب ولها من المنافع ما يعرفها المجرب .
التاسع عشر : كيف تشتري الكتب ؟
1. اجعل في ميزانيتك حقاً معلوماً للتطوير الذي يشمل البرامج التدريبية والكتب والمجلات والوسائط المعلوماتية .
2. زر غير ما مكتبة مرة شهرياً على الأقل .
3. استخدم الهاتف للسؤال عن الكتب وأسعارها قبل الذهاب للمكتبة .
4. اجعل زيارتك للمكتبة في متسع من الوقت كبعد العشاء مثلاً .
5. قلب الكتاب لترى إن كان فيه عيوب طباعية كتغير ترتيب الصفحات أو مسح بعض الكلمات أو انقلاب الصفحات أو أي أمر لا يحمد في الكتاب .
6. إذا كان الكتاب عدة أجزاء فتأكد من وجودها كاملة .(/4)
7. انظر في مقدمات الكتب وفهارسها قبل الشراء .
8. اختر الكتب المجلدة والألوان المناسبة .
9. لا تشتر الكتاب العلوي من كل مجموعة لكونه عرضةً للغبار ولتقليب الزبائن وللسقوط المتكرر .
10. لا تأسف على ما تدفعه من مال لشراء الكتاب .
11. ابحث عن الكتب المحققة من قبل خبراء أفذاذ واحذر من تجار التحقيق الغششة .
12. إذا عدت لدارك محملاً بالكتب فتحين غفلة أمك أو زوجك - أو خروجهما- حتى لا يصب عليك من اللوم ما لا تحب !
العشرون : مكتبتك :
1. اتخذ لها مقراً مناسباً إن أمكن وإن استطعت فاجعل لها مدخلاً خاصاً لتستقبل فيها أضيافك المثقفين أو لتدخل منه في غفلة من الرقيب !.
2. أصنع لمكتبتك خاتماً حتى تميز كتبك؛ ويتأكد هذا الأمر في البيوت التي يكون فيها مكتبة مشتركة وقراء كثر .
3. ضع خاتماً تبين فيه وجود مخالفات شرعية واختم به الكتب المخالفة حتى لا تبوء بإثمها .
4. رتب مكتبتك بطريقة تسهل عليك الوصول لمبتغاك ورقم الكتب حسب فنونها.
5. اجعل الكتب الدينية هي الأعلى لأنها بالمحل الأسنى .
6. كمل مكتبتك بالأمهات من الكتب ولا تبخل على نفسك .
7. اتخذ من وسائل السلامة ما يحمي المكتبة – بعد رحمة الله – من كل ما يضر بالكتب.
8. ادخل كتبك في قوائم ورقية أو حاسوبية ويمكن استخدام برامج الحاسب لهذا الغرض .
9. ضع عندك دليلاً للمستعيرين ؛ فإعارة الكتب بركة لا ينغصها إلا إهمال المستعير وتضييعه الكتاب أو تأخير رده . وللاستعارة أحكام وآداب وقصص يحسن الرجوع إليها .
10. لا تستضف في مكتبتك فضولياً ولا مستهاماً باستعارة الكتب دون قراءتها .
11. ضع في مكتبتك ركناً خاصاً لكتب ترى لها مزية على غيرها.
12. لا تتنازل عن مقر مكتبتك ليكون مخزناً أو غرفة ألعاب مهما أجلب عليك القوم بخيلهم ورجلهم.
أخيراً: فوائد متفرقة:
1. تعويد الأطفال على القراءة مسؤولية الأبوين ؛ ولهذا الأمر المهم كتب ودراسات متخصصة .
2. ما أجمل أن يقرأ الزوجان لبعضهما.
3. لا تتوقف عن القراءة أبداً ولا تدمن هجران الكتب.
4. يمكن الاستعانة ببعض المساعدات في القراءة والتي لن تكون بديلاً عن الكتاب مثل الكتاب الإلكتروني والأقراص الممغنطة ومواقع الانترنت وملخصات الكتب والندوات والأشرطة.
5. الاستفادة من تجارب القراء وتسجيلها أمر نافع غاية النفع .
6. إذا توقفت عن قراءة كتاب لعارض فضع إشارة وعلامة في المكان الذي توقفت عنده لتواصل منه إن كنت مستوعباً لما مضى منه .
7. قراءة الكتب بلغتها الأصلية أفضل بسبب غثاثة الترجمات العربية في الغالب مع عظيم الأسف .
8. اكتب في نهاية الكتاب تاريخ قراءته وملخصاً عنه .
9. إذا اجتمعت بصحبك في الاستراحات أو البراري أو البيوت فسل كل واحد منهم عما قرأ ؟ وماذا سيقرأ ؟
10. زر معارض الكتاب ففيها من الأنس واللذة وبهجة المناظر ما لا يخطئه الناظر .
11. لا تدخل كتاباً في رفوف مكتبتك قبل قراءة مقدمته وفهرسته ونتفٍ منه ؛ وإن لم تفعل فثق أنك ستعاود شرائه من جديد أو تنسى وجوده ضمن مقتنيات المكتبة .
12. لا تكتب قبل أن تقرأ؛ فحتى تكتب بتفوق لا بد أن تقرأ بتذوق .
وفي الختام أسأل الله لي ولكم مزيداً من العلم والثقافة والعمل لننفع أمة طال سباتها وتكالب أعدائها واستفحل ظلمها والعدوان عليها ؛ وقد كتبت ما كتبت ليستفيد منه المقبلون على الحياة بالأمل المشرق والتفاؤل الكبير والعمل المثمر ؛ الذين لهم في نفسي مكانةً عالية.(/5)
شياطين الإنس
رئيسي :تزكية :الأربعاء 15 شعبان 1425هـ - 29سبتمبر 2004 م
أولأ: تحذير الشارع من الشياطين، وبيان عداوتهم للإنسان: لقد جاءت تحذيرات القرآن المتكررة من الشياطين، في آيات يصعب حصرها في هذا المقام لكن لابد أن يعلم المسلم ابتداءً أن الشيطان عدوه:{...إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً [53]}[سورة الإسراء].
ثانيًا: أسلوب الشيطان مع الإنسان: احذر أخي المسلم من أساليب الشيطان معك، إنه يستخدم:
1- أسلوب التخويف أحياناً مع الجبناء:{ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[175]}[سورة آل عمران].
2- وأسلوب التزيين أحياناً أخرى:{ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ... [48]}[سورة الأنفال]. {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ[39]}[سورة الحجر].
3- وأحياناً يستحوذ على الإنسان:{اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ...[19]}[سورة المجادلة].
4- وأحياناً يوقع العداوة والبغضاء:{ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ...[91]}[سورة المائدة]. إلى غير ذلك من حيل الشيطان وطرقه.
ثالثًا:من الإنس شياطين كما أنّ من الجن شياطين: لقد تكلم علماؤنا وقرروا بأن هناك شيطان جني، وهناك شيطان إنسي، استناداً إلى قول الباري جل وعلا:{ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ[5]مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ[6]}[سورة الناس]. حتى قال بعض أهل العلم: بأن الشيطان الإنسي أخطر من الشيطان الجني، وأكثر ضرراً، وأشد فتكاً.
ولذا فعلى المسلم أن يحذر هذا الشيطان أكثر، وأن يتعرف عليه أكثر، وأن يتفطن لطرقه وأساليبه أكثر، لكي يسلم من شره، وينجو من غوايته.
رابعًا: أساليب شياطين الإنس في إغواء الناس، وأن شياطين الإنس أشدّ من شياطين الجن: سنتلمس بعض حيل وأساليب هذا الشيطان، لعل الله أن يعصمنا من فتنته:يقول أهل العلم بأن:
كل من تعاون مع إبليس، وكان من جنوده في الإغواء، وتحبيذ المنكر والفحشاء فهو شيطان،
كل من كانت له مشاركات وجهود في صد الناس عن سبيل الله، فهو شيطان.
كل من دعى إلى طرق الباطل بأي أسلوب، وتحت أي شعار، أو مذهب، فهو شيطان.
إن الشيطان من هذا النوع أشد من شيطنة إبليس؛ لأن إبليس قال:{...لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ[82]إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ[83]}[سورة ص].
وقال:{...لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا[62]}[سورة الإسراء]. فهو لا يريد التسلط على الجميع، بينما شيطاننا هذا لم يقتصر على الإغواء كإبليس، ولكنه تسلط بجميع أنواع الفتنة والإرهاق، يريد إغواء الجميع وإضلالهم واحتناكهم، حيث لا يدع أحداً ينطق إلا ما يوافقه، ولا يسعى إلا بما يهواه.
والله تعالى قال في كتابه:{...فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ[98]}[سورة النحل]. ولم يقل استعذ من إبليس؛ لكثرة أجناس الشياطين وأنواعهم الذين يصدون عن سبيل الله. فما أكثر أعداء الرسل من شياطين الإنس، الذين ظهروا في كل عصر وبلد وفي كل فترة، وهم أشد ضرراً من شياطين الجن.
إن ورثة إبليس من شياطين الإنس، الذين سلكوا طريقته في تغرير بني آدم، وإغوائهم على الشر وتحبيب الرذيلة، وهجر الفضيلة، وتحبيب خيانة الله، باطراح دينه، ونبذ كتابه، إن هؤلاء أخبر الله عنهم بصفات من كتابه، يمكن التعرف عليهم:
فأخبر عن هؤلاء الشياطين أن طبيعتهم الاستكبار والفخر، وطلب العلو في الأرض، ورفض كل ما لا يصدر على أيديهم- وإن كان صحيحاً نافعاً-. هذا الشيطان يعادي الحق إذا صدر على غير يديه، إنه يأمر بالسوء على اختلاف أنواعه وأشكاله، ويحبب الفحشاء للناس بكل وسيلة.
وها نحن نرى هؤلاء الشياطين في هذا الزمان يسمون الفساد إصلاحاً، ويسمون المؤامرات والفتن ونقض العهود تحرراً، ويسمون خيانة الله، ونبذ ملة إبراهيم وطنية، ويسمون ارتكاب الفواحش مدنية، ويسمون الدياثة حضارة وتطوراً، وعندهم نبذ كتاب الله رقيًا ومسايرة للزمن، وهكذا مما تلوكه ألسنتهم العفنة في وسائل الإعلام المختلفة، وتسطره أيديهم النجسة في الكتب العصرية، والنشرات الدورية، والصحف التي تفاقم شرها.(/1)
فما أحرى المؤمن أن يكثر الاستعاذة بالله من جنس الشيطان الرجيم، القاعد لعباد الله بالمرصاد القائل:{ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ[16]ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ[17]}[سورة الأعراف]. فلقد تفاقم شر هؤلاء الشياطين، وكثر جنودهم وأولياؤهم وعمت فتنتهم، وكثر ضررهم، لقد سيطر الشياطين على أغلب المرافق، وتاجروا بالعقول، وتمويه الفكر، وبلبلة الخواطر، وقلب الحقائق، وتنويع الباطل، وتوزيعه بشتى الزخارف والألوان.
خامسًا: صفات شياطين الإنس كما ذكرها الله تعالى عنهم، وموقف المسلم منهم:
لقد قرر علماؤنا بأن الساكت عن الحق شيطان أخرس، كما قرروا بأن الناطق بالباطل والساعي فيه شيطان ناطق. وإليك بعض الأمثلة:
1- فالمثبط والمعوق للناس عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. شيطان.
2- والمحبب الرذيلة للناس بأي مصطلح، وتحت أي مسمى.. شيطان.
3- والذي يعمل لإزالة الحياء من المجتمع.. شيطان، والصحفي الذي ينشر ما يخالف الملة الإبراهيمية، والشريعة المحمدية.. شيطان.
4-والكاتب الذي ينشر ما يفسد الأخلاق، ويذهب بالمروءة والحياء.. شيطان.
5- والذي يغري الناس بقوله، أو فعله على تقليد أعداء الله ورسله في أزيائهم، وأخلاقهم، وأعيادهم، ومراسيمهم.. شيطان؛ لأنه يقول بلسان حاله، أو بصريح مقاله، أو بسوء خصاله لمن قلدهم من الكفرة:{...هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا[51]}[سورة النساء].
6- ومن أعظمهم شيطنة، ومن أشدهم خبثاً على الإطلاق من يعمل على إزاحة الناس عن ملة إبراهيم، وعن شريعة محمد عليهما الصلاة وأتم التسليم. إنك لتجد الشيطان الإنسي مرهقاً متعباً، يلهث كما يلهث الكلب، لنشر دعايته، وترويج فكرته، وينفق الأموال الطائلة للصد عن سبيل الله:{ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ[36]}[سورة الأنفال].
فكن أيها المسلم على حذر ويقظة مما يقذف إليك سراً وجهراً، وظاهراً وباطنًا، واجعل كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام هما الميزان الذي تزن به كل شيء، وكل أحد. فإذا أعجبك كلام أحد أو تبجحه بدعوى الإصلاح، فلا تجعل له في قلبك مجالاً حتى تنظر في سيرته وأعماله، وتقارن ما يقول بما يفعل:
فإذا كانت أعماله على وفق كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ورأيته حاملاً رسالة الله آخذاً بكتابه، عاملاً لنصرة دينه، مدافعاً عن قضايا المسلمين في كل قطر؛ فذلك من حزب الله.
وإن رأيت أن أحواله وأعماله كحال المنافقين التي كشفها الله في القرآن، وأن ما يدعيه مجرد مزاعم يتاجر فيها بعقول الناس، ويلعب بعواطفهم، وأن أعماله ومبادئه مستمدة من الشرق، أو الغرب؛ فذلك شيطان، من جند إبليس، ودعاة الضلال مهما كبرت مكانته، أو كثرت كتبه ومقالاته، أو كثر أتباعه والمجندون لمبادئه، فإن الله تعالى يقول:{ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ...[116]}[سورة الأنعام].
لقد جرى للمختار بن عبد الله الثقفي الكذاب مما نقرأ في كتب التاريخ ما جرى، وراج أمره بحجة الأخذ بالثأر حتى كشفه الله وأهلكه وأخزاه، ونقرأ في التاريخ ما جرى من أبي مسلم الخراساني ما أنجح خطته، ثم أهلكه الله على يد الذين سعى من أجلهم.
ونقرأ في التاريخ - وكل هذه صور حية لبعض النوعيات من الشياطين- نقرأ ما جرى من فتنة العبيديين الباطنيين والقرامطة في مصر والشام والأحساء والحجاز ماجرى، حتى ادعى بعضهم الألوهية، وقتل الحجاج، وصعد كبيرهم الكعبة صارخاً بأنه الله الذي يحيي ويميت، فسلط الله الآكلة في جسده، حتى هلك شر هلكه.
ونقرأ في التاريخ ما جرى من النصيرية، وطغاة المبتدعة الذين صاغتهم سياسة اليهود الماكرة فظائع عظيمة، كشف الله غمتها، وأراح أهل دينه منهم.
ثم تنوعت أساليب سياستهم في القرون الأخيرة بأنواع الغزو الثقافي الفكري: فنقرأ في التاريخ أنهم نبشوا النعرات القومية في أنحاء أوربا، وركزوا جهودهم في تركيا، لنبش القومية الطورانية التي بسببها تنكر حكامها للإسلام والمسلمين، مما سهل لليهود، وأذنابهم من النصارى، وتلاميذهم بث النعرة العصبية في العرب، فتولى كبرها بعض الشياطين، وتم نشرها في وقت سريع أحدثوا تحت شعاراتها كثيراً مما يهدم ملة إبراهيم، ويناقض شريعة الإسلام، ويمزق القرآن تمزيقاً معنوياً، فحصل من جراء ذلك في تركيا وغيرها من بلاد المسلمين شر كبير وفتنة، تتغلغل إلى أكثر الأدمغة.(/2)
وورائها شياطين يبذلون ما يبذلون في نشرها وترويجها.. فهلك من هلك من أولئك الشياطين، وسطر لنا التاريخ قبيح أفعالهم، فبقيت فيهم وصمة عار إلى قيام الساعة، وكذلك شياطين هذا الزمان ممن أكمل المشوار، وسار على خطى من قبله، سيكتب التاريخ عليهم كل شيء، وسيأتي اليوم، التي تعرف فيه الأجيال، أسماء وطرق وأساليب وحيل جميع شياطين هذا الزمان، بل سيزيد الأمر فضيحة لأنها ستكون موثقة بالأرقام والإحصائيات، والوثائق، بخلاف كتابة التاريخ في الماضي، فإنها كتابة عامة. لكنه أولاً وأخيراً كتابة التاريخ.
فعليك أيها المسلم: بمعاداة من هذه صفاته، وإن قال ما قال، وادعى ما ادعى، فإنه من شياطين الإنس، الذين هم أضر من ابليس أبي الجن وذريته.
وإذا كان الله أمرنا بالاستعاذة من جنس الشيطان: من همزه ونفثه ونفخه، ورفض خطواته عموماً، فأمره يدل بطريق أولى على معاداته ومنابذته في كل شيء، فواجب المسلم أن يتعوذ بالله متبرئاً من الشيطان:
من همزه: الذي يكون بالوسوسة والإغراء على الشر بجميع الوسائل، مقروءة ومسموعة، مرئية ومشاهده.
وكذلك من نفخه: الذي يكون بغرس الكبر، بأن يقذف في روع الإنسان أنه من نوع كذا، أو أنه من عنصرٍ سام، فيلهب صدره بالقومية الفلانية، أو النعرة الفلانية، أو يطغيه بمركزه، فيجعله بهذا، أو ذاك معرضاً عن الحق، ساعياً بالباطل كما وصف الله بعضهم بقوله:{...إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ...[56]}[سورة غافر].
ومن نفثه: بالشعر، والكلمات الرنانة المغرية على السير بالباطل، والتمادي فيه، معتقداً نجاح طريقته، بهذا النفث في آذان الناس {...وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ...[4]}[سورة المنافقون]. فإن الكثير من الناس يُخدع بالكلام المعسول.. {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ[221]تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ[222]يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ[223]}[سورة الشعراء].
لقد تفاقم شر الشاطين في هذا الزمان، إلى حد أنهم أراحوا الأبالسة من الجن في كثير من الأمور، وأراحوا شياطين الاستعمار في كثير من المهام. فصارت فتنتهم أشد من القتل؛ وذلك لأنهم احتسوا من قيح الاستعمار ودمه وصديده، فأخذوا يمجونه على القلوب الطاهرة، وتجرءوا على ما لم يتجرأ عليه المستعمر قولاً، وعملاً، وتنفيذاً، وفتنة.
وشياطين الجن مهدوا السبيل لهم بإحراق ما قدروا على إحراقه مما في الإنسان من مواهب الخير، أو طمسها، أو تصدئتها، بحيث يكون قلب غُلفاً بذلك، مما تقذف به شياطين الإنس وتحشوه من الباطل.
فأكثر أيها المسلم من الإستعاذة، متبعاً لها بالحذر واليقظة، والعمل الدائم لإعلاء كلمة الله، وحفظ حدوده، وأشغل نفسك في جميع أوقاتك بطاعته، كيلا تجعل للشيطان مجالاً، أو فراغاً ينفذ منه، فلا يحصل له عليك سلطان.
وإن خير ما شغل به المسلم نفسه، للتصدي لهذا الشيطان بعد إقامة أركان الإسلام: الدعوة إلى الله عز وجل، والعمل للإسلام، والبذل للدين، ومن جملة العمل: التصدي لهؤلاء الشياطين بفضح خططهم، وتوضيح أساليبهم، وتحذير الناس منهم، تحذيراً عاماً وخاصاً، واستغلال بعض المناسبات لتحذير الناس من شر هؤلاء الشياطين، وتبيين مدى خطرهم.
والمفرّط في دينه، إما بترك بعض الطاعات، أو إرتكاب بعض المخالفات، أو الغفلة والجهل بهؤلاء الشياطين، فإنه لابد من استيلاء الشيطان عليه، من بعض النواحي والجوانب، والمعصوم من عصمه الله. فنسأل الله أن يقينا شر أنفسنا، وشر الشيطان وشركه. اللهم من أراد الإسلام والمسلمين من شياطين الإنس والجن بسوء فأشغله بنفسه, واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدبيراً عليه يا رب العالمين.
من خطبة:'شياطين الإنس' للشيخ/ناصر الأحمد(/3)
شيخ الإسلام ابن تيمية
جمع وترتيب
أحمد فريد
مقدمة
نسأل الله ـ تعالى ـ حسن الخاتمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
ثم أما بعد :
فهذه ترجمة عالم من العلماء العاملين ، والأئمة الربانيين شيخ الإسلام والمسلمين ، إمام زمانه ، والمقتدى به في أوانه بركة الزمان وحسنة الأيام ، الذي نقض الغابر عن منهج أهل السنة والجماعة ، وجدد الله ـ عز وجل ـ به شباب الإسلام ، بعد أن أنهكه داء الشرك والوثنية ، والبدع الردية ، أنار الله ـ عز وجل ـ به منار السنة واطفأ نار البدعة.
الإمام الذي بذل نفائس أنفاسه ، وأوقات حياته ينصر الحق وأهله ، ويدفع الباطل ويشكف زيفه ، الإمام شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية ، وناهيك به شرفا وعلما وفضلا.
هيأ اله ـ عز وجل ـ له أسباب الشرف والعزة والرفعة في الدنيا والآخرة ، فقد نشأ في بيت علم وفضل وسنة ، فجده المجد أبو البركات شيخ الحنابلة ، وابوه شهاب الدين عبد الحليم من أنجم الهدى ، وإنما خفي اسم أبيه لأ،ه وقع بين نور القمر وضوء الشمس ، كما قال الإمام الذهبي يشير بنور القمر إلى جده أبي البركات ، وبضوء الشمس شيخ الإسلام أحمد بن تيمية ، ولم يقتصر شرف وعلم هذه الأسرة المباركة ، كلهم عالم فاضل.
نشأ شيخ الإسلام في هذه الأسرة المباركة ، وبدأ في تحصيل العلم في سن مبكرة ، وأخذ عن أكثر من مائتي شيخ وقد وهبه الله ـ عز وجل ـ عقلا لماحا ذكيا ، وقلبا طاهرا نقيا فنشأ أتم نشأة ، وكان شديد الحرص على أوقاته يضن بأنفاسه ولحظاته فتصدر للفتيا والدرس وهو في العشرين من عمره وجلس مكان أبيه بعد وفاته ، وما زال في انتفاع وارتفاع ، حتى صار شيخ الإسلام ، واستحق الصدارة عن جدارة وتأثر به علماء عصره ، وصبغهم بصبغته السلفية.
منهم الإمام المزي وإن كان أكبر منه سنا وأطول باعا في علم الحديث إلا أنه تأثر بمدرسة ابن تيمية السلفية ، وكذا تلميذه ابن القيم ، والذهبي ، وابن كثير ، وابن مفلح ، فرحم الله الجميع.
قال ابن عبد الهادي ـ رحمه الله ـ لم يبرح في ازدياد من العلوم ، وملازمة للاشتغال ، وبث العلم ونشره ، والاجتهاد في سبيل الخير ، وحتى انتهت إليه الإمامة في العلم والعمل والزهد والورع والشجاعة والكرم والتواضع والحلم والإنابة والجلالة والمهابة .."
وساعد على تفوقه على أقرانه وسيادته أهل زمانه أنه لم يشتغل بشيء من الدنيا ، وزهد في أعراضها الدنية وشهواتها الدنيوية.
قال البزار " .. وإلا فمن رأينا من العلماء من قنع من الدنيا بمثل ما قنع هو منها ، أو رضى بمثل حالته التي كان علهيا ، لم يسمع أنه رغب في زوجة حسناء ، ولا سرية حوراء ، ولا دار فوراء ، ولا مماليك وجوار ، ولا بساتين و لا عقار ، ولا شد على دينار ولا درهم ولا رغب في دواب ولا تعم ، ولا ثياب ناعمة فاخرة ، ولا حشم ، ولا زاحم في طلب الرئاسات ، ولا رؤى ساعيا في تحصيل المباحات .. "
والدارس لترجمة شيخ الإسلام يعلم يقينا لمذا لم يتزوج ، وترك هذه السنة العظيمة مع أنه كان أحرص الناس على السنة والجواب : أنه ما وجد هدنة أو فرصة في حياته التي تجاوزت الستين عاما حتى يتزوج ، فقد كان من معركة إلى معركة ، ومن سجن إلى سجن ومن مناظرة إلى مناظرة ، وهذا خطاب أرسله شيخ الإسلام لأمه يعتذر إليها عن شغله عنها ، وعدم تمكنه من السفر إليها يقول فيه ـ رحمه الله ـ : " وتعلمون أن مقامنا في هذه البلاد ، إنما هو لأمور ضرورية ، متى أهملناها فسد علينا أمر الدين والدنيا ، ولسنا والله مختارين للبعد عنكم ، ولو حملتنا الطيور لسرنا إليكم ، ولكن الغائب عذره معه ، وأنتم لو اطلعتم على باطن الأمور فإنكم ولله الحمد ما تختارون الساعة إلا ذلك ، ولم نعزم على المقام والاستيطان شهرا واحدا ، بل كل يوم تستخير الله لنا ولكم ، وادعو لنا بالخيرة ، فسأل الله العظيم أن يخير لنا ولكم وللمسلمين ما فيه الخير في خير وعافية ".(/1)
وقد ترك شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ دررا فاخرة وثروة علمية باهرة من الكتب والفتاوى والتقريرات ومن رحمة الله ـ عز وجل ـ بهذه الأمة حفظ الله ـ عز وجل ـ لنا وله الحمد والمنة على كل نعمة ـ شيئا من تراثه فصدر من مصنفات شيخ الإسلام أكثر من سبعين مجلدا ، وكم من تراث علمي ما يزال حبيس دور المخطوطات ، لم ير النور ولم ينتفع به المسلمون على كر الدهور ، وكم من تراث ضاع واندثر فلم نقف له على خبر ، فرحم الله شيخ الإسلام ونفعنا بعلومه ، فقد فارق الدنيا وهو صابر محتسب عاكف على كتاب الله في قلعة ، فما أحوج طلاب العلم وعوام الناس إلى دراسة تراجم هؤلاء الأعلام ، عسى أن تتجددد همة لأحد الطلاب فينهض لينل هه الرتب العالية ، والدرجات الرفيعة السامية ، وصلى الله على محمد وآله وصحبه.
اسمه ومولده وصفاته
اسمه :
أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن الخضر بن محمد بن الخشضر بن علي بن عبد الله بن تيمية النميري الحراني الدمشقي أبو العباس تقي الدين شيخ الإسلام.
سبب هذه التسمية (تيمية) :
ذكر ابن المتوفي في تاريخ إربل قال : حدثني الحافظ أبو محمد عبد الرحمن بن عمر الحراني من لفظ قال : حدثني غير مرة وقدسألته عن اسم تيمية ما معناه ؟ فقال : حج أبي وجدي ـ أنا أشك أيهما قال ـ وكانت امرأته حاملا فلما كان بتيماء راي جويرية خرجت من خباء ، فلما رجع إلى حران ، وجد امرأته قد وضعت ، فلما رفعون إليه قال يا تيمية يا تيمية ، يعني أنها تشبه التي رأى بتيماء ، فسمى بها أو كلاما هذا معناه وذكر ابن ناصر الدين الدمشقي في التبيان فقال : إن أم جده محمد بن الخضر كانت واعظة تسمى تيمية فنسب إليها.
وجده أبو البركات مجد الدين عبد السلام بن عبد الله الإمام الفقيه المحدث.كان جمال الدين بن مالك يقول : ألين للشيخ المجد كما ألين لداود الحديد : وهو صاحب المنتقى من أحاديث الأحكام ، والمجزر في الفقه ، والأحكام الكبرى.
وأبوه شهاب الدين أبو المحاسن عبد الحليم بن عبد السلام قرأ المذهب على والده حتى أتقنه ، ودرس وأفتى وصنف ، وصار شيخ البلد بعد أبيه ، قال الذهبي ، وكان الشيخ شهاب الدين من أنجم الهدى وإنما اختفى بين نور القمر وضوء الشمس ، يشير إلى أبيه وابنه.
مولده : ولد ـ رحمه الله ـ بمدينة حران في يوم الاثنين عاشر ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة من الهجرة.
صفته :
قال الشوكاني : قال الذهبي : " وكان أبيض أسود الراس واللحية قليل الشيب ، شعره إلى شحمة أذنية كأن عينيه لسانان ناطقان ربعة من الرجال ، بعيد ما بين المنكبين ، جهوري الصوت ، فصيحا ، سريع القراءة ، تعتريه حدة لكنه يقهرها بالحلم.
ثناء العلماء عليه
قال الحافظ شمس الدين الذهبي ـ رحمه الله ـ : شيخنا الإمام شيخ الإسلام ، فرد الزمان ، بحر العلوم ، تقي الدين ……
وقال : وله خبرة تامة بالرجال ، وجرحهم وتعديلهم وطبقاتهم ، ومعرفة بفنون الحديث ن وبالعالي والنازل والصحيح والسقيم ، مع حفظه متونه الذي انفرد به فلا يبلغ أحد في العصر رتبته ولا يقاربه ، وهو عجيب في استحضاره واستخراج الحجج منه ، وإليه المنتهى في عزوه إلى الكتب الستة ، والمسند بحيث يصدق عليه أن يقال : " كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث " أ.هـ
وقال أيضا .. وهو أكبر من أن ينبه مثلي على نعوته فلو حلفت بين الركن والمقام لحلفت : إني ما رأيت بعيني مثله : ولا والله ما رأى هو مثل نفسه في العلم .. أ.هـ
وقال الحافظ ابن سيد الناس :
ألفيته ممن أدر من العلوم حظا ، وكاد أن يستوعب السنن والآثار حفظا ، وإن تكلم في التفسير فهو حامل رايته ، أو أفتى في الفقه فهو مدرك غايته أو ذاكر في الحديث فهو صاحب علمه وذو روايته ، أو حاضر بالملل والنحل لم ير أوسع من نحلته في ذلك ولا أرفع من درايته ، برز في كل فن على أبناء جنسه ولم تر عين من رأه مثله ولا رأت عينه مثل نفسه.
وقال الإمام العلامة كمال الدين الزملكاني ـ رحمه الله ـ - لم ير من خمسمائة سنة أحفظ منه. أ.هـ).
وقال أيضا ـ رحمه الله ـ : سيدنا وشيخنا وقدوتنا الشيخ الإمام العالم العلامة الاوحد البارع الحافظ الزاهد الورع القدوة الكامل العرا تقي الدين شيخ الإسلام ، سيد العلماء قدوة الأئمة الفضلاء ، ناصر السنة قامع البدعة ، حجة الله على العباد ، راد أهل الزيع والعناد ، أوحد العلماء العاملين آخر المجتهدين ، أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني ، أعلى الله مناره ، وشيد به من الدين أركانه.
ماذا يقول الواصفون له ... ومحاسنه جلت عن الحصر
هو حجة لله قاهرة ... هو بيننا أعجوبة الدهر
هو آية الخلق ظاهرة ... أنوارها أربت على الفجر
وقال العلامة ابن دقيق العيد لما لقيه وسمعه :
ما كنت أظن الله ـ تعالى ـ بقى يخلق مثلك أ.هـ وقال ايضا : لما اجتمعت بابن تيمية رأيت رجلا العلوم كلها بين عينيه يأخذ منها ما يريد ويدع ما يريد.(/2)
وقال العلامة ابن الوردي : وحضرت مجالس ابن تيمية فغذا هو بيت القصيدة ، وأول الفريدة ، علماء زمانه فلك هو قطبه وجسم هو قلبه ، يزيد عليهم زيادة الشمس على البدر والبحر على الفطر ، حضرت بين يديه يوما فأصبت المعنى ، وكناني وقبل بين عيني اليمنى وقلت :
إن ان تيمية في ... كل العلوم أوحد
أحييت دين أحمد ... وشرعه يا أحمد
وقال الحافظ جلال الدين السيوطي ـ رحمه الله ـ :
فوالله ما رمقت عيني أوسع علما ، ولا أقوى ذكاء من رجل يقال له ابن تيمية ، مع الزهد في المأكل والملبس والنساء ومع القيام في الحق والجهاد بكل ممكن. أ.هـ.
وقال أيضا : (ابن تيمية الشيخ الإمام العلامة الحافظ الناقد الفقيه المجتهد المفسر البارع شيخ الإسلام علم الزهاد نادرة العصر ، أحد الأعلام .. كان من بحور العلم ،ومن الأذكياء المعدودين والزهاد والأفراد)أ.هـ.
وقال الإمام العلامة محمد بن علي الشوكاني ـ رحمه الله ـ :
لا أعلم بعد ابن حزم مثله ، وما أظن أنه سمح الزمان بين عصري الرجلين بمن يشابههما أو يقاربهما ، وكان يحق له الاجتهاد لاجتماع شروطه فيه. أ.هـ
نشأته وطلبه للعلم ـ رحمه الله
نشأ شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ في تصون تام وعفاف واقتصاد في الملبس والمأكل ، ولم يرد على ذلك خلقا صالحا برا بوالديه تقيا ورعا ناسكا صواما قواما ، ذاكرا لله ـ تعالى ـ في كل أمر وعلى كل حال ، رجاعا إلى الله ـ تعالى في سائر الأحوال والقضايا ، وفاقا عند حدود الله ـ تعالى ـ وأوامره ونواهيه ، أمرا بالمعروف ، ناهيا عن المنكر ، لا تكاد نفسه تشبع من العلم ، ولا تروي من المطالعة ، لا تمل من الاشتغال ، ولا تكل من البحث.
وكان ـ رحمه الله ـ منذ صغره ومخايل النجابة عليه واضحة ودلائل عنايه الله ـ عز وجل ـ به لائحة.
قال الحافظ البزار : أخبرني من أثق به عمن حدثه أن الشيخ ـ رحمه الله ـ في حال صغره كان إذا اراد المضي إلى المكتب يعترضه يهودي ـ كان منزله بطريقه ـ بمسائل يسأله عنها ، لما كان يلوح عليه من الذكاء والفطنة وكان يجيبه عنها سريعا حتى تعجب منه ثم غنه صار كلما اجتاز به يخبره بأشياء مما يدل على بطلان ما هو عليه ، فلم يلبث أن اسلم وأحسن إسلامه ، وكان ذلك ببركة الشيخ على صغر سنه.
وكان من صغره حريصا على الطلب ، مجدا على التحصيل والدأب ، ولم يكن ـ رحمه الله ـ وقت صغره يعني بما يعنى به أترابه من اللعب والبطالة ، إذ كان لا يؤثر على الاشتغال بالعلم لذة أي لذة ، ولا يؤثر أن يضيع منه لحظة في غير العلم.
قيل إن أباه وأخاه وجماعة من أهله سألوه أن يذهب معهم يوم إجازة ليتفرج ويتنزه ، فتهرب منهم ولم يذهب فلما عادوا آخر النهار لاموه على تخلفه عنهم ، وفواته تلك النزهة عنه ، مع تفرده وحده ، فقال لهم ، أنتم ما تزيد لكم شيء ، ولا تجدد ، وأنا حفظت في غيبتكم هذا المجلد وكان ذلك الكتاب " جنة الناظر وجنة المناظر ".
ومن المواقف التي تكشف عن قوة ذكائه وسرعة فهمه واستنباطه على صغر سنه حادثة ذكرها ابن القيم ـ رحمه الله ـ فقال : كان صغيرا عند بني النجار ، فبحث معهم فادعوا شيئا أنكره فأحضر النقل فلما وقف عليه ألقى المجلد من يده غبطا ، فقالوا له : ما أنت إلا جريء ترمي المجلد من يدك وهو كتاب علم ؟ فقال سريعا : أيما خير أنا أو موسى ؟ فقالوا : موسى فقال إيما خير هذا الكتاب أو ألواح الجوهر التي فيها العشر كلمات ؟ قالوا : الألواح ، فقال إن موسى لما غضب ألقى الألواح من يده أو كما قال.
وقال الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله ـ قدم مع والده وأهله إلى دمشق وهو صغير ، فسمع الحديث من ابن عبد الدائم وابن أبي اليسر وابن عبدان والشيخ شمس الدين الحنبلي والشيخ شمس الدين بن عطاء الحنفي والشيخ جمال الدين بن الصيرفي ومجد الدين بن عساكر والشيخ جمال الدين البغدادي والنجيب بن المقداد وابن أبي الخير وبان علان وابن أبي بكر اليهودي والكحلي عبد الرحيم والفخر علي وابن شيبان والشرف ابن القواس ، وزينب بنت مكي وخلق كثير سمع منهم الحديث وقرأ بنفسه الكثير وطلب الحديث.
تفوقه في العلم وبراعته في كل فن .. وإشارة العلماء إلى أنه مجدد عصره ودرة دهره
قال الحافظ الذهبي ـ رحمه الله ـ(/3)
كان آية في الذكاء وسرعة الإدراك ، راسا في معرفة الكتاب والسنة والاختلاف ، بحرا في النقليات ، هو في زمانه فريد عصره علما وزهدا وشجاعة وسخاء وأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر ، وكثرة تصانيفه ، قرأ وحصل ، وبرع في الحديث والفقه وتاهل للتدريس والفتوى وهو ابن سبع عشرة سنة ، وتقدم في علم التفسير والأصول وجميع علوم الإسلام أصولها وفروعها ، دقعها وجلها سوى علم القراءات ، فإن ذكر التفسير فهو حامل لوائه ، وإن عد الفقهاء فهو مجتهدهم المطلق ، وإن حضر الحفاظ نطق وخرسوا ، وسرد وابلسوا ،واستغنى وأفلسوا ، وإن سمى المتكلمون فهو فردهم وإليه مرجعهم وإن لاح ابن سينا يقدم الفلاسفة فلم وتيههم ،وهتك استارهم ،وكشف عوارهم ، وله يد طولى في معرفة العربية والصرف واللغة ، وهو أعظم من أن يصفه كلمي ، أو ينبه على شأوة قلمي ، فإنه سيرته وعلومه ومعارفه ومحنه وتنقلاته تحتمل أن توضع في مجلدتين وهو بشر من البشر له ذنوب ، فالله ـ يغفر له ، ويسكنه أعلى جنته فإنه كان رباني الأمة ، وفريد الزمان ، وحامل لواء الشريعة ، وصاحب معضلات المسلمين وكان راسا في العلم.
وقال الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله ـ :
اشتغل بالعلوم ، وكان ذكيا كثير المحفوظ ، فصار إماما في التفسير وما يتعلق به ، عارفا بالفقه فيقال إنه كان أعرف بفقه المذاهب من أهلها الذين كانوا في زمانه وغيره ، وكان عالما باختلاف العلماء ، عالما في الأصول والفروع والنحو واللغة وغير ذلك من العلوم النقلية والعقلية ، وما قطع في مجلس ، ولاتكلم معه فاضل في فن من الفنون إلا ظن أن ذلك من الفن فنه ، ورآه عاراف به متقنا له ، وأما الحديث فكان حامل رايته ، حافظا له مميزا بين صحيحه وسقيمه عارفا برجاله ، متضلعا من ذلك ، وله تصانيف كثيرة ، وتعاليق مفيدة في الأصول والفروع ، كمل منها جملة ، وبيضت وكتبت عنه وقرأت عليه بعضها ، وجملة كبيرة لم يكملها وجملة كملها ولم تبيض إلى الآن ، وأثنى عليه وعلى علومه جماعة من لماء عصره ، مثل القاضي الخوبي ، وابن دقيق العيد ، وابن النحاس والقاضي الحنفي قاضي قضاة مصر ابن الحريري ، وابن الزملكاني وغيرهم ، ووجدت بخط ابن الزملكاني أنه قال : اجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها وأن له اليد الطولى في حسن التصنيف ، وجودة العبارة والترتيب والتقسيم والتدين ، وكتب على تصنيف له هذه الأبيات :
ماذا يقول الواصفون له ... ومحاسنه جلت عن الحصر
هو حجة لله قاهرة ... هو بيننا أعجوبة الدهر
هو آية الخلق ظاهرة ... أنوارها أربت على الفجر
وقال العلامة ابن عبد الهادي : وللشيخ ـ رحمه الله ـ من المصنفات والفتاوى والقواعد والأجوبة والرسائل وغير ذلك من الفوائد مالا ينضبط ولا أعلم أحدا من متقدمي الأمة ولا متأخريها جمع ما جمع ، ولا صنف نحو ما صنف ، ولا قريبا من ذلك ، مع أن أكثر تصانيفه إنما أملاها من حفظه وكثير منها صنف في الحبس وليس عنده ما يحتاج إليه من الكتب.
وقال الشيخ اثير الدين ابي حيان النحوي : لما دخل اشيخ مصر واجتمع به فأنشد أبو حيان :
لما رأينا تقي الدين لاح لنا ... داع إلى الله فردا ماله وزر
على محياء من سيما الأولى صحبوا ... خير البرية نور دونه القمر
حبر تسربل منه دهره حبرا ... بحر تقاذف من أمواجه الدرز
قام ابن تيمية في نصر شرعتنا ... مقام سيد تيم إذ عصت مضر
فأظهر الدين إذ أثاره درست ... وأخمده الشرك إذ طارت له شرر
يا من تحدث عن علم الكتاب أصخ ... هذا الإمام الذي قد كان ينتظر
وقال ابن العماد الحنبلي : يشير بهذا إلى انه المجدد ، وممن صرح بذلك الشيخ عماد الدين الواسطي وقد توفى قبل الشيخ ، وقال في حق الشيخ بعد ثناء طويل جميل ما لفظه : " فوالله ثم والله لم ير تحت أديم السماء مثل شيخكم ابن تيمية علما وعملا وحالا وخلقا وأتباعا وكرما وحلما وقياما في حق الله عند انتهاك حرماته ، أصدق الناس عقدا ، وأصحهم علما وعزما ، وأنفذهم واعلاهم في انتصار الحق وقيامه همه ، وأسخاهم كفا وأكملهم إتباعا لنبيه محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما رأينا في عصرنا هذا من تستجلي النبوة المحمدية من أقواله وأفعاله إلا هذا الرجل ن يشهد القلب الصحيح أن هذا هو الإتباع حقيقة.
وقال الألوسي : وكان العلم كأنه اختلط بلحمه ودمه وسائره ،فإنه لم يكن له مستعارا بل كان له شعار ودثار ، جمع الله ما خرق له العادة ، ووفقه في جميع عمره لأعلام السعادة ، وجعل مآثره لإمامته من أكبر شهادة ، حتى أنفق كل ذي عقل سليم أنه ممن عنى نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله " عن الله يبعث على رأس كل مائة سنة ، من يجدد لهذه الأمة امر دينها " فقد أحيا الله به ما كان قدر درس من شرائع الدين وجعله حجة على أهل عصره أجمعين والحمد لله رب العالمين.
عبادته وزهده ـ رحمه الله ـ(/4)
قال البزار : أما تبعده فإنه قل أن سمع بمثله ، لأنه كان قد قطع جل وقته ومانه فيه ، حتى أنه لم يجعل لنفسه شاغلة تشغله عن الله ـ تعالى ـ " ما يراد له لا من أهل ولا من مال ، وكان في ليله منفردا عن الناس كلهم خاليا بربه ـ عز وجل ـ ضارعا مواظبا على تلاوة القرآن العظيم ، فإذا دخل الصلاة ترتعد أعضاؤه حتى يميله يمنه ويسره ، وكان قد رعفت عادته لا يكلمه أحد بغير ضرورة بعد صلاة الفجر ، فلا يزال في الذكر يسمع نفسه وربما يسمع ذكره إلى جانبه مع كونه في خلال ذلك يكثر من تقليب بصره نحو السماء : هكذا دأبه حتى ترتفع الشمس وتزول وقت النهي عن الصلاة.
وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ حضرت شيخ الإسلام ابن تيمية مرة صلى الصبح ثم جلس يذكر الله إلى قريب من منتصف النهار ، ثم التفت إلى وقال : هذه غدوتي ولو لم أتغد سقطت قويت ، أو كلاما قريبا من هذا ، وقال لي مرة: لا أترك الذكر إلا بنية إجمام نفسي وإراحتها لأستعد بتلك الراحة لذكر آخر أو كلاما قريبا هذا معناه.
أما عن زهده : فإن الشيخ ـ رحمه الله ـ نظر إلى هذه الدنيا نظرة ازدراء ، تلاشت عنده مظاهرها ، وتجلت حقيقتها ، ومن ثم أراح نفسه من تعب الدنيا ونصبها في خدمة البدن ، وشمر سائرا لله والدار الآخرة ، فارغ القلب من الشهوات ، ممتلئة بمحبة الله ورسوله ، وبوعود الله ورسوله وقد فتح الله عليه بهذا الزهد من صغره ، حتى كان شعارا له وصفه أطبق مترجموه على ذكرها ، حدث شيخه الذي علمه القرآن قال : قال لي أبوه وهو صبي ـ يعني الشيخ ـ أحب إليك أن توصيه وتعده بأنك إن لم تنقطع عن القراءة والتلقين أدفع إليك كل شهر اربعين درهما وقال : ودفع إلي أربعين درهما ، وقال : أعطه إياها فإنه صغير وربما يفرح بها فيزداد حرصه في الاشتغال بحفظ القرآن ودرسه ، وقال له في كل شهر مثلها فامتنع من قبولها ، وقال : يا سيدي إني عاهدت الله تعالى ـ أن لا أخذ على القرآن أجرا ولم يأخذها.
قال البزار : وإلا فمن راينا من العلماء من قنع من الدنيا بمثل ما قنع هو منها ، أو رضي بمثل حالته التي كان عليها ؟ لم يسمع أنه رغب في زوجة حسناء ، ولا سرية حوراء ، ولا دار قوراء ، ولا مماليك وجوار ، ولا بساتين ولا عقار ، ولا شد على دينار ولا درهم ، ولا رغب في دواب ولا نعم ، ولا ثياب ناعمة فاخرة ، ولا حشم ، ولا زاحم في طلب الرئاسات ولا رؤى ساعيا في تحصيل المباحات.
أخلاقه رحمه الله
قال ابن عبد الهادي ـ رحمه الله ـ : لم يبرح شيخنا في ازدياد من العلوم ، وملازمة للاشتغال ، وبث العلم ونشره ، والاجتهاد في سبيل الخير ، حتى انتهت إليه الإمامة في العلم والعمل والزهد الورع والشجاعة والكرم والتواضع والحلم والإنابة والجلالة والمهابة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسائر أنواع الجهاد ، مع الصدق والأمانة والعقة والصيانة ، وحسن القصد والإخلاص والابتهال إلى الله وكثرة الخوف منه ، وكثرة المراقبة له ، وشدة التمسك بالأثر والدعاء إلى الله وحسن الأخلاق ، ونفع الخلق والإحسان إليهم والصبر على من أذاه ، والصفح عنه والدعاء له ، وسائر أنواع الخير ، فمن أخلاقه : الكرم ، والتواضع ، والشجاعة والحلم والصفح.
كرمه ـ رحمه الله ـ :
قال الإمام البزار : وحدثين من أثق به أن الشيخ ـ رحمه الله ـ كان مارا يوما في بعض الأزقة فدعا له بعض الفقراء وعرف الشيخ حاجته ولم يكن مع الشيخ ما يعطيه ، فنزع ثوبا على جلده ودفعه إليه وقال : بعه بما تيسر ، وأنفقه ، واعتذر إليه من كونه لم يحضر عند شيء من النفقة ، وهذا من أبلغ إخلاص العمل لله ـ عز وجل ـ فسبحان الموفق من شاء لما شاء.
وسأله إنسان ذات يوم كتابا ينتفع به فقا ل: خذ ما تختار فرأى ذلك الرجل بين كتب الشيخ مصحفا قد اشترى بدراهم كثيرة فأخذه ومضى ، فلام بعض الجماعة الشيخ في ذلك فقال : أكان يحسن بي ان أمنعه بعدما سأله ، دعه فلينتفع به.
وبين ابن القيم ـ رحمه الله ـ كذلك أن كرمه كذلك كان في العلم فقال : فكان إذا سئل عن مسألة من العلم ذكر مذاهب الناس فيها ، ومأخذ فيها ، وترجيح القول والراجح ، وذكر متعلقات المسألة التي ربما تكون أنفع للسائل من مسألته فيكون فرحة بتلك المتعلقات واللوازم أعظم فرحه بمسألته ، وكان خصومه يعيبونه بذلك ، ويقولون : سأله السائل عن طريق مصر ـ مثلا ـ فيذكر له معها طريق مكة والمدينة وخراسان والعراق والهند ، وأي حاجة بالسائل إلى ذلك ؟ وعلمر الله ليس ذلك بعيب ، وإنما العيب : الجهل والكبر وهذا موضع المثل المشهور :
لقبوه بحامض وهو خل ... ... ... ... مثل من لم يصل إلى العنقود
تواضعه ـ رحمه الله ـ :(/5)
قال البزار : وكان لا يسأم ممن يستفتيه ، بل يقبل عليه ببشاشة وحب ، ولين عريكة ن ويقف معه حتى يكون هو الذي يفارقه ولا يجبهه ولا يحرجه ، ولا ينفره بكلام بوحشه بل يجيبه ويفهمه الخطأ من الصواب بلطف وانبساط ، وكان يلزم التواضع في حضوره مع الناس ومغيبه عنهم ،في قيامه وقعوده ومشيه ومجلسه ومجلس غيره.
وحكى البزار عن بعض أصحابه قال : " ولقد بالغ معي في حال إقامتي بحضرته في التواضع والإكرام حتى إنه لا يذكرني باسمي ، بل يلقبني بأحسن الألقاب ، وأظهر لي من الأخلاق والمبالغة في التواضع بحيث أنه كان إذا خرجنا من منزله بقصد القراءة يحمل هو بنفسه النسخة ولا يدع أحدا منا يحملها عنه ، وكنت أعتذر إليه من ذلك خوفا من سوء الأدب فيقول : لو حملته على رأسي لكان ينبغي ، ألا أحمل ما فيه كلام رسول الله ـ صلى الله وعليه وسلم ـ ؟
وكان يجلس تحت الكرسي ويدع صد المجلس ، حتى إني لأستحي من مجلسه هناك ، وأعجب من شدة تواضعه ، وكان هذا حاله في التواضع والتنازل والإكرام لكل من يرد عليه أو يصحبه أو يلقاه ، حتى أن كل من لقيه يحكي عنه من المبالغة في التواضع نحو مما حكيته وأكثر من ذلك ، فسبحان من وفقه وأعطاه وأجراه على خلال الخير وحياه .."
شجاعته ـ رحمه الله ـ :
قال الألوسي ـ رحمه الله ـ : " وأما شجاعته وجهاده فامر متجاوز للوصف فكان ـ رحمه الله ـ كما قال الحافظ سراج الدين أبو حفص في مناقبه : هو من أشجع الناس وأقواهم قلبا ما رأيت أحدا أثبت جأشا منه ولا أعظم في جهاد العدو منه كان يجاهد في سبيل الله بقلبه ولسانه ويده ولا يخاف في الله لومة لائم.
وأخبر غير واحد أن الشيخ كان إذا حضر مع عسكر المسلمين في جهاد يكون بينهم إن راي من بعضهم هلعا أو جنبا شجعه وثبته ووعده بالنصر والظفر والغنيمة وبين له فضل الجهاد والمجاهدين وكان إذا ركب الخيل يجول كأعظم الشجعا ، ويقوم كأثبت الفرسان وينكي العدو من كثرة الفتك بهم ويخوض بهم خوض رجل لا يخاف الموت وحدثوا أنهم رأوا منه في فتح عكا أموارا من الشجاعة يعجز الواصف عن وصفها ، قالوا : ولقد كان السبب في تملك المسلمين إيهاها بفعله ومشورته وحسن نظره.
ولما ظهر السلطان ابن غازان على دمشق المحروسة ، جاءه ملك الكرج ، وبذل له أموالا كثيرة جزيلة على أن يمكنه من الفتك بالمسلمين من أهل دمشق ، فوصل الخبر إلى الشيخ فقام من فوره ، وشجع المسلمين ورغبهم الشجاعة ، ووعدهم على قيامهم بالنصر والظفر والأمن وزوال الخوف ، فانتدب منهم رجال من وجوههم وكبرائهم وذوي أحلامهم ، فخرجوا معه إلى حضرة السلطان غازان ، فلما رأى الشيخ أوقع الله فه في قلبه هيبة عظيمة ، حتى أدناه منه وأجلسه ، وأخذ الشيخ في الكلام معه في عكس رأيه من تسليط المخذول ملك الكرج على المسلمين ، وأخبره بحرمة دماء المسلمين ، وذكره ووعظه فأجابه إلى ذلك طائعا وحقنت بسببه دماء المسلمين وجميت ذراريهم وصين حريمهم.
قال الشيخ كمال الدين بن الأنجا كنت حضارا مع الشيخ فجعل يحدث السلطان بقول الله ورسوله في العدل وغيره ، ويرفع صوته على السلطان ، ويقرب منه في اثناء الحديث ، حتى لقد قرب أن يلاصق بربكبته ربكة السلطان والسلطان مع ذلك مقبل عليه بكليته مصغ لما يقول ، شاخص إليه لا يعرض عنه ، وإن السلطان من شدة ما أوقع الله في قلبه من المحبة والهيبة سأل من هذا الشيخ فإني لم أر مثله ، ولا أثبت قلبا منه ، ولا أوقع من حديثه في قلبي ولا رأيتني أعظم انقيادا لأحد منه ، فأخبر بحاله ، وما هو عليه من العلم والعمل ، فقال الشيخ للترجمان : قل لغازان أنت تزعم أنك مسلم ومعك قاض وإمام وشيخ ومؤذنون على ما بلغنا ، فغزوتنا وأبوك وجدك كانا كافرين ، وما عملا الذي عملت عاهدا فوفيا ، وأنت عاهدت فغدرت ، وقلت فما وفيت ، وجرت ثم خرج من بين يديه مكرما معززا بحسن نيته الصالحة من بذل نفسه في طلب حقن دماء المسلمين فبلغه الله ـ تعالى ـ ما اراده ، وكان أيضا سببا لتخليص غالبا اسارى المسلمين من أيديهم ، وردهم على أهليهم وحفظ حريمهم وهذا من أعظم الشجاعة والثبات وقوة التجاسر.
وكان يقول : لا يخاف الرجل غير الله إلا لمرض في قلبه ، فإن رجلا شكا إلى أحمد بن حنبل خوفه من بعض الولاة فقال : لو صححت لم تخف أحدا ، أي خوفك من أجل زوال الصحة من قلبك.
وحكى أحد الحجاب الأمراء عن معركة شعحب قال : قال لي الشيخ يوم اللقاء وقد تراءى الجمعان ، يا فلان أوقفني موقف الموت قال : فسقته إلى مقابلة العدو وهم منحدرون كالسيل تلوح أسلحتهم من تحت الغبار ، وقلت له : هذا موقف الموت فدونك وما تريد ، قال فرفع طرفه إلى السماء وأشخص بصره ، وحرك شفتيه طويلا ، ثم أنبعث وأقدم على القتال ، وما عدت رأيته حتى فتح الله ونصره نصر ودخل جيش الإسلام إلى دمشق المحروسة.
حلمه وصفحه ـ رحمه الله ـ(/6)
قال الأستاذ ناصر بن عبد الله الميمان : امتلأ قلب الشيخ ـ رحمه الله ـ بحب العلم والحق والخير ن ولم يكن فيه مجال لحظوظ النفس ، والانتقام لها ، والثأر لمصالحها ومن هنا تجده يقف من خصومه وأعدائه الذين سعوا ما أمكنهم في إذاء ، وتجاوزوا في خلافهم معه حدود العلم إلى الصراع الشخصي ، والرغبة في إذلاله ، وكبت أمره ، وتقليل شأنه ، نجد الشيخ ـ رحمه الله ـ يقف منهم موقفا حميدا ينم عن قلب طاهر نقي ، فو يحلل ويسامح كل من ظلمه وأذاه.
جاء في رسالة كتبها في مصر إلى إخوانه في دمشق : " ….. وقد أظهر الله نور الحق وبرهانه ، ما رد به إفك الكاذب وبهتانه ، فلا أحب أن ينتصر من أحد بسبب كذبه علي أو ظلمه وعدوانه ، فإني قد أحللت كل مسلم ، وأنا أحب الخير لكل المسلمين ، وأريد لكل مسلم من الخير ما أحبه لنفسي والذين كذبوا وظلموا منهم في حل من جهتي ، وأما ما يتعلق بحقوق الله ن فإن تابوا تاب الله عليهم ، وإلا فحكم الله نافذ فيهم ، فلو كان الرجل مشكورا على سوء عمله لكنت أشكر من كان سببا في هذه القضية لما يترتب عليه من خير الدنيا والآخرة ولكن الله هو المشكور على حسن نعمه وآلائه وأياديه التي لا يقضي للمؤمن قضاءا إلا كان خيرا له ".
وأكبر من ذلك وأعظم موقفه من خصومه من علماء مصر الذين أمروا بسجنه وسعوا في قتله ، فإنه لما عاد الملك الناصر إلى القاهرة واسترد حكمه كان أول شيء فعله أن طلب شيخ الإسلام من الإسكندرية ، فلما قدم عليه أكرم وفادته ، واستقبله أحسن استقبال ن ثم أخذه إلى طرف المجلس وتحدث معه ساعة.
قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ : وسمعت الشيخ تقي الدين يذكر ما كان بينه وبين السلطان من الكلام لما انفردا من ذلك الشباك الذي جلسا فيه ، وأن السلطان استفتى الشيخ في قتل بعض القضاة بسبب ما كانوا تكلموا فيه ، وأخرج له فتاوى بعضهم بعزله من الملك ، ومبايعة الجاشنكيروانهم قاموا عليك وأذوك أنت أيضا ، وأخذ يحثه بذلك على ان يفتيه في تقل بعضهم ن وإنما كان حنقه عليهم بسبب ما كانوا سعوا فيه من عزله ومبايعة الجاشنكز ففهم الشيخ مراد السلطان ، فأخذ في تعظيم القضاة والعلماء وينكر أن ينال أحدا منهم بسوء ، وقال له : إن قتلت هؤلاء لا تجد بعدهم مثلهم فقال له : إنهم قد أذوك ، وأرادوا قتلك مرارا,
فقال الشيخ : من آذاني فهو في حل ، ومن أذى الله ورسوله فالله ينتقم منه وأنا لا أنتصر لنفسي ، وما زال به حتى لحم عنهم السلطان وصفح.
قا لوكان قاضي المالكية ابن مخلوف يقول : ما رأينا مثل ابن تيمية ، حرضنا عليه فلم نقدر عليه وقدر علينا فصفح عنا وحاجج عنا..
محنة الشيخ ـ رحمه الله ـ
قال الشوكاني ـ رحمه الله ـ وقع للشيح ـ رحمه الله ـ من أهل عصره قلاقل وزلازل ، وامتحن مرة بعد أخرى في حياته وجرت فمن عديدة ، والناس قسمان في شأنه ، فبعض منهم مقصر به عن المقدار الذي يستحقه بل يرميه بالعظائم ، وبعض منهم يبالغ في وصفه ويجاوز به الحد ويتعصب له كما يتعصب أهل القسم الأول عليه ، وهذه قاعدة مطردة في كل عالم يتبحر في المعارف العلمية ، ويفوق أهل عصره ، ويدين بالكتاب والسنة فإنه لابد وأن يستنكر المقصرون ، ويقع له معهم محنة ، ثم يكون أمره الأعلى وقوله الأولى ، ويصير له بتلك الزلازل لسان صدق في الآخرين ويكون لعلمه حظ ولا يكون لغيرة ، وهكذا حال هذا الإمام ، فإنه بعد موته عرف الناس مقدار ، واتفقت الألسن بالثناء عليه ، إلا من لا يعتد به ، وطارت مصنفاته ، واشتهرت مقالاته.
فقد تعرض شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ لمحن كثيرة متابعة ، فلا يكاد تمر عليه فترة من الزمن حتى يتعرض لمحنة أو يشارك في معركة ، أو تقع بينه وبين بعضهم مخاصمة ، أو مناظرة حتى ختمت حياته بقلعة دمشق ن وهو صابر محتسب وقد حيل بينه وبين الكتابة والإفادة ، فعكف على تلاوة القرآن ، فختمه إحدى وثمانين ختمة انتهى في ىخر ختمة قوله تعالى " إن المتقين في جنات ونهر (54) في مقعد صدق عند مليك مقتدر " ( القمر : 54-55).
ثمن المحن التي تعرض لها شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ أن أهل حماة كانوا قد وجهوا للشيخ سؤالا سنة 698هـ فأجابهم بما عرف بالفتوى الحموية الكبرى التزم فيها قانون السلف في الأسماء والصفات والبعد عن التأويل والتعطيل وكان الحسد قد استقر في قلوب كثير من الفقهاء ، فألبوا عليه بعض الولاة ، ولكن التتار كانوا مستمرين في زحفهم ، ففر الولاة والفقهاء ، وصمد لها الشيخ ـ رحمة الله ـ فلما من الله بالنصر على التتار ، واستقرت امور العباد ، وعاد الشيخ إلى الإفادة والتصنيف تحرك الحسد من جديد في قلوب الحاقدين لغلو كعب الشيخ وارتفاع مقامه عند العامة والولاة على السواء.(/7)
ومن ذلك ما حدث بينه ـ رحمه الله ـ وبين أبي حبان في القاهرة سنة 700 هـ وكان أبو حيان قد استقبل شيخ الإسلام استقبال حسنا وقال : ما رأت عيناي مثل هذا الرجل وامتدحه بأبيات من نظمه تقدم ذكرها ثم دار بينهما كلام فجري ذكر سيبوية فأغلظ ابن تيمية القول في سيبوية ، فنافره أبو حيان وقطعه ، وصير ذلك ذنبا لا يغفر ، وسئل عن السبب فقال : ناظرته في شيء من العربية ، فذكرت له كلام سيبويه فقال : ما كان سيبويه نبي النحو ، ولا كان معصوما بل أخطأ في الكتاب في ثمانين موضعا ما تفهمها أنت.
فكان ذلك سبب مقاطعته إياه وذكره في تفسيره البحر بكل سوء ، وكذلك في مختصره النهر ، ومن ذلك ما حدث له بسبب الطائفة الأحمدية الرفاعية سنة 705هـ ، وكانوا يلبسون أطواق الحديد في أعناقهم ويدهنون بدهن خاص ، ثم يدخلون النار لا يحترقون ، يمخرقون بذلك على العامة من أهل الإسلام ، فاشتد نكير الشيخ عليهم حتى شكوه إلى نائب السلطنة ، يطلبون أن يكف الشيخ عنهم وأن يتركهم وحالهم فقال الشيخ : هذا لا يمكن ولابد لكل أحد أن يدخل تحت الكتاب السنة قولا وفعلا ، ومن خرج عنهما وجب الإنكار عليه ، ومن أراد منهم أن يدخل النار فليدخل أولا الحمام ، ويغسل جسده جيدا ، ثم يدخل إلى النار بعد ذلك إن كان صادقا ، ولو فرض أن أحدا من أهل البدع دخل النار بعد أن يغتسل ، فإن ذلك لا يدل على صلاحه ، ولا على كرامته ، بل حالة من أحوال المخالفة للشريعة إذا كان صاحبها على السنة فما الظن بخلاف ذلك ، وانتهى الحال على أن يخلعوا أطواق الحديد من رقابهم ، وأن من خرج عن الكتاب والسنة ضربت عنقه.
ثم ورد في السنة نفسها كتاب من السلطان يحمل الشيخ إلى القاهرة ، فتوجه إليها على البريد ، وخرجت جموع المسلمين باكية حزينة لوداعة ، وهو واثق يرجو ويأمل فلما وصل إلى القاهرة عقد له مجلس في القلعة ، اجتمع فيه القادة وكبار رجال الدولة والقضاء والفقهاء ، فلم يمكنوه من الكلام وتولى الإدعاء عليه زين الدين بن مخلوف قاضي المالكية ، فأخذ الشيخ في كلام فحمد الله وأثنى عليه ، فقيل له : أجب ولا تخطب ، فعلم أنها المحاكمة لا المجادلة ، فقال من الحاكم في ؟ فقيل له القاضي المالكي ، فقال له الشيخ : كيف تحكم في وأنت خصمي ، وآل أمر الشيخ إلى الحبس في برج أياما ، نقل بعدها ليلة عيد الفطر إلى السجن المعروف بالحب ، وحبس معه أخواه شرف الدين وزين.
ولبث في السجن نحو ثمانية عشر شهرا حتى إذا كان شهر ربيع الاول 707 هـ خضر حسام الدين مهما بين عيسى أمير العرب إلى مصر ، ودخل السجن ، واخرج الشيخ بنفسه بعد أن استأذن في ذلك.
وخرج الشيخ فأقام بالقاهرة يعلم الخير ، وينشر العلم ويجتمع عليه الناس ، حتى تقدم الصوفية بشكاية ضده إلى القاضي وذكروا أنه يتناول ابن عربي وغيره من أعلام التصوف في الكلام ، وهؤلاء عند الصوفية حريم مقدس لا يمس ، فخير الشيخ بين أشياء : أن يقيم بدمشق أو يقيم بالإسكندرية بشروط أو يحبس ، فكان أن اختار الحبس مؤثرا له على قبل تلك الشروط ، ودخل السجن في العام الذي خرج فيه.
ورغب أصحاب الشيخ إليه أن يجيب في السفر إلى دمشق ملتزما ما شرطوه عليه ، فأجاب وركب متوجها إلهيا فأبى خصومه إلا يكون في قبضتهم وتحت أعينهم ، فصدر الأمر برده إلى القاهرة ، فرد من الغد إليها ، وأرسل إلى حبس القضاة ، وأذن بأن يكون عنده من يخدمه ، وكان السلطان الناصر بن قلاوون عارفا قدر الشيخ ، محبا له ، إلا أنه في تلك الفترة كان قد عزل نفسه ، وتولى السلطنة الملك المظفر بيبرس الجاشنكير، وكان تلميذا لنصر المنبجي الصوفي الذي يصدر عن شرب ابن عربي في آرائه وأقواله ، فأصبح شيخ الإسلام عدوا سياسيا على نحو ما ، إذ ينظر إليه على أنه من أنصار الناصر بن قلاوون ، ويقول في أمور الاعتقاد بغير ما يقول به السلطان بيبرس وشيخ المنبجي الصوفي .
وتقرر نفي الشيخ إلى الإسكندرية في الليلة الأخيرة من شهر صفر سنة 709هـ ، ومكث بها نحو ثمانية أشهر " مقيدا ببرج مليح نظيف له شباكان أحدهما إلى جهة البحر ، يدخل إليه من شاء ، ويتردد عليه الأكابر والفقهاء والأعيان يبحثون معه ويتعلمون منه.
قال الألوسي ـ رحمه الله ـ : ولما دخل الحبس وجد المحابيس مشغولين بأنواع من اللعب يلتهون بها غما هم فيه كالشطرنج والنرد ، مع تضييع الصلوات ، فانكر الشيخ ذلك عليهم وأمرهم بلازمة الصلاة والتوجه إلى الله ـ تعالى ت بالأعمال الصالحة والتسبيح والاستغفار والدعاء ، وعلمهم من السنة ما يحتاجون إليه ، ورغبهم في أعمال الخير وحضهم على ذلك، حتى صار الحبس بالاشتغال بالعلم والدين خيرا من كثير من الزوايا والربط والخوانق والمدارس ، وصار خلق من المحابيس إذا أطلقوا يختارون الإقامة عنده ، وكثر المترددون إليه حتى كان السجن يمتليء منهم.(/8)
وظل الشيخ بالإسكندرية حتى عاد السلطان الناصر إلى عرش مصر في يوم عيد الفطر سنة 709هـ فأمر بإطلاق سراح الشيخ وحمله إلى القاهرة مكرما ما فخرج الشيخ منها متوجها إلى القاهرة ، ومعه خلق من أهلها يودعونه ويسألون الله ان يرده إليهم ن وكان وقتا مشهودا ، ووصل إلى القاهرة في الثامن عشر من شوال ، واجتمع بالسلطان في يوم الجمعة الرابع والعشرين منه.
واستمر الشيخ بالقاهرة ينشر العلم ، ويخارب البدع ، حتى توجه الجيش المصري قاصدا عزو التتار ، فلما وصل معهم إى عسقلان توجه إلى بيت المقدس ، ومنه إلى دمشق ، وجعل طريقه على " عجلون " ووصل دمشق أولى يوم من ذي القعدة سنة 712هـ وكان مجموع غيبته عن دمشق سبع سنين وسبع جمع.
عاد الشيخ إلى الشام فعاد إلى نشر العلم ، وتصنيف الكتب ، والإفتاء كلاما وكتابه يدور مع الكتاب والسنة حيث دارا.
وأفتى الشيخ ـ رحمه الله ـ في مسائل كثيرة من مسائل الفقه على حسب ما أدى إليه اجتهاده ، فكان أن أفنى في الحلف بالطلاق بعدم الإلزام ، وأنه لا يقع به طلاق ، وفرق بين الطلاق المعلق وبينه ، وخالف بذلك ما عليه الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب ، واستنكر الفقهاء من أتباع المذاهب فتوى الشيخ ، وجاهروا باستنكارهم ، وكان ذلك في سنة 718 هـ ، واشار قاضي قضاة الشام على الشيخ بالكف عن الإفتاء في هذا المسألة ـ مسألة الحلف بالطلاق ـ فقبل ـ رحمه الله ـ ووردت إشارة من السلطان بمنع الشيخ من الإفتاء بهذه المسألة ، ونودي بذلك في البلد ، ولكن الشيخ امتنع قليلا ثم عاد إلى الإفتاء حتى لا يقع في إثم كتم العلم.
وانعقد مجلس بدار الحكم بحضرة نائب السلطة حضره القضاة والفقهاء ، والمفتون من المذاهب الاربعة ، وعاتبوا الشيخ دون جداله ، وتكرر العتاب والرجاء ، ولم يفد كل ذلك شيئا فتقرر حبسه بأمر نائب السلطنة واستمر محبوسا خمسة أشهر وثمانية عشر يوما ، تبدأ من اليوم الثاني والعشرين من رجب سنة 720هـ ، وأفرج عنه بأمر السلطان في اليوم العاشر من محرم سنة 721هـ.
وعاد الشيخ إلى دروسة من جديد ، إلا أن الأعين المتربصة به ، والقلوب الناقمة عليه ، كانت له بالمرصاد ، واجتمع المتأمرون عليه ، وكاتبوا السلطان فجاء الأمر إلى دمشق في السابع من شعبان سنة 726 هـ بحبس الشيخ في القلعة قلعة دمشق.
وفرح الشيخ الحبس هذه المرة ، وأخذ يطالع في سجنه وينصف التصانيف ويرسلها خارج سجنه ، حتى ورد مرسوم السلطان بإخراج ما عنده من كتب وأوراق ومحابر وأقلام ومنع منعا باتا من المطالعة ، وكان ذلك في اليوم التاسع من جمادي الآخرة سنة 728هـ.
ولم يطل الأمر بالشيخ ـ رحمه الله ـ فقد مرض في محبسه وكانت مدة مرضه بضعة وعشرون يوما واستأذن الوزير شمس الدين في الدخول عليه لعيادته فإذن له الشيخ في ذلك ، فلما جلس عنده أخذ يعتذر له عن نفسه ، ويلتمس منه أن يحله مما كان منه ، فأجابه الشيخ أنه قد أحله مما كان منه لكونه فعل ذلك مقلدا غير معذورا ولم يفعله لحظ نفسه ، وقال : قد أحللت كل أحد مما بيني وبينه إلا من كان عدوا لله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
ثم توفى الشيخ رحمه الله ليلة الأثنين لعشرين من ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة ، وكان بعد إخراج كتبه قد عكف على كتاب الله عز وجل ، فكان يختم كل عشرة ايام ختمه.
شيوخه وتلامذته ـ رحمه الله
شيوخه :
زين الدين ابو العباس أحمج بن عبد الحليم الإمام المحدث سند العصر غليه منتهى علو الإسناد.
تقي الدين أبو محمد إسماعيل بن إبراهيم بن أبي اليسر التنوخي المسند الشهير.
أمين الدين أبو محمد القاسم بن أبي بكر بن قاسم بن غنيمة الأربلي.
شمس الدين ابو الغنائم المسلم بن محمد بن المسلم بن مكي الدمشقي.
والده شهاب الدين عبد العليم بن عبد السلام بن تيمية.
شمس الدين أبو محمد عبد الرحمن بن أبي عمر محمد بن أحمد بن قدامة المقدمي صاحب الشرح الكبير.
عفيف الدين ابو محمد عبد الرحيم بن محمد بن أحمد العلني الحنبي.
فخر الدين أبو الحسن علي بن أحمد بن عبد الواحد بن أحمد البخاري.
مجد الدين ابو عبد الله محمد بن إسماعيل بن عثمان بن المظفر بن هبة الله بن عساكر الدمشقي.
شمس الدين أبو عبد الله محمد بن عبد القوى بن بدران بن عبد الله المرداوي المقدسي.
تلامذته :
شرف الدين أبو عبد الله محمد بن المنجا بن عثمان بن أسعد بن المنجا التنوخي الدمشقي.
جمال الدين أبو الحجاج يوسف بن الزكي عبد الرحمن بن يوسف بن علي المزي.
شمس الدين ابو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي.
شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز بن عبد الله الدمشقي الذهبي.
شمس الدين أبوعبد الله محمد بن أبي بكر بن أبوزيد المشهر بابن القيم الجوزية.
صلاح الدين أبو سعيد خليل بن الأمير سيف الدين كيكلدي العلائي الدمشقي.
شمس الدين أبو عبد الله محمد بن مفلح بن محمد بن مفرج المقدسي.
شرف الدين أبو العباس احمد بن الحسن بن عبد الله بن أبي عمر بن محمد بن أبي قدامة.(/9)
عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير البصري القرشي الدمشقي.
تقي الدين أبو المعالي محمد بن رافع بن هجرس بن محمد الصميدي السلامى.
آثاره العلمية رحمه الله :
وهي كثيرة جدا متنوعة تضيق هذه الترجمة المختصرة على استيعابها ، ونشير إلى اشهرها من المنشور :
1-مجموع القتاوى ... ... ... ... ... ... 37 مجلدا
2-الفتاوى الكبرى ... ... ... ... ... ... 5 مجلدات
3- درء تعارض العقل والنقل ... ... ... ... ... 9 مجلدات ...
4- منهاج السنة النبوية
5- اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم
6-الصارم المشهور على شاتم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
7- الصفدية ... ... ... ... ... ... ... مجلدان
8-الاستقامة ... ... ... ... ... ... ... مجلدان
9-الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان
10-الجواب الصحيح لمن يدل دين المسيح ... ... ... ... مجلدان
11-السياسة الشرعية للراعي والرغبة
12- الفتاوى الحموية الكبرى
13- التحفة العراقية في الأعمال القلبية
14- نقض المنطق
15-أمراض القلوب وشفاؤها
16-قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة
17-الحسنة والسيئة
18-مقدمة في علم التفسير.
وفاته رحمه الله وما قيل في رثائه
قال الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله ـ ما ملخصه
وقد اتفق موته في سحر ليلة الاثنين المذكورة ـ أي ليلة العشرين من ذي القعدة سنة 728هـ ـ فذكر ذلك مؤذن القلعة على المنارة بها ، وتكلم به الحراس على الأبرجة ، فيما أصبح الناس إلا وقد تسامعوا بهذا الخطب العظيم ، والأمر الجسيم فبادر الناس على الفور إلى الاجتماع حول القلعة من كل مكان أمكنهم المجيء منه ، فحارت الدولة ماذا يصنعون وجاء الصاحب شمس الدين غبريال نائب القلعة فعزاه فيه ، وجلس عنده ، وفتح باب القلعة لمن يدخل من الخواص والأصحاب والأحباب ، فاجتمع عند الشيخ في قاعته خلق من أخصاء أصحابه من الدولة وغيرهم من أهل البلد والصالحية فجلسوا عنده يبكون ويثنون " على مثل ليلى يقتل المرء نفسه " وكنت فيمن حضر هناك مع شيخنا الحافظ أبي الحجاج المزي ـ رحمه الله ـ وكشفت عن وجه ونظرت غليه وقبلته ، وعلى رأسه عمامة مغروزة ، وقد علاه الشيب أكثر مما فارقناه ، وأخبر الحاضرين أخوة زين الدين عبد الرحمن أنه قرأ هو والشيخ منذ دخل القلعة ثمانين ختمة وشرعا في الحادية والثمانين فانتهينا إلى آخر اقتربت الساعة " إن المتقين في جنات ونهر (54) في مقعد صدق عند مليك مقتدر " (القمر : 54-55).
فشرع عند ذلك الشيخان الصالحان الخيران : عبدالله بن المحب ، عبد الله الزرعي الضرير ـ وكان الشيخ رحمه الله يحب قراءتهما ـ فابتدءا من أول سورة الرحمن حتى ختموا القرآن وأنا حاضر أسمع وأرى.
ثم شرعوا في غسل الشيخ ، وخرجت إلى المسجد هناك ، ولم يدعوا عنده إلا من ساعد في غسله منهم شيخنا الحافظ المزي وجماعة من كبار الأخيار أهل العلم والإيمان ، فما فرغ منه حتى امتلأت القلعة ، وضج الناس بالبكاء والثناء والدعاء والترحم ، ثم ساروا به إلى الجامع ودخلوا بالجنازة إلى الجامع الأموي والخلائق فيه بين يدي الجنازة وخلفها وعن يمنيها وشمالها مالا يحصى عدتهم إلا الله ـ تعالى ـ فصرخ صارخ وصاح صائح وهكذا تكون جنازة أئمة السنة ، فتباكى الناس وضجوا عند سماع هذا الصارخ ، ووضع الشيخ في موضع الجنائز مما يلي المقصورة ، وجلس الناس من كثرتهم وزجمتهم على غير صفوف ، بل مرصوصين رصا ، وجاء الناس من كل مكان ونوى خلق الصيام ، لأنهم لا يتفرغون في هذا اليوم لأكل ولا لشرب ، وكثرة الناس كثر لا تحد ولا توصف.
وبالجملة كان يوما مشهودا لم يعهد مثله بدمشق إلا أن يكون في زمن بني أمية ،حين كان الناس كثيرين وكانت دار الخلافة ، ثم دفن عند أخيه قريبا من أذان العصر على التحديد ولا يمكن أحد حصر من حضر الجنازة.
ما قيل في رثائه ـ رحمه الله ـ :
قال الدقوقي ـ رحمه الله ـ :
مضى عالم الدينا الذي عز فقله ... وأضرم نارا في الجوانح بعده
فدعى طليق فوق خدي مسلسل ... أكفكفه حينا وجفني يرده
ويرجو التلاقي والفراق يصده ... وما حيلة الراجي إذا خاب قصده
مضي الطاهر الأثواب ذو العلم والحجى ... ولم يتدنس قط بالإثم برده
مضى الزاهد الندب ابن تيمية الذي ... اقر له بالعلم والفضل ضده
بكته بلاد الشام طرأ وأهلها ... وجامعها وامناع للحزن صلده
يحن إليه في النهار صيامه ... ويشتاقه في ظلمة الليل ورده
ويبكي له نوع الكلام وجنه ... ويندبه فصل الخطاب وحده
حمى نفسه الدنيا وعف تكرما ... ولما يصعر للدنيات خده
وقال الشيخ شهاب الدين بن فضل الله
أهكذا في الدياجى يحجب القمر ... ويحبس النور حتى يذهب المطر
أهكذا تمنع الشمس المنيرة عن ... منافع الأرض أحيانا فتستتر
أهكذا الدهر ليلا كله أبدا ... فليس يعرف في أوقاته سحر
أهكذا السيف لا تمضي مضاربه ... والسيف وافلتك ما في عزمه بحور
أهكذا القوس ترمى بالعراء وما ... تصمى الرمايا وما في باني باعها قصر(/10)
أهكذا يترك البحر الخضم ولا ... يلوي عليه وفي أصدافه الدرر
أهكذا بتقي الدين قد عبثت ... أبدى العدى وتعدي نحوه الضرر
إلى ابن تيمية ترمي سهام أذى ... من الأنام ويدمى الناب والظفر
بدا السويق ممتد العبادة لا ... يناله ملل فيها ولا ضجر
ولم يكن مثله بعد الصحابة في ... علم عظيم وزهد ماله خطر
وقال الشيخ الصالح محمد ابو طاهر البعلي الحنبلي :
يا بان تيمية يا أنصح العلما ... يا من لأسرار دين الله قد فهما
يا آية ظهرت في الكون باهرة ... لا زلت في سلك دين الله منتظما
وكنت واسطة في عقدة أبدا ... تزيل منه الأذى والفحش والسقما
جمعت منه الذي قد كان فرقه ... قوما راوه هدى منه وكان عمى
وكنت أحرص خلق الله كلهم ... على التألف تعطي الفضل والنعما
ولست خبا لئيما باخلا شرها ... لكن تقيا نقيا سيد الكرما
تعفو عن الجاهل الجاني وترحمه ... وتكثر العدل والإنصاف للخصما
مازلت تغضب في ذات الإله ولم ... تكن لنفسك يا ذا الحلم منتقما
فأنت حبر هدي أحيا الإله به ... من دينه سننا أماته الغشما
في رأس سبع مئين قد وجبت ... لك الإمامة يا خلاصة العلما
انتهى بحمد الله ما جمعناه من سيرة هذا الإمام عليه رحمة الملك العلام وجمعنا الله وإياه في دار السلام صلى الله عليه وسلم على النبي العدنان.(/11)
شيعة العراق.. أحجار على رقعة الشطرنج
أحمد فهمي
مجلة البيان العدد 208 ذو الحجة 1425هـ فبراير 2005م
بعد مرور 20 شهراً على سقوط نظام صدام لم يعد مصطلح «شيعة العراق» يقدم لنا دلالة واضحة على مجريات الأحداث، وبدلاً من ذلك يصبح استخدام تسميات أخرى مثل «تيار الصدر، المجلس الأعلى، حزب الدعوة، فيلق بدر.. إلخ» ذا دلالة أكثر دقة وموضوعية وإرباكاً في الوقت نفسه؛ لأنه في الشأن الشيعي هناك عدد هائل من التساؤلات التي يصح الإجابة عنها برأيين متعارضين، وتصريحات يصعب حصرها تحتمل كلا الوجهين، ومواقف متباينة يتخذها حزب أو تيار واحد في أوقات متقاربة. وفي الحقيقة فإنه يمكن تشريح المجتمع الشيعي باعتبارات متعددة: الانتماء التنظيمي، المرجعية، الولاء لأطراف خارجية، الموقف من: الاحتلال، الانتخابات، أهل السَّنة، ولاية الفقيه، وإقامة دولة دينية.. إلخ، ولا يكاد يوجد فصيلان يتخذان موقفاً موحداً من هذه القضايا الحيوية، وأي تحالفات داخلية بين الشيعة هي مؤقتة؛ لأن مفهوم الولاء والبراء ليس له مدلول واضح في الثقافة الشيعية؛ فهو قابل للتعديل أو التغيير أو الإلغاء.
وقد نشرت مجلة النيوزويك (16/12/2001م) تحقيقاً عن شيعة العراق قالت فيه: (قد يبدو شيعة العراق من الخارج مجموعة متجانسة ولكن عند النظر إليهم من الداخل يتبين أنهم يشكلون تركيبة معقدة وغاضبة من التنافس على المال والسلطة).
وهذا التنافر الشديد في البناء الشيعي الداخلي أنتج مظاهر وصوراً كثيرة من التناقضات والاضطرابات التي تزيد وترسخ من تبعية الكيانات الشيعية للأطراف الخارجية؛ بحيث يحق لنا أن نقول إن شيعة العراق «مجازاً» إنما ينفذون في الأساس أجندات تلك الأطراف، وحتى هدف إقامة دولة شيعية مستقلة الذي يعتبره أغلبية الشيعة مشروعهم القومي يكتنفه الغموض سواء ذلك في إمكانية تنفيذه أو القدرة على حمايته في حال تحققه، مع اعتبار أن العقبة الأولى في طريق نجاح هذا المشروع هم الشيعة أنفسهم قبل غيرهم.
ونسعى في هذا المقال إلى تقديم رؤية تحليلية للعلاقات المتبادلة بين الشيعة في العراق والطرفين الخارجيين الأبرز وهما: إيران وأمريكا، مع التقديم لذلك بإلقاء الضوء على التناقضات التي يعاني منها الشيعة والتي لها تأثير كبير على قدرتهم على تحقيق مشروعهم القومي.
الفسيفساء الشيعية في العراق:
حتى تتكون لدينا صورة واضحة عن الأداء المركب للتيارات الشيعية العراقية سوف نستخدم منهجاً تحليلياً مزدوجاً يبدأ بتشريح التيارات الشيعية أفقياً لبيان حجم التنافر والتناقض فيما بينها، ثم نُثنِّي بتحليل رأسي لإظهار التناقض داخل التيار الواحد أو في مواقف إحدى القيادات.
ينقسم الشيعة بداية باعتبار مرجعيتهم المكانية والبشرية؛ فمدينة قم يمثلها كمرجعية المجلس الأعلى للثورة، بينما يرتكز حزب الدعوة على الحوزة العلمية في كربلاء، ومنظمة العمل الإسلامي تعتمد مرجعية النجف وبالأخص محمد صادق الشيرازي، وبين المدن الثلاث تنافس كبير في جذب الشيعة، وذلك بالإضافة إلى تعدد المرجعيات العلمية التي يختص كل منها بأتباع ومقلدين، وفي دلالة على هذا الزحام المرجعي فإن بوابة المرقد المزعوم للحسن بن علي ـ رضي الله عنهما ـ في كربلاء مغطاة تقريباً بملصقات دعائية كثيرة لرجال دين متنافسين يقيم بعضهم في العراق وآخرون في إيران.
ومن التقسيمات التي أحدثت شرخاً في البناء الشيعي: التفرقة بين شيعة الداخل والخارج؛ فالفريق الأول يعتبر نفسه تحمل المشاق وعانى الكثير من نظام صدام وفي مقدمة هؤلاء بالطبع تيار الصدر، في حين أن التيارات الخارجية مارست نشاطها في ظروف إيجابية وتلقت الدعم من قوى عظمى مثل الولايات المتحدة، وعلى سبيل المثال فإن عبد العزيز الحكيم زعيم المجلس الأعلى للثورة الإسلامية عاش في الكويت 23 عاماً قبل أن يعود إلى العراق على ظهر دبابة أمريكية، ولذلك يقول كاظم العبادي الناصري أحد مساعدي الصدر: «أي شخص تدعمه أمريكا يستحق لعنتنا.. أولئك الذين يدعون أنهم شخصيات معارضة كانوا خونة غادروا العراق وتركونا نعاني هنا». وينبغي هنا إثبات خطأ الادعاء بأن كل الشيعة كانوا يعانون من نظام صدام؛ فقد كان 58% من كوادر حزب البعث في محافظات الجنوب ونسبة كبيرة من شاغلي المناصب الحكومية من الشيعة (الحياة 6/12/2004م).(/1)
وبالنظر إلى قضايا الشورى والولاية وغيرها فإن هناك خلافات واضحة بين المجلس الأعلى ومنظمة العمل الإسلامي من ناحية، وبين المجلس وحزب الدعوة من ناحية أخرى، وأصل الخلاف يرجع إلى تأثر المجلس بالرؤية الإيرانية للدولة الإسلامية الشيعية، كما أن منظمة العمل تأسست أصلاً نتيجة الخلاف مع حزب الدعوة حول تلك القضايا، أما تيار الصدر فبعد أن كان ينادي بتعريب أو «تعريق» المرجعيات الدينية تغير موقفه من إيران، وصار مقتدى الصدر ينظر إلى نظام طهران باعتباره نموذجا يُحتذى به في تطبيق مفهوم ولاية الفقيه، ويقول مقتدى: «أريد أن يحكم العراق رجل دين شيعي سواء كان عراقياً أو إيرانياً، وأفضّل أن يحكمه شخص مثل الخميني من أي عراقي علماني». ويلاحظ طبعاً استبعاده لأن يحكم العراق رجل من السنَّة.
وفي المقابل فإن السيستاني يرفض مبدأ ولاية الفقيه، وأصدر فتوى بعد الاحتلال مباشرة ينادي فيها بابتعاد رجال الدين عن الشؤون الإدارية والتنفيذية والسياسية، كما يؤكد على أن الفتاوى الصادرة عن رجال دين أحياء هي فقط التي ينبغي أن تتبع، وهو يلمح بذلك إلى اعتماد مقتدى الصدر على والده في فتاواه القديمة، وبين الطرفين يقف المجلس الأعلى؛ حيث كان محمد باقر الحكيم الذي اغتيل قبل عام تقريباً يرى اتباع مبدأ ولاية الفقيه، ولكن وفق رؤية عراقية ترسخ دولة المجتمع المدني.
وبالطبع هناك التوجهات الشيعية العلمانية وأبرزها حزب الوفاق وزعيمه إياد علاوي، والمؤتمر الوطني بزعامة أحمد الجلبي، وهؤلاء يتبنون دولة علمانية، ولكن يعترفون بقدر من السيطرة للمرجعيات الشيعية.
وعادة ما تبدي الفصائل الشيعية اتفاقاً نسبياً فيما بينها تجاه قضية محورية كما يحدث حالياً؛ حيث يشارك أغلب الشيعة ضمن قائمة السيستاني، ولكن بمجرد انتهاء الانتخابات سيتلاشى هذا الاتفاق المصلحي تماماً؛ والشاهد على ذلك أنه قبل الاحتلال الأمريكي للعراق كان هدف إسقاط صدام هو تقريباً الشيء الوحيد الذي يجمع هذه الفصائل الشيعية، وبعد الاحتلال مباشرة لم يعد ذلك الشيء الذي يوحدهم موجوداً، ومن ثم اشتعلت حرب تنافسية شديدة بين هذه الفصائل؛ فقد تدافعت عناصر فيلق بدر التابع للمجلس الأعلى من إيران، ودخلوا إلى العديد من المدن الجنوبية، وشكلوا لجاناً ثورية بالاستعانة بالخبرة الإيرانية عند بداية ثورة الخميني، واحتلوا مباني وإدارات حكومية، وقاموا بإبعاد السنة من الوظائف، ودفعوا رواتب للطلبة والعلماء والشباب لكي ينظموا تظاهرات تعلن تأييدها للحكيم. وفي نفس الوقت سارع تيار الصدر إلى منافستهم بتأسيس العديد من المراكز والفروع التابعة له، وأغدق الأموال على الموظفين الحكوميين، ونشر ميلشيا مسلحة في بعض المناطق بحجة حفظ الأمن، وظل الصراع بين الطرفين قائماً إلى الوقت الحالي، وقد وجه تيار الصدر اتهامات صريحة إلى فيلق بدر بتقديمه دعماً مباشراً لقوات الاحتلال في صراعها مع جيش المهدي التابع له، كما أعلن علي سميسم المتحدث باسم مقتدى الصدر أن هناك أطرافاً شيعية تحيك مؤامرة ضد تيار الصدر وسمى منها صراحة المجلس الأعلى وحزب الدعوة، ولكنه لم يحدد طبيعة المؤامرة. والطريف هنا أن حزب الدعوة أسسه المرجع الشيعي محمد صادق الصدر أحد عمومة مقتدى، ولكن حدثت انشقاقات في الحزب بعد اغتيال مؤسسه أخرجته عن سيطرة عائلة الصدر.
وعلى صعيد التحالفات المتناقضة، على سبيل المثال؛ فإن المجلس الأعلى بزعامة الحكيم تأسس في إيران وتلقى دعمه الرئيس من نظامها، وفي الوقت نفسه ظل يحتفظ بعلاقات قوية مع الأمريكيين؛ بل إن عبد العزيز الحكيم زعيم المجلس كان يتولى لسنوات طويلة من الكويت مهمة التنسيق مع الجانب الأمريكي في جهود إسقاط نظام صدام، ولكن عندما تحقق لهم ما يريدون بغزو العراق أعلن باقر الحكيم مؤسس المجلس إدانته للهجوم الأمريكي، وحذر الأمريكيين من المقاومة المسلحة إذا بقوا في العراق بعد صدام، وبالنسبة للسيستاني فقد امتُدح من قِبَل المسؤولين الأمريكيين لأنه اتخذ موقف الحياد الإيجابي من الاحتلال؛ وذلك بينما كان في سبتمبر/ أيلول عام 2002م قد أصدر فتوى يقول فيها إن من يساعد الأمريكان سيحيق به العار في الدنيا، ويلقى العقاب في الآخرة.
هذا قبس من التناقضات التي يعاني منها الشيعة في علاقاتهم الحزبية بصورة عامة، ولو ألقينا نظرة رأسية على نماذج من التيارات والقيادات الشيعية فسنجد التناقضات نفسها مترسخة داخل التيار الواحد وفي مواقف الزعامة الواحدة، ونأخذ مثالين: تيار الصدر، وتيار السيستاني.(/2)
نبدأ بتيار الصدر الذي سبق بيان تراجعه ولو ظاهرياً عن مطلب «المرجعية العراقية» لصالح إيران، وانتفاضاته التي ينفذها أتباعه تنتهي في الغالب بتحقيق رغبات لم تنشأ الحاجة إليها إلا بتأثير الانتفاضة، لتنتهي المواجهات دون أن يعلم أحد لماذا بدأت أو لماذا انتهت؟ وأسرف مقتدى في إطلاق التصريحات الرنانة التي يتراجع عنها بعد ذلك؛ فعندما كان متحصناً في النجف مع أتباعه صرَّح للصحفيين: «لن أخرج منها، وبقائي هنا مدافعاً عن المدينة؛ لأنها أشرف المدن، وسأبقى فيها حتى آخر قطرة دم». وقال موجهاً الخطاب لجيش المهدي: «من يريد أن يبقى فأهلاً وسهلاً به، والذي يريد الذهاب فأهلاً وسهلاً به أيضاً». لكن لم يلبث مقتدى الصدر بعد أيام قليلة أن خرج من النجف، وقال مخاطباً أتباعه: «إلى كل فرد من أفراد جيش المهدي الذين ضحوا بالغالي والنفيس» فدعاهم أن يوقفوا القتال وأن: «يرجعوا إلى محافظاتهم للقيام بواجباتهم وما يرضي الله ورسوله وأهل البيت».
وبالنسبة للانتخابات؛ فقد أعلن الصدر صراحة أنه لن يشارك فيها، وسوَّغ ذلك بقوله: «عندما أقول إني في خدمتك يا أمريكا وأنا تحت إمرتك وأدخل الانتخابات؛ ففي ذلك الوقت سيتوقفون عن الهجوم، لكن أنا أعلنت أني عدو لأمريكا، وأمريكا عدوة لي إلى يوم الدين». ولكنه اتفق بعد ذلك مع الأمريكيين على أن يتحول إلى المشاركة السياسية مقابل توقف الهجوم، وصرح قيس الخزعلي أحد مساعديه: «التيار الصدري يواصل تشكيل تنظيم سياسي جديد يكون ضمن التشكيل الجديد للعراق الجديد» وتلقى الصدر مديحاً من الرئيس الأمريكي جورج بوش وتأييداً ضمنياً: «الولايات المتحدة لم تعد تستبعد أن يلعب مقتدى الصدر دوراً في الحياة السياسية العراقية». ثم تراجع الصدر مرة أخرى، وأعلن أنه لن يشارك في الانتخابات؛ لأن قوات الاحتلال تواصل اعتقال أنصاره، لكن رغم هذا الإعلان فقد صرح مكتب المرجع السيستاني بأن 20 شخصاً من تيار الصدر تم إدراجهم كمستقلين في قائمة الائتلاف الموحد الشيعية، وقال سعد جواد رئيس المكتب السياسي للمجلس الأعلى إن هناك أربع شخصيات بارزة لها علاقة بالصدر قُدمت أسماؤها للترشح بصورة مستقلة، وفي نفس الوقت قال حيدر الموسوي الناطق باسم المؤتمر الوطني بزعامة أحمد الجلبي إن لائحة حزبه تحظى بدعم الكثيرين من أنصار الصدر (إسلام أون لاين 16/12/2004م).
ويعاني التيار من وجود خلافات بين صفوفه من أبرزها الخلاف بين حازم الأعرجي في الكاظمية، وأسعد الناصري في البصرة. كما تسبب الاتفاق الأخير بين التيار والاحتلال في حدوث اضطرابات داخلية، وكان المسؤول العسكري الأمريكي في مدينة الصدر صرح بقوله: «نعرف حوالي أربعة من المسؤولين المهمين بينهم عبد الوهاب الدراجي الذي يظهر لا مبالاة واضحة حيال نزع الأسلحة، وقيس الخزعلي، والآخران لن أذكر اسميهما؛ لأنهما قد يبدلان مواقفهما». وقال: «نعرف أن عناصر من الميلشيا لن تلتزم بتعليمات القيادة ولن تتجاوب مع تعليمات مقتدى الصدر».
أما المرجع علي السيستاني، فقد سبق الإشارة إلى فتاواه المتناقضة من الاحتلال، ورغم أنه يرفض مبدأ ولاية الفقيه، فإن دوره السياسي في العراق يعتبر ترجمة واقعية لهذا المبدأ، والعجيب أن بعض أنصاره يدافعون عن رفضه إصدار فتوى تؤيد المقاومة بأن المرجع «لا يمارس دوراً ولائياً، وإنما يمارس دوراً فقهياً في حدود الأمور الحسبية»(1)، ولكنهم في الوقت نفسه يثبتون له الحق في مطالبة الاحتلال بإقامة الانتخابات وعقد مباحثات مع أعضاء مجلس الحكم الانتقالي وسلطات الاحتلال حول تشكيل الحكومة الانتقالية ومجلس الحكم والانتخابات، ومقابلة مندوب الأمم المتحدة الأخضر الإبراهيمي وتحديد الموقف الشيعي من الدستور المؤقت والإشراف على إعداد قائمة الائتلاف الموحد الشيعية.. إلخ.
ورغم أن السيستاني أشرف على إعداد القائمة الشيعية الموحدة التي تحمل توقيعه ضمنياً فإن مكتبه في حوار مع صحيفة الرأي العام الكويتية(2) أكد: «يبارك السيد السيستاني القائمة الوطنية الموحدة التي ضمت غالبية الأحزاب الشيعية، لكنه في الوقت نفسه يدعم كل القوائم الوطنية» ما الفرق بين من يبارك أو يدعم؟ وكيف يؤيد السيستاني قائمتين متنافستين في وقت واحد؟ لا أحد يعرف.
وفي نهاية عام 2003م عندما شعر السيستاني أن مطالبه بخصوص الانتخابات لن تنفذ حرك الشارع الشيعي للقيام بمظاهرات حاشدة «كانت تظاهرتا البصرة وبغداد والتظاهرات المنتظرة لاحقاً لتظهر أن السيستاني لا يمزح، وأنه بمثل حالة مرجعية عامة لا اختلاف عليها»(3). ولكن عندما دكت القوات الأمريكية المراقد التي يقدسها الشيعة في النجف لم يحرك السيستاني ساكناً، ولم يصدر فتوى، ولم يحرك الشارع السياسي؛ فهل كانت الانتخابات أكثر قداسة عنده من مراقد النجف؟
تقاطع المصالح بين شيعة العراق وإيران:(/3)
يصعب على المراقب المباشر لهذه الفسيفساء الشيعية في العراق أن يعثر على خطوط منطقية لتفسير هذا الأداء المعقد، ولكن عند إضافة البعد الإيراني للمشهد العراقي تتكون على الفور ملامح قابلة للفهم؛ فالعراق بالنسبة لإيران يمثل امتداداً سياسياً وجغرافيا ومذهبياً، ولا يعترف الملالي في طهران بإمكانية وجود دولة عراقية مستقلة بجوارهم، ولذلك تنبني استراتيجيتهم بعيدة الأمد على كون العراق ـ الجنوب على الأقل ـ مقاطعة إيرانية شيعية طال الزمن أم قصر، ويتعاملون مع شيعة العراق باعتبارهم ميداناً للسيطرة وممارسة النفوذ ومدخلاً للاستحواذ على الجنوب. وفكرة الهلال الشيعي التي اتهم قادة ومسؤولون عرب إيران بالتخطيط لها لا تنطوي على أي مبالغة؛ فهذا هو التصور الإيراني للمنطقة بغض النظر عن تواضع إمكانياتهم الحالية عن السعي لتحقيقه.
والمصالح الشيعية العراقية تختلف مع المصالح الإيرانية في المشروع السياسي غير المعلن لكل طرف، وهو إقامة دولة مستقلة وقوية للشيعة في الجنوب بالنسبة للعراقيين، وإقامة مقاطعة شيعية تابعة لإيران أو دولة ضعيفة تستمد قوتها من طهران، بالنسبة للإيرانيين. وهناك بعض القضايا الأخرى التي يختلف فيها شيعة العراق وإيران، مثل: التنافس بين مرجعية النجف وقم، ومسألة ولاية الفقيه، والعلاقة مع الاحتلال، ولكن تبقى مع ذلك نقاط كثيرة تتقاطع فيها المصالح بين الطرفين، على الأقل في الوقت الحالي، ومن أبرزها: تحويل الجنوب إلى مقاطعة شيعية خالصة - الموقف من العرب السنة - الانتخابات..
أولاً: تحويل الجنوب إلى مقاطعة شيعية خالصة:
نشرت صحيفة الحياة (6/12/2004م) تحقيقاً بالغ الأهمية عن جهود تشييع الجنوب ذكرت فيه أن هناك «حملة للتطهير الطائفي أدواتها الاغتيالات والخطف ومصادرة المساجد والأوقاف السنية وإدارة مؤسسات الدولة وعلى رأسها الأجهزة الأمنية على أساس مذهبي وحزبي». واللافت هنا أن الأطراف الثلاثة: شيعة العراق، وإيران، والاحتلال تواطؤوا على ضرب السنة في تلك المنطقة؛ فهناك اعتداءات متتالية ينفذها عناصر فيلق بدر ضد السنة في مناطق متعددة منها مدينة اللطيفية جنوب العراق، وذكر شهود عيان أن عناصر الفيلق كانوا يطلقون أسلحتهم على الأهالي بينما تحلق الطائرات الأمريكية كغطاء جوي لهم، ويذكر آخرون أنه يوجد في كل محافظة جنوبية ضباط مخابرات إيرانيون، وأنهم يتولون التحقيق مع الدعاة الذين يُعتقلون من أبناء السنة، ولا يخفى تدفق أعداد هائلة من الشيعة عبر الحدود المفتوحة مع إيران لتغيير التركيبة السكانية، وذلك بالحصول على هويات مزورة وجنسيات عراقية بدعوى أنهم من العراقيين الذين نفاهم صدام إلى إيران، وحقيقة الأمر أن أغلب هؤلاء ينتمون إلى إيران ولكنهم يقومون بدورهم في تغيير نسبة السكان، ومن ثم يمكنهم الرجوع إلى بلدهم بعد انتهاء الانتخابات، وقد اتهم زعيم عربي إيران بتسليم مليون إيراني بطاقات انتخابية مزورة للتلاعب بنتيجة الانتخابات. ومن ناحية أخرى فإن التعداد السكاني الذي كان من المقرر تنفيذه في أكتوبر الماضي تم تأجيله لأسباب غير مفهومة، واعتُمِد في تسجيل الناخبين على البطاقة التموينية التي يسهل تزويرها. وفي المقابل تعرض السنة في العديد من المناطق لمداهمات يومية من قِبَل الحرس الوطني العراقي ـ واجهة فيلق بدر ـ كانت تقترن بالاستيلاء على الأوراق الثبوتية لمنعهم من الإدلاء بأصواتهم، والأنكى من ذلك أن حماية الناخبين موكولة في الأساس إلى هذا الحرس المشبوه، وقد أعلن عبد العزيز الحكيم زعيم المجلس الأعلى استعداده لتوفير مائة ألف عنصر من فيلق بدر لكي يساعدوا الحكومة العراقية في تأمين المراكز الانتخابية.(/4)
وقد بدأ منذ فترة التلويح بالاستقلال الذاتي للجنوب عن طريق عدد من المحاولات، منها الإعلان عن إقامة إقليم جنوب العراق في محافظات (البصرة وميسان وذي قار) من خلال مؤتمر عقد في البصرة 26/12/2004م وشارك فيه شخصيات شيعية مستقلة وقيادات سياسية ومسؤولون حكوميون ورؤساء عشائر، وادعى الإعلان أن إقامة الإقليم تستند إلى الفقرة ج من المادة 53 من قانون إدارة الدولة الذي أصدره الاحتلال الأمريكي، وكانت 600 شخصية شيعية بارزة يمثلون محافظات الفرات الأوسط (النجف، كربلاء، بابل، القادسية، المثنى) قد عقدت قبل أسابيع اجتماعاً بحثت فيه تشكيل مجلس موحد تمهيداً لإقامة حكم ذاتي في إطار عراق فيدرالي (موقع البينة) ومن أخطر ما جاء في البيان الصادر عن الاجتماع تأكيده لضرورة إيجاد «آفاق للتعاون الإقليمي» مع الدول المجاورة لهذه المحافظات والمقصود من ذلك بالطبع: إيران. ولا ينكر السيستاني تأييده لهذه الجهود؛ فقد صرح مكتبه لصحيفة الرأي العام أن الفيدرالية تحتاج إلى سنوات من الديمقراطية لكي تكون حالة إيجابية في العراق. ويلخص سياسي شيعي عراقي رؤية طائفته بالقول: «إن كان أهل المثلث ـ السني ـ يرغبون في تكرار تجربة طالبان أخرى فحظاً سعيداً» (الشرق الأوسط 161/12/2004م).
ثانياً: الموقف من العرب السنة:
أقرب عدو لشيعة إيران هم السنة العراقيون العرب؛ فالصراع بين الطرفين تاريخي، ولن تأمن إيران لحدودها الغربية إلا بضمان السيطرة عليهم، وشيعة العراق لن يستقر لهم الجنوب إلا بدحر السنة في العراق الأوسط، وتمارس إيران سياسة متعددة الأبعاد لتحقيق مخططاتها ضد سنة العراق؛ فمن الناحية الاستخباراتية والعسكرية، يقوم فيلق بدر التابع للمجلس الأعلى بدور المنفذ لخطة اغتيال واسعة النطاق ضد الرموز الدينية السنية والدعاة المؤثرين والعلماء البارزين لإضعاف قدرة السنة على تولي زمام أمورهم والمطالبة بحقوقهم، ويقوم عناصر المخابرات الإيرانية بدور كبير في هذا الشأن. ومن الناحية السياسية فإن أهم الكوادر السنية الصالحة لتولي المناصب المهمة كانوا في الأساس ينتمون قسراً إلى حزب البعث، ولذلك تم استخدام تهمة الانتماء البعثي لإبعاد هذه الكفاءات عن تسلم أي مناصب مهمة. وعلى صعيد العلاقات بين التيارات الشيعية والسنة فإن تيار الصدر يقوم بدور المهدئ بين الطرفين؛ إذ يؤكد مراراً على الانتماء الوطني والروابط بين السنة والشيعة، وعندما تعرضت مساجد سنية لهجمات تحمل بصمات فيلق بدر، قال: «إني أبدي استعدادي لحماية إخواني أهل السنة وجوامعهم، وكذلك إخواني الشيعة ومقدساتنا، ولا فرق بين الأخوين إطلاقاً إلا بتقوى الله». ولكن يبدو أن الصدر لا يجد شخصاً تقياً من أهل السنة يمكن أن يتولى رئاسة العراق، حسبما ذكر في تصريحه السابق أعلاه، وقد نشرت صحيفة «إشراقات الصدر» التي تصدر عن التيار مقالاً هاجمت فيه اختيار غازي الياور رئيساً للعراق رغم أن المنصب شرفي إلى حد كبير، فقالت: «هل من المعقول أن يرضى شعب ضُرب وتحمل الكثير من نظام صدام حسين، وعانى من ذل المحتل لأكثر من عام أن يحكمه رئيس سني ورئيس وزراء أكثر خبثاً من اليهودي؟». وذلك رغم أن الياور أثنى عليه بقوة بعد اتفاقه الأخير مع القوات الأمريكية واعتبرها خطوة ذكية، ودافع عنه ضد اتهامه بالتحريض لقتل عبد المجيد الخوئي في إبريل/ نيسان 2003م، وقال: «الزعيم الشيعي بريء حتى تثبت إدانته». وقد أشار قائد القوات البريطانية في البصرة إلى حقيقة الموقف الشيعي من السنة في الجنوب فقال لوفد من وجهاء العشائر السنية (لو أخذت بالتقارير التي أرسلت لي ما تركت شيئاً يمشي على الأرض في البصرة). (مفكرة الإسلام، 23/12/2003م).
ثالثاً: الانتخابات:
لفهم أهمية الانتخابات بالنسبة للشيعة في إيران والعراق ينبغي النظر إليها على أنها بمثابة التوقيع الرسمي بالموافقة على كل المكتسبات التي حصل عليها الشيعة؛ فأغلب الإنجازات التي تحققت للطائفة تظل تحمل عبارة «تحت الإنشاء» حتى تقام الانتخابات ويعلن فوزهم الساحق بها، والظرف الحالي يعد بمثابة فرصة سانحة قد لا تتكرر؛ فالعرب السنة يرفضون المشاركة، والأسماء السُُّية التي ستحشرها أمريكا في الانتخابات لا قيمة لها، والتعداد السكاني تم تأجيله ليترسخ ادعاء الأغلبية الشيعية استناداً إلى البطاقات التموينية، وربما لو تأجلت الانتخابات فقد تتغير الظروف ويُعاد ترتيب القوى العراقية، خاصة لو أسفر تعداد سكاني عن نتائج غير مرغوبة. أما لو سيطر الشيعة من خلال الانتخابات القادمة فسيملكون زمام الأمور، وسيمكنهم فرض أجندتهم الخاصة على الجميع.(/5)
كما أن القائمة الذهبية التي يتوقع فوزها نجحت إيران في فرض بصماتها عليها إلى أقصى درجة؛ فقد تحالف المجلس الأعلى ذو الشعبية الأكبر بين الشيعة مع السيستاني لتشكيلها لتضم أغلب الأحزاب الشيعية الموالية لطهران، وعلى رأس القائمة عبد العزيز الحكيم الذي سيُرشح لتولي منصب رئاسة الوزراء، وهو شخصية تم اختيارها بعناية؛ فهو أولاً تابع أمين لنظام الملالي، وثانياً أنه يرضى عنه السيستاني الذي اتفق مع الحكيم على اقتسام المرجعية الدينية والسياسية للشيعة، وهو الاتفاق الذي كان باقر الحكيم يُحضِّر له قبل اغتياله، وثالثاً أن عبد العزيز الحكيم يمثل الحد الأقصى الذي يمكن أن يقبل به الأمريكيون؛ لأنه رغم تبعيته الإيرانية فهو يحتفظ بعلاقات وثيقة مع الاحتلال، ويدعمه عسكرياً من خلال فيلق بدر، وقد أعلن الحكيم مؤخراً حياده فيما يتعلق بالصراع بين الإدارة الأمريكية ونظام طهران.
وقد عبر المرشد الإيراني علي خامنئي عن التطلع الإيراني لإقامة الانتخابات بتوجيهه اتهاماً صريحاً للأمريكيين بتعمد إفسادها فقال: «بعد سنوات عدة يتوجه العراقيون إلى صناديق الاقتراع للتعبير عن خيارهم رغم إرادة المتعسفين لكن قوات الاحتلال لا تريد ذلك، إنها ترغب في انتخابات وهمية وتعمل على انتخاب أعوانها، أولئك الذين يأتمرون بأمر الأمريكيين والبريطانيين» ويقصد بالطيع قائمة إياد علاوي رئيس الوزراء، وقد رد وزير الدفاع العراقي الشيعي حازم شعلان ـ المعروف بتهوره ـ والحليف المخلص لعلاوي بإطلاق تصريحات حادة كشف فيها السياسة الإيرانية في العراق، فقال: «إن مفتاح الإرهاب هو في إيران» وقال: «أريد أن أحذر: إن إيران أخطر عدو للعراق وكل العرب.. لن ندع الدولة الصفوية تعود إلى العراق مرة أخرى» (الرأي العام 20/12/2004م) يقصد بذلك قائمة السيستاني الموحدة التي وصفها الشعلان بأنها قائمة المتعاونين مع إيران، وأضاف وزير الدفاع: «إن العراقيين لن يسمحوا بتولي الشهرستاني ـ عالم فيزيائي شهير موالٍ للسيستاني ـ رئاسة الحكومة العراقية «(الشعب 24/12/2004م)
شيعة العراق والولايات المتحدة:
وجدت الإدارة الأمريكية نفسها بعد 20 شهراً من غزو العراق واقعة في دوامة شيعية يصعب عليها التخلص منها؛ فهي من ناحية تخطط لتأسيس نظام علماني في العراق يسيطر عليه الشيعة، وهذا النظام الشيعي العلماني سيكون بدوره عاملاً رئيساً في زعزعة استقرار نظام الملالي الشيعي الديني، ولكن واشنطن اكتشفت في نهاية الأمر أن دعمها للشيعة يصب في مجمله لصالح نظام طهران، ولكنها مع ذلك لا تستطيع التوقف عن دعم الشيعة في هذه المرحلة الحرجة؛ لأنهم الحليف الرئيس لها في مواجهة العرب السنَّة؛ كما أن فيلق بدر يشكل قوة أساسية في تكوين الحرس الوطني العراقي الذي شارك في قتال المسلمين في الفلوجة، والفيلق يتبع المجلس الأعلى الذي أسسته إيران في المنفى لجمع شتات الرموز الشيعية وسلمت قيادته لعائلة الحكيم. واللافت أن إيران نجحت أيضاً في اختراق أصحاب التوجهات العلمانية الشيعة؛ فأحمد الجلبي الذي كان فرس رهان الإدارة الأمريكية تبين أنه عميل مزدوج قدم خدمات جليلة لنظام طهران، ورغم انقلاب إدارة بوش عليه فإنه ظل متماسكاً، وعاد ليحشر نفسه في زمرة السيستاني الذي ضمه إلى القائمة الشيعية الموحدة التي تضم 228 مرشحاً ليكون من أبرز عشرة مرشحين فيها، وبذلك يصبح لدى القائمة الموحدة ثلاثة أسماء صالحة لتولي رئاسة الحكومة: الحكيم، الشهرستاني، الجلبي، وربما يرفع من أسهم الجلبي أن أعداءه في الإدارة الأمريكية قد تم إبعادهم وفي مقدمتهم جورج تينت مدير السي آي إيه، وبقي حلفاؤه - المحافظون الجدد - في مناصبهم وأبرزهم بول وولفويتز، وهناك احتمال أن تتولى دانيال بلتيكا نائبة رئيس المركز الأمريكي للأعمال وأكبر مناصري الجلبي، منصب مساعدة وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط خلفاً لوليام بيرنز، ولكن وزيرة الخارجية الجديدة كوندوليزا رايس تعارض تعيينها (القدس، 16/12/2004م).(/6)
ومن الأحداث التي تقدم تفسيراً للكيفية التي يحاول بها الأمريكيون إدارة الفسيفساء الشيعية موقفهم من تيار الصدر في المواجهة الأخيرة؛ فقد وضعت أمام قوات الاحتلال خطوطاً حمراء لا يمكن تجاوزها تحت أي ظرف، في مقدمتها اغتيال مقتدى الصدر وتصفية جيش المهدي، وكان المطلوب فقط معاقبة التيار وممارسة ضغوط تدفعه للتحول إلى المشاركة السياسية، وكان ذلك واضحاً، فلم يكن الصدر متخفياً في جميع الأوقات أو ممتنعاً عن استخدام الهواتف المحمولة ومن ثم لم يكن رصد مكانه عملاً صعباً، ورغم تصريح أكثر من مسؤول أمريكي أن الصدر مطلوب اعتقاله أو قتله لم يُصَب الزعيم الشيعي بخدش واحد، فقط ظهر في إحدى المرات أمام الفضائيات برباط صغير من الشاش حول معصمه ربما لذر الرماد، وقد فسر كثير من المراقبين الأسلوب الأمريكي بأن الاحتلال لا يريد أن يفقد تيار الصدر كعنصر مهم في موازنة القوى الشيعية الأخرى التي يناصبها العداء مثل المجلس الأعلى وحزب الدعوة، وقد أثبتت المواجهات الأخيرة أن قدرة الأمريكيين على التحكم في القوى الشيعية تزداد عندما تتصاعد حدة الصراعات، وقد بلغ تحكم الإدارة الأمريكية في السيستاني ذروته في تلك الفترة؛ خاصة عندما قصفت المراقد في النجف بينما كان السيستاني يتلقى العلاج في عاصمة الحليف الأول لأمريكا: لندن، وقد بلغ الأمر حد وصف الصحفي الأمريكي فريد زكريا رئيس طبعة النيوزويك الدولية السيستاني بأنه: «حليف كبير محتمل للولايات المتحدة» (نيوزويك، 20/4/2004م)، كما وصفه بالذكاء لأنه يتجنب التحالف العلني مع قوات الاحتلال أو مقابلة المسؤولية الأمريكية. (نيوزويك، 2/3/2004م).
وعلى الجانب الشيعي فقد تحالف شيعة العراق مع الاحتلال الأمريكي من أجل تحقيق أربعة أهداف: إسقاط صدام حسين، تثبيت أكذوبة الأغلبية الشيعية، إقامة انتخابات يفوز بها الشيعة، تأسيس دولة شيعية في الجنوب، وقد حقق لهم الأمريكيون الهدفين الأولين والثالث في الطريق ويبقى الرابع قيد البحث.
وبالنسبة للانتخابات فإن الشيعة في العراق يهدفون إلى تقوية البناء السياسي للدولة العراقية، وتحقيق قدر من الاستقرار من أجل إعادة تفكيك الدولة من جديد بعد أن يكونوا قد امتلكوا زمامها بحكم الأغلبية المصطنعة، وهم يدركون جيداً أن تنفيذ هدف الدولة المستقلة لن يمكن من خلال وضعية الفوضى والعشوائية السياسية السائدة حالياً، وبذلك نفهم سر دعوة السيستاني الدائمة إلى تبني المقاومة السلمية؛ فهو يعلم تماماً أن المقاومة المسلحة لن تفيد في تحقيق الدولة الشيعية، ويأمل الشيعة في حصاد ما لا يقل عن 175 مقعداً من مقاعد المجلس الوطني البالغة 275، أي نحو الثلثين، بينما يتطلع الأكراد إلى ربع المقاعد ويتبقى في النهاية للعرب السنة ما بين 15 - 20% فقط سيشغلها غالباً المتواطئون مع الاحتلال الأمريكي.
خلاصة الشأن الشيعي العراقي أن إيران وأمريكا يتبادلان تحريك تياراته حسب رؤية كل منهما لمصالحه، وفي الفترة الحالية كان تقاطع المصالح بين الشيعة وكلا الدولتين متحققاً بوضوح، ولكن كلما اقترب الشيعة من تحقيق مشروعهم السياسي في الجنوب فإن افتراق المصالح يبدو قريباً، وفي حال بقي نظام طهران قوياً فإنه لن يسمح أبداً بدولة شيعية مستقلة عنه، وفي حال نجح الأمريكان في إسقاط نظام الملالي وإقامة نظام علماني فستفقد أحزاب الشيعة ذات الأجندة الدينية مصدر دعمها الرئيس، وتتحول الدفة إلى الأحزاب العلمانية التي توالي الإدارة الأمريكية، ولا يُتوقع أن تقوم إدارة أمريكية مهما كان توجهها بتكرار التجربة الإيرانية الخمينية مرة أخرى، وهذا يعني أن خيار الدولة المستقلة مجرد سراب يُقاد إليه الشيعة - الفسيفساء.
---------------------------------------
(1) انظر مقال الكاتب اللبناني الشيعي هاني فحص ، الحياة 23-1-2004 م
(2) الرأي العام 21-12-2004م
(3) انظر مقال الكاتب اللبناني الشيعي هاني فحص ، الحياة 23-1-2004 م(/7)
شَتْ ابْ "
>>>> أحمد مطرشَتْ ابْ "
!أنا السببْ .
في كل ما جرى لكم يا أيها العربْ .
سلبتُكم أنهارَكم والتينَ والزيتونَ والعنبْ .
أنا الذي اغتصبتُ أرضَكم
وعِرضَكم ، وكلَّ غالٍ عندكم
أنا الذي طردتُكم
من هضْبة الجولان والجليلِ والنقبْ .
والقدسُ ، في ضياعها ، كنتُ أنا السببْ .
نعم أنا .. أنا السببْ .
أنا الذي لمَّا أتيتُ : المسجدُ الأقصى ذهبْ .
أنا الذي أمرتُ جيشي ، في الحروب كلها
بالانسحاب فانسحبْ .
أنا الذي هزمتُكم
أنا الذي شردتُكم
وبعتكم في السوق مثل عيدان القصبْ .
أنا الذي كنتُ أقول للذي
يفتح منكم فمَهُ : " شَتْ ابْ " !.
***
نعم أنا .. أنا السببْ .
في كل ما جرى لكم يا أيها العربْ .
وكلُّ من قال لكم ، غير الذي أقولهُ ،
فقد كَذَبْ .
فمن لأرضكم سلبْ .؟!
ومن لمالكم نَهبْ .؟!
ومن سوايَ مثلما اغتصبتكم قد اغتَصبْ .؟!
أقولها صريحةً ،
بكل ما أوتيتُ من وقاحةٍ وجرأةٍ ،
وقلةٍ في الذوق والأدبْ .
أنا الذي أخذتُ منكم كل ما هبَّ ودبْ .
ولا أخاف أحداً ، ألستُ رغم أنفكم
أنا الزعيمُ المنتخَبْ .!؟
لم ينتخبني أحدٌ لكنني
إذا طلبتُ منكمو
في ذات يوم ، طلباً
هل يستطيعٌ واحدٌ
أن يرفض الطلبْ .؟!
أشنقهُ ، أقتلهُ ،
أجعلهُ يغوص في دمائه حتى الرُّكبْ .
فلتقبلوني ، هكذا كما أنا ، أو فاشربوا " بحر العربْ " .
ما دام لم يعجبْكم العجبْ .
مني ، ولا الصيامُ في رجبْ .
ولتغضبوا ، إذا استطعتم ، بعدما
قتلتُ في نفوسكم روحَ التحدي والغضبْ .
وبعدما شجَّعتكم على الفسوق والمجون والطربْ .
وبعدما أقنعتكم أن المظاهراتِ فوضى ، ليس إلا ،
وشَغَبْ .
وبعدما علَّمتكم أن السكوتَ من ذهبْ .
وبعدما حوَّلتُكم إلى جليدٍ وحديدٍ وخشبْ .
وبعدما أرهقتُكم
وبعدما أتعبتُكم
حتى قضى عليكمُ الإرهاقُ والتعبْ .
***
يا من غدوتم في يديَّ كالدُّمى وكاللعبْ .
نعم أنا .. أنا السببْ .
في كل ما جرى لكم
فلتشتموني في الفضائياتِ ، إن أردتم ،
والخطبْ .
وادعوا عليَّ في صلاتكم وردِّدوا :
" تبت يداهُ مثلما تبت يدا أبي لهبْ ".
قولوا بأني خائنٌ لكم ، وكلبٌ وابن كلبْ .
ماذا يضيرني أنا ؟!
ما دام كل واحدٍ في بيتهِ، يريد أن،
يسقطني بصوتهِ
وبالضجيج والصَخبْ .؟!
أنا هنا ، ما زلتُ أحمل الألقاب كلها
وأحملُ الرتبْ .
أُطِلُّ ، كالثعبان ، من جحري عليكم فإذا
ما غاب رأسي لحظةً ، ظلَّ الذَنَبْ .!
فلتشعلوا النيران حولي واملأوها بالحطبْ .
إذا أردتم أن أولِّيَ الفرارَ والهربْ .
وحينها ستعرفون ، ربما
،مَن الذي ـ في كل ما جرى لكم ـ
كان السببْ .!؟(/1)
شَرْحُ الوَرقَات
في أصول الفقه
للعلامة جلال الدين محمد بن أحمد المحلي الشافعي
المتوفى سنة 864 هـ
قدم له وحققه وعلق عليه
الدكتور حسام الدين بن موسى عفانه
الأستاذ المشارك في الفقه وأصوله
كلية الدعوة وأصول الدين
جامعة القدس
الطبعة الأولى
1420 هـ - 1999 م
الطبعة الثانية
1420 - 2000
حقوق الطبع محفوظة للمحقق
صف وتنسيق
حذيفة بن حسام الدين عفانه
بسم الله الرحمن الرحيم
بِسمِ الله الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة المحقق
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) سورة آل عمران الآية 102 .
( يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) سورة النساء الآية 1 .
( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا ، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ) سورة الأحزاب الآيتان 70-71 .
وبعد …فإن إمام الحرمين الجويني ، علَمٌ شامخ من أعلام أصول الفقه ، وله باع طويل في هذه المجال ، ويظهر هذا جلياً في مؤلفاته في علم أصول الفقه وهي :
1. البرهان في أصول الفقه .
2. التلخيص في أصول الفقه .
3. الورقات في أصول الفقه .
وكتاب الورقات على صغر حجمه ، يعتبر من أهم المختصرات في علم أصول الفقه .
ولمَّا كان شرح العلامة الشيخ جلال الدين المحلي على الورقات هو أشهر شروحها وأهمها ، قمت بتحقيق هذا الشرح حسب أصول علم التحقيق ، وخدمته خدمة علمية موثقة ، كما سترى إن شاء الله تعالى.
وكان شرح جلال الدين المحلي ، قد طبع مراراً إلا أن طبعاته كلها ، تخلو من توثيق النص وتحقيقه تحقيقاً علمياً، حسب أصول علم تحقيق المخطوطات ، لذا استعنت بالله سبحانه وتعالى ، وجمعت ما استطعت من نسخ الشرح ، ومن نسخ المتن
- وكلها فصلت الكلام عليها في قسم الدراسة - وشرعت في تحقيق هذا الشرح الهام ، لأسهم في إخراج شيء من تراثنا الإسلامي ، ولأقدم الكتاب محققاً ، للمهتمين بعلم أصول الفقه ، ولأقوم ببعض الواجب تجاه عالمين جليلين من علمائنا الأماجد ، وهما إمام الحرمين الجويني وجلال الدين المحلي ، وابتغاء للأجر والثواب من العلي الوهاب .
وقد جعلت عملي على قسمين :
القسم الأول : قسم الدراسة .
القسم الثاني : الكتاب المحقق .
أما القسم الأول فجعلته على مباحث :
المبحث الأول : دراسة حول إمام الحرمين صاحب الورقات وفيها مطلبان :
المطلب الأول : التعريف بإمام الحرمين ويشمل ما يلي :
1. اسمه ونسبه .
2. لقبه وكنيته .
3. مولده .
4. نشأته وطلبه للعلم .
5. شيوخه .
6. تلاميذه .
7. ثناء العلماء عليه .
8. مؤلفاته .
9. وفاته .
المطلب الثاني : التعريف بكتاب الورقات وشروحه ويشمل ما يلي :
1. نسبة الكتاب إلى مؤلفه .
2. الموضوعات التي احتوتها الورقات .
3. أهمية ورقات إمام الحرمين وعناية العلماء بها .
المبحث الثاني في الشارح جلال الدين المحلي ويشمل ما يلي :
1. اسمه ونسبه .
2. لقبه .
3. مولده ونشأته .
4. طلبه للعلم وشيوخه .
5. تلاميذه .
6. أخلاقه وثناء العلماء عليه .
7. مؤلفاته .
8. وفاته .
المبحث الثالث في التعريف بالشرح ويشمل ما يلي :
1. عنوان الكتاب .
2. نسبته إلى المؤلف المحلي .
3. أهمية شرح المحلي .
4. وصف النسخ .
المبحث الرابع : منهجي في التحقيق .
القسم الثاني : شرح المحلي على ورقات إمام الحرمين - محققاً - .
وختاماً أرى لازماً علي أن أتقدم بالشكر والتقدير ، إلى مؤسسة إحياء التراث والبحوث الإسلامية في بيت المقدس - التابعة لوزارة الأوقاف والشؤون الدينية - ممثلة بعميدها وجميع موظفيها ، لما قدموه لي من عون ومساعدة في تصوير النسخ المخطوطة ، وأشكر أيضاً زوجتي أم حذيفه التي قابلت معي نسخ المخطوطات ، وأشكر ابني حذيفة ، الذي قام بصف الكتاب وتنسيقه على جهاز الحاسوب ، وأشكر كل من مدّ لي يد العون والمساعدة فجزى الله الجميع خير الجزاء .
وأخيراً فهذا عملي وجهدي في تحقيق هذا الكتاب - وهو جهد المقلّ - فإن أحسنت فذلك من الله سبحانه وتعالى فله الحمد والفضل ، وإن كانت الأخرى ، فأسأل الله العفو والعافية . وأسأله جلّ جلاله أن يجعل عملي هذا خالصاً ، لوجهه الكريم ، وأن ينفعني به يوم يقوم الناس لرب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(/1)
أبوديس / القدس مساء الجمعة الثالث عشر من رجب 1420 هـ ، وفق الثاني والعشرين من تشرين الأول 1999 م
كتبه : الدكتور حسام الدين بن موسى عفانه
الأستاذ المشارك في الفقه والأصول
كلية الدعوة وأصول الدين / جامعة القدس
القسم الأول
الدراسة
المبحث الأول
دراسة حول إمام الحرمين صاحب الورقات
ويشمل مطلبين :
المطلب الأول : التعريف بإمام الحرمين الجويني
المطلب الثاني : التعريف بكتاب الورقات في أصول الفقه
المطلب الأول
التعريف بإمام الحرمين الجويني بإيجاز ويشمل ما يلي :
أولاً : اسمه ونسبه :
هو عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني النيسابوري (1) ، والجويني نسبة إلى جُوَين ، بضم الجيم وفتح الواو ، وهي إحدى نواحي نيسابور ، حيث ولد أبوه (2) .
ثانياً : لقبه وكنيته :
يكنى بأبي المعالي ، وهي كنية تعظيم وتشريف ، فكأنه يطلب معالي الأمور وأشرفها.
ويلقب بإمام الحرمين ، لمجاورته في مكة أربع سنين يُدَرس ويفتي ، وكذلك جاور بالمدينة أربع سنين ، يُدَرس ويفتي ويجمع طرق المذهب الشافعي (3) .
ثالثاً : مولده :
ولد أبو المعالي في المحرم سنة 419 هـ على أرجح الأقوال (4) .
رابعاً : نشأته وطلبه للعلم :
نشأ أبو المعالي في أسرة ذات فضل وعلم ، فقد اعتنى به والده منذ الصغر ، فقد كان والده أبو محمد فقيهاً ، بل شيخ الشافعية في عصره ، له مؤلفات عديدة ، منها شرح رسالة الإمام الشافعي ، وكان عمه علي بن يوسف الجويني فقيهاً أيضاً .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر ترجمته في طبقات الشافعية الكبرى 5/165 ، سير أعلام النبلاء 18/468 ، البداية والنهاية 12/136 ، هدية العارفين 1/504 ، مقدمة تحقيق البرهان د. عبد العظيم الديب 1/21 ، مقدمة تحقيق التلخيص د.عبد الله النيبالي ، د. شبير العمري 1/23 .
(2) البداية والنهاية 12/136 ، مقدمة تحقيق التلخيص 1/23 .
(3) سير أعلام النبلاء 18/468 الحاشية ، البداية والنهاية 12/136 ، مقدمة تحقيق التلخيص 1/23 .
(4) سير أعلام النبلاء 18/468 ، البداية والنهاية 12/136 ، طبقات الشافعية الكبرى 5/168 .
نشأ أبو المعالي في هذه الأسرة الفاضلة ، فدرس على والده الفقه والأصول والتفسير ، وقرأ جميع مصنفات والده ، ودرس على عدد من العلماء ، ورحل في طلب العلم رحلات عديدة ، استغرقت عشر سنوات من عمره ، فرحل إلى الحجاز وبغداد وخراسان ، والتقى بعدد من الشيوخ الذين أخذ العلم عنهم .
خامساً : شيوخه :
1. والده فقد أخذ عنه الفقه والأصول والتفسير وغيرها من العلوم .
2. أبو القاسم عبد الجبار بن علي المعروف بالإسكاف الإسفرايني توفى سنة 452 هـ ، كان فقيهاً متكلماً ، وقد واظب أبو المعالي على حضور دروسه ، قرأ عليه الأصول وتخرج بطريقته (1) .
3. أبو عبد الله الخبازي ، محمد بن علي النيسابوري المتوفى سنة 449 هـ ، كان شيخ القراء في وقته (2) ، قرأ عليه أبو المعالي القرآن .
4. الحافظ أبو نعيم الأصبهاني ، أحمد بن عبد الله ، كان محدثاً ، فقيهاً المتوفى سنة 430 هـ ، ودرس عليه إمام الحرمين وأجازه (3) .
5. حسين بن محمد المروزي ، المشهور بالقاضي حسين والمتوفى سنة 462 هـ ، وهو شيخ الشافعية بخراسان ، وتفقه عليه إمام الحرمين (4) .
سادساً : تلاميذه :
تتلمذ على إمام الحرمين عدد كبير من التلاميذ أشهرهم :
1. أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي حجة الإسلام والمسلمين ، كان فقيهاً أصولياً متكلماً متصوفاً ، العلم المعروف المتوفى سنة 505 هـ (5) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) طبقات الشافعية الكبرى 5/99 ،سير أعلام النبلاء 18/117 .
(2) سير أعلام النبلاء 18/44 .
(3) سير أعلام النبلاء 17/453 ، طبقات الشافعية الكبرى 4/18 ، مقدمة التلخيص 1/40 .
(4) مقدمة التلخيص 1/40 ، البداية والنهاية 12/136 ، طبقات الشافعية الكبرى 4/357 .
(5) البداية والنهاية 12/185 ، سير أعلام النبلاء 19/322 ، طبقات الشافعية الكبرى 6/191 .
2. علي بن محمد بن علي الطبري المعروف بالكيا الهراسي كان فقيهاً أصولياً مفسراً
محدثاً المتوفى سنة 504 هـ (1) .
3. عبد الرحيم بن عبد الكريم أبو نصر ، المعروف بابن القشيري ، كان فقيهاً مفسراً متكلماً المتوفى سنة 514 هـ (2) .
4. عبد الغافر بن اسماعيل الفارسي النيسابوري ، كان من أعيان المحدثين والمؤرخين ، وكان فقيهاً أديباً المتوفى سنة 529 هـ (3) .
5. أحمد بن محمد بن المظفر النيسابوري الخوافي ، كان من عظماء أصحاب إمام الحرمين ، وكان مشهوراً بحسن المناظرة المتوفى سنة 500 هـ (4) .
سابعاً : ثناء العلماء عليه :(/2)
كان إمام الحرمين محل ثناء العلماء ، وإعجابهم بشخصيته الفذة ، وبعلمه الواسع ، فمن عباراتهم في الثناء عليه - وقد كان أهلاً للثناء - :
1. قال أبو سعد السمعاني :( كان أبو المعالي إمام الأئمة على الإطلاق مجمعاً ، على إمامته ، شرقاً وغرباً ، لم تر العيون مثله ) (5) .
2. قال أبو الحسن الباخرزي في حقه :( الفقه فقه الشافعي ، والأدب أدب الأصمعي، وفي الوعظ الحسن الحسن البصري ، وكيف ما هو فهو إمام كل إمام ، والمستعلي بهمته على كل همام ، والفائز بالظفر على إرغام كل ضرغام ، إن تصدر للفقه فالمزني من مزنته ، وإذا تكلم فالأشعري شعرة من وفرته ) (6) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) البداية والنهاية 12/184 ، سير أعلام النبلاء 19/350 ، طبقات الشافعية الكبرى 7/231 .
(2) البداية والنهاية 12/200 ، سير أعلام النبلاء 19/424 ، طبقات الشافعية الكبرى 7/159 .
(3) سير أعلام النبلاء 20/16 ، طبقات الشافعية الكبرى 7/171 .
(4) البداية والنهاية 12/179 ، طبقات الشافعية الكبرى 6/63 .
(5) سير أعلام النبلاء 18/469 .
(6) المصدر السابق 18/476-477 .
3. وقال أبو إسحاق الشيرازي :( تمتعوا بهذا الإمام ، فإنه نزهة هذا الزمان ، يعني إمام الحرمين ) (1) .
وقال له مرةً :( أنت اليوم إمام الأئمة ) (2) .
4. وقال شيخ الإسلام أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني ، وقد سمع كلام إمام الحرمين في بعض المحافل :( صرف الله المكاره عن هذا الإمام ، فهو اليوم قرة عين الإسلام ، والذاب عنه بحسن الكلام ) (3) .
5. وقال الحافظ عبد الغافر الفارسي :( إمام الحرمين فخر الإسلام ، إمام الأئمة على الإطلاق ، حبر الشريعة المجمع على إمامته شرقاً وغرباً ، المقر بفضله السراة والحداة عُجْماً وعُرْباً ، من لم تر العيون مثله قبله ) (4) .
ثامناً : مؤلفاته :
ألف إمام الحرمين كتباً كثيرة في مختلف العلوم فمن ذلك :
1. البرهان في أصول الفقه وهو من أعظم المؤلفات في فنه .
2. التلخيص في أصول الفقه .
3. الورقات في أصول الفقه .
4. نهاية المطلب في دراية المذهب في الفقه الشافعي .
5. مغيث الخلق في ترجيح القول الحقّ .
6. الكافية في الجدل .
7. الأساليب .
8. العمد .
9. العقيدة النظامية .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) طبقات الشافعية الكبرى 5/172 .
(2) المصدر السابق 5/173 .
(3) المصدر السابق 5/173 .
(4) المصدر السابق 5/174 .
10. الشامل في أصول الدين (1) .
وغير ذلك من المؤلفات .
تاسعاً : وفاته :
توفي إمام الحرمين بعد حياة حافلة بالبذل والعطاء ، في الخامس والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة 478 هـ (2) .
وتأسف عليه الخاصة والعامة ، رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر تفصيل الكلام على مؤلفات إمام الحرمين في مقدمة التلخيص 1/46-57 ، مقدمة البرهان 1/39 ، مقدمة الأنجم الزاهرات 19-22 .
(2) سير أعلام النبلاء 18/476 ، طبقات الشافعية الكبرى 5/181 .
المطلب الثاني
التعريف بكتاب الورقات لإمام الحرمين
أولاً : نسبة الكتاب إلى مؤلفه وعنوانه :
نسبة متن ( الورقات في أصول الفقه ) ، إلى إمام الحرمين الجويني ، من المسلّمات عند العلماء ، فمعظم الذين ترجموا لإمام الحرمين ، نسبوا له (الورقات في أصول الفقه) ، كما أن معظم نسخ الورقات المخطوطة ، قد ثبت فيها أنه منسوب لإمام الحرمين (1) ، فقد جاء على غلاف النسخة التي رمزت لها بالحرف "و" :
( كتاب الورقات في أصول الفقه للشيخ الإمام العالم العلامة أبي المعالي عبد الملك بن الشيخ أبي محمد … الشهير بإمام الحرمين ) (2) .
وجاء في مقدمة النسخة "ص" : ( قال الشيخ الإمام العالم العلامة إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك بن أبي محمد الجويني … )
ومثل ذلك جاء في مقدمة النسخة "و" (3) .
وجاءت تسميته بالورقات ، من قول إمام الحرمين في أوله :( هذه ورقات تشتمل على معرفة فصول من أصول الفقه ) (4) .
وقد رجح د. عبد الكريم النملة ، أن عنوان الكتاب هو ( الورقات في أصول الفقه)، وليس ( الورقات في الأصول ) ، كما ورد في بعض النسخ ، فقال :( ولكن الراجح عندي أنه ( الورقات في أصول الفقه ) لأمرين :
الأول : أن إمام الحرمين نص على ذلك بقوله : وبعد فهذه ورقات تشتمل على أصول الفقه .(/3)
الثاني : أن لفظ " الأصول " يحتمل أن يكون الكتاب شاملاً لأصول الدين وأصول الفقه ، والحق أن الكتاب كله يتكلم عن موضوعات أصول الفقه فقط ، ولم يتعرض
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مقدمة الأنجم الزاهرات ص 25 .
(2) انظر صورة النسخة "و" ورقة الغلاف .
(3) انظر صورة النسخة "و" ورقة 2 ، انظر صورة النسخة "ص" ورقة 1 .
(4) انظر ص 59 من هذا الكتاب .
لمسائل أصول الدين لا من قريب ولا من بعيد ، والله أعلم ) (1) .
وما قرره د. عبد الكريم النملة وجيه جداً ، فقد جاء عنوان الكتاب على غلاف النسخة "و" : الورقات في أصول الفقه (2) .
وكذلك فإن كثيراً من الشراح الذين شرحوا الورقات ، نسبوه لإمام الحرمين ، بل إن بعضهم أورد اسم الإمام في عنوان كتابه فمن ذلك :
1. شرح الحطاب المسمى ( قرة العين بشرح ورقات إمام الحرمين ) .
2. قال العمريطي في نظمه للورقات : وخير كتبه الصغار ما سمي ( بالورقات للإمام الحرمي ) .
3. قال شمس الدين المارديني في مقدمة كتابه ( شرح الأنجم الزاهرات على حل ألفاظ الورقات ):( … فقد سألني بعض الإخوان حفظه الله تعالى أن أشرح له الورقات التي للإمام العالم العلامة إمام الحرمين أبي المعالي ) (3) .
4. وقال ابن قاوان في ( التحقيقات في شرح الورقات ) ما نصه : ( وكان أحسن ما صنف فيه - أصول الفقه - وأنفع للمبتدئ من المختصرات ، وأجمع وأنقح وألخص لما في المطولات ، ورقات إمام الدنيا والدين ناصر الإسلام والمسلمين أبي المعالي عبد الملك بن الشيخ أبي محمد الملقب بإمام الحرمين …) (4) .
5. جاء في مقدمة حاشية المحقق أحمد بن محمد الدمياطي على شرح المحلي ما نصه :( فهذه تقريرات شريفة … على شرح ورقات إمام الحرمين الجويني للشيخ جلال الدين المحلي … ) (5) .
ثانياً : الموضوعات التي احتوتها ورقات إمام الحرمين :
احتوى كتاب الورقات على معظم مباحث علم أصول الفقه ، وقدم إمام الحرمين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مقدمة شرح الأنجم الزاهرات ص 25 .
(2) انظر صورة الغلاف من النسخة " و ".
(3) الأنجم الزاهرات ص 65 .
(4) التحقيقات ص 83 .
(5) حاشية الدمياطي ص 2 .
مقدمة ثم ذكر أبواب أصول الفقه .
وقد احتوت المقدمة على ما يلي :
- معنى أصول الفقه .
- تعريف الأصل .
- تعريف الفرع .
- تعريف الفقه .
- أنواع الحكم السبعة وهي : الواجب ، والمندوب ، والمباح ، والمحظور ، والمكروه ، والصحيح ، والباطل .
- بيان الفرق بين الفقه والعلم والظن والشك .
ثم ذكر أبواب أصول الفقه التالية :
1. أقسام الكلام .
2. الأمر والنهي .
3. العام والخاص .
4. المجمل والمبين .
5. الظاهر والمؤول .
6. الأفعال .
7. الناسخ والمنسوخ .
8. الإجماع .
9. الأخبار .
10. القياس .
11. الحظر والإباحة .
12. ترتيب الأدلة .
13. صفة المفتي والمستفتي .
14. أحكام المجتهدين .
ثالثاً : أهمية ورقات إمام الحرمين وعناية العلماء بها :
لقي كتاب الورقات عناية فائقة من العلماء ، فشرحه جماعة منهم وقد وقفت على أكثر من ثلاثين عمل ، ما بين شرح وحاشية ونظم وهي :
1. شرح أبو عمرو عبد الرحمن بن الصلاح المتوفى سنة 643 هـ (1) .
2. شرح تاج الدين عبد الرحمن بن ابراهيم الفزاري ، المتوفى سنة 690 هـ (2) .
3. شرح ابن إمام الكاملية ، محمد بن محمد بن يوسف الكمال المتوفى 874 هـ (2)
4. شرح محمد بن عثمان بن علي المارديني المتوفى سنة 871 المسمى ( الأنجم الزاهرات على حل ألفاظ الورقات ) (3) .
5. شرح الشيخ قاسم بن قطلوبغا الحنفي المتوفى سنة 879 هـ (4) .
6. شرح حسين بن أحمد الكيلاني ، المعروف بابن قاوان ، المتوفى سنة 889 هـ المسمى ( التحقيقات في شرح الورقات ) (5) .
7. شرح سراج الدين عمر بن أحمد البلبيسي المتوفى سنة 878 هـ ، واسم شرحه ( التحقيقات في الورقات ) (6) .
8. شرح أحمد بن محمد بن زكري التلمساني المتوفى سنة 900 هـ ، واسم شرحه ( غاية المرام في شرح مقدمة الإمام ) (7) .
9. شرح محمد بن محمد الرعيني ، المعروف بالحطاب المتوفى سنة 954 هـ ، واسم شرحه ( قرة العين بشرح ورقات إمام الحرمين ) (8) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كشف الظنون 2/796 ، تاريخ الأدب العربي 7،8/40.
(2) المصدر السابق 2/796 ، فهرس مخطوطات المكتبة البديرية 1/276 .
(3) مقدمة محقق الأنجم الزاهرات ص 51 .
(4) كشف الظنون 2/796 .
(5) مقدمة التحقيقات ص 59 .
(6) هدية العارفين 1/632 ، الضوء اللامع 6/ 72 .(/4)
(7) كشف الظنون 2/796 ، تاريخ الأدب العربي 7،8/40 ، معجم المؤلفين 1/265.
(8) هدية العارفين 2/192 .
10. شرح شهاب الدين أحمد الرملي المتوفى سنة 975 هـ ، واسم شرحه ( غاية المأمول في شرح ورقات الأصول ) (1) .
11. شرح أحمد بن قاسم العبادي المتوفى سنة 992 هـ ، المسمى ( شرح الورقات الكبير ) (2) .
12. وله شرح آخر اسمه ( شرح الورقات الصغير ) (3) .
13. حاشية على شرح المحلي على الورقات لأحمد بن أحمد بن عبد الحق السنباطي المتوفى سنة 994 هـ (4) .
14. شرح منصور الطبلاوي المتوفى سنة 1014 هـ (5) .
15. شرح إبراهيم بن أحمد بن الملا الحنفي المتوفى سنة 1030 هـ ، المسمى
( جامع المتفرقات من فوائد الورقات ) وهو شرح مطوّل (6) .
16. وله شرح متوسط اسمه ( التحارير والملحقات والتقارير المحققات ) (7) .
17. وله شرح مختصر اسمه ( كفاية الرقاة إلى عرف الورقات ) (8) .
18. حاشية على شرح المحلي لأحمد بن احمد القيلوبي المتوفى سنة 1069 هـ (9) .
19. حاشية على شرح العبادي الصغير لنور الدين علي الشبراملسي المتوفى سنة 1078 هـ (10) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الأدب العربي 7،8/40، مقدمة التحقيقات ص 54 .
(2) كشف الظنون 2/796 ، تاريخ الأدب العربي 7،8/40 .
(3) المصدران السابقان .
(4) هدية العارفين 1/123 .
(5) فهرس مخطوطات المكتبة البديرية 1/277
(6) كشف الظنون 2/796 .
(7) المصدر السابق .
(8) المصدر السابق .
(9) مقدمة التحقيقات ص 55 .
(10) هدية العارفين 1/608 .
20. حاشية على شرح المحلي ، لأحمد بن محمد الدمياطي المتوفى 1117 هـ (1) .
21. حاشية النفحات على شرح المحلي على الورقات ، لأحمد بن عبد اللطيف الخطيب الجاوي المتوفى سنة 1306 هـ (2) .
22. حاشية السوسي على قرة العين شرح ورقات إمام الحرمين ، لمحمد بن حسين السوسي التونسي (3) .
23. شرح البخاري على شرح المحلي ، لعلي بن أحمد البخاري الشعراني (4) .
24. التعليقات على الورقات لعبد الرحمن بن حمد الجطليلي (5) .
25. شرح شرف الدين يونس بن عبد الوهاب العيثاوي المتوفى سنة 978 هـ (6).
26. شرح يحيى بن عبد الله المصري المتوفى 1015 هـ .
27. شرح محمد المرابط بن محمد المغربي المالكي المسمى ( المعارج المرتقات إلى معاني الورقات ) (8) .
وقد نظم جماعة من العلماء الورقات ، فممن نظمها :
28. يحيى بن موسى بن رمضان العمريطي المتوفى سنة 890 هـ ، وسماه ( تسهيل الطرقات لنظم الورقات ) ، وشرحه عبد الحميد بن محمد بن قدس الشافعي (9) .
29. شهاب الدين أحمد بن محمد الطوفي المتوفى سنة 893 هـ (10) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مقدمة التحقيقات ص 55 .
(2) المصدر السابق ص 56 .
(3) المصدر السابق .
(4) المصدر السابق .
(5) المصدر السابق .
(6) هدية العارفين 2/444 .
(7) المصدر السابق 2/414 .
(8) المصدر السابق 2/233 .
(9) مقدمة التحقيقات ص 56 .
(10) كشف الظنون 2/796 .
30. محمد بن إبراهيم المفضل اليمني المتوفى سنة 1085 هـ (1) .
31. محمد بن قاسم بن زاكور الفاسي المالكي المتوفى سنة 1120 هـ (2) .
32. أبو بكر بن أبي القاسم بن احمد الحسيني اليمني المتوفى سنة 1035 هـ (3) .
33. أبو عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الجزائري وسماه ( سلم الوصول إلى علم الأصول في نظم الورقات لإمام الحرمين ) (4) .
34. نظم مع شرح عنوانه ( أقدس الأنفس ) لمحمد مصطفى ماء العينين المغربي المتوفى سنة 1328 هـ (5) .
35. شرح جلال الدين المحلي وهو الكتاب الذي أحققه .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كشف الظنون 2/796 .
(2) هدية العارفين 2/243 .
(3) المصدر السابق 1/197 .
(4) المصدر السابق 2/310 .
(5) تاريخ الأدب العربي 7،8/41 .
المبحث الثاني
دراسة حول الشارح جلال الدين المحلي
وتشمل ما يلي :
1. اسمه ونسبه .
2. لقبه .
3. مولده ونشأته .
4. طلبه للعلم وشيوخه .
5. أخلاقه وثناء العلماء عليه .
6. تلاميذه .
7. مؤلفاته .
8. وفاته .
أولاً : اسمه ونسبه :
هو محمد بن أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن هاشم ، الجلال أبو عبد الله بن الشهاب أبي العباس بن الكمال الأنصاري المحلي القاهري الشافعي (1) .
وهو منسوب إلى المحلة الكبرى من الغربية وهي مدينة مشهورة في مصر (2) .
ثانياً : لقبه :
يعرف بالجلال المحلي ، أو جلال الدين المحلي (3) ، وأطلق عليه ابن العماد لقب ( تفتازاني العرب ) (4) .
ثالثاً : مولده ونشأته :(/5)
ذكر السخاوي أنه رأى بخط جلال الدين المحلي ، أنه ولد في مستهل شوال سنة إحدى وتسعين وسبعمائة بالقاهرة (5) ، ونشأ في القاهرة .
رابعاً : طلبه للعلم وشيوخه :
ذكر السخاوي أنه نشأ في القاهرة ، وقرأ القرآن وكتباً ، واشتغل في عدة فنون، فدرس الفقه وأصوله ، والعربية والنحو والفرائض ، والحساب والمنطق والجدل ، والبيان والمعاني والعروض ، ودرس التفسير وأصول الدين وعلوم الحديث ، وتفنن في العلوم العقلية والنقلية . وذكر السخاوي أيضاً أنه درس على شمس الدين البرماوي ، الفقه وأصوله والعربية ، وأخذ الفقه عن إبراهيم البيجوري ، والجلال البلقيني ، والولي العراقي ، وأخذ أصول الفقه عن العز بن جماعة ، وأخذ النحو عن الشهاب العجيمي والشمس الشطنوفي ، وأخذ الفرائض والحساب عن ناصر الدين بن أنس المصري الحنفي ، وأخذ المنطق والجدل والمعاني والبيان والعروض وأصول الفقه ، عن البدر الأقصرائي ، وأخذ التفسير واصول الدين عن البساطي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هكذا ساق اسمه تلميذه شمس الدين السخاوي في الضوء اللامع 7/39 ، وانظر البدر الطالع 2/115 ، الأعلام 5/333 ، حسن المحاضرة 1/443 ،شذارت الذهب 7/303 .
(2) الضوء اللامع 7/39 .
(3) الضوء اللامع 7/39 ، الأعلام 5/333 .
(4) شذرات الذهب 7/303 .
(5) الضوء اللامع 7/39 ، شذرات الذهب 7/303 .
وأخذ علوم الحديث عن الولي العراقي وعن الحافظ ابن حجر العسقلاني (1) .
وتتلمذ على عدد كبير من الشيوخ أذكرهم بإيجاز :
1. سراج الدين بن الملقن المتوفى سنة 804 هـ (2) .
2. سراج الدين البلقيني المتوفى سنة 805 هـ (3) .
3. برهان الدين إبراهيم الأبناسي المتوفى سنة 801 هـ (4) .
4. سراج عبد اللطيف بن أحمد الفوي المتوفى سنة 802 هـ (5) .
5. بدر الدين أحمد بن محمد الطبندي المتوفى سنة 809هـ (6) .
6. محمد بن موسى الدميري المتوفى سنة 808 هـ (7) .
7. محمد بن أنس بن أبي بكر الطبنداوي المتوفى سنة 809 هـ (8) .
8. أحمد بن عماد الأقفهسي المتوفى سنة 808 هـ (9) .
9. شمس الدين محمد بن أحمد الغَّراقي المتوفى سنة 816 هـ (10) .
10. عز الدين بن جماعة المتوفى سنة 819 هـ (11) .
11. بدر الدين محمد بن محمد الأقصرائي المتوفى سنة 825 هـ (12) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الضوء اللامع 7/39-40 ، وانظر حسن المحاضرة 1/443 ، شذرات الذهب 7/303 ، البدر الطالع 2/115 .
(2) حسن المحاضرة 1/367 ، شذرات الذهب 7/170 .
(3) شذرات الذهب 7/176 ، البدر الطالع 1/506 .
(4) حسن المحاضرة 1/366 ، شذرات الذهب 7/125 .
(5) شذرات الذهب 7/140 .
(6) شذرات الذهب 7/208 .
(7) الضوء اللامع 10/59 ، حسن المحاضرة 1/366 .
(8) الضوء اللامع 7/148 ، شذرات الذهب 7/211 .
(9) حسن المحاضرة 1/367 ، شذرات الذهب 7/199 .
(10) شذرات الذهب 7/122 ، الضوء اللامع 3/307 .
(11) الضوء اللامع 7/171 ، شذرات الذهب 7/268 . (12) شذرات الذهب 7/303 .
12. عز الدين محمد بن أحمد بن خضر المتوفى سنة 818 هـ (1) .
13. شهاب الدين أحمد المغراوي المالكي المتوفى سنة 820 هـ (2) .
14. شرف الدين ابن الكويك الربعي المتوفى سنة 821 هـ (3) .
15. أبو زرعة ولي الدين العرافي المتوفى سنة 826 هـ (4) .
16. شمس الدين محمد بن عبد الماجد العجيمي المتوفى سنة 822 هـ (5) .
17. محمد بن سعد المعروف بابن الديري المتوفى سنة 827 هـ (6) .
18. شمس الدين البرماوي المتوفى سنة 831 هـ (7) .
19. شمس الدين محمد بن إبراهيم الشطنوفي المتوفى سنة 832 هـ (8) .
20. شمس الدين بن الجزري المتوفى سنة 833 هـ (9) .
21. علاء الدين علي بن محمد البخاري المتوفى سنة 841 هـ (10) .
22. شمس الدين محمد بن أحمد الطائي البساطي المتوفى سنة 842 هـ (11) .
23. شمس الدين محمد بن إسماعيل الونائي المتوفى سنة 849 هـ (12) .
24. شمس الدين محمد بن علي القاياتي المتوفى سنة 850 هـ (13) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الضوء اللامع 7/60 ، شذرات الذهب 7/262 .
(2) الضوء اللامع 9/111 .
(3) شذرات الذهب 7/282 .
(4) الضوء اللامع 1/336 ، البدر الطالع 1/72 .
(5) الضوء اللامع 8/122 ، شذرات الذهب 7/288 .
(6) حسن المحاضرة 1/392 ، شذرات الذهب 7/313 .
(7) الضوء اللامع 7/280 ، البدر الطالع 2/181 .
(8) شذرات الذهب 7/339 .
(9) المصدر السابق 7/336 .
(10) حسن المحاضرة 1/449 .
(11) المصدر السابق 1/384 .(/6)
(12) المصدر السابق 1/368 . (13) المصدر السابق 1/369 .
25. الحافظ ابن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852 هـ (1) .
26. نظام الدين يحي بن يوسف السيرامي المتوفى سنة 833 هـ (2) .
27. إبراهيم البيجوري المتوفى سنة 825 هـ (3) .
28. إسماعيل بن أبي الحسن البرماوي المتوفى سنة 834 هـ (4) .
خامساً : تلاميذه :
تتلمذ علي الجلال المحلي عدد كبير من التلاميذ ، وخاصة أنه تولى التدريس في بعض مدارس القاهرة ، فقد تولى تدريس الفقه في المدرسة البرقوقية ، كما تولى التدريس في المدرسة المؤيدية ، بعد وفاة الحافظ ابن حجر .
ومن تلاميذه الذين وقفت عليهم :
1. جلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911 هـ (5) .
2. شمس الدين السخاوي المتوفى 892 هـ (6) .
3. نور الدين السمهودي المتوفى سنة 911 هـ (7) .
4. إبراهيم بن محمد بن أبي شريف المقدسي المتوفى 923 هـ (8) .
5. سبط الحافظ ابن حجر ، يوسف بن شاهين العلائي المتوفى سنة 899 هـ (9) .
6. أحمد بن محمد بن إبراهيم البيجوري (10) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) حسن المحاضرة 1/310 ، شذرات الذهب 7/407 ، الضوء اللامع 2/36 .
(2) الضوء اللامع 10/266 ، شذرات الذهب 7/338 .
(3) الضوء اللامع 1/17 ، حسن المحاضرة 1/368 .
(4) الضوء اللامع 2/295 ، شذرات الذهب 7/340 .
(5) حسن المحاضرة 1/188 ، البدر الطالع 1/228 .
(6) الضوء اللامع 8/2 .
(7) البدر الطالع 1/470 ، الضوء اللامع 5/245 .
(8) البدر الطالع 1/26، الضوء اللامع 1/134 .
(9) البدر الطالع 2/354 .
(10) الضوء اللامع 2/65 .
7. أحمد بن محمد المنوفي ، قاضي منوف (1) .
8. عبد الرحمن بن أحمد بن محمد الأنصاري القمولي المتوفى سنة 864 هـ (2) .
9. محمد بن عبد الله بن قاضي عجلون المتوفى سنة 876 هـ (3) .
10. عبد الحق بن محمد السنباطي (4) .
11. محمد بن عبد المنعم الجرجري (5) .
12. محمد بن محمد بن أحمد الدمشقي (6) .
13. محمد بن محمد بن عبد الرحمن البلقيني المتوفى سنة 890 هـ (7) .
14. محمد بن محمد المهلبي الفيومي 893 هـ (8) .
15. يحي بن محمد بن سعد المعروف بالقباني المتوفى سنة 900 هـ (9) .
16. أبو بكر بن عبد الله بن عبد الرحمن (10) .
17. محمد بن داود البازلي (11) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الضوء اللامع 2/181 .
(2) المصدر السابق 4/56 .
(3) البدر الطالع 1/197 .
(4) الكوكب المنير 1/222 .
(5) البدر الطالع 1/200 .
(6) المصدر السابق 1/242 .
(7) المصدر السابق 2/243 .
(8) المصدر السابق 2/241 .
(9) المصدر السابق 2/342 .
(10) الكواكب السائرة 1/115 .
(11) المصدر السابق 1/47 .
سادساً : أخلاقه وثناء العلماء عليه :
اتصف جلال الدين المحلي بصفات العلماء العاملين ، فكان مُهاباً وقوراً ، عليه سيما الخير ، وقد اعتبره تلميذه السخاوي من الأولياء الصالحين (1) .
وكان رجّاعاً إلى الحق ، إذا ظهر له الصواب على لسان من كان رجع إليه ، لشدة تحرزه .
وكان زاهداً في المناصب ، فقد عرض عليه القضاء بعد وفاة الحافظ ابن حجر فأبى ، وقال للسلطان إنه عاجز عن تولي هذا المنصب .
وكان يقول لأصحابه إنه لا طاقة لي على النار (2) .
وكان المحلي شديد الذكاء ، حيث قال بعض العلماء عنه : إن ذهنه يثقب الماس . وكان رحمه الله يقول عن نفسه : إن فهمي لا يقبل الخطأ . وكان حادّ القريحة قوي الحجة ، كما أنه كان حاد المزاج ، ولا سيما في الحرّ كما قال تلميذه السخاوي (3) .
ومن ثناء العلماء عليه :
1. قال السخاوي :( … وكان إماماً علامة محققاً نظاراً مفرط الذكاء ، صحيح
الذهن … ) (4) .
2. قال السيوطي :( وكان غرة هذا العصر في سلوك طريق السلف ، على قدم من الصّلاح والورع ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، يواجه بذلك الظلمة والحكام ويأتون إليه ، فلا يلتفت إليهم ولا يأذن لهم بالدخول عليه ) (5) .
3. قال ابن العماد الحنبلي :( جلال الدين محمد … المحلي الشافعي ، تفتازاني العرب الإمام العلامة… وبرع في الفنون ، فقهاً وكلاماً وأصولاً ونحواً ومنطقاً ) (6).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الضوء اللامع 7/41 .
(2) الضوء اللامع 7/41 ، الأعلام 5/333 .
(3) الضوء اللامع 7/40 .
(4) المصدر السابق 7/41 .
(5) حسن المحاضرة 1/443 .
(6) شذارت الذهب 7/303 .
4. وقال محمد ابن إياس الحنفي :( … وكان عالماً فاضلاً بارعاً في العلوم ديناً خيراً عارفاً بالفقه … ) (1) .(/7)
5. وقال عمر رضا كحالة :( … مفسر فقيه متكلم أصولي نحوي منطقي …) (2) .
سابعاً : مؤلفاته :
1. تفسير القرآن الكريم من أول سورة الكهف إلى آخر القرآن الكريم.
قال السيوطي :( وأجل كتبه التي لم تكمل " تفسير القرآن " ، كتب منه من أول سورة الكهف إلى آخر القرآن ، في أربعة عشر كراساً … وهو ممزوج محرر في غاية الحسن ، وكتب على الفاتحة وآيات يسيرة من البقرة ، وقد أكملته على نمطه من أول البقرة إلى آخر الإسراء ) (3) .
وهو مع كونه صغير الحجم كبير المعنى ، لأنه لب لباب التفاسير (4) ، وهو المعروف بتفسير الجلالين وهو مطبوع .
2. شرح جمع الجوامع في أصول الفقه لتاج الدين عبد الوهاب بن السبكي ، وهو أحسن شروح جمع الجوامع ، وهو شرح مفيد ممزوج في غاية التحرير والتنقيح(5) وسماه ( البدر الطالع بشرح جمع الجوامع ) (6) وهو مطبوع .
3. شرح ورقات إمام الحرمين وهو محل التحقيق وسيأتي الكلام عليه .
4. شرح منهاج الإمام النووي في الفقه الشافعي ، وسماه ( كنز الراغبين شرح منهاج الطالبين ) (7) وهو مطبوع .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) بدائع الزهور في وقائع الدهور 2/355 .
(2) معجم المؤلفين 3/93 .
(3) حسن المحاضرة 1/444 .
(4)كشف الظنون 1/365 ، الضوء اللامع 7/40 ، الأعلام 5/333 .
(5) كشف الظنون 1/467 ، حسن المحاضرة 1/444 ، الضوء اللامع 7/39 ، الأعلام 5/333 ، الفتح المبين 3/40 .
(6) هدية العارفين 2/161 .
(7) هدية العارفين 2/161 ، كشف الظنون 2/699 ، الضوء اللامع 7/39 ، الفتح المبين 3/40 ، الأعلام 5/333 .
5. مختصر التنبيه في فروع الشافعية لأبي إسحاق الشيرازي (1) .
6. شرح تسهيل الفوائد في النحو ، لم يكمل (2) ، وتسهيل الفوائد لابن مالك النحوي .
7. الجهر بالبسملة (3) .
8. شرح الإعراب عن قواعد الإعراب (4) ، وهو مختصر مشهور بقواعد الإعراب .
9. شرح مقصورة ابن حازم ولم يكمله (5) .
10. كنز الذخائر في شرح التائية (6) .
11. مناسك الحج (7) .
12. القول المفيد في النيل السعيد (8) .
13. الأنوار المضية شرح مختصر البردة (9) .
14. الطب النبوي (10) .
15. كتاب في الجهاد (11) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كشف الظنون 1/398 ، حسن المحاضرة 1/444 .
(2) هدية العارفين 2/161 ، حسن المحاضرة 1/444 .
(3) هدية العارفين 2/161 ، كشف الظنون 1/486 .
(4) هدية العارفين 2/161 ، كشف الظنون 1/153 ، حسن المحاضرة 1/444 .
(5) هدية العارفين 2/161 ، كشف الظنون 2/650 .
(6) هدية العرفين 2/161 ، إيضاح المكنون 2/257 .
(7) هدية العارفين 2/161 ، الفتح المبين 3/40 ، كشف الظنون 2/669 ، حسن المحاضرة 1/444 .
(8) الأعلام 5/333 .
(9) كشف الظنون 2/297 ، إيضاح المكنون 1/95 ، الأعلام 5/333 ، الفتح المبين 3/40، حسن المحاضرة 1/444 .
(10) الأعلام 5/333 .
(11) الفتح المبين 3/40 .
15. شرح الشمسية في المنطق لنجم الدين القزويني (1) .
16. حاشية على شرح جامع المختصرات في فروع الشافعية ، والجامع وشرحه للشيخ كمال الدين أحمد بن عمر النشائي المدلجي الشافعي المتوفى سنة 757 هـ فوضع جلال الدين المحلي حاشية على الشرح (2) .
17. تعليقة على جواهر البحرين في الفروع لجمال الدين الإسنوي (3) .
18. شرح عروض أندلسي لأبي الجيش الأنصاري ، ولكن المحلي لم يكمله (4) .
ثامناً : وفاته :
أصاب الشيخ جلال الدين المحلي الإسهال من منتصف شهر رمضان 863 هـ وأستمر مريضاً إلى أن توفاه الله سبحانه وتعالى في يوم السبت أول المحرم سنة 864 هـ (5) ، عن إحدى وسبعين سنة وبضعة أشهر رحمه الله رحمة واسعة .
قال السخاوي :( وصلي عليه بمصلى باب النصر ، في مشهد حافل جداً ، ثم دفن عند آبائه بتربته التي أنشأها … وتأسف الناس عليه كثيراً وأثنوا عليه جميلاً ) (6)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كشف الظنون 2/90 ، حسن المحاضرة 1/444 .
(2) كشف الظنون 1/452 ، حسن المحاضرة 1/444 .
(3) كشف الظنون 1/479 ، حسن المحاضرة 1/444 .
(4) كشف الظنون 2/146 .
(5) انظر الضوء اللامع 7/41 ، حسن المحاضرة 1/444 ، بدائع الزهور 2/355 .
(6) الضوء اللامع 7/41 .
المبحث الثالث
التعريف بالشرح
ويشمل ما يلي :
1. عنوان الكتاب .
2. نسبة الكتاب إلى مؤلفه .
3. أهمية شرح جلال الدين المحلي .
4. وصف النسخ .
أولاً : عنوان الكتاب :(/8)
لم يسمِّ الشارح كتابه باسم خاص ، فلم يرد في أي من النسخ ، عنوان لهذا الشرح وإنما اشتهر وعرف بين أهل العلم ، بشرح المحلي على الورقات .
قال العبادي في مقدمة شرحه الصغير :( هذا شرح لطيف ومجموع شريف للورقات وشرحها ، للعلامة الجلال المحلي رحمه الله ) (1) .
وجاء في مقدمة حاشية الدمياطي :( فهذه تقريرات شريفة وعبارات لطيفة ، لشيخنا علاّمة مصره ، وفريد عصره ، الشيخ أحمد بن محمد الدمياطي الشافعي ، مفتي بلد الله الحرام مكة المكرمة ، تغمده الله بالرحمة والرضوان ، على شرح ورقات أبي المعالي إمام الحرمين للشيخ جلال الدين المحلي … ) (2) .
ثانياً : نسبة الكتاب إلى مؤلفه :
نسب هذا الشرح للشيخ جلال الدين المحلي ، معظم الذين ترجموا له ، أو تحدثوا عن ورقات إمام الحرمين فمن ذلك :
1. نسبه إليه صاحب كشف الظنون حيث قال :( وشرحه - أي الورقات - الشيخ جلال الدين محمد بن أحمد المحلي الشافعي المتوفى سنة 864 هـ ) (3) .
2. نسبه إليه إسماعيل باشا البغدادي فقال معدداً مؤلفات المحلي :( شرح الورقات لإمام الحرمين في الأصول ) (4) .
3. نسبه إليه السخاوي في الضوء اللامع (5) .
4. ونسبه إليه خير الدين الزركلي في الأعلام (6) .
5. ونسبه إليه عمر رضا كحالة في معجم المؤلفين (7) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) شرح العبادي ص 2 .
(2) حاشية الدمياطي ص 2 .
(3) كشف الظنون 2/796 .
(4) هدية العارفين 2/161 .
(5) الضوء اللامع 7/40 .
(6) الأعلام 5/333 .
(7) معجم المؤلفين3/93 .
6. ونسبه إليه الشيخ عبد الله المراغي في الفتح المبين (1) .
ومما يؤكد نسبة هذا الشرح للشيخ جلال الدين المحلي ، أنه ورد على نسخ الشرح منسوباً إليه ، فمن ذلك ما ورد على غلاف النسخة "أ" :( هذا شرح الورقات للمحقق المحلي في الأصول ) (2) .
وكذلك ورد على غلاف النسخة "ب" :( هذا كتاب شرح الورقات للشيخ الإمام العالم العلامة علامة المحققين رحلة الفقهاء والأصوليين ، أبو عبد الله جلال الدين المحلي المصري الشافعي … ) (3) .
وكذلك ورد على غلاف النسخة "ج" :( كتاب شرح الورقات للشيخ الإمام والعلامة الهمام محمد بن محمد بن أحمد المحلي الشافعي … ) (4) .
وبهذا يظهر لنا بما لا يدع مجالاً للشك ، أن هذا الشرح هو للشيخ جلال الدين المحلي ، والله أعلم .
ثالثاً : أهمية شرح جلال الدين المحلي :
يعتبر شرح جلال الدين المحلي أهم شروح الورقات وأحسنها ، حيث إنه كثير الفوائد والنكت ، انتفع به أكثر الطلاب (5) ، واستفاد منه كثير من شرَّاح الورقات الذين جاءوا بعده ، ولكن شرح المحلي صعب العبارة ، غامض الإشارة ، لذلك كان بحاجة إلى شرح آخر ، يحل غوامضه ، ويبين المراد من عبارته ، فتصدى لذلك بعض العلماء ، فمنهم من شرحه ، ومنهم من وضع حاشية عليه فمن هؤلاء :
1. الشيخ أحمد بن قاسم العبادي ، حيث إن له شرحين على شرح المحلي :
أولها صغير وآخر كبير كما سبق .
2. الشيخ محمد بن محمد الرعيني ، المعروف بالحطاب ، فقد شرح الورقات وشرح أيضاً شرح المحلي ، فإنه قد وصف شرح المحلي بأنه قريب من جملة الألغاز ثم قال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الفتح المبين 3 /40 .
(2) انظر مصورة غلاف النسخة " أ " .
(3) انظر مصورة غلاف النسخة " ب " .
(4) انظر مصورة غلاف النسخة " ج " .
(5) مقدمة الأنجم الزاهرات ص 54 .
: ( فاستخرت الله تعالى في شرح الورقات ، بعبارة واضحة ، منبهةً على نكت الشرح المذكور وفوائده ، بحيث يكون هذا الشرح ، شرحاً للورقات وللشرح المذكور ، يعني شرح المحلي للورقات … ولا أعدل عن عبارة الشرح المذكور إلا لتغييرها بأوضح منها أو زيادة فائدة … ) (1) .
3. الشيخ علي بن أحمد البخاري الشعراني ، له شرح على شرح المحلي كما سبق .
4. الشيخ احمد بن عبد الحق السنباطي ، له حاشية على شرح المحلي كما سبق .
5. الشيخ أحمد بن أحمد بن سلامة القيلوبي ، له حاشية على شرح المحلي كما سبق .
6. الشيخ أحمد بن محمد الدمياطي ، له حاشية على شرح المحلي كما سبق .
7. الشيخ أحمد بن عبد اللطيف الخطيب الجاوي ، له حاشية على شرح المحلي كما سبق .
رابعاً : وصف النسخ :(/9)
حصلت لتحقيق هذا الكتاب على ثلاث نسخ مخطوطة للشرح ، واعتمدت على نسختين مطبوعتين للشرح أيضاً ، وحصلت على نسختين مخطوطتين لمتن الورقات وعلى ثالثة مطبوعة ، كما أنني رجعت في المواطن المشكلة من الورقات إلى المتن الذي اعتمده المارديني في شرحه المسمى ( الأنجم الزاهرات ) ، ورجعت أيضاً إلى متن الورقات الذي اعتمده ابن قاوان في شرحه المسمى ( التحقيقات ) ، وكذلك رجعت في المواطن المشكلة في شرح المحلي ، إلى ما تضمنه شرح العبادي الصغير على الورقات وشرح المحلي .
وبهذا أكون قد اعتمدت وراجعت ست نسخ لشرح المحلي ، وخمس نسخ للورقات وهذا وصف لهذه النسخ :
أولاً : نسخ شرح المحلي :
النسخة الأولى : توجد في مكتبة البديري في القدس تحت رقم 37/253/أ ، وهي مصورة لدى مؤسسة إحياء التراث والبحوث الإسلامية في القدس ، برقم 612/1/م1 ، وهي نسخة كاملة عدد أوراقها 15 ورقة .
وعدد الأسطر في كل صفحة 19 سطراً .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مقدمة الأنجم الزاهرات ص 54 .
وصفحاتها مرتبطة بطريقة التعقيبة .
وتاريخ نسخها : الإثنين 9 صفر 1120 هـ .
وخطها نسخي جميل ، ويورد المتن المشروح بالحمرة ، وفي الهوامش حواشي كثيرة ، كتب في آخر كل منها ابن قاسم ، وهو العبادي وظهر لي أن الحواشي ليست من شرحه الصغير المطبوع بهامش إرشاد الفحول للشوكاني ، فلعلها من شرحه الكبير على شرح المحلي .
ويوجد على غلاف هذه النسخة العبارة التالية :( وقف محمد بدير على أولاده ثم على طلبة العلم بالمسجد الأقصى ومقره الخلوة بداره ) .
وعليها علامتا تملك الأولى باسم : أحمد بن أحمد المقدسي الحنبلي عفي عنهما .
والثانية باسم : محمد بدير المقدسي .
ورمزت لهذه النسخة بحرف " أ " .
النسخة الثانية : توجد في مكتبة البديري بالقدس ورقمها 38/253/أ ، وهي مصورة لدى مؤسسة إحياء التراث والبحوث الإسلامية بالقدس برقم 204/2/م1 .
وهي نسخة كاملة عدد أوراقها 12 ورقة .
وعدد الأسطر 19-21 سطراً في الصفحة .
وصفحاتها مرتبطة بطريقة التعقيبة .
وتاريخ نسخها : الجمعة 10 ذو القعدة 1146 هـ ، بخط الشيخ محمد ؟
وخطها نسخي جميل يورد النص المشروح بالحمرة ، ويبدو أن الناسخ ليس من أهل العلم فقد وقع في أخطاء كثيرة خلال النسخ .
ويوجد على صفحة العنوان علامة تملك باسم أحمد الحمداني الحنفي سنة 1153 هـ ، وعلامة وقف باسم محمد بدير .
ويوجد أيضاً عليها ثلاثة أبيات شعر من شعر الصوفية تقال عند ضريح الولي عند الغمّ . كذا !؟
ورمزت لهذه النسخة بحرف " ب " .
النسخة الثالثة : توجد في مكتبة المسجد الأقصى المبارك في بيت المقدس ورقمها 76 ، وهي مصورة لدى مؤسسة إحياء التراث والبحوث الإسلامية برقم 192/1 .
وهي نسخة كاملة عدد أوراقها تسع ورقات .
وعدد الأسطر 25 سطراً في الصفحة .
وصفحاتها مرتبطة بطريقة التعقيبة .
وتاريخ نسخها : الخميس 22 ربيع الأول 1152 هـ .
وخطها نسخي عادي يورد متن الورقات بالحمرة ، وهذه النسخة سقيمة كثيرة الأخطاء ، فناسخها كان يجعل الكلمة أحياناً قسمين قسم في آخر السطر والقسم الآخر في أول السطر التالي ، وتتفق هذه النسخة مع نسخة "ب" في كثير من الأخطاء ، فلعل إحداهما أخذت عن الأخرى .
ويوجد على صفحة العنوان علامة تملك باسم محمد الصالح بن الشيخ سليمان العالم الأزهري سنة 1237 هـ .
وعلامة وقف باسم محمد الصالح ( السابق ) تاريخها 1286 هـ .
ورمزت لهذه النسخة بحرف " ج " .
النسخة الرابعة : وهي نسخة مطبوعة في الهند/ كيرالا/ مكتبة الهلال بدون تاريخ ، وتقع في 32 صفحة ووضع كلام إمام الحرمين بين قوسين هلاليين ، ولدى مقابلة هذه النسخة وجدتها تشبه النسخة التالية ، وتتفق معها في كثير من الأخطاء ، وأرجح أن تكون إحداهما أخذت عن الأخرى .
ورمزت لهذه النسخة بالحرف " هـ " .
النسخة الخامسة : وهي نسخة مطبوعة في مصر/ مطبعة مصطفى الحلبي / الطبعة الثالثة/ 1374 هـ - 1955 م .
وشرح المحلي مطبوع بهامش حاشية الدمياطي وتقع في أربع وعشرين صفحة ، وقد وضع كلام الورقات بين قوسين هلاليين .
ورمزت لهذه النسخة بحرف " ط " .
النسخة السادسة : وهي عبارة عن شرح العبادي الصغير على شرح المحلي على الورقات وقد ضمن العبادي كتابه شرح المحلي ، ووضع كلام المحلي مع الورقات بين قوسين هلاليين .
وهذا الشرح مطبوع بهامش إرشاد الفحول للشوكاني ، طبعةً قديمة وصورت مراراً والنسخة التي استعملتها صورتها دار المعرفة/بيروت/لبنان/ 1399 هـ - 1979 م
وعند الإحالة إلى هذه النسخة أقول : وفي شرح العبادي كذا .
ثانياً : نسخ الورقات :
النسخة الأولى : توجد في مكتبة البديري في القدس ورقمها 39/86/4 ، وهي مصورة لدى مؤسسة إحياء التراث والبحوث الإسلامية برقم 560/1/م4 .(/10)
وهي نسخة كاملة لمتن الورقات وعدد أوراقها سبع ورقات .
وعدد الأسطر 15 سطراً في كل صفحة .
وصفحاتها مرتبطة بطريقة التعقيبة ، ولا يوجد عليها تاريخ النسخ ، ولكن يقدر أنها منسوخة في القرن الثاني عشر الهجري .
وخطها نسخي واضح ومقروء ، وجميع الصفحات مجدولة بالحمرة .
وفي بداية المخطوط إشارة إلى أن هذا الكتاب عبارة عن متن الورقات للجويني وشرحها للمحلي ، إلا أن النص الموجود هو متن الورقات فقط .
وألحق في آخر المخطوط رسالة من ثلاث صفحات للشيخ عبد اللطيف العشماوي ، أولها : اللفظ إما حقيقة وهو … الخ .
وقد رمزت لهذه النسخة بالحرف " ص " .
النسخة الثانية : توجد في مكتبة البديري في القدس ورقمها 69/271/و .
وهي مصورة لدى مؤسسة إحياء التراث والبحوث الإسلامية رقم 112/2/م6 .
وهي نسخة كاملة لمتن الورقات عدد أوراقها أربع ورقات .
وعدد الأسطر 21 سطراً في كل صفحة .
وتاريخ نسخها : الأحد 4 محرم سنة 977 هـ في قرية لد ، وهي مدينة اللد إحدى مدن فلسطين .
وخطها فارسي وكتبت بالحبر الأسود ، وهو واضح ومقروء ، وتظهر آثار الرطوبة والأرضة فيها .
وفي آخرها ما نصه :( بلغ مقابلة حسب الطاقة )
وألحق بالمخطوط سند برواية كتاب الورقات وغيره من الكتب التي رواها عبد الحق ابن أبي بكر بن محمد بن محمد اللطفي ، ويلي ذلك فوائد لابن الملقن من كتابه شرح التنبيه حول البيع والنفقات والشهادة ، وفائدة في تعبده - صلى الله عليه وسلم - لأبي الحسن ابن يوسف بن المطهر الحلي في ثلاث صفحات ، ويلي ذلك فائدة في فضل الزيارة .
ورمزت لهذه النسخة بحرف "و" .
النسخة الثالثة : وهي النسخة التي اعتمدها المارديني في شرحه المسمى ( الأنجم الزاهرات على حل ألفاظ الورقات ) ، وهو مطبوع بتحقيق الدكتور عبد الكريم النملة حققه عن نسختين ذكر وصفاً لهما ص 42 .
والذي ظهر لي أن في هذه النسخة نقصاً في عدة مواضع ، كذلك وجدت فيها عدة أخطاء أشرت لها خلال التحقيق منها :
1. في مبحث ( تعريف الأمر وبيان صيغته ) انظر ص 97 من هذا الكتاب و ص 115 من الأنجم الزاهرات .
2. في مبحث ( من يدخل في الأمر ومن لا يدخل ) انظر ص 105 من هذا الكتاب ، و ص 124 من الأنجم الزاهرات .
3. في مبحث ( الاستثناء ) انظر ص 126 من هذا الكتاب ، و ص 149 من الأنجم الزاهرات .
4. في مبحث ( إقرار الرسول - صلى الله عليه وسلم - ) انظر ص 148 من هذا الكتاب ، و ص 180 من الأنجم الزاهرات .
5. في مبحث ( شروط المفتي ) انظر ص 211 من هذا الكتاب ، وص 242 من الأنجم الزاهرات .
6. في مبحث ( تصويب المجتهدين ) انظر ص 217 من هذا الكتاب ، و ص 253 من الأنجم الزاهرات .
وقد أشرت لهذا الشرح مع المتن بقولي : وفي الأنجم الزاهرات كذا .
النسخة الرابعة : وهي النسخة التي اعتمدها حسين بن أحمد الكيلاني المعروف بابن قاوان صاحب الشرح المسمى ( التحقيقات على حل ألفاظ الورقات ) ، وهو مطبوع بتحقيق الدكتور الشريف بن سعد بن عبد الله ، واعتمد على نسخة وحيدة للكتاب وذكر وصفاً لها ص 60 ، واعتمد على نسخ أخرى للورقات وشروحها ذكرها
ص 71-72 .
وقد أشرت لهذا الشرح والمتن بقولي : وفي التحقيقات كذا .
النسخة الخامسة : وهي نسخة مطبوعة لمتن الورقات ، من مطبوعات دار التراث للطبع والنشر/القاهرة/ الطبعة الأولى 1397 هـ - 1977 م .
تقديم وإعداد الدكتور عبد اللطيف محمد العبد .
وتقع في خمس وعشرين صفحة من القطع الصغير ، ولم يذكر في هذه النسخة أي شيء عن النسخة الخطية التي اعتمد عليها ، كما أن فيها نقصاً وأخطاء مطبعية في عدة مواضع أشرت إليها خلال التحقيق .
ورمزت لهذه النسخة بكلمة " المطبوعة " .
المبحث الرابع
منهجي في التحقيق
اتبعت في تحقيق هذا الكتاب الخطوات التالية :
1. لما كانت نسخ شرح المحلي المخطوطة الثلاث التي حصلت عليها متأخرة التاريخ فأقدمها مؤرخة بِ : 9 صفر 1120 هـ .
والتي تليها مؤرخة بِ : 10 ذو القعدة 1146 هـ .
والأخيرة مؤرخة بِ : 22 ربيع الأول 1152 .
فأقدم هذه النسخ ، كتبت بعد وفاة المؤلف بحوالي مئتين وخمسين عاماً ، وبما أني لم أجد ميزة خاصة تمتاز بها إحدى هذه النسخ على غيرها ، رأيت أن أحقق هذا الكتاب على طريقة النص المختار ، فلم أختر نسخة لتكون هي الأصل ، وإنما نسخت الكتاب من النسخة " أ " ثم قابلت بقية نسخ الشرح بما في ذلك النسختان
" هـ + ط " ، وكذلك قابلت نسختي متن الورقات المخطوطتين ، وهما
" و + ص " على المتن المذكور في نسخ الشرح كلها ، وبعد هذه المقابلة الطويلة أثبت ما غلب على ظني أنه الصواب في نص الكتاب وأشرت للفروق في الهامش .
2. في المواضع المشكلة في الشرح رجعت إلى شرح العبادي ، حيث إنه تضمن شرح المحلي بالإضافة لمتن الورقات إذ هو شرح لهما كما سبق بيانه .
3. في المواضع المشكلة في متن الورقات ، رجعت إلى نسخة الورقات المطبوعة وكذلك إلى : المتن الموجود في شرحي الأنجم الزاهرات والتحقيقات . وأشرت إلى ذلك في الهامش .(/11)
4. جعلت متن الورقات المدرج في الشرح بخط الرقعة ومختلف عن خط الشرح .
5. أضفت عناوين للمسائل ، وجعلتها بين قوسين معكوفين وبخط بارز مفرّغ ، للإشارة أنها زيادة من المحقق وليست من أصل الكتاب ، وأكتفي بالتنبيه على ذلك هنا ولم أشر إليها في الهوامش لكثرتها .
6. وضعت الكلمات والعبارات الساقطة من إحدى النسخ بين قوسين معكوفين وأشرت إلى ذلك في الهامش .
7. نسخت الكتاب على الرسم والإملاء المتعارف عليه الآن .
8. أشرت في الهامش إلى نهاية كل ورقة من أوراق نسخ الشرح الثلاث المخطوطة .
9. وضعت الآيات الكريمة الواردة في النص بين قوسين مزهرين هكذا { } ، ثم عزوتها إلى سورها ، مع ذكر رقم الآية وذلك في الهامش .
10. وضعت الأحاديث الواردة في النص بين قوسين هلاليين هكذا ( ) ، ثم خرجت هذه الأحاديث في الهامش ، واتبعت الطريقة التالية في التخريج :
- إن كان الحديث في الصحيحين ، أو في أحدهما ، اكتفيت بذلك .
- وإن كان خارجاً عن الصحيحين ، أو أحدهما ، خرجته من السنن الأربعة وغيرها من كتب السنة ، وأذكر الحكم على الحديث من أقوال المحدثين .
- أذكر الجزء والصفحة من الكتاب الذي ورد فيه الحديث .
11. ترجمت للأعلام ترجمة موجزة ، مع ذكر مصادر الترجمة وذلك في الهامش .
12. شرحت الكلمات الغامضة .
13. ذكرت مجموعة من المصادر لكل مسألة ذكرها الشارح ، سواء كانت أصولية أو فقهية .
14. عرَّفت المصطلحات العلمية الواردة في الشرح لغة واصطلاحاً .
15. أشرت إلى أقوال العلماء في المسائل الخلافية ، عندما كان الشارح يقتصر على ذكر بعضها .
16. قارنت غالباً بين كلام إمام الحرمين في الورقات ، وبين كلامه في كتابيه البرهان والتلخيص .
17. ربطت أقوال الشارح غالباً المذكورة في هذا الكتاب ، بما قاله في كتابه الآخر شرح جمع الجوامع .
18. وضعت صوراً لأوراق مختارة من النسخ المخطوطة .
19. وضعت فهارس للكتاب وهي :
- فهرس الآيات .
- فهرس الأحاديث .
- فهرس الأعلام .
- فهرس المصادر .
- فهرس الموضوعات .
المحقق الدكتور حسام الدين بن موسى عفانه
صورة الغلاف من النسخة " أ "
صورة الورقة الأولى من النسخة " أ "
صورة الورقة الأخيرة من النسخة " أ "
صورة الغلاف من النسخة " ب "
صورة الورقة الأولى من النسخة " ب "
صورة الورقة الأخيرة من النسخة " ب "
صورة الغلاف من النسخة " ج "
صورة الورقة الأولى من النسخة " ج "
صورة الورقة الأخيرة من النسخة " ج "
صورة الورقة الأولى من النسخة " ص "
صورة الورقة الأخيرة من النسخة " ص "
صورة الغلاف من النسخة " و "
صورة الورقة الأولى من النسخة " و "
صورة الورقة الأخيرة من النسخة " و "
القسم الثاني
شَرْحُ الوَرقَات
في أصول الفقه
للعلامة جلال الدين محمد بن أحمد المحلي الشافعي
المتوفى سنة 864 هـ
قدم له وحققه وعلق عليه
الدكتور حسام الدين بن موسى عفانه
الأستاذ المشارك في الفقه وأصوله
كلية الدعوة وأصول الدين
جامعة القدس
[ المقدمة ]
بسم الله الرحمن الرحيم وبه ثقتي
الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيد المرسلين محمد وعلى آله وصحبه
وسلم (1) وبعد (2) .
هذه ورقات قليلة، تشتمل على معرفة(3) فصول(4) من أصول(5) الفقه، ينتفع بها المبتدئ وغيره .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هذه افتتاحية النسخة " أ " ، وأما النسخة " ب " فتبدأ :( بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين ، قال الشيخ الإمام العالم العلامة علامة المحققين رحلة الفقهاء والأصوليين أبو عبد الله جلال الدين المحلي المصري الشافعي تغمده الله برحمته آمين ) .
وبداية النسخة " ج " :( بسم الله الرحمن الرحيم وبه ثقتي الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وصلى الله على سيدنا محمد سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين قال الشيخ الإمام العالم العلامة محمد بن محمد بن أحمد الشافعي تغمده الله تعالى برحمته وأسكنه فسيح جنته آمين ) .
(2) ليست في " ب ، ج " .
(3) ليست في " المطبوعة " .
(4) الفصول جمع فصل وهو كما قال الجرجاني في التعريفات ص 89 ( قطعة من الباب مستقلة بنفسها منفصلة عما سواها ) . والتنوين في قوله : " فصولٍ " إما للتعظيم أو للتعميم لاحتواء هذه الورقات مع صغر حجمها على معظم مسائل علم أصول الفقه . التحقيقات ص87 .
(5) ليست في "ج" .
[ تعريف أصول الفقه باعتباره مركباً إضافياً ]
وذلك (1) أي لفظ أصول الفقه ، مؤلف(2) من جزئين [ أحدهما أصول والآخر الفقه ] (3) مفردين(4) من الإفراد مقابل (5) التركيب (6) لا (7) التثنية (8) والجمع ، والمؤلف يعرف بمعرفة ما ألف منه .
[ تعريف الأصل ]
فالأصل الذي هو [ مفرد الجزء ] (9) الأول ما يبنى(10) عليه غيره (11)
[ كأصل الجدار أي أساسه وأصل الشجرة أي طرفها الثابت في الأرض .(/12)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ورد في " و " لفظ .
(2) مؤلف أي مركب . انظر شرح العبادي ص 6 .
(3) ما بين المعكوفين ليس في " ب ، هـ " .
(4) في " ج " مفردين الذي .
(5) في " هـ " المقابل .
(6) في " هـ " للتركيب .
(7) ليست في " ج " .
(8) ليست في " ب ، هـ " .
(9) في " ب " الجزء مفرد وهو خطأ .
(10) في " ج ، و ، المطبوعة " بُنيَ .
(11) انظر تعريف الأصل في المعتمد 1/8 ، مختصر ابن الحاجب 1/25 ، فواتح الرحموت 1/8 ، البحر المحيط 1/15 ، شرح الكوكب المنير 1/38 ، بيان معاني البديع 1/1/92 ، إرشاد الفحول ص 3 ، الضياء اللامع 1/129، أصول الفقه لزهير 1/5 ، مباحث الحكم عند الأصوليين ص 8 - 9 .
[ تعريف الفرع ]
والفرع الذي (1) هو مقابل الأصل ما يبنى(2) على غيره ] (3) كفروع (4) الشجرة لأصلها وفروع الفقه لأصوله (5) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ليست في " ج " .
(2) في " ج ، و ، المطبوعة " بُنيَ .
(3) ما بين المعكوفين ساقط من " ب " .
(4) في " ب " كفرع .
(5) في " ج " لأصله ، وانظر تعريف الفرع في التعريفات ص89 ، التحقيقات ص 89 ، شرح العبادي ص 10 ، الحدود ص 71 ، المحصول 2/2/27 ، تيسير التحرير 3/276 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/222 ، إرشاد الفحول ص 204.
[ تعريف الفقه لغةً واصطلاحاً ]
والفقه الذي هو الجزء الثاني ، له معنى لغوي وهو الفهم (1) .
ومعنى شرعي وهو معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد (2) ، كالعلم بأن النية في الوضوء واجبة (3) ، (4) وأن الوتر مندوب (5) ، …
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تعريف الفقه لغة : بالفهم هو رأي أكثر الأصوليين . قاله الآمدي وابن قدامة والشوكاني وغيرهم ، وعرفه أبو الحسين البصري والإمام الرازي بأنه فهم غرض المتكلم من كلامه ، وعرفه إمام الحرمين والجرجاني بأنه العلم ، وهنالك تعريفات أخرى للفقه لغة ، انظر التلخيص 1/105 ، الإحكام 1/6 ، روضة الناظر 2/7 ، إرشاد الفحول ص 3 ، المعتمد 1/8 ، المحصول 1/1/92 ، المصباح المنير 2/479 ، التعريفات ص 90 ،الإبهاج 1/28 ، البحر المحيط 1/19.
(2) عرّف إمام الحرمين الفقه اصطلاحا في البرهان 1/85 بأنه ( العلم بأحكام التكليف ). وعرّفه في التلخيص 1/105 ( بأنه العلم بالأحكام الشرعية ). وعرّفه في الورقات بما هو مذكور أعلاه وهو أجودها . انظر تعريف الفقه اصطلاحاً في : المعتمد 1/8 ، المستصفى 1/4 ، شرح العضد 1/25 ، المحصول 1/1/92 ، الإحكام 1/6 ، فواتح الرحموت 1/10 ، الحدود ص 35 ، بيان معاني البديع 1/1/96 ، نهاية الوصول 1/7 ، إرشاد الفحول ص 3 .
(3) وهو مذهب جمهور الفقهاء وأما الحنفية فالنية عندهم سنة انظر المجموع 1/312 ، المغني 1/84 ، الذخيرة 1/240-241 ، جامع الأمهات ص 44 ، الاختيار 1/9 .
(4) ورد في "ب" ( في الحلي ) وزيادتها خطأ ، ولعل الناسخ انتقل بصره إلى كلمة واجبة الآتية عند قوله وغير واجبة في الحلي فنقل العبارة .
(5) وهو مذهب جمهور الفقهاء المالكية والشافعية والحنابلة وصاحبي أبي حنيفة ، وقال أبو حنيفة : الوتر واجب . انظر بلغة السالك 1/137 ، جامع الأمهات ص 133 ، الحاوي الكبير 2/278 ، الفروع 1/537 ، الاختيار 1/54 ، بدائع الصنائع ، 1/605-606 .
وأن النية من الليل شرط في (1) صوم رمضان (2) ، وأن الزكاة واجبة في مال الصبي (3) ، وغير (4) واجبة في الحلي المباح (5) ، وأن القتل بمثقل يوجب القصاص (6) ، ونحو ذلك من مسائل الخلاف ، بخلاف ما ليس طريقه الاجتهاد ، كالعلم بأن الصلوات الخمس واجبة ، وأن الزنا محرم ، ونحو ذلك من المسائل (7) * القطعية (8) فلا يسمى فقهاً (9) فالمعرفة هنا العلم بمعنى الظن (10) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ورد في " ب " كلمة ( صحة ) .
(2) وهذا باتفاق الفقهاء . انظر بدائع الصنائع 2/229 ، الاختيار 1/127 ، جامع الأمهات ص 171 ، الشرح الكبير 1/520 ، مغني المحتاج 2/148-149 ، الحاوي الكبير 3/397 ، الإنصاف 1/293 ، التوضيح في الجمع بين المقنع والتنقيح 1/450 .
(3) وهو مذهب الجمهور وأما الحنفية فقالوا بعدم وجوب الزكاة في مال الصبي . انظر بداية المجتهد 1/225 ، مغني المحتاج 1/123 ، الفروع 2/318 ، بدائع الصنائع 2/79 .
(4) في " ب " غير .(/13)
(5) وهو قول المالكية والشافعية في القول المعتمد عندهم وهو ظاهر المذهب عند الحنابلة ، وأما الحنفية فأوجبوا الزكاة في الحلي المباح وهو قول في مذهب الشافعية ورواية في مذهب الحنابلة . انظر المغني 3/41-42 ، بداية المجتهد 1/230 ، الشرح الكبير 1/460 ، المجموع 6/35-36 ، بدائع الصنائع 2/101 ، مغني المحتاج 2/95 ، جامع الأمهات ص 144 .
(6) وهو مذهب الجمهور ، وقال أبو حنيفة : لا يجب القصاص بالقتل بمثقّل إلا مثقّل الحديد ونحوه ، انظر بدائع الصنائع 6/272 ، فتح باب العناية 3/314 ، المغني 8/261 ، القوانين الفقهية ص 226 ، الشرح الكبير 4/242 ، مغني المحتاج 5/212 .
(7) في " ج " مسائل .
* نهاية 2/أ من النسخة " أ " .
(8) في " ب " المعطفية وهو خطأ . والمقصود بالمسائل القطعية هي مسائل العلم الضروري الذي يشترك به العام والخاص وليس بحاجة إلى استدلال .
(9) لأن الفقه يكون عن نظرٍ واستدلال ، انظر الأنجم الزاهرات ص 83 .
(10) المراد بالظن هنا هو الظن الراجح ، انظر شرح العبادي ص 16 ،حاشية الدمياطي ص 3.
[ أقسام الحكم الشرعي ]
والأحكام المرادة فيما ذكر سبعة(1) : الواجب والمندوب والمباح والمحظور والمكروه والصحيح والباطل (2) .
فالفقه العلم بالواجب والمندوب (3) إلى آخر السبعة .
أي بأن هذا الفعل واجب [ وهذا مندوب ] (4) وهذا مباح وهكذا إلى آخر جزيئات (5) السبعة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ذكر إمام الحرمين في البرهان 1/308 أن الأحكام خمسة ، ولم يذكر منها الصحيح ولا الباطل كما فعل هنا ، وهو مذهب أكثر الأصوليين ، ولعله أراد بقوله ( الأحكام ) ما يعم الحكمين التكليفي والوضعي ، لأن الصحة والبطلان من الحكم الوضعي كما هو قول أكثر الأصوليين. انظر المستصفى 1/94 ، الإحكام 1/130 ، فواتح الرحموت 1/121 ، بيان معاني البديع 1/1/563 ، شرح الكوكب المنير 1/464 ، نزهة الخاطر 1/90، الضياء اللامع 1/180، أصول الفقه لأبي زهرة ص 64، الحكم الوضعي عند الأصوليين ص 172_ 174، مباحث الحكم عند الأصوليين ص 57 فما بعدها .
(2) في " أ ، ب ، ج ، هـ ، ط " الفاسد وكذا وردت في شرح العبادي والمثبت هو الصواب وكذا ورد في المطبوعة وفي " و " وهو الموافق لشرحي التحقيقات والأنجم الزاهرات وهو الموافق لما سيأتي في كلام الشارح ص
(3) ورد في " ج " وهذا وهي زائدة .
(4) ما بين المعكوفين ليس في " ب " .
(5) ليست في " هـ " .
[ تعريف الواجب ]
فالواجب (1) * من حيث وصفه بالوجوب ما يثاب على فعله ويعاقب على تركه(2) .
ويكفي في صدق العقاب وجوده لواحد من العصاة مع العفو عن غيره (3) .
ويجوز أن يريد (4) ويترتب العقاب على تركه كما عبر به غيره فلا ينافي العفو (5) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الواجب لغةً بمعنى الساقط والثابت . انظر الصحاح 1/231 ، المصباح المنير 2/648 .
* نهاية 1/أ من "ب" .
(2) قوله : ما يثاب على فعله أخرج الحرام والمكروه والمباح فلا ثواب لفاعلها ، وقوله : يعاقب على تركه أخرج المندوب فإن فاعله يثاب وتاركه لا يعاقب .
وقد عرّف إمام الحرمين الواجب في البرهان 1/310 بقوله أنه ( الفعل المقتضي من الشارع الذي يلام تاركه شرعاً ) ، ونقض عدة تعريفات للواجب .
وعرّفه في التلخيص 1/163 بقوله ( كل ما ورد الشرع بالذم بتركه من حيث هو ترك له ) .
وانظر في تعريف الواجب اصطلاحاً المعتمد 1/368 ، المستصفى 1/65-66 ، الإحكام 1/97 ، المحصول 1/1/117 ، شرح العضد 1/225 ، فواتح الرحموت 1/61 ، إرشاد الفحول ص 6 ، مذكرة أصول الفقه ص 9، الحكم التكليفي ص92، شرح مختصر الروضه 1/265، منتهى السول ص 23.
(3) قول الشارح ( ويكفي في صدق … عن غيره ) جواب عن الاعتراض على تعريف الواجب بأنه غير جامع لخروج الواجب المعفو عن تركه ، انظر شرح العبادي ص 24 .
(4) أي المصنف - إمام الحرمين - .
(5) هذا هو الجواب الثاني عن الاعتراض على تعريف الواجب بأنه غير مانع . انظر شرح العبادي ص 25 .
[ تعريف المندوب ]
والمندوب(1) من * حيث وصفه (2) بالندب ما يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه(3) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المندوب لغة من الندب وهو الدعاء لأمر مهم ومنه قول الشاعر :
لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا(/14)
قال الفيومي : المندوب في الشرع والأصل المندوب إليه لكن حذفت الصلة منه لفهم المعنى . المصباح المنير 2/597 ، وانظر الصحاح 1/223 ، تاج العروس 2/424-427 .
* نهاية 2/أ من " ج " .
(2) في " ب " وصف .
(3) قوله ( ما يثاب على فعله ) خرج بهذا القيد الممحظور والمكروه والمباح ، فلا ثواب على فعلها .وقوله ( ولا يعاقب على تركه ) خرج بهذا القيد الواجب ، فإن تاركه يعاقب . انظر الأنجم الزاهرات ص 89 . ويسمى المندوب أيضاً نافلةً وسنةً ومستحباً وتطوعاً ومرغباً فيه . انظر شرح المحلي على جمع الجوامع 1/89 ، شرح الكوكب المنير 1/403 ، التحقيقات ص 105 ، الأنجم الزاهرات ص 89 ، إرشاد الفحول ص 6 .
وقد عرّف إمام الحرمين المندوب في البرهان 1/310 بقوله ( هو الفعل المقتضَى شرعاً من غير لوم على تركه ) .
وعرّفه في التلخيص 1/162 بقوله ( هو الفعل المأمور به الذي لا يلحق الذم والمأثم شرعاً على تركه من حيث هو ترك له ) .
وانظر تعريف المندوب اصطلاحاً في أصول السرخسي 1/115 ، كشف الأسرار 2/311 ، تيسير التحرير 2/231 ، المحصول 1/1/128 ، الإحكام 1/119 ، شرح العضد 1/225 ، شرح تنقيح الفصول ص 71 ، شرح الكوكب المنير 1/402 ، شرح مختصر الروضه 1/353.
[ تعريف المباح ]
والمباح(1) من حيث وصفه (2) بالإباحة (3) ما لا يثاب على فعله(4) وتركه ، ولا يعاقب على تركه(5) وفعله (6) أي ما لا يتعلق بكل من فعله وتركه ثواب ولا عقاب (7) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المباح لغة من الإباحة يقال : باح الرجل ماله ، أذن في الأخذ والترك وجعله مطلق الطرفين ، المصباح المنير 1/65 وانظر لسان العرب 1/534 ، تاج العروس 4/17-18.
(2) ليست في " ج " وفي " ب " وصف .
(3) في " ب " بالمباح وهو خطأ .
(4) قوله ( ما لا يثاب على فعله ) خرج بهذا القيد الواجب والمندوب ، لأن فاعلهما يثاب على فعلهما ، وكذلك خرج الحرام والمكروه ، لأن فاعلهما لا يثاب على فعلهما . انظر الأنجم الزاهرات ص 91 ، شرح العبادي ص 26 .
(5) قوله ( ولا يعاقب عل تركه ) خرج بهذا القيد الواجب فإن تاركه يعاقب . وقد عرّف إمام الحرمين المباح في البرهان 1/313 بقوله ( هو ما خير الشارع فيه بين الفعل والترك من غير اقتضاء ولا زجر ) .وعرّفه في التلخيص 1/161 بقوله ( ما ورد الإذن من الله في فعله وتركه من حيث هو ترك له من غير تخصيص أحدهما باقتضاء ذم أو مدح ) ، ثم قال ( فهذا حدّ سديد إن شاء الله تعالى يميز المباح عن المحرمات والواجبات والمندوبات والمكروهات ويميزه أيضاً من الأفعال قبل ورود الشرائع … ) .
وانظر في تعريف المباح اصطلاحاً المستصفى 1/66 ، المحصول 1/1/128 ، المسودة ص 577 ، شرح تنقيح الفصول ص 71 ، فواتح الرحموت 1/113 ، الإحكام 1/175 ، التقرير والتحبير 2/143 ، مباحث الحكم عند الأصوليين ص 107 ، أصول الفقه لشعبان ص 201 .
(6) ليست في " أ " .
(7) قال الشارح : ذلك لرد ما قيل إن كلاً من الإثابة والمعاقبة على كل من فعل المباح وتركه أمر جائز ، إذ له تعالى أن يفعل ما يشاء ، حتى إثابة العاصي وتعذيب الطائع ، (
[ تعريف المحظور ]
والمحظور(1) من حيث (2) وصفه (3) بالحظر أي الحرمة ما يثاب على تركه (4) امتثالاً (5) ويعاقب على فعله(6) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(
فلا يصح نفي واحدة من الإثابة والمعاقبة . حاشية الدمياطي ص 4 .
(1) المحظور مأخوذ من الحظر وهو المنع ، والمحظور هو الحرام الذي هو ضد الحلال . لسان العرب 3/136 ، المصباح المنير 1/131-132 .
(2) في " ج " هو .
(3) في " ب " وصف .
(4) قوله ( ما يثاب على تركه ) خرج بهذا القيد الواجب والمندوب والمباح ، فلا يثاب تاركها انظر الأنجم الزاهرات ص 92 ، التحقيقات ص 110 .
(5) قوله ( امتثالاً ) أي إذا تركه المكلف امتثالاً لنهي الشارع ، وليس لأي داع آخر كأن يتركه لخوف مخلوق أو حياءً منه أو لعجز فلا يثاب على تركه لذلك ، كما هو مذهب جمهور الأصوليين . انظر المستصفى 1/90 ، حاشية الدمياطي ص 4 ، التحقيقات ص 110 ، شرح العبادي ص 28 .
(6) قوله ( ويعاقب على فعله ) خرج بهذا القيد الواجب والمندوب والمباح والمكروه ، فإنه لا عقاب على فاعلها ، وقد انطبق التعريف على المحظور لتحقق الصفتين وهما وجود الثواب على تركه ووجود العقاب على فعله . الأنجم الزاهرات ص 92 .(/15)
وقد عرّف إمام الحرمين المحظور في البرهان 1/313 بقوله ( فهو ما زجر الشارع عنه ولام على الإقدام عليه ) . وانظر في تعريف المحظور - الحرام - اصطلاحاً المستصفى 1/76 ، المحصول 1/1/127 ، الإحكام 1/113 ، البحر المحيط 1/255 ، الإبهاج 1/58 ، المنخول ص 137 ، شرح الكوكب المنير 1/386 ، روضة الناظر2/41 ، مرآة الأصول ص 281 ، الوجيز في أصول الفقه ص 41 .
[ ويكفي في صدق (1) العقاب وجوده لواحد من العصاة مع العفو عن غيره .
ويجوز أن يريد ويترتب العقاب على فعله كما عبر به غيره (2) فلا ينافي العفو ] (3) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في " ج " ذلك .
(2) ليست في " ج " .
(3) ما بين المعكوفين ليس في " هـ ، ط " .
قال العبادي :( وأورد على هذا التعريف أن العفو جائز واقع فيخرج عن التعريف الحرام المعفو عن فعله فلا يكون جامعاً وأجاب الشارح بجوابين : أحدهما : أنه يكفي صدق العقاب وتحققه على فعله وجوده لواحد مثلاً من العصاة بفعله مع العفو عن غيره منهم ولا ينافيه أن الفعل مفرد مضاف لمعرفة لما تقدم في نظيره ووجوده لواحد من العصاة لا يتخلف على ما تقدم .
والثاني : أنه يجوز أي يصح أن يريد المصنف بقوله ويعاقب على فعله وإن كان ظاهراً في وجود العقاب بالفعل معنى ويترتب العقاب أي استحقاقه ، أو أراد بالترتب الاستحقاق على فعله بأن ينتهض فعله سبباً للعقاب كما أي حال كون هذا المعنى المراد مماثلاً لمعنى ما عبّر به أو حالة كون هذا اللفظ الذي أراد معناه مماثلاً للفظ الذي عبّر به غيره أي غير المصنف فلا ينافي حينئذ قوله ويعاقب على فعله العفو عن فاعله ) شرح العبادي ص28-29 .
[ تعريف المكروه ]
والمكروه(1) من حيث وصفه (2) بالكراهة ، ما يثاب على * تركه(3) امتثالاً(4) ولا يعاقب على فعله(5) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المكروه لغة : مأخوذ من الكراهة وقيل من الكريهة وهي الشدة في الحرب والمكروه ضد المحبوب . لسان العرب 12/80 ، المصباح المنير 2/532 .
(2) في "ب" وصف .
* نهاية 2/ب من " أ "
(3) قوله ( ما يثاب على تركه ) خرج بهذا القيد الواجب والمندوب والمباح ، فلا يثاب تاركها انظر شرح العبادي ص 29 ، الأنجم الزاهرات ص 93 .
(4) انظر تعليق رقم (5) من الصفحة قبل السابقة .
(5) قوله ( ولا يعاقب على فعله ) خرج بهذا القيد الحرام لأن فاعله يعاقب .
وتعريف المكروه بما ذكره إمام الحرمين يشمل ما كان طلب تركه بنهي مخصوص وما كان بنهي غير مخصوص كالنهي عن ترك المندوبات المستفاد من أوامرها وهو أصل الاصطلاح الأصولي وإن خالف بعض متأخري الفقهاء كالشارح فخصوا المكروه بالأول وسموا الثاني خلاف الأولى. انظر شرح العبادي ص 29-30 .
وقد عرّف إمام الحرمين المكروه في البرهان 1/313 بقوله ( ما زجر عنه ولم يلم على الإقدام عليه ) .
وأما في التلخيص فقد أبطل إمام الحرمين عدة تعريفات للمكروه عند الأصوليين ولم يرتضها ثم قال ( فإذا بطلت هذه الأقسام لم يبق بعد بطلانها إلا المصير إلى أنه مندوب إلى تركه ومأمور بتركه غير ملوم على فعله ). التلخيص 1/168-170 .
وانظر تعريف المكروه اصطلاحاً في المستصفى 1/67 ، المحصول 1/1/131 ، الإحكام 1/122 ، الإبهاج 1/59 ، شرح الكوكب المنير 1/413 ، إرشاد الفحول ص 3 ، شرح العضد 1/225 ، البحر المحيط 1/296، الأنجم الزاهرات ص 93 ، التحقيقات ص 112 .
[ تعريف الصحيح ]
والصحيح(1) من حيث (2) وصفه (3) بالصحة ، ما يتعلق به النفوذ ويعتد به(4) ، بأن استجمع ما يعتبر (5) فيه شرعاً ، عقداً (6) كان أو عبادة (7) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الصحيح في اللغة مأخوذ من الصحة وهي ضد السقم . انظر تاج العروس 4/165 ، المصباح المنير 1/333 .
(2) في " ج " هو .
(3) في " ب " وصف .
(4) قوله ( ما يتعلق به النفوذ ) النفوذ من نفذ السهم إذا بلغ المقصود من الرمي فالنفوذ من فعل المكلف . وقوله ( ويعتد به ) أي يوصف بالاعتداد والاعتداد من فعل الشارع . انظر شرح العبادي ص 30 ، التحقيقات ص 115 ، شرح الكوكب المنير 1/474-475 .
وانظر تعريف الصحيح في الإحكام 1/130 ، المحصول 1/1/142 ، فواتح الرحموت 1/122 ، تيسير التحرير 2/235 ، شرح الكوكب المنير 1/465 ، شرح تنقيح الفصول ص 76 ، حاشية البناني على جمع الجوامع 1/100 ، التلخيص 1/171 .
(5) في " ج " يقرب .
(6) ليست في " ب " .(/16)
(7) الصحة في العبادات تعني الإجزاء وإسقاط القضاء . والصحة في المعاملات تعني ترتب أحكامها المقصودة بها عليها. انظر شرح الكوكب المنير 1/465،467 ، الإحكام 1/130 ، فواتح الرحموت 1/122 ، حاشية البناني على جمع الجوامع 1/100 ، شرح تنقيح الفصول ص76 ، تيسير التحرير 2/235 ، الحكم الوضعي عند الأصوليين ص 166 ، مباحث الحكم عند الأصوليين ص 155 .
[ تعريف الباطل ]
والباطل(1) من حيث وصفه (2) بالبطلان ما لا يتعلق به النفوذ ولا يعتد به(3) ، بأن لم يستجمع ما يعتبر فيه شرعاً ، عقداً كان أو عبادة (4) .
والعقد يتصف بالنفوذ والاعتداد (5) .
والعبادة تتصف (6) بالاعتداد(7) فقط (8) اصطلاحاً (9) * .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الباطل في اللغة من البطلان بمعنى فسد وسقط حكمه فهو باطل . الصحاح 4/1635 ، تاج العروس 14/56 ، المصباح المنير 1/52 .
(2) في " ب " وصف .
(3) الباطل مقابل للصحيح بكل معانيه وانظر في تعريف الباطل اصطلاحاً المستصفى 1/95 ، المحصول 1/1/143، الإحكام 1/131 ، شرح العضد 2/7 ، شرح الكوكب المنير 1/473 ، شرح تنقيح الفصول ص 76 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 1/105 .
(4) جمهور الأصوليين لم يفرقوا بين الباطل والفاسد سواء كان ذلك في العبادات أو في المعاملات ، وأما الحنفية ففرقوا بينهما في المعاملات فالباطل ما لم يشرع بأصله ووصفه ، والفاسد ما شرع بأصله دون وصفه ، وأما في العبادات فوافق الحنفية الجمهور في عدم التفريق بين الباطل والفاسد . انظر تيسير التحرير 2/236 ، التوضيح 2/123 ، التقرير والتحبير 2/154 ، أصول السرخسي 1/86 ، البحر المحيط 1/320 ، شرح الكوكب المنير 1/473 ، التمهيد للإسنوي ص 59 ، الإحكام 1/131 ، الحكم الوضعي عند الأصوليين ص 184.
(5) فيقال عقد نافذ معتد به كعقد البيع إذا استجمع شروطه وانتفت موانعه .
(6) ليست في " ب " .
(7) فيقال عبادة معتدٌ بها ولا يقال عبادة نافذة .
(8) في " ب " فقد .
(9) قوله ( اصطلاحاً ) أي بحسب اصطلاح أهل الشرع أو بعضهم ، شرح العبادي ص 31 .
* نهاية 1/ب من " ب " .
[ الفرق بين الفقه والعلم ]
والفقه(1) بالمعنى الشرعي أخص من العلم(2) لصدق العلم بالنحو وغيره ، فكل فقه علم ، وليس كل علم فقهاً (3) .
[ تعريف العلم ]
والعلم(4) معرفة المعلوم ، أي إدراك ما من شأنه أن يعلم على ما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سبق تعريف الفقه لغةً واصطلاحاً ص 62 من هذا الكتاب .
(2) العلم لغةً اليقين ويأتي بمعنى المعرفة أيضاً وهو نقيض الجهل . لسان العرب 9/371 ، المصباح المنير 2/427 .
(3) قوله ( فكل فقه علم ، وليس كل علم فقهاً ) أي أن النسبة بين الفقه والعلم العموم والخصوص المطلق كما بين الإنسان والحيوان .
ويقال أيضاً كل فقيه عالم ، وليس كل عالم فقيهاً ، إذ القاعدة أنه كلما وجد الأخص وجد الأعم ولا عكس . انظر حاشية الدمياطي ص 4 ، شرح العبادي ص 32-34 ، الأنجم الزاهرات ص 97 .
(4) اختلف العلماء في العلم هل يحدّ أم لا ؟ فقال جماعة منهم : العلم لا يحدّ لعسره ، وهو قول إمام الحرمين الجويني في البرهان والغزالي وغيرهما ، وقال الإمام الرازي : العلم لا يحدّ لأنه ضروري .
وقال أكثر العلماء : العلم يحدّ ، وهذا قول إمام الحرمين في الورقات وفي التلخيص .
انظر البرهان 1/119-122 ، التلخيص 1/108-109 ، المستصفى 1/25 ، شرح العضد 1/46 ، شرح الكوكب المنير 1/60-61 ، الإحكام 1/11 ، المفردات ص 343 ، الحدود ص 24 ، المسودة ص 575 ، المنخول ص 36 فما بعدها ، المحصول 1/1/99-102 ، البحر المحيط 1/47 ، التعريفات ص 82 ، بيان معاني البديع 1/1/123 فما بعدها .
هو به في الواقع ، كإدراك (1) الإنسان بأنه حيوان ناطق (2) .
[ تعريف الجهل وأقسامه ]
والجهل(3) تصور الشيء ، أي إدراكه على خلاف ما هو به(4) في الواقع (5) ، كإدراك الفلاسفة أن العالم وهو ما سوى الله تعالى قديم .
وبعضهم وصف هذا الجهل بالمركب (6) ، وجعل البسيط عدم العلم بالشيء ، كعدم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في " ب " لإدراك .
(2) انظر ما أورد على تعريف العلم من اعتراضات والجواب عنها في شرح العبادي ص 34-37 ، حاشية الدمياطي ص 4-5 .
(3) الجهل في اللغة خلاف العلم . المصباح المنير 1/113 .(/17)
(4) عرّف إمام الحرمين الجويني الجهل في البرهان 1/120 بقوله ( الجهل عقد يتعلق بالمعتقد على خلاف ما هو به ) . وانظر تعريف الجهل اصطلاحاً في الحدود ص 29 ، البحر المحيط 1/71 ، شرح الكوكب المنير 1/77 ، التعريفات ص 43 ، المحصول 1/1/104 ، حاشية البناني على شرح جمع الجوامع 1/161 ، الكليات ص 350 ، معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية 1/ 545.
(5) هذا تعريف الجهل المركب .
(6) أطلق جماعة من العلماء على ما سبق الجهل المركب لأنه مركب من جهلين أحدهما : عدم العلم ، والثاني: اعتقاد غير مطابق ، فصاحب الجهل المركب جاهل بالحكم وجاهل بأنه جاهل ، ولذلك قيل :
جهلت وما تدري بأنك جاهل ومن لي بأن تدري بأنك لا تدري
وقيل أيضاً :
قال حمار الحكيم يوماً لو أنصف الدهر كنت أركب
لأنني جاهل بسيط وصاحبي جاهل مركب (
علمنا بما تحت الأرضين (1) ، وبما في بطون البحار (2) .
وعلى ما ذكره المصنف لا يسمى هذا (3) جهلاً (4) .
[ تعريف العلم الضروري ]
والعلم الضروري (5) ما لم (6) يقع عن نظر واستدلال(7) ، كالعلم الواقع بإحدى (8) الحواس الخمس الظاهرة ، وهي(9)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(
انظر حاشية الدمياطي ص 5 ، الأنجم الزاهرات ص 99 ، التحقيقات ص 127 ، شرح العبادي ص 39 ، شرح الكوكب المنير 1/77 ، شرح تنقيح الفصول 63 .
(1) في " ب " الأرض .
(2) انظر تعريف الجهل البسيط في البحر المحيط 1/72 ، التعريفات ص 43 ، حاشية البناني على شرح المحلي 1/161-162 ، شرح العبادي ص 39 .
(3) ليست في " ج " .
(4) أي إن تعريف إمام الحرمين للجهل إنما هو للجهل المركب ، وبناءً على ذلك لا يسمى عدم العلم بالشي جهلاً إذ لا يصدق عليه تصور الشيء لانتفاء تصوره مطلقاً . انظر شرح العبادي ص 39-40 .
(5) قال أبو الوليد الباجي : وصف هذا العلم بأنه ضروري ، معناه أنه يوجد بالعالمِ دون اختياره ولا قصده . الحدود ص 25 .
(6) في " ج ، هـ " لا .
(7) انظر تعريف العلم الضروري في شرح الكوكب المنير 1/66 ، البحر المحيط 1/58 ، الإحكام 1/12 ، المنخول ص 42 ، التعريفات ص 83 ، الكليات ص 610، 2/532، بيان معاني البديع 1/1/137 .
(8) في " ب " بأحد وهو خطأ .
(9) في " ب " التي هي حاسة ، وفي " المطبوعة " التي .
السمع والبصر واللمس والشم والذوق(1) فإنه يحصل بمجرد الإحساس بها (2) من غير نظر (3) واستدلال .
[ تعريف العلم المكتسب ]
وأما العلم(4) * المكتسب (5) فهو الموقوف على النظر والاستدلال(6) ، كالعلم بأن العالم حادث (7) ، فإنه موقوف على النظر (8) في ** العالم وما نشاهده (9) فيه من التغير (10) ، فينتقل من تغيره إلى حدوثه .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ورد في " المطبوعة " أو التواتر ، وفي " و " أو بالتواتر .
(2) ليست في " ج " ، وفي " ب " بها لا .
(3) في " ج " ولا .
(4) في " و " والعلم .
* نهاية 3/أ من " أ " .
(5) العلم المكتسب يسمى أيضاً العلم النظري لأنه يقع بنظر واستدلال . وانظر تعريف العلم المكتسب في الإحكام 1/11 ، شرح الكوكب المنير 1/66 ، بيان معاني البديع 1/1/137 ، إرشاد الفحول ص 5 ، التعريفات ص 83 ، الحدود ص 25 .
(6) في " ب " نظر واستدلال ، وفي " و " ما يقع عن نظر واستدلال .
(7) قوله ( العالم حادث ) أي وجوده مسبوق بالعدم .
(8) في " ج " على النظر في النظر .
** نهاية 2/ب من " ج " .
(9) في " ب " يشاهد ، وفي " هـ " نشاهد .
(10) في " ج " تغيره .
[ تعريف النظر ]
والنظر (1) هو الفكر (2) في حال المنظور فيه(3) ليؤدي إلى المطلوب (4) .
[ تعريف الاستدلال ]
والاستدلال(5) طلب الدليل(6) ليؤدي إلى المطلوب فمؤدى النظر …
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) يطلق النظر في اللغة معنى الانتظار ، وبمعنى الرؤيا بالعين ، وبمعنى الرأفة والرحمة ، وبمعنى المقابلة ، وبمعنى الفكر والاعتبار بالبصيرة . انظر لسان العرب 14/191 ، الصحاح 2/830 ، المفردات ص 497 ، بيان معاني البديع 1/1/116 ، الكليات ص 904، المفردات ص 497.
(2) الفكر هو حركة النفس في المعقولات ، أو هو حركة النفس من المطالب إلى المبادئ ورجوعها منها إليها . انظر التحقيقات ص 135 ، شرح العبادي ص 44 ، التعريفات ص 99 ، الكليات ص 697، المفردات ص 384 ، معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية 3/52.(/18)
(3) عرّف إمام الحرمين النظر في البرهان 1/126 بقوله ( أنه تردد في أنحاء الضروريات ومراتبها ) وعرفه في التلخيص 1/123 بقوله ( هو الفكر الذي يطلب به معرفة الحق في ابتغاء العلوم وغلبات الظنون ) ، وانظر في تعريف النظر اصطلاحاً الإحكام 1/10 ، شرح الكوكب المنير 1/57 ، شرح تنقيح الفصول ص429 ، البحر المحيط 1/42 ، إرشاد الفحول ص 5 ، المحصول 1/1/105 ، شرح العضد 1/46 ، نهاية الوصول 1/10، بيان معاني البديع 1/1/116 .
(4) أي من علم أو ظن . انظر حاشية الدمياطي ص 5 .
(5) في "ج" واستدلال .
(6) عرّف إمام الحرمين الاستدلال في التلخيص 1/119 بقوله ( فإن قيل فما الاستدلال ؟ قيل هو يتردد بين البحث والنظر في حقيقة المنظور فيه وبين مسألة السائل عن الدليل . وانظر تعريف الاستدلال اصطلاحاً في الحدود ص 41 ، التعريفات ص 12 .
والاستدلال واحد (1) فجمع المصنف * بينهما في الإثبات والنفي تأكيداً (2) .
[ تعريف الدليل ]
والدليل (3) هو المرشد إلى المطلوب ، لأنه علامة عليه .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) قول الشارح ( فمؤدى النظر والاستدلال واحد ) أي ما يؤديان إليه ويفيدانه واحد وهو علم المطلوب أو ظنه فأحدهما يغني عن الآخر ، فجمع المصنف بينهما في الإثبات بقوله فهو الموقوف على النظر والاستدلال ، وفي النفي بقوله ما لم يقع عن نظر واستدلال لأجل التأكيد . انظر شرح العبادي ص 46 .
* نهاية 2/أ من " ب " .
(2) في " هـ " تأكيد .
(3) الدليل لغةً ما يستدل به ، والدليل الدال . انظر لسان العرب 4/394 .
وتعريف الدليل الذي ذكره إمام الحرمين هنا إنما هو تعريفه لغةً ، وقال الجرجاني : الدليل في اللغة هو المرشد وما به الإرشاد . التعريفات ص 55 .
وأما الدليل اصطلاحاً فهو ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري . والمطلوب الخبري يشمل القطع والظن وهذا مذهب أكثر الفقهاء والأصوليين . وقال أبو الحسين البصري وبعض المتكلمين : ما أفاد القطع يسمى دليلاً وما أفاد الظن يسمى أمارةً .
وانظر في تعريف الدليل اصطلاحاً التلخيص 1/115 ، الحدود ص 38 ، الإحكام 1/9 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 1/124-125 ، شرح العضد 1/36 ، شرح الكوكب المنير 1/52 ، المعتمد 1/10 ، المحصول 1/1/106 ، البحر المحيط 1/35-36 ، تيسير التحرير 1/33 ، نهاية الوصول 1/9 ، شرح العبادي ص 48 .
[ تعريف الظن ]
والظن(1) تجويز أمرين أحدهما أظهر (2) من (3) الآخر (4) عند المجوز .
[ تعريف الشك ]
والشك (5) تجويز أمرين لا مزية لأحدهما (6) على (7)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الظن في اللغة يستعمل بمعنى الشك واليقين إلا أنه ليس بيقين عيان إنما هو يقين تدبر ، ومن استعماله بمعنى اليقين قوله تعالى ( قال الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم ) سورة البقرة آية 249 ، أي يوقنون ، وانظر لسان العرب 8/271 ، المصباح المنير 2/386 ، الكليات ص 588 .
(2) في " هـ " الأظهر .
(3) ليست في " ج " .
(4) انظر في تعريف الظن اصطلاحاً اللمع ص 48 ، الحدود ص 30 ، التعريفات ص 77 ، بيان معاني البديع 1/1/137 ، تيسير التحرير 1/26 ، شرح العضد 1/61 ، المحصول 1/1/101 ، البحر المحيط 1/74 .
(5) الشك في اللغة خلاف اليقين ، قال الفيومي :( فقولهم خلاف اليقين هو التردد بين شيئين سواء استوى طرفاه أو رجح أحدهما على الآخر قال الله تعالى ( فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك ) قال المفسرون أي غير مستيقن وهو يعم الحالتين . وقال الأزهري في موضع من التهذيب : الظن هو الشك وقد يجعل بمعنى اليقين ، ففسر كل واحد بالآخر وكذلك قال جماعة ، وقال ابن فارس : الظن يكون شكاً ويقيناً ) المصباح المنير 1/320.
(6) في " ب " أحدهما .
(7) في " ب " عن .
الآخر (1) عند المجوز ، فالتردد في قيام زيد ونفيه على السواء شك ، ومع رجحان الثبوت أو الانتفاء (2) ظن (3) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر تعريف الشك اصطلاحاً في اللمع ص 48 ، التعريفات ص 68 ، الحدود ص 29 ، شرح العضد 1/1/61 ، شرح الكوكب المنير 1/74 ، المحصول 1/1/101 ، بيان معاني البديع 1/1/137 ، إرشاد الفحول ص 5 ، الكليات ص 528 .
(2) في "ب" والانتفاء .
(3) والمرجوح المقابل للراجح هو الوهم عند الأصوليين . انظر شرح العضد 1/61 ، المحصول 1/1/101 ، شرح الكوكب المنير 1/74 ، 76 ، البحر المحيط 1/80 ، إرشاد الفحول ص5.
[ تعريف أصول الفقه باعتباره عَلَمَاً ](/19)
(1) وأصول الفقه الذي وضع فيه هذه الورقات (2) طرقه ، أي طرق الفقه على سبيل الإجمال كمطلق الأمر والنهي وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - والإجماع والقياس والاستصحاب ، من حيث البحث عن أولها بأنه للوجوب والثاني بأنه للحرمة والباقي بأنها حجج وغير ذلك مما سيأتي مع ما يتعلق به بخلاف طرقه على سبيل التفصيل نحو { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } (3) { وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا } (4) ( وصلاته - صلى الله عليه وسلم - في الكعبة ) كما أخرجه * الشيخان (5) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ورد في " المطبوعة " وعلم أصول الفقه .
(2) عرّف إمام الحرمين أصول الفقه بأنه الأدلة في كتابيه البرهان 1/85 و التلخيص 1/106 وتعريفه في الورقات موافق لما في البرهان والتلخيص وهو يفيد أن أصول الفقه باعتباره علماً هو نفس الأدلة وعلى هذا أبو إسحاق الشيرازي والإمام الرازي والآمدي وابن قدامة وغيرهم ، وعرّفه ابن الحاجب والبيضاوي بأنه العلم بالأدلة ، وذهب الزركشي إلى أنه لا خلاف بين القولين لأنهما لم يتواردا على محل واحد . انظر تفصيل ذلك في البحر المحيط 1/24-25 ، اللمع ص 52 ، الإحكام 1/7 ، المحصول 1/1/94 ، الإبهاج 1/19 ، روضة الناظر 2/7 ، مختصر المنتهى 1/18 ، الوصول إلى الأصول 1/51 ، نثر الورود 1/33 .
(3) سورة البقرة الآية 43 .
(4) سورة الإسراء الآية 32 .
* نهاية 3/ب من " أ " .
(5) رواه البخاري في كتاب الصلاة ، صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 2/46 ، وقد رواه البخاري في عدة مواضع من صحيحه ، ورواه مسلم أيضاً ، صحيح مسلم مع شرح النووي 3/451 .
والشيخان هما البخاري ومسلم . والبخاري هو محمد بن إسماعيل بن المغيرة ، (
والإجماع على أن لبنت الابن السدس مع بنت الصلب حيث لا عاصب (1) لهما (2) .
وقياس الأرز على البر في امتناع بيع بعضه ببعض ، إلا مثلاً بمثل يداً بيد ، كما رواه مسلم (3) .
واستصحاب الطهارة لمن شك في بقائها ، فليست من أصول الفقه (4) وإن ذكر بعضها في كتبه تمثيلاً .
وكيفية الاستدلال بها (5) …
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(
أبو عبد الله البخاري ، الإمام الحافظ المحدّث صاحب الجامع الصحيح المشهور بصحيح البخاري ، وله كتاب الأدب المفرد ، وكتاب التاريخ وغير ذلك ، توفي سنة 256 هـ ، انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء 12/371 ، تهذيب الأسماء واللغات 1/67 ، طبقات الشافعية الكبرى 2/212 .
ومسلم هو مسلم بن الحجاج القشيري أبو الحسين الإمام الحافظ المحدّث صاحب الصحيح وله كتاب العلل ، وكتاب الكنى ، وكتاب أوهام المحدثين ، توفي سنة 261 هـ ، انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء 12/557 ، تهذيب الأسماء واللغات 2/89 ، البداية والنهاية 11/36 .
(1) في " هـ " معصب .
(2) انظر المغني 6/273 حيث نقل ابن قدامة الإجماع على ذلك .
(3) روى مسلم عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل سواءً بسواء يداً بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد ) ، صحيح مسلم بشرح النووي 4/198 .
(4) هذه من طرق الفقه وليست من طرق أصول الفقه كما أشار الشارح حيث إن طرق أصول الفقه إجمالية كلية وطرق الفقه تفصيلية فرعية .
(5) ورد في " و " ( وما يتبع ذلك ومعنى قولنا كيفية الاستدلال بها يعني ترتيب الأدلة في التقديم والتأخير وما يتبع ذلك من أحكام المجتهدين ) وقد وردت هذه الزيادة أيضاً (
أي بطرق (1) الفقه من حيث تفصيلها (2) عند (3) تعارضها لكونها ظنية (4) من تقديم الخاص على العام (5) والمقيد على المطلق وغير ذلك .
وكيفية الاستدلال (6) بها تجر إلى صفات من يستدل بها وهو المجتهد .
فهذه الثلاثة * هي الفن المسمى بأصول الفقه لتوقف الفقه عليه .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(
ضمن المتن في شرح الأنجم الزاهرات ، ويظهر لي أنها ليست من أصل الورقات حيث لم ترد في أي من نسخ شرح المحلي ولا شرح التحقيقات ولا شرح العبادي ومما يؤكد ذلك أن المارديني صاحب الأنجم الزاهرات لم يشرح هذه العبارة ولم يتنبه محققه لذلك . انظر الأنجم الزاهرات ص 105 ، التحقيقات ص 145 ، شرح العبادي ص 50-51 ، حاشية الدمياطي ص 6 .
(1) في " هـ " طرق .
(2) قوله ( تفصيلها ) أي تعيينها وتعلقها بحكم معين . انظر شرح العبادي ص 55 ، حاشية الدمياطي ص 6 .
(3) في " ج " عن .(/20)
(4) إنما وقع التعارض فيها لكونها ظنية لأن التعارض لا يقع في القطعيات ، انظر المصدرين السابقين .
(5) في " ج " العالَم وهو خطأ .
(6) في " ب " الإستدال وهو خطأ .
* نهاية 3/ب من " ب " .
[ أبواب أصول الفقه ]
(1) وأبواب أصول الفقه أقسام الكلام والأمر والنهي والعام والخاص ويذكر فيه المطلق والمقيد والمجمل والمبين والظاهر ، وفي بعض النسخ (2) والمؤول (3) * وسيأتي .
(4) والأفعال والناسخ والمنسوخ والإجماع والأخبار والقياس والحظر والإباحة وترتيب الأدلة وصفة المفتي والمستفتي وأحكام المجتهدين .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ورد في " و " ومن أبواب أصول الفقه .
(2) قول الشارح ( وفي بعض النسخ والمؤول ) لفظة المؤول وردت في بعض نسخ الورقات دون بعض ، فلم ترد في نسخة "ص" ولكن إثباتها هو الصواب لأن إمام الحرمين ذكر المؤول فيما بعد لذا قال الشارح ( وسيأتي ) ، أي المؤول في كلام المصنف فالمناسب التصريح بعدِّه هنا كغيره . وانظر شرح العبادي ص 57 ، حاشية الدمياطي ص 7 .
(3) في " ب " والأول وهو خطأ .
* نهاية 3/أ من " ج " .
(4) ورد في " و " والأقوال وزيادتها خطأ .
[ أقسام الكلام باعتبار ما يتركب منه ]
فأما أقسام الكلام(1) فأقل ما يتركب (2) منه الكلام اسمان نحو زيد قائم أو اسم وفعل نحو قام زيد (3) أو فعل وحرف(4) نحو ما قام .
أثبته بعضهم ولم يعد الضمير في قام الراجع إلى زيد * مثلاً لعدم ظهوره (5) .
والجمهور على عدِّه (6) كلمة (7) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) قسّم إمام الحرمين الكلام بثلاثة اعتبارات : الأول : باعتبار ما يتركب منه . الثاني : باعتبار مدلوله . الثالث : باعتبار استعماله . وسيأتي تفصيل ذلك .
والكلام عند النحاة هو المعنى المركب الذي فيه الإسناد التام . التعريفات ص 98 ، وقال ابن عقيل : الكلام المصطلح عليه عند النحاة عبارة عن اللفظ المفيد فائدة يحسن السكوت عليها .
وأما الكلام في اصطلاح اللغويين فهو اسم لكل ما يتكلم به مفيداً كان أو غير مفيد . انظر شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك 1/14-15 ، المحصول 1/1/236 ، بيان معاني البديع 1/1/521 ، شرح مختصر الروضة 1/547 ، الإحكام 1/72 ، شرح العضد 1/125 .
(2) في " ب " تركب ، وفي " ج " يترب وهو خطأ .
(3) لا خلاف بين العلماء أن أقل ما يتركب منه الكلام اسمان أو اسم وفعل كما قال إمام الحرمين ، وانظر شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك 1/14 ، شرح الكوكب المنير 1/117 .
(4) ليست في " و " .
* نهاية 4/أ من " أ " .
(5) لأن الضمير المستتر إنما هو صورة عقلية لا تحقيق له في الخارج . انظر شرح العبادي ص 58 ، حاشية الدمياطي ص 7 .
(6) في " ب " هذه وهو خطأ .
(7) اختلف العلماء هل يتركب الكلام من فعل وحرف نحو ما قام ، فأثبته بعضهم كما قال الشارح وعليه مشى إمام الحرمين وهو قول عبد القاهر الجرجاني أيضاً . (
أو اسم (1) وحرف (2) ، وذلك في النداء نحو يا زيد وإن كان المعنى أدعو أو(3) أنادي (4) زيداً (5) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(
وذهب الجمهور إلى عدم إثباته ، قال الآمدي ( ولا يتركب الكلام من الاسم والحرف فقط ولا من الأفعال وحدها ولا من الحروف ولا من الأفعال والحروف ) الإحكام 1/72 ، وانظر التحقيقات ص 150 ، شرح مختصر الروضة 1/549-550 ، الأنجم الزاهرات ص 108 ، شرح الكوكب المنير 1/117 ، الكليات ص 756- 758 .
(1) في " ب " قام وهو خطأ .
(2) في " ج " حروف وهو خطأ .
(3) في " ج " و .
(4) في " ب " نادي .
(5) يرى إمام الحرمين أن الكلام يتركب من اسم وحرف لأن حرف النداء بمعنى أدعو ، وقوله هذا على خلاف مذهب جمهور العلماء ، انظر المصادر السابقة في هامش رقم (7) .
[ أقسام الكلام باعتبار مدلوله ]
والكلام ينقسم إلى أمر ونهي نحو قم ولا تقعد .
وخبر (1) نحو جاء زيد .
واستخبار وهو الاستفهام (2) نحو هل قام زيد ؟ فيقال : نعم أو لا .
[ وينقسم أيضاً (3) إلى تمنٍ (4) ] (5) …
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سيأتي تعريف الأمر والنهي والخبر في كلام المصنف إن شاء الله .(/21)
(2) قال الجرجاني ( الاستفهام استعلام ما في ضمير المخاطب وقيل هو طلب حصول صورة الشيء في الذهن فإن كانت تلك الصورة وقوع نسبة بين الشيئين أو لا وقوعها فحصولها هو التصديق وإلا هو التصور ) التعريفات ص 12 .
(3) قول إمام الحرمين ( وينقسم أيضاً إلى تمنِ وعرض وقسم ) هذه العبارة لم ترد في بعض نسخ الورقات كنسخة " و " ، وقد أشار صاحب التحقيقات إلى ذلك بقوله ( وفي بعض النسخ قوله : وتمنٍ وعرض وقسم ) التحقيقات ص 158 .
وقد ذكر العبادي توجيه هذا التقسيم بقوله ( وينقسم الكلام أيضاً كما انقسم إلى ما تقدم وإنما أعاد الفعل مع أن ما قبله وما بعده تقسيم واحد فكان ينبغي أن يقتصر على قوله وإلى تمنٍ … الخ ، إشارة إلى أن منهم من اقتصر على تقسيمه إلى ما تقدم وأنه يزاد عليه انقسامه أيضاً إلى هذه المذكورات كما يدل على ذلك كلام البرهان وهذا من دقائق هذه المقدمة ) شرح العبادي ص 61 ، ويقصد بالمقدمة الورقات .
وكلام البرهان الذي أشار إليه العبادي هو ما قاله إمام الحرمين في أقسام الكلام الأمر والنهي والخبر والاستخبار ثم اعترض على ما زاده المتأخرون على هذه الأقسام ثم ارتضى إمام الحرمين تقسيم الكلام إلى طلب ويشمل الأمر والنهي ، وخبر ويشمل التعجب والقسم ، والاستخبار ويشمل الاستفهام والعرض والتنبيه ويشمل التلهف والتمني والترجي والنداء . انظر البرهان 1/196-198 . (
نحو ليت الشباب يعود (1) .
وعرض(2) نحو (3) ألا تنزل عندنا .
وقسم(4) نحو والله لأفعلن كذا .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(
(4) التمني هو طلب حصول الشيء سواء كان ممكناً أو ممتنعاً . التعريفات ص 35 ، وانظر
شرح العبادي ص 61 ، حاشية الدمياطي ص 7 .
(5) ما بين المعكوفين ليس في " و " .
(1) ورد في " هـ " يوماً .
(2) ليست في " و " . والعرض من العَرَض ، قال الجوهري ( وعرضت عليه كذا وعرضت له الشيء أي أظهرته له وأبرزته إليه ) الصحاح 3/1082
(3) ليست في " ب "
(4) ليست في " و " . والقسم هو اليمين . الصحاح 5/2011
[ أقسام الكلام باعتبار استعماله ]
[ ومن وجه آخر(1) ينقسم إلى حقيقة ومجاز .
[ تعريف الحقيقة ]
فالحقيقة (2) ما بقي في الاستعمال ] (3) على موضوعه .
وقيل ما استعمل فيما اصطلح عليه من المخاطبة (4) ، وإن لم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وهو باعتبار الاستعمال .
(2) الحقيقة لغةً مشتقة من الحقّ والحقّ هو الثابت اللازم ، ويقال أيضاً حقيقة الشيء أي ذاته الثابتة اللازمة . لسان العرب 3/256-258 ، تاج العروس 13/81-83 .
(3) ما بين المعكوفين ليس في " ج " ، وعبارة ( في الاستعمال ) لم ترد في " و " .
(4) عرّف إمام الحرمين الحقيقة في التلخيص 1/184 بقوله ( فإذا قلنا هذه العبارة حقيقة في هذا المعنى ، فمعناه أنها مستعملة فيما وضعت في أصل اللغة له ) والتعريف الأول ذكر نحوه الغزالي وابن الحاجب وابن السبكي وابن النجار وأبو عبد الله البصري والجرجاني وغيرهم وأما التعريف الثاني فقال عنه الإمام الرازي بأنه أحسن ما قيل في حدّ الحقيقة ، ونسبه لأبي الحسين البصري ، فهو مختار أبي الحسين والإمام الرازي والآمدي والبيضاوي وغيرهم .
وانظر تعريف الحقيقة اصطلاحاً في المستصفى 1/341 ، الإحكام 1/26 ، شرح المحلي 1/300 ، شرح العضد 1/138 ، المعتمد 1/16-17 ، التعريفات ص 48 ، فتح الغفّار 1/117 ، فواتح الرحموت 1/203 ، شرح ابن ملك على المنار ص 370 ، المحصول 1/1/397 ، إرشاد الفحول ص 21 ، البحر المحيط 2/152 ، نهاية السول 1/196 ، شرح الكوكب المنير 1/149 ، وقد فصلت الكلام على تعريف الحقيقة اصطلاحاً في رسالتي الحقيقة والمجاز في الكتاب والسنة ص 3-16 .
يبق على موضوعه كالصلاة في الهيئة * المخصوصة ، فإنه لم يبق على موضوعه (1) اللغوي ، وهو الدعاء بخير (2) .
والدابة لذات الأربع كالحمار ، فإنه لم يبق على موضوعه (3) ، وهو كل ما يدب على الأرض (4) .
[ تعريف المجاز ]
والمجاز(5) ما تجوز أي تعدي به عن موضوعه(6) هذا على المعنى (7) الأول للحقيقة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نهاية 4/أ من "ب" .
(1) في "ج" موضعه وهو خطأ .
(2) قال الإمام النووي ( الصلاة في اللغة الدعاء هذا قول جماهير العلماء من أهل اللغة والفقه وغيرهم وسميت الصلاة الشرعية صلاةً لاشتمالها عليه ) تهذيب الأسماء واللغات 1/2/179 ، وانظر المصباح المنير 1/346 ، أنيس الفقهاء ص 67 .
(3) في "ج" موضعه وهو خطأ .(/22)
(4) التعريف الثاني للحقيقة يشمل الحقيقة الشرعية والعرفية عامةً كانت أو خاصة ، فهذه تسمى حقيقة وإن لم تبق في الاستعمال على أصل ما وضعت له . انظر شرح العبادي ص 65-66 .
(5) المجاز مشتق من الجواز وهو العبور والتعدي . لسان العرب 2/416 ، تاج العروس 8/34
وقد عرّف إمام الحرمين المجاز في التلخيص 1/185 بقوله ( ما استعمل في غير ما وضع له في أصل وضع اللغة ) ، وبمثل تعريفه للمجاز في الورقات عرّفه أبو عبد الله البصري كما في المعتمد 1/17 ، وأبو إسحاق الشيرازي في اللمع ص 59 .
(6) في " ج " موضعه وهو خطأ .
(7) في " ب " معنى .
وعلى الثاني هو ما استعمل (1) في غير ما اصطلح عليه من المخاطبة (2) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في " ج " يستعمل .
(2) انظر تعريف المجاز اصطلاحاً في المستصفى 1/341 ، المحصول 1/1/397 ، الإحكام 1/28 ، شرح العضد 1/141 ، فتح الغفّار 1/18 ، حاشية البناني على شرح المحلي على جمع الجوامع 1/305 ، شرح تنقيح الفصول ص 44 ، فواتح الرحموت 1/203 ، شرح الكوكب المنير 1/154 ، بيان معاني البديع 1/1/211 ، معراج المنهاج 1/219 ، وقد فصلت الكلام على تعريف المجاز اصطلاحاً في رسالتي الحقيقة والمجاز في الكتاب والسنة ص 76-81 .
[ أقسام الحقيقة ]
والحقيقة إما (1) لغوية (2) بأن وضعها أهل اللغة (3) كالأسد للحيوان (4) المفترس .
وإما شرعية(5) بأن وضعها الشارع كالصلاة للعبادة المخصوصة (6) .
وإما عرفية (7) بأن وضعها أهل العرف العام …
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ورد في " و " إما أن تكون .
(2) الحقيقة اللغوية هي اللفظ المستعمل فيما وضع له في أصل اللغة . انظر المحصول 1/1/409 ، الإحكام 1/27 ، البحر المحيط 2/158 ، إرشاد الفحول ص 21 ، شرح الكوكب المنير 1/149 ، بيان معاني البديع 1/1/210 ، الحقيقة والمجاز في الكتاب والسنة ص 16 .
(3) في " ج " الفقه وهو خطأ .
(4) في " ج " الحيوان .
(5) الحقيقة الشرعية عرّفها الإمام الرازي بأنها اللفظة التي استفيد من الشرع وضعها للمعنى . المحصول 1/1/414 ، وانظر أيضاً الإحكام 1/27 ، المعتمد 1/24 ، شرح تنقيح الفصول ص 23 ، البحر المحيط 2/158 ، شرح الكوكب المنير 1/150 ، بيان معاني البديع 1/1/210 ، الحقيقة والمجاز ص 17 .
(6) اختلف الأصوليون في وقوع الحقيقة الشرعية ، فأنكر وقوعها القاضي أبو بكر الباقلاني وابن القشيري ، وأثبت وقوعها جمهور الأصوليين ، انظر تفصيل ذلك في شرح المحلي 1/302 ، البرهان 1/175 ، شرح تنقيح الفصول ص 43 ، إرشاد الفحول ص 22 ، فواتح الرحموت 1/222 ، حاشية الجرجاني على شرح العضد 1/165 ، المسودة ص 561 ، الإحكام 1/27 ، المحصول 1/1/414 ، معراج المنهاج 1/ 221 ، الحقيقة والمجاز ص 20 فما بعدها .
(7) انظر في الحقيقة العرفية العامة والخاصة المحصول 1/1/410 ، الإحكام 1/22 ، التمهيد لأبي الخطاب 1/2/745 ، المعتمد 1/27 ، شرح الكوكب المنير 1/150 ، البحر المحيط 2/156 ، الحقيقة والمجاز ص 72-74 .
كالدابة * لذات الأربع كالحمار ، وهي لغة لكل ما يدب على (1) الأرض .
أو (2) الخاص (3) كالفاعل للاسم المرفوع (4) عند النحاة .
وهذا التقسيم ماشٍ على التعريف الثاني للحقيقة دون الأول القاصر على اللغوية .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نهاية 4/ب من " أ "
(1) ليست في "ج" .
(2) في " ج ، هـ " و .
(3) العرف الخاص هو المنسوب لطائفة معينة كالنحاة .انظر شرح العبادي ص 70 ، معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية 2/493 .
(4) في " أ ، ب ، ج " المعروف .
[ أقسام المجاز ]
والمجاز إما أن يكون بزيادة أو نقصان أو نقل أو (1) استعارة، فالمجاز بالزيادة(2) مثل قوله تعالى { ليَسَ كَمِثْلِهِ شيىء } (3) ، فالكاف زائدة (4) وإلا فهي بمعنى مثل فيكون له تعالى مثل وهو محال ، والقصد بهذا الكلام نفيه .
والمجاز بالنقصان(5) مثل قوله تعالى { وَاسألِ القَرْيَةَ } (6)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في " ج " و .
(2) انظر تفصيل الكلام على المجاز بالزيادة في البرهان 2/274 ، التلخيص 1/186 ، شرح المحلي 1/317 ، الإبهاج 1/35 ، المعتمد 1/13 ، شرح العضد 1/167 ، شرح الكوكب المنير 1/169 .
(3) سورة الشورى الآية 11 .(/23)
(4) هذا على قول المثبتين للمجاز في القرآن الكريم وهم أكثر العلماء ، ونفاه آخرون منهم أبو بكر بن داود الظاهري ، وابن القاص من الشافعية ، وابن خويز منداد من المالكية ، وشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم ، ومن المحدثين العلامة محمد الأمين الشنقيطي ، انظر تفصيل ذلك في رسالتي الحقيقة والمجاز في الكتاب والسنة ص 116-135 .
وقد أجاب نفاة المجاز عن قوله تعالى :( ليَسَ كَمِثْلِهِ شيىء ) أنه لا مجاز زيادة فيها ، لأن العرب تطلق المثل وتريد به الذات ، فهو أسلوب من أساليب اللغة العربية ، وهو حقيقة في محله كقول العرب مثلك لا يفعل هذا ، يعنون لا ينبغي لك أنت تفعل هذا . انظر منع جواز المجاز في المنزّل للتعبد والإعجاز ص 253 .
(5) انظر تفصيل الكلام على المجاز في النقصان في البرهان 2/274 ، المحصول 1/1/400 ، المستصفى 1/342 ، البحر المحيط 2/208 ، شرح الكوكب المنير 1/175 ، الإبهاج 1/307 (6) سورة يوسف الآية 82 .
أي أهل (1) * القرية (2) .
وقَرُب صدق تعريف المجاز على ما ذكر بأنه استعمل نفي مثل المثل في نفي المثل وسؤال القرية في سؤال أهلها (3) .
والمجاز بالنقل(4) كالغائط فيما يخرج من الإنسان نقل إليه عن حقيقته وهي المكان المطمئن [ من الأرض ] (5) تقضى فيه الحاجة بحيث لا يتبادر منه (6) عرفاً إلا (7) الخارج (8) .
والمجاز بالاستعارة (9) كقوله تعالى : { جِدَارًا يُرِيدُ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في " و " أي أهلها .
* نهاية 3/ب من " ج " .
(2) وقد أجاب نفاة المجاز عن قوله تعالى ( واسأل القرية ) من وجهين : الأول : إن إطلاق القرية وإرادة أهلها من أساليب اللغة العربية .
الثاني : إن المضاف المحذوف كأنه مذكور لأنه مدلول عليه بالاقتضاء ، وتغيير الإعراب عند الحذف من أساليب اللغة العربية أيضاً ، منع جواز المجاز في المنزّل للتعبد والإعجاز ص 252 .
(3) قارن ما قاله الشارح هنا بما قاله في شرحه على جمع الجوامع 1/318-319 .
(4) انظر تفصيل الكلام على المجاز بالنقل في المعتمد 1/13 ، الإبهاج 1/307 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 1/317 ، البحر المحيط 2/209 ، التحقيقات ص 180 ، الأنجم الزاهرات ص 114 ، شرح العبادي ص 75.
(5) ما بين المعكوفين ليس في " ب " .
(6) ورد في " ب " إلى الذهن .
(7) في " هـ " لا ، وورد في " أ ، ب " بعدها كلمة إلى وزيادتها خطأ .
(8) انظر لسان العرب 10/145 ، المصباح المنير 2/457 .
(9) انظر تفصيل الكلام على المجاز بالاستعارة في البحر المحيط 2/200 ، الإبهاج 1/302 ، المحصول 1/1/451 ، شرح العبادي ص 76 ، حاشية الدمياطي ص 9 ، التحقيقات ص 181 ، الأنجم الزاهرات ص 114 .
أَنْ يَنْقَضَّ } (1) أي يسقط فشبه ميله إلى السقوط [ بإرادة السقوط ] (2) التي هي من صفات الحي دون الجماد (3) .
والمجاز المبني على التشبيه يسمى استعارة (4) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الكهف الآية 77 .
(2) ما بين المعكوفين ليس في " ب " .
(3) وقد أجاب نفاة المجاز عن قوله تعالى :( جداراً يريد أن ينقضّ ) بأنه لا مانع من حمله على حقيقة الإرادة المعروفة في اللغة ، لأن الله تعالى يعلم للجمادات ما لا نعلمه لها ، كما قال تعالى ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) سورة الإسراء الآية 44 ، وقد ثبت في صحيح البخاري حنين الجذع الذي كان يخطب عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وثبت في صحيح مسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - قال ( إني أعرف حجراً كان يسلم عليَّ في مكة … ) فلا مانع من أن يعلم الله من ذلك الجدار إرادة الانقضاض . منع جواز المجاز ص 252 .
(4) الاستعارة مجاز علاقته المشابهة . انظر شرح العبادي ص 76 ، التعريفات ص 13 ، حاشية الدمياطي ص 9 .
[ تعريف الأمر وبيان دلالة صيغة إفعل ]
والأمر (1) استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه على سبيل * الوجوب(2) ، فإن كان الاستدعاء من المساوي سمي (3) التماساً أو (4) من الأعلى (5) سمي سؤالاً (6) ** ، وإن لم يكن (7) على سبيل الوجوب بأن جوز (8)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الأمر لغةً نقيض النهي ، انظر لسان العرب 1/203 ، تاج العروس 6/31 .
* نهاية 4/ب من " ب " .
(2) عرّف إمام الحرمين الأمر في البرهان 1/203 بقوله ( الأمر هو القول المقتضي بنفسه طاعة المأمور بفعل المأمور به ) ونقله الغزالي في المستصفى 1/411 .(/24)
وعرّفه إمام الحرمين في التلخيص 1/242 بقوله ( هو القول المتضمن اقتضاء الطاعة من المأمور لفعل المأمور به ) ، واعترض على هذا التعريف الإمامان الفخر الرازي والآمدي ، انظر المحصول 1/2/19 ، الإحكام 2/140 . وانظر تعريف الأمر اصطلاحاً في اللمع ص 64 ، التبصرة ص 17 ، قواطع الأدلة ص 95 ، نثر الورود 1/172 ، المنخول ص 102 ، فتح الغفّار 1/26 ، أصول السرخسي 1/11 ، شرح العضد 2/77 ، تيسير التحرير 1/337 ، التوضيح 1/149-150 ، معراج المنهاج 1/295 ، نثر الورود 1/172.
(3) في " ب " يسمى .
(4) في " هـ " و .
(5) في " ج " أعلى .
(6) أي إذا كان الاستدعاء من أدنى لمن هو أعلى منه يسمى سؤالاً أو دعاءً . انظر حاشية الدمياطي ص 9 ، شرح العبادي ص 78 ، الأنجم الزاهرات ص 116 .
** نهاية 5/أ من " أ " .
(7) ورد في " ج " وإن لم يكن الاستدعاء .
(8) في " ج " جواز .
الترك فظاهره (1) أنه ليس بأمر أي (2) في الحقيقة (3).
وصيغته (4) الدالة عليه إفعل (5) نحو اضرب وأكرم واشرب ، وهي عند الإطلاق والتجرد عن القرينة (6) الصارفة عن (7) طلب الفعل تحمل عليه أي على الوجوب (8) …
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في " ج " فظاهر .
(2) ليست في " ج " .
(3) أي أن ظاهر كلام إمام الحرمين يفيد أن الاستدعاء إن لم يكن على سبيل الوجوب فلا يعد ذلك أمراً ، فيخرج الندب عن كونه مأموراً به وهذا قول الكرخي والجصاص والسرخسي وغيرهم .
وقال أكثر الأصوليين المندوب مأمور به ، انظر تفصيل ذلك في التبصرة ص 36 ، المستصفى 1/75 ، فواتح الرحموت 1/111 ، تيسير التحرير 2/222 ، شرح العضد 2/5 ، كشف الأسرار 1/119 ، أصول السرخسي 1/14 .
(4) في " هـ " والصيغة .
(5) قال الإسنوي ( ويقوم مقامها - أي إفعل - اسم الفعل والمضارع المقرون باللام ) شرح الإسنوي على المنهاج 1/254 ، وانظر التمهيد للإسنوي ص 266 ، الإبهاج 2/16 ، البحر المحيط 2/356 ، شرح العبادي ص 80 ، حاشية الدمياطي ص 9 .
(6) قال الجرجاني ( القرينة في اللغة فعيلة بمعنى الفاعلة مأخوذ من المقارنة ، وفي الاصطلاح أمر يشير إلى المطلوب ) التعريفات ص 93 .
(7) في " هـ " على .
(8) هذا ما قرره إمام الحرمين هنا في الورقات وفي البرهان 1/216 ، وهو مذهب جمهور الأصوليين أي أنها تفيد الوجوب ، وأما في التلخيص 1/244 فذكر إمام الحرمين أن صيغة إفعل مترددة بين الدلالة على الإلزام والندب والإباحة والتهديد .
انظر تفصيل ذلك في اللمع ص 26 ، المنخول ص 105،134 ، الإحكام 2/144 ، المحصول 1/2/64 ، تيسير التحرير 1/341 ، (
نحو : { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } (1) ، إلا ما دل الدليل (2) على أن المراد (3) منه الندب أو الإباحة[ فيحمل عليه ] (4) أي على الندب أو الإباحة .
مثال الندب { فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } (5) ، ومثال الإباحة { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } (6) ، وقد أجمعوا (7) على عدم وجوب الكتابة (8) والاصطياد .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(
مختصر ابن الحاجب 2/79 ، شرح الكوكب المنير 3/39 ، فتح الغفّار 1/31 ، وفي المسألة أقوال أخرى انظرها في المصادر السابقة .
(1) سورة البقرة الآية 43 .
(2) قال الدمياطي ( الاستثناء منقطع لأن ما دلّ الدليل على صرفه عن الوجوب ليس مجرداً ) حاشية الدمياطي ص 9 ، وجوز صاحب التحقيقات أن يكون الاستثناء متصلاً إن خصّ الدليل بالمنفصل ، لأن ما فيه القرينة المنفصلة داخل في المجرّد عن القرينة المتصلة . التحقيقات ص 187 (3) في " ج " الماد وهو خطأ .
(4) ما بين المعكوفين ليس في " ص ، المطبوعة " ، وهذه العبارة من متن الورقات كما في جميع نسخ الشرح وشرح العبادي ، " ط " ، " و " . وهو الموافق لما في الأنجم الزاهرات والتحقيقات
(5) سورة النور الآية 33 . والمكاتبة معاقدة عقد الكتابة وهي أن يتواضعا على بدل يعطيه العبد نجوماً في مدةً معلومة فيعتق به ، طلبة الطلبة ص 161 ، تفسير القرطبي 12/244 . والمكاتبة مندوبة كما قال الشارح وهو مذهب الجمهور ، لأن القاعدة العامة في الشريعة أن المالك حرّ التصرف في ملكه .
(6) سورة المائدة الآية 2 .
(7) دعوى الشارح الإجماع على عدم وجوب الكتابة فيها نظر فقد نقل القول في الوجوب عن عمر بن الخطاب وابن عباس واختاره الطبري وهو قول أهل الظاهر ، انظر تفصيل ذلك في البرهان 1/261 ، الإحكام 2/142، المحلى 8/219-224 ، تفسير القرطبي 12/245 .
(8) في " ج " الكتاب وهو خطأ .
[ هل الأمر يقتضي التكرار ؟ ](/25)
ولا يقتضي التكرار على الصحيح(1) ، لأن ما قصد به من تحصيل المأمور به (2) يتحقق بالمرة الواحدة ، والأصل براءة الذمة مما زاد (3) عليها ،
إلا إذا (4) دل الدليل على قصد التكرار ، فيعمل به كالأمر بالصلوات الخمس (5) ، والأمر بصوم رمضان (6) .
ومقابل الصحيح أنه يقتضي التكرار (7) ، …
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وهو اختيار إمام الحرمين في البرهان 1/299 ، وقد أخطأ من نسب إلى إمام الحرمين أنه اختار في البرهان التوقف ، انظر تفصيل ذلك في التلخيص 1/299-300 الهامش ، تفسير النصوص 2/291- 293 . ومذهب جمهور الأصوليين هو ما قرره إمام الحرمين هنا ، انظر تفصيل ذلك في التبصرة ص 41 ، الإحكام 2/155 ، المحصول 1/2/162 ، أصول السرخسي 1/20 ، المستصفى 2/2 ، كشف الأسرار 1/123، تيسير التحرير 1/351 .
(2) ليست في " ب " .
(3) في " ب " يزاد .
(4) في " المطبوعة " ما .
(5) كما في قوله تعالى ( وأقيموا الصلاة ) سورة البقرة الآية 43 ، فقد دلّ الدليل كحديث ليلة المعراج على تكرارها في كل يوم وليلة ، انظر صحيح البخاري مع الفتح 2/6 ، حاشية الدمياطي ص 9 .
(6) كما في قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم … فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) سورة البقرة الآيات 183-185 ، فقد دلّ الدليل على تكراره في كل رمضان من كل عام كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - ( صوموا لرؤيته … ) رواه البخاري ومسلم ، صحيح البخاري مع الفتح 5/25 ، صحيح مسلم بشرح النووي 3/155 .
(7) وهذا قول جماعة من العلماء منهم الإمام أحمد في رواية وهو قول أكثر أصحابه كما نقله ابن النجّار ، وهو قول أبي إسحاق الإسفرايني كما نقله عنه إمام الحرمين في البرهان (
فيستوعب (1) المأمور بالمطلوب ما يمكنه من زمان (2) العمر (3) ، حيث (4) لا بيان لأمد المأمور به ، لانتفاء مرجح (5) بعضه على بعض .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(
والآمدي في الإحكام ، ونسبه الغزالي في المنخول لأبي حنيفة والمعتزلة ونسبه القرافي إلى مالك وفي المسألة أقوال أخرى . انظر تفصيل ذلك في البرهان 1/224 ، الإحكام 2/155 المنخول ص 108 ، المسودة ص 5 ، شرح الكوكب المنير 3/43 ، المحصول 1/2/62 ، أصول السرخسي 1/20 ، البحر المحيط 2/385 ، فتح الغفّار 1/31 ، إرشاد الفحول ص 94 ، شرح العضد 2/79 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 1/376 ، المعتمد 1/57 ، شرح تنقيح الفصول ص 130 ، شرح مختصر الروضة 2/374-375 ، التمهيد لأبي الخطاب 1/1/266 ، العدة 1/264 .
(1) في " ب " فيستوهب وهو خطأ .
(2) في " ج " زمن .
(3) هذا احتراز عن أوقات الضرورة كالنوم والأكل وغيرهما ، انظر حاشية الدمياطي ص 9 .
(4) ليست في " ج " .
(5) في " ج " الراجح .
[ هل الأمر يقتضي الفور أم لا ؟ ]
ولا يقتضي الفور (1)،[ لأن الغرض منه إيجاد الفعل من غير اختصاص بالزمان الأول دون الزمان الثاني ] (2) .
وقيل يقتضي الفور (3) ، وعلى ذلك بني (4) قول من قال (5) يقتضي * التكرار .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وعلى هذا أكثر الأصوليين وصححه إمام الحرمين في التلخيص 1/324 إلا أن إمام الحرمين في البرهان على خلاف ذلك ، حيث اختار الوقف إلا أن يقوم الدليل على ما أريد به من فور أو تراخي فقال ( فذهب المقتصدون من الواقفية إلى أن من بادر في أول الوقت كان ممتثلاً قطعاً فإن أخر وأوقع الفعل المقتضي في آخر الوقت فلا يقطع بخروجه عن عهدة الخطاب ، وهذا هو المختار عندنا ) البرهان 1/232 ، وهو اختيار الغزالي في المنخول ص 111 .
انظر تفصيل المسألة في التبصرة ص 52 ، المعتمد 1/120 ، الإبهاج 2/58 ، المحصول 1/2/189 ، التمهيد للإسنوي ص 287 ، أصول السرخسي 1/26 ، المسودة ص 34 ، تيسير التحرير 1/356 المستصفى 2/9 ، شرح الكوكب المنير 3/48 ، إرشاد الفحول ص 99 ، الإحكام 2/165 ، شرح تنقيح الفصول ص 129 ، العدة 1/282.
(2) ما بين المعكوفين ليس في " المطبوعة ، ص " ولم يرد أيضاً في التحقيقات انظر ص 194 .(/26)
(3) وهذا قول أبي الحسن الكرخي من الحنفية وبعض الشافعية كالصيرفي وأبي حامد ونقل عن الإمامين مالك وهو ظاهر كلام أحمد ، ونسب كثير من الأصوليين هذا القول لأكثر الحنفية وفي ذلك نظر ، بل هو مذهب أبي الحسن الكرخي فقط ، وفي المسألة أقوال أخرى . انظر تفصيل ذلك في أصول السرخسي 1/26 ، المغني للخبازي ص 40 ، كشف الأسرار 1/254 ، تيسير التحرير 1/356 ، شرح تنقيح الفصول ص 128 ، العدة 1/281 ، التمهيد لأبي الخطاب 1/1/295 ، الوصول إلى الأصول 1/148 ، تفسير النصوص 2/346 فما بعدها .
(4) ليست في " ب " ، وفي " ج " جرى ، وفي " هـ " يحمل .
(5) في " هـ " يقول ، وورد في " ب ، ج " إنه .
* نهاية 5/ب من " أ " .
[ ما لا يتم الواجب إلا به ]
والأمر بإيجاد الفعل أمر به وبما لا يتم (1) الفعل إلا به (2) ، كالأمر (3) بالصلاة (4) أمر بالطهارة المؤدية إليها ، فإن الصلاة * لا تصح بدون (5) الطهارة (6) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ورد في " و " ذلك .
(2) هذه المسألة المعروفة عند الأصوليين بمقدمة الواجب ويقولون ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب وما لا يتم الوجوب إلا به فليس بواجب .
ومقدمة الواجب تنقسم إلى قسمين :
مقدمة وجوب وتسمى مقدمة تكليف وهي ما يتوقف وجوب الواجب عليه سواء كانت سبباً أو شرطاً مثال السبب دخول الوقت للصلاة ومثال الثاني الاستطاعة للحج .
ومقدمة وجود وتسمى مقدمة صحة وهي ما يتوقف وجود الواجب عليه مثل الوضوء بالنسبة للصلاة .
ومقدمة الوجوب تحصيلها ليس واجباً على المكلف أما مقدمة الوجود فتحصيلها واجب على المكلف إن كانت تحت مقدوره كالوضوء بالنسبة للصلاة .
وأما إن لم تكن تحت قدرته فليست واجبة عليه كحضور أربعين لصحة الجمعة عند من يشترط ذلك العدد . وخلاف الأصوليين في مقدمة الوجود فقط . انظر تفصيل الكلام على مقدمة الواجب في البرهان 1/257 ، التلخيص 1/290 ، المستصفى 1/71 ، الإحكام 1/110 ، تيسير التحرير 2/215 ، الإبهاج 1/109 ، شرح تنقيح الفصول ص 160 ، شرح العضد 1/244 ، شرح الكوكب المنير 1/358 ، المسودة ص 60 ، التحقيقات ص 196-200 ، الأنجم الزاهرات ص 122 ، العدة 2/419 ، التمهيد لأبي الخطاب 1/1/398 ، أصول الفقه للزحيلي 1/67 ، الحكم التكليفي ص 141 .
(3) في " ج " كأمر .
(4) في " المطبوعة " فإنه . (
[ خروج المأمور عن عهدة الأمر ]
وإذا فُعِلَ بالبناء للمفعول ، أي المأمور به (1) ، يخرج المأمور عن العهدة (2) ، أي عهدة الأمر. ويتصف الفعل بالإجزاء (3) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(
* نهاية 4/أ من " ج " .
(5) في " هـ " بدونها .
(6) ليست في " هـ " .
(1) ليست في " هـ " .
(2) في " و " عن عهدة الأمر .
(3) الإجزاء عند الأصوليين يعني أمرين الأول امتثال المكلف للأمر بالإتيان به على الوجه الذي أمر به الشارع ، والثاني سقوط القضاء .
وقد اتفق الأصوليون على أن المكلف إن فعل ما أمر به على الوجه الصحيح تحقق الإجزاء .
ووقع الخلاف في الإجزاء بالمعنى الثاني ، فما قرره إمام الحرمين هو مذهب جمهور الأصوليين ، وفي المسألة قول آخر وهو أن فعل الأمر لا يدل على سقوط القضاء ولا بد من دليل آخر وهو قول القاضي عبد الجبار ومن تابعه من المعتزلة ، انظر تفصيل المسألة في البرهان 1/255 ، التلخيص 1/376 ، الإحكام 2/175 ، اللمع ص 85 ، المستصفى 2/12 ، المحصول 1/2/414 ، المعتمد 1/99 ، شرح العضد 2/90 ، المنخول 1/117 ، المحصول 1/2/414 ، التمهيد لأبي الخطاب 1/1/393 ، العدة 1/300 ، مفتاح الوصول ص 397 ، المسودة ص 27 .
[ الذي يدخل في الأمر والنهي وما لا يدخل ]
الذي يدخل في الأمر والنهي [ وما لا يدخل ] (1) هذه ترجمة . يدخل في خطاب الله تعالى المؤمنون (2) ، وسيأتي الكلام (3) في الكفار .
(4) والساهي (5) …
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ما بين المعكوفين ليس في " هـ " ، وورد في " المطبوعة " ( تنبيه من يدخل في الأمر والنهي ومن لا يدخل ).
(2) والمؤمنات أيضاً ، والمقصود بالمؤمنين والمؤمنات البالغون العاقلون منهم وهذا باتفاق العلماء ، انظر التحقيقات ص 205 .
(3) ليست في " ج " .
(4) في " المطبوعة " وأما .
(5) الساهي أصله السهو والسهوة وهو نسيان الشيء والغفلة عنه وذهاب القلب عنه إلى غيره كما قال ابن منظور في لسان العرب 6/414 .(/27)
والسهو والغفلة والنسيان بمعنى واحد عند كثير من العلماء . انظر شرح الكوكب المنير 1/77 . وقال الباجي ( والسهو الذهول ، معنى السهو أن لا يكون الساهي ذاكراً لما نسي وهو على قسمين : أحدهما أن يتقدمه ذكر ثم يعدم الذكر فهذا يصح أن يسمى سهواً ويصح أن يسمى نسياناً . والقسم الثاني لا يتقدمه ذكر فهذا لا يصح أن يوصف بالنسيان وإنما يوصف بالسهو والذهول ) الحدود ص 30-31 .
وانظر تفصيل الكلام في أن الساهي غير مكلف في البرهان 1/15 ، التلخيص 1/139 ، كشف الأسرار 4/276 ، التوضيح 2/176 ، المغني للخبازي ص 373 ، المرآة ص 329 ، بيان معاني البديع 1/2/810 ، فتح الغفّار 3/88 ، المستصفى 1/84 ، التمهيد للإسنوي ص 112 .
والصبي (1) والمجنون(2) ، غير(3) داخلين في الخطاب، * لانتفاء التكليف عنهم (4) . ويؤمر الساهي بعد ذهاب السهو عنه بجبر خلل السهو ، كقضاء ما فاته من الصلاة ، (5) وضمان ما أتلفه من المال (6) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر تفصيل الكلام على أن الصغير غير مكلّف في التلخيص 1/144 ، أصول السرخسي 2/341، كشف الأسرار 4/271 ، التوضيح 2/168 ، شرح الكوكب المنير 1/499 ، المرآة ص 328 ، المغني للخبازي ص 371 ، فتح الغفّار 3/85 ، التقرير والتحبير 2/172 .
(2) الجنون من عوارض الأهلية السماوية وهو معنى يقتضي انعدام آثار العقل وتعطيل أفعاله وهو قسمان : أصلي وعارض ، انظر تفصيل الكلام على ذلك في بيان معاني البديع 1/2/800 ، كشف الأسرار 4/264 ، التوضيح 2/167 ، تيسير التحرير 2/259 ، المرآة ص 326 ، مباحث الحكم عند الأصوليين ص 276 ، أصول الفقه لأبي زهرة ص 339 .
(3) ورد في " المطبوعة " فهم غير .
* نهاية 5/أ من " ب " .
(4) أي لانتفاء شرط التكليف وهو العقل والفهم ولارتفاع قلم التكليف عنهم ، انظر الأنجم الزاهرات ص 126 .
(5) في " ج " الصلوات .
(6) هذا جواب على اعتراض بأن الساهي لو لم يكن مكلفاً لما وجب عليه سجود السهو ودفع قيمة ما أتلفه ، فأجاب الشارح بأن سجود السهو وضمان ما أتلف لا يكون حال السهو وإنما بعد ذهاب حال السهو فإنه حينئذ يكون مكلفاً ، انظر الأنجم الزاهرات ص 126 ، التحقيقات ص 206 .
[ هل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة أم لا ؟ ]
والكفار مخاطبون بفروع الشرائع(1) وبما لا تصح(2) إلا به وهو الإسلام(3) لقوله تعالى[ حكاية عن الكفار] (4)
{ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ } (5) وفائدة خطابهم بها عقابهم عليها إذ (6) لا تصح منهم (7) …
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في " المطبوعة " الشريعة .
(2) ورد في " و " الشرائع .
(3) وهذا مذهب جمهور الأصوليين ، ونقل عن الإمامين الشافعي ومالك وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد ، وهو قول جماعة من الحنفية منهم الكرخي والجصاص وهو مذهب المعتزلة أيضاً وفي المسألة أقوال أخرى منها :
- أنهم غير مكلفين وهو قول أكثر الحنفية .
- أنهم مكلفون بالمنهيات دون المأمورات ، وهو رواية عن الإمام أحمد ، وهو قول بعض الحنفية - أنهم مكلفون بالمأمورات دون المنهيات .
انظر تفصيل المسألة في البرهان 1/107 ، التلخيص 1/386 ، المستصفى 1/91 ، المعتمد 1/294 ، الإحكام 1/144 ، التبصرة ص 80 ، شرح العضد 2/12 ، كشف الأسرار 4/243 ، فواتح الرحموت 1/128 ، أصول السرخسي 1/73 ، التوضيح 1/213 ، تيسير التحرير 2/148 ، المحصول 1/2/400 ، التمهيد للإسنوي ص 127 ، شرح تنقيح الفصول ص 166 ، شرح الكوكب المنير 1/504 ، بيان معاني البديع 1/2/754 ، مرآة الأصول ص 74 ، الضياء اللامع 1/368 ، التمهيد لأبي الخطاب 1/1/376 ، المسودة ص 46 .
(4) ما بين المعكوفين ليس في " أ ، ب " .
(5) سورة المدثر الآيتان 42-43 .
(6) في " ج " إذا وهو خطأ .
(7) ورد في " هـ " في .
حال الكفر لتوقفها (1) على النية المتوقفة على الإسلام ولا يؤاخذون بها بعد الإسلام ترغيباً فيه (2) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في " ج " لتواقفها وهو خطأ .
(2) أي أن الكفار الأصليين - من عدا المرتد - إذا أسلموا لا يؤاخذون بالتكاليف التي تركوها قبل دخولهم في الإسلام ، لأن الإسلام يجب ما قبله ، وترغيباً لهم في دخول الإسلام ، انظر حاشية الدمياطي ص 10 .
[ هل الأمر بالشيء نهي عن ضده ؟ ]
والأمر بالشيء نهي عن ضده (1) .
[ النهي عن الشي أمر بضده ]
والنهي عن الشيء أمر بضده (2) ، …(/28)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هذا ما قرره إمام الحرمين هنا في الورقات ، وأما في البرهان 1/252 فقد قال ( إن الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن أضداده ) .
وما ذكره إمام الحرمين هنا هو مذهب أكثر الأصوليين وبه قال أتباع المذاهب الأربعة .
وفي المسألة أقوال أخرى ، انظر تفصيل ذلك في التلخيص 1/411 ،التبصرة ص89 ، المستصفى 1/52 ، المنخول ص 114 ، أصول السرخسي 1/94 ، المحصول1/2/334 ، تيسير التحرير 1/363 ، البحر المحيط 2/416 ، الإحكام 2/170 ، فواتح الرحموت 1/97 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 1/386 ، شرح الكوكب المنير 1/51 ، المسودة ص 51 ، المرآة ص 81 ، التمهيد لأبي الخطاب 1/1/406 ، إرشاد الفحول ص 101 .
(2) ذهب إمام الحرمين في البرهان إلى خلاف ما قرره هنا في الورقات بأن النهي عن الشيء أمر بضده ، وأما في البرهان 1/254-255 فقال ( فأما من قال النهي عن الشيء أمر بأحد أضداد المنهي عنه فقد اقتحم أمراً عظيماً ، وباح بالتزام مذهب الكعبي في نفي الإباحة … ومن قال الأمر بالشي نهي عن الأضداد أو متضمن للنهي عن الأضداد وليس النهي عن الشيء أمراً بأحد الأضداد - من حيث تفطن لغائلة الكعبي - فقد تناقض كلامه ، فإنه كما يستحيل الإقدام على المأمور به دون الانكفاف عن أضداده ، فيستحيل الانكفاف عن المنهي عنه دون الاتصاف بأحد الأضداد ، ولا يمتنع وجوب شيء من أشياء فهذا نجاز المسألة ).
وفي المسألة أقوال أخرى انظر المعتمد 1/108 ، شرح العضد 2/85 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 1/388 ، أصول السرخسي 1/94-96 ، شرح الكوكب المنير 3/54 ، (
فإذا قال له (1) : اسكن كان ناهياً له (2) عن التحرك ، أو لا تتحرك ، كان آمراً له بالسكون .
[ تعريف النهي ]
والنهي استدعاء [ أي طلب ] (3) الترك بالقول(4) ممن هو دونه على سبيل الوجوب(5) ، على وزان ما تقدم في حد الأمر .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(
شرح تنقيح الفصول ص 135 ، فواتح الرحموت 1/97 ، تيسير التحرير 2/363 ، إرشاد الفحول ص 102 .
(1) ليست في " ج " .
(2) ليست في " أ " .
(3) ما بين المعكوفين ليس في " أ " .
(4) في " ج " لقول وهو خطأ .
(5) انظر تعريف النهي اصطلاحاً في اللمع ص 85 ، المستصفى 1/411 ، شرح العضد 2/94 ، أصول السرخسي 1/278 ، كشف الأسرار 1/256 ، الإحكام 2/187 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 1/390 ، فواتح الرحموت 1/ 395 ، شرح الكوكب المنير 3/77 ، فتح الغفّار 1/77 ، الإبهاج 2/66 ، نهاية الوصول 2/415 ، مفتاح الوصول ص 412 .
[ النهي يدل على فساد المنهي عنه ]
ويدل النهي المطلق شرعاً على فساد المنهي عنه (1) في العبادات ، سواء نهي (2) عنها لعينها [ كصلاة الحائض (3) وصومها (4) أو لأمر لازم لها كصوم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هذا مذهب جماهير الفقهاء والأصوليين من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وأهل الظاهر ، وبه قال بعض المتكلمين . وعند عامة المتكلمين لا يقتضي النهي الفساد ، واختاره إمام الحرمين في التلخيص 1/502 وفي البرهان 1/283 ، وفي المسألة أقوال أخرى انظر تفصيل ذلك في التبصرة ص 100 ، المعتمد 1/84 ، تحقيق المراد في أن النهي يقتضي الفساد ص 285 ، المحصول 1/2/486 ، المستصفى 2/24 ، أصول السرخسي 1/80 ، تيسير التحرير 1/376 ، الإحكام 2/188 ، المسودة ص 80 ، فواتح الرحموت 1/396، إرشاد الفحول ص 95 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 1/393 ، كشف الأسرار 1/257 ، المنخول ص 126،205 ، شرح العبادي ص 93 ، التمهيد للإسنوي ص 292 ، الأنجم الزاهرات ص 132 ، التحقيقات ص 214 ، مفتاح الوصول ص 418 .
(2) في " هـ " أنهي .
(3) روى البخاري بإسناده عن عائشة رضي الله عنها أن فاطمة بنت أبي حبيش كانت تستحاض فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال :( ذلك عرق وليست بالحيضة ، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة … ) صحيح البخاري مع الفتح 1/437 ، ورواه مسلم أيضاً ، صحيح مسلم بشرح النووي 2/16 .
(4) وردت أحاديث كثيرة في أن الحائض لا تصوم وإنما تقضي الصوم فمن ذلك ما رواه البخاري من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - وفيه ( … أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم ) صحيح البخاري مع الفتح 1/422 ، وروى مسلم من حديث معاذة عن عائشة ( … قد كنَّ نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحضن فأمرهن أن يجزين ) أي يقضين ، صحيح مسلم بشرح النووي 2/24 ، وغير ذلك من الأحاديث .(/29)
يوم النحر (1) والصلاة في الأوقات المكروهة (2) .
وفي المعاملات إن رجع (3) إلى نفس العقد كما في بيع الحصاة (4) .
أو لأمر داخل (5) فيه (6) كبيع الملاقيح (7) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ومثله صوم يوم الفطر ففي الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( نهى عن صيام يومين يوم الفطر ويوم النحر ) صحيح البخاري مع الفتح 5/144 ، صحيح مسلم بشرح النووي 3/208
(2) كالصلاة بعد الفجر وبعد العصر كما ثبت في الحديث عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ( نهى عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب الشمس ) روه البخاري ، صحيح البخاري مع الفتح 2/200 ، وروى مسلم بإسناده عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال
( ثلاث ساعات كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهانا أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا ، حين تطلع الشمس بازغةً حتى ترتفع ، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس ، وحين تضيَف - أي تميل - للغروب حتى تغرب ) صحيح مسلم بشرح النووي 2/433 ، وانظر مفتاح الوصول ص 421 ، الفروق 2/183 ، التمهيد للإسنوي ص 294 .
(3) في " هـ " يرجع .
(4) روى مسلم بإسناده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال ( نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر ) قال الإمام النووي ( أما بيع الحصاة ففيه ثلاث تأويلات : أحدها أن يقول : بعتك من هذه الأثواب ما وقعت عليه الحصاة التي أرميها ، أو بعتك من هذه الأرض من هنا إلى ما انتهت إليه هذه الحصاة ، والثاني أن يقول : بعتك على أنك بالخيار إلى أن أرمي بهذه الحصاة ، والثالث أن يجعلا نفس الرمي بالحصاة بيعاً فيقول : إذا رميت هذا الثوب بالحصاة فهو مبيع منك بكذا ) صحيح مسلم مع شرح النووي 4/121 .
(5) في " هـ " دخل .
(6) في " هـ " فيها .
(7) وهو بيع ما في بطون الأمهات ، روى مالك عن سعيد بن المسيب أنه قال ( لا ربا في الحيوان وإنما نهى من الحيوان عن ثلاثة : عن المضامين والملاقيح وحبل الحبلة ) وفسر مالك الملاقيح بأنه بيع ما في ظهور الجمال ، الموطأ 2/507 ، وانظر الاستذكار 20/96-100 ،
ورواه البيهقي عن سعيد مرسلاً أيضاً ، سنن البيهقي 5/341 . (
أو لأمر خارج عنه لازم له كما في بيع درهم بدرهمين ، فإن كان غير لازم له (1) ، كالوضوء بالماء المغصوب مثلاً ، وكالبيع وقت نداء الجمعة (2) لم يدل على الفساد خلافاً لما يفهمه كلام المصنف (3) ] (4) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( نهى عن بيع المضامين والملاقيح وحبل الحبلة ) رواه الطبراني في الكبير وهو حديث ضعيف . ومثله عن أبي هريرة رواه البزار وهو ضعيف كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/104 ، إلا أن الشيخ الألباني صحح الرواية عن ابن عباس في صحيح الجامع الصغير 2/1166 .
(1) ليست في " هـ " .
(2) كما في قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ) سورة الجمعة الآية 9 ، وانظر العدة 2/441 ، مفتاح الوصول ص 442 ، التمهيد للإسنوي ص 294 .
(3) وذلك لأن كلام إمام الحرمين يدل على أن النهي يدل على فساد المنهي عنه مطلقاً ، ومذهب الشافعية والحنفية أن النهي هنا لا يدل على الفساد وخالفهم المالكية في المشهور عندهم والحنابلة وأهل الظاهر ، فقالوا النهي يدل على الفساد فالبيع وقت النداء غير صحيح ، انظر أصول السرخسي 1/81 المسودة ص 83 ، الاختيار 2/26 ، أحكام القرآن لابن العربي 4/ 1805 ، شرح تنقيح الفصول ص 173 .
(4) ما بين المعكوفين ساقط من " ج " .
[ معاني صيغة الأمر ]
وترد [ أي توجد ] (1) صيغة الأمر * والمراد به أي بالأمر الإباحة (2) كما تقدم (3) .
أو (4) التهديد (5) نحو { اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ } (6) .
أو التسوية (7) نحو (8) { فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا } (9) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ما بين المعكوفين ليس في " أ ، ج " .
* نهاية 6/أ من " أ " .
(2) انظر تفصيل ذلك في التلخيص 1/261 ، التمهيد للإسنوي ص 266 ، أصول السرخسي 1/14 ، كشف الأسرار 1/107 ، المحصول 1/2/95 ، المعتمد 1/49 ، المستصفى 1/417 ، الإحكام 2/142 ، فواتح الرحموت 1/372 ، المنخول ص 132 ، التحقيقات ص 220 ، الأنجم الزاهرات ص 133 ،شرح الكوكب المنير 3/17 فما بعدها .(/30)
(3) سبق في كلام المصنف والشارح أن صيغة الأمر ترد للندب ، انظر ص
(4) في " ج " و .
(5) بعض الأصوليين سماه التقريع ، وبعضهم سماه التوبيخ ، انظر التوضيح 1/152 ، أصول السرخسي 1/14، كشف الأسرار 1/107 ، الإحكام 2/143 التبصرة ص 20 ، المحصول 1/2/59 ، التحقيقات ص 220 ، المنخول ص 133 ، شرح الكوكب المنير 3/23 .
(6) سورة فصلت الآية 40 .
(7) أي التسوية بين شيئين ، انظر البرهان 1/315 ، المستصفى 1/418 ، كشف الأسرار 1/107 ، الإحكام 2/143 ، المنخول ص 133 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 1/374 ، المحصول 1/2/60 ، فواتح الرحموت 1/372 ، شرح الكوكب المنير 3/27 .
(8) ليست في " أ " .
(9) سورة الطور الآية 16 .
أو (1) التكوين (2) نحو { كُونُوا قِرَدَةً } (3) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في " ب " و .
(2) وسماه بعض الأصوليين التسخير ، وبعضهم سماه كمال القدرة ، انظر فواتح الرحموت 1/372 ، المحصول 1/2/61 ، المستصفى 1/418 ، الإحكام 2/143 ، التبصرة ص 20 ، كشف الأسرار 1/107 .
(3) سورة البقرة الآية 65 .
وقد اكتفى المصنف والشارح بذكر أربع معان لصيغة الأمر وهنالك صيغ أخرى كثيرة أوصلها بعض الأصوليين إلى خمس وثلاثين معنى ومعظمها كالمتداخل كما قال الغزالي في المستصفى 1/419 ، ومنها الإكرام والامتنان والدعاء والتسوية والاحتقار وغيرها ، وانظر شرح الكوكب المنير 3/17-38 ، إرشاد الفحول ص 97 ، المحصول 1/2/57-61 . كما أن المصنف والشارح لم يذكرا معاني صيغة النهي وقد استدركها على المصنف المارديني في الأنجم الزاهرات ص 135-136 ، وابن قاوان في التحقيقات ص 222-224 .
[ تعريف العام ]
وأما العام (1) فهو ما عم شيئين فصاعداً من غير حصر (2) ،
من قوله عممت زيداً وعمراً بالعطاء ، وعممت جميع الناس بالعطاء أي شملتهم به ، ففي العام شمول (3) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) العام في اللغة من عمَّ وهو بمعنى الشمول ، يقال عمَّهم الأمر يعمهم عموماً شملهم ، ويقال عمَّهم بالعطية أي شملهم ، انظر لسان العرب 9/406 ، تاج العروس 17/507 ، المصباح المنير 2/430 .
وأما تعريف العامّ اصطلاحاً فقد عرّفه إمام الحرمين في التلخيص 2/5 بقوله ( العام هو القول المشتمل على شيئين فصاعداً ) ، وهذا قريب من تعريفه المذكور هنا في الورقات ، وانظر اللمع ص 87 ، الحدود ص 44 ، المعتمد 1/203 ، الإحكام 2/195 ، المحصول 1/2/513 ، أصول السرخسي 1/125 ، المستصفى 2/32 ، المسودة ص 574 ، شرح الكوكب المنير 3/101 ، إرشاد الفحول ص 112 ، فواتح الرحموت 1/255 ، شرح العضد 2/99 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 1/398 ، مفتاح الوصول ص 486 .
(2) قول الشارح ( من غير حصر ) احتراز عن أسماء العدد كمئة وألف ، فإنها عمّت شيئين فصاعداً لكن مع الحصر ، انظر شرح العبادي ص 99 ، التحقيقات ص 225 .
(3) أي أن للعموم شمول استغراقي .
[ صيغ العموم ]
وألفاظه(1) الموضوعة له أربعة (2) : الاسم الواحد المعرف بالألف(3) واللام(4) ، نحو { إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا } (5) .
واسم الجمع المعرف باللام (6) …
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وهذا بناءاً على قول أكثر الأصوليين أن العموم له صيغة تدل عليه ، ويسمى هذا المذهب مذهب أرباب العموم ، وفي المسألة أقوال أخرى ، انظر البرهان 1/320 ، شرح العضد 2/102 ، شرح الكوكب المنير 3/108 ، المعتمد 1/209 ، البحر المحيط 3/17 ، المحصول 1/2/523 ، المسودة ص 89 ، الإحكام 2/200 ، التبصرة ص 105 .
(2) ألفاظ العموم أكثر من أربعة فقد ذكر العلائي أربعة وعشرين لفظاً منها وإنما قيّدها المصنف بأربعة مراعاة للمبتدئ فإن الضبط أسهل عليه ، تلقيح الفهوم ص 250 فما بعدها ، شرح العبادي ص 100 .
(3) ليست في " أ ، ب ، ج " ، وورد في " ج " باللام ، والمثبت موافق لما في " ص " و الأنجم الزاهرات والتحقيقات .
(4) وهذا مذهب جمهور الأصوليين وهو أن الاسم المعرف بالألف واللام من ألفاظ العموم .(/31)
وذهب إمام الحرمين في البرهان 1/341 ، وتابعه الغزالي في المنخول ص 144 ، والمستصفى 2/53 ، إلى أن الاسم المفرد المحلّى بالألف واللام إن تميز فيه لفظ الواحد عن الجنس بالهاء كالتمرة والتمر فهو للعموم ، وإن لم يتميز فلا يعم . وفي المسألة أقوال أخرى انظر تفصيل ذلك في التبصرة 1/115 ، المحصول 1/2/602 ، شرح الكوكب المنير 3/133 ، المعتمد 1/244 ، الإحكام 2/197 ، كشف الأسرار 2/14 ، تيسير التحرير 1/209 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 1/412 ، المسودة ص 105 ، البحر المحيط 3/97 ، تلقيح الفهوم ص 414 .
(5) سورة العصر الآيتان 2،3 .
(6) وكذا اسم الجمع المعرّف بالإضافة ، فإنه يعمّ كما في قوله تعالى ( يوصيكم الله في أولادكم ) سورة النساء الآية 11 . وانظر تفصيل الكلام على عموم اسم الجمع (
نحو { فاقتلوا المشركين } (1) .
والأسماء المبهمة كمن فيمن يعقل * ، كمن دخل داري فهو آمن (2)
وما فيما لا (3) يعقل، نحو ما جاءني (4) منك أخذته (5) .
وأي [ استفهامية أو شرطية أو موصولة ] (6) في الجميع (7) ، …
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(
المعرّف باللام وبالإضافة في البرهان 1/323 ، أصول السرخسي 1/151 ، الإحكام 2/197 ، المستصفى 2/37 ، المعتمد 1/207 ، فواتح الرحموت 1/260 ، شرح الكوكب المنير 1/130 ، تلقيح الفهوم ص 374 ، التحقيقات ص 235-236 ، الأنجم الزاهرات ص 138.
(1) سورة التوبة الآية 5 .
* نهاية 5/ب من " ب " .
(2) انظر تفصيل الكلام على ذلك في البرهان 1/322،360 ، التلخيص 2/15 ، المنخول ص 140 ، المحصول 1/2/517 ، الإحكام 2/197 ، المسودة ص 100 ، شرح الكوكب المنير 3/119 ، المعتمد 1/206 ، شرح العضد 2/102 ، تلقيح الفهوم ص 320 .
(3) ليست في " هـ " .
(4) في " هـ " ما جاء لي .
(5) انظر البرهان 1/322 ، التلخيص 2/15 ، المستصفى 2/36 ، الإحكام 2/198 ، أصول السرخسي 1/156 ، المسودة ص 101 ، الأنجم الزاهرات ص 140 ، شرح تنقيح الفصول ص 199 ، التحقيقات ص 239 ، شرح العبادي ص 102 ، حاشية الدمياطي ص 11 ، تلقيح الفهوم ص 326 .
(6) ما بين المعكوفين ليس في " أ ، ب ، ج " .
(7) انظر المحصول 1/2/516 ، المعتمد 2/206 ، الإحكام 2/197 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 1/409 ، شرح تنقيح الفصول ص 179 ، شرح الكوكب المنير 3/122 ، إرشاد الفحول ص 118 ، تيسير التحرير 1/226 ، تلقيح الفهوم ص 336 ، مفتاح الوصول ص 395 ، التحقيقات ص 240 .
أي من يعقل وما (1) لا (2) يعقل ، نحو أي عبيدي جاءك أحسن إليه (3) ،
وأي الأشياء أردت أعطيتكه (4) .
وأين في المكان(5) نحو (6) أين ما (7) تكن أكن (8) معك (9) .
ومتى في الزمان ، نحو متى شئت جئتك (10) .
وما في الاستفهام ، نحو ما عندك ؟ (11) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في " ب " ومن .
(2) في " هـ " لم .
(3) هذا مثال لأي الشرطية .
(4) هذا مثال لأي الموصولة ، ومثال أي الاستفهامية هو أيَّ الطلاب أمتحن ؟ .
(5) في " ب " للمكان .
(6) ليست في " ب " .
(7) ليست في " أ ، ب ، ج " .
(8) ورد في " ب " أكون .
(9) انظر البرهان 1/323 ، التلخيص 2/15 ، الإحكام 2/198 ، أصول السرخسي 1/157 ، المعتمد 1/206 ، المحصول 1/2/518 ، البحر المحيط 3/81 ، المسودة ص 101 ، شرح الكوكب المنير 3/121 .
(10) انظر البرهان 1/323 ، التلخيص 2/15 ، المنخول ص 140 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 1/409 ، المحصول 1/2/518 ، الإحكام 2/198 ، أصول السرخسي 1/157 ، شرح الكوكب المنير 3/121 ، التحقيقات ص 241 ، تلقيح الفهوم ص 351 .
(11) ذكر المصنف سابقاً أن ما لغير العاقل ، وهنا ذكر أنها تكون عامةً في الاستفهام والجزاء أو الخبر ، كما في إحدى نسخ الورقات كما أشار إليه الشارح ، انظر الإحكام 2/198 ، أصول السرخسي 1/156 ، الأنجم الزاهرات ص 141 ، المحصول 1/2/517 ، المعتمد 1/206 ، التحقيقات ص 241 .
والجزاء ، * نحو ما تعمل تجز به (1) .
وفي نسخة (2) والخبر بدل الجزاء نحو علمت (3) ما عملت .
وغيره كالخبر على النسخة الأولى والجزاء على الثانية .
ولا في النكرات نحو لا رجل في الدار (4) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نهاية 4/ب من " ج " .
(1) الجزاء هو المجازاة وهو ترتب أمر على أمر آخر ، ومثاله ما ذكره الشارح ، انظر شرح العبادي ص 103 .
(2) أي في إحدى نسخ الورقات التي اطلع عليه الشارح وردت كلمة ( والخبر ) بدل كلمة(/32)
( والجزاء ) ولم أطلع على النسخة المشار إليها ، وقد ذكر ابن قاوان أن ذلك تصحيف - أي ذكر الخبر بدل الجزاء - ومثله قال ابن إمام الكاملية كما ذكره الدكتور الشريف سعد بن
عبد الله محقق شرح التحقيقات ، ويؤيد وقوع التصحيف ( أن المراد بما لا يعقل هو الموصولة والموصوفة ، والمراد بالخبر هما أيضاً ، فيلزم التكرار . وأما الاستفهام والجزاء فليس داخلاً فيما لا يعقل ، لأنه ليس من شأن المستفهم عنه والمجزي به أن يعقلا فلا فائدة في نفي العقل عنهما ) التحقيقات ص 241-242 كلام المحقق .
(3) في " أ " عملت .
(4) النكرة في سياق النفي تعم ، ومثاله ما ذكره الشارح ، وكذا في سياق النهي كما في قوله تعالى ( ولا تقولن لشيء إني فاعلن ذلك غدا إلا أن يشاء الله ) سورة الكهف الآيتان 23،24 .
وكون النكرة في سياق النفي تعم هو مذهب جماهير الأصوليين وأهل العربية وذهب بعض النحويين والمتأخرين من الأصوليين إلى أنها لا تعم ، انظر البرهان 1/337 ، الإحكام 2/197 ، روضة الناظر 2/229 ، شرح تنقيح الفصول ص 182 ، المستصفى 2/90 ، المنخول ص 146 ، المعتمد 1/206 ، المسودة ص 101 ، شرح الكوكب المنير 3/136-137 ، التحقيقات ص 242 ، الأنجم الزاهرات ص 142 ، تلقيح الفهوم ص 442 .
[ العموم من صفات الألفاظ والفعل لا عموم له ]
والعموم من صفات النطق (1) ولا يجوز دعوى العموم في غيره من الفعل وما يجري (2) مجراه (3) ، كما في جمعه * - صلى الله عليه وسلم - بين الصلاتين في السفر رواه البخاري (4) ، فإنه لا يعم السفر الطويل والقصير ، فإنه إنما يقع في واحد منهما (5) .
وكما في قضائه - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة (6) للجار . رواه النسائي (7) …
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أي أن العموم لا يكون إلا في اللفظ فيستغرق الجنس بلفظه كالألفاظ التي ذكرت سابقاً ، انظر التلخيص 2/7 ، اللمع ص 92 .
(2) في " ب " جرى ، وفي " و " ولا ما يجري .
(3) أي أن الأفعال لا يصح فيها دعوى العموم ، لأنها تقع على صفة واحدة وكذا لا عموم لما أجري مجرى الفعل كما في قضاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة للجار كما ذكره الشارح ، انظر التلخيص 2/7-8 ، المستصفى 2/32 ، المعتمد 1/203،205 ، اللمع ص 92 ، التحقيقات ص 249-250 ، الأنجم الزاهرات ص 142 ، شرح العضد 2/118 .
* نهاية 6/ب من " أ " .
(4) روى البخاري أحاديث الجمع بين الصلاتين في السفر في عدة مواضع من صحيحه ، انظر صحيح البخاري مع الفتح 3/226،233-236 ، وروى مسلم تلك الاحاديث في صحيحه أيضاً انظر صحيح مسلم بشرح النووي 2/331 فما بعدها .
(5) انظر اللمع ص 92-93 ، الأنجم الزاهرات ص 142-143 .
(6) في " أ ، ج " في الشفعة .
(7) لم أجده في سنن النسائي الصغرى ولا في سننه الكبرى ، ووجدت الزيلعي ذكر حديثاً بلفظ ( جار الدار أحق بالدار ينتظر له وإن كان غائباً إذا كان طريقهما واحداً ) ثم قال الزيلعي ( قلت : هو مركب من حديثين فصدر الحديث أخرجه أبو داود في البيوع (
عن الحسن (1) مرسلاً (2) ، فإنه لا يعم كل جار ، لاحتمال (3) خصوصية في ذلك الجار (4) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(
والترمذي في الأحكام والنسائي في الشروط ، فأبو داود والنسائي عن شعبة عن قتادة عن الحسن عن سمرة … أخرجه النسائي عن يونس عن سعيد ابن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن سمرة … نصب الراية 4/172 . قلت والحديث باللفظ الأول رواه أبو داود عن الحسن عن سمرة ، سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 9/312 ، ورواه الترمذي عن الحسن عن سمرة وقال الترمذي حسن صحيح ، سنن الترمذي 3/650 ، ورواه أحمد عن الحسن عن سمرة ، الفتح الرباني 15/153 .
وقد عزى الحافظ المزي الحديث للنسائي في السنن الكبرى ولم أجده فيه كما ذكرت ، انظر الهداية في تخريج أحاديث البداية 7/548 .
والنسائي هو : أحمد بن شعيب الخراساني النسائي الإمام الحافظ المحدّث صاحب السنن الصغرى والكبرى ، وله عمل اليوم والليلة ، مات شهيداً بفلسطين سنة 303 هـ . انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء 14/125 ، طبقات الشافعية الكبرى 3/14 ، البداية والنهاية 11/131 .
(1) الحسن هو الحسن ابن أبي الحسن يسار البصري الأنصاري ، من كبار التابعين ، الإمام الفقيه ، المحدّث المفسر ، الزاهد العابد ، ولد في خلافة عمر - رضي الله عنه - وتوفي سنة 110 هـ . انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء 4/563 ، تهذيب الأسماء واللغات 1/161 ، البداية والنهاية 9/278 .
(2) المرسل هو : ما سقط منه الصحابي ، انظر تدريب الراوي 1/195 .(/33)
وإنما رواه الحسن مرسلاً ، لأن الحسن لم يسمع من سمرة إلا حديث العقيقة ، وروايته عن سمرة من كتاب كما هو قول غير واحد من الأئمة كيحيى القطان . انظر سير أعلام النبلاء 4/567 ، عون المعبود 8/29 .
(3) في " أ " لاحتماله .
(4) وبناءً على ذلك لا تثبت الشفعة للجار ، وإنما الشفعة للشريك فقط كما هو مذهب جمهور الفقهاء . وقال الحنفية تثبت الشفعة للجار . وأثبتها شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم للجار إذا كان طريقهما واحداً ونحو ذلك من الاشتراك في حقوق الارتفاق (
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(
وهو رواية عن أحمد . انظر تفصيل المسألة في المغني 5/230 ، حاشية ابن عابدين 6/217 ، الذخيرة 7/318 ، الحاوي الكبير 7/226 ، الإنصاف 6/255 ، مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 30/383 ، إعلام الموقعين 2/149 .
[ تعريف الخاص والتخصيص ]
والخاص يقابل العام (1) ، فيقال فيه ما لا يتناول شيئين فصاعداً من غير حصر (2) ، نحو رجل ورجلين وثلاثة رجال .
والتخصيص تمييز بعض الجملة (3) أي إخراجه كإخراج (4) المعاهدين (5) من قوله تعالى : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } (6) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر ص 116 من هذا الكتاب .
(2) عرّف إمام الحرمين الخاص في البرهان 1/400 بقوله ( هو الذي يتناول واحداً فحسب ) ، وعرّفه في التلخيص 2/7 بقوله ( هو القول المختص ببعض المسميات التي قد شملها مع غيرها اسم ) وانظر تعريف الخاص اصطلاحاً في التعريفات ص 51 ، الحدود ص 44 ، أصول السرخسي 1/124 ، كشف الأسرار 1/30 ، المعتمد 1/251 ، الإحكام 2/196 ، المنخول ص 162 ، شرح الكوكب المنير 3/104 ، المسودة ص 571، شرح العضد 2/129 ، إرشاد الفحول ص 141 .
(3) عرّف إمام الحرمين التخصيص في البرهان 1/401 بقوله ( تبيين المراد باللفظ الموضوع ظاهره للعموم ) ، وانظر في تعريف التخصيص اصطلاحاً اللمع ص 100 ، إرشاد الفحول ص 142 ، الإحكام 2/281 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/2 ، البحر المحيط 3/241 ، شرح الكوكب المنير 3/267 ، شرح العضد 2/129، المعتمد 1/250 ، المحصول 1/3/7 ، فواتح الرحموت 1/100 ، قواطع الأدلة ص 283 ، معراج المنهاج 1/357 .
(4) في " ج " كاخر وهو خطأ .
(5) المعاهدين بفتح الهاء وبكسرها أيضاً وهم أصحاب العهد الذين يعقدون العهد مع المسلمين ويؤدون الجزية للمسلمين ، وهم في الغالب من أهل الكتاب ، انظر شرح العبادي ص 107 .
(6) سورة التوبة الآية 5 .
[ أقسام المخصص ]
وهو ينقسم إلى متصل (1) ومنفصل (2) :
[ أنواع المخصص المتصل ]
فالمتصل الاستثناء وسيأتي مثاله .
(3) والشرط نحو أكرم بني تميم إن جاؤوك ، أي الجائين منهم .
والتقييد بالصفة (4) ، نحو أكرم بني تميم الفقهاء .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المخصص المتصل هو ما لا يستقل بنفسه بل مرتبط بكلام آخر كما قاله ابن النجار في شرح الكوكب المنير 3/281 ، وانظر المعتمد 1/283 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/9 ، فواتح الرحموت 1/316 .
(2) المخصص المنفصل هو ما يستقل بنفسه بأن لم يكن مرتبطاً بكلام آخر ، قاله ابن النجار أيضاً في شرح الكوكب المنير 3/277 ، وانظر المعتمد 1/283 ، فواتح الرحموت 1/316 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/24 ، شرح العضد 2/147 ، البحر المحيط 3/355 ، إرشاد الفحول ص 156 ، المستصفى 2/99 .
(3) ورد في " المطبوعة " والتقييد بالشرط .
(4) سيأتي تعريف هذه المخصصات الثلاثة ، وهنالك مخصصان متصلان آخران ، لم يذكرهما المصنف ولا الشارح وهما : التخصيص بالغاية والمراد به أن يأتي بعد اللفظ العام حرف من أحرف الغاية كاللام وإلى وحتى ، كقوله تعالى ( سقناه لبلد ميت ) سورة الأعراف الآية 57 ، ونحو قولك : أكرم بني تميم حتى يدخلوا . والتخصيص ببدل البعض ، نحو أكرم بني تميم فلاناً وفلاناً . قاله ابن النجار في شرح الكوكب المنير 3/349،354 ، وانظر في التخصيص بالغاية التلخيص 2/201 ، المستصفى 2/208 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/23 ، (
[ أولاً : الاستثناء وشروطه ]
والاستثناء (1) إخراج ما لولاه لدخل في الكلام (2) ، نحو جاء القوم إلا زيداً .
[ الشرط الأول ]
وإنما يصح الاستثناء (3) بشرط أن يبقى من المستثنى منه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
((/34)
الإحكام 2/313 ، إرشاد الفحول ص 154 ، شرح العضد 2/132 ، المعتمد 1/257 ، البحر المحيط 3/344 ، المحصول 1/3/102 .
وانظر في التخصيص ببدل البعض فواتح الرحموت 1/344 ، شرح العضد 2/132 ، تيسير التحرير 1/282 ، إرشاد الفحول ص 154 ، الأنجم الزاهرات ص 148-149 ، التحقيقات ص 277 ، البحر المحيط 3/350 .
(1) الاستثناء لغةً من الثني وهو العطف والردّ ، تقول ثنيته عن مراده إذا صرفته عنه ، المصباح المنير 1/85 .
وعرّف إمام الحرمين الاستثناء في التلخيص 2/62 بقوله ( فالحد المرضي إذاً أن نقول الاستثناء كلام دال على أن المذكور فيه لم يرد بالقول المستثنى ) .
وانظر تعريف الاستثناء اصطلاحاً في المعتمد 1/260 ، كشف الأسرار 1/121 ، شرح العضد 2/132 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/9 ، المستصفى 2/163 ، المحصول 1/3/38 ، الإحكام 2/287 ، البحر المحيط 3/275 ، الإبهاج 2/144 ، شرح الكوكب المنير 3/282 ، شرح تنقيح الفصول ص 256 ، مفتاح الوصول ص 530 ، الكوكب الدري ص 365 .
(2) في " و " العام .
(3) ليست في " أ ، ب ، ج " .
شيء (1) ، نحو (2) له عليَّ (3) عشرة إلا تسعة ، فلو قال إلا عشرة ،
لم يصح ، وتلزمه (4) العشرة (5) .
[ الشرط الثاني ]
ومن شرطه (6) أن يكون متصلاً بالكلام (7) ، …
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سواء كان الباقي النصف أو أكثر كما هو مذهب جمهور العلماء بجواز استثناء النصف ، وجواز استثناء الأكثر ومثاله ما ذكره الشارح . ومنع بعض الحنابلة استثناء النصف . ومنع أكثر الحنابلة استثناء الأكثر ، فلا يصح أن يقال : له عليَّ عشرة إلا تسعة ، وبه قال أبو يوسف من الحنفية ، وابن الماجشون وأبو بكر الباقلاني من المالكية ، وهو قول أهل اللغة وقول البصريين من النحاة وفي المسألة أقوال أخرى ، انظر التلخيص 2/74 ، البرهان 1/396 ، التبصرة ص 168 ، اللمع ص 128 ، المعتمد 1/363 ، المستصفى 1/171-173 ، المنخول ص 158 ، الإحكام 2/297 ، فواتح الرحموت 1/323 ، المسودة ص 155 ، العدة 2/666 ، الكوكب الدري ص 370-372 ،قواطع الأدلة ص 347 ، التمهيد لأبي الخطاب 1/2/532
(2) ورد في " ج " نحو قوله .
(3) ليست في " أ ، ب " .
(4) في " ب ، ج " ولزمته ، وفي " أ " ولزم .
(5) لأن الاستثناء في هذه الحالة يكون مستغرقاً ، فلا يصح ، ولزمته العشرة لأنه رفع الإقرار ، والإقرار لا يجوز رفعه ، انظر المستصفى 2/170 .
(6) في " ج " شرط .
(7) وهذا مذهب جماهير أهل العلم من الأصوليين والفقهاء وأهل اللغة وغيرهم ، كما نقله عنهم إمام الحرمين في التلخيص 2/63 ، والغزالي في المستصفى 2/165 ، والبيضاوي في المنهاج ، انظر الإبهاج 2/145 ، والبزدوي في أصوله 3/117 مع شرحه كشف الأسرار .
وورد عن ابن عباس رضي الله عنهما جواز الاستثناء المنفصل ، واختلفت الرواية (
فلو قال جاء الفقهاء ، ثم قال (1) بعد يوم إلا زيداً ، لم يصح .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(
عنه في تحديد مدة الانفصال ، فورد أنه يجوزه إلى سنة كما رواه الحاكم بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال ( إذا حلف الرجل على يمين فله أن يستثني ولو إلى سنة وإنما نزلت هذه الآية في هذا ( واذكر ربك إذا نسيت ) قال إذا ذكر استثنى ، ثم قال الحاكم هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، المستدرك 5/431 .
وقيل إن ابن عباس يجوز الانفصال أبداً وقيل غير ذلك ، وحكي مثل قول ابن عباس عن بعض العلماء ، انظر تفصيل ذلك في البرهان 1/385 ، التلخيص 2/63 ، وقد كذّب إمام الحرمين فيهما الرواية عن ابن عباس واتهم النقلة . وفي كلام إمام الحرمين نظر واضح لا يحتمل المقام بيانه . وانظر أيضاً المستصفى 2/165 ، التبصرة ص 162 ، الإحكام 2/289 ، المعتمد 1/260 ، شرح تنقيح الفصول ص 242 ، المحصول 1/3/41 ، شرح العضد 2/137 ، المسودة ص 152 ، شرح الكوكب المنير 3/297 ، إرشاد الفحول ص 147 ، الأنجم الزاهرات ص 151-153 ، التحقيقات ص 268-270 ، العدة 2/660 ، قواطع الأدلة ص 343 ، التمهيد لأبي الخطاب 1/2/527 .
(1) ليست في " ج " .
[ جواز تقديم المستثنى على المستثنى منه وجواز الاستثناء
من الجنس وغيره ]
ويجوز (1) تقديم المستثنى(2) * على المستثنى منه(3) ، نحو ما قام إلا زيداً أحدٌ (4) .
ويجوز الاستثناء(5) من الجنس (6) كما تقدم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في " ج " ونحو وهو خطأ .
(2) في " أ ، ب " الاستثناء .
* نهاية 6/أ من " ب " .(/35)
(3) وهذا مذهب أكثر الأصوليين ، وللنحاة تفصيل في تقديم المستثنى على المستثنى منه ، بيّنه الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد في كتابه منحة الجليل بتحقيق شرح ابن عقيل 2/235-236 ، وانظر أقوال الأصوليين في المسألة في البرهان 1/383 ، التلخيص 2/67 ، اللمع ص 126 ، الإحكام 2/288 ، المسودة ص 23 ، شرح الكوكب المنير 3/305 ، الأنجم الزاهرات ص 154-155 ، العدة 2/664 ، قواطع الأدلة ص 346 ، الكوكب الدري ص 373 .
(4) في إعراب المستثنى في هذه الحالة تفصيل عند النحاة وهو : إن كان الكلام موجباً وجب نصب المستثنى ، نحو قام إلا زيداً القوم . وإن كان الكلام غير موجب ، فالمختار نصب المستثنى كما قال ابن عقيل نحو المثال الذي ذكره الشارح ما قام إلا زيداً أحدٌ ، ويجوز فيه الرفع أيضاً فنقول ما قام إلا زيدٌ أحدٌ ، واستشهد له ابن عقيل بقول حسان بن ثابت :
فإنهم يرجون منه شفاعة إذا لم يكن إلا النبيون شافع
شرح ابن عقيل 2/216-217 .
(5) في " أ " المستثنى وهو خطأ .
(6) وهذا باتفاق العلماء ويسمى الاستثناء المتصل ، انظر المصادر الآتية في الهامش التالي
ومن غيره (1) ، نحو (2) جاء القوم إلا الحمير .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الاستثناء من غير الجنس والمسمى الاستثناء المنقطع مسألة خلافية بين العلماء وما ذكره إمام الحرمين من جواز ذلك هو مذهب الجمهور واختاره إمام الحرمين هنا وفي التلخيص 2/68-74 ، وفي البرهان 1/384 ، ونقل هذا القول عن مالك والشافعي وأحمد في رواية ، وعند أبي حنيفة يجوز الاستثناء من غير الجنس إذا كان مكيلاً أو موزوناً .
وقال الإمام أحمد في أصح الروايتين عنه ، وهو قول أكثر الحنابلة لا يصح الاستثناء من غير الجنس ، واختاره الغزالي في المنخول وابن برهان ، ونقل عن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة وعن ابن خويز منداد من المالكية ، وفي المسألة تفصيل انظر التبصرة ص 165 ، المستصفى 2/170 ، المعتمد 1/262 ، المنخول ص 159 ، تيسير التحرير 1/283 ، الإحكام 2/291 ، المحصول 1/3/43 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/12 ، الوصول إلى الأصول 1/243 ، إرشاد الفحول ص 146 ، البحر المحيط 3/277 ، شرح الكوكب المنير 3/286 ، الأنجم الزاهرات ص 155 ، التحقيقات ص 272 ، العدة 2/673 ، قواطع الأدلة ص 349 ، المسودة ص 156 ، التمهيد لأبي الخطاب 1/2/544 .
(2) ليست في " ج " .
[ ثانياً : الشرط ]
والشرط(1) المخصص (2) ، (3) يجوز أن يتقدم على (4) المشروط (5) نحو إن * جاءك (6) بنو تميم فأكرمهم (7) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الشرط بسكون الراء لغةً إلزام الشيء والتزامه في البيع ونحوه وجمعه شروط وشرائط .
والشرط بفتح الراء العلامة وأشراط الساعة علاماتها . تاج العروس 10/305-306 ،
المصباح المنير 1/309 .
(2) الشرط المخصص هو الشرط اللغوي وعرّفه ابن النجار ( بقوله وهو مخرج ما لولاه لدخل المخرَج ) . شرح الكوكب المنير 3/342 .
وأدوات الشرط هي : إن المخففة ، إذا ، من ، ما ، مهما ، حيثما ، أينما ، إذما ، وأمّ هذه الصيغ إن الشرطية، لأنها حرف وما عداها من أدوات الشرط أسماء ، قاله الآمدي في الإحكام 2/309-310 ، وانظر المحصول 1/3/90 ، شرح العضد 2/132 ، اللمع ص 130 ، التلخيص 2/88 ، المعتمد 1/259 ، إرشاد الفحول ص 152 ، المستصفى 2/181 ، البحر المحيط 3/332 ، تيسير التحرير 1/280 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/22 ، التحقيقات ص 275 .
(3) ورد في " المطبوعة " ( يجوز أن يتأخر عن المشروط ويجوز … ) .
(4) في " المطبوعة " عن .
(5) في " أ " الشروط وهو خطأ .
* نهاية 7/أ من " أ " .
(6) في " ب " جاء .
(7) قال الإمام الرازي ( لا نزاع في جواز تقديم الشرط وتأخيره ، إنما النزاع في الأولى ، ويشبه أن يكون الأولى هو التقديم خلافاً للفراء ) المحصول 1/3/97 ، وانظر تفصيل المسألة في اللمع ص 130 ، شرح تنقيح الفصول ص 264 ، المعتمد 1/260 ، البحر المحيط 3/332 ، شرح العضد 2/146 ، شرح الكوكب المنير 3/343 .
[ ثالثاً : الصفة ]
والمقيد (1) بالصفة (2) يحمل عليه المطلق (3) ، كالرقبة قيدت بالإيمان في بعض المواضع ، كما في (4) كفارة القتل (5) .
وأطلقت في بعض المواضع، [ كما في كفارة الظهار ، (6) ] (7) فيحمل المطلق على المقيد احتياطاً (8) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(/36)
(1) المقيد ما دلّ لا على شائع في جنسه ، انظر الإحكام 3/4 ، فواتح الرحموت 1/360 ، كشف الأسرار 2/286 ، إرشاد الفحول ص 164 .
(2) الصفة هي ما أشعر بمعنى يتصف به أفراد العام ، سواء كان الوصف نعتاً أو عطف بيان أو حالاً . انظر شرح الكوكب المنير 3/347 .
وانظر مسألة التخصيص بالصفة في اللمع ص 132 ، المعتمد 1/257 ، المستصفى 2/204 ، الإحكام 2/313 ، شرح العضد 2/132 ، معراج المنهاج 1/ 382 ، المحصول 1/3/105 ، فواتح الرحموت 1/344 ، البحر المحيط 3/341 ، الأنجم الزاهرات ص 158 .
(3) المطلق ما دلّ على شائع في جنسه ، انظر المصادر السابقة في هامش رقم (1) من هذه الصفحة .
(4) ليست في " أ " .
(5) قال الله تعالى ( ومن قتل مؤمناً خطأً فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله ) سورة النساء الآية 92 .
(6) قال الله تعالى ( والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ) سورة المجادلة الآية 3 .
(7) ما بين المعكوفين ليس في " ج " .
(8) وهذا مذهب أكثر العلماء ، فبه قال الشافعي وجماعة من كبار المتكلمين كالرازي والآمدي وابن الحاجب، وهو قول المالكية والحنابلة . (
[ التخصيص المنفصل : تخصيص الكتاب بالكتاب ]
ويجوز تخصيص الكتاب بالكتاب(1) ، نحو قوله تعالى : { وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ } (2) ، خصَّ بقوله تعالى : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } (3) أي حلٌ لكم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(
وخالف في ذلك الحنفية وبعض الشافعية وأحمد في رواية فقالوا لا يحمل المطلق على المقيد في هذه الحالة .
وفي المسألة تفصيل أكثر في حالات حمل المطلق على المقيد ، انظر الإحكام 3/4 ، شرح العضد 2/156 ، المحصول 1/3/218 ، المسودة ص 145 ، البحر المحيط 3/420 ، شرح الكوكب المنير 3/402 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/51 ، الأنجم الزاهرات ص 158 ، كشف الأسرار 2/287 ، فواتح الرحموت 1/365 ، إرشاد الفحول ص 165 ، التحقيقات ص 283 ، شرح العبادي ص 111-112 .
(1) وهذا مذهب جماهير العلماء ، ومنعه بعض أهل الظاهر ، انظر المعتمد 1/247 ، الإحكام 2/319 ، المحصول 1/3/117 ، شرح العضد 2/147 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/26 ، فواتح الرحموت 1/345 ، البحر المحيط 3/361 ، شرح الكوكب المنير 3/359 ، إرشاد الفحول ص 157 ، شرح تنقيح الفصول ص 202 ، معراج المنهاج 1/386 ، شرح العبادي
ص 114 .
(2) سورة البقرة الآية 221 .
(3) سورة المائدة الآية 5 .
[ تخصيص الكتاب بالسنة ]
وتخصيص الكتاب بالسنة (1) ، (2) كتخصيص قوله تعالى :( يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُم ) (3) إلى آخر الآية (4) الشامل للولد الكافر بحديث الصحيحين (5) :( لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم ) * .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أي سواء كانت السنة متواترة أو آحاداً ، أما المتواتر فبالإجماع ، وأما الآحاد فقال مالك والشافعي وأحمد وجماهير أصحابهم بذلك ونسب هذا القول أيضاً إلى أبي حنيفة وإن كان الحنفية على خلاف ذلك وفي المسألة أقوال أخرى ، انظر تفصيل ذلك في التلخيص 2/106 ، البرهان 1/426 ، الإحكام 2/322 ، المستصفى 2/114 ، المحصول 1/3/131 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/27 ، التبصرة ص 132 ، شرح تنقيح الفصول ص 208 ، شرح العضد 2/149 ، المعتمد 1/275 ، كشف الأسرار 1/294 ، أصول السرخسي 1/133 ، الإبهاج 2/171 ، شرح الكوكب المنير 3/362 ، إرشاد الفحول ص 157 ، شرح العبادي ص 115، المسودة ص 119 .
(2) ورد في " ب " بالكتاب وزيادتها خطأ .
(3) سورة النساء الآية 11 .
(4) في " أ ، ب ، هـ " آخره .
(5) صحيح البخاري مع الفتح 15/53 ، صحيح مسلم بشرح النووي 4/227 .
* نهاية 5/أ من " ج " .
[ تخصيص السنة بالكتاب ]
وتخصيص السنة بالكتاب (1) ، (2) [ كتخصيص حديث الصحيحين (3) : ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ) ، بقوله تعالى : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى } إلى قوله { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا } (4) وإن وردت السنة بالتيمم أيضاً بعد نزول الآية (5) ] (6) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(/37)
(1) وهذا مذهب جماهير العلماء ، ومنع ذلك بعض الشافعية وابن حامد من الحنابلة ، انظر تفصيل المسألة في التبصرة ص 136 ، شرح الكوكب المنير3/363 ، الإحكام 3/321 ، المحصول 1/3/123 ، المسودة ص 122 ، شرح العضد 2/149 ، فواتح الرحموت 1/349 ، الإبهاج 2/171 ، البحر المحيط 3/363 ، شرح العبادي ص 115 ، التحقيقات ص 291 ، الأنجم الزاهرات ص 163 .
(2) ورد في " ج " كقوله وزيادتها خطأ .
(3) صحيح البخاري مع الفتح 15/362 ، صحيح مسلم بشرح النووي 1/459 .
(4) سورة المائدة الآية 6 .
(5) نزلت آية التيمم في غزوة بني المصطلق - غزوة المريسيع - وقد اختلف العلماء في سنة حدوثها على ثلاثة أقوال : الأول أنها في شعبان سنة 4 هـ ، الثاني أنها في شعبان سنة 5 هـ ، الثالث أنها في شعبان سنة 6 هـ ، انظر فتح الباري 1/448 ، صحيح السيرة النبوية ص 245-246 ، الفكر السامي 1/125 .
(6) ما بين المعكوفين ساقط من " ب " .
[ تخصيص السنة بالسنة ]
[ وتخصيص السنة بالسنة (1) ] (2) كتخصيص حديث الصحيحين (3) :
( فيما سقت السماء العشر ) بحديثهما (4) ( ليس (5) فيما دون خمسة أوسق (6) صدقة ) (7) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وهذا مذهب جماهير العلماء ، ومنعت طائفة تخصيص السنة بالسنة منهم دواد الظاهري ، انظر شرح الكوكب المنير 3/366 ، الإحكام 2/321 ، المعتمد 1/275 ، شرح العضد 2/148 .
(2) ما بين المعكوفين ساقط من " ب " .
(3) صحيح البخاري مع الفتح 4/90 ، صحيح مسلم بشرح النووي 3/47 .
(4) صحيح البخاري مع الفتح 4/93 ، صحيح مسلم بشرح النووي 3/43 .
(5) ليست في " ج " .
(6) الأوسق جمع وسق بفتح الواو وكسرها كما قال الإمام النووي في تهذيب الأسماء واللغات 2/2/191 ، والوسق ستون صاعاً ويساوي الصاع في زماننا 2176 غرام ، فالخمسة أوسق وهي ثلاثمئة صاع تعادل 652,8 كغم الإيضاح والتبيان ص 56-57 ، طلبة الطلبة ص 233.
(7) تخصيص الحديث الثاني للأول هو مذهب جماهير علماء المسلمين ، فلذلك لا تجب الزكاة عندهم في شيء من الزروع والثمار حتى يبلغ خمسة أوسق ، وخالف في ذلك أبو حنيفة فأوجب الزكاة في القليل والكثير من الزروع والثمار لعموم قوله تعالى : ( وآتوا حقه يوم حصاده ) سورة الأنعام الآية 141 ، وقوله تعالى ( يا آيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ) سورة البقرة الآية 267 ، وأجاب أبو حنيفة عن الحديث بأجوبة انظرها في بدائع الصنائع 2/ 180-181 ، فقه الزكاة 1/361 .
[ تخصيص الكتاب والسنة بالقياس ]
وتخصيص النطق بالقياس (1) ، ونعني بالنطق قول الله تعالى وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، لأن القياس يستند (2) إلى نص (3) من كتاب (4) (5) أو سنة فكأنه المخصص (6) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وهذا مذهب جمهور الأصوليين ونقله عن الأئمة الأربعة جماعة من الأصوليين كالآمدي وابن الحاجب وابن النجار والزركشي وغيرهم .
والمعروف من مذهب الحنفية أن القياس لا يخصص عموم الكتاب والسنة إلا إذا سبق تخصيصه بدليل قطعي . وفي المسألة أقوال أخرى ، انظر البرهان 1/428 ، التلخيص 2/117 ، المستصفى 2/122 ، الإحكام 2/337 ، شرح العضد 2/153 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/29 ، التبصرة ص 137 ، المحصول 1/3/148 ، أصول السرخسي 1/142 ، تيسير التحرير 1/321 ، فواتح الرحموت 1/357 ، البحر المحيط 3/369 ، شرح الكوكب المنير 3/377 ، إرشاد الفحول ص 159 ، التحقيقات ص 304 ، الأنجم الزاهرات ص 164 ، الإبهاج 2/176 ، كشف الأسرار 1/294 ، شرح تنقيح الفصول ص 203 .
(2) في " أ " يسند .
(3) في " أ " النص .
(4) في " ب " الكتاب .
(5) ورد في " هـ " ( الله ) .
(6) في " ج " للتخصيص .
[ تعريف المجمل والبيان ]
والمجمل (1) ما يفتقر (2) إلى البيان (3) ، نحو ( ثلاثة قروء ) (4) فإنه يحتمل * الأطهار والحيض لاشتراك القرء بين الحيض والطهر (5) .
والبيان (6) إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي (7) أي الاتضاح (8) [ والمبين هو النص ] (9) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المجمل لغةً : من الجَمْل تقول أجملت الشيء إجمالاً جمعته من غير تفصيل قاله في المصباح المنير 1/110 ، وانظر تاج العروس 14/124 .
(2) في " المطبوعة " افتقر .(/38)
(3) انظر تعريف المجمل اصطلاحاً في البرهان 1/419 ، المعتمد 1/317 ، المستصفى 1/345 ، المحصول 1/3/231 ، الحدود ص 45 ، التعريفات ص 108، الإحكام 3/8 ، أصول السرخسي 1/168 ، شرح العضد 2/158 ،كشف الأسرار 1/54 ، إرشاد الفحول ص 167 ، شرح تنقيح الفصول ص 37 ، البحر المحيط 3/454 ، شرح الكوكب المنير 3/413 ، الإبهاج 1/215 .
(4) سورة البقرة الآية 228 .
* نهاية 7/ب من " أ " .
(5) القرء في لغة العرب استعمل في الحيض والطهر قال الإمام النووي ( قال الإمام الواحدي هذا الحرف من الأضداد يقال للحيض والأطهار قرء … وعلى هذا يونس وأبو عمرو بن العلاء وأبو عبيد أنها من الأضداد وهي في لغة العرب المستعملة في المعنيين جميعاً وكذلك في الشرع ، ومن هذا الاختلاف في اللغة وقع الخلاف في الأقراء بين الصحابة وفقهاء الأمة . تهذيب الأسماء واللغات 2/2/85 ، وانظر لسان العرب 11/80 ، المصباح المنير 2/501 .
(6) البيان لغةً من بان تقول بان الأمر أي اتضح وانكشف ، المصباح المنير 1/70 .
(7) نسب إمام الحرمين في التلخيص 2/203-204 ، تعريف البيان الذي ذكره هنا إلى أبي بكر الصيرفي ولم يرتضِ إمام الحرمين هذا التعريف في كتابيه البرهان والتلخيص فقال (
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(
( فذهب بعض من ينسب إلى الأصوليين إلى أن البيان إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي والوضوح ، وهذه العبارة وإن كانت محومة على المقصود فليست مرضية فإنها مشتملة على ألفاظ مستعارة كالحيز والتجلي ، وذوو البصائر لا يودعون مقاصد الحدود إلا في عبارات هي قوالب لها تبلغ الغرض من غير قصور ولا ازدياد يفهمها المبتدؤون ويحسنها المنتهون … والقول المرضي في البيان ما ذكره أبو بكر حيث قال : البيان هو الدليل …) البرهان 1/159-160. وأما في التلخيص 2/204-205 فقد انتقد إمام الحرمين تعريف الصيرفي وغيره ثم قال ( فأما معنى البيان في اصطلاح الأصوليين فهو الدليل الذي يتوصل بصحيح النظر فيه إلى العلم بما هو دليل عليه ، فهذا ما ارتضاه القاضي - رضي الله عنه - فنبطل ما سوى ذلك ثم نحققه ) وبعد ذلك كرَّ بالنقد على تعريف الصيرفي وغيره .
وانظر تعريف البيان اصطلاحاً في المستصفى 1/364 ، المعتمد 1/317 ، الإحكام 3/25 ، المسودة ص 572، أصول السرخسي 2/26 ، كشف الأسرار 3/104 ، شرح العضد 2/162 ، الرسالة ص 21 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/67 ، فواتح الرحموت 2/42 ، شرح الكوكب المنير 3/438 ، البحر المحيط 3/477 ، الإبهاج 2/212 .
(8) في " هـ " الإيضاح .
(9) ما بين المعكوفين ليس في " أ ، ب ، ج " ، وورد في " هـ " والمبين النص .
[ تعريف النص ]
والنص ما لا يحتمل إلا معنى واحداً (1) ، كزيد (2) في (3) رأيت زيداً .
وقيل ما تأويله تنزيله (4) ، نحو { فصيام ثلاثة أيام } (5) ، فإنه بمجرد ما ينزل يفهم معناه .
وهو مشتق من منصة العروس (6) ، …
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر تعريف النص اصطلاحاً في البرهان 1/413 ، المستصفى 1/336 ، اللمع ص 143ص ، أصول السرخسي 1/164 ، المحصول 1/1/316 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 1/236 ، إرشاد الفحول ص 178 ، شرح تنقيح الفصول ص 36 ، فواتح الرحموت 2/19 .
(2) في " هـ " كزيداً وهو خطأ .
(3) ورد في " هـ ، ط " نحو .
(4) أي أنه بمجرد نزوله يفهم معناه ولا يتوقف فهم المراد منه على تأويل فلا يحتمل إلا معنى واحداً فقط . الأنجم الزاهرات ص 171 ، وانظر التحقيقات ص 344 ، شرح العبادي ص 119 .
(5) سورة البقرة الآية 196 .
(6) النص لغةً بمعنى الرفع والظهور يقال : نص العروس ينصها نصاً ، أقعدها على المنصة بالكسر لتُرى ، وهي ما ترفع عليه قاله في تاج العروس 9/369 ، وانظر الصحاح 3/1058 ، لسان العرب 14/162 .
وقد اعترض المارديني وابن قاوان على قول إمام الحرمين بأن النص مشتق من منصة العروس ، لأنه جعل النص مشتقاً من المنصة ، والنص مصدر والمصدر لا يشتق من غيره على الصحيح بل غيره يشتق منه ، فالمنصة مفعلة لأنها اسم آلة وهي مشتقة من النص لا العكس .
وهذا الاعتراض مسلم لو أراد إمام الحرمين الاشتقاق اللغوي ، ولكنه لم يرد ذلك ، بل أراد الملاحظة في المعنى وهو الارتفاع والظهور ، وقد أشار الشارح إلى ذلك . (
وهو الكرسي (1) ، لارتفاعه على غيره في فهم معناه من غير توقف * .
[ تعريف الظاهر ]
والظاهر (2) ما احتمل أمرين أحدهما أظهر من الآخر(3) ، كالأسد في رأيت اليوم (4) أسداً ، فإنه ظاهر في الحيوان المفترس ، لأن (5) المعنى الحقيقي محتمل (6) للرجل الشجاع بدله (7) فإن حمل اللفظ على المعنى (8)(/39)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(
انظر الأنجم الزاهرات ص 171 ، وكلام المحقق في الهامش رقم (4) ، التحقيقات ص 344-345 ، حاشية الدمياطي ص 13 .
(1) ورد في " و " ( وهو مشتق من المنصة التي تجلى عليها العروس وهو الكرسي ) .
* نهاية 6/ب من " ب " .
(2) والظاهر في اللغة من الظهور وهو البروز بعد الخفاء ، أو هو خلاف الباطن ، ذكر الأول في المصباح المنير 2/387 ، وذكر الثاني في لسان العرب 8/276 .
(3) انظر تعريف الظاهر عند الأصوليين في البرهان 1/416 ، اللمع ص 144 ، المستصفى 1/384 ، أصول السرخسي 1/163 ، كشف الأسرار 1/46 ، الإحكام 3/52 ، شرح العضد 2/168 ، تيسير التحرير 1/126 ، المحصول 1/1/315 ، البحر المحيط 3/436 ، إرشاد الفحول ص 175 ، فواتح الرحموت 2/19 .
(4) ليست في " أ " ، وفي " ب " القوم وهو خطأ .
(5) في " أ ، ب ، ج " لأنه .
(6) ورد في " ب " مرجوحاً .
(7) قال العبادي ( " بدله " لأنه معنىً مجازي له ولا صارف إليه ، وكان التقييد في المثال باليوم ليقرب احتمال إرادة الرجل الشجاع مرجوحاً ، بخلاف الرؤيا المطلقة لا يستبعد معها مطلق إرادة الحيوان المفترس فيضعف احتمال إرادة الرجل الشجاع ) شرح العبادي ص 120 .
(8) ليست في " أ ، ب ، ج " .
الآخر سمي مؤولاً (1) وإنما يؤول بالدليل كما قال .
ويؤول الظاهر بالدليل ويسمى ظاهراً (2) بالدليل(3) ، (4) أي كما يسمى مؤولاً ، ومنه (5) قوله تعالى : { وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَييْدٍ } (6) ظاهره جمع يد ، وذلك محال في حق الله تعالى فصرف إلى معنى القوة بالدليل العقلي القاطع (7)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المؤول في اللغة من التأويل وهو الرجوع ، المصباح المنير 1/29 .
وأما التأويل اصطلاحاً فهو صرف الكلام عن ظاهره إلى وجه يحتمله ، قاله الباجي في الحدود ص 48 ، والزركشي في البحر المحيط 3/437 ، وانظر البرهان 1/511 ، الإحكام 3/52 ، المستصفى 1/387 ، شرح المحلي على جمع الجوامع 2/53 ، شرح العضد 2/169 ، كشف الأسرار 1/44 ، الإبهاج 1/215 ، شرح الكوكب المنير 3/460 ، إرشاد الفحول ص 176 ، تيسير التحرير 1/144 ، التحقيقات ص 347 .
(2) في " المطبوعة " الظاهر .
(3) أي ظاهر مقيد ويسمى مؤولاً كما قال الشارح . انظر شرح العبادي ص 121 .
(4) ورد في " و " والعموم قد تقدم شرحه .
(5) في " ب ، ج ، هـ " منه .
(6) سورة الذاريات الآية 47 .
(7) هذا التأويل بناءاً على أن قوله تعالى ( بأييد ) جمع يد وهذا خطأ ، لأن قوله تعالى ( بأييد ) معناه بقوة وليس جمع يد ، قال العلامة الشنقيطي ( تنبيه قوله تعالى في هذه الآية الكريمة
( بنيناها بأييد ) ليس من آيات الصفات المعروفة بهذا الاسم ، لأن قوله ( بأييد ) ليس جمع يد وإنما الأيد القوة ، فوزن قوله هنا بأيد فعل ، ووزن الأيدي أفعل ، فالهمزة في قوله ( بأييد ) في مكان الفاء والياء في مكان العين والدال في مكان اللام . ولو كان قوله تعالى ( بأييد ) جمع يد لكان وزنه أفعلاً ، فتكون الهمزة زائدة والياء في مكان الفاء والدال في مكان العين والياء المحذوفة لكونه منقوصاً هي اللام .
والأيد ، والآد في لغة العرب بمعنى القوة ، ورجل أيد قوي ومنه قوله تعالى ( وأيدناه بروح القدس ) أي قويناه به ، فمن ظن أنها جمع يد في هذه الآية فقد غلط فاحشاً (
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(
والمعنى والسماء بنيناها بقوة ) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 7/442 .
وبيّن الفخر الرازي أن تفسير الأيد بالقوة هو المشهور ، وأكثر المفسرين على ذلك ونقل عن ابن عباس ومجاهد وقتادة ، وأن تفسيرها بجمع يد هو احتمال ،
وبهذا يظهر لنا أن تأويل الشارح ماشٍ على مذهب من يؤول الصفات وأما مذهب أهل السنة فهو إثبات اليد لله سبحانه وتعالى ، وكذا الأيدي من غير تأويل ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل ، قال تعالى ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) سورة الشورى الآية 49 ، هذا إذا سلمنا أن قوله تعالى ( بأييد ) جمع يد . انظر شرح العقيدة الواسطية ص 56 ، التفسير الكبير 27/226 ، تفسير فتح القدير 5/91 ، تفسير الألوسي 14/ 18 .
[ أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - ]
الأفعال هذه ترجمة .
فعل صاحب الشريعة يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يخلو إما أن يكون على وجه القربة (1) والطاعة [ أو لا يكون ] (2) .
[ فإن كان على وجه القربة والطاعة ] (3) .
[ الأفعال المختصة بصاحب الشريعة ](/40)