وأما العمل بالحسابات في دخول الشهر فبدعة ، لأن حديث النبي صلى الله عليه وسلم نصّ في المسألة : " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته " ، فإذا أخبر المسلم البالغ العاقل الموثوق بخبره لأمانته وبصره أنه رأى الهلال بعينه عُمل بخبره .
على من يجب الصوم
10- ويجب الصيام على كل مسلم بالغ عاقل مقيم قادر سالم من الموانع كالحيض والنفاس .
و يحصل البلوغ بواحد من أمور ثلاثة : ـ إنزال المني باحتلام أو غيره ، ـ نبات شعر العانة الخشن حول القُبُل ، ـ إتمام خمس عشرة سنة . وتزيد الأنثى أمرا رابعا وهو الحيض فيجب عليها الصيام ولو حاضت قبل سنّ العاشرة .
11- يؤمر الصبي بالصيام لسبع إن أطاقه "وذكر بعض أهل العلم أنه " يُضرب على تركه لعشر كالصلاة انظر المغني 3/90 . وأجر الصيام للصبي، ولوالديه أجر التربية والدلالة على الخير ، عن الرُبيِّع بنت معوِّذ رضي الله عنها قالت في صيام عاشوراء لما فُرض : كنا نصوِّم صبياننا ونجعل لهم اللعبة من العهن فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار . البخاري فتح رقم 1960 وبعض الناس يتساهل في أمر أبنائه وبناته بالصيام ، بل ربما صام الولد متحمّسا وهو يُطيق فأمره أبوه أو أمه بالإفطار شفقة عليه بزعمهما ، وما علموا أنّ الشفقة الحقيقية بتعاهده بالصيام ، قال الله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شِداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يُؤمرون ) . وينبغي الاعتناء بصيام البنت في أول بلوغها ، فربما تصوم إذا جاءها الدم خجلا ثم لا تقضي .
12- إذا أسلم الكافر أو بلغ الصبي أو أفاق المجنون أثناء النهار لزمهم الإمساك بقية اليوم لأنهم صاروا من أهل الوجوب ، ولا يلزمهم قضاء ما فات من الشهر ، لأنهم لم يكونوا من أهل الوجوب في ذلك الوقت .
13- المجنون مرفوع عنه القلم ، فإن كان يجنّ أحيانا ويُفيق أحيانا لزمه الصيام في حال إفاقته دون حال جنونه . وإن جنّ في أثناء النهار لم يبطل صومه كما لو أغمي عليه بمرض أو غيره لأنه نوى الصيام وهو عاقل . مجالس شهر رمضان ابن عثيمين ص : 28 ومثله في الحكم المصروع .
14- من مات أثناء الشهر فليس عليه ولا على أوليائه شيء فيما تبقى من الشهر .
15- من جهل فرض الصوم في رمضان أو جهل تحريم الطعام أو الوطء فجمهور العلماء على عذره إن كان يُعذر مثله ، كحديث العهد بالإسلام والمسلم في دار الحرب ومن نشأ بين الكفار . أما من كان بين المسلمين ويمكنه السؤال والتعلم فليس بمعذور .
المسافر
16- يُشترط للفطر في السفر : أن يكون سفرا مسافة أو عرفا ( على الخلاف المعروف بين أهل العلم ) ، وأن يُجاوز البلد وما اتصل به من بناء وقد منع الجمهور من الإفطار قبل مغادرة البلد وقالوا إن السفر لم يتحقق بعد بل هو مقيم وشاهد وقد قال تعالى ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) ولا يوصف بكونه مسافرا حتى يخرج من البلد . أما إذا كان في البلد فله أحكام الحاضرين ولذلك لا يقصر الصلاة . ، وأن لا يكون سفره سفر معصية ( عند الجمهور) ، وأن لا يكون قصد بسفره التحيّل على الفطر .
17- يجوز الفطر للمسافر باتفاق الأمة سواء كان قادرا على الصيام أم عاجزا وسواء شقّ عليه الصوم أم لم يشقّ ، بحيث لو كان مسافرا في الظلّ والماء ومعه من يخدمه جاز له الفطر والقصر مجموع الفتاوى 25/210
18- من عزم على السفر في رمضان فإنه لا ينوي الفطر حتى يسافر لأنه قد يعرض له ما يمنعه من سفره تفسير القرطبي 2/278
ولا يُفطر المسافر إلا بعد خروجه ومفارقة بيوت قريته العامرة ) المأهولة ( ، فإذا انفصل عن بنيان البلد أفطر ، وكذا إذا أقلعت به الطائرة وفارقت البنيان ، وإذا كان المطار خارج بلدته أفطر فيه ، أما إذا كان المطار في البلد أو ملاصقا لها فإنه لا يُفطر فيه لأنه لا يزال في البلد.
19- إذا غربت الشمس فأفطر على الأرض ثم أقلعت به الطائرة فرأى الشمس لم يلزمه الإمساك لأنه أتمّ صيام يومه كاملا فلا سبيل إلى إعادته للعبادة بعد فراغه منها . وإذا أقلعت به الطائرة قبل غروب الشمس وأراد إتمام صيام ذلك اليوم في السفر فلا يُفطر إلا إذا غربت الشمس في المكان الذي هو فيه من الجوّ ، ولا يجوز للطيار أن يهبط إلى مستوى لا تُرى فيه الشمس لأجل الإفطار لأنه تحايل لكن إن نزل لمصلحة الطيران فاختفى قرص الشمس أفطر . من فتاوى الشيخ ابن باز مشافهة
20- من وصل إلى بلد ونوى الإقامة فيها أكثر من أربعة أيام وجب عليه الصيام عند جمهور أهل العلم فالذي يسافر للدراسة في الخارج أشهرا أو سنوات فالجمهور ومنهم الأئمة الأربعة أنه في حكم المقيم يلزمه الصوم والإتمام .
وإذا مرّ المسافر ببلد غير بلده فليس عليه أن يمسك إلا إذا كانت إقامته فيها أكثر من أربعة أيام فإنه يصوم لأنه في حكم المقيمين أنظر فتاوى الدعوة ابن باز 977(/4)
21- من ابتدأ الصيام وهو مقيم ثم سافر أثناء النهار جاز له الفطر لأن الله جعل مطلق السفر سببا للرخصة بقوله تعالى : ( ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أُخر ) .
22- ويجوز أن يُفطر مَن عادته السفر إذا كان له بلد يأوي إليه كالبريد الذي يُسافر في مصالح المسلمين ( وأصحاب سيارات الأجرة والطيارين والموظفين ولو كان سفرهم يوميا وعليهم القضاء ) وكذلك الملاّح الذي له مكان في البرّ يسكنه فأما من كان معه في السفينة امرأته وجميع مصالحه ولا يزال مسافرا فهذا لا يقصر ولا يفطر . والبدو الرحّل إذا كانوا في حال ظعنهم من المشتى إلى المصيف ومن المصيف إلى المشتى جاز لهم الفطر والقصر وأما إذا نزلوا بمشتاهم ومصيفهم لم يُفطروا ولم يقصروا وإن كانوا يتتبعون المراعي أنظر مجموع فتاوى ابن تيمية 25/213
23- إذا قدم المسافر في أثناء النهار ففي وجوب الإمساك عليه نزاع مشهور بين العلماء مجموع الفتاوى 25/212 والأحوط له أن يمسك مراعاة لحرمة الشهر ، لكن عليه القضاء أمسك أو لم يمسك .
24- إذا ابتدأ الصيام في بلد ثم سافر إلى بلد صاموا قبلهم أو بعدهم فإن حكمه حكم من سافر إليهم فلا يفطر إلا بإفطارهم ولو زاد عن ثلاثين يوما لقوله صلى الله عليه وسلم " الصوم يوم تصومون والإفطار يوم تُفطرون " ، وإن نقص صومه عن تسعة وعشرين يوما فعليه إكماله بعد العيد إلى تسعة وعشرين يوما لأن الشهر الهجري لا ينقص عن تسعة وعشرين يوما . من فتاوى الشيخ عبدالعزيز بن باز : فتاوى الصيام :دار الوطن ص: 15-16
المريض
25- كل مرض خرج به الإنسان عن حدّ الصحة يجوز أن يُفطر به ، والأصل في ذلك قول الله تعالى ( ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ) . أما الشيء الخفيف كالسعال والصداع فلا يجوز الفطر بسببه .
وإذا ثبت بالطب أو علم الشخص من عادته وتجربته أو غلب على ظنّه أن الصيام يجلب له المرض أو يزيده أو يؤخر البرء يجوز له أن يُفطر بل يُكره له الصيام . وإذا كان المرض مطبقا فلا يجب على المريض أن ينوي الصوم بالليل ولو كان يُحتمل أن يُصبح صحيحا لأن العبرة بالحال الحاضرة.
26- إن كان الصوم يسبب له الإغماء أفطر وقضى الفتاوى 25/217 ، وإذا أغمي عليه أثناء النهار ثم أفاق قبل الغروب أو بعده فصيامه صحيح ما دام أصبح صائما ، وإذا طرأ عليه الإغماء من الفجر إلى المغرب فالجمهور على عدم صحة صومه . أما قضاء المغمى عليه فهو واجب عند جمهور العلماء مهما طالت مدة الإغماء المغني مع الشرح الكبير 1/412، 3/32 ، والموسوعة الفقهية الكويتية 5/268 ، وأفتى بعض أهل العلم بأن من أغمي عليه أو وضعوا له منوّما أو مخدرا لمصلحته فغاب عن الوعي فإن كان ثلاثة أيام فأقلّ يقضي قياسا على النائم وإن كان أكثر لا يقضي قياسا على المجنون من فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز مشافهة
27- ومن أرهقه جوع مفرط أو عطش شديد فخاف على نفسه الهلاك أو ذهاب بعض الحواسّ بغلبة الظن لا الوهم أفطر وقضى لأن حفظ النفس واجب ، ولا يجوز الفطر لمجرد الشدة المحتملة أو التعب أو خوف المرض متوهما ، وأصحاب المهن الشاقة لا يجوز لهم الفطر وعليهم نية الصيام بالليل ، فإن كان يضرهم ترك الصنعة وخشوا على أنفسهم التلف أثناء النهار ، أو لحق بهم مشقة عظيمة اضطرتهم إلى الإفطار فإنهم يُفطرون بما يدفع المشقة ثمّ يُمسكون إلى الغروب ويقضون بعد ذلك ، وعلى العامل في المهن الشّاقة كأفران صهر المعادن وغيرها إذا كان لا يستطيع تحمّل الصيام أن يحاول جعل عمله بالليل أو يأخذ إجازة أثناء شهر رمضان ولو بدون مرتّب فإن لم يتيسّر ذلك بحث عن عمل آخر يُمكنه فيه الجمع بين الواجبين الديني والدنيوي ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب : فتاوى اللجنة الدائمة 10/233،235 . وليست امتحانات الطلاب عذرا يبيح الفطر في رمضان ، ولا تجوز طاعة الوالدين في الإفطار لأجل الامتحان لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق : فتاوى اللجنة الدائمة 10/241
28- المريض الذي يُرجى بُرؤه ينتظر الشفاء ثم يقضي ولا يُجزئه الإطعام ، والمريض مرضا مزمنا لا يُرجى برؤه وكذا الكبير العاجز يُطعم عن كل يوم مسكينا نصف صاع من قوت البلد ( وذلك يعادل كيلو ونصف تقريبا من الرز ) ، ويجوز أن يجمع الفدية فيطعم المساكين في آخر الشهر ويجوز أن يطعم مسكينا كلّ يوم ، ويجب إخراجها طعاما لنصّ الآية ولا يُجزئ إعطاؤها إلى المسكين نقودا فتاوى اللجنة الدائمة 10/198 ، ويُمكن أن يوكّل ثقة أو جهة خيرية موثوقة لشراء الطعام وتوزيعه نيابة عنه .(/5)
والمريض الذي أفطر من رمضان وينتظر الشفاء ليقضي ثم علم أن مرضه مزمن فالواجب عليه إطعام مسكين عن كل يوم أفطره من فتاوى الشيخ ابن عثيمين ومن كان ينتظر الشفاء من مرض يُرجى برؤه فمات فليس عليه ولا على أوليائه شيء . ومن كان مرضه يُعتبر مزمنا فأفطر وأطعم ثم مع تقدّم الطبّ وُجد له علاج فاستعمله وشفي لا يلزمه شيء عما مضى لأنّه فعل ما وجب عليه في حينه . فتاوى اللجنة الدائمة 10/195
29- من مرض ثمّ شفي وتمكن من القضاء فلم يقض حتى مات أُخرج من ماله طعام مسكين عن كل يوم . وإن رغب أحد أقاربه أن يصوم عنه فيصحّ ذلك ، لما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من مات وعليه صيام صام عنه وليّه " .من فتاوى اللجنة الدائمة مجلة الدعوة 806
الكبير والعاجز والهرم
30- العجوز والشيخ الفاني الذي فنيت قوته وأصبح كل يوم في نقص إلى أن يموت لا يلزمهما الصوم ولهما أن يفطرا مادام الصيام يُجهدهما ويشق عليهما ، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول في قوله تعالى : ( وعلى الذين يُطيقونه فدية طعام مسكين ) : ليست بمنسوخة ، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينا . البخاري كتاب التفسير باب أياما معدودات ..
وأما من سقط تمييزه وبلغ حدّ الخَرَف فلا يجب عليه ولا على أهله شيء لسقوط التكليف ، فإن كان يميز أحيانا ويهذي أحيانا وجب عليه الصوم حال تمييزه ولم يجب حال هذيانه أنظر مجالس شهر رمضان :ابن عثيمين : ص 28
31- من قاتل عدوا أو أحاط العدو ببلده والصوم يُضعفه عن القتال ساغ له الفطر ولو بدون سفر ، وكذلك لو احتاج للفطر قبل القتال أفطر وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه قبل القتال : " إنكم مصبحوا عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطِروا " رواه مسلم 1120ط. عبد الباقي وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وأفتى به أهل الشام وهم في البلد لما نزل بهم التتار
32- من كان سبب فطره ظاهرا كالمريض فلا بأس أن يفطر ظاهرا ، ومن كان سبب فطره خفيا كالحائض فالأولى أن يُفطر خفية خشية التهمة .
النية في الصيام
33- تُشترط النية في صوم الفرض وكذا كلّ صوم واجب كالقضاء والكفارة لحديث : " لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل " رواه أبو داود رقم 2454 ورجح عدد من الأئمة وقفه كالبخاري والنسائي والترمذي وغيرهم : تلخيص الحبير 2/188
ويجوز أن تكون في أي جزء من الليل ولو قبل الفجر بلحظة . والنية عزم القلب على الفعل ، والتلفظ بها بدعة وكل من علم أن غدا من رمضان وهو يريد صومه فقد نوى مجموع فتاوى شيخ الإسلام 25/215 . ومن نوى الإفطار أثناء النهار ولم يُفطر فالراجح أن صيامه لم يفسد وهو بمثابة من أراد الكلام في الصلاة ولم يتكلم ، وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يُفطر بمجرد قطع نيته ، فالأحوط له أن يقضي . أما الردّة فإنها تُبطل النية بلا خلاف .
وصائم رمضان لا يحتاج إلى تجديد النية في كلّ ليلة من ليالي رمضان بل تكفيه نية الصيام عند دخول الشهر فإن قطع النية للإفطار في سفر أو مرض ـ مثلا ـ لزمه تجديد النية للصوم إذا زال عذره .
34- النفل المطلق لا تُشترط له النية من الليل لحديث عائشة رضي الله عنها قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال هل عندكم شيء فقلنا : لا فقال فإني إذا صائم . رواه مسلم 2/ 809 عبد الباقي وأما النفل المعيّن كعرفة وعاشوراء فالأحوط أن ينوي له من الليل .
35- من شرع في صوم واجب ـ كالقضاء والنذر والكفارة ـ فلا بدّ أن يتمّه ، ولا يجوز أن يُفطر فيه بغير عذر . وأما صوم النافلة فإن " الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر " رواه أحمد 6/342 ولو بغير عذر ، وقد أصبح النبي صلى الله عليه وسلم مرة صائما ثم أكل كما جاء في صحيح مسلم في قصة الحيس الذي أهدي إليه عند عائشة رقم 1154 عبد الباقي ، ولكن هل يُثاب من أفطر بغير عذر على ما مضى من صومه ؟ قال بعض أهل العلم بأنه لا يُثاب الموسوعة الفقهية 28/13 ، والأفضل للصائم المتطوع أن يُتمّ صومه ما لم توجد مصلحة شرعية راجحة في قطعه .
36- من لم يعلم بدخول شهر رمضان إلا بعد طلوع الفجر فعليه أن يمسك بقية يومه وعليه القضاء عند جمهور العلماء لقوله صلى الله عليه وسلم : " لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل " . رواه أبو داود 2454
37- السجين والمحبوس إن علم بدخول الشهر بمشاهدة أو إخبار من ثقة وجب عليه الصيام وإلا فإنه يجتهد لنفسه ويعمل بما غلب على ظنّه فإن تبين له بعد ذلك أن صومه وافق رمضان أجزأه ذلك عند الجمهور وإذا وافق صومه بعد رمضان أجزأه عند جماهير الفقهاء وإذا وافق صومه قبل دخول الشهر فلا يُجزيه وعليه القضاء ، وإذا وافق صوم المحبوس بعض رمضان دون بعض أجزأه ما وافقه وما بعده دون ما قبله . فإن استمرّ الإشكال ولم ينكشف له فهذا يجزئه صومه لأنه بذل وسعه ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها . الموسوعة الفقهية 28/84
الإفطار والإمساك(/6)
38- إذا غاب جميع قرص الشمس أفطر الصائم ولا عبرة بالحمرة الشديدة الباقية في الأفق لقوله صلى الله عليه وسلم : " إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم " رواه البخاري : الفتح رقم 1954 والمسألة في مجموع الفتاوى 25/216
والسنّة أن يعجّل الإفطار ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يصلي المغرب حتى يُفطر ولو على شربة من الماء رواه الحاكم 1/432 السلسلة الصحيحة 2110 فإن لم يجد الصائم شيئا يُفطر عليه نوى الفطر بقلبه ، ولا يمصّ أصبعه كما يفعل بعض العوامّ . وليحذر من الإفطار قبل الوقت فإن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أقواما معلقين من عراقيبهم تسيل أشداقهم دما فلما سأل عنهم أُخبر أنهم الذين يُفطرون قبل تحلّة صومهم . الحديث في صحيح ابن خزيمة برقم 1986 وفي صحيح الترغيب 1/420 ، ومن تحقق أو غلب على ظنه أو شكّ أنّ فطره حصل قبل المغرب فعليه القضاء لأنّ الأصل بقاء النهار : فتاوى اللجنة الدائمة 10/287 ، وينبغي الحذر من الاعتماد على خبر الأطفال الصّغار والمصادر غير الموثوقة . وكذلك ينبغي الانتباه لفارق التوقيت بين المدن والقرى عند سماع الأذان في الإذاعة ونحوها .
39- إذا طلع الفجر وهو البياض المعترض المنتشر في الأفق من جهة المشرق وجب على الصائم الإمساك حالا سواء سمع الأذان أم لا . وإذا كان يعلم أنّ المؤذن يؤذن عند طلوع الفجر فيجب عليه الإمساك حال سماع أذانه ، وأما إذا كان المؤذن يؤذن قبل الفجر فلا يجب الإمساك عن الأكل والشرب . وإن كان لا يعلم حال المؤذن أو اختلف المؤذنون ولا يستطيع أن يتبين الفجر بنفسه ـ كما في المدن غالبا بسبب الإنارة والمباني ـ فإن عليه أن يحتاط بالعمل بالتقويمات المطبوعة المبنية على الحسابات والتقديرات مالم يتبين خطؤها .
وأما الاحتياط بالإمساك قبل الفجر بوقت كعشر دقائق ونحوها فهو بدعة من البدع ، وما يلاحظ في بعض التقاويم من وجود خانة للامساك وأخرى للفجر فهو أمر مصادم للشريعة .
40- البلد الذي فيه ليل ونهار في الأربع والعشرين ساعة على المسلمين فيه الصيام ولو طال النهار مادام يمكن تمييز ليلهم من نهارهم وفي بعض البلدان التي لا يمكن فيها تمييز ذلك يصومون بحسب أقرب البلدان إليهم مما فيه ليل أو نهار متميز .
المفطرات
41- المفطّرات ماعدا الحيض والنفاس لا يفطر بها الصائم إلا بشروط ثلاثة : ـ أن يكون عالما غير جاهل ، ـ ذاكرا غير ناس ، ـ مختارا غير مضطر ولامُكْرَه
ومن المفطّرات ما يكون من نوع الاستفراغ كالجماع والاستقاءة والحيض والاحتجام ومنه ما يكون من نوع الامتلاء كالأكل والشرب . مجموع الفتاوى 25/248
42- من المفطرات ما يكون في معنى الأكل والشرب كالأدوية والحبوب عن طريق الفم والإبر المغذية وكذلك حقن الدم ونقله .
وأما الإبر التي لا يُستعاض بها عن الأكل والشرب ولكنها للمعالجة كالبنسلين والأنسولين أو تنشيط الجسم أو إبر التطعيم فلا تضرّ الصيام سواء عن طريق العضلات أو الوريد ، فتاوى ابن ابراهيم 4/189 والأحوط أن تكون كل هذه الإبر بالليل ، وغسيل الكلى الذي يتطلب خروج الدم لتنقيته ثم رجوعه مرة أخرى مع إضافة مواد كيماوية وغذائية كالسكريات والأملاح وغيرها إلى الدم يعتبر مفطّرا فتاوى اللجنة الدائمة 10/190 والراجح أن الحقنة الشرجية وقطرة العين والأذن وقلع السنّ ومداواة الجراح كل ذلك لا يفطر مجموع فتاوى شيخ الإسلام 25/233 ، 25/245 ، وبخاخ الربو لا يفطّر لأنه غاز مضغوط يذهب إلى الرئة وليس بطعام وهو محتاج إليه دائما في رمضان وغيره . وسحب الدم للتحليل لا يُفسد الصوم بل يُعفى عنه لأنه مما تدعو إليه الحاجة فتاوى الدعوة : ابن باز عدد 979 ودواء الغرغرة لا يبطل الصوم إن لم يبتلعه ، ومن حشا سنّه بحشوة طبية فوجد طعمها في حلقه فلا يضر ذلك صيامه من فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز مشافهة
وسائر الأمور التالية ليست من المفطّرات :
- غسول الأذن ، أو قطرة الأنف ، أو بخاخ الأنف ، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق .
الأقراص العلاجية التي توضع تحت اللسان لعلاج الذبحة الصدرية وغيرها إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق .
ما يدخل المهبل من تحاميل ( لبوس ) ، أو غسول ، أو منظار مهبلي ، أو إصبع للفحص الطبي .
إدخال المنظار أو اللولب ونحوهما إلى الرحم .
ما يدخل الإحليل ، أي مجرى البول الظاهر للذكر أو الأنثى ، من قثطرة ( أنبوب دقيق ) أو منظار ، أو مادة ظليلة على الأشعة ، أو دواء ، أو محلول لغسل المثانة .
حفر السن ، أو قلع الضرس ، أو تنظيف السنان ، أو السواك وفرشاة الأسنان ، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق .
المضمضة ، والغرغرة ، وبخاخ العلاج الموضعي للفم إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق .
الحقن العلاجية الجلدية أو العضلية أو الوريدية ، باستثناء السوائل والحقن المغذية .
غاز الأكسجين .
غازات التخدير ( البنج ) ما لم يعط المريض سوائل ( محاليل ) مغذية .(/7)
ما يدخل الجسم امتصاصاً من الجلد كالدهونات والمراهم واللصقات العلاجية الجلدية المحملة بالمواد الدوائية أو الكيميائية .
إدخال قثطرة ( أنبوب دقيق ) في الشرايين لتصوير أو علاج أوعية القلب أو غيره من الأعضاء .
إدخال منظار من خلال جدار البطن لفحص الأحشاء أو إجراء عملية جراحية عليها .
أخذ عينات ( خزعات ) من الكبد أو غيره من الأعضاء ما لم تكن مصحوبة بإعطاء محاليل .
منظار المعدة إذا لم يصاحبه إدخال سوائل ( محاليل ) أو مواد أخرى .
دخول أي أداة أو مواد علاجية إلى الدماغ أو النخاع الشوكي .
43- من أكل أو شرب عامدا في نهار رمضان دون عذر فقد أتى كبيرة عظيمة من الكبائر وعليه التوبة والقضاء وإن كان إفطاره بمحرم كمسكر ازداد فعله شناعة وقبحا والواجب بكل حال التوبة العظيمة والإكثار من النوافل من صيام وغيره ليجبر نقص الفريضة ولعل الله أن يتوب عليه .
44- و" إذا نسي فأكل و شرب فليتم صومه ، فإنما أطعمه الله وسقاه" رواه البخاري فتح رقم 1933 وفي رواية : " فلا قضاء عليه ولا كفارة . "
وإذا رأى من يأكل ناسيا فإن عليه أن يذكّره لعموم قول الله تعالى وتعاونوا على البرّ والتقوى ولعموم قول الرسول صلى الله عليه وسلم :"فإذا نسيت فذكّروني " ولأن الأصل أن هذا منكر يجب تغييره . مجالس شهر رمضان : ابن عثيمين ص: 70
45- من احتاج إلى الإفطار لإنقاذ معصوم من مهلكة فإنه يُفطر ويقضي كما قد يحدث في إنقاذ الغرقى وإطفاء الحرائق .
46- من وجب عليه الصيام فجامع في نهار رمضان عامدا مختارا بأن يلتقي الختانان وتغيب الحشفة في أحد السبيلين فقد أفسد صومه أنزل أو لم يُنزل وعليه التوبة وإتمام ذلك اليوم والقضاء والكفارة المغلظة لما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال يا رسول الله هلكت ، قال : مالك؟ ، قال : وقعت على امرأتي وأنا صائم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل تجد رقبة تعتقها ؟ قال : لا ، قال : فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ، قال : لا ، قال : فهل تجد إطعام ستين مسكينا ؟ ، قال : لا ... الحديث رواه البخاري فتح 4رقم 1936 هذا والحكم واحد في الزنا واللواط وإتيان البهيمة .
ومن جامع في أيام من رمضان نهارا فعليه كفارات بعدد الأيام التي جامع فيها مع قضاء تلك الأيام ولا يُعذر بجهله بوجوب الكفّارة : فتاوى اللجنة الدائمة 10/321
47- لو أراد جماع زوجته فأفطر بالأكل أوّلا فمعصيته أشدّ وقد هتك حرمة الشهر مرتين ؛ بأكله وجماعه والكفارة المغلظة عليه أوكد وحيلته وبالٌ عليه وتجب عليه التوبة النصوح . أنظر مجموع الفتاوى 25/262
48- والتقبيل والمباشرة والمعانقة واللمس وتكرار النظر من الصائم لزوجته أو أمته إن كان يملك نفسه جائز ، لما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبّل وهو صائم ويباشر وهو صائم ولكنه كان أملككم لأَرَبه " ، أما حديث : " يدع زوجته من أجلي " فالمقصود به جماعها ، ولكن إن كان الشخص سريع الشهوة لا يملك نفسه فلا يجوز له ذلك لأنه يؤدي إلى إفساد صومه ولا يأمن من وقوع مفسد من الإنزال أو الجماع قال الله تعالى في الحديث القدسي : " ويدع شهوته من أجلي " . والقاعدة الشرعية : كل ما كان وسيلة إلى محرم فهو محرم .
49- وإذا جامع فطلع الفجر وجب عليه أن ينزع وصومه صحيح ولو أمنى بعد النزع ، ولو استدام الجماع إلى ما بعد طلوع الفجر أفطر وعليه التوبة والقضاء والكفارة المغلّظة .
50- إذا أصبح وهو جُنُب فلا يضرّ صومه و يجوز تأخير غسل الجنابة والحيض والنفاس إلى ما بعد طلوع الفجر وعليه المبادرة لأجل الصلاة .
51- إذا نام الصائم فاحتلم فإنه لا يفسد صومه إجماعا بل يتمّه ، وتأخير الغسل لا يضرّ الصيام ولكن عليه أن يبادر به لأجل الصلاة ولتقربه الملائكة .
52- من استمنى في نهار رمضان بشيء يُمكن التحرز منه كاللمس وتكرار النظر وجب عليه أن يتوب إلى الله وأن يُمسك بقية يومه وأن يقضيه بعد ذلك ، وإن شرع في الاستمناء ثمّ كفّ و لم يُنزل فعليه التوبة وليس عليه قضاء لعدم الإنزال ، وينبغي أن يبتعد الصائم عن كلّ ما هو مثير للشهوة وأن يطرد الخواطر الرديئة . وأما خروج المذي فالراجح أنه لا يُفطّر . وخروج الودي وهو السائل الغليظ اللزج بعد البول بدون لذة لا يُفسد الصيام ولا يوجب الغسل وإنما الواجب منه الاستنجاء والوضوء فتاوى اللجنة الدائمة 10/279(/8)
53- و" من ذرعه القيء فليس عليه قضاء ومن استقاء عمدا فليقض " . حديث صحيح رواه الترمذي 3/89 ومن تقيأ عمدا بوضع أصبعه أو عصر بطنه أو تعمد شمّ رائحة كريهة أو داوم النظر إلى ما يتقيأ منه فعليه القضاء ، ولو غلبه القيء فعاد بنفسه لا يُفطر لأنه بدون إرادته ولو أعاده هو أفطر . وإذا راجت معدته لم يلزمه منع القيء لأن ذلك يضره مجالس شهر رمضان : ابن عثيمين 67 ، وإذا ابتلع ما علق بين أسنانه بغير قصد أو كان قليلا يعجز عن تمييزه ومجّه فهو تبع للريق ولا يفطّر ، وإن كان كثيرا يمكنه لفظه فإن لفظه فلا شيء عليه وإن ابتلعه عامدا فسد صومه ، المغني 4/47 وأما العلك فإن كان يتحلل منه أجزاء أو له طعم مضاف أو حلاوة حرم مضغه وإن وصل إلى الحلق شيء من ذلك فإنه يفطّر، وإذا أخرج الماء بعد المضمضة فلا يضرّه ما بقي من البلل والرطوبة لأنه لا يمكنه التحرز منه ومن أصابه رعاف فصيامه صحيح وهو أمر ناشئ بغير اختياره فتاوى اللجنة الدائمة 10/264 وإذا كان في لثته قروح أو دميت بالسواك فلا يجوز ابتلاع الدم وعليه إخراجه فإن دخل حلقه بغير اختياره ولا قصده فلا شيء عليه ، وكذلك القيء إذا رجع إلى جوفه بغير اختياره فصيامه صحيح : فتاوى اللجنة الدائمة 10/254 . أما النخامة ـ وهي المخاط النازل من الرأس ـ والنخاعة ـ وهي البلغم الصاعد من الباطن بالسعال والتنحنح ـ فإن ابتلعها قبل وصولها إلى فيه فلا يفسد صومه لعموم البلوى بها فإذا ابتلعها عند وصولها إلى فيه فإنه يُفطر عند ذلك فإذا دخلت بغير قصده واختياره فلا تفطّر . واستنشاق بخار الماء في مثل حال العاملين في محطات تحلية المياه لا يضرّ صومهم : فتاوى اللجنة الدائمة 10/276 ، ويُكره ذوق الطعام بلا حاجة لما فيه من تعريض الصوم للفساد ، ومن الحاجة مضغ الطعام للولد إذا لم تجد الأم منه بدّ، وأن تتذوق الطعام لتنظر اعتداله ، وكذلك إذا احتاج لتذوّق شيء عند شرائه ، عن ابن عباس قال لا بأس أن يذوق الخلّ والشيء يريد شراءه حسنه في إرواء الغليل 4/86 . وانظر الفتح شرح باب اغتسال الصائم كتاب الصيام
54- والسواك سنّة للصائم في جميع النهار وإن كان رطبا ، وإذا استاك وهو صائم فوجد حرارة أو غيرها من طَعْمِه فبلعه أو أخرجه من فمه وعليه ريق ثم أعاده وبلعه فلا يضره الفتاوى السعدية 245 ويجتنب ما له مادة تتحلل كالسواك الأخضر وما أضيف إليه طعم خارج عنه كالليمون والنعناع ، ويُخرج ما تفتت منه داخل الفم ، ولا يجوز تعمد ابتلاعه فإن ابتلعه بغير قصده فلا شيء عليه .
55- وما يعرض للصائم من جرح أو رعاف أو ذهاب للماء أو البنزين إلى حلقه بغير اختياره لا يُفسد الصوم . وكذلك إذا دخل إلى جوفه غبار أو دخان أو ذباب بلا تعمد فلا يُفطر ، وما لا يُمكن التحرز منه كابتلاع الريق لا يفطّره ومثله غبار الطريق وغربلة الدقيق ، وإن جمع ريقه في فمه ثم ابتلعه قصدا لم يفطّره على الأصح المغني لابن قدامة 3/106 وكذلك لايضره نزول الدمع إلى حلقه أو أن يدهن رأسه أو شاربه أو يختضب بالحناء فيجد طعمه في حلقه ، ولا يفطّر وضع الحنّاء والكحل والدّهن أنظر مجموع الفتاوى 25/233 ، 25/245 وكذلك المراهم المرطّبة والمليّنة للبشرة . ولا بأس بشمّ الطيب واستعمال العطور ودهن العود والورد ونحوها ، والبخور لا حرج فيه للصائم إذا لم يتسعّط به : فتاوى اللجنة الدائمة 10/314. والأحسن أن لا يستخدم معجون الأسنان بالنهار ويجعله بالليل لأن له نفوذا قويا المجالس ابن عثيمين ص72
56- والأحوط للصائم أن لا يحتجم والخلاف شديد في المسألة ، واختار شيخ الإسلام إفطار المفصود دون الفاصد .
57- التدخين من المفطّرات وليس عذرا في ترك الصيام إذ كيف يُعذر بمعصية ؟!
58- والانغماس في ماء أو التلفف بثوب مبتلّ للتبرد لابأس به للصائم ولا بأس أن يصبّ على رأسه الماء من الحر والعطش المغني 3/44 ويُكره له السباحة لما فيها من تعريض الصوم للفساد . ومن كان عمله في الغوص أو وظيفته تتطلّب الغطس فإن كان يأمن من دخول الماء إلى جوفه فلا بأس بذلك .
59- لو أكل أو شرب أو جامع ظانا بقاء الليل ثم تبين له أن الفجر قد طلع فلا شيء عليه لأن الآية قد دلّت على الإباحة إلى أن يحصل التبين ، وقد روى عبد الرزاق بإسناد صحيح إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال : أحلّ الله لك الأكل والشرب ما شككت فتح الباري 4/135 وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية مجموع الفتاوى 29/ 263
60- إذا أفطر يظن الشمس قد غربت وهي لم تغرب فعليه القضاء ( عند جمهور العلماء ) لأن الأصل بقاء النهار واليقين لا يزول بالشك . ( وذهب شيخ الإسلام إلى أنه لا قضاء عليه )
61- وإذا طلع الفجر وفي فيه طعام أو شراب فقد اتفق الفقهاء على أنه يلفظه ويصح صومه ، وكذلك الحكم فيمن أكل أو شرب ناسيا ثم تذكّر وفي فيه طعام أو شراب صحّ صومه إن بادر إلى لفظه .
من أحكام الصيام للمرأة(/9)
62- التي بلغت فخجلت وكانت تُفطر عليها التوبة العظيمة وقضاء ما فات مع إطعام مسكين عن كل يوم كفارة للتأخير إذا أتى عليها رمضان الذي يليه ولم تقض . ومثلها في الحكم التي كانت تصوم أيام عادتها خجلا ولم تقض . فإن لم تعلم عدد الأيام التي تركتها على وجه التحديد صامت حتى يغلب على ظنها أنها قضت الأيام التي حاضت فيها ولم تقضها من الرمضانات السابقة مع إخراج كفارة التأخير عن كل يوم مجتمعة أو متفرّقة حسب استطاعتها .
63- ولا تصوم الزوجة ( غير رمضان ) وزوجها حاضر إلا بإذنه ، فإذا سافر فلا حرج .
64- الحائض إذا رأت القصّة البيضاء ـ وهو سائل أبيض يدفعه الرّحم بعد انتهاء الحيض ـ التي تعرف بها المرأة أنها قد طهرت ، تنوي الصيام من الليل وتصوم ، وإن لم يكن لها طهر تعرفه احتشت بقطن ونحوه فإن خرج نظيفا صامت ، فإذا رجع دم الحيض أفطرت ، ولو كان دما يسيرا أو كدرة فإنه يقطع الصيام ما دام قد خرج في وقت العادة فتاوى اللجنة الدائمة 10/154 ، وإذا استمر انقطاع الدم إلى المغرب وكانت قد صامت بنية من الليل صحّ صومها ، والمرأة التي أحست بانتقال دم الحيض ولكنه لم يخرج إلا بعد غروب الشمس صح صومها وأجزأها يومها .
والحائض أو النفساء إذا انقطع دمها ليلا فَنَوَت الصيام ثم طلع الفجر قبل اغتسالها فمذهب العلماء كافة صحة صومها الفتح 4/148
65- المرأة التي تعرف أن عادتها تأتيها غدا تستمر على نيتها وصيامها ولا تُفطر حتى ترى الدم .
66- الأفضل للحائض أن تبقى على طبيعتها وترضى بما كتب الله عليها ولا تتعاطى ما تمنع به الدم وتقبل ما قَبِل الله منها من الفطر في الحيض والقضاء بعد ذلك وهكذا كانت أمهات المؤمنين ونساء السلف ، فتاوى اللجنة الدائمة 10/151 بالإضافة إلى أنه قد ثبت بالطبّ ضرر كثير من هذه الموانع وابتليت كثير من النساء باضطراب الدورة بسبب ذلك ، فإن فعلت المرأة وتعاطت ما تقطع به الدم فارتفع وصارت نظيفة وصامت أجزأها ذلك .
67- دم الاستحاضة لا يؤثر في صحة الصيام .
68- إذا أسقطت الحامل جنينا متخلّقا أو ظهر فيه تخطيط لعضو كرأس أو يد فدمها دم نفاس ، وإذا كان ما سقط علقة أو مضغة لحم لا يتبيّن فيه شيء من خَلْق الإنسان فدمها دم استحاضة وعليها الصيام إن استطاعت وإلا أفطرت وقضت فتاوى اللجنة الدائمة 10/224 . وكذلك إن صارت نظيفة بعد عملية التنظيف صامت . وقد ذكر العلماء أن التخلّق يبدأ بعد ثمانين يوما من الحمل.
النفساء إذا طهرت قبل الأربعين صامت واغتسلت للصلاة المغني مع الشرح الكبير 1/360 فإن رجع إليها الدم في الأربعين أمسكت عن الصيام لأنه نفاس ، وإن استمر بها الدم بعد الأربعين نوت الصيام واغتسلت ( عند جمهور أهل العلم ) وتعتبر ما استمر استحاضة ، إلا إن وافق وقت حيضها المعتاد فهو حيض .
والمرضع إذا صامت بالنهار ورأت في الليل نقطا من الدم وكانت طاهرا بالنهار فصيامها صحيح : فتاوى اللجنة الدائمة 10/150
69- الراجح قياس الحامل والمرضع على المريض فيجوز لهما الإفطار وليس عليهما إلا القضاء سواء خافتا على نفسيهما أو ولديهما وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة ، وعن الحامل والمرضع الصوم " . رواه الترمذي 3/85 وقال : حديث حسن ، والحامل إذا صامت ومعها نزيف فصيامها صحيح ولا يؤثّر ذلك على صحة صيامها فتاوى اللجنة الدائمة 10/225
70- المرأة التي وجب عليها الصوم إذا جامعها زوجها في نهار رمضان برضاها فحكمها حكمه وأما إن كانت مكرهة فعليها الاجتهاد في دفعه ولا كفارة عليها ، قال ابن عقيل رحمه الله فيمن جامع زوجته في نهار رمضان وهي نائمة : لا كفارة عليها . والأحوط لها أن تقضي ذلك اليوم . وقد ذهب شيخ الإسلام رحمه الله إلى عدم فساد صومها وأنه صحيح
وينبغي على المرأة التي تعلم أن زوجها لا يملك نفسه أن تتباعد عنه وتترك التزين في نهار رمضان . ويجب على المرأة قضاء ما أفطرته من رمضان ولو بدون علم زوجها ولا يُشترط للصيام الواجب على المرأة إذن الزوج ، وإذا شرعت المرأة في قضاء الصيام الواجب فلا يحلّ لها الإفطار إلا من عذر شرعي ولا يحلّ لزوج المرأة أن يأمرها بالإفطار وهي تقضي وليس له أن يُجامعها وليس لها أن تطيعه في ذلك : فتاوى اللجنة الدائمة 10/353 أمّا صيام النافلة فلا يجوز لها أن تشرع فيه وزوجها حاضر إلا بإذنه لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لا تَصُومُ الْمَرْأَةُ وَبَعْلُهَا شَاهِدٌ إِلا بِإِذْنِهِ ." رواه البخاري 4793
وفي الختام هذا ما تيسّر ذكره من مسائل الصيام ، أسأل الله تعالى أن يُعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته ، وأن يختم لنا شهر رمضان بالغفران ، والعتق من النيران .
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم(/10)
سبق الإسلام في رعاية الأيتام
همام عبد المعبود**
تعتبر كفالة اليتيم من أعظم أبواب الخير التي حثت الشريعة الإسلامية عليها، وقد جاءت آيات القرآن الكريم دالة على بيان فضل رعاية اليتيم وعظم أجر كافله
فقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (البقرة/الآية 215).
وقال أيضا: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} (النساء/ الآية 36).
وقال تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (البقرة/ من الآية220 ).
وقال الله تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} (الضحى: 9).
وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل كفالة اليتيم والإحسان إليه منها: عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا"، وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما (رواه البخاري). ومنها ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم وامسح رأسه وأطعمه من طعامك يلن قلبك وتدرك حاجتك"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "أدنِ اليتيم منك وألطفه وامسح برأسه وأطعمه من طعامك.. فإن ذلك يلين قلبك ويدرك حاجتك". وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أردت أن يلين قلبك فأطعم المسكين وامسح رأس اليتيم".
وقد شاءت قدرة الله أن يأتي يوم اليتيم هذا العام (2005م) في يوم جمعة، فانتهز بعض الخطباء المناسبة، ليبينوا عظمة الإسلام في رعايته واهتمامه باليتيم، وأن الإسلام سبق الدنيا جميعا في الاهتمام باليتيم، حيث أطلقت أول دعوة لكفالة اليتيم قبل 1426 سنة، مؤكدين أن للإسلام الريادة والسبق في العناية بالأيتام والاهتمام بهم، وقد رصد الإسلام الأجر الكبير لكافل اليتيم، ويكفيه فخرا أنه سيكون برفقة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة.
ففي البحرين أوضح الشيخ عدنان القطان أن الإسلام قد رتب لليتيم حقوقا، وأمر المسلمين بحفظها وأدائها، وحذرهم من التقصير فيها، مشيرا إلى أن اليتيم محل تقدير واهتمام كبيرين في الشريعة الإسلامية. وقال القطان في خطبة الجمعة، 22 صفر 1426 هـ- 01/04/2005م، التي ألقاها بمسجد أحمد الفاتح بالمنامة: "لو أن كل مسلم عرف لليتيم حقه ما وجدنا بين المسلمين يتيما محروما أو منسيا"، مفرقا بين "اليتيم الفقير واليتيم الغني، وأنه إذا كان اليتيم الفقير بحاجة إلى الرعاية المادية فإن اليتيم الغني والميسور في حاجة إلى نوع آخر من الرعاية، وهي الرعاية الإيمانية، وأن تغمره بتوجيهك الدائم".
وفي مصر بين أحد خطباء الجمعية الشرعية -أكبر جمعية أهلية بمصر تهتم برعاية الأيتام- فضل كفالة الطفل اليتيم والعناية به، معتبرا أنه واحد من أفضل سبل الخير، وباب من أعظم أبواب النفقة في سبيل الله. وقال أحد الخطباء في خطبة الجمعة التي ألقاها بمسجد المغفرة: "لو أن أغنياء الأمة كفلوا أيتامها، لانتهت مشاكل الأيتام"، معتبرا أن كفالة الأيتام نوعان: مادية، ومعنوي(/1)
سبيل النهضة
أ.د. عون الشريف قاسم*
لعل من أفضال النهضة الأوربية الحديثة وما انتهت إليه من حضارة غربية معاصرة، على شعوب العالم، أنها بتحديها الكبير لكل المجتمعات التقليدية، والهزة العنيفة التي أحدثتها في كيانها، قد نبهت هذه الشعوب إلى ضمور شخصياتها، وشحذت عزمها على البحث عن سر هذا الضمور، واكتشاف عناصر القوة في حاضرها، بتتبع منابع الأصالة والإبداع في ماضيها، ساعية بذلك إلى تأكيد ذاتها حتى تقف على رجليها بعد طول سبات في مجال الإبداع والإسهام في بناء الحضارة. وذلك لأن هذه الحضارة – رغم ادعاء الغرب ابتداعها على غير مثال – هي في حصيلتها النهائية جهد مشترك، وحصيلة لكل تراث الإنسان على الأرض. وهي وإن اصطبغت في كثير من جوانبها بالصبغة الأوربية والغربية عامة، فليست ملكًا لأحد، وهي في عمومها إنسانية المنحى، خاصة فيما يتعلق بالأسس العلمية والتكنولوجية التي يرتكز عليها المجتمع الحديث. فالدراسات العلمية والبحوث والنظم الإدارية وما إليها يمكن تطبيقها دون كبير عناء في كل قطر من أقطار العالم تتوافر فيه الإمكانيات والكفايات اللازمة، ومن ثم عمّت هذه الحضارة الحديثة في صورها المختلفة كل بقاع العالم تقريبًا، لأنها لا تعترف بالحدود، ولا تصدها السدود، ولكنها – كما برهنت تجربة القرنين الماضيين – لا تنتقل عامة في صور مجردة، بل تتخذ من الأوعية والقوالب والأزياء والأصباغ والألوان ما يجعلها شديدة اللصوق بالشخصية القومية للأمة التي تنقلها. فالإنجليز – مثلاً – الذين استعمروا قدرًا كبيرًا من العالم، لم ينقلوا أسس الحضارة الحديثة مجردة، بل نقلوها بما تهيأ للإنجليز أن يتأثروا بها ويطوعوها ويصبغوها بصبغتهم القومية. ومثل ذلك فعل الفرنسيون، ومثل ذلك يفعل الأمريكيون. فهناك إذن تراث عالمي مشترك هو هذه الحضارة الصناعية التي ارتبطت في كثير من مظاهرها بالمجتمعات الغربية المسيحية، ولكن ذلك وحده لا ينفي عالميتها، ولا يحول بين شعوب العالم الأخرى والاستفادة منها. وهذا نصف المعركة. أما نصفها الآخر فهو تطويع هذا التراث العالمي المشترك لخدمة أغراض البيئة المحلية دون إملاء أو ضغط خارجي، بحيث ينجم عنه إثراء الشخصية القومية وتطويرها بتفجير طاقات الخلق والإبداع في كيانها؛ وذلك ما نسميه بالثقافة، إذ الثقافة حين ننظر إليها من زاوية أثرها في حياة الناس، هي ما يترسب في النفس من تجربة الأمة الحضارية، أو هي الأثر الذي تتركه المعاني والعلوم والفنون وما إليها في شخصية الإنسان. وبمعنى آخر هي ما يمكن تطبيقه من الحضارة على واقع الحياة، أو هي ما يمكن تطويعه من حصيلة المعرفة لبناء شخصية الفرد وتطوير حياة الجماعة. وتتجلى في أبرز صورها في المنحى العقلي العام، وفي المسلك الشخصي للأفراد فالحضارة أعم والثقافة أخص، إذ قد يغلب على الحضارة كإنجاز بشري عام، جانب المثالية والنظرية والعقلانية، في حين لا تكون الثقافة إلا حين يكون التمثيل والفعل والتطبيق والإيجاب.(/1)
وهذا التفريق بين عمومية الحضارة وخصوصية الثقافة لا يقتصر على الوضع الحضاري السائد الآن فحسب، بل ينسحب على كل وضع حضاري آخر، فإن هناك مثلاً، فارقًا كبيرًا بين الحضارة الإسلامية في أسسها المجردة وقيمها المطلقة، كما وردت في القرآن الكريم والسنة المشرفة، وبين الأثر الذي تخلّف عن هذه الحضارة في شخصيات الشعوب والجماعات التي ارتبطت حياتها بالإٍسلام. فهناك دائمًا النظام الإسلامي الحضاري كنموذج ومثال، وهناك إلى جانبه النظام الإسلامي كواقع وتاريخ. والإٍسلام التاريخي، كما يتمثل في حياة الشعوب الكثيرة التي اعتنقت الإسلام، يختلف في جزئياته وتفاصيله عن النموذج والمثال، رغم كل الجهود المبذولة لتطبيق النموذج على واقع الحياة تطبيقًا دقيقًا. وذلك ناجم عن أن لكل مجموعة من البشر، في بيئة بعينها، ظروفها التاريخية والجغرافية والبشرية والحضارية التي تتحكم في عملية الرفض والاختيار، وتنتهي بتحوير التيار الحضاري الوافد، أو تغييره بحيث ينسجم انسجامًا عضويًا مع البيئة الأصلية للمجموعة. ولهذا السبب نجد الإسلام الشعبي في بيئاته المختلفة يتلون بلون الموروثات المحلية، وكثيرًا ما نجد رواسب الماضي السحيق من طقوس وعادات وممارسات تختلط بالأفكار والأعراف الإسلامية على مستوى الممارسة الشعبية، كما هو ملاحظ في كل أنحاء العالم الإسلامي. وهذا الأمر لا يقف عند حدود المجموعات، بل يتعداها إلى الأفراد، فإن كل فرد من البشر يتمثل من الأفكار والقيم بالقدر الذي تهيئه له ظروفه البيئية والجسمية واستعداده العقلي والنفسي، وذلك يختلف الناس في تشربهم للمثل العليا والأفكار والاتجاهات، ومن ثم يختلفون في المسلك والتصرف. والأمر في ذلك على درجات وتفاوت. فإن ما يتشربه الناس من قيم الحضارة واتجاهاتها العامة، وهي في عنفوانها وتوقدها، يختلف كمًا وكيفًا عما يتطبع في نفوس الناس من آثارها وهي في مرحلة الجزر والتدهور والجمود. ولا يعني هذا أن الناس جميعهم يتساوون في مقدار هذا التمثل في أي من المرحلتين، بل يعني أن قدرًا صالحًا منهم هو الذي يفعل ذلك، مضفيًا على المرحلة المعنية سمة التوقد والإشراق؛ إن كان ذلك في قمة الحضارة، أو سمة الجمود والتقليد؛ إن كان ذلك في مرحلة التدهور والانحلال، وكلما قربت الصلة بين قيم الحضارة والأشكال المختلفة التي تعبر بها عن نفسها وبين حياة الناس المعاشة، بحيث، يتقارب القول والعمل، ويتجانس الإيمان مع المبادئ في المسلك الشخصي، كان ذلك علامة من علامات الحيوية والنشاط في أعماق الحضارة، وتتباعد هذه الصلة بالتدريج في أطوار التدهور حتى يبلغ الناس في نهاية المطاف درجة الانفصام والازدواجية، بحيث تكون قيم الحضارة وأشكالها ومبادئها العامة في جانب، وحياة الناس العامة وسلوكهم في جانب آخر، وعندما تكون روح الحضارة وقواها الدافعة في نفوس الناس وفي كيان المجتمع قد خمدت وانطفأت، ولا يبقى في وجودهم سوى الأشكال والهياكل الجوفاء التي تكون بلا معنى ولا غاية، إذ فقدت الروح التي تكسبها مدلولها ومعناها.(/2)
وهنا لابد من إشارة إلى الحضارة العربية الإسلامية، والثقافة المترسبة عنها في حياة شعبنا وكل شعوب العالم الإسلامي. فهي حضارة – شأنها شأن الحضارات – تقوم في أساسها على الدين، ولكنه دين أتى معبرًا عن مرحلة متأخرة من تطور الحياة البشرية، حين بلغ الوعي الإنساني نضجه واكتماله، وتحلل من كثير من قيود الخرافة والتفكير الغيبي والأسطوري، وكان كل ذلك مرتبطًا بتطور اجتماعي لا يقل عنه أهمية. إذا كانت جمهرة الإنسانية – وليس حفنة من الطبقات الحاكمة والمنتفعين بها كما كان الحال في امبراطوريتي فارس وروما – تنتقل من مرحلة اقتصادية مختلفة، هي مرحلة البداوة والرعي في جزيرة العرب وما شابهها؛ والزراعة التي تكبلها قيود الإقطاع والتسلط في مناطق الحضارة المجاورة، إلى مرحلة اقتصادية متقدمة هي مرحلة التجارة وحياة المدن والاستقرار. ونسبة للتعقيد الذي طرأ على حياة الإنسانية في هذه المرحلة من تشابك حياة الناس، وقد أصبحوا يعيشون على اختلاف ألوانهم وأجناسهم بين جدران المدينة الواحدة، فلم تعد القبيلة التي تقوم على رابطة الدم – وهي القاعدة الاجتماعية الصالحة لاقتصاديات البداوة – ملائمة لحياة المدينة القائمة على المصالح المشتركة، وبذلك انهارت كل الروابط والأسس التي تستند إليها، بانتقال العرب إلى المدن والأمصار. وكان لابد للدين أو المذهب الذي يعبر عن هذا الوضع من أن يأخذ في الاعتبار كل هذا التعقيد الذي طرأ على الوضع البشري عامة والوضع العربي خاصة، ومن ثم كان دين الإسلام، على خلاف كل ما سبقه من الأديان، معبرًا عن النقلة الحضارية الكبيرة القائمة على سيادة العقل البشري، وتحكيمه في كل ما يتعلق بحياة الناس، ويكفي في هذا المجال أن نذكر أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي لم يستند في إقناع الناس إلى معجزة أو خارقة، وإنما استند إلى الدليل والبرهان العقلي، وكان تحديه للناس عقليًا، ومعجزته كلمة. وبانتقال الناس من الوحدة الاجتماعية المتجانسة في القبيلة؛ إلى وحدة اجتماعية أشد تعقيدًا، وأكثر اختلافًا في المصالح وتضارب الرغبات؛ وما يتبع ذلك من تنافس وتناحر وتكالب على الثروات التي تجود بها التجارة؛ وكل ذلك مما يهدد سلامة الإنسان، ويعرض كيان المجتمع للتمزق والانهيار، كانت الحاجة إلى تنظيم المجتمع ماسة. وكانت مدينة مكة التجارية نموذجًا مصغرًا لكل أدواء المرحلة الحضارية الجديدة. وما كان لدين أتى معبرًا عن هذا الوضع الحضاري المعقد أن يكتفي بما اكتفت به الديانات قبله، والتي عبرت عن مراحل في حياة البشر أقل تعقيدًا. وحين قال المولى جل وعلا في أواخر ما نزل من الذكر الحكيم (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا) [المائدة/3]، فكان من مظاهر هذا الإكمال الاهتمام بتنظيم حياة الناس في مجتمع المدينة المعقد، والمزاوجة بين الجانب الروحي – وهو الجانب الديني – والجانب الاجتماعي، بأن جعلهما بمثابة وجهي العملة الواحدة، ليحدث التكامل في شخصية الفرد، ويتم الانسجام بين متطلبات الروح وتطلعاتها، وحاجات الجسد ورغباته بما يحقق سعادة الفرد، وينتهي بخير الجماعة. ومن ثم كانت قيم الدين الجديد، وكل الشعائر والعبادات التي ترمز إليها وتعبر عنها مرتبة ارتباط تلازم بحياة المجتمع وقضاياه.(/3)
الدين الإسلامي، وقد جاء معبرًا عن انتقال الإنسان من مرحلة الفردية والمسئولية الشخصية سواء كان ذلك على نطاق الأفراد أم القبيلة التي تضمهم، إلى مرحلة الجماعية والمسئولية الاجتماعية في حياة المدينة – حيث كانت هذه المدينة – لابد أن يتجاوز الطور الذي كان فيه الدين تعبيرًا فرديًا عن الإنسان في علاقته بالسماء، ليصبح تعبيرًا شموليًا في علاقة الإنسان بالسماء، وعلاقته بالأرض ومن عليها وما عليها، فقد كانت بساطة الحياة في ماضي الإنسانية وروح الجماعة التي تفرضها رابطة الدم مما يؤمن للناس حياتهم، فلا يحتاجون لتشريعات اجتماعية كثيرة لتنظيم علاقاتهم، ولهذا السبب لم يرسل رسول لبادية، بل كانت كل الرسالات لنقاط حضرية أو قرى (والقرية: المصر أو المدينة) لقوله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى) [يوسف/109]، وحتى هذه القرى كانت حياتها تتسم بالبساطة ولكنها أكثر تعقيدًا من البادية، ولكل منها أزماتها، فبعث الله إليها برسله، وأنزل عليهم التشريعات الملائمة لكل حالة، ولكنها جميعًا رسالات لمجموعات بعينها محدودة الزمان والمكان. وجاءت الرسالة الخاتمة لمرحلة في تاريخ الإنسانية خاتمة، فأكملت الدين لمواجهة المجتمع الحضري، ليس في مدينة بعينها بل على مستوى الإنسانية كافة. فالإسلام من هذه الناحية ليس دينًا روحيًا فحسب، بل هو دين اجتماعي أيضًا، ومن هنا كان تأثيره بعيد المدى على حياة الأفراد والجماعات التي تعتنقه، إذ هو لا يكتفي بتنظيم علاقة الإنسان بربه فحسب، ويكتفي في ذلك بطقوس العبادات وشعائرها، بل يسعى إلى تنظيم حياة الأفراد الخاصة، ويربطها بحياة المجتمع العامة، ويربط الحياتين معًا بالمثل الإنسانية العليا التي هي تراث الإنسانية جمعاء. وبذلك تتداخل كل هذه العلاقات وتتشابك، بحيث يصبح الواقع صورة للمثال والمثال تعبيرًا عن الواقع، ويصبح الديني تعبيرًا عن الدنيوي، والدنيوي تعبيرًا عن الديني، وتصبح مصلحة الفرد هي مصلحة الجماعة، ومصلحة الجماعة هي مصلحة الفرد، وتكون العبادات سبيلاً إلى المعاملات، والمعاملات ضربًا من العبادات. ولذلك كانت كل شعائر العبادة في الإسلام لا تهدف إلى الخلاص الفردي فحسب، بقدر ما تهدف إلى إصلاح حياة المجتمع، وتنشيط التعاون والتكافل والتكاتف الاجتماعي، مثلما هو الحال في الزكاة والحج والصوم، وحتى العبادة الرمزية المجردة في الإسلام وهي الصلاة، والتي هي صلة بين العبد وربه وعلي المستوى الروحي، ولكن هدفها الاجتماعي النهي عن الفحشاء والمنكر اللذين يضمان فيما بينهما كل شرور الحياة الاجتماعية، وكل ما ينكره الناس من مسلك وتصرف. ومعظم هذه العبادات جماعية ليتضاعف أثرها في حياة الناس. وكل ذلك ما يقوي من ترابط المجتمع ويؤكد تكافل أفراده، ويجعل العلاقات بين الأفراد علاقة عضوية مثل علاقة الدم، ولذلك عبر عنها القرآن الكريم والسنة المشرفة بالأخوة، كما قال تعالى: (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون) [الحجرات/10]، وقال صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم".
ولكن الإسلام كنظام، رغم كل هذه الشمولية التي تنتظم حياة الروح وحياة الجسد في الفرد والجماعة، ليس دولة دينية بالمعنى الضيق الثيوقراطي، بحيث يكون نقيضًا للعلمانية. فالمسئولية في الإسلام مسئولية فردية وجماعية اجتماعية. وهي ليست حكرًا على جماعة بعينها، تدعي الوصاية على الأمة، ولهذا السبب انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى دون أن يختار خليفة له، بل ترك أمر الخلافة لإجماع المسلمين. ومعنى ذلك أنه ليس هناك مناصب دينية لحكام يتصرفون في أمور الناس بالحق الإلهي، مثلنا هو الحال في البابوية مثلاً، وليس هناك كهان أو وسطاء يقومون بين الناس وربهم، وإنما هو نظام السيادة لعامة المسلمين الذين يعبرون عن إرادة الله، ولذلك جاء في الحديث الشريف (إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة)، ومن ثم كان إجماع الأمة هو الأصل الرابع في التشريع الإسلامي بعد الكتاب والسنة والقياس.(/4)
وبحكم هذا الربط القوي بين المسئولية الفردية والمسئولية الاجتماعية، ووصلهما بالمثل الإنسانية العليا المشتركة بين بني البشر، تخطت شخصية الرجل المسلم كل حواجز العنصر واللون والإقليم واللغة والطبقة، مكونة النموذج الأمثل للمواطن الإنسان أخ الإنسان، حيث كان هذا الإنسان مهتديًا بقوله تعالى: (يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) [الحجرات/13]. وبذلك لا يصبح المسلم مواطنًا إنسانًا فحسب؛ بل يصبح مواطنًا عالميًا، بل يصبح جماعة في فرد أسميه (الفرد الجماعة). وعلى هذا فإن النظام الإسلامي لا يكتفي بالنصح والموعظة الحسنة وحدها؛ بل يسعى إلى صياغة شخصية الفرد المسلم صياغة تقربه من نموذج المواطن الإنسان هذا، أو الفرد الجماعة، ومن هنا يجئ هذا الإلحاح الكبير على جزئيات السلوك وتفصيلات المعاملات، بحيث يتوخى الإنسان في كل عمله وقوله الصدق والعدل وكرامة الإنسان، متخذًا من رسوله الذي وصفه ربه بأنه على خلق عظيم القدوة الأسوة. ومن هنا يحدث التجانس بين الأفراد وتعم الوحدة الروحية والاجتماعية حياة المجموعة المسلمة حيثما كانت في بقاع الأرض وأقطارها، وبذلك لا يصبح المسلم، وقد تعاونت على حياته كل هذه العوامل الروحية والاجتماعية صورة مصغرة لمجتمعه الخاص فحسب، بل يصبح صورة مصغرة لكل مجتمع مسلم في كل زمان ومكان، ومن هنا يكتسب عالميته. وهذا هو السر الكامن وراء تعاطف المسلمين وتواددهم وألفتهم بعضهم لبعض أينما التقوا، ومهما اختلفت ألوانهم وأجناسهم ولغاتهم وأوطانهم.
وقد وضع الإسلام بخاتميته لرسالات السماء حدًا فاصلاً بين عهدين، عهد طفولة الفكر الإنساني وبداوة الحياة الاجتماعية، وعهد نضج العقل البشري وارتباط مصير الإنسان بأخيه الإنسان في حياة اجتماعية قد ينتهي بها الأمر إلى تجاوز كل الحدود والإقليميات، ليصبح مسرحها العالم بأكمله. وقد فطنت هذه الحضارة التي تعبر عن هذه المرحلة وما يتلوها من مراحل منذ البداية إلى احتدام هذا الصراع الكبير بين روح الإنسان وجسده، وما ينجم عن ذلك من تطور أو تدهور، فسعت إلى إقامة ميزان تعادل بينهما، ينجم عنه تكامل الشخصية الإنسانية، ويتولد منه مجتمع الكفاية والعدل لكل بني البشر، ولذلك فقد خلقت مجتمعًا لا مكان فيه لدين انطوائي يحلق بالناس في متاهات الغيب، ويتولى السلطة فيه طغاة يتلقون وحيهم من خارج حياة الناس وقيم دينهم، بغرض إحكام قبضتهم على مصير البشر بل جعلت الدين جزءًا من الدنيا، وكل شعائره وعباداته مسخرة لخدمة أغراض الحياة ومثلها الاجتماعية العليا التي هي في أرقى صورها نفس المثل الدينية، ولا مكان فيه لدنيا ينطلق الناس فيها على هواهم دون وازع أو رادع، زاعمين أنها الحرية وشجاعة الاختيار، في حين أنها ليست سوى إطلاق للنزوات والشهوات من عقالها في زمان استبدت فيه بالناس المطامع، واستعبدتهم الرغبات، ولوت أعناقهم الأنانية وحب الذات. هي حضارة شاملة تجمع كل تراث البشرية وتوجهه لخدمة غايات الحياة لتخلق الفرد المؤمن بربه، المتعاطف مع أخيه الإنسان، العامل لخير نفسه وخير مواطنيه ومجتمعه وخير الإنسانية جمعاء، لأنه يعلم أن من يعمل مثقال ذرة خيرًا يره ومن يعلم مثقال ذرة شرًا يره. ولأنه لا يكاد يجد في كتابه المقدس آية تحثه على عبادة ربه إلا وهي مقترنة بدعوته إلى العمل الصالح، وبذلك يصبح العمل الصالح عبادة يثاب عليها الناس كما يثابون على عبادة ربهم. بل إن هناك من الإشارات ما يفيد برجحان العمل على ما سواه من العبادة، لأن العمل صلاح لحياة الناس مباشر، والعبادة صلاح غير مباشر. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: "إن قومًا ذهبوا من الدنيا ولا عمل لهم، وقالوا نحسن الظن بالله. كذبوا. لو أحسنوا الظن بالله لأحسنوا العمل".(/5)
فمكان الدين بمعناه الخاص في الحضارة الإسلامية مكان متفرد، لا يكاد يجاوز حدود الأسس والقيم العامة المتفق عليها بين بني البشر، وتقبلها الفطرة السليمة، ثم ينفتح الباب واسعًا لحرية الفكر وحرية التطور. ويكفي في هذا أن الدين يدعو الناس إلى إباحة تأويل ظاهر النص بما يستقيم ومفهوم العقل. وبهذا المفهوم الثوري في إدخال الدين في حياة الناس، بحسبانه مستودع التراث الروحي للإنسان، ليلج جماع الشهوات، ويوجه الناس للعمل الصالح، محررًا بذلك إرادة الإنسان من قيود الأنانية ونزوات النفس الأمارة بالسوء، وفاتحًا المجال لعقله ليتفكر في خلق السماوات والأرض، وبهذا المفهوم الثوري الذي يربط بين الدين كموجّه لا قيد، وبين الدنيا كإنجاز وتحقيق، وبين العقل كرائد لا يكذب أهله، انفتح المسلمون الأوائل على الدنيا، وأقاموا حضارة لا تعصُّب فيها ولا جمود، وإنما هي إنجاز بشري في كل مجال من مجالات الإبداع في البناء والتعمير والاقتصاد والعلم. لقد كان الدين انفتاحًا على الحياة لا إلغاءً لها. وكان حافزًا على إقامة المجتمع الإنساني الفاضل المليء بالحركة والعلم المتفتح على كل ثمرات الحياة من أية جهة جاءت، لا قيدًا على حركة المجتمع وتحنيطًا له. وبذلك تحولت القيم والشعارات والمبادئ التي عبر عنها الدين من مجرد مفاهيم عقلية إلى حياة مُعاشة. وتم بذلك التناسق والانسجام بين القول والعمل، وبين الفكر والمسلك. وذلك ليس بالأمر اليسير، إذ ما أكثر الأفكار والمثل التي تمتلئ بها عقول الناس وتعج بها خزائن كتبهم، وما أقل ما يتحول منها إلى عواطف وأحاسيس ومشاعر ودوافع للفعل. وهذا ما نجح فيه النظام الإسلامي، إذ إنه بربطه بين قيم الحياة الإنسانية الباقية ونزوع الإنسان الروحي، ومزجه بينهما بحيث يكون العمل لصالح الجماعة ضربًا من الجهاد الروحي يثاب عليه فاعله كما يثاب على التبتل والتوجه إلى الله، قد أحال هذه القيم وأعمال البر المترتبة عليها إلى مشاعر وأحاسيس تثير وجدان الفرد المؤمن، وتدفعه إلى فعل الخير، وبذلك يصبح الضمير الفردي ضميرًا اجتماعيًا بالضرورة، دون كبير إلزام من المجتمع. ومما يؤكد دور الدين الاجتماعي في حضارة الإسلام أن جانب الردع فيه، وهو الخاص بالحدود، قد وضع فيه بطريقة تجعل تنفيذه أعسر المهام على أي حاكم، لأن تطبيقه محاط بقدر كبير من الشروط والمستلزمات، وكان ذلك مقصودًا، لأن الغاية ليست العقوبة في ذاتها، وإنما هي صلاح المجتمع والبشر. ومن ثم جاء التركيز على الضمانات الاجتماعية التي تحول بين الناس والوقوع في الموبقات، ومتى وضحت هذه الضمانات أصبح لا عذر لمن يرتكب جريمة ويستحق عليها العقاب الرادع. ولعل هذا الدور الاجتماعي البعيد الأثر في حياة الناس هو الذي مكّن للإسلام من الرسوخ في وجدان الناس وقلوبهم وعقولهم، رغم فساد أنظمة الحكم التي كثيرًا ما كانت في جانب والجماهير المسلمة في جانب آخر. ولعله لهذا السبب كان كبار التابعين والعلماء يتحاشون بلاط الخلفاء والأمراء، ويرون في التعاون مع الدولة ابتعادًا عن روح الإسلام الديمقراطية الاشتراكية، لأن هذه الأنظمة منذ أواخر عهد سيدنا عثمان، كانت مجموعات من المتسلطين لا يهمهم في معظم الأحوال من الدين إلا ما يؤكد سلطاتهم ويمدهم بالمال. ولذلك كانت العناية بكتب الأموال وكتب الخراج كبيرة خاصة في عهد بني العباس. والطريف في الأمر أن الأحكام الشرعية ونظرياتها التي كانت تستنبط طوال العهد الأموي وصدرًا من حكم بني العباس، وتدوّن في الكتب والمذاهب كان يقوم بها الفقهاء والمجتهدون بعيدًا عن مراكز الحكم ودواوين الحكومة، ولم يجد الفقهاء طريقهم إلى السلطة بطريقة موسعة إلا في أيام بني العباس. ولهذا السبب لم يكن عدم اهتمام الحكومات – التي حكمت باسم الإسلام – بالإسلام سبيلاً إلى اضمحلاله أو تلاشيه، بل ظل بعكس ذلك يتعمق في وجدان الناس ويترسب في حياتهم، ويفتح المجال أمام المستضعفين والفقراء، رغم ظلم الحكام وإعنات المتسلطين. وهذا النظام الاجتماعي الشامل القائم على التكافل بين الأغنياء والفقراء عن طريق الزكاة والأوقاف وأعمال البر والصدقات هو الذي ضمن للمجموعة اكتفاءها الذاتي الذي لا يتأثر باضطراب أنظمة الحكم وسقوطها. وهذا هو السبب وراء انتشار الإسلام في أنحاء العالم بجهود الأفراد والجماعات دونما سند رسمي أو قهر. ولا يبعد الإنسان عن الحق إن زعم أن النظام الإٍسلامي مع شموله وتفصيله لكثير من جزئيات الحياة الاجتماعية والدينية، لم يتوسع في تحديد وتفصيل الأجهزة الإدارية والسياسية التي ترتكز عليها الدولة، مكتفيًا بخلق المجتمع القوي الذي يعبر فيه الفرد عن الجماعة، ويمكنه إن لزم الأمر أن يستغنى عن الدولة دون أن يصاب الإسلام كنظام إنساني وحضاري بسوء، كما برهنت تجارب المسلمين في هذه القرون الطويلة التي انصرمت منذ أن فقد المسلمون السيطرة السياسية على حياتهم. ومعنى ذلك أن الإسلام(/6)
كنظام اجتماعي وروحي قد ظل يصوغ شخصيات الأفراد والجماعات ويشكلها، بحيث أن نقول إن الفرد المسلم هو التجسيد الحي والتلخيص لفكرة الإسلام في إطار الزمان والمكان، هو التشخيص الواقعي لمعطيات الحضارة الإسلامية. وقد ظلت شخصية الفرد المسلم والجماعة المسلمة قوية متماسكة أمام كل التحديات. وقد وجد المستعمرون في ذلك عنتًا شديدًا ورهقًا. ولم يفلحوا رغم كل جهودهم في إضعافها وتحويلها عن منابعها. والشواهد على ذلك ماثلة في شمال إفريقيا وفي الجزائر بالذات، التي جاهد مناضلوها الاستعمار الفرنسي لأكثر من مائة وثلاثين عامًا، وانتصروا بإسلامهم على المستعمرين. ومثل ذلك تم في معظم بلاد المسلمين. ولفشل المستعمرين في تحويل المسلمين عن إسلامهم – رغم ما بذلوا من جهود تربوية واقتصادية وثقافية وإعلامية – فقد انصرفت جهودهم إلى الهجوم على الإسلام والمسلمين بحسبانهم رمزًا للجمود والتقليد ومجافاة التطور، زاعمين أنهم لا يرجى صلاحهم إلا بالتخلي عن هذا الداء الكامن القديم، ببتره واستئصاله، وبذلك وحده يمكنهم الانخراط في كل مظاهر الحضارة الغربية وشكلياتها، ويزعمون أن ذلك ناجم عن تعصب المسلمين الديني، فهم يريدون تحكيم الدين في زمان انتهى فيه أمر الدين كقوة في حياة المجتمع، أصبحت الدولة علمانية لا تتقيد في حركتها بتوجيه ديني، إذ أصبح الدين أمرًا شخصيًا لا علاقة للآخرين به. وهذا الأمر في ظاهره منطقي لو أن الأمر أمر دين لا يتناول قضايا المجتمع بالتفصيل كالدين المسيحي أيضًا، أو لو أن الأمر أمر مجتمع كالمجتمع الأوربي الذي هو في الواقع تجسيد لمعطيات الحضارة الإغريقية الرومانية في إطار مسيحي. فما أكثر مظاهر هذه الحضارة الغربية النابعة أصلاً من هذا التراث الأوربي المشترك، وذلك قد ينسجم عاطفيًا وشعوريًا مع الشخصية الأوربية، ولكنه قد لا ينسجم مع شخصيات حضارية أخرى مختلفة المنابع.
ويتبين خطل هذه المقارنة بين المجتمع المسلم والمجتمع الغربي؛ من أن عنصر الدين الذي كان في حياة الفرد الأوربي – خاصة في أيام طغيان البابوات – شيئًا غريبًا عنه، بل عدو يضغط على حريته الفكرية والشعورية ويستلب مقدراته، ولا حلّ إلا بمحاربته وإقصائه، بحيث يكون شيئًا هامشيًا لا يحكم علاقات الأفراد، ولا يتسلط على الحاكمين والمحكومين. وقد تم ذلك في حدود. لكن عنصر الدين في حياة الفرد المسلم هو النسيج الحضاري الذي يلف كل كيانه، ويطبع شخصيته بطابعها المميز في الفكر والشعور والمسلك، في المنزل، وفي الشارع، وفي كل مكان، وهو أمر شخصي ذاتي متغلغل في حنايا النفوس والقلوب. لم يعد دينًا خارجيًا عقليًا بل أصبح إرثًا حضاريًا وذاتية، بل قومية.
وهذا يفسر طغيان هذه الذاتية الحضارية على كل المسلمين، وإن لم يتقيد الكثيرون منهم بحرفيات الدين بمعناه الضيق في عرف الأوربيين. وتجريد حياة المسلمين من الدين – بعدوى العلمانية – لا ينتهي بإقصاء الدين فحسب، بل ينتهي بتجريد الأمة من كل مقوماتها، وتدمير شخصية الفرد والجماعة التي صاغتها تعاليم الدين التي هي دينية ودنيوية في ذات الوقت.(/7)
ولعله من مفارقات الأقدار أن كثيرًا من المتحدثين باسم الدين في عهود الانحطاط، قد جردوا الدين من هذا المعنى الحضاري الشمولي الذي يسم المجتمع المسلم ويعطيه كينونته، وانصرفوا إلى الدين بمعناه الأوربي الضيق، يلحون على تفصيلات الأحكام، ويتصيدون المفارقات بين نموذج الإسلام الأمثل والإسلام التاريخي المطبق في حياة الناس. وبذلك وقر في نفوس كثير من الناس – خاصة في العصور الحديثة – أن الإسلام قد انحسر عن حياة الناس ولم يعد له مكان إلا في هذه الأضابير والمدوّنات وكتب الفقهاء وعلماء الشريعة. فإن الدين هو ما يتحدث عنه هؤلاء فهو فعلاً قابع في الكتب والمدونات. ولكن الدين ليس مقصورًا على هذا وحده رغم أهميته، كما رأينا في المجتمع الإسلامي، بل الدين هو كل الحياة. ويكفي أن تدلل على هذا الفهم الضيق لمعنى الدين أن المسلمين الأوائل فهموا من كلمة العلم كل معرفة يكتسبها الإنسان، ولكن معنى العلم تقلص في عهود التخلف ليصبح وقفًا على علوم الشرع وحدها. وهذا التضييق في معنى الدين ناجم عن التضييق العام الذي اعترى حياة المجتمع المسلم في فترة التيه التي أعقبت انهيار دولة الإسلام، وما تبع ذلك من الانهيار العام في كل جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والعلمية، بفعل الغزو التتري، والحروب الصليبية، وتمزق الدولة بين الأمراء المتصارعين، وتسلط المماليك ومن إليهم، مما أدى إلى الإفقار العام، وإغلاق المدارس المتخصصة، ومعامل العلماء ومراصدهم، والمكتبات الكبرى في كل مدن الإسلام، فانطفأت جذوة العلم التي ازدهرت بها حضارة الإسلام في الطب والهندسة والفلك والفلسفة، وهذه كلها كانت ترفد علوم الدين وتمنحها الحيوية الدافعة للاجتهاد ليواكب الفقه تطور المجتمع، وبانهيار كل هذه العلوم وانحسارها وانتقال ثمراتها إلى أوربا – لتقيم عليها حضارتها الراهنة – لم يبق للمسلمين سوى الحد الأدنى الذي يحفظ عليهم وجودهم، وهو علوم الدين بمعناه الضيق، وما يتصل بها من علوم اللغة، وبفقدان المجتمعات المسلمة السيطرة المركزية على حياتها من جراء ذلك تم الانفصام في حياة المجتمع، وانشطرت الوحدة العضوية التي كانت قائمة بين الدين والدنيا، خاصة على المستوى الرسمي، ولم يعد الولاة يهتمون بأمر الدين إلا في الحدود التي تضمن تسلطهم، وانصرف الفقهاء للتشبث بما بين أيديهم من نصوص هي كل ما تبقى من آثار الإسلام الملموسة، يلحون عليها بالشرح والتعليق بعيدًا عن واقع الحياة وتطورها.
ولكن الإسلام كحضارة وتراث كامن في النفوس، ظل يصوغ شخصيات الأفراد والجماعات طوال هذه القرون، وقد أسهم العلماء والفقهاء في رفد هذه الحركة الحضارية بإلحاحهم على تعليم الناس ما يجب معرفته من أسس دينهم، وإن كانوا يرون ما هم بصدده هو الدين لا غير.
وهذا يعود بنا إلى نقطة البداية التي انطلقنا منها. فهناك النموذج الأمثل للحضارة الإسلامية – كما تبدو في صورتها الرسمية المدونة في الكتاب والسنة والشريعة – وهناك ما ترسب منها في حياة الناس وعقولهم وقلوبهم، وقد تتبعنا ما انتهى إليه الأمر في مجتمعات المسلمين.(/8)
ورغم أننا ذكرنا أن ما انتهينا إليه هو في جماعة التجسيد الحي لفكرة الإسلام في إطار الزمان والمكان، إلا أن هناك من الظروف الموضوعية – وعلى رأسها تخلف المسلمين وتكالب أعدائهم عليهم خاصة في الحقبة الأخيرة – ما يحول بين هذا التجسيد والانطلاق في رحاب الزمان، بحيث تتجدد الشخصية وتزداد ثراء وتتخلص من قيودها. وقد سلف القول أن ما يتشربه الناس من قيم الحضارة في عنفوانها يختلف عما يؤول إليه أمر الناس في عصور التدهور والانحطاط. فإن الانهيار المادي يعقبه بالضرورة انهيار فكري، ومن ثم تحدث الانقسامات في المجتمع، وتستحيل كثير من دوافع القوة والمخاطرة التي كانت مبعث الحركة والنشاط في البداية إلى قوى سالبة تعوق حركة المجتمع وتبقيه حيث هو، لأنه لا يضمن أن ما سيأتي به في المستقبل خير مما هو عليه فالإيمان بالقدر خيره وشره – الذي كان يدفع بالأولين إلى المخاطرة والمجازفة إيمانًا بالقضاء والقدر – استحال في النهاية إلى تواكل وخمول وانتظار لما سيأتي به القدر، لأن ما هو مقدر لابد أن يأتيك فلماذا تجهد نفسك؟. وإرادة الفاعل التي كان يرى فيها المسلم الأول سر حركة الكون وسر نشاطه هو، تصبح في عهود الجمود مدعاة لتعطيل إرادة الأفراد ووضع القيود على حريتهم في الحركة، لأن الله لو أرادك على غير ما أنت عليه لفعل، فلماذا تعاند إرادة الله؟ وهذه الإرادة الإلهية الفاعلة التي حفّزت المسلمين الأوائل للبحث والتنقيب عن أسرار الكون – كما أمرهم الله – فأقاموا صرحًا للعلوم الطبيعية دعموا به مكان العقل في فهم العلاقات بين الأشياء، استحالت في نهاية المطاف إلى قوة رهيبة تلغي قانون النسبية، وتعطل معظم ما يستقيم مع العقل من الأفعال وردود الأفعال. ومن ثم انفتح الباب واسعًا أمام الخرافات والأساطير والدجل، وأصبح معظم الناس يعيش في عالم غيبي لا تحكمه قوانين الطبيعة، ولا يتقيد بالأسباب، وإنما تسيطر عليه الشطحات والغارات والطيران في الهواء وغير ذلك من الخوارق والكرامات التي نفاها رسول الإسلام وكان أحق بها من غيره. وهكذا أوغل معظم الناس في الجهالة، واستغلهم المستغلون باسم الدين، واستبد بهم الحكام فاستعانوا على دنياهم بهذه القيم، وبعدت الشقة بينهم وبين قيم دينهم الفاعلة، واستحالت العبادات التي ترمز لهذه القيم إلى حركات آلية يفعلها المسلم بحكم العادة والألفة، دون أن تردع عن غيّ، أو تدفع إلى خير إلا في أضيق الحدود، رغم كثرة المساجد ودور العبادة وكثرة مرتاديها، ولكنهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غثاء كغثاء السيل، نُزِعت المهابة من قلوب أعدائهم، ووُضع في قلوبهم الوهن، وهو حب الدنيا وكراهية الموت. وفي كل ذلك إشارة إلى أن الشخصية الحضارية رغم احتفاظها بجوهر كيانها المستقر في القلوب والضمائر، قد اتجهت تحت ظروف الجهالة والاستبداد والفقر وجهة سلبية في كثير من جوانبها، ولكنها ما تزال تحمل في عمق أعماقها روح حضارتها وبذرة إبداعها، من إيمان بالله، وإيمان بالإنسان وقدرته على صنع المعجزات. وهي رغم غشاوات الجهالة وتخلف القرون التي رانت عليها وحجبت جذوتها عن الإشعاع في واقع حياة الناس، إلا أنها كامنة وتنتظر لحظة الوعي واستعادة الإرادة لتتفجر من جديد.(/9)
ولعل مما يضاعف من صعوبة استعادة هذا الوعي وتحرير الإرادة المأزق الحضاري الذي نعيشه اليوم، والذي يناقض ما كان عليه أمرنا في البداية. فإن المسلمين الأوائل قد واجهوا الوضع الحضاري في الأمصار وهم في مركز القوة والسلطة، والحضارات السائدة في موقف الضعف والجمود، وبذلك تم لهم تطويع كل التيارات الحضارية التي تشربوها وصاغوها صياغة إسلامية تتلاءم والمزاج النفسي والعقلي للمسلمين، دون تزمت أو حجر. ونحن الآن في موقف الجمود والضعف في مواجهة حضارة عارمة القوة، يسعى أصحابها لفرضها علينا كبديل عن حضارتنا الجامدة. وبذلك أصبحت معركتنا مع هذا الغزو الحضاري الضاري معركة حياة أو موت. فرضت علينا الحرب في جبهتين: جبهة داخلية يتوجب منها أن ننتصر على أنفسنا باستعادة فعالية شخصيتنا الحضارية في كل أبعادها الدينية والاجتماعية، مما يقتضي ثورة ثقافية عارمة ننفتح بها على ماضينا في ضوء تجربتنا المعاصرة، عودة واعية لمنابع إبداعنا، وتجديدًا لوسائلنا في تحقيق ذلك. وجبهة خارجية نصد فيها كل محاولات الطمس والإبادة الموجهة إلينا من قبل حضارة الغرب، دون أن يحول ذلك بيننا والاستفادة من منجزات هذه الحضارة وتطويعها لخدمة أغراض حياتنا. كل ذلك نفعله ونحن في بحر لجّي يكاد يغرق وجودنا من تأثير فعالية حضارة الغرب وقدرتها على اختراق الحدود والعقول، حتى انتهت بالناس في كثير من بلاد المسلمين إلى خيارين: إما التمسك بما آلت إليه حضارتنا رغم تخلفه والتقوقع فيه والعيش على ماضيه، وإما نبذه وأخذ ما عند الغرب بخيره وشره كما زعم أحد ممثلي هذا الاتجاه في بداية أمره. وقد وضح ذلك حين سعى المسلمون لتطوير حضارتهم بأخذ ما يتلاءم معها من مكتسبات الغرب، كما فعل أوائلهم في مواجهتهم للحضارات القديمة، ونجم عن ذلك ما سمي بالنهضة العربية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ولكن حركة الاستعمار التي استولت على معظم العالم العربي والإسلامي بعد ذلك أجهضت هذه المحاولة، ووضعت حدًا لذلك التطور الطبيعي لإحداث النهضة، وفرض المستعمرون نظمهم الغربية في التربية والتشريع وكل مجالات الحياة الفاعلة، ولم يبق من الإسلام في حياة المسلمين إلا الشعائر الدينية على مستوى الأفراد، وقوانين الأحوال الشخصية على مستوى المجتمع.(/10)
والناظر الآن في أحوال العالم الإسلامي – وقد انقضى ما يقرب من نصف قرن على خروج جيوش المستعمرين من معظم أنحاء العالم الإسلامي – يجد أن الأمر أشد تعقيدًا مما كان عليه الحال قبل دخول المستعمرين، من تغيرات في عقول كثير من المسلمين وحياتهم، فقد وضح لمعظم الناس أننا رغم ما حصلنا عليه من تقدم شكلي فإننا ما نزال في موقف الجمود والضعف في مواجهة حضارة عارمة القوة يسعى أصحابها إلى فرضها علينا كبديل عن حضارتنا، ولا يقبل هذا المنطق الاستعماري إلا قلة ممن استهوتهم حضارة الغرب، لأن الناس لا يستبدلون نظامًا بنظام بهذا الأسلوب الاستبدادي، الذي يهدف إلى إلغاء شخصيات الأمم وصبها في قالب الشخصية الغربية، مهما تدثر بالحديث الأجوف عن نشر الديمقراطية والحريات وحكم القانون، وهي دعوات لا يتقيدون بها في تصرفاتهم مع الآخرين، كما هو واضح في كيلهم بمكيالين، وازدواجية معاييرهم حين يتعلق الأمر بمصالحهم أو أهدافهم السياسية. والحضارة روح والأشكال تعبير عنها. وقد كان من آثار احتكاكنا بالحضارة الغربية في القرنين الماضيين أن بدأنا ننصرف قليلاً عن بهرج الأشكال التي غزت حياتنا، ونتوفر على روح هذه الحضارة القائمة على العلم والصناعة، رغم سعي الدول الغربية لحرمان الدول النامية – ومن بينها العالم الإسلامي – من الحصول على ثمرات العلم التي تحدث التطور، ليظلوا عالة على الغرب، مستهلكين لا منتجين لبضائعه. وقد بدأ هذا الوعي يحدث يحدث آثاره على وجودنا ويدفعنا إلى اكتشاف نفوسنا التي علاها صدأ القرون، وفي ذلك ما فيه من تنشيط لقوانا الكامنة، مما يجعلنا نستعيد كثيرًا مما فقدناه في عصور التخلف، من وحدة شخصيتنا العضوية، ونظرتنا الشمولية للدين، بحسبانه إنجازًا حضاريًا عامًا يدفع بالإنسان لتأكيد إنسانيته بقدر إيمانه وإخلاصه في عبادة ربه. وكلما استعدنا قدرًا صالحًا من قوتنا كان في ذلك دعمًا لإرادتنا في التحكم في التيارات التي تصب علينا من الخارج، فنقبل منها ما يتلاءم وكياننا الحضاري، ونرفض منها ما يصادمه. وبذلك نتجاوز مرحلة التلقي والتقليد إلى مرحلة الهضم والتمثل والإبداع. ومن ثم تصبح التيارات الوافدة رافدًا لشخصيتنا الحضارية لا بديلاً عنها، فتتأكد بذلك ذاتيتنا، ونستعيد مبادرتنا على الإسهام في بناء الحضارة، كما فعلنا بالأمس. وبهذا وحده نصل حاضرنا بماضينا منطلقين لمستقبل مشرق، لأن كل أمة تتمثل من الحضارة السائدة ما ينسجم وشخصيتها، وهي تخضعه لمواصفاتها، فتكون ثقافتها المتولدة عن ذلك تعبيرًا عن ظروفها هي لا عن ظروف حضارية مجردة لا مكان لها إلا في دعايات المستعمرين وعقول من يستجيبون لهذه الدعايات.
وكل ذلك يحتاج منا لثورة روحية شاملة في كل مجالات التربية والثقافة والسياسة، تشحذ من عزائم الناس، وتقوي من إيمانهم بأنفسهم، وتدفعهم إلى معرفة هذه النفس بالرجعة إلى منابعها الأصلية، رجعة موجهة بروح الحضارة الحديثة القائمة على العلم والابتكار. وبذلك نخلق المناخ الصحي للنهضة الحقيقية التي ترتكز على بعث شخصية الأمة الأصلية، نوصلها بكل تيارات الفكر الحية في عالم اليوم. وهذا شبيه بما حدث للحضارة العربية الإسلامية في بداية أمرها، مع الفارق الذي ذكرناه آنفًا. وهو أيضًا شبيه بما حدث في النهضة الأوربية المعاصرة بعد أن تحجرت الحضارة الإغريقية الرومانية، خاصة بعد أن ارتدت الزي المسيحي كما زعم المؤرخ جيبون في كتابه عن انهيار الإمبراطورية الرومانية.(/11)
ولكن الشخصية الأوروبية سرعان ما تململت تحت أشعة الشمس التي سلطتها عليها الحضارة الإسلامية في الأندلس وصقلية، فعبّت من ثمار هذه الحضارة في الفلسفة والعلوم والمهارات، وترجمت معظم الكتب العربية بما فيها القرآن إلى اللغة اللاتينية، ودرستها في مدارسها وجامعاتها التي قامت بتأثير هذه الحضارة الإسلامية في جنوب فرنسا وجنوب إيطاليا وبريطانيا وغيرها. وكان أن بعث ذلك فيها الوعي بذاتها، ونبهها إلى ماضيها، فرجعت تبحث عن أصول عبقريتها في العهد الإغريقي الروماني. وبدأ الناس يدرسون تراث الماضي في ضوء التجربة الجديدة بغرض اكتشاف روح هذه الحضارة، والتعرف على مصادر الإلهام فيها، والتي ما تزال كامنة في النفوس. ولم يلبث عصر النهضة أن انفجر عن هذه الحضارة الغربية التي نشهدها اليوم. وما حدث في هذه التجربة الغربية قمين بأن يحدث لحضارتنا العربية الإسلامية التي ما تزال روحها حية ومجسدة في شخصياتنا المعاشة، رغم كل المعوقات والحرب التي شنها وما يشنها أعداء الإسلام من المستعمرين، وضاعف من ضراوتها الجهل والتخلف والفقر (أعداؤنا الأساسيون). يجب أن يكون اندفاعنا القوي للتزود من العلوم والفنون التي تتيحها لنا الحضارة المعاصرة، مربوطًا باندفاع لا يقل عنه قوة لاكتشاف ذواتنا بدراسة تراثنا في كل أبعاده القريبة والبعيدة. وعندها سنكتشف أن كثيرًا مما ندرسه في مدارسنا – كنتاج لعبقرية أوربا – ما هو في معظمه إلا بضاعتنا القديمة ردّت إلينا في أغلفة أجنبية. وذلك يقتضي أن تكون الثورة الروحية الثقافية ثورة على الأمية الحضارية الغاشية في أواسط متعلمينا الذي تعلموا في المدارس مبادئ العلوم المختلفة، ولكنهم يجهلون الكثير عن ماضي أمتهم وعبقريتها، ومنابع الأصالة والإبداع الكامنة في نفوسهم والمتوارثة عن أسلافهم. فإن معرفة هذا الماضي المشرق بدراسته في ضوء التجربة الحضارية المعاصرة كفيل بأن يفجر في نفوسنا جميعًا بذور الأصالة الكامنة في أعماقنا، والتي هي مقرونة بهذا الماضي. وعندها سيكون عطاء العرب والمسلمين للحضارة عظيمًا، إذ أن ما تحتاج إليه البشرية في مقبل أيامها، وقد اندفعت في تحقيق رغباتها المادية وإشباع شهواتها في التسلط والحروب، هو ضرب من التوسط لا يحققه إلا ميزان التعادل الذي تقيمه رسالة الإسلام الخاتمة في نفوس الأفراد والجماعات. وقد جاء الإسلام أصلا لمواجهة تحديات هذا التقدم المادي الهائل بحله الذي لا حل سواه، وهو جوهر خاتميته المتمثل في خُلق (الفرد الجماعة)، الذي تتكامل قواه الروحية مع قواه الحسية، ليواجه أزمات التقدم بشخصية موحدة متكاملة بدل هذه الشخصية الأحادية النظرة التي تمشي على رجل مادية واحدة، وتبتر رجلها الروحية كما تفعل حضارة الغرب المرجوحة، والتي جاء الإسلام لمعالجة سلبياتها، لأن الأساس الذي قامت عليه من فصل الدين عن الدنيا كان صالحًا لمراحل الحياة البسيطة التي فيها الروح الجماعية حركة الجماعة كما سبق القول.
ومن الواضح أن هذا التوجه الجاد الذي انتظم معظم العالم الإسلامي نحو استعادة فعالية الشخصية الحضارية وأخذهم بأسباب العلم وسعيهم لنقض ما رسبته مخططات المستعمرين في حياتهم من نظم تربوية وقانونية، وتحكيم قيم دينهم في حياتهم الاجتماعية والسياسية، كل ذلك قد أثار الهلع في نفوس أهل الغرب الذين ظنوا أنهم قد أفرغوا الإسلام من محتواه الشامل، ليصبح عبادات فردية كما تقضي بذلك علمانيتهم، التي تبعد الدين عن حركة المجتمع الفاعلة تحت شعار الدين لله والوطن للجميع.
وأمام هذا التحدي الكبير لمخططاتهم الرامية لصب العالم في قالب الحضارة الغربية عامة عن طريق العولمة التي توظف كل الوسائل المادية والمعنوية لتحقيق ذلك الهدف، فقد تبين لهم أن الخطر عليهم أكبر من أن تحتويه عولمتهم. فاحتاجوا كما يقول المثل السوداني (إنهم محتاجون لمساعدة العولمة بجكّة). وهذه (الجكّة) ـ الجري ـ هي اللجوء إلى القوة لفرض مخططاتهم بعد أن فشلت طرق الدعاية والإغراء في حمل المسلمين على التنازل عن قيم دينهم. والواقع أن الحضارة العربية الإسلامية تكاد تكون الحضارة العالمية الوحيدة الحية الذي ظلت لأكثر من ألف عام تواجه بصلابة حضارة الغرب وتستعصي على الانصياع لها، في حين استكانت لها معظم حضارات العالم.(/12)
ومن ثم كان من الطبيعي أن يرى الغرب في الإسلام – عدوه التقليدي – هو الهدف، خاصة بعد انهيار الشيوعية التي نجحوا في هزيمتها. وهذا هو سر هذه الحملة المنظمة على الإسلام والمسلمين في هذه الأيام، والمحاولات المستميتة لإجهاض كل تقدم إسلامي في أي مجال من المجالات باستعمال القوة إن لزم الأمر. وينسى الغربيون ظلمهم الفادح للمسلمين في أوطانهم بما في ذلك وقوفهم الفاضح مع العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين رغم تحججهم الكاذب بدعم حقوق الإنسان. كما ينسون أن ما يسمونه بالإرهاب الإسلامي هو حصيلة ظلمهم وسياساتهم الخاطئة في كل أنحاء العالم، والتي تدعو كل صاحب ضمير للثورة عليهم. ومن الواضح أنهم ظنوا أن الفرصة مواتية – وقد نجحوا في هزيمة الشيوعية – أن يوجهوا كل طاقاتهم ودسائسهم لهزيمة الإسلام في حياة المسلمين، وفي حياة البشرية، وقد تجاوز الأمر حدود الصراع المعهود بين الحضارات ليستحيل في الآونة الأخيرة إلى حرب صليبية صهيونية على المسلمين كافة، مما يقتضي مواجهة هذا العدوان السافر على وجود الأمة بما يستحقه من تدابير، وعلى رأسها الإصلاح الشامل لأنظمة الحكم في بلاد المسلمين، لتواجه مع شعوبها هذه الحرب الظالمة، وهي حرب لا تستهدف وطنًا بعينه، بل تستهدف أمة بأسرها. ولذلك لابد أن تواجهها الأمة بأسرها، مما يقتضي تجميع الصفوف والطاقات لمواجهة العدوان، مثلما فعلوا في كل تاريخهم مهتدين في ذلك بما كادوا أن ينسوه من قول المولى جل وعلا: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم) [الأنفال/60]. وما النصر إلا من عند الله، والله جل وعلا الذي وصف أمة الإسلام بقوله جل وعلا: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) [آل عمران/110] كفيل بنصر دينه الذي ختم به الديانات لحل أزمة الإنسانية في هذا الطور الأخير من مراحل تقدمها، في وقت تهدد فيه حضارة الغرب المرجوحة بإفناء الإنسانية بظلمها وتعدياتها على الإنسان وبيئته. والله غالب على أمره وهو المستعان.
* أستاذ بجامعي و وزير الأوقاف الأ سبق(/13)
ستار أكاديمي وتمزيق الحياء
سعد احمد الغامدي
الحمد لله رب العالمين ، مَنَّ على من شاء من عباده بهدايتهم للايمان وكرَّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، تفرد بالكمال والجلال والعظمة والسلطان ، وأشهد ان محمدا عبده ورسوله المبعوث إلى كافة الإنس والجان ، فبلغ رسالة ربه وبين غاية البيان ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين جاهدوا في الله حق جهاده حتى نشروا العدل والأمن والإيمان . وسلم تسليما كثيرا
اما بعد
قال تعالى ( إِنَّ الذين يُحِبُونَ أن تَشيعَ الفاحِشَةُ في الذين آمَنُواْ لَهُم عَذابٌ أليمٌ في الدُنيا والآخرةِ واللهُ يَعلَمُ وأنتُم لا تَعلمُونَ ).
انى اكتب هذه الكلمات والقلب يتقطع على ما نري وأتذكر بداية هذه الكلمة قول المصطفى صلى الله علية وسلم ( لتتبعن سنن من كان قبلكم حذوا القذة بالقذة شبر بشبر ذراع بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ) قيل يارسول الله اليهود والنصاري قل ( فمن ) .اى من القوم اولئك
وقولة صلى الله عليه وسلم: ( كل امتى معافى الا المجاهرين )
مصيبة عظمة وطامة كبيره تضم إلى ما قبلها من البلايا والرزيا وجب النصح والتذكير أن أنبه على أمر لا ينبغي السكوت عنه، بل يجب الحذر منه والابتعاد عنه وهو مايحصل فى القنوات الفضائيه من خدش للحياء والعفة والكرامة ولاحول ولا قوة الا بالله
في الوقت الذي يُمزق الإسلامُ وأهلهُ في كلِ مكان وتستحل ثروات العرب والمسلمين وتهدر دماؤهم رخيصة في فلسطين وفي كل الارض وبينما الاسلام يئن ضعفاً وخوراً من أهلهِ , يفاجأ العالم العربي والإسلامي بانحطاط جديد يخترعه الفرنسيون ثم يأتي من يزعمون انهم عرب ومسلمون ليستنسخوا هذا الانحطاط ويطبقونه على أولادنا وشبابنا وبناتنا ويجعلون العالم العربي والاسلامي كله مشدوهاً مشدوداً بآخر التقليعات الساقطة , والمنكر الفاضح ، ومبارزة الله في المعاصي .. وعلى الهواء مباشرة ببث حي ومباشر لمجموعة من الضحايا الشباب والبنات الذين يتنافسون على المنكر وعلى كل ما يغضب الله تعالى.. فمن يكن منهم اكثر اجادة للرقص يكن فائزاً بالدرجات العليا..! ومن يكن اكثرهم حميمية مع صديقاته ولطيفاً ورومانسياً يكن هو الفائز..! ومن يجد المقامات والغناء والعزف وكل أنواع الغفلة يكن هو الأول عليهم..!
اختلاط رقص غناء فجور فسق تنافس على المنكرات شئ عجيب أين أولئك البنات الفاسقات من نساء متلفعات بمروطهن كانت الواحدة منهن لاتعرف الا يتذكرن الحديث الذى ورد عن عائشة رضي الله عنها قالت: « كان رسول الله يصلي الفجر فيشهد معه نساء متلفعات بمروطهن ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغلس » ، وقالت: « لو رأى رسول الله من النساء ما رأينا لمنعهن من المساجد، كما منعت بنو إسرائيل نساءها » فدل هذا الحديث على أن الحجاب والتستر كان من عادة نساء الصحابة الذين هم خير القرون وأكرمها على الله عز وجل، وأعلاها أخلاقاً وآداباً، وأكملها إيماناً، وأصلحها عملاً، فهم القدوة الصالحة لغيرهم. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: « كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله ، فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها على وجهها من رأسها فإذا جاوزنا كشفناه
ومن المعلوم أن احتجاب المرأة المسلمة عن الرجال الأجانب وتغطية وجهها أمر واجب دل على وجوبه الكتاب والسنة وإجماع السلف الصالح، قال الله سبحانه وتعالى: { وَقُل لِّلمُؤمِنَاتِ يَغضُضنَ مِن أَبصَارِهِنَّ وَيَحفَظنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنهَا وَليضَرِبنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } [النور:31] وقال تعالى: { وَإِذَا سَأَلتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُم أَطهَرُ لِقُلُوبِكُم وَقُلُوبِهِنَّ } [الأحزاب:53] الآية. وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ المُؤمِنِينَ يُدنِينَ عَلَيهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدنَى أَن يُعرَفنَ فَلا يُؤذَينَ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَّحِيماً }
قد خرج النبي ذات يوم من المسجد وقد اختلط النساء مع الرجال في الطريق، فقال النبي : « استأخرن فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق عليكن بحافات الطريق » ، فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى أن ثوبها ليتعلق به من لصوقها. ذكره ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: { وَقُل لِلمُؤمِنَاتِ يَغضُضنَ مِن أَبصَارِهِنَّ } [النور:31]،
وقد ثبت عنه أنه قال: « لا يخلون رجل بامرأة فإن الشيطان ثالثهما » [رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه].(/1)
حرب على الفضيلة من كل مكان، فبعد أن أطلت القنوات الفضائية ببرنامج "سوبر ستار" وتكرره في الجزء الثاني، ظهر اليوم برنامج مماثل على محطة أخرى بنفس المعنى ومستنسخ عنه، ولكن باسم مختلف حمل اسم "ستار أكاديمي" وهو يجمع المطربين من جيل الشباب في حمى تنافس شديد لمن يتقلد الصدارة في هذا الموسم!
انها خطة ساقطة ومهينة تلك التي خطط لها القائمون على هذا البرنامج الفاضح والمسمى (( ستار أكديمى) ان هم يريدون سحق قيم الفضيلة والأخلاق علانية في نفوس الشباب والبنات.. لقد افسدوا الملايين والملايين من وراء الاتصالات التي تصل للبرنامج , فأنت من ترشح اليوم ليكون الفائز بهذه الرقصة?! وانتِ يا أيتها الفتاة من ترشحين من الشباب ليكون الفائز عندك?! ومن هو الشاب الذي دخل قلبك وتتمنين ان تقضين اوقاتاً دافئة معه?! ساعدي هذا الشاب.. وانتَ ساعد هذه الفتاة التي اعجبت بقوامها واتصل واعطها صوتك .. وهكذا يمزقون الفضيلة وينحرون الحياء والعفاف..!لقد تزايدت حمى التنافس، وتعالى صوت المؤيدين لمثل تلك البرامج والأفكار، فظهرت تقارير إعلامية تقول إن إطلاق برنامج "ستار أكاديمي" تهدف إلى منافسة برنامج "سوبر ستار" الذي حقق نجاحاً باهراً في لبنان والدول العربية، وظهرت أرقام عن حجم الشباب العربي المشارك، ومنها مشاركة ما يقارب خمسة آلاف شاب وفتاة من الأردن فقط، أما شروط المشاركة في الأردن على سبيل المثال، وهي ـ الشروط - لا تختلف في باقي البلاد العربية ـ بحسب إعلانات نشرتها شركة اتصالات للهواتف النقالة ترعى التصفيات المقامة في الأردن ـ فإن شروط الاشتراك: لبسة على الموضة، وحفظ ثلاث أغان، وشكل مقبول لمن يريد الاشتراك.. عندها يتحول المكان الذي يضم هؤلاء الشباب والفتيات إلى صالة أزياء أقل ماتوصف به أنها مخزية.
إن ثقافة السوبر ستار وأكاديمي ستار تفتح مجددا ملفات التغريب والقيم الهابطة التي باتت جهات رسمية في بعض البلاد العربية والإسلامية تدعم انتشارها بين الجيل الجديد، فقامت جامعات بإجراء حفلات تكريم لشبان وفتيات فازوا بجائزة الأغنية الأردنية، بعد أن كانت هذه الجامعات لا تعقد مثل هذه الحفلات إلا للمتميزين علميا وأخلاقيا.
كل هذا الجهد الذاهب هباءً يختزل في رسالة إعلامية موجهة بعناية إلى أهداف، أهمها: تنمية الاندماج بين الجنسين، وإشعار النشء أن لا إشكال في بناء العلاقات والصداقات بين الجنسين، وأن قضية تحسس الفتيات من الفتيان وطقوس الفصل بين الجنسين والحدود في علاقاتهم هي أمور لا صحة لها.
إن عدد الذين صوتوا لبرنامج "سوبر ستار" ـ مثالاً ـ على حسب المكالمات التليفونية المُستقبلة من تلك البلدان ـ استنادا إلى موقع سعودي تيليكوم، وإيجيبت تيلي كوم، وليبا كول، وشركة الوطنية للاتصالات بالكويت، وغيرها ـ: (11) مليوناً وثلاثمئة ألف اتصال من السعودية، و(23) مليوناً ومئة وخمسا وسبعين ألف اتصال من مصر، و(18) مليوناً وخمسمئة وستة وثلاثين ألف اتصال من لبنان، و(300) ألف اتصال من الكويت، ومن الإمارات مليون ومئتان وعشرون ألف اتصال، ومن اليمن سبعة آلاف اتصال، و(16) مليوناً وتسعمئة ألف وثلاثة وثلاثين اتصالاً من سوريا، و(8) ملايين وثمانية وسبعين ألف اتصال من الأردن.
ولو جمعت الأرقام أعلاه لبلغت حوالي (79) مليونا و خمسمئة وخمسين ألف اتصال، في حين أن عدد المصوتين من جميع البلدان العربية في مجلس الأمن والأمم المتحدة ووثيقة الاعتراض على الحرب على أفغانستان لم يتجاوز أربعة ملايين صوت!
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
الا فا الحذر لحذر من غضب الله وليتذكروا قول الله - تعالى -: "وأما من خاف مقام ربّه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى".
أورد القرطبي قول مجاهد تعليقاً على هذه الآية: "هو خوفه في الدنيا من الله - عز وجل - عند مواقعة الذنب فيقلع". ونهى النفس عن الهوى، أي زجرها عن المعاصي والمحارم.
ويتعوذ ابن مسعود - رضي الله عنه - من زمان سيأتي بعده، يكون للهوى الدولة والصولة فيقول"أنتم في زمان يقود الحق الهوى، وسيأتي زمان يقود الهوى الحق، فنعوذ بالله من ذلك الزمان". ونحن فيه الا مارحم ربى
وكلمة خيره اذكر بها نفسى لمن قراء هذا الموضوع وهى كلمة شديدة الأهمية لكثرة ورودها في القرآن وضرورة الالتزام بها وفهمها جيداً،وهي كلمة (التقوى) التي أظن أن معناها القرآني لم يُفقه بدقة.فا تقوا الله ايها المسلمون .... فا تقوا الله ايها المسلمون...... فا تقوا الله ايها المسلمون
إمام وخطيب جامع الأمير محمد بن فهد
سعد احمد الغامدي
الظهران-الدانه(/2)
ستار أكاديمي ... تباً لباعة العار !!
سلطان الجميري
نحتاج إيقاظ خلية واحدة فقط في ضمائرنا لنكتشف أن برنامج ستار أكاديمي شهادة تأكيد على وقاحة الإعلام العربي وخيانته ، بل وضمان على المدى الطويل يقدمه المسؤولون على هذه القنوات والبرامج للعالم أجمع أننا في صدد إنتاج أجيال عربية ذوو سحنات فرنسية غربية، تتلمذ بعمى على ثقافة الرجل الأحمر ، تهجر المصحف والمسجد وتسجد عند أقدام المطربات.. تستبدل الخنادق بالمراقص،والبنادق بالكوؤس المترعة ..تعيش على اللمسة الحانية والنغمة الهادئة.. لتعلن بخسة ودناءة أمام مرأى الملايين من السذج أن ثمة شيء اسمه" عبادة الجسد" !! وأنه واقع حي !! و الحقيقة تقول الذي يسجد للجسد لن يجد صعوبة للسجود للدبابة والصاروخ !!
ستار أكاديمي ..جاء ليطعن الشعوب العربية من الخلف ، ويبيع العار ، جاء في أسوأ تعريفات الغدر والرذيلة !! سيء التوقيت ..سيء الفكرة ..سيء العرض والأسواء من ذلك أن تتفاجأ بجمهوره الذين لازلنا نعقد عليه الآمال ..أضحكوا ..هيا أضحكوا على مثقفينا ومفكرينا الذي يسألون بين الحين والآخر لماذا يهمشنا الغرب حتى في قضايانا المصيرية !!
أين نعيش نحن !! أي مباديء نحمل !! هل نعي مالذي يجري حولنا !! ومالذي يحاك بنا !! إذا مات الإسلام في قلوبنا فأين نخوة العربي الأصيل !! إذا غاب الحياء عن ذممانا فأين حاضرالإنسان البسيط!! الهذا الحد جرى بنا الزمن !! الهذا الحد تخنث رجالنا !!
79 مليون ممن صوت لهذا العار الأكاديمي ..فكم عدد المتابعين والذين كفوا عن التصويت !!
أين هذا التصويت من الحرب ضد أفغانستان ..كم عدد الذي صوتوا ضد إحتلال العراق ..!! أحلال للجميع أن يصوت للفنانة التي يتمنى أن يقضي ليلته بجوارها ، وحرام أن ترفع أصبع واحدة تقول لأمريكا " لا لحرب العراق"!! أحلال أن تدفع الأموال الطائلة للحفلات المختلطة الصاخبة وتمتلأ الأصدة بأموال المتصلين المعجبين ، وحرام أن تتبرع عجوز مسنة بعشرة ريالات للمسلمين في الشيشان دون أن توصم بدعم "الإرهاب" !!
أتريدون نصرا من الله ..اخسأوا !!
أتريدون عزة وتمكينا ...اخسأوا !!
أتريدون أن تقاوموا أمريكا ..اخسأوا !!
أتريدون أن يحترمكم العالم ..اخسأوا !!
أتريدون أن تربون أبنائكم على الرجولة ..اخسأوا !!
أتريدون بناتا عفيفات ..اخسأوا !!
بادروا وصرحوا لأمريكا لسنا بحاجة لقناة (سوا) !! ولم سوا !! السنا نغذي إعلامنا عبر الحبل السري على أدبيات الغرب والردي من الأديولوجيات الأمريكية!!
يا أمريكا كفاك رجالاتنا مشقة المهمة ..واختصروا المشوار .. لايريدون بذلك جزاء ولاشكورا .. لاتخافي من قنواتنا ولامن برامجنا لديك رجال أوفياء يسبحون بحمدك آناء الليل وأطراف النهار .. نحن على العهد ..نحن مهرة الإعلام وصناع القرار ..أي جيل تريدين أن يخدمك أكثر من أؤلئك الذين يتم صنعهم بأيدينا وعلى عيوننا ..أخلاق ليس هناك أخلاق ولاحتى قيم ولامباديء ولادين ولاعواطف ملتهبة كل ذلك مضمون بل وبمقابل ..!!
لقد أثبت إعلامنا العربي فشله على كافة الأصعدة ، وشكلت زمرته القيادية طابوراً خامساً يلبي احتياجات الإستعمار الراحل فعلى المسرح السياسي بان عواره وانكشف المستور واتضح بمالايدع ثمة مجال للشك أنه "رهن إشارة " وقدم برهانه بإخلاص في الزفة الأمريكية لإحتلال العراق وسيس الإنبطاح بالصياح المجاني !! وعلى الصعيد الأخلاقي والفكري والذي يمثل الجانب الأخطر أصبحت القنوات تتنافس في ترويج مخدرات "القلب المسلم" والقضاء على عواطفه "الحية" ، وأعلنت إنفصال الذهنية الشرقية عن المسحة الإسلامية !!
إننا نؤمن يا أحبة ... أن ثمة منافقين ..وثمة عملاء ..وثمة منبطحين ..لكننا نأسف أن يكون لهم مطبلون كثر ..نأسف أن يكون لهم مشجعون بالملايين ..نأسف أن يكون لهم متابعون لايحصي عددهم إلا الله!!
كنا نبصق على أولئك الفنانين الذي يوظفون مهنتم لنصرة قضية فلسطينية ، أو شتم لقادات صهيونية ..واعتبرنا ذلك عبث برتبة " قضية " !! فماذا عسنا أن نقول لهذا العار الذي خلا من كل ذوق ، وانعدم من أي شرف، فليس هناك فنا معتبرا ولاقضية مشهودة ، إنما هو تخدير للأمة ، وتعطيل لنزق الثورات الدينية الني تجتاح المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ..
أي جيل سيتخرج لنا في المستقبل إذا ربيناه على الليالي الحمراء ..وعودناه على مسابقات " الرقة" ونجومية "التعري" !!
هل تريدون بهذا الجيل أن يحرر الأقصى ..وأن يطرد الغزاة من العراق !! كلا ..هؤلاء سيكونون قنوات لعبور العدو ..وأداة لخدمته ..وعبيد يشتاقون لمن يمسك بخطامهم ..لن يناصروا قضية ..ولن يطلبوا حقا ..لن يمانعوا دياثة ..ولن يحفظوا شرفا ..
سيتربى على مثل هذه البرامج حتما جيلا يسلم للعدو مفاتيح الحصون الأخيرة للإسلام ..ويرحب به في دياره وعند أهله وشرفه كما فعل "أشياعهم " من قبل !! جيلا يتعصب "بالسنتيانات" ، ويتترس"بالكريمات" ..ماذا ترجو منه !!(/1)
الا وا آسفا على الدين ..وا آسفا على الرجولة !!
ليس خطأ بمعناه"الآني" أن تجد هذا الكم الهائل من الناس يتهافتون وراء هذه "الستارات" أو "النجوميات" هذه إفرازات ونتائج لتراكمات من الأخطاء والتصورات الفاسدة التي رسمها إعلامنا العربي وتغلغلت في دواخل الأكثرية من دهماء الناس ، فراجت تباعا لذلك هذه العادات السيئة وانتزعت من القلوب الغيرة "الماركة المسجلة" للعربي الأصيل واستبدلت بالإنفتاح والتقليد الأعمى للثقافات الغربية كنوع من الإنبهار أو دلالة على الندية والمحاكة حتى على مستوى "الجنس"!!
بالله عليكم يا أماجد ..ماذا سنجيب أطفالنا حين يسألوننا أيهما نفضل المطربة "..."، أم ريم الرياشي !! ولماذا تتعرى هذه وتلك تربط بطنها بحزام ناسف !! هذه ترقص وتلك تترك طفلين صغيرين قطعتين من الحشى وتختار الموت !! كل هذه الأسئلة يمكننا أن نمررها على عقول الصغار لكننا سنشعر بنجاسة داخلية وشنار كبير حين نحاول أن نتظاهر بالألم لواقع المسلمين ..فهذه مفارقة كاذبة خاطئة !!(/2)
ستة حقوق لأخيك ثمارها الجنة.. أولها السلام
الجفاف الأخوي!
ياسر بن محمد اليحيى
www.alrewak.com
شأن النبات في الحقول والبساتين أن ينمو بين بعضه وتزيد نضارته عندما يكون بين نباتات أخرى، ويتشابك تشابكاً يصعب تفكيكه، ويتسلق على سيقان بعضه، وتتعانق أوراقه وبراعمه، وتتطاول أغصانه، وإن هبت نسمة هواء تمايلت الأشجار كلها، وتعجب كيف هزت نسمة أشجار الغابة، ولم تهتز نباتات متشابكة متماسكة لكنه التعاون والمشاركة، بل الأمر فوق ذلك، عندما تتضافر النباتات في رسم صورة للحقل أو البستان آسرة، تتناغم فيها الألوان وتتدرج وتنتظم الأغصان بطول متقارب وصفوف مرصوصة، حتى الأوراق لا تكون متباينة الأحجام، لدرجة أن مرهف الإحساس قد يتمادى فيظن أن الأشجار تتعاون لتهيئ جواً مريحاً للبلابل كي تبدع التغريد فتطربها.
والأمر في الأخوة شبيه بهذا الأمر كثير الشبه، فالأخ يستمد طاقته من إخوانه، وتزداد فاعليته حينما يكون بينهم أو عندما يشعر أنهم يشعرون به، وتتشابك الأخوة وتتعاضد حتى يصعب الافتراق، بل يصعب تخيله وإن بعد الموت، ألم يبدع القائل:
كتبت العهد على جدران الزمن
فإن التقينا عشنا معاً
وإن متنا تقاسمنا الكفن!
فهذا الذي كتب العهد على جدران الزمن لم يقو على تخيل الفراق في الحياة أو بعدها، لأن الأخوة التي عناها توجب التداخل النفسي والشعوري للأخوين، بحيث يحققان شرط الرافعي يوم قال: "لن يكون أحد أخا أحد حتى يقول له: يا أنا"!.
وما سطره رسول الله ص من واجبات وحقوق، إنما كان دستوراً تطبيقياً ينشئ العلاقة بين الإخوة ويثبتها ويطورها.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ص قال: "حق المسلم على المسلم ست، قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاصحبه" (حديث صحيح، رواه الإمام أحمد بن حنبل).
وهو نهر يشق حدائق الأخوة الجافة لتهتز وتربو، من جديد.
وهو حث لأشجار الأخوة أن تتنادى إلى نوع من التعاون فريد.
وهو تقليم لبعض الأغصان الشاذة الناتئة الخارجة عن الصف.
وهي لمسة قائد يعرف كيف وأين يضع يده بل ومتى..
حق المسلم على المسلم:
فهو حق لك على أخيك.. فليس له أن يمنعك إياه.. وهو حق له عليك أيضاً.. هذا حقك أيها المسلم قم واسأل عنه وخذه، ليس بالقوة ولكن بإعطائك الآخرين حقوقهم التي عليك.. وأول هذه الحقوق، وهو مجال حديثنا فقط في هذا المقال:
إذا لقيته سلم عليه:
وحين تلتقي العينان يكون بينهما سيل من الشحنات الشعورية التي تتسلل إلى مداخل الأرواح وخصوصياتها، فإلقاؤك السلام على أخيك بمثابة إعطائه إذناً ببث مشاعره إلى دخيلة نفسك، فكأنك تفتح له أبواب قلبك وتقول له: تعال وادخل، وهذه تضحية تحسب لك يوم أشركت غيرك في خصوصيتك، غير أنك لن تخسر أبداً، فيوم بذلت هذه التضحية كنت أقرب إلى الله منك يوم سبقت بإلقاء السلام وهذا المعنى يفهمه الطفل فضلاً عن الراشد، من صريح حديث المصطفى ص الذي رواه الترمذي عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: "قيل يا رسول الله، الرجلان يلتقيان أيهما يبدأ بالسلام؟ فقال أولاهما بالله". (قال الترمذي: حديث حسن، وقد روى هذا الحديث أحمد وأبو داود أيضاً).
وفي تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي: "أولاهما بالله" أي أقرب المتلاقيين إلى رحمة الله من بدأ بالسلام، فليكن سباقك إلى رحمة الله بأن تلقي السلام أولاً، لتصل قبل أخيك إلى رحمة الله، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، (وغني عن البيان أن نقول: إن المسابقة بإلقاء السلام تكون عند تساوي الحق في بداية السلام، ولا تكون عند كون السلام مطلوباً من أحد دون آخر، كأن يكون أحدهماً جالساً والآخر ماشياً حيث يكون السلام مطلوباً على الماشي لا القاعد وهكذا).
ثم أنت لن تخسر مرة أخرى يوم تربح أخاك وتضعه في قلبك، بل ربحك عظيم يوم تحرك لسانك فقط فتربح أخاً يسندك يوم تبحث عن سند، ويسعدك يوم مسعد، ويشاركك أفراحك، بل ويكون سبباً في نعيمك الأبدي يوم تدخل الجنة، وإفشاء السلام طريق دخول الجنة!. قال رسول الله ص: "لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولن تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟! أفشوا السلام بينكم".
وبمراعاة حقوق الأخوة وأولها إفشاء السلام يسعد الإخوة بإخوتهم.. ويقضون معاً على الجفاف الأخوي، ويضربون المثل للناس في الحب في الله والتواصي بالحق والتواصي بالصبر.=>(/1)
ستراحة سائر..
التاريخ : 22/04/2006
الكاتب : عطاء ... الزوار : 1545
< tr>
(1)
اتعجب يانفس كم فقدت من ملامح
تاهت تفاصيلها الدقيقة في هلام يزداد حجمه يوماً بعد يوم..فيزداد حجمي
ولكنه في داخلي لايساوي شيئاً !!!
(2)
لذة الروح تزورنا إن أحسنا الرفادة ..تظللنا إن احسنا القيادة لنفس ٍ جموح
تتفلت من قيد تتطلع لحطام تمني بأماني طوالق ...وتفر ّهاربة من نفس ٍ تلوثت بزهم طمع
وركنت لخلود وبقاء في فانية وأشرعت كل الأبواب فلم تبال بداخل أوخارج ..
(3)
سرعة السير موكولة بقصد السائر وبتخففه من متاع وباستبصاره لهدف ,فإن شغل بقواطع
وملذات تأخر وإن استكثر من متاع ثقلت به الأقدام وتعبت وتوقف وإن فسد المقصد انقطع
في الفيافي والمفازات فهلك وأكلته السباع..
(4)
قد نتألم في أوقات كثيرة بصدق ..لجروح
ولما تعظم الجراح والقروح قد لايكون فائدة من التألم فقد ضاع الأنين في غيابات الغفلة
(5)
نظر إلى آثار الأقدام كثيرة..جداً ..وآثار أقدامه معهم..تصاحبهم
تساءل في نفسه...
أتراها ستبقى هذه الآثار أم تعفوها الرياح وأقدام العابثين!!
(6)
كلنا تحرك في سيره إلى الله منذ سنين حين رفعت له راية التكليف..
والسائرون في نفس الطريق كثر..
اليوم توقف متأملاً..
لقد
توقف الكثير
وتاه عن الطريق كثير
وبدل الطريق كثير
وملّ من طول الطريق كثير
ومات في منتصف الطريق كثير
وبقي وحده..
يجأرفي فلوات الغربة
ربنا لاتزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا
يامقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك
ويحلم بـ"وإن أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون"
(7)
أعظم الإضاعات ,إضاعة نفسك التي بين جنبيك
حين تشوهها بيديك وتشرع الباب لمن يعينك في هذا التشويه
لتتقاسما..خيبة النصر
(8)
ماقيمة الخطو إن لم يكن برسوخ
ماقيمة العلم إن لم يكن بعمل
ماقيمة السير إن لم يكن بثبات
ماقيمة الصحبة إن لم تسدد وترشد!!
ماقيمة الحياة إن فقدت غاية الوجود!!
(9)
ماظن ّأنّ الزمان في انتقاص
وأنّ العمل في نقص
وأن العلم في ذهاب
وأنّ الفتنة في إياب
وأنّ النفس تراود
وأنّ الشيطان يساوم ..ويعاود
وأنّ دنياه تتزيّن له بألف لون ٍ ولون..
وأنّ بلوغه المراد يحتاج لهمة تناطح الثريا
وعزم يصارع العدا
وقوة تفلُّ الحديد
وعزمٍ وحزم أكيد
وعون يُستمد ممّن يأوي إليه من يلوذ بركن ٍ شديد
(10)
سائل النفس:
منذ متى وأنت تسيرين؟
لاأدري!!
أتراكِ قطعتِ الطريق
أم قاربت ِ
أم أنك ِ مازلت في أوله..!
أم أنك ِ مغرورة أنك ابتدأت..!!
(11)
قتل الإخلاص المدعين في أول امتحان
فتضاءلوا حجوماً بعد أن بلغوا..
وتنفست دواخلهم من ضيق بعد أن امتلأت هواءً
وتناثرت جبال أعمالهم بعد أن كانوا يظنون
أنهم ممّن أحسنَ صنعاً..
(12)
تأملتُ فرأيتُ الناس في الغالب تجمعهم بطونهم
فأطعم فاهاً..تملك قلباً ورقاب
وضع في يدأحدهم لعاعة من أصفر أوأبيض تذلُّ لك الرقاب
وادع القوم على فتات مائدتك..
تكن قريباً من عقولهم..
وشاركهم في خِوان..تكن الصاحب المسدد!!
(13)
ألا ما أشقى العبد حين يغفل عمّا خط في السوابق
أبكى القوم ماجرت به أقلام المقادير فجفّ المداد فأخرس ضحكاتهم
مآقيهم حكت للخوف والوجل قصص
ولياليهم عطرت بأنفاس المخبتين وجلاً
وقلوبهم ترددت في الصدور قلقاً
وجنوبهم تنآءت عن مضاجع ..لوقوف متملق..
(14)
لم تخدع نفسك؟
لايغرنك خداعهم
انظر في المرآة
هل ترى غير قبيحك
لايغرنك ما وهبوك من حلل مجد ودثروك بدثار هيبة
فحللك ودثارك لاتجلل ولاتخفي عيبك وخروق شعارك..
(15)
فرّ ما شئت أن تفر
أطلق ساقيك للريح
سابق القوم
بل سابق نفسك
ولاتعطيها مهلة وقوف
لاتساءلها
عن صحف سودت
لاتعاتبها عن طاعات ضيعت
لاتخاصمها على حقوق أكلت
لاتقلل من شأنها حين رفعها القوم على عرش المجد وألقوا المدائح قصائد
فرّ منها
واهرب
حتى ينقطع بها الطريق
وينقطع عنها النفس
ويتوقف بها الطريق
عند "ماغرّك بربك الكريم"
ويسلمها صحيفة
" يا أيها الإنسان إنك كادحٌ إلى ربك كدحاً فملاقيه"
(16)
خاف قومٌ من النفاق أن ينخر قلوبهم
ففروا لمن بيده أمان الطريق ..فتشبثوا
بحبال الخوف ..واتهموا النفس بالنقص
فساروا بليل ٍ والناس نيام فبلغوا منازل الصادقين والصديقين
(17)
يعجبك قولهم
يطربك مديحهم
يغضبك تنقصهم لك
يسخطك ذمهم
يؤلمك إبعادهم إياك
يسعدك تقريبهم لك
ترى ماذا سيعطونك ..وماالذي سيمنعونك
إن كنت تعرف حقيقة نفسك..
وربك يعلم حقيقة قولك وعملك!!
فماذا ترجو ماذا تنتظر؟!
(18)
خلّط كثيراً
وطعِم كثيراً
وتذوق كثيراً
فتاهت منه الطعوم والنكهات وخنقته الأنفاس الملوثة فأمسى طريقه مظلماً وخطوه متردداً
(19)
تاقت نفسه لزمن مضى
وتمنى أن تحمله قدميه لذلك الزمان
ليته يتفيؤ ظلال تلك الأيام
ليته يعيش عذب الصبر فيها
ليته يتنعّم بلذيذ أيام وليال
كان فيها روحاً تطير
تتخفف من أحمال
ليته يعود في سير كما كان
ليته.. ...(/1)
ستون بابا من الاجر والكفارات
فهذه رسالة إلى كل مسلم يعبد الله ولا يشرك به شيئا حيث أن الغاية الكبرى لكل مسلم هي أن يخرج من هذه الدنيا وقد غفر الله له جميع ذنوبه حتى لا يسأله الله عنها يوم القيامة ويدخله جنات النعيم خالدا فيها لا يخرج منها أبدًا.
وفي هذه الرسالة القصيرة نذكر بعض الأعمال التي تكفر الذنوب والتي فيها الأجر الكبير من أحاديث الرسول الصحيحة، نسأل الله الحي القيوم الذي لا إله إلا هو أن يتقبل أعمالنا إنه هو السميع العليم.
1- التوبة: { من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه } [مسلم:2703] { إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر }.
2- الخروج في طلب العلم: { من سلك طريقا يلتمس فيها علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة } [مسلم:2699].
3- ذكر الله تعالى: { ألا أنبأكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم } قالوا بلى - قال: { ذكر الله تعالى } [الترمذي:3347].
4- اصطناع المعروف والدلالة على الخير: { كل معروف صدقة، والدال على الخير كفاعله } [البخاري:10/374]، [مسلم:1005].
5- فضل الدعوة إلى الله: { من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا } [مسلم:2674].
6- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: { من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان } [مسلم:49].
7- قراءة القرآن الكريم وتلاوته: { اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه } [مسلم:804].
8- تعلم القرآن الكريم وتعليمه: { خيركم من تعلم القرآن وعلمه } [البخاري:9/66].
9
- السلام: { لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء لو فعلتموه تحاببتم: أفشوا السلام بينكم } [مسلم:54].
10- الحب في الله: { إن الله تعالي يقول يوم القيامة: أين المتحابين بجلالي، اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي } [مسلم:2566].
11- زيارة المريض: { ما من مسلم يعود مسلما مريضا غدوة إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عاد عشية إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، وكان له خريف في الجنة } [الترمذي:969].
12- مساعدة الناس في الدين: { من يسر على معسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة } [مسلم:2699].
13- الستر على الناس: { لا يستر عبد عبداً في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة } [مسلم:2590].
14- صلة الرحم: { الرحم معلقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله } [البخاري:10/350] [مسلم:2555].
15- حسن الخلق: { سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ فقال: تقوى الله وحسن الخلق } [الترمذي:2003].
16- الصدق: { عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة } البخاري (10/423 } [مسلم:2607].
17- كظم الغيظ: { من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه، دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره من الحور العين ما شاء } [الترمذي:2022].
18- كفارة المجلس: { من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه؟ فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: [سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك] إلا غفر الله له ما كان في مجلسه ذلك } [الترمذي:3/153].
19- الصبر: { ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه } [البخاري:10/91].
20- بر الوالدين: { رغم أنفه ثم رغم أنفه ثم رغم أنفه } قيل: من يا رسول الله؟ قال: { من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كلاهما ثم لم يدخل الجنة } [مسلم:2551].
21- السعي على الأرملة والمسكين: { الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله } وأحسبه قال: { وكالقائم لا يفتر، وكالصائم لا يفطر } [البخاري:10/366].
22- كفالة اليتيم: { أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا، وقال بإصبعيه السبابة والوسطى } [البخاري:10/365].
23- الوضوء: { من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده، حتى تخرج من تحت أظفاره } [مسلم:245].
24- الشهادة بعد الوضوء: { من توضأ فأحسن الوضوء ثم قال: [أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين] فتحت له أبواب الجنة يدخل من أيها شاء } [مسلم:234].
25- الترديد خلف المؤذن: { من قال حين يسمع النداء: [ اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته]، حلت له شفاعتي يوم القيامة } [البخاري:2/77].
26- بناء المساجد: { من بنى مسجداً يبتغي به وجه الله بني له مثله في الجنة } [البخاري:450].(/1)
27- السواك: { لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة } [البخاري:2/331] [مسلم:252].
28- الذهاب إلى المسجد: { من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلا في الجنة كلما غدا أو راح } [البخاري:2/124] [مسلم:669].
29- الصلوات الخمس: { ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كله } [مسلم:228].
30- صلاة الفجر وصلاة العصر: { من صلى البردين دخل الجنة } [البخاري:2/43].
31- صلاة الجمعة: { من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام } [مسلم:857].
32- ساعة الإجابة يوم الجمعة: { فيها ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئاً، إلا أعطاه إياه } [البخاري:2/344] [مسلم:852].
33- السنن الراتبة مع الفرائض: { ما من عبد مسلم يصلي لله تعالى كل يوم اثنتي عشرة ركعة تطوعا غير الفريضة إلا بنى الله له بيتا في الجنة } [مسلم:728].
34- صلاة ركعتين بعد الوقوع في ذنب: { ما من عبد يذنب ذنباً،فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلي ركعتين، ثم يستغفر الله إلا غفر له } [أبو داود:1521].
35- صلاة الليل: { أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل } [مسلم:1163].
36- صلاة الضحى: { يصبح على كل سلامة من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك كله ركعتان يركعهما من الضحى } [مسلم:720].
37- الصلاة على النبي: { من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً } [مسلم:384].
38- الصوم: { ما من عبد يصوم يوما في سبيل الله تعالى إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً } [البخاري:6/35] [مسلم:1153].
39- صيام ثلاثة أيام من كل شهر: { صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر كله } [البخاري:4/192] [مسلم:1159].
40- صيام رمضان: { من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه } [البخاري:4/221] [مسلم:760].
41- صيام ست من شوال: { من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال كان كصوم الدهر } [مسلم:1164].
42- صيام يوم عرفة: { صيام يوم عرفة يكفر السنة الماضية والباقية } [مسلم:1162].
43- صيام يوم عاشوراء: { وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله } [مسلم:1162].
44- تفطير الصائم: { من فطر صائماً كان له مثل أجره،غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئاً } [الترمذي:807].
45- قيام ليلة القدر: { من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه } [البخاري:4/221] [مسلم:1165].
46- الصدقة: { الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار } [الترمذي:2616].
47- الحج والعمرة: { العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة } [مسلم:1349].
48- العمل في أيام عشر ذي الحجة: { ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله فيهن من هذه الأيام } يعني أيام عشر ذي الحجة، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: { ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلاً خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء } [البخاري:2/381].
49- الجهاد في سبيل الله: { رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها وموضع صوت أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها } [البخاري:6/11].
50- الإنفاق في سبيل الله: { من جهز غازياً فقد غزا، ومن خلف غازيا في أهله فقد غزا } [البخاري:6/37] [مسلم:1895].
51- الصلاة على الميت واتباع الجنازة: { من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان } قيل: وما القيراطان؟ قال: { مثل الجبلين العظيمين } [البخاري:3/158] [مسلم:945].
52- حفظ اللسان والفرج: { من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة } [البخاري:11/264] [مسلم:265].
53- فضل لا إله إلا الله، وفضل سبحان الله وبحمده: { من قال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير" في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه } وقال: { من قال: "سبحان الله وبحمده" في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر } [البخاري:11/168] [مسلم:2691].
54- إماطة الأذى عن الطريق: { لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق، كانت تؤذي الناس } [مسلم].
55- تربية وإعالة البنات: { من كن له ثلاث بنات، يؤويهن ويرحمهن ويكفلهن، وجبت له الجنة البتة } [أحمد بسند جيد].
56- الإحسان إلى الحيوان: { أن رجلا رأى كلبا يأكل الثرى من العطش، فأخذ الرجل خفه، فجعل يغرف له به حتى أرواه، فشكر الله له، فأدخله الجنة } [البخاري].(/2)
57- ترك المراء: { أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا } [أبو داود].
58- زيارة الإخوان في الله: { ألا أخبركم برجالكم في الجنة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، فقال: النبي في الجنة، والصديق في الجنة، والرجل يزور أخاه في ناحية المصر، لا يزوره إلا في الجنة } [الطبراني حسن].
59- طاعة المرأة لزوجها: { إذا صلت خمسها، وصامت شهرها، وحصنت فرجها، وأطاعت بعلها، دخلت من أي أبواب الجنة شاءت } [ابن حبان، صحيح].
60- عدم سؤال الناس شيئا: { من تكفل لي أن لا يسأل الناس شيئا أتكفل له بالجنة } [أهل السنن، صحيح].(/3)
سجال الديمقراطية وأزمة الاسقاط
20-8-2006
بقلم ماجد بن عائض الجعيد
"...إن تجاوز هذا الاختناق الفكري يتطلب تجاوز النظرة الجزئية - لواقع متداخل ومتكامل - إلى محاولةِ إحداث تكامل معرفي بين المعارف الثاوية في النصوص الشرعية والمعارف الكامنة في الواقع المشهود ..."
إن الاختلافات الفكرية التي تميز النشاطات النظرية والقرارات العلمية في دائرتي الخطاب والاجتماع تعود في جلّها إلى اختلاف النزعات النفسية والالتزامات المعيارية للمفكر والباحث ، بهذه العدسة كنتُ أراقب المساجلة الفكرية بين د. محمد الأحمري ود.لطف الله خوجه منذ لحظاتها الأولى في ديوانية آل مختار ، وكنتُ أزور الحديث في نفسي ثم أرجعُ النظر فيه فأفضلُ التزام الصمت وارحل ! بيد أن الحوار بدأ يأخذ أبعاداً أخرى لذا أحببت أن أسهم فيه ولو بنصيبٍ بخسٍ ، وأرمي مع الرامين وإن كنتُ لم أقرطس ، فكانت هذه النقاط من وحي هذه المساجلة :
- هذا الحوار الإسلامي الداخلي قد كشف عن ساق ، وأبان أن ثمة أزمة في الحوار بين فصائل العمل الإسلامي وقراءاته المتعددة داخل الإطار المرجعي الواحد ، فإذا كان الخلاف موجود مابقيت روحٌ في جسد ، وكان الطالب لضده قد كلف نفسه بما لايقدر عليه أحد ، فهل نصادم هذه الفطرة ؟ أم نصارع أقدار الحق بالحق للحق ؟
إننا اليوم نشهد نقطة نهاية تاريخٍ ما ساده التعصب المذهبي حد الترف ، ونعيش ولادة تاريخٍ جديد ترسم ملامحه الجماعات والعقول التي تتحرك بالإسلام والتي أسهبت كثيراً في الحديث عن (فقه الخلاف) نظرياً بينما الواقع في تجلياته يشهد خلاف ذلك ، لذا أليس من الجدير بأولوياتنا أن تسعى إلى (النضوج الفكري) من خلال ماتقرأه العقول ، لاسيما و مآخذنا تتنوع فيما يسوغ فيه الخلاف ، أليس من أولوياتنا أن نمارس فقه الخلاف على أرض الواقع بدل التدافع على سم الخياط ؟
- نعاني في تعاملنا اليوم مع واقعنا (المركب) من المنهجية الاسقاطية والتي تهتم بالاتساق الداخلي لرؤيتها بينما تكتفي باستقراءات بسيطة للواقع الاجتماعي لذا تبنت بعض الرؤى المنهج الاسقاطي في تعاملها مع الواقع الإجتماعي وتحليلها لشروط التغيير ، فربما كان حديث أصحاب هذا الاتجاه عن جانبٍ من جوانب النظرية الاسلامية حديثاً متصلاً بواقع اجتماعي لم يوجد بعد أو وجد في فترة زمكانية ماضية ، وعليه فإن هذه الأفكار تعطينا عدداً من التوجيهات القيمة وإن كانت في الواقع لم تقدم لنا حلولاً حقيقية ، وذلك لأن الحلول التي توحي بها إلينا هذه الأفكار لن تصادف في عقولنا العنصر الذي يكملها ضمناً ، والذي قد تجده تلقائياً في عصر ما ، لذا لايمكن أن نستورد واقعاً مثالياً بكافة تفصيلاته دون أن نقدم لهذه النتيجة بمقدمات ربما كانت (أهون الشرين) ، والحق يقال أن المنهجية الاسقاطية هذه قد حققت قدراً كبيراً من التواصل مع النظرية الإسلامية لكنها كانت على حساب فهم حدود الممكن والواجب والمستحيل الاجتماعي ، وبالتالي أدت هذه الرؤية التجزيئية إلى فقدان القدرة على التنظير لفعلٍ تاريخي يعيد ربط التصور الإسلامي بالحياة الإجتماعية .
- إن النظرية الإسلامية وهي تتصف بشمولها وصلاحيتها فليس مفهوم ذلك أنها تقدم نصوصاً جامدة أو قوالب جاهزة لواقع متغير ، ففي مسألة (الدولة الإسلامية) - مثلاً - جاءت النظرية الإسلامية في جملة أحكامها بقواعد عامة وأصولٍ كلية تختلف تطبيقاتها باختلاف تحقيق مناطاتها في الواقع الاجتماعي والتاريخي ، فشمول الشريعة ومرونتها ثنائية تشكل مبدأ الصلاحية لكل زمان ومكان .
وجملة القول :
أننا نخطئ كثيراً حين نعتقد أن الاجتهاد السياسي والاجتماعي يستمد من النص فقط بل إن النص الشرعي في جوهره يمثل تفاعلاً إيجابيا ومنظماً بين الفكرة والعقيدة والواقع ، وأن مرونتها تتم عبر "التحرك به وسط الواقع والبيئة والمتغيرات والمحدودات الكثيرة والممتدة والمتجددة" .
إن تجاوز هذا الاختناق الفكري يتطلب تجاوز النظرة الجزئية - لواقع متداخل ومتكامل - إلى محاولةِ إحداث تكامل معرفي بين المعارف الثاوية في النصوص الشرعية والمعارف الكامنة في الواقع المشهود ، وبطبيعة الأمر فإن التكامل المعرفي الذي نؤكد على ضرورته لاينفي النظر التخصصي بل يتطلبه نظراً لمحدوديات العقلية الفردية ، فهل نجعل من خلافنا هذا طريقاً لاتفاقنا ونسير على بساطٍ من الموضوعية والتجرد لتأسيس علاقة تكاملية بين قوة النظرية وتماسكها الداخلي وبين عمق الدراسة للواقع الاجتماعي وإحياء طرائق الاستدلال الاستقرائي للواقع لنحصد بإذن الله رؤيةً تجمع بين كليات الوحي والوجود في منظومة علميةٍ تكاملية .(/1)
سجناء لوجه الله تعالى
د. طارق الطواري
</TD
صحيح أن في السجن لوعة وحرمانا ويبقى السجن قيداً وإغلالاً وقد عبرعن ذلك يوسف عليه السلام إذ قال " وقد أحسن به إذ أخرجني من السجن " ، ولا شك أنه لا يعيش همً المسجون إلا من يحبه وخاصة أمه وزوجته وربما أخص أصحابه ، كما أن السجين يشعر بالظلم والقهر والإضطهاد من قبل من هو كفؤ ومن ليس بشيء . والسجين قيد أوامر سجانه في لباسه ومنامه وأكله وحركته ، والسجين يعاني من الفراغ القاتل والوساوس والضيقة والهموم التي تهجم عند الغروب وتعشش في الزنزانة فلا تفارقه إلا صباحاً ، ويطرب السجين لسماع المبشرات والرؤيا التي يراها أو ترى له ويجتهد في الدعاء على من ظلمه ويقضي السجين يومه في قتل وقته والخلاص من الفراغ القاتل إما بالقراءة أو التفكير أو التسلية ، ويشعر السجين بالحرمان من أهله وأمواله وخصوصيته كما أنه يشعر أن روح الانتقام تتنامى عنده خاصة إن كان يشعر بالظلم والاضطهاد ، كما أن السجين يعاني من تغير نظرة مجتمعه وأهله وزملائه إليه فقد تطلب المرأة الطلاق للضرر وقد ينحرف الأولاد وقد تهدم سمعته وسيرته الحسنة بمجرد دخوله للسجن ، فيخرج وهو يشعر بأنه قد خسر كل شيء ولا طعم ولا معنى للحياة إلا بتصفية الحساب أو العيش على حطام الذكريات ، لكن ثمة وجه أخر للسجن إنه سجن الدعاة المجاهدين في سبيل الله ومن سجن لأجل فكر يحمله أو تعاطف مع قضية ما أو قرابه لأحد الدعاة ومثل هؤلاء قد غصت بهم السجون شرقاً وغرباً حتى أنشأت الشباك والبركسات والسجون المؤقتة من كثرتهم ، فغالبهم لا يعلم عن تهمته سوى التعاطف أو الإقتناع في فكرة كانت مباحة في يوم من الأيام ثم أصبحت اليوم محرمة ، إن هؤلاء المسجونين لوجه الله لا يعرفون في سجونهم إلا الصبر والسلوان والتعاطف والتكاتف والتراحم والدعاء على الظالم والاقتراب من الله أكثر وأكثر ، فلطالما تكلم الناس عن الصبر وعرفنا معاني الإخاء والمودة وفضل الإحسان إلى الآخر لكن السجون هي الميدان وساحة التطبيق وأنت لا تتصور السعادة الغامرة التي تعم نفوس الدعاة إلى الله المسجونين حينما يلتقون في وقت الصلاة أو عند دورات المياه ، كما أن مشاغل الدنيا التي فرقتهم تلاشت فأصبحت اللحمة الواحدة والهدف الواحد والعزيمة الواحدة ، إنها مدرسة أول سنة سجن وهي مدرسة يوسف عليه السلام و تربية الدعاة ، قال الله تعالى ( ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ) إنها المدرسة التي تبني العقيدة الصحيحة عمليا لا نظريا تبني في نفوسهم الرضا بالقضاء والقدر واليقين بالله والصبر على مقادير الله والالتجاء إليه والتضرع له بأسمائه وصفاته ، وتصفي النفس من أدران الدنيا وتزهد فيها وترخص في سبيل الله كل غالي ، فيخرج الداعي من السجن وهو أقوى شوكة وأكثر عزيمة وأكبر همة وأقرب إلى الله بل في القمة ، وثمة سجن ثالث لكن المؤمنين إنه الدنيا ، كما قال صلى الله عليه وسلم ( الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ) رواه مسلم .(/1)
فكلما أن السجين لا يشتغل في الطعام والشراب ولا يجعله قصده وهدفه بل ذلك على سجانه فكذلك المؤمن الصادق في الدنيا رزقه على الله وهو مشغول في عبادته و كما أن السجين يمشي على طريق وترتيب السجان فكذلك المؤمن في الدنيا يمشي على طريق وترتيب الله عز وجل ، والسجين يتطلع دوماً لمغادرة السجن ليلقى من يحب وكذلك المؤمن يتطلع لمغادرة الدنيا للقاء الله والنبي صلى الله عليه وسلم، والمؤمنين كما قال بلال ( واطرباه غداً نلقى الأحبة محمد وصحبه ) والمساجين يتواصون بالصبر والتحمل وكذلك أهل الإيمان يتواصون بالصبر على الطاعة وعن المعصية وعلى مقادير الله المؤلمة ، وكما أن السجين لا يشعر بالتملك في السجن وإنما هي له ولغيره من بعده وكذلك المؤمن يشعر أن الدنيا له ولغيره من بعده ، وكما أن المساجين يخدم بعضهم بعضا فكذلك أهل الإيمان يخدم بعضهم بعضا في الدنيا ، وكما أن المساجين يبكون إذا فارقوا أحداً من أصحابهم فكذلك أهل الإيمان يبكون أن فارقوا أحد أحبابهم من الدنيا راحلاً إلى الآخرة ، وكما أن المساجين يوصون الخارج من السجن بالسلام على أهلهم فكذلك أهل الإيمان يوصون من حضرت روحه السلام على أرواح المؤمنين ، والسجين الذين سيعدم بعد السجن يخير فيما يريد ويطلب ما يشاء لأنه ميت أم السجين الباقي الذي وراءه إفراج لو طلب لضرب ولا يخير وكذلك الكافر فإن وراءه إعدام وعذاب فهو يتمتع في الدنيا وأما المؤمن فليست له هذه المتعة الكبيرة مقارنة ما أعد الله له من متعة أخرويه ، والسجين غير مرفه في عيشه وكذلك المؤمن في الدنيا ، ويفرح السجين إن رضي عنه سجانه بل يشتري وده ويطلب رضاءه وكذلك المؤمن يفرح إن رضي الله عنه ويطلب ذلك ويشتريه ، والسجين يتوقع في كل لحظه إن يخرج إلى الحرية أو ينقل وكذلك المؤمن يتوقع الموت ولقاء الله في كل لحظه فهو مستعد لذلك والسجين يشعر بالغربة في سجنه وكذلك المؤمن يشعر بالغربة في دينه مع انتشار الفساد ، وكثير من المساجين يحاولون الهروب والانتحار لكن يثبتهم أهل العقل وكذلك الناس في الدنيا يحاولون الهروب والانتحار ويثبتهم أهل الإيمان والسجان لا يحب السجن ولله المثل الأعلى والله لا يحب الدنيا فهي ملعونة إلا ذكر الله أو عالم أو متعلم ، فالكل في هذه الدنيا مسجون فمنا من هو مسجون في سجن ذنوبه ومنا من هو مسجون في سجن بلائه ومنا من هو مسجون في صدره ومنا من هم مسجون وراء القضبان لكنه طليق في الجنان ، ولكن رابطة الإيمان تجمعنا فمن في غونتناموا أحرار وطلقاء بإيمانهم وبصبرهم ومن في سجون الظلمة شرقا وغربا أحرار كما قال عنهم شيخ الاسلام ابن تيمية ( ما يفعل أعدائي بي أنا جنتي وبستاني في صدري أينما رحت فهي معي لا تفارقني أنا سجني خلوة وقتلي شهادة وإخراجي من بلدي شهادة ) ، ومن يمشي في الشوارع مسجون لحبس نفسه على الطاعة لكنه سعيد طليق بالعمل الصالح إلى أن نلقى الأحبة محمد وصحبه وليدع كل منا للآخر لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ...(/2)
سجود السهو
• سجود السهو، اصطلاحا، عبارة عن سجدتين يسجدهما المصلي لجبر الخلل الحاصل في صلاته.
• والسهو تارة يتعدي بـ " عن"، وتارة يتعدى بـ" في". فإن عدي بـ "عن" صار مذموماً
وإن عدي بـ "في" صار معفواً عنه. ولهذا قال الله تعالي: " فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون " أي غافلون لا يهتمون بها ولا يقيمونها، بخلاف الساهي في صلاته.
* وقع السهو في الصلاة من النبي" صلي الله عليه وسلم"؛ لأنه مقتضي الطبيعة البشرية. وهذا من تمام نعمة الله على أمته، وإكمال دينهم؛ ليقتدوا برسولهم، ويحسنوا عبادتهم. ولهذا لما سها في صلاته قال: " إنما أنا بشر مثلكم أنسي كما تنسون فإذا نسيت فذكروني".
وقد حفظ عنه" صلي الله عليه وسلم" السجود في السهو في الحالات الآتية:
1. سلام بعد ركعتين، ثم أتم وسجد بعد السلام ( قصة ذي اليدين)
2. سلام بعد ثلاث من صلاة العصر، ثم أتم وسجد بعد السلام ( حديث عمران)
3. قام بعد ركعتين ولم يجلس للتشهد الأول ثم سجد قبل السلام.
4. صلي الظهر خمساً، فلما أخبروه بعد السلام، ثني رجليه واستقبل القبلة وسجد سجدتين ثم سلم.
* قال أحمد: يحفظ عن النبي خمسة أشياء:
أ . سلم من اثنين فسجد
ب . سلم من ثلاث فسجد
ج . وفي الزيادة والنقصان
د. وقام من اثنين ولم يتشهد
* أما الشك فلم يعرض له" صلي الله عليه وسلم". ولكنه أمر فيه بأمرين:
الأول: التحري وهو الظن الغالب القوي والتماس القرائن ثم السجود بعد السلام؛ لحديث ابن مسعود: " إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب، فليتم عليه ثم يسلم، ثم يسجد سجدتين". وفي رواية مسلم: "فليتحر أقرب ذلك إلي الصواب"
الثاني: أمر الشاك بالرجوع إلي اليقين،" أي الأقل"، والبناء عليه، والسجود قبل السلام؛ ويدل عليه مجموع حديث عبد الله بن مسعود، وحديث أبي سعيد، وابن عوف رضي الله عنهم ".
* مواضع سجود السهو
هل يكون سجود السهو قبل السلام أو بعده؟ خلاف بين العلماء.
القول الأول: أن محل السجود كله قبل السلام. وهو قول الزهري، ومكحول، والأوزاعي، والليث بن سعد، ومذهب الشافعية.
القول الثاني: أن محل السجود كله بعد السلام. وهو مذهب الحنفية، وقول الحسن البصري، وإبراهيم النخعي، والثوري.
القول الثالث: أن الأصل في السجود أن يكون قبل السلام، إلا ما جاءت السنة بالسجود فيه بعد السلام فإنه يسجد بعده. وهو المشهور عن الإمام أحمد.
القول الرابع: أن الأصل في السجود أن يكون بعد السلام، إلا في حالين فيكون المصلي مخيراً فيهما بالسجود قبل السلام أو بعده: إذا نسي الجلوس للتشهد الأول، وإذا شك هل صلى ثلاثاً أو أربعاً. وهو قول ابن حزم.
القول الخامس: أن ما ثبت في السنة من السجود قبل السلام أو بعده فإنه يفعل كما ورد، وما عدا ذلك فإن المصلي مخير بين السجود قبل السلام وبعده. وهذا قول الشوكاني.
القول السادس: أن المصلي مخير بين السجود قبل السلام وبعده مطلقاً. وهو قول بعض الشافعية، واختيار الصنعاني.
القول السابع: إذا كان السهو عن نقص سجد قبل السلام، وإن كان عن زيادة سجد بعد السلام. وهو مذهب المالكية. وهذا القول جزء من القول الذي يليه.
القول الثامن: إذا كان السهو عن نقص سجد قبل السلام. وإذا كان عن زيادة سجد بعد السلام. وإذا كان عن شك فإنه يتحرى الصواب؛ فإن غلب على ظنه شيء عمل به وسجد بعد السلام، وإن لم يغلب على ظنه شيء بنى على اليقين وهو الأقل، وسجد قبل السلام. وهو رواية عن الإمام أحمد واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.
وهذا أرجح الأقوال وأقربها إلى الصواب وبه تجتمع الأدلة ولا تتعارض. فالنبي صلى الله عليه وسلم سجد قبل السلام جبراً للنقص حين ترك التشهد الأول؛ كما في حديث عبد الله بن بحينة. وسجد بعد السلام حين زاد في الصلاة ركعة خامسة كما في حديث عبد الله بن مسعود، وسجد بعد السلام أيضاً حين زاد سلاماً بعد الثانية في صلاة الظهر كما في قصة ذي اليدين. وأمر بالسجود قبل السلام عند الشك في عدد الركعات بعد البناء على اليقين كما في حديث أبي سعيد، وحديث ابن عوف رضي الله عنه. وأمر بالسجود بعد السلام إذا شك ثم تحرى وعمل بما ترجح له بعد التحري. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " فهذا القول الذي نصرناه هو الذي يستعمل فيه جميع الأحاديث، لا يترك منها حديث مع استعمال القياس الصحيح فيما لم يرد فيه نص، وإلحاق ما ليس بمنصوص بما يشبهه من المنصوص ".(مجموع الفتاوى23/25).
***الخلاصة: نسجد قبل السلام فيما سجد فيه النبي صلي الله عليه وسلم قبل السلام، أو أمر به، كسجود السهو لمن ترك التشهد الأوسط، أو شك وبني علي اليقين.
ويكون السجود بعد السلام في حالتين:
1. عند السلام من نقص، أو ذُكر بالزيادة بعد السلام؛ لحديث أبي هريرة وعمران وابن مسعود.
2. إذا شك وبني علي غالب ظنه؛ لحديث ابن مسعود.
*أسباب السجود
الزيادة النقص الشك
1. الزيادة، وهي نوعان:
زيادة أفعال زيادة أقوال
* زيادة الأفعال تنقسم إلى ثلاثة أقسام:(/1)
أ ــ زيادة من جنس الصلاة: قيام، قعود، ركوع
فإن كانت عمداً بطلت الصلاة، وإن كانت سهواً سجد سهواً. وإن قام لخامسة وتذكر أو ذُكر، جلس في الحال بغير تكبير، ثم يسجد قبل السلام. ويجب تنبيهه؛ لقوله صلي الله عليه وسلم: " فذكروني"، بالتسبيح للرجال، والتصفيق للنساء؛ لحديث ابن مسعود: " إذا نابكم أمر فليسبح الرجال وليصفق النساء. ويلزم الإمام الرجوع ما لم يبن علي غالب ظن.
ب ــ زيادة من غير جنس الصلاة " مشي، تروح، حك " لا سجود لها.
وأحوالها أنها:
ـ مبطلة: وهي الكثيرة عرفاً.
ـ مكروهة: وهي اليسيرة لغير حاجه.
ـ جائزة: وهي اليسيرة لحاجه مثل فتح باب.
ج ـ الأكل والشرب: فإن كان عمداً يبطل الصلاة، وإن كان سهواً لا يبطل الصلاة.
زيادة الأقوال:
أ ــ من جنس الصلاة، إذا كان عمداً فمكروه ولا يجب السجود، وإذا كان سهواً يستحب له السجود.
ب ــ تسليم قبل إتمام الصلاة: إذا كان عمداً يبطل، وإن كان سهواً وطال الفصل أو نقض الوضوء بطلت، وإلا أتم وسجد للسهو.
ج ــ كلام من غير جنس الصلاة عمداً غير جاهل بطلت إجماعاً جهلاً وسهواً، ولا سجود عليه.
2ــ النقص
* أما نقص الأقوال، والمراد بالنقص هنا ترك الواجب: كترك التشهد الأول، والجلوس له، وتكبيرات الانتقال، وقول سبحان ربي العظيم في الركوع، وقول سبحان ربي الأعلى في السجود، وقو ربي اغفر لي في الجلوس بين السجدتين. فمن ترك شيئاً من ذلك فإنه يجبر بسجود السهو قبل السلام.
ترك ركن كركوع أو سجود: فإذا كان عمداً بطلت، أما إذا كانت سهواً فإن كانت تكبيرة الإحرام فلا تنعقد الصلاة. أما غيرها:
أ ــ إن كان قبل أن يشرع في قراءة ركعة أخري فيأتي به وما بعده.
ب ــ إن ذكره بعد شروعه في ركعة أخري ألغيت الركعة، وقامت تلك مكانها.
ج ــ إن ذكره بعد السلام فكترك ركعة كاملة، لكن إن أحدث في هذا أو طال الفصل فيعيد الصلاة كاملة.
* ترك واجب: إذا كان عمداً تبطل الصلاة، أما إذا كان سهواً
أ ــ فإن ذكر قبل الوصول إلي الركن الذي يليه وجب الرجوع إليه.
ب ــ أما بعد الركن فلا يرجع وعليه السجود.
*ترك مسنون: لا تبطل لا عمداً ولا سهواً. ولا سجود عليه.
3ــ الشك
أحواله
أ ــ إن كان بعد السلام: فلا التفات إليه إلا مع التيقن من النقص أو الزيادة
ب ــ وإن كان قبل السلام: تحري أو بني
** ولا سجود علي مأموم دخل مع الإمام من أول الصلاة إلا تبعاً لإمامه. وإذا قام مأموم بينما سجد إمامه للسهو بعد السلام، فحكمه حكم من قام بعد التشهد الأول " أربع أحوال " ويسجد للسهو بعد الصلاة.
** إذا تكرر السهو في الصلاة فإنه يكفيه سجود السهو مرة واحدة. فالنبي صلى الله عليه وسلم ترك التشهد الأول، والجلوس له ولم يكرر سجود السهو، كما في حديث عبد الله بن بحينة. قال ابن دقيق معلقاً على هذا الحديث: " فيه دليل على عدم تكرار السجود عند تكرار السهو؛ لأنه قد ترك الجلوس الأول والتشهد معاً، واكتفى لهما بسجدتين".
* مسألة: قال ابن المنذر: " وأجمعوا على أن ليس على من سها خلف الإمام سجود. وانفرد مكحول وقال عليه ". ( الإجماع لابن المنذر ص8 ) و انظر المغني (2/439).
ولم ينقل عن الصحابة أنهم كانوا ينفردون بسجود السهو خلف إمامهم وهو النبي صلى الله عليه وسلم، والسهو في الصلاة لا يسلم منه البشر، مع كثرة المصلين خلف النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة، واستمرار الصلاة خلفه أكثر من عشر سنوات فيبعد جداً أن لا يقع من أحدهم سهو وهو مؤتم. ولو سجدوا لنقل إلينا لتوافر دواعي النقل.
مسألة: إذا سجد المصلي للسهو بعد السلام؛ فإنه يسلم بعد سجود السهو، ولا يتشهد على الصحيح من قولي العلماء وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في سجود السهو من قوله وفعله وليس في شيء منها حديث صحيح أنه تشهد أو أمر به. قال النووي عن التشهد بعد سجود السهو: " لم يصح فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء" اهـ.
أما حديث عمران بن حصين رضي الله عنه: " أن النبي صلى الله عليه وسلم سها فسجد سجدتين، ثم تشهد، ثم سلم " أخرجه أبو داود والترمذي. فإن قوله " ثم تشهد " زيادة شاذة تفرد بها أشعث بن عبد الملك عن محمد بن سيرين. وقد رواه جمع من الثقات عن ابن سيرين دون هذه الزيادة. وممن حكم بشذوذها البيهقي وابن عبدالبر وابن حجر، ومن المعاصرين الألباني في الإرواء (2/128).(/2)
قال ابن حجر: " وضعفه البيهقي وابن عبد البر وغيرهما، ووَهَّموا رواية أشعث لمخالفته غيرَه من الثقات عن ابن سيرين، فإن المحفوظ عن ابن سيرين في حديث عمران ليس فيه ذكر التشهد، وروى السراج من طريق سلمة بن علقمة أيضاً في هذه القصة: قلت لابن سيرين: فالتشهد؟ قال: لم أسمع في التشهد شيئاً.اهـ فصارت بزيادة أشعث شاذة، ولهذا قال ابن المنذر: لا أحسب التشهد في سجود السهو يثبت. لكن ورد في التشهد في سجود السهو عن ابن مسعود عند أبي داود والنسائي، وعن المغيرة عند البيهقي، وفي إسنادهما ضعف. فقد يقال إن الأحاديث الثلاثة في التشهد باجتماعها ترتقي إلى درجة الحسن.قال العلائي: وليس ذلك ببعيد، وقد صح عن ابن مسعود من قوله. أخرجه ابن أبي شيبة " (الفتح 2/79).
فالتشهد عند ابن المنذر و العلائي محتمل للتحسين، لكنهما لم يجزما به. والأصل في العبادات هو المنع حتى يتبين ثبوت الدليل.
مسألة: قال ابن قدامة: " ولا يشرع السجود للسهو في صلاة جنازة.. ولا في سجود تلاوة.. ولا في سجود سهو. نص عليه أحمد. وقال إسحاق: هو إجماع " ( المغني 2/444).
الفصل الرابع
في سجود السهو
يجب سجود السهو لاُمور:
الأول: الكلام، قليلاً كان أو كثيراً، من دون فرق بين أن يتكلم ساهياً وأن يتكلم عامداً بتخيل أنه خارج عن الصلاة، كما لو سلم في غير محل السلام. نعم لا يجب بالكلام عامداً لتخيل أن ما أتى به قرآن مثلاً. كما لا يجب بسبق اللسان.
الثاني: نسيان التشهد الأول في الثلاثية والرباعية، بل الأحوط وجوباً ثبوته بنسيان التشهد مطلقاً.
الثالث: زيادة السلام المُخرج على الأحوط وجوباً. بل هو الأظهر لو زاد معه التشهد المتصل به.
الرابع: الشك بين الأربع والخمس بعد ذكر السجدة الأخيرة.
الخامس: إذا أتى جالساً بما يشرع حال القيام، أو أتى قائماً بما يشرع حال الجلوس، كما لو قرأ من وظيفته القيام حال الجلوس، أو تشهد حال القيام. إلا ان يكون ذلك مبطلاً للصلاة كما لو كبر للإحرام من وظيفته القيام حال الجلوس، فإنه لا سجود حينئذٍ.
السادس: من قرأ بدل التسبيح أو سبح بدل القراءة، كما لو سبح في الركعتين الأوليين، أو قرأ حال الركوع والسجود بدل التسبيح.
السابع: ما إذا علم إجمالاً بالزيادة أو النقيصة من دون أن يلزم البطلان. والأحوط استحباباً أن يلحق به ما إذا تردد الأمر بين الزيادة والنقيصة والعدم. بل الأحوط استحباباً الإتيان به لكل زيادة أو نقيصة غير مبطلة.
(مسألة 530): يستحب سجود السهو لمن شك بين الثلاث والأربع وظن بالأربع فبنى عليها وسلم.
(مسألة 531): الأحوط وجوباً المبادرة لسجود السهو بعد الصلاة، بحيث لا ينشغل بشيء آخر من كلام أو عمل أو نحوهما. نعم الأحوط وجوباً تأخيره عن صلاة الاحتياط. والأولى تأخيره عن قضاء الأجزاء المنسية.
(مسألة 532): يجب عدم فصل الكلام بينه وبين الصلاة. بل الأحوط وجوباً العموم لغير الكلام من منافيات الصلاة.
(مسألة 533): إذا لم يبادر لسجود السهو أو فصل بينه وبين الصلاة بالمنافي أو تركه رأساً لم تبطل الصلاة التي وجب تبعاً لها.
(مسألة 534): إذا نسي سجود السهو ثم ذكره وهو في الصلاة لم يبعد وجوب قطعها والإتيان به إذا كان إتمامها موجباً لفوت المبادرة العرفية. لكن لو أتمها ولم يبادر إليه لم تبطل.
(مسألة 535): الظاهر تعدد سجود السهو بتعدد السبب الموجب له. لكن لا يجب الترتيب بين السجود حسب ترتيب أسبابه. بل لا يجب تعيين السبب المأتي به له.
(مسألة 536): ليس في سجود السهو تكبيرة الافتتاح، وإن كان أحوط استحباباً.
(مسألة 537): سجود السهو سجدتان، وليكونا متواليتين على الأحوط وجوباً. ويجب فيهما:
1 ـ النية المعتبرة في العبادة.
2 ـ أن يكون السجود فيهما على المساجد السبعة.
3 ـ وضع الجبهة على ما يصح السجود عليه في الصلاة.
4 ـ عدم علو موضع الجبهة.
والأحوط وجوباً التشهد بعدهما ثم التسليم. كما أن الأحوط وجوباً اشتراطهما بشروط الصلاة من الطهارة والاستقبال وغيرهما.
(مسألة 538): الأحوط وجوباً في سجدتي السهو الذكر، لكن لا يجب فيهما ذكر معين، نعم يستحب أن يقول: (بسم الله وبالله وصلى الله على محمد وآل محمد) أو (بسم الله وبالله اللهم صل على محمد وآل محمد) أو (بسم الله وبالله والسلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته) أو بحذف الواو في أول السلام.
(مسألة 539): إذا شك في تحقق موجب سجود السهو بنى على العدم، وإذا شك في عدده بنى على الأقل. وإذا علم بوجوبه وشك في الإتيان به فالأحوط وجوباً الإتيان به وإن طالت المدة.
(مسألة 540): إذا شك في أنه سجد سجدة أو سجدتين بنى على الأقل، إلا مع تحقق الفراغ من العمل.
(مسألة 541): إذا شك بعد رفع الرأس من السجدة في أنه هل أتى بالذكر فيها أو لا، مضى ولم يعتن، وإذا علم بعدمه فالأحوط وجوباً إعادة السجدة.
(مسألة 542): لا يبطل سجود السهو بالزيادة(/3)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: " صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِحْدَى صَلاتَيِ الْعَشِيِّ ـ أي الظهر أو العصر ـ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ سَمَّاهَا أَبُو هُرَيْرَةَ وَلَكِنْ نَسِيتُ أَنَا. قَالَ: فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، فَقَامَ إِلَى خَشَبَةٍ مَعْرُوضَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَاتَّكَأَ عَلَيْهَا كَأَنَّه غَضْبَانُ، وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَوَضَعَ خَدَّهُ الأَيْمَنَ عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ الْيُسْرَى، وَخَرَجَتِ السَّرَعَانُ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالُوا قَصُرَتِ الصَّلاةُ، وَفِي الْقَوْمِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ، وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ فِي يَدَيْهِ طُولٌ يُقَالُ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَسِيتَ أَمْ قَصُرَتِ الصَّلاةُ؟ قَالَ: لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ. فَقَالَ: أَكَمَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ. فَتَقَدَّمَ فَصَلَّى مَا تَرَكَ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ، ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ. ثُمَّ سَلَّمَ. (متفق عليه)
عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه: " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْعَصْرَ فَسَلَّمَ فِي ثَلاثِ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ دَخَلَ مَنْزِلَهُ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ الْخِرْبَاقُ وَكَانَ فِي يَدَيْهِ طُولٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَذَكَرَ لَهُ صَنِيعَهُ، وَخَرَجَ غَضْبَانَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى النَّاسِ. فَقَالَ: أَصَدَقَ هَذَا؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَصَلَّى رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ " أخرجه مسلم.
عن عَبْدَاللَّهِ بن بُحَيْنَةَ رضي الله عنه: " أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِهِمُ الظَّهْرَ فَقَامَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ لَمْ يَجْلِسْ فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ حَتَّى إِذَا قَضَى الصَّلاةَ وَانْتَظَرَ النَّاسُ تَسْلِيمَهُ كَبَّرَ وَهُوَ جَالِسٌ فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ ثُمَّ سَلَّمَ " متفق عليه.
عن عَبْدُ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قال: " صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لا أَدْرِي زَادَ أَوْ نَقَصَ ـ فَلَمَّا سَلَّمَ قِيلَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحَدَثَ فِي الصَّلاةِ شَيْءٌ؟ قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالُوا: صَلَّيْتَ كَذَا وَكَذَا، فَثَنَى رِجْلَيْهِ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، فَلَمَّا أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ قَالَ: إِنَّهُ لَوْ حَدَثَ فِي الصَّلاةِ شَيْءٌ لَنَبَّأْتُكُمْ بِهِ وَلَكِنْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي، وَإِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلاتِهِ فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ ثُمَّ لِيُسَلِّمْ ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ " متفق عليه.
وفي رواية لهما: " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا، فَقِيلَ لَهُ: أَزِيدَ فِي الصَّلاةِ؟ فَقَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: صَلَّيْتَ خَمْسًا. فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ مَا سَلَّمَ". ولمسلم بلفظ:" صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسًا فَلَمَّا انْفَتَلَ تَوَشْوَشَ الْقَوْمُ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ زِيدَ فِي الصَّلاةِ؟ قَالَ: لا. قَالُوا: فَإِنَّكَ قَدْ صَلَّيْتَ خَمْسًا. فَانْفَتَلَ ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ".
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى ثَلاثًا أَمْ أَرْبَعًا فَلْيَطْرَحِ الشَّكَّ وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، فَإِنْ كَانَ صَلَّى خَمْسًا شَفَعْنَ لَهُ صَلاتَهُ، وَإِنْ كَانَ صَلَّى إِتْمَامًا لأَرْبَعٍ كَانَتَا تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ " أخرجه مسلم.(/4)
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِذَا سَهَا أَحَدُكُمْ فِي صَلاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ وَاحِدَةً صَلَّى أَوْ ثِنْتَيْنِ فَلْيَبْنِ عَلَى وَاحِدَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَدْرِ ثِنْتَيْنِ صَلَّى أَوْ ثَلاثًا فَلْيَبْنِ عَلَى ثِنْتَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَدْرِ ثَلاثًا صَلَّى أَوْ أَرْبَعًا فَلْيَبْنِ عَلَى ثَلاثٍ، وَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ " أخرجه أحمد و أبوداود والترمذي وقال: وصححه النووي في المجموع (4/107) وصححه الألباني ( صحيح سنن الترمذي ح399).
روى قيس بن أبي حازم قال: " صلى بنا المغيرة بن شعبة، فقام من الركعتين قائماً، فقلنا سبحان الله، فأومأ وقال: سبحان الله، فمضى في صلاته، فلما قضى صلاته سجد سجدتين وهو جالس، ثم قال: صلى بنا رسول الله فاستوى قائماً من جلوسه فمضى في صلاته، فلما قضى صلاته سجد سجدتين وهو جالس ثم قال: إذا صلى أحدكم فقام من الجلوس، فإن لم يستتم قائماً فليجلس، وليس عليه سجدتان، فإن استوى قائماً فليمض في صلاته وليسجد سجدتين وهو جالس " أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/440) قال: " حدثنا ابن مرزوق ( وهو إبراهيم بن مرزوق بن دينار الأموي ) قال: حدثنا أبو عامر ( وهو عبدالملك بن عمرو العقدي )، عن إبراهيم بن طهمان، عن المغيرة بن شبيل، عن قيس بن أبي حازم به " وهذا إسناد جيد. قال الألباني في الإرواء (2/110): " إسناده صحيح، رجاله كلهم ثقات
إذا تذكر وهو لم يرفع جسمه من الأرض فلا شيء
وإذا كان قد رفع ركبتيه ولم يستتم قائما عاد إلى الجلوس وتشهد ثم سجد قبل السلام
وإذا استتم قائما يكره له أن يجلس، وعليه السجود قبل السلام
وإذا قام وشرع في القراءة حرم جلوسه، وبطلت صلاته إن كان عالما ذاكرا
(إحكام الأحكام ص283)(/5)
سحب الجنسية بسبب الزواج من الأجنبي
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ...
التاريخ ... 23/2/1425هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تقوم بعض الدول بسحب جواز وجنسية الفتاة وإسقاط حقوقها كالمواطنة حين تتزوج شاباً مسلماً يختلف عن جنسيتها، بحجة أن المرأة تتبع الرجل. فما حكم الإسلام في ذلك؟.
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
منح الجنسية أو إسقاطها بين الحكومات وشعوبها اصطلاح حادث وجديد على المسلمين فجنسية كل المسلمين واحدة هي الإسلام لا غير مهما اختلفت لغاتهم، وتعددت أجناسهم كما قال الشاعر:
أبي الإسلام لا أب لي سواه...... إذا افتخروا بقيس أو تميم
وإذا كان الزواج شرعياً قد توفرت فيه أركان العقد وشروطه فلا يجوز لأحد إبطاله كائناً من كان، فاختلاف الجنسية اليوم بين الزوجين لا يبطل العقد، كما أن اتحاد الجنسية بينهما لا يعتبر شرطاً في النكاح، نعم يجوز لولي الأمر في الدولة منع رعيته التزوج من غير بنات البلد من أجل المصلحة، وخوفاً من العنوسة التي تنتج البطالة بين الشباب والشابات، ولا تجوز مخالفته ابتداء لا غير، وهذا المنع من باب السياسة الشرعية العامة فقط، وإن جاز لولي الأمر هذا فإنه لا يجوز له بحال من الأحوال إبطال العقد بعد تمامه ولا معاقبة فاعله لأنه لم يرتكب منكراً في الشرع، وإسقاط الجنسية اليوم على مثل هذا الفعل حرام لا يجوز، حيث هذا أعظم عقوبة يمكن إنزالها بأحد أفراد الشعب، أما كون المرأة تتبع زوجا فتنتسب إليه بدل أبيها وأسرتها، فهذه عادة أجنبية قبيحة تخالف الشرع والعقل، قال تعالى: "ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله"، وفي الحديث: "ليس من رجلٍ ادعى –انتسب – لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر، ومن ادَّعى قوماً ليس فيهم، فليتبوأ مقعده من النار" رواه البخاري(3508)، ومسلم(61) من حديث أبي ذر –رضي الله عنه-، وهذا التقليد الغربي المقيت جاءنا من النصارى حيث ينتسبون إلى أمهاتهم دون آبائهم تأسياً واتباعاً بزعمهم لنبي الله عيسى عليه السلام حيث ينسب إلى أمه،ولكنه هو وأولئك جهلوا أن عيسى ليس له أب حتى ينسب إليه؛ لأن الله خلقه بكلمة منه. فهو مخلوق من أم بلا أب. والله أعلم.(/1)
سحب المستحقات من التأمينات الاجتماعية
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ المعاملات/التأمين
التاريخ ... 16/05/1425هـ
السؤال
عملت في إحدى شركات القطاع الخاص لمدة ثمان سنوات، ثم قررت القيام بمشروع خاص، هل يجوز لي أن أسحب مستحقاتي من التأمينات الاجتماعية لاستخدامها كرأس مال المشروع؟.
الجواب
نعم، يجوز لك أن تسحب مستحقاتك من التأمينات الاجتماعية واستخدامها في مشروعك الخاص إذا لم يكن هناك موانع؛ كالاشتراط عند العقد أنه لا يجوز للعامل أو للموظف أخذ مستحقاته قبل فترة زمنية محددة ونحو ذلك، فإذا لم يوجد مانع فالحكم الجواز. والله أعلم.(/1)
سد الذرائع
المقدمة:
إن الحمد الله نحمده وستعينه ونستهديه، وتعوذ بالله من شرور أنفسنا، من سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، من يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته وسلم .
يقول تعالى: ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ? [سورة : النساء – آية 1] ، و يقول تعالى: ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً }النساء1? [ سورة : الحشر- آية 18 ] . و يقول تعالى: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ? [ سورة الأحزاب - آية 70 ].
أما بعد:-
فإن من خصائص هذا الشريعة وميزاتها صلاحيتها لكل زمان ومكان، وهو ما يُعبر عنه أحياناً بالشمولية.
فأدلتها الأساسية وهي نصوص الكتاب والسنة، وما ثبت من الإجماع ، وله حكم النصوص لأنه قائم عليها ، ولقد بذل علماء هذه الأمة جهوداً عزّ نظيرها في خدمة هذا الدين، ومن أعظمها جهودهم في استقراءهم نصوص الكتاب والسنة، وإعمال النظر فيها، فألفوا بين النصوص ذات الدلالات المتشابهة، وخرجوا بوقائع كلية، تنظيم تحتها جملة من الفروع الفقهية.
ومن هذه القواعد، قاعدة "سد الذرائع" وهي قاعدة عظيمة، لها تطبيقات عديدة، سيما في عصرنا الحاضر، حيث كثرت النوازل، وتعقدت مسائلة، وجديرة بالبحث بمتعلقاته في الواقع .
أهمية الموضوع:-
قال ابن القيم - رحمة الله عليه -:- ( باب سد الذرائع أحد أرباع التكليف، فإنه أمر ونهي، والأمر نوعان: أحدهما: مقصود لنفسه، والثاني وسيلة إلى المقصود، والنهي نوعان: أحدهما: ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه، الثاني ما يكون وسيلة إلى المفسدة ، فصار الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين).
خطة البحث: قسمة البحث إلى مقدمة و مبحثان وخاتمة .
المبحث الأول وفيه ثلاثة مطالب:-
المطلب الأول: تعريف الذرائع.
المطلب الثاني: أركان الذرائع.
المطلب الثالث: أقسم الذرائع،وأحكامها.
المبحث الثاني: وفيه ثلاثة مطالب:-
المطلب الأول: تحرير محل النزاع.
المطلب الثاني:أدلة سد الذرائع.
المطلب الثالث: أمثلة تطبيقية على سد الذرائع.
وهذا ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبل منا، إنه سميع مجيب.
وصل اللهم على محمد وآله وصحبة أجمعين.
المبحث الأول
سد الذرائع تعريف وأحكام وأقسام
المطلب الأول
تعريف الذرائع
تعريف "الذرائع" لغة: الذرائع جمع ذريعة، وهي الوسيلة، والسبب إلى الشيء، وأصلها لغة من ذرع ويقال : سد الطرق حتى لا تؤدي إلى نتائجها وآثارها، بصرف النظر في كون هذه الآثار محمودة أن مذمومة .
تعريف "الذرائع" اصطلاحاً: يقول شيخ الإسلام بن تيميه – رحمة الله - : "الذريعة هي الوسيلة، لكنها أصبحت في عرق الفقهاء عبارة عما أفضى إلى فعل محرم" .
وعرفها القرطبي – رحمة الله – بقولة : "عبارة عن أمر غير أرجح ممنوع في نفسه، يخاف من ارتكابه الوقوع في ممنوع" التعريفات .
وعلى هذا فالذريعة بالمعنى الاصطلاحي هي : أحد أفراد الذريعة بالمعنى اللغوي، يؤكد ذلك ما قاله القرافي رحمة الله: "أعلم أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها، وتكره، تندب، وتباح، فإن الذريعة هي الوسيلة، فكما أن وسيلة المحرم محرمة، فوسيلة الواجب واجبة، كالسعي للجمعة والحج، وموارد الأحكام على قسمين: مقاصد، وهي المتضمنة المصالح والمفاسد في أنفسها، ووسائل، وهي الطرق المفضية إليها، وحكمها حكم ما أفضت إليه من تحريم، وتحليل، غير أنها أخفض رتبة من المقاصد في حكمها، والوسائل إلى أفضل الوسائل، وإلى أقبح المقاصد أقبح الوسائل، وإلى ما يتوسط متوسطة) .
المطلب الثاني
أركان الذرائع
وللذريعة ثلاثة أركان : الوسيلة ، والمتوسل إليه، والواسطة بينهما، أو إفضاء الوسيلة إلى المتوسل إليه، وعلى هذه الأركان تبنى جل مباحث الذرائع: تقسيماتها، وأحكامها، بل حتى تعريفها .
ومثال ذلك: بيع العنب، فهو وسيلة غير ممنوعة في نفسها، واستخدام هذا العنب في صناعة الخمر هو المتوسل إليه، ودرجة الإفضاء هو قوة ثبوت استخدام هذا العنب الذي بيع في صناعة الخمر، ولهذه درجات متفاوتة.
الركن الأول: الوسيلة:
وهي الأساس – الذي تقوم عليه الذريعة، فبوجودها توجد باقي الأركان.(/1)
والتعبير عن هذه (الوسيلة) بأنها (أمر غير ممنوع في نفسه، يدخل المباح، والمندوب، والواجب، ويخرج ما كان ممنوعاً في نفسه، كشرب الخمر، فهو ذريعة للفرية، والزنى، وهو ذريعة لاختلاط الأنساب، لكنهما محرمان في أنفسهما، حتى ولو لم يؤديا إلى تلك المفاسد..
الركن الثاني: المتوسل إليه: لا بد أن يكون أمراُ ممنوعاً، إذا لو كان أمراً جائزاً، لا نتقلنا من الحديث عن الذريعة بالمعنى الاصطلاحي إلى الذريعة بالمعنى اللغوي.
ويُفهم من عبارات العلماء إرادة مطلق المنع أن التحريم، لم يحددوه اختلاف قوة منع الوسيلة المفضية إليه، فما كان المنع منه أقوى كاعتداء على الضروريات الخمس، كان المنع من الوسائل المفضية إليه أقوى، فالشريعة – مثلاً – جاءت بسد أي وسيلة وتؤدي إلى المساس بالدين، سواء أكان بالابتداع فيه، أو التساهل في مرة، ولو كان في المحافظة عليه ذهاب الأنفس والأموال، لأنه أهم الضروريات.
الركن الثالث: هذا الركن من أهم أسباب الخلاف في تعريف العلماء للذريعة؛ لأن قوة الإفضاء تختلف، ودرجاتها ثلاثة: ضعيفة، وقطعية، وما بينهما، فإفضاء الوسيلة إليه؛هوالذي يصل بين طرفي الذريعة: الوسيلة والمتوسل إليه ، والبحث فيه يكو في قوة الإفضاء ، فهناك وسائل يكون إفضاؤها إلى المحذور ضعيفاً، كزراعة العنب مطلقاً فإنه وسيلة، وإذا قد أن يتخذه بعض الناس لصناعة الخمر، فهل تمنع زراعته؟ وهناك وسائل يكون إفضاؤها إلى المحذور قويا كمن باع العنب لمن يصنعه خمراً، فإنه يصبح ذريعة إفضاؤها إلى المتوسل إليه قوية، وعلى هذا فالمقصود بسد الذرائع شرعاً: "حسم مادة الفساد بقطع وسائله" .
المطلب الثالث
أقسام الذريعة وأحكامها
بالنظر إلى التعريف السابق للذريعة، وبعد معرفة كل ركن من أركانها على حدة تبين أنها على الأقسام الآتية:
القسم الأول: وضابطة ما كانت قوة الإفضاء فيه نادرة، سواء أكانت الوسيلة:
أ - واجبة؛ كالذهاب إلى صلاة الجماعة في المساجد لسامع النداء؛ إذا قد يتعرض بيته وماله إلى السرقة على قول القائل بالوجوب…وهكذا.
ب_ أو مندوبة؛ كالصدقة على عموم المسلمين الذين لا يُدري ما حالهم.
ج- أو مباحة؛ كالتجاور في البيوت؛ فإنه يفضي نادراً إلى الزنى.
القسم الثاني: ويشترط فيه أن قوة الإفضاء: قطعية، أو غالبة، أو كثيرة ولكن ليست بغالبة، فيتحصل لدينا ثلاثة وسائل :
الوسيلة الأولى: وسيلة مباحة تؤدي إلى محرم
ومثال هذا السفر إلى البلاد التي تكثر فيها المنكرات، وارتياد الأماكن العامة الذي يؤدي إلى رؤية المنكرات وعدم إنكارها أو يؤدي إلى النظر إلى العورات ، أو كقيام ذي الهيئة الذي يُتخذه الناس قدوة بفعل مباح على وجه يسئ الجاهل فهمة، فيعتقد حل ما حرم أو تحريم ما أحل، ومن ذلك تولي الولايات في الجهات أو المؤسسات التي يلتبس أمرها على العامة، فإن رأوا فيها الدين الثقة، ظنوا صلاحها وشرعيتها.
والحكم في هذه الذريعة السد؛ لأنها تؤدي إلى مفسدة أكبر من المصلحة المترتبة على فعلها..
الوسيلة الثانية : وسيلة مندوبة تؤدي إلى محرم
ومثال هذا السفر إلى الحج النافلة، أو إلى الدعوة غير الواجبة إذا كان ذلك يؤدي إلى تضييع حق الأولاد، أو يغضب الوالدين.
والحكم في هذه الذريعة المنع أيضاً؛ لأن مفسدتها أعظم من مصلحتها .
الوسيلة الثالثة : وسيلة واجبة تودي إلى محرم
أم هذه الوسيلة فإنها موطن رحب للاختلاف، وإعمال الاجتهاد، فمن العلماء من يرى منعها مطلقاً، تغليباً لجانب الخطر على الإباحة ومنهم من يرى غير ذلك والأمر يحتاج إلى نوع تفصيل، يعتمد على القاعدة الأساس في الحكم على الذرائع، وهي: "إذا تعارضت مفسدتان دُفع أعظمها ضرراً بارتكاب أخفهما".
إذا كانت الوسيلة واجبة ضرورية متعلقة بفرد واحد، تؤدي إلى متوسل إليه ممنوع متعلق بأمر ضروري أيضاً لكنه متعلق بمجموعة، فما الحكم؟ والأمثلة الواقعية على هذا الفرع كثيرة، وكل مسألة متعلقة بهذا المتضوع تحتاج إلى دارسة مستقلة حسب ظروفها، وملابساتها، وما يحيط بها.
المبحث الثاني
تحرير محل النزاع وأدلته وتطبيقاته
المطلب الأول
تحرير محل النزاع بين العلماء في سد الذرائع
تنقسم الذرائع من حيث الحكم عليها إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: قسم أجمع العلماء على سده
ابتدأ بهذا القسم بصرف النظر: هل يُعتبر من باب "الذرائع" أم لا ؟ فيبع العنب لمن يتخذه خمراً، ووضع السم في أطعمة المسلمين، ونحوهما من الأعمال الممنوعة شرعا سواء سميت "ذرائع" أم لا، وسواءً أكان الاستدلال على منعها بقاعدة "سد الذرائع"، أو بقواعد شرعية أخرى، على حرمة ما ذُكر بقاعدة تحريم التعاون على الإثم والعدوان ، والخلاف المتعلق بهذا القسم خلاف لفظي لا ثمرة له، ومنشأ الاختلاق مبسوط في كتب الأصول.
القسم الثاني: قسم أجمع العلماء على عدم سده
وهذا القسم سواء سمي ذرائع أم لا، والتحدث عنه كأمر مباح فقط لا ما يؤل إليه كزراع العنب.
القسم الثالث : موطن النزاع بين العلماء(/2)
فهذا القسم الذي وقع فيه الخلاف والخلاف متمثل بالتحديد في صورتين:
الصورة الأولى: هل درجة الإفضاء التي يحكم عندها بمنع الوسيلة
وقف العلماء حيال هذا الأمر هل درجة الإفضاء القطعية، أم الظنية ظناً غالباً – وإن لم يكن كثيراً - أم الدرجة الكثيرة؟ بمعنى هل يُلحق الكثيرُ غيرُ الغالب، بالغالب، فيأخذان حكم القطعي؟ والظاهر – والله أعلم – أنهما يلحقان بالقطعي، فيأخذان حكم القطعي؟ ويلحقان بالقطعي، فيحكم عندئذ بسد الذرائع، وذلك من أجل الاحتياط، لأن كثرة وقوع المفاسد مع قابليتها للتخلف يجعلها قريبة الوقوع، ثم إن الشرع ورد بتحريم أمور كانت في الأصل مباحة؛ لأنها تؤدي في كثير من الأحيان إلى مفاسد، حتى وإن لم تكن غالبة.
الصورة الثانية: هل العبرة في العقود بمجرد الظاهر
يري الشافعية الذي يؤدي إلى ممنوع حتى وإن لم يقصد صاحبة ذلك الممنوع؟ كمن يسب آلهة المشركين أمامهم،غيرة على دينة، مع أن ذلك يؤدي إلى سب الله – تعالى – الذي لا يقصده مسلم.
والراجح أن القصد ليس له تأثير في الحكم على الذريعة، خصوصاً قبل الفعل، فالكلام في المنع الذي يكون قبل الفعل، لا في التأثيم الذي يبحث فيه بعد الفعل، وذلك حتى لا يفتح الباب لفعل ذلك مرة أخرى، وحتى لا يتساهل الناس من ذلك، أو يظنوا خل ذلك الفعل.
المطلب الثاني
أدلة سد الذرائع
استدلال العلماء على هذه القاعدة سد الذرائع بالنقل وعمل الصحابة والعقل، والمتأمل في هذه الأدلة يجدها تفيد القطع بصحة القاعدة في الجملة
أما النقل: فيستدل به من عدة أوده: .
أولاً: الله عز وجل إذا حرم الله شيئاً حرم أسبابه ووسائله، ولا يعقل كما يقول ابن القيم – رحمة الله – أن يحرم الله شيئاً ويبيح أسبابه ووسائله المفضية إليه وهذا واضح في أمور كثيرة. بل إن الشريعة تؤكد على تحريم الوسائل والأسباب إذا كان ما تؤدي إليه من الكبائر، وأمثلة هذا لنوع وشواهده كثيرة جداً، فقد حرم الله عز وجل الكفر، وحرم أسبابه ووسائله حتى يصون المؤمنين، ويبعدهم أشد البعد عن هذا الظلم العظيم، ومن أهم أسباب الكفر اتباع خطوات ووسائله، فحذر الله - عز وجل – من هذه الوسائل، بعده طرق، وفي مواطن كثيرة جداً قال الله تعالى: ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ }البقرة168? ونهى الله – عز وجل – عن اتخاذ المشركين أولياء لأن هذا من أسباب محبتهم ومحبه دينهم وهو من ذرائع الكفر، قال تعالى? لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ ? [ سورة آل عمران آية -28 وقال ? ا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء ? [ سورة: الممتحنة- آية 1]. وبين سبحانة وتعالى علة النهي فقال : ? وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء ? [ سورة: النساء: آية89]
كما نهى سبحانة وتعالى عن الإقامة بين أظهرهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم – "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين قالوا: يا رسول لله ولم قال؟: لا تراءى نارهما" ونهى عن مخالطتهم، لأن يذكر معنى هنا الكلام
الله - صلى الله عليه وسلم-: "لا تساكنوا المشركين ولا تجامعوهم، فمن ساكنهم أو جامعهم فهو مثلهم" .
بل إنه سبحانه وتعالى نهى عن مشابهتهم للأسباب نفسها أيضاً واستفاضت النصوص في التحذير من ذلك، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم:ـ "من تشبه بقوم فهو منهم"، بل قد حرمت الشريعة أموراً لكونها تشبها بالكفار، ومن ذلك تحريم التشبه بهم في الملبس والمأكل، ومنها الصلاة في أوقات معنية، وغير ذلك كثير ، وكذلك تحريم الربا وشرب الخمر وذرائعهما، إلى غير ذلك من المحرمات ، وكل هذه الشواهد تفيد القطع بأن الشريعة إذا حرمت شيئاً حرمت ذرائعه.
ثانياً: يأتي أمر الشرع بتحريم وسائل مباحة من حيث الأصل لعلة إفضائها إلى محرم ، وقد تتجرد عن الإفضاء فترجع إلى أصل الإباحة، وهذا الوجه من أقوى وجوه الاستدلال على هذه القاعدة وأوضحها؛ وأدلته كثيرة أيضاً، لكن دلالاتها تختلف قوة وضعفاً، بل قد نازع فيها بعض العلماء؛ لأن تلك العلل غير منصوص
عليها، فلم يتفقوا مع غيرهم على أن علة التحريم هي إفضاؤها إلى محرم، فكأنهم جعلوا النهي تعبدياً، أو بنوه على علة أخرى.
من أجل هذا سأقتصر هنا على تلك الأدلة التي نصت على أن علة تحريم هذه الوسائل إفضاؤها إلى محرم.
الأدلة من الكتاب:
1- قال تعالى: ? وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ ? [ سورة الأنعام :آية- 108].(/3)
ووجه الاستدلال أن الله – عز وجل – حرم سب الآلهة مع أنه عبادة، وعلل هذا المنع بكونه ذريعة إلى سبهم له – جل وعلا – فمصلحة تركهم سب الله – سبحانه – راجحة على مصلحة سبنا لآلهتهم.
وقوله تعالى : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ? [ سورة : المائدة-آية 101 ]، وجه الاستدلال: أن هذا النص ظاهر في المنع من السؤال المباح، إذا خيف إفضاؤه إلى محظور، خاصة إذا علم سبب نزول الآية:
فعن انس رضي الله عنه قال : " رجل يا رسول الله من أبي ؟ قال أبوك فلان ونزلت هذه الآية"
وأما السنة فالشواهد كثيرة جداً منها:
أولا: تركه – صلى الله عليه وسلم – قتل المنافقين، مع أن في قتلهم مصلحة كبيرة، ثم علل ذلك بقوله " حتى لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه" .، وكذلك قوله – صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها- : "لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لنقصت الكعبة فجعلت لها بابين، باب يدخل منه الناس، وباب يخرجون" وقد ترجم البخاري لهذا الحديث بقوله "باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه، فيقعوا في أشد منه"
ثالثاً: جاءت الشريعة بالحث على ترك الشبهات؛ لأن ارتكابها ذريعة أما إلى وقوع في الحرام بغير قصد، وأما إلى اتخاذها مطية لأغراض فاسدة، فمن احتاط لنفسه، لم يقرب الشبهات، فلا يقع في واحد من هذين المحظورين. وقد حث رسول الله صلى الله عليه وسلم – على ترك الشبهات في أكثر من حديث منها الحديث المشهور عن النعمان بن بشير – رضي الله عنه -، وموطن الشاهد منه: "فمن ترك الشبهات فقد استبرأ لدينة وعرضه، ومن وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام". ، وحديث "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" وظاهره العمل بترك الشبهات، الذي هو عمل بسد الذرائع ، ومن صورها:
ثالثا: أن الشرع حث المسلم على اجتناب مواطن التهم حتى لا يتعرض لإساءة الظن بدينه، ومن ذلك قصته – صلى الله عليه وسلم- وصفية – رضي الله عنها – حين أراد أن يودعها إلى أهلها فرآه اثنان من الصحابة، فأسرعا، فقال لهما رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: "على رسلكما، أنها صفية بنت حيي" فقالا: سبحان الله، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – "إن الشيطان يبلغ من ابن أدم مبلغ الدم وإني خشيت يقذف في قلوبكما شيئاً".، وحديث امتناعه – صلى الله عليه وسلم – أن يأكل التمرة التي رآها ملقاة خشية أن تكون من الصدقة".
رابعاً: أن الله – عز وجل – توعد بالعقاب من يحتال إلى الممنوع بفعل جائز فدل ذلك على تحريم الفعل الجائز إذا كان يتوسل به إلى ممنوع، وهذا هو عين سد الذرائع.
ومن أشهر أمثلة ذلك: أن الله – جل وعلا – ذم أصحاب السبت؛ لأنهم احتالوا على ما حرمه عليم من صيد الحيتان يوم السبت، وابتلاهم الله – عز وجل- بأن جعل الحيتان تأتيهم بوم السبت شرعاً(ظاهرة)، ولا تكون على هذه الحالة باقي الأيام، فاحتالوا على ذلك؛ بأن حفروا لها حفراً في البحر تحجزها ليسهل عليهم صيدها في باقي الأيام.
وأما عمل الصحابة والسابقين الأولين بتوريث المطلقة المبتوتة في مرض الموت بتهمة قصد المطلق حرمانها من الميراث ، وإن لم يقصد الحرمان لأن الطلاق ذريعة إليه واتفاقهم على قتل الجماعة بالواحد وإن كان أصل القصاص يمنع ذلك لأن من معنى القصاص المساواة، وإنما قولوا بذلك لئلا يكون عدم القصاص منهم ذريعة إلى التعاون على سفك الدماء.
وأما العقل: فيمكن إجمال اعتبار العقل لقاعدة سد الذرائع بأسباب وطرق تفضي إليها ومعتبرة بها، فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتما والمنع منها بحسب إفضائها إلى غايتها، وارتباطها بها ووسائل الطاعات والقربات في محبتها والإذن بها بحسب إفضائها إلى غاياتها، فوسيلة المقصود تابعة للمقصود وكلاهما مقصود، لكنه مقصود قصد الغايات، فإذا حرم الرب تعالى شيئاً وله طرق ووسائل تقضي إليه فإنه يحرمها، ويمنع منا تحقيقاً لتحريمه، وتثبتاً له، ومنعاً أن يقرب حماه، ولو أباح الوسائل المفضية إليه لكان ذلك، بل سياسية ملوك الدنيا تأبي ذلك، فإن أحدهم إذا منع جنده أو رعيته أو أهل بيته من شئ ثم أباح لهم الطرق والأسباب والذرائع الموصلة إليه فقد أفسد منعه، ولحصل من رعيته وجنده ضد مقصوده.
وكذلك الأطباء إذا أرادوا حسم الداء منعوا صاحبه من الطرق والذرائع الموصلة إليه، وإلا أفسد عليهم ما يرومون إصلاحه، فما الظن بهذه الشريعة الكاملة التي هي في أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال؟ ومن تأمل مصادرها ومواردها علم أن الله تعالى ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحرمات بأن حرمها ونهى عنها" .
المطلب الثالث
أمثلة وتطبيقات على سد الذرائع(/4)
قبل ذكر هذه الأمثلة لابد من التنبيه على أمر مهم جداً، وهو أن تطبيق هذه القاعدة والعمل بها – وهو ما يعرف بتحقيق المناط الذي من معناه تحقيق وجود العلة في الواقعة حتى يبنى عليها الحكم – لا يمكن أن يكون صحيحاً إلا بمعرفة واقع المسألة معرفة جيدة، وهو ما أطلق عليه أبن القيم – رحمة الله – الفقه في الواقع، فحتى نخرج بتطبيق صحيح لهذه القاعدة، لابد أن نميز درجة إفضاء الأمر الجائز إلى الممنوع، وتحديد درجة الإفضاء هذه تختلق فيه التقديرات اختلافاً كبيراً، كل بحسب ما وصل له، أضف إلى ذلك أن تقدير متعلق الوسيلة بأمر حاجي أو ضروري، وكذا المتوسل إليه، أمر قابل لاختلاف وجهات النظر.
فمن أمثلة تطبيق هذه القاعدة في حياة السلف مما يشابه واقعنا:
أولا: الحرص على الوحدة والائتلاف، ونبذ أسباب الفرقة والاختلاف.
وهذا من أعظم الأصول التي دعت إليها الشريعة وطبقها السلف الصالح – رضي الله تعالى عنهم -، فظهرت أثار المحافظة على هذا الأصل في مواقف كثيرة، منها مثلاً تركهم بعض المباحات، بل بعض السنن من أجل عدم التفرق والاختلاف، وهذا من فقههم – رحمهم الله تعالى -، فواجب على من سار على سبيلهم أن يقتدي بهم في ذلك، ومن أمثلة ما نقل عنهم في هذا الباب، قصة عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – في صلاته خلف أمير المؤمنين عثمان بن عفان – رضي الله عنه – بمعنى إتماماً مع أن السنة القصر، فلما قيل له في ذلك قال: "الخلاف شر".
ومن أجل ذلك نرى شيخ الإسلام بن تيمية – رحمة الله تعالى – يقرر أنه "يستحب للرجل أن يقصد إلى تأليف القلوب بترك مثل هذه المستحبات لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا".
ومن هذا ما يقع الآن بين الدعاة وطلبة العلم من ردود ومناظره ، والمتأمل في هذه المسالة ، يجد أن الرد على المخالف، مشروع في الجملة، وهو سنة الصحابة والتابعين وتابعيهم من سار على هذا من أكابر العلماء، إلى يومنا هذا.
لكن هل هذا الأمر على إطلاقه؟ فهل يكون الرد على المخالف مشروعاً حتى وأن أفضي إلى فساد، أو منكر أكبر؟.
إن الرد على المخالف وسيلة، القصد منها إظهار الحق لإزهاق الباطل، وإعلاء كلمة الدين، لكن إذا أدى الرد إلى تفريق الأمة، واقتتالها فيما بينها ومن ثم ضعفها، واستطالة الأعداء عليها، ومن ثم ذهاب بيضة الدين، فهل يبقى الرد عندئذ على المخالف مطلوباً ومشروعاً؟
هذه المسألة تحتاج إلى بحث ونظر، حسب القواعد والضوابط الشرعية، وحسب الواقع، ولا مانع هنا من أن نعرض بعض ما يجب مراعاته في دراسة هذه المسألة مما له صلة ببحثنا.
الرد على المخالف في المسائل الاجتهادية كطرائق الدعوة مثلاً:ـ
أكثر ما يقال فيه أنه وسيلة مشروعة، لا تصل إلى الوجوب، إذا غلب على الظن أداؤها لحدوث تدابر وتباغض بين المسلمين وإنما تسد؛ لأنها ذريعة إلى أمر ممنوع.
أما حكم الرد على المخالف في غير المسائل الاجتهادية، إذا أدى إلى حدوث ذلك الفساد ينبغي أن ينظر إلى حجم المخالفة، ثم مدى تأثر الناس بها، وحجم المصلحة الناتجة من هذا الرد، ثم حجم الفساد الذي أفضت إليه هذه الذريعة، وكذلك درجة إفضاء هذا الرد لهذا الفساد.
الأمر بمجانبة أهل الأهواء والفساد:-
لقد سبق القول إن الشرع حث المسلم على عدم مخالطة المشركين، لأن ذلك ذريعة لمحبتهم أو محبة دينهم، وكذلك فإن مخالطة أهل الأهواء مشاركة في باطلهم، ومن مخالطتهم قراءة كتبهم والنظر فيها والوصول إلى حد الافتتان بها، ولقد جاءت نصوص كثيرة عن الصحابة والتابعين وأئمة السلف في التحذير من ذلك، وأقوالهم في ذلك كثيرة حتى كانت مجالاً رحباً للتصنيف، وما ذلك إلا عملاً بسد الذرائع، من أشهر ذلك قصة عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنه – مع الصبيان – مع صبيغ بن عسل، حينما كان يسأل عن متشابه القرآن في أجناد المسلين، فأمر الناس باعتزاله، حتى رجع عن ما وقع فيه، ثم أذن عمر للناس بمخالطته.
وقال الحسن البصري – رحمة الله تعالى:- "لا تجالس صاحب هوى فيقذف في قلبك، ما تتبعه عليه فتهلك، أو تخالفه فيمرض قبلك".
وعن أبي قلابة – رحمة الله تعالى – "لا تجالسوا أهل الأهواء، ولا تجادلوهم، فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالاتهم، أو يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون" قال أيوب: وكان والله من الفقهاء ذوي الألباب. .
حدثوا الناس بما يعرفون كما قال علي بن أبي طالب – رضي الله عنه -، قال ابن حجر معلقاً: "وفيه ذليل على أن المتشابه لا ينبغي أن يذكر عند العامة…" ثم قال : "وعن حسن أنه أنكر تحديث أنس للحجاج قصة العرنيين لأنه اتخذها ذريعة إلى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي، وضابط ذلك أن يكون ظاهراً الحديث يقوي البدعة وظاهرة في الأصل غير مراد، فالإمساك عنه عند من يخشى عليه الأخذ بظاهرة مطلوب والله أعلم". .(/5)
ليس كل ما يعلم يقال وإن كان حقاً، كما قال كثير بن مرة الحضرمي: "إن عليك في علمك حقاً كما أن في مالك حقاً، لا تحدث الحكماء فيقتلوك" . وهذا واضح في حديث معاذ. أفلا أبشر الناس؟
قال: "لا تبشرهم فيتكلوا" . وعن عبد الرحمن بن عوف أنه قال محدثاً عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -: "لو شهدت أمير المؤمنين أتاه رجل فقال: إن فلاناً يقول لو مات أمير المؤمنين لبايعنا فلانا، فقال عمر: لأقو من العشية، فأحذر هؤلاء الرهط، الذين يريدون يغضبوني، قلت: لا تفعلن، فإن الموسم، يجمع رعاع الناس، ويغلبون على مجلسك، فأخاف أن لا ينزلوها على وجهها فيطيروا بها لك مطير، وأمهل حتى تقدم المدينة، دار الهجرة ودار السنة، فتخلص بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم – من المهاجرين والأنصار، ويحظوا مقالتك ويتنزلوها على وجهها، فقال، والله لأقو من في أول مقام أقومه بالمدينة".
وتطبيقات سد الذرائع أكثر من أن تحصى، ولهذا قال ابن القيم – رحمة الله تعالى – "وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف، فإنه أمر ونهى والأمر نوعان، أحدهما مقصود لنفسه، والثاني وسيلة إلى المقصود، والنهي نوعان أحدهما ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه والثاني ما يكون وسيلة إلى المفسدة، فصار سد الذرائع أحد أرباع الدين" .
الخاتمة :
وفي الختام هذا البحث المتواضع لا أملك إلا أن أحمد الله على أن يسر لنا هذا الصرح المبارك – جامعة الإيمان – الذي كان له الأثر الأكبر بعد الله في تلقي العلوم الشرعية والتفقه في أحكام الدين الحنيف، وإني أدعوا في ختام هذا البحث كل مسلم أن يسعى في طلب العلم الشرعي وأن يعتني بأصول الفقه لأنه من العلوم التي ينبغي ن يتعلمها كل من أراد الفقه في الدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وعلى نبينا محمد أفضل الصلات والسلام .
تأليف الفقير إلى ربه :محمد قاسم قائد علي
مراجعة وتعليق: عبد الوهاب الشرعبي
إعلام الموقعين، ج3/ 159.
أنظر: المصباح المنير ، ج1/ 208 ، ومختار الصحاح ،ج1/ 226 مادة (درع).
أنظر: سد الذرائع للبرهاني ص25وما بعدها
الفتاوى المصرية الكبرى ج 6/174.
أنظر: سد الذرائع للبرهاني ص 74.
وهناك تعريفات أخرى أنظرها في: البحر المحيط للزركشي ج6/82.
الفروق ج2/33 ، وقارن بما في إعلام الموقعين ج3/147 .
تقريب الوصول لأبن جزي 149.
بعض العلماء لا يري العمل بسد الذرائع كابن حزم .
أصول الفقه لابن تيمية ص530.
المصدر نفسه530.
أنظر إعلام الموقعين لأبن القيم ج3/103وسد، الذرائع للبرهاني 329.
أخرجه أبو داود، كتاب الجهاد ج4/105رقم 2674، وحسنة الألباني كما في صحيح الجامع رقم 6562.
روه أبو داود، كتاب الجهاد 3/224رقم 2787، حسنة الألباني كما في صحيح الجامع رقم 6062.
رواه أبو داود، كتاب اللباس 4/314برقم 4031، والإمام أحمد في المسند 7/142رقم 5114 (تحقيق أحمد شاكر) وقال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح وقال الشيخ الإسلام : إسناده جيد كما في اقتضاء الصراط المستقيم 1/236.
الفتاوى الكبرى 6/174.
أخرجه مسلم ، ج4/ 1832، برقم 2359.
- أنظر: تفسير القرطبي ج6/330 وما بعدها.
- أنظر مناسبة الحديث في الاستيعاب لأبن عبد البر3/941 ، واخرج البخاري الحديث، ج1/ 59، برقم 126 .
- أخرج مسلم ، ج3/ 1219، برقم 1599.
- أخرجه الترمذي ، ج4/ 668برقم 2518،وصححه الألباني في الإرواء ،ج1/44.
- أعلام الموقعين ج 3/147، أخرج الحديث البخاري ، ج3/ 1195، برقم 3107
- أنظر: مجموعة الفتاوى ج22/405-407.أخرج الحديث البخاري ، ج2/ 857، برقم 2299
الاعتصام 130، وأنظر اللالكاني في السنة ورقم 244، عبد الله بن أحمد في شرح السنة18.
فتح الباري ج 1/272.
الاعتصام ج 2/14.
الموافقات ج4/190.
إعلام الموقعين ج3/171.
أخرجه البخاري ، ج3/ 1049، برقم 2701.(/6)
سر إقبال الشباب الغربي على تعاطي الكحوليات
أثبتت أحدث الدراسات أن الولايات المتحدة الأمريكية يجتاحها وباء شرب القصر للكحوليات.
وقد وجدت الدراسات أن الكثير من الأطفال بدأوا في شرب الكحوليات في مراحل التعليم المبكر والمتوسط وعند وصولهم لمرحلة التعليم الثانوي, بينما أصبح أكثر من 80% منهم يشربون الكحوليات بصفة دائمة بعد تخرجهم من المرحلة الثانوية وقد وجد أن كلا من البنات والبنين يتناولون الكحوليات على حد سواء, ويوضح القائمون بالدراسة أن الوالدين وكذلك البيئة المحيطة يقع عليهم جزءاً من اللائمة بشأن تعاطي الأحداث للكحوليات.
وقد تولى مركز كولومبيا الدولي للإدمان والعنف 'CASA' القيام بهذه الدراسة وخلص الباحثون إلى أن الكحول هو المادة المخدرة الأولى لدى الأطفال والشباب من بين كل أنواع المخدرات والمسكنات والتي تمثل تهديداً خطيراً على مصلحتهم وسعادتهم.
ويرجع السبب الرئيس لخطورة تعاطي الكحوليات أنها تتحكم في الحالة النفسية وذلك بتأثيرها السلبي على الجهاز العصبي حيث يجد الشباب ممن يتعاطونها أنفسهم يقومون بعمل أشياء بخلاف ما هم عليه في أحوالهم العادية, كتجرئهم على القيادة وهم في حالة سكر وكذلك إثارة السلوك الجنسي بصورة حيوانية ودفعهم نحو تناول أنواع أخرى من المخدرات وجرأتهم عليها والحقيقة المفزعة أن الكحول يعتبر أحد ثلاثة أسباب رئيسة في الوفيات بين الشباب في الولايات المتحدة الأمريكية والتي منها الحوادث والقتل والانتحار.
وبينما تلقي الدراسة باللائمة على الوالدين والبيئة والمدرسة في تعاطي الأحداث للكحوليات, فهناك سؤال هام يطرح نفسه وهو : لماذا يقدم الأحداث على تناول الكحوليات ؟ وقد استطاع الباحثون الإجابة على هذا السؤال من خلال الدراسة التي أجروها وخلصوا إلى أن تناول الكحوليات يرجع بالدرجة الأولى إلى الفضول وحب الاستطلاع وكذلك استخدامه في التطبيب الذاتي.
وتؤكد الحقائق أن العوامل البيئية بما فيها التلفاز والمطبوعات من مجلات وكتب إباحية وأفلام تصور الكحول وكأنه أحد المهدئات التي تعالج النفس وتشعرها بالسعادة وتزيل عنا الغضب والانفعال كما تصور للحدث أنه بتعاطيه الكحول يستطيع أن يجذب الجنس الآخر, وهكذا يقدم الصغار عليها على سبيل التجربة محاولين إثبات صحة ما يرونه ويسمعونه في وسائل إعلام المختلفة.
كذلك فإن للأقران تأثير قوي ويظهر جلياً في صراعهم ليثبت كل منهم وجوده للآخر معتقدين أن تعاطي الكحول هو الوسيلة المثلى لإثبات الذات ولكن ما يلبثوا أن يكتشفوا أنه لا فائدة من تعاطيه, وهنا لدينا سؤال يفرض نفسه وهو لماذا يواصل الحدث شرب الكحول ؟
ويجيب الباحثون بأن مواصلة شرب الكحوليات يعتبرها المراهقون دواء ذاتيا ويوضح معظم المراهقون أنهم يستسلمون لتأثير الأقران لأن لديهم قلة احترام للذات وكذلك الفضول والإحساس بالملل حيث أن المراهقة هي تلك الفترة المزعجة التي تتسم بالقلق والاكتئاب, كما أن الكثيرين يستخدمون الكحول لنفس الأسباب التي تدفعهم للتدخين ويعتبر الكحول والنيكوتين من المخدرات ويتقاسمان سوياً مسئولية كبرى في خلق جو من الاضطراب بين الشباب وفي البيئة ككل وتؤكد الأبحاث العلمية التي قامت بها مراكز البحوث الطبية والخاصة بالإدمان أن الكحول مادة سامة تسمم كثير من خلايا الجسم متضمنة المخ والقلب وكذلك الكبد.
المصدر:discovery health channel(/1)
سر قوة الحاكم شعبه !!
سلمان بن محمد العنزي * 12/4/1424
12/06/2003
هذه الدول الإسلامية في امتدادها واتساع رقعتها هي في الحقيقة دولة واحدة، ضعف خليفتها وأصابه الترف والخمول في مقتل فداور الأمر من ورائه فئام أولو قوة ومنعة، فقسموا الأرض بينهم، وحكم كل منهم بأمره حسب ما يمليه عليه دينه أو أخلاقه أو مطامعه، وإن أردت توضيحاً أكبر فإني أشبه لك الأمر بما كانت عليه الدولة العباسية بعد عصر القوة فيها، حيث تحكم فيها الموالي من الترك والفرس وأصبحوا أهل الحل والعقد يقتلون السلطان متى ما شاءوه، وينصبون من يريدون فأضحت الدولة جسدا ممزقا بلا روح، فتلاعبت به أرياح الأهواء والفتن، وهذه التقلبات السياسية يتبعها تقلبات في الدين والأخلاق، لا سيما في أوقات القوة والانفتاح على الثقافات الوافدة، مما يولد رغبات جامحة تنفر من الماضي وتريد أن تتلبس بالحاضر الآتي من بعيد بكل صوره وأنواعه، ولو كان على أساس الثوابت، وهذه النظرة الجارفة ينشأ في مقابلها نظرة أخرى متطرفة تريد العودة إلى الدين عودة صارمة متصلبة، مما يؤدي إلى نشوء مذاهب متشددة قد تستحل دماء المسلمين وأموالهم بحجة المروق عن الدين كما فعل الخوارج، وهم إن هدأت غواربهم عادوا إلى التفسيق والتبديع بمجرد الظن، وهذا إفراز طبيعي لنفوس تعشقت هذا الدين الحنيف، وعرفت مقدار جلالته ومقدار مافيه من عاطفة جياشة، ومن صلاح في الدنيا والآخرة، وعرفوا مقدار ما في الباطل من شر سيما إذا استحكمت صولته وامتد عنفوانه، ليكدح في القلوب الوالهة ويتسرب في طيات النفوس المتشعبة..
إن من حقائق الحياة أن عقيدة المرء وتدينه له أكبر الأثر في فكره ونمط عيشه وفي تقبله الحياة والسبر لأغوارها، وفي التعايش مع الآخر.. فإذا كان هذا التدين معتدلا متسقا مع دلالات الكتاب والسنة فانه ينتج مجتمعاً صالحاً مصلحاً مريداً للحياة لكي يعطي الحياة معناها الصافي الصحيح الخالي من كل شائبة، وعلى هذا الأساس المتين تقوى الأخلاق من ناحية معانيها وترق من ناحية أسلوبها الملون للحياة، فيكون الإنسان المسلم داعية بشمائله وسمته وأخلاقه، قبل أن ينطق بلسانه، أي تتوافق فيه الفصاحتان، فصاحة المعنى وفصاحة المبنى..
وإذا كان هذا التدين متشدداً ناتجاً إما من ردة فعل أو من فهم آحادي لقواعد عامة أو من طبيعة الصراع المحتدم أو من الكم الهائل من الترسبات النفسية، والتي ساعد في تكاثرها وتناميها وتسممها بعض الولاة والعلماء، فإن هذا التدين لا ينتج إلا مجتمعا كارها لنفسه قبل أن يكره غيره ومحبا للدمار، فتحدث التشققات في المجتمع، وتضطرم النار وقد لا ترى نتائجها إلا في أوقات التفلتات الأمنية أو الكروب العظيمة المهددة لكيان الأمة .. بل إن هذه النظرة التشاؤمية القاتلة قد تحلو لكثير من أهل العقل والنظر؛ لشدة الإحباط الذي يواجهونه أو يواجهه غيرهم، زيادة على ما جبلت عليه نفوسنا العربية من حب للثورة والاصطدام، حتى قيل من لم يثر أو يفكر بالثورة فليس عربياً، ولعل هذا أحد الأسباب الرئيسية في إبعاد العرب من قصور بني العباس، حتى قال صاحب الدعوة إبراهيم بن محمد بن علي في خطاب أرسله لأبي مسلم : "إن استطعت ألا تدع بخراسان لساناً عربياً فافعل، وأيما غلام بلغ خمسة أشبار تتهمه فاقتله"!
ولكن تبقى هذه الحقائق مجرد نظرات ونظريات تؤلف فيها الكتب وتكثر فيها الكلمات ما دامت الدولة قوية جبارة تقتل لمجرد الظن ولا تتسامح في تمزيق هيبتها وتفريق صفها، فإذا ما ضعفت وأصبح حاكمها مجرد صورة يتلاعب به من هم دونه، وكثرت الفتن ولم تجد قامعًا لا من العلماء ولا من الأمراء فإن تلك النظريات تتحول إلى حقيقة تدب على الأرض ولا يكون ريها ولا امتداد حياتها الا انهارا من الدماء الزاكيات مختلطة بدماء منتنة ملوثة، ولكن ما بقاء العمر بعد ذهاب من ذهب وتمزيق ما تمزق؟.
وهنا يأتي دور العلماء الربانيين العارفين بدينهم وبواقعهم والمعتبرين بالتاريخ القديم والحديث، خاصة فيما يحصل أيام الفتن ..يأتي دورهم في وجوب التلاحم مع الأمراء وتبصيرهم بعواقب المضي قدما في الطريق المفزع، منتبهين إلى أمر ذي أهمية بالغة، وهو أن القرب منهم والصدق في نصرتهم - ظالمين ومظلومين- لا يعني ذوبان شخصيتهم، ولا التعذير لهم ولا التسامح في كثير من أقوالهم وأفعالهم، والحرص على إيجاد المخارج لهم، فيعود العالم مجرد كوافير في قصر الملك يعمل على التزيين والتحسين..
ويأتي دور العلماء في سعة صدورهم، وتقبلهم للشباب وفتح بيوتهم لهم باشين في وجهوهم، مقدرين لنظراتهم وآرائهم مع معالجة الخطأ بالصبر والتؤده والأسلوب الرقيق، فهم أجساد لها مشاعر تحس بالصدق والحب وقادرة على مبادلة هذه المشاعر بأمثالها، وليس من الصعوبة بمكان أن تكسب قلباً بالإحسان وجميل الحديث، وكل ما كان ممكنا بوجه من الوجوه، فهو موجود بصورة من الصور...(/1)
أيها الأمراء!! أيها العلماء لقد اجتمع أمر الناس واستحصد وبان ماكان مستتراً، وما كنا ندفعه بالظن والأماني، وكشر من كنا نظنه صديقا عن ناب العدو القاتل .. فلنسمح لعقولنا أن تفكر ولو مرة واحدة كما ينبغي أن تفكر العقول، وأن تنظر إلى الواقع كما هو دون استخدام مصغرات لا ترينا الصورة على حقيقتها، ولا تعطينا التصور الحقيقي لحدودها ..
أيها الأمراء .. أيها العلماء، أتعرفون أين مكمن القوة في الأمة والذي يكسبها المهابة في قلوب أعدائها : إنه الشعب ... نعم إنه الشعب، فمتى ما كان شعبًا مثقفًا من الناحية السياسية، ومحصنا من الناحية العقدية ومسرورًا من الناحية الاجتماعية وذا علاقة قوية بحكامه، يقول لهم ما يعتقد، ويقولون له ما يعتقدون، فإنه يكون مجتمعاً فاعلاً قوياً قادرًا على تحقيق رغبات الآخرين..
إن الشعب يصدق عليه أنه الشناقة التي إن لم تلتف على رقبة المجرم الصحيح، فإنها - وإن طال الزمن- ستلتف على رقبة فاتلها ..
لقد كان في التاريخ عبرة ومنهاج ولازال، فاستمدوا منه سراج حياتكم .. والله يقول الحق ويحكم العدل، وهو ولي المؤمنين يوم يخذلهم الأقربون ومن كان الله وليه فالنصر حليفه، وليس عليه إلا معاركة دقات الزمن !!
* كاتب وأديب سعودي(/2)
سراجك يُزهر
________________________________________
إن سراجك اخى الداعيه لايزال ينير لك الظلمة ولكن ربما قل شعاعه فى ساعة ضعف وفتور ولكن سرعان ما تراه يزهر مرةً أخرى لأن أصل الإيمان ومحبة الله ورسوله أرسخ فيه من أصول الشهوات. وذلك ما قرره الصحابي الجليل حذيفه بن اليمان حينما قال: (( إن في قلب المؤمن سراج يزهر)).
فهو يزهر كما يقول أي: يتألق ويسطع سناه . فالله الله فى إصلاح القلوب فجدد التوبة مع رب العباد وأعلم ((إن من علامات موت القلب عدم الحزن على ما فاتك من الموافقات وترك الندم على ما فعلته من وجود الزلات)). * ابن عطاء الله
يقول ابن القيم رحمه الله: ((فالطالب الصادق في طلبه كلما خرب شيء من ذاته جعله عمارة لقلبه وروحه. وكلما نقص شيء من دنياه جعله زيادة في أخرته. وكلما منع شئ من لذات دنياه: جعله زيادة فى لذات أخرته وكلما ناله هم أو حزن أو غم جعله في أفراح أخرته)).
ونحن فى دعوة ربانية مستمدة قوتها من رب الأرباب فيجب أن تكون أرواح دعاتها على مستوى دعوتهم السماوية. يقول الإستاد محمد أحمد الراشد: (( فدعوة الإسلام اليوم لاتعتلى حتى يذكى دعاتها شعلهم بالليل ولا تشرق أنوارها ويتحقق نصرها مالم تلهج ألسنة دعاتها من قادتها وجنودها بقول {لاإله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} )).
إن ما أقوله ليس بجديد ولكنها وصية الإمام البنا رحمه الله وهو يخاطب الدعاة فيقول: ((دقائق الليل غالية فلا ترخصوها بالغفلة)).
أعجزنا أخي الحبيب أن نعيد السمت الأول أم أحببنا التساهل والتسيب والكسل .، إن انتصار الدعوة لا يكون بكثرة المنشورات وبالحماس فى الكلمات وتضييع اوقاتنا بالمناقشات بل بتوبة نصوح ودعاءٍ من قلب لحوح فمتى ما صفت القلوب كان الحل لورطتنا الحاضرة التي سببها الغفلة المتواصلة.
أخي يا من رابط على ثغر الدعوة نريد من سراجك أن يسطع نوره فى الأفاق فيشرق عليك وعلى من عقدت النية على دعوتهم وذلك لا يكون إلا بالمداومة على الطاعات واجتناب المعاصي والسيئات
يقول سيدنا على رضى الله عنه: ((إن لله تعالى في أرضه آنية وهى القلوب فأحبها إليه تعالى أرقها واصفاها واصلبها ثم فسر فقال: أصلبها في الدين واصفاها في اليقين وارقها على الإخوان)).
يقول ابن عطاء الله: ((أصل كل معصية وغفله وشهوة الرضا عن النفس واصل كل طاعة ويقظة وعفة عدم الرضا منك عنها ولإن تصحب جاهلا لا يرضى عن نفسه خيرُُ لك من أن تصحب عالما يرضى عن نفسه فأي علم لعالم يرضى عن نفسه وأي جهل لجاهل لا يرضى عن نفسه)).
وكما إن للمعصية عقوبة فإن للطاعة لذة لا يدركها إلا أصحاب الطاعات الصابرين عن الشهوات والسيئات فالله يورثهم سعادة في القلب ومحبة في نفوس الخلق فتجد المؤمن يأنس بالجلسة البسيطة مع إخوانه في الله مما لا يأنس به أصحاب الملايين في لهوهم وحفلاتهم.
إن سراجك الذي يزهر هو الحصن حصينل لك ولدعوتك فكم نحن بحاجة إلى دعاة يحفظون الدعوة من الانزلاق بفراستهم الصادقة . يقول الله عز وجل: ((إن فى ذلك لآيات للمتوسمين)) قال مجاهد: للمتفرسين. ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: ((اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى)). يقول أبوالدرداء رضى الله عنه: ((المؤمن ينظر بنور الله من وراء ستر رقيق والله إنه للحق يقذفه الله في قلوبهم ويجريه على ألسنتهم)).
فلنربى أنفسنا على الطاعات حتى تزهر سرجنا ولانتبع أصحاب الهوى والشهوات فهم يريدون ان ينطفئ ذلك السراج والنور. يقول سيد قطب: ((أولى الخطوات فى الطريق أن يتميز هذا المنهج ويتفرد ولايتلقى اصحابه التوجيه من الجاهليه من حولهم حتى يظل المنهج سليماً نظيفاً إلى يأذن الله بقيادة البشرية مرةً أخرى)).
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم
________________________________________
المراجع :
1. ... إحياء علوم الدين
2. ... الحكم العطائيه
3. ... تهذيب المدارج
4. ... العوائق+ الرقائق
تأليف: عمر سالم المطوع(/1)
سرعة الضوء في القرآن الكريم [1/2]
د. محمد بن إبراهيم دودح 25/3/1427
23/04/2006
ملخص البحث
في قوله تعالى: "يُدَبّرُ الأمْرَ مِنَ السّمَآءِ إِلَى الأرْضِ ثُمّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مّمّا تَعُدّونَ" [السجدة:5] ؛ وصف لحركة أمر ما يملأ ساحة الكون الفيزيائي كله بين الأجرام من السماء إلى الأرض وإن سميناه فضاء Space وبيان أن حركته بانحناء كحركة الأعرج في مشيته، وهو وصف يتفق مع المعلوم فيزيائيا اليوم بحركة القوى الفيزيائية Physical forces في الفضاء بين الأجرام بانحناء نتيجة لتأثير الأجرام, والتعبير (إليه) في حق الذات العلية لا يعني التحيز وإنما يعني عودة الأمر كله في نهاية المطاف إلى الله تعالى الخالق المدبر وحده لا إلى سواه كما قال تعالى: "وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمْرُ كُلّهُ " [هود: 123] ، وقد اعتاد العرب منذ القدم التعبير عن المسافة بزمن قطعها فيقال مثلا المسافة بين مكة والمدينة "نصف شهر" بالجمل، ومع التقدم في الوسائل وتنامي سرعة الانتقال أصبحت نفس المسافة "نصف ساعة" بسرعة الطائرة؛ وعليه تكون "الساعة كشهر", وسرعة القوى الفيزيائية في الفراغ واحدة ويعبر عنها بقيمة سرعة الضوء في الفراغ وتعرف فيزيائيا بالثابت الكوني للحركة Universal Constant of Motion, وفي مقابل تلك القيمة الثابتة نجد قيمة ثابتة في مقام بيان سرعة قصوى يتضمنها التعبير "فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مّمّا تَعُدّونَ", والمقام قياس لما يقطع "في يوم" بتلك السرعة البالغة بمقياس سير "ألف سنة" لأن السياق يتعلق بقطع مسافة، والتعبير "كان مقداره" يعني في اللغة (كان مقياسه وحده) فلا يزيد المقياس عن هذا الحد في المسافة, واليوم الأرضي المعلوم للمخاطبين العرب والمسلمين لا يصلح أن يساوي ألف سنة من سنيهم في الزمن، وإنما في المسافة, والمسافة التي تقطع في يوم محدودة وإن قطعت بأعلى سرعة فهي لا تزيد عن مسافة ألف سنة من سنيهم المبنية على حركة القمر؛ أي بحركته حول الأرض, والتعبير "مّمّا تَعُدّونَ" وصف عائد على الألف سنة المتضمنة لحركة جسم نسبية يتعدد وصفها فيعوزها تحديد الوصف.
وفي قوله تعالى: "وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللّهُ وَعْدَهُ وَإِنّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمّا تَعُدّونَ" [الحج: 47]؛ تأكيد لمماثلة مسافة "يوم" بمسافة "ألف سنة" في مقام تصوير أمر يستعجل قوم النبي –صلى الله عليه وسلم- قدومه إنكارًا؛ مما يؤكد أنه يمضي بأقصى سرعة Uppermost speed, والتعبير "عند ربك" لا يعني في حق الذات العلية التحيز وإنما يعني وفق تدبير الله تعالى في الكون, وبذلك تقطع في مدة يوم واحد فقط نفس المسافة التي تقطع في ألف سنة نتيجة لتلك السرعة الثابتة القيمة على الدوام, ويستقيم من الناحية الفيزيائية أن يحمل ذلك الأمر القادم بأقصى سرعة فلا يحتاج معها مزيد استعجال على القوى الفيزيائية والمعبر عن سرعتها بسرعة الضوء, والسنة في عرف العرب منذ القدم مبنية على حركة القمر في 12 دورة حول الأرض, ويصلح الوصف "مّمّا تَعُدّونَ" لتمييز حركة القمر المتضمنة سياقا والتي تبنى عليها السنة، ولا يصلح أن يكون تمييزا للسنة القمرية لأنه يحدد مُختار من متعدد وهم لم يستخدموا غيرها في التقويم, وهو يعني "من الذي تحسبون وتظنون" وليست السنة محل ظن, وبذلك يشترط السياق لتعريف أقصى سرعة أن تكون حركة القمر وفق ما يحسبون ويظنون وإن كانت الحقيقة بخلافه, والمراقب للأرض لا يدرك بالعين المجردة نسبة التغير Variation Ratio في البعد أو السرعة فيظن أن مدار القمر يخلو منها، وكأن حركة القمر منسوبة للنجوم في دائرة كاملة الاستدارة Perfectly circular orbit, ولا يتبين حركة القمر مع الأرض حول الشمس إلا مراقب خارج النظام الشمسي وكأنها في نظام معزول Isolated System خالي من تأثير الشمس, ولذا بنسبة الحركة للنجوم واستبعاد نسبة التغير من القيمة الوسطية يتحقق المقياس المطلوب لبيان حد السرعة في معادلة ثابتة كلا طرفيها معزول عن التأثير الخارجي.(/1)
ويمكن عند أي نقطة على مدار ناقص الاستدارة Ellipse تحليل السرعة المدارية Orbital Velocity إلى مركبتين متعامدتين إحداهما عمودية على القطر وتسمى السرعة الزاوية Angular Speed وقيمتها ثابتة في كل النقاط على المدار والثانية تسمى السرعة القطرية Radial speed وهي المسئولة عن نسبة التغير وتختلف قيمتها من نقطة لأخرى (Zeilik and Smith, Introductory Astronomy and Astrophysics, 2nd edition., Saunders College Publishing - 1987, Philadelphia, p17), والسرعة الثابتة القيمة تسمى أيضا السرعة المماسية Tangential Velocity لأنها المسئولة عن الحركة الأمامية, وفي حالة القمر تكافئ نسبتها تماما نسبة مركبة السرعة الوسطية في الاتجاه الأصلي بعد دورة: 0.8915725423 (حوالي 0.89), ولذا نسبة التغير في السرعة حوالي 0.11 (Encyclopedia Britannica), ويسمى اليوم الأرضي بالنسبة للنجوم باليوم النجمي Sidereal day وطوله 86164.09966 ثانية, ويسمى الشهر بالنسبة للنجوم بالشهر النجمي وطوله 27.32166088 يوما, وقيمة السرعة الوسطية للقمر حوالي 1.023 كم\ثانية (Laros Astronomy, p.142), والقيمة 1.022794272 (حوالي 1.023) كم\ثانية تجعل قيمة مسافة دورة في النظام المعزول: 2.152612269 مليون كم, وتجعل المسافة المقطوعة في 12000 دورة: 25.831347230 بليون كم , وبالتالي تكون قيمة السرعة القصوى (مسافة 12000 مدار\يوم): 299792.458 كم\ثانية, وهي نفس القيمة تماما في الفيزياء (موسوعة أكسفورد ص316).
السرعة الكونية الحدية القصوى في القرآن = مسافة ألف سنة قمرية\يوم (في النظام الأرض قمري المعزول)
= 25.831347230 بليون كم\86164.09966 ثانية
= 299792.458 كم\ثانية (وهي نفس القيمة تماما في الفيزياء).
وفي تاريخ الوحي ما يؤيد أن تعبير "يوما واحدا عند الرب كألف سنة" يعني: "سرعة مجيء يوم الرب" 2 بطرس 3\2-14, وهي أقصى سرعة في الكون كله حيث يقع الهلاك بغتة لا يسبقه نذير؛ ولذا وفق تعبير الكتاب: "سيأتي كلص في الليل يوم الرب الذي فيه تزول السماوات بضجيج وتنحل العناصر محترقة وتحترق الأرض والمصنوعات التي فيها" 2 بطرس 3\2-14, والكون كله بسمواته وأرضه قائم بأمر الله (كن) منذ بدء الخلق: "السماوات كانت منذ القديم والأرض بكلمة الله قائمة" 2 بطرس 3\2-14, فيرجع الكون كله إلى مادة بناء أساسية Essential building matter واحدة وإن تباينت اليوم أشكالها وسرعة محدودة مقدرة واحدة لا تتجاوزها قوة وإن كانت هائلة لأن كل شيء وجد بأمر واحد هو كلمة الله الواحد (كن), ووحدة السرعة الحدية للانتقال في الكون وثباتها مظهر في الكتاب للتقدير وسرمدية الخالق ووحدانيته لذا قال: "من قبل أن توجد الجبال أو أبدأت الأرض والمسكونة منذ الأزل إلى الأبد أنت الله.. لأن ألف سنة في عينيك مثل يوم"؛ وإن بالغ الكاتب فنقض ثبات التقدير بقوله "لأن ألف سنة في عينيك مثل يوم أمس بعدما عبر وكهزيع من الليل" المزامير 90\2-4, وفي الكتاب أمر الله قد أتى وقوى الدمار تقترب مسرعة: "ولولوا لأن يوم الرب قريب قادم كخراب من القادر على كل شيء" إِشَعْيَاء 13\6, "ليرتعد جميع سكان الأرض لأن يوم الرب قادم" يوئيل 2\1, "كلص في الليل هكذا يجيء لأنه حينما يقولون سلام وأمان حينئذ يفاجئهم هلاك بغتةً كالمخاض للحبلى فلا ينجون" 1تسالونيكي 5\2و3, "قريب يوم الرب العظيم قريب وسريع جدا" صفنيا 1\14.
والتعبير (مما تعدون) الذي تفرد به القرآن هو "مفتاح القياس", وهو يجعل حركة القمر حول الأرض كمقياس للمسافة في نظام معزول ويقيم معادلة ثابتة تؤيد وحدة الأجرام في الأصل والنظام, وثبات التقدير في القرآن وتفرده بتكميل العلاقة يدفع شبهة النقل عما سبق, ألهذا قال النبي عيسى –عليه السلام- يوما ما لأتباعه: "إن لي أمورا كثيرة أيضا لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل بكل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم" يوحنا 16\12-15, وقال لقومه: "أما قرأتم قط في الكتب الحجر الذي رفضه البناءون هو قد صار رأس الزاوية من قبل الرب كان هذا وهو عجيب في أعيننا لذلك أقول لكم إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره ومن سقط على هذا الحجر يترضض ومن سقط هو عليه يسحقه"! متى 21\42-44, ولا تبعد تلك الغلبة والتكميل وجمع ميراث النبوات في وصف النبي عيسى – عليه السلام- للنبوة بعده التي يكتمل بها البناء عن غلبة القرآن والتكميل وجمع ميراث النبوات في قوله تعالى: "وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ" [المائدة 48] .
التمهيد العلمي(/2)
لم يقدم الدليل الأول على تحرك الضوء بسرعة غير لحظية إلا عام 1676 عندما نجح الفلكي أولاس رومر Olas Roemer للمرة الأولى في التاريخ من قياسها عن طريق ملاحظة وجود فارق زمني في تأخر ظهور أقمار كوكب المشتري عندما تكون الأرض في الجهة الأبعد منه خلال دورتها حول الشمس, وبمعرفة طول القطر الأكبر لمدار الأرض ومدة التأخر وفق الأجهزة المتاحة في القرن السابع عشر كانت النتيجة واسعة التقريب حوالي 227 ألف كم\ ثانية, ولكن أمكن تقديم الدليل الأول على أن سرعة الضوء محدودة وإن كانت هائلة, وبعد حوالي نصف قرن حصل برادلي عام 1728 على نتيجة مقاربة عن طريق قياس فلكي آخر, ولم تبدأ القياسات الدقيقة إلا في منتصف القرن التاسع عشر داخل المعمل, وفي القرن العشرين استخدمت في القياس تقنيات أكثر دقة ومع استخدام الليزر بلغت الدقة إلى حد أن الخطأ لا يتجاوز أجزاء قليلة من البليون, وأخيرا بعد جهود استمرت حوالي ثلاثة قرون أمكن عام 1983 في مؤتمر القياسات في باريس تعريف المتر دوليا بالزمن اللازم ليقطعه الضوء (0.000000003335640952 ثانية) بناء على قيمة سرعة الضوء في الفراغ وهي: 299792.458 (حوالي 300 ألف) كم\ثانية(1).
والكون فيزيائيا بناء واحد شديد الترابط ويتكون من لبنات معمارية أساسية واحدة تشيد هيكل الذرات وحشود النجوم والمجرات وقوى Forces تسري بينهن عاجلة كالملاط, وتحاول الفيزياء اليوم إثبات أن كل القوى ولبنات المواد ترجع إلى واحدة لم يتبق لوصفها سوى الحركة في عجل كلمح الضوء بالبصر هي أساس كل البناء, والنتيجة التي تؤيدها كافة القياسات العملية هي أن قيمة الحد الأعلى لسرعة القوى في الفراغ Vacuum ثابتة, وسرعة الضوء في الفراغ هي نفس سرعة كل أشكال الطيف مثل الأشعة فوق البنفسجية و الأشعة تحت الحمراء وموجات الراديو والتلفزيون ومن الجائز أيضا موجات الجاذبية, ويعبر فيزيائيا عن سرعة القوى الفيزيائية بسرعة الضوء باعتباره الجزء المرئي في الطيف الكهرومغناطيسي ويستوي في ذلك ضوء شمعة أو ومضات نجم, والفرضيات النظرية باختلاف سرعة الضوء عند نشأة الكون أو عند نهايته لا تنقض القياسات العملية حاليا ولا تنقضها بالمثل فرضية الجسيمات الأسرع من الضوء (التاكيونات Tachyons ) أو الأجسام سالبة الكتلة لو ثبتت, وسرعة الضوء في جو الأرض دون الحد الأعلى قليلا أما سرعته في الفراغ فلا تتجاوزها قوة ولا تبلغها مادة.
ويقول الفيزيائي ستيفن هاوكنج Stephen Hawking: "تختلف سرعة الضوء عن سرعة أي شيء آخر, فلا يمكن وصف سرعة رصاصة بندقية أو سرعة القمر أو أي سرعة كوكب إلا بالنسبة إلى شيء ما آخر, بينما لا تنسب سرعة الضوء إلى أي شيء آخر, إنها قيمة ثابتة مطلقة Absolute Constant"(2), وقيمة سرعة الضوء في الفراغ والمعلنة دوليا منذ عام 1983 في مؤتمر باريس للقياسات هي: 299792.458 (حوالي 300 ألف) كيلومتر في الثانية(3), ويمكن التعبير عن تلك القيمة بأي وحدات قياس أخرى, وإن شئت استخدام وحدات فلكية غير اصطلاحية يشترك فيها جميع أهل الأرض فاليوم هو أدنى وحدة للتعبير عن زمن دورة الأرض حول نفسها أمام الشمس, وإن شئت الدقة فطوله قياسا على نجم بعيد ثابت 86164.09966 ثانية ويسمى باليوم النجمي Sidereal Day بينما تبلغ الفترة بين شروقين متتاليين 86400 ثانية وتسمى باليوم الاقتراني Synodic Day, والزيادة الظاهرية (حوالي أربع دقائق) ناجمة عن حركة الأرض حول الشمس أثناء حركتها حول نفسها.
وقياسا على نجم بعيد تبلغ المسافة التي يقطعها الضوء في يوم 25.83134723 بليون كيلومتر, وهي قيمة لا تكفي المسافات المحدودة على الأرض للتعبير عنها إلا باستخدام مسافات تقطعها أجرام فلكية, والقمر أقرب الأجرام وعلى حركته في 12 دورة تتابع الحج عند العرب وساد تقويم السنة, ولكن حركته نسبية يتباين وصفها تبعا للراصد ونرصدها فلكيا أثناء حركتنا مع الأرض حول الشمس, ولذا إن شئت الدقة يجب نسبة حركته كذلك إلى نجم بعيد وكأن الأرض ثابتة لا تدور حول الشمس كما يعدها أهلها, وحينئذ ستذهلك مفاجأة ادخرها القرآن بتأكيده في مقام بيان سرعة قصوى ذات قيمة كونية ثابتة أن يوما كألف سنة, لأن سرعة القوى جميعا واحدة ذات قيمة كونية ثابتة وما تقطعه في يوم يماثل تماما في دقة مذهلة ما يقطعه القمر في ألف سنة باعتبار ما يعدون؛ أي كما لو كانت الأرض ثابتة لا تدور حول الشمس.
التحليل الدلالي(/3)
ورد قياس في القرآن الكريم أحد طرفيه (يوم) والآخر (ألف سنة) في سياق الإنذار باقتراب نهاية الكون ودمار الأرض وهلاك أهلها بعذاب قادم بسرعة قصوى لا تحتاج مزيد استعجال؛ يقول تعالى: "وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللّهُ وَعْدَهُ وَإِنّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمّا تَعُدّونَ" الحج 47، والأصل حمل العدد على ظاهر دلالته الإحصائية لا على مجرد التكثير أو التقليل إلا بقرينة صارفة, وكما يمكن حمل الإنذار على تقارب أطراف الكون تُحمل الألف سنة على مسافة السير في اليوم بيانًا لحد سرعة القوى المعبر عنها بسرعة الضوء, وأما التعبير (عند ربك) وما يماثله في القرآن فلا يعني التحيز وإنما يجعله القياس هنا بمعنى (وفق تقديره تعالى في الكون).
وفي نفس سياق الإنذار بدمار الأرض وهلاك أهلها مع تقارب أطراف الكون وإن بدا حده بعيدا وردت نفس القيم في قياس أكبر يُمكن حمله على أقصى بعد؛ يقول تعالى: "سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ. لّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ. مّنَ اللّهِ ذِي الْمَعَارِجِ. تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ. فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً. إِنّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً. وَنَرَاهُ قَرِيباً. يَوْمَ تَكُونُ السّمَآءُ كَالْمُهْلِ. وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ. وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيما" المعارج 1-10، و(المعارج) جمع لاسم المكان (مَعْرَج) كأدق وصف للآفاق الممتدة حيث تسري القوى بانحناء كمشية الأعرج, والاكتشاف بأن مسارات القوى منحنية دفع الفيزيائيين لإطلاق تعبير الكون المنحني Curved Universe, وفي اللغة: "تعارج حاكى مشية الأعرج وعرَّجه ميَّله وتعرَّج مال والتعاريج المنحنيات والعرجون العذق المعوج"(4), والملائكة والروح رسل هداية لا تنقطع عن الإبلاغ إلى أن يعود كل شيء إلى الله لا سواه بيانا لوحدانيته تعالى وتفرده, وهم حضور في قياس مسافة لا يقطعها جسم مادي محدود السرعة في كون متغير الأبعاد مما يعني أنه عامر بالساجدين, قال جوهري: "أخذ يستأنف مبينا ارتفاع تلك الدرجات.. فليس المراد المدة بل بعد المدى.. وقدم الملائكة لأنهم في عالم الأرواح.. العالم المبرأ عن المادة (لأنه).. لا يُرتقى إلى تلك المعارج إلا بالكشف العلمي أو الخروج عن عالم المادة"(5), وقال البيضاوي: "استئناف لبيان ارتفاع تلك المعارج وبعد مداها"(6), وقال البغوي: "المسافة من الأرض إلى (منتهى) السماء"(7).. (يعني) "إلى منتهى أمر الله تعالى"(8), وقال الألوسي: "الكلام بيان لغاية ارتفاع تلك المعارج وبعد مداها.. والمراد أنها في غاية البعد والارتفاع"(9).. و"العروج في الدنيا.. روِي (هذا) عن ابن إسحاق ومنذر بن سعيد ومجاهد وجماعة, وهو رواية عن ابن عباس أيضا"(10).
وتُقاس الأبعاد فلكيا بوحدة الزمن المناسبة وأقصى سرعة, فنقول يبعد القمر حوالي ثانية ضوئية وتبعد الشمس ثمان دقائق ويبعد أقرب نجم 4.3 سنة, فإذا كانت القيمة (ألف سنة في يوم) تعبيرًا عن أقصى سرعة تكون القيمة (خمسين) في السياق تعدادا لأقصى وحدة زمن, وأكبر وحدة زمن فلكيا هي سنة الشمس وهي مدة دورتها حول مركز المجرة وقيمتها حوالي 250 مليون سنة, ولكي يقطع شعاع من الضوء المسافة إلى طرف الكون الممكن الرصد يحتاج إلى عمر الكون وقيمته حوالي 12.5 (10-15) بليون سنة(11), والعجيب أنها تساوي القيمة (خمسين) تماما بسنوات الشمس مما يؤكد أن القيمة (ألف سنة في يوم) تعبير عن أقصى سرعة في الكون.(/4)
وفي سياق بيان أن كل شيء مأمور أي قائم وفق تدبير لا تصنعه مصادفة ونظام واحد يشهد بوحدانية الخالق ورد نفس القياس بتفصيل أكثر يكشف وجود تقدير واحد ثابت يتعلق بالحد الأعلى للحركة في الكون المنظور كله, يقول تعالى: "يُدَبّرُ الأمْرَ مِنَ السّمَآءِ إِلَى الأرْضِ ثُمّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مّمّا تَعُدّونَ" السجدة 5، و(الأمر) المُدَبَّر يستقيم أن يعنى (المأمور) فيوحد كل شيء في أصل واحد ويجعل الكل منظما مقدرا, والانتقال إلى هيئة مواد الأرض ثم العودة إلى الانتقال الحر في انحناء كالأعرج يوحد القوى والمواد في البنية ويوجز قصة الكون فيزيائيا منذ بدايته, ويصور (إليه) نهايته بعودة الكل إلى الله لا إلى غيره بيانا لوحدانيته تعالى وتفرده, وتسبق الآية الكريمة مباشرة جملة آيات تحمل الدلالة على صدق القرآن الكريم وأن النبي محمد –صلى الله عليه وسلم - قد جاء إلى أمته بالمثل نذيرا: يقول تعالى: "تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رّبّ الْعَالَمِينَ. أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقّ مِن رّبّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مّآ أَتَاهُم مّن نّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ لَعَلّهُمْ يَهْتَدُونَ. اللّهُ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتّةِ أَيّامٍ ثُمّ اسْتَوَىَ عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مّن دُونِهِ مِن وَلِيّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكّرُونَ" السجدة 2-4.
وباشتراك ثلاث آيات تتأكد الدلالة على وجود حد أعلى للسرعة أو ثابت كوني للحركة تقابله في الفيزياء سرعة الضوء في الفراغ والعجيب أنها تسمى كذلك الثابت الكوني للحركة Universal constant of motion, والتشبيه "وَإِنّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمّا تَعُدّونَ" يُمكن حمله على أن ما تقطعه القوى في يوم لا يتجاوز مسافة ألف سنة بمقياس ما تُبنى على حركته السنة وفق ما يعدون لأن الأصل أن يكون المشبه به الأقوى في وجه الشبه, وبالمثل يدل التعبير "فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مّمّا تَعُدّونَ" على أن حد ما يُقطع في يوم لا يتجاوز مسافة ألف سنة, فيتأكد أن حد سرعة القوى المعبر عنها بسرعة الضوء لا يتجاوز في اليوم تلك المسافة.
وسنة العرب هي المعتمدة في التشريعات الإسلامية كالحج وصيام رمضان وهي مبنية على حركة القمر حول الأرض في 12 دورة, قال تعالى: "إِنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ" التوبة 36، وبهذا يتعين الجسم الذي يقطع المسافة في ألف سنة وتصبح (مما تعدون) معيارا للقياس تأكيدا لنسبية حركة الأجسام بلا حاجة لتعريف المعروف بجعلها تعريفا للسنة لأنها تعني مما تَحْسَبُون وتظنون وليست السنة عندهم محل ظن, والمعلوم فلكيا أن القمر يدور حول الشمس أثناء دورانه حول الأرض ولذا حركته بالنسبة للفراغ مركبة Compound, ولكن حركته حول الشمس لا يعاينها إلا مراقب خارج النظام ولذا يعدون الأرض ساكنة والقمر يدور حولها في دائرة كاملة الاستدارة ولا تلحظ العين المجردة نسبة تغير سرعته, وبهذا الاعتبار يتحقق فيزيائيا النظام المعزول.
وهكذا يتفق التعبير المذهل "مّمّا تَعُدّونَ " فيزيائيا مع نسبية حركة الأجسام واختلاف وصفها تبعا لموقع الراصد لأن التعبير يقتضى التعيين لمتعدد, ولا يصح رياضيا قياس القيمة المطلقة للحركة بحركة نسبية غير ثابتة لجسمين تتغير باطراد إلا في النظام المعزول حيث تصبح الحركة مجردة والعلاقة ثابتة منذ بداية تكون نظام حركة الجسمين؛ والتعبير يجعل حركة القمر حول الأرض في نظام معزول لأن حركتيهما حول الشمس لا يعاينها إلا راصد خارج النظام, والراصد من الأرض يعد حركة القمر بمجرد النظر دائرة كاملة الاستدارة غير مدرك لنسبة تغير سرعته, وبهذا توفرت كل العناصر اللازمة لقياس حركة القوى بحركة جسمين وصيغت علاقة في نظام معزول كما هي كافة قوانين الحركة, فتأمل كيف تضمن القياس الدلالة بلفظ سنة على القمر الذي يبنى قوم النبي محمد عليه الصلاة والسلام وأتباعه على حركته السنة, وهو فلكيا أقرب الجيران ويتحرك بانتظام ومعرفتنا به أكثر من بقية الأجرام وحركته الفلكية هي الأنسب لوصف سرعة لا تناسبها مسافة على الأرض, وتأمل الدقة في تقييد حركة نسبية وفق ما يعدون مما يجعل القياس في نظام معزول!.
حد السرعة في الكون الفيزيائي = مسافة ألف سنة قمرية\يوم (في النظام المعزول في أي وقت منذ النشأة).
تفصيل الجانب الرياضي(/5)
يختلف وصف سرعة أي جسم تبعا لحركة الراصد أو نقطة الرصد ولذا توصف بأنها نسبية Relative بخلاف سرعة الضوء فإنها مطلقة Absolute قيمتها ثابتة لا تختلف مهما كانت قيمة أو اتجاه حركة الراصد, وفي أي نظام معزول Isolated System حركيا عن التأثيرات الخارجية لجسمين يدور أحدهما حول الآخر يمكن وصف سرعة الجسم الطرفي كقوة معزولة عن أي تأثير بأنها مُتَّجَه Vector لأنها ثابتة القيمة بدون نسبة تغير وثابتة الاتجاه بالنسبة للفراغ بعد كل دورة ولذا يكون المدار كامل الاستدارة Perfectly circular orbit.
وفي حالة دوران التابع مع المتبوع ليقطع زاوية (?) حول نجم يكتسب نسبة إضافية إلى حركته الأساسية بنسبة حركته إلى الفراغ قياسا على نجم بعيد ثابت, وتنعكس زيادة التسارع Acceleration إلى نسبة تغير في سرعته وبالتالي تصبح سرعته وسطية (V) ويصبح مداره حول المتبوع ناقص الاستدارة Ellipse بنفس النسبة وكأن اتجاهه قد تغير على مداره الأصلي في النظام المعزول بنفس الزاوية, ويعبر عن مقدار نقصان الاستدارة بقيمة الانحراف عن الدائرة Eccentricity (e) وهي نصف نسبة التغير (2e), ولذا تتعين سرعة التابع في النظام المعزول باستبعاد نسبة التغير أو بتعيين قيمة مركبة السرعة الوسطية في الاتجاه الأصلي بعد دورة ( Vجتا?).
وحركة القمر حولنا لا تُرصد من أرض ساكنة كما يعدها أهلها وكأنه بالنسبة إلى الفراغ لا يتحرك حول الشمس وإلا كان مداره كامل الاستدارة وقيمة سرعته غير وسطية, ولكن القمر يقطع كل دورة حول الأرض زاوية ? حول الشمس ولذا يوصف مداره بأنه ناقص الاستدارة وأن سرعته وسطية غير ثابتة وتعاني من نسبة تغير, والحاصل أن حركته المرصودة فلكيا من الأرض هي بالنسبة للفراغ حصيلة حركته حول الأرض وحركته حول الشمس, وكأي تابع يدور حول متبوع وحول نجم يمكن تعيين النسبة الثابتة من السرعة الوسطية للقمر باعتبار سكون حركته مع الأرض حول الشمس بتعيين قيمة مركبة السرعة كمتجه في الاتجاه الأصلي قياسا على نجم بعيد ثابت.
يقول الفيزيائيان الفلكيان مايكل زيليك Michael Zeilik (جامعة نيو ميكسيكو) وإليسك سميث Elske Smith (جامعة فيرجينيا): "يمكن عند أي نقطة على المدار الناقص الاستدارة تحليل السرعة المدارية Orbital Velocity إلى مركبتين متعامدتين؛ إحداهما عمودية على القطر وتسمى بالسرعة المماسية Angular Speed وقيمتها ثابتة في كل نقاط المدار, والثانية في اتجاه القطر وتسمى بالقطرية Radial speed وتختلف قيمتها من نقطة لأخرى"(12), والسرعة الوسطية Vإذن حصيلة النسبة الثابتة ( Vجتا?) مع نسبة إضافية ناتجة عن السرعة القطرية, ولذا يمكن تعيين قيمة السرعة في نظام معزول لجسمين Isolated two-bodies system باستبعاد نسبة التغير (2e V) (13) من القيمة الوسطية فتتبقى النسبة الثابتة أو بتعيين قيمة مركبتها في الاتجاه الأصلي بعد دورة ( Vجتا?) (14).
وتضيف الأرض بالنسبة لنجم بعيد كل دورة لها حول الشمس دورة كاملة حول نفسها: (سنة\يوم اقتراني) = (سنة\يوم نجمي) - 1, ولذا اليوم الاقتراني 24 ساعة والنجمي 86164.09966 ثانية حاليا, ويضيف القمر بالنسبة لنجم كل دورة مع الأرض حول الشمس دورة حول الأرض: (سنة\شهر اقتراني) = (سنة\شهر نجمي)-1, ولذا الشهر الاقتراني 29.5305881 يوما والشهر النجمي 27.32166088 يوما حاليا, والمعلوم أن السنة النجمية حاليا= 365.25636 يوما, ولذا يمكن حساب الزاوية التي يضيفها بالنسبة لنجم بعيد كل دورة حول الأرض: ? = (شهر نجمي\سنة نجمية)× 360 = 26.92847817 (حوالي 27) درجة, ونسبة مركبة السرعة الوسطية للقمر في الاتجاه الأصلي بعد دورة كاملة (جتا?) = 0.8915725423, ونسبة التغير في السرعة 2e = (1- جتا?) = 0.1084274577, والمعلوم فلكيا أن قيمة السرعة الوسطية للقمر حوالي 1.023 كم\ثانية(15), والقيمة 1.022794272 (حوالي 1.023) كم\ثانية تحقق تماما القيمة الفيزيائية المعروفة منذ عام 1983م لسرعة الضوء في الفراغ المعبرة عن سرعة كافة القوى وفق العلاقة المفترضة في القرآن؛ المسافة الفلكية المجردة التي يقطعها القمر في ألف سنة = (1.022794272 ×27.32166088 ×86400) ×(1000×12) ×(جتا ?: 0.8915725423) كم = 25.83134723 بليون كم في الوقت الحالي, إذن:
حد السرعة في الكون الفيزيائي
=
مسافة ألف سنة قمرية\يوم
=
25.83134723 بليون كم\86164.09966 ثانية
=
299792.458 (حوالي 300 ألف) كم\ثانية؛
وهي نفس قيمة سرعة الضوء في الفيزياء:
299792.458 (حوالي 300 ألف) كم\ثانية.
التحقق من النتيجة(/6)
لم تبلغ سرعة الضوء في الفراغ تلك القيمة المتناهية الدقة إلا بعد جهود مضنية, وأما القيمة التقريبية المستخدمة عمليا في القياسات الفلكية فهي 300 ألف كم\ثانية, وبالمثل يكفي التقريب فلكيا لتعيين قيم مدار القمر, ورغم تفاوت درجة التقريب قليلا من مرجع إلى آخر تتحقق المماثلة في العلاقة المفترضة في القرآن الكريم, وتدفع تلك المماثلة إلى المزيد من التدقيق في تعيين مدار القمر وفق العلاقات المعلومة للشكل الناقص الاستدارة.
Eccentricity (deviation from circle) e = ae/a; Variation ratio of velocity (V) or distance(R):
2e; Moon’s near distance (perigee) P = a (1 - e); Moon’s far distance (apogee) A = a (1+e);
Semi-major axis of the lunar orbit a = (A + P)/2 = 2R/ {1 + (1 - e²)0.5}; Semi-minor axis b =
{a² - (ae) ²}0.5; Mean distance R = (a + b)/2; orbit length L = 2? R = V × Revolution period T';
Mean velocity V = 2? R/T'; angle ? = 360 (T'/Y'), where Y' is the revolution period of the earth.
Sidereal year Y: 365 days, 6 hours, 9 minutes, 9.5 seconds (31558149.5 seconds = 365.25636 days). Sidereal month T: 27 days, 7 hours, 43 minutes, 11.5 seconds (2360591.5 seconds = 27.32166088 days): (sidereal year/synodic month) + 1 = (sidereal year/sidereal month). Sidereal day t: 86164.09966 seconds: (sidereal year/synodic day) + 1 = (sidereal year/sidereal day). The Deviation angle of the earth-moon system in relation to vacuum (due to motion around sun every sidereal month) ?: 26.92847817 [? = 360T/Y)], Cosine ?: 0.891572542289913397, 2e = 1 - cosine ? = 0.108427457710086603, e = 0.0542137288550433015 (about 0.055), ? = 3.1415926535898.
وباستخدام أدق معلومات علمية متاحة كانت النتائج على الوجه التالي: قيمة الانحراف عن الدائرة (e) = 0.054213728855043015 (حوالي 0.055), ونصف المحور الأكبر = 384546.3752 كم, ومتوسط بعد القمر عن الأرض (المسافة بين المركزين) = 384263.6095 كم, وأقرب مسافة = 363698.6823 كم, وأبعد مسافة = 405394.0681 كم, وهذه النتائج المستمدة من تلك العلاقة في القرآن تماثل القيم التي اعتمدها مايكل زيليك وإليسك سميث في كتابهما حول الفلك والفيزياء الفلكية باعتماد القيمة التقريبية للانحراف عن الدائرة (حوالي 0.055) والقيمة 384405 كم لنصف المحور الأكبر, وهي على النحو التالي: أقرب مسافة للقمر = 363263 كم, وأبعد مسافة = 405547 كم(16), وهذا التماثل يضيف مزيدا من الاحترام لتلك العلاقة العجيبة.
________________________________________
(1) موسوعة اكسفورد ص316.
(2) Hawking’ universe, p.35
(3) موسوعة اكسفورد ص316.
(4) المعجم الوسيط 2\591.
(5) تفسير الجواهر لطنطاوي جوهري ج24ص260.
(6) تفسير البيضاوي ج5ص387.
(7) تفسير البغوي ج3ص498.
(8) تفسير البغوي ج4ص392.
(9) تفسير الألوسي ج29ص58.
(10) تفسير الألوسي ج29ص57.
(11) الكون لستيفن هاوكنج ص55, والانفجار الكبير لسيلك ص75.
(12) Zeilik and Smith, Introductory Astronomy and Astrophysics, 2nd ed., Saunders College Publishing - 1987, Philadelphia, p17.
(13) د. محمد دودح, البحث الأول حول سرعة الضوء في القرآن الكريم والذي أقرته هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة بمكة المكرمة وقدم في المؤتمر العالمي بموسكو عام 1993 بمشاركة د فوزي زروق (جامعة اكسفورد) د محجوب عبيد طه (جامعة الرياض) د منصور حسب النبي (جامعة عين شمس).
(14) د. منصور حسب النبي, الكون ص369.
(15) Laros Astronomy, p.142
(16) Zeilik and Smith, Introductory Astronomy and Astrophysics, 2nd ed., Saunders College Publishing - 1987, Philadelphia,, p53
سرعة الضوء في القرآن الكريم [2/2]
د. محمد بن إبراهيم دودح 28/3/1427
26/04/2006
فهم المفسرين(/7)
قال ابن كثير: "سأل رجل ابن عباس عن (يوم كان مقداره ألف سنة) فقال له ابن عباس: (فما يوم كان مقداره خمسين ألف سنة)؟ فقال له الرجل (إنما سألتك لتحدثني) فقال ابن عباس (هما يومان ذكرهما الله في كتابه الله أعلم بهما) فكره أن يقول في كتاب الله ما لا يعلم, و.. عن سعيد بن المسيب أنه كان إذا سئل عن تفسير آية من القرآن قال: (إنا لا نقول في القرآن شيئا).. كان لا يتكلم إلا في المعلوم من القرآن, و.. عن مسروق قال: (اتقوا التفسير فإنما هو الرواية عن الله), فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السلف محمولة على تحرجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم به, فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعا فلا حرج عليه ولهذا رويت عن هؤلاء وغيرهم أقوال في التفسير ولا منافاة لأنهم تكلموا فيما علموه وسكتوا عما جهلوه, وهذا هو الواجب على كل أحد فإنه كما يجب السكوت عما لا علم له به فكذلك يجب القول فيما سئل عنه مما يعلمه لقوله تعالى: "لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَه", ولِمَا جاء في الحديث.. (من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار), و.. عن عائشة قالت: (ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم -يفسر شيئا من القرآن إلا آيات تُعد علمهن إياه جبريل عليه السلام).., فإن من القرآن ما استأثر الله تعالى بعلمه ومنه ما يعلمه العلماء ومنه ما تعلمه العرب من لغاتها ومنه ما لا يُعذر أحد في جهله كما صرح بذلك ابن عباس.. قال..: (التفسير على أربعة أوجه وجه تعرفه العرب من كلامها وتفسير لا يعذر أحد بجهالته وتفسير يعلمه العلماء وتفسير لا يعلمه إلا الله)" (1).
وبدون المعلومات الفلكية والفيزيائية التي توفرت حديثا بعد جهود مضنية يصعب فهم تلك القياسات المبنية على معرفة بالخفايا حتى على أكابر المفسرين, فمنهم من تورع ومنهم من اجتهد, وقد بلغت الصعوبة إلى أن قال الألوسي في تفسير إحداها: "هذا ما قالوه في الآية الكريمة في بيان المراد منها ولا يخفى على ذي لب تكلف أكثر هذه الأقوال ومخالفته للظاهر جدا وهي بين يديك فاختر لنفسك ما يحلو.. وأقول إن الآية من المتشابه"(2), وتورع ابن عباس (رضي الله عنهما) في موطن عن الخوض في قياس لم تتضح كيفيته بعد ومع ذلك أصاب عين النبع بضربة معول موفقة فلم يبق إلا القليل ويفيض النهر عندما فسر سير الأمر بقوله: "لسرعة سيره يقطع مسيرة ألف سنة في يوم", قال القرطبي: "ذكره الزمخشري والمهدوي عن جماعة من المفسرين وهو اختيار الطبري"(3).
والقياس ثابت لأن (كان مقداره) أي: "كان حد مقياسه الذي لا يتجاوزه"(4), و(كان) في مقام يفيد الدوام كالقياس تؤكد الدوام, ومنه قوله تعالى: "وَكَانَ رَبّكَ قَدِيراً" الفرقان 54، وقوله تعالى: "وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا" الإسراء 11, وقوله تعالى: "وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا" الإسراء 27, قال الشوكاني: "(و) المراد هو دوام التدبير والنفاذ", وقال ابن عاشور: "بقطع المسافات", وقال البغوي: "مدة أيام الدنيا", وقال القرطبي: "إلى ساعة انقضاء العالم", وقال أبو حيان(5): "(و) السنة المعتبرة في هذه الشريعة هي السنة القمرية.. ؛ قال تعالى: "هُوَ الّذِي جَعَلَ الشّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَاب" يونس 5، وقال تعالى: "يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ" البقرة 189, وقال الرازي: "السنة عند العرب عبارة عن اثني عشر شهراً من الشهور القمرية.. وكان ذلك شريعة ثابتة من زمان إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.. (و) السنة معلقة بسير القمر"(6), وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي (مما يعدون) بالياء وحجتهم أن قبله "وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ".. وقرأ الباقون "تَعُدّونَ " بالتاء وحجتهم أن التاء أعم لأنه عَنَى الناس كلهم فكأنه قال.. مما تعدون أنتم وهم"(7), وفيه إعراض يؤكد التهديد تصويرا لحال المكابرين كأنهم كذبوا بالإنذار, وتخصيص الخطاب بخاتم النبيين تكريم, وهو تعيين للمقياس القائم على حركة جرم يختلف تقديرها لأنه يعني: مما "تظنون" و"تَحْسَبُون" أو "تقدرون" و"تعتقدون"(8).(/8)
والقياس عند ابن عباس هو: "مقدار سير الأمر"(9), قال قتاده: "يقول مقدار مسيره في ذلك اليوم ألف سنة"(10), وقال القرطبي: "في يوم كان مقداره في المسافة ألف سنة"(11), وقال الألوسي: "في يوم مقدار مسافة السير فيه ألف سنة", وقال الطبري: "لأن المسافة مسيرة ألف سنة", وقال الرازي: "واليوم هنا زمان", وقال الزمخشري: "(وهو) يقطع مسيرة ألف سنة في يوم واحد", وليس ما قالوه على فضلهم إلا صدى معول موفق أصاب عين النبع بقوله: "لسرعة سيره يقطع مسيرة ألف سنة في يوم", قال الألوسي مفسرا العلاقة: "وإن لم تبعد هذه السرعة.. عند من وقف على سرعة حركة الأضواء وعلم أن الله " على كل شيء قدير"(12).. وقال: "وأي مانع أن يخلق الله تعالى .. من السرعة نحو ما خلق تعالى في ضوء الشمس.. (فإن) ضوءها ليصل إلى الأرض في مدة ثمان دقائق"(13), وقال حفيده أن من النجوم: "ما لا يصل نوره إلى الأرض في مائة سنة بل أكثر مع شدة سرعة الضوء"(14).
ولفظ (الأمر) في قوله تعالى: "يُدَبّرُ الأمْرَ" يعني كل شيء لأن الكل مأمور بكلمة (كن) تجسيدا للمشيئة, قال الألوسي: "الأمر راجع إلى المراد لا إلى الإرادة.. (أي) الأشياء المرادة المكونة"(15), وقال ابن تيمية: "وفي لغة العرب التي نزل بها القرآن أن يسمى المفعول باسم المصدر فيسمى المخلوق خلقا لقوله "هذا خلق الله".. ولهذا يسمى المأمور به أمرا"(16), "والأمر الكوني كقوله..: "وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر".. فهذا أمر تقدير كوني لا أمر ديني شرعي"(17), "ولفظ الأمر يراد به.. المفعول.. كما قال تعالى: "أتى أمر الله".. فهنا المراد به المأمور به وليس المراد به أمره الذي هو كلامه"(18), "(و) عن عمران بن حصين أن أهل اليمن سألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أول هذا الأمر.. فقال (كان الله ولم يكن شيء غيره)" (19), وقولهم (جئنا لنسألك عن أول هذا الأمر) كان مرادهم خلق هذا العالم.. فهذا الأمر إشارة إلى حاضر موجود.. وهو المأمور الذي كونه الله بأمره وهذا مرادهم"(20), "(و) ألفاظ المصادر يعبر بها عن المفعول فيسمى المأمور به أمرا.. والمخلوق بالكلمة كلمة فإذا قيل في المسيح أنه كلمة الله فالمراد به أنه خُلِقَ بكلمة.. كن.. وإلا فعيسى -عليه السلام- بشر.. وكذلك إذا قيل عن المخلوق أنه أمر الله فالمراد أن الله كونه بأمره"(21), "وهذا قول سلف الأمة وأئمتها وجمهورها"(22), "وبهذا التفصيل يزول الاشتباه في مسألة الأمر"(23).
وفي معنى (إليه) قال الرازي: "ليس المراد منه المكان بل المراد انتهاء الأمور إلى مراده كقوله تعالى: "وإليه يرجع الأمر كله"(24), وقال الشوكاني: "كقول إبراهيم (عليه السلام): "إني ذاهب إلى ربي"أي إلى حيث أمرني ربي"(25).. "وذلك حين ينقطع أمر الدنيا"(26), يعني كما قال البيضاوي: "يدبر الأمر إلى قيام الساعة"(27), قال ابن عطية: "وفي القرآن منه كثير نحو قوله تعالى: "إليه يصعد الكلم الطيب" وقوله تعالى: "ففروا إلى الله" وقوله تعالى: "بل رفعه الله إليه" وقوله تعالى: "ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا", وهذا كله بريء من التحيز"(28), وقال الألوسي: "(وهذا الوجه) معنى لائق به تعالى مجامع للتنزيه مباين للتشبيه حسبما يقوله السلف في أمثاله"(29), ولا يعني بالمثل "وَإِنّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ" النِدِّية أو المكان وإنما العلم والتقدير كقوله تعالى: ]وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ[ الرعد 8, قال أبو السعود: "(يعني) كل شيء من الأشياء عنده بمقدار لا يمكن تجاوزه.. كقوله "إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ" القمر 49"(30), قال النيسابوري: "(لأنه سبحانه) موجد الزمان وليس عنده صباح ولا مساء"(31), وقال سيد قطب: "فالزمن إن هو إلا تصور بشري ناشئ من دورة أرضهم الصغيرة ولا وجود له في حساب الله تعالى المطلق"(32), وقال أبو حيان: "(و) المراد من العندية العلم"(33), وقال الألوسي: "أي في حكمه"(34), وقال الشوكاني: "وقضائه".(/9)
وفي قوله تعالى: "إِنّا كُلّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ. وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ" القمر 49و50، ونظيره مع نسبة الأمر لساعة الدمار التي لا يدرك آنيا جنودها العاجلة نحونا سوى الله قوله تعالى: "وَلِلّهِ غَيْبُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَآ أَمْرُ السّاعَةِ إِلاّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" النحل 77، واللمح وميض نجم أو برق, قال ابن فارس: "اللمح أصل يدل على لمع شيء", وقال ابن منظور: "لَمَعَ بمعنى أَضَاءَ"(35), وفي بيان وجه التشبيه بومضة الضوء قال الألوسي: "الغرض من التشبيه بيان سرعته"(36), وقال الرازي: "فاللمح بالبصر معناه (ضوء) البرق يخطف بالبصر أي يمر به سريعا وذلك في غاية السرعة", وقال أبو حيان: "لما كان أسرع الأحوال والحوادث في عقولنا هو لمح البصر ذكره.. فهو تشبيه بأعجل ما يحسه الناس"(37), وبمثلهم قال جُل المفسرين,
وباء (بالبصر) أطلقته فجعلته على أصله بينما خصته الإضافة (كلمح البصر) فجعلته في الجو فناسبها الاستدراك (أو هو أقرب) أي أسرع خارجه, قال الشوكاني: "وليس هذا من قبيل المبالغة بل هو كلام في غاية الصدق"(38).
وفي معنى قوله تعالى: "يُدَبّرُ الأمْرَ مِنَ السّمَآءِ إِلَى الأرْضِ ثُمّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ"؛ قال الألوسي: "فيه إشارة إلى أن الأمر وإن ظهر بالأشكال المختلفة والصور المتعددة أوله وآخره سواء"(39), وقال أبو السعود: "(لأنه) أمر واحد وإن تجددت آثاره"(40), وقال ابن عاشور: "(يعني قد) تطور الخلق والذات واحدة"(41), وقال ابن تيميه: "والسماوات وإن طويت وكانت كالمُهل (وهو المعدن المنصهر من شدة الالتهاب).. أصلها باق بتحويلها من حالٍ إلى حالٍ"(42), وقال الزمخشري: "كتبديل الحلقة خاتماً إذا أذيبت.. ونقلت من شكلٍ لآخر", وقال جوهري: "وتنزيل الأمر من السماء يقتضي النظر في منشأ هذا العالم فإن هذه العناصر لم تظهر في بادئ الأمر.. (لتضمنه) تنزيل الله للعوالم من حالها الأول حال البساطة والنور إلى حال الكثافة والتركيب.. (ومقتضى) رجوع الأمر إلى الله.. أن هذا العالم سائر من الكثافة إلى اللطافة كما أنه تنزل من اللطيف إلى الكثيف"(43), "(يعني) لا وجود في الأصل إلا لمادة واحدة بسيطة والقوى الطبيعية كلها صادرة بالتسلسل عن قوة أصلية واحدة وتتباين القوى إنما جوهرها في الأصل واحد وكل ما يقع أو لا يقع تحت نظرك من الوجود فهو صادر عن مادة أصلية واحدة"(44), "فهذا العالم كله أصله مادة واحدة هي الأصل لهذه الموجودات ومنها تكونت المادة والكهرباء والمغناطيسية والحرارة والضوء, فهذه كلها صفات وتنوعات في المادة الأساس.. ولا تزال المادة واحدة واختلاف المظاهر وقتي.., (وقد) خلق الله العالم من مادة واحدة ليستدلوا على وحدانيته وقدرته"(45), وأضاف: "إذن الأمر إن هو إلا تجليات ومظاهر لقدرة المحيط علماً.. طُبعت في هذا الخلاء الفسيح طبعاً ظهرت لنا.. بهيئة حركات.. وتجلى لعيوننا بهيئة نبات وحيوان وشمس"(46), "فما هذا العالم كله إلا حركات"(47), "وهكذا الزرع.. والحيوان وأجسام الناس"(48), وأتساءل مأخوذا؛ أليس بهذا نفهم قول الله تعالى: (خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ) الأنبياء 37.
واختيار (يوم) للتعبير عن مسافة يتفق مع أنه أقل وحدة زمن فلكية, ولكن العجيب أن اليوم الضوئي يتفق مع أن أبعد كوكب يتبع عالم المخاطبين أي النظام الشمسي لا يزيد بعده عن يوم ضوئي, وهو حد عالم الكواكب الأدنى أو "السماء الدنيا" في تعبير المفسرين؛ قال الشوكاني: "أراد بقوله (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ) المسافة التى بين الأرض وبين سماء الدنيا"(49), وقال الألوسي أن: "ألف سنة .. مسافة ما بين الأرض ومحدب السماء الدنيا"(50).(/10)
والتعبير (مما تعدون) يحقق المقياس المطلوب لعلاقة ثابتة ولكنه يفيد أيضا معنى الظن غير المطابق للحقيقة, ولذا فهو يتضمن الدلالة على حركة الأرض ومعها القمر حول الشمس وحركة النجوم الثوابت بخلاف ما يعدون, قال جوهري: "أرضنا (إذن) دائرة غير دائرة نحن نراها ساكنة ولكنها دائرة لا تهدأ"(51), "ومن جملة سيارات شمسنا هذه الأرض التي نحن عليها والقمر ملتزم بها ويدور عليها ومعها على الشمس"(52), إذن: "دوران الأرض حول الشمس ليس غير مخالف للقرآن فحسب بل له منه دلائل"(53), وقال الألوسي: "فيه دليل على أن الشمس متحركة.. على مركز آخر كما تتحرك الأرض عليها"(54), وأن: "للثوابت حركة"(55), وفي قوله تعالى: "لاَ الشّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ الْلّيْلُ سَابِقُ النّهَارِ وَكُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ" يس 40؛ قال القاسمي: "التنوين في لفظ (كُلٌّ) عوض عن الإضافة (للأجرام) والمعنى كل واحد من (الأجرام السماوية كالشمس والقمر) في فلك خاص به يسبح بذاته"(56), وقال ابن عاشور: "المراد تعميم هذا الحكم للشمس والقمر وجميع الأجرام وهي حقيقة علمية سبق بها القرآن"(57).
علاقة تؤيد وحدة الأجرام في الأصل والنظام
من المعلوم رياضيا أن السرعة في النظام المعزول لجسمين Isolated two-bodies system ثابتة القيمة, وإذا كان التعبير "مما تعدون" يجعل سرعة القمر حول الأرض في نظام معزول لقياس الثابت الكوني للحركة فمعنى ذلك أنه يقيم علاقة ثابتة بين سرعته أو بعده وبين فترة دوران الأرض حول نفسها في النظام المعزول, فهل يمكن أن نستنطق تلك العلاقة المفترضة عن مولد النظام لتعيننا على حل إشكاليات الفرضيات المتضاربة؟.
والعلاقة الأساسية هي: (c = 12000 V' T'/t'), حيث c سرعة الضوء, V' سرعة القمر, T' الشهر النجمي, t' اليوم النجمي, ويمكن صياغتها كالتالي: (V'T'/t' = 24.98270483), وعندما يكون بعد القمر في النظام المعزول R' = صفر فهذا يعني أنه على طرف الأرض الأولية وتكون (T' = t'), ولذا تكون سرعة دوران الأرض حول نفسها = 24.98270483 كم\ثانية, وحينئذ لا يتبقى من بعد القمر حاليا R إلا قيمة تمثل نصف قطر الأرض الأولية r = 41664.7263 كم, وبالتالي يكون زمن دورة الأرض الأولية حول نفسها = 10478.73711 ثانية, أي ما يقارب 2.5 ساعة وهي نفس القيمة المفترضة فلكيا إذا كانت النشأة بنفس الآلية.
والنسبة (r/R) هي نفس نسبة تغير السرعة (2e) ولذا يمكن بمعرفة البعد R تعيين نسبة التغير في أي وقت على طول التاريخ لأن القيمة r ثابتة, وعند التماس: (r/R = 2 e = 1 - cos. ? = 1) ولذا تنعدم مركبة سرعة القمر في الاتجاه الأصلي بعد دورة (cos. ? = صفر), ولا يتبقى حينئذ من سرعة القمر سوى مركبة السرعة الناجمة عن الحركة حول الشمس مما يعني نشأة النظام على طرفها ولذا يكون اتجاه سرعة القمر حينئذ عموديا على الأرض مماسيا للشمس (? = 90 درجة), وعلى هذا قد نشأ القمر مع الأرض مع نشأتها نفسها على طرف الشمس, ولعل هذا يفسر خصوصياته الفريدة التي جعلته يسمى بالكوكب التوأم Twin Planet.
وعند التماس مع الشمس يمكن معرفة زمن دورة الأرض Y' حول الشمس (Y' = T' 360/? = 4t'), ومن العلاقة: (سنة\يوم اقتراني) = (سنة\يوم نجمي) – 1؛ يمكن حينئذ تعيين طول اليوم الاقتراني للأرض الأولية, وقيمته حوالي 4 ساعات (13971,64948 ثانية) وهي نفس القيمة المفترضة جيولوجيا بإتباع أساليب أخرى.
والعلاقة الأساسية (2? R'/t' ×c = 12000) يمكن صياغتها كالتالي: (t' R' = 3.976120966), أي أن بعد القمر مرتبط بطول اليوم في علاقة ثابتة, فإذا كان بعد القمر وطول اليوم عند النشأة أقل فلا بد أن القمر في ابتعاد واليوم في ازدياد, وهذا معلوم فلكيا حاليا ولكن العلاقة في النظام المعزول تضيف قيمة رقمية محددة.
وبمعرفة نصف قطر الأرض عند النشأة واعتماد كتلتها M حاليا (5.9736×1024 kg.) يمكن معرفة كثافة الجسم الأم للأجرام الثلاثة (3M/4? r3): 19.7170496 كج\م3, وهي أقل بحوالي 50 مرة من كثافة الماء (1000 kg. /meter3) وأكبر بحوالي 15 مرة من كثافة الهواء عند سطح البحر (1.3 kg. /meter3) وتلك سمات سديم Nebula, ولذا يمكن الافتراض بتشكل النظام الحركي Dynamics للأرض والقمر عند تشكل سدم المجرة ذاتها منذ حوالي ضعف عمر قشرة الأرض, والقيمة (300934.1569 km.) هي الزيادة في بعد القمر منذ النشأة ولذا القيمة 8.4 بليون سنة لتشكل سدم المجرة تجعل معدل تباعده: 3.6 سم\سنة, وهي تماما نفس القيمة المعلومة فلكيا بالقياس بالليزر منذ رحلة أبوللو 11 عام 1969 ووضع عواكس على سطحه(58).(/11)
والكون إذن ليس أبدي وإنما تشكل في فترات مقدرة بلا توقف أو تردد كما لو كانت ستة أيام متلاحقة, وكالرضيع قدرت أيام حمله كذلك قدرت أحوال الأرض في يومين من الستة قبل الولادة, ومن بدء الحمل إلى البلوغ أربعة أيام, وهو نفس التمثيل في قوله تعالى: "قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ. وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ" فصلت 9و10, فإذا كانت النشأة الحقيقية حركيا للأرض ترجع إلى حوالي 8.4 بليون سنة قبل أن تعمر بالنبات الذي بدأ يطلق أكسجين الجو منذ حوالي 0.25 بليون سنة علامة على تكامل البناء؛ وإذا كان تشكيل الأرض في أربعة أيام تمثيلا يكون الكون في ستة أيام فيكون عمره الفعلي بنفس القيمة المعروفة الآن: حوالي 12.5 (10-15) بليون سنة.
وإذا كان الكون قد اكتمل منذ 0.25 بليون سنة وتطاول الزمن حتى أصبحت سنة التقويم 365.24219 يوما وبالشهور الحالية 12.368 شهرا في 8.4 بليون سنة؛ تكون السنة عند اكتمال الكون 12 شهرا مما يمنح فهما أعمق لقوله تعالى: "إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ" التوبة 36, ونظير الستة أيام يتأكد رياضيا أن عمر الكون بنفس القيمة المعروفة الآن: حوالي 12.5 (10-15) بليون سنة.
وبعد القمر عند التماس (R' = صفر) انعكاس لبعد مداره الفعلي (R'=r) فيكون متوسط بعده R = 2r, وتكون نسبة تغير سرعته (r/R = 2 e = 1 - cos. ? = 0.5), وهذا يعني أن مركبة سرعته في الاتجاه الأصلي بعد دورة والناجمة عن تأثير الأرض تماثل المركبة الناجمة عن الشمس (cos. ? = 0.5), وبهذا يكون قد نشأ في نقطة الاتزان بين الشمس والأرض عند الزاوية المركزية ? = 60 درجة, ومع تضاعف بعده تقل سرعته إلى النصف وتعكس مركبتها في الاتجاه الأصلي سرعة الهروب من الأرض (6.245676208 كم\ثانية), وبافتراض وحدة النشأة حركيا من جسم واحد متجانس؛ تتناسب سرعات الهروب مع الكتل أو أنصاف أقطارها (V1/V2= r1/r2, V13/V23= M1/M2), ولذا بمعرفة كتلة الشمس حاليا (1.99×1030 kg.) وكتلة القمر (7.35×1022 kg.) تكون قيمة سرعة الهروب من الشمس (432.963991 km. /sec.), ونصف قطرها (2888290.327 km.), وسرعة الهروب من القمر (1.441882483 km. /sec.), ونصف قطره (9618.756561 km.), وللتأكد من دقة الحساب تكون كثافة الشمس أو القمر مماثلة تماما لكثافة الأرض:
كثافة الأرض = 3×5.9736×1024/{4×3.1415926535898×(41664726.3)3} = 19.7170496 كج\م3.
كثافة الشمس = 3×1.99×1030/{4×3.1415926535898×(2888290327)3} = 19.7170496 كج\م3.
كثافة القمر = 3×7.35×1022/{4×3.1415926535898×(9618756.561)3} = 19.7170496 كج\م3.
ويمكن تعيين قيمة ثابت الجاذبية العام G عند نشأة النظام بتطبيق قانون المقذوفات (V² = 2MG/r) حيث V سرعة الهروب, M الكتلة, r نصف قطر أي جرم؛ لتبين هل هو ثابت على الدوام أم هو ثابت نسبي الآن, وللتأكد من دقة الحساب نجد قيمته واحدة بتطبيق قانون المقذوفات (سواء على الأرض أو على الشمس أو القمر): 1.36038342×10-19 km.3/kg./sec.2؛ وهي تتفق مع ما توقعه الفيزيائي بول ديراك Paul Dirac (1902-1983) بأنها أكبر في الماضي لأنها حوالي ضعف القيمة حاليا (6.67×10-20 km.3/kg./sec.2).
وهكذا يمكن لتلك العلاقة المفترضة في القرآن أن تجيب على بعض ما يحيرنا بخصوص بدايات التكوين, فعند النشأة مثلا تتساوى مدة دورة القمر حول نفسه مع مدة دورته حول الأرض كحالته الآن مما يقوي احتمال مواجهته للأرض بنفس الوجه منذ النشأة خاصة أنه بيضي الشكل Ovoid مع اتجاه المحور الأكبر نحو الأرض, ولم يتقرر نظام حركة الأرض حول الشمس والقمر حولها عند تكون قشرتها وإنما يمتد إلى عهد تكون المجرة, ولو تأملنا تلك العلاقة بين الأرض والقمر رياضيا يتضح أنها ليست إلا وجها مما يعرف بقانون ثبات العزم الزاوي Angular momentum conservation, وهو يعني أن قيمة الحركة حول مركز دوران في النظام المعزول لأي جسم كحصيلة لكتلته M وسرعته V ثابتة مهما كان بعده R من مركز الدوران (MVR= ثابت), والعلاقة المفترضة هي: (R/t = ثابت), ونتيجة لوحدة القيم عند اتصال القمر بالأرض يمكن التعبير عنها كالتالي: (R/t = VR = ثابت), وكتلة القمر في النظام المعزول ثابتة فتكون (MVR= ثابت) وهي نفس صيغة القانون, ويمكن باستخدامه تأكيد فقدان القمر أثناء تكونه لنسبة من كتلته قيمتها حوالي 16.7% من قيمة كتلته الأصلية, وهي نسبة معقولة بالنظر لتبدد كل الغلاف الغازي للقمر نتيجة لقلة كتلته مقارنة بالأرض ذات السقف المحفوظ.(/12)
ويمكن التحقق كذلك من فرضية وحدة النشأة باعتبار حركة القمر في النظام المعزول بصمة للماضي السحيق منذ تشكل المجرة ذاتها؛ لأن بعد الأرض عن الشمس باعتبار نظام حركتها معزولا ابتداءً سيظل بالمثل في علاقة ثابتة مع مدة دورة الشمس حول نفسها وفق القيمة الثابتة للسرعة الابتدائية (432.963991 km. /sec.), ومدة الدورة الاستوائية للشمس حاليا تزيد قليلا عن 25 يوما, والمذهل أن القيمة 25.12694896 يوما تحقق تماما البعد الوسطي للأرض حاليا والذي يُستخدم في القياسات باسم الوحدة الفلكية: 149597870 km., وكما ترى وحدت العلاقة بين حركة القوى والأجسام وتضمنت جملة حقائق كشفتها الأيام وكأنها رسالة مشفرة لأهل عصرنا خاطبتهم بلغة المعادلات كما يجيدون وتألقت ليدركوا الغرض كما صنعت عصا موسى عليه السلام.
فما الغرض؟
تأمل النتائج تعرف الغرض؛ وحدة مادة الأجرام في الأصل كنسيج الثوب الملتئم الذي ظل بعد فتقه هو نفس النسيج, ووحدة الأجرام حركيا في الأصل وترابطها مع بعضها في منظومات وإن تباعدت, ووحدة سرعة القوى وتوحيدها مع الأجرام في علاقة واحدة, ووحدة الصنعة دليل حاسم على وحدانية الصانع ولا شك, وقد جاء القرآن ليؤكد مبدأ التوحيد وينذر بيوم الهلاك المهيب والحساب, قال تعالى:"وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ" المائدة 48, والتأكيد يقتضي سبق الإعلام, والعجيب أن الكتب السابقة تتحدث في سياق الإنذار بدمار العالم فعلا عن سرعة مجيء يوم الرب والتي جلاها القرآن بتفاصيل هي الآن مفخرة للعلم؛ "لتذكروا الأقوال التي قالها سابقا الأنبياء القديسون.. أنه سيأتي في آخر الأيام قوم مستهزئون.. وقائلين أين هو موعد مجيئه؟.. لأن هذا يخفى عليهم.. أن السماوات كانت منذ القديم والأرض بكلمة الله قائمة.. وأما السماوات والأرض الكائنة الآن فهي مخزونة بتلك الكلمة عينها محفوظة للنار إلى يوم الدين وهلاك الناس الفجار ولكن لا يخفى عليكم هذا الشيء الواحد أيها الأحباء أن يوما واحدا عند الرب كألف سنة وألف سنة كيوم واحد لا يتباطأ الرب عن وعده.. ولكن سيأتي كلص في الليل يوم الرب الذي فيه تزول السماوات بضجيج وتنحل العناصر محترقة وتحترق الأرض والمصنوعات التي فيها فبما أن هذه كلها تنحل أيّ أناس يجب أن تكونوا أنتم في سيرة مقدسة وتقوى منتظرين وطالبين سرعة مجيء يوم الرب الذي به تنحل السماوات ملتهبة والعناصر محترقة تذوب ولكننا بحسب وعده ننتظر سماوات جديدة وأرضا جديدة يسكن فيها البر لذلك أيها الأحباء إذ انتم منتظرون هذه اجتهدوا لتوجدوا عنده بلا دنس ولا عيب في سلام" (2بطرس 3\2-14).
وأصل علاقة اليوم بالألف سنة منسوب إلى النبي موسى u وهو: (من قبل أن توجد الجبال أو أبدأت الأرض والمسكونة منذ الأزل إلى الأبد أنت الله.. لأن ألف سنة في عينيك مثل يوم أمس بعدما عبر وكهزيع من الليل) المزامير (90\2-4), وقد تكون السنة في عرف الشعوب منذ القدم مبنية على حركة القمر ولكن العلاقة تخلو مما يقوم بدور (مما تعدون) كمعيار لقياس حركة نسبية, وهي أيضا علاقة غير ثابتة شوهتها العبارة (وكهزيع من الليل), وربما أضافها قلم الكتبة باعتبار الزمن لا يعني شيئا بالنظر إلى سرمدية الله فألف سنة كيوم أو برهة من ليل, فالمراد إذن بيان وحدانية الله تعالى وأن كل ما عداه مقدر حادث وجد بأمره لتأكيد السياق على أزليته وحده.
ودعوة الأنبياء تنشد عبادة الله تعالى وحده وتفيض الكتب بتراتيل تمجيده وإجلاله وتشدو بوحدانيته وكماله: "الله واحد" (1كورنثوس 12\6, غلاطية 3\20, يعقوب 2\19, رومية 3\30, مرقس 12\32), "وحدك الله وليس آخر" (إِشَعْيَاء 45\14), "إله واحد" (1تيموثاوس 2\5), "ليس إله آخر إلا واحدا" (1كورنثوس 8\4), "الإله الذي خلق العالم وكل ما فيه هذا إذ هو رب السماء والأرض لا يسكن في هياكل مصنوعة" (أعمال 17\24), "أنا الأول وأنا الآخر" (إِشَعْيَاء 48\12), "أنت الإله الحقيقي وحدك" (يوحنا 17\3), "أنت يا رب في البدء أسست الأرض والسماوات هي عمل يديك هي تبيد ولكن أنت تبقى وكلها كثوب تبلى وكرداء تطويها فتتغيّر ولكن أنت أنت وسنوك لن تفنى" (عبرانيين 1\10-12).(/13)
وقد قام خلاف بعد المسيح u حول طبيعته لما أجرى الله على يديه من معجزات وانتقلت المبالغة والغلو إلى التقديس ولكنه أعلن عبوديته لله وحده خاصة مع ما نقل عنه أنه: "قضى الليل كله في الصلاة لله" (لوقا 6\12), وأنه: "كان يعتزل في البراري ويصلي" (لوقا 5\16), وأنه قال: "لأنه مكتوب للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد" (متى 4\10), وقال: "الحق الحق أقول لكم إنه ليس عبد أعظم من سيده ولا رسول أعظم من مرسله" (يوحنا 13\16), وعندما سُئِل: "يا معلم أية وصية هي العظمى في الناموس؟" (متى 22\36), قال: "الرب إلهنا رب واحد" (مرقس 12\29), وقال: "هذه هي الوصية الأولى والعظمى" (متى 22\38), وقال: "لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء" (متى 5\17), وقد أعلن مرارا أنه ليس إلا رسولا لله كسابقيه: "ليعلم العالم أنك أرسلتني" (يوحنا 17\23), وقال: "أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئا.. لا أطلب مشيئتي بل مشيئة.. الذي أرسلني" (يوحنا 5\30), وقال: "الذي يؤمن بي ليس يؤمن بي بل بالذي أرسلني" (يوحنا 12\44),وقال: "الحق الحق أقول لكم إن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية" (يوحنا 5\24), ولما دعاه أحدهم صالحا قال: "ليس أحد صالحا إلا واحد وهو الله" (متى 19\17, مرقس 10\18, لوقا 18\19), وقال: "من رذلني ولم يقبل كلامي فله من يُدينه, الكلام الذي تكلمت به هو يُدينه في اليوم الأخير" (يوحنا 12\48).
وتؤكد الكتب أن كل شيء خاضع لأمر الله تعالى وحده قد وجد بكلمته: "في البَدء خلق الله السماوات والأرض" (تكوين 1\1), "أمر فخلقت" (مزامير 148\5), "بكلمة الرب صُنِعَت السماوات وبنسمة فيه كل جنودها" (مزامير 33\6), "يدعو الأشياء غير الموجودة كأنها موجودة" (رومية 4\17) ,"قال فكان هو أمر فصار" (مزامير 33\9), "صنع الجميع من العدم" (2مكابيون 7\27), "التفتوا إليّ واخلصوا يا جميع أقاصي الأرض لأني أنا الله وليس آخر" (إِشَعْيَاء 45\21).
فكلمة البدء إذن هي أمر التكوين (كن) وليست المسيح u كما زعم آخر كتاب تدوينا مع اشتداد الخلاف قائلا: "في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله" (يوحنا 1\1), ويجمع المحققون على أن لفظ (الكلمة) (لوجوس (Logos الذي استخدمه الكاتب مستمد من الفلسفة اليونانية فأيد ما أشارت إليه الكتب من تحريف كلمة الرب: "كيف تقولون نحن حكماء وشريعة الرب معنا حقا إنه إلى الكذب حوّلها قلم الكتبة الكاذب" ( إرميا 8\8 ), "أما وحي الرب فلا تذكروه بعد إذ قد حرفتم كلام الله الحي" (إرميا 23\36), "يا لتحريفكم!" (أشعيا 29\16), "بلا عذر.. لما عرفوا الله لم يمجدوه أو يشكروه كإله بل حمقوا في أفكارهم.. وبينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء وأبدلوا مجد الله الذي لا يفنى بشبه صورة الإنسان الذي يفنى.. عبدوا المخلوق دون الخالق" (رومية 1\20-25).
وهكذا نطق وحي الرب بالحق وإن غيرته الأيام حتى أتي الموعود من أمة لم تعهد كتاب ليصحح ما غيرته الأيام ويرشد إلى جميع الحق خاصة مع بيان الكتاب لاقتراب يوم الحساب وسرعة مجيء أمر الخراب ليفاجئ الجميع بلا سبق نذير: "أيها الأولاد هي الساعة الأخيرة" (1يوحنا 2\18), "ولولوا لأن يوم الرب قريب قادم كخراب من القادر على كل شيء" (إِشَعْيَاء 13\6), "ليرتعد جميع سكان الأرض لأن يوم الرب قادم" (يوئيل 2\1), "كلص في الليل هكذا يجيء لأنه حينما يقولون سلام وأمان حينئذ يفاجئهم هلاك بغتةً كالمخاض للحبلى فلا ينجون" (1تسالونيكي 5\2و3), "قريب يوم الرب على كل الأمم" (عوبيديا 15), "قريب يوم الرب العظيم قريب وسريع جدا" (صفنيا 1\14).
ألهذا قال المسيح u: "إن لي أمورا كثيرة أيضا لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل بكل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم" (يوحنا 16\12-15), "أما قرأتم قط في الكتب الحجر الذي رفضه البناءون هو قد صار رأس الزاوية من قبل الرب كان هذا وهو عجيب في أعيننا لذلك أقول لكم إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره ومن سقط على هذا الحجر يترضض ومن سقط هو عليه يسحقه"! (متى 21\42-44).(/14)
لقد تحقق فعلا مجيء خاتم النبيين مبرئا المسيح عليه السلام ومؤكدا بشارته ومؤيدا دعوته إلى عبادة الله تعالى وحده كسابقيه, ولو كان هذا القرآن ناقلا عن كتاب أسبق فَلِمَ أهمل الزيادة (وكهزيع من الليل) وأكمل النقص بتعبير يكشف نسبية حركة الأجسام ويجعلها في نظام معزول فضلا عن تفصيل كل ما تناوله بلا اختلاف صنعته جملة أيادي وتثنية للنبأ مهيمنا على كل ما سبق وفيض من الحقائق حيرت النبهاء حتى أتى بتأويلها عصر العلم!, يقول تعالى: "وَمَا كَانَ هََذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَىَ مِن دُونِ اللّهِ وَلََكِن تَصْدِيقَ الّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رّبّ الْعَالَمِينَ. أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ. بَلْ كَذّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذّبَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظّالِمِينَ" يونس 37-39.
المراجع العلمية العامة:
1. A E Shapiro, The gradual acceptance of Newton's theory of light and color, 1672-1727, Perspect. Sci. 4 (1) (1996), 59-140.
2. A I Sabra, Theories of light : From Descartes to Newton (Cambridge-New York, 1981).
3. A Ziggelaar, How did the wave theory of light take shape in the mind of Christiaan Huygens?, Ann. of Sci. 37 (2) (1980), 179-187.
4. Anderson, L.W. Light and Color, rev. ed. (Raintree, 1987).
5. Asimov, Isaac. How Did We Find Out About the Speed of Light? (Walker, 1986).
6. Bhattacharyya, G., and R. Johnson, Statistical Concepts and Methods, (1977), John Wiley and Sons, New York.
7. Bova, Ben. The Beauty of Light (Wiley, 1988).
8. Broekel, Ray. Experiments with Light (Children's, 1986).
9. C Hakfoort, Nicolas Béguelin and his search for a crucial experiment on the nature of light (1772), Ann. of Sci. 39 (3) (1982), 297-310.
10. C. Grebogi, E. Ott, and J.\ Yorke, Chaos, strange attractors, and fractal basin boundaries in nonlinear dynamics, Science 238, pp. 632-638 (1987).
11. Crow, E. L., F. A. Davis, and M. W. Maxwell, Statistics, (1978) Coles Publishing, Toronto.
12. D. K. Arrowsmith and C. M. Place, An introduction to dynamical systems (Cambridge University Press: New York, 1990).
13. E J Atzema, All phenomena of light that depend on mathematics : a sketch of the development of nineteenth-century geometrical optics, Tractrix 5 (1993), 45-80.
14. E. A. Jackson, Perspectives of nonlinear dynamics, Vol. 1-2 (Cambridge University Press: New York, 1990).
15. F. Moon, Chaotic vibrations (John Wiley: New York, 1987).
16. Fisher, Chaos: The ultimate asymmetry, MOSAIC 16 (1), pp. 24-33 (January/February 1985).
17. Froome, K. D. and Essen, L., The Velocity of Light and Radio Waves, Academic Press, London, 1967.
18. G. L. Baker and J. P. Gollub, Chaotic dynamics (Cambridge University Press: New York, 1990).
19. H Nakajima, Two kinds of modification theory of light : some new observations on the Newton-Hooke controversy of 1672 concerning the nature of light, Ann. of Sci. 41 (3) (1984), 261-278.
20. Hecht, Jeff. Optics: Light for a New Age (Scribner, 1987).
21. Hill, Julian and Hill, Julie. Looking at Light and Color (David & Charles, 1986).
22. I Newton, A new theory about light and colors, Amer. J. Phys. 61 (2) (1993), 108-112.
23. J Eisenstaedt, Dark bodies and black holes, magic circles and Montgolfiers : light and gravitation from Newton to Einstein, in Einstein in context (Cambridge, 1993), 83-106.
24. J Stachel, Einstein's light-quantum hypothesis, or why didn't Einstein propose a quantum gas a decade-and-a-half earlier?, in Einstein : the formative years, 1879-1909 (Boston, MA, 2000), 231-251.
25. J Z Buchwald, Kinds and the wave theory of light, Stud. Hist. Philos. Sci. 23 (1) (1992), 39-74.
26. J Z Buchwald, The rise of the wave theory of light : Optical theory and experiment in the early nineteenth century ( Chicago, IL, 1989).
27. J. Gleick, Chaos: Making a new science (Viking: New York, 1987).
28. J. P. Crutchfield, J. D. Farmer, N. H. Packard, and R. S.\ Shaw, Chaos, Sci. Am. 255 (6), pp. 46-57 (1986).(/15)
29. J. Thompson and H. Stewart, Nonlinear dynamics and chaos (John Wiley: New York, 1986).
30. J.-P. Eckmann, Roads to turbulence in dissipative dynamical systems, Rev. Mod. Phys. 53 (4), pp. 643-654 (1981).
31. Jean Meeus, “Astronomical Algorithms”, 2000, 2nd edition, Willmann-Bell Inc, Virginia.
32. J-P Caubet, The great fugue of the Brownian theory of light, Stochastic Anal. Appl. 3 (2) (1985), 119-151.
33. The Cambrige Atlas of Astronomy, 2nd ed., edited by Jean Audouze and Guy Israel, Cambrige university press, 1986.
34. L Rozenfel'd, Gravitational effects of light (Russian), in Einstein collection, 1980-1981 "Nauka" (Moscow, 1985), 255-266; 335.
35. M N Mahanta, Nordstr?m's theory in the light of the dualistic gravitation theory, Internat. J. Theoret. Phys. 26 (1) (1987), 63-70..
36. M Suffczy'nski, Velocity of light, in Isaac Newton's Philosophiae naturalis principia mathematica, Lublin, 1987 (Singapore, 1988), 69-71.
37. Marcuse, Dietrich. Light Transmission Optics, 2nd ed. (Krieger, 1989).
38. N Kipnis, History of the principle of interference of light (Basel, 1991).
39. P Langlois and A Boivin, Thomas Young's ideas on light diffraction in the context of electromagnetic theory, Canad. J. Phys. 63 (2) (1985), 265-274.
40. P. Bergé, Y. Pomeau, and C. Vidal, Order within chaos (John Wiley: New York, 1984).
41. P. Eckmann and D. Ruelle, Ergodic theory of chaos and strange attractors, Rev. Mod. Phys. 57 (3), pp. 617-656 (1985).
42. P. K. Seidelmann, "Explanatory Supplement to the Astronomical Almanac", ed., 1992, University Science Books, USA.
43. R Baierlein, Newton to Einstein (Cambridge, 1992).
44. R W Home, Leonhard Euler's "anti-Newtonian" theory of light, Ann. of Sci. 45 (5) (1988), 521-533.
45. R. Abraham and C. Shaw, Dynamics--The geometry of behavior, Vol. 1-4 (Aerial Press: Santa Cruz, CA, 1988).
46. R. Shaw, Strange attractors, chaotic behavior, and information flow, Z. Naturforsch. 36a, pp. 80-112 (1981).
47. Riley, Peter. Light and Sound (David & Charles, 1986).
48. S D'Agostino, Absolute systems of units and dimensions of physical quantities : a link between Weber's electrodynamics and Maxwell's electromagnetic theory of light, Aspects of mid to late nineteenth century electromagnetism, Physis Riv. Internaz. Storia Sci. (N.S.) 33 (1-3) (1996), 5-51.
49. S D'Agostino, Experiment and theory in Maxwell's work. The measurements for absolute electromagnetic units and the velocity of light, Scientia (Milano) 113 (5-8) (1978), 469-480.
50. S D'Agostino, Maxwell's dimensional approach to the velocity of light, Centaurus 29 (3) (1986), 178-204.
51. S Sakellariadis, Descartes' experimental proof of the infinite velocity of light and Huygens' rejoinder, Arch. Hist. Exact Sci. 26 (1) (1982), 1-12.
52. S. Rasband, Chaotic dynamics of nonlinear systems (John Wiley: New York, 1990).
53. Setterfield, Barry and Norman, Trevor, The Atomic Constants Light and Time, Special Research Report prepared for Lambert Dolphin, SRI International, Menlo Park, CA., August 1987.
54. Stewart, Does god play dice? The mathematics of chaos (Basil Blackwell: Cambridge, MA, 1989).
55. T. Parker and L. Chua, Chaos: A tutorial for engineers, Proc. IEEE 75 (8), pp. 982-1008 (1987).
56. Thomas Rackham, “Moon in Focus”, 1971, Academic Press, New York.
57. Troitskii, V. S., Physical Constants and Evolution of the Universe, Astrophysics and Space Science, 139, (1987) pp. 389-411.
58. Van Flandern, T. C., Is the Gravitational Constant Changing? Precision Measurements and Fundamental Constants II, B. N. Taylor and W. D. Phillips (editors), National Bureau of Standards Special Publication 617, 1984.
59. W Tobin, Toothed wheels and rotating mirrors : Parisian astronomy and mid-nineteenth century experimental measurements of the speed of light, Vistas Astronom. 36 (3) (1993), 253-294.
60 . Waldman, Gary. Introduction to Light (Prentice, 1983).
61. Webb, Angela. Light (Watts, 1988).(/16)
62. Wiggins, Introduction to applied nonlinear dynamical systems and chaos (Springer-Verlag: New York, 1990).
63. X Chen, Dispersion, experimental apparatus, and the acceptance of the wave theory of light, Ann. of Sci. 55 (4) (1998), 401-420.
64. X Chen, The debate on the "polarity of light" during the optical revolution, Arch. Hist. Exact Sci. 50 (3-4) (1997), 359-393.
65. Zeilik and Gregory, “Introductory Astronomy and Astrophysics”, 1998, Saunders College Publishing, Philadelphia.
66. Zeilik and Smith, Introductory Astronomy and Astrophysics, 2nd ed., Saunders College Publishing - 1987, Philadelphia, p53.
67. Encyclopedia Britannica 2003, ultimate reference suite, CD-Rom.
68. Oxford Interactive Encyclopedia, CD-Rom.
69. Compton's Encyclopedia 1998 Deluxe, CD-Rom.
70. Encarta Reference Library 2004, CD-Rom.
________________________________________
(1) تفسير ابن كثير ج1ص7.
(2) تفسير روح المعاني ج 21ص122.
(3) تفسير القرطبي ج7ص59.
(4) المعجم الوسيط ج2ص71.
(5) أبو حيان في تفسير الآية 36 من سورة يس.
(6) تفسير أبي حيان, الآية 36 من سورة يس.
(7) حجة القراءات ج1ص480.
(8) المعجم الوسيط ج2ص587.
(9) الإتقان ج2ص76.
(10) الدر المنثور ج6ص538.
(11) تفسير القرطبي.
(12) الألوسي 29\58
(13) تفسير الألوسي 27\76.
(14) ما دل عليه القرآن ج1ص41.
(15) روح المعاني ج14ص144.
(16) دقائق التفسير ج1ص325.
(17) شفاء العليل ج1ص281.
(18) الفتاوى ج8ص412.
(19) بيان تلبيس الجهمية ج1ص152
(20) الفتاوى ج18ص215.
(21) الفتاوى ج17ص283.
(22) الفتاوى ج4ص227.
(23) شفاء العليل ج1ص280.
(24) تفسير الرازي المعارج5.
(25) فتح القدير ج5ص288.
(26) فتح القدير ج4ص248.
(27) البيضاوي ج4ص355.
(28) ابن عطية السجدة 5.
(29) روح المعاني ج21ص122.
(30) أبو السعود ج5ص8.
(31) النيسابوري ج17ص116.
(32) الظلال ص3441.
(33) أبو حيان 5\362.
(34) تفسير الألوسي 1\327.
(35) لسان العرب ج8ص324.
(36) لألوسي 14\198.
(37) تفسير البحر المحيط.
(38) فتح القدير 3\182.
(39) روح المعاني ج8ص97.
(40) أبو السعود 12\12.
(41) ابن عاشور 71\13.
(42) الفتاوى ج15ص110.
(43) الجواهر ج15ص200.
(44) جوهري 2\180.
(45) جوهري 1\146.
(46) الجواهر 24\93.
(47) الجواهر 20\32.
(48) الجواهر15\188.
(49) الشوكاني 4\249.
(50) روح المعاني 21\120.
(51) الجواهر 24\219.
(52) الجواهر يونس 5.
(53) الجواهر 6\21.
(54) الألوسي 23\239.
(55) الألوسي يونس 5.
(56) القاسمي 1\335.
(57) ابن عاشور يس 40.
(58) Laros astronomy, p62(/17)
سعد الدين الخطيب
عالم من أرض الإسراء والمعراج :
سعد الدين الخطيب
(1317 ـ 1355 هـ)
(1899 ـ 1936 م)
حسني جرار
ولد في بيت المقدس ، ودرس في كتاتيبها ومدارسها ، وتابع دراسته في الأزهر الشريف بالقاهرة .
وعمل معلماً في دار الأيتام الإسلامية بالقدس ، ثم سكرتيراً للمجلس الإسلامي الأعلى .
وعمل مساعد مفتش محكمة الاستئناف الشرعية ، وإماماً وخطيباً للمسجد الأقصى لأكثر من عشر سنوات (1).
وكان لسعد الدين الخطيب نشاط إسلامي ونشاط في الحركة الوطنية الفلسطينية ، فكان عضو المؤتمر الإسلامي عام 1928 للدفاع عن الأقصى ، وعضو مؤتمر علماء فلسطين الأول عام 1935 ، وكان من اللجنة الإدارية لجمعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي تكونت عام 1935 م(2).
وكان من أعضاء وفد كبار العلماء الذي قابل المندوب السامي في أول شهر يونيو 1936 ، وقدموا له مطالب الشعب ، واحتجوا على أعمال جنود السلطة الفظيعة ، الذين قاموا بتفتيش محله باب حطة في القدس وروعوا السكان وأهانوا المصاحف الشريفة (3).
وكان الخطيب من قادة المظاهرة التي خرجت من المسجد الأقصى بعد صلاة الجمعة في أثناء الإضراب الكبير عام 1936 م ضد الاستعمار البريطاني والاستيطان اليهودي ، والتي حملوه فيها على الأكتاف ، وأصابته جلطة وانتقل إلى رحمة الله (4)ز
المراجع :
(1) بيان نويهض الحوت : القيادات والمؤسسات السياسية في فلسطين 1917 ـ 1948 ، مؤسسة الدراسات الفلسطينية ، بيروت ، 1981 .
(2) عجاج نويهض : رجال من فلسطين ، منشورات فلسطين المحتلة ، لبنان ، 1961 .
(3) محسن محمد صالح : التيار الإسلامي في فلسطين 1917 ـ 1948 ، مكتبة الفلاح ، الكويت ، 1989.
(4) مقابلة مع هشام أبو السعود في عمان بتاريخ 11 / 7 / 2001 م.
الهوامش :
(1) رجال من فلسطين ، ص 144 .ومقابلة مع هشام أبو السعود في 11 / 7 / 2001 .
(2) القيادات والمؤسسات السياسية ، ص 867 ، 880 ، 882 .
(3) التيار الإسلامي في فلسطين ، ص 408 .
(4) مقابلة مع هشام أبو السعود في 11 / 7 / 2001 م.(/1)
سعد بن أبي وقاص أحد العشرة المبشرين بالجنة )
سعد بن مالك بن أهيب الزهري القرشي أبو اسحاق فهو من بني زهرة أهل آمنة بنت وهب أم الرسول - صلى الله عليه وسلم- فقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يعتز بهذه الخؤولة فقد ورد أنه -صلى الله عليه وسلم- كان جالسا مع نفر من أصحابه فرأى سعد بن أبي وقاص مقبلا فقال لمن معه :"هذا خالي فليرني أمرؤ خاله".
اسلامه
كان سعد -رضي الله عنه- من النفر الذين دخلوا في الاسلام أول ما علموا به فلم يسبقه الا أبوبكر و علي وزيد و خديجة قال سعد :( بلغني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعوا الى الاسلام مستخفيا فعلمت أن الله أراد بي خيرا وشاء أن يخرجني بسببه من الظلمات الى النور فمضيت اليه مسرعا حتى لقيته في شعب جياد وقد صلى العصر فأسلمت فما سبقني أحد الا أبي بكر وعلي وزيد -رضي الله عنهم- ، وكان ابن سبع عشرة سنة كما يقول سعد -رضي الله عنه- :( لقد أسلمت يوم أسلمت وما فرض الله الصلوات ).
ثورة أمه
يقول سعد -رضي الله عنه- : (وما سمعت أمي بخبر اسلامي حتى ثارت ثائرتها وكنت فتى بارا بها محبا لها فأقبلت علي تقول :( يا سعد ما هذا الدين الذي اعتنقته فصرفك عن دين أمك و أبيك؟ والله لتدعن دينك الجديد أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت فيتفطر فؤادك حزنا علي ويأكلك الندم على فعلتك التي فعلت وتعيرك الناس أبد الدهر ) فقلت : لاتفعلي يا أماه فأنا لا أدع ديني لأي شيء ) الا أن أمه اجتنبت الطعام ومكثت أياما على ذلك فهزل جسمها وخارت قواه فلما رأها سعد قال لها:( يا أماه اني على شديد حبي لك لأشد حبا لله ولرسوله ووالله لو كان لك ألف نفس فخرجت منك نفسا بعد نفس ما تركت ديني هذا بشيء ) فلما رأت الجد أذعنت للأمر وأكلت وشربت على كره منه.
ونزل قوله تعالى :"ووصينا الانسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك الي المصير وأن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب الي ثم الي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون ".
أحد المبشرين بالجنة
كان الرسول -صلى الله عليه وسلم يجلس بين نفر من أصحابه ، فرنا ببصره الى الأفق في إصغاء من يتلقى همسا وسرا ، ثم نظر في وجوه أصحابه وقال لهم :( يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة ) وأخذ الصحاب يتلفتون ليروا هذا السعيد ، فإذا سعد بن أبي وقاص آت وقد سأله عبدالله بن عمرو بن العاص أن يدله على ما يتقرب به الى الله من عبادة وعمل فقال له :( لا شيء أكثر مما نعمل جميعا ونعبد ، غير أني لا أحمل لأحد من المسلمين ضغنا ولا سوءا ).
الدعوة المجابة
كان سعد بن أبي وقاص إذا رمى عدوا أصابه وإذا دعا الله دعاء أجابه ، وكان الصحابة يردون ذلك لدعوة الرسول -صلى الله عليه وسلم- له :( اللهم سدد رميته ، وأجب دعوته ) ويروى أنه رأى رجلا يسب طلحة وعليا والزبير فنهاه فلم ينته فقال له :( إذن أدعو عليك ) فقال الرجل :( أراك تتهددني كأنك نبي !) فانصرف سعد وتوضأ وصلى ركعتين ثم رفع يديه قائلا :( اللهم إن كنت تعلم أن هذا الرجل قد سب أقواما سبقت لهم منك الحسنى ، وأنه قد أسخطك سبه إياهم ، فاجعله آية وعبرة ) فلم يمض غير وقت قصير حتى خرجت من إحدى الدور ناقة نادّة لا يردها شيء ، حتى دخلت في زحام الناس ثم اقتحمت الرجل فأخذته بين قوائمها ، ومازالت تتخبطه حتى مات.
أول دم هريق في الإسلام
في بداية الدعوة ، كان أصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- إذا صلوا ذهبوا في الشعاب فاستخفوا بصلاتهم من قومهم ، فبينما سعد بن أبي وقاص في نفر من الصحابة في شعب من شعاب مكة ، إذ ظهر عليهم نفر من المشركين وهم يصلون ، فناكروهم وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم ، فضرب سعد -رضي الله عنه- يومئذ رجلاً من المشركين بلحي بعير فشجه ( العظم الذي فيه الأسنان ) ، فكان أول دم هريق في الإسلام.
أول سهم رمي في الإسلام
بعثه الرسول -صلى الله عليه وسلم- في سرية عبيدة بن الحارث -رضي الله عنه- الى ماء بالحجاز أسفل ثنية المرة فلقوا جمعا من قريش ولم يكن بينهم قتال ألا أن سعد قد رمى يومئذ بسهم فكان أول سهم رمي به في الاسلام.
غزوة أحد
وشارك في أحد وتفرق الناس أول الأمر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ووقف سعد يجاهد ويقاتل فلما رآه الرسول -صلى الله عليه وسلم- يرمي جعل يحرضه ويقول له :( يا سعد 0ارم فداك أبي وأمي ) وظل سعد يفتخر بهذه الكلمة طوال حياته ويقول :( ما جمع الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأحد أبويه الا لي ) وذلك حين فداه بهم.
إمرة الجيش(/1)
عندما احتدم القتال مع الفرس ، أراد أمير المؤمنين عمر أن يقود الجيش بنفسه ، ولكن رأى الصحابة أن تولى هذه الإمارة لرجل آخر واقترح عبدالرحمن بن عوف :( الأسد في براثنه ، سعد بن مالك الزهري ) وقد ولاه عمر -رضي الله عنه- امرة جيش المسلمين الذي حارب الفرس في القادسية وكتب الله النصر للمسلمين وقتلوا الكافرين وزعيمهم رستم وعبر مع المسلمين نهر دجلة حتى وصلوا المدائن وفتحوها ، وكان إعجازا عبور النهر بموسم فيضانه حتى أن سلمان الفارسي قد قال :( إن الإسلام جديد ، ذللت والله لهم البحار ، كما ذللت لهم البر ، والذي نفس سلمان بيده ليخرجن منه أفواجا ، كما دخلوه أفواجا ) وبالفعل أمن القائد الفذ سعد مكان وصول الجيش بالضفة الأخرى بكتيبة الأهوال وكتيبة الخرساء ، ثم اقتحم النهر بجيشه ولم يخسر جنديا واحدا في مشهد رائع ، ونجاح باهر ودخل سعد بن أبي وقاص ايوان كسرى وصلى فيه ثماني ركعات صلاة الفتح شكرا لله على نصرهم.
إمارة العراق
ولاه عمر -رضي الله عنهما- إمارة العراق ، فراح سعد يبني ويعمر في الكوفة ، وذات يوم اشتكاه أهل الكوفة لأمير المؤمنين فقالوا :( إن سعدا لا يحسن يصلي ) ويضحك سعدا قائلا :( والله إني لأصلي بهم صلاة رسول الله ، أطيل في الركعتين الأوليين وأقصر في الآخرين ) واستدعاه عمر الى المدينة فلبى مسرعا ، وحين أراد أن يعيده الى الكوفة ضحك سعدا قائلا :( أتأمرني أن أعود إلى قوم يزعمون أني لا أحسن الصلاة ؟!) ويؤثر البقاء في المدينة.
الستة أصحاب الشورى
و عندما حضرت عمر -رضي الله عنه- الوفاة بعد أن طعنه المجوسي جعل الأمر من بعده الى الستة الذين مات النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو عنهم راض و أحدهم سعد بن أبي وقاص ، وقال عمر :( إن وليها سعد فذاك ، وإن وليها غيره فليستعن بسعد ).
سعد والفتنة
اعتزل سعد الفتنة وأمر أهله وأولاده ألا ينقلوا له أخبارها ، وذات يوم ذهب إليه ابن أخيه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ويقول له :( يا عم ، ها هنا مائة ألف سيف يرونك أحق الناس بهذا الأمر ) فيجيبه سعد :( أريد من مائة ألف سيف ، سيفا واحدا ، إذا ضربت به المؤمن لم يصنع شيئا ، وإذا ضربت به الكافر قطع ) فتركه ابن أخيه بسلام وحين انتهى الأمر لمعاوية سأل سعدا :( مالك لم تقاتل معنا ؟) فأجابه :( إني مررت بريح مظلمة فقلت : أخ أخ وأنخت راحلتي حتى انجلت عني ) فقال معاوية :( ليس في كتاب الله أخ أخ ولكن.
قال الله تعالى :( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ، فأصلحوا بينهما ، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله )
وأنت لم تكن مع الباغية على العادلة ، ولا مع العادلة مع الباغية ) فأجاب سعد قائلا :( ما كنت لأقاتل رجلا -يعني علي بن أبي طالب- قال له الرسول : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ).
وفاته
وعمر سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- كثير وأفاء الله عليه من المال الخير الكثير لكنه حين أدركته الوفاة دعا بجبة من صوف بالية وقال : ( كفنوني بها فاني لقيت بها المشركين يوم بدر واني أريد أن ألقى بها الله عز وجل أيضا ) وكان رأسه بحجر ابنه الباكي فقال له :( ما يبكيك يا بني ؟ إن الله لا يعذبني أبدا ، وإني من أهل الجنة ) فقد كان إيمانه بصدق بشارة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كبير وكانت وفاته سنة خمس وخمسين من الهجرة النبوية وكان آخر المهاجرين وفاة ، ودفن في البقيع.
"يا سعد : ارم فداك أبي و امي " حديث شريف.(/2)
سعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة )
سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفَيْل العدوي القرشي ، أبو الأعور ، من خيار الصحابة ابن عم عمر بن الخطاب وزوج أخته ، ولد بمكة عام ( 22 قبل الهجرة ) وهاجر الى المدينة ، شهد المشاهد كلها إلا بدرا لقيامه مع طلحة بتجسس خبر العير ، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة ، كان من السابقين الى الإسلام هو وزوجته أم جميل ( فاطمة بنت الخطاب ).
والده
وأبوه -رضي الله عنه- ( زيد بن عمرو ) اعتزل الجاهلية وحالاتها ووحّد الله تعالى بغير واسطة حنيفياً ، وقد سأل سعيد بن زيد الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقال :( يا رسول الله ، إن أبي زيد بن عمرو بن نفيل كان كما رأيت وكما بَلَغَك ، ولو أدركك آمن بك ، فاستغفر له ؟) قال :( نعم ) واستغفر له وقال :( إنه يجيءَ يوم القيامة أمّةً وحدَهُ ).
المبشرين بالجنة
روي عن سعيد بن زيد أنه قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- :( عشرة من قريش في الجنة ، أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعليّ ، وطلحة ، والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن مالك ( بن أبي وقاص ) ، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نُفَيل ، و أبو عبيدة بن الجراح ) رضي الله عنهم أجمعين.
الدعوة المجابة
كان -رضي الله عنه- مُجاب الدعوة ، وقصته مشهورة مع أروى بنت أوس ، فقد شكته الى مروان بن الحكم ، وادَّعت عليه أنّه غصب شيئاً من دارها ، فقال :( اللهم إن كانت كاذبة فاعْمِ بصرها ، واقتلها في دارها ) فعميت ثم تردّت في بئر دارها ، فكانت منيّتُه.
الولاية
كان سعيد بن زيد موصوفاً بالزهد محترماً عند الوُلاة ، ولمّا فتح أبو عبيدة بن الجراح دمشق ولاّه إيّاها ، ثم نهض مع مَنْ معه للجهاد ، فكتب إليه سعيد :( أما بعد ، فإني ما كنت لأُوثرَك وأصحابك بالجهاد على نفسي وعلى ما يُدْنيني من مرضاة ربّي ، وإذا جاءك كتابي فابعث إلى عملِكَ مَنْ هو أرغب إليه مني ، فإني قادم عليك وشيكاً إن شاء الله والسلام ).
البيعة
كتب معاوية إلى مروان بالمدينة يبايع لإبنه يزيد ، فقال رجل من أهل الشام لمروان :( ما يحبسُك ؟) قال مروان :( حتى يجيء سعيد بن زيد يبايع ، فإنه سيد أهل البلد ، إذا بايع بايع الناس ) قال :( أفلا أذهب فآتيك به ؟) وجاء الشامي وسعيد مع أُبيّ في الدار ، قال :( انطلق فبايع ) قال :( انطلق فسأجيء فأبايع ) فقال :( لتنطلقنَّ أو لأضربنّ عنقك ) قال :( تضرب عنقي ؟ فوالله إنك لتدعوني إلى قوم وأنا قاتلتهم على الإسلام ).
فرجع إلى مروان فأخبره ، فقال له مروان :( اسكت ) وماتت أم المؤمنين ( أظنّها زينب ) فأوصت أن يصلي عليها سعيد بن زيد ، فقال الشامي لمروان :( ما يحبسُك أن تصلي على أم المؤمنين ؟) قال مروان :( أنتظر الذي أردت أن تضرب عنقه ، فإنها أوصت أن يُصلي عليها ) فقال الشامي :( أستغفر الله ).
وفاته
توفي بالمدينة سنة ( 51 هـ ) ودخل قبره سعد بن أبي الوقاص وعبد الله بن عمر -رضي الله عنهم أجمعين- .(/1)
سجود السّهو
سجود السهو لما يُبْطِلُ عمدُهُ الصلاة واجب؛ لأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم به سواء كان فعلاً أو تركًا من جنس الصلاة([1]).وقد كان سهو النبي صلّى الله عليه وسلّم من تمام نعمة الله – عز وجل – على أمته، وإكمال دينهم؛ ليقتدوا به صلّى الله عليه وسلّم فيما يشرعه لهم عند السهو؛ فإنه صلّى الله عليه وسلّم كان ينسى فيترتب على سهوه أحكام شرعية تجري على سهو أمته إلى يوم القيامة([2])، فقد ثبت عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه شَرعَ لأمته في سجود السهو أحكامًا منها:
أولاً: حُفِظَ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في السهو أشياء منها:
1 ـ سلم النبي صلّى الله عليه وسلّم من اثنتين، ثم أتمّ ما بقي وسجد بعد السلام؛ لحديث أبي هريرة – رضي الله عنه – في قصة ذي اليدين، قال: صلى النبي صلّى الله عليه وسلّم إحدى صلاتي العشي([3]) ركعتين ثم سلم، ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد فوضع يده عليها، وفي القوم أبو بكر وعمر، فهابا أن يكلماه، وخرج سَرَعانُ الناس فقالوا: أقصرت الصلاة؟ ورجل يدعوه النبي صلّى الله عليه وسلّم ذا اليدين، فقال: يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فقال: “لم أنس ولم تقصر” قال: بلى، فصلى ركعتين ثم سلم، ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه فكبر، ثم وضع رأسه فكبر فسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه فكبر ثم سلم([4]).
2 ـ سلم صلّى الله عليه وسلّم من ثلاث، فأتم الركعة الباقية ثم سجد سجود السهو بعد السلام؛ لحديث عمران بن حصين – رضي الله عنه – أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلى العصر فسلم في ثلاث ركعات، ثم دخل منزله، فقام إليه رجل يقال له: الخِربَاقُ، وكان في يديه طولٌ فقال يا رسول الله، فذكر له صنيعه، وخرج غضبان يجرُّ رداءه حتى انتهى إلى الناس فقال: “أصدق هذا”؟ قالوا: نعم، فصلى ركعة ثم سجد سجدتين ثم سلم. وفي رواية: “فصلى الركعة التي كان ترك ثم سلم، ثم سجد سجدتي السهو ثم سلم”([5]).
3 ـ قام صلّى الله عليه وسلّم في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر ولم يجلس للتشهد، حتى قضى صلاته، ثم سجد سجود السهو قبل السلام؛ لحديث عبد الله بن بحينة – رضي الله عنه – "أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلى بهم الظهر فقام في الركعتين الأوليين لم يجلس فقام الناس معه حتى إذا قضى صلاته، وانتظر الناس تسليمه كبر وهو جالس فسجد سجدتين قبل أن يسلم، ثم سلم"([6]).
4 ـ صلى الظهر خمسًا فَنُبِّهَ فثنى رجليه واستقبل القبلة فسجد سجدتين ثم سلم؛ لحديث عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلى الظهر خمسًا، فقيل له: أزيد في الصلاة؟ فقال: “وما ذاك”؟ قالوا: صليت خمسًا، فسجد سجدتين بعدما سلم([7]).
5 ـ أما الشك فلم يعرض له صلّى الله عليه وسلّم، وقد أمر فيه بأمرين على حسب نوعيه:
أ ـ أمر صلّى الله عليه وسلّم من رجع إلى التحري وهو أكثر الوهم أو الظن الغالب القوي بالبناء على غالب الظن، ثم السجود للسهو بعد السلام؛ لحديث عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: صلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فلما سلم قيل له: يا رسول الله أحدث في الصلاة شيء؟ قال: “وما ذاك” قالوا: صليت كذا وكذا، فثنى رجله واستقبل القبلة وسجد سجدتين ثم سلم، فلما أقبل علينا بوجهه قال: “إنه لو حدث في الصلاة شيء لنبأتكم به، ولكن إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني، وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحرَّ الصواب فليتم عليه، ثم يسلم، ثم يسجد سجدتين”. وفي رواية لمسلم: “فليتحر أقرب ذلك إلى الصواب”([8]).
ب ـ أمر صلّى الله عليه وسلّم من شك ورجع إلى اليقين – وهو الأقل – بالبناء على اليقين، وطرح الشك ثم السجود للسهو قبل السلام([9])؛ لحديث أبي سعيد – رضي الله عنه – يرفعه: “إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثًا أم أربعًا؟ فليطرح الشرك، وليبنِ على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمسًا شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتمامًا لأربع كانتا ترغيمًا للشيطان”([10]).
قال الإمام أحمد – رحمه الله -: “يحفظ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم خمسة أشياء: سلم من اثنتين فسجد، وسلم من ثلاث فسجد، وفي الزيادة والنقصان، وقام من اثنتين ولم يتشهد”([11]). وقال الخطابي – رحمه الله -: "والمعتمد عند أهل العلم هذه الأحاديث الخمسة"([12])، قال الإمام ابن قدامة – رحمه الله -: "يعني حديثي ابن مسعود، وأبي سعيد، وأبي هريرة، وابن بحينة"([13]).
ثانيًا: سجود السهو قبل السلام في مواضع وبعده في مواضع:(/1)
ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سجد للسهو قبل السلام في مواضع، وبعده في مواضع([14]). فما سجد فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل السلام أو أمر به، يسجد فيه قبله، كسجود السهو لمن ترك التشهد الأول، وسجود السهو لمن شك وبنى على اليقين، وما سجد فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد السلام أو أمر به، يسجد فيه بعده: كسجود السهو لمن سلم قبل تمام الصلاة، أو ذُكِّر بالزيادة في صلاته بعد السلام، أو شك وبنى على غالب ظنه، كما دلّت عليه الأحاديث في أوّل المبحث([15])، والأمر في ذلك واسع، فيجوز السجود قبل السلام وبعده([16]) لكن الأفضل أن يكون السجود قبل السلام إلا في حالتين:
الحالة الأولى: إذا سلم عن نقص أو ذُكِّر بالزيادة بعد السلام، اقتداء بالنبي صلّى الله عليه وسلّم في ذلك؛ لحديث أبي هريرة([17]) وعمران بن حصين([18]) وعبد الله بن مسعود([19]) – رضي الله عنهم -.
الحالة الثانية: إذا شك ولكنه بنى على غالب ظنه؛ لحديث عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه –([20]) واختار هذا الإمام ابن باز – رحمه الله –([21]). والمسألة خلافية عند أهل العلم لكن هذا هو الأفضل([22]).
ثالثًا: التفصيل في أسباب السجود وأحكامها:
ظهر من الأحاديث الواردة في سجود السهو أن أسباب السجود ثلاثة: الزيادة، والنقص، والشك بنوعيه([23])، وأحكام هذه الأسباب على النحو الآتي:
السبب الأول: الزيادة، وهي نوعان:
النوع الأول: زيادة الأفعال، وهي على ثلاثة أحوال:
الحال الأولى: زيادة من جنس الصلاة، كزيادة قيام أو قعود، أو ركوع، أو ركعة، فهذه زيادة فعلية إن تعمدها المصلي بطلت صلاته، وإن كان سهوًا سجد له وصحت صلاته؛ وإن زاد ركعة سهوًا ولم يعلم حتى فرغ منها سجد للسهو، أما إن علم في أثناء الركعة الزائدة فإنه يجلس في الحال بغير تكبير، ثم يتشهد إن لم يكن تشهد ثم يسجد للسهو ويسلم.
ويجب على من علم بزيادة الإمام أو نقصه تنبيهه؛ لحديث عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه - يرفعه وفيه: “إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني”([24]). وتنبيه الرجال بالتسبيح، والنساء بالتصفيق؛ لحديث سهل بن سعد الساعدي – رضي الله عنه – يرفعه وفيه: “إذا نابكم أمر فليسبح الرجال، وليصفق النساء”. وفي لفظ: “من نابه([25]) شيء في صلاته فليسبح، فإنه إذا سبح التفت إليه، وإنما التصفيق للنساء”([26]). ويلزم الإمام الرجوع إلى تنبيههم إذا لم يجزم بصواب نفسه؛ لأنه رجوع إلى الصواب.
الحال الثاني: زيادة من غير جنس الصلاة، كالمشي، والحك، والتّروُّح، والحركة، فهذه الحركات لا سجود لها، وهي ثلاثة أقسام:
1ـ القسم الأول: حركة مبطلة للصلاة، وهي الكثيرة عرفًا، المتوالية لغير ضرورة.
القسم الثاني: حركة مكروهة، وهي اليسيرة لغير حاجة.
القسم الثالث: حركة جائزة، وهي اليسيرة لحاجة؛ لحديث أبي قتادة – رضي الله عنه – “أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلى وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأبي العاص إذا قام حملها، وإذا سجد وضعها”([27])، وثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه فتح الباب لعائشة – رضي الله عنها – وهو في الصلاة([28]).
ولا فرق بين العمد والسهو في الحركات لأنها من غير جنس الصلاة، ولا يشرع لها سجود سهو.
الحال الثالث: الأكل والشرب، إن كان عمدًا أبطل الصلاة، وإن كان سهوًا لم يبطلها؛ لعموم حديث: “عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان”([29]).
النوع الثاني: زيادة الأقوال: وهي على ثلاث حالات:
الحال الأولى: زيادة من جنس الصلاة، كأن يأتي بقول مشروع في الصلاة في غير محله: كالقراءة في الركوع والسجود، والجلوس، وكالتشهد في القيام، فإن كان عمدًا فهو مكروه، ولا يجب السجود له، وإن كان سهوًا استحب السجود له؛ لعموم حديث عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – يرفعه وفيه: “إذا زاد الرجل أو نقص فليسجد سجدتين”([30]) إلا إذا جاء بهذا الذكر مكان الذكر الواجب، ولم يقل الواجب: كالتسبيح في الركوع والسجود، فإنه يجب عليه أن يسجد لتركه الواجب إلا إذا جمع بينهما فلا يجب([31]) بل يستحب لعموم الأدلة.
الحال الثاني: أن يسلم قبل إتمام الصلاة، فإن كان عمدًا بطلت؛ لأنه تكلم فيها، وإن كان سهوًا، وطال الفصل أو نقض الوضوء بطلت صلاته وأعادها، أما إن ذكر قبل أن يطول الفصل أتم صلاته ثم سجد للسهو؛ لحديث أبي هريرة – رضي الله عنه –([32]).
الحال الثالث: الكلام من غير جنس الصلاة، فإن كان عمدًا غير جاهل أبطل الصلاة إجماعًا؛ لحديث زيد بن أرقم – رضي الله عنه –([33]) وإن كان سهوًا أو جهلاً فالصحيح أنه لا يبطلها، ولا سجود عليه؛ لأنه من غير جنس الصلاة.
السبب الثاني: النقص، وهو ثلاثة أنواع:
النوع الأول: ترك ركنٍ: كركوع أو سجود، فإن كان عمدًا بطلت الصلاة، وإن كان سهوًا وكان تكبيرة الإحرام لم تنعقد صلاته ولا يغني عنه سجود السهو شيئًا، أما إن كان ركنًا غير تكبيرة الإحرام فله ثلاثة أحوال:(/2)
الحال الأولى: إن ذكره قبل أن يشرع في قراءة ركعة أخرى وجب عليه أن يرجع فيأتي بالركن الذي تركه وبما بعده([34]). وقيل: إن ذكره قبل أن يصل إلى محله وجب عليه الرجوع فيأتي بالركن الذي تركه وبما بعده([35]).
الحال الثاني: إن ذكره بعد شروعه في قراءة ركعة أخرى لغت الركعة التي ترك الركن فيها وقامت الركعة التي تليها مقامها([36]) وقيل: إن ذكره بعد أن وصل إلى محله من الركعة التي تليه فلا يرجع، وتقوم هذه الركعة مقام الركعة التي ترك فيها الركن([37]).
الحال الثالث: إن ذكره بعد السلام فكتركه ركعة كاملة، فيأتي بركعة، ويسجد للسهو إلا أن يكون المتروك تشهدًا أخيرًا أو جلوسًا له أو سلامًا فيأتي به وعليه سجود السهو في هذه الصور كلها، إلا إن طال الفصل أو أحدث فيعيد الصلاة كاملة([38]).
النوع الثاني: تركُ واجب من واجبات الصلاة، كالتكبير لغير الإحرام، أو تسبيح الركوع والسجود، وغير ذلك من الواجبات، فإن كان عمدًا بطلت الصلاة، وإن تركه سهوًا فعلى أحوال:
الحال الأولى: إن ذكره قبل الوصول إلى الركن الذي يليه وجب عليه الرجوع ويأتي به.
الحال الثاني: إن ذكره بعد أن وصل إلى الركن الذي يليه فلا يرجع وعليه سجود السهو. كالتشهد الأول فإنه إذا تركه لا يخلو من أربعة أمور:
الأمر الأول: أن يذكره قبل أن تفارق فخذاه ساقيه، وبعضهم قال: قبل أن تفارق ركبتاه الأرض، والمعنى متقارب، ففي هذه الحال يستقر وليس عليه سجود؛ لأنه لم يزد شيئًا في صلاته.
الأمر الثاني: إذا نهض ولكن في أثناء النهوض ذكر قبل أن يستتم قائمًا فإنه يرجع، ويأتي بالتشهد وعليه سجود السهو.
الأمر الثالث: إذا نهض واستتم قائمًا فقد وصل إلى الركن الذي يليه، فيكره له الرجوع فإن رجع لم تبطل صلاته وعليه سجود السهو.
الأمر الرابع: إذا ذكر بعد الشروع في القراءة فلا يرجع فإن رجع عمدًا عالمًا حرم عليه ذلك وبطلت صلاته؛ لأنه تعمد المفسد وهو زيادته فعلاً من جنسها.
النوع الثالث: ترك مسنون، فإذا ترك مسنونًا لم تبطل الصلاة بتركه عمدًا ولا سهوًا، ولا سجود عليه.
السبب الثالث: الشك، فإذا كان بعد السلام فلا يلتفت إليه، إلا إذا تيقن النقص أو الزيادة، وإذا كان الشك وهمًا بحيث طرأ على الذهن ولم يستقر فلا يلتفت إليه، وإذا كثرت الشكوك لا يلتفت إليها، وإن لم يكن الشك كذلك، فالشك إما أن يكون في زيادة ركن أو واجب في غير المحل الذي هو فيه فلا يلتفت له، وأما الشك في الزيادة وقت فعلها فيسجد له، وأما الشك في نقص الأركان فكتركها فيأتي بالركن على التفصيل الذي سبق في إكمال الأركان، إلا إذا غلب على ظنه أنه فعله فلا يرجع، ولكن عليه سجود السهو، والشك في ترك الواجب بعد أن فارق محله لا يوجب سجود السهو([39])، وإذا حصل له شك بنى على اليقين وهو الأقل، إلا إذا كان عنده غلبة ظن فإنه يتحرى ويبني على غالب ظنه، فيأخذ به([40]).
ولا سجود على مأموم دخل مع الإمام من أول الصلاة، إلا تبعًا لإمامه؛ فإن قام المأموم المسبوق لقضاء ما فاته بعد سلام إمامه، فسجد إمامه للسهو، بعد السلام فحكمه حكم القائم عن التشهد الأول: إن سجد إمامه قبل انتصابه قائمًا لزمه الرجوع، وإن انتصب قائمًا ولم يشرع في القراءة لم يرجع وإن رجع جاز، وإن شرع في القراءة لم يكن له الرجوع، ويسجد للسهو بعد قضاء ما عليه([41]) بعد السلام([42]).
و صلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .
________________________________________
([1]) انظر: المغني لابن قدامة، 2/433، وفتاوى ابن تيمية، 23/26-35، والشرح الممتع 3/531.
([2]) انظر: زاد المعاد، لابن القيم، 1/186.
([3]) الظهر والعصر، وفي صحيح البخاري قول بعض الرواة: "وأكثر ظني أنها العصر" برقم 1229، وفي رواية لمسلم "صلاة العصر" برقم 573، وقد جمع بينهما بأنها تعددت القصة، سبل السلام للصنعاني، 2/359.
([4]) متفق عليه: البخاري كتاب السهو، باب يكبر في سجدتي السهو، برقم 1229، ومسلم، كتاب المساجد، ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة برقم 573.
([5]) مسلم، كتاب المساجد، وموضع الصلاة، باب السهو في الصلاة، برقم 574.
([6]) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب من لم ير التشهد الأول واجبًا، برقم 829، وكتاب السهو، باب ما جاء في السهو إذا قام من ركعتي الفريضة، برقم 1224، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له، برقم 570.
([7]) متفق عليه: أصله في صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب التوجه نحو القبلة حيث كان، برقم 401، ولفظه من كتاب السهو، باب: إذا صلى خمسًا، برقم 1226، 7249، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود برقم 572.
([8]) متفق عليه: البخاري، برقم 401، ومسلم برقم 572، وتقدم تخريجه في الذي قبله.
([9]) انظر: زاد المعاد لابن القيم، 1/291-292.
([10]) مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له، برقم 571.(/3)
([11]) المغني لابن قدامة، 2/403.
([12]) معالم السنن للخطابي، 1/469.
([13]) المغني، 2/403، والشرح الكبير، 4/5.
([14]) انظر: زاد المعاد لابن القيم 1/289.
([15]) انظر: الأحاديث ص 7 من هذا الكتاب.
([16]) انظر: زاد المعاد، لابن القيم، 1/290، وسبل السلام للصنعاني، 2/369-371، ومجموع فتاوى ابن تيمية، 23/36، ومجموع فتاوى الإمام ابن باز، جمع الطيار كتاب الصلاة ص184، وجمع الشويعر 11/267.
([17]) متفق عليه: البخاري، برقم 1229، ومسلم، برقم 573 وتقدم تخريجه.
([18]) مسلم، برقم 574، وتقدم تخريجه.
([19]) متفق عليه: البخاري، برقم 401، ومسلم، برقم 572.
([20]) متفق عليه: البخاري، برقم 401، ومسلم، برقم 572 وتقدم تخريجه.
([21]) انظر: مجموع فتاوى ومقالات متنوعة للإمام ابن باز 11/267.
([22]) اختلف العلماء – رحمهم الله – في موضع سجود السهو على أقوال:
1ـ مذهب الإمام الشافعي: سجود السهو كله قبل السلام.
2ـ مذهب الإمام أبي حنيفة: كله بعد السلام.
3ـ مذهب الإمام مالك: السجود للزيادة بعد السلام، وللنقص قبله.
4ـ مذهب الإمام أحمد: السجود قبل السلام إلا في موضعين: إذا سلم عن نقص، أو بنى على غالب ظنه فيكون بعد السلام. فهذا فيه استعمال كل حديث كما ورد، وما لم يرد فيه شيء يسجد قبل السلام.
انظر: المغني لابن قدامة، 2/415، وفتاوى ابن تيمية، 23/17-26، وزاد المعاد لابن القيم، 1/289، وسبل السلام، للصنعاني، 2/369-371، ونيل الأوطار للشوكاني، وذكر تسعة أقوال، 2/321-324، واختار الإمام ابن تيمية: أن الأظهر: التفريق بين الزيادة والنقص، وبين الشك مع التحري، والشك مع البناء على اليقين، وقال: هذا رواية عن أحمد وقول مالك قريب منه. فإذا كان السجود لنقص أو شك وبنى على اليقين سجد قبل السلام، وإذا كان السجود لزيادة أو بنى على غالب ظنه سجد بعد السلام. انظر: فتاوى ابن تيمية 23/24، والاختيارات الفقهية له ص93، والشرح الممتع لابن عثيمين 3/466.
([23]) انظر: المقنع مع الشرح الكبير والإنصاف 4/6 والكافي 1/365، والروض المربع 2/137، وإرشاد أولي البصائر والألباب لنيل الفقه بأقرب الطرق وأيسر الأسباب للسعدي، ص47.
([24]) متفق عليه: البخاري، برقم 401، ومسلم، برقم 572، وتقدم تخريجه.
([25]) من نابه: أي أصابه شيء يحتاج فيه إلى إعلام غيره.
([26]) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب من دخل ليؤم الناس فجاء الإمام الأول فتأخر، برقم 684، ورقم 7190، ومسلم، كتاب الصلاة، باب تقديم الجماعة من يصلي بهم إذا تأخر الإمام، برقم 421.
([27]) متفق عليه: البخاري، كتاب الصلاة، باب إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة، برقم 516، 5996، ومسلم، كتاب المساجد، باب جواز حمل الصبيان في الصلاة وأن ثيابهم محمولة على الطهارة حتى يتحقق نجاستها، وأن الفعل القليل لا يبطل الصلاة برقم 543.
([28]) أبو داود، كتاب الصلاة، باب العمل في الصلاة، برقم 922، والترمذي، كتاب الصلاة، باب ما يجوز من المشي والعمل في صلاة التطوع، والنسائي، كتاب السهو، باب المشي أمام القبلة خطى يسيرة، وأحمد 6/183، 234 وحسنه الألباني في صحيح أبي داود، 1/173.
([29]) ابن ماجه، كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي، برقم 2045، وابن حبان 9/174، والطبراني في الكبير 11/134 برقم 1274، والحاكم 2/198، وحسنه النووي في الأربعين.
([30]) مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له، برقم 96 – (572).
([31]) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، للإمام ابن باز، 11/270.
([32]) البخاري، برقم 1229، ومسلم، برقم 573، وتقدم تخريجه.
([33]) مسلم، برقم 539، وتقدم تخريجه.
([34]) وسمعت الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز أثناء تقريره على الروض المربع 2/162، في 17/10/1419هـ يقرر هذا القول.
([35]) واختار هذا القول الثاني العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي في كتابه المختارات الجلية من المسائل الفقهية ص47-48 وكتابه إرشاد أولي البصائر والألباب لنيل الفقه بأقرب الطرق وأيسر الأسباب ص49، وقال: "وهذا القول أقرب إلى الأصول والقواعد الشرعية، وتبعه تلميذه العلامة ابن عثيمين في الشرح الممتع، 3/459-523.
([36]) وسمعت الإمام عبد العزيز ابن باز أثناء شرحه للروض المربع 2/169، في يوم الأحد 18/10/1419هـ يقول: "إن شرع في قراءة التي بعدها بطلت وقامت التي شرع في قراءتها مقامها".
([37]) اختاره العلامة السعدي، في المختارات الجلية ص47، وفي إرشاد أولي البصائر والألباب ص49.
([38]) وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز ابن باز يقرر القول بإعادة ركعة كاملة لمن ذكر الركن المتروك بعد السلام، وذلك أثناء تقريره على الروض المربع 2/163، يوم الأحد 17/10/1419هـ.
([39]) وقيل: الشك في ترك الواجب كتركه وعليه سجود السهو إلا إذا غلب على ظنه أنه جاء به فلا سجود عليه. واختار هذا القول العلامة ابن عثيمين في الشرح الممتع، 3/521-522.(/4)
([40]) انظر: التفصيل في أسباب السجود وأحكامها: إرشاد أولي البصائر والألباب لنيل الفقه بأقرب الطرق وأيسر الأسباب، ص47-51 وقد أجاد وأفاد، والكافي لابن قدامة 1/365-387 والشرح الممتع على زاد المستقنع لابن عثيمين، 3/459-540 ويخص ص509، 510، 511، 512، 513، 514، 515، 523. والمغني لابن قدامة 2/403-464، ومجموع فتاوى ومقالات متنوعة لابن باز 11/249-281.
([41]) سمعت الإمام عبد العزيز ابن باز أثناء شرحه للروض المربع 2/171، في 28/10/1419هـ يقرر ذلك.
([42]) انظر: المغني لابن قدامة، 2/441، والروض المربع، 2/170، والشرح الممتع لابن عثيمين، 3/526.
د. سعيد بن علي القحطاني(/5)
سفر المرأة بدون محرم
السؤال :
أنا طالبةٌ في جامعة دمشق و أقطن خارجها ، و أضطرُّ أحياناً إلى السفر قرابة مائة كيلو متر لوحدي ( بدون محرم ) في وسائل النقل العامّة ، حتى أصل إلى الجامعة ، فما حكم الشرع في تصرّفي هذا ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
ذَكرت الأخت السائلة أنّها تُضطرُّ للانتقال قرابة المئة كيلو متر يومياً في وسائل النقل العامّة ، و هذا من السفر الذي لا يحلّ للمرأة إلاّ مع ذي محرَم ، فقد روى الشيخان و أصحاب السنن إلا النسائي و أحمد عَنِ عبد الله بنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : « لاَ تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ مَعَ ذِى مَحْرَمٍ » .
و روى البخاري و الترمذي و أحمد عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِىَّ رضي الله عنه أنّ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : « لاَ تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ مَسِيرَةَ يَوْمَيْنِ إِلاَّ وَمَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ ذُو مَحْرَمٍ » .
و قد ذهب جمهور أهل العلم إلى أنّه يحرم عليها الخروج بغير محرم في كل سفر طويلاً كان أو قصيراً .
و أباح الحنفيّة لها الخروج إلى ما دون مسافة القصر بغير محرم .
و على كلا القولين فإنّه يحرم على المرأة أن تسافر أكثر من اثنين و ثمانين كيلو متراً ( عند من يرى التحديد بالمسافة ) و أن تشرع فيما يعتبر سفراً في عُرف الناس عادةً ( باعتبار العادةِ محكّمةً كما في القاعدة الفقهيّة ) .
و من فرّقَ من المعاصرين بين سَفَرٍ و سفر ، و ذهبَ إلى عدم اشتراط المحرَم في السفر بوسائل النقل المعاصرة لما يكتنفُها من الأمان ، محجوج بعموم الدليل الوارد في التحريم ، و لا حجّة في قول أحدٍ ما لم يُقِم عليه دليلاً من الكتاب أو السنّة .
قال الإمام الشافعي رحمه الله : ( لم أسمع أحداً نسبه الناس أو نسب نفسه إلى عِلمٍ يُخالف في أن الله فرض اتباع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم و التسليم لحكمه ، و أن الله عزّ و جل لم يجعل لأحد بعده إلا اتباعه ، و أنه لا يلزم قول بكل حال إلا بكتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، و أنّ ما سواهما تبع لهما ، و أن فرض الله علينا وعلى من بعدنا وقبلنا في قبول الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واحد ) [ الأم : 7 / 273 ] .(/1)
سفن الحركة الإسلامية لا تعرف ميناءها
جمال سلطان 19/6/1425
05/08/2004
الموانئ هي المراسي التي تأوي إليها السفن في نهايات الرحلة، وأحيانًا في نهايات كل مرحلة مهمة من مراحلها لتتزود وتنشط البحارة والقباطنة والعاملين، وأحيانًا تتجدد بإفراغ بعض حمولتها التي لم تعد تحتاجها أو التي لا تلائم المرحلة الجديدة في الرحلة، وتحميل بعض الجديد الذي تحتاجه، وأيضًا ممارسة عمليات الصيانة الضرورية لآلات العمل والتأكد من تطهير السفينة من الآفات، وكل سفينة تبحر فهي تعمل وفق خريطة ملاحية منضبطة، وتعرف مسارها، كما تعرف ـ وهذا هو الأهم ـ ميناء الوصول، وعندما كنت أتأمل في حال الحركة الإسلامية المعاصرة، لا أدري لماذا فرض نفسه علي هذا الخاطر، خاطر الميناء، كنت أشعر بأن الحركة الإسلامية مثل سفينة عظيمة تحمل من الوقود الشيء العظيم، وتحمل من الزاد الكثير، وتعمل وفق آلات جبارة قادرة على الدوران والتضحية بلا كلل ولا ملل، ولكنها في النهاية: سفينة بلا شاطئ، وبلا ميناء تأوي إليه وتمارس هذا الذي أشرنا إليه مطلع هذه الكلمة، والأهم فيما سبق أنها تبدو أحيانًا وكأنها سفينة بلا ميناء وصول، بلا هدف محدد ومضبوط وواضح في أذهان قبطانها وملاحيها، فضلاً عن عمالها وفنييها، وهذا ما يجعلنا نلاحظ هذه الحلقة المفرغة التي تدور فيها الحركة الإسلامية على مدار عشرات السنين، ربما عرفنا مبتدأها ولكن المؤكد أننا لا نعرف منتهاها أو مقصدها. هناك بطبيعة الحال بعض العلامات الإرشادية والشعارات والأماني والصور التاريخية الجميلة التي نتأساها ونتمناها، ولكن لم يتبلور لنا من هذه الأماني والطموحات مشروعات محددة تضبط لنا معالم "الميناء" والمنتهى، وهذا ما جعل هناك تضاربًا مدهشًا بين أبناء الحركة الإسلامية في فهم الهدف والطموح، ليس تضاربًا بسبب الجغرافيا أو التاريخ؛ لأن هذا التضارب يقع أحيانًا كثيرة بين أبناء القطر الواحد والجغرافية الواحدة والتاريخ الواحد؛ بل إنك تفاجأ أحيانًا بتوافق فكري ومنهجي ـ إن صح استعمال هذا اللفظ هنا ـ بين جماعات أو تجمعات في أقطار مختلفة ومتباعدة لا يجمع بينها تاريخ أو جغرافيا أو واقع جديد؛ وإنما الأمر أشبه بوجود فراغات فكرية وروحية امتلأت هنا وهناك كيفما اتفق، وتجد هذا التوافق الفكري بين هذه التجمعات يتناقض مع "خيط" فكري آخر انتظم تجمعات أخرى في نفس هذه البلدان المختلفة جغرافيًّا وتاريخيًّا وواقعيًّا، وهي تناقضات إذا ذهبت تبحث في مبرراتها أو جذورها لن تجد شيئًا يتصل بالعلم أو المنهج أو التحديات الواقعية أو الطموحات أو مشروعات لنهضة الأمة أو تصور "لميناء" الوصول، وإنما هي عشوائيات فكرية ومنهجية تشكلت في غيبة من النمو الطبيعي للحياة الفكرية والعلمية للأمة، وانقطاع قسري في مسار التراكم لخبرتها الحضارية بكلها المتكامل: تربية وعلومًا وفكرًا وثقافة وقيمًا وفنونًا ووعيًا بالذات وبالآخر.
هذه العشوائية تستطيع أن تجد بعض معالمها في تكرار تجارب حركات إسلامية في بلدان مختلفة ومراحل تاريخية مختلفة، فتجد كثيرًا من الحركات تعيد تكرار نفس التجربة التي فشلت في بلد آخر من قبل دون أن يبدو في الأفق أي إضافة جديدة أو أي تطوير أو خبرة مكتسبة، وتجد بعض الحركات تعيد إنتاج أفكار حركية قديمة وتقاتل دونها، رغم أن الزمان تجاوزها، لأنها ببساطة تتحدث عن عالم لم يعد قائمًا، وتوازنات قوى عالمية أعيد تشكيلها مرة أخرى، وحسابات إنسانية وكونية اختلفت جذريًّا، ولكن "فكر الحركة الإسلامية " لا يعترف بكل ذلك، ويصر على أن يواجه صورة العالم التي يتخيلها، وليست الصورة التي هو عليها بالفعل، وهذا الأمر جعل هناك حالة من السطحية الغريبة في التصور السياسي للحركات الإسلامية بصفة عامة، وفهم ساذج لحسابات المصالح والقوى ومفاتيح القوة في عالم اليوم، هذا فضلاً عن فقدان وجود أي خطاب سياسي "محترم" تستطيع أن تواجه به العالم، العالم القريب والعالم البعيد، أخطر من ذلك أن تتاح لك أكثر من مرة الفرص لاستثمار جهدك في ثمار سياسية محترمة أنت تستحقها بالفعل، وبلورة نجاح في صورة واقع ملموس في محطات مهمة، ولكن الحركة الإسلامية بكل بساطة واستهتار تهدر مثل هذه الفرص وتضيع أي إمكانية للإفادة ـ إفادة الأمة أولاً ـ من ثمار هذا النجاح المرحلي.(/1)
والذي يقتلك غيظًا أن نفس الحركة تجدها بعد ذلك تلهث خلف طموح أهون بكثير من هذا الذي أضاعته، مثل أن تتمنع في أن تكون شريكًا في حكم كامل، ثم بعد ذلك تلهث وراء استجداء مذل عن ترخيص بإصدار جريدة! ، أو مثلما لخص بعض الباحثين الأمر بالقول : "نقترب حين يبتعدون ونبتعد حين يقتربون".. هذه العشوائيات أيضًا تنتج لنا بالضرورة حالة "التشظي" التي تتميز بها الحركة الإسلامية؛ فما إن يتبلور تيار فكري أو سياسي حتى يتحول مع الوقت إلى شظايا ملتهبة كل منها ينهش في عرض الآخر ويتحدث عن "صديق الأمس" بلغة " احترق فلان" ، "وقد حرقناه"!، وتبحث في أسباب الخلاف فلا تكاد تجد شيئًا أصلاً ، وذلك أن لا مشروع أصلاً كان موجودًا حتى يكون فيه شركاء، وإنما هي عشوائية التقت فيها شخصيات ببعض الاستلطاف أو المودة الشخصية أو الميل القلبي لشخص أو لأشخاص، ويتم تغليف هذه العشوائية بالحديث المتكرر عن "المنهج". وبالمناسبة مصطلح "المنهج" هو من أكثر المصطلحات شيوعًا في أوساط الإسلاميين، رغم أنه أكثر شيء ـ تقريبًا ـ يغيب عن وعي وممارسة المتحدثين عنه.. المهم أنه عندما يقع أي خلاف شخصي يذهب المنهج أدراج الرياح، وتنشط موجة من تسقّط الكلام وتعقب الهفوات وكشف العورات؛ فتتعزز مواقع الفصل الجديدة وتتخندق قوى جديدة وفق هذا الصراع، ثم يتحول الشجار الشخصي والفكري إلى "منهج" جديد، وهكذا ..
وأغلب هذه الأخطاء والعشوائيات إذا ذهبت تُنقِّب في خلفياتها الحقيقية وأسبابها ستجد غياب "الميناء" الذي تنتهي إليه الرحلة.. غياب الهدف ومعالم المستقبل المنشود؛ فتتحرك سفن العمل والفكر حسب اتجاه الريح وربما حسب أمزجة البحارة والقباطنة، ومع غياب الهدف تطيش الجهود، وتذهب الجهود والتضحيات أدراج الرياح.
وربما كانت هذه الأزمة في حاجة إلى ضرب بعض الأمثلة الواقعية، وهذا ما سنحاوله في مقالات قادمة بإذن الله(/2)
سقوط حضارة
كثير من الدراسات والتقارير – كما جاء بجريدة آفاق عربية بعددها بتاريخ 1\10\2003 تعرضت بالرصد والتحليل للحدث «الجلل» - الحادي عشر من سبتمبر - وتداعياته منذ وقوعه وحتى الآن.
وفي هذا الإطار جاء العدد الجديد من حولية «أمتي في العالم» الذي يرصد عام 2001 و2002 ويصدره مركز دراسات الحضارة وتديره الدكتورة نادية مصطفي - أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة - وفي هذا العدد أكد الباحث أسامة مجاهد في بحثه عن «الاستجابة الرسمية الأمريكية» أن المسألة الثقافية - الحضارية والدينية - لم تعد في الظل ولم تعد تابعًا بل أصبحت المحرك للتاريخ منذ 11 سبتمبر حيث أصبح هناك كثافة في استخدام المصطلحات الدينية في الخطاب الرسمي الأمريكي وصعود البعد الثقافي والديني إلي المرتبة الأولي في الصراع علي الأقل ظاهريًا.
هذا الخطاب الذي يسيطر عليه البعد الديني انتقل كذلك إلي الخطاب الأوروبي في تعامله مع الأزمة وبخاصة في بريطانيا. وفي بحثها بعنوان «الدائرة الأوروبية والانعكاسات علي الأزمة» أكدت الباحثة مروة فكري أن الخطاب السياسي لرئيس الوزراء البريطاني توني بلير برز فيه البعد الثقافي» فقد شدد علي القيم التي يؤمن بها الغرب . بل إن خطاب بلير جعل أوروبا والولايات المتحدة في كفة واحدة مقابل العالم أجمع فالعالم عنده أصبح منقسمًا إلي عالم غربي متحضر وآخر غير غربي وغير متحضر.
ولم يقتصر ذلك التوصيف - طبقًا للباحثة - لطبيعة الأزمة علي الخطاب البريطاني، بل امتد لأوروبا كلها حيث جاء التوصيف الرسمي الأوروبي بشقيه الجماعي والقومي للهجمات علي الولايات المتحدة علي أساس ثقافي حضاري فيه إعلاء لقيم أوروبا وحط للآخرين.) اهـ
وفي الحرب الأمريكية علي ما تسميه الإرهاب ترصد الدكتورة زينب عبد العظيم في دراستها «الاستراتيجية الأمريكية العالمية واستمرار الحرب ضد الإرهاب» ضمن حولية «أمتي في العالم» أهداف تلك الاستراتيجية وتذكر من بينها ( شن حرب مفتوحة ضد دائرة الحضارة الإسلامية بالتحالف مع الصهيونية. فالرئيس بوش وصف حملته علي الإرهاب بأنها «حملة صليبية» والدراسات تؤكد – وهو ما تؤيده الباحثة – أن السياسات الأمريكية منذ 11 سبتمبر هي تجسيد دقيق لمقولة صراع الحضارات. )
أية قيم وأية ثقافة وأية حضارة ساقطة تلك التي يطرحونها بين أقدامنا ؟
إنها الحضارة الجثة : تعبيرا لا عن موتها النهائي بالضرورة ولكن تعبيرا عن افتقارها إلى الروح ومن ثم إلى الخلق ، وأخيرا تعبيرا بكونها على حافة السقوط .
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فإننا لا نبتعد كثيرا إذا نحن دعونا إلى تشريح جثة تلك الحضارة بداية من خلال هذا السؤال الحضاري ونحن نوجهه إلى طبيب شرعي : هل يمكن أن تكون الخياطة الطبية التي رأيناها منذ وقت مضى على جثتي قصي وعدي – ولدي صدام حسين - بادئة من يمين الصدر ويساره ملتقية فوق السرة منتهية إلى أسفل البطن في كل من الجثتين على شكل دقيق منتظم بالمسطرة كحرف Y هل يمكن أن تكون نتيجة ضربات عشوائية أثناء القتال ؟ أم هي نتيجة مشرط طبي قام بعمله لهدف معين ؟ وما هو ؟ هل هو للتخلص من قلبين يملكان أسرارا يخشى القاتل من أن يتكلما ؟ هل يمكن أن يكون من أجل سواد عيون " هند" آكلة أكباد العصر ؟ أم من أجل هدف حضاري – على الطريقة الغربية – للتجارة في قطع الغيار البشرية ؟ وهل كان هذا هو السبب في تأخير عرض الجثتين أياما بعد قتلهما ؟ وهو السبب في تأخير تسليمهما لأهلهما حتى تؤخذ الضمانات لمنع الخبثاء من إعادة التشريح وفضح هذا العمل الحضاري الفريد ؟ وهل يجري ذلك على كافة جثث العراقيين والفلسطينيين والأفغان الذين يقتلون بدم بارد مما يوحي برواج قادم في تجارة حضارية واسعة في عالم الطب الغربي ؟ أم ماذا ؟
أية حضارة تلك ؟ بل أي حقارة ؟
أليس من العجيب أن نكتشف أخيرا أن المثل القائل : من كان بيته من زجاج فلا يرمي الناس بالحجارة لم يعد صحيحا ، لقد اكتشفنا أخيرا أن صحته تتوقف على ما إذا كان صاحب البيت على قدر ولو ضئيل من الحياء ، أو كان الطرف الآخر على استعداد لاستعمال ذراعيه ، لهذا وجدنا " الأمريكي " صاحب البيت الزجاجي المتهالك ( المتحضر ) على النحو المبين أعلاه يعاير المسلمين بأنهم أعداء عالمه ( المتحضر ) المسكون بروح يأجوج ومأجوج ، ويسلط عليهم ثوره الشاروني الهائج لكي يبيدهم باعتبارهم غير مؤهلين للانخراط في معبد " حضارته " المنكوس ، ثم يأمر عملاءه بينهم أن يعيدوا " تأهيل الدعاة " وخطباء المساجد ، فيسرعون إلى ما أمر ، ولو كانت لهم ذراع يستعملونها للرد لأشاروا بأصبع من يدهم – مجرد إشارة - إلى " جثة حضارته " المرموز لها بما عرضوه علينا من جثث الشهداء ، أن يعيد تأهيلها بينما هي جثة حضارة عفنة جرى تشريحها على يد أطبائهم فلم يجدوا بها من قطع الغيار المطلوبة شيئا : لا عقلا ولا روحا ولا قلبا ولا خلقا ، غير مشرط دقيق بيد علم أجوف جاهل بقسم أبقراط(/1)
وإذا لم يكن للمسلمين اليوم قدرة على استعمال أصبع يشيرون بها لاستغراقهم في بركة آسنة من السكون ، فإن لبعضهم ما تزال حاسة استماع تجعلهم في حالة أرق مدمن ، يطلبون النوم كالذين من حولهم ولكنهم لا يستطيعون ، ذلك أنهم يسمعون أصواتا تأتي مرعدة ، أو مقعقعة كأنها طقطقة عظام التاريخ ، أو كأنها تكسر أعمدة الجغرافيا : حدث جلل ، إنه سقوط حضارة لا يصلحها " إعادة التأهيل " !
لماذا والأمر الذي لاشك فيه أن لهذه الحضارة تلك التي تتساقط إيجابيات شامخة – كما يقول بعض المراقبين - : في مجال العلوم ، والتخصص ، والتكنولوجيا ، وتوزيع العمل ، والإنتاج والتسويق ، والاستهلاك ، واختزال المعرفة ( الكمبيوتر ) واختزال الزمن والمكان ، وهي اليوم تتربع على عرش العلم ، وتملك قوة الذرة ، وتمشى على القمر ، وتجوب الفضاء وتزرع قلوب الموتى في الأحياء ، وتصنع أجناساً جديدة من النبات والحيوان بالهندسة الوراثية ، وتفجر الطاقة الكهربائية من شعاع الشمس ، وتصنع السدود والأنفاق والكباري مئات الكيلومترات ، وتحفر تحت المحيط أنفاقاً مثل المدن .
لكن أليست هذه هي القشرة " الشمعية " فوق ظاهر الجثة المادية ؟ تعالوا بنا نتجاوزها لنلقى نظرة على صانع الخلايا في العظام لنرى ما إذا كانت آيلة للسقوط أم بحاجة إلى " إعادة تأهيل " كشأن آلاف الدعاة في بعض البلاد الإسلامية وفقا لسجود وزارات الأوقاف والشئون الإسلامية فيها أمام تعليمات " الغزاة ؟!
إن المشكلة بدأت في خطة قيام هذه الحضارة في مشروع النهضة الأوربية ، والتي تلقت درس القرون الوسطى استبعادا للكنيسة ، والدين ، باعتبارهما العائق الأكبر في طريق التقدم ، ومن ثم قررت التوجه في مشروعها .. لبناء الحياة الدنيا وإقصاء ما يتصل بالآخرة ، يقول الدكتور هرمان راندال في كتابه " تكوين العقل الحديث " وهو يتكلم عن الروح الجديدة التي سيطرت على النهضة الأوربية : ( تقوم هذه الروح الجديدة في أعماقها على اهتمام متزايد بالحياة الإنسانية كما يمكن أن نعيشها على هذه الأرض ، ضمن حدود الزمان والمكان ودون ارتباط بالعالم الثاني أو الأخروي ) ج1 ص 184: وهؤلاء هم الذين قال الله فيهم ( فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق ) 200 البقرة .
وإنسان هذه الحضارة عموما هو النموذج العالمي الذي يغزو الكرة الأرضية ويسيطر على الذهن البشري في الأقطار المتقدمة والمتخلفة على السواء .
ومن هنا عبر الفيلسوف الفرنسي الشهير هنري برجسون عن حالة الخواء الروحي في الحضارة المعاصرة تعبيرا رائعا – على حد قول الفيزيائي الشهير لويس دي برولي الحائز على جائزة نوبل عام 1929 في كتابه " الفيزياء والميكروفيزياء " ترجمة ونشر سلسلة الألف كتاب عام 1967 - بقوله : ( " يتطلب جسدنا المتوسع زيادة في الروح " ثم يقول : هل سنستطيع الحصول على هذه الزيادة بنفس سرعة تقدم العلم ؟ لاشك أن مصير البشرية متوقف على ذلك)
يقول دي برولي ( والآن في هذا الجسد الذي اتسع أكثر مما ينبغي بقيت الروح كما كانت أضأل من أن تملأه وأضعف من أن ترشده .. إن هذا الجسد المتخم ينتظر إضافة في الروح ، وإن الآلة تتطلب تصوفا .. إن الإنسانية تئن ، تكاد تسحقها أثقال التقدم الذي صنعته ) فماذا يعني جسد خلا من الروح ؟ أليس يعني أنه صار جثة ؟ حضارة هي جثة ؟
إننا نمسك هنا بتلابيب المأساة الحقيقية – هكذا يقول دي برولي - ..( إن إرادة رجل واحد فقط تكفي لأن تفك من إسارها ظاهرة ذات قوة هائلة ، وتزداد مسئولية الإنسان نتيجة لهذه الزيادة الهائلة في قوته ، بنسبة واحدة ، ويمكن أن تصبح نتائج سقطة واحدة مما يفوق الحصر ، وعلى ذلك يصبح للمشكلة الأخلاقية مغزى أعظم مما كان لها في الماضي .)
نعم لقد أصبحت المشكلة الأخلاقية لرجل واحد يتربع على قمة السلطة في بضع دول غربية يمسك بيده الحقيبة النووية – ربما يكون قد شرب قدرا من الكحول في ليلته الليلاء أكثر من المسموح به – أصبحت على قدر هائل من الخطر بالنسبة للإنسانية كلها .
فهل يفهم " العم سام " أن الأولى به إعادة تأهيل لجثة حضارته بدلا من شغله بـ" دعاة المساجد " في السعودية أو مصر ؟ لكن أليس هذا مستحيلا ؟(/2)
ويضع ألبرت شفايتزر يده على نفس المشكلة في كتابه الشهير " فلسفة الحضارة " عندما يقول :" إن الاتساع الرائع في المعارف المادية والقوة لا يكوَِن جوهر الحضارة " . و يرى أن الأعمال المبتكرة : عقلية ومادية لا تعطى آثارها الحقيقية إلا إذا استندت الحضارة في بقائها ونمائها إلى استعداد نفسي يكون أخلاقياً حقاً. وأنه إذا فقد الأساس الأخلاقي تداعت الحضارة حتى لو كانت العوامل العقلية والفنية والمادية تعمل عملها في اتجاهات أخرى . وأنه لن يكون في وسع أحد إنقاذها إلا إذا اكتشف غالبية الناس لأنفسهم معنى أخلاقياً عميقاً راسخاً عن طريق نظرية أو عقيدة في الكون . وأنه بغير هذه التجربة الروحية العامة لا سبيل إلى المباعدة بين عالمنا وبين الانهيار الذي يغذ السير إليه.
وهو يذهب إلى أنه منذ أن تخلت الحضارة الغربية عن الدين في مشروعها الأساسي للنهضة ثم انصرفت الفلسفة الأوربية المعاصرة عن القيام بدور إيجابي في هذا المجال ، سواء على المستوى العالي من الفلاسفة ، أو على المستوى الشعبي من أتباعهم فإن ( الأفكار الأخلاقية التي تقوم عليها الحضارة تجوس منذ ذلك الوقت أنحاء العالم فقيرة لا مأوى لها ، ولم تتقدم نظرية في الكون لتسندها إلى أساس متين . ) فهل يفهم توماس فريدمان الصحفي الأمريكي فاضح الصيت هذا الكلام ، وأليس الأولى به أن يركبه هم إعادة تأهيل جثته الحضارية التي أفرزته ويا للعجب كيف أفرزته ، أم أنه لا عجب لأن جثتة هكذا تفرز ؟
وهاهو تشارلز فرانكل في كتابه " أزمة الإنسان الحديث " يشير إلى أن كثيراً من فلاسفة العلم المعاصر مثل مرتيان ونيبور ومانهيم يتحدثون عن ( التقدم الفكري والعلمي ـ وهو أكبر مفخرة لما أتاه الإنسان الحديث ـ على أنه مجرد أحبولة وخداع ، وأن هذا العالم الحديث قد أعطى مكاناً مركزياً في الحضارة لجزء من الحياة البشرية ، ليس في حقيقته سوى جزء صغير بالنسبة إلى الأجزاء التي تعمل على التقدم الإنساني ، وأن حماسة كوندورسيه ، وجون ستيوارت مل ، للعلم الحديث وإيمانهما بالعلم وأملهما في المستقبل تنبذ ـ الآن ـ على أنها أوهام قوم ، معرفتهم بالطبيعة البشرية مسطحة جداً ، مثل مفهومهم لإمكانات الحياة البشرية ومعضلاتها . ) فهل يفهم هذا الكلام العم سام ، وأليس هو الأولى بالعمل على إعادة تأهيل الجثة التي أفرزته ، أم أن الفرصة قد أفلتت منه إلى الأبد ؟
ولا يمكن اعتبار ما ظهرت به الصهيومسيحية في الولايات المتحدة وبعض البلاد الأوربية الأخرى رجعة حقيقية إلى الدين أو نوعا من إعادة التأهيل ، فهذا أولا : مالا يمكن تاريخيا أن يكون تعديلا في بنية حضارة و مسيرتها الأساسية وهيكليتها التي عقدت وقامت واستمرت منذ قرون على استبعاد الدين من مشروع النهضة ، تماما كمالا يمكن لحضارة أخروية كالحضارة الإسلامية أن تعدل هيكليتها لتكون على منوال الحضارة الغربية ، محاولة كل منهما عندئذ تصبح انخلاعا من الطبيعة الخاصة بها من جهة وفشلا في الوصول من جهة أخرى .
وهذه الرجعة ثانيا لا قيمة دينية لها وهي لم تربط بالقيم الأساسية للدين ، في العقيدة والأخلاق والقيم الإنسانية والتشريع ، وطالما اقتصرت خارجيا – وهو بيت القصيد – على اختراع العدو (الإسلام )، والشحن ضده ، وشن الحروب الاستباقية ضده ، والصراع على النفط والأرض والمال في أرضه ، وطالما ظلت تقتصر داخليا - كما هو الحال – على ما يشبه مذهب الإرجاء : " لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة " ، وطالما انحصر دور المسيح – حسب تصورهم - في الغفران للممسوحين مهما ارتكبوا من آثام .(/3)
واقرءوا ما نشرته بعض جرائد الإمارات ( الخليج \ الاتحاد ) في 27\5\1988من حلقات الفساد الخلقي لكبار وأعلام المؤسسات الدينية في أمريكا من أمثال جيم بيكر الذي بدأ حياته كواعظ ديني يبث برامجه على شاشة التليفزيون ، وارتقى في هذا المسلك إلى أن بدأ في عام 1974 في ( بناء امبراطوريته الدينية ، وفيما بعد قام بالاشتراك مع زوجته المغنية والراقصة " تيم فاي " ببث برنامج تليفزيوني يشاهده 13،5 مليون عائلة عن طريق قمره الصناعي الخاص ومن خلال 178محطة تليفزيونية ، وأما العائدات فبلغت عام 1986 حوالي 129 مليون دولار وهو العام الذي سبق الفضيحة الأخلاقية المالية المدوية التي انفجرت عن علاقته الغرامية مع السكرتيرة " جاسكا هان " والتي اتضح فيما بعد أنها مستمرة منذ سبع سنوات مضت ، مما دعا قادة العمل الكنائسي في أمريكا إلى مواجهته بها : مما اضطره إلى الاعتذار بما هو أقبح : فتارة يعتذر بأنه وقع ضحية بريئة لامرأة متمرسة جنسيا ، وتارة بأنه فعل ذلك بقصد إثارة غيرة زوجته فحسب ، وتارة بأن زوجته كانت على علاقة مع رجل آخر ، والطامة ما أجاب به أحد مساعدي جيم بيكر السابقين وهو " جاري سميث " في ( تقرير مسجل قانونيا بأن الواعظ جيم بيكر " شاذ جنسيا ") ، وأخيرا فإنه عندما أنكر ما نسب إليه في برنامج تليفزيوني شهير اسمه " نايت لاين " وعندما قال له مقدم البرنامج : إذا كانت هذه التهم غير صحيحة فلماذا لا تقوم برفع قضية قانونية ضد الذين اتهموك ؟ أجاب ( إنهم يعرفون أني لن أرفع أية قضية ، فأي شخص يعرف طبيعة جيم بيكر يعرف بأن جيم بيكر لا يرفع قضايا ضد الناس ) !! وللقصة ذيول طويلة في جانبها المالي ، وفي أشباهها من رجال الدين الآخرين في أمريكا أولئك الذين يقودون أمريكا اليوم إلى حرب صهيونية ضد الإسلام ، والحبل على الجرار طويل .
تلك إذن قشرة دينية أشبه بالقشرة الحضارية ويظل الخواء هو الخواء ، ولو أمسك بها خبراء التأهيل ليعيدوها إلى الطريق لتفسخت بين أيديهم . فهل يفهم سدنة الحضارة الغربية " هذا الكلام أم هم بحاجة إلى إعادة تأهيل بكونهم رمزا لحضارة كاملة طالها العفن من زمن كما طال أنوفا من حولهم كان من شأنها أن تستحيي فتشم ؟
وإذا كان الردع النووي الذي يحتكره كبار السدنة في هذه الحضارة هو الذي يؤجل انهيار المعبد على رءوس الجميع فهل بقى في المعبد رادع أخلاقي أو عقلاني يمنع انفلات الكارثة النووية الشاملة من بين أصابع رئيس مخمور؟ وماذا تكون هذه الكارثة المحتملة والتي إن لم تقع فعلا فإنها تؤثر سلباً بمجرد احتمال وقوعها .. ؟ ماذا تكون هذه الكارثة . سؤال طرحته منظمة الأمم المتحدة على عشرة من كبار العلماء في العالم ـ من بينهم أ. الدكتور محمد عبد الفتاح القصاص ـ واستغرقت الدراسة حوالي عام ، وتم تسليمها إلى بيريز دى كويلار السكرتير العام للأمم المتحدة آنذاك . وكانت نتائج الدراسة على النحو التالي – كما جاء بجريدة الأهرام 10\9\ 1988 ص 3 : سوف يموت في الساعات الأولى ما بين 2 إلى 3 بليون شخص ، 2 بليون آخرون ينتظرهم شتاء نووي مظلم تنخفض فيه درجة الحرارة إلى ما بين 20 ـ 25 درجة تحت الصفر . وفي نهاية الشتاء النووي المظلم وبعد أن تنقشع غمامة الدخان الأسود هناك مرحلة تساقط الغبار الذرى . تنشأ ـ عن قنبلة ذرية عادية ـ عاصفة سرعتها 750 كيلومتراً ، وتدمر أي مبان ـ مهما كانت قوتها ـ في بؤرة التدمير . الموجة الحرارية الناشئة عن طاقة القنبلة تكفي لإشعال حرائق تصل درجة حرارتها إلى مئات الدرجات المئوية . وتحدث نبضة ألكترو مغناطيسية تكفي لتعطيل كل الاتصالات السلكية واللاسلكية ، وتدمر كل الأجهزة الالكترونية في قارة أوربا. ؟(/4)
وبغير السلاح النووي ماذا صنعت ـ بالفعل ـ هذه الحضارة ؟ يعلق الفيلسوف الفرنسي روجيه جارودى على ضحايا الحضارة المعاصرة فيقول في كتابه " ما يعد به الإسلام " ص 37 – 39 : ( لقد أطلق مؤرخونا بحق اسم الغزوات البربرية على الأهرامات التي بناها تيمورلنك بسبعمائة ألف جمجمة بعد احتلاله أصفهان ، فماذا نقول عن إبادة ملايين الهنود الحمر في أمريكا على يد الفاتحين الأوربيين أصحاب المدافع ؟ وماذا نقول عن تخريب أفريقيا بانتزاع حوالي عشرين مليوناً من سكانها السود مما يعني أن عدد الضحايا بلغ مائتي مليون إذ كان أسر كل أسير يكلف قتل عشرة أفراد . بل ماذا نقول عن مذابح آسيا وحرب الأفيون ؟ والمجاعات التي فتكت بملايين الهنود بفضل الاستعمار وفرض الضرائب ؟ وماذا نرى في ضحايا الحرب العالمية الأولى والثانية ؟ وماذا نرى في قنبلة هيروشيما ؟ وماذا نرى في حرب فيتنام ؟ وماذا نرى في ضحايا فلسطين ؟ ( والعراق ) ، وماذا نسمي في عالمنا اليوم النظام العالمي للسيطرة الغربية ، هذا النظام الذي أنفق أربعمائة وخمسين ملياراً من الدولارات على التسلح عام 1980 وتسبب في العام نفسه في موت خمسين مليوناً من البشر في العالم بسبب لعبة المبادلات التجارية ؟ وهكذا ـ يقول جارودى ـ يعتبر الغرب إلى أبد الآبدين أكبر مجرم في التاريخ . ) فهل يفهم دراويش هذه الحضارة هذا الكلام أم هم بحاجة إلى إعادة تأهيل بدلا من حضارتهم ، إن هم بادروا فانسلخوا منها ثم اغتسلوا ؟
ومن غير ممارسة فعلية للقتال : هل كف الرجل الغربي عن ابتداع المناسبات " السعيدة " لاستئصال المسلمين الواقعين تحت سيطرته كالذي حدث في تحويل طائفة من الكازاخستانيين إلى فئران تجربة لقنبلته الذرية الأولى عام 1949 التي فاقت في قوتها التدميرية قتبلة هيروشيما ونجازاكي عشرات المرات ؟
إن المشكلة لا تقبل إعادة التأهيل ،إذ هي ترجع إلى سياق التطور الحضاري للغرب : تقدم هائل في تكنولوجيا الدمار مع تخلف هائل يتزايد بنفس النسبة في القيم والأخلاق ، هنا نمسك بتلابيب المأساة كما يقول دي برولي ، وهي مأساة المآسي التي لا يصلح لها خبير إعادة تأهيل الدعاة في السعودية أو في مصر أو في غيرهما .
هذا الخواء هو ما جعل بعض كبار المسئولين – على سبيل المثال - في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة يبدون دهشتهم – وفي بعض الأحيان امتعاضهم - من النقد الموجه إليهم في كذبتهم الكبرى عن أسلحة الدمار الشامل كسبب في احتلالهم العراق ، وجعل أحد المدبرين لهذه الحرب – جون فولفولتز - يستغرب الإلحاح على هذه الفضيحة ، ويصرح في غير استحياء أو لنقل كطفل يكشف عن عورته في براءة منبوذة – بأن هذا السبب كان مطروحا لأجل كسب التأييد لحرب كان يجب أن تقع ، وقد وقعت كما يجب وهذا هو المهم ، وهذا كولن باول وزير خارجية الولايات المتحدة يقول في تصريح له بنشرة الجزيرة 23\6\2003 وهو يرد على سؤال عن هذه الكذبة بصوت مكيافيلي آت من قاع الجحيم : دعونا نستمتع بسقوط صدام ، وهو لا يدري – وربما كان يدري – أنه يحتفي بصعود الرذيلة ، ويخفي سقوط الفضيلة : سقوط جوهر الحضارة ، فلا هو ولا حضارته مما يصلح مع أحدهما إعادة التأهيل بينما هو يتلذذ بعفن الجثة إذ ماذا يعني جسد خلا من الروح ؟ أليس يعني أنه صار جثة ؟
أمثال هؤلاء في خوائهم أشبه بطفل لم يعن أحد بتربيته على قيم غير قيم الغابة ، والنفعية والانتهازية ، وهو الخواء الذي تحدث عنه شفايتزر عن فقدان هذه الحضارة لعقيدة صحيحة في الكون تقوم عليها
حتى في مجال تحرير الرقيق في الولايات المتحدة نجد الخواء ...وفي هذا يقرر أرنولد توينبى - في كتابه " تاريخ البشرية " ترجمة نقولا زيادة \ بيروت - : أن المحرر قانوناً لم يكن أحسن حالاً من مملوك مسلم إذ يقول ( بالنسبة لهذا المملوك فإن استرقاقه الشرعي قد يفتح الطريق أمامه ليصبح سيد عدد من المحررين قانوناً ) . ثم يقول : ( والسود في الولايات المتحدة الذين حرروا قانوناً في سنة 1862 لا يزالون يشعرون إلى الآن - وقد مر على تحريرهم أكثر من قرن - بأن الغالبية البيضاء من مواطنيهم لا تزال تنكر عليهم حقوقهم المدنية الكاملة ، وهم في شعورهم هذا على شيء كثير من الحق ) ج1 ص 24
في مقال للدكتور زكي نجيب محمود - الأهرام 22\11\1988 - عن ملاحظات له أثناء زيارته للولايات المتحدة الأمريكية خلال العام الجامعي 1953-1954يقول :(/5)
( وتصادف أن قرأ صاحبنا في صحيفة يومية تصدر في البلد الذي كان يقضي فيه النصف الأول من مهمته – يتحدث الكاتب عن نفسه – خبرا عن محاكمة مواطن أبيض قتل مواطنا أسود في حانة ، ولنلحظ هنا أنه بينما يسمح للبيض أن يرتادوا أماكن السود فإنه لا يسمح للسود أن يرتادوا أماكن البيض . وجاء في الخبر المنشور في الصحيفة عن محاكمة القاتل الأبيض نص العبارة التي نطق بها القاضي بحكمه وفيه يقول مخاطبا المتهم ما معناه : لقد قضت المحكمة بسجنك سنتين لا لأنك قتلت رجلا أسود بل لأنك سمحت لنفسك أن تخالط السود ، فوصلت بذلك جنسين أراد الله لهما أن ينفصلا ) ويكتفي الكاتب الدكتور بالتعليق بما علق به مدير الجامعة التي ذهب يعمل بها : " لقد عوقب القاضي الذي أصدر هذا الحكم" !! دون أن يبين كاتبنا على أي شيء عوقب القاضي : على الحكم بسنتين ثمنا لقتل إنسان ؟ أم على نطق القاضي بسبب الحكم بهما ؟
إن المشكلة هي في صميم تركيب هذه الحضارة : قوة في الجسد لم تسعفها قوة مطلوبة في الروح ، اللهم إلا الروح البوشية الانتقامية النابعة من المستوى الحضاري المتدهور ذاته ، قوة عمياء تنتقي من كتابهم المقدس ما يستهوي قتلة الأنبياء ، في غفلة بائسة عن التناقض الذي تلوثوا فيه ما بين الدين والنبوءة والفضيلة والحق ، قوة غاشمة جعلتها ترى المنكر معروفا ، والمعروف منكرا : إنها تفاخر بإنجازاتها على مستوى السلبيات كما يقول الأستاذ الدكتور رشدي فكار – في كتابه نهاية عمالقة ص 132- 137 وما بعدها – ( الحروب المدمرة الأولى والثانية - : { والثالثة المستمرة من انتهاء الحرب العالمية الثانية ، في البلاد الإسلامية ابتداء من مسلسل فلسطين إلى البوسنة إلى الشيشان إلى العراق } . تعدد وسائل الفناء للبشرية كأنما لا تكفي المتفجرات الذرية ، وإنما أضيفت إليها الهيدروجينية والكيماوية والبيولوجية . التلوث الذري لتشرنوبيل وما أحدثته من رعب ، وما حملته من سموم رياح الشمال القاتلة التي وصلت أصداؤها إلى الجنوب ، والتي أتلفت آلاف الأطنان من المحاصيل والمنتجات . المضاربات التجارية ليس فقط في البنيات الاقتصادية وإنما في المستخرجات الطبية والصيدلية سعياً وراء الربح . تعدد أنواع الأدوية والسموم بحثاً عن الكسب ولو لحساب إفشال الكبد والكلى . التلوث القيمي حيث يفاخر البعض بخروجهم على القيم والتقاليد والتنكر لكل رباط مقدس ، حتى المحرمات أبيحت باعتبار أنها مجرد ( تابو) . وأسست جمعيات وأقيمت مؤتمرات وصدرت قوانين لإباحة العلاقة مع المحارم والعلاقة المثلية في مجال الجنس . وأصبح موكب الفضائح الأخلاقية بما فيه من رشوة وجنس وعلاقات جنسية علنياً على كل المستويات ، وأصبح قاسماً مشتركاً لا ينفصل عن العظمة !! وأصبح المنتحرون على مستوى كبار الأدباء ، والقادة والمتخصصين في الدراسات النفسية والاجتماعية والانثروبولوجية من أمثال : جاكوب مورينو ، وجان لوفيفر وهمنجواي ، ومارياكالاس ، وداليدا ... إلخ . وقامت المراهنة الصناعية على دعائم فاسدة من : تلوث البيئة بافتقاد سلامة الجو ، وتلوث الجسد بالكيمائيات ...وتلوث العلاقات الاجتماعية ، بأمراض الجنس والإيدز . وتلوث العلاقات القومية بالفتن والقلاقل وبرك الدماء . وتلوث العلاقات السياسية والاقتصادية بالزيف والغش والمضاربة : حيث أعطيت لها أسماء التكتيك والاستراتيجية ومناطق النفوذ . وصارت الحضارة حضارة العقل التي قدمت اللامعقول على حد تعبير برتراندرسل . ) اهـ بل نقول : حضارة الجثة التي تأقلمت مع " الدود " .
إنها الحضارة التي قننت واقعيا في حربها ضرب المدنيين الأبرياء عبر تطور قيمي وحضاري وتكنولوجي امتد لعشرات القرون ، انتقلت فيه الإنسانية من حضارة إلى أخرى ، واصطحبت معها تغيرا في الثقافة المساندة بررت ما كان إرهابا لحساب أساليب الحرب الجديدة .
إن الحرب في ظل هذه الحضارة الحديثة لم تعد أسلحتها تعتمد على الطابع الأخلاقي أصلا ، كالشجاعة والشرف والمواجهة والمروءة والرجولة والمهارات الجسدية والإنفاق الشخصي ، لقد تطورت الحرب الحديثة تحت لواء التقدم العلمي التكنولوجي الهائل الذي أحرزته الدول الكبرى ومن يليها إلى حرب ليست لا تبالي فقط بضرب الأبرياء من المدنيين بل هي تجعلهم هدفها الأول والرئيس ، ولقد ذهب – ربما إلى غير رجعة - أسلوب القتال في العصور القديمة والعصور الوسطى " المتخلفة " الذي كان يعتمد على المواجهة بين صفوف القتال في أرض المعركة ، فإذا انهزم الجيش انتهت الحرب ، أما في التطور الحديث فقد انقلب الترتيب وأصبحت المعركة تبدأ أو تتطور إلى ضرب المدنيين أصلا فإذا تحطمت المدينة انتهت الحرب وتلك ثمرة من ثمرات التدهور الإنساني في معطيات الحضارة المعاصرة ،(/6)
إن الجيش الأمريكي في الحرب العالمية الثانية قام بضرب المدنيين دونما حاجة عسكرية استراتيجية وانظر ما فعله كما جاء في مقال الأستاذهشام الناصر في مقاله بجريدة الشعب في 26\7\ 2003 حيث يقول : ( لم يتدخل الأمريكيون مباشرة ضد هتلر إلا في يونيو 1944، عندما كان يعاني من هزيمته الأولى في يناير 1944، حيث تحطم جيشه في ستالينغراد، بعد أن خسر 400 ألف جندي بينهم 140 ألف أسير. وهنا ارتكب الجيش الأمريكي الفظائع التالية :
( قصف مرعب على التجمعات السكانية المدنية، أثناء أعمال الإنزال، راح ضحيته 570 ألف قتيل و 800 ألف جريح من المدنيين . قصف درسدن 135 ألف قتيل مدني، على الرغم من أن الزحف الروسي كان قد تجاوز المدينة، التي لم تعد لهذا السبب تشكل هدفا.
وفي عام 1945، هاري ترومان يصدر أوامره بإلقاء القنبلة الذرية علي هيروشيما، وفي أعقابها نجازاكي، أدت إلى مقتل وتشويه مئات الألاف من المدنين، إضافة للحيوانات وحتى الحشرات، وتدمير المباني والبنية التحتية واستمرار أخطار الإشعاع لسنوات طوال، رغم أن اليابان كانت قد هُزمت بالفعل في المعارك التقليدية، وكان الإمبراطور الياباني يتباحث بالفعل مع بعض الدول الوسيطة حول الاستسلام . وفي تصريحات وتحليلات لاحقة، اتضح أن الغرض الأساسي كان يتمحور حول إرهاب المعسكر الشرقي !!، وإبراز القوة النووية الأمريكية للعالم أجمع ) فبماذا يأتي جسد خلا من الروح ؟ أليس قد صار جثة مسكونة بالأباليس ؟
إن الجوهر الأخلاقي لأية حضارة إنما يظهر في غضبتها وهي تمارس الحرب كما هو الشأن في الفرد عند الغضب ، ومن هنا يتضح التركيب الدموي والطابع الهمجي لعمق هذه الحضارة ، كأنها نسخة من يأجوج ومأجوج ، أو كأنها جثة متعفنة لم تجد من يحنطها كجثة فرعون ، فتناثرت منها الآثام العفنة يمينا ويسارا فكيف يجدي معها إذن " إعادة التأهيل " التي أسقطتها على الأحياء .
إن هذه الحضارة هي التي صنعت تيارا عارما من قتل المدنيين أصبحت تكتوي به الإنسانية على المستوى العالمي : فالمراقبون السياسيون يسجلون أن العالم الغربى يشهد تياراً من العنف لم يسبق له مثيل منذ نهاية الحرب الباردة : الحروب الأهلية في المناطق الإسلامية من الاتحاد السوفيتى السابق . وحرب الإبادة التي استمرت سنوات في البوسنة والهرسك وكوسوفو ، ولم تهدأ إلا لفترة مؤقتة إلى أن يفيق المسلمون هناك من خديعة استبدال الذئب الأمريكي بالذئب الصربي . والحروب التي تجرى في المدن بين عصابات الشوارع : في الولايات المتحدة الأمريكية ، وبريطانيا ، وإيطاليا وألمانيا وفرنسا واليابان ، والتي تنظمها منظمات على أعلى مستوى من السيطرة والتحكم والإدارة والمال . .
وهل أغنت المظلة النووية شيئاً ؟! إن الاتحاد السوفيتي تبدد – كما يقول الأستاذ مصطفي محمود – الأهرام 30\9\1992 - وهو مسلح نووياً ، ، ماتت روسيا وهي واقفة بدون حرب ، وعلى ظهرها حمولة من القنابل الذرية تكفي لنسف الكرة الأرضية وفي الفضاء تدور سفينتها العجيبة " مير " ، . وسوف يسقط العملاق الغربى بنفس الداء .. سوف يموت من الداخل ، هذه المرة بمرض مختلف : اسمه الترف ، والوفرة والشبع ، والتخمة ، وعبادة الشهوات ، والغرق في الملذات . هذه المرة الميكروب : اسمه البطالة ، و المخدرات ، والجريمة المنظمة والمافيا ، وعجز الميزان التجاري ، وصراع العملات ، وكساد السوق …وكعادة كل حضارة مترفة ازدهرت فنون الانحلال ، وسينما العنف ، ومسرح العبث ، وغناء العهر ، وروايات الجنس التي تخلق البلادة والاكتئاب. ( ثم سر المكروبات : غرور القوة الذي يورث التمرد على كل شيء ، حتى على الخالق وقوانينه وسننه ، فنراهم يقننون الشذوذ … وكأنهم يخرجون لسانهم لحكمة الخالق التي أعمرت لهم الأرض فراحوا يخربونها بهذا الزواج العقيم ، ويحتفلون بهذا العقم ، ويتبادلون التهاني . )(/7)
وليس صحيحا ما يساق إلينا من الاستخفاف بخطورة الانحطاط الأخلاقي في عالم الجنس السائد في أركان هذه الحضارة ، فبالرغم مما يروج لها تحت عناوين التطور والتحرر والنسبية نجد من كبار قادتهم من يحذر من الخطر القادم من هذه الزاوية ، ففي آخر شريط مسجل للرئيس الأسبق للولايات المتحدة ريتشارد نيكسون أذيع أوائل العام ( 2002) بعد مرور 30 عاما علي توثيقه، يسوق الرجل اتهاما غليظا لليهود بأنهم وراء إباحة المارجوانا قانونا، ومساندة الشذوذ الجنسي وتقنين الزواج المثلي.. رجل برجل وامرأة بامرأة.. والأدهي أن المحركين لهذا الانحطاط والانحلال الإنساني من اليهود المشتغلين بالطب النفسي.. ويصفهم نيكسون بأنهم أصحاب أذهان مشوشة ، وأنهم بذلك إنما يقوضون أركان المجتمع الأمريكي. ويقول نيكسون إن الذي أضاع الامبراطورية الاغريقية هو الشذوذ الجنسي.. أرسطو كان شاذا.. وكذلك سقراط! وأن الذي هدم الامبراطورية الرومانية هو انحلال الأباطرة، ومضاجعة البابوات للراهبات! ويخلص نيكسون في النهاية إلي أن يهود أمريكا يدفعونها إلي نفس المصير! ( نقلا عن مجلة العالم اليوم 26\9\2002)،
هكذا تحدثت بقايا العقلاء من المفكرين من أبناء هذه الحضارة قبل أن يظهر الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة ، بعشرات السنين .
إن المشكلة هي في صميم تركيب هذه الحضارة : قوة في الجسد لم تسعفها قوة مطلوبة في الروح ، اللهم إلا الروح البوشية الممسوخة الانتقامية النابعة من المستوى الحضاري المنحط ذاته ، وإن تلفعت فجأة بنبوءات دينية ذرائعية كاذبة ، ليس لها من أثر في حياتهم غير إثارة الحقد ضد الآخر : دفعت العالم وما تزال تدفعه إلى هوة سحيقة بأسباب : من غرور الأقوياء ، وجهل الرؤساء ، وانحطاط المسئولين ، وكذب الحكام ، واختفاء الحكماء ، وانسحاق الضعفاء ، واستلاب البسطاء ، واستجابة الأرقاء ، وشيوع القلق والخوف ، والتهديد بالدمار تسعى إليه هذه الحضارة بخطى حثيثة ، تنبأ بها هنري برجسون ، وشفايتزر ، وألمح إليها دي برولي ، وتشارلز فرانكل وأرنولد توينبي ، وروجيه جارودي ، ورشدي فكار وغيرهم .
إن ذلك كله يمكن أن ننظر إليه بموازاة آثام حضارات تداعت من قبل ، أو على حضارات سقطت بسبب ما تخلت عن أسباب الصعود ، لكن أهم أسباب سقوط هذه الحضارة التي نحن بصددها – في رأيي - وفي ضوء ما شخصه حكماؤها من " تزايد التوسع في الجسد مع تزايد الهزال في الروح " ، هو في تماديها في أسباب صعودها : التقدم العلمي المتمرد على خالق الكون .. فهل وصلت حضارة من قبل إلى حضيض أن تجعل الأرض كوكبا غير صالح للسكنى ؟؟ ، أو أن تجعل من الإنسان ما ليس إنسانا وهي تغلق أبواب التاريخ ؟؟ : كليهما لم يكن إلا نتيجة مشروعها للتقدم ، وهو يتضح لنا مما شهد به أهلها : خبراؤها ، ومن أبرزهم " آل جور" نائب الرئيس كلينتون في كتابه ( الأرض في الميزان ) ، وفوكوياما في نظريته عن نهاية التاريخ ، فكيف يجدي معها إذن " إعادة التأهيل " وهي في نعش المثوى الأخير
وأخيرا وبالإضافة لما تقدم فإنه لا يصح لنا أن نستخف بالهوة المفتوحة أمام مسيرة هذه الحضارة في مجال القوة المادية نفسها التي تفوقت فيها لو أحسن المهزومون أمامها في التعامل معها . ففي مقال د مصطفى السعيد بجريدة العرب بعنوان " اطردوا الأمريكان من الخليج " بتاريخ 12\10\2003 نقلا عن جريدة التايم الأمريكية في عددها الصادر بتاريخ 4 أغسطس 2003 تحت عنوان " أزمة الطاقة الجديدة".. لماذا أمريكا أكثر اعتمادا، عن أي وقت مضي، علي البترول الأجنبي". حيث ركز المقال علي الحقائق الآتية:
أولا: إن جميع المحاولات والجهود التي بذلتها الولايات المتحدة، منذ الأزمة البترولية التي صاحبت حرب أكتوبر 1973، لم تنجح في تحقيق أهدافها في تقليل اعتماد الولايات المتحدة علي البترول المستورد من الخارج، سواء في ذلك البترول الخام أو الغاز الطبيعي أو المنتجات البترولية المختلفة، ففي عام 1973 كانت واردات الولايات المتحدة الأمريكية من البترول الخام حوالي 6 ملايين برميل يوميا، ثم زاد ليصل إلي 6.4 مليون برميل يوميا 1980 وإلي 12 مليون برميل يوميا عام 2002 كما جاء بمقال الدكتور حسن عبد الله في جريدة "الأهرام" بتاريخ 23/ 8/ 2003.. كما أن واردات الولايات المتحدة الأمريكية للبترول الخام كنسبة من إجمالي استهلاكها قد زادت من حوالي 28% عام 1972 لتصل إلي حوالي 53% عام 2002.
ثانيا: إن زيادة الاعتماد علي الخارج لم تقتصر علي البترول الخام، بل امتدت إلي الغاز الطبيعي، حيث زادت الفجوة بين الاستهلاك والإنتاج لتصل إلي حوالي 4 ملايين متر مكعب عام 2002، في الوقت الذي لم تتجاوز فيه هذه الفجوة أكثر من نصف مليون متر مكعب عام 1988.. وترجع أهمية الغاز الطبيعي إلي أن أكثر من 88% من الطاقة الكهربائية في الولايات المتحدة يتم توليدها باستخدام الغاز الطبيعي.(/8)
ثالثا: إن البترول لا يزال هو المصدر الرئيسي لتوليد الطاقة في الولايات المتحدة الأمريكية، وأن المصادر الأخرى من الفحم، والطاقة الشمسية، والطاقة النووية، وطاقة الرياح، والطاقة الهيدروليكية، لا تمثل أكثر من 20% من مصادر الطاقة في الولايات المتحدة الأمريكية.
رابعا: إن الرئيس بوش قد أعلن في يناير 2003 في حديثه عن أحوال الاتحاد عن برنامج لتوليد الطاقة من الهيدروجين، واقترح تخصيص 1.2 مليار دولار لتشجيع الأبحاث في هذا المجال وصولا إلي قدر أكبر من استقلالية الولايات المتحدة في استهلاكها لمصادر الطاقة.. إلا أن هذا البرنامج لا يتوقع له النجاح، كما تشير جريدة التايم، شأنه شأن البرامج السابقة عليه، وإن نجح هذه المرة فإنه لا يتوقع أن يحقق نتائج واضحة قبل مرور أكثر من عشرين عاما من الآن.
خلاصة القول.. فإن الولايات المتحدة الأمريكية سيستمر اعتمادها علي الاستيراد من الخارج للبترول الخام والغاز الطبيعي، وذلك خلال فترة العشرين سنة المقبلة علي الأقل..
ومن هنا فإن الفرصة متاحة تاريخيا –قبل انقضاء العشرين عاما المذكورة أعلاه - للدول النفطية في الشرق الأوسط والإسلامية لتوجيه الضربة القاصمة ضد الذي أعلن عليهم وصف " العدو الأول " وبدأ في محاربتهم عسكريا تحت عنوان الإرهاب ، وهم إنما يستثمرون هذه الفرصة المتاحة إن أحسنوا التعامل معها ووقفوا منها الموقف التاريخي الجذري بتعطيل إنتاج بترولهم ، هكذا ، ودفعوا الثمن الغالي لهذا الموقف بكل أخطاره وتداعياته وهو الثمن الذي لا مهرب مما هو أخطر منه وأشد لو تركوا منطق التعامل يجري وفقا لخطة العدو في الاستيلاء عليه ، بدلا من فرصتهم المفترضة في التعطيل والتي إن ضيعوها سيحاسبهم عليها التاريخ ، وهي فرصة محسوبة عليهم في حساب الله قبل حساب التاريخ ، وعند ذاك يضيفون إلى الذل الفقر المقيم ، فمن أي شيء يهربون ؟
وبالجملة : تلك نذر واضحة لسقوط حضارة قد اتسع خرقها وألقت أوزارها ، ومن ثم فهي لا تنفعها " إعادة تأهيل " وتشرذمت جثتها فهي لا يجدي معها طب الأطباء ، وتم عرضها على الأنظار في مسلخ التاريخ فما وجدت لوجهها غير البصاق ، وانتظرت من يشيعها فما وجدت رجل دين صادق ، ولذا استحقت أن يأرق لها الآرقون من أصحاب الضمائر . إذ هم والنائمون مع الجميع غدا : أشلاء . فأي الفريقين أحق بلوم من سيأتي بعد غد ؟!!
أد : يحيى هاشم حسن فرغل
من علماء الأزهر
عميد كلية أصول الدين بالأزهر سابقا ،
yehia_hashem@ hotmail .com
المقالة الثانية
سقوط الحضارة وكارثة الأرض
أيهما طريق إلى الآخر ؟
أد : يحيى هاشم حسن فرغل
yehia_hashem@ hotmail .com
تمر الحضارة المعاصرة اليوم بمنحنى خطير فيما يتعلق بشئون البيئة يهدد بما يطلق عليه : " مأساة الأرض " ـ ككوكب صالح للسكنى .ومنذ ظهر الإنسان على الأرض وإلى اليوم ما كان لأحد أن يساوره الشك لكي يطرح سؤالا على النحو الوارد أعلاه ، إذ ما كان يشك أحد في أن الطريق إلى الكارثة الكبرى مفتوح من الأرض إلى الإنسان أن تزلزل الأرض زلزالها أولا ، وليس العكس ، إلى أن بدا لنا اليوم أن الآية القرآنية في قوله تعالى { ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس لعلهم يرجعون . } 41 الروم ، تجيب بغير ما كنا نظن : بأن كارثة يصنعها الإنسان في سياق حضارة العصر هي التي ستؤدي إلى كارثة للأرض ، وتلك هي مشكلة البيئة التي يصنعها الإنسان المعاصر ، إذ وصلت هذه المشكلة إلى مستوى تهديد الأرض ككوكب صالح للسكنى ، وصار طريق الخطر الأكبر مفتوحا من الإنسان إلى الأرض ، عندئذ تزلزل . إن الأخطار التي تهدد البيئة اليوم لم تعد أخطاراً محلية يمكن أن يقتصر ضررها على وطن ، أو إقليم ، أو قارة بعينها ولكنها أخطار تهدد بيئة الأرض كلها .إنها أخطار تأتى على مستويات متدرجة : في الفضلات ودفن المخلفات ، والأمطار الحمضية ، وتلوث مستودعات المياه الجوفية ، و زيادة كمية الكلوروفلور في الغلاف الجوى ، و الاحترار العالمي و قطع الغابات ، وتجفيف البحيرات ، وتحويل الأنهار ، والنفايات ، والتلوث النووي ، وتهديد التنوع الحيوي.. إلخ.(/9)
ومن الملاحظ أن كبار الخبراء والباحثين قد أدركوا عمق المأساة التي تنحدر إليها الأرض في هاوية البيئة . يقول بارى كوموز في كتابه الشهير " الدوامة " ـ كما ينقل عنه الأستاذ راشد الحمد ومحمد صبارينى في كتابهما بعنوان " البيئة ومشكلاتها " ص 199 نشر عالم المعرفة بالكويت ـ : ( أنقذوا الإنسان من الموت المؤكد ، ساهموا في مكافحة التلوث ، إن مدنية قبائل البوشمن في وسط إفريقيا هي أرقى من مدنية الإنسان المعاصر في البيئة المرفهة الأمريكية) . وتقول الدكتورة هند صادق أستاذة علم طبقات الجو العليا والتلوث في واشنطن . ( إن الإنسان القديم كان متفاعلاً مع الطبيعة ومع كل مظاهر الحياة من حوله .أما ما يفعله أحفاده اليوم ، فهو تدمير كل ما هو جميل ، وخير وطيب ، في هذه الأرض التي نحيا عليها . ) الأهرام 23\12\1989 ، ويقول الأستاذ الدكتور طلبه عويس في دراسة له نشرت بكتاب بعنوان ترجمته " من أجل الحفاظ على الأرض " مع الدكتورة هند وآخرين : ( إن الإنسان ابن الطبيعة قد طعنها في مقتل . )
إن الأرض كلها هي التي تمر اليوم بالمأساة . إن حجم المشكلة وصل إلى حد الوصف القرآنى لها في قوله تعالى :{ حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس ، كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون . } 24 يونس .
ويقدم آل جور ، نائب رئيس الولايات المتحدة السابق صورة المأساة في دراسة عالمية حديثة ، جاءت في كتابه ( الأرض في الميزان ) ، قام بها فريق كبير من الخبراء والباحثين بقيادته ، وترجمت إلى اللغة العربية ، وأصدرها مركز النشر والترجمة في الأهرام بالقاهرة عام 1994م ، وتتمثل المأساة وفقا لهذه الدراسة في :
(1) مشكلة القمامة : وهي تأتي في تيار عارم ، يتدفق بكميات هائلة لم تعد الأرض قادرة على استيعابها كما يؤكد خبراء البيئة . وإذا كان البعض يحاول التخلص من القمامة بحرقها ـ حيث توجهت استثمارات ضخمة إلى هذا السبيل بلغت حوالي عشرين مليار دولار في وقت من الأوقات ـ فإن بعض الخبراء ينظر إلى هذه الوسيلة على أنها غير مجدية وتزيد الطين بلة ، وأنه إذا ما استمرت عمليات حرق الفضلات فإن كمية الزئبق المتصاعد عن هذا الطريق تضيف ملايين الأرطال من الزئبق إلى النظام البيئي ، عبر حدود الدول ، ثم تصل بالضرورة إلى الغلاف الجوى لكوكب الأرض بأسره .
(2) مشكلة تلوث الهواء : يقول بعض خبراء البيئة : إن أوصال العالم ترتعد فزعاً من مستويات التلوث التي لا يصدقها عقل ، وبالذات تلوث الهواء على مستوى العالم كله .
وعلى سبيل المثال فإنه في بعض المناطق في بولندا يؤخذ الأطفال بصفة منتظمة إلى مناجم عميقة تحت الأرض لمدة من الوقت يريحون فيها صدورهم من الغازات المتراكمة ، والتلوث الذي يملأ الهواء بكل أنواعه . ولقد لاحظ زائر لأحد المدن الرومانية تسمى ( كوسباميكا ) أو ( المدينة السوداء ) : أن الأشجار والحشائش ملطخة بالدخان إلى حد أنها بدت كأنها مشربة بالمداد . وذكر أحد الأطباء المحليين هناك أنه حتى الخيول لا تستطيع البقاء في تلك المدينة لأكثر من عامين ، وتعاني مدينة مكسيكوسيتى يومياً من أقسى درجات التلوث الهوائي على مستوى مدن العالم بأسره الأمر الذي يؤكد أن تلوث الهواء يصل من شمال أوروبا إلى المنطقة القطبية وينتقل إلى كل بقعة في الأرض . ص 85-87 .
(3) ثقب الأوزون : وغاز الأوزون يدخل كطبقة هامة في تركيب الغلاف الجوى للأرض يعمل على حماية سطح الأرض من سقوط الكميات الضارة للأشعة ذات الموجة القصيرة ( فوق البنفسجية ) . ومن الملاحظ أن هذه الطبقة من الأوزون أخذت تتآكل بسبب تصاعد غاز الكولوروفلوروكربون الذي يتزايد إنتاجه بكميات هائلة في الصناعات الحديثة . ومن هنا فإن هذا التآكل أخذ يسمح لمزيد من الأشعة فوق البنفسجية بأن ترتطم بسطح الأرض ، وتصطدم بكل الأحياء ، ومن أسوأ العواقب المترتبة على تلك الزيادة : سرطان الجلد ، ومرض إعتمام عدسة العين ( الكاتاراكت ) وكلا المرضين يزدادان انتشاراً ، وبالذات في مناطق بنصف الكرة الجنوبي مثل استراليا ونيوزيلندا ، وجنوب أفريقيا ، وفي كوينزلاند بشمال شرق استراليا ـ على سبيل المثال ـ فإن أكثر من 75% من السكان الذين بلغوا الخامسة والستين من العمر مصابون الآن بنوع من سرطان الجلد . ومنذ اكتشاف ثقب الأوزون وهو يزداد عمقاً واتساعاً ، وهو يغطى حالياً في الغلاف الجوى مساحة تعادل ثلاثة أمثال مساحة الولايات المتحدة الأمريكية .(/10)
(4) نقص التأكسد : وذلك أنه في الظروف العادية ينظف الغلاف الجوى نفسه ـ بسنة الله في الطبيعة ـ من الملوثات من خلال عملية تعرف بالتأكسد ، حيث تتفاعل المواد والغازات الضارة مثل الميثان وأول أكسيد الكربون مع منظف طبيعي إلهي يعرف باسم الهيدروكسيل ، واليوم في ظل الحضارة الصناعية فإن الإنسان يدفع بكميات هائلة من غاز أول أكسيد الكربون في الطبقات العليا من الجو ـ من خلال عمليات حرق الوقود وحرق الغابات ـ لدرجة أن حجمه أصبح طاغياً بالقياس إلى الكمية المتاحة في الطبيعة من الهيدروكسيل ، وبهذا تتزايد كميات أول أكسيد الكربون وغاز الميثان في الغلاف الجوى بسرعة كبيرة ، وأصبح له دوره الفعال بين الغازات الأخرى المسببة لظاهرة الاحترار ، وهنا يأتى الخطر الاستراتيجي العالمي ، ألا وهو ظاهرة الاحترار وهو الأشد خطورة على الإطلاق ، على مستوى الكرة الأرضية كلها .
(5) ولب المشكلة في ظاهرة الاحترار أن الحضارة الحديثة – طبقا لخطوات التقدم الصناعي – تضيف إلى الغلاف الجوي العديد من الغازات التي تجعل الغلاف الجوى أكثر سُمكاً بدرجة كبيرة ، ونتيجة لذلك فإنه يحتجز المزيد من الحرارة ، التي كان من المفروض ــ في ظل موازين الله ــ أن تخرج من جو الأرض في الأحوال العادية السابقة . في السابق كانت تحدث تغيرات في حرارة الأرض على مدى عصور جيولوجية طويلة ، أما التغيرات التي يتوقعها الخبراء بفعل الإنسان المعاصر فإنها من المنتظر أن تحدث خلال عمر فرد واحد ، ومعنى هذا أنه عندما كانت التغيرات تحدث بسنة الله ، ودون تدخل الإنسان ، كانت الفرصة متاحة للإنسان للتكيف ، ولكنه لم يحدث في تاريخ الإنسان أن اضطر للتكيف مع تغيرات هائلة في عمر جيل واحد . ومن المؤكد أن هذه الزيادة في مستويات ثاني أكسيد الكربون ــ الذي سيظل محبوساً في الغلاف الجوى للأرض ــ تؤدى إلى زيادة ملحوظة في مستوى الحرارة للكرة الأرضية . والخطر هنا لا يكمن في ارتفاع درجة الحرارة بضع درجات قليلة ، ولكنه يكمن في أن هذا الارتفاع سوف يؤدى إلى الإطاحة بالنظام المناخي للعالم كله دفعة واحدة . وعندما يتغير النمط المناخي للعالم فإنه ستتغير أيضاً تحركات الرياح والأمطار ، ونوبات الفيضان ، والجفاف والمراعى والصحارى والحشرات والحشائش ، وفصول الرخاء والمجاعة ، ومواسم الحرب والسلام . والخطر الذي يترتب على اختلال النظام المائي على ظهر الأرض لا يتوقف على الاضطراب الشديد في إعادة توزيع الموارد المائية العذبة ، وإنما يتعداه إلى خطر استراتيجي ثان : هو ذوبان الجليد ، ومن ثم ارتفاع مستوى سطح البحر ، وغرق المناطق الساحلية الواطئة حول العالم كله ، وهذا يهدد دولاً مثل بنجلاديش ، والهند ، ودلتا مصر ، وجامبيا ، وإندونيسيا ، وموزمبيق ، وباكستان ، والسنغال ، وتايلاند ، والصين ، وجزر المالديف ، وهولندا ، وبلجيكا ، وسوف تكون الدول الفقيرة بالطبع هي الأكثر تضرراً ، لأنها الأضعف من حيث القدرة على مواجهة هذه الأخطار . ص 102.
(6) اقتلاع الغابات : وهناك خطر استراتيجي يمارسه الإنسان المعاصر ، ويهدد النظام المائي لكوكب الأرض . وهو يختص باقتلاع الغابات على نطاق واسع ، حيث إن تدمير غابة يمكنه أن يؤثر في النظام الطبيعي لتوزيع المياه بما يمثل اختفاء بحر كبير مغلق .
ونجد مثالاً مأساوياً بذلك في أثيوبيا ــ لفقدان الغابات حيث تراجعت كميات الأمطار المتساقطة ، إلى درجة جعلت الأراضي تتحول بسرعة إلى أرض بور ، ثم دخلت البلاد بعد ذلك ــ مع تضافر أسباب أخرى ــ في مأساة المجاعة والحرب الأهلية ، وفي جنوب أمريكا هناك خطر مماثل ، بسبب تدمير الغابات ص 110.
(7) وهناك خطر تلوث مصادر المياه على مستوى العالم بالملوثات الكيماوية التي تنتجها الحضارة المعاصرة ، ويأتى انسكاب البترول كواحد من أكثر الملوثات وضوحاً في المحيطات ، وفي بعض الأنهار الداخلية . وهل سمعتم من قبل عن أنهار تشتعل فيها النيران ؟ لقد حدث ذلك في نهر كياهوجا في ولاية كليفلاند ، وفي الاتحاد السوفيتي فإن الأنهار ــ كما يقول آل جور ــ ما زالت يمكن أن تشتعل فيها النيران .وبصفة عامة ، فإن تلوث مصادر مياه كوكب الأرض آخذ في الزيادة بصفة مستمرة ، ويزداد سوءاً بصورة مفزعة ، وطبقاً لعملية مسح قامت بها وكالة متخصصة في حماية البيئة فإن حوالي نصف أنهار وبحيرات وجداول أمريكا إما أنه يعانى بالفعل من تلوث مياهه أو في طريقه إلى ذلك .
ومع ذلك فإن تلوث المياه وتأثيراته الرهيبة المؤلمة يمكن الإحساس بها بوجه خاص في العالم الثالث ، حيث زاد معدل الوفيات الناتج عن الإصابة بالكوليرا والتيفود والدوسنتاريا والإسهال .(/11)
(8) سوق النفايات : تتمركز سياسة الدول الغربية والأوربية ــ كما يقول مسئول بمنظمة الصحة العالمية ــ حول إدراك سياسي واقتصادي بأن العالم الثالث هو سوق كبير للنفايات الأوربية التكنولوجية ، الملوثة والمدمرة للبيئة ، ولبيع المبيدات والبذور الفاسدة المؤثرة على صلاحية التربة الزراعية ، وإجراء التجارب على البشر والزراعة ، فضلاً عن الأغذية الفاسدة والأدوية التي تجعل من البشر في العالم الثالث حقلاً لتجاربها ، وقد أعلن في تقارير رسمية نشرتها الصحف في أمريكا أن لديها 265 مليون طن من هذه النفايات سنوياً تحتاج إلى التخلص منها ، وأن مجموعة دول السوق الأوربية لديها سنوياً 35 مليون طن سنوياً . ويقول بعض المعلقين إن تجارة النفايات الكيمائية أصبحت كبيرة جداً، وتعمل فيها شبكة من المافيا والسماسرة والمهربين
(9) احتمالاتً الكوارث النووية : ما الذي يمكن أن تحدثه حرب ذرية في البيئة ؟ سؤال طرحته منظمة الأمم المتحدة على عشرة من كبار علماء العالم واستغرقت الدراسة حوالى عام كامل ، وتم تسليمها إلى بيريزدى كويلار السكرتير العام للأمم المتحدة آنذاك : وقد قدمنا نتائج هذه الدراسة في مقال سابق .
وتلخص جريدة الأهرام 27\4\1990 المأساة في أروقة السياسيين وعدم مبالاتهم تحت عنوان " الكارثة تقترب والإنسان عدو نفسه " : ( مع احتفال العالم كله بيوم " كوكب الأرض " هذا الأسبوع تعالت صرخات التحذير من كارثة مناخية مدمرة تهدد آلاف الملايين من البشر بسبب ارتفاع درجة حرارة الأرض ، وزيادة معدلات التلوث ، إلى درجة بالغة الخطورة . وبينما كان العلماء يصرخون من أن الوقت لم يعد في صالح البشر وأنه يتعين علينا جميعا أن نخوض " حربا عالمية " لإنقاذ الكرة الأرضية من دمار التلوث دخل ساسة الدول الكبرى في خلافات ومتاهات عميقة حول كيفية مواجهة هذه الأزمة .
وفي مؤتمرهم الذي عقد تحت إشراف الولايات المتحدة اتخذت الأزمة طابعا سياسيا عاصفا طغت عليه المصالح الاقتصادية والانتخابية . وانتهى المؤتمر – كما كان متوقعا – دون اتخاذ أية قرارت عاجلة أو طارئة للحد من السموم التي تهدد مناخ الأرض ورفضت أمريكا – رغم مسئوليتها وحدها عن حوالي ربع التلوث الصناعي في العالم - أن تقدم أية تعهدات أو تنازلات صناعية من شانها أن تؤثر على نموها الاقتصادي .
وفي ذات المؤتمر قال بوش – الأب – الذي كان يطلق عليه أيام الانتخابات اسم " رئيس البيئة " " إننا نريد حقائق علمية أولا .. نريد بحوثا دولية توضح لنا " الغموض " في هذا العلم .. إننا لا نستطيع أن نحسن المناخ على حساب نمونا الاقتصادي "
العلماء يريدون خفضا حادا في ثاني أكسيد الكربون والغازات الأخرى التي ترفع درجة حرارة الأرض وذلك بما يتراوح بين 50 و 80 % ، وهذا يتطلب على أقل تقدير الخفض الجذري في استخدام السيارات ومعظم إمكانات الحياة الحديثة ، فهل يجرؤ أي زعيم سياسي على فرض مثل هذه الإجراءات ؟
إن درجة حرارة الأرض سوف ترتفع 3 درجات مئوية ، فيذوب الجليد ، ويرتفع منسوب مياه البحار والمحيطات وتغرق الأراضي المنخفضة وربما دولا بأكملها .
وقد حذر العالم المصري مصطفى طلبة من أن شواطئ مصر والوجه البحري كله ليست بمنأى عن هذا الخطر ..
كما حذر الدكتور طلبة من أن التصحر والقحط سينتشر في الدول البعيدة عن المياه مما سيؤثر على الإنتاج الغذائي في العالم ، وسوف تموت الغابات والحيوانات التي لا تتحمل درجات الحرارة المرتفعة وستكثر العواصف والأعاصير ، فتقطع الاتصالات وتزيد من الكوارث الطبيعية ، وذلك علاوة على ما سيصيب الإنسان من أمراض مثل السرطان وفقدان المناعة وفقد البصر … )
وتلخص الأهرام في تقريرها ما آل إليه الوضع فعلا في أوربا وأفريقيا والولايات المتحدة وآسيا مصر حتى كتابة التقرير فتقول :
( يقول العلماء إننا دخلنا العد التنازلي للكارثة وان 50% من الضرر قد وقع فعلا خلال العقود الثلاثة الماضية وأنه في المستقبل القريب سوف تفقد 40 دولة احتياجاتها من الماء
وتظهر صور الأقمار الصناعية للمناخ في أوربا الشرقية كتلا كثيفة سوداء من الغازات والأتربة الصناعية تنتشر فوق مصانع ألمانيا الشرقية وتشكوسلوفاكيا وتغطي بولندا بأكلها ، وفي بولندا بالذات كل شيء مسمم : الجو والتربة والماء
وتتعرض أوربا الغربية أيضا وخاصة في المناطق السياحية بجبال الألب لأزمة بيئية نتيجة للأمطار الحمضية والتلوث النووي من تشرنوبل
وفي بريطانيا هناك نسبة تلوث عالية من الـ 1900 مصنع على أراضيها فأحد هذه المصانع يبعث بثمانية أطنان من ثاني أكسيد الكبريت في الجو يوميا وهو ما يزيد عشر مرات عن المعدلات المسموح بها
ووفقا لهذه التقارير فإن قارة أفريقيا لم تعد تصلح للحياة بسبب التلوث والجفاف وأن خمسين مليونا من البشر يعيشون في أراض متصحرة تهددهم المجاعات كل عام ، وأن القحط في أفريقيا ينتشر بمعدل 2,3 مليون متر مربع سنويا(/12)
ويقول تقرير أصدره مجلس السوفييت الأعلى أن شخصا من بين كل خمسة أشخاص بالاتحاد السوفيتي – قبل تفككه بالطبع - يتنفس هواء يحتوي على نسبة من الكيماويات الخطيرة تزيد عشر مرات عن الحد الأقصى المسموح به ، وان 600 مدينة سوفيتية نصحت مواطنيها بشرب المياه المعبأة
وفي الصين كلما هبت الرياح فوق المدن الصناعية انتشر دخان أحمر وأسود ليغطي الأراضي والسلطات هناك تواجه مشكلات رهيبة في مواجهة التلوث بإمكاناتها المحدودة .
وفي الولايات المتحدة مازالت الدولة تواجه مشكلات بيئية خطيرة ففي مائة مدينة يصل الدخان في الجو إلى نسب تزيد عن المسموح به ، مما يزيد من نسبة الإصابة بالسرطان ، كما أوقفت 2000 سفينة شحن في نهر المسيسبي بعد أن انخفض مستوى النهر عشرة أمتار
ويقول الباحثون إنه في العاصمة المصرية أصبح مجرد تنفس الهواء خطرا يهدد الحياة وهو لا يقل خطورة عن تدخين علبتي سجائر يوميا . )
والحق أننا ونحن نتحدث عن مشكلة الأرض والإنسان في العصر الحديث على هذا النحو ، يجب أن نعلم أننا نتحدث عن نوع " جديد " من الإنسان غير الذي نعرف على وجه التاريخ من قبل ، كذلك ونحن نتحدث عن وضعية الأرض فإننا نتحدث عن وضعية غير التي عرفها الإنسان على وجه التاريخ الطبيعي من قبل ، فالإنسان الجديد هو نوع جديد لم يعد يشرك بالله آلهة أخرى تنتسب إلى كائنات علوية ، أو سفلية مجردة أو غير مجردة ، يحصل عليها من مصدر الحكايات والأساطير والأصنام ، أو التراث الشعبي ، ولكنه أصبح يضع نفسه ــ حسب زعمه ــ في موضع الألوهية منذ أمكنه ــ حسب وهمه ــ أن يسيطر على الطبيعة بأداة العلم حسب مشروع النهضة الأوربية منذ القرن السادس عشر .
كذلك فالأرض ليست هي الأرض الموكول أمرها إلى قدرة الله وعنايته ورحمته وموازنته ، ولكنها الأرض المتروكة بسخط الله ــ وإلى أمد ــ إلى قدرة الإنسان في السيطرة على الطبيعة حسب زعم هذه الحضارة منذ وضع الإنسان أركانها في عصر النهضة .
إن الصانع لمأساة البيئة ــ مأساة الأرض ، هو وجهة النظر الفلسفية التي قامت عليها الحضارة الغربية المعاصرة . وفي هذا المعنى يقول أرنولد توينبى : ( في عصرنا نجد أن سيادة الإنسان التامة على المحيط الحيوي بأكمله تهدد بتحطيم المحيط الحيوي والقضاء على الحياة بما في ذلك الحياة البشرية كلها . ) . وهو يذكرنا بوجود هذا التوجه ــ السيطرة على الطبيعة ــ في الثقافة اليهودية القديمة ، في العدد الثامن والعشرين من الإصحاح الأول من سفر التكوين القائل ( وباركهم الله ، وقال لهم أثمروا وأكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها وتسلطوا على سمك البحر ، وعلى طير السماء ، وعلى كل حيوان يدب على الأرض ) . تاريخ البشرية ج 1 ص 30-31 " .ثم يشير إلى مخالفة هذا التوجه لما جاء في ثقافات الشرق إذ يحكى على لسان تاوتى تشينج قوله : ( كلما ازدادت الأسلحة الحادة تزداد الأرض كلها انغماساً في الظلام ، وكلما ازداد عدد الصناع الحاذقين تزداد الآلات المتلفة التي تخترع ، وكلما ازدادت القوانين التي تشرع يزداد عدد اللصوص وقطاع الطرق . شد القوس إلى النهاية وستتمنى لو أنك توقفت في الوقت المناسب ) تاريخ البشرية ج1 ص 30 .
ويتفق آل جور ــ وهو أحد كبار القيادات المسئولة في هذه الحضارة – مع التحليل الذي وصل إليه أرنولد توينبى للمشكلة ، حيث يقول آل جور : ( إن الثقافة الغربية المعاصرة تقوم على افتراضات متعلقة بالحياة ، يتم تلقينها للأطفال ، ألا وهي : إن الطبيعة يتعين إخضاعها ) . (وهي افتراضات انتقلت من جيل إلى جيل ، منذ زمن ديكارت وبيكون ، ورواد الثورة العلمية الآخرين ، أى منذ 375 عاماً مضت ، وقد استوعبت هذه الحضارة تلك القواعد ، وتعايشت معها قروناً دون أن يراجعها أحد بجدية ) ، وهو يربط بين هذه العقيدة الحضارية وبين أزمة البيئة المعاصرة ، ثم يقول : ( إن الأزمة البيئية بلغت اليوم حداً من الخطورة يجعلنا نعتقد أن حضارتنا يجب أن تعتبر بطريقة أساسية مختلة الوظائف ، وأن إحدى القواعد التي تقوم عليها الحضارة مختلة الوظائف هي أنك لا يمكنك مراجعة هذه القواعد أو مناقشتها ) . كأنه يتطابق في ذلك مع قوله تعالى : { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة } 7 البقرة . وهذا يعني أن الحل لا يمكن أن يأتي في سياق الحضارة المعاصرة .(/13)
ثم يقول آل جور في تشخيص مرض الحضارة الذي أدى إلى أمراض هذه البيئة : ( كل جيل جديد في حضارتنا المعاصرة يشعر الآن بالاعتماد الكامل على تلك الحضارة نفسها . ذلك أن حضارتنا هي التي تزودنا بأنواع الطعام فوق أرفف السوبر ماركت ، والماء المتدفق من الصنابير داخل بيوتنا والمأوى ، والمأكل ، والملبس ، والعمل ، ووسائل التسلية …. إن أحداً لا يجرؤ على مجرد التفكير في حرمان أنفسنا من هذه العطايا الكثيرة ) ص 233 ، ــ مما يعتبر مصداقاً لقوله r عن الكافر أنه يأكل في سبعة أمعاء ( المؤمن يأكل في معى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء ) أخرجه مسلم في صحيحه : إنها نزعة الاستهلاك الجنوني الذي أطلقته هذه الحضارة من عقاله ، ليصبح وحشا كاسرا يستحيل إيقافه سواء على المستوى الفردي أو الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي ، وهي وإن كانت أمعاءً سبعة ، إلا أنها أمعاء زائفة ، يقول : ( إننا شيدنا في حضارتنا عالماً زائفاً من الزهور البلاستيكية وحلبات السباق الفلكية ، وأجهزة التكييف ، وأنوار الفلورسنت ، والنوافذ الشكلية التي لا تفتح ، والموسيقى الخلفية التي لا تتوقف ، والليالى الوهاجة بالبريق ، ومواخير التسلية وأوكارها، والطعام المجمد لأفران المكروييف ، والقدرات الذهنية التي تعتمد على الكافيين ، والكحول ، والمخدرات ، والأوهام والخيالات .... إن العديد من القواعد غير المدونة لحضارتنا مختلة الوظائف يشجع على الإذعان الصامت فيما يختص بأنماط السلوك المدمر التي نتعامل بها مع عالم الطبيعة .. ) ص 234 ، ثم يقول : ( إن المرء يكاد يصيبه الهلع من جراء اندفاعنا المسعور والقسري الواضح ، لكي نفرض سيطرتنا على كل بقعة فوق ظهر الأرض .. ودائماً فإن حاجات الحضارة التي لا يتم إشباعها تزيد نيران العدوان اشتعالاً ، والوصول إلى إشباع حقيقي لهذه الحاجات هو أمر بعيد المنال تماماً ) . ثم يقول آل جور ( إن الأراضي التي يتم غزوها - يقصد بالتكنولوجيا الحديثة - لا تلبث أن تصبح أرضاً جدباء خربة ، وقد انتزعت منها خصوبتها ، وسلبت مواردها الطبيعية ، واستهلكت على وجه السرعة ، وكل هذا التدمير لا يؤدي إلى شيء سوى إذكاء شهيتنا للمزيد ، إننا نقوم بشكل منتظم بالاعتداء على أكثر مناطق عالم الطبيعة تعرضاً للخطر وأقلها قدرة على الدفاع عن نفسها : تلك هي الأرض المطيرة والمحيطات ..) ثم يقول ص 234 : ( ونحن أيضاً نعتدي على أعضاء آخرين من الأسرة الإنسانية ، وبخاصة أولئك الذين لا يستطيعون التعبير عن أنفسهم ، لقد سمحنا بسرقة الأرض من السكان الأصليين ، وباستغلال المناطق التي يسكنها أشد الناس فقراً . والأسوأ من ذلك كله أننا قمنا بالعدوان على حقوق الأجيال التي سوف تأتى بعدنا ، فعندما نقوم بتجريف الأرض بمعدلات تفوق قدرتها على الاحتمال تماماً فإننا نجعل من المستحيل على أحفادنا أن ينعموا حتى بمستوى معيشة يقل كثيراً عما ننعم به نحن . إننا الآن نفرض نموذجنا مختل الوظائف وإيقاعنا المتنافر على أجيال المستقبل ، ، وذلك بطريقة فاسدة ) مما يعتبر مصداقاً لحديث الرسول r عن جماعة ركبوا سفينة ، أراد من في أسفلها أن يخرقوا خرقا ليأخذوا منه الماء ( فإن تركوهم وأمرهم هلكوا جميعا ، وإن أخذوا على يدهم نجوا جميعا )أخرجه أحمد في مسنده .
وإنه لمن الغريب أن بعض المفكرين والمخططين من أبناء الحضارة الغربية المعاصرة يدعون إلى علاج عنصري لكارثة البيئة التي وصلت إلى حد جعل الأرض غير صالحة للسكنى ، فيقترح بعضهم - كما يذكر الدكتور رشدي فكار - : تبنى مسلسل " الكوارث المحسوبة " بالنسبة للبيئات الخاصة بالسكان بلا إنتاج (!!) ، يعنون بذلك " العالم الثالث " . أو دفع هذا العالم ــ بالذات ــ إلى تحديد النسل بكل الوسائل والسُبل . أو تشجيع الحروب المحلية في العالم المذكور . وبتعميم الجفاف على أرضه وفق تخطيط معين . أو بنشر التلوث المقنن فيه !!! : أنظر " نهاية عمالقة " لرشدي فكار ص 131 .
وهناك فئة من العلماء تكتسب أهمية يوماً بعد يوم يطلق عليهم علماء " الأيكولوجيا العميقة " يبنون تصورهم للحل على أساس نظرتهم للإنسان باعتباره نوعاً من أنواع الفيروس ، أصاب الأرض بالطفح الجلدي والحمى ، وينسبون إليه القيام بدور سرطان يهدد الكرة الأرضية وينتشر فيها على نحو لا يمكن التحكم فيه ، واستمراراً لهذه الرؤية فإن العلاج الممكن الوحيد لأمراض الأرض التي أصابتها هي ( استئصال الناس من على وجه الأرض) باستثناء فئة محدودة ينتسبون هم إليها ، باعتبار أنهم يقومون عندئذ بدور الأجسام المضادة للحد من انتشار المرض وهم بذلك يدفعون منطق التطور إلى نتائجه الحقيقية ( آل جور ص 219 ) .(/14)
وهناك فئة أخرى - تلتقي مع الحل الإسلامي - تشير إلى أن البداية الصحيحة تأتى من خلال تغيير النفس ، ومن ثم تغيير القواعد التي بُنيت عليها هذه الحضارة الغربية المعاصرة . يقول أرنولد توينبى ( يظهر أن الإنسان لن يستطيع إنقاذ نفسه من الدمار الذي تسببه قوته المادية وطمعه الشيطانيان ما لم يسمح بأن تتغير نفسه كلياً ، بحيث يحفزه ذلك إلى أن يتخلى عن غايته الحالية ، ويعتنق المثل الأعلى المخالف لذلك تماماً .... فهل باستطاعته أن يقبل .. ؟؟ إن المناصرة حول هذه القضية التي طال عليها الزمن والتي يبدو وكأنها تكاد تبلغ نهاية تصعيدها في يومنا هذا هي الموضوع الذي يتناوله الصدام بين البشرية والأرض الأم … ) تاريخ البشرية لأرنولد توينبي ص 32 ج 1 .
إنه في نظر كثير من الخبراء والباحثين لا أمل في مواجهة كارثة البيئة المتفاقمة ما لم يُعدٌل الإنسانُ من سلوكه بالنسبة للأرض ، وجهاز الضبط الحرارى – الترموستات - الوحيد القادر على منع هذه الكارثة هو ما يكون في داخل رءوسنا وقلوبنا وعقيدتنا ص 95 ، يقول آل جور : ( إنه إذا كانت أزمة البيئة العالمية ضاربة الجذور في النمط مختل الوظائف ، المميز لعلاقة حضارتنا بعالم الطبيعة ، فإن الخطوة الأولى في الحل تتمثل في مواجهة هذا النمط .. وفهمه بالكامل وإدراك أثره المدمر على البيئة ، وعلينا أن ننتقل من مفهوم السيطرة على الأرض إلى مفهوم آخر ) ص 232 –239 .
وهذه إشارة إلى بداية الحل الصحيح للمشكلة في رحاب قوله تعالى { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } 11 الرعد .
إن العلاج لا مفر له من أن يعود إلى تفكير الإنسان في طريقة معيشته ، إن أزمة التخلص من الفضلات مثلاً وهي أزمة عالمية ــ وهي أهون مشاكل أزمة البيئة المعاصرة ــ هذه الأزمة تنبع من أسلوب هذا الإنسان في الإنتاج والاستهلاك ، إنها تنبع من فهمه للاقتصاد ، تنبع من فهمه لعلاقته بالحياة الدنيا . تنبع من تكوينه العقدي الذي يصوغ علاقته بالطبيعة ، وعلاقته بالله . إن كل الأنواع الحية تنتج فضلات وجميعها بغير استثناء يمر بعمليات " إعادة التدوير " ليس بواسطة تلك الأنواع الحية نفسها، ولكن بأشكال أخرى من الحياة ترتبط معها بعلاقات التكامل والتوازن . وتقوم سُنن الله في الطبيعة بفصل العناصر ذات السمية لتدخلها في عمليات بطيئة لتحولها إلى مواد غير سامة ، وهذا بالطبع يفترض المحافظة على علاقات التوازن التي وضعها الله بين الأنواع الحية .
وإذا حدث أن تخطى أحد هذه الأنواع حدوده المرسومة له في هذا النظام ــ كشأن الإنسان المعاصر في طموحه للسيطرة على الطبيعة بواسطة العلم ــ فإن هذا النوع يتعرض لخطر أن يصبح عاجزاً عن الهرب من النتائج المترتبة على زيادة فضلاته ، فضلاً عن ذلك فإن احترام سُنن الله في الطبيعة من شأنه أن يساعد على عدم إنتاج مشكلة الفضلات أصلاً ، ذلك لأن فضلات أحد الأنواع الحية تصبح مادة نافعة لنوع حي آخر ، هذا ولأننا نحن البشر في ظل قيمة السيطرة على الطبيعة من قيم الحضارة المعاصرة ــ قد اكتسبنا ــ كما نتوهم ــ زيادة في قدرتنا على تشكيل العالم ، فقد بدأنا في إنتاج فضلات خرجت من ناحية كميتها واحتمالاتها السمية ، على الميزان الإلهي الموضوع لامتصاص هذه الفضلات ، ونتيجة لذلك فإن هذا الإنسان " الحضاري " الذي استبعد عقيدة الألوهية ، وتعامل معها من موقف حيادي ، أو على الأقل أنكر عقيدة العناية الإلهية .. هذا الإنسان أصبح ــ وفقاً للنواميس الإلهية نفسها " متروكاً لنفسه " وكان عليه أن يبحث عن طريق مستقل عن الله { قل ما يعبأ بكم ربى لولا دعاؤكم ، فقد كذبتم فسوف يكون لزاماً }77 الفرقان ، ويقول تعالى { نسوا الله فنسيهم، إن المنافقين هم الفاسقون } 67 التوبة .
إن المطلوب هو تغيير يتناول أعماق النفس .
إن المطلوب هو طريقة جديدة في إنتاج السلع الاستهلاكية والتعامل معها .
لقد يسر الإنتاج الضخم للناس أن يمتلكوا منتجات الحضارة الصناعية المرغوبة بدرجة أكبر ، وينظر إلى هذا التطور على مستوى العالم كله تقريباً باعتباره خطوة كبرى إلى الأمام . والحقيقة أنه حقق فعلاً تقدماً هائلاً في مستوى المعيشة ونوعية الحياة، لمئات الملايين من البشر ، ومع ذلك فمن خلال تلك العملية لم تصبح المنتجات متاحة فقط ، ولكنها أصبحت رخيصة أيضاً ، ولما كان في الإمكان استبدال منتجات أخرى بها مماثلة لها وأرقى منها ، فلم يعد هناك لدى الإنسان المتحضر المعاصر ، ما يدعوه لحمايتها أو ادخارها ، أو العناية بها كما كان الحال في الماضي .(/15)
وإذا ما واظب هذا الإنسان على عاداته الاستهلاكية فسوف تنتصر القمامة في نهاية الأمر وفقاً لما يقوله المفوض العام السابق للشئون الصحية بولاية نيويورك ( يستطيع الناس التذمر من أفران حرق القمامة كما يحلو لهم ، بل إنهم يستطيعون أن يثيروا الجدل حولها ، أو يرسلوا شكواهم بشأنها للصحف ، لكن في النهاية يكون النصر للقمامة ) .
إن المشكلة ترجع إلى صميم التكوين النفسي ، ومن ثم الفكري ، والعقدي لإنسان هذه الحضارة الذي تم صياغته في نسيج حضارة زعمت أنها محايدة فيما يتعلق بالله ، فهي منفصلة عنه ، واتجهت إلى تأليه الإنسان ، وتأليه العلم ، ورفعت شعار السيطرة على الطبيعة ، منذ بدء عصر النهضة ، بدلاً من شعار " الانسجام " مع هذه الطبيعة ، ضمن منظومة العناية الإلهية التي يقررها الدين . إنه كما يقول آل جور : ( ما لم نعثر على طريقة نغير بها على نحو جذري حضارتنا وطريقتنا في التفكير فيما يتصل بالعلاقة بين الجنس البشري وكوكب الأرض فإن أولادنا سيرثون أرضاً خراباً ) .
إنه كما جاء في مؤتمر " مرور ربع قرن على إنشاء المركز الإسلامي " في آخن بألمانيا في 17 مايو 1989 ووفقا لما ذكره مراد هوفمان في كتابه " الإسلام كبديل " : ( فإن السبب الحقيقي لما آلت إليه البيئة من وضع متدهور وخيم العاقبة تجاوز حدود التحمل الطبيعي إنما هو اعتزاز الإنسان ــ غير المؤمن بوجود الله ــ اعتزازُه بجبروته ، حيث سولت له نفسه بأنه السيد المسيطر على الطبيعة والبيئة ، فاعتقد ذلك يقيناً ) (1) .
إننا نصل من ذلك إلى أن الصانع الرئيسي لكارثة الأرض المعاصرة ، هو مشروع الحضارة الغربية الذي قام بتصميمه المهندسون " المحايدون في العقيدة الإلهية " ولا يزالون يشرفون على مساره ويدفعون خطواته حتى الخطوة الأخيرة ، في أعماق الهاوية ، ولن يتراجعوا لأنهم اجتازوا نفسياً وتاريخياً نقطة الرجوع )
إن نقطة البدء في الحل لن تكون بمزيد من الارتباط بمنطلقات هذه الحضارة ( السيطرة ــ الاستهلاك ــ العلم وحده ) . ذلك لأن الكارثة إنما تقبل علينا من واقع تقدم هذه الحضارة ، فهل يمكن لهذه الحضارة أن تقدم الحل ؟ إذن لا تكون هذه الحضارة هي نفسها ، إن الحل لا يتصور مجيئه من هذه الحضارة بتركيبتها التي بدأت وآلتها التي انطلقت منذ عصر النهضة لأنها إنما قامت على استبعاد الدين .
يقول هارولد لاسكى المفكر السياسي الشهير : ( إن منهج الغرب في الحياة قد وضع في بوتقة الانصهار وصارت العلوم ــ سواء علوم الطبيعة أو علوم الحياة ــ جزءا من رد الفعل شبه التلقائي ، وتفتقر إلى الهدف ، فهي لا تقدم لنا شيئاً غير تلك القيم التي تشيع الفوضى ، وفي مقدور هذه العلوم أن تتيح شيئاً من الرفاهية المادية ، ولكن يبدو أنها عاجزة عن اكتشاف مبادئ الرضا الروحي ) .
إن كثيراً من فلاسفة العلم المعاصر يتحدثون كما يقول تشارلز فرانكل في كتابه " أزمة الإنسان الحديث " ص 152-153 عن ( التقدم الفكري والعلمي ــ وهو أكبر مفخرة لما أتاه الإنسان الحديث ــ على أنه مجرد أحبولة وخداع ) . ونحن نقول : العيب ليس في العلم ولكن في وضعه بعيداً عن الله .
ونحن نتساءل – وهذا بيت القصيد - : هل هناك أمل في أن تقوم حضارة بُنيت على مبادئ ثابتة ظلت تعمل وفقاً لآليتها مدة قرون أن تقوم بدور في تغيير جلدها ؟ مرة أخرى إنه لابد لهذه الحضارة كما يقول شفايتزر أيضاً من أن تقوم بالتغيير لا عن طريق الوعظ .. ولكن لابد من أن تنشأ العقلية الإيجابية الأخلاقية التي تنبع من نظرة عقدية تشمل الكون والحياة ، ثم يقول بما يشبه اليأس ( هذا هو المصير الذي انتهينا إليه : لقد فقدنا كل نظرية في الكون ) ص 6 .
و يحلل أرنولد توينبى المشكلة فيرجعها إلى غفلة الإنسان عن تكوينه المزدوج بين المادة والروح ، فيقول : ( إذا فقد الكائن البشرى روحه فإنه يفقد إنسانيته ، وذلك بأن جوهر الكيان البشرى هو إدراك لوجود روحي خلف المظاهر الطبيعية .. ) . وبسبب أنه يعيش في وقت واحد في المحيط الحيوي وفي العالم الروحي فهو كما وصفه السير توماس براون بدقة : حيوان برمائى ! وفي كل من الوضعين حيث يشعر أنه منسجم مع الوضع يكون له غاية خاصة ، ولكنه لن يتمكن من متابعة كل من الغايتين ، أو أن يخدم كلا من السيدين بإخلاص تام .... فأى البديلين يختار ..؟ ) .ثم يقول ( وفي عصرنا فقط أصبح الاختيار أمراً لا مفر منه للبشرية ككل . ) تاريخ البشرية ج 1 ص 31 . وهذا بالضرورة يشير إلى ضرورة تحديد موقف الإنسان من الحياة الدنيا والآخرة تحديدا صحيحا . وهذا ما لا تملكه الحضارة الغربية المعاصرة التي لا تنفعها " إعادة تأهيل " ، وساءت سمعتها فهي لا يجديها " رد شرف " ، وبخست عملتها البالونية فهي لا ينفعها عند الخبراء "تسويق " ، وقبح وجهها المتفسخ إلى حد لا يصلح معه " شمع التجميل " ،(/16)
سقوط الحضارة وكارثة الأرض
أيهما طريق إلى الآخر ؟
تمر الحضارة المعاصرة اليوم بمنحنى خطير فيما يتعلق بشئون البيئة يهدد بما يطلق عليه : " مأساة الأرض " ـ ككوكب صالح للسكنى .ومنذ ظهر الإنسان على الأرض وإلى اليوم ما كان لأحد أن يساوره الشك لكي يطرح سؤالا على النحو الوارد أعلاه ، إذ ما كان يشك أحد في أن الطريق إلى الكارثة الكبرى مفتوح من الأرض إلى الإنسان أن تزلزل الأرض زلزالها أولا ، وليس العكس ، إلى أن بدا لنا اليوم أن الآية القرآنية في قوله تعالى { ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس لعلهم يرجعون . } 41 الروم ، تجيب بغير ما كنا نظن : بأن كارثة يصنعها الإنسان في سياق حضارة العصر هي التي ستؤدي إلى كارثة للأرض ، وتلك هي مشكلة البيئة التي يصنعها الإنسان المعاصر ، إذ وصلت هذه المشكلة إلى مستوى تهديد الأرض ككوكب صالح للسكنى ، وصار طريق الخطر الأكبر مفتوحا من الإنسان إلى الأرض ، عندئذ تزلزل . إن الأخطار التي تهدد البيئة اليوم لم تعد أخطاراً محلية يمكن أن يقتصر ضررها على وطن ، أو إقليم ، أو قارة بعينها ولكنها أخطار تهدد بيئة الأرض كلها .إنها أخطار تأتى على مستويات متدرجة : في الفضلات ودفن المخلفات ، والأمطار الحمضية ، وتلوث مستودعات المياه الجوفية ، و زيادة كمية الكلوروفلور في الغلاف الجوى ، و الاحترار العالمي و قطع الغابات ، وتجفيف البحيرات ، وتحويل الأنهار ، والنفايات ، والتلوث النووي ، وتهديد التنوع الحيوي.. إلخ.
ومن الملاحظ أن كبار الخبراء والباحثين قد أدركوا عمق المأساة التي تنحدر إليها الأرض في هاوية البيئة . يقول بارى كوموز في كتابه الشهير " الدوامة " ـ كما ينقل عنه الأستاذ راشد الحمد ومحمد صبارينى في كتابهما بعنوان " البيئة ومشكلاتها " ص 199 نشر عالم المعرفة بالكويت ـ : ( أنقذوا الإنسان من الموت المؤكد ، ساهموا في مكافحة التلوث ، إن مدنية قبائل البوشمن في وسط إفريقيا هي أرقى من مدنية الإنسان المعاصر في البيئة المرفهة الأمريكية) . وتقول الدكتورة هند صادق أستاذة علم طبقات الجو العليا والتلوث في واشنطن . ( إن الإنسان القديم كان متفاعلاً مع الطبيعة ومع كل مظاهر الحياة من حوله .أما ما يفعله أحفاده اليوم ، فهو تدمير كل ما هو جميل ، وخير وطيب ، في هذه الأرض التي نحيا عليها . ) الأهرام 23\12\1989 ، ويقول الأستاذ الدكتور طلبه عويس في دراسة له نشرت بكتاب بعنوان ترجمته " من أجل الحفاظ على الأرض " مع الدكتورة هند وآخرين : ( إن الإنسان ابن الطبيعة قد طعنها في مقتل . )
إن الأرض كلها هي التي تمر اليوم بالمأساة . إن حجم المشكلة وصل إلى حد الوصف القرآنى لها في قوله تعالى :{ حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس ، كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون . } 24 يونس .
ويقدم آل جور ، نائب رئيس الولايات المتحدة السابق صورة المأساة في دراسة عالمية حديثة ، جاءت في كتابه ( الأرض في الميزان ) ، قام بها فريق كبير من الخبراء والباحثين بقيادته ، وترجمت إلى اللغة العربية ، وأصدرها مركز النشر والترجمة في الأهرام بالقاهرة عام 1994م ، وتتمثل المأساة وفقا لهذه الدراسة في :
(1) مشكلة القمامة : وهي تأتي في تيار عارم ، يتدفق بكميات هائلة لم تعد الأرض قادرة على استيعابها كما يؤكد خبراء البيئة . وإذا كان البعض يحاول التخلص من القمامة بحرقها ـ حيث توجهت استثمارات ضخمة إلى هذا السبيل بلغت حوالي عشرين مليار دولار في وقت من الأوقات ـ فإن بعض الخبراء ينظر إلى هذه الوسيلة على أنها غير مجدية وتزيد الطين بلة ، وأنه إذا ما استمرت عمليات حرق الفضلات فإن كمية الزئبق المتصاعد عن هذا الطريق تضيف ملايين الأرطال من الزئبق إلى النظام البيئي ، عبر حدود الدول ، ثم تصل بالضرورة إلى الغلاف الجوى لكوكب الأرض بأسره .
(2) مشكلة تلوث الهواء : يقول بعض خبراء البيئة : إن أوصال العالم ترتعد فزعاً من مستويات التلوث التي لا يصدقها عقل ، وبالذات تلوث الهواء على مستوى العالم كله .
وعلى سبيل المثال فإنه في بعض المناطق في بولندا يؤخذ الأطفال بصفة منتظمة إلى مناجم عميقة تحت الأرض لمدة من الوقت يريحون فيها صدورهم من الغازات المتراكمة ، والتلوث الذي يملأ الهواء بكل أنواعه . ولقد لاحظ زائر لأحد المدن الرومانية تسمى ( كوسباميكا ) أو ( المدينة السوداء ) : أن الأشجار والحشائش ملطخة بالدخان إلى حد أنها بدت كأنها مشربة بالمداد . وذكر أحد الأطباء المحليين هناك أنه حتى الخيول لا تستطيع البقاء في تلك المدينة لأكثر من عامين ، وتعاني مدينة مكسيكوسيتى يومياً من أقسى درجات التلوث الهوائي على مستوى مدن العالم بأسره الأمر الذي يؤكد أن تلوث الهواء يصل من شمال أوروبا إلى المنطقة القطبية وينتقل إلى كل بقعة في الأرض . ص 85-87 .(/1)
(3) ثقب الأوزون : وغاز الأوزون يدخل كطبقة هامة في تركيب الغلاف الجوى للأرض يعمل على حماية سطح الأرض من سقوط الكميات الضارة للأشعة ذات الموجة القصيرة ( فوق البنفسجية ) . ومن الملاحظ أن هذه الطبقة من الأوزون أخذت تتآكل بسبب تصاعد غاز الكولوروفلوروكربون الذي يتزايد إنتاجه بكميات هائلة في الصناعات الحديثة . ومن هنا فإن هذا التآكل أخذ يسمح لمزيد من الأشعة فوق البنفسجية بأن ترتطم بسطح الأرض ، وتصطدم بكل الأحياء ، ومن أسوأ العواقب المترتبة على تلك الزيادة : سرطان الجلد ، ومرض إعتمام عدسة العين ( الكاتاراكت ) وكلا المرضين يزدادان انتشاراً ، وبالذات في مناطق بنصف الكرة الجنوبي مثل استراليا ونيوزيلندا ، وجنوب أفريقيا ، وفي كوينزلاند بشمال شرق استراليا ـ على سبيل المثال ـ فإن أكثر من 75% من السكان الذين بلغوا الخامسة والستين من العمر مصابون الآن بنوع من سرطان الجلد . ومنذ اكتشاف ثقب الأوزون وهو يزداد عمقاً واتساعاً ، وهو يغطى حالياً في الغلاف الجوى مساحة تعادل ثلاثة أمثال مساحة الولايات المتحدة الأمريكية .
(4) نقص التأكسد : وذلك أنه في الظروف العادية ينظف الغلاف الجوى نفسه ـ بسنة الله في الطبيعة ـ من الملوثات من خلال عملية تعرف بالتأكسد ، حيث تتفاعل المواد والغازات الضارة مثل الميثان وأول أكسيد الكربون مع منظف طبيعي إلهي يعرف باسم الهيدروكسيل ، واليوم في ظل الحضارة الصناعية فإن الإنسان يدفع بكميات هائلة من غاز أول أكسيد الكربون في الطبقات العليا من الجو ـ من خلال عمليات حرق الوقود وحرق الغابات ـ لدرجة أن حجمه أصبح طاغياً بالقياس إلى الكمية المتاحة في الطبيعة من الهيدروكسيل ، وبهذا تتزايد كميات أول أكسيد الكربون وغاز الميثان في الغلاف الجوى بسرعة كبيرة ، وأصبح له دوره الفعال بين الغازات الأخرى المسببة لظاهرة الاحترار ، وهنا يأتى الخطر الاستراتيجي العالمي ، ألا وهو ظاهرة الاحترار وهو الأشد خطورة على الإطلاق ، على مستوى الكرة الأرضية كلها .
(5) ولب المشكلة في ظاهرة الاحترار أن الحضارة الحديثة – طبقا لخطوات التقدم الصناعي – تضيف إلى الغلاف الجوي العديد من الغازات التي تجعل الغلاف الجوى أكثر سُمكاً بدرجة كبيرة ، ونتيجة لذلك فإنه يحتجز المزيد من الحرارة ، التي كان من المفروض ــ في ظل موازين الله ــ أن تخرج من جو الأرض في الأحوال العادية السابقة . في السابق كانت تحدث تغيرات في حرارة الأرض على مدى عصور جيولوجية طويلة ، أما التغيرات التي يتوقعها الخبراء بفعل الإنسان المعاصر فإنها من المنتظر أن تحدث خلال عمر فرد واحد ، ومعنى هذا أنه عندما كانت التغيرات تحدث بسنة الله ، ودون تدخل الإنسان ، كانت الفرصة متاحة للإنسان للتكيف ، ولكنه لم يحدث في تاريخ الإنسان أن اضطر للتكيف مع تغيرات هائلة في عمر جيل واحد . ومن المؤكد أن هذه الزيادة في مستويات ثاني أكسيد الكربون ــ الذي سيظل محبوساً في الغلاف الجوى للأرض ــ تؤدى إلى زيادة ملحوظة في مستوى الحرارة للكرة الأرضية . والخطر هنا لا يكمن في ارتفاع درجة الحرارة بضع درجات قليلة ، ولكنه يكمن في أن هذا الارتفاع سوف يؤدى إلى الإطاحة بالنظام المناخي للعالم كله دفعة واحدة . وعندما يتغير النمط المناخي للعالم فإنه ستتغير أيضاً تحركات الرياح والأمطار ، ونوبات الفيضان ، والجفاف والمراعى والصحارى والحشرات والحشائش ، وفصول الرخاء والمجاعة ، ومواسم الحرب والسلام . والخطر الذي يترتب على اختلال النظام المائي على ظهر الأرض لا يتوقف على الاضطراب الشديد في إعادة توزيع الموارد المائية العذبة ، وإنما يتعداه إلى خطر استراتيجي ثان : هو ذوبان الجليد ، ومن ثم ارتفاع مستوى سطح البحر ، وغرق المناطق الساحلية الواطئة حول العالم كله ، وهذا يهدد دولاً مثل بنجلاديش ، والهند ، ودلتا مصر ، وجامبيا ، وإندونيسيا ، وموزمبيق ، وباكستان ، والسنغال ، وتايلاند ، والصين ، وجزر المالديف ، وهولندا ، وبلجيكا ، وسوف تكون الدول الفقيرة بالطبع هي الأكثر تضرراً ، لأنها الأضعف من حيث القدرة على مواجهة هذه الأخطار . ص 102.
(6) اقتلاع الغابات : وهناك خطر استراتيجي يمارسه الإنسان المعاصر ، ويهدد النظام المائي لكوكب الأرض . وهو يختص باقتلاع الغابات على نطاق واسع ، حيث إن تدمير غابة يمكنه أن يؤثر في النظام الطبيعي لتوزيع المياه بما يمثل اختفاء بحر كبير مغلق .
ونجد مثالاً مأساوياً بذلك في أثيوبيا ــ لفقدان الغابات حيث تراجعت كميات الأمطار المتساقطة ، إلى درجة جعلت الأراضي تتحول بسرعة إلى أرض بور ، ثم دخلت البلاد بعد ذلك ــ مع تضافر أسباب أخرى ــ في مأساة المجاعة والحرب الأهلية ، وفي جنوب أمريكا هناك خطر مماثل ، بسبب تدمير الغابات ص 110.(/2)
(7) وهناك خطر تلوث مصادر المياه على مستوى العالم بالملوثات الكيماوية التي تنتجها الحضارة المعاصرة ، ويأتى انسكاب البترول كواحد من أكثر الملوثات وضوحاً في المحيطات ، وفي بعض الأنهار الداخلية . وهل سمعتم من قبل عن أنهار تشتعل فيها النيران ؟ لقد حدث ذلك في نهر كياهوجا في ولاية كليفلاند ، وفي الاتحاد السوفيتي فإن الأنهار ــ كما يقول آل جور ــ ما زالت يمكن أن تشتعل فيها النيران .وبصفة عامة ، فإن تلوث مصادر مياه كوكب الأرض آخذ في الزيادة بصفة مستمرة ، ويزداد سوءاً بصورة مفزعة ، وطبقاً لعملية مسح قامت بها وكالة متخصصة في حماية البيئة فإن حوالي نصف أنهار وبحيرات وجداول أمريكا إما أنه يعانى بالفعل من تلوث مياهه أو في طريقه إلى ذلك .
ومع ذلك فإن تلوث المياه وتأثيراته الرهيبة المؤلمة يمكن الإحساس بها بوجه خاص في العالم الثالث ، حيث زاد معدل الوفيات الناتج عن الإصابة بالكوليرا والتيفود والدوسنتاريا والإسهال .
(8) سوق النفايات : تتمركز سياسة الدول الغربية والأوربية ــ كما يقول مسئول بمنظمة الصحة العالمية ــ حول إدراك سياسي واقتصادي بأن العالم الثالث هو سوق كبير للنفايات الأوربية التكنولوجية ، الملوثة والمدمرة للبيئة ، ولبيع المبيدات والبذور الفاسدة المؤثرة على صلاحية التربة الزراعية ، وإجراء التجارب على البشر والزراعة ، فضلاً عن الأغذية الفاسدة والأدوية التي تجعل من البشر في العالم الثالث حقلاً لتجاربها ، وقد أعلن في تقارير رسمية نشرتها الصحف في أمريكا أن لديها 265 مليون طن من هذه النفايات سنوياً تحتاج إلى التخلص منها ، وأن مجموعة دول السوق الأوربية لديها سنوياً 35 مليون طن سنوياً . ويقول بعض المعلقين إن تجارة النفايات الكيمائية أصبحت كبيرة جداً، وتعمل فيها شبكة من المافيا والسماسرة والمهربين
(9) احتمالاتً الكوارث النووية : ما الذي يمكن أن تحدثه حرب ذرية في البيئة ؟ سؤال طرحته منظمة الأمم المتحدة على عشرة من كبار علماء العالم واستغرقت الدراسة حوالى عام كامل ، وتم تسليمها إلى بيريزدى كويلار السكرتير العام للأمم المتحدة آنذاك : وقد قدمنا نتائج هذه الدراسة في مقال سابق .
وتلخص جريدة الأهرام 27\4\1990 المأساة في أروقة السياسيين وعدم مبالاتهم تحت عنوان " الكارثة تقترب والإنسان عدو نفسه " : ( مع احتفال العالم كله بيوم " كوكب الأرض " هذا الأسبوع تعالت صرخات التحذير من كارثة مناخية مدمرة تهدد آلاف الملايين من البشر بسبب ارتفاع درجة حرارة الأرض ، وزيادة معدلات التلوث ، إلى درجة بالغة الخطورة . وبينما كان العلماء يصرخون من أن الوقت لم يعد في صالح البشر وأنه يتعين علينا جميعا أن نخوض " حربا عالمية " لإنقاذ الكرة الأرضية من دمار التلوث دخل ساسة الدول الكبرى في خلافات ومتاهات عميقة حول كيفية مواجهة هذه الأزمة .
وفي مؤتمرهم الذي عقد تحت إشراف الولايات المتحدة اتخذت الأزمة طابعا سياسيا عاصفا طغت عليه المصالح الاقتصادية والانتخابية . وانتهى المؤتمر – كما كان متوقعا – دون اتخاذ أية قرارت عاجلة أو طارئة للحد من السموم التي تهدد مناخ الأرض ورفضت أمريكا – رغم مسئوليتها وحدها عن حوالي ربع التلوث الصناعي في العالم - أن تقدم أية تعهدات أو تنازلات صناعية من شانها أن تؤثر على نموها الاقتصادي .
وفي ذات المؤتمر قال بوش – الأب – الذي كان يطلق عليه أيام الانتخابات اسم " رئيس البيئة " " إننا نريد حقائق علمية أولا .. نريد بحوثا دولية توضح لنا " الغموض " في هذا العلم .. إننا لا نستطيع أن نحسن المناخ على حساب نمونا الاقتصادي "
العلماء يريدون خفضا حادا في ثاني أكسيد الكربون والغازات الأخرى التي ترفع درجة حرارة الأرض وذلك بما يتراوح بين 50 و 80 % ، وهذا يتطلب على أقل تقدير الخفض الجذري في استخدام السيارات ومعظم إمكانات الحياة الحديثة ، فهل يجرؤ أي زعيم سياسي على فرض مثل هذه الإجراءات ؟
إن درجة حرارة الأرض سوف ترتفع 3 درجات مئوية ، فيذوب الجليد ، ويرتفع منسوب مياه البحار والمحيطات وتغرق الأراضي المنخفضة وربما دولا بأكملها .
وقد حذر العالم المصري مصطفى طلبة من أن شواطئ مصر والوجه البحري كله ليست بمنأى عن هذا الخطر ..
كما حذر الدكتور طلبة من أن التصحر والقحط سينتشر في الدول البعيدة عن المياه مما سيؤثر على الإنتاج الغذائي في العالم ، وسوف تموت الغابات والحيوانات التي لا تتحمل درجات الحرارة المرتفعة وستكثر العواصف والأعاصير ، فتقطع الاتصالات وتزيد من الكوارث الطبيعية ، وذلك علاوة على ما سيصيب الإنسان من أمراض مثل السرطان وفقدان المناعة وفقد البصر … )
وتلخص الأهرام في تقريرها ما آل إليه الوضع فعلا في أوربا وأفريقيا والولايات المتحدة وآسيا مصر حتى كتابة التقرير فتقول :(/3)
( يقول العلماء إننا دخلنا العد التنازلي للكارثة وان 50% من الضرر قد وقع فعلا خلال العقود الثلاثة الماضية وأنه في المستقبل القريب سوف تفقد 40 دولة احتياجاتها من الماء
وتظهر صور الأقمار الصناعية للمناخ في أوربا الشرقية كتلا كثيفة سوداء من الغازات والأتربة الصناعية تنتشر فوق مصانع ألمانيا الشرقية وتشكوسلوفاكيا وتغطي بولندا بأكلها ، وفي بولندا بالذات كل شيء مسمم : الجو والتربة والماء
وتتعرض أوربا الغربية أيضا وخاصة في المناطق السياحية بجبال الألب لأزمة بيئية نتيجة للأمطار الحمضية والتلوث النووي من تشرنوبل
وفي بريطانيا هناك نسبة تلوث عالية من الـ 1900 مصنع على أراضيها فأحد هذه المصانع يبعث بثمانية أطنان من ثاني أكسيد الكبريت في الجو يوميا وهو ما يزيد عشر مرات عن المعدلات المسموح بها
ووفقا لهذه التقارير فإن قارة أفريقيا لم تعد تصلح للحياة بسبب التلوث والجفاف وأن خمسين مليونا من البشر يعيشون في أراض متصحرة تهددهم المجاعات كل عام ، وأن القحط في أفريقيا ينتشر بمعدل 2,3 مليون متر مربع سنويا
ويقول تقرير أصدره مجلس السوفييت الأعلى أن شخصا من بين كل خمسة أشخاص بالاتحاد السوفيتي – قبل تفككه بالطبع - يتنفس هواء يحتوي على نسبة من الكيماويات الخطيرة تزيد عشر مرات عن الحد الأقصى المسموح به ، وان 600 مدينة سوفيتية نصحت مواطنيها بشرب المياه المعبأة
وفي الصين كلما هبت الرياح فوق المدن الصناعية انتشر دخان أحمر وأسود ليغطي الأراضي والسلطات هناك تواجه مشكلات رهيبة في مواجهة التلوث بإمكاناتها المحدودة .
وفي الولايات المتحدة مازالت الدولة تواجه مشكلات بيئية خطيرة ففي مائة مدينة يصل الدخان في الجو إلى نسب تزيد عن المسموح به ، مما يزيد من نسبة الإصابة بالسرطان ، كما أوقفت 2000 سفينة شحن في نهر المسيسبي بعد أن انخفض مستوى النهر عشرة أمتار
ويقول الباحثون إنه في العاصمة المصرية أصبح مجرد تنفس الهواء خطرا يهدد الحياة وهو لا يقل خطورة عن تدخين علبتي سجائر يوميا . )
والحق أننا ونحن نتحدث عن مشكلة الأرض والإنسان في العصر الحديث على هذا النحو ، يجب أن نعلم أننا نتحدث عن نوع " جديد " من الإنسان غير الذي نعرف على وجه التاريخ من قبل ، كذلك ونحن نتحدث عن وضعية الأرض فإننا نتحدث عن وضعية غير التي عرفها الإنسان على وجه التاريخ الطبيعي من قبل ، فالإنسان الجديد هو نوع جديد لم يعد يشرك بالله آلهة أخرى تنتسب إلى كائنات علوية ، أو سفلية مجردة أو غير مجردة ، يحصل عليها من مصدر الحكايات والأساطير والأصنام ، أو التراث الشعبي ، ولكنه أصبح يضع نفسه ــ حسب زعمه ــ في موضع الألوهية منذ أمكنه ــ حسب وهمه ــ أن يسيطر على الطبيعة بأداة العلم حسب مشروع النهضة الأوربية منذ القرن السادس عشر .
كذلك فالأرض ليست هي الأرض الموكول أمرها إلى قدرة الله وعنايته ورحمته وموازنته ، ولكنها الأرض المتروكة بسخط الله ــ وإلى أمد ــ إلى قدرة الإنسان في السيطرة على الطبيعة حسب زعم هذه الحضارة منذ وضع الإنسان أركانها في عصر النهضة .
إن الصانع لمأساة البيئة ــ مأساة الأرض ، هو وجهة النظر الفلسفية التي قامت عليها الحضارة الغربية المعاصرة . وفي هذا المعنى يقول أرنولد توينبى : ( في عصرنا نجد أن سيادة الإنسان التامة على المحيط الحيوي بأكمله تهدد بتحطيم المحيط الحيوي والقضاء على الحياة بما في ذلك الحياة البشرية كلها . ) . وهو يذكرنا بوجود هذا التوجه ــ السيطرة على الطبيعة ــ في الثقافة اليهودية القديمة ، في العدد الثامن والعشرين من الإصحاح الأول من سفر التكوين القائل ( وباركهم الله ، وقال لهم أثمروا وأكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها وتسلطوا على سمك البحر ، وعلى طير السماء ، وعلى كل حيوان يدب على الأرض ) . تاريخ البشرية ج 1 ص 30-31 " .ثم يشير إلى مخالفة هذا التوجه لما جاء في ثقافات الشرق إذ يحكى على لسان تاوتى تشينج قوله : ( كلما ازدادت الأسلحة الحادة تزداد الأرض كلها انغماساً في الظلام ، وكلما ازداد عدد الصناع الحاذقين تزداد الآلات المتلفة التي تخترع ، وكلما ازدادت القوانين التي تشرع يزداد عدد اللصوص وقطاع الطرق . شد القوس إلى النهاية وستتمنى لو أنك توقفت في الوقت المناسب ) تاريخ البشرية ج1 ص 30 .(/4)
ويتفق آل جور ــ وهو أحد كبار القيادات المسئولة في هذه الحضارة – مع التحليل الذي وصل إليه أرنولد توينبى للمشكلة ، حيث يقول آل جور : ( إن الثقافة الغربية المعاصرة تقوم على افتراضات متعلقة بالحياة ، يتم تلقينها للأطفال ، ألا وهي : إن الطبيعة يتعين إخضاعها ) . (وهي افتراضات انتقلت من جيل إلى جيل ، منذ زمن ديكارت وبيكون ، ورواد الثورة العلمية الآخرين ، أى منذ 375 عاماً مضت ، وقد استوعبت هذه الحضارة تلك القواعد ، وتعايشت معها قروناً دون أن يراجعها أحد بجدية ) ، وهو يربط بين هذه العقيدة الحضارية وبين أزمة البيئة المعاصرة ، ثم يقول : ( إن الأزمة البيئية بلغت اليوم حداً من الخطورة يجعلنا نعتقد أن حضارتنا يجب أن تعتبر بطريقة أساسية مختلة الوظائف ، وأن إحدى القواعد التي تقوم عليها الحضارة مختلة الوظائف هي أنك لا يمكنك مراجعة هذه القواعد أو مناقشتها ) . كأنه يتطابق في ذلك مع قوله تعالى : { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة } 7 البقرة . وهذا يعني أن الحل لا يمكن أن يأتي في سياق الحضارة المعاصرة .
ثم يقول آل جور في تشخيص مرض الحضارة الذي أدى إلى أمراض هذه البيئة : ( كل جيل جديد في حضارتنا المعاصرة يشعر الآن بالاعتماد الكامل على تلك الحضارة نفسها . ذلك أن حضارتنا هي التي تزودنا بأنواع الطعام فوق أرفف السوبر ماركت ، والماء المتدفق من الصنابير داخل بيوتنا والمأوى ، والمأكل ، والملبس ، والعمل ، ووسائل التسلية …. إن أحداً لا يجرؤ على مجرد التفكير في حرمان أنفسنا من هذه العطايا الكثيرة ) ص 233 ، ــ مما يعتبر مصداقاً لقوله r عن الكافر أنه يأكل في سبعة أمعاء ( المؤمن يأكل في معى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء ) أخرجه مسلم في صحيحه : إنها نزعة الاستهلاك الجنوني الذي أطلقته هذه الحضارة من عقاله ، ليصبح وحشا كاسرا يستحيل إيقافه سواء على المستوى الفردي أو الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي ، وهي وإن كانت أمعاءً سبعة ، إلا أنها أمعاء زائفة ، يقول : ( إننا شيدنا في حضارتنا عالماً زائفاً من الزهور البلاستيكية وحلبات السباق الفلكية ، وأجهزة التكييف ، وأنوار الفلورسنت ، والنوافذ الشكلية التي لا تفتح ، والموسيقى الخلفية التي لا تتوقف ، والليالى الوهاجة بالبريق ، ومواخير التسلية وأوكارها، والطعام المجمد لأفران المكروييف ، والقدرات الذهنية التي تعتمد على الكافيين ، والكحول ، والمخدرات ، والأوهام والخيالات .... إن العديد من القواعد غير المدونة لحضارتنا مختلة الوظائف يشجع على الإذعان الصامت فيما يختص بأنماط السلوك المدمر التي نتعامل بها مع عالم الطبيعة .. ) ص 234 ، ثم يقول : ( إن المرء يكاد يصيبه الهلع من جراء اندفاعنا المسعور والقسري الواضح ، لكي نفرض سيطرتنا على كل بقعة فوق ظهر الأرض .. ودائماً فإن حاجات الحضارة التي لا يتم إشباعها تزيد نيران العدوان اشتعالاً ، والوصول إلى إشباع حقيقي لهذه الحاجات هو أمر بعيد المنال تماماً ) . ثم يقول آل جور ( إن الأراضي التي يتم غزوها - يقصد بالتكنولوجيا الحديثة - لا تلبث أن تصبح أرضاً جدباء خربة ، وقد انتزعت منها خصوبتها ، وسلبت مواردها الطبيعية ، واستهلكت على وجه السرعة ، وكل هذا التدمير لا يؤدي إلى شيء سوى إذكاء شهيتنا للمزيد ، إننا نقوم بشكل منتظم بالاعتداء على أكثر مناطق عالم الطبيعة تعرضاً للخطر وأقلها قدرة على الدفاع عن نفسها : تلك هي الأرض المطيرة والمحيطات ..) ثم يقول ص 234 : ( ونحن أيضاً نعتدي على أعضاء آخرين من الأسرة الإنسانية ، وبخاصة أولئك الذين لا يستطيعون التعبير عن أنفسهم ، لقد سمحنا بسرقة الأرض من السكان الأصليين ، وباستغلال المناطق التي يسكنها أشد الناس فقراً . والأسوأ من ذلك كله أننا قمنا بالعدوان على حقوق الأجيال التي سوف تأتى بعدنا ، فعندما نقوم بتجريف الأرض بمعدلات تفوق قدرتها على الاحتمال تماماً فإننا نجعل من المستحيل على أحفادنا أن ينعموا حتى بمستوى معيشة يقل كثيراً عما ننعم به نحن . إننا الآن نفرض نموذجنا مختل الوظائف وإيقاعنا المتنافر على أجيال المستقبل ، ، وذلك بطريقة فاسدة ) مما يعتبر مصداقاً لحديث الرسول r عن جماعة ركبوا سفينة ، أراد من في أسفلها أن يخرقوا خرقا ليأخذوا منه الماء ( فإن تركوهم وأمرهم هلكوا جميعا ، وإن أخذوا على يدهم نجوا جميعا )أخرجه أحمد في مسنده .(/5)
وإنه لمن الغريب أن بعض المفكرين والمخططين من أبناء الحضارة الغربية المعاصرة يدعون إلى علاج عنصري لكارثة البيئة التي وصلت إلى حد جعل الأرض غير صالحة للسكنى ، فيقترح بعضهم - كما يذكر الدكتور رشدي فكار - : تبنى مسلسل " الكوارث المحسوبة " بالنسبة للبيئات الخاصة بالسكان بلا إنتاج (!!) ، يعنون بذلك " العالم الثالث " . أو دفع هذا العالم ــ بالذات ــ إلى تحديد النسل بكل الوسائل والسُبل . أو تشجيع الحروب المحلية في العالم المذكور . وبتعميم الجفاف على أرضه وفق تخطيط معين . أو بنشر التلوث المقنن فيه !!! : أنظر " نهاية عمالقة " لرشدي فكار ص 131 .
وهناك فئة من العلماء تكتسب أهمية يوماً بعد يوم يطلق عليهم علماء " الأيكولوجيا العميقة " يبنون تصورهم للحل على أساس نظرتهم للإنسان باعتباره نوعاً من أنواع الفيروس ، أصاب الأرض بالطفح الجلدي والحمى ، وينسبون إليه القيام بدور سرطان يهدد الكرة الأرضية وينتشر فيها على نحو لا يمكن التحكم فيه ، واستمراراً لهذه الرؤية فإن العلاج الممكن الوحيد لأمراض الأرض التي أصابتها هي ( استئصال الناس من على وجه الأرض) باستثناء فئة محدودة ينتسبون هم إليها ، باعتبار أنهم يقومون عندئذ بدور الأجسام المضادة للحد من انتشار المرض وهم بذلك يدفعون منطق التطور إلى نتائجه الحقيقية ( آل جور ص 219 ) .
وهناك فئة أخرى - تلتقي مع الحل الإسلامي - تشير إلى أن البداية الصحيحة تأتى من خلال تغيير النفس ، ومن ثم تغيير القواعد التي بُنيت عليها هذه الحضارة الغربية المعاصرة . يقول أرنولد توينبى ( يظهر أن الإنسان لن يستطيع إنقاذ نفسه من الدمار الذي تسببه قوته المادية وطمعه الشيطانيان ما لم يسمح بأن تتغير نفسه كلياً ، بحيث يحفزه ذلك إلى أن يتخلى عن غايته الحالية ، ويعتنق المثل الأعلى المخالف لذلك تماماً .... فهل باستطاعته أن يقبل .. ؟؟ إن المناصرة حول هذه القضية التي طال عليها الزمن والتي يبدو وكأنها تكاد تبلغ نهاية تصعيدها في يومنا هذا هي الموضوع الذي يتناوله الصدام بين البشرية والأرض الأم … ) تاريخ البشرية لأرنولد توينبي ص 32 ج 1 .
إنه في نظر كثير من الخبراء والباحثين لا أمل في مواجهة كارثة البيئة المتفاقمة ما لم يُعدٌل الإنسانُ من سلوكه بالنسبة للأرض ، وجهاز الضبط الحرارى – الترموستات - الوحيد القادر على منع هذه الكارثة هو ما يكون في داخل رءوسنا وقلوبنا وعقيدتنا ص 95 ، يقول آل جور : ( إنه إذا كانت أزمة البيئة العالمية ضاربة الجذور في النمط مختل الوظائف ، المميز لعلاقة حضارتنا بعالم الطبيعة ، فإن الخطوة الأولى في الحل تتمثل في مواجهة هذا النمط .. وفهمه بالكامل وإدراك أثره المدمر على البيئة ، وعلينا أن ننتقل من مفهوم السيطرة على الأرض إلى مفهوم آخر ) ص 232 –239 .
وهذه إشارة إلى بداية الحل الصحيح للمشكلة في رحاب قوله تعالى { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } 11 الرعد .
إن العلاج لا مفر له من أن يعود إلى تفكير الإنسان في طريقة معيشته ، إن أزمة التخلص من الفضلات مثلاً وهي أزمة عالمية ــ وهي أهون مشاكل أزمة البيئة المعاصرة ــ هذه الأزمة تنبع من أسلوب هذا الإنسان في الإنتاج والاستهلاك ، إنها تنبع من فهمه للاقتصاد ، تنبع من فهمه لعلاقته بالحياة الدنيا . تنبع من تكوينه العقدي الذي يصوغ علاقته بالطبيعة ، وعلاقته بالله . إن كل الأنواع الحية تنتج فضلات وجميعها بغير استثناء يمر بعمليات " إعادة التدوير " ليس بواسطة تلك الأنواع الحية نفسها، ولكن بأشكال أخرى من الحياة ترتبط معها بعلاقات التكامل والتوازن . وتقوم سُنن الله في الطبيعة بفصل العناصر ذات السمية لتدخلها في عمليات بطيئة لتحولها إلى مواد غير سامة ، وهذا بالطبع يفترض المحافظة على علاقات التوازن التي وضعها الله بين الأنواع الحية .(/6)
وإذا حدث أن تخطى أحد هذه الأنواع حدوده المرسومة له في هذا النظام ــ كشأن الإنسان المعاصر في طموحه للسيطرة على الطبيعة بواسطة العلم ــ فإن هذا النوع يتعرض لخطر أن يصبح عاجزاً عن الهرب من النتائج المترتبة على زيادة فضلاته ، فضلاً عن ذلك فإن احترام سُنن الله في الطبيعة من شأنه أن يساعد على عدم إنتاج مشكلة الفضلات أصلاً ، ذلك لأن فضلات أحد الأنواع الحية تصبح مادة نافعة لنوع حي آخر ، هذا ولأننا نحن البشر في ظل قيمة السيطرة على الطبيعة من قيم الحضارة المعاصرة ــ قد اكتسبنا ــ كما نتوهم ــ زيادة في قدرتنا على تشكيل العالم ، فقد بدأنا في إنتاج فضلات خرجت من ناحية كميتها واحتمالاتها السمية ، على الميزان الإلهي الموضوع لامتصاص هذه الفضلات ، ونتيجة لذلك فإن هذا الإنسان " الحضاري " الذي استبعد عقيدة الألوهية ، وتعامل معها من موقف حيادي ، أو على الأقل أنكر عقيدة العناية الإلهية .. هذا الإنسان أصبح ــ وفقاً للنواميس الإلهية نفسها " متروكاً لنفسه " وكان عليه أن يبحث عن طريق مستقل عن الله { قل ما يعبأ بكم ربى لولا دعاؤكم ، فقد كذبتم فسوف يكون لزاماً }77 الفرقان ، ويقول تعالى { نسوا الله فنسيهم، إن المنافقين هم الفاسقون } 67 التوبة .
إن المطلوب هو تغيير يتناول أعماق النفس .
إن المطلوب هو طريقة جديدة في إنتاج السلع الاستهلاكية والتعامل معها .
لقد يسر الإنتاج الضخم للناس أن يمتلكوا منتجات الحضارة الصناعية المرغوبة بدرجة أكبر ، وينظر إلى هذا التطور على مستوى العالم كله تقريباً باعتباره خطوة كبرى إلى الأمام . والحقيقة أنه حقق فعلاً تقدماً هائلاً في مستوى المعيشة ونوعية الحياة، لمئات الملايين من البشر ، ومع ذلك فمن خلال تلك العملية لم تصبح المنتجات متاحة فقط ، ولكنها أصبحت رخيصة أيضاً ، ولما كان في الإمكان استبدال منتجات أخرى بها مماثلة لها وأرقى منها ، فلم يعد هناك لدى الإنسان المتحضر المعاصر ، ما يدعوه لحمايتها أو ادخارها ، أو العناية بها كما كان الحال في الماضي .
وإذا ما واظب هذا الإنسان على عاداته الاستهلاكية فسوف تنتصر القمامة في نهاية الأمر وفقاً لما يقوله المفوض العام السابق للشئون الصحية بولاية نيويورك ( يستطيع الناس التذمر من أفران حرق القمامة كما يحلو لهم ، بل إنهم يستطيعون أن يثيروا الجدل حولها ، أو يرسلوا شكواهم بشأنها للصحف ، لكن في النهاية يكون النصر للقمامة ) .
إن المشكلة ترجع إلى صميم التكوين النفسي ، ومن ثم الفكري ، والعقدي لإنسان هذه الحضارة الذي تم صياغته في نسيج حضارة زعمت أنها محايدة فيما يتعلق بالله ، فهي منفصلة عنه ، واتجهت إلى تأليه الإنسان ، وتأليه العلم ، ورفعت شعار السيطرة على الطبيعة ، منذ بدء عصر النهضة ، بدلاً من شعار " الانسجام " مع هذه الطبيعة ، ضمن منظومة العناية الإلهية التي يقررها الدين .
إنه كما يقول آل جور : ( ما لم نعثر على طريقة نغير بها على نحو جذري حضارتنا وطريقتنا في التفكير فيما يتصل بالعلاقة بين الجنس البشري وكوكب الأرض فإن أولادنا سيرثون أرضاً خراباً ) .
إنه كما جاء في مؤتمر " مرور ربع قرن على إنشاء المركز الإسلامي " في آخن بألمانيا في 17 مايو 1989 ووفقا لما ذكره مراد هوفمان في كتابه " الإسلام كبديل " : ( فإن السبب الحقيقي لما آلت إليه البيئة من وضع متدهور وخيم العاقبة تجاوز حدود التحمل الطبيعي إنما هو اعتزاز الإنسان ــ غير المؤمن بوجود الله ــ اعتزازُه بجبروته ، حيث سولت له نفسه بأنه السيد المسيطر على الطبيعة والبيئة ، فاعتقد ذلك يقيناً ) (1) .
إننا نصل من ذلك إلى أن الصانع الرئيسي لكارثة الأرض المعاصرة ، هو مشروع الحضارة الغربية الذي قام بتصميمه المهندسون " المحايدون في العقيدة الإلهية " ولا يزالون يشرفون على مساره ويدفعون خطواته حتى الخطوة الأخيرة ، في أعماق الهاوية ، ولن يتراجعوا لأنهم اجتازوا نفسياً وتاريخياً نقطة الرجوع )
إن نقطة البدء في الحل لن تكون بمزيد من الارتباط بمنطلقات هذه الحضارة ( السيطرة ــ الاستهلاك ــ العلم وحده ) .
ذلك لأن الكارثة إنما تقبل علينا من واقع تقدم هذه الحضارة ، فهل يمكن لهذه الحضارة أن تقدم الحل ؟ إذن لا تكون هذه الحضارة هي نفسها ، إن الحل لا يتصور مجيئه من هذه الحضارة بتركيبتها التي بدأت وآلتها التي انطلقت منذ عصر النهضة لأنها إنما قامت على استبعاد الدين .
يقول هارولد لاسكى المفكر السياسي الشهير : ( إن منهج الغرب في الحياة قد وضع في بوتقة الانصهار وصارت العلوم ــ سواء علوم الطبيعة أو علوم الحياة ــ جزءا من رد الفعل شبه التلقائي ، وتفتقر إلى الهدف ، فهي لا تقدم لنا شيئاً غير تلك القيم التي تشيع الفوضى ، وفي مقدور هذه العلوم أن تتيح شيئاً من الرفاهية المادية ، ولكن يبدو أنها عاجزة عن اكتشاف مبادئ الرضا الروحي ) .(/7)
إن كثيراً من فلاسفة العلم المعاصر يتحدثون كما يقول تشارلز فرانكل في كتابه " أزمة الإنسان الحديث " ص 152-153 عن ( التقدم الفكري والعلمي ــ وهو أكبر مفخرة لما أتاه الإنسان الحديث ــ على أنه مجرد أحبولة وخداع ) . ونحن نقول : العيب ليس في العلم ولكن في وضعه بعيداً عن الله .
ونحن نتساءل – وهذا بيت القصيد - : هل هناك أمل في أن تقوم حضارة بُنيت على مبادئ ثابتة ظلت تعمل وفقاً لآليتها مدة قرون أن تقوم بدور في تغيير جلدها ؟ مرة أخرى إنه لابد لهذه الحضارة كما يقول شفايتزر أيضاً من أن تقوم بالتغيير لا عن طريق الوعظ .. ولكن لابد من أن تنشأ العقلية الإيجابية الأخلاقية التي تنبع من نظرة عقدية تشمل الكون والحياة ، ثم يقول بما يشبه اليأس ( هذا هو المصير الذي انتهينا إليه : لقد فقدنا كل نظرية في الكون ) ص 6 .
و يحلل أرنولد توينبى المشكلة فيرجعها إلى غفلة الإنسان عن تكوينه المزدوج بين المادة والروح ، فيقول : ( إذا فقد الكائن البشرى روحه فإنه يفقد إنسانيته ، وذلك بأن جوهر الكيان البشرى هو إدراك لوجود روحي خلف المظاهر الطبيعية .. ) . وبسبب أنه يعيش في وقت واحد في المحيط الحيوي وفي العالم الروحي فهو كما وصفه السير توماس براون بدقة : حيوان برمائى ! وفي كل من الوضعين حيث يشعر أنه منسجم مع الوضع يكون له غاية خاصة ، ولكنه لن يتمكن من متابعة كل من الغايتين ، أو أن يخدم كلا من السيدين بإخلاص تام .... فأى البديلين يختار ..؟ ) .ثم يقول ( وفي عصرنا فقط أصبح الاختيار أمراً لا مفر منه للبشرية ككل . ) تاريخ البشرية ج 1 ص 31 . وهذا بالضرورة يشير إلى ضرورة تحديد موقف الإنسان من الحياة الدنيا والآخرة تحديدا صحيحا . وهذا ما لا تملكه الحضارة الغربية المعاصر(/8)
سقوط المدعو صدام .. ! ...
د.عائض القرني
بغض النظر عما جره العدوان الأميركي على العراق من دماء وأشلاء وخراب، لكن لأول مرة يخرج الشعب العراقي من زنزانة الطاغية لينظر إلى السماء ويستنشق الهواء، لأول مرة يخرج العراقيون من السجون والمعتقلات والأقبية، ويعود المشردون، ويتكلم الصامتون، ويضحك الباكون، ولأول مرة يخرج العراقي إلى الشارع ليصيح حتى يشبع صياحاً، ويحتج حتى يمتلئ احتجاجاً، بعد سنوات من الكبت والقهر والسحق، كان فيها كل عراقي تحت السوط عبداً مجلوداً، لا قيمة له ولا رأي ولا كلمة، كل عراقي كان عليه عراقي آخر ليتجسس عليه، ويعدَّ أنفاسه، ويرفع عنه التقارير، الآن يخرج العراقيون من قفص النذل التافه إلى فضاء العراق الرحب، ليشربوا من دجلة والفرات، وينشدوا ( أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكاً..) تحت ظلال النخيل الباسقات، وأنت ترى العراقيين يقفزون من زنزانتهم كأنك في حلم، أو تشاهد فلماً مدبلجاً، أو مسرحيَّةً خيالية، أين الصنم المسكون بالرعب والبطش ؟ أين الدكتاتور المنصوب باللعنة؟ أين فرعون النظام المتوج بالسخط؟ أين من حوَّل أبطال العراق إلى عبيد يسومهم سوء العذاب؟ أين من صادر الكلمة والعقل والدين والوطن؟ أين من قطع الرقبة واللسان والآذان؟ أين من بتر الرأس واليد والرجل؟ ( فأخذه الله نكال الآخرة والأولى ) .
قبل أن نغتاب أمريكا الظالمة الآثمة الطاغية تعالوا نبصق على الصنم، تعالوا ندوس صورة الوحش صدام، تعالوا نشارك الشعب في لطم وجه العميل الذليل بالحذاء، تعالوا نتشفى بمصرع المخذول الجبان المدعو صدام حسين، تعالوا نسحب جثة المذكور على مشرحة التاريخ، ونشوي جمجمة الساقط على سفّود الشعب.
إن في سقوط صدام دروساً وعبرًا، منها : أن عمر الظلم قصير، وأن الولاء بالحديد والنار زائف، وأن المخادعة تنهار من أول ضربة، وأن الشعوب تحبذ الأجنبي ولو كان شيطانًا على صاحب الدار الجزار الشرير، وأن سوط الجلاد سيسقط لتحيى الضحية، وأن المشانق منابر للمستضعفين يعلنون من عليها قدرة الإنسان على البقاء، وأن الطغاة سيذهبون وتبقى الأوطان، وأن الشعوب لا يمكن حفظها بطابور من العسكر ولا بفرقة من الجواسيس، ومن الدروس –أيضاً- أن الظالم مهما ارتفعت عنقه، فإنها سوف تقصم بسيف الحق، ومهما طال رأسه فإنه سوف يُقطع بيد من الله حاصدة. إن غضب الشعوب قطرات من دموع الثكالى، وعرق الجوعى، ودماء المسحوقين، ولكنها في الأخير سيل جارف يدمدم عروش الطغاة.
لقد تحولت آهات السجناء وزفرات البؤساء في العراق إلى قنابل موقوتة، ذهبت بالطاغية وحاشيته، حيث لم يبك عليه أحد، ولم يأسف عليه أحد، ذهب إلى محرقة التاريخ، وسلة الإهمال، وذاكرة النسيان، ذهب بلا مجد ولا شرف، بعد أن عصى الرحمن، وقتل الإنسان، وخان الجيران، وباع الأوطان، ذهب.. بل سقط تحت أحذية الضعفاء والمساكين، ممن استأسد عليهم، ومارس ضدهم أبشع أنواع النكال، وكافة أشكال العذاب، انتهى بتماثيله وصوره، وقصائده، وبذخه، وغشه، ( فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين )، انتهى المدعو صدام حسين، والعراق باق لم ينته، والشعب صامد لم ينهزم، احترق الرئيس المهيب القائد وزمرته: ( الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد ) . والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون . ...(/1)
سقوط قيم الحضارة الغربية
عمر عبيد حسنة 8/10/1423
23/12/2001
المواجهة بين المسلمين وأعدائهم لم تتوقف منذ فجر الإسلام ، مصداقاً لقوله تعالى : " ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا " ، فالمعركة مستمرة ، وإن تعددت ساحاتها وتبدلت أسلحتها ، لأن الشر من لوازم الخير ، يقول تعالى: " وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين وكفى بربك هادياً ونصيرا " فسنة التداول الحضاري من طبيعة الحياة : " وتلك الأيام نداولها بين الناس " ولعل ذلك من أقدار الله الغلابة ومن ابتلاءات الخير والشر ، فالمسلمون مستهدفون بأصل إيمانهم وليس بسبب كسبهم أو فعلتهم في كثير من الأحيان ، يقول تعالى : " وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد "، وسوف تتداعى عليهم الأمم لتأكل خيراتهم وتستنزف طاقاتهم وتتحكم ببلادهم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها ، وسوف تجتمع عليهم ، ولن ترضى عنهم حتى يتخلوا عن دينهم ويصبحوا أتباعاً لليهود والنصارى ، وإلا فالمعركة مستمرة : " ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم " وهذا قد يكون طبعياً من الأعداء ، لكن المشكلة - في غالب الأحيان - إنما تتمثل في غفلة المسلمين وسُبَاِتهم ، وعدم اليقظة إلى مكر عدوهم " ودَّ الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة " .
وهذا الذي أتينا على ذكره من القرآن ، يشكل قانوناً أو سنة من سن النهوض والسقوط ، والتاريخ شاهد على ذلك في القديم والحديث ، وكم غفل المسلمون أو تغافلوا عن هذا القانون ، وركنوا إلى الذين ظلموا ، ووالوا أعداء الله ، واتخذوا بطانة من دونهم لا يألونهم خبالاً ، وخودعوا بعهود ووعود ، فكان السقوط وكان التخلف ، وكانت الهزيمة الثقافية والسياسية والعسكرية ، لكن من نعمة الله على المسلمين أن تسليط عدوهم عليهم ليس تسليط استئصال وإبادة ؛ لأنهم أمة النبوة الخاتمة ، وإنما تسليط إيذاء وعقوبة على المعاصي الفكرية والسياسية والأخلاقية التي يقعون فيها ، قال تعالى : " لن يضرُّوكم إلا أذى" هذا الأذى ليس هو شراً دائماً بل هو - في كثير من الأحيان -خير " لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم " لأنه أشبه بالمحرّضات والمنبهات الحضارية ، التي تشعر الأمة بالتحدي وتبصَّرها بمواطن التقصير ،وتقضي على الجوانب الرخوة في حياتها ، فتستعد للإقلاع من جديد .. فالغريب أن تتوقف المعارك ويتوقف الأذى ، والغريب ألاّ يدرك المسلمون ذلك حق الإدراك ، وهم يتلون القرآن ويقرؤون التاريخ .
لقد مر على الأمة الإسلامية من الحروب والمواجهات والكيود والعداوات ما يكفي لإلغائها ، ليس من الحاضر فقط ، وإنما لاقتلاعها من الماضي أيضاً ، والذي يعرف طرفاً من هذه الحروب والمواجهات والعداوات المتسمرة ، قد لا يفاجأ بالواقع هنا وهناك ، وإنما يرى ذلك شيئاً طبعياً ، فالشر من لوازم الخير -كما أسلفنا - .
ونستطيع أن نقول : إنه على الرغم من شراسة المعركة ، ووحشية الهجمة على الإسلام والمسلمين في كل مكان ، وضخامة الضحايا والتضحيات ، إلا أن ذلك لا قيمة له إذا ما قيس بالمكاسب التي تتحقق يومياً لعالم المسلمين ، والحقائق التي تتكشف يومياً أمام من كانوا غافلين عن طبيعة الصراع إلى زمن قريب ، وكانوا يحسنون الظن بقيم الحضارة الغربية ، ويتوهمون أنها قيم عالمية إنسانية ، تساهم باستنقاذ الإنسان من الظلم والعدوان ، وتمنحه الحرية والعدالة والمساواة ، وإذا بها شعارات للمخادعة والتضليل السياسي ، طرحت في بلاد المسلمين لإخراجهم عن قيم دينهم وحضارتهم ، وتأمين ارتهانهم السياسي والثقافي للغرب وحضارته وبمجرد أن تعجز هذه القيم الغربية عن تأمين العمالة الثقافية وتحقيق الغايات والأهداف ، التي طرحت من أجلها ، فإن الغرب يكون أول المضحَّين بها والمتنكرين لها ، وشواهد الإدانة واضحة في البلقان ، وفلسطين ، وأفغانستان ، وغيرها كثير .(/1)
لقد بذل الغرب جهوداً جبارة لإشاعة قيمة الحضارة في عالم المسلمين ، وبلغ في ذلك شأواً بعيداً خاصة بعد سقوط مرحلة الاستعمار العسكري ، وأغرى الكثير من أبناء المسلمين بمحاكاته وتقليده والانتهاء إليه والافتتان به ، فاتخذوه قبلة في ثقافتهم ولباسهم وعاداتهم وكتبهم ومناهجهم وإعلامهم وتعلمهم وطعامهم وشرابهم ، إلى درجة قد يظن معها بعض الغافلين عن سنن التداول والتدافع الحضاري ، أن الأمة الإسلامية قد تودع منها ، حيث انتهى زمام السياسة والثقافة في كثير من بلاد العالم الإسلامي إلى قيادات موالية للغرب ، تحميها حراسات مدينة للغرب في وجودها ووسائلها ومصادرها . لكن الذي نراه ونشهده اليوم في هذه الحقبة ، التي يمكن أن نطلق عليها : حقبة المواجهة الثقافية والحضارية ، بعد المواجهة الاستعمارية : أن المسلمين الذين أسقطوا الاستعمار العسكري في الماضي -على الرغم من قوته وجبروته - يسقط أحفادهم اليوم القيم الغربية ويعرونها ويكشفون زيفها .. وأن هذه المواجهة الثقافية والحضارية اليوم تعم العالم الإسلامي ، من مغربه إلى مشرقه .. وأن البلاد الإسلامية التي أسقطت الاستعمار العسكري ،هي المهيأة دون غيرها للانتصار في المواجهة الحضارية ، وإسقاط القيم الغربية ، على الرغم من تصاعد المواجهة إلى صور من المواجهات المسلحة حيث يستنفر لها اليوم كل أعداء الإسلام .
وما أظن أن أحداً يقدر اليوم على إقناع حتى المسلمين البسطاء ، بأن قيم الحضارة الغربية في الحرية والمساواة والديمقراطية تستحق أدنى احترام أو تقدير ، بعد أن وَأدَها الغرب وتنكّر لها دعاتها من تلامذته ، عندما انقلبت عليه ، ورضي بمساندة الإرهاب والاعتداء والاستبداد السياسي والعسكريات الديكتاتورية في العالم الإسلامي . لقد كان الغرب ودعاة الديمقراطية أول من تنكر لها وضحى بها في أكثر من موقع في العالم الإسلامي ، وذلك عندما أتاحت الفرصة لظهور الإسلام ومجيء الإسلاميين ، وكان دعاتها أول الخائفين منها والمحاربين لها؛ لأن الهوامش البسيطة - لتطبيقها في العالم الإسلامي ، على مستوى النقابات والجمعيات والمؤسسات - عرَّفتهم بأقدارهم وحقيقتهم ، ذلك أن الذين يحاربون الديمقراطية ويخافون منها هم الذين يخسرون مواقعهم عند تطبيقها ..وأن الذين يتهمون بمعاداتها وحربها ، هم ثمار تطبيقها الحقيقي ، وأن الديمقراطية كانت - دائماً - فرصتهم الإسلامية ، والاستبداد وسيلة أعداء الإسلام ، وأعتقد أننا لو أنفقنا ما في الأرض جميعاً لما استطعنا إسقاط القيم الغربية من نفوس كثير من أبناء المسلمين المرتهنين لها ، كما سقطت - اليوم - على أيدي أصحابها ودعاتها الذين كانوا أول المتنكرين لها عندما سمحت بمجيء الإسلام والإسلاميين ، وأصبح من اليقين الثابت ؛ أن هذه القيم الغربية إنما وجدت لتحقق أغراض أصحابها ، وتأمين العمالة الثقافية في بلاد المسلمين .. وأنها بمجرد أن عجزت عن تحقيق أهدافها ، كان أصحابها ودعاتها أول المتنكرين لها .
لقد سقطت القيم الغربية اليوم ، كما سقط الاستعمار الغربي العسكري بالأمس ، سقطت في البلقان ، وسقطت من قبل في فلسطين ، وها هي تسقط اليوم في أفغانستان ، وفي الكثير من بلاد العالم الإسلامي ، حيث يدعم الغرب اليوم العسكر ، والاستبداد السياسي، والظلم الاجتماعي الذي يغاير قِيَمه بحسب الظاهر ؛ لأن ذلك يحول دون البديل الإسلامي ، الذي بقي الأمل الوحيد .. ولم يبق من سبيل أمام إنقاذ البقية الباقية من قيم الحضارة الغربية في بلاد المسلمين إلا تشويه البديل الإسلامي واستفزازه ، ودفعه إلى ممارسات شاذة وانفجارات عشوائية ، تشوَّه صورته ، وتعطي انطباعاً مخيفاً عنه ، وتصور أن العودة إلى العلمانية وقيم الحضارة الغربية ، هي طريق الخلاص من هذه الأصوليات المرعبة ، ولكن جاء ذلك بعد فوات الأوان وانكشاف الحقائق .. وقد يكون المطلوب من الإسلاميين اليوم ، أكثر من أي وقت مضى:
-التمسك بقيم الحضارة الإسلامية وثوابتها ،وتمثلها في حياتهم حتى يدرك الناس الفوارق الحقيقية بينهم وبين دعاوى الآخرين .
-تجنب المواجهة وردود الأفعال ، مهما كانت الاستفزازات وعظمت التحديات ؛ لأن المواجهة غير المتكافئة سوف تكون لصالح أعدائهم .
-التزام الخلق الإسلامي في التعامل مع الآخر ، مهما اشتدت عداواته .
-الانتصار لقضايا الحرية والمساواة وكرامة الإنسان، مهما كانت التضحيات ، والدفاع عنها كالدفاع عن الأنفس والأعراض .
-عدم الانفصال عن جسم الأمة وأهدافها الأساسية ، وتوسيع قاعدة الالتزام بالإسلام ؛ ليتحول من كونه دعوة جماعة أو جماعات ، إلى اختيار أمة بكاملها .
-الوقوف مع الحق أينما كان ، ومن أي إنسان جاء ، وعدم التعصب للذات ، أوالانتصار للنفس .
-عدم المساومة على القيم والمبادئ والثوابت الإسلامية .(/2)
-الشجاعة في الاعتراف بالأخطاء ، والإقلاع عنها ، مهما كانت الخسائر ، ذلك أن الفرصة اليوم متاحة أكثر من أي وقت مضى لقيام البديل الإسلامي السليم ، والتأكيد على أن الإسلام دين الأمة وخيارها ، وليس حكراً على أحد ، وليس إلغاءً وتسلطاً لأحد ، وأنه الأمل الباقي بعد سقوط قيم الحضارة الغربية في عالم المسلمين(/3)
سل بنا العزّ أوْ سَل فخارا
أو فسل إن شئت مجداً مَنارا
والقنا فسل عنّا وسيفا
هل ضربنا بغيرهنّ كبارا؟
سل بنا الشموس ستأتي
في ذرانا وتستكينُ وقارا
نحن جندٌ نرى الحياة بعزّ
أو نخوض من الدماء بحارا
من بنو صهيون من (أُولمَرْتٌ)
من نجادٌ،نحيلهم أصفارا
من هو(البوشُ) إن تذكّر يوما
بعد عشر أيلولَ صعقاً ونارا
يذكر الذلّ بالصغار وضيعاً
ومن الذلّ يستعيرُ شعارا
من بنوقيصر أو سلالةُ كسرى
قد محونا بسيفنا الآثارا
كم سحقنا من الملوك طغاةً
وبنينا للعدل صرحا ودارا
ينشأ الناشئون فينا أسودا
ورعودا تُزلزلُ الأخطارا
كانت الناس بالحديد عبيدا
وبنا اليوم أصبحوا أحرارا
حامد بن عبد الله العلي(/1)
سلامة الصدر من الأحقاد
تناول الدرس اهتمام الشريعة بالتحاب بين المؤمنين وسلامة صدور بعضهم لبعض، وتكلم عن القلب السليم وما هي صفته، وإصلاح ذات البين، ثم ذكر أهمية سلامة الصدور، ثم ذكر حرص الصحابة على سلامة صدور بعضهم لبعض ونماذج من ذلك، ثم ذكر مفاسد الشحناء والتباغض .
جاءت هذه الشريعة بالأمر بالتحاب بين المؤمنين وسلامة صدور بعضهم لبعض:[ وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا] رواه البخاري ومسلم وحرمت الشريعة كل أمر فيه إيذاء لهذه الرابطة، وإن من علامات الإيمان سلامة القلب للمؤمنين، وأن يكون قلب الإنسان سليماً؛ لأن صاحب القلب السليم هو الذي ينجو يوم الدين: } يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ[88]إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ[89] { سورة الشعراء .
القلب السليم: هو الذي سلم من الشرك والغل والحقد والحسد والشح والكبر وحب الدنيا والرئاسة، فسلم من آفة تبعده عن الله، ومن كل شبهة تعارض خبر الله، ومن شهوة تعارض أمر الله، وسلم من كل إرادة تزاحم مراد الله، وسلم من كل قاطع، يقطع عن الله.
إصلاح ذات البين: جاءت به الشريعة؛ لأجل أن تكون العلاقة بين المؤمنين على أحسن ما يمكن، وأمر الله تعالى بإصلاح ذات البين؛ لأجل حفظ سلامة الصدور، فقال الله: } فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [1] { سورة الأنفال .
سلامة الصدر مطلب شرعي: وجاءت الشريعة بكل الأمور التي تكفل سلامة صدر المسلم لأخيه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:' أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ “ رواه مسلم وأبوداود والترمذي وابن ماجه وأحمد . كل هذه الإجراءات لسلامة الصدور، سلامة الصدر مطلب شرعي،و قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ قَالَ:”كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ” قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ قَالَ:” هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ لَا إِثْمَ فِيهِ وَلَا بَغْيَ وَلَا غِلَّ وَلَا حَسَدَ”رواه ابن ماجه وهو حديث صحيح.لقد كثر اليوم في الناس الشحناء، وصارت الأحقاد في القلوب كثيرة، لقد صرنا نجد تقطع العلاقات وتجهم الوجوه، وحمل الناس في قلوب بعضهم على بعض، مع أن هذه الشريعة قد جاءت فيما جاءت به بـ: تصفية القلوب والنفوس ومراعاة المشاعر، وقد قال الله: } وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ ...[28] {سورة النور علم الله تعالى أن بعض الناس إذا استأذن، فلم يؤذن له، وقيل له: ارجع أنه قد يجد في نفسه على أخيه صاحب البيت، فقال الله معزياً ومسلياً حتى يرجع المؤمن ونفسه راضية على أخيه المؤمن: قال: } وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ ...[28] {سورة النور . فسلّاه وعزّاه بالتزكية التي تحصل له في قلبه إذا رجع لمّا يقال له: ارجع، ولذلك كان بعض السلف يفرح إذا قيل له: ارجع ولم يؤذن له بالدخول؛ لأنه يريد موعود الله بحصول التزكية التي وعدها الله:}هُوَ أَزْكَى لَكُمْ {.
سلامة الصدور نعمة من النعم: التي توهب لأهل الجنة حيثما يدخلونها . قال الله تعالى:} وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ[47] {سورة الحجر .فأهل الجنة لا اختلاف بينهم، ولا تباغض، قلوبهم قلب واحد، يسبحون الله بكرة وعشياً كما جاء في صحيح البخاري .
فسلامة الصدر طهارته من الغل والحقد للمسلم، وهذه راحة ونعمة؛ ولذلك أكدت عليها الشريعة؛ حتى يعيش الناس في بحبوحة من أمرهم، وفي سلامة وعافية ، وهذه مسألة صعبة ولا شك، فإن الإنسان قد يحسن مكابدة الليل وقيامه ؛ ولكنه قد لا يستطيع أن يزيل من قلبه كل شئ فيه على إخوانه .
سلامة الصدر من أخلاق العلماء: وقد وصف العلماء رحمهم الله أخلاق أهل العلم، فقالوا:' لا مداهن ولا مشاحن ولا مختال ولا حسود ولا حقود ولا سفيه ولا جاف ولا فظ ولا غليظ ولا طعَّان ولا لعَّان ولا مغتاب ولا سبَّاب، يخالط من الإخوان من عاونه على طاعة ربه ونهاه عما يغضب مولاه ، ويخالط بالجميل من لا يأمن شره إبقاء على دينه، سليم القلب للعباد من الغل والحسد، يغلب على قلبه حسن الظن بالمؤمنين في كل ما أمكن فيه العذر، لا يحب زوال النعم على أحد من العباد' هذا دأب طالب العلم، والداعية إلى الله ، والمتمسك بالدين هذا حاله، وهذا خلقه . لقد أثنى الله على الأنصار لأمر مهم في غاية الأهمية قال عز وجل: } وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا...[9]{ سورة الحشر أي: مما أوتي إخوانهم المهاجرون من الفضل، فلم يعترضوا على تفضيلهم، ولم يحسدوهم على ما أتاهم الله من فضله .(/1)
سلامة الصدر تحتاج إلى مجاهدة:إن مما يدل على صعوبة تحقيق سلامة الصدر، هذه القصة العظيمة: قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِك:ٍ كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:“ يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ” فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وُضُوئِهِ قَدْ تَعَلَّقَ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ الشِّمَالِ فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ ذَلِكَ فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِثْلَ الْمَرَّةِ الْأُولَى فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ أَيْضًا فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ الْأُولَى فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبِعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ إِنِّي لَاحَيْتُ أَبِي فَأَقْسَمْتُ أَنْ لَا أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤْوِيَنِي إِلَيْكَ حَتَّى تَمْضِيَ فَعَلْتَ قَالَ نَعَمْ قَالَ أَنَسٌ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثَ فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنْ اللَّيْلِ شَيْئًا غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَّ وَتَقَلَّبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَبَّرَ حَتَّى يَقُومَ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ يَقُولُ إِلَّا خَيْرًا فَلَمَّا مَضَتْ الثَّلَاثُ لَيَالٍ وَكِدْتُ أَنْ أَحْتَقِرَ عَمَلَهُ قُلْتُ يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنِّي لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي غَضَبٌ وَلَا هَجْرٌ ثَمَّ وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَكَ ثَلَاثَ مِرَار:” يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ” فَطَلَعْتَ أَنْتَ الثَّلَاثَ مِرَارٍ فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إِلَيْكَ لِأَنْظُرَ مَا عَمَلُكَ فَأَقْتَدِيَ بِهِ فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ قَالَ فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي فَقَالَ مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا وَلَا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ' رواه أحمد وهوحديث صحيح. ' هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ ' إنها ليست مسألة سهلة أن يكون الإنسان دائماً سليم الصدر لإخوانه، ليس في قلبه غش ولا حقد ولا حسد على أحد من إخوانه، إنه أمر بالغ الصعوبة، ولكن يحصل بالمجاهدة، ومن وفقه الله له حصل له.
حرص الصحابة على سلامة صدور بعضهم لبعض: كان الصحابة رضوان الله عليهم يلتمسون إزالة أي شئ يحصل في صدر الواحد على أخيه ولهذا أمثلة:
أبوبكر رضي الله عنه
أَتَى أَبوسُفْيَانَ عَلَى سَلْمَانَ وَصُهَيْبٍ وَبِلَالٍ فِي نَفَرٍ فَقَالُوا:وَاللَّهِ مَا أَخَذَتْ سُيُوفُ اللَّهِ مِنْ عُنُقِ عَدُوِّ اللَّهِ مَأْخَذَهَا قَالَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَتَقُولُونَ هَذَا لِشَيْخِ قُرَيْشٍ وَسَيِّدِهِمْ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ:” يَا أَبَا بَكْرٍ لَعَلَّكَ أَغْضَبْتَهُمْ لَئِنْ كُنْتَ أَغْضَبْتَهُمْ لَقَدْ أَغْضَبْتَ رَبَّكَ” فَأَتَاهُمْ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ يَا إِخْوَتَاهْ أَغْضَبْتُكُمْ قَالُوا لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَخِي. رواه مسلم وأحمد . فهذا يدل على أنه ينبغي للمسلم إذا خشي أن يكون أخوه المسلم قد أخذ عليه في نفسه أن يسارع لتطييب خاطره، والاعتذار إليه، وأن يتأكد بأن صفحة قلب أخيه لا زالت بيضاء، وأنه لم يتصرف تصرفاً يدخل في قلب أخيه شيئا عليه، وفي المقابل ينبغي على من اعتذر إليه أن يقبل العذر، ويسارع إلي تطييب خاطر الآخر، وأن يدعو له بالمغفرة.
ابن عباس رضي الله عنه(/2)
قال كلمات تدل على صلاح قلبه لإخوانه، ولجميع المسلمين لما شتمه رجل قال له:'إنك لتشتمني وفي ثلاث خصال: أني لا آتي على الآية في كتاب الله عز وجل إلا أود أن جميع الناس يعلمون منها ما أعلم...' كان ابن عباس يتمنى أن جميع المسلمين يعلمون ما يعلم من تفسير الآية إذا مر بها، ولم يكن يتمنى أن ينفرد بالعلم ليكون بارزاً بينهم، متميزا عنهم، ثم قال:' وإني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين- أي القضاة الذين ينظرون في قضايا الناس- يعدل في حكمه فأفرح به ولعلي لا أقاضي إليه أبدا'. أفرح به لأجل مصلحة إخواني المسلمين لأنه عادل، ثم قال ابن عباس:' وإني لأسمع أن الغيث قد أصاب بلدا من بلاد المسلمين، فأفرح به، ومالي به من سائمة ولا غنم ولا زرع في تلك البلد'.
أبو دجانة رضي الله عنه
لما دُخل عليه وهو مريض كان وجه يتهلل، فقيل له: مالي أرى وجهك يتهلل؟ فقال:'ما من عمل شئ أوثق عندي من اثنتين: كنت لا أتكلم فيما لايعنيني، والأخرى فكان قلبي للمسلمين سليماً' .
ولكن في التحريش بينهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه:”إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ”رواه مسلم والترمذي وأحمد .”وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ” فالشيطان هو الذي يؤز هذا على هذا، ويريد أن يحقد هذا على هذا، وينفخ في نفس هذا، ويريد أن يمتلئ هذا قلبه غيظاً على أخيه.فلنعلم أن كل حقد، أو حسد مصدره هذا الشيطان.
مفاسد الشحناء والتباغض:
1-رد العمل : الحقد على المسلم أو الحسد يعرض الإنسان لرد عمله، وحرمانه من الفضل العظيم. قال النبي صلى الله عليه وسلم:”تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا”رواه مسلم وأبوداود وابن ماجه ومالك وأحمد.
2-حرمان معرفة ليلة القدر : وبسبب التلاحي حرم الناس من معرفة ليلة القدر على التعيين:”إِنِّي خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ وَإِنَّهُ تَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَرُفِعَتْ ...”رواه البخاري وأحمد ومالك.
3-سوء الخاتمة : كما أن هذا الحقد بين المسلمين سبب لسوء الخاتمة، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ فَمَنْ هَجَرَ فَوْقَ ثَلَاثٍ فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ” رواه أبو داود وأحمد وهو حديث صحيح. ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل قلوبنا سليمة لإخواننا المسلمين.
الشيخ/ محمد المنجد(/3)
سلسلة مقالات في فقه الجهاد ( المقالةالأولى: فضل الجهاد )
الكاتب : د. أبوعبدالرحمن الأزدي ...
الحمد لله رب العالمين ، و العاقبة للمتقين ، ولا عدوان إلا على الظالمين ، ولا إله إلا الله ، إله الأولين و الآخرين ، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله ، و أمينه على وحيه ، وخيرته من خلقه ، محمد بن عبدالله ،وعلى آله ، وصحبه أجمعين .. وبعد :
قال جرير يمدح الخليفة الوليد بن عبد الملك :
وأدّت إليكَ الهندُ مافي حُصونِها * ومن أرض صين استان تُجبَى الطَّرائفُ
وأرض هِرَقل قَد قهرت وداهراً * وتَسعى لكم من آل كسرى النواصِفُ
إن خضعان الهند و الصين و الروم و الفرس ودخولها في دين الله ؛لم يكن نتيجة ركون إلى الدنيا ، أو معاهدات مع أعداء الله ورسوله ، أو دخول في أحلاف مشبوهه ، ... إنما كان ثمرة يانعة من ثمار الجهاد في سبيل الله تعالى .
إن الجهاد في الإسلام له مكانة خاصة ، ومنزلة سامية ، وإن الإنسان ليعجب من كثرة النصوص الدالة على فضله ، واستفاضتها وثبوتها ، صحة ودلالة ، ومع ذلك تنكبه عامة المسلمين اليوم ،فركبهم من الذل و المهانة ،مالم يمر على هذه الأمة ، من بعثة بنبيها صلى الله عليه وسلم إلى عصرنا هذا مثله .
ولما يترتب على الجهاد من مصالح عظيمة ، ونفع للأمة في معاشها ومعادها ؛ لأجل ذلك جاء في فضله ، وثواب فاعله نصوص كثيرة حتى قال شيخ الإسلام : " لم يرد في ثواب الأعمال وفضلها مثل ما ورد فيه " 28/353 ، وقال أيضاً : " والأمر بالجهاد ، وذكر فضائله في الكتاب و السنة ؛ أكثر من أن يحصر ، ولهذا كان أفضل ما تطوع به الإنسان ، وكان باتفاق العلماء أفضل من الحج و العمرة ، ومن صلاة التطوع ، و الصوم التطوع ، كما دل عليه الكتاب و السنة " .
وقال رحمه الله : " نفع الجهاد عام لفاعله ، ولغيره ، في الدين و الدنيا ، ومشتمل على جميع أنواع العبادات الباطنة و الظاهرة ، فإنه مشتمل من محبة الله تعالى ، والإخلاص له ، والتوكل عليه ، وتسليم النفس و المال له ، و الصبر و الزهد ، وذكر الله ، وسائر أنواع الأعمال على مالا يشتمل عليه عمل آخر " ، وذكر – رحمه الله – أن في الجهاد سعادة الدنيا و الآخرة ، وفي تركه ذهاب السعادتين أو نقصهما . 28/354
والآن إليك أخي القارئ طائفة من تلك النصوص المضيئة :
1. عظم الله أمر الجهاد ، وذم التاركين له ، ووصفهم بالنفاق ، ومرض القلوب ، قال تعالى : " قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم " الآية ، وقال تعالى : " فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت " الآية .
2. أثنى الله على أهل الجهاد وعظمهم في سورة الصف حيث يقول " يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم " الآية .
3. وقال تعالى : " من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم .." الآية .
4. وقال تعالى : " ذلك بأنهم لا يصيبهم ظماً ولا نصب ولا مخمصة .. " الآية .
5. اعتبر الله تعالى أن الذي قتل في سبيل الله مازال حياً " ولكن لا تشعرون " ، قال تعالى : " ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون " وقال سبحانه : " و لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله ... " الآية .
إن هذا المفهوم ؛ مفهوم إسلامي تفرد به الإسلام ، كيف يقتل الرجل ، ويبقى حياً ! في مفهوم الأمم السابقة من قتل فقد مات وانتهى أمره ، أما في الإسلام فالذين قتلوا في سبيل الله ؛ أحياءلهم كل خصائص الأحياء ، فهم يرزقون ، وهم فرحون ، وهم يستبشرون، إنها حقيقة كبيرة ، ذات قيمة ضخمة ، وآثار عميقة في مشاعر المؤمنين ، واستقبالهم للحياة و الموت ، وتصورهم لما هنا وما هناك ، كما يقول الاستاذ سيد قطب . يقول الاستاذ الأديب سيد قطب عن الشهداء : " لا يجوز أن يقال عنهم أموات ، لا يجوز أن يعتبروا أمواتاً في الحس و الشعور ، ولا أن يقال عنهم أموات بالشفة و اللسان ، فهم أحياء بشهادة الله سبحانه ، فهم لابد أحياء .
إنهم قتلوا في ظاهر الأمر ، وحسبما ترى العين ، ولكن حقيقة الحياة لا تقررهما هذه النظرة السطحية الظاهرة .. 1/143
ننتقل إلى السنة :
إن حياة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حافلة جداً بالعناية بالجهاد ، عناية عملية و قولية .
فقد بدأ الجهاد في مرحلة مبكرة من مراحل دولته الجديدة في المدينة ، بدأ به بعد سبعة أشهر من هجرته صلى الله عليه وسلم ، سبعة أشهر فقط ، وليس بعد سبع سنين ، وكان أول لواء عقده صلى الله عليه وسلم ؛ لواء أبيض ، عقده لحمزة بن عبد المطلب ، في شهر رمضان ، على رأس سبعة أشهر ، من مهاجره وكان حامله أبو مرثد كناز بن الحصين ، حليف حمزة ، وبعثه في ثلاثين رجلاً من المهاجرين خاصة ، يعترض عيراً لقريش ، جاءت من الشام ، وفيها أبو جهل بن هشام في ثلاثمائة رجل .(/1)
ثم توالت بعد ذلك غزواته وسراياه وبعوثه ، فبلغت غزواته نحو سبع وعشرين غزوة ، قاتل منها في تسع : بد ر، وأحد ، و الخندق ، وقريظة ، والمصطلق ، وخيبر ، و الفتح ، وحنين ، و الطائف ، أما سراياه وبعوثه فقريب من ستين .
وكان له صلى الله عليه وسلم تسعة أسياف : مأثور، و العضب، وذو الفقار (وكان لا يكاد يفارقه) ، و القلعي ، و البتار ، و الحتف ، و الرّسوب ، و المخذم ، و القضيب .
( قلت : ويستفاد من ذلك استحباب تسمية المجاهد لسلاحه الذي يقاتل به )
وكان له صلى الله عليه وسلم سبعة أدرع :
ذات الفضول ( وهي التي مات وهي مرهونة عند يهودي ) ، وذات الوشاح ، وذات الحواشي ، و السعدية ، و فضة ، والبتراء ، و الخرنق .
وكان له ست قسيّ ، وجعبة ، وترس ، وخمسة رماح ، ومغفر ، وراية سوداء ، وبيضاء ، وصفراء ، وثلاث جباب يلبسها في الحرب .
و المقصود من ذلك كله ؛ بيان عنايته صلى الله عليه وسلم بأمر الجهاد ، ومبادرته به ، وجعله من أهم أعماله ، و الاستعداد له ، واجتماعه عليه صلى الله عليه وسلم .
هذه سنته وطريقته ، هو وأصحابه خلافاً لما عليه المسلمون اليوم حكاماً وشعوباً . وإن نظرة سريعة إلى حال الأمة اليوم مع الجهاد ؛ لتُفسر ما وصلت إليه من ذل ومهانة .
هذه مقدمة قصيرة ، الغرض منها بيان شدة عناية النبي صلى الله عليه وسلم بأمر الجهاد عناية عملية .
أما اهتمامه به قولاً وتشريعاً ؛ فهو كثير جداً ،ومنه ما يلي :
1. قال صلى الله عليه وسلم : " إن في الجنة لمائة درجة ، ما بين الدرجة و الدرجة ؛ كما بين السماء و الأرض ، أعدها الله للمجاهدين في سبيله " متفق عليه .
2. وقال عليه الصلاة و السلام : " من اغبرت قدماه في سبيل الله ؛ حرمه الله على النار " رواه البخاري .
3. وقال أيضاً : " رباط يوم وليلة في سبيل الله ؛ خير من صيام شهر وقيامه ، وإن مات أجري عليه عمله الذي كان يعمله ، وأجري عليه رزقه ، وأمن الفتان " رواه مسلم .
4. وقال رجل لرسول عليه الصلاة والسلام : يا رسول الله أخبرني بشيء يعدل الجهاد في سبيل الله ؟ قال : لا تستطيع . قال : أخبرني به ؟ ، قال : هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تصوم لا تفطر ، وتقوم لا تفتر ؟ قال : لا ، قال : فذلك الذي يعدل الجهاد " متفق عليه .
5. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يجتمع كافر ، وقاتله في النار ، أبداً " رواه مسلم .
6. وعن أبي موسى الأشعري أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف " فقام رجل رث الهيئة ، فقال : يا أبا موسى أنت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا ؟ قال : نعم ، فرجع إلى أصحابه فقال : أقرأ عليكم السلام ، ثم كسر جفن سيفه فألقاه ، ثم مشى بسيفه إلى العدو فضرب به حتى قتل " رواه مسلم .
فهذه – أخي – بعض النصوص في فضل الجهاد ، وقد اخترت الأحاديث التي في الصحيحين ، أو احدهما ، وتركت من الأحاديث الصحيحة ، التي خارج الصحيحين شيئاً كثيراً طيباً ، لا يسع هذا المقام ، لذكره كله ، لطوله وكثرته .
و النصوص السابقة إنما هي في فضل الجهاد .
أما فضل الشهادة و الترغيب فيها فشيء آخر ، وهو أعظم وأجل :
1. فعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا ، وإن له ما على الأرض من شيء ، إلا الشهيد ، فإنه يتمنى أن يرجع إلى الدنيا ، فيقتل عشر مرات ، لما يرى من الكرامة " متفق عليه .
2. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " و الذي نفسي محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل ، ثم أغزو فأقتل ، ثم أغزو فأقتل " متفق عليه .
3. وعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين " رواه مسلم .
4. وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رأيت الليلة رجلين اتياني فصعدا بي الشجرة ، فأدخلاني داراً هي أحسن وأفضل ، لم أر قط أحسن منها ، قالا لي : أما هذه فدار الشهداء " رواه البخاري .
5. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال : " إن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر ، تعلق من ثمر الجنة ، أو شجر الجنة " رواه الترمذي وصححه ، وتعلق : أي ترعى من أعالي شجر الجنة .
6. وعنه - رضي الله عنه - أنه صلى الله عليه وسلم قال : " ما يجد الشهيد من مس القتل ؛ إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة " رواه الترمذي وصححه .
7. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال : " الشهيد يشفع في سبعين من أهل بيته " رواه أبو داود وصححه ابن حبان .(/2)
وبعد فهذه النصوص لا تحتاج إلى تعليق ، وقد تركت شيئاً كثيراً ، ولا يمكن استيفاء ذلك في مقالة واحدة ، إنما المراد التنبيه إلى فضله ، و العناية بنصوص الصحيحين ، ومن أراد أن يقف على فضله مستوفياً ؛ فعليه بزاد المعاد ، أو ترغيب المنذري ، أو مشارع الأشواق ، إلى مصارع العشاق ، لابن النحاس .
هذا آخر ما أردت بيانه في المقالة الأولى ، وستكون المقالة الثانية في الأحكام التكليفية للجهاد ، إن شاء الله ، وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين ، وصلى الله وسلم ، وبارك على نبينا محمد ، وعلى آله ، وصحبه أجمعين .
_________________
وكتبه : د. أبوعبدالرحمن الأزدي(/3)
سنة الابتلاء
? تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ?[ الملك:1ـ2].
إن الابتلاء سنة ثابتة في حياة البشر لا يستطيعون الخروج منها، وللابتلاء صور ومظاهر وقوانين وسنن تفصيلية لسنة الابتلاء الأصلية والأساسية ومن تلك السنن :
سنة التداول: بمعنى أن الله تعالى يداول أحوال الناس من شدة إلى رخاء ومن رخاء إلى شدة ، ومن نصر إلى هزيمة ، ومن هزيمة إلى نصر، ومن يسر إلى عسر، ومن عسر إلى يسر إلى غير ذلك من مظاهر تقلبات الأحوال وتغيير المواقف وتداول المواقع، حتى تظهر بذلك مواقف الناس، وتنكشف بواطن ما في صدورهم وفي هذه السنة يقول الله عز وجل ? وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ?[ آل عمران: 140].
وإن كانت هذه الآية الكريمة نزلت في أعقاب غزوة أحد، ليتبين للمؤمنين سنة الله عز وجل في النصر والهزيمة، وإن كانت العاقبة والمحصلة النهائية للمؤمنين ، والنصر موعود لهم، ولكن هناك حكمة تقتضي أن يذوق المؤمنون طعم الهزيمة.
ومداولة الأحوال لا يقتصر على تعاقب النصر والهزيمة فإن اختلاف الأحوال لا يقتصر على تعاقب النصر والهزيمة فإن اختلاف الأحوال والظروف التي يمر بها الإنسان تدخل في إطار هذه السنة، ولهذا قال بعض المفسرين أن معنى نداولها بين الناس: من فرح وغم وصحة وسقم وغنى وفقر إلى غير ذلك.
ثم إن وعد الله للمؤمنين بالنصر لا يعني أن الأمر سيجري وفق أهوائهم وأن الثمرة ستأتي على ما يشتهون، كلا. بل إن حكمة الله تقتضي بأن تتربى النفوس المؤمنة على تحمل نتائج الأخطاء، وأن تتعلم بأن المعصية تبعدهم عن رحمة الله وتوفيقه وعونه، فليس من الصدفة أو المجازفة ما يحصل في حياة البشر من تغييرات في أحوالهم، فإن وراء ذلك إرادة ومشيئة إلهية ذات حكمة بالغة على الإنسان أن يعرفها ويفقهها.
ومن سنن الابتلاء سنة التدافع بين الحق والباطل فإن الله أراد لهذه الحياة أن تكون مسرحاً للصراع بين أنصار الحق والباطل، بين قوى الخير وقوى الشر، قال تعالى: ? كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ?[الأنبياء:35], وقال: ? وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً?[الفرقان: 20]. فالتدافع بين أهل الحق وأهل الباطل سنة حتمية لا بد منها، فلا يتصور أن يعيش الحق والباطل في سلم دون صراع ومن دون غلبة أحدهما على الآخر، إلا لعلة كضعف أصحابهما أو جهلهما بمعاني الحق والباطل ومقتضيات ولوازم هذه المعاني أو ضعف تأثير هذه المعاني فيهم، ولقد ضرب الله مثلاً لهذه الحقيقة حقيقة الحق الثابت والباطل الزاهق في قوله سبحانه: ? أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ ?[ الرعد:17].
ذلك مثل الحق والباطل في هذه الحياة، فالباطل يطفو ويعلو وينتفخ ويبدو رابياً طافياً ولكنه زبد أو خبث، ما يلبث أن ينتهي ويذهب جفاء مطروحاً لا حقيقة له ولا تماسك فيه، والحق هادئاً ساكناً، وربما يحسبه بعضهم قد انزوى أو غار أو ضاع أو مات، ولكنه هو الباقي في الأرض كالماء الزلال والمعدن الصافي ينفع الناس (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ) لقد مضت سنة الله في تدافع الحق والباطل أن الغلبة للحق وأهله، وأن الاندحار والمحق للباطل وأهله كما قال تعالى ? وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ?[ الشورى: من الآية24] غير أن للنصر عوامل وأسباباً، وانتصار الله للحق وأهله لا يأتي إلا بجهد وتعب، وقد يصيب المؤمنين كثير من الأذى. والنصر إنما يتحقق في واقع الناس إذا هيأ الله في أنفسهم عوامل النصر التي أرشد إليها الإسلام وأمر بها الله ورسوله وأبعدوا عن أنفسهم عوامل الفشل ومعوقات النصر.
ومن أهم عوامل النصر: الإيمان، فقد وعد الله أهل الإيمان بالنصر والتأييد كما قال? وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ?[ الروم: 47].
وقال : ? إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ?[غافر:51].(/1)
وهذا وعد غير مكذوب.. ولا ينبغي أن يتطرق إلينا الشك بوعد الله ونحن نرى واقع المسلمين المؤلم غير منصورين عليهم، ذلك أنهم لم يحققوا الإيمان المطلوب منهم وما يستلزمه من صفات وأفعال غير متحققة فيهم، وبالتالي لا ينطبق عليهم الشرط ولا يستحقون نصر الله الذي وعد به المؤمنين، وما أحرى المسلمين اليوم وهم يمرون بظروف صعبة وحرجة أن يراجعوا أنفسهم ويعرضوا أحولهم وأفعالهم وما هم عليه على كتاب الله وسنة رسوله ليعرفوا الخلل الذي هم فيه، والنقص الموجود فيهم، فيقوموا بالتصحيح والتقويم وتدارك ما فاتهم وتحقيق معاني الإيمان في نفوسهم حتى يستحقوا الدخول في مضمون قول الله تعالى: ? وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ?[ الروم: 47].
ـ من عوامل النصر تقوى الله تعالى كما قال تعالى مخبراً عن نبيه موسى عليه السلام أنه قال لقومه المستضعفين المضطهدين من قبل فرعون وجنده: ? قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ?[ الأعراف:128], وقال تعالى: ? وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ?[ آل عمران: 120].
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أوصى سعد بن أبي وقاص وجنده في حرب العراق وفتوحات فارس قال: فإني آمرك ومن معك من أجناد بتقوى الله على كل حال فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد أحتراساً من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم. وإنما ينتصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم يكن لنا بهم قوة، لأن عددنا ليس كعددهم ولا عدتنا كعدتهم، فإذا استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا ننصر عليهم بفضلنا، لم نغلبهم بقوتنا. واعلموا أنه عليكم في مسيركم حفظة من الله، ولا تقولوا إن عدونا شر منا فلن يسلط علينا وإن أسأنا، فرب قوم قد سلط عليهم كما سلط على بني إسرائيل لما عملوا بمساخط الله كفار المجوس، فجاسوا خلال الديار وكان وعد الله مفعولاً، واسألوا الله العون على أنفسكم كما تسألون النصر على عدوكم اسأل الله ذلك لنا ولكم.
ومن عوامل نصر الله لعباده كونهم ينصرون دين الله عز وجل كما قال تعالى: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ?[ محمد:7] وقال ?وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ?[ الحج: 40]
والمراد نصرة دين الله وشريعته، ونصرة حزبه وأوليائه ولا شك أن انضمام جهود المؤمنين بعضهم إلى بعض لإقامة شرع الله وإعلاء كلمته، بالتعاون والتناصر فيما بينهم على هذا المقصد العظيم، تتحقق منهم النصرة لدين الله وبهذا يتحقق فيهم ما شرط الله عليهم لينالوا ما وعدهم الله به من نصرة، وكلما كانوا أكثر تعاوناً وولاءً وأصدق جهاداً في سبيل نصرة دين الله كان نصر الله أعظم وأكبر وأسرع إليهم مما يتصورون ? إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ?[ المائدة:55ـ56].
أما بعد ..
فإن وحدة الأمة واعتصامها بدينها وابتعادها عن عوامل الفرقة والاختلاف، والتنازع والصراع من أهم أسباب قوتها وانتصارها على أعدائها، وهذا ما أمر الله به عباده وأوصاهم به وحذرهم من الفرقة والتنازع غاية التحذير فقال سبحانه: ?وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ?[ آل عمران: 103] , وقال: ?وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ?[ الأنفال: 46] , وقال: ? وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ?[ الروم: 31ـ32].
وقال: ? إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ?[ الأنعام:159].
وقال: ? شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ?[ الشورى:13].(/2)
وما استطاع الأعداء ولن يستطيعوا أن يتسلطوا علينا إلا حين نسقط في هذه الفتن فتن الاختلاف والتنازع والخصام والاقتتال والتدابر والتقاطع، لقد اختلفنا حول كل شيء فالدين الذي أكرمنا الله به وأعزنا وشرفنا بأن نكون من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم اختلفنا حوله فهناك من يريد هدمه وإزالته والإجهاز عليه من أبناء جلدتنا، ولم يعد الأمر سراً بل هناك من يطالب جهاراً نهاراً بذلك وهذه هي الحالقة والكارثة.
لقد اختلفنا في المفاهيم والتصورات وفي الآداب والأخلاق وفي السياسات والمنطلقات والغايات.
والأعداء المتربصون بالأمة يغذون هذه الاختلافات، ثم يتحينون الفرصة للانقضاض علينا، ولقد أصبحت هذه السياسة من أقوى وأشد الأسلحة فتكاً بالأمة يستخدمها الأعداء في حربنا، وانظروا إلى ما يجري في العراق على سبيل المثال، وانظروا إلى ما يجري في السودان وكيف يبحث الأعداء عن مبررات للتدخل والسيطرة والتحكم في مقدرات الأمة ونهب ثرواتها. وما كان لهم أن يحققوا شيئاً من ذلك ولن يستطيعوا ما كانت الأمة قوية متماسكة متعاونة موحدة في أهدافها ومنطلقاتها معتصمة بكتاب الله متبعة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وإن أخشى ما أخشاه والعدو متربص بنا على أن يستغل الأحداث الجارية في بلادنا وتغذية الفرقة وإيقاد الفتنة لتضعف بذلك الأمة وتكون مهيأة للقبول بالأجنبي ولديها القابلية للسقوط في هذا الفخ، فعلى عقلاء الأمة ومسئوليها أن يكونوا مدركين للأمور على حقيقتها وأن يتعاملوا مع الأحداث تعاملاً واعياً مسئولاً، بعيداً عن الرعونة والطيش والاستخفاف.
نسأل الله تعالى أن يدفع عن بلادنا وسائر بلاد المسلمين مضلات الفتن، وأن يعصمنا بالإسلام قائمين وقاعدين، وأن لا يشمت بنا الأعداء الحاقدين.
راجعه/ علي عمر بلعجم.
عبد الحميد أحمد مرشد(/3)
سنة الله في الظلم والظالمين
قانون الظلم :
تعريف الظلم في اللغة :
جاء في لسان العرب : الظلم وضع الشيء في غير موضعه , وأصل الظلم الجور ومجاوزة الحد , ويقال : ظلمه يظلمه ظلماً ومظلمة ، الظلم صار مصدرا حقيقيا , وهو ظالم وظلوم , والظلمة هم المانعون أهل الحقوق حقوقهم , والظلامة ما تظلمه وهي الظلمة , وتظالم القوم : ظلم بعضهم بعضاً , وفي المفردات للراغب الأصفهاني : والظلم عند أهل اللغة وكثير من أهل العلم : وضع الشيء في غير موضعه المختص به إما بنقصان أو بزيادة ، وإما بعدول عن وقته أو مكانه , وقال الفيروزآبادي : والظلم يقال في مجاوزة الحق , ويقال في الكثير والقليل.
المعنى الشرعي للظلم :
قال الإمام العسقلاني في شرحه لصحيح البخاري : والظلم وضع الشيء في غير موضعه الشرعي , وقال الإمام العيني : الظلم أصله الجور ومجاوزة الحد و , معناه الشرعي وضع الشيء في غير موضعه الشرعي.
الظلم ضد العدل :
والظلم ضد العدل ونقيضه ، فما معنى العدل ؟ جاء في لسان العرب : العدل ما قام في النفوس أنه مستقيم وهو ضد الجور , وعدل الحاكم في الحكم يعدل عدلاً وهو عادل , والعدل الحكم بالحق , والعدل من الناس المرضي (قوله وحكمه ) , وجاء في المفردات للراغب الأصفهاني : العدل هو المساواة في المكأفاة , وجاء في النهاية لابن الأثير : العدل هو الذي لا يميل به الهوى فيجور في الحكم , وقال الفيروزآبادي : العدل خلاف الجور , وعدل عليه في القضية فهو عادل.
التعريف المختار للعدل :
وفي ضوء ما قيل في تعريف العدل أنه ضد الجور والظلم ، ومن تعريف الظلم ، يمكن تعريف العدل بأنه وضع الشيء في موضعه الشرعي ، وإعطاء كل شيء حقه من المكانة أو المنزلة أو الحكم أو العطاء.
تحريم الظلم في كل شيء ولكل إنسان :
في القرآن الكريم آيات كثيرة صريحة في تحريم الظلم بذكر اسمه ، وآيات كثيرة في تحريم الظلم بصورة غير مباشرة , وذلك بالأمر بالعدل لأن الأمر بالعدل نهي عن الظلم , فمن ذلك قوله تعالى " إن الله يأمر بالعدل " ، هكذا أمراً مطلقاً بالعدل بكل ما هو عدل , ولكل إنسان فلا يجوز ظلمه , ولو كان كافراً أو ظالماً ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية :"ولهذا كان العدل أمراً واجباً في كل شيء , وعلى كل أحد , والظلم محرماً في كل شيء ولكل أحد , فلا يحل ظلم أحد أصلاً سواء كان مسلماً أو كافرأً او كان ظالماً " قال تعالى : " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى " ومعنى شنآن قوم أي بغض قوم وهم الكفار".
وقال ابن تيمية أيضاً : "لأنه – أي العدل – هو الذي أنزلت به الكتب , وأرسل به الرسل – ضده الظلم , وهو محرم كما جاء في الحديث القدسي , كما يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه : "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا".
توبة الظالم وهل تدفع عنه عقوبة الآخرة :
من المعلوم أن الظلم معصية ، وأن الظالم إذا لم يتب من ظلمه عوقب عليه في الآخرة ، وأنه إذا تاب توبة نصوحاً مقبولة فتوبته تسقط عنه عقوبة ظلمه , ولكن إذا كان ظلمه يتعلق بحقوق الناس , كما لو قتل غيره ظلماً أ, و آذاه في بدنه بغير القتل , أوغصبه حقاً له ثم تاب , فهل تسقط توبته عقوبة ظلمه هذا في الآخرة ؟.
تعرض شيح الإسلام ابن تيمية لهذه المسألة فقال : "إن التوبة المجردة تسقط حق الله من العقاب , وأما حق المظلوم فلا يسقط بمجرد التوبة ، فمن تاب من ظلم لم يسقط بتوبته حق المظلوم ، لكن من تمام توبته أن يعوضه بمثل مظلمته , وإن لم يعوضه في الدنيا فلا بد له من العوض في الآخرة ، فينبغي للظالم التائب أن يستكثر من الحسنات حتى إذا استوفى المظلومون حقوقهم لم يبق مفلساً ، ومع هذا فإذا شاء الله تعالى أن يعوض المظلوم من عنده فلا راد لفضله , كما إذا شاء أن يغفر ما دون الشرك لمن يشاء".
عقوبة الظالم في الدنيا :
والغالب أن الظالم – حسب سنة الله في الظلم والظالمين ـ يعاقب في الدنيا على ظلمه للغير ، يدل على ذلك حديث رسول الله صلى الله الذي أخرجه أبو داود : "ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصحابه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة مثل البغي وقطيعة الرحم " وجاء في شرحه : ما من ذنب أحق وأولى لصحابه (أي البغي) وهو الظلم والخروج على السلطان أو الكبر وقطيعة الرحم أي ومن قطع صلة ذوي الأرحام.
وأيضاً فإن المظلوم مستجاب الدعوة , جاء في الصحيح الذي أخرجه البخاري عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن "واتق دعوة المظلوم , فإنها ليس بينها وبين الله حجاب " وجاء في شرحه للعسقلاني : "أي تجنب الظلم لئلا يدعو عليك المظلوم. وفيه تنبيه على المنع من جميع أنواع الظلم ".(/1)
وقوله : "وليس بينها وبين الله حجاب" أي ليس لها صارف يصرفها ولا مانع ، والمراد أنها مقبولة وإن كان عاصياً كما جاء في حديث أبي هريرة عند أحمد مرفوعاً : "دعوة الظالم مستجابة وإن كان فاجراً ففجوره على نفسه ".
ومما يكمل الاستدلال بهذا الحديث النبوي الشريف أن نقول : إن المظلوم يدعو عادة على ظالمه لينتقم الله منه في الدنيا ليشفي ما في صدره من غيظ على ظالمه ، وحيث إن دعوة المظلوم مستجابة ، فإجابته – إذا شاء الله – تكون بمعاقبة الظالم بالدنيا.
استدراك وتوضيح :
ولكن ما قلناه من أن الغالب في الظالم معاقبته في الدنيا على ظلمه ، لا يعني كما هو واضح من قولنا : إن الغالب في الظلم ألخ – إن كل ظالم يناله العقاب على ظلمه في الدنيا حتماً , وفوراً أو عاجلاً ؛لأن من سنة الله أيضاً إمهال الظالم ولكن دون إهماله , وقد يكون في عدم تعجيل عقوبته في الدنيا لحكمة يعلمها الله , ولا نعلمها مثل استدراجه ، أو لكون المظلوم قد ظلم غيره وما حل فيه من ظلم هو جزاء ظلمه لغيره ، أو لعلم الله بصلاح هذا الظالم مستقبلاً , وتوبته توبة نصوحاً , وتحلله من ظلمه ، أو لغير ذلك من موانع تعجيل العقوبة على الظالم , فنحن لا نحيط بكل جوانب حكمة الله , ومفردات سنته من عباده ، وإنما نستطيع القول بأن الظلم جدير بأن يعجل العقاب على مرتكبه كما جاء في الحديث الذي ذكرناه ، وإن المظلوم مستجاب الدعوة , وهو في الغالب يدعو على ظالمه بالانتقام العاجل ، فيكون ذلك كله من أسباب تعجيل العقوبة على الظالم , ولكن يبقى وراء الأسباب حكمة الله ومشيئته النافذة في العباد.
من عقاب الظالم تسليط ظالم عليه :
من سنة الله تعالى في الظلم والظالمين أن الرعية الظالمة أي التي يتظالم أفرداها فيما بينهم يُولى عليها حاكم ظالم , يكون تسلطه عليهم من العقاب لهم على ظلمهم , قال تعالى : "وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون".
وجاء في تفسيرها: نسلط بعض الظلمة على بعض فيهلكه ويذله. وهذا تهديد للظالم إن لم يمتنع من ظلمه سلط الله عليه ظالماً آخر.
ويدخل في الآية جميع من يظلم نفسه أو يظلم الرعية , أو التاجر يظلم الناس في تجارته. وقال الإمام الرازي في تفسير هذه الآية : " الآية تدل على أن الرعية متى كانوا ظالمين فالله تعالى يسلط عليهم ظالماً مثلهم ، فإن أرادوا أن يتخلصوا من ذلك الأمير الظالم فليتركوا الظلم " وقال الآلوسي في تفسير هذه الآية : " وقد استدل بالآية على أن الرعية إذا كانوا ظالمين , فإن الله تعالى يسلط عليهم ظالماً مثلهم ، وفي الحديث : "كما تكونوا يولى عليكم ".
لا يفلح الظالمون :
ومن سنته تعالى في الظلم والظالمين أنهم لا يفلحون ولا يفوزون في الدنيا كما لا يفلحون ولا يفوزون في الآخرة قال تعالى : "قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون " ، وهذا خطاب من الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يقول للمصرين على كفرهم ما هو مذكور في الآية ، وهو تهديد شديد ووعيد أكيد ، أي استمروا في طريقتكم وناحيتكم , إن كنتم تظنون أنكم على هدى , فأنا مستمر على طريقتي ومنهجي , فسوف تعلمون بعد حين من تكون له العاقبة الحسنى في هذه الدار ، وهي لا تكون إلا لرسوله صلى الله عليه وسلم وأتباعه المؤمنين , كما وعد الله تعالى , ووقع ما وعد الله , فنصر رسوله صلى الله عليه وسلم على الكافرين .
وأشار إلى السبب في هذه العاقبة الحسنى لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين , وهذا السبب هو أن مخالفيهم ظالمون ، وأن سنته تعالى : " إنه لا يفلح الظالمون " وإنما وضع الظلم موضع الكفر لأنه أعم منه , وهو أكثر فائدة لأنه إذا لم يفلح الظالم فكيف يفلح الكافر المتصف بأعظم أفراد الظلم ؟
والظالمون الذين لا يفلحون يشمل الظالمين لأنفسهم بالكفر بنعم الله أو باتخاذ الشركاء له في ألوهيته , كما يشمل الظالمين للناس في حقوقهم , فالسنة لا تتخلف وهي أن الظالمين لا يفلحون فلا ينتصرون ولا يظفرون بمطلوبهم.
وإذا كان الفلاح منتفياً عن الظالمين بموجب شرعه انحصر الفلاح والفوز في أهل الحق والعدل , هؤلاء هم رسل الله وأتباعهم المؤمنون كما قال تعالى : "إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد" وقوله تعالى : "ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون".
هلاك الأمة بظلمها :
من سنة الله في الظلم والظالمين هلاك الأمة بظلمها ، وفي بيان هذه السنة العامة آيات كثيرة في كتاب الله العزيز منها : "فقطع دابر القوم الذين ظلموا " ، وقوله تعالى : "هل يهلك إلا القوم الظالمون" ، وقوله تعالى : "ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا".(/2)
وكلمة (لما) ظرف يدل على وقوع فعل لوقوع غيره مما هو سبب له , وهذا يدل على وقوع هلاك الأمة لوقوع سببه وهو الظلم , وهذا الظلم نوعان , الأول : ظلم الأفراد لأنفسهم بالفسق والفجور والخروج عن طاعة الله , والتظالم فيما بينهم .
والثاني: ظلم الحكام لهم على نحو يهدر حقوقهم , ويذهب بعزتهم , ويعودهم على حياة الذل والمهانة , مما يجعل الأمة ضعيفة غير صالحة للبقاء , فيسهل على الأعداء الاستيلاء عليها واستعبادها , فيكون هذا محقاً لها وفناء لشخصيتها , فيصدق عليها قول الله تعالى : "وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوماً آخرين" وهذه السنة دائمة في الأمم , ولها مواقيت لهلاكها بسبب الظلم ، تختلف هذه المواقيت باختلاف أحوالها وأحوال أعدائها , وهي آجالها المشار إليها في قوله تعالى : "ولكل أمة أجل ، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون".
هلاك الأمم الظالمة له أجل محدود :
وهلاك الأمم الظالمة له أجل محدود ، بمعنى أن بقاء الأمة الظالمة بقاء محدود المدة , إذا انقضت هذه المدة جاء أجلها , فتهلك كما يهلك الإنسان , يموت إذا حان أجله بمضي مدة عمره , وتوضيح ذلك أن الظلم في الأمة كالمرض في الإنسان , يعجل في موته بعد أن يقضي المدة المقدرة له وهو مريض , وبانتهاء هذه المدة يحين أجل موته ، فكذلك الظلم في الأمة يعجل في هلاكها بما يحدثه فيها من آثار مدمرة , تؤدي إلى هلاكها واضمحلالها خلال مدة معينة يعملها الله هي الأجل المقدر لها ، أي الذي قدره الله تعالى لها بموجب سنته العامة التي وضعها لآجال الأمم , بناء على ما يكون فيها من عوامل البقاء كالعدل ، أو من عوامل الهلاك ـ كالظلم ـ التي يظهر أثرها وهو هلاكها بعد مضي مدة محددة يعلمها الله .
قال تعالى : "ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون" قال الآلوسي في هذه الآية "ولكل أمة أجل" ، أي لكل أمة من الأمم الهالكة أجل أي وقت معين مضروب لاستئصالهم , ولكن هلاك الأمم وإن كان شيئاً مؤكداً ولكن وقت حلوله مجهول لنا ، أي إننا نعلم يقيناً أن الأمة الظالمة تهلك حتماً بسبب ظلمها حسب سنة الله تعالى في الظلم والظالمين ، ولكننا لا نعرف وقت هلاكها بالضبط ، فلا يمكن لأحد أن يحدده بالأيام ولا بالسنين ، وهو محدد عند الله تعالى بالساعات , ولذلك قال تعالى : "فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون".
سنة الله مطردة في هلاك الأمم الظالمة :
وسنة الله مطردة في هلاك الأمم الظالمة قال تعالى : "ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد" وقوله تعالى : "وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم" أي ما ظلمناهم بإهلاكنا إياهم ولكن ظلموا أنفسهم بارتكاب ما به أهلكوا .
وقوله تعالى : "وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة" أي إن عذاب الله ليس بمقتصر على من تقدم من الأمم الظالمة ، بل إن سنته تعالى في اخذ كل الظالمين سنة واحدة فلا ينبغي أن يظن أحد أن هذا الهلاك قاصر بأولئك الظلمة السابقين ، لأن الله تعالى لما حكى أحوالهم قال : "وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة" فبين الله تعالى أن كل من شارك أولئك المتقدمين في أفعالهم التي أدت إلى هلاكهم فلا بد أن يشاركهم في ذلك الأخذ الأليم الشديد ، فالآية تحذير من وخامة الظلم ، فلا يغتر الظالم بالإمهال.
تبقى الدولة مع الكفر ولا تبقى من الظلم :
قال تعالى : "وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون" إن الدولة الكافرة قد تكون عادلة بمعنى أن حكامها لا يظلمون الناس , والناس أنفسهم لا يتظالمون فيما بينهم ، فهذه الدولة مع كفرها تبقى ، إذ ليس من سنته تعالى إهلاك الدولة بكفرها فقط ، ولكن إذا انضم إلى كفرها ظلم حكامها للرعية , وتظالم الناس فيما بينهم
وبهذا قال المفسرون وأهل العلم ، قال الإمام الرازي في تفسيره "إن المراد من الظلم في هذه الآية الشرك والمعنى أن الله تعالى لا يهلك أهل القرى بمجرد كونهم مشركين ، إذا كانوا مصلحين في المعاملات فيما بينهم , يعامل بعضهم بعضاً على الصلاح ، وعدم الفساد".
وفي تفسير القرطبي قوله تعالى : "بظلم" أي بشرك وكفر "وأهلها مصلحون" أي فيما بينهم في تعاطي الحقوق , ومعنى الآية : إن الله تعالى لم يكن ليهلكهم بالكفر وحده حتى ينضاف إليه الفساد , كما أهلك قوم شعيب ببخس المكيال والميزان , وقوم لوط باللواط.
قول ابن تيمية في هلاك الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة :(/3)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : "وأمور الناس إنما تستقيم في الدنيا مع العدل الذي قد يكون فيه الاشتراك في بعض أنواع الإثم أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق , وإن لم تشترك في إثم ، ولهذا قيل : إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة ، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة ، ويقال : الدنيا تدوم مع العدل والكفر , ولا تدوم مع الظلم والإسلام , وذلك أن العدل نظام كل شيء , فإذا أقيم أمر الدنيا بالعدل قامت , وإن لم يكن لصحابها من خلاق – أي في الآخرة – وإن لم تقم بالعدل لم تقم , وإن كان لصحابها من الإيمان ما يجزي به في الآخرة".
من الظلم المهلك المحاباة في تطبيق القانون :
تطبيق القانون على الجميع بالسوية وبدون محاباة يبعث الطمأنينة في النفوس ، ويجعل الضعيف المحق يوقن بانه في مأمن من ظلم القوي ، لأن الدولة معه ممثلة بقانونها الذي تطبقه محاكمها بعدل وبجدية , وعلى الجميع وبدون محاباة لأحد ، ومن كانت معه الدولة وقانونها فهو أقوى من غيره مهما كان هذا الغير ذا نفوذ وجاه وسلطان.
فإذا اختل هذا الوضع فلم يطبق القانون على الجميع , وأخذت المحاباة تفعل فعلها , وهي التي يأخذ بها الحاكم ، كان ذلك من الظلم الذي تباشره الدولة , أن تعين على وقوعه أو تسكت عنه فلا تمنعه ، فتتلبس الدولة بالظلم , وتغشاها ظلمته , فيقوم فيها سبب الهلاك فتهلك.
وهذا ما حذرنا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقد جاء في الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أن قريشاً أهمها شأن المرأة المخزومية التي سرقت ، فقالوا : من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالوا : من يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم , فكلمه فيها , فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : أتشفع في حد من حدود الله ؟ فقال له أسامة : استغفر لي يا رسول الله.
فلمان كان العشي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختطب فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال : أما بعد : فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، وإني والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ، ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها.
وجاء في شرحه : وفيه ترك المحاباة في قامة الحد على من وجب عليه , ولو كان ولداً أو قريباً أو كبير القدر , والتشديد في ذلك , والإنكار على من رخص فيه.
تعليل هلاك الدولة بالظلم :
في الحديث الذي ذكرناه في المرأة التي سرقت جاء فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم : "فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد" ، فالمحاباة في تطبيق القانون ظلم تقوم به الدولة أو تعين عليه ، وكان المأمول أن تمنع الدولة الظلم , وتحمي المظلومين , وتعاقب الظالم , وأشد الظلم وأوجعه ما جاءك ممن واجبه أن يحميك.
وهذا الظالم وغيره من أنواعه المشينة ، إذا قامت به الدولة أو تسترت عليه أو أعانت عليه ، فسيترك أثراً بليغاً في نفوس المواطنين , يتمثل بخيبة أملهم في الدولة وزعزعة ثقتهم بها , وتسلمهم هذه الحالة إلى حالة عدم الاهتمام بالدولة , وضعف الولاء لها وعدم الحرص على بقائها , ولا الدفاع عنها , وتسلمهم هذه الحالة إلى حالة أسوأ منها , وهي رغبتهم في هلاكها واضمحلالها ولو باستيلاء الغير عليها , ولو كان من أعدائها , ولسان حالهم يقول في تبرير رغبتهم هذه : إن الدولة لم تعد لنا البيت الكبير الذي نجد فيه الأمن والأمان والحماية والطمأنينة على حقوقنا , وعدم اعتداء الظالمين علينا.
وإذا استمر الظلم وانتشر وشاع بفعل الدولة أو بتسترها عليه وعدم منعها له وتغافلها عنه فإن الأمر يؤول بالناس المظلومين والمنتصرين لهم من أقارب وأصدقاء إلى معاونة الأعداء على تهديم الدولة التي صارت في نظرهم عدواً لهم .
إن ما أقوله ليس تبريراً لفعل المظلومين , وإنما هو وصف لواقعهم الذي صاروا إليه بسبب الظلم الذي توقعه الدولة , أو تعين الظالمين على وقوعه , أو لا تمنع وقوعه مع قدرتها على المنع.
من آثار الظلم خراب البلاد :
ومن آثار الظلم الذي يعجل في هلاك الدولة خراب البلاد اقتصادياً وعمرانياً ؛ لزهد الناس في العمل والإنتاج ، وسعيهم الدائم إلى الفرار والخروج منها , وكل هذا يؤثر في قوة الدولة اقتصادياً وعسكرياً , ويقلل مواردها المالية التي كان يمكن أن تنفقها على إعداد قوتها في مختلف المجالات ، مما يجعل الدولة ضعيفة أمام أعدائها الخارجيين , وإن بقيت قوية طاغية على مواطنيها الضعفاء المساكين المظلومين , وكل هذا يؤدي إلى إغراء أعدائها من الدول القوية لتهجم عليها , وتستولي عليها أو على بعض أقاليمها , أو إلحاق الأذى والضرر بها , مما يعجل في هلاكها.(/4)
وقد أشار علماؤنا رحمهم الله تعالى إلى أثر الظلم في خراب البلاد ، ففي تفسير القرطبي قوله رحمه الله : "فإن الجور والظلم يخرب البلاد بقتل أهلها وانجلائهم منها ، وترفع من الأرض البركة" وفي تفسير الآلوسي : "وروي عن ابن عباس أنه قال : أجد في كتاب الله تعالى أن الظلم يخرب البيوت ، وقرأ قوله تعالى : "فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون".
تأخير عقاب الظالمين :
إن من أسماء الله الحسنى "الحليم" فحلمه تعالى واسع يسع الناس جمعياً ، فلا يعجل عقوبتهم لظلمهم , قال تعالى "ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى ، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون" ، أي لو يؤاخذهم بما كسبوا ما ترك على ظهر الأرض من دابة أي لأهلك جميع دواب الأرض تبعاً لإهلاك بني آدم ، ولكن الله جل جلاله يحلم ويستر وينظر إلى أجل مسمى , أي لا يعاجلهم بالعقوبة , إذ لو فعل ذلك بهم لما أبقى أحداً.
سبل وقاية الأمة من عقوبة الظلم :
وإذا كان الظلم سبباً في هلاك الأمة فمن الواجب شرعاً الإنكار على الظالم ومنعه من الظلم , وعدم الاستكانة له , ولا الركون إليه , وبهذا تنجو الأمة مما قد يحل بها من عقاب أو هلاك بسبب الظلم الواقع فيها ، ونتكلم فيما يلي عن سبل الوقاية من الظلم وعقابه , والتي أشرت إليها.
أولاً : الإنكار على الظالم :
أخرج الترمذي في جامعة عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال : "يا أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية : "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم" ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن الناس إذا رأوا ظالماً فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه".
وجاء في شرحه : أي إذا لم يمنعوه عن ظلمه مع القدرة على منعه أن يعمهم الله بعقاب منه أي بنوع من العذاب.
ومن الواضح أن الظالم الواجب منعه من الظلم والإنكار عليه يشمل الحاكم الظالم وغيره من الظلمة ، كما أن العذاب أو العقاب الذي يعمهم قد يكون به هلاك الأمة , وقد يكون بما دون الهلاك.
ثانياً : عدم الاستكانة للظالم :
رفض الظلم وعدم الاستكانة للظالم والانتصار منه ، كل ذلك مما يجب أن يتربى عليه الفرد المسلم ؛لأنه شيء ضروري لتكوين شخصيته الإسلامية , ومن مقوماتها الأساسية ومن الصفات الأصلية للمسلم قال تعالى : "والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون" وانتصارهم هو أن يقتصروا على ما جعله الله لهم ولا يعتدوا ، وهم محمودون على الانتصار , لأن من أخذ حقه غير متعد حد الله وما أمر به , فلم يسرف في القتل إن كان ولي دم , أو رد على سفيه محاماة على عرضه وردعاً له فهو مطيع وهو محمود.
وفي تفسير القرطبي في هذه الآية : "أي إذا نالهم ظلم من ظالم لم يستسلموا لظلمه".
وفي صحيح البخاري ، قال إبراهيم النخعي كانوا – أي الصحابة – يكرهون أن يستذلوا , فإذا قدروا عفوا.
وقال الآلوسي في تفسير الآية التي ذكرناها "أي ينتقمون ممن بغي عليهم على ما جعله الله تعالى لهم ولا يعتدون , والعفو عن العاجز المعترف بجرمه محمود ، والانتصار من المخاصم المصر محمود.
ثالثاً : عدم الركون إلى الذين ظلموا :
ومن سبل الوقاية من وقوع الظلم أو شيوعه وانتشاره وما يترتب على ذلك من العقاب أو الهلاك بالأمة ، عدم الركون إلى الذين ظلموا بأي نوع من أنواع الركون إليهم حتى يعجزوا أو يضعفوا عن ارتكاب الظلم , لا سيما الحكام الظلمة ، لأنهم لا يرتكبون المظالم إلا بأعوانهم , وبسكوت أهل الحق عنهم أو بركونهم إليهم , قال تعالى محذراً من الركون إلى الذين ظلموا : "ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ومالكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون".
قال الزمخشري في تفسيرها : "ولا تركنوا ، من أركنه إذا أماله ، والنهي متناول للانحطاط في هواهم ، والانقطاع إليهم ومصاحبتهم ومجالستهم وزيارتهم ومداهنتهم والرضا بأعمالهم ، والتشبه بهم , والتزيي بزيهم , ومد العين إلى زهرتهم ، وذكرهم بما فيه تعظيما لهم , وتأمل قوله تعالى : "ولا تركنوا" فإن الركون هو الميل اليسير وقوله تعالى : "إلى الذين ظلموا" أي إلى الذين وجد منهم الظلم ، ولم يقل إلى الظالمين.
رابعاً : لا يعان الظالم على ظلمه :
أعوان الظالم ظلمة مثله ، فلا تجوز إعانة الظالم ، لأنه إذا كان الركون بجميع أشكاله وأنواعه لا يجوز ، فما يكون فيه إعانة فعلية للظالم أولى أن لا يجوز ، والواقع أن الحاكم الظالم إنما يتمكن من ظلمه بمعاونة أعوانه وأتباعه , وليس بنفسه فقط.(/5)
فالمعاونة له بأي شكل من أشكالها لا تجوز ؛ لأنها تقوية له ومساعدة له لتنفيذ ظلمه , ولهذا إذا نزل العذاب بالحاكم الظالم نزل بأعوانه أيضاً ؛ لأنهم مثله ظالمون كما حصل لفرعون وأعوانه قال تعالى : "إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين" ، فالله تعالى جمعهم بوصف الخطيئة ، ومن خطيئتهم : الظلم الذي كان يقترفه فرعون , ويعاونه عليه هامان وجنودهما , فلما نزل العذاب بفرعون نزل بأعوانه قال تعالى : "فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وهو مليم" وقال تعالى في آية أخرى : "فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين" فجعلهم الله تعالى جميعاً ظالمين : فرعون وجنوده لمعاونة جنوده له ، فأهلكهم جمعياً.
خامساً : لا يعان الظالم على بقائه :
ولا يعان الظالم على بقائه في مركزه الذي يمكنه على الظلم ، ولا يُدعى له بالبقاء لأن في بقائه استمراراً لظلمه ، جاء في الحديث النبوي الشريف : "من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى الله في أرضه" وسئل الإمام سفيان الثوري عن ظالم أشرف على الهلاك في برية ، هل يسقى شربة ماء ؟ فقال : لا فقيل له : يموت ؟ فقال : دعه يموت.
الجماعة المسلمة وسنة الله في الظلم والظالمين :
الجماعة المسلمة قامت في المجتمع استجابة لأمر الله تعالى : "ولتكن منكم يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر أولئك هم المفلحون" فعليها أن تقوم بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , ومن المنكر وقوع الظلم , أو توقع وقوعه في المجتمع , وأقبح الظلم ظلم الحاكم ، فعليها أن تحدد موقفها وتميزه وتظهره في ضوء قواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , ومنها ما جاء في الحديث النبوي الشريف : "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان".
ما تستحضره الجماعة في نفسها ولا تنساه :
وعلى الجماعة المسلمة أن تستحضر في نفسها وتذكره ولا تنساه أنها أقوى من الفرد , وأضعف من الدولة , وأن الحاكم الظالم يتربص بها ما دامت على المنهج الجهادي الإسلامي الصحيح ، فعليها أن تتصرف في ضوء هذه الحقائق , وفي الأسلوب الممكن الذي يأذن به الشرع.
على الجماعة المسلمة أن تحذر الركون إلى الظلمة:
وعلى الجماعة المسلمة أن تحذر كل الحذر من الوقوع في معاني الركون إلى الذين ظلموا ، ولو بحسن نية ، لأن حسن النية لا يقلب الخطأ صواباً , ولا الحرام حلالاً ، وإن كان قد يرفع الإثم عن صاحب النية الحسنة بشروط معينة.
وعلى هذا لا يجوز للجماعة المسلمة ممثلة بأميرها وأعضائها مخالطة الحكام الظلمة والظهور معهم أمام الناس دون إعلان الإنكار عليهم مما يوحي إلى الناس أن الجماعة تداهن الحكام الظلمة أو تؤيدهم ، مما يجعل الناس يشكون في إخلاص الجماعة ، بل ويشركونها في مسؤولية الحكام الظلمة ، وبالتالي ينفض الناس عنها , ولا يسمعون منها , ولو أن ما تقوله لهم هو حق وصواب ، لأن الناس جبلوا على عدم قبول القول , ولو كان حقاً مما يخالفه عملاً , لا سيما في مداهنة الحكام الظلمة والركون إليهم , ولا سيما إذا كان المداهن والراكن جماعة مسلمة تدعو الناس إلى معاني الإسلام.
استثناء من حظر الدخول إلى الظلمة :
ويستثنى من مباشرة معاني الركون إلى الظلمة حسب الظاهر – مثل الدخول عليهم أو مجالستهم أو الطلب منهم – وجود حالة ضرورة تدعو لذلك , أو وجود المبرر الشرعي الذي يبيح ذلك ـ أي يبيح مباشرة بعض ما يندرج في معاني الركون إلى الذين ظلموا ـ كالتي مثلنا لها , قال الإمام الرازي وهو يفسر قوله تعالى : "ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار" قال : فأما مداخلتهم لدفع ضرر أو اجتلاب منفعة عاجلة فغير داخل في الركون إليهم , وقال الآلوسي في معاني الركون إلى الذين ظلموا : "ومجالستهم من غير داع شرعي" ومعنى ذلك جواز مجالستهم لداع شرعي.
لا يجوز التوسع ولا التسرع في الاستثناء :
وعلى الجماعة المسلمة أن لا تتوسع في الأخذ بالاستثناء عن طريق القياس لأن الاستثناء لا يتوسع فيه ، وأن لا تتسرع في الأخذ به , بل عليها أولاً أن تتأكد أن لا سبيل لها إلا الأخذ بهذا الاستثناء ، وأن مصلحته أكبر من مفسدته لأنه يدفع عنها ضرراً أكبر من مصلحة تركه ، وهذه مسألة تقديرية متروكة للجماعة ، ومع تقوى الله وإخلاص النية توفق الجماعة إن شاء الله تعالى إلى الصواب ، وقد قال تعالى : "ومن يتق الله يجعل له مخرجاً" .
وإذا انبهم عليها الأمر , ولم تعد تعرف أيهما الأصلح لها , الأخذ بالاستثناء أو تركه , فعليها أن تأخذ بدعاء الاستخارة وصلاتها , وتسأل الله أن يعرفها بالصواب في الأخذ بالاستثناء أو في تركه.
جزاء الركون إلى الذين ظلموا :(/6)
ويلحق الجماعة المسلمة بركونها إلى الذين ظلموا الجزاء المذكور في قوله تعالى : "ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون" أي إذا ركنتم إلى الذين ظلموا فهذه هي عاقبة الركون إليهم وهي "فتمسكم النار" أي فتصيبكم النار التي هي جزاء الظالمين ، وجزاء من يركن إليهم ؛ لأن الركون إلى الظلم وأهله ظلم ، "وما لكم من دون الله من أولياء" أي ليس لكم من أولياء يخلصونكم من عذاب الله "ثم لا تنصرون" بسبب من الأسباب " ولا تنصرون بنصر الله وتأييده لأن الذين يركنون إلى الظالمين يكونون منهم ، والله تعالى لا ينصر الظالمين كما قال تعالى : "وما للظالمين من أنصار".
على الجماعة المسلمة أن تبصر الأمة بتقصيرها وواجبها :
على الجماعة المسلمة أن تبصر الأمة بتقصيرها وبواجبها , أما تقصيرها فبسكوتها عن الحاكم الظالم ورضوخها إليه , واستكانتها له وركونها إليه , بل ومعاونتها له , ولولا هذا التقصير منها لما بقي هذا الظالم في الحكم ولا استمر في ظلمه .
فإذا أرادت الأمة أن تتخلص منه فعليها القيام بواجبها نحوه, والعمل الجاد لاستئصال كل الأسباب التي أدت إلى تسلط هذا الحاكم الظالم عليها سواء كانت هذه الأسباب تظالم الأمة فيما بينها أو انتشار المعاصي فيها , أو تفرق كلمتها أو إعانة الحاكم الظالم بأي شكل ونوع من أشكال وأنواع الإعانة , ثم إن عليها أن تقوم بواجب الإنكار عليه , وتهيئة القوة اللازمة لتحقيق الإنكار الفعلي عليه , وإزالة منكر الظلم فعلاً , وهذا يقتضيها أن تلتف حول الجماعة المسلمة التي ترفع راية الإسلام والجهاد في سبيل الله.
وعلى كل الخيرين المؤمنين الانضمام إلى هذه الجماعة المسلمة ليكون لها صوت مسموع , وقوة مرهبة تجبر الحاكم الظالم : إما على ترك ظلمه والرجوع على مقتضيات العدل , والالتزام بشرع الله وهديه , وإما أن يترك السلطة ويتخلى عن الحكم , فليست البلاد أو الدولة ضيعة أو بستاناً أو مزرعة له أو لآبائه , ولا الرعية عبيداً له.
تحذير الناس من الكفر بسبب الظلم :
وعلى الجماعة المسلمة أن تحذر الناس من الوقوع في الكفر والردة عن الإسلام باعتراضهم على الله واتهامهم إياه – نعوذ بالله – بتأييد الحكم الظالم بدليل بقائه في الحكم والسلطة , ومما يزيد لهم الشيطان كفرهم قولهم أو احتجاجهم بأنهم مسلمون ومع هذا يسلط الله عليهم حاكماً ظالماً , بل وقد يكون مع ظلمه كافراً أو مرتداً ، ويبقيه في السلطة , ولا ينزل عليه عذابه ليخلص من شره البلاد والعباد , وينتقم منه للناس المظلومين , فعلى الجماعة المسلمة أن تبين لهم جهلهم , وأن ما يقولونه كفر وردة عن الإسلام .
وأنهم إذا أرادوا حاكماً عادلاً بمقاييس الشرع الإسلامي , وبالالتزام بهذا الشرع فعليهم أن يقيموا العدل فيما بينهم ، لأن الرعية التي تريد حاكماً عادلاً كعمر بن الخطاب عليها أن تكون رعية عادلة كرعية عمر بن الخطاب لأن القاعدة : "كيفما تكونوا يول عليكم".
فعلى الجماعة المسلمة أن تبين للناس أن أمور الحياة تجري وفق سنن الله العامة , منها سنته في الأسباب والمسببات ، وسنته تعالى في تدافع الحق والباطل ، وأن الله تعالى لن يخرق من أجل عيونهم قوانين الحياة وسننها العامة في الاجتماع ، فهم ليسوا بأحسن حالاً , ولا أكرم على الله تعالى من رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام .
وقد قص الله علينا ما لقوه من شدائد وأذى , وما تحملوه في سبيل الله , وما قدموه من تضحية وفداء حتى أتاهم نصر الله بإزالة الطواغيت من الأرض , فعلى المسلمين أن يعلموا أن إزاحة الطواغيت والحكام الظلمة لا يكون بمجرد تأففهم أو تضجرهم أو تحسرهم أو بالاحتجاج بأنهم مسلمون , فلا بد أن يهلك الله الحكام الظلمة وهم في بيوتهم قاعدون , يمنون على الله أن أسلموا فيريدون أن يرسل الله ملائكة تقاتل عنهم , وتزيح الحاكم الظالم فتخلصهم من شره ، لا ، لا يكون هذا, فالمسلم الحقيقي هو الذي يطيع الشرع , وينفذ أوامره , ويهتدي بسننه العامة .
فإذا أرادوا الخلاص من الحاكم الظالم أو الكافر فعليهم سلوك الجهاد الشرعي بأنواعه , وإعداد القوة اللازمة لذلك ، ومن أولى خطواته ومستلزماته وحدة الكلمة , وضم الجهود بعضها إلى بعض ، بالتجمع حول الجماعة المسلمة والانضمام إلى عضويتها ، لأنها جماعة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر , ومن المنكر إزالة الظلم وتنحيه أهله عن الحكم والسلطان إذا لم يقلعوا عنه.
المصدر : (كتاب السنن الإلهية في الأمم والجماعات والأفراد في الشريعة الإسلامية د. عبد الكريم زيدان)(/7)
سنة الله في من آذى رسله(عليهم السلام) إبراهيم الأزرق*
قال الله تعالى: (من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) كما في حديث أبي هريرة القدسي في الصحيح، وقد ذكر بعض أهل العلم أن هذا الأثر هو أشرف أحاديث الأولياء.
وقد عد علماؤنا -رحمهم الله- أصنافاً من الناس يشملهم جميعاً لفظ (الولي) في الحديث السابق، فعدوا علماء الشريعة وعدوا فقهاءها، بل عدوا حُفّاظ كتاب الله من جملتهم، ولاشك أن مرادهم من أولئك العالمين العاملين الداعين إلى هدى الله الذي آتهم.
قال الحطاب المالكي في شرحه لمختصر خليل مواهب الجليل: >>قال الإمامان الجليلان أبو حنيفة والشافعي رحمهما الله: إن لم يكن العلماء أولياء الله فليس لله ولي، وذكره في شرح المهذب بلفظ: إن لم يكن الفقهاء أولياء الله فليس لله ولي. وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله تعالى قال: "من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب".
وقال الإمام أبو القاسم بن عساكر رحمه الله: اعلم يا أخي وفقني الله وإياك لمرضاته وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته أن لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، وإن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) <<، وقد ذكر النووي في التبيان في آداب حملة القرآن هذا الأثر في النهي عن سبهم وأذاهم.
وقال ابن حجر الهيتمي في فتاواه معلقاً على هذا الحديث: "هذا في من عادى ولياً، فكيف بمن عادى أولياء كثيرين"!
فإذا كانت هذه عقوبة من نال من نحو من ذكرت ممن هم دون الأنبياء اتفاقاً فكيف بمن آذى النبي صلى الله عليه وسلم؟ ثم آذى بأذاه أتباعه من أهل العلم والفضل والزهد والعبادة؟ أ له بمحاربة الله طاقة!
إن في أخبار الهالكين من الأمم المكذبة المعاندة للرسل صلوات الله وسلامه عليهم بيان شيء من انتصار الله لهم وكل من قرأ القرآن وقف على شيء من أخبارهم، وفي سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم شواهد عظام تؤكد هذا المعنى.
فمن ذلك حديث ابن مسعود في دعائه صلى الله عليه وسلم على أولئك النفر السبعة الذين أحدهم أبو جهل بن هشام وأصحابه حين طرحوا على ظهره عليه السلام سلى الجزور وألقته عنه ابنته فاطمة رضي الله عنها فلما انصرف قال: "اللهم عليك بقريش اللهم عليك بأبي جهل وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة" ثم سمى بقية السبعة قال ابن مسعود فوالذي بعثه بالحق لقد رأيتهم صرعى في القليب قليب بدر الحديث وهو متفق عليه.
وقد ذكر بعض أهل السير في غزوة تبوك أنه مر بين أيديهم وهم يصلون غلام فدعا عليه صلى الله عليه وسلم فأقعد فلم يقم بعدها. وجاء من طرق أوردها البيهقي أن رجلا حاكى النبي صلى الله عليه وسلم في كلام واختلج بوجهه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كن كذلك فلم يزل يختلج ويرتعش مدة عمره حتى مات.
ومن ذلك أيضاً حديث أنس بن مالك قال كان رجل نصراني فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فعاد نصرانيا وكان يقول لا يدري محمد إلا ما كتبت له فأماته الله فدفنوه فأصبح وقد لفظته الأرض فقالوا هذا فعل محمد وأصحابه لما هرب منهم نبشوا عن صاحبنا فألقوه، فحفروا له فأعمقوا له في الأرض ما استطاعوا فأصبحوا وقد لفظته الأرض فعلموا أنه ليس من الناس فألقوه، وهذا حديث صحيح ثابت.
قال الإمام ابن تيمية معلقاً على الخبر: "وهذا أمر خارج عن العادة يدل كل أحد على أن هذه عقوبة لما قاله، وأنه كان كاذباً، إذ كان عامة الموتى لا يصيبهم مثل هذا، وأن هذا الجرم أعظم من مجرد الارتداد إذا كان عامة المرتدين لا يصيبهم مثل هذا، وأن الله منتقم لرسوله ممن طعن عليه وسبه، ومظهر لدينه وكَذِبُ الكاذب إذا لم يمكن الناس أن يقيموا عليه الحد.
ونظير هذا ما حدثناه أعداد من المسلمين العدول أهل الفقه والخبرة عما جربوه مرات متعددة في حصر الحصون والمدائن التي بالسواحل الشامية، لما حصر المسلمون فيها بني الأصفر في زماننا قالوا كنا نحن نحصر الحصن أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر وهو ممتنع علينا حتى نكاد نيأس منه، حتى إذا تعرض أهله لسب رسول الله والوقيعة في عرضه تعجلنا فتحة وتسير ولم يكد يتأخر إلاّ يوماً أو يومين أو نحو ذلك ثم يُفتح المكان عنوة، ويكون فيهم ملحمة عظيمة. قالوا حتى إن كنا لنتباشر بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه، مع امتلاء القلوب غيظاً عليهم بما قالوا فيه. وهكذا حدثني بعض أصحابنا الثقات؛ أن المسلمين من أهل المغرب حالهم مع النصارى كذلك، ومن سنة الله أن يعذب أعداءه تارة بعذاب من عنده وتارة بأيدي عباده المؤمنين".(/1)
وفي ما نزل باليهود الذين آذوا الله ورسوله من الجلاء والعذاب مصداق ذلك (فاعتبروا يا أولي الأبصار)، ولا تأسوا يا أبناء الإسلام إن أفلت من عقوبته مجرم، فلستم أغير من الله على خليله صلى الله عليه وسلم، وإني لأرجو أن نرى مصداق ذلك ولو بعد حين، إلاّ أن يتدارك المجرم نفسه فيقر بجرمه ثم يتداركه بتوبة معلنة نصوح تمحو وزره كما حصل لابن أبي السرح وإحدى قينتي ابن خطل وأضرابهما، عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه، والله عزيز ذو انتقام.(/2)
سنن الفطرة
عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله : (( عشر من الفطرة : قص الشارب ، وإعفاء اللحية ، والسواك ، واستنشاق الماء ، وقص الأظافر ، وغسل البراجم ، ونتف الإبط ، وحلق العانة ، وانتقاص الماء ، يعني الاستنجاء )) قال الراوي : ونسيت العاشرة إلاّ أن تكون المضمضة . رواه مسلم .
*الفطرة:
هي الخلقة التي خلق الله عباده عليها ، وجعلهم مفطورين عليها : على محبة الخير وإيثاره ، وكراهة الشر ودفعه ، وفطرهم حنفاء مستعدين ، لقبول الخير والإخلاص لله ، والتقرب إليه ، وجعل تعالى شرائع الفطرة نوعين :
* أحدهما :
يطهر القلب والروح ، وهو الإيمان بالله وتوابعه : من خوفه ورجائه ، ومحبته والإنابة إليه . قال تعالى { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (الروم:30) . مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (الروم:31) } فهذه تزكي النفس ، وتطهر القلب وتنميه ، وتذهب عنه الآفات الرذيلة ، وتحليه بالأخلاق الجميلة ، وهي كلها ترجع إلى أصول الإيمان وأعمال القلوب .
* والنوع الثاني :
ما يعود إلى تطهير الظاهر ونظافته ، ودفع الأوساخ والأقذار عنه ، وهي هذه العشرة ، وهي من محاسن الدين الإسلامي ؛ إذ هي كلها تنظيف للأعضاء ، وتكميل لها ، لتتم صحتها وتكون مستعدة لكل ما يراد منها .
فأما المضمضة والاستنشاق : فإنهما مشروعان في طهارة الحدث الأصغر والأكبر بالاتفاق ، وهما فرضان فيهما من تطهير الفم والأنف وتنظيفهما ، لأن الفم والأنف يتوارد عليهما كثير من الأوساخ والأبخرة ونحوها ، وهو مطهر إلى ذلك وإزالته ، وكذلك السواك يطهر الفم فهو (( مطهرة للفم مرضاة للرب )) ولهذا يشرع كل وقت ويتأكد عند الوضوء والصلاة والانتباه من النوم ، وتغير الفم ، وصفرة الأسنان ، ونحوها .
وأما قص الشارب أو حفه حتى تبدو الشفة ، فلما في ذلك من النظافة ، والتحرز مما يخرج من الأنف ، فإن شعر الشارب إذا تدلى على الشفة باشر به ما يتناوله من مأكول ومشروب ، مع تشويه الخلقة بوفرته ، وإن استحسنه من لا يعبأ به . وهذا بخلاف اللحية ، فإن الله جعلها وقاراً للرجل وجمالاً له . ولهذا يبقى جماله في حال كبره بوجود شعر اللحية . واعتبر ذلك بمن يعصي الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيحلقها ، كيف يبقى وجهه مشوهاً قد ذهبت محاسنه وخصوصاً وقت الكبر ، فيكون كالمرأة العجوز إذا وصلت إلى هذا السن ذهبت محاسنها ، ولو كانت في صباها من أجمل النساء وهذا محسوس ، ولكن العوائد والتقليد الأعمى يوجب استحسان القبيح واستقباح الحسن .
وأما قص الأظفار ونتف الإبط ، وغسل البراجم ، وهي مطاوي البدن التي تجتمع فيها الأوساخ - فلها من التنظيف وإزالة المؤذيات ما لا يمكن جحده وكذلك حلق العانة .
وأما الاستنجاء - وهو إزالة الخارج من السبيلين بماء أو حجر - فهو لازم وشرط من شروط الطهارة .
فعلمت أن هذه الأشياء كلها تكمل ظاهر الإنسان وتطهره وتنظفه ، وتدفع عنه الأشياء الضارة والمستقبحة والنظافة من الإيمان .
والمقصود : أن الفطرة هي شاملة لجميع الشريعة باطنها وظاهرها ؛ لأنها تنقي الباطن من الأخلاق الرذيلة ، وتحليه بالأخلاق الجميلة التي ترجع إلى عقائد الإيمان والتوحيد ، والإخلاص لله والإنابة إليه وتنقي الظاهر من الأنجاس والأوساخ وأسبابها ، وتطهره الطهارة الحسية والطهارة المعنوية ، ولهذا قال : -صلى الله عليه وسلم- : (( الطهور شطر الإيمان )) وقال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [ البقرة : 222 ] .
فالشريعة كلها طهارة وزكاء وتنمية وتكميل ، وحث على معالي الأمور ، ونهي عن سفاسفها ، والله أعلم .
__________________________________
[ انتهى من كتاب ( بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار بشرح جوامع الأخبار للشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى ) صـ 64 - 66 ] .(/1)
سنن الله في التغيير
أولا: تعريف وبيان:
أ- معنى سنة الله في التغيير.
ب- حقيقت التغيير.
ج- أنواع التغيير.
ثانيا: أنواع سنن الله تعالى:
1- سنن خارقة.
2- سنن جارية.
ثالثا: من القواعد العامة في سنن الله تعالى:
1- تتسم بالعدالة التامة.
2- تتسم بالثبات والاطراد والعموم.
رابعا: من أسباب التغيير من الخير إلى الشر:
1- ضعف العقيدة، والانحراف عن منهج السلف الصالح.
2- المعاصي والذنوب.
3- الظلم.
4- ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
5- التنافس على الدنيا.
خامسا: سبل النجاة:
1- التوبة والرجوع إلى الله.
2- الاعتصام بالكتاب والسنة أفراداً وجماعات.
3- الاجتماع والتعاون على البر والتقوى.
4- الصبر.
5- الدعاء.
أولا: تعريف وبيان:
أ- معنى سنة الله في التغير:
قال ابن منظور: "السنة: السيرة حسنة كانت أو قبيحة. والأصل فيه الطريقة والسيرة".
وقال الفيومي: "السنة: الطريقة. والسنة السيرة حميدة كانت أو ذميمة، والجمع سنن".
وسنة الله في التغيير "هي: الطريقة المتبعة في معاملة الله تعالى للبشر، بناء على سلوكهم وأفعالهم، وموقفهم من شرع الله وأنبيائه وما يترتب على ذلك من نتائج في الدنيا والآخرة".
ب- حقيقة التغيير:
قال ابن تيمية: "إن لفظ التغير لفظ مجمل فالتغير في اللغة المعروفة لا يراد به مجرد كون المحل قامت به الحوادث، فإن الناس لا يقولون للشمس والقمر والكواكب إذا تحركت أنها قد تغيرت، ولا يقولون للإنسان إذا تكلم ومشى أنه تغير، ولا يقولون إذا طاف وصلى وأمر ونهى وركب أنه تغير إذا كان ذلك عادته، بل إنما يقولون تغير لمن استحال من صفة إلى صفة كالشمس إذا زال نورها ظاهرا لا يقال أنها تغيرت، فإذا اصفرت قيل تغيرت، وكذلك الإنسان إذا مرض أو تغير جسمه بجوع أو تعب قيل قد تغير، وكذلك إذا تغير خلقه ودينه، مثل أن يكون فاجرا فينقلب ويصير برا، أو يكون برا فينقلب فاجرا، فإنه يقال قد تغير. وفي الحديث: رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم متغيرا؛ لما رأى منه أثر الجوع. ولم يزل يراه يركع ويسجد فلم يسم حركته تغيرا، وكذلك يقال فلان قد تغير على فلان إذا صار يبغضه بعد المحبة، فإذا كان ثابتا على مودته لم يسم هشته إليه وخطابه له تغيرا، وإذا جرى على عادته فى أقواله وأفعاله فلا يقال أنه قد تغير.
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، ومعلوم أنهم إذا كانوا على عادتهم الموجودة يقولون ويفعلون ما هو خير لم يكونوا قد غيروا ما بأنفسهم، فإذا انتقلوا عن ذلك فاستبدلوا بقصد الخير قصد الشر، وباعتقاد الحق اعتقاد الباطل، قيل قد غيروا ما بأنفسهم، مثل من كان يحب الله ورسوله والدار الآخرة فتغير قلبه وصار لا يحب الله ورسوله والدار الآخرة فهذا قد غير ما في نفسه".
ج- أنواع التغيير:
قال ابن تيمية: "قال تعالى: {ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال:53].
وهذا التغيير نوعان:
أحدهما: أن يُبدوا ذلك فيبقى قولا وعملا يترتب عليه الذم والعقاب.
والثاني: أن يغيروا الإيمان الذي في قلوبهم بضده من الريب والشك والبغض، ويعزموا على ترك فعل ما أمر الله به ورسوله، فيستحقون العذاب هنا على ترك المأمور، وهناك على فعل المحظور، وكذلك ما في النفس مما يناقض محبة الله والتوكل عليه والإخلاص له والشكر له يعاقب عليه؛ لأن هذه الأمور كلها واجبة فإذا خلي القلب عنها واتصف بأضدادها استحق العذاب على ترك هذه الواجبات" .
لسان العرب (399-400)
المصباح المنير (292).
السنن الإلهية، للدكتور: عبد الكريم زيدان (ص13).
مجموع الفتاوى (6/250-251).
مجموع الفتاوى (14/109).
ثانيا: أنواع سنن الله تعالى:
نوعان: سنن خارقة، وسنن جارية.
1- السنن الخارقة:
قال تعالى: {قَالَ أَلْقِهَا يامُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تَسْعَى} [طه:19- 20].
وقال تعالى: {قَالُواْ حَرّقُوهُ وَانصُرُواْ ءالِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يانَارُ كُونِى بَرْداً وَسَلَامَا عَلَى إِبْراهِيمَ} [الأنبياء: 68-69].
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين، فرقة فوق الجبل، وفرقة دونه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اشهدوا)).
وعن أنس رضي الله عنه الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بإناء من ماء، فأتي بقدح رحراح فيه شيء من ماء، فوضع أصابعه فيه. قال: فجعلت أنظر إلى الماء ينبع من بين أصابعه. قال أنس: فحزرت من توضأ ما بين السبعين إلى الثمانين.
2- السنن الجارية:
وهي قسمان:
1- سنن متعلقة بالأمور الطبيعية: كسنة الله في تعاقب الليل والنهار، والشمس والقمر، فهي تجري وفق ناموس محدد قدره الله لها.
2- سنن متعلقة بدين الله وأمره ونهيه ووعده ووعيده.(/1)
قال ابن تيمية: "اعلم أنه قد ذكر الله تعالى لفظ سننه في مواضع من كتابه فقال تعالى: {سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} [الإسراء:77]، وقال تعالى: {مَّا كَانَ عَلَى النَّبِىّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً} [الأحزاب:38]، وقال تعالى: {مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُواْ أُخِذُواْ وَقُتّلُواْ تَقْتِيلاً * سُنَّةَ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الأحزاب:61- 62]، وقال تعالى: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر:43].
فهذه كلها تتعلق بأوليائه: كمطيعيه وعصاته، كالمؤمنين والكافرين، فسنته في هؤلاء إكرامهم، وسنته في هؤلاء إهانتهم وعقوبتهم.
وهذه السنن كلها تتعلق بدينه وأمره ونهيه ووعده ووعيده، وليست هي السنن المتعلقة بالأمور الطبيعية، كسنته في الشمس والقمر والكواكب وغير ذلك من العادات، فإن هذه السنة ينقضها إذا شاء بما شاءه من الحكم".
ومن السنن المتعلقة بدينه وأمره ونهيه ووعده ووعيده ما يلي:
ـ سنة الله في اتباع هداه والإعراض عنه.
ـ سنة الله في التدافع بين الحق والباطل.
ـ سنة الله في الفتنة والابتلاء.
ـ سنة الله في الظلم والظالمين.
ـ سنة الله في الاختلاف والمختلفين.
ـ سنة الله في الترف والمترفين.
ـ سنة الله في الاستدراج.
ـ سنة تقليد الغالب بالمغلوب وغيرها.
رواه البخاري في كتاب تفسير القرآن (4864)، ومسلم في صفة الجنة والنار (2800).
رواه البخاري في الوضوء (200) واللفظ له، ومسلم في الفضائل(2279).
منهج كتابة التاريخ الإسلامي، محمد صامل السلمي (62-63).
جامع الرسائل (1/49-52) بتصرف.
السنن الإلهية (ص18-20).
ثالثا: من القواعد العامة في سنن الله تعالى:
1- تتسم بالعدالة التامة:
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَاكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس:40].
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11].
وقال سبحانه: {ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال:53].
قال قتادة: "إنما يجيء التغيير من الناس، والتيسير من الله، فلا تغيروا ما بكم من نعم الله".
وقال القرطبي: "أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه لا يغير ما بقوم حتى يقع منهم تغيير: إما منهم، أو من الناظر لهم، أو ممن هو منهم بسبب، كما غير الله بالمنهزمين يوم أحد بسبب تغيير الرماة بأنفسهم، إلى غير هذا من أمثلة الشريعة، فليس معنى الآية: أنه ليس ينزل بأحد عقوبة إلا بأن يتقدم منه ذنب، بل قد تنزل المصائب بذنوب الغير، كما قال صلى الله عليه وسلم وقد سئل أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: ((نعم إذا كثر الخبث)) والله أعلم".
وقال ابن القيم: "فصل: في بيان أن المنفعة والمضرة لا تكون إلا من الله وحده:
وجماع هذا: أنك إذا كنت غير عالم بمصلحتك ولا قادر عليها ولا مريد لها كما ينبغي فغيرك أولى أن لا يكون عالما بمصلحتك ولا قادرا عليها ولا مريدا لها، والله سبحانه هو يعلم ولا تعلم، ويقدر ولا تقدر، ويعطيك من فضله لا لمعوضة ولا لمنفعة يرجوها منك، ولا لتكثر بك ولا لتعزز بك، ولا يخاف الفقر ولا تنقص خزائنه على سعة الإنفاق، ولا يحبس فضله عنك لحاجة منه إليك واستغنائه، بحيث إذا أخرجه أثر ذلك في غناه، وهو يحب الجود والبذل والعطاء والإحسان أعظم مما تحب أنت الأخذ والانتفاع بما سألته، فإذا حبسه عنك فاعلم أن هناك أمرين لا ثالث لهما:
أحدهما: أن تكون أنت الواقف في طريق مصالحك، وأنت المعوق لوصول فضله إليك، وأنت حجر في طريق نفسك، وهذا هو الأغلب على الخليقة؛ فإن الله سبحانه قضى فيما قضى به أن ما عنده لا ينال إلا بطاعته، وأنه ما استجلبت نعم الله بغير طاعته، ولا استديمت بغير شكره، ولا عوقت وامتنعت بغير معصيته، وكذلك إذا أنعم عليك ثم سلبك النعمة فإنه لم يسلبها لبخل منه ولا استئثار بها عليك، وإنما أنت المسبب في سلبها عنك، فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، {ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فما أزيلت نعم الله بغير معصيته.
فآفتك من نفسك، وبلاؤك من نفسك، وأنت في الحقيقة الذي بالغت في عداوتك، وبلغت من معاداة نفسك ما لا يبلغ العدو منك كما قيل:
ما يبلغ الأعداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه".(/2)
وقال القاسمي: "{إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ} أي: أي من العافية والنعمة {حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} أي: من الأعمال الصالحة أو ملكاتها التي هي فطرة الله التي فطر الناس عليها إلى أضدادها. في هذه الآية وعيد شديد وإنذار رهيب قاطع، بأنه إذا انحرف الآخذون بالدين والمنتمون إليه عن جادته المستقيمة، ومالوا مع الأهواء، وتركوا التمسك بآدابه وسنته القويمة، حل بهم ما ينقلهم إلى المحن والبلايا، ويفرق كلمتهم، ويوهي قوتهم، ويسلط عدوهم!".
2- تتسم بالثبات والاطراد والعموم:
قال تعالى: {سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} [الإسراء:77].
وقال سبحانه: {سُنَّةَ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الأحزاب:62].
قال ابن تيمية: "والسنة هي العادة في الأشياء المتماثلة... فإنه سبحانه إذا حكم في الأمور المتماثلة بحكم فإن ذلك لا ينتقض ولا يتبدل ولا يتحول، بل هو سبحانه لا يفوّت بين المتماثلين، وإذا وقع تغيير فذلك لعدم التماثل، وهذا القول أشبه بأصول الجمهور القائلين بالحكمة في الخلق والأمر، وأنه سبحانه يسوّي بين المتماثلين ويفرق بين المختلفين، كما دل القرآن على هذا في مواضع، كقوله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم:35].
ومن هذا الباب صارت قصص المتقدمين عبرة لنا".
رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (7/2233).
الجامع لأحكام القرآن (9/294).
طريق الهجرتين (110-111) بتصرف يسير.
تفسير القاسمي (3655).
جامع الرسائل (1/55).
رابعا: من أسباب التغيير من الخير إلى الشر:
1- ضعف العقيدة، والإنحراف عن منهج السلف الصالح:
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على ثنتين وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة)).
2- المعاصي والذنوب:
قال الله تعالى: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيّئَةٍ فَمِن نَّفْسِك} [النساء:79].
وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِير} [الشورى:25].
وقال تعالى: {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِى الأرْضِ مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مَّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأنْهَارَ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً ءاخَرِينَ} [الأنعام:6].
وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذالِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [يونس:13].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم)).
وقال علي رضي الله عنه: (ما نزل بلاء إلا بذنب، وما رفع إلا بتوبة).
قال ابن القيم: "وهل زالت عن أحد قط نعمة إلا بشؤم معصيته، فإن الله إذا أنعم على عبد بنعمة حفظها عليه ولا يغيرها عنه حتى يكون هو الساعي في تغييرها عن نفسه {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ} [الرعد:11]، ومن تأمل ما قص الله تعالى في كتابه من أحوال الأمم الذين أزال نعمه عنهم وجد سبب ذلك جميعه إنما هو مخالفة أمره وعصيان رسله، وكذلك من نظر في أحوال أهل عصره وما أزال الله عنهم من نعمه وجد ذلك كله من سوء عواقب الذنوب.
فما حفظت نعمة الله بشيء قط مثل طاعته، ولا حصلت فيها الزيادة بمثل شكره، ولا زالت عن العبد بمثل معصيته لربه، فإنها نار النعم التي تعمل فيها كما تعمل النار في الحطب اليابس، ومن سافر بفكره في أحوال العالم استغنى عن تعريف غيره له".
3- الظلم:
قال الله تعالى: {وَكَذالِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ }[هود:102].(/3)
وقال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً} [النساء:160].
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11].
قال الطبري: " يقول تعالى ذكره: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ} من عافية ونعمة فيزيل ذلك عنهم ويهلكهم{حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} من ذلك بظلم بعضهم بعضا، واعتداء بعضهم على بعض فتحل بهم حينئذ عقوبته وتغييره".
وعن أبي موسى رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)) ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَكَذالِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}.
4- ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
قال الله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْراءيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذالِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [المائدة:78، 79].
وقال تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:25].
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مثل المدهن في حدود الله والواقع فيها مثل قوم استهموا سفينة فصار بعضهم في أسفلها وصار بعضهم في أعلاها، فكان الذي في أسفلها يمرون بالماء على الذين في أعلاها فتأذوا به، فأخذ فأسا فجعل ينقر أسفل السفينة فأتوه، فقالوا: ما لك. قال: تأذيتم بي ولا بد لي من الماء. فإن أخذوا على يديه أنجوه ونجوا أنفسهم، وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم)).
وعن زينب بنت جحش رضي الله عنها قالت: استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم من النوم محمرا وجهه يقول: ((لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه)) - وعقد سفيان تسعين أو مائة- قيل: أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: ((نعم إذا كثر الخبث)).
وعن جرير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون على أن يغيروا عليه فلا يغيروا إلا أصابهم الله بعذاب من قبل أن يموتوا)).
وعن عمر بن عبد العزيز قال: "كان يقال: إن الله تعالى لا يعذب العامة بذنب الخاصة، ولكن إذا عمل المنكر جهارا استحقوا كلهم العذاب".
وعن بلال بن سعد قال: "إن المعصية إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبها، وإذا أعلنت فلم تغير ضرت العامة".
5- التنافس على الدنيا:
عن المسور بن مخرمة قال: قدم أبو عبيدة بمال من البحرين، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة، فوافت صلاة الصبح مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما صلى بهم الفجر انصرف فتعرضوا له، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم وقال: ((أظنكم قد سمعتم أن أبا عبيدة قد جاء بشيء))، قالوا: أجل يا رسول الله، قال: ((فأبشروا وأمّلوا ما يسركم، فوالله لا الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم)).
قال ابن بطال: "فيه أن زهرة الدنيا ينبغي لمن فتحت عليه أن يحذر من سوء عاقبتها وشر فتنتها, فلا يطمئن إلى زخرفها، ولا ينافس غيره فيها. ويستدل به على أن الفقر أفضل من الغنى؛ لأن فتنة الدنيا مقرونة بالغنى، والغنى مظنة الوقوع في الفتنة التي قد تجر إلى هلاك النفس غالبا، والفقير آمن من ذلك".
قال ابن حجر: "قوله: ((فتنافسوها)) التنافس: من المنافسة، وهي الرغبة في الشيء ومحبة الانفراد به والمغالبة عليه, وأصلها من الشيء النفيس في نوعه.
قوله: ((فتهلككم)) لأن المال مرغوب فيه فترتاح النفس لطلبه، فتمنع منه فتقع العداوة المقتضية للمقاتلة المفضية إلى الهلاك".
أخرجه أحمد (3/120)، وابن ماجه في الفتن (3993) واللفظ له، وأبو يعلى في مسنده (3938)، والطبراني في الأوسط(7840)، قال البويصري: "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات"، وصححه الضياء في المختارة (2500)، والألباني في صحيح ابن ماجه (3227).
أخرجه ابن ماجه في الفتن (4019)، والبيهقي في الشعب (3/197)، وصححه الحاكم (4/540)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (106).
انظر: طريق الهجرتين (ص415). وروي من كلام العباس رضي الله عنه في دعائه لما طلب منه عمر بن الخطاب أن يستسقي لهم، عزاه الحافظ في الفتح (2/497) للزبير بن بكار في الأنساب وسكت عنه. وروي من كلام عمر بن عبد العزيز، انظر: مجموع الفتاوى (8/163).
بدائع الفوائد (2/432) بتصرف يسير.
جامع البيان (16/382-383).(/4)
أخرجه البخاري في التفسير (4686)، ومسلم في البر والصلة (2583).
البخاري في الشهادات (2686).
البخاري في المناقب (3598)، ومسلم في الفتن وأشراط االساعة (2880).
أخرجه أبو داود في الملاحم، باب: الأمر والنهي (4339)، وابن ماجه في الفتن (4009)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود (3646).
أخرجه ابن مبارك في كتاب الزهد (1351).
أخرجه ابن مبارك في كتاب الزهد (1350).
البخاري في الجزية (3158)، ومسلم في الزهد والرقائق (2961).
انظر: فتح الباري (11/249-250).
فتح الباري (11/249-250) بتصرف.
خامسا: سبل النجاة:
1- التوبة والرجوع إلى الله تعالى:
قال الله تعالى: {وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31].
وقال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً} [التحريم:8].
2- الاعتصام بالكتاب والسنة أفراداً وجماعات:
قال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ} [آل عمران:103].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله وسنتي)).
3- الاجتماع والتعاون على البر والتقوى:
قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2].
وقال تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46].
وقال تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الأرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63].
4- الصبر:
قال الله تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200].
وقال تعالى: {وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46].
وقال تعالى: { وَبَشّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صلاتٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}.[البقرة:155-157].
عن ابن عباس رضي الله عنه الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: ((احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا)).
5- الدعاء:
قال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60].
وقال تعالى: َ{وإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186].
وعن ثوبان رضي الله عنه الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: ((...ولا يرد القدر إلا الدعاء...)).
وصلى الله على محمد وآله وسلم،،،
أخرجه أخرجه مالك في الموطأ: كتاب الجامع (1661) بلاغاً، ووصله الحاكم (1/93)، والدارقطني (4/245)، وابن عبد البر في التمهيد (24/331)، والبيهقي (10/114) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال ابن عبد البر: "وهذا محفوظ معروف مشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل العلم شهرة يكاد يستغنى بها عن الإسناد"، ثم ذكر له شواهد، وصححه ابن حزم في الإحكام (6/243)، وحسن الألباني إسناد الحاكم في مشكاة المصابيح (186)، وانظر: السلسلة الصحيحة (4/361).
أخرجه أحمد (5/18-19)، والطبراني في الكبير (11/123)، وصححه الحاكم (3/623)، والضياء في المختارة (10/24)، وصححه القرطبي في تفسيره (6/398).
أخرجه ابن ماجه في المقدمة، باب: في القدر (90)، وابن المبارك في الزهد (86)، والطحاوي في مشكل الآثار (4/169)، والطبراني في الكبير (1442)، وصححه ابن حبان (872)، والحاكم (1/493)، وقال البوصيري في الزوائد (ص15): "وسألت شيخنا أبا الفضل العراقي رحمه الله عن هذا الحديث، فقال: هذا حديث حسن"، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (154).(/5)
سنن مهجورة صلاة الأوابين
د. عمرو الشيخ*
ما أجمل أن تستمر صلة العبد بربه جل وعلا حتى في غير وقت الفريضة.. حين يجتزئ الإنسان من وقته المزدحم بشؤون الحياة ومشاغلها جزءاً يسيراً يقف فيه بين يدي مولاه العظيم وخالقه الكريم ، طاهراً متطهراً ليؤدي صلاة الضحى مبتغياً بذلك الأجر والثواب من الكريم الوهاب .
ولأن لصلاة الضحى زمناً محددا يكون الناس -عادة-مشغولين خلاله بأعمالهم , فالموظف في وظيفته ، والمعلم في معهده ، والطالب في فصله ، والعامل في عمله ، والتاجر في محله ،
والطبيب في عيادته ، والجندي في ثكنته ، والمرأة في بيتها ؛ إلا أن هناك من يوفقه الله سبحانه وييسر له اغتنام بعض الشيء من وقته لتأدية صلاة الضحى تقرباً إلى الله جل وعلا ، وطمعاً في ثوابه ، وليكون بذلك واحداً من الموفقين الذين يحرصون على إحياء شعيرة من شعائر الدين ،
ويواظب على سنة من سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم التي ورد في فضلها أحاديث كثيرة ؛ فعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( يصبح على كل سلامي من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى)) أخرجه مسلم.
فلو لم يكن لها فضل إلا أنها تجزئ عن الصدقة التي تصبح على مفاصل الإنسان كل يوم لكفاها فضلاً ، وزاد المرء عليها حرصاً ، وصلاة الضحى –أحبتى-من سنن الهدى ومن أجل النوافل والقربات وهي صلاة الأوابين المختبين إلى ربهم عز وجل. هجرها كثير من الناس إلا من رحمه الله. وإني لأتضرع إلى الله العلى القدير أن يعينني وإياكم على المحافظة عليها فقد ثبت الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يحافظ على صلاة الضحى إلا أواب)) أخرجه ابن خزيمة.
أتدري ما معنى أوَّاب؟ الأوَّاب الذي على طاعة الله مقبل وإلى رضاه رجَّاع.
قال الإمام الطبري في تفسيره وصلاة الضحى وصية الناصح الأمين صلوات ربي وسلامه عليه لأبي هريرة على وجه الخصوص ولأمته على وجه العموم. كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أوصاني خليلي بثلاث لا أدعهن حتى أموت: صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وصلاة الضحى ونوم على وتر) وفي رواية: (بأن لا أنام حتى أوتر) .
فهذه وصية النبي صلى الله عليه وسلم , فانظر ماذا أنت فاعل بها؟!.
ويقول الإمام الغزالي عن المواظبة عليها:
\"إنَّما هي من عزائم الأفعال وفواضلها\" (الأحياء1/196)
فيا إخوة الإسلام : أين نحن من هذا الفضل العظيم الذي دلنا عليه معلم الناس الخير صلى الله عليه وسلم مقابل عملٍ يسيرٍ لا يتجاوز أداء بعض الركعات التي قال بعض أهل العلم : أن أقلها ركعتان , ولماذا لا نحافظ عليها ونربي عليها أبناءنا ونعدها جزءاً من واجباتنا اليومية التي نحرص على أدائها مهما كان الحال ، ومهما كانت الظروف .
فهنيئاً لمن حافظ على صلاة الضحى ، وهنيئاً لمن لم يشغله عنها شاغل ، وهنيئاً لمن عمل بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم .
*وقتها:
اختلف العلماء في تحديد وقت صلاة الضحى. وخلاصة القول أنَّ هناك وقت جواز ووقت فضيلة. فوقت الجواز يبدأ من بعد طلوع الشمس وارتفاعها إلى قبل الزوال. وأما وقت الفضيلة فقد بينه المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: ((صلاة الأوابين حين ترمض الفصال)) أخرجه مسلم ,
و الفصال: جمع فصيل، والفصيل صغار الإبل والرمضاء: الرمل الذي اشتدت حرارته بالشمس. فيكون معنى الحديث: صلاة الأوابين حين يشتد الحر وتشتد الشمس وتجد الإبل ذلك الحر. وهذا يكون قبل ساعة من الزوال، والله أعلم. وهذا أفضل الأوقات لأدائها لأن النبي صلى الله عليه وسلم أثنى على من يؤديها في هذا الوقت بأنه من الأوابين .
وبعد... نذكركم –أحبابنا- بقول أمنا عائشة رضي الله عنها تصف حال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كان أحب العمل إليه أدومه وإن قل)) ..
نعم قليل دائم خير من كثير منقطع.
فلنبدأ من الآن أيها الأحباب في إحياء هذه السنة بالمحافظة على أدائها و لنكن من الأوابين .(/1)
سوء الظن ـ خطبة جمعة
الشيخ فرج البوسيفي
الظن مرض خطير من أمراض العصر، نتائجه خطيرة، ومفاسده عظيمة، وهو دليل على سوء طوية صاحبه، ومن أصيب بهذا الداء فواجب عليه أن يتعالج منه، والجاهل إذا اتهم أو أنقص من قدر الناس أساء ظنه بهم.
جاء في السنة أن رجلاً أساء الظن برسول الله صلى الله عليه وسلم لما وزّع الغنائم، واتهم النبي بعدم العدل والإخلاص، فقال: اعدل يا محمد، فما عدلت، هذه قسمة ما أريد بها وجه الله. فدفعه سوء ظنه وفعله القبيح وسطحية تفكيره وفهمه وقلة فقهه لمقاصد الشريعة ومصالح الدين، دفعه ذلك على أن استعجل في الحكم، وحكم بجهل على أكمل إنسان وأعدل بني عدنان، والمرء إذا لم يعلم فعليه أن يسأل ويستفسر، ولا يجري وراء الظنون.
وإنه لمن أكبر الأسى والأسف أن نرى بعض الذين مطيتهم سوء الظن بالخاصة قبل العامة، وإن رأوا من يداري أو رأوا شيئًا لا يمشي مع هواهم أذاعوا به، والبعض يقيس ويزن الأمور بفهمه، فيكفي عنده في جرح أخيه أن يخالفه فيما قرأ أو سمع، أو أنه لا يرضى عقله وهواه، ولو نظر المسيء الظن أن من أساء فيه الظن خالفه في أمر تختلف فيه الأفهام والأنظار لما أدخل على نفسه هذا البلاء.
ومن أسباب سوء الظن تزكية المرء نفسه واحتقاره غيره، فيرى نفسه على الصواب، وجميع الأمة على الباطل.
إن أصحاب العقول الكبيرة والتدين الصحيح يؤلفون القلوب، ويجمعون أبناء الأمة على الألفة والمحبة والأخوة وترك سوء الظن بالآخرين.
إن اجتماع كلمة المسلمين وترك الفرقة جعلت النبي صلى الله عليه وسلم يترك بعض المستحبات كي لا تضيع في فعلها واجبات، من ذلك أنه لم يعطِ الفقراء وأعطى الأغنياء تأليفًا لقلوبهم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم نظر أن ذلك أنفع للدين، ومنها أنه صلى الله عليه وسلم ترك تغيير بناء البيت إبقاء لتأليف القلوب. وكان ابن مسعود رضي الله عنه ينكر على عثمان إتمام الصلاة في السفر، ثم صلى خلفه متممًا وقال: (الخلاف شر).
من مظاهر سوء الظن أن من يتكلم عن الرقاق والأدب وعن كرامات الصالحين يُرمى بتهمة الخرافة والتصوف، ونسي هؤلاء أن الرقاق وحكايات الصالحين ترقق القلوب، ولقد ألف عبد الله بن المبارك كتاب الزهد وكذلك الإمام أحمد، وكان السلف يحرصون على ما يرقق قلوبهم ويقولون: "حديث يرق له قلبي أحب إلى من مائة قضية من قضايا شريح".
من مظاهر سوء الظن تجريح الناس أحياء وأمواتًا، ورميهم بشتى أنواع الضلال، قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكهم)) رواه مسلم. قال الخطابي: "لا يزال الرجل يعيب الناس ويذكر مساويهم ويقول: فسد الناس وهلكوا ونحو ذلك، فإذا فعل ذلك فهو أهلكهم، أي: أسوأ حالاً منهم بما يلحقه من الإثم في عيبهم والوقيعة فيهم، وربما أداه ذلك إلى العجب بنفسه ورؤيته أنه خير منهم".
إن الظن السيئ يدفع صاحبه لتتبع العورات والبحث عن الزلات والتنقيب عن السقطات، وهو بذلك يعرض نفسه لغضب الله وعقابه، وقد وعد النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء المرضى بالفضيحة بقوله: ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته)).
وسوء الظن يزرع الشقاق بين المسلمين، ويقطع حبال الأخوة، ويمزق وشائج الألفة والمحبة، ويزرع البغضاء والشقاء، والله يحذرنا من ذلك بقوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) [الحجرات:12]، وقال صلى الله عليه وسلم : ((إذا ظننت فلا تحقق)).
إنما المؤمنون إخوة، فلا تتبعوا العورات، ولا تصيدوا السقطات، ولا تبحثوا عن الزلات، وكن كالنحلة تسقط على الورد والزهور، ولا تكن كالذباب حيث يسقط على القاذورات والخبائث، لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيرًا وأنت تجد لها في الخير محملاً.
تأمّل كيف أمرك الإسلام بستر أهل المعصية في الدنيا لتستر في القيامة، هذا مع من تحقق وقوعه في المعصية، فالأجدر والأولى بك فيمن لم تثبت عليه المعصية أن ترحمه من لسانك، وطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، وعار على من يرى القذى في عين أخيه ولا يرى الجذع في عينه.(/1)
سوء الفهم آفة
المحتويات
مقدمة
متى يكون سوء الفهم آفة ؟
أسباب الظاهرة
السبب الأول: سوء النية:
السبب الثاني : سوء الظن
السبب الثالث: الخلفية السابقة
السبب الرابع: إهمال الظروف المتعلقة بالشخص
السبب الخامس: الحرص تنزيل الكلام على معين
السبب السادس: القول باللازم
السبب السابع: عدم إدراك أطراف الموضوع
السبب الثامن: الربط المتكلف
السبب التاسع : التصحيف وركاكة الفهم
من وسائل العلاج
أولا: حسن الظن بالمسلمين
ثانياً: الابتعاد عن تتبع عورات المسلمين
ثالثاً: الأمانة والانضباط في النقل
رابعاً: الجمع بين المتفرق
مقدمة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
نسمع كثيراً أن فلاناً قال كذا، وفلاناً فيه كذا، سواءً في الحكم على الأشخاص أو على الكتب، أوعلى الجماعات أو على المجتمعات، أو على الأعمال والجهود . نسمع أحكاماً أحياناً متناقضة ومتباينة، بل نسمع من يقول إن فلاناً يقول كذا وكذا، ويعتقد كذا وكذا، فيقول الرجل بأعلى صوته -و هو رجل مسلم الأصل فيه العدالة والصدق- إني لا أقول كذا، إني لا أعتقد كذا، إني براء من كذا، فيقال له كذبت بل أنت تقول كذا، أو بعبارة أخرى نحن أعلم منك بكلامك، وربما نحن أعلم منك بما في قلبك، ونحن أعلم منك بنيتك! إن هذا لسان حال الكثير من الناس الذين يحاكمون الآخرين إلى أفهامهم، ونظراتهم وقناعاتهم هم.
ثمة ظاهرة عادية تحصل بيننا كثيراً، في الاتفاق على موعد أو نقاش أي قضية من القضايا، نفترق وكل منا في ذهنه أن الاتفاق قد تمّ على أمر محدد، ونختلف في الموعد ثم يحصل النقاش والجدل، فيدعي كل منا خلاف صاحبه.
إنه مظهر من مظاهر سوء الفهم، فأحد الشخصين قد أساء الفهم، ولا يوجد احتمال للكذب ولا للروغان، إنما هو احتمال واحد وهو سوء الفهم، وهي مواقف تحصل كثيراً في حياتنا؛فنحكم العقل والمنطق لأننا نحتاج إليه، وتنتهي هذه المشكلة. لكن سوء الفهم قد يمتد وينتج عنه نتائج ومواقف أخرى، وقد يكون مصدراً للحكم على الآخرين وتقويمهم؛ ومن ثم كان لابد من الحديث عن سوء الفهم.
متى يكون سوء الفهم آفة ؟
أولاً: ليس غريباً أن يسيء المرء الفهم، وهذا كثيراً مايحصل في حياتنا؛ فقد تسمع كلاماً من أحد الناس فتفهم منه خلاف ماكان يقصد.
بل إن الخطأ في الفهم حصل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهناك مواقف كثيرة لاتخفى عليكم لعلي أشير إلى بعضها إشارة عاجلة.
* حين قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في غزوة بني قريظة في قصة مشهورة : "لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة" كان منهم من صلى في بني قريظة فأخر صلاة العصر حتى وصل بعد خروج الوقت؛ ففهم أن المقصود أن يصلي العصر نفسها في بني قريظة، ومنهم من فهم النص فهماً آخر، ففهم أن النبي صلى الله عليه وسلم يريد منهم أن يعجلوا في المسير إلى بني قريظة؛ ومِن ثمّ أدّوا الصلاة في الطريق.
* صورة أخرى: حين نزل قول الله عز وجل :((و كلوا وأشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر)) جاء عدي رضي الله عنه فوضع عقالين عند وسادة- خيطين أبيض وأسود- وأصبح ينظر إليهما، فلما استبان له الأبيض من الأسود أمسك، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له مداعباً:"إن وسادك لعريض" أي كأنك قد توسّدت الأفق، إنما هو سواد الليل وبياض النهار.
* وقال عز وجل :((يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم)) لقد خطب أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها على غير موضعها. أي بعبارة أخرى أنكم تخطئون في فهم المقصود من هذه الآية، إذن فكان هناك من يخطئ في فهم هذه الآية ممن كان يخاطبهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
* وقال عز وجل :((ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين))، وقد فهم بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الآية فهما آخر، فمنهم من شرب الخمر متأولاً هذه الآية في عصر عمر رضي الله عنه. ثم دعاهم وقرّرهم بالحكم. لا يهمنا بقية القصة وما يتعلق بها إنما الشاهد أن هناك من فهم من هذه الآية خلاف مادلت عليه.
* وقال عز وجل :((إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم)) ، سأل عروة بن الزبير رضي الله عنه عائشة رضي الله عنها فقال: أرأيتِ قوله تعالى ثم ذكر الآية .. ففهم عروة رضي الله عنه من هذه الآية أنها تدل على أن الطواف بالصفا والمروة ليس واجباً، فصححت له عائشة رضي الله عنها هذا الفهم وأخبرته بسبب نزول هذه الآية الكريمة.(/1)
لعلّي أقتصر على هذه الأمثلة وهي أمثلة كثيرة نراها تقع لبعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو الجيل الأول أو غيرهم ممّن يخطئ في فهم نص من النصوص، وقصدت أن أمثل لخطئهم في فهم النصوص الشرعية لماذا؟ لأنهم ومع احترازهم وتعاملهم مع النصوص الشرعية بعقلية تختلف عن غيرها من النصوص إلا أنهم وقعوا في هذا الفهم.
إن سوء الفهم أمر لا ينجو منه إنسان أيًّا كان؛ لأنه بشر؛ ولأن المتحدث قد لا يزن حديثه، أو قد يكون حديثه ملبساً، أو مدعاة لسوء الفهم، فإما أن نطالب الجميع بالتخلي عن سوء الفهم أو أن نحاكم الجميع عند سوء الفهم ونرى أن الجميع يجب أن تصح أفهامهم بنسبة 100% فهذا مطلب غير معقول، فلا بد أن يقع المرء في الخطأ في الفهم لكن متى يكون سوء الفهم آفة؟ .
في نظري أنه آفة حينما يكون قاعدة نحكم بها على الآخرين، من خلال فهمنا لكلماتهم أو أقوالهم أو أعمالهم أو مواقفهم، فنحاكمهم إلى فهمنا، بل قد يتجاوز الأمر ذلك، فنقول: هو يقصد كذا ويريد كذا، ويظهر خلاف ما يريد …وغيرها من الكلمات التي تعبر عن أعمال قلبية ، كأننا نملك وسيلة نستطيع بها أن نحكم ونطّلع على نوايا الآخرين.
وقد يعترض معترض بأننا قد عرضنا قائمة وأمثلة طويلة من أمور اجتهد فيها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأخطؤوا الفهم مع نص شرعي فكيف لا يراد من غيرهم أن يخطئ؟
إنه من حقك أن تخطئ في الفهم، وهذا شيء طبعي –وقد يكون بعض الناس عقله لا يؤدي به إلا إلى الفهم السقيم- لكن هذا شيء وأن تجعل فهمك قاعدة تحاكم الآخرين إليها شيء آخر.
حين أنقل عن الآخرين يجب أن أكون دقيقاً في النقل فأقول قال كذا وكذا أو فعل كذا وكذا وفهمت أنا أنه يقصد كذا وأنه يريد كذا.
ناقشني شاب في مقال كتبته فقال لي: إن الناس الذين تقصدهم في هذا الكلام عندهم كذا وكذا فقلت له يا أخي لم أكن أقصد أحداً بعينه إنماالقضية وهم في ذهنك. فقال :بل أنت تقصد. فقلت :أنت الآن تخبرني بمن أقصد أنا وماذا أريد، إذا كنت متهماً عندك بالكذب فلا داعي للنقاش لأني أصبحت عندك كذاباً، ومن حقك أن تفهم أني أقصد أمراً بعينه، لكن يجب أن يبقى فهماً لك ولا تلزمني به.
أسباب الظاهرة
السبب الأول: سوء النية:
فقد يكون الرجل صاحب نية سيئة، فهو يسمع لفلان ويقرأ لآخر لا لأجل أن يستفيد ، ويقرأ لفلان ليس من أجل الفائدة، إنما يبحث عن مدخل. فهو إذن سيئ النية ابتداء.
وسوء النية ليس بالضرورة إرادة حرب الإسلام والمسلمين؛ فالحسد والهوى والتنافس الحزبي صورة من صور سوء النية.
وكم واجه شيخ الإسلام ابن تيمية وعبدالغني المقدسي – وغيرهم – من أئمة أهل السنة – كم واجهوا من مضايقات ومن تحميل كلامهم ما لا يحتملون فيقال خالف الإجماع في هذه القضية وفعل كذا وفعل كذا … لماذا؟ لأن عنده من كان يقرأ ليبحث عن الزلل، ودافعهم لذلك الحسد والبغي.
ومن هذا القبيل ما يحصل من المستشرقين من أخطاء شنيعة حين كانوا يقرؤون نصوص الشرع والتراث الإسلامي بسوء نية.
السبب الثاني : سوء الظن
عندما يسيء الإنسان الظن بشخص أياً كان، فلا بد أن يسيء الفهم تلقائياً فهو يقصد كذا أو يريد كذا وهذا لا يحتمل إلا هذا الشيء…إلخ هذه القائمة.
لماذا نحمل مقاصد الناس على المحمل السيئ؟ إن المنطق العقلي البحت ومنطق العدل المجرد مع الناس أياً كانوا يجعلني أتجرد من كل هذه القضايا. وأنظر إلى الكلام مجرداً عن كل الأوهام التي عندي. ثم أحاكم هذا الكلام إلى ما يقوله هو في مناسبة أخرى إلى أعماله الأخرى فسأصل إلى نتيجة سليمة قطعاً.
كم نجد أحياناً من الناس من يقول كلاماً في كتاب أو مجلس أو في مناسبة، ونفهم من هذا الكلام أنه يريد أمراً ما، ثم في مجال آخر يصرح تصريحاً قاطعاً بخلاف هذا ، ومع ذلك نرفض هذا الكلام الصريح، ونسلط الضوء على هذه العبارة المحتملة. ولسان حالنا: نحن أعلم منك بما في نفسك، وأعلم منك بما تريد وما تقول.
أما عندما يكون عندي أنا صورة متخيلة في الذهن عن شخص من الأشخاص فقد أصل إلى خلاف الحقيقة، ولهذا كان الظن أكذب الحديث "اتقوا الظن فإن الظن أكذب الحديث".
السبب الثالث: الخلفية السابقة
حين يصلي الشخص خلف خطيب، أو يحضر عند أستاذ، أو يقرأ لكاتب، وقد أعطي خلفية معينة عن هذا الرجل فسوف يسمع ويقرأ منتظراً للشواهد التي تؤيد الخلفية الموجودة عنده .
إنك لو أعطيت كتاباً لاثنين متساويين في الفهم والإدراك والتربية، وقلت للأول خذ الكتاب لتقرأه، وقلت للثاني اقرأ الكتاب لكن احذر؛ فهذا الكاتب عليه ملاحظات ما النتيجة؟
لابد أن الثاني سيصل إلى نتائج وأخطاء لم يصل إليها الأول؛ لأن الأول قرأ بدون خلفية، بخلاف الثاني الذي يقرأ محاولاً اكتشاف الملاحظات والأخطاء، وقد يكون لبعض هذه الأخطاء رصيد من الواقع، لكن كثيراً منها سيكون متوهماً، قد حمله صاحبنا أكثر مما يحتمل.
السبب الرابع: إهمال الظروف المتعلقة بالشخص(/2)
إن الناس تختلف طبائعهم وسماتهم، فبعضهم –على سبيل المثال- حاد وسريع الغضب، وقد يقول كلاماً لا يعبر عن حقيقة ما في نفسه، وحين يغضب ويغلظ عليك الكلام فكأن الأرض لن تحملك بعد ذلك، بينما قلبه سليم تجاهك.
أذكر أستاذاً -لا أدري ما أخباره غفر الله لنا وله وجزاه عنا خيراً-كان شديد الغضب، حين يغضب عليك تضيق عليك الأرض بما رحبت، وتتخيل أنه يهم بالبطش بك الآن ، وفي نهاية المحاضرة تخرج معه فتجده مبتسماً طليق الوجه، فلم نعد نقلق حين عرفنا طبيعته.
ومن الناس من يكون على العكس من ذلك، فمنهم ما في نفسه أشد مما قد يبديه لك.
ومن ذلك أيضاً ظروف الزمان والمكان، فقد يقول المرء كلاماً في مكان معين، لملابسات ودوافع معينة - بغض النظر عن مدى عذره في ذلك- فلا يصبح هذا الكلام معبراً عن رأيه الحقيقي.
ومن ذلك حديث الشخص عن موضوع معين وحماسه له –كالقراءة مثلاً- فقد يفهم بعض الناس من ذلك أنه يقلل من حضور مجالس العلم، وحين يتحدث آخر عن الاعتناء بالبارزين والموهوبين فقد يفهم سامع أنه يهمل دعوة آحاد الناس، وهكذا حتى أصبح كل متحدث بحاجة لأن يختم حديثه بقيود عديدة، أنه لايلزم من كلامه كذا وكذا، ولايقصد كذا وكذا.
السبب الخامس: الحرص تنزيل الكلام على معين
حين يتحدث متحدث عن قضية من القضايا، ويأتي في ثنايا حديثه أن بعض الكتاب أو بعض الدعاة يقول كذا أو يقع في هذا الخطأ، فسوف يتساءل الناس من يقصد؟ أهو يقصد فلاناً أم فلاناً؟
وربما لم يكن في ذهن المتحدث شخص بعينه، إنما هو يتحدث عن ظاهرة من الظواهر.
السبب السادس: القول باللازم
حين أقول إن المعلمين في المدارس هم البوابة للمجتمع، وهم الذين يصنعون الجيل إلى غير ذلك. قد يأتي شخص ويقول يلزم من كلامك أن العلماء ليس لهم قيمة ، يلزم من كلامك أن الخطباء ليس لهم قيمة، أن القضاة ليس لهم قيمة…وهكذا.
ومن المقرر عند أهل العلم في التعامل مع اللازم أن لازم الكتاب والسنة حق، أما في كلام البشر فله ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يذكر له اللازم فليتزمه. وذلك بأن تقول لي يلزم من كلامك كذا وكذا، فأقول نعم وأنا أعتقد ذلك.
الحالة الثانية: أن يذكر له اللازم فلا يلتزمه. وذلك بأن تقول إن كلامك يلزم منه كذا وكذا، فأقول لا يلزم منه هذا.
والأمر في الحالتين واضح لا إشكال فيه.
الحالة الثالثة: وهي موضع النقاش: ألا يثبته الشخص أو ينفيه، فحينها لاينسب له؛ لأن الإنسان بشر يغيب عنه اللازم ويعتريه الذهول والغفلة والنسيان.
وليس هذا مجال تقرير هذه المسألة الأصولية؛ إنما المقصود منها التوسع في إلزام الناس بما لم يقولوه غير صحيح.
السبب السابع: عدم إدراك أطراف الموضوع
حين يقرأ أحد القراء جزءاً مما قاله أحد الكتاب، فقد يفهم خلاف ماقصده، لكن لو عرف أطراف الموضوع فسيفهمه فهماً آخر.
دعونا نضرب مثالاً قريباً: في المحاضرة هذه لو أن إنساناً لم يحضر معنا الجزء الأول، فسيقول أنت الآن تشنّ حملة على من يسيء الفهم، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقعوا في خطأ في الفهم وهذا يلزم منه أنك تنتقص أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لو أدرك أطراف الموضوع كله مثلاً لعلم أنني تحدثت عن هذه القضية وأنه لو كان لازم كلامي هذا فأنا على الأقل لا ألتزم به.
السبب الثامن: الربط المتكلف
وذلك حين يعمد إلى كلام هنا وكلام هناك فيربط بينهما برابط ويخلص إلى نتيجة معينة، غير حقيقية.
ومن ذلك إلزام الشخص بآراء مدرسة فكرية أثنى عليها في موطن، أو استشهد ببعض عباراتها في آخر.
إن هذا المسلك دفع بكثير من الناس إلى ترك الاستشهاد بأقوال بعض المعاصرين حذراً من أن يوصم بأنه على منهجهم أو خطهم، وهذا مظهر من مظاهر التخلف الفكري الذي نعاني منه.
السبب التاسع : التصحيف وركاكة الفهم
والتصحيف أمر معروف لدى المحدثين، فقد يقرأ الراوي الكلمة قراءةً خاطئةً، أو يسمعها سماعاً خاطئاً ، فحديث احتجر النبي صلى الله عليه وسلم موضعاً في المسجد رواه أحد الرواة احتجم النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد.
وحديث: "من صام رمضان واتبعه ستاً من شوال…" تصحف على أحد الرواة فرواه وأتبعه شيئاً من شوال.
ومن التصحيف ما يكون في الفهم، فمثلاً أبو موسى العنزي قال: صلى إلينا النبي صلى الله عليه وسلم وهو من قبيلة عنزه، وذكر الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى إلى عنزة ظناً منه أن الراوي يريد قبيلة عنزة، بينما العنزة العصا.
وأحياناً يكون السبب ركاكة الفهم، فبعض الناس كما يقال: أقول زيداً ويسمع عمراً ويكتب خالداً.
من وسائل العلاج
إن ذكر الأسباب يختصر علينا خطوات كثيرة في علاج الظاهرة، لذا سنشير هنا إشارات عاجلة وموجزة لبعض خطوات العلاج:
أولا: حسن الظن بالمسلمين(/3)
وهو منهج شرعي أخل به كثير من المسلمين اليوم، بل نرى بعضهم يتشبه بهدي الخوارج الذين يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، فالمجرمون والطغاة والمفسدون في الأرض يتأول لهم ويجد لهم ألف عذر وحجة، أما إخوانه فلا يمكن أن يجد لهم تأويلاً.
إن الواجب على المسلم حين يرى ما قاله أخوه يحتمل أمرين أن يحمله على أحسن محمل، فيقول –على سبيل المثال - فلان قال هذا لكن هذا القول لا يليق به فلا أتصور أنه يقصد كذا أو يريد كذا، فلعله يريد الأمر الآخر.
وحين أحسن الظن بفلان، وأكتشف بعد أنه على خلاف ظني، فما النتيجة؟ إنها التزام الأدب الشرعي وسلامة القلب للمسلمين.
ومما لايقبل بحال أن يكون مصدر الحكم على إخواننا المسلمين مانقرأه في الصحف، أو نسمعه من وسائل الإعلام السيئة، أو ينقله عنهم النمامون والوشاة. وكم جربنا على هؤلاء الكذب والتضليل.
ثانياً: الابتعاد عن تتبع عورات المسلمين
فمن تتبع عورة إخوانه المسلمين تتبع الله عورته حتى يفضحه ولو في جوف بيته، وتتبع الزلات والعورات والأخطاء وتصيدها مظهر من مظاهر مرض القلب.
إن البشر لا بد أن يقعوا في الخطأ أياً كانوا، وحين لا نسأل إلا عن الزلات والأخطاء فلا بد أن نصل إلى مثل هذه النتائج.
ثالثاً: الأمانة والانضباط في النقل
وذلك بأن تسعى لأن تنقل الكلام بلفظه وحروفه قدر الإمكان، ثم بعد ذلك من حقك أن تذكر فهمك، لكن يجب أن يعلم الجميع أن هذا فهمك وليس هذا ما يقصده من نقلت عنه.
ولابد أن يرتفع مستوى فهمنا فنفرق بين مايرويه الثقة من مواقف الناس، وبين فهمه لها وتفسيره؛ فالأصل في قول الثقة أن يقبل، أما فهمه واستنتاجه فليس بالضرورة كذلك.
رابعاً: الجمع بين المتفرق
إنه من العجب أن يلزم شخص بعبارة قالها وهو قد صرح بنفيها في موضع آخر، ومن الأمثلة على ذلك مانسب إلى سيد قطب رحمه الله وهو رجل أديب والأديب يستطرد -وهنا أذكركم بما ذكرنا آنفاً من أنه لابد أن تضع في ذهنك طبيعة الشخص الذي تريد أن تقيمه- فحين قال رحمه الله في تفسير سورة الإخلاص عبارة توهم أنه يرى وحده الوجود، فجاء البعض وقال إنه يرى وحدة الوجود، بينما هو صرح في موطن آخر بانتقاد أصحاب وحدة الوجود بالاسم وانتقاد ما هم عليه.
ألا يعطيك هذا الكلام قناعة أن الرجل لا يعتقد هذا وإلا لما صرح به؟
صورة أخرى أيضاً عن الشخص نفسه ، فقد قال كلاماً حينما تحدث عن الكون وخلق الله عز وجل، ذكر فيه أن المسلم يحب كل ما في هذا الكون لأنه يرى أن هذا الكون صادر عن الله عز وجل، فجاء شخص ليس سيئ النية بل رجل فاضل فقال هذا يترتب عليه أنه يحب الشياطين ويحب الكفار كيف يكون هذا والرجل له مواقف واضحة من كلام اليهود والنصارى والكفار !!
وغيره من علماء الإسلام السابقين قد أُلزموا بلوازم لا يقولون بها أصلاً.
لهذا يجب أن ندرك شخصية الإنسان إذا أردنا أن نحكم عليه وعلى منطلقاته.
هذه خواطر عاجلة حول هذا الموضوع وأرجو أن لا أكون أنا وقعت في سوء الفهم حين تحدثت عن سوء الفهم، وألا يساء فهم ما قلته، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح وأن يجنبنا وإياكم الزلل في القول والعمل … آمين .(/4)
سورة الإخلاص
أمير بن محمد المدري
الحمد لله الذي جعل هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس، وجعل فيها كتابه خير منهاج ونبراس، وبذر فيها بذور الخير ففاح شذاً وطاب غراس، اصطفاها من بين سائر الأمم، وأفاض عليها ما شاء من النعم، ودفع عنها كل شر وبأس. وأصلي وأسلم على من كان لظلامنا بإذن الله ضياء، ولأبصارنا جلاء، جاءنا على حين فترة من الرسل، وانطماس من السبل، فجلى المبهمات، وكشف الغياهب والظلمات، وجاء من عند ربه بكتاب معجز الآيات، واضح البينات، فانهدم بنيان الوثنية، وارتفع لواء الحنيفية. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الفقهاء العلماء الأكياس، وعلى من سار على نهجهم واتبع دربهم ما ترددت في الصدور الأنفاس. أما بعد: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) آل عمران: 102. (يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) النساء: 1 (يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) الأحزاب: 70-71.
وبعد عباد الله:
مع سورة مباركة مع سورة أحبها رجل فأحبه الله مع سورة قراءتها تعدل ثلث القرآن إنها سورة الإخلاص..
حُدّث أن رجلاً سمع رجلاً يقرأ: (قل هو الله أحد) سورة الإخلاص يردّدها، فلما أصبح جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له، وكان الرجل يتقالّها ـ أي: يراها قليلة ـ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن))..
وقال - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: ((أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟)) فشقّ ذلك عليهم وقالوا: أينا يطيق ذلك يا رسول الله؟! فقال: ((الله الواحد الصمد ثلث القرآن)). وأمر - صلى الله عليه وسلم - الصحابة أن يحتشدوا، فقال: ((احْشُدوا، فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن))، فحَشَد من حَشَد، ثم خرج نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأ: ((قُلْ هُوِ اللهُ أَحَدٌ)) السورة ثم دخل، قال أبو هريرة: فقال بعضنا لبعض: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن))، إني لأرى هذا خبرًا جاء من السماء، ثم خرج نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((إني قلت: سأقرأ عليكم ثلث القرآن، ألا وإنها تعدل ثلث القرآن)).
(قل هو الله أحد)..وهو لفظ أدق من لفظ "واحد"..لأنه يضيف إلى معنى "واحد" أن لا شيء غيره معه. وأن ليس كمثله شيء.
إنها أحدية الوجود.. فليس هناك حقيقة إلا حقيقته. وليس هناك وجود حقيقي إلا وجوده. وكل موجود آخر فإنما يستمد وجوده من ذلك الوجود الحقيقي، ويستمد حقيقته من تلك الحقيقة الذاتية.
وهي - من ثم - أحدية الفاعلية. فليس سواه فاعلا لشيء، أو فاعلا في شيء، في هذا الوجود أصلا. وهذه عقيدة في الضمير وتفسير للوجود أيضا..
فإذا استقر هذا التفسير، ووضح هذا التصور، خلص القلب من كل غاشية ومن كل شائبة، ومن كل تعلق بغير هذه الذات الواحدة المتفردة بحقيقة الوجود وحقيقة الفاعلية.
خلص من التعلق بشيء من أشياء هذا الوجود - إن لم يخلص من الشعور بوجود شيء من الأشياء أصلا! - فلا حقيقة لوجود إلا ذلك الوجود الإلهي. ولا حقيقة لفاعلية إلا فاعلية الإرادة الإلهية. فعلام يتعلق القلب بما لا حقيقة لوجوده ولا لفاعليته!
وحين يخلص القلب من الشعور بغير الحقيقة الواحدة، ومن التعلق بغير هذه الحقيقة.. فعندئذ يتحرر من جميع القيود، وينطلق من كل الأوهاق. يتحرر من الرغبة وهي أصل قيود كثيرة، ويتحرر من الرهبة وهي أصل قيود كثيرة. وفيم يرغب وهو لا يفقد شيئا متى وجد الله ا ومن ذا يرهب ولا وجود لفاعلية إلا لله ا
(الله الصمد).. ومعنى الصمد اللغوي: السيد المقصود الذي لا يقضى أمر إلا بإذنه. والله - سبحانه - هو السيد الذي لا سيد غيره، فهو أحد في ألوهيته والكل له عبيد. وهو المقصود وحده بالحاجات، المجيب وحده لأصحاب الحاجات. وهو الذي يقضي في كل أمر بإذنه، ولا يقضي أحد معه.. وهذه الصفة متحققة ابتداء من كونه الفرد الأحد.(/1)
وقال - صلى الله عليه وسلم - لأحد الصحابة: ((قل))، قال: ما أقول؟ قال: ((قل هو الله أحد والمعوذتين حين تمُسي وحين تصبح ثلاثًا تكفيك كل شيء))، وعن عقبة بن عامر قال: لقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فابتدأته فأخذت بيده فقلت: يا رسول الله، بم نجاة المؤمن؟ قال: ((يا عقبة، أخرس لسانك، وليسعك بيتك، وابكِ على خطيئتك))، قال: ثم لقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فابتدأني فأخذ بيدي فقال: ((يا عقبة بن عامر، ألا أعلّمك خير ثلاث سور أنزلت في التوراة والإنجيل والزبور والقرآن العظيم))، قال: قلت: بلى جعلني الله فداك، قال: فأقرأني ((قُلْ هُوِ اللهُ أَحَدٌ)) و((قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)) و((قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْنَّاسِ))، قال: فما نسيتهنّ منذ قال: ((لا تنسهنّ))، وما بتّ ليلة قطّ حتى أقرأهن. قال عقبة: ثم لقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فابتدأته فأخذت بيده فقلت: يا رسول الله، أخبرني بفواضل الأعمال؟ فقال: ((يا عقبة، صِل من قطعك، وأعط من حرمك، وأعرض عمن ظلمك)).
عباد الله:
سورة الإخلاص منهج للاتجاه إلى الله وحده في الرغبة والرهبة. في السراء والضراء. في النعماء والبأساء. وإلا فما جدوى التوجه إلى غير موجود وجودا حقيقيا، وإلى غير فاعل في الوجود أصلا ا!
ومنهج للتلقي عن الله وحده. تلقي العقيدة والتصور والقيم والموازين، والشرائع والقوانين والأوضاع والنظم، والآداب والتقاليد. فالتلقي لا يكون إلا عن الوجود الواحد والحقيقة المفردة في الواقع وفي الضمير.
ومنهج للتحرك والعمل لله وحده.. ابتغاء القرب من الحقيقة، وتطلعاً إلى الخلاص من الحواجز المعوقة والشوائب المضللة. سواء في قرارة النفس أو فيما حولها من الأشياء والنفوس. ومن بينها حاجز الذات، وقيد الرغبة والرهبة لشيء من أشياء هذا الوجود!
أسال الله أن يثبتنا وإياكم على الخير والصلاح
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه واشهد أن لا اله إلا الله تعضيما لشانه وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه وعلى اله وأصحابه وجميع إخوانه..
وعن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا آوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفّيه ثم نفث فيهما وقرأ: ((قُلْ هُوِ اللهُ أَحَدٌ)) و((قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)) و((قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْنَّاسِ))، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات.
هذه بعض الأحاديث المرغّبة في الإدمان على قراءة سورة الإخلاص، والسبب في ذلك أن هذه السورة قد جمعت معاني من اعتقدها حرّم الله عليه النار، ولأن هذه السورة وأختيها الفلق والناس حصن حصين من جميع ما يخشاه المؤمن ويحذره، فالإنسان في طبيعته البشرية يطرأ عليه الخوف، ويُصاب أحيانًا بشتّى أنواع المصائب والابتلاءات، ونحن العرب ـ وللأسف ـ لا زلنا نلجأ إلى السحرة والمشعوذين، ويتعلق كثير منّا بالأسباب الواهيات، ويترك الرجوع إلى كتاب الله الكريم. فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يحافظ على قراءة المعوذتين والإخلاص عندما يأوي إلى فراشه، وما ذاك إلا درس لنا في أن نتحصّن بكتاب الله، ونتمسّك بهدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وزاد فضل الله علينا أن جعل هذه السور قصيرة، وكلماتها سهلة يسيرة، لا تتطلب منك جهدًا ولا عناءً، إنما المطلوب منك ـ أيها المؤمن ـ أن تدمن قراءتها؛ لتكون لك حصنًا من الأمراض النفسية والوساوس الشيطانية، وتكون بقراءتها قد استحضرت في قلبك أروع معان جاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - لنشرها، ومن أجلها طُرد وعُذّب وأهين وشُرّد، بقي في مكة ثلاث عشرة سنة يدعوهم بأن الله أحد، فرد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد.
عند قيادتك لسيارتك أو في أي وقت فراغ رطّب لسانك بذكر الله، وأكثِر في هذه الأوقات من قراءة المعوذتين والإخلاص، ودُم على ذلك، وستزداد في النور والبهاء.(/2)
إذا استحضرت مع هذه التلاوة معاني الآيات فاستحضِر عند قراءتك: ((قُلْ هُوِ اللهُ أَحَدٌ)) أن الله الواحد الأحد الذي لا نظير له ولا وزير، ولا ند له ولا شبيه ولا عديل، فهو - سبحانه - الكامل في جميع صفاته وأفعاله، إذا اعتقدت ذلك: أن الله الواحد الأحد الذي لا نظير له ولا وزير، ولا ند له ولا شبيه ولا عديل، فهو - سبحانه - الكامل في جميع صفاته وأفعاله، فأنت تخالف اليهود في قولهم: عُزير ابن الله، وتخالف النصارى في قولهم: المسيح ابن الله، وتخالف المجوس في عبادتهم الشمس والقمر، وتخالف المشركين في عبادتهم الأوثان، فاستحضر هذا المعنى عند قراءتك: ((قُلْ هُوِ اللهُ أَحَدٌ))، واستحضر عند قولك: ((اللهُ الصَّمَدُ)) أن الله هو السيد الذي كَمُل في سُؤْدَدِه، والشريف الذي كَمُل في شرفه، والعظيم الذي قد كَمُل في عظمته، والحليم الذي قد كَمُل في حِلمه، والعليم الذي قد كَمُل في علمه، والحكيم الذي كَمُل في حكمته، وهو الذي قد كَمُل في أنواع الشرف والسُؤْدد. سبحان من يصمد إليه العباد في قضاء حوائجهم. سبحان الصمد الذي لا جوف له، ولا يأكل ولا يشرب، وهو الباقي في خلقه الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد.
سبحان من ليس له ولد ولا والد ولا زوجة، ((بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ)) الأنعام: 101، فهو - سبحانه - مالك كل شيء وخالقه، فكيف يكون له من خلقه نظير يساميه أو قريب يدانيه؟! ((وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا)) مريم: 88-95،
وقال ربّ العزة: ((كذّبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليَّ من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدًا، وأنا الأحد الصمد، لم ألد ولم أولد، ولم يكن لي كفوًا أحد)).
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا واختم لنا بخير واجعل عواقب أمورنا إلى خير وتوفنا وأنت راضٍ عنا، اللهم آمنا في أوطاننا ودورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ووفقهم واهدهم للعمل بكتابك وسنة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - وهيء لهم البطانة الصالحة وانصر عبادك الموحين المجاهدين نصراً مؤزراً، اللهم انصر كل من جاهد في سبيلك لتكون كلمتك هي العليا نصراً مؤزراً يا رب العالمين، اللهم واشف مرضانا وارحم موتانا وعليك بمن عادانا بلغنا بما يرضيك آمالنا واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا واحشرنا يوم القيامة في زمرة نبينا وتحت لواء حبيبنا واسقنا من يده الشريفة شربة هنيئة مريئة أبداً. آمين. آلا وصلوا على نبينا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - كما أمركم ربكم- تبارك وتعالى -حيث قال: {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً} اللهم صلّ وسلم وبارك على رسولك ونبيك محمد وعلى آله وصحبه
http://www.saaid.net المصدر:(/3)
سورة الفاتحة تقرر منهج الوسطية
إن أم الكتاب تقرر منهج الوسطية من أولها إلى أخرها وأظهر آية فيها شاهدة بذلك هي قوله – تعالى ( أهدنا الصراط المستقيم ) (1) وما بعدها .
وهذه الآية صريحة في تحديد المنهج الوسط ، ذلك انه بين أن هذا الصراط هو صراط الذين أنعم الله عليهم . قال الطبري- رحمه الله – ( أجمعت الآمة من أهل التأويل جميعا على أن الصراط المستقيم هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه ، وكذلك ذلك في لغة جميع العرب ، فمن ذلك الشاعر :
أمير المؤمنين على الصراط *** إذا اعوج الموارد مستقيم
قال ابن عباس – رحمه الله – ( اهدنا الصراط المستقيم ) يقول : ألهمنا الطريق الهادي ، وهو دين الله الذي لا عوج له(2) ثم قال : وكل حائد عن قصد السبيل وسالك غير المنهج القويم فضآل عند العرب ، لإضلاله وجه الطريق (3)
وقد بين الله لنا أن الصراط المستقيم هو منهج الوسط ، حيث قال واصفاً الصراط المستقيم ( غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) (4) ومنهج المغضوب عليهم يمثل التفريط ، بينما منهج الضالين الإفراط ، فهما منهجان دائران بين الغلو والجفاء ، قال ابن كثير : ( رحمه الله) : غير صراط المغضوب عليهم,وهم الذين فسدت إرادتهم فعلموا الحق وعدلوا عنه ، ولا صراط الضآلين ، وهم الذين فقدوا العلم ، فهم هائمون في الضلالة ، لا يهتدون إلى الحق (5)
وبهذا يتبين لنا أن هناك ثلاثة طرق : طريق الذين أنعم الله عليهم ، وطريق المغضوب عليهم ، وطريق الضالين .
والله أمرنا بالالتزام بسبيل الذين أنعم الله عليهم ، لأنه هو الصراط المستقيم ، وهو منهج وسط بين سبيلين منحرفين ، وهما سبيلا اليهود والنصارى ، وكل طريق منحرف عن منهج الصراط المستقيم فله حظ من أحد هذين السبيلين .
ولأن الاستقامة تعني الوسطية كما تبينها آية الفاتحة ، وكما وضحت ذلك في ملامح الوسطية . جاءت الآيات متعددة تدعو إلى الاستقامة بأساليب متعددة وألفاظ متقاربة ، وهي تدور بين الخير والإنشاء .
ومن هذا المنطلق ، وبعد أن تقرر أن طريق الاستقامة هو طريق الأمة الوسط ، فإن كل آية وردت في الاستقامة فهي آية في تحقيق الوسطية والدعوة إليها على المراد ، وبياناً لهذا المنهج .
قال- سبحانه- : ( فاستقم كما أمرت ومن تاب ومعك ولا تطغوا ) (6). وقال : ( فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم ) (7)
فقوله تعالى : ( ولا تطغوا ) . بعد أن أمر بالاستقامة, والطغيان هو مجاوزة الحد (8) وهو خروج عن منهج الوسطية إلى الانحراف عن السبيل .
وفي الآية الثانية : قال ( ولا تتبع أهواءهم ) وإتباع الهوى خروج عن الاستقامة ، وانحراف عن منهج الوسطية .
وتتواصل الآيات في هذا الشأن ، ففي سورة البقرة : ( يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم )(9) وفي آل عمران : ( ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم ) وفي الأنعام : ( وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه )(10) وفيها : ( قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً ) (11) وفي النحل : ( وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم ) (12) وفي الزخرف : ( فاستمسك بالذي أوحى إليك إنك على صراط مستقيم ) (13) وفي سورة الملك :( أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أمن يمشي سوياً على صراط مستقيم ) (14)
إلى غير ذلك من الآيات ، حيث إن كل واحد منها دالة على أن الصراط المستقيم هو الطريق الذي أمرنا باتباعة واجتناب ما عداه ، لأنه هو طريق الحق والعدل والوسط ، وما عداه طريق الضلال والغواية والانحراف عن الصراط المستقيم ، وها هو الشيطان يعلن هذه الحقيقة قائلاً كما ذكر الله في سورة الأعراف : ( فيما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم )(15) وصدق الله العظيم إذ يقول : ( من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم )(16)
وفي سورة التكوير : ( إن هو إلا ذكر للعالمين . لمن شاء منكم أن يستقيم ) (17) وهذه الآية تعني أن القرآن كله دعوة للاستقامة والسير على المنهج الحق ، قال القرطبي :( إن هو ) يعني القرآن ( إلا ذكر للعالمين ) أي موعظة وزجر ( لمن شاء منكم أن يستقيم ) أي يتبع الحق ويقيم عليه(4) ومما سبق يتضح لنا أن سورة الفاتحة وضعت القاعدة والمنطلق ، ورسمت المهج وحددت معالمه ، ثم جاءت الآيات بعد ذلك مقررة لذلك وداعية له .
1- سورة الفاتحة ، الآية 6
2- انظر : تفسير الطبري ( ج1/74،73 )
3- انظر : تفسير الطبري ( ج1/84 )
4- سورة الفاتحة ، آية 7
5- انظر : تفسير ابن كثير ( ج1 / 29 )
6. سورة هود ، الآية 112
7. سورة الشورى ، الآية 115
8. انظر : تفسير القرطبي (ج9/107 )
9. سورة البقرة ، الآية 142
10. سورة الأنعام ، الآية : 153
11. سورة الأنعام ، الآية : 161
12. سورة النحل ، الآية 76
13. سورة الزخرف ، الآية 43
14. سورة الملك ، الآية : 22
15. سورة الأعراف ، الآية 16(/1)
16. سورة الأنعام ، الآية: 39
17. سورة التكوير ، الآيتان : ( 28،27 )
18. انظر : تفسير القرطبي (ج19 / 343)
سورة الفاتحة تقرر منهج الوسطية (2 - 5)
د. علي محمد الصلابي
إنّ أم الكتاب تقرر منهج الوسطيّة من أولها إلى آخرها، وأظهر آية فيها شاهدة بذلك هي قوله – تعالى (أهدنا الصراط المستقيم) (1) وما بعدها.
وهذه الآية صريحة في تحديد المنهج الوسط، ذلك أنه بين أن هذا الصراط هو صراط الذين أنعم الله عليهم.
قال الطبري رحمه الله –: "أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعاً على أن الصراط المستقيم هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه، وكذلك في لغة جميع العرب، فمن ذلك الشاعر:
أمير المؤمنين على الصراط *** إذا اعوج الموارد مستقيم
قال ابن عباس – رحمه الله –: (اهدنا الصراط المستقيم) يقول: ألهمنا الطريق الهادي، وهو دين الله الذي لا عوج له(2)، ثم قال: وكل حائد عن قصد السبيل، وسالك غير المنهج القويم فضالّ عند العرب، لإضلاله وجه الطريق (3).
وقد بيّن الله لنا أن الصراط المستقيم هو منهج الوسط، حيث قال واصفاً الصراط المستقيم: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) (4) ومنهج المغضوب عليهم يمثل التفريط، بينما منهج الضالّين الإفراط، فهما منهجان دائران بين الغلوّ والجفاء.
قال ابن كثير رحمه الله: غير صراط المغضوب عليهم، وهم الذين فسدت إرادتهم فعلموا الحقّ وعدلوا عنه، ولا صراط الضالين، وهم الذين فقدوا العلم، فهم هائمون في الضلالة، لا يهتدون إلى الحق (5).
وبهذا يتبين لنا أن هناك ثلاثة طرق: طريق الذين أنعم الله عليهم، وطريق المغضوب عليهم، وطريق الضالين.
والله أمرنا بالالتزام بسبيل الذين أنعم الله عليهم؛ لأنه هو الصراط المستقيم، وهو منهج وسط بين سبيلين منحرفين، وهما سبيلا اليهود والنصارى، وكل طريق منحرف عن منهج الصراط المستقيم فله حظ من أحد هذين السبيلين.
ولأن الاستقامة تعني الوسطيّة كما تبينها آية الفاتحة، وكما وضّحت ذلك في ملامح الوسطيّة. جاءت الآيات متعددة تدعو إلى الاستقامة بأساليب متعددة وألفاظ متقاربة، وهي تدور بين الخبر والإنشاء.
ومن هذا المنطلق، وبعد أن تقرر أن طريق الاستقامة هو طريق الأمة الوسط، فإن كل آية وردت في الاستقامة هي آية في تحقيق الوسطيّة والدعوة إليها على المراد، وبياناً لهذا المنهج.
قال سبحانه: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا...)(6)
فقوله تعالى: (ولا تطغوا) بعد أن أمر بالاستقامة، والطغيان هو مجاوزة الحد (7) وهو خروج عن منهج الوسطيّة إلى الانحراف عن السبيل.
وفي الآية الثانية: قال (ولا تتبع أهواءهم) وإتباع الهوى خروج عن الاستقامة، وانحراف عن منهج الوسطيّة.
وتتواصل الآيات في هذا الشأن، ففي سورة البقرة: (يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)(8) وفي آل عمران: (ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم) وفي الأنعام: (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه)(9) وفيها (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً) (10) وفي النحل: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (11). وفي الزخرف: (فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم) (12) وفي سورة الملك: (أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أمن يمشي سوياً على صراط مستقيم) (13)
إلى غير ذلك من الآيات، حيث إن كل واحدة منها دالة على أن الصراط المستقيم هو الطريق الذي أمرنا باتباعه واجتناب ما عداه؛ لأنه هو طريق الحق والعدل والوسط، وما عداه طريق الضلال والغواية والانحراف عن الصراط المستقيم، وها هو الشيطان يعلن هذه الحقيقة قائلاً كما ذكر الله في سورة الأعراف: (فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم)(14) وصدق الله العظيم إذ يقول: (... من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم)(15))
وفي سورة التكوير: (إن هو إلا ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم) (16) وهذه الآية تعني أن القرآن كله دعوة للاستقامة والسير على المنهج الحق، قال القرطبي: (إن هو) يعني القرآن (إلا ذكر للعالمين) أي موعظة وزجر (لمن شاء منكم أن يستقيم) أي يتبع الحق ويقيم عليه(17)، ومما سبق يتضح لنا أن سورة الفاتحة وضعت القاعدة والمنطلق، ورسمت المنهج وحدّدت معالمه، ثم جاءت الآيات بعد ذلك مقررة لذلك وداعية له.
-----------------------------------------------------------
1- سورة الفاتحة، الآية 6
2- انظر: تفسير الطبري (ج1/74، 73)
3- انظر: تفسير الطبري (ج1/84)
4- سورة الفاتحة، آية 7
5- انظر: تفسير ابن كثير (ج1 / 29)
6- سورة هود، الآية 112
7- انظر: تفسير القرطبي (ج9/107)
8- سورة البقرة، الآية 142
9- سورة الأنعام، الآية: 153
10- سورة الأنعام، الآية: 161(/2)
11- سورة النحل، الآية 76
12- سورة الزخرف، الآية 43
13- سورة الملك، الآية: 22
14- سورة الأعراف، الآية 16
15- سورة الأنعام، الآية: 39
16- سورة التكوير، الآيتان: (28، 27)
17- انظر: تفسير القرطبي (ج19 / 343)
18/5/1426
25/06/2005
http://www.islamtoday.net المصدر:(/3)
سورة الفاتحة تقرر منهج الوسطيّة (2/10)
د. علي محمد الصلابي 18/5/1426
25/06/2005
إنّ أم الكتاب تقرر منهج الوسطيّة من أولها إلى آخرها، وأظهر آية فيها شاهدة بذلك هي قوله – تعالى (أهدنا الصراط المستقيم) (1) وما بعدها.
وهذه الآية صريحة في تحديد المنهج الوسط، ذلك أنه بين أن هذا الصراط هو صراط الذين أنعم الله عليهم.
قال الطبري- رحمه الله –: "أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعاً على أن الصراط المستقيم هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه، وكذلك في لغة جميع العرب، فمن ذلك الشاعر:
أمير المؤمنين على الصراط
إذا اعوج الموارد مستقيم
قال ابن عباس – رحمه الله –: (اهدنا الصراط المستقيم) يقول: ألهمنا الطريق الهادي، وهو دين الله الذي لا عوج له(2)، ثم قال: وكل حائد عن قصد السبيل، وسالك غير المنهج القويم فضالّ عند العرب، لإضلاله وجه الطريق (3).
وقد بيّن الله لنا أن الصراط المستقيم هو منهج الوسط، حيث قال واصفاً الصراط المستقيم: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) (4) ومنهج المغضوب عليهم يمثل التفريط، بينما منهج الضالّين الإفراط، فهما منهجان دائران بين الغلوّ والجفاء.
قال ابن كثير -رحمه الله-: غير صراط المغضوب عليهم، وهم الذين فسدت إرادتهم فعلموا الحقّ وعدلوا عنه، ولا صراط الضالين، وهم الذين فقدوا العلم، فهم هائمون في الضلالة، لا يهتدون إلى الحق (5).
وبهذا يتبين لنا أن هناك ثلاثة طرق: طريق الذين أنعم الله عليهم، وطريق المغضوب عليهم، وطريق الضالين.
والله أمرنا بالالتزام بسبيل الذين أنعم الله عليهم؛ لأنه هو الصراط المستقيم، وهو منهج وسط بين سبيلين منحرفين، وهما سبيلا اليهود والنصارى، وكل طريق منحرف عن منهج الصراط المستقيم فله حظ من أحد هذين السبيلين.
ولأن الاستقامة تعني الوسطيّة كما تبينها آية الفاتحة، وكما وضّحت ذلك في ملامح الوسطيّة. جاءت الآيات متعددة تدعو إلى الاستقامة بأساليب متعددة وألفاظ متقاربة، وهي تدور بين الخبر والإنشاء.
ومن هذا المنطلق، وبعد أن تقرر أن طريق الاستقامة هو طريق الأمة الوسط، فإن كل آية وردت في الاستقامة هي آية في تحقيق الوسطيّة والدعوة إليها على المراد، وبياناً لهذا المنهج.
قال- سبحانه-:(فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا...)(6)
فقوله تعالى: (ولا تطغوا) بعد أن أمر بالاستقامة, والطغيان هو مجاوزة الحد (7) وهو خروج عن منهج الوسطيّة إلى الانحراف عن السبيل.
وفي الآية الثانية: قال (ولا تتبع أهواءهم) وإتباع الهوى خروج عن الاستقامة، وانحراف عن منهج الوسطيّة.
وتتواصل الآيات في هذا الشأن، ففي سورة البقرة: (يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)(8) وفي آل عمران: (ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم) وفي الأنعام: (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه)(9) وفيها (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً) (10) وفي النحل:(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (11). وفي الزخرف: (فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم) (12) وفي سورة الملك :(أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أمن يمشي سوياً على صراط مستقيم) (13)
إلى غير ذلك من الآيات، حيث إن كل واحدة منها دالة على أن الصراط المستقيم هو الطريق الذي أمرنا باتباعه واجتناب ما عداه؛ لأنه هو طريق الحق والعدل والوسط، وما عداه طريق الضلال والغواية والانحراف عن الصراط المستقيم، وها هو الشيطان يعلن هذه الحقيقة قائلاً كما ذكر الله في سورة الأعراف: (فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم)(14) وصدق الله العظيم إذ يقول: (...من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم )(15))
وفي سورة التكوير : (إن هو إلا ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم) (16) وهذه الآية تعني أن القرآن كله دعوة للاستقامة والسير على المنهج الحق، قال القرطبي:(إن هو) يعني القرآن (إلا ذكر للعالمين) أي موعظة وزجر (لمن شاء منكم أن يستقيم) أي يتبع الحق ويقيم عليه(17)، ومما سبق يتضح لنا أن سورة الفاتحة وضعت القاعدة والمنطلق، ورسمت المنهج وحدّدت معالمه، ثم جاءت الآيات بعد ذلك مقررة لذلك وداعية له.
|1|2|
--------------------------------------------------------------------------------
1-سورة الفاتحة ، الآية 6
2-انظر : تفسير الطبري ( ج1/74،73 )
3-انظر : تفسير الطبري ( ج1/84 )
4-سورة الفاتحة ، آية 7
5-انظر : تفسير ابن كثير ( ج1 / 29 )
6-سورة هود ، الآية 112
7-انظر : تفسير القرطبي (ج9/107 )
8-سورة البقرة ، الآية 142
9-سورة الأنعام ، الآية : 153
10-سورة الأنعام ، الآية : 161
11-سورة النحل ، الآية 76
12-سورة الزخرف ، الآية 43(/1)
13-سورة الملك ، الآية : 22
14-سورة الأعراف ، الآية 16
15-سورة الأنعام ، الآية: 39
16-سورة التكوير ، الآيتان : ( 28،27 )
17-انظر : تفسير القرطبي (ج19 / 343)(/2)
سورة الفاتحة
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلامُ على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمَّد وعلى آله، وصحبه أجمعين، وبعد:
فإنَّ سورةَ الفاتحة التي يقرؤها المسلم في صلاته بعدد ركعات الصَّلوات؛ لقوله فيما رواه البخاري من حديث عبادة: { لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب... } يدلُّ هذا على عظيم شأن هذه السُّورة وجليل قدرها، وأنَّه ينبغي للمسلم أن يتأمَّل معانيها فلحكمةٍ بالغةٍ شرع الله تكرارها في الصَّلوات من بين سور القرآن آية.
أسماء سورة الفاتحة:
سورة الفاتحة: فقد سمَّاها النَّبي صلَّى الله عليه وسَّلم: { فاتحة الكتاب }؛ وذلك لأنَّها أوَّل ما يقرأ من القرآن الكريم.
أم القرآن: وهكذا سمَّاها النَّبيُّ وأنها سمَّيت أم القرآن والله أعلم؛ لأنَّ معاني القرآن الكريم ترجع إلى هذه السُّورة فهي تشمل المعاني الكلِّية والمباني الأساسَّية التي يتكلَّم عنها القرآن.
السبع المثاني: وذلك لأنَّها سبع آيات تقرأ مرَّة بعد مرَّة.
القرآن العظيم: وقد سمَّاها الرَّسول ذلك فقال: { هي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيته }.
سورة الحمد: لأنَّها بدأت بحمد الله عزَّ وجلَّ.
الصلاة: كما سمَّاها الله عزَّ وجلَّ في الحديث القدسي: { قسَّمت الصَّلاة بيني وبين عبدي نصفين }؛ وذلك لأنَّها ذكرٌ ودعاء.
احتواؤها على أسماء الله الحسنى:
في هذه السُّورة ذكر الله عزَّ وجلَّ خمسةً من أسمائه الحسنى:
الله - الربَّ - الرحمن - الرَّحيم - المالك.
أولاً: الله: وهو الإسم الأعظم لله عزَّ وجلَّ ( على قول طائفة من أهل العلم ) الذي تلحق به الأسماء الأخرى، ولا يشاركه فيه غيره.
من معاني اسم الله: أنَّ القلوب تألهه ( تحنُّ إليه ) وتشتاق إلى لقائه ورؤيته، وتأنس بذكره.
من معاني لفظ الجلالة: أنَّه الذي تحتار فيه العقول فلا تحيط به علماً، ولا تدرك له من الكنه والحقيقة إلا ما بيّن سبحانه في كتابه أو على لسان رسوله، وإذا كانت العقول تحتار في بعض مخلوقاته في السَّماوات والأرض، فكيف بذاته جلَّ وعلا.
ومن معاني الله: أنَّه الإله المعبود المتفرد باستحقاق العبادة، ولهذا جاء هذا الإسم في الشَّهادة، فإنَّ المؤمن يقول: ( أشهد أن لا إله إلا الله ) ولم يقل مثلاً: أشهد أن لا إله إلا الرحمن.
ثانياً: الربُّ: فهو ربُّ العالمين، ربُّ كلَّ شيء وخالقه، والقادر عليه، كلُّ من في السماوات والأرض عبدٌ له، وفي قبضته، وتحت قهره.
ثالثاً ورابعاً: الرَّحمن، الرَّحيم: واسم الرَّحمن كاسم الله لا يسمَّى به غير الله ولم يتَّسم به أحد. فالله والرحمن من الأسماء الخاصة به جلًّ وعلا لا يشاركه فيها غيره أمَّا الأسماء الأخرى فقد يسمَّى بها غير الله كما قال سبحانه عن نبيَّه: بِالْمُؤمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة:22].
والرَّحمن والرَّحيم مأخوذان من الرَّحمة.
الرَّحمن: رحمة عامَّة بجميع الخلق. والرَّحيم: رحمة خاصَّة بالمؤمنين.
وفي تكرار الإنسان بِسْم اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في جميع شؤونه، ولم يقل أحد ( بسم الله العزيز الحكيم ) مع أنَّه حقٌّ إشارة إلى قول الله سبحانه في الحديث القدسي: { إنَّ رحمتي سبقت غضبي } وكثيراً ما كان الرَّسول يعلِّم أصحابه الرَّجاء فيما عند الله، وأن تكون ثقةُ الإنسان بالله وبرحمته أعظم من ثقته بعلمه، قال : { لن يُدخلَ أحداً الجنَّة عَمَلُهُ، ولا أنا إلا أنْ يتغمَّدني اللهُ برحمتِهِ }.
فهذه الأسماء الثَّلاثة: الله، الربُّ، الرحمن: هي أصول الأسماء الحُسْنى، قاسم الله: متضمِّنٌ لصفات الألوهيَّه. واسم الرَّبِّ: متضمِّنٌ لصفات الرُّبوبيَّة. واسم الرَّحمن: متضمِّنٌ لصفات الجود والبرِّ والإحسان.
فالرُّبوبية: من الله لعباده. والتَّأليه: منهم إليه. والرَّحمة: سببٌ واصلٌ بين الرَّبِّ وعباده.
خامساً: المالك: وذلك في قوله: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ أي يوم يدان النَّاس بعملهم، وفيه ثناء على الله، وتمجيد له، وفيه تذكيرٌ للمسلم بيوم الجزاء والحساب.
قوله تعالى: الْحَمْدُ للهِ رَبّ الْعَالَمِينَ :
الحمد: هو الثَّناء على المحمود بأفضاله وإنعامه. المدح: هو الثَّناء على الممدوح بصفات الجلال والكمال.
فالحمد ثناءٌ على الله تعالى بما أنعم عليك وما أعطاك، فإذا قيل: إنَّ فلاناً حمد، فمعناه: أنّه شكره على إحسان قدَّمه إليه؛ لكن إذا قيل: مدحه، فلا يلزم أن يكون مدحه بشيء قدَّمه، بل بسبب، مثلاً بلاغته، وفصاحته، أو قوته إلى غير ذلك.
فالحمد فيه معنى الشُّكر ومعنى الاعتراف بالجميل، والسُّورة تبدأ بالاعتراف، والاعتراف فيه معنى عظيمٌ؛ لأنَّه إقرارٌ من العبد بتقصيره وفقره وحاجته واعترافٌ لله جلَّ وعلا بالكمال والفضل والإحسان وهو من أعظم ألوان العبادة.(/1)
ولهذا قد يعبد العبد ربَّه عبادة المعجب بعمله فلا يُقبل منه؛ لأنَّه داخله إعجابٌ لا يتَّفق مع الاعتراف والذُّل، فلا يدخل العبد على ربِّه من بابٍ أوسع، وأفضل من باب الذُّلِّ له والانكسار بين يديه، فمن أعظم معاني العبادة: الذُّلُّ له سبحانه. ولهذا كان النَّبيُّ كثير الاعتراف لله تعالى على نفسه بالنَّقص والظُّلم فكان يقول: { اللهمَّ، إنِّي ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، وأنَّه لا يغفر الذُّنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني، إنّك أنت الغفور الرَّحيم }.
فبدء السُّورة بـ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فيه معنى الاعتراف بالنِّعمة، ولا شكَّ أنَّ عكس الاعتراف هو الإنكار والجحود، وهو الذَّنب الأوَّل لإبليس الذي استكبر عن طاعة الله، فإذا قال العبد: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ تبرَّأ من هذا كلَّه فيقول: ( أعترف بأنِّي عبدٌ محتاجٌ فقيرٌ ذليلٌ مقصِّرٌ، وأنَّك الله ربِّي المنعمُ المتفضِّلُ ).
قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ :
إِيَّاكَ : تقديمٌ للضَّمير. إشارة للحصر والتخصيص، وفيه معنى الاعتراف لله تعالى بالعبوديَّة، وأنَّه لا يُعْبَدُ إلا الله وهو أصلُ توحيد الألوهية وما بعث به الرُّسل؛ لأنَّ قضيَّة الرُّبوبيَّة وهي الاعتراف بالله عزَّ وجلَّ أمر تفطر به النُّفوس، والانحراف فيه لا يقاس بما حصل في موضوع الشِّرك في توحيد الألوهية، ولذا ينبغي أن نعتني كثيراً بدعوة النَّاس إلى توحيد الألوهية وإفراد الله بالعبادة؛ لأنَّه أصل الدَّين.
وقوله: إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ فيه إثبات الاستعانة بالله، ونفيها عمَّن سواه يعني لا نطلب إلا عونك، فلا نستعين بغيرك، ولا نستغني عن فضلك؛ ولهذا قال تعالى في الحديث القدسي: { هذا بيني وبين عبدي } فقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ فهو حقُّ الله تعالى على العبد، فيقرُّ به وأمَّا قوله: إِيَّاكَ نَستْعِينُ فهو استعانة العبد بالله عزَّ وجلَّ على ذلك؛ إذ لا قوام له حتَّى على التَّوحيد فضلاً عن غيره من أمور الدُّنيا والآخرة إلا بعون الله. قال تعالى: وَقَالُوا الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ [الأعراف:34]. قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ :
سؤال هداية يتضمَّن معاني متنوعةً:
المعنى الأوَّل: ثبِّتْنا على الصِّراط المستقيم، حتَّى لا ننحرف، أو نزيغ عنه؛ لأنه من الممكن أنْ يكون الإنسان اليوم مهتدياً وغداً من الظَّالمين.
المعنى الثَّاني: قوِّ هدايتنا، فالهداية درجاتٌ، والمهتدون طبقاتٌ، منهم من يبلغ درجة الصِّديقيَّة، ومن هم دون ذلك، وبحسب هدايتهم يكون سيرهم على الصِّراط، فإنَّ لله تعالى صراطين: صراطاً في الدُّنيا وصراطاً في الآخرة، وسيرك على الصِّراط الأخروي - الذي هو الجسر المنصوب على متن جهنَّم يمشي النَّاس على قدر أعمالهم - بقدر سيرك على الصِّراط الدُّنيوي: فالصِّراط الدُّنيوي هو طريق الله بطاعته فيما أمر واجتناب ما نهى عنه، قال تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [الشُّورى:53،52].
فقوله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ يعني: قوِّ هدايتنا، وزد إيماننا، وعلِّمنا، فالعلم من الإيمان، وكلَّما ازداد العبد التزاماً بالصِّراط المستقيم ازداد علمه قال تعالى: فَأَمَّا الّضذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [التَّوبة:124] فزيادة الإيمان هي زيادة ثبات على الصِّراط، قال تعالى: الَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدى [محمد:17].
فمن الممكن أنْ يكون الإنسان مهتدياً ثمَّ يزداد من الهداية بصيرةً وعلماً ومعرفةً وصبراً فهذا من معاني قوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ .
المعنى الثَّالث: أنَّ الصِّرلط المستقيم هو أن يفعل العبد في كلِّ وقت ما أُمِرَ به في ذلك الوقت من علمٍ وعملٍ، ولا يفعل ما نُهِىَ عنه بأن يجعلَ الله في قلبه من العلوم والإرادات الجازمة لفعل المأمور، والكراهات الجازمة لترك المحظور ما يهتدي به إلى الخير، ويترك الشَّرَّ، وهذا من معاني الهداية إلى الصَّراط المستقيم.
حقيقة الهداية:
قولك: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ أي يا ربِّ دُلَّني على ما تحبُّ وترضى في كلِّ ما يواجهني من أمور هذه الحياة، ثمَّ قوِّني وأعنِّي على العمل بهذا الَّذي دللتني عليه، وسرُّ الضَّلال يرجع إلى فقد أحد هذين الأمرين ( العلم والعمل ) والوقوع في ضدها.(/2)
أولاً: الجهل: فإنَّ الإنسان قد توجد عنده الرَّغبة في عمل الخير لكنَّه يجهل الطريقة الشَّرعيَّة لتحصيله، فيسلك طرقاً مبتدعة، ويجهد نفسه فيها بلا طائلٍ، وهو يحسب أنَّه يحسن صنعاً؛ بسبب قلَّة العلم، فعندما يقول العبد: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ فهو يسأل ربَّه أنْ يعلمه، ويدُلَّه فلا يبقى في ضلال الجهل متخبطاً.
ثانياً: الهوى: فقد يكون الإنسان عالماً لكن ليس لديه العزيمة، تجعله ينبعث للعمل لهذا العلم، ويغلبه الهوى فيترك الواجب، أو يرتكب المحرَّم عامداً مع علمه بالحكم، لضعف إيمانه ولغلبة الشَّهوة وتعجل المتعة الدُّنيويَّة.
قوله تعالى: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ولا الضَّالِّينَ :
هذا تأكيدٌ للمعنى السّضابق وتفصيلٌ له، فقوله: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ يعني الذي حازوا الهداية التَّامَّة ممن أنعم الله عليهم من النَّبيِّين والصدِّيقين، والشُّهداء، والصَّالحين، وحسن أولئك رفيقاً.
ثمَّ قال: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ هم الذي عرفوا الحقَّ وتركوه اليهود ونحوهم، قال تعالى: قُلْ هَلْ أُنَبِئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلكَ مَثُوبَةً عِندَ اللهِ مَن لَّعَنَةُ اللهُ وغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وأَضَلُّ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة:60].
فالمغضوب عليهم من اليهود أو غيرهم: لم يهتدوا إلى الصَّراط المستقيم، وسبب هدايتهم هو الهوى، فاليهود معهم علمٌ لكن لم يعملوا به.
وقدَّم الله تعالى المغضوب عليهم على الضَّالِّين؛ لأنَّ أمرهم أخطر وذنبهم أكبر؛ فأنَّ الإنسان إذا كان ضلاله بسبب الجهل فإنَّه يرتفع بالعلم، وأمَّا إذا كان هذا الضَّلال بسبب الهوى فإنَّه لا يكاد ينزع عن ضلاله. ولهذا جاء الوعيد الشَّديد في شأن من لا يعمل بعمله.
وقوله تعالى: الضَّالِّينَ هما الذين تركوا الحقَّ جهلٍ وضلال كالنَّصارى، ولا يمنع أنْ يكون طرأ عليهم بعد ذلك العناد والإصرار.
الطُّرق الثَّلاثة: إنَّنا الآن أمام ثلاثة طرق:
الأوَّل: الصِّراط المستقيم: وطريقتهم مشتملةٌ على العلم بالحقِّ والعمل به يقول تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ [التوبة:33] يعني العلم النَّافع والعمل الصَّالح.
الثَّاني: طريق المغضوب عليهم: من اليهود ونحوهم وهؤلاء يعرفون الحقَّ ولا يعملون به.
الثَّالث: طريق الضَّالَّين: هؤلاء يعملون لكن على جهلٍ ولهذا قال بعض السَّلف: ( من ضلَّ من عباد هذه الأمَّة ففيه شبه من النَّصارى ) كبعض الفرق الصُّوفَّية التي تعبد الله على جهلٍ وضلالة.
وفي الختام أسأل الله تعالى أنْ يجعلنا ممن هدوا إلى الصِّراط المستقيم، ورزقوا العلم النَّافع والعمل الصَّالح وجُنِّبوا طريق المغضوب عليهم والضَّالِّين آمين.
آمل ان قد افتكم
اخوكم الرايه السوداء(/3)
سورة القلم (2)
الجمعة 22 من شعبان 1395هـ 29 من آب 1975 الحلقة السابعة
العلامة محمود مشّوح
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد أيها الإخوة المؤمنون.
فاليوم نتابع الحديث عن سورة القلم ثانية.. السورة التي أُنزلتْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مفتتح الدعوة، ولقد أتينا بالحديث على صدرها في الجمعة الماضية. ونحن آخذون الآن بحول الله بالحديث عما استيسر من بقية السورة.
بعد الآيات التي تلوناها في الجمعة الماضية وبعد الآية التي وقفنا عندها يخاطب الله جل وعلا رسوله الأمين صلوات الله وسلامه عليه فيقول:
(فلا تطع المكذبين ودوا لو تدهن فيدهنون).
ومعلوم لديكم أن هذا الكلام جاء بعد حديث مضى يستهدف نفي تهمة الجنون عن النبي صلى الله عليه وسلم، تلك التهمة التي حاول أعداء الله أن يلصقوها بأعقل العقلاء، وأحكم الحكماء، والتي خيل لنبي الله صلى الله عليه وآله، زمناً ما، أنه قد يكون أصابه شيء من ذلك. ردَّ الله تقوَّلَ المتقوِّلين، وثبَّتَ قلبَ نبيه صلى الله عليه وآله. وامتدحه أعظم مدح بأن شهد له بأنه على خلق عظيم، ووعد بأن يريه وأن يريَ الكافرين من قومه عاقبة هذه المفتريات، وسيظهر عما قريب وعياناً للمتقولين؛ أيُّ الفريقين كان يعمل بعقل، وأيُّ الفريقين كان مستسلماً لما يشبه الجنون ثم جاء الحديث بعد.
(فلا تطع المكذبين ودوا لو تدهن فيدهنون).
ويجب أن ألفت أنظاركم إلى الأحاديث التي تحدثنا فيها عن سورة العلق وأن نستحضر في الأذهان قول الله جل وعلا خطاباً لنبيه صلى الله عليه وسلم:
(كلا لا تطعه واسجد واقترب).
ففي سورة القلم مزيدُ تأكيد لضرورة عدم إطاعة المكذبين بآيات الله ثم فيها شرحٌ لأوصاف هؤلاء الناس ومن لفَّ لفَّهم؛ ساقها الله جل وعلا على مسمع النبي صلى الله عليه وسلم لكي يحذرهم.
ونحن هنا في هذه السورة إذ نسمع الله تبارك اسمه يزيد القضية تأكيداً في السورة الأولى يطلب إلى نبيه صلى الله عليه وسلم عدم إطاعة هؤلاء الناس، وفي السورة الثانية ودون إمهال ودون وقت طويل يقول له: (فلا تطع المكذبين) إذاً فمن البديهي أن في الأمر شيئاً علينا أن ندركه لا بد أن هذا النهي يحمل خصيصة من خصائص هذه الدعوة وخليقة من الخلائق التي يجب أن تتبناها هذه الأمة، فما هو هذا الشيء؟
لا يكفي يا إخوة أن نمر على الآية ندرج في قراءتها درجاً، هذا القرآن شفاءٌ لما في الصدور وإضاءة للمسالك وصور ومعالم على الطريق لا يفيد منه إلا الذين يفكرون فيه طويلاً، والكلام الذي بين أيديكم تقرءونه كلام الله فيه الإشارة إلى كل ما بالناس حاجة إليه.
لماذا ينهى الله جل وعلا عن طاعة هؤلاء الناس؟
ما ضرَّ لو أن الناس إذ تختلف مشاربهم، وتتفرق بهم السبل، وتتباين آراؤهم، وتفترق مذاهبهم، ما ضرَّ لو اجتمعوا على أرض مشتركة واتفقوا على سبيل وسط، أتنازل أنا شيئاً ما وتتنازل أنت شيئاً ما ونصل إلى اتفاق وتفاهم، ثم نسير بعد ذلك على ضوء هذا الذي اتفقنا عليه.
كلام في الظاهر جميل، وأي شيء أحسن من أن يصل الناس إلى توحيد كلمتهم؛ لكن زيدوا الأمر تفكيراً تجدوا أولاً أن هذه الدعوة ليست لأمة بعينها من الناس وإنما هي للناس عامة وليست للحظة زمنية في التاريخ وإنما هي لأبد الأبد، وأن الاتفاق والتفاهم إذا بني على الخطأ ثم سار بإرادة الناس سنة وسنتين أو عشراً. فإن جراثيم الخطأ سوف تفجر المجتمعات الإنسانية فإذا هي تفتش عن وحدة الرأي فلا تجد إليها سبيلاً، لا شك أن وحدة الآراء مطلوبة، ولكن في ظل الحقيقة، أما تحت راية الباطل فالمسألة لا تعدو أن تكون تدعيماً للباطل، ومداً في أجل وعمر هذا الباطل، والإسلام ما جاء ليخدم الباطل وإنما جاء ليجتث الباطل من جذوره.
(بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون).
هذه القضية لا بد أن نزيدها بياناً آخر، هؤلاء الذين واجهوا محمداً صلى الله عليه وسلم بالصد وبالتكذيب جاءهم بالنور فرفضوا أن يأخذوا بأسباب هذا النور عمّا كانوا يدافعون؟ وبأي شيء كانوا يتمسكون؟ ما الذي بين أيديهم؟ كتاب من السماء؟ لا إذاً كانت هناك مواضعات وأعراف وعادات واتفاقات أعطاها حكم الاستمرار مناعة وقوة ورضىً وتسليماً بين أربابها من الناس، من أين جاءت؟! لم تأت بوحي من السماء إنما جاءت بالتفكير البشري المجرد.(/1)
كل تفكير بشري مبتوت الصلة مقطوع السبب بهداية السماء فهو بلا أدنى نقاش تعبير عن مصلحة ما لجهة ما، هذا شيء مقطوع به وقد فرغ فقهاء السياسة منذ القديم من تقرير هذه المسألة، ومعضلة المجتمعات البشرية كيف يمكن أن تخطط وأن تنظم بحيث تضمن لكل إنسان كل ما يحتاج إليه على الصعيد المادي أو على الصعيد المعنوي، منذ بدأ الإنسان يفكر وهو يواجه هذه المشكلة بكل عنفها، وبكل حدتها ومن أسف ما استطاعت الإنسانية أن تصل حتى الآن إلى حل لهذه المشكلة لسبب بسيط وهو -هذا الذي قلناه لكم- كل تفكير بشري وكل تنجيز بشري فإنما هو تعبير عن مصلحة طائفة من الناس وهو بحكم تكوينه عاجز عن أن يلبي مصالح طوائف الناس جميعاً.
من هنا وجدنا التفكير البشري قاصراً من حيث قدرته على الشمول فهل فهمت ما أعني؟ هذه واحدة صفوها على جنب، شيء آخر أنا إنسان وأنت إنسان والآخر إنسان والآخر إنسان... حينما أتصدر وأدعي لنفسي الحق في وضع التشريعات والمناهج والنظم للمجتمع وللناس فادعائي ليس له من المبررات أكثر من المبررات التي تحملها أنت؛ نحن جميعاً باعتبارنا بشراً كل واحد منا مبرر من قبل نفسه على ذات الهيئة وبنفس الدرجة وبنفس الشدة التي يبررها الآخر والآخر والآخر، ما عندي من المبررات والمسوغات أكثر مما عندك، كلنا نقف على صعيد مشترك في هذا الباب فادعاء أحد المخلوقين أو ادعاء طائفة من الناس الحق في أن تشرع وتنهج وتنظم للناس؛ ادعاء له ما يُرَدُّ عليه بنفس القوة، وبنفس المسوغ، ومعلوم في قضية العقل أن المبررات وأن الحجج إذا تكافأت تهاترت، يعني تساقطت، حينما تكون حجتي مساوية لحجتك فالمنطق وبديهة العقل يقضيان بسقوط حجتي وسقوط حجتك جميعا،ً لا بد أن يكون في أحد الطرفين ما يرجحه على الآخر.
أما من حيث المجهود البشري فالناس كلهم أسواء، لا يمتاز أحد عن أحد من حيث الطاقة العقلية والقدرة على استشفاف الحاجات القريبة، من هنا كان دفاع المكذبين عن معتقداتهم وعن عاداتهم دفاعاً عن شيء قاصر لا يمكن أن ينتج ولا يمكن أن يوصل إلى لون من ألوان الاستقرار حينما توضع القضية بهذا الشكل، وأظن أنني صورتها على نحو بسيط مع علمي بمدى تعقيد هذه المسألة.
أظن حينما نستحضر المسألة بهذا الشكل، ونضع الإسلام بحقائقه وباستحضارنا لمصدره نجد أن الوفاق بين الإسلام وبين أي منهج أرضي وبشري أمر مستحيل، ولنفترض جدلاً أن وفاقاً ما حصل بين مبادئ الإسلام وبين منهج ما من المناهج البشرية فلا شك أن النتيجة المقررة التي لا جدال حولها ولا نقاش فيها أن الطرف الخاسر في هذا الوفاق هو طرف الإسلام، ارجعوا بأذهانكم إلى تاريخ اليهودية والنصرانية وهما الديانتان اللتان سبقتا هذا الإسلام، وجدتا نفسيهما في لحظة زمنية معينة مضطرتين ومرغمتين على مسايرة التيارات الجارفة من حولهما؛ بل وجد تجارهما والمتحدثون باسمهما أن مصالحهم ستدمر إذا لم يضعوا أيديهم في أيدي السلطات الحاكمة من الرومان وأشباه الرومان؛ من الذي استفاد..؟ واستفاد الرومان واستفاد المنهج البشر وخسرت اليهودية وخسرت المسيحية.
لم يبق في يد اليهود من اليهودية الأولى إلا حفنة خرافات، ولم يبق من النصرانية في يد النصارى إلا حفنة خرافات، وإلا رواسب من رواسب الوثنية، وازدهرت الدولة الرومانية على أنقاض المسيحية المهدمة وعلى أنقاض اليهودية المهدمة أيضاً، وتسلسل هذا الازدهار...
ودول أوربا وأمريكا وسائر الدول الأخرى تنعم الآن بالخير والازدهار على أشلاء الديانات السابقة فلا مجال لأي وفاق؛ وليعذرنا هؤلاء الذين يتهموننا بالتصلب؛ الأمر ليس بأيدينا ونحن لا نستطيع أن نعطي من الإسلام شيئاً، ولو أردنا أن نعطي من الإسلام حرفاً واحداً لتجار الدنيا وأبناء الدنيا لبقي الإسلام سليماً هناك ونُبذْنا نحن مع الكلاب وأشباه الكلاب...
هذا الإسلام لا يمكن أن يقبل الاشتراك، ومن هنا كان تأكيد الله جل وعلا على محمد صلوات الله عليه من بداية الطريق بقوله له: لك طريق ولهم طريق، ولا تطعهم ولا تلتفت إليهم؛ منذ متى؟.. منذ البداية منذ أول حرف نزل في القرآن ماذا قال الله قال في أول حرف:
(اقرأ باسم ربك الذي خلق).
هنا وُضعت نقطة الافتراق بين الإسلام وبين كل ما شهدته الدنيا.
في الإسلام كل شيء باسم الله وعلى رضوان الله ووفقاً لمنهج الله.
وفي الدنيا كل شيء خادم لشهوات النفوس وأغراضها وأطماعها.
ومع المسيرة. مع التحرك الإسلامي العظيم تزداد زاوية الانفراج لكي لا تُبقي أي مجال للالتقاء بين هذا الإسلام بطهره وبنقائه وبعدله وباستقامته وبأخلاقياته الرائعة، وبين أبناء الدنيا الذين يتمرغون في أوحالها وفي آثامها.(/2)
من هنا نجد أن حقاً أن يقول الله جل وعلا: (فلا تطع المكذبين) هؤلاء الذين واجهوك بالتكذيب لا تطعهم، أعرض عنهم، خذ طريقك، ودعهم يأخذوا طريقهم. لكن هل يكفي هذا التوجيه ربما يخيل للإنسان في بعض الأحيان حالة ضعف أو ما يشبه الضعف وأمام بعض الأشخاص من الذين يتميزون بنعومة الملمس، وطراوة اللسان، وطيب الكلام، ربما يخيل إلي أن من الممكن أن أتفق أنا وهذا الإنسان، أو أنا وهذه الجهة لا كذلك لا، احذر، الله جل وعلا جاء إلى خفايا قلوب المشركين فكشفها لرسوله صلى الله عليه وسلم لكي يقرأ الشاشة واضحة أمام عينيه قال:
ودوا -يعني المشركين- لو تدهن فيدهنون.
إذا لم يكن بد من أن تكون طائعاً لهؤلاء المكذبين منساقاً في الطريق الذي يريدون فللمكذبين أغراض وأطماع فيك غير هذا مما هي رغبتهم في أن تدهن في دين الله.. الادهان ما معناه؟ الادهان في اللغة يقع على حقيقة واحدة ولكنها تختلف عمقاً وشدة لاحظوا من خلال الآيات يقول الله جل وعلا خطاباً لنبيه صلوات الله عليه:
(ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً، إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً)، ما معنى الركون؟ إذاً الركون: الاطمئنان وافتراض حسن الظن عند الجهة المقابلة؛ افتراض طيب العنصر في الخصم والعدو لكن الله جل وعلا ثبت نبيه صلى الله عليه وسلم، وعصمه عن أن يركن إلى هؤلاء الناس ويخاطب الله جل وعلا جماعة المؤمنين من هذه الزاوية بالذات فيقول لهم:
(ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من ناصرين).
مجرد الركون ماذا يعني؟ أنا أريد أن أطمئن من جانبك هل في هذا خطر؟ نعم.. هذا الإسلام توتر توتر مستمر.
لمجرد ما أشعر بالطمأنينة من جانب أعدائي؛ تخف شدة التوتر. ينعكس هذا على العجز، فإذا المسلم الذي كان يستطيع أن يقابل عشرة من الأعداء لا يقابل اثنين. إذاً فمجرد الركون يهبط بالطاقة الإسلامية إلى درجات، يحرص الإسلام على أن يرفع أبناءه عنها.
أيضاً يقول الله جل وعلا:
(ولو تقوَّلَ علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين).
هذا التقول أيضاً من جملة الادهان. لماذا؟ لأن الادهان في اللغة هو الضعف والخيانة، تقول داهن فلان في دينه أي أنه أظهر خلاف ما يضمر أو ضعف فلم يستطع أن يواصل الطريق، أو اعتدى على الحقيقة الشرعية فَحرَّفها وتَقَوَّلَ شيئاً لم يأذن به الله جل وعلا، فالادهان إذاً حقيقة واحدة لكنه يبدأ من همّ القلب بالركون إلى الخصم لينتهي في الآخر إلى الجرأة على تحريف كلام الله جل وعلا كل هذا يُسمَّى ادهاناً.
ماذا يريد منك أعداؤك؟ لو فرضنا أن خصوم الأمة يئسوا من أن يجعلوا الأمة تسير في الطريق الذي يخطه الأعداء! فأي شيء يريدون من الأمة، أن تدهن في دينها أن تضعف أن تحاول تطوير دينها بحيث يتلاقى في المستقبل مع ما يريد الأعداء، أو بالأحرى أن تحاول تجديد حياتها وتطوير حياتها بحيث تتزحزح عن القاعدة التي وضعها الله جل وعلا عليها.. هل هذا الداء مقصور على المشركين الذين واجهوا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ كلا يجب أن تعلموا وبكل جلاء وبكل وضوح أنه في نهاية القرن الماضي، وفي فواتح هذا القرن جندت الصليبية العالمية وجندت اليهودية العالمية زبانيتها وثبتتهم في ديار الإسلام محاولين إخراج المسلمين عن دينهم محاولين أن يجعلوهم يدهنون في هذا الدين، والله جل وعلا قد كشف خباءهم منذ القديم فقال مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم:
(ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير).
هؤلاء الناس بتياراتهم العنيفة الكاسحة توجهوا نحو هذه الأمة لكي يجعلوها تدهن وقد أفلحوا مع الأسف إلى حد بعيد، خَرَّجوا من تحت أيديهم أجيالاً أعدوها منذ القديم لتكون يوماً ما قائدة المجتمعات الإسلامية يئسوا من أن ينصِّروا المسلمين أو يهوِّدوهم لكنهم ما يئسوا من زحزحة المسلمين عن عقائدهم كانت قولتهم التي تردد باستمرار. ما لم يجعل المسلمين يأخذون بأسباب الحضارة الغربية ويفكرون على نحو ما يفكر الإنسان الغربي فسوف يبقى المسلمون شوكة في جنوب دول النصرانية أو اليهودية.(/3)
ولقد ذهب هذا الرعيل الفاسد، لكن بقاياهم، لكن غرسهم، أينع فوجدت طوائف من الناس لا تكاد تقع تحت عدد ولا حصر. أخذت على عاتقها إكمال المهمة القذرة التي قام على التخطيط والتنفيذ فيها دهاقنة اليهود والنصارى، ووجدنا العالم الإسلام في كل قطر من أقطاره مع شديد الحزن والأسف يتخبط تحت النير الذي صنعه الأعداء، انظروا أية تيارات تحكم مجتمعات المسلمين، أفيها رائحة من روائح الإيمان لا. أية أصوات تردد عالية أهي أصوات المسلمين لا، يجب أن نقرر الحقائق بمرارتها، إن الأصوات المنكرة التي تردد في جنبات عالم المسلمين من جاكرتا وإلى الدار البيضاء هي أصوات معادية أساساً ونشأة وتربية لحقائق الإسلام ولمستقبل هذه الأمة ولمصير الأجيال التي تأتي لأنها أجيال وأصوات تربت ولم تستنشق إلا عفونة الاستعمار وإلا خبث الصليبية واليهودية.
أي شيء في مجتمعنا تشعر معه بالصداقة للإسلام، الأصوات التي ترتفع من الأجيال الصاعدة التي تظن في أنفسها الخير؟ أصوات تتهم المسلمين بالخمول وبالرجعية؟ بلى وإن التفاهة لتبلغ بها، وإن قلة العقل لتقودها، إلى أن تتهم المسلمين بالخيانة والعمالة ولعمري حين يخون المسلمون لا يبقى على وجه الأرض إنسان إلا ما هو أوسخ من الخونة.
إن المسلمين اليوم عرضة للاتهام كيف نشأ هذا يجب أن نتساءل ويجب أن نكون رجالاً يواجهون الحقائق على مرارتها، إن هذا لم ينشأ اعتباطاً إنه بداية الادهان في دين الله تبارك وتعالى وقعتُ تحت ضَغْطٍ وَلمْ أَصْمدْ؛ فوجدت نفسي مضطراً إلى الادهان وأنا عالم مع الأسف أو، هكذا يظن الناس فيّ، فمددت اليد عن اليمين وعن الشمال، الناس ينظرون إلي فيقولون: إذا كان رب البيت بالطبل ضارباً إذا كانت رؤوس المسلمين تمد في حبل الادهان في دين الله فماذا على العوام لو فعلت ذلك؟ ومن هنا فقدت الثقة تماماً برجالات الإسلام وبعلماء المسلمين ألم تسمعوا قادة الفكر في العالم الإسلامي الذي يفترض فيهم أن يكونوا حراس العقيدة وأن يكونوا الذائدين عن حياض الأمة وأن يكونوا المبينين لحقائق الإسلامي.
ألم تسمعوهم في الصباح وفي المساء وفي ما بين ذلك لا همَّ لهم إلا إصدار الفتاوى وإصدار المسوغات والاجتهادات تبرر الأوضاع الظالمة والجائرة ولا تستحي ولا تخجل حينما تضطر إلى أن تلحس اليوم ما سبق أن كتبته بالأمس، هذا الادهان الذي هو نقيض الصلابة في دين الله جل وعلا، عرفتم الادهان ما هو؟
ماذا يريد المشركون من رسول الله، شيئاً من الليونة في الموقف يا أخانا تعال نعبد إلهك يوماً واعبد إلهنا أنت يوماً ونكون متفقين، أنزل الله جل وعلا:
(قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد ما عبدتم، ولا أنتم عابدون ما أعبد، لكم دينكم ولي دين).
غاية ما طلبه المشركون من رسول الله أن يكون أكثر ليونة أن يكون أكثر ترفقاً بقومه ماذا يريد؟ جاؤوه مرات فقالوا:
يا محمد: إنه لم يأت أحد من الناس قومه بمثل ما جئت به، فرّقتَ جماعتهم، وسفهت أحلامهم، وضللت آباءهم فماذا تريد؟ إن كنت تريد مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد نساءً زوجناك من شئت من نسائنا، وإن كنت تريد مجداً وسؤدداً وسيادة توجناك علينا فلا نقطع أمراً دونك فماذا بعد ذلك؟
من كل طريق جاءوه ولو كان بشراً عادياً فماذا يريد الإنسان أكثر من السيادة في هذه الدنيا وأكثر من الاستمتاع بالطيبات وهذه كلها وفرها المشركون لرسول الله ووضعوها بين يديه لكنه محمد؛ لكنه رسول الله؛ لكنه المؤيد بالوحي الذي تتنزل عليه آيات ربه تثبته على الصراط السوي، وعلى الطريق المستقيم.
(فلا تطع المكذبين ودُّوا لو تدهن فيدهنون).
ثم كشفت الآيات نمطاً آخر يكثر في السابق وفي اللاحق قال: ولا تطع كل حلاف.. والحلاف هو كثير الحلف، مهين والمَهْيِن هو المحتقر والذليل، ولماذا وصف الحلاف بأنه مهين، الإنسان الصادق بالعادة لا يحتاج إلى شد كلامه وتدعيمه وتقويته بالاَيْمَان يقول كذا هو كذا ما في داعي ليمين ولا لأي شيء؛ لكن المفطور على الكذب دائماً تجده مع كل كلمة يلفظ بيمين فالحلاف إذاً يتضمن معنى الكذاب المحتاج إلى أن يشد كلامه ويرفده بالأيمان الكاذبة، من هنا كان مهيناً، (ولا تطع كل حلاف مهين، هماز) والهماز هو الذي يكثر من عيب الناس والطعن عليهم (هماز مشاء بنميم) يعني يمشي بالنميمة بين الناس، والله جل وعلا ذَمَّ هؤلاء فقال:
(ويل لكل همزة لمزة الذي جمع مالاً وعدده).
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لعن الله المشائين بالنميمة المفرقين بين الأحبة".
(ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم).(/4)
يقال في أسباب النزول: إن هذه الآية (مناع للخير) نزلت في ِشأن الوليد بن المغيرة كان له أولاد كثيرون وهددهم أنكم إن تبعتم محمداً وشايعتموه على دينه فسوف أمنع عنكم رفدي وخيري فنزلت الآية واصفة إياه بأنه مناع للخير، لكَنَّ الأَوْجَه أن الآية عامة فالذي يمنع معروفه عن الآخرين فهو مناع عن الخير، والذي يصد عن سبيل الهدى ويصد عن الإسلام مناع للخير، لماذا؟ لأنه لا خير أعظم من أن يتفيأ الناس كلهم ظلال الإسلام.
(مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم).
والعتل: هو الإنسان القاسي الطبع الغليظ وكذلك من معانيه الأكول الشروب الضخم الجثة فهو بلفظه عتل حينما تلفظ هذه اللفظة تشعر بأنك تعبر عن شي غليظ، شيء ثقيل على النفس، (عتل بعد ذلك) يعني بعد كل هذه الأوصاف (زنيم) والزنيم هو المشهور بالشر والفساد، والزنيم في كلام العرب أيضاً هو ولد الزنى وسواء كان هذا أو هذا أو هذا فالعرب تعتبر ابن الزنى أسوأ الناس جميعاً، (عتل بعد ذلك زنيم) لماذا كل هذه الأوصاف؟ دعوا القرآن أمام أعينكم؛ (أن كان ذا مال وبنين) اربطوا في سورة العلق قال الله جل وعلا:
(كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى).
فشعور الإنسان بالاستغناء سواء كان بالجاه والمنصب، أو كان بالمال والنسب، أو كان بالأولاد والأتباع، شعورٌ من شأنه أن يصد عن الهدى ويصرف عن الحق، فالله جل وعلا يوم شرح أوضاع هؤلاء الناس قال: إنه كان بهذه الأوصاف لأنه كان ذا مال وبنين فهو إذاً في حالة يشعر معها بالاستغناء عن الله ويشعر معها بالاستغناء عن هذه الحقيقة الكبيرة العظيمة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم.
لاحظتم هذا الترابط بين آيات السور المتكررة، نحن في سياق حركة في سياق دعوة فما لم نلتفت إلى الطرائق التي تولى الله جل وعلا بها بناء هذه الأمة فلا يمكن أن نستفيد من هذا القرآن شيئاً.
تصوَّري أن هذا يكفي إلى هنا وسوف نرجئ إلى الجمعة القادمة الحديث عن بقية السورة آملين أن تفعل في نفوسنا هذه الآيات القلائل قريباً مما كانت تفعل في نفس النبي صلى الله عليه وآله وفي نفوس أصحابه الذين تليت عليهم.. أن تقفنا على صراط الله وقفة الرجال الذين لا تستخفهم الشهوة ولا يؤثر عليهم الضغط وفاؤهم كله لله، وقوفهم كله مع شريعة الله، المال يذهب، الأولاد يذهبون، الجاه يذهب وتذهب أشياء، الدنيا كلها تبيد وتزول ويبقى الله، ويبقى الذكر الحسن، يقال فلان كان مستقيماً فلان كان كذا يذكره الأولون ويذكره الآخرون ويذكره الله جل وعلا في ملأ خير من هذا الملأ فادعوا الله أن تكونوا من الشهداء الذين يشهدون على صحة هذا الدين بعقائدهم المستقيمة وبأخلاقهم النبيلة وبطرائق تفكيرهم النيرة، وبوقوفهم المطلق مع الله جل وعلا وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وآله وأصحابه أجمعين والحمد لله رب العالمين.
وبدأت أتخلي عن الإعجاب
وبدأت أتخلي عن الإعجاب وبدأت أتخلي عن الإعجاب وبدأت أتخلي عن الإعجاب وبدأت أتخلي عن الإعجاب(/5)
سورة القلم (3)
الجمعة 29 من شعبان 1395هـ5 من أيلول 1975 الحلقة الثامنة
العلامة محمود مشّوح
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول الله جل وعلا بعد الآيات التي تلوتها في الجمعة الماضية:
)إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنّها مصبحين ولا يستثنون، فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم فتنادوا مصبحين أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين، فانطلقوا وهم يتخافتون أن لا يدخلنّها اليوم عليكم مسكين وغدوا على حردٍ قادرين فلما رأوها قالوا إنا لضالون بل نحن محرومون قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبّحون قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون قالوا يا ويلنا إنا كنّا طاغين. عسى ربّنا أن يبدلنا خيراً منها، إنا إلى ربنا راغبون. كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون(.
هذه الآيات تليت على مسامع النبي صلى الله عليه وسلم فأدرك معناها، وتلاها النبي صلى الله عليه وسلم على مسامع المسلمين فعرفوا مراد الله منها، وتلاها على المشركين من أهل مكة فكانت استجابة المشركين على المعهود من جميع المعاندين والفاسقين قلما يتفطن الإنسان إلى مكامن الخطر، وهو ينعم في بحبوبة العيش ورغد الحياة، قلما يستطيع الإنسان أن يستشف نذر الخطر وهو يشعر بالدعة وبالأمن وبالطمأنينة.
ساق الله لأهل مكة المعاندين هذه القصة التي أفترض أنها كانت معروفة ومتداولة بين العرب، قصة رجل له جنة أي بستان فيه من الأثمار وفيه من المحاصيل الشيء الكثير، وكان صاحب الجنة رجلاً صالحاً عارفاً بحق المجتمع عليه، فكان إذا حضر الحصاد أو صرام النخل أو جني الثمر عرف للفقراء حقهم في نعمة الله التي ابتلاه بها فيأخذ من ثمر الجنة ثم يترك للمساكين سائر ما تبقّى، ومضى ذلك دأبه ما يأتي موسم جني وحصاد إلا يدع للمساكين نصيباً معلوماً ومجزياً فكان بعمله هذا قرير العين راضي النفس مطمئن القلب إلى أنه يعطي حق الله جل وعلا لعباد الله وخير الناس أنفع الناس لعباد الله، وكان الفقراء معه كذلك شاكرين ممتنين يدعون له بالنماء والبركة.
ولما حضرته الوفاة استعجل وراثه وضع أيديهم على تركة أبيهم ولكنهم كانوا طرازاً آخر كانوا من الذين يعتدون ويظلمون، وكانوا من الذين يجمعون ويكنزون، وكانوا من الذين يذكرون أنفسهم وينسون عباد الله فما إن انتقل أبوهم ومورثهم إلى جوار ربه حتى انطلقوا نحو الجنة نحو البستان يريدون أن يجنوا ثمره وأن يجمعوا محصوله في عتمة الليل قبل أن يفطن المساكين والفقراء إلى همهم وإلى نيتهم فيلحقوا بهم.
ليلاً يذهبون إلى الجنة ويبالغون في إخفاء مرادهم فهم يتحدثون وهم منطلقون نحو الجنة ولكن لا حديث الجهر المنبعث عن الأمن والاطمئنان ولكن حديث السر والمخافتة المنبعث عن الريبة وعدم الرغبة في إعلام الفقراء بمسيرهم إلى الجنة، فانطلقوا وهم يتخافتون أي يهمس بعضهم لبعض بماذا يتخافتون بماذا يهمسون أن لا يدخلنّها اليوم عليهم مسكين، وفائدة النص بقوله جل وعلا –اليوم- أن لا يدخلنها –اليوم- للتفريق بين نيتين وهمَّين وإرادتين، بين نمطين من السلوك نمط الأب الذي كان يجمع المحصول نهاراً ويبعث في طلب الفقراء والمعوزين والمساكين ليشتركوا معه في جني خيرات الله جل وعلا التي بثها على الأرض بلاءً ومحنة واختباراً ليبلو الناس أيشكرون أم يكفرون.
(ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني حميد)
هَمُّ الوالد ونيته شيء، وهمُّ ورثته.. أبنائه.. شيء آخر..
هنا اليوم- اختلف الحال وتبدلت النوايا وأصبح هناك خاطر متعمد هو خاطر العدوان على حق المجتمع في الثروات الموضوعة بين أيدي الناس ماذا كانت العواقب؟
(فانطلقوا وهم يتخافتون أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين وغدوا على حرد قادرين) الحرد بقطع النظر عن بعض التأويلات التي لا تساعد عليها حقائق اللغة ولا يؤازرها السياق.. الحرد: في لغة العرب التي نزل بها القرآن هو أشد المنع وأعنفه وأغلظه وأقساه؛ (غدوا على حرد قادرين) امتلؤوا، امتلأت نفوسهم وقلوبهم، بهذه النية الخبيثة نية منع الفقراء حقوقهم التي قررها لهم الباري جل وعلا في الأموال التي بين أيدي الناس.(/1)
فلما رأوها - وقد شارفوا الوصول إلى جنتهم؛ بلغوا حدود بستان أبيهم، ولعمري إن خواطر من الزهو والطرب، وخواطر أخرى من الكزازة والجشع والبخل لتتلعب بهذه القلوب التي أقبلت تريد أن تضع يدها على مال المورث؛ فلما رأوها عجبوا... عهدهم بجنتهم خضراء يانعة، أثمارها تتدلى أشجارها باسقة، نوَرْهُا فاقع، فما بالهم ينكرون مرآة هذه الجنة ويستغربون المنظر، الذي هجموا عليه، (فلما رأوها قالوا إنا لضالون) أي أضعنا طريقنا وليست هذه الجنة هي الجنة التي ورثناها عن أبينا؛ لكنهم استدركوا وعرفوا الأمر الواقع، عرفوا أن الله جل وعلا قلب عليهم مرادهم، وعكس عليهم نيتهم، نية الحرمان التي كانوا يضمرونها للفقراء؛ انقلبت حرماناً عليهم هم، (فلما رأوها قالوا: إنّا لضالون) -واستدركوا فقالوا: (بل نحن محرومون) - حرمنا خير الجنة التي كنا نُمنِي أنفسنا منها بالجنى الطيب، وبالخير الكثير، (قال أوسطهم -أعدلهم طريقة- ألم أقل لكم لولا تسبّحون) كان يأمرهم في بعض الأحيان بأن ينيبوا إلى الله وأن يخففوا من نوازع الجشع والطمع والكزازة والبخل في بعض الأحيان.
ولَكِنْ هنا –دقيقة- لابد من كشفها والتنبه إليها؛ لأنها تمثل القانون العام الذي يحمي الأفراد والمجتمعات، هذا الذي هو أوسطهم وأعدلهم وخيرهم والذي كان بين الآن والآن يأمرهم بفعل الخير، وينهاهم عن خاطرة السوء، وارث كهيئتهم له نصيب في جنة المورث كأنصباء الباقين، ومع ذلك فحين نزل البلاء دمر عليهم نصيب الفاجر ونصيب البر، على حد سواء؛ لماذا هل في ميزان الله جور وحيف، أم أن ذلك يمشي وفاقاً لقانون العدل الذي قامت به السماوات والأرض إن ذلك هو محض العدل، لسبب بسيط، إن الإنسان العدل الخيّر التقي النقي مأمور، بأن يأمر وينهى، يأمر بالبر والمعروف وينهى عن الشر والمنكر، ولكن هذا الأمر وهذا النهي يجب أن يكون تعبيراً عن إرادة وعن سلوك؛ لا كلمة تنطلق من اللسان؛ فهذا الوارث الطيب الذي أمر بالبر والمرحمة أصابته الجائحة كما أصابت سائر إخوانه لأنه أمر ونهى، ولكنه رضي أن يبقى ملابساً للقوم الظالمين وربما في بعض الأحيان، رضي ببعض حالهم وهنا الخطر الكبير الخطر الماحق، لابد في ميدان الحق والباطل من أن يحكم الأمر كله القانون الأساسي لهذا الصراع.
لهذا الصراع، لابد من تمايز المعسكرين؛ لمجرد أن يرضى الحق بمعايشة الباطل وأن يستنيم تحت كنفه؛ فلابد من أن يدمر لا ريب ولا شك ولا شبه. النبي صلى الله عليه وسلم وآله فيما روت عائشة رضوان الله عليها قالت:
"يغزو جيش الكعبة وذلك من آخر الزمان حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بأولهم وآخرهم. قالت عائشة رضي الله عنها يا رسول الله يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم، يعني خدمهم وعبيدهم ومن ليس منهم، أناس صحبوهم في الطريق.
قال يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتهم".
إن لم يعمد أهل الحق إلى عزل أنفسهم عن معسكر الباطل؛ فالعذاب الواقع على المبطلين حالٌّ بهم لا محالة، وأما الحساب الأكبر فعند الله تبارك وتعالى هو يعلم النوايا وهو يرسل بهؤلاء إلى الجنة، وبأولئك إلى الجحيم، أما هنا فالله جل وعلا يقول:
(واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب).
هذا الرجل قال لهم (لولا تسبّحون) اذكروا الله وذكرهم لله يتمثل في معرفة المنعم تبارك وتعالى وفي أداء الحق المفروض إلى أرباب الحقوق ومع ذلك رضي أن يؤاكلهم وأن يشاربهم وأن يساكنهم فَحَلَّ به ما حل بإخوانه والنبي عليه الصلاة والسلام يُحَّذِر من هذا السلوك الملتوي الذي قد يتصور بعض الناس في بعض الأحيان أنه ينجي فيقول:
"إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أن الرجل كان يأتي فيجد القوم فيهم مقيمين على المعصية فيقول يا هذا يا هؤلاء اتق الله وذر ما أنت عليه فإنه لا يَحِلُّ لك، ثم لما مضى قليل زمان وآكلوهم وشاربوهم ونكحوا إليهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم ثم تلا قول الله جل اسمه (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون).
الله جل وعلا حين وضع هذه الواقعة أمام قريش وأمام النبي صلى الله عليه وسلم وأمام.. كانت قصة تتلى.. لا ليذوقها.. ذواقو الأدب، وإنما سيقت للموعظة وللذكرى:
(وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبّت به فؤادك).
وقصص الماضين عموماً سيقت في القرآن ليتعظ المؤمنون، لأن الناس أسواء يجري عليهم قانون واحد والله جل وعلا رب الكل لا يحابي أمة ولا يجامل شعباً على حساب شعب وإنما يجري الناس كلهم على سياق واحد، فالأمم الماضية التي جاءتنا في القرآن أقاصيصها جاءت لكي نقرأها ونتعظ بها ونتدبر معانيها لنعرف من أين أتيتْ هذه الأمم فأُهلكت، وأبيدتْ لنتجنب مواطن ذلك ولنعرف كيف قويت هذه الأمم ونمت وازدهرت لنستمسك بأسباب القوة والنماء والازدهار.(/2)
أصحاب الجنة هؤلاء، بين أيديهم خير من خير الله جل وعلا، خير الله جل وعلا مائدة ممدودة، نعمة الله غطت البر والفاجر وابن آدم والحيوان وكل ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما؛ الكل يتقلبون في نعمة الله جل وعلا وفضله، هل نحن الذين صنعنا النعمة لأنفسنا أو للآخرين، أم الله هو الذي مدَّ لنا هذه المائدة..! ما صنعنا نحن شيئاً، ما خلقنا السماوات ولا خلقنا الأرض ولا أجرينا الأنهار ولا أنبتنا الأشجار ولا حملناها بالأثمار؛ ذلك كله صنع الله الذي أتقن كل شيء هذه النعم كما أنها من عند الله، فالله جل وعلا قادر على سحب نعمته من بين أيدي الناس في اللحظة التي يشاء وعلى الطريقة التي يختارها الله جل وعلا.
النعمة.. بماذا تدوم؟ بشكر الله جل وعلا وبمعرفة حق الله تبارك وتعالى في هذه النعمة وقبل ذلك وبعد ذلك بطاعة الله المتمثلة في العقيدة الصادقة المستقيمة لاحظوا.. الكفار والمنافقون وعبدة الأوثان وفسقة المسلمين، بين أيديهم نعم، يخيّل للرائي، وهم يرونهم يصنعون المبرات وينفقون النفقات الكثيرة، يرون أنهم يفعلون خيراً ويفعلون معروفاً وأنهم من أجل ذلك وبناءً على ذلك حقيقون، بالشكران والعرفان وبأن الله إن لم يعرف لهم فضلهم هذا فقد جار وظلم تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، ولكن هل هذا صحيح؟ لا. إن الله جل وعلا لا يقبل من الفاسق شيئاً ولا يقبل من الكافر شيئاً ولا يقبل من المعاند شيئاً. يقول الله جل اسمه:
(وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً).
لو أن الكفار والمنافقين والفاسقين أنفقوا ملء الأرض ذهباً ما تقبّل منهم أبداً. بلى إن نفقاتهم لتكون عليهم حسرة يوم القيامة؛ وإن قائلهم ليقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً فلابد من العقيدة الصادقة المستقيمة قبل أي شيء وبعد أي شيء وبعد ذلك يأتي دور المجتمع وتأتي حقوق الناس هؤلاء أصحاب الجنة ما ندري لعل عقيدتهم زاغت فعوقبوا بمثل هذا العقاب ولكنهم في أي حال لاقوا جزاء النية السيئة نية الحرمان للفقراء والعدوان على حق المجتمع بأن دمر الله على جنتهم فأصبحت كالصريم يعني كالليل المظلم أصبحت سوداء محترقة طاف عليها طائف من أمر ربك الذي له جنود السماوات والأرض فإذا الخضرة اليافعة تنقلب إلى سواد كالليل البهيم.
لماذا؟ لأنهم نسوا شكر الله، ونسوا حق المجتمع عليهم، وكذلك كل إنسان وكل أمة خولت من نعم الله نعمة إن لم تحصنها بالشكر والعرفان وإن لم تؤسس شكرها هذا وعرفانها على إيمان سليم بالله جل وعلا فأمرها لاشك إلى فناء وإلى دمار لابد من ذلك.
لماذا وضعت هذه الحقيقة أمام المؤمنين؟ لكي يتعظوا لكي يعلموا أن هذا الخير العميم الذي جاءهم به الله بطريق محمد صلوات الله عليه إن لم يقوموا عليه بالشكر وبالعرفان وبالتآزر والتكاتف وبالذود عنه والمحافظة عليه فإن الله جل وعلا قادر على أن يسحب نعمته من بين أيديهم، وقادر على أن ينزع منه شرف الانتماء إلى هذه الدعوة، وقادر على أن يلقي العبء كله على عاتق أمة أخرى، فخلق الله عظيم وواسع وخلق الله كثير والله جل وعلا ما به من حاجة إلى أحد من الخلق وكذلك قيلت هذه القصة للمشركين ليدركوا أن الله وضعهم في بلد تموج من حوله أمواج الرمال السافيات، وتنصب عليه أشعة الشمس كالحمم اللاهب، وَتَنْبَثُ من حواليه قبائل هي لصوص الصحراء، تصطو وتغزو وتنهب وتسلب.. كل شيء، في الصحراء ثمين، إلا هذا الإنسان، ما أرخص الإنسان في صحراء الجزيرة العربية التي ينطق بل تنطق كل ذرة رمل فيها بالبؤس والمسغبة، وبالشدة وبالقسوة رماهم في تلك الصحراء في بلد يجبى إليه ثمرات كل شيء بلد وسط تمرُّ به القوافل الجائية من الشمال ذاهبة إلى الجنوب، وتمر به القوافل الجائية من الجنوب آخذة نحو الشمال، وهم في ما بين ذلك ينعمون بالخرج الذي يأخذونه ويعيشون في بحبوحة من العيش.
وهم يرون أيضاً كيف أن القبائل يعدو بعضها على بعض، ويقتل بعضها بعضاً وهم في حرم الله في جوار الله آمنون مطمئنون لا يعتدى عليهم، بل تعرف العرب كلها لهم مكانهم من جوار الله جل وعلا، والله تبارك اسمه امتنّ في القرآن عليهم بهذه النعمة السابغة فقال:
(أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم).
يشملهم الرعب ويعمهم الخوف وهم وحدهم آمنون مطمئنون. أوليست هذه نعمة في بلاد كل ما فيها يخيف السالك والسابل والمقيم، بلى وهم أيضاً سماسرة التجارة من أمم العالم القديم وامتن الله عليهم بذلك فقال:
(لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا ربّ هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف).(/3)
برغم هذه النعمة فإن قبيلة قريش من العرب.. بطرت النعمة عوضاً عن أن تلفتها إلى الحقوق التي تترتب عليها.. هذه النعمة زادتها قسوة وزادتها بخلاً وزادتها شحاً وزادتها بعداً عن الله جل وعلا جاءهم هذا النبي عليه السلام في مجتمع يزداد فيه الغني غنى ويزداد فيه الفقير فقراً حتى ينسحق تحت أرجل الأغنياء والأقوياء، فدعاهم إلى المعدلة ودعاهم إلى المرحمة، فجعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا، وجاءهم يدعوهم إلى صراط الله رب النعم كلها ويدعوهم إلى منهج الله الذي اختاره للناس ليعيشوا عليه، فكفروا بنعمة الله جل وعلا، ساق لهم هذه القصة وهي قصة ما أشك أنهم يعرفونها ويتداولونها بينهم في الجاهلية ليعلمهم أن نهاية الاستهتار والبطر والقسوة والتمرد معروفة، نهايتها التدمير لابد من أن يدمر الله جل وعلا على كل أمة تنسى قانونه الذي لا يتخلف.
يا إخوتاه:
أحدنا يسيء إساءة بسيطة فيقدم إلى القضاء، واضع التشريع الذي هو المجتمع يطلب الجزاء، لمجرد أن نكون قد رضينا بالانتماء إلى المجتمع، فنحن إذاً تحملنا مسؤولية هي مسؤولية الخضوع لمقتضيات المجتمع وأوامر المجتمع، فحين نشذ وحين نخرج على هذه الأوامر فالعقوبة لابد منها هذا على الصعيد البشري القاصر، فما بالكم بالأمر حين يكون على صعيد الله جل وعلا...؟
إن الله خلق الكون ووضع له شريعة بلّغها الأنبياءُ والمرسلون، وجاءت متبلورة في نصها الكامل الشامل على لسان النبي الخاتم محمد صلوات الله وسلامه عليه، ونحن رضينا بأن نكون من جملة حملة هذه الشريعة، والمنتمين إلى هذا الإسلام، أفيبلغ هوان الشريعة على رب الشريعة منزلةً دون منزلة القانون، على صانع القانون؟ من الذي يظن هذا إلا المجنون والأبله، أفيظن العاتي والمتمرد أن الله جل وعلا سوف يَدَعه يفعلُ كيف يشاء دون أن يعرضه للعقاب الصارم؟ لا.
ذلك وهْمٌ، ذلك خطأ في التفكير بل غفلة ما بعدها غفلة، الله جل وعلا أنزل على محمد هذه الشريعة ومن جملة حقائق قوانين هذه الشريعة زبدة القصة التي قلناها لكم الآن والتي قيلت لمشركي قريش وقيلت لمسلمي ذلك الزمان أيضاً. قالت لهم بلسان الحال:
كل نعمة، سواء أكانت مادية أم كانت معنوية فلابد من أن تحاط بالشكر والعرفان، فما بين أيدينا من خيرات ومن نعم يجب أن نعرف حقوق المجتمع فيها، دون مداورة ودون محاولة لتغفل المجتمع واللعب من وراء ظهره وما بين أيدينا من نعم ومتع، فثمة أفواه جائعة لابد أن تشاركنا في هذه النعم وهذه المتع فإذا نحن منعنا وإذا نحن بخلنا فعلام يدل هذا؟ هل هذا يدل على قلوب مرتبطة بالله الذي أنعم بهذه النعم أم على قلوب انقطعت صلتها بالله؟
تذكروا ما سبق أن قلناه ونحن نتحدث عن سورة العلق:
(كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى).
حينما يشعر الإنسان بالأموال والمتع والخيرات تفيض من حوله غالباً ما يشعر بأنه في حالة لا يفتقر معها، لا إلى الله ولا إلى عباد الله، وهذه هي حالة الاستغناء التي حذر الله منها والتي شرحناها من قبل والتي يهمني أن ألفت نظركم إلى أن القصة هنا مردوده..
عن تلك الآية الفاذة الجامعة التي قالت (إن الإنسان ليطغى) أي يتجاوز حده وينسى مقداره أن رآه استغنى حينما يشعر أنه قد استغنى بماله أو بجاهه أو بسلطانه أو بأتباعه، هذا على صعيد الأشياء المادة، وعلى صعيد الأشياء المعنوية على صعيد الشريعة فلمجرد أن ننتمي إلى الإسلام لا نأخذ حصانة، ولا نأخذ صكاً من الله أن يدخلنا الجنة قولاً واحداً ، الإسلام ليس مانعاً للإنسان من أن تلعب فيه كل العواطف وكل الغرائز لا يمنعه ذلك.. والخذلان والتوفيق بيد الله جل وعلا فنسأله تبارك اسمه أن يجعلنا من الموفقين لا من المخذولين. إن نحن أخذنا هذا الإسلام على أنه جد، وعلى أنه شريعة رب قادر وقاهر وعليم بخفيات النفوس؛ فلابد من أن نراعي دقائق هذا الإسلام لابد من أن نذكر الله، وأن نستحضر خشية الله مع كل فعل ومع كل شخص ومع كل قول ومع كل صمت؛ إذا قمنا على ديننا هذه القومة حفظ الله علينا ديننا وحاطنا وحرسنا من عدونا، بل نصرنا على عدونا دون أدنى شبهة:
(كتب الله لأغلبنّ أنا ورسلي إن الله لقوي عزيز).
(ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إن جندنا لهم الغالبون).
فالله جل وعلا تكفّل للذين يُمَسِّكون بالكتاب بالنصر والتأييد والتمكين في الأرض ولكن احذروا، لا يقل أحد أنا ابن محمد فإن محمداً صلى الله عليه وسلم وقف يعلن:
يا فاطمة يا بنتَ محمد سليني ما شئتِ من مالي لا أغني عنك من الله شيئاً، إن الله ليس بينه وبين أحد من خلقه سبب ولا نسب، وإنما يتفاضل الناس عنده بالتقوى والعافية، ويتمايزون عنده بالوفاء لهذا الإسلام.(/4)
لعلكم تظنون يا معاشر المسلمين أن ازدحامكم في المساجد، وسجودكم بين يدي الرحمن مانعٌ عنكم عذاب الله وأنتم ترون الأخطار تتآكل الإسلام من كل جانب لعلكم تظنون ذلك.. إن ظننتم فما أشد غفلتكم وما أعظم شرودكم عن الله جل وعلا.
إن هذا الإسلام عقائد ينبغي أن تحفظ، وشرائع ينبغي أن توضع موضع التطبيق، وسياسة وحكم ينبغي أن تساس وأن تدار المجتمعات على أساسها، وأخلاق ينبغي أن تكون هي العاملَ الحَكَمَ بين الناس، إن هذا الإسلام سَعَةٌ بسعةِ الحياة وأكثر، وما لم يكن المسلم قلبه متسعاً لهذا الإسلام كله، فاستمساكه بجزء من أجزائه لن ينجيه من عذاب الله جل وعلا، ألفت أنظاركم، أنتم اليوم تُصلّونَ كما كان يصلي آباؤكم وأجدادكم، كما صلى محمد والذين آمنوا معه، ومع ذلك ما أبعد الفرق، بين الاثنين، ما أبعد الفرق بين أمة الإسلام في هذه الأيام، بِذُلِها وانهزامها وهزالها، وهوانها على الناس، وبين تلك الأمة التي كانت قليلة العدد، ولكنها استطاعت أن تثلَّ عروش الظالمين لِترسي على أنقاضها دعائم كلمة الله تبارك وتعالى، من أين جاء الفرق، من ضحكنا على أنفسنا، ومن صدق أولئك مع أنفسهم، كان أولئك الأسلاف الميامين صادقين في يقينهم بأن الله اختارهم لحمل هذا الدين. ونشر هذا اليقين. وإبلاغ هذه الأمانة بصدق وعزيمة، ونحن نرفع هذا الدين اسماً وشعاراً وإعلاناً.. وندع الإسلام بحقائقه الأولى، بشرائعه المستقيمة، بعقائده النظيفة، بأخلاقه العالية، ندعه للفاسدين والمفسدين، والفاجرين والمتجبرين، يوسعونه تمزيقاً، ويبعدونه عن قيادة المجتمعات وعن سياسة الشعوب، ومن هنا، فنحن يجب أن نقف، لأننا نمشي إلى غاياتنا برجل عرجاء، ما لم نعلن إسلامنا كله، فلن تستقيم خطانا على الجادة التي ترضي الله جلَّ وعلا، واعلموا أن الله إذ يسوق لكم هذا النبأ في القرآن، فلكي تذكروا أن النعمة المتمثلة في محمد صلى الله عليه وسلم، والنعمة المتمثلة في شرع محمد إن لم تؤخذْ بجد وإن لم تؤخذ بقوة، وإن لم يهبها الإنسان كل وجوده، فسوف تسحب منه ليُترك هو هناك بين أرجل الظالمين يدوسونه كما يدوسون أي قذر..
الله الله يا إخوة في هذا الإسلام احرصوا عليه، ودافعوا عنه، وأعطوه من أنفسكم كل ما تملكون يحقق لكم الله مثل الذي حقق لآبائكم وأجدادكم وأسلافكم والله سبحانه أسأل أن يوفقنا وإياكم للتمسك بهذا الدين، اعتقاداً وعملاً وأخلاقاً وسلوكاً،إنه المسؤول، وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وآله وأصحابه أجمعين.(/5)
تتمة سورة القلم-4-
الحلقة التاسعة - الجمعة 7 من رمضان 1395هـ 12 من أيلول 1975م
العلامة محمود مشّوح
"كلام الشيخ –رحمه الله تعالى- غير مسجل في بداية هذه الخطبة –على الشريط- لكنه من الواضح أنه يتابع الحديث في سورة القلم، على قضية أصحاب الجنة، حيث يتكلم عن صاحب القصة وزمانها" فيقول:
ليس مهماً أن يكون معروف النسب ولا معروف زمان المسألة؛ كان يمتلك بستاناً فيه من الثمرات ما لذ وطاب، وكان عظيم التعرف على حقوق الفقراء الذين حرموها بأيدي الوارثين السفهاء المانعين لحقوق الناس التي شاءها الله في هذه الثمار، فالله جل وعلا ساق هذه القصة على مسامع أهل مكة المشركين ليعرفهم أياديه. وإنعامه عليهم بأن جعل لهم حرماً آمناً، وعزة مستقرة، وتجارة دائمة.
ومع ذلك بالرغم من كل هذه النعم كفروا بأنعم الله جل وعلا، وأعرضوا عما جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعرض هذه القصة مع عاقبتها كيف جرى الاجتياح ثم يغلظ ربنا جل وعلا العاقبة فيقول: (كذلك العذاب) أي هكذا يكون العذاب في الدنيا مَحْقاً ومحواً وإهلاكاً (ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون).
ها نحن الآن نستعرض بقية سياق الآيات:
يقول الله جل وعلا عارضاً قضية أخرى: (إنَّ للمُتقين عِنْدَ رَبهمْ جَنات النعيم أفنجْعلُ المسلمينَ كالمُجرمين مَا لَكمْ كيْفَ تَحكمُون أم لكم كِتابٌ فيه تدرسون إنَّ لكم لما تخيرون أمْ لكم أيمانٌ علينا بالغةٌ إلى يَوْم القيامة إن لكم لما تَحْكمُون سَلهم أيُهم بذلك زَعيم أمّ لهم شُركاءُ فليأتوا بِشُركائهم إنْ كانوا صَادقين يَوْمَ يُكْشفُ عَنْ سَاقٍ ويدعَونَ إلى السُجودِ فَلا يَسْتطيعونَ خاشعةً أبصَارُهم تَرهَقُهم ذِلّة وَقَدْ كانوا يُدعَونَ إلى السُجُودِ وَهم سَالِمون)
سنأتي على البقية فيما بعد، نلقي الآن نظرة عابرة على مدلول الآيات التي تلوناها ونحاول أن نتعرف على القضية التي أبرزتها هذه الآيات. ينبئ الله جل وعلا عباده عن عاقبة المتقين عنده فيقول:
(إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم)
هذه قضية تلقى هكذا بمعرض التقرير وبمعرض التأكيد على اعتبار أنها أو أريد لها أن توحي بأنها في محل البداهة، التي لا تناقش، إن الله جل وعلا حكم وقدر وقضى بأن يكون للمتقين عنده الجنات التي ينعمون فيها وأورد ذلك مورد التأكيد وأخرجه مخرج التقرير ليدلل بذلك على أن هذا التقرير مقتضى عدل الله جل وعلا ثم يشرح المسألة نفسها شرحاً آخر:
(أفنجعل المسلمين كالمجرمين؟ مالكم كيف تحكمون?).
في نظرة الحياة الدنيا.
وفي نمط النسيان الذي يعتري الإنسان يظن من لا خلاق له، من لا تقوى عنده، ومن لا شيء له عند ربه يظن أنه له عند الله الزلفى. يحسب أن ثواب الله يحصل بجاه أو بمال أو بنسب وما درى هذا المسكين أن هذا التصور الأحمق الأبله تصور لا يكون لا يستقيم في منطق العقل، وفي منطق الحس أن أسوي أنا المخلوق بين الصالح والطالح فكيف يسوي الله جل وعلا بين المسلم والكافر. ملاحظة ينبغي أن لا تغيب عن بالنا؛ الله تعالى يقول:
(أفنجعل المسلمين كالمجرمين).
ألم يكن مغنياً في هذا السياق، أن يقول الله تبارك وتعالى: أفنجعل المسلمين كالكافرين.
لماذا عدل الله جل وعلا عن لفظ الكافرين إلى لفظ المجرمين - في مقابلة المسلمين - أو ليس في عرفنا، العرف الشرعي أن الكافر نقيض المسلم، وأن بين اللفظين تقابلاً يستدعي أحدهما الآخر لمجرد النطق والتلفظ، كلما قلت مسلم توارد إلى خاطرك نقيض المسلم وهو الكافر. ففي ظاهر الأمر كان يجب -دون استدراك على الله طبعاً- أن يكون سياق الآية: أفنجعل المسلمين كالكافرين لكن الله جل وعلا عدل عن هذا التركيب، عدل عن الوضع اللغوي ليأتي بلفظة مفردة تحمل في طياتها إشارة كاملة لكل ما ينطوي تحت الجرم، والجرم من مآسي وسيئات جاء بلفظ المجرم في مقابلة المسلم ليطابق أتم مطابقة بين الكافر وبين المجرم؛ انتبهوا نحن نسمي المجرم مجرماً لماذا؟ نرجع إلى حقائق اللغة في مادة اللغة نأتي إلى اللفظة جَرَمَ. المؤلفة من الجيم والراء والميم. فتدل معنا على عدة معان سأشير إلى بعضها:
جَرَمَ وجَذَمَ؛ بمعنى قطع وهدم. وجَرَمَ وجَمَرَ؛ بمعنى أحرق وأشعل.
يكفينا هذان المعنيان من أصل المادة من الجذر اللغوي، لنتساءل عن السر في سياقة المجرمين في مقابلة المسلمين؛ ماذا فعله هؤلاء الكافرون في الواقع. هم هدموا المجتمع الإنساني هدماً، نقضوه حجراً عن حجر؛ فهم من هذا المعنى مجرمون. في الواقع أيضاً هم أحرقوا الدنيا، وأي سلام يبقى في الدنيا مع سيادة الكفر؛ بما فيه من معنى الظلم والعدوان والاقتتال فالمعنيان ملحوظان في الكافرين الذين سماهم الله جل وعلا بالمجرمين.(/1)
صورتان تتقابلان يقتص الله نبأهما في هذه الصور الوجيزة؛ أفنجعل المسلمين كالمجرمين. لاحظ وأنت تنطق باللفظ: كلمة مسلم، الميم. والسين. واللام. والميم. الخاتمة تعطيك معنى السلامة، معنى الأمن، معنى الدعة، معنى الطيبة، الْفُظْ –المجرم- تجد أن حروفها تكاد تحرك فكّيك حركة عنيفة، بين الأمرين فارق بعيد. حتى في صياغة اللفظ، يفرق الله جل وعلا بين مدلول الكافر ومدلول المسلم، هذا المسلم بما يقيمه في الأرض من معدلة وبما يقيمه في الأرض من أمر الله وبما يقيمه بين الناس من أخوة ومودة وتناصح وإخاء هذا المسلم يجعل السلام والأمن يرفرفان على الإنسانية مصدر خير وبركة ونماء وازدهار ومنهاج رقي وتقدم لهذه البشرية المنكودة المعذبة بعكس الكافرِ فماذا يعني الكفر.
بكل بساطة الكفر يعني أن تضرب عرض الحائط بهداية الله جل وعلا وتقول حسبي ما هو مودع فَيَّ من قوى، أن تعتمد على ذهنك القاصر على تجربتك المحددة، على إمكاناتك الضيقة وتستغني تماماً عن هداية الله جل وعلا وعن توجيهات رسوله صلى الله عليه وسلم..
عدة مرات، شرحنا أن الإنسان حينما يعتمد على مجهوداته الخاصة، يستحيل وحشاً كاسراً، يستحيل شيئاً مدمراً يوشك أن يهدد الحضارة الإنسانية برمتها بالفناء والخراب ولئن كنا لا نريد أن نحدث الإخوة عن عبرة التاريخ وحقائق الماضي، إن في الحاضر لعبرة لمن يعتبر.
هذه الإنسانية منذ غابت عن المجتمع الإنساني هداية السماء وابتليت بالصليبية التي هجمت هذه الهجمة الشريرة على سياج الإسلام، وهي تعاني من هذا الذي نقول: تعاني من قصور الذهن، وتعاني من قلة التجربة، وتعاني من عجز الإنسان، وماذا عانى الإنسان؟ النتائج حربان عالميتان مدمرتان كادتا تأكلان الأخضر واليابس، وهيئة أمم عاجزة أتم العجز عن أن تقر السلام بين دول العالم؛ اللهم إلا إذا كان سلاماً على هيئة السلام الروماني الذي أُقرِّ في العالم القديم، وهو سلامٌ لمصلحة الأقوى.
كما أن السلام في العالم الروماني كان في صالح روما؛ فالسلام الذي يتحقق اليوم لصالح روسيا ولصالح أمريكا.. وبقية شعوب الأرض؛ إما شعوبٌ مستضعفةٌ مستذلةٌ، وإما شعوب مغفلة لم تتعلم بَعْدُ رؤية أحابيل الدول الكبرى، وكيف تلتف حول أعناق الشعوب هذه الحالة ما نتجت اعتباطاً، وهذا الوضع الذي تقف الإنسانية اليوم على شَفَاه وضَعَ الرُعبَ النووي الذي يعيش مع الناس في البوادي وفي المدن وفي القارات العظمى، هذا الرعب كله نتيجة منطقية لجهود الإنسان عن طريق ذلك الإصلاح؛ كل أمة تقول عن حق الحياة لي ولا حق للآخرين، وفي داخل الأمة فَكُلُ فَسَّادٍ وَكُلُ أثيم يجد العون، على أن يتجاوز على إرادة الأمة وأن يغصبها أمرها، يجد أنه صاحب الحق وأن الآخرين خَوَلٌ وعبيد، هذا واقع يعيشه اليوم كل الناس صغيرهم وكبيرهم حين غابت هداية السماء كان الأمر في هذا الشكل؛ فالذين يكفرون بالله العظيم لا يستطيعون أن يقدموا للإنسانية سلاماً، ولكن الذين يمكن أن يقدموا السلام وهم مؤهلون لذلك في القلوب الطيبة وللبصائر النيرة وللشرائع المستقيمة وبالحريات الكاملة التي تمنح للأفراد وللشعوب جميعاً، هؤلاء هم المسلمون وإذ يعجز المسلمون عن تحقيق سلام على الأرض فأنى لأرضك السلام؟!.
هذه القضية عرضها الله جل وعلا في مواطن متعددة من الكتاب الكريم:
(أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم). بهذا الاستنكار (كيف تحكمون أم لكم كتاب فيه تدرسون) أنتم يا قوم محمد يا معاشر العرب، ليس لكم كتاب منزل من عند الله فيه أن الله جل وعلا يسوي بين المسلم وبين المجرم، فمن أين جاءتكم هذه الدعاوى.
(إن لكم لما تخيرون، سلهم أيهم بذلك زعيم).
من الذي يستطيع أن يقوم من بين هؤلاء الذين يخاطبونك ويناهضونك ويعادونك ليدّعي هذه الدعوة، هل لهم شركاء يستطيعون إدخال التعطيل على قضاء الله وقدره؟
(فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين)، كل ذلك يبينه الله جل جلاله.
هذه القضية عرضت بهذا الشكل لتدركوا به وتتميزوا، والتميز أيها الإخوة ضروري. لكني أحب أن أهمس في آذان الكل بكلمة وحيدة: التميز ليس ادعاء؛ لكنه:
من أين أعرف أنك مسلم إذا لم أرك في مساجد المسلمين؟
من أين أعرف أنك مسلم إذا لم أرك صائماً مع الصائمين؟
من أين أعرف أنك مسلم إذا لم أعرف بك صدق اللهجة وصدق الحديث؟
من أين أعرف أنك مسلم إذا تفحصت فيك أخلاق المسلمين فلم أجدها؟
موضوع التميز؛ لا بد منه ولا يمكن أن نخطو خطوة واحدة ما لم يتحقق التميز الكامل والدقيق بين المسلمين والمجرمين لكن موضوع التميز موضوع يحتاج إلى مجهودات شاقة تبدأ بتصحيح العقيدة لتنعكس على السلوك تحدده وتحدد له مساره وتعين تصرف الإنسان ومجهوداته في أوسع المجالات التي تعمل فيها الإنسانية.(/2)
إذا وجد هذا التميز وجدت على صعيد الواقع صورتان تتمايزان وتتناقضان؛ صورة تناسب الأمن والاطمئنان والسلام، وهي صورة المؤمنين، وصورة أخرى تعربد بالشر والفسوق والعدوان وهي صورة المجرمين الكافرين، ثم يلتفت الله جل وعلا إلى قضية أخرى أظن أننا في رمضان غير محتاجين إلى أن نراعي الوقت أريد أن أنتهي من السورة هذا اليوم. يقول الله جل وعلا:
(فذرني) خطاباً لمحمد صلى الله عليه وسلم
(ومن يكذب بهذا الدين) الذي هو القرآن (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين).
كم من الناس ويالشديد الأسف، على غفلة الإنسان ونسيان الإنسان، ظن في نفسه أنه أمنع من يقابل الجمع فأنزلته مقادير السماء ذليلاً محطماً.
كم من الناس يرى من حوله الأموال تنمو وتتكاثر فيجتاحها أمر ربك الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
كم من ملك وعظيم يقول للناس موتوا فيموتون يصبح بلا حول ولا طول ولا صولاجان ولا سلطان.
هذا الواقع الذي تزخر به حقائق الحياة الدنيا يغفل عنها الناس مع الأسف.
الله جل وعلا يسلي ويعزي رسوله صلى الله عليه وسلم عن هذا المظهر العجيب الذي يدعو إلى الدهشة.
في مكة جاءت الأوامر إلى رسول الله حازمة حاسمة؛ وفي مقابله صورة المجتمع المشرك تجأر بالكبرياء والخنزوانة والحمية الجاهلية، والإنسان إنسان والضعف البشري لازِمةٌ من لوازم ابن آدم ينظر رسول الله فيتساءل ضمناً، طبعاً، متى يتغلب معسكر الإيمان على هذا الكفر البادي الذي يملك مفاتيح القوة، بشكل عام سؤال مشروع؛ أنه ليس كل الناس يا إخوة قادرين على أن ينفذ وراء ظواهر الأمور -ذلك من خصائص الله وحده- أما الإنسان فيرى خصمه، يرى عدوه، يملك كل أسباب القوة والجبروت ويستطيع أن يزلزل الأرض من تحتك فمن حقه أن يتساءل ما شاء له التساؤل.
أمام هذا السؤال المشروع، أو التساؤل المشروع؛ يقول الله جل وعلا لمحمد عليه السلام دعك من هذا الأمر، ذرني اتركني، اْمضِ في طريقك وذرني أنا وهؤلاء المكذبين، وذرني والمكذبين فإن الله جل وعلا سيستدرجهم، يعني ينزلهم درجة، درجة بالطريق الذي رسمه الحق. والاستدراج هو استجرار الإنسان، واستجرار الأمم نحو الهاوية، سنستدرجهم من حيث لا يعلمون...
كم رأيتم كم سمعتم في جيلكم الذي عشتموه أمماً رَقِيَتْ وعَظمَتْ، وأشخاصاً بلغتْ دعوتُهم عنان السماء وظنوا أنهم لا يمكن أن ينزلوا عما هم فيه، في لحظة واحدة أصبحوا أحاديث، أصبحوا في خبر كان، وأملي لهم أنني أمهل هؤلاء الناس، لمَ الإملاء؟ ولماذا الإمهال؟ هل يعجز الله عن أن يأخذ الظالمين أخذة رابية؟ لا، ولكن الظلم له أنصار، ولكن الباطل له أنصار، وله أناس يحسنون به الظن.. إخواني مع مسيرة الحياة الدنيا يفرغ الباطل من كل ظن حسن يظنه به الناس هنا تقع الواقعة يأخذه الله من حيث لا يحتسب، فهذا الإملاء إمهال ليس لمصلحة الظلم ولكن لمصلحة العدالة الإلهية التي لا بد أن تنتصر. (وأملي لهم إن كيدي متين) انتهى.
قضية أخرى يقول الله جل وعلا (أم تسألهم أجراً فهم من مغرم مثقلون)، معنى ذلك بالتفسير: هل أنت يا محمد تطلب من قومك على الرسالة ثمناً وأجراً منهم؛ من أجل ذلك مثقلون بالحمل لأداء هذا الأجر؟ لا. هذا الدين ليس دين تَكَسُّب ليس قضية منفعة، إنما هو نعمة المجانية إلى الناس عامة، وما من رسول أرسله الله تعالى إلى الناس في القديم وإلى عهد محمد عليه السلام، إلا وقال لقومه: يا قوم لا أسألكم عليه مالاً، يا قوم لا أسألكم عليه أجراً إن أجري إلا على الذي فطرني تلك قولة الأنبياء إلى أقوامهم جميعاً...
قضية الإسلام ليست قضية تكسب وليست قضية منافع هناك فرق مبدئي بين شخص الداعي وبين قضية الدعوة لا يمكن أن يتكسب الإنسان في الدعوة ولقد نجح عليه الصلاة والسلام لأنه رفض كل ما عرض عليه من متاع الدنيا وحطامها وبقي ملتصقاً بقضيته القضية التي حمله الله إياها ونجح أصحابه ونجح خلفاؤه الراشدون ما داموا يقدمون للناس هذه الهداية بلا ثمن.
ذات يوم وفي عهد عمر بن عبد العزيز الخليفة الخامس رضي الله عنه، أقبل الناس على دين الله أفواجاً؛ فكتب عامله في أحد الأمصار إليه يقول: إن أهل الذمة قد تكاثروا في الإسلام، وأخشى أن يُنْفَقَ الخراجُ وتنهارَ الميزانية، فيكتب إليه عمر بن عبد العزيز؛ إن الله بعث محمداً هادياً ولم يبعثه جابياً، ليست القصة أن نأخذ الأموال، القصة أن نأخذ القلوب ليست القصة أن نملأ الجيوب القصة أن ننير البصائر والعقول. ويكتب له: يا ليت أن الناس كلهم أسلموا وأني أنا وأنت نرعى الغنم في شعاب الجبال.(/3)
كذلك تُقَدمُ هدايةُ السماء إلى الناس، بلا ثمن، بلا طلب أجر، وحينما تبدَّلتْ هذه الهداية فَبَدلهُا كان ناتجاً طبيعياً عن محاولة طلب العيش، انظروا اليوم كم في العالم الإسلامي من علماء؟ كم فيه من فقهاء؟ وكم فيه من خطباء يرفع كلٌ عقيرته وينادي بالإسلام، لمن نسمع للوزير الذي يحشو جيبه بالأموال، أم للشيخ الذي يتعامل مع المخابرات، أم للشيخ الآخر الذي يستزلم للحقراء، هؤلاء يُسْمَع كلامهم ثم يُلْعَنون، يُسمع كلامهم ثم يُسْخَطُ عليهم لمن نسمع إذاً للذين يتقدمون إلى الناس على نهلكة الأموال وعلى زهد في الذهب وعلى قلة النسب من غير من ولا طلب أجر، يريدون فقط أن يوصلوا شعاع الإيمان إلى القلوب.
هذا الإسلام ليس دين تكسب ولا مطمعة، وهذا المنهج قام عليه محمد صلى الله عليه وسلم فأدى دوره، وأجزأ وتبارك ويوم نحاول أن ننهض بالإسلام مرة أخرى فلنغسل أيدينا جميعاً من جميع علماء الإسلام الرسميين، ولو كان أحدهم يأخذ فلساً واحداً من الدولة. فذلك وحده كفيل بأن يمحق بركة علمه، وكفيل بأن يمحق بركة دعوته، ولنعتمد على الذين لا يريدون أجراً ولا يريدون علواً في الأرض ولا يريدون فساداً، نعتمد على المتقين الذين يقدمون هذا الإسلام مجاناً.
قضية أخيرة في هذه الجمعة، أعرضها لأنها من بشائر الغيب ثم أختم بها الكلام.
يقول الله جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم:
(فَاصبرْ لِحكم رِبكَ ولا تَكنْ كصاحب الحوت إذْ نَادى وهو مَكْظُوم لولا أنْ تَداركَهُ نعمةٌ من ربه لنبذ بالعراءِ وهو مذمومْ فاجتباه ربُّه فَجعلهُ من الصَالحين).
من هو صاحب الحوت: يونس بن متَّى صلوات الله عليه، قصه يونس؟ ما نبأ يونس؟ أرسله جل وعلا إلى أهل نينوى وكانوا مئة ألف أو يزيدون فاستحفظ عليهم وتأبى فغضب من قومه وانصرف مغاضباً وترك بلد قومه ومضى على وجهه، فلما انصرف ركب السفينة فساهم فكان من المدحضين فالتقمه الحوت فلولا أن كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون، يونس ضاق صدره واشمأزت نفسه لهؤلاء القوم الذين يناديهم إلى وضح النهار فيستمسكون بالجهل، يناديهم إلى الصراط المستقيم فيأبون إلا أن يسلكوا الطريق الأعوج، ضاق صدره بذلك فذهب مغاضباً، لما ذهب مغاضباً -وهو النبي- ما أمهله الله، قضايا الدعوة إلى الله ليست مزاحاً وإنما هي جد كلها لم يتركه الله جل وعلا، جعل الحوت يلتقمه ويلبث في بطنه ومن هناك من بطن الحوت نادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستخرجه الله جل وعلا، وأعاده إلى قومه، ثم آمن به قومه.
وقال الله جل وعلا:
(فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين)
ماذا تعني هذه القصة هذا المثل الذي يضرب أمام النبي صلى الله عليه وسلم؟ عناد يقابل عناداً، ضيق صدر من النبي عليه السلام ضيق صدر من يونس بن متَّى ماذا يفعل؟ يحذره الله جل وعلا أن يكون مثل يونس لكي لا يحل به ما حل بيونس من قبل هناك قانون في النبوات، الله جل وعلا حينما تتكبر أمة على ربها وتطلب ما لا يُطْلَبُ، تطلب خوارق العادات قد يأتيها فينزل عليها مائدة من السماء قد يجعل لها الجبال ذهباً قد يفجر لها الأنهار والبحار فإن آمنت فبها ونعمة وإلا عذبها الله جل وعلا عذاب المحو والاستئصال.
هذه قضية لم تكن واردة بالنسبة لأمة العرب التي أبلغت بالدعوة، لماذا محمد هو النبي الخاتم لا نبي بعده، وأمته هي الأمة الباقية لا أمة بعدها أبداً، ولهذا فلا يمكن من أجل ختام الدعوة وختم الرسالات أن تستأصل الأمة وأن تهلك وتباد من هنا كان تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم ليصبر على سيئات هذه المسوخ وليصبر على طلباتهم المتكررة وغير المعقولة.
ثم فيها بشارة كما أن يونس بن متَّى بعد أن ذهب مغاضباً لقومه يائساً من إيمانهم وإسلامهم أعاده الله إليهم فآمنوا وأسلموا ومتعهم الله إلى حين، فنفعهم بهذا الإيمان، كذلك أنت يا محمد سوف تضيق بالقول لما ترى من مظاهر العتو والتمرد، وسوف تخرج مهاجراً من البلدة، لكن لا تدعُ عليهم، ترفَّقْ بهم لا تدعُ الله أن يمحقهم ويهلكهم، فستعود إليهم ويؤمنون كما آمن قوم يونس ويمتعهم الله جل وعلا ولهذا نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم منذ شم رائحة هذه البشارة العظيمة كان يلقى الأذى ثابت الفؤاد طيب النفس، كان العذاب والبلاء يصبان عليه صباً فلا يقول ما قال نوح: (رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً) ولا يقول ما قال موسى (ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم) بل كان يقول بأبي هو وأمي:
"اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".(/4)
لماذا؟ لأنه كان واثقاً عظيم الرجاء في تحقق موعود الله لهذا المثل الذي ضرب له كما أن قوم يونس آمنوا بالآخرة يعني آخر الأمر كذلك هذه الأمة مهما طال بها التأبي والعتو والتمرد فسوف تؤمن وتثوب إلى أمر، الله هل في ذلك أيضاً لنا بشارة أيها الإخوة؟ نعم. ويجب أن نكون من ذلك على بيّنة.
نحن في بلاد المسلمين في ديارنا الشاسعة وبملايننا المملينة، نسمع نعيق البوم والغربان في شرق العالم الإسلامي وغربة، الشيوعية لها دعاة والاشتراكية لها دعاة والرأسمالية لها دعاة وسائر مذاهب التحلل والميوعة والتهتك لها دعاة، بل إن هؤلاء هم أسياد الموقف كما يقال والإسلام يطارد من مكان إلى مكان، يحاول بعض الناس أن يضحك على المسلمين لإغضائه عن صَلاتهم، لإغضائه عن عباداتهم، في ذات الوقت الذي يُقطع فيه جسم الإنسان الإسلامي مزقاً مزقاً، عالمنا الذي نعيش فيه أيها الإخوة الأحبة - ونحن اليوم في الجمعة الأولى من رمضان كما يجب أن نذكر وبعد أسبوع أو أكثر بقليل يحل موعد ذكرى نزول هذا القرآن، يجب أن نذكر أننا نعيش في عالم معمود، عالم يستغرب الإسلام ويعاديه أساساً، ويطارده مطاردة عنيفة لا هوادة فيها ولا رحمة هل معنى ذلك أننا ننفض اليد من أمتنا ننفض اليد من أبنائنا وإخواننا؟ لا.
كما أن هذه الأمة اهتدت بالأول بعد طول تَمَنع وتأبٍّ، فكذلك في هذه المراحل من حياتها حينما يستنفد الباطل أغراضه، وحينما يفقد أنصاره، لعدم استطاعته تقديم أي شيء لهم، حينئذ ستهب الأمة باستحياء معاني الإسلام فذلك من بشائر الله لنا أسأله جل وعلا أن يثبتنا على صراطه المستقيم وأن يأخذ بأيدينا وأيديكم وأيدي الأمة إلى ما يحب ويرضى وإلى الأسبوع القادم إن شاء الله سنواصل استعراض السورتين الأخرين لنخلص بعد ذلك:
للتعرف على المهمات الأساسية للإسلام.
وكيف قدَّمها الإسلام للمجتمع الجاهلي؟ وماذا كانت استجابة المجتمع الجاهلي لهذه القضايا؟ وكيف تغلب الإسلام على هذه المشكلات الطارئة؟ والله تعالى يقول الحق وهو يهدي السبيل وصلى الله تعالى على سيدنا محمد.(/5)
سورة القلم (1)
العلامة محمود مشّوح
بسم الله الرحمن الرحيم
الجمعة 15 شعبان 1395هـ -22 آب 1975 الحلقة السادسة
أما بعد أيها الإخوة المؤمنون. فلقد قضينا الجمعتين السابقتين في الحديث عن سورة العلق وكنت أشعر أن من الضروري اللجوء إلى شيء من التفصيل في البداية، وقد طلبت إليكم جميعاً قبل أن أبدأ هذه السلسلة من الأحاديث أن تقرءوا السور الأربعة التي هي أول ما نزل من القرآن، ولا شك أن قدرات الناس تختلف وليس كل قارئ للقرآن قادراً على أن يقرأه على النحو المنتج فرجوت بالتفصيل الذي عمدت إليه في الجمعتين الماضيتين أن أعرض طريقة في القراءة والفهم والتدبر تعين الإخوة جميعاً على حسن الوقوف عند مرامي كتاب الله جل وعلا. أما الآن ونحن نستقبل الحديث عن بقية السور فلست أرى داعياً للإغراق في التفاصيل فما مضى يكفي فيما أقدر.
نحن اليوم نستقبل سورة القلم بعد أن أنجزنا الحديث عن سورة العلق فماذا في هذه السورة مما كلف به النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون؟ يقول الله تبارك وتقدس:
(ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون وإن لك لأجراً غير ممنون وإنك لعلى خلق عظيم فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين).
هؤلاء الآيات هُنَّ فاتحة السورة الكريمة فلننظر فيها على سبيل الإجمال والاختصار؛ أما قوله تعالى ن: هذا الحرف المفرد فلن نختار فيه إلا ما اخترناه قبل ست سنوات أو سبع سنوات حينما تعرضنا للحديث عن سورة البقرة وشرحنا الأقاويل التي أوردها المفسرون في قوله تعالى ألف لام ميم أ.ل.م. رجحنا ما رجحنا آنذاك.
وخلاصة ما انتهى إليه رأينا بعد طرح كل الآراء المتهافتة التي لا يسندها عقل لا نقل أن هذه الحروف المقطعة التي جاءت في بعض أوائل السور إنما هي أشارات تنبيه لجذب انتباه السامع كما تقول في فاتحة كلامك ليستجمع المستمع إليك شوارد ذهنه وعقله ويتهيأ لمعرفة ما سوف تلقي إليه من القول هذه واحدة، ثم هي تنبيه لكن من زاوية أخرى فهي تنبيه ولفت نظر إلى اعجاز هذا الكتاب الكريم الذي بُهتت العرب وهم يسمعون محمداً صلوات عليه وآله يتلوه عليهم كأن الله جلت قدرته يشير بهذه الحروف المقطعة إلى أن هذا القرآن الذي جذب ألبابهم وحير عقولهم مؤلف من ذات الحروف التي يتألف منها كلامهم ومنطقهم؛ الحروف التي نستعملها في ترتيب الكلمات التي نتفاهم بها في خطابنا فيما بيننا هي نفس الحروف التي استخدمت ونفس الأداة التي استعملت لتأليف هذا القرآن الكريم ومع ذلك مع أن المادة الأولية في الكلام الإلهي وفي الكلام البشري واحدة فالفرق واسع جداً بين طبقة الكلام الإلهي وبين طبقة كلام الناس الفرق يشبه أن يكون كالفرق بين الخالق والمخلوق.
منذ أن نزل هذا الكتاب على رسول الله صلوات الله عليه وألقى في وجوه العرب فرسان البلاغة وأرباب اللسن والفصاحة بالتحدي أن يأتوا بمثله أو بسورة من مثله وهذا التحدي قائم لم ينقطع، والطاقة البشرية تقر على نفسها في كل جيل بالعجز عن الإتيان بمثل هذا الكلام وكفى بذلك دليلاً على تنزه المصدر الذي نزل منه هذا الكتاب الكريم.
ولا عجب فإن معجزة محمد صلى الله عليه وآله هي هذا الكتاب الذي عمل في زمنه -بأبي هو وأمي- وما زال يعمل على توالي الأحقاب والأجيال لم ينقطع تأثيره ولن ينقطع تأثيره، بحال من الأحوال والرسول عليه السلام يقول في هذه الناحية:
ما من نبي أرسله الله قبلي إلا وأوتي من المعجزات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً يتلى، فأنا أرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة.
معجزات الأنبياء من قبل؛ من فَلْقِ؛ البحر وقَلْبِ العصا حَية وإبراءِ الأكمة والأبرص، وإحياء الموتى معجزاتٌ محكومة بظروفها وبشرائطها التاريخية لا تتكرر، ثم إن تأثيرها مقصور على الذين شهدوها في لحظة زمانية معينة، وفي مكان معين لا تتعداهم إلى سواهم لكن هذا القرآن يفعل في الناس فعل السحر يقرأه العربي فينتفع، ويقرأه الأعجمي فينتفع، ويقرأه ابن القرن الأول فينتفع، ويقرأه ابن القرن الرابع عشر فينتفع، ويقرأه الناس إلى ما لا يعلمه إلا الله فلا يزيد الإنسانية إلا هداية وتقى.
وترون أنتم أن كل أمم الأرض التي كانت لها في الماضي حضارات وكانت لها مبادئ وأهداف تفور فورة، ويكون لها مد وتنتشر بين الناس ضمن شرائط محددة ثم يدركها جنوح حتمي نحو الانحلال فتتقلص وتتراجع سوى هذا الإسلام منذ جهر به رسول الله يشهد مداً متصاعداً وتقدماً مستمراً لا يعرف نكوصاً ولا تراجعاً.(/1)
منذ سنوات كان المسلمون في حدود خمس مئة مليون وهم اليوم يكادون يقربون من المليار وكل يوم تطلع فيه الشمس على الدنيا يشهد هذا العالم أناساً يدخلون دين الله وحداناً وجماعات بفضل القوة والديناميكية التي أودعت هذا القرآن الكريم هذه الفاعلية الخارقة مسحة ربانية وليست صناعة ألفاظ ولو كانت صناعة ألفاظ لكان كلامي وكلامك مؤثراً كتأثير الكلام الإلهي، ولكن الكلام الإلهي يفعل وكلام الناس لا يفعل هذا إعجاز محمد صلى الله عليه وسلم، معجزته العظمى وآياته الكبرى هذا القرآن.
ن.. إشارة لحرف إلى أن ما تلفظون به من قول فمؤلف من هذه الحروف ومع ذلك فأنتم عاجزون عجزاً مطلقاً عن أن تأتوا بمثل هذا القرآن أو بقريب من هذا القرآن ثم قال: (والقلم وما يسطرون) وتعرفون أن الله جل وعلا استجاش الهمم والدواعي نحو العلم في فاتحة سورة العلق:
{ اقرأ باسم ربك الذي خلق, خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم } .
في السورة الأولى إشارة لهذه النعمة السابقة، وهي تعليم الإنسان بالقلم وتعليمه ما لم يعلم، وفي السورة الثانية من القرآن في سورة القلم إشادة بالقلم وبآثاره إشادة بالعلم وبالمعرفة، لكن هاهنا دقيقة يجب أن نتفطن لها لا يجوز أن يغفل عنها قارئ لأنها تتعلق بالكشف عن بعض أسرار الكتاب الكريم صياغة الآية (والقلم وما يسطرون) الواو واو القسم وما بعد الواو مقسم به والقسم واقع على شيئين على القلم وعلى آثار القلم على السطر على الكتابة كأن الله جل وعلا يقول: والقلم وما يكتبون بالقلم القسم بماذا يكون عادة لماذا يأتي القسم، يأتي القسم ليشد من عزيمة الإنسان على الفعل أو على الترك، إن أردت أن أفعل شيئاً فأنا أقسم على فعله لأزيد موقفي في الفعل ثباتاً ورسوخاً وإن أردت أن أترك ولا أفعل أقسم أن لا أفعل لكي أكف نفسي بزيادة عن الفعل فالقسم من أجل الفعل ومن أجل الترك يشد عزيمة الفاعل أو التارك.
وبماذا يقسم الإنسان هل يقسم الإنسان بكل ما هب ودب من حقير وجليل؟ لا القسم لا يكون إلا بما له مكانة وبما له منزلة وقداسة، ولذلك فنحن نقسم بالله والله أكبر شيء وأجل شيء، وأعظم شيء، فحينما نلحظ أن الله يقسم بالقلم ويقسم بالكتابة نستدل بداهة على أن للقلم ولآثار القلم منزلة عالية وقدراً رفيعاً، عند هذه النقطة نتمهل لنرى إذا كنا نقرر أن القسم لا يكون إلا بالأشياء العظيمة، الأشياء ذات الآثار القيمة الظاهرة في السماوات والأرض، إن أقسمنا بالله فلما يغذونا به من نعمة وإن أقسمنا بالكواكب والشمس والنجوم -وقد وردت الأقسام بها في القرآن- فلما تدل عليه من آثار رحمة الله جل وعلا بهذا الخلق وتسخير الكون لمصلحة الإنسان.
حينما يقسم ربنا جل وعلا بالقلم وبالكتابة فنحن نعلم أن القلم أداة ككل أداة في هذه الدنيا يستخدمها العاقل البر الخَيِّر فتكون أداة رحمة وَبِر، ويستخدمها الفاجر الشقي وتكون أداة تدمير وتخريب، كل أداة يمكن أن تستعمل في الخير فتنتج خيراً وبركة، ويمكن أن تستعمل في الشر فتنتج شراً وفساداً ودماراً، فإذا كان الله يقسم بالقلم وما يسطر أي يكتب بالقلم فالقلم يكتب به كتاب الله، وتكتب به أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكتب به الدعوة إلى الخير والبر والرحمة، كما تكتب به سائر السفاسف والمؤلفات والأشياء الضارة والدعوات الفاسدة وما يحدث التخريب الهائل الخطير في المجتمعات البشرية.
فهل يتناول قسم الله جل وعلا آثار هذا القلم حتى وإن كانت فاسدة وشريرة؟ لا لأننا قررنا أن القسم لا يكون إلا بما له منزلة عالية، والباطل الذي يكتب بالأقلام كسائر ما تسود به الصحف وما تقيئه المطابع وتقيئه الإذاعات وتقيئه الجرائد على رؤوس الناس دماراً وتخريباً فباطل لا يجوز أن يتناول القسم لأنه في موضع المهانة والحقارة يجل قسم ربنا جل وعلا عن أن يقع عليه وأن يتناوله بحال من الأحوال.
بعد ذلك نقول تأويل الآية لمن يريد أن يدرك كيف يقرأ (نون والقلم وما يسطرون) أي يكتبون به من خير وبر ورحمة بين الناس لا ما سوى ذلك فما يحدث الشقاق والبغضاء والفتنة والدمار بين الناس هكذا ينبغي أن يتناول كلام الله جل وعلا لكي تستخلص منه زبدة ما أراد الله جل وعلا للإنسان أن يفهمه منه ثم تتابع الآيات (ما أنت) والخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم:
(ما أنت بنعمة ربك بمجنون وإن لك لأجراً غير ممنون وإنك لعلى خلق عظيم فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين).
ارجعوا بذاكرتكم إلى بواكير الدعوة أوائل الوحي حينما بدأ النبي صلى الله عليه وسلم يبادئ قومه من العرب. بما أنزله الله إليه من كتاب، وبما حمله إياه من أكلاف ومهمات كان يتلو عليهم هذا القرآن فيسمعون كلاماً لا عهد لهم بمثله.(/2)
لا شك أن الأمة العربية في إبان البعثة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم بلغت من نصاعة اللغة وقوة البيان والخلق بأساليب الأداء الذروة التي ليس بعدها شيء والعرب كانت تفخر بأنسابها وتفخر بما تقوم به من مكرمات من قرى للضيف وفكاك للأسرى وعتق للرقاب وحمالات للديون وما أشبه ذلك ولكنها ما فخرت أبداً بشيء كفخرها باللسن والفصاحة وقوة الحجة، فخر الأمة العربية حينما تنزل الكتاب الكريم كان يتركز في الحقيقة بهذا اللسان حينما ينبغ في القبيلة شاعر أو خطيب مصقع كانت تقام الحفلات والولائم وتقام الزينات وتشعر القبيلة أنها حازت فخاراً ما بعده فخار بلى حتى لقد تحول هذا الفخار مع الزمن إلى وسيلة للذم والهجاء فلقد قال شاعرهم يذم بني تغلب بعد أن غالوا بشاعرهم عمرو بن كلثوم:
ألهى بني تغلب عن كل مكرمة قصيدة قالها عمرو بن كلثوم
مع أن العرب تفخر أكبر فخرها باللسان فلقد بهتت وهي تسمع القرآن، عرفت الشعر بكل أجناسه وبكل بحوره وعرفت أقاويل الخطباء ووعت في ذاكرتها الجبارة الشيء الكثير، مما تاه به خطباؤها في المناسبات وعرفت ما يسجع به الكهان فما انطبق هذا القرآن على لون من أفانين القول التي كان العرب يعرفونها تحيروا فيها، هذا واحد والشيء الثاني أن محمداً صلى الله عليه وسلم قام يدعوهم إلى أمور صغيرها وكبيرها يخالف المألوف عند العرب ابتداءً من العوائد اليومية وانتهاء في العقيدة في الألوهية جاء محمد عليه الصلاة والسلام ليقول لهم يا قوم أنتم لستم على شيء، أنتم على باطل مستحكم، وفي ضلال عريض وطلب إليهم أن يغيروا تغييراً جذرياً وحاسماً كل الأشياء التي درجوا عليها وألفوها وتلقوها متحدرة إليهم من طريق أسلافهم.. فماذا كان موقف العرب؟
أمن المعقول أن يقوم إنسان فرد ليست له عشيرة بذلك المكان التي تمنع وترد البغي والعدوان على أحد أفرادها؛ ليس من المال بالكثرة التي يشتري فيها الأعوان والأنصار من الإمعات والمهازيل، وليس صاحب ملك وسلطان يستخدم ملكه وسلطانه ليغير من مجرى الحياة الإنسانية لم يكن على شيء من ذلك أبداً ومع ذلك فكان يقول لهم بملء الفم لا بد أن تغيروا ما أنتم عليه، وستغيرون وستدخلون في هذا الدين طائعين أو كارهين، مَنْ قَبِلَ منكم فبقبول الله قَبِلَ، ومن لم يقبل فسيدخل الإسلام داخراً ذليلاً مكرها على ذلك لأنه سيجد أنه لا سبيل أمامه سوى الإسلام.
أية ثقة بالنفس هذه، أيقول هذا الكلام عاقل، من هنا كانوا يتهمون الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه مجنون، كانوا يرددون هذا الكلام ويلصقون به تهمة الجنون، هل كانت العرب أو القرشيون الذين نشأ بينهم محمد صلى الله عليه وسلم يعتقدون بجدية ما يقولون، بالتأكيد لا، الدعوة جاءته عليه السلام وهو في الأربعين من العمر مضى زمن طويل؛ الصبا والشباب والكهولة حتى إذا شارف الشيخوخة صلى الله عليه وسلم جاء للناس بهذا النداء الإلهي.
كل الوقت الذي مضى كان محمد صلى الله عليه وسلم مهوى أفئدة الشباب ومحط إعجاب الشيوخ، يكبرون فيه الخلق النبيل، ويكبرون فيه الاستقامة الرائعة، ويكبرون فيه العفة المتناهية، ويكبرون فيه من الأخلاق ما لا يجتمع في أحد من خلق الله جل وعلا لم يكن عليه مغمز ولا سبيل إلى أن يلحقه مطعن، إجماع من أهل مكة جميعاً أنه الصادق، وأنه الأمين وأنه المَرْضِّيُ في جميع أخلاقه ذلك رأي العرب، رأي خصوم محمد بمحمد صلى الله عليه وسلم فأية قيمة لتهمة سخيفة كهذه التهمة يلقيها العرب في أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(/3)
مع ذلك فلا بد لاستكمال الصورة من أن نفكر قليلاً، ومن أن نرجع أيضاً رجعة بسيطة، إلى الوراء تجربة الوحي ليست من التجارب العادية؛ بلى هي شيء خارق للعادة قلما يتعرض الناس إلا الآحاد في الأزمان بعد الأزمان لهذه التجربة؛ تجربة الاتصال بالملأ الأعلى وسماع الخطاب الإلهي وتحمل الرسالة التي تأتي من بارئ الكون؛ هذه التجربة في وقعها الثقيل الشديد على النفس خَيلت لمحمد صلى الله عليه وسلم أن هذه الغرابة في الحالة وراءها شيء حينما فجأه الوحي في حراء جاء مرتعد الفؤاد عليه السلام إلى زوجه خديجة؛ وقال لها يا خديجة: لقد خشيت على نفسي ظن عليه السلام أنه خالطه شيء من الجنون وحين فتر الوحي جاء في بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم كان كثيراً ما يذهب يحاول أن يتردى من شاهق، يريد أن يرمي نفسه من جبل من هذه الجبال ليتخلص من هذه الحيرة التي تثقل على ضميره وعلى قلبه وعلى عقله، لماذا لأن الهاجس الذي وقع في نفسه أول أمر؛ تنامى وتزايد حينما انقطع عنه الوحي رُجِّحَ لديه عليه الصلاة والسلام أن ما رآه وما سمعه ليس من الملك وإنما هو قد يكون من الشيطان، فالنبي عليه الصلاة والسلام إذا كان في وضع شعوري ونفسي وعقلي يحتاج معه إلى أن يُشَّدَ من عزمه وأن يثبت على أن هذا الذي جاءه لا طريق له إلا الله ولم تحمله إليه إلا ملائكة الرحمن وأنك يا محمد بالفطرة التي فطرت عليها، بالاستقامة التي نشأت عليها أبعدُ ما تكون عن الجنون فقوله جل وعلا (ما أنت بنعمة ربك) يعني بحمد ربك وتوفيقه إياك (بمجنون)، تحمل أولاً هذا الرد التثبيت لشخص النبي صلى الله عليه وسلم بغية طرد الوساوس التي يمكن أن تنتاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو في هذه الحالة التي يشعر معها بأن شيئاً ما غريباً عما اعتاده الناس قد جاءه.
وهذه التهم التي تنثال عليه من قومه قريش، فتشكل ما يشبه ضغط الرأي العام تقول له باستمرار أنت مجنون أنت مجنون أنت مجنون، فإذاً أول غرض لقول الله جل وعلا ما أنت بنعمة ربك -ونعمته هي هذه الرسالة- ويستحيل عقلاً وعادة أن يكلف المجانينُ بحمل الرسالات الإلهية بل يستحيل عقلاً ومنطقاً، وعادة، أن يُكلَّف المجنون بحمل كلام عادي ليوصله إلى أحد من الناس، (ما أنت بنعمة ربك بمجنون) ولكن هذا الكلام له مرجع آخر يعود على قومه المشركين ما هو الجنون اسألوا أنفسكم ما معنى أن يكون الإنسان مجنوناً؟
الجنون بكل بساطة؛ انفلات زمام العقل حينما يفلت من يدك زمام عقلك فأنت مجنون وإذا دخلت في هذه الحالة فما هي الآثار التي تترتب على الجنون؛ غيبوبة في العقل تؤدي إلى تصرفات لا واعية. ولا محسوبة؛ كذلك يكون الجنون، التفتوا إلى العرب هؤلاء الذين يتهمون محمداً عليه السلام بالجنون -إذا كانت العبرة للآثار- فأي الناس أولى بوصف الجنون آلنبي الذي يدعو إلى صحوة لا صحوة بعدها، وإلى محاسبة دائمة ومرهقة وإلى أن يزن الإنسان كل قول وإلى أن يزن الإنسان كل تصرف، وإلى أن يحسب حساب النتائج ما أطاقت القدرة البشرية هذا الحساب أم هؤلاء السائبون الغافلون الذين تدفع بهم أمواج الحياة إلى حيث لا يدرون.
أي فرق بين المجنون الذي لا يفكر في عاقبة قول ولا فعل وبين أمة أطبقت على الجنون لا تفكر في غدها، ولا تفكر في واقعها، ولا تفكر بتصرفاتها، وإنما هي تسير مدفوعة بقوة العادة والاستمرار، لو نظرنا إلى الآثار والنتائج لوجدنا محمداً صلى الله عليه وسلم يمثل قمة الصحوة الإنسانية قمة الوعي البشري قمة الحساب الدقيق لكل ما يصدر عن الإنسان من قول ومن عمل ومن نية وإرادة.
وواقع والأمة العربية التي أصرت على عنادها واستكبارها وتأديها على الحق هي أولى بأن توصف بأنها مجنونة. المجنون الذي يسفه نفسه فلا يحسب حساب واقعها ويومها وغدها وعقباها وكذلك كانت هذه الأمة كما تتقاذف موجات الرياح كثبان الرمال في هذه الجزيرة العربية تنقل الكثيب من هنا إلى هناك ومن هناك إلى هنالك كذلك كانت موجة الزمن، ودوامة الحياة، تدفع هؤلاء العرب إلى حيث لا يفكرون ولا يقدرون، فهؤلاء أولى بأن يكونوا هم المجانين (ما أنت بنعمة ربك بمجنون وإن لك لأجراً غير ممنون) الأجر الممنون هو المقطوع والضعيف نقول حبل منين أو ممنون إذا كان حبلاً ضعيفاً يكاد ينقطع فمراد الله جل وعلا: أن لك يا محمد - جزاء ما حملتَ من أمانة وجزاء ما كُلفت من رسالة- أجراً من الله جل وعلا دائماً لا ينقطع، كثيراً لا يدركه ضعف، وهذا الوعد من الله جل وعلا لنبيه عليه السلام بالأجر المتتابع الكثير، على حمل الرسالة، وعدٌ قائم لكل من نهج نهج محمد وسار على طريق محمد صلى الله عليه وسلم دعوة الخير التي هي الإسلام ولا شيء غيرها، ولا شيء غيرها يا ناس ولا شيء غيرها أجرها دائم لا ينقطع لأن خيرها مستمر ما دامت السماوات والأرض.(/4)
الكلمة الخيِّرة تفعل فعلها إلى آخر الدنيا وإلى آخر الزمان قد لا نحس آثارها ولكنه واقع تقع مسؤولية عدم إحساسِنا بآثارها على ضعف الوسائل التي ندرك بها هذه الآثار.
(وإنك لعلى خلق عظيم).
أي خلق سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت للسائل:
"الستَ تقرأ القرآن؟ قال بلى قالت فإن رسول الله كان خلقه القرآن".
انظر إلى محامد الصفات، إلى كامل الخلال، التي وردت في القرآن يتصف بها الكائن الأسمى؛ تجدها في رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أريد أن أقف عند هذه الناحية لأن أحاديثنا المقبلة سوف تتضمن بإذن الله نماذج كثيرة من هذا الخلق العالي الذي مهد طريق محمد صلى الله عليه وسلم نحو قلوب، الناس وعقول الناس فستبصر يا محمد ويبصرون هؤلاء المعاندون من قومك بأيكم المفتون، والمفتون هو المجنون، سوف ترى في أي الفريقين أنت أم هم، الجنون والمجانين.
وفعلاً لقد أبصر رسول الله وأبصر المشركون أيضاً حوالي فتح مكة أن محمداً عليه السلام كان في منتهى العقل وأنهم هم كانوا في منتهى السخافة والجنون:
(إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين).
سبيل الله عند من؟ عند رسول الله. سبيل الشيطان عند من؟ عند أعداء الله من المكذبين والزائغين فاثبت يا رسول على النهج الذي وضعك الله عليه ولا تلتفت إلى ما يقوله،مَنْ حولك، قومك وما يرمونك به من تهم باطلة وأكاذيب لا معنى لها.
عند هذا الحد أريد أن أقف ولقد كنت أتصور بكل صدق أنني سأفرغ من السورة بكاملها في هذه الوقفة ومع الأسف لم يمكن ذلك فالقول في كتاب الله يُفَتَّحُ آفاقاً يشهد الله ما كنت أتصور أنني سوف أطرقها وسوف أتحدث عنها ومع ذلك فلا بأس آمل في الجمعة القادمة بإذن الله أن أفرغ من السورة كلها لنفرغ بعد ذلك للسورتين الباقيتين ثم نخلص من بعد إلى فحص دقائق السيرة وقياس ردود الفعل لدى المشركين والتعرف على المواقف التي اتخذها المسلمون حتى يكون كل عامل على بينة من أمره.
وفقنا الله وإياكم والمسلمين لما يحبه ويرضاه, وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وآله وأصحابه أجمعين.(/5)
سورة المزمل
الحلقة العاشرة - الجمعة 14 رمضان 1395هـ -19 أيلول 1975
العلامة محمود مشّوح
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد أيها الإخوة المؤمنون فما زلنا بعداء نوعاً ما عن المرحلة الحاسمة في تاريخ الدعوة ما زال الوقت مبكراً بعض الشيء عن مواجهة مستلزمات قول الله تعالى لنبيه صلوات الله عليه وسلامه: يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر.
نحن الآن في مواجهة مرحلة مبكرة في الزمان، لكن الأمر الذي يلفت النظر في هذه المرحلة أنها تكاد تُعْنَى عنايةً خاصة بشؤون الدعوة والدعاة فقط، دون التفاتٍ يُذكر إلى ردود الأفعال التي أحدثتها الدعوة في صفوف الجاهليين.
نحن نواجه الآن سورة –المزمل- ثالثة السور المكية في ترتيب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه السورة العجيبة تبدأ هكذا:
بسم الله الرحمن الرحيم
?يَا أيُها المُزمِّلُ قُمِ الليل إلا قَليلا نِصْفَهُ أو انقصْ منهُ قليلاً أو زدْ عليه ورتِلِ القُرآن تَرْتيلاً?.
وهي بداية تستوقف النظر، وتستدعي التأمل.
يا أيها المزمل؛ فاتحة عجيبة حاول بعض المفسرين حين النظر إلى هذه الفاتحة أن يفر من مواجهة مدلولها لما تخيل من أنَّ المعنى المتبادِرَ إلى الذهنِ -أول البديهة- معنى لا يليق بالنبي صلوات الله وسلامه عليه.
قول الله تعالى خطاباً للنبي عليه السلام يا أيها المزمل: والمزمل هو المتزمل في ثيابه، والمتزمل في ثيابه هو المتدثر بها، لأن أصل الكلمة من مادة زَمَلَ –الزاي- والميم- واللام- وهي تدل على الثقل والحمل وعلى التغطية أيضاً، ويُحْمَلُ الكلامُ على أن المراد به خطاب النبي عليه الصلاة والسلام وهو في حالة تهيُّؤ للصلاة، أي أن الكلام خاطب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في حالة جد والتزام مع أرقى مستويات الدعوة، مع أن الأمر على خلاف ذلك يا أيها المزمل، تزمل في ثيابه حين ينام وحين يتخفف من متاعب الدنيا وأوصابها، والنبي صلى الله عليه وسلم -وهذا هو موطن العجب- لم يكن مضى عليه طويلُ زَمنٍ ولا كَبيرُ وقتٍ وهو يتلقى وَحَي الله تعالى؛ سورتان فقط مرتا سورة العلق بنبراتها الحاسمة وفواصلها القصيرة وجرسها الشديد الوقع، وسورة القلم.
بهذا التمهل والترسل، وبما عرض له من مواقف بعض المشركين، وبما خط للنبي صلى الله عليه وآله والمؤمنين معه؛ من سبل المواجهة والوقوف في وجه المشركين؛ سورتان فقط نزلتا يتلقى النبي صلى الله عليه وسلم بعدهما هذا التعريض المر؛ ماذا تفعل يا محمد وقد جاءت الروايات بأن النبي صلوات الله عليه حين نزلت عليه هذه السورة أو أوائلها على الأقل، كان مضيفاً إلى فخد خديجة رضي الله عنها -يعني كان متكئاً ونائماً- على فخد زوجته، حالة تخفف من العبء، حالة ركون إلى أحلى ما في الحياة الإنسانية، وأمتع ما فيها حالة الإضافة إلى الزوجة التي تمثل عنصر الأمان والاستقرار والانصراف عما وراء عتبة باب الدار؛ فالله جل وعلا لم يمهل نبيه صلى الله عليه وآله لكي يَرْكَنَ إلى هذا اللون من الحياة الوادعة الآمنة المطمئنة وإنما جاءه النداء الرباني يُعَّرِضُ بحالته هذه؛ مشعراً إياه بأن حالة الدعاة يجب أن تكون شيئاً غير هذا.
يا أيها المزمل، يا أيها المفضي إلى زوجتك تلتمس عندها الراحة والهدوء؛ يا أيها النائم في بيتك المتدثر في ثيابك وفي فراشك تلتمس التخفف والدعة والهدوء والاطمئنان.
يا أيها الذي يفعل هذا فقط بعد سورتين من القرآن قم الليل إلا قليلاً، تكليف يأتي بعد تعريض. نعم في التعريض قسوة ولكنها القسوة اللازمة لإيقاظ النفس النائمة عمَّا تقتضيه الدعوة من جد ونشاط، وبالفعل تنبيه النبي عليه السلام إلى ما يراد منه، وإلى ما أراد الله به من كرامة حمل الدعوة، وكان بَعْدُ؛ حينما تناديه زوجه مريدة إياه على شيء من الراحة أن يريح هذا الجسد المتعب المكدود أن يأخذ لنفسه بعض قسطها من الراحة والنوم يقول لها مضى عهد النوم يا خديجة.
لقد وعى الدرس بتمامه بكل ما فيه من قسوة في الخطاب؛ لكن مع كل الآفاق والأبعاد التي خطها أمامه الخطاب الإلهي المكرم ?يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا?، وَذِكْرُ الليل هنا ثم استثناء بعضه يطبع في الذهن حقيقة المهمة بضخامتها وبصعوبة أكلافها، قم الليل لا تنم ثم يأتي الاستثناء من بَعْدُ يُجَرُّ جراً ضعيفاً ويسحب سحباً واهناً هذا القليل الذي استثنى الله تبارك وتعالى من القيام ومن التهجد ومن العبادة.
ماذا طلب من النبي إذاً عليه السلام؟ هل طلب منه أن يخرج شاهراً سيفه لكي يجالد المشركين، أم طلب منه أن يخرج إلى طرقات مكة وأزقتها ليحدث فيها شغباً مستطيلاً ومستعرضاً؟
هل طلب منه أن يمد عينيه إلى ما تموج به الحياة من حوله من مفاسد وشرور ويطلب إليه أن يقتلها ويجتثها من الجذور؟(/1)
كل ذلك لم يكن ولا شيء منه.. طلب محدد لَكنْ ذاتي. طلبٌ يعود على الذات؛ قم الليل إلا قليلا، ظني أن عقول أبناء هذا الزمان لا تطيق استيعاب مثل هذا الأسلوب إذا كانت الحياة من حولنا تصطرع بالتيارات الجاهلية، وإذا كانت الشرور والمفاسد من حولنا تتنزى بها جوانب الحياة تجرح الفضيلة، وتسيء إلى الحق، وتهين كل معاني العدالة والإنسانية، فما معنى أن يطلب إلى الإنسان أن يقوم الليل إلا قليلا. لكن سنمضي أولاً... سنمضي في استعراض صورة الموقف المطلوب وبعد أن نستعرض صورة هذا الموقف سَنَكِرُّ بالحديث على هذه النقطة التي أثرناها وذكرناها.
يقول له الله جل وعلا:
?قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا?.
فالمطلوب من القيام نصف الليل أو أن ينقص منه صلوات الله عليه قليلاً أو أن يزيد عليه قليلاً، وما هو أقل من النصف درجة فهو الثلث. وما هو أكثر من النصف درجة فهو الثلثان، فطلب القيام في الليل يرد بين الثلث وبين الثلثين؛ أن يقوم المسلم مع النبي عليه الصلاة والسلام فترة من الليل، لا تقل عن الثلث ولا تتعدى الثلثين؛ لكن مع ماذا مع ترتيل القرآن ومع قراءة القرآن بإمعان وبتمهل.
ما معنى الترتيل: الترتيل مصدر مادة رتّل، والراء والتاء واللام في لغة العرب جذر لغوي يدل على التنسيق والترتيب، وعلى حسن الأداء إذا حُمِلَ على الكلام لأن الأصل حين أطلقته العرب قالت ثغرٌ رَتَل أي ثغر مفلج الأسنان منتظمها بَيِّنه، يعني بين كل سن وسن فواصل دقيقة، لكن ملحوظة على نسق ونظام مرتبين، فهذا هو الأصل في الوضع اللغوي ومنه استعيرت بقية الصور في الكلام.
ما معنى الترتيل أو ما يعطيه معنى الترتيل حين يحمل على الكلام، وينظر إليه من هذه الباب؟
معناه التمهل في أداء القول، عدم الإسراع والهذِّ في الكلام ثم أن يأخذ كل حرف من الكلمة حقه من مخرجه من الجهاز الصوتي الإنساني، فالترتيل يحمل معنى التنسيق ولكن يحمل أيضاً معنى الوضوح والبيان، فالمتكلم الذي يأخذ بعض الحروف فلا يكاد يبين لا يسمى مرتلاً، والقارئ الذي يهذُّ آيات القرآن هَذَّاً، ويسرع في تلاوتها إسراعاً لا يسمى مرتلاً، أحبُّ أن أقف عند هذا المعنى؛ لأسوق واقعة كبيرة من وقائع العصر النبوي الكريم، تدلكم على مبلغ ما تأدب به النبي صلى الله عليه وسلم بتأديب الله إياه يوم قال له الله: ورتل القرآن ترتيلا.
من طبيعة الأمور أن نقرر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معروفاً وقبل النبوة أنه كان من الفصحاء البلغاء الأمناء في العرب، فهذا شيء مشهود به للنبي صلى الله عليه وسلم ولكن حينما كانت تتنزل عليه بعض الآي من كتاب الله، كان لحرصه البالغ على أن يسجل في ذهنه ويطبع في ذاكرته كلام الله جل وعلا، كان يسابق جبريل في الكلام، إرادة أن يعي وإرادة أن يحفظ ومخافة أن يتفلت من ذهنه ومن ذاكرته كلام ربنا جل وعلا، فالله جل وعلا لحظ هذا وقال له:
?ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه?.
فالنبي صلى الله عليه وسلم أحياناً يدفعه الحرص على جمع الآيات الموحى بها على التعجل في التلاوة، لكنه بعد هذا الذي وجّه إليه ولفت نظره نحوه، أصبح يرتل القرآن ترتيلا، بل أصبح كل كلامه ترتيلاً، بل أصبح إذا قال القولة يريد للناس أن يسمعوه وأن يدركوه يعيده عليهم ثلاثاً مبيناً مرتلاً. قالت أم سلمة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله يتكلم بتمهل حتى إن العادّ لو شاء أن يعدّ كلماته -صلوات الله عليه وآله- لعدَّها عدَّاً علامَ يدل هذا؟ يدل على فرط الأناة والقدرة البالغة على ملك قدرات النفس جميعاً، وأنه إذ يؤدي ما يؤدي سواء من كلام الله أو من توجيهاته الخاصة فبنفسية وبعقلية وبإمكانية الإنسان المتمكن القادر على أن يؤدي ما يريد بكل ثقة وأناة وتمهل.
هذا الطبع من النبي عليه الصلاة والسلام أعطى قراءته لونها الخاص بها ونكهتها المقصورة عليها في الأحاديث المستفيضة المشتهرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن قراءة القرآن بتعجل، وحين يقرأ القرآن أمامه على هذا النمط يقول أَهذَّاً كَهذِّ الشعر؟ كناية عن أن الذي يسرع في القراءة فقلّما يعي وقلّما يستوعب ويدرك معاني ما يقرأ.
وفي وصف قراءته عليه السلام أنه كان يقطع الآي؛ وكنت تستطيع أن تعد كلمات الآية وهو يقرؤها صلوات الله عليه، ومن هنا سهّل على الأصحاب أن يحفظوا من فم النبي صلى الله عليه وسلم آيات الله تبارك وتعالى، وسهّل على كَتَبَةِ الوحي رضي الله عنهم، أن يقيّدوا عن لسان النبي عليه الصلاة والسلام كل ما تلا عليهم من كلام ربه تبارك وتعالى، هذا الطبع أدى إلى ماذا؟ أو ماذا ينتج عنه؟(/2)
ينتج عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يصلي على نحو لا نعرفه أو لا نطيقه، كان يصلي الصلاة يطيل وقوفها، ويطيل قراءتها، ويطيل ركوعها ويطيل سجودها، ويكثر خشوعها. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: دخلت المسجد فإذا النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فقلت لأصلينّ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك كان يفعل الأصحاب رضوان الله عليهم رجاء البركة لصلاتهم خلف النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: فأففتتح في الركعة الأولى فقرأ الفاتحة ثم افتتح سورة البقرة وذهب يقرأ عليه الصلاة والسلام بهذه الأناة وبهذا الترتيل والترتيب المنقطع النظير.
يقول ابن مسعود: قلت يركع على رأس نصف السورة قال فوصل نصفها ثم مضى يقرأ. قلت: يركع على ختام السورة. قال: فاختتم سورة البقرة وافتتح آل عمران كل ذلك كما في الركعة الأولى؛ بتمهل وبتمعن وتدبر وترتيل.
قلت: لا بأس يركع على نصف سورة آل عمران، فوصل النصف ثم مضى قلت إذاً يركع في ختام السورة. قال: واختتم سورة آل عمران وافتتح سورة النساء ولقد والله -هذا كلام ابن مسعود- هممتُ بأمر سوء. قالوا بمَ هممت يا عبد الله؟ قال: هممت أن أتركه وأمضي. الرجل أصبح في حالة لم تعد ساقاه تحملانه معها.
قال: ومضى يقرأ سورة النساء حتى بلغ آخرها فركع.. ثلاث سور تشكل ما يقرب من سبعة أجزاء من القرآن لو قرأتها هذاً وبسرعة لكنت محتاجاً إلى ثلاث ساعات على الأقل لتقرأها، فكيف حين تقرأ بهذه الأناة المعروفة والمشهورة عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ليس هذا فحسب في وصف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم.
قالوا: حزرنا قراءته وركوعه وسجوده، فإذا ركوعه وسجوده نحواً من قراءته صلى الله عليه وسلم، يعني إذا كانت القراءة تأخذ من وقته الشريف نصف ساعة فالركوع والسجود يأخذان أيضاً نصف ساعة، فصلاة النبي عليه الصلاة والسلام في الثقل بعد هذا التوجيه الذي وجهه الله إليه مصحوباً باللوم، كانت على هذا النحو، كذلك طلب الله جل وعلا منه أن يفعل.
ما انتهينا بعد أيها الإخوة لا تضيقوا ذرعاً دعونا ننتهي من رسم الصورة لنعرف كيف كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم وآله وكيف كان يفعل أصحابه ثم نتساءل –بعدُ- عن الحكمة في هذا، لماذا كل هذا الرهق؟
قال الإمام أحمد رحمة الله عليه في مسنده: حدثنا يحيى قال: حدثنا سعيد هو بن عروضة عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن سعيد بن هشام أنه طلق امرأته وانحدر مرتحلاً إلى المدينة من الذي طلق سعيد بن هشام ليبيع عقاراً له بها ثم يجعله في الكراع والسلاح يعني يضعه عدة الجيش ثم يجاهد الروم حتى يموت، رجل من المسلمين أراد بتفكيره الخاص أن يتخلى عن الدنيا وينقطع عنها نهائياً ذو زوجة وذو مال.
أما الزوجة فطلقها وأما العقار وهو الأرض فانحدر ليبيعه في المدينة وليأخذ الثمن ويضعه في عدة الجيش ثم يذهب مقاتلاً الروم حتى يموت مجاهداً في سبيل الله تعالى. لماذا؟ يبتغي الأجر من العلي القدير.
قال: فلقيه أثناء ارتحاله رهط من قومه فسألوه فأخبرهم فقالوا له: إن رهطاً من قومك ستة أرادوا ذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم: أما لكم فيّ أسوة حسنة؟ ونهاهم عن ذلك، قال: فأشهدهم يعني أشهد القوم الذين لقوه على رجعة امرأته ثم رجع إلينا وقال إنه لقي عبد الله بن عباس فسأله عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم الوتر هي الصلاة المفردة التي تصلى بعد العشاء أو هي، بمعنى ما، قيام الليل؛ قال له ابن عباس: ألا أدلك على أعلم أهل الأرض بوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: يعني سعيد ابن هشام: بلى.
قال: فأتى عائشة فسلها عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ارجع إليّ، فأخبرني بجوابها إياك.
قال: فانطلقت فلقيت أفلح بن حسيب فاستلحقته إليها يعني طلبت منه أن يذهب معي فقال: ما أنا بفائدك لا أذهب إليها إني نهيتها أن تقول في هاتين الشيعتين شيئاً فأبت فيهما إلا مضياً، كان ثمة نزاع بين قتلة عثمان وبين أولياء عثمان، وكانت ثمة نزاعات بين أهل الجمل وبين جماعة ابن الزبير بداية الحركات التي عرفت بالتاريخ الإسلامي بالفتنة الكبرى، وكان لعائشة رضي الله عنها في ذلك كلام وكان لبعض المسلمين ممن أراد بزوج النبي صلى الله عليه وسلم الكرامة وعدم الدخول في هذه النزاعات، كان لهم رأي وكلام مع أم المؤمنين أن لا تتقوّل في ذلك شيئاً وعبد الله بن أفلح رجل نهى عائشة رضي الله عنها فلم تنته. قال: فأقسمت عليه فذهب معي قالت: من هذا؟ فلان؟ وعرفَتْه قال نعم. قالت: من معك؟ قال سعيد بن هشام قالت هشام؟ من؟ قال: هشام ابن عامر. قالت: رحم الله عامراً وأثنت عليه خيراً وقالت: نعم الرجل كان.
قالت: قلت: يعني سعيد ابن هشام - يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، انتبهوا الآن.(/3)
قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قال: بلى. قالت: فإن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن، أينما وجدت مدحاً لخليقة حسنة فثق أنها خلق محمد صلى الله عليه وسلم، حيثما عثرت على تفنيد وذم لخصيلة سيئة رديئة فثق أن نقيضتها عند محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه هو أبعد الناس عن هذه الخليقة المرذولة.
قال فهممت أن أقوم ثم بدا لي قيام النبي صلى الله عليه وسلم هذا.. أعطونا بالكم.. قال قلت يا أم المؤمنين أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قالت: يا بني أو ما تقرأ سورة المزمل؟ يا أيها المزمل قال قلت بلى. قالت: فإن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولاً كاملاً سنة حتى انتفخت أقدامهم وسيقانهم وأمسك الله خاتمتها في السماء يعني خاتمة السورة نهاية السورة:
?إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك?.
إلى آخر الآية التي جاءت بالتخفيف.
قالت وأمسك الله خاتمتها في السماء اثني عشر شهراً ثم أنزل الله التخفيف فكان قيام الليل أو فصار قيام الليل تطوعاً من بعد فريضة.
قال: فأردت أن أقوم ثم بدا لي وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت:
- يا أم المؤمنين أخبريني عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قالت: نعمْ، كنا نعد له سواكه وطهوره (الطَهور بفتح الطاء هو الماء الذي يتطهر به ويتوضأ به المتوضئ أو يغتسل به الجنب).
قالت: كنا نعد له سواكه وطَهوره فيبعثه الله جل وعلا لما شاء أن يبعثه من الليل فيقوم فيتسوّك ثم يتوضأ فيصلي ثماني ركعات لا يجلس فيهن إلا عند الثامنة فإذا كان في الثامنة جلس فدعا وتشهّد ثم قام ولم يسلم فيصلي التاسعة ويجلس فيدعو الله وحده ويتشهد ثم يسلم تسليماً يسمعنا ثم يصلي ركعتين بعد ذلك وهو جالس فتلك يا بني إحدى عشرة ركعة.
قالت: فلما أسنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم –ارتفع سنه وعلا- وأخذ اللحم يعني بَدُن صلى الله عليه وسلم وبانت عليه الجسامة صلى سبع ركعات ثم صلى ركعتين جالساً فتلك تسع ركعات يا بني.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها، فإذا شغله عن قيام الليل مرض أو وجع أو نوم صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة ولا أعلم نبي الله صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن كله في ركعة حتى أصبح ولا أعلم نبي الله صلى الله عليه وسلم صام شهراً كاملاً غير رمضان.
قال: فرجعت إلى ابن عباس فأخبرته بما قالت لي فقال:
صدقت ولو كنت أدخل عليها لأتيتها حتى تشافهني به مشافهة هذا الحديث.
رواه الإمام أحمد كما رواه مسلم في الصحيح من حديث قتادة بنحو ألفاظه ومعناه.
أظن أن الصورة الآن أصبحت في أذهانكم واضحة كيف كان يفعل نبي الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا النداء، كانت حياته خلال الحول الاثني عشر شهراً الذي داوم فيه على قيام الليل بهذا الشكل، حياة نصب لكن نصب وتعب لله تبارك وتعالى، يقوم الليل حتى تقرحت أقدامه وانتفخت سيقانه، وسيقان أصحابه وخرجوا إلى حد المرض ثم أنزل الله التخفيف بعد حول كامل، لكن النبي صلى الله عليه وسلم مضى على النحو الذي اعتاده -إذا اعتاد شيئاً ثبت عليه- كان إذا عمل عملاً أثبته على نفسه وأمضاه عليها حتى كأنما هو فريضة؛ ومن هنا ذهب كثير من علماء المسلمين من السلف إلى أن قيام الليل بقي على النبي صلى الله عليه وسلم فريضة إلى آخر حياته.
وإن كان أصبح تطوعاً بالنسبة إلى الأمة؛ لكنه بالنسبة إليه عليه السلام ظل فريضة طول عمره، كذلك كانوا يفعلون ويقومون الليل لا على نحو قيامكم هذا. وتراويحكم هذه التي تقرؤونها، تعرفون كيف كانوا يقومون بها من الليل بعد صلاة العشاء فلا يفرغون من قيام الليل إلا ويبتدرون السحور خشية أن يفوتهم الفلاح. يكاد الفجر يدركهم وهم قائمون لله ركعاً سجداً كذلك كان القيام.
هنا بعدما اتضحت الصورة، آن أن نسأل: ما سرُّ هذا العناء؟ لماذا كل هذا الرهق؟ لماذا كل هذا الانسحاق في متاعب قد يُخيّل إلى بعض الذين لا يعلمون، لا جدواها وعدم فائدتها، ارجعوا بأذهانكم إلى ما سبق أن قلناه قبل عدد من الأسابيع ربما قبل ستة أو سبعة أو ثمانية أسابيع لا أدري. قلت لكم بيننا نحن المسلمين في قانون الحركة وبين كل عباد الله الذين يتخذون لأنفسهم مبادئ ومناهج وخططاً وأهدافاً فارق جوهري فارق؛ إن غاب عنا نحن المسلمين فشلنا في كل خطوة نخطوها، لأننا سنبدأ البناء من البداية الخطأ، والخطأ يقود إلى الخطأ ويكرر الخطأ ونتيجة ذلك متاعب تدمر العامل تدميراً لأنها تسحب من نفسه كل حوافز الفاعلية والحركة والدأب والمثابرة، ولهذا فلابد من تحرير نقطة البداية والانطلاق تحريراً يعلو على اللبس والإبهام، ويمتنع على الشك والريبة، ويحل في نفس العامل محل البداهة التي لا تناقش.(/4)
تحرير البداية ضرورة إن كان ضرورة بالنسبة لأي عامل يريد أن يأتي عمله متقناً وكاملاً فهو بالنسبة إلينا نحن المسلمين العاملين أشد ضرورة وأعظم وجوباً فارق جوهري كما قلنا بيننا وبين الآخرين، غيرنا يأتيك فيحدثك عن مناهج العمل يحدثك عن البؤرة الثورية ويحدثك عن الطليعة القائدة، ويحدثك عن النضال ويحدثك عن الصراع، ويحدثك عن العنف الثوري لَكِنْ فَكِّرْ في كل ما يعرض عليك من مناهج وآراء ومذاهب ونظريات سواء في النظرية أو في التطبيق، سواء في الاستراتيجية أو في التكتيك فسوف تجد أن هذا المتحدث يسقط عمداً العامل الأهم والعامل الأول في كل تحرك إنساني ألا وهو هذا الإنسان.
ضع بين يدي القذر أنظف المناهج فهو كفيل بأن يوسخها.
ضع بين يدي الجائر أعدل النظم فهو كفيل بأن يخرجها من العدل إلى الجور.
العامل الحاسم العنصر الجوهري في كل تحرك بشري هو هذا الإنسان، حينما نسقط الإنسان من حسابنا نسمح للغش أن يدخل إلى التحرك من أوسع الأبواب، خذ حركات اليوم خذ قطاعاً واحداً خذ مذهباً واحداً خذ منهجاً واحداً هو المنهج الماركسي لا نطلب منه أن يلتفت إلى النفس ليهذبها ويرقيها فليس من باب المذمة والهجاء أن أقول بكل صدق وبكل نزاهة وأمانة علميتين. إن الماركسية بكل ما تفرع عنها من مذاهب ونظريات ومناهج لا يمكن أن تزهو وتزدهر من خلال في الفوضى الخلقية والانفلات الإنساني المطلق من كل قيد ومن كل حد ليس هذا من باب المذمة لكنه من باب تفرد الواقع هذا غير مهم عندنا أن نعلم أن الماركسية تعتمد في التحرك الإنساني تغيير الشرط الاقتصادي في الحياة الاجتماعية وتعتبر دون لبس ومن غير لجاجة من فقهائها ومن مُشَرِّعيها ومن مفلسفيها ومنظريها تعتمد على هذا الشرط لا غير، وترى أن كل تغيير في واقع الحياة الاجتماعية وفي واقع النفس البشرية خاضع وتابع للتغير في الشرط الاقتصادي على اعتبار أن المستويات العليا من الحياة الإنسانية؛ المستويات الفكرية والخلقية والتصورات الدينية والأدبية والفنية إنما هي انعكاس لهذا الشرط الاقتصادي لا غير.
حالة محدودة، منهج يضع نفسه بين حدين حاسمين، يقتضي أن لا يختلف أربابه على شيء ما، ولكن انظر الآن دعك من كل التفاصيل انظر إلى التطبيق ضع اللوحة أمامك تجد أن الماركسيين في روسيا يختلفون عنهم في الصين، ومع كل مظاهر الأيديولوجية التي يتذرع بها كلا المعسكرين تجد أن ثمة خلافاً في وسيلة الأداء الماركسية..
في روسيا تقول: إن عماد الثورة عماد الحركة بعد اعتماد الشرط الاقتصادي أساساً في كل تغيير هم العمال الكادحون أي البروليتاريا الذين لا يجدون في الحياة الاجتماعية ما يبيعونه إلا قوة عملهم فقط والذين أوصلهم الضغط الرأسمالي إلى الحد الذي وضعهم على حافة الكفاف أي أن مذخور قوة العمل في العامل الفرد يساوي فقط ما يحفظ عليه القوة لمواصلة العمل في اليوم الثاني، هكذا دون زيادة.
لكنه في الصين وبعد التجربة في بلاد مترامية الأطراف ذات حضارة عريقة وحياة مستقرة ضاربة الجذور في أعماق التربة وحياة رعوية وزراعية وتخلف صناعي واضح فتشوا عن قاعدة ينسجون على منوالها كما نسجت روسيا فأعوزتهم الوسائل، في الصين لاصناعات متضخمة ولا بروليتاريا وإذاً فالاعتماد كان على الفلاحين ومنذ ماو في مسيرة الألف ميل إلى اليوم والصراع محتدم بين المعسكرين الماركسيين في الدولتين الأكبر والأقوى في النظام الشيوعي العالمي يدور حول هذه النقطة التافهة من الذي يقود التغيير العمال أم الفلاحون.
الدجاجة من البيضة أم البيضة من الدجاجة هذا كلام له خبيء لو لم تكن ثمة نفوس متباينة، لا تتفق على مبادئ الحركة، ولا تحرر نقاط الانطلاق، ما وصل الأمر بها إلى هذا الحد. أنقل المسألة أيضاً إلى أوربا بالذات خذ روسيا وخذ يوغسلافيا دولتان ماركسيتان ولكن بينهما من العداء مالا يقع تحت وصف، وقال كل منهما في الأخرى ما لم يقله مالك في الخمر، ما سبب الصراع؟ ما سبب الخلاف؟ تعبير حاد في سياق الحركة، خلاف على مركز الدولة ضمن المجتمع الشيوعي، في روسيا يذهب النظام إلى تدعيم الدولة باعتبار الدولة قائدة عملية التغيير التي توصل إلى الشيوعية في يوغسلافيا؛ يقولون: إن ماركس ومعه إنجلز وبعدهما لينين قالوا وقرروا بأن الدولة في النظام الماركسي يجب أن تتلاشى، لأن الدولة في أصل وضعها وفي معناها الدستوري أداة قهر؛ فهي إذاً أداة إرهاب، تحول دون الحرية، وتحول دون الانطلاق، وبالتالي تحول دون التغيير ومن هنا نشأت في يوغسلافيا فكرة التسيير الذاتي أي أن العمال في تعاونياتهم، وفي مصانعهم هم الذين يشرفون على إدارة الآلة الاقتصادية، وأن الفلاحين في نقاباتهم وفي مزارعهم هم الذين يشرفون على القطاع الزراعي أي أنهم رفضوا أن يتبنوا مركزية التخطيط، وتركوا للتخطيط أن ينطلق من القواعد؛ في روسيا، الأمر على النقيض من ذلك، واحتدام الصراع على هذا الأساس.(/5)
انقل المسألة إلى أمريكا اللاتينية تجد أن الجيش البروليتاري الذي قاده لينين عام 1905، ثم عام 1917 عام نجاح الثورة البولشفية الروسية كان يعتمد العمال طليعة للتحرك الثوري، في بوليفيا في كوبا، في تلك البلدان التي تحاول أن تأخذ بالنظام الماركسي، نجد الأمر يختلف عن هذا تماماً، التطور هناك يصب على البؤرة الثورية، اثنان ثلاثة، أربعة خمسة في الأكثر مدربون تدريباً عالي الكفاءة، مجهزون تجهيزاً حسناً، يحدثون من الفوضى والبلبة ما يمكن للجهاز أن يتسرب داخل المجتمع ويضع يده على مراكز التغيير ومفاتيح السلطة، تلك الخلافات تتفاعل، لماذا تنشأ في ظل مبدأ أرضي محدد تحديداً؛ فيه من الدقة ما يعوز كل المذاهب الأرضية الأخرى، والمناهج البشرية الثانية، لماذا، سبب ذلك اختلاف النفوس، نحن إذاً حينما نرى الإسلام يعنى عناية فائقة بتحرير نقطة الانطلاق، وحينما يحددها بالإنسان، فذلك يعني تماماً إدراكاً صافياً وصادقاً لقيمة الإنسان في سياق العملية الاجتماعية، لا بد أن نقرَّ سواء شئنا أم أبينا، أن هذا الإنسان أقوى قوة على وجه الأرض، وأنه قادر لو خلصت النوايا أن يعمر الأرض، وأن يجعلها تفيض لبناً وعسلاً، وقادر لو لبس لبوس إبليس، أن يجعلها جحيماً لا يطاق، بقطع النظر عن نوعية النظام الذي يكتنفه ويعيش تحته، من هنا، كانت عناية الإسلام بالإنسان يجب أن نؤهل الإنسان، يجب أن ندرب الإنسان، نحن عندنا غاية كبيرة عمل سامٍ ونبيل، رسالة إلهية، تحتاج نوعية من الناس كفاءها، إن كانت دونها فسوف تفشل، لا يمكن إلا أن يكافئ الإنسان –حامل الرسالة- وهذه الرسالة، حينما يتكافآن تسير القافلة في طريقها اللاحب إلى الله دون تعثر ومن غير التواء، ومن هنا كانت العناية بالإنسان، هذا الإنسان تحت أي ضوء يُحدد موقفه، ويُحدد الموقف منه. تحت ضوء الرسالة بالذات، أي بعبارة دقيقة وصريحة، إن الإنسان هو الذي ينبغي أن يتكيف، وأن يتلاءم مع مقتضيات الدعوة، وليس العكس، يعني أنه من الضروري أن يرتفع هذا الإنسان إلى مستوى دعوة الله من وجهة النظر الإسلامية..
(وهذه هي الفكرة التي يريد الشيخ –رحمه الله تعالى- أن يصل إليها في نهاية حديثه عن سورة المزمل التي ترتفع بالشخصية المسلمة إلى الموضع الذي يريده الله لها، وقد ختمنا هذه الخطبة بهؤلاء الثلاثة الأسطر من عندنا لأن الشريط الممسوح لم يسعفنا بحديث الشيخ غفر الله له.)(/6)
خاتمة سورة المسد(3)
الحلقة (31) الجمعة 18 شعبان 1396هـ - 31 آب 1976م
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
بسم الله الرحمن الرحيم
أوصيكم عباد الله وإياي بتقوى الله.
(إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون).
أما بعد أيها الإخوة المؤمنون فلولا ما جَشَّمنا الله تعالى من واجب التوجيه والدعوة إليه، والتبصرة بمحاسن الإسلام وضرورة العمل له، وحثّ الناس على الاستمساك به؛ لولا هذا لكان جديراً بالإنسان أن يقعد يجتر الحسرة الطويلة، والألم الكاسح على أمة أضاعت صوابها، وأفلت من بين أيديها قيادها، وتلاعبت بها أبالسة الجحيم وهي سادرة في غفلتها، ماضية في غيّها تتفجر النذر والأخطار من بين يديها ومن خلفها، فما تكاد تعي.
يا ويح أمتي يا ويح شعبي، يا ويح شعبي يا ويح قومي.
أيعلمون ما الذي يراد بهم؟ أيدرون ماذا يخطط لهم الأعداء التاريخيون؟
يا ويح أمتي. أتستحق شرف الانتماء إلى محمد بعد كل هذا البلاء؟
أتستحق شرف العزوة إلى الإسلام بعد كل هذا التمرد على الله؟
بعد كل هذه الجفوة لهذا الإسلام العظيم.(/1)
يا ويح أمتي. لقد كنتُ حريصاً اليوم على أن أواجه معكم سورة التكوير، وكنت فيما بيني وبين نفسي قد قررت أن أضرب صفحاً عن إلحاح الكثيرين من الإخوة الذين أرادوا أن أعيد لهم أخريات الأفكار التي عرضتها في الجمعة الماضية، ولكن الذي حدث ودهم الأمة، بما يجري من تقتيل المسلمين وذبحهم بأيدي المسلمين وعلى أرض المسلمين- وما يصوره الأشرار معركة بين يمين ويسار - وهي في الحقيقة معركة بين الإسلام وبين أعداء الإسلام؛ من كل صنف ولون من فاسقين ومنحلين ومتآمرين وخونة وجواسيس وعملاء للمخابرات الأجنبية يتسنمون ذرى السلطة في أمة فقدت صوابها وأضاعت طريقها وعتت عن أمر ربها، فأصابها ما توعّدها به الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، لئن فعلت ذلك ليتيحنّ لها فتنة تدع الحليم حيران؛ لولا هذا لكنت اليوم معكم على هيئة من الأمر أستعرض سورة التكوير ولكن الذي حدث جعل الأحداث تتوالى في ذهني وجعل الوقوف مرة أخرى عند ما عرضناه في الجمعة الماضية في أخريات الخطبة واجباً كي لا يطيش الصواب أمام هول الفجيعة، ومع ذلك فمن الخير، من الواجب أن يعلم المسلمون؛ ما الذي يراد بهم لقد تداعى إلى ذهني أمس فقط ما قرأته في شتاء العام الماضي من بيان أصدرته الرهبانيات في لبنان، الرهبانيات وما أدراك ما الرهبانيات، تدعو إلى اعتبار لبنان وطناً للمسيحيين، وتزعم أن العرب في لبنان غزاة، وأن المسلمين في لبنان لا مكان لهم، وأن عليهم كما خرجوا من الصحراء أن يعودوا إلى الصحراء؛ وهذا بيان صدر في شتاء العام الماضي، قرأه الساسة العرب الذين يزعمون أن المعركة بين يمين ويسار وطووه وطووه؛ لأنهم طرف في المؤامرة الواسعة التي تدبر على هذه الأمة لِيُغْتَال تاريخها ولتدمر حقيقتها، ولتكون ساحة مكشوفة مفتوحة للتدمير والانحلال الذي يراد لهذه الأمة.. تذكرت ذلك وتذكرت قبله.. تذكرت قبله ما صدر في مصر بلد العروبة بلد الإسلام بلد الأزهر، من قرارات اتخذها الأقباط يدعون فيها إلى خطة خبيثة تروج بين المسلمين بدعة تحديد النسل كي يقل نسلهم؛ وتروج بين النصارى التشجيع على الزواج والنسل، كي يزدادوا عدداً حتى إذا وصلوا في مرحلة، حددوها في مقرراتهم إلى عدد محدود، قاموا فأخرجوا المسلمين من مصر، لتعود مصر قبطية مسيحية؛ ويطرد العرب إلى جزيرة العرب إلى الصحراء من حيث خرجوا. أَذْكُرُ كل هذه الأشياء التي تداعت إلى ذهني كالبرق، وأذكر المآسي.. ما كان في الأربعينات من خلق هذه الدولة الغريبة -إسرائيل- وما يكون اليوم من فصول شبيهة بها حذوك النعل بالنعل، فما يحدث على لبنان يراد أن يكون في لبنان وطن قومي للمسيحيين؛ كما أن في فلسطين وطناً قومياً لليهود. هل انتهينا..! ما زالت المآسي تتسلسل فصولاً - لا تريد أن تنتهي لا تريد أن تغيب عنا.. هذه مشكلة- تفجر في العراق وسوريا بداعي القومية، السلاح الذي رفعناه من أجل التوحيد يرفع اليوم ليكون عامل تفريق وتبديد، يقال لا بد لهم من دولة وهذه أسلحة تنصب على إيران بدأ من قطعة البارودة وانتهاء بالقنبلة الذرية، لمن يا إخوة؟ لمن يُحَضَّر هذا السلاح؟ لصالح من تحشد المنطقة هكذا لكي يحال بين هذه الأمة وبين أن تعي حقيقتها، لكي يحال بين هذه الأمة وبين أية لحظة من الاستقرار والهدوء تتيح لها أن تفكر بطمأنينة، وأن ترى طريقها بوضوح وبهدوء أعصاب، ما أقول هذا لكي أستشير عواطفكم فما أريدها الآن فأنا أعرف خطر العواطف المهتاجة التي تنطلق عمياء غير مبصرة؛ ما أريد ذلك ولكني أريد فقط أن تعرفوا الحقيقة وأن لا تغيب عن أذهانكم لأنكم في الحقيقة تعيشون بين شياطين تعيشون بين أبالسة؛ يصورون لكم الحق باطلاً والباطل حقاً ويختانونكم عن أنفسكم، بل يسرقونكم من أنفسكم سرقة، أريد لكم أن تعرفوا وتدركوا هذه الحقيقة التي أصبحت كالشمس وضوحاً وجلاء؛ إن كل من على الأرض يحارب المسلمين ويعادي المسلمين ولا يريد للمسلمين أن يلتفتوا إلى أنفسهم ولو لحظة من زمان لذلك كان واجباً أن أعود مرة أخرى إلى بعض الأفكار التي طرحتها في الجمعة الماضية أريد أن أعود إليها في هذا الجو الذي يستجيش العواطف، ويبتعث الشجون ويفجر الآلام، لأقول لكم منذ البداية إن الإسلام فوق العواطف وفوق الشجون وفوق الآلام هناك طريق مهما تكن المثيرات ومهما تكن المزعجات فعلى المسلمين أن يلتزموه عليهم أن يظلوا سائرين فيه نحن نعيش ضمن واقع بشري لا مجال للتغاضي عن حقائقه ولا عن تأثيره ومقتضياته كل ما في العالم من مشكلات ومشكلاتنا جزء من مشكلات العالم فإنما تسبب عن انشطار العالم إلى كتلتين بعد الحرب العالمية الثانية الكتلة الغربية بقيادة أمريكا والكتلة الشرقية بقيادة روسيا وكلتا الكتلتين تدعيان الحفاظ على السلام وتدعيان عون المجتمعات المتخلفة على أن تلحق بركب المجتمعات المتقدمة وتدعيان وجود حل المشكلات العالمية بالوسائل السلمية وعن طريق الحوار؛ ونقول نعم إن المشكلات العالمية تحل بين(/2)
الكتلتين الكبيرتين عن طريق الخط الأحمر بين موسكو ونيويورك بالطرق السلمية وعن طريق الحوار ولكن الرصاص يلعلع دائماً في بقية أجزاء العالم لأن طريق السياسة عند الكتلتين الكبيرتين الطريق الذي فرضتاه على مجموعات العالم كلها يقضي بذلك ويراد أن يظل هذا الصراع مشتعلاً ومستمراً حتى تصفى نهائياً كل دول العالم لصالح كتلة واحدة تفرض عليها سلاماً إما بالرضى وإما بالكره وبقوة السلاح.
هل يتساءلون عن معاني الشرف والاستقامة؟
هل يتساءلون عن مصير الجنس البشري؟
هل يتساءلون عن مصير السلام الذي يدعون إليه؟
نقول: لا.. إن السياسة العالمية وسياستنا نحن دول العالم الثالث الدول التي تدعي أنها غير منحازة، الدول التي سيجتمع زعماؤها عما قريب ليقرروا عدم الانحياز نحن منحازون ونحن نسير ضمن المخطط الذي يرسم لنا.. لا شرف ولا استقامة ولا عدالة ولا رعاية للمعنى الإنساني ولا تفكير بالمصير البشري ذلك هو نهج السياسة العالمية وأين الذي يرد على هؤلاء نهجهم كله؟
هل هي دول عدم الانحياز؟
هل هي كتلة الحياد الإيجابي؟
هل هي الصين التي تتهم روسيا بأنها أصبحت دولة إمبريالية؟
هل هي هل هي؟
لا.. ثقوا أنه لا يوجد على ظهر هذا الكوكب من هم مؤهلون لكي يقولوا لهذا الركب الشارد مكانك إلا المسلمون. المسلمون فقط هم الذين يملكون تعديل اتجاه السفينة.. بأي شيء؟ بما يملكون من عقائد بما يملكون من قيم بما يملكون من شرائع بما يملكون من نظرة إنسانية جامعة عامة بما يملكون من حس نادر بالعدالة. إنه لو أتيح لكم أن تطلعوا على فلسفة الإسلام وعلى مبادئ الإسلام وعلى وقائع تاريخ الإسلام وعلى طرائق المسلمين في معاملة الخصوم وعلى طرائق المسلمين في معالجة المشاكل والقضايا الصعبة لآمنتم مع الكاتب الإنكليزي الذي مات منذ زمن قريب برنارد شو الذي كان يقول:
لو كان محمد حياً لاستطاع أن يحل مشكلات العالم وهو يشرب فنجاناً من الشاي.
إن مشكلات العالم مشكلات مصنوعة صنعتها الأطماع وصنعتها الأغراض وصنعتها نفوس خربة خلت من القيم وخلت من معاني الشرف، وخلت من حسن الاستقامة والعدالة فهي من أجل ذلك تتفاقم وتتراكم وتتفجر هنا وهناك ولو أن الذين يملكون قياد الإنسانية اليوم يرعون هذه الأمور لتغير وجه العالم.
إن العالم اليوم ينفق على التسلح فقط في كل عام ما يغني سكان الكوكب الأرضي لعشرة أعوام، كل عام يُنْفَقُ على السلاح في العالم ما يشبع الناس على ظهر هذا الكوكب عشرة أعوام، ومع ذلك لا يجد هؤلاء نقطة من الحياء تردهم عن أن يقولوا إنهم يعملون للسلام ويعملون لخير الجنس البشري.
نعود إلى ما سبق أن عرضنا أطرافاً منه في الجُمَعِ الماضية - وأحتفظ لنفسي بحق القول سلفاً إنه لولا الضرورة ولولا إلحاح الكثيرين من الإخوة ما فعلت ذلك- فأنا أحب أن يأتي كل شيء في أوانه وكل فكرة مفصلة في مكانها المناسب والذي هو لها، وأن بحثنا مثل هذه الأمور يتطلب عودة إلى شوط وافر يجب أن نقف عليه أن نبحث هذه الأمور كما أقدر في ذهني وكما خططت وقدرت سوف يأتي كله حين نغربل جميع القضايا التي عرضت في السور المكية إن شاء الله تعالى؛ مع ذلك فالحاجة تدعو ولو لتطمين هذا الهيجان الذي يحس به كل منا إزاء الذبح والتقتيل وإزاء المظاهر اللاإنسانية وإزاء المواقف الخالية من الشرف والقيم، يجب علينا أن نعود إلى حقائق ديننا هذا الإسلام منذ تنزل أول الأمر، تنزل للناس كافة (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً) وهذه حقيقة يجب أن لا تغيب عن البال ومعنى كونه جاء كافة للناس أن الناس يتساوون أمام هذا الإسلام فلا محاباة ولا مجاملة ولا امتياز، ولا ألمانيا فوق الجميع ولا العرب فوق الجميع، ولا كذا فوق الجميع وننظر فلا نجد أحداً تحت لأن الكل أصبحوا فوق.
هذا الإسلام جاء ليعلن أن الله خلق الناس من ذكر وأنثى وأنه إذ خلقهم كذلك فإنما خلقهم ليتعارفوا وأن تعارفهم فيما بينهم يكون وفقاً للميزان الذي حدده الله (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) فمنذ البداية أزيلت حواجز الجنس وفوارق القوميات وفوارق الطبقات ووجب أن يكون الناس جميعاً إخوة متعارفين، ولكن هل التعارف الذي يكون في أروقة الأمم المتحدة ويطبخ هناك على حساب الضعفاء والمغلوبين على أمرهم حيث تستعلن القاعدة الشهيرة:(/3)
(الحق هو حق الأقوى) لا.. إنما يتعارف الناس على مبادئ الكرامة الإنسانية ومبادئ العدالة الإسلامية ولو كان الأمر غير ذلك لكان حقاً أن يؤخذ بالرعاية جانب أبي لهب، إنه عم النبي وأولى الناس أن يُغَارَ عليه وأن يعمل على إبعاد النقمة عنه، ولكن محمداً عليه السلام وهو النبي المكرم لم يملك لعمه من الله شيئاً فاستحق بمواقفه المشنوءة البغيضة، أن تنصبّ عليه نقمة الله جل وعلا وأن ينزل في حقه قرآن يتلى ويتعبد الناس بتلاوته ما بقي على ظهر هذا الكوكب إنسان فالعبرة الكبيرة التي يخرج منها قارئ سورة المسد أن العلائق التي تعارف الناس عليها من علائق القرابات والمودات وسائر اللُحَمِ التي تصل بين الناس أمور لا قيمة لها لأن الناس ارتبطوا بعد نزول هذا القرآن بالمعنى الذي حدده الإسلام وهو الرابطة بالله تبارك وتعالى ورفض الناس بعد ذلك أية رابطة أخرى هذا مع عدم إغفال أن نقول كما عرضنا للمسألة من قبل إن مسألة التعارف بين الأمم والشعوب، تقتضي إيجاد الوسائل العملية التي لا تحول بين الناس وبين هذا التعارف.. من جملة هذه الحواجز التي تمنع التعارف بل من أهمها على الإطلاق فارق اللسان خط الإسلام في نهجه أن يتعلم المسلمون اللغة التي نزل بها القرآن لكي يقرؤوا القرآن بنصه العربي ولكي يقرؤوا توجيهات رسول الله صلى الله عليه سلم بل لقد ذهب الإمام الشافعي رحمة الله عليه إلى أن خطبة الجمعة لا تصح إلا باللسان العربي، وبعد الخطبة إذا كان القوم ليسوا عرباً فلا بأس من أن يترجم لهم الخطيب ما قاله بالعربية إلى لسانهم فموضوع تقرير وجوب تعلم اللغة العربية أهم وسيلة قدمها الإسلام وأحاطها بهالة من القداسة لكي تنتهي هذه الفرقة القائمة بين شعوب هذه الكرة الأرضية حتى يتعارف الناس على المبدأ.. طبعاً نحن نقول إن اللغة وسيلة ولكن المبدأ والأساس هو العقيدة وهو قضية الإسلام فالناس أيضاً مع اختلاف المناهج ومع اختلاف السبل ومع اختلاف المشارب لا يمكن أن يتعارفوا ليس صحيحاً أن نقول إن من الممكن أن يتعارف الذي يأكل البقرة؛ مع الذي يتعبد بزبل البقرة هذا غير صحيح في الباكستان مثلاً في الهند حينما أثيرت المشكلة كان القائد المرحوم محمد علي جناح مصراً على وجوب الفصل بين الجنسين بين الأمتين الأمة المسلمة والأمة الهندوسية وكان يقدم للناس هذه القضية يقول لهم: كيف يمكن أن نكون دولة واحدة من فئتين من الناس فئة تأكل لحم البقر وفئة تتعبد بأن تطلي أجسادها بزبل البقر، هذا غير معقول فإذاً لابد قبل كل شيء من أن يكون ثمة مبدأ يتعارف الناس تحت ظلاله يتعارف الناس على أساسه فإذا سمحنا للناس أن يأخذوا مبادئ شتى وأن يسلكوا سبلاً كثيرة متفرقة فنحن نبقي على العوامل التي تفرق ولا تجمع نبقي على برميل البارود جاهزاً للاشتعال وللانفجار في كل وقت ومع ذلك فهل يكفي أن نقول إن المبدأ يكفي؟ نقول: لا.. المبدأ يجب أن تكون له مواصفات ونحن نسمع اليوم أمريكا تدعي أنها زعيمة العالم الحر، ولعمري إن هذا ادعاء عريض؛ فالمبادئ التي أعلنها الرئيس ولسون أثناء الحرب العالمية الأولى والتي كان يراد لها أن تحفظ السلام على العالم والتي قامت على أساسها عصبة الأمم غير المأسوف عليها؛ لا قيمة لها عند الأمم التي يراد أن تكون خولاً وعبيداً للأقوياء في الوقت الذي أعلن فيه ولسن مبادئه الأربعة عشر - كان في القاهرة يحاضر في ذلك التاريخ قبل ما يزيد على ستين سنة - ويمتدح اليهود ويعدهم بأن سيكون لهم وطن في قلب الوطن العربي، ويعلن غبطته ويعلن سروره لأن اليهود بدأوا يعرفون وطنهم وسوف يتجمعون فيه في يوم من الأيام وهذه الفتن التي تشتعل في كل جزء من أجزاء العالم أين أمريكا عنها إن إصبعها يتراءى وراء كل مشكلة في العالم؛ فالسلام الذي تنادي به سلام لصالحها، سلام يحفظ أغراضها ويحفظ أطماعها في بقية أجزاء العالم؛ وما يقال عن سلام الولايات المتحد وحليفاتها يقال أيضاً عن سلام روسيا وحليفاتها فسلام روسيا سلام مجزوء، لأنه سلام المسحوقين كما يقولون - سلام البروليتاريا - كما يقولون وأما بقية الناس فلا حرية لهم لأنهم أعداء، الشعوب هكذا يقولون ومع ذلك فحوادث المجر وتشيكوسلوفاكيا وكل جزء من أجزاء العالم تدلك على أن هذه الأمة كذلك تريد سلاماً لصالحها أما العدالة فهي غير موجودة لا هنا ولا هناك نتساءل ما السبب في ذلك؛ نقول ببساطة إن السبب في ذلك فقدان الحس الإنسان لدى هذه الأمم، إن الحس الإنساني ضرورة لأنه هو الذي يقضي على الأنانية القومية وما لم تكن الأمة قادرة على أن تعترف بغيرها من الأمم وما لم يكن الإنسان قادراً على أن يعترف بغيره من بني البشر فلا فائدة من التعامل معه لأنه لن يكون أكثر من حيوان شرس وحش كاسر ينتظر الفرصة لكي يطبق على فريسته فيجهز عليها.(/4)
إن المبدأ وحده لا يكفي فالمبدأ له مواصفات وهذه المواصفات المؤسسة على المعدلة الكاملة على الحس الإنسان السليم مفقودة إلا في هذا الإٍسلام هنا نصل إلى قضيتنا وهي القضية الهامة والقضية التي تفتح أمام الإسلام في هذا العصر الذي يموج بالفتن إمكانات للنمو والتوسع لا حد لها بشرط أن يعي رجال الإسلام وأن يعي شباب الإسلام حقائق الإسلام وأن يعرفوا جيداً طرائق الإسلام في السلوك وفي العمل وفي النظر إلى الأمور.
الإسلام أقام مبدأه مؤسساً على عقيدته ومشتقاً من عقيدته فكما أن الله واحد فالإنسانية أيضاً واحدة والإنسان بما هو إنسان أوجده الله تعالى لأي شيء؟ افتحوا القرآن واقرؤوا من أول البقرة أول سورة في القرآن تجدون الله جل وعلا يخاطب ملائكته:
(وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون).
الغاية إذاً هي الخلافة عن الله تبارك وتعالى بإقامة شرعه وتحقيق ميزانه الذي أنزل على أنبيائه ورسله ولكن هل هذه الخلافة أمر سهل؟ ما أظن أن أحداً يعرف ما يقول يدعي سهولة هذا الشيء إن الإنسان فعلاً كما قالت الملائكة يفسد في الأرض ويسفك الدماء ويقطع الأرحام ويقطع ما أمر الله به أن يوصل ويعصي ويزل ويضل؛ ومع ذلك ففي وسط هذه الأهواء المشتبكة والرغبات المضطربة المتضاربة يكون موقف الإنسان المسلم مؤسساً على قواعد العدالة عن قناعة بفشل كل ما تجر إليه الرغبات العارضة والشهوات الهابطة والعواطف المهتاجة إن الخلافة عن الله غرض عظيم ولكن الخلافة عن الله أيضاً لها مقتضيات ومقتضياتها مؤسسة على حس العدالة المطلوبة اقرؤوا إن شئتم ماذا يقول الله جل وعلا لنبيه داود عليه السلام يقول الله تعالى:
(يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب).
فإذاً نحن الآن نضع أيدينا على أول القضايا الضخمة التي عرضها الإسلام وحملها لهذه الأمة المباركة المختارة خلافة الله الخلافة عن الله رب العالمين تتمثل في إقامة أوامر الله تبارك وتعالى وفي مكافحة جميع القوى والتيارات التي تصد عن سبيل الله ولكن هذا يجب أن يكون منظوراً إليه تحت مصباح العدالة التي لا تزيغ شعرة إلى يمين أو شعرة إلى شمال:
(فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله).
فإن سبيل الله جل وعلا هو الصراط المستقيم الذي من أخذ به نجا، ومن خالف عنه هلك وخاب وبار، هذه واحدة يجب أن تحفظوها ولكن هل يكفي بالنسبة لهذه الإنسانية المنكودة الحظ، أن نطلق لها شعارات تخدرها وتنوّمها وتصوّر لها إمكانيات حلول تبشر بمستقبل زاهر سعيد آمن مطمئن؛ أبداً إن الشعارات التي من هذا القبيل لها كل هذه الضخامة، لا بد لها من معاناة ولا بد لتحقيقها من صبر طويل، ولا بد لحملها من أناس تتحقق فيهم مواصفات الخلافة في الأرض والخلافة في الأرض؛ كما قلنا عدالة مطلقة، ووقوف حازم مع حقائق الشرع الذي أنزله الله على خاتم أنبيائه محمد صلى الله تبارك تعالى عليه وسلم، فهذا يحتاج إلى نضال ويحتاج إلى مجاهدة ويحتاج إلى صبر ويحتاج إلى مصابرة.
- اسألوا أنفسكم هل كان هيناً على محمد صلى الله عليه وسلم أن يقرأ هذا الهجاء المر لعمه أخي أبيه - ما أظن ذلك - محمد بشر تثور في نفسه كل العواطف التي تثور في نفس البشر، ومع ذلك فإن محمداً عليه السلام قرأ على الناس ما أنزله الله تبارك وتعالى في حق عدو الله أبي لهب - مع أنه عم النبي محمد صلى الله عليه وسلام - أرأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضرت الوفاة عمه أبا طالب وهو حاميه وهو كافله، وكان يريده على أن يقول كلمة الإسلام يقول له:
"يا عم قل كلمة أشفع لك بها عند الله يوم القيامة، قل لا إله إلا الله".
فيقول: يا ابن أخي لولا أن يقال جزع من الموت لأقررت بها عينك، ولكن على ملة الأشياخ.
على مبدأ آبائه عبد المطلب وآباء عبد المطلب الذين ماتوا على الشرك؛ ويأخذ الألم من محمد صلوات الله عليه مأخذه، وينوي فيما بينه وبين نفسه أن يستغفر لعمه، وينزل قول الله تبارك وتعالى:
(ما كان للنبي والذين آمنوا معه أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم).(/5)
أية عواطف تثور في هذه النفس الكبيرة نفس محمد صلى الله عليه وسلم وهو يرى العم الذي حماه، العم الذي كفله ورباه، العم الذي تحمَّلَ كل مساءات قريش من أجل أن يبقى محمد عليه الصلاة والسلام موفور الكرامة، يموت على الشرك ولا يملك له من أمر الله شيئاً فالأمر ليس أمر شعارات، لكنه أمر معاناة صَبَرَ عليها المسلمون الصبر الطويل، كيف كنت تجد الساحة معروضة أمام عينيك، هذه المجموعة التي تلتف حول محمد صلى الله عليه وسلم أبو بكر عمر عثمان وغيرهم من السادة إلى جانبهم العبدان والعتقاء المحررون حديثاً والذين كانوا في المجتمع الجاهلي منبوذين، كانت الجاهلية لا تعترف بهم ولا تنظر إليهم فضمّهم الإسلام تحت جناحيه وكوَّن منهم أمة لقَّنها مبادئ وعرَّفها طريقه - فسارت فيه - سارت فيه تهذب وتشذب من عواطفها ومن رغباتها ومن كل أشياء الدنيا التي كانت متعلقة بها، حتى استقامت أمة على طريق العدل وعلى قاعدة الإحساس الإنساني الكريم، تعالوا بنا.. هذه الأمة بما أنها تدعو إلى وحدة إنسانية جامعة؛ لا يجوز لها أن تضل عن الطريق طرفة عين، لا يجوز لها أن تذل الإنسان لأن رصيدها كله هو هذا الإنسان بل عليها أن تشحن الإنسان، بكل معاني العزة وبكل معاني الكرامة وبكل معاني الشعور الإنساني العالي النبيل، ولا يجوز لها أن تميل مع الهوى فتحابي من أجل القرابة أو من أجل المودة أو من أجل أي غرض أو مكسب أو أي مطمع كان وإنما تصميم على سلوك طريق العدل. إن المسلمين تعرضوا لوقائع تجلت من خلال هذه الوقائع قيمة المبادئ التي يحملونها؛ ونحن في هذا الزمان حينما ندعوكم وندعو المسلمين جميعاً إلى أن يلتفوا حول الإسلام.... وأن تتكتل جهودكم جميعاً لتكونوا الأمة الواحدة الحزب الواحد (ألا إن حزب الله هم المفلحون) فإنما نريد أن يتجلى من خلال مواقفكم سماحة الإسلام وعدالة الإسلام وصلاحية الإسلام لحل مشكلات الحياة وحل مشكلات الأحياء.
- المسلمون في ذلك الزمن البعيد تعرضوا لمواقف تجلت فيها مبادئ الإسلام على عظمتها نبدأ من البداية ومن خلال الأمثال سوف تكتشفون أشياء عجيبة:
حينما أراد الرسول عليه الصلاة والسلام في السنة السادسة أن يزور البيت في السنة التي تعرف - بسنة الحديبية - صدَّه المشركون عن البيت ولم يسمحوا له بزيارة البيت أبداً، وكادت تقع الواقعة بين المسلمين والمشركين ما لكم في النهاية جاء آخر موفد سهيل ابن عمرو يتفاوض مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتم الاتفاق شفهياً مبدئياً ولم يوقع بالأحرف الأولى، ثم على أساس أن يرجع النبي صلى الله عليه وسلم ولا يدخل مكة هذا العام فإذا كان العام، القادم جاء فدخل مكة لا يحملون من السلاح إلا السيوف في القُرَب، وَتُخْلِي لهم قريش مكة حتى يعتمروا ثم يرجعوا؛ اتفاق شفهي.. في هذه الأثناء جاء أبو بصير ابن سهيل بن عمرو جاء منفلتاً وهو يرسف في القيود، الحديد في يديه ورجليه، جاء هارباً لاجئاً إلى محمد لاجئاً إلى المسلمين:
- يا عباد الله أُردُّ إلى المشركين يفتنوني عن ديني.
وثارت عواطف المسلمين ماذا كان موقف محمد عليه الصلاة والسلام بكل هدوء بكل رزانة بكل كبرياء بكل عظمة؛ قال يا أبا بصير اصبر احتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك فرجاً ومخرجاً، إنا قد أعطينا القوم وأعطونا أي جرى بيننا اتفاق وإنه يا أبا بصير لا يصلح في ديننا الغدر. اسمعوا الكلام العالي: لا يصلح في ديننا الغدر لو رأيناك تقطع تمزق تتخطفك الكلاب، لا يمكن لنا أن نتراجع بعد أن أعطينا العهد و أعطينا المواثيق لا يمكن، وعاد أبو بصير إلى مكة يسحبه أبوه سحباً ليعذبه كي يفتنه عن دينه ويرده إلى الشرك بعد الإسلام.
- هذا الموقف ليس ثمرة شعار تلوكه الألسنة الفارغة وتردده ترديداً ولكنه نتيجة تربية طويلة مؤسسة على عقيدة راسخة بصلاحية المبدأ وباستقامة الطريق.(/6)
أيضاً تمضي الأيام وينساح المسلمون ويخرجون إلى الدنيا يفتحون المدن ويقوضون الدول وفي جملة ما فتح فتحت مدينة حمص، هذه التي تعرفونها، وجرى الاتفاق على أن يمنع المسلمون أهالي حمص من عدوان أعدائهم، وأن يدفع أهالي حمص الجزية إلى المسلمين. يسمع أبو عبيدة رضي الله تعالى عنه وهو قائد جيوش المسلمين في الشام أن الروم قد جمعوا لهم جموعاً عظيمة ويجلس مع قادته وأركانه فيقدرون الموقف ويتضح أن المسلمين لا يستطيعون أن يفوا بوعودهم وعهودهم لأهالي حمص ما المخرج يرجع المسلمون الجزية التي أخذوها إلى أهل حمص ويقولون لهم نحن عاجزون حالياً عن حمايتكم، ولهذا فنحن نرد إليكم ما أخذناه منكم فإذا أظفرنا الله على عدونا ونصرنا عدنا إليكم فأخذنا منكم ما اتفقنا عليه - أية دولة تفعل؟ هذا أكثر.. تمضي الأيام وفي زمن عمر رضي الله عنه تفتح العراق وتفتح أطراف فارس وتقام أمام القضاء الإسلامي أغرب دعوى عرفتها الإنسانية: مدينة نهاوند في فارس يفتحها المسلمون، فإذا فتحت يتقدم أهلها بشكوى إلى الخليفة ما مضمون الشكوى؟ مضمون الشكوى أن فتح البلد كان على غير الطريقة الإسلامية، ولذلك فهم يعتبرون هذا الفتح باطلاً ويطالبون المسلمين بالخروج من المدينة لماذا لأن القاعدة الإسلامية تقول إنه لا يجوز لنا أن نفتح مدينة أو نشن حرباً، حتى نخير الناس بين ثلاث.
إما الإسلام فإن أجابوا لذلك كان لهم ما لنا وكان عليهم ما علينا.
وإما الجزية فيعيشون تحت رعاية المسلمين وبحماية المسلمين.
وإما القتال.
وهذه المدينة يدعي أهلها أنه لم يخيرها أحد بين هذه الأمور الثلاثة وفتحت عنوة ولذلك فهي تعتبر الفتح باطلاً. وفعلاً يأمر الخليفةُ قاضيَ المسلمين بأن ينظر في الدعوى وتقدم البينة أمام القاضي أن المسلمين خالفوا الشرط.. شروط الفتح، ويحكم بإخلاء المدينة من الجيش المسلم: وفعلاً يخرج الجيش المسلم أية دولة تفعل هذا؟ إن دول اليوم إذا دخلت قرية أذلت كبارها وهتكت نساءها وقتلت رجالها ونهبت خيراتها وفعلت الأفاعيل؛ ولكن المسلمين أصحاب قضية أصحاب مبدأ أصحاب طريق لا يرتبط بالمصالح القومية العابرة ولكن بالمصلحة البعيدة بالمصلحة الإنسانية العليا النهائية ولذلك لا يقفون عند هذه الصغائر ولا يقيمون لها وزناً دينهم علمهم ذلك على الحب وعلى البغض وعلى الكره وعلى الرضى وعلى الغضب. لا بد من العدل والنبي عليه الصلاة والسلام حين كان يدعو ربه كان يرفع يديه إلى السماء ويقول: وأسألك كلمة العدل في الرضا والغضب.
لأن الإنسان قد يميل مع الهوى قد يميل مع المحبة قد يجنف مع البغضاء ومع العداوة، والمسلم مطالب بأن يكون قد وفر لنفسه الحماية الكافية تجاه كل هذه العواطف الضارة.
تعالوا انظروا إلى سورة المائدة، سورة المائدة تفتحونها فتقرؤون بها بعد بسم الله.
(يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) العقود هي المعاهدات والمواثيق والمحالفات مع الله ومع عباد الله مع الأصدقاء ومع الأعداء فإذا قفزتم قليلاً إلى الأمام شيئاً وجدتم الله جل وعلا يقول في أوائل هذه السورة:
(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون).
فالمسلم مطالب بأن يقف هذا الموقف الكريم هذا الموقف الكبير.
بعد هذه كلها نرجع إلى الآيات التي تلوناها عليكم في الجمعة الماضية من سورة النحل وهي كما لابد أن أعترف تحتاج إلى وقفة طويلة ولكن لا بأس من استعراضها استعراضاً خفيفاً لأنها تشكل منهجاً؛ الإنسانية اليوم أحوج ما تكون إليه على الإطلاق. يقول الله تعالى وافتحوا آذانكم وقلوبكم:
(إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون).
يعظكم بماذا بالتمسك بهذه الأشياء العدل الإحسان إيتاء ذي القربى البعد عن الفحشاء والمنكر والبغي وهو الظلم وتجاوز الحدود، ويقول الله جل وعلا بعد ذلك:
(ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً إن الله يعلم ما تفعلون ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً).
هذه الكلمة تعني تنفير المسلمين أن يكون مثلهم كمثل الغازلة التي تغزل الصوف فكلما غزلت الخيط عادت فنقضته:
(ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً تتخذون أيمانكم دخلاً).
- يعني غشاً وخديعة - دخلاً لماذا؟
(أن تكون أمة هي أربى من أمة) أن تكون أمة طرف من الطرفين المتعاقدين أقوى وأكثر عدداً من الطرف الآخر؛ فهي لذلك تنتقض العهد وتخرب الميثاق وتدوس على جميع العهود والمواثيق إنما يبلوكم الله به أي أن الله يختبركم بهذا التوجيه، ويختبر صلابتكم ووقوفكم عند حدود هذا التوجيه، إنما يبلوكم الله به وليبين لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً بينكم وهنا بيت القصيد:(/7)
(فتزلَّ قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم).
هذا الخطاب لمن؟ للأمة، لأمة محمد، لأمة الإسلام، طلب الله جل وعلا منها أن تكون واقفة عند حدود العدل وأن لا تنقض العهد وأن لا تنقض الميثاق وألا تتخذ من قوتها ومن كثرة عددها ومن وفرة عُدَدها؛ ذريعة إلى نقض العهود والمواثيق لماذا؟ إذا كانت الأمة الإسلامية تضرب هذا المثل السيئ بخيانة العهود وبنقض المواثيق والعدوان على الناس فأي أمل يبقى للناس - لا شيء على الإطلاق - ولهذا حددت الآية الأخطار المتمثلة على الانحياز عن هذا الموقف (ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً بينكم فتزلَّ قدمٌ بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله).
ماذا ينتج عن نقض العهود؟ خروج الأمة عن الطريق المستقيم؛ زلة القدم بعد ثبوتها ثم ماذا؟ تذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله، المستقيم زلة القدم بعد ثبوتها ثم ماذا؟ تذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله، إنه يجب على كل ظالم وعلى كل باغ وعلى كل معتد أن يعلم حقيقة بسيطة إن حلاوة النصر بطريق الخدعة بطريق الخيانة قليلة وزهيدة، ولا بد أن يذوق الإنسان نفس الكأس التي سقاها للآخرين.
إن الأمة التي تخون والتي تخدع والتي تظلم والتي تبغي قد تتمتع شيئاً ما بثمار ما تفعل، ولكنها بكل تأكيد سوف يقع عليها كل البلاء الذي أوقعته على رؤوس الناس.
هذا واحد، والشيء الثاني بما صددتم عن سبيل الله. هذه الأمة أقامها الله تعالى لتكون شهيدة على الناس وقيمة على هذا الدين، فإذا خانت وإذا خدعت وإذا ختلت وإذا غشت، تكون صادة عن سبيل الله تبارك وتعالى.
إن سلوك الأمة خير دعاية لها.
إن سلوك الأمة أفضل دعاية.
لها إن سلوك الأمة هو الطريق الذي يتمهد تماماً لدخول الناس في دين الله أفواجاً.
قد دخلت العرب في دين محمد لما عرفت ورأت وشاهدت من سماحة محمد ومن عدالة محمد.
وهذه الأمة مع شديد الأسف تورطت عبر القرون في الأدوار التي أصابت الأمم السابقة تورطت بالغش وتورطت بالخداع، وخرجت عن المحاور التي أقامها الله عليها، فذاقت السوء فهي اليوم مستذلة وهي اليوم مستضعفة وهي اليوم مقهورة ومسحوقة، وصدت عن سبيل الله.
- كل مبدأ في الدنيا حتى مبادئ الشياطين لها دعاتها وينظر إلى دعاتها باحترام إلا الإسلام لا يستمع أحد له ولا يحترم أحدٌ دعاته لماذا، لأن الأمة بسلوكها المنحرف بطريقتها المعوجة بأخلاقها الفاسدة بمعتقداتها الضالة بتفرقها المزعج أصبحت أسوأ دعاية لنفسها، وأسوأ دعاية لهذا الدين الذي تعتقده وتعتنقه.
إننا يا إخواننا نسمع ونرى كيف يذبح إخواننا من المسلمين اليوم في لبنان ذبح النعاج. ونسمع ونرى كيف يُشرَّد أبناؤنا وإخواننا من بيوتهم، ونسمع ونرى كيف يُعتدى على الحرمات، ونسمع ونرى كيف تنتهك الأعراض على الأرض العربية وعلى الأرض المسلمة بأيدي العرب وبأيدي المسلمين، أفذلك جزاء حق وعدل أم هو ظلم من الله تبارك وتعالى؟ قيسوا المسافة بينكم وبين سماحة الإسلام وعدالة الإسلام تجدوا أن ما أنتم فيه حق وعدل؛ حق على الله أن يذيقكم الكأس التي أذقتم الناس إياها لقد ظلمتم ولقد بغيتم ولقد خستم بعهودكم ومواثيقكم مع الله، ولقد عاهدتم فغدرتم فكان حقاً أن ينزل الذي نزل - لا بأس مضى الذي مضى وحدث الذي حدث نحن لا نريد إلا شيئاً واحداً نريد أن تعوا وتدركوا حقيقة بسيطة العواطف الهائجة لا تنفع الذي ينفع في هذه الأوقات العصيبة التي تُرى نساؤنا فيها بين أيدي النصارى وبين أيدي اليهود، ويا أهل الشرف يا أهل الإيمان يا أبناء محمد، العواطف لا تنفع الذي ينفع هو أن تفكروا، جربتم كل شيء ففشلتم في كل شيء وما زلتم منذ أوائل هذا القرن تتقلبون كالمومس في أحضان الدول وفي أحضان المبادئ فماذا كانت النتيجة كانت النتيجة، مزيداً من التمزيق ومزيداً من البعد عن الله تبارك وتعالى فأدعوكم بسم الله وعلى سنة رسول الله أن تلتزموا بهذا الإسلام، وأن تعرفوا أن الله قد أخذ عليكم موثقاً فخان من فرط في موثقه مع الله، فسيمسّه العذاب الأليم.
أدعوكم إلى الله أدعوكم إلى الإسلام اتركوا كل شيء اتركوا شهواتكم اتركوا أغراضكم اتركوا مطامعكم اتركوا هذه اللامبالاة واعلموا أن الكلمة التي أنهضت محمداً قادرة على أن تنهضكم واعلموا أن القرآن الذي أخرج البداة الحفاة العراة من الصحراء فجعلهم سادة الدنيا وقادة الناس، قادر على أن يأخذ بأيديكم حتى تتسنموا مكانكم الذي أراده الله لكم كي تكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً.
وأكرر إن العصر الحاضر يفتح أمام الإسلام إمكانيات لا حد لها فلتبدأ البداية من هنا من أنفسكم اتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه ولتنظر نفس ما قدمت لغد وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.(/8)
سورة نوح
د. عبد العظيم بدوي
قال - تعالى -: " ما لكم لا ترجون لله وقارا (13) وقد خلقكم أطوارا (14) ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقا (15) وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا (16) والله أنبتكم من الأرض نباتا (17) ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا (18) والله جعل لكم الأرض بساطا (19) لتسلكوا منها سبلا فجاجا (20) قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا (21) ومكروا مكرا كبارا (22) وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا (23) وقد أضلوا كثيرا ولا تزد الظالمين إلا ضلالا (24) مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا (25) وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا (26) إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا (27) رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا " {نوح: 13- 28}.
الحلقة الثانية
تفسير الآيات
انتقل نوح - عليه السلام - إلى أسلوب الترهيب، فقال: ما لكم لا ترجون لله وقارا، قال ابن عباس: لا تعظمون الله حق عظمته، أي لا تخافون من بأسه ونقمته، ثم انتقل بعد ذلك إلى تنبيههم إلى آيات قدرة الله وعظمته في أنفسهم فقال: وقد خلقكم أطوارا، هذه الأطوار قد فُسرت في سورة الحج والمؤمنون، قال - تعالى - : " يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا "الحج: 5"، وقال - تعالى -: " ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين (12) ثم جعلناه نطفة في قرار مكين (13) ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين (14) ثم إنكم بعد ذلك لميتون (15) ثم إنكم يوم القيامة تبعثون "المؤمنون: 12- 16"، فلينظر الإنسان مم خلق "الطارق: 5"، وفي الأرض آيات للموقنين (20) وفي أنفسكم أفلا تبصرون "الذاريات: 20، 21".
ولما لفت أنظارهم إلى آيات الله في أنفسهم لفتها بعد ذلك إلى ما في الكون من آيات، فقال: ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقا (15) وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا، الذي خلق سبع سموات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور (3) ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير (4) ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين "الملك: 3- 5"، وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون (37) والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم (38) والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم (39) لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون "يس: 37- 40"، تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا (61) وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا "الفرقان: 61، 62".
ثم يلفت أنظارهم إلى النشأة الأولى التي يُستدل بها على النشأة الآخرة فيقول: " والله أنبتكم من الأرض نباتا (17) ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا " وهذه الآية كقوله - تعالى -: " منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى، وفي حديث البراء بن عازب الطويل في وصف قبض روح العبد المؤمن والعبد الكافر، قال - صلى الله عليه وسلم - في حقّ العبد المؤمن: "فيشيّعه من كل سماءٍ مقربوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهي به إلى السماء السابعة، فيقولُ الله - عز وجل -: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض، فإني وعدتهم أني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أُخرجهم تارةً أخرى".
وقوله: والله جعل لكم الأرض بساطا (19) لتسلكوا منها سبلا فجاجا يعني: أن الله هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً، وممهدة لتستقروا عليها، وتسلكوا فيها أنَّى شئتم من نواحيها وأرجائها وأقطارها، ومرادُ نوح - عليه السلام - مِن ذلك كله أن يجعلهم يُقرون بتوحيد الإلهية كما كانوا مقرين بتوحيد الربوبية، لقد كانوا مقرين بأن الله هو الذي خلق سبع سماوات طباقًا، وأنه هو الذي جعل الأرض بساطًا، وأنه الذي خلقهم ورزقهم، ثم كانوا يعبدون مع الله الأصنام والأوثان، فكان مرادُ نوح - عليه السلام - من لفت أنظارهم إلى دلائل عظمة الله أن يتحصّل منهم على الإقرار بأنّ الله يجب أن يُعبد وحده كما خَلَق وحده.(/1)
ومع طول المدّة، وتنوّع الأساليب، كانت النتيجة العصيان والتمرد، والتواصي بالكفر، قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا، اتبعوا سادتهم وكبراءهم الذين يدعونهم إلى النار، وعَصَوْني وأنا أدعوهم إلى العزيز الغفار: ومكروا مكرا كبارا، مكرًا متناهيًا في الكبر، مكروا لإبطال الدعوة وإغلاق الطريق في وجهها إلى قلوب الناس، ومكروا لتزيين الكفر والضلال والجاهلية التي تخبط فيها القوم، وكان من مكرهم تحريضُ الناس على الاستمساك بالأصنام التي يسمّونها آلهة: وقالوا لا تذرن آلهتكم بهذه الإضافة: "آلهتكم" لإثارة النخوة الكاذبة والحميّة الآثمة في قلوبهم، وخصّصوا من هذه الأصنام أكبرها شأنًا، فخصّوها بالذكر ليهيِّج ذكرُها في قلوب العامة المضلَّلين الحمية والاعتزاز: ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا، وهي أكبر آلهتهم التي ظلّت تُعْبَدُ في الجاهليات بعدهم إلى عهد الرسالة المحمدية.
روى البخاري (4920) - رحمه الله - في الصحيح بسنده عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "صارت الأوثان التي كانت في قوم نوحٍ في العرب بعد، أما وَدّ فكانت لكلب بَدْومَةِ الجْنَدل، وأما سُواعُ فكانت لهُذَيْل، وأما يغوثُ فكانت لمراد، ثم لبني غُطيف بالجرفِ عند سبأ، وأما يعوقُ فكانت لهَمَدان، وأما نَسْرٌ فكانت لحمَير، لآلِ ذي الكلاعِ، أسماءُ رجال صالحين مِن قومِ نوحٍ، فلما هلكوا أَوْحَى الشيطان إلى قومهم أن انصبُوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابًا، وسمُّوها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تُعْبَدْ، حتى إذا هلك أولئك وتنسّخ العلمُ عُبدتْ".
وقوله - تعالى -: وقد أضلوا كثيرا يعني الأصنام التي اتخذوها أضلّوا بها خلقًا كثيرًا، فإنّه استمرت عبادتُها في القرون إلى زماننا هذا في العرب والعجم وسائر صنوف بني آدم، وقد قال الخليل - عليه السلام - في دعائه: واجنبني وبني أن نعبد الأصنام (35) رب إنهن أضللن كثيرا من الناس". اه. من ابن كثير.
ولقد كان في تصريحهم بهذه الوصية لا تذرن آلهتكم إشارةٌ لنوح - عليه السلام - أنّ القوم لا خير فيهم، بل إنّ الله أَوْحَى إليه بما تشير إليه هذه الوصية، كما قال - تعالى -: وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون "هود: 36".
وهنا وجد نوحٌ - عليه السلام - هذا الدعاء ينبعثُ من قلبه: ولا تزد الظالمين إلا ضلالا، وقبل أن يتم الدعاء يَذْكُر الربُّ - سبحانه - ما أحاط بالقوم من العذاب فقال: مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا، وقد ذكر - سبحانه - في سور أخرى كيف أُغرقوا فقال: ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر (11) وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر (12) وحملناه على ذات ألواح ودسر (13) تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر "القمر: 11- 14".
وفي قوله - تعالى -: " أغرقوا فأدخلوا نارا، إشارة إلى عذاب القبر، الذي يُؤْمِنُ به أهلُ السنة والجماعة، لمن كان له أهلاً، كما يؤمنون بنعيم القبر لمن كان له أهلاً، نسأل الله أن يجيرنا من عذاب القبر وعذاب النار، وأن يجعل قبورنا روضةً من رياض الجنة، ووجهُ الاستدلال على عذاب القبر من هذه الآية: أنّ الله رتّب دخولهم النّارَ بعد غرقهم بالفاء التي تفيد الترتيب مع التعقيب، ومعلوم أنّ نار الآخرة لم يدخلوها بعد، فدلّ ذلك على أنّ النار التي دخلوها بعدما أغرقوا هي نار القبر، أعاذنا الله وإخواننا المسلمين منها، ومما يدل على ذلك أيضًا قوله - تعالى -: ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون " الأنعام: 93".
وبعد هذا العرض لعذاب القوم الذي أصابهم في الدنيا وبعد الموت، تأتي بقية دعاء نوح - عليه السلام -: " وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا أي لا تترك على وجه الأرض منهم أحدًا، ثم يعلّل دعوته بقوله: إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا " وهذا منه - عليه السلام - بناءً على ما أَوْحَى اللهُ إليه " أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن " هود: 36".(/2)
وفي نهاية المطاف، وبعد هذا الجهد الذي بذله نوحٌ - عليه السلام - في دعوة قومه، يتوجّه - عليه السلام - إلى ربّه يطلب منه أن يغفر له، فعسى أن يكون قد وقعَ منه خطأٌ أو تقصير: رب اغفر لي فأنا بحاجةٍ إلى مغفرتك، ولا غنًى بي عن رحمتك. وهكذا نرى نوحًا - عليه السلام - وهو رسول الله يستغفر الله، بينما قومه الكفرة الفجرة يرفضون أن يستغفروا الله، وفي استغفاره - عليه السلام - تعليمٌ للدعاة أن ينيبوا إلى ربهم دائمًا بالاستغفار، فإنهم مهما قدّموا من تضحيات فإنهم مقصرون، ولم ينسَ نوح - عليه السلام - أن يستغفر لوالديه وللمؤمنين والمؤمنات، فقال: " رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا "
ويظهر من استغفاره - عليه السلام - لوالديه أنهما كانا مؤمنين، وإلا لروجع فيهما كما روجع في ولده حين قال: رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين (45) قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين "هو: 45، 46".
وفي استغفاره - عليه السلام - للمؤمنين عامة ولمن دخل بيته مؤمنًا خاصة إرشادٌ وتعليمٌ للمؤمنين ولا سيما الدعاة منهم أن يستغفروا لإخوانهم المؤمنين إذا استغفروا لأنفسهم، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كتب الله له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة". "حسن. أخرجه السيوطي في الجامع الصغير، وعزاه للطبراني، وحسنه الألباني، رقم 5902".
ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب "إبراهيم: 41".
والحمد لله رب العالمين.
http://www.altawhed.com المصدر:(/3)
سورة ( ق ) جامعة لأصول الإيمان
وقد جمعت هذه السورة من أصول الإيمان ما يكفي ويشفي، ويغني عن كلام أهل المعقول، فإنها تضمنت تقرير المبدأ والمعاد والتوحيد والنبوة والإيمان بالملائكة، وانقسام الناس إلى هالك شقي وفائز سعيد، وأوصاف هؤلاء وهؤلاء . وتضمنت إثبات صفات الكمال لله وتنزيهه عما يضاد كماله من النقائص والعيوب وذكر فيها القيامتين : الصغرى والكبرى، والعالمين : الأكبر وهو عالم الآخرة، والأصغر وهو عالم الدنيا، وذكر فيها خلق الإنسان ووفاته وإعادته، وحاله عند وفاته ويوم معاده، وإحاطته سبحانه به من كل وجه حتى علمه بوساوس نفسه وإقامة الحفظة عليه يحصون عليه كل لفظة يتكلم بها، وأنه يوافيه يوم القيامة ومعه سائق يسوقه إليه، وشاهد يشهد عليه، فإذا أحضره السائق قال : { هذا ما لدي عتيد } ( الآية : 23 من سورة ق . ) أي هذا الذي أمرت بإحضاره قد أحضرته . فيقال عند إحضاره : { ألقيا في جهنم كل كفار عنيد } ( الآية : 24 من سورة ق . ) كما يحضر الجاني إلى حضرة السلطان، فيقول : هذا فلان قد أحضرته فيقول : اذهبوا به إلى السجن وعاقبوه بما يستحقه .
وتأمل كيف دلت السورة صريحاً على أن الله سبحانه يعيد هذا الجسد بعينه الذي أطاع وعصى، فينعمه ويعذبه كما ينعم الروح التي آمنت بعينها ويعذب التي كفرت بعينها، لا أنه سبحانه يخلق روحاً أخرى غير هذه فينعمها ويعذبها، كما قاله من لم يعرف المعاد الذي أخبرت به الرسل، حيث زعم أن الله سبحانه يخلق بدنا غير هذا البدن من كل وجه عليه يقع النعيم والعذاب، والروح عنده عرض من أعراض البدن فيخلق روحاً غير هذه الروح وبدنا غير هذا البدن .
وهذا غير ما اتفقت عليه الرسل، وذلك الذي عليه القرآن والسنة وسائر كتب الله تعالى، وهذا في الحقيقة إنكار للمعاد، وموافقة لقول من أنكره من المكذبين، فإنهم لم ينكروا قدرة الله على خلق أجسام غير هذه الأجسم يعذبها وينعمها .
كيف وهم يشهدون النوع الإنساني يخلق شيئاً بعد شيء، فكل وقت يخلق سبحانه أجساماً وأرواحاً غير الأجسام التي فنيت، فكيف يتعجبون من شيء يشاهدونه عياناً، وإنما تعجبوا من عودهم بأعيانهم بعد أن مزقهم البلى وصاروا عظاماً ورفاتاً، فتعجبوا أن يكونوا هم بأعيانهم مبعوثين للجزاء، ولهذا قالوا : { أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون } ( الآية : 16 من سورة الصافات . ) وقالوا : { ذلك رجع بعيد } . ( الآية : 3 من سورة ق . ) ولو كان الجزاء إنما هو لأجسام غير هذه لم يكن ذلك بعثا ولا رجعا بل يكون ابتداء ، ولم يكن لقوله { قد علمنا ما تنقص الأرض منهم } كبير معنى، فإنه سبحانه جعل هذا جوابا لسؤال مقدر، وهو أنه يميز تلك الأجزاء التي اختلطت بالأرض واستحالت إلى العناصر بحيث لا تتميز، فأخبر سبحانه أنه قد علم ما تنقصه الأرض من لحومهم وعظامهم وأشعارهم، وأنه كما هو عالم بتلك الأجزاء فهو قادر على تحصيلها وجمعها بعد تفرقها، وتأليفها خلقاً جديداً . وهو سبحانه يقرر المعاد بذكر كمال علمه وكمال قدرته وكمال حكمته، فإن شُبه المنكرين له كلها تعود إلى ثلاثة أنواع :
أحدها : اختلاط أجزائهم بأجزاء الأرض على وجه لا يتميز ولا يحصل معها تميز شخص عن شخص . الثاني : أن القدرة لا تتعلق بذلك .
الثالث : أن ذلك أمر لا فائدة فيه، وإنما الحكمة اقتضت دوام هذا النوع الإنساني شيئا بعد شيء، هكذا أبدا كلما مات جيل آخر، فأما أن يميت النوع الإنساني كله ثم يحييه بعد ذلك فلا حكمة في ذلك .
كتاب الفوائد لابن القيم الجوزية(/1)
سوق الأسهم بين المصالح والمفاسد
د. عبد اللطيف بن عبد الله الوابل 16/11/1426
18/12/2005
أصبح موضوع سوق الأسهم حديث المجالس وكثرت الأسئلة حوله واتجهت شرائح من المجتمع إليه بحثاً عن الأرباح وكان لابد لكل من عنده علم في ذلك أن يبين رأيه في المسألة ويدلي بدلوه براءة للذمة ونصحاً للأمة. وهذه رؤية في الموضوع أطرحها حسب ما بلغه اجتهادي وأسأل الله التوفيق والسداد.
وقبل الحديث عن سوق الأسهم وما يشتمل عليه من مصالح ومفاسد في حالته الراهنة لابد من ذكر مقدمات هامة ليكون الحديث عن سوق الأسهم في الإطار العام للمنهج الإسلامي المتميز:
الكسب الحلال مطلب شرعي، أمر الله المؤمنين به كما أمر المرسلين، فقد ثبت في الحديث الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يا أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: " يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم " وقال: (( يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم " ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام يمد يديه إلى السماء: يا رب يارب فأنى يستجاب لذلك)).
الأصل في المسلم أن يتجنب الشبهات حرصاً على دينه وحفظاً لآخرته ولذلك أخبر صلى الله عليه وسلم في حديث النعمان بن بشير المتفق عليه عن ذلك بقوله: (( إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه .... )) والمشتبه هو ما اختلف في حله أو تحريمه وفسرها الإمام الزاهد الورع أحمد بن حنبل رحمه الله بأنها منزلة بين الحلال والحرام وقال من اتقاها فقد استبرأ لدينه، وفسرها تارة باختلاط الحلال والحرام. قال سفيان بن عيينة رحمه الله : لا يصيب عبد حقيقة الإيمان حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزاً من الحلال وحتى يدع الإثم وما تشابه منه.
كسب المال ليس مقصوداً في ذاته ولكنه وسيلة للاستعانة به على طاعة الله، فإذا لم يكن حلالاً يستعان به على طاعة الله فهو بؤس وشقاء قال تعالى: (( وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا )) وفي الحديث في مسند الإمام أحمد رحمه الله :" وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطي الدين إلا من أحب فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، والذي نفس محمد بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه، قالوا: وما بوائقه يا رسول الله. قال غشمه وظلمه، ولا يكسب عبد مالاً من حرام فينفق منه فيبارك له فيه ولا يتصدق به فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيء بالسيء ولكن يمحو السيء بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث " ومن ثم حذر صلى الله عليه وسلم من أن يصبح المال غاية يتعلق به قلب المسلم فقال " تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم .... " والتعاسة هي الشقاء والبؤس وذلك حين يصبح هم الإنسان جمع المال وتكثيره بأي وسيلة دون حذر من الشبهات .(/1)
الربا من أشد ما حرم الله سبحانه في المعاملات بل هو أعظمها إثماً فلم يتوعد الله بالحرب في آية من كتابه كما في آية الربا في قوله تعالى: " فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله " ومن ثم فقد حذر السلف رحمهم الله من الربا وما يتبعه من الحيل الربوية فالأصل في المجتمع المسلم ترك الربا بأنواعه وأشكاله وكل ما يتوصل به إليه فلا يليق بأمة الإسلام أن تأخذ بالنظام الرأسمالي المبني على الربا والقمار فهذا نوع من الإعراض عن شرع الله ودينه ويجب على المسلمين أن يتعاونوا على ترك الربا بكل أشكاله وحيله وإلا وقعوا في الإثم لا محالة. ولو نظرنا إلى سوق الأسهم أو بمفهومه الواسع " سوق الأوراق المالية لرأينا أنه في أصله نموذج غربي قائم على مفهوم الربا والقمار والحيل الربوية فالأصل فيه الشبهة حتى يتأكد المسلم خلوه من هذه المحرمات ومن ثم نجد أنه مرتبط لديهم بسعر الفائدة وغالب الشركات المسجلة فيه تعتمد في تمويلها على الربا والسندات المحرمة فلا يجوز بأي حال أن نستورده على حالته التي هي عليها دون تمحيص وتنقية له من شوائبه لأن ذلك سيؤدي إلى تجاوزات لا نهاية لها. ولقد عجبت كثيراً ممن أجاز تدوال أسهم الشركات المختلطة التي تقترض جزءاً من تمويلها بالطرق الربوية وإن كان من أجاز ذلك قد وضع ضوابط ولكن كيف غاب عنه هذا التحذير الشديد والزجر العظيم من الله سبحانه لمن يتعامل بالربا قليلاً كان أو كثيراً بكل أشكاله وأصنافه وذلك في قوله تعالى:" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين. فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله " وإن كنت لا أشك في صلاح نيتهم وقصدهم ولكن لا يجوز بحال أن يصل بنا الضعف والهزيمة إلى اللجؤ لفتح هذا الباب فالنظام الربوي سواء في بنوكه أو شركاته الربوية هو عار ومذلة على جبين المسلمين ونشاز في المجتمع الإسلامي فالواجب على أفراد الأمة المسلمة جمعياً الحزم في هذا الأمر والا يترك بحال مطلقاً بدعم أو تبرير أي تعامل ربوي قل أو كثر. ولو أن المسلمين قاموا بدورهم في الإحتساب على البنوك الربوية لما أصبح النظام الإقتصادي في أغلب بلاد المسلمين قائماً على الربا فالبنوك إنما تقوم على ودائع الأفراد فلو كان هناك وعي وعزم وتعاون على القيام بالواجب لأغلقت هذه البنوك الربوية أبوابها من زمن طويل ولعل من أسباب ما هو واقع بالأمة المسلمة من ذل وهوان وتسلط للأعداء ومشاكل اقتصادية وسياسية في معظم دول عالمنا الإسلامي هو قيام واستمرار هذه البنوك الربوية التي تجلب معها غضب الرحمن ونزول حربه الذي لا قدرة للأمة على مواجهة هذه الحرب ولكن الأمل لا يزال قوياً في هذه الأمة التي لا يعدم الخير فيها فخطوات إنشاء البنوك الإسلامية أثبتت قدرتها على البقاء والاستمرار ولكنها لا تزال بحاجة إلى دعم من حكومات وشعوب العالم الإسلامي حتى يتحول النظام الاقتصادي بكامله من نظام ربوي إلى نظام إسلامي لئلا تبقى البنوك الإسلامية وغيرها من المؤسسات التمويلية تعيش حالة من الشللية والضعف لأنها تحت سيطرة بنوك مركزية ربوية تؤمن بالفائدة معياراً لرقابتها على البنوك الأخرى .
الأمة الإسلامية أمة ذات استقلالية فلها شخصيتها ومنهجها المميز ونظامها الشامل فليست بحاجة إلى استيراد أنظمة سياسية أو اقتصادية أو ثقافية أو اجتماعية من الأمم الكافرة فلديها ما يغنيها ويسعدها لو استمسكت بشرع الله وأخذت الكتاب بقوة، ومع هذا أقول فإذا احتاجت الأمة المسلمة إلى شيء من هذه الأنظمة التي ربما سبقتها بعض الأمم الكافرة إليها فيجب عليها وزنها بميزان الشريعة وعرضها أولاً على علماء الشريعة الربانيين لتهذيبها وتصفيتها من الشوائب المحرمة التي تخالف شريعة الله والتفكير الجاد والإبداع لإيجاد بدائل أفضل وأحسن بعد دراسة وتمحيص والأمة بحمد الله فيها من الطاقات والإمكانات والقدرات البشرية والمادية ما يمكنها من ذلك. أما أن تبقى أمة استهلاك وتبعية تستورد ما في الغرب وتلبسه ثوب الإسلام أو تعطيه تأشيرة إسلامية ليكون ثوباً مرقعاً يورد الأمة المهالك وينزع هويتها ويفقدها عزتها وقوتها ومكانتها لتبقى أمة ذليلة تابعة للأمم الكافرة ومن ثم ينعكس ذلك على شعوبها فتعيش هزيمة نفسية منكرة فلا إبداع ولا تفكير ولا بناء فهذا هو عين التخلف والهزيمة.(/2)
بعد هذه المقدمات أعود للحديث عن سوق الأسهم وكما قلت فهو نموذج غربي مبني على فلسفة الاقتصاد الرأسمالي الذي يعتمد أساساً على الربا بأشكاله المختلفة ويخالطه القمار والاحتكار ( فقد أكد بعض خبراء البورصات الغربية على اعتبار المضاربة على الأسعار بمفهومها الغربي " القمار" أحد الوظائف الهامة للبورصة ) فالأصل فيه أنه سوق شبهات محرمة لا بد للمسلمين أن يجردوه من الشوائب المحرمة قبل ولوجه واستيراده وهو وإن كان قائماً على تحقيق منافع اقتصادية، إلا أن هذه المنافع يمكن تحقيقها بدون ما يحتوي عليه من مفاسد، ولعل من أهم وظائفه أنه يعد أحد الآليات الهامة في تجميع مدخرات الأفراد وتوجيهها إلى المشاريع ذات الإنتاجية الكبيرة سواء منها ما كان في مرحلة التكوين أو تلك القائمة والراغبة في التوسع والتطوير ( السوق الأولية ). أما السوق الثانوية فإنها تساعد على استمرار هذه المشاريع بما توفر من سوق لبيع وشراء حقوق المساهمين دون تأثير على أصل الثروة المتمثلة في أصول المشروع.
إن من أهم وجوه الاختلاف بين أسواق الأوراق المالية ( الأسهم وغيرها ) من جهة وبين الأسواق الأخرى أنه بينما يجري التعامل في الأسواق السلعية على ذات الثروة فإن التعامل في أسواق الأوراق المالية يتم على حقوق الثروة وليس على الثروة ذاتها. فالأصل في قيام هذه الأسواق هو دعم الشركات المساهمة ذات الإنتاجية الكبيرة والتي لا غنى للمجتمع اليوم عنها وذلك لدعم التنمية الاقتصادية، فغياب مثل هذه السوق قد يؤدي إلى استحالة قيام شركات مساهمة جديدة ووأد أية محاولة من قبل الشركات لزيادة روؤس أموالها بهدف زيادة الإنتاج أو تنويعه أو تحسينه وتطويره، وكذلك فهي تعطي فرصة للراغبين في استثمار أموالهم أو تصفية استثماراتهم سواء كان الدافع لذلك هو الحاجة إلى السيولة المطلقة ( النقدية ) أو الإنتقال من قطاع استثماري إلى آخر تتعاظم فيه الأرباح. ولكن المشكلة كما قلت سابقاً أنه نموذج غربي مبني على فلسفة الربا والقمار والاحتكار وأخواتها فالآلية التي تدار بها السوق لا تزال تعاني من إشكالات شرعية تدور حول الربا الذي تتمول به بعض الشركات المساهمة المسجلة في السوق وكذلك الغرر الفاحش الذي يكتنف السوق مع ما فيها من احتكار المعلومات. أي أن هناك اشكالاً في آلية السوق ولهذا كثيراً ما يتردد السؤال عن سر صعود وهبوط أسعار الأوراق المالية ( الأسهم وغيرها ) في البورصات المحلية والعالمية من لحظة لأخرى رغم عدم تغير الظروف الاقتصادية أو المراكز المالية الحقيقية للشركات التي يجري التعامل على أسهمها بل ويزداد السؤال إلحاحاً عند البعض عن الأرباح المتعاظمة في السوق والناتجة عن تفاعل قوى العرض والطلب كيف نتجت ومن الرابح ومن الخاسر بين لحظة وأخرى. فهناك انفصام للعلاقة بين الأصول المادية المملوكة للمشروع والتي تمثل أصل الثروة وبين الأصول المالية التي تباع وتشترى في السوق وتمثل حقوقاً على هذه الثروة. ولعل من أهم أسباب ذلك:
هيمنة بعض أنواع البيوع المحرمة مثل البيع على المكشوف أو الشراء والمتاجرة بالحد.
المناورات التي تتم في السوق لرفع سعر ورقة معينة ( سهماً كان أو سنداً ) وذلك لوجود ما يسمى بجماعات المضاربة على الصعود يتم تكوينها لشراء أكبر كمية من أسهم إحدى الشركات وتقوم بعدها بالمناورة لجذب أنظار جمهور المتعاملين والذي يعقبه عادة شراء هذه الأوراق بأسعار مرتفعة من أيدي المضاربين من جهة من يغرر بهم ويحتال عليهم فالسوق هي بين رابح وخاسر ولا بد.(/3)
وهنا تظهر إشكالية إنحراف السوق عن وظيفتها ومسارها وكيف أنها أضافت إلى وظيفتها الأساسية التي قامت من أجلها ودعت الحاجة والضرورة إلى وجودها وظائف جديدة ما كان لها أن تقوم بها لولا الرغبة المحمومة في الثراء السريع بأي طريق فتحول كثير من هذه الأسواق إلى ما يشبه أندية القمار. وليس أدل على ذلك من تخصيص بعض ردهات عددٍ من البورصات للمراهنة على تقلبات واتجاهات الأسعار. وأصبح أكثر من يتعامل فيها غرضه هو المضاربة على فروق الأسعار وليس الاستثمار النافع فأصبح الهدف من المساهمة هو مجرد رغبة في جني الأرباح السريعة من خلال المضاربة على فروق الأسعار وليس الاعتراض هنا على كون المضارب ( أو المساهم ) يسعى للحصول على الربح فهي غاية مشروعة. ولكن لا بد من أن تكون الوسيلة كذلك مشروعة أما إذا كانت الوسيلة مبنية على محرمات وشبهات فإن الغاية لا تبرر الوسيلة. ومن ثم فإن هذا المساهم ( المضارب ) ليس في الحقيقة إلا مجرد دائن عادي للشركة بل هو دائن عابر والسهم المشترى أو المباع في حقه ما هو إلا صورة شكلية تنتقل بين أيدي المضاربين كلعب القمار وهذا النوع من المضاربين أوالمساهمين ( وهم الأكثر عدداً ) يتسببون بطريقتهم هذه في مشاكل اقتصادية بدءاً من التضخم وإنتهاءً بانصراف الناس عن المشاريع الإنتاجية الفاعلة في الاقتصاد ركضاً وراء الأرباح التي يجنيها لهم المضاربون والسماسرة إضافة إلى تراكم المدخرات النقدية في أيدي قلة من الناس ولدى البنوك التي تضطر إلى استثمار هذه الأموال غالباً في الغرب لعدم وجود قنوات استثمارية جيدة في ظل وجود فجوة كبيرة بين المقدرة الاستيعابية للهياكل الاقتصادية والأصول المادية للاقتصاد من جهة وبين المقدرة التمويلية والتي تتمثل في مدخرات الأفراد المتزايدة. وتتضاعف هذه المشاكل في الدول التي تكون فيها السوق المالية ناشئة وضيقة وغير منظمة وليس عليها رقابة فاعلة ذات خبرة جيدة تتحاشى السلبيات وتهتم بالإيجابيات ويمكن أن نخلص مما سبق إلى النقاط الآتية:-
سوق الأوراق المالية نموذج غربي يشتمل على مجموعة من المصالح والمفاسد من وجهة نظر الشريعة الإسلامية فالأصل فيه المنع حتى يتم التأكد من خلوه مما فيه من المحرمات فلا بد من ضبطه بالضوابط الشرعية ومن ثم يمكن الإستفادة منه وتوجيهه الوجهة الاقتصادية السليمة بما يتوافق مع شريعتنا الإسلامية .
الفقهاء رحمهم الله بينهم خلاف أصلاً في جواز بيع الغائب وهي الصفة التي يتصف بها البيع في هذه السوق ولذلك فإن جواز إنتقال وبيع الحقوق داخل سوق الأسهم هو من باب المصلحة الراجحة في أهمية هذه الأسواق وإلا فإن هناك إشكالات فقهية من حيث إن هذه السوق تشتمل على بيع غائب وأنها بيع حقوق والحاجة والمصلحة كما يقول الفقهاء رحمهم الله تقدر بقدرها وتضبط بضوابطها لتتحقق المصلحة التي من أجلها احتمل بعض ما فيها من إشكالات ولئلا يفتح الباب على مصراعيه فتنقلب المصالح إلى مفاسد ويتحقق ضرر عام لا يدركه إلا أهل الخبرة المتخصصين في هذا الشأن.
محل العقد في أسواق الأوراق المالية ( الأسهم وغيرها ) على اختلاف درجات كفاءاتها يشوبها غرر فاحش فالبيانات المنشورة لا ترفع عنه الغرر الفاحش ولا تدرء عنه الخطر وليس باستطاعة أحد أن يزعم تطابق العلم بالصفة مع العلم بالحس في هذه البيوع، إذ الغرر فيها غرر مؤثر لا تدعوا إليه حاجة، فالحاجة كما عرفها السيوطي رحمه الله : هي أن يصل المرء إلى حالة بحيث لو لم يتناول الممنوع يكون في جهد ومشقة ولكنه لا يهلك. أي أنه يؤدي إلى فوات مصلحة من المصالح المعتبرة شرعاً، وكذلك لا بد أن تكون الحاجة التي تجعل الغرر غير مؤثر متعينة، فلا يمكن الوصول إليها من طريق آخر لا غرر فيه ومن ثم فلا بد أن تقدر الحاجة بقدرها، إذ إن ما جاز للحاجة يقتصر فيه على ما يزيل الحاجة فقط. فيكف وقد انقلبت المصالح المرجوة في هذه الأسواق إلى مفاسد ظاهرة أشبه ما تكون بمنتديات القمار المبنية على الحظ والغرر والغش والاحتيال، علماً بأنه يمكن تنظيمها وضبطها وفق الضوابط الشرعية بما يمنع ذلك الغرر الفاحش. فالتعامل في هذه الأسواق على حالتها الراهنة محفوف بالمخاطر والأضرار المستقبلية خاصة مع اشتداد سعار المضاربات وعوامل الانهيار وتقلبات الأسعار المصاحبة للدورات الاقتصادية وتدهور الأسعار مع أزمات الكساد وشيوع البطالة، فتنشيط التداول وسرعة دوران أوراق الشركات يتم عن طريق مجموعات المضاربة الكبار الذين يتحكمون في السوق ويعقدون اتفاقات خاصة مع بعض الشركات التي يرغبون في زيادة أسعار أسهمها وبالمقابل يكسرون أسعار أسهم شركات أخرى بما يملكون من سيطرة مالية احتكارية على السوق ولهذا فهم يتلاعبون بأسعار الأسهم كما يفعل لاعبو اليانصيب بما قد يؤدي هذا الأسلوب إلى أضرار اقتصادية لا تحمد عقباها على المستوى الكلي للمجتمع.(/4)
السوق بحالته الراهنة يحتوي على مخالفات شرعية أخرى كما في احتكار المعلومات والتحكم فيها إضافة إلى ما يحصل من خداع وكذب وغش وتسريب لمعلومات خاطئة داخل السوق مما يفوت المصالح المرجوة ويجلب المفاسد، فلقد أخبرني من أثق به ممن تعامل في هذه السوق بأن هناك اتفاقات سرية تعقد بين بعض كبار المضاربين وبعض الشركات لرفع قيمة أسهمها أضعاف أضعاف ما هي عليه حقيقة ليزداد سهمها صعوداً فيشتري هؤلاء أسهمها لإغراء الآخرين بذلك ممن لا يملكون هذه المعلومات الخادعة والتي تقف وراء اللعبة ثم يقوم هؤلاء المضاربون بعد فترة وجيزة وقبل إكتشاف اللعبة ببيع أكبر كمية ممكنة من الأسهم لجني الأرباح ومقاسمتها مع تلك الشركة المتآمرة وفي هذا ما فيه من الاحتيال والكذب والإضرار بالغير بل بالمجتمع كاملاً فهذه السوق لها تأثير كبير على الاقتصاد الكلي ولا يفقه هؤلاء حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه ( من غشنا فليس منا ) والحديث الآخر : ( لا يحل لأحد باع بيعاً فيه عيب إلا بينه ).
وبناءً على ما سبق فإنني لا أنصح بالتعامل في هذه السوق بحالتها الراهنة فهي شبهات بعضها فوق بعض وإنني آمل من أهل العلم الشرعي وأصحاب الخبرة الاقتصادية والمالية إعادة النظر في الآليات التي تدار بها السوق لإيجاد مخرج شرعي وفني اقتصادي يحقق المصالح المعتبرة باتقاء الشبهات صوناً لدينه وحذراً من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ( كل جسد نبت من السحت فالنار أولى به ) ومهما كثرت الأرباح في مثل هذه الأسواق الشبهاتية فلا بركة فيها وإنما البركة تكون في الحلال وإن كان قليلاً ولذلك فإنني اقترح ما يلي لإصلاح الآلية التي تدار بها السوق في المملكة ودول الخليج وغيرها من بلاد العالم الإسلامي :-
تكوين رقابة شرعية وفنية اقتصادية مالية لها قوة فاعلة وسلطة مؤثرة لتحديد الضوابط والمعايير التي من شأنها أن تحد من الغرر والجهالة وسواها من المحاذير الشرعية والاقتصادية وتطبيق هذه المعايير بدقة ويكون لهذه الرقابة الحق في منع دخول أي شركة تتعامل في سلعة محرمة أو تقترض بالربا ولو كان يسيراً ولها كذلك منع كل أسلوب غير شرعي يؤدي إلى إحداث تلاعب وغش داخل السوق.
تصحيح مسار آلية عمل السوق بحيث تحقق السوق العناصر الآتية :-
o أن تكون المعلومات المالية متاحة للجميع وبتكلفة صفرية. فلو توفرت المعلومات عن الشركات بصورتها الصحيحة للجميع لأدى ذلك إلى تخفيض درجة حمى سعار المضاربات وجني الأرباح بالطرق غير المشروعة ولتحققت المنافع الاقتصادية التي من أجلها قام السوق.
o ألا يكون بوسع أحد المضاربين في السوق السيطرة على حركات الأسعار أو جعلها عرضة للتلاعب والمناورة والخداع.
o أن يسود السوق ما يقرب من التوازن الدائم بحيث تتجه القيمة السوقية نحو القيمة الذاتية.
o الإهتمام بالسوق الأولية والتركيز عليها لا سيما وأنها لا تزال سوقاً ناشئة في عدد من الدول الإسلامية إضافة أننا بحاجة إلى كثير من المشاريع الإنتاجية ذات الوحدات الكبيرة لنتحول من سوق استهلاكية إلى سوق إنتاجية مصدرة ولذلك فلا بد للدول الإسلامية أن تهتم بذلك وتسهل إجراءات قيام الشركات النافعة في جميع المجالات الصناعية والزراعية والخدماتية التي تجلب الخير والرخاء وتوجد منافع حقيقية للبلاد والعباد وتحقق العدالة في فتح باب المساهمة لجميع أفراد المجتمع.
o تحديد ضوابط في السوق الثانوية وذلك للحد من عقد صفقات ربحية بقصد المتاجرة ورغبة في الثراء السريع دون اهتمام بما يؤدي ذلك إليه من أضرار اقتصادية مستقبلية لحساب فئة محدودة وهذا يستدعي توسيع قاعدة السوق الأولية والإهتمام بها ودعمها ليتجه الأفراد إلى الإنتاج الحقيقي بدلاً مما يحصل الآن. إذ بلغتني حالات كثيرة تم فيها بيع أصول إنتاجية بل باع بعض الأفراد أصوله المادية الضرورية من بيت وسيارة وأعظم من ذلك أن البعض الآخر صار يقترض أو يشتري أصلاً إنتاجياً بالتقسيط ويبيعه نقداً للدخول في مضاربات سوق الأسهم دون قرار مدروس ومعرفة جيدة بما يحتوي عليه سوق الأسهم من محاذير شرعية ومخاطر اقتصادية والأسوء من ذلك كله أن طائفة من الناس أهملوا وظائفهم وأعمالهم سعياً وراء الكسب السريع وسراب الأرباح المتصاعدة يدفعهم إلى كل ذلك الدعاية القوية التي يقوم بها المضاربون من خلال السماسرة مقابل عمولة محددة لهم ولم يدر بخلد هؤلاء المتعجلين أنه ربما كانت هذه الأرباح في لحظة ما جزءاً من رأسماله الذي ربما يخسره في صفقة لاحقة واحدة.
o تسهيل فتح قنوات استثمارية متنوعة لاستيعاب الفائض النقدي لدى الأفراد بحيث تكون هذه القنوات منضبطة بضوابط شرعية وقواعد نظامية بعيداً عن التعقيد أو مضارَّة من يسعى لإيجاد منفعة اقتصادية أو أصلاً إنتاجياً يستفيد منه ويفيد البلاد وفي هذا جمع للمصالح ودفع للمفاسد وتحقيق لرفاهية الأفراد وبناء مستقبل واعد بالخير.(/5)
o نشر الثقافة الصحيحة الاستثمارية من الجهة الشرعية والاقتصادية والنظامية من خلال المنابر الإعلامية والقنوات التعليمية وغير ذلك من وسائل التوعية العامة حتى يتحقق المقصد الشرعي من حفظ أموال الناس وقبل ذلك سلامة دينهم وهذا بلا شك هو من القيام بواجب الأمانة التي حملها الله الراعي تجاه الرعية لإصلاح دينهم ودنياهم. قال الإمام الشافعي رحمه الله ( منزلة الوالي من الرعية بمنزلة والي اليتيم ).(/6)
سوق الأسهم على شفا انهيار
قراءة نقديّة لواقع المساهمات في السوق المحلي
د. يوسف بن أحمد القاسم * 22/11/1426
24/12/2005
ينطق واقعنا الحالي بما حدث به نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه، أمِن الحلال، أم من الحرام!!" أخرجه البخاري في صحيحه، وبوّب عليه (باب من لم يبال من حيث كسب المال)؛ فقد أصبح الحلال في نظر كثيرين هو ما حلّ في اليد أو الجيب، لا ما حلله الله تعالى، فلم يبالِ إن وقع المال في يده بسبب المساهمات الربوية، أو بسبب المضاربات والصفقات الناتجة عن طريق الغش والتدليس، أو عن طريق الكذب والتلبيس، أو نحو ذلك من الوسائل المحرمة في كسب المال؛ ولذا أصبح الواحد منا يدعو ويلحّ في الدعاء (يا ربّ يا ربّ) فلا يُستجاب له، ولو كان في سفر، أو كان أشعث أغبر!! لأن مطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟!
وبنظرة سريعة لما يشهده سوق الأسهم المحلي، نرى كثيراً من المخالفات الشرعية، والتي نوجز الكلام في أبرزها عبر النقاط الآتية:
نرى بعض المسلمين –وللأسف- يدخل في الربا من أوسع أبوابه، فيلغ فيه ولوغاً لا يطهره الماء ولا التراب، فتراه يستثمر في أسهم البنوك الربوية، أو يضارب فيها، أو في أسهم شركات لا تتورع عن الربا، إيداعاً واقتراضاً واستثماراً، وبأي نسبة كانت ولو كثيرة، والعاقبة أن يُمحق هذا المال، أو تُمحق بركته، كما قال سبحانه: (يمحق الله الربا)، وأما صاحبه فقد آذن بحرب من الله ورسوله، وما الظن بمن أعلن الله تعالى الحرب عليه – عياذاً بالله- هذا واقع.
وواقع ثانٍ: ممن جعل إشاعة الكذب مطيّته في تحقيق المكاسب وجني الأرباح، فترى مجموعة من المساهمين أو المضاربين في السوق يشترون أسهماً في إحدى الشركات بثمن بخس، وعلى سبيل التواطؤ، ثم يشيعون خبراً ما عبر منتديات الإنترنت وعبر رسائل الجوال، ونحو ذلك مما ينتشر معه الخبر انتشار النار في الهشيم، فيشيعون –مثلاً- بأن رأس مال تلك الشركة سيرتفع بسبب منحة، أو بأن للشركة مستحقات لدى الدولة سوف تتسلمها في القريب العاجل، أو بأنها ستوقع عقوداً معينة مع إحدى الدول،... إلخ، ويكذبون مع هذه الإشاعة مئة كذبة!! فيشيع الخبر في أوساط المضاربين، ولا سيما الصغار منهم ممن لا يعي حجم الخطر المحدق بهم، فيقبلون على شراء أسهم تلك الشركة، فترتفع قيمتها بسبب كثرة الطلب، ويبيع أولئك المشيعون للخبر ما لديهم من أسهم، ثم تهوي القيمة السوقية لتلك الأسهم، ويتضح أن هذا الارتفاع خيال لا واقع، فتقع الكارثة بسبب تلك الإشاعة الآثمة، وشعار هؤلاء المتلاعبين بالسوق المقولة السائدة "اشتر على الإشاعة وبعْ على الخبر!!" وهكذا تكون أموال الناس ألعوبة في أيدي من لا أخلاق له، ومن غش المسلمين فليس منهم. وهذا واقع ثانٍ.
وواقع ثالث: سببه الطلبات والعروض الوهمية، فهو نجش بصورة عصرية!! فترى بعض ضعاف النفوس –وللأسف- يعرض عبر شاشات التداول عروضاً وهمية من خلال بعض المحافظ التي يديرها بالوكالة، فيعرض –مثلاً- عشرة آلاف سهم بسعر معين في إحدى المحافظ، ثم يعرض من محفظة أخرى وفي بنك آخر عشرين ألف سهم بنحو ذلك السعر، وهكذا من محفظة ثالثة ورابعة...، ثم يشتري عدداً قليلاً من هذه الأسهم –كعشر المعروض مثلاً- من محافظ أخرى بالسعر المعروض، حتى يوهم من يراقب هذا التداول بأن لأسهم تلك الشركة قوة شرائية تستحق الاهتمام، وهو في الحقيقة مناقلة للأسهم بطريقة التدوير، فيقبل الأغرار من المضاربين بشراء أسهم تلك الشركة، فيبيع عليهم أسهمه بالسعر الذي خطط له، ثم تهوي القيمة السوقية مرة أخرى، فيرجع هو ويشتريها بثمن بخس، وهكذا يربح في الدخول والخروج، في البيع والشراء، وبأسلوب مبالغ في القبح والدناءة. وهذه صورة من صور النجش المحرم، والذي حذر منه النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله:"ولا تناجشوا" قال الخطابي:"النجش: أن يرى الرجل السلع تُباع فيزيد في ثمنها، وهو لا يريد شراءها، وإنما يريد بذلك ترغيب (السوام) فيها ليزيدوا في الثمن، وفيه غرر للراغب فيها..." وقال النووي: "وهذا محرم بالإجماع، والإثم مختص بالناجش إن لم يعلم به البائع". والبائع هنا في هذه الصورة هو الناجش!!
وتتجلى هذه الصورة من الكذب والتدليس في أسهم الشركات التي لا يتفق واقع الربحية في أسهمها مع واقع الشركة نفسها، أو بمعنى أوضح مع مواقع القيمة الدفترية للشركة، فربما ترى الشركة خاسرة من حيث الواقع، ومع هذا ترى المساهمين يضاربون في أسهمها بأرباح خيالية ربما تزيد في السوق على 100% أو 200% من قيمتها الحقيقية! وهذا واقع ثالث.(/1)
وواقع رابع: وهو عدم الشفافية في بثّ المعلومات المتعلقة ببعض الشركات المساهمة، بحيث لا يطلع على الأخبار المؤثرة في أسهم تلك الشركات إلا أفراد معدودون أو بعض (الهوامير) بلهجة السوق، وربما كان لأحد أعضاء مجلس إدارة بعض الشركات أثر سلبي في هذا الواقع، فربما بثّ بعض المعلومات لأحد (الهوامير) لعرض شراء الأسهم قبل ارتفاع قيمتها السوقية، وربما كان ذلك لنسبة بينهما فيشتري الأسهم بثمن بخس على حين غفلة من بقية المساهمين، ثم يبيعها بعد ذلك بسعر غالٍ بعد أن تُحقّق ارتفاعاً بسبب ظهور تلك المعلومة، لعلمهم المسبق بارتفاع سقف الأسهم لتلك الشركة، أو بدمج هذه الشركة مع أخرى... إلخ، مما يؤثر إيجاباً في قيمة تلك الأسهم... وهكذا في سلسلة طويلة من اللعب والعبث بأموال المساهمين وممتلكاتهم، والتي ربما تكون يوماً ما سبباً في انهيار الأسهم، مما ينذر بخطر –لا قدر- على أموال أولئك المساهمين.
وهنا أوجّه ثلاث رسائل:
الأولى: إلى هيئة سوق المال، بأن تقوم من سباتها، وأن تؤدي واجبها في هذا السوق، فتلاحق أصحاب الطلبات والعروض الوهمية وتعاقبهم، وتمنع أسلوب التدوير، وتحاسب أصحاب الإشاعة، وتطالب بتحقيق مبدأ الشفافية في بث المعلومات المتعلقة بجميع الشركات؛ لأن الشركة لا تخص مساهماً دون آخر، بل هي حق للجميع، كما عليها أن تراقب وتمنع كل ما من شأنه إلحاق الأذى بالمساهمين، وهنا أوجه رسالة بهذا الصدد، وهي أن صغار المساهمين يعانون تأخّر تنفيذ أوامر البيع والشراء؛ لأن البنوك والشركات تقوم بتسهيل هذه المهمة لكبار المساهمين دون صغارهم، فربما انخفضت القيمة السوقية لبعض الأسهم فلا يستطيع أولئك من بيع ما يخصهم من أسهم إلا بعد فوات الأوان، وهنا يجب تفعيل سرعة التداول بما يمكِّن الجميع من تحقيق نشاطهم على الوجه الأكمل، وبهذا يتحقق العدل بين جميع المساهمين صغاراً وكباراً.
والرسالة الثالثة: إلى أولئك المساهمين أو المضاربين بأن يتقوا الله تعالى، فيجتنبوا الحرام في مساهماتهم ومضارباتهم، وألاّ تكون هذه التجارة سبباً في انحرافات سلوكية وأخلاقية تجاه باقي المساهمين، كما لا ينبغي أن تشغلهم عن الحقوق الواجبة عليهم تجاه أهلهم وأولادهم، أوعن ذكر الله تعالى وعن الصلاة (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) [النور:36] والحقيقة أن هناك واقعاً مؤسفاً في انشغال الناس بهذه الأسهم، يصوره حال هذا الكاتب في إحدى المنتديات؛ إذ يقول بلهجته العامية: "أنا ابتعدت عن السوق، تعبت من متابعة الأسهم في فترة التداول، من الساعة الرابعة عصراً إلى الواحدة ليلاً، وثاني شيء ما تقدر تشوف أهلك ولا ربعك، كل الوقت في المكتب، وممنوع أحد يدخل عليك، والأهم الكرسي اللي تجلس عليه، تصدق –يخاطب أحد القراء في منتدى الإمارات للأوراق المالية- أنا عندي ثلاث كراسي، كل ساعة أو ثلاث ساعات أبدل الكرسي، أحسّ ظهري بينكسر...!!" وهذه الصورة الواقعية أسوقها دون تعليق.
________________________________________
* أستاذ مساعد بالمعهد العالي للقضاء-الرياض(/2)
سوق الدعوة
الشيخ : عبد الحميد الكبتي
المسلم الذي يحمل هم الإسلام والدعوة إليه ، لا يفتأ متحركا به باذلاً كل ما يقدر في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى ، يكون عاليا في دعوته وعزته به ، حتى يظفر بكلمة الله هي العليا في واقع ينافس في عرصاته .
تلك العرصات الصاخبة بكثير من الصيحات لأهلها ؛ منهم من هو على المحجة البيضاء ، ومنهم من يتبع خطوات شيطان رجيم ، وبين صياح هذا و وسوسة ذاك ، درجات من الهمس والبوح والكلام ، والتزويق .
وما الحياة وساحاتها وتعدد الصيحات والهتافات فيها ، إلا كسوق كبير مترامي الأطراف ، يقصده الناس بحسب مقاصدهم ؛ فيه التاجر الأمين الذي يريد الكسب والخير للناس ، وفيه الباحث عن سلعة له ولآل بيته ، وفيه من يريد الشراء لأيتام يعولهم ، أو محتاجين يعينهم ، وفيه النصّاب الذي يقتات من الحلف الكاذب ، وفيه الغشاش المزور ، وكذا تجد في سوق الدنيا مَن يحبه كل أهل السوق ، ومن هو البعيد الجافي ..
كذا تعامل الناس في الحياة مع سلعهم وأهدافهم ؛ كلٌ له مأرب يسعى له ، ويبرز العفيف الطاهر ، الذي يترفع عن وسخ الدنيا كأنما يرفع ثوبه ؛ كي لا يتلوث بما سقط في سوق الناس وعفن البضائع ، الجميل الطلعة المبتسم الثغر ، الذي يقصده كل محتاج ويحبه كل شريف .
فهو يعلم يقينا أين تعقد الصفقات الناجحة وما هي مواصفاتها ، ولن يدخل إلا في تجارة رابحة ؛ إذ هو المؤمن العفيف ، ويناديه ربه سبحانه ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) 10 ـ 12 : الصف .
هذه هي تجارة المسلم الواعي في دنيا السوق ؛ همه أن يكون هاديا مهديا ، ولن يقبل بأقل من ذلك ، ويلح على الله بذلك ، وينشده ويطلب مظانه ، يحرص على النجاة من عذاب أليم ، ويسعى لمغفرة ودخول جنان سامقة ، ينشد الفوز العظيم ويخشى من التجارة الخاسرة ؛ ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ) 17 : البقرة . يخاف من هذا الحال التعيس في الشراء ، ويخشى أن يستبدل الذي هو أضل ، بالذي هو أهدى سبيلا ، فكراً وسلوكاً وعاطفةً وحباً وعملا ، فيهرع إلى شراء يعرضه الرب الكريم ، مرتلاً قول الله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) 111 : التوبة . باع أمره ونفسه ووقته وماله لله عز وجل ، ونِعم البيع ، ولنِعم المشتري سبحانه في علاه ، فهو الفائز العظيم في سوق الناس في الدنيا وفي صراطهم يوم التغابن ؛ لأنه موعود بالجنة .
يدخل السوق ويبدأ في البيع والاتجار الرابح ، لا يخاف البوار في سلعته ، ولا الكساد في بيعته ، داخلا ميدان الجد والعمل والسعي لإتمام في بيع مع الله ؛ ( إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ ) 29 : فاطر . وليس هو الترتيل فقط ، وإنما هو الرجل العملي الذي لا يلهيه أهل سوق الدنيا ، ضاربا المثل العالي في الالتزام ببيعته مع الله ؛ ( رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ) 37 : النور . هذا في تجارة عابرة في السوق الدنيوي .
أما لو عرض عليه المبادلات الكبيرة ، والعقود الضخمة ، فله في سيدنا صهيب القدوة الحسنة ؛ فحين ساومه أهل مكة على أن يمسكوا ماله لو هاجر بدينه ، فإن بقي أعطوه ماله ، اختار البيع الرفيع العالي ، وقدم على النبي عليه الصلاة والسلام ، فحين كان الرسول جالسًا وحوله بعض أصحابه؛ حين أهلَّ عليهم "صهيب"، ولم يكد يراه الرسول حتى ناداه متهللاً: "ربح البيع أبا يحيى..!! ربح البيع أبا يحيى..!! وآنئذ نزلت الآية الكريمة: ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ) 207 : البقرة .(/1)
وتبقى سلعة الله غالية ، تحثه على مزيد بذل وتضحية وفداء ؛ ( من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل. ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة ). رواه الترمذي .
ثم أما بعد ...
أيها التاجر الداعي إلى الله : إن بيع النفس لله تعالى لتمسي وقفٌ عليه سبحانه ، من المعاني الراقية التي تزرع في جذر قلب الداعية إذ هو في بداية الطريق ، ومعرفته بأي الأسواق نشاطا وربحا تحدد له هدفه فلا يقع في تشتت وذهول ، ولا يزال مرتلا متصلا بالوحي الكريم حينا بحين ، فهو الحال المرتحل الذي لا يهجر الكتاب المبين ، ثم يمضي في سجوده وركوعه معمرا لبيوت الله ، تشهد له كلها ؛ أنه وعظ وتصدق ونصح وساهم وأفاد ، وهذه سجادة تشهد له بدموع سكبها عليها وتبللت بسببه ، ولن تبور تجارته ، لأنه يعرف دكانه ودكان دعوته ، ويعي من هم أصحاب الدكاكين الفاسدة وبضاعتهم المغشوشة ، فلن يبيع شيئا من نفسه ودعوته وإن ساوموه عليها .. هذه معاني أولية في سوق الدعوة .
غير أن الأمر لا يقف عند هذا الحد ، ولا يزال من باع نفسه واشترى الجنة أمام مزاحمات كبيرة في البيع والشراء ، يقدوها له الإمام العز بن عبد السلام ، سلطان العلماء ، وجهبذ القضاة ، الذي فقه ووعى وعلّم شعبا وأمة كاملة ، و فكّها من محتكري السوق الغشاشين ؛ قال الإمام السبكي :
( ذكر أن جماعة من أمراء المماليك ـ في عهد السلطان أيوب- لم يثبت عنده أنهم أحرار، وأن حكم الرق مستصحب عليهم لبيت مال المسلمين، فبلّغهم ذلك، فعظم الخطب عندهم فيه، واحتدم الأمر، والشيخ مصمم لا يصحح لهم بيعاً ولا شراءً ولا نكاحاً، وتعطلت مصالحهم بذلك، وكان من جملتهم نائب السلطنة، فاستشاط غضباً، فاجتمعوا وأرسلوا إليه فقال: نعقد لكم مجلساً وينادى عليكم لبيت مال المسلمين، ويحصل عتقكم بطريق شرعي.
فرفعوا الأمر إلى السلطان فبعث إليه فلم يرجع ـ عن قراره ـ ، فجرتْ من السلطان كلمة فيها غلطة حاصلها الإنكار على الشيخ في دخوله في هذا الأمر، وأنه لا يتعلق به، فغضب الشيخ وحمل حوائجه على حمار، وأركب عائلته على حمير أخر، ومشى خلفهم خارجاً من القاهرة قاصداً نحو الشام، فلم يصل إلى نحو نصف بريد ـ ستة أميال ـ إلا وقد لحقه غالب المسلمين، لا سيما العلماء والصلحاء والتجار وأنحاؤهم.
فبلغ السلطان الخبر، وقيل له: متى راح ذهب ملكُك! فركب السلطان بنفسه ولحقه واسترضاه وطيب قلبه، فرجع واتقفوا معه أن ينادى على الأمراء (لبيعهم).
فأرسل إليه نائب السلطنة بالملاطفة فلم يفد فيه، فانزعج النائب وقال: كيف ينادي علينا هذا الشيخ ويبيعنا ونحن ملوك الأرض؟ والله لأضربنه بسيفي هذا.
فركب بنفسه في جماعته وجاء إلى بيت الشيخ والسيف مسلول في يده، فطرق الباب، فخرج ولد الشيخ فرأى من نائب السلطنة ما رأى، فعاد إلى أبيه وشرح له الحال، فما اكترث لذلك ولا تغير .
وقال: يا ولدي! أبوك أقل من أن يُقتل في سبيل الله!
ثم خرج كأنه قضاء الله قد نزل على نائب السلطنة، فحين وقع بصره على النائب، يبست يدُ النائب وسقط السيف منها وأرعدت مفاصله فبكى، ويسأل الشيخ أن يدعو له، وقال: يا سيدي خبّر، إيش تعمل؟ قال الشيخ: أنادي عليكم وأبيعكم. قال: ففيم تصرف ثمننا؟ قال: في مصالح المسلمين. قال: من يقبضه؟ قال: أنا. فتمّ له ما أراد، ونادى على الأمراء واحداً واحداً وغالى في ثمنهم، وقبضه وصرفه في وجوه الخير ) . طبقات الشافعية الكبرى 8/216 .
أخي :
* إن جاه الدعوة يكون في عزتها وعزة رجالها ، الذين لا يجرؤ الحاكم أن يغلط معهم ، تلك العزة التي صورتها شخصية سلطان العلماء رحمه الله ، فما أن خرجت الكلمة وجرحت عزته حتى بدت القاهرة كلها وقد تغيرت .
* إن الداعي إلى الله لا يحده وطن ، فدين الله هو وطنه ، ولا يتشبث بمنصب أو جاه ، إلا لخدمة دين الله تعالى ، فما يفيد المنصب والقضاء والسلطان إن جرحت عزة الدعوة وطاهرتها ، ولم تمض نظرتها التي رأت .
* إن رصيد الداعي إلى الله هم الناس ، لا المناصب ولا الحكام ، رصيد الدعوة الحقيقي هم الشعب وجمهوره العريض ؛ فما أن خرج العز مغاضبا حتى خرجت القاهرة كلها تلحقه ، وخاف السلطان ورجع في قراره ، وأي دعوة وداعية بدون جمهور عريض من الناس يحبونه ويعزونه ويقفون معه في الموقف العصيب ، إن الدعوة التي لاتملك رصيدا مع الناس هي دعوة ذات كساد في تجارتها ، وذات صيت من غير رصيد حقيقي .
* إن السلطان يريد دائما أن يحصر نشاط الدعوة التجاري في ترتيل وسجود وقيام وبكاء ، ويستهجن إن هي قالت قولتها في أمور تتصل به وبسلطانه ومنفذي أوامره ، وقد يجد من يشيع له ويبرر قراراته وتوجيهاته ، ولكن لكن يكون للدعوة عزتها ، ولن يكون للداعي سمة " العز " بن عبد السلام ! .(/2)
* إن حمل السلطان للسلاح في وجه الدعوة والداعي أمر قديم جدا ، يسقط سلاحه بهيبة الدعوة والداعي ، من غير أن يكون الداعي خفيفا في ردود أفعاله ، بل المطمئن الواثق القوي ، ولابد أن يأتي الوقت الذي يقول فيه الطاغية : إيش أعمل !
* مهما كانت الدعوة والداعي في عزة عظيمة ، فلا من التواضع والانكسار ، فقد قال العز لابنه ( يا ولدي! أبوك أقل من أن يُقتل في سبيل الله! ) هذه هي الروح التي يحبها الناس ، قبل أن يحبوا المواقف الجليلة ، وهذه هي الروح التي تولد مواقف العزة ، ومسكين من يظن في نفسه شيء ، فلن يجد شيئا ، وإن هو غضب ، فلن يجد حتى نفسه التي بين جوانحه تخرج معه ! إلا إن رباها وتعب وجاهد أن تكون متواضعة قريبة من حاجات الناس .
أخي الداعي الأمين : هذا سوق الدعوة في بعض ملامحه ، فخذ لنفسك دكانا فيها ، وأرفع نداء الدعوة في هذا الخضم ، ورتل واسجد واركع وتصدق وكن القريب من مشاممة الناس ، ولا تقنع إلا بأمر بمعروف ونهي عن منكر ، وروج لتجارتك ولا تخف فإن الله ناصرك ، ولو بعد فجر قريب ، و أنت الأمين الذي يضع يده في يد الأمناء ويتواصوا بالمرحمة .(/3)
سياحة روحية
د. علي بن عمر با دحدح 15/4/1425
03/06/2004
نحن في عصر تزينت فيه الشهوات، وتنوعت فيه الشبهات، وتزايدت المغريات، وكثرت الملهيات، حتى كادت معها أن تعمي القلوب، وتموت الأرواح، والمسلم اليوم يبحث عن لذة الروح، وخشوع القلب، ودموع العين، فلا يجد من ذلك إلا أقل القليل، فأين قوت القلوب وغذاء الأرواح؟ وأين لذة العبادة، وحلاوة الطاعة؟ وأين ترطيب الألسنة بالأذكار؟ وأين الاستغفار بالأسحار؟ ومن ثم أين صفاء النفوس والسرائر؟ وأين جلاء القلوب والبصائر؟ ومن بعد أين حسن الأقوال وصلاح الأعمال وصدق الأحوال؟
إنه لا بد من استشعار الخطر، ومعرفة الأثر، فإن داء القلوب أشد فتكاً وأعظم ضرراً، وإن هزال الأرواح وكدر النفوس بلية البلايا ورزية الرزايا، والعجيب أن هذا الخطر الماحق لا يفطن له كثيرون، ولا يشعرون به، إنهم رغم أدواء قلوبهم وعلل نفوسهم يمضون في حياتهم كأن شيئاً لم يكن، وكأنهم لم يفقدوا شيئاً ويتحسرون عليه، مع أنه في أعظم خطر وأكبر خسارة في أجل وأمر وهو صلتهم بالله، وصدق من قال:"من فقد الله فماذا وجد؟" ومن وجد الله فماذا فقط؟" ولله در ابن القيم عن هذه الحال فقال:"ومن أعجب الأشياء أن تعرفه ثم لا تحبه، وأن تسمع داعيه ثم تتأخر عن الإجابة، وأن تعرف قدر الربح في معاملته ثم تعامل غيره، وأن تعرف قدر غضبه ثم تتعرض له، وأن تذوق ألم الوحشة في معصيته ثم لا تطلب الأنس بطاعته، وأن تذوق عصرة القلب عند الخوض في غير حديثه والحديث عنه ثم لا تشتاق إلى انشراح الصدر بذكره ومناجاته، وأن تذوق العذاب عند تعلق القلب بغيره ولا تهرب منه إلى نعيم الإقبال عليه والإنابة إليه، وأعجب من هذا علمك أن لا بد لك منه، وأنك أحوج شيء إليه وأنت عنه معرض" [الفوائد ص 61]، حقاً إنه لأمر عجيب بل هو أعجب العجاب، كيف يسعد من قلبه قاس خرب؟ "وخراب القلب من الأمن والغفلة، وعمارته من الخشية والذكر" [الفوائد:ص 129]، "اطلب قلبك في ثلاثة مواطن: عند سماع القرآن، وفي مجالس الذكر، وفي أوقات الخلوة، فإن لم تجده في هذه المواطن فسل الله أن يمن عليك بقلب فإنه لا قلب لك" [الفوائد:ص195]، الله أكبر كم للقلوب في تلك المواطن من موات وغفلة، فكيف إذن يعيش ويحيا من لا قلب له؟.
كلما عرض عارض صحي التمس الناس له الشفاء، وبحثوا عن الدواء، والتزموا الحمية، وصبروا على العلاج، ومع ذلك فإنهم عن داء قلوبهم وسلامتها غافلون، "والقلب يمرض كما يمرض البدن وشفاؤه في التوبة والحمية، ويصدأ كما تصدأ المرآة وجلاؤه بالذكر، ويعرى كما يعرى الجسد وزينته التقوى، ويجوع ويظمأ كما يجوع البدن، وطعامه وشرابه المعرفة والمحبة والتوكل والإنابة والخدمة" [الفوائد:ص129]، فأين المؤمنون من علاج أدواء قلوبهم وجلائها وزينتها وحسن كسائها.
إن الحكام العادلين والعلماء العاملين والدعاة المصلحين والقادة الفاتحين كانوا أهل قلوب وأرواح، من المحراب انطلقوا، وبالسجود والذل لله ارتفعوا، وبزاد الإيمان والتقى انتفعوا، وبصدق التوكل واليقين انتصروا، وبكمال الإخلاص والتجرد اشتهروا.
وكلهم كانوا: إذا سجى الليل قاموه وأعينهم من خشية الله مثل الجائد الهطل
هم الرجال فلا يلهيهم لعب عن الصلاة، ولا أكذوبة الكسل
وصدق الله القائل:"رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ" [النور:37].(/1)
معشر الدعاة يا من تتصدرون المجالس، وترتقون المنابر، وتتصدون للوعظ والإرشاد، وتقصدون هداية العباد، ألا ترون أن هناك فرقاً كبيراً، وبوناً عظيماً بين هذه الصفة صفة الصفوة والحقيقة اللازمة لها، فأنت أيها الداعية ينبغي أن تكون أحيا الناس قلباً، وأصفاهم نفساً، وأخلصهم قصداً، وأسرعهم عبرة، وأكثرهم خشية، وأصدقهم توكلاً، فهل ذلك حقاً هو ما تتصف به؟ ألا تعترف بأن الحال ليس كما ينبغي، وأن من الدعاة من ألسنتهم لاغية، وقلوبهم لاهية، وعيونهم جامدة، أفلست بحاجة ماسة إلى مكاشفة صريحة، ومراجعة دائمة، وخذ هذا الوصف من سيد من سادات الدعاة والعلماء، الحسن البصري يقول في وصف الصفوة:"حسنت ملابسهم بالاقتصاد، وممشاهم بالتواضع، ومنطقهم بالعمل، ومطعمهم ومشربهم بالطيب من الرزق، وخضوعهم بالطاعة لربهم تبارك وتعالى، واستقادتهم للحق فيما أحبوا أو كرهوا، وإعطاؤهم الحق من أنفسهم، ظمئت هواجرهم، ونحلت أجسامهم، واستخفوا بسخط المخلوقين لرضا الخالق، شغلوا الألسن بالذكر، وبذلوا أنفسهم لله حين استنصرهم، وبذلوا أموالهم حين استقرضهم" [رسائل مبكية:137-138] وأزيدك من كلامه مزيداً من الصفات حيث يقول:"قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة، حوائجهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة، صبروا أياماً قصاراً تعقب راحة طويلة، أما الليل فمصافة أقدامهم، تسيل دموعهم على خدودهم، يجأرون إلى ربهم: ربنا ربنا، وأما النهار فحلماء علماء، بررة أتقياء، ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى وما بالقوم من مرض، ولكن خالطهم ذكر الله أمر عظيم" [رسائل مبكية:60-61]، أين أنتم معاشر الدعاة من هذه الصفات، وتلك المقامات، وكثيرون قد استكثروا من المباحات، وشغلوا بالأبناء والزوجات، وألفوا الكسل، وعافوا العمل، حتى ركنت لذلك نفوسهم، وقنعت به همومهم، وذلك نتيجة حتمية لمن ترك تزكية النفس بالطاعات، وطهارة القلب بالقربات، ومن المعلوم "إن في النفوس ركوناً إلى اللذيذ والهين، ونفوراً عن المكروه والشاق، فارفع نفسك ما استطعت إلى النافع الشاق، ورضها وسسها على المكروه الأحسن، حتى تألف جلائل الأمور وتطمح معاليها، وحتى تنفر عن كل دنية وتربأ كل صغيرة، علمها التحليق تكره الإسفاف، عرفها العز تنفر من الذل، وأذقها اللذات الروحية العظيمة تحقر اللذات الحسية الصغيرة" [الرقائق ص: 51]، وخذها أخيراً من علمِ الدعوة المعاصرة حسن البنا يوصيك قائلا:"لعل أطيب أوقات المناجاة أن تخلو بربك والناس نيام والخليون هجع، وقد سكن الليل كله وأرخى سدوله وغابت نجومه فتستحضر قلبك، وتتذكر ربك، وتتمثل ضعفك، وعظمة مولاك، فتأنس بحضرته، فيطمئن قلبك بذكره، وتفرح بفضله ورحمته، وتبكي من خشيته، وتشعر بمراقبته، وتلح في الدعاء، وتجتهد في الاستغفار، وتفضي بحوائجك إلى من لا يعجزه شيء، ولا يشغله شيء عن شيء، إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، وتسأله لدنياك وآخرتك، وجهادك ودعوتك، وآمالك وأمانيك، ووطنك وعشيرتك، ونفسك وإخوتك، وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم" [مجموعة الرسائل: ص505].(/2)
سياسة الإدارة الأميركية الجديدة تجاه شعبها
بعد تدمير أوروبا في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وخروج أميركا من عزلتها السياسية، كان الجيل الجديد في أميركا يمارس أشكال الحرية والحياة السهلة المترفة التي زرعها المبدأ الرأسمالي، ثم تلاه جيل شهد ثورة تكنولوجية وصناعية أكثر تطوراً، وما صاحبها من رخاء اقتصادي زادت من نظرة الأميركي إلى نفسه بالتعالي، الأمر الذي أقلق صناع السياسة الأميركية أن يصبح الشعب هشاً لا يتحمل أية مشكلة، أو هزة، أو ضربة، قد تحدث في أي وقت، ما يؤدي إلى وجود ما يعرقل سير سياسة أميركا الاستعمارية، وخصوصا أنها تعلم أنها مقبلة على مشاكل وحروب، لطبيعة المبدأ الرأسمالي الذي تعتنقه، فبدأت تعد الخطط لذلك، واستغلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وأنشأت على الفور وزارة الأمن الداخلي، وبدأت تتخذ خطوات عملية على الأرض مثل:
• تحذير الأميركيين من السفر إلى مناطق معينة في العالم.
• الطلب من الأميركيين مغادرة بعض البلدان بناءً على طلب سفاراتهم في تلك البلدان.
• إلغاء رحلات طيران من وإلى أميركا، في بعض الأوقات، بحجة توقع هجوم إرهابي.
• رش مسحوق الرايسين السام في مبنى الكونغرس بشكل محدود.
• الإعلان عن درجات الحذر الصفراء، والبرتقالية، والحمراء، التي لم يعرفها الأميركيون من قبل، وذلك بحجة شن هجمات إرهابية.
• نشر الجمرة الخبيثة ( الإنثراكس )، في بعض الأماكن، وبشكل محدود، وربما القيام ببعض التفجيرات المحدودة أيضاً لتصبح هاجساً أميركياً.
• الإعلان عن حالات طوارىء في مختلف أنحاء البلاد من وقت لآخر.
• إجراءات السفر الأمنية المشددة التي أجبرت الأميركيين إلى الانتظار، وإلى الوقوف، في صفوف طويلة ومملة، مما لم يعهده الأميركيون من قبل... إلى غير ذلك من مثل هذه الإجراءات التي يقصد منها أربعة أمور:
أولها : ترويض الشعب الأميركي، الذي ترعرع على الحرية وسلاسة العيش، على تحمل الصعاب، وخشونة العيش، والقسوة.
ثانيها : لتبرير موقف أي إدارة أميركية، في حال وقوع هجمات فعلاً، ورفع الحرج عنها، بحجة أنها قد حذرت الشعب مسبقا من مثل هذه العمليات الإرهابية.
ثالثها : لحشد التأييد الفعلي من الشعب الأميركي، في أي حرب تشنها أميركا، بحجة ضرب الإرهاب، وتهيئة الشعب الأميركي تدريجياً، بأن الإسلام دين يحث على العنف والإرهاب، وبالتالي هو الإرهاب بعينه، وعليهم محاربته بكل الوسائل دون رحمة، وعليهم نبذ المسلمين في الغرب واعتبارهم مشبوهين رجالاً ونساءً وأطفالاً. وفي حالة حدوث هجوم على أي قطر من أقطار العالم الإسلامي، عليهم تأييده ودعمه بالغالي والنفيس، لأنه سيحميهم من هذا "الوحش" كما يصورونه لهم، وعليهم أن لا يشعروا بالشفقة من رؤية الأطفال والنساء تقتل؛ لأنهم "وحوش الغد" كما تربيهم أمهاتهم وكما يربيهم الإسلام، وعليهم أن يؤيدوا أي إجراء تتخذه الحكومة ضد المسلمين في الغرب؛ لأن ذلك الإجراء ليس ضد الحرية، بل لحمايتها .
رابعها: توحيد الشعب الأميركي المترف، الساذج، الذي لا يعرف جغرافية بلده، وجعله شعباً قومياً عدوانياً، وخصوصاً ضد الإسلام، وهذا أصلاً كان فكر المحافظين الجدد، الذين هيمنوا على إدارة بوش، مثل وولفويتز، وبيرل، وليبي، وفيث، وبولتون، ورامسفيلد، وغيرهم، الذين شجعوا مسيحيين أصوليين ليستهزئوا بالإسلام.
هذه النظرة، وما سبق من أعمال خداع، وكذب، وتضليل، تعمل عليها الآن هذه الحكومات المتلاحقة؛ لتحصن شعبها! لأنها وجدت الحضارة الإسلامية هي الأقوى فكراً وسياسةً واقتصاداً واجتماعاً وأن الغلبة لها مهما طال الزمن.
ولأن أميركا أصبحت حبيسة مفاهيم وقيم وضعتها بنفسها، ولم تستطع تطبيقها، مثل: الحريات، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، التي تتشدق بها، ولأن الكذب، والخداع، والتضليل، الذي تمارسه أميركا على شعبها يتبين يوماً بعد يوم، فإن ذلك سيؤدي إلى وعي الشعب الأميركي في الاتجاه الآخر الذي لا تريده الحكومة، عندها سينقلب السحر على الساحر، وستضيف أميركا خسارة على خسائرها في طريق هزيمتها، التي ستتحقق على يد الخلافة القادمة، إن شاء الله.
قال تعالى { ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين(/1)
سياسة الإسلام في محاربة الفقر ... ... ...
جاء الدين الإسلام ومن أهدافه : معالجة المعضلات الإنسانية على أسس وخصائص ثابتة تميزه. ومنها : (الربانية, الشمولية, الواقعية) ونعرض هنا لسياسة الإسلام في معالجة واحدة من هذه المشكلات وهي (مشكلات الفقر) .
استخدم الإسلام أساليب متعددة لمحاربة الفقر يمكن إجمال بعضها تحت مجالين :
أولاً : مجال الفكر والتصور.
ثانياً : مجال السلوك والتصرف.
أولاً : مجال الفكر والتصور :
يقول العلماء : " التصرف ناتج عن التصور " وقد أراد الله - سبحانه وتعالى - أن يميز المسلم بالتصور الناضج لقضية الفقر (الحرمان والحاجة) وأن ينطلق من نظرة صحيحة نحوها تمهد للمواقف المتخذة في معالجته ومحاربته.
لذا نجد أن الإسلام - من خلال نصوص القرآن والسنة - له تصوره المتميز لهذه القضية, حيث :
1- يعتبر أن الفقر مصيبة وآفة خطيرة توجب التعوذ منها ومحاربتها, وأنه سبب لمصائب أخرى أشد وأنكى .
2- ينكر النظرة التقديسية وكذلك الجبرية للفقر والحرمان, فكيف تُقدَّس الآفات ذات الأثر السيئ على دين الأمة ودنياها؟ وكيف ينظر إلى الفقر على أنه قدر الله المختوم, ولا يُعدُّ الغنى كذلك قدرٌ يدفع به الفقر لتصلح الأوضاع وتعتمر الأرض ويتكافل الناس؟
3- حث الإسلام على الدعاء بطلب الغنى : ورد في صحيح مسلم من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى" رواه مسلم, ح/4898 , ومن أدعية الصباح والمساء : " اللهم إني أسألك علماً نافعاً ورزقاً طيباً وعملاً صالحاً متقبَّلاً" رواه البخاري, ح/5859.
4- جعل من دلائل حب الآخرين وابتغاء الخير لهم الدعوة لهم بوفرة المال : أورد البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لصاحبه وخادمه : " اللهم أكثر ماله" (رواه ابن ماجة, ح/915.), وكذا دعا لعبد الرحمن بن عوف وعروة بن جعد بالبركة في تجارتهما كما في صحيح البخاري.
5- اعتبر الغنى بعد الفقر نعمة يمتن الله على عباده بها : قال - تعالى - : (وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى) الضحى : 8 . وقال - تعالى - : (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) قريش : 4.
6- أكد أن المال ركن هام لإقامة الدين والدنيا : يقول الله - تعالى - (وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا) النساء : 5 . وفي الحديث القدسي يقول - تعالى - : " إنا أنزلنا المال لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة" صحيح الجامع من حديث أبي واقد الليثي. وفي الصحيح يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر" (أخرجه أحمد وابن ماجة عن أبي هريرة - رضي الله عنه. وقد قدّم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس في معظم المواضع القرآنية.
7- جعل الرزق الوفير ثمرة يُرغِّب إليها إتيان الصالحات : قال - تعالى - : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) الأعراف : 96. وفي الحديث يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أحب أن يُبسط له رزقه وينسأ له أثره فليصل رحمه" رواه البخاري, ح/1925.
8- جعل الحرمان والحاجة نتيجة يُرهبُ بها من اجترح السيئات : يقول - تعالى - : (…فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) النحل : 112 , ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن : " أن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه" رواه ابن ماجة, ح/4012.
9- جعل الغني المنفق أحد اثنين تمدح غبطتهم, حيث يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا حسد إلا في اثنين , رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق…" رواه البخاري, ح/71.
10- رغَّب في الإنفاق والصدقة وهي لا تتحقق غالباً إلا في ظل الغني.
11- ميز بين الغني المنفق والفقير الآخذ : في الحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اليد العليا خيرٌ من اليد السفلى, واليد العليا هي المنفقة, واليد السفلى هي السائلة" (رواه البخاري, ح/4012.
12- اعتبر المال خيراً فُطِرَ الإنسان على حبه : قال - تعالى - : (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) العاديات : 8 , وقال - تعالى - : (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) الفجر: 20
ثانياً : في مجال السلوك والتصرف :
لم يكتف الإسلام بصياغة النظرة المتفردة لأتباعه تجاه الفقر, بل حدد مجالات السلوك والتصرفات التي يستوجبها ذلك التصور, وقدّم حلولاً عملية واقعية يأخذ بها الناس ليدرؤوا عن أنفسهم شبح الفقر والحرمان وما ينجم عنه, ومن ذلك :
1- العمل والسعي :(/1)
يعتبر الخبراء أن العمل أساس الاقتصاد الإسلامي, فهو المصدر الرئيس للكسب الحلال. والعمل مجهود شرعي يقوم به الإنسان لتحقيق عمارة الأرض التي استخلف فيها والاستفادة مما سخره الله فيها لينفع نفسه وبني جنسه في تحقيق حاجاته وإشباعها.
وقد حث الإسلام على السعي والعمل من خلال :
أ. الامتنان بنعمة تسخير الأرض وما فيها, وطلب الاستفادة منها عبادةً لله : قال تعالى : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ) الأعراف : 10, وقال تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) الملك : 15.
ب. جعله دليلاً على صدق التوكل على الله والثقة به: في صحيح الجامع الصغير من حديث عمر رضي الله عنه يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو أنكم تَوَكَّلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً " رواه الترمذي, ح/2266.
والشاهد من الحديث : " تغدو, تروح " سعياً وحركة, وليكن شعار المسلم : " ابذر الحَبَّ ... وارجُ الثمار من الرب ".
ج. الحث على أنواع المهن والحرف ومن ذلك :
التجارة : وقد اشتغل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتجارة, وتاجر مع عمه ثم مع أم المؤمنين خديجة بنت خويلد - رضي الله عنها - واشتغل صحابته الكرام بذلك ومنهم : أبو بكر, وعثمان, وعبد الرحمن بن عوف, وطلحة بن عبيد الله - رضي الله عنهم - وغيرهم, وقد تواصى السلف فيما بينهم ومع تلامذتهم أن : "الزموا السوق" وفي كتب الفقه تُخَصَّص كتب للبيوع وما يتعلق بها وغيرها من الكتب حول التجارة ومعاملاتها.
الزراعة : ففي صحيح البخاري ومسلم من حديث أنس - رضي الله عنه - يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان إلا كان له به صدقة" رواه البخاري, ح/2152.
وعند الترمذي وغيره من حديث جابر وسعيد بن زيد يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أحيا أرضاً ميْتة فهي له" رواه الترمذي, ح/1299.
الصناعات والحرف : ففي البخاري يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أكل أحدٌ طعاماً قَطُّ خيراً من أن يأكل من عمل يده" رواه البخاري, ح/1930. وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أي الكسب أفضل؟ " قال : " عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور" رواه أحمد, ح/16628. وقي صحيح البخاري ومسلم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لأَنْ يحطب أحدكم على ظهره خير من أن يسأل أحداً فيعطيه أو يمنعه" رواه البخاري, ح/1932.
د. اعتبار العمل والكسب من الصدقات ووسيلة إليها : في الحديث المتفق عليه من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " على كل مسلم صدقة " قالوا : فإن لم يجد؟ قال: "فيعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق" رواه البخاري, ح/5563.
هـ. تربية صفوة البشر من الأنبياء على العمل لاتخاذهم قدوة : فقد عمل الأنبياء في أعمال وحرف عدة ومنها رعي الأغنام, وصناعة الحديد, والتجارة, وغيرها, ومما ورد في ذلك من الأدلة :
قول الرجل الصالح لموسى - عليه السلام - وهو من أولي العزم من الرسل : (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ) القصص : 27.
وفي البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال رسو الله صلى الله عليه وسلم : " ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم, وأنا كنت أرعاها لأهل مكة بالقراريط" رواه البخاري, ح/2102.
وفي البخاري أيضاً من حديث المقدام - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده" رواه البخاري, ح/1930. وهكذا فعل ورثة الأنبياء من العلماء الربانيين فاشتهرت أسماء أمثال : البزَّاز, الجصَّاص, الخوَّاص, القطَّان, الزجَّاج.
و. عدم الاعتراف بالملكية التي لا يكون مصدرها العمل والطرق المشروعة : فحرّم الإسلام أعمال الغصب والسلب والسرقة والنصب والمقامرة والربا وما ينشأ عنها من مكاسب مالية, واتخذ إزاء ذلك العقوبات الرادعة, وفي ذلك إلزام لأفراد المجتمع في البحث عن الكسب المشروع, وأغلب ذلك لا يتأتى إلا عن طريق العمل.
ز. الترهيب من التسوّل والاحتيال على الآخرين : ففي القرآن الكريم الحث على الاهتمام بالذين لا يتسوّلون وتحسس أحوالهم ورعايتهم : قال - تعالى - (لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) البقرة : 273.(/2)
وروى الشيخان من حديث ابن عمر - رضي الله عنه- يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما يزال الرجل يسأل الناس, حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مُزعة لحم" رواه مسلم, ح/1724. وفي مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من سأل الناس أموالهم تَكثُّراً فإنما يسأل جمراً, فليستقلَّ, أو ليستكثر" رواه مسلم, ح/1726.
ح. النهي عن التصدق على غير المحتاج : أخرج الإمام أحمد وغيره في صحيح الجامع الصغير من حديث ابن عمر وأبي هريرة - رضي الله عنهما - قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا تحل الصدقة لغني, ولا لذي مِرَّةٍ سوي" رواه الترمذي, ح/589. ذو المرة السوي : القوي سليم الأعضاء .
وفي الحديث الذي أخرجه أصحاب السنن الأربعة وحسنه الترمذي يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة : لذي فقر مدقع, أو لذي غرم مفظع, أو لذي دم موجع". رواه الترمذي, ح/590. مدقع: شديد, مفظع: ثقيل, دم موجع: دية باهظة.
مسؤولية ولي الأمر (الدولة) :
تتجلى هذه المسؤولية فيما تهيئة من سبل العمل للعاطلين وتزودهم بأدواته وإعدادهم مهنياً لذلك والاطمئنان على يسرهم : روى أصحاب السنن من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه : أن رجلاً من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "أما في بيتك شيء؟ " قال : بلى : حِِلْسُ نلبس بعضه ونبسط بعضه, وقعب نشرب فيه الماء, قال : "ائتني بهما" فأتاه بهما فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : " من يشتري هذين ؟ قال رجل :أنا آخذهما بدرهم, قال : من يزيد على درهم؟ مرتين أو ثلاثاً. قال رجل : أنا آخذهما بدرهمين, فأعطاهما إياه, وأخذ الدرهمين, وأعطاهما الأنصاري, وقال : اشترِ بأحدهما طعاماً وانبذه إلى أهلك, واشترِ بالآخر قدوماً فائتني به .. فشد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عوداً بيده ثم قال له : " اذهب فاحتطب وبِعْ.. ولا أرينَّك خمسة عشر يوماً. فذهب الرجل يحتطب ويبيع, فجاءه وقد أصاب عشرة دراهم, فاشترى ببعضها ثوباً,وببعضها طعاماً .. على آخر الحديث " رواه أبو داود, ح/1398.
وقد أشار الفقيه الكبير أبو يوسف - رحمه الله - إلى جواز إقراض المحتاج من بيت المال كما نقل عنه الفقيه ابن عابدين : "يدفع للعاجز - أي العاجز عن زراعة أرضه الخراجيه لفقره - كفايته من بيت المال قرضاً ليعمل ويستغل أرضه " أصول الدعوة, د.عبد الكريم زيدان.
مسؤولية أصحاب العمل وولاة الأمر (الدولة) عن حفظ حقوق الأجراء والعمال :
وقد حكى الله تعالى عن الرجل الصالح أنه قال لموسى عليه السلام : (…وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ) القصص : 27, وفي الحديث المتفق عليه من حديث أبي ذر - رضي الله عنه - يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إِخوانكم خَوَلُكم, جعلهم الله قنيةً تحت أيديكم, فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه من طعامه, وليلبسه من لباسه, ولا يكلفه ما يغلبه, فإن كلّفه ما يغلبه فليعنه" رواه البخاري, ح/29.
وفي الحديث الحسن من حديث أربعة من الصحابة : (ابن عمر - أبي هريرة - جابر - أنس) رضي الله عنهم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه " رواه ابن ماجة, ح/2434.
أخرج أبو داود والحكم كما في صحيح الجامع الصغير من حديث المستورد بن شداد - رضي الله عنه - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من كان لنا عاملاً فلم يكن له زوجة فليكتسب زوجة, فإن لم يكن خادم فليكتسب خادماً, فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكناً, من اتخذ غير ذلك فهو غالٌ أو سارق " رواه أبو داود, ح/2556.
بل لقد توعّد الله تعالى في الحديث القدسي الذي أخرجه البخاري وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه توعّد ذلك الذي يبخس العمال أو الأجير حقه, فقال : " ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ومن كنت خصمه خصمته .. ورجل استأجر أجيراً فاستوفي منه ولم يعطه أجره " رواه البخاري, ح/2075.
2. الجهاد :
من الوسائل التي شرعها الإسلام لمحاربة الفقر والحاجة وسيلة الجهاد لنشر نور الهدى الإسلامي, وفتح مصاريع البلاد أمامه, وتحطيم عروش الطغاة الذين يحولون بينه وبين عباد الله, واغتنام الأموال المستخدمة في عصيان الله ومبارزته بالحرب واستعباد عبيده من أجل استغلالها في تعمير الأرض وعبادته.
لذا فقد رغب الإسلام في الجهاد من خلال الوعد الأخروي وكذا الفتح الدنيوي والغنائم. قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ…) الصف : 10-13. وقال تعالى : (وَعَدَكُمْ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ …) الفتح : 20.(/3)
وفي صحيح الجامع الصغير من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (بُعِثْتُ بين يدي الساعة بالسيف حتى يُعْبَدَ الله وحده لا شريك له, وجُعِلَ رزقي تحت ظل رمحي " رواه أحمد, ح/4868.
لقد كان الجهاد في الفتوحات إبان الخلافة الإسلامية الراشدة أكبر مصدر لواردات بيت مال المسلمين مما أمكن من توزيع العطاءات على كل مسلم.
3- كفالة المجتمع :
لا يخلو مجتمع من العاجزين عن العمل والجهاد والكسب من كدّ اليد والاعتماد على النفس من أمثال الأرامل واليتامى والشيوخ وأصحاب العاهات المعوّقة, وكذلك الذين لا يكفيهم دخلهم من العمل أو القادرين الذين لم يتيسر حصولهم على عمل, وهؤلاء جميعاً لم يتركهم الإسلام هملاً وعرضة لآفة الفقر والحرمان تسحقهم وتلجئهم مكرهين إلى ذل السؤال والتكفف, بل عمل كفالتهم من قِبَلِ المجتمع المسلم الذي ينتمون إليه ويُحسَبون عليه.
ويمكن تقسيم كفالة المجتمع المسلم للفقراء المحتاجين إلى قسمين :
* كفالة الأرحام والأقارب.
* كفالة الآخرين.
1. كفالة الأرحام والأقارب :
قرن الله - تعالى - حق القربى في الإحسان بحقه - سبحانه وتعالى - : (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى) النساء :36
وأمر الله - تعالى - بإعطائهم ما يحتاجون فقال : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى) النحل : 90.
وجعل لهم حقاً فقال - تعالى - : (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ) الإسراء : 26 . وقال سبحانه : (فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ) الروم : 38.
وفي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه " رواه البخاري, ح/5673.
بل جعل النبي صلى الله عليه وسلم صلة الأرحام ومواساتهم سبباً في سعة الرزق, ففي الحديث المتفق عليه عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من أحب أن يُبسط له في رزقه, ويُنسأ له في أثره فليصل رحمه" رواه البخاري, ح/1925.
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الرحم معلّقة بالعرش تقول : من وصلني وصله الله, ومن قطعني قطعه الله " رواه مسلم, ح/4635.
ومن أهم مظاهر صلة الأرحام كفالتهم وإعانتهم مادياً وعدم الالتزام بذلك بعد قطيعة لهم , ولنقرأ ما يقوله ابن القيم كما نقل عنه د. يوسف القرضاوي : " وأي قطيعة أعظم من أن يراه يتلظى جوعاً وعطشاً ويتأذى غاية التأذي بالحرّ والبرد, ولا يطعمه لقمة ولا يسقيه جرعة ولا يكسوه ما يستر عورته ويقيه الحر والبرد ويسكنه تحت سقف يظله ؟! انظر كتاب: مشكلة الفقر, للدكتور يوسف القرضاوي, ص 51, 52.
يتبين مما سبق أن الأقارب والأرحام ملزمون بكفالة قريبهم الفقير وإعانته من أموالهم حقاً وصلة.
2- كفالة الآخرين :
هذه الكفالة العامة من قِبَلِ أفراد المجتمع للفقراء والمحتاجين تتم عن طريق :
أ. زكاة المال :
وهي ركن من أركان الإسلام يمثل الحد الأدنى المحدد الثابت المفروض في أموال أغنياء المجتمع ليرد على فقرائهم وبقية الأصناف الثمانية التي ذكرتها الآية (60) من سورة التوبة التي بينت في آخرها أنها فرض واجب. قال - تعالى - : (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) التوبة :60. وقد جاء في الحديث المتفق عليه الذي رواه ابن عباس - رضي الله عنها - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أرسل معاذاً على اليمن وبعد أن أمره بدعوتهم إلى التوحيد ثم الصلاة قال له : " فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم " رواه البخاري, ح/1308.
تعد الزكاة من أهم الموارد التي تستحق بشروطها الأقارب والأرحام في قول الله - تعالى - (وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ) النساء : 36. لتؤكد حق الجار في الإحسان إليه.
كما ورد في الحديث المتفق عليه عن ابن عمر وعائشة - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال :" ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورّثه " رواه البخاري, ح/5555.
ب. الكفارات : العقوبات الدنيوية المكفّرة لبعض الذنوب مثل :
كفارة اليمن : قال - تعالى - : (…فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ…) المائدة : 89.(/4)
كفارة الجماع في نهار رمضان : وهو ما يبطل الصيام ويوجب القضاء والكفارة وقد بيّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه الجماعة عن الرجال الذي وقع على امرأته في نهار رمضان, فقال له : " هل تجد ما تعتق رقبة؟ هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ فها تجد ما تطعم ستين مسكيناً؟ " رواه البخاري, ح/6217.
كفارة الظهار : والظهار أن يقول الرجل لزوجته : أنت علي كظهر أمي, وقد بيّن القرآن وكذا السُّنَّة كفارة الظهار, ففي القرآن وردت الآيات (3 ,4) من سورة المجادلة, وفي السنة أخرج الترمذي وحسنه أبو داود (وهو حديث صحيح) من حديث مسلمة بن صخر البياضي ما يبين كفارة الظهار بما يتماثل كفارة الجماع في رمضان.
ففدية ارتكاب المعذور لمحظور من محظورات الإحرام :
قال - تعالى - : (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) البقرة : 196.
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما تفصيل ذلك في حديث كعب بن عجرة - رضي الله عنه - قول النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي آذى رأسه الهوام : " احلق ثم اذبح شاة نسكاً, أو صم ثلاثة أيام, أو أطعم ثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين" رواه أبو داود, ح/1582.
- ففدية الصيام : قال - تعالى -: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) البقرة : 184.
وقد بيّن ابن عباس المقصود منها كما في صحيح البخاري وكما روى عطاء أنه سمع ابن عباس يقرأ : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) قال ابن عباس : ليست بمنسوخة, هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فليطعما عن كل يوم مسكيناً.
ومن الفقهاء من يرى أن تفدي المرأة الحال والمرضع التي تفطر خوفاً على نفسيهما أو أولادهما.
جـ. النذور : يقول تعالى (وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ) البقرة :270, وقد أخرج البخاري ومسلم من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عن النذر : " وإنما يستخرج به البخيل " رواه البخاري, ح/6118.
د. الأطعمة والذبائح : ومن ذلك :
الهدي : التي تذبح ضمن مناسك الحج ويكون للفقراء منها نصيب قال - تعالى - : (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) الحج : 36.
الأضحية : التي تذبح في عيد الأضحى المبارك وفيها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن واقد ( في آخر الحديث ) : " فكلوا وادخروا وتصدقوا " رواه مسلم, ح/3643.
العقيقة : التي تذبح عن المولود في اليوم السابع, شاتان للغلام وشاة للجارية, ويكون للفقراء فيها نصيب, بل قد ورد في الحديث الحسن الذي أخرجته أحمد في مسنده والبيهقي في السنن الكبرى من حديث أبي رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابنته فاطمة : " احلقي شعره وتصدقي بوزنه من الورق على الأوقاص أو على المساكين " رواه أحمد, ح/25941. تحقيق محمد الحلاق على متن الدرر البهية للشوكاني, ص266. الورقِ : الفضة - الأوقاص : أهل الصفة.
هـ. الصدقات الاختيارية :
يقصد بها نافلة الواجبات المالية التي تُترك لإيمان الإنسان ونفسيته الخيِّرة الكريمة بأن يعطي دون طلب , وينفق دون سؤال وإنما يؤمن بالخَلَف, ويبتغي مزيد الأجر والمثوبة.
قال - تعالى - : (وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا) المزمل/20 ، وقال - تعالى - : (وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) سبأ : 39
ويكفي أن نختار من أحاديث الحث على الصدقات ما رواه الشيخان عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من تصدّق بعدْل ثمرة من كسب طيب - ولا يقبل الله إلا طيب - فإن الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فُلُوَّه أول ما يولد حتى يكون مثل الجبل " رواه البخاري, ح/1321.
ومن الصدقات الاختيارية : الصدقة الجارية ( الوقف الخيري ) : وقد حث عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة أشياء : صدقة جارية .... " رواه الترمذي, ح/1297.
واستجاب المسلمين لهذا الترغيب فأصبحت الصدقات الجارية من الكثرة والضخامة ما يجعلها مفخرة وميزة للنظام الإسلامي, إذا تتبع المسلمين مكامن الحاجات الاجتماعية الظاهرة والخفية فأرصدوا لها الأوقاف المختلفة التي شملت كافة احتياجات الإنسان والحيوان.
رابعا : كفالة ولي الأمر ( الدولة ) :(/5)
أوجب الإسلام رعاية الإمام (ولي الأمر) أو ما يطلق عليه في عصرنا (الدولة أو الحكومة) لجمهور الناس عامة وأصحاب الحاجة خاصة, وجعله مسؤولاً عن ذلك أمامهم ثم بين يدي الله تعالى ، قال جل جلاله - : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) النساء : 58, كما رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه : " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته, فالإمام راع مسؤول عن رعيته ... " رواه البخاري, ح/844.
وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم مسؤولية ولي الأمر تجاه الفقراء والمحتاجين وإعالتهم في الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - فقال : " أنا أوْلى بالمؤمنين في كتاب الله, فأيكم ماَّ ترك ديناً وضيعة (عيالاً) فادعوني فأنا وليه " رواه مسلم, ح/3041.
أما الموارد التي يستعين بها ولي المر ( الدولة) في كفالة الفقراء وأصحاب الحاجات ورعايتهم فهي :
الزكاة : التي يجمعوها ولي الأمر ويأخذها من الأغنياء ليردها على الفقراء. قال تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) التوبة 103.
خُمس الغنائم : والغنائم : المال المأخوذ من الكفار بالقتال يؤخذ خمسه لبيت مال المسلمين, قال تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) الأنفال :41
الفيء : ما أخذه المسلمون من الكفار بغير قتال, فال تعالى (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) الحشر : 7
الخراج : ضريبة مالية على الأراضي المفتوحة عنوة وتركت بيد أهلها يزرعونها ويستغلونها.
الجزية : ما يؤخذ من الذمي بشروط محدودة مقابل الحماية والمنع.
العشور : ضريبة تجارية يخضع لها الذميون والمستأمَنون في أموالهم المعدة للتجارة التي تدخل وتنتقل في ديار الإسلام ويختلف مقدارها باختلاف التجارة والبلاد ومدة الإقامة والمعاملة بالمثل.
خمس الركاز : يقصد به ما وجد مدفوناً من كنوز الأرض في أرض موات أو طريق سابل وهو من ضرب الجاهلية, أما كان من ضرب الإسلام (علامات تدل على ذلك) فهو لقطة تجري عليها أحكامها.
غلة أراضي الدولة وعقاراتها.
الضوائع والودائع التي تعذر معرفة صاحبها.
التعزيرات المالية التي يحكم بها القضاء على مرتكبي المخالفات الشرعية.
ميراث من لا وارث له.
الضرائب : ويقصد بها ما تفرضه الدولة على الأغنياء في حالة عدم تحقيق الكفاية من الموارد السابقة الذكر, وقد ورد في الحديث الذي أخرجه الإمام الترمذي عن جماعة من الصاحبة : " إن في المال حقاً سوى الزكاة " رواه الترمذي, ح/595.
وهو ما يدل على إعطاء صلاحيات واسعة في جباية الأموال اللازمة من الموسرين في الحدود اللازمة للإصلاح ولتحقيق الكفاف لأصحاب الحاجات أو لمتطلبات البلاد الضرورية مثل الدفاع عن أهلها وردّ العدوان وفداء الأسرى وغيرها.
وقد نقل الدكتور عبد الكريم زيدان عن (المحلّى) ما قاله الفقهية المعروف ابن حزم : " وفرض على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم ويجبرهم السلطان على ذلك إن لم تقم الزكاة بهم, فيقام لهم مما يأكلون من القوت الذي لابد منه ، ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك وبمسكن يكنهم من المطر والصيف والشمس وعيون المارة " انظر كتاب : أصول الدعوة, للدكتور عبد الكريم زيدان, ص 246
وتقل كذلك في الصفحة نفسها عن القرطبي في تفسيره : " واتفق العلماء على أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة فإنه يجب صرف المال إليها. قال مالك - رحمه الله - : يجب على الناس فداء أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم وهذا إجماع أيضاً " .
وأخيراً
فتلكم كانت النصوص التي تدل على أن الإسلام قد وضع الأدوية المتعددة لداء الفقر, وبيَّن الحلول المتنوعة لمعضلة الحاجة والحرمان, ولم يكن ذلك مجرد مبادئ نظرية يتم الحديث عنها بعيداً عن صلاحيتها للواقع, بل إن المسلمين قد طبقوها وأقاموها في مجتمعاتهم فحصل ما تكلم عنه التاريخ بفخر واعتزاز, حتى إن تأريخ الأمة الإسلامية ليشرُف بذلك العهد الزاهي الذي لحق عهد الخلفاء الراشدين ونقصد به عهد خلافة الإمام العادل عمر بن عبد العزيز, ولنقرأ معاً ما رواه ابن كثير في البداية والنهاية فيقول : " كان منادي عمر ينادي كل يوم : أين الغارمون؟ أين الناكحون؟ أين المساكين؟ أين اليتامى؟ حتى أغنى كلاً من هؤلاء"(/6)
وفي تاريخ الخلفاء يذكر السيوطي : " قال عمر بن أسيد : والله ما مات عمر حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم فيقول : اجعلوا هذا حيث ترون, فما يبرح حتى يرجع بماله كله, وقد أغنى عمر الناس".
فهل لولاة أمر المسلمين أن يعودوا إلى دين ربهم وشرعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسوسوا شعوبهم ودولهم بها, فيجتنوا خير الدنيا ونعيم الآخرة, وينعموا بالعيش والحكم بعيداً عن نُفايات الغرب والشرق واستغلالهم؟ لعلهم يفعلون, والله نسأل أن يرد الجميع إلى دينه رداً جميلاً, ويبصرهم الحق والسداد.
كاتب المقال: ياسين بن طه بن سعيد الشرجبي
المصدر: الإسلام سؤال وجواب
...(/7)
سياسة الإسلام في محاربة الفقر ...
جاء الدين الإسلام ومن أهدافه : معالجة المعضلات الإنسانية على أسس وخصائص ثابتة تميزه. ومنها : (الربانية, الشمولية, الواقعية) ونعرض هنا لسياسة الإسلام في معالجة واحدة من هذه المشكلات وهي (مشكلات الفقر) .
استخدم الإسلام أساليب متعددة لمحاربة الفقر يمكن إجمال بعضها تحت مجالين :
أولاً : مجال الفكر والتصور.
ثانياً : مجال السلوك والتصرف.
أولاً : مجال الفكر والتصور :
يقول العلماء : " التصرف ناتج عن التصور " وقد أراد الله - سبحانه وتعالى - أن يميز المسلم بالتصور الناضج لقضية الفقر (الحرمان والحاجة) وأن ينطلق من نظرة صحيحة نحوها تمهد للمواقف المتخذة في معالجته ومحاربته.
لذا نجد أن الإسلام - من خلال نصوص القرآن والسنة - له تصوره المتميز لهذه القضية, حيث :
1- يعتبر أن الفقر مصيبة وآفة خطيرة توجب التعوذ منها ومحاربتها, وأنه سبب لمصائب أخرى أشد وأنكى .
2- ينكر النظرة التقديسية وكذلك الجبرية للفقر والحرمان, فكيف تُقدَّس الآفات ذات الأثر السيئ على دين الأمة ودنياها؟ وكيف ينظر إلى الفقر على أنه قدر الله المختوم, ولا يُعدُّ الغنى كذلك قدرٌ يدفع به الفقر لتصلح الأوضاع وتعتمر الأرض ويتكافل الناس؟
3- حث الإسلام على الدعاء بطلب الغنى : ورد في صحيح مسلم من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى" رواه مسلم, ح/4898 , ومن أدعية الصباح والمساء : " اللهم إني أسألك علماً نافعاً ورزقاً طيباً وعملاً صالحاً متقبَّلاً" رواه البخاري, ح/5859.
4- جعل من دلائل حب الآخرين وابتغاء الخير لهم الدعوة لهم بوفرة المال : أورد البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لصاحبه وخادمه : " اللهم أكثر ماله" (رواه ابن ماجة, ح/915.), وكذا دعا لعبد الرحمن بن عوف وعروة بن جعد بالبركة في تجارتهما كما في صحيح البخاري.
5- اعتبر الغنى بعد الفقر نعمة يمتن الله على عباده بها : قال - تعالى - : (وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى) الضحى : 8 . وقال - تعالى - : (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) قريش : 4.
6- أكد أن المال ركن هام لإقامة الدين والدنيا : يقول الله - تعالى - (وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا) النساء : 5 . وفي الحديث القدسي يقول - تعالى - : " إنا أنزلنا المال لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة" صحيح الجامع من حديث أبي واقد الليثي. وفي الصحيح يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر" (أخرجه أحمد وابن ماجة عن أبي هريرة - رضي الله عنه. وقد قدّم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس في معظم المواضع القرآنية.
7- جعل الرزق الوفير ثمرة يُرغِّب إليها إتيان الصالحات : قال - تعالى - : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) الأعراف : 96. وفي الحديث يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أحب أن يُبسط له رزقه وينسأ له أثره فليصل رحمه" رواه البخاري, ح/1925.
8- جعل الحرمان والحاجة نتيجة يُرهبُ بها من اجترح السيئات : يقول - تعالى - : (…فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) النحل : 112 , ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن : " أن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه" رواه ابن ماجة, ح/4012.
9- جعل الغني المنفق أحد اثنين تمدح غبطتهم, حيث يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا حسد إلا في اثنين , رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق…" رواه البخاري, ح/71.
10- رغَّب في الإنفاق والصدقة وهي لا تتحقق غالباً إلا في ظل الغني.
11- ميز بين الغني المنفق والفقير الآخذ : في الحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اليد العليا خيرٌ من اليد السفلى, واليد العليا هي المنفقة, واليد السفلى هي السائلة" (رواه البخاري, ح/4012.
12- اعتبر المال خيراً فُطِرَ الإنسان على حبه : قال - تعالى - : (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) العاديات : 8 , وقال - تعالى - : (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) الفجر: 20
ثانياً : في مجال السلوك والتصرف :
لم يكتف الإسلام بصياغة النظرة المتفردة لأتباعه تجاه الفقر, بل حدد مجالات السلوك والتصرفات التي يستوجبها ذلك التصور, وقدّم حلولاً عملية واقعية يأخذ بها الناس ليدرؤوا عن أنفسهم شبح الفقر والحرمان وما ينجم عنه, ومن ذلك :
1- العمل والسعي :(/1)
يعتبر الخبراء أن العمل أساس الاقتصاد الإسلامي, فهو المصدر الرئيس للكسب الحلال. والعمل مجهود شرعي يقوم به الإنسان لتحقيق عمارة الأرض التي استخلف فيها والاستفادة مما سخره الله فيها لينفع نفسه وبني جنسه في تحقيق حاجاته وإشباعها.
وقد حث الإسلام على السعي والعمل من خلال :
أ. الامتنان بنعمة تسخير الأرض وما فيها, وطلب الاستفادة منها عبادةً لله : قال تعالى : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ) الأعراف : 10, وقال تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) الملك : 15.
ب. جعله دليلاً على صدق التوكل على الله والثقة به: في صحيح الجامع الصغير من حديث عمر رضي الله عنه يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو أنكم تَوَكَّلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً " رواه الترمذي, ح/2266.
والشاهد من الحديث : " تغدو, تروح " سعياً وحركة, وليكن شعار المسلم : " ابذر الحَبَّ ... وارجُ الثمار من الرب ".
ج. الحث على أنواع المهن والحرف ومن ذلك :
التجارة : وقد اشتغل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتجارة, وتاجر مع عمه ثم مع أم المؤمنين خديجة بنت خويلد - رضي الله عنها - واشتغل صحابته الكرام بذلك ومنهم : أبو بكر, وعثمان, وعبد الرحمن بن عوف, وطلحة بن عبيد الله - رضي الله عنهم - وغيرهم, وقد تواصى السلف فيما بينهم ومع تلامذتهم أن : "الزموا السوق" وفي كتب الفقه تُخَصَّص كتب للبيوع وما يتعلق بها وغيرها من الكتب حول التجارة ومعاملاتها.
الزراعة : ففي صحيح البخاري ومسلم من حديث أنس - رضي الله عنه - يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان إلا كان له به صدقة" رواه البخاري, ح/2152.
وعند الترمذي وغيره من حديث جابر وسعيد بن زيد يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أحيا أرضاً ميْتة فهي له" رواه الترمذي, ح/1299.
الصناعات والحرف : ففي البخاري يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أكل أحدٌ طعاماً قَطُّ خيراً من أن يأكل من عمل يده" رواه البخاري, ح/1930. وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أي الكسب أفضل؟ " قال : " عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور" رواه أحمد, ح/16628. وقي صحيح البخاري ومسلم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لأَنْ يحطب أحدكم على ظهره خير من أن يسأل أحداً فيعطيه أو يمنعه" رواه البخاري, ح/1932.
د. اعتبار العمل والكسب من الصدقات ووسيلة إليها : في الحديث المتفق عليه من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " على كل مسلم صدقة " قالوا : فإن لم يجد؟ قال: "فيعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق" رواه البخاري, ح/5563.
هـ. تربية صفوة البشر من الأنبياء على العمل لاتخاذهم قدوة : فقد عمل الأنبياء في أعمال وحرف عدة ومنها رعي الأغنام, وصناعة الحديد, والتجارة, وغيرها, ومما ورد في ذلك من الأدلة :
قول الرجل الصالح لموسى - عليه السلام - وهو من أولي العزم من الرسل : (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ) القصص : 27.
وفي البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال رسو الله صلى الله عليه وسلم : " ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم, وأنا كنت أرعاها لأهل مكة بالقراريط" رواه البخاري, ح/2102.
وفي البخاري أيضاً من حديث المقدام - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده" رواه البخاري, ح/1930. وهكذا فعل ورثة الأنبياء من العلماء الربانيين فاشتهرت أسماء أمثال : البزَّاز, الجصَّاص, الخوَّاص, القطَّان, الزجَّاج.
و. عدم الاعتراف بالملكية التي لا يكون مصدرها العمل والطرق المشروعة : فحرّم الإسلام أعمال الغصب والسلب والسرقة والنصب والمقامرة والربا وما ينشأ عنها من مكاسب مالية, واتخذ إزاء ذلك العقوبات الرادعة, وفي ذلك إلزام لأفراد المجتمع في البحث عن الكسب المشروع, وأغلب ذلك لا يتأتى إلا عن طريق العمل.
ز. الترهيب من التسوّل والاحتيال على الآخرين : ففي القرآن الكريم الحث على الاهتمام بالذين لا يتسوّلون وتحسس أحوالهم ورعايتهم : قال - تعالى - (لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) البقرة : 273.(/2)
وروى الشيخان من حديث ابن عمر - رضي الله عنه- يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما يزال الرجل يسأل الناس, حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مُزعة لحم" رواه مسلم, ح/1724. وفي مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من سأل الناس أموالهم تَكثُّراً فإنما يسأل جمراً, فليستقلَّ, أو ليستكثر" رواه مسلم, ح/1726.
ح. النهي عن التصدق على غير المحتاج : أخرج الإمام أحمد وغيره في صحيح الجامع الصغير من حديث ابن عمر وأبي هريرة - رضي الله عنهما - قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا تحل الصدقة لغني, ولا لذي مِرَّةٍ سوي" رواه الترمذي, ح/589. ذو المرة السوي : القوي سليم الأعضاء .
وفي الحديث الذي أخرجه أصحاب السنن الأربعة وحسنه الترمذي يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة : لذي فقر مدقع, أو لذي غرم مفظع, أو لذي دم موجع". رواه الترمذي, ح/590. مدقع: شديد, مفظع: ثقيل, دم موجع: دية باهظة.
مسؤولية ولي الأمر (الدولة) :
تتجلى هذه المسؤولية فيما تهيئة من سبل العمل للعاطلين وتزودهم بأدواته وإعدادهم مهنياً لذلك والاطمئنان على يسرهم : روى أصحاب السنن من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه : أن رجلاً من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "أما في بيتك شيء؟ " قال : بلى : حِِلْسُ نلبس بعضه ونبسط بعضه, وقعب نشرب فيه الماء, قال : "ائتني بهما" فأتاه بهما فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : " من يشتري هذين ؟ قال رجل :أنا آخذهما بدرهم, قال : من يزيد على درهم؟ مرتين أو ثلاثاً. قال رجل : أنا آخذهما بدرهمين, فأعطاهما إياه, وأخذ الدرهمين, وأعطاهما الأنصاري, وقال : اشترِ بأحدهما طعاماً وانبذه إلى أهلك, واشترِ بالآخر قدوماً فائتني به .. فشد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عوداً بيده ثم قال له : " اذهب فاحتطب وبِعْ.. ولا أرينَّك خمسة عشر يوماً. فذهب الرجل يحتطب ويبيع, فجاءه وقد أصاب عشرة دراهم, فاشترى ببعضها ثوباً,وببعضها طعاماً .. على آخر الحديث " رواه أبو داود, ح/1398.
وقد أشار الفقيه الكبير أبو يوسف - رحمه الله - إلى جواز إقراض المحتاج من بيت المال كما نقل عنه الفقيه ابن عابدين : "يدفع للعاجز - أي العاجز عن زراعة أرضه الخراجيه لفقره - كفايته من بيت المال قرضاً ليعمل ويستغل أرضه " أصول الدعوة, د.عبد الكريم زيدان.
مسؤولية أصحاب العمل وولاة الأمر (الدولة) عن حفظ حقوق الأجراء والعمال :
وقد حكى الله تعالى عن الرجل الصالح أنه قال لموسى عليه السلام : (…وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ) القصص : 27, وفي الحديث المتفق عليه من حديث أبي ذر - رضي الله عنه - يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إِخوانكم خَوَلُكم, جعلهم الله قنيةً تحت أيديكم, فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه من طعامه, وليلبسه من لباسه, ولا يكلفه ما يغلبه, فإن كلّفه ما يغلبه فليعنه" رواه البخاري, ح/29.
وفي الحديث الحسن من حديث أربعة من الصحابة : (ابن عمر - أبي هريرة - جابر - أنس) رضي الله عنهم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه " رواه ابن ماجة, ح/2434.
أخرج أبو داود والحكم كما في صحيح الجامع الصغير من حديث المستورد بن شداد - رضي الله عنه - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من كان لنا عاملاً فلم يكن له زوجة فليكتسب زوجة, فإن لم يكن خادم فليكتسب خادماً, فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكناً, من اتخذ غير ذلك فهو غالٌ أو سارق " رواه أبو داود, ح/2556.
بل لقد توعّد الله تعالى في الحديث القدسي الذي أخرجه البخاري وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه توعّد ذلك الذي يبخس العمال أو الأجير حقه, فقال : " ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ومن كنت خصمه خصمته .. ورجل استأجر أجيراً فاستوفي منه ولم يعطه أجره " رواه البخاري, ح/2075.
2. الجهاد :
من الوسائل التي شرعها الإسلام لمحاربة الفقر والحاجة وسيلة الجهاد لنشر نور الهدى الإسلامي, وفتح مصاريع البلاد أمامه, وتحطيم عروش الطغاة الذين يحولون بينه وبين عباد الله, واغتنام الأموال المستخدمة في عصيان الله ومبارزته بالحرب واستعباد عبيده من أجل استغلالها في تعمير الأرض وعبادته.
لذا فقد رغب الإسلام في الجهاد من خلال الوعد الأخروي وكذا الفتح الدنيوي والغنائم. قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ…) الصف : 10-13. وقال تعالى : (وَعَدَكُمْ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ …) الفتح : 20.(/3)
وفي صحيح الجامع الصغير من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (بُعِثْتُ بين يدي الساعة بالسيف حتى يُعْبَدَ الله وحده لا شريك له, وجُعِلَ رزقي تحت ظل رمحي " رواه أحمد, ح/4868.
لقد كان الجهاد في الفتوحات إبان الخلافة الإسلامية الراشدة أكبر مصدر لواردات بيت مال المسلمين مما أمكن من توزيع العطاءات على كل مسلم.
3- كفالة المجتمع :
لا يخلو مجتمع من العاجزين عن العمل والجهاد والكسب من كدّ اليد والاعتماد على النفس من أمثال الأرامل واليتامى والشيوخ وأصحاب العاهات المعوّقة, وكذلك الذين لا يكفيهم دخلهم من العمل أو القادرين الذين لم يتيسر حصولهم على عمل, وهؤلاء جميعاً لم يتركهم الإسلام هملاً وعرضة لآفة الفقر والحرمان تسحقهم وتلجئهم مكرهين إلى ذل السؤال والتكفف, بل عمل كفالتهم من قِبَلِ المجتمع المسلم الذي ينتمون إليه ويُحسَبون عليه.
ويمكن تقسيم كفالة المجتمع المسلم للفقراء المحتاجين إلى قسمين :
* كفالة الأرحام والأقارب.
* كفالة الآخرين.
1. كفالة الأرحام والأقارب :
قرن الله - تعالى - حق القربى في الإحسان بحقه - سبحانه وتعالى - : (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى) النساء :36
وأمر الله - تعالى - بإعطائهم ما يحتاجون فقال : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى) النحل : 90.
وجعل لهم حقاً فقال - تعالى - : (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ) الإسراء : 26 . وقال سبحانه : (فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ) الروم : 38.
وفي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه " رواه البخاري, ح/5673.
بل جعل النبي صلى الله عليه وسلم صلة الأرحام ومواساتهم سبباً في سعة الرزق, ففي الحديث المتفق عليه عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من أحب أن يُبسط له في رزقه, ويُنسأ له في أثره فليصل رحمه" رواه البخاري, ح/1925.
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الرحم معلّقة بالعرش تقول : من وصلني وصله الله, ومن قطعني قطعه الله " رواه مسلم, ح/4635.
ومن أهم مظاهر صلة الأرحام كفالتهم وإعانتهم مادياً وعدم الالتزام بذلك بعد قطيعة لهم , ولنقرأ ما يقوله ابن القيم كما نقل عنه د. يوسف القرضاوي : " وأي قطيعة أعظم من أن يراه يتلظى جوعاً وعطشاً ويتأذى غاية التأذي بالحرّ والبرد, ولا يطعمه لقمة ولا يسقيه جرعة ولا يكسوه ما يستر عورته ويقيه الحر والبرد ويسكنه تحت سقف يظله ؟! انظر كتاب: مشكلة الفقر, للدكتور يوسف القرضاوي, ص 51, 52.
يتبين مما سبق أن الأقارب والأرحام ملزمون بكفالة قريبهم الفقير وإعانته من أموالهم حقاً وصلة.
2- كفالة الآخرين :
هذه الكفالة العامة من قِبَلِ أفراد المجتمع للفقراء والمحتاجين تتم عن طريق :
أ. زكاة المال :
وهي ركن من أركان الإسلام يمثل الحد الأدنى المحدد الثابت المفروض في أموال أغنياء المجتمع ليرد على فقرائهم وبقية الأصناف الثمانية التي ذكرتها الآية (60) من سورة التوبة التي بينت في آخرها أنها فرض واجب. قال - تعالى - : (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) التوبة :60. وقد جاء في الحديث المتفق عليه الذي رواه ابن عباس - رضي الله عنها - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أرسل معاذاً على اليمن وبعد أن أمره بدعوتهم إلى التوحيد ثم الصلاة قال له : " فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم " رواه البخاري, ح/1308.
تعد الزكاة من أهم الموارد التي تستحق بشروطها الأقارب والأرحام في قول الله - تعالى - (وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ) النساء : 36. لتؤكد حق الجار في الإحسان إليه.
كما ورد في الحديث المتفق عليه عن ابن عمر وعائشة - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال :" ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورّثه " رواه البخاري, ح/5555.
ب. الكفارات : العقوبات الدنيوية المكفّرة لبعض الذنوب مثل :
كفارة اليمن : قال - تعالى - : (…فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ…) المائدة : 89.(/4)
كفارة الجماع في نهار رمضان : وهو ما يبطل الصيام ويوجب القضاء والكفارة وقد بيّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه الجماعة عن الرجال الذي وقع على امرأته في نهار رمضان, فقال له : " هل تجد ما تعتق رقبة؟ هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ فها تجد ما تطعم ستين مسكيناً؟ " رواه البخاري, ح/6217.
كفارة الظهار : والظهار أن يقول الرجل لزوجته : أنت علي كظهر أمي, وقد بيّن القرآن وكذا السُّنَّة كفارة الظهار, ففي القرآن وردت الآيات (3 ,4) من سورة المجادلة, وفي السنة أخرج الترمذي وحسنه أبو داود (وهو حديث صحيح) من حديث مسلمة بن صخر البياضي ما يبين كفارة الظهار بما يتماثل كفارة الجماع في رمضان.
ففدية ارتكاب المعذور لمحظور من محظورات الإحرام :
قال - تعالى - : (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) البقرة : 196.
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما تفصيل ذلك في حديث كعب بن عجرة - رضي الله عنه - قول النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي آذى رأسه الهوام : " احلق ثم اذبح شاة نسكاً, أو صم ثلاثة أيام, أو أطعم ثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين" رواه أبو داود, ح/1582.
- ففدية الصيام : قال - تعالى -: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) البقرة : 184.
وقد بيّن ابن عباس المقصود منها كما في صحيح البخاري وكما روى عطاء أنه سمع ابن عباس يقرأ : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) قال ابن عباس : ليست بمنسوخة, هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فليطعما عن كل يوم مسكيناً.
ومن الفقهاء من يرى أن تفدي المرأة الحال والمرضع التي تفطر خوفاً على نفسيهما أو أولادهما.
جـ. النذور : يقول تعالى (وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ) البقرة :270, وقد أخرج البخاري ومسلم من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عن النذر : " وإنما يستخرج به البخيل " رواه البخاري, ح/6118.
د. الأطعمة والذبائح : ومن ذلك :
الهدي : التي تذبح ضمن مناسك الحج ويكون للفقراء منها نصيب قال - تعالى - : (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) الحج : 36.
الأضحية : التي تذبح في عيد الأضحى المبارك وفيها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن واقد ( في آخر الحديث ) : " فكلوا وادخروا وتصدقوا " رواه مسلم, ح/3643.
العقيقة : التي تذبح عن المولود في اليوم السابع, شاتان للغلام وشاة للجارية, ويكون للفقراء فيها نصيب, بل قد ورد في الحديث الحسن الذي أخرجته أحمد في مسنده والبيهقي في السنن الكبرى من حديث أبي رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابنته فاطمة : " احلقي شعره وتصدقي بوزنه من الورق على الأوقاص أو على المساكين " رواه أحمد, ح/25941. تحقيق محمد الحلاق على متن الدرر البهية للشوكاني, ص266. الورقِ : الفضة - الأوقاص : أهل الصفة.
هـ. الصدقات الاختيارية :
يقصد بها نافلة الواجبات المالية التي تُترك لإيمان الإنسان ونفسيته الخيِّرة الكريمة بأن يعطي دون طلب , وينفق دون سؤال وإنما يؤمن بالخَلَف, ويبتغي مزيد الأجر والمثوبة.
قال - تعالى - : (وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا) المزمل/20 ، وقال - تعالى - : (وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) سبأ : 39
ويكفي أن نختار من أحاديث الحث على الصدقات ما رواه الشيخان عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من تصدّق بعدْل ثمرة من كسب طيب - ولا يقبل الله إلا طيب - فإن الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فُلُوَّه أول ما يولد حتى يكون مثل الجبل " رواه البخاري, ح/1321.
ومن الصدقات الاختيارية : الصدقة الجارية ( الوقف الخيري ) : وقد حث عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة أشياء : صدقة جارية .... " رواه الترمذي, ح/1297.
واستجاب المسلمين لهذا الترغيب فأصبحت الصدقات الجارية من الكثرة والضخامة ما يجعلها مفخرة وميزة للنظام الإسلامي, إذا تتبع المسلمين مكامن الحاجات الاجتماعية الظاهرة والخفية فأرصدوا لها الأوقاف المختلفة التي شملت كافة احتياجات الإنسان والحيوان.
رابعا : كفالة ولي الأمر ( الدولة ) :(/5)
أوجب الإسلام رعاية الإمام (ولي الأمر) أو ما يطلق عليه في عصرنا (الدولة أو الحكومة) لجمهور الناس عامة وأصحاب الحاجة خاصة, وجعله مسؤولاً عن ذلك أمامهم ثم بين يدي الله تعالى ، قال جل جلاله - : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) النساء : 58, كما رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه : " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته, فالإمام راع مسؤول عن رعيته ... " رواه البخاري, ح/844.
وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم مسؤولية ولي الأمر تجاه الفقراء والمحتاجين وإعالتهم في الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - فقال : " أنا أوْلى بالمؤمنين في كتاب الله, فأيكم ماَّ ترك ديناً وضيعة (عيالاً) فادعوني فأنا وليه " رواه مسلم, ح/3041.
أما الموارد التي يستعين بها ولي المر ( الدولة) في كفالة الفقراء وأصحاب الحاجات ورعايتهم فهي :
الزكاة : التي يجمعوها ولي الأمر ويأخذها من الأغنياء ليردها على الفقراء. قال تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) التوبة 103.
خُمس الغنائم : والغنائم : المال المأخوذ من الكفار بالقتال يؤخذ خمسه لبيت مال المسلمين, قال تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) الأنفال :41
الفيء : ما أخذه المسلمون من الكفار بغير قتال, فال تعالى (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) الحشر : 7
الخراج : ضريبة مالية على الأراضي المفتوحة عنوة وتركت بيد أهلها يزرعونها ويستغلونها.
الجزية : ما يؤخذ من الذمي بشروط محدودة مقابل الحماية والمنع.
العشور : ضريبة تجارية يخضع لها الذميون والمستأمَنون في أموالهم المعدة للتجارة التي تدخل وتنتقل في ديار الإسلام ويختلف مقدارها باختلاف التجارة والبلاد ومدة الإقامة والمعاملة بالمثل.
خمس الركاز : يقصد به ما وجد مدفوناً من كنوز الأرض في أرض موات أو طريق سابل وهو من ضرب الجاهلية, أما كان من ضرب الإسلام (علامات تدل على ذلك) فهو لقطة تجري عليها أحكامها.
غلة أراضي الدولة وعقاراتها.
الضوائع والودائع التي تعذر معرفة صاحبها.
التعزيرات المالية التي يحكم بها القضاء على مرتكبي المخالفات الشرعية.
ميراث من لا وارث له.
الضرائب : ويقصد بها ما تفرضه الدولة على الأغنياء في حالة عدم تحقيق الكفاية من الموارد السابقة الذكر, وقد ورد في الحديث الذي أخرجه الإمام الترمذي عن جماعة من الصاحبة : " إن في المال حقاً سوى الزكاة " رواه الترمذي, ح/595.
وهو ما يدل على إعطاء صلاحيات واسعة في جباية الأموال اللازمة من الموسرين في الحدود اللازمة للإصلاح ولتحقيق الكفاف لأصحاب الحاجات أو لمتطلبات البلاد الضرورية مثل الدفاع عن أهلها وردّ العدوان وفداء الأسرى وغيرها.
وقد نقل الدكتور عبد الكريم زيدان عن (المحلّى) ما قاله الفقهية المعروف ابن حزم : " وفرض على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم ويجبرهم السلطان على ذلك إن لم تقم الزكاة بهم, فيقام لهم مما يأكلون من القوت الذي لابد منه ، ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك وبمسكن يكنهم من المطر والصيف والشمس وعيون المارة " انظر كتاب : أصول الدعوة, للدكتور عبد الكريم زيدان, ص 246
وتقل كذلك في الصفحة نفسها عن القرطبي في تفسيره : " واتفق العلماء على أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة فإنه يجب صرف المال إليها. قال مالك - رحمه الله - : يجب على الناس فداء أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم وهذا إجماع أيضاً " .
وأخيراً
فتلكم كانت النصوص التي تدل على أن الإسلام قد وضع الأدوية المتعددة لداء الفقر, وبيَّن الحلول المتنوعة لمعضلة الحاجة والحرمان, ولم يكن ذلك مجرد مبادئ نظرية يتم الحديث عنها بعيداً عن صلاحيتها للواقع, بل إن المسلمين قد طبقوها وأقاموها في مجتمعاتهم فحصل ما تكلم عنه التاريخ بفخر واعتزاز, حتى إن تأريخ الأمة الإسلامية ليشرُف بذلك العهد الزاهي الذي لحق عهد الخلفاء الراشدين ونقصد به عهد خلافة الإمام العادل عمر بن عبد العزيز, ولنقرأ معاً ما رواه ابن كثير في البداية والنهاية فيقول : " كان منادي عمر ينادي كل يوم : أين الغارمون؟ أين الناكحون؟ أين المساكين؟ أين اليتامى؟ حتى أغنى كلاً من هؤلاء"(/6)
وفي تاريخ الخلفاء يذكر السيوطي : " قال عمر بن أسيد : والله ما مات عمر حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم فيقول : اجعلوا هذا حيث ترون, فما يبرح حتى يرجع بماله كله, وقد أغنى عمر الناس".
فهل لولاة أمر المسلمين أن يعودوا إلى دين ربهم وشرعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسوسوا شعوبهم ودولهم بها, فيجتنوا خير الدنيا ونعيم الآخرة, وينعموا بالعيش والحكم بعيداً عن نُفايات الغرب والشرق واستغلالهم؟ لعلهم يفعلون, والله نسأل أن يرد الجميع إلى دينه رداً جميلاً, ويبصرهم الحق والسداد.
كاتب المقال: ياسين بن طه بن سعيد الشرجبي
المصدر: الإسلام سؤال وجواب(/7)
سياسة الإسلام في محاربة الفقر
جاء الدين الإسلام ومن أهدافه : معالجة المعضلات الإنسانية على أسس وخصائص ثابتة تميزه. ومنها : (الربانية, الشمولية, الواقعية) ونعرض هنا لسياسة الإسلام في معالجة واحدة من هذه المشكلات وهي (مشكلات الفقر) .
استخدم الإسلام أساليب متعددة لمحاربة الفقر يمكن إجمال بعضها تحت مجالين :
أولا : مجال الفكر والتصور.
ثانيا : مجال السلوك والتصرف.
أولا : مجال الكقر والتصور..
يقول العلماء : " التصرف ناتج عن التصور " وقد أراد الله - سبحانه وتعالى - أن يميز المسلم بالتصور الناضج لقضية الفقر (الحرمان والحاجة) وأن ينطلق من نظرة صحيحة نحوها تمهد للمواقف المتخذة في معالجته ومحاربته.
لذا نجد أن الإسلام - من خلال نصوص القرآن والسنة - له تصوره المتميز لهذه القضية, حيث :
• يعتبر أن الفقر مصيبة وآفة خطيرة توجب التعوذ منها ومحاربتها, وأنه سبب لمصائب أخرى أشد وأنكى .
• ينكر النظرة التقديسية وكذلك الجبرية للفقر والحرمان, فكيف تقدس الآفات ذات الأثر السيئ على دين الأمة ودنياها؟ وكيف ينظر إلى الفقر على أنه قدر الله المختوم, ولا يعد الغنى كذلك قدرٌ يدفع به الفقر لتصلح الأوضاع وتعتمر الأرض ويتكافل الناس؟
• حث الإسلام على الدعاء بطلب الغنى : ورد في صحيح مسلم من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى » رواه مسلم, ح/4898 , ومن أدعية الصباح والمساء : « اللهم إني أسألك علما نافعا ورزقا طيبا وعملا صالحا متقبلا » رواه البخاري, ح/5859.
• جعل من دلائل حب الآخرين وابتغاء الخير لهم الدعوة لهم بوفرة المال : أورد البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لصاحبه وخادمه : « اللهم أكثر ماله» (رواه ابن ماجة, ح/915.), وكذا دعا لعبد الرحمن بن عوف وعروة بن جعد بالبركة في تجارتهما كما في صحيح البخاري.
• اعتبر الغنى بعد الفقر نعمة يمتن الله على عباده بها : قال - تعالى - : { و وجدك عائلا فأغنى } [الضحى : 8 ]. وقال - تعالى - : {الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف } [قريش : 4].
• أكد أن المال ركن هام لإقامة الدين والدنيا : يقول الله - تعالى - { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما } [النساء : 5]. وفي الحديث القدسي يقول - تعالى - : " إنا أنزلنا المال لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة" صحيح الجامع من حديث أبي واقد الليثي. وفي الصحيح يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر" (أخرجه أحمد وابن ماجة عن أبي هريرة - رضي الله عنه. وقد قدم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس في معظم المواضع القرآنية.
• جعل الرزق الوفير ثمرة يرغب إليها إتيان الصالحات : قال - تعالى - : { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض } [الأعراف : 96]. وفي الحديث يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أحب أن يبسط له رزقه وينسأ له أثره فليصل رحمه" رواه البخاري, ح/1925.
• جعل الحرمان والحاجة نتيجة يرهب بها من اجترح السيئات : يقول - تعالى - : { …فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون } النحل : 112 , ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن : « أن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه » رواه ابن ماجة, ح/4012.
• جعل الغني المنفق أحد اثنين تمدح غبطتهم, حيث يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا حسد إلا في اثنين , رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق…» رواه البخاري, ح/71.
• رغب في الإنفاق والصدقة وهي لا تتحقق غالبا إلا في ظل الغني.
• ميز بين الغني المنفق والفقير الآخذ : في الحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اليد العليا خيرٌ من اليد السفلى, واليد العليا هي المنفقة, واليد السفلى هي السائلة » (رواه البخاري, ح/4012.
• اعتبر المال خيرا فطر الإنسان على حبه : قال - تعالى - : { وإنه لحب الخير لشديدٌ } [العاديات :8] , وقال - تعالى - : { وتحبون المال حبا جما } [الفجر: 20]
ثانيا : في مجال السلوك والتصرف..
لم يكتف الإسلام بصياغة النظرة المتفردة لأتباعه تجاه الفقر, بل حدد مجالات السلوك والتصرفات التي يستوجبها ذلك التصور, وقدم حلولا عملية واقعية يأخذ بها الناس ليدرؤوا عن أنفسهم شبح الفقر والحرمان وما ينجم عنه, ومن ذلك :
1- العمل والسعي ..
يعتبر الخبراء أن العمل أساس الاقتصاد الإسلامي, فهو المصدر الرئيس للكسب الحلال. والعمل مجهود شرعي يقوم به الإنسان لتحقيق عمارة الأرض التي استخلف فيها والاستفادة مما سخره الله فيها لينفع نفسه وبني جنسه في تحقيق حاجاته وإشباعها.
وقد حث الإسلام على السعي والعمل من خلال :(/1)
أ. الامتنان بنعمة تسخير الأرض وما فيها, وطلب الاستفادة منها عبادة لله : قال تعالى : { ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش [الأعراف : 10], وقال تعالى : { هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه} [الملك : 15].
ب. جعله دليلا على صدق التوكل على الله والثقة به: في صحيح الجامع الصغير من حديث عمر رضي الله عنه يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا » رواه الترمذي, ح/2266.
والشاهد من الحديث : " تغدو, تروح " سعيا وحركة, وليكن شعار المسلم : " ابذر الحب ... وارج الثمار من الرب ".
ج. الحث على أنواع المهن والحرف ومن ذلك :
التجارة : وقد اشتغل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتجارة, وتاجر مع عمه ثم مع أم المؤمنين خديجة بنت خويلد - رضي الله عنها - واشتغل صحابته الكرام بذلك ومنهم : أبو بكر, وعثمان, وعبد الرحمن بن عوف, وطلحة بن عبيد الله - رضي الله عنهم - وغيرهم, وقد تواصى السلف فيما بينهم ومع تلامذتهم أن : "الزموا السوق" وفي كتب الفقه تخصص كتب للبيوع وما يتعلق بها وغيرها من الكتب حول التجارة ومعاملاتها.
الزراعة : ففي صحيح البخاري ومسلم من حديث أنس - رضي الله عنه - يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان إلا كان له به صدقة » رواه البخاري, ح/2152.
وعند الترمذي وغيره من حديث جابر وسعيد بن زيد يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من أحيا أرضا ميتة فهي له » رواه الترمذي, ح/1299.
الصناعات والحرف : ففي البخاري يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما أكل أحدٌ طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده » رواه البخاري, ح/1930.. وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أي الكسب أفضل؟ " قال : « عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور » رواه أحمد, ح/16628. وفي صحيح البخاري ومسلم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لأن يحطب أحدكم على ظهره خير من أن يسأل أحدا فيعطيه أو يمنعه » رواه البخاري, ح/1932.
د. اعتبار العمل والكسب من الصدقات ووسيلة إليها : في الحديث المتفق عليه من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : « على كل مسلم صدقة » قالوا : فإن لم يجد؟ قال: « فيعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق » رواه البخاري, ح/5563.
هـ. تربية صفوة البشر من الأنبياء على العمل لاتخاذهم قدوة : فقد عمل الأنبياء في أعمال وحرف عدة ومنها رعي الأغنام, وصناعة الحديد, والتجارة, وغيرها, ومما ورد في ذلك من الأدلة :
قول الرجل الصالح لموسى - عليه السلام - وهو من أولي العزم من الرسل : { قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثمانية حجج } [القصص : 27].
وفي البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال رسو الله صلى الله عليه وسلم : « ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم, وأنا كنت أرعاها لأهل مكة بالقراريط » رواه البخاري, ح/2102.
وفي البخاري أيضا من حديث المقدام - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده » رواه البخاري, ح/1930. وهكذا فعل ورثة الأنبياء من العلماء الربانيين فاشتهرت أسماء أمثال : البزاز, الجصاص, الخواص, القطان, الزجاج.
و. عدم الاعتراف بالملكية التي لا يكون مصدرها العمل والطرق المشروعة : فحرم الإسلام أعمال الغصب والسلب والسرقة والنصب والمقامرة والربا وما ينشأ عنها من مكاسب مالية, واتخذ إزاء ذلك العقوبات الرادعة, وفي ذلك إلزام لأفراد المجتمع في البحث عن الكسب المشروع, وأغلب ذلك لا يتأتى إلا عن طريق العمل.
ز. الترهيب من التسول والاحتيال على الآخرين : ففي القرآن الكريم الحث على الاهتمام بالذين لا يتسولون وتحسس أحوالهم ورعايتهم : قال - تعالى - { للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا } [البقرة : 273].
وروى الشيخان من حديث ابن عمر - رضي الله عنه- يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما يزال الرجل يسأل الناس, حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم » رواه مسلم, ح/1724. وفي مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من سأل الناس أموالهم تكثرا فإنما يسأل جمرا, فليستقل, أو ليستكثر » رواه مسلم, ح/1726.
ح. النهي عن التصدق على غير المحتاج : أخرج الإمام أحمد وغيره في صحيح الجامع الصغير من حديث ابن عمر وأبي هريرة - رضي الله عنهما - قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تحل الصدقة لغني, ولا لذي مرة سوي » رواه الترمذي, ح/589. ذو المرة السوي : القوي سليم الأعضاء .(/2)
وفي الحديث الذي أخرجه أصحاب السنن الأربعة وحسنه الترمذي يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة : لذي فقر مدقع, أو لذي غرم مفظع, أو لذي دم موجع » . رواه الترمذي, ح/590. مدقع: شديد, مفظع: ثقيل, دم موجع: دية باهظة.
مسؤولية ولي الأمر (الدولة)..
تتجلى هذه المسؤولية فيما تهيئة من سبل العمل للعاطلين وتزودهم بأدواته وإعدادهم مهنيا لذلك والاطمئنان على يسرهم : روى أصحاب السنن من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه : « أن رجلا من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "أما في بيتك شيء؟ " قال : بلى : حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه, وقعب نشرب فيه الماء, قال : "ائتني بهما" فأتاه بهما فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : " من يشتري هذين ؟ قال رجل :أنا آخذهما بدرهم, قال : من يزيد على درهم؟ مرتين أو ثلاثا. قال رجل : أنا آخذهما بدرهمين, فأعطاهما إياه, وأخذ الدرهمين, وأعطاهما الأنصاري, وقال : اشتر بأحدهما طعاما وانبذه إلى أهلك, واشتر بالآخر قدوما فائتني به .. فشد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عودا بيده ثم قال له : " اذهب فاحتطب وبع.. ولا أرينك خمسة عشر يوما. فذهب الرجل يحتطب ويبيع, فجاءه وقد أصاب عشرة دراهم, فاشترى ببعضها ثوبا,وببعضها طعاما .. على آخر الحديث » رواه أبو داود, ح/1398.
وقد أشار الفقيه الكبير أبو يوسف - رحمه الله - إلى جواز إقراض المحتاج من بيت المال كما نقل عنه الفقيه ابن عابدين : "يدفع للعاجز - أي العاجز عن زراعة أرضه الخراجيه لفقره - كفايته من بيت المال قرضا ليعمل ويستغل أرضه " أصول الدعوة, د.عبد الكريم زيدان.
مسؤولية أصحاب العمل وولاة الأمر (الدولة) عن حفظ حقوق الأجراء والعمال :
وقد حكى الله تعالى عن الرجل الصالح أنه قال لموسى عليه السلام : { …وما أريد أن أشق عليك } [القصص : 27], وفي الحديث المتفق عليه من حديث أبي ذر - رضي الله عنه - يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إخوانكم خوالكم, جعلهم الله قنية تحت أيديكم, فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه من طعامه, وليلبسه من لباسه, ولا يكلفه ما يغلبه, فإن كلفه ما يغلبه فليعنه » رواه البخاري, ح/29.
وفي الحديث الحسن من حديث أربعة من الصحابة : (ابن عمر - أبي هريرة - جابر - أنس) رضي الله عنهم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه » رواه ابن ماجة, ح/2434.
أخرج أبو داود والحكم كما في صحيح الجامع الصغير من حديث المستورد بن شداد - رضي الله عنه - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من كان لنا عاملا فلم يكن له زوجة فليكتسب زوجة, فإن لم يكن خادم فليكتسب خادما, فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكنا, من اتخذ غير ذلك فهو غالٌ أو سارق » رواه أبو داود, ح/2556.
بل لقد توعد الله تعالى في الحديث القدسي الذي أخرجه البخاري وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه توعد ذلك الذي يبخس العمال أو الأجير حقه, فقال : « ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ومن كنت خصمه خصمته .. ورجل استأجر أجيرا فاستوفي منه ولم يعطه أجره » رواه البخاري, ح/2075.
2. الجهاد..
من الوسائل التي شرعها الإسلام لمحاربة الفقر والحاجة وسيلة الجهاد لنشر نور الهدى الإسلامي, وفتح مصاريع البلاد أمامه, وتحطيم عروش الطغاة الذين يحولون بينه وبين عباد الله, واغتنام الأموال المستخدمة في عصيان الله ومبارزته بالحرب واستعباد عبيده من أجل استغلالها في تعمير الأرض وعبادته.
لذا فقد رغب الإسلام في الجهاد من خلال الوعد الأخروي وكذا الفتح الدنيوي والغنائم. قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم… } الصف : 10-13. وقال تعالى : { وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه …} الفتح : 20.
وفي صحيح الجامع الصغير من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : « بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له, وجعل رزقي تحت ظل رمحي » رواه أحمد, ح/4868.
لقد كان الجهاد في الفتوحات إبان الخلافة الإسلامية الراشدة أكبر مصدر لواردات بيت مال المسلمين مما أمكن من توزيع العطاءات على كل مسلم.
3- كفالة المجتمع..
لا يخلو مجتمع من العاجزين عن العمل والجهاد والكسب من كد اليد والاعتماد على النفس من أمثال الأرامل واليتامى والشيوخ وأصحاب العاهات المعوقة, وكذلك الذين لا يكفيهم دخلهم من العمل أو القادرين الذين لم يتيسر حصولهم على عمل, وهؤلاء جميعا لم يتركهم الإسلام هملا وعرضة لآفة الفقر والحرمان تسحقهم وتلجئهم مكرهين إلى ذل السؤال والتكفف, بل عمل كفالتهم من قبل المجتمع المسلم الذي ينتمون إليه ويحسبون عليه.
ويمكن تقسيم كفالة المجتمع المسلم للفقراء المحتاجين إلى قسمين :
* كفالة الأرحام والأقارب.
* كفالة الآخرين.
1. كفالة الأرحام والأقارب..(/3)
قرن الله - تعالى - حق القربى في الإحسان بحقه - سبحانه وتعالى - : { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى } [النساء :36 ]
وأمر الله - تعالى - بإعطائهم ما يحتاجون فقال : { إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى } [النحل : 90].
وجعل لهم حقا فقال - تعالى - : { وآت ذا القربى حقه } [الإسراء : 26]. وقال سبحانه : { فآت ذا القربى حقه } [الروم : 38].
وفي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه » رواه البخاري, ح/5673.
بل جعل النبي صلى الله عليه وسلم صلة الأرحام ومواساتهم سببا في سعة الرزق, ففي الحديث المتفق عليه عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من أحب أن يبسط له في رزقه, وينسأ له في أثره فليصل رحمه » رواه البخاري, ح/1925.
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الرحم معلقة بالعرش تقول : من وصلني وصله الله, ومن قطعني قطعه الله » رواه مسلم, ح/4635.
ومن أهم مظاهر صلة الأرحام كفالتهم وإعانتهم ماديا وعدم الالتزام بذلك بعد قطيعة لهم , ولنقرأ ما يقوله ابن القيم كما نقل عنه د. يوسف القرضاوي : " وأي قطيعة أعظم من أن يراه يتلظى جوعا وعطشا ويتأذى غاية التأذي بالحر والبرد, ولا يطعمه لقمة ولا يسقيه جرعة ولا يكسوه ما يستر عورته ويقيه الحر والبرد ويسكنه تحت سقف يظله ؟! انظر كتاب: مشكلة الفقر, للدكتور يوسف القرضاوي, ص 51, 52.
يتبين مما سبق أن الأقارب والأرحام ملزمون بكفالة قريبهم الفقير وإعانته من أموالهم حقا وصلة.
2- كفالة الآخرين :
هذه الكفالة العامة من قبل أفراد المجتمع للفقراء والمحتاجين تتم عن طريق :
أ. زكاة المال :
وهي ركن من أركان الإسلام يمثل الحد الأدنى المحدد الثابت المفروض في أموال أغنياء المجتمع ليرد على فقرائهم وبقية الأصناف الثمانية التي ذكرتها الآية (60) من سورة التوبة التي بينت في آخرها أنها فرض واجب. قال - تعالى - : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليمٌ حكيمٌ } [التوبة :60]. وقد جاء في الحديث المتفق عليه الذي رواه ابن عباس - رضي الله عنها - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أرسل معاذا على اليمن وبعد أن أمره بدعوتهم إلى التوحيد ثم الصلاة قال له : « فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم » رواه البخاري, ح/1308.
تعد الزكاة من أهم الموارد التي تستحق بشروطها الأقارب والأرحام في قول الله - تعالى - (والجار ذي القربى والجار الجنب) النساء : 36. لتؤكد حق الجار في الإحسان إليه.
كما ورد في الحديث المتفق عليه عن ابن عمر وعائشة - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال : « ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه » رواه البخاري, ح/5555.
بالكفارات : العقوبات الدنيوية المكفرة لبعض الذنوب مثل :
كفارة اليمن : قال - تعالى - : {…فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة… } [المائدة : 89].
كفارة الجماع في نهار رمضان : وهو ما يبطل الصيام ويوجب القضاء والكفارة وقد بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه الجماعة عن الرجال الذي وقع على امرأته في نهار رمضان, فقال له : « هل تجد ما تعتق رقبة؟ هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ فها تجد ما تطعم ستين مسكينا؟ » رواه البخاري, ح/6217.
كفارة الظهار : والظهار أن يقول الرجل لزوجته : أنت علي كظهر أمي, وقد بين القرآن وكذا السنة كفارة الظهار, ففي القرآن وردت الآيات (3 ,4) من سورة المجادلة, وفي السنة أخرج الترمذي وحسنه أبو داود (وهو حديث صحيح) من حديث مسلمة بن صخر البياضي ما يبين كفارة الظهار بما يتماثل كفارة الجماع في رمضان.
ففدية ارتكاب المعذور لمحظور من محظورات الإحرام :
قال - تعالى - : { فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففديةٌ من صيام أو صدقة أو نسك } [البقرة : 196].
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما تفصيل ذلك في حديث كعب بن عجرة - رضي الله عنه - قول النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي آذى رأسه الهوام : « احلق ثم اذبح شاة نسكا, أو صم ثلاثة أيام, أو أطعم ثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين » رواه أبو داود, ح/1582.
- ففدية الصيام : قال - تعالى -: { وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعام مسكين } [البقرة : 184].
وقد بين ابن عباس المقصود منها كما في صحيح البخاري وكما روى عطاء أنه سمع ابن عباس يقرأ : { وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعام مسكين } قال ابن عباس : ليست بمنسوخة, هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فليطعما عن كل يوم مسكينا.(/4)
ومن الفقهاء من يرى أن تفدي المرأة الحال والمرضع التي تفطر خوفا على نفسيهما أو أولادهما.
ج. النذور : يقول تعالى { وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه } [البقرة :270], وقد أخرج البخاري ومسلم من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عن النذر : « وإنما يستخرج به البخيل » رواه البخاري, ح/6118.
د. الأطعمة والذبائح : ومن ذلك :
الهدي : التي تذبح ضمن مناسك الحج ويكون للفقراء منها نصيب قال - تعالى - : { فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر } [الحج : 36].
الأضحية : التي تذبح في عيد الأضحى المبارك وفيها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن واقد ( في آخر الحديث ) : « فكلوا وادخروا وتصدقوا » رواه مسلم, ح/3643.
العقيقة : التي تذبح عن المولود في اليوم السابع, شاتان للغلام وشاة للجارية, ويكون للفقراء فيها نصيب, بل قد ورد في الحديث الحسن الذي أخرجته أحمد في مسنده والبيهقي في السنن الكبرى من حديث أبي رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابنته فاطمة : « احلقي شعره وتصدقي بوزنه من الورق على الأوقاص أو على المساكين » رواه أحمد, ح/25941. تحقيق محمد الحلاق على متن الدرر البهية للشوكاني, ص266. الورق : الفضة - الأوقاص : أهل الصفة.
هـ. الصدقات الاختيارية :
يقصد بها نافلة الواجبات المالية التي تترك لإيمان الإنسان ونفسيته الخيرة الكريمة بأن يعطي دون طلب , وينفق دون سؤال وإنما يؤمن بالخلف, ويبتغي مزيد الأجر والمثوبة.
قال - تعالى - : { وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا } [المزمل:20] ، وقال - تعالى : { وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين } [سبأ : 39 ]
ويكفي أن نختار من أحاديث الحث على الصدقات ما رواه الشيخان عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من تصدق بعدل ثمرة من كسب طيب - ولا يقبل الله إلا طيب - فإن الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه أول ما يولد حتى يكون مثل الجبل » رواه البخاري, ح/1321.
ومن الصدقات الاختيارية : الصدقة الجارية ( الوقف الخيري ) : وقد حث عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة أشياء : صدقة جارية .... » رواه الترمذي, ح/1297.
واستجاب المسلمين لهذا الترغيب فأصبحت الصدقات الجارية من الكثرة والضخامة ما يجعلها مفخرة وميزة للنظام الإسلامي, إذا تتبع المسلمين مكامن الحاجات الاجتماعية الظاهرة والخفية فأرصدوا لها الأوقاف المختلفة التي شملت كافة احتياجات الإنسان والحيوان.
4- كفالة ولي الأمر ( الدولة )..
أوجب الإسلام رعاية الإمام (ولي الأمر) أو ما يطلق عليه في عصرنا (الدولة أو الحكومة) لجمهور الناس عامة وأصحاب الحاجة خاصة, وجعله مسؤولا عن ذلك أمامهم ثم بين يدي الله تعالى ، قال جل جلاله - : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } [النساء : 58], كما رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه : « كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته, فالإمام راع مسؤول عن رعيته ... » رواه البخاري, ح/844.
وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم مسؤولية ولي الأمر تجاه الفقراء والمحتاجين وإعالتهم في الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - فقال : « أنا أولى بالمؤمنين في كتاب الله, فأيكم ما ترك دينا وضيعة (عيالا) فادعوني فأنا وليه » رواه مسلم, ح/3041.
أما الموارد التي يستعين بها ولي المر ( الدولة) في كفالة الفقراء وأصحاب الحاجات ورعايتهم فهي :
- الزكاة : التي يجمعوها ولي الأمر ويأخذها من الأغنياء ليردها على الفقراء. قال تعالى : { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها } [التوبة : 103].
خمس الغنائم : والغنائم : المال المأخوذ من الكفار بالقتال يؤخذ خمسه لبيت مال المسلمين, قال تعالى : واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } [الأنفال :41]
- الفيء : ما أخذه المسلمون من الكفار بغير قتال, فال تعالى { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم } [الحشر : 7 ]
- الخراج : ضريبة مالية على الأراضي المفتوحة عنوة وتركت بيد أهلها يزرعونها ويستغلونها.
- الجزية : ما يؤخذ من الذمي بشروط محدودة مقابل الحماية والمنع.
- العشور : ضريبة تجارية يخضع لها الذميون والمستأمنون في أموالهم المعدة للتجارة التي تدخل وتنتقل في ديار الإسلام ويختلف مقدارها باختلاف التجارة والبلاد ومدة الإقامة والمعاملة بالمثل.(/5)
- خمس الركاز : يقصد به ما وجد مدفونا من كنوز الأرض في أرض موات أو طريق سابل وهو من ضرب الجاهلية, أما كان من ضرب الإسلام (علامات تدل على ذلك) فهو لقطة تجري عليها أحكامها.
- غلة أراضي الدولة وعقاراتها.
- الضوائع والودائع التي تعذر معرفة صاحبها.
- التعزيرات المالية التي يحكم بها القضاء على مرتكبي المخالفات الشرعية.
- ميراث من لا وارث له.
- الضرائب : ويقصد بها ما تفرضه الدولة على الأغنياء في حالة عدم تحقيق الكفاية من الموارد السابقة الذكر, وقد ورد في الحديث الذي أخرجه الإمام الترمذي عن جماعة من الصاحبة : " إن في المال حقا سوى الزكاة " رواه الترمذي, ح/595.
وهو ما يدل على إعطاء صلاحيات واسعة في جباية الأموال اللازمة من الموسرين في الحدود اللازمة للإصلاح ولتحقيق الكفاف لأصحاب الحاجات أو لمتطلبات البلاد الضرورية مثل الدفاع عن أهلها ورد العدوان وفداء الأسرى وغيرها.
وقد نقل الدكتور عبد الكريم زيدان عن (المحلى) ما قاله الفقهية المعروف ابن حزم : " وفرض على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم ويجبرهم السلطان على ذلك إن لم تقم الزكاة بهم, فيقام لهم مما يأكلون من القوت الذي لابد منه ، ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك وبمسكن يكنهم من المطر والصيف والشمس وعيون المارة " انظر كتاب : أصول الدعوة, للدكتور عبد الكريم زيدان, ص 246
وتقل كذلك في الصفحة نفسها عن القرطبي في تفسيره : " واتفق العلماء على أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة فإنه يجب صرف المال إليها. قال مالك - رحمه الله - : يجب على الناس فداء أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم وهذا إجماع أيضا " .
وأخيرا
فتلكم كانت النصوص التي تدل على أن الإسلام قد وضع الأدوية المتعددة لداء الفقر, وبين الحلول المتنوعة لمعضلة الحاجة والحرمان, ولم يكن ذلك مجرد مبادئ نظرية يتم الحديث عنها بعيدا عن صلاحيتها للواقع, بل إن المسلمين قد طبقوها وأقاموها في مجتمعاتهم فحصل ما تكلم عنه التاريخ بفخر واعتزاز, حتى إن تأريخ الأمة الإسلامية ليشرف بذلك العهد الزاهي الذي لحق عهد الخلفاء الراشدين ونقصد به عهد خلافة الإمام العادل عمر بن عبد العزيز, ولنقرأ معا ما رواه ابن كثير في البداية والنهاية فيقول : " كان منادي عمر ينادي كل يوم : أين الغارمون؟ أين الناكحون؟ أين المساكين؟ أين اليتامى؟ حتى أغنى كلا من هؤلاء"
وفي تاريخ الخلفاء يذكر السيوطي : " قال عمر بن أسيد : والله ما مات عمر حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم فيقول : اجعلوا هذا حيث ترون, فما يبرح حتى يرجع بماله كله, وقد أغنى عمر الناس".
فهل لولاة أمر المسلمين أن يعودوا إلى دين ربهم وشرعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسوسوا شعوبهم ودولهم بها, فيجتنوا خير الدنيا ونعيم الآخرة, وينعموا بالعيش والحكم بعيدا عن نفايات الغرب والشرق واستغلالهم؟ لعلهم يفعلون, والله نسأل أن يرد الجميع إلى دينه ردا جميلا, ويبصرهم الحق والسداد.
بقلم ياسين بن طه بن سعيد الشرجبي
( مجلة البيان العدد 152 ربيع الآخر 1421 هـ ص 118 - 127 )(/6)
سياط المستضعفين (1/2)
محمد عبد الله بن الشيباني * 24/8/1423
30/10/2002
أعلنت حالة الطوارئ في المستشفيات الإسرائيلية وأقسام الشرطة والأجهزة الأمنية في كافة أرجاء القدس المحتلة والمناطق المحيطة بها بعد سماع انفجار قوي وتبين في ما بعد -حسب وكالة عيتيم" الصهيونية" التي أوردت الخبر- أن الانفجار ناتج عن عجلة سيارة"باص" تجاوزت السرعة العادية(1).
وقبل ذلك بيومين أعلنت حالة الاستنفار القصوى في صفوف هذه الأجهزة والجيش وبعد 24 ساعة على إعلان حالة الطوارئ، هزَّ الجامعة العبرية دوي انفجار مريع.
هذان الحادثان جاء أولهما ليترجم حالة الهلع والذعر والخور التي خلفتها سنتان من انتفاضة الأقصى، والتي تسود الدولة العبرية
أما الثاني فأطار مع الريح أسطورة "الأمن "ومعجزة "الموساد"فضلاً عن هيبة الجيش وعيون التكنلوجيا"الباصرة"، وإلاَّ فأي معنى لكل هذه الأجهزة، إذا كانت تستنفر كافة أفرادها إضافة إلى المستشفيات لمجرد انفجار" إطار" سيارة؟ ثم يسفر استنفارها واستعدادها عن مثل هذه العملية التي وضعت بدقة فائقة في موقع حرج وفجرت بتقنية عالية.
هذه الحادثة ليست سوى واحدة من آلاف الحوادث التي أرغمت المتعاطفين مع الكيان الغاصب -وحتى أخلص أهله له - أن يطلقوا صرخات آيسة تنذر بزوال الكيان بعد انهيار كافة مقومات بقائه.
وما المقال الذي نشرته صحيفة (يدعوت احرنوت) بقلم الإرهابي "نتنياهو"بعنوان" وجود إسرائيل بات مهددًا "وما ذكر من (وهن وضعف القوة الإسرائيلية الفعلية والمعنوية في عيون العرب)، وقول أخيه في الإرهاب "بيريز":(إن الصراع وصل إلى مرحلة حرجة وأن مستقبل الصراع أصبح يلفه الغموض)(2)، وقول أحد الصحف الإسرائيلية وكان الأكثر صراحة:"عن عيد اغتصاب فلسطين": (إن الاستقلال الذي نحتفل به لم يعد له معنى).. تلك شهادات أماطت اللثام عن بعض الإنجازات الكبرى "التي حققتها انتفاضة الأقصى المباركة وعن ومضة من الأذى البالغ ، والهزة الشنيعة التي أصابت بها المجتمع الصهيوني، حقائق ناطقة وإن لم يصدقها المدجنون بقدرات الموساد الخارقة والمؤمنين ببشارة "الكيان" الذي لا ينال منه.
لقد كانت انتفاضة الأقصى بمثابة رحمة وزعت الصمود والتحدي على كافة الشعب الفلسطيني والشعوب الإسلامية من ورائه،وأصاب كل المجتمع الإسرائيلي بأذى .
وقد ساعدت عدة عوامل في إنجاح هذه الانتفاضة رغم "الصفقات" المربحة "والصفعات" المؤلمة التي استهدفت زعزعتها والنيل منها:
أولاً: ارتفاع روح التضحية والجهاد/
لاشك أن دعوات الحكومات الإعلامية للتطبيع وهرولتهم "العملية "إليه،ودعوة "حكماء " العلمانية إلى تحكيم العقل بدل العواطف الجياشة واعتماد المصالح بدل المبادئ في تحديد العلاقات والتحالفات، لاشك أنها كانت أكثر زخمًا، وأجهر صوتًا وأكثر صخبًا،إلا أن انتفاضة الأقصى أثبتت أن الصوت الرافض للتخلي عن الذات مقابل "أوهام" السلام كان أصدق قيلاً وأكثر نصيراً، فما أن انطلقت حجارتها الأولى حتى أصبح التطبيع - وكما هو الواقع- أشد المصطلحات مقتًا لدى الشعوب ، والمدافع عنه خائنًا ، والعمليات الإستشهادية خيارًا إستراتيجيًا لا يقبل النقاش، والدعوة إلى المقاطعة فخرًا، وأصبح جل شباب فلسطين مشاريع استشهادية ،وزاحمت الفتيات الفتيان وانتقل وجدانهم من أرض فلسطين المباركة إلى فسيح جنة عرضها السماوات والأرض.
ثانيًا: توازن الرعب..المبادرة الفلسطينية/
اكتشف المجاهدون أن لكل سلاح متطور سلاحًا بدائيًا مساويًا له في التأثير مشابها له في النتائج، وأن سياط المستضعفين مع الإيمان و التحدي تفعل مالا يفعله سيف المستكبرين مع الخواء الروحي والإفلاس النفسي فظهرت من سياط المستضعفين ضروب نقف عند آلمها بإيجاز:
السوط الأول:الحجارة والمقلاع والصدور العارية .
وهذه آية الإيمان وعلامة التحدي الكبرى، وما طالعتتا وسائل الإعلام بصور اليهود مختبئين عن حجارة الأطفال في مصفحاتهم ودباباتهم أو وراء الأبنية الإسمنتية والحواجز الرملية إلا دوى في وجدانتا قوله -عز وجل- (لا يقاتلونكم جميعًا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر)
السوط الثاني:العمليات الاستشهادية:(/1)
لم يكن (جمال سليم) مبالغًا حين قال:"إن القنبلة البشرية- الاستشهاديون- ستنتصر على القنبلة النووية التي تتباهى بها إسرائيل"(3) وحسب إحصاءات إسرائيلية، رسمية فإنه تم تنفيذ 130 عملية استشهادية، 95 منها ناجحة"(4) إلا أن الذي لم تذكره الشرطة الإسرائيلية أن هذه العمليات كانت تجمع في توقيتها ومكانها بين البعدين السياسي والعسكري الأمني، مما أربك أجهزة دولة العدو وأرهب مواطنيها وما لم تذكره أيضًا هو أن طلعة الفتيان والفتيات البهية على شاشات وسائل الإعلام وهم يبتسمون للموت وهم في مقتبل العمر، أشاعت جوًا عامًا من التوق للشهادة في سبيل الله، وبشَّرت المسلمين أن هناك من يبذل دمه نصرة للإسلام و أهله وأقنعت الرأي العام العالمي أن هناك أذى بالغًا دفع هؤلاء إلى مثل هذه الأعمال .
السوط الثالث: مصانع الأسلحة :
بعد عدة دلائل أشارت إلى وجود مصانع سرية لدى الفلسطينيين، حسمت قناة(أم بي سي) الأمر في الشهر (3-2002) بعرضها تقريرًا مصور ومفصلاً عن أحد هذه المصانع حيث قام المهندسون بشرح خطواتهم لصناعة الأسلحة وتعبئة العبوات والأحزمة الناسفة للاستشهاديين ، ووحدات لتطوير الصواريخ الصغيرة، ومدافع الهاون،وفي خبر عاجل أوردته (يدعوت أحرنوت) يوم (28-08-002)) "أن جنود العدو عثروا في جنين على مختبر كبير لتصنيع المتفجرات، وعثروا على عدة عبوات ناسفة جاهزة مختلفة الأحجام(5).
السوط الرابع: السيارات المفخخة:
وهي أقدم الأساليب وأشد هذه "السياط " فتكًا وكانت عنوان العام الأول من الانتفاضة، قبل أن تزاحمها الأحزمة والعبوات الناسفة وتحد من فاعليتها الحواجز الأمنية.
السوط الخامس: الصهاريج الملغومة:
وقد تمت عمليتان -على الأقل- إحداهما في مجمع " بي غليلو" وتزامنت مع اجتماع أمني للحكومة الإسرائيلية لبحث جاهزية الدولة الصهيونية للتعامل مع عمليات كبرى، كما لو أن هذه العملية نجحت، والثانية وقعت (08-08-002) في أكبر مجمع للغاز في الكيان وقالت الشرطة الإسرائيلية إن 3000 شخص -على الأقل- سيموتون لو لم تنفجر الشاحنة المحملة بـ 15طنًا من الوقود(6) قبل المكان المحدد بأمتار ووصفتها بالكارثة التي لا يمكن تصورها، ومنذ بداية العام 2002 بلغت تكاليف الإجراءات الأمنية التي اتخذتها الشركة 17مليون شيكل/.
السوط السادس:الأسلحة الرشاشة:
وعنها تقول مصادر الشرطة الصهيونية- حسب مجلة العصر- أنه تمت 13 ألف عملية بمختلف أنواعها، لقي فيها 660 مستوطنًا وجندياً حتفهم وأصيب 3500 بجروح متفاوتة، وقال المفتش العام لشرطة العدو "شلومو اهرونيتشي": وقع منذ يناير 2002 حتى يوليو 1071 عملية أصيب جراؤها1935، توفي منهم 238 وأحبطت 50 وأبطل مفعول 148 عبوة ناسفة (7) ويضيف "هذه ليست معطيات شرطة جافة بل هي صورة للوضع الاجتماعي في إسرائيل" الحالة التي اختصرها الصحافي الإسرائيلي "فيرد لويتش من" يدعوت"بالعنوان:(إسرائيل : يهود أقل زواجًا أقل عمالاً) .
السوط السابع: نهب المستودعات:
لم يعد يشغل بال الصهاينة وصول الفلسطينيين إلى مستودعات الذخيرة ومخازن الأسلحة الإسرائيلية، فهذا أمر أصبح شبه شهري، وإنما أصبح شغلهم الشاغل ما آذنت به هذه العمليات من احتمال وصول الأيادي الفلسطينية إلى المواد المشعة والكيماوية بعد وصولهم إلى المستودعات الصهيونية عن طريق اختراق التحصينات الأمنية وشراء ذمم الضباط ، ونقلت محطة التلفزة الإسرائيلية "الثانية" الجمعة (11-5-2001) أن سرقة لمستودع إسرائيلي أسفرت عن نهب42 قذيفة هاون و10 قذايف مضادة للدبابات و 4000 طلقة رشاش و 10000 رصاصة بندقية والطريف أنه تم نقل هذه "الغنيمة" على الحمير إلى غزة حسب القناة الإسرائيلية الثانية (8)
السوط الثامن: جيش الرعب:
أسفرت سنتان من انتفاضة الأقصى عن انكشاف ضعف اليهود النفسي وخلفت حالة هلع وذعر أصبحوا معها يحسبون كل صيحة عليهم، وفي هذا المنحى ذكرت الشرطة الصهيونية أنها تلقت منذ (يناير-2002) وحتى فاتح يوليو أكثر من مليون و700 ألف اتصال هاتفي منذر بوقوع عملية أو الاشتباه بجسم غريب(9) أي بمعدل 9239 اتصالاً يوميًا، هذا ولم يسفر اتصال واحد عن كشف عملية واحدة.
السوط التاسع: المقاطعة :
وهي التعبير الحقيقي عن صحوة الضمير العالمي وازدياد الوعي الإسلامي بالقضايا الكبرى، ولم تعد المقاطعة مقتصرة على المسلمين في الدول الإسلامية، بل ولا على المسلمين عمومًا وفي هذا المعنى وقّع أكتر من 750 أكاديميًا غربيًا على دعوة لمقاطعة المنتجات الإسرائيلية، ودعت جمعية النقابات البريطانية الكبرى إلى مقاطعة إسرائيل. وقد انخفضت صادرات العدو -حتى إلى أمريكا- فقد انخفضت بنسبة 10% (10).
عاشر السياط:
أخيرًا نعرج على أشهر إبداعات الانتفاضة: سلاح التحدي.(/2)
إن شعبًا شاهد بعينيه ما وقع في جنين، ثم فكر في التحدي لشعب صمود، فكيف إذا رأيت الذين عايشوا فصول مجزرته المرعبة، وهم يتعالون على كل هذا الأذى فيخرجون من هذا الجحيم بهمة أقوى وعود أصلب ؟
لكن ..ما النتيجة؟* كاتب وشاعر شنقيطي
سياط المستضعفين (2/2)
محمد عبد الله بن الشيباني * 1/9/1423
06/11/2002
أصوات المغالين بأسطورة" الأمن "الدائم وأكذوبة "الرادع "النووي" و الجيش الذي لا يقهر قد بحت تحت مطارق الحقائق الواقعية المتتالية ، وأبان الصمود الفلسطيني- وبوسائل بدائية- أن الكيان كله نقطة ضعف وكله ثغرة أمنية .
صحيح أن الصهاينة يتبعون من أساليب المخادعة والعمل في الظلام والوسائل القذرة مالا يستخدمه المسلمون ولا يستحلونه ، وأن جل الإعلام والساسة الغربيين يخشون تلك الأساليب، وكل ذلك لم يمنع الشعوب أن تكتشف زيف دعوتهم،ولم تمنع اقتصادهم أن ينهار ولا الأصوات المنددة بهم أن تعلو ولا الانتفاضة أن تعبث بمقومات وجودهم وتستنزف مواردهم ،ولنستعرض شهادات من صحائفهم التي يصدرون عن حقيقة الواقع الذي يعيشون ، لنقف على مدى الانهيار الكلي والإفلاس العسكري والسياسي فضلا عن الضغط العصبي والنفسي، الذي أصبح إخوان القردة يصطلون به من لذع انتفاضة الأقصى المباركة
الاقتصاد الصهيوني ...وفقدان المناعة.
أصيب الاقتصاد الإسرائيلي بـ"داء" فقدان المناعة المكتسبة من جراء إصابته بفيروس"الذعر" وبكتيريا "الخوف من" مستقبل يلفه الغموض" فرصدت أموال الدولة لتغطية نفقات الحرب، وهربت رؤوس الأموال إلى الخارج ،وقيل على السياحة السلام، ولم تجد أمام هذه الحالة مضادات"المساعدات الخارجية " الحية السخية خصوصًا الأمريكية.
عناوين وأرقام:
ثمن السلام مع بدء مسيرة التنازلات السلمية91 بدأ الاقتصاد الصهيوني يتطور وأعطته أوسلو93 دفعة قوية، وكادت سنوات التطبيع بعد ذلك أن تخلق له موطئ قدم ثابتة في الأسواق العربية، لولا أن تداركنا الله برحمة انتفاضة الأقصى، فعصفت بمكاتب رعاية "المفاسد" الصهيونية وبينت أن التسوية بين الظالم والمظلوم والمعتدِي والمعتدَى عليه، والمحتل والمحتلة أرضه لا يمكن أن تكون تسوية سلمية .
خسائر بالجملة قال مدير شركة ميتاف الصهيونية إن خسائر الاقتصاد الصهيوني بلغت في هذا العام2002 وحده: 28 مليار دولار وهو ما يساوي -حسب المصدر- 10% من أملاك الإسرائيليين (11) وبشكل أوضح قال : بلغت خسائر هذا الشهر 14 مليون دولار، وبلغت البطالة 11%حسب cnn وكان مما ترتب على هذه الخسائر العامة ما يلي:
1) إغلاق المشاريع الاستثمارية: وفي هذا الصدد أعلنت دائرة الإحصاء المركزية أن 37 مشروعًا استثماريًا أغلقت من أصل 42 تم افتتاحها سنة 2001 وعزت السبب إلى "الأوضاع الأمنية المتدهورة"(12)
2) تحويل الأموال إلي الخارج: ولكي تتصور حجم هذه الأموال المهربة إلى الخارج استمع إلى راديو"الكيان" وهو يقول في شهر مايو 2002 وحده حول للخارج مبلغ 133 مليون دولار، وسحب من صناديق الائتمان مبلغ ملياري شيكل حسب مدير شركة" ميتاف" (13) بل قال رئيس قسم مراقبة العملة الأجنبية البنك المركزي للكيان أنه حول من 20-9-01 إلى يوليو-2002 مبلغ مليار دولار(14)
3)التسريح الجماعي للعمال : وهو نتيجة طبعية لأي تباطؤ وركود اقتصادي فضلاً عن انهيار شبه شامل، وتوالت إعلانات التساريح للعمال، وقالت صحيفة معارف الإسرائيلية إن 20 ألف سيتم تسريحهم من قطاع التكنلوجيا وحده و أن ألفًا سيتم تسريحهم من شركة الصناعات العسكرية(15) و65 ألفًا من شركات السياحة فضلاً عن شركات البناء وقطاع الزراعة .
القطاعات الحيوية وبنظرة سريعة إلى القطاعات المهمة في اقتصاد الدولة العبرية تبين ما يلي :
قطاع السياحة: تم إغلاق 25 شركة سياحية ،والاستغناء عن خدمة 65 ألف عامل في القطاع وتدنت السياحة ب70% حسب cnn نقلاً عن (للآسوشيتد برس) ،وانخفض عدد السواح بـ65%.
قطاع النقل: وبلغت خسائره 500 مليون دولار(16) وبلغت أرباح شركة "العال" العكسية 240 مليون(17) ولأن هذا القطاع استهدف زعزعته عاملان :أولهما العلاقة الغرامية بين الاستشهاديين والباصات.
الثاني: تأثر النقل الجوي أولاً والبري ثانيًا بانهيار قطاع السياحة.
قطاع التكنلوجيا: وفيه تراجعت قيمة الأسهم المعلنة في "ناسداك" ل80 شركة إسرائيلية من 54 مليار دولار إلى34 مليار دولار(18) وهذا ما يفسر توقع (يدعوت احرنوت) بفصل هذا العدد الهائل 20 ألف عامل من هذا القطاع.
القطاع المالي: ونقتصر على هذه العناوين البارزة، فمن موقع صحيفة يدعوت "وتيرة التضخم المالي ترتفع إلى10.7%(19).."تراجع الشيكل أمام الدولار وباقي العملات "وبلغ تراجع الشيكل أمام الدولار منذ بدء الانتفاضة 36%" حجم إيرادات الدولة تراجع بنحو مليون دولار "وانحفض معدل الأجور بنسبة 5.8% (19*)(/3)
قطاع الزراعة: وبلغت خسائره 127 مليون دولار(20) من جراء أجواء الحصار وضعف القدرة الشرائية للفلسطينيين والصهاينة واتساع دائرة المقاطعة
شركة الصناعات العسكرية : جاء في عنوان ليدعوت أحرنوت :عمال "الصناعات العسكرية يغلقون الشوارع وأعلنت إذاعة العدو السبب في نشرتها 28-08-02 حيث قررت "الصناعات العسكرية بيع كافة مصانعها وأن الدولة ستقدم لها دعمًا بقيمة 300 مليون دولار شريطة بيع بعض المصانع وتسريح عدد كبير من العمال(21)
إبداع وخصخصة : ذكرت إذاعة الجيش المحتل أن الجيش سيتنازل عن حراسة المستوطنات لصالح شركات خاصة وأن مستوطنة "غوش عيسون " ستكون أول المستوطنات المتخلى عنها وعلى ذمة إذاعة جيش العدو قال قائد القوات البرية " إن عدم وجود خبرة لدى كثير من أفراد الجيش في الحراسة والتعامل مع المقاومين الفلسطينيين، الذين أصبحوا قادرين على اختراق أقوى التحصينات الأمنية وتنفيذ عملياتهم هو السبب في اللجوء إلى إبداع الخوصصة هذا. (22)
الصحة والتعليم وذكرت (يدعوت) أن مستشفيات الكيان تعاني من حالة عجز في الأجهزة والأدوية وأزمة في السيولة المادية التي لا تمكنها من سد ديونها البالغة 80 مليون دولار(23) أما في التعليم فقد قلصت ساعات الدراسة 40 ألف ساعة دراسية (23)
ليس سرًا " براك" والجيش والعفونة
الجيش: ولن نزيد في شأن الجيش على هذه الكلمات من "براك" استمع إلى هذا الصوت التعيس من وسط وزارة الدفاع وهو يخاطب ضباطه :إن الحالة المتقدمة للعفونة وترهل القيم تقوض معنويات الجمهور الإسرائيلي، ويضيف "وليس سرًا أن قوات الاحتياط والتي تمثل ثلث القوات المقاتلة في انهيار تام "(24)وقول" يدعوت" الجيش يتعرض لموجة انتحارات منذ أربعة أشهر.
الشرطة(2500 ) هاربون
ولذلك طلبت الشرطة العسكرية بزيادة مخصصًا تهم (25) من أجل إنشاء سجن حربي" لا تحزن" ليس لاستقبال الفلسطينيين الذين خططوا لهجمات- بل لاستقبال المجندين الإسرائيليين الذين اختاروا غياهب السجون الإسرائيلية على جحيم غزة الذي لا يطاق.وقال (عوزي دايان) رئيس مجلس الأمن القومي للكيان الأربعاء 4-9-02 :( إن الاقتصاد الإسرائيلي لن يتمكن من توفير ميزانيات الأمن لمدة طويلة) وفقا لتقرير ل"شمدار سمويلمن يدعوت الصهيونية".
وللرياضة نصيب: ألغى اللاعب "الرماني "تاناس" عقدًا مع نادي" مكابي نتانيا" قائلاً: لقد انفجرت القنابل على بعد أمتار مني، وأنا أتناول الطعام فقررت التخلي عن عقد بقيمة 185مليون دولار سنوياً والعودة سالماً.
وهاجر الشباب:نبهت (معاريف) إلى ما دعت ظاهرة هجرة الشباب وذكرت أن 22% من الشباب ينوون الهجرة وذكرت ديل اشبيكل " الألمانية"أن 60 طالب هجرة تقدموا للسفارة الألمانية(26) وبلغ عدد المهاجرين من الكيان بالجملة مليون مهاجر وانخفضت نسبة المهاجرين إلى الكيان ب35% عام 2001 (27) وفي القدس - وهي المحك الحقيقي للصراع- هاجر 16 ألف يهودي بينما انتقل للسكن فيها وفي المناطق التابعة لها 10آلاف فلسطيني حسب أسبوعية (يروشلايم) الصهيونية /قدس برس/15-06-2002.
أزمات نفسية :قالت الجمعية الإسرائيلية لتقديم الاستشارات النفسية "عيران" إن عدد الموجهين إليها زاد بنسبة 12% سنة 2001 وأن 3900 من بينهم كانوا ينوون الانتحار (28).
الرد :شاروني .عسكري وشعبي.
أسقطت الانتفاضة باراك وسواءً أسقطت شارون أو أخطأته فقد سحبت منه كل الأوراق ،وأيست شعبه من أي أمل فيه ، فاستنفد كافة الوسائل السياسية ،والدبلوماسية والعسكرية" الأمريكية والصهيونية" وبدا عاجزًا عن فعل أي شيء لا يهمه إلا الكرسي، مما اختصرته (هآرتس) بعنوان "فشل شارون هو العنوان البارز على كل المسارات" يذكر أن شارون جاء ليوقف الانتفاضة فرد عليه الشهيد (فؤاد إسماعيل الحوراني) ببرود أعصاب وأيقظه على معزوفة الانتفاضة تعزف في فندق لا يبعد عن مخدعه 50 مترًا مخلفًا عشرات القتلى والجرحى بعد أن بلغ الرسالة.
استراحة : قد يجد بعض الإسرائيليين وسائل خاصة بهم أيامًا ريثما يرحلوا:
فينقذ شارون بورصتهم بإقالة زعيم حزب شاس ليغير عناوين الصحف ويشغل المحتلين عن وطأة الاقتصاد كما اعترف به رئيس مكتبه ، وأمام المجندين أن يستريحوا في غياهب السجون،ويجنح بعضهم إلى المهدئات من لفح الحقائق المرة وقد بيع في ثلاثة أشهر150 ألف دواء مهدئ حسب معاريف الصهيونية. ولآخرين أن ينحدروا إلى وحل المخدرات وعددهم حسب معا ريف عدد الخميس 06-07-02 يبلغ 300 ألف متعاط .بينما لجأت فتيات وفتيان إلى الوشم تفاديًا للعنة العمليات الإستشهادية (29)، حسب (يديعوت أحرنوت) 11-07-02 ويبدو أنهم لجأوا إلى الوشم لينقذهم من "بركة" العمليات الإستشهادية بعدما يئسوا من سياسة شارون التي فرغها ما أبان عنه الفلسطينيون من الصمود والتحدي، وما أسفر عنه ذلك من حالة الجيش والاقتصاد- من أي معنى.1-وكالة عيتيم الصهيونية للأنباء 04-08-2002.
2-طلال فخري /مجلة الجندي المسلم/10-11-1422هـ(/4)
3-أحد قادة حماس "حفل تأبين الشهيد محمود مرمش/الأخبار/islamonline.net
4-معطيات رسمية للشرطة الصهيونية/وسام عفيفة/WWW.ALASR.WS
5- الأخبار العاجلة/يدعوت أحرنوت/الموقع العربي بتاريخ:28-08-2002م
6- قسم الأخبار-bbcarabic.com
7- أشلومو أهرونتشي" المفتش العام لشرطة الكيان-08-08-2002م/ISLAMTODAY.NET
8- المحطة الثانية في التلفزة العبرية بتاريخ الجمعة 11-05-2001م
9-تقرير رسمي للشرطة الصهيونية/قدس برس/البشير للأخبار
10- رئيس شرجا باروش"رئيس معهد التصدير بالكيان02-09-2002م
11- تسفي ستيفاك رئيس شركة ميتاف الصهيونية /gihadonlineorg
12-إدارة الإحصاء المركزية في الكيان /قدس برس/الجزيرة
13- تسفي ستيفاك رئيس شركة ميتاف الصهيونية /qassam.org
14-قسم الإشراف على العملة الأجنبية في المصرف المركزي في الكيان –نشرة بتاريخ الثلاثاء 82-08-2002*-وأيضا حسب أمنون أطاد /يدعوت أحرنوت الموقع العربي/اقتصاد
15-"ارييه مرزاحي نقلا عن رئيس المجلس الإداري للشركة صحيفة هآرتس "11-8-2002م
16- نشرة لرمكز الدراسات الإستراتيجية 10-08-2002/حسب gihadonlineorg
17- نشرة لمركز الداسات الاستراتيجية 10-08-2002
18- المصدر السابق
19- معطيات نشرتها دائرة الإحصاء المركزية للكيان يوم الثلاثاء 20-08-2002
19*- أمنون أطاد/يدعوت أحرنوت
20-- مجلة البيان/مقالات ملف الانتفاضة/الموقع
21-الإذاعة العبرية صباح الأربعاء 28-08-2002م البشير للأخبار
22- إذاعة الجيش الصهيوني /عوض الرجوب/المستوطنات بداية الدولة ونهايتها
23- يدعوت أحرنوت/قدس برس
24- يهود براك" في خطاب بوزارة الحرب العبرية 25-أكتوبر2000/مجلة "نتيف" الصهيونية
25- الإذاعة العبرية مساء الاثنين 22-05-2001
26-ديل أشبيكل" نقلاً عن السفارة الألمانية بتل أبيب/البشير 05-08- 2002
27-نشرة لمركز الدراسات الاستراتيجية 10-08-2002/حسب gihadonlineorg
28- نشرة لمؤسسة عيران /حسب arabnews.com/ashaab
29- يدعوت أحرنوت العدد الصادر بتاريخ 01-07-2002م(/5)
سيد الشهداء حمزة ورجل! د. أبوبكر محمد عثمان*
هذا حديث نبوي شريف: (سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله).وحمزة بن عبدالمطلب رضي الله عنه هو عم النبي صلى الله عليه وسلم الذي قتله وحشي في غزوة أحد استأجرته هند بنت عتبة زوج أبي سفيان غيظاً من قتل أبيها وأخيها الوليد وعمها شيبة في غزوة بدر الكبرى، فرماه وحشي برمح ثم جلس، فلم يكن له هدف من الحرب غير هذا، ثم جاءت هند فبقرت بطنه وأخرجت كبده فلاكتها ثم لفظتها وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك بعد أن أسلمت هند: (ما كان الله ليدخل شيئاً من حمزة النار).
مناسبة هذا المطلع هو المؤتمر الذي عقد في البحرين مؤخراً بحضور مائة من علماء المسلمين ليبحثوا في أمر الرسوم المسيئة للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم التي نشرت في صحيفة دنماركية وبعض الصحف الغربية، والاتفاق على رد فعل قوي يتناسب مع الجرم.
لا شك أن هذا أمر خطير فيه إهانة مباشرة لنبي الإسلام عليه الصلاة والسلام وللإسلام والمسلمين، وينم عن استهتار وتحقير لدين يعتنقه مليار ونصف نسمة أي خمس سكان الكرة الأرضية، ولا يمكن أن يندرج تحت بند حرية الرأي – فهذا ليس رأياً البتة – فمتى كانت الإساءة والسباب والاستهزاء بالأنبياء أو حتى عامة الناس رأياً؟!.
لكنني أهمس في آذان علمائنا الأفاضل بعد أن أشكرهم على غيرتهم ووقفتهم(دفاعاً عن نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام)،وأرجو أن يثيبهم الله عليها حسن الثواب وخير الجزاء، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين – أهمس بكلمات أرجو أ، تؤخذ بوافر من حسن الظن.
في أكتوبر 1991 أثناء مؤتمر مدريد صعد رئيس وزراء العدو الصهيوني إلى المنصة وألقى كلمته أمام الحشود ومندوبي الدول العربية، ثم نزل وتوجّه نحو باب الخروج فلما طلب منه الجلوس ليستمع إلى كلمات الآخرين كما استمعوا إلى كلمته قال:اليوم السبت وأنا يهودي ملتزم ولا بد أن أدخل إسرائيل قبل الغروب وكما ترون لم يبق من الوقت إلا ما يكفي الطيران ثم انصرف إلى المطار، ومن المؤكد أن توقيت إلقاء كلمته مرتب ومقصود حتى يسجل هذا الالتزام، فقال المندوب الفلسطيني: هذا شيء عجيب فقد رفضنا بالأمس أن نصلي الجمعة حتى نتمكن من الاستماع إلى كلمات المتحدثين!!، ولو كنت مكان إسحاق رابين لقلت: إن الأقصى ليس أستاداً للرياضة ولا حماماً للسباحة لتسبحوا ولا مسرحاً لتمثلوا ولا مقهى لتسترخوا فيه ولا قاعة مؤتمرات لتأتمروا فيها، بل هو مكان للصلاة وأنت لا تصلون حتى الجمعة المميزة عندكم وسط خمس وثلاثين صلاة في الأسبوع فلماذا أعطيكم إياه؟ ولا أظن إلا أنه قالها في نفسه.
انتقد كثير من العرب الحكومة الصهيونية على كبت الحريات وقتل الفلسطينيين واعتقالهم وتجويعهم وقهرهم وهدم بيوتهم وتجريف أراضيهم وقطع أشجارهم المثمرة..إلخ، فقال شارون الهالك:ابحثوا عن الحرية في بلادكم قبل أن تبحثوا عنها عندنا، فبهت الجميع وصمتوا.
وقال الرئيس بوش أن الحكومة الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط هي حكومة إسرائيل. وقد رأينا كيف أجريت انتخابات نزيهة وشفافة وأمينة ودقيقة فاز فيها ألدّ أعداء الحكومة اليهودية وهي حركة حماس. وقد كان بإمكانها عندما ظهرت بوادر فوز حماس أن تعتقل المرشحين ومناصريهم وتقفل المراكز التي تؤيد حماس وتضرب وتقتل المندوبين وجميع الأفعال المنكرة التي تمارسها الحكومات العربية المسلمة على مر السنين، دون أن تصيب وجهها حتى حمرة خجل مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (... والحياء شعبة من الإيمان).
أما عن الظلم والقهر والاعتقالات والتعذيب بشتى صوره وصنوفه بل الإعدام خارج القانون فحدث ولا حرج، أما عن الفساد والرشوة وأكل الربا والاحتكار لأقوات الفقراء والاختلاسات والعملات والسمسرة على مستويات عليا والتستر على اللصوص والمختلسين ومتحدي القوانين فهي أمراض متفشية غير خافية على أحد من المسؤولين أو أفراد الشعب حتى اعتبرها الناس ذريعة لممارستها فما دام رب البيت للدف ضارباً فما شيمة أهل البيت إلا الرقص، فتفشى الفقر ومنه الجهل والمرض وانعدام الفضيلة وتفشي الرذيلة فلم يبق من شرائع الإسلام إلا صلوات بلا خشوع وجوع وعطش في رمضان وزكاة بقصد الرياء والسمعة وحج للفوز بالتسمية (الحاج فلان) ولخداع البسطاء بعد ذلك وأمل أموالهم،وحتى من يفعل هذا فهم القلّة القليلة، فانظر إلى الجموع تجوب الشوارع أثناء الصلوات والمطاعم والمقاهي تغصّ بالروّاد ف ينهار رمضان ولا حول ولا قوة إلا بالله.(/1)
أما الانتخابات فيزورها بأساليب مبتكرة كلَّ مرة زبانيةُ السلطة، فتنتج (الهتّيفة) وحارقي البخور والمنافقين والمرتزقة والمتسلقين والطفيليين، فلا أحد من الشعب يثق بنتائجها بل إن نتائجها معروفة سلفاً مرفوضة سلفاً مختصرة سلفاً، فإذا سألت عن الهيئة القضائية الملاذ للمظلومين بعد الله فليس لدينا غير سلطة واحدة هي التنفيذية، فلا تعترف ولا تحترم القوانين أو حتى الدستور الذي تصدره السلطة التشريعية ولا تحترم أو تنفذ الأحكام التي تنفذها المحاكم على اختلاف درجاتها، إنما هي أموال تنفق في إنشاء المباني ورواتب النوّاب والقضاة تنهب من قوت الشعب الذي يتضوّر جوعاً ويتغذى من صناديق القمامة... إلخ.
المعارضون منبوذون محاربون في أرزاقهم مهددون في حريتهم بالسجن والاعتقال والحجز والتضييق والتسلّط بل حياتهم غير مأمونة فيمكن قتلهم بالرصاص على قارعة الطريق أو بحوادث مرور مفتعلة أو يلقون في خزانات الأحماض فتذوب لحومهم وعظامهم فلا يبقى منهم شيء ثم يسجّلون هاربين فتأمّل!!.
أما مؤتمراتهم على جميع مستوياتهم فهي فرص للنزهة والاستقبالات وفرش السجاد الأحمر وعزف السلامات الوطنية واستعراض حرس الشرف والأحضان والقبلات الكاذبة المنافقة ثم يجلسون لـ(طق) الحنك وترف الطعام والكلام وكل منهم يعرف خطايا ورزايا وعورات الآخرين لكن لا يستطيع أن ينبس ببنت شفة ولا أن يقذفهم بحجر فبيته من زجاج متهالك.
فإذا بدا لأحدهم أن يسجل هدفاً في مرمى آخر بادره ذلك الآخر بقنبلة ترد إليه صوابه:أن اصمت يا من حالك كذا وكذا، ثم تبدأ محاولات الصلح ورأب الصدع وتنهال المواعظ على الطرفين فيدعيان الصفاء بينهما الذي في القلب في القلب،وتتكرر المؤتمرات حتى لم يعد أحد يجد فيها إلا مضيعة للوقت وإنفاقاً لأموال الفقراء – الذين يتضورون جوعاً ويتسكّعون عطالى ويتخبّطون جهلاً ويئنّون بل يصرخون من آلام الأمراض – ينفقونها فيما ضرّه أقرب من نفعه.
أعتقد أن لدى القارئ معرفة أعم مما ذكرت فما أوتيتم من العلم إلا قليلاً، وفوق كل ذي علم عليم.
السؤال الآن هو: هل يجهل علماؤنا الأفاضل هذه المعلومات أو معظمها؟، فأين واجبهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصح للأئمة؟، قال صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة. قلنا: لمن يا رسول الله؟.قال: (لله ولرسوله ولكتابه وللأئمة المسلمين وعامتهم). فقدم الأئمة فبصلاتهم تصلح الأمة – ثم بعد ذلك – يستقبلوا القتل وينعموا بجوار سيد الشهداء. فالأمة لا تزال تضع فيهم ثقتها وتتطلّع إليهم لينقذوها، فقد طال علينا الأمد حتى تطاول علينا سفلة القوم وأشباه الرجال الذين يتزوّج بعضهم بعضاً فأي مهانة أعظم من هذه؟!.(/2)
سيد قطب ... وموقفه من الفلسفة
22-6-2005
بقلم عبدالله بن محمد المالكي
"...لسنا حريصين على أن تكون هناك (فلسفة إسلامية) ! لسنا حريصين على أن يوجد هذا الفصل في الفكر الإسلامي ! فهذا لا ينقص الإسلام شيئاً في نظرنا، ولا ينقص (الفكر الإسلامي) بل يدل دلالة قوية على أصالته ونقائه وتميزه..."
لقد كان المفكر الكبير والداعية الشهيد سيد قطب رحمه الله، نقطةً فارقةً في مسيرة الفكر الإسلامي المعاصر، ولا نبالغ إذا قلنا بأنه من المفكرين القلائل الذين كان لهم أثر في حركة التاريخ المعاصر خلال القرن الماضي، وقد شهد بذلك كبار الباحثين الغربيين .
وسواء اتفقنا أو اختلفنا معه، إلا أننا ينبغي أنْ نعترف بأن الفكر الذي أنتجه سيد قطب، لا زال مؤثراً في الصحوة الإسلامية، وفاعلاً في الجماعات الإسلامية المعاصرة باختلاف مناهجها ومشاربها، ولهذا اعترف الغرب ودهاقنة العلمانيين والليبراليين بخطورة فكره، وأثره العميق على الفكر الإسلامي المعاصر .
وسبب ذلك - من وجهة نظري - أنَّ سيِّد قطب - رحمه الله - لم يكن مجرد مفكِّرٍ يتعامل مع الأشياء المجردة فحسبْ، أو يكتب لمجرِّد أن يكتب، وإنما كان يكتب لهدفٍ وغاية نبيلة، كان يكتب ويحاول أن ينفخ في كلماته روح اليقين والسمو الفكري حتى تحيي القلوب الميتة، ويلهب عبارته بحرارة الإيمان حتى تتحرك النفوس الباردة .
لقد كان - رحمه الله - داعيةً مؤمناً بالله إيماناً عميقاً، يظهر ذلك من خلال عباراته الحارة، وكلاماته الحية، وأفكاره المؤثرة والمضيئة بنور القرآن .
لقد تأمل سيد قطب في حال البشرية المعاصرة، وما تعيشه من تيه وضلال، وركام الجهل والفساد، وأدرك أن السبب وراء ذلك هو البعد عن الدين الرباني الذي أنزله الله إلى البشرية ليخرجها من عبادة العباد والمادة والشهوات إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان والأفكار والفلسفات إلى عدل الإسلام .
إضافةً إلى أن أفكاره - رحمه الله - كانت متجسدةً في شخصيته، ومنسجمةً مع سيرته، ولذا لم يجد صعوبةً في أن يفتدي بحياته من أجلها، حين جاء وقت التضحية .
تأمل وهو يقول:
"إن المبادئ والأفكار في ذاتها - بلا عقيدة دافعة - مجرد كلمات خاوية أو على الأكثر معانٍ ميتة !
والذي يمنحها الحياة هي حرارة الإيمان المشعة من قلب الإنسان !
لن يؤمن الآخرون بمبدأ أو فكرة تنبت في ذهنٍ بارد لا قلبٍ مشع .
آمن أنت أولاً بفكرتك، آمن بها إلى حدِّ الاعتقاد الحار ! عندئذٍ فقط يؤمن بها الآخرون !
وإلا فستبقى مجرد صياغة لفظية خالية من الروح والحياة !" .
لا أريد أنْ استطرد كثيراً فيما يتعلق بهذا المفكر الكبير، ولكنِ استوقفني كلامٌ له في كتابه الفذِّ (خصائص التصور الإسلامي)، عندما نقد الفلسفة وبين أثرها السيئ على العقيدة الإسلامية .
وغني عن البيان موقف الإسلام من الفلسفة، خاصةً الفلسفة الأرسطية الوثنية، المنسوبة إلى (المعلم الأول) أرسطو الذي كان يقول: (بقدم العالم، وإنكار البعث، ونفي علم الله بالجزئيات)، والذي فُتن به بعض المسلمين قديماً، وصار منهم من يقرر فلسفته ويدافع عنها، كابن سينا في المشرق وابن رشد في المغرب، وحالوا أن يمزجوا الشريعة (بالحكمة!) اليونانية، وكلام الأنبياء بكلام الفلاسفة .
إلا أنَّ الفلسفة ما زالت في العقل الإسلامي خارجةٌ عن العقيدة الربانية، مضادةٌ لها، يصعب المزج والخلط بينهما، لسبب بسيط ! وهو أن مصدر العقيدة الإسلامية هو الوحي الإلهي، ومصدر الفلسفة هو العقل الإغريقي الغارق في الوثنية، فكيف يتم الخلط بين الإلهي والوثني ؟!
ثم ساعد في ذلك - أي إبعاد العقيدة عن الفلسفة - جهود العلماء من أهل السنة في مواجهتها ونقدها وبيان فساد مقالات أهلها، والإفتاء بحرمتها وحرمة تعلُّمِها ونشرها بين الناس .
إلى أنْ جاء الشيخ مصطفى عبد الرازق، في بداية القرن الماضي، فقرر مصطلح (الفلسفة الإسلامية!) ودعا إليها، وأراد بذلك أنْ يردَّ على آراء بعض المستشرقين التي كانت تقول بأنه لم يكن لعلماء المسلمين دورٌ كبير في الفلسفة، وإنما كانوا مجرَّد نقلة وشارحين لتراث الإغريق، ولم يضيفوا شيئاً يذكر . فأراد الشيخ أنْ يكشف دور المسلمين في علم الفلسفة، وأن لهم جهوداً في تطويرها وتحويل مسارها، وهو يقصد بذلك تراث المتكلمين، الذين كان بينهم وبين الفلاسفة معارك جدلية في القضايا الإلهية .(/1)
ولكن المتكلمين - في الحقيقة - لم ينطلقوا في نقدهم للفلسفة من أصول المنهج الإسلامي الأصيل المستمد من الوحي ومن تراث السلف، وإنما انطلقوا من خلال أصولٍ عقلية تتعارض مع مقررات الشرع والعقل، كامتناع تسلسل الحوادث، وأن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، وأنَّ ما قامت به الأعراض فهو جسم ونحو ذلك من الأصول الكلامية، فهم وإن كانوا - كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - "قد انتصروا لدين الإسلام في بعض الجوانب، إلا أنهم قد أدخلوا على المسلمين شراً عظيماً، بما انتحلوه من علوم كلامية ومنطقية ذات أصول فلسفية، فأثارت الشبهات وأفسدت الكثير من الفطر والفهوم" . ولذا اعترف أساطينهم في أواخر أعمارهم (كالجويني، والغزالي، والرازي، والشهرستاني) بالحيرة والاضطراب، والخطأ في مناهجهم، والفشل في جدالهم .
ولهذا فإن الباحث يجد من نفسه قناعة راسخة بما صرح به أئمة السلف من قديم، وهو أن الفلسفة اليونانية وما نتج عنها؛ تراثٌ أجنبي، إغريقية النسب، وثنية المصدر، ليس لها علاقة بتراث الأمةِ العربيةِ المسلمةِ الموحِّدة، ولم يعرفها المسلمون الأوائل، ولم يؤْثَر منها شيءٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن الصحابة أو التابعين رضي الله عنهم .
وإنما تسربت إلى ثقافة الأمة من خلال الاحتكاك بألوان الحضارات المختلفة بعد الفتوحات الإسلامية، ومن خلال حركت الترجمة غير المنضبطة وغير المقننة في عصر العباسيين، إضافةً إلى أنَّ بقايا الفلسفة اليونانية كان لها مراكز تدرس من خلالها كما في الرها وانطاكية وحران ونصيبين وغيرها، تخرج منها كبار الفلاسفة المنتسبين إلى الإسلام .
وفي العصر الحاضر أصبحت حمى (الفلسفة الإسلامية) منتشرة في أغلب الجامعات والكليات الشرعية في العالم الإسلامي، وابتليت أغلب مناهج العقيدة الإسلامية بمباحث الفلسفة وعلم الكلام . فجاء الأستاذ سيد قطب - رحمه الله - فألف كتابه الفذَّ (خصائص التصور الإسلامي)، وأراد من خلاله أن يكشف الخصائص الكبرى للعقيدة الإسلامية، وهي: (الربانية، والثبات، والشمول، والتوازن، والإيجابية، والواقعية، والتوحيد)، وبين أن هذه الخصائص هي التي جعلت العقيدة الإسلامية تتميز كثيراً عن الفلسفة، ويصبح بينهما فارق شاسع هائل لا يمكن فيه الخلط والجمع .
يقول سيد - رحمه الله - في كتابه [خصائص التصور الإسلامي، ص : 10 - 17] :
1) "إننا نحب أنْ ننبه هنا إلى حقيقةٍ أساسيةٍ كبرى .. إننا لا نبغي بالتماس حقائق التصور الإسلامي، مجرَّد المعرفة الثقافية . لا نبغي إنشاء فصلٍ في المكتبة الإسلامية، يُضاف على ما عُرف من قبل باسم (الفلسفة الإسلامية) .. كلا ! إننا لا نهدف إلى مجرَّد المعرفة الباردة، التي تتعامل مع الأذهان، وتُحْسب في رصيد الثقافة ! إنَّ هذا الهدف في اعتبارنا لا يستحق عناء الجهد فيه ! إنه هدف تافه ! رخيص ! إنما نحن نبتغي (الحركة) من وراء (المعرفة) . نبتغي أنْ تستحيل هذه المعرفة إلى قوةٍ دافعة، لتحقيق مدلولها في الواقع ، نبتغي استجاشة ضمير الإنسان لتحقيق غاية وجوده الإنساني، كما يرسمها التصور الرباني، نبتغي أنْ ترجع البشرية إلى ربها وإلى منهجه الذي أراده لها، وإلى الحياة الكريمة الرفيعة التي تتفق مع الكرامة التي كتبها الله للإنسان، والتي تحققت في فترة من فترات التاريخ، على ضوء هذا التصور، عندما استحال واقعاً في الأرض، يتمثل في أمةٍ تقود البشرية إلى الخير والصلاح والنماء" .
2) لقد "وجد بين المفكرين المسلمين من فتن بالفلسفة الإغريقية - وبخاصةٍ شروح فلسفة أرسطو - المعلم الأول كما يسمونه، وبالمباحث اللاهوتية (الميتافيزيقية)، وظنوا أن الفكر الإسلامي لا يستكمل مظاهر نضوجه واكتماله، أو مظاهر أبهته وعظمته، إلا إذا ارتدى هذا الزي - زي التفلسف والفلسفة - وكما يفتن منا اليوم ناسٌ بأزياء التفكير الغربية، فكذلك كانت فتنتهم بتلك الأزياء وقتها . فحالوا إنشاء فلسفة إسلامية كالفلسفة الإغريقية، وحالوا إنشاء (علم الكلام) على نسق المباحث اللاهوتية مبنية على منطق أرسطو .
وبدلاً من صياغة (التصور الإسلامي) في قالب ذاتي مستقل، وفق طبيعته الكلية، التي تخاطب الكينونة البشرية جملة، بطل مقوماتها وطاقاتها، ولا تخاطب (الفكر البشري) وحده خطاباً بارداً مصبوباً في قالب المنطق الذهني .. بدلاً من هذا فإنهم استعاروا (القالب) الفلسفي ليصبوا فيه (التصور الإسلامي)، كما استعاروا بعض التصورات الفلسفية ذاتها، وحالوا أن يوافقوا بينها وبين التصور الإسلامي، أما المصطلحات فقد كادتْ تكون كلها مستعارة" .(/2)
3) "ولما كانت هناك جفوة أصيلة بين منهج الفلسفة ومنهج العقيدة، وبين أسلوب الفلسفة وأسلوب العقيدة، وبين الحقائق الإيمانية الإسلامية وتلك المحاولات الصغيرة المضطربة المفتعلة التي تتضمنها الفلسفات والمباحث اللاهوتية (البشرية!)، فقد بدتْ (الفلسفة الإسلامية) - كما سميت - نشازاً في لحن العقيدة المتناسق، ونشأ من هذه المحاولات تخليطٌ كثير، شابَ صفاءَ التصور الإسلامي، وصغَّر مساحته، وأصابه بالسطحية. ذلك مع التعقيد والجفاف والتخليط ..، مما جعل تلك (الفلسفة الإسلامية) ومعها مباحث (علم الكلام) غريبة غربة كاملة على الإسلام، وحقيقته، ومنهجه، وأسلوبه" .
4) "وأنا أعلم أن هذا الكلام سيقابل بالدهشة، - على الأقل – سواء من كثير من المشتغلين عندنا بما يسمى (الفلسفة الإسلامية)، أو من المشتغلين بالمباحث الفلسفية بصفة عامة .. ولكني أقرره، وأنا على يقين جازم بأنَّ (التصور الإسلامي) لنْ يخلص من التشويه والانحراف والمسخ، إلا حين نُلقي عنه جملةً بكل ما أطلق عليه اسم (الفلسفة الإسلامية)، وبكل مباحث (علم الكلام)،وبكل ما ثار من الجدل بين الفرق الإسلامية المختلفة في شتى العصور أيضاً ! ثم نعود إلى القرآن الكريم، نستمدُ منه مباشرة (مقومات التصور الإسلامي) مع بيان (خصائصه) التي تفرده من بين سائر التصورات . ولا بأس من بعض الموازنات التي توضح هذه الخصائص مع التصورات الأخرى، أما مقومات هذا التصور فيجب أن تستقي من القرآن مباشرة، وتصاغ صياغةً مستقلة .. تماماً" .
5) "منهجنا إذن أنْ نستلهم القرآن الكريم مباشرة، وألا نواجهه بمقررات سابقة إطلاقاً، لا مقررات عقلية ولا مقررات شعورية من وراسب الثقافات التي لم نستقها من القرآن ذاته، نحاكم إليها نصوصه، أو نستلهم معاني تلك النصوص وفق تلك المقررات السابقة . لقد جاء النص القرآني - ابتداءً - ليُنشئ المقررات الصحيحة التي يريد الله أنْ تقوم عليها تصورات البشر، وأنْ تقوم عليها حياتهم، وأقلَّ ما يستحقه هذا التفضل من العلي الكبير، أنْ يتلقوها وقد فرَّغوا قلوبهم وعقولهم من كل غبشٍ دخيل، ليقوم تصورهم الجديد نظيفاً من كل رواسب الجاهليات - قديمها وحديثها على السواء - مستمداً من تعليم الله وحده، لا من ظنون البشر، التي لا تغني من الحق شيئاً .
ليست هناك إذن مقررات سابقة نحاكم إليه كتاب الله تعالى . إنما نحن نستمد مقرراتنا من هذا الكتاب ابتداءً، ونقيم على هذه المقررات تصوراتنا ومقرراتنا، وهذا - وحده - هو المنهج الصحيح" .
6) "ثم إننا لا نحول استعارة (القالب الفلسفي) في عرض حقائق (التصور الإسلامي)، اقتناعاً منا بأن هناك ارتباطاً وثيقاً بين طبيعة (الموضوع) وطبيعة (القالب)، وأن (الموضوع) يتأثر بـ (القالب)، وقد تتغير طبيعته ويلحقها التشويه إذا عرض في قالبٍ في طبيعته وفي تاريخه عداء وجفوة وغربة عن طبيعة الموضوع، الأمرُ المتحقق في موضوع التصور الإسلامي والقالب الفلسفي . والذي يدركه من يتذوق حقيقة هذا التصور" .
7) "إن العقيدة - إطلاقاً - والعقيدة الإسلامية - بوجه خاص - تخاطب الكينونة الإنسانية بأسلوبها الخاص، وهو أسلوب يمتاز بالحيوية والإيقاع واللمسة المباشرة والإيحاء .. الإيحاء بالحقائق الكبيرة، التي تتمثل كلها في العبارة، ولكن توحي بها العبارة . كما يمتاز بمخاطبة الكينونة الإنسانية بكل جوانبها وطاقاتها ومنافذ المعرفة فيها، ولا يخاطب (الفكر) وحده في الكائن البشري ..
أما الفلسفة فلها أسلوب آخر، إذا هي تحاول أن تحصر الحقيقة في العبارة، ولما كان نوع الحقائق التي تتصدى لها يستحيل أنْ ينحصر في منطوق العبارة - فضلاً عن أنَّ جوانب أساسية من هذه الحقائق هي بطبيعتها أكبر من المجال الذي يعمل فيه (الفكر) البشري - فإنَّ الفلسفة تنتهي حتماً إلى التعقيد والتخليط والجفاف، كلما حاولت أن تتناول مسائل العقيدة ! ومن ثم لم يكن للفلسفة دور يذكر في الحياة البشرية العامة، ولم تدفع بالبشرية إلى الأمام شيئاً مما دفعتها العقيدة، التي تقدمت بالبشرية على حدائها في تيه الزمن وظلام الطريق .
لابد أن تُعرض العقيدة بأسلوب العقيدة، إذ أن محاولة عرضها بأسلوب الفلسفة يقتلها ويطفئ إشعاعها وإيحاءها، ويقصرها على جانب واحد من جوانب الكينونة الإنسانية الكثيرة" .
8) "لسنا حريصين على أن تكون هناك (فلسفة إسلامية) ! لسنا حريصين على أن يوجد هذا الفصل في الفكر الإسلامي ! ولا أن يوجد هذا القالب في قوالب الأداء الإسلامية ! فهذا لا ينقص الإسلام شيئاً في نظرنا، ولا ينقص (الفكر الإسلامي) بل يدل دلالة قوية على أصالته ونقائه وتميزه(/3)
سيرة أحمد بن عبد الكريم نجيب
بسم الله الرحمن الرحيم
سيرة ذاتية للدكتور / أحمد بن عبد الكريم نجيب
• الاسم : أحمد بن عبد الكريم نجيب
• مكان الميلاد : قرية ( أطمة ) التابعة لمحافظة ( إدلب ) في سوريّة .
• تاريخ الميلاد : 30 آذار ( مارس ) 1971 م .
• الجنسيّة : سوري .
• الحالة الاجتماعيّة :
ـ متزوج منذ عام 1992 م ، و أب لخمسة أولاد هم : آلاء ( من مواليد عام 1994 م ، في حلب بسوريّة ) ، و الهيثم ( من مواليد عام 1995 م ، في سراة عبيدة بالسعوديّة ) ، و عبد الكريم ( من مواليد عام 2000 م ، في سراييفو بالبوسنة ) و أروى ( من مواليد عام 2001 م ، في دَبْلِن بإيرلندا ) و فراس ( من مواليد عام 2002 م ، في دبلن بإيرلندا .
• المؤهلات الدراسيّة :
- الثانويّة العامّة ( من القسم العلمي ) بتقديرٍ جيّدٍ جداً من ثانويّة الملك خالد بخميس مشيط ( السعوديّة ) سنة 1989 م .
ـ ليسانس في العلوم الإسلاميّة و العربية بتقدير ممتاز من كلّية العلوم الإسلاميّة و العربيّة ، التابعة للمجمع العلمي العالي بدمشق سنة 1994م .
ـ درجة التخصص ( الماجستير ) في علم الحديث النبوي بتقدير ممتاز من جامعة الدراسات الإسلاميّة في ( كراتشي ) بالباكستان سنة 1995 م .
ـ الدرجة العالميّة ( الدكتوراه ) في علوم السنّة و الحديث النبوي بتقدير ممتاز من جامعة أم درمان الإسلاميّة في السودان سنة 2001 م .
• بلدان الإقامة :
• بين عامي 1971 م و 1980 م في سوريّة .
• بين عامي 1980 و 1989 في السعوديّة .
• بين عامي 1989 و 1992 م في الإمارات .
• بين عامي 1992 م و 1997 م بين سوريا و السعوديّة و بلدان يوغسلافيا السابقة .
• بين عامي 1997 و 1999 م في دولة قطر .
• بين عامي 1999 م و 2001 في البوسنة و الهرسك .
• منذ مطلع شهر تموز عام 2001 و حتى الآن في جمهوريّة أيرلندا .
• الوظائف و الأعمال و المهام :
• حتى عام 1992 م : دراسة نظاميّة .
• بين عامي 1995 م و 1996 م مدير إقليمي لمكاتب مؤسسة الحرمين الخيريّة في البوسنة و الهرسك ، و أستاذ زائر ( متعاون ) في كليّة الدراسات الإسلاميّة في سراييفو ، و الأكاديميّة الإسلاميّة في زينتسا .
• بين عامي 1997 م و 1999 م مدرّس علوم شرعيّة في المعهد الديني بالدوحة ، التابع لوزارة التربية و التعليم و الثقافة القطريّة .
• منذ عام 1999 م و حتى الآن متطوّع في الدعوة إلى الله في جمهوريّات يوغسلافيا السابقة ( البوسنة و كوسوفو و الجبل الأسود ) ، و غيرها من بلدان أوروبا الشرقيّة و الغربيّة ، و باحث مستقل في العلوم الشرعيّة .
• الآثار العلميّة :
• الإسلام على حلبة الصراع ، نشرته دار المجتمع في جدّة ، عام 1992 م .
• جلاء الظلمة في التحذير من سيادة الشعب و الأمّة ، نشرته مكتبة الصحابة في جدّة ، عام 1993 م .
• أفيقوا أيّها المسلمون و انظروا ما يراد بكم ، نشرته مكتبة الصحابة في جدّة ، عام 1993 م .
• فصل الخطاب في بيان عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهّاب ، نشرته مكتبة الصحابة في جدّة ، عام 1993 م ، و أعيد طبعه للتوزيع الخيري على نفقة فاعل خير بالمدينة المنورة في نفس العام .
• أخبار الآحاد ( رسالة ماجستير في علوم الحديث ) .
• البدعة .. أقسامها و أحكامها بين المدح و الذم .
• مدخل إلى علوم السنّة ( باللغة البوسنويّة ) ، نشرته الأكاديميّة الإسلاميّة في زينتسا بالبوسنة ، بتمويل من مؤسسة الحرمين الخيريّة ، عام 1996 م .
• السنة النبويّة : مكانتها و أثرها في حياة مسلمي البوسنة و الهرسك ( رسالة دكتوراه ) .
• أقوم السنن في نقض تقسيم البدع إلى سيئٍ و حسن ( بحث نشرته مجلّة الحكمة عام 1997 م ) .
• رفع الريبة في بيان ما يجوز و ما لا يجوز من الغيبة للإمام الشوكاني ( نشرته مكتبة الفارابي في دمشق عام 2001 م ) .
• حال المرأة المسلمة في البوسنة و الهرسك بين الأمس و اليوم و تأثره بالسنة النبويّة ( نشرته دار الخير في دمشق عام 2001م )
• إضافة إلى بضعة أبحاث مقالات و قصائد نشرت في عددٍ من الصحف العربيّة و على الشبكة العالمية ( الانترنت ) .
هذا ، و بالله التوفيق .
و صلّى الله و سلّم و بارك على نبيّنا محمّدٍ و آله و صحبه أجمعين(/1)
سيرة الإمام الشهيد أمير المؤمنين
هو الإمام إذا عُد الأئمة
هو البطل إذا عُدّ الأبطال
هو الشجاع المِقدام
هو البطل الهُمام
هو الشهيد الذي قُتِل غدراً ، ولو أراد قاتله قتله مواجهته ما استطاع .
ولكن عادة الجبناء الطعن في الظهر !
فليتها إذ فَدَتْ عمراً بخارجةٍ = فَدَتْ علياً بمن شاءت من البشر
فمن هو ؟
هو أمير المؤمنين الإمام الكريم : علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي ، أبو الحسن . رضي الله عنه وأرضاه .
كُنيته : أبو الحسن .
وكنّاه النبي صلى الله عليه وسلم : أبا تراب ، وسيأتي الكلام على سبب ذلك .
مولده : وُلِد قبل البعثة بعشر سنين .
وتربّى في حجر النبي صلى الله عليه وسلم ولم يُفارقه .
فضائله : فضائله جمّة لا تُحصى
ومناقبه كثيرة حتى قال الإمام أحمد : لم ينقل لأحد من الصحابة ما نقل لعلي .
وقال غيره : وكان سبب ذلك بغض بني أمية له ، فكان كل من كان عنده علم من شيء من مناقبه من الصحابة يُثبته ، وكلما أرادوا إخماده وهددوا من حدّث بمناقبه لا يزداد إلا انتشارا .
ومن هنا قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية : باب ذِكر شيء من فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه .
ثم أطال رحمه الله في ذكر فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ،
قال : فمن ذلك أنه أقرب العشرة المشهود لهم بالجنة نسبا من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال الحافظ ابن حجر : وقد ولّد له الرافضة مناقب موضوعة ، هو غنى عنها .
قال : وتتبع النسائي ما خُصّ به من دون الصحابة ، فجمع من ذلك شيئا كثيراً بأسانيد أكثرها جياد .
وكتاب الإمام النسائي هو " خصائص عليّ رضي الله عنه " .
وهذا يدلّ على محبة أهل السنة لعلي رضي الله عنه .
وأهل السنة يعتقدون محبة علي رضي الله عنه دين وإيمان .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
حُبُّ الصَّحابَةِ كُلُّهُمْ لي مَذْهَبٌ = وَمَوَدَّةُ القُرْبى بِها أَتَوَسّل
من فضائله رضي الله عنه :
أول الصبيان إسلاماً .
أسلم وهو صبي ، وقُتِل في الإسلام وهو كهل .
قال عليه الصلاة والسلام لعلي رضي الله عنه يوم غدير خم : ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟ قالوا : بلى . قال : اللهم من كنت مولاه فعليّ مولاه . اللهم والِ من والاه ، وعاد من عاد . رواه الإمام أحمد وغيره .
وروى الإمام مسلم في فضائل علي رضي الله عنه قوله رضي الله عنه : والذي فلق الحبة ، وبرأ النَّسَمَة إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إليّ أن لا يحبني إلا مؤمن ، ولا يبغضني إلا منافق .
وروى عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال في حق عليّ رضي الله عنه : ما ذكرت ثلاثا قالهن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن أسبّه ؛ لأن تكون لي واحدة منهن أحب إليّ من حمر النعم . سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له ، خَلّفه في بعض مغازيه فقال له عليّ : يا رسول الله خلفتني مع النساء والصبيان ؟! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا انه لا نبوة بعدي ؟ وسمعته يقول يوم خيبر : لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله . قال : فتطاولنا لها فقال : ادعوا لي علياً . فأُتي به أرمد ، فبصق في عينه ودفع الراية إليه ، ففتح الله عليه . ولما نزلت هذه الآية : ( فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ ) دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا ، فقال : اللهم هؤلاء أهلي .
روى عليّ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً .
شهد المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا غزوة تبوك ، فقال له بسبب تأخيره له بالمدينة : ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ،إلا أنه لا نبي بعدي .
وهذا كان يوم تبوك خلفه النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة ، وموسى خلف هارون على قومه لما ذهب موسى لميعاد ربه .
وهو بَدري من أهل بدر ، وأهل بدر قد غفر الله لهم .
وشهد بيعة الرضوان .
وهو من العشرة المبشرين بالجنة .
وهو من الخلفاء الراشدين المهديين فرضي الله عنه وأرضاه .
وهو زوج فاطمة البتول رضي الله عنها ، سيدة نساء العالمين .
وهو أبو السبطين الحسن والحسين ، سيدا شباب أهل الجنة .
قال صلى الله عليه وسلم : الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ، وأبوهما خير منهما . رواه ابن ماجه ، وصححه الألباني .
وكان علي رضي الله عنه أحد الشورى الذين نص عليهم عمر ، فعرضها عليه عبد الرحمن بن عوف وشرط عليه شروطا امتنع من بعضها ، فعدل عنه إلى عثمان ، فقبلها فولاه ، وسلم عليّ وبايع عثمان .
ولم يزل عليّ رضي الله عنه بعد النبي صلى الله عليه وسلم متصديا لنصر العلم والفتيا .
من خصائص عليّ رضي الله عنه :(/1)
ما رواه البخاري ومسلم عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر : لأعطين هذه الراية رجلاً يفتح الله علي يديه ، يحبّ الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله . قال : فَباتَ الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها . قال : فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجون أن يعطاها ، فقال : أين علي بن أبي طالب ؟ فقالوا : هو يا رسول الله يشتكى عينيه . قال : فأرسلوا إليه . فأُتيَ به ، فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع فأعطاه الراية .
ولذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ما أحببت الإمارة إلا يومئذ . كما عند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
لا لأجل الإمارة ، ولكن لأجل هذه المنزلة العالية الرفيعة " يحبّ الله ورسوله ويُحبُّه الله ورسوله "
اشتهر عليّ رضي الله عنه بالفروسية والشجاعة والإقدام .
وكان اللواء بيد علي رضي الله عنه في أكثر المشاهد .
بارز عليٌّ رضي الله عنه شيبة بن ربيعة فقتله عليّ رضي الله عنه ، وذلك يوم بدر .
وكان أبو ذر رضي الله عنه يُقسم قسما إن هذه الآية ( هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) نزلت في الذين برزوا يوم بدر ؛ حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث ، وعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة . رواه البخاري ومسلم .
وفي اُحد قام طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين فقال : يا معشر أصحاب محمد إنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار ، ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنة ، فهل منكم أحد يعجله الله بسيفي إلى الجنة أو يعجلني بسيفه إلى النار ؟! فقام إليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال : والذي نفسي بيده لا أفارقك حتى يعجلك الله بسيفي إلى النار ، أو يعجلني بسيفك إلى الجنة ، فضربه عليّ فقطع رجله فسقط فانكشفت عورته فقال : أنشدك الله والرحم يا ابن عمّ . فكبر رسول الله
وقال أصحاب عليّ لعلي : ما منعك أن تُجهز عليه ؟ قال : إن ابن عمي ناشدني حين انكشفت عورته ، فاستحييت منه .
وبارز مَرْحَب اليهودي يوم خيبر
فخرج مرحب يخطر بسيفه فقال :
قد علمت خيبر أني مرحب = شاكي السلاح بطل مجرب
إذا الحروب أقبلت تلهب
فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه :
أنا الذي سمتني أمي حيدرة = كليث غابات كريه المنظرة
أوفيهم بالصاع كيل السندرة
ففلق رأس مرحب بالسيف ، وكان الفتح على يديه .
وعند الإمام أحمد من حديث بُريدة رضي الله عنه : فاختلف هو وعليٌّ ضربتين ، فضربه على هامته حتى عض السيف منه بيضة رأسه ، وسمع أهل العسكر صوت ضربته . قال : وما تتامّ آخر الناس مع عليّ حتى فتح له ولهم .
ومما يدلّ على شجاعته رضي الله عنه أنه نام مكان النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الهجرة .
ومع شجاعته هذه فهو القائل : كُنا إذا احمرّ البأس ، ولقي القوم القوم ، اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما يكون منا أحد أدنى من القوم منه . رواه الإمام أحمد وغيره .
فما أحد أشجع من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ومن فضائله رضي الله عنه :
اجتمع له من الفضائل الجمّة ما لم يجتمع لغيره .
فمن ذلك ما أخرجه ابن عساكر أن علياً رضي الله عنه قال :
محمد النبي أخي وصهري = وحمزة سيد الشهداء عمي
وجعفر الذي يمسي ويضحى = يطير مع الملائكة ابن أمي
وبنت محمد سكني وعرسي = مَسُوطٌ لحمها بدمي ولحمي
وسبطا أحمد ولداي منها = فأيكم له سهم كسهمي ؟
من كريم خُلقه :
أنه جاءه رجل فقال : يا أمير المؤمنين إن لي إليك حاجة فرفعتها إلى الله قبل أن أرفعها إليك ، فإن أنت قضيتها حمدت الله وشكرتك ، وإن أنت لم تقضها حمدت الله وعذرتك ، فقال عليّ : اكتب حاجتك على الأرض ، فإني أكره أن أرى ذل السؤال في وجهك .
تواضعه رضي الله عنه :
قال عليّ رضي الله عنه : لا أوتي برجل فضلني على أبي بكر وعمر ، إلا جلدته حد المفتري .
وقال محمد بن الحنفية : قلت لأبي : أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : أبو بكر . قلت : ثم من ؟ قال : ثم عمر . وخشيت أن يقول عثمان . قلت : ثم أنت ؟ قال : ما أنا إلا رجل من المسلمين . رواه البخاري .
ابتلاؤه رضي الله عنه :
ابتُلي رضي الله عنه من قبل أقوام ادّعوا محبّته ، فقد ادّعى أقوام من الزنادقة أن علياً رضي الله عنه هو الله ! فقالوا : أنت ربنا ! فاغتاظ عليهم ، وأمر بهم فحرّقوا بالنار ، فزادهم ذلك فتنة وقالوا : الآن تيقنا أنك ربنا ! إذ لا يعذب بالنار إلا الله .
وقال رضي الله عنه : يهلك فيّ اثنان ؛ محب يُقرّظني بما ليس فيّ ، ومبغض يحمله شنآني على أن يبهتني ، ألا إني لست بنبي ولا يوحى إليّ ، ولكني أعمل بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ما استطعت ، فما أمرتكم من طاعة الله فحقّ عليكم طاعتي فيما أحببتم وكرهتم .(/2)
وقد قيل لعلي رضي الله عنه : إن هنا قوماً على باب المسجد يدّعون أنك ربهم ، فدعاهم ، فقال لهم : ويلكم ما تقولون ؟ قالوا : أنت ربنا وخالقنا ورازقنا ! فقال : ويلكم إنما أنا عبدٌ مثلكم ؛ أكل الطعام كما تأكلون ، وأشرب كما تشربون ، إن أطعت الله أثابني إن شاء ، وإن عصيته خشيت أن يعذبني ، فاتقوا الله وأرجعوا ، فأبوا ، فلما كان الغد غدوا عليه ، فجاء قنبر فقال : قد والله رجعوا يقولون ذلك الكلام ، فقال : أدخلهم ، فقالوا : كذلك ، فلما كان الثالث قال : لئن قلتم ذلك لأقتلنكم بأخبث قتلة ، فأبوا إلا ذلك ، فقال : يا قنبر ائتني بفعلة معهم ، فخدّ لهم أخدوداً بين باب المسجد والقصر . وقال : احفروا فابعدوا في الأرض ، وجاء بالحطب فطرحه بالنار في الأخدود وقال : إني طارحكم فيها أو ترجعوا ، فأبوا أن يرجعوا ، فقذف بهم فيها حتى إذا احترقوا قال رضي الله عنه :
لما رأيت الأمر أمراً منكراً *** أوقدت ناري ودعوت قنبرا .
قال الحافظ في الفتح : وهذا سند حسن .
وأوذي ممن ادّعوا محبته ، بل ممن ادّعوا أنهم شيعته !
والذي قتل علياً رضي الله عنه ، وهو الشقي التعيس ( ابن ملجَم ) كان مِن شيعة عليّ !
ولذلك كان علي رضي الله عنه يقول في آخر حياته :
أشكو إلى الله عجري وبجري .
وقال رضي الله عنه في أهل الكوفة : اللهم إني قد مللتهم وملوني ، وأبغضتهم وأبغضوني ، وحملوني على غير طبيعتي وخلقي ، وأخلاق لم تكن تعرف لي . اللهم فأبدلني بهم خيراً منهم ، وأبدلهم بي شراً مني . اللهم أمِتْ قلوبهم موت الملح في الماء .
والكوفة هي موطن الشيعة الذين كانوا يدّعون محبته !
كلام جميل للحسن بن علي رضي الله عنهما :
لما حضرت الحسن بن على الوفاة قال للحسين : يا أخي إن أبانا رحمه الله تعالى لما قُبض رسول الله استشرف لهذا الأمر ورجا أن يكون صاحبه ، فصرفه الله عنه ، ووليها أبو بكر ، فلما حضرت أبا بكر الوفاة تشوّف لها أيضا فصُرفت عنه إلى عمر ، فلما احتضر عمر جعلها شورى بين ستة هو أحدهم ، فلم يشك أنها لا تعدوه فصُرفت عنه إلى عثمان ، فلما هلك عثمان بويع ثم نُوزع حتى جرّد السيف وطلبها فما صفا له شيء منها ، وإني والله ما أرى أن يجمع الله فينا أهل البيت النبوة والخلافة ، فلا أعرفن ما استخفك سفهاء أهل الكوفه فأخرجوك .
إنصافه رضي الله عنه :
وكان علي رضي الله عنه من أكثر الناس إنصافاً لخصومه .
فقد رأى عليٌّ رضي الله عنه طلحة رضي الله عنه في واد مُلقى ، فنزل فمسح التراب عن وجهه وقال : عزيز عليّ أبا محمد بأن أراك مجدلا في الأودية تحت نجوم السماء . إلى الله أشكو عجري وبجري . يعني : سرائري وأحزاني التي تموج في جوفي .
وقال طلحة بن مصرف انتهى علي رضي الله عنه إلى طلحة رضي الله عنه وقد مات ، فنزل عن دابته وأجلسه ، ومسح الغبار عن وجهه ولحيته ، وهو يترحم عليه ، وقال : ليتني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة .
وكان يقول : أني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير ممن قال الله عز وجل : ( وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ ) رواه ابن أبي شيبة والبيهقي .
ولما سُئل عن أهل النهروان [ من الخوارج ] أمشركون هم ؟ قال : من الشرك فرُّوا .
قيل: أفمنافقون ؟ قال : إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا . فقيل : فما هم يا أمير المؤمنين ؟ قال : إخواننا بَغَوا علينا ، فقاتلناهم ببغيهم علينا . رواه ابن أبي شيبة والبيهقي .
علي رضي الله عنه والحِكمة :
كان علي رضي الله عنه واعظاً بليغاً مؤثراً ، وخطيباً مُصقعاً ، وكان ينطق بالحِكمة .
ولذلك عقد ابن كثير رحمه الله فصلا في البداية والنهاية فقال :
فصل في ذكر شيء من سيرته العادلة ، وطريقته الفاضلة ، ومواعظه وقضاياه الفاصلة ، وخُطبه وحِكَمِهِ التي هي إلى القلوب واصلة .
ثم ساق تحت هذا الفصل طرفا من حِكم عليّ رضي الله عنه ومواعظه .
علي رضي الله عنه والشِّعر :
وكان علي رضي الله عنه شاعراً مُجيداً ، وقد اتّسم شعره بالحكمة .
ومن شِعره :
إذا اشتملت على اليأس القلوب = وضاق بما به الصدر الرحيب
وأوطَنِت المكاره واطمأنت = وأرست في أماكنها الخطوب
ولم تر لانكشاف الضرّ وجهاً = ولا أغنى بحيلته الأريب
أتاك على قنوط منك غوث = يمن به القريب المستجيب
وكل الحادثات إذا تناهت = فموصول بها الفرج القريب
ومِن شِعره :
فلا تصحب أخا الجهل = وإياك وإياهُ
فكم من جاهل أردى = حليما حين آخاهُ
يقاس المرء بالمرء = إذا ما المرء ما شاهُ
وللشيء على الشيء = مقاييس وأشباه
وللقلب على القلب = دليل حين يلقاه
وقوله رضي الله عنه :
حقيق بالتواضع من يموت = ويكفى المرء من دنياه قوت
فما للمرء يصبح ذا هموم = وحرص ليس تدركه النعوت
صنيع ُمَلِيكِنا حَسَنٌ جميل = وما أرزاقه عنّا تفوت
فيا هذا سترحل عن قليل = إلى قوم كلامهم السكوت
زوجاته رضي الله عنه :
- سيدة نساء العالمين فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها .(/3)
وولدت له الحسن والحسين ، ويُقال : ومُحسناً ، ويُقال : مات وهو صغير .
وولدت له من البنات : زينب الكبرى ، وأم كلثوم الكبرى ، وهي التي تزوجها عمر رضي الله عنه .
ولم يتزوّج علي رضي الله عنه على فاطمة رضي الله عنها حتى ماتت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بستة أشهر .
ومن زوجاته :
- أم البنين بنت حزام .
وولدت له العباس وجعفراً وعبد الله وعثمان ، وقد قُتل هؤلاء مع أخيهم الحسين بكر بلاء ولا عقب لهم سوى العباس .
ومنهن :
- ليلى بنت مسعود بن خالد بن مالك من بني تميم ، فولدت له عبيد الله وأبا بكر . قال هشام بن الكلبي : وقد قتلا بكربلاء أيضا .
ومنهن :
- أسماء بنت عميس الخثعمية فولدت له يحيى ومحمداً الاصغر ، قاله الكلبي ، وقال الواقدي : ولدت له يحيى وعوناً .
قال الواقدي : فأما محمد الأصغر فمن أم ولد .
ومنهن :
- أم حبيبة بنت زمعة بن بحر بن العبد بن علقمة ، وهي أم ولد من السبي الذين سباهم خالد من بني تغلب حين أغار على عين التمر ، فولدت له عمر وقد عُمِّر خمسا وثمانين سنة ، ورقية .
ومنهن :
- أم سعيد بنت عروة بن مسعود بن مغيث بن مالك الثقفي ، فولدت له أم الحسن ، ورملة الكبرى .
ومنهن :
- ابنة امرئ القيس بن عدي بن أوس الكلبية ، فولدت له جارية ، فكانت تخرج مع علي إلى المسجد وهي صغيرة ، فيُقال لها : من أخوالك ؟ فتقول : وه وه ! تعني بني كلب .
ومنهن :
أمامه بنت أبي العاص بن الربيع بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي ، وأمها زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحملها وهو في الصلاة إذا قام حملها ، وإذا سجد وضعها ، فولدت له محمداً الأوسط .
وأما ابنه محمد الأكبر فهو ابن الحنفية وهي :
- خولة بنت جعفر بن قيس ، من بني حنيفة ، سباها خالد أيام الصديق أيام الردة من بني حنيفة ، فصارت لعلي بن أبي طالب ، فولدت له محمداً هذا ، ومن الشيعة من يدّعي فيه الإمامة والعصمة ، وقد كان من سادات المسلمين ولكن ليس بمعصوم ، ولا أبوه معصوم ، بل ولا من هو أفضل من أبيه من الخلفاء الراشدين قبله ليسوا بواجبي العصمة ، كما هو مقرر في موضعه والله اعلم . قاله ابن كثير في البداية والنهاية .
وقال أيضا :
وقد كان لعلى أولاد كثيرة آخرون من أمهات أولاد شتى ، فإنه مات عن أربع نسوة وتسع عشرة سُرِّية رضى الله عنه ، فمن أولاده رضي الله عنهم مما لا يعرف أسماء أمهاتهم أم هانئ وميمونة وزينب الصغرى ورملة الكبرى وأم كلثوم الصغرى وفاطمة وأمامة وخديجة وأم الكرام وأم جعفر وأم سلمة وجمانة . اهـ .
سبب تكنيته بأبي تراب :
كنّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي تُراب .
روى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال : استُعمل على المدينة رجل من آل مروان ، فدعا سهل بن سعد فأمره أن يشتم علياً . فأبى سهل . فقال له : أما إذ أبيت فقل : لعن الله أبا التراب ! فقال سهل : ما كان لعليّ اسم أحب إليه من أبي التراب ، وإن كان ليفرح إذا دُعي بها . فقال له : أخبرنا عن قصته لم سُمي أبا تراب ؟ قال : جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت فاطمة ، فلم يجد علياً في البيت ، فقال : أين ابن عمك ؟ فقالت : كان بيني وبينه شيء فغاضبني فخرج ، فلم يَقِلْ عندي . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان : أنظر أين هو ؟ فجاء فقال : يا رسول الله هو في المسجد راقد . فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع ، قد سقط رداؤه عن شقه ، فأصابه تراب ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحه عنه ويقول : قم أبا التراب . قم أبا التراب .
وفي هذا الحديث رد على الرافضة الذين يقولون : إن الله غضب على أبي بكر عندما أغضب فاطمة
ويستدلون بحديث : فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني . رواه البخاري .
وسبب ورود هذا الحديث ما رواه البخاري ومسلم عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر وهو يقول : إن بني هشام بن المغيرة استأذنوني أن يُنكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب ، فلا آذن لهم ، ثم لا آذن لهم ، ثم لا آذن لهم ، إلا أن يُحب ابن أبي طالب أن يُطلق ابنتي وينكح ابنتهم ، فإنما ابنتي بضعة مني يريبني ما رابها ، ويؤذيني ما آذاها .
وفي رواية في الصحيحين أن علي بن أبي طالب خطب بنت أبي جهل على فاطمة قال : فسمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الناس في ذلك على منبره هذا وأنا يومئذ محتلم فقال : إن فاطمة مني وأني أتخوف أن تفتن في دينها . قال : ثم ذكر صهرا له من بني عبد شمس فأثنى عليه في مصاهرته إياه فأحسن . قال : حدثني فصدقني ووعدني فأوفي لي ، وأني لست احرم حلالا ولا أحل حراما ، ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنت عدو الله مكانا واحدا أبدا .
فتبيّن أن المقصود بإغضاب فاطمة رضي الله عنها ما كان بحق ، أو ما كان عن طريق الزواج عليها(/4)
قال ابن حجر رحمه الله : والسبب فيه ما تقدم في المناقب أنها كانت أصيبت بأمها ثم بأخواتها واحدة بعد واحدة ، فلم يبق لها من تستأنس به ممن يخفف عليها الأمر ممن تفضي إليه بسرها إذا حصلت لها الغيرة .
وسيأتي – إن شاء الله - في ترجمة فاطمة رضي الله عنها زيادة بيان وتوضيح .
مما لم يصحّ فيما ذُكر في سيرته رضي الله عنه مما اشتهر :
حديث : أنا مدينة العلم ، وعليّ بابها . فإنه حديث موضوع .
ومثله حبس الشمس لعليّ رضي الله عنه . فإنه خبر موضوع مكذوب .
ومثل ذلك حديث : النظر إلى عليّ عبادة !
وقصة اقتلاع باب حصن خيبر ، ومقاتلته بالباب ، وأنه اجتمع عليه بعد ذلك سبعون رجلاً فما استطاعوا إعادته .
فهذا الخبر لا يصح ولا يثبت .
وحديث الطير ، أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بطير فقال : اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي هذا الطير . وهو حديث ضعيف .
وأنه رضي الله عنه تصدّق بخاتمه وهو راكع !
وتزعم الرافضة أن الله أحيا أبا طالب فأسلم ، ثم أماته !
وكل ذلك من الغلو في حق أمير المؤمنين الذي لا يرضاه رضي الله عنه .
ويكفي عليّ رضي الله عنه ما ثبت مِن سيرته ، وما صحّ من خصائصه .
وفاته رضي الله عنه :
قُتِل رضي الله عنه في ليلة السابع عشر من شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة .
قَتَلَه عبد الرحمن بن مُلجَم المرادي
قال ابن حجر في ترجمة ابن ملجم : من كبار الخوارج ، وهو أشقى هذه الأمة بالنص الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم بقتل علي بن أبي طالب ، فقتله أولاد عليّ ، وذلك في شهر رمضان سنة أربع وأربعين .
قال النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلى رضى الله عنه : أشقى الناس الذي عقر الناقة ، والذي يضربك على هذا - ووضع يده على رأسه - حتى يخضب هذه يعنى لحيته . رواه الإمام أحمد وغيره ، وصححه الألباني .
وكانت مدة خلافته خمس سنين إلا ثلاثة أشهر ونصف شهر .
فرضي الله عن أمير المؤمنين الإمام الشهيد علي بن أبي طالب وأرضاه .
وجمعنا به في دار كرامته .
اللهم ارض عن أبي الحسن وأرضه .
اللهم إني أحببت عبدك ووليك هذا فاجمعنا به في دار كرامتك وبحبوحة جنتك .
كتبه
عبد الرحمن بن عبد الله السحيم
assuhaim@al-islam.com(/5)
سيف الإسلام التهامي يروي قصة إسلامه
المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة و السلام على أشرف المرسلين محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة و أتم التسليم , و بعد....
النشأة
ولدت في القاهرة في 30-7-1980 من أبوين نصرانيين,كان أبي أرمن كاثوليك و أمي إنجيلية( طوائف نصرانية ) , و كانت ابنة عم أبي راهبة في مدرسة راهبات الأرمن, و كان خالي قسيساُ في أحد الكنائس الإنجيلية, وكان لي أختان أكبر مني بأربع سنوات .
نشأت نشأة نصرانية بحتة, فمنذ نعومة أظافرى و أنا أذهب إلى الكنيسة كل يوم أحد، و في الأعياد، و في كل وقت أشاء حيث لم يكن علي رقيبٌ فيما يخص ذهابي للكنيسة فقد أحببت الذهاب إليها، و الاستمتاع بكل ما فيها من شعائر و صلوات و أيضاً ألعاب و معسكرات و رحلات.
التحقت بمدرسة نوباريان الأرمنية وهي مدرسة لا تقبل إلا النصارى الأرمن فقد كان عدد طلاب المدرسة من حضانة إلى ثانوي ما يقرب من 125 طالب فقط في جميع مراحل التعليم بها . وكان أول ما نفعله صباحاً في طابور المدرسة هو الصلاة ونحن واقفون في صفنا ، وكانت توجد كنيسة بالمدرسة وكان أكثر المدرسين في المدرسة نصارى .
فمن الواضح الآن للقارىء أني لم يكن لي أي إختلاط بالمسلمين إلا القليل من أصدقائي في الحي أو جيراني ، بل كانت معظم أوقاتي أقضيها بالكنيسة , وكنت أخدم كشماس في الكنيسة( والشماس هو الذي يساعد القسيس في مراسم القداس)(الصلاة).
واستمر بي الحال على ذلك حتى وصلت المرحلة الثانوية، وفي هذه المرحلة بدأت أرتبط بالكنيسة والقساوسة أكثر من ذي قبل وكنت سعيداً جداً بهذه العلاقة لأني كنت من المقربين لديهم وأصبحت أقوم بمعظم شعائر القداس من قراءة للإنجيل ورد على القسيس عندما يتلوا أي شيء منه ، بالإضافة إلى تحضير القربان والخمر للقداس (أعاذكم الله منها).
بداية الهداية
و في يوم من الأيام كنت أجلس مع أحد أصدقائي المسلمين,
فقال لي : ألن تسلم ؟
فقلت له : ولم أسلم ؟ولم لا تتنصر أنت ؟
فقال لي عبارة كانت هي أشد ما سمعت ..
قال: (أنتم كلكم في النار ) !
فيالها من كلمة قوية وقعت عليَّ كالصاعقة ..
النار؟!؟
لماذا النار؟؟
و أناأعمل كل شيء صالح لأتقرب إلىربي لكي أدخل الجنة ثم يقول لي أني سوف أدخل...النار ؟
فعندما هدأت سألته: لماذا أدخل أنا والنصارى جميعاً النار وأنتم المسلمون تدخلون الجنة ؟
فقال : لأنكم تقولون ثالث ثلاثة وأن المسيح ابن الله وغيرها من الافتراءات على المسيح !
فقلت له: وكيف عرفت كل هذه الأشياء ..هل قرأت الإنجيل ؟
قال : لا بل قرأتها عندنا في القرآن .
الشك و اليقين
فكان هذا من الأشياء العجيبة التي سمعتها أيضاً ، فكيف يعرف القرآن ما هو في ديننا (سابقاً) وكيف يقر بأن هذه الأشياء التي نقولها على المسيح كلها كفر وتؤدي إلى النار؟
عندئذ احتار أمري وبدأت أتفكر مليا في هذا الأمر ، ثم بدأت أقرأ الإنجيل ولأول مرة على بصيرة فقد كان على قلبي عمى ، وبدأت أجد الاختلافات الشديدة في ذكر نسب المسيح!
و إدعاء ألوهيته تارة و نبوته تارة أخرى!
فبدأت أتساءل من هو المسيح إذن ؟
أهو نبي أم ابن الله أم هو الله ؟
أسئلة بلا أجوبة!!
وبدأت أضع بعض الأسئلة ثم أذهب بها إلى القسيس, لكى أحصل على الإجابة الشافية, ولكني لم أجد ما يثلج صدري في أي إجابة!
فأتذكر أني ذات مرة سألت القسيس: لماذا الكتاب المقدس يقول أن المسيح جالس على جبل الزيتون وهو يدعو الله ؟
.. فإن كان هو الله حقاً فلمن يدعو ؟ ولمن يسجد ؟ فأجابني إجابات لم أفهم منها شيئاً .
ثم بدأت أتفكر فيما كنا نفعله في الكنيسة من اعتراف بالخطايا والذنوب للقسيس وأيضاً المناولة(وهي عبارة عن جلاش طري يوضع في الخمر فيقول القسيس أن هذين الشيئين صارا دم وجسد المسيح ومن يأخذهم يغفر له ويطهر من الداخل! )
وتساءلت كيف يغفر ذنوبي بشراً مثله مثلي ؟!!
وهو لمن يعترف؟ ومن يغفر له ؟
وكيف يحل دم وجسد المسيح في هذه الكأس ؟
هل هذه خرافة أم حقيقة ؟
وكيف يطهر ما في داخلي ويغفر ذنوبي ؟
فبدأت الأسئلة تكثر داخلي ولم أجد لها إجابة ، فبدأت آخذ قراراتي من نفسي: مثل عدم الاعتراف للقسيس لأنه بشر مثلي ، وأيضاً عدم أخذ المناولة ، و آمنت أن المسيح عليه السلام نبياً لأنه بشر ...
والإله له صفات الكمال الخاصة التي تتنافى مع صفات البشر و بدأت أقرأ الإنجيل بدون أن أقول (ربنا يسوع المسيح) [ بنص الإنجيل ]
ولكن أقول يسوع المسيح (فقط) ، ولكن مع هذا لم أشعر بالراحة التي أريدها ولم أشعر أن هذا هو الحل في هذا الدين الذي أعتنقه .
{إنّ هذا القرآن يهدى للتى هى أقوم}
وأثناء ذلك وفي تلك الحقبة من حياتي ، كنت ذات يوم أستذكر دروسي في غرفتي داخل منزل الأسرة الذي يقع خلفه تماماً مسجد ، وكنا في شهر رمضان وكانت مكبرات الصوت تعمل من بعد صلاة العشاء خلال صلاة التراويح ، وكان صوت الإمام الذي يقرأ القرآن يصل إلى غرفتي ..(/1)
إنه صوت خافت وجميل كنت أشعر فيه بحلاوة تمس قلبي ولم أكن قد علمت بعد أن هذه التلاوة هي القرآن الكريم .
داخل الكنيسة
ثم جاءت اللحظة التي شرح الله فيها صدري للإسلام وكان ذلك يوم الأحد بالقداس داخل الكنيسة عندما كنت أقرأ الإنجيل, قبل القداس استعداداً لقراءته على الناس خلال الصلاة.
وأثناء استعدادي سألت نفسي:
هل سأقول ربنا يسوع المسيح؟
أم يسوع المسيح فقط ؟
لأنه نبي وليس بإله ، ولكن إذا قلت ذلك سوف يدرك الحاضرون أني تجاوزت عن تلك الكلمة ، ولكن أيضاً كيف سأخالف ضميري ..
وفي النهاية قررت أني سأقرأ الإنجيل كما هو دون تغيير مادمت أمام الناس وأن أجعل هذا التغيير عندما أقرأه بمفردي .
وجاء ميعاد قراءتي للإنجيل خلال القداس ..
وبدأت أقرأ بثبات كما هو مكتوب تماماً حتى وقفت عند كلمة: (ربنا يسوع المسيح).. فأبى لساني أن ينطق بها, ولم أشعر بنفسي إلا و أنا أتجاوز كلمة (ربنا) خلال القراءة بالكلية ، وتعجب القسيس من ذلك الموقف, فأشار إلي بالجلوس فتوقفت عن القراءة ثم جلست ولكننا أكملنا الصلاة بشكل طبيعي ، حتى إذا انتهت الصلاة توجهت للغرفة الخاصة بنا..
وهنالك سألني القسيس: لم فعلت ذلك ؟
لماذا لم تقرأ الإنجيل كما هو ؟
فلم أجبه, وقلت له: إني أريد أن أذهب إلى البيت لأستريح!
وذهبت إلى غرفتي وأنا في غاية الدهشة..
لماذا فعلت ذلك ؟ و ماذا حدث لي؟
ومنذ ذلك اليوم, وأنا أنام قبل إتمام قراءة الإنجيل يومياً كما كنت معتاداً من ذي قبل، وأصبحت لا أشعر بالراحة لا في صلاة, ولا قراءة ولا حتى الذهاب إلى الكنيسة..
وظللت أتفكر في حالي
(وتخترق أذني تلك الكلمة القاسية التي قالها لي صديقي المسلم)
( كلكم في النار..)
الطريق إلى اليقين
بعدها.. أقبلت على القراءة الجادة في كتب المقارانات والكتب الإسلامية التي تتناول حياة المسيح ، فعرفت من هو المسيح في الإسلام, وعلمت أيضاً مالم أكن أعلم: وهو ذكر النبي (صلى الله عليه وسلم) في إنجيل العهدين القديم و الحديث..
وأكتشفت: أن المسيح وأمه مريم (عليهما السلام), مكرمان غاية التكريم في القرآن.
وأن المسيح (نبيّ), قال الله له كن: فكان.
وهو (روح منه)، فتأكدت حينئذِ أن الإنجيل الذي بين يديّ محرف، ويكثر فيه اللغط .
ثم علمت أن (الإسلام) هو دين الحق, وأن الله لا يرضى غير الإسلام ديناً ، وأنه هو الطريق إلى الجنة والنجاة من النار (التي لا يسعى إليها أحد).
فذهبت بعدها إلى إحدى المكتبات واشتريت مصحفاً كي أقرأ فيه..
وعندما قرأته لم أكن -حينها- أفهم منه شيئاً, ولكني والله أحسست براحة غريبة في صدري !!
لقد انشرح صدري لهذا الدين الذي ارتضاه الله لعباده وكرمهم به وأرشدهم إليه, فالحمد لله أولاً, والحمد لله آخراً ,والحمد لله أبداً أبداً ، الحمد لله على نعمة الإسلام وكفى بها نعمة .
ومن المدهش أيضاً أني عندما أخبرت أخواتي بالإسلام وجدتهن قد سبقاني إليه!!
ولم يعارضني منهن أحد، فالحمد لله الذي منَّ علينا جميعاً بالإسلام ..
فيومها نطقت بالشهادتين أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله .
لقد ولدت من جديد، فما أجمله من دين, وما أعظمه من إله واحد أحد, لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد .
فلك الحمد يا إلهي, أنت عزي وأنت جاهي, فمن يستعين بسؤالك وأنت لا تخيب من راجاك .
اللهم فلك الحمد علي نعمة الإسلام وعلى نعمة الإيمان، اللهم ثبتني على ما أنا عليه واجعل آخر كلماتي في هذه الدنيا لا إله إلا الله محمد رسول الله فيها ومن أجلها أحيا وأموت وبها ألقاك، وصلاةً وسلاما على خير المرسلين إمام النبيين محمد صلى الله عليه وسلم تسليماً كبيراً عظيماً إلى يوم الدين(/2)
سيكلوجية التسلّط!!.. أحمد حمدان*
تختلف طبائع الناس وسلوكياتهم باختلاف العوامل المكونة لشخصية كل منهم؛ كالصفات الوراثية، والبيئية، ودرجة التعليم، وما إلى ذلك..
ولكن لعلّ أكبر موجّه ومؤثر على سلوك الشخص - حتى في ظل اعتبارنا للعوامل السابقة - هو معرفته بطبيعة تصرفاته وسلوكه، أو احساسه بما يصدر عنه، إضافة إلى اهتمامه بما يحدثه التصرّف من ردّات فعل من قبل الآخرين.
فما دامت التصّرفات الاجتماعية الصادرة عن أي شخص تؤثر على شخص آخر فلا بد من اعتبار ردّة فعل ذلك الطرف..
والمجتمع حولك عزيزي القارئ يعتبر مقياسا لسلوكك الاجتماعي بصفة عامة؛ دون الدخول في تفاصيل من قبيل ما إذا كان ذلك المجتمع أهلا لتقييم السلوك أو لا!!..
وبما أن الإسلام قد جاء ليتمم مكارم الأخلاق وفضائلها فيعلم من ذلك أن تلك المكارم كانت موجودة قبل الإسلام.. ومجتمعنا بصفة عامة تكثر فيه المكارم، إضافة إلى كونه مجتمعا مسلما.. أيْ إن المكارم فيه تأخذ طابعها الديني الحضاري..
فإذا كان الأمر كذلك فماذا تعني سايكلوجية التسلّط؟!..
أقول: إن المكارم والقيم السائدة في المجتمع كثيرا ما تفسدها تصرفات الأشخاص الذين يكوّنون هذا المجتمع، أو بعضهم على الأقل.. فالأشخاص ذوو النفسيات المتسلّطة (الفظّة) يفسدون في الأرض أكثر مما يصلحون؛ في الوقت الذي يرون فيه أنفسهم مصلحين كبارا؛ خاصة إذا ما تدثّروا بإحدى الميزات الاجتماعية، أو لأكثر!!.
فالشخصية المتسلطة بطبعها تود أن تفرض وجودها بطريقة أشبه ما تكون بالسلوك الأمريكي المعاصر.. فإذا ما حصلت مثل هذه الشخصية على أية ميزة اجتماعية فإنها تسقط كل مخزونها من التسلط - بكل مخزونها من الفظاظة والغلظة - على الطبقة أو الفئة التي تمتاز عليها بتلك الميزة الاجتماعية..
ولأفصّل أكثر:
تسلط مدرسي: لعلك تذكر أخي القارئ من مر عليك من المعلمين القساة الذين لا يعرفون للرحمة معنى، ولا للرفق سبيلا.. ولعلك وقفت حينها تسائل نفسك عن السبب أو الأسباب التي تجعل الأستاذ الفلاني ملكا للرفق والرحمة والسمو، وتجعل الآخر من الفظاظة بحيث يحيل المدرسة إلى جهنم الدنيا؟!..
فإذا تذكرت معي بعضا من تلك المشاهد فإنني أعود إلى القول بأن مثل ذلك المعلم الفظ لم يصبح كذلك بعد أن عمل في التدريس، ولكنه كان كذلك.. لكن المشكلة ليست في أنه كان فظاّ؛ وإنما المشكلة تكمن في إسقاط تلك الفظاظة والغلظة على من يفترض أن يتلقوا منه سلوكا راشدا، ويتعلموا منه قيما رفيعة!!..
والأعجب من ذلك أن كل تلك الفظاظة – وهي سلوك خاطئ – يتم تغليفها بما يسمى بمكانة المعلم (من علمك حرفا صرت له عبدا).. ومن ثم إضافتها إلى مخزوننا من القصص (التربوية)!! التي تحكي عن زمان كان التلاميذ فيه يتركون الطريق للمعلم، ويخافونه كخوف الناس من (أنفلونزا الطيور)!!.
وأرجو أن يفهم كلامي على وجهه!!.. فما يؤرقني أخي القارئ ليس السلوك الخاطئ، أو الأخطاء التي تقع من أي شخص كان، ولكن المؤلم حقا هو تغليف تلك الأخطاء، وتأطيرها، وتبريرها بما يعطي المخطئ حصانة اجتماعية تدفعه للمزيد من ارتكاب الأخطاء واللامبالاة..
تسلّط أسري: ولنأخذ مثلا الزوج في الأسرة؛ سواء كان زوجا فقط، أو كان أبا كذلك.. فكثيرا ما تسمع الرجل يشتكي من زوجته حينا، ومن عقوق أبنائه أحيانا أخرى، لكن قليلا ما تسمع عن محاسبته لنفسه، أو (شجبها على الأقل)..
ومثل هذه الشكوى عادة ما تصدر من شخص يحمل بين أضلاعه نفسا تحب أن تطاع فلا تعصى، وتقول فلا يرد قولها، وتأمر فيستجاب لها.. ولكن ما يفوت على مثل هذه الشخصية أن السلوك يورّث، والطبع يعدي؛ فإذا ما أكثرت من التعامل بتلك النفسية انتقل الطبع تلقائيا إلى الزوجة والأبناء؛ وبالتالي تتصادم النفسيتان المتماثلتان في الغلظة والفظاظة!!.. وها هنا (تتنافر الأقطاب المتشابهة)؛ وليس دائماً!!.
تسلط مستمر: ضربت مثلين بالمدرسة والأسرة لأنهما أهم المحاضن التي تقدم الأفراد للمجتمع؛ فإذا ما أخرج هذا الفرد للمجتمع الكبير وقد تلقى من دروس التسلط والفظاظة ما تلقي حينها لا يلام بقدر ما يلام من كوّنوا شخصيته تلك (لا يبدأ الباني بطلي السقف قبل وضع أساس البناء)..
فعندما يصبح ذلك الشخص موظفاً؛ فإنه سيعامل زملاءه بتلك النفسية.
وعندما يسكن مع آخرين - سواء في داخلية، أو بيت مستأجر - فإنه سيتصرف بنفس ذلك السلوك.
وعندما يصبح من أهل الدعوة والإصلاح فإنه يحتفظ بنفسيته تلك، ويسقطها على غيره خلال تقديمه للنصح والإرشاد؛ فيسيئ إلى مفهوم النصح؛ فضلا عن أن يحقق نصحه أثرا!!..
ولعل القارئ الكريم يتساءل – بعد عرض تلك النماذج – عن الأسباب التي أدت إلى تكوينها بهذه الصورة..
وللإجابة عن هذا التساؤل:(/1)
أولاً: ما دامت مشكلة (نفسية التسلط) اجتماعية فإنها ترتبط بطرفين أو أكثر من مكونات المجتمع؛ وبالتالي فعند حدوث أي مشكلة اجتماعية ينبغي ألا يوجه اللوم إلى طرف واحد، ومن ثم تحميله المسؤولية؛ فالمسؤوليات متداخلة، ومشتركة، ومتبادلة..
ثانياً: عند تعرضنا لحل المشكلات الاجتماعية يجب ألا نعطي بعض الأطراف (حق الفيتو)؛ فنضعهم دائماً في الـ Safe Side؛ لما يمتازون به من (ميزات تفضيلية).. (راجع المقال السابق: ميزة تفضيلية).
أما الأسباب التي تؤدي لتأطير نفسيات التسلط لدى بعض أفراد المجتمع – خاصة من يمتازون بميزات اجتماعية تفضيلية – فمنها برأيي:
- أن الخطاب التربوي بصفة عامة، والدعوي بصفة خاصة عاش حينا من الدهر يتناول الموضوعات التربوية، والاجتماعية؛ كبر الوالدين، وطاعة الزوج، واحترام المعلم، وتوقير الكبير، ومساعدة الضعيف؛ من ناحية واحدة فقط؛ بالرغم من أن كلا من تلك الموضوعات تخص طرفين اثنين، أو أكثر.. فهل مر عليك درس عن حقوق الأبناء مثلا في المنهج المدرسي؟!.
- هذا الخطاب - أحادي الاتجاه والتوجيه - أدى إلى ترسيخ مفاهيم خاطئة عن حقوق المذكورين، وصلاحياتهم، وما إلى ذلك؛ وبالتالي سبب احتقانا في الأطراف المقابلة؛ مما أدى – بمرور الوقت - إلى حدوث ردات فعل، (وانفجارات اجتماعية) هنا وهناك؛ فانتبه بعض المصلحين إلى الأمر، وأخذوا في الدعوة إلى التوازن في الخطاب الدعوي؛ خاصة بعد دخول بعض المتخصصين في المجالات التربوية والاجتماعية مجال الدعوة في ظل الصحوة الإسلامية المباركة.
- لكن هذا التطور النوعي في الخطاب الدعوي ما يزال في حاجة إلى تفعيله، والطرق عليه كثيرا؛ خاصة في مجتمع ما زالت فيه المساجد والزوايا هي وسيلة الاتصال الدعوي الأولى أو الرئيسية.. وإذا كانت الدراسات والاستشارات التي تنتشر على الإنترنت أو الصحف تتناول الموضوعات الاجتماعية بجميع أبعادها فما زالت التوجيهات والدروس في المساجد والزوايا في معظمها تنتهج الطريقة التقليدية آنفة الذكر.
ذكرت سبباً واحداً نم عن جملة أسباب – بطبيعة الحال – لارتباطه الوثيق – برأيي – بنفسية التسلط التي ذكرت.. فالشخص المتسلط بطبعه - كما يقال - ينتهز الفرص، ويبحث عن الأغطية والمسوغات التي تبرر سلوكه الخاطئ، وتلقي في نفس الوقت اللوم على الطرف الآخر، وتوفر له حصانة اجتماعية..
فما بالك بشخصية من هذا النوع إن ودت غطاء دينيا – بحسب الخطاب الدعوي المذكور – وأضافت إليه ما تكون في مجتمعنا من مفاهيم تخدم مصلحتها؛ لتجعل من كل ذلك (ملفا) غير قابل للتفاوض..
- أحسبه (ملفا اجتماعيا) يفوق (الملف النووي) خطورة!!.(/2)
سيماهم في وجوهم
... بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين ، ولا عدوان إلا على الظالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، رب السماوات والأرض وما بينهما ورب العرش العظيم ، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله البشير النذير ، والسراج المنير r وعلى آله وصحبه ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . أما بعد :
فإن من العقائد المقررة في الإسلام : حب الصحابة من المهاجرين والأنصار ،والذين اتبعوهم بإحسان ، واعتقاد فضيلتهم وصدقهم ، والترحم على صغيرهم وكبيرهم ، وأولهم وآخرهم ، وصيانة أعراضهم وحرماتهم ، فذلك أمر ضروري ، وهو أحد الضروريات الخمس التي جاءت الشريعة بالمحافظة عليها ، وضبط حقوقها ، والأخذ على يد من هتكها ، وقد قال النبي r في مجمع الحج : (( إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهر كم هذا في بلدكم هذا فليبلغ الشاهد الغائب ))[1].
فهتك عرض مسلم والجناية عليه عظيم عند الله ورسوله والمؤمنين وهو من كبائر الذنوب ومن التشبه بالمنافقين وأعظم منه غمس الالسنه والأقلام في أهل العلم ومحاولة إسقاط قدرهم بأوهام من هنا وهناك والإيغال بالدخول في نياتهم ومقاصدهم والصد عن سبيلهم والاستخفاف بهم.
فهم خير الناس للناس ، وأفضل تابع لخير متبوع ، وهم الذين فتحوا البلاد بالسنان والقلوب بالإيمان ، ولم يعرف التاريخ البشري منذ بدايته ، تاريخا أعظم من تاريخهم ،ولا رجالا دون الأنبياء افضل منهم ولا أشجع ، ومن داخله ش في هذا ، فلينظر في سيرهم على ضوء الأحاديث الصحيحة والآثار الثابتة ، يرى أمرا هائلا من حال القوم وعظيم ما آتاهم الله من الإيمان والحكمة والشجاعة والقوة .
وحين ضن غيرهم بالنفس والمال ، واستثقلوا مفارقة الأهل والولدان ، استرخصوهما في إقامة الدين وتمكين الأمم والشعوب من العيش في آمن ورغد تحت حكم الإسلام ، فلا كان ولا يكون مثلهم ، فهم غيظ الأعداء ، وأهل الولاء والبراء ، وأنصار الدين ، ووزراء رسول رب العالمين .
وقد اصطفاهم الله لصحبة نبيه ونشر دينه ،فأخرجوا من شاء الله من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ،ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ،ومن جور أهل الطغيان إلى عدل الإسلام ، وعلى أيديهم سقطت عروش الكفر ، وتحطمت شعائر الإلحاد ، وذلت رقاب الجبابرة والطغاة ، ودانت لهم الممالك ،
وقد اتفق أهل العلم على انهم خير الناس بعد الأنبياء ؛ فقد جاء في الحديث عن عبد الله رضي الله عنه ، أن النبي r قال : (( خير الناس قرني ... ))[2] . وافضل الصحابة : أبو بكر ،ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم علي بن أبي طالب ، رضي الله عنهم أجمعين ،وأدلة هذا كثيرة وعامة أهل العلم عل هذا ، وقد جعل الله جل وعلا بقاء الصحابة أمنة للأمة ، فإذا ذهب قرنهم وانقرض جيلهم حلت بمن بعدهم الفتن ، وظهرت البدع ، وفشا الجور والفساد . ففي (( صحيح مسلم ))[3] عن أبي موسى قال : صلينا المغرب مع رسول الله r ثم قلنا : لو جلسنا حتى نصلي معه العشاء ، قال : فجلسنا فخرج علينا فقال : (( ما زلتم ههنا ؟ )) قلنا : يا رسول الله ، صلينا معك المغرب . ثم قلنا : نجلس حتى نصلي معك العشاء ، قال : (( أحسنتم أو أصبتم )) قال : فرفع رأسه إلى السماء ، وكان كثيرا مما يرفع رأسه إلى السماء فقال : (( النجوم أمنة للسماء ، وكان كثيرا مما يرفع رأسه إلى السماء فقال : (( النجوم أمنة للسماء ، فإذا هبت النجوم الله تعالى السماء ما توعد ، وأنا امنة لأصحابي ، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون ، وأصحابي أمنة لأمتي ، فإذا ذهب أصحابي أمتي ما يوعدون )) .
وهذا دليل على فضلهم ، وعظيم ما دفع الله بهم من البدع والفتن والجور والفساد ، فلا جرم أن جعلهم الله وزراء نبيه وحزب خليله .
قال عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه : ( إن الله ينظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد r خير قلوب العباد ، فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد ، فوجد قلوب الصحابة خير قلوب العباد فجعلهم الله وزراء نبيه يقاتلون على دينه )[4] .(/1)
وقال ابن أبي حاتم : ( فأما أصحاب رسول الله r فهم الذين شهدوا الوحي والتنزيل ، وعرفوا التفسير والتأويل ، وهم الذين اختارهم الله عز وجل لصحبه نبيه r ونصرته ، وإقامة دينه وإظهار حقه ، فرضيهم له صحابة ، وجلهم لنا أعلاما وقدوة ، فحظوا عنه r ما بلغهم عن الله عز وجل ،وما سن وما شرع ، وحكم وقضى ، وندب وأمر ونهى وأدب ، ووعوه وأتقنوه ففقهوا في الدين ، وعلموا أمر الله ونهيه ، ومراده بمعاينة رسول الله r ، ومشاهدتهم منه تفسير الكتاب وتأويله وتلقفهم منه واستنباطهم عنه ، فشرفهم الله عز وجل بما من عليهم وأكرمهم به من وضعه إياهم موضع القدوة ، فنفى عنهم الشك والكذب ، والغلط والريبة ، والغمز ، وسماهم عدول الأمة ، فقال عز ذكره في محكم كتابه : )وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ )(البقرة: من الآية 143) ففسر النبي r عن الله عز ذكره قوله : ( وسطا ) قال : (( عدلا )) ، فكانوا عدول الأمة وأئمة الهد وحجج الدين ونقلة الكتاب والسنة . وندب الله عز وجل إلى التمسك بهديهم والجري على منهاجهم والسلوك لسبيلهم والاقتداء بهم فقال : ) وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى)(النساء: من الآية 115)[5].
فمن انطوت سريرته على محبتهم ، ودان الله تعالى بتفضيلهم ومودتهم ، وتبرأ ممن أضمر بغضهم ، فهو الفائز بالمدح الذي مدحهم الله تعالى فقال )وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (الحشر:10) .
وأما من سبهم ، وانتقص منهم ومن قدرهم ، وحكم على أكثرهم بالردة ، وزعم انهم بدلوا وغيروا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين .
وها نحن هنا نجلي شيئا من فضائلهم ، ونذكر بعضا من مآثرهم ، مع إيراد بعض الأخبار عن مجموعة منهم ، ثم من سار على منهجهم ، وسميت كتابي هذا : ( سيماهم في وجوههم )) تيمنا بالآية الكريمة ، راجيا الرب تعالى أن يسلكني في سبيلهم ، وأن يحشرني معهم ، وأن يلحقنا بهم في دار الكرامة ، وللصحابة خصائص وصفات فاقوا بها من بعدهم ، وجاوزوا بها غيرهم ، فما هي هذه الخصائص التي فضلوا بها على غيرهم ؟
بلغ الأشواق والحب الصحابة سادة القوم وأرباب النجابه
هم حماة الدين أبطال الردى بل غيوث البذل بل آساد غابه
حبهم دين ومن يبغضهم ربنا في ناره الآخر أذابه
ذب عن أعراضهم إن كنت من ضربهم لا تعتدي كل ذبابه
وأطلب الآثار منهم إنهم علماء الدين فتواهم إصابه
فمن خصائص هذا الجيل :
1- أن الله زكاهم ، ومن بعدهم فإنه يحتاج إلى من يزكيه ، فلا نحتاج معهم لكلام العالم يحيى بن معين ، ولا لأبي حاتم ، ولا لابن حبان ، بل لكلام الله عز وجل ، وهو يزكي أصحاب الرسول r )مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ)(الفتح: من الآية 29)
فهو r مع أصحابه مزكون طاهرون ، زكاهم الله في التوراة والإنجيل ، ثم زكاهم في القرآن ، والله عز وجل قد تكفل بتطهيرهم وتزكيتهم .
وان ابن مسعود ، رضي الله عنه و أرضاه ، يقول عليكم بأصحاب محمد r ، فإن الله نظر في قلوب عباده فوجد قلب محمد أصفاها وأتقاها ، ثم نظر في قلوب الناس فوجد قلوب أصحاب الرسول r أصفى القلوب وأتقاها فاختارهم لصحبة الرسول r .
يقول سبحانه وتعالى : )لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (التوبة:88).
والذين جاهدوا معه ، هم : أصحابه ، قتلوا بين يديه ، وقطعوا في بدر وفي أحد لرفع لا إله إلا الله .
وتستمر التزكية العاطرة من الواحد الأحد في كتابه )لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً )(الحشر: من الآية 8) . هذا وصف المهاجرين ، خرجوا من مكة ، طردتهم الجاهلية فهم صورة ناصعة .
فمنهم : صهيب بن سنان ، رضي الله عنه وأرضاه ، أخرجوه وطاردوه بالسلام فقال للمشركين : دعوني ، وخذوا كل مالي ، فقبلوا وتكروه ووفد صهيب على الرسول r ، وكل صهيب أسى ، وكله جوع ، وله ظمأ ، وكله سهاد، لكن في سبيل الله ، فلما رأى وجهه r قال : (( ربح البيع أبا يحيى ، ربح البيع أبا يحيى ، ربح البيع أبا يحيى )) ، فانزل الله المبايعة فقال : )وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ) (البقرة:207) .(/2)
وأتى مصعب بن عمير ، ترك لحافه الوثير ، وفراشه الدافئ ، وذهبه وفضته لأمه المشركة العجوز ، فلما رآه r دمعت عيناه ، وقال : (( والذي نفسي بيده لقد رأيت مصعبا من أغنى أهل مكة )) ثم ترك ذلك كله لله ، ومع ذلك ما كفى مصعبا : أن يترك أمواله ودوره وسكنه ، بل زاد على ذلك بأن قطع جسمه في أحد ، فأتي ببردة لتكون كفنه ، فكانوا إذا غطوا رآه بدت رجلاه ، وإذا غطيت رجلاه بدا رأسه ، فبكى r مرة آخر عند هذا الجثمان .
قال سبحانه وتعالى : )يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)(الحشر: من الآية 8).
هذه ميزة للصحابة (وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) ، أولئك هم الصادقون .
ثم التفت الخطاب إلى الأنصار )وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ )(الحشر: من الآية 9).
قال تعالى : )لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) (الفتح:18) .
قال أهل التفسير : فعلم ما في قلوبهم من الإخلاص .
وقال غيرهم فعلم ما في قلوبهم من الحب لله .
والصحيح : علم ما في قلوبهم من الخير .
يقول بعض الأدباء : كأني بالصحابة ،أي مشاعر عاشوها ؟ يسمعون نداء الله من فوق سبع سماوات يقول لهم )لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) ويقول سبحانه : ()وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ )(التوبة: من الآية 100).
من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويدا وتجي في الأول
الأولون ، يوم الفقر والعوز ، يوم الشدة ، يوم التهديد ، يوم تقف الجاهلية كلها ضد الرسول r ، يوم تهدده الكرة الأرضية ، تهدده اليهودية والنصرانية والصابئة والمجوس ، فيقف معه أبو بكر وعمر ، والصفوة الأولى .
قم يقول سبحانه وتعالى )وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأنصار وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:100) وهو خير من فوز الدنيا وما فيها .
أما الأحاديث في فضلهم ، رضوان الله عليهم ، فكثيرة . منها ما جاء من حديث عمران بن الحصين ، رضي الله عنهما ، أن الرسول r قال : ( خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم )).
فهم خير القرون أبدا ، ومن طعن فيهم فهو علامة البدعة والرجس والخبث والهوى ، علامة الجهل بأمر الله سبحانه وتعالى .
وثبت من حديث أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، أن الرسول r قال : (( لا تسبوا أصحابي ، لا تسبوا أصحابي ، فإن أحدكم لو انفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه )).
وفي الحديث : (( الله الله في أصحابي ، لا تتخذوا أعراضهم غرضا ، فمن احبهم فبحبي احبهم ، ومن ابغضهم فببغضي ابغضهم )).
ولذلك عقد البخاري في الصحيح ( باب ) : آية الإيمان حب الأنصار .. وآية النفاق بغض الأنصار .
فمن خاف في إعراض الصحابة أو تعرض لهم ،فواجب تأديبه ، والأخذ عل يديه ، وهو سفيه ، لأن الله تعالى مدحهم وأثنى عليهم وزكاهم .
وثبت في (( صحيح مسلم )) عن عروة قال : قالت لي عائشة : يا ابن أختي ، أمروا أن يستغفروا لأصحاب رسول الله r فسبوهم .
قال تعالى : )وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (الحشر:10) .
قال ابن تيمية : لا يجوز أن يدفع الفيء إلى الرافضة ؛ لأنهم لم يقولوا ) رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ )(الحشر: من الآية 10) .
وقال r ، وهو يرفع طرفه إلى السماء : (( النجوم آمنة السماء ، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأصحابي أمنة لأمتي ، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون )) .
فالرسول r أمنة لأصحابه من الفتن . ولذلك لم تظهر البدع إلا بعد موتهر r ، والصحابة أمنة للامة لما حموله من الآثار ، وما صدقوا فيه من الأخبار ، ولما قدموا فيه الانتصارات الباهرة .
وعن ابن عمر ، رضي الله عنهما ، قال : من كان مستنا فليستن بالميت ، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة .
قال بعض الشعراء يمدح أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم :
وقاتلت معنا الأملاك في أحد تحت العجاجة ما حادوا وما انكشفوا
سعد وسلمان والقعقاع قد عبروا إياك نعبد من سلسألها رشقوا
أملاك ربي بماء المزن قد غسلوا جثمان حنظلة والروح تختطف(/3)
وكلم الله من أوس شهيدهم من غير ترجمة زيحت له السجف
2- من الخصائص : انهم يهتمون بأعمال القلوب أكثر من اهتمامهم بأعمال الجوارح ، لا لأنهم مقصرون في أعمال الجوارح ، لكن ليسوا كتقصير الأجيال الحالية يوم اهتمت بأعمال الجوارح وتركت أعمال القلوب ، إلا من رحم الله ، فتجد في المتأخرين من يهتم بأمر السنة في الظاهر فيطلق لحيته ، وهذا لابد منه ،ويقصر ثوبه ، وهذا لابد منه، وتجده يتفنن في إيراد السنة على مظهره ، ولكن قلبه محشو من الكبر والعجب والرياء والحسد .
فأما الصحابة فقد صفى الله قلوبهم من هذه الأمراض فلا تجد منهم حسدا ولا كبرا ولا رياء ؛ لأن الله اصطفاهم مخلصين ، وصفاهم سبحانه وتعالى بالمحن والزلازل والفتن إلى درجة أن جعلهم عبادا له خلصا ، رضوان الله عليهم .
عن قتادة قال : سئل ابن عمر هل كان أصحاب النبي r يضحكون ؟
قال : نعم ، والإيمان في قلوبهم اعظم من الجبال .
كانوا يضحكون كما يضحك الناس ، وكانوا يتمازحون ، ولحياتهم بساطة ويسر وسهولة .
لكن إذا وصلت التضحية قدموا رؤوسهم على أياديهم ، وسلوا سيوفهم في سبيل الله .
وهذا أمر يفوت الكثيرين ، حتى تجد الناس يتكلمون في الأمور الظاهرية ، بينما يتركون الأمور الباطنية التي هي من أعمال القلوب . فانك الآن لو سمعت بشارب خمر لقامت الدنيا وقعدت ،ولم تسكن ، بينما يوجد في الناس من يحسد ، ومن يتكبر على عباد الله ، لا يفعل الكبائر الظاهرة ، فيبدو عند الناس من أهل الصلاح .
فالصحابة كانوا مجردين له في بواطنهم ، قد أخلصوها للواحد الأحد .
قيل لابن عمر ، رضي الله عنهما ، وهو محرم : ألم تسمع ما يقول هذا الشاعر – شاعر يتغنى وهو محرم ؟
قال : ماذا يقول الشاعر ؟
قالوا : يقول :
قف بالطواف ترى الغزال المحرما حج الحجيج وعاد يقصد زمزما
لو أن بيت الله كلم عاشقا من قبل هذا كاد أن يتكلما
فهذا حاج محرم ،رأى هذه الجميلة فضيع الأركان والطواف والسعي ، وأخذ يتغزل !
قال ابن عمر : سبحان الله ! والله الذي لا إله إلا هو ، ما دخلت الحرم إلا ونسيت الدنيا .
3- من الخصائص : سلامتهم النفاق العملي والاعتقادي ، فلا تجد صفات المنافقين فيهم ؛ مثل : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا أؤتمن خان ، وإذا خاصم فجر ، وإذا عاهد غدر .
بينما تجد من يقوم الليل في المتأخرين ، أو من يصوم الإثنين والخميس ، أو من يقرا القرآن ويختمه كل أسبوع ،أو من يكثر من التسبيح ، توجد فيه بعض هذه المسائل ، فالصحابة خصهم الله بان برأهم من النفاق الاعتقادي والعملي .
قال ابن أبي ملية : أدركت ثلاثين من أصحاب النبي r، كلهم يخاف النفاق على نفسه ، ما منهم أحد يقول : انه على إيمان جبريل وميكائيل .
فخوف الصحابة من النفاق لعلهم مبرئين منه .
أما المتأخرون فتجدهم يبرئون انفهم بأنفسهم ، حتى تجد الواحد منا إذا قلت : بأنك منافق غضب وأرعد ، وقد يكون منافقا حقيقيا لكن مع ذلك لا يرضى بهذا ، ويغضب عليك ، حتى يقول الحسن : ما خافه إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق .
والمعنى : ما خاف النفاق إلا مؤمن ، فاذا رأيت الرجل يخاف من الرياء ، ويخاف النفاق ، ويخاف أن يكون مشركا ، فاعلم انه قريب من الله ، إما من يأمن من مكر الله فهو مخذول لا محالة .
وفي الحديث أن عمر ، رضي الله عنه و أرضاه ،قال لحذيفة بن اليمان: يا حذيفة ، اسالك بالله أسماني رسول الله r من المنافقين ؟
قال : لا ، ولا أزكي أحداً بعدك .
4- ومن الخصائص : جهدهم المنقطع النظير في الدنيا ، قد يأتي أفراد في الدنيا يكونون في الزهد على درجة عالية ، لكن الزهد الجماعي الذي عاشه الصحابة، والتخلي عن ملذات الدنيا ، وطلب رضوان الله عز وجل ، وطلب ما عند الله عز وجل أمر عظيم ، وفي حديث أبي هريرة المشهور ، قال : صليت المغرب مع رسول الله r فلما انصرف الناس تعرضت لعمر بن الخطاب ما بي إلا الجوع ، الجوع الشديد الذي كان يصيب أبا هريرة ، حتى يقول : والذي نفي بيده لقد كنت اصرع بين المنبر وبين بيت الرسول صلى الله عليه وسلم من شدة الجوع ، فيظن الناس أن بي مسا من الجنون !
قال : فتصديت لعمر فسألته عن الآيات من أواخر سورة آل عمران فتلاها .
قال : فتصديت لأبي بكر وسألته عن الآيات .
قال : اعرفها ، فتلاها علي
فخرج r فتصدى له أبو هريرة ، فسأله عن الآيات من آخر سورة آل عمران ، فضحك r ، ثم اخذه بيده ودخل على إحدى زوجاته .
فقال : اعندكم طعام .
قالت لا ، إلا شيء من لبن أرسله لنا بنو فلان من الأنصار .
قال : يا أبا هريرة ،أطلق إلى أهل الصفة فتعال بهم .
قال أبو هريرة لنفسه :ماذا يصنع هذا اللبن مع أهل الصفة ؟ وهم فقراء بالعشرات في المسجد ، وماذا يبقى لي ، قال : فاخذوا أماكنهم.
قال r : (( يا أبا هريرة ، خذ الكوب وناول الناس )) ، فيأخذ الإناء يملؤه ويعطيهم واحدا واحدا ، حتى رووا من اللبن .
قال : (( يا أبا هريرة ، بقيت أنا وأنت )) .
قال : صدقت ، يا رسول الله .
قال : (( اشرب )) .(/4)
والرسول صلى الله عليه وسلم يبتسم .
فشرب ، قال: (( زد )) ، فشرب ، قال : ( زد)) ،فشرب قال : (( زد )) .
قال : والذي نفسي بيده ، يا رسول الله ، لا أجد له مسلكا .
رأى ابن عمر رفقة من أهل اليمن ، رحالهم الجلود الممزقة القديمة ، فقال : من احب أن ينظر إلى شبه أصحاب الرسول r فلينظر إلى هؤلاء .
وعن عائشة قالت : مات أبو بكر فما ترك دينارا ولا درهما ، وكان قد أخذ قبل ذلك ماله فألقاه في بيت المال .
وفي سيرة أبي بكر ، رضي الله عنه : انه ترك بغلة وثوبين ، فدفعهما إلى عمر ، وكتب له سطرين ، قال : يا عمر ، قد وليتك امر أمة محمد ، فاتق الله ، لا يصرعنك الله مصرعا كمصرعي .
فلما وصلت عمر جلس يبكي ، ويقول : أتعبت الخلفاء بعدك ، يا أبا بكر .
وفي (( كتب السير )) أن سعد بن أبي وقاص لما فتح المدائن وجد المائدة الكبرى ؛ مائدة انو شروان ، مائدة مرصعة بالذهب والزمرد واللؤلؤ والدر .
فحملوها على الرؤوس ، ووضعوها على جمل ، وأرسلوها لعمر .
فلما رآها عمر بكى ، وقال : والذي نفسي بيده ، إن رجالا بلغوها اياي لأمناء .
فهذا زهدهم ، رضي الله عنهم ، الذي ميزهم عن غيرهم .
5- من الخصائص : علم اليقين ، فهم ارفع من كل الطبقات والقرون بعلم اليقين أي : انهم يعبدون الله بعلم اليقين ،فالواحد منهم في الصباح يذهب إلى المعركة ، ويقول لأهله : استودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه .
قالوا : تعود إلينا ؟
قال : والله ، لا أعود ، أريد جنة عرضها السماوات والأرض .
ابن رواحة يقول له الصحابة : يا ابن رواحة عد لنا بالسلامة .
قال لا ، لا أريد أن أعود .
قالوا : لماذا ؟
قال :
لكنني أسأل الرحمن مغفرة وطعنة ذات فرغ تقذف الزبدا
حتى يقال إذا مروا على جدثي يا ارشد الله من غاز وقد رشدا
ذكر عن علي ، رضي الله عنه وأرضاه ، انه قال : والذي نفسي بيده لو كشف الله لي الغطاء ما زدت على ما عندي من إيمان حبة خردل .
ونحن عندنا الظن ، يعني : نصدق بأن هناك جنة ، لكن أعمالنا وتطبيقنا وصلاحنا لا يدل على هذا .
ومن الناس من وصل إلى حال مناقض لحال الصحابة ، فلم يعد يبصر إلا المادة .
يقول أحدهم وهو المتنبي
خذ ما رأيت ودع شيئا ودع شيئا سمعت به في طلعة البدر ما يغنيك عن زحل
أي : تعجل شهوات ، ويقول آخر :
لبست ثوب العمر لم استشر وتهت فيه بين شتى الصور
فما أطال النوم عمرا ولا قصر في الأعمار طول السهر
يقول : اشرب ، وكل ، واعص الله ، فانك لا تدري ما النتيجة تخرج ، أو لا تخرج من هذه الدنيا !!
فالصحابة كانوا يعبدون الله على علم اليقين .
6. من الخصائص اهتمامهم باجتماع الكلمة ، ونبذ الفرقة فإن الله سبحانه وتعالى ذم الخلاف ، ونهى عن التفرق ، فقال )وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا )(آل عمران: من الآية 103) ، وقال سبحانه وتعالى : )وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (آل عمران:105) ، فالصحابة كانوا يحرصون على اجتماع الكلمة ، وكانوا نصحة .
فعن سليم بن قيس العامري ،قال : سأل ابن الكوا – أحد الخوارج – عليا عن السنة والبدعة ، وعن الجماعة والفرقة .
فقال : يا ابن الكوا ، حفظت المسالة ، فافهم الجواب : السنة ، والله ، سنة محمد صلى الله عليه وسلم ، والبدعة ما فارقها ، والجماعة ،والله ، ما اجتمع عليه أهل الحق ، وان قلوا ، والفرقة ما فارق ذلك ، واجتمع عليه أهل الباطل .
وجاء رجل إلى علي ، رضي الله عنه ، فقال : يا ابن أبي طالب ، أتدري أن أولئك على باطل وأنت على حق ؟
قال : ويل ، اعرف الحق تعرف أهله ، ولا تعرف الحق بالرجال .
فكانوا يحرصون على اجتماع الكلمة .
ومن ذلك : ما جاء عن قتادة قال : لما بلغ ابن مسعود أن عثمان صلى بمنى أربعا استرجع ،ثم قام فصلى أربعا .
فقيل له استرجعت ثم صليت أربعا .
قال : الخلاف شر ، الخلاف شر .
فكانوا ، رضي الله عنهم ، احرص الناس على الائتلاف ونبذ الفرقة .
7- من الخصائص : انهم أهل السنة والجماعة أهل التضحيات الكبرى ، فبالله لا تذكر للناس سجلي ، ولا سجلك فيما قدمنا للإسلام ، فلي عندنا شيء .
لا تعرضن بذكرنا مع ذكرهم ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد
فليس لنا سجلات من العمل الإسلامي ، كالصحابة رضوان الله عليهم ، لكن الصحابة يكفيك أن تنظر لترجمة الواحد منهم لترى التضحيات .
قالوا : حضر إحدى وعشرين غزوة ، وقالوا عن الثاني : وقطعت يده في اليمامة .. وقالوا عن الثالث : قتل أبناؤه الأربعة في القادسية ، فكل منهم كما قال النابغة :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
8- من الخصائص : إنهم كانوا لا يتكلفون في كل أمورهم ، فلا كلفة في الملبس ولا كلفة في الأكل والشرب والمعيشة ، ويأتي على رأس ذلك ترك التكلف في مسائل العلم .
فلم يكونوا يتعنتون في البحث ، والتنقير عن كل مسالة ، إلا ما ينفعهم فيدنياهم وأخراهم .(/5)
أما غيرهم فقد انشغل بالقول وترك العمل ، انشغل بالتنقيب عن قضايا تضحك أصحاب العقول . قديما وحديثا .
فقديما ، بحثوا عن لون كلب أهل الكهف ! وبحثوا عن ألوان الطيور التي ذبحها إبراهيم عليه السلام !
هذه بعض خصائص الصحابة ، رضوان الله عليهم ، ولهم أمور معطرة أخرى ذكرها الله في كتابه ، وذكرها الرسول r واهل العلم ، لكن معي ومعك شيء واحد أذكرك به .
يقول r : (( المرء يحشر مع من احب ))[6] .. وإنا نحن الرسول صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر ، ولم نعمل بعملهم ، اللهم فاشهد أنا نعلم إننا لم نعمل كأعمال أصحاب رسولك صلى الله عليه وسلم ، ولم نبذل كبذلهم ، ولم نصدق كصدقهم ، ولم نضح كتضحيتهم ، لكن يا رب نحبهم .. يا رب نحبهم .. يا رب نحبهم .
أسالك أن تنفعنا يوم العرض الأكبر بهذا الحب ، وأن تحشرنا معهم بهذا الحب ، وأن تجمعنا بهم في جنات ونهر ،في مقعد صدق عند مليك مقتدر بهذا الحب ، فالأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين
د. عائض بن عبد الله القرني
الرياض
سيماهم في وجوههم
وهؤلاء ثمانية نماذج من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ؛ الذين أعلنوا إسلامهم ، وهداهم الله من الضلالة وبصرهم من العمى ، و أخرجهم من الظلمات إلى النور )هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (الجمعة:2) )أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإسلام فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ )(الزمر: من الآية 22) )فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسلام وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ)(الأنعام: من الآية 125) )إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (فصلت:30) )إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ) (الانبياء:101)
)لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ) (الانبياء:102).
هؤلاء الثمانية الأبطال : أناس عاشوا الشرك والكفر والوثنية ، ثم هداهم الله ، فأسلموا وآمنوا :
1- عمير بن وهب المفاجأة الكبرى.
2- الطفيل بن عمرو الدوسي الداعية العملاق .
3- عمرو بن العاص مكسب للإسلام.
4- ثمامة بن أثال بطل المغامرة.
5- ضمام بن ثعلبة صاحب المسائل العقدية .
6- عبد الله بن سلام شاهد من بني إسرائيل .
7- عكرمة بن أبي جهل الراكب المهاجر.
عمير بن وهب
أما عمير بن وهب ، فقد كان وثنيا مشركا ، لا يعرف الله ، بل كفر بلا إله إلا الله محمد رسول الله .
أسلم كثير من كفار قريش ، أما هو فأبى أن يسلم .
قتل أقاربه في بدر ، فاجتمع هو وصفوان بن أمية عند البيت العتيق ، والرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة لا يعلم عنهما شيئا ، لكن الله تعالى يعلم .
اجتمعوا تحت الميزاب ،وتشاوروا في مناجاة ؛ لا يسمعهم ثلاث إلا الله )أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا )(المجادلة: من الآية 7) .
قال عمير لصفوان : وددت أن أحداً يكفل أهلي ومالي ، وأذهب إلى محمد في المدينة فأقتله .
فقال صفوان : أنا اكفل اهلك ، وأقوم بأطفالك : الدم دمي والهدم هدمي .
قال : فاكتم هذا الأمر .
قال : أكتمه.
قال : فإني ذاهب إلى محمد ، وأقول للنا : إني أريد الاسارى ، يعني : أرى أهل بدر ، وكانوا سبعين اسيرا في المدينة ، ولا تخبر أحداً .
لكن علام الغيوب الذي لا يخفى عليه خافية علم .
ذهب عمير بن وهب ، فأخذ سيفه فسمه بالسم الأزرق ، حتى اصبح السيف ازرق من السم .
وخرج يمضي في الليل ، ووصل إلى المدينة قبل الغروب ، فرآه عمر بن الخطاب ، وعمر قد أوتي فراسة الإيمان ، يلتقط بعينه الشياطين من رؤوس الملاحدة .
فقال للصحابة : إني أرى الشيطان متقمصا هذا الرجل ، يعني : عمير بن وهب ، فأقبل عمر منه ، وقال : إلى أين يا عمير ؟
قال عمير : أتيت الأفادى الاسارى من محمد .
فمسكه بقميصه ، وثيابه ، وأخذ يقتاده إلى محمد صلى الله عليه وسلم رهينة .
السيف مع ذاك ، لكن الله مع عمر ، والموت مع ذاك . ولكن الحق مع عمر .
فأخذه إلى الرسول r ، والرسول r لم يكن عنده سلاح ، وعمير معه سيف مسموم ، ولكن :
عناية الله أغنت عن مضاعفة من الدروع وعن عال من الاطم
قال r : (( يا عمير ، ماذا جاء بك ))؟(/6)
قال : أتيت من أجل قرابة لي أسرتهم يوم بدر أفاديهم .
فقال r : (( لا ، والذي نفسي بيده ، إنك جلست أنت وصفوان بن أمية ليلة كذا في يوم كذا تحت ميزاب الكعب فقلت لصفوان : وددت إني اقتل محمدا لكن أهلي وأطفالي ، فقال لك صفوان : اذهب وأنا أكفيك الأطفال ، فسممت سيفك شهرا ، ثم أتيت لتقتلني ، وما كان الله ليسلطك على ذلك )).
فقام عمير وقال : اشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله[7] )أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ) (الطور:15) ؟.
أكهانة هذه ، أم هو الحق الصراح ؛ الذي أتى به الوحي مع جبريل عليه السلام )وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى) (لنجم:1)
)مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى) (لنجم:2) )وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) (لنجم:3) )إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) (لنجم:4)
)عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى) (لنجم:5) .
وفي قصة عمير دروس :
وقال ابن عمر : كنا نتحدث أن السكينة تنزل على لسان عمر .
الثاني : علم الله وسعته )وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (الأنعام:59)
الثالث : معجزة له صلى الله عليه وسلم ، وقد علمه الله .
الرابع : أن من ادعى علم الغيب ، فقد كذب إلا الأنبياء والرسل )قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) (النمل:65)
الخامس : فضيلة لعمير ؛ لأنه عندما علم الحق أذعن له وأسلم ، ولم يكابر ، فأصبح بطلا من أبطال الإسلام .
الطفيل بن عمرو
أما العلم والبطل الثاني فهو الطفيل بن عمرو الدوسي : وهو من دوس زهران ، من السراة سمع بالرسول r في مكة ، فركب جمله ، وأخذ متاعه ، ولبس ثيابه .
وكان الطفيل شاعرا مجيدا ، وخطيبا فصيحا ، يعرف جزل الكلام من ضعيفه .
وصل إلى مكة ، ولكن الدعايات المغرضة ضد الرسول صلى الله عليه وسلم تتحرك من المشركين لتشويه سمعة المصطفى صلى الله عليه وسلم بالقول المريض ، والتعليقات المرة .
دخل مكة ، فلقيه كفار قريش .
فقالوا : إلى أين يا طفيل ؟
قال : أريد هذا الذي يزعم انه نبي
قالوا : ما أشبه ذلك تريد ؟
قال : أريد أن اسمع كلامه ، إن كان حقا اتبعته ، وإن كان باطلا تركته .
قالوا : إياك وإياه ، إنه ساحر ، انه شاعر ، انه كاهن ، انه مجنون ، أحذر لا تسمع كلامه .
قال الطفيل : فوالله ، ما زالوا بي يخوفونني حتى أخذت القطن فوضعته في اذني .
لكن الحق أقوى من القطن ، والقران ينفذ من خلال القطن إلى القلب .
قال : ودخلت الحرم يوما ، والقطن في أذني لا اسمع شيئا .
لكن أراد الله عز وجل أن يفتح أذنيه ؛ لأن بعض الناس له أذنان وعينان وقلب ، لكن كما قال سبحانه : )وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (لأعراف:179)
أتى فرأى وجه الرسول r ، فقال : فلما رأيت وجهه عرفت انه ليس بوجه كذاب .
لو لم تكن فيه آيات مبينة لكن منظره ينبئك بالخير
وجه الكذاب تعرفه ، ووجه الخمار تعرفه ، ووجه تارك الصلاة تعرفه ، وهكذا وجه المصلي والصادق تعرفه ، وأصدق الصادقين وخير الناس أجمعين : محمد صلى الله عليه وسلم .
قال الطفيل : فسمعته صلى الله عليه وسلم يقرأ ، لكن لا اسمع ؛ لأن في أذني القطن ، فقلت لنفسي : عجبا لي ، أنا رجل شاعر فصيح ، اعرف حسن الكلام من قبيحه ، لماذا لا أضع القطن ، فإن سمعت الكلام طيبا وإلا تركته ؟!
فوضع القطن ، وهذه هي الخطوة الأولى .
وبدأ r يقرأ آيات القرآن .
فلما سمع الكلام وقع في قلبه .
هل يستطيع ملحد ، إن كان عنده عقل أن يسمع )طه) (طه:1) )مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) (طه:2) )إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى) (طه:3)
ولا يؤمن ؟
من يستطع أن يسمع )ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) (قّ:1) )بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ) (قّ:2) ولا يسلم ؟
قال : فلما سمعت الكلام ، تقدمت ، وقلت : عم صباحا ، يا أخا العرب.
هذه تحية جاهلية ، وهي ملغاة عند محمد صلى الله عليه وسلم ، فلا تقبل .
وقد كانت تقال في الجاهلية : عم صباحا ، ولذلك يقول امرؤ القيس :
ألا عم صباحا أيها الطلل البالي وهل يعمن من كان في الأعصر الخالي
فقال r : (( أبدلني الله بتحية خير من تحيتك )) .
قال : وما هي ؟
قال : (( أبدلني الله بتحية خير من تحيتك )) .
قال : وما هي ؟
قال : (( السلام عليكم ورحمة الله )) .
ما أحسن الكلام !
فقال : السلام عليكم .
فرد عليه .
قال : من أنت ؟(/7)
قال : (( أنا رسول الله )) .
قال : من أرسلك ؟
قال : (( الله )) .
فقال الطفيل : إلى ماذا تدعو ؟
فأخبره وقرا عليه شيئا من القرآن .
قال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله[8] .
ثم قال : يا رسول الله ، أنا من دوس ( هو سيد قبيلة دوس ) .
فأمره r أن يعود داعية إليهم .
فعاد داعية إلى دوس ؛ فلما وصل إليهم قال : هدمي من هدمكم حرام ، ودمي من دمكم حرام ، حتى تؤمنوا بالله ، فكفروا ، وأعرضوا ، وغلبهم الزنا .
فأتى مرة ثانية إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال : يا رسول الله ، غلب على دوس الزنا ، وكفروا بالله ، فادع الله عليهم ، يا رسول الله . أي : أن يسحقهم ويحطمهم ، ويجعلهم شذر مذر .
لكن محمدا r كان كما قال الله : )وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:4)
)فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)(آل عمران: من الآية 159) )لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة:128)
فرفع يديه صلى الله عليه وسلم ، يريد أن يدعو لهم ، فظن الطفيل انه يدعو عليهم .
فقال الطفيل : هلكت دوس .
فقال r : (( اللهم اهد دوسا وائت بهم ، اللهم اهد دوسا وائت بهم ، اللهم اهد دوسا وائت بهم ))[9] .
ثم قال : يا طفيل ، اذهب إلى دوس ، فادعهم إلى الإسلام ، ومن ألم معك ، فقاتل به من كفر ، فذهب ، وطلب من الرسول r أن يجعل له آية .
فسال له فوقع نور في جبهته يضيء له في الليل .
أضاءت لهم أحابهم ووجوههم من الليل حتى نظم الجذع ثاقبه
قال : يا رسول الله ، أخشى أن يقولوا : في مثلة ( أي : مرض ) فادع الله أن يحول عني هذا النور ، فحوله إلى العصاء ، فكان إذا رفع العصا أضاءت له جبال زهران .
فلما وصلهم ، كانوا قد تهيؤوا بدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقال: (( أدعوكم إلى لا إله إلا الله محمد رسول الله )) ، ثم أراهم الآية .
فاسلموا جميعا ودخلوا في دين الله أفواجا ، فسبحان من يهدي .
وأتى بهم ، رضي الله عنه وأرضاه ، في موكب عظيم ، ود
ودخل بهم بعد الهجرة إلى المدينة في جيش عرمرم ، حتى ثار الغبار من رؤوسهم ، وكلهم ف يميزان الطفيل .
وكان من حسناته : أبو هريرة ،صاحب الحديث ، وأستاذ المحدثين في الإسلام ، وابر حافظ في الأمة المحمدية ، والراوية العملاق ، رضي الله عنه و أرضاه .
واستمر الطفيل يدعو ، ويجاهد ، وكان قد باع نفه من الله ، حتى قتل في اليمامة شهيدا )يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) (الفجر:27)
)ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً) (الفجر:28)
)فَادْخُلِي فِي عِبَادِي) (الفجر:29)
)وَادْخُلِي جَنَّتِي) (الفجر:30)
وفي قصة إسلام الطفيل دروس :
أولها : أن تحية أهل الإسلام : (( السلام عليكم )) ولا تستبدل بغيرها .
الثاني : أن على الداعية أن يعرض القرآن ، ولا يستبدل به في دعوته كلاما آخر .
الثالث : أن على الداعية ألا يستعجل ، وان يكون حليما صبورا ، واسع الصدر ، لعل الله أن يهدي به .
الرابع : أن الله أيد رسوله صلى الله عليه وسلم بمعجزات .
الخامس : إثبات أهل السنة للكرامات التي للأولياء ، فإن من كرامات الأولياء : ما وقع للطفيل .
السادس : أن من دعا إلى خير ، والى هدى ، كان له من الأجر مثل أجور من تبعه ، وبالعكس : من دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من تبعه إلى يوم القيامة
السابع : أن الله تعالى يكرم عباده بالشهادة ، وقد اكرم الطفيل بذلك .
عمرو بن العاص
أما الرجل الثالث ، فهو عمرو بن العاص داهية العرب : الذي كان إذا رآه عمر بن الخطاب ، قال : رمينا ارطبون الروم بارطبون العرب .
كان عمرو بن العاص دقيقا قصيرا ، لكن كله عقل وذكاء يتوقد .
وجاء عن عمر انه كان إذا رآه يقول : ليس لأبي عبد الله أن يمشي إلا أميرا .
روي عنه r أنه قال : (( بنو العاص مؤمنان عمرو وهشام )) والحديث هذا صحيح [10].
تأخر في الإسلام ، رضي الله عنه و أرضاه ، فرافقه إلى المدينة عثمان بن أبي شيبة ؛ من بني عبد الدار وخالد بن الوليد ، فلما اقتربوا من المدينة ، قال عمرو لهم : دعوني حتى أقدم على الرسول صلى الله عليه وسلم ، فإن لي ذنوبا اعتذر منها .
فتركوه .
فاقبل عمرو ، فلما رآه صلى الله عليه وسلم هش وبش في وجهه ، وقام له فأجلسه بجانبه .
قال : يا رسول الله ، أريد أن اسلم ابسط يدك لأبايعك .
فبسط يده r ، فقبض عمرو يده .
قال r : (( ما لك يا عمرو )) ؟
قال : اشترط .
قال : (( ماذا تشترط )) ؟
قال : اشترط أن يغفر الله لي ذنبي .
قال : (( أما علمت يا عمرو أن الإسلام يهدم ما قبله وان التوبة تجب ما قبلها )) ؟(/8)
قال عمرو : فأسلمت ، فوالله الذي لا إله إلا هو ، ما كان أحد احب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله ما ملأت عيني بعد الإسلام منه إجلالا له ، والله لو سألتموني الآن أن أصفه ما استطعت أن أصفه.
فاسلم ، واصبح من دهاة الناس ، عظيما من العظماء ، ينفع الله به هذا الدين ، ويقود كتائب المسلمين .
وله مواقف مع الرسول صلى الله عليه وسلم .
في ترجمته أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يتألفه في أول أيام الإسلام ، فخطب r فكان ينظر إلى عمرو ولا ينظر إلى الناس يتألفه بالنظر .
قال عمرو : فتوهمت إني افضل الناس .
فلما انتهت الخطبة قلت : يا رسول الله من افضل – ظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيقول : عمرو بن العاص !..
قال : (( أبو بكر )) .
قال : ثم من ؟
قال : (( عمر )).
قال : ثم عدد رجالا ، فوددت أن الأرض خسفت بي [11].
قال عمرو : أرسلني صلى الله عليه وسلم في غزوة فأتيت لأتهيأ ، وهو يتوضأ صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، أنا لا أريد المال أريد الجهاد في سبيل الله ، فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال : (( يا عمرو نعم المال الصالح في يد الرجل الصالح ))[12].
وصح انه خرج في غزوة ، وكان قائدا على ابي بكر وعمر ، وعلى أمثالهما من الصحابة ، فأصابته جنابة في ليلة شاتبة .
فترك الماء ، لأنه ما استطاع أن يغتسل به فتيمم وصلى بهم .
فشكوه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم .
فقال صلى الله عليه وسلم : (( يا عمرو أصليت بأصحابك جنبا )) ؟
قال : يا رسول الله إن الله يقول : ) وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً)(النساء: من الآية 29) يفتي بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم ! .
فتبسم صلى الله عليه وسلم وسكت[13] .
والتبسم عند أهل الحديث : إقرار ، فإذا تبسم صلى الله عليه وسلم ، وسكت فسكوته : إقرار ، : اقره على ما فعل ، رضي الله عنه وأرضاه .
وفي إسلامه دروس :
أولا : أن التوبة تهدم ما قبلها من الذنوب والخطايا ، ولو كانت كالجبال إذا كانت صادقة نصوحا ، وأن الإسلام يهدم ما قبله من الخطايا فلا يعاتب العبد إذا أحسن على ما فعل في الجاهلية .
الثاني : أن علي الداعية أن يتألف القلوب بنظرة أو كلمة حانية .
الثالث : المبايعة بالأيدي ، وأنها سنة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم
الرابع : حبه صلى الله عليه وسلم وما كان له من منزلة في قلوب الصحابة .
الخامس : أن الناس يوزنون بميزان قوله – سبحانه وتعالى -: )أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ) (الاحقاف:16)
السادس : أن الإنسان يقدر ببلائه في الإسلام .
السابع أن الدهاء يستخدم لإعلاء كلمة الله ، ولا باس به ، وإذا استخدم لإضرار المسلمين فهو خبث ونكاية ونفاق ، والعياذ بالله .
ثمامة بن أثال
أما الرجل الرابع ، فهو : ثمامة بن أثال ؛ سيد بني حنفية ، وبنو حنيفة منهم : مسيلمة الكذاب ، ومنهم : ثمامة بن أثال .
ثمامة بن أثا كان يسكن في حصن له في ارض بني حنيفة في نجد ، وفي ليلة من الليالي سمع الرسول صلى الله عليه وسلم أن ثمامة هذا يريد أن يغزو المدينة .
فقال صلى الله عليه وسلم ، فيما يروى عنه : ( بل أنا اغزوه إن شاء الله )) .
أي : قبل أن يتحرك من هناك نرسل له من يغزوه .
فأرسل له صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد في كوكبه وفي سرية .
فأخذ خالد سيفه وخيله ، ومشى بالأبطال إلى وادي بني حنيفة في نجد .
وفي إحدى الليالي قال ثمامة لزوجته : أنا لا اخرج هذه الليلة للصيد أبدا ؛ لأنه شعر بشيء .
لكن الله إذا أراد شيئا اتمه ) وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى)(لأنفال: من الآية 17).
قال زوجته : لم ؟
قال : اتوجس ، أي : أتاني خوفا لا ادري ما سببه .
فمكث في حصنه وقصره ، والأبواب مغلقة عليه ، لكن أراد الله أن يخرجه لخالد ليأسره ويذهب به إلى المدينة ، فأرسل الله له الغزلان والظباء تلك الليلة حتى كانت تنطح باب الحصن .
فقالت زوجته وهو في ضوء القمر : عجيب أمرك كل ليلة تطارد الغزلان ، ولا تجدها ، واليوم أتت تناطح أبوابنا ، انه لمن العجز أن تتركا .
فأخذ القوس والأسهم ، وأتى وراء الغزلان، ففتح الباب ففرت الغزلان قليلا ، ففر وراءها ، فدخلت حديقة ، فدخل وراءها ، فخرج ، فخرج من الحديقة .
فلما اصبح في الصحراء ، وإذا بخالد يطوقه .
قال : من أنت ؟
قال : خالد بن الوليد ، إن كنت لا تعرفني تعرفني الليلة .
قال : ماذا جاء بك ؟
قال : سمعنا انك تريد أن تغزو يثرب ، وقد أرسلني صلى الله عليه وسلم إليك .
قال : من اكلم ؟
قال كلم رسول الله في المدينة ، فركب معه واتى به أسيرا
مشدودا . والحديث في (( الصحيحين )) ، وقال البخاري ( باب ) ربط الأسير في المسجد من حديث أبي هريرة .(/9)
فدخل خالد بهذا الأسير وربطه في سارية المسجد لثلاث مسائل :
أولها : أن هذا إهانة للأسير المشرك .
الثاني : لعله أن يرى صولة الصحابة وجولتهم، فيراهم وقد تجمعوا في المجد ، وقد اهتدوا فيهتدي .
الثالث : لعله أن يسمع الوحي والقرآن والصلاة إذا صلى صلى الله عليه وسلم فيتأثر .
فربطه في سارية المسجد .
فأتى صلى الله عليه وسلم للصلاة ، فقال : (( أسلم يا ثمامة )).
قال ثمامة : يا محمد ، إن تقتلني تقتل ذا دم ، وإن تنعم تنعم على شاكر .
يقول : إن قتلتني فإن دمي لا يضيع فأنا سيد قبيلة ، فورائي أبطال يأخذون بدمي ، وإن عفوت عني وأطلقتني فسوف تجد الجميل عندي محفوظا .
فتركه صلى الله عليه وسلم .
فكان صلى الله عليه وسلم خلال ثلاثة أيام كلما أتى إلى الصلاة قال : (( يا ثمامة أسلم )).
فيعيد قوله .
فقال صلى الله عليه وسلم : (( أطلقوه )) .
فأطلقوه ، فذهب إلى نخلة من نخل المدينة ، فأخذ ماء فاغتسل ثم دخل المسجد ، وقال : اشهد أن لا إله إلا الله وانك رسول الله .
فقال له صلى الله عليه وسلم: (( ولماذا لم تسلم وأنت في القيد )) ؟
قال : أخشى أن تتحدث العرب إني أسلمت ذلا ؛ لأنه سيد من السادات .
قال : يا رسول الله ، إن شئت أن امنع حنطة اليمامة عن قريش فعلت .
قال : امنعها عنهم .
فذهب يعتمر ، فقال له كفار قريش : هيه ، يا ثمامة صبأت مع محمد .
قال : والله ، لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة .
فقيدوه ، فخرج من القيد ، وفر إلى اليمامة ، فضرب حظرا اقتصاديا عليهم فما وصلتهم حبة [14]
وفي قصته دروس :
أولا : جواز إدخال الكافر المجد للحاجة .
الثاني : التمهل بالكافر ثلاثة أيام لعله أن يهتدي .
الثالث : التضييق على الكافر لعله أن يهتدي أو يخاف .
الرابع : استخدام أهل الوجاهات وإنزالهم منازلهم .
الخامس : الغسل للكافر .
ضمام بن ثعلبة
وأما الرجل الخامس ، فهو : ضمام بن ثعلبة : وحديثه في (( الصحيحين )) .
سمع بداع للرسول r يعرض الإسلام ، فاطمأن قلبه ، فأخذ ناقته ، وركبها ووفد إلى الرسول r .
فأتى ، والصحابة مجتمعون في المسجد مع الرسول r ، والرسول r كان من هديه أن يتكئ أحيانا على الميسرة ، وأحيانا على الميمنة ، فيأتي الأعرابي والغريب فلا يعرف الرسول r
فأتى هذا الرجل ، فعقل ناقته في طرف المسجد ، وجاء بعصاه يتخطى الصفوف ، وقال : أين ابن عبد المطلب ؟ أي : محمد r !!
فأتى هذا الرجل ، فعقل ناقته في طرف المسجد ، وجاء بعصاه يتخطى الصفوف ، وقال : أين ابن عبد المطلب ؟ أي : محمد r !!
وهو ابن عبد الله ، لكن كان جده عند العرب أشهر ؛ لأنه كان سيدا مطاعا .
ولذلك كان الرسول r يقول في حنين :
أنا النبي لا كذب
أنا ابن عبد المطلب
قال للصحابة : أين ابن عبد المطلب ؟
قال الصحابة : هو ذاك الرجل الأبيض الأمهق المرتفق . ( الأمهق : المشوب بحمرة ، والمرتفق : أي المتكئ ) .
فتخطى الصفوف وقال : يا ابن عبد المطلب .
فقال صلى الله عليه وسلم : (( قد أجبتك )) .
قال : إني سائلك فمشدد عليك في المسالة .
يقول بعض العلماء: هذا أقوى ، أو اصعب سؤال ورد عن التوحيد في السنة .
قال : (( سلما بدا لك )) .
قال : من رفع الماء ؟
قال : (( الله .
قال : من بطن الأرض ؟
قال : (( الله )) .
قال : من نصب الجبال ؟
قال : (( الله )).
قال : اسالك بمن رفع السماء ، وبط الأرض ، ونصب الجبال ، آلله أرسلك إلينا رسولا ؟
فجل صلى الله عليه وسلم من عظم السؤال ، وقال : (( اللهم نعم )) .
قال : أسألك بمن رفع السماء ، وبسط الأرض ، ونصب الجبال ، آلله أمرك بأن تأمرنا بخمس صلوات في اليوم والليلة ؟
قال : (( اللهم نعم )) .
فسأله عن الصيام ، قم قال : اشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، والله لا ازيد على ذلك ولا أنقص ، أنا ضمام بن ثعلبة أخو بني عد بن بكر ، ثم ولى .
تعريف موجز ، وسؤال موجز ، ، وموقف موجز ، فما أهل الإسلام!.
قال صلى الله عليه وسلم : (( من سره أن ينر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا )) وفي لفظ آخر : (( أفلح الرجل ودخل الجنة إن صدق )).
قال ابن عبا : ما رأينا وافدا أخير لقومه من ضمام بن ثعلبة .
قال أنس : ما رأينا أعقل من ضمام بن ثعلبة .
لأنه اختصر في المسالة ، وسال عن مسائل عظيمة .
وفي إسلامه دروس :
أولهما : ألا يؤخذ بجفا الإنسان حتى يبصر ويعرف بالصواب .
الثاني : انه لا باس أن ينادي الإنسان بأمه أو أم أبيه ؛ لأن بعض الناس قد يغضب عليك إذا لم تقل له : يا شيخ ، أو يا صاحب الفضيلة ، أو يا صاحب السعادة ، أو يا صاحب الفخامة .
الثالث : أما في حقه r فالواجب أن ينادى باسم الرسالة لقوله تعالى )لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً)(النور: من الآية 63) فينادي بيا رسول الله ، أو يا نبي الله
الرابع : جواز العرض على الشيخ والمعلم ما يفعل أهل الحديث .
الخامس : أن على العالم أن يكون واسع الصدر .
عبدالله بن سلام(/10)
وأما الرجل السادس ، فهو : عبد الله بن سلام الذي يقول الله فيه : )قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (الاحقاف:10) كان يهوديا فأسلم ، وقصة إسلامه عجيبة .
هاجر الرسول r إلى المدينة ، فاستقبلته القلوب وحيته الأرواح ، وعانقته النفوس .
فنزل في سوق المدينة .
قال ابن سلام : انجفل الناس ( أي : هرعوا ) إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فكنت فيمن انجفل فاجتمعت معهم ، فلما استبنت وجه الرسول صلى الله عليه وسلم عرفت أن وجهه لي بوجه كذاب فاقتربت منه فإذا هو يقول : (( يا أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام )) رواه الترمذي وهو صحيح .
قال : فلما سمعت هذه الكلمات ، أتيت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله ، اشهد أن لا إله إلا الله وأشهد انك رسول الله ؛ لأنه كان يقرأ التوراة ويعرف وصف الرسول صلى الله عليه وسلم فيها .
قال : يا رسول الله ، أسألك عن ثلاث مسائل لا يعرفها إلا نبي .
قال : (( ما هي ))؟
قال : ما هو أول طعام أهل الجنة ، وكيف يشبه الولد أمه أو أباه ، وما هي أول علامات الساعة ؟
فقال لابن سلام : (( أما أول طعام أهل الجنة فزيادة كبد الحوت )) .
قال : صدقت [15].
قال : (( وأما لماذا يشبه الولد أباه أو أمه فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة أشبه أباه، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أشبه أمه )).
قال : صدقت .
قال : (( وأما أول علامات الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب )).
قال : صدقت .
قم شهد أن لا إله إلا الله وأن الرسول رسول الله ، ثم قال : يا رسول الله ، إن اليهود قوم بهت إذا علموا إني أسلمت بهتوني ، فأدخلني في هذه المشربة ( غرفة ) ، واسألهم عني .
فأدخله r في المشربة وأغلق عليه ، واستدعى اليهود ، وقال : (( كيف عبد الله بن سلام فيكم )) ؟
قالوا : خيرنا وابن خيرنا، وعالمنا وابن عالمنا ، وفقيهنا وابن فقيهنا .
قال r : (( أرأيتم إن اسلم ))؟
قالوا : أعاذه الله من ذلك
فخرج ابن لام وقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله .
فقاموا ينفضون ثيابهم ، ويتناخرون كالحمير ، ويقولون : شرنا وابن شرنا ، وسيئنا وابن سيئنا ، أو كما قالوا .
فقال الله في ذلك : )قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (الاحقاف:10)
وفي قصته دروس :
أولا : أن وصفه صلى الله عليه وسلم كان موجودا في التوراة ،كما قال تعالى ) يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ )(لأعراف: من الآية 157) .
ثانياً : أن من اسلم من اليهود أو النصارى فله أجران ؛ اجر إسلامه بكتابه وبنبيه ، و إسلامه بنبينا وكتابنا ،ونحن نؤمن بجميع الكتب التي أنزلها الله والرسل الذين أرسلهم الله جميعا .
ثالثا : أن الشاهد إذا شهد بحق ، ثم نقضه في مجلسه ، لا يقبل ؛ لأنه ما نقضه إلا لأمر
رابعا : البلاغة التي أوتيها صلى الله عليه وسلم .
خامسا : أن الرسول صلى الله عليه وسلم أطلعه الله على كثير من علم الغيب ، ومن علامات الساعة ، فأخبر الناس فأسلموا بتلك المعجزات.
ابن سعنة
أما الرجل السابع ، فهو : ابن سعنة يهودي تاجر .
يقول : عرفت أوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم إلا وصفا واحدا .
قيل : ما هو ؟
قال : وجدت مكتوبا في التوراة انه إذا أغضب يزداد حلما صلى الله عليه وسلم .
هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، فرآه ابن سعنة هذا ، فرأى أوصافه الموجودة في التوراة كلها إلا صفة واحدة ؛ انك إذا أغضبته يزداد حلما .
فأتى إلى الرسول r فقال : يا أبا القاسم .
قال : (( نعم )).
قال : أنا تاجر من تجار اليهود ،وأنت تحتاج مالا ، وأنا غني ، فأريد أن اسلفك شيئا من المال حتى يفتح الله عليه .
وما مرت أيام بعد أن وصل المال إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإلا وبهذا التاجر في المسجد قبل صلاة العصر .
فقال : يا محمد ، أعطني مالي ، إنكم مطل يا بني عبد المطلب !!
يعني : تماطلون الناس .
قال الرسول صلى الله عليه وسلم : (( أما أعطيتني المال إلى أجل ))؟
قال : لا ، أعطني مالي ، إنكم مطل يا بني عبد المطلب .
فنظر إليه عمر بن الخطاب وقال : يا رسول الله ، دعني اقطع عنق الكافر .
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : (( أحب أن تأمرني بحسن الأداء وتأمره بحن الاقتضاء )).
ثم أخذ اليهودي يرفع صوته ، فأخذ صلى الله عليه وسلم يتبسم ، وكلما رفع صوته تبسم .
فأخذه r من يده ، وذهب به إلى بيته ، فأعطاه ماله وزاده .(/11)
قال : اشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، قرأت اوصافك فرأيتها فيك غير انك إذا أغضبت ازددت حلما ، وقد رأيته اليوم[16] .
قال صلى الله عليه وسلم : (( لو آمن بي عشرة من اليهود لآمن بي اليهود كلهم أو جميعهم ))[17].
وفي قصته : أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان من احلم الناس ويكفي في ذلك قوله تعالى : )وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:4)
عكرمة بن أبي جهل
أما آخر الأصحاب ، فهو : عكرمة بن أبي جهل
فسبحان الذي يخرج الحي من الميت ، والميت من الحي ، لقد كان أبوه فرعون هذه الأمة .
تأخر إسلامه حتى يوم الفتح .
كان مشركا آنذاك ، وقاوم مقاومة عنيفة ، لكن انهارت مقاومته أمام خالد .
فركب إلى البحر يريد أن يرمي نفسه في البحر ، ويخرج إلى إحدى الجزر ، أو أن يضيع في العالم ؛ لأنه ظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم سوف يذبحه .
فأتت امرأته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقالت : زوجي فر منك .
قال : (( خذي له الأمان )).
قيل : أعطاها صلى الله عليه وسلم كساء ، وقيل : عمامة ، وقيل : أعطاها قلنسوة ، فقال : (( خذيها وأخبريه )).
فأتت وإذا هو يتهيأ على البحر يريد أن يركب سفينة ، فأشارت إليه قائلة : الأمان ، الأمان.
قال : لا أمان ، لا أمان .
قالت : هذه عمامة محمد صلى الله عليه وسلم وقلنسوته .
فلما عاد ، ورآه صلى الله عليه وسلم مقبلا مع زوجته تبسم صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه ليس من الحكمة أن يقول : أين أنت يا فار أو يا كافر .
ولكنه صلى الله عليه وسلم قال : (( مرحبا بالراكب المهاجر )) [18]، أنت هاجرت إلى الله ورسوله .
فقال : اشهد أن لا إله إلا الله واشهد انك رسول الله ، والله يا رسول الله ، لا اترك موقفا حاربت الإسلام فيه إلا حاربت مع الإسلام فيه ، ولا نفقة أنفقتها في حرب الإسلام ، إلا أنفقت ضعفها في نصرة الإسلام .
حضر اليرموك ، رضي الله عنه و أرضاه ، فانهزم المسلمون في أول معركة .
فلما رأى الهزيمة لبس أكفانه ، واغتسل وتطيب ،وسل سيفه وكسر غمده على ركبته ، وقال : يا مسلمون ، من يبايعني على الموت؟ من يشتري الموت اليوم ؟
فبايعه أربعمائة مقاتل ، فشق بهم صفوف الروم كالسيل ، حتى وصل إلى وسط الروم ، فقاتل حتى صلاة الظهر ، ثم تناوشته الرماح والسيوف من كل جانب فوقع صريعا على الأرض .
فحملوه على الاكتاف حتى وصل إلى القائد خالد بن الوليد .
فرآه خالد فاحتضنه ؛ لأنه كان صديقا له في الجاهلية وقال : ماذا تريد يا عكرمة ؟
فأشار بلسانه يريد الماء ، لأنه لا يستطيع أن يتكلم ، فهو في آخر رمق الحياة .
فأتى خالد بماء بارد من خيمته ، فاندفع نحو عكرمة ليسقيه ، وما هي إلا لحظات حتى جيء بالحارث بن هشام ، عم عكرمة ،أخو أبي جهل ، وهو في آخر رمق ، فوضع على رجلي خالد ،فأتى بابن عكرمة ، وهو شهيد فوضع بجانبه وجي برابع .
فأتى خالد بالماء ليعطي عكرمة فأشار إلى عمه ، يقول : اسقه قبلي ) وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)(الحشر: من الآية 9) .
فأعطى عمه ، فرفض أن يشرب قبل ابن عكرمة .
فدفعوا الماء للشاب الصغير ، فرفض أن يشرب قبل الرجل الرابع .
فحولوه إلى الرابع ، فقال : لا حتى يشرب عكرمة .
فعاد إلى عكرمة فوجده قد مات .
فدفعه إلى الحارث بن هشام ، فوجده قد مات .
فأعاده إلى الثالث ، فوجده قد مات
فأعاده إلى الرابع ، فوجده قد مات .
قال أهل العلم : فانتحب خالد من البكاء ، وقال : اللهم اسقهم من جنتك زعم فلان ( يعني : أحد الكفار ) أنا لا نموت إلا حبطا ( يعني : لا نموت إلا على الفرش ) لا والله ، بل نموت تحت قصف السيوف وضرب الرماح .
هذا عكرمة بن أبي جهل وهو مثل للشباب المسلم .
قيل للإمام احمد : هل يقبل المصحف ؟
قال : كان عكرمة يقرأ القرآن ، ويبكي ، ويقبل المصحف ، ويقول : كلام ربي ، كلام ربي .
هؤلاء هم القوم الذين لا يشقى بهم جليسهم ، وأملنا في الله أن يجمعنا بهم في الجنة ؛ لنرى فيها : عمير بن وهب ، والطفيل بن عمرو ، وعمرو بن العاص ، وثمامة بن أثال ، وضمام بن ثعلبة ، وعبد الله بن سلام ، وابن سعنة ، وعكرمة بن أبي جهل .
ومن أراد أن يجتمع بهم فليفعل كفعلهم .
هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا
ولا يستطيع الفاعلون كفعلهم وإن حاولوا في النازلات وأجملوا
أولئك آبائي
إنها أخبار عجيبة وجميلة ، يطرب لها القلب ، وتتشنف لها الآذان ،وتثلج بها الصدور .
أخبار علمائنا الذين جعلهم الله عز وجل كأنبياء بني إسرائيل ، ووف اقص عليكم قصصا عجيبا من أخبارهم .
الأول : تحملهم المشاق في طلب العلم.
الثاني : زهدهم في الدنيا وإعراضهم عنها .
الثالث : قولهم كلمة الحق فلا يخافون في الله لومة لائم.
الرابع : بذلهم العلم لطالبيه ونشرهم المعرفة.
الخامس : خشيتهم لله تعالى .
السادس : تواضعهم لربهم تبارك وتعالى .(/12)
إن العلم اشرف مطلوب ، وهو يوصل صاحبه إلى جنة عرضها السماوات والأرض ، أو يوصله إلى نار تلظى.
فمن الناس من طلب العلم فكان حجة عليه ، وخيبة وندامة ، فكان الحمار يحمل أسفارا ، كما قال الله عز وجل في علماء بني إسرائيل ) كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً)(الجمعة: من الآية 5) وقال عالمهم الضال المجرم : ) فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ )(لأعراف: من الآية 176).
قال عبد العزيز الجرجاني ، وهو أديب عجيب ، وقصيدته من أحسن القصائد ، وقد قال الناس : ما لك تعتزلنا ولا تخالطنا ولا تذهب آل السلاطين ؟ فرد عليهم بقصيدة ، قال في بعض أبياتها :
يقولون لي فيك انقباض وإنما رأوا رجلا عن موقف الذل أحجما
أأشقى به غرسا وأجنيه ذلة إذا فاتباع الجهل قد كان أحزما
ولم ابتذل في مطلب العلم مهجتي لأخدم من لاقيت لكن لأخدما
آل أن يقول :
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس لعظما
ولكن أهانوه فهانوا ودنسوا محياه بالأطماع حتى تجهما
قال أهل السير : كان أحد العلماء المسلمين طلب العلم ، وحفظ القرآن والحديث ، ثم أدركه الخذلان ، والعياذ بالله .
خرج يوما يصلي ، فنظر إلى بيت من البيوت في دمشق ، أو في حمص ، فرأى امرأة أطلت عليه من البيت كشمس الضحى ، وكانت نصرانية كافرة ، فوقع عشقها في قلبه ، فترك المسجد ، وعاد آل البيت ، فرالها ، فاشترطت عليه أن لا يتزوجها ، إلا إذا ارتد عن الإسلام.
)رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) (آل عمران:8)
حاول فيها ، فقالت : المهر : أن تترك الإسلام ، والمسجد ، والقران .
فتزوجها ، وارتد عن الإسلام ، فذهبت به إلى ارض النصارى.
فمر به أحد زملائه ، فوجده يرعى الخنازير !
)فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ)(المائدة: من الآية 13).
قال : يا فلان ، أين القرآن ؟ أين الحديث ؟
قال : والله ، ما أصبحت احفظ من القرآن إلا آية واحدة .
قال : ما هي ؟
قال : قوله سبحانه وتعالى : )رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) (الحجر:2) [19]
هذا في العلماء المخذولين ، أما علماؤنا فإليكم طرفا من أخبارهم .
أما تحملهم للمشاق : فأمر عجيب . والله سبحانه وتعالى ذكر موسى ، عليه السلام ، في القرآن ، واخبر انه ركب البحر في طلب العلم .
وبوب البخاري في كتاب العلم ( باب ) ركوب البحر في طلب العلم ، وذكر قصته ، عليه السلام ، عندما وقف خطيبا في بني إسرائيل فقالوا له : أتعلم أحداً أعلم منك في الأرض ؟
قال : ما اعلم أحداً اعلم مني .
فلامه الله ، وعاتبه الله على انه ما رد العلم إلى الله .
فقال الله له :بل عبدنا بمجمع البحرين ، الخضر اعلم منك.
فسافر إليه ،وطلب منه الخير ، كما قرأتم في القرآن .
وكان صلى الله عليه وسلم يتابع قصة موسى والخضر في القرآن باشتياق ، فلما انتهت القصة ، وقال الخضر : )قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ )(الكهف: من الآية 78) قال صلى الله عليه وسلم : (( رحم الله موسى وددت انه صبر حتى يقص الله علينا من نبئهما ))[20].
وقال البخاري : وسافر جابر بن عبد الله ، رضي الله عنه ، شهرا كاملا في طلب حديث واحد .
سافر من المدينة إلى الصحابي الجليل عبد الله بن أنيس ، رضي الله عنه ، في مصر .
فلما لقيه في مصر عانقه عبدالله ، وقال له : ادخل اجلس ، حيهلا بك وسهلا .
قال : لا ، أنا خرجت لوجه الله ، ولا أفسد هجرتي ، أريد الحديث الذي سمعته من الرسول r .
فأخذ الحديث ، وهو واقف ، ثم ركب ناقته وعاد !
أما سعيد بن المسيب ، فيقول عن نفسه : والله الذي لا إله إلا هو ، لقد كنت أسافر ثلاثة أيام بلياليهن في طلب حديث واحد .
ولذلك بارك الله في علمهم، وبارك في جهدهم .
كانوا يسهرون الليالي ، ولم يكن عندهم مما عندنا من الوسائل الحديثة.
فعندنا كهرباء ، وعندنا وسائل اتصال ، ومطاعم شهية ، ومراكب وطية ، وملابس حسنة .
ولكن قل التحصيل ، ونشكو حالنا آل الله الواحد الأحد .
ويذكرون عن القفال أحد علماء الشافعية انه سافر لطلب العلم ، وكان عمره أربعين سنة ، فلما مشى في الطريق ، قال له الشيطان : كيف تطلب العلم في الأربعين ؟
فرجع من الطريق ، فوجد رجلا يعمل في سانية ، وقد أثر الحبل في الصخر.
فقال القفال :
اطلب ولا تضجر من مطلب فآفة الطالب أن يضجرا
أما ترى الحبل بطول المدى على صليب الصخر قد أثرا
وقيل لعامر الشعبي :بم طلبت العلم ؟
قال : بصبر كصبر الجمال ، وببكور كبكور الغراب .
أي : بعد صلاة الفجر مباشرة.
ودخل الإمام احمد أكثر من ثلاثين إقليما في طلب الحديث على رجله ، ليس معه إلا بقشته ، فيها الشعير والملح.(/13)
دخل خراسان بمدنها ، وسمرقند ، وبخارى ، وتركستان ، وطشقند ، والسند ، وأطراف الهند ، وأطراف أفغانستان ، على ما ينقل في سيرته ، ودخل مصر بأكثر مدنها ، والعراق ، والحجاز ، وذهب إلى الشام ، ثم دخل اليمن ، وطاف الاقاليم .
حتى قال بعضهم : لو حسبت المسافات التي سارها لكانت طوفت الدنيا .
سافر لعبد الرزاق في اليمن ، ولكنه لقيه في مكة يعتمر .
فقال صاحبه يحيى بن معين : هيا بنا ، هذا عبد الرزاق قد حضر ، نأخذ العلم منه ونعود .
قال احمد : أنا خرجت لله ، و أريد أن يعود عبد الرازق إلى صنعاء ؛ لأذهب إليه ، ولتكون سفرتي في سبيل الله .
فلما عاد عبد الرزاق إلى صنعاء سافر إليه الإمام احمد .
فترك ، رحمه الله ، لنا ( المسند ) الذي لو تب بالدموع ما أنصفناه .
أما الشافعي ، فقالوا : انفق ثلاثين ألف دينار في طلب العلم ، وهي ميزانية هائلة .
سكن في بداية عهده مع أمه ، وكانت أمه فقيرة ،فدخلت به في بيت ضيق ، فكان يذهب يطلب العلم ، ولا يجد أوراقا ؛ لأنها غالية الثمن ، ولم تكن متوفرة ، فكان يأخذ الجلود والرقاع ، ويأخذ العظام ، ويأخذ الصخور الملساء ، فيكتب فيها العلم ، حتى ضيق على أمه السكن فقالت: يا بني أنخرج ونترك البيت لكتبك !
ثم ذهب إلى البادية فحفظ أشعار ثلاثين شاعرا ، ثم عاد ، فقال له رجل من أهل مكنة : إني أراك نابها فصيحا ذكيا ، فاذهب إلى المدينة ، إلى عالمها ، إلى مالك بن انس فاطلب منه العلم .
فذهب فحفظ (( الموطأ )) في تسع ليالي .
الموطأ المجلد الكامل ، آثاره ، وأحاديثه ، ومرسلاته ، ومقطوعاته ، وموقوفاته حفظه في تسع ليالي .
فلما جلس عند الإمام مالك ؛ ليقرأ عليه ، قال له الإمام مالك : إني أرى عليك نورا ، فلا تفده بالمعصية .
أما عطاء بن أبي رباح فكان مولى عبد ،وكلنا عبيد الله ؛ لأن الإسلام لا يعترف بالدماء ، ولا بالأنساب ، ولا بالألقاب ، ولا بالأسر ) إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ )(الحجرات: من الآية 13) .
كانت سيدته امرأة من مكة ، فأصيب بالشلل ، وأصيب بمرض في جسمه ، فتركته ، فمكث في الحرم ثلاثين سنة يطلب العلم ، حتى برز في العلوم .
ثلاثون نة يقول ما رفعت فراشي في الحرم .
ثلاثون سنة ليلا ونهارا يطلب العلم حتى اصبح عالم المسلمين .
أما ابن عبا ، فكان الأولى أن يقدم في هذا الباب ، ولكننا نقدمه مهما تأخر لفظا ، فإنه متقدم في الرتبة .
ابن عباس ، رضي الله عنهما ، كان يقول : ذللت طالبا فعززت مطلوبا.
العلم حرب للفت المتعالي كالسيل حرب للمكان العالي
ما أحسن العلم إذا تواضع المرء في طلبه .
قالوا لابن عباس : كيف حصلت على العلم ؟
قال : كنت اخرج من الظهيرة في شدة الحر ، فاذهب إلى بيوت الأنصار ، فأجد الأنصاري نائما ، فلا اطرق عليه بابه من الهيرة ، فأتوسد بردتي عند بيته ، فتلفحني الريح بالتراب ، فيستيقظ الأنصاري ، فيقول : يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أيقظتني أدخلك ؟
فيقول : أخاف أن أزعج.
قال : فطلبت العلم هكذا .
فأصبح عالم الأمة ، رضي الله عنه وأرضاه .
أما زهدهم في الدنيا وإعراضهم عنها :
فالدنيا لمن يعرفها ، ولمن يذوقها ، ولمن يستمرئها لا تساوي شيئا .
وأشرف ما تطلبه أنت في الحياة : أن تنقذ نفسك من النار ) فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)(آل عمران: من الآية 185) .
قيل لأحد العلماء : كيف عرفت الدنيا ؟
قال : دلني العلم على الزهد في الدنيا .
وفي حديث حسن : (( أزهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس ))[21].
وقد جاء عنه r أنه قال : (( الدنيا ملعونة ما فيها إلا كتاب الله وما والاه أو عالم أو متعلم ))[22].
وقال تعالى )مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أعمالهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ) (هود:15) )أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (هود:16)
وقال )اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (الحديد:20)
وقال عمران بن حطان الخارجي في الدنيا ، وكان شاعرا مجيدا على بدعته :
أرى أشقياء الناس لا يسأمونها على انهم فيها عراة وجوع
أراها وإن كانت تسر فإنها سحابة صيف عن قليل تقشع
لما انتصر قتيبة بن مسلم في المشرق أتي بغنائم كرؤوس الأبقار من الذهب والجواهر والدرر .(/14)
فالتفت إلى الغنائم وقال لأصحابه : ما رأيكم لو عرضت هذه الأموال على أحد الناس أيردها ؟
قالوا : ما ترى أحدا يردها.
من الذي يرد الذهب ؟
من الذي يرفض المال ؟
قال قتيبة : والله ، لأرينكم قوما من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، المال عندهم مثل التراب .
فأرسل بها إلى العالم الزاهد محمد بن واسع ، وكان معه في الجيش.
فقبلها محمد !
فلما علم قتيبة قال : اللهم لا تخيب ظني فيه .
فقال قتيبة لأحد الجنود : تابع ابن واع ، وانظر أين يذهب .
فتابعه ، وقد أخذ الذهب ، فمر به فقير من الجيش ، وهو يسأل الناس من مال الله ، أعطوني .
فأعطاه كل المال .
فذهب الجندي إلى قتيبة فأخبره .
فتبسم ، وقال : لقد قلت لكم : إن هناك أناسا من أمة محمد الذهب عندهم كالتراب .
وكان علي ، رضي الله عنه ، يقول : لقد ارتحلت الآخرة مقبلة وارتحلت الدنيا مدبرة فكونوا من أبناء الآخرة ،ولا تكونوا من أبناء الدنيا ، فإن اليوم عمل ولا حساب ، وغدا حساب ولا عمل .
دخل قيس بن أبي حازم على سليمان بن عبد الملك ؛ الخليفة الأموي فقال : السلام عليك يا سليمان !
قال : الناس يقولون السلام عليك ، يا أمير المؤمنين ، وأنت تقول يا سليمان .
قال : لأني لم أبايعك بالخلافة ، فأنت بويعت بالخلافة على غير رضى مني ، فكيف اسميك أمير المؤمنين ؟
قال : ما لنا نحب الحياة ونكره الموت يا قيس ؟
قال : لأنكم عمرتم حياتكم ، وخربتم خرتكم ، فأنتم تكرهون الانتقال من العمار إلى الخراب .
قال : ما رأيك أن تصحبنا ، وأعطيك نصف ملكي ؟
قال : لا . إن الله قال )وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ )(هود: من الآية 113) .
قال : ونصف الملك ؟
قال : كم تعطيني من جناح البعوضة ؟ أتعطيني نصف جناح بعوضة ؟ وقد قال r : (( لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء ))[23] ثم خرج وتركه .
وكان سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، يطوف بالبيت فمر سليمان هذا بالموكب والوزراء والأمراء ، فلما رآه توقف فاقترب منه ، وقال : يا سالم ، ألك إلى حاجة ؟
قال : يا سليمان ، أما تستحي من الله ؟ تعرض علي المسائل في بيت الله .
فتره ، فلما خرج عرض عليه السؤال ، قال : ألك إلي حاجة؟
قال : من حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة ؟
قال : بل من حوائج الدنيا ، أما الآخرة فلا يملكها إلا الله .
قال : والله ، الذي لا إله إلا هو ما سالت حوائج الدنيا من الذي يملكها ، وهو الله ،فكيف اسألها منك؟
وهذا درس لنا : بان نعلم أن ما عند الله هو الباقي )مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ )(النحل: من الآية 96) ، وان افضل ما يمكن أن يكنزه العبد ، هو : العبادة ، والصلاح ، والعلم النافع ) فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ )(الرعد: من الآية 17) .
ودخل الوليد بن عبد الملك المدينة فأرسل أعطيات لبعض الناس ، ومنهم : سعيد بن المسيب .
فذهب الجندي إلى سعيد ، فوجده يصلي ركعتين ، فلما سلم ، قال : خذ هذا العطاء .
قال : ممن هذا العطاء ؟
قال : من الوليد بن عبد الملك .
قال : يسرق أموال المسلمين ، ويعطيني العطاء ، ويحاسبني الله على عطائه ، ربما أراد غيري .
قال : لا ، أرادك أنت .
قال : اذهب إليه بالعطاء ، وله : هل يريدني أو يريد غيري ؟
فأخذ الكي ،وذهب به .
فأخذ سعيد بن المسيب حذاءه ، وخرج من طرف المسجد !!
وأما قولهم كلمة الحق : فانهم كانوا لا يخافون في الله لومة لائم.
يقول صلى الله عليه وسلم : (( افضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر ))[24].
لن هذه لا يستطيع لها إلا قلائل من أمثال سعيد بن جبير ، رحمه الله .
لقد كانت لهم ، رحمهم الله ، مواقف صلبة في قول الحق .
وكيف لا يكونون كذلك ، وسلفهم في ذلك عمر بن الخطاب الذي اقر هذا المبدأ ؟
يقف ، رضي الله عنه ، على المنبر فيقول : يا أيها الناس ، ما رأيكم لو حدت عن الطريق هكذا ؟
فقام أعرابي عنده سيف عند سارية في آخر المسجد ، فقال : يا أمير المؤمنين ، والله الذي لا إله إلا هو ، لو قلت عن الطريق هذا ، لقلنا بالسيف هكذا .
قال عمر : الحمد لله الذي جعل من رعيتي من إذا قلت عن الطريق هكذا قال بسيفه هكذا .
دخل الزهري العلامة المحدث ، رواية (( الصحيحين )) العظيم مع كثير من العلماء على هشام بن عبد الملك وكان هشام ناصبيا يبغض عليا ، رضي الله عنه .
فقال هشام : يا سليمان بن يسار ( أحد العلماء ) من الذي تولى كبره ؟ أي : في قوله تعالى : ) وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ)(النور: من الآية 11) في حادثة الإفك .
قال : عبد الله بن أبي .
قال : كذبت .
فقال : يا فلان ، من الذي تولى كبره ؟
قال : عبد الله بن أبي .
قال : كذبت ، الذي تولى كبره هو علي .
فقال : يا زهري من الذي تولى كبره .
قال : عبد الله بن أبي .
قال : كذبت .(/15)
فقام الزهري ، وكان جالسا قال : كذبت أنت وأبوك وجدك ! الذي تولى كبره : عبد الله بن أبي بن سلول ، حدثني بذلك عروة عن عائشة ، ووالله لو نادى مناد من السماء أن الكذب حلال ما كذبت.
فانتفض هشام ، وقال : لعلنا هيجنا الشيخ!
وكان عبد الله بن علي العباسي سفاكا ، والغا في الدماء والأموال ، فسال وزراءه : أترون أحداً يعترض على ما فعلت ؟
قالوا : نظن الاوزاعي يعترض
فاستدعوا الاوزاعي .
قال الاوزاعي : انتظروا قليلا ، فلس أكفانه بعد أن اغتسل وتطيب ، ولبس ثيابه والأكفان من تحتها .
فدخل على عبد الله بن علي .
قال الاوزاعي : والله ، الذي نفي بيده ،لما دخلت عليه أصبح كأنه ذباب في عيني ، وكأني أتصور عرش الله بارزا للناس .
قال : فانعقد في جبينه عرق ، وفي يده خيزران ، وكانت السيوف قد اشرعت على رأس الاوزاعي .
فقال : يا اوزاعي ، ما رأيك في الدماء التي سفكناها ؟
قال : حدثنا فلان ، عن فلان، عن ابن مسعود عن النبي r قال : (( لا يحل دم المسلم إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك للجماعة )).
فغضب وقال : والأموال ؟
قال : حلالها حساب ، وحرامها عقاب .
قال : اخرج
فخرجت .
قال: ارجع .
فرجعت ، وانتظرت السيف أن يعلوني .
قال : خذ هذه الصرة ، فيها فضة وذهب .
فأخذها فوزعها على الجنود، ثم خرج !
وهكذا فعل الإمام احمد مع المعتصم.
أما بذلهم للعلم :فهي مسالة نشكو منها .
فنحن نعيش أزمة علماء ، وأزمة دعاة ؛ لأن منهم من يقطر العلم بقطارة ، ومنهم من ينفق العلم ، وكأنه ينفق من جيبه .
العلماء كثير وكثير ن ولكن الساحة تشتكي ، فهي تريد أن ينزلوا ؛ لأن الأجيال بحاجة لهم .
كان عروة بن الزبير يتألف الناس على الحديث ، ويقول لطلابه : من يحضر منكم اليوم فله دينار .
لماذا ؟
لأنه يريد أن ينشر العلم الذي عنده ؛ لأن العلم حياة ، والعلم إذا حبس ضاع ، وإذا حب نقص فهو :
يقول تعالى : )وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) (آل عمران:187) وقال سبحانه وتعالى )إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) (البقرة:159) )إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة:160)
أما خشيتهم لله عز وجل :
فالله يقول في القرآن ) إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)(فاطر: من الآية 28) .
لأنهم تعرفوا على الله ، فهابوا ، وكل شيء تقرب منه تأمنه إلا الله كلما اقتربت منه خفته .
لذلك تجد الفاجر لا رهب الله ، فهو يضحك ، ويمزح ويعربد بكلام سيئ ، ويعصي الله ، ويفجر وليس بخائف .
والمؤمن التقي العالم بالله ، إذا عصا معصية ، أو فعل فعلة ، استغفر واستوحش ، وبقي في اضطراب ، وفزع وخوف وحزن ، وهم وغم .
ولذلك يقول ابن مسعود : إن المؤمن يرى ذنوبه كأنها جبل يريد أن يسقط عليه ، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذبا ، قال به هكذا فطار من على انفه .
قال أبو وائل : والله ، لقد رأيت جفني ابن عباس من البكاء كالشراكين الباليين .
وورد عنه انه قام ليلة في الحرم من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر يردد قوله سبحانه وتعالى : )لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً) (النساء:123)
وابوبكر لما نزلت هذه الآية قال للرسول صلى الله عليه وسلم : كيف العمل بعد هذه الآية ؟ ) مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ)(النساء: من الآية 123) .
فقال صلى الله عليه وسلم : غفر الله لك ، يا أبا بكر ، ألست تهتم ؟ ألست تحزن ؟ ألست تمرض ؟
قال : بلى ، يا رسول الله.
قال : (( لا يصيب المؤمن من هم ولا نصب ولا وصب ولا مرض إلا كفر الله بها من خطاياه))[25].
قال بعض أرباب القلوب : رب باك دمعت عيناه من البكاء ، ولكن لا ينظر إلى نظر الله إليه .
ورب ساكت ساكن ، يخاف من وقعات قدمه : أن تعطيش به في نار جهنم.
فليس المقصد البكاء ، وإنما المقصد : خشية الله الواحد الأحد ) إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)(فاطر: من الآية 28) .
خرج ابن المبارك الزاهد العباد الشهير ، فمر بقصر لطاهر بن حسين في خراسان .
فنظر إلى القصر ، وكان مهولا ،فدمعت عيناه ، وقال : والله لقصيدة عدي بن زيد احب ، وأحسن عندي من هذا القصر .
عدي بن زيد شاعر جاهلي يقول :
أيها الشامت المعير بالدهر أأنت المبرأ الموفور
هل رأيت المنايا خلدن أمن ذا عليه من أين يضام مجير
أين كسرى الملوك انو شروان أم أين قبله سابور(/16)
وأما توضعهم لربهم تبارك وتعالى : فإن اكبر ميزة للعالم التواضع ؛ لأن العلم كالمال قد يطغى صاحبه )كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى) (العلق:6)
)أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى) (عبس:5)
ولذلك تجد اكبر الناس كبرا وعتوا : المثقفون بلا إيمان من فروخ العلمانية ، وفروخ النصرانية ، وفروخ الماسونية ، وأذناب الشيوعية .
فمن صفة العالم : التواضع الذي يجلب التبسم.
فهو يرحم الضعيف ، ويقف مع المسكين ، ويقود الأعمى ، ويساعد الأرملة ، ويخدم بجاهه ، ويقلمه ، وبكتبه ، وبماله ، وبوقته .
خرج ابن معود من المسجد ، فخرج تلاميذه وراءه ، فقال : عودوا إلى أماكنكم ، والله ، لو علمتم ما عندي من الذنوب لحثوتم بالتراب على رأسي .
هذا ، وهو ابن مسعود صاحب قيام الليل ، والصحابي الشهير ،الذي يقول أحد تلاميذه : نمت عنده ، فتركني ، ثم قام يتلو القرآن كأنه نحلة حتى الفجر .
يقول العلامة الأندلسي يناجي الله في الليل ببيتين فيقول :
يا من سترت مثالبي ومعايبي وجعلت كل الناس كالإخوان
والله لو علموا قبيح سريرتي لأبي السالم علي من يلقاني
لماذا يتكبر العبد ؟
لماذا لا يعود إلى تاريخه المظلم ؟
لماذا لا يتذكر سيئاته مع الواحد الأحد؟
تخيل ، لو كشف الله مخازيك ، وعرضها على الناس ، والله لا يتجملون لك ، ولا يسلمون عليك ، ولا يزورونك ، ولا يرحبون بك ، ولا يستقبلونك.
فكيف برب العباد الذي ير الخطأ منك ليل صباح ، ويغفر ويعفو ويستر ؟
دخل أحدهم على ابن تيمية ، شيخ الإسلام ، فمدحه ، وقال يا ابن تيمية أنت العالم البحر .
فغضب ابن تيمية حتى احمر وجهه وقال :
أنا المكدي وابن المكدي وكذا كان أبي وجدي
يقول أنا فقير ، وأبي فقير ،وجدي فقير .
وله قصيدة اسمها الفقرية يشكو فيها فقره على الله ، يقول :
أنا الفقير إلى رب السماوات أنا المسكين في مجموع حالاتي
وفي الحديث الصحيح : (( من تواضع لله رفعه ، ومن تكبر على الله وضعه )).
فكلما يتكبر العبد يقول الله له : اخأ فلن تعدو قدرك .
وكلما تواضع قال الله : انهض فقد رفعك الله .
إذا علم ذلك ، فإن من مما يميز علماء الإسلام علماء السنة على غيرهم ، هو : التواضع لله عز وجل )وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجاهلونَ قَالُوا سَلاماً) (الفرقان:63) .
ولو ذهبت أعدد آثارهم ، وحكاياتهم في التواضع لطال المجال .
ولكن القوم فيما ظهر من أحوالهم : قد ساروا خطى قدوتهم وقدوتنا محمد صلى الله عليه وسلم ، الذي كان يضرب به المثل في التواضع ، كما علم هذا كثيرا ، حيث كان يركب الحمار ،وهو خاتم النبيين .
ويمشي مع الجارية .
ويقوم بأعماله المنزلية .
ويساعد أهله .
بل كان الداخل إلى المسجد ليسأله ، وهو لا يعرفه لا يستطيع أن يميزه من بين أصحابه ، حتى يسال عنه ؛ لأنه لا يتميز عليهم بثوب أو بجلسة أو بغير ذلك .
بطل المحنة
سير الصالحين مدرسة، أسسها القرآن ،ووعتها السنة ، ومعنا في هذه الأوراق : صالح من الصالحين ، بل أمام الدنيا ، وحافظ العصر ، واحفظ أمة محمد صلى الله عليه وسلم للحديث .
وعت الدنيا اسمه ، وحفظت القلوب رسمه ، فما هنالك فيما أظن مسلم يصلي خمس صلوات في اليوم والليلة ، إلا ويعرف هذا الإمام حتى من أعدائه من الكفار ، والمنافقين فانهم يعرفونه إلى قيام الساعة .
هو الإمام ( أحمد بن حنبل ) أمام أهل السنة ، الواقف يوم المحنة ، الزاهد فيما سوى الله ، المتقن للحديث .
فمن هو الإمام احمد ؟ علنا نقتدي بشيء من سيرته ، فإن لم نستطع ، فلنحبه في الله ، فإن المؤمن يحشر مع من احب ، والمؤمن والخليل على دين خليله ، والله عز وجل يقرن الأصناف مع اصنافهم ، والأنواع مع انواعهم والأشباه مع أشباههم.
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة
واره من تجارته المعاصي ولو كنا سواء في البضاعة
ولد الإمام احمد في آخر القرآن الثاني ، وعاش في بيت فقير .
مات أبوه ، وهو طفل ، فكفلته أمه الزاهدة العابدة الصائمة القائمة .
قال احمد ، رحمه الله : فحفظتني أمي القرآن ، وعمري عشر سنوات ، فحفظ كتاب الله ، واستوعباه في صدره ، ففرت الوساوس والشياطين من صدره ، فأصبح عابدا لله .
وقال احمد ، رحمه الله : كانت أمي تلبسني اللباس ، وتوقظني وتحمي لي الماء قبل صلاة الفجر ، وأنا ابن عشر سنوات ، ثم كانت تتخمر وتتغطى بحجابها ،وتذهب معه إلى المسجد ؛ لأن المسجد بعيد ، ولأن الطريق مظلمة .
فانظر إلى هذه المرأة الصالحة !
عاش في هذا الجو ، وعاش في هذا البيت ،وكل همه : أن يعبد الله بكلام الله ، وان يكون عبدا خالصا لله .
قال : فأعطتني متاع السفر .
أتدرون ماذا أعطته من الزاد وكم أعطته من الألوف ؟ وكم أعطته من الدراهم والدنانير ؟
لقد صنعت له ما يقارب عشرة من الأرغفة من الشعير ، ووضعتها في حقيبة من قماش معه ، ووضعت معها صرة ملح!!(/17)
وقالت : يا بني ، إن الله إذا استودع شيئا لا يضيعه أبدا ، فأستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه .
فذهب من عندها من بغداد ، من عاصمة الدنيا ، من دار السلام .
لماذا ذهب ؟ اذهب للسياحة كما يفعل اللاهون اللاغون اللعابون ؟
أم ذهب إلى التسكع كما يذهب السادرون المخمورون المسكورون ؟
أم ذهب إلى ضياع الأوقات والتدحرج على الثلج كما يذهب الذين رفعت عنهم أقلام التكليف ؟
لا ، بل ذهب ليبحث عن حديث رسول الله r .
ذهب إلى مكة والمدينة .
من زار بابك لم تبرح جوارحه تروي أحاديث ما أوليت من منن
فالعين عن قرة والكف عن صلة والقلب عن جابر والسمع عن حسن
فذهب ، رحمه الله ، وقال مضيت من بغداد على رجلي إلى مكة ، فضعت في الطريق ثلاث مرات ، فكنت كلما ضعت استغفرت الله ، ودعوت الله .
قال : فوالله ما انتهيت من كلامي ، إلا وبدلني الله تعالى على الطريق .
من هو ملجأ الخائفين ؟ انه الله .
من هو منقذ العارفين ؟ انه الله .
فكان كلما ضاع في الصحراء ، التجأ إلى الله فليس عنده علامات ، ولا بوصلات ولا خطوط صحراء ، بل هي ارض مقفرة يضيع فيها الذكي والبليد.
فضاع الإمام احمد ، ولكن رد اتجاهه إلى الله (( احفظ الله يحفظ )) فلما حفظ الله حفظه الله في سمعه وجوارحه ودينه ومستقبله وسمعته إلى يوم القيامة .
وحفظ الله اسمه للملايين ؛ عند مسلمي الصين واليابان والملايو والعراق والجزيرة وسوريا والجزائر ، ومسلمي أمريكا ، فلهم يسمعون بأحمد بن حنبل ؛ لأنه حفظ الله .
ثم وصل إلى مكة ، وأخذ حديث مكة ، وبعدها سافر إلى اليمن إلى صنعاء اليمن ، إلى عبد الرزاق بن همام الصنعاني يطلب الحديث ، وبينما هو في طريقه ضاع مرة رابعة ، قال : وانتهت نفقتي من الخبز إما الدراهم فما كان عندي دراهم ، فماذا افعل ؟
قال : نلت إلى قوم أهل مزارع ، يحصدون ويصرمون ، فأجرت منهم نفسي ثلاثة أيام ، يا سبحان الله ! أمام الأئمة الذي يحفظ ألف ألف حديث ، كما يقول الذهبي وابن كثير ( أي : مليون حديث ) ويؤجر نفسه من الحصادين فيحصد لهم .
ووصل بحفظ الله إلى صنعاء ، واخذ الأحاديث النبوية وكتبها .
كان يسهر الليل حتى الفجر ،ويصوم النهار حتى الغروب .
يقول ابنه عبد الله : كان أبي يصلي من غير الفرائض في اليوم والليلة ثلاثمائة ركعة.
وانظروا (( تذكرة الحفاظ )) للذهبي ، و(( سير أعلام النبلاء )) له و(( البداية والنهاية )) لابن كثير ، و(( تاريخ بغداد )) ، و (( تاريخ دمشق )) فكلها متواترة على انه كان يصلي من غير الفرائض في اليوم والليلة ثلاثمائة ركعة ، وكان يسرد الصوم إلا في بعض الأيام .
ووصل إلى صنعاء ، فقدم له جوائز من السلطان ،ومن الأغنياء ، فرفض وأبى وقال : اعمل بيدي ، فاشتغل في بعض الصناعات ، فرفض وأبى وقال : اعمل بيدي ، فاشتغل في بعض الصناعات بيده حتى أعطاه الله بعض النقود ، ثم عاد إلى بغداد .
أما علمه ، رحمه الله ، فهو البحر ، وحدث عن البحر ولا حرج ، (( واتقوا الله ويعلمكم الله )) فالعلم لي بالمؤسسات ، ولا بالشهادات ، ولا بالجامعات ، العلم :تقوىالله ، العلم :طلب العلم من الحي القيوم الذي يقول لمحمد r: ) وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً)(طه: من الآية 114) ويقول لسليمان )فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ)(الأنبياء: من الآية 79).
فالفهم من عند الله ، والعلم من عند الله ، والفقه من عند الله ، والذكاء من عند الله ، فيا من اغتر بشهادته ، أو بمستواه ، أو بمنصبه ، والله ، لن تنفعك عند الله جناح بعوضة ، العلم : أن تتعلم وتعمل ، وتعلم الناس لي إلا ، سواء عندك شهادة ، أو لم يكن هناك شهادة ، سواء تعلمت في مدرسة أو لم تتعلم .
) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ )(البقرة: من الآية 282) ، فعلم الله الإمام أحمد ، فحفظ ألف ألف حديث ، يستحضرها كما يستحضر الفاتحة حتى كتب (( المسند)) من حفظه في أربعين ألف حديث ، فهو اكبر مسند في الدنيا ، وفي المعمورة ، وعلى البسيطة ، وبين أيدينا ، ولكن من يقرأ (( المسند ))؟ ومن يطالع (( المسند ))؟ ومن يتفقه في (( المسند))؟ أأهل الصحف اليومية والخزعبلات وأهل الملاهي والملاغي ؟ إلا من رحم الله .
وأصبح مطبوعا لنا طبعة فاخرة ، وأصبح معروضا لنا عرضا جيدا ، وأصبح محققا في الدواليب عندنا ، فوضعناه ديكورا وزينة .
فيا أمة محمد ، من يقرأ (( مسند )) أحمد ؟ إن من يقرأه سوف يجد التقوى والزهد ، والرفعة ، والخوف من الله خشية الله عز وجل .
أفت الإمام احمد في ستين ألف مسالة ، يقال الله ، وقال رسول الله r ، وذم المنطق وذم الراي ، وذم الفلسفة والجدل .
أما تواضعه : فمنقطع النظير ، وطالب العلم ، والمسلم ، والعالم والمسؤول ، إذا لم يكن متواضعا لله ، فلا تنظر إليه ؛ فإن الله قد مقته من فوق سبع سماوات ، وقد باء بخزي من الله ، إن لم يتب .
كان ، رحمه الله ، متواضعا جد التواضع.(/18)
قال الحفاظ : رأينا الإمام احمد نزل إلى سوق بغداد ، فاشترى حزمة من الحطب ، وجعلها على كتفه ، فلما عرفه الناس ، ترك أهل المتاجر متاجرهم ، وأهل الدكاكين دكاكينهم ، وتوقف المارة في طرقهم ، يسلمون عليه ، ويقولون : نحمل عنك الحطب ، فهز يده ،واحمر وجهه ،ودمعت عيناه وقال : نحن قوم مساكين ، لولا ستر الله لافتضحنا ، نحن قوم مساكين لولا ستر الله لافتضحنا .
والعجيب في الإسلام: أن العبد كلما ازداد تواضعا لله ، كلما زاده الله رفعة، وكلما ارتفع كلما زاده الله حقارة ومهانة ، ومذلة جزاء وفاقا .
أتى رجل ليمدح الإمام احمد ، فقال له الإمام احمد : أشهد الله إني أمقتك في هذا الكلام ،والله ، لو علمت ما عندي من الذنوب والخطايا لحثوت على رأسي بالتراب ، انظر إلى الإمام ! انظر إلى العابد !
جاءه قوم فقالوا : يا احمد ، يا ابن حنبل ،إن الله قد نشر لك الثناء الحسن ، والله أنا لنسمع الثناء عليك في كل مكان ،حتى في الثغور مع الجيش ،وهم يقاتلون العدو ، ويدعون لك وقت ما يرمون بالمنجنيق ، فدمعت عيناه ، وقال : أظن انه استدراج من الله عز وجل ، فقيل له : بل هي عاجل بشرى المؤمن .
أما زهده في الدنيا ، فقد رفعه عن كثير ممن عاش معه ، وأتته الدنيا راغمة إلى باب بيته فأباها .
طلب من أن يتولى القضاء فامتنع وقال : إن تركتموني ، وإلا فوالله لأهاجر إلى مكان لا تجدوني فيه أبدا .
كان دخله في الشهر سبعة عشر درهما فيقول : هذه تكفينا .
يقول أبناؤه : يا أبتاه، هذه لا تكفينا .
فيقول : إنما هي أيام قلائل ، وطعام دون طعام ، ولبا دون لبا حتى نلقى الله الواحد الأحد .
يقول ابنه عبد الله : بقيت حذاء أبي في رجله ثمانية عشر سنة ، كلما خرمت خصفها بيده ،وهو إمام الدنيا .
أرسل لها المتوكل ثمانية أحمال من الذهب والفضة ، حملها الوزراء على أكتافهم مع سرية من الجيش بعد المحنة ، فردها ، وقال : والله ، لا يدخل بيتي منها درهما ولا دينارا .
وأما خلقه ، فأحسن الناس خلقا ؛ لأن من يتعلم صباح مساء من القرآن ، ومن يجلس مع القرآن ، فسوف يؤثر فيه ، ولو طالت السنوات والأعوام.
والذي لا يأخذ أخلاقه من القران والسنة ، فمن أين يأخذ الأخلاق ؟ ومن أين يتعلم الآداب ؟ أمن ديكارت ، وكانت ، وغيرهم من الكفرة الذين نقلوا ثقافتهم إلينا لنتعلم منهم ؟ متى كانوا أساتذة ؟ ومتى كانوا معلمين ؟ بل هم أحقر الناس وأخبث الناس مع الناس .
إنما يتعلم من وحي السماء ؛ الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم .
يقول الإمام احمد : رحم الله أم صالح ( يعني : زوجته وقد توفيت ) صاحبتني ثلاثين سنة،والله ما اختلفت أنا وهي في كلمة واحدة .
زوجته في بيته ، صاحبته ثلاثين سنة، ما اختلف معها في كلمة واحدة .
أتاه رجل من اتباع السلطان المعتصم ، فسب الإمام احمد أمام الناس ، وجدعه وشتمه ، وأخزاه بالكلام ، ولكن لي بمخز ، إن شاء الله .
فقال الناس : يا أبا عبد الله ، يا احمد ، رد على هذا السفيه .
قال : لا والله ، فأين القرآن إذن ؟ يقول الله عز من قائل : ) وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجاهلونَ قَالُوا سَلاماً)(الفرقان: من الآية 63) هذا هو القرآن الذي يمشي على الأرض .
كان يجلس للناس ،رحمه الله ، فيتعلمون منه وينظر إليهم ويباسطهم .
قال ابنه عبد الله : دخلت على أبي ، وهو جالس في البيت متربعا مستقبل القبلة، ودموعه تهمل على خديه ، فقالت : يا أبتاه، ما لك ؟
قال : تذكرت في هذه الغرفة موقفي في القبر وحدي لا أنيس إلا الله .
قال : فأراك متربعا لماذا لا تتكئ وتريح نفسك ؟ ( لأنه شيخ كبير ) ؟.
قال : استحي أن أجالس الله ،وأنا متكئ ، أما يقول الله : أنا جليس من ذكرني ،أنا جليس من ذكرني .
دخل عليه الأديب الكبير ثعلب فقال له الإمام احمد : ماذا تحفظ من الأدب والشعر ؟
قال : أحفظ بيتين .
قال : ما هما ؟
قال : قول الأول .
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل خلوت ولكن قل على رقيب
ولا تحسبن الله يغفل طرفه ولا أن ما يخفى عليه يغيب
فوضع الكتاب من يده ، وقام وأغلق على نفسه بابا ، وبقي في الغرفة .
قال تلاميذه: والله ، لقد سمعنا بكاءه من وراء الباب ،وهو يردد البيت :
إذا ماخلوت الدهر يوما فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
كانت اكبر الأماني في حياته أن يحمل السيف مجاهدا في سبيل الله .
نظر إلى قدميه وقت الوفاة فبك ، وقال : يا ليتها جاهدت في سبيل الله .
لكن والله ، لقد جاهد جهادا من اعظم الجهاد ، وبذلك علمه ، وبذل خلقه ، وبذل جاهه ، وبذل ماله، وبذل كل ما يملك في رفع لا إله إلا الله فكان إمام الدنيا بحق .
قال يحيى بن معين : والله ما رأيت أحدا كأحمد من حنبل ، والله ما أستطيع أن أكون مثله ثلاثة أيام .
وقال الإمام الشافعي ، رحمه الله : خرجت من بغداد وسكانها ألف ألف ( يعني: مليون) فوالله ، ما خلفت رجلا أتقى لله ، وأعلم بالله ، وازهد لله وأورع عن حرمات الله ،ولا احب من الإمام احمد بن حنبل .(/19)
رحم الله الإمام احمد بن حنبل وأسكنه فسيح جناته وحشرنا في زمرته .
• فتنة خلق القرآن :
يقول سبحانه وتعالى )أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (العنكبوت:2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (العنكبوت:3) .
ويقول عز من قائل : )وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أخباركُمْ) (محمد:31)
لما قرأ الفضيل بن عياض ، رحمه الله ، هذه الآية بكى ،وقال اللهم لا تبلونا فتفضحنا ، فنحن في ستر الله ، نال الله أن لا يفضحنا ، وأن لا يفتنا ، وأن يجعلنا في عافية وستر حتى نلقاه .
لكن للفتنة نتائج طيبة ،يجعلها الله للصابرين ، قال سبحانه وتعالى : )وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة:24)
فالمحنة والفتنة التي ترعض لها الإمام احمد رواها أهل التاريخ جميعا ، وسمعت بها الدنيا شرقا وغربا ، وشمالا وجنوبا ، إلى قيام الساعة ، هي : محنة خلق القرآن ، أو الفتنة التي أورثها المأمون في الأمة والقول بخلق القرآن ، واختصارا لتعريف هذه المحنة ، فهي :
أن المأمون كان مشوبا برأي منطقي معتزلي .
يقول ابن تيمية : رحمه الله : إن الله لا يغفل عن المأمون لما أدخله من علم المنطق عند المسلمين .
والمأمون الخليفة العباسي ابن هارون الرشيد ، قال : بان القرآن مخلوق ، وكذب على الله ، فالقران كلام الله عز وجل ، والله يتكلم بما شاء متى يشاء ، لم يزل متكلما سبحانه وتعالى ، يقول عز من قائل : ) أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ )(لأعراف: من الآية 54) فالأمر هنا القرآن .
فقال هذا الخليفة : بان القرآن مخلوق ، واستخدم السيف ليثبت هذه القضية في الأمة ، وقتل ما يقارب ألفا من العلماء الكبار من علماء الأمة . من زملاء الإمام احمد ، وملأ السجون بكافة العلماء ، فبعضهم أجاب خوفا من السيف ، وبعضهم رفض وقال : لا أجيب فقتل في الحال ، ومنع التدريس في المساجد ، ومنعت الخطابة إلا للمعتزلة ، وانتشر الشر الكثير ، فنصر الله الإسلام بالإمام احمد بن حنبل ،الذي وقف وحده ، وقال : لا والله ، القرآن كلام الله . فطلبه الخليفة .
قال الإمام احمد : أخت من بيتي وسط الليل ، وأنا أصلي فوضع الحديد في يدي ، وفي رجلي ، حتى أن الحديد أثقل من جسمي ، ووضعت على فرس ، فكدت اسقط ثلاث مرات كل مرة أقول : اللهم احفظني، فكان يردني الله حتى أتساوى على الفرص (( احفظ الله يحفظك )) ، وكان الجندي الذي معه يضرب الفرس لعل الإمام احمد يسقط على وجهه .
قال : فلما أدخلت السجن سحبت على وجهي ، فنزلت فكنت استغفر الله ، قال : فلا أدري أين القبلة ، ولا ادري أين أنا في ظلام ، وفي وحشة لا يعلمها إلا الله ، فكنت أقول : حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم .
قال : فمددت يدي ، فإذا بماء بارد ،فتوضأت منه ، وقمت أصلي إلى الفجر ، انظر إلى حفظ الله حتى في الساعات الحرجة ، لا ينسى ربه تبارك وتعالى لأنه العون .
فالزم يد بحبل الله معتصما فإنه الركن إن خانت أركان
قال : فلما اصبح الصباح حملت على الفرس ثانية ، وما طعمت طعاما ، وكدت اسقط من الجوع ، فأدخلت على المعتصم الخليفة الثاني ، الخليفة العكسري ، صاحب عمورية ، فلما دخلت عليه هز السيف في وجهي ، وقال: يا أحمد ، والله ،إني احبك كابني هارون فلا تعرض من دمك لنا .
فقال الإمام احمد : ائتوني بكتاب الله ، أو بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فدعي بالجلادين ، ودعي بجبار من الجبابرة ، وقال له : اضرب هذا الرجل ، يعني : الإمام احمد ، فجلده مائة وستين سوطا ،حتى غشي عليه ثم استفاق .
فكان يقول : لا إله إلا الله ، حسبي الله ونعم الوكيل لأنها أطول كلمات ، ولأنها قوة هائلة ، ولأنها قوة فتاكة ) حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)(آل عمران: من الآية 173) .
يقول ابن عباس ، رضي الله عنهما : قالها إبراهيم فنجاه الله من النار ، وقالها محمد فنجاه الله من كيد الكفار r .
ورفض أن يجيب حتى تمزق ظهره من كثرة الجلد ، فرفع على الفرس وأعيد .
وبقي في السجن ثمانية وعشرين شهرا سرد الصيام في هذه الفترة ، كما قال ابنه عبد الله فما افطر يوما واحدا .
ثم في الأخير عرض على السيف ، ورفض فلما أعجزهم ، وأكلهم وأملهم أعادوه إلى بيته ، فأنزلوه ، وهو جريح .(/20)
يقول ابنه عبد الله : دخل أبونا علينا في الليل بعد ما أطلق من السجن ، قال : فأنزلناه من على الفرس فوقع من التعب ،ومن الإعياء ، ومن الضعف والهزال ، والمرض على وجهه فبقي أياما ، ثم تولى الخلافة المتوكل ، فنصر السنة، وأتى بالمال والذهب إلى الإمام احمد ، فبكى الإمام احمد ، وقال : والله ، إني أخاف من فتنة النعمة أكثر من فتنة المصيبة والمحنة،فرفض ، وما أخذ شيئا وبقي على هذا الحال .
وكان يقول : يا ليتني ما عرفت الشهرة، يا ليتني في شعب من شعاب مكة ما عرفني الناس .
فلما أراد الله أن يرفع ذكره قبضه إليه في يوم من اسعد الأيام مرض تسعة أيام ،ومحص الله ما بقي عليه من خطايا ومن ذنوب ومن سيئات ، لا يخلو عنها البشر في هذه التسعة الأيام ، وفي اليوم الأخير سمع الخليفة انه مريض ، فأمرر الناس بزيارته ،فانقلبت بغداد العاصمة؛ عاصمة الدنيا ، دار السلام ،ظهرا وبطن متجه طوابير ، وفي كتائب إلى بيت الإمام احمد ؛ لتزوره في اليوم الأخير .
فقال أبناؤه : والله ، لقد أغلقت المتاجر حول بيوتنا ، ولقد وقف الباعة من كثرة الناس ، فرفض الإمام احمد أن يدخل عليه إلا الصبيان ، والمساكين ، فأدخلوا الأطفال عليه ، فأخذ يبكي ويقبلهم ، ويمسح على رؤوسهم ، ويدعو لهم ، ثم ادخل عليه الفقراء، فأخذ ينظر إليهم ، ويقول : اصبروا فإنها أيام قلائل ، لباس دون لباس ، وطعام دون طعام حتى نلقى الله .
وفي سكرات الموت التفت إلى طرفه بيته ، والى طرف غرفته ، وقال : لا بعد ، لا بعد ، لا بعد .
فقالوا : ما لك ؟
قال : تصور لي الشيطان ، ورأيته يعض على إصبعه .
ويقول : فتني يا احمد ، فتني يا احمد ، يعني : هربت مني ، فقد فتنت الناس إلا أنت ، فيقول الإمام احمد : لا بعد ، يعني : انتظر فإني أخاف على نفسي ، فقبضه الله عز وجل .
وكانت آخر كلماته : اللهم اعف عن من ظلمني ، اللهم اعف عن من شتمني ،اللهم سامح من ضربني ، اللهم سامح من سجنني ، إلا صاحب بدعة يكيد بها دينك ، فلا تسامحه ، وقبضت روحه ، رضي الله عنه وأرضاه .
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر فليس لعين لم يفض ماؤها عذر
فأمر المتوكل أن يشعوا الجنازة ، ففتحت الثكنات العسكرية لجيش الخليفة ، وبقي الناس يتوضؤون من الضحى إلى صلاة العصر ، وحملت الجنازة ، وارتفعت في الصباح من بيته ، ووصلت إلى مصلاها قريبا من ضاحية بغداد في العصر من كثرة الزحام .
شيعه كما يقول أهل العلم : مليون وثلاثمائة ألف كما أثبتت ذلك التواريخ ، وتوقف اليهود والنصارى من بيعهم ذاك اليوم ، وهبت ريح على بغداد ، حتى قال بعض الجهلة : قامت القيامة ، وخرج الجيش ، وقوامه : تسعون ألفا في مقدمة الناس ، يرتبون الصفوف ، وترددت بغداد بالبكاء من أولها لآخرها ، ووصلت جنازته حتى قال بعض أهل التاريخ : كانت تذهب الجنازة على رؤوس الناس تحمل بالأصابع ، وتعود إلى المؤخرة ، وتذهب وتأتي ، فملا وضعت ارتفع البكاء ، وقام الناس يصلون عليها )يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) (الفجر:27) )ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً) (الفجر:28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي) (الفجر:29))وَادْخُلِي جَنَّتِي) (الفجر:30) .
دفن ، لكن ما دفن علمه ، ولا تواضعه ، ولا زهده ، ولا ذكره الحسن ؛ فقد ابقى الله له ذكرا إلى قيام الساعة .
قال ابن كثير : رآه أحد الصالحين ، فقال : ما فعل الله بك ؟ قال : ناداني ، فقال : يا عبد الله ، الحق بابي عبد الله وأبى عبد الله وأبي عبد الله .
قلت : من هم ؟
قال : الشافعي ، وسفيان الثوري ، والإمام مال . )أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ) (الاحقاف:16)
دروس من سيرة الإمام احمد :
الدرس الأول : من سريته ، رحمه الله ، أن الرفعة من الواحد الأحد وان من يحفظ الله يحفظه .
الدرس الثاني : أن الدنيا لا تساوي جناح بعوضة وقد خلقها وما التفت إليها منذ خلقها .
الدرس الثالث : أن العلم النافع : العلم الصحيح ، العلم القويم ، كتاب الله وسنة رسوله r .
الدرس الرابع : أن من أراد الرفعة ، ومن أراد المنزلة ، ومن أراد المكانة عند الله ، فعليه أن يتواضع ، وعليه أن ينزل نفسه ، وعليه أن يلغي اعتباراته ليرفعه الله .
الدرس الخامس : انك كلما سجدت لله سجدة ، رفعك بها درجة ، وهذا الإمام يصلي لله كل يوم ثلاثمائة ركعة ؛ لأن كل سجدة بدرجة عند الواحد الأحد .
الدرس السادس : أن في سير هؤلاء زكاة للقلب ، وتربية للروح وهداية إلى الواحد الأحد ، فطالعوا أخبارهم ، وتلمحوا سيرهم، وكونوا متشبهين بهم ، لعل الله أن يهدينا وإياكم سواء السبيل .
حياة شيخ الإسلام
ابن تيمية
هو إمام عملاق ، وجهبذ قدير في هذا الدين .
وهو مجدد من المجددين ، وزاهد من الزاهدين ، وعابد من العابدين ، وعالم من العاملين بعلمهم .
هو .. ابن تيمية .(/21)
اسمه : احمد بن عبد السلام ابن تيمية الحراني ، ولد سنة 666 هـ ، وتوفي سنة 728هـ ، ولكن قبل أن نبدأ في ترجمة الرجل ، لا بد أن أبين لكم عناصر لا بد أن تعرفوها :
العلماء هم الدعاة ، والدعاة هم العلماء ، فلا دعوة إلا بعلم ،ولا علم إلا بدعوة .
قال الله تعالى لائما بني إسرائيل ، لما توقف علماؤهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر )لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (المائدة:63)
ويقول سبحانه وتعالى )وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ )(آل عمران: من الآية 187).
العلم الذي لا ينشر بين الناس ،ولا ينفق منه كنز مشؤوم على صاحبه .
يقول الأندلسي أبو إسحاق يوصي ابنه لطلب العلم ،ويمدح العلم :
هو العضب المهند ليس ينبو تصيب به مضارب من ضربت
وكنز لا تخاف عليه لصا خفيف الحمل يوجد حيث كنت
يزيد بكثرة الإنفاق منه وينقص إن به كفا شددت
ولتهاون العلماء بالدعوة هزمت الأمة .
فما تأخرت أمة الإسلام ، ولا انهزمت أمة الإسلام إلا بسبب نكوص العلماء عن إبلاغ دعوة الله ،وعدم جلوسهم مع الأمة .
يقول الله تعالى : )وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ) (لأعراف:175) )وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (لأعراف:176) .
معنى الآية : أن مثل هذا العالم الذي ما نفع نفسه ، ولا نفع الأمة مثل الكلب ، فالكلب تجعله في الشمس أو في الظل فهو يمد لسانه أبدا .
• نشأة ابن تيمية :
ولد في بيت ملتزم ؛ بيت متقي ، بيت عابد زاهد ، يريد وجه الله ، والدار الآخرة .
ومنذ كان عمره ثمانية سنوات ، كان يمرغ وجهه في التراب مع الفجر ويقول : ( يا معلم إبراهيم علمني،ويا مفهم سليمان فهمني ).
فعلمه معلم إبراهيم ، وفهمه مفهم سليمان ،وأعطاه علما لا كالعلوم ،وأعطاه فهما لا كالإفهام .
علم وفهم اخترق بهما ما يقارب سبعة قرون ، حتى اصبح مجددا لمئات السنون ،حتى يقول مستشرق فرنسي يترجم لأبن تيمية : ( ابن تيمية وضع ألغاما في الأرض ، فجر بعضها ابن عبد الوهاب وبقي بعضها لم يفجر ).
***
• مؤهلاته :
أما مؤهلاته في مجال الدعوة فهي خمس مؤهلات :
1- الإخلاص ، والتجرد ،والنصيحة ،وقصد وجه الله عز وجل ، فهو يريد الدار الآخرة ، ويريد ما عند الله ، وهو دائما وأبدا ينصح غيره بأنه ينبغي الاعتناء بقوله صلى الله عليه وسلم : (( ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم ، إخلاص العمل لوجه الله ، ومناصحة ولاة الأمور ،ولزوم جماعة المسلمين فإن دعوتهم تحيد من وراءهم )).
ويقول ابن تيمية : بعض الناس يتعصب لهوى ، أو مذهب ،أو طائفة ، أو حزب ،فيجعلها هي المقصود بالدعوة ،وهذا خطأ بين ، أن المقصود بالدعوة ، هو : الله سبحانه وتعالى ، وليس الحزب ،وليست الطائفة، وليست الفرقة ، وليس الرأي الذي يدعو إليه .
ويقول أيضاً من أراد المنصب فليعلم انه لا يحصل على منصب أعلى من فرعون ،ولكن أين فرعون ؟ انه يعرض على النار غدوا وعشيا . ) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)(غافر: من الآية 46) .
وإن كنت تريد المال ، فاعلم أن قارون حصل على مال كثير ، لا تحصل عليه أنت ، خسف به الله الأرض، فماذا نفعل ؟
قال : فعليك بإخلاص العمل لوجه الله، فإن وجهه هو الباقي وما سواه فإني.
2- من مؤهلات ابن تيمية : العمل بعلمه ، وتقواه لربه تبارك وتعالى ، فعلم ليس فيه عمل ، وليس فيه خشية ، وليس فيه امتثال ، إنما هو معلومات مجردة يحفظها الإنسان في ذهنه ، ولا تنفعه أبدا ، ولا تقربه من الله سبحانه وتعالى .
فأما عمله – أي :ابن تيمية – بعلمه فله جوانب :
الأول : الزهد ،فقد كان منقطع النظير في الزهد ، فما تولى منصبا في حياته على الإطلاق .
وكان له ثوب ابيض دائم ، وله عمامة بيضاء ،وكان ربما يرتدي في البرد ثوبين .
يقال : مر في سكة من سكك دمشق ، فمر به سائل يسأله فبحث في جيوبه ، فلم يجد شيئا من الدراهم ،ولا الدنانير ، فاختفى وراء سور هناك ثم خلع ثوبه الأعلى وأعطاه المسكين !!
يقول صاحب (( الأعلام العلية )): تأتيه الدنيا ؛ الذهب والفضة والخيول والحواري ، الى غير ذلك ،فينفقها في ساعتها ،ولا يدخل ولو درهما عنده .
الثاني : في الشجاعة : فقد وقف مع سلطان المغول ، لما دخل دمشق ، وحدثه بقوة وجرأة منقطعة النظير .(/22)
ولما دخل التتار بلاد المسلمين ،جمع الناس ، وقام وسل سيفه. وقال : أيها الناس ،افطروا هذا اليوم – ليتقووا على القتال – ثم تناول كوبا من الماء ، فأفطر أمام الناس ، فأفطروا ، ثم قال للسلطان : عليك أن تنزل الجيش من الثكنات للقتال ، فأنزل السلطان الجيش ، وبدأت المعركة ،وشيخ الإسلام في المقدمة .
وكان يقول : والله ، لننتصر في هذا اليوم ، فيقول تلاميذه له : قل إن شاء الله .
قال : تحقيقا لا تعليقاً.
أما مؤهلاته في عالم الأخلاق ، فان الله قد آتاه الخلق الحسن ، لولا الحدة التي تعريه ، والحدة في الرجل لقوته ،حتى يقول شاعر اليمن يمدح شيخ الإسلام .
وقاد ذهن إذا سالت قريحته يكاد يخشى عليه من تلهبه
وقد كان عنده من الصبر الشيء العجيب
يقول ابن القيم : مات أحد أعدائه من العلماء فأتيت أبشره .
قال : فاحمر وجهه ودمعت عيناه ،وقال : تبشرني بموت مسلم ، ثم قام فقمنا معه ، حتى ذهب إلى بيت خصمه ،فعزى أهله ودعا لميتهم ، فبكى أهل بيته ، وتأثروا من هذا الموقف ، بالأمس كان أبوهم ألد الأعداء لابن تيمية ، واليوم يقول ابن تيمية هذه الكلمات الطيبة . ) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)(فصلت: من الآية 34).
3- المؤهل الثالث لابن تيمية في مجال دعوته : اعتصامه بالكتاب والسنة ، ومن ضمن أقواله : وعلى طالب العلم : أن يعتصم بدليل في كل مسالة ، وان يترك كل دليل ،أو كل رأي يخالف ما فهمه من كلام المصطفى r ، فإنه المعصوم .
ولما اعتصم بالكتاب والسنة ، رزقه الله سبحانه وتعالى تمييزا وذكاء وفهما .
ويقول : أهل السنة والجماعة وسط في الأسماء والصفات ، ووسط في الوعد والوعيد ، ووسط في الإيمان ، ووسط في القدر ، ووسط في الأمر بالمعروف ،ووسط في الفقه .
4- العامل الرابع من عوامل مؤهلاته في عالم الدعوة : صدق اللجوء وقوة التوكل .
فقد كان يذكر الله بعد صلاة الفجر دائما ، هذا غذاؤه .
ويقول: لو لم أذكر الله لخارت قواي .
ويقول لابن القيم: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة .
ويقول : إنها لتصعب على المسالة، فاستغفر الله ألف مرة،أو اقل أو أكثر ، فيفتحها الله علي .
ولذلك أورد عنه ابن القيم في (( مدارج السالكين)) انه أن يقول : يا حي يا قيوم ،لا إله إلا أنت برحمتك ،أستغيث أربعين مرة ،أو أكثر أو اقل .
وذكر عنه الذهبي : أن عيناه كانت كأنها لسانان ناطقان من كثرة الذكر .
وقال الذهبي عنه : لو حلفت بين الركن والمقام إني ما رأيت كابن تيمية لصدقت ، ولو حلفت من الركن والمقام انه ما رأى مثل نفسه لصدقت .
وقال له تلاميذه : نراك ما يفتر لسانك من ذكر الله .
قال : قلبي كالسمكة ، إذا خرجت من الماء ماتت ، وقلبي إذا تركته من الذكر مات !
ويقول ابن القيم عنه : رأيته في السجن ،وهو ساجد يبكي ،ويقول : اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك . يرددها طويلا .
وأما صلاته ، فكان يصلي في بعض الأحيان بالناس في مسجد بني أمية في دمشق ، فكان إذا قال : ( الله أكبر ) رفع صوته حتى سمعه من في الطرقات ، فتكاد تنخلع القلوب إذا كبر .
ويروي ابن القيم في ( روضة المحبين ) ، عن تقي الدين بن شقير ،انه رأى شيخ الإسلام ابن تيمية صلى صلاة العصر في مسجد بني أمية ، ثم خرج إلى الصحراء وحده ، قال تقي الدين بن شقير وكان من تلاميذه : فخرجت وراءه ، حيث أراه ، ولا يراني ، فلما توسط الصحراء رفع طرفه إلى السماء وقال : لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، ثم بكى ثم قال :
وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس بالسر خاليا
ولذلك يقول ابن رجب :أن من الأسباب التي حمته ومنعته من كيد الأعداء : كثرة الذكر والأوراد ؛ التي ما كان يخل بها .
5- العامل الخامس : من مؤهلات ابن تيمية ، رحمه الله ، في مجال دعوته معرفته الواسعة بحال عصره وواقع أمته .
فبعض الناس يعيش في هذا العصر ، وكأنه يعيش في القرآن الثالث ، ولكن ابن تيمية يعيش في القرن السابع ، ويعرف مشاكله ،ومتطلباته ، وماذا يريد منه أنباء العصر ، ولذلك عرف الكتاب ولسنة ،وعرف هذا الدين ثم أتى يتكلم بهما للناس بما يحتاجه العصر .
ولذلك كتبه تدل على هذا ،ويأتي على رأسها كتاب (( اقتضاء الصراط المستقيم ))، الذي سماه محمد حامد الفقي ( القنبلة الذرية) !! فهذا الكتاب ألفه ليواجه به الجاهلية التي كانت في عصره .
فمعرفته لواقعه ، وحال عصره ،أفاده بان يضع الدواء على الداء فنفعه الله في ذلك ، وقد حل كثيرا من مشكلات عصره ، وصحح كثيرا من الأخطاء التي عاشها في عصره ، وعالج كثيرا من الأمراض التي رآها في عصره، رحمه الله رحمة واسعة .
*وسائل دعوة ابن تيمية
هي وسيلتان :
الوسيلة الأولى : التأليف وهي على ثلاث نواحي :
الرسائل .
الردود .
والمصنفات الكبار .(/23)
فالرسائل ؛ كأن يسأل عن قضية ، فيجيب عليها رحمه الله ( الكحموية ) لأهل حماه ، ( والوسطية ) لأهل واسط ، ( والتدمرية ) لأهل تدمر ، فيرسل الرسائل إلى الناس ينفعهم بها ، ويفيدهم ، ويقودهم إلى الله عز وجل .
أما الردود ، كان دائما يرد الفكر والشبه التي تؤثر في أصول الدين ككتاب 0 (الصارم المسلول ) ، وسببه : أنه سمع نصرانيا يشتم الرسول صلى الله عليه وسلم ، فذهب إلى السلطان فشكى النصراني .
فأتى العوام ، فقالوا :الحق مع النصراني ، والخطأ على ابن تيمية !! فجلده السلطان في المجلس !! ولكن :
إن كان سركم ما قال حاسدنا فما لجرح إذا أرضاكم ألم
فما دام أن الجلد في سبيل الله، فأهلا به وسهلا ، فخرج غاضبا من المجلس وكتب : ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) فأبدع في هذا الكتاب . ورد فيه على اليهود والنصارى .
ومن الردود : (( الرد على الأخنائي )) ، رد عليه في (( مسالة الزيارة )) ورد على السبكي في (( مسالة الزيارة)).
ومن الردود : (( منهاج السنة )) ، رد فيه على الشيعة الرافضة .
أما المصنفات الكبار : فككتاب ( درء تعارض العقل والنقل ) ، وهذا الكتاب من يقرؤه فهو من أذكياء العالم !
يقول ابن القيم : ما طرق العالم مثل هذا الكتاب .
الوسيلة الثانية :
اللقاء مع الناس ، فقد التقى مع العلماء ،والتقى مع السلاطين ،والتقى مع عامة الناس .
فأما العلماء : فكان يلتقي معهم ، ويناظرهم ، ويباحثهم ، وهذا مستفيض من سيرته .
والتقى مع سلطان الشام ، وسلطان التتار وغيرهم .
وأما العوام : ففي دروسه في المساجد ، وفي الفتاوى ، التي ترده منهم .
***
1- وقوف السلاطين مع خصومه .
2- جرأته وحدته التي خسر بها كثيرا ممن كادوا أن يناصروه .
3- خطورة القضايا التي عالجها ، فقد تكلم كثيرا في الأصول .
4- كثرة الخصوم وتعدد الجبهات التي واجهها( الشيعة ، الأشاعرة ،اليهود والنصارى ، الصوفية ، المقلدة ، السلاطين ... إلخ ).
5- الحبس والسجن ، ولكنه ما ازداد به إلا قوة وصلابة .
6- الجلد والتشهير ، فقد جلد ، وشهر به ، وتكلم في عرضه في كل مجلس .
ولكن في الختام ، كان نجاح منقطع النظير يحققه ابن تيمية في عالم الدعوة ، وينتهي إلى أن يعقد الإجماع من قلوب الموحدين من الأمة على انه هو رجل الساعة في فترته .
وتحيا كتبه قرونا طويلة تحيي قلوب المجتهدين والعاملين للإسلام .. ليرتفعوا رفعته .
والله اعلم ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آهل وأصحابه أجمعين ، والحمد لله رب العالمين .
وكتب
د. عائض بن عبد الله القرني
________________________________________
[1] رواه البخاري [67] ومسلم [1679] عن أبي بكرة ، رضي الله عنه .
2 رواه البخاري (2652) ، ومسلم (2533)
3 رقم (2531).
[4] - رواه الإمام احمد [3791] عنه وسنده حسن
[5] - انظر كتاب ( الجرح والتعديل )) (1/7).
[6] رواه البخاري (6167) ، ومسلم (2639) عن انس بن مالك ، رضي الله عنه .
[7] أنظر القصة في (( الاصابة )) (6053 ).
[8] أنظر القصة في (( سيرة ابن هشام )) (1/382).
[9] متفق عليه
2 صحيح ، رواه أحمد (2/304 ، 327) ،والبخاري في (( التاريخ الكبير )) (6/303) ، والنسائي في (( فضائل الصحابة )) (195) ، والحاكم (3/268) ، والطبراني في (( الأوسط )) (7/28) ، وابن أبي عاصم في (( الأحاد والمثاني ))(2/99) ، جميعا من حديث محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة به . وصححه الحاكم عل شرط مسلم ، وأقره الذهبي ، وانظر (( مجمع الزوائد )) (9/352).
[11] متفق عليه .
[12] صحيح ، اخرجه الطيالي (1061) ، وابن أبي شيبة (22182) ،وأحمد (4/202) ، والبخاري في (( الأدب المفرد )) (299) ، وأبو يعلى (7336) ، وابن حبان (3211- إحسان ) ، والحاكم (2/2) ، جميعا من حديث موسى بن علي ، عن أبيه ، عن عمرو بن العاص به . وصححه الحاكم على شرط مسلم وأقره الذهبي ، وهو كما قالا ، فرجاله كلهم ثقات على رسم مسلم في (( صحيحه )).
[13] صحيح ، رواه أحمد (4/203) ، وصححه الألباني في (( الإرواء )) (154).
[14] انظر : القصة في (( الإصابة )) (957) وأصلها في (( الصحيح )) بنحوها.
[15] متفق عليه
[16] انظر : قصة إسلامه في (( الإصابة )) (2897) ، وقد صححها الحافظ.
[17] رواه مسلم.
[18] رواه الترمذي (3736) ، والحاكم (3/242) وصححه وتعقبه الذهبي بقوله : لكنه منقطع ، وفي ثبوت الحديث بحث .
[19] وقد ذكر ابن الجوزي وغيره ، انه تاب وحسن إسلامه ، ثم أسلمت امرأته النصرانية.
[20] متفق عليه .
[21] صحيح ، رواه الترمذي ، وابن ماجه ، وصححه الألباني في الصحيحة (944).
[22] حسن ، رواه ابن ماجه (4112) ، وحسنه الألباني في المشكاة (5176).
[23] صحيح ، رواه الترمذي ، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (943).
[24] صحيح ، رواه أبو داود (4344) ، وابن ماجة (4011).
[25] صحيح ، رواه احمد ، وأصله في (( الصحيحين )) ، من حديثه ، رضي الله عنه .(/24)
سَقَطَت بغداد .. وصَمَدَت الفلّوجة !..
الفلوجة !.. هذه القطرة في بحر العالم العربيّ والإسلاميّ، قهرت العدوّ الذي لا يُقهر، وأعادت صياغة تاريخنا الحديث بِسِفْرٍ من دمٍ ونور، وحروفٍ من ملاحم البطولة والكرامة !..
فلوجة العزّ .. قاومت الجيش المدجّج بالحقد والسلاح الحديث وأدوات القتل المعاصرة .. قاومت حتى الرمق الأخير، لكنه رَمَق العدوّ هذه المرة !.. الذي هُزِمَ صاغراً مُهاناً أمام بأس المجاهدين الحقيقيين، فَشَاهَتْ وجوه الطواويس المندحرة، التي كانت بالأمس
تنفش ريشها زهوّاً باحتلال عاصمة الخلافة، واستجْدَت الهدنةَ من الفلوجة، ريثما تلتقط تلك الطواويس أنفاسها المتبقّية، لِلَمْلَمَةِ هزيمتها المنكَرَة وفضيحتها المجلجِلة، ولكسب بعض الوقت اللازم للفرار من الجحيم الفلّوجيّ !..
فلوجة الإباء .. صمدت شامخةً، فدحرت جيوشَ الإمبراطورية العظمى في ستة أيام، هي نفس المدة التي اندحرت خلالها جيوش الزيف العربية في حزيران الأسْوَد عام سبعةٍ وستين وتسع مئةٍ وألف !..
فلوجة الكرامة .. حقّقت أسطورة (التوازن الاستراتيجيّ) أمام العدوّ، الذي قَدِمَ لاغتيال حاضرنا، وصياغة مستقبلنا كما لو كنا شِياهاً لا نصلح إلا للذبح والسلخ، فالتوازن الذي عَرَفَته الفلوجة جيداً أساسه : التوازن في الرعب !..
فلّوجة الكبرياء .. دخلت التاريخ من بابه الواسع، بل دخل التاريخ -تاريخنا- من بوّابتها، فلم تستسلم بحجة تكاثر أعداد شهدائها وجرحاها، ولم تخضع بحجة الحصار والدمار وأشلاء نسائها وأطفالها، ولم تسقط بحجة التباين الهائل مع العدوّ في ميزان القوّة المادية .. بل أسقطت أوراقَ (التين) التي تختفي وراءها الجيوش العربية والإسلامية المكدّسة !.. وكبّدت العدوّ الغاشم خسائر لم يتكبّدها بجيوش الزيف والاستخذاء، التي ادّخرها المنهزمون لقمعنا وسحقنا، ولتمزيق حاضرنا ومستقبلنا، ولتكميم أفواهنا وقتل مروءتنا، ولِهَتك قِيَمِنا وأخلاقنا .. باسم تحريرنا !..
فلوجة الجهاد .. فضحت نواطير أميركة وحلفاءها العلنيّين والسريّين !.. ووقّعت بالدم والنار على موت مروءة الأنظمة العربية ووفاة نخوتها، مع موت جيوشها التي ملأت الشوارع والساحات في المدن والقرى العربية، واتخذت مواقعها فوق صدورنا وأفواهنا، لقمعنا وإسكاتنا وقهرنا .. بدلاً من مَلء سوح الوغى والجهاد، لدفع الظلم والذلّ عن كاهل أمّتنا وحاضرنا ومستقبلنا !..
الفلّوجة بذرة العزّ والتحرير .. ستنبت بإذن الله، وستُزهر جهاداً ومقاومة، وستُثمر إصراراً عظيماً على نهج أنّ الحقوق تُنْتَزَع -بالجهاد والشهادة والدم والروح- ولا تُسْتَجْدَى !..
بغداد عاصمة المنصور والرشيد .. أُسقِطَت بالديكتاتورية والقهر والبطش والاستبداد وسياسات الإقصاء، وبالحكم بغير ما أنزل الله .. قبل أن تُسقَطَ وتُغتَصَبَ في التاسع من نيسان 2003م بدبّابتَيْن غازيتَيْن تزهوان فوق (جسر الجمهورية)!.. لكنّ فلّوجة الإسلام والحرية الحقيقية أعادت عقارب الساعة إلى الوراء رغماً عنها، بالجهاد والاستشهاد والإيمان وينابيع الدم الدافقة، فغسلت العار الذي لا يُغسَل إلا بالدم !.. فهل يُستَوْعَب الدرس يا حكّام العرب والمسلمين، ويا أمّة المليارَيْن التي وُلِدَت اليوم هناك .. في الفلوجة الأبيّة ؟!..
(الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً)
(النساء:76)
12 من نيسان 2004م
بقلم : الدكتور محمد بسام يوسف(/1)
سُخف الفلسفة الوضعيّة
أ. د. عماد الدين خليل 10/7/1426
15/08/2005
- 1 -
للوهلة الأولى، ومن خلال الألغاز والمعمّيات التي تعتمدها الفلسفات الغربية الوضعية(1) ، وتحيط نفسها بها .. من خلال حملات الإكبار والتقدير التي انصبت على شخصيات الفلاسفة من كل مكان .. من خلال مركب نقصنا الحضاري الذي خيل إلينا كما لو كان الفيلسوف الغربي إنساناً غير عادي، إنساناً ذا قامة مرتفعة وفكر خلاّق يجتاز المغاليق، ورؤية للكون والحياة لا تقبل خطأ على الإطلاق ..
- 2 -
للوهلة الأولى تتبدى الفلسفات الغربية للمرء بحجم أكبر بكثير من حجمها الحقيقي وبريق يكاد يسلب العين القدرة على الإبصار.
وكلنا نذكر ما كان يفعله مدرسونا في الإعداديات، وهم يحكون لنا عن هذا الفيلسوف الغربي أو ذاك من خلال مادة (التاريخ الأوروبي) .. بوجل وانكماش .. بتقدير مبالغ فيه يصل حد التضاؤل والصغار، ونذكر كذلك طبقة من الأساتذة الجامعيين أعمق ثقافة من المدرسين وأكثر تخصصاً، كانت هي الأخرى تحدثنا عن الفلسفة الغربية، كما لو كانت حقاً مطلقاً لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه ..
ولا زلت أذكر مدرس التاريخ في الإعدادية، وهو يخطو بحذر وتريّث خلال شرحه لفقرات في الكتاب خُصصت للفيلسوف الإلماني (هيغل) ولفلسفته المثالية، وكنا نحن نقول في أنفسنا: إذا كان مدرس المادة غير قدير على اقتحام بحر (هيغل) العميق فأنى لنا أن نجتازه بعقلياتنا الساذجة وثقافتنا المتواضعة؟
ولا زلت أذكر كذلك أستاذ الفلسفة في كلية التربية، وهو يحدثنا عن الفلسفة المثالية لهيغل، كيف أنه أراد أن يعطينا جانباً من فلسفته كما لو كانت مسلمات مطلقة، ولكنها مسلمات غامضة، معمّاة، ما كانت تزيد الرجل وفلسفته في نفوسنا إلا إجلالاً وإكباراً!!
- 3 -
وما كان الأمر بهذا الذي تصورناه أو صُوّر لنا، وما هكذا يجب أن يكون .. فإن المثقف المسلم على وجه التحديد- ناهيك عن المتخصصين منهم- يتحتم أن يمتلك ابتداء .. نعم (ابتداء) .. ما يمكن تسميته بالنظرة الفوقيّة المستقلة الواثقة التي ينظر بها، ويقيس ويزن كل ما يقوله العقل البشري شرقياً كان أم غربياً، ولا يسلّم بسهولة حتى لو طرحه أعظم الفلاسفة والمفكرين .. كما أنه يتحتم ألاّ يشعر إزاءه بأي قدر من النقص أو الإعجاب المفرط الذي قد يجنح به بعيداً عن الموقف العلمي الذي يتطلبه منه هذا الدين.
إن المسلم ينظر بنور الله، ويعاين الأشياء بتعاليم الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم- ويزن بموازين الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فكيف تسوّغ له نفسه أن ينزل عن موقعه العالي هذا، عن استشرافه من الآفاق المفتوحة، إلى الحفر الضيقة والمسالك المتداخلة والشعاب المسدودة لفكر هذا الرجل أو ذاك مما قد يتضمن الكثير من الخطأ والانحراف والفساد؟
- 4 -
وثمة بداهة قد نغفل عنها لوضوحها في كثير من الأحيان، وهي أن الفلسفة الوضعية لو كانت حقاً مطلقاً كما صُوّر لنا وخُيل إلينا، لما نقض بعضها بعضاً، وهاجم بعضها بعضاً، ونفى بعضها بعضاً .. ولما شهدت ساحات الفكر والثقافة عشرات، بل مئات وألوف، من الفلاسفة كان يحلو لكل واحد منهم أن يطرح ادّعاء تقليدياَ أصبح بمثابة القاعدة التي يحذو حذوها الجميع: إن ما تقوله فلسفته هو الحق المطلق، وإن ما وراءها من فلسفات لا يعدو أن يكون خدعة وضلالاً، أو هو - على أحسن الأحوال - محاولات تتضمن الكثير من الشروخ والأخطاء ..
- 5 -
في كتاب الأديب الفرنسي (اندريه موروا) عن حياة الروائي الروسي الشهير
(ايفان تورجنيف) نقرأ هذا المقطع: " في غضون السنوات التي أمضاها تورجنيف في ألمانيا كان هيغل الفيلسوف الذي يلتف حوله المثقفون الروس؛ لأنه كان يقول بأن كل ما هو حقيقي نابع من العقل في الوقت الذي كان فيه هؤلاء يقبلون المجتمع كما وضعه التاريخ. ذلك أن الناس يطلبون دائماً من كل مذهب أن يكون دليلاً عقلياً على مشاعرهم وأعمالهم!!
فالشباب الروسي الذي كان يخضع في سنة 1840م للقيصر كان يعرف أنه مستبد، ولكنه كان يعبده على الرغم منه، وهذا الشباب كان يتوهم بأنه واجد في (فلسفة الحق) لهيغل حججاً وأسانيد لتعليل خضوعه.. كانوا يقولون له: إن الدولة كيان حي، وهي هي كما أوجدها التاريخ، ولا يستطيع فرد أو مجموعة لن يغيرها تبعاً لأهوائه. وهكذا لا يوجد مجال للمناقشة في ضرورة الطاعة المطلقة للقيصر فذلك أمر واضح جليّ في حد ذاته" .(/1)
ويمضي موروا إلى القول بأن " تلك كانت نظرية هيغل كما رأتها جماعة اليمين على أن هرزن - الذي يمثل جماعة اليسار- كان يتبين أنه يمكن أن يستمد من هيغل بالذات الدليل على شرعية كل مقاومة للأوتوقراطية؛ إذ لو صح أن كل ما هو حقيقي نابع من العقل، فالثوري - إذ يوجد - يعدّ جزءاً من التاريخ (إذا كان العقل يعزز النظام الاجتماعي القائم، فإن كل مقاومة له ما دامت موجودة تعدّ معززة كذلك) . وهكذا تشكلت من فلسفة هيغل صورة أخرى أخذت بها جماعة اليسار) (2).
- 6 -
وهكذا استعملت فلسفة هيغل لتبرير موقف اليمين الخاضع للقيصر، ولتبرير موقف اليسار الثائر على القيصر ..
وهذه الميوعة الفكرية التي نجدها هنا تتارجح ذات اليمين وذات الشمال لا تقتصر على الفلسفة المثالية التي وصفها ماركس وإنغلز بأنها تمشي على رأسها، فحسب، ولكنها تنسحب على الفلسفة المادية نفسها التي صاغها ماركس وإنغلز. فإنك واجد فيها ما يسوق الشيوعيين لمساندة وضع ما، وواجد فيها - كذلك - ما يدفعهم الى الثورة عليه والإطاحة
به ..
وهم يبررون هذا وذاك بأنه (التكتيك) الذي يخدم الإستراتيجية في نهاية المطاف.
اقرأ - على سبيل المثال - ما يقوله الأديب المجري المعروف (ارثر كوستلر) الذي خبر الماركسية بانتمائه إليها السنين الطوال، ثم ما لبث أن ارتد عنها بسبب ما وجده فيها من عيوب وتناقضات .. إنه يقول فيما نحن بصدده: (كانوا يلجؤون أحياناً، إلى نبذ الحقائق وإغفالها بحيلة بسيطة تتلخص في وضع الكلمة بين قوسين، وإعطائها جواً من السخرية والمرارة (ماضي تروتسكي الثوري)، الهذيان (الإنساني) للصحافة
(الحرة) .. إلى آخره. وكان هذا الأسلوب لشدة إملاله يفعل في النفس فعل التنويم المغناطيسي. إن ساعة من هذا الهذيان (المنطقي الجدلي كانت تدع الإنسان لا يدري أفتى هو أم فتاة، وتجعله مستعداً لاعتناق أي منهما بمجرد ظهور الأخرى بين قوسين. لقد كنا على استعداد لأن نؤمن بأن الاشتراكيين هم ( أ ) أعداؤنا الحقيقيون ( ب ) حلفاؤنا
الطبيعيون، وأن الدول الاشتراكية والدول الرأسمالية (أ) يمكنها أن تعيش مع بعضها
بسلام ، ( ب ) لا يمكنها أن تعيش مع بعضها بسلام، وأن إنغلز عندما قال: إنه لا يمكن قيام الاشتراكية في دولة بمفردها كان يعني عكس ذلك تماماً. بل لقد تعلم الواحد منا أن يبرهن بالاستدلال المنطقي على أن كل من يخالفه في الرأي هو عميل للفاشية لأنه (أ) لمخالفته لك في الرأي يساعد على تفتيت وحدة الحزب (ب) وبعمله على تفتيت وحدة الحزب يساعد على انتصار الفاشية فهو إذن (حـ) من الناحية الموضوعية عميل للفاشية، ولو كان من الناحية الشخصية قد تعرّض للتعذيب في معسكرات الاعتقال على أيدي الفاشيين. إن كلمات
(عميل) أو (الديمقراطية) أو (الحرية) الخ .. كانت تعني عندنا في الحزب شيئاً آخر يختلف تماماً عن معناها في الاستعمال العام، بل كان معناها عندنا يتغير بعد كل تحوّل في سياسة الحزب، فكان موقفنا من هذه التغييرات كموقف اللاعبين في لعبة الكروكي (التي يقوم اللاعبون فيها بضرب كرات من خشب بمضارب في أيديهم لكي تمر من أطواق خشبية ثابتة)، بين الملكة وأتباعها حيث كانت الأطواق تنتقل عبر الملعب، والكرات قنافذ حية، مع اختلاف واحد هو أن اللاعب عندنا إذا أخطأ وأضاع دوره وقالت الملكة: (اقطعوا رأسه) كان الأمر ينفذ بكل جد))( (3).
- 7 -
إن هذا التميع في الموقف إزاء الحقائق، واتخاذ زوايا نظر مختلفة، بل متضادة يذكرنا بموقف القادة الماركسيين من مسألة الجنس والزواج، فيما تناولناه بشيء من التفصيل في مكان آخر، فقد عدّوه في البدء رذيلة بورجوازية تصديقاً لما قاله ماركس وإنغلز، ثم لما شاع الزنا في الاتحاد السوفييتي عبر سني تأسيسه الأولى، وفاض الكأس، وأعلن لينين تصريحه الشهير الذي هاجم فيه هذا التصور وحث على العودة إلى الزواج كأفضل صيغة للعلاقات الجنسية، عاد الماركسيون فأكدوا ضرورة (الزواج) كمؤسسة محتومة في العلاقات الاجتماعية.
فإذا تساءلت - يقول كوستلر-: " أليست هذه هي الفضيلة البورجوازية التي استنكرناها من قبل؟" قيل لك: " إن هذا التساؤل أيها الرفيق يدل على أنك ما زلت تفكر بالطريقة الآلية لا بالطريقة المنطقية الجدلية، إذاً ما الفرق بين البندقية في يد رجل الشرطة والبندقية في يد عضو الطبقة العاملة الثورية؟ إن الفرق بين البندقية في يد رجل الشرطة والبندقية في يد عضو الطبقة العاملة الثورية، هو أن رجل الشرطة من أعوان الطبقة الحاكمة وبندقيته أداة للعدوان، بينما هذه البندقية نفسها في يد عضو الطبقة العاملة الثورية أداة لتحرير الجماهير المضطهدة. وهذا القول يصدق عن الفرق بين ما يسمونه(/2)
(الفضيلة) البورجوازية وبين الفضيلة العمالية. إن نظام الزواج الذي يُعدّ في المجتمع الرأسمالي مظهراً من مظاهر الفساد والتحلل يتحوّل (منطقياً) إلى عكس ذلك في المجتمع العمالي السليم، فهل فهمت أيها الرفيق أم تحب أن أعيد جوابي بطريقة محكمة أكثر من
هذه ؟)( (4).
- 8 -
ويتذكر المرء الآية القرآنية الكريمة (إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى)(5) فكأنها قد تنزلت لكي تدمغ هذه الظنون والأهواء البشرية .. فما يلبث إلا أن يزداد اعتداداً بموقفه الإيماني واعتزازاً بعلمه الإلهي وموقعه الفوقي الذي
يمنحه - بالتصور العقديّ المتكامل - السيادة على العالمين!
________________________________________
(1) نعتمد هنا المدلول اللغوي لا الاصطلاحي للكلمة والمقصود الفلسفات التي هي من وضع البشر .
(2) مطبوعات كتابي ، العدد 55 ، ص 26-27 ، من المقدمة .
(3) الصنم الذي هوى ، ترجمة فؤاد حمودة ، ص 58 - 59 (دمشق - 1960 ) .
(4) المرجع السابق ص : 57 - 58 .
(5) سورة النجم ، الآية : 23.(/3)
سُكَّانُ القِمَمِ
رئيسي :الرقائق :الخميس 11 صفر 1425هـ - 1ابريل 2004م
في الأرض قمم شامخة، وفي السماء نسور تحلق، وتزاحم النجوم، وفي المقابل نرى من يزحف في بطون الأودية, أو يدفن رأسه في التراب كالنعام.. واذا نظرت في الحياة، فسترى قيمًا عالية، وأخلاقا رفيعة، وفى المقابل، ترى سفاسف دنيئة، وقيمًا وضيعة، والناس كالطيور، منهم من يحلق هنا وهناك، ومنهم من يلتصق بهذه، أو تلك،
قال ابن الجوزى رحمه الله : وتلمح سير الكاملين في العلم والعمل، ولا تقنع بالدون، فقد قال الشاعر:
ولم أر في عيوب الناس شيئًا كنقص القادرين على التمام
فمن هم سكان القمم؟هل هم بشر كسائر البشر؟ أم يعيشون على كوكب آخر؟
إن سكان القمم أناس مثلنا، يعيشون على هذه الأرض بأجسامهم، لكن هممهم وعزائمهم تحلق في السماء.
سكان القمم لا يرضون لأنفسهم من كل شيء إلا أحسنه، ومن كل أمر إلا أتمه وأجمله، وقد قيل قديمًا:'قدر الرجل على قدر همته'. فمن كان عالي الهمة؛ كان عالي القدر..فبادر ولا يقعد بك العجز عن المكرمات، حاول أن تكون من سكان القمم، وابذل في تحصيله كل غال ورخيص، ولا تدخر في ذلك أي نفيس.
لكل مُجِدٍّ مكافأة تليق بمقامه:
فمن جدَّ في العلم؛ كوفئ باحتياج الناس إليه.. ومن جدَّ في بذل المعروف كوفىء بثناء الناس عليه.. ومن كان همّه ما يأكله.. كان قيمته ما يخرجه، فأين طلاب المعالي؟ أين أصحاب الهمم العوالى ؟ أين من يحب الله صنيعهم ويبارك مسيرهم؟ لا يسأل الكثير إلا من كان عقله يفكر بالكثير..ولا يطلب العظيم إلا من كانت نفسه تسمو لكل عظيم،
إذا غامرت في شرف مروم فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير كطعم الموت في أمر عظيم
إن حياتك مغامرة كبيرة، وان لحظات عمرك مباراة خطيرة:
فإياك أن تخرج منها خاسرًا، قبل أن تبنى لك بيتًا في الجنة..عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ صَائِمًا] قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَا قَالَ: [فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ جَنَازَةً] قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَا قَالَ: [فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مِسْكِينًا] قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَا قَالَ: [فَمَنْ عَادَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مَرِيضًا] قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ]رواه مسلم.
قال تعالى:{ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ[21]}[سورة الحديد] .
إن المكارم لا تحصل بالمنى لكن لها بالتضحيات سبيلا
فلكم سما للمجد من أجدادنا بطل أقام على السمو دليلا
فسل المعالي عن شجاعة خالد وسل المعارك هل رأته ذليلا
وسل الحضارة إن رأيت بهائها عمن أنار لهديها القنديلا
وسل المكارم والمعالي هل رأت من بعدهم في ذا الزمان مثيلا
هذى المكارم عندهم كبداية لسلوك درب ما يزال طويلا
في الأرض مجدهم ولكن قلبهم لجنة الفردوس رام رحيلا
وخذ المكارم لا تخف أعبائها المكارم لا يكون ثقيلا
روى أن أعرابيًا سال أناسًا من أهل البصرة:من سيد القوم في بلدكم؟ فقالوا: الحسن أي البصري، فقال بم سادهم؟
قالوا: احتاج الناس إلى علمه، واستغنى هو عن دنياهم .
سكان القمم أبعد ما يكونون عن زخارف هذه الدنيا وبهرجها:
الهم الأكبر لسكان القمم هم الآخرة، أما الدنيا فقد استصغروا متاعها، واحتقروا نتائجها، وترفعوا عن الاستباق فيها، فتحرروا من قيودها وهمومها، يقول الحسن رحمه الله:'من نافسك في دينك فنافسه، ومن نافسك في دنياك فألقها في نحره' .
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ كَانَتْ الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ وَمَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ]رواه الترمذي.(/1)
إنه وعيد لمن كانت الدنيا أكبر همه، فهو مقبل عليها بكليته، يجمع حطامها في نهم لا ينقضي، منشغل بذلك عن الآخرة، فمن كانت هذه حاله: عوقب بشتات القلب، فلا يزال لاهثًا وراء المال والمناصب والشهوات، يعب منها لكنه لا يشبع، بل يطلب المزيد، غافلًا عن أنه لا يأتيه إلا ما كتب الله له من الرزق، وأن حاله هذا هو عين الفقر، حيث لا تنتهي حاجته، ولا يحصل له الرضا بما جمع من المال، وهذا معنى: [جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ] .
وفى المقابل حال الرجل الصالح الذي جعل الآخرة همه: فهو في سعى دائم لتحصيل الحسنات، والوصول إلى مرضاة الله، مع حسن توكله على الله، فهذا يجمع الله له أمره، ويرزقه القناعة، وغنى النفس، ويبارك له في ماله، وصحته وأولاده..وهذا هو الغنى الحقيقي.. يقول ابن الجوزى رحمه الله:' يا هذا حب الدنيا أقتل السم، وشرورها أكثر من النمل' .
وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [وَاللَّهِ مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ] رواه مسلم. وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِالسُّوقِ دَاخِلًا مِنْ بَعْضِ الْعَالِيَةِ وَالنَّاسُ كَنَفَتَهُ فَمَرَّ بِجَدْيٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ فَتَنَاوَلَهُ فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ ثُمَّ قَالَ: [أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ] فَقَالُوا مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ وَمَا نَصْنَعُ بِهِ قَالَ: [أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ] قَالُوا وَاللَّهِ لَوْ كَانَ حَيًّا كَانَ عَيْبًا فِيهِ لِأَنَّهُ أَسَكُّ فَكَيْفَ وَهُوَ مَيِّتٌ فَقَالَ: [فَوَاللَّهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ] رواه مسلم.
ونلاحظ في هذه الأحاديث: تحقير شأن الدنيا بجانب شأن الآخرة، فنعيم الدنيا قليل زائل، يشوبه الكدر، إذا سر فيها المرء أمر ساءته أمور، أما نعيم الآخرة، فنعيم كله لا نكد فيه ولا أحزان.
وقد كان صلى الله عليه وسلم القدوة في نظرته إلى الدنيا: فلم يركن إليها ولا تعلق بها، بل كان شأنه فيها كشأن الراكب المسافر الذي استظل في طريقه تحت ظل شجرة ثم قام يواصل سيره، فالدنيا أشبه بتلك الاستراحة العارضة، وكما أن المسافر ليس له هم إلا الوصول إلى غايته، وهى منتهى سفره، فكذلك العاقل الموفق في الدنيا، لا يتعلق بدنيا عارضة زائلة, منشغلًا عن النعيم الخالد في الآخرة
فلو كانت الدنيا جزاء لمحسن إذن لم يكن فيها معاش لظالم
لقد جاع فيها الأنبياء كرامة وقد شبعت فيها بطون البهائم
الأمة الإسلامية تواجه اليوم عدوًا شرسًا، كشر عن أنيابه، وأظهر ما كان مستورًا في فؤاده:
هذا العدو لا يمكن أن يواجه بأناس ذوى همم ضعيفة، تعلقوا بدنياهم.. لا يكسر هذا العدو إلا سكان القمم، لكم أضر بناغياب الزهد عن حياتنا، فالزهد في الدنيا، من أهم مقومات الصراع بين المسلمين وأعدائهم، ومواجهة المكائد والمؤامرات التي يتعرضون لها الآن.
وإن من الغفلة القاتلة أن يظن المسلمون أن عدوهم غافل عنهم، فضلًا عن أن يتوهموا أنه صديق لهم، إن عدونا لا يرضى لنا عودة إلى ديننا تبعث فينا الحياة والقوة، وتفتح أعيننا على مصالحنا، فهل نفيق الآن ونزهد في الترف والراحة، التي لا تثمر إلا الخنوع والضعف، ونعمل لنرد عن الأمة غائلة العدو، ونقطع أطماعه فينا، أم نبقى في ترفنا وترهلنا حتى تأكلنا الذئاب؟!
من أشد ما تصاب به أمة من الأمم أن يكون أفرادها ذووا همم ضعيفة، وعزائم واهنة، وتطلعات قاصرة، يرى أحدهم نفسه قزمًا أمام المتغيرات الكبيرة، والتحولات التاريخية، فلا يفكر في التغيير، ولا البدء في مشاريع مستقبلية. ومن هذا وضعه، كيف يرجى له الشفاء، إذا كان اعتقاده أنه لا يشفى، ذلك أنه أسير تربية ذليلة، لم يقم يومًا بعمل مستقل، أو بعمل تعاوني كبير، لم يتدرب يومًا على القيادة، فإذا فاجأه أمر تقوقع وانزوى؛ لأنه لا يملك الخبرة لإدارته.(/2)
إن أرض الله واسعة لمن يريد الانطلاق، ولمن يريد تأسيس أعمال كبيرة، والطاقات متوافرة، ولكنها بحاجة إلى عزمة أكيدة، وثقة بوعد الله، ولقد بعث الله موسى عليه السلام، ليخرج قومه من الذل والاستعباد، إلى التمكين في الأرض، والاسترواح بشرع الله، ولكن نفوسهم كانت ضعيفة صغيرة، لا تستطيع حمل هذا العمل العظيم، وذلك لما ألفوه من العبودية لفرعون وملأه، فتصاغرت نفوسهم، وهانت عليهم، حتى لم يعودوا يرون أنها جديرة بمرتبة الاستخلاف في الأرض.. لابد أن ينعتق الفرد المسلم من مثل هذه الأجواء التي تقيده وتشعره بضآلته، لابد أن يقتنع الفرد المسلم، بأن عنده طاقات وقدرات، يستطيع بها القيام بأعمال كبيرة، إن معالي الأمور لا يبلغها إلا أصحاب الهمم العالية، والعزائم القوية، فالجنة محفوفة بالمكاره، قال ابن القيم رحمه الله :'علو الهمة لا تقف دون الله تعالى، ولا تتعوض عنه بشيء سواه، ولا ترضى بغيره بدلًا منه، وأعلى الناس همة وارفعهم قدرًا من لذته في معرفة الله ومحبته والشوق إلى لقاءه' . قال الله تعالى:{ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ[58]}[سورة يونس].
كان الأعرابي يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله حفنة من شعير قائلًا: يا محمد أعطني من مال الله فإنه ليس مالك، ولا مال أبيك.. هذه همة، بينما همة ربيعة بن كعب، همة فوق الشمس.. قَالَ رَبِيعَةُ بْنُ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيُّ: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِي: [سَلْ] فَقُلْتُ أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ قَالَ: [أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ] قُلْتُ هُوَ ذَاكَ قَالَ: [ فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ] رواه مسلم. أين كانت تحلق همة ربيعة؟ كانت تحلق في سماء رفيعة، وقمم شاهقة، وكما قال الإمام ابن القيم رحمه الله:' فلله در الهمم .. ما أعجب شأنها! وأشد تفاوتها.. فهمة متعلقة بالعرش، وهمة هائمة حول الأنتان والحش!' .
سكان القمم جِدُّ في السلوك, نشاط في العمل, لا يعرفون التراخي والكسل: ومن سنن الحياة أن الدنيا لا تعطى حصادها، إلا لمن يزرعها, ولا جناها إلا لمن يغرسها، سكان القمم لا ينغمسون في الترف وكثرة المباح، قال ابن القيم رحمه الله:' قال لي شيخ الإسلام قدس الله روحه في شيء من المباح: هذا ينافى المراتب العالية، وان لم يكن تركه شرطًا في النجاة, فالعارف يترك كثيرًا من المباح برزخًا بين الحلال والحرام' .
سكان القمم سباقون إلى الخيرات، مبادرون إلى القربات, لا يفرغ من خير إلا بدأ بخير بعده: لا ينفض يده من عمل إلا وضعها في عمل آخر، يفيد نفسه وينفع أمته، قال أحد السلف:'إذا هممت بخير، فبادر هواك لا يغلبك، وإذا هممت بِشَرٍّ، فَسَوِّفْ هواك لعلك تظفر' .
سكان القمم يتعبون لبلوغ المعالي, ويقاسون المشقة للصعود في درجات الكمال: لكنه تعب يعقبه فرح، ونعيم لا شقاء بعده، يقول ابن القيم رحمه الله:'وقد أجمع عقلاء كل أمة، على أن النعيم لا يدرك بالنعيم، وأن من آثر الراحة، فاتته الراحة، وأن بحسب ركوب الأهوال، واحتمال المشاق، تكون الفرحة واللذة، فلا فرحة لمن لا هَمَّ له، ولا لذة لمن لا صبر له, ولا نعيم لمن لا شقاء له، ولا راحة لمن لا تعب له، بل إذا تعب العبد قليلًا، استراح طويلًا، إنما تخلق اللذة والراحة والنعيم، في دار السلام، وأما في هذه الدار فكلا' .
القمم يسكنها العباد والزهاد، والمجاهدون، والعلماء والدعاة وطلاب العلم: شمر لسكنى القمم السابقون من أنبياء الله، وأصحابهم، ومن سار على نهجهم، إن السكنى في القمم هي الحياة التي من حرمها؛ فهو في جملة الأموات، والنور الساطع الذي يسترشد به الغرباء في بحار ظلمات الدنيا، وهى الشفاء الذي من فقده؛ فقد أصابته جميع الأسقام، وبها تكون اللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام، إذا هممت فبادر، وان عزمت فثابر، واعلم أن لا يدرك المفاخر من رضي بالصف الآخر، يا طالبا للدعة أخطأت الطريق، علة الراحة التعب، إذا لم تكن أسدًا في العزم، ولا غزالًا في السبق، فلا تتثعلب, من خاف ركوب الأهوال، بقي عن إدراك الآمال, من وجد الله، فماذا فقد, ومن فقد الله فماذا وجد
متى صح الود منك فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب
إذا اطَّلَعَ الخبير على الضمير، فلم يجد في الضمير غير الخبير..جعل فيه سراجًا منيرًا.
سكان القمم في كل وقت يقل عددهم، لكن يجل قدرهم: حتى إذا ماتوا فهم أحياء، فكم من أناس موتى، تحيا القلوب بذكرهم, وأناس أحياء تموت، القلوب برؤيتهم،
قال ابن القيم:
تفنى عظام الصب بعد مماته وأشواقه وقف عليه محرم(/3)
وقال الفاروق عمر رضي الله عنه:' لا تصغرن همتك، فإني لم أر أقعد بالرجل، من سقوط همته', وقد قيل:'المرء حيث يجعل نفسه، إن رفعها ارتفعت..وان قصر بها اتضعت'. قال ابن الجو زى:'قال الكلب للأسد يوما: يا سيد السباع، غير اسمي فإنه قبيح، فقال له : أنت خائن لا يصلح لك غير هذا الاسم, قال جربني, فأعطاه قطعة لحم، وقال له: احفظ هذه إلى الغد وأنا أغير اسمك..أخذ الكلب قطعة اللحم، وبعد زمن جعل الكلب ينظر إلى اللحم ويصبر, فلما غلبته نفسه قال : وأي شيء في اسمي، وما كلب إلا اسم حسن، وأكل اللحم. يقول ابن الجوزى: وهكذا خسيس الهمة، القنوع بأقل المنازل، المختار لعاجل الهوى، على آجل الفضائل، فالله الله في حريق الهوى إذا ثار فانظر كيف تطفئه'. المشكلة هي قناعة الشخص بالمستوى الذي هو فيه، فإذا اقتنع بذلك، فاعلم أن هذه هي أول خطوة في الانحدار.
سكان القمم من أكثر الناس تعرضا للفتن والبلاء: عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً قَالَ: [الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ] رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد. قال المناوى رحمه الله -معلقًا على هذا الحديث-:' ومن ظن أن شدة البلاء هوان بالعبد؛ فقد ذهب لُبُّهُ، وعمى قلبه, فقد ابتلى من الأكابر مالا يحصى, ألا ترى إلى ذبح نبي الله يحي بن زكريا، وقتل الخلفاء الثلاثة, والحسين، وابن الزبير، وابن جبير, وقد ضرب أبو حنيفة، وحبس ومات بالسجن, وجرد مالك وضرب بالسياط، وجذبت يده حتى انخلعت من كتفه, وضرب الإمام أحمد حتى أغمى عليه, وقطع من لحمه وهو حي، وأمر بصلب سفيان فاختفى, ومات البويطى مسجونًا في قيوده, ونفى البخاري من بلده ' .
كذا المعالي إذا ما رمت تدركها فاعبر إليها على جسر من التعب
إن الجنة غالية، لكنها محفوفة بالمكاره, ومن رام السعادة، تصدى لعبور جسر المشقة بالجد والاجتهاد .
نماذج ممن سكنوا القمم:
فهذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: يقول عنه شقيق بن عبد الله : مرض عبد الله بن مسعود، فعدناه، فجعل يبكى، فعوتب فقال:' إني لا أبكى لأجل المرض، وإنما أبكى أنه أصابني على حال فترة، ولم يصبني في حال اجتهاد، فإنه يكتب للعبد من الأجر إذا مرض، ما كان يكتب له قبل أن يمرض، فمنعه منه المرض'.. والإمام الطبري جلس أربعين سنة..وهو يكتب كل يوم أربعين ورقة في التأليف.
وابن الأثير ألف كتبه الرائعة، كـ'جامع الأصول'، و'النهاية في غريب الحديث'، بسبب أنه مقعد. وابن القيم كتب 'زاد المعاد' وهو مسافر، والقرطبى شرح 'صحيح مسلم' وهو على ظهر سفينة، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، جل فتاويه كتبها وهو في السجن, وابن الجوزى يتحدث عن نفسه ويقول:'نظرت إلى علو الهمة فرأيتها عجبًا، وذلك أنني أروم نيل كل العلوم، وهذا أمر يعجز العمر عن بعضه..وأروم نهاية العمل بالعلم، مع مطالعة التصانيف وإفادة الخلق، وأروم الغنى عن الخلق، والاشتغال بالعلم مانع من الكسب، وها أنا ذا احفظ أنفاسي من أن يضيع منها نفس في غير فائدة '.
وهذا عبد الله بن المبارك، نور مرو وجمالها, يقول عنه محمد بن أعين، وكان صاحبه في أسفاره:' كان ذات ليلة ونحن في غزاة الروم، ذهب ليضع رأسه ليريني أنه ينام، فقمت أنا برمحي في يدي قبضت عليه ووضعت رأسي على الرمح كأني أنام كذلك, قال فظن أنى قد نمت، فقام فأخذ في صلاته، فلم يزل كذلك حتى طلع الفجر وأنا أرمقه, فلما طلع الفجر أيقظني وظن أنى نائم، فقال يا محمد, فقلت: إنى لم أنم قال، فلما سمعها منى ما رأيته بعد ذلك يكلمني، ولا ينبسط إلى في شيء من غزاته كلها كأنه لم يعجبه ذلك منى لما فطنت له العمل، فلم أزل أعرفها فيه حتى مات، ولم أر رجلًا أسر بالخير منه'.
وكان على بن الحسين يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل ويتصدق به، ويقول:'إن صدقة السر تطفئ غضب الرب'. قال عمرو بن ثابت:' لما مات على بن الحسين فغسلوه جعلوا ينظرون إلى آثار سواد بظهره فقالوا: ما هذا، فقيل: كان يحمل جراب الدقيق ليلًا على ظهره، فيعطيه فقراء أهل المدينة' .
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرم
إذا رأته قريش قال قائلها إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
وداود ابن أبى هند صام أربعين سنة، لا يعلم به أهله ولا أحد من الناس, وكان خبازًا فيحمل معه طعامه من عند أهله، فيتصدق به في الطريق ويرجع عشيًا فيفطر معهم, فيظن أهل السوق أنه قد أكل في البيت، ويظن أهله أنه قد أكل في السوق .
ينقسم الناس في سكنى القمم إلى أقسام:
1- فمن الناس من يطلب المعالي بلسانه، وليس له همة في الوصول إليها، فهذا متمن مغرور,
2- ومن الناس من لا يطلب إلا سفا سف الأمور وهم فريقان:
أ- فريق ذو همة في تحصيل تلك الدنايا, فتجده السباق إلى أماكن اللهو، ومغاني الغواني.
ب- وفريق لا همَّ له, فهو معدود من سقط المتاع, وموته وحياته سواء, لا يفتقد إذا غاب، ولا يسأل إذا حضر.(/4)
3- ومن الناس من تسمو مطالبه إلى ما يحبه الله ورسوله, وله همة عظيمة في تحصيل مطالبه وأهدافه.
وبين هذه الأقسام مراتب كثيرة متفاوتة.
ونرى اليوم من تفاوت الهمم أمرًا عجبًا:فإذا استثنى الناظر في أحوال الناس، أمر العامة، واستثناؤهم واجب، لأنه قد ماتت هممهم، وقعدت بهم عن تحصيل معالي الأمور, واطلع على أحوال الخاصة، من الشباب والدعاة وطلاب العلم، سيصاب بالدهشة لما يراه من فتور الهمة:
فمنهم من إذا قرأ ساعة في اليوم، ظن أنه أتى بما لم يأت به الأوائل.
ومنهم من تتغلب عليه زوجه وعيال فيقطع عامة وقته في مرضاتهم.
ومنهم من اقتصر في تحصيل العلم، على سماع بعض الأشرطة، وحضور بعض المحاضرات.
ومنهم من غلب عليه الركون إلى الدنيا، والتمتع بمباحاتها, تمتعًا يفضى به إلى نسيان المعالي العلية.
وهكذا يندر أن تجد إنسانا استطاع أن يسكن القمم، وان يعلو بهمته، ويجمع شمله ويقصر من الاعتذارات والشكايات, فتصبح حياته مثلًا أعلى يحتذي به, ولكن القليل هم الذين يستثمرون هممهم حق الاستثمار, ويحاولون أن يرتقوا بأنفسهم حق الارتقاء.
إن تحقيق كثير من الأمور، مما يعده الناس خيالًا لا يتحقق, يستطيع سكان القمم بتوفيق الله لهم أولا، وبهمتهم ثانيا, إنجاز الكثير من الأعمال التي يستعظم بعضها من قعدت به همته وظنها خيالًا, وأعظم مثال على هذا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ المعروف عند أهل التواريخ أن بناء الأمم يحتاج إلى أجيال لتحقيقه, لكنه عليه الصلاة والسلام استطاع بناء خير أمة أخرجت للناس في أقل من ربع قرن من الزمان, واستطاعت هذه الأمة أن تنير بالإسلام غالب الأجزاء المعروفة آنذاك, وجهاده عليه الصلاة والسلام وعمله وهمته العالية في بناء الأمة أمر معروف.
والصديق رضي الله عنه استطاع في أقل من سنتين أن يخرج من دائرة حصار المرتدين, ولم يمت رضي الله عنه إلا وجيوشه تحاصر أعظم إمبراطوريتين في ذلك الوقت, هذا وقد نهاه كبار الصحابة عن حرب المرتدين، وظنوا أنه لا يستطيع أن يقوم في وجه العرب كلهم, ولكن همته العالية أبت عليه ذلك، واستطاع أن ينجز ما ظنه الناس خيالًا لا ينجز .
سكان القمم يعتمد عليهم، وتناط بهم الأمور الصعبة، وهذا أمر مشاهد معروف, سكان القمم أحدهم يكون بمثابة فريق من الدعاة, يرفع الله به الدعوة درجات, وقد قيل: ذو الهمة وإن حط نفسه تأبى إلا العلو, كالشعلة من النار يخبيها صاحبها وتأبى إلا ارتفاعًا.
سكان القمم قدوة في مجتمعهم, ينظر إلى حاله القاعدون وأنصاف الكسالى والفاترون, فيقتدون بهمته، ويرون ما كانوا يظنونه أمرًا مسطورًا في الكتب القديمة, قد انتهى وعدم من دنيا الناس, يجدونه واقعًا في حياتهم, فيظل هذا الشخص رمزًا للناس ومحل ضرب أمثالهم .
أظنك تريد بعد هذا أن تكون من سكان القمم, إن الارتقاء بالنفس أمر مطلوب, ويتأكد هذا عند عقلاء الناس ودعاتهم ومصلحيهم, و أظنك منهم, وهذه جملة أمور تساعدهم على ذلك :
أولا : المجاهدة: فبدونها لا يتحقق شيء, قال تعالى:{ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ[69]}[سورة العنكبوت]. من لم يباشر حر الهجير في طلب المجد, لم يَقِل في ظل الشرف, خلق الإنسان في نصب وكبد, هناك من يكدح في سبيل نزوة وشهوة, والعظيم يكدح في سبيل عقيدة ودعوة, وليس للعابد مستراح إلا تحت ظل شجرة طوبى
قف بالديار فهذه آثارهم تبكى الأحبة حسرة وتشوقا
كم قد وقفت بها أسائل مخبرا عن أهلها أو صادقا أو مشفقا
فأجابني داعي الهوى في رسمها من تهوى فعز الملتقى
ثانيًا: الدعاء الصادق والالتجاء إلى الله: فهو المسئول سبحانه أن يقوى إرادتنا, ويعلى همتنا.
ثالثًا: اعتراف الشخص بقصور همته, وأنه لابد أن يطورها ويعلو بها: وهذا أمر أولى، ثم لابد أن يعتقد أنه قادر على أن يكون من سكان القمم
رابعًا: قراءة سير سلف هذه الأمة, أهل الاجتهاد ممن سكنوا القمم: إنها خير وسيلة لإشعال العزائم, وإثارة الروح الوثابة, والتسامي إلى معالي الأمور, إن أخبار العلماء العاملين, والنبهاء الصالحين, تغرس الفضائل في النفوس، وتدفعها إلى تحمل الشدائد والمكاره في سبيل الغايات النبيلة، والمقاصد الجليلة, وتبعثها إلى التأسي بذوي التضحيات والعزمات, وقد قيل قديمًا:' الحكايات جند من جنود الله عز وجل يثبت الله بها قلوب أوليائه'.
خامسًا : مصاحبة بعض من سكن القمم: والنظر في أحواله, وما هو عليه, فهذا من أعظم البواعث على علو الهمة, لأن البشر قد جبلوا على الغيرة والتنافس، ومزاحمة بعضهم بعضا, وحب المجاراة في طبائع البشر أمر لا ينكر, فاتخذ من سكان القمم أعوانًا, واخلط نفسك مع الأبرار, وطهرها من الفجار, واجتنب الصغار الأخطار، فالمرء يعرف بقرينه, فاصحب من يحملك في سيرك إلى الله، لا من تحمله, من يعظك بلحظه قبل أن يعظك بلفظه.(/5)
سادسًا: مراجعة جدول أعمالك اليومي ومراعاة الأولويات: الأهم ثم المهم, وهذا أمر مفيد في باب تطوير الهمة, إذ كلما كان ذلك الجدول بعيدًا عن الرتابة والملل, كان أجدى في معالجة الهمة .
سابعًا : التنافس والتنازع بين الشخص وهمته: فعلى مريد تطوير همته أن يضيف أعباء وأعمالًا يومية لنفسه لم تكن موجودة في برنامج حياته السابق، بحيث يحدث نوعًا من التحدي في داخل نفسه بإنجاز ما تحمله من أعمال جديدة, ويجب أن تكون هذه الإضافة مدروسة بعناية وإحكام حتى لا يصاب الشخص بالإحباط واليأس .
ثامنًا : العزم على الكمالات: فمن استوى عنده العلم والجهل, أو كان قانعًا بحاله وما هو عليه, فكيف تكون له همة أصلًا, قال الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله:'إن لي نفسا تواقة, وإنها لم تعط من الدنيا شيئًا إلا تاقت إلى ما هو أفضل منه, فلما أعطيت ما لا أفضل منه في الدنيا, تاقت إلى ما هو أفضل منه- يعنى: الجنة-' .
تاسعًا : التحول عن البيئة المثبطة: إن الماء يفسد بقربه من الجيف, وكذا الهواء, فكيف بأنفاس العصاة ! ألا تنظر إلى فعل المعصية بآبار ثمود بعد آلاف السنين لما مر عليها الصحابة، وأرادوا أن يستسقوا منها منعهم الرسول صلى الله عليه وسلم, وأمرهم أن يلقوا بعجينهم إلى النواضح.
عاشرًا: واقع المسلمين المر: في تاريخ الأمم كبوات وعثرات وآلام, إلا أن الأمة الحية تنهض من كبوتها، وتتجاوز آلامها, بل تكون هذه الآلام باعثًا لها على الكفاح حتى النصر, وفى تاريخ الأمة صعود وهبوط, ضعف الرجال في فترات تاريخية ثم أنجبت الأمة رجالًا غيروا مسار التاريخ, والحاضر الماثل أمامنا اليوم يدل على مولد الكثيرين الذين يستعدون لحمل راية الإسلام, وتغيير مسار التاريخ من جديد, إن الأحداث الجسام التي تمر بها الأمة, تبعث الهمة وتوقظ العزائم, هذا تاريخ الإسلام يحكى أن حالات الضعف والتردي وتسلط الأعداء, تحرك الأمة لكي تسترد التفكير السليم, والعمل الجاد الذي ترد به المعتدى, وتستعيد به عزها ومجدها, في مثل هذه الأحداث تنجب الأمة أبطالاً مجاهدين، وعلماء عاملين, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لَا يَزَالُ اللَّهُ يَغْرِسُ فِي هَذَا الدِّينِ غَرْسًا يَسْتَعْمِلُهُمْ فِي طَاعَتِهِ] رواه ابن ماجة.
الحادي عشر : الابتعاد عن كل ما من شأنه الهبوط بالهمة وتضييعها: من له رغبة مفي أن يكون من سكان القمم, فليختر لنفسه مجالًا يبدع فيه، ويكون عطاؤه من خلاله, فمن وجد من نفسه انصرافًا للعلم وتحصيله؛ فليقبل عليه, ومن وجد منها ميلًا للأعمال الخيرية والإغاثة، فليشارك إخوانه.
فـ إياك إياك أن تكون ممن قال فيهم يحي بن معاذ الرازي رحمه الله:'عمل لسراب, قلب من التقوى خراب, وذنوب بعدد الرمل والتراب, ثم تطمع في الكواعب الأتراب, هيهات أنت سكران بغير شراب, ما أكملك لو بادرت أملك, ما أجلَّكَ لو بادرت أَجَلَكَ, ما أقواك لو خالفت هواك, يا هذا لقد أعظمت المهر وأسأت الخطبة' .
وأخيرًا:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مَنْ خَافَ أَدْلَجَ وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ]رواه الترمذي .
يا سلعة الله لست رخيصة بل أنت غالية على الكسلان
يا سلعة الرحمن ليس ينالها في الألف إلا واحد لا اثنان
يا سلعة الرحمن ماذا كفؤها إلا أولوا التقوى مع الإيمان
يا سلعة الرحمن سوقك كاسد الأراذل تفلة الحيوان
يا سلعة الرحمن أين المشترى فلقد عرضت بأيسر الأثمان
يا سلعة الرحمن هل من خاطب فالمهر قبل الموت ذو امكان
يا سلعة الرحمن كيف يصبر الخطاب عنك وهم ذوو إيمان
يا سلعة الرحمـ،ن لولا أنها حجبت بكل مكاره الإنسان
ما كان عنها قط من متخلف وتعطلت دار الجزاء الثاني
لكنها حجبت بكل كريهة ليصد عنها المبطل المتوانى
وتنالها الهمم التي تسمو إلى العلا بمشيئة الرحمن
اتعب ليوم معادك الأدنى تجد راحاته يوم المعاد الثاني
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
من محاضرة:' سُكَّانُ القِمَمِ' للشيخ ناصر الأحمد(/6)
سُنَنُ اللهِ لا تُعاند
الشيخ عبد الرحمن حبنكة الميداني
من حاد عن سنة الله الحكيم iiجفا
نهج الصواب وضلَّ السعي iiواقترفا
فحسبه من عقاب الله iiخيبته
و ما به حلَّ من بؤسٍ وما iiأسفا
و الله يغمره من فيض رحمته
إذا هو استغفر الرحمن و iiاعترفا
من صد عن سنَنٍ لله iiثابتةٍ
و ظنَّ أن سيصيب النجح ما iiعرفا
فطاعة الله في إعطاء iiسنته
ما تقتضيه فمن لم يرعها iiجنفا
قولوا لمن يبتغي نيل النجاح iiأفد
من كلِّ تجربةٍ مرَّت لمن iiسلفا
فكل تجربة مرَّت بها iiعظةٌ
تغني السفيه وتعطي ذا الحجا iiترفا
من يتّبع سنن الباري كما iiقُدِرت
ولم يعاند أصاب الدين iiوالهدفا
وكان ممن تصيب الحقَ iiحكمتهم
و كان ممن سموا بين الورى iiحصفا
فرأيه وسبيل الرشد ما iiافترقا
و سعيه وبلوغ القصد ما iiاختلفا
ما زاد فهماً ولكن نهج خطته
و سنة الله في أكوانه iiائتلفا
وكم ترى عبقرياً غرَّه iiأملٌ
و كم ترى ألمعياً ضلَّ و انجرفا
لله في كل شيء سنة قدِرت
من حاد عن قصدها عن قصده انعطفا
إن لم يخِب خيبةً للنفس iiمهلكةً
أضاع من سفهٍ أثمانه iiسرَفا
ما كان أغناه عن طيشٍ وعن iiسفهٍ
لو سار في سنَّةِ الباري وما انحرفا
لا يقتُلُ الوحشَ شعرٌ أنت iiناتِفه
من أنفه فدعِ الأوهام و iiالخرفا(/1)
شؤم المعاصي
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله . يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون . يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ، وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما . أما بعد ،،، فإن أصدق الحديث كتاب الله ، وأحسن الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار . أيها المسلمون : إن الله تعالى يبتلي عباده بالمصائب ليتوبوا من الذنوب ، ولهذا كان الصحب الكرام رضي الله عنهم ، من ذنوبهم أشد خوفا من عدوهم . فلا يغترن بحلم الله أحد ، ولا يظن المستور عليه أن الله غافل عنه ، بل عليه رقيب حسيب ، وما ربك بغافل عما تعملون . وقد علم يقينا أن الله تعالى ذو عقاب أليم ، فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون ، واخشوا أليم عقابه واعلموا أن الله شديد العقاب . واعلموا أن الفرد ، والأمة ، والجماعة ، تصاب بذنوبها ، وتجازى بأعمالها ، كما قال جل وعلا : وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير . وإنما سلبت النعم ، وحلت النقم بالذنوب والمعاصي ، ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم . وإن لنا فيما يجري حولنا من نقمة الله في عباده ، وأنواع العقوبات التي عمت مشارق الأرض ومغاربها من فيضانات وبراكين ، وزلازل وحرائق وحروب طاحنات ، وأنواع من الابتلاءات ، إن في ذلك لزاجرا عظيما ، ورادعا قويا فقد ثبت أن الله تعالى ليس بظلام للعبيد ، ولكن ظلموا أنفسهم ، فكلا أخذنا بذنبه ، فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ، ومنهم من خسفنا به الأرض ، ومنهم من أغرقنا ، وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون . عباد الله : كم دعانا القرآن الكريم إلى الاعتبار بما حل بمن قبلنا ، وبمن حولنا لنتعظ ولنقف عند حدود الله فلا نتعداها ، قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين . وذلك رغبة منه أن نصحح أحوالنا ونغير حالنا ، ونقلع عن ذنوبنا . وقد علمتم أيها الأحبة أن مدار القرب من الله تقواه ، علم ذلك ووعاه كل من تدبر كتاب الله تعالى ، وعرف معناه ، وتجرد للحق ولم يتبع هواه . وكل من نظر في قصص الأولين رأى فيها ما كانوا عليه من قوة في الأبدان ، وسعة في السلطان ، وكان بأسهم شديدا ، لكنهم لما عصوا ربهم ، أخذهم بذنوبهم ، وما كان لهم من الله من واق . فقطع الله دابرهم ، وأهلكهم عن آخرهم ، فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا ، وتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا ، ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ، ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون . أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون ؟ أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون ؟ أفأمنوا مكر الله ؟ فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون . أيها المسلمون : إننا ندرك عبر سنن الله الكونية ما لطاعة الله تعالى من آثار حميدة ، وعاقبة سعيدة ، وما للمعصية من آثار قبيحة ، وعاقبة سيئة . ولكن يغفل عن ذلك الذين هم في غمرة ساهون ، يتناسون سبب غرق فرعون وهامان ، وسبب الخسف بقارون ، الذين طغوا في البلاد ، فأكثروا فيها الفساد . وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم ، يتناسون ألم نهلك الأولين ؟ ثم نتبعهم الآخرين ، كذلك نفعل بالمجرمين . ألا إن كل مصيبة يصاب بها المرء فبذنبه ، وكل نعمة تزول منه فبذنبه ، ولا يطبع على قلبه إلا بذنبه ، ولا يدخل النار إلا بذنبه . وتأمل قول أبي الدرداء رضي الله عنه ، حين فتحت قبرص ففرق بين أهلها ، فبكى بعضهم إلى بعض ، فجلس أبو الدرداء رضي الله عنه يبكي ، فقيل له : يا أبا الدرداء ، ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله ؟ قال : ويحك يا جبير ، ما أهون الخلق على الله عز وجل إذا هم أضاعوا أمره ، بينا هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك ، تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى . ومن حديث أم سلمة في مسند الإمام أحمد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمهم الله بعذاب من عنده . وفي سنن ابن ماجة عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال : كنت عاشر عشرة رهط من المهاجرين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه فقال : يا معشر المهاجرين ، خمس خصال أعوذ بالله أن تدركوهن ، ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها إلا ابتلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم ،(/1)
ولا نقص قوم المكيال إلا ابتلوا بالسنين وشدة المؤنة ، وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ، ولولا البهائم لم يمطروا ، ولا خفر قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم ، وما لم تعمل أئمتهم بما أنزل الله في كتابه إلا جعل الله بأسهم بينهم . وفي مراسيل الحسن البصري رضي الله عنه : إذا أظهر الناس العلم وضيعوا العمل ، وتحابوا بألسنتهم وتباغضوا بقلوبهم وتقاطعوا بالأرحام لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم . فاتقوا الله عباد الله ، واعلموا أن الدين شطران ، أحدهما ترك المعاصي ، والثاني فعل الطاعات ، وترك ما نهى الله عنه ربما كان أعظم من فعل ما أمر الله به ، فإن ترك الشهوات عسير على غير المتقين ، ولهذا كان المهاجر من هجر ما نهى الله عنه . فاحذر أيها الحبيب أن تفقد حيث أمرت أن تكون ، وأن توجد حيث نهيت أن تكون . أيها المسلمون : ترك المعاصي ، والعمل بطاعة الله ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر ، وكثرة ذكر الله أنجع ، وأقوى سلاح يحارب به إفساد المفسدين ، ومكر الحاقدين ، وإعلام المرجفين ، بطاعة الله يسبغ لباس الأمن على الأمة والوطن ، وبمعصية الله تنزل بالأمة أنواع النقم ، يسلب أمنها ، ويفرق شملها ، وتستباح حرمتها ، فقيدوا نعمة الأمن الذي تعيشون بطاعة الله ، وحافظوا على مكتسباتكم بذكر الله ، واعلموا أنه إن لم ينصركم الله فلا ناصر لكم ، وإن ينصركم فلا غالب لكم ، ولينصرن الله من ينصره ، إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم . ونصر الله بطاعته ، واجتناب نواهيه . ألا وإن عذاب الدنيا مهما كان شديدا فهو هين عند عذاب الآخرة ، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى ، ولو لم يكن من شؤم معصية الله وعاقبتها إلا أن فاعلها مهدد بجهنم ، متوعد بعذابها ، لكان كافيا له أن ينزجر ، ولكان كافيا له أن يقلع ، ولكنها غفلة القلوب ، والاغترار بستر العيوب ، فيا لخسارة المستترين يوم تبلى السرائر ، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية . فيا ويح أهل الظلم واللهو والغنا إذا أقبلت يوم الحساب جهنم وراعهم منها تغيظ محنق لخوف عذاب في لظاها يحطِم إذا ما رآها المجرمون وأيقنوا بأن لهم فيها شراب ومطعم ضريع وزقوم ويتلوه مشرب حميم لأمعاء الشقيين يهدم ومن قطران كسوة قد تسربلوا وسيقوا لما فيه العذاب مخيم ألا فبادر بالأوقات أيها المسلم ، واجتهد في حراسة ليالي الحياة وأيامها ، قبل أن تقول : رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت . وإن هي إلا أيام ، أو أعوام سرعان ما تنقضي فإذا أنت بالموت أمام ناظريك ، فأعد لهول المطلع عدته ، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب . بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ..... الخطبة الثانية : الحمد لله ، الحي الذي لا يموت ، المبديء المعيد ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وعد المتقين جنة لهم ما يشاؤن فيها ، لا يفنى شبابهم ولا يبيد . وتوعد من عصاه بنار جهنم والعذاب الشديد . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أفضل الرسل ، وأكرم العبيد ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ما غرد طير في كل فجر جديد ، وسلم تسليما . أما بعد ، فاتقوا الله عباد الله ،،، واعلموا أن ملك الموت قد تخطاكم إلى غيركم وسيتخطى غيركم إليكم فخذوا حذركم ، وقدموا عذركم ، قبل أن تنزل بكم المنية فتصيح بكم صيحة الغضبان ، وتصدمكم صدمة اللهفان ، وتهدم الأركان ، وتكسر الأغصان ، وتفرق الأنصار والأعوان ، وكأن المرء ما كان ، قد انطوت صفحته ، واختنقت عبرته لفراق الأحباب والخلان ، فويل لمن كانت الدنيا أمله ، والخطايا عمله ! ويل لمن كان جاهلا بأمر دينه عالما بأمر دنياه ، يحزن إذا قل ماله أو نقص ، ولم يفطن لما من عمره قد انتقص ، فجاءته سكرت الموت بالحق ، ذلك ما كنت منه تحيد ... فأخذه أحبابه فواروه التراب ، وأكرموه بوسادة من طين ، في حفرة قريبة أنحاؤها ، مظلمة أرجاؤها ، وأحكموا عليه بطينها وأحجارها ، وتركوه لقمة سائغة للهوام والديدان . أيها الناس : إن الأعمار تفنى ، وإن الآمال تطوى ، وإن الأبدان تحت التراب تبلى ، وإن الموت لا ريب آت إليك ، ولن يمنعه منك مانع ، فاستعد للقائه بالعمل الصالح والإيمان ، والبر والتقوى والإحسان ، فكل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام . رأيت بني الدنيا كوفدين كلما ترحل وفد جاء في إثره وفد بكى ابن المنكدر حين وفاته فقيل له ما يبكيك ؟ قال : والله ما أبكي لذنب أعلم أني أتيته ، ولكني أخاف أن أكون قد أذنبت ذنبا حسبته هينا وهو عند الله عظيم . قال ابن السماك : إن الموتى لا يبكون من الموت ، ولكنهم يبكون من حسرة الفوات ، فاتتهم دار لم يتزودوا منها ، ودخلوا دارا لم يتزودوا لها . فاتقوا الله عباد الله ، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ، واتقون يا أولي الألباب ، وصلوا على من أنزل عليه الكتاب ، إن الله وملائكته ....(/2)
شاب يظله الله في ظلّه
السؤال :
مِنَ السبعة الذين يظلهم الله يوم القيامة في ظله يوم القيامة شابٌّ نشأ في طاعة الله ، فهل المقصود بذلك الوصف شابٌّ عاش شبابه بدون أي ذنوب ؟
و ماذا عن الشباب الذين أمضوا شبابهم و هم يُصلُّون و يؤدون الفرائض و النوافل ، و لكنهم يُذنبون ثم يتوبون ثم يذنبون فيتوبون المرّة تِلوَ المرّة ، و يعيشون في عراك دائم مع النفس ، هل هم من هؤلاء الشباب اللذين يظلّهم الله تعالى في ظلّه ؟ و كيف نستطيع أن نكبح جماح النفس الضعيفة التي نتعارك معها فتارة نغلبها وتارة تغلبنا حتى تُقلع عن الذنوب بالكلّيّة ، و ننال القبول و الرضى من الله تعالى ؟
الجواب :
روى الشيخان و الترمذي و النسائي و مالك و أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ : « سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ الإِمَامُ الْعَادِلُ ، وَ شَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ ، وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ . وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ » .
و الظاهر من الحديث أنّ الشابّ الذي يستحق هذه المكانة الرفيعة ، هو الذي نشأ في عبادة الله منذ نعومة أظفاره ، و فيه حثٌّ للشباب على الإقبال على الله تعالى في مقتبل العمر و ريعان الشباب ، و خصّهم بذلك لأنّ سنّ الشباب قد يُغري بمواقعة المعاصي و اقتراف الذنوب ، نظراً لما يغلُب على المرء من التسويف ، و ما قد يُتاح له من الأسباب المؤدية إلى المعاصي أو المعينة عليها ، كالصحّة ، و الفراغ .
روى البخاري و الترمذي و أحمد عَنِ عبد الله بنِ عَبَّاسٍ رضى الله عنهما قَالَ : قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم : « نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ، الصِّحَّةُ وَ الْفَرَاغُ » .
و من المقرّر عند أهل العلم أنّه لا عِصمةَ إلا للأنبياء عليهم الصلاة و السلام ، فلا يُعقَل أن يوجد شاب ( أو غير شابّ ) لا يقارف الذنوب على الإطلاق ، لأنّ بني آدَم خطّاؤون لا محالة .
روى الترمذي و ابن ماجة و أحمد بإسناد صحيح عَنْ أَنَس بن مالك أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ : « كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ » .
و روى مسلم و أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : « وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ » .
فالعبد لا محالةَ واقع في الذنوب ، سواءً كان ذلك في شبابه أو مشيبه ، و الموفّق من وفّقه الله تعالى لتدارك نفسه بالتوبة ، فإن تاب و ندم عمّا اقترفت يداه ، و أقلع عن ذنبه ، عازماً على عدم العودة إليه ثانيةً ، فقد أتى بما أوجبه الله عليه ، و نرجوا أن يكون ممّن يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّّّه .
أمّا إن عاد إلى الذنب ثانيةً فعليه أن يتوب من جديد ، و لا يقنط من رحمة الله ، لأنّ الله يغفر الذنوب جميعاً .
قال تعالى : ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ ) .
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله : ( هَذِهِ الايَة الْكَرِيمَة دَعْوَة لِجَمِيعِ الْعُصَاة إِلَى التَّوْبَة وَالانَابَة وَإِخْبَارٌ بِأَنَّ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَغْفِر الذُّنُوب جَمِيعًا لِمَنْ تَابَ مِنْهَا وَرَجَعَ عَنْهَا وَإِنْ كَانَتْ مَهْمَا كَانَتْ وَإِنْ كَثُرَتْ وَكَانَتْ مِثْل زَبَد الْبَحْر ) .
و روى البُخَارِيّ في سبب نزولها عَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْل الشِّرْك كَانُوا قَدْ قَتَلُوا فَأَكْثَرُوا وَ زَنَوْا فَأَكْثَرُوا فَأَتَوْا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : إِنَّ الَّذِي تَقُول وَ تَدْعُو إِلَيْهِ لَحَسَنٌ لَوْ تُخْبِرنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَة فَنَزَلَت .
وَ روي عن عبد الله بن مَسْعُود رضي الله عنه أنّه قال : إِنَّ أَكْثَر آيَة فِي الْقُرْآن فَرَحًا ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِي أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسهمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَة اللَّه ) .(/1)
و روى أحمد عن عَمْرو بْن عَبَسَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : جَاءَ رَجُل إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْخٌ كَبِيرٌ يَدَّعم عَلَى عَصًا لَهُ فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه إِنَّ لِي غَدَرَاتٍ وَفَجَرَاتٍ فَهَلْ يُغْفَرُ لِي ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَلَسْتَ تَشْهَد أَنْ لا إِلَه إِلا اللَّه ) ؟ قَالَ : بَلَى وَأَشْهَد أَنَّك رَسُول اللَّه فَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( قَدْ غُفِرَ لَك غَدَرَاتُك وَفَجَرَاتُك ) تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَد ، و روى نحوه المنذري في الترغيب و الترهيب بإسناد صحيح .
و قَالَ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا : مَنْ آيَسَ عِبَاد اللَّه مِنْ التَّوْبَة فَقَدْ جَحَدَ كِتَاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ، وَ لَكِنْ لا يَقْدِر الْعَبْد أَنْ يَتُوب حَتَّى يَتُوب اللَّه عَلَيْهِ .اهـ .
قلتُ : ما دام العبد يُحدث من كلّ ذنبٍ توبةً ، و لا يُصر على التفريط في جنب الله ، فهو أهل لعفو الله و مغفرته ، و الله تعالى ( هو أهل التقوى و أهل المغفرة ) .
و الحمد لله ربّ العالمين .(/2)
شاعر يرثي نفسه
لقد وعدتكم أن أضرب لكم في هذه الأحاديث بكل سهل، وأسلك كل واد، وأتحدث عن رجال الفن كما أتحدث عن رجال العلم، وأن أجيئكم مرة مع شاعر أو موسيقي، كما أجيئكم مرات مع الأئمة والقواد.
وهاأنذا آتي اليوم ومعي شاعر.
شاعر لم يغن مع الحمائم في الروض الأغنّ، ولم يَهِم مع السواقي في الوادي الضائع، ولم يدلج مع النجم في الأسحار الندية بعطر الفجر، ولم يتبع الشمس في العشايا السكرى بخمر الغروب، ولم يرقب طيف الحبيب في الليالي التي تكتم أسرار الهوى.
ولأن سابقت شاعرية الشعراء الزمان فسبقت الشباب، وظهرت بوادرها في مدارج الصبا، وملاعب الفتوة، فإن هذا الشاعر لم تنبثق شاعريته إلا على سرير الموت، وشفا المردى، على عتبة الدنيا خارجاً منها، وعتبة الآخرة داخلاً إليها. في الساعة التي يَعيا فيها الشاعر، ويؤمن فيها الكافر، ويضعف فيها القوي، ويفتقر فيها الغني، ولم تنبثق إلا بقصيدة واحدة، ولكنها كانت نفحة من عالم الخلود فخلد فيها.
* * * * * * * * * *
قصيدة وهبها للموت، إن تغنى له فيها، فوهب له الموت بها الحياة.
لم يتفلسف فيها تفلسف المعري، ولا تجبر تجبر المتنبي، ولا أغرب إغراب الدريدي، ولكنه جاء بأقرب الأفكار، في أسهل الألفاظ، فجاءت من هذه السهولة عظمة القصيدة.
والفنون كلها تموت يا سادة إن أكرهتها على الحياة في جو التكلف، التكلف في التفكير أو التعبير. إن الفنون لا تحيا إلا في الانطلاق والحرية.
كل الفنون: الكتابة والشعر والتصوير والموسيقى، حتى الإلقاء، فليفهم ذلك من يظن أن الإلقاء الجيد هو التشدق والتقعر، وإمالة اللسان، وقلب الحناجر، وضخامة الأصوات... وما نسمعه كل يوم في الإذاعات.
* * * * * * * * * *
شاعر لم يعش شاعراً، ولكنه مات شاعراً.
عاش عمره كله يغني بسنانه للحرب، لا يغني بلسانه للحب، لا يعمل لوصال الأحبة، وسلب القلوب، ولكن يعمل لقطع الطرق، وسلب القوافل. كان لصاً من أشهر لصوص العصر، ثم تاب ومشى إلى الجهاد في جيش ابن عفان، حتى أدركته الوفاة وهو على أبواب خراسان، فرثى نفسه بهذه القصيدة، التي لا أعرف في موضوعها ((أي رثاء الشاعر نفسه)) إلا قصائد معدودة في آداب الأمم كلها.
وإنها لتختلف الألسنة والألوان، وتتبدل المذاهب والأديان، وتتباعد المنازل والبلدان، ولكن شيئاً واحداً لا يختلف بين نفس ونفس، ولا يتبدل بتبدل الأعصار والأمصار، هو العواطف البشرية، إن أناشيد المجنون لليلى أناشيد كل عاشق أينما كان، وقصة (بول وفرجيني) قصة كل شاب مغرم في كل زمان، وخطب (فيخته) هي خطب كل أمة قد هبت تبني المجد، وتعمل للحياة.
ومن هنا جاءت عظمة الأدب، وجاء خلوده، إنه ليس كالعلوم. إن قرأ طالب الطب في كتاب ألّف قبل أربعين سنة فقط سقط في الامتحان، أما طالب الأدب فيقرأ شعراً قيل من ألف وخمسمائة سنة ولا يزال جديداً كأنه قيل اليوم، لا، لا تقولوا إن العلوم تترقى وتتقدم وتسعى إلى الكمال، لأن الجواب حاضر، إن الأدب قد بلغ سن الرشد، وحدّ الكمال، من قبل أن يولد العلم، وقد عاش البشر دهوراً بلا علم، ولكنهم لم يعيشوا يوماً بلا أدب. إن آدم قال لحواء كلمة الحب، لم يحدثها في الكيمياء، ولا حل معها مسائل الجبر في رياض الجنة ((هذا كلام الأدباء)).
الشعر أخلد من الكيمياء، وأبقى من الرياضيات. كم مرة تبدلت نظريات العالم، منذ نظم هوميروس قصيدته، إلى اليوم. وأشعار هوميروس لا يزال لها رونقها ومنزلتها.
لا أعني الشعر الذي هو الرنات والأوزان، ولا الألفاظ المنمقة التي تحمل معنى، ولكن أعني بالشعر، حديث النفس، ولغة القلوب، وكل ما يهز ويشجي ويبعث الذكريات، وينشئ الآمال، ويقيم النهضات، ويحيي الأمم. الشعر الذي يشعرك أنه يحملك إلى عالم غير هذا العالم. وسواء بعد ذلك أكان منظوماً أم كان نثراً. إن عقد اللؤلؤ لا ينزل قيمته أن ينتثر، لأن ثمن الخيط نصف قرش!
وإليكم الآن مقاطع من هذه القصيدة، ولو اتسع المجال لشرحتها شرحا ينسي الناس الأصل، ولكن أين المجال، والوقت ربع ساعة؟
عربي عاش عمره كله في جزيرته، ما استمتع بحياته، ولا ناجى طيف ذكرياته، ولا انتشى برحيق آماله، لأنه لم يجد يوم راحة، يخلو نفسه إلى نفيه فيحس لذة الأحلام، وجمال التذكر، وسحر الأمل، لينبثق في نفسه الشعر المخبوء فيها، كما يختبئ الماء في بطن الجبل، يرقب معولاً يفتح له الطريق.
وهاهو ذا الآن ملقى على صعيد غريب عنه، في بلاد لا يعرفها ولا تعرفه، ولا يألفها ولا تألفه، فهو يتذكر الآن (الآن فقط) بلده وأرضه، ويدرك قيمة تلك النعم الجسام، ولا يدرك المرء قيمة النعم إلا بعد زوالها، وتثور في نفسه الأماني، فلا يتمنى إلا أن يبيت ليلة أخرى بجنب الغضى، وأن يسوق كرة أخرى إبله إلى المرعى، ويذكر كيف كان يزدري هذه النعمة التي يراها الآن عظيمة، ويتمنى (وليس ينفع التمني) لو أنه لم يسر من تلك الديار، أو لو أنه طال الطريق حتى يستمتع بها.(/1)
واسمعوه الآن يقول بألفاظه ورنّته، وقافيته الباكية التي تذكركم بقصيدة أخرى من وزنها وروّيها، لشاعر يماني غريب هو عبد يغوث:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة * * * * * بجنب الغضى أزجي القلاص النواجيا 1
فليت الغضى لم يقطع الركب عرضه * * * * * وليت الغضى ماشى الركاب لياليا
لقد كان في أهل الغضى (لو دنا الغضا) * * * * * مرار ولكن الغضى ليس دانيا
ويلوم نفسه ويعجب منها كيف سوّغت له أن يقبل بهذا النفي راضياً مختاراً، ويعجب من أبويه كيف لم ينهياه، وما الذي جاء به إلى باب خراسان وقد كان نائياً عنه:
ألم تراني بعت الضلالة بالهدى * * * * * وأصبحت في جيش ابن عفان غازيا 2
لعمري لئن غالت خراسان هامتي * * * * * لقد كنت عن بابي خراسان نائيا
فلله درّي يوم أترك طائعاً * * * * * بنيّ بأعلى الرقمتين وماليا 3
ودرّ الظباء السانحات عشية * * * * * يخبِّرن أني هالك من ورائيا
ودرّ كبيريّ اللذين كلاهما * * * * * عليّ شفيق ناصح لو نهانيا
واسمعوه كيف يفتش عمن يبكي عليه فلا يجد أحداً، لا يجد من يبكيه إلا سيفه وفرسه، وليس ينفع الميت أن يذكره ذاكر إلا ذاكراً بدعاء أو صدقه، ولا يضره أن ينساه الناس، وما حفلات التأبين للميت ولكن للأحياء يصعدون على قبر الميت ليقولوا للناس انظروا إلينا، واسمعوا بياننا، وصفقوا لنا، ولقد صدق سبنسر إذ قال: كلنا يبكي في المآتم وكل يبكي على ميته.
ليس ينفع بكاء ولا نواح ولكنها غريزة التمسك بالحياة والاستكثار منها.
تذكرت من يبكي عليّ فلم أجد * * * * * سوى السيف والرمح الردينيّ باكيا 4
وأشقر خنذيذ يجرَّ عنانه * * * * * إلى الماء لم يترك له الدهر ساقيا 5
وأرجو أن تتجاوزوا عن كلمة (خنذيذ) التي ترونها غريبة ولم تكن غريبة أيامه. وانظروا إلى جمال الصورة وروعتها. هذا الحصان يتلفت يمنة ويسرة ويدور وينعطف ويفتش عن صاحبه فلا يلقاه، فينسى الطعام والشراب، حتى يبرّح به العطش ولا يجد من يسقيه، فيجر عنانه (انتبهوا إلى دقة الوصف في جر العنان أي الرسن) إلى الماء.
لو أن مصوراً صور معنى هذا البيت لكان لوحة من لوحات العبقرية، وما أكثر ما في هذه القصيدة من صور.
* * * * * * * * * *
وهاكم هذه اللوحة التي بلغت من الروعة أبعد الغايات، والتي تذيب القلوب، فتسيلها دموعاً.
هذه اللوحة التي أعرضها كما هي، لا أحب أن أفسدها بشرح أو تعليق:
ولما تراءت عند مرو منيّتي * * * * * وخلَّ بها جسمي وحانت وفاتيا
أقول لأصحابي: ارفعوني فإنني * * * * * يقرّ لعيني أن سُهيلٌ بدا ليا 6
فيا صاحبي رحلي دنا الموتُ فانزلا * * * * * برابية ؛ إني مقيم لياليا
أقيما علي اليوم أو بعض ليلة * * * * * ولا تعجلاني؛ وقد تبيّن ما بيا
وقوما إذا ما استُلّ روحي وهيئا * * * * * لي السَّدر والاكفان ثم ابكيا ليا 7
وخطّا بأطراف الأسنّة مَضْجَعي * * * * * ورُدّا على عيني فضْلَ ردائيا
ولا تحسداني – بارك الله فيكما - * * * * * من الأرض ذات العرض أن توسعا ليا
خذاني فجراني ببُردي إليكما * * * * * فقد كنت قبل اليوم صعباً قياديا
ويعلم أنه لن يجد من يقوم على قبره، ويشيد بذكره، فيرثي نفسه، ويكشف عن فعاله بمقاله:
وقد كنت عطّافاً إذا الخيل أدبرت * * * * * سريعاً إلى الهَيْجا إلى من دعانيا
وقد كنت محموداً لدى الزاد والقرى * * * * * وعن شتمي ابن العم والجار وانيا
وقد كنت صبّاراً على القرن في الوغى * * * * * ثقيلاً على الأعداء عَضْباً لسانيا
ويعود إلى إتمام هذه اللوحة الرائعة، فيتصور مسيرة أصحابه وبقاءه، وحيداً في هذه الفلاة:
غذاة غد يالَهْف نفسي على غد * * * * * إذا أدلجوا عني وخُلّفت ثاويا
وأصبح مالي من طريف وتالد * * * * * لغيري وكان المال بالأمس ماليا
* * * * * * * * * *
ويسأل رفيقيه حاجة له هي آخر حاجاته من دنياه، أن يحملوا نعيه إلى أهله، إلى بئر الشبيك، حيث يزدحم بنات الحيّ، يملأن الجرار، ويستقين، فيصرخ، فيدعن ما هنّ فيه، ويلتفتن إليه، وتسمع زوجته، فيلقي إليها بوصاته، وما وصاته إلا أن تقف على القبور. علَّها تذكرها بقبره الضائع، حيث لا زائر ولا ذاكر:
وقوما على بئر الشُّبَيك فأسمعا * * * * * بها الوحش والبيض الحسان الروانيا
بأنكما خَلّفتُماني بِقَفْرَةٍ * * * * * تهيل عليّ الريحُ فيها السوافيا
ولا تنسيا عهدي خليليّ إنني * * * * * تَقَطّعُ أوصالي وتبلى عظاميا
فلن يعدم الوالون بيتاً يُجنُّني * * * * * ولن يعدم الميراث مني المواليا
* * * * * * * * * *
ويا ليت شعري هل تغيرت الرحى * * * * * رحى المثل أو أضحت بفلج كما هيا 8
إذا مت فاعتادي القبور فسلمي * * * * * على الرّيم أسقيتِ الغمام الغواديا 9
ويعود إلى حاضره، ويشتغل بنفسه، ويرجع إلى ذكر بلده وأهله، ويختم القصيدة بهذا المقطع:
قلِّب طرْفي فوق رحلي فلا أرى * * * * * به من عيون المؤنسات مراعيا
وبالرمل منا نسوة شَهِدنني * * * * * بكَين فَدينَ ا لطبيب المداويا(/2)
فمنهن أمي وابنتاها وخالتي * * * * * وباكية أخرى تهيج البواكيا 10
وما كان عهد الرّمل مني وأهله * * * * * ذميما ولا بالرمل ودّعتُ قاليا
* * * * * * * * * *
يا سادة. لقد مات مع مالك في تلك السفرة آلاف وآلاف، ولا يزال الناس قبله وبعده يموتون، فينساهم ذووهم، ويسلوهم أهلوهم، وهذا الشاعر جعلكم تذكرونه، وتبكونه بعد ألف وثلاثمئة سنة، وأنتم لا تعرفونه.
وهذه هي عظمة الشعر، وهذا هو خلود الشاعر.
* * * * * * * * * *
الغضى: نبت من نبت البادية. أزجي: أسوق سوقا رفيقاً. القلاص: الأبل. النواجي: السريعة.
هو سعيد بن عفان، وباع الظلالة بالهدى، أي اهتدى بعد الضلال، لأن ما تدخل عليه الباء يكون هو ثمن المبيع
هما موضعان في بداية البصرة
الرمح الرديني: منسوب إلى ردينة، وهي امرأة كانت تثقف الرماح، أي تقومها
خنذيذ: الفرس الطويل الصلب
سهيل نجم يطلع من نحو بلده
السدر: شجر كالأشنان يغسل بمائه الميت
مواضع في ديار قومه
القبر
باكية: زوجته وكانوا يكنون عن الزوجة(/3)
شباب الإسلام
شعر: هاشم الرفاعي
(ألقاها الشاعر في ندوة أقيمت بجمعية الشبان المسلمين مساء 9/فبراير شباط/ سنة 1959 لمناقشة انحراف الشباب، وأبان الشاعر في هذه القصيدة عن خصائص شباب الإسلام).
مَلكنا هذهِ الدنيا قُروناً وأخضَعَها جدودٌ خالدونا
وسطَّرنا صحائفَ من ضياءٍ فما نسيَ الزمانُ ولا نسينا
حملناها سيوفاً لامعاتٍ غداةَ الروعِ(1) تأبى أنْ تلينا
إذا خرجَتْ من الأغمادِ يوماً رأيتَ الهولَ والفتحَ المبينا
وكنُّا حينَ يرمينا أناسٌ نُؤدِّبهمْ أباةً قادرينا
وكنَّا حينَ يأخُذنا ولي بطغيانٍ ندوسُ لهُ الجبينا
تفيضُ قُلوبُنا بالهديِ بأساً فما نُغضي عن الظلمِ الجُفونا
وما فتىءَ الزمانُ يدور حتى مضى بالمجدِ قومٌ آخرونا
وأصبحَ لا يُرى في الركبِ قومي وقد عاشوا أئِمَّتَهُ سنينا
وآلمني وآلمَ كلِّ حرٍ سؤالُ الدهرِ: أين المسلمونا ؟
تُرى هل يرجعُ الماضي ؟ فإني أذوبُ لذلكَ الماضي حنينا
بَنَينا حُقبةً في الأرض مُلكاً يدعِّمهُ شبابٌ طامحُونا
شبابٌ ذَلَّلوا سُبلَ المَعالي وما عَرفوا سوى الإسلامِ دينا
تَعَهَّدَهمْ فأنبتهمْ نباتاً كريماً طابَ في الدنيا غَصونا
همُ وردوا الحياضَ مباركاتٍ فسالتْ عندَهمْ ماءً مَعينا
إذا شهِدوا الوغى كانوا كُماةً يدكُّونَ المعاقلَ والحُصونا
وإنْ جنَّ(2) المساءُ فلا تراهم من الإشفاقِ إلا ساجِدينا
شبابٌ لمْ تُحطِّمهُ الليالي ولمْ يُسلمْ إلى الخصمِ العرينا
ولم تشهدُهُمُ الأقداحُ يوماً وقد ملأوا نواديهم مُجونا
وما عرفوا الأغاني مائعاتٍ ولكنَّ العُلا صِيغَتْ لُحونا
وقد دانوا بأعظَمِهِمْ نِضالا وعلماً، لا بأجرِئِهمْ عيونا!
فيتَّحدونَ أخلاقاً عِذاباً ويأتلفُون مُجتمعاً رزينا
فما عَرَفَ الخلاعَةَ في بناتٍ ولا عَرَف التخنُّثَ في بنينا
ولم يتشدَّقوا بقشورِ علمٍ ولمْ يتقيّبوا في المُلحدينا
ولم يتبجحوا في كلِّ أمرٍ خطيرٍ كيْ يقالَ مثقفونا
كذلكَ أخرجَ الإسلامُ قومي شباباً مُخلصاً حراً أمينا
وعلَّمهُ الكرامةَ كيف تُبنى فيأبى أنْ يُقَّيدَ أو يهونا
دعوني من آمانٍ كاذباتٍ فلم أجدِ المُنى إلا ظُنونا
وهاتوا لي منَ الإيمانِ نوراً وقَوُّوا بينَ جنبيَّ اليَقينا
أمدُّ يدي فأنتزعُ الرواسي وأبنِ المجدَ مؤتلقاً مكينا
(1) الروع: الحرب.
(2) جن الليل: أظلم.(/1)
شباب الصحوة وأمن الدولة
العالم الإسلامي الآن يموج بالفتن , الكل حائر خائف يتخبط بين ظلمة الجهل وسكرة الهوى , والأمة الآن تنشد الأمن الذي هو أعظم نعمة وقد امتن الله بها على قريش كما قال تعالى : {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ (4)} [سورة قريش : 3-4]
فأمن بلاد الإسلام وظيفة كل مسلم ومن ذلك ينشأ أمن المسلمين , ففي هذه الفتن العارمة والظنون التي غلبت على أبناء المسلمين يجب على شباب الصحوة أن يقفوا مع علماءهم وقفة , وقفة طلب للنصح والاسترشاد لا وقفة كبر وعناد , فواقع الأمة مرير والوهن دب إلى البدن حتى أنك ترى أمة وهي تحتضر بعد أن كانت سيدة الأمم , فكيف يعود للأمة مجدها وكيف نجلب الأمن لها .
فهل نشر القلق والاضطراب والتفجير والتخريب يجلب لها الأمن وهل كل منكر أنا مطالب بتغييره , من كان يتخيل أن أعظم بقعة على ظهر الأرض وهي أرض الحرمين يحدث فيا الترويع والخوف والقتل تحت مسمى تغيير المنكر .
لقد عاش النبي صلى الله عليه وسلم في مكة بين أصنام تعبد وبين أوثان يشرك بها مع الله , ورغم ذلك انظر كيف أزال هذا المنكر وكيف أزاحه , تخيل لو أمر النبي صلى الله عليه وسلم كل شاب أسلم أن يسطو على هذه الأصنام لكسرها ورؤوس الكفر فقطعها أكان يكون للإسلام وجود على ظهر الأرض , لقد حكم المسلمين بغاة وطغاة كالحجاج ومن على شاكلته وما رأينا أحدا من الصحابة خرج عيه أو أجاز الخروج وما رأينا قام بقتل وسفك إلا الخوارج الذين كانوا يسمون بالقراء .
فلا يجوز منازعتهم أو الخروج عليهم إلا بكفر واضح بين لا شبهة فيه .
عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ سَتَكُونُ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ فَمَنْ عَرَفَ بَرِئَ وَمَنْ أَنْكَرَ سَلِمَ وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ قَالُوا أَفَلَا نُقَاتِلُهُمْ قَالَ لَا مَا صَلَّوْا . (1 )
الأمة الآن تنشد من أبناءها علما وفهما , تطلب منهم دين وتقوى وعبادة , تطلب منهم صبرا على حكامهم وأمرائهم وإن رأوا منهم جورا مع دعوتهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر من قبل العلماء .
قال سفيان الثوري : لا يأمر السُّلطان بالمعروف إلا رجلٌ عالم بما يأمر ؛ عالم بما ينهى ، رفيق فيما يأمر ؛ رفيق فيما ينهى ، عدل فيما يأمر عدل فيما ينهى . ( 2)
وعن عبد الرحمن بن مهدى أيضا قال : سمعت سفيان يقول : إني لأدعو للسُّلطان _ يعنى _ بالصلاح , ولكن لا أستطيع أن أذكر إلا ما فيهم . (3 )
من يأمر ومن ينهى ؟!
الأمر بالمعروف له فقه لابد أن ينزل منازله , فليس أمر العامة كأمر الحكام والأمراء , وليس أمر العالم كالجاهل .
فهذا فرعون على عتوه وطغيانه , أرسل الله إليه موسى وهارون , وأمرهما سبحانه وتعالى بلين القول , وخفض الجناح حتى يستمع لحجتهما , بخلاف ما لو أمراه ونهياه وزجراه ؛ إذ لو تم ذلك لسُدَّ باب السماع والبيان .
قال تعالى : {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)} [سورة طه : 43-44]
فالله عز وجل يعلم أن فرعون لن يؤمن , ورغم ذلك أمر موسى باللين معه ليكون أبلغ في قبول الحجة .
ولذلك قال سبحانه مخاطبا لهما : {فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى (47)} [سورة طه 20/47]
فتدرجا في البيان والطلب حتى استمع فرعون إلى الحجة كاملة .
عن الوليد بن مسلم قال سفيان الثوري : لا يأمر السُّلطانَ بالمعروفِ إلا رجلٌ عالم بما يأمر ؛ عالم بما ينهى ، رفيقٌ فيما يأمر ؛ رفيقٌ فيما ينهى ، عدلٌ فيما يأمر عدلٌ فيما ينهى .( 4)
وكذلك الجاهل يعامل بخلاف من عنده علم , كما في قصة الأعرابي الذي بال في المسجد .
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ , فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ , فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَهْ مَهْ , قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا تُزْرِمُوهُ , دَعُوهُ , فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ , ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ : إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ , وَلَا الْقَذَرِ إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ , وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ , أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَأَمَرَ رَجُلًا مِنْ الْقَوْمِ فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ .(5 )(/1)
قال ثابت : إن صلة بن أشيم وأصحابه مر بهم فتى يجر ثوبه , فهم أصحاب صلة أن يأخذوه بألسنتهم أخذًا شديدًا , فقال صلة دعوني أكفكم أمره , فقال يا ابن أخي إن لي إليك حاجة , قال وما حاجتك قال أحب أن ترفع إزارك , قال : نعم ونعمى عين , فرفع إزاره فقال صلة لأصحابه : هذا كان أمثل مما أردتم , لو شتمتموه وآذيتموه ؛ لشتمكم .( 6)
كلام نفيس لشيخ الإسلام :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
وكذلك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ؛ لا يجب على كلِّ أحدٍ بعينه , بل هو على الكفاية كما دل عليه القرآن ، ولما كان الجهاد مِن تمام ذلك كان الجهاد أيضا كذلك , فإذا لم يقم به مَن يقوم بواجبه أثم كلُّ قادرٍ بحسب قدرته , إذ هو واجبٌ على كلِّ إنسانٍ بحسب قدرته , كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَان"ِ .(7 )
وإذا كان كذلك فمعلوم أنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإتمامه بالجهاد ؛ هو مِن أعظم المعروف الذي أمرنا به , ولهذا قيل : " ليكن أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر غير منكر" ، وإذا كان هو مِن أعظم الواجبات والمستحبات , فالواجبات والمستحبات لابد أن تكون المصلحة فيها راجحة على المفسدة , إذ بهذا بُعثت الرسل ونَزلت الكتب { وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ }[ البقرة : 205]بل كلُّ ما أمر الله به فهو صلاحٌ . وقد أثنى الله على الصلاح والمصلحين { وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ }[البقرة : 82] وذم المفسدين في غير موضع , فحيث كانت مفسدة الأمر والنهي أعظم من مصلحته ؛ لم تكن مما أمر الله به , وإن كان قد ترك واجب وفعل محرم , إذ المؤمن عليه أن يتقي الله في عباده وليس عليه هداهم .
وهذا معنى قوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } [المائدة : 105] , والاهتداء إنما يتم بأداء الواجب , فإذا قام المسلم بما يجب عليه مِن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قام بغيره مِن الواجبات ؛ لم يضرَّه ضلال الضُلاَّل , وذلك يكون تارة بالقلب , وتارة باللسان , وتارة باليد , فأما القلب فيجب بكل حالٍ إذ لا ضرر في فعله , ومَن لم يفعله فليس هو بمؤمن كما قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم " وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ " وقال " وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ " وقيل لابن مسعود : مَنْ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ ؟ فَقَالَ : الَّذِي لا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا ولا يُنْكِرُ مُنْكَرًا .( 8)وهذا هو المفتون الموصوف في حديث حذيفة بن اليمان.
وهنا يغلط فريقان مِن النَّاس : فريقٌ يترك ما يجب مِن الأمر والنهي تأويلًا لهذه الآية ؛ كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في خطبته " إنكم تقرؤون هذه الآية { عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } وإنكم تضعونها في غير موضعها , وإني سمعت النَّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول : " إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوه أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ".( 9)
والفريق الثاني : مَن يريد أن يأمر وينهى ؛ إما بلسانه وإما بيده مطلقًا ؛ مِن غير فقهٍ وحلمٍ وصبرٍ ونظرٍ ؛ فيما يصلح مِن ذلك ومالا يصلح ، وما يَقدر عليه ومالا يَقدر كما في حديث أبى ثعلبة الخشني سألتُ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "بَلْ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ , فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ وَدَعْ الْعَوَامَّ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ" ، فيأتي بالأمر والنهي معتقدًا أنه مطيعٌ في ذلك لله ورسوله ؛ وهو معتدٍ في حدوده كما انتصب كثيرٌ مِن أهل البدع والأهواء كالخوارج والمعتزلة والرافضة وغيرهم ؛ ممن غلط فيما أتاه من الأمر والنهى والجهاد على ذلك , وكان فسادُه أعظمَ مِن صلاحه , ولهذا أمر النَّبيّ صلى الله عليه وسلم بالصبر على جور الأئمة , ونهى عن قتالهم ما أقاموا الصلاة وقال : "أَدُّوا إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ وَسَلُوا اللَّهَ حَقَّكُمْ"(10 ) وقد بسطنا القول في ذلك في غير هذا الموضع .(/2)
ولهذا كان مِن أصول أهل السنة والجماعة لزوم الجماعة , وترك قتال الأئمة وترك القتال في الفتنة ، وأما أهل الأهواء كالمعتزلة , فيروْن القتالَ للأئمةِ مِن أصولِ دينهم , ويجعل المعتزلة أصول دينهم خمسة (التوحيد) الذي هو سلب الصفات , و (العدل) الذي هو التكذيب بالقدر , و (المنزلة بين المنزلتين) , و (إنفاذ الوعيد) , و (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) الذي منه قتال الأئمة.
- وقد تكلمتُ على قتال الأئمة في غير هذا الموضع - وجماع ذلك داخل في القاعدة العامة فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات , أو تزاحمت , فإنه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت , والمصالح والمفاسد , وتعارضت المصالح والمفاسد فإن الأمر والنهى , وإن كان متضمنًا لتحصيل مصلحةٍ ودفع مفسدةٍ , فينظر في المعارض له ؛ فإن كان الذي يفوت مِن المصالح أو يحصل مِن المفاسد أكثر ؛ لم يكن مأمورًا به بل يكون محرَّمًا , إذا كانت مفسدته أكثر مِن مصلحته ؛ لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة , فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها , وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر , وقلَّ أن تعوز النصوص مَن يكون خبيرًا بها وبدلالتها على الأحكام .
وعلى هذا إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروفٍ ومنكرٍ بحيث لا يفرقون بينهما , بل إما أن يفعلوهما جميعًا أو يتركوهما جميعًا , لم يجز أن يَأمروا بمعروفٍ ولا أن يَنهوا عن منكرٍ , بل ينظر فإن كان المعروف أكثر أَمر به , وإن استلزم ما هو دونه مِن المنكر , ولم يَنه عن منكرٍ يستلزم تفويتَ معروفٍ أعظمَ منه , بل يكون النهي حينئذٍ مِن باب الصدِّ عن سبيل الله , والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله , وزوال فعل الحسنات . وإن كان المنكر أغلب ؛ نهى عنه وإن استلزم فوات ما هو دونه مِن المعروف , ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه أمرًا بمنكرٍ وسعيًا في معصية الله ورسوله , وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان ؛ لم يؤمر بهما ولم ينه عنهما.
فتارةً يصلح الأمر , وتارةً يصلح النهي , وتارةً لا يصلح لا أمرٌ ولا نهي ؛ حيث كان المعروف والمنكر متلازمين , وذلك في الأمور المعينة الواقعة .
وأما مِن جهة النوع فيؤمر بالمعروف مطلقًا , وينهى عن المنكر مطلقًا , وفي الفاعل الواحد والطائفة الواحدة , يؤمر بمعروفها وينهى عن منكرها , ويحمد محمودها , ويذم مذمومها , بحيث لا يتضمن الأمر بمعروف فوات أكثر منه , أو حصول منكر فوقه , ولا يتضمن النهى عن المنكر حصول أنكر منه , أو فوات معروف أرجح منه .
وإذا اشتبه الأمر استبان المؤمن ؛ حتى يتبين له الحق , فلا يقدم على الطاعة إلا بعلمٍ ونيةٍ , وإذا تركها كان عاصيًا ؛ فترك الأمر الواجب معصية , وفعل ما نهى عنه من الأمر معصية , وهذا باب واسع ولا حول ولا قوة إلا بالله .
ومِن هذا الباب إقرار النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبى وأمثاله مِن أئمة النفاق والفجور , لما لهم مِن أعوانٍ , فإزالةُ منكره بنوعٍ مِن عقابه مستلزمةٌ إزالة معروفٍ أكثر مِن ذلك , بغضب قومه , وحميتهم , وبنفور الناس إذا سمعوا أن محمدًا يقتل أصحابه , ولهذا لما خاطب النَّاس في قصة الإفك بما خاطبهم به واعتذر منه , وقال له سعد بن معاذ قوله الذي أحسن فيه , حمى له سعد بن عبادة مع حسن إيمانه.
وأصل هذا أن تكون محبة الإنسان للمعروف , وبغضه للمنكر وإرادته لهذا وكراهته لهذا موافقة لحب الله , وبغضه وإرادته وكراهته الشرعيين , وأن يكون فعله للمحبوب , ودفعه للمكروه بحسب قوته وقدرته , فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها , وقد قال { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ }[سورة التغابن : 16] فأما حب القلب وبغضه وإرادته وكراهيته ؛ فينبغي أن تكون كاملةً جازمةً , لا يوجب نقص ذلك إلا نقص الإيمان .
وأما فعل البدن فهو بحسب قدرته , ومتى كانت إرادة القلب وكراهته كاملة تامة , وفعل العبد معها بحسب قدرته , فإنه يعطى ثواب الفاعل الكامل , كما قد بيناه في غير هذا الموضع .( 11) أهـ
نصيحة الإخوان
ويجب أن يكون الأخ معوانا لأخيه على الخير , مُذَكِّرًا له على الدَّوام , وهذا من أوجب حقوق الإخوة , ومن أسباب استمرار المحبة .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ , قِيلَ : مَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ , وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ , وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ , وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَسَمِّتْهُ(12 ) , وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ , وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ .( 13)
فيجب على العبد أن يبلغ في النصح لإخوانه ولمن يحب , فإن من علامة الإيمان أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك .(/3)
عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ .(14 )
قال الحافظ بن رجب(15 ) : في قوله تعالى : {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ } [سورة النساء : 32]
فقد فسر ذلك بالحسد , وهو تمني الرجل نفس ما أعطي أخوه من أهل ومال ؛ وأن ينتقل ذلك إليه , وفسر بتمني ما هو ممتنع شرعًا أو قدرًا , كتمني النساء أن يكن رجالا , أو يكون لهن مثل ما للرجال من الفضائل الدينية كالجهاد , والدنيوية كالميراث , والعقل , والشهادة , ونحو ذلك , وقيل إن الآية تشمل ذلك كله , ومع هذا كله فينبغي للمؤمن أن يحزن لفوات الفضائل الدينية , ولهذا أمر أن ينظر في الدين إلى من هو فوقه , وأن ينافس في طلب ذلك جهده وطاقته كما قال تعالى : { وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ (26)} [سورة المطففين : 26]
ولا يكره أن أحدا يشاركه في ذلك , بل يحب للناس كلهم المنافسة فيه ويحثهم على ذلك , وهو من تمام أداء النصيحة للإخوان , كما قال الفضيل : إن كنت تحب أن يكون الناس مثلك ؛ فما أديت النصيحة لربك , كيف وأنت تحب أن يكونوا دونك , يشير إلى أن أداء النصيحة لهم أن يحب أن يكونوا فوقه , وهذه منزلة عالية ودرجة رفيعة في النصح , وليس ذلك بواجب , وإنما المأمور به في الشرع أن يحب أن يكونوا مثله , ومع هذا فإذا فاقه أحد في فضيلة دينية اجتهد على إلحاقة , وحزن على تقصير نفسه وتخلفه عن لحاق السابقين ؛ لا حسدًا لهم على ما آتاهم الله ؛ بل منافسةً لهم وغبطةً وحزنًا على النفس بتقصيرها , وتخلفها عن درجات السابقين , وينبغي للمؤمن أن لا يزال يرى نفسه مقصرًا عن الدرجات العالية , فيستفيد بذلك أمرين نفيسين : الاجتهاد في طلب الفضائل والازدياد منها , والنظر إلى نفسه بعين النقص , وينشأ من هذا أن يحب للمؤمنين أن يكونوا خيرًا منه لأنه لا يرضى لهم أن يكونوا على مثل حاله , كما أنه لا يرضى لنفسه بما هي عليه , بل يجتهد في صلاحها , وقد قال محمد بن واسع لابنه : أما أبوك فلا كثر الله في المسلمين مثله .
فمن كان لا يرضى عن نفسه ؛ فكيف يحب للمسلمين أن يكونوا مثله مع نصحه لهم , بل هو يحب للمسلمين أن يكونوا خيرًا منه , ويحب لنفسه أن يكون خيرًا مما هو عليه , وإن علم المرء أن الله قد خصه على غيره بفضل ؛ فأخبر به لمصلحة دينية , وكان إخباره على سبيل التحدث بالنعم , ويرى نفسه مقصرًا في الشكر ؛ كان جائزًا , فقد قال ابن مسعود : ما أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني .
ولا يمنع هذا أن يحب للناس أن يشاركوه فيما خصه الله به , فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما : إني لأمر على الآية من كتاب الله فأود أن الناس كلهم يعلمون منها ما أعلم , وقال الشافعي : وددت أن الناس تعلموا هذا العلم ولم ينسب إلى منه شيء , وكان عتبة الغلام إذا أراد أن يُفْطِر يقول لبعض إخوانه المطلعين على أعماله : أخرج إليَّ ماءً أو تمرات أفطر عليها , ليكون لك أجر مثل أجري .أهـ
أخي الحبيب : تعلم قبل أن تتكلم أو تعمل , تنجو من الفتن التي أحاطت بأرجاء الأرض وأصبح الموت في طاعة الله أمنية يصعب تداركها إلا من وفقه الله وهداه للصواب .
وأسأل الله لي ولإخواني ولأمتي الهداية والتوفيق .
أبو محمد
________________________________________
( 1) مسلم (1854)
(2 ) ابو نعيم "الحلية" (6/379)
( 3) ابن الجعد "المسند" (1901)
(4 ) أبو نعيم "الحلية" (6/379)
( 5) مسلم (285)
(6 ) حلية الأولياء (2/238)
( 7) رواه مسلم (49) من حديث أبي سعيد
( 8) تذكرة الحفاظ (1/375)
(9 ) أحمد (1-17) أبو داود (4338) إبن ماجة (4005)
( 10) رواه البخاري (7052) مسلم (1843) من حديث ابن مسعود
( 11) "مجموع الفتاوى"(28/126-131)
( 12) أي يقال له : يرحمك الله
( 13) رواه مسلم (2162)
( 14) رواه البخاري (13) مسلم (45)
( 15) جامع العلوم والحكم (309)(/4)
شبابنا إلى الأمام أم إلى الوراء سر؟
إن عالمنا الإسلامي اليوم على مفترق طرق ، تجتاحه تيارات عاتية من الأفكار ، والتصورات والعادات والتقاليد التي في مجملها مخالفة للرؤية الإسلامية لما ينبغي أن يكون عليه المجتمع المسلم ، وتكمن ثالثة الأثافي في هذه التيارات أن الشباب المسلم يتعرضون إلى حرب شاملة بهدف خلق أجيال بعيدة عن دينها ومنهاجها ، في ظل استبعاد الإسلام كأسلوب حياة ، والمسجد كمحضن أساس ، وتهميش دور المدرسة ، وإشغال الآباء والأمهات عن الدور المنوط بهم ؛ فبرزت أجيال مهزومة في نفسها ، تعشق التقليد الأعمى ، وغارقة في أوحال الفساد والضياع .
ونظرًا لدور الشباب المسلم المتميّز والمتسم بالعطاء في حياة المجتمع ، لا بد من عرض مشكلاتهم ودراستها للتعرف على صفاتهم النفسية، وتحديد مواقفهم السلوكية ودوافعهم واتجاهاتهم ، التي ينطوي بعضها على الكثير من العطاء والكرم والحماس ، وينطوي بعضها الآخر على التسرع والتردد والقسوة والعنف ، وبناءً على ذلك يمكن تحديد مشكلات الشباب المسلم على النحو الآتي :-
- مشكلات جسمية ( بدنية وصحية )
- مشكلات نفسية
- مشكلات اجتماعية
- مشكلات ثقافية
أولاً : المشكلات الفسيولوجية ( الصحية والبدنية ) :-
يمكن القول: إن مرحلة الشباب تتميز بالنضوج الجسمي ، والطاقة الزائدة ، التي تترافق معها العديد من الحاجات، والمشكلات تبرز بصورة واضحة من خلال : مشكلة التعب السريع ، والمعاناة من أوجاع الرأس ، والضعف البدني ، وكثرة الغياب عن المدرسة بسبب المرض ، وفقدان الشهية للطعام ، وغيرها .
من جانب آخر تبرز بعض المشكلات المتعلقة بشكل الشباب مثل البشرة غير الصافية ( حبّ الشباب ) ، وقصر القامة المفرط ، وطولها المفرط ، والسمنة والنحافة إلى غير ذلك مما نجده لدى الشباب خلال بدايات نضوجهم الجسدي .
ويكاد الشباب -ذكورًا وإناثًا- يكونون عرضة لمعظم هذه المشاكل التي يحتاج علاجها إلى تضافر عدة جهات؛ لتحقيق نتائج ملموسة تمنح الشباب القدرة على التعامل معها كأمر طبعي يكون الزمن فيه جزء من العلاج ، وفي حال تفاقم أي من هذه المشكلات فان مراجعة الطبيب أو المدرسة من قبل أولياء الأمور تصبح مسألة ملحة وضرورية لوضع الحلول المناسبة خوفا من تأثيراتها على شخصية الشاب مستقبلاً ، وبشيء من المجازفة يمكن القول أن المشكلات الفسيولوجية هي أسهل أصناف المشكلات التي تواجه الشباب كونها أصبحت عامة ، ويستطيع الشاب تقبلها وتجاوزها أحيانا .
ثانياً : المشكلات النفسية :-
إن من أكبر وأعقد المشكلات التي نتجت عن ابتعاد التربية في مجتمعاتنا عن منهج الإسلام التربوي هي خلق إنسان ضعيف غير مؤمن بأي شيء ، يخاف من ارتكاب الأخطاء قبل حدوثها ، وتسحقه الأحلام المزعجة ، ويفشل في التعلم من الأخطاء فضلاً عن تجاوزها أو نسيانها ، إضافة إلى عصبية المزاج وحدّته ، ناهيك عن سرعة الاضطراب والانفعال ، كما تقف أحلام اليقظة - إذا زادت عن حدها - عائقًا أمام تكيّف الشباب النفسي والاجتماعي مع الآخرين ، وتبرز كذلك مشكلة الخجل الشديد عند الجلوس مع الآخرين ، والقلق الدائم وعدم الشعور بالسعادة .
وغني عن القول ، إن الهروب النفسي الذي تشكّله هذه المشكلات ناتج عن غياب التربية الإسلامية القائمة على القدوة الحسنة ، وبث روح الإيمان ، والثبات على الحق والعطاء الدائم ، إضافة إلى تخلّي أحد الأبوين أو كليهما عن مسؤوليته في التربية ، أو رغبة الأب بالزواج من امرأة ثانية غير الأم ، كما يلعب سفر الأب لسنوات طويلة - بحجة العمل - إلى ضياع الأبناء ، وعدم قدرة الأم وحدها على السيطرة عليهم ، بينما قد تخلق مشكلة التمييز في المعاملة بين الذكر والأنثى مثل هذه المشكلات وغيرها ، أما القسوة والتسلط في التعامل مع الأبناء فإنه كفيل بتأجيج هذه السلبيات وتعظيمها وتكريسها في شخصية الأبناء ، وقتل روح التميّز لديهم ، وتحويلهم بالتالي إلى مجرد أرقام تضاف إلى سلسلة طويلة من الأبناء الذين نعدّهم عدّاً ولا نكاد نجد لهم أثرًا في مجتمعاتنا .
ثالثا : المشكلات الاجتماعية :-
تعاني مجموعة كبيرة من شبابنا في مجتمعاتنا الإسلامية من صور عديدة للفساد الأخلاقي، أو الانحراف نتيجة مشكلات اجتماعية من أبرزها: العلاقة مع الأشقّاء مثل التحاسد والتنافس المذموم والغيرة بسبب التمييز في المعاملة ، كذلك مشكلة العزلة الاجتماعية ، ورفاق السوء ، والقسوة والعدوانية في التعامل مع الآخرين .(/1)
ومن أهم مظاهر السلوك الناتج عن المشاكل الاجتماعية: العناد وعدم الطاعة أو العصيان ، إضافة إلى مرض السرقة الناتج عن الفقر أو شح الأوضاع الاقتصادية للأسرة أو المرض النفسي ، كما تبرز مشكلة الكذب بأنواعها الادّعائي كادعاء الشاب بأن والده يملك مصنعًا كبيرًا بينما هو عامل فيه ، أو كذب دفاعي ، أو كذب انتقامي كاتّهام شاب بريء بعمل مخالفة لم يرتكبها ، وتكثر في هذا الإطار أيضًا عمليات التخريب ، كتخريب مرافق المدرسة أو الكتابة على الجدران ، أو كسر الألواح والأعمدة ، أو الاعتداء على ممتلكات الآخرين والتحامل والعدوانية ، والغش في الامتحانات .
ولا ريب أن الأسباب الكامنة وراء هذه السلوكيات كثيرة جداً يمكن إجمالها بحياة الحرمان والفقر التي يعيشها الفرد ، يضاف إليها الخلاف والشقاق بين الوالدين ، أو الانفصال الزوجي بالطلاق ، كما تؤدي البطالة دورًا كبيرًا في إيجاد التربة المناسبة لهذه المشكلات، في حين يلعب رفاق السوء أخطر الأدوار في تسهيل ارتكاب هذه الأخطاء ، فضلاً عن التفكك الأسري بسبب جهل الآباء والأمهات بواجبهم التربوي ، أو بسبب تعدد الزوجات مع انعدام العدالة بينهن ، وقبل هذا وذاك فإن ضعف الالتزام بمنهاج الإسلام في الحياة زواجًا وعملاً وسلوكًا وتربية - بلا شك - هو العامل الأساس الذي يقذف الشاب في أتون حياة الفساد والمهالك .
رابعاً : المشكلات الثقافية :-
إن الحديث عن المشكلات الثقافية يستدعي بالضرورة التطرق إلى وسائل التثقيف ، أي الوسائل التي يحصل منها الفرد على المعرفة والثقافة والتربية كالمسجد والمدرسة والجامعة ، ووسائل الإعلام المختلفة ، حيث يبدو أن جميع هذه الوسائل - باستثناء المسجد- قد تلعب دورًا ثنائيًا إيجابيًا وسلبيًا حسب طريقة توظيف هذه الوسيلة .
ومن أبرز مشكلات الشباب الثقافية الازدواجية والتناقض بين ما يشاهده أو يسمعه ، وبين القيم السائدة في مجتمعه ، مما يجعله حائرًا مشتت الفكر ، فالمسجد تم تحويله إلى مكان للعبادة فقط، وتم تغييب دوره القيادي والتربوي في بناء شخصية المسلم ، والمدرسة باتت في معظم مجتمعاتنا أداة تجهيل بصورة صارخة ، أما وسائل الإعلام فإنها تأمر وتنهى وما على شبابنا سوى السمع والطاعة - إلا من رحم الله - حيث بات التلفاز (مثلاً ) يملك القدرة على توجيه سلوك الأبناء بصورة يعجز عنها الآباء والأمهات تمامًا؛ بسبب الفراغ القاتل لدى هؤلاء الشباب وانعدام الهدف الحقيقي لحياته .
وفي الإطار ذاته ، تشكل أزمة الهوية ( وهي إحساس الشاب بالضياع ) أخطر أنواع المشاكل في مجتمع لا يساعده على فهم ذاته ، أو مواجهة تحدياته بنفسه ، وذلك في ظل إسراف وسائل الإعلام في تكريس كل ما هو بعيد عن الإسلام وقيمه ، ويبدو جليا أن التربية التي تأخذ القرآن الكريم والسنة النبوية منهاجًا ، والمسجد والأسرة المسلمة الصالحة محضنًا هي التربية الكفيلة بصناعة شاب مسلم قادر على تقديم النموذج الإسلامي المميز والصادق .(/2)
شبابنا .. والإعلام المعاصر
الشباب هم عماد كل أمة وسبيل نهضتها ، وهم عضلاتها المفتولة للبناء في سلمها ووقود حربها التي لم تنته بعد مع عدوها ، وهم الدروع التي تتحصن بها ضد من تسول له نفسه المساس بأمنها وتكديره .. وهم الأمل كذلك .. وفي مقابل ذلك هم الهدف الذي يصوب الأعداء سهام مكرهم للنيل منهم ومنها .. وأسلحتهم في ذلك ووسائلهم متعددة .. وأهمها وأخطرها (الإعلام) الذي تطور في هذا العصر بخطوات متسارعة مذهلة ، وغدت وسائل الإعلام من صحافة وإذاعة وتلفزيون وكتاب ومجلة ومسرح و… وأخيرًا الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) ، هي القوة المهيمنة على عقول وأفكار الناس عمومًا والشباب على وجه الخصوص .
وعن الواقع المؤلم لشبابنا الذي يكتوي بنار إعلام محطم للقيم يقول د. عباس محجوب في كتابه (مشكلات الشباب .. الحلول المطروحة والحل الإسلامي):
يمارس الإعلام في البلاد الإسلامية العربية - بوعي ، وبدون وعي أحيانًا - دورًا توجيهيًا مدمرًا ، بسبب أكثر ما يعانيه الشباب من تناقض بين قيم التربية التي تدرس له ، ثم ما يأتي الإعلام لنقضه وتشكيكه فيه ، الأمر الذي يوقعه في صراع نفسي وفكري ، فالصحافة لا تتورع أن تنشر حديثًا دينيًا عميقًا في صفحة ، وتنشر في الصفحة المقابلة لها صورة لحسناء فاتنة عارية أو شبه عارية.
وبينما تقابل صحفات الدول "الأيديولوجية" الخبر لتعيد نشره وفق رأيها ومعتقدها وتفسيرها للأمر ، تأخذ صحافتنا الخبر ذاته من وكالات الأنباء لتنشره ، دون تفكير فيه أحيانًا ، حتى أصبحت الوكالات تدس لهم أخبارًا يعلمون أنها ستنشر كما هي ، ولأنّ صحافتنا في مجملها تعاني عجزًا في المادة ، وقصورًا في تقديم الجديد المبتكر ، فإنها - وبغياب الفكرة والهدف من إنشائها - تقدم كل شيء متناقض ، ولا تلتزم بفكر ، ولا تعمل لهدف إلا الكسب المادي _ كما هو واقع الكثير الغالب _ لذلك كله تجد المقالات التي تشكك في القيم الأساسية ، وتدعو إلى الفجور ، وترضى - باسم الحرية - كل شيء حتى بعض ما يسيء إلى هيبة الدولة وأمنها وأسرارها.
وكذلك الحال في الإذاعتين المسموعة والمرئية ؛ فكلتاهما تستقطب الناس جميعًا ؛ المتعلمين وغير المتعلمين ، غير أن تأثير الإذاعة المرئية "التلفزيون" أعظم خطرًا ، وأبعد أثرًا في عقول الناس وآرائهم بعامة والشباب بخاصة .
والجهازان يعانيان من الإفلاس في الفكر والبرامج النافعة ، ويعتمدان على التمثيل الهابط ، والمعالجات التي لا تتصل بالواقع ، والمشكلات التي لا تعاني منها الدول التي تبث منها، إلا في القليل النادر، وكان الأولى كما يقول د. محجوب : على أجهزة الإعلام أن تشارك في تربية الشباب وبناء الأجيال ليكونوا رجالاً وصنّاعًا ومنتجين ، وليكونوا قوة بناء وحماية لدولهم ، وليكونوا علماء لا يعيشون على فتات الأمم ، ومساوئها في العادات والتقاليد والاهتمامات التي لا تحتاج إلى جهد وعلم في الحياة.
والشباب في مرحلة المراهقة مهيؤون أكثر من غيرهم لتقمص الشخصيات التن ي تنسخها أفكار وخيالات الكتاب ، وتزينها إبداعاتهم وتنفذها براعة الممثلين وتقمصهم ، وقبل ذلك تنسخ قوالبها سياسة تلك الوسيلة الإعلامية ، فرأينا الأوضاع مقلوبة : فالأقزام يتعملقون، والهوامش يُشار إليهم بالبنان ، والتوافه هم الأكثر جاذبية ويسيل لعاب الأمنيات نحوهم ، وفي مقابل ذلك لا نرى أثرًا للعمالقة ؛ وإذا ما ذُكروا فإما تهمّش أدوارهم أو تشوه صورتهم ، وما تزال صورة المعلمين وعلماء الدين على شاشات التلفاز أو السينما تثير الاشمئزاز والسخرية ، فذهبت هيبة الدين واللغة والتقاليد، وتحطمت الأخلاق والقيم بتحطيم هذه الشخصيات وتشويهها .. وقد أصاب هؤلاء الماكرون الشباب في مقتل حينما غيّبوا قدوتهم التي ينبغي لهم أن يقتدوا بها بل وشوهوها ومسخوها فأصبحت مثار سخرية وتندّر .. فإلى من يلجأ الشباب إذن ليكون قدوته ؟
لا بد أن يتجه إلى من يُزينهم الإعلام ويفرضهم فرضًا ليقتدي به المراهق الحائر ، فإذا تفرست في أزياء الشباب ترى عجبًا ، فهذا يعلّق لاعبا علقه ، وذاك يزيّن قميصه بصورة ممثل أو ممثلة لا فرق ! حتى أزياء غير المسلمين التي تحمل أعلام دولهم لا يجد الشباب حرجًا أن يرتديها ، ولو كان فيها الصليب النصراني أو الصليب النازي المعقوف ، وأصبحت لا تفرق بين جنس الشباب أذكر هو أم أُنثى لتشابه الحركات والأزياء ، وما كان بالأمس غريبًا وعجيبًا أضحى اليوم شائعًا بل الغريب ألا يُجارى .
ويفصل د. عباس محجوب بين ما يخططه غيرنا لشبابهم وما يكابده شبابنا من تجهيل وتسطيح لأفكارهم إعلاميًا ، فيقول : تقوم أجهزة الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة في الدول ذات الأيديولوجيات والأفكار بدور رائد في توجيه الشباب وتثقيفه وإشباعه بالعقيدة التي تؤمن بها وربط حياته بتلك الأيديولوجية التي تنطلق منها في فكرها وسياستها واقتصادها وشؤون حياتها جميعًا .(/1)
وأضاف د. محجوب : إن لوسائل الإعلام من الخطورة في عصرنا ما قلل من دور البيت والمدرسة في تربية النشء وتوجيه الشباب ، وذلك بما تملكه من وسائل الاتصال الجماهيرية المختلفة التي تقتحم البيوت والمؤسسات والمنتديات ، سواء أكانت إذاعة أم تلفازًا أم صحافة، وكل هذه الوسائل تفرض نفسها على الناس ، وتؤثر تأثيرات مباشرة ، وتجتذب أكبر عدد منهم ، ولكنها مع ذلك كله عاجزة عن أن تقدم للناس ما تثرى به حياتهم وفكرهم ، وللشباب ما يرضي طموحاتهم للثقافة والمعرفة والترفيه ، وذلك لأنها تعتمد على برامج مستوردة لمجتمعات تختلف عنا في عاداتها، وطرائق حياتها، ومشكلاتها التي تعالجها ، والحلول التي تقدمها للمشكلات ؛ هذا في غير الجوانب العلمية غير الموجهة لخدمة أغراض أخرى.
وكان من آثار ذلك ظهور أنواع الانحرافات في صفوف الشباب بسبب ما شاهدوا في فيلم أو تمثيلية ؛ حيث إن المادة المقدمة لا تميز بين جرائم القتل والاغتصاب والسرقة والمخدرات ، وبين المواد القليلة المتصلة بالنواحي العلمية. كما أن الصلة مفقودة بين أجهزة الإعلام والتربية ومنظمات الشباب باعتبارها مكملة لبعضها ومتممة.
أو يحاكي ..
وبالطبع ستكون أحلام الشباب متناسبة مع أفكارهم الجديدة وأقصى ما يتمنون أن يكونوا مثل من يقتدون بهم ، فلو سألت شابًا عن أحلامه وطموحاته لن يكون غريبًا أن تكون إجابته المباشرة أو غير المباشرة ، الظاهرة أو التي لا يصرح بها، وهي في دواخل نفسه : أتمنى أن أصبح مثل لاعب القرن(الذي سقط في أتون المخدرات ولم يخرج منها حتى الآن و رغم سقوطه الأخلاقي المدوي أعلن العالم أنه لاعب القرن ؟! ويتمنى كذلك أن يكون مثل عازف الجيتار الفلاني أو المصور العلاني .. حتى الشخصيات التاريخية الواجب الاقتداء بها لا بد أن تكون مثل بونابرت أو تشرشل أو حتى هتلر و.. واختفت أو تشوهت صورة هارون الرشيد وطارق بن زياد بعد أن نسجت حولها من لوازم الإثارة والجاذبية ، فالإمام فلان لا بد أن يعشق، وإلا فما فائدة الجنس الناعم في الفيلم أو ما يسمى البطلة!!
أما عن الغرائز والمشاعر فحدث ولا حرج _ لا سيما غريزة الجنس ـ حيث الشاب في قمة القوة والعنفوان ، وفي حالة ضاغطة تبحث عن طريق للتفريغ . وقد ساهمت وسائل الإعلام مساهمة خطيرة في استثارة غريزة الجنس لدى المراهق ، ولم تدع وسيلة شيطانية إلا وأتت بها لتدخل مخادع الشباب وتصب الزيت على موقد غريزة الجنس الغائرة لديهم عن طريق الأفلام الداعرة والمشاهد الملتهبة والقصص الغرامية التي يشترك فيها الكتاب والقصة وقصيدة الشعر وخشبة المسرح والتلفاز والسينما .. إلخ .
ومما زاد الطين بلة والجرح إيلامًا أن منافذ الخير والرعاية لهؤلاء الحيارى تقلصت ، فسدت أمام الشباب والمراهقين طرق الحلال وضيّق عليهم ارتيادها، وزادت البطالة المشكلة تعقيدًا ، فأنى لشباب في مرحلة حساسة أن يتزوج وهو لا يستطيع أن يعول نفسه ، وخاصة أن الفتيات والمرشحات للزواج لهن فارس أحلام في خيالهن يردن أن يخطفهن ، ليس على صهوة جواد بل سيارة آخر موديل وشهر عسل في أوروبا.
ومع غياب التوجيه والإرشاد أو قلته في خضم اللهو والفساد المتراكم لا بد أن ينزلق الشباب ويقع في الفخ الذي نصّبه الأعداء ،بل وسعّروا نيران الغريزة الجنسية عن طريق الإعلام، وآخر البلايا ما تبثه شبكة الإنترنت من إباحية بصورة لا تكاد تتخيل ، تدع المرء حيران ، وصاحب الهم يزداد همًا ، ماذا نفعل أمام هذا الإعصار الهائج الذي لا يُبقي في طريقه ولا يذر خلية حية إلا أصابها ، إلا ما رحم ربي.
إحصاءات
ورغم ما تفرضه الدول من رقابة فقد أحكم الشر قبضته ، ونالت سهامه من هدفها، وهو الشباب ، والإحصاءات تصدق ذلك :
ففي إحصائية عن مشاهدة الفيديو جرت بلبنان تبين أن مشاهدة الأفلام الاجتماعية والعاطفية حازت على الدرجة الأولى ، وحلت الأفلام البوليسية المرتبة الثانية ، وما أدراك ما الأفلام البوليسية ، حيث هي كما عبر أحد خبراء الإعلام بأنها تؤثر كثيرًا على سلوك المراهقين والأطفال والنساء، وقال : " إذا كانت السينما من خلال الأفلام مدرسة لتعليم الإجرام ، فإن التلفزيون جامعة يتلقى فيها الناشئة فنون العنف ليخرجوا عتاة في الإجرام" ..
وجاء في تقرير من الولايات المتحدة: أن 49 في المئة من نزلاء مؤسسة عقابية (عدد من أُجريت عليهم الدراسة 110) أعطتهم السينما الرغبة في حمل السلاح ، و 12 - 21 في المئة أعطتهم الرغبة في السرقة ومقاتلة الشرطة ..(/2)
ودراسة ثالثة أُجريت على 252 فتاة منحرفة بين سن 14 - 18 سنة تبين أن 25 في المئة منهن مارسن الجنس نتيجة مشاهدتهن لقطات جنسية مثيرة بالسينما و41 في المئة قادتهن المشاهد إلى الحفلات الصاخبة والمسارح الليلية و4 في المئة هربن من المدرسة لمشاهدة الأفلام و17 في المئة تركن المنزل لخلاف مع الأهل حول ذهابهن إلى السينما .. كما جاء في تقرير الهيئة الصحية العالمية عن انحراف الأحداث على لسان أحد القضاة الفرنسيين العاملين في ميدان الأحداث " لا يخالجني أي تردد أن لبعض الأفلام وخاصة البوليسية المثيرة معظم الأثر الضار على غالبية حالات الانحراف لدى الأحداث" ..
الإنترنت
أما عن مخاطر شبكة الإنترنت على الشباب فيكفي أنهم أكثر مرتاديها ، بعد أن تعددت وسائل الإغواء والإغراء ، فأصبح لدى الشباب خصوصية الاتصال بالفتيات إن لم يكن مسموحًا في المنزل ففي النادي أو المقهى أو غيرها ، وأصبح التعارف المشبوه هو شعار مزيف يردده الكثيرون، وأعجب ما يقال وينادي به تحت ستار الحرية البراق " دع الشباب يتعرف ويتصفح ويغوص فنحن في زمن الإنترنت" و… ولم يكذِّب الشباب خبرًا فانطلق من عقاله .. فما نتوقع وما نتيجة هذه المعادلة مراهقة + حرية +غياب وعي ورقابة ؟؟!!
ويكفي أن ندلل على النتيجة بآخر إحصاء أظهر أن واحدًا من بين كل خمسة من المراهقين الأمريكيين الذين اعتادوا الدخول إلى شبكة الإنترنت تلقوا محاولات غير مرغوبة لاستدراجهم لممارسة الجنس عبر شبكة المعلومات الدولية.
وأبلغ 19 بالمائة من 1500 من الشباب شملهم الإحصاء تتراوح أعمارهم بين العاشرة والسابعة عشرة عن محاولات لاستدراجهم لممارسة الجنس يعتقد أنها صدرت عن بالغين . وتعرف هذه المحاولات بأنها دعوات للانخراط في ممارسات جنسية أو حديث جنسي أو الإدلاء بمعلومات جنسية خاصة.
وكتب كمبرلي ميتشيل (من مركز أبحاث الجريمة ضد الأطفال بجامعة نيوهامشاير في دورام) يقول : " من منظور المخاطر .. الفتيات والشباب الأكبر سنًا ( من 14 إلى 17 عامًا) كانوا أكثر عرضة للاستدراج ، وكانت النسبة أعلى لدى الشباب الذين يعانون من المشاكل . كما ازدادت النسبة بين من يستخدمون الإنترنت أكثر ويشتركون في غرف الحوار ( أو الثرثرة) .. أو يتحدثون إلى الغرباء عبر الإنترنت أو يستخدمون الإنترنت من بيوت غير بيوتهم.
وفي إنجلترا ،الإمبراطورية التي غابت عنهاالشمس، ومن خلال استجواب 1344 شخصية اختصاصية حول العلاقة بين السينما وانحراف الناشئة - أجاب ستمائة منهم بوجود علاقة بين انحراف الأحداث والسينما ، هذا ناهيك عن بعض الدراسات الغربية حول بعض السرقات الكبيرة تبين أن الدافع إليها كان تردد الأحداث بشكل متكرر في قاعات السينما .. وليس عجبا أن يأتي ذلك من الغرب ، وإنما العجب أن تنبري إحدى المدارس ويتفتق ذهن عمالقة التربية فيها فيأتوا بما لم يأتِ به الأوائل ، فيضمنون امتحان اللغة العربية سؤالاً : تخيل نفسك تسطو على بنك لسرقته ماذا نفعل ؟!!
بل نحن ماذا نفعل أمام هذه المشكلة التي تتفرع وتتعقد يومًا بعد يوم ، وبعد هذا الواقع الأليم لإعلامنا الذي يكتوي بناره شبابنا الحائر ، هل من أمل في الإصلاح أم نركب مع المنهزمين والإمعات الذين يجدفون بمجداف ليس في الإمكان أبدع مما كان ؟..
كلا لا بد أن نبدأ ، ولكنها ليست بداية من الفراغ ، بل عندنا حجر الأساس الذي يغري بالإصرار على تكملة البناء، ثم لا بد من التخطيط من جديد لإعلامنا.
أهمية التخطيط
وعن أهمية التخطيط الإعلامي يقول د. عباس محجوب : لما كان لوسائل الإعلام تأثيرها المعروف في تكوين اتجاهات الشباب وأفكارهم كان التخطيط أمرًا لازمًا ، وليس ذلك التخطيط الذي يوزع عدد الأغاني بالتساوي بين المطربين ، وعدد التمثيليات الفكاهية والعاطفية .. إلى آخر ذلك ، ولكن التخطيط الذي يعمل على تكوين الاتجاهات السليمة ، والعادات المرغوبة ، والتدريب العقلي ، والمعرفة المتنامية ، والتخطيط المرتبط بفلسفة التربية والثقافة التي تعمل الدولة لها . ولا يمنع التخطيط مراعاة تحقيق أهداف الإعلام في الترفيه عن الناس ، وتثقيفهم ، ولكن يمكن أداء ذلك كله بأن يكون الترفيه هدفًا يحمل مضمونًا للسامع والمشاهد.
وعن أهمية نشر القيم والثقافة ، قال د. محجوب :
للإعلام قدرة على نشر القيم وتدعيمها في الشباب ؛ ليس عن طريق الوعظ والإرشاد ؛ بل عن طريق التطبيق العملي لقيم الدين والثقافة، وربط الأعمال المقدمة لخدمة الأخلاق والمثل ، وإيجاد القيادات الشابة من المبرزين منهم في دينهم وسلوكهم كنماذج حية لهم ، بالإضافة إلى نشر التراث والتعريف به ، وتخليصه مما نسب إليه ، وتوجيه الشباب ليخدم دينه وثقافته بنشره بين الناس ، والمشاركة في كل عمل يحقق تلك الأهداف .(/3)
ويمكن للإعلام إبراز كل عمل يقوم به الشباب في مجال التعليم ومحو الأمية ، والمواسم الثقافية ، والأعياد القومية ، والمسابقات الفردية والجماعية ليكون ذلك كله حافزًا إلى مزيد من الإبداع والاجتهاد.
ويقتضي هذا أن تقوم أجهزة الإعلام بتقديم المناهج الدراسية مسموعة ومرئية للمراحل المختلفة ، بل وتتيح فرصًا أكبر للشباب بالمشاركة في تقديم البرامج المختلفة ، وخاصة من أظهروا مواهب في الأدب ، أو التمثيل ، أو الإلقاء ، أو غير ذلك من المواهب التي تحتاج إلى صقل وتوجيه وتشجيع.
ذاك هو الواقع وهذا هو المأمول ، ويبقى السؤال الحائر الذي تزداد الإجابة عليه غموضًا مع تغوّل الإعلام وهيجانه في عصر العولمة التي ما ابتدعت إلا لتصيب الإسلام وأهله في مقتل وشبابه بالذات .. الخطب جلل .. ومقال كهذا أهون من أن يجيب عن التساؤل " ماذا يفعل الشباب أمام غول الإعلام .. والمسؤولية كما هي مضاعفة فهي مشتركة .. فالكل مطلوب منه أن يأخذ بطرف منها لنعود ونقول بالفم الملآن " شبابنا هم عدتنا وعتادنا وهم أملنا وضياؤنا" وسلمت يا شباب.(/4)
شبابنا إلى الأمام أم إلى الوراء سر؟
إن عالمنا الإسلامي اليوم على مفترق طرق ، تجتاحه تيارات عاتية من الأفكار ، والتصورات والعادات والتقاليد التي في مجملها مخالفة للرؤية الإسلامية لما ينبغي أن يكون عليه المجتمع المسلم ، وتكمن ثالثة الأثافي في هذه التيارات أن الشباب المسلم يتعرضون إلى حرب شاملة بهدف خلق أجيال بعيدة عن دينها ومنهاجها ، في ظل استبعاد الإسلام كأسلوب حياة ، والمسجد كمحضن أساس ، وتهميش دور المدرسة ، وإشغال الآباء والأمهات عن الدور المنوط بهم ؛ فبرزت أجيال مهزومة في نفسها ، تعشق التقليد الأعمى ، وغارقة في أوحال الفساد والضياع .
ونظرًا لدور الشباب المسلم المتميّز والمتسم بالعطاء في حياة المجتمع ، لا بد من عرض مشكلاتهم ودراستها للتعرف على صفاتهم النفسية، وتحديد مواقفهم السلوكية ودوافعهم واتجاهاتهم ، التي ينطوي بعضها على الكثير من العطاء والكرم والحماس ، وينطوي بعضها الآخر على التسرع والتردد والقسوة والعنف ، وبناءً على ذلك يمكن تحديد مشكلات الشباب المسلم على النحو الآتي :-
- مشكلات جسمية ( بدنية وصحية )
- مشكلات نفسية
- مشكلات اجتماعية
- مشكلات ثقافية
أولاً : المشكلات الفسيولوجية ( الصحية والبدنية ) :-
يمكن القول: إن مرحلة الشباب تتميز بالنضوج الجسمي ، والطاقة الزائدة ، التي تترافق معها العديد من الحاجات، والمشكلات تبرز بصورة واضحة من خلال : مشكلة التعب السريع ، والمعاناة من أوجاع الرأس ، والضعف البدني ، وكثرة الغياب عن المدرسة بسبب المرض ، وفقدان الشهية للطعام ، وغيرها .
من جانب آخر تبرز بعض المشكلات المتعلقة بشكل الشباب مثل البشرة غير الصافية ( حبّ الشباب ) ، وقصر القامة المفرط ، وطولها المفرط ، والسمنة والنحافة إلى غير ذلك مما نجده لدى الشباب خلال بدايات نضوجهم الجسدي .
ويكاد الشباب -ذكورًا وإناثًا- يكونون عرضة لمعظم هذه المشاكل التي يحتاج علاجها إلى تضافر عدة جهات؛ لتحقيق نتائج ملموسة تمنح الشباب القدرة على التعامل معها كأمر طبعي يكون الزمن فيه جزء من العلاج ، وفي حال تفاقم أي من هذه المشكلات فان مراجعة الطبيب أو المدرسة من قبل أولياء الأمور تصبح مسألة ملحة وضرورية لوضع الحلول المناسبة خوفا من تأثيراتها على شخصية الشاب مستقبلاً ، وبشيء من المجازفة يمكن القول أن المشكلات الفسيولوجية هي أسهل أصناف المشكلات التي تواجه الشباب كونها أصبحت عامة ، ويستطيع الشاب تقبلها وتجاوزها أحيانا .
ثانياً : المشكلات النفسية :-
إن من أكبر وأعقد المشكلات التي نتجت عن ابتعاد التربية في مجتمعاتنا عن منهج الإسلام التربوي هي خلق إنسان ضعيف غير مؤمن بأي شيء ، يخاف من ارتكاب الأخطاء قبل حدوثها ، وتسحقه الأحلام المزعجة ، ويفشل في التعلم من الأخطاء فضلاً عن تجاوزها أو نسيانها ، إضافة إلى عصبية المزاج وحدّته ، ناهيك عن سرعة الاضطراب والانفعال ، كما تقف أحلام اليقظة - إذا زادت عن حدها - عائقًا أمام تكيّف الشباب النفسي والاجتماعي مع الآخرين ، وتبرز كذلك مشكلة الخجل الشديد عند الجلوس مع الآخرين ، والقلق الدائم وعدم الشعور بالسعادة .
وغني عن القول ، إن الهروب النفسي الذي تشكّله هذه المشكلات ناتج عن غياب التربية الإسلامية القائمة على القدوة الحسنة ، وبث روح الإيمان ، والثبات على الحق والعطاء الدائم ، إضافة إلى تخلّي أحد الأبوين أو كليهما عن مسؤوليته في التربية ، أو رغبة الأب بالزواج من امرأة ثانية غير الأم ، كما يلعب سفر الأب لسنوات طويلة - بحجة العمل - إلى ضياع الأبناء ، وعدم قدرة الأم وحدها على السيطرة عليهم ، بينما قد تخلق مشكلة التمييز في المعاملة بين الذكر والأنثى مثل هذه المشكلات وغيرها ، أما القسوة والتسلط في التعامل مع الأبناء فإنه كفيل بتأجيج هذه السلبيات وتعظيمها وتكريسها في شخصية الأبناء ، وقتل روح التميّز لديهم ، وتحويلهم بالتالي إلى مجرد أرقام تضاف إلى سلسلة طويلة من الأبناء الذين نعدّهم عدّاً ولا نكاد نجد لهم أثرًا في مجتمعاتنا .
ثالثا : المشكلات الاجتماعية :-
تعاني مجموعة كبيرة من شبابنا في مجتمعاتنا الإسلامية من صور عديدة للفساد الأخلاقي، أو الانحراف نتيجة مشكلات اجتماعية من أبرزها: العلاقة مع الأشقّاء مثل التحاسد والتنافس المذموم والغيرة بسبب التمييز في المعاملة ، كذلك مشكلة العزلة الاجتماعية ، ورفاق السوء ، والقسوة والعدوانية في التعامل مع الآخرين .(/1)
ومن أهم مظاهر السلوك الناتج عن المشاكل الاجتماعية: العناد وعدم الطاعة أو العصيان ، إضافة إلى مرض السرقة الناتج عن الفقر أو شح الأوضاع الاقتصادية للأسرة أو المرض النفسي ، كما تبرز مشكلة الكذب بأنواعها الادّعائي كادعاء الشاب بأن والده يملك مصنعًا كبيرًا بينما هو عامل فيه ، أو كذب دفاعي ، أو كذب انتقامي كاتّهام شاب بريء بعمل مخالفة لم يرتكبها ، وتكثر في هذا الإطار أيضًا عمليات التخريب ، كتخريب مرافق المدرسة أو الكتابة على الجدران ، أو كسر الألواح والأعمدة ، أو الاعتداء على ممتلكات الآخرين والتحامل والعدوانية ، والغش في الامتحانات .
ولا ريب أن الأسباب الكامنة وراء هذه السلوكيات كثيرة جداً يمكن إجمالها بحياة الحرمان والفقر التي يعيشها الفرد ، يضاف إليها الخلاف والشقاق بين الوالدين ، أو الانفصال الزوجي بالطلاق ، كما تؤدي البطالة دورًا كبيرًا في إيجاد التربة المناسبة لهذه المشكلات، في حين يلعب رفاق السوء أخطر الأدوار في تسهيل ارتكاب هذه الأخطاء ، فضلاً عن التفكك الأسري بسبب جهل الآباء والأمهات بواجبهم التربوي ، أو بسبب تعدد الزوجات مع انعدام العدالة بينهن ، وقبل هذا وذاك فإن ضعف الالتزام بمنهاج الإسلام في الحياة زواجًا وعملاً وسلوكًا وتربية - بلا شك - هو العامل الأساس الذي يقذف الشاب في أتون حياة الفساد والمهالك .
رابعاً : المشكلات الثقافية :-
إن الحديث عن المشكلات الثقافية يستدعي بالضرورة التطرق إلى وسائل التثقيف ، أي الوسائل التي يحصل منها الفرد على المعرفة والثقافة والتربية كالمسجد والمدرسة والجامعة ، ووسائل الإعلام المختلفة ، حيث يبدو أن جميع هذه الوسائل - باستثناء المسجد- قد تلعب دورًا ثنائيًا إيجابيًا وسلبيًا حسب طريقة توظيف هذه الوسيلة .
ومن أبرز مشكلات الشباب الثقافية الازدواجية والتناقض بين ما يشاهده أو يسمعه ، وبين القيم السائدة في مجتمعه ، مما يجعله حائرًا مشتت الفكر ، فالمسجد تم تحويله إلى مكان للعبادة فقط، وتم تغييب دوره القيادي والتربوي في بناء شخصية المسلم ، والمدرسة باتت في معظم مجتمعاتنا أداة تجهيل بصورة صارخة ، أما وسائل الإعلام فإنها تأمر وتنهى وما على شبابنا سوى السمع والطاعة - إلا من رحم الله - حيث بات التلفاز (مثلاً ) يملك القدرة على توجيه سلوك الأبناء بصورة يعجز عنها الآباء والأمهات تمامًا؛ بسبب الفراغ القاتل لدى هؤلاء الشباب وانعدام الهدف الحقيقي لحياته .
وفي الإطار ذاته ، تشكل أزمة الهوية ( وهي إحساس الشاب بالضياع ) أخطر أنواع المشاكل في مجتمع لا يساعده على فهم ذاته ، أو مواجهة تحدياته بنفسه ، وذلك في ظل إسراف وسائل الإعلام في تكريس كل ما هو بعيد عن الإسلام وقيمه ، ويبدو جليا أن التربية التي تأخذ القرآن الكريم والسنة النبوية منهاجًا ، والمسجد والأسرة المسلمة الصالحة محضنًا هي التربية الكفيلة بصناعة شاب مسلم قادر على تقديم النموذج الإسلامي المميز والصادق(/2)
شبابنا والإعلام المعاصر
الشباب هم عماد كل أمة وسبيل نهضتها ، وهم عضلاتها المفتولة للبناء في سلمها ووقود حربها التي لم تنته بعد مع عدوها ، وهم الدروع التي تتحصن بها ضد من تسول له نفسه المساس بأمنها وتكديره .. وهم الأمل كذلك .. وفي مقابل ذلك هم الهدف الذي يصوب الأعداء سهام مكرهم للنيل منهم ومنها .. وأسلحتهم في ذلك ووسائلهم متعددة .. وأهمها وأخطرها (الإعلام) الذي تطور في هذا العصر بخطوات متسارعة مذهلة ، وغدت وسائل الإعلام من صحافة وإذاعة وتلفزيون وكتاب ومجلة ومسرح و… وأخيرًا الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) ، هي القوة المهيمنة على عقول وأفكار الناس عمومًا والشباب على وجه الخصوص .
وعن الواقع المؤلم لشبابنا الذي يكتوي بنار إعلام محطم للقيم يقول د. عباس محجوب في كتابه (مشكلات الشباب .. الحلول المطروحة والحل الإسلامي):
يمارس الإعلام في البلاد الإسلامية العربية - بوعي ، وبدون وعي أحيانًا - دورًا توجيهيًا مدمرًا ، بسبب أكثر ما يعانيه الشباب من تناقض بين قيم التربية التي تدرس له ، ثم ما يأتي الإعلام لنقضه وتشكيكه فيه ، الأمر الذي يوقعه في صراع نفسي وفكري ، فالصحافة لا تتورع أن تنشر حديثًا دينيًا عميقًا في صفحة ، وتنشر في الصفحة المقابلة لها صورة لحسناء فاتنة عارية أو شبه عارية.
وبينما تقابل صحفات الدول "الأيديولوجية" الخبر لتعيد نشره وفق رأيها ومعتقدها وتفسيرها للأمر ، تأخذ صحافتنا الخبر ذاته من وكالات الأنباء لتنشره ، دون تفكير فيه أحيانًا ، حتى أصبحت الوكالات تدس لهم أخبارًا يعلمون أنها ستنشر كما هي ، ولأنّ صحافتنا في مجملها تعاني عجزًا في المادة ، وقصورًا في تقديم الجديد المبتكر ، فإنها - وبغياب الفكرة والهدف من إنشائها - تقدم كل شيء متناقض ، ولا تلتزم بفكر ، ولا تعمل لهدف إلا الكسب المادي _ كما هو واقع الكثير الغالب _ لذلك كله تجد المقالات التي تشكك في القيم الأساسية ، وتدعو إلى الفجور ، وترضى - باسم الحرية - كل شيء حتى بعض ما يسيء إلى هيبة الدولة وأمنها وأسرارها.
وكذلك الحال في الإذاعتين المسموعة والمرئية ؛ فكلتاهما تستقطب الناس جميعًا ؛ المتعلمين وغير المتعلمين ، غير أن تأثير الإذاعة المرئية "التلفزيون" أعظم خطرًا ، وأبعد أثرًا في عقول الناس وآرائهم بعامة والشباب بخاصة .
والجهازان يعانيان من الإفلاس في الفكر والبرامج النافعة ، ويعتمدان على التمثيل الهابط ، والمعالجات التي لا تتصل بالواقع ، والمشكلات التي لا تعاني منها الدول التي تبث منها، إلا في القليل النادر، وكان الأولى كما يقول د. محجوب : على أجهزة الإعلام أن تشارك في تربية الشباب وبناء الأجيال ليكونوا رجالاً وصنّاعًا ومنتجين ، وليكونوا قوة بناء وحماية لدولهم ، وليكونوا علماء لا يعيشون على فتات الأمم ، ومساوئها في العادات والتقاليد والاهتمامات التي لا تحتاج إلى جهد وعلم في الحياة.
والشباب في مرحلة المراهقة مهيؤون أكثر من غيرهم لتقمص الشخصيات التن ي تنسخها أفكار وخيالات الكتاب ، وتزينها إبداعاتهم وتنفذها براعة الممثلين وتقمصهم ، وقبل ذلك تنسخ قوالبها سياسة تلك الوسيلة الإعلامية ، فرأينا الأوضاع مقلوبة : فالأقزام يتعملقون، والهوامش يُشار إليهم بالبنان ، والتوافه هم الأكثر جاذبية ويسيل لعاب الأمنيات نحوهم ، وفي مقابل ذلك لا نرى أثرًا للعمالقة ؛ وإذا ما ذُكروا فإما تهمّش أدوارهم أو تشوه صورتهم ، وما تزال صورة المعلمين وعلماء الدين على شاشات التلفاز أو السينما تثير الاشمئزاز والسخرية ، فذهبت هيبة الدين واللغة والتقاليد، وتحطمت الأخلاق والقيم بتحطيم هذه الشخصيات وتشويهها .. وقد أصاب هؤلاء الماكرون الشباب في مقتل حينما غيّبوا قدوتهم التي ينبغي لهم أن يقتدوا بها بل وشوهوها ومسخوها فأصبحت مثار سخرية وتندّر .. فإلى من يلجأ الشباب إذن ليكون قدوته ؟
لا بد أن يتجه إلى من يُزينهم الإعلام ويفرضهم فرضًا ليقتدي به المراهق الحائر ، فإذا تفرست في أزياء الشباب ترى عجبًا ، فهذا يعلّق لاعبا علقه ، وذاك يزيّن قميصه بصورة ممثل أو ممثلة لا فرق ! حتى أزياء غير المسلمين التي تحمل أعلام دولهم لا يجد الشباب حرجًا أن يرتديها ، ولو كان فيها الصليب النصراني أو الصليب النازي المعقوف ، وأصبحت لا تفرق بين جنس الشباب أذكر هو أم أُنثى لتشابه الحركات والأزياء ، وما كان بالأمس غريبًا وعجيبًا أضحى اليوم شائعًا بل الغريب ألا يُجارى .
ويفصل د. عباس محجوب بين ما يخططه غيرنا لشبابهم وما يكابده شبابنا من تجهيل وتسطيح لأفكارهم إعلاميًا ، فيقول : تقوم أجهزة الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة في الدول ذات الأيديولوجيات والأفكار بدور رائد في توجيه الشباب وتثقيفه وإشباعه بالعقيدة التي تؤمن بها وربط حياته بتلك الأيديولوجية التي تنطلق منها في فكرها وسياستها واقتصادها وشؤون حياتها جميعًا .(/1)
وأضاف د. محجوب : إن لوسائل الإعلام من الخطورة في عصرنا ما قلل من دور البيت والمدرسة في تربية النشء وتوجيه الشباب ، وذلك بما تملكه من وسائل الاتصال الجماهيرية المختلفة التي تقتحم البيوت والمؤسسات والمنتديات ، سواء أكانت إذاعة أم تلفازًا أم صحافة، وكل هذه الوسائل تفرض نفسها على الناس ، وتؤثر تأثيرات مباشرة ، وتجتذب أكبر عدد منهم ، ولكنها مع ذلك كله عاجزة عن أن تقدم للناس ما تثرى به حياتهم وفكرهم ، وللشباب ما يرضي طموحاتهم للثقافة والمعرفة والترفيه ، وذلك لأنها تعتمد على برامج مستوردة لمجتمعات تختلف عنا في عاداتها، وطرائق حياتها، ومشكلاتها التي تعالجها ، والحلول التي تقدمها للمشكلات ؛ هذا في غير الجوانب العلمية غير الموجهة لخدمة أغراض أخرى.
وكان من آثار ذلك ظهور أنواع الانحرافات في صفوف الشباب بسبب ما شاهدوا في فيلم أو تمثيلية ؛ حيث إن المادة المقدمة لا تميز بين جرائم القتل والاغتصاب والسرقة والمخدرات ، وبين المواد القليلة المتصلة بالنواحي العلمية. كما أن الصلة مفقودة بين أجهزة الإعلام والتربية ومنظمات الشباب باعتبارها مكملة لبعضها ومتممة.
أو يحاكي ..
وبالطبع ستكون أحلام الشباب متناسبة مع أفكارهم الجديدة وأقصى ما يتمنون أن يكونوا مثل من يقتدون بهم ، فلو سألت شابًا عن أحلامه وطموحاته لن يكون غريبًا أن تكون إجابته المباشرة أو غير المباشرة ، الظاهرة أو التي لا يصرح بها، وهي في دواخل نفسه : أتمنى أن أصبح مثل لاعب القرن(الذي سقط في أتون المخدرات ولم يخرج منها حتى الآن و رغم سقوطه الأخلاقي المدوي أعلن العالم أنه لاعب القرن ؟! ويتمنى كذلك أن يكون مثل عازف الجيتار الفلاني أو المصور العلاني .. حتى الشخصيات التاريخية الواجب الاقتداء بها لا بد أن تكون مثل بونابرت أو تشرشل أو حتى هتلر و.. واختفت أو تشوهت صورة هارون الرشيد وطارق بن زياد بعد أن نسجت حولها من لوازم الإثارة والجاذبية ، فالإمام فلان لا بد أن يعشق، وإلا فما فائدة الجنس الناعم في الفيلم أو ما يسمى البطلة!!
أما عن الغرائز والمشاعر فحدث ولا حرج _ لا سيما غريزة الجنس ـ حيث الشاب في قمة القوة والعنفوان ، وفي حالة ضاغطة تبحث عن طريق للتفريغ . وقد ساهمت وسائل الإعلام مساهمة خطيرة في استثارة غريزة الجنس لدى المراهق ، ولم تدع وسيلة شيطانية إلا وأتت بها لتدخل مخادع الشباب وتصب الزيت على موقد غريزة الجنس الغائرة لديهم عن طريق الأفلام الداعرة والمشاهد الملتهبة والقصص الغرامية التي يشترك فيها الكتاب والقصة وقصيدة الشعر وخشبة المسرح والتلفاز والسينما .. إلخ .
ومما زاد الطين بلة والجرح إيلامًا أن منافذ الخير والرعاية لهؤلاء الحيارى تقلصت ، فسدت أمام الشباب والمراهقين طرق الحلال وضيّق عليهم ارتيادها، وزادت البطالة المشكلة تعقيدًا ، فأنى لشباب في مرحلة حساسة أن يتزوج وهو لا يستطيع أن يعول نفسه ، وخاصة أن الفتيات والمرشحات للزواج لهن فارس أحلام في خيالهن يردن أن يخطفهن ، ليس على صهوة جواد بل سيارة آخر موديل وشهر عسل في أوروبا.
ومع غياب التوجيه والإرشاد أو قلته في خضم اللهو والفساد المتراكم لا بد أن ينزلق الشباب ويقع في الفخ الذي نصّبه الأعداء ،بل وسعّروا نيران الغريزة الجنسية عن طريق الإعلام، وآخر البلايا ما تبثه شبكة الإنترنت من إباحية بصورة لا تكاد تتخيل ، تدع المرء حيران ، وصاحب الهم يزداد همًا ، ماذا نفعل أمام هذا الإعصار الهائج الذي لا يُبقي في طريقه ولا يذر خلية حية إلا أصابها ، إلا ما رحم ربي.
إحصاءات
ورغم ما تفرضه الدول من رقابة فقد أحكم الشر قبضته ، ونالت سهامه من هدفها، وهو الشباب ، والإحصاءات تصدق ذلك :
ففي إحصائية عن مشاهدة الفيديو جرت بلبنان تبين أن مشاهدة الأفلام الاجتماعية والعاطفية حازت على الدرجة الأولى ، وحلت الأفلام البوليسية المرتبة الثانية ، وما أدراك ما الأفلام البوليسية ، حيث هي كما عبر أحد خبراء الإعلام بأنها تؤثر كثيرًا على سلوك المراهقين والأطفال والنساء، وقال : " إذا كانت السينما من خلال الأفلام مدرسة لتعليم الإجرام ، فإن التلفزيون جامعة يتلقى فيها الناشئة فنون العنف ليخرجوا عتاة في الإجرام" ..
وجاء في تقرير من الولايات المتحدة: أن 49 في المئة من نزلاء مؤسسة عقابية (عدد من أُجريت عليهم الدراسة 110) أعطتهم السينما الرغبة في حمل السلاح ، و 12 - 21 في المئة أعطتهم الرغبة في السرقة ومقاتلة الشرطة ..(/2)
ودراسة ثالثة أُجريت على 252 فتاة منحرفة بين سن 14 - 18 سنة تبين أن 25 في المئة منهن مارسن الجنس نتيجة مشاهدتهن لقطات جنسية مثيرة بالسينما و41 في المئة قادتهن المشاهد إلى الحفلات الصاخبة والمسارح الليلية و4 في المئة هربن من المدرسة لمشاهدة الأفلام و17 في المئة تركن المنزل لخلاف مع الأهل حول ذهابهن إلى السينما .. كما جاء في تقرير الهيئة الصحية العالمية عن انحراف الأحداث على لسان أحد القضاة الفرنسيين العاملين في ميدان الأحداث " لا يخالجني أي تردد أن لبعض الأفلام وخاصة البوليسية المثيرة معظم الأثر الضار على غالبية حالات الانحراف لدى الأحداث" ..
الإنترنت
أما عن مخاطر شبكة الإنترنت على الشباب فيكفي أنهم أكثر مرتاديها ، بعد أن تعددت وسائل الإغواء والإغراء ، فأصبح لدى الشباب خصوصية الاتصال بالفتيات إن لم يكن مسموحًا في المنزل ففي النادي أو المقهى أو غيرها ، وأصبح التعارف المشبوه هو شعار مزيف يردده الكثيرون، وأعجب ما يقال وينادي به تحت ستار الحرية البراق " دع الشباب يتعرف ويتصفح ويغوص فنحن في زمن الإنترنت" و… ولم يكذِّب الشباب خبرًا فانطلق من عقاله .. فما نتوقع وما نتيجة هذه المعادلة مراهقة + حرية +غياب وعي ورقابة ؟؟!!
ويكفي أن ندلل على النتيجة بآخر إحصاء أظهر أن واحدًا من بين كل خمسة من المراهقين الأمريكيين الذين اعتادوا الدخول إلى شبكة الإنترنت تلقوا محاولات غير مرغوبة لاستدراجهم لممارسة الجنس عبر شبكة المعلومات الدولية.
وأبلغ 19 بالمائة من 1500 من الشباب شملهم الإحصاء تتراوح أعمارهم بين العاشرة والسابعة عشرة عن محاولات لاستدراجهم لممارسة الجنس يعتقد أنها صدرت عن بالغين . وتعرف هذه المحاولات بأنها دعوات للانخراط في ممارسات جنسية أو حديث جنسي أو الإدلاء بمعلومات جنسية خاصة.
وكتب كمبرلي ميتشيل (من مركز أبحاث الجريمة ضد الأطفال بجامعة نيوهامشاير في دورام) يقول : " من منظور المخاطر .. الفتيات والشباب الأكبر سنًا ( من 14 إلى 17 عامًا) كانوا أكثر عرضة للاستدراج ، وكانت النسبة أعلى لدى الشباب الذين يعانون من المشاكل . كما ازدادت النسبة بين من يستخدمون الإنترنت أكثر ويشتركون في غرف الحوار ( أو الثرثرة) .. أو يتحدثون إلى الغرباء عبر الإنترنت أو يستخدمون الإنترنت من بيوت غير بيوتهم.
وفي إنجلترا ،الإمبراطورية التي غابت عنهاالشمس، ومن خلال استجواب 1344 شخصية اختصاصية حول العلاقة بين السينما وانحراف الناشئة - أجاب ستمائة منهم بوجود علاقة بين انحراف الأحداث والسينما ، هذا ناهيك عن بعض الدراسات الغربية حول بعض السرقات الكبيرة تبين أن الدافع إليها كان تردد الأحداث بشكل متكرر في قاعات السينما .. وليس عجبا أن يأتي ذلك من الغرب ، وإنما العجب أن تنبري إحدى المدارس ويتفتق ذهن عمالقة التربية فيها فيأتوا بما لم يأتِ به الأوائل ، فيضمنون امتحان اللغة العربية سؤالاً : تخيل نفسك تسطو على بنك لسرقته ماذا نفعل ؟!!
بل نحن ماذا نفعل أمام هذه المشكلة التي تتفرع وتتعقد يومًا بعد يوم ، وبعد هذا الواقع الأليم لإعلامنا الذي يكتوي بناره شبابنا الحائر ، هل من أمل في الإصلاح أم نركب مع المنهزمين والإمعات الذين يجدفون بمجداف ليس في الإمكان أبدع مما كان ؟..
كلا لا بد أن نبدأ ، ولكنها ليست بداية من الفراغ ، بل عندنا حجر الأساس الذي يغري بالإصرار على تكملة البناء، ثم لا بد من التخطيط من جديد لإعلامنا.
أهمية التخطيط
وعن أهمية التخطيط الإعلامي يقول د. عباس محجوب : لما كان لوسائل الإعلام تأثيرها المعروف في تكوين اتجاهات الشباب وأفكارهم كان التخطيط أمرًا لازمًا ، وليس ذلك التخطيط الذي يوزع عدد الأغاني بالتساوي بين المطربين ، وعدد التمثيليات الفكاهية والعاطفية .. إلى آخر ذلك ، ولكن التخطيط الذي يعمل على تكوين الاتجاهات السليمة ، والعادات المرغوبة ، والتدريب العقلي ، والمعرفة المتنامية ، والتخطيط المرتبط بفلسفة التربية والثقافة التي تعمل الدولة لها . ولا يمنع التخطيط مراعاة تحقيق أهداف الإعلام في الترفيه عن الناس ، وتثقيفهم ، ولكن يمكن أداء ذلك كله بأن يكون الترفيه هدفًا يحمل مضمونًا للسامع والمشاهد.
وعن أهمية نشر القيم والثقافة ، قال د. محجوب :
للإعلام قدرة على نشر القيم وتدعيمها في الشباب ؛ ليس عن طريق الوعظ والإرشاد ؛ بل عن طريق التطبيق العملي لقيم الدين والثقافة، وربط الأعمال المقدمة لخدمة الأخلاق والمثل ، وإيجاد القيادات الشابة من المبرزين منهم في دينهم وسلوكهم كنماذج حية لهم ، بالإضافة إلى نشر التراث والتعريف به ، وتخليصه مما نسب إليه ، وتوجيه الشباب ليخدم دينه وثقافته بنشره بين الناس ، والمشاركة في كل عمل يحقق تلك الأهداف .(/3)
ويمكن للإعلام إبراز كل عمل يقوم به الشباب في مجال التعليم ومحو الأمية ، والمواسم الثقافية ، والأعياد القومية ، والمسابقات الفردية والجماعية ليكون ذلك كله حافزًا إلى مزيد من الإبداع والاجتهاد.
ويقتضي هذا أن تقوم أجهزة الإعلام بتقديم المناهج الدراسية مسموعة ومرئية للمراحل المختلفة ، بل وتتيح فرصًا أكبر للشباب بالمشاركة في تقديم البرامج المختلفة ، وخاصة من أظهروا مواهب في الأدب ، أو التمثيل ، أو الإلقاء ، أو غير ذلك من المواهب التي تحتاج إلى صقل وتوجيه وتشجيع.
ذاك هو الواقع وهذا هو المأمول ، ويبقى السؤال الحائر الذي تزداد الإجابة عليه غموضًا مع تغوّل الإعلام وهيجانه في عصر العولمة التي ما ابتدعت إلا لتصيب الإسلام وأهله في مقتل وشبابه بالذات .. الخطب جلل .. ومقال كهذا أهون من أن يجيب عن التساؤل " ماذا يفعل الشباب أمام غول الإعلام .. والمسؤولية كما هي مضاعفة فهي مشتركة .. فالكل مطلوب منه أن يأخذ بطرف منها لنعود ونقول بالفم الملآن " شبابنا هم عدتنا وعتادنا وهم أملنا وضياؤنا" وسلمت يا شباب.(/4)
شبابنا وجحور الضِباب ...
لقد تفضل الله على هذه الأمة فأكمل لها دينها ، وأتمَّ عليها النعمة ، فرضي لها أعظم دين عرفته البشرية ، وأرسل لها أفضل مخلوق صلى الله عليه وسلم ، وأنزل لها أجل كتاب ، إنه اصطفاء تكريم ونجاة ، فأدركت الأمة في قرونها الأولى حجم هذا التكريم ، فأحسوا بمسؤولية عظيمة أمام الله تعالى تجاه هذا الدين العظيم ، ليس في أنفسهم فحسب ، بل في كل قطر من أقطار الأرض ، فراحوا يفتحون البلدان ، ويجوبون الفيافي ، ويقطعون الوديان ، ليبلغوا دين الله تعالى ، حتى حكمت الخلافة أرض الله عز وجل ، فأصبح المسلمون مناراً يهتدى به ، ونبراساً يستضاء بنوره ، أمتهم قائدة ، وبالحق ظاهرة .
ملكنا هذه الدنيا قرونا *** وأخضعها جدود خالدونا
وسطرنا صحائف من ضياء *** فما نسي الزمان وما نسينا
ودارت رحى السنين ، لتطحن في شبابنا هويتهم الإسلامية ، فضعفت الهمم ، وانهزمت أمام تيارات الغرب والشرق ، حتى لهى شبابنا بأتفه الأمور ، وأهون الأشياء ، فتناسوا تاريخهم ، وانشغلوا عن ماضيهم ، فأضاعوا حاضرهم ومستقبلهم ، فانساقت منهم طائفة خلف وهم السعادة ، يبحثون عنها فلم يجدوا إلا سرابها .
وما فتئ الزمان يدور حتى *** مضى بالمجد قوم آخرونا
وأصبح لا يرى في الركب قومي *** وقد عاشوا أئمته سنينا
وآلمني وآلم كل حر *** سؤال الدهر أين المسلمونا
نعم أين المسلمون : وقد تعلقت فئة من شبابهم بأذيال أرذل الخلق ، فتشبهوا بأخلاقهم ، ولباسهم ، وعاداتهم ، حتى أصبح الفخر بما يلبسون ، وما يتكلمون ، وما يفكرون .
وصلى الله وسلم على الرحمة المهداة الذي خشي على أمته من هذا الانصياع والتراجع عن الدين فقال : ( لتتبعن سنن من كان قبلكم ، حذو القذة بالقذة ، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ، قالوا : يا رسول الله ، اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟ )) رواه البخاري ومسلم .
وقال صلى الله عليه وسلم : (( لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَأْخُذَ أُمَّتِي بِأَخْذِ الْقُرُونِ قَبْلَهَا شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاع ،ٍ فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، كَفَارِسَ وَالرُّومِ ؟ فَقَالَ : وَمَنِ النَّاسُ إِلَّا أُولَئِكَ )) رواه البخاري.
فتأمل _ يا رعاك الله _ كيف أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه سيكون في أمته مضاهاة لليهود والنصارى وهم أهل الكتاب ، ومضاهاة لفارس والروم وهم الأعاجم .
واليوم نشهد جميعاً أحوالاً غريبة وتصرفات مريبة من بعض شبابنا هدانا الله وإياهم : اللباس غير لباسنا ، والألفاظ غريبة على لغتنا ، حتى حاولوا تغيير الخلقة لتناسب الطريقة الأجنبية !!
وليت أن الأمر استقر على طريقة واحدة فحسب ، بل ما بين فترة وأخرى نرى أشكالاً جديدة ، ملامحها : البعد عن سنة الحبيب صلى الله عليه وسلم و هدي السلف الصالح رضي الله عنه ، فحينما نتساءل عن هذا الوضع ، نجاب بأنها الموضة الجديدة التي يشاهدها أبناؤنا عبر بعض القنوات الفضائية !! ولو تأملت فيها لوجدت أن غايتها تأنيث الرجال ، وقتل حياء النساء .
وليحذر المسلمون من أن يعتقدوا أن التشبه قضية سطحية لا عمق لها ، بل إن لها أبعادًا خطيرة ، وخطيرة جداً ، وهذه الأبعاد أدركها سلفنا فأبوا أن يقلدوا الكفرة في كل صغير وكبير ، فهذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول : (( أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سمتاً وهديًا ، تتبعون عملهم حذو القذة بالقذة ، غير أني لا أدري أتعبدون العجل أم لا )) .
فهل أدركت يا أخي أن التشبه في المظهر قد يوصل إلى الانسلاخ من الدين والعقيدة !!
لنتساءل : لماذا نصوم يوماً قبل عاشوراء أو يوماً بعده ؟ صحّ عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : (( صوموا التاسع والعاشر وخالفوا اليهود )) أخرجه عبد الرزاق والبيهقي وغيرهما .
لنتأمل : لماذا رسول الأمة صلى الله عليه وسلم يأمر بإعفاء اللحى وحف الشوارب ؟ يقول صلى الله عليه وسلم : ((جُزُّوا الشَّوَارِبَ وَاعْفُوا اللِّحَى وَخَالِفُوا الْمَجُوسَ )) رواه أحمد وهو صحيح .
ليعلم الذائبون من شبابنا في تفاهات التشبه بالكفرة والملحدين أن التقليد في الأزياء والعادات لن يرضي من يقلدون ويتمثلون ، حتى يتبعوهم في ملتهم ، وهذا مصداق قول الله تعالى : { وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ } .
إن سببًا خفيًا وراء هذه التقليعات الغريبة على ديار الإسلام لم يكن سريانه في النفوس في وقت قصير أو بطرق قليلة ، بل أخذ وقتًا من أعداء الدين وجهدًا ليسا باليسيرين ؛ ألا هو الهزيمة النفسية ، وسحق الثقة في تعاليم الدين ونصرته ، وغرس فكرة اقتران الرجعية بالإسلام ،وأن الحضارة صناعة الغرب فحسب !!(/1)
غير أنه من لب القول هنا في هذا المقام أن أنوه بالجهود الخيرة التي تبذلها المؤسسات التعليمية في بلادنا الحبيبة التي تجبر الطلاب على نبذ التقليد الأعمى لغير المسلمين ، يتمثل ذلك في منعهم من ارتداء أنواع من الملابس التي تحمل شعارات هدامة ، أو صور تافهة ، وإلزام الفتيات بزي موحد شعاره الحشمة والأدب ، وإنزال العقوبات الرادعة بكل من يخل بتعاليم الدين وهدي خير المرسلين ، فالحمد لله على نعمة الإسلام وعلى تطبيقه ، اللهم دلنا إلى تعاليم دينك ، وحبب إلينا سنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم ، إنك سميع مجيب .
د. فيصل بن سعود الحليبي(/2)
شبابٌ حائِر
د. عبد الكريم بكار 26/12/1426
26/01/2006
ليست الحيرة شرًا محضًا؛ فالجزم في حالات الغموض والأوضاع المتنازع في شأنها يعبر عن الجهل وضعف الوعي، لكن ذلك يجب أن يظل محدودًا بمستويات معينة، وإلا أصبح عامل شلل ومصدر يأس وإحباط.
لدى الشباب همة وتطلّع وطموح ورؤى وأحلام... وكل هذا أساسي في كل المراحل العمرية؛ لكن محدودية الخبرة وضعف المعرفة بحدود الواقع ومدى ممانعة المجالات المتاحة... تجعل الفواصل بين الممكن والمستحيل غير مدركة، وهذا يؤدي إلى السقوط في الكثير من الأوهام، ويُحدث بالتالي الكثير من الصدمات النفسية والانعكاسات السلبية. هل كل هذا طبيعي، وشيء لابد منه، أم أن هناك خللاً ما يجعل ذلك شيئًا خارجًا عما ينبغي أن يكون؟ وما أسباب هذه الوضعية الصعبة؟ وكيف يمكن التخفيف من لأوائها؟ هذا ما أريد أن أتحدث عنه؛ ولكن دعوني أشرح أولاً ما قصدته من حيرة الشباب عبر المفردات الآتية:
كثير من شبابنا حائر بين الماضي والحاضر، فهو دائم المقارنة بين ما عرفه عن الماضي المجيد والحضارة الإسلامية الزاهية، وبين واقع مفعم بالمغريات والإنجازات التقنية وألوان المرفهات، لكن شوكة الأمة فيه مخضودة، وراياتها منكسة، وهي عالة على أعدائها في جلّ ما تستهلكه، وتتنعم به حتى طباعة المصاحف وتشييد المآذن، فإن الأمة تعتمد فيهما على العتاد الذي صنعه أعداؤها أو منافسوها، شبابنا حائر بين الركون إلى ماضٍ يمده بالاعتزاز والكبرياء وبالطمأنينة والانتماء، لكنه لا يساعده في الحصول على وظيفة مرموقة، كما لا يساعد الأمة على بناء حاملة طائرات أو صناعة حاسوب صغير، وبين حاضر يجافي –أو هكذا يشعر الشباب على الأقل- مضامين الإيمان، ويبتعد كثيرًا عن متطلبات التقوى والصلاح والسعي إلى الآخرة، لكن القوى التي تشكّل هذا الواقع هي التي تأتي بالجديد، وتطوّر القديم، وتمنحه التصريح "بالولوج إلى ساحات الشهرة والمال والنفوذ والسرور". الشباب حائر في أمره بين المضي مع قلبه وبين الاستسلام لمصالحه، وهنا يأتي من يقول له: لا تناقضَ بين الولاء للماضي والانتفاع بالحاضر، وهو يقتنع بهذا لكنه عند التنفيذ العملي يجد نفسه مثل الذي يمشي على حبل مشدود، يخشى أن يسقط ذات اليمين أو ذات الشمال، وكلما مضى في مسيرته وجد أن الكلام سهل، وأن الممارسة وحدها هي التي تكشف عن الصعوبات والتحديات.
كثير من الشباب الصالح حائر في اختيار التخصص والعمل الذي يشبع من خلاله رغباته وحاجاته، ويحقق مصالحه، وفي الوقت نفسه يخدم من خلاله دينه وأمته ودعوته. في الإغراق في التخصص يجد مزية الإتقان والنجاح، ويجني الثروة، ويشعر بالتفوق. وفي التخصص الشرعي وممارسة العمل الدعوي يجد أنه يعمل لآخرته، ويستجيب لأشواق روحه وتطلعات قلبه، كما أن النجاح في العمل الدعوي قد يجعل منه شخصية عامة، يُشار إليها بالبنان، وتخفق خلفها النعال، كثير من الشباب يشعر بالندم وشيء من الإحباط لأنه درس تخصصًا، لا يحبه، ولا يجد نفسه فيه. وكثير منهم يغبطون غيرهم على تخصصاتهم، في الوقت الذي يكونون فيه موضع غبطة وحسد من غيرهم. وبعض الشباب درس شيئًا، ثم تركه، وصار يعمل في مجالٍ، لا يمت إليه بأي صلة. ومن هنا فإن كثيرًا من الشباب يتمنى لو أنه يستطيع التخصص في أكثر من مجال، والسعي فيما يعمر دنياه وآخرته.
شباب كثيرون حائرون ومترددون بين العمل الفردي والعمل الجماعي، ومنهم سمعوا كثيرًا عن إنجازات الجماعات والمجموعات، كما سمعوا كثيرًا عن عقم الأعمال الفردية والصغيرة وقلة جدواها في مواجهة الطغيان العالمي والمشروعات والمخططات والإمكانات العملاقة؛ كما أنهم سمعوا عن أخطاء الجماعات وسلبياتها وأمراضها وانشقاقاتها... مما يضعف الرغبة في العمل معها. وهم أيضًا يرون أفرادًا كثيرين ينجزون للأمة الكثير من الأعمال العظيمة دون أن يكون لهم ارتباط بأي جماعة أو تنظيم. ومن المؤسف أن هذه الوضعية تنشر في بعض البيئات الإسلامية معادلة الاستهجان والاستخفاف المتبادل، فأبناء الجماعات ينظرون إلى الشاب الذي يعمل بمفرده نظرة مشوبة بالاستغراب: كيف غابت عنه فضائل العمل الجماعي؟ وكيف نسي الآثار الواردة في التحذير من الفرقة والابتعاد عن الجماعة؟ والشاب الذي يعمل على نحو منفرد، ينظر فيرى ذهابًا وإيابًا لشباب كثيرين حوله، ويرى صولات وجولات، ثم يقول في نفسه ما قاله الأول: "أسمع جعجعة ولا أرى طحنًا". فمن هو يا ترى المصيب ومن هو المخطئ؟!(/1)
حيرة كثير من الشباب من نوع آخر: أنهم سمعوا من يقول: نحن نعيش صحوة إسلامية حقيقية وشاملة، والشواهد عليها كثيرة وكثيرة جدًا. ولهذا فنحن في خيرٍ، يشوبه بعض الشر. وسمعوا أيضًا من يقول: لم نمر في مرحلة أسوأ من المرحلة التي نعيش فيها اليوم، وقد لا تشبهها إلا مرحلة احتلال التتار لكثير من بلاد المسلمين، ولهذا فنحن في شر، يشوبه بعض الخير، والعولمة فعلت فعلها فينا؛ إذ فكّكت عرى وحدتنا، وضيّعت شبابنا، وأغوت بناتنا ونساءنا، وليس أمامنا سوى الانطواء والاعتزال وإغلاق النوافذ والأبواب، ونتيجة كل هذا اضطرب عريض في تقييم الواقع، حتى إنك لترى أهل المجلس الواحد، وقد انتقلوا من المبالغة في ذم زماننا وأوضاعنا إلى مديحه ومديحها دون الشعور بالوقوع في أي تناقض!
ما أسباب هذه الحيرة، وكيف نعالجها؟
هذا ما سنعرض له في المقال القادم بإذن الله تعالى.(/2)
شبهات حول المرأة (1) ...
موقع المنبر ...
... الشبهة الأولى: الحجاب تزمّت والدين يسر:
يدّعي بعض دعاة التبرج والسفور بأنّ الحجاب تزمّت في الدين، والدين يسر لا تزمّتَ فيه ولا تشدّد، وإباحة السفور مصلحةٌ تقتضيها مشقّة التزام الحجاب في عصرن [1].
الجواب:
1- إنَّ تعاليم الدين الإسلامي وتكاليفَه الشرعية جميعها يسر لا عسرَ فيها، قال تعالى: ?يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرٌَ? [البقرة:185]، وقال تعالى: ?وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٌٍ? [الحج:78]، وقال: ?لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهٌَ? [البقرة:232]. فهذه الآيات صريحة في التزام مبدأ التخفيف والتيسير على الناس في أحكام الشرع.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسدّدوا وقاربوا وأبشرو) [ أخرجه البخاري في الإيمان، باب: الدين يسر (39)]، وعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-إذا بعث أحدا من أصحابه في بعض أمره قال: (بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسرو) [ أخرجه مسلم في الجهاد (1732)].
فالشارع لا يقصد أبدًا إعنات المكلَّفين أو تكليفهم بما لا تطيقه أنفسهم، فكلّ ما ثبت أنه تكليف من الله للعباد فهو داخلٌ في مقدورهم وطاقتهم [عودة الحجاب (3/393)].
2- ثم لا بد من معرفة أن للمصلحة الشرعية ضوابط يجب مراعاتها وهي:
أ- أن تكون هذه المصلحة مندرجة في مقاصد الشرع، وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، فكلّ ما يحفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكلّ ما يفوّت هذه الأصول أو بعضها فهو مفسدة، ولا شك أن الحجاب مما يحفظ هذه الكليات وأن التبرج والسفور يؤدي بها إلى الفساد.
ب- أن لا تعارض هذه المصلحة النقل الصحيح، فلا تعارض القرآن الكريم؛ لأن معرفة المقاصد الشرعية إنما تمّ استنادًا إلى الأحكام الشرعية المنبثقة من أدلتها التفصيلية، والأدلة كلّها راجعة إلى الكتاب، فلو عارضت المصلحة كتابَ الله لاستلزم ذلك أن يعارض المدلولُ دليله، وهو باطل. وكذلك بالنسبة للسنة، فإن المصلحة المزعومة إذا عارضتها اعتُبرت رأيًا مذمومًا. ولا يخفى مناقضة هذه المصلحة المزعومة لنصوص الكتاب والسنة.
ج- أن لا تعارض هذه المصلحة القياس الصحيح.
د- أن لا تفوِّت هذه المصلحة مصلحة أهمّ منها أو مساوية لها.
3- قاعدة: "المشقّة تجلب التيسير" معناها: أنّ المشقة التي قد يجدها المكلف في تنفيذ الحكم الشرعي سبب شرعي صحيح للتخفيف فيه بوجه ما.
لكن ينبغي أن لا تفهم هذه القاعدة على وجهٍ يتناقض مع الضوابط السابقة للمصلحة، فلا بد للتخفيف أن لا يكون مخالفًا لكتابٍ ولا سنّة ولا قياس صحيح ولا مصلحة راجحة.
ومن المصالح ما نصّ على حُكمة الكتاب والسنة كالعبادات والعقود والمعاملات، وهذا القسم لم يقتصر نصّ الشارع فيه على العزائم فقط، بل ما من حكم من أحكام العبادات والمعاملات إلا وقد شرع إلى جانبه سبل التيسير فيه. فالصلاة مثلا شرِعت أركانها وأحكامها الأساسية، وشرع إلى جانبها أحكام ميسّرة لأدائها عند لحوق المشقة كالجمع والقصر والصلاة من جلوس. والصوم أيضا شرع إلى جانب أحكامه الأساسية رخصةُ الفطر بالسفر والمرض. والطهارة من النجاسات في الصلاة شرع معها رخصة العفو عما يشقّ الاحتراز منه. وأوجب الله سبحانه وتعالى الحجابَ على المرأة، ثم نهى عن النظر إلى الأجنبية، ورخّص في كشف الوجه والنظر إليه عند الخِطبة والعلاج، والتقاضي والإشهاد.
إذًا فليس في التيسير الذي شرعه الله سبحانه وتعالى في مقابلة عزائم أحكامه ما يخلّ بالوفاق مع ضوابط المصلحة، ومعلومٌ أنه لا يجوز الاستزادة في التخفيف على ما ورد به النص، كأن يقال: إنّ مشقة الحرب بالنسبة للجنود تقتضي وضعَ الصلاة عنهم، أو يقال: إن مشقة التحرّز عن الربا في هذا العصر تقتضي جوازَ التعامل به، أو يقال: إنّ مشقة التزام الحجاب في بعض المجتمعات تقتضي أن يباحَ للمرأة التبرّج بدعوى عموم البلوى به [انظر: عودة الحجاب (3/395-396)].
الشبهة الثانية: الحجاب من عادات الجاهلية فهو تخلف ورجعية:
قالوا: إن الحجاب كان من عادات العرب في الجاهلية، لأنّ العرب طبِعوا على حماية الشّرف، ووأدوا البنات خوفًا من العار، فألزموا النساء بالحجاب تعصبًا لعاداتهم القبلية التي جاء الإسلام بذمّها وإبطالها، حتى إنّه أبطل الحجاب [المتبرجات للزهراء فاطمة بنت عبد الله (122)]، فالالتزام بالحجاب رجعية وتخلّف عن ركب الحضارة والتقدم.
الجواب:
1- إنَّ الحجاب الذي فرضه الإسلام على المرأة لم يعرفه العرب قبل الإسلام، بل لقد ذمّ الله تعالى تبرّج نساء الجاهلية، فوجه نساء المسلمين إلى عدم التبرج حتى لا يتشبهن بنساء الجاهلية، فقال جلّ شأنه: ?وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى? [الأحزاب:33].(/1)
كما أن الأحاديث الحافلة بذمّ تغيير خلق الله أوضحت أنّ وصلَ الشعر والتنمّص كان شائعًا في نساء اليهود قبل الإسلام، ومن المعروف أنه مما تستخدمه المتبرّجات.
صحيح أنَّ الإسلام أتى فأبطل عادات ذميمة للعرب، ولكن بالإضافة إلى ذلك كانت لهم عادات جميلة أقرّها الإسلام فلم يبطلها، كإكرام الضيف والجود والشجاعة وغير ذلك.
وكان من ضمن عاداتهم الذميمة خروج النساء متبرّجات كاشفات الوجوه والأعناق، باديات الزينة، ففرض الله الحجاب على المرأة بعد الإسلام ليرتقي بها ويصونَ كرامتها، ويمنع عنها أذى الفسّاق والمغرضين [انظر: المتبرجات (122)].
2- إذا كانت النساء المسلمات راضياتٍ بلباسهن الذي لا يجعلهن في زمرة الرجيعات والمتخلفات فما الذي يضير التقدميين في ذلك؟! وإذا كنّ يلبسن الحجاب ولا يتأفّفن منه فما الذي حشر التقدميين في قضية فردية شخصية كهذه؟! ومن العجب أن تسمع منهم الدعوةَ إلى الحرية الشخصية وتقديسها، فلا يجوز أن يمسّها أحد، ثم هم يتدخّلون في حرية غيرهم في ارتداء ما شاؤوا من الثياب [المتبرجات (124) بتصرف].
3- إنّ التخلف له أسبابه، والتقدم له أسبابه، وإقحام شريعة الستر والأخلاق في هذا الأمر خدعة مكشوفة، لا تنطلي إلا على متخلّف عن مستوى الفكر والنظر، ومنذ متى كان التقدّم والحضارة متعلّقَين بلباس الإنسان؟! إنّ الحضارة والتقدم والتطور كان نتيجةَ أبحاث توصَّل إليها الإنسان بعقله وإعمال فكره، ولم تكن بثوبه ومظهره [المترجات (124-125)].
الشبهة الثالثة: الحجاب وسيلة لإخفاء الشخصية:
يقول بعضهم: إنّ الحجابَ يسهّل عملية إخفاء الشخصية، فقد يتستّر وراءه بعض النساء اللواتي يقترفن الفواحش [عودة الحجاب (3/412)].
الجواب:
1- يشرع للمرأة في الإسلام أن تستر وجهها لأن ذلك أزكى وأطهر لقلوب المؤمنين والمؤمنات. وكل عاقل يفهم من سلوك المرأة التي تبالغ في ستر نفسها حتى أنها لا تبدي وجهًا ولا كفا ـ فضلًا عن سائر بدنها ـ أن هذا دليل الاستعفاف والصيانة، وكل عاقل يعلم أيضًا أن تبرج المرأة وإظهارها زينتها يشعر بوقاحتها وقلة حيائها وهوانها على نفسها، ومن ثم فهي الأَولى أن يُساء بها الظن بقرينة مسلكها الوخيم حيث تعرِض زينتها كالسلعة، فتجرّ على نفسها وصمة خُبث النية وفساد الطوية وطمع الذئاب البشرية [عودة الحجاب (3/412-413) باختصار].
2- إنّ من المتواتر لدى الكافة أن المسلمة التي تتحجب في هذا الزمان تذوق الويلات من الأجهزة الحكومية والإدارات الجامعية والحملات الإعلامية والسفاهات من المنافقين في كل مكان، ثم هي تصبر على هذا كله ابتغاء وجه الله تعالى، ولا يفعل هذا إلا مؤمنة صادقة رباها القرآن والسنة، فإذا حاولت فاسقة مستهترة ساقطة أن تتجلبب بجلباب الحياء وتواري عن الأعين بارتداء شعار العفاف ورمز الصيانة وتستر عن الناس آفاتها وفجورها بمظهر الحصان الرزان فما ذنب الحجاب إذًا؟!
إن الاستثناء يؤيد القاعدة ولا ينقضها كما هو معلوم لكلّ ذي عقل، مع أنّ نفس هذه المجتمعات التي يروَّج فيها هذه الأراجيف قد بلغت من الانحدار والتردّي في مهاوي التبرّج والفسوق والعصيان ما يغني الفاسقات عن التستّر، ولا يحوِجهنّ إلى التواري عن الأعين.
وإذا كان بعض المنافقين يتشدّقون بأنّ في هذا خطرًا على ما يسمّونه الأمن فليبينوا كيف يهتزّ الأمن ويختلّ بسبب المتحجبات المتسترات، مع أنه لم يتزلزل مرة واحدة بسبب السافرات والمتبرجات!! [ عودة الحجاب (3/412-413)].
3- لو أن رجلًا انتحل شخصية قائد عسكري كبير، وارتدى بزته، وتحايل بذلك واستغل هذا الثوب فيما لا يباح له كيف تكون عقوبته؟! وهل يصلح سلوكه مبررًا للمطالبة بإلغاء الزي المميّز للعسكريين مثلًا خشية أن يسيء أحد استعماله؟!
وما يقال عن البزة العسكرية يقال عن لباس الفتوّ، وزيّ الرياضة، فإذا وجد في المجتمع الجندي الذي يخون والفتى الذي يسيء والرياضي الذي يذنب هل يقول عاقل: إنّ على الأمة أن تحارب شعارَ العسكر ولباس الفتوّة وزيّ الرياضة لخيانات ظهرت وإساءات تكررت؟! فإذا كان الجواب: "لا" فلماذا يقف أعداء الإسلام من الحجاب هذا الموقف المعادي؟! ولماذا يثيرون حوله الشائعات الباطلة المغرضة؟! [إلى كل أب غيور يؤمن بالله لعبد الله ناصح علوان (44)، انظر: عودة الحجاب (3/414)].
4- إن الإسلام كما يأمر المرأة بالحجاب يأمرها أن تكون ذات خلق ودين، إنه يربي من تحت الحجاب قبل أن يسدل عليها الجلباب، ويقول لها: ?وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذالِكَ خَيْرٌٌ? [الأعراف:26]، حتى تصل إلى قمة الطهر والكمال قبل أن تصل إلى قمة الستر والاحتجاب، فإذا اقتصرت امرأة على أحدهما دون الآخر تكون كمن يمشي على رجل واحدة أو يطير بجناح واحد.(/2)