على الرغم من الترحيب المصرح به وغير المصرح بالعولمة وضرورة اللحاق بركبها، من قبل كثير من المسؤولين العرب، مع هذا أقول لو صدقت النوايا، وسرنا في مشروع البناء، لأمكن تحقيق البرنامج الإسلامي والنزول به إلى أرض الواقع، بل ودعوة الآخرين إليه، وهذا ممكن عقلاً جائز وقوعه، ولكنكم قوم تستعجلون.(/23)
رسالة عاجلة من ابن العلقمي لمن يهمه الأمر
إلى أخي وصديقي العزيز الذي لم يجمعنا لقاء ولا زمان ولا مكان، ولكنه حتماً يؤمن بمثل ما أومن به، إلى أخي في العقيدة وأخي في بغض أهل السنة عموماً والصحابة خصوصاً، الذي يشعر بمثل ما كنت أشعر به ويحلم بمثل ما كنت أحلم به، وسار على دربي وطريقي في تحقيق أهدافه وغاياته، كم أنا فخور بك ومحب لك على ما قمت به من أعمال وبطولات ! من أجل إحياء الدولة العلوية، وإعادة حق قائم آل محمد المسلوب منذ مئات السنين على أرض العراق، ولكن حق على وأنت أخي في الرفض ووحدة الهدف والطريق، أن أقدم لك تجربتي في الوصول للحكم، فأنت أخي وحقت لك النصيحة ولا شك أنك تعرفني جيداً، وقرأت عنى، ودرست سيرتي، بل أنا متأكد أنك قد اقتديت بي واتبعت سبيلى ومنهجى فى تحقيق غاياتى، ولكن سأحكى قصتى لك ولغيرك ممن قد لا يعرفونها …
** فأنا محمد بن أحمد بن على بن محمد العلقمى، المشهور تاريخياً بابن العلقمى، ولدت بالكرخ معقل الروافض ببغداد سنة 593هجرية، ونشأت بها على تعاليم التشيع التى تعلمنا بغض أهل السنة وتكفير الصحابة خاصة أبى بكر وعمر، وحلمت منذ نعومة أظافرى بإزالة الخلافة العباسية السنية وإقامة الخلافة العلوية ورد حق آل البيت، ومن أجل هذا الهدف تدرعت بالتقية، وتدثرت بالخداع والمكر، ولم أبد ما أعتقد ولم أجهر بما يعتمل به قلبى من كره وبغض السنة، وقررت أن التحق بعمل قريب من دار الخلافة، حتى أتمكن من تحقيق وتنفيذ مخططاتى .
** وبالفعل التحقت كاتبا بدار الخلافة فى آخر عهد الخليفة العباسى 'الناصر لدين الله' ومازلت اترقى فى عملى بإخلاص وأرضى عنى رؤسائى فى العمل حتى أصبحت أستاذ دار الخلافة فى عهد الخليفة 'المستنصر بالله' ووثقت صلتى بولده 'عبد الله' الذى كنت أعلم جيداً أن الخلافة ستصير إليه، وكان 'عبد الله' هذا طيباً فيه كثير من سلامة الصدر، وربما يكون فيه غفلة كبيرة وضعف فى الشخصية، فتقربت من جداً، فلما تولى الخلافة سنة 640هجرية، لم يلبث حتى أمر بتعينى فى أخطر منصب بالعراق وهو منصب 'الوزارة' وتحققت المرحلة الأولى من حلمى وأصبحت وزيراً للدولة العباسية، المتحكم فيها، الآمر الناهى فى حكومتها .
** بدأت العمل تدريجياً من أجل إضعاف الدولة العباسية، وذلك كالآتى :-
1. عملت على تقليل عدد الجيش المدافع عن بغداد لأنه كان كبيراً وجيد التجهيز، فلقد كان يبلغ أكثر من مائة ألف مقاتل، منهم الأمراء الكبار، والفرسان الأبطال، فمازلت اجتهد فى صرفهم عن الخدمة، وتقليل هذا الجيش العرمرم حتى صار عشرة ألف مقاتل، لا حوا لهم ولا قوة، لا يردون عادية أى عادى .
2. عملت على زيادة نفقات الخليفة الغافل، فبنيت له القصور، ودبرت له الأموال، من حلها وحرامها وكنت أوفر فى نفقات الجند والسلاح، لتمتلأ خزائن الخليفة، وكنت أقم الولاءم الكبيرة التى ينفق عليها بالأموال الطائلة، وكلها أمور ترضى عنها مولاى الخليفة، وتضعف من دولة الخلافة، فضربت بذلك عصفورين بحجر واحد .
3. قمت بعد ذلك بالخطوة الجريئة والخطيرة، فلقد بدأت فى مراسلة التتار وكبيرهم 'هولاكو' هذا السفاح الطاغية، فأظهرت له الود والولاء والنصح، الذى ساعدنى على ذلك أخى فى الرفض والتشيع 'نصر الدين الطوسى' الذى سهل لى الاتصال بهولاكو، فلقد كان يعمل عنده وزيراً وناصحاً، وهو الذى شجعه على التقدم إلى بلاد العراق، بعدما وقف عند منتصف الهضبة الإيرانية ولم يتقدم منذ فترة، فعرضت على 'هولاكو' القدوم إلى بغداد والإستيلاء عليها وإسقاط الدولة العباسية، وألححت فى ذلك، كان هذا الأمر يوافق هوى عنده، لأن زوجته النصرانية، كانت تحرضه ليل نهار على سفك دم المسلمين، وسفارات البابا 'أوسنت الرابع' كانت تأتيه تعرض عليه نفس الفكرة، فاقتنع الرجل بالفكرة التى تضافرت عليها جهودى أنا وأخى 'نصير الدين الطوسى' وزوجة هولاكو الصليبية وسفارات بابا 'أوسنت الرابع' .(/1)
** وهكذا أخى ابن الجعفرى اكتملت المؤامرة التى ظللت سنوات طويلة أنسج خيوطها واحبكها، فالخلافة فى الداخل فى غاية الضعف والجيش فى غاية القلة والخليفة فى غاية الغفلة وبالفعل أخى جاء هولاكو بجيش مهول يقدر بمائتى ألف مقاتل، واهتزت بغداد بأسرها، وحار الخليفة الغافل ماذا يفعل ؟ فأشرت عليه بمشورة زادت من الطين بلة، بأن يرسل هدايا هزيلة لهولاكو، ليظهر أنه لا يخاف منه، وأن مقام الخليفة عال لا يرام، وأنا أعلم عقلية الطاغية هولاكو بأن هذا الأمر سيجعله يشتاط غضباً، وقد كان وهجم التتار بجيشه على حاضرة الخلافة المسكينة فى 1 صفر سنة 656 هجرية، فلم تقو على القتال سوى أربعة أيام ثم انهارت، فخرجت أنا وأهلى وعشيرتى الروافض، للقاء هولاكو، وأنا أظهر للناس أنى خارج للتفاوض معه، ثم عدت بعد الاتفاق مع هولاكو، على استدراج الخليفة وكبار أمرائه وقواده والعلماء والأعيان وسادة البلد الذين يستطيعون أن يقودوا البلد وقت الشدائد، عدت إلى بغداد، وأقنعت الخليفة الأحمق الغافل أن يخرج للقاء هولاكو بمعسكره، فخرج الغافل ومعه سبعمائه رجل من القضاة والفقهاء والعلماء ورؤوس الدولة، للتفاوض مع هولاكو كما أقنعتهم على إقتسام خراج العراق، نصف للتتار ونصف للخليفة، فلما وصلوا إلى معسكر هولاكو قتلوا جميعاً شر قتلة إلا الخليفة المسكين المذعور الذى رأى بأم عينيه ما أروعه من مشهد ذبح السبعمائة سنى ، ولا تعلم يا أخى مدى المجهود الذى بذلته أنا والطوسى، من أجل إقناع 'هولاكو' أن يقتل الخليفة المستعصم، فلقد كان متخوفاً من عواقب قتل الخليفة، وثورة المسلمين فى كل مكان، ولكننى أقنعته فى النهاية فقتل الخليفة المستعصم وكانت هذه اللحظة هى الأروع فى حياتى، فلقد انهارت أخيراً الخلافة السنية بعد قرون من حكم البلاد .
** ثم مال التتار كالوحوش الكاسرة على أهل بغداد، وقتلوا أهلها جميعاً ماعدا اليهود والنصارى فقتلوا قرابة المليونين من الرجال والنساء والأطفال، ودمروا المدينة بالكلية، ولا بأس بذلك فهم أهل السنة، دمائهم حلال لنا، مباح سفكها، لإستعادة حقنا المنهوب ! ولرفع الظلم عنا ! ومن أجل الحلم الكبير إقامة الحكومة الرافضية .
** وقام هولاكو بمكافأتى وتعيينى فى منصب الوزارة، ورغم أننى كنت وزيراً من قبل وعند خليفة مسلم وأعامل بمنتهى التعظيم والاحترام وكلمتى هى النافذة فى بلاد العراق إلا أن منصب الوزارة هذه المرة له مذاق آخر، فلقد ذهبت دولة السنة إلى غير رجعة، وكان على أن أبدأ الخطوات التنفيذية لإقامة الخلافة الشيعية والحكومة الرافضية ولكن حدث ما لم يكن فى حسبانى حدث ما الذى أنا وأنت أخى وعلى دربى أن أعرفك إياه وأنصحك به أتدرى ما حدث بعد ذلك ؟ أكيد أنت تدرى يا أخى، فهو مكتوب فى كتب التاريخ معلوم للجميع، وإياك أن تغتر بما كتبه 'ابن طباطبا' فى كتابه 'الفخرى فى الآداب السلطانية'، فهو مثلنا رافض ولا يحب أن يذكر للناس نهايتى ومأساتى .
** تصور يا أخى أننى بعدما أصبحت وزيراً عند دولة التتار على بغداد وتخيلت أن الدنيا قد أقبلت علينا معاشر الروافض، إذا بهولاكو ينصب رجلاً على بغداد اسمه 'الأمير على بهاور' ورغم أنه شيعى مثلنا ولكنه رفض التعامل معى وهمشنى تماماً، تصور يا أخى لقد أذلنى التتار أشد الذل، وعاملونى بمنتهى الاحتقار، تخيل وأننى وزيراً أركب على حصان قصير يقوده جلف تتارى، وهذا هو كل موكبى، بعدما كنت أسير أيام العباسيين فى موكب فخم ضخم يحيط بى الغلمان والفرسان من كل مكان، أصبحت مثل أقل خادم يعمل عند أحد حراسى الذين كانوا يقفون على بابى أيام العباسيين عاملنى التتار بمنتهى الإهانة والإذلال، فأصابنى الهم والحزن الشديد، وركبنى من الغيظ والنكد ما فرق قلبى، ولا أنسى يا أخى هذا اليوم الذى قابلتنى فيه امرأة عجوز، وقد رأتنى وأنا على حصانى القصير الضعيف، فقالت لى 'يا ابن العلقمى أهكذا كان بنو العباس يعاملونك ؟'
** فوقعت كلمتها فى قلبى، فزادتنى غماً وحزناً على ما أنا فيه، فلقد انهارت أحلامى وتبخرت آمالى، وأصبح كل من التتار والمسلمين يهينونى ويذلونى، ونظموا فى الشعر، فقالوا …
يا فرقة الإسلام نوحوا واندبوا **** أسفاً على ما حل بالمستعصم
دست الوزارة كان قبل زمانه **** لابن الفرات فصار لابن العلقمى
[ وابن الفرات هذا كان وزيراً فى عهد الخليفة العباسى المقتدر بالله، وكان باطنياً ردىء العقيدة، وتسبب فى اضرابات وفتن انتهت بمقتل المقتدر بالله سنة 328 هجرية ](/2)
** وهكذا اجتمعت على الهموم والأحزان والآلام، فذل الإهانة والمعاملة السيئة من التتار بالنهار، وهم ضياع الأحلام وانهيار مشروع الخلافة العلوية بالليل، فلم يقو قلبى المشحون بكل هذه الأحزان والهموم على الاحتمال وقد جاوزت الستين من عمرة، ولم يمض على سوى بضعة شهور انفطر قلبى بعدها وانصدع من صدرى، فمت مهموماً محزوناً منكوراً فى 1 جمادى الأخر سنة 656 هجرية، أى بعد أقل من خمسة شهور من سقوط العباسيين، وهذه كانت نهايتى، نزلت قبرى وحدى، ولم يشيعنى سوى نفر يسير، أسرعوا بدفنى كأنهم يتخلصون منى، أما ما حدث لى فى قبرى، فلا أخبر به أحداً أبداً، وهذه كانت نهايتى، وهى عين نصيحتى وغاية مقالتى، فاعتبر بما جرى لى ، ولا تبع نفسك لأعداء الإسلام مهما كان المقابل والثمن، والتزم بشعبك وأمتك، وإلا فالهوان والآلام والذل والأحزان هم المصير الذى ينتظرك، وكما قالوا العاقل من اعتبر بغيره ولم يعتبر به غيره .
أخوكم الهالك ابن العلقمى [عميل سابق](/3)
رسالة في أحكام قيام الليل
فضيلة الشيخ /سليمان بن ناصر العلوان 30/8/1423
15/11/2001
خص الله بعض عباده بخير عظيم وعمل كبير، وفتح لهم من أبواب الخير والطاعة ما زكت به قلوبهم وعزّت نفوسهم واستنارت صدورهم وطابت حياتهم وأنسهم ونعيمهم . وبصّرهم بطريق الحق ويسّر لهم أسباب السعادة ومنّ عليهم بلذة العبادة ومناجاة الله في أسحارهم وخلواتهم .
باتوا هنالك سجّداً وقياماًلا يعرفون سوى الحلال طعاماً قومٌ إذاجنّ الظلام عليهم خمصُ البطونِ من التعفف ضمراً
قال ثابت البناني رحمه الله (ما شئ أجده في قلبي ألذّ عندي من قيام الليل ) وقال سفيان رحمه الله ( إذا جاء الليل فرحت وإذا جاء النهار حزنت) (1 ) وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله (لأهل الطاعة بليلهم ألذ من أهل اللهو بلهوهم ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا )) ( 2)
فسبحان من تفضل على عباده بهذا النعيم قبل لقائه فحباهم من الخير والفضل ما فضلهم على كثير ممن خلق تفضيلاً فحازوا أسباب السعادة واستمسكوا بطريق النجاة فهذا فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم . قال بعضهم ( مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها ؟ قيل وما أطيب ما فيها قال محبة الله تعالى ومعرفته وذكره) ( 3) .
وقال آخر ( إنه لتمر بي أوقات أقول إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب) وقال شيخ الإسلام رحمه الله ( إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة ) (4 ) .
والحديث عن هذه المقاصد العظيمة والمطالب العالية المتعلقة بفضل قيام الليل وشأنه في حياة القلوب وعز النفوس وانشراح الصدور ونعيم الأرواح ومجاهدة النفس والهوى ودفع الأعداء أمرٌ يطول ذكره .
وليس القصد من هذه الرسالة الحديث عن ذلك فأذ كرمن أدلة الكتاب والسنة وهدي أئمة السلف ما فيه صلاح الدارين والفوز بالحسنيين وإنما القصد تقييد بعض المسائل في أحكام قيام الليل وذكر أدلتها وبيان صحيحها من سقيمها واستنباط الأحكام منها فلا تطيب الحياة إلا بهذا. ولا يعظم العلم ويثمر إلا بالفقه الصحيح والعودة إلى الدليل وفهم مقاصد الشريعة وأسرارها وتسخير الجهود في ربط الوسائل بالمقاصد والغايات وتحرير الأفهام والأفكار من وهَدِ التقليد . وتغشمُر التعصب .
فالرأي المجرد عن البرهان حجر على العقول وغلق لباب الاجتهاد وسدّ لطريقه وتضييق على المسلمين وتجهيل لفهومهم وعقولهم وهذا لا يدل عليه شرع ولا يقره عقل وصاحبه بمعزل عن العلم ولا يسمى عالماً وقد ذكر الإمام ابن عبد البر وغيره الاتفاق على أن المقلد ليس معدوداً من أهل العلم . وأن العلم معرفة الحق بدليله ( 5) وهذا حق لم يختلف فيه الناس . فلا يزال الأئمة في كل عصر ينعون على المقلد الأعمى ويذمونه ويبيّنون للناس ضرره وسوء فعله وشذوذ فتاويه فياويله إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور وقد أفتى وقضى بما يخالف الكتاب والسنة ورضى للناس رأيه ورأي إمامه ولم يرض لهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
تالله إنها فتنة عظيمة ومصيبة كبيرة هجر من أجلها القرآن وتركت السنة وظهرت الآراء والأهواء فالله المستعان.
وهذه المسألة كبيرة ولها أبعاد ومرامي وتحتاج إلى بسط وشرح وهذا المقام لا يمكن فيه ذلك ولكن هذه لطائف وإشارات دعت إليها الحاجة فإنّ ما لا يدرك كله لا يترك كله .
هذا وقد ذكرتُ في هذا الكتاب مذاهب أهل العلم ولا سيّما الأئمة الأربعة ورجحت من أقوالهم ما يقتضي الدليل ترجيحه ونبهت على مسائل يكثر الجهل بها وأخرى ليس عليها دليل صحيح وكل هذا على وجه الاختصار وإليك البيان .
المسألة الأولى :
اعلم أن الأفضل في صلاة الليل الثلث الأخير لأنه وقت نزول الرب جل وعلا ، والحديث في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
وجاء في صحيح الإمام مسلم (6 ) من طريق حفص وأبي معاوية عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من خاف أن لا يقوم آخر الليل فليوتر أوله ، ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل فإن صلاة آخر بالليل مشهودة وذلك أفضل )) وقال أبو معاوية محضورة .
ومن قام أول الليل أو أوسطه فلا مانع من ذلك وفي كل خير غيرَ أن آخر الليل أفضل لأنه الأمر الذي استقر عليه فعل النبي صلى الله عليه وسلم فقد جاء في الصحيحين (7 ) وغيرهما من طريق مسلم عن مسروق عن عائشة قالت :( من كل الليل قد أوتر رسول الله فانتهى وتره إلى السحر ) وفي رواية لمسلم من طريق يحي بن وثّاب عن مسروق عن عائشة قالت : ( من كل الليل قد أوتر رسول الله من أول الليل وأوسطه وآخره فانتهى وتره إلى السحر ) وذهب أكثر أهل العلم إلى أن الوتر من بعد صلاة العشاء ، سواء جمعت جمع تقديم مع المغرب ، أو أخرت إلى منتصف الليل ، وأما قبل صلاة العشاء فلا يصح (8 ) على الراجح.(/1)
وقد جاء في مسند الإمام أحمد (9 ) من طريق ابن هبيرة عن أبي تميم الجيشاني رضي الله عنه أن عمرو بن العاص خطب الناس يوم جمعة فقال : إن أبا بصرة حدثني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله زادكم صلاة ، وهي الوتر ، فصلوها فيما بين صلاة العشاء إلى صلاة الفجر ....) إسناده صحيح . وقال عنه ابن رجب في فتح الباري (9/ 146 ) إسناده جيد .
ومن نام عن وتره أو نسيه ، فله صلاته بعد طلوع الفجر ، قبل صلاة الصبح . فقد روى أبو داود بسند قوي والحاكم [ 1 / 302 ] وقال صحيح على شرط الشيخين من طريق محمد بن مطرف المدني عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من نام عن وتره أو نسيه فليصله إذا ذكره ) .
وهذا القول مروي عن جماعة من الصحابة والتابعين ، وهو قول الإمام مالك ، وقول للشافعي وأحمد ( 10) رحمهم الله تعالى.
وأما إذا فاته الوتر حتى طلعت عليه الشمس فقد قال بعض أهل العلم : يقضيه شفعاً . واستدلوا بما رواه مسلم في صحيحه ( 746 ) من طريق قتادة عن زرارة عن سعد بن هشام عن عائشة رضى الله عنها قالت : كان رسول الله إذا غلبه النوم أو وجع عن قيام الليل صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة ) .
والقول الثاني في المسألة : أنه يقضيه وتراً قاله طاووس ومجاهد والشعبي وغيرهم ، وحجتهم في ذلك حديث أبي سعيد ، وقد سبق ذكره ، ولفظه ( من نام عن وتره أو نسيه فليصله إذا ذكره ) فهذا الخبر يدل على مشروعية قضاء الوتر بعد طلوع الشمس لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : ( إذا ذكره ) وقد قال الأوزاعي : ( يقضيه نهاراً وبالليل ما لم يدخل وقت الوتر بصلاة العشاء الآخرة ، ولا يقضيه بعد ذلك لئلا يجتمع وتران في ليلة (11 ). وأما خبر عائشة السابق فقد قيل ليس فيه نفي الوتر ، فلعله أوتر أول الليل مقتصراً على أقل العدد لغلبة النوم أو الوجع ، فلما أصبح صلى قيام الليل . وفي هذا التوجيه نظر . ويبعد حمل حديث عائشة على أنه أوتر أول الليل فإن هذا الأمر لو حدث لبينت ذلك عائشة فإن هذا الحكم من الأهمية بمكان .
والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم لم يوتر .. وقول عائشة رضي الله عنها ((صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة )) يدل على ذلك فإنه لو أوتر أول الليل لصلى من النهار عشر ركعات فقد قالت عائشة رضي الله عنها ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة )) متفق عليه .
ويجاب عن حديث أبي سعيد بأنه لم يقل بعمومه أحد من الصحابة والمنقول عن بعضهم الوتر بعد طلوع الفجر قبل صلاة الصبح فيحمل الحديث على قضاء الوتر في هذا الوقت فإنه لا تعارض بين قوله صلى الله عليه وسلم وفعله والله أعلم .
وأما من ترك الوتر متعمداً حتى طلع الفجر ، فالحق أنه قد فاته ، وليس له حق القضاء . ففي حديث أبي سعيد وقد تقدم تقييدُ الأمر بالقضاء فيمن نام عن وتره أو نسيه ، فدل مفهوم الخبر أن العامد بخلاف ذلك . وقد روى ابن خزيمة في صحيحه ( 1092 ) من طريق أبي داود الطيالسي عن هشام الدستوائي عن قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (( من أدركه الصبح ولم يوتر فلا وتر له )) وأصل الحديث في صحيح مسلم ( 754 ) بدون هذا اللفظ وهو محمول على التعمد دون النوم والنسيان في أصح أقاويل أهل العلم والله أعلم .
المسألة الثانية : ( في عدد ركعات قيام الليل ) .
ثبتت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه لا يزيد في قيام الليل لا في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة .
فقد جاء في الصحيحين وغيرهما من طريق مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه أخبره أنه سأل عائشة رضي الله عنها كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالت : ( ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة ، يصلى أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلى ثلاثاً..... ) ( 12)
قال ابن عبد البر رحمه الله : ( وأكثر الآثار على أن صلاته كانت إحدى عشرة ركعة ) ( 13)
وروى مالك في الموطأ بسند صحيح عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد أنه قال: أمر عمر بن الخطاب أبي بن كعب وتميماً الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة....) ( 14)
وما جاء أن الناس كانوا يقومون في زمان عمر بن الخطاب في رمضان بثلاث وعشرين ركعة. فلا يصح . رواه مالك ( 15) وغيره بسند منقطع .
وجاء عند عبد الرزاق ( 16) عن داود بن قيس وغيره عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد أن عمر جمع الناس في رمضان على أبي بن كعب وعلى تميم الداري على إحدى وعشرين ركعة .....) .(/2)
وهذا الخبر غير محفوظ . ورواية مالك عن محمد بن يوسف بإحدى عشرة ركعة أصح من رواية داود . وأهل العلم بالحديث يقدمون مثل مالك على من دونه بالحفظ فتقرر بهذا أن السنة عدم الزيادة على إحدى عشرة ركعة ، لأن هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، الذي داوم عليه ولم يذكر عنه خلافه وعليه جرى العمل في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه ووافقه عليه الصحابة ولم يأت عن أحد منهم شيء صحيح يخالف هذا وغاية ما يحتج به القائلون بسنية ثلاث وعشرين ركعة عمومات صحّ تقييدها ، واجتماع الناس في عهد عمر على ذلك وهذا لا يصح والمحفوظ أنّه جمعهم على إحدى عشرة ركعة وقد تقدم على أن ترجيح هذا القول لا يجعل القول الآخر بدعة أو ضلالة فالمسألة اجتهادية والخلاف فيها محفوظ .
وقد قال أكثر أهل العلم بالزيادة ورأوا أن من صلى عشرين ركعة أو ثلاثاً وعشرين أو أكثر أنه مصيب ومأجور.
وذكر الإمام ابن عبد البر رحمه الله إجماع العلماء على هذا فقال ( وقد أجمع العلماء على أن لاحدّ ولاشيء مقدراً في صلاة الليل وأنها نافلة فمن شاء أطال فيها القيام وقلت ركعاته ومن شاء أكثر الركوع والسجود ) ( 17) .
غير أن البحث عن الراجح والعمل بالأفضل مطلب من مطالب الشريعة ، وقد بينت السنة بفعل النبي صلى الله عليه وسلم الذي داوم عليه حتى فارق الحياة وجرى عليه عمل أصحابه من بعده أن قيام الليل إحدى عشرة ركعة في رمضان وغيره . ولم يصح عن أحد منهم التفريق في رمضان بين أول الشهر وآخره على عادة الناس اليوم بل كانوا يقومون بهذا العدد طِوال حياتهم ويجتهدون في العشر الأواخر في الكيفية دون الكمية ، فيطيلون القيام والركوع والسجود متلذذين بتدبر القرآن فهو حياة قلوبهم ومتنعمين بالوقوف بين يدي رب العالمين، ولم تكن همة أحدهم مصروفة إلى هَذّ القراءة ابتغاء بدعة يؤدونها آخر الشهر(18 ) أو تكثير عدد الركعات والإخلال بالطمأنينة بحيث لا يمكن للمأموم متابعة إمامه إلا بمشقة وعناء نسأل الله العافية .
المسألة الثالثة : ( في كيفية صلاة الليل )
ذهب الإمام مالك ( 21) والشافعي ( 20) وأحمد ( 19) وطائفة من السلف إلى أن صلاة الليل مثنى مثنى إلاّ ركعة الوتر ، على خلاف بينهم هل هذا على الوجوب أم على الاستحباب . وحجتهم في هذا ما جاء في الصحيحين وغيرهما من طريق مالك عن نافع وعبد الله بن دينار عن ابن عمر أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى ) وقوله : ( مثنى مثنى ) معدول عن اثنين اثنين ، والمراد أن تسلم في كل ركعتين قيل وجوباً وقيل استحباباً . قال في المبدع ( 22) : فإن زاد على ذلك فاختار ابن شهاب والمؤلف أنه لا يصح ، قال أحمد فيمن قام في التراويح إلى ثالثة : يرجع وإن قرأ ، لأن عليه تسليماً ، ولابد . للخبر . وعنه يصح مع الكراهة . ذكره جماعة ، وهو المشهور، سواء علم العدد أو نسيه ) وعنه لا يكره ( 23) وهو مذهب أبي حنيفة قال رحمه الله في صلاة الليل ( إن شئت ركعتين وإن شئت أربعاً وإن شئت ستاً وثمانياً لا تسلم إلا في آخرهن ) (24 ) والأفضل في مذهبه صلاة أربع بسلام واحد لخبر عائشة في الصحيحين حين سألها أبو سلمة بن عبدالرحمن عن كيفية صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الليل قالت : يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثاً ) .
وهذا الحديث مجمل ليس فيه التصريح بصلاة أربع بسلام واحد والاحتمال فيه وارد وإن كنت استظهر فيه الأربع بسلام واحد جرياً على الأخذ بالظاهر حتى يرد لفظ صريح يخرجه عن ذلك . وحديث ابن عمر (( صلاة الليل مثنى مثنى )) لا يدل على وجوب التسليم في كل ركعتين ولفظه لا يساعد على ذلك فيحمل على الاستحباب وأنه الأكثر استعمالاً. وغيره من الأحاديث تحمل على السنية في بعض الأحيان ، والعبادات الواردة على وجوه متنوعة يعمل بها كلها وهذا أفضل من المداومة على نوع وهجر غيره فإن هدي النبي صلى الله عليه وسلم عمل الأمرين على أن المداومة على نوع مراعاة للمصلحة ودرءاً للمفسدة قد تكون أفضل في وقت دون آخر كما أن المفضول يكون فاضلاً وهذا أمر عام في كل العبادات الواردة على هذا الوجه والقول الجامع فيها مراعاة المصالح وهذا يختلف باختلاف الأحوال والبلاد والأشخاص والله أعلم .
وهل يتشهد في الركعتين أم يصلي الأربع بتشهد واحد ، لا أ علم في ذلك دليلاً والأظهر فيها التخيير . إن شاء صلى أربعاً بتشهد واحد ، وإن شاء تشهد تشهدين ، ولا يسلم إلاّ في آخرهن.(/3)
وأما الوتر : فله أن يوتر بركعة . لحديث ابن عمر السابق ( فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة ...) متفق عليه. وعند مسلم من طريق شعبة عن قتادة عن أبي مجلز قال : سمعت ابن عمر يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الوتر ركعة من آخر الليل ) وإن صلى قبلها شفعاً فهذا أفضل .
وله أيضاً الوتر بثلاث وخمس وسبع وتسع إلاّ أنه إذا أوتر بثلاث لا يتشهد تشهدين ، بل يقتصر على التشهد في آخر الصلاة . والسنة أيضاً لمن صلى تسع ركعات أن لا يجلس فيها إلاّ في الثامنة فيجلس ويذكر الله ويحمده ويدعوه ثم ينهض بدون سلام ثم يصلى التاسعة ثم يسلم . والحديث في صحيح مسلم ( 25) من حديث عائشة وجاء في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين بعدما سلم وهو قاعد .
والتنويع في هذه الصيغ أفضل محافظة على السنة واتباعاً للنصوص الواردة في هذا الباب .
والكل سنة بما في ذلك قيام الليل والوتر إلاّ أنه سنة متأكدة ، كما هو قول جماهير العلماء من الصحابة والتابعين . وهو قول مالك والشافعي وأحمد ، والأخبار في هذا متكاثرة .
وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى وجوبه (26 ) وقال غيره : واجب على أهل القرآن . والراجح قول الجمهور ، وأنه سنة على عامة المسلمين .
وقد روى أبو داود في سننه من طريق زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبدالله بن الصُنابِحِيّ قال : زعم أبو محمد أن الوتر واجب . فقال عبادة بن الصامت : كذب أبو محمد . أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( خمس صلوات افترضهن الله عز وجل من أحسن وضوءهن وصلاهن لوقتهن وأتم ركوعهن وخشوعهن كان له على الله عهد أن يغفر له ، ومن لم يفعل فليس له على الله عهد إن شاء غفر له وإن شاء عذبه ) (27 ) سنده صحيح .
و رواه أبو داود أيضاً من طريق محمد بن يحيى بن حبان عن ابن محيريز أن رجلاً من بني كنانة يدعى المخدجي سمع رجلاً بالشام يدعى أبا محمد يقول : إن الوتر واجب ....)
وأما حديث أبي أيوب الأنصاري مرفوعاً ( الوتر حق على كل مسلم ) فلا يصح إلاّ موقوفاً . قاله أبو حاتم والذهلي والدارقطني وغيرهم . قال ابن حجر : وهو الصواب ( 28) .
وأما حديث بريدة مرفوعاً ( الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا ) الحديث رواه أبو داود وغيره . فإنه خبر لا يصح . في إسناده عبيد الله بن عبدالله العتكي ، قال عنه البخاري عنده مناكير ، وقال العقيلي لا يتابع على حديثه ولا يعرف إلاّ به ( 29) . وقال ابن حبان يجب مجانبة ما ينفرد به (30 ) .
وأما حديث علي مرفوعاً ( يا أهل القرآن أوتروا فإن الله وتر يحب الوتر ) ففي صحته نظر فقد رواه أبو داود من طريق زكريا وأبو داود والنسائي وابن ماجه من طريق أبي بكر بن عياش كلاهما عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي به ورواه سفيان الثوري وغيره عند الترمذي والنسائي عن أبي إسحاق عن عاصم عن علي رضي الله عنه قال ( الوتر ليس بحتم كهيئة الصلاة المكتوبة ولكن سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ) وهذا هو المحفوظ فإن سفيان أحفظ وأضبط من كل من رواه عن أبي إسحق قال الترمذي ( 2/317 ) في جامعه وهذا أصح من حديث أبي بكر بن عياش .
فترجح من هذا قول الجمهور أن الوتر سنة وليس بواجب على أنه لو صح ليس نصاً في المسألة فقد دلت أحاديث أخرى على عدم الوجوب فيحمل هذا الخبر على تأكد السنية والله أعلم .
المسألة الرابعة : [ فيما يقرأ في الوتر ].
السنة لمن أوتر بثلاث أن يقرأ بعد الفاتحة ( سبح اسم ربك الأعلى ) وفي الثانية ( قل يا أيها الكافرون ) وفي الثالثة ( قل هو الله أحد ) . لحديث سعيد بن عبدالرحمن بن أبزى عن أبيه عن أبي بن كعب قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بسبح اسم ربك الأعلى وقل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد ) رواه أحمد (31 ) وأبو داود ( 32) والنسائي ( 33) وغيرهم .
واستحب الإمامان مالك والشافعي رحمهما الله قراءة المعوذتين بعد الإخلاص . وذلك لما روى أبو داود ( 34) والترمذي ( 35) وابن ماجه (36 )من طريق خصيف عن عبدالعزيز بن جريج عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعة الأولى بسبح اسم ربك الأعلى وفي الثانية قل يا أيها الكافرون وفي الثالثة قل هو الله أحد والمعوذتين .
وروى ابن حبان في صحيحه والطحاوي والحاكم وغيرهم من طريق يحيى بن أيوب عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة به . وصححه الحاكم ولم يتعقبه الذهبي بشيء ، وحسنه ابن حجر في نتائج الأفكار (37 ) . وفي هذا نظر فلم يثبت في الحديث زيادة المعوذتين ولا تشرع قراءَ تهما بعد الإخلاص وقد أنكر الإمام أحمد بن حنبل ويحيى بن معين زيادة المعوذتين وإليك البيان :(/4)
*خبر عائشة الأول فيه انقطاع ، فإن ابن جريج لم يسمع من عائشة قاله الإمام أحمد وابن حبان وجماعة ( 38) وقال البخاري في التاريخ الكبير (6/23) عبد العزيز بن جريج عن عائشة لا يتابع في الحديث . والراوي عنه خصيف بن عبدالرحمن سيء الحفظ . وضعفه أحمد وابن خزيمة وقال يحيى بن سعيد القطان ( كنا تلك الأيام نجتنب حديث خصيف ) (39 ) .
وأما الحديث الثاني فلا يصح . وتفرد يحيى بن أيوب لا يحتمل . قال الأثرم : سمعت أبا عبدالله يسأل عن يحيى بن أيوب المصري فقال: كان يحدث من حفظه ، وكان لا بأس به ، وكان كثير الوهم في حفظه فذكرت له من حديثه عن يحيى عن عمرة عن عائشة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الوتر ....الحديث . فقال : ها ، من يحتمل هذا ، وقال مرة : كم قد روى هذا عن عائشة من الناس ليس فيه هذا ، وأنكر حديث يحيى خاصة ) ( 40) .
وقال العقيلي (( أما المعوذتين فلا يصح )) وحينئذٍ لا تشرع قراءتهما بعد الإخلاص لضعف الخبر في هذا فيقرأ المصلي بالوارد من صحيح الأخبار ( سبح اسم ربك الأعلى ) في الأولى وفي الثانية ( قل يا أيها الكافرون ) وفي الثالثة ( قل هو الله أحد ) ولا يزيد على هذا . وبعض أهل العلم لا يرى استحباب تقصد قراءة هذه السور الثلاث (41 ) وفيه نظر . وحديث أبي بن كعب يرده. وقال بعض أهل العلم لا يداوم على قراءة هذه السور في الوتر لأنه يفضي إلى اعتقاد أنها واجبة (42 ) . وفي هذا القول قوة لأنّ المداومة لم تثبت ، وأما التعليل ففيه نظر لأنه ينسحب على جميع السنن ، وهذا غير صحيح .
واعلم أنه يستحب إذا سلم من وتره أن يقول سبحان الملك القدوس ثلاثاً لحديث أبي بن كعب قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الوتر ....الحديث ) وفيه فإذا سلم قال : سبحان الملك القدوس ثلاث مرات ) رواه النسائي (43 ) . وفي حديث عبد الرحمن ابن أبزى وهو صحابي صغير ( ويرفع بسبحان الملك القدوس صوته بالثالثة ). رواه أحمد والنسائي . وزاد الدارقطني ( 44) من حديث أبي ابن كعب ( رب الملائكة والروح ) ولا تصح هذه الزيادة والمحفوظ ما تقدم .
المسألة الخامسة : في القنوت.
القنوت في الوتر لم يثبت فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لا من قوله ولا من فعله . قال الإمام أحمد : لا يصح فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء....) ( 45) .
وقال الإمام ابن خزيمة رحمه الله : ( ولست أحفظ خبراً ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت في الوتر ...) (46 ) . غير أنه ثبت عن بعض الصحابة رضى الله عنهم كما قال عطاء حين سئل عن القنوت قال : كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يفعلونه ( 47) . وجاء عن بعض الصحابة أنه لا يقنت إلاّ في النصف من رمضان . صح هذا عن ابن عمر . رواه أبو بكر بن أبي شيبة (48 ) عن ابن علية عن أيوب عن نافع عن ابن عمر .
وقال الإمام الزهري رحمه الله : ( لا قنوت في السنة كلها إلاّ في النصف الآخر من رمضان ) . رواه عبد الرزاق في المصنف ( 49) ، بسند صحيح . وقال الإمام أبو داود قلت لأحمد : القنوت في الوتر السنة كلها ؟ قال : إن شئت ، قلت : فما تختار ؟ قال : أما أنا فلا أقنت إلاّ في النصف الباقي ، إلاّ أن أصلي خلف الإمام فيقنت فأقنت معه (50 ) .
وذكر ابن وهب عن مالك في القنوت في رمضان أنه قال إنما يكون في النصف الآخر من الشهر(51 ) . وهذا مذهب الإمام الشافعي رحمه الله ( 52) . وفي وجه عنده يستحب القنوت في الوتر بالسنة كلها وهذه آخر الروايات عن الإمام أحمد رحمه الله ( 53) . قال النووي رحمه الله : وهذا الوجه قوي في الدليل لحديث الحسن بن علي رضي الله عنهما ( 54) .
أقول : وفي هذا نظر من وجهين :
الوجه الأول : أنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء في هذا الباب قاله أحمد وغيره ، واستحباب المواظبة على أمر لم يثبت فعله عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه نظر . وقد جاءت أحاديث كثيرة تصف وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس في شيء منها أنه قنت في الوتر ، ولاسيما أن هذه الأحاديث من رواية الملازمين له كعائشة رضي الله عنها . فلو كان يقنت كل السنة أو معظمها أو علم أحداًَ هذا لنقل ذلك إلينا .(/5)
الوجه الثاني : أن عمدة القائلين باستحباب القنوت في السنة كلها هو حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما قال : علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في قنوت الوتر ( اللهم اهدني فيمن هديت ، وعافني فيمن عافيت ، وتولني فيمن توليت ، وبارك لي فيما أعطيت ، وقني شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك وإنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت ) رواه أحمد ( 56) وأهل السنن (55 ) من طريق أبي إسحاق عن بريد بن أبي مريم عن أبي الحوراء عن الحسن به . ورواه أحمد ( 57) من طريق يونس بن أبي إسحاق عن بريد بن أبي مريم عن أبي الحوراء بمثله . و إسناده جيد ، إلاّ أن زيادة ( قنوت الوتر ) شاذة . فقد رواه أحمد في مسنده ( 58) عن يحيى بن سعيد عن شعبة حدثني بريد بن أبي مريم بلفظ ( كان يعلمنا هذا الدعاء ، اللهم اهدني فيمن هديت ...) وهذا هو المحفوظ لأن شعبة أوثق من كل من رواه عن بريد فتقدم روايته على غيره ومَن قَبل تفرّد الثقة عن أقرانه الذين هم أوثق منه بدون قيود ولا ضوابط فقد غلط ، ومن أدّعى قبول زيادة الثقة إذا لم تخالف روايته ما رواه الآخرون فقد أخطأ. فأئمة الحديث العالمون بعلله وغوامضه لا يقبلون الزيادة مطلقاً كقول الأصوليين وأكثر الفقهاء ولا يردونها بدون قيد ولا ضابط بل يحكمون على كل زيادة بما يقتضيه المقام وهذا الصواب في هذه المسألة ( 59) وبيان وجهه له مكان آخر فالمقصود هنا ترجيح رواية شعبة على روايتي أبي اسحاق ويونس.
وبعد تحرير هذا وقفت على كلام لابن خزيمة رحمه الله يؤيد ما ذهبت إليه ، قال: ( وهذا الخبر رواه شعبة بن الحجاج عن بريد بن أبي مريم في قصة الدعاء ، ولم يذكر القنوت ولا الوتر . قال: وشعبة أحفظ من عدد مثل يونس بن أبي إسحاق ، وأبو إسحاق لا يعلم أسمع هذا الخبر من بريد أو دلسه عنه . اللهم إلاّ أن يكون كما يدعي بعض علمائنا أن كل ما رواه يونس عن من روى عنه أبوه أبو إسحاق هو مما سمعه يونس مع أبيه ممن روى عنه . ولو ثبت الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالقنوت في الوتر أو قنت في الوتر لم يجز عندي مخالفة خبر النبي صلى الله عليه وسلم ولست أعلمه ثابتاً ] (60 ) .
وقد تقدم قول الإمام أحمد ( لا يصح فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء ) ولكن ثبت القنوت عن الصحابة (61 ) رضي الله عنهم على خلاف بينهم ، هل يقنت في السنة كلها أم لا ، والحق فيه أنه مستحب في بعض الأحيان ، والأولى أن يكون الترك أكثر من الفعل ، وما يفعله بعض الأئمة من المثابرة عليه فغلط مخالف للسنة. وإذا ثبت ضعف لفظة القنوت في خير الحسن . فاعلم أن القنوت يشرع بأي دعاء ليس فيه اعتداء ولا سجع مكلف وتلحين مطرب ونحو ذلك مما اخترعه المتأخرون مما لا أصل له في الكتاب ولا في السنة ولا جرى به عمل للأئمة . غاية ما في الأمر اجتهادات فردية ممن لا يملك حق الاجتهاد ، أدّت إلى ترك المشروع وتتبع الآراء وتحكيم الأهواء ، وقد جرّ هذا الأمر المغلوط إلى ملحوظات أخرى من إطالة الدعاء والمبالغة فيه بما يشق على المأمومين ويجعلهم في ملل وتألم وبغض للحال.
هذا والأفضل في دعاء القنوت أن يبدأ الداعي أولاً بحمد الله تعالى والثناء عليه ويُثَنّي بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو فإن هذا أقرب إلى الإجابة من دعاء مجرد من الحمد والثناء ( 62) . لما روى الترمذي (63 ) في جامعه وأبو داود (64 ) وغيرهما عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال : سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو في صلاته فلم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : عجل هذا ثم دعاه فقال له ولغيره : إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله والثناء عليه ، ثم ليصل على النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم ليدع بعد بما شاء ) قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح .(/6)
وحديث تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لسبطه الحسن بن علي أن يقول في قنوت الوتر ( اللهم اهدني فيمن هديت ) صحيح بدون ذكر القنوت ... وقد تقدم بيان ذلك ، وحينئذٍ لا يصح الاستدلال به على استفتاح دعاء القنوت بغير الحمد ، قال ابن القيم رحمه الله ( المستحب في الدعاء أن يبدأ الداعي بحمد الله والثناء عليه بين يدي حاجته ثم يسأل حاجته كما في حديث فضالة بن عبيد ) ( 65) وقد دل هذا الحديث على أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من أسباب إجابة الدعاء ومن هنا كان أبيُ بن كعب يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في قنوته بالصحابة رواه ابن خزيمة في صحيحه (2/155/156) وقال الإمام إسماعيل القاضي في كتابه فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ( ص/86) : حدثنا محمد بن المثنى قال ثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة عن عبد الله بن الحارث أن أبا حليمة معاذاً كان يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت ) . وهذا سند صحيح إلى أبي حليمة معاذ بن الحارث الأنصاري وهو مختلف في صحبته .وقد ذكره ابن حبان في ثقات التابعين ، وهو ممن أقامه عمر بن الخطاب يصلى التراويح بالناس في شهر رمضان (66 ) .
*رفع اليدين في القنوت :
وأما رفع اليدين في القنوت فقد منعه الإمام الأوزعي وجماعة من أهل العلم (67 ) . حتى قال الإمام الزهري ( لم تكن ترفع الأيدي في الوتر في رمضان) رواه عبد الرزاق ( 3 / 122) بسند صحيح .
وذهبت طائفة من أهل العلم وهم الجمهور إلى استحبابه لأن الأصل في الدعاء رفع اليدين . وقد قاسه جماعة من الفقهاء وأهل الحديث على قنوت النوازل . فقد سئل الإمام أحمد عن القنوت في الوتر قبل الركوع أم بعده وهل ترفع الأيدي في الدعاء في الوتر ؟ فقال : القنوت بعد الركوع . ويرفع يديه . وذلك على قياس فعل النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت في الغداة (68 ) .
وقال أبو داود : سمعت أحمد سئل ، يرفع يديه في القنوت ؟ قال: نعم يعجبني . قال أبو داود : فرأيت أحمد يرفع يديه في القنوت ( 70) . وذكر البخاري في جزء رفع اليدين ( 69) . من طريق أبي عثمان قال : كان عمر يرفع يديه في القنوت .
وذكر عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقرأ في آخر ركعة من الوتر قل هو الله أحد ثم يرفع يديه فيقنت قبل الركعة ) .
قلت : هذا الأثر في إسناده ليث بن أبي سلِم ، ضعيف الحديث وقد قال البخاري رحمه الله بعد ذكر أثر ابن مسعود : ( وهذه الأحاديث كلها صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يخالف بعضها بعضاً....) .
وقال البيهقي رحمه الله : ( إن عدداً من الصحابة رضي الله عنهم رفعوا أيديهم في القنوت مع ما رويناه عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم ) ( 71) .
* وأما مسح الوجه باليدين بعد الفراغ من الدعاء فلم يثبت فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يصح عن الصحابة رضي الله عنهم لا في القنوت ولا في غيره ، لا داخل الصلاة و لا خارجها . وقد اعتاد بعض العامة فعل ذلك وهذا غلط . واعتاد آخرون رفع الأيدي عقب النوافل ومسح الوجه بها بدون دعاء وهذا أقبح من الأول والسّنة ترك المسح مطلقاً في الصلاة وغيرها . قال الإمام أبو داود في مسائله (72) : سمعت أحمد سئل عن الرجل يمسح وجهه بيديه إذا فرغ ، قال : لم أسمع به . وقال مرة : لم أسمع فيه بشيء . قال : ورأيت أحمد لا يفعله . وسئل مالك رحمه الله عن الرجل يمسح بكفيه وجهه عند الدعاء ؟ فأنكر ذلك وقال : ما علمت ) ( 73) .
وقال الحافظ البيهقي رحمه الله : ( لست أحفظه عن أحد من السلف في دعاء القنوت ، وإن كان يروى عن بعضهم في الدعاء خارج الصلاة وقد روي فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث ضعيف وهو مستعمل عند بعضهم ( 74) ، خارج الصلاة ، وأما في الصلاة فهو عمل لم يثبت بخبر صحيح على ما فعله السلف رضي الله عنهم من رفع اليدين دون مسحهما بالوجه في الصلاة . وبالله التوفيق ) (75 ) .
تمت الرسالة
والحمد لله رب العلمين .
( 1) مقدمة الجرح والتعديل [ 1 / 85 – 86 ] للإمام أبي حاتم .
( 2) حلية الأولياء [ 9 / 275 ] .
( 3) الوابل الصيب ( 58 ) للإمام ابن القيم .
( 4) الوابل الصيب ( 57 ) للإمام ابن القيم .
(5 ) انظر جامع بيان العلم وفضله [ 2 / 109 – 120 ] وإعلام الموقعين [ 1 / 7 ] ، [ 2 / 239 ] وكتاب الروح [ 390 – 391 ] والسيل الجرار [ 1 / 4- ] .
( 6) رقم ( 755 ) .
( 7) البخاري ( 966 ) ومسلم ( 745 ) .
( 8) نقل ابن عبد البر في الاستذكار ( 5 / 287 ) . والقرطبي في المفهم ( 2 / 382 ) . الاتفاق على هذا وفيه نظر فقد ذكر فقهاء الأحناف أنه يؤدى في وقت العشاء . وانظر البناية ( 2 / 575 ) .
( 9) ج 4 / 279 ، الفتح الرباني ) .
(10 ) انظر الاستذكار ( 5 / 288 ) . وعون المعبود ( 4 / 309 ) . وشرح مسلم للنووي( 6 / 24 ) . والمبدع في شرح المقنع [ 2 / 4 ]
( 11) فتح الباري لابن رجب ( 9 / 160 ) وانظر الأوسط لابن المنذر ( 5 / 194 ) .(/7)
(12 ) البخاري ( 1147 ) ومسلم ( 738 ) .
(13 ) الاستذكار . ( 5 / 236 ) .
( 14) الموطأ بشرح الزرقاني ( 1 / 238 ) .
(15 ) الموطأ بشرح الزرقاني ( 1 / 239 ) .
(16 ) المصنف [ 4 / 260 - ) .
(17 ) الاستذكار [ 5 / 244 ] .
( 18) وقد كتبت في ذلك رسالة تحمل عنوان (( البيان في حكم دعاء ختم القرآن )) أوضحت في ثناياها عدم مشروعية دعاء الختمة داخل الصلاة وأنه لم يثبت بذلك خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة وأن القول به هتك لسياج قاعدة التوقيف في العبادات وبالتالي خرق للإجماع قال الإمام مالك رحمه الله (( ما سمعتُ أنه يدعو عند ختم القرآن وما هو من عمل الناس )) المعيار المعرب [ 11 / 114 ] والمدخل لابن الحاج [ 2 / 299 ] وقد تقرر في قواعد أهل العلم أن ما وجد سببه ومقتضاه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعصر صحابته ولم يقع منهم فعل لذلك مع عدم المانع من فعله ففعله بدعة .
(19 ) الاستذكار ( 5 / 237 – 249 – 255 ) .
( 20) المجموع ( 4 / 49 – 51 ) .
( 21) مسائل الإمام أحمد [ 2 / 296 ] رواية ابنه عبد الله ومسائل أبي داود [ ص 72 ] .
( 22) ( 2 / 21 ) .
( 23) الإنصاف ( 2 / 187 ) .
(24 ) البناية في شرح الهداية ( 2 / 613 ) . وانظر الاستذكار ( 5 / 237 ) .
(25 ) مسلم بشرح النووي . ( 6 / 27 ) .
(26 ) البناية في شرح الهداية . ( 2 / 565 ) . حاشية رد المختار [ 2 / 3 ، 4 ] .
( 27) سنن أبي داود مع عون المعبود . ( 2 / 93 ) و ( 4 / 294 ) .
( 28) انظر التلخيص . ( 2 / 13 ) .
( 29) انظر الضعفاء . ( 3 / 121 ) .
( 30) كتاب المجروحين . ( 2 / 64 ) .
( 31) المسند [ 5 / 123 ] .
( 32) رقم ( 1423 ) .
( 33) السنن [ 3 / 244 ] .
( 34) رقم ( 1424 ) .
( 35) رقم ( 463 ) .
( 36) رقم ( 1173 ) .
(37 ) وانظر التلخيص [ 2 / 18 – 19 ] .
(38 ) كتاب المراسيل ( 112 ) لابن أبي حاتم ومشاهير علماء الأمصار ( 145 ) لابن حبان .
( 39) انظر المجروحين لابن حبان [ 1 / 283 ] .
( 40) الضعفاء للعقيلي [ 4 / 391 – 000 ] و ( تنقيح التحقيق [ 2 / 1061 ] .
( 41) انظر مختصر قيام الليل ص ( 303 - .. ) . والبناية ( 2 / 585 – 586 ) .
( 42) انظر حاشية الروض المربع . ( 2 / 188 ) .
(43 ) ج ( 3 / 244 ) . وانظر المسند ( 3 / 406 ) .
( 44) ج 2 / 31 ) .
( 45) التلخيص لابن حجر . ( 2 / 18 ) .
( 46) صحيح ابن خزيمة . ( 2 / 151 ) .
( 47) مختصر قيام الليل . ص ( 66 ) .
( 48) المصنف . ( 2 / 98- ) .
( 49) ج / 3 / 121 .
( 50) كتاب مسائل الإمام أحمد لأبي داود . ص ( 66 ) .
(51 ) الاستذكار . ( 5 / 166 ) .
( 52) المجموع للنووي . ( 4 / 15 ) .
( 53) انظر مسائل أحمد [ 1 / 99 ] رواية اسحاق بن إبراهيم . والإنصاف ( 2 / 170 ) .
( 54) المجموع . ( 4 / 15 ) .
( 55) المسند [ 1 / 200 ] .
(56 ) أبو داود ( 1425 ) والترمذي ( 464 ) والنسائي ( 3 / 248) وابن ماجة ( 1178 ) .
( 57) [ 1 / 199 ] .
(58 ) [ 1 / 200 ] .
(59 ) انظر نظم الفرائد ( 376 ) للحافظ العلائي ، والنكت على كتاب ابن الصلاح [ 2 / 604 – 687 ] للحافظ ابن حجر .
(60 ) صحيح ابن خزيمة . ( 2 / 152 - ) .
( 61) وأهل العلم مختلفون في محل القنوت فقال قوم بعد الركوع وقال آخرون قبل الركوع وسبب اختلافهم أنه لم يثبت في هذا الباب شئ وقاسه أهل العلم على قنوت النوازل والصحيح في المسألة جواز الأمرين .قال الإمام أحمد : وبعد الركوع أحب إلي . انظر مسائل أحمد رواية إسحاق بن إبراهيم . ( 1 / 100 ) .
( 62) هذا الحكم في قنوت الوتر ويختلف الحكم بالنسبة لدعاء قنوت النوازل فإن المستحب في هذا البدأ بالدعاء على الظلمة المعتدين والدعاء للمستضعفين من المؤمنين لظواهر الأدلة في هذا الباب كَحديث ابن عمر في البخاري [ 4069 ] .
(63 ) رقم ( 3477 ) .
( 64) رقم ( 1481 ) .
( 65) الوابل الصيب ( 110 ) .
(66 ) انظر تهذيب الكمال . ( ج 28 / 117 ) .
(67 ) انظر مختصر قيام الليل . ( ج / 320 ) .
( 68) مختصر قيام الليل . ( ص / 318 ) .
(69 ) كتاب مسائل الإمام أحمد لأبي داود . ( ص / 66 ) .
(70 ) ص ( 68 ) .
( 71) السنن الكبرى . ( 2 / 211 ) .
( 72) ص ( 71 ) .
(73 ) مختصر قيام الليل . ( 327 ) .
(74 ) والحق ترك العمل به لأنه خبر لاتقوم به حجة .
(75 ) السنن الكبرى . ( 2 / 212 ) .(/8)
رسالة في القلب.... الشيخ ابن تيمية ...
...
27-04-2004
قال الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية الحراني رحمه الله:
إن الله سبحانه وتعالى خلق القلب للإنسان يعلم به الأشياء، كما خلق العين يرى بها الأشياء، والأذن يسمع بها الأشياء، وكما خلق سبحانه كل عضو من أعضائه لأمر من الأمور، وعمل من الأعمال، فاليد للبطش، والرجل للسعي، واللسان للنطق، والفم للذوق، والأنف للشم، والجلد للمس، وكذلك سائر الأعضاء الباطنة والظاهرة، فإذا استعمل العضو فيما خلق له وأعد من أجله، فذلك هو الحق القائم، والعدل الذي قامت به السموات والأرض، وكان ذلك خيرا وصلاحا لذلك العضو ولربه وللشيء الذي استعمل فيه، وذلك الإنسان هو الصالح الذي استقام حاله وأولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون
وإذا لم يستعمل العضو في حقه، بل ترك بطالا، فذلك خسران، وصاحبه مغبون، وإن استعمل في خلاف ما خلق له فهو الضلال والهلاك، وصاحبه من الذين بدلوا نعمة الله كفرا.
ثم إن سيد الأعضاء ورأسها هو القلب كما سمي قلبا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: { إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب {
وقال صلى الله عليه وسلم: { الإسلام علانية، والإيمان في القلب ثم أشار بيده إلى صدره، وقال: ألا إن التقوى هاهنا، ألا إن التقوى هاهنا {
وإذ قد خلق ليعلم به فتوجهه نحو الأشياء ابتغاء العلم بها هو الفكر والنظر، كما أن إقبال الأذن على الكلام ابتغاء سمعه هو الإصغاء والاستماع، وانصراف الطرف إلى الأشياء طلبا لرؤيتها هو النظر، فالفكر للقلب كالإصغاء للأذن إذا سمعت ما أصغت إليه، ومثله نظر العينين في شيء، وإذا علم ما نظر فيه فذاك مطلوبه، كما أن الأذن إذا سمعت ما أصغت إليه، أو العين إذا أبصرت ما نظرت إليه.
وكم من ناظر مفكر لم يحب العلم ولم ينله، كما أنه كم من ناظر إلى الهلال لا يبصره، ومستمع إلى صوت لا يسمعه، وعكسه من يؤتى علما بشيء لم ينظر فيه، ولم تسبق منه سابقة فكر كمن فاجأته رؤية الهلال من غير قصد إليه، أو سمع قولا من غير أن يصغي إليه.
وذلك كله لأن القلب بنفسه يقبل العلم ; وإنما الأمر موقوف على شرائط واستعداد قد يكون فعلا من الإنسان فيكون مطلوبا.
وقد يأتي فضلا من الله فيكون موهوبا فصلاح القلب وحقه، والذي خلق من أجله، هو أن يعقل الأشياء، لا أقول أن يعلمها، فقد يعلم الشيء من لا يكون عاقلا له، بل غافلا عنه، ملغيا له، والذي يعقل الشيء هو الذي يقيده ويضبطه ويعيه ويثبته في قلبه، فيكون وقت الحاجة إليه غنيا، فيطابق عمله قوله، وباطنه ظاهره. وذلك هو الذي أوتي الحكمة: { ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا {
وقال أبو الدرداء: إن من الناس من يؤتى علما، ولا يؤتى حكما، وإن شداد بن أوس ممن أوتي علما وحكما.
هذا مع أن الناس متباينون في نفس أن يعقلوا الأشياء من بين كامل وناقص، وفيما يعقلونه من بين قليل وكثير، وجليل ودقيق، وغير ذلك.
ثم هذه الأعضاء الثلاثة هي أمهات ما ينال به العلم.
يدرك، أعني العلم الذي يمتاز به البشر عن سائر الحيوانات، دون ما يشاركه فيه، من الشم والذوق واللمس، وهنا يدرك به ما يحب ويكره، وما يميز به من يحسن إليها ويسيء، إلى غير ذلك.
قال الله تعالى: { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون } وقال: { ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة } وقال: { ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا }. وقال: { وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة } وقال: { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة }. وقال فيما لكل عضو من هذه الأعضاء من العمل والقوة: { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها {
ثم إن العين تقصر عن القلب والأذن وتفارقهما في شيء، وهو أنها إنما ترى بها الأشياء الحاضرة والأمور الجسمانية مثل الصور والأشخاص، فأما القلب والأذن فيعلم بهما ما غاب عن الإنسان، وما لا مجال للبصر فيه من الأشياء الروحانية والمعالم المعنوية.
ثم بعد ذلك يفترقان، فالقلب يعقل الأشياء بنفسه إذا كان العلم بها هو غذاؤه وخاصيته: أما الأذن فإنها تحمل الكلام المشتمل على العلم إلى القلب، فهي بنفسها إنما تنال القول والكلام، فإذا وصل ذلك إلى القلب أخذ منه ما فيه من العلم، فصاحب العلم في حقيقة الأمر هو القلب.(/1)
وإنما سائر الأعضاء حجبته توصل إليه من الأخبار ما لم يكن ليأخذه بنفسه، حتى إن من فقد شيئا من هذه الأعضاء فإنه يفقد بفقده من العلم ما كان هو الواسطة فيه.. فالأصم لا يعلم ما في الكلام من العلم.. والضرير لا يدري ما تحتوي عليه الأشخاص من الحكمة البالغة. وكذلك من نظر إلى الأشياء بغير قلب، أو استمع إلى كلمات أهل العلم بغير قلب، فإنه لا يعقل شيئا. فمدار الأمر على القلب، وعند هذا تستبين الحكمة في قوله تعالى: { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها }. حتى لم يذكر هنا العين كما في الآيات السوابق، فإن سياق الكلام هنا في أمور غائبة، وحكمة معقولة من عواقب الأمور. لا مجال لنظر العين فيها.
ومثله قوله: { أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون }، وتتبين حقيقة الأمر في قوله: { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد {
فإن من يؤتى الحكمة وينتفع بالعلم على منزلتين:
إما رجل رأى الحق بنفسه فقبله واتبعه ولم يحتج إلى من يدعوه إليه، فذلك صاحب القلب.
أو رجل لم يعقله بنفسه بل هو محتاج إلى من يعلمه ويبين له ويعظه ويؤدبه، فهذا أصغى فألقى السمع وهو شهيد، أي حاضر القلب ليس بغائبه كما قال مجاهد أوتى العلم وكان له ذكرى.
ويتبين قوله: { ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون }. وقوله: { ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا {
ثم إذا كان حق القلب أن يعلم الحق، فإن الله هو الحق المبين: { فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال }. إذا كان كل ما يقع عليه لمحة ناظر. ويحول في لفتة خاطر. فالله ربه ومنشئه وفاطره ومبدئه ; لا يحيط علما إلا بما هو من آياته البينة في أرضه وسمائه.
وأصدق كلمة قالها لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل.
ما من شيء من الأشياء إذا نظرت إليه من جهة نفسه وجدته إلى العدم ما هو فقير إلى الحي القيوم. فإذا نظرت إليه وقد تولته يد العناية بتقدير من أعطى كل شيء خلقه ثم هدى. رأيته حينئذ موجودا مكسوا حلل الفضل والإحسان. فقد استبان القلب إنما خلق لذكر الله سبحانه. ولذلك قال بعض الحكماء المتقدمين من أهل الشام: أظنه سليمان الخواص رحمه الله الذكر للقلب بمنزلة الغذاء للجسد، فكما لا يجد الجسد لذة الطعام مع السقم، فكذلك القلب لا يجد حلاوة الذكر مع حب الدنيا، أو كما قال: فإذا كان القلب مشغولا بالله عاقلا للحق، مفكرا في العلم، فقد وضع موضعه، كما أن العين إذا صرفت إلى النظر في الأشياء فقد وضعت في موضعها.
أما إذا لم يصرف إلى العلم، ولم يرع فيه الحق، فنسي ربه، فلم يوضع في موضع، بل هو ضائع، ولا يحتاج أن يقال: قد وضع في موضع غير موضعه، بل لم يوضع أصلا، فإن موضعه هو الحق، وما سوى الحق باطل. فإذا لم يوضع في الحق لم يبق إلا الباطل، والباطل ليس بشيء أصلا، وما ليس بشيء أحرى إلا أن يكون موضعا.
والقلب هو بنفسه لا يقبل إلا الحق، فإذا لم يوضع فيه فإنه لا يقبل غير ما خلق له: { سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا } وهو مع ذلك ليس بمتروك مخلى، فإن من لا يزال من أودية الأفكار وأقطار الأماني، لا يكون على الحال التي تكون عليها العين والأذن من الفراغ والتخلي، فقد وضع في غير موضع، لا مطلق ولا معلق، موضوع لا موضع له، وهذا من العجب، فسبحان العزيز الحكيم.
وإنما تنكشف له هذه الحال عند رجوعه إلى الحق: إما في الدنيا عند الإنابة أو عند المنقلب إلى الآخرة، فيرى سوء الحال التي كان عليها، وكيف كان قلبه ضالا عن الحق، هذا إذا صرف إلي الباطل، فأما لو ترك وحالته التي فطر عليها فارغا عن كل ذكر.
وخاليا من كل فكر، لقد كان يقبل العلم الذي لا جهل فيه، ويرى الحق الذي لا ريب فيه، فيؤمن بربه وينيب إليه. فإن كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه. كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء لا تحس فيها من جدعاء: { فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم }. وإنما يحول بينه وبين الحق في غالب الحال، شغله بغيره من فتن الدنيا، ومطالب الجسد، وشهوات النفس، فهو في هذه الحال كالعين الناظرة إلى وجه الأرض لا يمكنها أن ترى مع ذلك الهلال، أو هو يميل إليه فيصده عن اتباع الحق. فيكون كالعين التي فيها قذى لا يمكنها رؤية الأشياء. ثم الهوى قد يعرض له قبل معرفة الحق فيصده عن النظر فيه. فلا يتبين له الحق كما قيل: ( حبك الشيء يعمي ويصم ) فيبقى في ظلمة الأفكار، وكثيرا ما يكون ذلك كبرا يمنعه عن أن يطلب الحق: { فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون ((/2)
وقد يعرض الهوى بعد أن عرف الحق فيجحده ويعرض عنه، كما قال سبحانه فيهم: { سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا {
ثم القلب للعلم كالإناء للماء، والوعاء للغسل والوادي للسيل، كما قال تعالى: { أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها } الآية.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: { إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت فيها أجادب أمسكت الماء فسقى الناس وزرعوا، وأصاب منها طائفة إنما هي قيعان لا تمسك ماء. ولا تنبت كلأ. فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما أرسلت به، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به {
وفي حديث كميل بن زياد عن علي رضي الله عنه، قال: " القلوب أوعية فخيرها أوعاها ".
وبلغنا عن بعض السلف قال: القلوب آنية الله في أرضه فأحبها إلى الله تعالى أرقها وأصفاها، وهذا مثل حسن فإن القلب إذا كان رقيقا لينا كان قبوله للعلم سهلا يسيرا، ورسخ فيه وأثر، وإن يكن قاسيا غليظا يكن قبوله للعلم صعبا عسيرا، ولا بد مع ذلك أن يكون زكيا صافيا سليما حتى يزكو فيه العلم، ويثمر ثمرا طيبا وإلا فلو قبل العلم وكان فيه كدر وخبث أفسد ذلك العلم، وكان كالدغل في المزدرع، إن لم يمنع الحب من أن ينبت، منعه من أن يزكو ويطيب، وهذا بين لأولي الأبصار.
وتلخيص هذه الجملة أنه إذا استعمل في الحق فله وجهان :
وجه مقبل على الحق، ومن هذا الوجه يقال له وعاء وإناء، لأن ذلك يستوجب ما يوعى فيه ويوضع فيه، وهذه الصبغة وجود ثبوت، ووجه معرض عن الباطل، ومن هذا الوجه يقال له زكي وسليم وطاهر، لأن هذه الأسماء تدل على عدم الشر والخبث والدغل وهذه الصبغة عدم ونفي، وبهذا يتبين أنه إذا صرف إلى الباطل فله وجهان: وجه الوجود أنه منصرف إلى الباطل مشغول به، ووجه العدم أنه معرض عن الحق غير قابل له. وهذا يبين من البيان والحسن والصدق ما في قوله: إذا ما وضعت القلب في غير موضع بغير إناء فهو قلب مضيع فإنه لما أراد أن يبين حال من ضيع قلبه فظلم نفسه بأن اشتغل بالباطل، وملأ به قلبه، حتى لم يبق فيه متسع للحق، ولا سبيل له إلى الولوج فيه، ذكر ذلك منه فوصف حال هذا القلب بوجهيه، ونعته بمذهبيه، فذكر أولا وصف الوجود منه، فقال: إذا ما وضعت القلب في غير موضع، يقول إذا شغلته بما لم يخلق له فصرفته إلى الباطل حتى صار موضوعا فيه.
ثم الباطل على منزلتين:
إحداهما: تشغل عن الحق ولا تعانده، مثل الأفكار والهموم التي من علائق الدنيا وشهوات النفس.
والثانية: تعاند الحق وتصد عنه، مثل الآراء الباطلة والأهواء المردية من الكفر والنفاق والبدع، وشبه ذلك، بل القلب لم يخلق إلا لذكر الله فما سوى ذلك فليس موضعا له.
ثم ذكر ثانيا ووصف العدم منه فقال: " بغير إناء "، يقول: إذا وضعته بغير إناء فوضعته ولا إناء معك، كما تقول حضرت المجلس بلا محبرة. فالكلمة حال من الواضع، لا من الموضوع. والله أعلم.
وبيان هذه الجملة والله أعلم أنه يقول إذا ما وضعت قلبك في غير موضع فاشتغل بالباطل ولم يكن معك إناء يوضع فيه الحق، ويتنزل إليه الذكر والعلم الذي هو حق القلب، فقلبك إذا مضيع، ضيعته من وجهي التضييع، وإن كانا متحدين من جهة أنك وضعته في غير موضع، ومن جهة أنه لا إناء معك يكون وعاء لحقه الذي يجب أن يعطاه، كما لو قيل، لملك قد أقبل على اللهو: إذا اشتغلت بغير المماسكة وليس في الملك من يدبره فهو ملك ضائع، لكن هنا الإناء هو القلب بعينه، وإنما كان ذلك لأن القلب لا ينوب عنه غيره فيما يجب أن يصنعه: { ولا تزر وازرة وزر أخرى (
وإنما خرج الكلام في صورة اثنين بذكر نعتين لشيء واحد كما جاء نحوه في قوله تعالى: { نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل. من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان {
قال قتادة والربيع: هو القرآن، فرق فيه بين الحلال والحرام، والحق والباطل، وهذا لأن الشيء الواحد إذا كان له وصفان كبيران فهو مع وصف كالشيء الواحد، وهو مع الوصفين بمنزلة الاثنين، حتى لو كثرت صفاته لتنزل منزلة أشخاص.(/3)
ألا ترى أن الرجل الذي يحسن الحساب والطب بمنزلة حاسب وطبيب، والرجل الذي يحسن النجارة والبناء بمنزلة نجار وبناء، والقلب لما كان يقبل الذكر والعلم فهو بمنزلة الإناء الذي يوضع فيه الماء، وإنما ذكر في هذا البيت الإناء من بين سائر أسماء القلب ; لأنه هو الذي يكون رقيقا وصافيا، وهو الذي يأتي به المستطعم المستعطي في منزلة البائس الفقير، ولما كان ينصرف عن الباطل فهو زكي وسليم، فكأنه اثنان وليتبين في الصورة أن الإناء غير القلب فهو يقول: " إذا ما وضعت قلبك في غير موضع "، وهو الذي يوضع فيه الذكر والعلم، ولم يكن معك إناء يوضع فيه المطلوب فمثلك مثل رجل بلغه أنه يفرق على الناس طعاما، وكان له زبدية أو سكرجة، فتركها ثم أقبل يطلب طعاما، فقيل له هات إناء نعطك طعاما، فأما إذا أتيت وقد وضعت زبديتك مثلا في البيت، وليس معك إناء نعطيك فيه شيئا، رجعت بخفي حنين.
وإذا تأمل من له بصر بأساليب البيان وتصاريف اللسان، وجد موقع هذا الكلام من العربية والحكمة كليهما موقعا حسنا بليغا، فإن نقيض هذه الحال المذكورة أن يكون القلب مقبلا على الحق والعلم والذكر، معرضا عن ذكر غير ذلك وتلك هي الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام، فإن الحنف هو الميل عن الشيء بالإقبال على آخر، فالدين الحنيف هو الإقبال على الله وحده والإعراض عما سواه، وهو الإخلاص الذي ترجمته كلمة الحق، والكلمة الطيبة لا إله إلا هو.
اللهم ثبتنا عليها في الدنيا وفي الآخرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله(/4)
رسالة في بيان منهج الأشاعرة
عنوان الفتوى
سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
اسم المفتى
15178
رقم الفتوى
08/06/2004
تاريخ الفتوى على الموقع
نص السؤال
من محمد الصالح العثيمين إلى أخيه المكرم الشيخ : حفظه الله تعالى وهدانا وإياه صراطه المستقيم، وجعلنا جميعاً هداة مهتدين وصالحين مصلحين.
نص الفتوى
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد : فبناء على ما أوجب الله علينا من النصيحة لله تعالى، ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم، وعلى ما تقتضيه الأخوة الإيمانية من المودة والمحبة في الله ولله، فإني أبين لكم ما لاحظته في مقالات نشرت لفضيلتكم في مجلة .. في العدد .. تحت عنوان (حوار مفتوح) وفي الأعداد ..، ..، ..، ..، ..، تحت عنوان ( عقيدة أهل السنة في ميزان الشرع).
وذلك في النقاط التالية:
أولاً: ذكرتم أن الأشعرية والماتريدية من أهل السنة والجماعة في باب أسماء الله وصفاته، وذلك بناء على تقسيمكم مذهب أهل السنة والجماعة إلى مذهبين:
أحدهما: مذهب السلف الذي ذكرتم أنه اشتهر بمذهب أهل التفويض.
والثاني: مذهب الخلف الذي اشتهر بمذهب أهل التأويل.
والحق أن هذا التقسيم غير صحيح وذلك.
.1لأنه لا يمكن عقلاً: ولا شرعاً أن نجمع في وصف واحد بين طائفتين مختلفتين في طريقتهما، فهل يمكن أن نقول: إن طريقة من قال : إن الله استوى على عرشه حقيقة، وينزل إلى السماء الدنيا حقيقة، ويجيء للفصل بين عباده حقيقة، ويحب المقسطين حقيقة، ويرضى حقيقة، ويكره حقيقة، ويغضب حقيقة، وكل ذلك وجميع ما وصف الله به نفسه حق على حقيقته بدون تمثيل، ولا تكييف، هل يمكن أن نقول : إن طريقة هؤلاء هي طريقة من نفى حقيقة هذه الأمور وسلك فيها طريق التأويل، الذي سماه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى تحريفاً كما في عقيدته الواسطية ومناظرته عليها.
إننا إن قلنا : إن طريقة أولئك هي طريقة هؤلاء فقد جمعنا بين النقيضين الإثبات والنفي، وامتناع الجمع بين النقيضين أمر معلوم عند جميع العقلاء من بني آدم.
إذا تبين ذلك تعين أن نقول : إن احدى الطائفتين فقط هم أهل السنة والجماعة، فإما أن تكون طائفة السلف أهل التحقيق، وإما أن تكون طائفة الخلف أهل التأويل، ولا يمكن أحداً أن يقول : إن أهل السنة والجماعة طائفة الخلف دون طائفة السلف، لأن طائفة السلف تعني المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان من سلف الأمة، وأئمتها، ومنهم أبو الحسن الأشعري رحمه الله في مذهبه الذي استقر عليه أخيراً في كتابه ( الإبانة) وبين أنه قائل بما قال به الإمام أحمد رحمه الله تعالى والإمام أحمد رحمه الله كما تعلمون مشهور بلقب إمام أهل السنة ومذهبه في الصفات الإثبات دون التأويل ولو كان من مذهب أهل السنة التأويل ما صح أن يطلق إمام أهل السنة على من لا يراه، إذاً فأهل السنة والجماعة طائفة واحدة فقط، وهم الذين اجتمعوا على التمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وحققوا ذلك عقيدة، وقولاً، وعملاً فمنهاجهم الباطن والظاهر ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا سموا أهل السنة لتمسكهم بها، وسموا أهل الجماعة لاجتماعهم على ذلك.
. 2أن فضيلتكم صرح في ص .. عدد .. بأن الأشعرية والماتريدية مخطئون، وإذا كانوا على السنة والجماعة فهل يصح أن نقول : إنهم مخطئون؟ هل يمكن أن تكون السنة خطأ؟ هل يمكن أن يكون الاجتماع على السنة خطأ؟. في ظني أن الجواب من فضيلتكم على هذا بالنفي الصريح البات.
وإن كنتم سامحكم الله قد قلتم في ص .. عدد .. بالحرف الواحد: " مذهب الأشاعرة على الوجه الصحيح" وهذا مناقض لكلامكم الأخير.
.3 إن شيخ الإسلام وغيره من المتكلمين في الأسماء والصفات أنكروا على الأشاعرة ومن حذا حذوهم ممن يثبتون بعض الصفات وينكرون بعضها بتأويل، وبينوا تناقضهم، وأن طريقتهم مخالفة لطريقة أهل السنة والجماعة، وأنهم يلزمهم فيما أثبتوه نظير ما يلزمهم فيما نفوه، وأن مانفوه يمكن إثباته بمثل ما أثبتوا به ما أثبتوه بل بما هو أبين وأظهر ( راجع العقيدة الواسطية، ورسالة التدمرية) لشيخ الإسلام ابن تيمية.
إذاً فمن نفى شيئاً من صفات الله تعالى بتكذيب، أو تأويل فليس من أهل السنة والجماعة من أي طائفة كان وإلى أي شخص ينتسب، ولكننا لا ننكر أن يكون لبعض هؤلاء قدم صدق في الإسلام، والذب عنه، والعناية بسنة النبي صلى الله عليه وسلم رواية ودراية والحرص على نفع المسلمين وهدايتهم وهم على ذلك مشكورون، وبما وعد الله عليه من الثواب مجزيون ولهم منا على ذلك المودة، والمحبة، والدعاء بالمغفرة والرحمة. ولكن يجب أن نزن لهم بالقسطاس المستقيم فننزلهم منزلتهم، ونعطيهم مالهم، ولا نضيف لهم ما ليس فيهم.(/1)
ثانياً: ذكر فضيلتكم ص .. عدد .. أن الخلاف بين أهل السنة السلف والخلف على ما ذكرتم خلاف بين الفاضل والأفضل، وهذا يقتضي أن يكون المرء مخيراً بين إجراء نصوص الصفات على ظاهرها اللائق بالله عز وجل وهو مادرج عليه السلف الصالح، وبين صرفها عن ظاهرها إلى معان تخالف الظاهر، وتستلزم تعطيل حقائقها، وغاية ما في ذلك أن يكون ترك الأفضل إلى الفاضل، فمثله كمثل من زاد في الطمأنينة والخشوع والذكر في الصلاة على الوجه الموافق للأكمل ومن اقتصر في صلاته على الواجب.
وهذا الذي ذكرتم غير صحيح، فما زال أئمة أهل السنة ينكرون على من أول نصوص الصفات أو بعضها، ولولا أن كتابي هذا إلى رجل يعلم ذلك، أو يمكنه أن يعلمه بالرجوع إلى كتبهم لنقلت من كتبهم ماتيسر في هذا الباب.
ولا ريب أن تأويل نصوص الصفات عن ظاهرها تحريف محرم وذلك من وجوه:
.1أنه جناية على النصوص حيث صرفها عن ظاهرها، والله سبحانه وتعالى خاطب الناس بلسان عربي مبين، والنبي صلى الله عليه وسلم ، خاطبهم بأفصح لسان البشر، فوجب حمل كلاميهما على ظاهرهما المفهوم بمقتضى اللسان العربي، غير أنه يجب أن يصان عن التكييف، والتمثيل في صفات الله.
.2أن صرف كلام الله عن ظاهره إلى معنى يخالفه قول على الله بغير علم وقد قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} . وقال تعالى : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}. فالصارف لكلام الله عن ظاهره قال على الله بلا علم من وجهين:
الأول: أنه زعم أن الله لم يرد بكلامه كذا.
الثاني: أنه قال : إنه أراد به كذا لمعنى آخر لم يدل عليه ظاهر الكلام.
مثال ذلك قوله تعالى : {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} . فإذا صرف الكلام عن ظاهره قال لم يرد باليدين اليدين الحقيقيتين وإنما أراد القدرة قلنا : ما دليلك على ما نفيت؟ وما دليلك على ما أثبت؟ فإن أتى بدليل وأنى له وإلا كان قائلاً على الله بلا علم في نفيه وإثباته.
.3أن صرف نصوص الصفات عن ظاهرها مخالف لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وسلف الأمة، وأئمتها.
.4أنه يلزم على طريقته لوازم باطلة وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم فمن ذلك.
أ) أنهم لم يصرفوا هذه النصوص إلا حين اعتقدوا أن ظاهرها مستلزم لتشبيه الله تعالى بخلقه وتشبيه الله تعالى بخلقه كفر، كما قال نعيم بن حماد الخزاعي : " من شبه الله بخلقه فقد كفر" ومن المعلوم أن من أبطل الباطل أن يجعل ظاهر كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم كفراً وتشبيهاً ، وهم قد جعلوه مستلزماً، أو موهماً لذلك جل ربي، وكلامه عن هذا اللازم، والإيهام.
ب) أن الله تعالى لم يبين الحق الذي يجب على العباد اعتقاده في باب أسماء الله تعالى وصفاته وإنما جعل ذلك موكولاً إلى عقولهم يثبتون ما شاؤوا، وينكرون ما شاؤوا ويؤولون النصوص المثبتة لما أنكروه، وهذا من أبطل الباطل، فكيف يدع الله تعالى بيان هذا الباب الذي هو من أوجب الواجبات ويكل أمره إلى عقول متناقضة يمنع بعضها ما يوجبه الآخر، أو يجوزه على الله عز وجل.
ج) أن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين، وسلف الأمة وأئمتها كانوا قاصرين أو مقصرين في معرفة ما يجب لله تعالى من الصفات وما يمتنع عليه إذ لم يرد عنهم حرف واحد في التأويل الذي سلكه أولئك المؤولون وحينئذ إما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون، وسلف الأمة، وأئمتها جاهلين بذلك قاصرين عن معرفته، وإما أن يكونوا عالمين به، لكن كتموه وقصروا في بيانه للناس، وكلا الأمرين باطل.
فإذا تبين ذلك علم أن الخلاف بين السلف والخلف في صفات الله تعالى ليس خلافاً بين الأفضل والفاضل، ولكنه خلاف بين الواجب والمحرم والحق والباطل، وأن طريق الخلف في ذلك محرم باطل.
واعلم يا فضيلة الشيخ أن القول إذا كان باطلاً محرماً فلا يلزم أن يكون قائله آثماً إذا كان لم يقصر في طلب الحق واتباعه، ولكن اجتهد فأخطأ، ولكن عدم إثمه عند الله تعالى لا يلزمنا أن نصوب قوله، أو نقول : إنه من السنة، فالتفريق بين القول والقائل، والفعل والفاعل أمر ينبغي التفطن له، والواجب علينا أن ننكر ما خالف الحق مهما كان القائل به، ومهما كان عدد القائلين، ونعتذر عن قائله إذا علمنا منه صدق النية في طلب الحق واتباع ما تبين له منه.
ثالثاً : ذكر فضيلتكم ص .. عدد .. أننا إذا أخرجنا الأشاعرة والماتريدية من صف المسلمين، وجعلناهم في عداد الضالين وأسقطناهم من أهل السنة والجماعة فمعنى ذلك أن نحكم بالكفر والضلالة على ما يزيد على نسبة 95 في المئة من المسلمين.(/2)
وأظن أن فضيلتكم يعلم أنه لا يخرج الأشاعرة والماتريدية من صف المسلمين إلا جاهل بحالهم، أو جاهل بأسباب الكفر والخروج عن الإسلام أما أهل العلم بذلك فلم يخرجوهم من الإسلام، بل ولا من أهل السنة والجماعة في غير ما خالفوا به أهل السنة والجماعة. والإنسان قد يكون فيه شعبة من المخالفة للحق، وشعبة من الموافقة له، ولا يخرجه ذلك عن أهل الحق إخراجاً مطلقاً بل يعطى ما يستحقه ويوصف بما هو أهله من هذا وهذا حتى يكون الوزن بالقسطاس المستقيم.
وأما أن يكون الأشاعرة والماتريدية في المسلمين بهذه النسبة 95% فهذا أمر ينظر فيه، وحتى لو صحت هذه النسبة فإنها لا تقتضي عصمتهم من الخطأ، لأن العصمة في إجماع المسلمين، وإجماع المسلمين ثابت على خلاف ما كانت عليه هذه النسبة، فإن السلف الصالح من صدر هذه الأمة مجمعون على إثبات ما وصف الله به نفسه، ووصفه به رسوله، وعلى إجراء النصوص في ذلك على ظاهرها اللائق بالله تعالى من غير تأويل، وهم أحق بالاتباع وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتوى الحموية ص 87 من المجلد الخامس من مجموع ابن القاسم للفتاوى عن ابن عبد البر قوله: "أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في الكتاب والسنة، والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئاً من ذلك، ولا يحدون فيه صفة محصورة " أ. هـ. ونقل أيضاً ص 89 منه عن القاضي أبي يعلى قوله: " لا يجوز رد هذه الأخبار ولا التشاغل بتأويلها، والواجب حملها على ظاهرها، وأنها صفات لله لا تشبه صفات سائر الموصوفين بها من الخلق، ولا يعتقد التشبيه فيها ولكن على ما روي عن الإمام أحمد وسائر الأئمة " أ.هـ.
وبهذا تبين أن أهل السنة مجمعون على خلاف ما كان عليه أهل التأويل وإجماعهم هو الحجة الظاهرة.
رابعاً : ذكر فضيلتكم ص.. عدد.. كلاماً هذا نصه: " أما ما يتخيله بعض الجهلة من أدعياء العلم اليوم الذين يصورون الله تعالى بصورة غريبة عجيبة، ويجعلون الله تعالى كأنه جسم مركب من أعضاء وحواس، له وجه، ويدان، وعينان، وله ساق، وأصابع، وهو ينزل، ويمشي، ويهرول ويقول :ون في تقرير هذه الصفات : إن الله يجلس كما يجلس الواحد على السرير وينزل كما ينزل أحدنا على الدرج"، ثم ذكرتم أن السلف الصالح رضوان الله عليهم لم يكن يخطر ببالهم عندما أثبتوا الصفات شيء من هذا أصلاً، بل لم يكن يتلفظ الواحد منهم بمعنى الاستواء حتى لا يتوهم السامع التشبيه ثم نقلتم قول مالك المشهور فيه.
وليت غيرك قال هذا فإنه من الغريب العجيب أن تجعل ما نطق به الكتاب، والسنة، وأجمع عليه سلف الأمة تخيلاً من بعض الجهلة.
ألم تقرأ قول الله تعالى : { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} .
أم تقرأ قوله تعالى عنه نفسه : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} . وقوله : { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} .
ألم تقرأ قوله تعالى عن سفينة نوح : {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} . وقوله لموسى : {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}. ألم يبلغك ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً " قال ابن كثير في تفسير سورة " ن ": وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وفي غيرهما من طرق، وله ألفاظ وهو حديث طويل مشهور.
ألم تسمع بما رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن؟ " . وبما رواه هو والبخاري وغيرهما من حديث ابن مسعود رضي الله عنه في قصة الحبر الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إن الله يمسك السماوات يوم القيامة على إصبع والأرضين على إصبع وذكر الحديث وفيه فضحك النبي صلى الله عليه وسلم تعجباً وتصديقاً له ثم قرأ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} . وبما رواه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى يقبض يوم القيامة الأرضين على إصبع وتكون السماوات بيمينه ثم يقول : أنا الملك". قال ابن كثير في تفسيره آخر سورة الزمر: تفرد به يعني البخاري من هذا الوجه ورواه مسلم من وجه آخر.(/3)
ألم يثبت عندك ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول : من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له؟ " وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم وغيرهما حتى قال ابن القيم في الصواعق: " إنه قد تواترت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورواه عنه نحو ثمان وعشرين نفساً من الصحابة " أ. هـ. مختصر الصواعق ص 380 ط الإمام. ثم ذكر بعد ذلك أسماء الصحابة الذين رووه وأحاديثهم فراجعه، وراجع شرح الحديث المذكور لشيخه ابن تيمية يتبين لك حقائق وتنحل عنك إشكالات. والله الموفق.
ألم يرو البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يقول : الله عز وجل : أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إليّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة". وروى مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله فيمن تقرب إلى الله تعالى. فارجع إلى حديث أبي هريرة في البخاري ص 384 من الفتح ط السلفية وفي مسلم ص 2068 ط الحلبي تحقيق محمد فؤاد وإلى حديث أبي ذر في نفس الصفحة من مسلم.
ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله لا يخفى عليكم إن الله ليس بأعور وأشار بيده إلى عينه وإن المسيح أعور عين اليمنى كأن عينه عنبة طافية". متفق عليه وهذا لفظ البخاري.
فهذه الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الصحيحة فيها الدلالة الصريحة على ثبوت الوجه، واليدين، والعينين، والساق، والأصابع، والنزول والهرولة لله جل وعلا. فهل فوق علم الله علم؟ وهل فوق علم النبي صلى الله عليه وسلم بربه علم البشر؟ وهل يمكن أن يقال : لما ثبت في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إنه من تخيل بعض الجهلة أدعياء العلم؟ سبحانك هذا بهتان عظيم.
نعم من اعتقد أن هذه الصفات ثابتة لله تعالى على وجه تماثل به صفات المخلوق، أو أنها موهمة لذلك فإنه من الجهلة أدعياء العلم أما من اعتقد ثبوتها لله تعالى على الوجه اللائق به من غير تكييف، ولا تمثيل فذاك هو العالم بالله، المعظم لكتابه، السالك مسلك الأدب معه، ومع رسوله حيث لم يقدم بين يدي الله ورسوله، ولم يدع في كلامهما ما هو خلاف ظاهره وينف ما هو ظاهره.
وأما قولكم: " إن السلف لم يكن يخطر ببالهم حين أثبتوا الصفات شيء من هذا أصلاً، وأن الواحد منهم لم يكن يتلفظ بمعنى الاستواء" الخ.
فإني أظن أنكم لو تأملتم طريقة السلف لعلمتم أنها على خلاف قولكم هذا عنهم، فإن السلف كان يخطر ببالهم أنها ثابتة بدون تكييف، ولا تمثيل. فقد خطر ببالهم الحق والباطل فيما يتعلق بصفات الله تعالى فأثبتوا الحق ونفوا الباطل، ولم يكونوا بحمد الله بلهاء لا يخطر ببالهم شيء أو لا يميزون بين الحق والباطل، وتفسيرهم لآيات الصفات وأحاديثها على الوجه اللائق بالله تعالى أمر معلوم يسير تتبعه على فضيلتكم. ومنه ما جاء في كتاب التمهيد لابن عبد البرص 131ج 7 حيث قال : " والاستواء معلوم في اللغة ومفهوم وهو العلو والارتفاع على الشيء والاستقرار، والتمكن فيه قال أبو عبيدة في قوله تعالى : (استوى) قال علا قال: وتقول العرب استويت فوق الدابة واستويت فوق البيت وقال غيره: استوى أي انتهى شبابه واستقر فلم يكن في شبابه مزيد قال أبو عمر: الاستواء الاستقرار في العلو وبهذا خاطبنا الله عز وجل ثم ذكر آيات الزخرف، وهود، والمؤمنون.
وذكر البخاري في صحيحه "عن أبي العالية: استوى إلى السماء ارتفع وقال مجاهد: استوى علا على العرش" .أ.هـ. ص 403 فتح ط السلفية وقال البغوي في تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} . قال ابن عباس وأكثر مفسري السلف: أي ارتفع إلى السماء. وقال في تفسير قوله : {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} . قال الكلبي ومقاتل: استقر وقال أبو عبيدة: صعد.
فهذه أيها الشيخ أربعة معان للاستواء عند السلف وإليها أشار ابن القيم في نونيته حيث قال:
فلهم عبارات عليها أربع ** قد حصلت للفارس الطعان
وهي استقر وقد علا وكذا ار ** تفع الذي ما فيه من نكران
وكذاك قد صعد الذي هو رابع ** وأبو عبيدة صاحب الشيباني
يختار هذا القول في تفسيره ** أدرى من الجهمي بالقرآن
أفبعد إثبات أربعة معان للاستواء عن السلف يصح أن نقول : إن الواحد منهم لم يكن يتلفظ بمعنى الاستواء؟.(/4)
وأما جواب مالك لمن سأله عن كيفية الاستواء بقوله: " الاستواء معلوم، والكيف مجهول" فإن مالكاً لم يسأل عن معنى الاستواء حتى يقال : إنه أحجم عن الإفصاح بمعناه، وإنما سئل عن الكيفية، فأجاب بأنها مجهولة لنا، ولكن لقوة احتراسه خاف أن يتوهم واهم بأن المعنى مجهول أيضاً فقال: الاستواء معلوم ولم يفصح بالمعنى لظهوره ولذلك لم يقع السؤال عنه.
وأما قول فضيلتكم : " إن بإمكان مالك أن يقول : الاستواء هو الجلوس" فلا أظن ذلك بإمكانه لأن تفسير الاستواء بالجلوس لم يثبت عن السلف فيما أعلم. والله أعلم.
خامساً: ذكر فضيلتكم في ص .. عدد .. أن الأشاعرة ذكروا هذا الكلام لأنه ظهر في عصرهم ناس ضلوا بسبب العقيدة فأولوا هذه الصفات دفعاً لأولئك منهم على نية حسنة.. فالأشاعرة إنما أرادوا تنزيه الله جل وعلا لئلا يضل بعض الناس بتشبيه الخالق بعباده.
وهذا الذي ذكرتموه قد يكون هو الواقع من بعضهم، وقد يكون الواقع للآخرين أن هذا هو عقيدتهم، وأنهم يعتقدون أن إثبات الحقيقة يستلزم التشبيه.
وعلى كل حال فهذا مسلك فاسد إذ لا يمكن معالجة الداء بداء، ولا تفنيد البدعة ببدعة، وإنما يعالج الداء بالدواء الناجع، وتفند البدعة بالسنة، ولهذا لم يأت الأشاعرة بطائل في الرد على أهل التأويل الكلي في الصفات، فإن من المعروف أن الأشاعرة لا يثبتون من الصفات إلا سبعاً وهي: الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام، على خلاف بينهم وبين السلف في كيفية إثبات بعضها، أما ماعدا هذه الصفات فإنهم ينكرون حقيقتها بتأويلها إلى ما زعموا أن العقل يجيزه دون الحقيقة. فإن أهل التأويل الكلي استطالوا على الأشاعرة فقالوا إذا كنتم تبيحون لأنفسكم التأويل فيما أولتموه بدون دليل سمعي بل بمقتضى عقولكم فلماذا تنكرون علينا ما أولناه بمقتضى عقولنا مما لا تؤولونه، فإن كانت عقولنا خاطئة فأين الصواب في عقولكم؟ وإن كانت عقولكم صائبة فأين الخطأ في عقولنا؟ وليس لكم علينا حجة في الإنكار سوى مجرد التحكم. وهذا الإيراد من أهل التأويل الكلي على الأشاعرة وارد لا محيص للأشاعرة عنه إلا بالرجوع لمذهب السلف الذين يطردون هذا الباب، ويثبتون لله تعالى ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم إثباتاً بلا تمثيل ولا تكييف، وتنزيهاً بلا تعطيل، ولا تحريف.
ولا يكفي في قبول القول وإقراره حسن قصد قائله بل لابد من موافقته لشريعة الله تعالى، فإن كان مخالفاً وجب رده وإنكاره مهما كان قائله لكن إن كان قائله ممن عرف بحسن القصد والنصيحة لدين الله وعباد الله اعتذر عنه في هذه المخالفة، وإلا أعطي ما يستحقه لسوء قصده ومخالفته.
سادساً: ذكر فضيلتكم ص .. ص.. أن الأسلم في موضوع الصفات أن نفوض الأمر إلى علام الغيوب الذي لا تخفى عليه خافية وفي ص .. عدد .. قلتم: وضمن هذا الإطار الذي فيه تنزيه الله جل وعلا عن مشابهته الخلق، أو مشابهة الخلق له يؤمن السلف الصالح بجميع ما ورد من آيات الصفات وأحاديث الصفات، ويفوضون علم ذلك إلى الله تعالى .. وقد اشتهر هذا المذهب بأنه مذهب أهل التفويض. وفي ص .. عدد .. ذكرتم أنه اشتهر لعلماء أهل السنة مذهبان هما:
أ. مذهب أهل التفويض
ب. مذهب أهل التأويل
ثم ذكرتم ص .. عدد .. أن مذهبهم ليس التفويض المطلق كما قد يتوهم البعض من الناس وإنما هو مسلك آخر، ثم ذكرتم أنه يتلخص في شيئين:
أحدهما: تأويل ما لابد من تأويله من آيات الصفات وأحاديثها.
والثاني: إثبات ما أثبته القرآن أو السنة والإيمان بها على مراد الله بطريق التسليم والتفويض دون تشبيه، أو تعطيل، أو تجسيم، أو تمثيل.. على ضوء هذا يؤمن السلف الصالح في نفي المثلية ونفي التجسيم.(/5)
والتفويض الذي ذكرتموه هنا لم تبينوا بياناً ظاهراً ما المراد به؟ هل هو تفويض المعنى، أو تفويض الكيفية؟ فإن كان الأول فليس هذا مذهب السلف لأنهم يثبتون المعنى على حقيقته ويعرفونه تمام المعرفة لكن على الوجه اللائق بالله تعالى من غير تكييف، ولا تمثيل قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه المعروف بـ ( العقل والنقل) الذي طبع على هامش كتابه (منهاج السنة) في ص 116 ج 1 : " وأما التفويض فمن المعلوم أن الله أمرنا أن نتدبر القرآن وحضنا على عقله وفهمه، فكيف يجوز مع ذلك أن يراد منا الإعراض عن فهمه ومعرفته وعقله" . إلى أن قال " فتعين أن يكون الحق مذهب السلف أهل الحديث والسنة والجماعة " وقال في ص 118 بعد كلام سبق : "ومعلوم أن هذا قدح في القرآن وفي الأنبياء، إذ كان الله أنزل القرآن وأخبر أنه جعله هدىً وبيانا للناس، وأمر الرسول أن يبلغ البلاغ المبين، وأن يبين للناس ما نزل إليهم، وأمر بتدبر القرآن وعقله، ومع هذا فأشرف ما فيه وهو ما أخبر به الرب عن صفاته .. لا يعلم معناه فلا يعقل، ولا يتدبر، ولا يكون الرسول بين للناس ما نزل إليهم، ولا بلغ البلاغ المبين وعلى هذا التقدير فيقول كل ملحد، وكل مبتدع: الحق في نفس الأمر ما علمته برأيي وعقلي، وليس في النصوص ما يناقض ذلك، لأن تلك النصوص مشكلة متشابهة، ولا يعلم أحد معناها، ومالا يعلم أحد معناه لا يجوز أن يستدل به. فيبقى هذا الكلام سداً لباب الهدى والبيان من جهة الأنبياء، وفتحاً لباب من يعارضهم، ويقول : إن الهدى والبيان في طريقنا، لا في طريق الأنبياء لأنا نحن نعلم ما نقول ونبينه بالأدلة العقلية، والأنبياء لم يعلموا ما يقولون، فضلاً عن أن يبينوا مرادهم، فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد" أ.هـ كلام الشيخ.
وعلى هذا فيجب الإفصاح عن المراد بالتفويض في كلامكم وبيان أنه تفويض الكيفية لا المعنى الحقيقي لئلا يعتقد القارئ أنكم تريدون تفويض المعنى الذي هو من شر أقوال أهل البدع والإلحاد لما يلزم عليه من اللوازم الباطلة التي ذكر بعضها شيخ الإسلام في كلامه هذا.
ولا يكفي في الإفصاح عن ذلك قولكم: " والإيمان به على مراد الله " فإن مراد الله على رأي المفوضين للمعنى غير معلوم لهم، وإن كان هو معلوماً لغيرهم حيث يؤمنون بأن الله تعالى أراد بها المعنى الحقيقي الذي يدل عليه اللسان العربي الذي نزل به القرآن لكنه على الوجه اللائق بالله تعالى من غير تكييف، ولا تمثيل.
وقولكم: " إن مذهب السلف يتلخص في شيئين : أحدهما: تأويل ما لابد من تأويله" إلخ قول غير صحيح فإن السلف بحمد الله لم يكونوا يؤولون شيئاً من نصوص الصفات عن ظاهره كما يفعله أهل التأويل، وإنما كانوا يجرونها على حقيقتها وظاهرها على ما أراده الله ورسوله. وقد تقدم ما نقلناه عن ابن عبد البر، والقاضي أبي يعلى من حملها كلها على الحقيقة وأنه لا يجوز التشاغل بتأويلها.
وقد ذكر فضيلتكم في ص .. وما بعدها من العدد .. أمثلة ذكرتم أنه لابد من تأويلها وسوف نذكرها ونبين بحول الله وهدايته أنه ليس فيها من تأويل أهل التعطيل شيء حتى يمكن أن تكون حجة لهم على أهل الإثبات بالموافقة أو المداهنة كما قلت أنت في ص .. عدد .. بالحرف الواحد. " فلماذا نحكم بضلال الأشاعرة بسبب التأويل ونبيح لأنفسنا التأويل".
ونحن نجيب عن الأمثلة التي ذكرتم بجوابين مجمل ومفصل:
أما المجمل: فإن التأويل الذي سلكه النفاة صرف اللفظ عن ظاهره لصارف من عند أنفسهم لا يدل عليه سياق الكلام والتأويل الذي سلكه أهل الإثبات في بعض ما ذكرتموه ليس صرفاً للكلام عن ظاهره لأن في سياقه ما يدل على المعنى المراد، ولا ريب أن ظاهر الكلام ما دل عليه سياقه بحسب الوضع اللغوي أو حال المتكلم عنه.
وأما المفصل:
فالمثال الأول قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} . ذكر فضيلتكم أنها مؤولة إلى معنى القصد والإرادة، ولا ريب أن هذا المعنى قال به طائفة من أهل السنة وذلك من أجل تعدية الفعل بـ ( إلى) الدالة على الغاية والانتهاء، والفعل قد يضمن معنى يخالف المعنى المشتق منه من أجل الحرف المعدى به ألا ترى قوله تعالى: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} . حيث كان الفعل (يشرب) بمعنى (يروى) من أجل تعديه بـ (الباء)، وعلى هذا فليس في الكلام صرف عن ظاهره لوجود دليل في السياق يقتضي هذا المعنى.
والقول الثاني لأهل السنة أن (استوى) بمعنى ارتفع كما نقله البغوي في تفسيره عن ابن عباس، وأكثر المفسرين تمسكاً بظاهر معنى الفعل وتفويضاً لكيفية هذا الارتفاع إلى الله تعالى والله أعلم.(/6)
المثال الثاني والثالث: قوله تعالى في سورة الحديد : {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} . وقوله في سورة المجادلة: {وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} . ذكر فضيلتكم أن السلف أولوا المعية إلى معنى العلم، ثم ذكرتم تعليل ذلك في آية سورة الحديد بأنه كيف يكون الله تعالى على عرشه وهو مع كل إنسان في كل مكان، وذكرتم في آية المجادلة أن السلف لم يفسروها بمعية الذات لئلا تتعدد الذات الإلهية.
ولا ريب أن السلف فسروا معية الله تعالى لخلقه في الآيتين بالعلم وحكى بعض أهل العلم إجماع السلف عليه، وهم بذلك لم يؤولوها تأويل أهل التعطيل، ولم يصرفوا الكلام عن ظاهره وذلك من وجوه ثلاثة:
الأول: أن الله تعالى ذكرها في سورة المجادلة بين علمين فقال في أول الآية : {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} . وقال في آخرها: { إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فدل ذلك على أن المراد أنه يعلمهم ولا يخفى عليه شيء من أحوالهم.
الثاني :أن الله تعالى ذكرها في سورة الحديد مقرونة باستوائه على عرشه الذي هو أعلى المخلوقات فقال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} إلى قوله: { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} . فدل على أن المراد معية الإحاطة بهم علماً وبصراً، لا أنه معهم بذاته في كل مكان وإلا لكان أول الآية وآخرها متناقضاً.
الثالث: أن العلم من لوازم المعية، ولازم اللفظ من معناه فإن دلالة اللفظ على معناه من وجوه ثلاثة: دلالة مطابقة، ودلالة تضمن، ودلالة التزام ولهذا يمكن أن نقول : هو سبحانه معنا بالعلم، والسمع، والبصر، والتدبير والسلطان وغير ذلك من معاني ربوبيته كما قال تعالى لموسى وهارون : {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} . وقال هنا في سورة الحديد : { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} . فإذا كان العلم من لوازم المعية صح أن نفسرها به وبغيره من اللوازم التي لا تنافي ما ثبت لله تعالى من صفات الكمال ولا يعد ذلك خروجاً بالكلام عن ظاهره.
على أن من المحققين من علماء أهل السنة من فسر المعية بظاهرها على الحقيقة اللائقة بالله تعالى وقال : لا يمتنع أن يكون الله تعالى معنا حقيقية وهو على عرشه حقيقة كما جمع الله تعالى بينهما في آية سورة الحديد. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية ص 142 من المجلد الثالث من مجموع الفتاوي لابن قاسم: " وكل هذا الكلام الذي ذكره الله سبحانه من أنه فوق العرش، وأنه معنا، حق على حقيقته، لا يحتاج إلى تحريف، ولكن يصان عن الظنون الكاذبة" وقال قبيل ذلك: " وليس معنى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} أنه مختلط بالخلق فإن هذا لا توجبه اللغة، وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة وخلاف ما فطر الله عليه الخلق، بل القمر آية من آيات الله من أصغر مخلوقاته هو موضوع في السماء وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان، وهو سبحانه فوق العرش رقيب على خلقه مهيمن عليهم مطلع إليهم إلى غير ذلك من معاني ربوبيته. وقال في الفصل الذي يليه ص 143: " وما ذكر في الكتاب والسنة من قربه ومعيته، لا ينافي ماذكر من علوه وفوقيته، فإنه سبحانه ليس كمثله شيء في جميع نعوته، وهو علي في دنوه قريب في علوه". أ. هـ .
وقال في الفتوى الحموية ص 102 من المجلد الخامس من مجموع الفتاوي لابن القاسم: " ولا يحسب الحاسب أن شيئاً من ذلك (يعني مما جاء في الكتاب والسنة) يناقض بعضه بعضاً البتة، مثل أن يقول : القائل: ما في الكتاب والسنة من أن الله فوق العرش يخالفه الظاهر من قوله : { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} وقوله صلى الله عليه وسلم " إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قبل وجهه". ونحو ذلك فإن هذا غلط وذلك أن الله معنا حقيقة وهو فوق العرش حقيقة كما جمع بينهما في قوله: { هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} . فأخبر أنه فوق العرش يعلم كل شيء وهو معنا أينما كنا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأوعال: " والله فوق العرش وهو يعلم ما أنتم عليه" وذلك أن كلمة " مع " في اللغة إذا أطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال، فإذا قيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك بالمعنى، فإنه يقال : مازلنا نسير والقمر معنا أو النجم معنا ، ويقال: "هذا المتاع معي لمجامعته لك وإن كان فوق رأسك فالله مع خلقه حقيقة وهو فوق عرشه حقيقة " أ. هـ.(/7)
وليس تفسير المعية بمعناها الحقيقي اللائق بالله تعالى بمناف لما فسرها به السلف من العلم، فإن العلم من لوازم معناها، ولازم المعنى منه فلا يناقض حقيقته.
وتفسير المعية بمعناها الحقيقي لا يقتضي أن الله تعالى حال مع خلقه في أمكنتهم، ولا يدل على ذلك بأي وجه من وجوه الدلالة، ولا يفهم ذلك منه إلا من غلظ طبعه عن معرفة اللغة، وحجب قلبه عن تعظيم الله تعالى ومعرفة ما يجب له من الكمال والجلال، ولم يفهم أحد من السلف عن معية الله لخلقه هذا الفهم الخاطئ الضال، وإنما فهمه الحلولية الذين لم يقدروا الله حق قدره من قدماء الجهمية وغيرهم، ولا ريب أن من اعتقد ذلك في الله تعالى فهو كافر أو ضال، ومن نقله عن غيره من السلف أو الأئمة فهو كاذب.
المثال الرابع والخامس: قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} . وقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ} .
ذكر فضيلتكم على المثال الرابع ما نصه: " كيف يمكن فهم النص الكريم بدون تأويل {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}. هل الله تعالى ملتصق بالإنسان التصاق عرق الوريد؟ أليس في هذا الفهم الخاطئ ما يؤيد دعاوى بعض أهل الضلال من جهلة المتصوفة، أو الزنادقة والملاحدة الذين يقول :ون بالحلول والاتحاد؟".
وذكرتم على المثال الخامس { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ} قولين أحدهما: أقرب إلى الميت بعلمنا واطلاعنا. والثاني: أقرب إليه بملائكتنا الحاضرين لقبض روحه.
ولا ريب أن للعلماء في تفسير الآيتين قولين:
أحدهما: أن المراد به قربه تعالى بعلمه وإحاطته، والذين فسروه بذلك ظنوا أن تفسيره بقرب ذاته يستلزم الحلول والاتحاد، أو يوهم ذلك ففروا منه إلى تفسيره بالعلم والإحاطة وسندوا تفسيرهم بأمرين:
.1أن الله تعالى ذكر القرب في سورة " ق " بعد العلم فقال: { وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} فدل ذلك على أن المراد قربه بعلمه وإحاطته.
.2أن العلم من لوازم القرب إذا كان القريب كامل الصفات ولازم اللفظ من معناه كما سبق في كلامنا على المعية. وتفسير اللفظ بلازم معناه لا سيما مع وجود قرائن لفظية في السياق لا يخرج الكلام عن ظاهره، ولا يعد تأويلاً.
القول الثاني: أن المراد بقربه تعالى قرب ملائكته وسندوا تفسيرهم بأمرين أيضاً:
أحدهما: أن الله تعالى ذكر القرب مقيداً فقيده في سورة ق بقوله: { إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} . فإن قوله: (إذ يتلقى) متعلق بقوله: (أقرب) فيكون هذا تفسيراً لمعنى القرب وقيده في سورة الواقعة بحال الاحتضار فقال: {وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ. وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ } . ثم إن في قوله : { وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ} . دليلاً على أن هذا الأقرب في نفس المكان ولكن لا نبصره وهذا لا يكون إلا للملائكة لأن الله تعالى لا يمكن أن يحل في مكان المحتضر.
والشيء إذا أضافه الله تعالى إلى نفسه بلفظ الجمع لم يمتنع أن يراد ملائكته كما في قوله تعالى: { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} . والذي يقرؤه على النبي صلى الله عليه وسلم هو جبريل، وإذا كان في الكلام ما يدل على المراد من سياق الكلام، أو قرائن الأحوال لم يكن تفسيره بمقتضى ذلك صرفاً للكلام عن ظاهره، ولا يعد تأويلاً.
والقول الثاني في تفسير القرب في الآيتين هو ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وضعف تفسيره بالعلم والإحاطة، وقال في شرح حديث النزول ص 494 ج5 من مجموع الفتاوي لابن قاسم: " ليس في الكتاب والسنة وصفه بقرب عام من كل موجود حتى يحتاجوا أن يقول :وا بالعلم والقدرة والرؤية " قال: " وكأنهم ظنوا أن لفظ القرب مثل لفظ المعية " . ثم ذكر الفرق بينهما بمقتضى النص واللغة وقال ص 502 : " فلا يجعل لفظ مثل لفظ مع تفريق القرآن بينهما".
وأما القرب المذكور في قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} .
والقرب المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو موسى عنه: " اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم، ولا غائباً، تدعون سميعاً بصيراً قريباً". رواه البخاري في الباب التاسع من كتاب التوحيد. ومسلم في الباب الثالث عشر من كتاب الذكر والدعاء وزاد: " والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلة أحدكم". ورواه أحمد في المسند ص 402 ج 4 بلفظ " من عنق راحلته".(/8)
أقول: أما القرب المذكور في هذه الآية والحديث فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح حديث النزول ص 508ج 5 من مجموع الفتاوي لابن قاسم: " فهنا هو نفسه سبحانه وتعالى القريب المجيب الذي يجيب دعوة الداعي لا الملائكة" إلى أن قال ص 510: "وأما قرب الرب قرباً يقوم به بفعله القائم بنفسه فهذا تنفيه الكلابية، ومن يمنع قيام الأفعال الاختيارية بذاته، وأما السلف وأئمة الحديث والسنة فلا يمنعون ذلك وكذلك كثير من أهل الكلام" . وقال قبل ذلك ص 466: " وأما دنوه بنفسه وتقربه من بعض عباده فهذا يثبته من يثبت قيام الأفعال الاختيارية بنفسه ومجيئه يوم القيامة، ونزوله واستواءه على العرش، وهذا مذهب أئمة السلف وأئمة الإسلام المشهورين، وأهل الحديث والنقل عنهم بذلك متواتر".
وقال قبل ذلك ص 460: " وأصل هذا أن قربه تعالى ودنوه من بعض مخلوقاته لا يستلزم أن تخلو ذاته من فوق العرش، بل هو فوق العرش ويدنو من خلقه كيف يشاء كما قال ذلك من قاله من السلف" . أ.هـ. وقد سبق ما نقلناه عن العقيدة الواسطية له من أن ما ذكر في الكتاب والسنة من قربه ومعيته لا ينافي ما ذكر من علوه وفوقيته، فإنه ليس كمثله شيء في جميع نعوته فهو علي في دنوه قريب في علوه.
وقال محمد بن الموصلي في مختصره للصواعق المرسلة لابن القيم ص 410-413 ط الإمام: "فهو قريب من المحسنين بذاته ورحمته قرباً ليس له نظير، وهو مع ذلك فوق سامواته على عرشه" قال: " والذي يسهل عليك فهم هذا معرفة عظمة الرب وإحاطته بخلقه، وأن السماوات السبع في يده كخردلة في يد العبد، وأنه سبحانه يقبض السماوات بيده، والأرض بيده الأخرى ثم يهزهن فكيف يستحيل في حق من هذا بعض عظمته أن يكون فوق عرشه ويقرب من خلقه كيف شاء وهو على العرش " . أ. هـ.
وإنما ذهب الشيخان إلى أن المراد بالقرب في الآية والحديث قرب الله تعالى بنفسه لدلالة اللفظ عليه بدون مانع شرعي ولا عقلي.
ففي الآية الكريمة أضاف الله الضمائر من أولها إلى آخرها لنفسه بضمير الواحد فقال : (عبادي). (عني) (فإني) (قريب). (أجيب). (دعان) .(لي) . (بي). ومحال أن تكون هذه الضمائر لغيره.
وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم: " تدعون سميعاً بصيراً قريباً " " والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته " والصحابة إنما يدعون الله فيكون القريب هو نفسه، وهذا غير مستحيل بالنسبة إلى الله تعالى فإنه تعالى ليس كمثله شيء، فليس قربه لعبده كقرب غيره، بل هو قرب لا نظير له، لائق بجلاله وعظمته لا يكيف، ولا يمثل، ولا ينافي علوه، واستواءه على عرشه.
المثال السادس والسابع: قوله تعالى عن سفينة نوح: { تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} . وقوله عن موسى {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} . قال فضيلتكم عن الآية الأولى: هل يصح أن نفسرها على ظاهرها أن السفينة تسير وتجري في عين الله؟ وقلتم عن الثانية: هل يفهم عاقل أن موسى ربي في عين الله.
والحقيقة أنه لا يمكن أن نقول : إن السفينة تجري في عين الله؟ ولا أن موسى ربي في عين الله ولكن من يقول : إن هذا هو ظاهر الكلام حتى يتعين صرفه عن ظاهره؟. فالله تعالى لم يقل: "تجري في أعيننا" ولم يقل: " ولتصنع في عيني" حتى يقال : إن ظاهر الكلام أن عين الله ظرف للسفينة وظرف لموسى وإنما قال : {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} . كما قال : {واصنع الفلك بأعيننا ووحينا( . وقد فسرها ابن عباس وقتادة بعين الله تعالى حقيقة نقله ابن جرير عنهما ص 309ج 15 تحقيق محمود محمد شاكر.
والمعنى: تجري مرئية بأعيننا. واصنع الفلك مرئيّاً بأعيننا وحسب وحينا، وهذا معنى صحيح موافق لظاهر الكلام غير مستحيل على الله تعالى فإنه قد جاء في الكتاب والسنة وإجماع السلف ثبوت العين لله تعالى حقيقة على الوجه اللائق به من غير تكييف ولا تمثيل.
وأما تفسيرها بمرأى منا فهو صحيح أيضاً لأنه تفسير باللازم، فإنها إذا كانت تجري بعين الله تعالى لزم أن يراها، والتفسير باللازم غير خارج عن دلالة ظاهر اللفظ كما سبق من أن دلالة اللفظ على معناه من وجوه ثلاثة فلا يكون تأويلاً، ولا صرفاً له عن ظاهره.
وقال: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} قال ابن كثير ص 422ج5 ط أولى المنار: " قال أبو عمران الجوني: تربى بعين الله وقال قتادة: تغذى على عيني" . أ.هـ. وهذا تفسير للعين بحقيقة معناها، والمعنى : ولتربى على مرأى مني بعيني، وهو معنى صحيح موافق لظاهر الكلام غير مستحيل على الله تعالى كما سبق.
وأما تفسيرها بمرأى مني فنقول فيه كما قلنا في الآية السابقة.
المثال الثامن: ذكر فضيلتكم حديث الحجر الأسود يمين الله في أرضه وذكرت في ص .. من عدد .. أنه حديث صحيح وأنه يتعين تأويله.(/9)
وهذا الحديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن الجوزي في العلل المتناهية ص 85ج 2 نشر إدارة العلوم الأثرية: " هذا حديث لا يصح، وإسحاق بن بشر قد كذبه أبو بكر بن أبي شيبة وغيره وقال الدارقطني هو في عداد من يضع الحديث". أ.هـ. وذكر حديثاً آخر من حديث عبد الله بن عمرو وقال : " لا يثبت، قال أحمد :عبد الله بن مؤمل أحاديثه مناكير، وقال علي بن الجنيد: شبه المتروك " أ.هـ. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ص 397 ج6 من مجموع الفتاوي لابن قاسم: " روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد لا يثبت، والمشهور إنما هو عن ابن عباس قال : الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه. ومن تدبر اللفظ المنقول تبين له أنه لا إشكال فيه إلا على من لم يتدبره، فإنه قال : يمين الله في الأرض فقيده بقوله في الأرض ولم يطلق فيقول : يمين الله وحكم اللفظ المقيد يخالف حكم اللفظ المطلق ثم قال : فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه، ومعلوم أن المشبه غير المشبه به وهذا صريح في أن المصافح لم يصافح يمين الله أصلاً، ولكن شبه بمن يصافح الله فأول الحديث وآخره يبين أن الحجر ليس من صفات الله كما هو معلوم لكل عاقل" . أ.هـ. وفي سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني رقم 222 ص 25 من الجزء الثالث المجلد الأول قال : هو حديث موضوع وذكره من رواية الكاهلي إسحاق بن بشر، ونقل عن ابن العربي قوله: هذا حديث باطل فلا يلتفت إليه، ثم ذكر الألباني للكاهلي متابعاً من طريق أبي علي الأهوازي وقال : إنه متهم، فالحديث باطل على كل حال، ثم نقل عن ابن قتيبة أنه أخرجه عن ابن عباس موقوفاً عليه، وقال الألباني: الموقوف أشبه وإن كان في سنده ضعيف جداً فإن إبراهيم هذا وهو الخوزي متروك كما قاله أحمد والنسائي.
فإذا كان الحديث موضوعاً باطلاً لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي ثبوته عن ابن عباس رضي الله عنهما نظر فإنه لا يحتاج إلى الخوض في معناه، ولا وجه لإلزام أهل السنة وهم السلف بالقول بتأويله .
ثم على تقدير ثبوته عن ابن عباس رضي الله عنهما وتسليم أنه من المرفوع حكماً فإنه لا يحتاج إلى تأويل لوضوح معناه كما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
المثال التاسع: ذكر فضيلتكم قوله تعالى في الحديث القدسي : " ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه".
وهذا حديث صحيح خرجه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله قال: " من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب" وذكر تمام الحديث.
ولا ريب أنه لا يراد من الحديث أن يكون الله تعالى وتقدس عين سمع الولي، وبصره، ويده ورجله، ولا يمكن أن يقال : إن هذا ظاهر الحديث لمن تدبره تدبراً جيداً حتى يقال : إنه يحتاج إلى التأويل بصرفه عن ظاهره، فإن في سياق الحديث ما يمنع القول بهذا، وذلك أن الله تعالى قال فيه: " وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه " . وقال " ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه". فأثبت عبداً ومعبوداً. ومتقرباً ومتقرباً إليه. ومحباً ومحبوباً. وسائلاً ومسؤولاً. ومعطياً ومعطى. ومستعيذاً ومستعاذاً به. ومعيذاً ومعاذاً. فسياق الحديث يدل على اثنين متباينين كل واحد منهما غير الآخر وعلى هذا فيمتنع أحدهما أن يكون وصفاً في الآخر، أو جزءاً من أجرائه، ولا يمكن لأحد أن يفهم هذا الفهم من مثل هذا السياق أبداً، اللهم إلا أن يكون بليد الفكر، أو معرضاً عن التدبر، أو ذا هوى أعماه.
ولا يفهم أحد من مثل هذا السياق إذا تدبره وكان ذا فكر سليم إلا أن المراد به تسديد الله تعالى للعبد إدراكاً وعملاً، بحيث يكون إدراكه بسمعه وبصره بالله ولله وفي الله وكذلك عمله بجوارحه فيتم له بذلك كمال الاستعانة، والإخلاص، والمتابعة وهذا غاية التوفيق. وهذا ما فسره به السلف وهو تفسير مطابق للفظ متعين بالسياق، وليس فيه تأويل ولا صرف للكلام عن ظاهره ولله الحمد والمنة.
المثال العاشر: ذكر فضيلتكم الحديث القدسي بلفظ: ولئن أتاني يمشي أتيته هرولة.
والحديث رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يقول الله تعالى: " أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني" وتمام الحديث " وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة" . ورواه مسلم من حديث أبي ذر بنحوه دون أوله.(/10)
وهذا الحديث كغيره من النصوص الدالة على قيام الأفعال الاختيارية بالله تعالى ، وأنه سبحانه فعال لما يريد ، كما ثبت ذلك في الكتاب والسنة مثل قوله تعالى :{ وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} . وقوله : {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} . وقوله : {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} . وقوله صلى الله عليه وسلم " ينزل ربنا إلى السماء الدنيا" . وقوله في هذا الحديث : " من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً .. وإن أتاني يمشي أتيته هرولة " . هو من هذا الباب وكلها أفعال متعلقة بمشيئته كما قال تعالى : { ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ. فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } . وقال : {وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ} . لكن أفعاله كسائر صفاته لا تكيف ولا تمثل بالمخلوقين.
وعلى هذا فنؤمن بأن الله تعالى يتقرب من عبده المتقرب إليه كما يشاء ويأتي هرولة لمن أتى إليه يمشي كما يشاء من غير تكييف ولا تمثيل وليس في ذلك ما ينافي كمال الله عز وجل.
وذهب بعض العلماء من أهل السنة إلى أن قوله: " أتيته هرولة " يراد به سرعة قبول الله تعالى وإقباله على العبد المتقرب إليه المتوجه بقلبه وجوراحه إلى ربه وقال : إن هذا هو ظاهر اللفظ بدليل أن الله تعالى قال: " ومن أتاني يمشي" . ومن المعلوم أن طالب الوصول إلى الله لا يطلبه بالمشي فقط بل يطلبه تارة بالمشي كالسير إلى المساجد، والمشاعر، والجهاد، ونحوها، وتارة بالركوع والسجود ونحوهما، فعلم بذلك أن المراد بذلك كيفية طلب الوصول إلى الله تعالى، وأن الله تعالى يجازي الطالب بأعظم من عمله وأفضل. وإذا كان هذا ظاهر اللفظ بالقرينة الشرعية المفهومة من سياقه لم يكن تفسيره بذلك تأويلاً ولا صرفاً له عن ظاهره والله أعلم.
المثال الحادي عشر: ذكر فضيلتكم الحديث القدسي بلفظ: ابن آدم مرضت فلم تعدني، استطعمتك فلم تطعمني، استسقيتك فلم تسقني.
وهذا الحديث رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله عز وجل يقول يوم القيامة :يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، قال: يارب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده" وذكر تمام الحديث رقم 43 من كتاب البر والصلة والآداب ص 1990 .
وهو حديث صحيح أخذ به السلف ولم يصرفوه عن ظاهره بتأويل يتخبطون فيه بأهوائهم، وإنما فسروه بما فسره الله تعالى به حيث قال: " أما علمت أن عبدي فلاناً مرض" . إلخ. وقال في الإطعام: " أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي" . وقال في الإسقاء : " استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي". وهو صريح في أن المراد مرض عبد من عباد الله، واستطعام عبد من عباد الله، واستسقاء عبد من عباد الله، والذي فسره بذلك هو الله تعالى الذي تكلم به، وهو أعلم بمراده، فإذا فسر بما فسره به الله تعالى لم يكن في ذلك صرف له عن ظاهره ولا تأويل كما لو تكلم الله تعالى بالمعنى ابتداء.
وهذا الحديث من أكبر الحجج الدامغة لأهل التأويل الذين صرفوا نصوص الصفات عن ظاهرها بلا دليل من كتاب الله، ولا سنة رسوله، ولا أقوال السلف الصالح بل بشبه واهية هم فيها متناقضون مضطربون، إذ لو كان المراد خلاف ظاهرها لبينه الله تعالى ورسوله ولو كان ظاهرها اللائق بالله ممتنعاً على الله تعالى لكان في الكتاب، والسنة من وصف الله تعالى بما يمتنع عليه مالا يحصى إلا بكلفة وهذا من أكبر المحال.
المثال الثاني عشر: ذكر فضيلتكم قول الله عز وجل : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} . أننا نأبى أن نفهم من هذه الآية أن الله خلق الأنعام (الإبل والبقر والغنم) بيده حقيقة.
وكأنكم تريدون أن تدخلوا هذه الآية في ضمن ما أوله السلف وهذا غير صحيح فإن الآية الكريمة ليس فيها ما يدل على أن الله تعالى خلق هذه الأنعام بيده، بل صريح الآية أن الله تعالى هو الذي خلقها {خلقنا لهم} ولم يقل : بيده بل قال: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} ولو كان المراد أن الله خلقها بيده لقال: " خلقنا لهم بأيدينا ". كما قال في آدم: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} .
والعمل يضاف إلى اليد في اللغة والمراد بها صاحب اليد.
أرأيت قول الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} . وقوله : {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} . فإن المراد بما كسب الإنسان نفسه وإن عمله بغير يده، بخلاف ما إذا قيل : " عملته بيدي " ونحوه فإنه يدل على أن اليد هي التي حصل بها الفعل.(/11)
وعلى هذا فليس في الآية الكريمة صرف عن ظاهرها، لأنها ليس فيها ما يدل على أن الأنعام مخلوقة بيد الله وإنما تدل على أن الله تعالى خلق هذه الأنعام وأنها من جملة ما عمله الله تعالى وصنعه لنا، ولو كانت الآية كما فهم فضيلتكم أو كما حاولتم أن تؤولوها به لكانت جميع المخلوقات مخلوقة بيد الله تعالى.
المثال الثالث عشر: ذكر فضيلتكم قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} . وذكرتم عن ابن جرير فيها تأويلين: أحدهما: يد الله فوق أيديهم عند البيعة لأنهم كانوا يبايعون الله ببيعتهم نبيه صلى الله عليه وسلم والثاني: قوة الله فوق قوتهم في نصرة رسوله صلى الله عليه وسلم لأنهم بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على نصرته.
ولا ريب أن المعنى الأول أقرب إلى ظاهر اللفظ فيكون هو الراجح وليس فيه تأويل بصرفه عن ظاهره وذلك لأن قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ} صريح مطابق للواقع كما في قوله: { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ }. فالمبايع مباشرة هو النبي صلى الله عليه وسلم وليس الله تعالى ولا يمكن لأحد أن يفهم أنه الله تعالى ولا أن يقول : إن ذلك ظاهر اللفظ لكن لما كان النبي صلى الله عليه وسلم رسولاً من عند الله مبلغاً عنه صارت مبايعة لمن أرسله. وهذه الآية كقوله تعالى: { مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ} .
وفي هذه الآية من تشريف النبي صلى الله عليه وسلم وتأييده وتأكيد بيعته ما لا يخفى على أحد.
أما قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} . فهي على حقيقتها وظاهرها وذلك لأن يد الله تعالى صفة من صفاته وهو سبحانه فوقهم على العرش استوى، فكانت يده فوق أيديهم كما قرر ذلك ابن القيم وانظره ص 349 ط الإمام من كتاب ( استعجال الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة المعروف باسم مختصر الصواعق ).
وهذا التقرير ظاهر مطابق لظاهر اللفظ، وهو أولى من قول من جعله على سبيل التخييل، بأنه لما كانت مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم مبايعة لله كانت يد النبي صلى الله عليه وسلم كأنها يد الله تعالى وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم عند المبايعة ليس يجعل يده فوق أيديهم، وإنما كان يمسك بأيديهم ويصافحهم، فيده مع أيديهم لا فوقها، وبهذا تبين أنه ليس في الآية تأويل يصرفها عن ظاهرها والحمد لله رب العالمين.
وبالإجابة على هذه الأمثلة يتبين أنه ليس للأشاعرة وغيرهم حجة على أهل السنة بإلزامهم بالموافقة أو المداهنة في تأويلهم لما أولوه من صفات الكمال التي أثبتها الله تعالى لنفسه، ولو سلمنا أن لهم حجة في ذلك لسلمنا أن للمعتزلة حجة فيما أولوه من الصفات التي يثبتها الأشاعرة، ولسلمنا أن للقرامطة وغيرهم من غلاة الجهمية ومن سلك سبيلهم حجة فيما أولوه من الأسماء، بل لسلمنا أن للفلاسفة وغيرهم حجة فيما ذهبوا إليه من تأويل نصوص المعاد، ولهذا كان لا سبيل لأحد في دفع شبه هؤلاء الزائغين إلا بالتزام سبيل السلف الراسخين في العلم، الثابتين على القاعدة المستقرة التي لا يشذ عنها شيء من مسائل الدين الكبيرة والصغيرة نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم في الدنيا والآخرة.
سابعاً: ذكر فضيلتكم ص .. عدد .. أن مذهب السلف أنه يجب علينا أن نصف الله تعالى بجميع ما وصف به نفسه من صفات على ما يليق به سبحانه، فننزهه عن الجسمية، والشكل، والصورة، والاحتياج، وكررتم القول بنفي التجسيم في مواضع من كلامكم.
ونفي الجسمية والتجسيم لم يرد في الكتاب، والسنة، ولا في كلام السلف فالواجب على العبد التأدب مع الله ورسوله وسلف الأمة فلا ينفي عن الله تعالى إلا ما نفاه عن نفسه ولا يثبت له إلا ما أثبته لنفسه، أما مالم يرد به نفي ولا إثبات مما يحتمل حقّاً وباطلاً فإن الواجب السكوت عنه فلا ينفى ولا يثبت لفظه، وأما معناه فيسأل عنه فإن أريد به حق قبل، وإن أريد به باطل رد، وعلى هذا فيسأل من نفى التجسيم ماذا تريد بالجسم؟ فإن قال: أريد به الشيء المركب المفتقر بعضه إلى بعض في الوجود والكمال قلنا : نفي الجسم بهذا المعنى حق فإن الله تعالى واحد أحد صمد غني حميد. وإن قال : أريد به الشيء المتصف بالصفات القائمة به من الحياة، والعلم والقدرة، والاستواء والنزول، والمجيء، والوجه، واليد ونحو ذلك مما وصف الله به نفسه قلنا : نفي الجسم بهذا المعنى باطل، فإن لله تعالى ذاتاً حقيقية، وهو متصف بصفة الكمال التي وصف بها نفسه من هذه الصفات وغيرها على الوجه اللائق به.(/12)
ومن أجل احتمال الجسم لهذا وهذا كان إطلاق لفظه نفياً وإثباتاً من البدع التي أحدثت في الإسلام قال شيخ الإسلام ابن تيمية ص 152 ج 4 من مجموع الفتاوي لابن قاسم: " لفظ التجسيم لا يوجد في كلام أحد من السلف لا نفياً ولا إثباتاً فكيف يحل أن يقال : مذهب السلف نفي التجسيم أو إثباته بلا ذكر لذلك اللفظ ولا لمعناه عنهم". وقال قبل ذلك ص 146 : " وأول من ابتدع الذم بها المعتزلة الذين فارقوا جماعة المسلمين" أ.هـ. يعني أن المعتزلة جعلوا من أثبت الصفات مجسماً وشنعوا عليهم بهذه الألفاظ المبتدعة ليغزوا بذلك عوام المسلمين.
وأما الصورة فقد روى البخاري ومسلم من حديثي أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما ما يدل دلالة صريحة على ثبوتها لله تعالى روي البخاري في: باب الصراط جسر جهنم ص 444 ج 11 فتح ط السلفية عن عطاء عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال أناس : يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ قال: " هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ ". قالوا: لا يا رسول الله. قال : " هل تضارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟". قالوا: لا يا رسول الله . قال : " فإنكم ترونه كذلك يوم القيامة". وذكر الحديث وفيه: " وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون فيقول : أنا ربكم. فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا أتانا ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون فيقول : أنا ربكم. فيقولون: أنت ربنا فيتبعونه" . وذكر تمام الحديث قال عطاء : وأبو سعيد جالس مع أبي هريرة لا يغير عليه شيئاً من حديثه ورواه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في باب قول الله تعالى):وجوه يومئذ ناضرة .إلى ربها ناظرة( . ص 419ج 13 فتح ط السلفية، ورواه مسلم عنهما في كتاب الإيمان حديث أبي هريرة رقم 299 ص 163 تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي وحديث أبي سعيد رقم 302 ص 167، فهل أحد أعلم بالله تعالى وما يجب له، أو يمتنع في حقه، أو يجوز من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ! وهل أحد من الخلق أنصح من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعباد الله ؟ وهل أحد من الخلق أفصح لساناً وأبلغ بياناً من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وهل أحد من قرون هذه الأمة أحفظ أمانة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه ونقل شريعته ؟ .
وقد أثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به عن ربه وهو الصادق المصدوق أن لله تعالى صورة لكننا نعلم علم اليقين أن هذه الصورة ليست مماثلة لصورة أحد من المخلوقين، وأنها أعظم وأجل مما يتخيله المفكرون، وأنه لا يحل لأحد أن يتخيل اليوم هذه الصورة في ذهنه، أو يعبر عن كيفيتها بلسانه قال الله تعالى: { وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} .
وقال:) وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}. وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} .
فلا يحل لأحد أن يثبت لله تعالى مالم يعلم أن الله أثبته، ولا أن ينفي عنه مالم يعلم أن الله نفاه، فكيف يحل أن ننفي ما أثبته الله تعالى لنفسه إما في كتابه ، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم . فتنزيه الله تعالى عن الصورة اللائقة بجلاله وعظمته رد لما أثبته له رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف رضوان الله تعالى عليهم بريئون من هذا التنزيه.
وأما الشكل فإن أريد به الصورة فقد عرفت الكلام فيها، وإن أريد به مماثلة المخلوقين فالله تعالى منزه عنه.
ثامناً : ذكر فضيلتكم ص.. من العدد .. أن الخلف هم علماء أهل السنة من المتأخرين الذين ظهروا في القرن الرابع الهجري وفي نهاية القرن الثالث.
والمعروف أنه إذا قيل : ( الخلف) في باب أسماء الله وصفاته فإنما يعنى بهم الذين أحالوا الاعتقاد في هذا الباب إلى ما يقتضيه العقل، وكذبوا بما يمكنهم تكذيبه مما يخالف عقولهم، أو مما لا تقتضيه عقولهم، وصرفوا ما لا يمكنهم تكذيبه عن ظاهره.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتوى الحموية ص 10ج 5 من مجموع الفتاوي لابن القاسم في معرض الرد على من قال: طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم قال: "والإشارة بالخلف إلى ضرب من المتكلمين الذين كثر في باب الدين اضطرابهم وغلظ عن معرفة الله حجابهم". أ.هـ. وذكر كلاماً ينبغي معرفته.
تاسعاً: ذكر فضيلتكم حين قسمتم زعماً أهل السنة إلى ذوي مذهبين أنه ما كان أحد من أصحاب المذهبين ينسب غيره إلى الضلالة، ولا يصفه بما يصفه الجاهلون اليوم من الخروج عن الدين والمروق من الإسلام إلخ.(/13)
ونحن لا نعلم أن أحداً من أهل السنة نسب الأشاعرة، والماتريدية إلى الخروج عن الدين، والمروق عن الإسلام.
وأما وصفهم بالضلال باعتبار ما قالوه في صفات الله فإنه موجود في كلام أهل السنة، بل هو في كلامكم أنتم حينما قررتم في عدة مواضع من كلامكم أنهم كانوا مخطئين، والخطأ نقيض الصواب، والصواب هو الحق وقد قال الله تعالى: { فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ} .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في ص 359 ج 6 مجموع الفتاوي لابن قاسم بعد أن ذكر الجهمية ومن تبعهم من المعتزلة وبعض الأشعرية قال: " ولهذا كانوا يقولون : إن البدع مشتقة من الكفر وآيلة إليه ويقولون: إن المعتزلة مخانيث الفلاسفة، والأشعرية مخانيث المعتزلة، وكان يحيى ابن عمار يقول : المعتزلة الجهمية الذكور، والأشعرية الجهمية الإناث" قال الشيخ: " ومرادهم الأشعرية الذين ينفون الصفات الخبرية، وأما من قال منهم بكتاب الإبانة الذي صنفه الأشعري في آخر عمره ولم يظهر مقالة تناقض ذلك فهذا يعد من أهل السنة لكن مجرد الانتساب إلى الأشعري بدعة".أ.هـ. وقال قبل ذلك في ص310:" وأما الأشعرية فعكس هؤلاء، وقولهم يستلزم التعطيل، وأنه لا داخل العالم، ولا خارجه، وكلامه معنى واحد، ومعنى آية الكرسي، وآية الدين، والتوراة، والإنجيل واحد، وهذا معلوم الفساد بالضرورة " أ.هـ.
وقال تلميذه ابن القيم في النونية ص 312 من شرح محمد خليل الهراس ط الإمام:
واعلم بأن طريقهم عكس الطريـ **ق المستقيم لمن له عينان
إلى أن قال:
فاعجب لعميان البصائر أبصروا ** كون المقلد صاحب البرهان
ورأوه بالتقليد أولى من سوا ** ه بغير ما بصر ولا برهان
وعموا عن الوحيين إذ لم يفهموا ** معناهما عجباً لذي الحرمان
وقال الشيخ محمد أمين الشنقيطي في تفسيره ( أضواء البيان {ص 319 ج2 على تفسير آية استواء الله على عرشه: "اعلم أنه غلط في هذا خلق لا يحصى كثرة من المتأخرين، فزعموا أن الظاهر المتبادر السابق إلى الفهم من معنى الاستواء، واليد مثلاً في الآيات القرآنية هو مشابهة صفات الحوادث، وقالوا يجب علينا أن نصرفه عن ظاهره إجماعاً قال : " ولا يخفى على أدنى عاقل أن حقيقة معنى هذا القول، أن الله وصف نفسه في كتابه بما ظاهره المتبادر منه السابق إلى الفهم الكفر بالله تعالى، والقول فيه بما لا يليق به، جل وعلا والنبي صلى الله عليه وسلم لم يبين حرفاً واحداً من ذلك حتى جاء هؤلاء الجهلة من المتأخرين فزعموا أن الله أطلق على نفسه الوصف بما ظاهره المتبادر منه لا يليق به، والنبي صلى الله عليه وسلم كتم أن ذلك الظاهر كفر وضلال يجب صرف اللفظ عنه، وكل هذا من تلقاء أنفسهم من غير اعتماد على كتاب أو سنة سبحانك هذا بهتان عظيم. ولا يخفى أن هذا القول من أكبر الضلال ومن أعظم الافتراء على الله جل وعلا وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم إلى أن قال : " والجاهل المفتري الذي يزعم أن ظاهر آيات الصفات لا يليق بالله، لأنه كفر وتشبيه، وإنما جر إليه ذلك تنجيس قلبه بقذر التشبيه بين الخالق والمخلوق، فأداه شؤم التشبيه إلى نفي صفات الله جل وعلا وعدم الإيمان بها، مع أنه جل وعلا هو الذي وصف بها نفسه" . إلى أن قال: " ولو كان قلبه عارفاً بالله كما ينبغي معظما لله كما ينبغي طاهرا من أقذار التشبيه لكان المتبادر عنده السابق إلى فهمه أن وصف الله تعالى بالغ من الكمال والجلال ما يقطع أوهام علائق المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين". أ. هـ. فهذا كلام أهل العلم رحمهم الله تعالى في بيان ضلال من تأولوا نصوص صفات الله تعالى أو بعضها، وحرفوا فيها الكلم عن مواضعه بصرفها إلى معانٍ تخالف ظاهرها بلا دليل من الكتاب والسنة. ولكن لا يلزم من ضلال المتأول أن يستحق الوصف بالضلال المطلق الموجب للذم المطلق إذا علم منه حسن القصد والصدق في طلب الحق، لأن المجتهد إذا أصاب كان له أجران وإن أخطأ كان له أجر واحد، والخطأ مغفور.
عاشراً : ذكر فضيلتكم كلاما في الأشاعرة غريباً فقلتم ص.. عدد .. : لهم تأويلات مخالفة لما ذهب إليه السلف، وذكرت في نفس الصفحة أنهم أولوا بما يتفق مع القرآن، وأن عقيدتهم على الوجه الصحيح وذكرت في ص .. عدد .. عن طائفتي أهل السنة: السلف وأهل التأويل كما قسمتهم مانصه: مع اعتقادهم جميعاً صفات الله تعالى دون تعطيل، أو تجسيم وذكرت في الصفحة نفسها أنهم مالوا إلى التأويل في بعض الصفات لأنهم كان من اللازم عليهم أن يصارعوا الباطل بنفس السلاح الذي يتسلح به خصومهم، وأن يقاوموا ضلالهم بالحجة الساطعة والبرهان القاطع.(/14)
وذكرت في عدة مواضع أنهم مخطئون في تأويلهم كما في ص .. عدد .. وفي أول ص .. عدد.. وأول ص .. عدد .. وهذا الاختلاف في كلامكم: إما أن يكون للتردد في أمرهم، وإما أن يكون للتهيب من إبطال طريقتهم، وإما للتمويه على القارىء . فالأخير أعيذك بالله منه وأعيذ سائر علمائنا منه. وأما الثاني فلا ينبغي أن نتهيب من وصف القول الذي تبين خطؤه أنه ضلال لقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ}. وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} . فنهى الله تعالى أن يحملنا بغض قوم على عدم العدل، فمثله أن يحملنا حب قوم على عدم العدل، ومن المعلوم أنه ليس من العدل أن نقول : هؤلاء الأشاعرة على حق، والسلف على الباطل، وليس من الممكن أن نقول : إن الجميع على حق، لاختلاف منهجيهما فتعين أن نقول: إن السلف هم الذين على الحق وأن نتذكر قول الله عز وجل: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ} . وفي صحيح البخاري أن أبا موسى الأشعري سئل عن ابنة وابنة ابن وأخت فقال: للابنة النصف، وللأخت النصف، وائت ابن مسعود فسيتابعني فسئل ابن مسعود وأخبر بقول أبي موسى فقال: " لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين، أقضي فيها بما قضى النبي صلى الله عليه وسلم: للابنة النصف، ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت " . فتأمل كيف وصف ابن مسعود مخالفة الحق بالضلال، ونسبه إلى نفسه في مسألة من مسائل فقه الفرائض، فكيف لا توصف مخالفة الحق بالضلال في مسألة من مسائل الفقه الأكبر، فقه أسماء الله تعالى وصفاته. ؟!
وأما الاحتمال الثالث التردد في أمرهم فإن من تدبر كتاب الله تعالى طالباً الهدى منه، وتدبر ما ثبت من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا القصد تبين له الحق، واتضح له أن طريق السلف هو الصواب والهدى، وأنه هو الذي يمكن أن نرد به شبه المبطلين، ونسد به سبل الزائغين، وأنه هو المحجة الساطعة والبرهان القاطع. وقد سبق في كتابنا هذا بيان أن أهل التأويل من المعتزلة وغيرهم احتجوا لباطلهم بطريق الأشاعرة، وأن طريق الأشاعرة كانت حجة لهم حيث احتج أولئك المعتزلة وغيرهم عليهم بما احتجوا به أعني الأشاعرة لأنفسهم فقالوا: إذا كان طريق إثبات الصفات عندكم العقل فما لم يدل عليه العقل صرفتموه عن ظاهره فإننا نحتج عليكم به فإن عقولنا لا تقتضي إثبات الصفات التي أثبتموها فنحن نصرف نصوصها عن ظاهرها كما أنكم فعلتم ذلك مع أهل السنة فقلتم: إن عقولنا لا تقضي إثبات ما زاد على الصفات السبع التي نثبتها فنحن نصرف نصوصها عن ظاهرها.
وإذا تبين أن طريق السلف هو الحق والهدى والحجة فلماذا نتردد في طريق من خالفه، ونتذبذب في الحكم عليهم؟ إن الدين، والعقل، والحزم والشجاعة كلها تقتضي أن نقول للحق : هو حق ، ولما خالفه :هو ضلال مهما كان القائل به كمّاً أو كيفاً ، ليبين الحق ويتميز، فيعبد الناس ربهم على بصيرة ويدعوا إليه على بصيرة.
إنكم لو تأملتم طريقة الأشاعرة في باب أسماء الله تعالى وصفاته حق التأمل لتبين لكم أنه لا وجه للتردد في شأنهم ولا لتهيُّب إبطال طريقتهم.
فالله يقول عن نفسه: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} .
وهم يقولون : ليس لله تعالى وجه.
والله يقول عن نفسه مخاطباً موسى: { وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} .
وهم يقولون : ليس لله عين.
والله يقول عن نفسه: { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}.
وهم يقولون: ليس لله يدان.
والله يقول عن نفسه: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}.
وهم يقولون: ما استوى على العرش.
والله يقول عن نفسه: { وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ} . ويقول : { أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} .
وهم يقولون: إن الله لا يجيء ولا يأتي.
والله يقول عن نفسه: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} .
وهم يقولون: إن الله لا يحب.
والله يقول عن نفسه: { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} .
وهم يقولون : إن الله لا يرضى.
والله يقول عن نفسه: { وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} .
وهم يقولون : إن الله لا يكره.
والله تعالى يقول: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ} وهم يقولون: إن الله لا يغضب .
والله يقول عن نفسه: { وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} .
وهم يقولون: ليس لله تعالى رحمة هي وصفه.(/15)
والنبي صلى الله عليه وسلم قال عن ربه: " ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقي ثلث الليل الآخر" متفق عليه ".
وهم يقولون : إن الله لا ينزل .
والنبي ، صلى الله عليه وسلم ، قال عن ربه ، " وإذا أبغض عبداً دعا جبريل فيقول إني أبغض فلاناً فأبغضه " رواه مسلم .
وهم يقولون : إن الله لا يبغض .
والنبي ، صلى الله عليه وسلم ، قال : " ولا يزال يدعو حتى يضحك الله منه فإذا ضحك الله منه قال : ادخل الجنة " متفق عليه .
وهم يقولون: إن الله لا يضحك.
والنبي صلى الله عليه وسلم قال عن ربه: " لله أشد فرحا بتوبة أحدكم من أحدكم بضالته إذا وجدها " رواه مسلم.
وهم يقولون : إن الله لا يفرح .
والنبي ، صلى الله عليه وسلم، قال عن ربه :" عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل " رواه البخارى .
وهم يقولون: إن الله لا يعجب.
إلى غير ذلك من الصفات التي أثبتها الله تعالى لنفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وهم ينكرون أن تكون لله تعالى على الحقيقة، ويقولون : هي مجاز عن معان عينوها بعقولهم، وزعموا أنها المرادة بكلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وإذا كانت هذه النصوص مجازاً بإقرارهم، فإن أبرز علامات المجاز صحة نفيه فيكون نفيها سائغاً على زعمهم مع أن الله أثبتها لنفسه والله المستعان.
حادي عشر: في ص.. عدد .. دعا فضيلتكم إلى الكف عن مهاجمة أتباع المذاهب والأشاعرة، والإخوان، حتى الصوفيين أصحاب الطرق المعروفة وعللتم ذلك بأن الجميع يريدون وجه الله ويجمعهم شيء واحد وهو حب الإسلام، وخدمة الدين، ومنهم من يخطىء في الأسلوب، أو في الطريق ثم دعوتم إلى أن نوجههم بالحسنى إلى الجادة.
ولا ريب أن التوجيه بالحسنى مطلوب، وأن للدعوة إلى سبيل الله تعالى أربع مراتب ذكرها الله تعالى في آيتين أولاهما: قوله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} . والثانية : قوله تعالى : {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} .
وكثيرمن هؤلاء المخالفين للسلف تقوم عليهم الحجة بأوضح بيان وأفصح عبارة، ولكنهم يعاندون وربما يعتدون، ويستطيلون على أهل الحق بوصفهم بألقاب السوء، لينفروا الناس عن الحق الذي هم عليه. ومثل هؤلاء لا يمكن الدعوة إلى مداهنتهم وترك مهاجمتهم، لأن ذلك إضعاف لجانب الحق، وذل وخنوع لأهل الباطل.
وأما التعليل الذي ذكرتموه من أن الجميع يريدون وجه الله ويجمعهم حب الإسلام وخدمة الدين، فلا ريب أن بعضهم يدعي ذلك، ولكن الإخلاص وحده لا يكفي بل لابد من عمل صالح ولا يكون العمل صالحًا حتى يكون مخلصاً لله، متبعاً فيه شريعته التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان قال الله تعالى: { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} . فلم يكتف بمجرد إسلام الوجه لله تعالى بل قيد ذلك بقوله : {وهو محسن} ومن المعلوم أن المشركين الذين يعبدون الأصنام ويتخذونهم أولياء كانوا يدعون حسن القصد يقولون : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} . وأن من هؤلاء الطوائف الذين دعوتم إلى ترك مهاجمتهم وزعمتم أنهم يريدون وجه الله من اتخذ من دون الله أولياء يحبونهم كحب الله أوأشد.
ثم إن كل من يدعي أنه يريد وجه الله والدار الآخرة، فإنه غير مقبول في دعواه حتى يأتي بالبينة التي نصبها الله تعالى برهاناً على ذلك، في قوله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ . قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ}. فمن ادعى أنه يريد وجه الله، وأنه يحب دينه وهو الإسلام، نظرنا في موقفه تجاه الإسلام فإن كان على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقيدة، والقول، والعمل كان صادقاً في دعواه، وإن قصر في ذلك علمنا أنه قد نقص من صدقه بقدر ما قصر فيه.(/16)
وليعلم فضيلتكم أن كثرة العدد ليست وحدها السبب في نصرة الإسلام وعزة المؤمنين فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لن يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة " كما رواه أحمد وأبو داود وغيرهما وأعله الترمذي، وأنما النصرة لمن نصر الله عز وجل واتبع رسوله ظاهراً وباطناً قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} . وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} . وقال جل ذكره : { وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ . الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}.
فنسأل الله تعالى أن يجمع المسلمين على كلمة الحق، وأن يعيذهم من البدع والفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وأن يصلح لهم ولاة أمورهم، وأن يجعلنا وإياكم من الهداة المهتدين، وقادة الخير المصلحين، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب.
والحمد لله رب العالمين صلى الله عليه وسلم على نبينا، محمد وعلى آله وصحبه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
24/12/1403 هـ.(/17)
رسالة في حكم السحر والكهانة مع بعض الفتاوى المهمة
عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
دار الوطن
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فنظرا لكثرة المشعوذين في الآونة الأخيرة ممن يدعون الطب ويعالجون عن طريق السحر أو الكهانة، وانتشارهم في بعض البلاد، واستغلالهم للسذج من الناس ممن يغلب عليهم الجهل - رأيت من باب النصيحة لله ولعباده أن أبين ما في ذلك من خطر عظيم على الإسلام والمسلمين لما فيه من التعلق بغير الله تعالى ومخالفة أمره وأمر رسوله .
فأقول مستعينا بالله تعالى يجوز التداوي اتفاقا، وللمسلم أن يذهب إلى دكتور أمراض باطنية أو جراحية أو عصبية أو نحو ذلك ؛ ليشخص له مرضه ويعالجه بما يناسبه من الأدوية المباحة شرعا حسبما يعرفه في علم الطب ؛ لأن ذلك من باب الأخذ بالأسباب العادية ولا ينافي التوكل على الله، وقد أنزل الله سبحانه وتعالى الداء وأنزل معه الدواء عرف ذلك من عرفه وجهله من جهله، ولكنه سبحانه لم يجعل شفاء عباده فيما حرمه عليهم.
فلا يجوز للمريض أن يذهب إلى الكهنة الذين يدعون معرفة المغيبات ليعرف منهم مرضه، كما لا يجوز له أن يصدقهم فيما يخبرونه به فإنهم يتكلمون رجما بالغيب، أو يستحضرون الجن ليستعينوا بهم على ما يريدون، وهؤلاء حكمهم الكفر والضلال إذا ادعوا علم الغيب، وقد روى مسلم في صحيحه أن النبي قال: { من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوما } وعن أبي هريرة عن النبي قال: { من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد } [رواه أبو داود وخرجه أهل السنن الأربع]، وصححه الحاكم عن النبي بلفظ: { من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد } وعن عمران بن حصين قال قال رسول الله : { ليس منا من تطير أو تطير له أو تكهن أو تكهن له أو سحر أو سحر له ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد } [رواه البزار بإسناد جيد].
ففي هذه الأحاديث الشريفة النهي عن إتيان العرافين والكهنة والسحرة وأمثالهم وسؤالهم وتصديقهم والوعيد على ذلك، فالواجب على ولاة الأمور وأهل الحسبة وغيرهم ممن لهم قدرة وسلطان إنكار إتيان الكهان والعرافين ونحوهم، ومنع من يتعاطى شيئا من ذلك في الأسواق وغيرها والإنكار عليهم أشد الإنكار، والإنكار على من يجيء إليهم، ولا يجوز أن يغتر بصدقهم في بعض الأمور ولا بكثرة من يأتي إليهم من الناس فإنهم جهال لا يجوز اغترار الناس بهم؛ لأن الرسول قد نهى عن إتيانهم وسؤالهم وتصديقهم لما في ذلك من المنكر العظيم والخطر الجسيم والعواقب الوخيمة ولأنهم كذبة فجرة.
كما أن في هذه الأحاديث دليلا على كفر الكاهن والساحر لأنهما يدعيان علم الغيب وذلك كفر، ولأنهما لا يتوصلان إلى مقصدهما إلا بخدمة الجن وعبادتهم من دون الله وذلك كفر بالله وشرك به سبحانه والمصدق لهم في دعواهم علم الغيب يكون مثلهم، وكل من تلقى هذه الأمور عمن يتعاطاها فقد برئ منه رسول الله ، ولا يجوز للمسلم أن يخضع لما يزعمونه علاجا كنمنمتهم بالطلاسم أو صب الرصاص ونحو ذلك من الخرافات التي يعملونها، فإن هذا من الكهانة والتلبيس على الناس ومن رضي بذلك فقد ساعدهم على باطلهم وكفرهم.
كما لا يجوز أيضا لأحد من المسلمين أن يذهب إليهم ليسألهم عمن سيتزوج ابنه أو قريبه أو عما يكون بين الزوجين وأسرتيهما من المحبة والوفاء أو العداوة والفراق ونحو ذلك؛ لأن هذا من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.
والسحر من المحرمات الكفرية كما قال الله عز وجل في شأن الملكين في سورة البقرة: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [البقرة:102].
فدلت هذه الآيات الكريمة على أن السحر كفر وأن السحرة يفرقون بين المرء وزوجه. كما دلت على أن السحر ليس بمؤثر لذاته نفعا ولا ضرا وإنما يؤثر بإذن الله الكوفي القدري لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الخير والشر.
ولقد عظم الضرر واشتد الخطب بهؤلاء المفترين الذين ورثوا هذه العلوم عن المشركين ولبسوا بها على ضعفاء العقول فإنا لله وإنا إليه راجعون وحسبنا الله ونعم الوكيل.(/1)
كما دلت الآية الكريمة على أن الذين يتعلمون السحر إنما يتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم وأنه ليس لهم عند الله من خلاق أي: (من حظ ونصيب)، وهذا وعيد عظيم يدل على شدة خسارتهم في الدنيا والآخرة، وأنهم باعوا أنفسهم بأبخس الأثمان، ولهذا ذمهم الله سبحانه وتعالى على ذلك بقوله: وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ والشراء هنا بمعنى البيع.
نسأل الله العافية والسلامة من شر السحرة والكهنة وسائر المشعوذين، كما نسأله سبحانه أن يقي المسلمين شرهم، وأن يوفق حكام المسلمين للحذر منهم وتنفيذ حكم الله فيهم حتى يستريح العباد من ضررهم وأعمالهم الخبيثة إنه جواد كريم.
وقد شرع الله سبحانه لعباده ما يتقون به شر السحر قبل وقوعه، وأوضح لهم سبحانه ما يعالج به بعد وقوعه رحمة منه لهم، وإحسانا منه إليهم، وإتماما لنعمته عليهم.
وفيما يلي بيان للأشياء التي يتقى بها خطر السحر قبل وقوعه والأشياء التي يعالج بها بعد وقوعه من الأمور المباحة شرعا:
أما ما يتقى به خطر السحر قبل وقوعه فأهم ذلك وأنفعه هو: التحصن بالأذكار الشرعية والدعوات والتعوذات المأثورة، ومن ذلك قراءة آية الكرسي خلف كل صلاة مكتوبة بعد الأذكار المشروعة بعد السلام، ومن ذلك قراءتها عند النوم، وآية الكرسي هي أعظم آية في القرآن الكريم وهي قوله سبحانه: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة:255].
ومن ذلك قراءة: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الاخلاص:1]، و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1]، و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1]، خلف كل صلاة مكتوبة وقراءة هذه السور الثلاث ثلاث مرات في أول النهار بعد صلاة الفجر، وفي أول الليل بعد صلاة المغرب، وعند النوم، ومن ذلك قراءة الآيتين من آخر سورة البقرة في أول الليل وهما قوله تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285] إلى آخر السورة.
وقد صح عن رسول الله أنه قال: { من قرأ آية الكرسي في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح }، وصح عنه أيضا أنه قال: { من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه } والمعنى والله أعلم: كفتاه من كل سوء.
ومن ذلك: الإكثار من التعوذ بـ"كلمات الله التامات من شر ما خلق" في الليل والنهار، وعند نزول أي منزل في البناء أو الصحراء أو الجو أو البحر لقول النبي : { من نزل منزلا فقال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك }. ومن ذلك أن يقول المسلم في أول النهار وأول الليل ثلاث مرات: { بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم } لصحة الترغيب في ذلك عن رسول الله ، وأن ذلك سبب للسلامة من كل سوء.
وهذه الأذكار والتعوذات من أعظم الأسباب في اتقاء شر السحر وغيره من الشرور لمن حافظ عليها بصدق وإيمان وثقة بالله واعتماد عليه وانشراح صدر لما دلت عليه، وهي أيضا من أعظم السلاح لإزالة السحر بعد وقوعه مع الإكثار من الضراعة إلى الله وسؤاله سبحانه أن يكشف الضرر ويزيل البأس.
ومن الأدعية الثابتة عنه في علاج الأمراض من السحر وغيره وكان يرقي بها أصحابه: { اللهم رب الناس أذهب البأس واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما } يقولها ثلاثا، ومن ذلك الرقية التي رقى بها جبرائيل النبي وهي قوله: { بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك ومن شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك بسم الله أرقيك } وليكرر ذلك ثلاث مرات.(/2)
ومن علاج السحر بعد وقوعه أيضا وهو علاج نافع للرجل إذا حبس من جماع أهله أن يأخذ سبع ورقات من السدر الأخضر فيدقها بحجر أو نحوه ويجعلها في إناء ويصب عليه من الماء ما يكفيه للغسل ويقرأ فيها: آية الكرسي و قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]، و قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1]، و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1]، وآيات السحر التي في سورة الأعراف وهي قوله سبحانه: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ [الأعراف:117-119]، والآيات في سورة يونس وهي قوله سبحانه: وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ [يونس:79-82]، والآيات في سورة طه: قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [طه:65-69].
وبعد قراءة ما ذكر في الماء يشرب منه ثلاث حسوات ويغتسل بالباقي وبذلك يزول الداء إن شاء الله، وإن دعت الحاجة لاستعماله مرتين أو أكثر فلا بأس حتى يزول الداء.
ومن علاج السحر أيضا - وهو من أنفع علاجه - بذل الجهود في معرفة موضع السحر في أرض أو جبل أو غير ذلك، فإذا عرف واستخرج وأتلف بطل السحر.
هذا ما تيسر بيانه من الأمور التي يتقى بها السحر ويعالج بها والله ولي التوفيق.
وأما علاجه بعمل السحرة الذي هو التقرب إلى الجن بالذبح أو غيره من القربات فهذا لا يجوز؛ لأنه من عمل الشيطان بل من الشرك الأكبر. فالواجب الحذر من ذلك، كما لا يجوز علاجه بسؤال الكهنة والعرافين والمشعوذين واستعمال ما يقولون لأنهم لا يؤمنون، ولأنهم كذبة فجرة يدعون علم الغيب ويلبسون على الناس، وقد حذر الرسول من إتيانهم وسؤالهم وتصديقهم كما سبق بيان ذلك في أول هذه الرسالة. وقد صح عن رسول الله : { أنه سئل عن النشرة فقال: هي من عمل الشيطان } [رواه الإمام أحمد وأبو داود بإسناد جيد].
والنشرة هي حل السحر عن المسحور ومراده بكلامه هذا النشرة التي يتعاطاها أهل الجاهلية، وهي: سؤال الساحر ليحل السحر، أو حله بسحر مثله من ساحر آخر.
أما حله بالرقية والتعوذات الشرعية والأدوية المباحة فلا بأس بذلك كما تقدم. وقد نص على ذلك العلامة ابن القيم، والشيخ عبد الرحمن بن حسن في فتح المجيد رحمة الله عليهما، ونص على ذلك أيضا غيرهما من أهل العلم.
والله المسئول أن يوفق المسلمين للعافية من كل سوء، وأن يحفظ عليهم دينهم، ويرزقهم الفقه فيه، والعافية من كل ما خالف شرعه وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه.
حكم سؤال السحرة والمشعوذين
سؤال: يوجد في بعض جهات اليمن أناس يسمون: (السادة) وهؤلاء يأتون بأشياء منافية للدين مثل الشعوذة وغيرها، ويدعون أنهم يقدرون على شفاء الناس من الأمراض المستعصية، ويبرهنون على ذلك بطعن أنفسهم بالخناجر أو قطع ألسنتهم ثم إعادتها دون ضرر يلحق بهم، وهؤلاء منهم من يصلي ومنهم من لا يصلي. وكذلك يحلون لأنفسهم الزواج من غير فصيلتهم، ولا يحلون لأحد الزواج من فصيلتهم، وعند دعائهم للمرضى يقولون: (يا الله يا فلان) أحد أجدادهم.
وفي القديم كان الناس يكبرونهم، والآن الناس مختلفون فيهم. فما حكم الدين في أمثال هؤلاء؟
الجواب: هؤلاء وأشباههم من جملة المتصوفة الذين لهم أعمال منكرة وتصرفات باطلة، وهم أيضا من جملة العرافين الذين قال فيهم النبي : { من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوما } وذلك بدعواهم علم الغيب، وخدمتهم للجن، وعبادتهم إياهم، وتلبيسهم على الناس بما يفعلون من أنواع السحر الذي قال الله فيه في قصة موسى وفرعون: قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [الأعراف:116]، فلا يجوز إتيانهم ولا سؤالهم لهذا الحديث الشريف ولقوله : { من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد } وفي لفظ آخر: { من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد }.(/3)
وأما دعاؤهم غير الله واستغاثتهم بغير الله، أو زعمهم أن آباءهم وأسلافهم يتصرفون في الكون، أو يشفون المرضى، أو يجيبون الدعاء مع موتهم أو غيبتهم فهذا كله من الكفر بالله عز وجل ومن الشرك الأكبر، فالواجب الإنكار عليهم وعدم إتيانهم وعدم سؤالهم وعدم تصديقهم؛ لأنهم قد جمعوا في هذه الأعمال بين عمل الكهنة والعرافين وبين عمل المشركين عباد غير الله والمستغيثين بغير الله والمستعينين بغير الله من الجن والأموات وغيرهم ممن ينتسبون إليهم ويزعمون أنهم آباؤهم وأسلافهم أو من أناس آخرين يزعمون أن لهم ولاية أو لهم كرامة، بل كل هذا من أعمال الشعوذة ومن أعمال الكهانة والعرافة المنكرة في الشرع المطهر.
وأما ما يقع من التصرفات المنكرة من طعنهم أنفسهم بالخناجر أو قطعهم ألسنتهم فكل هذا تمويه على الناس، وكله من أنواع السحر المحرم الذي جاءت النصوص من الكتاب والسنة بتحريمه والتحذير منه كما تقدم، فلا ينبغي للعاقل أن يغتر بذلك، وهذا من جنس ما قاله الله سبحانه وتعالى عن سحرة فرعون: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى [طه:66]، فهؤلاء قد جمعوا بين السحر وبين الشعوذة والكهانة والعرافة وبين الشرك الأكبر والاستعانة بغير الله والاستغاثة بغير الله وبين دعوى علم الغيب والتصرف في علم الكون، وهذه أنواع كثيرة من الشرك الأكبر والكفر البواح ومن أعمال الشعوذة التي حرمها الله عز وجل ومن دعوى علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله كما قال سبحانه: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ [النمل:65].
فالواجب على جميع المسلمين العارفين بحالهم: الإنكار عليهم وبيان سوء تصرفاتهم وأنها منكرة ورفع أمرهم إلى ولاة الأمور إذا كانوا في بلاد إسلامية حتى يعاقبوهم بما يستحقون شرعاً؛ حسماً لشرهم وحماية للمسلمين من أباطيلهم وتلبيسهم.
والله ولي التوفيق.(/4)
رسالة في ليلة التنفيذ(*)
شعر: هاشم الرفاعي
أبتاه، ماذا قد يخط بناني والحبل والجلاد منتظرانِ
هذا الكتاب إليك من زنزانة مقرورة(1) صخرية الجدران
لم تبقَ إلا ليلةٌ أحيا بها وأحسُّ أن ظلامها أكفاني
ستمرُّ يا أبتاه – لستُ أشك في هذا – وتحمل بعدها جثماني
الليل من حولي هدوء قاتل والذكريات تمور في وجداني
ويهدني ألمي، فأنشد راحتي في بضع آيات من القرآن
والنفس بين جوانحي شفافة دبَّ الخضوع بها فهزَّ كياني
قد عشتُ أومن بالإله ولم أذق إلا أخيراً لذةَ الإيمان
شكرًا لهم، أنا لا أريد طعامهم فليرفعوه، فلست بالجوعان
هذا الطعام المرُّ ما صنعته لي أمي، ولا وضعوه فوق خِوان(2)
كلا، ولم يشهده يا أبتي معي أخوانِ لي جاءاه يستبقان
مدوا إليّ به يدًا مصبوغة بدمي، وهذي غاية الإحسان
والصمت يقطعه رنين سلاسل عبثتْ بهن أصابعُ السجان
ما بين آونة تمر.. وأختها يرنو إليّ بمقلتَي شيطان
من كوة بالباب يرقب صيدَه ويعود في أمنٍ إلى الدوران
أنا لا أحس بأي حقد نحوه ماذا جنى؟ فتمسه أضغاني
هو طيب الأخلاق مثلُك يا أبي لم يبدُ في ظمأ إلى العدوان
لكنه إن نام عني لحظة ذاق العيالُ مرارة الحِرمان
فلربما وهو المروَّعُ سحنةً(3) لو كان مثلي شاعراً لرثاني
أو عاد من يدري؟ إلى أولاده يوماً وذكّر صورتي لبكاني
وعلى الجدار الصلب نافذة بها معنى الحياة غليظة القضبان
قد طالما شارفتُها(4) متأملاً في الثائرين على الأسى اليقظان
فأرى وجوماً كالضباب مصوراً ما في قلوب الناس من غليان
نفسُ الشعور لدى الجميع وإن همو كتموا، وكان الموت في إعلاني
ويدور همس في الجوانح ما الذي بالثورة الحمقاء قد أغراني؟
أولم يكن خيراً لنفسي أن أرى مثل الجميع أسيرُ في إذعان؟
ما ضرَّني لو قد سكتُ، وكلما غلب الأسى بالغتُ في الكتمان
هذا دمي سيسيل، يجري مطفئًا ما ثار في جنبيَّ من نيران
وفؤاديَ الموَّار في نبضاته سيكف في غده عن الخفقان(5)
والظلم باقٍ، لن يحطم قيده موتي، ولن يودي به قرباني(6)
ويسير ركب البغي ليس يضيره شاة إذا اجتثت من القطعان
هذا حديث النفس حين تشفُّ عن بشريتي .. وتمور بعد ثوان
وتقول لي: إن الحياة لغاية أسمى من التصفيق للطغيان
أنفاسك الحرَّى وإن هي أُخمِدت ستظل تغمر أفقهم بدخان
وقروح جسمك وهو تحت سياطهم قسمات صبح يتَّقيه الجاني(7)
دمع السجين هناك في أغلاله ودم الشهيد هنا سيلتقيان
حتى إذا ما أُفعمت بهما الربا لم يبق غيرُ تمرد الفيضان
ومن العواصف ما يكون هبوبها بعد الهدوء وراحة الربان
إن احتدام النار في جوف الثرى أمر يُثير حفيظة البركان
وتتابع القطرات ينزل بعده سيل يليه تدفق الطوفان
فيموج.. يقتلع الطغاة مزمجراً أقوى من الجبروت والسلطان
أنا لست أدري، هل ستُذكر قصتي أم سوف يعروها دجى النسيان؟
أم أنني سأكون في تاريخنا متآمراً أم هادم الأوثان؟
كل الذي أدريه أن تجرعي كأس المذلة ليس في إمكاني
لو لم أكن في ثورتي متطلباً غير الضياء لأمتي لكفاني
أهوى الحياة كريمة.. لا قيد.. لا إرهاب.. لا استخفاف بالإنسان
فإذا سقطتُ سقطت أحمل عزتي يغلي دمُ الأحرار في شرياني
أبتاه، إن طلع الصباح على الدنى وأضاء نورُ الشمس كل مكان(8)
واستقبل العصفورُ بين غصونه يومًا جديدًا مشرق الألوان
وسمعتَ أنغام التفاؤل ثرة تجري على فم بائع الألبان(9)
وأتى – يدق كما تعود – بابنا سيدق بابَ السجن جلادان
وأكون بعد هنيهة متأرجحاً في الحبل مشدودًا إلى العيدان
ليكن عزاؤك أن هذا الحبل ما صنعتْه في هذي الربوع يدان
نسجوه في بلد يشع حضارة وتُضاءُ منه مشاعل العرفان
أو هكذا زعموا، وجيء به إلى بلدي الجريح على يد الأعوان
أنا لا أريدك أن تعيش محطما في زحمة الآلام والأشجان
إن ابنك المصفود في أغلاله قد سيق نحو الموت غيرَ مُدان
فاذكر حكايات بأيام الصبا قد قلتَها لي عن هوى الأوطان
وإذا سمعتَ نشيج أمي في الدجى تبكي شباباً ضاع في الريعان(10)
وتكتم الحسرات في أعماقها ألماً تُواريهِ عن الجيران
فاطلب إليها الصفح عني ، إنني لا أبتغي منها سوى الغفران
ما زال في سمعي رنينُ حديثها ومقالها في رحمة وحنان
أبنيَّ : إني قد غدوت عليلة لم يبق لي جلد على الأحزان
فأذقْ فؤادي فرحة بالبحث عن بنت الحلال ودعكَ من عصياني
كانت لها أمنيةٌ.. ريانة يا حسنَ آمال لها وأمان!
غزلت خيوط السعد مخضلا ولم يكن انتقاض الغزل في الحسبان(11)
والآن لا أدري بأيِّ جوانح ستبيتُ بعدي أم بأيِّ جنان (12)
هذا الذي سطرتُه لك يا أبي بعض الذي يجري بفكر عان
لكن إذا انتصر الضياء ومُزِّقت بيد الجموع شريعة القرصان(13)
فلسوف يذكرني ويُكبر همتي من كان في بلدي حليفَ هوان
وإلى لقاء تحت ظل عدالة قدسيةِ الأحكام والميزان
الهوامش:(/1)
(*) كتبت هذه القصيدة في آذار –مارس- 1955 ولها بقية طويلة في ديوان "جراح مصر" للشاعر. وكان ناشر المجموعة الأولى من شعر الرفاعي (محمد كامل حته) قد وضع لها مقدمة يوحي بها أن القصيدة كتبت عام 1958 وأنها قيلت بمناسبة أحداث العراق زمن عبد الكريم قاسم.. ولكن أصول هذه القصيدة توضح أن كتابتها كانت سنة 1955.
(1) مقرورة: باردة. (2) الخوان: بضم الخاء وكسرها: منضدة الطعام.
(3) السحنة: بسكون الحاء وفتحها: الهيئة، اللون.
(4) شارف المكان: علاه. شارف الشيء: اطلع عليه من فوق، قاربه ودنا منه.
(5) الموار: السريع. (6) يودي: يزيل ويذهب، قرباني: تضحيتي. (7) القروح: الجروح جمع قرح.
(8) الدنى: جمع الدنيا. (9) ثرةً: كثيرة. (10) النشيج: غصة البكاء.
(11) المخضل: الناعم. (12) الجوانح: الضلوع، الجنان: القلب.
(13) القرصان: لصوص البحر.(/2)
رسالة لصاحب الدش
أخي الكريم :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ... وبعد
اسمع كلامي ياحبيبي واضحا من غير غشْ
فيما يسميه الأنام بعصرنا: طبقا و"دِشْ"
هو بوق تنصير لقسيس لئيم منتفشْ
هو ضحكةٌ سكْرى ترنُّ، وصوتُ عُهرٍ يرتعشْ
أخي الحبيب .. إليك هذه الكلمات التي خرجت من قلبي فلعلها تصل إلى قلبك، وامتزجت بروحي فلعلها تمتزج بروحك ..
كتبتها بمداد المحبة والصفاء، والنصح والوفاء، فلعلها لاتجد عن نفسك الصافية مصرفا.
أخي .. إني لا أعرفك، وأنت لاشك لا تعرفني،
لكنّ الذي جعلني أكتب إليك هو ذلك الشيء الذي وضعته فوق منزلك ..
يناطح السحاب ويعانق السماء ، ويفتح قلبه لكل وافد، ويصافح بيديه كل قادم ..
قد مد قامته بكل فخر وسرور، وقد رفع رأسه بكل تكبر وغرور.
ثم جلست داخل منزلك كهيئة وقوفه هو خارجه ..!!
فاتكأت على مالطف من الفرش ورقَّ، واسترخيت على السندس والإستبرق،
وأمرت بالمرطبات، وأصناف المأكولات،وأغلقت النوافذ والأبواب،
وتعطرت بالعطور وأنواع الأطياب .. ثم .. تناولت مفتاح الجهاز بيدك، فقلبته كيفما شئت،
ونفسك الأمارة تقول لك .. من مثلك؟ نقل فؤادك حيث شئت من الهوى
هاهو العالم بين يديك فتجول فيه أنى أردت .
فأخذت تتنقل ووجهك تعلوه الابتسامة، ونظراتك تطارد المشاهد المكشوفة،
ولعابك يسيل على المناظر الفاضحة، فمن فيلم إلى مسرحية، ومن رقصة إلى أغنية،
ومن ذنب إلى معصية، ومن صغيرة إلى كبيرة .
فتشاهد في هذه الشاشة البيضاء، ما ينكت في قلبك النكتة السوداء،
فتتوالى هذه النقط السوداء على قلبك الأبيض، حتى يغلب السواد على البياض،
فيموت قلبك، ويبقى جسمك، فتكره كل خير، وتحب كل شر، وتبتعد عن كل معروف،
وتقترب من كل منكر، وتبدو على وجهك آثار كآبة وضيق، وهم عميق .
ورغم كل الملهيات، وما تملكه من مسليات، سوف تصبح معيشتك ضنكا، ولياليك سودا،
وسوف تعاني من الاكتئاب، والطفش والحيرة، والتخبط والفراغ .. لأن سيدك ومولاك
يقول : ( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى )[ طه : 124] .
أخي .. أعرف أنك الآن تغطي عينيك لكي لا ترى شيئا غير جهازك وتغلق أذنيك حتى لا تسمع أحدا سوى تلفازك .
أعرف أنك تجري وتجري .. وأنت لا تفكر إلا بفيلم اليوم وسهرة الليلة .
أعرف أنك تجري وتجري .. وأنت لا تفكر إلا في الشرق ومغرياته، والغرب وملهياته .
أعرف أنك تجري وتجري .. وتلهث وتلهث .
أعرف أنك تجري وراء الشهوات، وتلهث وراء اللذائذ والموبقات .
ولكنك يا أخي .. لا تعرف أن في آخر هذا الطريق حفرة عميقة، ذات هوة سحيقة !!
أخي .. اسمح لي بأن أقف أمام وجهك في منتصف الطريق وأقول لك : قف !!
قف .. وعد إلى ربك .. واتق النار .. اتق السعير .
إن أمامك أهوالا وصعابا، إن أمامك نعيما وعذابا، إن أمامك ثعابين وحيات .. وأمورا هائلات .
والله الذي لا إله إلا هو .. لن تنفعك الأفلام والسهرات، والرقص والأغنيات .
أخي الحبيب قف .. مع نفسك لحظة .. وأسألها : إلى متى أجري خلف الشهوات ..
وألهث وراء المنكرات .. كم سأعيش في هذه الدنيا ؟ ستين سنة .. ثمانين سنة ..
مائة سنة .. ألف سنة .. ثم ماذا ؟ .. ثم موت .. م الحساب فإما النعيم، أو في نار الجحيم وماء الحميم .
أخي .. تخيل نفسك وقد نزل بك الموت، ودخلت القبر ورأيت ظلمته، ووحدته، وضيقه ووحشته .
تذكر .. الملكين وهما يقعدانك ويسألانك .. تذكر .. كيف يكون جسمك بعد الموت ..
تقطعت أوصالك، وتفتت عظامك، وبلي جسمك، وأصبحتَ قوتا للديدان .
تذكر .. يوم تسمع الصيحة .. إنها صيحة العرض على الله .. فيطير فؤادك،
ويشيب رأسك .. فتخرج من قبرك مغبرا حافيا عاريا .
قد رجت الأرض، وبست الجبال، وشخصت الأبصار لتلك الأهوال .
وطارت الصحائف .. وقلق الخائف .. وزفرت النار .. وأحاطت الأوزار..
ونصب الصراط .. وآلمت السياط .. وحضر الحساب .. وقوي العذاب ..
وشهد الكتاب .. وتقطعت الأسباب ..
تذكر .. مذلتك في ذلك اليوم العظيم، وانفرادك بخوفك وأحزانك، وهمومك وغمومك وذنوبك ..
فتتبرأ حينها من بنيك، وأمك وأبيك، وزوجك وأخيك .
تذكر .. يوم توضع الموازين، وتتطاير الصحف .
كم في كتابك من زلل .. وكم في عملك من خلل
تذكر .. يوم ينادى باسمك بين الخلائق .. يا فلان بن فلان : هيا إلى العرض على الله،
فتقوم أنت، ولا يقوم غيرك، لأنك أنت المطلوب .
تذكر .. حيئذ ضعفك .. وشدة خوفك، وانهيار أعصابك، وخفقان قلبك ..
وقفت بين يدي الملك الحق المبين، الذي كنت تهرب منه،ويدعوك فتصد عنه ..
وقفت وبيدك صحيفة .. لا تغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصتْها، فتقرؤها بلسان كليل ..
وقلب كسير، قد عمك الحياء والخوف من الله .
فبأي لسان تجيبه حين يسألك عن .. مالك الذي أضعته .. وعمرك الذي أسرفت فيه ..
وعينك التي خنت بها .. وسمعك الذي عصيت به .. بأي قدم تقف غدا بين يديه،
وبأي عين تنظر إليه وبأي قلب تجيب عليه .. !!!(/1)
ماذا تقول له غدا .. عندما يقول لك : يا عبدي .. لماذا لم تُجلَّني، لماذا لم تستح مني،
لماذا لم تراقبني ..
يا عبدي .. هل استخففتَ بنظري إليك .
يا عبدي .. ألم أحسن إليك .. ألم أنعم عليك !!
أخي الحبيب .. تذكر .. هذه المواقف العصيبة، والأوقات الرهيبة يوم ينسى الإنسان
كل عزيز وحبيب، ولا ينجو إلامن كان له قلب سليم .
أخي .. قف مع نفسك هذه الوقفة المصيرية، واعلم أنك ما وجدت في هذه الدنيا إلا
للعبادة ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) [ الذاريا ت : 56] ولم تخلق
للهو واللعب والعبث .
( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون ) [ المؤمنون : 115] .
أخي .. إني أخاطب فيك دينك .. الذي يحرم هذه المنكرات .
وأخلاقك التي تترفع عن هذه الشهوات .
وعقلك الذي يأبى هذه الترهات .
وقلبك الذي يخاف من هذه الموبقات .
وغيرتك على نسائك العفيفات المحصنات .
فانتصر على نفسك .. وتغلب على هواك .. وأخرج هذا ) الدش ) من بيتك،
وسيعوضك الله خيرا منه في الدنيا والآخرة .
أخي .. والله ما كتبت هذه الأحرف، ولا نطقت بهذه الكلمات، إلا لخوفي على وجهك الأبيض .. أن يصبح مسودا يوم القيامة وعلى وجهك المنير .. أن يصبح مظلما .
وعلى جسدك الطري .. أن يلتهب بنار جهنم، فعسى قلبك الطاهر أن يلتقطها ..
ولعل نفسك الصافية تستقبلها ..
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ناصح(/2)
رسالة لفتيات المسلمين خاصة ولشبابهم عامة
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين:
1- كلمة لنساء المسلمين:
حديثا هذا سيكون عن فتنة انتشرت في أيامنا هذه انتشار النار في الهشيم حتى أنها أصبحت من مظاهر العصر الحالية
هذه الفتنة هي عري النساء الذي انتشر بين الناس بحيث لم تعد مثل هذا الفعل ذا قيمة عندهم وجعلوا من عري المرأة شيئا هينا وغير ذي شأن فأصبحت بناتنا وأخواتنا يتسابقن إلى لبس الملابس المثيرة والضيقة والتي تكشف أكثر مما تستر تحت حجة الموضة ومواكبة العصر... ويا ليت شعري ومنذ متى كانت تقاس الحضارات وتقدمها بعري نسائها ومتى كانت الحضارة الأكثر تقدما هي التي تظهر مفاتن نسائها بشكل اكبر وطبعا هنا لن نتحدث عن الغرب الفاجر والذي لا تهمه مثل هذه الأشياء وأصبح جسد المرأة عندهم أرخص لحم من بين جميع اللحوم ولكن سنتحدث هنا عن بلادنا المسلمة التي استوردت هذا العري وأصبح ينتشر بشكل عجيب بين فتياتنا والعجيب أكثر هو استيراد كل مظاهر الغرب وتقليدها من دون أية تفكير أو إحساس بالذنب و المسؤولية , جاء في صحيح البخاري قول رسول الله :
... عن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ثم لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن.
والغريب هو أن رجالنا وشبابنا لم تعد تهتم إن ظهرت مفاتن بناته وأخواته للعلن وشاهدها كل شخص لا قيمة له ولا وزن فأصبح شبابنا الضائع لا هم له سوى إشباع شهواته بالنظر إلى تلك المفاتن البارزة للعيان والتي لم يعد لدى فتيتنا عيب أو حياء من اجل الستر عليها نسي هؤلاء أن هذا الفعل هو من الدياثة وانعدام الغيرة التي جعلت منه رجلا بل غيرة ولا حرص
جاء في سنن النسائي قول رسول الله :
ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة .... وذكر منهم الديوث.
ونحن نتوجه بالنصح إلى أخواتنا المسلمات أن يسترن من أجسادهن وألا يبدين زينتهن أمام من هب ودب وألا تجعل من جسدها شيئا رخيصا بحيث يراه الجميع ويشتهونه ويفكرون بسببه في الحرام وعلى فتياتنا أن يتبعن قول الله عز وجل :
{وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (31) سورة النور
وأن يتذكرن قول الله عز وجل فيما يلبسن من لباس الجاهلية الأولى:
{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ....} (33) سورة الأحزاب
وكذلك قول رسول عندما تنبأ بنساء آخر الزمن وحقا صدقت نبوءته حيث جاء في صحيح البخاري:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤسهن كأسنة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا.
فلا تخسري الآخرة يا أخية بسبب مفاتن الدنيا ومباهجها ولذة وفرح زائلين ولا تغرنك هذه الحياة الدنيا ولا يهمنك قول فلان وقول علتان إنما المرء بعمله وقلبه وإيمانه وليس المرء بلباسه وتزينه وتبختره فالأعمال باقية والأجساد فانية فإن كنت تريدين استبدال باق أمام زائل فإنه بئس ما اخترت وسوء ما فضلت فتعالي يا أخية وارجعي على عفتك وطهارتك واجعلي من جسدك شيئا غاليا لا يصل له احد لا بعينه ولا بيده وكوني كامهاتك المؤمنات وبنات رسولك الطاهرات وتذكري نساء العالمين الأربع:(/1)
مريم ابنة عمران وآسيا بنت مزاحم وخديجة بنت خويلد وفاطمة ابنة محمد فهن نلن شرف الرفعة والتفضيل بطهارتهن الروحية والجسدية فحاولي أن تكوني مثلهن وألا تغرك ممثلات هذه الأيام واللاتي ينشرن الفاحشة والفساد في المجتمع بالظهور كاسيات عاريات ولا تجعلي قدوتك نساءا ضلوا وأضلوا , هن نساء فضلن الدنيا على الآخرة واخترن تفضيل الناس على تفضي الله سبحانه فلا تكوني مثلهن وهيهات بين رضا الناس ورضا الله وأذكرك بقول الله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (19) سورة النور
هل تعلمين بان ظهورك في الشارع بتلك الملابس المثيرة هو من إشاعة الفاحشة بين المؤمنين فهل تحبين أن يعذبك الله في الدنيا والآخرة وياعجبي من شخص يموت والله ساخط عليه فكيف يكون مصيره؟؟؟
يا نساء المسلمين إن الإسلام بدا غريبا وسيعود غريبا فطوبى للغرباء فقيل ومن هم الغرباء يا رسول الله فقال الذين يصلحون إذا فسد الناس.
و أقرأي قصة ابنة شعيب كيف أتيتا نبي الله موسى :
{فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (25) سورة القصص
أرأيت يا أختي كيف كان تصرفها.... أرأيت حيائها فما بالك تكلمين مع الشباب من دون خجل ولا حياء بل الأنكى من ذلك هو انك أنت من ترمي بنفسك عليه وأنت من تبدأين الحديث معه... فهل يعبك أو يضرك بعض الحياء.
لماذا تقلدين الغرب والمسلسلات الفاسدة ولماذا تعتقدين أن الزواج الناجح يجب أن تسبقه علاقة طويلة حيث خروج مع شاب لا يربطه بك شيء سوى الكلمة التي قد يتخلى عنها في أي وقت الم تقرئي قول رسول الله بان ما اختلى رجل بفتاة إلا وكان الشيطان ثالثهما.
وتذكري يا أختي الحبيبة قول الله عز وجل:
{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (35) سورة الأحزاب
فكوني من هؤلاء ولا تكون من أصحاب المباهج الفانية واللذات الزائلة ولا يهمنك ما ترينه حولك والإنسان مسئول عن نفسه ولا تزر وازرة وزر أخرى وإذا جاء يوم الحساب لن يفيدك تذرعك بان الناس كان حولك هكذا وأنتي قلدتي ما رايتي وكان أحدا ضربك على يديك , اقرئي هذا المشهد يوم القيامة والذي يدور بين العاصين وبين من سمعوا كلامهم وقلدوهم :
{كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} (16) سورة الحشر
فالكل سيتبرأ من الكل ولا احد يعترف بالآخر:
{قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ} (38) سورة الأعراف
وأخيرا أقول يا لأخواتي المسلمات إنما هي الأعمال والأعمال فقط والزينة شيء زائل وإنما هي سعادة آنية لا تلبس أن تزول وتذهب وكما قال الله عز وجل:
{كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} (46) سورة النازعات
فالحياة قصيرة والفائز من عرف كيف يرضي ربه فيها والخاسر من فضل رضا الناس على رضا الله عز وجل.
2- كلمة لشباب المسلمين:
فتنة العري تلك ذنبها ليس مقتصرا على النساء وحدهن وإنما تصل آثاره بشكل رئيسي إلى الشباب وهم المتأثر الأكبر من هذه الفتنة فشبابنا هداهم الله وفي زمن ضعف الأيمان هذا وفي زمن كثرت فيه المغريات والمثيرات من فضائيات ومجلات ونساء في الشوارع لم يحتمل نفسه وانجرف مع التيار نحو الهاوية والمصير الشيء فأصبح كالتاجر يستخدم تلك الكلمة الخبيثة :
على هوا السوق من سوق.(/2)
فترة الشباب هذه والتي تكون فيها الشهوة عارمة وفي قمتها لن يستطيع ضبطها سوى القوي في دينه وفي نفسه , ولكن عندما تنتشر المثيرات في كل مكان في البيت والمنزل والمحل فحينها ن الصعوبة أن يضبط الشاب من إتباع غريزته فتراه لا يضيع وقتا في متابعة ومشاهدة الحرام وحتى السعي من اجله , ورغم أن المثيرات كثيرة ولكن ضبط النفس ليس صعبا كما نتخيل وعندما يصم الإنسان على شيء فإنه قادر على تحقيقه ولا يحتج الشباب بالقول بأنهم لا يستطيعون السيطرة على نفوسهم لان هذا من الكذب البواح والحقيقة هي أن كل شخص قادر على ضبط نفسه وغنما هي الإرادة النابعة من الأيمان النابع من الخوف من لله عز وجل
وكلنا يقرأ قصة يوسف عليه السلام ذلك النبي والذي يعد مثالا على الطهارة والعفة نقرأ بعضا من قصته في القرآن لنرى كيف تصرف هذا الشاب والذي كان في أوج شبابه:
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ {23}
لنتخيل المشهد امرأة جميلة ( وهي أكيد جميلة لأن وزير مالية مصر أكيد لن يتزوج سوى امرأة جميلة ) غلقت الأبواب بحيث جعلت الجو آمنا ونموذجيا لفعل الفاحشة بحيث لا احد يستطيع الدخول أبدا ولكن يوسف عليه السلام تمنع بنفسه الشريفة الطاهرة وقال معاذ الله أن أخون سيدي وان اعصي ربي, كل شيء حوله كان مهيئا ولكنه اعرض عن هذا واستعصم لأنه يخاف ربه , وأما شباب اليوم ما أن يروا فتاة في الشارع حتى تبدأ أفكارهم الشيطانية بالنشوء فكيف هذا وهو في الشارع فما بالك إذا اختلى بها في بيت من البيوت حيث لا احد سوى هو وهي فماذا سيحدث , طبعا سيقفز عليها مثل البهيمة ولن يتذكر حينها لا ربه ولا غيره سوى فرجه فقط
قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ {33}
فهذا الذي اختاره يوسف وأختار السجن والعذاب على أن يقع في معصية ربه تعالى بينما شبابنا إن لم تأتي المعصية لعندهم فهم الذين يذهبون إليها.
يا أخي في الأيمان إنما مظاهر الغرب هي مظاهر خادعة وغير مناسبة لنا فلا تقلد كل ما ترى ولا تفتتن بما يحدث حولك فأنت رجل وعلى الرجل أن يعرف بان كرامة الرجال تمنعهم من الإتيان بالمنكرات.
فهل تجد صعوبة مثلا من غض بصرك عندما ترى فتاة تقترب منك أو تمشي مع أهلها في الشارع أم أن عينيك لا ترضى إلا بالعصيان واتباع الشهوة:
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ثم كتب على بن آدم نصيبه من الزنى مدرك ذلك لا محالة فالعينان زناهما النظر والأذنان زناهما الاستماع واللسان زناه الكلام واليد زناها البطش والرجل زناها الخطأ والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج ويكذبه
ولا تغتر بما ترى من حولك من شباب يمشين مع فتيات لا يعرفهن بحجة التعرف والزواج من بعد ذلك فهذا من الغث الذي لا ينفع ومن العادات المستحدثة البشعة والي لا تتماشى مع عفة المرأة وكرامة الرجل والذي يريد فتاة يذهب لعند أهلها ويطلبها ولا يفعل مثلما يفعل اللصوص بحيث يقابلون من يعرفن من غير علم أهلهن:
{... وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا} (53) سورة الأحزاب
فإذا كان صحابة رسول الله الأتقياء مأمورون بمكالمة أمهات المؤمنين من وراء حجاب فما بالنا نحن لا نرضى أن نكالم فتاة إلا وجها لوجه ونحن الذين لا نصل لربع تقى وورع الصحابة.
ولا تصدق من يقول لك بان لا حرج في أن تمشي مع فتاة لا تعرفها أو تعرفك ولا تقربك حتى بحجة التعارف واليك هذه القصة التي حدثت مع احد شباب الأزهر منذ ومن ليس ببعيد كثيرا:(/3)
فتاة احد الباشوات كانت عائدة للمنزل عندما هبت عاصفة قوية أدت إلى حدوث حادثة ما للعربة التي كانت جالسة بها مما أدى بها للهروب والالتجاء إلى اقرب مكان تجده وشاءت الصدف أن يكون هذا المكان منزلا لأحد طلاب الأزهر الشريف وكان بيته فقيرا من كل شي حيث لم يكن له باب حتى , دخلت الفتاة ورأت الشاب يجلس بالقرب من الشمعة وطبعا الشاب استغرب دخول فتاة عليها القيمة والذي كان واضحا عليها بسبب لباسها والذي يدل على أنها من عائلة غنية , المهم لم يتكلم منهما بأي شيء ولكن بعد قليل رأت الفتاة أن الشاب يقوم بوضع أصابعه على لهب الشمعة واحدة تلوى الأخرى حتى تنضج هكذا حتى صاح من الألم , وبعد أن عادت الفتاة إلى المنزل أخبرت أباها بما حصل فقام الأب بالدعوة لوليمة ودعا غليها كل رجال الأزهر وكان ممن دعا ذلك الشاب وعندما وصل إليه في السلام سأله الأب عن سبب لف يده بقطعة من القماش فقال الشاب أن لا مهم في الأمر ولكن الأب ألح عليه في السؤال فقال له ما حدث عندما دخلت عليه الفتاة وقال:
لقد بدا الشيطان يفعل فعله في وبدأت الأفكار تأخذني يمينا وشمالا وحينها قمت بوضع أصابعي على النار لأرى إن كنت أتحمل نار الدنيا والتي هي جزء من مئة جزء من نار الآخرة .
فيا شباب المسلمين غضوا من أبصاركم واضغطوا على أنفسكم وصحيح أننا في زمن أصبح فيه كل شيئا يسير الوصول إليه ولكن يبقى الأيمان ويبقى الخوف من البارئ وتبقى كرامة الرجل في المرتبة الأولى.
ويوم القيامة لن تنفعكم أجمل نساء الأرض ولن يبرر أعمالكم شيء .
وأخيرا ادعوا كل شاب أن يقف مع نفسه وقفة صادقة لوحده وان يراجع ذاكرته للوراء ويتذكر كيف كان ينظر لأعراض الناس وليتخيل ملائكة الكتاب كيف أنها تسجل التالي:
في يوم كذا وفي ساعة كذا نظر فلان إلى فتاة نظرة محرمة وعضوه شاهد على فعلته هذه.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (37) سورة ق
والحمد لله رب العالمين(/4)
رسالة للرجل
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعد، أما بعد :
أخي المسلم الحبيب:
هل خلوت بنفسك يوماً فحسبتها عما بدر منها من الأقوال والأفعال؟ وهل حاولت يوماً أن تعد سيئاتك كما تعد حسناتك؟ بل هل تأملت يوماً طاعاتك التي تفتخر بذكرها؟! فإن وجدت أن كثيراً منها مشوباً بالرياء والسمعة وحظوظ النفس فكيف تصبر على هذه الحال، وطريقك محفوف بالمكارة والأخطار؟! وكيف القدوم على الله وأنت محمل بالأثقال والأوزار؟ قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أتقو الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون، ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم) [الحشر:18،19]. وقال تعالى: (وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون) [الزمر:54].
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، فإن أهون عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية).
عبادة وخشية:
وقد مدح الله تعالى أهل طاعته بقوله: (إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون، والذين هم بآيات ربهم يؤمنون، والذين هم بربهم لا يشركون، والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون، أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون) [المؤمنون:57-61).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فقلت: أهم الذين يشربون الخمر ويزنون ويسرقون؟ فقال: (لا يا ابنة الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون، ويتصدقون، ويخافون ألا يتقبل منهم، أولئك يسارعون في الخيرات) [الترمذي وابن ماجه واحمد].
أخي المسلم : هكذا كان سلقنا الكرام، يتقربون إلى الله بالطاعات، ويسارعون غليه بأنواع القربات، ويحاسبون أنفسهم على الزلات، ثم يخافون ألا يتقبل الله أعمالهم.
فهذا الصديق رضي الله عنه: كان يبكي كثيراً، ويقول: ابكوا، فإن لم تبكروا فتباكوا، وقال: والله لوددت أني كنت هذه الشجرة تؤكل وتعضد.
وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قرأ سورة الطور حتى بلغ قوله تعالى: (إن عذاب ربك لواقع) [الطور:7]. فبكى واشتد في بكاؤه حتى مرض وعادوه. وكان يمر بالآية في ورده بالليل فتخيفه، فيبقى في البيت أياماً يعاد، يحسبونه مريضاً، وكان في وجهه خطأن أسودان من البكاء!!.
وقال له ابن عباس رضي الله عنهما: مصر الله بك الأمصار، وفتح بك الفتوح وفعل، فقال عمر: وددت أني أنجو لا أجر ولا وزر!!.
وهذا عثمان بن عفان ـ ذو النورين ـ رضي الله عنه: كان إذا وقف على القبر بكى حتى تبلل لحيته، وقال: لو أنني بين الجنة والنار لا أدري إلى أيتهما يؤمر بي، لاخترت أن أكون رماداً قبل أن أعلم إلى أيتهما أصير!!.
وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنها: كان كثير البكاء والخوف، والمحاسبة لنفسه. وكان يشتد خوفه من اثنتين: طول الأمل واتباع الهوى. قال: فأما طول الأمل فينسى الآخرة، وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق.
واعظ الله في القلب:
عن النواس بن سمعان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى جنبتي الصراط سوران، فيها أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى الصراط داع يدعو يقول: يا أيها الناس!! اسلكوا الصراط جمييعاً ولا تعوجوا، وداع يدعو على الصراط، فإذا أراد أحكم فتح شيء من تلك الأبواب قال: ويلك! لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه. فالصراط: الإسلام. والستور: حدود الله. والأبواب المفتحة: محارم الله. والداعي من فوق: واعظ الله يذكر في قلب كل مسلم) [أحمد والحاكم وصححه الألباني].
فهلا استجبت ـ أخي المسلم ـ لواعظ الله في قلبك؟ وهلا حفظت حدود الله ومحارمه؟ وهلا انتصرت على عدو الله وعدوك، قال تعالى: (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً إنما يدعو حزبه ليكونا من أصحاب السعير) [فاطر:6]].
عن خالد بن معدان رضي الله عنه قال: ما من من عبد إلا وله عينان في وجهه يبصر بهما أمر الدنيا، وعينان في قلبه يبصر بهما أمر الآخرة، فإذا أراد الله بعبد خيراً، فتح عينيه اللتين في قلبه، فأبصر بهما ما وعد الله بالغيب، وإذا أراد به غير ذلك، تركه على ما فيه ثم قرأ: (أم على قلوب أقفالها) [محمد:24].
أقوال في محاسبة النفس:
كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى بعض عماله: (حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة، فإن من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة، عاد أمره إلى الرضا والغبطة، ومن ألهته حياته، وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والخسارة.
وقال الحسن: لا تلقي المؤمن إلا بحساب نفسه: ماذا أردت تعملين؟ وماذا أردت تأكلين؟ وماذا أردت تشربين؟ والفاجر يمضي قدماً لا يحاسب نفسه.
وقال قتادة في قوله تعالى: (وكان أمره فرطاً) [الكهف:28] أضاع نفسه وغبن، مع ذلك تراه حافظاً لماله، مضيعاً لدينه.
وقال الحسن: إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه، وكانت المحاسبة همته.(/1)
وقال ميمون بن مهران: لا يكون العبد تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه، ولهذا قيل: النفس كالشريك الخوان، إن لم تحاسبه ذهب بمالك.
وذكر الإمام أحمد عن وهب قال: مكتوب في حكمة لداود: حق على العاقل أل يغفل عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلوا فيها مع إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويصدقونه عن نفسه، وساعة يخلي فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجعل، فإن في هذه الساعة عوناً على تلك الساعات وإجماماً للقلوب.
وكان الأحنف بن قيس يجئ إلى المصباح، فيضع إصبعه فيه ثم يقول: حس يا حنيف، ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟
وقال الحسن: المؤمن قوام على نفسه، يحاسب نفسه لله، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة.
إن المؤمن يفجأه الشيء ويعجبه فيقول: والله إني لأشتهيك، وإنك لمن حاجتي، ولكن والله ما من صلة إليك، هيهات هيهات، حيل بيني وبينك. ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول: ما أردت إلى هذا؟ مالي ولهذا؟ والله لا أعود إلى هذا أبداً.
إن المؤمنين قوم أوقفهم القرآن، وحال بينهم وبين هلكتهم.
إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله، يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه وفي بصره، وفي لسانه وفي جوارحه، مأخوذ عليه في ذلك كله.
وقال مالك بن دينار: رحمه الله عبداً قال لنفسه: ألست صاحبة كذا؟ ألست صاحبة كذا؟ ثم ألزمها، ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله عز وجل، فكان لها قائداً.
وقال ابن أبي ملكية: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل!!
أخي المسلم الموفق :
قال الإمام ابن الجوزي: أعجب العجاب أن النقاد يخافون دخول البهرج في أموالهم، والمبهرج آمن!! هذا الصديق يمسك لسانه ويقول: هذا الذي أوردني الموارد، وهذا عمر يقول: يا حذيفة هل أنا منهم ـ يعني من المنافقين ـ والمخلط على بساط الأمن!!
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: (ومن تأمل أحوال الصحابة رضي الله عنهم وجدهم في غاية العمل مع غاية الخوف، ونحن جمعنا بين التقصير، بل التفريط والأمن).
هكذا يقول الإمام ابن القيم رحمه الله عن نفسه وعصره، فماذا نقول نحن عن أنفسنا وعصرنا؟!
فيا أخي الحبيب:
لا تضيع أيامك، فإنها رأي مالك، فإنك ما دمت قادراً على رأس مالك قدرت على الريح، وإن بضاعة الآخرة كاسدة في يومك هذا، فاجتهد حتى تجمع بضاعة الآخرة في وقت الكساد، فإنه يجئ يوم تصير هذه البضاعة فيه عزيزة، فاستكثر منها في يوم الكساد ليوم العز، فإنك لا تقدر على طلبها في ذلك اليوم.
أقسام محاسبة النفس
محاسبة النفس نوعان:
نوع قبل العمل ونوع بعده.
النوع الأول:
محاسبة النفس قبل العمل فهو أن يقف العبد عند أول همه وإرادته، ولا يبادر بالعمل حتى يتبين له رجحانه على تركه. قال الحسن رحمه الله: رحم الله عبداً وقف عند همه، فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره تأخر.
النوع الثاني :
محاسبة النفس بعد العمل.
وهو ثلاثة أنواع:
أحدها : محاسبة النفس على طاعة قصرت فيها في حق الله تعالى، قلم توقعها على الوجه الذي ينبغي.
وحق الله تعالى في الطاعة ستة أمور وهي:
الإخلاص في العمل.
النصيحة لله فيه.
متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيه.
شهود مشهد الإحسان فيه.
شهود منة الله عليه فيه.
شهود تقصيره فيه.
فيحاسب العبد نفسه هل وفى هذه المقامات حقها؟
وهل أتى بها جميعاً في هذه الطاعة؟
الثاني : أن يحاسب نفسه على كل عمل كان تركه خيراً من فعله.
الثالث : أن يحاسب نفسه على أمر مباح أو معتاد لم فعله؟ وهل أراد به الله والدار الآخرة؟ فيكون رابحاً، أو أراد به الدنيا وعاجلها؟ فيخسر ذلك الربح ويفوته الظفر به.
الأسباب المعينة على محاسبة النفس
هناك أساب تعين الإنسان على محاسبة نفسه وتسهل عليه ذلك منها:
1- معرفته أنه كلما اجتهد في محاسبة نفسه اليوم استرح من ذلك غداً، وكلما أهملها اليوم اشتد عليه الحساب غداً.
2- معرفته أن ربح محاسبة النفس ومراقبتها هو سكنى الفردوس، والنظر إلى وجه الرب سبحانه، ومجاورة الأنبياء والصالحين وأهل الفضل.
3- النظر فيما يؤول إليه ترك محاسبة النفس من الهلاك والدمار، ودخول النار والحجاب عن الرب تعالى ومجاورة أهل الكفر والضلال والخبث.
4- صحبة الأخيار الذين يحاسبون أنفسهم ويطلعونه على عيوب نفسه، وترك صحبة من عداهم.
5النظر في أخبار أهل المحاسبة والمراقبة من سلفنا الصالح.
6- زيارة القبور والتأمل في أحوال الموتى الذين لا يستطيعون محاسبة أنفسهم أو تدرك ما فاتهم.
7- حضور مجالس العلم والوعظ والتذكير فإنها تدعو إلى محاسبة النفس.
8- قيام الليل وقراءة القرآن والتقرب إلى الله تعالى بأنواع الطاعات.(/2)
9- البعد عن أماكن اللهو والغفلة فإنها تنسي الإنسان محاسبة نفسه.
10- ذكر الله تعالى ودعاؤه بأن يجعله من أهل المحاسبة والمراقبة، وأن يوفقه لكل خير.
11- سوء الظن بالنفس،فإن حسن الظن بالنفس ينسي محاسبة النفس، وربما رأى الإنسان ـ بسب حسن ظنه بنفسه ـ عيوبه ومساوئه كمالاً.
أخي الحبيب :
حق على الحازم المؤمن بالله واليوم الآخر ألا يغفل عن محاسبة نفسه والتضييف عليها في حركاتها وسكناتها وخطواتها وخطواتها، فكل نفس من أنفسا العمر جوهرة نفيسة يمكن أن يشتري بها كنز من الكنوز لا يتناهى نعيمه أبد الآباد. فإضاعة هذه الأنفاس، أو اشتراء صاحبها ما يجلب هلاكه خسران عظيم، لا يسمح بمثله إلا أجهل الناس وأحمقهم وأقلهم عقلاً، وإنما يظهر له حقيقة هذا الخسران يوم التغابن (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمد بعيداً) [أل عمران:30].
أخي الكريم :
كان توبة بن الصمة من المحاسبين لأنفسهم فحسب يوماً، فإذا هو ابن ستين سنة، فحسب أيامها، فإذا هي أحد وعشرون ألف يوم وخمسمائة يوم، فصرخ وقال: يا ويلني! ألقى ربي بأحد وعشرين ألف ذنب؟ كيف وفي كل يوم آلاف من الذنوب؟ ثم خر مغشياً عليهن فإذا هو ميت، فسمعوا قائلاً يقول: (يا لك ركضة إلى الفردوس الأعلى).
كيفية محاسبة النفس
ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله أن محاسبة النفس تكون كالتالي:
أولاً: البدء بالفرائض، فإذا رأى فيها نقصاً تداركه.
ثانياً : ثم المناهي، فإذا عرف أنه ارتكب منها شيئاً تداركه بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية.
ثالثاً : محاسبة النفس على الغفلة ويتدارك ذلك بالذكر والإقبال على الله.
رابعاً: محاسبة النفس على حركات الجوارح، كلام اللسان، ومشي الرجلين، وبطش اليدين، ونظر العينين، وسماع الأذنين، ماذا أردت بهذا؟ ولمن فعلته؟ وعلى أي وجه فعلته.
فوائد محاسبة النفس
ولمحاسبة النفس فوائد جمة منها:
1- الإطلاع على عيوب النفس، ومن لم يطلع على عيب نفسه لم يمكنه إزالته.
2- التوبة والندم وتدارك ما فات في زمن الإمكان.
3- معرفة حق الله تعالى فإن أصل محاسبة النفس هو محاسبتها على تفريطها في حق الله تعالى.
4- انكسار العبد وزلته بين يدي ربه تبارك وتعالى.
5- معرفة كرم الله سبحانه وتعالى وعفوه ورحمته بعباده في أنه لم يعجل عقوبتهم مع ما هم عليه من المعاصي والمخالفات.
6- مقت النفس والإزراء عليها، والتخلص من العجب ورؤية العمل.
7- الاجتهاد في الطاعة وترك العصيان لتسهل عليه المحاسبة فيما بعد.
8- رد الحقوق إلى أهلها، وسل السخائم، وحسن الخلق، وهذه من أعظم ثمرات محاسبة النفس.
قطار العمر
أخي المسلم:
قال الفضيل لرجل: كم أتى عليك؟ قال: ستون سنة. قال له: أنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك يوشك أن تصل!!
وقال أبو الدرداء : إنما أنت أيام، كلما مضى منك يوم مضى بعضك.
فيا أبناء العشرين ! كم مات من أقرانكم وتخلفتم؟!
ويا أبناء الثلاثين! أصبتم بالشباب على قرب من العهد فما تأسفتم؟
ويا أبناء الأربعين! ذهب الصبا وأنتم على اللهو قد عكفتم!!
ويا أبناء الخمسين ! تنصفتم المائة وما أنصفتم!!
ويا أبناء الستين ! أنتم على معترك المنايا قد أشرفتم، أتلهون وتلعبون ؟ لقد أسرفنهم!!
وفي صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعذر الله إلى من بلغه ستين سنة).
أخي الحبيب :
كم صلاة أضعتها؟ .. كم جمعة تعاون بها؟ .. كم صيام تركته؟ … كم زكاة بخلت بها؟ … كم حج قوته؟ … كم معروف تكاسلت عنه؟ … كم منكر سكت عليه؟ … كم نظرة محرمة أصبتها؟ … كم كلمة فاحشة تكلمت بها؟ … كم أغضبت والديك ولم ترضهما؟ … كم قسوت على ضعيف ولم ترحمه؟ .. كم من الناس ظلمته؟ … كم من الناس أخذت ماله؟ ..
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع؟ فقال: (إن المفلس من آمتي يأتي يوم القيامة بصرة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطي هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار) [مسلم].
إنا لنفرح بالأيام نقطعها
وكل يوم مضى يدني من الأجل
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهداً
فإنما الربح والخسران في العمل
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
إعداد القسم العلمي بدار الوطن للنشر والتوزيع
مراجعة الشيخ
الشيخ فهد بن سليمان القاضي(/3)
رسالة لمتبادلي الصور المحرمة
أخي الكريم .. أختي الكريمة...
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد:
اجعل هذه الرسالة حجة لك لا عليك .
قال الله تعالى (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة) سورة النور.
هل تعلم: أن ما تقوم به من تبادل الصور الفاضحة يعتبر سيئه جاريه.
(أي أن إثمها وإثم من نشرها جار معك حتى تتوب إلى الله).
ترضى لأمك وأختك مشاهدة هذه الصور؟؟ أليس المسلمون إخوانك؟؟
بأي شيء تجيب ربك عندما يسألك عن (نشر الصور المحرمة) يوم القيامة؟؟
هل تعلم: أنك تتحمل آثام كل من شاهد هذه الصور التي قمت بتبادلها.
هل تعلم: أن رصيدك من السيئات يزداد بازدياد متبادلي هذه الصور حتى بعد مماتك.
هل تعلم: أن تبادل هذه الصور بين الناس بعد مماتك قد يسبب عذابك في القبر حتى قيام الساعة.
هل تعلم: بأن الله سبحانه وتعالى يغار ومن غيرته أنه حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
أخي الكريم تذكر ...
قول الله تعالى: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون).
أخي الكريم تذكر...
قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( اضمنوا لي ستاً من أنفسكم أضمن لكم الجنة ، اصدقوا إذا حدثتم ، وأوفوا إذا وعدتم ، وأدوا إذا ائتمنتم ، واحفظوا فروجكم ، وغضوا أبصاركم ، وكفوا أيديكم).
أخي إن ما تقوم به يعد نشر للفساد ، وإماتة للقلوب ، ولهو للناس عن ذكر الله وأعلم أن النظر سبب الزنا، فأحذر من الوقوع فيه، وإن من وقع به بسبب تلك الصور فأثمه يقع عليك.
فتوبوا إلى الله قبل فوات الأوان.
ثم إذا كنت بارعاً في استخدام الإنترنت لماذا لا تنصر دين الإسلام وتنكر المنكر أينما كان، ففرصتك باقية. فهل تفعل؟.
نسأل الله لك الهداية . والله من وراء القصد …
ناصح(/1)
رسالة من الشيخ عقب استشهاده
إلى أحبتي في الله , إلى كل مؤمن بأن لا إله إلا الله محمد رسول الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
لقد استوفيت أجلي ورزقي الذي كتبه الله لي في الدنيا على التمام والكمال , ولقد أكرمني ربي بفضل منه ونعمة بالشهادة في سبيله (بإذن الله تعالى) بعدما أمضيت عمري في ساحة الشرف والبطولة وها أنذا مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
أبشركم بأننا أحياء ونرزق عند ربنا , ولله ما أحلى وما ألذ طعم الشهادة في سبيل الله تعالى وددت لو أني أعود لدنياكم لأجاهد وأستشهد ثم أعود فأجاهد وأستشهد , فياليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين.
ما أتفه الدنيا إذا إقتصرت على الطعام والنكاح كالبهائم, فلا عيش إلا عيش الآخرة فلو عرفتم ما نحن فيه من نعيم وتكريم لما نامت لكم عين عن الجهاد.
أحبتي: إن عصابة القردة والخنازير من الصهاينة الجبناء مكانها في الغابة أو حديقة الحيوان وليس في الأرض المقدسة فلسطين الحبيبة فلا عذر لكم في ترك الجهاد و أولئك الملاعين الأنجاس يدنسون القدس الشريفة , لقد جاهدتهم وأنا مقعد من فوق كرسي متحرك فما بالكم وأنتم ذوي أرجل تمشون بها وأيد تبطشون بها, فلتتحرك أرجلكم في ساحة الوغي على أنغام القذائف والرصاص وليس في ساحة الرقص على الموسيقى الغربية.
وبدل أن تقبض أيديكم على الهمبرجر وعلب الكولا فلتقبض على أعناق أبناء الأفاعي , لقد وضعت نصب عيني على إحدى الحسنيين النصر أو الشهادة وقد نلتها (بفضل الله ومشيئته) وكم يزعجني أن بعضكم يضع نصب عينيه على تفاهات سخيفة مثل السوبر ستار ونحوها.
أنا بعد موتي في عيش كريم فلا تكونوا أمواتا وأنتم على الأرض أحياء , فمتاع الدنيا قليل إن رأيتموه كثيرا , والحياة قصيرة مهما طالت سنواتها فكونوا على العهد واعتصموا بالواحد الأحد وجاهدوا في سبيله فهذه هي الصفقة الرابحة ولا خوف على أهلها ولاهم يحزنون.
تذكروا أن جهادنا نحن المسلمين في الدفاع عن مقدساتنا وارضنا وعرضنا حق مشروع وواجب مفروض ولا تنخدعوا بمن يتلاعب بالألفاظ فيسميه إجراما أو إرهابا , فهم يسعون لزعزعة المفاهيم الثابتة وإستبدالها بمفاهيم الخنوع والخضوع.
علموا أبنائكم والأجيال القادمة أن الجهاد فرض وماض الى قيام الساعة , وهو أمر لابد منه للذوذ عن الإسلام والمسلمين مهما كانت الظروف ومهما تكالبت الأعداء.
علموهم أن الشرف والعزة في ساحة الجهاد وليس على طاولة المفاوضات, علموهم أن أرض القدس تسقى بدماء الشهداء الشرفاء وأن القدس قضية كل مسلم ومسلمة لأنها أولى القبلتين ومسرى نبينا الكريم حيث صلى في المسجد الأقصى بكل الأنبياء والمرسلين, أنا لا أريد بكاء وعويلا ولكني أريد أن تستمر مسيرة النضال والجهاد بالنية الصادقة والعمل المحكم الدءوب لنصرة الإسلام والمسلمين.
اعلموا أن عصابة الصهاينة وحلفائهم من اليمين النصراني المتطرف والمتخاذلون من بني جلدتنا لا يردعهم إلا جيل يؤمن بالله ورسوله ويعتبر الجهاد من ضمن الفرائض اليومية في حياة كل مسلم حسب إستطاعته. أكرر بشارتي لكم بأن أحلى ما في دنياكم هو نيل الشهادة في سبيل الله , وأنا متفائل بأن الله سينصر المسلمين الشرفاء المخلصين فقط اعملوا وإستمروا في العمل وأيقنوا بأن نصر الله قريب.
التوقيع: الشيخ الشهيد أحمد ياسين
العنوان: جنة النعيم عند رب كريم
للإتصال: عن طريق الشهادة في سبيل الله.(/1)
رسالة من القلب الى القلب
الحمد لله والصلاة والسلام على النبي وآله وبعد :
فهذا حديث إلى أخ لي حبيب . . .
قد أراه في كل صف من الصفوف . . .
قد أراه بين كل اثنين . . .
أراه في كل مسلم رضي بالله ربا، وبمحمد، صلى الله عليه وسلم نبيا ، وبالإسلام دينا . . .
أخ لي .. . .
لم يسلم من أخطاء سلوكية، وكلنا خطاء إ إ. .
لم ينج من تقصير في العبادة وكلنا مقصر! ! . .
ربما رأيته حليق اللحية، طويل الثوب ، مدمنا للتدخين ! ! . .
بل ربما أسر ذنوبا أخرى ونحن المذنبون أبناء المذنبين ! ! .
نعم ! أريد أن أتحدث إليك أنت أخي حديثا أخصك به ، فهل تفتح لي أبواب قلبك الطيب ونوافذ ذهنك النير؟! ! .
فوالله الذي لا إلة إلا هو إني لأحبك . . أحبك حبا يجعلني .. . . أشعر بالزهو كلما رأيتك تمشي خطوة إلى الأمام ! ! . .
وأشعر والله بالحسرة إذا رأيتك تراوح مكانك أو تتقهر ورائك !!.
أحدثك حديثا اسكب روحي في كلماته . . . وأمزق قلبي في عباراته . . .
إنه أخي حديث القلب إلى القلب .
حديث الروح للأرواح يسري *** وتدركه القلوب بلا عناء
أخي وحبيبي ...
هل تظن أن أخطاءنا أمر تفردنا به لم نسبق إليه ؟! .
كلا ... فما كنا في يوم ملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون . ولكن نحن بشر معرضون للخطيئة، يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم .
وكل من ترى من عباد الله الصالحين لهم ذنوب وخطايا. قال ابن مسعود- رضي الله عنه - لأصحابه وقد تبعوه : "لو علمتم بذنوبي لرجمتموني بالحجارة"، وقال حبيبك محمد، صلى الله عليه وسلم : "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم) والله يا أُخَيَّ لقد أحرقتنا الذنوب ، وآلمتنا المعاصي ولكن أيها الحبيب المحب أرعني سمعك يا رعاك الله ! ! .
إن هذه الخطايا ما سلمنا منها ولن نسلم ، ولكن الخطر أن تسمح للشيطان أن يستثمر ذنبك ويرابي في خطيئتك .
أتدري كيف ذلك ؟ ! ! . .
يلقي في روعك أن هذه الذنوب خندق يحاصرك فيه لا تستطيع الخروج منه . .
يلقي في روعك أن هذه الذنوب تسلبك أهلية العمل للدين أو الاهتمام به .
ولا يزال يوحي إليك : دع أمر الدين والدعوة لأصحاب اللحى الطويلة! والثياب القصيرة! دع أمر الدين لهم فما أنت منهم ! ! .
وهكذا يضخم هذا الوهم في نفسك حتى يشعرك أنك فئة والمتدينون فئة أخرى. وهذه يا أخي حيلة إبليسية ينبغي أن يكون عقلك أكبر وأوعى من أن تمرر عليه .
فأنت يا أخي متدين من المتدينين . . أنت تتعبد لله بأعظم عبادة تعبد بها بشر لله .
أن تتعبد لله بالتوحيد.
أنت الذي حملك إيمانك فطهرت أطرافك بالوضؤ، وعظمت ربك بالركوع ، وخضعت له بالسجود.
أنت صاحب الفم المعطر بذكر الله ودعائه ، والقلب المنور بتعظيم الله وأجلاله . فهنيئا لك توحيدك وهنيئا لك إيمانك .
إنك يا أخي صاحب قضية . .
أنت أكبر من أن تكون قضيتك فريق كروي يكسب أو يخسر. .
أنت أكبر من أن تدور همومك حول شريط غنائي أو سفرة للخارج . .
أنت أكبر من أن تدور همومك حول المتعة والاكل .
فذلك كله ليس شأنك ، إن ذلك شأن غيرك ممن قال الله فيهم . (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ ) 0 [ محمد : الآية 12 ]
أي أُخَيَّ أنت من يعيش لقضية أخطر وأكبر هي : هذا الدين الذي تتعبد الله به. . . هذا الدين الذي هو سبب وجودك في هذه الدنيا وقدومك إلى هذا الكون (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) 0 [ الذاريات . الآية :56 ]
وأْذَنْ لي أن أذكرك مرة أخرى أن تقصيري و إياك في طاعة ربنا أو خطئي وإياك في سلوكنا لا يحللنا أبدا من هذه المسئولية الكبرى ولا يعفينا من هذه القضية الخطيرة انظر يا رعاك الله إلى هذين الموقفين :
وأرجو أن تنظر إليهما نظرة فاحصة . وأن تجعلهما تحت مجهر بصيرتك :
الموقف الأول :
خبر كعب بن مالك -رضي الله عنه -حيث وقع هذا الصحابي في خطأ كبير، وهو التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حين نفر إلى الجهاد في غزوة تبوك ولمعرفة خطر هذا الذنب تامل قول الله - عز وجل -: (إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا) . [ التوبة . الآية : 39 ]
ويعود النبي ، صلى الله عليه وسلم ، ، من غزوته تلك ، ويساءل كعبا قال"ما خلفك يا كعب ؟" فيجيب بالصدق : "والله مكان لي من عذر" .
ويأتي حكم الله في كعب أن يجتنبه الناس فلا يكلموه ، فإذا به يطوف في الأسواق لا يشرق له وجه ببسمة، ولا تنبس له شفة بكلمة، وطالت عليه جفوة الناس حتى صار حاله كما وصف الله : (حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ ) . [ التوبة . الآية : 118 ] . وكما وصف كعب نفسه : "تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي با لأرض التي كنت أعرف " .(/1)
هنا بالذات في وسط هذه المعاناة النفسية الشديدة وبين ألم القطيعة، وجفوة الناس إذا به يتلقى رسالة ملكية من ملك غسان يقول فيها: "إنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار مهانة ، فالحق بنا نواسك " .
إنها رسالة من ملك ! يعرض عليه أن يلحق به ليكون من رجال البلاط ، وحاشية الملك وليتمتع بعد ذلك بكل مافي القصور من ترف ، وكل مايعمرها من لذة .
إنه عرض يُسيل لعاب أفواه كثيرة بعيدا عن هذه الضغوط والمعاناة، فكيف بمن يتلقى هذا العرض وهو يعاني ألم القطيعة ومرارة الهجران ؟ ! .
فكيف تلقى كعب هذا العرض ؟! ! .
إنه لم يفكر في الأمر كثيرا أو قليلأ، لم يقل لحامل الرسالة دعني أتدبر أمرى وأرجع إليك الجواب غداً، كلا إن قضية الولاء للإسلام كانت محسومة عنده ليست محل بحث أو مراجعة، ولذا فما إن قرأ هذه الرسالة حتى قال : "وهذه أيضا من البلاء، ثم تيمم بالرسالة الملكية التنور فسجرها فيه " .
إنه الولاء للإسلام – أيها الأخ المبارك لم يضعفه وقوع في خطا! ولا قسوة عقوبة! فهل نتعلم من كعب - رضي الله عنه -أن أخطاءنا لن تكون في يوم سبباً يوهن ولاءنا للدين وحميتنا له وغيرتناعليه .
الموقف الثاني :
ثم إلى موقف صحابي آخر هو أبو محجن الثقفي - رضي الله عنه- لقد كان هذا الصحابي مبتلى بشرب الخمر فكان يجاء به فيجلد، ثم يجاء به فيجلد، ولكنه لم يفهم أن هذا يعفيه من العمل لدينه أو القعود عن نصرته ، فإذا به يخرج مع المسلمين إلى القادسية جنديا يبحث عن الموت مظانه ، وفي القادسية يجاء به إلى سعد بن أبي وقاص وقد شرب الخمر، فيعاقبه سعد وتكون العقوبة حبسه فلا يدخل المعركة ، ولا يشارك في القتال .
وكانت عقوبة قاسية آلمت أبا محجن أشد الألم حتى إذا سمع ضرب السيوف ووقع الرماح وصهيل الخيل و علم أن سوق الجهاد قد قامت ، وأبواب الجنة قد فتحت جاشت نفسه وهاجت أشواقه إلى الجهاد فعبر عن حسرته بقيام سوق الجهاد وهو حبيس القيد والسجن بقوله :
كفى حزنا أن ترتدي الخيل بالقنا *** وأترك مشدودا إلى وثاقيا
إذا قمت عنا في الحديد وغلقت *** مصارع دوني قد تصم المناديا
فلله عهد لا أخيس بعهده *** لئن فرجت ألا أزور الخواليا
ثم نادى امرأة سعد ابن أبي وقاص قائلا : خليني فلله علي، إن سَلِمْتُ أن أجيء حتى أضع رجلي في القيد، وإن قُتِلتُ استرحتم مني . فرحمت أشواقه ، واحترمت عاطفته وخلت سبيله ، فوثب على فرس لسعد يقال لها البلقاء ثم أخذ الرمح وانطلق لا يحمل على كتيبة إلا كسرها، ولا على جمع إلا فرقه ، وسعد يشرف على المعركة ويعجب ويقول : الكر كر البلقاء، والضرب ضرب أبي محجن إ!
حتى إذا انهزم العدو عاد أبو محجن فجعل رجله في القيد فما كان من امرأة سعد إلا أن أخبرته بهذا النبأ العجاب وما كان من أمر أبي محجن ، فأكبر سعد - رضي الله عنه - هذه النفس ، وهذه الغيرة على الدين ، وهذه الأشواق للجهاد وقام بنفسه إلى هذا الشارب الخمر يحل قيوده بيديه الطيبتين ويقول : "قم فوالله لا أجلدك في الخمر أبدا، وأبو محجن يقول : وأنا والله لا أشربها أبداً "
فانظر أيها الأخ المبارك إلى هذين الرجلين كيف لم تعفهما الخطيئة، ولم تقعدهما المعصيه عن الولاء للدين والعمل له !! .
أخي الحبيب ...
إن الخطايا ليست عذرا للتحلل من الولاء للدين ، ولا من العمل له ، ولا من نصرته ، ولا من الغيرة عليه . ولولا ذلك لما انتصر للدين منتصر، ولا قام به قائم .
نعم أيها الحبيب المحب إن الولاء للدين والغيرة عليه مسئولية المسلم من حيث هو مسلم مهما كان فيه من تقصير ومهما قارف من إثم . مادام له بهذا الدين سبب واصل ، فما من مسلم يقف في صف المسلمين إلا ويتحمل مسئولية في تاييد الدين ونصره : (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ). [ الأعراف.الآية:157] . هل تذكرت أخي أنك جزء من هذه الأمة التي يجب أن تكون في المقدمة في وقت تتسابق فيه الأمم في صنع المستقبل ؟ ! ! .
إننا في عصر ينبغي أن نقتحمه متحدين . فهل فكرت في إسهام حقيقي منك في ذلك ؟!! .
هل تذكرت أخي أن دينك هذا الذي تدين الله به مستهدف بعداء مرير وكيد طويل ؟ ! .
واقرأ إن شئت "قادة الغرب يقولون دمروا الإسلام أبيدوا أهله " و لتقف على طرف من هذا العداء فهل فكرت وإياك في المواجهة؟! ! . .
هل آلمتك مجازر المسلمين ورخص دمائهم فإذا هي أرخص من ماء البحر واستهانة العالم بمدن المسلمين تُباد ودولهم تبتلع ؟! !
في الوقت الذي تصاب فيه الدنيا بالأرق لرهينتين غربيتين ! ! .
فهل تحرَّكَتْ فينا أُخيَّ روح الجسد الواحد؟! !.
أيها الحبيب المحب ...
هل فتشتُ في نفسي وفتشتَ في نفسك وتساءلنا كم تبلغ مساحة الإسلام من خارطة اهتمامنا؟! ! .
كم نبذل للدين ؟! ! كم نجهد للدين ؟! ! كم نهتم للدين ؟! !(/2)
هل هو قضية حياتنا تتراء لنا وتؤرقنا؟! ! أم قد رضينا بعبادات تحولت إلى عادات ؟ ! ! إننا يا أخي إذا لم ننفر لهذا الدين بكليتنا فإنا - ورب البيت - نخشى أن ينالنا ذلك الوعيد الشديد الذي تكاد السمؤات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدّا، اسمعه في قول ربك - جل جلاله -: (إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [ التوبة، الاية: 39 ] .
لنعد السؤال على أنفسنا مرة أخرى :
كم يعيش الدين في حياتنا؟! !
كم يشغل من مساحة اهتمامنا؟! !
ثم أذن لي يا حبيبي بكلام أكثر تفصيلاً:
أخي ... هل أخذت يوما كتاب الله فقرأته مستشعرا أن الله - جل جلاله - بكبريائه وعظمته يخاطبك ويكلمك أنت العبد الصغير الذليل ؟إ إ.
أي تكريم لك ذلك التكريم العلوي ! ! . أي رفعة لك يرفعها هذا التنزيل ! ! .
أي مقام يتفضل به عليك الرب الكريم إ! . يوم جعلك أهلا لتلقي خطابه .
إخي ... هل جلست يوما تربي نفسك بقراءة سيرة نبيك وحبيبك محمد، ، صلى الله عليه وسلم الذي تؤمن به وتعبد الله بشرعه ، الذي تحبه والذي أحبك ، واشتاق إلى لقائك . نعم ! نبيك اشتاق إلى لقائك فقال و ددت أنا قد رأينا إخواننا قالوا : أو لسنا اخوانك يارسول الله ؟! قال : أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد" أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه -.
فهل اشتقت إليه كما اشتاق إليك ؟ !.
. أخي .. . هل نظرتُ وإياك إلى إخواننا الصالحين السابقين في الخلو ات ، الذين هم أكثر منا جدا في الطاعة، ونشاطا في الدعوة، وتوقيرا للسنة؟ ! .
هل نظرت إليهأ؟! !
فكيف كانت نظر تك ؟! .
أما إني لا أتوقع منك أن تزدريهم ولا أن تخذلهم ولكن أحبهم تكن منهم " فالمرء مع من أحب " ومحبتهم تستلزم نصرتهم والدفاع عن أعراضهم والتعاون معهم .
أخي ... هل بذلت جهدا في الدعوة ولو كان قليلا ؟؟.
هل أهديت لقريب أو زميل شريطا بعد أن سمعته أو كتيبا بعد أن قرأته ؟؟.
أخي ... هذه المنكرات التي في مجتمعنا وقد غصّ بها لم تنتشر في يوم وليله، ولكن انتشرت لأن واحدا فعل وواحد سكت وهما شريكان في انتشار ذلك المنكر.
فهل استشعر ت وجوب مشاركتك في إزالة المنكر؟ ! ! وعلمت أنة لابد أن تكون مساهما في الإنكار! ! .
اخي . .. إن في مجالسنا ومجتمعنا من يشوش على الناس مفاهيمهم ويلبس عليهم دينهم وينتقص أهل الصلاح منهم ! ! .
فهل وقفت منافحا ومدافعا بالتي هي أحسن ؟! .
لأنك تعلم أن السكوت حينئذ خيانة للمبدأ، وجبنٌ في الدفاع عن الحق الذي تعتقده .
أخي ... لا تكتف بالتعاطف مع الأخيار الأبرار وترى ذلك فضلأ منك ولكنك تعلم أنه يجب عليك أن تكون متعاطفا ومتعاونا لأنك تعلم أن ذلك من مسؤليتك .
اخي وحبيبي ...
تذكر رعاك الله أنك بإيمانك ذو نسب عريق ضارب في عمق الزمن ، وأنك واحد من ذلك الموكب المبارك الذي يقوده ذلك الركب الطيب من أنبياء الله ورسله نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، صلى الله عليهم وسلم : (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) 0 [الأنبياء، الاية:92 ] إنا نظن بك أخي أن تكون معتزا بإيمانك ، واثقا من نفسك ، باذلا لدينك مايمكنك بذله ، داعيا لمبدئك وقضيتك ، متميزا عن غيرك ممن لا يهتم بهذا كله ، متميزا عن السلبيين الذين نقول لهم كفّوا أذاكم عن الناس فهو صدقة منكم على أنفسكم .
قد اختارنا الله في دعوته *** وإنّا سنمضي على سنته
فمنا الذي قضوا نحبهم *** ومنا الحفيظ على ذمته
أخي ستبيد جيوش الظلام *** ويشرق في الكون فجر جديد
فاطلق لروحك اشراقها *** ترى الفجر يرمقنا من بعيد
اخي .. لا أريد أن أُهوّن الذنوب فإنها إذا إجتمعت أهلكت .
لا اريد ان اهون الخطايا فربّ خطيئة كان عقابها طمس بصيرة ، ولكن أقول ينبغي أن لا تكون الذنوب خندقا يحاصرنا عن العمل لهذا الدين وأنت من هذا على ذكر .
أخي الحبيب ...
هذا شجن من شجون أهاتف به قلبك الطيب بنُصح المحب ومحبة الناصح وإن في إيمانك ونقاء أعماقك ما يطمع فيك كل من يريد الخير لك .
والله أسأل ان يكلأك برعايته ويحوطك بعنايته ويهديك ويسددك واستغفر الله لي ولك .
الشيخ عبدالوهاب الطريري(/3)
رسالة من جماعة المسجد لمن لا يشهد صلاة الفجر
الأخ العزيز والجار الكريم/ ........................................................ وفقه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد :
فمن منطلق وصية الإسلام بالجار ، نبعثُ إليك هذه الرسالة وكلنا رجاءٌ أن تجدَ قلباً للخير مفتوحاً وأُذُناً لكلِمة الحق سامعةً ، ولولا طمعُنا في حسن استجابتك للحقِ لما كتبنا إليك حرفاً واحداً.ولا نكتُمُك سرورنا بحسن جِوارِك ، وغِبطتنا بحفاظِك على الصلواتِ جماعةً في المسجدِ ، وهذا كافٍ في تأكيد حقك .ولسنا - أيها الأخ الكريم - نلحظ عليك أمراً نربأ بمثلك عنه ، إلا غيابك عن جماعتنا في صلاة الفجر ، ونحن على ثقة من معرفتك بحقها ، وعظيم شأنها وأن أداءها مع الجماعة يُبرئ ساحةَ المرءِ من النفاق، ويستحق جزاء عليها الجنة ، بنص كلامِ الصادقِ المصدوق صلى الله عليه وسلم إذ يقولُ ( من صلى البردين دخل الجنة ) ويمنحُه وعداً بالنجاة من النار لقوله صلى الله عليه وسلم ( لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ) -يعني الفجر والعصر- هذا مع كونه في ذمة الله وحفظه لقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ( من صلى الصبح في جماعة فهو في ذمة الله فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء) .وصلاةُ الفجر هي الصلاة التي من صلاها في جماعة كان كمن صلى الليل كله ؛ قال عليه الصلاة والسلام : ( من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل ، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله) وهي التي تشهدها الملائكة لقوله تعالى ( وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً) . ولعظم أمرها ، وشدة خطرها. كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تنتابهم الظنُون السيئةُ بمن يتخلف عنها ؛ قال ابن عمر رضي الله عنهما : كنا إذا افتقدنا الرجل في الفجر والعشاء أسأنا به الظن ، ولقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء والفجر ، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً.فالبدار البدار -أخي المسلم- لشهود هذه الصلاة التي تجدد الإيمان وتحيي القلوب ، وتشرح الصدور ، وتملأ النفس بالسرور ، ويثقل الله بها الموازين ويعظم الأجور.أخي المسلم : إن لذة الدقائق التي تنامُها وقت الفجر لا تعدل ضَمّةً من ضمّات القبر ، أو زفرة من زفرات النار، يأكل المرءُ بعدها أصابعه ندماً أبد الدهر ، يقول : ( رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت) .فتباً للذة تعقب ندماً ، وراحة تجلب ألماً.أيها الأخ الفاضل : تذكر نعمة الله التي تتوالى تباعاً عليك وانظر في حال قوم ينام أحدهم ورأسه مثقل بالهموم والأحزان وبدنه منهك من التعب بحثاً عن لقمة يسد بها جوعته ، يستيقظ صباح كل يوم إما على أزيز المدافع ، أو لفح البرد أو ألم الجوع ، وحوله صبية يتضاغون جُوعاً ، ويتلَّوون ألماً ، وأنت هنا آمِنٌ في سِرْبِك ، معافىً في بدنك ، عندك قوتُ عَامِك ، فاحذر أن تُسلبَ هذه النعمة بشؤم المعصية ، والتقصير في شكر المنعم جل وعلا.أخي : هل أمنت الموت حين أويت إلى فراشك ، فلعل نومتك التي تنامها لا تقوم بعدها إلا في ضيق القبر.فاستعد الآن ، مادمت في دار المهلة ، وأعد للسؤال جواباً ، وليكن الجواب صواباً.نسأل الله أن تكون ممن يستمعون الحق فيتبعون أحسنه ، وأن يختم لنا ولك بخاتمة السعادة ، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته ، إنه ولي ذلك والقادر عليه.وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
جماعة المسجد(/1)
رسالة من فتاة مقدونية ...
أصغوا فسوف أبثكم حسراتي **** وأمدُّكم بالحزن من آهاتي
أصغوا لأُطربكم بفيض مواجعي **** وأحيطكم بمدامعي وشكاتي
أصغوا لأفجعكم بأغرب قصة **** نقلت إلى الأسماع من أنّاتي
أصغوا فإن حروف قولي تصطلي **** من بؤس ذلِّ ينسجوه عداتي
واستطلعوا معنى الإخاء بلذة **** فلسوف تروي محنتي عبراتي
كانت لنا أحلامنا يا أخوتي **** لكنها ذبحت بكفِّ طغاةِ
كانت لنا الآمال أجملُ لوحةٍ **** رسمت من الأفراح والخيرات
كنا نعيش أيا أحبةُ عزةً **** تحيا مآذننا بتكبيراتِ
كنا نحس بمجدنا لما نرى **** إسراع كل الناس للصلوات ِ
كنا نذوق حلاوة في ديننا **** لما يجيء العيد بالبركاتِ
فترى صغار المسلمين تجمّعوا **** وعلى وجوههم ترى البسماتِ
وتراهم قد أمسكوا ألعابهم **** وتدق سمعك أعذب الأصواتِ
وترى الجميع قدامتطوا أفراحهم **** وكأن دنياهم بلا نكباتِ
وترى الثمار تطيب في أشجارنا **** وترى الزهور جميلةَ اللَّمساتِ
وترى الجبال وقد كساها خضرة **** ربُّ العباد واهب الرَّحماتِ
وترى رُبًى ( البلقان ) تبرز حُسنها **** وكأنما هي أجمل الفتياتِ
وتُحس حقا أنّ في إسلامنا **** مايمنح الإنسان كل ثباتِ
وصفت لنا الدنيا كأنقى قطرة **** والتَمَّ شمل الناس بعد شتاتِ
لكنّ أبناء الصليب تبجَّحوا **** صبُّوا رَصَاصَهُمُ على الطرقاتِ
فتناثر الأطفال صرعى مثلما **** رُشَّ الجراد بقاتل الحشراتِ
وغدت حياة الناس مثل قيامة **** قامت وكل الخلق في غفلاتِ
ذلٌ وحربٌ ياأحبةُ والأسى **** يكوي القلوب ويَلْفَحُ الوجناتِ
غدرٌ يقدِّمه لنا أعداؤنا **** في ثوب سلمٍ يسرقُ النظراتِ
يأتي المساء فلا أبً يحمي الحمى **** وتبين شمس الصبح عن أمواتِ
يأتي المساء وتنطوي آمالنا **** وأظلُّ أبكي الليل من حرقاتي
إني لأعجب حين أبصر حالنا **** وأحس أن رجالنا بسباتِ
إني لأعجب حين أبصر حالنا **** وأرى العدو يوجِّه الطغياتِ
إني لأحزن حين نَمْدُدُ كفنا **** للمعتدين ونرسل البسماتِ
ياويح قومي كيف نامت أسدهم **** في أيّ صقعٍ خلفوا العزماتِ
ناموا على عزف السلام وما صحوا **** فغدت مرابعنا بدون حماةِ
ياويح قومي حرّفوا قرآنهم **** لم يأخذوا بدلالة الآياتِ
ياويح قومي أغفلوا سنن الهدى **** زرعوا الخلاف وأشعلوا الثََوراتِ
حسبوا بأن المجد يأتي عندما **** يتسابقون بأطول الكلمات
حسبو بأن الفوز يأتي عندما **** يتضحاكون بأمتع السهراتِ
حسبوا بأن النصر يأتي عندما **** يتفاخرون بأفضل الحفلاتِ
ظنوا بأن طريقهم سَيُريحهم **** من كل ما يشكون من أزماتِ
لكنهم وأدوا الكرامة عندما **** مدّوا الإخا لمحرفي التواراةِ
لكنهم ظلوا طريق سموِّهم **** سهروا على الأوتار والنغماتِ
لا يا أحبة ليس يرجع حقنا **** إلا بحزم يُحرق الشهواتِ
لا يا أحبة ليس يرجع حقنا **** إلا بسيف ينصر الحرماتِ
هذا هو التاريخ يروي مجدكم **** فلتقرؤا إن شئتم الصفحاتِ
كم قد رفعنا ذلة عن قومنا **** كم نشرنا العلم والحسناتِ
كم قد فتحنا من بلادٍ إخوتي **** ولكم جعلنا اللين رمزَ دعاةِ
كم قد رفعنا ظلم طاغوتٍ بغى **** ولكم هزمنا أكبر القواتِ
صغنا الحياة على كتاب إلهنا **** بعنا النفوس لخالق النَّسماتِ
وتحقق النصر العظيم لجيلنا **** لما صدَقنا الله في الخلواتِ
هذي سطور المجد في تاريخنا **** أرسلتها .. والحزن في كلماتي
لا تركعوا للمعتدين فسلمهم **** زيفٌ وإن كتبوا على الورقاتِ
لاتركضوا خلف السراب أحبتي **** فربوعنا ملأى من الواحاتِ
كونوا ضياءً يارجال عقيدتي **** فالكون يشكو وطأة الظلماتِ
رَبَّاهُ إني قد رفعت شكايتي **** وعلى صِِغاري وابل الطلقاتِ
حقق أيا رباه وعدك إنَّنا **** ندعوك أن تعلي لنا الراياتِ
محمود الصداوي(/1)
رسالة من معلم غيور إلى تلميذة المهذب
أخي الطالب النجيب ( ..................................................... ) وفقه الله للنجاح والفلاح في الدارين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، أما بعد : ـ
فإني ـ أخي الكريم ـ لما لمحت في عقلك من علامات الذكاء والنجابة ، وما استشرفت بين جنبات نفسك من بوادر النبوغ والتألق ، ورأيت في شخصيتك صورة المسلم المتميز في صفاته ، المتفاني في طموحه ، الساعي في حياته لرضا ربه وخدمة دينه وأمته ؛ لذا كان لزاماً عليّ أن أقوم بأداء ما لك من حق عليّ من واجب النصح والتوجيه ، وأمانة الإرشاد والتشجيع ، وأن أخلص عنقي مما علق به من مسئولية تجاهك .
وما وجهت لك هذه الكلمات إلا حباً لأخلاقك السامية ، وإعجاباً بما تحمله من همة عالية ، فكتبت لك هذه الوصايا رجاء أن تجعلها مشعلاً ينير سبيلك ، ومركباً يعينك على مشاق طريقك ، فلتقرأها بإمعان ، ليعيها قلبك ، ويحفظها عقلك ، عسى أن يكون لها صدى في واقع حياتك .
أولاً : لتصحبك في طوال مسيرتك التعليمية النية الصادقة والإخلاص لله في طلبك للعلم ، ولا تسمح لنيتك أن يشوبها غبش أو يخالطها غشش ؛ من حب لمال أو شهرة أو منصب وما سوى ذلك من الأمور الدنيوية التي تذهب بأجر تعلمك وثواب الصبر عليه ، ولتستشعر دوماً أنما تريد من سعيك وراء العلم خدمة دين الإسلام ورفعة أمتك الإسلامية لا يثنيك عن هذا المقصد أي عقبة صغيرة كانت أم كبيرة ، ولا يعوقك عن هذه الغاية المنشودة أدنى عائق من العوائق المادية الرخيصة أو الدنيوية السافلة .
ثانياً : لتكن دائم النظر إلى الأمام فإنه دافع لك نحو الجد ومحفز للمثابرة ، ولا تلتفت إلى الوراء فلربما ثبط عزيمتك ، وقضى على همتك إلا إن كنت تريد منه استخلاص العبرة والعظة وتصحيح الخطأ .. فتدارك نفسك واغتنم مابقي من عمرك بالاجتهاد في طاعة ربك والعمل بأوامره والحذر من زواجره ، وبالجد فيما بقي لك من سنوات الدراسة لتحصل على مؤهلك العلمي متفوقاً متألقاً .
ثالثاً : لقد رأيت منك قدرة فائقة على قبول العلم واستيعابه وحفظه ، وكم أرجو منك أن تنمي هذه القدرة ـ عزيزي الطالب ـ وتغذيها بالعلم الشرعي الذي يرفع الله به منزلتك في الدنيا والآخرة ، فليكن اليوم هو نقطة البدء لتتجه بنفسك إلى القراءة وطلب العلم في كتب العقيدة والتفسير والحديث والفقه والسيرة النبوية وغيرها ، وذلك عن طريق حضور المحاضرات والدروس في المساجد ، وقراءة شروح أهل العلم أو الاستماع إليها من الأشرطة ، وإني على أتم الاستعداد لمساعدتك في هذا الجانب .
رابعاً : أنت ـ أخي المبارك ـ قدوة .. فكن محلاً صالحاً لهذه القدوة ، فإنك في هذه المرحلة الدراسية وما بعدها محل النظر من الكبار والصغار ، والأنظار تتجه إليك .. فمن ناقد لفعلك مستبغض ، ومن متشبه به معجب ، فاستكمل ما في نفسك من نقص ، واسع للكمال ، وانته عن كل ما تراه معيباً في الدين والأخلاق والعادات ، فمن اتقى الله في نفسه ، وراقب ربه في خلواته نال ـ بلا ريب ـ حب الناس واحترام الكبير قبل الصغير ، وقدروه أعظم تقدير .
وفي الختام أسأل الله تعالى لك الفوز الدائم العامر ، والنجاح المستمر الباهر .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
أستاذك(/1)
رسالة وتوقيع
( تابع .. معنى لا إله إلا الله )
للشيخ محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي - رحمه الله -.
يا أخي المسلم سلام الله عليك ورحمته وبركاته
يا أخي المسلم: إذا أردت أن تعرف ماذا تعني لا إله إلا الله، وما هو المطلوب من قائلها، إذا أردت أن تعرف ذلك معرفة تامة فتأمل أمرين.
الأول: أن تعرف أن الكفار الذين قاتلهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقتلهم وغنم أموالهم واستحل دماءهم، وسبى نسائهم كانوا مقرين لله بأنه الرب وحده وهو ما يعرف بتوحيد الربوبية وأنه لا يخلق إلا الله ولا يرزق ولا يحي ولا يميت ولا يدبر الأمر إلا الله كما قال - تعالى -: ((قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن بدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون)) وهذه مسالة عظيمة ومهمة للتأمل فيها والنظر للفرق بين الإسلام والكفر وإضافة إلى ما تقدم فإنهم أيضاً كانوا يمارسون بعض العبادات فيتصدقون ويعتمرون ويحجون ويتعبدون ويتركون أشياء من المحرمات خوفاً من الله - تعالى -.
والأمر الثاني: يا أخي المسلم لا بد أن تدرك وتعرف ما الذي كفرهم وأحل دماءهم وأموالهم وأن تعرف شركهم الذي قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليه ذلك هو عدم شهادتهم لله بالإلوهية حيث صرفوا أفعالهم كلها أو بعضها لغير الله - سبحانه - كالدعاء والذبح والنذر وغير ذلك من الإلحاد في أعمال العباد وبغير ما أمر الله به بل ومخالفة أمر الله - سبحانه -.
يا أخي المسلم: تمسك بأصل دينك أوله وآخره وهو شهادة أن لا إله إلا الله اعرف معناها واعمل بمقتضاها مخلصاً لله وأحب أهلها واجعلهم إخوانك ولو كانوا بعيدين، واكفر بالطواغيت وعادهم وابغض من أحبهم أو جادل عنهم أو أعرض عنهم ولم يتبرأ منهم ولو كان من إخوانك أو أولادك أو وطنك لعلك تلقى الله مسلماً صادقاً لا تشرك به شيئاً، أسأل الله أن يتوفاك مسلماً ويلحق بالصالحين.
http://www.olamaalshareah.net المصدر:(/1)
رسالتي للمتزوجين لاتنسوا الفضل بينكم)
د. رضا:
حوار: مي محمود 24/2/1426
03/04/2005
الثمرة معظمها حلوة فلماذا يحرص البعض على تذوقها من جانبها المرّ وهو محدود، هذا ما يقوله الدكتور أكرم رضا الخبير التربوي واستشاري المشاكل الزوجية، وهو يحدثنا عن كيفية تحقيق السعادة الزوجية في حواره الممتع مع شبكة (الإسلام اليوم) حول آفاق نجاح الحياة الزوجية وكيفية تذليل الصعوبات التي تواجهها الأسرة المسلمة من أجل إقامة حياة زوجية سعيدة وناجحة؛ إذ ينصح الدكتور أكرم رضا كل زوجين بالاسترشاد الربّاني من القرآن والسنة والاستضاءة النورانيّة بخبرات الصالحين ويدعو إلى تدعيم الحب والتآلف والتفاهم الزواجي، ويحذر من خطورة عدم وجود عدد كافٍ من خبراء ومتخصصين في الإرشاد الزواجي ببلادنا العربية، مشدداً على أن الأسرة هي اللبنة الأولى لاستقرار المجتمع .. وهذا نص الحوار...
من وجهة نظركم ما هي معايير اختيار الزوج والزوجة؟
الاختيار له شقان: شق إرشادي وشق نفسي، الشق الإرشادي ينبع من هويتنا الإسلامية؛ فالله خالقنا هو الذي يرشدنا وهو سبحانه الخبير بطبيعة البشر (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) فالله -عز وجل- عن طريق نبيه -صلى الله عليه وسلم- وضع لنا ضوابط مثل قوله -صلى الله عليه وسلم- "تُنكح المرأة لأربع: لمالها ولجمالها ونسبها ودينها"، فقد وضع الصفات الأساسية التي لا يخرج عنها بشر في الاختيار بالترتيب، ثم يقول "فاظفر بذات الدين" وهنا يقدم الدين لأهميته في الاختيار وعلى أنه أساس، وكذلك لقوله سبحانه في النكاح (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم) ويرشد في لمحة خفية إلى أن الفقر يُعوّض بنكاح الصالحين، ولقوله سبحانه (إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله)، وفي حالة الزوج يرشدنا النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى اختيار الدين والخلق، وأضاف الخلق إلى الدين؛ لأن الأصل في الدين الخلق ولا دين بغير خلق، وكذلك الأمانة لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر "إذا جاءكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه"، وذلك لأن الأمانة فرع من الخلق، وكذلك الآية القرآنية التي أوضحت لنا اختيار سيدنا شعيب لسيدنا موسى لاتصافه بالأمانة (إن خير من استأجرت القوي الأمين)، أما الشق النفسي فهذا يصاحب الشخصية فكلما ارتقى صاحب الاختيار ارتقى مستوى اختياره؛ فإذا كان داخل الشخص الإيمان فيختار الأساس الدين أما إذا كان داخله وطموحاته أن يختار على أساس الجمال أو النسب فيختار على هذا الأساس لقوله سبحانه (الطيبات للطيبين) لذلك لا يستطيع إنسان أن يضع معايير اختيار؛ لأن المفروض أن يختار الإنسان من مستوى الإرشاد القرآني والسنة وخبرات الصالحين، ومثال ذلك عندما جاء الحسن البصري أحد الصالحين يسأله يقول: جاءني رجل غني وآخر صاحب دين لابنتي فماذا أختار؟ قال له: اختر صاحب الدين؛ لأنه إذا أحبها أكرمها وإذا كرهها لم يظلمها.
الفهم والتنشئة
كيف تفهم الزوجة شخصية زوجها وتستوعبها؟
أساس الاختيار في الإسلام يقوم على الحرية المطلقة فليس لأحد أن يجبر أحداً في أمر الزواج فالزوجة لا يستطيع أبوها أن يجبرها على الزواج لذلك فإن مسؤولية الاختيار متوفرة للزوجة ومن خلال فترة الخطوبة قد يكتشف كل طرف في الآخر عيوبه وميزاته، وتستطيع زوجة المستقبل أن تتقبل هذه العيوب وتتكيف معها؛ لأن هذه الفترة تُعتبر دراسة للطرفين وفرصتها أحسن للاختيار السليم ثم بعد ذلك فترة العقد، وهي فترة أكثر اتساعاً لذلك يشرع ربنا سبحانه الزواج على مراحل حتى تستطيع الزوجة أن تفهم شخصية زوجها، وكذلك الزوج حتى يصلا إلى التوافق المطلوب.
هل التنشئة الاجتماعية لها دور في تحديد شخصية كل من الزوجين؟
الدراسات أثبتت أن الإنسان يبني نفسه، وأن هناك اختلافاً في شخصية كل من الزوج والزوجة من الناحية الفسيولوجية فهم مختلفون في الشكل والعقل والطباع مثل النهرين الأزرق والأبيض، ولكن عندما يلتقيان يحدث الخصب أي الاتفاق ويطعم كل منهما الآخر.
احذروا هذه المشكلات
كيف نستطيع التغلب على المشكلات الزوجية التي قد تنشأ في السنة الأولى من الزواج؛ إذ ثبت أن 45 % من حالات الزواج يتم الطلاق فيها خلال السنة الأولى للزواج طبقاً لأحدث إحصائية للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء؟
في السنة الأولى يحدث الكثير من المشكلات، وذلك يرجع إلى محاولة كل واحد منهما فرض طباعه، ويستغرب طباع الآخر بالإضافة إلى الضغط الاجتماعي على الزوج نتيجة الأعراف السيئة كالقول (أذبح لها القطة أو غير ذلك)! مما يؤدي إلى التناطح، ومحاولة كل منهما أن يكسر قرون الآخر ـ إن صح التعبيرـ وهذا لا يصلح في بيت مبني على المودة والرحمة، ولكن غالباً ما تمرّ هذه المشكلات، وعندما يتذكرها الزوجان بعد ذلك يشعران بأنها مشكلات تافهة لا قيمة لها، وذلك بعد الزواج بفترة طويلة.
ما أهم المشكلات الزوجيّة من وجهة نظرك؟(/1)
أهم المشكلات الزوجية محاولة الزوج إثبات الذات ورجولته في البيت ويعامل زوجته على أنها خادمة في البيت بالإضافة إلى قول كل منهما للآخر .. أمي وأمك، والمقارنة المستفزة بينهما، وكذلك قد تكون المشكلات نتيجة عقدة المال والمقارنة كالقول فلوسي وفلوسك وأيضاً القول: إنهما متساويان في التعليم، وكذلك قول الزوج لزوجته في أول الزواج: أتزوج عليك! ويريد أن تعامله معاملة سي السيد!
في هذه المرحلة ننصح بالاسترشاد الزوجي، وأنا أدعو المجتمع وخاصة الجمعيات الأهلية إلى إيجاد مثل هذه النوع في حياتنا؛ فاليوم لا يكفي الطبيب النفسي في الإرشاد الزواجي أو الشيخ في المسجد، إنما يجب أن يكون هناك متخصص ومكتب ليؤدي الإرشاد الزواجي لحلول للمشكلات الزوجية، وذلك تلافياً لانعدام الخبرة بين الزوجين. وأناشد المسؤولين تواجد مثل هذه المكاتب حتى نستطيع أن نتغلب على هذه المشكلات.
كيف تكون الزوجة مثقفة سلوكياً ؟
الثقافة السلوكية تنبع من العلم والخبرة معاً؛ فالعلم يعمل نوعاً من الاستبيان النفسي للزوجة حتى تصحّح سلوكها، والثقافة السلوكية عبارة عن علم ومهارة تكتسبها الزوجة بالتدريب؛ لأنه ينقصنا مراكز للتدريب والتنمية البشرية برغم وجود مثل هذه المراكز بكثرة في البلاد الغربية على أعلى مستوى ليستفيدوا منها، وتعطي لهم خبرة كبيرة في مختلف المجالات، لذلك لا بد من العمل على تطوير المهارة السلوكية عندنا بالنسبة للمرأة والرجل، ولا يتحقق ذلك إلا بالعلم والتدريب.
صراحة ونصائح
ما هي حدود الصراحة بين الزوجين من وجهة نظركم؟
الصراحة والمصارحة قائمة على فاتورة الإخلاص، يعني أن كلاً من الزوجين أخلص للآخر، ولا توجد لديه نية ترك الآخر، فكأن الزوج يحدث نفسه عندما يتحدث مع زوجته، والصراحة تكون في كل شيء حتى في الهوايات والطموحات، وحتى مع الأولاد لكيلا يكذبوا، وقد كان صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يفعلون الخطأ؛ لأنهم تعوّدوا أن يردّوا كل شيء للنبي -صلى الله عليه وسلم- وبالتالي لا يخجلون أمامه؛ لذلك فالمصارحة تساعد على التقوى.
كيف نحقق الصداقة والحبّ بين الزوجين؟
الزوجة تكون صديقة لزوجها، وكذلك الزوج يكون صديقاً لزوجته بشرط أن تكون الزوجة على هوى زوجها وكذلك الزوج؛ ففي بعض الأحيان تكون الصداقة بينهما أن يعيشوا الفترة الأولى من الزواج في الخروج والتنزه، لكن بشرط الانضباط بشرع الله مثلما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ كان يداعب نساءه، ويتسابق مع السيدة عائشة، ولكن عندما يأتي وقت الصلاة كنا لا نعرفه ولا يعرفنا.
وأخيراً ما أهم النصائح والإرشادات التي توجّهها للفتيات والشباب المقبلين على الزواج حتى تتحقق السعادة الزوجيّة؟
أقول للشباب : كونوا شجعانًا وتحملوا مسؤولية قراركم، ولا بد أن تضع لنفسك أيها الشاب ضوابط صحيحة وحقيقية للاختيار، أما الفتاة فأقول لها: كوني صادقة مع نفسك، وضعي ضوابط حقيقية للاختيار، وللمتزوجين حديثاً أقول لهم: لا تتذوّقوا الثمرة من جانبها المر: الثمرة كلها حلوة بلين كل منا للآخر ..
وللمتزوجين منذ فترة طويلة أقول لهم: (لا تنسوا الفضل بينكم).
أخيراً أوجّه رسالة إلى المجتمع في وطننا العربي بضرورة تواجد مكاتب الإرشاد الزوجي الشاملة لأننا في مجتمع نحتاج فيه إلى جلسات وتمهيد الطريق بين الزوجين حتى يحدث التوافق الزواجي حفاظاً على الأسرة باعتبارها صمام الأمان لسفينة المجتمع(/2)
رسالة العصر ( 1 / 4 )
سلمان بن فهد العودة 17/1/1426
26/02/2005
إن الحب في الله هو الإكسير الذي يحطّم العوائق، ويربط القلوب والنفوس مهما تباعدت في مواقعها ومواقفها ومداراتها واتجاهاتها وانشغالاتها؛ فلنرفع راية المحبة في وجه كل أعاصير الكراهية والبغضاء !
إن العصر الذي نعيشه يضجُّ بالمظالم والعدوان والقتل والعنف ؛ مرة باسم الحرية ، ومرة باسم الديمقراطية ، ومرة باسم السلام ، ومرة باسم الإسلام ؛ فلنعالج ذلك كلّه برفع راية المحبة والوئام ، ومحبة الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، و المحبة في الله وفي رسوله -صلى الله عليه وسلم- من خصائص المؤمنين ، يقول الله –عز وجل- : (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)[المائدة:54] .
ولندرك أن العسر كلمة صغيرة محفوفة باليسر قبلها واليسر بعدها ولن يغلب عسر يسرين .. (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)[الشرح:5-6] .
إِذَا ضَاقَتْ بِكَ الدُّنْيَا ... ...
فَفَكِّرْ فِي أَلَمْ نَشْرَحْ
فَعُسْرٌ بَيْنَ يُسْرَيْنِ ... ...
تَأَمَّلْ فِيهِمَا تَفْرَحْ
والحياة أيضاً كما هي مليئة بالعوائق، والعقبات، والنكبات؛ مليئة بالفرص. فإذا نظرت إلى الجانب المظلم؛ فاختلس نظرة أخرى إلى الجانب المشرق، ولتكن رسالةُ العصرِ تبشيراً بالمحبة والفرج والتيسير من الحكيم الخبير.
هذه خواطر أخوية هدفها المناصحة والمصافحة والمصالحة ، وقد كان أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- إذا تلاقوا لم يفترقوا حتى يقرأ أحدهم على الآخر سورة العصر ثم يسلم أحدهما على الآخر، كما رواه الطبراني في الأوسط [ 5124] والبيهقي في شعب الإيمان[8639] وسنده جيد.
إن من الفقه القرآني العناية بالمسائل الكبيرة والمهمة وإعطاءها حقها، بينما نغرق كثيراً .. كثيراً في مسائل من الدرجة الثالثة أو العاشرة .. وتستغرق الكثير من جهدنا وطاقتنا ، وطاقة الإنسان محدودة فإذا استغرقها في التفاصيل والجزئيات انقطع عن التأصيل والكليات ، وانشغل بالمسائل الصغار عن الكبار ، والصحابة-رضي الله عنهم- كانوا يتذاكرون هذه السورة لما فيها من أصول المسائل التي يجدر بالمسلم العناية بها ، ولأنها تربية على الأصول الكبرى ، وقد ينشغل المرء بالمفضول عن الفاضل ، وهذا من مداخل الشيطان كما ذكره أهل العلم، أو يتحرج المرء من صغيرة ويقدم على كبيرة ، وكان ابن عمر يقول لأهل العراق: ما أسْأًلَكم عن الصغيرة وأجرأكم على الكبيرة ، تقتلون الحسين ابن بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتسألون عن دم البعوضة.
والذين يجلدون الإمام أحمد بن حنبل كانوا يسألونه عن الدم الذي ينضح على ثيابهم ، وكانوا ينتقدونه على أن يصلي وهو جالس والقيد في يديه وفي رجليه؛ ولذا فإننا نقف هنا مع ثلاث مسائل مهمة:
أولها : الزمان.
الثانية : الإنسان.
الثالثة : العمل.
هذه المسائل الثلاث هي سر النجاح والفلاح في الدنيا ، وهي سر الفوز والنجاة في الدار الآخرة ؛ ولنقف عند كل واحدة منها.
أولاً : الزمان.وهو العصر .. وهو البريء المتهم المظلوم، فالناس كثيراً ما يلقون مشاكلهم وإخفاقاتهم على الزمان ، وهو مجرد وعاء ليس له ولا عليه ، هو طرف محايد، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن سب الدهر ، وقال عن ربه تبارك وتعالى : "يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلّب الليل والنهار" أخرجه البخاري [4826]، ومسلم [2246] من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
ومعنى (أنا الدهر) أي أن ما ينسبه الناس إلى الدهر إنما هو بمشيئة الله تعالى وقدره، فهو خالقه سبحانه، ولا شيء في هذه الدنيا يتم عبثاً ولا اعتباطاً، وإنما هو بتقدير الحكيم الخبير.
نعيب زماننا والعيب فينا ... ...
وما لزماننا عيب سوانا
وقد نهجوا الزمان بغير جرم ... ...
ولو نطق الزمان بنا هجانا
وليس الذئب يأكل لحم ذئب ... ...
ويأكل بعضنا بعضاً عيانا
وقد أقسم الله تعالى بالعصر لعظمته وأهميته وضخامة أثره، فهو ظرف العمل ووعاؤه ، وهو سبب الربح في الدنيا والآخرة أو الخسارة فيهما، ولهذا قيل : الوقت هو الحياة ، قال الله تعالى : " وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا"[الفرقان:62] قال ابن عباس من فاته عمل الليل قضاه بالنهار ، ومن فاته عمل النهار قضاه بالليل.(/1)
وقال جل وعلا : "وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ*وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ"[فاطر:36-37] .
قال ابن عباس : عمرناكم ستين سنة.
وفي صحيح البخاري [6419] عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغه ستين سنة".
قال أحد البطالين لعامر بن عبد قيس : تعال أكلمك ، قال له: أمسك الشمس.
أي ليس لدي وقت لهذا الكلام إلا أن تمسك الشمس ويتوقف الزمن ويتوقف دوران الأيام وصرير الأقلام ، فحينئذ أتوقف لمحادثتك ، ولهذا عني السلف بحفظ الأوقات وضبطها.
وقد كتب الشيخ عبد الفتاح أبو غدة -رحمه الله- كتابه المعروف "قيمة الزمن عند العلماء".
وأقسم الله تعالى بـ"العصر"؛ لأنه يتحول ويتبدل ويتغير، ليل ونهار ، وصيف وشتاء ، وحر وبرد ، وعزة وذلة ، ونصر وهزيمة ، وفقر وغنى ، وشدة ورخاء ، وقوة وضعف ، ومرض وعافية ، وعسر ويسر ، وغيبة وحضور ، وهذا هو التاريخ كله مبسوط أمامك :
تروح لنا الدنيا بغير الذي غدت ... ...
وتحدث من بعد الأمور أمورُ
وتجري الليالي باجتماع وفرقة ... ...
وتطلع فيها أنجم وتغورُ
وتطمع أن يبقى السرور لأهله ... ...
وهذا محال أن يدوم سرورُ
عفا الله عمن صير الهم واحداً ... ...
وأيقن أن الدائرات تدورُ
إن في الحاضر اليوم من ضعف المسلمين وتفرقهم وسطحية تفكير هم وتسلط عدوهم أمراً يبعث على الكآبة والحزن، وهذا يمكن مداواته بنوع من الامتداد إلى المستقبل ، وانتظار الفرج والسعي في التغيير ، وألا نظن أن الواقع سرمدٌ لا يزول.
كنت أقرأ قول الله تعالى: "أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ"[إبراهيم:44] وأتعجب وأتساءل من هؤلاء الذين اقسموا ما لهم من زوال؟
أليس كل الناس يدري، بل حتى الحيوان يدري أن له أجلاً ينتهي إليه، وأن الموت في انتظاره طال الزمن أو قصر ؟
من هؤلاء الذين اقسموا ما لهم من زوال ؟
حتى قرأت كتاب نهاية التاريخ للمفكر الأمريكي فوكوياما ، والذي كان احتفالاً بسقوط الشيوعية، يقول: إن الغرب قد انتصر ، إن الديمقراطية الغربية قد انتصرت وحدث الأمر المنتظر فلا جديد بالتاريخ بعد ذلك إنها نهاية التاريخ .. " أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ*وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ"[إبراهيم:44-45] حل اليمين المتطرف محل الطغيان اليساري في العراق وفي غير العراق" فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ"[إبراهيم:47].
ملكنا أقاليم البلاد فأذعنت ... ...
لنا رغبة أو رهبة عظمائها
فلما انتهت أيامنا عصفت بنا ... ...
شدائد أيام قليل رخائها
وكان إلينا في السرور ابتسامها ... ...
فصار علينا في الهموم بكاؤها
وصرنا نلاقي النائبات بأوجه ... ...
رقاق الحواشي كاد يقطر ماؤها
إذا ما هممنا أن نبوح بما جنت ... ...
علينا الليالي لم يدعنا حياؤها
وأقسم الله بـ"العصر " إشارة إلى ضرورة المعاصرة والمعايشة والفهم للزمان ، وهذا هو الفرق بين العصر والدهر، فالدهر هو الزمان كله، أما العصر فهو عصرك الذي تعيش فيه ، فالمرء محتاج إلى أن يكون عارفاً بزمانه مقبلاً على شأنه مدركاً للتحولات والتغيرات التي تطرأ.
ما بين غمضة عين وانتباهتها ... ...
يغير الله من حال إلى حال
إن القدرة على فهم المتغيرات ومواكبتها مع التزام الشريعة الربانية والوقوف عند حدود الله عز وجل هي غاية التقوى ولهذا قال الله تعالى : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)[الرحمن:29] وقال صلى الله عليه وآله وسلم في دعائه : "اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" أخرجه مسلم[770] ، وعلمنا ربنا تبارك وتعالى أن نقول في كل ركعة : "اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ"[الفاتحة:6] ليؤكد على أن ثمت ألواناً وأبواباً من الهداية لم تفتح بعد ، وأننا بحاجة إلى أن نطرقها، وأن نسأل الله تعالى فتحها، وأنه ليس صحيحاً أن ما أنت عليه يكفي .
وليس ما أنت عليه هو الحق دائماً وأبداً، بل من الفقه العظيم القدرة على استيعاب المتغيرات دون إخلال بثوابت الشريعة ومحكماتها.(/2)
والناس منهم من يجمد على بعض المعاني، وبعض الآراء والمفاهيم القابلة للأخذ والرد وهؤلاء يجعلون الأمر القابل للتغير ثابتاً حتى ليرفض الكثيرون منهم السنة التي لم يعلموها من قبل ، قال لي أحدهم : ما بال فلان كان يضع يديه على صدره في الصلاة ثم أصبح يضعها على سرّته.
ومن الناس من يضطرب في الثوابت والمسلمات والضروريات والقطعيات ، حتى لتجد اليوم في بعض حوارات الإنترنت أو الفضائيات جدلاً في مسائل قطعية محسومة كالمجادلين في الله تبارك وتعالى أو القرآن أو الوحي أو الرسول صلى الله عليه وسلم أو في علاقة الدين بالسياسة، وتستمع إلى نوع من العلمنة والتغريب ، واستنساخ القيم الموجودة في الثقافة الأمريكية أو غيرها، ونحن في هذا المقام وغيره نتذكر قوله عز وجل: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا)[الفرقان:67]، قال الأمريكي المسلم محمد علي: "إذا كنت أقول اليوم وأنا في الأربعين ما كنت أقوله وأنا ابن العشرين فمعنى ذلك أني ضيعت عشرين سنة من عمري دون جدوى".
إن المتغيرات والأحوال تكشف عن معادن الرجال وقدرتهم على الاستقلال ، فمن الناس من يقع في أسر النفس وهواها ، ومنهم من يقع في أسر السلطة ، ومنهم من يقع في أسر الأتباع ، والحرية هي الخلاص من ذلك كله.
قال أبو يزيد البسطامي : لو صحت الصلاة بغير القرآن لصحت بقول الشاعر :
أتمنى على الزمان محالا ... ...
أن ترى مقلتاي طلعة حرّ
وأقول : لو صحت الصلاة بشيء غير القرآن لصحت بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش" أخرجه البخاري [2887] من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- تعس عبد المادة، تعس عبد الشهوة ، ولكنها لا تصح بغير كلام الله فأقرؤوا ما تيسر منه.
فإن تكن الأحوال فينا تبدلت بنعمى وبؤسى والحوادث تفعلُ
فما لينت منا قناة صليبة ولا ذللتنا للذي ليس يجملُ
ولكن رحلناها نفوساً كريمة تحمّل ما لا تستطيع فتحملُ
رسالة العصر ( 2 / 4 )
سلمان بن فهد العودة 11/6/1424
09/08/2003
أقسم الله بـ"َالْعَصْرِ " لأن من معاني العصر، الوقت الذي هو آخر النهار ، فهو قرب النهاية وموسم الحصاد ، وفيه صلاة العصر التي ذكرها الله تعالى في غير موضع فسماها "الصَّلَاةِ الْوُسْطَى"[البقرة:238] "وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا"[طه:130].
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان البخاري (552) ومسلم (626) عن ابن عمر : ( الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله ) أي فقد أهله وماله.
وإذا كان العصر هو آخر النهار فعصر هذه الأمة المحمدية هو آخر الدنيا، ونهاية المطاف وأجمل شيء آخره ، فنحن أمة المجد والعزة والتاريخ والانتصار، وأمتنا آخر الأمم وأعظمها وأولها دخولاً الجنة وأفضلها عند الله تبارك وتعالى شاء من شاء وأبى من أبى ، ولتعلمن نبأه بعد حين.
وفي صحيح البخاري (2268) عن ابن عمر رضي الله عنه ونحوه أيضا (558) عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (مثلكم ومثل أهل الكتابين كمثل رجل استأجر أجراء فقال : من يعمل لي من غدوة إلى نصف النهار على قيراط ؟ فعملت اليهود ، ثم قال : من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط ؟ فعملت النصارى ، ثم قال : من يعمل لي من العصر إلى أن تغيب الشمس على قيراطين ؟ فأنتم هم ، فغضبت اليهود والنصارى ، فقالوا : ما لنا أكثر عملاً وأقل عطاء ؟ قال : هل نقصتكم من حقكم ؟ قالوا: لا . قال : فذلك فضلي أوتيه من أشاء ) فإذا كنا نحن أمة العصر ، ورسالتنا هي رسالة العصر ، فينبغي علينا أن نكون شهداء على الناس ، وكان خليقاً بنا أن نكون أكثر الناس علماً ، وأحسنهم خلقاً ، وأعظمهم حضارة، وأعرف الناس بمصالح الدنيا والآخرة.
أما واقع الحال اليوم فنحن أمة مستهلكة ، أمة منهوبة الثروات، محتلة في أراضيها في غير ما بلد من بلاد الإسلام.
إن 65% من فقراء العالم هم من المسلمين، و80% من اللاجئين في العالم هم من المسلمين ، وعلى الرغم من أن المسلمين يمثلون ربع أوخمس سكان الكرة الأرضية غير أن نصيبهم من الاقتصاد لا يتجاوز 6 % ، كما أن شعوب المسلمين في غالبهم ضحية الضخ الإعلامي الفاسد.
إن الفتاة اليوم تعرف المئات ممن يشكلن لها مثلاً أعلى من ممثله وغانية وراقصة وعارضة أزياء بل عارضة أجساد ، ولكننا حين نريد ضرب المثل الجيد من الواقع يرجع البصر إلينا خاسئاً وهو حسير ، ولهذا نفزع إلى التاريخ ، ونتحدث عن زينب وخديجة وعائشة وسمية وحفصة ...
فلم لا يوجد في واقعنا وعصرنا ومجتمعنا -ونحن أمة العصر وأمة الشهود- أمثال القمم الشامخة من القدوات للكبار والصغار من الرجال والنساء .
هل عقمت أرحام الأمهات عن مثل هذا ؟!.(/3)
بل إننا على رغم فقرنا وضعف حالنا وشدة حاجتنا والتحديات التي تواجهنا مشغولون بتدمير بعضنا البعض ، ومطالبة الآخرين بالكمال، وربما دخلنا في متاهة من الأوهام هروباً من مواجهة هذا الواقع ، ولذا يحسن التحذير من بعض الكتب التي تتكلم عن عمر هذه الأمة ، وتحدد أزمنة معينة، وتتناول أشراط الساعة بطريقة غير علمية ولا شرعية .
قد تكون هذه الكتب وغيرها كتبت بحسن نية ، ولكنها تهجم على الغيب ، وتربي الناس على الاتكالية والانتظار وتمهد لبعض المواقف السلبية اعتماداً على الحديث الذي مر في مثل المسلمين واليهود والنصارى وأشباهه.
ثانياً الإنسان :
"إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ"[العصر:2] كل الإنسان, وحين يخاطب الإنسان في القرآن فهذه إشادة.
"يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ"[الانشقاق:6] ، "يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ"[الانفطار:6] ، "إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ"[الإنسان:2] ، "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا"[الإسراء:70] .
والإنسان مهدد غالباً بالخسار لقوله تعالى : "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ*ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ" [التين:4-6].
إنه الإنسان الذي خلقه الله تعالى واختاره واصطفاه وعلمه وأسجد له ملائكته، وحينما قالوا : " أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ "[البقرة:30] قال ربنا الحكيم : " إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ "[البقرة:30] ، وهذا إشادة ظاهرة بجنس الإنسان وخصوصيته وكفاءته ومسئوليته ، و العقاب والعتاب يكون على قدر المسؤولية ، وقوله تعالى : ( لفي خسر ) أبلغ من أن نقول : ( إن الإنسان لخاسر ) لأن الخسر حينئذ كأنه إناء أو وعاء يحيط بالإنسان من كل جانب، وهنا يكون التنكير للتهويل والتعظيم أي أنه في خسارة عظيمة .
ويحتمل أن يكون المعنى تفاوت الخسارة، فالناس غالبهم في خسر، فمنهم من خسارته كلية مطلقة، خسر نفسه وأهله وماله ودنياه وآخرته ، كالكافرين الأخسرين أعمالاً الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، ومنهم من خسارته جزئية أي فقد بعض الربح ، ومنهم من فقد كل الربح ، ومنهم من فقد رأس المال، ومنهم من ترتب عليه ديون للآخرين، فهؤلاء هم الأخسرون (وهم في الآخرة هم الأخسرون) {النحل:5}فالحياة سوق والعمل تجارة، " أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ"[البقرة:16] وفي صحيح مسلم (223) عن أبي مالك الأشعري:(كل الناس يغدوا فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها).
فالإنسان متحرك بطبعه، وفعال وهمام، وسائر لا يتوقف، وسمي الإنسان إنسانا؛ً لأنه ينوس أي يتحرك ولا يقف ، وكل أحد ساعٍ متحرك، ولكن منهم ساعٍ في كمال نفسه ونجاتها، ومنهم ساعٍ في هلاكها وإباقها
رسالة العصر (3 / 4 )
سلمان بن فهد العودة 18/6/1424
16/08/2003
إن الحياة إذا خلت من هدف نبيل صارت حياة بلا معنى ، فلكي يكون لحياتنا معنى علينا أن نحدد أهدافنا :
أولاً : هدف خاص ، فلا تثريب عليك فيه ولا عيب ، بل الشريعة جاءت لتحقيق هذا الهدف ، كالتفوق في الدراسة أو في العمل أو في الرزق أو في الزواج أو في المصالح المباحة من مصالح الدنيا، وهذا الخير الذي يتحقق لك شخصياً هو في النهاية خير للأمة كلها فالأمة مجموعة أفراد ، والعاقل إذا وجد الحلال لم يلجأ إلى الحرام، والأمة مجموعة نجاحات أنت أحد تجلياتها ومظاهرها.
الكثيرون والكثيرات من الناس يسألون عن دورهم في الأزمات والمواقف وفي الملمات ، مع أنه يجب أن يكون دورنا ليس مجرد رد فعل لما يقع ، وإن كان رد الفعل المتزن المدروس مطلوباً ولا بد منه، ولكن نطمع أن يكون دورنا ديمومة واستمراراً ونضجاً ، وإن كان بطيئاً على حد المثل الغربي الذي يقول : بطيء ولكنه فعَّال .
والحذر .. الحذر من أن يكون أحدنا كثير الجلبة والضجيج كما العربة الفارغة .(/4)
ثانياً : هدف عام لخدمة الأمة ، والدفاع عن قضاياها ، ومتابعة أحداثها ، والتألم لألمها والكلمة الطيبة صدقة ، والموقف النبيل، والمساندة والمساعدة، والدعم بالمال، والدعم بالنصيحة والرأي ، مما يجب للمسلم على أخيه المسلم حتى لو كان أخوه مفرطاً أو مقصراً عرفه أو لم يعرفه ، ولا يلزم أن تكون هذه المواقف النبيلة التي نحن مطالبون بأدائها من قضايا أمتنا من العراق أو فلسطين أو أي مكان من الأرض ، لا يلزم أن تكون هذه المواقف رفعاً نهائياً لمعاناة الأمة ، فهذا ما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل ، لكن يجب أن نقنع أنفسنا بأننا نستطيع أن نصنع شيئاً ، ودعنا نورث لأولادنا وأحفادنا من بعدنا بداية جيدة تمكنهم من مواصلة البناء عليها.
ثالثاً .. العمل :
وقد جمع الله تبارك وتعالى أصول العمل ونهاية الكمال العلمي والعملي اللازم للشخص والمتعدي للآخرين في أربع خصال :
- الإيمان .
- والعمل الصالح .
- والتواصي بالحق .
- والتواصي بالصبر.
أولاً : الإيمان بكل ما يجب الإيمان به ، يقول الله جل وعلا:"ءَامَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ"[البقرة:285] .
فإن هذا الإيمان الذي يعتمل في قلب الإنسان هو شرط النجاة ، فإن الجنة لا يدخلها إلا نفس مؤمنة ، والإيمان يأتي في القرآن غالباً بصيغة الجمع يقول تعالى :"الَّذِينَ ءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ"[يونس:63] "، إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا"[الشعراء:227]، " إِلَّا مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا"[سبأ:37] إشارة إلى روح الجماعة والفريق والتخلص من الأنانيات ، ومن الدوران حول الذات والمصالح الشخصية ، فإن كثيراً من الأمم ومن أهل الكفر الذين لا يؤمنون بالله ، عندهم قدر كبير من الإحساس بأهمية الاجتماع فنجد دولة كالصين منذ أكثر من خمسة آلاف سنة هي دولة واحدة فحسب ، بينما تجد عند المسلمين ولعاً ورغبة بالاختلاف والتفرق والتشرذم حتى إنك تتخيل أن التمزق جزء من طبيعتنا ، لو لم نجده لاخترعناه ، وهذا ولّد ضعف الإيمان وضياع الجهود ، وصنع الشقاء في حياتنا ، والقسوة في قلوبنا والعنف في لغتنا ، بينما الدين جاء رحمة حتى للبهائم والطيور والجمادات ، ورحمة للعالمين فضلاً عن المسلمين.
ثانياً : العمل الصالح ، فهو قرين الإيمان في كتاب الله عز وجل ، بل هو منه فالإيمان قول وعمل كما هو مذهب السلف والأئمة ، قال الحسن رحمه الله : ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل. انظر مصنف ابن أبي شيبة (35211) وشعب الإيمان للبيهقي (65).
فالعمل يكون بالقلب واللسان والجوارح ، العمل يكون عبادة ويكون خلقاً ، ويكون إعانة للناس في مصالحهم الدنيوية، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( في بضع أحدكم صدقة ) أخرجه مسلم (1006) من حديث أبي ذر – رضي الله عنه-، وقال عليه الصلاة والسلام:(حتى اللقمة تجعلها في فيِّ امرأتك ).أخرجه البخاري (1295)، ومسلم (1628) من حديث سعد بن أبي وقاص – رضي الله عنه-
ثالثاً : التواصي بالحق : والتواصي يدل على الرحمة ويدل على الشفقة ، فأنت أمام شخص يحبك ويرحمك ويوصيك ، وأيضاً أنت تحبه وترحمه فتوصيه ، فالحاكم والمحكوم، والعالم والمتعلم ، والوالد والولد ، والشاب والشيخ ، والرجل والمرأة ، هذا معنى قوله تعالى : "َتَوَاصَوْا "[العصر:3] ليس هناك جهة معينة محددة توصي والباقون يستمعون وينفذون، بل كل أحد من أهل لا إله إلا الله هو موصٍ وموصى، ومعلم ومتعلم ، وآمر ومأمور ، وناصح ومنصوح ، ولهذا لم يقل: "أوصوا" ، بل قال : "َتَوَاصَوْا "[العصر:3] فهي مهمة يشترك فيها الجميع ، ومن هنا نرفض مصطلح "رجال الدين" بالمفهوم الكنسي الذي يفترض أن ثمة فئة من الناس لديها تفويض رباني في فهم الكتاب المقدس وفي الأمر به .. كلا .. ولكن لدينا متخصصون لهم اعتبار ، فهم يعرفون النصوص ، ويمحصون صحيحها من ضعيفها ويعرفون ناسخها من منسوخها ، ويجمعون بين ما هو ظاهر التعارض فيها ، ولكن لا عصمة لآحادهم .. إنما العصمة لما أجمعوا عليه وأما ما اختلفوا فيه فاختلافهم رحمة ، واتفاقهم حجة.(/5)
ولكل علم متخصصون ، فالطب له متخصصون يرجع إليهم والإدارة والاقتصاد كذلك ، ولهذا نقول في المسائل الدينية الشرعية والفقهية هناك مختصون ينبغي أن يكون لقولهم وزن واعتبار ، ولكن ليس لدينا رجال دين يحتكرون فهم الكتاب المقدس ، فهم جميعاً يتواصون بالحق وبالدعوة إلى الله وبالرحمة ، ويتواصون بالتواصي على ذلك، ولهذا جاءت وصايا القرآن الكريم الكثيرة "وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا"[الإسراء:23] "وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا"[النساء:36] ، وكتب فيها كثير من العلماء من المتقدمين والمتأخرين كتباً معروفة.
وجاءت وصايا النبي صلى الله عليه وسلم كالوصية بالنساء، والوصية بالصلاة، والوصية بالحزم .. إلى غير ذلك.
إن المسؤولية لا تخص أباً ولا حاكماً ولا عالماً ، بل الآية الكريمة تؤسس لقيام المسلم أو المسلمة بالدور المنشود في الإصلاح، في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. وأن نقول جميعاً للمحسن : أحسنت ، وأن نقول جميعاً للمسيء : أسأت ، كما قال عمر رضي الله عنه : لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نسمعها .
ولم يصل المسلمون إلى الهوة التي يعيشونها اليوم من انحدار وتراكم الأخطاء والسلبيات وعدم وجود العمل الجاد الصادق للتصحيح إلا لما قال قائلهم : لا يقول لي أحد منكم اتق الله إلا علوت رأسه بالسيف. "وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ"[البقرة:206] .
لكنها الكلمة المنبعثة من الرحمة والصدق والإشفاق .. ليست تشهيراً ولا تشفياً ولا معارضة لذات المعارضة ولا لاعتبارات شخصية ، بل سهراً على مصالح الأمة وحفاظاً على ثغورها ، ورعاية لحاضرها ، وتخطيطاً لمستقبلها وتعاوناً على البر والتقوى .
"وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ"[العصر:3]، وهنا تبرز أهمية الحوار داخل المجتمع الإسلامي لإنضاج الرأي وتجنب الانشقاق .
والتواصي إنما يكون بالحق ، فالذي تراه أنت ليس بالضرورة أن يكون هو الحق ، وإنما الحق الذي نطق به القرآن الكريم أو صرح به النبي العظيم عليه الصلاة والسلام أو أجمعت عليه الأمة أما الرأي الذي تراه فقصاره أن يكون صواباً يحتمل الخطأ ، ويمكن أن يكون خطأ يحتمل الصواب ، فليس أحد يملك الحق ، أو يجزم به أو يخوّل أن يكون لديه الكلمة الأخيرة أو المقالة المطلقة.
رابعاً : التواصي بالصبر : وهو مطية لا تكبوا .. كما قال علي رضي الله عنه ، وهو من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ، فمن لا صبر له فلا إيمان له ، الإيمان يحتاج إلى صبر ، والعمل الصالح يحتاجه ، والحق والدعوة تحتاجه ، والصبر أيضاً يحتاج إلى صبر.
سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبري ... ...
سأصبر حتى يحكم الله في أمري
سأصبر حتى يعلم الصبر أنني ... ...
صبرت على شيء أمر من الصبر
والدين يحتاجه والدنيا تحتاجه ، الصبر هو أساس الفضائل ورأس الأخلاق ، به تصفو الحياة ويطيب العيش ، قال عمر رضي الله عنه : وجدنا خير عيشنا بالصبر.
وكان محمد بن شبرمة إذا نزل به بلاء تلفت يميناً وشمالاً ثم قال : سحابة صيف عن قليل تقشعُّ.
وقال سفيان في تفسير قوله تعالى :"وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ"[السجدة:24] قال : لما أخذوا برأس الأمر صاروا رؤوساً.
فالصبر يحافظ على ا لاعتدال في شخصية الإنسان وفي رأيه وفي علمه وعمله وفي دعوته وفي دنياه وفي آخره.
أيتها المرأة الشاكية من صلف زوجها وسوء حالها وشراسة خلقه وقلة اهتمامه...
أيها المريض الذي تحير فيه الأطباء...
أيها المدين الذي أثقلت كاهله المطالب...
أيها المهموم الذي باكره الهم وغابت البسمة عن شفتيه، وعاجله الحزن قبل الأوان...
علاجكم الناجع هو الصبر ، فهو علاج الحالات المستعصية الذي ينتظر فيها فرج الله تبارك وتعالى .
لك الحمد مهما استطال البلاء
ومهما استبدّ الألم
لك الحمد، إن الرزايا عطاء
وإن المصيبات بعض الكرم
ألم تُعطني أنت هذا الصباح ؟
وأعطيتني أنت هذا السّحر؟
فهل تشكر الأرض قطر المطر
وتجزع إن لم يجدها الغمام؟
كتب إلي أحد الإخوة قصته مع الفقر والدَّين والجوع ، وقال في آخر المطاف : هممت أن أكتب قصيدة التمس فيها المعونة من تاجر أو أمير أو وزير ، فإذا بهاتف في أعماقي يقول : هؤلاء هم الآخرون مخلوقون مثلنا وفقراء إلى الله تعالى ، فقدرت أن أنظم قصيدة فيمن خلقني وخلقهم ، وكتبت القصيدة.(/6)
وكانت هذه نهاية المعانات مع الفراغ والبطالة والدَّين خلال شهور
رسالة العصر ( 4 / 4 )
سلمان بن فهد العودة 25/6/1424
23/08/2003
إن الصبر ذو وجهين ، ضبط الإقدام ، فلا يقدم الإنسان إلا بما يعلم أنه ينفعه في دينه أو دنياه ، ولا يتورط فيما لا يعلم عواقبه ومآلاته .
وضبط الإحجام : فلا يحجم الإنسان إلا عما يضره .
ليس الصبر أمام الأزمات فقط ، بل الصبر سلوك ومنهج يحكم حياة الإنسان في كل شيء ، الصبر لا بد منه في كل شيء ، في الصحبة، في الشركة.
"وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ"[الكهف:28] في العلاقة بين اثنين ، زوجين ، أو صديقين " إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا"[الكهف:67-69].
الصبر لطالب العلم كما في قصة موسى والخضر ، والصبر ضروري للعبادة : "وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى"[طه:132] .
الصبر للدعوة .. "يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ"[لقمان:17].
الصبر للجهاد .." يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ"[الأنفال:45].
الصبر ضروري عند المصائب.. "وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ"[البقرة:45].
فيا من فقدت حبيبها .. أو رزئت بأملها .. أو صدمت بما لا تنتظر .. الصبر .. الصبر.
ويا كل أب مفجوع بفلذة كبده، وشعبة روحه الصبر الصبر.
وداعاً حبيبي لا لقاء إلى الحشر ... ...
وإن كان في قلبي عليك لظى الجمرِ
صبرت لأني لم أجد لي مخلصاً ... ...
إليك وما من حيلة لي سوى الصبر
تراءاك عيني في السرير موسداً ... ...
على وجهك المكدود أوسمة الطهر
براءة عينيك استثارت مشاعري ... ...
وفاضت بأنهار من الدمع في شعري
أرى فمك الحلو المعطر في فمي ... ...
كما اعتدت هذا الحب من أول البرِ
أراك جميلاً رافلاً في حريرةٍ ... ...
بمعشبة فيحاء طيبة النشرِ
فكيف يصبر الفتى .. وكيف تصبر الفتاة أمام نوازع الشهوات وتنوع الفتن والمغريات وسهولة الوصول إليها؟ إن أعظم عون على الصبر على ذلك مراعاة:
أولاً : مشهد إجلال الله تبارك وتعالى أن تعصيه وهو يراك ، وأنت منه بمرأى ومسمع، لا يغيب عنه شيء ولا تخفى عليه خافية .. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن ).أخرجه البخاري (2475)، ومسلم(57) من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه-.
إن الذي يستحضر عظمة الله تبارك وتعالى وإطلاعه عليه يستحي من الله تعالى أن يجده حيث نهاه ، أو يفقده حيث أمره.
لو كان المرء عارياً أو متلبساً بشهوة فوجد شخصاً يراه من خلل الباب فإنه حينئذ يرعب ويرتبك ويصعب عليه أن يضع عينيه في عينيه مرة أخرى .
إذا ما خلوت الدهر يوماً ... ...
فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
ثانياً : مشهد محبته سبحانه وتعالى " قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ"[آل عمران:31].
تعصي الإله وأنت تزعم حبه ... ...
هذا لعمري في القياس شنيع
لو كان حبك صادقاً لأطعته ... ...
إن المحب لمن يحب مطيع
ثالثاً : مشهد النعمة والإحسان ، فأنت تتقلب في نعمه ، وتعصيه بجوارح هو خلقها ، وأمتن بها عليك وائتمنك عليها ، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.
رابعاً : مشهد الغضب والانتقام : أن يغضب الله تبارك وتعالى عليك .
"أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُون * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ"[النحل:45-47] وهذا قد يتأخر ليوم الحساب حين يغضب ربنا تبارك وتعالى الغضب المعروف في الحديث. انظر صحيح البخاري (4712)، وصحيح مسلم (194).
خامساً : مشهد المعاجلة والمباغتة والمعاقبة على حال لا تسر : ربما أخذ أحدهم وهو سكران ، أو انقلبت السيارة على من فيها ، وفيها شاب وفتاة في غفلة من أعين الرقباء.(/7)
سادساً : سادساً : مشهد العوض والخلف من الله عز وجل، ومن ترك شيئاً لله تعالى عوضه الله خيراً منه ، يقول سفيان: من غض بصره أورثه الله تعالى إيماناً يجد لذته في قلبه، وما عند الله خير وأبقى.
سابعاً : مشهد التفكر في الدنيا وزوالها ، وسرعة أفولها، وتقدم الإنسان، وكيف تعمل الأيام والليالي بهذه الوجوه الجميلة، والأشكال النضرة والخدود الغضة ، وكيف تتحول إلى تجعد واعوجاج وإلى شيخوخة وهرم وضعف.
جبلت على كدر وأنت تريدها ... ...
صفواً من الأقذار والأكدار
ومكلف الأيام ضد طباعها ... ...
متطلب في الماء جذوة نار
وإذا رجوت المستحيل فإنما ... ...
تبني الرجاء على شفير هار
فاقضوا مآربكم عجالاً إنما ... ...
أعماركم سفر من الأسفار
وتراكضوا خيل الشباب وبادروا ... ...
أن تسترد فإنهن عوار
الثامن : مشهد التعرض لرحمة الله تعالى ونفحاته ، فإنه يخشى أن تحجب عمن أصرّ على الحرام ولم ينكسر لعظمة الواحد الديان.
تاسعاً : مشهد مخالفة العادة ، فإن كثيراً من الناس إنما ابتلوا بالإدمان ، الإدمان على الخمر أو المخدرات، أو المشاهدات المحرمة، وربما لا يكون للواحد منهم في ذلك غرض ولا رغبة إلا إنه ينساق إليها بحكم العادة، فحينئذ التحرر من العبودية عز ، العبودية لله تبارك وتعالى .
أطعت مطامعي فاستعبدتني ... ...
ولو أني قنعت لكنت حراًّ
عاشراً : مشهد المصلحة العاجلة والآجلة : فإن ما حرم الله تبارك وتعالى شيئاً إلا ومفسدته خالصة أو راجحة ، وما أمر الله تعالى بشيء إلا ومصلحته خالصة أو راجحة ، وطاعة الله ورسوله خير وأبقى وأحمد عاقبة .
بسم الله الرحمن الرحيم " وَالْعَصْرِ*إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ"[العصر:1-3] .
قال الإمام الشافعي رحمه الله: لو تأمل الناس هذه السورة لوسعتهم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(/8)
رسول الهدى (1)
محمد صلى الله عليه وسلم ...
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
عَانِقي المجْدَ وَاخْفقي يَا بيدُ ... ... كُلُّ يَوْمٍ عَلى رِمَالِكِ عِيدُ
... ...
رَايةٌ بَعْدَ رَايَةٍ وَزُحوفٌ ... ... في مَيَادِينها وَفجْرٌ جَديدُ
... ...
لاَ يَزَالُ التّاريخُ يَدْفَعُهُ النَّصْـ ... ... ــرُ ويَبنِيهِ مُؤمِنٌ وشَهيدُ
... ...
وَالنُّبُوَّاتُ آيَةُ الله يُجْلَى الحَـ ... ... ـقُّ في نُورِها ويُجْلَى الوُجُودُ
... ...
تَصِلُ الأَرْضَ والزَّمَانَ فَتَمتَـ ... ... ــدُّ مَواثِيقُ أُمَّةٍ وَعُهُودُ
... ...
يَا لَحَقٍّ جُذُورُهُ ضَرَبَتْ في الأَ ... ... رْض وامْتَدَّ سَاقُهُ والعُودُ
... ...
إِنَّهُ جَوْهَرُ الحَيَاةِ وَفَيْضٌ ... ... عَبْقَرِيٌّ وَفاؤُهُ وَالجُودُ
... ...
إِنّهُ الوَحْيُ والرِّسَالةُ لِلنَّا ... ... سِ و هذا رَسُولُها المَشْهودُ
... ...
سَيِّدُ النَّاس ! بَيْنَ نَصْرٍ من اللَّـ ... ... ــهِ وَعِزًّ لِوَاؤُه مَعْقُودُ
... ...
إِنَّهُ أَحْمَدُ النّبيُّ ! فَبُشْرَى ... ... بَيْنَ آياتِ رَبِّهِ وَوَعِيدُ
... ...
فَمِنَ اللهِ كُلُّ فَضْلٍ عَلَيهِ ... ... آيَةُ الحقِّ والهُدَى التّوحِيدُ
... ...
* * ... * ... * *
يَا جَلالَ الإِسْراء : يحْمله الشـ ... ... ـوْقُ وَجِبْريلُ والبُرَاقُ الشَّديدُ
... ...
والفَضَاءُ الممتَدُّ يَنْشُرُ أَنْوا ... ... راً فَتَنَشَقُّ ظُلْمَةٌ وسُدُودُ
... ...
أَيُّ نُورٍ يَطُوفُ بالكَوْن تُجلى ... ... مِنْ سَنَاه أَحْنَاؤُنَا و الكُبُودُ
... ...
إِنه المُصْطَفَى ! أَطلَّ فَهَبَّتْ ... ... لِلقَاهُ نُبُوَّةٌ وَجُدُودُ
... ...
وإِذا السِّيدُ العَظِيمُ إِمَامٌ ... ... وجَلاَلٌ يَحُوطهُ وحُشودُ
... ...
وإِذا أَنْتِ يا فِلَسْطِينُ نُورٌ ... ... يَتَلاَلاَ وَجَوْهَرٌ وَعُقُودُ
... ...
فاخْشَعي يا رُبَى فهذِي دُرُوبٌ ... ... لجِنانٍ وَمَحشَرٌ وخُلُودُ
... ...
وَربَاطُ للهِ تَحْرُسُهُ العَيْـ ... ... ــنُ و قَلَبٌ ووثْبَةٌ وَزُنُودُ
* * ... * ... * *
يَا ظِلاَلَ الأَقْصَى ! نَدَاكِ غَنيُّ ... ... بالرَّجَا ، صَادِقُ الوَفَاءِ ، رَغيدُ
... ...
كلُّ شِبْرٍ بِهِ مَوَاقِعُ وَحْيٍ ... ... وَجِهادٌ عَلَى الزّمَانِ جَديدُ
... ...
إِنَّ دَاراً يحَوطُها اللهُ تأْبى ... ... أَنْ يُخَانَ الوَفَا وتُطْوَى الوُعُودُ
... ...
إِن أَرضاً لله لاَ يَتَوَلّى ... ... عن حِمَاهَا فتىً أَبَرُّ جَلودُ
... ...
مَنْ يَخُنْ عَهْدَهُ مَعَ الله يُرْهِقْـ ... ... ـهُ عَذَابٌ مِنْ ربِّهِ وَصَعُود (2)
* * ... * ... * *
يَا رَسُولَ الهُدَى ! سَلاَمٌ مِنَ اللَّـ ... ... ـهِ ومِنْ مُؤمِنٍ لَهُ تَرْديدُ
... ...
وصَلاةٌ عَلَيْكَ ، تَخْشَعُ فِيها ... ... أَضْلُعٌ أَسْلَمتْ وهذِي الكُبُودُ
... ...
كُلُّ فَتْح بَلغْتَهُ هَو آيا ... ... تٌ مِن الله خَيْرُها مَمدودُ
... ...
غَيْرَ أَنَّ القُلوبَ أقسى على الفَتْـ ... ... ـحِ وَأغْلى سبيلُها والجهُودُ
... ...
فَسَبيلُ القُلوبِ هَدْيٌ من اللـ ... ... ــه ، سَبيلُ البِلادِ سَيْفٌ حَدِيدُ
... ...
فإذا مَا التَقى على الحقِّ سَيْفٌ ... ... وَبَلاغٌ فَذَاك فَتحٌ مَجِيدُ
... ...
فَبَنَيْتَ الَّذي تُقَصِّرُ عَنْهُ ... ... عَبْقَرِياتُ أَعْصُرٍ وَحُشودُ
... ...
أُمّةُ لمْ تَزَلْ إِلى الله تَسْعَى ... ... هي فَتْحٌ مِنْهُ وَنَصْرٌ فَريدُ
* * ... * ... * *
يَا رَسُولَ الهُدَى ! سَلاَمٌ مِن اللَّـ ... ... ـهِ ومِنّا الوَفاءُ والتوحِيدُ
... ...
وَصَلاةٌ عَلَيكَ نَعْبُد فِيها اللَّـ ... ... ـهَ نرجو رضاءَه ونُعيدُ
... ...
رَحْمةٌ أَنْتَ لِلعِبَادِ مِنَ اللَّـ ... ... ــهِ وفَضْلٌ مُهْدًى وَخَيْرٌ مَدِيدُ
... ...
فاذْكُرِي " أُمَّ مَعْبَدٍ " قِصَّة الشَّـ ... ... ـاةِ وَقَدْ جَفَّ ضَرْعُها والوَرِيدُ (3)
... ...
مَسَحَ الضَّرْعَ في يَدَيْه رَسُولُ الـ ... ... لَّه فاشَتدَّ دَرُّهَا والجُودُ
... ...
رَوي الصَّحْبُ وانْثَنَوا وكأَنّ الضَّـ ... ... ـرعَ تَدْعو : لَئِن ظَمِئتُمْ فعودوا
... ...
آيةُ الله في يَدَيْهِ وَذِكْرُ الـ ... ... ـله في قَلْبِهِ خُشُوعُ وَحِيدُ
... ...
إِن رَوَى الصَّحْبَ كَفُّهُ فَهُدَاه ... ... يَرْتَوِي منه صَاحِبُ وَبَعيدُ
... ...
يَرْتَوي الدَّهْرُ من هُدَاه فَيَدْنُو ... ... مؤمِنُ خَاشِعُ وَيَنْأَى كَنُودُ
* * ... * ... * *
أَيُّها المصطفى ! تَفَرَّدْتَ في الخَلْـ ... ... ـقِ نَبِيّاً عُلاَكُ أُفْقُ فَرِيدُ
... ...
أَنْتَ مَعْنَى الوَفَاءِ : ذِكْرُكَ في الأَرْ ... ... ضِ حميدٌ وفي السَّماءِ حَميدُ
... ...
زَانَكَ اللهُ ! حُسْنُ وَجْهكَ إِشْرَا ... ... قٌ وإِشْرَاقُهُ جَلاَلٌ وَدُودُ
... ...
لا تَكادُ الشُّهُودُ تَملأ عَيْنَيْـ ... ... ـها فَيُغْضِي مِنَ الجَلاَل الشُّهُودُ
... ...(/1)
ذِرْوَةُ البَأْسِ في فُؤادك في الحَرْ ... ... ب إِذا احْمرَّ بأَسُهُا وَرُعُودُ
... ...
لَوْ تَنَادَوا مَن الفَوَارسُ في الدَّهْـ ... ... ــر لَقالُوا : ذا الفَارِسُ المَعْدُودُ
... ...
أَنْتَ في الحَرْب يَحْتَمي بِكَ أَبْطا ... ... لٌ وَيأْوي لِظِلِّكَ الصِّنديدُ
... ...
حَسْبُكَ المَدْحُ أَنْ تكون عَلَى خُلْـ ... ... ـقٍ عَظيمٍ يُتْلَى بِهِ الكِتابُ المُجيدُ
... ...
كُلُّ آيٍ مِنَ الكِتابِ وَذِكْرٍ ... ... هُوَ ذِكْرٌ على الزَّمَانِ جَدِيدُ
* * ... * ... * *
يَا رسُولَ الهُدَى ! حَمَلْتَ إِلى النَّا ... ... سِ سَلاماً يَرْعاه دِينٌ وصِيدُ
... ...
كم مَسحْتَ الدُّمُوعَ آسيتَ مَحْزَو ... ... ناً فَحَنَّتْ إِليك مِنْهُمْ كبُودُ
... ...
وَدَفَعْتَ الأَسَى وَرَعْشَة خَوفٍ ... ... فاطمأَنْت إِلى الوَفاءِ العُهودُ
... ...
أَنْتَ أَرجَعْتَ لابنِ آدَمَ حَقّاً ... ... كَمْ أَضاعَتْهُ فِتنةُ وجُحُودُ
... ...
وَعُتأةٌ بَغَوا عَلى النّاس حَتَّى ... ... تَاهَ في الدرْب جَائعٌ وطَرِيدُ
... ...
يا حُقُوقَ الإِنسان ! هذا هو الحَـ ... ... ـقُّ ! سِواهُ فباطِلٌ مَرْدودُ
... ...
إِنَّها مِنْحَةٌ مِن الله ! حَقٌّ ... ... لمْ تُشَرِّعْهُ عُصْبَةٌ وَعَبيدُ
... ...
فاسْتَقيموا للهِ نَبْنِ سَلاماً ... ... لمْ تخالِطْهُ فِتْنَةٌ ووعودُ
* * ... * ... * *
يَا رَسُولَ الهُدَى ! عَدَلْتَ وسَاوَيْـ ... ... ـتَ فَمَا جَارَ سَيِّدٌ ومَسُودُ
... ...
جَمَعَ اللَّهُ أُمَّةَ الحَقِّ إِخْوَا ... ... ناً فَهبّتْ عَزائِمٌ وَجُهودُ
... ...
غَيْرَ أَنَّ الزَّمَانَ حَالَ فَعَادتْ ... ... للشّياطِين دَولَةٌ وجُنودُ
... ...
أَشْعَلُوا الأَرْضَ فَجَّروهَا بَرَاكِيـ ... ... ـنَ فَمَادَتْ ذُراً ومَادَ عَمُودُ
... ...
صاحَ من هَوْل مَكْرِهم كُلُّ جَبّا ... ... رٍ وَجُنَّ اللَّهيبُ " والأُخدودُ "
... ...
غَيرَ أَنَّ اليقينَ يَبقَى ويمضي ... ... مَوكِبُ الحَقِّ يَجْتَلي وَيَرودُ
* * ... * ... * *
كَيْفَ أَرْقَى إِلى مَديحِكَ لكنْ ... ... غَلَبَ الشَّوقُ والحَنينُ الشّديدُ
... ...
غَلَبَ الشوقُ رَهْبَتي ، وصِرَاعٌ ... ... في فُؤادِي يَغيبُ ثُمَّ يَعُودُ
... ...
كُلَّما لَجَّ في فُؤادِيَ شَوْقٌ ... ... دَفَعَ الشَّوْقُ رَهْبَتي فَتَزيدُ
... ...
وإذا بالخُشُوعِ يَرْفَعُ أَشْوَا ... ... قي فَتَصْفُو وتَرْتَقي فَتَجُودُ
... ...
إِنما الله وَ الرَّسُولُ هُمَا الحُـ ... ... ــبُّ وَ لله وَحْدَه التَوحِيِدُ
... ...
يا لدَرْبٍ شَقَقَتَهُ " في سَبِيل الـ ... ... ـلَّه " عَهْدٌ عَلَى الزَّمَانِ جديدُ
... ...
مَاجَ فِيهِ مِنَ الهِدَاية نُورٌ ... ... وسَرَايا تتابَعَتْ وحُشوُدُ
* * ... * ... * *
... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ...
... (1) ألقيت هذه القصيدة في مؤتمر حول ( المدائح النبوية تاريخها وأساليبها ) . أورانج أباد في الهند خلال الفترة : ( 26 ـ 28 )/2/1409هـ الموافق (7ـ9)/أكتوبر 1988م ثم جعلت هذه القصيدة جزءاً من ملحمة الأقصى وديوان مهرجان القصيد . وقدّمت في هذا المؤتمر بحثاً حول ( الإِطار الصحيح والأسلوب الأمثل للمدائح النبوية ) .
(2) صَعُود : جَبَلُ في جهنم ، عقبة شاقة .
(3) ( أمُّ معبد ) صاحبة الخيمة التي مر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يسألان لحماً وتمراً يشتريانه منها . فلم يصيبوا شيئاً . فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرع شاة خلفها الجهد عن الغنم ودعا وسمى الله تعالى ، فتفاجَت عليه وذرت وروي الجميع . فآمنت وبايعت على الإسلام . ...(/2)
رسول الهدى (1)
محمد صلى الله عليه وسلم
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
عَانِقي المجْدَ وَاخْفقي يَا بيدُ ... ... كُلُّ يَوْمٍ عَلى رِمَالِكِ عِيدُ
... ...
رَايةٌ بَعْدَ رَايَةٍ وَزُحوفٌ ... ... في مَيَادِينها وَفجْرٌ جَديدُ
... ...
لاَ يَزَالُ التّاريخُ يَدْفَعُهُ النَّصْـ ... ... ــرُ ويَبنِيهِ مُؤمِنٌ وشَهيدُ
... ...
وَالنُّبُوَّاتُ آيَةُ الله يُجْلَى الحَـ ... ... ـقُّ في نُورِها ويُجْلَى الوُجُودُ
... ...
تَصِلُ الأَرْضَ والزَّمَانَ فَتَمتَـ ... ... ــدُّ مَواثِيقُ أُمَّةٍ وَعُهُودُ
... ...
يَا لَحَقٍّ جُذُورُهُ ضَرَبَتْ في الأَ ... ... رْض وامْتَدَّ سَاقُهُ والعُودُ
... ...
إِنَّهُ جَوْهَرُ الحَيَاةِ وَفَيْضٌ ... ... عَبْقَرِيٌّ وَفاؤُهُ وَالجُودُ
... ...
إِنّهُ الوَحْيُ والرِّسَالةُ لِلنَّا ... ... سِ و هذا رَسُولُها المَشْهودُ
... ...
سَيِّدُ النَّاس ! بَيْنَ نَصْرٍ من اللَّـ ... ... ــهِ وَعِزًّ لِوَاؤُه مَعْقُودُ
... ...
إِنَّهُ أَحْمَدُ النّبيُّ ! فَبُشْرَى ... ... بَيْنَ آياتِ رَبِّهِ وَوَعِيدُ
... ...
فَمِنَ اللهِ كُلُّ فَضْلٍ عَلَيهِ ... ... آيَةُ الحقِّ والهُدَى التّوحِيدُ
... ...
* * ... * ... * *
يَا جَلالَ الإِسْراء : يحْمله الشـ ... ... ـوْقُ وَجِبْريلُ والبُرَاقُ الشَّديدُ
... ...
والفَضَاءُ الممتَدُّ يَنْشُرُ أَنْوا ... ... راً فَتَنَشَقُّ ظُلْمَةٌ وسُدُودُ
... ...
أَيُّ نُورٍ يَطُوفُ بالكَوْن تُجلى ... ... مِنْ سَنَاه أَحْنَاؤُنَا و الكُبُودُ
... ...
إِنه المُصْطَفَى ! أَطلَّ فَهَبَّتْ ... ... لِلقَاهُ نُبُوَّةٌ وَجُدُودُ
... ...
وإِذا السِّيدُ العَظِيمُ إِمَامٌ ... ... وجَلاَلٌ يَحُوطهُ وحُشودُ
... ...
وإِذا أَنْتِ يا فِلَسْطِينُ نُورٌ ... ... يَتَلاَلاَ وَجَوْهَرٌ وَعُقُودُ
... ...
فاخْشَعي يا رُبَى فهذِي دُرُوبٌ ... ... لجِنانٍ وَمَحشَرٌ وخُلُودُ
... ...
وَربَاطُ للهِ تَحْرُسُهُ العَيْـ ... ... ــنُ و قَلَبٌ ووثْبَةٌ وَزُنُودُ
* * ... * ... * *
يَا ظِلاَلَ الأَقْصَى ! نَدَاكِ غَنيُّ ... ... بالرَّجَا ، صَادِقُ الوَفَاءِ ، رَغيدُ
... ...
كلُّ شِبْرٍ بِهِ مَوَاقِعُ وَحْيٍ ... ... وَجِهادٌ عَلَى الزّمَانِ جَديدُ
... ...
إِنَّ دَاراً يحَوطُها اللهُ تأْبى ... ... أَنْ يُخَانَ الوَفَا وتُطْوَى الوُعُودُ
... ...
إِن أَرضاً لله لاَ يَتَوَلّى ... ... عن حِمَاهَا فتىً أَبَرُّ جَلودُ
... ...
مَنْ يَخُنْ عَهْدَهُ مَعَ الله يُرْهِقْـ ... ... ـهُ عَذَابٌ مِنْ ربِّهِ وَصَعُود (2)
* * ... * ... * *
يَا رَسُولَ الهُدَى ! سَلاَمٌ مِنَ اللَّـ ... ... ـهِ ومِنْ مُؤمِنٍ لَهُ تَرْديدُ
... ...
وصَلاةٌ عَلَيْكَ ، تَخْشَعُ فِيها ... ... أَضْلُعٌ أَسْلَمتْ وهذِي الكُبُودُ
... ...
كُلُّ فَتْح بَلغْتَهُ هَو آيا ... ... تٌ مِن الله خَيْرُها مَمدودُ
... ...
غَيْرَ أَنَّ القُلوبَ أقسى على الفَتْـ ... ... ـحِ وَأغْلى سبيلُها والجهُودُ
... ...
فَسَبيلُ القُلوبِ هَدْيٌ من اللـ ... ... ــه ، سَبيلُ البِلادِ سَيْفٌ حَدِيدُ
... ...
فإذا مَا التَقى على الحقِّ سَيْفٌ ... ... وَبَلاغٌ فَذَاك فَتحٌ مَجِيدُ
... ...
فَبَنَيْتَ الَّذي تُقَصِّرُ عَنْهُ ... ... عَبْقَرِياتُ أَعْصُرٍ وَحُشودُ
... ...
أُمّةُ لمْ تَزَلْ إِلى الله تَسْعَى ... ... هي فَتْحٌ مِنْهُ وَنَصْرٌ فَريدُ
* * ... * ... * *
يَا رَسُولَ الهُدَى ! سَلاَمٌ مِن اللَّـ ... ... ـهِ ومِنّا الوَفاءُ والتوحِيدُ
... ...
وَصَلاةٌ عَلَيكَ نَعْبُد فِيها اللَّـ ... ... ـهَ نرجو رضاءَه ونُعيدُ
... ...
رَحْمةٌ أَنْتَ لِلعِبَادِ مِنَ اللَّـ ... ... ــهِ وفَضْلٌ مُهْدًى وَخَيْرٌ مَدِيدُ
... ...
فاذْكُرِي " أُمَّ مَعْبَدٍ " قِصَّة الشَّـ ... ... ـاةِ وَقَدْ جَفَّ ضَرْعُها والوَرِيدُ (3)
... ...
مَسَحَ الضَّرْعَ في يَدَيْه رَسُولُ الـ ... ... لَّه فاشَتدَّ دَرُّهَا والجُودُ
... ...
رَوي الصَّحْبُ وانْثَنَوا وكأَنّ الضَّـ ... ... ـرعَ تَدْعو : لَئِن ظَمِئتُمْ فعودوا
... ...
آيةُ الله في يَدَيْهِ وَذِكْرُ الـ ... ... ـله في قَلْبِهِ خُشُوعُ وَحِيدُ
... ...
إِن رَوَى الصَّحْبَ كَفُّهُ فَهُدَاه ... ... يَرْتَوِي منه صَاحِبُ وَبَعيدُ
... ...
يَرْتَوي الدَّهْرُ من هُدَاه فَيَدْنُو ... ... مؤمِنُ خَاشِعُ وَيَنْأَى كَنُودُ
* * ... * ... * *
أَيُّها المصطفى ! تَفَرَّدْتَ في الخَلْـ ... ... ـقِ نَبِيّاً عُلاَكُ أُفْقُ فَرِيدُ
... ...
أَنْتَ مَعْنَى الوَفَاءِ : ذِكْرُكَ في الأَرْ ... ... ضِ حميدٌ وفي السَّماءِ حَميدُ
... ...
زَانَكَ اللهُ ! حُسْنُ وَجْهكَ إِشْرَا ... ... قٌ وإِشْرَاقُهُ جَلاَلٌ وَدُودُ
... ...
لا تَكادُ الشُّهُودُ تَملأ عَيْنَيْـ ... ... ـها فَيُغْضِي مِنَ الجَلاَل الشُّهُودُ
... ...(/1)
ذِرْوَةُ البَأْسِ في فُؤادك في الحَرْ ... ... ب إِذا احْمرَّ بأَسُهُا وَرُعُودُ
... ...
لَوْ تَنَادَوا مَن الفَوَارسُ في الدَّهْـ ... ... ــر لَقالُوا : ذا الفَارِسُ المَعْدُودُ
... ...
أَنْتَ في الحَرْب يَحْتَمي بِكَ أَبْطا ... ... لٌ وَيأْوي لِظِلِّكَ الصِّنديدُ
... ...
حَسْبُكَ المَدْحُ أَنْ تكون عَلَى خُلْـ ... ... ـقٍ عَظيمٍ يُتْلَى بِهِ الكِتابُ المُجيدُ
... ...
كُلُّ آيٍ مِنَ الكِتابِ وَذِكْرٍ ... ... هُوَ ذِكْرٌ على الزَّمَانِ جَدِيدُ
* * ... * ... * *
يَا رسُولَ الهُدَى ! حَمَلْتَ إِلى النَّا ... ... سِ سَلاماً يَرْعاه دِينٌ وصِيدُ
... ...
كم مَسحْتَ الدُّمُوعَ آسيتَ مَحْزَو ... ... ناً فَحَنَّتْ إِليك مِنْهُمْ كبُودُ
... ...
وَدَفَعْتَ الأَسَى وَرَعْشَة خَوفٍ ... ... فاطمأَنْت إِلى الوَفاءِ العُهودُ
... ...
أَنْتَ أَرجَعْتَ لابنِ آدَمَ حَقّاً ... ... كَمْ أَضاعَتْهُ فِتنةُ وجُحُودُ
... ...
وَعُتأةٌ بَغَوا عَلى النّاس حَتَّى ... ... تَاهَ في الدرْب جَائعٌ وطَرِيدُ
... ...
يا حُقُوقَ الإِنسان ! هذا هو الحَـ ... ... ـقُّ ! سِواهُ فباطِلٌ مَرْدودُ
... ...
إِنَّها مِنْحَةٌ مِن الله ! حَقٌّ ... ... لمْ تُشَرِّعْهُ عُصْبَةٌ وَعَبيدُ
... ...
فاسْتَقيموا للهِ نَبْنِ سَلاماً ... ... لمْ تخالِطْهُ فِتْنَةٌ ووعودُ
* * ... * ... * *
يَا رَسُولَ الهُدَى ! عَدَلْتَ وسَاوَيْـ ... ... ـتَ فَمَا جَارَ سَيِّدٌ ومَسُودُ
... ...
جَمَعَ اللَّهُ أُمَّةَ الحَقِّ إِخْوَا ... ... ناً فَهبّتْ عَزائِمٌ وَجُهودُ
... ...
غَيْرَ أَنَّ الزَّمَانَ حَالَ فَعَادتْ ... ... للشّياطِين دَولَةٌ وجُنودُ
... ...
أَشْعَلُوا الأَرْضَ فَجَّروهَا بَرَاكِيـ ... ... ـنَ فَمَادَتْ ذُراً ومَادَ عَمُودُ
... ...
صاحَ من هَوْل مَكْرِهم كُلُّ جَبّا ... ... رٍ وَجُنَّ اللَّهيبُ " والأُخدودُ "
... ...
غَيرَ أَنَّ اليقينَ يَبقَى ويمضي ... ... مَوكِبُ الحَقِّ يَجْتَلي وَيَرودُ
* * ... * ... * *
كَيْفَ أَرْقَى إِلى مَديحِكَ لكنْ ... ... غَلَبَ الشَّوقُ والحَنينُ الشّديدُ
... ...
غَلَبَ الشوقُ رَهْبَتي ، وصِرَاعٌ ... ... في فُؤادِي يَغيبُ ثُمَّ يَعُودُ
... ...
كُلَّما لَجَّ في فُؤادِيَ شَوْقٌ ... ... دَفَعَ الشَّوْقُ رَهْبَتي فَتَزيدُ
... ...
وإذا بالخُشُوعِ يَرْفَعُ أَشْوَا ... ... قي فَتَصْفُو وتَرْتَقي فَتَجُودُ
... ...
إِنما الله وَ الرَّسُولُ هُمَا الحُـ ... ... ــبُّ وَ لله وَحْدَه التَوحِيِدُ
... ...
يا لدَرْبٍ شَقَقَتَهُ " في سَبِيل الـ ... ... ـلَّه " عَهْدٌ عَلَى الزَّمَانِ جديدُ
... ...
مَاجَ فِيهِ مِنَ الهِدَاية نُورٌ ... ... وسَرَايا تتابَعَتْ وحُشوُدُ
* * ... * ... * *
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ألقيت هذه القصيدة في مؤتمر حول ( المدائح النبوية تاريخها وأساليبها ) . أورانج أباد في الهند خلال الفترة : ( 26 ـ 28 )/2/1409هـ الموافق (7ـ9)/أكتوبر 1988م ثم جعلت هذه القصيدة جزءاً من ملحمة الأقصى وديوان مهرجان القصيد . وقدّمت في هذا المؤتمر بحثاً حول ( الإِطار الصحيح والأسلوب الأمثل للمدائح النبوية ) .
(2) صَعُود : جَبَلُ في جهنم ، عقبة شاقة .
(3) ( أمُّ معبد ) صاحبة الخيمة التي مر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يسألان لحماً وتمراً يشتريانه منها . فلم يصيبوا شيئاً . فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرع شاة خلفها الجهد عن الغنم ودعا وسمى الله تعالى ، فتفاجَت عليه وذرت وروي الجميع . فآمنت وبايعت على الإسلام .(/2)
رشاد خليفة تفسيره للقرآن جهلٌ ونرجسيةٌ وتطاول على الله ورسوله!
أ.د/إبراهيم عوض
ibrahim_awad9@yahoo.com
أيها القراء الأعزاء، عدت مرة أخرى للنظر فى ترجمة رشاد خليفة للقرآن المجيد وتفسيراته التى يعلق بها على بعض الآيات، وكان حصاد هذه العودة الملاحظات التى أسجلها فى هذه الدراسة، تاركًا النظر فى الترجمة نفسها ومدى صوابها أو دقتها إلى فرصة أخرى قد تسنح فتسمح لى بالكتابة عنها:
الله عند رشاد خليفة ذو طبيعة مادية:
فعلاً الله عنده ذو وجود مادى، فهو سبحانه (كما يصور "بسلامته" الأمر لنا) قابع فوق السماوات لا ينزل لما دونها، تاركا المهمات الصغيرة للملائكة ومحتفظا لنفسه منها بالكبير الذى يناسبه، إذ إن "عالمنا لا يتحمل وجود الله المادّىّ فيه" ("الوجود المادى": لاحظوا). أرأيتم الهناء الذى نحن فيه؟ كأننا فى ديوان حكومى، ومع وكلاء وزارات ومديرين عامّين يحتفظون لأنفسهم بالطوابق العليا والأمور المهمة، أما مهمات الأرشيف واستقبال المترددين على الديوان وقضاء مصالح المواطنين اليومية (أو بالأحرى تعطيلها وعرقلتها و"فُتْ علينا غدًا يا سيِّد"!) وما أشبه، فهذا من شأن الموظفين السَّكَّة الذين لا يزيد ثمن العشرة منهم عن قرش صاغ والذين يتكدسون فى الدور الأرضى والبدرون! والحجة التى يستند إليها الجاهل فى أن الملائكة تقوم بالمهمات الصغيرة تحت السماوات السبع هى استعمال ضمير الجمع فى كلمة "وزَيَّنّا" من قوله تعالى فى الآية 12 من سورة "فُصِّلَتْ": "فقضاهنّ سبع سماوات فى يومين وأَوْحَى فى كل سماء أمرها، وزيّنّا السماء الدنيا بمصابيحَ وحِفْظًا. ذلك تقدير العزيز العليم" بما يعنى فى فهمه الكليل أن الملائكة قد اشتركت مع الله فى تزيين السماء الدنيا بالمصابيح. وفات هذا الجاهلَ أنه بهذه الطريقة قد أدخل الله مع الملائكة فى ضمير واحد، وكأنه سبحانه واحد منهم، مع أن المسألة أبسط من هذا كثيرا، إذ ما أكثر الآيات التى تَسْتَخْدِم، فى الكلام عن رب العالمين، ضمير الجمع كما هو معلوم حتى لأصغر طفل يقرأ القرآن! وإليكم ما قاله "رسول الميثاق الأفاق" فى تعليقه على تلك الآية: "God alone created the universe (18:51), but the angels participated in handling certain jobs in the lowest universe. Our universe cannot stand the physical presence of God (7:143). The plural tense acknowledges the angels' role in our universe ". الواقع أن هذا لون من الشرك الجلف الذى لا يستحى صاحبه من رَمْى المسلمين به لمجرد أنهم يحبون رسولهم ويصلّون ويسلّمون عليه. ولقد قال "مسيلمتنا" بكل صراحة فى موضع آخر (هو تعليقه على الآية 90 من سورة "الأنبياء") إنه ما من مرة استعمل القرآن ضمير الجمع إلا وكان المقصود به الله والملائكة معا: "The use of the plural tense throughout the Quran indicates participation of the angels. It is clear from 3:39 and from the Bible that the angels dealt with Zachariah extensively, as they gave him the good news about John. "، فما قوله إذن فى الآيات القرآنية التالية التى يستعمل فيها الله ضمير الجمع الخاص بالمتكلم ولا يمكن أن يكون الملائكة داخلين فيه بأى حال؟: "وإذ قلنا للملائكة: اسجدوا لآدم" (البقرة/ 34. وهذه الآية وحدها كافية فى إبطال هذا التفسير السخيف الكافر تماما، إذ لا يمكن أن يدخل الملائكة مع الله فى حديثه إليهم)، "ولو أننا نزَّلنا إليهم الملائكة..." (الأنعام/ 111. وهذه أيضا كسابقتها، لأنه من غير المستطاع أن تشترك الملائكة فى تنزيل أنفسها إلى البشر)، "أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون؟" (الصافات/ 150. وهذه أشد من سابقتيها، فلا شىء يستطيع أن يخلق نفسه إلا فى منطق البهلوان رشاد أفندى)، "ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين" (المؤمنون/ 12. ومعروف أن الله حسب عقيدة الإسلام هو الذى خلق كل شىء، ولا يشاحّ فى هذا أحد ممن يؤمن بالقرآن)، "ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون" (البقرة/ 52. والعفو هو من اختصاص الله سبحانه)، "فغفرنا له ذلك، وإن له عندنا لَزُلْفَى وحُسْن مآب" (ص/ 24. والغفران هو كذلك من اختصاص الله، لا مدخل لمخلوق فيه)، "إنا نحن نحيى ونميت، وإلينا المصير" (ق/ 43. وقد نص القرآن فى أكثر من موضع على أن الله هو الذى يحيى ويميت لا يشاركه فى ذلك أحد آخر)... وهذا وأشباهه فى كتاب الله غزيرٌ جِدُّ غزير، علاوة على أن القرآن كثيرا ما يعطف الملائكة على الله بما يدل على أنه لو كان "أفّاقُ الميثاق" صادقا لاكتفى القرآن بالضمير "نا" فى كل مرة!(/1)
ليس ذلك فقط، بل إنه (فى تعليقه على الآية 96 من سورة "طه") يُرْجِع صدور صوت العجل من فم التمثال الذى نحته السامرى أثناء غياب موسى، إلى أن السامرى كان قد قبض قبضة من تراب الأرض التى كلم الله فيها موسى، وهو التراب الذى ردد صدى صوته سبحانه، وعندما خلط السامرى التراب بالذهب وصنع تمثال العجل شرع التمثالُ، بسبب هذا التراب الذى وقع عليه صوت الله، يصدر خُوَارًا: "The Samarian went to the spot where God spoke to Moses, and grabbed a fistful of dust upon which God's voice had echoed. This dust, when mixed with the molten gold, caused the golden statue to acquire the sound of a calf"، فانظروا مقدار الأدب الذى يتحلى به "أبو الحُمْق" (على غرار"أبى جهل") فى حديثه عن الله سبحانه وإشارته إلى أن صوته سبحانه قد تحول إلى خوار، أو على الأقل كان السبب فى صدور صوت الخوار عن العجل الذهبى! ولا يقولنّ قائل إن ذلك هو ما جاء فى القرآن، فالذى فى القرآن هو: "قال: فما خطبك يا سامرى؟* قال: بصُرْتُ بما لم يَبْصُروا به، فقبضتُ قبضة من أثر الرسول فنبذتُها، وكذلك سَوَّلَتْ لى نفسى" (طه/ 95- 96)، فأين هذا من ذاك؟ وأين التزام صاحبنا بالقرآن، والقرآن فقط، زاعما أنه لا يمكن أن يَعْدُوَه إلى أى مصدر آخر؟ هل فى النص الكريم شىء مما قاله المفترى الكذاب الذى يريد أن نهدم الإسلام (الإسلام الربّانى) ونستعيض عنه بإسلام مصنوع فى أقبية المخابرات الأجنبية المعادية لربنا وديننا ونبينا وكتابنا وحاضرنا ومستقبلنا والتى لا ترضى بديلا عن تدميرنا حتى يخلو العالم لهم وحدهم لا يشاركهم فيه أحد، اللهم إلا إذا رضى أن يعيش خادما يلتقط الفتات من تحت أحذيتهم؟
أما فى يوم القيامة فإنه سبحانه (حسبما يقول الأفاك فى تعليقه على الآية 68 من سورة "الزمر") سوف ينتقل من مكانه نازلا إلى الأرض، التى لن تتحمل عندئذٍ "مجيئه المادّىّ" (وهذا تعبيره بالحرف)، فتتحول إلى حطام وتنشأ أرض جديدة! كما أن العصاة (حسبما قال فى تعليقه على الآية 13 من سورة "السجدة") لن يتحملوا يوم القيامة "الحضور المادى لطاقة الله"، ولهذا سيكون مصيرهم الجحيم. كذلك تحدث الأفّاق، فى تعليقه على الآية 71 من سورة "مريم"، عن "المجىء المادى لله إلى عالمنا بعد البعث": "God's physical arrival to our universe". ولا أدرى ما الذى أدخل هذا المخبول فى مثل هذه الأمور التى لا نستطيع بعقولنا هذه أن نتصورها، وإن كنا نعرف أنه سبحانه وتعالى "ليس كمثله شىء" كما جاء فى كلام رب العزة عن نفسه، ومن ثم ننكر ونستنكر أن يقال إن لله سبحانه وجودا ماديا كالأشياء من حولنا.
أهل الجنة سوف يزورون أقاربهم فى الجحيم:
ومما يزجّ الأفاق أيضا بنفسه فيه من مآزق لا يستطيع أن يسدّ فيها مَسَدًّا قوله، فى كلامه عن الآية 55 من سورة "الصافات"، إن أهل الجنة سوف يكون بإمكانهم دخول الجحيم لزيارة أقاربهم من أهل النار، لكن دون أن يعانوا حَرّها، وإن لم يكن العكس ممكنا. لكن لماذا يا ترى سوف يذهب أهل الجنة لزيارة أقاربهم فى الجحيم؟ أتراهم قد أصابهم الملل فهم يريدون أن يتفرجوا على شىء مثير كما يفعل الواحد منا حين يشتهى أن يتفرج على فلم لهيتشكوك مثلا؟ أم تراهم من غُوَاة النكد فهم يكرهون مُتَع الجنة ويريدون أن يستبدلوا بها بعضا من عذاب الجحيم ولو على سبيل المعاينة كما هو الحال مع بعض الناس ممن لم تتعود معداتهم ولا أمعاؤهم الأكل الرقيق اللطيف، فتراهم يتركون هذا كله ويطلبون شيئا (كالمخلل مثلا أو الجبن أبى مشّ أو الفسيخ...إف!) يحرّشون به المعدة؟ أم تراهم يذهبون إلى هناك ليكونوا مع حبيباتهم اللاتى لم يقدَّر لهن دخول الجنة، جَرْيًا على مذهب الريحانى، الذى يقول بصوته الجحّاشى: "علشانك انت انكوى بالنار والقّح جتتى، وادخل جهنم وانكوى وارجع اقول: يا دهوتى"؟ صدق من قال: هَمٌّ يُضَحِّك، وهَمٌّ يُبَكِّى. وهذا هو الهم الذى يبكِّى ويضحِّك معا.
كراهيته للنبى محمد عليه السلام:(/2)
ويتخذ ذلك صورا مختلفة: فهو لا يلقّبه بالنبوة فى كلامه عنه إلا فى الندرة، بل عادةً ما يقول: "محمد"، أما عندما يتحدث عن نفسه فيستخدم مصطلح "رسول الله رشاد خليفة". بل إنه لتأخذه قلة الأدب بعيدا فيسمى المسلمين بـ"المحمديين". جاء هذا فى تعليقه على الآية الأولى من سورة "التحريم" حيث قال إن "المحمديين" فى كل أرجاء العالم يزعمون أن "محمدا" معصوم، على حين أن هذه الآية تدل على العكس من ذلك. ولست أدرى كيف يمكن أن يفهم عاقل من هذه الآية أنه عليه السلام قد ارتكب خطيئة هنا. ذلك أنه إنما تعهد أن يمتنع بصفة شخصية عن أمر من الأمور الحلال، فهل هذه خطيئة من الخطايا؟ لو أنه عليه السلام قال: إن هذا الطعام مثلا أو ذاك الشراب مما أحله الله هو حرام من الآن على كل الناس حرّمته أنا عليهم لكان فى هذا افتئات منه على مقام الألوهية، أما أن يتعهد بالامتناع عن شىء من الأشياء الحلال ثم تنبهه السماء إلى أنه لا داعى لهذا وأن مرضاة بعض زوجاته لا ينبغى أن تكون سببا فى اتخاذ مثل ذلك القرار، فهذا لا يعنى أنه عليه السلام قد ارتكب خطيئة! إنه لم يَزْنِ مثلا أو يشرب الخمر أو يقتل بريئا أو يغصب أحدا حقه أو يحول الحكم إلى مغنم شخصى له ولأسرته على حساب مصالح الرعية أو يستبد وينشر الترويع بين الناس أو يكذب أو يخلف وعده أو يوقع بين اثنين أو يتعامل مع الناس بوجهين...إلى آخر الخطايا والذنوب المعروفة. إننا لا ننكر أن السماء قد عاتبته صلى الله عليه وسلم على بعض المواقف التى تبناها، إلا أن الناظر فى هذه المواقف يجد أنها ليست تدخل فى باب الآثام أو السيئات بل فى باب الاجتهاد الذى ارتأى فيه مصلحة ما لكن كان للسماء كلمة أخرى. فهذا ما أرجو أن يتنبه له القارئ حتى نضع الأمور فى نصابها. ولقد وصفه الله سبحانه وتعالى بأنه "على خلق عظيم"، وهذا الوصف لا يُخْلَع على شخص يرتكب الخطايا. إن ما عوتب نبينا عليه إنما هى أمور لا تُذْكَر، وقديما قيل: "حسنات الأبرار سيئات المقرَّبين"!
ورسول الميثاق الكذاب لاعق أحذية القوى الكبرى وممرِّغ وجهه فى فضلات أستاههم تقربا إليهم كى يَرْضَوْا عنه يشير فى هذا المجال إلى قوله تعالى فى آخر سورة "الكهف": "قل: إنما أنا بشرٌ مثلكم يُوحَى إلىّ أنما إلهكم إلهٌ واحد" بوصفه برهانا على وقوع الذنوب والآثام من الرسول الكريم، بيد أن الناظر فى الآية لا يمكنه أن يلمح فيها هذا الذى يقول. صحيح أنها تؤكد بشريته صلى الله عليه وسلم، لكنها أيضا تستثنيه من سائر البشر بوصفه "يُوحَى إليه"، أى بوصفه نبيا رسولا. ومعنى ذلك أن الله قد اصطفاه من بين هؤلاء البشر، أى أنه ليس بشرا عاديا يرتكب ما يمكن أن يرتكبه البشر العاديون من كذب وزنا ونفاق وقتل وسرقة...إلخ، وإلا فما معنى اصطفاء الله له ولأمثاله من الرسل الوارد فى قوله سبحانه: "الله يصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس. إن الله سميع بصير" (الحج/ 75)؟ أيصطفيهم ثم يكتشف الرسول الأمريكى الكذاب أنه جل شأنه قد أساء الاصطفاء؟ كذلك ما معنى أن يقول الله لموسى: "ولتُصْنَع على عينى" (طه/ 39)؟ هل من يصنعه الله على عينه يمكن أن يقع منه خطيئة؟ هانت النبوة والرسالات إذن إذا كان من يتولَّوْنها هم من العملاء الخونة الكذابين الحاقدين على شاكلة رشاد خليفة، الذى لم يؤمن به إلا بضع عشرات، أو على أكثر تقدير: بضع مئات أو حتى بضعة آلاف، ثم يأنس فى نفسه الجرأة على القول بأن الآية الأخيرة من سورة "النصر" تدل على أن الدين الموعود بالنصر إنما هو "الإسلام الحق" الذى ينادى هو به، مع أنه يقول أيضا فى مكان آخر من ترجمته إن القيامة ستقوم بعد أقل من 300 سنة، أى أنه لن تكون هناك فرصة لدين هذا الكذاب أن ينتشر وينتصر كما زعم؟ يعنى أن ما حققه دين محمد من الانتصارات الباهرة فى مجال الدعوة والحضارة وتأسيس الدول واعتناق كل أجناس الأرض له لا يملأ عين هذا المداور الحقود، وأن بضع العشرات أو المئات الذين اعتنقوا دعوته من كل لئيم النفس مرتبط بالمخابرات الأمريكية أو مختل العقل موتور هو العنوان البارز على هذا الانتصار المذكور فى السورة الكريمة! ويكفى برهانا قاطعا على كذبه وضلاله وتضليله أن الأمريكيين أنفسهم الذين لاذ بهم وأكد أنه سوف يجد الأمن والإيمان بين أظهرهم ثم شاء الله أن يكذّبه فى أصل وجهه ويقدّر اغتياله فى بيته وداخل مطبخه فى أمريكا رغم الحراسات والتحويطات المكثفة، والذين أطنب فى الثناء عليهم وضفر عقود المديح الواله فيهم وكلَّلهم بتيجان المجد والشرف والإيمان الحق بالله، لم يتعطفوا عليه بشىء من الإيمان به. إنه عميل مصنوع لمهمة محددة لا غير، ألا وهى إرباك المسلمين وفتنتهم عن دينهم، ولا يصح له أن يتطالّ إلى ما هو أبعد من هذا، فضلا عن أن يتجاسر على رفع عينيه فى وجوه أسياده، بله أن يتجاوز قدره فيوجّه إليهم دعوته، ودعنا من أن يفكر فى إيمانهم به أو حتى يرجوه بينه وبين نفسه مجرد رجاء!(/3)
وبنفس المنطق الخبيث يمضى "ضلال خليفة" فيزعم أن قوله تعالى فى الآية 37 من سورة "الأحزاب": "وإذ تقول للذى أنعم الله عليه وأنعمتَ عليه: أَمْسِكْ عليك زوجك، واتَّقِ الله. وتُخْفِى فى نفسك ما الله مُبْدِيه، وتخشى الناس، والله أحق أن تخشاه..." هو دليل آخر على أنه عليه السلام لم يكن معصوما، مع أن الآية الكريمة تخلو تماما من أى شىء مما يدّعيه هذا الأفاك! لقد أراد الرسول أن يُبْقِىَ زيدُ بن حارثة على زوجته زينب بنت جحش فلا يطلّقها، كما لم يكن يريد أن يتزوجها هو بعد طلاق زيد إياها حتى لا يقول الناس إن محمدا قد تزوج من طليقة ابنه (ابنه بالتبنى)، وهو ما حدث فعلا ولم يسكتوا إلا بعد أن نزلت هذه الآية. فأين وجه الخطيئة هنا؟ إن هاهنا حياء ورغبة فى الابتعاد عما يثير الأقاويل، لكن بعد نزول الأمر الإلهى بألا يبالى بما يقول الناس وأن يتزوجها كى يلغى وضعا سخيفا خاطئا كان الجاهليون يسيرون عليه فقد صَدَع صلى الله عليه وسلم بالأمر الإلهى دون تردد أو تسويف. نعيد القول كرّةً أخرى: حياء؟ نعم. خطيئة؟ لا وألف لا.
وتبقى الآيات الافتتاحية من سورة "عَبَس"، التى يعاتب فيها المولى عبده ونبيه محمدا على ما ظهر على وجهه من ضيق بسبب المصادفة التى ساقت ابن أم مكتوم إليه أثناء انشغاله عليه السلام بدعوة بعض الكفار ممن رجا إيمانهم به فى هذه الفرصة الهادئة التى قلما تسنح، إذ كان يعرف أن وجود مثل ابن أم مكتوم فى هذا اللقاء من شأنه أن يصرف قلب المشركين عن الاستماع إلى ما جاء به، على حين أن ابن أم مكتوم يمكنه أن يأتى فى أى وقت للاستفسار عما يريد أو للاستزادة من عبق الإيمان. وكما يرى القارئ كان حرص النبى على الدعوة هو الذى جعله يخشى ضياع الفرصة التى رآها قد تاحت له بعد طول شِمَاس، وإن كان للسماء كلمة أخرى، إذ أرادت أن يعرف المشركون أن إيمانهم أو كفرهم لا يقدم ولا يؤخر ما دام وجود ابن أم مكتوم من شأنه أن ينفرهم من إصغاء الأذن والقلب للدعوة. إنه اجتهاد من النبى عليه السلام تغيّا به مصلحة هذه الدعوة، لكن لم توافقه عليه السماء، فأين الخطيئة أو الإثم هنا؟ أترى محمدا عليه الصلاة والسلام كان يتصل بدولة أجنبية يرتب معها لادّعاء دين جديد ما أنزل الله به من سلطان كما كان يفعل رسول الظلام والضلال رشاد خليفة؟ أتراه جمع الملايين من السُّحْت مثلما جمع نبىّ السُّحْت المتأمركُ ملايينه؟ أتراه قد راود فتاة أجنبية عن نفسها وعن عفتها وعِرْضها كما صنع "أبو الضلال خليفة"؟ هذه هى الخطايا بحق وحقيق لا الذى وقع من الرسول عليه الصلاة والسلام من اجتهادٍ أراد به وجه الخير، لكن كان للسماء كلمة أخرى كما قلنا!
وفى نفس السياق نرى الأفاك الأعظم يفسّر قوله تعالى فى الآية 88 من سورة "الحِجْر": "لا تمدَّنّ عينيك إلى ما متَّعْنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم، واخفض جناحك للمؤمنين" على أساس أنه نَهْىٌ له صلى الله عليه وسلم عن الغيرة مما أفاضه الله على الرسل الآخرين وحَرَمه هو منه. وهذه ترجمته للآية: "Do not be jealous of what we bestowed upon the other (messengers), and do not be saddened (by the disbelievers), and lower your wing for the believers. ". ثم هذا تفسيره لها: "One of the functions of God's Messenger of the Covenant is to deliver the Quranic assertion that the world will end in AD 2280 (20:15, 72:27 & Appendix 25) ". ومعنى ذلك بالعربى الفصيح: "إياك يا محمد أن تحقد على "أبى الرشد"، الذى جاء بالذئب من ذيله مما لم تستطعه أنت، إذ سرق "بسلامته" من الحاخام يهودا الملقب بـ"التقىّ" والذى كان يعيش فى القرن الحادى عشر الميلادى بركات الرقم 19، وقَرْأَنَه (أى طبّقه على القرآن بدلا من التوراة) وعرف منه أن القيامة ستقوم بعد نحو 300 سنة". وقد فات الغبىَّ أن الله قد كرر النهى لرسوله محمد عليه السلام أن يمد عينيه لما متَّع سبحانه به أزواجًا منهم، مع تفسير ذلك بأنه "زهرة الحياة الدنيا" التى جعلها الله فتنة لهؤلاء الأزواج، وذلك فى الآية 131 من سورة "طه"، ونصّها: "وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَالِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى". ومعنى هذا أن ما يطنطن به المطموس البصيرة عن الرقم 19 وامتيازه به على رسول الله ليس إلا زهرة الحياة الدنيا، أعطاه الله إياه ليفتنه به، وهو ما قلناه فى موضع آخر من هذه الدراسة ردا على تفسيره الحلمنتيشى لنصٍّ آخر من القرآن الكريم، ومعنى ذلك مرة أخرى أن الأسداد مضروبة عليه أينما اتجه وأينا ولَّى، فالحمد لله، الذى جعله يسعى إلى حتفه بظلفه!(/4)
ويبلغ الحقد على سيد الأنبياء والمرسلين بهذا الموتور أن ينكر على المسلمين شهادتهم له عليه السلام بأنه رسول الله، بل إنه ليكفِّرهم فى ذلك، زاعما أن القرآن ينهى عنه. ولست فى الحقيقة أدرى، بل لست إخال أننى فى يوم من الأيام سوف أدرى، كيف تكون الشهادة بأن محمدا رسول الله شرك وكفر يأباه الإسلام ويعاقب من ينطق به، إذ السؤال هو: وماذا كان الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بالنسبة لله إلى جانب أنه عبده سبحانه وتعالى؟ أكان نجّار الله مثلا (أستغفر الله العظيم)؟ أم كان سبّاك الله؟ أم تراه كان حدّاد الله؟ إن الله سبحانه وتعالى قد اختاره نبيا ورسولا، فما وجه الخطإ، بل ما وجه الشرك فى أن يعلن كل منا هذه الحقيقة التى نؤمن بها؟ أينبغى أن نكتمها فى قلوبنا كأنها عورة من العورات لا يصح أن يطَّلع عليها الآخرون؟ لكن هؤلاء الآخرين جميعهم يشاركوننا فى الإيمان بهذه الحقيقة، فكيف نُخْفِى عنهم ما يستكنّ فى قلوبهم مثلما يستكنّ فى قلوبنا بل ما ينطقون هم به كل حين ولا يجدون فيه ما يشكّل حرجًا لأحد مثلما ننطق نحن أيضا به ولا نرى فيه ما يشكل مثل هذا الحرج؟ إن مسيلمة أمريكا الكذاب إنما يشرِّع بذلك المنطقِ النفاقَ فى أسوإ صوره، إذ يريد منا أن نؤمن بشىء لكن لا نعلن هذا الذى نؤمن به، تمهيدا لأن ننسى بعد ذلك محمدا ونجعل هِجّيرانا اللهج باسمه هو: رشاد خليفة "رسول الميثاق الأفاق"!
إن الكذاب الضلالى يقلب الأمور رأسا على عقب فيزعم أن أول قاعدة من قواعد الإسلام حسبما ورد فى الآية 18 من سورة "آل عمران" هى أن يشهد الإنسان "ألا إله إلا الله" فحسب، أما الشهادة لمحمد بالرسالة فهى، فى زعمه، تناقض عددا من الأوامر الإلهية كما نصت علها الآية 285 من سورة "البقرة"، التى تقول: "آمن الرسول بما أُنْزِل إليه من ربه والمؤمنون كلٌّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله...". والآية، كما يرى كل من له عينان، بل كل من ليست له عينان (لكن لا يراها كل من كان مريض القلب والضمير ينفّذ فى حقارةٍ وذلٍّ ورعبٍ ما تأمره به المخابرات الأجنبية التى تكره الله ورسوله ومن يؤمن بهما)، الآية تقول إن الرسول والمؤمنين قد آمنوا، أى شهدوا بربوبية الله ورَسُولِيّة الرسل جميعا بما فيهم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم: "كلٌّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله "؟ وقبل ذلك تقول الآية إنهم قد آمنوا بما أُنْزِل عليه صلى الله عليه وسلم، ومما أُنْزِل عليه (كما يعرفه القاصى والدانى) أنه رسول الله حسبما نصَّ كثير من الآيات وشهد بذلك الله والملائكة والمؤمنون. ومن هذا قوله جل جلاله: "وما محمد إلا رسول...؟"، "والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم"، "فرح المخلَّفون بمقعدهم خلاف رسول الله..."، "وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله..."، "محمد رسول الله"، "إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى"، "واعلموا أن فيكم رسول الله، لو يطيعكم فى كثير من الأمر لَعَنِتّم"، "وإذا قيل لهم (أى للمنافقين من أشباه "ضلال خليفة"): تَعَالَوْا يستغفر لكم رسول الله، لَوَّوْا رؤوسهم ورأيتَهم يصدّون وهم مستكبرون"... وغير ذلك من الآيات التى تُعَدّ بالعشرات! كل ذلك فى الوقت الذى يحاول الكذاب عبثا أن يلوى رقاب الآيات كى يقسرها على النطق بما ليس فيها ولا يمكن أن يكون فيها من زعمه أنه (هو رشاد خليفة) رسول من عند الله، رسول "الميثاق". والله إنك لا تصلح أن تكون رسول الميثاق الزائف الذى كتبه هيكل لعيد الناصر والذى جلب الهزائم والعار على مصر والعرب والمسلمين، فما بالك بالميثاق الذى أخذه الله على أنبيائه بنصرة من يجيئهم رسولا من عنده سبحانه ينادى بما نادَوْا به، وهو الميثاق الذى جاء رشاد خليفة بعكسه وبهدمه وبالكفر بكل ما فيه؟(/5)
أما آية "آل عمران" فها هى ذى: "شَهِدَ اللهُ أنه لا إله إلا هو والملائكةُ وأولو العلم قائما بالقسط"، ولا أدرى كيف تكفّر من يشهد أن محمدا رسول الله، إذ هى تتكلم عن ألوهية الله ووحدانيته، وهذه الألوهية لا تتعارض والشهادة برَسُولِيّة محمد عليه السلام بل تكمّلها كما رأينا وكما نعرف من الآيات التى تقول إن من يكفر بأىٍّ من رسل الله فهو من الكافرين حقا، ومنها الآيتان 150- 151 من سورة "النساء" حسبما هو معلوم. وعلى كل حال فقد قال القرآن بصريح العبارة إن المولى سبحانه لا يمكن أن يهدى من كفر بالله بعد إيمانه به وتراجَعَ عن الشهادة لمحمد بالرَّسُوليّة: "كيف يهدى الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق...؟"، كما أكدت الآية الأولى من سورة "المنافقون" أن الله يعلم أنه عليه السلام هو رسوله حقا وصدقا رغم أنف المنافقين الذين يقولونها بأطراف ألسنتهم من وراء قلوبهم. وهناك آيات أخرى تتحدث عن شهادة الله والملائكة والمؤمنين لرسوله، مثل: "لكنِ الله يشهد بما أَنْزَل إليك، أنزله بعلمه، والملائكة يشهدون، وكفى بالله شهيدا"، "قالوا: ربَّنا، آمنا، فاكتبنا مع الشاهدين"، "قل: أىُّ شىءٍ أَكْبَرُ شهادة؟ قل: الله شهيد بينى وبينكم"، "وأرسلناك للناس رسولا، وكفى بالله شهيدا"، "قل: كفى بالله بينى وبينكم شهيدا"، "هو الذى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره عل الدين كله، وكفى بالله شهيدا". فما الذى يريده المأفون أكثر وأصرح من هذا؟ ومرة أخرى نقول: إذا لم نشهد له عليه السلام بالرَّسُوليّة، فبأى شىء نشهد له؟ بأنه كان سباكا مثلا عند الله، أو نجارا أو حدادا (أستغفر الله)؟ ثم ما الذى فى الشهادة له صلى الله عليه وسلم مما يناقض الإيمان بالله يا أضل الضالين؟ لقد تكرر منك الثناء والمديح النفاقى لأمريكا رغم تثليث الأمريكان وإيمانهم بالصليب وأكلهم الخنزير وشربهم الخمر مما يناقض القرآن تمام المناقضة، فما معنى ذلك؟ معناه بالثلث العريض أنك، فى حُبّك لهم كلَّ هذا الحب وتأكيدك أن الله راضٍ عنهم وعن دولارهم المغموس فى منقوع الظلم والغصب والقتل والتدمير والإبادة، إنما تصدر عن رضاك بكفرهم بمحمد وقرآنه وما يتضمنه هذا القرآن من أوامرَ ونواهٍ!
ثم يمضى المنافق المفترى فى الكذب والكفر قائلا إن المرة الوحيدة فى القرآن التى تمت فيها الشهادة لمحمد بأنه رسول الله كانت على لسان المنافقين، وقد كذّبهم الله فيها بما يدل على أنها مما يناقض أصول الإسلام! وهذا نص ما قاله الأثيم اللئيم فى هذا الصدد تعليقا على الآية الأولى من سورة "المنافقون": "The ''first pillar of Islam, as stated in 3:18 is to bear witness that God is the only god. But the corrupted ''Muslim'' scholars add ''Muhammad is God's messenger,'' and this violates a number of commandments (see 2:285). Verse 63:1 is the only place in the Quran where such a statement is made. Only the hypocrites make such a statement". والعجيب أن الآية تنطق بل تزعق وتصيح وتصرخ وتجأر بكل قواها أن الرسول الميثاقى المتأمرك الكذاب هو كائن لا يستحى وليس فى وجهه نقطة من الأحمر. ذلك أنها تقول عكس ما ينسبه إليها على طول الخط، فالله سبحانه لم يقل إن الشهادة بأن محمدا رسول الله هى كفر وإثم، بل عقَّب على شهادة المنافقين له صلى الله عليه وسلم بذلك بأنه سبحانه يعلم أنه رسول الله، وإن كان المنافقون لكاذبين، لا فى أنه كذلك بل فى نطقهم بما لا يؤمنون به فى قلوبهم. فالمسألة إذن ليست فى أنه عليه السلام ليس رسول الله، بل فى أن القائلين بهذا إنما يقولونه نفاقا وتضليلا، على حين أنهم فى قلوبهم وسلوكهم لا يجرون عليه ولا على مقتضياته، فهم مثلا إذا دُعُوا إلى رسول الله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون، رغم أنهم إن كان لهم الحق أَتَوْا إليه مُذْعِنين، وإذا طُلِب منهم التجهز للجهاد فى سبيل الله أجابوا بأن أموالهم وأهليهم قد شغلتهم، وإذا انفردوا بأنفسهم تهكموا بالدين والمؤمنين وسخروا منهم ومن النبى الكريم صلى الله عليه وسلم، وإذا لقوا الرسول وسألهم عما بلغه عنهم قالوا: إنما كنا نخوض ونلعب... باختصار كانوا منافقين لئامًا كرشاد خليفة، الذى يزعم أنه وبضع المئات الذين يتابعونه على انحرافه وإفكه وكفره ومروقه هم وحدهم المؤمنون! كأن الإيمان قد انقلبت معانيه فأصبح صنوا للكفر والشرك والعمالة والخيانة! فالله سبحانه إنما يدين نفاقهم لا شهادتهم بحد ذاتها. كيف لا، وهو عزَّ شأنه يؤكد على الفور فى الآية ذاتها أنه عليه السلام هو فعلا رسول الله حقا وصدقا: "والله يعلم إنك لرسوله"؟(/6)
ولا يتوقف حقد هذا التافه العميل عند هذا الحد، بل يستمر فى غَيّه وكفره وضلاله فعبَّر عن مكنون غيظه وسامّ ضغنه مناديا بأن الصلاة على النبى بعد موته تُجَافِى ما جاء فى القرآن. ولنستمع لهذا الأفاك إذ يقول: "The word ''prophet'' (Nabi) consistently refers to Muhammad only when he was alive. Satan used this verse to entice the Muslims into commemorating Muhammad, constantly, instead of commemorating God as enjoined in 33:41-42"، ومعناه أن كلمة "نبى" إنما تصدق فقط على النبى فى حياته، إلا أن إبليس قد أغوى المسلمين بتمجيد محمد على الدوام بدلا من الاقتصار على تمجيد الله وحده كما جاء فى الآيتين 41- 42 من سورة "الأحزاب": "يا أيها الذين آمنوا، اذكروا الله ذكرا كثيرا* وسبِّحوه بكرة وأصيلا". والمضحك العجيب أنه قال هذا الكلام الرقيع تعليقا على الآية 56 من نفس السورة، ونصها: "إن الله وملائكته يصلّون على النبى. يا أيها الذين آمنوا، صلُّوا عليه وسلِّموا تسليما". أفرأيتم رقاعة ودناءة من قبل بهذا المقدار؟ إن الله يأمرنا أمرا بالصلاة على النبى اقتداء به وبملائكته الطاهرين المستمرة صلاتهم وسلامهم عليه لا يتوقفان، فيأتى العميل الفسيل فيقول إن كلمة "نبى" لا تصدق على محمد إلا أثناء حياته، إذ إنها لم تستخدم له فى القرآن إلا وهو على قيد الحياة، ومن ثم فلا معنى للصلاة عليه، لأنه لم يعد نبيا. أليس قد مات؟ ولا أدرى بم أردّ على هذا الضراط الصادر من فم هذا الرفّاس النهّاق. بالله عليكم أيها القراء، كيف كان من الممكن أن يتكلم القرآن عن النبى بعد وفاته وهو لم يكن مات بعد؟ ومع هذا فقد سمى القرآن الأنبياء السابقين بعد موتهم بقرون بل بعد آلاف السنين أحيانا: "أنبياء ورسلا" كما هو معروف لكل من يقرأ كتاب الله، فما رأى الفَدْم الغبى؟ ومعنى ذلك أنه لو كان الرسول قد مات فبل نزول القرآن لسماه القرآن هو أيضا: "نبيا ورسولا" مَثَلُه فى هذا مَثَلُ إخوانه الأنبياء والمرسلين! أم ترانا ينبغى أن نسمى الآن محمدا عليه الصلاة والسلام ("عليه الصلاة والسلام" رغم أنف الكافرين الموتورين): "نبيا سابقا"؟ لكن هل هناك شىء اسمه: "نبى سابق" أو "نبى على المعاش"، أو "النبى، الله يرحمه" (على طريقة السادات عندما كان يردد بطريقته المنغمة ذات الدلالة التى لا تخفى: "عبد الناصر، الله يرحمه!" بإطالة لام "الله"، وهو يقصد عكس ذلك تماما)؟ وبرغم لك كله فهأنذا أفجِّر القنبلة التى ادخرتها حتى الآن والتى ستنسف هذه الرقاعة الكافرة وأقول: ما دمت أيها الحقود تصرّ على ما تهرف به من الكفر فعليك إذن أن تعرف أنه قد ورد فى القرآن تسمية محمد بعد موته: "نبيا"، وذلك فى قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا، توبوا إلى الله توبةً نَصُوحًا، عسى ربكم أن يكفّر عنكم سيئاتكم ويُدْخِلكم جناتٍ تجرى من تحتها الأنهار يوم لا يُخْزِى الله النبى والذين آمنوا معه (أى فى العالم الآخَر)، نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون: ربنا، أتمم لنا نورنا واغفر لنا، إنك على كل شىء قدير". بل إنه ليسميه: "رسولا" أيضا بعد موته: "يومئذ (أى يوم الحساب) يودّ الذين كفروا وعَصَوُا الرسول لو تُسَوَّى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا" (النساء/ 42)، "قالوا (أى الكفار فى النار): يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا" (الأحزاب/ 66)، "لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا (أى يوم القيامة)" (البقرة/ 143)، مثلما وُصِف الأنبياء السابقون فى القرآن بعد موتهم بـ"الأنبياء" و"الرسل": "إذ قالوا (أى قوم من بنى إسرائيل من بعد موسى) لنبىٍّ لهم: ابعث لنا مَلِكًا نقاتل فى سبيل الله..." (البقرة/ 246)، "واذكر فى الكتاب إبراهيم، إنه كان صِدّيقًا نبيًّا" (مريم/ 41)، "وهبْنا له إسحاق ويعقوب، وكُلاًّ جعلنا نبيًّا" (مريم/ 49)، "واذكر فى الكتاب إدريس، إنه كان صِدّيقًا نبيًّا" (مريم/ 56)، "إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته" (النساء/ 171)، "ما المسيح ابن مريم إلا رسول" ( المائدة/ 75)، "فعَصَوْا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية" (الحاقة/ 10)، "واذكر فى الكتاب موسى، إنه كان مخلَصًا، وكان رسولا نبيا" (المزمّل/51)، "واذكر فى الكتاب إسماعيل، إنه كان صادق الوعد، وكان رسولا نبيا" (مريم/54)، فما رأى مسيلمة الكذاب الذى لا يزال أتباعه (وهم لا يتجاوزون العشرات، أو على أقصى تقدير لا يزيدون على بضع مئات) يسمونه: "رسولا" حتى الآن بعد هلاكه وذهابه إلى الجحيم بسنوات وسنوات، وفى ذات الوقت ينكر وينكر معه هؤلاء الأتباع الحمقى على المسلمين الحقيقيين أن يسمّوا محمدا عليه السلام: "نبيا"؟ إن هذا العتل الأحمق يزعم أنه قد تحدى العلماء "المحمديين" أن يأتوه بآية يسمَّى فيها محمد: "نبيًّا" بعد موته، وهأنذا قد سقتُ عددا من الآيات التى يسمَّى فيها الرسول الكريم هو وإخوانه الرسل الكرام بعد انتقالهم إلى(/7)
الرفيق الأعلى: "أنبياء ورسلا"، فماذا هو وأتباعه قائلون؟ وقد ورد كلامه هذا تحت عنوان: "MAKING "SALAWAAT" ON THE PROPHET IS IDOL-WORSHIP (SHIRK)"، وهذا نصه: "Repeatedly, I have challenged the Muhammadan Ulema to show me a verse where Muhammad is referred to as NABI after his death, and they failed to meet the challenge. There are many narrations in the Quran that deal with specific historical events, and verses meant for the believers during specified periods. Any narrations connected with the word NABI were applicable only during the prophet's life on this earth. For example, there is a commandment in 49:2 ordering the believers not to raise their voices above the voice of the NABI. How can we carry out this commandment NOW??!! ".
وبالمناسبة فإنى أرجو من السادة القراء ألا تضيق صدورهم بالشدة التى تظهر أحيانا فى مناقشتى لما يقوله خليفة وأتباعه، فإننى لست هنا بصدد حوار مع مفكر عاقل يحكِّم المنطق فى ما يقول أو حتى مع رجل به مَسٌّ من جنون فنعذره، بل مع عميل غبى ظهر تماما أنه ليس على شىءٍ أىّ شىء! إننا الآن، يا قرائى الأعزاء الكرام، فى معركة مصير، معركة حياة أو موت، فلا معنى إذن لهذه الحساسيات التى فات وقتها منذ زمن بعيد! إن أعداءنا يذبّحوننا ويقتّلون أطفالنا ويبقرون بطون نسائنا ويعتدون على أعراض بناتنا ويدمرون بيوتنا ومدننا وقرانا ويقذفوننا بالصواريخ والقنابل النووية ويغتصبون ثرواتنا وأرزاقنا بالمليارات ويعملون على استئصال ديننا، فأرجوكم (أرجوكم، أرجوكم، أرجوكم) ألا تلتفتوا لمثل هذه الصغائر. نحن بهذا كمن تشغله الفتوى فى الإبرة، على حين قد سرق عدوُّه الجمل بما حمل من متاع ومال ونساء وصبيان بعد أن دفن أباه وأمه وسائر أسرته تحت أنقاض البيت الذى هدمه فوق رؤوسهم هدما!
أيًّا ما يكن الأمر، فما الفرق يا ترى بين أن نحبّ النبىَّ عليه السلام ونمجّده ونصلى ونسلم عليه فى حياته أو بعد مماته؟ وإذا لم يَجُزْ يا ترى أن نصلى ونسلم عليه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، فما الذى يتوجّب علينا أن نفعله تجاهه؟ أنلعنه (أستغفر الله العظيم!) كلما جاء ذكره ونشيّعه بالشتائم والسباب حتى يرضى هذا الشيطان الوضيع؟ إن الوغد يزعم أن "المحمديين" (وهذا هو اسمنا عنده، فنحن لسنا مسلمين فى نظره) يمجدون "صنمهم محمدا" حين يصلّون عليه ويسلّمون، إذ يدّعى هذا السفيه أن الصلاة والسلام الآن على النبى الكريم وثنية كافرة! لقد ورد فى القرآن أن الله سبحانه قد ترك "فى الآخِرين:* سلامٌ على نوح فى العالمين" (و"فى الآخِرين" معناها: بعد موته وإلى يوم الدين)، وهو ما تكرر مع إبراهيم وإسحاق وموسى وهارون وإلياسين (الصافات/ 79- 131)، كما أن القرآن الكريم لا يذكر نبيا أو رسولا إلا وأعطاه حقه من الذكر الطيب وأثنى عليه وعلى ما بذل فى سبيل الله من الجهد وما تحمل من الأذى، فهل أخطأ القرآن حين فعل ذلك؟ وهل هو بهذا يريد من الناس أن يعبدوا هذه الأصنام؟ يا حسرة على الرسالة حين تتَدَهْدَى على يد هذا اللئيم الجبان إلى هذا الدرك الأسفل من العهر والكفر وقلة العقل والأدب! بل إننا مهما كنا حَرْفِيّين متنطِّسين وقلنا إننا لا نقبل إلا ما يقول به القرآن على ظاهره فى ذلك النص الذى يأمرنا فيه المولى أن نصلى ونسلم على نبيه العظيم محمد صلى الله عليه وسلم بالذات فلسوف نجد أن النص لا يحدد الصلاة والتسليم عليه بحياته، بل يأمرنا بهما أمرا مطلقا. فلماذا نلوى عنق النص يا أيها الغبى؟ أيمكن أن يكون هذا الكلام الحاقد الذى يقوله رشاد خليفة صادرا عن رسول؟ إنه أشبه بما يفعله رؤساء العالم الثالث الذين لا يعرفون سبيلا إلى كرسى الحكم إلا عن طريق الانقلاب الدموى وبمعاونة المخابرات الأجنبية، فهم إذا استقر الواحد منهم فى الكرسى كان أول ما يفكر فيه أن يمحو كل ذكرى للحاكم السابق، أما الأنبياء فهم رجالٌ نبلاءُ شرفاءُ لا يحقد أحدهم على سابقيه بل يذكرهم بكل مودة واحترام وإيمان بهم وبما أَتَوْا به، لأن احترامهم دليل على صحة الإيمان به سبحانه! لكن نرجع فنقول: وما الذى يُنْتَظَر من أمثال رشاد خليفة، ذلك العميل الذليل الذى يريد أن يقوم بدور القُرَادة مع البعير؟ إن القُرَاد إنما يعيش على حساب البعير، إذ هو يلبد فى جلده ويظل يمص دمه ويرهقه ويسبب له الحكة والألم. لكنْ نَسِىَ هذا الوغد أنه، إن كان قُرَادة، فإن الله أشد إكراما وإعزازا لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام من أن يسمح للقُرَاد، وبخاصة القُرَاد المتأمرك النتن النجس، أن يلمس مجرد لَمْسٍ بَشَرته صلى الله عليه وسلم، فهى بَشَرة طاهرة عاطرة لا يقترب منها إلا كل طاهر عاطر، أما القُرَاد المنتن الوسخ فمكانه فى الزرائب يا "رسول الزرائب"!(/8)
الواقع أن ما يقوله رشاد خليفة ليس له من معنى إلا أن اللغة قد فقدت دلالتها، وأن الدين قد هان وأصبح يسومه كل أقرع القلب والوجدان من أمثال هذا المنتمى زورا لجنس الإنسان، وأنه لم يعد هناك منطق ولا عقل، وأن العناد البغالى الحرون هو سيد الموقف، وأنه إما أن نضحك ونحن نرد على هذا الغثاء والهراء وإما أن نفقد عقولنا وأعصابنا. لا يا إخوانى الكرام، بل نضحك ملء أشداقنا وأقلامنا ونَرْكَب هؤلاء البُعَداء الأدنياء بالسخرية ونفرفش قليلا على حسابهم فى هذا الجو النكد، ولا نفقد أعصابنا ولا عقولنا أبدا ولا نصاب بالسكر والضغط، ولْيذهبوا هم ومن يتابعهم على هذا القىء إلى الجحيم تشيّعهم لعناتنا ولعنات الله والملائكة والناس والجن والعجماوات والجمادات أجمعين! وإذا كان السلام ينتظر المؤمنين فى الآخرة، أى بعد مغادرتهم الدنيا نفسها، فهل نستكثر الصلاة والسلام على سيد الأنبياء بعد موته ونتّبع هذا الأفاق ونقول إن ذلك عبادة للصنم محمد؟ والله ما صنمٌ إلا أنت أيها السافل المنحط! قال تعالى: "الذين تتلقاهم الملائكة طيبين يقولون: سلام عليكم، ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون" (النحل/ 32)، "تحيتهم يوم يَلْقَوْنه سلام" (الأحزاب/ 44)، "لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما" (مريم/ 62)...إلخ. ثم إن هذا الأفاق الذى لا يدرك أبعاد ما يقول يؤكد دائما أن الصالحين لا يعرفون الموت أبدا كما رأينا فى المقال السابق الذى كتبتُه عنه، وأنهم إنما يذهبون من فورهم إلى الجنة. ومعنى هذا أن الأنبياء أحياء الآن، وليسوا بأموات، ومعنى هذا مرة أخرى حسب عقيدته أن الصلاة والتسليم الآن على سيّده ومُبَرْجِل عقله ومثير عقارب البغض فى قلبه: "محمد" تَجِب من واقع كلامه هو قبل غيره! فما القول فى هذا؟ أم تراه يقول إنه هو وإخوانه الأنبياء ليسوا من الصالحين لأنهم لم يكونوا عملاءَ للكاوبوى وخونةً لأممهم ودينهم وربهم؟(/9)
ولعل القراء الكرام قد لاحظوا أننى فى مناقشتى لهذا الفَدْم المغلق الذهن والقلب دائمًا ما أضعه على كُفُوف الراحة بل على حجرى وأذهب فأُهَشّكه وأُرَقّصه وأوفّر له كل ما يحتاجه بدءا من البزّازة وانتهاء بتغيير اللّفَف المبلولة وأنزل على شرطه فلا أحاجّه بشىء من الأحاديث النبوية (التى يشبّهها هى والسنة عموما بـ"التلمود" عند اليهود حسبما جاء فى تعليقه على الآية 53 من سورة "سبأ")، إذ هو يعلن أنه لا يؤمن إلا بالقرآن، وإن كان الواقع أنه لا يؤمن لا بقرآن ولا بحديث، ومع ذلك كله فإننى دائمًا ما أنتهى دائما إلى حائطِ صدٍّ من غبائه وخُرْقه وضلاله، أى إلى التحقق من أنه لا فائدة منه ولا جدوى من ورائه، فلا أجد مفرًّا من الضيق به وبعبئه فألقيه فى أقرب مرحاض غير آسف عليه، ولا أنسى أن أشدّ السيفون وراءه حتى أضمن أنه قد ذهب لغير رجعة، لعنه الله! وحتى لو كانت الصلاة على النبى شيئا لا يصح، فهل الكفر والوثنية هى الصفة التى تليق بهذا العمل؟ إن أقصى ما يمكن أن يقال فى هذه الحالة، لو صحّ القول (وهو لا يصحّ أبدا أبدا)، أنها أمر غير مستحب، وكان الله يحب المحسنين، أما أنها كفر وشرك فلا أدرى كيف يكون ذلك، إذ إن أحدا من المسلمين لا يؤلّه النبى عليه السلام ولا يستغنى به عن الله ولا يطلب منه العون من دون الله، ومن ثم لا يفتات على مقام الألوهية بأى حال من الأحوال! هل يقول أحد منا إنه عليه الصلاة والسلام (نعم "عليه الصلاة والسلام"، وإن رَغِمَتْ أنوف الكافرين القذرين)، هل يقول أحد منا إنه الله أو ابن الله أو أخو الله كما تزعم أمم أن نبيها هو الله تارة، وابنه تارة أخرى، أمم كان الكافر المجرم رشاد خليفة يعيش بين ظَهْرَانَيْها، ومع ذلك كان يثنى عليها ويرى أنها أمم مباركة فى رزقها وفى إيمانها بالله. فانظر أيها القارئ إلى هذه الوغادة وتَعَجَّبْ كما يحلو لك، فلن تستنفد العجب! إننا لا نقول إلا إنه عليه السلام عبد الله ونبيه ورسوله، وهذا هو مضمون الشهادة فى الإسلام: "أشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله" (أو "أشهد ألا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله")، وهذا هو المعنى الكامن وراء الصلاة والتسليم عليه صلى الله عليه وسلم، إذ نحن نتوجه فيها إلى الله نبتهل أن يرحمه ويكرمه، فما وجه الكفر والضلال فى هذا؟ وقد تكرر وصف هذا الحقير للرسول الأكرم بأنه "صنم"، فضلاً عن وَصْمه، فى المرة الأولى منهما، للصحابة الكرام كلهم بالكفر: "disbelievers"، إذ هم، بناءً على زعمه الكاذب مثله، قد زادوا فى القرآن آيتين لم تكونا فيه، وهما الآيتان الأخيرتان من سورة "التوبة" حسبما وضحنا فى الدراسة السابقة. وهذا هو كلامه بنصه حسبما ورد فى تعليقه على ترجمة الآية 24 من سورة "الشورى": "The disbelievers added 2 false statements at the end of Sura 9 to commemorate their idol, the prophet Muhammad. God has revealed overwhelming evidence to erase this blasphemy and establish the truth. By adding the gematrical value of "Rashad Khalifa" (1230), plus the verse number (24), we get 1254, 19x66 "، وكذلك فى تعليقه على الآية 254 من سورة "البقرة": "One of Satan's clever tricks is attributing the power of intercession to powerless human idols such as Jesus and Muhammad ". وانظر كذلك تعليقه على ترجمة الآية 14 من سورة "فاطر" حيث يكرر هذا الكافر وصفه عليه السلام بـ"الصنم". لعنة الله عليك يا أخا الضلال وأخته! لعنة الله عليك من صنمٍ حقير! وبالمناسبة فقد طمس الله هنا على بصيرة الأفاق فسمى محمدا: "النبى محمد" رغم أنه عليه السلام قد مات منذ 14 قرنا، فكذّب بذلك نفسه بنفسه، إذ زعم أنه لا يصح تسميته عليه السلام بعد وفاته بـ"النبى"، وهاهو ذا ينسى ذلك ويقع فيما يكرّهنا فيه قائلا إن القرآن لم يفعله قط!(/10)
ولكى يضحك هذا الغبى على القراء، الذين يسىء بهم الظن ككل غبى يظن كل الناس أغبياء مثله، نراه يزعم أن الآية 45 من سورة "الزمر" قد نزلت فى حق المسلمين الذين يشهدون برَسُولِيّة محمد عليه السلام إلى جانب شهادتهم بوحدانية الله سبحانه. وهذه هى الآية المقصودة: "وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ "، ومنها نلاحظ ألاّ وشيجة البتة بين الأمرين، فالآية تبكّت المشركين الذين يضيقون بما أتاهم به رسول الله من توحيد، مُؤْثِرين الوثنية والشرك الذى درجوا عليه، ومن ثم فإنهم إذا سمعوا كلمة التوحيد نفروا وانصرفت قلوبهم عن سماعها، وإذا ذُكِرَتْ أصنامهم وأوثانهم ابتهجوا وسُرّوا. وكما نرى فلا وجود لأية صلة مهما كانت بين الموضوعين حتى يحاول الأفاق أن يقنعنا بأن الآية إنما نزلت فى المسلمين لنطقهم بـ"أن محمدا رسول الله". ترى هل كان المسلمون فى أى وقت من الأوقات يعبدون الرسول عليه السلام ويشركونه مع الله فى الربوبية على أى وضع؟ أبدا أبدا. ترى هل فى الشهادة له صلى الله عليه وسلم بالرَّسُوليّة أية شبهة ولو جِدّ طفيفة من الإشراك؟ أبدا أبدا. إذن فلم كل هذه الزيظة والزمبليطة التى يحدثها "أبو المواثيق"؟ إنها الكراهية له عليه الصلاة والسلام، شأن أية بغىٍّ حقيرةٍ مع سيدة حرة كريمة من أسرة عريقة، إذ ترى البغىّ تحرص بكل سبيل على التشنيع على هذه السيدة الشريفة التى ترى فيها غريمة لها، وتفتعل المواقف للإساءة لها، ولا يهدأ لها بال إلا إذا شنّعت عليها، رغم أن الأخرى لا تحس لها بوجود ولا تعبأ بما تفعله تجاهها على الإطلاق! ثم لا ننس ما يقولونه فى الأمثال عن ذلك التافه الذى سأل أباه أن يعلّمه التفاهة (وكأن سيادته ناقص تفاهة!)، فقال له: "بسيطة! تعال فى التافهة وتَصَدَّرْ!". ورغبةً منى فى أن "أضع القارئ فى الصورة" كما يقولون أنقل له نص ما قاله قتيل توسان فى التعليق على الآية المذكورة: "Despite the clear commandment in 3:18 that the First Pillar of Islam is proclaiming: ''Ash-hadu An La Elaha Ella Allah (there is no other god beside God),'' the majority of ''Muslims'' insist upon adding the name of Muhammad. This Greatest Criterion alerts us that rejoicing in adding the name of Muhammad, or any other name, exposes disbelief in the Hereafter".(/11)
وهذا الذى يزعم أن شهادتنا لرسولنا وصلاتنا عليه لون من الشرك، وكأننا ألّهناه عليه الصلاة والسلام، هو نفسه الذى يزعم معرفته بميعاد الساعة، ذلك الميعاد الذى أكد الله مرارا فى قرآنه الكريم أنه لا أحد غيره يستطيع أن يعلمه، وأنه لن يأتى إلا بغتة. أى أن "ضلال خليفة" يشرك نفسه بالله فى معرفة أهم غيب من الغيوب، وهو غيب الساعة. فهذا الأفاق يرمى زورا وبهتانا رسول الله بما لم يَدَّعِه أو يدَّعِه له أحد من أتباعه، على حين أنه هو الذى يدَّعى لنفسه ما لم يدَّعِه أحدٌ لرسول الله. فانظروا أيها القراء وتعجبوا، والعنوا كل كذاب عديم الحياء! يقول الكذاب تعليقا على قوله تعالى فى الآية 61 من سورة "الزخرف": "وإنه (أى عيسى عليه السلام) لَعِلْمٌ للساعة، فلا تَمْتَرُنّ بها": "As detailed in Appendix 25, the End of the World is given in the Quran, and the birthdate of Jesus provided one of the significant signs that the calculations are correct. We learn that the world will end in the year 2280 (19x120) after the birth of Jesus (see 47:18). Additionally, both the lunar year (1710) & the solar year (2280) are divisible by 570 (19x30), the number of years from the birth of Jesus to the birth of Muhammad. Thus, the birthdate of Jesus is a marker.". وفى هذا النص، كما يرى القارئ، يعلن الأفاك بما لا يمكن تأويله على أى نحو من الأنحاء أنه "يعلم" أن الدنيا، بناءً على حسابه التِّسْعَشَرى، ستنتهى عام 2280م، وكأنه (أستغفر الله العظيم) كان فى اجتماع خاص مع المولى سبحانه، وكان المصباح الأحمر على باب المكتب مضاءً بما يفيد أنه اجتماع خطير لا ينبغى أن يقتحمه مقتحم تحت أى ظرف من الظروف، حيث أطلعه الله على سرّ الساعة (ليست الساعة التى عندنا فى "ميدان الساعة" بطنطا والتى لا تشتغل مُذْ كنت صبيا، بل الساعة التى تُؤْذِن بيوم القيامة)، وأفهمه أنه يأتمنه على ما لم يأتمن عليه أحدا من قبل، وأن كل ما يطالبه به هو أن يحتفظ به سرا لا يُفْشِيه لأى إنسان كائنًا مَنْ كان، لكن البكّاش خرج على الاتفاق وسرّب لنا الخبر وأفسد مباغتة الساعة، فأصبح يعرفها كل من هَبّ ودَبّ، وباخت العملية! إِخْص عليك يا رشاد! أَمَا إنك لَعَيّل بصحيح! إنك بهذا كمن يدخل فِلْمًا كان قد دخله من قبل، فظل طول العرض يحكى لجاره بصوت يسمعه سائر المشاهدين أن البطل سوف يفعل كذا، وأن البطلة سوف ترد عليه بكذا، وأن...، وأن...حتى ضج الناس من ضياع متعة المفاجأة عليهم. أترى قاتل أفّاكنا قد قتله لهذا السبب الفنى؟ بينى وبينكم هى حاجة تغيظ رغم أنى لست من أنصار التعرض بالأذى للفكر وأصحابه! لكن هل هذا فكر؟ يا لك من فطّاس كبير يا أبا الرُّشْد! لو أنك تعرف الساعة كما زعمتَ لنا كذبا ومَيْنا، فكيف فاتك أن أمريكا لن تستطيع حمايتك فأعلنْتَ أنك قد هاجرت إليها لتكون فى مأمن، لكنك أُتِيتُ من مأمنك أيها الحَذِر الغبى، وهذا إن صح أن هناك حَذِرًا غبيًّا (غيرك طبعا، فأنت أغبى الأغبياء!)؟(/12)
ويجد القارئ تكرُّر دعوى العلم بميعاد الساعة من قِبَل "رسول الميثاق" الأفاق فى تعليقه على ترجمة الآية 47 من سورة "الشورى" والآية الأخيرة من سورة "لقمان" والآية 63 من سورة "الأحزاب". ومع ذلك نراه هو وأتباعه الأنجاس المناكيد يهاجمون الأحاديث النبوية لأنها، فيما يزعمون ضمن أشياء أخرى، تسند علم الغيب والساعة إليه عليه السلام مع أنه لا يوجد حديث واحد يزعم له صلى الله عليه وسلم ذلك! أرأيت أيها القارئ قذارة اللعبة التى اخترعها هؤلاء الأرجاس هم ومَنْ وراءهم لتشويه صورة سيدنا وسيدهم رسول الله، رغم أن القبح والتشويه فيهم هم لا فى غيرهم؟ أما كيف عرف سيادة الدكتور أن الساعة ستكون سنة 2280م، فقد استخلصه (كما يقول) من عدد السنوات التى قضاها أهل الكهف فى كهفهم نائمين، وهو بالتقويم القمرى 309. فبإضافته إلى السنة التى أعلن فيها أبو الرشد (اقرأ: "أبو الضلال") أنه "رسول الميثاق وقوى الشعب العامل...إلى آخر هذا التهجيس الناصرى" تكون السنة التى تقوم فيها القيامة هى 2880م. وكله تهجيس فى تهجيس، وكما ظل عبد الناصر يقول إن الاستعمار قد انتهى زمنه وولى إلى غير رجعة، ثم جاء الاستعمار على يديه ويد "المُلْهَِمِين" من حكامنا الأشاوس من أشباهه أفظع وأشنع من الأول، فلسوف تأتى السنة المحددة وتكون فضيحة بجلاجل لأبى الرشد. لكنْ من حسن حظه أنه قد مات، وإلا لَضُرِب بالنعال القديمة حتى يجد أهلا يسألون عنه أو حتى نراه يحسب الديك حمارا كما قال أبو نواس. الواقع أنى لا أدرى أىّ جنون هذا الذى اعترى الرجل (الرجل؟)! ثم ما العلاقة بين عدد السنوات التى نامها أهل الكهف فى كهفهم وموعد قيام الساعة؟ كذلك ما السبب فى حسابه المدة التى قضَوْها فى الكهف بالقمرى، على حين أنه قد حسب المدة المتبقية على قيام الساعة بالشمسى؟ الواقع أن هذا بالضبط هو ما نسميه فى مصر: "سمك، لبن، تمر هندى".
رغم إنكاره الأحاديث:
وهذا الذى ينكر الأحاديث النبوية ويَعُدّها لونا من الشرك ويشبّهها بالتلمود اليهودى زاعمًا أنها تشكِّل دينا جديدا لا علاقة له بالإسلام (كما جاء مثلا فى تعليقه على الآية 53 من سورة "سبأ" والآية 21 من "الأحزاب") لا يستطيع فى كثير من الأحيان أن يفسر القرآن دون اللجوء إلى تلك الأحاديث التى ينكرها. ترى ما رأى القراء فى ذلك؟ ومن الشواهد على هذا الخذلان الإلهى له قوله فى التعليق على ما جاء فى الآية 11 من سورة "النور" عن حديث الإفك: "This refers to a historical incident where the Prophet Muhammad's wife Aysha was left in the desert by mistake, and later found by a young man who helped her catch up with the Prophet's caravan. This triggered the famous 'Big Lie' against Aysha، "، ومعروف أن القرآن لا يصرّح باسم عائشة رضى الله عنها فى حديث الإفك، فمن أين علم "أبو الضلال" أنها هى التى كانت تنوشها الشائعات إلا من الأحاديث النبوية؟ ومن هذه الشواهد أيضا قوله تعليقا على الآية 32 من سورة "ص": " Solomon missed his afternoon prayer because of his horses. To nullify Satan's possible claim that Solomon loved his horses more than loving God, he got rid of his horses "، ومعناه أن سليمان قد بلغ منه حب الخيل أن انشغل بها ذات يوم حتى ضاعت صلاة العصر عليه، وهذا بطبيعة الحال غير مذكور فى القرآن، ولا نعرف عنه شيئا إلا من الأحاديث النبوية التى ينكرها هذا الغبى الذى لا يستطيع النظر إلى أبعد من أرنبة أنفه المنتن! وبالمناسبة أيضا فهو، بطَمْسٍ من الله على بصيرته وذاكرته، يسمى محمدا هنا بـ"النبى محمد"، متناقضًا بهذه الطريقة مع ما يزعمه من أنه لا يصح تسميته عليه السلام بعد موته بالنبوة، وأن القرآن لا يفعل ذلك أبدا!(/13)
ومثل ذلك كلامه (أثناء تعليقه على الآية الأولى والآية 60 من سورة "الإسراء") عن المعراج الذى قام به الرسول عليه السلام إلى السماء والذى لا ذكر له صريح فى القرآن، بل فى السنّة، والسنة وحدها. أى أنه ينكر الحديث النبوى ثم لا يجد فى نفسه شيئا من الحياء يمنعه من الاستعانة به رغم هذا، ثم هو بعد ذلك يأخذ من الحديث ما "يراد له" أن يأخذه، ويترك ما لا "يعجب سادته الصهاينة والأمريكان"، فتراه يفسر "المسجد الأقصى" بأنه المكان الذى سجد فيه رسول الله فى معراجه السماوى، والذى يقع على بعد بلايين السنين الضوئية من كوكبنا فى "أقصى" نقطة فى السماء يمكن أن يصل إليها بشر، وذلك حتى لا يفكر المسلمون بعد ذلك أبدا فى الأقصى ولا فى القدس ويتركوهما لليهود ربائب العم سام (شوفوا الولد وخباثته!)، إذ أين للمسلمين المتخلفين بالسفن الفضائية التى تنقلهم إلى حيث عَرَج محمد عليه السلام ليطالبوا بحقهم فى مسجد رسولهم هناك على بعد بلايين السنين الضوئية، وهم الذين لا يستطيعون حتى الآن أن يصنعوا طائرة ورقية من التى يلعب بها الأطفال والتى لا تزيد فى مدى طيرانها عن مائتى متر غالبا، بل يستوردونها من الصين، ولا أظن أنهم سيستطيعون صنعها قبل قيام القيامة الرشادية التى لا تبعد عنا أكثر من فركة كعب؟ باختصار: لقد ضاعت القدس يا ولدى ومعها الأقصى، ولا عزاء للعرب، والبركة فى "رشاد ساعة لقلبك": " "The Aqsa Mosque" means "the farthest place where there is prostration," many billions of Light Years away. This verse informs us that Muhammad, the soul, was taken to the highest Heaven to be given the Quran (2:185, 44:3, 53:1-18, & 97:1)". ولكن ثمة عددا من الأسئلة التى تحتاج إلى جواب: ترى هل يجوز أن يقال إن الرسول قد سجد لله فى ذلك المكان الذى يبعد عن الأرض بلايين السنين الضوئية طبقا لحسابات عبقرينا الذى لم تلده ولادة؟ هل هناك أرض يضع الساجد جبهته عليها حتى يمكن أن يقال إنه قد سجد؟ وهذا لو كان المعراج بالروح والجسد معا، أما حين نسمع "عبقرينونا" يؤكد أنه كان بالنفس (soul) فقط، فكيف يتم السجود فى هذه الحالة؟ ثم كيف عرف بسلامته أنه كان هناك سجود فى ذلك المعراج؟ لم يذكر القرآن شيئا عن ذلك، وليس فى الأحاديث النبوية أى كلام عن سجود أو ركوع أو تشهد أو تسليم، بل ليس فيها أية إشارة مهما كانت عن الصلاة، اللهم إلا فى بيت المقدس الذى فى فلسطين حينما أمّ عليه السلام إخوانه الأنبياء! فما معنى ذلك كله؟ معناه أن ما يقوله ذلك الكائن هو هراء فى هراء كان يجب أن يخجل منه لو كان عنده شىء من الدم! ثم إن الكلام فى آية الإسراء عن مسجدين، ومعنى هذا الربط بين المسجدين أن كلا منهما يشبه الآخر من حيث إنه مَبْنًى من المبانى التى تؤدَّى فيها الصلاة لله على الطريقة التى نعرفها، فهل يمكن أن ينطبق هذا على ذلك المسجد الذى يقع على لا أدرى كم من بلايين السنين الضوئية؟ أم تراه سيقول إنه قد جاءه وحى بذلك؟ أم سيقول إن أمريكا استطاعت قبل نشوئها بقرون أن تتنصت وتتجسس على محمد وما عمله فى رحلته تلك وحفظته فى غرفة السجلات الخاصة بالمخابرات المركزية ولم تُطْلِع عليه إلا أبا الرشد، بالضبط كما كان هو الوحيد الذى احتكر معرفة الميعاد الخاص بقيام الساعة حسب إفكه وضلاله؟ وأخيرًا، وليس آخرًا، ما الداعى يا ترى لقيام سيدنا رسول الله بالرحلة المذكورة على مدى بلايين السنين الضوئبة إذا كان الأمر لا يخرج عن أن تكون رحلة نفسية؟ إن الرحلة النفسية لا تحوج الواحد منا أن يتحرك من مكانه ولو خطوة واحدة! إنها أحلام يقظة، وفى أحسن الأحوال هى أحلام منام!
تناقضاته:(/14)
ومن تناقضاته الكثيرة تكراره التأكيد بأن الصالحين لا يموتون، بل يذهبون مباشرة إلى الجنة التى كان فيها آدم وحواء فى البداية، ليعيشوا فى النعيم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ومن أمثلة ذلك قوله تعليقًا على الآية 26 من سورة "يس": "The righteous do not really die; they simply move on to the same Paradise where Adam and Eve lived. They join the prophets, saints and martyrs in an active and utopian life"، على حين نجده يقول شيئا آخر تماما فى تعليقه على الآية 68 من سورة "الزُّمَر"، ولنستمع: "The sequence of events on the Day of Resurrection begins with the symbolic blowing of the horn. The second blowing of the horn- by a creature who was spared from unconsciousness- marks the resurrection of all people; they will be resurrected on today's earth. This earth will then be destroyed by the physical coming of God, then a new earth and new heavens will be created (14:48). We will then be stratified according to our degree of development "، أى أنه "حين يتم النفخ فى الصُّور فسوف يُبْعَث الناس جميعا"، بما يعنى أن الناس سيكونون كلهم عندئذ ميتين، وليس هناك أحد فى الجنة. بل لقد أعلنها صريحة عندما قال، تعليقا على الآية 32 من سورة "النحل"، إن الصالحين لا يموتون إلا الموتة المعروفة، ثم بعد قيامهم من قبورهم يوم النشور، أى بعد انصرام ما نَعَتَه بـ"الفترة الانتقالية"، يذهبون إلى الجنة. وهذا عكس ذاك تماما كما قدّمنا وكما يرى القارئ بنفسه! بل إنه ليتوغل فى التناقض زاعما، فى تعليقه على الآية 71 من سورة "مريم"، أن الصالحين وكل البشر سيذوقون النار لمدة محدودة بعد البعث إلى أن ينزل الله "نزولا ماديا" إلى عالمنا هذا، فعندئذ يخلّص الصالحين من العذاب الذى يقاسونه: " we will be resurrected prior to God's physical arrival to our universe. That will be a temporary taste of Hell, since the absence of God is Hell. When God comes (89:22), the righteous will be rescued. See 19:72. "!
ومن تلك التناقضات إعلانه فى أحد تعليقاته، وبجرأة جاهلة، أن المعجزة الحسابية القائمة على الرقم 19 هى معجزة القرآن الوحيدة: " Since the Quran's miracle is mathematical, the numbers especially constitute an important part of the 19-based code. Thus, the numbers mentioned in the Quran add up to 162146, or 19x8534" (انظر تعليقه على الآية 14، حسب ترقيمه هو، من سورة "العنكبوت")، ثم تأكيده رغم ذلك فى تعليق آخر أنهما معجزتان لا معجزة واحدة: المعجزة الحسابية، والمعجزة الأدبية: "Our generation is fortunate to witness two awesome phenomena in the Quran: (1) an extraordinary mathematical code, and (2) a literary miracle of incredible dimensions. If humans attempt to write a mathematically structured work, the numerical manipulations will adversely affect the literary quality. The Quran sets the standard for literary excellence" (انظر تعليقه على الآيتين الأولى والسابعة عشرة من "هود"). وطبعا نحن نعرف أن معجزة القرآن أكبر من أن تنحصر فى هذين الجانبين فقط.
معجزة الرقم 19 البهلوانية:(/15)
وهو يختزل المعجزة القرآنية إلى ما يسميه معجزة الرقم 19، ويفرض هذا العدد فرضا على كثير جدا من الآيات التى يلوى تفسيرها زاعما أنها تتحدث عنه، مع أنه لا علاقة لها، ولا يمكن أن يكون لها ولا لغيرها من الآيات علاقة، به من قريب أو من بعيد. وكل ذلك فى نرجسية واضحة منفرة، فالرسول (أى رسول) لا يمكن أن يكون بهذه العقلية البهلوانية ولا بهذه النفسية التى تستجدى المديح استجداء بل تصطنعه اصطناعا وتَكْذِب فى سبيله الأكاذيب الرخيصة المفضوحة على مدار القرآن كله. وإلى القارئ بعضًا من النصوص التى لَوَى سيادته أعناقها والتعليقات التى زيّفها وفرضها عليها فرضا دون أن يكون هناك مستنَد يعتمد عليه فى هذا التفسير على الإطلاق، لا من اللغة ولا من السياق ولا من المنطق العقلى ولا من روح القرآن: فمثلا فى قوله عز شأنه فى الآية 64 من سورة "النور": " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَه عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَك أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُم اللَّهَ إِنَّ اللَّه غَفُورٌ رَّحِيمٌ {62 لا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُول بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِين يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِه أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {63 أَلا إِنَّ لِلَّه مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْم يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" نراه يعلق قائلا: "This verse refers to God's Messenger of the Covenant; by adding the gematrical value of "Rashad" (505) plus the value of "Khalifa" (725), plus the verse number (62), we get 1292, a multiple of 19 (1292=19x68) "، ومعناه أن هذه الآية إنما تشير إلى "رسول الميثاق"، إذ بإضافة القيمة الرياضية لكلمة "رشاد" (505) زائد قيمة "خليفة" (725) زائد رقم الآية (62) نحصل على 1292، وهو مضاعف العدد 19. وبالمناسبة فرقم الآية فى المصحف هو 64 وليس 62 كما قال هو، وهو ما ينفى الدعوى الرقمية نسفا من الأساس. وانظر أيضا تعليقه على الآيات 214- 223 من سورة "الشعراء" حيث يلجأ إلى ذات اللعبة الخائبة التى يظن أنها توصّله إلى شىء، وما هى بنافعته على الإطلاق، اللهم إلا عند من فى قلوبهم مرض مثله، وإن كان قد غيّر قواعد اللعبة هذه المرة، إذ أضاف إلى عملية الجمع رقم السورة أيضا!(/16)
وفى تعليق آخر من تعليقاته فى ترجمته المتهافتة الركيكة نراه يتجاوز حدوده مع الرسول الكريم، فيقول: "It was the will of the Most Wise to separate the Quran from its awesome mathematical miracle by 1400 years. Seeing how the Muslims en masse have idolized Muhammad, it is obvious that if the Quran's mathematical miracle were also revealed through Muhammad, many people would have worshiped him as God incarnate. As it is, God willed that the great miracle of the Quran (74:30-35) shall await the computer age, and to have it revealed through His Messenger of the Covenant" ، ومعناه أن مشيئة الله وحكمته قد اقتضت أن يفصل بين معجزة الرقم 19 وبين نزول القرآن بألف وأربعمائة سنة، إذ نظرًا لما صنعه المسلمون جميعا من اتخاذ محمد صنما فمن الواضح أنه لو كانت هذه المعجزة قد نزل بها الوحى على محمد لكان كثير من الناس قد عبدوه بوصفه إلها متجسدا. وكما هو الحال فقد اقتضت مشيئة الله أن تنتظر هذه المعجزة حتى عصر الحاسوب وأن ينزل الوحى بها على "رسول الميثاق" (انظر تعليقه على الآية 51 من سورة "العنكبوت"). وطبعا من الواضح أن المسلمين قد أفاقوا من الكفر الذى وقعوا فيه طَوَالَ الأربعة عشر قرنا الماضية وتخلَّوْا عنه بعد أن هلّ علينا رشاد أفندى وأصبحوا موحِّدين أخيرا وبعد طول عناد وغباء! بل إنه ليعلن فى جرأة جاهلة مقيتة أن المعجزة الحسابية القائمة على الرقم 19 هى المعجزة الوحيدة الموجودة فى القرآن: "Since the Quran's miracle is mathematical, the numbers especially constitute an important part of the 19-based code. Thus, the numbers mentioned in the Quran add up to 162146, or 19x8534" (انظر تعليقه على الآية 14، حسب ترقيمه هو، من سورة "العنكبوت"). ومن هنا فلا غرو أن يفسِّر "الذكر" فى القرآن الكريم بهذا الذى يسميه: "معجزة الرقم 19" (انظر تعليقه على الآية من سورة "يس")، ذلك الرقم الذى يعترف هو بعظمة لسانه فى تعليقه على الآية 10 من سورة "الأحقاف" أنه قد سبقه الحاخام يهودا التقىّ فى القرن الحادى عشر الميلادى إلى تطبيقه على قطعة من العهد القديم لم تمسّها يد العبث! ومن هنا نراه، فى تعليقه على الآية 13 من سورة "هود"، يعلن أن كتاب موسى أيضا مؤسس على الرقم 19: "Moses' book was also mathematically composed, with "19" as the common denominator"، وهو ما لا أستطيع أن أتخيل كيف يمكن إثباته على أرض الواقع حتى لو صحّ أن الحاخام المذكور قد نجح فى تطبيق الرقم 19 على قطعة من العهد القديم، لأن ما ينطبق على الجزء لا ينطبق بالضرورة على الكل، وبخاصة أن أصل ذلك الكل لم يعد له وجود. ولعل القراء يذكرون النص الذى أوردتُه لهم قبلا من كلام مسيلمة المتأمرك الأفاق عن استعانته بعدد من خريجى الجامعات والحواسيب كى يصل إلى تلك النتائج البائسة الخاصة بالرقم 19 والتى ذكر هو أيضا أنهم قد ارتكبوا أخطاء كثيرة قبل أن يصلوا إلى ما وصلوا إليه منها، مما يدل على أن المسألة ليست من الوحى السماوى فى قليل أو كثير، وبالذات حين يعرف القراء الكرام أن كثيرا من تلك النتائج هى نتائج مضروبة كما بيّن عدد من الدارسين الذين أوردتُ مقالاتهم فى هذا الصدد فى نهاية دراستى السابقة عن "رسول الميثاق الأفاق".
جهله فى تفسير القرآن:(/17)
وهو فى تفسيره للقرآن يلجأ لما يلجأ إليه حكام العالم الثالث من إلقاء التصريحات التى تعجب الجمهور الجاهل رغم أنها لا تقدم ولا تؤخر ولا تنفع الناس فى شىء، كما أنها لا تكلف صاحبها شيئا، إذ لا تعدو أن تكون كلاما يطير فى الهواء وينساه الناس بعد حين! خذ عندك مثلا تصريحه الأبله بأن من يموت قبل بلوغ الأربعين من عمره سوف يدخل الجنة بغير حساب. ولا يستطيع أشد الناس عبقرية أن يعرف من أين لمسيلمتنا بهذا التشريع! ذلك أننا كلنا نعرف أن سن الرشد فى بلاد العالم بوجه عام، وهو السن الذى تبدأ معه المسؤولية الفردية والحساب، هو بلوغ الحُلُم أو ما يقاربه، أما بلوغ الأربعين فهذه أول مرة أسمع به. إن معنى ذلك هو دخول الأغلبية الساحقة الجنة دون حساب ولا عقاب ولا حتى عتاب مهما فعلوا، وهذا معناه تشجيع الجرائم والمجرمين، إذ كل إنسان يستطيع قبل الأربعين أن يزنى كما يحب ويسرق ويختلس، ويحتقر الآخرين ويسبهم ويغتابهم وينمّ بينهم، ويخون بلده ويخلف وعده ويبخل بالمال على الفقراء والمساكين، ويغش فى الامتحان ويطفّف فى الكيل والميزان ويحتكر السلع ويرشو المسؤولين ليحصل على ما ليس له بحق، ويغتصب الحكم ويستبد بالشعب ويسومه الخسف والهوان، ويعبث مع البنات القاصرات ويجمع الملايين من المظانّ الحرام ويدعى أنه "رسول الميثاق" ويضع يده فى يد الأمريكان دون أن يشغل باله بشىء. ألم يصرح له أبو الرشد بأنه فى مأمن من غضب الله بَلْهَ من عقابه، وأن أقصى ما سيتعرض له أنه لن يدخل الجنة العليا، بل السفلى! إنه مولد، وصاحبه غائب! والعجيب أن هذا الضالّ المضلّ حين يعيب المسلمين بما ليس فيهم ويرميهم بكل منقصة ويتوعدهم بكل مصيبة لا يفكر أبدا فى استثناء من لم يبلغوا الأربعين منهم، بل لم يفكر حتى فى استثناء الأطفال من ذلك. إن مسيلمة الأفاق يتصور أن بمستطاعه تضليل الناس عن حقيقة أمره بتقديم مثل هذه التصريحات التى لم يبال بها الناس ولم يقبلوا على دينه الكاذب مثله من جَرّائها، بل نظروا إليه كما نظر المسلمون الأوائل إلى تصريحات مشابهة لأستاذه مسيلمة الأصلى حين أعلن أنه قد ألقى عن كاهلهم شطر الصلاة واكتفى منهم كل يوم بصلاتين اثنتين فقط لا غير، فكانت نتيجة ذلك أن قالوا له: "على الجزمة القديمة"، وقتلوه قتلة الكلاب الضالة، وانقلبت عليه حتى سجاح، والعقبى لسجاح الثانية لتُفِيق مما هى فيه وتنقلب على هذا المسيلمة، يا رب! وقد ظن "رسول الميثاق الأفاق" أن بإمكانه الاعتماد فى تضليله هذا على قوله سبحانه فى سورة "الأحقاف": "قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُم إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ {10 وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُو لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِه فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ {11 وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِر الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ {12 إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ {13 أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {14 وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْه كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ {15 أُوْلَئِكَ الَّذِين نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَاب الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ {16 وَالَّذِي قَال لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُول مَا هَذَا إلاّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ {17 أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِم الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ {18 وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُم لا يُظْلَمُونَ {19" (انظر تعليقه على الآية 53 من سورة "العنكبوت" والآية 15 من سورة "الأحقاف"، وكذلك ملحق الترجمة رقم 32).(/18)
إن المسؤولية الأخلاقية فى الإسلام تبدأ مع بلوغ الحُلُم، وليس فى الآيات السابقة ما يريد هذا الكائن أن يضللنا به، فهى لا ترسى تشريعا بل تحكى لنا خبرا عن شخصين أحدهما آمن بالله وأخذ يبتهل إليه سبحانه أن يساعده على شكر نعمته وعلى تسهيل العمل الصالح عليه حتى يرضى عنه، والثانى عاصٍ لوالديه المسلمَيْن اللذين يدعوانه إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، لكنه ينكر ويتأفف قائلا إن ما يدعوانه إليه ليس إلا أساطير الأولين. فكما يرى القارئ لا كلام هنا عن سن التكليف بتاتا، بل حكاية لخبر. لكن هناك أحاديث وردتنا عن النبى الكريم مثل قوله عليه السلام: "رُفِع القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله حتى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم [رواه الإمام أحمد وأبو داود والحاكم]"، وهو ما تتجاوب معه الآيات القرآنية التى تتحدث عن بلوغ الحُلُم أو بلوغ الأَشُدّ أو بلوغ الرُّشْد أو الظهور على عورات النساء...إلخ، بيد أن صاحبنا وشيعته لا يقرون بالسنة النبوية، وهم بهذا إنما يهدفون إلى الانفلات من الضوابط الشرعية والإتيان بكل غريبة وشاذة دون حسيب أو رقيب حتى يكثر الخلاف بين أمة محمد ولا يجد المسلمون مرجعا يستندون إليه فيما لم يحدده القرآن تحديدا مفصلا فتكون فتنٌ لا تنتهى، وهذا مثال واضح على ما نقول. وهناك مثالان آخران سبق أن تعرضت لهما فى دراستى السابقة عن "رسول الميثاق الأفاق"، ألا وهما موضوع ملابس النساء وكيفية الصلاة. وقد فصَّلْتُ القول بعض الشىء فى الموضوع الأول، وأُحِبّ أن أزيد الموضوع الخاص بكيفية الصلاة فى الإسلام شيئا من التفصيل.(/19)
لقد أكثر صاحبنا القول بأن الصلاة التى نصليها نحن المسلمين إنما ورثناها عبر العصور، عصرا وراء عصر، عن خليل الله عليه السلام، يريد بذلك أن يقول إن السنة النبوية لا فضل لها فى إيضاح كيفية الصلاة على عكس ما يعتقد المسلمون، الذين يَرَوْن أن أحاديث رسول الله لا يمكن الاستغناء عنها، وإلا سقط شطر كبير من الدين. وأنا لا أدرى كيف كان هذا المسيلمة المنافق يصلى ولا كيف يصلى أتباعه الآن، لكنى أحب أن أتساءل: من أين لكم بالكيفية التى كان إبراهيم يؤدى بها الصلاة لو افترضنا أن صورة الصلاة عنده هى هى نفسها صورتها فى ديننا الآن؟ لقد ذكر القرآن صحف إبراهيم، لكن كل ما قاله عنها لا يعدو الإشارة إلى تضمُّنها مبدأ المسؤولية الفردية والحساب الأخروى والإيمان بأن الله هو خالق كل شىء حسبما جاء فى سورة "النجم" وسورة "الأعلى"، وهما الموضعان القرآنيان الوحيدان اللذان ورد فيهما الكلام عن صحف إبراهيم. أما هذه الصحف الإبراهيمية ذاتها فقد أصبحت فى خبر "كان"، ولم يعد لها وجود بتاتا. فهل فى القرآن نفسه شىء عن ذلك الموضوع إذن يا ترى؟ الواقع أنه لا يوجد فى القرآن أى شىء عن صلاة إبراهيم، اللهم تلك الإشارة العارضة فى دعائه عليه السلام لذريته حين تركهم عند البيت الحرام: "ربنا، ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم" (إبراهيم/ 37)، أو فى قوله مبتهلا إلى ربه: "ربِّ، اجعلنى مُقِيم الصلاة ومِنْ ذريتى" (إبراهيم/ 40)، أو قوله سبحانه يُثْنِى على ابنه إسماعيل عليه السلام: "وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة، وكان عند ربه مَرْضِيًّا" (مريم/ 55)، وهو أقصى ما نعرفه أيضا عن موسى وهارون وقومهما: "واجعلوا بيوتكم قبلة، وأقيموا الصلاة" (يونس/ 87)، وشُعَيْب: "قالوا: يا شُعَيْبُ، أصلاتُك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل فى أموالنا ما نشاء؟" (هود/ 87)، وزكريا: "فنادته الملائكة وهو قائم يصلى فى المحراب..." (آل عمران/ 39)، وعيسى: "وجعلنى مبارَكًا أينما كنتُ وأوصانى بالصلاة والزكاة ما دمتُ حيًّا" (مريم/ 31). فلا متعلَّق إذن لهؤلاء البائسين بإبراهيم ولا غيره من الأنبياء فى القرآن من هذه الناحية، فهل يا ترى يمكن أن نجد فى الكتاب المقدس شيئا عن كيفية صلاته عليه السلام؟ الواقع أنه لا يوجد فيه هو أيضا إلا أنه عليه السلام، عند ظهور الله له ومعاهدته إياه، قد "سقط على وجهه" (تكوين/ 17/ 3)، وهى كلمة لا ندرى ماذا تعنى بالضبط، وإلا قول مؤلف سفر "التكوين" (20/ 17): "فصلى إبراهيم إلى الله" شكرا له سبحانه على إرجاعه سارة إليه من يد أبيمالك، لكن كيف صلَّى؟ لا جواب! وفى موضع آخر من نفس السفر (23/ 7) نقرأ أنه قد سجد لبنى حثّ شكرا لهم على ما وهبوه من قطعة أرض. أما بالنسبة إلى بقية الأنبياء وبعض شخصيات الكتاب المقدس الأخرى فهناك إشارة إلى سجود لوط حين رأى الملاكين على باب سدوم مساءً (تكوين/ 19/ 1)، وهناك ما ذكره مؤلف سفر "التكوين" (48/ 12) من سجود يوسف "أمام وجهه إلى الأرض" عند مجىء أبيه وأمه من كنعان إلى مصر: هكذا كلامًا عامًّا، وسجود إخوته إليه (تكوين/ 42/ 6 وما إلى هذا)، كما تكرر القول فى الأسفار المختلفة إن النبى أو الشخص أو الشعب الفلانى "صلى أمام الرب" (بمعنى "دعاه وابتهل إليه") أو خرّ على وحهه وسجد، وكذلك ما ورد فى المزمور 95/ 6 على لسان داود من قوله:"هلم نسجد ونركع ونجثو أمام الرب خالقنا"، أو قول عيسى عليه السلام: "للربّ إلهك تسجد" (لوقا/ 4/ 8). لكن هل هى صلاة كصلاتنا بكلام ككلامنا (بغض النظر عن القرآن الكريم الذى لم يكونوا يعرفونه آنذاك)، وأفعال كأفعالنا، وأوقات معلومة كما هو الوضع عندنا، أم هل هو مجرد سجود وركوع عفوى وقتى وكفى؟ لا جواب، وإن كان الغالب على الذهن، على الأقل من بعض النصوص وسياقاتها، أن الاحتمال الأخير هو المقصود. وبالمناسبة فالسجود كثيرا ما يكون فى الكتاب المقدس للملوك والعظماء دون أن يكون هناك إنكار على من يصنع هذا! والكتاب المقدس متاح لكل باحث يريد أن يتحقق بنفسه. ليس ذلك فقط ففى القرآن الكريم أن اليهود فى المدينة كانوا إذا سمعوا نداء المسلمين إلى الصلاة "اتخذوها هزوا ولعبا" (المائدة/ 58).(/20)
قد يقول هؤلاء البائسون إن العرب قد ورثوا عن إبراهيم كيفية أداء هذه الشعيرة حتى وصلت إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ("صلى الله عليه وسلم" برغم أنف كل أفاك لئيم يكره رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، وتغيظه الصلاة والتسليم عليه صلى الله عليه وسلم)، وجوابنا هو: أين فى تاريخ العرب كأُمّةٍ أنهم كانوا يصلّون لله على النحو الذى نصلى نحن به فى الإسلام؟ فى القرآن الكريم نقرأ مثلا: "وما كان صلاتُهم عند البيت إلا مُكَاءً وتصدِيَةً (أى صفيرًا وتصفيقًا)، فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون" (الأنفال/ 35)، "أرأيت الذى ينهى* عبدا إذا صلَّى؟" (العَلَق/ 10)، وهو ما يعنى أن المشركين كانوا يضيقون أشد الضيق بصلاة النبى عليه السلام ويتعرضون له ويؤذونه. قد يقال إن بعض الحنفاء كانوا يعبدون الله على ديانة إبراهيم، والجواب أيضا أن ما وردَنا فى المصادر العربية القديمة عن ذلك الموضوع إنما هو كلام عام دون أى تحديد لكيفية عبادتهم لربهم سبحانه، وإلا فليذكر لى من يخالفنى: أين يا ترى يمكن أن نجد نصًّا فى تراثنا يحدد لنا الكيفية التى كان الحنفاء يؤدون بها الصلاة، فضلا أن تكون صلاتهم كصلاة المسلمين؟ هذا هو الكلام العلمى لا البكش الذى يهجس به أولئك الأفاقون وأشباههم، وإلا فليأت لنا من يعترض على ما نقول بما يثبت خطأه، ونحن نرجع عندئذ عما نقول عن طيب خاطر أو حتى برغم أنوفنا، إذ الحقُّ أحقُّ أن يُتَّبَع. ولنفترض بعد ذلك كله أن جميع ما قلناه غير صحيح، وأن إبراهيم عليه السلام كان يصلى بصلاتنا هذه، وأنها وصلت إلى الرسول على وضعها الصحيح، فإنه يبقى بعد ذلك كله أيضا أن الرسول والصحابة هم همزة الوصل بيننا وبين تلك الصلاة الإبراهيمية. أى أن السنة النبوية هى الطريق التى سلكتها صلاة إبراهيم حتى وصلت لنا. ولعدم وجود دليل فى أيدى هلاّسينا فإنهم يلجأون إلى الكلام المرسل المبهم الذى لا يؤكِّل عيشًا ولا يَنْكِى عدوًّا كما هو الحال فى النص التالى مثلا، وهو موجود لمن يريد التأكد منه فى ملحق الترجمة الرشادية رقم 15: "Another proof of divine preservation of the Islamic practices given to Abraham is the "Universal Acceptance" of such practices. There is no dispute concerning the number of Rak`ahs in all five daily prayers. This proves the divine preservation of Salat"، وترجمته كما يلى: "هناك برهان آخر على حفظ الله للشعائر التى نزلت على إبراهيم ، ألا وهو "القبول العام" لهذه الشعائر، إذ لا خلاف على عدد الركعات فى الصلوات الخمس، وهذا يدل على حفظ الله لهذه الفريضة". لكننا نقول إن هذا "القبول العام" الذى يتحدث عنه صاحبنا المنافق ليس له من أساس غير السنة النبوية قولا وعملا، وإن كنت فى ريب من التزامه هو وأتباعه بالصلاة كما وصلتنا عن رسول الله وصحابته الكرام، فهم يَعُدّون الشهادة لسيدنا محمد بالرَّسُولية كُفْرًا وشِرْكًا كما نعرف، ومعنى ذلك أن "تحياتهم" ناقصة على الأقل. ومرة أخرى أكرر أن من يثبت عكس هذا الذى أقول عن صلاة إبراهيم عليه السلام فلْيذكر لنا مصادره، فقد تتبعنا كل السبل التى توصِّلنا إلى خليل الرحمن فلم نعثر على شىء يمكن أن يهدينا إلى كيفية أدائه لهذه الفريضة بتاتا. وهذا طبعا إن كانت صلاته كصلاتنا، ولم تكن تؤدَّى بكيفية أخرى! وعلى ذكر "القبول العام" لماذا يا ترى لم يتخذ هذا المعيار الذى يتمسك به كلَّ هذا التمسك أداةً لقبول الأحاديث النبوية الكريمة التى تحظى من كل المحدِّثين بالتصديق؟ أليس هذا هو أقل ما كان ينبغى أن يفعله بناء على ذلك المقياس الذى رأى فيه دليلا قاطعا على صحة كيفية الصلاة كما وصلتنا عن الرسول وصحابته؟(/21)
وأخيرا هذه هى الآيات التى يزعم "رشاد ساعة لقلبك" أنها تدل على أن شعائر العبادات فى دين محمد هى هى نفسها شعائر العبادات فى دين إبراهيم: "رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ " (البقرة/ 128، والمتحدثان هما إبراهيم وإسماعيل عليهم السلام)، " ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" (النحل/ 123)، " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {77 وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ " (الحج/ 77- 78). فهل فى هذه النصوص ما يدل على أن تفاصيل العبادات فى ديانة إبراهيم هى هى نفسها فى ديانة محمد عليه السلام، فضلا عن أن تكون قد رسمتْ لنا الكيفية التى كانت تؤدَّى بها هذه العبادات أو حَدَّدَتْ عدد الصلوات فى اليوم أو ذكرتْ أن الخليل عليه السلام كان يصلى صلاة الجمعة؟ ليس فى الآية، كما هو واضح، إلا الركوع والسجود، ومن ثم فليس بين أيدينا وثيقة تبين لنا كيف كان إبراهيم عليه السلام يؤدى صلاته.
ومن جهل جاهلنا الميثاقى أيضا تفسيره دابة الأرض فى قوله تعالى: "وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون" (النمل/ 82) على أن المقصود بها الحاسوب، الذى استطاع من خلاله "أبو لمعة الأصلى" أن يتوصّل إلى اكتشاف معجزة الرقم 19 التى صدّع بها أدمغتنا بالبكش والتى نسفها له العلماء والباحثون المحترمون (انظر تعليقه على تلك الآية). فهل الحاسوب فى اللغة العربية (أو غير العربية) يُعَدّ بأى معنى دابةً من الدواب؟ لقد كان أهل العِزَب المجاورة لقريتنا فى الخمسينات يسمون الدراجة: "الحمار الحديد"، وكان لهم من جهلهم وتحرك هذه الآلة على عجلتين وركوبهم إياها وحملها لأثقالهم عذر فيما يقولون. لكن ما عذر هذا الأفاق فى تفسيره الحاسوب بـ"الدابة"؟ هل له أربع أرجل أو أربع عجلات، أو حتى رجلان أو عجلتان يتحرك بهما؟ وهل هو يحمل الناس والأشياء من مكان إلى مكان كما تصنع الدواب؟ بل هل هو يدبّ دبيبا؟ وهل الحاسوب خرج من الأرض؟ وهل كلَّم أحدًا وقال: إن الناس كانوا بآيات الله لايوقنون؟ وهل كان الناس لا يوقنون بالقرآن حتى أتاهم الحاسوب واستخدمه أبو الرشد فى ممارسة بهلوانياته الخنفشارية، فعندئذ آمنوا به وصدّقوه؟ بل هل صدَّق الناس ما قاله ذلك الحاسوب؟ الجواب فى كل ذلك هو: لا، لا، لا، لا، لا، لا، لا، لا، لا. ليس ذلك فقط، بل إن الحواسيب لَتُسْتَخْدَم فى كثير من الحالات لمحاربة الخلق الكريم والإيمان القويم، ومنها استخدام رشاد خليفة لها فى نشر الضلالات والبهلوانيات الكفرية بين المسلمين لفتنتهم عن دينهم! الواقع أن الحاسوب ليس هو الدابة، بل الذى يفسر الحاسوب بأنه دابة هو الدابة، وكل إناءٍ ينضح بما فيه! ومن جهل جاهلنا كذلك وبكشه تفسيره "المدَّثِّر" فى مطلع سورة "المدثر" بـ"السر الخفىّ"، يقصد ما يسميه: "معجزة الرقم 19". وهذه هى الآيات المقصودة: "يا أيها المدّثّر* قم فأَنْذِر* وربَّك فكَبِّر* وثيابَك فطَهِّر* والرُّجْزَ فاهْجُر* ولا تمنُنْ تستكثِر* ولربك فاصبر". أى أن الله سبحانه، حسب تفسير هذا الأفاك الضال، ينادى السر المختفى فى الحاسوب أن يقوم من مكانه (أو منامه أو طعامه، لا أدرى بالضبط!) فينذر الناس ويكبِّر الله ويهجر الرُّجْز ويطهّر ثيابه ويمنّ على المحتاجين ويصبر على لأواء الدعوة! هل رأيتم تفسيرا عبقريا كهذا التفسير الذى لا يمكن أن يخطر إلا فى بال سكرا(/22)
رصيدك في بنك الصحة!
د.محمد هيثم الخياط
منظمة الصحة العالمية
________________________________________
للصحة في الإسلام بُعْدان اثنان هما: "الميزان الصحي"، و"الرصيد الصحي".
* الميزان الصحي:
نجد البُعْد الأول في كلام ربنا عز وجل، متحدثًا عن هذا التوازن الذي وضعه الله في طبيعة هذا الكون بمختلف منظوماته ومنها الإنسان: "…وَوَضَع الميزان * ألا تَطْغَوْا فِي الْمِيْزان * وَأَقِيْمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوْا الْمِيْزَان" (الرحمن: 7 - 9)، فلفت - سبحانه - النظر إلى هذا التوازن الذي ينظم كل شيء، ونَبَّه إلى أن أي انحراف ـ أيًّا كان اتجاهه، طغيانًا كان أم إخسارًاـ يمكن أن يُخِلَّ بهذا الميزان ويفضي إلى أسوأ العواقب: "يَا أَيُّها النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُم…" (يونس: 23).
ولقد فهم الطبيب العربي والمسلم ذلك واستوعبه وطبَّقه في مجال الصحة مُعَبِّرًا عن هذا التوازن الديناميكي بتعبير الاعتدال، فقال علي بن العباس مثلاً بكل إيجاز: "والصحة هي اعتدال البدن"، وعبَّر عن ديناميكية هذا التوازن ابن سينا بقوله: "الاعتدال الذي للإنسان له عرض (مجال).. وله في الإفراط والتفريط حَدَّان".
* الرصيد الصحي:
أما البُعْدُ الثاني فينطلق في الأساس من قول النبي (صلى الله عليه وسلم) فيما رواه البخاري عن ابن عمر: "وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِك"، وهذا حديث عن "رصيد صحي" يحافظ عليه المرء ويُنَمِّيه؛ ليستعين به على مجابهة المرض، فالمرض كما تقدم إخلال بالميزان الصحي، ومجابهته تكون بالمحافظة على الميزان الصحي، ومنع اختلاله، واستعادة التوازن الصحي كلما اخْتَلّ، ولن يتأتى ذلك ما لم يكن لدى الإنسان مثل هذا الرصيد الصحي الذي يستعين به ويتسلح به.
وقد أطلق المحدثون عبارة "تعزيز الصحة" على مجموعة الوسائل المُتَّخَذة لتقوية الرصيد الصحي وتنميته للحفاظ على كَفَّة الصحة راجحة، فأما من ثقلت موازينه الصحية فهو في خير صحة وعافية، وأما من خَفَّت موازينه الصحية فهو فريسة للأمراض والأسقام.
والذي يمكن أن يخفف موازين الصحة إن ساء، ويُثْقِل موازين الصحة إن حَسُن، مجموعة من عوامل في الإنسان والبيئة، أطلق عليها ابن سينا اسم "الأسباب المُغَيِّرة أو الحافظة لحالات بدن الإنسان"، وأدرج فيها العوامل التالية: "… الأَهْوِيَة وما يتصل بها، والمطاعم والمياه والمشارب وما يتصل بها، والاستفراغ والاحتقان، والبلدان، والمساكن وما يتصل بها، والحركات والسكونات البدنية والنفسانية ومنها النوم واليقظة، والاستحالة في الأسنان، والاختلاف فيها وفي الأجناس، والصناعات، والعادات". وقد أضاف إلى ذلك علي بن العباس "الرياضة، والدَّلْك، والاستحمام، والجماع"، وقال عن هذه الأسباب:
".. وذلك أن هذه الأمور متى اسْتُعْمِلَت على ما يجب أن يستعمل، وعلى حسب الحاجة إليها في كل واحد من الأبدان، في الكمية والكيفية والوقت والترتيب، حفظت الأمور الطبيعية على حالها، ودامت بذلك صحة البدن!".
وليس يخفى أننا نستطيع أن نقسم هذه العوامل إلى مجموعتين اثنتين، متصرفين بعض التصرف في المصطلحات؛ لنستعمل تعابير العصر الحاضر، والمجموعة الأولى هي: البيئة، والمجموعة الثانية هي: السلوك المتعلق بالصحة وهي أنماط الحياة. وعن أنماط الحياة هذه يقول علي بن العباس: "ينبغي أن يستعان في سائر أبواب حفظ الصحة بالنظر في العادات، إذ كان النظر فيها بابًا كبيرًا في حفظ الصحة ومداواة الأمراض؛ لأنها إذا طالت مدتها صارت كالشيء الطبيعي..".
أنماط الحياة من أجل صحة أفضل:
لأن الإنسان المسلم يعتبر الصحة نعمة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: "نعمتان مَغْبُونٌ فيهما كثير من الناس: الصِّحَة والفراغ"؛ لذا فهو يحافظ عليها عن طريق:
1 - التغذية الحسنة: وهي التغذية المتوازنة تحقيقًا للميزان الذي وضعه الله في كل شيء، ويكون ذلك أولاً: بتَحَرِّي الغذاء الطَّيِّب: "كُلُوْا مِنَ الطَّيِّبَات" (المؤمنون: 51)، واجتناب الغذاء الخبيث: "وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِث" (الأعراف: 157)، وثانيًا: بعدم الامتناع عن الغذاء لقوله سبحانه: "لا تُحَرِّمُوْا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُم…" (المائدة: 87)، وثالثًا: بعدم الإسراف فيه لقوله تعالى جَلَّ شأنه: "وَكُلُوْا وَاشْرَبُوْا وَلا تُسْرِفُوْا" (الأعراف: 31)، ورابعًا: بعدم تناول ما نَصَّ أهل الذكر من الأطباء على أن من شأنه أن يُحْدِثَ الضرر؛ فيكون بذلك معتديًا على الصحة: "وَلا تَعْتَدُوْا".
2 – النظافة العامة: لقوله عليه الصلاة والسلام: "الطُّهُورُ شَطْرُ الإيْمَان" رواه مسلم، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يُحافِظ على الوضوء إلا مؤمن" رواه الدارمي، وقوله: "حَقُّ الله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام: يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَجَسَدَه" رواه مسلم.(/1)
وبالنظافة الموضعية، كغسل اليدين؛ فقد كان صلى الله عليه وسلم "إذا أراد أن يأكل غَسَل يديه"، ونظافة الفم والأنف والأذنين والعينين والرأس واليدين والقدمين، وقد ورد في ذلك من فعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) آثار كثيرة مباركة، ومثل ذلك قوله (صلى الله عليه وسلم) فيما رواه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن عبد الله بن بشر المازني: "قُصُّوا أظافيركم، وادفنوا قُلاماتكم، ونَقُّوا براجمكم…"، وكالتنظيف من البول والغائط لقوله (صلى الله عليه وسلم): "إذا تَغَوَّط أحدكم فليمسح ثلاث مرات" رواه ابن حزم
3 - العناية بصحة الفم: بالسواك لقوله عليه السلام: "السِّواك مَطْهَرة للفم مَرْضَاة للرَّب" رواه ابن ماجه، وبالمحافظة على تنظيف اللِّثة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه الحكيم الترمذي عن عبد الله بن بشر: "نظفوا لِثاتكم من الطعام، وتسنَّنوا، ولا تدخلوا عليها قحرًا (قَلْحًا) بَخَرًا".
4 - تقوية الجسم: ولا سيما بالرياضات المناسبة للجسم ككل، ولكل عضو من الأعضاء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف". ويندرج ذلك تحت قوله عليه الصلاة والسلام: "احْرِصْ على ما يَنْفَعُك" رواه مسلم وابن ماجه عن أبي هريرة.
5 - عدم إرهاق البدن وإعطاء كل عضو فيه حقه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "إِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا" رواه البخاري، وقوله: "إِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا"، وقوله: "إِنَّ لِعَيْنَيْكَ عَلَيْك حقًّا" رواهما مسلم.
6 - اتخاذ جميع أسباب الوقاية من الأمراض: بحسب وصية أهل الذكر من الأطباء؛ لأن التوقي يؤدي إلى الوقاية، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "ومن يَتَوَقَّ الشر يُوقَه" أخرجه الخطيب في تاريخه عن أبي هريرة (رضي الله عنه) ويدخل في ذلك التطعيم لاتقاء الأمراض المعدية، والابتعاد عن كل مصدر من مصادر العدوى لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يوردن ممرض على مصح" رواه البخاري ومسلم وأبو داود وأحمد.
7 - اتباع السلوك الجنسي السليم: وذلك أولاً: بالزواج؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "مَنِ اسْتَطاعَ مِنْكُمُ البَاَءةَ فَلْيَتَزَوَّج" متفق عليه، وقوله في الحديث الذي رواه مسلم عن أنس رضي الله عنه: "وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني"، وثانيًا: بحصر نشاطه الجنسي بالزواج، لقول الله عز وجل: "والَّذِيْنَ هُمْ لِفُرُوْجِهِمْ حَافِظُوْنَ * إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُوْمِيْنَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُوْن" (المؤمنون: 5 –7)، وثالثًا: بممارسة نشاطه الجنسي كاملاً في الزواج، لقوله عليه الصلاة والسلام: "وفي بُضْعِ أَحَدِكُم صَدَقَة" رواه مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه، ورابعًا: بالابتعاد عن كل فاحشة، لقوله تعالى: "وَلا تَقْرَبُوْا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيْلاً" ( الإسراء: 32) وقوله: "وَلا تَقْرَبُوْا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَن" (الأنعام: 151).
8 - اتباع السلوك النفسي السليم: وذلك باتباع السلوك الإسلامي في الأسرة والمجتمع، الذي يغني عن التشاجر والتشاحن؛ مصداقًا لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا"، متفق عليه عن أنس رضي الله عنه، وبالرضاء بقضاء الله وعدم الغم والكمد عند الكُرَب؛ لقوله تعالى: "مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيْبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِيْ أَنْفُسِكُمْ إِلا فِيْ كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيْرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُم" (الحديد: 22 – 23)، وقول النبي عليه الصلاة والسلام: "واعْلَمْ أَنَّ ما أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيْبَكَ، وَمَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا" رواه غير الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنه، وبالصبر لقول الله جل شأنه: "…وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُوْر"، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الصَّبْرُ ضِيَاء" رواه مسلم عن أبي مالك الأشعري، وبالاستعانة بذكر الله لقوله سبحانه: "أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوْب" (الرعد: 28)، وبعدم الغضب لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تَغْضَبْ" رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه.(/2)
9 - عدم تعريض نفسه للخطر: لقوله تعالى: "وَلا تُلْقُوْا بِأَيْدِيْكُمْ إِلى التَّهْلُكَة" (البقرة: 195)، وقول النبي عليه الصلاة والسلام: "إذا عَرَّسْتم فاجتنبوا الطريق، فإنها طرق الدواب ومأوى الهوام بالليل" رواه مسلم عن أبي هريرة، وقوله: "إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفض فراشه بداخلة إزاره، فإنه لا يدري ما خلفه عليه" متفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقوله وقد احترق بيت بالمدينة على أهله من الليل: "إنَّ هذه النار عَدُوٌّ لكم فإذا نِمْتُم فأطْفِئوها عنكم" متفق عليه عن أبي موسى رضي الله عنه، وقوله صلوات الله عليه: "أَطْفِئُوا المصابيح إذا رقدتم، وغَلِّقُوا الأبواب وأوكوا الأسقية، وخَمِّروا الطعام والشراب" رواه البخاري عن جابر، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي لمؤمن أن يُذِلَّ نفسه" قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: يتعرض من البلاء ما لا يطيق" رواه ابن ماجه وأحمد عن حذيفة.
10 - التداوي: لقوله صلى الله عليه وسلم "تَدَاووْا" رواه البخاري في الأدب المفرد عن أسامة بن شريك، ويدخل في ذلك على الخصوص أنواع التداوي التي تقي من تطور المرض تطورًا وبيلاً، أو الإفضاء إلى أمراض أكثر خطورة، ومثال ذلك علاج الداء السكري أو مرض السكر لاتقاء عقابيله الخطيرة، وعلاج ارتفاع ضغط الدم لاتقاء تمزق الشرايين أو انسدادها وما إلى ذلك.
11 - تحسين عادات النوم: لقوله سبحانه: "جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوْا فِيْه" (القصص: 73)، وقوله عز من قائل: "وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ باللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِه" (الروم: 23)، وقوله: "وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا" (الفرقان: 47)، وقوله عليه الصلاة والسلام: "…وَنَمْ، فَإنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا".
12 - البعد عن الإثم: وهو - كما يقول السيد رشيد رضا -: "كل ما فيه ضرر في النفس أو المال أو غيرهما. ومن الإثم المسكرات والمخدرات والتدخين فقد قال ربنا سبحانه: "يَسْأَلُوْنَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيْهِمَا إِثْمٌ كَبِيْر…" (البقرة: 219)، وقال سبحانه: "قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْم…" (الأنعام: 151)، وقد نهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن كل مسكر ومفتر رواه أحمد وأبو داود عن أم سلمة، وقال عليه الصلاة والسلام في حديث رواه أبو نعيم عن أنس بن حذيفة : "ألا إن كل مسكر حرام، وكل مخدر حرام، وما أسكر كثيره حرم قليله" وما خَمَّرَ العقل فهو حرام". والخمر كما يعرفه النبي صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر" رواه مسلم، و"كل مخمر" أي حاجب للعقل رواه أبو داود عن ابن عباس، وكما يُعَرِّفْها الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه "ما خامر العقل"، وهذا ينطبق أيضًا على تلك المواد التي شاع استعمالها اليوم، والتي تعرف باسم المواد النفسانية التأثير، والأصح أن تدعى المواد المخامرة للعقل.(/3)
رضاء الله.... ورضاء الناس
أ.د/محمد أديب الصالح
رئيس تحرير مجلة حضارة الإسلام
كتب أبو الدرداء إلى معاوية:
"أما بعد: فإنه من يلتمس رضاء الله بسخط الناس، كفاه الله مؤونة الناس، ومن التمس رضاء الناس بسخط الله، وكله الله إلى الناس".
هل كانوا يضحكون؟؟
عن قتادة قال: سئل ابن عمر رضي الله عنهما:
- هل كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يضحكون؟
قال: نعم! والإيمان في قلوبهم أعظم من الجبال.
صلاح... فتنة
قال أبو بكر بن طاهر: "احتياج الأشرار إلى الأخيار صلاح الطائفتين، واحتياج الأخيار إلى الأشرار فتنة الطائفتين".
موازين...
وقال محفوظ النيسابوري:
"لا تزن الخلق بميزانك، وزن نفسك بميزان المؤمنين، لتعلم فضلهم وإفلاسك".
إيمان... وسلوك... وخوف
وعن إبراهيم بن الأشعث قال: سمعت الفضيل –يعني ابن عياض- يقول:
"يا سفيه ما أجهلك ألا ترضى أن تقول: أنا مؤمن، حتى تقول: أنا مستكمل الإيمان؟
لا والله لا يستكمل العبد الإيمان حتى يؤدي ما افترض الله تعالى عليه.
ويجتنب ما حرم الله تعالى عليه.
ويرضى بما قسم الله تعالى له.
ثم يخاف مع ذلك أن لا يتقبل منه"(/1)
رضاعة الرسول وشق صدره صلى الله عليه وسلم
بسم الله الرحمن الرحيم
يسرني أن أقدم لكم قصة الرضاعة وشق الصدر فصل في قصة رضاعه وما يتصل به من شق صدره صلى الله عليه وسلم
توفي والده صلى الله عليه وسلم عبد الله وهو ابن شهرين وقيل وهو حَمْلٌ وقيل غير ذلك، ثم أرضعته حليمة فكان من قصة رضاعه من حليمة ما يلي قالت حليمة:
"خرجت في نسوة من بني سعد بن بكر نلتمس الرُّضَعَاء بمكة على أتان( [57] ) لي قَمْرَاء( [58] ) في سنةٍ شَهْبَاء( [59] ) لم تبق شيئًا، ومعي زوجي ومعنا شارف( [60] ) لنا، والله إن تَبِضّ( [61] ) لنا بقطرة من لبن، ومعي صبي لي لا ننام ليلتنا من بكائه ما في ثديي ما يغنيه، فلما قدمنا مكة لم يبق منا امرأة إلا عُرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأباه، وإنما كنا نرجو كرامة الرضاعة من والد المولود، وكان يتيمًا، وكنا نقول يتيمًا ما عسى أن تصنع أمه به، حتى لم يبق من صواحبي امرأة إلا أخذت صبيًّا غيري، فكرهت أن أرجع ولم آخذ شيئًا وقد أخذ صواحبي، فقلت لزوجي: والله لأَرجِعَنَّ إلى ذلك اليتيم فلآخذنه، قالت: فأتيته فأخذته ورجعت إلى رحلي، فقال زوجي: قد أخذتيه؟ فقلت: نعم والله، وذلك أني لم أجد غيره، فقال: أصبت فعسى الله أن يجعل فيه خيرًا، فقلت: فوالله ما هو إلا أن جعلته في حِجري فأقبل عليه ثديي بما شاء الله من اللبن فشرب حتى رَوِي وشرب أخوه - تعني ابنها - حتى رَوِيَ، وقام زوجي يلي شارفنا من الليل فإذا بها حافل( [62] ) فحلبنا من اللبن ما شئنا وشرب حتى روي، وشربت حتى رويت، وبتنا ليلتنا تلك شباعًا رواءً وقد نام صبياننا. قالت: قال أبوه "تعني زوجها": والله يا حليمة ما أراك إلا قد أصبحت نَسَمَةً مباركة قد نام صبياننا.
قالت: ثم خرجنا قالت: والله لَخرجت أتاني أمام الركب إنهم ليقولون: ويحكِ كُفّي عنا، أليست هذه بأتانك التي خرجت عليها؟ فأقول: بلى والله، وهي قِدَّامُنَا حتى قدمنا منازلنا من حاضر بني سعد بن بكر فقدمنا على أجدب أرض، والذي نفس حليمة بيده إن كانوا ليُسْرِحونَ أغنامهم إذا أصبحوا، ويُسرّح راعيّ غنمي فتروح بِطانًا لُبَّنًا حُفَّلاً( [63] )، وتروح أغنامهم جياعًا ما بها من لبن.
قالت: فنشرب ما شئنا من اللَّبن وما في الحاضر أحد يحلب قطرة ولا يجدها فيقولون لرعائهم: ويلكم ألا تُسَرّحُون حيث يُسرح راعي حليمة؟ فيُسَرّحون في الشّعب الذي نُسرح فتروح أغنامهم جياعًا ما بها من لبن، وتروح غنمي لُبَّنا حُفَّلاً. وكان صلى الله عليه وسلم يشب في اليوم شباب الصبي في الشهر، ويشب في الشهر شباب الصبي في سنة، فبلغ سنة وهو غلام جَفر( [64] )، قالت: فقدمنا على أمه فقلت لها أو قال لها أبوه: رُدي علينا ابني فلنرجع به فإنا نخشى عليه وباء مكة، قالت: ونحن أضنُّ شىء به مما رأينا من بركته. قالت: فلم نَزَلْ حتى قالت: ارجعا به ، فرجعنا به فمكث عندنا شهرين. قالت: فبينا هو وأخوه يومًا خلف البيوت يرعيان بَهْمًا لنا إذ جاء أخوه يشتد فقال لي ولأبيه: أدركا أخي القرشي فقد جاءه رجلان فأضجعاه وشقا بطنه، فخرجنا نشتد فانتهينا إليه وهو قائم منتقع اللون، فاعتنقه أبوه واعتنقته ثم قلنا: أيْ بنيّ، قال: أتاني رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاني ثم شقا بطني، فوالله ما أدري ما صنعا. قالت: فاحتملناه ورجعنا به، يقول أبوه: يا حليمة ما أرى هذا الغلام إلا قد أصيب، فانطلقي فلنرده إلى أهله قبل أن يظهر به ما نتخوف عليه قالت: فرجعنا به، قالت أمه: فما يردُّكما به وقد كنتما حريصين عليه، قالت: فقلت: لا والله إلا أنَّا قد كفلناه وأدينا الحق الذي يجب علينا فيه ثم تخوفنا الأحداث عليه، فقلنا يكون في أهله، قالت أمه: والله ما ذاك بكما فأخبراني خبركما وخبره، قالت: فوالله ما زالت بنا حتى أخبرناها خبره، قالت: فتخوفتما عليه؟ كلا والله إن لابني هذا شأنًا ألا أخبركما عنه؟ إني حملت به فلم أحمِل حملاً قط كان أخف عليّ ولا أعظم بركة منه ثم رأيت نورًا كأنه شِهاب خرج مني حين وضعته أضاءت له أعناق الإبل ببُصرى ثم وضعته فما وقع كما تقع الصبيان، وقع واضعًا يديه بالأرض رافعًا رأسه الى السماء، دعاه والحَقا شأنكما".ا.هـ.
قال ابن حبان( [65] ) بعد إيراده هذه القصة بحروفها: "قال وهب بن جرير بن حازم، عن أبيه، عن محمد بن إسحاق، حدثنا جهم بن أبي جهم نحوه، حدثناه عبد الله بن محمد، حدثنا اسحاق بن إبراهيم، أخبرنا وهب بن جرير".(/1)
قال الحافظ العراقي( [66] ) بعد عزوه القصة لابن حبان وإيراده كلامه: "...وهكذا رواه زياد بن عبد الله البَكَّائي، عن ابن إسحاق، فصرح بالتحديث إلا أنه شك في اتصاله كما أنا به عاليًا محمد بن علي بن عبد العزيز القطرواني، أنبا محمد بن ربيعة، أنا عبد القوي بن عبد العزيز بن الحباب، أنبا عبد الله ابن رِفاعة، أنا علي بن الحسن الخلعي، أنا عبد الرحمن بن عمر النحاس، ثنا عبد الله بن جعفر بن الورد، ثنا عبد الرحيم اليرقي، ثنا عبد الملك بن هشام، ثنا زياد بن عبد الله البكائي، ثنا محمد بن إسحاق، قال: حدثني جهم بن أبي جهم مولى الحارث بن حاطب الجُمَحي، عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب أو عمن حدثه عنه قال: كانت حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية أم رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أرضعته تحدث أنها خرجت من بلدها مع زوجها وابنٍ لها صغير ترضعه... فذكر نحوه مع اختلاف ألفاظ، وزاد: "فلم يزل يتعرف من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتاه، وكان يشِب شبابًا لا يَشبُّه الغلمان، فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلامًا جفرًا...
كذا قال "سنتيه"( [67] ) وهو الصواب، وقول ابن حبان في روايته"سنة" غلط من بعض الرواة"، انتهى كلام الحافظ العراقي بحروفه.
وروى مسلم وغيره( [68] ) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه، فشق قلبه فاستخرج القلب فاستخرج منه علقة فقال: هذا حظُّ الشيطان منك، ثم غسله في طَسْت من ذهب بماء زمزم، ثم لَأَمَهُ، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه - يعني ظئَره - فقالوا: إن محمدًا قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون".
قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره.
قال الحافظ البيهقي بعد عزوة لمسلم: "وهو يوافق ما هو المعروف عند أهل المغازي".
وروى مسلم( [69] ) أيضًا عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُتيت وأنا في أهلي، فانطُلق بي إلى زمزم، فشُرح صدري ثم غُسل بماء زمزم، ثم أُتيت بطَست من ذهب ممتلئة إيمانًا وحكمة فحُشي بها صدري - قال أنس:ورسول الله يرينا أثره - فعَرج بي الملك إلى السماء الدنيا، فاستفتح الملك..." وذكر حديث المعراج.
قال الحافظ البيهقي( [70] ) عقبه: "ويحتمل أن ذلك كان مرتين، مرةً حين كان عند مرضعته حليمة، ومرة حين كان بمكة بعدما بعث ليلة المعراج".ا.هـ.
ويؤيد هذا الكلام ما ذكره ابن حبان( [71] ) قال: "شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم وهو صبي يلعب مع الصبيان وأُخرج منه العلقة، ولما أراد الله جل وعلا الإسراء به أمر جبريل بشق صدره ثانيًا وأخرج قلبه فغسله ثم أعاده مكانه، مرتين في موضعين وهما غير متضادين".ا.هـ(/2)
رضي الله عنهم ورضوا عنه
أ.د/محمد أديب الصالح
رئيس تحرير مجلة حضارة الإسلام
شيء وراء المعرفة تميز به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم يكونوا يتلقون عنه صلى الله عليه وسلم المعلومات وكفى ، كانت هناك تزكية النفس ، وحملها إلى حيث خشية الله ، والوقوف عند حدوده ، ومراقبته في السر والعلن عملاً بتلك القاعدة النورانية : من الحديث الصحيح في بيان الإحسان : " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " .
يعظهم الرسول صلى الله عليه وسلم فتذرف لموعظته العيون ، وتَجِلُ لها القلوب ، وتفيض آثارها على جوارحهم وسلوكهم ، فتراهم يمشون على الأرض بطهر الملائكة ، ويتصلون بالسماء بممارساتهم اليومية لشؤون الحياة لأنها كلها لله وفي سبيل الله .
وحين أضاءت الحياة بلمساتهم .. وأشرقت بنظراتهم .. وتحول جدب الأرض التي فتحوها إلى ربيع يزهر ويثمر.. حين حصل ذلك كله يوم انساحوا في دنيا الناس فاتحين معلمين ، لم يكن ذلك بالمعرفة فقط ، ولكن كان بالمعرفة وشيء وراءها ، فكان الصدق في المواطن ومراقبة الله في السر والعلن ، وملاحظة أن ما كان لله فهو المقبول ... وما كان لغيره فهو المردود ، وأن لكل درجات مما عملوا أحصاه الله ونسوه .. لقد تحركوا ونور الخشية يضيء لهم الطريق .. وعلموا الناس وكان مع التعليم ندى اليقين باليوم الآخر وأن الكل معروض عليه سبحانه .. وحملوا إلى الناس معالم الخير... وكل واحد منهم بإيمانه وسلوكه صورة حية عن هذا الذي يدعو إليه ويعلمه الناس .
مرضاة الله .. الصراط .. الميزان .. وعذاب القبر.. والمسؤولية [وقفوهم إنهم مسؤولون ..] (1) [قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها] (2)، كل أولئك لم يكن في حياتهم دروساً تلقى على الناس من أجل غرض من أغراض الدنيا .. ولكن كان اليد الحانية التي فجرت ينابيع الفطرة في الناس .. وكشفت عن معادن الخير فيهم .. لأن كل رائد منهم كان الدعوة العلمية .. لما يعلم الآخرين من مبادئ وأحكام .. حتى قالت عائشة : كان عمر قرآناً ناطقاً . ففي الكلمة التي ينطقون بها حياتها .. وفي الدعوة التي يدعون .. وجودها .. ولعل هذا من بعض أسرار ما كان من الانسياح السريع لأنهم لم يعظوا الناس كلمات جامدات لا حياة فيها ، ولكن قدموا لهم الحياة بالكلمات التي قدموها لما كان من الصورة الواقعية للإسلام سلوكاً وحباً لله ولرسوله ،وصدق وجهة في الحركة أياً كانت منزلة الواحد منهم ، وكائنة ما كانت وظيفته.
ولقد كان مما منَّ الله به على هذه الأمة أن جعل حملة رسالة نبيها إليها من هذا الطراز. فهم أولاً نقلة الرسالة إلى الناس عن نبيهم عليه الصلاة والسلام ، والصورة العملية لها .. وهم ثانياً قريبو عهد بالجاهلية مما يكشف عن هذا الذي صنعه الإسلام حين أشرقت على بطحاء مكة رسالة السماء .. وإذا رأيت الذي كانت تصنعه ، آي الكتاب فيهم ، وموعظة الرسول عليه الصلاة والسلام رأيت أي معجزة قامت على الأرض وأيقظت حركة التاريخ ، وكشفت عن أهليه الإنسان للسمو حين تلامس قلبه هداية الإسلام " الناس معادن فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا " (3) فقهوا على إطلاقها دون تحديد بمصطلحات جاءت فيما بعد .
أخرج البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط فقال : " لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ، فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم ولهم خنين " وفي رواية : بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحابه شيء فخطب فقال : " عرضت علي الجنة والنار فلم أر كاليوم في الخير والشر، لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ، فما أتى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أشد منه ، غطوا رؤوسهم ولهم خنين ".
تلك هي الصياغة .. نفوس امتدت إليها يد محمد صلى الله عليه وسلم الصناع تذكيراً بالآخرة ، ودفعاً حازماً إلى ميادين الجد .. وإيقاظاً لعزائم الرجال المنوط بهم حمل تلك الرسالة المحمدية .. أن يكونوا على مستوى المسؤولية تجاوزاً للمحقرات ... وارتفاعاً فوق التوافه والركام .. وقدرة على مجاهدة النفوس أن تتقاعس عن المعالي وجهاد العدو... ولسوف تبقى تلك النماذج برهان الأرض لأهل الأرض على امتداد الزمن ..
إن الإسلام رسالة الحياة للإنسان .. وحجة علينا نحن الذين نزعم واهمين ـ في جو من الانهزام الداخلي وطلب العافية ـ أن الإسلام تجريد لا يقوى على حمله الإنسان .. إن شيئاً وراء المعرفة كما أسلفنا نلمسه في هؤلاء الرواد الذين تلقوا عن رسول الله .. وقبلوا عن رسول الله .. إنه الندى الذي يعطي المعرفة حياتها ووجودها ..
ويجعل من الإنسان جندياً قادراً على حمل العبء وأداء الرسالة .. مهما غلا الثمن على طريق أوله الاستجابة لدعوة الحياة .. وآخره الشهادة في سبيل الله .(/1)
أما إنه ليس بدعاً بعد ذلك أن نرى في أعمالهم ، وتربيتهم ، وسلوكهم ما هو صورة صادقة لميراث النبوة ... والزرع الذي أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه .. والحجة بهم قائمة إلى يوم الدين . بما كان من حرصهم على الصياغة نفسها التي كانت ذروة منهجه عليه الصلاة والسلام .
أخرج البيهقي وابن عساكر عن جعفر بن الزبرقان قال : بلغني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى بعض عماله فكان في آخر كتابه أن : حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة ، فإن من حاسب نفسه في الرخاء حساب الشدة ، عاد مرجعه إلى الرضاء والغبطة ، ومن ألهته حياته وشغلته سيئاته ، عاد مرجعه إلى الندامة والحسرة ، فتذكر ما توعظ به كي تنتهي عما تنهى عنه .
وعلى هذا الطريق من الفقه الحقيقي لهذا الدين الذي أكمل الله به نعمته على الناس ، روي عن علي رضي الله عنه فيما أخرجه أبو نعيم قال : ليس الخير أن يكثر مالك وولدك ، ولكن الخير أن يكثر عملك ويعظم حلمك . وأن تباهي الناس بعبادة ربك ، فإن أحسنت حمدت الله ، وإن أسأت استغفرت الله ، لا خير في الدنيا إلا لأحد رجلين : رجل أذنب ذنباً فهو متدارك ذلك بتوبته ، أو رجل يسارع في الخيرات .. ولا يقل عمل في تقوى .. وكيف يقل ما يتقبل !!
حتى في ساحة الجهاد .. وبين الصفين .. حيث يبتسم المؤمن للموت .. ويتطلع إلى الشهادة .. ويعيش لحظات هي إلى الآخرة أقرب منها إلى الدنيا ... لا ينسى قائد كأبي عبيدة أن يذكر المقاتلين في سبيل الله ما يمكن أن يعتبر من الأوليات والأبجديات ... ذلك لأنه يرى من النصح لهم وهم على عتبة أن يغادروا هذه الحياة .. أنهم قادمون على ربهم حيث توزن الحسنات والسيئات .. وأن إكرام النفس بحملها على ما يقربها من الله .. وأن إهانتها فيما يكون غير ذلك ..
أخرج أبو نعيم أن أبا عبيدة رضي الله عنه كان يسير في العسكر فيقول : ألا رب مبيض ثيابه مدنس لدينه ، ألا رب مكرم لنفسه وهو لها مهين ، ادرؤوا السيئات القديمات بالحسنات الحديثات ، فلو أن أحدكم عمل من السيئات ما بينه وبين السماء ثم عمل حسنة لعلت فوق سيئاته .
وانظر إلى هذه الكلمات الجوامع من عبد الله بن مسعود التي يقرأ في ثناياها ما يشعرك بأنها من إرث النبوة . قال رضي الله عنه : ما منكم إلا ضيف ، وماله عارية ، والضيف والعارية مؤداه إلى أهلها . وقال لرجل سأله أن يعلمه كلمات جوامع نوافع : اعبد الله ولا تشرك به شيئاً ، وزل مع القرآن حيث زال ، ومن جاءك بالحق فاقبل منه وإن كان بعيداً بغيضاً ، ومن جاءك بالباطل فاردد عليه وإن كان حبيباً قريباً .
وجاء في بعض كلامه رضي الله عنه : وأيم الله لو مرضت قلوبكم وصحت أجسامكم لكنتم أهون على الله من الجعلان .
أولئك هم الربانيون الذين كانوا أشداء على الكفار رحماء بينهم . تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضوانا.. لقد كانوا في متقلبهم ومثواهم على طريق مرضاة الله .. يحبهم ويحبونه .. ويوم القيامة يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم لقد رضي الله عنهم ورضوا عنه .. ذلك لمن خشي ربه .
الهوامش :
• " حضارة الإسلام " السنة الخامسة عشرة العدد التاسع ذو القعدة / 1394 كانون الأول 1974 .
(1) سورة الصافات 24 .
(2) سورة الشمس 9 ـ 10 .
(3) من حديث طويل رواه البخاري في كتاب الأنبياء من الجامع الصحيح . " فتح الباري مع الجامع الصحيح " (6/414 ، 417) ومسلم في كتاب الفضائل من الصحيح باب " من فضائل يوسف عليه السلام " (4/1846).(/2)
رفع أعلام الدول و شعاراتها
السؤال :
هل يجوز رفعُ علم فلسطين على المساجد أو المراكز الإسلاميّة التي تُجمعُ فيها التبرّعات للانتفاضة ، علماً بأنّ رَفع العَلَم إنّما يكون بقصد التحريض على البذل و العطاء ، و قد عارضَ هذا الفِعلَ بعضُ من اعتبره دعايةً للعلمانيّة ، فإلى ماذا توجّهوننا جزاكم الله خيراً .
الجواب :
إنّ رفع الأعلام و الشعارات التي يُرمز بها إلى ملل الكفر ، أو دُوَله ، أو أحزابه و جماعاته ، تعظيماً لها عملٌ كَفريٌّ مخرجٌ من الملّة ، سواءً رُفِعت على المنازل أو المراكب أو غيرها ، و أشنع من هذا و ذاك رفعُها على المساجد .
و يُلحق بذلك رفع أعلامٍ و شعاراتٍ دالّة على الانتماء إلى الجاهليّات المعاصرة أو القديمة ، أو تثري الحميّة الجاهليّة و تدعو لها ، و منها الأحزاب العلمانيّة على تعددها ، و اختلاف أسمائها .
روى البخاري في الأدب المفرد و أحمد في مسنده بإسنادٍ صحيح عن أبي بن كعبٍ رضي الله عنه ، أنّ رسول الله صلى الله عليه و سلّم قال : ( إذا رأيتم الرجل يتعزى بعزاء الجاهلية ، فأعِضُّوه بِهَنِ أبيه و لا تكنوا ) .
أمّا رفع أعلام البلدان المسلمة و راياتها فإن كانت لمجرّد التعريف بالبلد ، كدلالة الراية الحمراء على الدولة العثمانيّة ، و السوداء على إمارة أفغانستان الإسلاميّة ، و نحو ذلك فلا بأس به ، و إن كان في سكّان تلك البلدان أفراد غير مسلمين ، إذ إنّ العبرةَ بالأصل .
و إذا رُفعَت رايةٌ يجوز رفعها أصلاً على مكانٍ عام ( مجمّع أو مركز أو مسجد مثلاً ) لمجرّد الدلالة على المكان المخصص لممارسة نشاطٍ مشروعٍ كالدعوة إلى الله و جمع التبرّعات لنصرة المسلمين و إغاثتهم و تجهيز غُزاتهم و كفالةِ أيتامهم ، و ما إلى ذلك فلا بأس فيه إن شاء الله ، إذ إنّ الأعمال بالنيّات ، و الأمورَ بمقاصدِها ، و الله أعلم .(/1)
رفقاً .. أيها المصلحون
د. مسفر بن علي القحطاني* 5/11/1424
28/12/2003
عندما يولد الإنسان و يخرج إلى الحياة ينساب في تيارها السائر السادر تحكمه نواميسها, ويعتلج في عرصاتها متقلباً بين جوانبها المتنوعة المختلفة، ينمو في أثنائها ولا يتوقف, يكبر فيه كل شي ولا يسكن, يتغير في كل لحظة بهدوء وأحياناً بعنف, فالتغير ..هو قانون الحياة.
إن ذلك النمو الذي يسري في كل أجزاء الإنسان لا يقتصر على جزء من كيانه دون الآخر؛ بل يشمل بدنه وعقله وروحه وسلوكه وعواطفه وكل مكوناته.
إن الإنسان في نموه وتطوره كان يخضع لقانون التدرج والانسياب في كل مراحله العمرية إلى أن ينتهي به المطاف وهو لا يزال يخضع لهذا القانون, كما في قولة تعالى: (الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير) [ الروم 54].
إن تجاوز قانون التدرج والمرحلية في التعامل مع الإنسان وبالأخص في مفاهيمه وأفكاره, أو دعوته لتغيير سلوكه وطبائعه, أو الرغبة في إصلاح بيئته ومجتمعه، لن يحقق هذا التجاوز أي نفع في الإصلاح والتغيير المنشود؛ بل قد يثمر في نفس ذلك الفرد ردّة فعل تقوده للتمسك بقديمه والافتخار بما كان عليه والاحتراب من أجله لو استطاع.
إن النفوس التي ألفت الاعوجاج وقد عاشت فيه دهراً طويلاً تتصلب على ما تألف من المعاصي والمخالفات, وإذا أردنا لها نقلة مفاجئة سريعة: صاحت وتمردت وتفلتت تبغي التملص فيُضطر إلى الترفق والتدرج في حملها على تنفيذ الحق والعمل بالشرع.
والأساس الفقهي الذي تستند عليه قاعدة التدرج يكمن في قواعد ترجيح المصالح الكبيرة والعظيمة والدائمة على سواها من المصالح الصغيرة والجزئية والمنقطعة؛ لأن امتناع الناس عن الامتثال للشرع كله دفعة واحدة قد يؤدي بهم إلى الشقاق وإحداث الفتن العارمة، وهي لا شك مفسدة كبيرة تبعد وتنأى باحتمال مفسدة تأخير إعلان تطبيق الشرع والحق الذي يرفضونه.
يؤيد ذلك قول عائشة -رضي الله عنها-: " إنما نزل أول ما نزل منه – أي من القرآن – سور من المفصل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام : نزل الحلال والحرام ، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل: لا تزنوا . لقالوا : لا ندع الزنا أبداً .. " (1)
إن الحكمة تفرض على المسلم مراعاة أحوال الناس والمخاطبين، فمقدار امتثالهم لأحكام الشرع يختلف ويتباين فلا ينبغي للداعي إلى الله معاملة الناس جميعاً بالمثل أو التعجل في إلزامهم بالحق كله ونفوسهم قد ألفت غيره واعتادت عليه. ومن الأمثلة المبيّنة لذلك الأمر ما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في النهي عن المعازف والضرب بها، ومع ذلك فقد جاء عن بريده أنه قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعض مغازيه ، فلما انصرف جاءت جارية سوداء فقالت : " يا رسول الله إني كنت نذرت إن ردك الله سالماً أن أضرب بين يديك بالدّف وأتغنى، فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " إن كنت نذرت فاضربي وإلا فلا " . فجعلت تضرب ، فدخل أبو بكر رضي الله عنه وهي تضرب ثم دخل علي وهي تضرب ، ثم دخل عثمان وهي تضرب ، ثم دخل عمر فألقت الدّف تحت استها ثم قعدت عليه . فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- :"إن الشيطان ليخاف منك يا عمر ، إني كنت جالساً وهي تضرب فدخل أبو بكر وهي تضرب ، ثم دخل علي وهي تضرب ، ثم دخل عثمان وهي تضرب فلما دخلت أنت يا عمر ألقت الدف ".(2)(/1)
يقول ابن القيم معلقاً على تلك القصة وقصة عائشة مع الجاريتين اللتين كانتا يغنيان بغناء بعاث: " فقد أقر النبي -صلى الله عليه وسلم- الصديق على أن الغناء مزمور الشيطان .. فعلم أن هذا من الشيطان، وإن كان رخّص فيه لهؤلاء الضعفاء العقول من النساء والصبيان، لئلا يدعوهم الشيطان إلى ما يفسد عليهم دينهم، إذ لا يمكن صرفهم عن كل ما تتقاضاه الطباع من الباطل، والشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فهي تحصل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما، فإذا وصف العمل بما فيه من الفساد مثل كونه من عمل الشيطان، لم يمنع ذلك أن يدفع مفسدة شرًّا منه وأكبر، وأحب إلى الشيطان منه، فيدفع بما يُحبّه الشيطان ما هو أحب إليه منه، ويحتمل ما يبغضه الرحمن ، لدفع ما هو أبغض إليه منه ، ويفوت ما يُحبه لتحصيل ما هو أحبّ إليه منه ، وهذه أصول من رزق فهمها والعمل بها فهو من العالمين بالله ، وبأمره " إلى أن قال : " وإذا لم يمكن حفظ العبد نفسه من جميع حظوظ الشيطان منه ، كان من معرفته وفقه وتمام توفيقه أن يدفع حظّه الكبير بإعطائه حظّه الحقير إذا لم يمكن حرمانه الحظّين كليهما ، فإذا أعطيت النفوس الضعيفة حظاً يسيراً من حظّها ، يستجلب به من استجابتها وانقيادها خير كبير ، ويدفع عنها شر كبير أكبر من ذلك الحظ ، كان هذا عين مصلحتها، والنظر لها والشفقة عليها " . ثم قال وهو يتحدث عن حديث ضرب المرأة الدفّ بمناسبة قدومه :" واحتمل صلى الله عليه وسلم ضرب المرأة التي نذرت إن نجاه الله أن تضرب على رأسه بالدفّ لما في إعطائها ذلك الحظّ من فرحها به ، وسرورها بمقدمه وسلامته الذي هي زيادة في إيمانها ومحبتها لله ورسوله ، وانبساط نفسها وانقيادها لما تؤمر به من الخير العظيم ، الذي ضرب الدفّ فيه كقطرة سقطت في بحر ، وهل الاستعانة على الحق ، بالشيء اليسير من الباطل إلا خاصة الحكمة والعقل، بل يصير ذلك من الحق إذا كان معيناً عليه ، ولهذا كان لهو الرجل بفرسه وقوسه وزوجته من الحقّ ؛ لإعانته على الشجاعة والجهاد والعفّة، والنفوس لا تنقاد إلى الحق إلا ببرطيل ، فإذا برطلت بشيء من الباطل لتبذل به حقاً وجودُه أنفع لها وخير من فوات ذلك الباطل كان هذا من تمام تربيتها وتكميلها ، فليتأمل اللبيب هذا الموضوع حقّ التأمل ، فإنه نافع جداً .والله المستعان " .(3)
إن التدرج المطلوب لا يقصد به التملص من بعض الشرع، فإن الشرع كامل وكله واجب، ولكن تطبيقه على الناس في أول أيام الحكم أو في دعوة الناس له قبل الحكم، أو في تربية الدعاة عليه يسوّغ للعالم المتأمل أن لا يتحدث به أو يُطبّقه دفعة واحدة، بل في خطوات لا تُبطئ به عن إقامة حكم الله -عز وجل- وتطبيق شرعه، هذه الخطوات ينظر فيها إلى الأهداف بدقة وبصيرة وتحدد الوسائل الموصلة إليها، وبالتخطيط والتنظيم والتصميم تصل المسيرة إلى المرحلة المنشودة والأخيرة التي فيها قيام الإسلام .. كل الإسلام .
ويدل على صواب هذا السلوك ما كان من الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- فقد جاء إلى الحكم بعد مظالم ارتكبها بعض الذين سبقوه فتدرج ولم يستعجل. فدخل عليه ولده عبد الملك فقال: " يا أبت ما يمنعك أن تمضي لما تريده من العدل؟ فوالله ما كنت أبالي لو غلت بي وبك القدور في ذلك. قال: يا بني: إني إنما أروّض الناس رياضة الصعب، إني أريد أن أحيي الأمر من العدل فأؤخر ذلك حتى أُخرج معه طمعاً من طمع الدنيا فينفروا لهذه ويسكنوا لهذه "(4) أي يخرج طمعهم بالموعظة والتأني ليكون عن قناعة لا بخوف من السطوة والعقاب.
ويبدو أن هذا الولد الصالح قد حاز حماسة فاقت التي عند أبيه فدعته إلى معاودة الاستغراب من سياسة التأخير والتدرج فكان منه أن " دخل على أبيه؛ فقال: يا أمير المؤمنين ما أنت قائل لربك غداً إذا سألك فقال : رأيت بدعة فلم تمتها أو سنة فلم تحيها؟ فقال أبوه : رحمك الله وجزاك من ولد خيراً ، يا بني : إن قومك قد شدّوا هذا الأمر عقدة عقدة ، وعروة عروة ومتى أردت مكابرتهم على انتزاع ما في أيديهم لم آمن أن يفتقوا عليّ فتقاً تكثر فيه الدماء . والله لزوال الدنيا أهون عليّ من أن يراق بسببي محجمة من دم ، أو ما ترضى أن لا يأتي على أبيك يوم من أيام الدنيا إلا وهو يميت فيه بدعة ويحيي فيه سنة؟".(5)
وقد شهد الحسن البصري رحمه الله على حصول هذا اليوم بقوله: " ما ورد علينا قط كتاب عمر بن عبد العزيز إلا بإحياء سنة ، أو إماتة بدعة ، أو رد مظلمة " (6)
إن مرحلة التدرج التي طبقها عمر بن عبد العزيز في خلافته التي لم تستغرق عامين سطرت من الإنجازات ما ملأت به أسفاراً من كتب التاريخ، حقيقٌ على أهل الإصلاح والتغيير تأمل هذا العمل والإنجاز العجيب.* الأستاذ بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن
(1) رواه البخاري (4707) 4/1910 .
(2) صحيح سنن الترمذي 3/206 رقم 2913 .(/2)
(3) الكلام على مسألة السماع ص 311 – 314 .
(4) عمر بن عبد العزيز لعبد الستار الشيخ ص 226 .
(5) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 240 .
(6) عمر بن عبد العزيز لعبد الستار الشيخ ص 204 .(/3)
"رفقاً بالقوارير يا إعلامنا الإسلامي...!!
عزيزة بنت محمد الشهري
أعتقد من وجهة نظري – كأنثى- أن مناقشة أسباب تغييب المرأة من الظهور الإعلامي في وسائل الإعلام المحافظة أو الملتزمة يجب ألاّ يُناقش إلا في أجواء سليمة وراقية وواقعية حتى لا ننجرف في ظل الأوضاع غير السليمة التي تُمارس في الإعلام المعاصر حتى في الفضائيات والمطبوعات المحافظة.
نحن أمام مشهد تتكون أبرز تفاصيله من صور ثلاث لوضع الصورة المرأة في الإعلام:
1- الصورة الأولى لوسائل أسرفت في ثقافة الجسد للجنسين، فكان جسد المرأة وسيلة جذب للرجل، وكان جسد الرجل وسيلة جذب للمرأة، وهنا تكون المرأة الخاسر الكبير في المعادلة، وبالتأكيد سيكون المجتمع ضحية لهذه الثقافة وخاسراً بانحطاط فكر المرأة.
2- الصورة الثانية لوسائل تعمل على شرعنة مشاركة المرأة وإقحامها في الإعلام، وتظهر هذه المشاركة متأثرة – بقوة- بفكر الصورة الأولى، وهي تعمل بذات المفاهيم "النجومية"، مع أسلمة الصورة من خلال تصيّد الرخص وتطويرها وتحديثها.
3- الصورة الثالثة وهي الصورة التي ترسخها القنوات المحافظة – قنوات المجد تحديداً- وهي الاكتفاء بالصوت النسائي، وتجنّب ظهور صورة المرأة، وهذا ما أدين الله سبحانه وتعالى بحبه والرضا به، وتطمئن إليه نفوس النساء المتدينات والمحافظات – بناء على نقاشات جادة ومكتوبة مع بعض المهتمات بالموضوع- ولكن تبقى صورة الرجل في هذه القنوات هي الإشكال، وهي النقطة التي تكفل لنا إعادة هذا الموضوع برمته للوضع الصحيح.
الوضع الذي يسمح في النهاية بإدراك أن الصورة التي تظهر للجمهور هي صورة تدعم وتعبر عن مضمون يحتاجه الناس، ولا تكون بحال من الأحوال هي الهدف أو المضمون الذي يحمله الإعلام، ولا تكون جاذبة لجنس من الجمهور على حساب الجنس الآخر.
وحتى أكون أكثر وضوحاً فإن ما تعرضه قنوات المجد من صور الرجال بأسلوب إخراجي يعرض حتى أدق تفاصيل وجه الرجال وقامته وجلسته وضحكته تدعو إلى السؤال وبقوة: ألا تُحترم المرأة حتى من الإعلام النظيف وحتى وهي مجرد جمهور؟
أرجو ألاّ يُفهم من كلامي هذا بأنه دعوة إلى إظهار المرأة بنفس الطريقة التي يظهر فيها الرجل أو حتى بأقل منها أو عدم إظهار صورة الرجل كلياً، لا فهذا ليس المطلب، إنما المطلب أن تُحترم المرأة "المشاهدة" (الجمهور) فيكون التركيز منصباً على المضامين، وتُستخدم أساليب الإخراج المناسبة كإبعاد الصورة عن التفاصيل الدقيقة والاكتفاء باللقطات العامة، وأجزم أن المهتمين بالإعلام الإسلامي لديهم القدرة على التنظير الواقعي لمجال الإخراج في الإعلام الإسلامي.
إن قضية النجومية في الإعلام الإسلامي هي نجومية المضامين والدعم الفني التوضيحي لهذه المضامين، أما أن نتحول إلى المدرسة الإعلامية المادية فنستقي منها كيفية تقديم موادنا الإعلامية وطريقة العرض، دون اعتبار لنوع الجمهور والواجبات الدينية التي أُمروا بها، كغضّ البصر، فإن المرأة ستجد أنها لا تستطيع مشاهدة حتى أفضل القنوات في فضائنا!!
في ضوء الوضع القائم تدور الأسئلة والاستفسارات الملحة لدى أعداء الفضيلة.. أين المرأة في هذا الإعلام الذكوري الذي يصنع النجوم وينتجهم؟! أما عندما تقدم مصلحة الرسالة على مصالح الأفراد فلن يكون هناك مسوّغ لهذا التساؤل.
ثم إن هناك أسئلة يجب الإجابة عنها من قبل القائمين على هذه المحطات تحديداً، أهمها:
هل هذا الإعلام موجّه للرجال أم للرجل والمرأة؟
ألستم تعملون في الإعلام الإسلامي بقاعدة الحلال والحرام.. فهل للمرأة "الجمهور" أن تنظر إلى هذا الكم الهائل من الذكور الذين يقدمهم الإعلام بطرق وأوضاع إخراجية تكاد تشبه "الفيديو كليب" أحياناً!!
أنا على يقين أننا لو ضمنا أن قناة فضائية للمرأة لن يشاهدها إلا النساء فقط لتغير حكم مشاركة المرأة وظهورها على شاشات الإعلام... لكن ذلك مستحيل.
كما أن إعلام الرجال للرجال فقط لن يكون بدون قيود وحدود تضبط محتويات الصورة المقدمة..
فكيف عندما يكون الإعلام للجنسين؟
سنظل في ظل الإسراف الفاحش في تقديم آلاف الصور الرجالية دائماً حذرين عن الإجابة عن تساؤل: أين المرأة؟! لكننا عندما نعلم ونعمل بمبدأ أن الإعلام ليس لتسويق الصور وصناعة النجوم، وإنما هو لتقديم الخير والحق، وكل من يمثل هذا الحق والخير بأساليب إخراجية واقعية ومحترمه للمرأة لن نجد حرجاً في الإجابة.
خلاصة القول: إن على القائمين على قنواتنا الحبيبة - المجد- ومجلاتنا الإسلامية القيمة احترامنا كإناث من خلال استخدام أساليب إخراجية غير تلك التي تعلّمها المخرجون ومارسوها في قنوات أو مطبوعات غير ملتزمة، وعليهم الاستمرار في حجب المرأة وتطوير أساليب مشاركاتها المحجوبة والموضوعات التي تناسبها وتحظى باهتمامها، وفي ظني أن هذا ليس عدلاً فقط مع المرأة بل هو إخراج للقائمين على هذا الإعلام من تحمّل آثار قد يتحملونها دون علم منهم ضحيتها امرأة جهلت.(/1)
أرجو ألاّ يُنظر للأمر على أنه تكبيل وتقييد وتصيّد للأخطاء، بل هو دعم لمسيرة هذه القنوات والمجلات وترسيخ لمنهجها المتميز ورفق بالقوارير، ورفق بالقوارير، والله من وراء القصد.(/2)
رقائقٌ ورقاق ( 1 )
الشيخ يونس الزلاوي
( 1 )
سلسلة من الحلقات الإيمانية التربوية ، أردتها بيني وبينكم ، أبثها بشيء من الرقائق لعلها ترق بها القلوب ، وتلين بها الجوارح فتصير رقيقاً في التعامل مع الرقاق .
وأردتُها باقة ورد أنثرها في حنايا النفس لتشم منها الروائح الطيبة العطرة التي تعمُ الجَوَ والمكان فتحوله من حَال إلى أحسن حال .
وأردتُها أسهم من عبارات ومعاني ، تخرج من كِنَانَتِها ، لتصيب خلجات النفوس ، فتغير الأحلام إلى حقائق ملموسة ومشاهدة .
وأردتها عسلا ، يسري في جنبات النفس فيشُفِي ما بها من علل ويبقي حلاوة لا تذهب مع مرور السنين والأعوام .
وأردتها لحنا شجيا يطرب النفس ويرقصها ، حتى تعلم بأنها تستطيع أن تُرَكِب لحنا يبقى في طيات الزمان يحمل معين الطرب الأصيل .
وأردتها ماء عذبا زولاً ، يسري باردا في جوارحك فيروي ما بها من عطش ، فتقوم قوية متماسكة تحي ما حولها ، فمن الماء كل شي حي كما تعلم .
وأردتها صورة تأخذ بلب ناظريها ، وتحول مخيلتهم إلى كلمات يضم بعضها بعضاً لتعطي معاني تسحر القلوب والعقول .
وأردتها رسائل محملة بكل معاني الرقة والرقاق والرقائق ، إلى من أحبهم في الله وأرجوا من الله تعالى أن يمن علينا وعليهم بأيمان عميق ، وإسلام دقيق ، وإحسان رفيق .
يا ناقض العهد
يا من في رقبته عهد ، أما تعلم بأن الوقت قد حان ، وأنَّ بعد الموت فلاح أو خسران ، وعندها لا ينفع مراء ولا جدال إذا كان ما كان ، أما تحافظ على العهد ، لتحظى بالود والوعد ، وتكون من أهل السعادة والمجد ، ولا تكن ممن نقض عهده وأخلف وعده ، فنوديَ من بعيد :
إليك عنا فما تحظى بنجوانا يا غادرا قد لها عنا وقد خانا
أعرضت عنا ولم تعمل بطاعتنا وجئت تبغي الرضا والوصل قد بانا
بأي وجه نراك اليوم تقصدنا وطال ما كنت في الأيام تنسانا
يا ناقض العهد ما في وصلنا طمع إلا لمجتهد بالجد قد دانا
يا فتاح أرسل المفتاح
أخي الحبيب تعالى أنا وأنت نُنَاجي ربا عنده مفاتح الغيب كما قال : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } الأنعام (59) حتى يفتح علينا فتح العارفين ، يهدينا صراطه المستقيم ، ويلطف بنا بما جرت به المقادير ، روى عن الحسن البصري رحمه الله ورضي عنه أنه قال : دخلت على بعض المجوس وهو يَجُود بنفسه عند الموت ، وكان منزله بإزاء منزلي ، وكان حسن الجوار ، وكان حسن السيرة ، وحسن الخلق ، فرجُوت أن الله يوفقه عند الموت ، ويميته على الإسلام ، فقلت له : ما تجد ، وكيف حالك ؟ فقال : لي قلب عليل ولا صحة لي ، وبدن سقيم ، ولا قوة لي ، وقبر موحش ولا أنيس لي ، وسفر بعيد ولا زاد لي ، وصراط دقيق ولا جوار لي ، ونار حامية ولا بدن لي ، وجنة عالية ولا نصيب لي ، ورب عادل ولا حجة لي .
قال الحسن : فرجوت الله أن يوفقه ، فأقبلت عليه ، وقلت له : لم لا تُسلم حتى تَسلم ؟ قال : يا شيخ ، إن المفتاح بيد الفتاح ، والقفل هاهنا ، وأشار إلى صدره ، وغُشى عليه .
قال الحسن فقلت : إلهي وسيدي ومولاي ، إن كان سبق لهذا المجوسي عندك حسنة فعجل بها إليه قبل فراق روحه من الدنيا ، وانقطاع الأمل ، فأفاق من غشيته ، وفتح عينيه ، ثم أقبل ، وقال : يا شيخ ، إن الفتاح أرسل المفتاح ، أمدد يمناك ، فأنا أشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أن محمد رسول الله ، ثم خرجت روحه وصار إلى رحمة الله .أخي الحبيب ارفع يدك وردد معي مناجيا ، إلهي وخالقي ورازقي ، يا من بيده خزان السماوات والأرض ويملك الدنيا طولا وعرض ، افتح علينا المغاليق ، ويسر وسهل علينا الطريق ، ولا تكلفنا إلا بما نطيق .
سمعناك
كأني أسمعها ترن في أذني سمعناك ، سمعناك .. عبدي ما عليك إلا الطاعة والعمل ، والدعوة والأمل ، والزم بابي فسأفتح لك .... واسمعه يقول :
لبيك عبدي وأنت في كنفي وكل ما قلت قد قبلناه
صوتك تشتاقه ملائكتي وحسبك الصوت قد سمعناه
إن هبت الريح من جوانبه خر صريعا لما تغشاه
ذاك عبدي يجول في حجبي وذنبك اليوم قد غفرناه
نظرة في وجه الحسن(/1)
إخوتاه .. نسأل الله سبحانه وتعالى أن لا يُطعمنا الموت حتى ننعم بالنظر في وجوه إجوننا الذين يقبعون في السجون ، ويمتعنا بمجالستهم ومسامرتهم في الدنيا قبل الآخرة إنه جواد كريم ، لما حضرت جابر بن زيد الوفاة ، قيل : ما تشتهي ؟ قال : نظرة في وجه الحسن فبلغ ذلك الحسن ، فجاءه ودخل عليه ، وقال له : يا جابر ، كيف تجدك ؟ قال : أجد أمر الله غير مردود ، يا أبا سعيد ،حدثني حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : الحسن : يا جابر ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( المؤمن من الله على سبيل خير ، إن تاب قبله ، ولان استقال أقاله ، ولإن اعتذر إليه قبل اعتذاره ، وعلامة ذلك قبل خروج روحه يجد بردا على قلبه ) فقال جابر : الله أكبر ! إني لأجد بردا على قلبي ثُم قال : اللهم إن نفسي تطمع في ثوابك ، فحقق ظني ، وآمن خوفي وجزعي ، ثم تشهد ومات رضي الله عنه .
لي عندك بيعه
ولكن أردتك أن تعلم ... بأن السفر طويل .. ويحتاج إلى زاد المهاجر .. وعدة الصابر..ومقاومة مصائد الشيطان .. والنزول عند منازل الرحمن .. والاستماع لقول الحبيب المصطفى العدنان عليه أفضل صلاة وأزكى سلام ، قال ابن المبارك عليه رحمة الله قدمت مكة ، فإذا الناس قد قحطوا من المطر ، وهم يستسقون في المسجد الحرام ، وكنت في الناس من جهة باب بني شيبة ، إذ أقبل غلام أسود ، عليه قطعتا خيش ، قد ائتزر بإحداها ، وألقى الأخرى على عاتقيه ، فصار في موضع خفي إلى جانبي ، فسمعته يقول : إلهي ، أخلقت الوجوه كثره الذنوب ومساوئ العيوب ، وقد منعتنا غيث السماوات لتؤدب الخليقة بذلك ، فأسألك يا حليم ، يا من لا يعرف عبادة منه إلا الجميل ، اسقهم الساعة الساعة .
قال ابن المبارك رحمه الله : فلم يزل يقول : أسقهم الساعة الساعة ، حتى انسد الجو بالغمام ، وأقبلت السحاب تهطل كأفواه القرب ، وجلس مكانه يسبح الله تعالى ، فأخذت في البكاء حتى قام ، فاتبعته حتى عرفت موضعه .
فجئت إلى الفضيل بن عياض ، فقال لي : ما لي أراك كئيبا ؟ فقلت له : سبقنا إليه غيرنا ، فولاه دوننا ، قال : وما ذلك ؟ فقصصت عليه القصة ، فصاح وسقط في الأرض ، وقال ويحك يا ابن المبارك ، خذني إليه ، فقلت : قد ضاق الوقت ، وسأبحث عن شأنه . فلما كان من الغد ، صليت الغداة ، وخرجت أريد الموضع ، فإذا بشيخ على باب ، وقد بسط له وهو جالس ، فلما رآني عرفني ، وقال : مرحبا بك يا أبا عبد الرحمن ، ما حاجتك ؟ فقلت : احتجت إلى غلام ، فقال : نعم ، عندي عدة ، اختار أيهم شئت ، فصاح يا غلام ، فخرج غلام جلد فقال هذا محمود العاقبة ن أرضاه لك ، فقلت : ليس هذا حاجتي فما زال يخرج واحدا بعد الآخر حتى أخرج لي الغلام ، فلما أبصرته بدرت عيناي بالدموع ، فقال : هذا ؟ فقلت نعم ، فقال : ليس لي إلى بيعه سبيل ، قلت : و لم ؟ قال : قد تبركت بموضعه في هذه الدار ، وذلك أنه لم تصبني مصيبة ولا رزية منذ دخل عندي .. وأخبرني الغلمان عنه أنه لا ينام في الليل الطويل ولا يختلط بأحد منهم ، مهتم بنفسه ، وقد أحبه قلبي ، فقلت له : أنصرف إلى الفضيل وسفيان بغير قضاء حاجة ثم رجعت إليه وسألت فيه بإلحاح ، فقال : إن ممشاك عندي كبير خذه بما شئت ، قال : فاشتريته ، وسرت معه نحو دار الفضيل ، فمشيت ساعة ، فقال لي : يا مولاي فقلت له : لبيك ، فقال : لا تقل لبيك ، فإن العبد أولى بأن يلبي من المولى ، قلت ما حاجتك يا حبيبي ، قال : أنا ضعيف البدن لا أطيق الخدمة ، وقد كان لك في غيري سعة ، وقد أخرج لك من هو أجلد مني ، فأنت لم تفعل هذا ، غلا وقد رأيت بعض متصلاتي بالله تعالى و إلا فلم أخذتني من أولئك الغلمان ؟ فقلت له : ليس بك حاجة إلا هذا ، فقال لي : سألتك بالله إلا أخبرتني ، فقلت له : بإجابة دعوتك ، فقال لي أحسبك إن شاء الله رجلا صالحا ، عن لله عز وجل خيرة من خلقه ، لا يكشف شأنهم إلا لمن أحب من عباده ، ثم قال أترى أن تقف على قليلا ، فإنه قد بقي على ركعات من البارحة ، قلت هذا منزل الفضيل ، قال : لا ، هاهنا أحب إلى ، إن أمر الله تعالى لا يؤخر ، فدخل المسجد ، فما زال يصلي حتى أتى على ما أراد ، فالتفت إلى , وقال : يا أبا عبد الرحمن ، هل لك من حاجة ؟ قلت : ولم قال : لأني أريد الانصراف ، قلت إلى أين ؟ قال إلى الآخرة ، قلت : لا تفعل ، دعني أنتفع بك ، فقال لي : إنما كانت تطيب الحياة حيث كانت المعاملة بيني وبينه تعالى ، فأما إذا اطلعت عليها أنت ، سيطلع عليها غيرك ، فلا حاجة لي في ذلك ، ثم خر على وجهه ، وجعل يقول : إلهي اقبضني الساعة ، فدنوت منه ، فإذا هو قد مات ، فوالله ما ذكرته قط إلا طال حزني ، وصغرت الدنيا في عيني ، وحقرت عملي رحمه الله .
أخي وحبيبي عندي عندك عهد أذكرك وأذكر نفسي به وهو قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } آل عمران.(/2)
ركائز الاعتقاد اليهودي
التلمود/2
الباحث / محمد عبد الكريم النعيمي
التلمود عند أصحابه : كتابٌ مقدَّس وشريعة موسوية شفوية أنزلها الله على موسى في طُورِ سَيناء ، وتناقلها الأنبياءُ بعد موسى حتى ألقتْ عصاها عند السنهدرين . وهو مجموعة من القوانين المدنية والكهنوتية ذاتِ السلطة النهائية في رَسم العلاقة بين اليهودي واليهودي ، واليهودي والأُمَمِي ، تتضمن تعاليم وشروحاً وروايات وتفاسير تتتبَّعُ الشريعةَ والتاريخ اليهودِيَّين .
وهو مُؤلَّفٌ ضخم يصلُ إلى خمس وثلاثين مجلداً مدوَّن بالعبرية () وتقتصرُ دراستُهُ على الأحبار والكهان ، " وأول مَن خَطَى نحو تدوين
ه () هو الحاخام ( يوضاس ) الذي خشي على هذه التعاليم من الضياع ، فجمعها في كتاب أسماه ( المِشْنا ) - أي : الشريعة المكررة - ، وكان ذلك بعد المسيح عليه السلام بمئة وخمسين سنة " ، ويُروَى أن بداية تدوين التلمود أعقبتِ التمردَ اليهودي الفاشل على اليونانيين بقيادة ( باركوخبا ) سنة 135م .
بَيدَ أن هذه الشريعة لم تسلم مما لَحِق بالتوراة من الزيادات والشروح والتعليقات التي أصبحت جزءاً منها إلى إتمام الربيّ ( يهوذا هاناسي ) تدوينها سنة 216م ، فأورد الأحبار شروحها في كتاب مستقل أسموه ( جِمارا ) ، وكان أَوَّلَ مَن بدأه ابنا الحاخام هاناسي .
وكان التحريفُ قد سبق مرحلة التدوين ، فطبيعةُ تناقل التعاليم التلمودية شفاهية أوجد أرضاً خصبة لهذه الزيادات والتحريفات ، وكان لحركة الفريسيين اليد الطولى في هذا الأمر .
وعلى ضوء ما سبق فالتلمود ينقسم من الناحية الفنية قسمين :
1- المِشْناه . وهو المتن ، ويعني بالعبرية : المعرفة أو القانون الثاني .
2- جِمارا . وهو شرح المشناه ، ويعني بالعبرية : الإكمال .
كما ينقسم ( جِمارا ) إلى قسمين :
ü جِمارا أورشليم .
ü جِمارا بابل .
" وجمارا أورشليم - فلسطين - هو سجل للمناقشات التي أجراها حاخامات فلسطين لشرح أصول المشناه ، ويرجع تاريخ جمعه إلى عام 400م .
وجمارا بابل هو سجل مماثل للمناقشات حول تعاليم المشناه ، دوَّنها علماءُ بابل اليهود ، وانتهوا من جمعه سنة 500م .
فمشناه مع شرحه جمارا أورشليم يُسمى : تلمود أورشليم ، ومشناه مع شرحه جمارا بابل يسمى : تلمود بابل ، وكِلاهما يُطبع على حِدة " () .
وتعاليم التلمود البابلي أكثرُ شيوعاً وانتشاراً من تعاليم التلمود الأورشليمي ، ومردُّ ذلك إلى غزارة مادة التلمود البابلي وشموله وعمق منطقه .
وأما مادة التلمود ومحتواه فهي - برأي الكاتب الروسي اليهودي موردخاي رابينوفتزا - : " تعبير عن النظرة اليهودية الشاملة إلى العالم في امتدادها عبر ألف سنة من الزمن " ، وهي برأي آخرين : " الوثيقة السياسية الخطيرة التي صنعها بعضُ الحاخامات اتباعاً للخطة السريعة الرهيبة التي دأبوا على اتباعها منذ آلاف السنين " () .
فهي المرجعُ اليوم لسياسات الحركة الصهيونية ، والمادةُ التي استقتْ منها قراراتِها الموسومة ببروتوكولات حكماء صهيون .
يقول بنيامين دزرائيلي عنه : " إننا نجد فيه حشداً من الآراء المتناقضة ، وعدداً غير محدود من القضايا السببية ، ومنطقاً من النظرية العلمية ، وبعض الحِكم المبهمة والكثير من الحكايات الصبيانية والأوهام الشرقية ، والأخلاقيات والصوفية ، والمنطق واللامنطق ، والحلول البديعة والحقائق العامة والألغاز ، وقد كان بنو إسرائيل يزدادون بهجةً كلما زاد حجمُ تُلمودهم " .
ويقول الدكتور ميلمان : " إن القارئ للتلمود في فصوله المتتابعة يقف محتاراً أمام هذا الحشد الغريب ، هل يُعجَبُ بالحقائق المجازية العميقة والمقالات الأخلاقية البهيجة ؟ أم يبتسم للإسراف البشع ؟ أم يقشعرُّ بدنُه للكفر الجريء ؟ " () .
هذا الكتاب يطفح بخرافات لا حدَّ لِخيال مبدعيها ، وبرصيد متخم من التعاليم العدائية اللامعقولة للأمم المختلفة ، الأمر الذي جعل منه كتاباً محظوراً في فترات متعاقبة من تاريخه ، وجَرَّ على اليهود وَيْلاتِ مَن استبَقُوا حرباً وِقائيةً ضِدَّ فِئَةٍ نَزَعَتْ في فِكرها عن رجال دين سَعَوا لتكريس مكانتهم وفرضية طاعتهم إلى الحدِّ الذي يلتزم فيه المؤمن - بحسب التلمود - " بأن يعتبر أقوال الحاخامات كالشريعة ، لأن أقوالهم هي قول الله الحي ، فإذا قال الحاخام إن يدَك اليُمنى هي اليُسرى وبالعكس ، فصدِّق قوله ولا تجادله " () .(/1)
وتبدَّتْ أكثر الهجمات ضراوة على التلمود إبان العصور الوسطى " باعتباره أهم مصدر للتعاليم اليهودية التي أدَّتْ إلى مقاومة اليهود للسلطة والدين المسيحي سراً وعلانية " () ، وقامت محاكم التفتيش في إسبانيا بحملة إبادة واسعة لليهود وإتلافٍ لنسخ التلمود سنة 1492م في عهد الملك ( فرديناند ) وزوجته الملكة ( إيزابيلا ) ، وعمَّت في أوروبا نكباتُ اليهود وما أُطلق عليه بحملات تطهير التلمود ، حيث " فُرِضتِ الرقابة على طبع التلمود وكتب عبرية أخرى لليهود سنة 1554م ، وبعد خمسة أعوام صدر قرار بابوي بوضع التلمود في القائمة الأولى للكتب التي يجب تطهيرها ، وفي سنة 1565م أصدر البابا ( بيوس الرابع ) أمراً بأنه يجب حرمان التلمود حتى مِن مجرد اسمه .
وظهرتْ أولُ طبعة مطهرة للتلمود في مدينة ( بازل ) في سني 1578 - 1581م ، بعد حذف رسالة ( عبوده زاره ) كاملة وفقرات أخرى - من التلمود - اعتُبِرتْ عدائيةً للمسيحية " () .
ولم تقتصر هذه الهجمات على التلمود مِن غير اليهود فقط ، بل - كما يقول الحبر وايز - : " جَحَدَ به عددٌ كبير من اليهود أنفسهم ، منكرين أنهم يهود تلموديون أو أنهم يشعرون بأي حماس نحوه ، ولكن لا يوجد إلا القلة ( القرائين ) في روسيا والنمسا ، والأقل منهم من السامريين في فلسطين ، ممن ليسوا يهوداً تلموديين في حقيقة الأمر، هذا بينما المتطرف والمصلح والمحافظ والمتعصب يتبع في كثير من خصوصياته الممارسات المنصوص عليها في التلمود ... إن اليهوديَّ الحديث هو نتاج التلمود " () .
ولكنه وبرغم كل هذه الجهات والجهود التي تُبذل لطمسه يبقى صامداً عصياً ، وذلك بفضل أساليب الحاخامات في إيجازِهِ العقبات التي تواجهه ، فحين ثارت مضايقاتُ وَشَكاوِ مَن أُتيحَ لهم أن يطَّلِعوا على تعاليمه إثر ظهور طبعتي ( إمستردام ) 1600م ، و ( كراكوفيا ) 1605م ، اجتمع أحبارُ اليهود في صورة مجمع مقدس وقرروا حذف الفقرات المريبة في كل طبعة تطبع في المستقبل ، وقالوا في مقدمة قرارهم ما نصه : " ... ولذلك تقرر إصدارُ الحرمان ضد كل شخص يجرؤ على أن يُثبِتَ في الطبعات المستقبلة - للمشنا والجمارا - كلَّ ما يُعتبرُ طعناً مباشراً في عيسى أو في الأديان الأخرى ، وتقرر أن يُتركَ مكانُ هذه الفقراتِ خالياً ، حتى يستطيع اليهودُ بعد ذلك أن يُثبِتُوها فيه بخط يدهم ، أو أن يُوضع في مكان كل منها دائرة هكذا ( ... ) تُشير إلى الحذف ، مع التنبيه على الأحبار ومعلمي المدارس أن يَكتفُوا بتلقينها للشباب والتلاميذ شفهياً ، وبهذه الوسيلة نستطيعُ أن نَصِلَ إلى أهدافنا دُونَ إثارةِ الأعداء حوالينا " () .
وبهذه السُّبل الالتوائية يَظَلُّ التلمودُ فعلاً قائماً بين اليهود مِن حولنا ، ويَبقَى تَرَبُّصُهم بنا خَفِيّاً إلى حِين حُلولِ الساعة التي ينتظِرون .
الهوامش
وهو يعني بالعبرية : التعليم . ويُطلق عليه أيضاً : التلموذ ، اشتقاقاً من التلمَذة .
في مسألة تدوين التعاليم الشفهية والتي تكوِّن التلمود عند اليهود نظر ، فكما حافظ موسى عليها شفاهية فيلزم حفظها كذلك ، وكذلك لئلا تقع في يد أممي حفاظاً على قدسيتها - فهي عندهم أقدس من التوراة - وحفاظاً على سلامتهم لما يطفح به التلمود من التعاليم العدائية الوحشية ضد الأمم الأخرى ، ولذلك يقول الحاخام ( يوشو ابن ليفي ) عن التلمود : الذي سينسخه كِتابةً لن يكون له نصيب في العالم القادم - الجنة - ، والذي يشرحه سوف يُحرَق .
التلمود تاريخه وتعاليمه . ظفر الإسلام خان . ص 11 - 12 .
الأسفار المقدسة فبل الإسلام . صابر طعيمة . ص 41 .
الأخوة الزائفة . جاك تني . ص 27 .
النص من النصوص التلمودية نقلاً عن كتاب : اليهودية . أحمد شلبي . ص 228 . وجدير بالذكر أن التلمود يُعدُّ مدرسة تأهيل الحاخامات .
التلمود تاريخه وتعاليمه . ظفر الإسلام خان . ص 40 .
المرجع السابق . ص 46 - 47 .
الأخوة الزائفة . جاك تني . ص 29 .
الماسونية والصهيونية والشيوعية غاية وهدفاً . صابر طعيمة . ص 168 .(/2)
ركائز الاعتقاد اليهودي
المبحث الثاني /
التشريع اليهودي .. مصادره وصوره
الباحث / محمد عبد الكريم النعيمي
1 / العهد القديم والتوراة
يُطلَق اصطلاح ( العهد القديم ) على مجموعة الأسفار المقدسة لدى اليهود ، وقد شاع إطلاق كلمة ( التوراة ) على الجميع " مِن باب إطلاق الجزء على الكل ، أو لأهمية التوراة ونسبتها إلى موسى ، لأنه أبرزُ زعماء بني إسرائيل وعنده يبدأ تاريخُهم الحقيقي " () .
ويتكون العهد القديم من ثلاثة أقسام رئيسية :
أولاً ( التوراة ) : وتتكون من خمسة أسفار ، هي : سفر التكوين أو الخلق وهو في خمسين إصحاحاً ، وسفر الخروج وهو في أربعين إصحاحاً ، وسفر اللاويين أو الأحبار وهو في سبع وعشرين إصحاحاً ، وسفر العدد وهو في ست وثلاثين إصحاحاً ، وسفر التثنية أو تثنية الاشتراع وهو في أربع وثلاثين إصحاحاً .
ثانياً ( الأنبياء ) : وهي أسفار منسوبة إلى أنبياء بني إسرائيل جاءت في مراحل زمنية مختلفة ، وترتيبها في الكتاب المقدس لم يكن على أساس التسلسل التاريخي ، وهي :
ü أسفار الأنبياء الأولين : سفر يشوع وسفر القضاة وسفر صموئيل الأول وسفر صموئيل الثاني وسفر الملوك الأول وسفر الملوك الثاني .
ü أسفار الأنبياء الكبار المتأخرين : سفر إشعيا وسفر أرميا وسفر حزقيال .
ü أسفار الأنبياء الصغار من المتأخرين : سفر هوشع وسفر يوئيل وسفر عاموس وسفر عوبديا وسفر يونان وسفر ميخا وسفر ناحوم وسفر حبقوق وسفر صفنيا وسفر حجَّاي وسفر زكريا وسفر ملاخي .
ثالثاً ( الكتابات ) : وتتضمن سفر المزامير وسفر الأمثال وسفر الجامعة وسفر نشيد الإنشاد وسفر المراثي أو مراثي أرميا وسفر أستير وسفر دانيال وسفر نحميا وسفر عزرا وسفر أخبار الأيام الأول وسفر أخبار الأيام الثاني () .
أما التوراة فيعني لفظها : الشريعة أو التعاليم ، أو هي الإرشاد والهداية ، وتسمى عند أتباعها بالناموس أيضاً ، وهي أول كتاب نزل من السماء ، إذ كان ما ينزل على إبراهيم وغيره من الأنبياء يسمى صُحُفاً ، فالتوراة " في أصلها العقدي والتاريخي وِحدةٌ دينية تمثل ما أنزل الله تعالى على موسى عليه السلام " () .
كَما أُنزِلت عليه أيضاً " الألواح على شِبه مختصر ما في التوراة ، تشتمل على الأقسام العلمية والعملية " () .
ويبدو أن التوراة خَلَت من القيم الروحية أو هكذا جعلت منها أيدي العابثين المحرفين الماديين من اليهود ، فجاء عيسى عليه السلام ليقول في إنجيل متى : ( لا تظنوا أني جئتُ لأنقضَ الناموس أو الأنبياء ، ما جئت لأنقض ، بل لأُكمِّل ) .
فلم تأتِ المسيحيةُ بشرع مستقل ولا بقانون خاص ، ولكنها جاءت لتسدَّ ثَغرةً في حياة بني إسرائيل هي ثغرة الخواء الروحي ، ومن هنا جاءت دعوةُ الجِنِّ لقومهم في القرآن الكريم على الصورة الآتية : ( قَالُوا يَا قَومَنَا إِنَّا سَمِعنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِنْ بَعدِ مُوسَى ) الأحقاف ( 29 ) ، ولم يذكروا عيسى عليه السلام لأن دعوتَه مُتَمِّمةٌ لدعوة موسى ومُلحَقةٌ بها ، ففي حين تفتقر التوراة إلى الشحنة الروحية وتمتلئ بالأحكام الشرعية والأحاجي ، يأت الإنجيلُ بما يملئُ الحاجةَ الروحية ويخلو من الشرائع التي مِن شأنها تنظيم حياة بني إسرائيل ، فلا يُلِمُّ بشيءٍ منها إلا في القليل النادر ، كوجوب الاقتصار على زوجة واحدة ، وعدم تزوُّج مَن طلَّق امرأةً بامرأة سواها ، وعدم تزوج المطلقة بآخر ، وعدم جواز الطلاق إلاَّ بِعِلَّةِ الزنا ، والأمر بالعفة .
وهذا الخواء الماديُّ في الإنجيل عجز عن دفع " الدعوة النصرانية إلى أن تلبِّي حاجات أوروبا والامبراطورية الرومانية ، مما سبَّبَ دخولَ أفكار غريبة إلى قلب النصرانية ، أفكارٍ أتتها من الوثنية اليونانية والرومانية ، وما زال العالم الغربي حتى اليوم يعتزُّ بصلته بجذور الفكر اليوناني والروماني في ميادينَ مختلفة من الحياة " () .
وهذا ما يؤكد خصوصية الدعوة اليهودية ودعوة عيسى عليه السلام بقومه اليهود ، شأنها في ذلك شأن سائر دعوات الأنبياء عليهم السلام باستثناء دعوة محمد عليه الصلاة والسلام .
وقد ذهبَ بعضُ الباحثين إلى أن الديانةَ اليهودية ومُتَمِّمتَها النصرانيةَ عامةٌ بالأصل إلاَّ أن النفسية الاحتكارية لليهود التي تكره الخير لغيرها من الشعوب والتي جعلت من العقيدة ديناً وجنسية في آن ، هي مَن جعل من اليهودية دعوةً خاصة غيرَ تبشيرية ، بينما ذهب آخرون إلى أنها دعوة خاصةٌ جاء تعميمها إثر مرحلة انتقالية في تاريخ دعوة عيسى عليه السلام - بعد سأمه من استجابة قومه لدعوته - يرمزون إليها بقصته مع المرأة الكنعانية والتي أتت عيسى عليه السلام وهو في تلاميذه ، فابتدرها قائلاً إنه لم يُبعث إلاَّ إلى خِراف بني إسرائيل الضالة ، إلاَّ أنه يستجيبُ لها بعد إلحاح .(/1)
ويستدلُّ هؤلاء بِنُصوصٍ من العهد القديم وبوقائع تاريخية تُثبِتُ نَظَريَّتَهُم ، فهذا ( أرميا ) يقول : كان أبي آرامياً متجولاً . وهذا ( يونس ) عليه السلام يُبعَثُ إلى ( ترشيش ) وهي بلد غير يهودي ، وهذا ( عيسى ) عليه السلام يُحادِثُ امرأةً سامرية ويطلب منها ماءً ليشرب () .
وتغافل هؤلاء عن أنَّ الدعوةَ الخاصةَ بقومٍ - خصوصية التبشير لا الاعتناق - لا يمنع قبولها لمؤمنين مِن أقوام أخرى ، إلاَّ أنها لا تسعُ الخلائقَ كلَّها ، لاقتصارِها على حاجاتِ فئةٍ محدودة ، ولأن جميعَ هذه الدعوات نُسِختْ بدعوة خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم .
ومِن العجيب أن يستدلَّ هؤلاء بقول بولس : ( إن المسيحية ليستْ ديناً لليهود فقط ، بل هي دين عالمي ) ، وهم على علم بمن يكون بولس هذا () .
أما قصة تحريف هذا الكتاب الكريم فينقلها العلامةُ ابن القيم عن بعض أحبار يهود الراسخين في العلم ممن هداهم الله تعالى إلى الإسلام ، فيقول : " لسنا نرى أن هذه الكفريات كانت في التوراة المنزلة على موسى ، ولا نقول أيضاً أن اليهود قصدوا تغييرها وإفسادها ، بل الحق أولى ما اتُّبِع ، ونحن نذكر حقيقة سبب تبديل التوراة ، فإن علماء القوم وأحبارَهم يعلمون أن هذه التوراة التي بأيديهم لا يعتقد أحد من علمائهم وأحبارهم أنها عينُ التوراة المنزلة على موسى بن عمران البتة ، لأن موسى صان التوراة عن بني إسرائيل ولم يبثُّها فيهم خوفاً من اختلافهم من بعده في تأويل التوراة المؤدي إلى انقسامهم أحزاباً ، وإنما سلَّمها إلى عشيرته أولادِ لاوي ، ودليل ذلك قول التوراة ما هذه ترجمته : ( وكتب موسى هذه التوراة ودفعها إلى أئمة بني لاوي ، وكان بنو هارون قضاةَ اليهود وحكامهم ، لأن الإمامة وخدمة القرابين والبيت المقدس كانت فيهم ، ولم يُبدِ موسى لبني إسرائيل من التوراة إلا نصف سورة ، وقال الله لموسى عن هذه السورة : وتكون لي هذه السورة شاهدة على بني إسرائيل ولا تُنسى هذه السورة من أفواه أولادهم ) ، وأما بقية التوراة فدفعها إلى أولاد هارون وجعلها فيهم وصانها عمن سواهم ، فالأئمة الهارونيون هم الذين كانوا يعرفون التوراة ويحفظون أكثرها ، فقتلهم بختنصر على دم واحد ، وأحرق هيكلهم يوم استولى على بيت المقدس ، ولم تكن التوراة محفوظة على ألسنتهم ، بل كان كل واحد من الهارونيين يحفظ فصلاً من التوراة ، فلما رأى عزير () أن القوم قد أُحرق هيكلهم وزالت دولتُهم وتفرق جمعهم ورُفع كتابهم ، جمع من محفوظاته ومن الفصول التي يحفظها الكهنةُ () ما لفَّق منه هذه التوراة التي بأيديهم () - سنة 545 قبل بعثة عيسى عليه السلام - ... وهذا الرجل يُعرف عند اليهود والنصارى بعازر الورَّاق ، ويَظنُّ البعضُ أنه ( الذي مَرَّ على قَريةٍ وَهِي خَاوِيةٌ عَلَى عُروشِها قالَ أنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعدَ مَوتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ) البقرة ( 259 ) ، ويقال إنه نبي ولا دليل على هاتين المقدمتين ، ويجب التثبت في ذلك نفياً وإثباتاً ، فإن كان هذا نبياً واسمه ( عزير ) فقد وافقَ صاحِبَ التوراة في الاسم " () .
وحالَ عودةِ ( عزرا ) باليهود من بابل إلى القدس ، وقف اليهود السامريون () ضد توراته واتهموه بالتحريف وشاركوا في تحريف توراته - فوق ما فيها - لإثبات التهمة ضده ، وانفصلوا عن اليهود العبرانيين انفصالاً دام حتى الساعة ، واعترفوا بما سمي بالتوراة السامرية ، وأنكروا ما سمي بالتوراة العبرانية . " وفي سنة 285 - 247 قبل الميلاد في عهد ( بطليموس فيلادلفوس ) وفي مدينة الإسكندرية تُرجِمت التوراةُ العبرانية ( الأسفار الخمسة ) إلى اللغة اليونانية على يد سبعين عالم من علماء اليهود ، وقد تعمَّد المترجمون إحداثَ تغيير في بعض معاني آيات لِتَصير الترجمةُ غيرَ معتبرة وغير مقدسة ، وبذلك يرجع الناسُ إلى التوراة العبرانية ، وسمِّيت هذه التوراةُ بالتوراة السبعينية أو اليونانية ، ولما ظهر المسيحُ عليه السلام وقال لأتباعه ما جئتُ لأنقض الناموس ، تمسكوا بالناموس مع الإنجيل ، ولما اعترفَ الرومان بالنصرانية مذهباً ، اعترفوا بصحة التوراة اليونانية وفَضَّلُوها على غيرها ، فهي مقدسةٌ عند النصارى إلى اليوم كاثوليكاً ( ملكانية ) ، وأرثوذكساً ( يعاقبة ) ، ثم لما انشقَّ ( مارتن لوثر ) وأتباعُه على الكاثوليك ، رفضوا التوراة اليونانية واعتبروها مُزيَّفة ، ورجعوا إلى العبرانية " () .
والتوراة السامرية تحوي خمسةَ أسفار ( أسفار موسى ) وهي القسم الأول من مجموع العهد القديم ، وتخلو من الأسفار العبرانية التسعة والثلاثين والتي تضم أسفار الأنبياء ، إذ لا يؤمن السامريون بنبي بعد موسى عليه السلام .
ولكن حتى هذه الأسفار الخمسة التي يقتصر المتشددون عليها في نسبتها إلى موسى عليه السلام تحمل قرائنَ وَهْمِهِم .(/2)
" ففي سفر التثنية ما يلي : ( فمات موسى عبد الرب في أرض موآب ، ولم يعرف إنسان قبره إلى اليوم ) ، وليس من المعقول أن يكتب موسى ذلك عن نفسه ! .
وفي ذات السفر : ( ولم يَقُم بعدُ نبيٌّ في بني إسرائيل مثل موسى ) ، ومن الواضح أن مثلَ هذه العبارة لا تقال إلا بعد موت موسى بزمن ليس بالقصير .
وجاء في سفر التكوين : ( وهؤلاء هم الملوك الذين ملكوا في أرض أدوم قبلما هلك مَلِك لبني إسرائيل ) ، وهذه الفقرة تدل على أنها كُتبت في عهد ملوك بني إسرائيل أو بعده ، وعهدُ ملوك بني إسرائيل متأخر عن موسى بعشراتِ أو مئات السنين " () .
كما تخلو الأسفارُ الخمسة من أي تعبير يقرر حقيقة البعث والنشور والحساب والجزاء ، ومردُّ ذلك إلى الوجهة المادية التي اتجهها اليهود ، بالإضافة إلى التأثر بالثقافات والأفكار الوثنية التي عايشوها سواء بحالتَي الجوار أو السبي ، ولعل في هذا ما يفسِّر سببَ تهافت الفرق اليهودية في الاعتقاد بالبعث والنشور ما بين مُثبِتٍ ومنكر .
وتشتمل التوراةُ على تاريخ أسطوري لليهود توسَّعَ فيه كلُّ أحدٍ تحت طائلةِ مُصطلحٍ ديني يُعرف بالمدراش () ، كما تُسجِّلُ تأمُّلاتٍ وأحلاماً كهنوتية ، وتُدَوِّنُ قراراتهم ومحاضرَ جلساتهم ، وتحوي التوراةُ دُروساً في المكر والخداع والرذيلة وإساءة الأدب مع الله تعالى والأنبياء عليهم السلام وكافة الأمم ، دُروساً خليقةً بخلق هذه النماذج الحية اليوم في فلسطين السليبة .
الهوامش
اليهودية . أحمد شلبي . ص 238 .
من اليهودية إلى الصهيونية . أسعد السحمراني . ص 53 - 54 .
الأسفار المقدسة قبل الإسلام . صابر طعيمة . ص 11 .
الملل والنحل . الشهرستاني . الجزء الأول . ص 251 .
الصحوة الإسلامية إلى أين ؟ . عدنان النحوي . ص 139 - 140 .
ويقول سيد قطب رحمه الله تعالى : " ولا يمكن أن ينفك عنصر العقيدة الإيمانية عن الشعائر التعبدية ، عن القيم الخلقية ، عن الشرائع التنظيمية ، في أي دين يريد أن يُصرِّفَ حياةَ الناس وِِفقَ المنهج الإلهي ، وأيّ انفصال لهذه المقومات يبطلُ عمل الدين في النفوس وفي الحياة ، ويخالف مفهومَ الدين وطبيعته كما أراده الله تعالى ، وهذا ما حدث للمسيحية ... فقد انتهت المسيحية إلى أن تكون نِحلةً بغير شريعة ، وهنا عجزت عن أن تقود الحياةَ الاجتماعية للأمم التي عاشت عليها ، فقيادة الحياة الاجتماعية تقتضي تصوراً اعتقادياً يفسر الوجود كلَّه ويفسر حياة الإنسان ومكانه في الوجود ، وتقتضي نظاماً تعبدياً وقيماً أخلاقية ، ثم تقتضي - حتماً - تشريعات منظِّمةً لحياة الجماعة ، مستمدة من ذلك التصور الاعتقادي ومن هذا النظام التعبدي ومن هذه القيم الأخلاقية ، وهذا القوام التركيبي للدين هو الذي يضمن قيام نظام اجتماعي له بواعثه المفهومة وله ضماناته المكينة .. فلما وقع ذلك الانفصال في الدين المسيحي عجزت المسيحية عن أن تكون نظاماً شاملاً للحياة البشرية ، واضطر أهلُها إلى الفصل بين القيم الروحية والقيم العملية في حياتهم كلِّها ، ومن بينها النظام الاجتماعي الذي تقوم عليه هذه الحياة ، وقامت الأنظمة الاجتماعية هناك على غير قاعدتها الطبيعية الوحيدة ، فقامت معلقةً في الهواء ، أو قامت عرجاء " . في ظلال القرآن . سيد قطب . المجلد الأول . ص 400 .
اليهود في عصر المسيح . سيد عاشور . ص 89 .
بولس أو شاول : يهودي فريسي متعصب ، اعتنق المسيحية في حوالي السنة الثالثة والثلاثين للميلاد بعد أن كان من ألدِّ أعدائها ، وصار بعد اعتناقه الكاذب للمسيحية صاحبَ اليدِ الطولى في تحريف شريعة الله عز وجل المنزلة على عيسى عليه السلام ، فألَّه عيسى عليه السلام وزعم أنه ابنُ الله عز وجل ، وأقام عقيدةَ التثليث ، ولفَّق أسطورة الفداء والتكفير ، فَعُدَّ بذلك المؤسِّسَ الحقيقيَّ للنصرانية ، ولَعب في شريعة عيسى عليه السلام دَوراً كالدور الذي لعبه خلفُهُ ( عبدُ الله بن سبأ ) في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم وأضلَّ به فريقاً مِن المسلمين ، وكانت وفاة بولس في السنة السادسة والستين للميلاد . وتتلمذ عليه لوقا صاحبُ الإنجيل وهو طبيب يهودي - أيضاً - وُلد في أنطاكية ويقال إنه مؤلف ( أعمال الرسل ) .(/3)
وقد دفعتْ دعوةُ بولس الضالةُ حواريَّ عيسى عليه السلام ( برنابا ) إلى تدوينه الإنجيلَ المنسوب إليه لتجلية الحق ، فقال في مقدمته : " أيها الأعزاء .. إن الله العظيم العجيب قد افتقدنا في هذه الأيام الأخيرة بنبيه يسوع المسيح برحمة عظيمة للتعليم والآيات التي اتخذها الشيطان ذريعة لتضليل كثيرين بدعوى التقوى ، مبشرين بتعليم شديد الكفر ، داعين المسيح ابنَ الله ، ورافضين الخِتان الذي أمر الله به دائماً ، مجوِّزين كلَّ لحم نجس ، الذين ضلَّ في عِدادهم أيضاً بولس الذي لا أتكلم عنه إلاَّ مع الأسى ، وهو السبب الذي لأجله أسطر ذلك الحق الذي رأيتُهُ وسمعته أثناء معاشرتي ليسوع لكي تخلصوا ولا يضلكم الشيطان فتهلكوا في دينونة الله " . انظر : الوثيقة الرسمية لإنجيل برنابا . عبد العزيز أبو العلا . ص 13 .
ولقد تأكَّد لدى كثير من المفكرين الغربيين اليوم أن المسيحية التي أقرها بولس تنافي تعاليم عيسى عليه السلام في جوهرها ، كما تأكد لديهم أن الانعزال السلبي في المسيحية إنما جاء من تعاليم بولس ، ويقول ( ويلز ) في ( ملخص التاريخ ) : " إن المسيح لم يبشر بالمسيحية المعروفة اليوم ، وإنما أحدثها بولس المتعلم بالإسكندرية ومنها - أي الإسكندرية - أخذ تعاليمه الوثنية ، التي استحالت فيها آلهةُ قدماء المصريين إيزيس وهورس وسيزاييس إلى الآب والابن والروح القدس " . انظر : مشكلات الجيل في ضوء الإسلام . محمد المجذوب . دار الاعتصام . ص 170 .
عزير : وهو بالعبرية ( عزرا ) ومعناه ( عون ) وهو اختصار لاسم ( عزريا ) ، و ( عزرا الكاتب ) هو : عزرا بن سرايا بن عزريا بن صلقيا من سلالة هارون ، عاصر ( نحميا ) وكان لهما دور بارز في العودة إلى القدس بعد السبي البابلي ، وذلك بعد حلول الحكم الفارسي .
وارتبط اسم ( عزرا ) بالتوراة كأبرز مدوِّن لها بل مُوجِدٍ لها بعد ضياع توراة موسى ، ويحتل (عزرا ) مكانةً عريقة في الوسط اليهودي ، إذ لُقِّب بالكاتب والكاهن ، ووُجِدَ في أسفار العهد القديم سفر باسمه يؤرِّخ للوقائع التي دارت في عصره ، ويبيِّن كيف نجح بانتزاع قرار من الامبراطور الفارسي - والذي كان يشغل عنده منصباً - للعودة باليهود إلى القدس أورشليم ، وعُرف ( عزرا ) بعنصريته اللامحدودة وتعصبه الأعمى لنقاء الجنس الإسرائيلي ، وقد عاش في القرن الخامس قبل الميلاد ، وهو ( عزير ) المعنيُّ في قوله تعالى : ( قالت اليهود عزير ابن الله ) التوبة ( 30 ) ، إذ قالوا : لم يستطع موسى أن يأتينا بالتوراة إلاَّ في كتاب ، وقد جاء بها عزير من غير كتاب ! .
جاء في قاموس الكتاب المقدس حول عهديه القديم والجديد : ( ويبلغ عدد الكتاب الملهمين الذين كتبوا الكتاب المقدس أربعين كاتباً ، وهم من جميع طبقات البشر ، بينهم الراعي والصياد وجابي الضرائب والقائد والنبي والسياسي والملك ) ، ويعلق د/ أسعد السحمراني قائلاً : لقد أدى تنوع المستوى الثقافي ، مع تنوع المواقع الاجتماعية لمن ساهموا في صياغة نصوص الكتاب المقدس إلى تباين نصوصه شكلاً ومضموناً . انظر : من اليهودية إلى الصهيونية . أسعد السحمراني . ص 57 .
وبحكم القرآن الكريم نستطيع القولَ إن التوراة طرأ عليها أصول أربعة : التحريف والتبديل ، والنسيان غير المقصود ، والإهمال والإخفاء المقصود ، ولَبس الحق بالباطل . انظر : الأسفار المقدسة قبل الإسلام . صابر طعيمة . ص 18 .
هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى . ابن قيم الجوزية . ص 128 - 129 .
سيأتي الحديث عنهم في مبحث الفرق اليهودية إن شاء الله تعالى .
شفاء الغليل في بيان ما وقع في التوراة والإنجيل من التبديل . العلامة الجويني . مقدمة المحقق . ص 6
اليهودية . أحمد شلبي . ص 258 .
المدراش : تَوَسُّعٌ شفهي - ومعظمُ الأحيان بكثير من التصرف - في نص توراتي أصبح بعد تدوينه جزءاً من التراث اليهودي . انظر : التوراة تاريخها وغاياتها . سهيل ديب . ص 94 .(/4)
ركائز الاعتقاد اليهودي
المبحث الأول/
الخالق - عزَّ وجل - بين الإشراك والانتقاص
الباحث / محمد عبد الكريم النعيمي
3 / رسل الله
الانتقاص من قدر رسول انتقاص من قدر المرسِل ، ولن يدع اليهودُ درباً يُوصِلُ إلى الانتقاص من قدر الله عز وجل إلاَّ ويسلكوه ، وما الإساءة إلى رسل الله وأنبيائه إلاَّ صورة من هذه الصور ، وإذا أَضفنا إلى هذا الدافع إلى انتقاص قدر رسل الله سبحانه دافعاً آخر يتجلى في ( قَرَف ) بني إسرائيل نبذَ حياة الدنس والغش والخداع والاستعلاء والجشع التي أَلِفُوها ، والتي جاء النبيون لإبطالها وبدعائم الحياة السديدة النظيفة لإحلالها ، اكتمل لدينا تصور هذه الدوافع .
كانتْ تَطَلُّعاتُ بني إسرائيل وآمالُهُم تنعقد حول الأنبياء لغرض غير الغرض الذي وكلوا له ، غرضٍ طالما دغدغ أحلامَهم الجشعة ، وهو تمكينهم من رقاب الأمم ينهبون خيراتها ويمتصون دماءها تحت ظل حكومة يهودية قوية تؤمِّن لهم غِطاءً أمنياً وشرعياً ، دُون المساس بالحياة الداخلية المكتنزة بالرذائل ، والتي تقوم هذه الدولة اليهودية على ركائزها ، وتستند على دعائمها .
ودورُ النبي في هذا الحُلُم ما يشكله من قوة روحية تستمد وقودها من الرب الذي لن يخذله ، ومن الشعب الذي سيلتف حوله .
ولكنهم لَمَّا لم يأتِ الأنبياءُ بما تشتهي أنفسُهم فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون ، ورسخ في أذهانهم أنه لن يُحقق لهم أحلامهم إلاَّ مَن شاكلهم صِفاتاً ، فعَمَدُوا إلى تأويل الوعد بالمسيح المنتظَر مِن عيسى عليه السلام إلى المسيح الدجال الذي سيقودهم فِعلاً ذات يوم () .
ولو راعَينا في سردنا لبعض ما تحفل بع التوراة والتلمود من إساءة لأنبياء الله تعالى الترتيبَ الزمني لمن سأُورِدُ ذِكرَهم وبدأنا بنبي الله وأبي البشر ( آدم ) عليه السلام لوجدناه - بزعم التلمود - " يأتي شيطانةً اسمها ( ليليت ) ولمدة 130 سنة وتلد منه شياطين ، ولوجدنا امرأته وأمَّنا ( حواء ) تقابل خيانته لها بمثلها ولا تلد في هذه المدة إلاَّ شَياطين بسبب زِناها - والعياذُ بالله من هذا الافتراء - مع ذكور الشياطين " () .
ولو عرَّجنا بعدُ على نبي الله نوح عليه السلام لرأيناه سكِّيراً مُقحِماً في سكره إلى الحد الذي يتكشف فيه وتظهر سوأته بحدِّ زعم سفر التكوين ، قال الراوي : ( وابتدأ نوح يحرث الأرض وغرس كرماً ، وشرب من الخمر فسكر وتكشف داخل خبائه ، فرأى حامُ أبو كنعان سوءة أبيه فأخبر أخويه وهما خارجاً ، فأخذ سام ويافث رِداءً وجعلاه على منكبيهما ومشيا مستدبرين فغطيا سوءة أبيهما وأوجههما إلى الوراء ، وسوءة أبيهما لم يرياها ، فلما أفاق نوح من خمره علم ما صنع به ابنه الصغير ، فقال : ملعون كنعان عبداً يكون لعبيد إخوته ) ، وعجباً لرجل يستحيي من ولده أن يَرَى عورته ، ولا يستحي من ربه أن يشهد زلته ! .
ولا تكاد هذه الفِرية تُذكر إذا ما قورنت بنصيب لوطٍ عليه السلام من مجموع الفِرَى المنسوبة إلى الأنبياء ، قال مؤلف سفر التكوين : ( وصعد لوط من صوغر ، وسكن في الجبل وابنتاه معه ، لأنه خاف أن يسكن في صوغر ، فسكن في المغارة وابنتاه ، وقالت البكر للصغيرة : أبونا قد شاخ وليس في الأرض رجل ليدخل علينا كعادة كل الأرض ، هلم نسقي أبانا خمراً ونضطجع معه فنحيي من أبينا نسلاً ، فسقتا أباهما خمراً في تلك الليلة ودخلت البكر واضطجعت مع أبيها ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها ، وحدث في الغد أن البكر قالت للصغيرة : إني قد اضطجعت مع أبي ، فأسقه خمراً الليلة أيضاً فادخلي اضطجعي معه فنحيي من أبينا نسلاً ، فسقتا أباهما خمراً الليلة أيضاً ، وقامت الصغيرة واضطجعت معه ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها ، فحبلت ابنتا لوط من أبيهما فولدت البكر ابناً ودعت اسمه موآب وهو أبو الموآبيين إلى اليوم ، والصغيرة أيضاً ولدت ابناً ودعت اسمه بَنْ عَمِّي وهو أبو بني عمون إلى اليوم ) - لا تعليق !! - .
ولو انتقلنا إلى يعقوب عليه السلام لوجدنا سفر التكوين يزعم أنه طبخ طبيخاً فأتى أخوه البكر ( عيسو ) من الحقل وقد أعيا فقال ليعقوب : أطعمني لأني قد أعييت . فقال يعقوب : بِعني بُكوريتك . فقال عيسو : أنا ماض إلى الموت فلماذا لي بكورية ؟ فقال يعقوب : احلف لي اليوم . فحلف له فباع بكوريته ليعقوب ، فأعطى يعقوبُ عيسو خبزاً وطبيخ عدس فأكل وشرب وقام ومضى واحتقر عيسو البكورية () .(/1)
هذا الجشع والاستغلال البشع والخداع المتكرر في حياة يعقوب يعلق J.W.D.Smith عليه بقوله : " ولا نجد بحال من الأحوال وسيلةً لقبول تصرفات يعقوب ، فقد كان واضحاً أنها غيرُ عادلة ، وكان يسلك مختلف السبل وينتهز كل الفرص لينال حقوقَ أخيه ، كان مستعداً أن يستعمل أساليب المكر والختل والحيل ليحقق أهدافه ، فيعقوب بهذا يُعتبر نموذجاً حقيقياً لأخلاق اليهود ، وعلى هذا تُعتبر تسميتهم باسمه ميراثاً دقيقاً ، فقد ورثوا عنه أكثرَ مما ورثوا عن إبراهيم الذي كان رجلَ عقيدة وإيمان أكثرَ منه رجل ختل ودنيا " () .
ونال الأسباطُ () حظهم من الإساءة والإهانة من لسان أبيهم - بزعم سفر التكوين أيضاً - ، إذ دعا يعقوبُ بنيه قبل موته وقال لهم : ( اجتمعوا لأنبئكم بما يصيبكم في آخر الأيام ، اجتمعوا واصغوا إلى إسرائيل أبيكم ، رأوبين أنت بكري قوتي وأول قدرتي فضل الرفعة فضل العز فائراً كالماء لا تتفضَّل لأنك صعدت على مضجع أبيك ، حينئذ دنسته على فراشي صعد () ، شمعون ولاوي أخوان آلات الظلم سيوفهما ، في مجلسهما لا تدخل نفسي ، بمجمعهما لا تتحد كرامتي ؛ لأنهما في غضبهما قتلا إنساناً وفي رضاهما عرقبا ثوراً ، ملعون غضبهما فإنه شديد وسخطهما فإنه قاس أقسمهما في يعقوب وأفرقهما في إسرائيل ، يهوذا () إياك يحمد إخوتك ، يدك على قنا أعدائك ، يسجد لك بنو أبيك ، يهوذا جرو أسد من فريسة صعدت يا بني ، جثا وربض كأسد وكلبوة من ينهضه ؟ ... زبولون عند ساحل البحر يسكن وهو عند ساحل السفن وجانبه عند صيدون ، يساكر حمار جسيم رابض بين الحظائر ... دان يدين شعبه كأحد أسباط بني إسرائيل ، يكون دان حية على الطريق ، أفعواناً على السبيل يلسع عقبا فرس فيسقط راكبه إلى الوراء ... جاد يزحمه جيش ولكنه يزحم مؤخرته ، أشير خبزه سمين وهو يعطى لذات الملوك ، نفتالي أيّلة مسيّبة يعطي أقوالاً حسنة ، يوسف غصن شجرة مثمرة على عين ... بنيامين ذئب يفترس في الصباح يأكل غنيمة وعند المساء يقسّم نهباً ) . ونعم الأخلاق التي غذاها يعقوب في بنيه ، ورعاها في رعيته ! .
فأما يهوذا الذي شبهه يعقوب بنفسه فتزعم التوراة أنه زنى بكنته - زوجة بكره عير - دون أن يعرفها وحصلت منه على خاتمه وعصابته وعصاه كرهن حتى يرسل أجرها ، واكتشف القوم حبلها - إذ كان زوجها ميتاً - وأخبروا يهوذا بزناها ، فقال : أخرجوها فتحرق !! أما هي فلما أخرجت أرسلت إلى حميها وقالت : مِنَ الرجل الذي هذه له أنا حبلى ! .
وحتى يوسف الذي وصفه أبوه بأنه : ( غصن شجرة مثمرة على عين ) لم يتأخروا في إلصاق شيء من أخلاقهم به ، فيزعمون أنه عندما بدأ موسم الجوع إبان فترة وزارته و " خَوَتْ أرضُ مصر وأرض كنعان من أجل الجوع فجمع يوسف كل الفضة الموجودة في أرض مصر وفي أرض كنعان بالقمح الذي اشترَوا " ، وكانت هذه مقايضة السنة الأولى ، أعقبتها مقايضة الخبز بالمواشي في السنة الثانية بعدما خوت جيوبهم من الفضة ، و " لما تمت السنة الثانية جاؤوا ليوسف ليأخذوا منه قمحاً فرفض أن يعطيهم قمحاً حتى باعوا أراضيهم وأنفسَهم ، قالوا له : اشترِنا وأرضَنا بالخبز ، فنصير نحن وأرضنا عبيداً لفرعون ... فاشترى يوسفُ كل أرض مصر لفرعون ، فصارت الأرض لفرعون ، وأما الشعب فنقلهم إلى المدن وجعلهم عبيداً لفرعون " () ، وهكذا نجحت خطةُ يوسف قبل حلول السنة السابعة ، الخطةُ الخبيثة التي نسبوها إلى يوسف الصديق عليه السلام تُبرِزُ ( أمانتَه ) وحِرصَه على مصلحة ( الرعية ) وحُسنَ استغلالِه مَنصبَه في ذلك !! .
وأين هذه الصورة التوراتية المُؤذية من الصورة الإسلامية ليوسف في هذه القضية ، الصورة التي تليق بمكانة النبوة وعظيم سَمتِها ، فهو لما وَلِيَ الوزارة والسنونُ السبعُ الرخيةُ تَمُرُّ كان " نِعمَ الحاكم اليَقِظ والمولى الفطن الأريب ، فبنى الأهراء وأعدَّ المخازن وملأها بالغلاَّتِ الوافرة والخيرات الكثيرة - لا لشراء الشعب - ، حتى إذا ما أقبلت السَّبعُ الشِّدادُ استقبلها القومُ آمنين ، فلم تغيِّرْ لهم حالاً ، ولم تنلْ منهم شيئاً ، ولم تدقَّ لهم عظماً ، ولم تأكلْ منهم لحماً " () .
وطوَى الزمنُ أجيالاً تعاقبتْ حتى بَرزَ إلى واقع بني إسرائيل مُخلِّصُهم وصاحبُ شريعتِهم وصاحبُ الحظوةِ لديهم ( موسى ) عليه السلام ، فالتفوا حوله في مصر لا إيماناً برسالته كرسول ، ولكن كبطل قومي يرجُون على يديه تخليصَهم من قبضة فرعون الطاحنة .
ويبدو أن حياةَ الذُّلِّ التي أَلِفُوها والتي تشكل جزءاً من طبيعتهم لَمْ تَستَسِغْ طَعمَ الحريةِ التي يأنفُ الشاعرُ العربي الجاهلي العيشَ بِدُونها ، فيقول :
لا تسقني ماءَ الحياة بِذِلَّةٍ
ماءُ الحياةِ بِذِلَّةٍ iiكَجهنمٍ ... ... بلْ فاسقِني بالعزِّ كأسَ الحنظَلِ
وجهنمٌ بالعِزِّ أَطيبُ iiمَنزِلِ(/2)
فما إنْ وَطِئتْ أَقدامُهم أرضَ الأمان - بعد أن نجوا من فرعون وقومه - حتى تمرَّدُوا على موسى وهارون وصاحوا بهما - بحسب سفر الخروج - قائلين : ( ليتنا متنا في مصر إذ كنا جالسين عند قدور اللحم نأكل خبزاً للشبع ، فإنكما أخرجتمانا إلى هذا القفر لكي تُميتا كلَّ هذا الجمهور بالجوع ) () .
ويترك موسى قومَه ويتوجه إلى الطور ويَستبطِأُ قَومُه عودَتَه ، ولا تلبثُ الجاهلية الوثنية تعاود نَشاطَها في مخيلتهم فيجتمعون على هارون قائلين له - بزعم سفر الخروج - : ( قم اصنع لنا آلهة تسير أمامنا لأن هذا موسى الرجل الذي أصعدنا من أرض مصر لا نعلم ماذا أصابه ، فقال لهم : انزعوا أقراطَ الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وائتوني بها ، فنزع كلُّ الشعب أقراط الذهب التي في آذانهم وأتَوا بِها إلى هارون ، فأخذ ذلك من أيديهم وصوره بالإزميل وصنعه عِجلاً مسبوكاً فقالوا : هذه آلهتُك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر ، فلما نظر هارون بنى مذبحاً أمامه ونادَى هارونُ وقال : غداً عيد الرب . فبكروا في الغد وأصعدوا محرقات وقدموا ذبائح وجلس الشعب للأكل والشرب ثم قاموا للعب ) .
هكذا يصوِّرونَ أنبياءَهم وهكذا يُدنِّسُونَ سيَرَهم ، وطبيعي أن يُخْزِيَ الربُّ نبياً خانَ رِسالتَه ودعا إلى غيره وخيَّب أملَه وثِقَته ، ولا يغيبُ هذا عن مؤلفي التوراة المحرفة لتأكيد مصداقية هذه الأخبار ، فيرسمون نهاية مؤسفةً لنبيي الله موسى وهارون عليهما السلام فيها كثير من العبرة والعظة !! ، قال راسم سفر التثنية : ( وكلَّم الربُّ موسى في نفس ذلك اليوم قائلاً : اصعد إلى جبل عباريم ... وانظر إلى أرض كنعان التي أنا أعطيتها لبني إسرائيل مُلكاً ، ومُت في الجبل الذي تصعد عليه ، وانضم إلى قومك كما مات أخوك هارون في جبل هور ، لأنكما خنتماني في وسط بني إسرائيل ) .
وتطالُ مسيرةُ الإفك مَلِكَي بني إسرائيل لتُصوِّرهما باطِشَين لا يباليان بأصول العقيدة وبدهيات الأخلاق في سبيل الوصول إلى مآرب سياسية أو التمتع بشهوات حيوانية . فهذا ( داود ) عليه السلام يزني بامرأة ( أوريا الحثي ) أحدِ قادته ، ويَخشَى داودُ الفَضيحةَ فيبعث إليه ويأمره بالمبيت في بيته - حتى يضاجع زوجه ولا يشك في حبلها - ولكن هذا القائد الحثي - وهو ليس من بني إسرائيل - تدفعه تأملاتُه النبيلةُ إلى المبيت خارج البيت ، إذ أنه يأبى على نفسه أن يستمتع بقرب من زوجته فيما زملاؤه من قادةٍ وجندٍ يُقاسُون الشدائدَ في الصحراء ، فَيُوعِزُ داودُ إلى قائده الأعلى في الجيش أن يجعل ( أوريا ) في مقدمة الجيش ليهلك ، ويتزوج داودُ امرأته ويواري الفضيحة .
وهذه النقيصةُ في داود - بزعم التوراة - تدفع ابنه ( أمنون ) إلى مضاجعة أخته لأبيه ( ثامار )
وأما ( سليمان ) عليه السلام فإنه - بزعم التوراة - أكثرَ مِن زواجه مِن بناتِ الملوك والأعيان الوثنيات لتدعيم سلطته السياسية ، وعُبدتِ الأوثانُ في قصوره من دون الله ، واستفتح حُكمَه بتصفية مَن يُمكنُ أنْ يُناوِئَه ، فقتلَ أخاه الأكبرَ ( أدونيَّا ) ، وقتل قائدَ أبيه الأعلى في الجيش ( يوآب ) ، وعزل ( أبيانار ) الكاهن تمهيداً لِتصفيته .
ويُطِلُّ رسولُ الله ( عيسى ) عليه السلام على الدنيا إطلالةً معجزة تلوك سيرتَها ألسِنَةُ بني إسرائيل الحِداد ، ويلقَى من شرِّ بني إسرائيل ما لقي النبيون من قبله ، وإنِ انفردَ عنهم بالشرِّ العاجل الذي أَعقَبَ وِلادَتَه ، فزعموا أنه ابن الجندي ( يوسف باندارا ) مِن الزنى ، وأنه استخدم السحرَ الذي تعلمه من رِحلته إلى مصر في معجزاته ، ويستدلون على ذلك بأنهم وجدوا علامة شقِّ اللحم على جسد المسيح . وطفح التلمود بألفاظ وإشارات تنال منه عليه السلام ، كنعته بأنه ( أحمق ) و ( المجذوم ) و ( غشاش بني إسرائيل ) () ، ولما كانت السلطةُ السياسية لبني إسرائيل آنذاك تخضعُ للسلطة الرومانية فقد حاول بنو إسرائيل كثيراً أن يستدرجوا عيسى عليه السلام لِيُصَرِّحَ بما يُغضبُ الرومانَ فيأخذوه به , ولكنه - عليه السلام - اتَّبعَ مع اليهود سياسةَ قلب المائدة عليهم , وفَوَّتَ عليهم فرصاً كثيرة , فعندما حاولوا مرة أن يستصدروا منه أمراً بعدم دفع الجزية المفروضة عليهم من الرومان أخرسهم عليه السلام بقوله : ( أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله ) .
ويطول الخلاف بين عيسى - عليه السلام - وبين علماء الدين الذين سلبوا الشعب باسم الدين حتى يُصدر السنهدرين حُكماً بقتله وصلبه ، ويقومون فعلاً بالقتل والصلب ولكن فِيمَن تَوَهَّمُوه عيسى عليه السلام .(/3)
ومنذ ذلك الحين واليهودُ يُفاخِرون بهذا ، وقد روى ابنُ الجوزي حادثةً طريفة يُظهِرون فيها فخرَهم بما صنعوا بعيسى ، قال : " ولي أعرابيٌّ البحرين ، فجمع يهودَها ، وقال : ما تقولون في عيسى بن مريم ؟ قالوا : نحن قتلناه وصلبناه . فقال الأعرابي : لا جرم () ، فهل أديتم ديته ؟ فقالوا : لا . فقال : لا تخرجون من عندي حتى تؤدوا إليَّ ديته . فما خرجوا حتى دفعوها له " () .
وأما ابن خالته ( يحيى بن زكريا ) عليهما السلام ، فقد كان " بارعاً في الشريعة الموسوية ، ومرجعاً مهماً لكل مَن يستفتي في أحكامها ، وكان أحدُ حكام فلسطين يقال له ( هيرودس ) () وكانت له بنت أخ يقال لها ( هيروديا ) بارعة الجمال ، أراد عمها أن يتزوج منها ، وكانت البنتُ وأمُّها تريدان ذلك ، غير أن يحيى لم يرض عن هذا الزواج لأنه محرَّم ، وعُرفَ عنه أنه معارض في ذلك ، فانتهزت أُمُّ الفتاة إخراج فتاتها إلى عمها في زينتها ورقصت أمامه فسُرَّ منها وطلبَ إليها أن تقول ما تتمناه ليعمله لها ، وكانت أمها لقنتها أنها إن قال لها عمُّها ذلك أن تطلب منه رأس يحيى بن زكريا في هذا الطبق ، ففعلت ووفى لها عمها الحاكم بذلك وقتل يحيى " () .
سيأتي الحديث عن هذا في مبحث ( الصهيونية المسيحية ) في أبواب لاحقة من البحث إن شاء الله تعالى .
المسيح المنتظر وتعاليم التلمود . محمد البار . ص 163 .
اليهودية . أحمد شلبي . ص 173 - 174 .
المرجع السابق ص 175 .
السَّبِط : ولد الولد ، والقبيلة من اليهود ، جمعه : أسباط . قال تعالى : ( وقطَّعناهم اثنَتَيْ عشْرَةَ أَسباطاً ) الأعراف ( 160 ) . و ( حُسين سِبْطٌ من الأسباط ) : أمة من الأمم . انظر : القاموس المحيط للفيروز أبادي ص 616 مادة ( سبط ) . والأسباط : أبناء يعقوب عليه السلام الاثنا عشر ، وهم : رأوبين - شمعون - لاوي - يهوذا - يساكر - زبولون - يوسف - بنيامين - دان - نفتالي - جاد - أشير . وسُمُّوا أسباطاً لأن كلاًّ منهم أصبح أمة .
يزعم السفر ذاته : ( أن رأوبين ذهب واضطجع مع بلهة سرية أبيه وسمع إسرائيل ) .
سيأتي الحديث عن الجريمة الشنعاء التي ألصقها به مؤلفو العهد القديم .
سفر التكوين .
قصص القرآن . محمد جاد المولى وآخرون . ص 108 .
عجباً !! أيَعجَزُ مَن فَلَقَ البحرَ وأنجاكم بما لم يُنجِ به أحداً عن إطعامكم !؟ أُفٍّ لهذه القلوب الجاحدة .
التلمود تاريخه وتعاليمه . ظفر الإسلام خان . ص 61 - 62 .
لا جرم : أي لا بد ولا محالة ، وهي تأتي بمعنى القسم .
كتاب الأذكياء . ابن الجوزي . ص 104 .
كان هيرودس أنتياس حاكمَ منطقة الجليل وملكاً على اليهود بأمر قيصر أوغسطس .
قصص الأنبياء . عبد الوهاب النجار . ص 369 .(/4)
ركائز الاعتقاد اليهودي
المبحث الأول/
الخالق - عزَّ وجل - بين الإشراك والانتقاص
الباحث / محمد عبد الكريم النعيمي
2 / الصِّفاتُ الإلهية
النظرة المادية الصِّرفَة التي ينظر من خلالها اليهودُ في جميع أحوالِهِم والتي تشكِّلُ سِمَةً لا انفكاكَ لها عنهم لا تتقبلُ تَفَهُّمَ ذاتٍ غيبية ولو دلَّتْ على حَقيقتها الشواهد والبراهين والمعجزات ، ولذا لا نعجب لسؤالِهم موسى عليه السلام : ( لَنْ نُؤمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً ) البقرة ( 55 ) ، ورغم صعقهم إثر هذا السؤال المريع الذي سَأَلوا وبعْثِهم بعد ذلك ، إلا أن هذه القلوب المتحجرة تأبى الاعترافَ بما لا تُشاهد أعينُ أَصحابها وتلمس أيديهم .
ومن هنا وَضَعَ كُتَّابُ العهد القديم صورةً للهِ عز وجل كشيخ قبيلة يخضع لرجال الدين المعصومين ويُصَوِّبُ له الحاخاماتُ أخطاءه ، كما ورد في التلمود من أن خِلافاً نشأ بين الله عز وجل وبعضِ أحبار يهود حول إحدى المسائل وطال بهما الجدل وأُحِيلا إلى كبير الحاخامات الذي حكم بخطأ الله تعالى ، واضطر اللهُ عز وجل مكرهاً للاعتراف بخطئه أمام السنهدرين () .
وهذا من عجيب نظرة التلمود للذات المقدسة ، فإذا كان الله قد أعطى خلقه العصمة المتمثلة في الحاخامات - بزعمهم - ، فكيف عُدمتْ منه ؟ وفاقد الشيء لا يعطيه ! .
ويمضي التلمود في هُرائه قائلاً إنه عز وجل لا يملك نقض ولا تغيير تعاليم الحاخامات ، وأنه بحسب سفر صموئيل الثاني : يجلس في تابوت على عجلة يجرها الشعب الإسرائيلي وهو يتفرج عليهم ، وداود وكل الشعب يرقص ويغني ويلعب بالرباب والدفوف ! .
وإن تعجب فعجب زعمهم مصارعة الله عز وجل ليعقوب عليه السلام وهزيمته في النزال الفردي وطلبه من يعقوب إطلاقه حينما طلع الفجر خشية الفضيحة والعار الذي سيلحق به إن رآه الناس ، واستجابته مرغماً لمطلب يعقوب مقابل إطلاقه - تعالى الله عن هذا السخف - ، جاء في سفر التكوين : ( فبقي يعقوب وحده يصارعه رجل ما حتى مطلع الفجر ، فلما رأى أنه لا يقدر عليه ضرب حُقَّ فخذه ، فانخلع حُقُّ الفخذ من يعقوب في صراعه معه ، ثم قال : أطلقني فقد طلع الفجر .
فقال : لا أطلقك إلا إذا باركتني . فقال له : ما اسمك ؟ قال : يعقوب . فقال : لن يُدعَى اسمك يعقوب من بعدُ بل إسرائيل () لأنك صارعتَ اللهَ والناسَ وغلبت ) .
وهذا السخف الذي يلفظه الوثنيون إذا نُسِبَ إلى معبوداتهم فضلاً عن الله عز وجل دَفَعَ " ( سعديا الفيومي ) علاَّمةَ اليهود في بغداد أيام العباسيين إلى أن يضع مكانها في ترجمته العربية للتوراة لفظ ( ملاك ) - بدلاً من رجل - ثم يحاول في آخر القصة الابتعاد عن إثبات حدوث مصارعة بين الله ويعقوب ، فيتصرف في النص ويقول : ( لأنك ترأستَ عند الله وعند الناس ، وطقتَ ذلك ) " () .
وهو - تعالى عن ذلك - إلهٌ باطشٌ ومخطِّط محنك ومقاتل من الطراز الأول ، وتنبني استراتيجيته الحربية على الإبادة الجماعية للغوييم () لإشباع نهمه الدموي الذي تسكره كعكة مُزجَتْ بدماء بشرية ، يقول التلمود : ( عندنا مناسبتان دمويتان ترضيان إلهنا يهوه ، إحداهما عيد الفطائر الممزوجة بدماء بشرية ، والأخرى مراسيم ختان أطفالنا ) () .
وهذا القائد يُحكِم قبضته على جنده حتى لا تُبذَرَ فيهم رُوح التمرُّد ، والتهديد خير ضمان لهذا ، فهم إن توانَوا عن طاعته في القتل والذبح ( فيكون أني كما نويت أن أصنعَ بهم أَصنعُ بكم ) سفر العدد .
وصورة هذه الأوامر تتلخص في أن ( تفترس جميع الغوييم الذين يدفعهم إليك الرب إلهك ، فلا تشفق عيناك عليهم ) سفر التثنية . ( وإذا أدخلك الرب إلهك الأرض التي أنت صائر إليها لترثها ، واستأصل أمماً كثيرة من أمام وجهك ... وأسلمهم الرب إلهك بين يديك ... لا تقطع معهم عهداً ولا تأخذك بهم رأفة ) .
ولكن حنكة هذا الرب وبسالته لا تحول دون وقوعه أسيراً في يد الفلسطينيين وهو قابع في تابوته - بزعم التوراة - .
وليست الدماء البشرية وحدها هي التي تثير شهية الرب وتسكره ، بل إنه يتخاذل أمام رائحة الشواء ، ويشكل الشواء خير رشوة له ليعدل عن شرِّ نواياه ، ولِيَهَبَ خير عطاياه . جاء في سفر العدد : ( قال الرب لموسى : حتى متى يهينني هذا الشعب ؟ حتى متى أغفر لهذه الجماعة الشريرة المتذمرة علي ؟ ولكن ما إن قدَّم له بنو إسرائيل اللحم المشويَّ الذي يُحبه جداً حتى انبسطت أساريره ، وعفا عن بني إسرائيل وأعطاهم كل طلباتهم ، وندم على ما نوى أن يفعله بهم ... وكتب ميثاقاً جديداً ليعطيهم أرض كنعان ) .(/1)
وتبرز صفة ندم الرب من خلال النص السابق لتضيف بُعداً جديداً للتصور اليهودي للخالق . وقد جاء في سفر الخروج في الحديث عن غضب الرب عقب عبادة بني إسرائيل العجلَ قول الرب لموسى : ( فالآن اتركني ليحمَى غضبي عليهم ، فأصيِّرك شعباً عظيماً ، فتضرَّع موسى أمام الرب إلهه وقال له : ارجعْ عن حموِّ غضبك واندمْ على الشرِّ بِشَعبك () ... فندم الرب على الشر الذي قال إنه يفعله بشعبه ) . وهكذا تمضي أسفار العهد القديم في نسبة الندم إلى الرب في مواضع متعددة ، كما ورد في سفر التكوين : ( فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض وتأسف في قلبه ) .
ومن مقتضيات شخص هذه أوصافه أن يكل ويتعب , شأنه في ذلك شأن كل متصف بهذه الأوصاف , وهي مسلَّمة لم يغفلها كتابُ العهد القديم , فأوردوا في سفر التكوين عملية خلق الكون وإتمام الرب لها : ( فأكملت السموات والأرض وجميع جيشها , وفرغ الله في اليوم السابع () من عمله الذي عمل واستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل , وبارك الله اليوم السابع وقدَّسه لأنه فيه استراح من جميع عمله الذي خلقه الله ليصنعه ) .
ومن حقه أن يجد سكناً يأوي إليه , ويتكفل سليمان ببنائه بزعم سفر الملوك الأول : ( حينئذ تكلم سليمان , قال الرب إنه يسكن في الضباب , إني قد بنيت لك بيت سكن مكاناً لسكناك إلى الأبد ) () .
ومن قبل سليمان داود الذي عزم على بناء بيت من أرز للرب بعدما أمَّن الرب له الحماية , فأفضى داود بما عزم لناثان النبي , وقال الرب بحسب سفر صموئيل الثاني : (أأنت تبني لي بيتاً لسكاني ؟ لأني لم أسكن في بيت منذ يوم أصعدت بني إسرائيل من مصر إلى هذا اليوم , بل كنت أسير في خيمة وفي مسكن , في كل ما سرت مع جميع بني إسرائيل هل تكلمت بكلمة واحدة إلى أحد قضاة إسرائيل قائلاً لماذا تبنوا لي بيتاً من الأرز ؟ ) .
بل ومن حق المتصف بهذه الصفات التمتعُ بمباهج الدنيا ومن أولوياتها اتخاذ زوجة وإنجاب بنين () سيما وأنه يحمل بين جنباته قلباً يخفق كما ينص سفر التكوين : ( وقال الرب في قلبه : لا أعود ألعن الأرض ... ) , ولكن العلاقة تسوء إثر اتهامه زوجه بالخيانة - حاشا لله تعالى - ويقول الرب لأبنائه الذين يكبرهم إسرائيل كما ورد في سفر هوشع : ( حاكموا أمكم لأنها ليست امرأتي وأنا لست رجلها , تعزل زناها عن وجهها وفسقها من بين ثدييها , ليلاً أجردها عارية وأوقفها كيوم ولدتها وأجعلها كقفر ... ولا أرحم أولادها لأنهم أولاد زنى , لأن أمهم زنت, التي حبلت بهم صنعت خزياً ) () .
ويكمل سفر إشَعْيا فصول العلاقة الأسرية التي تنتهي إلى مأساة تتجسد في طلاق الرب زوجه : ( هكذا قال الرب , أين كتاب طلاق أمكم التي طلقتها , أومن هو من غرمائي الذي بعثته إياكم , هو ذا من أجل آثامكم قد بعتم ومن أجل ذنوبكم طلقت أمكم لماذا جئت وليس إنسان).
وهذا الرب الكثير الأشغال ينظم وقته المليءَ بحسب الجدول الذي رسمه التلمود فـ " هنالك اثنتا عشر ساعة في اليوم , ينشغل القدوس المبارك في ثلاث ساعات منها بالتوراة , وفي الساعات الثلاث التي تليها يحاكم العالم ككل , وعندما يرى أنه عرضه للتدمير يقوم عن كرسي الدينونة ويجلس على كرسي الرحمة , وفي الساعات الثلاث الأخيرة يلعب مع لوياتان () ... لكن في الساعات الثلاث الرابعة , يعلم التوراة لطلبة المدارس ... يمكننا القول إذا شئتم () أنه يفعل في الليل ما يفعله في النهار , ويمكننا القول إذا شئتم إنه يركب على غمامة ليله ويتحرك في كل الاتجاهات " () .
السنهدرين : لفظ يوناني يعني ( المجمع العظيم ) أو ( الجمعية ) أو ( الهيئة الاستشارية ) ، وكان يطلق عليه بالعبرية ( كنيست ) وهو المجلس الأعلى عند قدماء اليهود ، وقد نظمه الأحبار فجعلوه على درجتين : * السنهدرين الأعظم : وهو المجلس الأعلى المركزي لجميع اليهود ، ويتألف من سبعين رجلاً على رأسهم واحد ينوب عن موسى هو الملك إن وُجد أو الحاخام الأكبر ، وفعلهم هذا محاولة للاقتداء بموسى حينما اختار من قومه سبعين رجلاً . * السنهدرين الأصغر : وهو مجلس محلي لكل تجمع يهودي ، ويتألف من ثلاثة وعشرين عضواً .
إسرائيل : كلمة غير عربية تتكون من مقطعين ( إسرا ) و ( إيل ) ، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما : ( إسرا ) بالعبرية هو عبد ، و ( إيل ) هو الله . انتهى . وقيل : ( إسرا ) هو صفوة ، و( إيل ) هو الله . وورد في معجم اللاهوت الكتابي عن كلمة ( إسرائيل ) : رؤوس عند الله ( صارع الله ) . انتهى . وقيل : ( قوة الله ) من لفظتين ساميتين قديمتين هما ( أسر ) بمعنى : القوة والغلبة = = كالأَزْر ، ولفظ ( إيل ) أي : الإله الله . انظر كتاب : من اليهودية إلى الصهيونية . أسعد السحمراني . ص 19 - 20 ، وكتاب : الشخصية الإسرائيلية . حسن ظاظا . ص 16 .
الشخصية الإسرائيلية . حسن ظاظا . ص 15 .(/2)
غوييم Goyim : لفظة مفردها ( غوي ) يطلقها اليهود على البشر من أتباع الديانات الأخرى ، وتعني : القطعان البشرية ، في حين يميز اليهود أنفسهم بلفظة ( عام ألوهيم ) أي : شعب الله . ويقول البروتوكول الحادي عشر من بروتوكولات حكماء صهيون ص 79 : ( إن شعوب الجوييم إنما هي قطعان من الغنم ، ونحن الذئاب التي تفترسهم ، هل تعرفون ما تفعله الذئاب بالأغنام ؟ ) .
المسيح المنتظر وتعاليم التلمود . محمد البار . ص 26 .
ليست هذه بصيغة تضرع ، بل عتاب على وجه الاستعلاء . والحديث مع الرب بهذه اللهجة وبأوقح منها متكرر ، وقد أوردوا على لسان ( أرميا ) في سفر أرميا : ( فقلت : آه يا سيدي الرب ، حقاً إنك خدَّاع ، خدعتَ هذا الشعب قائلاً : يكون لكم سلام .. وقد بلغ السيف النفس ) .
وهو عند اليهود يوم السبت ، وعند المسلمين هو يوم الجمعة .
إن صح زعم اليهود بناء سليمان الهيكل فلمَ لم يصمد لسكنى الرب إلى الأبد ؟!
يُرجع بعض الباحثين هذه العقائد الوثنية إلى تأثر اليهود بالأساطير الكنعانية القديمة القائمة على عبادة الإله ( إيل ) الذي تزوج عدداً من النساء ، وأنجب منهن ذرية . انظر كتاب : الحسام الممدود في الرد على اليهود . عبد الحق الإسلامي . هامش ص 152 .
كثير من الباحثين يؤكدون ، ومقتضيات النص تؤكد أن المقصود بالزوجة هي أمة إسرائيل وليست زوجة حقيقية ، ولذا يكون النص مجازياً نابياً صاغه قَذِرٌ مركَّب الجهل بأسس بلاغة الكلام ، ولكنني أوردته بهذا المعنى أخذاً بتفسير الحبر السبتي الذي مَنَّ اللهُ عليه بالإسلام ( عبد الحق الإسلامي المغربي ) ، اعتقاداً مني بأنه أعلم بنصوص القوم . وقد أوردها في كتابه الموسوم بـ ( الحسام الممدود في الرد على اليهود ) ص 152 - 154 .
جاء في سفر المزامير : ( هناك تجري السفن للوياتان الذي جبلته لتلاعبه ) ، والظاهر أن لوياتان حوت .
تنظيم وقت الرب يخضع لمشيئتهم !!
من اليهودية إلى الصهيونية . أسعد السحمراني . ص 111 - 112 .(/3)
ركائز الاعتقاد اليهودي
معالِمُ التشريع وصُورُه /3
الباحث / محمد عبد الكريم النعيمي
تلتقي بعضُ صور تشريع العهد القديم بصور التشريع القرآني في أحكام المعاملات والجنايات والعبادات ، إلاَّ أن اليهود - وكما احتكروا الاعتقاد - جعلوا خيرَ هذه الأحكام مِن نصيبهم هم ، ولطالما حاولوا التحايلَ على الله عز وجل وعلى أنبيائهم للإفادة مِن نفع ما يُخالف أمرَ الله تعالى ، فَعظُمَ ابتلاءُ الله لهم وعَظُمتْ معَهُ خَطيئتُهم .
وقد استَقَى المُحَرِّفون كثيراً مِن هذه الأحكام من الفكر البابلي والفارسي ، " على أن أهم مصدر اعتمدت عليه أسفار العهد القديم هو تشريع ( حمورابي ) () الذي يرجع تاريخُه إلى نحو 1940 قبل الميلاد . وقد اكتُشِف في سنة 1902م محفوراً على عمود من الصخر الأسود ، وتشريع حمورابي أقدم تشريع سامي معروف حتى الآن ، وهو يدل على عقلية بلغت شأواً عظيماً في الرُّقي والنضج ، ثم إن هناك شبهاً شديداً بينه وبين القوانين اليهودية ، وهذا الشبه ليس سطحياً ولا عرضياً ، بل يتناول اللحمة والسدى واللب والجوهر ، وحتى اللفظ والتراكيب " () ، ومنها مثلاً عدم قبول الدِّية عند حمورابي ، وأخذها منه الصدوقيون اليهود .
وهذه الأفكار الوثنية التي صاغتْ ملامحَ بشرية لإله إسرائيل ، كان لها عظيمَ الأثر في الأحكام والتشريعات اليهودية ، فصوَّرتْهُ مُستَلقياً على قَفاه واضِعاً إحدى رجليه على الأخرى في يوم السبت يطلب الراحة بعد عمل ستة أيام شاقة في خلق السماوات والأرض ، ومِن الرواية الملفَّقة حَرَّم المُشَرِّعُ على اليهودي العملَ يوم السبت تحريماً قاطعاً إلى درجة تحريم الإنارة يوم السبت وعدم تسخين الماء فيه والاستعانة في حال الضرورة القصوى بغير اليهودي للإنارة أو التسخين ، بل واختلف علماؤهم في أكل البيضة تَبيضُها الدجاجةُ يوم السبت ، وفي إطفاء حريق شبَّ في منزل يوم السبت .
" أما مواقيت الصلاة عندهم فثلاث مواقيت محددة على الوجه التالي :
1- صلاة الفجر : ويسمونها صلاة السَّحَر ( شحاريت ) ، ووقتها منذ تبيُّن الخيط الأبيض من الخيط الأزرق إلى ارتفاع عمود النهار .
2- صلاة نصف النهار : أو القيلولة ( مِنْحَه ) ، وتجب منذ انحراف الشمس عن نقطة الزوال إلى ما قبل الغروب .
3- صلاة المساء : ويسمونها صلاة الغروب ( عَرِبيت ) ووقتها من غروب الشمس وراء الأفق إلى أن تتم ظلمة الليل الكاملة .
ويحدد اليهود للرجال لِباساً مميزاً خاصاً يرتديه الواحد منهم عندما يريد تأدية الصلاة ، أهم ما فيه الخيوط الزرقاء المتدلية من الشال ، وبعد غسل اليدين يوضع الشال على الكتفين ، ولهذا الشال في طهارته أحكام خاصة أهمها أنه لا تلمسه النساء ، ويجب على اليهودي لبسه منذ أن يبلغ سن التكليف وهي ثلاث عشرة سنة ، ويبقى عنده إلى أن يموت فيكفن فيه عادة ، ويجب في صلاتهم تغطية الرأس احتراماً ، ولبس ( التفلين ) وهي عبارة عن علبة صغيرة من الخشب أو الجلد محفوظ بداخلها رقعة من رَقِّ الغزال أو الجلد مكتوب عليها قراءة السماع ( وهي مجموعة نصوص من سِفرَي التثنية والعدد ) ، وهذه العلبة مثبتة في شريط من الجلد ، ويجب وضعها عند الصلاة في وسط الجبهة بحيث يُربط شريطُ الجلد حول الرأس وتُوضع واحدةٌ أخرى على الكف اليسرى يربط شريطها حول اليد ، وتكون العلبة مثبتة عند أصل الإبهام ، وإن كان المصلي أشول - أي يستعمل اليد اليسرى - وجب عليه ربطها على الكف اليمنى " () .
أما عبادة الصوم فلم يَفرضْ عليهم المُشرِّعُ إلا يوماً واحداً هو يوم الكفارة ، اليوم الذي نجَّى اللهُ فيه موسى وقومَهُ من فرعون وملئه ، وهو اليوم الموافق للعاشر من الشهر العربي ( محرم ) .
وتُعدُّ شريعةُ الختان أول ما يواجه اليهودي من أبواب الطهارة ، ويعودُ بها البعضُ إلى مبدأ القرابين التي كانت " تشمل الضحايا البشرية ، فكان الإنسان يُقدَّم مع القرابين الأخرى من الحيوان والثمار ، واستمرَّ الأخذُ بهذه العادة فترة طويلة ... ثم اكتفت الآلهة بجزء من الإنسان ، بدلاً من أن يُضَحَّى بالإنسان كله ، وكان هذا الجزءُ هو ما يُقتطَع في عملية الخِتان " () ، وجاءت فكرة اختيار هذا الجزء من سُنَّة شائعة عند المِصريين القدماء يتَّقُون بها الأقذار والأعراض التي تنجُم عن هذه القلفة .(/1)
ولكنَّ فَهْمَ هذه الشريعة عند اليهود على هذا النحو مغلوطٌ إذا علمنا أن مبدأ هذه الشريعة جاء أمراً إلهياً مباشراً منذ خليل الله إبراهيم عليه السلام ، وهو قبل ذلك فِطري ، ولم يظهر نتيجةَ تقليد حضاري ولا تطوُّرٍ قُرباني ، بل كان تطبيقُهُ أمراً واجباً يُثابُ فاعله ويُعاقَبُ تاركه ، ووجود هذه الشريعة الفِطرية في الحضارة الفرعونية الوثنية لا يعني انتقالها تقليداً إلى بني إسرائيل ، بل كانت عند بني إسرائيل - كما تقدم - استجابة لأمر إلهي ، وقد جاء في سفر التكوين : ( هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك يختن كل ذَكَر منكم ، فتختنون القُلفة من أبدانكم ويكون ذلك علامةَ عهد بيني وبينكم ، وابن ثمانية أيام يُختن كل ذكر منكم مدى أجيالكم المولود في منازلكم والمشتري بفضة من كل غريب ليس من نسلكم ، يختن المولود في بيتك والمشتري بفضتك فيكون عهدي في أبدانكم عهداً مؤبداً ، وأي أقلف من الذكور لم تُختن القُلفة من بدنه تقطع تلك النفس من شَعبِها إذ قد نقض عهدي ) .
وكذلك يقرر المشرعُ نجاسةَ الجُنب ويوجب غسل البدن كاملاً ، فيقول سفر اللاويين : ( وأي رجل خرجت منه نطفة مضاجعة فليغسل جميع بدنه بالماء ، ويكون نجساً إلى المغيب ، وأي امرأة ضاجعها رجل بنطفة فليرتحضا بالماء ويكونا نجسين إلى المغيب ) .
وحرم الله عز وجل عليهم في ما يطعمون كلَّ ذي ظفر غير مشقوق من الحيوان وكل ما لا يجتر على اعتباره نجساً تنتقل نجاسته إلى لامسِه ، ولكن المشرع يضيف الأرنب إلى قائمة المحرمات رغم أنه من الحيوانات المجترة " ولكنه غير مشقوق الظفر فهو رجس لكم " () .
وكثيرٌ مما حُرِّمَ على بني إسرائيل من الطعام وغيره كان لأجل ما بغَوا وعصَوا ، وكذلك لتحريم يعقوب عليه السلام بعضَ هذا الطعام على نفسه وسير بني إسرائيل في ذلك على سنته () .
ويشدد المشرع في تحريمه لحمَ الخنزير فيقول : ( والخنزير فإنه ذو ظفر مشقوق ولكنه لا يجتر فهو رجس لكم ، لا تأكلوا شيئاً من لحمها وميتتها ولا تمسُّوا فإنها نجسة لكم ) سفر اللاويين .
" ولقد جَرَّ تحريم لحم الخنزير على اليهود نوعاً من الامتحان العسير في الدين ، حيث كانت الأُمم التي تغزوهم وتحتلُّ أراضيهم وترغب في تحييدهم عن شريعتهم تمتحنهم بالطلب منهم أكلَ لحم الخنزير " () .
أما بالنسبة للدماء الحيوانية فهي محرمة الشرب لا لما يحويه الدم من الميكروبات الضارة ، بل لأنه نفس ، كونه دفق الحياة في الكائن الحي ، وله أهمية خاصة تتمثل في طقوس التكفير حيث " ينضحه الكهنة بالرش وفي يوم الغفران بنوع خاص ، يدخل عظيم الأحبار قدس الأقداس بدم الضحايا المقدَّمة عن خطاياه وخطايا الشعب " () .
أما في أحكام القِصاص والمعاملات فتتجلى العنصرية اليهودية والاحتكار اليهودي لمقومات الحياة المستقرة في المجتمع ، ولعل في الوصايا العشر التي تتضمن كثيراً من هذه الأحكام بعض الاطمئنان إلى صحة كثير منها والوثوق بها .
فتحريم العقوق والزنى () أو حتى مجرد الاشتهاء لامرأة قريبك أو ماله وشهادة الزور والربى والرشوة ، والنص على مقابلة كيفية العقاب بكيفية الجُرم المرتكب ، كل هذا مما جاءت به تعاليمُ القرآنِ الكريم المهيمنِ على ما سبقه من الكتب .
أما عن المرأة وما يتعلق بها من أحكام فيكشف المشرع عن نظرة دونية لا اعتبارية لها ولدورها في المجتمع ، ويتضح ذلك في أنحاء مختلفة منها مثلاً طريقة الزواج التي تقوم على مبدأ البيع والشراء بين الولي والزوج ، فاللواط بها جائز - بحسب التلمود - لأنها بالنسبة للزوج قطعةُ لحم اشتراها من الجزار ويمكنه أكلها مسلوقةً أو مشوية حسب رغبته .
ويذهب التلمود كذلك إلى اعتبار شهادة مئة امرأة بشهادة رجل واحد لِخِفَّة عقلها ، ولا ترث البنت مع وجود الابن ، ولا ترث الزوجة كذلك وينفق الوارثُ عليها ، ومن حقه أن يتزوجها أو يُزوِّجَها من يشاء ويأخذ مهرها ، ويستطيع كذلك أن يُبقيها رهينةً خادمةً في منزله دون زواج .
كما جاء في التلمود أنه " عندما تنذر المرأة المتزوجة نذراً ، فإن لزوجها الحق بأن يوافق على النذر أو يبطله ، وأن امرأةً ما إذا أساءت إدارةَ البيت أو وَجدَ الرجلُ امرأةً أجملَ منها فله الحقُّ في أن يُطلِّقَها " () .
وتعود هذه النظرةُ الدونية للمرأة في المجتمع اليهودي إلى الاعتقاد التوراتي بأن ( حواء ) كانت سببَ بلاء البشرية بإغوائها ( آدمَ ) للأكل من الشجرة التي نُهِيا عنها ، وترَى التوراةُ أن حال المرأة في الدنيا من سيادة الرجل عليها ، ومن مَشاقِّ الحمل والوضع ما هو إلاَّ عِقابٌ إلهي عادل ، وتتضح في هذا فكرة الذنب الموروث القائمةُ في الاعتقاد المسيحي .(/2)
أما مسألة الزواج فيعيِّن المشرِّع سِنَّ الثالثة عشر بالنسبة للرجل ، والثانية عشر بالنسبة للمرأة ، ورغبةً من المشرِّع في التكاثر العِبري فقد ألحقَ اللعنةَ بمن بلغ العشرين ولم يتزوج ، كما أطلقَ تعددَ الزوجات ، وأباحَ نِكاحَ الخالة والعمة وبنتِ الأخ وبنتِ الأخت من الأقرباء .
وطوال تاريخ بني إسرائيل كانت المرأةُ أداةً رخيصة لتحقيق مكاسب سياسية ، ولَعِبَتْ لديهم بتدنيس شرفها وهتك عِرضِها دوراً يستعصي على عباقرة الساسة وجهابذة القادة ، ولو توخَّينا التسلسل التاريخي لوقائع من هذا النوع وبدأنا بالأرملة اليهودية ( يهوديت ) التي قررت الانتقام من كبير قواد ( نبوخذ نصر ) ، فتعرَّضتْ له واكتفت منه بضمِّها إلى جَواريه ، وتمكنت من الوقوع في نفسه وإشعال فتيل قلبه بالكلف بها ، حتى إذا تمكنت منه ذات يوم وأطاشت عقله بكؤوس الخمر والقُرْب ذبحته ذبح النعاج .
وأما قصة غانية إسرائيل ( أستير ) التي يرتبط ذكرها بعيد ( الفوريم ) () اليهودي ، فهي قصة مُستقاةٌ من روايات المصادر اليهودية ، وعلى فَرْضِ أسطوريتها أو وضعها إلاَّ أنها توجيهٌ خبيث لألاعيب سياسيي صهيون على مرِّ التاريخ ، ويُروَى أن الحادثة كانت في فترة وجود اليهود في المنفَى البابلي والسلطة الفارسية بعد أن أَسقط ( قورش الإيرانيُّ ) امبراطوريةَ الكلدان وورثها من بعدهم ، وبالتحديد في عهد الملك الفارسي ( كسركسيس ) - أو أحشويروش في الفولكلور اليهودي - الذي قرَّبَ اليهود ووسَّع من سلطاتهم لمعاونتهم له في التمهيد لاتساع رُقعةِ ملكه ، ويبدو أن الاستخدامَ الخبيثَ لسلطاتهم حرَّكَ أحدَ الوزراء واسمه ( هامان ) وبمساعدة ومباركة من زوجته ( زارش ) ، للحدِّ من نفوذهم وسلطانهم .
وباشر ( هامان ) بحملةِ اضطهاد واسعة ضد اليهود ، فتحرَّك أحدُ اليهود المسؤولين في القصر الملكي ، ووضع خطةً لقلب المؤامرة على ( هامان ) ، وكان عِمادُ وقِوامُ الخطة ( أستير ) ابنة عم ( مردخاي ) اليتيمة ، وَبِحِيَلٍ لا يُعدَمُها هؤلاء وصلت ( أستير ) إلى أحضان الملك الذي فقد صوابه بتأثير الغانية اللعوب ، واستطاعت أن تنتزع منه قراراً بصلب ( هامان ) على الخشبة التي أعدَّها لابن عمها ( مردخاي ) في ليلة ذُبح فيها أبناءُ ( هامان ) وزوجته وأنصاره ، وامتدَّ لَهيبُها إلى نحو سنة كاملة ، حتى استراح اليهود في الخامس عشر من شهر آذار ، وأُقِرَّ اليومُ عيداً قومياً ، والقصة بكاملها وردتْ في سفر أستير .
ولو عَرَّجنا على الامبراطورية الرومانية وقلَّبنا تاريخ ( نيرون ) الذي جعلت منه الأصابعُ اليهودية وبأداةِ المرأة رمزاً تاريخياً للبطش والقسوة والطغيان .
كان لهذا الامبراطور قريباً ومستشاراً يُسمَّى ( سبيكا ) ، ففطن الأخيرُ إلى التغلغل اليهودي في عاصمة الامبراطورية ( روما ) ، وظلَّ يُنَبِّهُ إلى خطرهم ، وفطن اليهودُ بدورهم إليه ، فجنَّدوا زوجةً للامبراطور ( نيرون ) حوَّلته إلى وحشٍ دموي ، وأغرته بقتل ( سبيكا ) ، إلا أن ( نيرون ) خشي انتفاضةَ الشعب - الذي يُقدِّرُ سبيكا - إن هو قتله ، فعمد إلى حيلة يهودية الصِّبغة ، وأجبر ( سبيكا ) على قتل نفسه () .
وفي حُكم الدولة العثمانية تغلغل اليهود في القصور السلطانية عن طريق النساء أيضاً ، " حيث قام السلطان ( سليم الثاني ) بالزواج من اليهودية ( نوربانو ) وأنجبت الأميرَ ( مراد الثالث ) ، وقد مُنحَت ولأول مرة لقب ( مهد عليا ) أي : والدة السلطان ، وقد تميزت ( بانو ) بالذكاء ، وعندما توفي زوجُها أخفت خبر وفاته لحين وصول ولدها ( مراد ) من ( مانيسه ) ، كانت ( بانو ) دونمة يهودية ، وقد فسحت المجال أمام اليهود للتغلغل في قصر السلطان . والأكثر من ذلك أن كُلاًّ من ( كيرا ) و ( استكيرا ) اليهوديتين في ظل ( نوربانو ) أخذتا تتحكمان في الوزراء وذلك في عهد السلطان ( محمد الثالث ) في القرن الحادي عشر الهجري " () .
وفي العصر الحديث سُجِّلت عدةُ وقائع مشابهة لتلك الحوادث التاريخية ، فقد نشرت الصحف في 1973م قصةَ وزير الطيران البريطاني ( لامبتون ) الذي تمكنت عاملةُ هاتف يهودية ومتزوجة من استدراجه - وهو الوزير الخطير في مركزه والكبير في سنه وصاحب المنصب السياسي والعسكري الدقيق - إلى فراشها في حجرة نومها أمام مجموعة من المرايا ، بينما عدسةٌ تلتقط صوراً لكل ما يدور بينهما في حجرة الفراش ، واستطاعت أن تستغل هذه الصورَ بعد ذلك ضدَّ الوزير .
وقامت زوبعةٌ سياسية في إنجلترا ، وكانت فضيحة كبرى تتحدث عنها الصحف وتتناقلها وكالات الأنباء ، وتحقق فيها الحكومة .
واعترف الوزير بعلاقته مع الغانية اليهودية اللعوب ، وقدَّمَ استقالته من الوزارة ومن الحزب ، وتنازل عن لقب ( لورد ) الذي كان يحمله () .(/3)
وليس ببعيد عن هذه الحادثة وعنا فضيحةُ الرئيس الأمريكي الأسبق ( بيل كلينتون ) مع الموظفة اليهودية في البيت الأبيض ( مونيكا لوينسكي ) التي قال فيها زعيم اليمين المتطرف ( جانشرو ) : " إن إلهنا يُعاقب كل من يحاول تهديد إسرائيل وابتزازها ، إن مونيكا لوينسكي تمثِّل البطلةَ العصرية للملكة أستير التي أنقذت الشعبَ اليهودي من مصير مظلم بسبب زوجها الملك الفارسي أحشويروش " .
ولن تفتأ الحيلة القديمة تمضي نحو الغاية التي يدبرون لأجلها ويُغرقون شبابَ الأمم في لُجَّاتها . جاء في البروتوكول الأول من بروتوكولات حكماء صهيون : " إن شباب شعوب الجوييم يستمتعون بالمشروبات الروحية الكحولية ليزدادوا حمقاً وغباءً لاستغراقهم في الدراسات الكلاسيكية التي لا طائل تحتها منذ نعومة أظفارهم ، ولانزلاقهم إلى وِهاد إدمان الخمور وشتى مظاهر السلوك اللاأخلاقي الذي يوفره لهم عملاؤنا من معلمين وخدم ومربيات في البيوت التي يمتلكها أغنياؤهم ، وعلى أيدي الموظَّفين اليهود الذين يُضطرُّون إلى توظيفهم لإدارة أعمالهم ، وعلى أيدي نسائنا اليهوديات العاملات في بيوت اللهو والدعارة وفي المسارح ودور الخيالة ، حيث يلهو أفرادُ الأغلبية الساحقة من شعوب الجوييم ، وفي خاتمة هذه القائمة أضيف ما يطلق عليه ( سيدات المجتمع ) أو ( صاحبات الصالونات ) لاصطياد عُشَّاقِهن المُغرَمين الطيِّعين نحو الفساد والترف " () .
الهوامش
حمورابي : عاش في حوالي 2100 قبل الميلاد ، ملك بابل ، الملك السادس من ملوك الدولة الآشورية ، ويعد عصرُه العصرَ الذهبي لبابل ، اشتهر برسائله وبمجموعة قوانينه التي تُعتبر أقدمَ ما وصلَ إلينا في صورة كاملة ، وتنمُّ عن تطور الفكر القانوني ، وهي منقوشة على قطعة كبيرة من حجر الديوريث الأسود المصقول ، موجودة في متحف اللوفر بباريس ، في ( 3600 ) سطر بالخط المسماري ، ويتبع القانون الذي يتبع مبدأ عين بعين على ( 282 ) مادة تسبقها عبارة ابتهالية يوضح فيها الملك عظمته وأهدافه السامية التي يراعي فيها سيادة العدل . بتصرف عن الموسوعة العربية الميسرة . الجزء الأول . ص 740 .
اليهودية . أحمد شلبي . ص 265 .
من اليهودية إلى الصهيونية . أسعد السحمراني . ص 124 - 125 - 126 بتصرف .
اليهودية . أحمد شلبي . ص 215 - 216 .
سفر اللاويين .
الأصل أن كلَّ الطعام كان حِلاًّ لبني إسرائيل ، إلاَّ أن يعقوب عليه السلام - وهو سابق على التوراة طبعاً - كان قد نذر لله تعالى لئن عافاه من مرض كان أَلَمَّ به لَيمتنعنَّ - تطوعاً - عن لحوم الإبل وألبانها وكانت أحبَّ شيء إلى نفسه ، فقبل الله منه نذرَه ، وجَرَتْ سُنةُ بني إسرائيل على اتباع أبيهم في تحريم ما حَرَّم .. كذلك حرم الله على بني إسرائيل مطاعمَ أخرى عقوبةً لهم على معصيات ارتكبوها ، وأُشيرَ إلى هذه المحرَّمات في آية الأنعام : ( وعلى الذين هادوا حرمنا كلَّ ذي ظفر ، ومن البقر والغنم حرَّمنا عليهم شحومها إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ، ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون ) الأنعام ( 146 ) . وكانت قبل هذا التحريم حلالاً لبني إسرائيل . في ظلال القرآن . سيد قطب . المجلد الأول . ص 433 - 434 بتصرف يسير ، وانظر أيضاً ص 346 .
من اليهودية إلى الصهيونية . أسعد السحمراني . ص 139 بتصرف .
المرجع السابق . ص 138 نقلاً عن معجم اللاهوت الكتابي .
ورغم تحريم المشرِّع الزنى فقد اعترفت الدولة العِبرية رسمياً بمهنة الدعارة كمهنة رسمية على لسان ( مردخاي كوهين ) المدير المالي لمؤسسة التأمينات في إسرائيل ، وقال : ( إن مهمتنا تأمين جميع المهن ، والدعارة أقدم مهنة في التاريخ ) ! .
التلمود تاريخه وتعاليمه . ظفر الإسلام خان . ص 58 .
يُسمي الأوربيون هذا العيد بالكرنفال اليهودي ، بينما يسميه قدماءُ علماء المسلمين بعيد المسخرة .
انظر إن شئت : اليهود وراء كل جريمة . غاي كار . ص 56 - 57 .
اليهود والدولة العثمانية . أحمد نوري النعيمي . ص 35 - 36 .
المرأة والأسرة في الحضارة الغربية الحديثة . . ص 57 .
بروتوكولات حكماء صهيون . ترجمة : علي الجوهري . ص 36 - 37 .(/4)
ركوب السيارات المسروقة
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ المعاملات/الغصب والإتلاف
التاريخ ... 18/06/1425هـ
السؤال
السلام عليكم.
ما حكم ركوب (السيارات المسروقة والمنهوبة) التي نهبت بعد الأحداث، والتي ألمت بالعراق إبان سقوط الطاغية ودخول المحتلين لها؟ يذكر أن السيارات منها التي سرقت من الوزارات و الدوائر الحكومية، ومنها التي سرقت من رجال الحكومة.
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
ركوب السيارات المسروقة والمنهوبة فرع عن حكم بيعها وشرائها، والعلماء مختلفون في حكم شراء المنهوب والمسروق والمغصوب، والذي لم يعرف مالكه على قولين: الجواز والمنع، والأرجح الجواز، وقد نص الفقهاء -كابن قدامة في المغني- على أن تصرفات الغاصب -ومثله السارق والمنتهب- كتصرف الفضولي فيه روايتان عن أحمد أصحهما الجواز، وقد صحح شيخ الإسلام ابن تيمية شراء سلعة من أكره على بيعها، مع أن الإكراه ينقض شرط التراضي الذي هو أحد شروط عقد البيع، وإذا كان في حكم البيع والشراء فإن مجرد الركوب وهو نوع من أنواع الانتفاع من باب أولى جوازه، وإن كان للإنسان مندوحة عنه فاجتنابه أولى لحديث: "استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك" رواه أحمد(18001) بإسناد ضعيف وورد صحيحاً بلفظ: "وإن أفتاك المفتون" رواه أحمد(17742). والله أعلم.(/1)
رمضان أقْبِلْ
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
لُقْياكَ أَحْناءٌ تئِنُّ و تُشْفِقُ ; ; رَمَضانُ أقْبِلْ ! لم تَزلْ تهفو إِلى
في الأفْقِ يَطْلعُ نورُك المتَدَفَّقُ ; ; وتظلُّ أفئدةٌ تهيجُ لكيْ ترى
أملٌ وَ شوْقٌ بَيْنَ ذلك يَخْفُقُ ; ; ترنو لمطْلُعِكَ العيون ! حنينُها
بالذكريات وغابَ صُبحٌ مُشْرِقُ ; ; غلَبَ الأسى فينا وهاجَتْ أَضلعٌ
* * *; *; * * *
و النَّفْس بين أنينهِا تتمزقُ ; ; رمضانُ أَقْبِلْ ! فالقلوبُ كَليمة
جُثثٍ ٍٍ مُكوَّمَّة و طَرْفٍ يُطرقُ ; ; انظرْ إلى الساحات ِ !هلْ تلْقى سوى
رِعُ والأسى موجٌ يَثور و يُحْدِقُ ; ; وَهزائمٍ تلْو الهزائم ! و القوا
نُذُرٌ تَشُدُّ على القلوبِ و تُطْبِقُ ; ; وزلازلٍ ملءَ الدَّيَار كأنّها
لهواً يُخَدَّرُهُم و ذُلاً يَطْرقُ ; ; والناس ! ويحَ الناس في غمراتهم
قَدَراً بما كَسَبوا وقهْرأ يَصْعَقُ ; ; و تُسَدُّ أبوابُ المسالِكِ دونهمْ
* * *; *; * * *
يوماً نُفيق بِها ويوماً نَسْبقُ ; ; رمضانُ ! أَحْيِِ الذكْرَياتِ لعلَّنا
للهِ تصْفو في الجهادِ وَ تَصْدُقُ ; ; أقْبِلْ ببَدرٍ ! و الزحوفُ غنيّةٌ
خَفَقَتْ وجالَ بها الكماةُ السُّبَّقُ ; ; و أعِد لنا ذِكْرى الميادين الّتي
راياتُها نَصْراً يُعِزُّ و يخْفِقُ ; ; و أعِدْ لنا ذِكْرى الملاحِم رفرَفَتْ
بِدَمٍ يفوح المِسْك منه ويَعْبقُ ; ; كلُّ المواقع لم تزل ذِكْرى لنا
غَلبَ الهوانُ بنا وغَابَ المَنطِقُ ; ; رَمضان ! ويحي ! كَيْف نَلْقَاهُ وقد
* * *; *; * * *
تُمْحى ! يُعيدُكِ مغربٌ أو مَشْرقُ ; ; رمضان أقْبِلْ ! ذكرياتُ النّصْرِ لا
عِزَّاً أجلَّ ورايةً لكٍ تسمقُ ; ; قد كنتَ يا رمضانُ شَهْرِ إباءةٍ
حقّاً يَجُولُ و آيَةً لا تَخْلق ; ; قد كنتَ شهرَ ملاحِمٍ ممتَدَّةٍ
صفّاً تُجَمَّعُهُ العُرا و الموْثِقُ ; ; قَدْ كنتَ تشْهَدُ أُمّةً موصولةً
إرَباً على أهوائهمْ و تفرّقُوا ; ; واليوم قَدْ غلبَ الصّراعُ فَمُزَّقُوا
مِنه ونَحْنُ بنا الهوانٌ المُرْهِقُ ; ; أُغْضي حَياءً إِنْ بَدَتْ إطلالةٌ
* * *; *; * * *
يُجْلى بها مَغْنىً ورَوْضٌ مُوْنِقُ ; ; الدَّار ! يا لِلدار ! كانَتْ ساحةً
عَبَقاً ومِسْكٌ في الدّيار يُفَتَّقُ ; ; أنّى التفتَّ زُهورُها فوّاحةٌ
نُعمى تطيبُ و كلُّ غصنٍ مورقُ ; ; وتُمَدُّ أغْصانٌ يفيض عطاؤها
ـت في الدَّيار وغاض نبعٌ ريّقُ ; ; واليوم قد ذَبُلَتْ أَزاهرنا وَجَفّـ
* * *; *; * * *
الأقصى هُدىً أَغْنى وحقّاً يَنْطقُ ; ; قد كنتَ يا رَمضان تُشْرق في ربى
دُ وحولَه صَمْتٌ هنالك مُطَبْقُ ; ; واليوم يمرَحُ في مرابعه اليهو
تعلو وسُلْطانٌ يُذِلُّ و يخْنُقُ ; ; رِجْسٌ يسود على الديار و فتنة ٌ
وأنينُه و حَنينُه و تشوُّقُ ; ; المسجدُ الأقصى ! وطالَ إِسارُهُ
بين الضجيج وكلُّ دَرْبٍ مُغْلَقُ ; ; ويكاد يَصْرَخُ ثُمّ تُطْوَى صيحَة
* * *; *; * * *
لَ شَهادةِ التَّوحيد نُوْراًَ يُشْرقُ ; ; رَمَضانُ أقْبِلْ ! كَيْ تُعيد لنا جَلا
ودَنَتْ وطَابَ جَمالُها المُتألَّقُ ; ; لِتَضُمَّ آفَاقَ الدَّيار إِذا نأتْ
قِطَعٌ تَنَاثَرُ في الفضَاءِ وتُطْلَقُ ; ; واليومَ تُقْبلُ والدَّيارُ كَأنّها
نلقى ! أََمَيلُ ! أردُّ طرفي ! أُطْرِقُ ; ; ويكاد يَصْرَعُني الأسى خجلاً لما
* * *; *; * * *
لَكَ ! قَدْ أَعَدَّتْ كلَّ ما يتحقّق ; ; انظُرْ إِلى أُمَمٍ هُنَاكَ تهيَّأت
ومَضَوْا إلى لهوٍ يضجّ و يُحْدق ; ; جَمَعُوا أطاييب الطَّعام و أسْرفوا
وإِلى دواعي " الفنّ " حشدٌ أسْبَقٌ ; ; يُحْيُون لَيْلَهُمُ بأَفْنانِ الهوى
نَ وحَوْلَهمْ زَحْفُ العُداةِ المُطبِقُ ; ; ومَعَ النّهار هُمُ الغفاةُ النائمو
هبّوا لملحمةٍ تدورُ وصدَّقوا ; ; أين الذين مَضَوْا إذا ما جِئْتَهمْ
ومع النَّهار هم الأُباة السُّبَّقُ ; ; يحيون لَيْلَهُمُ بآيات الهُدى
* * *; *; * * *
مَعُها الهدى ساحاً تَجودُ وتُغْدقُ ; ; قد كُنتَ تُشرقُ في ربي الإسلام يَجْـ
تلك الحِبالُ وغاب عنها الرونَقُ ; ; واليومَ مُزَّقَتِ الدّيارُ و قُطّعَتْ
حَرّى تُصَبُّ على دمٍ يتدَفّقُ ; ; أنّى التفتَّ اليومَ تَلْقى أَدْمُعاً
فَوْقَ الوُجوهِ تَغيبُ فيه و تُرْهَقُ ; ; تَلْقَى الثَّكالى واليتَامى و الأَسى
ن على الدّيارِ وكلُّ وثْبٍ موِبقُ ; ; وترى المجازرَ والعِدا يتواثبو
بعضاً ويُمْعِنُ في العِداءِ ويُغْرِقُ ; ; وترى بني الإسلام يَقْتُل بعضُهم
يُلْقي بأحْمالِ الهَلاك ويُطِلقُ ; ; وتَرَى عَدوَّ المُسْلمين مَهَيْمِناً
جُلُّ الثُّغور فجال فيها الفيلقُ ; ; مُتَربَّصاً ! متسلَّلاً ! فُتِحَتْ له
والمسْلمون مَعَ الهَوان تفرَّقوا ; ; وتَراهُ صفّاً واحِداً مُتَماسكاً
* * * ; *; * * *
وأعِدْ لنا الأمَلَ الذي يتألَّق ; ; رَمَضان أَقْبِلْ ! وامسحَنَّ من الأسى
أملاً به تحيا القلوبُ و تخفقُ ; ; واغسلْ قلوب المسلمين وضعْ بها
* * *; *; * * *
الرياض
2رمضان 1422هـ(/1)
17نوفمبر2001م ... ... ...(/2)
رمضان المبارك حياة بعد ضياع
خطبة للشيخ : أحمد معاذ الخطيب الحسني
رمضان المبارك : حياة بعد ضياع
لأنفاس رمضان ... عبقٌ لايُنسى.
ودروب الخير فيه ... تمتد بلا انتهاء.
في الصيام نداوة التوحيد ، ومدرسة التقوى.
وفيه الجهاد الأكبر والأصغر ... يكون.
وعندما تكاد الأمة تتشرذم أو تضيع :
يلملم رمضان شملها ... ويعيد زمرة القلب الواحد.
وفيه يكون الري ... إذا جفت الينابيع والسواقي.
وبرحمة الله تعالى ... يكون الفرح وإليها الشوق.
وإلى نفحات الهداية من المعلم الهادي صلى الله عليه وسلم ... يكون الحنين.
وتحت المآذن والقباب ... تولد الجموع من جديد.
رمضان عالَمُ إيمانٍ ... أخاذٌ آسِر .
وشمس هداية لاتغيب ... ومشكاة صدقٍ وتقوى ... ومواساة وتراحم ... ونصر وتأييد .. التقوى فيه ألوان لاتُعد..
فلنغترف منه .. فإن القلوب إلى ريه لظماء.
خطبة الجمعة :
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.. من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له .. ونشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له نعبده مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ونشهد أن سيدنا محمدا عبد الله ورسوله جاء بالهدى ودين الحق ليكون للعالمين نذيرا..
"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون" (المائدة ، 35).
أما بعد .. فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة .. وإن من كلام الله تعالى قوله: "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون" (البقرة ، 182).. وأيام الصيام تأتي وتذهب وكأنها حلم ..
لا نكاد نستقبلها إلا ونودعها ، وريثما نتحدث عن قدوم رمضان والسرور برمضان وفقه رمضان .. يذهب رمضان.. ولا ندري بماذا نخرج منه .. بتوبة أم غفلة.. بعودة إلى الله أم بشرود.. والله أعلم هل ندرك رمضان العام القادم .. أم لا..
ورأيت أكثر الناس وأنا منهم عفا الله عنا جميعا.. نستعد لرمضان بشراء لوازم الطعام والانتباه لنواقص المطبخ والفطنة إلى التموين والاهتمام بغذاء الأجسام.. والنفوس والقلوب والأرواح ننساها.. فما هي إلا كلمات عابرة نقتطفها من فم عالم هنا وواعظ هناك.. فتكون حصتنا من رمضان أقل القليل.. وبعدها حدث ما شئت عن خواء تظنه امتلاء وسقم تظنه عافية وغفلة تحسبها يقظة ..
وإذا كان هذا الجسم الفاني نهتم به كل ذلك الاهتمام فما بالك بروح كرمها الله مذ جعلها في أبينا آدم لما قال لملائكته: "فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين" (الحجر ، 29).. وما بالك بمضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله..
أخرج الترمذي وحسنه عن نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم قال: "عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا.. قلت: لا يا رب ولكن أشبع يوما وأجوع يوما فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك وإذا شبعت شكرتك وحمدتك" .. ماله يهرب منا الشكر والحمد في النعماء ، والتضرع والذكر في الشدة والبلواء.. ورحم الله من دعا: اللهم إني أعوذ بك من نعمة لا تقربني منك ومن فاقة لا تردني إليك.. اللهم أعوذ بك من غنى لا يقربني منك ومن فقر لا يردني إليك.. اللهم إني أعوذ بك من شبع لا يذكرني بسابغ نعمائك ومن جوع لا يخرجني من غفلتي إلى التضرع وطلب إحسانك..
أيام قلائل ورمضان يأتي.. فماذا أعددت له يا أخا الإسلام الحبيب وماذا أعددت يا أخت الإسلام الغالية.. وكيف الدخول فيه وكيف الخروج منه.. نفوسكم لا تنصحكم ، تلهيكم.. فيا ابن آدم.. اتعظ.. من صحبك يوما أو يومين فلم ير منك نفعا تركك.. ونفسك قد صاحبتها سنين طوالاً فما قادتك إلا إلى أهوائها.. فاخلع حجاب نفسك عنك.. اخلع هواك وارحل بثوب انكسارك وافتقارك إلى الله.. وتبدل بعد الغفلة الأنس بالله.. وبعد البطالة: الصلاح والتقوى.. وبعد مجالس الغفلة والتقصير والمعاصي: مجالس الإيمان .. كم يصدأ قلبك ولا ترعاه.. وإن عمرا ضيعت أوله حري بك أن يشتد حرصك على آخره.. ما بينك وبين الموت إلا أيام فاحفظ صبابة ما بقي من عمرك ، وما عمرك من أول يوم ولدت فيه بل من أول يوم عرفت الله فيه فإياك أن تموت قبل أن تعيش..
رمضان أحيا أمة الإيمان.. كثيرون منا لا يكون زادهم منه إلا كثرة المعاصي وزيادة الغفلة وتخمة البطون وكثرة اللهو واللغو والسفاسف.. أفبهذه العزيمة يستقبل رمضان؟..
رمضان طبيب القلوب والأرواح.. رمضان شفاء الأمة وبناء العقيدة .. رمضان السائق إلى الجنان مغلق أبواب النيران.. رمضان مصفد الشياطين.. رمضان الأمل في زمن اليأس المرير.. رمضان واحة الأمان في وقت القلق والاضطراب.. رمضان الطهر والاستقامة في وجه الفساد والإفساد.. رمضان العزيمة التي تجرف الخور والكسل والبلادة والقعود..(/1)
فكيف أصبح عندك رمضان أيها المسلم.. نبيك صلى الله عليه وآله وسلم يقوم الليل حتى تتفطر قدماه يبكي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء.. وأنت بماذا تمضي الليل.. أخشى أن تقول لي: أقطع الطرق تسكعا.. أمضي الوقت لهوا ولعبا.. أنفق عمري وراء مسلسل في التلفاز.. ألعب الورق حتى يطلع الفجر.. أتبادل النوادر والطرف مع رفاقي حتى تتقطع خاصرتي ضحكا.. أضع فيلما في الفيديو وأسهر عليه.. لا تقل لي ذلك..
وأنتِ يا أخت الاسلام.. كيف أصبح رمضان عندك.. أخشى أن تكوني قد نسيت أسماء.. نسيت نسيبة.. نسيت فاطمة بنت محمد صلى الله على محمد وآل محمد.. فأصبح همك المطبخ ثم المطبخ ثم المطبخ.. ثم لا تملئين وقتك إلا غيبة وأكلا من لحوم الناس.. ويكون أقصى أفق لك.. حديثا تافها عن ثياب راقصة فاجرة.. أو تلهيا بمأساة رواية معروضة مخدرة تسيل لها دموع منك.. ما سالت لأطفال كأكمام الورود يذبحون في البوسنة.. ولا دماء نازفة في الصومال ولا كيد خبيث لأهل السودان.. ولا إبادة بشعة للمسلمين الأكراد..
حتى الدموع جفت في عيون كثيرين منا أيها الناس.. وما ذلك بمستغرب فقد أضاع أكثرنا العزة بالصلاة.. فيصلي مثل الأرانب المذعورة .. وأضاع الهدير الإيماني الجارف لرمضان.. فرمضان (عنده) ساقية صغيرة تسدها أصغر أوراق الأشجار المصفرة ... وأضاع فهم الاسلام لما صوروه له دين زوايا وتكايا، وهو دين كفاح وجهد وجهاد..
برئ الإسلام من شاكٍّ مضيم لا يراهُ غير صومٍ وصلاة
ذروة الدين جهادٌ في الصميم فلنجاهد أو لتلفظنا الحياة
لماذا رمضان يتحول إلى شهر الطعام واللغو وإضاعة الأوقات ونبينا صاحب العزم صلى الله عليه وآله وسلم القدوة العظمى.. تتجاوز سيرته العطرة وسنته الشريفة المكان والزمان ويصل عطرها إلينا فتهز من الرقاد هزاً.. وتوقظ من سبات الضياع والتشتت واليأس والإحباط.. فما للقلوب لا تفتح لسيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم فيكون من ذلك الدواء والشفاء..
يذهلني الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان في حر شديد.. حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر.. وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعبد الله بن رواحة.. فبأبي أنت وأمي يا سيد الخلق تعلم أمتك الصبر الشديد.. وبأبي أنت وأمي ياابن رواحة.. ألزمت نفسك الدرجة العليا من المتابعة والإقتداء.. وبنفسي أنتم يا أبناء الإسلام وبناته الأطهار.. سرتم على درب ابن رواحة فهجرتم سفاسف الناس.. ورحلتم إلى الله بانكساركم وافتقاركم.. لا تُعرفون إن حضرتم ولا تفتقدون إن غبتم شعثاً غبراً.. ما ضركم أن الناس لا تعرفكم ولكن الله يعرفكم.. ما أوهنكم تكالب الكفر على الإسلام .. ما أحبطكم ما سموه النظام العالمي الجديد .. ما أوهنكم بيع بلاد المسلمين .. ولا الجراح النازفة أنهارا من جسد أبيكم الإسلام .. ما أفزعتكم صولات بغي ولا مؤامرات الدول .. ولا سياسات اليهود ولا حقد الصليبيين.. وكأن واحدكم يقول:
خذوا كل دنياكم واتركوا فؤادي حرا وحيدا غريبا
فإني أعظمكم دولة وإن خلتموني طريداً سليبا
وتصدعون بالحق في وجه الباطل بسلاح الكلمة المخلصة والحجة البينة.. وتشفقون على الأمة تريدون ردها إلى الله.. وربما تضيق الأرض بما رحبت فلا تضيق صدوركم فيكون نشيدكم :
يا دربنا يا معبر الأبطال يا درب الفلاح..
إنا إذا وضع السلاح بوجهنا ضج السلاح
وإذا تلعثمت الشفاه تكلمت منا الجراح
إخلاصا وحب هداية وشفقة على الأمة من الضياع..
فمن من شباب المسلمين وبناتهم اليوم.. يفتح قلبه لفقه ابن رواحة فيغمس نفسه في سبيل الله على قدم نبيه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.. من الذي يعاهد الله أن لا يخرج من رمضان إلا وقد أعاد بناء نفسه وطلق غفلته وسار إلى الله.. من الذي يفطن إلى أن العمر قليل والموت حق وكل نفس بما كسبت رهينة..
من الذي يعاهد الله على ترك الذنوب.. وترك المعاصي وترك الغفلات.. من الذي يلزم نفسه بالتقوى في هذا الشهر.. وأنا ضامن له أن يستمر الخير معه بقية عامه.. من الذي يعاهد الله أن لا يكذب ولا يغتاب.. ولا يمشي بباطل ولا يقفُ بسمعه أو بصره أو فؤاده ما ليس له به علم وأنا كفيل له أن تتحول حياته خيرا وبركة وإيمانا.. من الذي يعطي رمضان حقه من الصيام والقيام وغض البصر وحفظ اللسان.. فلا تصلح له نفسه ويزكو به عمله؟ من الذي يتجرد ويفزع إلى الله فيرد خائبا؟
باختصار أيها الناس.. لقد نسينا رمضان.. نصوم عادة ونفطر تخمة.. نقوم عادة وننام غفلة.. نتحدث برمضان عادة ونتكلم باطلا وكذبا.. نترك الطعام ونأكل لحوم الناس..(/2)
قال لي أخ كريم مرة.. مالك ولعبارات الحماس دعها فلن تأتي بطائل.. فقلت له.. إنها ليست بعبارات حماس.. بل عبارات صدق ولماذا تظن كل الناس مثلك يأتون إلى صلاة الجمعة رفع عتب يغلقون قلوبهم ويفتحونها لما تهوى نفوسهم.. فإن تكلم الخطيب عن أمر يعجبهم هشوا وبشوا..
أما إن تكلم عن التاجر الغشاش.. أغلقوا أسماعهم .. وإن تكلم عن صاحب الرشوة .. أعرضوا..
فإن تكلم عن الجبناء سدوا آذانهم .. وإن تكلم عن الجهاد ارتعدت فرائصهم ..
وإن تكلم عن نصيحة لحاكم أو مسؤول.. تلفتوا يمنة ويسرة ..
وإن تكلم عن إصلاح البيوت أعرضوا.. وإن طلب إعطاء الزوجة حقها والرأفة بها وعدم ضربها ولولوا.. وإن ذكر مذابح المسلمين في بقاع الأرض قالوا: وماذا ينفع الكلام.. ولماذا الكلام.. وإن تحدث عن آفاق رمضان قالوا: ما لتلك الآفاق من سبيل فالأوائل ..كانوا صحابة .. صحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم!
.. ولكل من لا يعرف فائدة الكلام نقول له..
- إن الجهر بالحق لوحده أمر مطلوب.. "فاصدع بما تؤمر"(الحجر ، 94) .. "لتكونوا شهداء على الناس" (البقرة ، 143) ..
- من استطاع تغيير منكر أو إحقاق حق بيده ضمن الشروط الشرعية فعل ، فإن لم يستطع بيده فبلسانه .. ولا يجوز الانتقال إلى القلب إلا إن عجز عن الأقوى..
- ما كل الناس ضعاف وفيهم من تهزه الكلمة ولولاها .. لما كان للكلمة من أثر في اكتساب مرضاة الله أو سخطه
- وهو مهم جداً.. أن الكلمات تتراكم في القلوب وتجلو كثيرا من الصدأ.. وكلما ازداد الصدق والإخلاص .. عظم رصيدها.. واقتربت من أن تتدفق عملا.. ولقد قال الإمام الغزالي رحمه الله: (كل عمل تقوم به الجوارح يترشح منه إلى القلب أثر..) أرأيت الرجل الذي ذكره المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بقوله : (إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان ) (حسن غريب ، الترمذي 2617)..
أما تراكم أثر ذهابه إلى المسجد ، ولو عادة أول الأمر حتى ألفها وأحبها فكانت شهادة له من عند رسول الله.. تنفعه بين يدي رب العالمين ، يوم يكون من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله وهو الرجل الذي قلبه معلق بالمساجد إذا خرج منها حتى يعود إليها.. ومنهم الشاب تتقد شهوته ويأتيه شيطان يريد إغواءه فيذكر حديثا سمعه أو تعظه آية مرت به فيقول : إني أخاف الله رب العالمين.. فيُظَلُّ في ظل الله: ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله..
وذلك الإنسان صاحب الفطرة.. سمع عن ذكر الله وفضله كلاما.. مجرد كلام.. وقع في قلبه.. ثم كان لوحده فخرج الكلام إلى التفكر فالتدبر فالاعتبار فذكر الله خاليا ففاضت عيناه فكانت سببا في نجاته يوم الحساب.. وكذلك الحديث عن التكافل والتراحم والأخوة والصبر والمجاهدة والدعوة والجهاد.. كلها كلمات تقع في القلوب.. فلا تدري أنت ولا أنا متى تنبعث منها الحركة.. وقد قال أحد الدعاة يوما:
إن كلماتنا تبقى عرائس من شمع فإذا متنا دبت فيها الحياة ..
ونحن أيها الأخ في موت الغفلة فلا علينا إن ازددنا من الكلام الحق.. فهو من أسباب الحياة..
والكلام والتعود عليه يترك في النفس أثرا لا يمحى.. وفي علم النفس الجماعي المعاصر أمر معروف على صعيد دول العالم كلها وهو تكرير المفاهيم حتى المغلوطة منها وملء أسماع الناس بها ليلا ونهارا.. حتى تدخل عقولهم وتؤثر في نفسياتهم وتغير سلوكهم وتحكم أعمالهم.. فإن كان هذا يؤثر وتُرى نتائجه وربما يكون باطلا فما بالك بكلام .. من معين القرآن يستمد ويستقى ومن حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرتوي..
"إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد"..(ق،37).
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم..
ألقى هذه الخطبة في دمشق : الحسني ، بتاريخ 23 شعبان 1414هـ/4 شباط 1994م(/3)
رمضان بين الأطباء والشعراء
الدكتور حسان شمسي باشا
رمضان ، هذا الشهر العظيم ، كان له على لسان الشعراء ألوان وطيوف ، وسمات وآيات وعلى مر العصور استلهم الشعراء من فيوضات شهر رمضان ونفحاته أفكارهم للتعبير عن فرحتهم بمقدمه ، وحزنهم لوداعه ، وبدعوتهم المسلمين لانتهاز فرصة حلوله للتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بالطاعات وفعل الخيرات .
وكما فاضت قرائح الشعراء القدامى والمعاصرين بقصائد الإجلال والتعظيم لهذا الشهر المبارك ، كان هناك من الشعراء – عفا الله عنهم – من أظهر تبرمه منه صراحة أو تلميحا فهذا أبو نواس الذي ارتكب الموبقات وعاش عمره في انتهاك المحرمات وكان يتململ من شهر رمضان ، تصدمه الحقيقة فيعود إلى ربه ويتوسل إلى خالق الأرض والسماوات بأن يطيل شهر رمضان فيقول :
شهر الصيام غداً مواجهنا فليعقبن رعية النسك
أيامه كوني سنين ، و لا تفنى فلستُ بسائم منك
وهو القائل في أخريات عمره :
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة فلقد علمت بأن عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسن فبمن يلوذ ويستجير المجرم
أدعوك رب كما أمرت تضرعا فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم
الصوم شهرالصحة :
تقول دائرة المعارف البريطانية:" إن أكثر الأديان قد فرضت الصيام وأوجبته، فهو يلازم النفوس حتى في غير أوقات الشعائر الدينية ،يقوم به بعض الأفراد استجابة للطبيعة البشرية"
وفي القرن العشرين ظهر عدد من الكتب الطبية في أمريكا وأوروبا تتحدث عن فوائد الصوم الطبي ، فكان هناك " التداوي بالصوم " لشلتون . وكتاب " الصوم الطبي : النظام الغذائي الأمثل " لآلان كوت ، و " الصوم أكسير الحياة " لهنرك تانر ، و " العودة إلى الحياة السليمة بالصوم الطبي " للوتزنر .
وحديثا أنشئ موقع على الانترنت فيه مجلة تسنعرض أحدث الأبحاث العلمية التي نشرت حول الصيام.
ولا شك أن في الصيام فوائد عديدة للجسم ، وتظهر فائدة الصوم بشكل جلي عند المصابين بالالتهابات الهضمية المزمنة ، وفي طليعتها : الالتهاب المعدي المزمن ، وعسر الهضم ، وتلبك الأمعاء . فالصوم يحمل إلى هؤلاء راحة قد تتجاوز الشهر ، وتكون ذات أثر كبير في شفائهم . كما أن المصابين بتشنج القولون كثيرا ما يستفيدون من الصوم ، وكذلك المصابين ببعض حالات التحسس ، فإن الصوم وتقنين الأغذية يساعدان على ذهاب الكثير من أعراض التحسس . وراحة الجهاز الهضمي أمر أساسي للخلاص السريع من بعض حالات الشري
Urticaria والحكة التي قد تنتج عن بعض الأغذية . ولا شك أن الصوم يفيد المصابين بالسمنة ، لأن الإفراط في الغذاء وقلة الحركة هما السببان الرئيسان للسمنة .ويؤكد عدد من الدراسات العلمية التي نشرت خلال السنوات القليلة الماضية حدوث نقص في الوزن بمقدار
2-3 كغ في المتوسط عند الصائمين خلال شهر رمضان.
وفي الصيام فائدة عظيمة لكثير من مرضى القلب ، وذلك لأن 10 % من كمية الدم التي يدفع بها القلب إلى الجسم تذهب إلى الجهاز الهضمي أثناء عملية الهضم ، وتنخفض هذه الكمية أثناء الصوم حيث لا توجد عملية هضم أثناء النهار ، وهذا يعني جهدا أقل وراحة أكبر لعضلة القلب.
وقدَّم كاتب هذا المقال بحثا في مؤتمر جمعية أمراض القلب السعودية في شهر فبراير عام 1998 اجري على 86 مريضا مصابا بأمراض القلب المختلفة من مرض شرايين القلب أو فشل القلب أو آفات صمامات القلب .
وقد استطاع 86 % من هؤلاء صيام كل شهر رمضان ، و 10 % من المرضى اضطروا إلى الإفطار لعدة أيام في رمضان . ومع نهاية شهر رمضان ، شعر 78 % منهم بتحسن في حالتهم الصحية ، في حين شعر 11 % منهم بازدياد الأعراض التي كانوا يشكون منها.
ويفيد الصيام في علاج ارتفاع ضغط الدم ، فإنقاص الوزن الذي يرافق الصيام يخفض ضغط الدم بصورة ملحوظة ، كما أن الرياضة البدنية من صلاة التراويح والتهجد وغيرها تفيد في خفض ضغط الدم المرتفع .
ويقدِّر الدكتور" شاهد أطهر" في بحث نشر عام 2000 في مجلة JIRIR على النترنت من الولايات المتحدة أن المصلي لصلاة التراويح يصرف 200 سعرا حراريا خلال صلاة التراويح.
وإذا ما التزم الصائم بغذاء معتدل ، وتجنب الإفراط في الدهون والنشويات ، وجد في نهاية شهر رمضان انخفاضا في معدل الكولسترول عنده ، ونقص وزنه ، ووجد في رمضان وقاية لقلبه ، وعلاجا لمرضه .
و قد تباينت نتائج الأبحاث العلمية في موضوع كولسترول الدم في رمضان . ففي حين وجد بعض الباحثين حدوث ارتفاع في معدل كولسترول الدم في رمضان ؛الا أن دراسات أخرى أثبتت حدوث انخفاض في معدل الكولسترول .
وتشير الدراسات الحالية إلى أنه لم تحدث أية مشاكل هامة عند صيام المرضى السكريين من النوع الثاني ( الذين يتناولون الحبوب الخافضة لسكر الدم ) ، أما المرضى الذين يتناولون الإنسولين فلا ينصحوا عادة بالصيام .(/1)
ويعتبر الصيام فرصة ذهبية للبدينين المصابين بالتهاب المفاصل التنكسي في الركبتين ، حيث يمكن استغلال هذه الفرصة بإنقاص الوزن وتخفيف الحمل الذي تنوء به مفاصل المريض . وكثير من مرضى السكر الكهلي بدينون وهنا يكون شهر رمضان فرصة لتخفيف وزنهم ، والسيطرة على سكر الدم . وهناك دراسات علمية تشير إلى أن صيام رمضان يحسن مناعة الجسم في مقاومة الأمراض المختلفة .
ولو اتبعنا النظام الدقيق في غذائنا ، ولم نكثر من الإفطار والسحور فوق طاقة الجسم تتم الفائدة ، ونحصل على المقصود من حكمة الصيام . ولكن – للأسف الشديد – فكثير من الصائمين يقضون فترة المساء في تناول مختلف الأطعمة ، ويحشون معدتهم بألوان عدة من الطعام ، وقد يأكلون في شهر الصيام أضعاف ما يأكلون في غيره ، أمثال هؤلاء لا يستفيدون من الصوم الفائدة المرجوة . يقول الشاعر معروف الرصافي وهو يصف بعض الصائمين الذين يتهافتون على الطعام غير مبالين بالعواقب :
وأغبى العالمين فتى أكول لفطنته ببطنته انهزام
ولو أني استطعت صيام دهري لصمت فكان ديدني الصيام
ولكن لا أصوم صيام قوم تكاثر في فطورهم الطعام
فإن وضح النهار طووا جياعا وقد هموا إذا اختلط الظلام
وقالوا يا نهار لئن تجعنا فإن الليل منك لنا انتقام
وناموا متخمين على امتلاء وقد يتجشئون وهم نيام
فقل للصائمين أداء فرض ألا ما هكذا فرض الصيام
وإذا كان الجوع سببا من أسباب رائحة الفم الكريهة ، فإن ريح فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ، كما حدَّث بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم .
ويقول الشاعر الكبير محمد حسن فقي في قصيدة زادت أبياتها على 150 بيتا ، نظمها بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك :
رمضان في قلبي هماهم نشوة من قبل رؤية وجهك الوضاء
وعلى فمي طعم أحسّ بأنه من طعم تلك الجنة الخضراء
لا طعم دنيانا فليس بوسعها تقديم هذا الطعم للخلفاء
ما ذقتُ قط ولا شعرت بمثله ألا أكون به من السعداء
الصوم والصحة النفسية:
انتشرت في عصرنا الأمراض النفسية وتفرعت ، وأنشئ لها العديد من المصحات والمستشفيات ، وتخصص فيها الأطباء والخبراء ، وصرفت على العقاقير البلايين من الدولارات . والحقيقة أن هناك علاقة وثيقة جدا بين الاضطرابات النفسية والأمراض العضوية التي تتمكن من جسم الإنسان . فالتوتر العصبي والقلق والاكتئاب والأرق كثيرا ما تنعكس على القلب بمختلف الأدواء من ارتفاع في ضغط الدم إلى مرض في شرايين القلب التاجية ، أو اضطراب في ضربات القلب . وربما انعكست تلك الاضطرابات النفسية على المعدة ، فإذا المعدة قد تقرحت ، وإذا القولون قد تشنج وسبب الألم . وقد يسقط بعض المصابين بالاكتئاب فريسة لتعاطي المسكرات أو المخدرات . ولا شك أن الصائم يعيش في ظل أجواء روحانية مشبعة بالثقة والإيمان . والتزام الصائم بالامتناع عن الطعام والشراب وشهوات الجسد ، يقوي الإرادة ، ويجعله قويا في مواجهة مشاكل الحياة ومن ثم تمتلئ نفسه باليقين والرضا ، وتخف عنه وساوس النفس والأوهام . ويجد الله تعالى دائما إلى جواره فيركن إليه . وحين يستطيع الصائم الوصول إلى تلك الدرجة بعبادته وصلاته وقراءته للقرآن ، يكون قد وصل إلى بر الأمان ، وحينئذ تقل الشكوى وتخف أعراض المرض ، حتى أن باحثين من الأردن وجدوا في بحث نشر انخفاضا كبيرا في معدل حدوث محاولات الانتحار في شهر رمضان . وفي هذه الأجواء الرمضانية عاش عدد من الشعراء تجاربهم ، فانطلقت ألسنتهم تلهج بالثناء على منحة السماء ، وتصور تلك المشاعر الروحانية التي تلهم بسكينة النفس ، وصفاء الروح ، وسمو الأحاسيس .
وفي شهر الصيام ، تصوم الجوارح كلها عن معصية الله تعالى ، فتصوم العين بغضها عما حرم الله النظر إليه ، ويصوم اللسان عن الكذب والغيبة والنميمة ، وتصوم الأذن عن الإصغاء إلى ما نهى الله عنه ، ويصوم البطن عن تناول الحرام ، وتصوم اليد عن إيذاء الناس، والرجل تصوم عن المشي إلى الفساد فوق الأرض . قال أبو بكر عطية الأندلسي :
إذا لم يكن في السمع مني تصامم
وفي مقلتي غض،وفي منطقي صمت
فحظي إذن من صومي الجوع والظما
وإن قلت : إني صمت يوما فما صمت
وقال أحمد شوقي : " الصوم حرمان مشروع ، وتأديب بالجوع ، وخشوع لله وخضوع ولكل فريضة حكمة ، وهذا الحكم ظاهره العذاب وباطنه الرحمة ، يستثير الشفقة ، ويحض على الصدقة ، ويكسر الكبر ، ويعلم الصبر ، ويسن خلال البر ، إذا جاع من ألف الشبع ، وحرم المترف أسباب المتع ، عرف الحرمان كيف يقع ، والجوع كيف ألمه إذا لذع " .
ويرى حجة الإسلام أبو حامد الغزالي أن الصوم ثلاث درجات :
" صوم العامة : وهو كف البطن والفرج وسائر الجوارح عن قصد الشهوة .
وصوم الخصوص : وهو كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام . وصوم خصوص الخصوص : وهو صوم القلب عن الهمم الدنيئة ، وكفه عما سوى الله تبارك وتعالى " .(/2)
يقول الصابي في الذي يصوم عن الطعام فقط ويدعو إلى التخلي عن العيوب والآثام :
يا ذا الذي صام عن الطعام ليتك صمت عن الظلم
هل ينفع الصوم امرؤ طالما أحشاؤه ملأى من الإثم
ويؤكد أحمد شوقي ذات المعنى فيقول :
يا مديم الصوم في الشهر الكريم صم عن الغيبة يوما والنميم
ويقول أيضا :
وصلِّ صلاة من يرجو ويخشى وقبل الصوم صم عن كل فحشا
فهذا الشاعر أحمد مخيمر يناجي رمضان قائلا :
أنت في الدهر غرة وعلى الأر ض سلام وفي السماء دعاء
يتلقاك عند لقياك أهل الـ ـبر والمؤمنون والأصفياء
فلهم في النهار نجوى وتسبيـ ـح وفي الليل أدمع ونداء
ليلة القدر عندهم فرحة العمـ ـر تدانت على سناها السماء
في انتظار لنورها كل ليل يتمنى الهدى ويدعو الرجاء
وتعيش الأرواح في فلق الأشوا ق حتى يباح فيها اللقاء
فإذا الكون فرحة تغمر الخلـ ـق إليه تبتل الأتقياء
وإذا الأرض في سلام وأمن وإذا الفجر نشوة وصفاء
وكأني أرى الملائكة الأبـ ـرار فيها وحولها الأنبياء
نزلوا فوقها من الملأ الأعلـ ـى فأين الشقاء والأشقياء ؟
إنه رمضان الخير الذي يرجع الروح إلى منبعها الأزلي ، فتبرأ من أدران الحياة ، وتتخلص من مباذل الدنيا ، وتتجه إلى الله خالق السماوات والأرض داعية مبتهلة . إنه رمضان الضيف الكريم الذي يعاود كل عام حاملا سننا علوية النظام كما يصوره الشاعر محمود حسن إسماعيل
أضيف أنت حل على الأنام وأقسم أن يحيا بالصيام
قطعت الدهر جوابا وفيا يعود مزاره في كل عام
تخيم لا يحد حماك ركن فكل الأرض مهد للخيام
ورحت تسن للأجواء شرعا من الإحسان علوي النطام
بأن الجوع حرمان وزهد أعز من الشراب أو الطعام
وهو يصور الصائمين المترقبين صوت المؤذن منتظرين في خشوع ورهبة نداءه :
جعلت الناس في وقت المغيب عبيد ندائك العاتي الرهيب
كما ارتقبوا الأذان كأن جرحا يعذبهم ، تلفَّت للطبيب
وأتلعت الرقاب بهم فلاحوا كركبان على بلد غريب
عتاة الأنس أنت نسخت منهم تذلل أوجه وضنى جنوب
إنه رمضان الذي تتجه فيه النفوس إلى الله بخشوع وإيمان .
يقول الشاعر مصطفى حمام :
حدِّثونا عن راحة القيد فيه حدثونا عن نعمة الحرمان
هو للناس قاهر دون قهر وهو سلطانهم بلا سلطان
قال جوعوا نهاركم فأطاعوا خشعا ، يلهجون بالشكران
إن أيامك الثلاثين تمضي كلذيذ الأحلام للوسنان
كلما سرني قدومك أشجا ني نذير الفراق والهجران
وستأتي بعد النوى ثم تأتي يا ترى هل لنا لقاء ثان؟
العودة إلى الصفحة الرئيسة(/3)
رمضان شهر الدعاء
رئيسي :آداب :الأربعاء 6 رمضان 1425هـ - 20 أكتوبر 2004 م
الحمد لله مجيب الدعوات، والصلاة والسلام على أزكى البريات، أما بعد:
فإن شأنَ الدعاءِ عظيم، فما استُجْلِبت النعمُ، ولا استُدْفِعت النِّقَمُ بمثله، ذلك أنه يتضمن توحيد الله، وإفراده بالعبادة دون من سواه، وهذا رأس الأمر، وأصل الدين. وإن شهرَ رمضانَ مناسبة مباركة يتقرب فيها العبد إلى ربه بسائر القربات، وعلى رأسها الدعاء؛ ذلكم أن مواطن الدعاء، ومظانَّ الإجابة تكثر في هذا الشهر؛ فلا غَرْوَ أن يُكْثِر المسلمون فيه من الدعاء.
ولعل هذا هو السر في ختم آيات الصيام بالحثّ على الدعاء، حيث يقول عز وجل:{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ[186]}[سورة البقرة].
وإليكم معاشر الصائمين هذه الوقفات اليسيرة مع مفهوم الدعاء، وفضله:
معنى الدعاء: الدعاء هو أن يطلبَ الداعي ما ينفعُه وما يكشف ضُرَّه؛ وحقيقته إظهار الافتقار إلى الله، والتبرؤ من الحول والقوة، وهو سمةُ العبوديةِ، واستشعارُ الذلةِ البشرية، وفيه معنى الثناءِ على الله عز وجل، وإضافةِ الجود والكرم إليه.
من فضائلُ الدعاءِ، وثمراتُه:
1- الدعاءُ طاعةٌ لله، وامتثال لأمره: قال عز وجل:{ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ...[60]}[سورة غافر].
2- الدعاء عبادة: عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ]رواه الترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني.
3-الدعاء سلامة من الكبر:{ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ[60]}[سورة غافر].
4- الدعاءُ أكرمُ شيءٍ على الله: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الدُّعَاءِ] رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد، وابن ماجة، والترمذي والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي.
5- الدعاء سبب لدفع غضب الله: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ مَنْ لَمْ يَسْأَلْ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ] رواه الترمذيُّ، وابن ماجةَ، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني.
6- الدعاء سبب لانشراح الصدر، وتفريج الهم، وزوال الغم، وتيسير الأمور: ولقد أحسن من قال:
وإني لأدعو اللهَ والأمرُ ضيّقٌ عليَّ فما ينفك أن يتفرّجا
وربَّ فتىً ضاقتْ عليه وجوهُهُ أصاب له في دعوة الله مَخْرَجا
7- الدعاء دليل على التوكل على الله: فسرُّ التوكلِ وحقيقتُه هو اعتمادُ القلبِ على الله، وفعلُ الأسباب المأذون بها، وأعظمُ ما يتجلى هذا المعنى حالَ الدعاء؛ ذلك أن الداعيَ مستعينٌ بالله، مفوضٌ أمرَهُ إليه وحده.
8- الدعاء وسيلة لكِبَرِ النفس، وعلو الهمة: ذلك أن الداعيَ يأوي إلى ركن شديدٍ ينزل به حاجاتِه، ويستعين به في كافّة أموره؛ وبهذا يتخلص من أَسْر الخلق، ورقِّهم، ومنَّتِهِم، ويقطعُ الطمعَ عما في أيديهم، وهذا هو عين عِزِّهِ، وفلاحِه.
9- الدعاء سلامة من العجز، ودليل على الكَياسة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [أَعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ عَنْ الدُّعَاءِ وَأَبْخَلُ النَّاسِ مَنْ بَخِلَ بِالسَّلَامِ] رواه ابن حبان، وصححه الألباني.
10- ومن فضائل الدعاء: أن ثمرته مضمونة بإذن الله: قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَا أَحَدٌ يَدْعُو بِدُعَاءٍ إِلَّا آتَاهُ اللَّهُ مَا سَأَلَ أَوْ كَفَّ عَنْهُ مِنْ السُّوءِ مِثْلَهُ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ بِقَطِيعَةِ رَحِمٍ] رواه أحمد والترمذي، وحسنه الألباني.
وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي مَسْأَلَةٍ إِلَّا أَعْطَاهَا إِيَّاهُ إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَهَا لَهُ وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ] رواه أحمد، والبخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني.
ففي الحديثين السابقين وما في معناهما: دليل على أن دعاء المسلم لا يُهمل، بل يُعطى ما سأله إما مُعجلاً، وإما مُؤجلاً، قال ابن حجر رحمه الله:'كلُّ داعٍ يُستجاب له، لكن تتنوع الإجابة؛ فتارةً تقع بعين ما دعا به، وتارةً بعِوَضِه'. اهـ.
11- ومن فضائل الدعاء: أنه سبب لدفع البلاء قبل نزوله، ورفعه بعد نزوله: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [لَا يُغْنِى حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ، وَإِنَّ الدُّعَاءَ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ وَإِنَّ الدُّعَاءَ لَيَلْقَى البَلاءَ فَيَعْتَلِجَانِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ] رواه الطبراني وقال الحاكم: صحيح الإسناد. ومعنى يعتلجان أي: يتصارعان، ويتدافعان.(/1)
12- الدعاء من أعظم أسباب الثبات والنصر على الأعداء: قال تعالى عن طالوت وجنوده لما برزوا لجالوت وجنوده:{ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ[250]} فماذا كانت النتيجة؟ {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ...[251]}[سورة البقرة].
13- ومن فضائل الدعاء: أنه مَفْزَعُ المظلومين، ومَلْجَأُ المستضعفين: فالمظلوم، أو المستضعف إذا انقطعت به الأسباب، وأغلقت في وجهه الأبواب، ولم يجد من يرفع عنه مظلمته، ويعينه على دفع ضرورته، ثم رفع يديه إلى السماء، وبث إلى الجبار العظيم شكواه؛ نصره الله، وأعزه، وانتقم له ولو بعد حين.
أتهزأُ بالدعاء وتزدريه وما تدري بما صنع الدعاءُ
سهامُ الليلِ لا تخطي ولكن لها أَمَدٌ وللأمدِ انقضاءُ
14- الدعاء دليلٌ على الإيمان بالله، والإقرار له بالربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات: فدعاءُ الإنسان لربه متضمنٌ إيمانهَ بوجوده، وأنه غنيٌّ، سميعٌ بصيرٌ، رحيمٌ، قادرٌ، جوادٌ، مستحقٌ للعبادة دون من سواه. وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد، وآله، وصحبه أجمعين.
من :'رمضان شهر الدعاء' للشيخ/ محمد بن إبراهيم الحمد(/2)
رمضان عبر التاريخ
الكاتب: الشيخ د.محمد بن موسى الشريف
في شهر رمضان الكريم يستحب الإكثار من تلاوة القرآن الكريم ، وهكذا كان السلف يصنعون ، فقد كانت أحوالهم في قراءة القرآن الكريم عجيبة طوال السنة وليس في رمضان فقط لكنهم إذا جاء رمضان يكثرون من التلاوة كثرة مضاعفة ، فقد كانت عادة أكثر الصحابة رضي الله عنهم ختم القرآن كل أسبوع مرة وبعضهم كل ثلاث ليال
وعلى ذلك جرى التابعون رحمهم الله تعالى والسلف الصالح من بعدهم ، فهذا الأسود بن يزيد صاحب عبدالله ابن مسعود رضي الله عنه يختم القرآن كل ست ليال ، فإذا جاء رمضان ختم كل ليلتين ، وكان قتادة المفسر التابعي يختم كل سبع ليال فإذا جاء رمضان ختم كل ثلاث ، فإذا جاء العشر الأواخر ختم كل ليلة ، وهذا أبو بكر بن عياش قد ختم القرآن ثماني عشرة ألف ختمة طيلة حياته وهو رقم يُتعجب منه ويُخضع له ، وصح عن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى أنه ختم القرآن في رمضان ستين مرة ، وكان الإمام ابن عساكر يحاول اللحاق بالشافعي في صنيعه هذا حتى أنه كان يعتكف في المنارة البيضاء في مسجد دمشق طيلة رمضان لكنه لم يستطع إلا أن يختمه 59 مرة ! رحمهم الله تعالى ما أعظم هممهم.
وكان الإمام البخاري رحمه الله تعالى يختم في رمضان في النهار كل يوم ختمة ، ويقوم بعد التراويح كل ثلاث ليال بختمة ، وكان يسهل على السلف كثرة الختم في رمضان لتفرغهم له وعدم انشغالهم بغيره ، وكان منهم الإمام مالك إذا دخل رمضان لم يقبل إلا على القرآن وترك دروسه الحديثية وغير ذلك.
فإن قال قائل : ألم يَنْه النبي صلى الله عليه وسلم عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث ليال كما صح في واقعة عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما حيث طلب منه أن يختم القرآن في أقل من ثلاث فأبى عليه النبي صلى الله عليه وسلم ؟
فإن قيل ذلك فإنه يقال رداً على هذا : إن السلف العظام ومنهم الإمام الشافعي وغيره ممن كانوا يكثرون الختم في رمضان قد عرفوا هذا الحديث الشريف وحفظوه لكنهم أرادوا استغلال الزمان واغتنام أجر تلاوة أكبر قدر ممكن من الختمات القرآنية ، وذلك جائز إن لم يكن على سبيل المداومة طيلة الحياة ، فإن داوم إنسان على الختم في أقل من ثلاث يُنهى عن هذا ويساق له هذا الحديث ، أما إن تفرغ مدة من الزمان شريفة مباركة في رمضان لينهل من حوض القرآن ويكثر ختمه فلا يُنهى عن هذا ولا يعترض عليه معترض ، ألم يقرأ عثمان رضي الله تعالى عنه القرآن في ركعة عند الكعبة كما وردت بذلك الأخبار عنه ، وكذلك قرأه الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى في ركعة ، وممن صنع ذلك سعيد بن جبير والقاضي أبو أحمد العسال الأصبهاني وجمع من السلف ، وكل ذلك جائز بل مستحب إن لم يكن على سبيل المداومة ، إذ المداومة على قراءة القرآن في ثلاث ليال أو أكثر هي الحال المطلوبة المثلى .
وينبغي أن نعلم شيئاً مهماً هو أن المرء في هذا الزمان قد يخفى عليه كثير من معاني القرآن وأحكامه ، فمثل هذا لو تفرغ في هذا الشهر المبارك للتفهم والتدبر والتطبيق كان خيراً له من كثير من القراءة وموالاة الختم بلا فهم ولا تدبر ولا تطبيق ، بل أجزم أن قراءة القرآن مرة واحدة أو نصفه أو ثلثه أو أقل طيلة رمضان بشرط التفهم والتدبر والتطبيق خير من قراءة ثلاثين ختمة يردد حروفها ولا يفقه حدودها ولا يدري معانيها ، والله المو(/1)
رمضان فرصة لدخول الجنة ..!!
ها هو شهرُ الرحمةِ قد أطلّ علينا ، ها هو شهرُ العتقِ من الّنيرانِ قد أضلّنا ، ها هو المُنادي يُنادي ... يا باغي الخيرِ أقبِل ... ويا باغي الشرِّ أقْصِر ، ها هي أبوابُ النّيرانِ قد أُغْلِقتْ ، وأبوابُ الجِنَان قدْ فُتّحتْ ، ها هي الشياطينُ قد صُفّدت .
ها هي الرحماتُ قد أُنْزِلَتْ ، ها هي المغْفرة قد تناثرت .
فأين المُشمّرون للطّاعات ، وأينَ الخائِفون المنيبُونَ الرّاجون لرحمةِ الله ، الطّالِبُون العتقَ من النيرانِ أيْن أصْحابُ الهِمّة ، أين منْ يُريدون الجنّة ، ها هي الجنّة قد أُزْلِفت غيرَ بعيد .
وأينَ المُذنِبونَ ، وأين المُخْطِئونَ ، الذين على أنفُسِهم مُسْرفونَ ، ها هي النّار أبْوابُها قدْ أُغْلِقت .
هيا يا أخي العزيز .. لِنَنطلِق سَويّا في هذا اليوم ، لنُكْثِر من الطاعاتِ ، ونُعاهِد ربّ البَرٍيّات أن لا عودةَ للمَعاصِي والسّيئات .
وإيّاكَ إيّاكَ ! أن تُكْتَبَ في هذا الشّهرِ منَ المحْرومين ، فيا ويْحَك إن فأتتْك هذه الفُرصة ، ورَغِمَ أنْفُك إن لمْ يَغْفِر لك الله .
اجْتَهِد وثابِر وشدّ المِئْزَر وتَنقّل في رِياض الطّاعات ، من قِيام بالليلِ وإفطارٍ للصّائمينَ ، وإعانة أرمَلةِ ومسْكين ، ومَسْحٍ على رأسِ يَتيم ، وتلاوةٍ للقرآن الكريم . ولن يخيّبَ الله سعيَ المُخْلِصين .
فيا أيّها المُذنب .. ليسَ لكَ عُذر بعدَ ذلكَ ، قدْ هيّأ الله لكَ جميعَ السُّبل لتُقبِلَ إليه ، وتنُوبَ وتُقلِعَ وتعودَ إليه بِقلبٍ تائبٍ مُنيبٍ أواه .
فاشْترْ نفْسَكَ ، فالثّمنُ موجُود والسّوقُ قائِم ، والكيّسُ من دانَ نفسُه وعَمِل لما بعدَ المَوت ، والشّقي من تَمنّى على الله الأمَاني فجَاءه مَلكُ الموتِ فأخَذه على حينِ غِرّه فَصَاحَ بأعلى صوتِهِ ( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ) ولا ت حينِ مندم .
نسألُ الله أنْ يعتِقَ رِقابنا ورِقابكم من النّار ، ويُدخِلنا الجنّة مَع الأبْرار(/1)
________________________________________
رمضان فرصة للتغيير
رئيسي :فضائل :الأحد 19 شعبان 1425هـ - 3 أكتوبر 2004 م
الحمد لله الذي هيأ لعباده أسباب الهداية، وفتح لهم أبواب رحمته، أما بعد،،،
فهاهو رمضان قد أقبل بنوره وعطره، و جاء بخيره وطهره، جاء ليربي في الناس قوة الإرادة ورباطة الجأش، وملكة الصبر، ويعودهم على احتمال الشدائد، والجلد أمام العقبات، ومصاعب الحياة.
فرمضان مدرسة تربوية، يتدرب بها المسلم المؤمن على تقوية الإرادة في الوقوف عند حدود ربه، والتسليم لحكمه، وتنفيذ أوامره وشريعته، وضبط جوارحه كلها عما لا يجوز فعله؛ لينجح من هذه المدرسة حقاً، ويخرج ظافراً من جهاده لنفسه، موفراً مواهبه الإنسانية، وطاقاته المادية والمعنوية لجهاد أعدائه.
فحري بهذا الشهر أن يكون فرصة ذهبية، للوقوف مع النفس ومحاسبتها لتصحيح ما فات، واستدراك ما هو آت، قبل أن تحل الزفرات، وتبدأ الآهات، وتشتد السكرات.
فلنتذاكر جميعاً ونتساءل: هل يمكننا أن نغير من أحوالنا، ونحسن من أوضاعنا، فنفكر في مآلنا ومصيرنا بعد فراق حياتنا، فنمهد لأنفسنا قبل عثرة القدم، وكثرة الندم، فنتزود ليوم التناد بكامل الاستعداد؟!
لماذا رمضان؟!
1- لأن رمضان موسم البضاعة الرابحة، ولما حباه الله من المميزات، فهو بحق مدرسة لإعداد الرجال وهو بصدق جامعة لتخريج الأبطال.
2- ولما يسر الله تعالى فيه من أسباب الخيرات، وفعل الطاعات، فالنفوس فيه مقبلة، والقلوب إليه والهة.
3- ولأن رمضان تصفد فيه مردة الشياطين، فلا يصلون إلى ما كانوا يصلون إليه في غير رمضان، 4- وفي رمضان تفتح أبواب الجنان، وتغلق أبواب النيران، ولله في كل ليلة من رمضان عتقاء من النار.
5- وفي رمضان ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، فما أعظمها من بشارة، لو تأملناها بوعي وإدراك؛ لوجدتنا مسارعين إلى الخيرات، متنافسين في القربات، هاجرين للموبقات، تاركين للشهوات.
6- ورمضان فرصة للتغيير.. لما حصل فيه من الأحداث التي غيرت مسار التاريخ، فنقلت الأمة من مواقع الغبراء، إلى مواكب الجوزاء، ورفعتها من مؤخرة الركب، لتكون في محل الصدارة والريادة:
1- ففي معركة بدر الكبرى التقى جيش محمد صلى الله عليه وسلم، وجيش الكفر بقيادة أبي جهل في السنة الثانية من الهجرة في اليوم السابع عشر من رمضان، وانتصر فيها جيش الإيمان على جيش الطغيان، ومن تلك المعركة بدأ نجم الإسلام في صعود، ونجم الكفر في أفول، يقول الله تعالى:{وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[123]} [سورة آل عمران] .
2- وفي السنة الثامنة، وفي شهر رمضان، كان الفتح العظيم الذي أعز الله به دينه، ورسوله، وجنده، واستنقذ به بلده وبيته من أيدي الكفار والمشركين، وهو الفتح الذي استبشر به أهل السماء، ودخل الناس به في دين الله أفواجًا، وأشرق به وجه الأرض ضياءً وابتهاجا .
3- وفي سنة ستمائة وثمانية وخمسين، فعل التتار بأهل الشام مقتلة عظيمة، وتشرد من المسلمين من تشرد، وخربت الديار، فقام الملك المظفر قطز، بتجهيز الجيوش، لقتال التتار، حتى حان اللقاء في يوم الجمعة الخامس والعشرين من رمضان، وأمر ألا يقاتلوا حتى تزول الشمس، ويدعوا الخطباء والناس في صلاتهم، ثم تقابل الصفان، واقتتل الجيشان، وحصلت معركة عظيمة، سالت فيها دماء، وتقطعت أشلاء، ثم صارت الدائرة على القوم الكافرين، وقطع دابر القوم الذين ظلموا، والحمد لله رب العالمين .
كل هذه الأسباب جعلتنا نوقن بأن رمضان فرصة سانحة، وغنيمة جاهزة، لمن أراد التغيير في حياته . فالأسباب مهيأة، وما بقي إلا العزيمة الصادقة، والصحبة الصالحة، والاستعانة بالله في أن يوفقك للخير والهداية .
رمضانُ أقبل قم بنا يا صاح هذا أوان تبتل وصلاح
واغنم ثواب صيامه وقيامه تسعد بخير دائم وفلاح
ورمضان فرصة الجميع للتغيير:
1- ليصبح العبد من المتقين الأخيار: يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[183]} [سورة البقرة]. فقوله:{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} تعليل لفرضية الصيام؛ ببيان فائدته الكبرى، وحكمته العظمى، وهي تقوى الله، والتقوى: حساسيةٌ في الضمير، وخشيةٌ مستمرة، وحذرٌ دائم، وتوق لأشواكِ الطريق ؛طريقِ الحياة الذي تتجاذبُه أشواكُ الرغائبِ والشهوات، وأشواكُ المخاوفِ والهواجس، وأشواكُ الفتنِ والموبقات، وأشواكُ الرجاءِ الكاذب فيمن لا يملكُ إجابةَ الرجاء، وأشواكُ الخوف الكاذب ممن لا يملكُ نفعاً ولا ضراً، وعشراتٌ غيرُها من الأشواك ..
خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرةً إن الجبالَ من الحصى(/1)
هذا هو مفهوم التقوى، فإذا لم تتضح لك بعد، فاسمع إلى علي رضي الله عنه وهو يعبر عن التقوى بقوله:' هي الخوفُ من الجليل، والعملُ بالتنزيل، والقناعةُ بالقليل، والاستعدادُ ليوم الرحيل' . هذه حقيقة التقوى، وهذا مفهومها..فأين نحن من هذه المعاني المشرقةِ المضيئة؟
يوم عُمرت قلوبُ السلفِ بالتقوى، جمعهم الله بعد فرقة، وأعزهم بعد ذلة، وفُتحت لهم البلاد، كل ذلك تحقيقًا لموعودِ الله:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ[96]} [سورة الأعراف].
فليكن هذا الشهر بداية للباس التقوى؛ وهو خير لباس:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ [54] فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ[55] } [سورة القمر].
2- ورمضان فرصة للتغيير..لمن كان مفرطاً في صلاته: فلا يصليها مطلقاً، أو يؤخرها عن وقتها, أو يتخلف عن أدائها جماعة في المسجد . ليعلم المتهاون في صلاته، أنه يرتكب خطأ مهلكًا، و إن لم يتدارك نفسه؛ فهو آيل إلى عذاب مخيف، جاء في الحديث عن سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرُّؤْيَا قَالَ: [ أَمَّا الَّذِي يُثْلَغُ رَأْسُهُ بِالْحَجَرِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الْقُرْآنَ فَيَرْفِضُهُ وَيَنَامُ عَنْ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ] رواه البخاري.
إني أدعوك بكل شفقة وإخلاص، في مثل هذا الشهر المبارك إلى إعادة النظر في واقعك، ومُجريات حياتك، أدعوك إلى مراجعة نفسك، وتأمل أوضاعك قبل فوات الأوان، إني أنصحك ألا تخدعك المظاهر، ولا يغرك ما أنت فيه، من الصحة والعافية، والشباب والقوة، فالصحة سيعقبها السقم، والشباب يلاحقه الهرم، والقوة آيلة إلى الضعف، فاستيقظ يا هذا من غفلتك، فالحياة قصيرة وإن طالت، والفرحة ذاهبة وإن دامت، واجعل من رمضان فرصة للمحافظة على هذه الصلاة العظيمة، فقد وفقك الله للصلاة مع الجماعة، وإلف المساجد، وعمارتها بالذكر والتسبيح، فاستعن بالله، واعزم من الآن أن يكون هذا الشهر المبارك بداية للمحافظة على الصلاة، والتبكير إليها، يقول تعالى في وصف المؤمنين:{ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ[23]} [سورة المعارج] . ويقول سبحانه:{ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ[34]أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ[35]}[سورة المعارج] .
3- ورمضان فرصة للتغيير .. لمن ابتلي بتعاطي الحرام: من خمر ومخدرات، أو دخان و مسكرات، أن لا يفعل بعد إفطاره ما يخل بهذه العزيمة القوية، أو يوهنها، أو يقلل من شأنها، تلك العزيمة التي جعلته يمسك طوال ساعات النهار، فما أحزمه لو استغل شهر الصيام كمدرسة يتدرب بها على هجر ما يكرهه هو، أو يكرهه الشارع، من مألوفاته التي اعتاد أكلها، أو شربها، أو مقاربتها.
أخي الصائم: إني أشجع فيك إيمانك ويقينك بالله، الذي جعلك تمتنع عن تعاطي هذه السموم في وقت الصيام، وإلا فمَنْ مِنَ الناس يعلم أنك صائم أو لا ؟! ولكن شعورك بنظر الله إليك، ومراقبته لك، صرفك عن تعاطي الحرام في وقت الصيام. فالإرادة التي استطاعت أن تصوم لأكثر من اثنتي عشرة ساعة، أتعجز عن مواصلة مسيرتها الإصلاحية؟! والعزيمة التي صمدت عن تعاطي هذا البلاء، لهذه الفترة الطويلة أثناء النهار . . أتنهار في آخر لحظات الإسفار، وإرخاء الليل الستار؟! أين الهمة التي لا تقف أمامها الجبال الشامخات؟ وأين العزيمة؟ استعن بالله تعالى على ترك هذا البلاء، فالنصر صبر ساعة، والفرج قريب، وإن الله مع الصابرين .
4- ورمضان فرصة للتغيير .. لمن كان مقصرًا في نوافل العبادات: فيغير من حاله، ففي رمضان تتهيأ النفوس، وتقبل القلوب، فينتهز هذه الفرصة، فيحافظ على شيء منها، فهي مكملة لفرائضه، متممة لها، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الصَّلَاةُ الْمَكْتُوبَةُ فَإِنْ أَتَمَّهَا وَإِلَّا قِيلَ انْظُرُوا هَلْ لَهُ مِنْ تَطَوُّعٍ فَإِنْ كَانَ لَهُ تَطَوُّعٌ أُكْمِلَتْ الْفَرِيضَةُ مِنْ تَطَوُّعِهِ ثُمَّ يُفْعَلُ بِسَائِرِ الْأَعْمَالِ الْمَفْرُوضَةِ مِثْلُ ذَلِكَ] رواه ابن ماجة والترمذي والنسائي وأحمد.
وأقل الوتر ركعة، وأقل الضحى ركعتان، وعدد السنن الرواتب ثنتا عشرة ركعة، ركعتان قبل الفجر، وأربع ركعات قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، يَقُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يُصَلِّي لِلَّهِ كُلَّ يَوْمٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً تَطَوُّعًا غَيْرَ فَرِيضَةٍ إِلَّا بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ أَوْ إِلَّا بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ] رواه مسلم .(/2)
ولماذا لا تجعل من رمضان فرصة، لأن يكون لك أيام تصومها لله رب العالمين فمن صام يوماً في سبيل الله باعد الله بينه وبين النار سبعين خريفاً، فهذه ستة من شوال، ويوم عاشوراء، وعرفة، وصوم الاثنين والخميس، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر . فبادر شبابك قبل هرمك..وصحتك قبل سقمك.. وحياتك قبل موتك.. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ] رواه البخاري ومسلم .
5- ورمضان فرصة للتغيير .. لمن هجر القرآن قراءة وتدبرًا، وحفظًا وعملًا: أن يكون هذا الشهر بداية للتغيير، فترتب لنفسك جزءًا من القرآن، لا تنفك عنه بأي حال من الأحوال، ولا تنس الفضل الجزيل لمن قرأ كلام الله، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ] رواه الترمذي.
ومن المفارقة العجيبة، أن يدرك أعداؤنا من عظمة هذا القرآن، ما لا ندركه، وأن يعملوا جاهدين على طمس معالمه، ومحو آثاره في العباد والبلاد، لخوفهم الشديد من عودة الأمة إلى هذا القرآن الذي يؤثر في النفوس، ويحييها، ويبعث فيها العزة والكرامة، يقول غلادستون:'مادام هذا القرآن موجودا في أيدي المسلمين، فلن تستطيع أوربة السيطرة على الشرق، ولا أن تكون هي نفسها في أمان، وكان نشيد جيوش الاستعمار،كان نشيدهم :أنا ذاهب لسحق الأمة الملعونة، لأحارب الديانة الإسلامية، ولأمحو القرآن بكل قوتي' . فما موقفك أنت يا رعاك الله؟ أدع الإجابة لك، وأسأل الله أن يوفقك للخير وفعله .
6- ورمضان فرصة للتغيير .. للمرأة المسلمة: التي أصبح حجابها مهلهلاً، وعباءتها مطرزة، وثيابها فاتنة، وعطرها يفوح، وفي كل يوم إلى الأسواق تروح . . قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [أَيُّمَا امْرَأَةٍ اسْتَعْطَرَتْ فَمَرَّتْ بِقَوْمٍ لِيَجِدُوا رِيحَهَا فَهِيَ زَانِيَةٌ] رواه أبوداود والترمذي والنسائي والدارمي وأحمد .
فليكن - يا أخية - رمضان فرصة لأن تربى نفسك على البقاء في المنزل، وعدم الخروج منه إلا لحاجة ماسة، وبضوابط الخروج الشرعية، وليكن رمضان فرصة لضبط النفس في قضايا اللباس، والموضة والاعتدال فيهما، بدون إفراط ولا تفريط، وليكن رمضان فرصة للحفاظ على الحجاب الشرعي؛ طاعة لله، وإغاظة للشيطان وحزبه .
7-ورمضان فرصة للتغيير.. للرجل والفتاة اللذين عبثا بالهاتف طويلاً: تلاعبًا بالمشاعر والعواطف، وقد تكون البداية قضاء وقت فراغ، ثم يستدرجهما الشيطان للوقوع في الفاحشة البغيضة، فتقع المصيبة، وينكسر الزجاج فأنى له أن يعود مرة أخرى ! فاتق الله أيها الشاب، واتقي الله أيتها الفتاة، وليكن رمضان فرصة لتغيير المسار، والابتعاد عن الأخطار، وهتك الأعراض.
8- ورمضان فرصة للتغيير .. لمن تعود على حياة المترفين، ونشأ على حب الدعة واللين: أن يأخذ من رمضان درسًا في تربية النفس على المجاهدة والخشونة في أمر الحياة، فربما تسلب النعمة، و تحل النقمة.
9-ورمضان فرصة للتغيير .. لمن كان يتابع الأكلات، ويتتبع المطاعم فيوم هنا، ويوم هناك: حتى أصبح بطنه هو شغله الشاغل، ولم نخلق من أجل أن نسعد بطوننا، والطعام وسيلة لا غاية، فافهم هذا حتى تبلغ الغاية. وقلة الطعام توجب رقة القلب وقوة الفهم، وانكسار النفس، وضعف الهوى والغضب، وكثرة الطعام يوجب ضد ذلك . فعن عمرو بن قيس قال:' إياكم والبطنة فإنها تقسي القلب' . وعن سلمة بن سعيد قال:' إن كان الرجل ليعير بالبطنة كما يعير بالذنب يعمله'. وعن مالك بن دينار قال:' ما ينبغي للمؤمن أن يكون بطنه أكبر همه، وأن تكون شهوته هي الغالبة عليه' . فليكن هذا الشهر المبارك بداية للتقلل من الطعام والاستمرار على ذلك على الدوام .
10- ورمضان فرصة للتغيير من أخلاقنا: فمن جبل على الأنانية والشح، وفقدان روح الشعور بالجسد الواحد، فشهر الصوم مدرسة عملية له، وهو أوقع في نفس الإنسان من نصح الناصح؛ لأنه تذكير يسمعه ويتلقنه من صوت بطنه إذا جاع، وأمعائه إذا خلت، وكبده إذا احترت من العطش، يحصل له من ذلك تذكير عملي بجوع الجائعين، وبؤس البائسين، وحاجة المحتاجين، فتسمح نفسه بأداء حق الله إليهم، وقد يجود عليهم بزيادة، فشهر الصيام شهر الجود والمواساة .(/3)
فرمضان مدرسة للقضاء على صفة الأنانية والشح، ومن ثم الشعور بالجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر. قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى] رواه البخاري ومسلم-واللفظ له- .
11- ورمضان فرصة للتغيير .. لمن كان قليل الصبر، سريع الغضب، أن يتعلم منه الصبر والأناة: فأنت الآن تصبر على الجوع والعطش، والتعب ساعات طويلة، ألا يمكنك - أيضاً - أن تعود نفسك من خلال شهر الصبر:الصبر على الناس وتصرفاتهم وأخلاقهم، وما يفعلونه تجاهك من أخطاء، وليكن شعارك الدائم:{ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ[134]} [سورة آل عمران]. وقول النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنَفِّذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي أَيِّ الْحُورِ شَاءَ]رواه الترمذي وأبوداود وابن ماجة وأحمد . فليكن هذا الشهر بداية لأن يكون الصبر شعارنا، والحلم والأناة دثارنا.
12-ورمضان فرصة للتغيير .. لمن كان يأكل الحرام: من خلال أكل الربا، أو التلاعب في البيع والشراء، أو بيع المحرمات من دخان ومجلات فاسدة، ومعسل وجراك، أو بيع العباءات والنقابات المحرمة، أو الملابس الفاضحة من بناطيل نسائية، أو أشرطة غنائية، أو أشرطة فيديو، أو الأطباق السوداء؛ أن يغير من حاله، وأن يبدل من شأنه، وأن يدع أكل الحرام . فإن الله تعالى يحاسب على النقير والقطمير، فحذار أن تزل قدم بعد ثبوتها !!
وهل يسرك أن أهل الإيمان يرفعون أيديهم في صلاة التراويح يدعون الله، ويستغيثون به، ويسألونه من فضله، ويستجاب لهم ..وأنت ترد عليك دعوتك؟! فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ[51]}[سورة المؤمنون]. وَقَالَ:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ...[172]}[سورة البقرة]. ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ] رواه مسلم .
وتذكر أنه لن ينفعك أن الناس فعلوا، أو أنهم يريدون ذلك، فكل واحد منا سيقف بين يدي الواحد القهار، ويسأله عن أعماله وأقواله الصغار، والكبار ..فمن سيقف معك في ذلك الموقف العصيب؟
13- ورمضان فرصة للتغيير .. للكُتاب الذين تأثروا بعدوهم: فنقول لهم: إن رمضان فرصة لهم للتغيير، فالكلمة أمانة، إنها مسؤولية.. نعم لمسؤولية الكلمة، لا لحرية الكلمة المتجردة من تعاليم ديننا. وخليق بأدبائنا وشعرائنا أن يتفق أدبهم مع أدب دينهم، وحري بالصحافة المسلمة أن تربأ بما ينشر على صفحاتها عما يتنافى مع عقيدتنا الإسلامية وتراثنا . قال تعالى:{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً[36]} [سورة الإسراء].
فهل ترضى أن تكون أداة إفساد في الأمة ـ من حيث تشعر، أو لا تشعر ـ هل ترضى أن تنشر في الأمة ما يؤثر على دينها وسلوكها؟ قل لي بربك كيف تستسيغ أن تكتب بقلمك السيال ما يغضب ربك؟ كيف تتجرأ أن تكتب بقلمك الرفيع ما يدعو إلى نشر الفاحشة في الذين آمنوا؟ أو أن تضللهم، أو تزيف الحقائق عليهم؟ حري بك يا من آمنت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً أن تسخر قلمك للصدع بكلمة الحق، والمجاهرة بالفضيلة، والدعوة إلى العفة والكرامة، حري بك أن تكون منافحاً عما يُراد بأمتك، حري بك أن تكون مكافحاً عما يخطط لأمتك .(/4)
14- ورمضان فرصة للتغيير .. للدعاة الذين فترة همتهم، وضعفت غيرتهم: فيستيقظوا من رقدتهم، وينتهزوا فرصتهم، بدعوة الناس إلى ربهم، والذهاب إلى أماكن تواجدهم وتجمعهم؛ لتذكيرهم بالله، وتخويفهم من ناره وجحيمه، وترغيبهم بجنته ونعيمه، والتفكير الجاد لمعرفة الأساليب المناسبة للإصلاح، وليتذكر الدعاة إلى الله فضل الدعوة إلى الله، والسهر من أجلها، والتفاني لها، وجزاء من تاب على أيديهم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم ...لَأَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ] رواه البخاري ومسلم .
ليكن رمضان محطة روحية تبعث فينا روح الجدية، فيعد الداعية عدته، ويأخذ أهبته، فيكون دائم التفكير، عظيم الاهتمام، على قدم الاستعداد أبدا، إن دعي أجاب، أو نودي لبى، غدوه ورواحه وحديثه وكلامه، وجده ولعبه لا يتعدى الميدان الذي أعد نفسه له !!
15- ورمضان فرصة للتغيير .. لمن كان مذنبًا ومسرفًا على نفسه بالخطايا والموبقات: فإذا به يسمع الأغنيات بأصوات المغنين والمغنيات، ويشاهد القنوات بصورها الفاضحات، ويعاكس الفتيات، ويسهر على الموبقات، ويعاقر المنكرات، أن يسارع إلى الإنابة، ويبادر إلى الاستقامة،قبل زوال النعم،وحلول النقم، فهنالك لا تقال العثرات، ولا تستدرك الزلات {...وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[31]} [سورة النور]. ويكفي التائبين شرفًا أن الله تعالى قال:{...إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ[222]} [سورة البقرة] .
فالتوبة..التوبة، فهي شعار المتقين، ودأب الصالحين، وحلية الصالحين، فبادر إليها في مثل هذا الشهر المبارك، فأبواب الجنة مشرعة، وأبواب النار مغلقة، ولله في كل ليلة عتقاء من النار، فاجتهد أن تكون واحدًا منهم.
وفي الختام ..
آن لثياب العصيان، أن تخلع في رمضان، ليُلْبس الله العبد ثياب الرضوان، وليجود عليه بتوبة تمحو ما كان من الذنب والبهتان، والصلاة والسلام على سيد ولد عدنان، وعلى آله وأصحابه، وعلى من سار على نهجهم، واقتفى أثرهم.
من رسالة:'رمضان فرصة للتغيير' محمد بن عبدالله الهبدان(/5)
رمضان كيف نستقبله ؟؟وكيف نغتنمه ؟؟
بسم الله الرحمن الرحيم
رمضان.....كيف نستقبله ؟؟....وكيف نغتنمه ؟؟
تقديم :
إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ به من شرور أنفسنا ، وسيأت أعمالنا ,من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له , وأشهد أن محمد عبده ورسوله اللهم صلى على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وآل بيته كما صليت على آل ابراهيم انك حميد مجيد...
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } 102: آل عمران .
{ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } 1 : النساء .
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } 71 : الأحزاب
أما بعد :
فأن أصدق الحديث كتاب الله , وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها , وكل محدثة بدعة , وكل بدعة ضلالة , وكل ضلالة فى النار, وبعد ….
فان شهر رمضان من الأزمان التي لها عند المسلمين مكانةٌ عظيمةٌ , هذه المكانة ليست مجرد شجون وتقدير لما لايرتبطون به , لا بل هى مكانةٌ ترتبط بها القلوب والأبدان لما تجده النفوس من بهجةٍ وفرحةٍ واطمئنان وحب للخيرات وفعل للطاعات وتهيؤ عظيم فى القلوب ولين فى الأبدان لفعل الخيرات وترك المنكرات , ولاشك أن هذا يشعر به كل مسلم وان قل ايمانه لأن شهر رمضان هو زمنُ لين القلوب واطمئنانها ولو نسبياً , وزمنُ تعاون الناس على كثير من البر والطاعات , وفعل الخيرات , فأنت ترى الناس تختلف مسالكهم فى رمضان عن غيره لوقوع الصيام منهم جماعة مما يجعل لهم صورة جماعية طيبة فى بعض الأمور كإجتماع الناس فى البيوت للإفطار حتى تخلو الطرقات فى القرى والمدن من المارة الا القليل , والتى لا تكون كذلك فى مثل هذه الأوقات فى غير رمضان , وغير ذلك من المظاهر الجماعية والتى تحدث فى رمضان ولا يمكن أن تحدث فى غيره باستقراء الواقع الا أن يشاء الله شيئا...وذلك -مثلا -مثل أجتماع الناس على قيام رمضان , ومثل امتلاء المساجد فى صلاة الفجر على غير عادة الناس فى غير رمضان فى أزماننا, هذا وغيره كثير يدل دلالة واضحة على تلك المكانة التى هى لهذا الشهر فى قلوب العامة والخاصة من المسلمين , وتلك المكانة التى تكون فى القلوب تتفاوت فى قلوب المسلمين بما يترتب عليه تفاوتا بينا فى مسالكهم وعاداتهم فى هذا الشهر أفرادا وجماعات , وهذا التفاوت ليس هو فقط فى المقدار والأثر والقوة لا بل هو أيضا فى نوعه بمعنى أنه ليس فقط تفاوتا فى كمه وقوته بل فى كيفيته ونوعيته...... وصدق ربنا اذ يقول :" إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى" 4 : الليل ...... نعم فان سعى الناس عموما فى أمر دينهم ودنياهم لشتى خاصة فى مثل تلك الأزمان الفضيلة , فبين مقدر لقدره ومضيع , وكاسب وخاسر , وموفق ومغبون , وضال ومهتد , وتقى وفاجر عافانا الله من التضيع والخسران والغبن والضلال والفسوق والكفران وجعلنا بفضله ومنه وجوده من المؤمنين الفائزين فى الدنيا والأخرة فى رمضان وغيره من شهور العام ....آمين ....آمين
أيها الاخوة الكرام كيف نستقبل..ونغتنم.. رمضان ؟
وقبل الاجابةِ أسأل نفسى واياك أخى الكريم سؤالا يقرب المسألة , وهذا السؤال هو لو أن لك صاحب أو قريب أو رحم عزيز عليك ,غاب عنك أحد عشر شهرا ثم علمت بمجيئه اليك زائرا عما قريب , ماذا أنت صانع لملاقاة واستضافة هذا الضيف والجائى الكريم العزيز عليك , ماذا انت صانع ؟...سأترك الاجابة لك ولكن بشرط أن تجيب بأنصاف وموضوعية ...
واذا وفققك الله لاجابةٍ صحيحة منصفة بما يليق وشأن ضيفك وزائرك الذىافترضنا أنه عزيز بل عزيز عليك جدا ..جدا.... فاسأل نفسك ماذا هو الحال اذا كان هذا الزائر هو شهر رمضان المبارك ؟
ونحن سوف نستقبل فى غضون أيام هذا الضيف...هل تعرفه...وماذا أعددت له وكيف ستستقبله وتتعامل معه؟
أولا : من هو شهر رمضان ؟
هو : الشهر التاسع فى ترتيب الشهور التى هى عند الله اثنى عشر شهرا من يوم أن خلق الله السموات والأرض,وعلى الترتيب الذى أنشأه عمر رضى الله عنه...
قال تعالى: { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } ....الآية 36 : التوبة(/1)
وهو : الشهر الذى أنزل الله فيه القرآن .
قال تعالى : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ } ......الآية 185 : البقرة
وهو: الشهر الذى أبتعث الله فيه نبيه وخليله وخاتم رسله محمد صلى الله عليه وسلم .
وهو : الشهر الذى جعل الله منه الى رمضان ما بعده كفارة :
بوب مسلم فى كتاب الطهارة : باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر *
وفيه : عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر *
وهو: الشهر الذى اذا دخلت أول ليلة من لياليه كان ما كان من الخير اسمع :
عند البخارى فى كتاب الصوم : عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة *
وفى رواية عنه أيضا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب السماء وغلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين*
وهو : الشهر الذى جعل الله فيه لأصحاب الذنوب والخطايا المخرج وكذلك لطالبى الجنة والعلو فى الدين :
فعند البخارى فى كتاب التوحيد : عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة وصام رمضان كان حقا على الله أن يدخله الجنة هاجر في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها قالوا يا رسول الله أفلا ننبئ الناس بذلك قال إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة *
وعند مسلم فى كتاب صلاة المسافرين : عن أبى هريرة حدثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه *
وهو : الشهر الذى جعل الله فيه العمرة كحجة ليس هذا فحسب بل كحجة معه صلى الله عليه وسلم :
فعند البخارى فى كتاب الحج : عن عطاء قال سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يخبرنا يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأة من الأنصار سماها ابن عباس فنسيت اسمها ما منعك أن تحجين معنا قالت كان لنا ناضح فركبه أبو فلان وابنه لزوجها وابنها وترك ناضحا ننضح عليه قال فإذا كان رمضان اعتمري فيه فإن عمرة في رمضان حجة*
وفى رواية:" عمرة في رمضان تعدل حجة" متفق عليه.
وفى رواية: قال فإن عمرة في رمضان تقضي حجة أو حجة معي*
قوله : { عمرة في رمضان تعدل حجة } في الثواب، لا أنها تقوم مقامها في إسقاط الفرض. للإجماع على أن الاعتمار لا يجزيء عن حج الفرض. وقال ابن العربي: حديث العمرة هذا صحيح وهو فضل من الله ونعمة فقد أدركت العمرة منزلة الحج بانضمام رمضان إليها. وقال ابن الجوزى: فيه أن ثواب العمل يزيد بزيادة شرف الوقت كما يزيد بحضور القلب وخلوص المقصد.
وهو : الشهر الذى جعل الله فيه ليلة هى خير من ألف شهر فى دين وعمل العبد المؤمن :
فعند البخارى فى كتاب صلاة التراويح:عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في العشر الأواخر من رمضان ويقول : تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان *
وعند مسلم فى كتاب صلاة المسافرين: عن زر قال سمعت أبي بن كعب يقول وقيل له إن عبد الله بن مسعود يقول من قام السنة أصاب ليلة القدر فقال أبي والله الذي لا إله إلا هو إنها لفي رمضان يحلف ما يستثني و والله إني لأعلم أي ليلة هي هي الليلة التي أمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها هي ليلة صبيحة سبع وعشرين وأمارتها أن تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها*
وأنت تعلم قوله تعالى: { ليلة القدر خير من ألف شهر } ....
وهو : خير الشهور على المؤمنين وشر الشهور على المنافقين :
ففى الحديث أن النبى صلى الله عليه وسلم قال:" أظلكم شهركم هذا بمحلوف رسول الله ما مر على المسلمين شهر هو خير لهم منه ولا يأتي على المنافقين شهر شر لهم منه إن الله يكتب أجره وثوابه من قبل أن يدخل ويكتب وزره وشفاءه من قبل أن يدخل ذلك أن المؤمن يعد فيه النفقة للقوة في العبادة ويعد فيه المنافق إغتياب المؤمنين واتباع عوراتهم فهو غنمٌ للمؤمن ونقمةٌ على الفاجر"...... أحمد...والبيهقى ، عن أبي هريرة .وحسنه الألبانى فى صحيح الترغيب..
* وإذا نظرت لهذا الحديث الجامع ترى أن ذلك وكأنه واقع يراه القاصى والدانى...المؤمنون يعدون عدة البر يجهز زكاة ماله لينفقها فى رمضان...ويرتبون المال للتوسيع على الأهل والأولاد...ويعدون أسباب إعانة المساكين والفقراء...وكذا إطعام الصائمين....وفى المقابل المنافقون ممن يعدون العدة بالأفلام والتمثليات والفوازير....ألخ....فصدق الصادق المصدوق هو غنمٌ للمؤمن ونقمةٌ على الفجر,,,,,,,,(/2)
** ولو ظللت أعرف بمن يكون هو هذا الضيف العزيز ما وفيت الكلام على مكانته ولكن المقصود هو كيف نستقبل هذا الضيف المكرم ؟
*...كيف...؟؟؟؟؟
ومن ثم لابد أن أذَكِر أولاُ بأمور هامة أولها: نحن المسلمين :
لكم أسأنا استقبال هذا الضيف لأنه لطالما يزورنا ويأتينا كل عام فى نفس الموعد وهو ضيف كريم يأتى بالهدايا الكثيرة العظيمة النفع التى يحتجها كل أحد من الخلق وخاصة المسلمين ونحن نقابل لك بأن نأخذ من هداياه ما يعجبنا ونرمى فى وجهه ما لا يعجبنا ونحن فى ذلك من المغبونين ... وصدق ربنا اذ يقول:"ان سعيكم لشتى".....نعم ان سعى العباد فى الدين لشتى , وخاصة فى رمضان , فمضيع ومستهتر ومغبون ومفتون وغير ذلك من مسالك الباطل والتضييع , ولكن هناك أهل الحكمة وشكر النعمة ..جعلنا الله منهم .. أهل تقدير العطايا والمنح الربانية- الذين يرجون ثواب ربهم ويخافون عذابه ويتقون سخطه بطلب مرضاته - نعم هم من يطلبون النجاة ويسلكون مسالكها فيعرفون لرمضان قدره ويستقبلونه بالتوبة وفعل الخيرات وترك المنكرات , يحكى عن السلف أنهم كانو يظلون ستة أسهر يدعون ربهم أن يبلغَهم رمضان , فاذا جاء أحسنوا استقباله , فاذا رحل عنهم ظلوا ستة أشهر بعده يسألون الله قبول ما قدموا فيه من الصيام والقيام والصدقة وغير ذلك مما قدموا من البر ....أرأيت كيف كان حالهم ... وكيف صار حالنا , نسأل الله أن يصلحنا ويصلح بنا ويحسن مآلنا ويجعلنا فى شهر رمضان من الفائزين ,كان السلف أذا انقضى رمضان يقولون رمضان سوق قام ثم انفض ربح فيه من ربح وخسر فيه من خسر , اللهم اجعلنا فيه وفى سائر ايامنا وأعمارنا من الرابحين المفلحين ....أمين ....أمين...
نحن ياسادة : كم من مرات ومرات جعلناه يرحل عنا وهو حزين لا يرى منا الا الوكسة والجرى وراء الدنيا الحقيرة والرضى بالدنية فى الدين , والميل مع الذين يتبعون الشهوات ميلا عظيما , والتولى عن العمل لله ,ويري كذلك زهدنا فى أخرتنا وعدم نصرتنا لربنا ,,,,,,,,,, ففعل المنكرات , وسهرٌ أمام التلفاز فى الليالى الرمضانية - هكذا يسمونها من يقيمونها - وهى فى الحقيقة ليالى شيطانية لا رمضانية , فالليالى الرمضانية هى ليالى القيام واجتماع الناس فى المساجد والتسحر استعدادا لصيام يرضاه الله جل وعلا وغير ذلك من الذكر والتلاوة هذه هى الليالى الرمضانية , وكذلك لكم رحل عنا رمضان وهو يرى حال المسلمين المتردى الذين هم فى أشد الحاجة لما جاءهم به من الخير الكثير الذى جعله الله لعباده التائبين المقبلين الذين يبحثون عن مخرج من ورطة الذنوب وتخفيفا لثقلها عن عاتقهم ...
نحن أيها الاخوة : يأتينا هذا الشهر هذه المرة وهناك متغيرات كثيرة الشيشان وما أدراك ما الشيشان وتدنيس بيت المقدس والتعدى عليه من أبناء القردة والخنازير,والهوان والاستضعاف الذى تعيش فيه الأمة دولا وجماعات وأفراد حكاما ومحكومين , فقتل وتشريد وهدم للبيوت وتحريق للممتلكات , قتل للأطفال والكبار والنساء والرجال ابادة هنا وهناك , ومسح للدول الاسلامية من على خريطة العالم كما يحدث فى فلسطين والشيشان , وغطرسة كافرة تعربد بحقد أسود وجبروت طاغى فى كل حدب وصوب , وإذلال للقادة والملوك والممكنين قبل المستضعفين , ووصف للإسلام والمسلمين بالإرهاب وغير ذلك , فانا لله وانا اليه راجعون ...
ان رمضان ذلك الضيف الكريم يأتى هذه الزيارة ونحن نعانى من انهزامية يزرعها فينا دعاة السلام ...عفوا بل دعاة الاستسلام والذلة لغير الله مع الاعراض عن الله...انهزمية يزرعها فينا دعاة العلمانية , ويدعمها حبنا للدنيا الذى هو من أعظم أسباب تلك الانهزامية ففى الحديث الصحيح من حديث ثوبان أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. قيل يا رسول الله : فمن قلة يومئذ؟ قال: لا، ولكنكم غثاء كغثاء السيل يجعل الوهن في قلوبكم وينزع الرعب من قلوب عدوكم لحبكم الدنيا وكراهيتكم الموت".أخرجه أحمد وابو داود .
* يأتى علينا هذا الضيف ياسادة ونحن نلعق مرار تسلط اليهود على بيت المقدس وتكبرهم علينا حكاما ومحكومين , دولا وجماعات وأفراد , نلعق مرارة ابادة الروس الملاحدة الملاعين للمسلمين فى الشيشان أنتهكو حرماتهم وهدموا وخربوا أرضهم وانتهكوا أعراضهم ومسحوا دولة معترف بها فى المجتمع الدولى مسحوها أو هكذا يحاولون ولن يمكن الله لهم ...فانا لله وانا اليه راجعون ...(/3)
خلاصة القول أن هذا الضيف العزيز الكريم بما كرمه به الله تعالى يأتى علينا ونحن أزلة مستضعفين أنهكتنا ذنوبنا وشهواتنا وحرمنا طلب المقامات العليه , مقامات الجهاد والمجاهدة مقامات البذل لله تعالى مقامات عز الطاعة والانابة الى الله تعالى , خلاصة القول أن هذا الضيف سوف يجيئ ليجد فينا ومنا حالا لايسر حبيب ولكن يسرعدو , يسر الشيطان الذى يقعد للمسلم بكل صرط , يسر اليهود الذين برون منا الانهزامبة أمام تصلفهم وكبرهم ...فاجتمعات ولجان ومؤتمرات لاتتمخض الا عن زيادة ذل وهوان انا لله وانا اليه راجعون...حالٌ لايسر الا دعاة الاستسلام لليهود لأنهم قُهروا نفسيا أمام الدولة العظمى كما يحلوا لهم أن يسموها للغطرسة الأمريكية تلك الأسطورة التى هى إلى زوال تقريبا خاصة بعد ما أوضح مدى خوار الأسطورة التى لاتقهر والأمن الذى لايخترق...ها قد أخذ الله القرية الظالمة بعض الأخذ...وهو على كل شئ قدير...وإن هلاكهم قريب...ألم تر تلك الأية التى ظهرت فى عقر دارهم.....فنحن نخور ونركع فى محراب الطغيان الأمريكى.. واليهودى ...وغيره.... وطبعا لايجر ذلك الا الى الصغار والذل لاالعز والكرامة.. فحسبنا الله ونعم الوكيل .... فحالنا يسادة يسر كل عدو قل أو كثر ....بعد أو قرب.... والى الله المشتكى ولا حول ولا قوة الا بالله العلى العظيم......
* هذا بعض ما ينبغى أن نعرفه ابتداء ....وذلك قبل أن نتكلم عن كيفية استقبال هذا الضيف العزيز....
* ولابد هنا أيها الاخوة الكرام من معرفة أن هذا الضيف : يأتى ومعه كثير من أسباب الاعانة والتغيير التى يمن الله بها على عباده المؤمنين الذين يؤمنون أنهم لاينبغى لهم أن يهنوا ولاينبغى أن يحزنوا , ولا ينبغى بحال أن ينهزموا أويضعفوا أو يصيبهم الخور أمام عدوهم , وولاينبغى كذلك أن يذلوا لغير الله تعالى المعز المذل الكبير المتعال الذى اذا أراد
شيئا قال له كن فيكون بيده الخير وهو على كل شئ قدير , وذلك لأنه سبحانه قد وعدهم بأنهم الأعلون ان كانوا مؤمنين قال تعالى: { وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }39 : آل عمران ... وكذلك هم يستبشرون بوعد الله تعالى حيث قال : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ } 55 : ا لنور
ولذلك لابد... ثم لابد.....ان أردنا الخلاص مما نحن فيه من الغبن وقلة الايمان وكثرة الشرور.... أن نكون من أولائك الذين يقدرون هذا الضيف قدره ويحفظون عليه مكانته التى أنزلها الله اياه ويتنعمون بكثير الفضائل والكرائم والهبات والهدايا والنعم الربانية التى يبعث بها الله تعالى مع هذا الضيف العزيز.... أليس كذلك ...لابد أن نجعل استقبالنا لهذا الضيف الكريم نقطة تحول كبيرة فى حياتنا الايمانية وفى انفسنا , نقطة تحول نتحول بها :
أولا : من كثرة الذنوب والمعاصى التى لاتنتهى سواء الدائم منها....مثل شرب الدخان وسماع الأغانى والمعازف والتبرج وعرى البنات والاختلاط وحلق اللحى والكسب الحرام من الوظائف المحرمة مثل العمل فى البنوك والضرائب والأعمال التى فيها ظلم العباد أو الحكم بغير ما أنزا الله والنظر الى المحرمات وظلم الزوجات واسأة التربية للأولاد وغير ذلك كثير من الذنوب التى يقع فيها الكثير...دائما...ليل نهار... أو ما نأتيه حينا مثل الزنا والغيبة ....التعاون فى بعض المنتديات على الاثم والعدوان كما هو فى منكرات الأفراح والأعراس وما شابه , والليالى القبيحة المسامة بالليالى الرمضانية حيث يجتمع البنات والشبات مع الرجال والأولاد ...فى فعل المنكرات ومشاهدة المحرمات أو قضاء الليل فى اللعب والصراخ والمجون والسهرات الملونة ..... فقد أصبح البر والطاعات وفعل الخيرات وترك المنكرات والتعاون على البر والتقوى , صار ذلك فى حياتنا وأحوالنا ...أحيانا ...أحيانا....أحيانا...فلابد اذا من التحول من هذا الحال الى العكس ولن بكون ذلك بالآمانى والتمنى , لا لن يكون ذلك الا بتغيير النفس , والمجاهدة فى الخروج من هذا الأسر أسر الدنيا والاخلاد لها , أسر الشهوات وحب المال والرضى بالحياة الدنيا والاطمئنان لها ,فلابد اذا من تغيير النفس لابد....ثم لابد..قال تعالى:" إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ...." 11 : الرعد...ولن يكون ذلك الا أن تبدأ بالتوبة , التوبة من الحال الذى يعرفه كل منا من نفسه ....ولاينبغى أن نتقلل عيوبنا وذنوبنا وكأنها شئ هين لا ثم لا فهذا شأن المنافقين والعياذ بالله تنبه..(/4)
فعند البخارى فى كتاب الدعوات: عن الحارث بن سويد حدثنا عبدالله بن مسعود حديثين أحدهما عن النبي صلى الله عليه وسلم والآخر عن نفسه قال إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا قال أبو شهاب بيده فوق أنفه*
أرأيت إياك...إياك أن تفعل ذلك....فذنوبنا أهلكتنا أو كادت فلابد من التغيير والهجرة الى الله تعالى دون مكابرة فاننا عباد الله ان جادلنا عن افسنا فى الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنا فى الأخرة من...من...قال تعالى: { هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا } 109 : النساء.
فلنجعل من رمضان بما فيه من صنوف البر الكثيرة معسكر توبة نتحول فيه من أصحاب معاصى وسيئات الى أصحاب طاعات وفعل خيرات وليس هناك من الطاعات طاعة جمعت مافى التوبة من خير وفضل من الله تعالى ولذلك أمر الله بها :-
قال تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } 8 : التحريم …
قال تعالى : { أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } 74 : المائدة....
وقال تعالى: { وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ } 3 : هود...
وقال تعالى: { وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ } 52 : هود …وقال تعالى: { وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ } 90 :هود …
وقد شدد الله تعالى على من لم يتب فقال تعالى: { وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ } 11 : الحجرات..
فيا أخى : إن أردت أن يتوب الله عليك وتنجو من حالك السئ قبل الموت فتب قال تعالى: { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } 160 : البقرة
ياأخى الكريم: ان اردت أن يحبك الله فتب قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } 222 :البقرة …
ياأخى الحبيب: ان أردت أن يغفر الله لك ويرحمك .... وانت صاحب الذنوب التى كالجبال والتى لعلها تكون سبب الهلاك والعياذ بالله....ان اردت ذلك فتب قال تعالى: { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } 89 : آل عمران...
يا أخى فى الله: ان أردت أن يأتيك الله الأجر الذى يمكن أن يكون سببا للخلاص من ورطة الذنوب فتب قال تعالى: { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } 146 : النساء...
ياأخى الحبيب: ان أردت الخير كل الخير فتب قال العلى الكبير: { فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُنْ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ } 74 : التوبة..
واعلم أخى أن الله تعالى الغنى الحميد القائل فى محكم التنزيل
{ يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } 15: فاطر … وقال تعالى: { وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ } 97 : آل عمران … وقال تعالى: { وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ } 133 : الأنعام …
وقال تعالى : { وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ } 6 : العنكبوت...
ومع هذا كله فانه جل وعلا يطلب منك الرجوع إليه تعالى , ويفتح لك بابا من أوسع الأبواب لترجع منه , وحتى لاتجد الطريق ضيقا فقد وسع الله(/5)
فى باب التوبة وجعله مفتوحا على مصرعيه للعبد طيلة حياته مالم يغرغر , أو تطلع الشمس من مغربها [ يعنى وقت الساعة ] ... وليس هذا فحسب بل ان الغنى عنك وعن العالمين سبحانه, من يفتقر له كل من فى السموات والأرض , يفرح بتوبة عبده التائب ففى الحديث الصحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم قال:" "لله أفرح بتوبة عبده المؤمن من رجل نزل في أرض فلاة دوية مهلكة، معه راحلته، عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام فاستيقظ وقد ذهبت راحلته، فطلبها حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله قال أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت، فاستيقظ فإذا راحلته عنده عليها زاده وشرابه، فالله تعالى أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته" متفق عليه من حديث ابن مسعود وأنس. زاد مسلم في حديث أنس "ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح" ورواه مسلم بهذه الزيادة من حديث النعمان بن بشير... أرأيت أخى كيف يفرح الله بتوبة العبد من أن العبد هو المحتاج والله هو الغنى , ياللعجب الفقير العاجز دائم الحاجة لا يفرح بالتوبة وهو فى أشد الحاجة اليها , كن أخى من الفرحين بالتوبة التى لعل وراءها رحمة رب العالمين سبحانه..
قال تعالى : { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } 58: يونس.....
فهذا من أول ما ينبغى أن نجعله من أعمالنا فى أستقبال شهر رمضان لنكون ممن يستقبله استقبالا حسنا .....
وثانيا :..أن تجعل من رمضان سببا لنيل الشرف وأن تكون من أهل الشرف خروجا من قهر الذل ذل المعاصى والانهزامية وهذا الشرف ليس فى عضوية مجلس الشركاء فهذا مزيد من الذلة ليس الشرف والعز فى مثل ذلك , وليس الشرف كذلك فى جمع الأموال والاستكثار من التجارات لأنه موسم ...نعم هو موسم ...ولكن للبر والحسنات لا للجنيهات والريالات...نعم هو موسم ...للبر والطاعات لا للمكاسب والتجارات.... الشرف الذى أقصده هنا هو قيام الليل ففى الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" أتاني جبريل فقال: يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس"... أخرجه الحاكم في المستدرك والبيهقي في شعب الإيمان عن سهل بن سعد البيهقي في شعب الإيمان عن جابر" وقال الألبانى رحمه الله فى صحيح الجامع .حسن برقم : 73
وفى الحديث "من قام رمضان ايمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه"......القيام وما أدراك ما القيام ذلك البر الذى لما تركه المسلمون تركوا معه سببا عظيما من أسباب عزهم فالعز طريقه فى أمرين:
الأول: الأنس بالله ليلا والترهب له , وجمع القلب عليه والانكسار ليلا فيورث ذلك الاخبات والاخلاص ,
والثانى :البذل والجهاد فى الله نهارا فى طلب العلا علما وعملا وأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر وهذا يورث الفداء والاباء , قيام الليل لا تضيعه واغتنم ما وعد الله به على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم حيث قال:" من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه".. متفق عليه..... فهذا ثانيا... ....
*وثالثا:... *ادخال السرور على أخيك :
أن دخول شهر رمضان على المسلمين هو بمثابة دخول الغوث عليهم فى دينهم ودنياهم , فأبواب الفرج تتفتح وفى الحديث "اذا كان رمضان فتحت أبواب الخير" ولم يقيد أو يستثن , وهذا معناه أن كل أبواب الخير الدنيوية والأخروية تفتح , وكلنا يشهد بذلك ويحسه , حتى أن الناس تقول { رمضان الرزق فيه واسع } , ومن هذا المنطلق لابد أن تجعل من رمضان باب خير عليك وعلى أهل بيتك , فلا مانع من التوسيع على أهل بيتك بلا تكلف واسراف , والتوسيع على أخوانك من أرحامك ومن جيرانك ومن أصحابك هو من أفضل الأعمال ...
ففى الحديث الصحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " أفضل الأعمال أن تدخل على أخيك المؤمن سرورا، أو تقضي عنه دينا، أو تطعمه خبزا "..... أخرجه ابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة وابن عدي في الكامل عن ابن عمر , وقال الألبانى فى صحيح الجامع حسن ,برقم : 1096 ، وقال أيضا :" من أفضل العمل إدخال السرور على المؤمن: تقضي عنه دينا، تقضي له حاجة، تنفس له كربة". أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن ابن المنكدر مرسلا, وفى صحيح الجامع برقم . : 5897 ,صحيح .
أرأيت أخى كيف أن ادخال السرور على أخيك من أفضل الأعمال وهذا الفضل يزداد أذا كان جارا ففى الحديث الصحيح ان النبي صلى الله عليه وسلم قال:" ليس المؤمن الذي لا يأمن جاره بوائقه "... أخرجه الطبراني في الكبير عن طلق بن علي,وفى صحيح الجامع برقم: 5380 ,صحيح.(/6)
وقال أيضا صلى الله عليه وسلم :" ليس المؤمن بالذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه ".....أخرجه البخاري في الأدب والطبراني في الكبير والحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن عن ابن عباس.,وفى صحيح الجامع برقم : 5382 ,صحيح .
فياليتنا نخرج من سوء نفوسنا ونستقبل هذا الضيف العزيز بادخال السرور على الأهل والجيران والأصحاب ونجعل من رمضان ملتقى الأحبة فى الله نطعمهم ونخفف عنهم ونشاركهم فى قضاء حوائجهم ولو بالدعاء ممن لم يجد ولنتذكر فى هذا المقام قول الهادى البشير عليه الصلاة والسلام وهو يقول :" { ترى المؤمنين: في تراحمهم، وتوادهم، وتعاطفهم، كمثل الجسد، إذا اشتكى عضواً، تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى } . البخارى ومسلم..... وبناءً على هذا فلنستقبل رمضان من منطلق تحولنا عن الاساءة لأخواننا الى التواد والتعاطف والتراحم , لنستقبل هذه الأيام الفضيلة ونحن جسد واحد , جسد الاسلام والمسلمين هذا ثالثا ...
ورابعا : ...حسن الخلق ولين الجانب والألفة :
فلنجعل من رمضان نقطة تحول من سوء الخلق والفظاظة الأحقاد والغل وسوء الطوية وسوء معاشرة الأزواج والاساءة لهن , والنشوز على الأزواج وعدم طاعتهم , والخروج من كبر النفس , والتعالى بعضنا على بعض , وتقطيع الأرحام والسعى فى الأرض فسادا , وفحش اللسان والكذب والخيانة والغيبة والنميمة...وغير ذلك..من السوء فلنتحول من ذلك كله ومن كل خلق سئ , نجعل من أيام هذا الشهر معسكرا تربويا , نقيم أنفسنا فيه على الأخلاق الحسنة وهى فرصة عظيمة لتحصيل ذلك الخير الكثير ففى الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم:" إن المؤمن ليدرك بحسن الخلق درجة القائم الصائم"...... أبو داود وابن حبان في صحيحه عن عائشة.وقال الألبانى رحمه الله فى صحيح الجامع برقم : 1932 صحيح .
وعنه أيضا صلى الله عليه وسلم:"أثقل شيء في ميزان المؤمن خلق حسن إن الله يبغض الفاحش المتفحش البذيء"......البيهقى.عن أبي الدرداء,وقال فى صحيح الجامع برقم : 135 ,صحيح .
ويكفى أن تعرف أن النبى صلى الله عليه وسلم سمى ووصف البر بأنه حسن الخلق كما فى الحديث : " البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس".أخرجه البخاري في الأدب وصحيح مسلم والترمذي عن النواس بن سمعان
* أن يأمنك الناس وتهجر المعاصى فذلك ثمرة حسن الخلق:
وفى الحديث:"المؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب". ابن ماجة عن فضالة بن عبيد,وقال الألبانى فى صحيح الجامع برقم : 6658 ,صحيح.
* واعلم أن الألفة من شيم المؤمنين :
ففى الحديث :" المؤمن يألف ويؤلف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف، وخير الناس أنفعهم للناس"....أخرجه الدارقطني في الأفراد والضياء عن جابر,وفى صحيح الجامع برقم : 6662 ,وقال حسن .
وفى الحديث أيضا : " المؤمن يألف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف".....أخرجه أحمد في مسنده عن سهل بن سعد, وفى صحيح الجامع برقم : 6661 ,وقال صحيح .
وفى الحديث : " المؤمن غر كريم، والفاجر خب لئيم".....أخرجه أبو داود والترمذي والحاكم في المستدرك عن أبي هريرة.وفى صحيح الجامع برقم : 6653 ,وقال حسن .
قال فى لسان العرب :
وفي الحديث : المؤمِنُ غِرٌّ كريم أَي ليس بذي نُكْر، فهو ينْخَدِع لانقياده ولِينِه، وهو ضد الخَبّ.
يقال: فتى غِرٌّ، وفتاة غِرٌّ، يريد أَن المؤمن المحمودَ منْ طَبْعُه الغَرارةُ وقلةُ الفطنة للشرّ وتركُ البحث عنه، وليس ذلك منه جهلاً ، ولكنه كَرَمٌ وحسن خُلُق ؛
وقال ابن الأثير فى النهاية:
والخبُّ بالفتح : الخدَّاعُ، وهو الجُزْبُرُ الذي يسعى بين الناس بالفَسَاد .
* واعلم أن الصبر على آذى الناس من الايمان لاأنه من عظيم حسن الخلق :
ففى الحديث : " المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم"...أخرجه أحمد في مسنده والبخاري في الأدب والترمذي وابن ماجة عن ابن عمر,وفى صحيح الجامع برقم : 6651 ,وقال صحيح. ...... أرأيت أخى هذا بعض ما فى حسن الخلق من فضائل وخيرات وبركات , فلما لانجبر النقص ونسد الخلل ونحصل ذلك الخير الكثير ونذوق الحُسنَ بعد السوء والحلو بعد المر والاحسان فى المعاشرة بدلا من الاساءة والتعدى , ما أحلى حسن الخلق وما أحلى مذاقه , فلنجعل من رمضان بداية عهد جديد , فلنستقبل رمضان بحسن الخلق ولين الجانب وحسن الطوية ومحاولة الاتلاف فيما بيننا عسى ربنا أن يرحمنا .........
فهذا يا أخى رابعا مما نحاول أن نجعله من مقتضيات استقبال شهر رمضان ذلك الضيف الكريم ..........
وخامسا:... المؤمن عف اللسان :(/7)
إن سوء اللسان من سوء الخلق ولكنه أخطره ولذلك ينبغى أن نعرف هذه الخطورة ونحذرها ولعل كثير الشقاق بيننا وعدم الألفة والتفرق بين أصحاب النهج الواحد بل ان من أعظم ما يخلق العداوة بين الأولياء والأرحام والأصهار حتى بين الرجل وامرأته كثير منها ان لم تكن كلها.... بسبب اللسان...نعم إن للسان خطورة شديدة ومن أعظمها خطورة بعد التكلم بالكفر والعياذ بالله ...سب المؤمن...ففى الحديث الصحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " ساب المؤمن كالمشرف على الهلكة"...... الطبراني في الكبير عن ابن عمرو,وفى صحيح الجامع برقم : 3586 ، وقال حسن .
وقال أيضا صلى الله علبه وسلم : " ليس على رجل نذر فيما لا يملك، ولعن المؤمن كقتله، ومن قتل نفسه بشيء عُذب به يوم القيامة، ومن حلف بملة سوى الإسلام كاذبا فهو كما قال، ومن قذف مؤمنا بكفر فهو كقتله".... متفق عليه
وفى الحديث :"ليس المؤمن بالطعان، ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا البذي".....
أحمد في مسنده والبخاري في الأدب وابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك عن ابن مسعود,وفى صحيح الجامع برقم : 5381 ، وقال صحيح .
وفى الحديث " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده..."
ولهذا ينبغى أن نعلم أن فرقة الصف , وتفرق الجمع , وفك حزمة المسلمين , يرجع سبب ذلك الى أمور , لعل من أعظمها التلاعن بين المسلمين , فكل جماعة تلعن أختها ولو من طرف خفى , وكل فرد يلعن من ليس فى حزبه أو جماعته فتزداد بذلك الفرقة , وتتعمق به الغربة بين المسلمين , وهذا لايُرضى الا أعداء الاسلام الذين يسعون فى المسلمين منذ أمد بعيد بمبدأ فرق تسد , وقد نجحوا فى ذلك مع الأسف , وما ذلك الا بسبب بعد المسلمين عن هدى نبيهم وشريعة ربهم , وباتوا يلهثون وراء الغرب الكافر الذى هو موطن أعدائهم , ومحل مبغضيهم وحاسديهم , باتوا يتخذونهم أولياء ويتبعونهم فى كل صغيرة وكبيرة حتى فرقوهم وجعلوهم شرازم متباغضين متناحرين , حتى قامت بين المسلمين الحروب , فبدلا من أن يتوجه المسلم بسلاحه وقوته وضربته الى أعدائه الحقيقيين من الكفار والملحدين ومن اليهود والنصارى وأشياعهم من دول الغرب الكافرة , بدلا من هذا يجعل قوته ورميته فى صدر أخيه المسلم,فانا لله وانا اليه راجعون...ولاحول ولا قوة الا بالله العلى العظيم...فلهذا أخى الكريم ينبغى أن نتفطن لما أوقعنا فيه عدونا , وقد ذقنا مرارة التفرق والتلاعن والسب والمقاتلة حتى كدنا نستنزف لصالح أعدائنا , لنتنبه الى مثل هذه الأمور العظام ونخرج أنفسنا من ورطة الغفلة التى وضعنا فيها بعدنا عن ديننا هذا واحد , وتربص ومكر أعدائنا الثانى , قد تكون هناك أسباب أخر لكن الكل يكاد يتفق على هذين السببين , وينبغى أن يكون أخوك هو أخوك يشد عضدك يحوطك من ورائك ...وهكذا , فينبغى أن يكون :
* المؤمن مرآة أخيه :
ففى الحديث : " المؤمن مرآة المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن: يكف عليه ضيعته، ويحوطه من ورائه".....أخرجه البخاري في الأدب وأبو داود عن أبي هريرة,وفى صحيح الجامع برقم : 6656 ، وقال حسن......وليس الأمر يقف عند حد النصح والتعاون على الخير , بل مجتمع المسلمين مجتمع مسئول , للمسلم على المسلم حقوق , وعليه كذلك حق......
* حق المؤمن على أخيه:
فى الحديث : " للمؤمن على المؤمن ست خصال: يعوده إذا مرض، ويشهده إذا مات، ويجيبه إذا دعاه، ويسلم عليه إذا لقيه، ويشمته إذا عطس، وينصح له إذا غاب أو شهد".... الترمذى والنسائى عن أبي هريرة.وفى صحيح الجامع برقم : 5188 ، وقال صحيح .
وفى الحديث : " المؤمن أخو المؤمن فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه ، ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يذر" ...... أخرجه مسلم ، عن عقبة بن عامر.
وفى الحديث :" الْمُؤمِنُ للْمُؤمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهَ بَعْضَاً"....أخرجه الشيخان من حديث أبي موسى .
* أرأيت أخى كيف ينبغى أن نجعل من رمضان منطلق لربط الأوصال بين جمع الجماعة الحق التى لايحب الله غيرهم ويده سبحانه فوق ايديهم , فلنجعل من استقبالنا للشهر الفضيل
مقاطعة للسب والتلاعن والتهاجر , ونجعل من دخول رمضان علينا نقطة تحول الى الوحدة والتماسك والترابط كالبنيان , ونذر كل سبب للفرقة والشرزمة ولنتخذ من عفة اللسان وحسن الكلام سبيلا الى ذلك والله المستعان وعليه التكلان ولاحول ولا قوة الا بالله العلى العظيم...... فهذا يأخى الحبيب خامسا ...
* وسادسا:.... * رحمة الصغير واحترام الكبير :
إننا نعانى من أزمة احترام وتقدير لكل صاحب شأن سواء كان كبير فى السن أو ذو مقام أو ما شابه , وكذلك يستشعر المخالط لفريق الملتزمين بنوع قسوة وشدة فى غير موضعها ,بعبارة أخرى نقص أو قل فقد رحمة وتراحم والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول :
"ليس منا من لم يجل كبيرنا , ويرحم صغيرنا , ويعرف لعالمنا حقه " ...أخرجه أحمد فى المسند والحاكم فى مستدركه , وفى صحيح الجامع برقم { 5443 } وقال حسن .(/8)
ويقول "من لايرحم لايرحم" ويقول أيضا:" الرحماء يرحمهم الرحمن".....ولهذا ينبغى أن نلوم أنفسنا بقدر كبير فى عدم نجاحنا فى مقامات الدعوة مع عامة المسلمين , ومن هم من أهل المعاصى والبدع , فهم مسئوليتنا ولعلنا نُسأل عن هذه المسئولية فى
الأخرة , فالفظاظة والغلظة وعدم الرحمة والتراحم وانعدام
العطف والاحترام فى محله وبضوابطه, هو سبب كبير ومؤثر فى دعوتنا سلبا ,وكذا فى مسالكنا وآدابنا وديننا بل والأخطر وايماننا...وتذكر قول الله تعالى :" فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ" 159 : آل عمران.... فهذا ياأخى بيان من الله تعالى يبين فيه أن من أعظم أسباب نجاح الدعوة الى الله واجتماع رباط المسلمين حول قائدهم الحق هو الرحمة والاحترام والتقدير لكل ذى منزله , واللين الباعث على الألفة والترابط ,وأن الغِلظة والفظاظة تبعث على الفرقة والعداوة والانفضاض عن من الانفضاض عنه هلاك ,فتنبه أخى لذلك ولنجعل من هذا منطلقاً لإستقبالنا لرمضان ومبعث حنو واحترام وتقدير وتراحم بيننا وبين كل من نملك أن نفعل معه ذلك ,عسى أن يكون ذلك مبتدأ خير علينا كأفراد بما ينعكس على جماعةِ ومجتمع المسلمين بالصلاح والاصلاح , فهو ولى ذلك والقادر عليه وحده جل وعلا ....هذا يأخى سادس أمر من الأمور التى ينبغى أن تكون ركائز نرتكز عليها فى استقبالنا واغتنامنا لشهر رمضان .........
*سابعا:...... **الصدقة:
اوما أدراك ما الصدقة وما أثرها فى القلوب والأبدان والأموال والأجر , وخاصة فى شهر الصدقات والجود والكرم...
والصدقة فى القرآن جاء ذكرها بما يدل على عظيم قدرها:
قال تعالى:" قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ " 263 : البقرة
وقال تعالى:" تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ " 271 : البقرة
وقال تعالى:" مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ " 261 : البقرة …
وقال تعالى:" إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ " 18 : الحديد
وقال تعالى:" وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ " 280 : البقرة
وقال تعالى:" يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ " 276 : البقرة
فهذا بعض شأن الصدقة فى القرآن والسنة بينت أن الصدقة باب عظيم لكثير من الخير فى الدنيا والأخرة :
فالصدقة من أعظم أسباب فكاك النفس من قيد الشيطان واخراجها من سلطانه وهى من أعظم ما يصد عنه الشيطان والعياذ بالله تعالى:
ففى الحديث الصحيح انه صلى الله عليه وسلم قال : " ما يخرج رجل شيئا من الصدقة حتى يفك عنها لحي سبعين شيطانا".....أخرجه أحمد في مسنده والحاكم في المستدرك عن بريدة,وفى صحيح الجامع برقم : 5814 ، وقال صحيح .
وذلك لأن الصدقة على وجهها إنما يقصد بها ابتغاء مرضاة اللّه والشياطين بصدد منع الإنسان من نيل هذه الدرجة العظمى فلا يزالون يأبون في صده عن ذلك والنفس لهم على الإنسان ظهيرة لأن المال شقيق الروح فإذا بذله في سبيل اللّه فإنما يكون برغمهم جميعاً ولهذا كان ذلك أقوى دليلاً على استقامته وصدق نيته ونصوح طويته والظاهر أن ذكر السبعين للتكثير لا للتحديد كنظائره .
والصدقة من أعظم أسباب التداوى ففى الحديث الصحيح :
أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " داووا مرضاكم بالصدقة".....أخرجه ابو الشيخ فى الثواب عن ابى امامة, وفى صحيح الجامع برقم: 3358 ، وقال حسن .
والمراد: من نحو إطعام الجائع, واصطناع المعروف لذي القلب الملهوف, وجبر القلوب المنكسرة كالمرضى من الغرباء والفقراء والأرمل والمساكين الذين لا يؤبه بهم, وكان ذوو الفهم عن اللّه إذا كان لهم حاجة يريدون سرعة حصولها كشفاء مريض يأمرون باصطناع طعام حسن بلحم كبش كامل ثم يدعون له ذويالقلوب المنكسرة ,قاصدين فداء رأس برأس,وكان بعضهم يرىأن يخرج من أعز ما يملكه فإذا مرض له من يعز عليه تصدق بأعز ما يملكه من نحو جارية أو عبد أو فرس يتصدق بثمنه على الفقراء من أهل العفاف.(/9)
قال الحليمي: فإن قيل: أليس اللّه قدر الأعمال والآجال والصحة والسقم فما فائدة التداوي بالصدقة أو غيرها ، قلنا: يجوز أن يكون عند اللّه في بعض المرضى أنه إن تداوى بدواء سلم ,وإن أهمل أمره أفسد أمره المرض فهلك .
* ثم الصدقة سهلة ميسورة والكل يمكنه التصدق مهما كان حاله فالتصدق نوعان :
الأول : صدقة الاحتساب : ويدل عليها الحديث الصحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم قال:" ما أطعمت زوجتك فهو لك صدقة وما أطعمت ولدك فهو لك صدقة وما أطعمت خادمك فهو لك صدقة وما أطعمت نفسك فهو لك صدقة"..... أخرجه أحمد فى المسند والطبرانى عن المقدام بن معد يكرب ,وفى صحيح الجامع برقم : 5535 ، وقال صحيح .
والثانى : صدقة البذل: ويدل عليها ما جاء من مثل قول النبى صلى الله عليه وسلم:" أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول"....أخرجه مسلم .
والمعنى: أي ما بقيت لك بعد إخراجها كفاية لك ولعيالك واستغناء كقوله تعالى { ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو}?.
ومن هنا نعرف أن التصدق سهل على كل واحد منا... ومن المهم أن نعرف بعض ما يعظم أجر الصدقة فمن ذلك :
ما جاء فى الحديث الصحيح : " أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تأمل الغنى وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، ألا وقد كان لفلان." متفق عليه .
وفى الحديث أيضا : "أفضل الصدقة جهد المقل، وابدأ بمن تعول"....أخرجه أبو داود والحاكم في المستدرك عن أبي هريرة,
وفى صحيح الجامع برقم : 1112 ، وقال صحيح .
وانظر معى الى ما جاء فى هذا الحديث الصحيح :" أفضل الصدقة الصدقة على ذي الرحم الكاشح."....أخرجه أحمد في مسنده والطبراني في الكبير عن أبي أيوب،وفى صحيح الجامع برقم : 1110 ، وقال صحيح.
والكاشح : العَدُوُّ الذي يُضْمِر عَداوَته ويَطْوي.
يعني: أفضل الصدقة على ذي الرحم المضمر العداوة في باطنه فالصدقة عليه أفضل منها على ذي الرحم الغير كاشح لما فيه من قهر النفس للإذعان لمعاديها وعلى ذي الرحم المصافي أفضل أجراً منها على الأجنبي لأنه أولى الناس بالمعروف.
وأحرص أخى فى أمر التصدق على ذوى الأرحام ففى الحديث الصحيح ان النبى صلى الله عليه وسلم قال : " الصدقة على المسكين صدقة، وهي على ذي الرحم اثنتان: صدقة، وصلة الرحم".....أخرجه أحمد في مسنده والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم في
المستدرك عن سلمان بن عامر,وفى صحيح الجامع برقم : 3858 ، وقال صحيح .
** والكلام على الصدقة سيل لاينقطع....فهذا ياأخى الحبيب غيض من فيض وقطرة من سيل ولعل فيه الكفاية لمن أراد الهداية .... فاحرص أيها المريد للخير أن تجعل من استقبالك لرمضان نقطة انطلاق الى رحابة البذل خروجا من قيد الشح والبخل وتذكر قول الله تعالى : {? هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } 38 :محمد ... فلعل ذلك يكون سببا فى الانتصار على هوى النفس الأمارة بالسوء واخراجها من ظلماتها , وذلك مع ورود انوار رمضان فيكون نور فوق نور , فلنستقبل رمضان بفعل الخيرات التى منها الصدقة وما أدراك ما الصدقة........... هذا ياأخى المستقبل والداخل فى رمضان سابعا...أما الثامن فهو....
*الثامن:.... المجاهدة ...مجاهدة النفس التى هى طريق الجهاد بالنفس !:
ان الذين تتوق نفوسهم للجهاد فى سبيل الله جل وعلا..ويتكلمون فى ذلك الأمر كثيرا, لعلهم لايعلمون ان فى رمضان فرصة كبيرة لتربية النفس ,واقامة معسكر لإعداد من يريد أن يكون من المجاهدين , لأن الجهاد بالنفس يبداء بجهاد النفس وتربيتها أولا...نعم بجهاد النفس أولا...
ولابد للمؤمن... الذى تتوق نفسه بصدق إلى الجهاد فى سبيل الله... لابد له من تربية النفس وتخليصها مما يهلكها, لابد أن يجعل من الدنيا سجن عما حرم الله وعما يفسد الدين وينقص الايمان ,وهى كذلك للمؤمن ولابد ففى الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر"..... أخرجه أحمد في مسنده ومسلم فى صحيحه والترمذي وابن ماجة
عن أبي هريرة........أرأيت أخى كيف هى الدنيا للمؤمن...
ولذلك فالله لايصطفى أهل المعاصى والتولى عن الحق ونصرته ,المنهزمون فى أنفسهم والذين ذلوا لشهواتهم ,الله لايتخذ ولا يأتى بهؤلاء بل يأتى بمن يجاهدون أنفسهم بتربيتها على الحق والتخلص من أسر وقيود الشهوات والأهواء, حتى تخلص لربها ثم يختارهم ويأتى بهم لشرف الجهاد بالنفس...(/10)
قال تعالى : " يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ " 54 : المائدة
ثم اذا أفلح العبد فى مجاهدة نفسه لعله يفلح باذن الله فى الجهاد سواء بالسيف أو باللسان ففى الحديث ان النبى صلى الله عليه وسلم قال:" إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه"... أخرجه أحمد في مسنده والطبراني في الكبير عن كعب بن مالك.,وفى صحيح الجامع برقم: 1934 ، وقال صحيح.
أيها الأخوة الشباب جاهدوا أنفسكم لأنفسكم أولا حتى تستمروا فى المسيرة بلا فتن أو انقطاع أو انقلاب...وهنيئا لمن شاب فى الاسلام هنيئا ..ففى الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم? قال : " الشيب نور المؤمن. لا يشيب رجل شيبة في الإسلام إلا كانت له بكل شيبة حسنة، ورفع بها درجة"..... أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمرو,وفى صحيح الجامع برقم: 3748 ، وقال حسن.
فلنجعل نحن معشر المسلمين , من رمضان وصيامه , وقيامه , والتصدق , والتلاوة القرآنية التى لاتنقطع الا لنوم أو خلاء أو طعام ,ولامانع أن تقراء الحائض والجنب مما يحفظ حتى يطهر فيقراء من المصحف , وهكذا الذكر الدائم وبذل المعروف , ,وافطار الصائمين من المال الحلال ولو تمرة ,وادخال السرور على الضعفاء والمساكين والأرامل والفقرأء وخيرهم من كان يتيما وخاصة من كان من أهل الصلاح وعمل الخير,وصلة الأرحام والاحسان الى الجيران , وحسن الخلق مع الأهل والأصحاب والعشيرة , والأزواج والذرية ,وغيرهم والعفوا فى أيام العفو ,وانظار ذوى الاعسار, واسقاط الدين عمن لايجد وانت تقدر ولو من زكاة المال, والأمر بالمعروف برفق ومعروف واصلاح ,
والنهى عن المنكر بما لايترتب عليه منكر أكبر, وكذلك ما هو أعظم من الاخلاص لله فى كل قول وعمل, والمحافظة على الصلوات فى وقتها جماعة للاستكثار من الأجر , وبر الوالدين وخفض جناح الرحمة لهم , كل ذلك يكون مع مجاهدة النفس فى ترك المنكرات سواء ما كان دائما أو عرضا ,فان من اعظم اسباب الاعانة على فعل الخيرات ترك المنكرات..,كل هذا وغيره ينبغى أن يستقبل به العبد شهر رمضان , ويغتنمه ليكون معسكر اعدادٍ للجهاد, نسأل الله أن يوفقنا لما يحب ويرضى ......هذا ياصاحبى وأخى فى الله ثامنا فى مسيرة استقبال ..واغتنام رمضان المبارك.....
*تاسعا:...الطريق القصد.... السنة علما وعملا :
قال تعالى: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 153 : الأنعام
وقال تعاللى : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ } 108 : يوسف
فهذا بيان من الله تعالى لهداية من أراد الهدى وشدد سبحانه على المُعرِض عن طريق السنة والحق بالوعيد الشديد.....
فقال تعالى: { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ } 146 : الأعراف
فاحرص أخى على طلب الهدى واتباعه فهو سبيل مرضات الله تعالى ومن كان يحب الله فليأت بالبرهان وهو اتباع الرسول وهديه ومن كان يطلب محبة الله فالطريق اليها هو اتباع الرسول وهديه :....
قال تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } 31 : آل عمران
والنبى صلى الله عليه وسلم يقول:" قد تركتكم على البيضاء: ليلها كنهارها، لا يزيع عنها بعدي إلا هالك، ومن يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وعليكم بالطاعة وإن عبدا حبشيا، فإنما المؤمن كالجمل الأنف حيثما قيد انقاد".....أخرجه أحمد في مسنده وابن ماجة والحاكم في المستدرك عن عرباض. وفى صحيح الجامع برقم : 4369 ، وقال صحيح .(/11)
فعليك أخى أن تنطلق فى رمضان..... ونفسك طيعة تلين لك فى فعل البر لينا لاتجده منها فى غير رمضان....أغتنم هذا اللين وانطلق فى معسكر البر والخير الى ما ينبغى أن تنطلق اليه وهو تربية النفس ,وهذا الأمر العظيم يبدأ من العلم والتعلم , نعم قد يكون الانسان ذو همة واخلاص ولكنه جاهل , فعندئذ قد يفسد فى دينه أكثر مما يصلح , فالطريق القصد المستقيم الذى يوصل الى الحق واقامة النفس على ما يرضى الرب ويبعث على محبته هو إتباع السنة علما وعملا....أجعل من رمضان انطلاقة علم وعمل من خلال السنة تعلمُها والعمل بها لتكون من أهل الحق , والسنة , لا من أهل الضلال والبدع,....نسأله سبحانه أن يعلمنا ما ينفعنا.....وينفعنا بما علمنا.... فى الدنيا والأخرة....أمين....أمين... هذا أخيه التاسع فى خطة اسقبال رمضان واغتنامه ........
*ثم العاشر: الفرق بين المؤمن والمنافق :
عرفنا فيما سبق ان شهر رمضان هو خير الشهور على المؤمنين , وشر الشهور على المنافقين , ومن أعظم علامات النفاق هى الانكسار أمام الفتن, كما تنكسر الأزرة أمام الريح, بينما المؤمن مثل السنبلة تميل مع الريح ثم تعود قائمة لاتنكسر, عفانا الله من النفاق وشؤمه , وجعَلنا من أهل الإيمان الصادقين المخلصين.....أمين.....أمين
ففى الحديث :" مثل المؤمن كمثل خامة الزرع: من حيث أتتها الريح كفتها، فإذا سكنت اعتدلت؛ وكذلك المؤمن. يكافأ بالبلاء. ومثل الفاجر كالأرزة: صماء معتدلة حتى يقصمها الله تعالى إذا شاء " . متفق عليه
وفى الحديث : " مثل المؤمن مثل السنبلة: تميل أحيانا، وتقوم أحيانا ".....أخرجه أبو يعلى في مسنده والضياء عن أنس ,وفى صحيح الجامع برقم : 5845 ، وقال صحيح.
وفى الحديث :" مثل المؤمن مثل السنبلة: تستقيم مرة، وتَخِر مرة. ومثلُ الكافر مثل الأرزة: لا تزال مستقيمة حتى تخر ولا تشعر".....أخرجه أحمد في مسنده والضياء عن جابر,وفى صحيح الجامع برقم : 5844 ، وقال صحيح .
ولذلك ينبغى أخى أن تجعل من رمضان وما فيه من صنائع المعروف بداية عهد جديد وباب عظيم لمراجعة النفس طلبا للخلاص من النفاق ,حتى يكون رمضان لك من خير الشهور , ولأن الفوز مع الاخلاص , والهلاك مع النفاق ,عافانا الله بفضله وجوده وكرمه..... ولابد أن تعلم أخى أمرا هام فى هذا المقام وهو أن كل ما تقدم لنفسك من خير تجده فى الأخرة لايضيع أبدا.....لايضع.... لايضيع أجر المؤمن عند الله أبدا :
قال تعالى : { وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } 20 : المزمل
وفى الحديث:" إن الله تعالى لا يظلم المؤمن حسنة: يعطى عليها في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة. وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يعطى بها خيرا"....أخرجه أحمد في مسنده وصحيح مسلم عن أنس.
والله يستر المؤمن فى الأخرة :
ففى الحديث: " إن الله تعالى يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره من الناس، ويقرره بذنوبه، فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي رب، حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك قال: فإني قد سترتُها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يُعطى كتاب حسناته بيمينه. وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد: "هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين " . متفق عليه
ولكن الفتن يرقق بعضها بعضا :
ففى الحديث : " إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدُل أمته على ما يعلمه خيراً لهم وينذرهم ما يعلمه شراً لهم وإن أمتكم هذه جُعل عافيتها في أولها وسيصيب آخرها بلاءٌ شديد وأمورٌ تنكرونها وتجئُ فتن فيرقق بعضُها بعضا وتجئ الفتنة فيقول المؤمن: هذه مُهلكتي ثم تنكشف وتجئ الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه فمن أحب منكم أن يُزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأتيه مَنيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليأت إلى الناس الذي يحب أن يُؤتَى إليه ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه ما استطاع فإن جاء آخَر ينازعه فاضربوا عنق الآخر"..... أخرجه أحمد فى المسند ومسلم والنسائى عن ابن عمرو
بل كيف أنت فى فتنة الدجال عفانا الله ووقانا شر الفتن :(/12)
ففى الحديث : " يخرج الدجال فيتوجه قِبله رجل من المؤمنين فيلقاه المشايخ مشايخ الدجال يقولون له: أين تعمد؟ فيقول أعمد إلى هذا الذي خرج فيقولون له: أو ما تؤمن بربنا فيقول: ما بربنا خفاءٌ فيقولون: اقتلوه فيقول بعضهم لبعض: أليس قد نهاكم ربكم أن تقتلوا أحداً دونه؟ فينطلقون به إلى الدجال فإذا رآه المؤمن قال: يا أيها الناس هذا الدجال الذي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأمر الدجال به فيُشَج فيقول: خذوه وشجوه فيوسع بطنه و ظهره ضربا فيقول: أما تؤمن بي؟ فيقول: أنت المسيح الكذاب فيؤمر به فيُنشر بالمنشار من مِفرقه حتى يفرق بين رجليه ثم يمشي الدجال بين القطعتين ثم يقول له: قم فيستوي قائماً ثم يقول له: أتؤمن بي؟ فيقول ما ازددتُ فيك إلا بصيرة ثم يقول: يا أيها الناس إنه لا يُفعل بعدي بأحد من الناس فيأخذه الدجال فيذبحه فيجعل ما بين رقبته إلى ترقوته نحاسا فلا يستطيع إليه سبيلا فيأخذ بيديه ورجليه فيقذف به فيحسب الناس أنما قذفه في النار وإنما ألقي في الجنة هذا أعظم الناس شهادة عند رب العالمين"..... أخرجه مسلم عن أبي سعيد .
ولذلك القوة فى الدين :
ففى الحديث : " المؤمن القوي خيرٌ وأحبُ إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كلٍ خير إحرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيءٌ فلا تقل: لو أني فعلتُ كان كذا وكذا، لكن قل: قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان "...... أحمد, مسلم ، عن أبي هريرة .
العمل للأخرة هو الهم :
ففى الأثر: " أعظم الناس هما المؤمن، يهتم بأمر دنياه وبأمر آخرته".......إبن ماجة عن أنس...ولعله لايصح مرفوعا...
ولاتتمنى الموت مهما كانت الفتنة أو المصيبة :
ففى الحديث عن أنس رضي اللّه عنه قال:
قال النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم: "لا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ المَوْتَ مِنْ ضُرّ أصَابَهُ، فإنْ كانَ لا بُدَّ فاعِلاً فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أحْيِني ما كانَتِ الحَياةُ خَيْراً لي، وَتَوَفَّنِي إذَا كَانَتِ الوَفاةُ خَيْراً لِي"...أخرجه البخاري ومسلم .
وفى الحديث : " لا يتمنين أحدكم الموت ولا يدع به من قبل أن يأتيه إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرا"......... أخرجه أحمد فى المسند ومسلم عن أبي هريرة .
وهذه الفتن البلايا وراءها مع الإيمان الأجر أو حط الخطايا وتكفير الذنوب :
فعند مسلم فى كتاب البر والصله : عن الأسود عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ما يصيب المؤمن من شوكة فما فوقها إلا رفعه الله بها درجة أو حط عنه بها خطيئة "
وفى رواية : عن عائشة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" ما من شيء يصيب المؤمن حتى الشوكة تصيبه إلا كتب الله له بها حسنة أو حطت عنه بها خطيئة"
وفى رواية:عن أبي سعيد وأبي هريرة أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمه إلا كفر به من سيئاته "
والثأر الربانى:ـ
*من آذى لى وليا :
فى الحديث :" إن الله تعالى قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، وإن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس المؤمن: يكره الموت، وأنا أكره مساءته"..... صحيح البخاري عن أبي هريرة.....
وهكذا ينبغى أن يكون رمضان وما فيه من نفحات ربانية , هو سببل الصلاح والاصلاح ,فالنفس لينه بفضل الله وبسبب الصيام , والناس بينهم شعور جماعى بأن هذه الأيام ليست كسائر الأيام ,والوقت لاينبغى أن تكون فيه برحة بغير طاعة , فالنهار صيام وذكر وتلاوة ,والليل قيام وسماع القرآن , ورؤية الناس مجتمعين على طاعة , ذلك كله يبعث على انكسار لهيب الشهوات , وميل النفس لفعل الخيرات , وتهيؤ النفوس للطاعات بما لاتكون مهيئة عليه فى غير رمضان ,هذا وغيره كثير تعد بمثابة عوامل.... بفضل الله تعالى....مساعدة على أن نجعل من شهر رمضان معسكر ايمانى كبير ...وإياك أخى الكريم أن تستقبل رمضان على حال المغبونين المفرطين المضيعين , الذين كادوا أن يهلكوا من شدة الظمأ ثم يردون الماء ويعدون أشد ظمأً ....فتلك فرصةٌ عظيمة لاتضيعها , فمن أحياه الله الى رمضان فقد من عليه منة كبيرة , تستوجب الشكر , فمن شكر نجا ومن كفر النعمة هلك......نعوذ بالله من الهلاك.
وفى الحديث : " رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي، ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة" .. أخرجه الترمذى والحاكم عن أبى هريرة, وفى صحيح الجامع برقم :3510 ، وقال صحيح(/13)
و"رغم": بكسر الغين، وتفتح و بفتح الراء قبلها: أي لصق أنفه بالتراب، وهو كناية عن حصول غاية الذل والهوان........,,,, نسأل الله العفو والعافية فى الدين والدنيا....
--------------------------------------------------------------------------------
مختصر لبعض أحكام الصيام:ـ
*الصيام:
الصيام لغة: الإمساك وفي الشرع: "إمساك مخصوص" وهو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع وغيرها مما ورد به الشرع "في النهار على الوجه المشروع" ويتبع ذاك الإمساك عن اللغو والرفث وغيرهما من الكلام المحرّم والمكروه، لورود الأحاديث بالنهي عنها في الصوم زياده على غيره، في وقت مخصوص بشروط مخصوصة.
* معرفة أنواع الصيام:
الصوم الشرعي منه واجب، ومنه مندوب إليه.
والواجب ثلاثة أقسام: منه ما يجب للزمان نفسه، وهو صوم شهر رمضان بعينه. ومنه ما يجب لعلة، وهو صيام الكفارات. ومنه ما يجب بإيجاب الإنسان ذلك على نفسه، وهو صيام النذر.
(1) صيام شهر رمضان:
هو فرض عين على كل مكلف قادر على الصوم، وقد فرض في عشر من شهر شعبان بعد الهجرة بسنة ونصف، ودليله الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقد قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتِبَ عليكم الصيام} إلى قوله: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن}
وأما السنة فمنها قوله صلى اللّه عليه وسلم: "بنى الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا اللّه، وأن محمداً رسول اللّه، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان" رواه البخاري، ومسلم عن ابن عمر، وأما الإجماع فقد اتفقت الأمة على فرضيته، ولم يخالف أحد من المسلمين، فهي معلومة من الدين بالضرورة، ومنكرها كافر، كمنكر فرضية الصلاة، والزكاة، والحج.
(2) أركان الصيام.
إن للصيام ركنين (منهم من جعلهم ثلاثة ):
أحدهما: الإمساك...وهذا متفق عليه... أجمعوا على أنه يجب على الصائم الإمساك زمان الصوم عن المطعوم والمشروب والجماع لقوله تعالى {فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر}،(وهذا بخلاف من جعل الزمن الذى هو محل الصوم ركن , فيكون الكلام على ركنين دون الزمن)
ثانيهما: النية....وهذا مختلف فيه والحق أنه ركن لأن الحديث دل عليه...،ويجب تجديدها لكل يوم صامه؛ ولا بد من تبييتها، أي وقوعها ليلاً قبل الفجر، ولو من بعد المغرب؛مع التعيين بأن يقول بقلبه لابلسانه: نويت صوم غد من رمضان، وعن حَفْصةَ أُمِّ المُؤمنين رضي الله عنها أَنَّ النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "منْ لَمْ يُبَيّت الصِّيامَ قَبْلَ الفجر فلا صيام لهُ" رواهُ الخمْسةُ , "لا صيام لمن لَم يْفَرضْه منَ الليل" , والحديث عام للفرض والنفل والقضاء والنذر.
(3) شروط الصيام.
تنقسم شروط الصيام الى: شروط وجوب، وشروط صحة،
*أما شروط وجوبه فأربعة:
أحدها البلوغ، فلا يجب الصيام على الصبي، ولكن يؤمر به لسبع سنين إن أطاقه،
ثاينها: الإسلام، فلا يجب على الكافر وجوب مطالبة،
ثالثها: العقل، فلا يجب على المجنون.
رابعها: الإطاقة حساً وشرعاً، فلا يجب على من لم يطقه لكبر أو مرض لا
يرجى برؤه لعجزه حساً، ولا على نحو حائض لعجزها شرعاً،
* وأما شروط صحته، فأربعة أيضاً:
الأول: الإسلام حال الصيام، فلا يصح من كافر أصلي، ولا مرتد كتارك الصلاة أو من يسب الله ورسوله وكتابه.
الثاني: التمييز، فلا يصح من غير مميز، فإن كان مجنوناً لا يصح صومه،
الثالث: خلو الصائم من الحيض والنفاس والولادة وقت الصوم وإن لم تر الوالدة دماً،
الرابع: أن يكون الوقت قابلاً للصوم. فلا يصح صوم يومي العيد وأيام التشريق، فإنها أوقات غير قابلة للصوم،
**المفطرون في الشرع على ثلاثة أقسام:
( أ ). صنف يجوز له الفطر والصوم بإجماع.
وهو المريض بإتفاق، والمسافر باختلاف،( فى الحديث عنْ حمزةَ بنِ عَمْرو الأسلمي رضي الله عنهُ أنّهُ قال: يا رسول الله أَجدُ بي قوَّةً على الصيام في السّفر فَهَلْ عليَّ جُناحٌ؟ فقال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "هي رُخْصةٌ من الله فمنْ أَخذ بها فحسنٌ، ومَنْ أَحَبَّ أَنْ يصوم فلا جناحَ عليه" رواهُ مُسلمٌ وأَصلهُ في الْمُتّفق عليه) , والحامل والمرضع والشيخ الكبير. (والحامل والمرضع إذا أفطرتا, يطعمان ولا قضاء عليهما، وهو مروي عن ابن عمر وابن عباس, ولعله أصح الأقوال مع الخلاف , وأما الشيخ الكبير والعجوز اللذان لا يقدران على الصيام فإنهم أجمعوا على أن لهما أن يفطرا،عليهما الإطعام مد عن كل يوم، وقيل إن حفن حفنات كما كان أنس يصنع أجزأه , ولعل هذا هو الحق مع الخلاف فى ذلك , )
(ب). وصنف يجب عليه الفطر على اختلاف في ذلك بين المسلمين....كالحائض والنفساء.وفى الحديث قال رسُول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أليسَ إذا حَاضَتِ المَرْأَةُ لم تُصَلِّ ولمْ تَصُمْ؟" مُتّفقٌ عليه، في حديثٍ طويلٍ.
(ج). وصنف لا يجوز له الفطر،وهو من كان من غير هؤلاء.(/14)
(4) ثبوت شهر رمضان.
*يثبت شهر رمضان بأحد أمرين:
الأول: رؤية هلاله إذا كانت السماء خالية مما يمنع الرؤية من غيم أو دخان أو غبار أو نحوها.
الثاني: إكمال شعبان ثلاثين يوماً إذا لم تكن السماء خالية مما ذكر لقوله صلى اللّه عليه وسلم: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم، فأكملوا عدة شعبان ثلاثين"؛ رواه البخاري عن أبي هريرة، ومعنى الحديث: أن السماء إذا كانت صحواً أمر الصوم متعلقاً برؤيته الهلال، فلا يجوز الصيام إلا إذا رئي الهلال، أما إذا كان بالسماء غيم، فإن المرجع في ذلك يكون إلى شعبان، بمعنى أن نكمله ثلاثين يوماً. بحيث لو كان ناقصاً في حسابنا نلغي ذلك النقص، وإن كان كاملاً وجب الصوم،ويجب على من رأى الهلال، وعلى من صدقه الصيام،
*إذا ثبت الهلال بقطر من الأقطار
اذا ثبت رؤية الهلال بقطر من الأقطار وجب الصوم على سائر الأقطار، لا فرق بين القريب من جهة الثبوت والبعيد إذا بلغهم من طريق موجب للصوم. ولا عبرة باختلاف مطلع الهلال مطلقاً، عند ثلاثة من الأئمة؛ وخالف الشافعية،والحق مع الجمهور.وفى الحيث أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "إذا رأيتموهُ فصُوموا وإذا رأَيتموهُ فأَفطروا، فإن غُمَّ عليكمْ فاقْدرُوا له" متّفقٌ عليه، ولمسلمٌ: "فإن أُغمَى عليكم فاقُدُرُوا له ثلاثين" وللبخاري "فأَكْملوا العِدة ثلاثين".
*هل يعتبر قول المنجم (الفلكيين)؟
لا عبرة بقول المنجمين، فلا يجب عليهم الصوم بحاسبهم، ولا على من وثق بقولهم، لأن الشارع علق الصوم على أمارة ثابتة لا تتغير أبداً، وهي رؤية الهلال أو إكمال العدة ثلاثين يوماً أما قول المنجمين فهو إن كان مبنياً على قواعد دقيقة، فإنا نراه غير منضبط، بدليل اختلاف آرائهم في أغلب الأحيان، وهذا هو رأي ثلاثة من الأئمة،
وقد قال الباجي: في الرد على من قال إنه يجوز للحاسب والمنجم وغيرهما الصوم والإفطار اعتماداً على النجوم , قال إن إجماع السلف حجة عليهم، وقال ابن بزيزة: هو مذهب باطل قد نهت الشريعة عن الخوض في علم النجوم لأنها حدس وتخمين ليس فيها قطع.
والجواب الواضح عليهم ما أخرجه البخاري عن ابن عمر أنه صلى صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "إنا أمّة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا. يعني تسعاً وعشرين مرة وثلاثين مرة. ولهُ في حديث أَبي هُريرةَ: "فأَكملوا عدة شعْبان ثلاثين". وهذه الأحاديث نصوص في أنه لا صوم ولا إفطار إلا بالرؤية للهلال أو إكمال العدة.
( 6) ما يفسد الصيام
ينقسم مفسدات الصيام إلى قسمين: قسم يوجب القضاء والكفارة، وقسم يوجب القضاء دون الكفارة،وما لايوجب شئ , وإليك بيان كل قسم:
*ما يوجب القضاء والكفارة:
مفسدات الصيام التي توجب القضاء والكفارة: أن يقضي شهوة الفرج كاملة،......فلو أفطر ناسياً أو مخطئاً تسقط عنه الكفارة , ففى الحديث عَنْ أَبي هُريرة رضي الله عنْهُ قال: جاءَ رجُلٌ إلى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فقال: هَلَكْتُ يا رسول الله قال: "وما أَهْلَكك؟" قال: وقعْتُ على امرأَتي في رمضان فقال: "هلْ تَجدُ ما تُعتقُ رقبة؟" قال: لا، قال: "فهل تَسْتَطيعُ أَن تَصومَ شهرين مُتتابعين؟" قال: لا، قال: "فهل تَجدُ ما تُطعمُ ستِّين مسْكيناً؟" قال: لا، قال: ثمَّ جلس فأَتي النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بعَرَقٍ فيه تمرٌ فقال: "تَصَدَّقْ بهذا" فقال: أَعلى أَفْقَر مِنّا؟ فما بيْنَ لابَتَيها أَهل بيت أَحْوج منّا فَضَحك النّبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم حتى بدتْ أَنيابهُ، ثم قالَ: "اذهب فأَطعمهُ أَهلك" رواهُ السبّعة واللفظ لمسْلمٍ , والحديث دليل على وجوب الكفار على من جامع في نهار رمضان عامداً، وذكر النووي أنه إجماع , وأما المرأة التي جامعها فقد استدل بهذا الحديث أنه لا يلزم إلا كفارة واحدة وأنها لا تجب على الزوجة وهو الأصح من قولي الشافعي وبه قال الأوزاعي ولعله هو الصواب , مع الخلاف فى المسألة.
*ما يوجب القضاء دون الكفارة :
أن يتناول غذاء، أو ما في معناه بدون عذر شرعي، كالأكل والشرب ونحوهما، مما يميل إليه الطبع، وتنقضي به شهوة البطن،( الفطر بعمد بغير الجماع ولو كان بنية فسخ الصوم فقط دون أكل).
*وما لا يوجب شيئاً:
أحدها: أن يغلبه القيء، ولم يبتلع منه شيئاً فهذا صومه صحيح، فعَنْ أَبي هُريرة رضي اللَّهُ عنهُ قال: قالَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "مَنْ ذَرَعَهُ القيءُ فلا قضاءَ عليه، ومن اسْتقاءَ فعليه القضاءُ" رواهُ الخمسة.
ثانيها: أن يصل غبار الطريق أو الدقيق ونحوهما إلى حلق الصائم كالذي يباشر طحن الدقيق، أو نخله، ومثلهما ما إذا دخل حلقه ذباب، بشرط أن يصل ذلك إلى حلقه قهراً عنه،(/15)
ثالثها: أن يأكل أو يشرب ناسيا فيتذكرً، فيطرح المأكول ونحوه من فيه بمجرد تذكره، فإنه لا يفسد صيامه بذلك، فعنْ أَبي هريرة رضي الله عَنْهُ قال: قالَ رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "مَنْ نسَى وهُو صَائمٌ فَأَكلَ أَوْ شرب فليتمَّ صَوْمَهُ فإنّما أَطعمهُ اللَّهُ وسقاهُ" مُتّفقٌ عليه، وفي رواية الترمذي "فإنما هو رزق ساقه الله إليه" , والحديث دليل على أن من أكل أو شرب أو جامع ناسياً لصومه فإنه لا يفطره ذلك لدلالة قوله: "فليتم صومه" على أنه صائم حقيقة وهذا قول الجمهور.
رابعها: من غلبه المني أو المذي بمجرد نظر أو فكر دون عمد فإن ذلك لا يفسد الصيام،
خامسها: أن يبتلع ريقه المتجمع في فمه، أو يبتلع ما بين أسنانه من بقايا الطعام؛
سادسها: أن يضع دهناً على جرح في بطنه متصلاً بجوفه؛ فإن ذلك لا يفطره، لأن كل ذلك لا يصل للمحل , والحقن وان كانت مغزية,والكحل , والعطر , وماشابه,
*ما يكره فعله للصائم وما لا يكره.
يكره للصائم فعل أمور:
* ذوق شيء يتحلل منه ما يصل إلى جوفه.
ولكن يجوز للمرأة أن تذوق الطعام لتتبين ملوحته إذا كان زوجها سييء الخلق، ومثلها الطاهي - الطباخ - ، وكذا يجوز لمن يشتري شيئاً يؤكل أو يشرب أن يذوقه إذا خشي أن يغبن فيه ولا يوافقه،
* ومن المكروه مضغ العلك - اللبان - الذي لا يصل منه شيء إلى الجوف ، ومنهم من لم يرى به بأس.
* مباشرة الزوجة مباشرة فاحشة.
* جمع ريقه في فمه ثم ابتلاعه، ولكن يحذر من إخراج النخامة الغليظة فى جوف الفم ثم يبتلعها,
* وأما ما لا يكره للصائم فعله فأمور:
* القبلة بغير مذى... فعَنْ عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: "كانَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يُقَبِّلُ وَهُو صائمٌ ويُباشرُ وهُوَ صائمٌ، ولكنه كانَ أَمْلَكَكُمْ لإرْبهِ" مُتّفقٌ عليه ,
* والحجامة ونحوها إذا كانت لا تضعفه عن الصوم، فعن ابنِ عَبّاسٍ رضي اللَّهُ عَنْهُما: "أَنَّ النّبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم احْتجمَ وهُوَ مُحْرمٌ واحْتَجَمَ وهُو صَائمٌ" رَوَاه البُخاريُّ ,
* و السواك في جميع النهار، بل هو سنة، ولا فرق في ذلك بين أن يكون السواك يابساً أو أخضر؛ مبلولاً بالماء أو لا،
* المضمضة والاستنشاق، ولو فعلهما لغير وضوء بشرط عدم المبالغة؛
* الاغتسال،والتبرد بالماء بلف ثوب مبلول على بدنه، ونحو ذلك , وكذلك لو أصبح جنبا من جماع قبل الفجر , يعنى أنهى الوقاع قبل آذان الفجر ثم آذن الفجر المؤذن بدخول وقت الصوم وهو جنب , ففى الحديث عَنْ عائشة وأُمِّ سلَمة رضي الله عَنْهما "أَنَّ النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كان يُصبحُ جُنُباً منْ جماع ثم يغتسل ويصُوم" مُتّفقٌ عَلَيْهِ، وقال النووي: إنه إجماع.
* حكم من فسد صومه في أداء رمضان.
من فسد صومه في أداء رمضان وجب عليه الإمساك بقية اليوم تعظيماً لحرمة الشهر، فإذا داعب شخص زوجته أو عانقها أو قبلها أو نحو ذلك فأمنى، فسد صومه، وفي هذه الحالة يجب عليه الإمساك بقية اليوم، ولا يجوز له الفطر،
الأعذار المبيحة للفطر.
* المرض وحصول المشقة الشديدة.
* خوف الحامل والمرضع الضرر من الصيام.
* الفطر بسبب السفر...خاصة المرتحل.
* صوم الحائض والنفساء.
إذا حاضت المرأة الصائمة أو نفست وجب عليها الفطر، وحرم الصيام، ولو صامت فصومها باطل، وعليها القضاء.
* حكم من حصل له جوع أو عطش شديدان.
فأما الجوع والعطش الشديدان اللذان لا يقدر معهما على الصوم، فيجوز لمن حصل له شيء من ذلك الفطر؛ وعليه القضاء.
* حكم الفطر لكبر السن.
الشيخ الهرم الفاني الذي لا يقدر على الصوم في جميع فصول السنة يفطر وتجب عن كل يوم فدية طعام.
*ما يستحب للصائم
يستحب للصائم أمورٌ منها:
* تعجيل الفطر بعد تحقق الغروب، وقبل الصلاة، فعن سهِل بنِ سَعْدٍ رضي الله عنْهُما أَنْ رسولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "لا يزالُ الناسُ بخير ما عجّلوا الْفِطْر" مُتّفَقٌ عَلَيْهِ , ويندب أن يكون على رطب، فتمر؛ فحلو، فماء، وأن يكون ما يفطر عليه من ذلك وتراً، ثلاثة، فأكثر , فعَنْ سلمان بنِ عامر الضَّبِّيِّ رضي الله عنهُ عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "إذا أَفْطَر أَحَدُكُمْ فَلْيُفطر على تمرٍ، فإن لَم يجدْ فَلْيُفطْر على ماءٍ فإِنّهُ طَهُورٌ" رواهُ الخمسة , ومنها الدعاء عقب فطره بالمأثور، كأن يقول: اللّهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت، وعليك توكلت، وبك آمنت، ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر،
* ومنها السحور على شيء وإن قل، ولو جرعة ماء؛ لقوله صلى اللّه عليه وسلم: "تسحروا، فإن في السحور بركة"، فعنْ أَنس بنِ مَالكٍ رضي الله عنْهُ قال: قال رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "تَسَحْرُوا فإن في السّحُور بركةً" مُتّفقٌ عَلَيه.(/16)
* ومنها كف اللسان عن فضول الكلام، وأما كفه عن الحرام، كالغيبة والنميمة، فواجب في كل زمان، ويتأكد في رمضان؛ "قال رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّور والعَمَلَ بهِ والجهْلَ فَلَيْسَ للَّهِ حَاجةٌ في أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشرابَهُ" رواهُ البُخاريُّ
* ومنها الإكثار من الصدقة والإحسان إلى ذوي الأرحام والفقراء والمساكين. ومنها الاشتغال بالعلم، وتلاوة القرآن والذكر، والصلاة على النبي صلى اللّه عليه وسلم كلما تيسر له ذلك ليلاً أو نهاراً؛ ومنها الاعتكاف،
*قضاء رمضان
من وجب عليه قضاء رمضان لفطر فيه عمداً أو لسبب من الأسباب السابقة فإنه يقضى بدل الأيام التي أفطرها في زمن يباح الصوم فيه ً، فلا يجزئ القضاء فيما نهى عن صومه ، كأيام العيد، ولا فيما تعين لصوم مفروض كرمضان الحاضر، وأيام النذر المعين، كأن ينذر صوم عشرة أيام من أول ذي القعدة، فلا يجزئ قضاء رمضان فيها لتعينها بالنذر، ومن مات وعليه صيام , قبل أن يقضى صام عنه وليه , فعنْ عائشة رضي اللَّهُ عنها أنَّ النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "من مات وعليه صيامٌ صامَ عَنْهُ وليّهُ" متّفقٌ عليه. والمراد في الولي: كل قريب وأولاهم الوارث , بل لو صام عنه الأجنبي بأمره أجزأ كما في الحج وإنما ذكر الولي في الحديث للغالب...............هذا والله تعالى أعلى وأعلم.....
هذا وما كان صواباً فمن الله وحده وما كان سهوا أو خطأً فمنى ومن الشيطان....والحمد لله رب العالمين...
وصلى اللهم وسلم على محمدٍ وصحبه أجمعين .....سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك...
وجمعه وكتبه الفقير الى عفو ربه تعالى…
د/ السيد العربى بن كمال
غفر الله له ولوالديه ولأهله ولإخوانه .....أمين...أمين.(/17)
بسم الله الرحمن الرحيم ، إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا أما بعد أيها الأحبة في الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته هذه ليلة الثلاثاء الموافق السادس عشر من شهر شوال للعام السادس عشر بعد الأربعمائة والألف وفي هذا الجامع المبارك في مدينة >الرس< ومع هذا الموضوع والذي هو بعنوان رمضان والرحيل المر وها هو نصف شهر أيها الأحبة يمضي بعد رحيل رمضان بعد رحيلك أيها الحبيب رمضان ويا لها من أيام مرة المذاق ليسأل كل إنسان منا نفسه كيف حالك أيتها النفس بعد رمضان أيها الإخوة والأخوات لقد تعمدت تأخير هذا الموضوع إلى هذه الأيام لنقارن بين حالنا في رمضان وحالنا بعد رمضان رغم أنه لم يمض عليه سوي أيام إيه أيتها النفس كنت قبل أيام في صلاة وقيام وتلاوة وصيام وذكر ودعاء وصدقة وإحسان وصلة للأرحام قبل أيام كنا نشعر برقة القلوب واتصالها بعلام الغيوب كانت تتلي علينا آيات القرآن فتخشع القلوب وتدمع العيون فنزداد إيمانا وخشوعا وإخباتا لله سبحانه وتعالى ، ذقنا حلاوة الإيمان وعرفنا حقيقة الصيام ذقنا لذة الدمعة ذقنا لذة الدمعة وحلاوة المناجاة في السحر كنا نصلي صلاة من جعلت قرة عينه في الصلاة وكنا نصوم صيام من ذاق حلاوته وعرف طعمه وكنا ننفق نفقة من لا يخشى الفقر كنا وكنا مما كنا نفعله في هذا الشهر المبارك العظيم الذي رحل عنا كنا ننفق نفقة من لا يخشى الفقر وهكذا نتقلب في أعمال الخير وأبوابه حتى قال قائلنا يا ليتني مُتُّ على هذه الحال لما يشعر به من حلاوة الإيمان ولذة الطاعة فتذكرت حينها [ابن مسعود] ـ رضي الله تعالى عنه ـ لما بكي في مرض موته فسئل ما الذي يبكيك فقال رضي الله عنه إنما أبكي لأنه أصابني في حال فترة أي الموت أصابني في حال فترة ولم يصبني في حال اجتهاد كما في مجمع الزوائد للهيثمي وهكذا مضت الأيام ورحل رمضان ثم ماذا ؟
رحلت يا رمضان
ولم يمض على رحيلك سوى ليالٍ وأيام ، ولربما رجع تارك الصلاة لتركه ، وآكل الربا لأكله ، وسامع الغناء لسماعه، ومشاهد الفحش لفحشه ، وشارب الدخان لشربه
رحلت يا رمضان ، ولم يمض على رحيلك سوي ليالٍ و أيام ، وأيام ولربما نسينا لذة الصيام ، فلا الست من شوال ولا الخميس و الاثنين ولا الثلاثة الأيام ، رحلت يا رمضان ولم يمض على رحيلك سوي ليال وأيام ، ولربما لم نذق فيها طعم القيام .
سبحان الله أين ذلك الخشوع وتلك الدموع في السجود والركوع أين ذلك التسبيح والاستغفار وأين تلك المناجاة لله الواحد القهار رحلت يا رمضان ولم يمض على رحيلك سوي ليالٍ وأيام ولربما هجرنا القرآن وقد كنا نقرأ بعد الفجر وبعد الظهر وبعد العصر وفي الليل والنهار وها هو نصف شهر مضى فكم قرأنا فيه من القرآن
خَلِيلَيَّ شهر الصوم ذُمَّت مطاياه
... وسارت وفود العاشقين بمسراه
فيا شهر لا تبعد لك الخير كله
... وأنت ربيع الوصن يا طيب مرعاه
نشرق بدموع الفراق أيها الأحبة فلا نستطيع أن نبث المشاعر والآلام والأحزان لما نجده من فقد لذة الطاعة وحلاوة الإيمان هكذا حال الدنيا اجتماع وافتراق ومن منا لا تؤلمه لحظات الفراق ودموع العناق ، رمضان أيها الصديق أيها الجليس الصالح وأيها الحبيب
أُحِسُّ بجرحي يا صديقي كأنه
يدب إلى أعماق قلبي ويوغل
ونفسي أمام المغريات قوية
ولكنها عند الأحبة تسهل
كأن فؤادي لو تأملت ما به
بما فيه من شَتَّى المشاعر معمل
رمضان كيف ترحل عنا وقد كنت خير جليس لنا بفضل ربنا كنت عونا لنا ونحن بين قارئ وصائم ومنفق وقائم ونحن بين بَكَّاء ودامع وداع وخاشع رمضان فيك المساجد تعمر والآيات تذكر والقلوب تجبر والذنوب تغفر كنت للمتقين روضة وأنساً وللغافلين قيدا وحبسا كيف ترحل عنا وقد ألفناك وعشقناك وأحببناك رمضان ألا تسمع لأنين العاشقين وأهات المحبين
اسمع أنين العاشقين
إن استطعت له سماعا
راح الحبيب فشيعته
مدامع انذرفت سراعا
لو كل كالجبل الأصم
فرط إلث ما استطاعا
قال [ابن رجب] في وداع رمضان واسمعوا واسمعوا لقلوب السلف رضوان الله عليهم كيف كانت تخرق لفراق هذا لشهر قال ابن رجب رحمه الله
يا شهر رمضان ترفق
دموع المحبين تدفق
قلوبهم من ألم الفراق تشقق
عسى وقفة الوداع تطفئ
من نار الشوك ما أحرق
عسى ساعة توبة وإقلاع
ترقع من الصيام ما تخرق
عسى منقطع عن ركب المقبولين يلحق
عسى أسير الأوزار يطلق
عسى من استوجب النار يعتق
عسى وعسى من قبل يوم التفرق
إلى كل ما نرجو من الخير نرتقي
فيجبر مكسور ويقبل تائب
ويعتق خطاء ويسعد من شقي
انتهي كلامه رحمه الله رحلت يا رمضان والرحيل مر على الصالحين فابكوا عليه بالأحزان وودعوه وأجروا لأجر فراقه الدموع وشيعوه
دع البكاء على الأطلال والدار(/1)
واذكر لمن بان مِن خلٍّ ومن جارِ
وذر الدموع نحيباً وابك من أسفٍ
على فراق ليالٍ ذات أنوار
على ليالٍ لشهر الصوم ما جعلت
إلا لتمحيص آثامٍ وأوزارِ
يا لائمي في البكاء زدني به كلفا
واسمع غريب أحاديث وأخبار
ما كان أحسننا والشمل مجتمع
منا المصلي ومنا القانت القاري
الناس بعد رمضان فريقان فائزون وخاسرون أيا ليت شعري من هذا الفائز منا فنهنئه ومن هذا الخاسر فنعزيه ورحيله مُرٌ على الجميع الفائزين والخاسرين الرحيل مر على الفائزين لأنهم فقدوا أيام ممتعة وليال جميلة نهارها صدقة وصيام وليلها قراءة وقيام نسيمها الذكر والدعاء وطيبها الدموع والبكاء شعروا بمرارة الفراق فأرسلوا العبرات والآهات كيف لا وهو شهر الرحمات وتكفير السيئات وإقالة العثرات كيف لا والدعاء فيه مسموع والضر مدفوع والخير مجموع كيف لا نبكي على رحيله ونحن لا نعلم أمن المقبولين نحن أم من المطرودين كيف لا نبكي على رحيله أيها الأحبة ونحن لا ندري أيعود ونحن في الوجود أم في اللحود ، الفائزون من خشية ربهم مشفقون نعم هم فائزون ولكنهم من خشية ربهم مشفقون يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة على رغم أنهم في نهاره صيام وقراءة قرآن وإطعام وإحسان وفي ليله سجود وركوع وبكاء وخشوع وفي الغروب والأسحار تسبيح وتهليل وذكر واستغفار ، الفائزون شمروا عن سواعد الجد فاجتهدوا واستغفروا وأنابوا ورجعوا ما تركوا بابا من أبواب الخير إلا ولجوا، ولكن مع ذلك كله قلوبهم وجلة خائفة وجلة خائفة بعد رمضان أقبلت أعمالهم أم لا أكانت خالصة لله أم لا أكانت على الوجه الذي ينبغي أم لا ، كان السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم يحملون هم قبول العمل أكثر من القيام بالعمل نفسه قال [عبد العزيز ابن أبي رواد] أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح فإذا فعلوا وقع عليهم الهم أيقبل منهم أم لا ، لا يغفلون عن رمضان فإذا فعلوا وانتهوا يقع عليهم الهم أيُقْبَلُ منهم أم لا وقال على ـ رضي الله تعالى عنه ـ كونوا لقبول العمل أشد اهتماما منكم بالعمل ، ألم تسمعوا لقول الحق عز وجل "إنما يتقبل الله من المتقين" وقال [مالك ابن دينار] الخوف على العمل ألا يتقبل أشد من العمل وروي عن علي ـ رضي الله تعالى عنه ـ أنه كان ينادي في آخر رمضان يا ليت شعري من هذا المقبول فنهنيه ومن هذا المحروم فنعزيه وعن [ابن مسعود] أنه قال : مَن هذا المقبول منا فنهينه ومَن هذا المحروم منا فنعزيه
أيها المقبول هنيئا لك أيها المردود جبر الله مصيبتك ليت شعري من فيه يقبل منا فَيُهَنَّى يا خيبة المردود من تولي عنه بغير قبول، أرغم الله أنفه بخزي شديد(/2)
فيا ليت شعري أيها الأحبة بعد هذه الأيام ، مَن منا أشغله هذا الهاجس وقد مضي نصف شهر على رحيل رمضان من منا أشغله هاجس هل قبلت أعماله أم لا ؟ هل نحن من الفائزين في رمضان أم لا ؟ من منا لسانه يلهج بالدعاء أن يقبل الله منه رمضان ؟ إننا نقرأ ونسمع أن سلفنا الصالح كانوا يدعون الله ستة أشهر ستة أشهر أن يقبل الله منهم رمضان ونحن لم يمض على رحيله سوى أيام فهل دعونا أم لا أم أننا نسينا رمضان وغفلنا عنه وكأننا أزحنا حملا ثقيلا كان كاتما على صدورنا ، نعم رحل رمضان لكن ماذا استفدنا من رمضان وأين أثاره على نفوسنا وعلى سلوكنا وعلى أقوالنا وأفعالنا هكذا حال الصالحين العاملين فهم في رمضان صيام وقيام وتقلب في أعمال البر والإحسان وبعد رمضان محاسبة للنفس وتقدير للربح والخسران وخوف من عدم قبول الأعمال لذا فألسنتهم تلهج بالدعاء والإلحاح بأن يقبل الله منهم رمضان ، أما المُفَرِّطون نعوذ بالله من حالهم فهم نوعان أناس قَصَّروا فلم يعملوا إلا القليل نعم صلى التراويح صلوا التراويح والقيام سراعا فهم لم يقوموا إلا القليل ولم يقرءوا من القرآن إلا القليل ولم يقدموا من الصدقات إلا القليل الصلوات المفروضة تشكو من تخريقها ونقرها والصيام يئن من تجريحه وتضييعه والقرآن يصرخ من هجره ونثره والصدقة ربما يتبعها مَنٌّ وأذى ، الألسن يابسة من ذكر الله غافلة عن الدعاء والاستغفار فهم في صراع مع الشهوات حتى في رمضان لكن فكرة الخير تجذبهم فتغلبهم تارة ويغلبونها تارات فهم يصلون التراويح لكن قلوبهم معلقة بالرياضة ومشاهدة المباريات ورمضان هذا العام يشهد بمثل ذلك سبحان الله حتى في رمضان حتى في العشر الأواخر أفضل الأيام سبحان الله كيف أصبحت الرياضة تعبد من دون الله لا حول ولا قوة إلا بالله هم يقرءون القرآن في النهار لكنهم يصارعون النوم بعد سهر الليالي والتعب والإرهاق من الدورات الرياضية والجلسات الفضائية أما الصلاة فصلاة الظهر عليه السلام وربما صلاة العصر بل وربما الفجر كل ذلك بسبب التعب والإرهاق كما يقولون فهؤلاء لم ينتبهوا إلا والحبيب يرحل عنهم فتجرعوا مرارة الرحيل بكاء وندما حزنوا ولكن بعد ماذا ؟ بعد فوات الأوان بعد أن انقضت أفضل الأيام أما النوع الثاني من المفرطين هم الخاسرون نعوذ بالله من الخسران فهناك من لم يقم رمضان ولم يقرأ القرآن وربما لم يصم في رمضان فنهاره ليل وليله ويل لا الأواخر عرفوها ولا ليلة القدر قدروها متي يصلح من لا يصلح في رمضان متي يصح من كان من داء الجهالة والغفلة مرضان متي من فرط في الزرع في وقت البدار لم يحصد غير الندم والخسار مساكين هؤلاء فاتهم رمضان وفاتهم خير رمضان فأصابهم الحرمان وحلت عليهم الخيبة والخسران قلوب خلت من التقوى فهي خراب بلقع لا صيام ينفع ولا قيام يشفع قلوب كالحجارة أو أشد قسوة حالها في رمضان كحال أهل الشقوة ،لا الشاب منهم ينتهي عن الصبوة ولا الشيخ ينذجر فيلحق بالصفوة ، أيها الخاسر رحل رمضان وهو يشهد عليك بالخسران فأصبح لك خصماً يوم القيامة رحل رمضان وهو يشهد عليك بهجر القرآن فيا ويل من جعل خصمه القرآن وشهر رمضان فيا من فرط في عمره وأضاعه كيف ترجو الشفاعة أتعتذر برحمة الله أتقول لنا إن الله غفور رحيم نعم لكن إن رحمة الله قريب من المحسنين العاملين بالأسباب الخائفين المشفقين سُئل [ابن عباس ] عن رجل يصوم النهار ويقوم الليل ولا يشهد الجمعة والجماعات فقال ـ رضي الله تعالى عنه ـ هو في النار وفي صحيح [ابن حبان] عن [أبي هريرة] ـ رضي الله تعالى عنه ـ "أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ صعد المنبر فقال آمين آمين آمين قيل يا رسول الله إنك صعدت المنبر فقلت آمين آمين آمين فقال إن جبريل أتاني فقال من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فدخل النار فأبعده الله" فأبعده الله فكم أولئك المبعدين والعياذ بالله من رحمة الله قل آمين فقلت آمين إلى آخر الحديث ، فيا أيها الخاسر نعم رحل رمضان وربما خسرت خسارة عظيمة ولكن الحمد لله فمازال الباب مفتوحا والخير مفسوحا وقبل غرغرة الروح ابك على نفسك وأكثر النوح وقل لها:
تَرَحَّلَ الشهر وا لهفاه وانصرمَ
واختص بالخوض في الجنات من خدمَ
وأصبح الغافل المسكين منكسرا
مثلي فيا ويحه يا عُظم ما حُرِم
من فاته الزرع في وقت البدار
فما تراه يحصد إلا الهم والندمَ
طوبى لمن كانت التقوى بضاعته
في شهره وبحبل الله معتصما
يا من بليت بالتفريط بصلاة الجماعة ها هو نصف شهر يمضي بعد رحيل رمضان(/3)
فما هو حالك والصلاة يا من بليت بالتفريط في صلاة الجماعة و بالإفراط في المعاصي والشهوات شهر كامل وأنت تحافظ على الصلاة مع جماعة المسلمين تركع مع الراكعين وتسجد مع الساجدين فما شعورك وأنت تري المصلين عن يمينك ويسارك إنهم بشر مثلك اسأل نفسك يحرصون على صلاة الجماعة كل الشهور وأنت لا لماذا ؟ جاهدوا أنفسهم وتغلبوا عليها وأنت لا لماذا ؟ يتقدمون وأنت تتأخر والله لا أشك أنك تحب الله كما يحبون وترغب في الجنة كما يرغبون فلماذا يتقدمون وأنت تتأخر ويواظبون وأنت تهمل ؟ حدثني عن الراحة والسعادة يوم وطئت قدماك عتبة المسجد حدثنا عن اللذة والحلاوة يوم سجدت مع الساجدين وركعت مع الراكعين تسلم عليهم ويسلمون عليك تحدثهم ويحدثوك إن الله لم يعذُر المجاهد في سبيله في ترك الجماعة وهو في ساحة الجهاد يقاتل العدو ؛فقال الله سبحانه وتعالى فليصلوا معك والنبي صلى الله عليه وسلم لم يعذُر الأعمى فبيته بعيد وبينه وبين المسجد واد فيه سباع وهوام وليس له قائد يقوده للمسجد كل هذه الظروف ولم يعذره صلى الله عليه وسلم لأنه يسمع النداء ، أجب فإني لا أجد لك عذرا أجب فإني لا أجد لك عذرا ، فيا أيها المفرط في صلاة الجماعة هل تجد لك عذرا بعد هذا هل تجد لك عذرا بعد هذا نعوذ بالله من العجز والكسل والخمول إذاً فلتكن هذه الأيام وليكن نصف الشهر هذا فرصة وانطلاقة للمحافظة على الصلاة والجماعة وكل شيء يهون إلا ترك الصلاة إلا ترك الصلاة فهو كفر وضلال كفر وضلال والعياذ بالله يا من بليت ببعض الذنوب إياك إياك بعد رمضان أن تعود ، شهر كامل وأنت تجاهد النفس وتصبرها وتجمع الحسنات وتحسبها فهل بعد هذا تراك تنقضها فالله عز وجل يقول (ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا) . فيا من أعتقه مولاه من النار إياك أن تعود إلى الأوزار أيبعدك مولاك من النار وأنت تتقرب منها وينقذك منها وأنت توقع نفسك فيها ولا تحيد عنها يا من بليت بالتدخين شهر كامل وأنت تفارقه ساعات طويلة وإذا حدثناك عن أخطاره وحكمه قلت لم أستطع تركه فمن أين لك هذه الإرادة وهذه العزيمة في رمضان وقد صبرت عنه حوالي اثنتي عشرة ساعة أو أكثر ، إذاً فاعلم أن رمضان فرصة للإقلاع عنه وفي رمضان في أخره جاءني أحد الإخوة يبشرني بتركه التدخين فقلت أخشى عليك من العودة قال لا فأنا تركته بعزيمتي وإرادتي قلت ابتعد عن أسبابه وأهله قال والله إني أري المدخن يدخن وكأني لم أر الدخان في حياتي فأنا تركته برغبتي وإرادتي إلى غير رجعة إن شاء الله قلت الحمد لله وكنت أعلم أن خلفه زوجة صالحة تذكره تارة بالكلمة الطيبة وتارة بالكتاب والشريط وتارة بتخويفه بالله فيا كل مدخن ومُبْتَلى رمضان فرصة ونصف الشهر هذا فرصة لمقارنة الحال ولكنها الهزيمة النفسية والهمة الدنية يوم يهزمك عود سيجارة قيل لبعض العباد من شر الناس قال من لا يبالي أن يراه الناس مسيئا وربما أيها المدخن أشعلت سيجارتك أمام الناس فرأوك مسيئا أيها المدخن إن إصبع السبابة الذي يشهد لله بالوحدانية في الصلاة ليرفض أن يمسك بعود سيجارة يعصي بها الله أيها المدخن أيها الحبيب هل تعلم أن التدخين مفتاح لكل شر وفجور لا تقل لا فإن من رآك تدخن تجاسر عليك في كل بلاء وفتنة وربما يدعوك اللواط والزنا والمخدرات والربا إلا من عصم الله أسأل الله أن يحفظك ويرعاك من كل سوء أيها الحبيب اسأل نفسك ما الفرق بين من في يده عود سواك ومن بيده عود هلاك أجب بكل صراحة أجب واترك الهوى واعلم أن هذه الأيام فرصة لا تعوض لترك هذا البلاء وخاصة أنك نجحت في رمضان فاستعن بالله وتوكل عليه وكن صاحب همة عالية وعزيمة صادقة أيها المسلم شهر كامل وأنت في ركوع وسجود تصلي في الليلة ساعات لا تمل ولا تكل ثم بعد رمضان تتغير أحوالنا وتنقطع صلاتنا، سبحان الله أنعجز أن نصلي ساعة أو نصف ساعة وقد كنا نصلي الثلاث والأربع ساعات في رمضان ، أيها الصالح لست غريبا عن قيام الليل فقد ذقت حلاوة الدمعة عند السَحَر في رمضان ولذة المناجاة وحلاوة السجود ورأيت كيف بنفسك استطعت أن تروض نفسك هذا الترويض العجيب في رمضان همة وعزيمة وإصرار فيا سبحان الله أين هذا في غير رمضان إنك قادر فقد حاولت ونجحت لا بل وشعرت بالأثر العجيب والأنس الغريب وأنت تناجي الحبيب، فما الذي دهاك فما الذي دهاك وأنت تُذَكِّر الغافلين بأن رب رمضان رب غيره من الشهور فلماذا تركت قيام الليل عاهد نفسك عاهد نفسك أيها الحبيب ألا تترك قيام الليل ليلة واحدة وإن حدثتك بالتعب والإرهاق فذكرها بلذة وحلاوة القيام برمضان أيها المسلم شهر كامل وأنت تقرأ وتبكر للصلاة فتقرأ قبلها وتقرأ بعدها وتحرص على ختمه مرات نعم خرج رمضان والقرآن هو القرآن والأجر هو الآجر والرب هو الرب فما الذي حدث للنفوس أيها الأحبة هجر غريب هجر عجيب لقراءة القرآن وختمه ربما قرأ الإنسان منا في يومه أكثر من خمسة أجزاء في رمضان ويجلس الساعات أفلا نستطيع أن(/4)
نجلس ثلث ساعة في اليوم الواحد لقراءة جزء واحد فنختم القرآن كل شهر مرة على الأقل إنها ثلث ساعة في غير رمضان فإذا ثقل ذلك تذكر الساعات التي تقرأها في رمضان أي شهر قد تولي يا عباد الله عنا ؟حُقَّ أن نبكي عليه بدماء لو عقلنا كيف لا نبكي لشهر مر بالغفلة عنا ثم لا نعلم أنا قد قُبِلْنا أو طُرِدنا ليت شعري من هو المحروم والمطرود منا ومن المقبول ممن صام منا فَيُهَنَّى كان هذا الشهر نوراً بيننا يزهر حسنا فاجعل اللهم لنا عقباه نورا وحسنا، اللهم آمين ، أيها المسلم شهر كامل وأنت تدعو وتلح على الله بالدعاء مرات بالسجود ومرات عند السَحَر والغروب لماذا تسأل الله رضاه والجنة .وتعوذ به من سخطه والنار فهل ضمنت الجنة بعد ؛تركت الدعاء بعد رمضان وتسأله العفو والغفران عن الذنوب والتقصير فهل ضمنت الغفران أم انتهت الغفلة والتقصير يوم تركت الدعاء بعد رمضان أيها الأحبة إن من ندعوه في رمضان هو الذي في غير رمضان وإن من نسأله في رمضان هو الذي نسأله في غير رمضان فما الذي حدث ولماذا نتوقف أو نفتر عن الدعاء نعم رمضان وقت إجابة للدعاء لكن أدبار الصلوات وعند الغروب وآخر الليل وساعة الجمعة وفي السجود وبين الأذانين كلها أوقات إجابة بل ودعاء المظلوم والمسافر والوالد لولده والأخ لأخيه بظهر الغيب كلها لا ترد بفضل الله فما الذي جرى ما الذي دهانا والمدعو هو المدعو والحاجات هي الحاجات والمسلمون بأمس الحاجة لدعواتك الصادقة التي لا تنقطع في كل مكان كيف يقطع العبد صلته بالله واستعانته بمولاه وهو يعلم أن لا حول ولا قوة له إلا بالله كيف يفتر العبد عن الدعاء وهو أكبر العبادة وربه يقول (أجيب دعوة الداعي إذا دعان) ولم يقل في رمضان فقط بل في رمضان وغيره أما الصيام أيها الأحبة الصيام وما أدراك ما الصيام العبادة التي اختصها الله لنفسه فقال "إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به" فلا يعلم جزاء الصائمين إلا الله وإن غفر لهم ما تقدم من الذنوب وإن اختصوا بالدخول للجنة من باب الريان وإن باعد الله بينهم وبين النار سبعين خليفة وإن جاء الصيام شفيعا لأصحابه يوم القيامة فإن هذه وغيرها من ثمرات الصيام أما جزاء الصائمين فلا يعلمه إلا الله لا يعلمه إلا الله قال ابن حجر المراد بقوله وأنا أجزي به أي: إني أنفرد بعلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته انتهي كلامه وقال [المناوي] وأنا أجزي به إشارة إلى عظم الجزاء عليه وكثرة الثواب لأن الكريم إذا أخبر بأنه يعطي العطاء بلا واسطة اقتضى سرعة العطاء وشرفه انتهي كلامه رحمه الله قل هذه الفضائل للصوم وهي أخروية فما بالك بثمراته وفوائده الدنيوية ومع ذلك فإن بعض الناس وخاصة من الصالحين والصالحات لا يعرف الصيام إلا في رمضان يعتذر لنفسه تارة بالعمل وتارة بالتعب وتارة بشده الحر وهكذا تمضي الأيام فإذا برمضان الآخر أتى وهكذا تذهب الأيام وتفنى الأعمار أخي الحبيب صمت شهرا كاملا متتابعا فهل تعجز عن صيام ثلاثة أيام من كل شهر أو يومي الاثنين والخميس فاتق الله وكن حازما مع نفسك عارفا حيلها إن بعض الناس كل ما هَمَّ أن يسمو إلى المعالي ختم الشيطان على قلبه عليك ليلٌ طويل فارقد وكلما سعي في إقالة عثرته والارتقاء بهمته عادلته جيوش التسويف والبطالة والتمني وزعترته ونادته نفسه الأمارة بالسوء أنت أكبر أم الواقع قال [ابن القيم] : والنفس كلما وسعت عليها ـ اسمع لهذه الكلمة الجميلة ـ والنفس كلما وسعت عليها ضيقت على القلب حتى تصير معيشته ضنكا وكلما ضيقت عليها وسعت على القلب حتى ينشرح وينفسح… انتهي كلامه رحمه الله .(/5)
ورمضان يشهد بهذا رمضان يشهد بهذا وما كنا نشعر به من رقة القلب واتصاله بالله سبحانه وتعالى أما أنت أيتها المرأة فالكلام للرجال هو لكي أيضا وإن كنت أعجب على حرصك في رمضان على التراويح وقراءة القرآن وقيام الليل أسأل الله عز وجل أن يقبل منا ومنك ولكني أقول ما بالك إذا طلبنا منك هذه الأمور في غير رمضان اعتذرتِ بالأولاد وأعمال المنزل وغيرها من الأعمال مع أن كل هذه الأعذار لم تتغير في رمضان فالأولاد هم الأولاد وأعمال المنزل هي أعمال المنزل بل ربما أكثر في رمضان فما الذي يجعلك تحرصين على القيام وقراءة القرآن والصلاة في وقتها والصيام في رمضان وينقطع كل هذا في غير رمضان وتتعذرين بكثرة الأعذار إذا طلبنا منك ذلك في غير رمضان هذا حال النساء وحال الرجال كما أسلفت في هذه الأيام القصيرة التي مضت بعد رحيل رمضان فما هو سر نشاطنا في رمضان وما هو سر فتورنا وربما انقطاعنا في غيره أيها الأحبة سألت هذا السؤال واستنطقت الأفواه لمعرفة السر قالوا رمضان له شعور غريب ولذة خاصة قلت لماذا له هذا الشعور وهذه اللذة قالوا لأن الناس من حولك كلهم صائمون وقائمون ومتصدقون وقارئون ومستغفرون قلت أحسنتم إذاً فالسر صلاح المجتمع من حولنا والمجتمع هو نحن هؤلاء الأفراد أنا وزوجتي وأولادي وأبي وأمي وإخواني وأخواتي فلماذا لا يصلح هؤلاء الأفراد ؟ لماذا لا نربي في أنفسهم استمرار الطاعة ومراقبة الله ؟ لماذا لا نربي في أنفسهم استمرار الطاعة ومراقبة الله ؟ لماذا لا نشجعهم على صيام التطوع وقيام الليل وقراءة القرآن ؟ فنصوم البيض مثلا ونجتمع على الإفطار ونوقظ بعضنا ونجتمع على القيام ولو لوقت يسير ونخصص ساعات نجلس لقراءة القرآن وهكذا في سائر الأعمال هنا ألا تستشعرون أن السنة أصبحت كلها رمضان وأن المجتمع يشجع بعضه بعضا وليس معني هذا أن نكون كما نحن في رمضان مع أننا نتمنى هذا نحن لا نقول كونوا كما كنتم في رمضان من الاجتهاد والحرص على الخيرات فالنفس لا تطيق ذلك ورمضان له فضائل وخصائص ولكنا نقول لا للانقطاع عن الأعمال الصالحة نعم لا للانقطاع عن الأعمال الصالحة فلنحرص ولو على القليل من صيام النفل ونداوم ولو على القليل من القيام ولنقرأ ولو كل يوم القليل من القرآن ولنتصدق ولو بالقليل من المال والطعام وهكذا في سائر الأعمال ولنحيي بيوتنا ونشجع أولادنا وأزواجنا وفي الحديث الصحيح المتفق عليه قال فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ "أحب الأعمال إلى الله أَدْوَمُها وإن قل" أَدْوَمُها وإن قل وقد كان عمله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ديمة كما كانت تقول [عائشة] رضي الله تعالى عنها ، فهل تعلمنا من رمضان الصبر والمصابرة على الطاعة وعن المعصية وهل عودنا أنفسنا على المجاهدة ضد الهوى والشهوات هل حصلنا التقوى التي هي ثمرة القيام الكبرى واستمرت معنا حتى بعد رمضان فإن الصلة بالله وخوف الله هي السر في حياة الصالحين والصالحات أيها المحب إياك والعُجْبَة والغرور بعد رمضان ربما حدثتك نفسك أن لديك الآن رصيدا كبيرا من الحسنات كأمثال جبال تهامة أو أن ذنوبك غفرت فرجعت كيوم ولدتك أمك فما يزال الشيطان يغريك والنفس تلهيك حتى تكثر من المعاصي والذنوب ربما تعجبك نفسك وما قدمته خلال رمضان فإياك إياك والإدلال على الله بالعمل فإن الله عز وجل يقول (ولا تمنن تستكثر) ولا تمنن تستكثر فلا تمن على الله بما قدمت وعملت فما الذي يدريك ما الذي يدريك أن أعمالك قُبِلَت وهل قدمتها كما ينبغي وهل كانت لله أم لا ألم تسمع لقول الحق عز وجل : (وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون) وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون فاحذر مفسدات الأعمال الخفية نعوذ بالله من الشقاق والنفاق والرياء ومساوئ الأخلاق أيها الإخوة والأخوات إن من خالط الإيمان بشاشة قلبه لا يمكن أن يهجر الطاعات كيف وقد ذاق حلاوتها وطعمها وشعر بأنسها ولذتها في رمضان ، إن [هرقل] لما سأل [أبا سفيان] عن المسلمين أيرجعون عن دينهم أم لا قال أبو سفيان لا ، قال هرقل وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب إن هرقل يعلم أن من ذاق حلاوة الإيمان وعرف طعمه لا يمكن أن يرجع عن دينه أبدا مهما فعل به طعم الإيمان لذة الطاعة هي السر في الاستمرار وعدم الانقطاع نعم يفتر المسلم ويتراخى ويمر به ضعف وكسل خاصة بعد عمل قام به ونَشِط وذلك مصداق حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "إن لكل عمل شرَّة والشِرَّة إلى فترة فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد ضل" والحديث أخرجه [أحمد] في مسنده وهو صحيح وإسناده صحيح وقد صححه [الألباني] كما في *** وأيضا قال [الهيثمي] عنه رواه [البزار] ورجاله رجال الصحيح وأيضا أُخْرِجَ من وجوه كما في [الترمذي] وقد قال عنه الترمذي حسنٌ صحيحٌ غريب من هذا الوجه كما في صحيح الجامع الألباني؛ إذاً فالمسلم يفتر ويضعف لكنه لا ينقطع واسمع لهذا الكلام الجميل أيضا لـ(/6)
[ابن القيم] رحمه الله قال: تَخَلَّل الفترات للسالكين أمر لابد منه ، تخلل الفترات أي الفترة والكسل للسالكين أمر لا بد منه فمن كانت فترته إلى مقاربة وتسديد ولم تخرجه من كرب ولم تدخله في محرم رجي له أن يعود خيرا مما كان رجي له أن يعود خيرا مما كان انتهي كلامه رحمه الله . فلعلنا أيها الأحبة لعلنا نقارن بين حالنا في رمضان بعد سماع هذا الكلام وبين حالنا خلال هذه الأيام لنشعر بما فقدناه من اللذة والطاعة وحلاوة الإيمان والله المستعان .
همسة لصناع الحياة يا صناع الحياة يا دعاة الهدي ويا دُلاَّل الخير رمضان كشف عن الخير في نفوس الناس مهما تلطخ بعضهم بالمعاصي والسيئات حتى الفاسق حتى الفاسق فكم من المرات رأيناه انتصر على نفسه فتخطى عتبة المسجد ليركع مع الراكعين في صلاة التراويح والقيام أي والله أي والله رأينا ممن ظاهرهم الفسق رأيناهم يركعون ويسجدون وربما تدمع عيونهم ويبكون وقد يصلون ساعات طويلة مع المسلمين في آخر الليل هذه دلالات دلالات على كثرة الخير في نفوس الناس لكن أين من يحسن فن التعامل معهم ، نعم يا شباب الصحوة نعم يا دعاة الخير نعم أيتها الفتيات كأني برمضان يصرخ هذا العام فينا فيقول إن الدعوة إلى الله فنٌ وأخلاق إن الدعوة إلى الله فن وأخلاق إن الدعوة إلى الله فن وأخلاق فيا ليت شعري من يجيد هذا الفن ومن يتمثل هذه الأخلاق فلماذا نعتذر بصدود الناس وغفلتهم لنبرر فتورنا وعجزنا وكسلنا ولكن لا أقول إلا اللهم إنا نشكو لك جَلَد الفاسق وعجز الثقة اللهم إنا نشكو جلد الفاسق وعجز الثقة فكم من الثقات فكم من الثقات استجابوا لخمولهم وكسلهم إنا لله وإنا إليه راجعون رمضان والعيد ، انتهت أيام العيد أيها الأحبة وللعيد فقه يجهله كثير من الناس حتى من الصالحين فعيد رمضان عيد الفطر يوم فرح وحزن معا يوم فرح وحزن معا ، فرح بتوفيق الله لنا بإكمال شهرنا وإتمام صيامنا وليس فرحاً بإنهاء الصيام وخروج رمضان كما يظن بعض الناس ويوم العيد يوم حزن أيضا يوم حزن على فراق رمضان وأيامه الغُرِّ ولياليه الزاهرة ولكن من يتقن فن الحزن والفرح معا فكيف كان عيدنا الذي مضي بعض الناس ربما قاده أو قادته فرحته بالعيد إلى المعصية والغفلة والبعد عن الله عز وجل فليس العيد لمن لبس الجديد إنما العيد لمن إيمانه يزيد وخاف يوم الوعيد وخاف يوم الوعيد واتقى ذا العرش المجيد وهل تعلمون أيها الأحبة أن العيد يحزن نعم يحزن العيد خاصة إذا جاء هلال العيد في مثل هذا الواقع المرير للأمة فمتي يحزن العيد يحزن العيد عندما نلبس الجديد ونأكل الثريد ونطلب المزيد ونقول لبعضنا عيد سعيد وإخوانٌ لنا عراة في الجليد ودماء وجروح وصديد طفل شريد وأب فقيد وأم تئن تحت فاجر عنيد ذي صراخ وتهديد ووعيد ونحن نقول لبعضنا عيد سعيد ولسان حالهم يقول لماذا جئت يا عيد ؟
أقبلت يا عيد والأحزان أحزان
وفي ضمير القوافي صار بركان
أقبلت يا عيد والظلماء كاشفة
عن رأسها وفؤاد البدر حيران
أقبلت يا عيد والأحزان نائمة
على فراشي وطرف الشوق سهران
من أين نفرح يا عيد الجراح وفي
قلوبنا من صنوف الهم ألوان
من أين نفرح والأحداث عاصفة
وللدُّما مقل ترنو وآذان
من أين والمسجد الأقصى محطمة
آماله وفؤاد القدس ولهان
من أين نفرح يا عيد الجراح
وفي دروبنا جدر قامت وكثبان
من أين والأمة الغراء نائمة
على سرير الهوى والليل نشوان
من أين والذل يبلي ألف منتجع
في أرض عزتنا والربح خسران
من أين نفرح والأحباب ما اقتربوا
منا ولا أصبحوا فينا كما كانوا
كيف حال إخواننا أيها الأحبة كيف حال إخواننا في هذا العيد الذي مضي يا تري ما هو شعورهم كيف كانت فرحتهم بالعيد هل كانوا يلبسون الجديد هل كانوا يجلسون مع الأباء والأمهات هل كانت الأزواج تجلس وتفرح بالهدايا من الأزواج لعلنا نكتفي لعلنا نكتفي بمشاعر هذه الطفلة المتشردة وهي تخاطب هلال العيد وتتمنى أنه لم يأتي فتقول له
غب يا هلال
إني أخاف عليك من قهر الرجال
قف من وراء الغيم
لا تنشر ضياءك فوق أعناق التلال
غب يا هلال
إني لأخشى أن يصيبك حين تَلْمَحُنا الخَبَال
أنا يا هلال
أنا طفلة عربية فارقت أسرتنا الكريمة
لي قصة دموية الأحداث باكية أليمة
أنا يا هلال
أنا من ضحايا الاحتلال
أنا من ولدت وفي فمي ثدي الهزيمة
شاهدت يوما عند منزلنا كتيبة
في يومها
كان الظلام مكدسا من حول قريتنا الحبيبة
في يومها
ساق الجنود أبي وفي عينيه أنهار حبيسة
وتجمعت تلك الذئاب الغبر في طلب الفريسة
ورأيت جندياً يحاصر جسم والدتي بنظرته المريدة
ما زلت أسمع يا هلال
ما زلت أسمع صوت أمي
وهي تستجدي العروبة
ما زلت أبصر خنص خنجرها الكريم
صانت به الشرف العظيم
مسكينة أمي فقد ماتت وما علمت بموتتها العروبة
إني لأعجب يا هلال
يترنح المذياع من طرب
وينتعش القدح وتهيج موسيقي المرح
والمطربون يرددون على مسامعنا ترانيم الفرح
وبرامج التلفاز تعرض لوحة للتهنئة(/7)
عيد سعيد يا صغار والطفل في لبنان يجهل منشأه
وبراعم الأقصى عرايا جائعون
واللاجئون يصارعون الأوبئة
غب يا هلال غب يا هلال
قالوا ستجذب نحونا العيد السعيد
عيد سعيد
والأرض مازالت مبللة الثَرَى بدم الشهيد
والحرب ملت نفسها
وتقززت ممن تبيد
عيد سعيد في قصور المترفين
عيد سعيد في قصور المترفين
عيد شقي في خيام اللاجئين
حرمت خطانا يا هلال
ومدي السعادة لم يزل عنا بعيد
غب يا هلال
لا تأت بالعيد السعيد مع الأنين
لا تأت بالعيد السعيد مع الأنين
أنا لا أريد العيد مقطوع الوتين
أتظن أن العيد في حلوي وأثواب جديدة
أتظن أن العيد تهنئة تسطر في جريدة
غب يا هلال واطلع علينا حين يبتسم الزمن
وتموت نيران الفتن
واطلع علينا حين يورق بابتسامتنا المساء
ويذوب في طرقاتنا ثلج الشتاء
اطلع علينا بالشدى بالعز بالنصر المبين
اطلع علينا بالتئام الشمل بين المسلمين
هذا هو العيد السعيد وسواه ليس لنا بعيد
غب يا هلال
حتى تري رايات أمتنا ترفرف في شمم
فهناك عيد
أي عيد
وهناك يبتسم الشقي مع السعيد
اللهم ارحم المسلمين المستضعفين في كل مكان ، اللهم كن لهم ناصرا يوم يتخلى عنهم الناصر ، وكن معينا لهم يوم تخلي عنهم المعين ، اللهم ارحم الأطفال اليتامى والنساء الثكالى وذي الشيبة الكبير .
وهذه صورة مودع أيها الأحبة وهو يودع رمضان في آخر ليلة من رمضان كأني بمودع مفجوع وهو يراقب بعينيه رحيل الحبيب وقد تلاشي خياله من بعيد يصرخ فيقول شهر رمضان وأين هو شهر رمضان
ألم يكن منذ أيام بين أيدينا ،ألم يكن مِلء أسماعنا ومِلء أبصارنا، ألم يكن هو حديث منابرنا ، ألم يكن هو زينة منائرنا ، ألم يكن هو بضاعة أسواقنا ومادة موائدنا وحياة مساجدنا ، فأين هو الآن ؟ أين هو الآن ؟ ارتحل وخَلَّفَنا كسيرة أنفسنا دامعة أعيننا ثم أخذ ينوح فيقول أي شهرنا الكريم أي شهرنا الكريم وموسم خيرنا الوسيم أي شهر المكرمات تجاهد فيك الظلمات وتضاعف فيك الحسنات وفتحت أبواب السماوات فآه ثم آه على الفراق ، أي شهرنا الذي هيم نفوسنا وخرق قلوبنا وأدمع عيوننا ثم أجهش بالبكاء وفاضت عيناه بالدموع فقلت سبحان الله لكل محب حبيب ورمضان حبيب الصالحين ، تذكرت أياما مضت وليالي خلت فجرت من ذكرهن دموع ،
ألا هل ليوم من الدهر عودة
وهل لي إلى يوم الإيثار رجوع
وهل بعد إعراض الحبيب تواصل وهل لبذور قد أفلن طلوع
أيها المسلمون بعد شهركم أكثروا من الاستغفار فإنه من الأعمال الصالحة فقد كتب [عمر بن عبد العزيز] إلى الأنصار يأمرهم بختم رمضان بالاستغفار ويروي عن [أبي هريرة] رضي الله تعالى عنه أنه قال : الغيبة تخرق الصيام والاستغفار يرقعه ومن استطاع منكم أن يجئ بصوم مرقع فليفعل أكثروا من الشكر لله فإن الله قال في آخر آية الصيام (ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون) وقال (لئن شكرتم لأزيدنكم) وقال (وسيجزى الله الشاكرين) فاشكروا الله على إتمام رمضان وعلى حسن الصلاة والقيام وعلى الصحة والعافية في الأبدان وليس الشكر باللسان أيها الأحبة وإنما هو بالأقوال والأعمال معاً فهل جزاء الإحسان
سلام من الرحمن كل أوان
على خير شهر قد مضي وزمان
سلام على شهر الصيام فإنه
أمان من الرحمن ، أي أمان
ترحلت يا شهر الصيام بصومنا
وقد كنت أنوارا بكل مكان
لئن فنيت أيامك الزهر بغتةً
فما الحزن من قلبي عليك بفان
عليك سلام الله كن شاهداً لنا
بخير رعاك الله من رمضان
رمضان كان نهارك صدقة وصياما وليلك قراءة وقياما فإليك منا تحية وسلاما أترى ستعود بعدها علينا أو يدركنا المنون فلا تؤول إلينا ، رمضان سوق قام ثم انفض ، ربح فيه من ربح وخسر فيه من خسر ، هاهو شهر رمضان رحل عنا بعد أن قضت أيامه وتسربت لياليه ولسان حال الصائم منا يقول:
فيا شهر الصيام فدتك نفسي
تمهل بالرحيل والانتقال
فما أدري إذا ما الحول وَلَّى
وعدت بقابل في خير حال
أتلقاني مع الأحياء حيا
أو أنك تلقني في اللحد بال(/8)
أيها الأحبة هذه نصائح وتوجيهات عن رحيل رمضان قصدت تأخيرها بعد رمضان بأيام لنري ونشعر بالفرق الكبير بين حالنا في رمضان وحالنا هذه الأيام على قلتها فكيف يا تري بحالنا بعد شهر وشهرين وأكثر والعاقل اللبيب من جعل عقله مدرسة لبقية الشهور رغم أنني أكرر وأؤكد أننا لا نطالب النفوس أن تكون كما هي في رمضان ولكننا نطالبها بالاستمرار والمداومة على الطاعات والواجبات وتذكر الله والخوف بالله والصلة بالله ولو كانت هذه الطاعات قليلة فقليل دائم خير من كثير منقطع ، اللهم يا حي يا قيوم اللهم يا حي يا قيوم إن كان في سابق علمك أن تجمعنا في هذا الشهر المبارك فلتجمعنا فيه يا حي يا قيوم وإن قضيت بقطع أجلنا وما يحول بيننا وبينه فأحسن الخلافة على باقينا وأوسع الرحمة على ماضينا اللهم تقبل منا رمضان اللهم تقبل منا رمضان اللهم تقبل منا رمضان واعفُ عنا ما كان فيه من تقصير وغفلة اللهم اجعلنا فيه من الفائزين اللهم ارحم ضعفنا وتقصيرنا وأعنا على ذكرك وشكرك وعلى حسن عبادتك لا حول لنا ولا قوة لنا إلا بك اللهم لا حول لنا ولا قوة لنا إلا بك فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين اللهم إنا نسألك الهدي والتقى والعفاف والغنى اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار سبحانك اللهم وبحمدك اشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك وصل الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى أله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .(/9)
رمضان وتأسيس التنوير الإسلامي ...
د. محمد عمارة ـ إسلام أون لاين ...
في القرآن الكريم، يأتي تعريف شهر رمضان بأنه (الذي أنزل فيه القرآن).. وليس بأنه "شهر الصيام".. بل إن السبب في اختيار هذا الشهر ـ وهو ليس من الأشهر الحرم ـ ليكون ميقاتا لهذا الركن من أركان الإسلام ـ فريضة الصيام ـ هو نزول القرآن الكريم فيه.. فكأنه الاحتفال الديني ـ الجماعي ـ باللحظة التي نزل فيها الروح الأمين ـ جبريل عليه السلام ـ على قلب نبي الإسلام ورسوله، صلى الله عليه وسلم، ببواكير الوحي والتنزيل (اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم).
وإذا كان الوحي إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد تمثل في "النور.. والصوت" .. "لقد رأيت نورا، وسمعت صوتا.."، فلقد كان هذا "النور" هو حامل القرآن الكريم، رسالة السماء إلى الأرض، وجماع الدين والدنيا، وديوان العقيدة والشريعة والقيم والأخلاق والأمة والدولة والحضارة، الذي أتم الله به دينه الواحد، واكتملت فيه مكارم الأخلاق.. (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون).
ولقد كان انبثاق "النور ـ الملائكي" بهذا "النور ـ القرآني" في الليلة المباركة من هذا الشهر العظيم.. ليلة القدر والشرف والعظمة.. وفي لحظة مطلع الفجر منها على وجه التحديد (حم. والكتاب المبين. إنا أنزلناه في ليلة مباركة، إنا كنا منذرين. فيها يفرق كل أمر حكيم. أمراً من عندنا إنا كنا مرسلين. رحمة من ربك، إنه هو السميع العليم) بل لقد أفرد القرآن الكريم لميقات هذا الميلاد.. ميلاد النور القرآني، في هذه الليلة من شهر رمضان، سورة تحدثت عن قدرها وشرفها وعظمتها ـ بل وحملت اسم هذا القدر وهذه العظمة ـ (إنا أنزلناه في ليلة القدر. وما أدراك ما ليلة القدر. ليلة القدر خير من ألف شهر. تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر. سلام هي حتى مطلع الفجر).
نور من الله
وإذا كان الله، سبحانه وتعالى، بنص القرآن الكريم، هو (نور السموات والأرض). وإذا كان هذا التنزيل ـ الذي بدأ نزوله في رمضان ـ هو أيضا نورًا من الله (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون) (فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا، والله بما تعملون خبير) (يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا).
إذا كان الرسول، الذي أوحي إليه هذا النور، قد غدا ـ بتلقي هذا النور ـ نورا (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا. وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا) (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير، قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين)..
إذا كان "النور" الملائكي، قد حمل "النور" القرآني، إلى الرسول، الذي غدا ـ لذلك ـ "نورا وسراجا منيرا".. فإن هذه الثمرة التي تمثلت في الوحي والنبوة والرسالة قد تجسدت في هذا الدين ـ الإسلام ـ الذي أصبح ـ كذلك.. ولذلك ـ "نورا وتنويرا".. نورا يهدي به الله من اتبع رضوانه، وتنويرا إلهيا لكل من يستنير بنوره، فيخرج من الظلمات إلى النور : (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي، فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها، والله سميع عليم. الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون. ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر، والله لا يهدي القوم الظالمين.
أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت، قال لبثت يوما أو بعض يوم، قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما، فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير. وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا، واعلم أن الله عزيز حكيم)(/1)
(أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله، أولئك في ضلال مبين)
فالله سبحانه وتعالى، الذي هو نور السموات والأرض، قد أوحى بالنور القرآني، فحمله النور الملائكي، إلى النور النبوي والرسالي، فكانت الثمرة هي النور الإسلامي، الذي يخرج المستنيرين به من الظلمات إلى النور.
والناظرون المتدبرون لهذه الآيات القرآنية ـ التي أوردناها ـ شاهدا على هذا "التنوير الإسلامي" والتي تحدثت عن "نور الإسلام" سيجدون فيها مبادئ وقواعد وسمات وقسمات لهذا التنوير الإسلامي المبثوثة ملامحه في آيات القرآن الكريم.. سيجدون في هذه الآيات:
1 - تحرير الإرادة والضمير من العبودية لكل الطواغيت، بإفراد الله، سبحانه وتعالى، بالعبودية ـ وفي ذلك قمة التحرير للإنسان.
2 - واعتبار القرآن ـ أي "النقل" ـ والدين والشرع نورا للبصر والبصيرة ـ أي "للعقل " الإنساني ـ الأمر الذي ينفي التناقض بينهما.. حتى لا يصبح غناء ولا استغناء لأحدهما عن الآخر.
3-والاستدلال والبرهنة والاعتبار على الحقائق الإيمانية والعقائد الدينية بالآيات الكونية المبثوثة في الآفاق ـ الشروق والغروب ـ وبآيات الأنفس ـ الخلق والإحياء والإماتة والبعث ـ وليس بآيات النقل والغيبيات.
4 - والحوار ـ حتى مع الله ـ وذلك طلبا لليقين الديني الذي يطمئن به وإليه القلب، وذلك بواسطة التجربة الحسية ـ كما في حوار الخليل إبراهيم، عليه السلام، مع الله.
نعم، من هذه الآيات ـ وهي مجرد شاهد ـ يمكن للمتدبر أن يستخلص هذه القواعد للتنوير الإسلامي.. المحرر للضمير والإرادة.. والمؤاخي بين العقل والنقل.. والجاعل من الآيات الكونية والتجربة الحسية الطريق إلى اليقين الديني.
ولهذه الحقيقة من حقائق امتياز وتميز "التنوير الإسلامي" بالتوازن الجامع بين أنوار الشرع وأنوار العقل ـ كانت الوسطية الإسلامية، التي رفضت ـ منذ قرون ـ غلو الإفراط، الذي وقف أهله عند ظواهر النصوص والمأثورات، متنكرين للعقل والعقلانية ـ والذين مثلوا في ثقافتنا تيار الجمود والتقليد ـ كما رفضت هذه الوسطية، كذلك، غلو التفريط، الذي توهم أصحابه تناقض المعقول مع المنقول، فانحازوا للعقل وحده دون النصوص والمأثورات.
ووجدنا حجة الإسلام الغزالي "450 ـ 505 هـ 1058 ـ 1111م" يعبر عن هذه الوسطية الإسلامية الجامعة، وهذا "التنوير الإسلامي" ـ الرافض لغلوي الإفراط والتفريط ـ والذي يجمع بين نوري الشرع والعقل، اللذين هما نور على نور: وجدنا الغزالي يعبر عن هذا "التنوير الإسلامي"، فيقول: "إن أهل السنة قد تحققوا أن لا معاندة بين الشرع المنقول والحق المعقول، وعرفوا أن من ظن وجود الجمود على التقليد، واتباع الظواهر، ما أتوا به إلا من ضعف العقول وقلة البصائر. وأن من تغلغل في تصرف العقل حتى صادموا به قواطع الشرع، ما أتوا به إلا من خبث الضمائر. فميل أولئك إلى التفريط، وميل هؤلاء إلى الإفراط، وكلاهما بعيد عن الحزم والاحتياط، فمثال العقل البصر السليم من الآفات والآذاء، ومثال القرآن: الشمس المنتشرة الضياء، فأخلق بأن يكون طالب الاهتداء المستغني إذا استغنى بأحدهما عن الآخر في غمار الأغبياء. فالمعرض عن العقل، مكتفيا بنور القرآن، مثاله: المتعرض لنور الشمس مغمضاً للأجفان، فلا فرق بينه وبين العميان. فالعقل مع الشرع نور على نور".
فبهذا "التنوير الإسلامي"، المؤمن بالعقل والنقل، والجامع بين نورهما جميعا، صنعت الأمة الإسلامية حضارتها، المتميزة بين الحضارات، التي ـ لذلك التميز ـ تدينت فيها الفلسفة، كما تفلسف الدين!.. وغدا "العقل" ـ فيها: الأفق الذي يشرق فيه "الإيمان".
خيارات النهضة
لكن أمتنا قد أتى عليها حين من الدهر، غابت عن حياتها الفكرية هذه الموازنة بين العقل والنقل، بين البرهان والشرع، بين آيات الله في كتاب الكون المنظور وآياته في كتاب الوحي المسطور، فركنت الأمة إلى ظواهر النصوص، وجمدت عند حرفية المأثورات، واسترابت في أنوار العقل العقلانية.
فلما كان وتحسست أمتنا ـ في عصرنا الحديث ـ طريقها إلى اليقظة والنهضة والإحياء والتجديد ـ وكانت قد حدثت صلات بينها وبين الحضارة الغربية الناهضة ـ وجدت نفسها أمام خيارين في النهضة، ونموذجين للتنوير:(/2)
أ ـ التنوير الغربي ـ الوضعى، وأحيانا المادي ـ الذي أقام قطيعة معرفية مع الموروث الديني، وذلك عندما أحل فلاسفته العقل والعلم والفلسفة محل الله والكنيسة واللاهوت، وأعلنوا أنه لا سلطان على العقل إلا للعقل وحده، وجاهروا بأن استخدام المصطلحات الدينية لا يعني التخلي عن هذه القطيعة المعرفية مع الدين. "فبعد أن كان المسيحي حريصا على طاعة الله وكتابه، لم يعد الإنسان يخضع إلا لعقله، فأيديولوجية التنوير قد أقامت القطيعة الابستمولوجية (المعرفية) الكبرى التي تفصل بين عصرين من الروح البشرية: عصر الخلاصة اللاهوتية للقديس توما الأكويني، وعصر الموسوعة لفلاسفة التنوير، فمنذ الآن فصاعدا راح الأمل بمملكة الله ينزاح لكي يخلي المكان لتقدم عصر العقل وهيمنته. وهكذا راح نظام النعمة الإلهية ينمحي ويتلاشى أمام نظام الطبيعة، لقد أصبح الإنسان وحده مقياسا للإنسان، وأصبح حكم الله خاضعا لحكم الوعي البشري، الذي يطلق الحكم الأخير باسم الحرية، ويمكن للمعجم اللاهوتي القديم أن يستمر، ولكنه لم يعد يوهم أحدا، فنفس الكلمات لم يعد لها نفس المعاني" (أميل بولا "نقلا عن هاشم صالح")
وجدت أمتنا ـ وهي تتحسس طريقها لليقظة والنهوض ـ نفسها أمام هذا الخيال للتنوير الغربي الوضعي، العلماني، الذي يقيم قطيعة معرفية مع الدين، ويفرغ مصطلحات المعجم الديني ـ إذا هو استخدمها ـ مما لها من مضامين!
ب ـ وبين "التنوير الإسلامي" ـ الجامع بين الشرع والعقل، بين الحكمة والشريعة، بين آيات الله المنزلة وآياته المبثوثة في الأنفس والآفاق.
لقد اختارت مدرسة الإحياء والتجديد التي تبلورت من حول موقظ الشرق وفيلسوف الإسلام جمال الدين الأفغاني "1254 ـ 1314 هـ 1838 ـ 1897م" اختارت لأمتنا هذا الطريق، طريق الاستنارة والتنوير بالإسلام، وليس بالقطيعة المعرفية مع الإسلام. فهي قد رفضت غلو الجمود والتقليد، حتى لو كان أصحابه قد امتازوا بتنقية العقيدة من البدع والإضافات والخرافات، لأنهم بمعاداة العقلانية الإسلامية لم يتجاوزوا مواقع التقليد، الذي جنى على حضارتنا العربية الإسلامية "فهذا الدين يطالب المتدينين أن يأخذوا بالبرهان في أصول دينهم، وكلما خاطب خاطب العقل، وكلما حاكم حاكم إلى العقل، تنطق نصوصه بأن السعادة من نتائج العقل والبصيرة، وأن الشقاء والضلالة من لواحق الغفلة وإهمال العقل وانطفاء نور البصيرة، فالعقل مشرق الإيمان، ومن تحول عنه فقد دابر الإيمان".
وفي نفس الوقت، رفضت هذه المدرسة الإحيائية التجديدية عقلانية التنوير الغربي، تلك التي تأسست على النزعة الوضعية والمادية، فوجهت شديد النقد لفلاسفة التنوير الغربي ـ من مثل فولتير "1964 ـ 1778م" وروسو "1712 ـ 1778م" ـ وقالت عن هذا التنوير: إنه قد بعث مذهب اللذة، والدهرية وبعبارة الأفغاني: فلقد ظهر فولتير وروسو، يزعمان حماية العدل ومغالبة الظلم، والقيام بإنارة الأفكار وهداية العقول، فنبشا قبر "أبيقور" الكلبي "341 ـ 270 ق.م" وأحييا ما يلي من عظام الدهريين، ونبذا كل تكليف ديني، وغرسا بذور الإباحية والإاشراك، وزعما أن الآداب الإلهية جعليات خرافية، كما زعما أن الأديان مخترعات أحدثها نقص العقل الإنساني، وجهر كلاهما بإنكار الألوهية، ورفع كل عقيرته بالتشنيع على الأنبياء، فأخذت هذه الأباطيل من نفوس الفرنساويين، فنبذوا الديانة العيسوية، وفتحوا على أنفسهم أبواب الشريعة المقدسة ـ في زعمهم ـ شريعة الطبيعة، ولقد بذل نابليون الأول جهده في إعادة الديانة المسيحية إلى ذلك الشعب، استدراكا لشأنه، لكنه لم يستطع محو آثار تلك الأضاليل".
ذلك هو رأي مدرسة التجديد الإسلامي في فلاسفة الأنوار الغربيين وفي تنويرهم المادي العلماني. ثم هي قد وجهت شديد النقد للمقلدين ـ من مثقفينا ـ لهذا التنوير الغربي، فالمقلدون لتمدن الأمم</S< td> ...(/3)
رمضان وتوحيده الأمة ثقافيًا واجتماعيًا
بدران الحسن 1/9/1424
26/10/2003
كل عام يهل علينا رمضان، ونعبر عن فرحتنا به، ونظهر الغبطة والحفاوة بهذا الزائر الكريم. وفي كل عام نحيي شعيرة الصوم ونعظمها أيما إكبار؛ ينم عن أن في أنفس المسلمين بقية من "تقوى القلوب" ما دام الناس يعظمون شعائر الله تعالى.
في رمضان تتجلى رحمة الله على عباده؛ فترى الناس وقد أقبلوا على إحياء لياليه بالصلاة وقراءة القرآن والذكر، كما أنهم يصومون أيامه استجابة لنداء الله تعالى، وتلبية لدعوته التي دعاهم فيها بقوله: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن. هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان. فمن شهد منكم الشهر فليصمه)(1) ، واتباعًا لقول الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشراب فشفعني فيه، ويقول القرآن منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيشفعان"(2) .
وحديثنا في هذا المقام ليس عن أهمية الصوم، ولا عن أحكامه، ولا عن فضل الصائم القائم عند الله تعالى، وإنما أردنا أن نتوجه إلى جانبين مهمين من جوانب حياتنا؛ لرمضان عليهما تأثير كبير. إنهما: الجانب الثقافي، والجانب الاجتماعي في حياتنا. وكيف يتأثران بهذا الشهر الكريم. وبعبارة أخرى فإن لرمضان قيمه الثقافية والاجتماعية التي يربينا عليها، وبالتالي يصبغ الأمة كلها بها.
القيم الثقافية لرمضان المبارك
تتجلى الوحدة الثقافية للأمة في هذا الشهر المبارك بصفة خاصة؛ ففيه تتحد الأفكار، وتتجه الأنظار إلى القرآن بشكل ملفت للنظر، بل حتى ذلك المسلم الذي لا يكاد يلمس المصحف طوال السنة، يلين جانبه، ويرق قلبه، حينما يرى مظاهر قراءة القرآن منتشرة في كل زاوية من زوايا المساجد والمصليات والبيوت، بل وحتى محطات الإذاعة والتلفزيون على قلة ما تقدمه!.
وفي هذا الشهر الكريم تتلو ملايين من المسلمين القرآن كما لم تتله في بقية أيام السنة، وتمتلئ المساجد بالمصلين على غير عادتها في الأيام الأخرى، وتتحد مواقيت الوجبات، بل وتتقارب نوعيات الأطباق في مختلف أقطار الإسلام، برغم بعد المسافات واختلاف الأجناس، وتباين الأعراف، وتغاير العادات.
إن هذا الشهر الكريم يصبغ المجتمعات الإسلامية بصبغة إسلامية، ويكون موسمًا تعظم فيه شعيرة من أكبر شعائر الإسلام، وقاعدة من قواعده الخمس. وفي هذا الشهر، لا تجد طوائف كثيرة من أبناء المسلمين ممن انساحوا خلف الأفكار البدعية والشركية والمنحرفة إلا الانضواء في الثقافة العامة للمجتمع، والتي هي ثقافة رمضان، ذلك الشهر الذي يطغى ببركته على كل التعبيرات النشاز التي تعودناها في بقية السنة.
بل إنه رغم اختلاف أفراد الأمة في المشارب اللغوية والفكرية والعرقية والقومية وغيرها؛ فإن لرمضان سمته الخاص حتى على طريقة الأكل، وطريقة الكلام، وطريقة الصلاة، بل وطريقة تلاوة القرآن. ذلك أن رمضان يوحد أنماط الأكل وطرائقه في كل أقطار العالم الإسلامي، حيث تختفي الفردانية والعزلة، وتأتي المائدة المشتركة التي تجمع أفراد الأسرة الواحدة في جلسة مشتركة تحفهم سكينة رمضان سواء في ذلك أكانت المائدة تحوي أكلاً شهيًا متنوعًا أم تحوي أكلاً متواضعًا قليلاً، لكن طريقة التناول وأوقاتها واحدة.
أما طريقة الكلام؛ فإن رمضان يمنح الصائم سمتًا من الهيبة وقلة الكلام والتزام الذكر، وتلك لعمري فائدة كبيرة تنسجم مع أهداف هذا الشهر الكريم في تربيتنا على ثقافة العمل وقلة الكلام. إن رمضان يعلم الناس الإنجاز العملي والإعراض عن الخوض في ما لا ينفع من القول. أو بتعبير مالك بن نبي - رحمه الله- إن رمضان يعلمنا "المنطق العملي"، فنتحول من القول وفق ما يقول القرآن إلى العمل بما يقول.
أما طريقة الصلاة؛ فإن رمضان يضفي على الصلاة نكهة خاصة، إذ تقل فيه صلاة الفذ، وتكثر فيه صلاة الجماعة، ويحرص فيه الناس على صلاة الصبح بعد أن نسوا أداءها في وقتها طيلة العام، كما أن النوافل تلقى حظها من العناية، وتقام الليالي ويحي الناس ليالي رمضان بالتراويح وقيام الليل. وبالرغم من أن كثيرا من أبناء المسلمين يحيون ليالي رمضان في لعبة الورق وغيرها من الملهيات، غير أن هناك – بلا شك- الكثير من أبناء المسلمين أيضا من يجددون صلتهم بالمسجد، وبالجماعة، وبقيام الليل، وبإحياء النوافل.
أما القرآن؛ فإنه ينال الحظ الأوفر من العناية، ومن خلال علاقاتي مع الناس رأيت أن منهم من لا يقرأ القرآن أبدا خلال العام كله، غير أنه يجدد صلته بكتاب الله تعالى في هذا الشهر الكريم، بل ومنهم من لا يفك صلته بالقرآن بعد نهاية رمضان، ويستمر في صلته تلك، بعد أن أشرب قلبه حب القرآن وتلاوته في رمضان.(/1)
أما من جهة الآداب؛ فإن الثقافة الشرعية تجد لها طريقا إلى سلوك الناس خاصتهم وعامتهم، فتجد المسلم الصائم يجتنب جميع ما حرم الله عليه من الأقوال والأفعال, فيحفظ لسانه عن الكذب والغيبة والنميمة والسب والشتم وفحش القول, ويحفظ بصره عن النظر إلى المحرمات, ويحفظ أذنه عن الاستماع للحرام, ويحفظ بطنه عن كل مكسب خبيث محرم. وبذلك فإن رمضان يفرض نمط سلوكه على الناس، في طرائق اللباس والأكل والكلام كما قلنا، حفاظًا من الصائم على عدم انتهاك حرمة رمضان، وحرصًا أيضا على عدم ذهاب صومه، استجابة لقوله صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" ، وقوله عليه الصلاة والسلام: "الصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب, فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم" (3). وبذلك فإن جوارح المسلم وعقله وروحه تتحد في وجهتها إلى الله تعالى من خلال التزام المسلم الصائم بمراقبة ظاهره وباطنه وعيًا منه وخوفًا من أن يكون ممن قال فيهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: "رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش"(4) .
هذه بعض القيم الثقافية التوحيدية التي يغرسها رمضان في نفوس أفراد الأمة، ذلك أنه يوحد طرائق التعبير والأداء والأكل، ويوحد الآداب، ويعلي من شأن القيم ويعطيها صبغتها العاملة في النفوس أفرادًا ومجموعاً، بحيث إنك لو ذهبت إلى الجزائر أو الكويت أو السعودية أو حللت بماليزيا أو إندونيسيا، أو زرت تركيا أو باكستان أو نيجيريا، أو صمت رمضان في غامبيا أو مالي أو موريتانيا أو اليمن، فإنك تلاحظ وحدة التعابير الثقافية التي يتحلى بها الناس في هذا الشهر الكريم في أي بقعة تعيش فيها جماعة من المسلمين.
ولهذا نقول: إن وحدة الأمة قد لا تظهر على مستواها السياسي أو الاقتصادي أو غيرها من المستويات، ولكن شعائر الله وأيامه تظهرها بجلاء ووضوح في قيمها الثقافية، أي في طرق تعبيراتها الفكرية والعلمية والسلوكية والعملية، أو بتعبير ابن نبي؛ في ثقافتها.
الوحدة الاجتماعية للأمة في رمضان
وفي رمضان أيضًا تتجلى تلك الوحدة الاجتماعية بين المسلمين، إذ ينمو الشعور بالوحدة والتكافل بين المسلمين. فالمسلم الصائم يتبادل العواطف والمشاعر نفسها مع الناس من حوله حينما يراهم صيامًا كلهم؛ بل إنه يشعر بالصلة والرابط المتين مع البقية من جيرانه وأصحابه وإخوانه وأصدقائه وأهله وبمن يحيط به. إذ الكل صائم, والكل يمتنع عن ملذات الدنيا المباحة استجابة لدعوة الرحمن.
إن الغني والفقير، والرئيس والمرؤوس، والمرأة والرجل، والعربي والأعجمي، والشيخ والشاب يمسكون ويفطرون دون تفاضل أو تمايز إلا بعذر شرعي. فلا استثناء ولا خروج عن نهج هذه الشعيرة بناء على جاه أو مركز أو مال أو صلة قربى أو حمية. وهنا تظهر القيمة التوحيدية لهذه الشعيرة، إذ يستوي في الالتزام بها الناس جميعًا، ويدرك الفقير والغني أنهما من طينة واحدة؛ بل ويدرك الغني ما يعانيه الفقراء من همّ الجوع طوال أيام السنة عندما يجرب جوع "أيام معدودات"، وتتجلى معايير الإسلام في التفاضل بين الناس، ليس على أساس طبقي أو عرقي أو جنسي، بل على أساس التقوى والعمل الصالح، على أساس ما يبذله كل فرد سرًا وعلانية من اجتهاد في العبادة، ويصير بذلك ميزان التفاوت في المجتمع وعند الله هو (إن أكرمهم عند الله أتقاهم) ، و (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) . إنها وحدة اجتماعية في ظل العبودية لله تعالى.
ومن جهة أخرى؛ فإن هذا الشهر الكريم يقلل الفجوة بين فقراء الأمة وأغنيائها وذلك من وجهين: الأول: أن كثيرًا الأغنياء ممن تعود على حياة الدعة والغنى والعيش الرغيد تحصل لهم مشقة بامتناعهم عن الطعام والشراب في نهار رمضان، وهذا يوصلهم إلى إدراك نعمة الله تعالى عليهم بالغنى والتنعم بخيرات الله تعالى طوال السنة، كما أن منهم من يدرك ما يعانيه البائس والمعتر والفقير والمسكين من الناس، ويدرك أغنياء الأمة ما فيه فقراؤها من هم وغم، فيجددوا صلتهم بأمتهم، ويعطوا من فضل الله عليهم إلى فقراء الناس. والواقع يشهد أن في رمضان تزداد صدقات الأغنياء وتبرعاتهم وعطاياهم. وهذا من مقاصد هذا الشهر الكريم الذي يجعل هؤلاء الأغنياء يدركون ما يعانيه إخوانهم ممن أصابتهم الفاقة والفقر. وبهذا تتجلى أهمية هذا الشهر الكريم في إحلال قيم الوحدة الاجتماعية بين أبناء الأمة.(/2)
والثاني: أن الفقراء الذين لا يجدون حاجتهم طوال السنة يفتح الله عليهم ببركات هذا الشهر الكريم من الخيرات ما يجعلهم أقل بؤسًا وأكثر راحة، بل ومن الفقراء من يغنيه الله في هذا الشهر الكريم، ومنهم كثيرون يدركون أن قيمة هذه الأمة في وحدة أبنائها وتعاون فقيرهم مع غنيهم. ويدرك الفقراء أن الأغنياء إخوانهم فلا يحقدون عليهم بما فضل الله بعضهم على بعض، كما قال تعالى: (وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ) (5).
في هذا الشهر الكريم تتجلى قيم التكافل والتراحم والصلة بين المسلمين في أبهى صورها. وهذا ما نفهمه من قوله صلى الله عليه وسلم: "لو علمت أمتي ما في رمضان لتمنت أن تكون السنة كلها رمضان" أو كما قال عليه الصلاة والسلام. ذلك أن هذا الشهر الكريم يقرّب المسافات بين طوائف الأمة وجماعاتها، ويوحد بينها من خلال تلك العبادات التي يؤديها المسلمون فرادى وجماعات. فتعلو قيمة الجماعة، ويصير إحياء الشعائر سنة ظاهرة تحيى بعد أن كادت تموت، ويتكافل الناس عندما يجتمعون، ويحس بعضهم ببعض ويدرك هذا ما يعانيه الآخرون.
فما أعظمك يا رمضان!.. وما أكثر بركتك!.. وما أحلى صيام أيامك وقيام لياليك!.. فإنك شهر كريم، فيك تجتمع أمة محمد فتتحد قيمها الثقافية من خلال اللهج بالقرآن بشكل ليس في غيره من الشهور، ويتكافل فيه الناس بوجه لا يكون في غيره من أيام الله، وهو بهذا يوحد من قيمها الاجتماعية؛ وأولها مفهوم الجماعة ومفهوم التكافل والرحمة. والله أعلم.
(1)البقرة، 158.
(2)رواه أحمد.
(3) متفق عليه.
(4)رواه أحمد وابن ماجه.
(5) النحل، 71.(/3)
رمضان وفرصة إحياء الروح
عادل الإقليعي/ إسلام أون لاين
رمضان ضيف عزيز، وهو شهر الغفران والرحمة، وشهر القرآن، وشهر فيه ليلة خير من ألف شهر، فحري بالمؤمنين أن يستقبلوه بما يليق به كمبعوث إلهي اختص رب العالمين بالجزاء عليه "الصوم لي وأنا أجزي به". ولما يحل بالعباد بهذا الشهر من أسباب الفلاح في الدنيا والآخرة لقوله صلى الله عليه وسلم: "لو يعلم العباد ما رمضان، لتمنت أمتي أن تكون السنة كلها رمضان" وقوله صلى الله عليه وسلم: "أتاكم شهر رمضان شهر مبارك فرض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم".
شهر هذه نفحاته حري بنا أن نستغل أيامه أحسن استغلال، وإذا علمنا أن من أعمال شعب الإيمان ما يلزم المؤمن مرة في العمر كالحج، ومنها ما يلزم مرة في السنة كصوم رمضان، ومنها ما هو موقوت مضبوط كالصلاة والزكاة، ومنها ما يسنح في أوانه وبمناسبته كعيادة المريض وتشييع الجنازة، ومنها ما هو فرصة دائمة كإماطة الأذى عن الطريق، ومنها ما هو صفة نفسية مصاحبة كالحياء، ومنها ما ينبغي أن يصبح عادة راسخة كقول لا إله إلا الله؛ فإن المؤمن يجب أن تكون في حياته اليومية في هذا الشهر المبارك معالم لتكون قدمه راسخة في زمن العبادة والجهاد لا في زمن العادة واللهو.
هناك أوقات المهنة والأسرة والمدرسة والشغل، فيجب ألا يمنع توقيت زمن الوظائف الدنيوية عن إقامة الصلاة في وقتها بأي ثمن، وعن الصلاة في الجماعة والمسجد ما أمكن. فإن لم تكن جماعة ومسجدا فواجب المجاهد أن يؤلف حوله المصلين في معمله وإدارته ومدرسته ويتخذوا لهم مسجدا وأذانا وإماما ودقائق وعظ ودعوة:
1 -يبدأ المؤمن يومه قبل الفجر بساعة أو سويعة إن تكاسل فيصلي الوتر، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ينزل ربنا عز وجل كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له" رواه الجماعة. ثم يتناول سحوره ففيه بركة، ويعقد نيته ويخلص لله تعالى صيام نهاره، ثم يجلس للاستغفار ليكون من المستغفرين بالأسحار.
2 - الجلسة بعد صلاة الصبح إلى الشروق سنة، فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى صلاة الغداة في جماعة ثم جلس يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم قام فركع ركعتين انقلب بأجر حجة وعمرة". فذاك زمن مبارك يحافظ عليه المؤمن ما أمكن، بتلاوة جزء في اليوم بين صباح ومساء، وذكر وتعلم وحفظ.
3 - صلاة الضحى صلاة الأوابين، ويبتدئ وقتها من ارتفاع الشمس قدر رمح إلى زوالها، فقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل قباء وهم يصلون الضحى فقال: "صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال من الضحى"-رواه مسلم-. وأقلها ركعتان وأكثرها ثماني ركعات.
4 -السنن الرواتب؛ والمؤكد منها عشر ركعات، ركعتان قبل الصبح وهي التي تسمى رغيبة الفجر وهي أقوى الرواتب تأكيدا، وركعتان قبل الظهر وركعتان بعده، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وأما غير هذا فهو سنة مستحبة.
5 –كثير من الناس ينقطع عن القرآن ويهجر كتاب مولاه، فإذا كان رمضان مناسبة لاسترجاع التعود على تلاوة القرآن بحكم أن الحسنة في غير رمضان بعشر أمثالها وأن الحرف من القرآن بعشر حسنات فيكون في رمضان بمائة حسنة، فعلى المؤمن أن يجلس جلستين صباحا ومساء لقراءة ورده من القرآن في المصحف، فعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه"-مسلم-.
6 -ثلاث جلسات من ربع ساعة على الأقل لذكر لا إله إلا الله مع حضور القلب مع الله عز وجل، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي"-البخاري ومسلم-.
7- الإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وتخصيص ليلة الجمعة ويومها للصلاة عليه، فعن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم وفيه قبض وفيه النفخة وفيه الصعقة فأكثروا عليّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليّ" رواه الخمسة إلا الترمذي.(/1)
8- احرص في نهار صيامك على حفظ اللسان والجوارح عن الرفث والفسوق والجدال والفضول لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك، وللصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه"-البخاري ومسلم-
9- الإكثار من الدعاء عند الإفطار: "ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله" "اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت"؛ فالصائم له عند فطره دعوة لا ترد فليحرص على ذلك.
10- الحرص على صلاة التراويح، فهي سنة للرجال والنساء تؤدي بعد صلاة العشاء وقبل الوتر ركعتين ركعتين فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمر فيه بعزيمة فيقول: "من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه"-رواه الجماعة.
11- قبل النوم توجه لله عز وجل، وحاسب نفسك، وجدد التوبة، ونم على ذكر الله وعلى أفضل العزائم، ليكون آخر عهدك باليقظة مناجاة ربك أن يفتح لك أبواب الجهاد والوصول إليه.
12- إن كنت طالبا فابذل الوقت الكافي والجهد الكافي للمذاكرة. فأول واجباتك بعد الصلاة والصيام والتلاوة والذكر تحصيل الحد الأدنى من علوم الدين، ثم تبذل جهدك للنجاح في دراستك. فذلك جهاد مرحلتك.
13- ساعة لأسرتك الإيمانية أو لزيارة دعوة ودراسة فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "لأن يهدي الله على يديك رجل واحد خير لك مما طلعت عليه الشمس" أو كما قال.
14- سويعة تلزم نفسك فيها إلزاما على التفقه في الدين بالرجوع إلى كتب الفقه، لمعرفة ما يجب عليك في حق رمضان ظاهرا وباطنا؛ لأنه الشرط الأول في كل حكم تكليفي، ثم سعيا لإتقان شروط الطهارة والصلاة وسائر العبادات، فإن الله عز وجل لا يقبل العمل المخلص حتى يكون صوابا. والصواب ما وافق السنة.
15- وليكن وقتك بمثابة ميزانية تنفق منها، فكن بوقتك شحيحا أن تصرفه في الغفلة وتضيعه فيما لا يعني، واعلم أن الوقت الذي تندم عليه هو وقت لم تذكر فيه الله تعالى باللسان والقلب والجهاد لنصرة دينه. اقتصد في وقت نفسك ولا تضيع وقت إخوانك بالزيارات الطويلة وبقلة ضبط المواعيد.(/2)
رمضان ومكاتب المحاماة د. عبد الرحمن صالح العشماوي*
لرمضان الكريم قضية مزمنة مع البشر في هذا العصر، قضية تتجدد كل عام، تعكر عليه صفاءه، وتشوب بشائبة الأذى نقاءه، وتؤلم قلبه الطاهر النقي الذي لا يحمل إلا الحبَّ والخير للناس أجمعين.
إنَّ قضيَّة رمضان بحاجة إلى مكاتب محاماة ذات قدرة فائقة على إثبات حقِّ ضيف كريم مظلوم يعاني من حقِّه المهضوم، ومن حسرات قلبه المكلوم.. كيف؟
مقدمة القضية
أولاً: قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} .
ثانياً: روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الصيام جُنَّة، فلا يرفُثْ ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم (مرتين). والذي نفسي بيده لَخَلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك، يترك طعامَه وشرابه وشهوته من أجلي. الصيام لي، وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها).
في الآية الكريمة نرى كلمة { تَتَّقُونَ } تبرز أمامنا مطلباً مهماً من مطالب الصيام في شهر رمضان المبارك. والتَّقوى كلمة ذات معانٍ مضيئة تدل جميعها على العمل الصالح، والإخلاص لله، والبُعد عن الرذائل، ومراقبة الله تعالى فيما نقول وما نفعل؛ حتى نكون بمنجاةٍ عن عذابه، حيث تقينا الأعمال الصالحات من غضب الله سبحانه وتعالى.
وفي الحديث الشريف كلمات وجمل تدلُّ على ما دلَّت عليه الآية الكريمة، وتصبُّ في مَصَبِّ كلمة {تَتَّقُونَ}{الصيام جُنَّة}، والجُنَّةُ هي الستار الواقي، ومنه سُمِّي ما يستتر به المقاتل من ضربات السيوف (المجنّ). ومعنى الصيام جُنَّة: أنه يقي صاحبه من الوقوع في الأعمال السيئة والرذائل التي تجعله مكشوفاً أمام غضب الله وعذابه، فالصيام الصحيح يقي صاحبه من ذلك، وهذا هو معنى {تَتَّقُونَ}الواردة في الآية الكريمة، بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال بعدها: (فلا يرفث ولا يجهل). والرَّفَثُ والجهل لفظان يدلاَّن على كل معنى خبيث وكل عمل منهي عنه، فالصيام يحول بين صاحبه وبين ذلك، بل إنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم يزيد الأمر تأكيداً بتوجيه (الصائم) في رمضان إلى ما هو أعظم، ألا وهو عدم مجاراة المسيء إلينا في إساءته؛ لأن الصيام وقاية من وقوعنا فيما وقع فيه المسيء من الإساءة، أليس الصوم (جُنَّةً) كما ورد في الحديث؟ أليس الصوم سبباً من أسباب التقوى {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} كما جاء في الآية القرآنية الكريمة؟
القضيَّة
بصفتي أحد المسلمين الذين يستقبلون رمضان الكريم فرحين بموسمه العظيم، فقد رأيتُ في لوحة خيالي صورة (رمضان) وقد بدت على وجهه الطيِّب المبارك مسحة من الحزن، بل غمرته غمامةٌ من الأسى.. لماذا؟
كنتُ أستعرض ما أعدَّتْ أجهزة التلفاز والقنوات الفضائية من موادِّها الإعلامية المنوَّعة الخاصة برمضان، فرأيتُ خيراً قليلاً وشراً كثيراً، ورأيت هدف التسلية الممزوجة بالرذيلة بأشكالها ومستوياتها المختلفة العميقة وغير العميقة يكاد يكون هدفاً أسمى لتلك الوسائل الإعلامية، ورأيت في كثير من برامج رمضان تكريساً لتبرُّج النساء و(عُريهنَّ بحسب مستوياته أيضاً)، واستخداماً صاخباً لأصناف من الإيقاعات الموسيقية الراقصة، وجنوحاً إلى ميوعة النساء والرجال الذين يقدِّمون بعض المسابقات الرمضانية المستخدمة لأرقام الاتصال التي رأينا فتاوى واضحة لعلماء من المملكة ومصر والشام والمغرب تنصُّ على حرمتها معلِّلين ذلك بأنها من ألعاب (القمار) المحرَّمة شرعاً.
رأيتُ صوراً متعدِّدة في وسائل الإعلام العربي تنقض بكل جرأة معنى قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الصِّيام جُنَّة). ونظراً إلى ما يحدث من ذلك كله من الأذية الواضحة لضيفنا العزيز الكريم الغالي، ومن الإخلال بمعاني الصوم الروحية، ومن إبعاد كثير من عامة المسلمين الذين ينساقون وراء ما يشاهدون ويسمعون عن معاني (التقوى) التي يحقِّقها الصيام الصحيح، ونظراً إلى ما يحدث من إصرار القائمين على برامج رمضان الإعلامية في عالمنا الإسلامي على الاستمرار في إيذاء مشاعر ضيفنا الكريم (رمضان) وإيذاء مشاعرنا، ومن إصرارهم على (تغريب) رمضان عن جانبه الروحي السامي، فإنني بصفتي أحد المسلمين المستقبلين لضيفهم الكريم أرفع هذه الدَّعْوى إلى (.....).
عُذراً أيها الأحبة، صدِّقوني لا أعرف إلى مَن أرفعها، هل أرفعها إلى جامعة الدول العربية؟ أم إلى منظمة المؤتمر الإسلامي؟ أم إلى مجمع الفقه الإسلامي؟ أم إلى مجلس التعاون الخليجي؟ أم إلى رابطة العالم الإسلامي؟ أم إلى هيئة الأمم المتحدة؟ أم إلى محكمة (العدل؟) الدولية؟
وا أسفاه، هل ستضيع القضية؟!(/1)
هنا تبرز أهمية مكاتب المحاماة ذات الشعور بالمسؤولية، لعلَّها تتبنى هذه القضية الخطيرة التي يعاني منها أعظم ضيفٍ يزورنا كلَّ عام.
إشارة
أُمَّتي لا تنكري، إني أرى
بين عينيكِ الخطوط المُبكيَهْ(/2)
روائع زوجة الأحلام في عصر غربة الإسلام
د.إسلام بن صبحي المازني
Doctor_thinker@hotmail.com
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الأعز الأكرم
والصلاة والسلام على النبي الخاتم
خاتمة مبكرة :
تعليقات الأصحاب على مواصفات الزوجة المثالية للداعية !
1- ابحث عنها فى القبور... قبور نساء السلف .
2- أين هذا !!!
أحبابي الكرام
هذه رسالة هامة عاجلة للمؤمنين والمؤمنات جميعا ، تتحدث عن حال المرأة التى يحلم بها رجل الدعوة المتزوج قبل الأعزب !
كي لا يصير الحال كمن قال :
لله سلمى حبها ناصب ***
وأنا لا زوج ولا خاطب !
ليست من الإنس وإن قلتها ***
جنية قيل الفتى كاذب !
هذه هى علامات صدق المرأة فى أحوالها وأفكارها ... وهذه المرأة مطلوبة فورا لكل داعية مجاهد !
* أختى ..
أصلحى قلبك واستعيدي عقلك وانهضي من نومك .. وأفيقى من غفلتك كي تصلح الدنيا كلها ، فلا صلاح بدونك ... صدقينى
أخى ..
هل تبحث عن حفيدة صادقة للسيدة خديجة رضى الله عنها، بلباس العصر الحديث حيث أصالة الفكر وعمق الماضى وعبق التاريخ مع عبقرية استيعاب الواقع ..
لست وحدك من يبحث ...
* هذه هى المرأة التى يبحث عنها عقلاء العالم ، أليسوا أهل :
( فاظفر بذات الدين ) !
وإن أحسن ما يبغيه ذو وطر ***
حليلة ذات أخلاق تناسبه
بها يعيش على صفو بلا كدر ***
والسعد من وجهها تجلى كواكبه
أختى المسلمة .. كفانا فشلا
كفانا ضعفا ...
كفانا عجزا ..
كفانا بعدا واستهتارا ...
.. تحملى مسئوليتك قبل أن يغضب الله عليك .. كفانا لامبالاة ..
وأنت أيها الرجل :
إياك والحمقى لا تسلك لها طرقا ***
فالشر كل الشر في الحمقاء !
لا تلبثن يوما بغير حليلة ***
إن العزوبة حرفة الغوغاء
أحبابي :
نحن أمة فى متاهة .
متاهة صنعناها ....
باسمها و معناها ....
ثم بكينا عقباها ....
فمثلا ...
بكينا بغداد مرتين
فقد سقطت من جديد
انهار بها القاع
إلى قاع أسفل
و بكينا قدسا
و بكينا أندلسا
و بكينا
و بكينا
و نبكي
و سنبكي
حتى يتغمدنا الله برحمته
و يعيننا على شح أنفسنا
و حين نتقدم لنكون مستحقين لنصره سبحانه
(( ولينصرن الله من ينصره ))
و ها نحن نريد القلة التي تنصح لوجهه سبحانه
قبل أن يموت الحس و الضمير تماما
فلننصح و نصرخ
لبث الروح من جديد
فلا زال هناك نبض خفيض
يروى بدفقاته الحبوب
لعلها تثمر يوما
و يكون لنا نصيب
بورك فيكن
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الخالق البارئ المصور .. والصلاة والسلام على رسول الله محمد بن عبد الله حبيبنا وقدوتنا ورحمة الله لنا
قال ربنا سبحانه وتعالى :
{وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى }النجم45
فقدرنا في هذه الحياة أن نكون شركاء مترابطين ، ومن ثم كان من واجبات العبد أن يختار شريكا صالحا وإلا أتعبه الشريك وخسرت الشركة !
{وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ }الزخرف39
أخي الحبيب
هل تعبت كمن قال
لك أشكو من زوجة صيرتنى غائبا بين سائر الحضار !
وكثير منىّ على شيب رأسى حفظ هذه الأشياء مثل الصغار !
أو يئست كمن قال
إني أردت زوجة بمثلها لا iiأظفر
لا أبتغي مغرورة بنفسها iiتفتخر
لا أبتغي ثرثارة بكل شئ iiتجهر
وعن صفاء قلبها عيونها iiتعبر ...
... لأجل هذا لا أزال عازبا iiأنتظر
لا أبتغي سلابة تنهب ما iiأدخر
إني أرجو امرأة ذات صفات تشكر
أظنني على التى طلبتها لا iiأعثر
لا لليأس ....
ولن ننشد الكمال ، لكنا سنصفه ، علنا نجد أقرب مثال !
{ يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إ
ِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } سورة يوسف ..عليه
الصلاة والسلام
هذه هى المواصفات ...
* أين الزوجة الأخت الحبيبة الصديقة الحليلة فى آن واحد ؟
فهي التي
* التى لم يطغها غناها !
فهي لم تنشأ على اللامبالاة أو على عدم تحمل المسؤولية ، أو على الحياة السهلة المريحة المفسدة للعزم والهمة والجدية .. أو على العيشة المترفة المؤثرة فى نظرة الإنسان للحياة وللنعم حوله ورضاه بما قل أو كثر ...؟
{إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ }الواقعة45
فليست ممن قيل فيهم :
لا يشعرون بما في دينهم نقصوا جهلا وإن نقصت دنياهم شعروا !
* أين التى تتحلى بالصبر الجميل والذكاء المتوقد والشفافية العاطفية ، فهى رومانسية فى الحلال
حبيبة لم تخضع لقول ولا ترى ***
محاسنها يوما فيطمع طامع
وجال عليها درعها فتسترت به ***
واحتوى ما تحتويه المدارع
* أين التى لم تلوثها السموم العلمانية من أمثال قولهم ( أين قوة الشخصية.... وأين المرأة المتساوية مع الرجل)
{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ }البقرة17(/1)
فهي تعلم أن لكل خلقة مميزة وقسما مقسوما من الرسالة في الحياة ، وأنهما شركاء وليسا أعداء ، وأن دعوة التساوي بينهما خلط للأوراق
إذا كان ترك الدين يعنى تقدماً فيا نفس موتى قبل أن تتقدمي
* أين التي لم يجعلها التعليم والاحتكاك متكبرة أو مغرورة أو عالية الصوت أو صعبة الإنقياد ..
فهي هينة لينة سهلة قريبة دينة ، تطيع بعلها بلا جدال ، ما لم يكن في غير حلال .
وإن رأت رأيا واتسع المقام للتوضيح فلا حرج إن طلبت التوضيح ، لكنها - أبدا - لا تشغب ولا تقول فى كلامها ما يحكى مما يستحى ذكره ..
{وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ }الحج24
* أين التى ترضى بالدين من بعلها ، وتعلم أن حبه لها بعد ذلك والمودة بينهما والتفاهم والتلاقى العقلى والروحى هى أثمن ما فى الوجود بعد الدين ...
سُئل سعيد بن المسيب رحمه الله عن قوله صلى الله عليه وسلم :
((خير النساء أيسرهن مهورا))
فقيل له : كيف تكون حسناء ورخيصة المهر ؟ فقال : يا هذا ، انظر كيف قلت أهم يساومون في بهيمة لا تعقل أم هي بضاعة طمع صاحبها يغلب على مطامع الناس !
ثم قرأ :
( هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها )
... إنها صلة إنسانية ، وليس متاعا يطلب مبتاعا ....
ويبقى الود هو العنوان ....
وضمير الزوج يترنم عن الحبيبة القريبة
رأيتُ بها بدراً على الأرضِ ماشيا
ولم أر بدراً قط يمشي على الأرضِ
* أين التى تعلم أن الإسلام ليس بالوراثة بل يكتسب بالاستقامة على أمر الله تعالى ...... وتطبق ذلك على نفسها قبل الآخرين.
فهي تعرض عن الباطل لأنها تعلم أن الجنة غالية !
تركت نحوهم والله يعصمني
من التّقحّم في تلك الجراثيم
* أين التى تعرف الفكر الإسلامى الصحيح وتعرف المعوج وتعرف المضاد للإسلام ، وتستوعب ثقافة الآخر لترد عليه ( بمنطق الحق لا بمنطقه ، لكن عن وعى بما يفهمه وما يهدمه ).
فهي تدرك مقولة شيخ الإسلام في تفسيره لسورة النور
العلم ما قام عليه الدليل ، والنافع ما جاء به الرسول !
صلى الله عليه وسلم
* أين التى تطمح لدور مع كل من تطالها عيناها أو قلمها ، ولا يسكتها إن سكتت إلا أمر الله تعالى بحسب الحال والمقام .. فهى نشطة .. لكنها تكف يديها إن كان الأمر يرجى له ذلك ..
فتبحث عن أقارب زوجها ومعارفه لتكون لهم كما كانت الصالحات من نساء سلفنا لأهليهن علما وبرا ورحمة ومعونة وإفادة وجلب منفعة أو دفع مضرة ..
فكل الوقت والجهد والحب والألم للإسلام بحسب الحال ..
فهي تقبل أن تهدى ما عليها وما لها لغيرها ، وإن جلست حتى بلا أقراص الشعير ولا أثاث ، كما فعلت الزهراء صلوات الله عليها ..
فاطم الزهراء أمي ، وأبي ***
قاصم الكفر ببدر وحنين
* أين التى فى كل يوم ترقى بنفسها درجة ، فتطلب المزيد من العلم والخير .. من الحفظ والفهم والبذل ..
* أين التي تبكي مع القرءان ودرر السنة ، وتلين مع ذكر الله تعالى وتحلق مع سير السلف ، فالتبتل والإخبات والتضرع أركان شغلها .....
{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً }الأحزاب35
فحالها :
ما لي سوى قَرعي لبابك حيلة
فَلئن رددت فأي باب أقرع ؟
فهي لا تعانى كما يعانى البعض من جهل شديد بعد سنوات في الإسلام ....
ليس فقط جهلا بالشريعة بل بالغاية والطريق العملى !
فالجهل بالمطلوب وجدولته خلل ...
وتوفر البيئة المناسبة للعلم مع عدم استغلاها خيبة عظيمة
ويجب على العاقل تقدير النعمة قبل أن تزول !
فلربما فقد الصحة التي تعينه على القراءة ولربما فقد الفراغ أو فقد المكتبة القيمة أو المعلم الناصح الشفوق !
وهى لا تركن لدمعة الليل فقط أوتغتر بحالها ، بل تعلم أنه يجب تفقد القلب واختباره ومعالجته والبحث عن سبل تصفيته .
* أين التى تقدر حياة المسلم العامل لدينه وما تمر به زوجته كثيرة الأضياف .. المضحية بنصيبها منه فى أوقات كثيرة .. فلا تطالبه عنتا بالعدل فى مقام يقتضى الفضل (وأحضرت الأنفس الشح) وتعلم أنه إن تحرك أو سكن أو غاب أو حضر فلله ورسوله.. فلتكن القائلة (إذن لا يضيعنا )
وهي تعينه على الوفاء بالتزاماته وتقلل الضغوط من حوله قدر الإمكان ، بل وتمتص المشكلات البسيطة ( مع الجيران أو في الحياة اليومية ) وتبعدها عنه ولا تستهلك وقته وجهده قدر الإمكان ، بل هي جزء من عمله ، تراها شريكة ومديرة أعمال وموظفة ومساعدة له في الكبير والصغير ...من حمل الأعباء الثقال إلى نسخ الأوراق وتنظيم الأبحاث والمؤشرات ..
فتحيى بذلك ذكرى العبير(/2)
ألا أنبيك عن زمن تولى
فتذكره ودمعك في انسجام
ولها عند الله ما يطيب الخاطر ويبهج الناظر
{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ }آل عمران195
• أين التى تتحمل زوجها إن كان حساسا فترفق به فوق الرفق رفقا ، وتتحمل .. فهي زوجة بمعنى الكلمة ..و لا تكثر الشكاية وتخشى الوعيد في صحيح مسلم
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم e الصَّلَاةَ يَوْمَ الْعِيدِ
.... إلى أن قال رضي الله عنه :
ثُمَّ قَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى بلالٍ فَأَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَحَثَّ عَلَى طَاعَتِهِ وَوَعَظَ النَّاسَ
وَذَكَّرَهُمْ ثُمَّ مَضَى حَتَّى أَتَى النِّسَاءَ فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ فَقَالَ تَصَدَّقْنَ فَإِنَّ
أَكْثَرَكُنَّ حَطَبُ جَهَنَّمَ ، فَقَامَتْ امْرَأَةٌ مِنْ سِطَةِ النِّسَاءِ سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ فَقَالَتْ لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ
قَالَ
لِأَنَّكُنَّ تُكْثِرْنَ الشَّكَاةَ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ
قَالَ فَجَعَلْنَ يَتَصَدَّقْنَ مِنْ حُلِيِّهِنَّ يُلْقِينَ فِي ثَوْبِ بِلَالٍ مِنْ أَقْرِطَتِهِنَّ وَخَوَاتِمِهِنَّ
فهي لا تكثر الشكاية ولا تكفر العشير ، بل هي من يستحي معها المرء من خلقها الجميل
إذا ما صديقى ساءنى بفعاله
ولم يك عما ساءني بمفيق
صبرت على الضَّرَّاء من سوء فعله مخافة أن أبقى بغير صديق
وهي تعلم أن الزوج ليس كاملا وليس هو البداية والنهاية ، قال شيخ الإسلام :
ليس للخلق محبة أعظم محبة ولا أكمل ولا أتم من محبة المؤمنين لربهم ....
....ليس في الوجود ما يستحق يُحَبَّ لذاته من كل وجه إلا الله تعالى.
.....كل ما يُحَب سواه، فمحبته تَبَع لحُبِّه.
فأين هي ...
نعود للرجل ...
وإن كان ذكيا فلا تكونن هي سطحية ولا هامشية ..
ولا تكونن بمعزل عن مشكلات زوجها المادية والمعنوية وأحلامه وآماله وغاياته وأهدافه ، بل تسأل عنها وتتبناها فهما فريق واحد في العمل لله تعالى ...
لبيك إسلامي من الأعماق
أنا لم أخن عهدى ولا ميثاقى..
• أين التى إن وجدت زوجها غيورا احترمت ما فيه ورجت بصبرها الجنة وما فيها ...
• والأصل أنها قمة : قانتة عفيفة !
(( فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ )) النساء34
* أين التى إن كان بزوجها عيب كشئ من حزم زائد أو شئ من سخرية غير مقصودة ورأته يصلح نفسه أعانته ولم تتبرم فمن منا مبرأ من العيوب؟! ..
من ذا الذي ما ساء قط ............ ومن له الحسنى فقط !
* أين التى تعين بعلها على برِّه بأمه وترى ذلك دينا وقربى وتتحمل بنفس راضية...؟
* أين التى لا تأبه أن يطلق عليها أنها رجعية أو متشددة أو أو ... ولا يهز فيها ذلك شعرة بل الحق حق ، ولابد له من أعداء وهذه سنة الله .. فلا تنثنى همتها ولا عقيدتها ... ولا ترى لوم الناس شيئا ذا بال
قال منصور الفقيه:
اسمع فهذا كلام
ما فيه والله عله
أقل من كل شيءٍ من لا يرى الناس قله
* أين التى تصبر وتسعد .. وتسمو روحها إن عاشت أحيانا - عملا لا قولا وأحلاما - على زاد النبى صلى الله عليه وسلم التمر ، الماء ، الخل ، خبز الشعير ، وإن جاءها خير من ذلك حمدت وشكرت وذكرت الله تعالى وذكرت حقه تعالى فيه ...
وخشيت الإسراف وراجعت نفسها وزوجها ..
* أين التى لا تهتم بأساود زائلة .. بأثاث أو مسكن أو دابة أو مال أو وظيفة أو .. أو ..
فتقبل عملا لا قولا أن تعيش كما كان السادة الفضلاء نجوم هذه الأمة يفترشون الأرض أو إهاب الكبش ، ويلتحفون ما يرق ويقصر ، ويسكنون ما لا شئ فيه يرد البصر ولا غرف عندهم بل هى غرفة !
هى كل شئ فى البيت
ولا مال
بل قوت يوم
ولا جاه سوى عزة الإسلام ....
ورغم ذلك :
{ يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً }الإنسان8
وليس معناه أنها لا تحتاج المال ولا تبحث عنه لتوظفه في الخير
لكن تضع في اعتبارها
أننا نحتاج المال كغيرنا ، ولكن هل يقبل الحر أن يحوله المال لشخص حقير !
وهل يقبل أن يكون غنيا ويترك الدعوة سنوات لجمع المال !
وهل تستقيم الدعوة مع الدعة
أو مع إيثار السلامة !
ليسَ أمرُ المرءِ سهلاً كله
إِنَّما الأمرُ سهولٌ وحزونْ
تطلبُ الراحةَ في دارِ العنا ! خابَ من يطلبُ شيئاً لا يكونْ
* أين التى تعرف مكانها وفضلها فى دينها ، وتعرف أفضل موضع للأنثى وخير مكان وخير نظر وخير معاملة ، ومتى يستثنى
(أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن) ...
وبالمثل(/3)
تعرف فضل الخروج إن كان فى سبيل الله ودور إذن الزوج فيه وثوابها عليه ...
* أين التى تتنفس الإسلام .. ويمتلئ عقلها علما وقلبها خوفا وورعا .. وتتعلق بكتاب ربها وكلام نبيها صلى الله عليه وسلم ....
واغتنم ركعتين زلفى إلى iiالله
وإذا ما هممت بالمنطق الباطل
إنّ بعض السكوت خيرٌ من iiالنطق ... ... إذا كنت فارغاً iiمستريحا
فاجعل مكانه iiتسبيحا
وإن كنت بالكلام فصيحا
* أين التى تتذوق البيان وتحوم مع الأدب المشروع وتتزود منه ، وتشعر بقلب شاعرة مؤمنة ، وتعبر بخير ما حفظت ووعت من لسان العرب !
فيكون حال زوجها مع كلامها :
بالله لفظك هذا سال من عسل
أم قد صببت على أفواهنا العسلا
* أين التى لا يطغى حزنها الفطرى المفهوم (من إقبال زوجها على التعدد) على حبها لله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وفهمها لأهمية ذلك للدين وللدنيا .. لها ولزوجها ولأخواتها وللآخرين .. فتتذكر أن سيدات بيت النبوة ـ كن مع غيرتهن أحيانا ـ الأصل فى حياتهن عدم المشاحنة ، بل يتعشين سويا ثم ينصرفن تاركن صاحبة الغرفة مع الحبيب صلى الله عليه وسلم
ويحدوها تأمل سرعة فناء الدنيا فتصبر على تلك الأمور الزائلة كالتعدد وغيره :
من راقب الموت لم تكثر أمانيه
ولم يكن طالباً ما ليس يعنيه
وعنوان القبول :
(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)
* أين التى لا تأبه أن سافرت - فى الله ولله - مع زوجها ، ولا ترتبط روحها لصيقة بأرض بل :
(أرض الله واسعة)
وتتذكر أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام سافر بزوجته وتركها ومضى ، فلم تعترض .. فخلد الله ذكرها ...
{إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ }آل عمران33
نحن ما زلنا على درب هُدانا
نرشد الناس وندعو ونحاول
* أين التى لا تشتكى من وعورة الطريق ولا قلة الرفاق ولا قسوة الأنفس ولا ..
بل تعلم ما هو طريق الفردوس وما هو ثمن النجاة وما معوقاته الخارجية والداخلية " فى بيتها " بل ومعوقاته النفسية ! ،
{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ }آل عمران186
فتحتسب وتتفهم وتحاول وتقاوم .. بل وتبادر مضحية ، فإن ذهب زوجها لبلاء أو جاءه البلاء فغاب أو أضير أو .. أو.. فهى نعم الزوجة المؤمنة والبلاء قدر مقدور
فكم زوجة لما دهى الظلم بعلها بكت فبكى فى الحجر منها وليدها
وإن شاءت فلها الحق فى التطليق لكنها لا تساوم على إيمانها ولا تتنازل عنه ، فإن طلقت فلرغبتها المشروعة فى الزواج وعدم قدرتها على انتظار الغائب أو على تحمل المبتلى ، لكنها لا تطلق لأنها استدبرت الطريق ...
{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ }فصلت35
* أين التى وإن كانت تشغف بالقراءة والسماع والمدارسة والسؤال والتحليل والاستنباط فهى مع ذلك أنثى ! تعرف كيف يكون بيتها جنة بأى إمكانيات ، فلا تجهل كيف تعد الطعام والشراب والأثاث والثياب ، ولا كيف تتزين وتتجمل وتسعد زوجها وتسعد به فى الحلال الجميل ..
{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }الأعراف32
* أين صاحبة المبدأ المسلمة عن وعى وفهم وانتماء وحماسة واقتناع .. فلها من كل شئ موقف ونظرة .. ولها فى كل باب خير يد طولى أو جهد مبذول .. فتعلم مثلا أهمية الرياضة للمسلمة وتصبر على ذلك وتواظب عليه بحساب واستمرار ونظام وتطوير لا كهواية ولعب ولهو ومرح فقط .. وبالمثل تعاملها مع الأجهزة الحديثة ومهارات تطوير الذات
وهي تعلم أن معدل الاهتمام بالإسلام يظهر في سلوك الإنسان !
وأن الفعل أقوى دليل على الصدق !
فتختبر نفسها بنفسها ...
{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }التوبة71
* أين التى تستوعب أوامر الحبيب صلى الله عليه وسلم ولا تقدم بين يديه صلى الله عليه وسلم فحين يثبت أمر له بالإقدام فى واقع معين نقدم وإن تقطعت أنفسنا ... وحين يثبت أمر بأن نكون أحلاس بيوتنا أو نتبع شعاب الجبال نسكت وإن أغرتنا أنفسنا ولو تحت مسمى العمل للدين ...
فإن أمر الله فنحن لا مبيت لنا ولا قرار حتى يكون ما أراد الله تعالى منا :(/4)
فمنْ يطلبْ لقاءكَ أو يُردهُ
فبالحرمينِ أو أقصى الثغورِ
* أين التى تتذوق الظلال الوارفة فى ظلال القرءان وأمثاله ولا تتمالك نفسها ولا عبراتها ولا كلماتها .. وتنطق بها تصرفاتها بعد ذلك .. فلا يكون متعة فكرية فقط !
* أين الودود .. العؤود التى إذا ظلمت قالت (هذى يدى فى يدك لا أذوق غمضا حتى ترضى)
فهي من تسترضى الرجل وإن أخطأ ، فهي القلب الكبير
أن النساء ربيع لنا ونعم الربيع
وجه طليق وعين يقظى وقلب ولوع ... ... ما زوجة المرء إلا حصن العفاف المنيع
كأنها حين تشدو نجم جلاه iiالطلوع
* أين التى تعلم أن الإلتزام ليس قرين العبوس والتجهم والضيق بل هى مع الآخرين كما كان النبى صلى الله عليه وسلم مع الآخرين( كلٌ حسب حاله ).. ومع زوجها كما كانت سيدات بيت النبوة مع خير الخلق ... ولا تقول إلا خيرا ..فهى مرحة هاشة باشة ضحوك مع زوجها ابتغاء مرضاة الله .......
زوجة صالحة في iiالمنزل
قد تحلت بحلى iiالخجل ... ... فهي كنز فاخر iiللرجل
فهو يغنيها عن لبس الحلى
* أين التى تفهم كيف تعامل زوجا داعيا إلى الله أو مسؤولا عن عائلة بمساحة مترامية الأطراف فهو قائد لهم كما كان أصحاب الدعوات ، فما دور زوجة الإمام ! .. زوجة القائد المربى !...
* أين التى لها رؤية سياسية فتعى وتفهم أين نحن ومن نحن وماذا يراد بنا وتهتم بذلك أو تسأل لتعلم وتفهم ..
التى تكون لديها موقف عقدي من وسائل الإعلام ....!
* أين التى تتحمل وتستوعب وتسعد إن كان الحق أن تكمل عمرها فى كهف أو فى قصر سواء عندها حلوها ومرها .. أنسها ووحشتها ..
أحبَّاىَ إنْ النَّصرَ لابدّ َ iiقادمٌ
سنصدعُ هذا الليلَ يوماً iiونلتقى
ونَمضى على الأيامِ عَزماً مُسدَّداً
فيعلو بنا حقٌّ – عَلونا بفضلهِ -
ونصنعُ بالإسلامِ دُنيا iiكريمةً ...
... وإنى بنصرِ اللهِ أولُ iiواثقِ
مع الفجر يمحو كلَّ داجٍ iiوغاسقِ
ونبلغُ ما نرجوهُ رغمَ iiالعوائقِ
على باطلٍ – رغمَ الظواهرِ – زاهقِ
وننشرُ نورَ اللهِ في كلِّ iiشارقِ
* أين التى لا تشغل نفسها بلغو الفكر والاهتمام ولغو الكلام ولغو الشعور والعمل .. فلا تكون ثرثارة فى شؤون الزينة مقتصدة فى شؤون الجد والواقع والواجب ....
أين التى تبيع كل شئ إذ تبين لها أن الحق في البيع ..!
{إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }التوبة111
* أين التي لا تشبع من العلم والذكر والخير ، ولا تلهو إلا بالمباح ، وبقدر ما يشرع ، فلا تتسامر مع النسوة طيلة النهار فى :
أكلوا وأكلنا وبنوا وبنينا واشتروا واشترينا ..
بل لا تقبل ذلك !
{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ }الشرح7
فهي في شغل !
فهي غريبة !
وهكذا يكون حال الإسلام وأهله في آخر الزمان كما أخبر عليه الصلاة والسلام ...
يهمها تحري حالها في زمن الفتن ..يهمها التعلم للتحقق من التوحيد وصحة الاعتقاد ليصح اليقين والإيمان ، فلا تكون على بدعة وهي لا تدري ، ثم يهمها إشغال القلب بالآخرة ، و تلك هي الكياسة !
* أين التي تتحمل الآخرين وإن كانوا سيئين أو منافقين أو جاحدين لو كان هناك مصلحة نبهنا إليها الشارع الحكيم ..
فهي مع زوجها واعية مدركة متفهمة ، والجنة نصيبهما ...
فقد كتب الله لهما الزيجة هنا وهناك فلا فرقة إن شاء الله
{وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }التوبة72
كلاكما فى العلا كفء iiلصاحبه
فأصبحت عنده في بيت iiمكرمة
أحسن بها وصلة قد iiأخذت
فأصبحا في صفاء غير iiمنقطع ...
... والكفء في المجد لا يستام بالقيم
شيدت دعائمه في منصب سنم ii
عقدا على الدهر غير iiمنفصم
على الزمان وود غير iiمنصر
أين هى ؟؟؟
من روائع ما ضمته كتب السلف :
قال الله تعالى
قل ما يعبأ بكم ربى لولا دعاؤكم
وقال تعالى
وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان
وقال تعالى
وقال ربكم ادعوني أستجب لكم
"اللهم إني أسألك وأنا عبدك وأدعوك وأنا عبدك أن تصلى على نبينا محمد وعلى آله وأن تفرج عنى كما فرجت عنه وأن تستجيب لى كما استجبت له إنك سميع الدعاء"
"اللهم إنى أعوذ بك من نفس لا تشبع وقلب لا يخشع وعلم لا ينفع ودعاء لا يسمع وعين لا تدمع وصلاة لا ترفع "(/5)
" اللهم إنى أسألك فى صلاتى وفى دعائى براءة تطهر بها قلبى وتؤمن بها روعى وتكشف بها كربى وتغفر بها ذنبى وتصلح بها أمرى وتغنى بها فقرى وتذهب بها ضرى وتفرج بها غمى وتسلى بها همى وتشفى بها سقمى وتقضى بها دينى وتجلو بها حزنى وتجمع بها شملى وتبيض بها وجهى واجعل ما عندك خيراً لى "
" اللهم أصبح ظلمى مستجيراً بعفوك وذنبى مستجيراً بمغفرتك وخوفى مستجيراً بأمنك وفقرى مستجيراً بغناك وضعفى مستجيراً بقوتك وذلى مستجيراً بعزك ووجهى الفاني البالي مستجيراً بوجهك الدائم الباقى "
" اللهم مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبى على دينك ولا تزغ قلبى بعد إذ هديتنى وهب لى من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب"
"اللهم واجعلني في حفظك وكلأتك وودائعك التى لا تضيع واحفظنى من كل سوء ومن شر كل ذى شر واحرسنى من شر الشيطان الرجيم والسلطان المليم إنك أشد بأساً وأشد تنكيلاً "
"اللهم إن كنت منزلاً بأساً من بأسك أو نقمة من نقمك على أهل معصيتك بياتاً وهم نائمون أو ضحى وهم يلعبون فصل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد واجعلنى وأهلى في كنفك ومنعك وحرزك "
اللهم إن هذين الليل والنهار خلقان من خلقك فاعصمنى فيهما بحولك وقوتك ولا ترهما منى جرأة على معصيتك ولا ركونا إلى مخالفتك واجعل عملى فيهما مقبولاً وسعى مشكوراً وسهل لى ما أخاف عسره وصعب على أمره واقض لى فيهما بالحسنى(/6)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، أما بعد فعنوان هذا الدرس روحانية صائم وينعقد في يوم الاثنين اليوم الثامن من الشهر الثامن في العام 1418 في هذا الجمع المبارك في مدينة > الرس <
أيها الاخوة هذا الدرس هو فوائد وشرائد ومشاعر وأحاسيس جمعت من العام الماضي من رمضان حرصت على طرحها هذه الأيام لينتفع منها الصائمون هذه الأيام أسأل الله أن ينفع بها وأن يغفر لي الخطأ والذلل والتقصير.
وهو ينقسم إلي قسمين:
أولاً: كيف السبيل إلي هذه الروحانية وفيه حقيقة الروح وزادها وعلاقتها بالصيام
ثانياً: مشاعر هذه الروح وهي أحاسيس ومشاعر لمن ذاق حلاوة الإيمان في شهر رمضان وعرف أن الصيام غذاء للروح وطعام.
وأقدم المقدمة في استقبال رمضان فأقول معاشر الاخوة أقبل علينا رمضان سيد الشهور فمرحباً به وأهلاً وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا دخل رجب قال "اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان" كما في حديث [أنس] قال [الهيثمي] عنه رواه [الطبراني] في الأوسط وفيه [زائدة بن أبي الرقاد] وفيه كلام وقد وثق… انتهى .
بعد أيام نستقبل شهرنا العظيم شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن شهر الصيام والذكر شهر التوبة والغفران شهر العزة والكرامة اللهم بلغنا رمضان ،اللهم بلغنا اللهم بلغنا رمضان فكم ممن أَمَّل أن يصوم هذا الشهر فخانه أمله فسار قبله إلي ظلمة القبر كم من مستقبل يوماً لا يستقبله ومؤمل غداً لا يدركه
كم كنت تعرف ممن صام في سلف
من بين أهل وجيران وإخوان
أفناهم الموت واستبقاك بعدهم حياً
فما أقرب القاصي من الداني
أيها الاخوة والأخوات أحد عشر شهراً ظلت تجري بسرعة عجيبة في دهشة وذهول من العاقلين وغفلة ومجون من اللاهين.
(قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم فاسأل العادين) هكذا تنقضى الليالي والأيام وتنقضي الشهور والأعوام والعاقل اللبيب وهو من يفكر ويعتبر في تلك الأيام التي عاشها والليالي التي قضاها نعم هي ماضي تركه خلفه لن يعود لن يعود له مرة أخرى لكنها تسجل عليه فالله تعالي يقول(هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) كل الناس يغدو يغدو في أهداف وآمال ورغبات وأماني ولكن أين الجادون أين الجادون فرمضان آتٍ بعد أيام فكيف حال الناس؟ بل كيف حال الأمة هل من وقفة صادقة للمحاسبة وهل من وقوف جاد للتأمل وما هي مراسم الاستقبال معاشر الصائمين والصائمات إن رمضان آتٍ بعد أيام وفي الأمة تعساء يستقبلونه على أنه شهر الجوع النهاري والشبع الليلي نوم في الفراش إلي ما بعد العصر وسمر في الليل إلي الفجر تراهم ذئاباً في الليل جيفاً في النهار جعلوا من رمضان موسم طرب وسهر ودعايات وقنوات، إنهم يقتلون رمضان ويفسدون حلاوته وطعمه ،حُرِمُوا وحَرَمُوا أنفسهم وغيرهم من جمال رمضان وروعة الحياة فيه عبادة للبدن والجسد بنزواته ولذاته وأسر للروح والعقل مساكين هؤلاء
رمضان رُبَّ فَمٍ تمنع عن شراب أو طعام
ظن الصيام عن الغذاء هو الحقيقة في الصيام
وهوى على الأعراض ينهشها ويقطع كالحمام
يا ليته إذ صام صام عن النمائم والحرام
واستاك إذ يستاك عن كذب وزور وإجرام
وعن القيام لو أنه فيما يحاوله استقام
رمضان نجوى مخلص للمسلمين وللسلام
تسمو بها الصلوات والدعوات تضطرم اضطرام(/1)
قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأبي هو وأمي ـ فقد كان يبشر أصحابه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقدوم رمضان كما أخرجه [أحمد] و[النسائي] عن [أبي هريرة ] رضي الله عنه قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يبشر أصحابه "قد جاءكم شهر مبارك افترض الله عليكم صيامه يفتح فيه أبواب الجنة ويغلق فيه أبواب الجحيم وتغل فيه الشياطين فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم" ، صححه [الألباني] كما في صحيح النسائي وقال [مُعَلاَّ بن الفضل] عن السلف: كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم وقال [أبو يحيى ابن كثير] كان من دعائهم: اللهم سلمني إلي رمضان وسلم لي رمضان وتسلمه مني مُتَقَبَّلا ، وباع قوم من السلف جارية فلما قرب شهر رمضان رأتهم يتأهبون له ويستعدون بالأطعمة وغيرها فسألتهم فقالوا نتهيأ لصيام رمضان فقالت وأنتم لا تصومون إلا رمضان!! لقد كنت عند قوم كل زمانهم رمضان ردوني إليهم ، هكذا كان السلف استقبال لرمضان فرمضان له طعم خاص ولذة عجيبة في نفوسهم رضوان الله عليهم فهو يبعث في نفوسهم قوة الإيمان والشجاعة والعزة والكرامة ولهذا كانت أكثر غزوات ومعارك المسلمين في رمضان لماذا ؟ نعم لماذا ؟ اسمع للإجابة إنها حياة الروح حتى وإن كانت البطون خاوية والشفاه يابسة فالحياة حياة الروح حياة القلب حياة الانتصار على النفس والشهوات ومن انتصر على نفسه انتصر على الأعداء من انتصر على نفسه انتصر على الأعداء إنها حياة الصلة والثقة بالله تعالي وهنا يكمن جمال رمضان وروعة هذا الشهر بتلك الروحانية العجيبة التي توقظ المشاعر وتؤثر في النفوس فرمضان له في نفوس الصالحين الصادقين بهجة وفي قلوب المتعبدين المخلصين فرحة فهو شهر الطاعات ولنا فيه جميل الذكريات إنه زاد الروح تتغلب الروح فيه على البدن والجسد.
وحتى لا أطيل عليكم فإلى الحديث عن تلك الروحانية وفيه حقيقة الروح وزادها وعلاقتها بالصيام .
حقيقة الروح:
الروح والنفس واحد غير أن الروح مذكر والنفس مؤنث عند العرب ولما سأل اليهود الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الروح نزل قوله تعالي (يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) .
وروى [الأزهري] بسنده عن [ابن عباس] في قوله (ويسألونك عن الروح) قال إن الروح قد نزل في القرآن بمنازل ولكن قولوا كما قال الله جل وعلا (قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) . قال [ابن الأثير] وقد تكرر ذكر الروح في الحديث كما تكرر في القرآن ووردت فيه على معانٍ الغالب منها أن المراد بالروح الذي يقوم به الجسد وتكون به الحياة وقد أطلق على القرآن والوحي والرحمة وعلى جبريل إلي آخر كلامه رحمه الله والروح سماوية علوية والجسد أرضي سفلي وعند موت الإنسان كل يتجه إلي أصله فالروح إلي السماء والجسد إلى الأرض ومن الناس من همته في الثرى ومنهم من همته في الثريا فمنهم من يسعى لحياة الروح ومنهم من يسعى لحياة الجسد وحياة الروح باتصالها بالسماء بالخوف والخشية والمراقبة والإخلاص لله عز وجل والروح والجسد لا غنى لأحدهما عن الآخر إلا إذا أصبح الجسد لا هم له إلا شهوته وهواه وفيه قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ "تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتفش"
ومن الناس من نسي روحه وغفل عنها وعن حقوقها فَعَبَّدَها لجسده وشهواته فأصبحت حياته هموماً وغموماً وأكداراً وأحزاناً، ليس له هم إلا أن يرضى هواه مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها وأطيب ما فيها حلاوة الإيمان ولذة الطاعة فالإنسان جسد وروح وشهوة وعقل والجسد تتبع له الشهوة والروح يتبع لها العقل والصراع دائم بين الفريقين الجسد والشهوة معاً والروح والعقل معاً ومتى شبع البطن تحركت الشهوة وإذا خلا البطن هدأ الجسد وانطلقت الروح تنمو وتنشط ففي الصيام حلاوة لا يدركها إلا من صام من أجل الله بصدق في الصيام حلاوة لا يدركها إلا من صام من أجل الله بصدق ولا يعرفها إلا الذين خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم وهذه هي الروحانية العجيبة التي نحياها في رمضان روحانية صائم بذرها بالجوع وسقاها بالدموع وقواها بالركوع لتنبت الخشوع والخضوع روحانية صائم فيها السعادة واللذة والأفراح والأشواق فيها ما لا يبثه لسان ولا يصفه بيان .
روحانية صائم فيها الأرواح تهتز وترتاح وتطير بغير جناح فهي في أفراح وأفراح ، روحانية صائم فيها من الحرير لجنات النعيم ما تورمت له أقدام المتهجدين وبذر له الثمين وسمع الأنين ، روحانية صائم لا يعرفها العاشقون ولا المتصوفة الواجدون بل هي والله حكر على المحقين الصادقين والمخلصين العارفين ، روحانية صائم تخلصت من أسر الهوى والشهوة وحيل النفس والشيطان ، باختصار روحانية صائم عاش في جنة الدنيا ، وفي الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة .(/2)
ولكن كم بين خلي وشجي وواجد وفاقد وكاتم ومُبْدٍ ، معاشر الصائمين والصائمات هذه أفراح الروح عند انتصارها وفك أسرها من شهوات الجسد ولذلك قال [ابن القيم] رحمه الله ، فللروح المطلقة من أسر الهوى ومن أسر البدن وعلائقه وعوائقه من التصرف والقوة والنفاذ والهمة وسرعة الصعود إلي الله والتعلق بالله ما ليس للروح المهينة المحبوسة في علائق البدن وعوائقه انتهى كلامه رحمه الله.
أطلق الأرواح من أصفادها
... في بهيج من رياض الأتقياء
غاديات رائحات كالسنا
سابحات بين آفاق الضياء
إنها يا شهر ظمأى فاسقها
مشتهاها من ينابيع الصفاء
شهوة الأجساد قد ألقت بها
في قفارٍ ليس فيها من رواء
ما غذاء الجسم في ألوانه
فيه للأرواح شيء من حباء
إنما الأرواح تحيا بالذي
في صيام الجسم تسجيه السماء
يا ربيع الروح أقبل واعطها
صولجان الحكم في دنيا الشقاء
كي يعيش الناس من آلائها
في رفاءٍ وازدهارٍ وارتقاء
هل درى أهل الحجا أن الذي
شيطن الإنسان في الأرض اشتهاء
زورق الشيطان في وجدانه
... طعمة فيها من الإفراط داء
ما ارتقت إلا بزهد أنفس
في طعام عنه عاشت في غناء
واطمأنت في حياة الروح
... لا تبتغي إلا لقيمات وماء
إنما سلطانها من دونه ... ...
كل سلطان به الإنسان باء
حسبه أن أخضع النفس التي
... تسترق الناس حتى الأقوياء
أي سلطان يكف النفس عن
موبقات غير قيد كالوجاء
إنه الصوم الذي أوحى به
رحمة بالناس رب الحكماء
فيه ترويض لطبع جامح
فيه روح فيه للمرضي شفاء
فيه للإحساس إرهاف فلا
يأخذ الدنيا بعين الأغبياء
أيها الأحبة هذه الروحانية لا نعرف كنهها ولا نستطيع وصفها حتى من ذاق طعمها وعرف حلاوتها من أولئك الأفذاذ الذين تسعى بهم أعمالهم سوقا إلي جنات سوق الخيل بالركبان صبروا قليلاً فاستراحوا دائماً يا عزة التوفيق للإنسان رفعت له في السير أعلام السعادة والهدى يا ذلة الحيران أقول حتى هؤلاء والله حتى هؤلاء الذين ذاقوا طعمها وعرفوا حلاوتها ما استطاعوا وصفها ولا التعبير عن وجدها إلا بألفاظ عامة لم تفصح عن حقيقة الشعور واسمع بعضهم يقول إنه يمر في القلب لحظات أقول إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي نعيم إنه شعور عام لا يستطيع وصفه بأكثر من هذا فإن لم ترها العين فقد أبصرها القلب واسمع للآخر يقول أنا جنتي وبستاني في صدري فماذا يفعل أعدائي بي سجني خلوة ونفيي سياحة وقتلى في سبيل الله شهادة وهذا ثالث لم يجد ما يعبر به عن السعادة واللذة التي يجدها إلا بقوله إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة إنها حلاوة الإيمان وطعم الصلة بالله إنها أفراح الروح لا تنقل بالكلمات إنما تسرى في القلب فيستروحها ويهش لها ويندى بها وكأني بك أيها الصائم كأني بك تقول أيها المتحدث ترفق فنفوسنا تشقق وقلوبنا تخرق ودموعنا تدفق فكيف السبيل لهذا النعيم كيف نصوم؟ وكيف نقوم لنجد ما وجد أولئك الرجال؟
فأقول أما الكيفية فصم وقم كما كان يصوم ويقوم قدوتنا وحبيبنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) ولكن الأهم لماذا نصوم؟ نعم لماذا نصوم سؤال مهم يجب أن يسأله المسلم نفسه خاصة في شهر رمضان وحتى لا يتحول هذا الشهر من عبادة لها أهداف ومقاصد عظيمة إلي عادة ثقيلة كان لابد من الإجابة على هذا السؤال فكثير من الناس يصومون ولكن قليل أولئك الذين يعرفون لماذا يصومون؟ هذا هو الفرق بين العادة والعبادة لماذا نصوم يحدد لك الهدف والغاية التي من أجلها فرض الصوم رمضان ووضوح الهدف وضوح الهدف في أي عملٍ تقوم به يسهل عليك هذا العمل ويدفعك للاجتهاد والمجاهدة للوصول إليه أي الهدف.
وفي رمضان أنت تمسك عن الطعام والشراب والجماع أكثر من نصف اليوم لماذا؟ تجوع وتعطش لماذا ؟ تسهر وتتعب لماذا ؟
أصناف الطعام بين يديك والماء البارد أمام عينيك أنت جائع عطشان فلا تمد يدك إليها لماذا؟ ماذا تريد من كل هذا؟ ما هو الهدف؟ إلي أي شيء تريد أن تصل؟ ربما حدثتك نفسك فقالت لماذا الله يأمرنا بالصيام؟ ولماذا فرض علينا شهر رمضان؟ فأقول حاشى لله ـ عز وجل ـ أن يكون المراد تجويعنا وتعطيشنا وإتعابنا وهو أرحم الراحمين وهو أرحم من الأم بولدها بل إن الله قال في آخر آيات الصيام (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) وربما تقول أيها الأخ إننا نصوم رمضان لأن الله أمرنا بصيامه فتجب الطاعة والاستجابة لله بما أمر فأقول نعم إن الاستجابة لله ورسوله واجب علي كل مسلم ومسلمة ولو لم تتبين لنا الثمرة والحكمة من هذا الأمر فنحن أسلمنا واستسلمنا لله جل وعلا فيجب علينا طاعة الله فإن الخير كل الخير فيما أمر الله ورسوله به لكن هناك ثمرة وغاية عظيمة بينها الله ـ عز وجل ـ من شهر الصيام بقوله: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)
رمضان قد يستبد الجوع بي
ويهدني ظمأ ويخفت في مداي كفاح
لكن تقوى الله تحفز همتي
ويشد من أزرى لديك صلاح(/3)
وأراك يا رمضان رحلة مؤمن
ألف الطريق وآنسته بطاح
وأراك حين تجيء توقظ ما
غفا عاماً بقلب أثخنته جراح
فإذا بآلاء اليقين تظلني
وإذا المحبة غدوة ورواح
وإذا أنا روح تحلق في المدى
بسناً يلوح وللصفاء يتاح
إذاً فالغاية الأولي والهدف الأسمى من صيام رمضان هو إعداد القلوب للتقوى ومراقبة إعداد القلوب للتقوى ومراقبة الله لخشية الله فالصوم يجعل القلوب لينة رقيقة يجعلها ذات شفافية وحساسية يجعلها وجلة حية فالصوم يوقظ القلوب فإذا فسد الناس في زمن من الأزمان فإن صلاحهم لا يكون بالتشدد والتنطع بل يبدأ الصلاح بإعداد القلوب وبث حرارة الإيمان فيها وخوف الله ومراقبته فالإسلام، الإسلام لا يقود الناس بالسلاسل إلي الطاعات إنما يقودهم بالتقوى ومراقبة الله والخوف منه ومن أعظم ثمار الصيام تربية القلوب على مراقبة الله وتعويدها على الخوف والحياء منه يقول [القسطلاني] رحمه الله معدداً لثمرات الصوم يقول منها رقة القلب وغزارة الدمع وذلك من أسباب السعادة فإن الشبع مما يذهب نور العرفان ويقضي بالقسوة والحرمان انتهى كلامه رحمه الله إذاً ما علاقة الأكل والشراب بالتقوى فالأكل والشرب للبطن والتقوى مكانها القلب فما دخل ذا بذا اسمع رعاك الله اسمع للإجابة أليس كثرة الطعام والشراب لها أثر كبير على فساد القلب وغفلته فالبطنة تذهب الفطنة كما يقال والشبع يقسي القلب ويعميه والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول "ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطنه" كما في الترمذي وحسنه وقال [عمرو بن قيس] إياكم والبطنة فإنها تقسي القلب وقال [الحارث بن كلدة] الطبيب العربي المشهور: الحمية رأس الدواء والبطنة رأس الداء وقال [سفيان الثوري]: إن أردت أن يصح جسمك ويقل نومك فأقلل من الأكل ولذلك فإن تقليل الطعام والشراب ومباشرة النساء ينور القلب ويوجب رقته ويزيل قسوته فالصيام فيه كسب للنفس وتخلية القلب للذكر والفكر والصيام يضيق مجارى الدم التي هي مجاري الشيطان من ابن آدم فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فتسكن بالصيام وساوس الشيطان وتنكسر ثورة الشهوة والغضب واسمع لأهل التجارب والخبرات ممن عاشوا في عالم الروحانيات فقد روي عن [ذي النون المصري] رحمه الله وهو العبد الصالح أنه قال: تَجَوَّعْ بالنهار وقم بالأسحار ترى عجباً من الملك الجبار وقال [يحيى بن معاذ]: من شبع من الطعام عجز عن القيام فعل عرفت أيها الأخ الحبيب بعد هذا كله علاقة الشراب والطعام بالتقوى معاشر الصائمين والصائمات إن الإمساك عن الطعام والشراب في رمضان ليس هدفاً في ذاته بل هو وسيلة لرقة القلب وانكساره وخشيته لله ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" كما في البخاري وقال أيضاً ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "ليس الصيام من الطعام والشراب إنما الصيام من اللغو والرفث" رواه [ابن خزيمة] وابن حبان والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم فهل الهدف من صيام رمضان واضح لك الآن هذه حقيقة الصيام فلا تحرم نفسك منها أيها الأخ أما إن كان الأمر ترك الشراب والطعام فما أهون الصيام ولكن إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم وجماع ذلك خوف القلب من الله ومراقبته وإلا فتنبه واحذر فربما دخلت في قول الرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ :"رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش ورب قائم حظه من قيامه السهر" نعوذ بالله من حال هؤلاء والحديث أخرجه النسائي وابن ماجة والحاكم وابن حبان وقال صحيح على شرط البخاري، إذاً فليس رمضان إمساكاً عن الطعام والشراب فقط وسجوداً أو ركوعاً والقلب هو القلب قاسٍ عاصٍ غافل عن الله الغناء يطرب الآذان وللعينين أطلق العنان واللسان كذب وغش وغيبة ونميمة وسب ولعان وصدق من قال إذا لم يكن للسمع مني تصاون وفي البصر غضٌ وفي منطقي صمت فحظي إذاً من صومي الجوع والظمأ فإن قلت إني صمت يومي فما صمت فَأُفٍّ ثُمَّ تُف لنفوس لم يهذبها الجوع ولم يدربها السجود والركوع فالصيام تدريب للنفوس وتعويد لها على الصبر وترك الشهوات يدخل رمضان ويخرج وبعض النفوس لم تتغير يجوع ويعطش وقلبه هو قلبه ومعاصيه هي معاصيه وربما يركع ويسجد ويسهر ويتعب وحاله هي حاله ولسانه هو لسانه نعوذ بالله من حال هؤلاء فلو قيل لأهل القبور تمنوا لتمنوا يوماً من رمضان وهؤلاء كلما خرجوا من ذنب دخلوا في آخر بل ربما لا تحلو لهم الشهوات والتفنن في المعاصي والسيئات إلا في شهر رمضان والله المستعان يا هؤلاء أنتم في رمضان شهر التوبة والغفران يا هؤلاء فيه تغلق أبواب النيران وتفتح الجنان وتصفد الجان فدونك نفسك أيها الإنسان يا هؤلاء أما تنفعكم العبر أما عصيتم وستر اعرفوا قدر من قدر فقد آن الرحيل وأنتم على خطر لكن عند الممات يأتيكم الخبر نعوذ بالله من طول الأمل فإنه يمنع خير العمل.(/4)
قال [ابن رجب] رحمه الله كل قيام لا ينهي عن الفحشاء والمنكر لا يزيد صاحبه إلا بعداً ، كل صيام لا يصان عن قول الزور والعمل به لا يورث صاحبه إلا مقتاً ورداً يا قوم أين آثار الصيام أين أنوار القيام
إن كنت تنوح يا حمام البانِ
للبين أين شواهد الأحزانِ
أجفانك للدموع أم أجفاني
لا تقبل دعوة بلا برهانِ
انتهي كلامه رحمه الله أيها الاخوة والأخوات ليس الصيام في الإسلام تعذيب النفوس لا والله بل هو لتربيتها وتزكيتها ولينها ورقتها فالقرآن يعلمنا أن الصوم إنما فرض لنذوق طعم الإيمان ونشعر براحة القلب وسعادة النفس ولذة الحياة وكل ذلك في مراقبة الله والخوف منه فتقوى الله تقوى الله أعظم كنز يملكه العبد في الدنيا وليس أشقى والله على وجه الأرض من يحرمون طمأنينة الأنس بالله بتقوى الله .
وقد يقول قائل كيف نصل للهدف أو كيف تحصل ثمرة الصيام؛ تقوى الله
فأقول :
علاقة الصيام بتقوى الله تظهر من وجوه كثيرة فأرعني سمعك وانتبه لهذه الأسئلة أقول لك ألا يمكن وأنت صائم في نهار رمضان أن تختفي عن أعين الناس فتأكل وتشرب وتفعل ما تشاء لا يعلم بك أحد من الناس ولا تطلع عليك عين من عيون الخلق إذاً اسأل نفسك ما الذي يمنعك ما الذي يردك؟
لأنك تعلم أن الله يراك ومطلع عليك ويعلم ما تخفي وما تعلن
أيها الأخ الحبيب ايتها الأخت أليس في هذا تربية للقلب وارتباطاً بخالقه وخوفه وخشيته منه أليس من صام بمثل هذه المعاني وبمثل هذه المشاعر ازداد صلة بالله وخشية وخوفاً من الله وازداد تذوقاً لصيام رمضان وراحة للنفس والبال وهذا أعظم زاد للروح فالصوم أمر موكول إلى نفس الصائم لا رقيب عليه إلا الله، فهو سر بينك وبين ربك سر بين العبد وربه ولولا استشعاره لرقابة الله وأنه يراه لما صبر عن هذه الشهوات
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل
خلوت ولكن قل عليَّ رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة
ولا أن ما تُخْفِي عليه يغيب
لهونا لعمر الله حتى تتابعت
ذنوب على آثارهن ذنوب
فياليت أن الله يغفر ما مضى
ويأذن في توباتنا فنتوب
سؤال ثان: عن الوضوء للصلاة وفى المضمضة والاستنشاق لماذا تحرص أيها الأخ الحبيب كل الحرص ألا يفوت إلى حلقك قطرة ماء؟ لماذا كل هذا الحرص مع أنه لا يطلع عليك أحد من الناس ولا يعلم بك أحد ، لو أدخلت جرعة ماء فكيف بقطرة كيف بقطرة سبحانه ،الله من علمك هذا الأدب؟ من علمك هذا الحرص العجيب ، إنها رقابة الله فأنت على يقين أنه يرى قطرة الماء هذه لو سالت إلى حلقك فيا سبحان الله أي تربية عظيمة وأي أدب جم مع الله هذا الذي أحدثه الصيام في قلبك.
تعالى لسؤال ثالث: إنا لنرى المرأة في رمضان نراك أيتها الأخت الكريمة من بعد صلاة الظهر إلى غروب الشمس وأنت في مطبخك تقفين أمام أصناف المأكولات والمشروبات تراها بعينها وتشم روائحها المغرية بأنفها وربما ذاقت ذلك بطرف لسانها فأخرجته بحركة سريعة عجيبة سبحان الله تأملوا هذا الموقف تأمليه أيتها الأخت هي جائعة وعطشى ولوحدها لا يراها أحد من الناس فلماذا لا تمد يدها فتأكل وتشرب؟ من الذي يمنعها؟ من يردها؟ إنها حلاوة الروح حلاوة الروح بصلتها بالله بخوفها من الله فهي تعلم أن الله يراها ومطلع عليها ويعلم حالها فأي تهذيب وأي تأديب هذا الذي أحدثه الصيام في النفوس فما رأيكم أيها الصُوَّام هل عرفنا لماذا نصوم؟(/5)
إذاً فخلاصة الأمر نقول: إن تجويع البطن والفرج لبضع ساعات فيه حياة للروح فيه حياة للقلب وأنت أيها الأخ إنسان بروحك وقلبك لا ببطنك وفرجك فنحن نأكل لنعيش ولسنا نعيش لنأكل ومن ذاق حلاوة الروح وراحة القلب بان له الفرق فانكسار النفس وخلو البطن وتضييق مجارى الدم فوائد للصيام مفادها حياة الروح المتمثلة برقة القلب ولينه وخوفه وخشيته من الله جل وعلا ، وإذا ملك العبد قلباً بهذه الصفات انضبط قوله وفعله وحاله إذ لا يمكن أبداً أن يمتثل بترك هذه الشهوات الطعام والشراب والجماع وهى حلال فيتعداها إلى الحرام من كذب وظلم وغش ومشاهدة للحرام وسماع للغناء سواء كان في الليل أو النهار وسواء كان في رمضان أو غير رمضان فالذي صلى وصام وترك الشراب والطعام في رمضان لعلمه أن الله رقيب عليه مطلع عليه سيترك الحرام في غير رمضان ، في غير رمضان أيضاً لأن الله ما يزال مطلعاً عليه عليما بحاله وهنا هنا يشعر الإنسان بلذة الصيام ، هنا تشعر أيها الأخ الحبيب بلذة شهر رمضان تشعر بالمعاني الجميلة لشهر رمضان فهو يصوم لبناء ذلك السد المنيع بين النفس وشهواتها وصدق [بشر بن الحارث] بقوله لا تجد حلاوة العبادة حتى تجعل بينك وبين الشهوات سداً ، هذا السد هو خوف الله ومراقبته في السر والعلن هذا السد ، هذا السد الذي جعلك تمسك في رمضان تمسك عن الطعام والشراب بهذه الدقة العجيبة ، هو السد الذي جعل ذلك الرجل في غير رمضان والمرأة ذات المنصب والجمال تدعوه فيقول لها بملء فيه إني أخاف الله إني أخاف الله مع وجود المغريات فهي ذات منصب وذات جمال وهى التي تدعوه لكنها تقوى القلوب لكنها حياة الإيمان لكنه الخوف من الله الذي من أجله فرض الصيام . فأين حال هذا الرجل أين حاله من حال هؤلاء الذين لا يجدون لملاحقة النساء وبنات المسلمين لذة إلا في شهر رمضان نعوذ بالله من حال هؤلاء هدانا الله وإياهم لما فيه الحق واتباع هذا الدين ، هذا السد هو الذي جعلك تحرص على صلاة الجماعة في رمضان هذا السد الذي جعلك تحرص على صلاة الجماعة في رمضان هو السد نفسه الذي جعل تلك الصغيرة في غير رمضان تمتنع عن مزج اللبن بالماء وتقول كلمتها المشهورة إن كان عمر لا يرانا فإن رب عمر يرانا وهذا السد الذي جعلك أيتها المرأة المسلمة تحرصين كل الحرص على ألا يفوت لحلقك شيء عند المذاق خوفاً ومراقبة لله في رمضان هو السد المنيع الذي جعل تلك المرأة تمتنع في غير رمضان عن الوقوع في الزنا لما غاب عنها زوجها طويلاً مع جيش المسلمين وكانت تردد هذه الأبيات:
تطاول هذا الليل واسود جانبه
وأرقني ألا خليل ألاعبه
فوالله لولا الله أنى أراقبه
لَحُرِّكَ من هذا السرير جوانبه
ولكن تقوى الله عن ذا تصدني
وحفظاً لبعلي أن تنال مراكبه
قال [ابن القيم]: بالحب والخوف والرجاء يذوق المسلم حلاوة الإيمان ومن استطال الطريق ضعف مشيه انتهى كلامه رحمه الله.
إذاً فلماذا نخاف الله ونراقب الله في رمضان فنصوم ونصلي ونفعل الخير كله ونهمل بل ويترك البعض ذلك في غير رمضان عجيب أمر تلك النفوس إن الله الذي يطلع عليك في رمضان يطلع عليك في رجب وشعبان وغيرهما من الشهور فالله فرض الصيام ثلاثين يوماً تدريباً وتذكيرا للنفوس برقابة الله عليها وصدق الله لعلكم تتقون أي من أجل أن تتقون ومن لم يصم بهذه المعاني فليتذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الآنف الذكر "رُبَّ صائم حظه من صيامه الجوع والعطش ورُبَّ قائم حظه من قيامه السهر والتعب"
أيها الراجي ثمار الصوم أعطي الصوم حقه
من خشوع واصطبار والتزام بالمشقة
وانطلاق في سبيل العيش في رفق ورقة
طارحا عن روحك المغلول بالشهوات ربقه
إن في هذا لعبد الجسم طول العام عتقه(/6)
أما القسم الثاني من هذا الدرس: مشاعر هذه الروح وهو تصوير لمشاعر وأحاسيس وروحانيات وأشجان لمن ذاق حلاوة الإيمان وطعم الصلة بالله في رمضان وعرف حقيقة الصيام وهي للجميع فلا يختص بها الرجال دون النساء ولا الكبار دون الصغار لعل الله أن ينفع بها الجميع فإن من ذاق طعم الشيء حرص عليه وتمسك به ومن ذاق طعم الإيمان بذل من أجله النفس والنفيس وقد قيدت أيها الأخوة قيدت هذه المشاعر والأحاسيس في رمضان المنصرم ، تقبل الله من صيامنا وقيامنا وحرصت يعلم الله أن أنقلها لكم ونحن نترقب حلول ضيفنا العزيز رمضان هذا العام تذكيراً وتشجيعا لنا جميعاً وخاصة أولئك المحرمون الذين لم يذوقوا لرمضان طعماً وليس له في قلوبهم حلاوة ولا أثر لا يرون في رمضان إلا جوعاً لا تتحمله أمعاؤهم وعطشاً لا تقوى عليه عروقهم فإلى هؤلاء بل لنا جميعاً أقول: تعالوا لنسمع أفراح الروح وهى تسري في القلب فتتلذذ بالصيام والقيام والصدقة وقراءة القرآن والتوبة والغفران ، تعالوا لأفراح الروح لنسمع أفراح الروح في شهر رمضان كيف تعيش تلك الروح فهذا صائم يحاول التعبير عن هذه الروحانية فيقول في نهار يوم من أيام رمضان اشتد بي الجوع فيبس اللسان وقرصت الشفتان وغارت العينان فنظرت عن يميني فإذا أصناف الطعام وعن شمالي أنواع الشراب فتذكرت قول الله في الحديث القدسي "ترك طعامه وشرابه من أجلي" فرق قلبي ودمعت عيني وانتابني شعور جميل له حلاوة وعليه طلاوة لا أستطيع وصفه ولا بيانه قلت لعله أثر من آثار الإخلاص في هذه العبادة العظيمة ،
ولكن من أنا عبد من عبيده فقير إليه ذليل بين يديه من أنا فيخاطبني وهو العظيم الجليل ذو الجبروت والملكوت ترك طعامه وشرابه من أجلي من أنا حتى يخاطبني بقوله من أجلي فتأمل قوله من أجلي رقة وشفافية عجيبة بهذه الرقة وبهذه الشفافية وبهذا الإيناس نسيت جوعي يعلم الله نسيت جوعي وتعبي فأي مشقة في الصوم في ظل هذا الود والقرب من السيد لعبده فشعرت بحرص واطمئنان ثقة ويقين بقربي من الله جل وعلا
قَلِّب فؤادك في محاسن شرعنا
تلقى جميع الحسن فيه مصورا
كم من معانٍ في صيام نبينا
نفح أرق من النسيم إذا سرى
انظر لفرق صيامهم وصيامنا
نهراً تفجر أحمديا كوثرا
فدهشت بين جماله وجلاله
وغدا لسان الحال عني مخبرا
لو أن كل الحسن أكمل صورة
ورآه كان مهللا ومكبرا
وهذه مشاعر متصدق صائم قائم قال فيها: في رمضان الصدقة لها طعم خاص ولذة عجيبة ولا غرو فإن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان، أخذت عهداً على نفسي ألا يمر يوم من رمضان إلا ولي فيه نصيب من الصدقة والإحسان فقليل دائم خير من كثير منقطع وبعد صولات وجولات بين بيوت الأرامل واليتامى والفقراء والمحتاجين لا يعلم بي أحد إلا الله شعرت برقة في قلبي ولذة عجيبة في نفسي فعرفت حقيقة الصيام وأحسست بقرصة الجوع ولذة الحرمان وقفت على أرملة لها صبية صغار وبيت بالإيجار ودموع غزار ربما عبث الهم بقلبها ففضلت الموت على الحياة أو سلكت طريقة البغاة عندها تبين لي قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ "القائم على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله" أو "القائم الليل الصائم النهار" كما في البخاري ومسلم وجلست مع اليتيم فنظرت في عينيه فكأنه يسألني عن أبويه ولماذا هو ليس كغيره من الصغار معهم الألعاب والحلوى والطعام وهل سأشتري له ثوباً جديداً ليلبسه في العيد فمسحت بيدي على رأس اليتيم فإذا بقلبي يلين ودمعي يسيل تذكرت قول الحبيب صلى الله عليه وسلم في المسند من حديث أبى هريرة" أن رجلاً شكا إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قسوة قلبه فقال له ـ صلى الله عليه وسلم ـ إن أردت تليين قلبك فأطعم المسكين وامسح على رأس اليتيم"
هكذا رمضان فهو مدرسة يستثير الشفقة ويحث على الصدقة وهو شهر يعلمنا الجود والإحسان ليس فقط في رمضان بل والله على الدوام (وما تنفقوا من خير فلأنفسكم)(/7)
حدثني أحد الاخوة بكلام عجيب كان له وقع في نفسي قال إنه قرأ[ للشعبي] ـ رحمه الله ـ كلاماً جميلاً قال فيه من لم ير نفسه إلى ثواب الصدقة أحوج من الفقير إلى صدقته فقد أبطل صدقته وضرب بها وجهه فما تركت بعدها الصدقة فما تركت الصدقة بعدها فأنا الفقير وأنا المحتاج نعم والله أنا الفقير وأنا المحتاج أنا الفقير إلى عفو ربي وأنا المحتاج إلى غفران الله جل وعلا لنفسي كان [ابن عمر] يصوم ولا يفطر إلا مع المساكين فإذا منعه أهله عنهم لم يتعش تلك الليلة وجاء سائلا إلى [الأمام أحمد] فدفع إليه رغيفين كان يعدهم لفطره ثم نام جائعاً ثم أصبح صائماً ، عائشة ـ رضي الله عنه ـ أم المؤمنين أنفقت في يوم واحد مائة ألف درهم وهى صائمة فقالت لها خادمتها لو أبقيت لنا ما نفطر به اليوم فقالت عائشة لو ذكرتني لفعلت ، لو ذكرتني لفعلت سبحان الله ما هذه الروحانية العجيبة وما هذا السمو المذهل في النفس الصائمة حتى إنها تنسى حاجاتها ومطالبها وكأنها لا تذكر إلا أمتها وحاجات الفقراء والمحتاجين ، لا إله إلا الله ، أما حديث التائبين وخاصة في شهر التوبة فهو عجيب غريب واسمع لهذا التائب في رمضان وهو يحاول أن يصف فرحته وسعادته فيقول ما أجمل رمضان وما أحسن أيامه سبحان الله كل هذه اللذة وهذه الحلاوة ولم أذق طعمها إلا هذا العام أين هي عني كل هذه السنوات إيهٍ بل أين أنا عنها فإن من تحرى الخير يُعْطَه ومن بحث عن الطريق وجده ومن أقبل على الله أعانه وسدده صدق الله صدق الله في الحديث القدسي "من تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً" كما في الصحيحين سبحان الله أشعر أن حملاً ثقيلاً انزاح عن صدري وأشعر بانشراح فسيح في نفسي ، أول مرة في حياتي أفهم تلك الآية التي أسمعها تقرأ في مساجدنا (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجا كأنما يصعد في السماء)
أين ذلك الضيق أين ذلك الضيق وتلك الهموم التي كانت تكتم نفسي حتى أكاد أُصْرَع ، أين تلك الهواجس والأفكار والوساوس ، أين شبح الموت الذي كان يلاحقني فيفسد على المنام إنني أشعر بسرور عجيب وبصدر رحيب وبقلب لين رقيق أريد أن أبكي أريد أن أنثر الدم لا أريد أن أرفع جبيني عن الأرض أريد أن أناجي ربى وأعترف له بذنبي لقد عصيت وأذنبت وصليت وتركت وأسررت وجهرت وأبعدت وأقربت وشرقت وغربت وسمعت وشاهدت
ويح قلبي من تناسيه مقامي يوم حشري
واشتغالي عن خطايا أثقلت والله ظهري
ليتني أقبل وعظي ليتني أسمع زجري
والله لولا الحياء ممن بجواري لصرخت بأعلى صوتي
أبوء لك بنعمتك عليَّ وأبوء بذنبي
فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنب إلا أنت
لسان حالي يقول للإمام لماذا قطعت عليَّ حلاوة المناجاة يا إمام لماذا رفعت من السجود فحرمتني من لذة الاعتراف والافتقار للواحد القهار يا إمام أريد أن أبكى فأنا لم أبك منذ أعوام ، ألا يا عين ويحك أسعفيني بطول الدمع في ظُلَمِ الليالي لعلك في القيامة أن تفوزي بخير الدهر في تلك العلالي، يا إمام أسمعني القرآن فقد مللت ملاهي الشيطان يا إمام لماذا يذهب رمضان وفيه عرفنا الرحمن وأقلعنا عن الذنب والعصيان
في صيام الشهر طب ليس يدريه طبيب
فيه أسرار يعيها صائمٌ حقاً أريب
فيه غيث من صفاء ترتوي فيه القلوب
فيه للأرواح شبع دونه الكون الرحيب
صائم في دِرْعِ تَقْوَى تَنْجَلِي عنه الكروب
ما أحلاك يا رمضان وما أجملك سأستغل أيامك ولياليك بل ساعاتك وثوانيك كيف لا وقد وجدت نفسي فيك أليس في الحديث "رَغِمَ أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له" كما في الترمذي وقال حسن غريب
إذا هجا عن دُوَّام أسبلت عورتي
وأنشدت بيتاً وهو من ألطف الشعر
أليس من الخسران أن ليالياً
تمر بلا علم وتحسب من عمري
يا معشر العاصين لا يأس من قلب خلا وجمد وقسي وتبلد فإنه يمكن أن تدب فيه الحياة ويمكن أن يشرق فيه النور ويمكن أن يخشع لذكر الله فنحن في شهر رمضان شهر التوبة والغفران شهر تصفيد الشياطين وفتح أبواب الجنان وإغلاق أبواب النيران والله يحيي الأرض بعد موتها فتنبت وتزهر.
يا معشر التائبين
تعالوا كل من حضر لنطرق بابه سحراً
ونبكى كلنا أسفا على من بات قد هجر
كيف نصنع إذا نودي للرحيل وما تأهبنا ، ألسنا الذين بارزنا بالكبائر وما راقبنا يا معشر المذنبين لنبسط لسان الاعتذار ولنظهر العجز والافتقار وليردد كل واحد منا
إلهي لئن خبت وطردتني
فمن ذا الذي أرجو ومن ذا أشفع
إلهي لئن أعطيت نفسي سؤلها
منها أنا في روض الندامة أرتع
إلهي ترى حالي وفقري وفاقتي
وأنت مناجاتي الخفية تسمع
إلهي فلا تقطع رجائي ولا تزغ
فؤادي فلي في سيب جودك مطمع
إلهي أجرني من عذابك إنني
أسير ذليلاً خائفا لك أخضع
إلهي لأن جلت وجمت خطيئتي
فعفوك من ذنبي أجل وأوسع
…. انتهى كلامه.
فقلت سبحان الله في رمضان رياح الأسحار تحمل أنين المذنبين وأنفاس المحبين وقصص التائبين ورحم الله مبرزا بقوله اللهم ارض عنا فإن لم ترض عنا فاعف عنا.(/8)
وهذا مودع لرمضان ذاق طعمه وعرف حلاوته وها هو ذا يتألم ويتحسر على فراقه فيقول في الأيام الأخيرة من رمضان شعرت بتسارع الأنفاس وكثرة الهاجس والوسواس أتمنى أن أمسك الشمس فلا تزول لا أصدق أن رمضان سيرحل بعد أيام لقد ذقت حلاوة الصيام ولذة القيام لقد وقفت مع الصالحين وركعت مع الراكعين وسجدت مع الساجدين ، بالأمس كنت أذرف دموع الفرح لاستقباله واليوم تسيل دموع الحزن لرحيل هلاله آه لرمضان فقد هَيَّمَ نفسي وَتَّيمَ قلبي تلاقينا وكأنها لحظات وتناجينا وكأنها همسات فمن منا لا تؤلمه ساعات الفراق ومن منا يحتمل لحظات العناق رمضان أيها الحبيب ترفق دموع المحبين تدفق وقلوبهم من ألم الفراق تشقق ، رمضان أطفأت أنوار المساجد وتفرق الراكع والساجد رمضان هل أنا مقبول أم مطرود وهل تعود أيامك أولا تعود وإن عادت هل أنا في الوجود أم في اللحود، سأعلن الأحزان وأبث الأشجان وسأرسل العبرات والزفرات والآهات ، فربما هذه آخر ليلة منك يا رمضان ولا أدري أنا رابح فيك أم خسران
يا ربي إن فراق الخل عذبني
وأورث النفس آلاما وأحزانا
وأذهب العين حتى صار ناظرها
يقول ويحك قد تلقاه عميانا
ألقاه أعمى ولكن لا يفارقني
يبقى وتبقى معاً في القلب سكنانا
يا رب رد غريباً في ظل وجهته
يقلب الطرف بين الناس حيراناً
يبيت يبكى ويصحوا باكياً أبداً
قد جرب الحزن أشكالا وألواناً
وأخيراً هذه مشاعر مسلم في صبيحة العيد فيقول تذكرت في صبيحة العيد- وأنا أقبل أولادي -يتامى لا يجدون من يقبلهم أو حتى يبتسم لهم ،تذكرت في صبيحة العيد وأنا مع زوجي أيامي لا يجدن حنان الزوج ورقته، تذكرت في صبيحة العيد ونحن على الطعام والطيب والشراب البارد الجموع التي تموت من الجوع وتذكرت في صبيحة العيد وأنا ألبس الجديد ذلك الذي لا يجد ما يستر به عورته وربما غطى بالأوراق والجلود سوأته، تذكرت في صبيحة وقد اجتمع شملنا وأنسنا بآبائنا وأمهاتنا إخوانا لنا شردتهم الحروب لا راحة ولا استقرار ولا أمن ولا أمان فعيدهم دموع وأحزان وذكريات وأشجان…
جالت في خاطري هذه الذكريات ومع ذلك لبست الجديد وزرت القريب والبعيد وأكلت وشربت وابتسمت ومازحت لكن شعور الجسد الواحد وشعور الإخاء قوي في نفسي لا أنساهم في حديثي وأنسى وإن ضحكت تبدو مسحة الحزن على وجهي
يلهج بالدعاء لهم لساني وأحدث عنهم أهلي وجيراني
وفى صحيح مسلم "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر"
ومن عمل صالحا فلنفسه ومن علت همته اتصف بكل جميل ، ومن دنت همته اتصف بكل خلق رديء.
سأصرف همتي بالكل عما نهاني الله من أمر المزاح
إلى شهر الخضوع مع الخشوع إلى شهر العفاف مع الصلاح
يجازي الصائمون إذا استقاموا بدار الخلد والحور الملاح
وبالغفران من رب عظيم وبالملك الكبير بلا براح
فيا أحبابا اجتهدوا وجدوا لهذا الشهر من قبل الرواح
عسى الرحمن أن يمحو ذنوبي ويغفر ذلتي قبل افتضاحي
أيها الأحبة أيها الأخوة والأخوات ، هكذا نحيا رمضان عند ما نفهم حقيقة الصيام ونشعر بحلاوة الإيمان ، هذه الأحاسيس الجميلة والمشاعر النبيلة هذه الروحانية الندية ما هي إلا عاجل بشرى المؤمن، فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه وفتح لهم أبوابها في دار العمل فآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها فاستفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها، أما الحلاوة الحقيقية فيكفي قول الحق عز وجل:(فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون)
أيها الاخوة هلموا إلى دار لا يموت سكانها نحن في رمضان ، نحن في رمضان موسم الخيرات فهلموا إلى دار لا يموت سكانها ولا يخرب بنيانها ولا يهرم شبانها ولا يتغير حسنها وإحسانها هواؤها النسيم ماؤها التسنيم يتقلب أهلها في رحمة أرحم الراحمين ، ويتمتعون بالنظر إلى وجهه الكريم كل حين ، دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام ، وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ، طعامهم ما تشتهيه نفوسهم ولحوم طير ناعم وسمان وفواكه شتى بحسب مناهم يا شبعةً كملت لذي الإيمان لحم وخمر والنساء وفواكه والطيب مع روح ومع ريحان وصحافهم ذهب تطوف عليهم بأكف خدام من الولدان ، نسأل الله الكريم من فضله اللهم إنا نسألك جنة الفردوس برحمتك يا أرحم الراحمين.
أيها الأخوة أكرموا هذا الوافد العظيم استقبلوه بالتوبة الصادقة والرجوع إلى الله أروا الله من أنفسكم في هذا الشهر المبارك فإن لله نفحات من حرمها حرم خيراً كثيراً جاهدوا أنفسكم أخلصوا النية لله في الاستعداد له فربما قطع هادم اللذات تلك الأماني فبلغ صاحبها بنيته ما لم يبلغه بعمله ، كم ، كم من إخواننا الذين كانوا يخططون لشهر رمضان وعمل الخيرات فيه وقد حملناهم على الأكتاف ودفناهم تحت الأجداث لكنهم بلغوا إن شاء الله بنياتهم ، اللهم اجعل مواسم الخيرات لنا مربحاً ومغنماً ، اللهم بلغنا رمضان ووفقنا لصيامه وقيامه ، واقبلنا فيه وتقبله منا(/9)
اللهم اجعلنا من الفائزين فيه اللهم اختمه لنا بالقبول والغفران ، اللهم إنا نسألك رحمة من عندك تهدى بها قلوبنا ، وتجمع بها أمرنا وتلم بها شعثنا وتصلح بها غائبنا ، وترفع بها شاهدنا وتزكى بها عملنا وتلهمنا بها رشدنا ، وترد بها ألفتنا وتعصمنا بها من كل سوء اللهم أعطنا إيمانا ويقيناً ليس بعده كفر ورحمة ننال بها شرف كرامتك في الدنيا والآخرة اللهم أنا نسألك الفوز في العطاء ونزل الشهداء
وعيش السعداء والنصر على الأعداء اللهم إنا ننزل بك حاجاتنا وإن قصر رأينا وضعف عملنا افتقرنا إلى رحمتك ، فنسألك يا قاضي الأمور ويا شافي الصدور كما تجير بين البحور أن تجيرنا من عذاب السعير ومن دعوة الثبور ومن فتنة القبور ، اللهم ما قصر عنه رأينا ولم تبلغه نيتنا ولم تبلغه مسألتنا من خيرٍ وعدته أحداً من خلقك أو خيراً أنت معطيه أحدا من عبادك فإنا نرغب إليك فيه برحمتك يا أرحم الراحمين ونسألك برحمتك يا رب العالمين اللهم ذا الحبل الشديد والأمر الرشيد نسألك الأمن يوم الوعيد والجنة يوم الخلود مع المقربين الشهود والركع السجود الموفين بالعهود، إنك رحيم ودود وأنت تفعل ما تريد اللهم انصر إخواننا المستضعفين في كل مكان اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان اللهم اشف مريضهم واجبر كسيرهم اللهم ارحم الأطفال اليتامى والنساء الثكالى وذي الشيبة الكبير اللهم اجعلنا هادين مهتدين غير ضالين ولا مضلين سلما لأوليائك وعدوا لأعدائك نحب بحبك من أحبك ونعادي بعداوتك من خالفك اللهم عليك بأعداء الدين ومن ناصرهم اللهم عليك بأعداء الدين ومن ناصرهم وأعانهم يا رب العالمين اللهم يا حي يا قيوم أصلح ولاة أمورنا وولاة أمور المسلمين اللهم وفقهم وأعنهم لما فيه صلاح الإسلام والمسلمين اللهم يا ربي يا ذا الجلال والإكرام اجمع على التوحيد كلمة المسلمين وانصرهم على اليهود والنصارى والمنافقين اللهم هذا الدعاء وعليك الإجابة وهذا الجهد وعليك التكلان اللهم اجعل لنا نورا في قلوبنا ونورا في قبورنا اللهم اجعل لنا نورا من بين أيدينا ومن خلفنا ونورا عن أيماننا ونورا عن شمائلنا ونورا من فوقنا ونورا من تحتنا ونورا في أسماعنا ونورا في أبصارنا ونورا في شعرنا ونورا في بشرتنا ونورا في لحمنا ونورا في دمنا ونورا في عظامنا .(/10)
روحانية صائم
تناول الدرس التذكير بفضائل رمضان وأقسام الناس في استقباله وكيف كان حال السلف فيه وتفاوت الهمم: فهمة في الثرى وهمة في الثريا، مع بيان لروحانية الصوم وكيفية تحصيلها، ثم بيان غاية الصوم وحكمته وثمار الصوم وكيفية اجتناء هذه الثمار .
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله،، أما بعد؛ فبعد أيام نستقبل شهرنا العظيم، شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، شهر الصيام والذكر، شهر التوبة والغفران، شهر العزة والكرامة.. اللهم بلغنا رمضان.. اللهم بلغنا رمضان، فكم من آمل أن يصوم هذا الشهر ففاجأه أجله فسار قبله إلى ظلمة القبر، كم من مستقبل يوم لا يستكمله ومؤمل غداً لا يدركه..
كم كنت تعرف ممن صام في سلف من بين أهل وجيران وإخوان
أفناهم الموت واستبقاك بعدهم حيا فما أقرب القاصي من الداني
الأحد عشر شهراً!! ظلت تجرى بسرعة عجيبة في دهشة وذهول من العاقلين، وغفلة ومجون من اللاهين، قال تعالى:} قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ[112]قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ[113] {'سورة المومنون' والعاقل اللبيب من يفكر ويعتبر بتلك الأيام التي عاشها والليالي التي قضاها، نعم هي ماض، لكنه يسجل عليك فالله تعالى يقول:} هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ[29]{'سورة الجايثة' .
كل الناس يغدو في أهداف وآمال ورغبات وأماني، ولكن أين الجادون؟ أين الجادون فرمضان آت بعد أيام فكيف حال الناس بل كيف حال الأمة؟!! هل من وقفة صادقة للمحاسبة؟ وهل من وقوف جاد للتأمل؟ وما هي مراسم الاستقبال؟؟
كيف يستقبل التعساء رمضان؟
إن رمضان آت بعد أيام، وفى الآمة تُعساء يستقبلونه على أنه شهر: جوع نهار وشبع ليل، نوم في الفراش إلى ما بعد العصر؛ وسمر في الليل إلى الفجر، تراهم ذئاباً في الليل جيفاً في النهار، جعلوا من رمضان موسم طرب وسهر ودعايات وقنوات، إنهم يقتلون رمضان ويفسدون حلاوته وطعمه، حُرموا وحَرموا غيرهم من جمال رمضان وروعة الحياة فيه، عبادة للبدن والجسد بنزواته ولذاته، وأسر للروح والعقل؛ مساكين هؤلاء..
رمضان:رُبَّ فمٍ تمنَّع عن شراب أو طعام ظن الصيامَ عن الغذاء هو الحقيقة في الصيام
وهوى على الأعراض ينهشها ويقطع كالحمام يا ليته إذ صام، صام عن النمائم والحرام
بشارة الرسول لأصحابه بقدوم رمضان:
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان يبشر أصحابه بقدوم رمضان، فعن أبى هريرة رضى الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه:' قَدْ جَاءَكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَيُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا قَدْ حُرِمَ' رواه النسائي وأحمد، وصححه الألباني كما في صحيح النسائي.
اشتياق السلف إلى رمضان:
قال معلى بن الفضل عن السلف: 'كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم'.
وقال يحي بن أبى كثير: 'كان من دعائهم: اللهم سلمني إلى رمضان، وسلم لي رمضان، وتسلمه منى متقبلاً'.
وباع قوم من السلف جارية، فلما قرب شهر رمضان رأتهم يتأهبون له ويستعدون بالأطعمة وغيرها فسألتهم؛ فقالوا: 'نتهيأ لصيام رمضان'، فقالت: 'وأنتم لا تصومون إلا رمضان؟!! لقد كنت عند قوم كل زمانهم رمضان، ردوني إليهم'.
شهر العزة والشجاعة والكرامة:
هكذا كان استقبال السلف لرمضان، فرمضان له طعم خاص ولذة عجيبة في نفوسهم رضوان الله عليهم، فهو يبعث في نفوسهم قوة الإيمان والشجاعة والعزة والكرامة، ولهذا كانت أكثر غزوات ومعارك المسلمين في رمضان لماذا؟ نعم لماذا؟
اسمع الإجابة: إنها حياة الروح حتى وإن كانت البطون خاوية والشفاه يابسة، فالحياة حياة الروح؛ حياة القلب؛ حياة الانتصار على النفس وعلى الشهوات؛ ومن انتصر على نفسه انتصر على الأعداء.
إنها حياة الصلة والثقة بالله جل وعلا، وهنا يكمن جمال رمضان وروعة هذا الشهر بتلك الروحانية العجيبة التي توقظ المشاعر وتؤثر في النفوس، فرمضان له في نفوس الصالحين الصادقين بهجة؛ وفى قلوب المتعبدين المخلصين فرحة؛ فهو شهر الطاعات ولنا فيه جميل الذكريات، إنه زاد الروح تتغلب الروح فيه على البدن والجسد.
من الناس من همته في الثرى، ومنهم من همته في الثريا:
فمنهم من يسعى لحياة الروح ومنهم من يسعى لحياة الجسد، وحياة الروح: باتصالها بالسماء، بالخوف والخشية والمراقبة والإخلاص لله جل وعلا، والروح والجسد لا غنى لأحدهما عن الآخر، إلا إذا أصبح الجسد لا هم له إلا شهوته وهواه، وفيه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: [تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ] رواه البخاري والترمذي وابن ماجه.(/1)
ومن الناس من نسى روحه، وغفل عنها وعن حقوقها، فعبَّدها لجسده وشهواته؛ فأصبحت حياته هموماً وغموما، وأكداراً وأحزانا، ليس له هم إلا أن يرضى هواه.
مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها، وأطيب ما فيها حلاوة الإيمان ولذة الطاعة، فالإنسان جسد وروح وشهوة وعقل، والجسد تتبع له شهوة، والروح تتبع لها العقل، والصراع دائم بين الفريقين؛ الجسد والشهوة معاً، والروح والعقل معاً، ومتى شبع البطن تحركت الشهوة، وإذا خلا البطن؛ هدأت الشهوة وانطلقت الروح تنمو وتنشط، ففي الصيام حلاوة لا يدركها إلا من صام من أجل الله بصدق، ولا يعرفها إلا الذين خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم.وهذه هي الروحانية العجيبة:
روحانية صائم : بذرها بالجوع وسقاها بالدموع، وقواها بالركوع وحسنها الخشوع والخضوع.
روحانية صائم : فيها السعادة واللذة والأفراح والأشواق ما لا يبثه لسان ولا يصفه بيان.
روحانية صائم : فيها الأرواح تهتز وترتاح، وتطير بغير جناح، فهي في أفراح وأفراح.
روحانية صائم : فيها من الحنين لجنات النعيم ما تورمت له أقدام المتهجدين، وبذل له الثمين، وسُمع له الأنين.
روحانية صائم : لا يعرفها العاشقون، ولا المتصوفة الواجدون، بل هي والله حكر على المحبين الصادقين والمخلصين العارفين.
روحانية صائم : تخلصت من أسر الهوى والشهوة وحيل النفس والشيطان.
روحانية صائم : عاش في جنة الدنيا، وفى الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة، ولكن كم بين خلى وسجيا وواجد وفاقد وكاتم ومبد.
أفراح الروح:
هذه أفراح الروح عند انتصارها؛ وفك أسرها من شهوات الجسد، ولذلك قال ابن القيم رحمه الله: 'فاللروح المطلقة من أسر الهوى، من أسر البدن وعلائقه وعوائقه من التصرف والقوة والنفاذ والهمة وسرعة الصعود إلى الله والتعلق بالله ما ليس للروح المهينة المحبوسة في علائق البدن وعوائقه' انتهى كلامه رحمه الله.
روحانية لاتوصف:
هذه الروحانية لا نعرف كنهها، ولا نستطيع وصفها، حتى من ذاق طعمها وعرف حلاوتها من أولئك الأفذاذ ما استطاعوا وصفها ولا التعبير عن وجدها إلا بألفاظ عامة، لم تفصح عن حقيقة الشعور، واسمع لبعضهم يقول:
'إنه ليمر بالقلب لحظات أقول إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي نعيم'.
وآخر يقول: 'أنا جنتي وبستاني في صدري فماذا يفعل أعدائي بي، سجني خلوة، ونفى سياحة، وقتلى في سبيل الله شهادة'.
وهذا ثالث لم يجد ما يعبر به عن السعادة واللذة التي يحبها إلا بقوله: 'إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة' .
إنها حلاوة الإيمان وطعم الصلة بالله، إنها أفراح الروح لا تنقل بالكلمات، إنما تسرى في القلب فيستروحها ويهش لها ويندى بها .
كيف السبيل لهذا النعيم ؟
أما الكيفية: فصم وقم كما كان يصوم ويقوم قدوتنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم:} قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [31]{ 'سورة آل عمران' .
لماذا نصوم ؟
سؤال مهم يجب أن يسأله المسلم نفسه، وحتى لا يتحول هذا الشهر من عبادة لها أهداف ومقاصد عظيمة إلي عادة ثقيلة، كان لابد من الإجابة عن هذا السؤال، فكثير من الناس يصومون، ولكن قليل أولئك الذين يعرفون لماذا يصومون.. هذا هو الفرق بين العادة والعبادة .
لماذا نصوم ؟ يحدد لك الهدف والغاية التي من أجلها فرض صوم رمضان. ووضوح الهدف في أي عمل تقوم به يسهل عليك ذلك العمل، ويدفعك للاجتهاد والمجاهدة للوصول إلي هدفك.
لماذا تمسك عن الطعام والشراب والجماع أكثر من نصف يوم ؟ تجوع وتعطش.. لماذا؟ تسهر وتتعب.. لماذا؟ أصناف الطعام بين يديك والماء البارد بين عينيك فلا تمد يدك إليه.. لماذا؟ ماذا تريد من كل هذا؟ ما هو الهدف؟ إلى أي شئ تريد أن تصل؟ ربما حدثتك نفسك فقالت: لماذا أمرنا الله بالصيام؟ ولماذا فرض علينا شهر رمضان؟
حاشا لله عز وجل أن يكون المراد تجويعنا وتعطيشنا وإتعابنا وهو أرحم الراحمين، وهو أرحم من الأم بولدها، بل إن الله قال في آخر آيات الصيام: } يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ[185]{'سورة البقرة' .
وربما تقول أيها الحبيب: إننا نصوم رمضان؛ لأن الله أمرنا بصيامه، فتجب الطاعة والاستجابة لله بما أمر؛ فنقول؛ نعم إن الاستجابة لله ورسوله أمر واجب على كل مسلم ومسلمة، ولو لم تتبين لنا الثمرة والحكمة من هذا الأمر، فنحن أسلمنا واستسلمنا لله؛ فيجب علينا طاعة الله، فإن الخير كل الخير فيما أمر الله ورسوله به.
الهدف من الصوم: لكن هناك ثمرة وغاية عظيمة بينها الله عز وجل من شهر الصيام بقوله:}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [183]{ 'سورة البقرة' .
إذا فالغاية الأولى والهدف الأسمى من صيام رمضان:
هو إعداد القلوب للتقوى ومراقبة الله .
إعداد القلوب لخشية الله.(/2)
فالصوم يجعل القلوب لينة رقيقة، يجعلها ذات شفافية وحساسية، يجعلها وجلة حية.. يوقظ القلوب، فإذا فسد الناس في زمن من الأزمان فإن صلاحه لا يكون بالتشدد والتنطع، فليبدأ الصلاح بإعداد القلوب وبث حرارة الإيمان فيها، وخوف الله ومراقبته، فالإسلام لا يقود الناس بالسلاسل إلى الطاعات، إنما يقودهم بالتقوى ومراقبة الله والخوف منه.
ثمار الصيام :
ومن أعظم ثمار الصيام: تربية القلوب على مراقبة الله وتعويدها على الخوف والحياء منه.
ويقول القسطلاني رحمه الله- معدداً ثمرات الصوم-: 'ومنها: رقة القلب وغزارة الدمع، وذلك من أسباب السعادة، فإن الشبع مما يذهب نور العرفان، ويقضى بالقسوة والحرمان' انتهى كلامه .
إذا كان الأكل والشرب للبطن، والتقوى مكانها القلب؛ فما دخل ذا بذا؟
و الإجابة: أليس كثرة الطعام والشراب لها أثر كبير على فساد القلب وغفلته؟ فالبطنة تذهب الفطنة، والشبع يقسي القلب ويعميه، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:' مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ' رواه ابن ماجه وأحمد والترمذي وقال:حسن صحيح .
وقال عمرو بن قيس: 'إياكم والبطنة فإنها تقسي القلب'.
وقال الحارث بن كلدة، الطبيب العربي المشهور:'الحمية رأس الدواء والبطنة رأس الداء' .
وقال سفيان الثوري: 'إن أردت أن يصح جسمك ويقل نومك فأقلل من الأكل'.
ولذلك فإن تقليل الطعام والشراب ومباشرة النساء؛ ينور القلب ويوجب رقته، ويزيل قسوته، فالصيام فيه كسب للنفس وتحلية القلب للذكر والفكر.
والصيام يضيق مجارى الدم التي هي مجارى الشيطان من ابن آدم، فإن الشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم، فتسكن بالصيام وساوس الشيطان، وتنكسر ثورة الشهوة والغضب.
وقد روى عن ذي النون المصري رحمه الله أنه قال: 'تجوّع بالنهار وقم بالأسحار، ترى عجباً من الملك الجبار'. وقال يحي بن معاذ: 'من شبع من الطعام عجز عن القيام'، فهل عرفت علاقة الطعام والشراب بالتقوى؟!
والإمساك عن الطعام والشراب في رمضان ليس هدفاً في ذاته، بل هو وسيلة لرقة القلب وانكساره وخشيته لله، ولذلك قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:' مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ' كما في البخاري. وقال صلى الله عليه وسلم:' لَيْسَ الصِّيَامُ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إنَّمَا الصِّيَامُ مِنْ الّلغْوِ وَالرَفَثِ' رواه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم.
هذه هي حقيقة الصيام فلا تحرم نفسك منها ؛ أما إن كان الأمر ترك الطعام والشراب فما أهون الصيام، ولكن إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك من الكذب والمحارم؛ وجماع ذلك خوف القلب من الله ومراقبته، وإلا فتنبه واحذر، فربما دخلت في قول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:' رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ' رواه أحمد والدارمي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان وقال الحاكم:' صحيح على شرط البخاري' .
إذا؛ فليس رمضان إمساك عن الطعام والشراب فقط؛ وسجوداً وركوعاً، والقلب هو القلب قاس عاص غافل لاه، الغناء يطرب الآذان، وللعينين أُطلق العنان، واللسان غش وكذب وغيبة ونميمة وسب ولعان. فَأُفٍ ثم أف لنفوس لم يهذبها الجوع ولم يربها السجود والركوع، فالصيام تدريب للنفوس وتعويد لها على الصبر وترك الشهوات..يدخل رمضان ويخرج وبعض النفوس لم تتغير، يجوع ويعطش وقلبه هو قلبه، ومعاصيه هي معاصيه، وربما يركع ويسجد، ويسهر ويتعب وحاله هي حاله، ولسانه هو لسانه.. نعوذ بالله من حال هؤلاء.
قال ابن رجب رحمه الله : [كل قيام لا ينهى عن الفحشاء والمنكر، لا يزيد صاحبه إلا بعداً، وكل صيام لا يصان عن قول الزور والعمل به، لا يورث صاحبه إلا مقتاً ورداً، يا قوم أين آثار الصيام؟! أين أنوار القيام؟!
إن كنت تنوح يا حمام الباني للبين أين شواهد الأحزان !!
أجفانك للدموع أم أجفاني لا تقبل دعوى بلا برهان
[ انتهى كلامه رحمه الله] .
إذاً: ليس الصيام في الإسلام لتعذيب النفوس، بل هو لتربيتها وتزكيتها ولينها ورقتها، فالقرآن يعلمنا أن الصوم إنما فرض لنذوق طعم الإيمان، ونشعر براحة القلب، وسعادة النفس، ولذة الحياة ،وكل ذلك في مراقبة الله والخوف منه، فتقوى الله أعظم كنز يملكه العبد في الدنيا، وليس أشقى والله على وجه الأرض ممن يحرمون طمأنينة الأنس بالله بتقوى الله.
كيف تحصل ثمرة الصيام: تقوى الله؟
علاقة الصيام بتقوى الله تظهر من وجوه كثيرة فأرعني سمعك وانتبه لهذه الأسئلة:
ألا يمكن وأنت صائم في نهار رمضان أن تختفي عن أعين الناس فتأكل وتشرب وتفعل ما تشاء، لا يعلم بك أحد من الناس ولا تطلع عليك عين من عيون الخلق؟؟ اسأل نفسك ما الذي يمنعك؟ ما الذي يردك؟ لأنك تعلم أن الله يراك ومطلع عليك ويعلم ما تخفي وما تعلن.(/3)
أليس في هذا تربية للقلب، وارتباط بخالقه وخوفه وخشيته؟ أليس من صام بمثل هذه المعاني وبمثل هذه المشاعر ازداد صلة بالله وخشية وخوفاً من الله، وازداد تذوقاً بصيام رمضان، وراحة للنفس والبال؟ وهذا أعظم زاد للروح، فالصوم أمر موكول إلى نفس الصائم لا رقيب عليه إلا الله، فهو سر بين العبد وربه، ولولا استشعاره لرقابة الله وأنه يراه؛ لما صبر عن هذه الشهوات.
عند الوضوء للصلاة، وفى المضمضة والاستنشاق، لماذا تحرص أن لا يفوت إلى حلقك قطرة ماء مع أنه لا يطلع عليك أحد من الناس، ولا يعلم بك أحد لو أدخلت جرعة ماء فكيف بقطرة؟
من علمك هذا الأدب؟ من علمك هذا الحرص العجيب؟ إنها رقابة الله، فأنت على يقين أنه يرى قطرة الماء هذه لو سالت إلى حلقك.
في رمضان نراكِ أيتها الأخت الكريمة من بعد صلاة الظهر إلى غروب الشمس، وأنت في مطبخك تقفين أمام أصناف المأكولات والمشروبات، تراها بعينيها، وتشم روائحها المغرية بنفسها، وربما ذاقت ذلك بطرف لسانها فأخرجته بحركة سريعة عجيبة .. تأملوا هذا الموقف.. تأمليه أيتها الأخت! جائعة وعطشى ولوحدها لا يراها أحد من الناس، فلماذا لا تمد يدها فتأكل وتشرب؟ من الذي يمنعها؟ من يردها؟ إنها حلاوة الروح بصلتها بالله.. بخوفها من الله، فهي تعلم أن الله يراها، ومطلع عليها ويعلم حالها، فأي تهذيب وأي تأديب هذا الذي أحدثه الصيام في النفوس؟ فما رأيكن أيتها الصائمات هل عرفتن لماذا نصوم!!
إذاً: فخلاصة الأمر نقول: إن تجويع البطن والفرج لبضع ساعات فيه حياة الروح، فانكسار النفس وخلو البطن وتضييق مجارى الدم فوائد للصيام، مفادها حياة الروح المتمثلة برقة القلب ولينة وخوفه وخشيته من الله جل وعلا.
وإذا ملك العبد قلباً بهذه الصفات؛ انضبط قوله وفعله وحاله، إذ لا يمكن أبدا أن يمتثل لترك هذه الشهوات: الطعام والشراب والجماع، وهى حلال فيتعداها إلى الحرام من كذب وظلم وغش ومشاهدة للحرام وسماع للغناء، سواء كان في الليل أو النهار، وسواء كان في رمضان أو غير رمضان.
فالله فرض الصيام ثلاثين يوماً تدريباً وتذكيراً للنفوس برقابة الله عليها، وصدق الله:} لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [183]{ 'سورة البقرة' . أي من أجل أن تتقوا، ومن لم يصم بهذه المعاني فليتذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الآنف الذكر: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ] .
فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه.. وفتح لهم أبواباً في دار العمل فآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواه لطلبها والمسابقة إليها، أما الحلاوة الحقيقية فيكفى قول الحق عز جل: }فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[17] {'سورة السجدة' .
في رمضان موسم الخيرات.. هلموا إلى دار لا يموت سكانها؛ ولا يخرب بنيانها؛ ولا يهرم شبانها؛ ولا يتغير حسنها وإحسانها..هوائها النسيم.. يتقلب أهلها في رحمة أرحم الراحمين.. ويتمتعون بالنظر إلى وجهه الكريم كل حين..}دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[10]{ 'سورة يونس' .
فأكرموا هذا الوافد الكريم.. استقبلوه بالتوبة الصادقة والرجوع إلى الله؛ أروا الله من أنفسكم في هذا الشهر المبارك.. فإن لله نفحات من حرمها فقد حرم خيراً كثيراً.. جاهدوا أنفسكم.. أخلصوا النية لله في الاستعداد له؛ فربما قطع هادم اللذات تلك الأماني فبلغ صاحبها بنيته ما لم يبلغه بعمله.. كم من إخواننا الذين كانوا يخططون لشهر رمضان وعمل الخيرات فيه، وقد حملناهم على الأكتاف ودفناهم تحت الأجداث، لكنهم بلغوا إن شاء الله بنياتهم.
من محاضرة:'روحانية صائم' للشيخ/ إبراهيم الدويش(/4)
روعة التّهافت؟!
د. مسفر بن علي القحطاني 20/3/1427
18/04/2006
" القيم إلى أين؟ " هذا التساؤل الكبير كان محطّ اهتمام أكثر من خمسين مفكراً جمعتهم اليونسكو من كل أنحاء العالم للتباحث حول مستقبل القيم في ظل التطورات الهائلة التي أصابت عدة قطاعات حيوية جاءت بها ثورة التقنية والأسواق المفتوحة وعممتها وسائل الإعلام والاتصال, وكان هناك شبه إجماع -حسب قراءتي لمقالاتهم ومناقشاتهم لهذه القضايا- وهو أن التهديدات هي أعظم من المبشرات ودواعي التشاؤم التي تحكم معطياتها إشراقات التفاؤل.
لقد رصدت هذه المجموعة من الباحثين والفلاسفة خطورة المستقبل القادم للقيم الإنسانية، لا بدعوى التنبؤ بإرهاصاته، ولكن من أجل الحماية من تداعياته الكارثية، وبالخصوص على مستوى القيم الفكرية والثقافية والأخلاقية وحتى الدينية، فقد بدأت تخضع هذه القيم لمنطق العرض والطلب، وحاجات السوق الكبير الذي ساحت به العولمة في كل أودية العالم، وأصبحت المساومات المادية هي لغة التفاهم بين الدهاقنة أصحاب التمويل وعابري البحار من الشركات المتعددة الجنسية، وبين أفراد ومؤسسات الثقافة ومصانع الفكر, وهنا مكمن الخلل الذي يتعدّى سوء الاستغلال للتراث الإنساني والقيم النبيلة التي حفرتها مَسلّة المجتمعات البشرية, وهذا ينذر بكساد قيمي قد يحطّم المجتمع ،ويلاشيه، ويصبح الناس كالمسامير المتحركة في تلك المجتمعات الميكانيكية، أو سلعاً رخيصة لاستهلاك الأقوياء وإلهاء الضعفاء.
هذه المقدمة السابقة هي رؤيتي الواضحة لمستقبل القيم في كثير من أنحاء العالم، بعيدة عن أي نظارة تختزل الواقع في وردة صغيرة. صحيح أن المجتمعات ليست قالباً واحداً في حجم التأثر بل هناك تفاوت في القوة والضعف بينها قد يكون مرده إلى العامل الزمني الذي تحدده العولمة في خطتها للانتشار, وفي منطقتنا العربية القطار قد وصل المحطة، والركاب ينتظرون الدخول فيه لحجز مقاعدهم في رحلتهم نحو المجهول!
أعلم أن هذا التشاؤم لا يليق بالمسلم الذي يصنع الخير من معامل الشر، ويحطم قيود اليأس بالعمل المثمر، ويغرس النخلة، ولو قامت الساعة, لكن الفأل المفرط لا يمنع دقّ نواقيس الخطر القادم من تحولنا إلى سوق كبير يُباع فيه كل شيء, نعم كل شيء حتى الفكر والقيم والإنسان, والمتأمل في اقتصاديات العولمة وأسواقها الحرة رأى كيف تذوب اللغات، وتُهمّش الثقافات، ويُباع الإنسان، أو يُدفن حياً تحت ركام الديون أو البحث عن فتات العيش في مزابل الأغنياء والمترفين. لذلك خرجت صيحات فلاسفة الغرب كـ(جاك دريدا) و(هابرماس) و(بيار) و(ريفكي) و(تشومسكي) و(كنيدي) وغيرهم بالدفاع عن القيم، ولو كانت ناقصة التأثير؛ فالحداثة الغربية بمفاهيميها العلمانية قد ماتت في نفوس الكثيرين، وسقطت في براثن فيروسات الغطرسة والتعالي وازدواجية المبادئ, وورثتها الحاليين ناقمين عابثين محطمين بناء الأسلاف مهما كان جماله في أعينهم.
أنني أشاهد في مجتمعي تلك الصورة المتكررة للاستبداد والاستغلال, وتلك البدايات التي انتهت منها شعوب، وذاقت مرارتها ثقافات، تريد بسط نفوذها تحت هيمنة الإعلام المؤدلج, ووطئت المنتديات الاقتصادية التي يُجلب لها متحدثون من العالم يعيدون تنميط الثقافة وإنتاج القيم للناس، كما يريدون، لا كما نؤمن ونعتقد, لقد اضطّروا المثقفَ والكاتبَ والعالمَ لأن يتوقف عن الإبداع والبحث والتأليف حتى يرتفع الطلب، أو يبيع ما عنده وفق احتياج السوق وأهواء الناس, وعليه دائماً -إذا لم يكن له صديق أو معرّف في هذا السوق- أن يعدّ الجواب لأسئلة الناشرين: كم سيجلب من مال أو يشتري بضاعته الفكرية من أناس، ولو بالإثارة التافهة أو الدّوْس على القيم السامية؟! هذه الحالة المؤسفة خيوط بداياتها تتفاقم في مجتمعنا وملامحها بدأت تظهر في معارضنا للكتاب، وبرامجنا الإعلامية في تحقير العظيم، وتعظيم الحقير، وتحطيم الوعاة، وقراءة سورة يس على مشهدنا الفكريّ الأصيل؟!(/1)
روعة التّهافت؟!
الكاتب: الشيخ د. مسفر بن علي القحطاني
" القيم إلى أين؟ " هذا التساؤل الكبير كان محطّ اهتمام أكثر من خمسين مفكراً جمعتهم اليونسكو من كل أنحاء العالم للتباحث حول مستقبل القيم في ظل التطورات الهائلة التي أصابت عدة قطاعات حيوية جاءت بها ثورة التقنية والأسواق المفتوحة وعممتها وسائل الإعلام والاتصال, وكان هناك شبه إجماع -حسب قراءتي لمقالاتهم ومناقشاتهم لهذه القضايا- وهو أن التهديدات هي أعظم من المبشرات ودواعي التشاؤم التي تحكم معطياتها إشراقات التفاؤل.
لقد رصدت هذه المجموعة من الباحثين والفلاسفة خطورة المستقبل القادم للقيم الإنسانية، لا بدعوى التنبؤ بإرهاصاته، ولكن من أجل الحماية من تداعياته الكارثية، وبالخصوص على مستوى القيم الفكرية والثقافية والأخلاقية وحتى الدينية، فقد بدأت تخضع هذه القيم لمنطق العرض والطلب، وحاجات السوق الكبير الذي ساحت به العولمة في كل أودية العالم، وأصبحت المساومات المادية هي لغة التفاهم بين الدهاقنة أصحاب التمويل وعابري البحار من الشركات المتعددة الجنسية، وبين أفراد ومؤسسات الثقافة ومصانع الفكر, وهنا مكمن الخلل الذي يتعدّى سوء الاستغلال للتراث الإنساني والقيم النبيلة التي حفرتها مَسلّة المجتمعات البشرية, وهذا ينذر بكساد قيمي قد يحطّم المجتمع ،ويلاشيه، ويصبح الناس كالمسامير المتحركة في تلك المجتمعات الميكانيكية، أو سلعاً رخيصة لاستهلاك الأقوياء وإلهاء الضعفاء.
هذه المقدمة السابقة هي رؤيتي الواضحة لمستقبل القيم في كثير من أنحاء العالم، بعيدة عن أي نظارة تختزل الواقع في وردة صغيرة. صحيح أن المجتمعات ليست قالباً واحداً في حجم التأثر بل هناك تفاوت في القوة والضعف بينها قد يكون مرده إلى العامل الزمني الذي تحدده العولمة في خطتها للانتشار, وفي منطقتنا العربية القطار قد وصل المحطة، والركاب ينتظرون الدخول فيه لحجز مقاعدهم في رحلتهم نحو المجهول!
أعلم أن هذا التشاؤم لا يليق بالمسلم الذي يصنع الخير من معامل الشر، ويحطم قيود اليأس بالعمل المثمر، ويغرس النخلة، ولو قامت الساعة, لكن الفأل المفرط لا يمنع دقّ نواقيس الخطر القادم من تحولنا إلى سوق كبير يُباع فيه كل شيء, نعم كل شيء حتى الفكر والقيم والإنسان, والمتأمل في اقتصاديات العولمة وأسواقها الحرة رأى كيف تذوب اللغات، وتُهمّش الثقافات، ويُباع الإنسان، أو يُدفن حياً تحت ركام الديون أو البحث عن فتات العيش في مزابل الأغنياء والمترفين. لذلك خرجت صيحات فلاسفة الغرب كـ(جاك دريدا) و(هابرماس) و(بيار) و(ريفكي) و(تشومسكي) و(كنيدي) وغيرهم بالدفاع عن القيم، ولو كانت ناقصة التأثير؛ فالحداثة الغربية بمفاهيميها العلمانية قد ماتت في نفوس الكثيرين، وسقطت في براثن فيروسات الغطرسة والتعالي وازدواجية المبادئ, وورثتها الحاليين ناقمين عابثين محطمين بناء الأسلاف مهما كان جماله في أعينهم.
أنني أشاهد في مجتمعي تلك الصورة المتكررة للاستبداد والاستغلال, وتلك البدايات التي انتهت منها شعوب، وذاقت مرارتها ثقافات، تريد بسط نفوذها تحت هيمنة الإعلام المؤدلج, ووطئت المنتديات الاقتصادية التي يُجلب لها متحدثون من العالم يعيدون تنميط الثقافة وإنتاج القيم للناس، كما يريدون، لا كما نؤمن ونعتقد, لقد اضطّروا المثقفَ والكاتبَ والعالمَ لأن يتوقف عن الإبداع والبحث والتأليف حتى يرتفع الطلب، أو يبيع ما عنده وفق احتياج السوق وأهواء الناس, وعليه دائماً -إذا لم يكن له صديق أو معرّف في هذا السوق- أن يعدّ الجواب لأسئلة الناشرين: كم سيجلب من مال أو يشتري بضاعته الفكرية من أناس، ولو بالإثارة التافهة أو الدّوْس على القيم السامية؟! هذه الحالة المؤسفة خيوط بداياتها تتفاقم في مجتمعنا وملامحها بدأت تظهر في معارضنا للكتاب، وبرامجنا الإعلامية في تحقير العظيم، وتعظيم الحقير، وتحطيم الوعاة، وقراءة سورة يس على مشهدنا الفكريّ الأصيل؟!(/1)
رويداً بالثقة
أ / إبراهيم بن محمد بن سليمان السعوي
</TD
تعامل المجتمع على نطاق أفراده له أنماط وأشكال ، حقيقة واصطناع ، فكثير من العلاقات المتبادلة بين أطياف المجتمع وأفراده فيها تكلف واصطناع وتزلف ، وبحث عن مصالح سيما الفردية ، فما نشاهده من كثير من الاحترام والتقدير والودّ سرعان ما تتلاشى فخيوط تواصلها لا تستطيع تحمل نائبات الدهر ، فهي أهون من بيت العنكبوت ، هذا إذا سلمت من الانقلاب إلى الضد لأنه يشوبها عدم الصدق والقناعة فهي مابين بحث عن طمع من أطماع الدنيا ، أو من باب سياسة " اذكرني عند ربك " أو خوفاً من لغة النار والحديد .
فأفضل وسائل التعامل والاتصال مع الآخرين سواءً كان على نطاق المجتمع أو الفرد في أمور دينية أو دنيوية الثقة المتبادلة بينهم التي قوامها التقوى والأمانة ، والقوة فيهما ، قال الله تعالى : ( إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ) ، وعلامتها الوفاء بالعهد قال الله تعالى : { وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} ، والتنزه عن الغدر والخيانة التي لا يتصف بها إلا أهل الخسة والدناءة قال صلى الله عليه وسلم : " آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، و إذا وعد أخلف ، وإذا أتمئن خان " . بدءاً بأعظم مسؤولية في المجتمع ـ الولاية العامة ـ ، ومررواً بالأفراد المحيطين بالمرء من أب وابن وزوج .... وانتهاء بأدنى مسؤولية في المجتمع .
فثقة الناس بالمرء من الأمانة التي قال الله فيها : { إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } .
فلأجل الثقة يسمع المرء ويطيع للغير ديانة ، وبها يُولّى الإنسان دماء آخرين .
ولأجل الثقة يعتمد أناس على آخرين لحفظ أغلى ما يملكون من شرف وعرض .
أصون عرضي بمال لا أدنسه لا بارك الله بعد العرض في المال
ولثقة القوم بأمانة آحاد الناس يسندون إليه إدارة عصب حياتهم " المال " .
ودافع الثقة والارتياح بأصحاب التربية والتوجيه فتح الناس لهم عقولهم ، وعقول من تحت أيديهم قبل مسامعهم .
ولقوة الثقة بآحاد الناس يسرّ إليه بأمور عظام ما بين عامة وخاصة .
ومتى ما قويت الثقة والارتياح نتج عنه قوة في الاعتماد والاتكال ، بل قد يتعدى إلى أبعد من ذلك وهو الدعاء والثناء الحسن ، وإرشاد الآخرين إلى من اتصف بهذه الثقة ؛ لقلة ذلك وندرته .
فالمرء الذي تثق فيه ، وترتاح إليه ، ويكون عند حسن ظنك به ، ويتصف بالوفاء والعهد ، وتأمن منه جانب الغدر والخيانة أندر من الكبريت الأحمر، فعض عليه بالنواجذ.
فهذا الشاعر المخضرم لبيد ببن ربيعة الذي يقطر قلبه دماً وحسرة لذهاب منهم أهلاً ليكونوا محل ثقة وعتزاز حيث صور ذلك بقوله :
ذهب الذين يُعاش في أكنافِهِم * وبقيت في خلف كجلدِ الأجربِ
يتآكلون خيانة ومذمَّة * ويعابُ قائلهم وإن لم يشغبِِ
ثم تقول أم المؤمنين عائشة بنت الصديق رضي الله عنها يرحم الله لبيداً كيف لو أدرك زماننا ! .
ولقلة من يتصف بالوفاء والعهد ويكون عند حسن ظن الآخرين به في زمن مضى في العهد الذي عاش فيه محمد بن المرزبان المتوفى سنة 309هـ ، الذي يُعد هذا العهد من خيرة العهود حملته معاملة أهل زمانه إلى تسطير كتاب فيه شيء من الغرابة ليثبت أن بعض الحيوانات التي فُضل عليها بنو آدم خير من كثير من البشر ، فعنوان كتابه يدل على مضمونه " فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب " . فحشد فيه من الأبيات الشعرية والقصص القديمة والمعاصرة له لدناءة بعض الناس وخسته ، وغدره ومراوغته التي قد يظنها القارئ أنها من أساطير من اتصف بروح التشائم .
ولضعف بعض النفوس فقد يستغل من وثق فيه وأحسن الظن فيه من صديق ، أوقريب ، أومَنْ أسند إليه مهمة وأمانته ....
أوصى بعضهم بقوله : ذهب زمن الأنس ، فاحتفظ من صديقك كما تحتفظ من عدوك ، وقدم الحزم في كل الأمور ، وإياك أن تكاشفه بسرك فيجاهرك به في وقت الشر .
وأنشد زيد بن علي :
احذر مودة ماذق خلط المرارة بالحلاوة
يحصي الذنوب عليك أيام الصداقة للعداوة
وسئل بعض الحكماء : أي الناس أحق أن يتقى ؟ قال : عدو قوي ، وسلطان غشوم ، وصديق مخادع .
قال ابن حزم : طريق من اُمتحن أن يخالط الناس وعرة المسالك ، شاقة المتكلف ؛ يحتاج سالكها إلى أن يكون أهدى من القطا ، واحذر من العَقْعَق *.
وغدر وخيانة من هو محل ثقة وارتياح أشد ملامة وخسة ممن لم يُوثق فيه أصلاً فهو في مأمن من جانب الحيطة والحذر ، فخيانة الجار لجاره دناءة وبعد عن شيم الرجال في حكم الدين ، وعند الناس ، وأكثر ملامة ممن هو من الأباعد .
فعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا يدخل الجنة مَنْ لا يأمن جاره بوائقه ".(/1)
ويصور صلى الله عليه وسلم صورة مَنْ يؤمن جانبه أكثر من غيره إذا أُطلق له الحبل على الغارب بالموت ، فقد قال : " إياكم والدخل على النساء ، فقال رجل من الأنصار : أفرأيت الحمو ؟ قال : الحمو الموت " .
ومن أعظم المصائب التي يصاب بها المجتمع ، وتكون مانعاً قوياً من موانع التقدم في جميع المجالات ، بل ينتج عنه انتشار التخلف بجميع صوره وأشكاله ؛ ندرة الأكفاء ، ومن هو أهلٌ لأن يكون محل ثقة ومسؤولية ، ومن يكون الاتصاف بالوفاء بالعهد والميثاق ديدنه ، ومن يبتعد عن الأنانية ، ومن يكون الاهتمام بالدين شعاره .
ومع ندرة هذه العينات نجد عند إسناد مسؤولية من مسؤوليات المجتمع لا ينظر إلى هذه العينات ، وإنما ينظر إلى عوامل أخرى من المحسوبيات فتصير للكع بن لكع ، ومنهم أسافل الناس الذي على إثره تُعدم الثقة ، وتضيع الأمانة ، وتنتشر الخيانة ؛ مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة " ، قيل : كيف أضاعتها يا رسول الله ؟ قال : " إذا اسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة " . مما يبرهن على عدم اكتراث الناس بدينهم سيما من بيده الحل والعقد .
فتَحِلُ السنوات الخداعة التي أخبر عنها المصطفى صلى الله عليه وسلم التي تنعكس فيها الأمور : يصدق فيها الكاذب ، ويكذب فيها الصادق ، ويؤتمن فيها الخائن ، ويخون فيها الأمين .
فهذه السنوات ليست بعيدة عن زماننا هذا ، والله المستعان .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أخوكم
إبراهيم بن محمد بن سليمان السعوي
ams2041@naseej.com
ـــــــــــــــ
* ـ القطا : طائر كالحمام ، و العَقْعَق : طائر على شكل الغراب ، يوصف بالحذر .(/2)
رياح التحزب
أخي الحبيب : إن سُعار الحزبية محرق , وسمها قاتل ؛ كم مكر أخٌ بأخيه حتى أرداه في لجج الفتن , وكم عُطل من أمر بمعروف أو نهي عن المنكر ؛ فما شتت القلوب وفرق بين الجموع إلا الحزبية , ولذا يجب لأهل السنة أن يعلنوا عن هُويتهم , ويبينوا منهجهم , ويحذروا من الحزبية والعصبية , لهذا نجد أن العلماء رحمهم الله كانوا يهتمّون بتمحيص رجال الحديث فنراهم يميّزون السني من المبتدع ، قال محمد بن سيرين رحمه الله( 1) : ( لم يكونوا يسألون عن الإسناد ، فلما وقعت الفتنة ، قالوا : سمّوا لنا رجالكم ، فيُنظر إلى أهل السنة فيُؤخذ حديثهم ، ويُنظر إلى أهل البدع فلا يُؤخذ حديثهم ) .
وكان حال السلف في وضع العلم لا يضعونه إلا عند من يحسن استعماله .
عن أبي داود الطيالسي قال : جهد وكيع أن يسمع من زائدة بن قدامة(2 )حديثا واحدا ؛ فلم يسمع حتى خرج من الدنيا ، فقيل لأبي داود : وكيف سمعت أنت ؟ قال : كان يستشهد رجلين عدلين على أن هذا صاحب جماعة ؛ وليس بصاحب بدعة ، فإذا شهد عدلان حدّثه ، قال أبو داود : وكنت بمنى وحضر سفيان الثوري ، فكان يُكرمني ويقول : ذاكرني بحديث أبى بسطام(3 ) فقلت لسفيان : أُحب أن تكلِّم زائدة في أمري حتى يحدثني ، فجاء إلى زائدة فقال : يا أبا الصَّلت ! حَدِّث صاحبي هذا ؛ فإنه صاحب سنة وجماعة ، فقال : نعم يا أبا عبد الله .( 4)
وبعد هذه النقول ؛ فإنه لحريٌّ بمن كانت هذه همّته وهي : حفظ بيضة الإسلام من الدخلاءِ ؛ أن يكون له منهجٌ مباينٌ لكلّ المناهج المخترعة المضاهية لمنهج الرسول صلى الله عليه وسلم , وصحابته رضوان الله عليهم في العقيدة والشريعة .
وحريٌ أيضاً أن يكون أصحابها هم المعنيّون بالفرقة الناجية , والطائفة المنصورة كما جاء في بعض الأحاديث ، وكما فسّرها غير واحدٍ من الأئمة المعتبرين .
كما جاء في الحديث عن أَبَي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيَّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَمَنْ خَرَجَ مِنْ الْجَمَاعَةِ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ رَأْسِهِ وَمَنْ دَعَا دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ جُثَاءُ جَهَنَّمَ قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى قَالَ نَعَمْ وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَلَكِنْ تَسَمَّوْا بِاسْمِ اللَّهِ الَّذِي سَمَّاكُمْ عِبَادَ اللَّهِ الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ. ( 5)
كذلك ما جاء في الحديث المعروف عن جَابِر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ ثَابَ مَعَهُ نَاسٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ حَتَّى كَثُرُوا وَكَانَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلٌ لَعَّابٌ فَكَسَعَ أَنْصَارِيًّا فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ غَضَبًا شَدِيدًا حَتَّى تَدَاعَوْا وَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ يَا لَلْأَنْصَارِ وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ يَا لَلْمُهَاجِرِينَ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا بَالُ دَعْوَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ قَالَ مَا شَأْنُهُمْ فَأُخْبِرَ بِكَسْعَةِ الْمُهَاجِرِيِّ الْأَنْصَارِيَّ قَالَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعُوهَا فَإِنَّهَا خَبِيثَةٌ . (6 )
ومع أنهما اسمان شرعيان - المهاجري والأنصاري - لكن لما كان هناك موالاة ومعاداة عليهما , ونصرة في هذين الاسمين ، وخرجت النصرة عن اسم الإسلام بعامة , صارت دعوى الجاهلية ، ففيهم من خلال الجاهلية شيء كثير ، ولهذا نبغي للشباب أن ينبهوا على هذا الأمر بالطريقة الحسنى المثلى ؛ حتى يكون هناك اهتداء إلى طريق أهل السنة والجماعة وإلى منهج السلف الصالح .
إذا عرفت الحق فاثبت
أخي الحبيب : إذا عرفت الحق فاثبت عليه وادعو الله بالهداية , واجعل هواك وأُنْسَك طوع شرع الله ومنهجة , فإذا وضح لك الطريق ؛ فجد وسابق وإياك وقطاع الطرق ممن يعطلوا سيرك , ويأسروا قلبك ويغلقوا عقلك {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [ سورة الأنبياء :111 ]
{مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [ سورة يونس :23 ]
وإذا رزقت يقظة فصنها في بيت عزلة , فإن أيدي المعاشرة نهابة واحذر معاشرة البطالين فإن الطبع لص , لا تصادقن فاسقا ولا تثق إليه , فإن من خان أول منعم عليه لا يفي لك .
ولا خير في ود امرىء متلون
إذا الريح مالت مال حيث تميل
جواد إذا استغنيت عن ماله
وعند احتمال الفقر عنك بخيل
فما أكثر الإخوان حين iiتعدهم
ولكنهم في النائبات قليل
واحذر أن تبتذل للناس فخذ منهم ما تعرف ودع ما تنكر , وخالطهم على قدر الفائدة , فإن المخالطة توجب التخليط , وأيسرها تشتيت الهمة وضعف العزيمة .(/1)
لقد تعلم سفيان رحمه الله من مشايخه أن الإنصات لصاحب بدعة مهلكة , وأن الاقتراب منهم مفسدة للقلب والدين ؛ حتى وإن أظهر بعض أهل البدع زهدا وصلاحا , فهذا عمرو بن عبيد( 7) الذي كان يُضرب به المثل في الزهد والورع والعبادة ؛ كان رأسا من رؤوس المبتدعة فكان قدريا -أي يقول بالقدر- ومن دعاة المعتزلة , حتى غرر بزهده وشدة عبادته أكثر عامة المسلمين في زمانه , حتى كاد سفيان نفسه أن يهلك على يديه لولا عناية الله له , وصرفه عنه من أول الطريق على يد شيخه أيوب السَّخْتِياني .
فعن عبد الواحد بن زيد قال : قال لي أيوب قُل للثوري : لا تصحب عمرو بن عبيد قال : فقلت ذلك له , فقال : إني أجد عنده أشياء لا أجدها عند غيره , فقلت ذلك لأيوب : فقال لي أيوب : من تلك الأشياء أخاف عليه .(8 )
فاستفاد سفيان من ذلك أي استفادة , حتى صقل قلبه وانضبط ميزانه , فكان لا يترك بدعة خفيت أم ظهرت إلا ويعرض بصاحبها ويحذر منه .
وكان رحمه الله يتغير إذا وجد صاحبا له يجالس من تلبس ببدعة أو هوى ويهجره ويبتعد عنه , فهو قد هجر صاحبا له لما رآه جالسا إلى إبراهيم ابن طهمان(9 ).
فعن عبد العزيز بن أبي عثمان قال : كان رجل من المغاربة يجالس سفيان وكان سفيان يستخفه(10 ) ثم جفاه فشكا ذلك إلينا , قال : فقلت له تكلم فلان ؛ فإنه أجرأ على سفيان , قال : فكلمه , قال : يا أبا عبد الله ! هذا الشيخ المغربي قد كنت تستخفه فما حاله اليوم ؟ فلم يزل به حتى قال سفيان : إنه يجالس ...؟ ولم يسم أحدا ! قال : فقال له : من جالست ؟ قال : جلست يوما إلى إبراهيم بن طهمان في المسجد الحرام , ودخل سفيان من باب المسجد فنظر إليَّ فأنكرت نظرته .( 11)
وكان عمرو بن عبيد يأتي كهمسا يسلم عليه , ويجلس عنده هو وأصحابه , وكانت أمه سمعت أن أيوب السَّخْتِياني يتكلم فيه , فقالت له أمه : إني أرى هذا وأصحابه وأكرههم , وما يعجبوني فلا تجالسهم , فجاء إليه عمرو وأصحابه , فأشرف عليهم وقال : إن أمي قد كرهتك وأصحابك فلا تأتوني .( 12)
وعن زائدة قال : قلت لمنصور بن المعتمر : إذا كنت صائما أنال من السلطان شيئا ؟ فقال : لا , فقلت : إذا كنت صائما أنال من أصحاب الأهواء شيئا ؟ قال : نعم .(13 )
أخي الحبيب : اثبت على الطريق ولا تغتر بكثرة الأغمار , ومن يدعوك ليصرفك عن الطريق ويقول لك : هيا معنا ففي يوم أو يومين تصبح من أكبر الدعاة ! فالأمر أعظم من ذلك , فابدأ بالعلم النافع مع تهذيب النفس , وأطرها على العبادة مع إصلاح ما فات من تلف .
قال القاضي عبد الوهَّاب المالكي( 14) :
مَتَى تَصِلُ العِطُاشُ إِلى ارْتِوَاءٍ
إِذَا اسْتَقَتِ البِحَارُ مِنْ الرَّكَايَا(15 ) ؟!
وَمَنْ يُثْنِي الأَصَاغِرَ عَنْ iiمُرَادٍ
وَقَدْ جَلَسَ الأَكَابِرُ فِي الزَّوَايَا ii؟!
وإِنَّ تَرَفُّعَ الوُضُعَاءِ iiيَوْمَا
عَلَى الرُّفَعَاءِ مِنْ إِحْدَى البَلَايَا
إِذَا اسْتَوَتْ الأَسَافِلُ iiوالأَعَالِي
فَقَدْ طَابَتْ مُنَادَمَةُ iiالْمَنَايَا
قيل : إن شجرة الصنوبر تثمر في ثلاثين سنه , وشجرة الدباء تصعد في أسبوعين , فتقول للصنوبرة إن الطريق التي قطعتها في ثلاثين سنة قطعتها في أسبوعين , ويقال لي : شجرة ولك شجرة , فقالت لها الصنوبرة : مهلا حتى تهب رياح الخريف فإن ثَبَتِّ لها تم فخرك .(16 )
________________________________________
(1) صحيح مسلم (1/44 نووي ) ، والدارمي في سننه (1/112) .
( 2) قال الحافظ في التقريب(1982) : زائدة بن قدامة : ثقة , صاحب سُنَّة .
(3 ) شعبة ابن الحجاج
( 4) الخطيب "الجامع لأخلاق الراوي" (1/133)
(5 ) رواه أخمد (22403)وهو حديث صحيح
( 6) البخاري (3518)
(7 ) انظر "الميزان" للذهبي (3/6404)
(8 ) أبو نعيم "الحلية" (7/33)
( 9) ثقة رمي بالإرجاء , انظر "الميزان" للذهبي (1/116)
( 10) أي يستريح إليه
(11 ) العقيلي " الضعفاء" (1/56)
( 12) حلية الأولياء (6/212)
( 13) حلية الأولياء (5/42)
( 14) الديباج المذهب (2/28)
(15 ) جمع ركية وهي البئر قليلة الماء
( 16) ابن القيم "بدائع الفوائد"(3/756)(/2)
رياضة المشي .. والصحة
د .خالد الموسى
إن رياضة المشي رياضة سهلة وبسيطة ، يقدر عليها الصغير ، والكبير السليم ، والسقيم الصحيح ، والمعافى والمريض ، وهي بحد ذاتها ممتعة ومسلية ، خاصة إذا اختار صاحبها وهاويها الأماكن الطبيعية المناسبة كالتمشي في الحدائق تحت ظلال الأشجار ، أو على شط البحر أو الأنهار .
فتضفي جمال الطبيعة مع التأمل في قدرة الخالق وتسبيحه وحمده على نعمه متعة شخصية . والمشي والهرولة رياضة مفيدة لكل أعضاء الجسم إذ أثبتت الدراسات الحديثة فائدتها في :
1 - علاج أمراض القلب الوعائية : حيت ينصح مرضى القلب بالتدرج بالمشي والهرولة ، وذلك لأنها تؤدي إلى : أ - تقوية العضلة القلبية وزيادة النتاج القلبي الفعال .
ب - إنقاص وتخفيض نسبة الدهون الضارة والكولسترول بالجسم .
ج - زيادة نسبة الدهون الواقية من تصلب الشرايين والمفيدة للجسم .
2 - علاج ارتفاع التوتر الشرياني : حيث أظهر الكثير من الدراسات جدوى علاج ارتفاع الضغط الشرياني الخفيف والمتوسط الشدة بالمشي والهرولة اليومية لمدة ساعة إلى ساعتين ، حتى بدون اللجوء للأدوية في كثير من الحالات .
3 - علاج البدانة وزيادة الوزن : حيث تعتبر مع الحمية الغذائية حجر الزاوية في علاج البدانة ، وذلك بحرق كميات لا بأس بها من الحريرات والسعرات الواردة للجسم .
ولها الدور الأول والأساسي للمحافظة على الوزن وثباته ، وذلك بالاستمرار اليومي على المشي .
4 - علاج الآلام العضلية والمفصلية : حيث تؤدي إلى تليين وسهولة حركة ونشاط المفاصل واتساع مدى فعاليتها إضافة لارتخاء العضلات وليونتها مع تخفيف الشد والتشنج الذي كان بها ، وأيضاً تقوية تحمل العضلات والمفاصل .
5 - علاج عسر الهضم ومتلازمات تشنج الكولون والإمساك المزمن ، حيث تساعد على حركة الأمعاء وتخفيف الآلام الكولونية إضافة لتخفيف الغازات والشعور بالانتفاخ والغثيان . مع تنظيم إفراغ الكولون .
6 - تساعد في عملية التنفس الطبيعي بتقوية عضلات التنفس والعضلات الصدرية ، مما يزيد السعة الرئوية والتبادلات الغازية الدموية وبالتالي فعالية التنفس وتحسين وظيفة الرئتين في كثير من الأمراض التنفسية المزمنة .
والمهم في فائدة هذه الرياضة البسيطة الخفيفة أن يتعود عليها الإنسان وببرنامج شبه يومي أو أسبوعي بدون انقطاع ويمكن استغلال الوقت من خلال المشي بمراجعة بعض الكتب الصغيرة أو قراءتها أو حفظ القرآن ومراجعته أو بذكر الله تعالى ، وبذلك يرتبط مع الله عز وجل إضافة للفائدة الجسمية .(/1)
ريال أو درهم أو جنيه فقط!
أ. رجاء بن احمد جمال
منذ عقدين أو أكثر والفلسطينيون إخوتنا لا يخلو بيت أحد منهم إلا وفيه مأتم أقيم لشهيد أو شهيدة وأكثر.. وما من بيت أو مزرعة أو شارع أو زقاق الا والخوف والبكاء قد ظللوها في الليل والنهار حتى ارغم الفلسطينيون على الالتحاق بهما في الصيف والشتاء.. بل اللقمة اغمست فيهما وشربة الماء مزجت بهما.. لماذا هذا حالهم وهم اخوة المليار مسلم ومسلمة؟
لأن معظم المسلمين تخلوا عنهم وأسلموهم لعدو الله وعدوهم وعدونا يعمل فيهم تقتيلا وتدميرا، اذلالا واهانة، واغتصابا وانتهاكا دون ان يرقب فيهم إلا ولا ذمة.. بينما بعض المسلمين يراعون من يمدهم ويؤيدهم ويقولون عنهم: '' انهم أهل ذمة.. وبيننا وبينهم عهود ومواثيق''. والاشد من ذلك اننا لازلنا ندعو إلى مجادلتهم بالتي هي أحسن ولا نكمل قول الله تعالى في هذه المجادلة: '' الا الذين ظلموا منهم'' ''46'' سورة العنكبوت.
فأطمأنوا إلى سكوتنا المطبق فتمادوا.. واخذوا يفرضون علينا ما نعطيه وما لا نعطيه لهم.. وان سكتنا أكثر فلسوف يمنعوننا الكلام! ولن يضر الله شيئا ان حقق فينا سنته حيث يقول فيها سبحانه :'' ها انتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فانما يبخل عن نفسه والله الغني وانتم الفقراء وان تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا امثالكم'' '' 38'' سورة محمد .
ويقول أيضا عز وجل: '' الا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضره شيئا والله على كل شيء قدير'' ''39'' سورة التوبة.. ولن تجد لسنة الله تبديلا ولا تحويلا. لسنا اغبياء ولا فقراء.. لكننا نحسب انفسنا ضعفاء لاننا اسلمنا عقولنا لمن يخوفوننا بالذين هم دوننا عقيدة وقلوبا.. فخشينا الناس والله احق ان نخشاه. لقد أجمع المسلمون على مقاطعة المستهزئين برسول الله صلى الله عليه وسلم.. افلا يجمعون لجمع دراهم أو ريالات أو جنيهات معدودة للفلسطينيين تنقذهم من الجوع على الاقل..!
لو ان كل مسلم ومسلمة كبيرا وصغيرا دفع ليوم واحد فقط ريالا واحدا أو ما يعادله للجائعين المفجوعين ما ضره ذلك في شيء، بل نفعه ورفع درجته عند الله الكريم الجواد.
جمع المسلمون للبوسنة والهرسك وباكستان وغيرها.. فلماذا يمتنع الكثيرون منهم عن الفلسطينيين الان؟
اهي امريكا.. جاء في حديث للنبي صلى الله عليه وسلم عن ربنا عز وجل: '' يا ابن آدم لا تخافن من ذي سلطان ما دام سلطاني قائما، وسلطاني لا ينفد أبدأ''.
ام هم الارهابيون المحتلون لفلسطين قتلة الانبياء.. يقول تبارك وتعالى عنهم: ''لا يقاتلونكم جميعا الا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بانهم قوم لا يعقلون'' 14 سورة الحشر.
لا يحتاج الأمر لاكثر من اجتماع لمنظمة المؤتمر الإسلامي تدعو فيه الشعوب المسلمة لجمع المال الذي هو حق في زكواتنا للأحبة في فلسطين ليكون في دعوتها هذه ردا على امريكا والاتحاد الاوروبي.
وان عجزت هذه المنظمة وغيرها من اخواتها فلتُترك الشعوب الإسلامية لتتحرك وتجمع الأموال من زكواتها للمحاصرين '' الفقراء والمساكين'' في أرض الاسراء الممنوع عنهم قوت جائعهم ودواء مريضهم.. ناهيك عن قتلهم دون تفريق بين طفل وامرأة وشاب كل يوم.. ان دم المسلم عند الله اعظم حرمة من ان يهدم بيته الحرام حجرا حجرا!(/1)
ريحانة الإسلام
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
أَيْنَ تَمْضِيْ ..! وَصَرْخَةٌ مِن رَوَابي الشْـ
ـامِ دَوَّتْ ... فَأَيْن تِلْكَ الرَّوابي
يَا دِيَارَ الشآم .. ! يَا سَاحَةَ المَوْ
تِ وَعُقْبَى شَهَادةٍ وَثوَابِ
يَا حَديِثَ الرَّسُول صَلَّى عَلَيْهِ الله
يَا حُجَّةً وَ آيَ كِتَابِ
يَا ظِلالَ الهُدَى ... وَرَيْحَانةَ الإسْـ
ـلامِ ... يَا جَوْلَةَ الفَتَى الوَثَّابِ
هَا هُنا مَكَّةٌ مَنَابِعُها النُّو
رُ وَأَنْتِ المَسْرَى وفيْضُ انْسِكَابِ
أنْتِ مِنْها كالكفِّ تَحْمِل مَا تُهْـ
ـدِيْهِ مِنْ رَيِّهَا ومِنْ إخْصَابِ
* *
* *
يَا ميادينُ .. ! كمْ نَثَرْتِ عَليْنَا
حَبَبَاً رَقَّ أَوْ غَنِيَّ رِطَابِ
كمْ نَزَلْنَا عَلَى نَوَادِيْكِ نَلْقَى
زَهْوَةَ الصيِّدِ أَوْ وِثَابَ الشَّبابِ
والتِفَاتَ الإِباءِ في حَوْمَة المَوَ
تِ و صَيْحَاتِ غَضْبَةٍ وَغِلاَبِ
عَزمَاتُ كأنَّهَا البَرْق يَمْضِيْ
خاطِفاً فيْ دُجُنَّةٍ أوْ ضَبَابِ
والرَّوَابِي مجْلُوَّةٌ تَسْكُبُ النُّـ
ــورَ فَتَهْتَزُّ حَانِياتُ الشِّعَابِ
* *
* *
يَا ديار الشآم ! كم جئت أُلقي
لَهْفَتي وَالأَسَى وَمُرَّ عَذَابِ
فَتَلَقَّيْتِنِي .... ! تَضمُمِّينَنِي بَيْـ
ــنَ حُنُوِّ الظِّلالِ وَ الأَصْحَابِ
يَا ميادين ... ! والشَّرَابُ نَدِيُّ
فَاسْقِني ... ، قَدْ ظَمِئْتُ ، بَرْدَ الشَّرَابِ
جِئْتُ يَا نَبْعَةَ الحِمَى لاَهِثاً بَعْـ
ــدَ طَوِيل السُّرَى وطُوْلِ اغْتِرَابِ
الهَجِيْرُ الدَّامِيْ يُمَزِّقُ أَحْشا
ئِيْ وخَطْفُ الأَشْوَاكِ شَقَّ ثِيابِي
* *
* *
1/4/1403هـ
15/1/1983م ... ... ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· ديوان جراح على الدرب .(/1)
· رَعَشاتٌ تَموجُ في شَفَتيّا
خَشْيَةٌ ورجاء
ولهْفَة ودعاء
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
ربِّ ضاقَتْ بي السّبيلُ ودَمْعي
فَاضَ ! كَمْ كَان قَبْلَ ذاك عَصِيّا
ثقلت فوق منكبيَّ ذنوبي
يُزِيحُ الذنوبَ عَنْ مَنْكبيّا ؟ !
بين جَنَبيَّ مِهْجة يخفق الشـ
ـوق لديها مع الليالي غنِيَّا
خشيةُ الله تَنْشُر الأمن في النّفْـ
ـس وتُغْنيهِ بالرَّجاء نَدِيّاً
ومع اللّيل دمْعةٌ تسْكُب النُّو
رَ فَيَجْلو لَنَا الصِّراط السَّويّا
بّيْنَ آمَالِ توْبةٍ ودَواعي
رَهْبةٍ لم يزلْ دُعائي خَفيَّا
خَاشِعاً في تضرُّعٍ حَمَلتْه
رَعشَاتٌ تموجُ في شَفتّيا
* * *
* * *
أَيُّ نُورٍ سَرَى يُزِيجُ ظَلاماً
عَنْ دُروبي ويبعثُ القلبَ حيّاً
يَغْسِلُ القَلْبَ مِنْ عوارض آثا
مٍ فُيحْييه بالرَّجاء نقيّاً
أنتَ يا ربّ ! نورُك الحقُّ أغنى
كلَّ شيءٍ هُدَىً ومعنىً جَليّاً
مَلأَ الكَوْن بالجَمالِ جَلاَلاً
وغَنَاءً يَفيضُ مِنْهُ زَكِيّا
كُلُّ ما في السَّماء والأرض يمضي
حامِداً خاشِعاً إليك رَضِيّا
غير أنَّ الإِنسانَ مازالَ يَشْقَى
حائِرا في هواهُ يمضي مُضيّاً
نسِي العهْد ، ويْحه ! فَتَراهُ
تَاهَ في درْبه عَصِيّاً شَقيّا
جاحداً غاب في الضلالة أعْمَى
أو وفِيّاً بعَهْدِه وتَقيّا
* * *
* * *
جِئتُ ربّي إليكَ أسأَلُكَ العَفْـ
ـوَ فَهَبْ لي أَمناً وعَفْواً رضيّاً
ليْسَ لي من غِنى سوى رحمة اللـ
ــه وعفو أَظلُّ فِيه غنيّا
ربِّ إِن غابَ عفوك اليوْمَ عَنّي
أَيُّ شيءٍ تَراه يبقى لديّا
الفقيرُ الفقير مَنْ تاه في الدر
ب شَقيّاً وضلَّ جَهْلاً وغَيّاً
والغنيُّ الغَنيّ من صَدَقَ اللّـ
ــه وأَغنى الحياة معْنى بَهِيّا
* * *
* * *
الرياض
12/12/1419هـ
الموافق 29/3/1999م ... ... ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· من ملحمة عِبر وعبرات .(/1)
رَقْصُ الدِيَكَة
( كتبتُ هذه المقالة في العاشر من أيار عام واحدٍ و ألفين أثناء متابعتي لتسجيلٍ لما عُرِفَ بأنَّه جنازة القرن لكثرة من شهدها من الجماهير و الزعماء )
الكل يرقصُ ( على ما يحلو له ) أحياناً ، كما أنَّ كلاً يغني على ليلاه .
و ليس لزاماً أن يكون الرقص و الغناء طَرَباً ، فقد قال الأوَّل ( المتنبي ) :
إذا رأيتَ نيوب الليث بارزةً *** فلا تظنَّنَّ أنَّ الليثَ يبتسمُ
و قال الآخَرُ :
و لا تظنوا رقصي بينكم طَرباً *** فالطير يرقصُ مذبوحاً من الألَمِ
و قُلتُ مُعقِّباً :
تأمَّلتُ حال رعايا دول العالَم ( الثالث ) فرَأيتُ عَجَباً من تدافُعِهِم على صناديقِ الاقتراع ( أو الاستفتاء ) إن وُجِدَت في بلادِهِم ليقولوا : ( نَعَم ) لزُعمائهم المُلهَمين ، الذين لم يسمعوا كلمة ( لا ) قط ، رُغمَ أنَّ قائلَها قد يصير بها من سادة الشهداء ؛ إن منَّ الله عليه بالشهادة بسببها .
و رأيْتُ الشوارِعَ تغصُّ بالجماهير عند التجديد لأحَدِ الزُعماء أو فقدِه ( بالموت على فراشه طبعاً ) و هُم يتدافعون بمئات الألوف أو الملايين في وداعِ قائدِهم الرمز ، ثم لا تلبث ملايينهم أن تَخرُجَ متدافعةً أيضاً لتُبايِعَ الخَلَف ، ملوِّحةً له بشارات النصر و التأييد .
و ربَّما كان لزاماً عليهم أن يَخرُجوا ( عفوياً كما يُقال ) في مواكب تجمع المتناقضات و الأضداد ؛ ليُعبِّروا عن حزنهم العميق لفراق الراحل ، و تأييدهم المطلق للمُلهَم الجديد ؛ الذي قد يكون امتداداً لسلفه ( الصالح ) نسباً أو منهجاً .
و لو استطاع هؤلاء لذَرفوا الدموع من عينٍ واحدةٍ حُزناً ، و رنوا بالأخرى إلى المُستَقبَل فرحاً و ابتهاجاً ، و لكن قُدرتهم على تصنُّع المشاعر لم تبلغ هذا الحد بعد .
ذكَّرَتني هذه الصورة التي لا تكاد تُفارِق ذهني من كثرة تكرارها ، و مرارة آثارها ، و اعتصار قلبي ألماً بسببها بقصَّه رقص الدِيَكة ( جمعُ ديكٍ ؛ و هو ذكر الدجاج ) .
فقد قال لي والدي ( يرحمه الله ) يوماً : إنَّه كان فيما كان قبلنا ( أو قبل جيلنا على الأقل ) يُؤتى بالدِيَكَة ، و توضع على صفائح تشتعل تحتها المواقد ناراً ، فإذا ألهب لظاها الصفائح ، و لَسَعَت بحَرارَتها البالغة الأرجُل أخذ كل ديك يرفع رجلاً و يضع أخرى بشكل متسارع و متزامن مع أنغام معازف المتابعين و قرع طبول المدرِّبين المنبعث من مكانٍ قريب .
و مَع مرور الزمن ، و ازدياد الحال سوءاً ، يتبلَّد إحساس الديَكة ، و تموت مشاعِرُها ، و تُصبح – بلا و عي – تقفز على رجلٍ واحدةٍ ، أو ترفَع رجلاً و تضعُ أخرى ، و تُصفِّق بأجنحتها ( كما يظن من لم تلسعه النيران التي تلسعها ) كلَّما لامست مسامعها نغمة عازف أو رنَّة طبل .
و ليست الحال التي صارت إليها الدِيَكة المدرَّبة بأسوء من حال شعوب معظم ما يُعَرَّف بأنَّه عالم ثالث ( بما فيه من ديار للعرب و المسلمين ) الذين يجيدون الوقوف لساعاتٍ طويلةٍ ، و كأنَّ على رؤوسهم الطير في مواكب الحداد و العويل ، أو التأييد و التبجيل ، و قد ينتهون و هم خاشعون من الذُلِّ – كما رأيت في بعض البلدان – إلى الانكباب على أيدي الولاة باللثم و التقبيل ؛ على نحوٍ يجيدون القيام به بانتظام أكثر من إجادة الوقوف بانتظامٍ لبِضع دقائق في مكانٍ عامٍ كغُرَف انتظار الأطبَّاء ، و أمام المتاجر و المصارف ، أو في مواقف الحافِلات .
ربَّما كان السبب في ذلك أنَّ نسيان لسعة تأنيب الضمير عند المسير في مواكب النفاق ، أو حرارة الشمس عند الوقوف في المواقف العامَّة أسهل بكثير من نسيان لسعة السياط التي تُلهِبُ الظهور و الأقدام عند التقاعُس ( و لو عَجْزاً ) عن القيام بواجب ( وطني ) في المواسم الرسميَّة ، التي لا يُقال فيها قط ( ليسَ على المريض حرَج ) .
فليهنأ من ( استخفَّ قومه فأطاعوه ) بولاءٍ لا حُدودَ له ، مِن شُعوبٍ لا إرادةَ لها(/1)
رُبَّ ضارة نافعة
صالح بن فوزان الفوزان
عضو هيئة كبار العلماء
</TD
كثر كلام الكفار عما يسمونه بالديمقراطية وفرضها على الناس، وظن بعض المغفلين أنهم يريدون إشاعة العدل ومنع الظلم، فربما أيدوا هذه الفكرة لكنها لم تلبث أن تكشفت حقيقتها بأنها الظلم نفسه!! بل هي أشد الظلم حينما غزوا الناس في بلادهم لنهب ثرواتهم، والتلاعب بمقدراتهم، ودك بيوتهم على رؤوسهم وتدمير مملتكاتهم وإزالة حكوماتهم ونشر الفوضى بينهم والإخلال بأمنهم واستقرارهم.
وحينئذ تبين للمخدوعين ما تنم عنه هذه الديمقراطية وتمنوا التخلص منها، ولكن هيهات، ولعلها تكون موعظة للمستقبل بأن لا نتقبل الأفكار الوافدة على علاتها ونعلم أن عدونا لا يريد لنا الخير أبداً، كما قال تعالى: {مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ} فهم يريدون منع فضل الله عنا لو استطاعوا.. ولهذا قال سبحانه {وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} فلا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وهذا حق لا مرية فيه ولكن علينا أن لا ننخدع بوعود الكفار ولا نخاف من وعيدهم، بل نعلق أملنا ورجاءنا بالله ونعمل بطاعته وتجنب معصيته، ونتمسك بدينه ونتوكل عليه فهو حسبنا ونعم الوكيل {إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ} وفي هذه الأيام أفرزت هذه الديمقراطية ظاهرة عجيبة غريبة مضحكة مبكية، تخالف الدين والفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهي إحلال المرأة المسلمة محلاً لا يليق بها، وأنت إذا أحللت الشخص محلاً لا يليق به فقد سخرت منه وتنقَّصته وأهنته حيث ظننتَ أنك تكرِّمه، وهذه الظاهرة هي تكليف امرأة أن تؤم الرجال في خطبة الجمعة وفي الصلاة، ومنحها هذا الموقف الذي يتأخر عنه كثير من الرجال لما يتطلبه من استعداد علمي وخلقي وقوة شخصية وأعصاب قوية لا تتوافر في المرأة، هذا من حيث النظر العقلي، وأما من حيث الحكم الشرعي فما عهد في تاريخ الإسلام أن المرأة تولت هذا المنصب، ففي عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي هو عهد التشريع لم يرد في حديث صحيح ولا ضعيف ولا موضوع أن المرأة تولت إلقاء خطبة الجمعة، ولم يحدث هذا من بعد عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى يومنا هذا في بلاد المسلمين مع ما وجد في عصور الإسلام من نساء عالمات فقيهات محدثات بل إن سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم- تقضي بأن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد مع الرجال، وإذا صلت مع الرجال فإنها تكون خلفهم ولو كانت وحدها. فكيف تتقدمهم في الصلاة وتصعد فوقهم على المنبر في الخطبة؟! هذا هو الذي يستحق أن يُقال فيه: {... إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} وليس دين الإسلام.
ونحن لا نستغرب صدور مثل هذه الفكرة من الكفار فهي من أسهل مكرهم بنا وتخطيطهم لتدميرنا، ولكننا نستغرب أن ينفذ هذه الفكرة من ينتمون إلى الإسلام دون رجوع إلى مصادر الإسلام وعلمائه، رجعوا إلى قول شاذ يقول بصحة إمامتها للرجال وعمل الأمة على خلافه، فإن الحديث إذا كان عمل الأمة على خلافه لا يعمل به.. فكيف بقول شاذ لبعض أهل العلم مخالف لعمل الأمة يقول بصحة ذلك، وليس فيه أنها تخطب خطبة الجمعة ولعل هذه الحادثة تكون منبهة للمسلمين لما يحاك ضدهم عن طريق نسائهم؛ فقد مرَّدوا المرأة على الحجاب والحشمة، ومرَّدوها على الاختلاط بالرجال ومزاولة أعمالهم، ومرَّدوها على أشياء كثيرة حتى وصلت إلى الصلاة والتلاعب بالعبادات. ولكن رب ضارة نافعة فتكون هذه الحادثة موقظة للمسلمين لما يحاك ضدهم.. وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
الجزيرة عدد / 11872 الخميس 21 صفر 1426(/1)
زادُ الرَّاحِلِين إلى الحَرَمَيْن الشريفَين
د. محمد عمر دولة*
دُرُوسٌ تربويَّةٌ وأحكامٌ شرعيَّةٌ من فقهِ الحجِّ والعُمرة
(وأذِّنْ في الناسِ بالحَجِّ يأتُوكَ رِجالاً وعلى كلِّ ضامِرٍيأتِينَ مِنْ كُلِّ فجٍّ عَمِيقٍ ليشهدوا منافعَ لهم) الحج 27-28.
قال عمرُ بن عبد العزيز لما خطبَ بعرفة: "ليس السابقُ مَنْ سبقَ بعيرُه وفرسُه, ولكنِ السابقُ مَن غُفر له".فتح الباري 4/336.
مقدمة الكتاب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد،
فهذا كتابٌ مختصَرٌ في فقهِ والحج والعمرة؛ ليس الغرضُ منه استيعابَ المسائلِ الدقيقة وتتبع الفروع المختلفة.
وإنما الغرضُ تقريبُ أمهاتِ المسائلِ وبيانُ جُملةِ الأحكامِ، مع مُراعاةِ الاختصار وعدمِ الإطالة؛ ليسهلَ على الناسِ الانتفاعُ به، مُتوخِّياً التيسيرَ في الألفاظِ والمباحثِ لتكونَ في مُتناوَلِ كلِّ أحدٍ.
وأما ذكرُ بعضِ اللطائفِ العلميَّةِ والأدلة الحديثيَّة فمَعْنِيٌّ بها طلبةُ العلمِ أكثر من غيرِهم؛ جمعاً بين ترجَمَتَي البخاريِّ في كتابِ العِلْمِ: (باب مَنْ تَرَكَ بَعْضَ الاختيارِ؛ مخافةَ أن يَقصُرَ فَهْمُ بعضِ الناسِ عنه)، و(باب مَنْ خَصَّ بالعلمِ قوماً دون قومٍ).
وقد اقتضَى منهجُ الكتابةِ أن أعتمدَ الكُتبَ المصنَّفةَ في المناسك أكثرَ من كُتبِ الخلاف، وأن أنقلَ كلامَ العلماءِ غالباً بنصِّهِ وفَصِّهِ لتعمَّ الفائدةُ به.
ويتضمَّنُ هذا الكتابُ عنايةً بالمعاني التربويّة للحج والعمرة؛ فإنَّ تزكيةَ النفوسِ ثمرةُ العلمِ المبارَكِ وعلامةُ الانتفاعِ بالنصوص، كما قال الخطيبُ البغدادي في (الجامع لأخلاقِ الراوي وآداب السامع): "ليكنْ حفظُك الحديثَ حفظَ رِعايةٍ لا حفظَ روايةٍ؛ فإنَّ رُواةَ العلمِ كثيرٌ ورُعاتَه قليلٌ".
ولا رَيْبَ أنَّ مَنْ حَجَّ واعْتَمَرَ ليُطهِّرَ نفسَهُ ويُصلِحَ قلبَه؛ فإنه يَبلُغُ المقصودَ ويُحصِّلَ المطلوبَ، كما قال ابن الجوزي: "على هذا كان حجُّ الصالِحِين"!
أسألُ اللهَ العظيمَ ربَّ العرشِ الكريم أن يتقبَّلَ هذا الكتابَ وأنْ يجعلَهُ من العلمِ الذي يُنتفَعُ به، وأنْ يَدَّخِرَه عنده صدقةً جارِيةً لي ولمن أوقفَهُ لله عز وجل إلى يومِ الدين.
وقد أسميتُهُ (زاد الراحلين إلى الحرمين الشريفين)؛ تيمُّناً بزيارة الحرمين؛ أسأل اللهَ أن لا يجعلنا ممن حيل بينهم وبين ما يشتهون، ولا من الذين كره الله انبعاثَهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين.
اللهم ارزقنا زيارةَ الحرمين، واجعلنا عندك من المقبولين؛ فإنك أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
محمد عمر دولة
الرابع من شهر ذي القعدة 1424 هـ
1. التشويق إلى زيارة البيت العتيق
الحمد لله الذي (أثار الغرام) إلى زيارةِ البلدِ الحرام, وحَبا أوَّلَ بيتٍ (وُضِعَ للناسِ) بمزيدِ الإنعامِ والإكرام.
وصلَّى الله على نبيِّنا محمد الذي هاجر من مكة إلى المدينة. فرحل الناس إليه شوقا وحنينا, وضربوا أكباد الإبل لزيارة الحرمين. فلِسانُ حالِهم قولُ المحبِّين: والله لولا أنتَ ما اهتدينا ولا تصدّقنا ولا صلَّينا!
ورضي الله عن خير مَنْ سَكَنَ الدِّيارَ وعمّر الليلَ والنهار: آل النبي وصحابته الأطهار ومن سار على دربهم من الأخيار. وبعد, فإنّ زيارة البيت العتيق من أعظم المِنَن التي خوّلها الله عبادَه الصالحين، وأكبر النعم التي امتنّ بها عليهم كما جاء التعبير القرآني الجليل عن ذلك: (ليشهدوا منافع لهم).[1]
1. وقد امتنّ الله عز وجل بذلك على أعظم النبيين صلى الله وسلم عليهم من لدن إبراهيم عليه السلام (وإذ بوّأنا لإبراهيم مكانَ البيت)، كما أُوحِيَ ذلك إلى موسى عليه السلام مِنْ أُولي العزم من المرسلين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (كأني أنظر إلى موسى عليه السلام هابطاً من الثنيّة له جُؤارٌ إلى الله تعالى بالتلبية)،[2] واهتمّ بذلك محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين.
2. الحج شعار الأنبياء والمرسلين وأهل الحنيفية, فإبراهيم عليه السلام إمامُ الموحِّدين، وقد روى الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كُونوا على مَشاعرِكم؛ فإنكم على إرثٍ من إرثِ إبراهيم)،[3] وموسى عليه السلام منقذ بني إسرائيل. وقد فسّر البخاري العتيق بالعتق من الجبابرة؛ وأمّا محمد صلى الله عليه وسلم فقد هدى اللهُ به الناسَ إلى الدين القويم والصراط المستقيم. ورَحِمَ اللهُ النوويَّ حيث قال: "إنّ الحج من أعظم الطاعات لربّ العالمين, وهو شعارُ أنبياءِ الله وسائرِ عبادِ الصّالحين صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهم أجمعين"[4].(/1)
3. الحج من قواعد التوحيد:[5] كما قال جلَّ جلاله (وإذ يرفع إبراهيمُ القواعِدَ من البيتِ وإسماعيلُ ربَّنا تقبَّلْ مِنَّا إنّك أنتَ السميعُ العَلِيم ربَّنا واجعلْنا مُسْلِمَيْن لك ومِن ذُرِّيَّتِنا أُمّةً مُسْلِمةً لك وأرِنا مناسِكَنا وتُبْ علينا إنَّك أنتَ التّوابُ الرَّحيم ربَّنا وابْعثْ فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتِك ويعلِّمُهم الكتابَ والحِكمةَ ويُزكِّيهم إنك أنتَ العزيزُ الحكيم ومَن يرغبُ عن مِلةِ إبراهيم إلا من سَفِهَ نفسَه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين).[6] وقد وَفّقَ الله جابراً رضي الله عنه إلى التعبيرِ عن ذلك أحسنَ تعبيرٍ في حديثِ المناسكِ الطويل الجليل فقال واصفاً فعْل النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم أهَلَّ بالتوحيدِ: لبيّك اللّهم لبيّك). ورحم الله صاحبَ الظلال حيث قال: "للتوحيد أُقِيمَ هذا البيتُ منذُ أوّلِ لحظةٍ عَرَّف الله مكانَه لإبراهيم عليه السلام وملَّكه أمرَه؛ ليُقيمه على هذا الأساس (ألاَّ تشرك بي شيئا)؛ فهو بيتُ الله وحده دون سواه!"[7].
وما أحسن ما استنبطه الشيخ ابن عاشور عند قول الله تعالى: (إنّ أول بيتٍ وضع للناسِ للذي ببكة مُبارَكاً وهُدًى للعالمين فيه آياتٌ بيِّناتٌ مَقامُ إبراهيم ومَنْ دَخَلَهُ كان آمِنا) "أنّ هذا البيت لمّا كان أول بيتٍ وُضِعَ للهُدى وإعلان توحيدِ الله ليكون عَلَماً مشهوداً بالحِسِّ على معنى الوحدانية ونفيِ الإشراك؛ فقد كان جامِعاً لدلائلِ الحنيفيّة. فإذا ثبت له شَرَفُ الأوّلية ودوامُ الحُرمة على ممرِّ العصورِ دون غيرِهِ مِن الهياكلِ الدِّينيّة التي نشأتْ بعده وهو ماثلٌ؛ كان ذلك دلالةً إلهيَّةً على أنّه محلُّ العِنايةِ مِن الله تعالى؛ فدَلَّ على أنّ الدِّينَ الذي قارنَ إقامَتَهُ هو الدِّينُ المرادُ لله. وهذا يؤولُ إلى معنَى قولِهِ: (إنّ الدِّينَ عند الله الإسلام)".[8]
4. أنّ في ذلك براءةً من الرّجس وطهارةً من الشرك: كما قال عز وجل: (وإذ بوَّأنا لإبراهيم مكانَ البيتِ أن لا تُشرِكْ بي شيئاً وطهِّرْ بيتيَ للطائفين والقائمين والرُّكَّعِ السُّجُود). وتلك دعوةُ إبراهيم عليه السلام: (وإذ قال إبراهيمُ ربِّ اجعلْ هذا البلدَ آمِناً واجْنُبْنِي وبَنِيَّ أن نَعبُدَ الأصنام). وقد حمل شعارُ التلبيةِ هذه المعاني: (لبيّك اللّهم لبيّك. لبيّك لا شريك لك لبيّك)، وقال القرطبي: "تطهيرُ البيتِ عامٌّ في الكُفرِ والبِدَعِ وجميعِ الأنجاسِ والدماء"[9].
5. أنّ في الحج والعمرة اعترافاً بالربوبية لله الخالق الرازق مالك الملك ذي الجلال والإكرام: وذلك ظاهرٌ فيما يلهَجُ به الحجيجُ ويتمثّلونه بلسان الحال والمقال: (إنّ الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك). ولا ريب أنّ استشعارَ هذه المعاني وترسيخَها يدفعُ المسلمين إلى مُعانقةِ رسالتِهم في حملِ أمانةِ التوحيد، كما قال صاحبُ الظِّلال عن الحج: "إنه مؤتمرٌ جامِعٌ للمسلمين قاطبة, مؤتمرٌ يَجِدُون فيه أصْلَهم العريقَ الضاربَ في أعماقِ الزمن منذ أبيهم إبراهيمَ الخليل (مِلّة أبيكم إبراهيم هو سمّاكم المسلمين من قبل وفي هذا)، ويجدون مِحْوَرَهم الذي يشدُّهم جميعاً إليه: هذه القبلة التي يتوجَّهُون إليها: راية العقيدة الواحدة التي تتوارى في ظلِّها فوارقُ الأجناسِ والألوانِ والأوطانِ, ويَجِدُون قُوَّتَهم التي قد ينسونها حِيناً, قوة التجمُّع والتوحُّد والترابُط الذي يضُمُّ الملايين، الملايين التي لا يَقِفُ لها أحدٌ لو فاءَتْ إلى رايتِها الواحِدة التي لا تتعدَّد, راية العقيدةِ والتوحيد".[10]
6. اقتران الحج في الهدي النبوي بأعظم الأعمال: كالإيمان والجهاد، وقد قال أبو هريرة رضي الله عنه: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أيّ العمل أفضل؟ قال: إيمانٌ بالله ورسوله. قيل: ثم أيّ؟ قال: الجهاد في سبيل الله. قيل: ثم أيّ؟ قال: حَجٌّ مبرور)[11]. فما ظنُّك بعملٍ يجيء في الفضل بعد الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيل الله؟!
7. تَضَمُّنُ الحجِّ والعمرةِ تكليفاً يتعلَّق بعَقْدِ القلبِ والبدنِ والمالِ:كما قال أبو الشعثاء: "نظرتُ في أعمالِ البِرِّ: فإذا الصلاةُ تُجهِد البدنَ دون المال، والصِّيامُ كذلك, والحجّ يُجْهِدُهما؛ فرأيتُه أفضل". وقال ابن الجوزي: "فالصلاةُ والصيامُ يجمعان سببين من هذه الثلاثة: عقد القلب وفعل البدن. والزكاة تجمع سببين: عقد القلب وإخراج المال. والحج يجمع الأركان الثلاثة؛ فبان فضله. ثم إنهاكه للبدن أشدُّ, وإجهادُه للمال أكثر"[12].(/2)
8. إظهار العُبوديّة والشُّكر لله تعالى على نعمه التي لا نعرف لها حدّاً ولا نُحصِيها عدّاً، كما قال الكاساني رحمه الله: "في الحجِّ إظهارُ العبوديّةِ وشُكرُ النعمة. أما إظهارُ العبوديةِ فهو إظهارُ التذلُّلِ للمعبود, وفي الحجِّ ذلك؛ لأنّ الحاجَّ في حالِ إحرامِه يُظهِرُ الشَّعَثَ ويرفضُ أسبابَ التزيُّنِ والارتفاقِ, ويَظهَرُ بصورةِ عبدٍ سَخِطَ عليه مولاه؛ فيتعرَّضُ بسوءِ حالِهِ لعطفِ مولاه. وأما شكرُ النعمة؛ فلأنّ العباداتِ بعضها بدنيّةٌ, وبعضها ماليّةٌ, والحجُّ عبادةٌ لا تقوم إلا بالبدن والمال؛ ولهذا لا يجب إلا عند وُجودِ المالِ وصحةِ البدن. فكان فيه شكرُ النِّعْمتَيْن. وشكرُ النعمةِ ليس إلا استعمالَها في طاعةِ المُنْعِم, وشكرُ النعمةِ واجبٌ عقلاً وشرعاً"[13].
9. إظهارُ وحدةِ المسلمين بدينهم الذي يجمعهم على اختلافِ بلدانِهم وأنسابِهم؛ تأكيداً للدِّينِ المقدَّم على اللغة والجنس واللون والعُرف والنسب والقبيلة. وللمرءِ أن يتساءلَ عن فقهِنا لمعاني شعيرة الحجّ: "هل بدا واقعُ المسلمين بارزاً فيه صَدَى الحج؟ تلك العبادة التي تمزُج بين قلوبِ المسلمين وترسِّخ فيها وحدةَ الشعورِ ثمرةً لوِحدة الشعيرة. هل بدا كذلك؟ وهل تزوَّدَ المسلمون مِن زادِ الحجِّ وعاشُوا حُكْمَه وهم يُطبِّقُون أحكامَهُ على وجهٍ مشروعٍ مسنونٍ؟ هل تحرَّكَ ذلك الموكبُ مِن ذوي الرِّداءِ الأبيضِ الناصعِ بين المشاعرِ شامةً تُزِينُ الأرضَ يُباهِي بها الرحمن ملائكته حجيجاً مُترابِطي القلوبِ مُسلِمين على منهجِ الله؟ هل بدتْ حِكَمُ الحجِّ العظيمةُ وآثارُه الجليلةُ مُتحرِّكةً مع ذلك الموكبِ تنطِقُ بها جوارِحُ الحَجِيجِ وتبدُو شاخِصةً في مناسِكِهم؟"[14].
10. تحقيقُ المساواةِ بين فئاتِ المجتمعِ الإسلامي: وللحاجِّ أنْ يسألَ نفسَه وإخوانَه: "هل ذابتْ الفوارقُ النفسية بين الغني والفقير والقوي والضعيف؟ وذهبتْ مع ثيابِ الحِلِّ, وبدتْ النفوسُ صافيةً حانِيةً متآلفةً لا يقلُّ صفاؤها عن صفاءِ ثيابِ الإحرام؟"[15]
11. حُصول التعارُفِ بين المسلمين على اختلافِ شُعوبِهم وقبائلِهم؛ تحقيقاً للمقصدِ الشرعي، كما قال تعالى: (يا أيُّها الناسُ إنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وأُنْثَى وجَعَلْناكم شُعُوبا وقبائلَ لِتَعارَفوا إنَّ أكرمَكم عند الله أتقاكم إنّ الله عليمٌ خَبِيرٌ).[16]
12. اجتماعُ أهلِ الدعوة على التفكُّرِ في أحوال المسلمين؛ تعاوُناً على البرّ والتقوى وامتثالاً لقول الله عزَّ وجل: (ولْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدعُون إلى الخيرِ ويأمُرُون بالمعروفِ وينهَوْنَ عن المنكرِ وأولئك هم المفلحون).[17]
13. لقاءُ طلبةِ العلمِ بكبارِ العلماءِ الرّاسخين. فالحجّ أقرب الأمثلة على الرحلة في طلب العلم. ورحم الله سفيان بن عُيينة فقد روى ابن سعد عن الحسن بن عمران بن عيينة أنه سافر مع عمه سفيان آخرَ حجّةٍ حجَّها فقال: "قد وافيتُ هذا الموضعَ سبعين مرّةً أقولُ في كلِّ سنةٍ: اللَّهمَّ لا تجعلْهُ آخِرَ العهدِ مِن هذا المكان. وإني قد استحييتُ مِن الله من كثرةِ ما أسأله ذلك. فرجع؛ فتوفّي في السنة الداخلة!"[18] وما زال هَمُّ طُلابِ العلمِ أن يَلْقَوا في الموسمِ أئمةَ العلمِ فيتعلَّمُون مِن علمِهم وحالهم:كما قال مالك رحمه الله في شأن أيوب السختياني رضي الله عنه: "حجّ حجّتين؛ فكنتُ أرمقه ولا أسمع منه، غير أنّه إذا ذكر النبيَّ صلى الله عليه وسلم بكى حتى أرحمه؛ فلما رأيتُ منه ما رأيتُ وإجلالَهُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كتبتُ عنه!"[19]ولله درّ الشيخ ابن عاشور حيث قال في تفسير قوله تعالى: (ليشهدوا منافع لهم): "كُنِّيَ بِشُهود المنافعِ عن نَيْلِها. ولا يُعرف ما وَعَدَهم الله على ذلك بالتعيين، وأعظمُ ذلك اجتماعُ أهل التوحيدِ في صَعيدٍ واحدٍ لِيتلقَّى بعضُهم عن بعضٍ ما بهِ كمالُ إيمانِهم".[20](/3)
14. في رحلةِ الحجِّ تذكيرٌ بالرحلة إلى الدار الآخرة: ولله درّ النّسفي فقد أحسنَ في بيانِ فوائدِ الحج "وما فيه من تحمُّل الأثقالِ ورُكُوبِ الأهوالِ وخلعِ الأسبابِ وقطيعةِ الأصحابِ وهجرِ البلادِ والأوطان وفرقة الأولاد والخِلاّن, والتنبيه على ما يستمر عليه إذا انتقل من دار الفناء إلى دار البقاء؛ فالحاجّ إذا دخل البادية لا يتّكل فيها إلا على عتادِه ولا يأكلُ إلا من زادِه, فكذلك المرء إذا خرج من شاطئ الحياةِ وركب بحرَ الوفاة لا ينفع وِحدتَه إلا ما سعى في معاشِهِ لمعادِه, ولا يؤنِسُ وِحشتَه إلا ما كان يأنَسُ به مِن أورادِه. وغَسْلُ مَن يُحْرِم وتأهُّبُه ولبسُه غيرَ المخيطِ وتطيُّبُه مِرآةٌ لما سيأتي عليه مِن وَضعِهِ على سريرِه لغسلِه وتجهيزِه مُطيَّباً بالحنوطِ مُلفَّفاً في كَفَنٍ غيرِ مَخِيط. ثم المُحرِم يكون أشعثَ حيران, فكذلك يومُ الحشرِ يخرج مِن قبرِهِ لهفان. ووقوفُ الحجيجِ بعرفات آمِلِين رَغَباً ورَهَباً سائلِين خوفاً وطمعاً وهم بين مقبولٍ ومخذولٍ كموقِفِ العَرَصاتِ لا تَكلَّمُ نفسٌ إلا بإذنِهِ فمنهم شقيٌّ وسعيدٌ. والإفاضةُ للمزدلفة بالمساء هو السَّوْقُ لفصلِ القضاء. ومِنَى هو موقفُ المُنَى للمذنبين إلى شفاعة الشافعين. وحلقُ الرأسِ والتنظيفِ كالخروج مِن السيّئات بالرحمة والتخفيف. والبيتُ الحرامُ الذي مَنْ دَخَلَهُ كان آمِناً مِن الإيذاءِ والقتالِ أنموذجٌ لدارِ السلامِ التي مَنْ نزلَها بقيَ آمِناً مِن الفناءِ والزوالِ غير أنّ الجنّة حُفَّتْ بمكارِهِ النفسِ العادِيَة كما أنّ الكعبةَ حُفَّتْ بمتالِفِ البادِية؛ فمرحباً بمن جاوزَ مهالكَ البوادِي شوقاً إلى اللقاءِ يومَ التنادي!"[21]
15. استحضارُ ذكرياتِ الصالحين مِن قَبْلِنا واستخلاصُ الدروسِ النافعة من حال إبراهيم وهاجر وإسماعيل عليهم السلام ولُطْف الله بعباده ورحمته بأوليائه الذين يسارعون إلى فداء دينهم بأنفسهم وأبنائهم. فـ"هو موسمُ عبادةٍ تصفُو فيه الأرواح, وهي تستشعِرُ قُرْبَها مِن الله في البيتِ الحرام. وهي ترِفُّ حول هذا البيت وتستَرْوِحُ الذكرياتِ.. طيف إبراهيم الخليل عليه السلام وهو يُودِع البيت فِلْذَةَ كَبِدِه إسماعيلَ وأمَّه, ويتوجه بقلبه الخافقِ الواجفِ إلى ربه: (ربَّنا إني أسكنتُ مِن ذُرِّيَّتي بوادٍ غيرِ ذي زرعٍ عند بيتِك المحرَّمِ ربَّنا لِيُقِيمُوا الصلاةَ فاجعلْ أفئدةً مِن الناسِ تهوي إليهم وارزقْهم مِن الثمراتِ لعلَّهم يشكُرون).. وطيف هاجر وهي تسترْوِحُ الماءَ لنفسها ولطفلِها الرضيع في تلك الحَرَّةِ الملتهبة حول البيت, وهي تروحُ بين الصفا والمروة وقد نَهَكَها العطشُ, وهدَّها الجَهْدُ وأضناها الإشفاقُ على الطفل.. ثم ترجعُ في الجولةِ السابعة وقد حَطَمَها اليأس لتجدَ النبعَ يتدفق بين يدَيِ الرضيع الوضيء. فإذا هي زمزم: ينبوع الرحمة في صحراء اليأس والجدب.. وطيف إبراهيم عليه السلام وهو يرى الرؤيا, فلا يتردد في التضحية بفِلْذةِ كبدِه, ويمضي في الطاعةِ المؤمنة إلى ذلك الأفقِ البعيد: (قال: يا بُنَيَّ إني أرى في المنامِ أنِّي أذبحُك فانظرْ ماذا ترى؟) فتجيبُه الطاعة الراضيةُ في إسماعيل: (قال: يا أبتِ افعلْ ما تؤمرْ ستجدني إن شاء الله من الصابرين).. وإذا رحمةُ الله تتجلَّى في الفداء: (وناديناه أن يا إبراهيمُ قد صدّقتَ الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إنّ هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم).. وطيف إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام يرفعان القواعدَ من البيتِ في إنابةٍ وخُشوعٍ: (ربَّنا تقبَّلْ منا إنك أنت السميعُ العليم ربَّنا واجعلْنا مُسلِمَيْن لك ومِن ذُرِّيَّتِنا أمةً مُسلمةً لك وأرِنا مَناسِكَنا وتُبْ علينا إنك أنت التوابُ الرَّحيم).. ثم تتواكبُ الأطيافُ والذكرياتُ من محمد صلى الله عليه وسلم وهو يدرج في طفولته وصِباه فوق هذا الثرى حول هذا البيت, وهو يرفع الحجرَ الأسودَ بيديه الكريمتين فيضعه موضعه؛ ليطفئ الفتنةَ التي كادت تنشبُ بين القبائل وهو يصلِّي وهو يطوفُ وهو يخطبُ وهو يعتكفُ وإنّ خطواته عليه الصلاة والسلام لَتَنْبِضُ حَيَّةً في الخاطر, وتتمثلُ شاخِصةً في الضمير, يكاد الحاجُّ هناك يلمَحُها وهو مُستغرِقٌ في تلك الذكرياتِ، وخطواتُ الحشدِ من صحابتِه الكرامِ وأطيافُهم ترِفُّ فوق هذا الثرى حول ذلك البيت, تكاد تسمعها الأذن وتكاد تراها الأبصار".[22] ورَحِمَ اللهُ الإمامَ القفَّال فقد نقل الرازي في التفسير قولَهُ عن الهَدْي: "كأنَّ المتقرِّبَ بها وبإراقةَ دمائها مُتَصَوَّرٌ بصورةٍ مَنْ يَفدي نفسه بما يُعادِلها. فكأنه يبذُل تلك الشاةَ بَدَلَ مُهْجَتِهِ؛ طَلَباً لمرضاةِ الله تعالى واعْتِرافاً بأنَّ تقصيرَهُ يستحِقُّ مُهْجَتَهُ!"[23].(/4)
16. إظهار الزهدِ في الدنيا والاستعدادِ للآخرة: فإنّ هذا من أعظمِ المقاصدِ التي ينالها الحاج. وقد نبّه الرّاسخون في العلم على وجوبِ استحضارِ هذه المعاني كما قال ابن الجوزي: "ينبغي للمُحْرِم أن يتصوَّرَ عند إحرامِه إجابةَ الداعي, وعند تجرُّدِهِ من المخيطِ لبسَ الكفنِ, وعند التلبيةِ نِداءَ الحق. ومَنْ تلمَّحَ العبادات بعينِ التفهُّمِ عَلِم أنها ملازمةُ رسمٍ يدلُّ على باطنٍ مقصودُه تزكيةُ النفسِ وإصلاحُ القلب؛ لأنَّ حقيقةَ التعبُّدِ هو صَرْفُ القلبِ إلى الربِّ, فلما كان طبعُ الآدميِّ ينبو عن التعبُّدِ شُغلاً بالهوى وُظّفَتْ وظائفُ تُدَرِّجُهُ لِيترقَّى من الفرائض إلى الفضائل - واعتَبِرْ جميع العبادات منها الحج - فإنه إنما وُظِفَّتْ للتدرُّجِ إلى حملِ المشاق؛ فنبَّه المسافرَ عند تركِ الأهلِ على قطعِ العلائقِ ليتفرد بخدمة الحق؛ فتفكَّرْ في ذلك وانظر بأيِّ بدنٍ تقصِده؟ وبأيِّ باطنٍ تحضُر؟ فإنه لا ينظر إلى صُوَرِكُم. وإذا أمَرَكَ الحزمُ بإكثارِ الزادِ خوفَ العَوَزِ, فاعلمْ أنّ سفرَ القيامةِ أطولُ وعطشَ المحشرِ أقطعُ! وتذكَّرْ بقطعِ العِقاب الأهوالَ بعد الموت, وبالموقفِ موقفَ القيامة, وبالتعلُّقِ بأستارِ الكعبةِ تمسُّكَ المذنبِ بذيلِ المالك, وبالسعيِ بين الصفا والمروة الفرارَ منه إليه. وعلى هذا كان حجُّ الصالحين؛ فإنهم كانوا إذا تخايلوا هذه الأشياءَ تجدّدَ لهم القلقُ هَيْبَةً للمخدُومِ وخوفاً مِن الردِّ".[24]
17. إحياء رُوحِ العبوديّةِ والخُشوعِ والذلةِ والانكسارِ؛ (ذلك ومن يُعظِّمْ شعائرَ الله فإنها مِن تقوى القلوب).[25] ورحم الله الشيخ أحمد بن عبد الرحمن المقدسي فقد لاحظ هذه اللطائف التي لا بدّ للحاج أن يملأ قلبه منها فإنه "إذا رأى البيتَ الحرامَ استحضرَ عظمتَه في قلبِه, وشكرَ اللهَ سبحانه وتعالى على تبليغِهِ رُتبةَ الوافِدِين إليه. وليستشعرْ عظمةَ الطوافِ به؛ فإنه صلاةٌ, ويعتقدْ عند استلامِ الحجرِ أنه مبايِعٌ للهِ على طاعتِهِ, ويضمُّ إلى ذلك عزيمتَهُ على الوفاءِ بالبيعة, وليتذكَّرْ بالتعلُّقِ بأستارِ الكعبة والالتصاقِ بالملتزم لَجْأَ المذنبِ إلى سيِّدِه وقُرْبَ المحب. وأنشد بعضُهم في ذلك:
سُتورُ بيتِكَ نَيْلُ الأمنِ منكَ وقدْ
عُلِّقتُها مُستجيراً أيها البارِي
وما أظنُّكَ لما أن عَلِقْتُ بها
خوفاً من النارِ تُدنيني من النارِ
وها أنا جارُ بيتٍ أنتَ قلتَ لنا
حُجُّوا إليه وقد أَوْصَيْتَ بالجارِ!
ومن ذلك: إذا سعى بين الصفا والمروة ينبغي أن يمثِّلها بكِفَّتَي الميزان, وتردُّدِه بينهما في عَرَصات القيامة, أو تردُّد العبد إلى دار الملك؛ إظهاراً لإخلاصِ خِدمتِه, ورجاءَ الملاحظةِ بعينِ رحمتِه, وطمعاً في قضاءِ حاجتِه. وأما الوقوفُ بعرفة: فاذكرْ بما ترى فيهِ مِن ازدحامِ الخلقِ وارتفاعِ أصواتِهم واختلافِ لغاتِهم مَوقفَ القِيامةِ واجتماعَ الأُمَمِ في ذلك الموطنِ واسْتِشْفاعَهم. فإذا رميتَ الجمار؛ فاقصِدْ بذلك الانقيادَ للأمرِ وإظهارَ الرِّقِّ والعُبوديةِ ومُجرَّد الامتثالِ مِن غيرِ حَظِّ النفس".[26]
18. التشبه بالصالحين المتتبِّعين آثار النبي صلى الله عليه وسلم: وقد أخرج البخاري عن سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم في كتاب الحج (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: العقيقُ وادٍ مُبارَك): (قد أناخ بنا سالم يتوخّى بالمُناخِ الذي كان عبد الله يُنِيخُ يتحرَّى مُعَرَّسَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهو أسفل من المسجد الذي ببطن الوادي). ورحم الله المحبَّ الطبري ما أحسنَ قولَه: "ينبغي لمن قصدَ آثارَ النُّبوَّةِ أن يَعُمَّ بصلاتِهِ الأماكنَ التي هي
مَظِنَّةُ صلاتِهِ صلى الله عليه وسلم فيها؛ رجاءَ أن يَظْفَرَ بِمُصَلَّى النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلم مِن كلِّ مكانٍ:
خليليَّ هذا ربعُ عزةَ فاعْقِلا
قَلُوصَيْكُما ثم انزِلا حيثُ حَلَّتِ
ومسّا تراباً طيِّباً مسَّ ذيلَها
وبيْتاً وظِلاً حيثُ باتَتْ وظَلَّتِ
ولا تيْأسا أن يعفوَ الله عنْكما
إذا أنتُما صلَّيْتُما حيثُ صَلَّتِ"[27]
فهذه الأرض قد وطئتها أقدامُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وفاحت في أرجائها أنفاسه الطاهرة, وسار في جنباتها أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير... رضي الله عنهم أجمعين
وأستشرف الأعلام حتى يدلّني
على طِيبِها مَرُّ الرياحِ النَواسِمِ
وما أنسمُ الأرواحَ إلا لأنها
تمرّ على تلك الرُّبَى والمعالِمِ!(/5)
قال ابنُ قدامة: "وأما المدينة الشريفة، فإذا لاحتْ إليك فتذكَّرْ أنها البلدةُ التي اختارها الله لنبيِّهِ محمد صلى الله عليه وسلم وشرع إليها هجرته وجعل فيها تربته، ثم مثِّلْ في نفسِك مواضعَ أقدامِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عند تردُّدِهِ فيها وتصوَّرْ خشوعَه وسكينتَه؛ فإذا قصدتَ زيارةَ القبرِ فأحْضِرْ قلبَك لتعظيمِهِ والهيبةِ له، ومثِّلْ صُورتَهُ الكريمة في خيالِك، واستحضِرْ عظيمَ مرتبتِهِ في قلبِك، ثم سَلِّمْ عليه، واعلمْ أنه عالِمٌ بحضورِك وتسليمِكَ كما ورد في الحديث".[28]
19. والحجُّ موسِمُ التوبةِ والإقلاعِ عن الذنوبِ والمعاصِي والعِتْقِ مِن النَّار, كما روى مسلم رحمه الله عن عائشة رضي الله عنها أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما مِنْ يومٍ أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً مِن النار من يوم عرفة). وروى الشيخان عن أبي هريرة قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مَنْ حَجَّ فلم يرفثْ ولم يفسقْ رجَعَ كيومِ ولدَتْهُ أمه), وعنه رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (العمرةُ إلى العمرةِ كفارةٌ لما بينهما، والحجُّ المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة) كما في الصحيحين. وقد أخرج ابن الجوزي في [مُثِير الغرام الساكن] (باب خوف الصادقين عند وُقوفِهم بعرفة) عن صالح المرّي قال: "وقف مطرّف وبكر بن عبد الله بعرفة, فقال مطرّف: اللهم لا تَرُدَّهم اليومَ مِن أجلي! وقال بَكْر: ما أشرفَهُ مِن مَوقفٍ وأرجاه لأهلِهِ لولا أنّي فيهم, ورُوي عن الفُضَيل بن عياض أنه وقفَ بعرفةَ والناسُ يَدْعُون, وهو يبكِي بُكاءَ الثَّكلى المحترِقة, فلما كادت الشمسُ تسقطُ قبَضَ على لحيتِه, ثم رفعَ رأسَهُ إلى السماءِ وقال: واسَوْأتاه منكَ وإن عَفَوْتَ!"[29]
20. إطفاءُ الشوقِ بمشاهدةِ هذه البقاع المباركة: "وجديرٌ لمواطنَ عُمِّرت بالوحي والتنزيل، وتردّد بها جبريل وميكائيل، وعرجت منها الملائكة والروح، وضجّتْ عرصاتها بالتقديس والتسبيح، واشتملتْ تُربتُها على جسدِ سيِّدِ البشر صلى الله عليه وسلم، وانتشر عنها مِن دينِ الله وسنةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، مدارس آيات ومساجد وصلوات، ومشاهد الفضائل والخيرات، ومعاهد البراهين والمعجزات، وموقف سيّد المرسلين صلى الله عليه وسلم ومُتبوَّأ خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم"[30] أن يُعتَنَى بها وأن تحِلَّ في القلوبِ وتخالِط بشاشتها، وأن يكونَ في زيارتِها ما يحْدُو إلى اتباعِ السنةِ وتعظيمِ نبيِّ الأمّة صلَّى الله عليه وسلم [31] ورحم الله علي بن أفلح حيث قال: هذه الخيف وهاتيك مِنَى فترفّق أيها الحادي بنا!
واحبس الركبَ علينا ساعةً
نندب الربع ونبكي الدِّمَنا
فَلِذا الموقفِ أعددنا البُكا
ولذا اليوم دموعٌ تُقتَنَى
زمناً كان وكنا جيرةً
يا أعادَ الله ذاك الزَّمَنا
بَيْنُنا يومَ أُثِيلات النَّقا
كان من غير تراضٍ بينَنا![32]
ولم يزل سائق الأظعان يحدو بالحجيج على مرّ الأزمان متمثلاً:
يا سائقاً غَنِّ النياق وزمزما
أبشرْ فقد نلتَ المقام وزمزما
كم كنت تذكرنا منازل مكة
وتقول إنّ بها المُنَى والمغنما
برِّدْ بماء سقاية العباس ما
كابدته طولَ الطريق من الظَّما
وانهض وهَرْوِلْ بين زمزم والصفا
وادخل إلى الحجر الكريم مسلِّما
ومقام إبراهيم زُرْهُ مُبادِراً
وبحِجر إسماعيل صَلِّ معظِّما
وانظر عروسَ البيت جَلَّى حُسنُها
للناظرين ولُذْ بها مُستعصِما[33]
ورحم الله الشيخ الشعراوي فقد قال: "والذي نفسي بيده لو لم يكن الحج ركنَ إسلام لتحتّمَ شوقُ القلبِ ولهفةُ الروح وهيامُ الوجدان على المؤمن أن يرحلَ إلى بيتِ الله ليشهدَ مهبطَ الوحيِ ومطلعَ سيدِ المرسلين وخاتم النبيين. وليشحنْ روحَه بطاقاتِ اليقينِ من ذكرياتِ هاجر وفدائياتِ إسماعيل وإبراهيم! وإذا كانت المساجدُ في جميعِ بقاعِ الأرضِ بيوتَ الله وفيها نتقربُ إليه بالجماعةِ والاجتماعِ والذكرِ والاعتكافِ مع أنها بيوتُ الله ولكنْ باختيارِ عِباده؛ فكيف يكون التقربُ إلى الله في بيتِهِ الذي اختاره؟!"[34](/6)
21. مصاحبة أهل الخير: فرُبَّ رجلٍ تلقاه في حَجِّك ممن لا يشقى بهم الجليس تُذَكِّرُك بالله رؤيتُه, ولا تزدادُ مِن صُحبتِهِ إلا خيراً وفلاحاً. ولا شك أنّ مُصاحبةَ الأنفُسِ الصالحة ومخالطةَ الأنفاسِ الطاهرة تبعث في النفس تَوْقاً إلى الطاعات وانزجاراً عن المعاصي والسّيئات؛ ومِن هنا عَدَّ العلماءُ مِن آدابِ الحج "أن يلتمسَ رفيقاً صالحاً, مُحِبّاً للخير مُعِيناً عليه؛ إن نسي ذكَّرَه وإنْ ذكَرَ أعانه, وإن جَبُنَ شجَّعه وإنْ عَجَزَ قوّاه, وإن ضاق صدره صبّره فقد نهى صلى الله عليه وسلم أن يسافر الرجل وحده وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنّ (الواحد شيطان, والاثنان شيطانان والثلاثة ركب) فلا يخرج إلا في ركب ".[35] وقد روى ابن الجوزي عن مخوّل قال: "جاءني بهيم ـ يعني العجلي ـ فقال لي: أتعلم لي رجلاً من جيرانك أو إخوانك يريد الحج ترضاه يرافقني؟ قلت: نعم. فذهبت به إلى رجل من الحيّ له صلاح ودين فجمعت بينهما, وطَوَاطَآ على المرافقة. ثم انطلق بهيم إلى أهله, فلما كان بعد أتاني الرجل فقال: يا هذا أحب أن تَزوِي عني صاحبك وتطلب رفيقاً غيري. فقلت: لِمَ؟ والله ما أعلم بالكوفة له نظيراً في حسن الخلق والاحتمال. فقال: ويحك! حُدّثت أنه طويل البكاء لا يكاد يفتر, فهذا ينغِّص علينا العيش. فقلت: ويحك إنما يكون البكاء أحياناً عند التذكرة, أو ما تبكي أنت؟ قال: بلى, ولكن قد بلغني عنه أمرٌ عظيمٌ من كثرة بكائه. قلت: اصحبه فلعلك أن تنتفع به. فقال: أستخير الله. فلما كان في اليوم الذي أراد أن يخرجا فيه جيء بالإبل ووُطِّئ لهما, فجلس بهيم في ظل حائط فوضع يده تحت لحيته فجعلتْ دموعه تسيل على خدّيه ثم على لحيته ثم على صدره حتى والله رأيت دموعه على الأرض. فقال لي: يا مخوّل قد ابتدأ صاحبك ليس هذا برفيق. فقلت: ارفق؛ لعله ذكر عياله ومفارقته إياهم. وسمعهما بهيم فقال: يا أخي والله ما هو ذاك وما هو إلا أني ذكرتُ بها الرحلة إلى الدار الآخرة, وعلا صوتُه بالنحيب! فقال لي صاحبي: ما هو بأولِ عداوتِك لي, ما لي ولبهيم؟ إنما كان ينبغي أن ترافق بين بهيم وبين داود الطائي وسلام أبي الأحوص, حتى يبكي بعضُهم إلى بعضٍ فيشفون أو يموتون! فلم أزلْ أرفقُ به, وقلت له: ويحك لعلَّها خيرُ سفرةٍ سافرْتَها. وكلُّ ذلك لا يعلم به بهيم ولو علم ما صاحَبَهُ. فخرجا وحَجَّا ورجعا, فلما جئتُ أسلِّمُ على جاري قال لي: جزاك الله عني يا أخي خيراً ما ظننت أنّ في الخلق مثل أبي بكر؛ كان والله يتفضّل عليّ في النفقة وهو معدومٌ وأنا مُوسِرٌ, وفي الخدمة وأنا شابٌ وهو شيخٌ, ويطبخ لي وأنا مُفطِرٌ وهو صائم. فقلتُ: وكيف كان أمرُك معه في الذي كنت تكرهه من طولِ بكائه؟ قال: ألِفْتُ واللهِ ذلك البكاء, وسُرَّ قلبي حتى كنت أساعِدُه عليه, حتى تأذّى بنا الرُّفْقة، ثم ألِفوا ذلك, فجعلوا إذا سمعونا نبكي يبكون, وجعل بعضهم يقول لبعض: ما الذي جعلهم أولى بالبكاء منّا والمصيرُ واحدٌ؟ فيبكون ونبكي. ثم خرجت من عنده, فأتيتُ بهيماً وقلتُ: كيف رأيتَ صاحبَك؟ قال: كخيرِ صاحب, كثير الذكر لله طويل التلاوة سريع الدمعة جزاك الله عني خيرا".[36]
22. تعرّض الصالحين لدعوة الحجيج التائبين إلى ربهم المتضرِّعين في مواطنَ يجاب فيها الدعاء لاسيما في عرفات والملتزم. ورحم الله الشيخ صديق حسن خان حيث قال: "لما استسعدت بالتزام الملتزم, تمثلتُ بهذه الأبيات, وأرجو من الله قبولها: أسِيرُ الخطايا عند بابِك واقِفُ على وَجَلٍ مما به أنتَ عارفُ
يخاف ذُنوباً لم يَغِبْ عنك غيبُها
ويرجوك فيها فهو راجٍ وخائفُ
ومن ذا الذي يُرجى سواك ويُتّقى
ومالك في فصل القضاء مُخالِفُ
فيا سيِّدي لا تُخْزِني في صحيفتي
إذا نُشِرتْ يومَ الحساب الصحائفُ
وكُن مؤنِسِي في ظلمةِ القبرِ عندما
يَصُدُّ ذوو القُربى ويَجْفُو الموالِفُ
لئن ضاقَ عني عفوُك الواسعُ الذي
أُرَجِّي لإسرافِي فإنِّيَ تالفُ[37](/7)
وقد حكى ابن الجوزي رحمه الله عن محمد بن داود الدينوري قال: حدثني أبو الحسن اللؤلؤي وكان خيِّراً فاضلاً قال: كنت في البحر فانكسرت المركبُ وغرق كل ما فيه, وكان في وطائي لؤلؤ قيمته أربعة آلاف دينار. وقربت أيام الحج وخِفتُ الفَوات, فلما سلّم الله عز وجل بِرُوحي ونجّاني من الغرق مشيت, فقال لي جماعة كانوا في المركب: لو وقفت عسى أن يجيء من يخرج شيئاً فيخرج لك من رحلك شيئاً. فقلت: قد علم الله ما مرّ مني, وكان في وطائي شيء قيمته أربعة آلاف دينار, وما كنت بالذي أُوثِرُه على وقفةٍ بعرفة. فقالوا: وما الذي ورّثك هذا؟ فقلت: أنا رجلٌ مُولَعٌ بالحج, أطلب الربح والثواب, حججتُ في بعض السنين وعطشتُ عطشاً شديداً, فأجلستُ عَدِيلي في وسط المحمل, ونزلتُ أطلب الماء والناسُ عطشى. فلم أزل أسأل رجلاً رجلاً محملاً محملاً: معكم ماء, وإذا الناس شَرْعٌ واحدٌ, حتى صِرت في ساقةِ القافلة بميل أو ميلين. فمررتُ بمصنعٍ مُصَهْرج, فإذا رجلٌ فقيرٌ جالس في أرض المصنع وقد غرز عصاه في أرض المصنع, والماء ينبع من موضع العصا وهو يشرب, فنزلتُ إليه, فشربتُ حتى رويت, وجئتُ إلى القافلة والناسُ قد نزلوا, فأخرجتُ قِربةً ومضيتُ فملأتها, فرآني الناس, فتبادروا بالقِرَب, فرووا عن آخرهم, فلما روى الناس وسارت القافلة جئت لأنظر وإذا البركة ملأى يلتطم موجها؛ فموسمٌ يحضره مثل هؤلاء يقولون: اللهم اغفرْ لمن حضر الموقف ولجماعة المسلمين, أُوثر عليه أربعة آلاف دينار؟ لا والله ولا الدنيا بأسرها, وترك اللؤلؤ وجميع قماشه قال الشيخ: فبلغني أنّ قيمة ما كان غرق له خمسون ألف دينار"[38]
23. التعوّد على مقارعةِ الشيطان والتحصُّن بالطاعات من همزاته؛ امتثالاً لقولِ الله تعالى: (وقلْ ربِّ أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك ربي أن يحضرون).[39] ولأبي حامد الغزالي كلامٌ نفيسٌ في هذا فقد قال: "أما رمي الجمار فاقصدْ به الانقيادَ للأمر؛ إظهاراً للرق والعبودية وانتهاضاً لمجرد الامتثال من غير حظٍّ للنفس والعقل فيه, ثم اقصدْ به التشبهَ بإبراهيم عليه السلام, حيث عرض له إبليس لعنه الله تعالى في ذلك الموضع؛ ليدخل على حَجِّهِ شبهةً, أو يفتنَه بمعصيةٍ, فأمره الله عز وجل أن يرميه بالحجارة؛ طرداً له وقطعاً لأمله. فإن خطر لك أنّ الشيطان عرض له وشاهده ولذلك رماه, وأما أنا فليس يعرض لي الشيطان؛ فاعلمْ أنّ هذا الخاطرَ من الشيطان, وأنه الذي ألقاه في قلبِك؛ ليُفَتِّر عزمَك في الرمي, ويخيلَ إليك أنه فعلٌ لا فائدة فيه, وأنه يضاهي اللعب فلِمَ تشتغل به؟ فاطردْه عن نفسك بالجد والتشمير في الرمي؛ فَبِهِ تُرْغِمُ أنفَ الشيطان, واعلمْ أنك في الظاهر ترمي الحصى إلى العقبة, وفي الحقيقة ترمي به وجهَ الشيطان وتقصم به ظهره؛ إذ لا يحصل إرغام أنفه إلا بامتثالِك أمرَ الله سبحانه وتعالى تعظيماً له بمجرد الأمرِ من غير حظٍّ للنفس والعقل فيه"[40].
24. تحرِّي المال الحلال, وتلك خصلة تذكِّر المتساهلين في طلب الرزق بتوخِّي الرزق الطيب فإنّ الجسم الذي غُذِّيَ بالحرام النار أوْلى به. وفي الحج يضع المرء بين عينيه قولَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (إنّ الله طيِّبٌ لا يقبل إلا طيِّباً). وما أحسن قول الأدباء:
إذا حججتَ بمالٍ أصله سُحتٌ
فما حججتَ ولكن حجَّت العِيرُ
ما يقبل الله إلا كل صالحة
ما كلُّ من حجّ بيتَ الله مبرورُ[41]
25. تذكُّر أمجاد المسلمين وزيارة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين فتحوا البلاد وحرّروا العباد. فبذكرهم تنزل الرحمة:
إذا مرضنا تداوينا بذِكْرِكُمُ
ونترك الذكر أحياناً فننتكسُ
26. استحضار أيام الفتوح, بزيارة بدرٍ وأُحُدٍ وغيرهما من المشاهد؛ إحياءً لروح العزة بالإسلام والإيمان.
فسَلِ المشاهدَ والثغورَ من الذي
هزمَ الجيوشَ وشتَّتَ الأحزابا؟
ومَن الذي طمسَ الضلالَ بسيفِهِ
وأعاد عامرَهُ المنيعَ خرابا؟!
27. معرفة آيات الله ووعدِه الصادق في استمرارِ الحنين إلى البيتِ العتيق وتواصل الاستجابة للنداء الخالد. ورحم الله صاحب الظلال حيث قال: "ما يزال وعدُ الله يتحقق منذ إبراهيم عليه السلام إلى اليوم والغد. وما تزال أفئدةُ من الناس تهوي إلى البيت الحرام؛ وترِف إلى رؤيته والطواف به.. الغني القادر الذي يجد الظهرَ يركبه ووسيلة الركوب المختلفة تنقله؛ والفقير المعدم الذي لا يجد إلا قدميه، وعشرات الألوف من هؤلاء يتقاطرون من فجاج الأرض البعيدة؛ تلبيةً لدعوة الله التي أذّن بها إبراهيم عليه السلام منذ آلاف الأعوام".[42](/8)
28. إصلاح المسلمين ما بينهم وبين ربّهم وتجديد التوكل عليه واليقين في تفريجه الكروب, ورحم الله الحافظ ابن كثير فقد ذكر أثناء الكلام عن الصفا والمروة "أنّ أصل ذلك مأخوذٌ من طواف هاجر وتردُّدها بين الصفا والمروة في طلب الماء لولدها لما نفد ماؤهما وزادُهما وتَرَكَهما إبراهيم عليه السلام هناك, وليس عندهما أحد من الناس. فلما خافت على ولدها الضيعة هنالك, ونفد ما عندهما, قامت تطلب الغوث من الله عز وجل, فلم تزل تتردّد في هذه البقعة المشرّفة بين الصفا والمروة, متذلّلةً خائفةً وَجِلةً مُضطرةً فقيرةً إلى الله عز وجلّ؛ حتى كشف الله كربتها وآنس غربتَها وفرّج شدّتها, وأنبع لها زمزم التي ماؤها (طعامُ طُعْمٍ وشفاءُ سُقْمٍ)؛ فالساعي بينهما ينبغي له أن يستحضر فقرهُ وذلَّه وحاجتَه إلى الله: في هدايةِ قلبِه وصلاحِ حالِه وغُفرانِ ذنبه, وأن يلتجئ إلى الله عز وجل؛ لتفريج ما هو به من النقائصِ والعيوبِ, وأن يهديَهُ إلى الصراط المستقيم, وأن يُثَبِّتَهُ عليه إلى مماته, وأن يحوِّلَه مِن حالِهِ الذي هو عليه من الذنوب والمعاصي إلى حال الكمال والغفران والسّداد والاستقامة كما فعل بهاجر عليها السلام".[43]
29. إعادة الثقة بالأمة المسلمة, وعدم الحكم على خير أمة أخرجت للناس من خلال مواقف بعض الحكام والعُصاة. ففي الحج يرى المرءُ المسلمين على حقيقتِهم فيقول ـ لشدّة تأثير الواقعِ المحزنِ ـ عجباً لهم حيث يُسارِعُون إلى نداء ربِّهم لا يستنفرهم سياسيّون ولا يُخيفهم مُخبِرُون ولا يستخِفُّهم إعلاميُّون ولا يخدعهم ماديُّون! فيتنفّس الصُّعَداء ويقول: هؤلاء المسلمون!
30. التعرُّض لنفحاتِ الخير في البلاد المقدسة في حرم الله وأمنه: فمن هناك تُكتَسب المكرمات وعلى تلك الرُّبى تُنال الأُمنيات. ورحم الله أبا الحسن الندوي فقد أنشد "من وحي المكان وفيض الإيمان واستجابةً لشعور الحُسن والإحسان:
ولما نزلنا منزلاً طلَّهُ النَّدى
أنيقاً وبساتاً من النَّوْر حَانِيا
أجدَّ لنا طيبُ المكان وحسنُهُ
مُنىً فتمنّينا فكنتَ الأمانيا"[44]
وقد علّل الحافظ ابن حجر رحمه الله تفضيل صحيح البخاري على غيره من الكتب ببركة المكان الشريف فقال: "وكذلك الجهة العظمى المُوجِبَة لتقديمه، وهي ما ضمّنه أبوابه من التراجم التي حيَّرتْ الأفكار وأدهشت العقول والأبصار. وإنما بلغت هذه الدرجة وفازت بهذه الحظوة لسببٍ عظيمٍ أوجبَ عِظَمَها وهو ما رواه أبو أحمد بن عدي عن عبد القدوس بن همام قال: شهدتُ عدّةَ مشايخَ يقولون: حوّلَ البخاريُّ تراجمه ـ يعني بيَّضَها ـ بين قبرِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم ومنبره. وكان يصلِّي لكلِّ ترجمة ركعتين"[45]. وقد أحسنَ الصنعاني في قوله: "نوّهَ الله تعالى في كتابه العزيز بذكرِ البيتِ، وكرّره تنويهاً له وتشريفاً, وأضافه إلى ذاته الشريفة فزاده تشريفاً وتعريفاً, لا تشبع من لقائه القلوب, ولا ترحل الأنفس عنه إلا وهي بذكره طروب و
لا يرجع الطرف عنها حين ينظرها
حتى يعود إليها وهو مشتاق"[46]
كيف وقد روى مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا مسجد الكعبة) وروى أحمد (صلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مسجدي هذا بمئة صلاة). وقد أصرّ ابن عمر رضي الله عنهما في شيخوخته أن يحج في فتنة الحجاج وابن الزبير, وبكتْ عائشة رضي الله عنها حسرةً على فوات عُمرتِها حين حلَّ بها ما كُتب على النساء!
ويكفيك في فضل المدينة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنّ الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها)، و(المدينة خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون)؛ حتى إنّ الأمير الراشد عمر بن عبد العزيز خرج من المدينة ثم (التفت إليها فبكى، ثم قال: يا مزاحم أتخشى أن نكون ممن نفت المدينة؟)[47]
هذا وإنّ الحاج إذا مات في نُسكِه (بُعِثَ ملبِّداً وملبِّياً) كما ثبت في الصحيح. ورحم الله ابن عمر فقد ختم البخاري (كتاب فضائل المدينة) بدعائه الذي يدعو به الصالحون (اللهم ارزقنا شهادة في سبيلك واجعل موتي في بلد رسولك صلى الله عليه وسلم) قال ابن حجر: "فيه إشارةٌ إلى حُسنِ الختام؛ فنسأل الله أن يختم لنا بالحسنى"[48].
وليت شعري كيف يُشفَى المستهامُ ويصبر على فراقِ البلد الحرام؟ كما قال الشاعر:
أسَعُ البلادَ إذا أتيتُك زائراً
وإذا هَجَرْتُك ضاقَ عَنِّي مقعدي!
وهل للمؤمن حَنِينٌ في الوجودِ إلى أعظمَ مِن البلدِ الأمين الذي أقسم به ربّ العالمين؟! فرحم الله مَنْ حجَّ فحصَّلَ الحجَّ المبرور، وعاد بذنبٍ مغفور! ومَنْ بَكَى لعدمِ القدرة على ذلك؛ فأنشد:
يا ظاعِنين إلى البيتِ العتيقِ لقد
سِرْتُمْ جُسُوماً وسِرْنا نحن أرواحا
إنا أقمْنا على عَجْزٍ ومَعْذِرَةٍ
ومَنْ أقامَ على عَجْزٍ فقد راحا!
2. مدخلٌ لفقهِ الحج والمواقيت:
أولاً: الحج في لغة العرب وفي القراءات:(/9)
1) قال الجوهري:"الحجّ القصد".[49] وقال ابن منظور:"حجّ إلينا فلان: أي قدم".[50] وقال ابن السكيت: "هذا الأصل ثم تُعُورِف استعمالُه في القصد إلى مكة".[51] وكذلك قال ابن فارس: "الحاء والجيم أصول أربعة: فالأول: القصد. وكلُّ قصدٍ حجٌّ... ثم اختصّ بهذا الاسم القصد إلى البيت الحرام للنسك".[52]
2) يُقال (حجّ) و(احتجّ): قال ابن منظور: "احتجّ البيت كحجّه ـ عن الهجري ـ وأنشد:
تركتُ احتجاجَ البيتِ حتى تظاهرتْ عَلَيَّ ذُنوبٌ بَعدَهنّ ذُنوب"[53]
3) يقال: (أحججتُ فلانا) إذا بعثتُ به للحج[54].
4) يقال للحُجّاج (حَجِيجٌ) و(حِجٌّ), قال ابن فارس:"والحجيجُ الحاجُّ، قال:
ذكرتُكِ والحجيجُ لهم ضجيجُ بمكةَ والقلوبُ لها وَجِيبُ"[55]
وقال ابن منظور:"والحِجُّ: الحُجَّاج, قال:
كأنما أصواتها بالوادي
أصوات حِجٍّ من عُمان عادي
هكذا أنشده ابنُ دريد بكسر الحاء"[56]
5) يقال "امرأة حاجَّةٌ ونسوةٌ حواجُّ بيتِِ الله عز وجل بالإضافة إذا كنّ قد حججن. وإن لم يكنّ حججن قلتَ: حَواجُّ بيتَ الله؛ فتنصب البيت؛ لأنك تريد التنوين في حواجّ إلا أنه لا ينصرف كما يقال: هذا ضاربُ زيدٍ أمس, وضاربٌ زيداً غداً؛ فتدل بحذف التنوين على أنه قد ضربه, وبإثبات التنوين على أنه لم يضربْه"[57].
6) اختلف القراء في لفظ (الحج) بالكسر أو الفتح من قوله تعالى (ولله على الناس حج البيت مَن استطاع إليه سبيلا)[58] فقرأ مِن السبعة[59] حفص وحمزة والكسائي (حِجّ البيت) بكسر الحاء. ووافقهم من الثلاثة أبو جعفر وخلف العاشر. وقرأ الباقون وهم نافع وابن كثير وابن عامر وشعبة من السبعة ويعقوب من الثلاثة بفتح الحاء. وقد نبَّه أهل اللغة على أنّ (الحِج) بالكسر سماعيّةٌ وليست قياسيّةً؛ لأنّ اسمَ المرة يأتي على وزن (فَعْلة) بالفتح بخلاف اسم الهيئة فيكون على وزن (فِعلة) بالكسر. قال الجوهري: "القياس بالفتح".[60]وقال الأزهري: "الفتح أكثر، قال الزجاج: والفتح الأصل والفتح اسم العمل... ورُوي عن الأثرم وغيره: ما سمعنا من العرب (حججت حَجة ولا رأيت رَأْية) إنما يقولون: حججت حِجة... وقال الكسائي: كلامُ العرب كله على فعلتُ فَعلة إلا قولهم: حججتُ حِجّة ورأيت رُؤية"[61].
ثانياً: الحج في الشرع: هو "القصد إلى بيت الله الحرام بأفعالٍ مخصوصة"[62]
ثالثاً: فرض الحجّ:
الحجُّ هو أحد أركان الإسلام الخمسة، كما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بُني الإسلام على خمسٍ: شهادة أن لا إله إلا الله وأنّ محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا). ودليلُ وجوبِ الحج من القرآن: قوله تعالى: (ولله على الناسِ حجُّ البيتِ مَن استطاع إليه سبيلا). وقد احتج بها البخاري رحمه الله في كتاب الحج (باب وجوب الحج وفضله).
ودليلُ وُجُوبِه مَرَّةً في العمر مِن السُّنّة حديثُ أبي هريرة رضي الله عنه قال: (خطبَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيها الناس قد فرض الله عليكم الحجَّ فحُجُّوا. فقال رجلٌ: أكلَّ عامٍ يا رسولَ الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: لو قلتُ نعم لوجبتْ ولما استطعْتُمْ. ثم قال: ذروني ما تركتُكم. فإنما هلك مَن كان قبلَكم بكثرةِ سؤالِهم واختلافِهم على أنبيائهم فإذا أمرتُكم بشيءٍ فأْتُوا منه ما استطعتمْ، وإذا نهيتُكم عن شيءٍ فدعوه). رواه مسلم رحمه الله في كتاب الحج (باب فرض الحج مرّة في العمر).
وقد ذكر الحافظُ ابن حجر اختلافَ العلماءِ في وقتِ ابتداءِ فرضِهِ "فقيل: قبل الهجرة. وهو شاذ, وقيل: بعدها, ثم اختُلِفَ في سَنَتِه: فالجمهور على أنها سنةُ ستٍّ؛ لأنها نزل فيها قولُ الله تعالى: (وأتموا الحج والعمرة لله).[63]وهذا ينبني على أنّ المراد بالإتمام ابتداءُ الفرض, ويؤيِّدُه قراءةُ علقمة ومسروق وإبراهيم النخعي بلفظ (وأقيموا)، أخرجه الطبري بأسانيد صحيحة عنهم, وقيل: المراد بالإتمام الإكمال بعد الشروع؛ وهذا يقتضي تقدُّم فرضِهِ قبل ذلك. وقد وقع في قصّة ضمام[64] ذكر الأمر بالحجّ. وكان قدومُهُ على ما ذكر الواقدي[65] سنة خمس. وهذا يدلّ ـ إنْ ثبتَ ـ على تقدُّمِهِ على سنة خمسٍ أو وقوعه فيها"[66].
ودليلُ ذلك من الإجماعِ قولُ ابن المنذر: "أجمعوا على أنَّ على المرءِ في عُمرِهِ حجةً واحدةً ـ حجة الإسلام ـ إلا أن ينذر؛ فيجب عليه الوفاء".[67]وقال الحافظ أبو زكريا النووي: "أجمعت الأمة على أنَّ الحج لا يجب في العمرِ إلا مرة واحدة بأصل الشرع، وقد تجب زيادة بالنذر...".[68] وقد ترجمَ بهذا المعنى الحافظُ محب الدين الطبري (ما جاء في أنّ الحجّ لا يجب إلا مرّةً) في كتابه القيّم (القِرى لقاصد أُمّ القُرى).[69]وقال الحافظ ابن حجر: "وُجُوبُ الحجِّ معلومٌ من الدينِ بالضرورة، وأجمعوا على أنه لا يتكرَّرُ إلا لعارضٍ كالنذر".[70]
رابعاً: فضل الحجّ والعمرة:(/10)
روى البخاري رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ الأعمال أفضل؟ قال: إيمانٌ بالله ورسوله. قيل: ثم أي؟ قال: جهاد في سبيل الله. قيل: ثم أي؟ قال: حجّ مبرور). وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما, والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة). وروى الشيخان كلاهما عن أبي هريرة ـ أيضا ـ رضي الله عنهم جميعا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَن حجَّ فلم يرفُثْ ولم يفسُقْ رجعَ كما ولدته أمه). وفي لفظ البخاري (رجع كيومِ ولدته أمّه). قال ابن حجر في شرحه: "أي بغير ذنب. وظاهرُه غفرانُ الصغائرِ والكبائرِ والتبعاتِ، وهو مِن أقوى الشواهد لحديث العباس بن مرداس المصرِّح بذلك. وله شاهدٌ من حديث ابن عمر في تفسير الطبري".[71] وقد تفنَّنَ المحب الطبري رحمه الله في بيان فضل الحج فترجم في هذا الباب ما تقرّ به العيون والأسماع (ما جاء في أنّ الحج يهدم ما قبله ويصير به الناسك كيوم ولدته أمه) و(ما جاء في أنّ الحاج يُغفَر له ما تقدَّم من ذنبِه وما تأخَّر) و(ما جاء في إجابةِ دعاءِ الحاجِّ والمعتمر) وغير ذلك من التراجم الماتعة[72].
خامساً: شروط وجوب الحجّ:
يجب الحجّ على المسلم العاقل؛ فقد رُفع القلم عن المجنون, كما يجب على البالغ وإن كان يصحّ من الصّبيّ لما رواه ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه (لقي رَكْبا بالرّوحاء فقال: مَن القوم؟ قالوا: المسلمون. قالوا من أنت؟ قال: رسول الله. فرفعَتْ إليه امرأة صبيّا فقالت: ألهذا حجٌّ؟ قال: نعَمْ ولك أجرٌ)، رواه مسلم في (باب صحة حجِّ الصبيِّ وأجر مَن حجَّ به). ولكنْ نقلَ ابنُ المنذر الإجماعَ على أنها لا تجزئه عن حجةِ الفريضة عند البلوغ.
ويجب على (من استطاع إليه سبيلا)، وأما العاجز فلا يجب عليه فإنه (لا يكلف الله نفساً إلا وُسعها) و(لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها). ويدخل في الاستطاعة صحة البدن وأمن الطريق وتوفر المال الذي يكفي لأداء هذه الفريضة.
لطيفة: قال الحطاب: "قال الإمام أبو عبد الله المازري حين تكلم على هذه المسألة: أعني مسألة سقوط فرض الحج عمن يكره على دفعِ مالٍ غيرِ مُجْحِفٍ به لظالمٍ استغرمه إياه ما نصه: وقد خاض في هذه المسألة المتأخرون وأكثروا فيها القول فكلٌّ تعلق بمقدار ما يكثر على سمعه من المسافرين إلى مكة شرفها الله من تهويل ما يجري على الحجاج. قال: ولقد عمل مجلس شيخنا أبي الحسن اللخمي بصفاقص[73] وحوله جمعٌ من أهل العلم مِن تلامذتِه وهم يتكلَّمون على هذه المسألة فأكثروا القول والتنازع فيها: فمن قائلٍ بالإسقاط ومن متوقفٍ صامتٍ، والشيخُ رحمه الله لا يتكلَّمُ، وكان معنا في المجلس الشيخ أبو الطيب الواعظ، وكنا ما أبصرناه. فأدخل رأسه في الحلقة، وخاطب الشيخ اللخمي، وقال: يا مولاي الشيخ
إن كان سفكُ دمي أقصَى مُرادِهم
فما غَلَتْ نظرةٌ منهم بسفكِ دمي!
فاستحسن اللخمي هذه الإشارة من جهة طرق المتصوفة لا من جهة التفقه".[74]
وأما النساء فيُضاف إلى ما سبق أمران:
الأول: وجود الزوج أو المَحْرَم: وهو كل من يحرم عليه الزواج من المرأة بالتأبيد: مثل الشقيق والأخ لأب وأم ونحوهم، وجوّز المالكية أن تكون برفقة رجال صالحين. ومع أنّ في السنة ما يشهد بجواز ذلك مثل خروج عثمان وعبد الرحمن بن عوف بنساء النبي صلى الله عليه وسلم على عهد عمر رضي الله عنهم أجمعين؛ فإنّ مراعاة حال هذا الزمان من قلة الورع وغلبة الفتن والتساهل في العلاقات يقتضي البُعدَ عن مثل ذلك؛ ولا شكّ أنّ تأجيلَ الحجِّ في حقِّ بعض النساء عاماً أو عامين حتى يتوفر لها الزوج أو المَحْرم أسلمُ لها في دينِها من الخروجِ في غير محرمٍ لاسيما مع أمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي خرج يكتتب في غزوة أن يلحق بامرأته.
والأمر الثاني: يشترط ألا تكون المرأة معتدةً من طلاقٍ أو وفاةٍ[75] مدّةَ إمكان السير؛ لأنّ الله تعالى نهى المعتدات عن الخروج مِن بيوتهن بقوله: (لا تُخرِجوهنَّ مِن بيوتهن ولا يخرُجْنَ إلا أن يأتين بفاحشةٍ مبيّنة)[76].
سادساً: الحج عن الغير:(/11)
أ ) يجوز الحج عن الغير مثل الوالد إذا كان عاجزاً أو نَذَرَ أن يحجّ فاخترمَتْهُ المنيَّةُ قبل أن يُحقِّقَ أُمنيتَهُ التي صارتْ بنذرِهِ فرضاً عليه. كما ترجم البخاري رحمه الله (باب الحج والنذور عن الميت، والرجل يحجُّ عن المرأة) و(باب الحج عمن لا يستطيع الثبوت على الراحلة) وكذلك جاءت الترجمة في صحيح مسلم (باب الحج عن العاجز لزمانةٍ و هرمٍ ونحوهما أو للموت). وأورد الشيخان في هذه التراجم حديث ابن عباس رضي الله عنهما (أنّ امرأةً من خثعم عامَ حجةِ الوداع قالت: يا رسول الله إنّ فريضة الله على عباده في الحج أدركتُ أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يستوي على الراحلة فهل يقضي عنه أن أحُجَّ عنه؟ قال: نعم) وزاد البخاري حديثاً آخر عن ابن عباس رضي الله عنهما (أنّ امرأةً من جُهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إنّ أمي نَذَرَتْ أن تحجَّ فلم تحجَّ حتى ماتتْ، أفأحجّ عنها؟ قال: نعم حُجِّي عنها. أرأيتِ لو كان على أمّك دَيْنٌ أكنتِِ قاضيتَه؟ اقضوا الله؛ فالله أحق بالوفاء).
ب ) ذكرَ ابنُ حجر من فوائدِ الحديث "أنّ مَن مات وعليه حَجٌّ وجبَ على وَلِيِّهِ أن يجهزَ مَن يحجُّ عنه مِن رأسِ مالِهِ كما أنّ عليه قضاءَ دُيونِهِ. فقد أجمعوا على أنّ دَيْنَ الآدمي مِن رأسِ المال, فكذلك ما شبّه به في القضاء"[77]. واستنبط الإمام النووي مثلَ ذلك حيث ذكر فوائد: "منها: جواز النيابة في الحج عن العاجز الميؤوس منه بهرمٍ أو زمانةٍ أو موتٍ, ومنها جوازُ حجِّ المرأةِ عن الرجل, ومنها برُّ الوالدين بالقيام بمصالحِهما من قضاءِ دَينٍ وخدمةٍ ونفقةٍ وحجٍّ عنهما".[78]
وأما القادر على الحجِّ فلا يجوز النيابة عنه اتفاقاً، قال ابن حجر: "نقلَ ابنُ المنذر وغيرُهُ الإجماعَ على أنه لا يجوز أن يستنيبَ مَن يقدرُ على الحجِّ بنفسِه في الحجِّ الواجب"[79]
ج) يشترط لمن يحجُّ عن غيرِهِ أن يكون قد حجَّ عن نفسِه لحديث ابن عباس رضي الله عنهما (أنّ النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: لَبَّيْكَ عن شُبْرُمَة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مَن شبرُمة؟ قال: أخٌ لي أو قريبٌ لي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أحججتَ عن نفسِك؟ قال: لا. قال: حُجَّ عن نفسِك، ثم حُجَّ عن شبرمة).[80]
سابعاً: أركان الحجّ:
أربعة: الإحرام, والحضور بعرفة جزءا من ليلة النّحر, والطواف بالبيت بعده, والسعي بعد طواف صحيح. وهذه الأركان لا تُجبر بالدم فلا يصح الحجّ إلا بها. قال ابن عاشر:
"والحجُّ فرضٌ مرَّةً في العُمُرِ
أركانُهُ إن تُرِكَتْ لم تُجْبَرِ
الإحرامُ والسّعيُ وقوفُ عَرَفَهْ
ليلةَ الأضحى والطوافُ رَدِفَهْ[81]
ثامناً: الميقات الزماني للحج:
الأصلُ في هذا ما ترجم به البخاري [(باب قول الله تعالى (الحجُّ أشهرٌ معلوماتٌ فمَنْ فرضَ فيهنّ الحجَّ فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج)[82] وقوله (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيتُ للناس والحج)[83] وقال ابن عمر رضي الله عنهما: أشهرُ الحجِّ: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجّة. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: من السُنة أن لا يُحرم بالحجّ إلا في أشهر الحجّ)].
قال الحافظ ابن حجر: "أجمع العلماء على أنّ المرادَ بأشهر الحج ثلاثةٌ: أولها شوال[84]. وذكر المحب الطبري في آخر (ما جاء فيمن أحْرمَ بالحج في غير أشهُرِه) أنّ "أكثر أهلِ العلم على القول بأنّ الحجَّ لا ينعقد في غيرِ أشهُرِه، وهو قول جابر وعطاء وعكرمة".[85] وقال الشيخ ابن باز: "الواصل إلى الميقات له حالان: إحداهما أن يصل إليه في غير أشهر الحج كرمضان وشعبان فالسُنة في حقّ هذا أن يُحرم بالعمرة"[86].
تاسعاً: الميقات المكاني:
أ) عقد الإمام البخاري ثمانية أبواب في كتاب الحج لتفصيل هذا الحكم بالنسبة إلى ساكني أمّ القرى وقاصديها. فترجم (باب فرض مواقيت الحج والعمرة) و(باب مُهَلِّ أهل مكة للحج والعمرة) و(باب ميقات أهل المدينة ولا يُهِلُّون قبل ذي الحُليفة) (وباب مُهَلِّ أهل الشام) و(باب مُهَلِّ نجد) و(باب مُهَلِّ مَن كان دون المواقيت) و(باب مُهَلِّ أهل اليمن) و(بابٌ: ذات عرقٍ لأهل العراق) أخرج فيهن عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم أجمعين (أنّ النبي صلى الله عليه وسلم وقَّتَ لأهل المدينة ذا الحُليفة, ولأهلِ الشام الجُحفة, ولأهل نجدٍ قرنَ المنازل, ولأهل اليمن يَلمْلَم هُنَّ لهنَّ ولمن أتى عليهنَّ مِن غيرِ أهلِهنَّ ممن كان يريدُ الحجَّ والعمرة. فمن كان دونهنّ فمن أهله, حتى إنّ أهل مكة يُهلُّون منها). وفي (باب ذات عرقٍ لأهل العراق) أورد حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: (لما فُتِحَ هذا المِصران[87] أَتَوْا عمر. فقالوا: يا أميرَ المؤمنين إنَّ رسولِ الله حَدَّ لأهل نجدٍ قرناً وهو جَوْرٌ عن طريقِنا. وإنّا إذا أردْنا قرناً شقَّ علينا قال: فانظرُوا حَذْوَها مِن طريقِكم. فحدَّ لهم ذات عِرق).(/12)
ب) وقد ثبت أنّ النبي صلى الله عليه وسلم وقَّتَ لأهل العراق ذات عرق كما روى مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه عن جابر رضي الله عنه (مُهَلّ أهل العراق ذات عرق). وأخرج الطحاوي وأبو نُعيم في الحلية بسند صحيح عن ابن عمر أنه قال عقب حديثه المشار إليه في المواقيت: (وحدّثني أصحابنا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقَّتَ لأهلِ العِراقِ ذات عرق) قال أبو نُعيم: هذا حديثٌ صحيحٌ ثابتٌ.[88] فهذه زيادةٌ على حديث ابن عمر في البخاري من أنّ عمر قال: (انظروا حذوَها مِن طريقِكم. فحدَّ لهم ذاتَ عِرْق). وقد جاء ذلك مُصرَّحا به في حديث جابر عند مسلم. والزيادة الصحيحة مقبولةٌ عند المحقِّقين مِن أهلِ الحديثِ دفعاً للتعارضِ وجمعاً بين النصوصِ، وقد أحسنَ الشيخ الشنقيطي في أضواء البيان[89] والشيخ الألباني رحمهما الله في ذهابهما إلى "إمكان أن يكون ذلك من جملةِ الموافقات التي وافق عمر الشارع فيها".[90]ولا يُقال: إنَّ العراقَ لم تُفتَحْ حينئذٍ؛ لأنَّ الشام أيضا لم تكن فُتِحتْ. قال ابنُ عبد البر: "هذه غفلةٌ مِن قائلِ هذا القول؛ لأنه عليه السلام هو الذي وقَّتَ لأهل العراق ذات عرقٍ كما وقَّتَ لأهلِ الشامِ الجُحفة, والشامُ يومئذٍ دارُ كفرٍ كالعراق؛ فوقَّتَ المواقيتَ لأهلِ النواحي لأنه علم أنّ الله سيفتح على أمته الشام والعراق وغيرها, ولم تُفتَح الشامُ والعراقُ إلا على عهدِ عمر بلا خلافٍ".[91]
ج) فائدة: قال ابن المنذر: "أجمعُوا على ما ثبت به الخبرُ عن النبِيِّ صلَّى الله عليه وسلم في المواقيت. وأجمعوا على أنّ مَنْ أحرمَ قبل الميقات أنه مُحرِمٌ".[92]
د) اختلف الفقهاءُ في مَن مرّ على ميقاتين هل يُحرم من ميقاته الأصلي أم من الذي مرّ عليه؟ مثل المغاربة والشاميِّين الذين يُقدِّمون السفر إلى المدينة هل يجوز لهم أن يجاوزوا ذا الحُليفة بلا إحرام وصولا إلى الجحفة التي هي ميقاتهم الأصلي. فهل هم مخاطبون بكون الجحفة لأهل الشام ومن يليها؟ أم مخاطبون بالميقات الآخر الذي مرّوا عليه (هنّ لهنّ ولمن أتى عليهنّ من غير أهلهنّ). قال الحافظ ابن حجر: "الذي يدخل فيه خلافٌ كالشامي إذا أراد الحج فدخل المدينة فميقاته ذو الحليفة لاجتيازه عليها ولا يؤخر حتى يأتي الجحفة التي هي ميقاته الأصلي. فإنْ أخَّرَ أساء ولزمه دمٌ عند الجمهور". ثم نقل كلام ابن دقيق العيد: "قوله (ولأهل الشام الجحفة) يشمل مَنْ مَرَّ مِن أهلِ الشام بذي الحُلَيْفة ومَنْ لم يمرّ. وقوله (ولمن أتى عليهنَّ مِن غير أهلهن) يشمل الشاميَّ إذا مرَّ بذي الحليفة وغيره. فهنا عُمومان قد تعارضا" ثم وفّق الحافظ بين العمومين بما يؤيِّدُ مذهب الشافعي وأحمد فقال: "ويحصل الانفكاك عنه بأنَّ قوله (هُنَّ لهنَّ) مُفسِّرٌ لقوله مثلاً (وقَّت لأهل المدينة ذا الحليفة), وأنّ المراد بأهل المدينة ساكِنُوها ومَن سلك طريقَ سفرِهم فمرَّ على ميقاتهم؛ ويؤيِّده عراقيٌّ خرج من المدينة فليس له مجاوزةُ ميقاتِ أهلِ المدينة غيرَ مُحرِم. ويترجَّحُ بهذا قولُ الجمهور وينتفي التعارض"[93].
هـ) لأهل مكة والآفاقيين[94]الذين بين الميقات ومكة أن يُحرِمُوا من أمكنتهم في الحجّ. وأما في العمرة فيجب أن يخرجوا إلى أدنى الحِلّ ليحرموا منه. قال المحبّ الطبري: "لا أعلم أحداً جعل مكةَ ميقاتاً للعمرة في حقِّ المكِّي. بل عليه أن يخرج من الحرمِ إلى أدنى الحِلّ؛ يدلّ عليه أمرُهُ صلى الله عليه وسلم عائشة أن تخرج إلى التنعيم, وانتظاره مع جملةِ الحجيجِ لها, ثم فِعْلُ مَن جاور بمكة مِن الصحابة, ثم تتابُعُ التابعين وتابعيهم إلى اليوم؛ وذلك إجماعٌ في كلّ عصر"[95].
و) يجوز دخول مكة بغير إحرام لغير الحاجِّ والمعتمرِ، كما هو مفهوم قوله صلى الله عليه وسلم (ممن أراد الحج والعمرة).
وقد ترجم البخاري رحمه الله في كتاب جزاء الصيد (باب دخول الحرم ومكة بغير إحرام, ودخل ابن عمر. وإنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإهلال لمن أراد الحجّ والعمرة. ولم يذكر للحطّابيين وغيرهم) وأورد فيه حديث أنس رضي الله عنه (أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عام الفتح وعلى رأسه المغفر) قال ابن حجر: "أراد أنس بذكر المغفر كونَهُ متهيّئاً للحرب".[96] وكذلك روى مسلم في (باب جواز دخول مكة بلا إحرام) عن جابر رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم (دخل يوم الفتح مكة وعليه عمامة سوداء بغير إحرام).
ي) مَن جاوزَ الميقات مريداً للنسك فلم يُحرم "قال الجمهور: يأثم ويلزمه دمٌ" و"لو رجع إلى الميقات قبل التلبُّس بالنسك سقط عنه الدم. قال أبو حنيفة: بشرط أن يعود ملبِّيا, ومالك: بشرط أن لا يبعد, وأحمد: لا يسقط بشيء".[97]
تنبيهٌ مُهِم:(/13)
اختلف الناسُ في هذا الزمان في المكان الذي يُحرم منه أهلُ السودان. فبعضُ العلماء يرى أنَّ ميقاتَ السودانيِّين المتوجِّهين إلى مكة هو الجُحفة ـ مثل المصريِّين والمغاربة ـ ولذلك يُوجِبون على الحجيج جوّاً وبحراً أن يُحرموا عند محاذاةِ (رابغ) ولا يُحرموا من (جدة). وهذا مُتفَقٌ عليه بالنسبة إلى المصريِّين والمغاربة ومن يجيء من طريقِهم.
وأما السودانيُّون الذين لا يحُجُّون عن طريق مصر كما كان الحال قديماً؛ بل يُسافِرُون جوّاً أو بحراً عن طريق بورسودان أو سواكن؛ فليست الجحفة ميقاتاً لهم. ذلك أنَّ الجُحْفةَ جَوْرٌ عن طريقِ أهلِ السودان، حيث تقعُ في الشمال الغربي من مكة، وأما طريقُ الحجيجِ السودانيِّين فيقع في الجنوب الغربي وسطاً بين ميقاتِ الجحفة للشاميِّين والمغاربة وبين يَلَمْلَم ميقاتِ اليمنيِّين. وما دام الأمرُ كذلك؛ فالاعتبارُ بِمُحاذاةِ المواقيت، كما جاء في حديثِ ابنِ عمر رضي الله عنهما: (لما فُتِحَ هذا المِصران أَتَوْا عمر. فقالوا: يا أميرَ المؤمنين إنّ رسولَ الله حَدَّ لأهل نجدٍ قَرْناً وهو جَوْرٌ عن طريقنا. وإنّا إذا أرَدْنا قَرْناً شَقَّ علينا. قال: فانظُرُوا حَذْوَها مِن طريقِكم؛ فحدَّ لهم ذات عرق).
ولا شك أنَّ الناظرَ إلى (جدّة) يرى أنها تقع بمحاذاةِ الجحفة يميناً ويلملم يساراً. وهذا هو المرادُ بالمحاذاة كما قال الدسوقي في حاشيتِه على الشرح الكبير على مختصر خليل: "وحيث حاذى: أي قابَلَ واحداً من هذه المواقيت"، قال: "قوله (قابلَ) الأوْلَى سَامَتَ فيه واحداً بِمُيامَنةٍ أو مُياسَرةٍ. أما إذا حاذاه بمقابلةٍ فلا يُحرِمُ إلا إذا قابَلَهُ بالفعل".[98]
وقد اعتبر (مجمع الفقه الإسلامي) في السودان أنَّ الإحرام من (جدّة) جائزٌ لأهل السودان.[99] ويؤيِّدُه وقوعُ (جدة) قبل خطِّ المحاذاةِ الواصلِ بين الجُحفة ميقاتِ أهلِ الشام ويلملم ميقاتِ أهلِ اليمن؛ لاسيما وليس أمامَ أهلِ الغربِ القادِمين إلى مكة بحراً أو جواً سوى مدينة جدة بميناءيها البحري والجوي. وكلاهما يبعد عن مكة أكثر مِن مرحلتين (80) كم.[100] وفي هذا مِن التخفيفِ على الحجيجِ ما يُوافق هديَ الشريعة في التيسيرِ ورفعِ الحرجِ. والله أعلم.[101]
3. المناسك:
النسك الأول: الإحرام
1. تعريفه: الإحرام هو نية أحد النُّسكين أو هما. والإحرام: ركنٌ من أركان الحج والعمرة عند الجمهور وهو شرطٌ عند الأحناف. وحقيقته: الدخول في الحُرمة وهو عبارة عن التزام حرماتٍ مخصوصةٍ يوجب الخروج عليها القضاء.[102]
2. صفة الإحرام: اتفق الفقهاءُ على أنّ المرء يصير مُحرِماً إذا اقترنتْ نيةُ الحجِّ أو العمرة بالتلبية والتجرُّد من المخيط. ثم اختلفوا في مجرَّدِ النية هل تكفي للدخول في الإحرام. والخروج من الخلاف يقتضي أن يقرن المرء النيّة بالقول وهو التلبية والفعل نحو التجرُّد من المخيط؛ فيصير مُحرِما عند جميع المذاهب. لاسيما وقد قال المالكية: يلزمه دمٌ في تركِ التلبية والتجرُّد من المخيط حين النية.
3. جواز إطلاق الإحرام: وقد جرى الخلاف في إطلاق الإحرام وتعيينه حجا أو عمرة؟ مع اتفاقهم على انعقاد الإحرام المعيَّن، وقد أورد المحب الطبري في (ما جاء في إطلاق الإحرام)[103]حديث عائشة الذي خرّجه مسلم قالت: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نُلَبّي, لا نذكر حجّاً ولا عُمرة). وقد اختلف الفقهاء في حالة الإطلاق فقال الحنفية: يمضي في أيِّهما شاء ما لم يطفْ بالبيت شوطا. فإن طاف شوطاً كان إحرامُه عن العمرة؛ لأنَّ الطواف ركنٌ في العمرة، وطواف القدوم سُنّةٌ؛ فإيقاعُه عن الرُّكنِ أَوْلَى.وتتعيَّنُ العمرةُ بفعلِهِ كما تتعيّن بقصده. وقال المالكية: إن أبهم نية الإحرام بأن لم يعيِّن شيئا ونوى النسك لله تعالى من غير ملاحظة حج أو عمرة أو هما, نُدب صَرْفُهُ لحجٍّ فيكون مفردا. والقياس صَرْفُهُ لقِران؛ لأنه أحوط لاشتماله على النسكين كالناسي لما عيّنه. وقال الشافعية والحنابلة: إن أحرم مطلقا في أشهر الحج صرفه بالنية إلى ما شاء من الأنساك, ثم اشتغل بالأعمال. فلو طاف ثم صرفه إلى الحجّ وقع طوافه عند الشافعية عن القدوم. وإن أطلق الإحرام في غير أشهر الحج, فالأصح عند الشافعية انعقاده عمرةً. فلا يصرفه إلى الحج في غير أشهره. والأَوْلَى عند الحنابلة صَرْفُ الإحرام إلى العمرة؛ لأنه إنْ كان في غير أشهر الحجِّ فالإحرام بالحج مكروه أو ممتنع, والأوَّلُ أرجح عندهم. وإن كان في أشهر الحج فالعمرة أوْلى؛ لأن التمتع عندهم أفضل. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا موسى حين أحرم بما أحلَّ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يجعلَه عُمرة.[104](/14)
4. جواز تعليق الإحرام بما أحرم به فلانٌ: وأصل ذلك ما رواه الشيخان في صحيحيهما وترجم له البخاري (باب مَنْ أهلَّ في زمنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم) قال الحافظ ابن حجر: "أي فأقَرَّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم على ذلك فجاز الإحرام على الإبهام".[105]وكذلك جاءت الترجمة في صحيح مسلم (باب جواز تعليق الإحرام وهو أن يحرمَ بإحرامٍ كإحرام فلانٍ فيصير محرما مثل إحرام فلان). وقد أورد الشيخان حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: (بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى قومٍ باليمن. فجئت وهو بالبطحاء فقال: بِمَ أهللتَ؟ قلت: أهللتُ كإهلالِ النبي صلى الله عليه وسلم قال: هل معك مِن هديٍ؟ قلتُ: لا. فأمرَنِي فطفتُ بالبيتِ وبالصَّفا والمروة. ثم أمرني فأحللتُ) الحديث، وزاد البخاري حديث جابر رضي الله عنه (أمر النبي صلى الله عليه وسلم عليّا رضي الله عنه أن يُقيم على إحرامه. وذكر قول سراقة) "أي سؤاله (أعمرتُنا لعامِنا هذا أو للأبد؟ قال: بل للأبد)".[106] وحديث أنس رضي الله عنه قال: (قَدِم عليٌّ رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن فقال: بِمَ أهللتَ؟ قال: بما أهلَّ به النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: لولا أنَّ معي الهديَ لأحللتُ) وزاد ابنُ جُرَيْج (قال له النبي صلى الله عليه وسلم: بِمَ أهللتَ يا عليّ؟ قال: بما أهلّ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: فأَهْدِ وامْكُثْ حراماً كما أنتَ).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح ترجمة البخاري بعد ذكر جواز الإحرام على الإبهام: "لكنْ لا يلزمُ منه جوازُ تعليقُهُ إلا على فعلِ مَنْ يتحقق أنه يعرفه كما وقع في حَدِيثَي الباب. وأما مطلقُ الإحرامِ على الإبهام فهو جائزٌ ثم يصرفه المحرم لما شاء لكونِ النبي صلى الله عليه وسلم لم يَنْهَ عن ذلك. وعن المالكية: لا يصحُّ الإحرامُ على الإبهام وهو قول الكوفيين. قال ابن المنيِّر: وكأنه مذهب البخاري؛ لأنه أشار بالترجمة إلى أنَّ ذلك خاصٌّ بذلك الزمنِ ولأنّ عليّاً وأبا موسى لم يكن عندهما أصلٌ يرجعان إليه في كيفيّة الإحرامِ فأحالاه على النبي صلى الله عليه وسلم. وأما الآن فقد استقرّت الأحكام وعُرِفت مراتب الإحرام فلا يصح ذلك. والله أعلم ـ قال ابن حجر ـ كأنه أخذ الإشارة من تقييده بزمن النبي صلى الله عليه وسلم"[107].
وقال النووي رحمه الله في ذكر بعض فوائد الحديث: "منها جوازُ تعليقِ الإحرامِ فإذا قال: أحرمتُ بإحرامٍ كإحرامِ زيدٍ صحَّ إحرامُه, وكان إحرامُهُ كإحرامِ زيدٍ. فإنْ كان زيدٌ مُحرِماً بحجٍّ أو عُمرةٍ أو قارِناً كان المعلِّقُ مثله, وإن كان زيدٌ أحرمَ مطلقاً كان المعلِّقُ مطلقاً ولا يلزمه أن يصرفَ إحرامَه إلى ما يصرف زيدٌ إحرامَه إليه. فلو صرف زيدٌ إحرامَه إلى حجٍّ كان للمعلِّق صرفُ إحرامِه إلى عمرة، وكذا عكسُه".[108]
5. سنن الإحرام:
أ) الاغتسال: وهو سنةٌ مؤكَّدةٌ لكلِّ محرمٍ ذكراً كان أو أنثى, كبيراً أو صغيراً, حتى الحائض والنفساء. فقد (أمر النبي صلى الله عليه وسلم أسماء بنت عميس وهو نفساء أن تغتسل) رواه مسلم, وأمر عائشة رضي الله عنها بإهلالِ الحج وهي حائض) رواه الشيخان. وقد روى الدارمي والترمذي وغيرهما عن زيد بن ثابت (أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم اغتسل لإحرامه)[109]وروى أبو داود الترمذي عن ابن عباس مرفوعا (أنّ النفساء والحائض تغتسل وتُحرم. وتقضي المناسك كلها, غير أن لا تطوف بالبيت)، وفي الموطأ (أنّ عبد الله بن عمر كان يغتسل لإحرامه قبل أن يُحرم, ولدخوله مكة, ولوقوفه عشية عرفة). وذهب الشافعية إلى أنه إذا لم يجد الماء تيمَّم. وهو والراجحُ عند الحنابلة.
ب) التنظيف بإزالة الشَّعَث, وأخذ الشعر أو حلقه وأخذ الأظافر ونتف الإبط وقص الشارب وحلق العانة وقطع الرائحة الكريهة.
ج) التطيّب في بدنه استعداداً للإحرام. وهو سنةٌ عند الشافعية والحنابلة ومستحبٌ عند الأحناف، ويكون بطيبٍ أو بخورٍ أو ماءِ وردٍ ونحو ذلك لقول عائشة رضي الله عنها: (كأني أنظر إلى وبيصِ الطِّيبِ في مَفارقِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مُحْرِمٌ)، وقولها رضي الله عنها: (كنتُ أطيِّبُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه حين يُحرم ولحلِّه قبل أن يطوف بالبيت) أخرجهما البخاري رحمه الله في (باب الطِّيب عند الإحرام وما يلبس إذا أراد أن يُحرِم ويترجّل ويدّهن وقال ابن عباس يشم المحرم الريحان..) وأوردهما مسلم رحمه الله في (باب استحباب الطيب قبل الإحرام في البدن, واستحبابه بالمسك وأنه لا بأس ببقاء وبيصه وهو بريقه ولمعانه). وزاد مسلم حديث عروة: (سألتُ عائشة رضي الله عنها: بأيّ شيء طيّبتِ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عند حُرْمِه؟ قالت: بأطيبِ الطِّيب) وفي رواية لمسلم: (كأني أنظرُ إلى وبيصِ المسك).(/15)
مسألة: يُكره الطّيبُ عند المالكية قبل الغسل أو بعدَه بما تبقى رائحته؛ لما ورد أنَّ رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف ترى في رجلٍ أحرمَ بعمرةٍ وهو متضمِّخٌ بطيبٍ؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ـ يعني ساعة ـ ثم قال: اغسل الطيب الذي بك ثلاثَ مراتٍ وانزع عنك الجُبّة واصنع في عُمرتك ما تصنع في حجّتك). قال الحافظ ابن حجر في شرح هذا الحديث في (باب غسل الخَلوق ثلاث مرات من الثياب): "أجاب الجمهورُ بأن قصة يعلى كانت بالجعرانة كما ثبت في هذا الحديث, وهي في سَنة ثمانٍ بلا خلاف, وقد ثبتَ عن عائشة أنها طيّبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدِها عند إحرامِها[110] وكان ذلك في حجة الوداع سنة عشرٍ بلا خلاف؛ وإنما يُؤخَذُ بالآخِر فالآخِر من الأمر, وبأنّ المأمور بغسله في قصة يعلى إنما هو الخَلوق لا مطلق الطِّيب, فلعلَّ عِلةَ الأمرِ فيه ما خالطه من الزعفران. وقد ثبت النهي عن تَزَعْفُر الرجل مطلقاً مُحرماً أو غيرَ مُحرِم, وفي حديث ابن عمر الآتي قريبا: (ولا يلبس ـ أي المحرم ـ من الثياب شيئا مسّه الزعفران)، وفي حديث ابن عباس الآتي أيضا: (ولم يَنْهَ إلا عن الثياب المزعفرة)".[111] وقد ردَّ ابن الهمام الحنفي على المالكية بهذين الأمرين اللّذَيْن ذكرهما ابن حجر.[112]
فائدة: وقد أجاز الشافعية والحنابلة تطييبَ ثوبِ الإحرامِ قياساً للثوبِ على البدن إلا إذا نزع الثوبَ أو سقطَ فلا بد حينئذ مِن غسلِه. وذهبَ الحنفيةُ والمالكية إلى المنعِ من ذلك وليس ترجمة البخاري (باب غسل الخَلوق ثلاث مرات من الثياب) موافقة للأحناف والمالكية كما قد يُتوهَّم إذ لا مفهوم للثياب هنا باعتبار أنّ الخَلوق ـ بفتح الخاء المعجمة ـ نوع من الطّيب مركَّب فيه زعفران.[113] وهو منهي عنه في الثوب والبدن سواء.
د) صلاة ركعتين قبل الإحرام: لما رواه مسلم في (باب التلبية وصفتها ووقتها) أنّ ابن عمر رضي الله عنهما كان يقول (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يركع بذي الحُليفة ركعتين ثم إذا استوت به الناقة قائمةً عند مسجد ذي الحليفة أهلّ بهؤلاء الكلمات). وقد اتفق الفقهاء على أنّ صلاة الفريضة تجزي عن ركعتي الإحرام"[114].
هـ) التلبية بـ (لبّيك اللهم لبّيك. لبّيك لا شريك لك لبّيك. إنّ الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك): كما جاء في حديث ابن عمر في (باب التلبية) من الصحيحين. وقد كره بعض العلماء الزيادة على المأثور كما رواه الطحاوي عن سعد بن أبي وقاص وحكاه ابن عبد البر عن مالك[115] وللشافعي وابن حجر رحمهما الله اختيارٌ حسنٌ فيه جمعٌ بين أقوال من ذهب إلى الكراهة ومراعاة ما ورد من الزيادات على ذلك وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لهم على ذلك كما جاء في حديث جابر عند مسلم (و أهلّ الناس بهذا الذي يُهلُّون به, فلم يَرُدَّ عليهم شيئاً منه ولزم تلبيتَه) وفي أبي داود (والناس يزيدون ذا المعارج ونحوه من الكلام والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع فلا يقول لهم شيئاً) قال ابن حجر: "حُكي في (المعرفة) عن الشافعي قال [ولا ضِيقَ على أحدٍ في قولِ ما جاء عن ابن عمر وغيرِهِ من تعظيمِ الله ودعائه, غير أنّ الاختيار عندي أن يفرد ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك] انتهى وهذا أعدل الوجوه. فيُفرد ما جاء مرفوعا. وإذا اختار قول ما جاء موقوفا[116] أو أنشأه هو من قِبَل نفسه مما يليق قاله على انفراده حتى لا يختلط بالمرفوع. وهو شبيهٌ بحال الدعاء في التشهُّد فإنه قال فيه: (ثم ليتخيَّرْ من المسألة والثناء ما شاء) أي بعد أن يفرغ من المرفوع".[117]
وحكم التلبية عند الفقهاء أنها جزءٌ من الإحرام عند الحنفية فلا يصح ولا يعتبر ناويا للنسك إلا إذا قرنه بالتلبية. وهي واجبةٌ عند المالكيّة في الأصل, والسُّنّةُ اقترانُها بالإحرام. وهي سُنَّةٌ مُطلَقاً عند الشافعية والحنابلة.[118](/16)
وقد اختُلِفَ في ابتداءِ التلبيةِ عُقَيْبَ الصلاةِ كما قال الأحنافُ أو عند ركوبِ الدابة كما قال المالكية والحنابلة[119]وقد تفنّن البخاري رحمه الله في ذلك فترجمَ أبواباً عامة (باب التلبية) و(باب رفع الصوت بالإهلال) وفيه قول أنس: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة الظهر أربعا والعصر بذي الحليفة ركعتين وسمعتهم يصرخون بهما جميعا). وترجم أبوابا خاصة في بعضها إثبات التلبية عند الركوب على الدابة كما في (باب التحميد والتسبيح والتكبير قبل الإهلال عند الركوب على الدابة). وفيه قول أنس (ثم ركب حتى استوت به على البيداء حمد الله وسبّح وكبّر ثم أهلّ بحج وعمرة وأهلّ الناس بهما) و(باب مَن أهلّ حين استوت به راحلته قائمة) وفيه قول ابن عمر: (أهلّ النبي صلى الله عليه وسلم حين استوت به راحلته قائمة) وترجم باباً أثبت فيه ابتداء التلبية بُعيد الصلاة (باب الإهلال عند مسجد ذي الحليفة) أورد فيه حديث ابن عمر (ما أهلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عند المسجد ـ يعني مسجد ذي الحليفة).
وقد أخرج الحميدي في مسنده ومسلم: (كان ابن عمر إذا قيل له الإحرام من البيداء. قال: البيداء التي تكذبون فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما أهلَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلا عند المسجد, مسجد ذي الحليفة) ولفظ مسلم (من عند الشجرة حين قام به بعيره) قال الحافظ ابن حجر: "قد أزال الإشكالَ ما أورده أبو داود والحاكم من طريق سعيد بن جبير (قلت لابن عباس: عجبتُ لاختلاف أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في إهلاله؛ فذكر الحديث وفيه: فلما صلى في مسجدِ ذي الحُليفة ركعتين أوجبَ مِن مجلسِهِ فأهلَّ بالحجِّ حين فرغَ منها فسمع منه قومٌ فحفظوه, ثم ركب فلما استقلَّت به راحلتُهُ أهلَّ, وأدرك ذلك قومٌ لم يشهدوه في المرة الأولى فسمعوه حين ذاك فقالوا: إنما أهلَّ حين استقلت به راحلتُه, ثم مضى فلما علا شَرَفَ البيداءِ أهلَّ, وأدرك ذلك قومٌ لم يشهدوه؛ فنقل كلُّ أحدٍ ما سمع, وإنما كان إهلالُهُ في مُصلاه وايم الله. ثم أهلّ ثانيا وثالثا)... وعلى هذا فكان إنكار ابن عمر على مَن يخصُّ الإهلالَ بالقيامِ على شرفِ البيداء. وقد اتفق فقهاءُ الأمصارِ على جوازِ جميعِ ذلك وإنما الخلافُ في الأفضل"[120].
وقد أحسن النووي في ذكر فقه التلبية فقال: "يُستحَبُّ رفعُ الصوتِ بالتلبية بحيث يشُقُّ عليه, والمرأةُ ليس لها الرفع؛ لأنه يُخاف الفتنة بصوتِها. ويُستحَبُّ الإكثارُ منها لاسيما عند تغايرِ الأحوال: كإقبال الليلِ والنهارِ والصعودِ والهبوطِ واجتماعِ الرفاقِ والقيامِ والقعودِ والركوبِ والنزولِ وأدبارَ الصلوات وفي المساجدِ كلِّها ـ والأصحُّ أنه لا يلبي في الطواف والسعي لأنّ لهما أذكاراً مخصوصةً ـ ويُستحَبُّ أن يكرِّرَ التلبيةَ كلَّ مرةٍ ثلاثَ مرات فأكثر ويُواليها ولا يقطعها بكلامٍ, فإن سُلِّمَ عليه ردَّ السلامَ باللفظ, ويُكرَهُ السلامُ عليه في هذه الحال, وإذا لَبَّى صلَّى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأل الله تعالى ما شاء لنفسِهِ ولمن أحبَّهُ وللمسلمين. وأفضلُهُ سؤالُ الرضوانِ والجنةِ والاستعاذةِ مِن النار. وإذا رأى شيئاً يُعجِبُهُ قال: (لبيك إنَّ العيشَ عيشُ الآخرة). ولا تزال التلبيةُ مُستحَبةً للحاج حتى يشرعَ في رميِ جمرةِ العقبةِ يومَ النحرِ أو يطوفَ طوافَ الإفاضةِ إن قدَّمَهُ عليها أو الحَلْق عند مَنْ يقول: الحَلْقُ نُسُكٌ وهو الصحيح, وتُستحَبُّ للعمرة حتى يشرع في الطواف. وتُستحَبُّ التلبيةُ للمُحْرِمِ مُطلقاً سواء الرجل أو المرأة والمُحْدِث والجُنب والحائض لقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: (اصنعي ما يصنعُ الحاجُّ غيرَ أن لا تَطُوفي)"[121].
6) محظورات الإحرام: وهي ما يَحْرُمُ على المُحْرِم بحجٍّ أو عمرةٍ حتى يحلقَ رأسَهُ بمنى. وهي أنواعٌ كثيرةٌ ترجع إلى أصولٍ أربعة هي: لُبس المخيط, وترفيه البدن وتنظيفه, والصيد, والنساء. وهي أيضا نوعان: نوعٌ لا يوجب فسادَ الحج وهي الأصول الثلاثة الأولى, ونوعٌ يُوجِبُ فسادَ الحجِّ وهو الجماع.[122]
1. لبس المخيط:(/17)
أ ) يحرم على الرجل بمجردِ الإحرامِ سترُ رأسِهِ ووجهِهِ بعمامةٍ أو خِرقةٍ أو ثوبٍ؛ لحديث ابن عباس الذي رواه البخاري في (كتاب جزاء الصيد) (باب سُنَّةِ المحرمِ إذا مات) ورواه مسلم في كتاب الحج (باب ما يُفعَلُ بالمُحرِمِ إذا مات) (أنّ رجلاً كان مع النبي صلى الله عليه وسلم فوقصَتْهُ ناقَتُهُ وهو محرمٌ فمات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اغسلوه بماءٍ وسِدْرٍ وكَفِّنُوه في ثوبَيْهِ ولا تمسُّوه بطيبٍ ولا تُخمِّروا رأسَه فإنه يُبعَثُ يومَ القيامةِ مُلبيِّاً) و(مُلبِّداً) و(يُلَبِّي) معناه على هيئتِهِ التي مات عليها ومعه علامةٌ لحجِّهِ وهي دلالةُ الفضيلةِ كما يجيء الشهيد يوم القيامة وأوداجُهُ تَشْخَبُ دماً".[123] ويُستثنَى من ذلك ما لا يُعَدُّ ساتراً كأن يتوسّد المُحرِم عمامة أو وسادة أو يستظل بمحمل أو يضع يده على رأسه مدة طويلة ولا يلبس المُحرم إلا إزاراً ورداءً ونعلاً غير مخيطة أو قبقاباً ونحوه بحيث يظهر أغلب الأصابع. وذلك لما رواه البخاري في (باب ما لا يلبس المحرم من الثياب) وما افتتح به مسلم كتاب الحج (باب ما يُباح للمحرم بحج أو عمرة لُبسُه وما لا يُباح وبيان تحريم الطيب عليه) عن ابن عمر رضي الله عنهما (أنّ رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يلبس المُحرم من الثياب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تلبسوا القُمُص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخِفاف إلا أحدٌ لا يجد النّعلين فَلْيلبس الخُفَّين. ولْيَقطعهما أسفلَ من الكعبين ولا تلبسوا من الثياب شيئاً مسّه الزعفران ولا الورس).
ويجوز لمن لم يجد الإزار أن يلبس السراويل ولمن لم يجد النعلين أن يلبس الخفين لما تقدّم عن ابن عمر رضي الله عنهما ولحديث ابن عباس الذي أخرجه البخاري في (كتاب جزاء الصيد) (باب لبس الخفين للمحرم إذا لم يجد النعلين) و(باب إذا لم يجد الإزار فليلبس السراويل) وأخرجه مسلم في (باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة لبسه..) قال (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفات: من لم يجد النعلين فليلبس الخفين. ومن لم يجد إزاراً فليلبس سراويل للمحرم).
ب) وأما المرأة: فتستر بالمخيط رأسها وسائر بدنها سوى الوجه. فالوجه في حقّها كرأس الرجل, وإحرامها في وجهها؛ فيحرم عليها تغطيته في إحرامها, كما يحرم على الرجل تغطية رأسه باتفاق العلماء لقوله صلى الله عليه وسلم (ولا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين) رواه البخاري.
2. ترفيه البدن بالطيب وإزالة الشعر وتقليم الأظافر ونحوهما مما يجري مجرى الطيب:
أ ) أما الطيب فيحرم على المحرم استعماله في ثوب أو بدن لقوله صلى الله عليه وسلم (ولا يلبس من الثياب ما مسّه ورس أو زعفران) ولقوله صلى الله عليه وسلم في المُحرم الذي وقصت به ناقته (لا تخمّروا رأسه ولا تقربوه طيباً) وإلا كان عليه فدية.
ب) وأما إزالة الشعر من جميع البدن بالحلق أو النتف وتقليم الأظافر فحرام بالاتفاق لقوله تعالى (ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله). وقيس النتف والقلع على الحلق لأنهما في معناه؛ فلا يقلم الأظفار ولا ينتف الإبط ولا يحلق العانة والشارب ولا يقص الشعر ولا يزيل الشعث والوسخ, ولا يقتل قملةً ولا برغوثاً ولا يطرحهما عن نفسه.
3. النساء: وهذا يشمل عقد الزواج والجماع ومقدماته وقد روى مسلم عن عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لاينكح المُحرِم ولا يُنكَح, ولا يخطب).
4. الصيد: فلا يجوز للمحرم قتل صيد البر واصطياده أو الدلالة عليه إلا المؤذي المبتدئ بالأذى غالباً كالأسد والذئب والحية والفأرة والعقرب والكلب العقور. ودليل ذلك قول الله تعالى: (أُحِلَّ لكم صيدُ البحرِ وطعامُه متاعاً لكم وللسيارة وحُرِّم عليكم صيدُ البرِّ ما دُمتم حُرُماً) وقوله عز وجلَّ: (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيدَ وأنتم حُرُم) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (خمس فواسق يُقتَلن في الحِلِّ والحرم: الحية والعقرب والفأرة والكلب العقور والغراب) رواه مسلم.
7) مباحات الإحرام:[124]
أ. غسل الرأس بما ينظفه من الوسخ من غير نتف شيء من الشعر, ويغتسل من الجنابة.
ب. الاكتحال بما لا طيب فيه.
ج. الفصد والحجامة إذا لم يقطع الشعر لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم كما في الصحيحين. ويجوز حكّ الرأس والبدن من غير نتف.
د. النظر في المرآة
هـ. صيد البحر.
و. قتل الفواسق.
ز) الاستظلال بالبيت والمحمل والمظلة ونحوها مما لا يصيب الرأس أو الوجه.
ح) شدّ حزام النقود على الوسط, وكذلك عقد الإزار لستر العورة.
ط) الكلام في طاعة الله.
8. أنواع الإحرام:(/18)
أ) اتفق الفقهاء على أنّ أوجه أداء الحج والعمرة ثلاثة أنواع: الإفراد, والتمتع, والقِران. وهي عبارةٌ عن أداء الحج وحده, والعمرة وحدها, وأدائهما معا. فالمفرد بالحج هو الذي يُحرم بالحج لا غير, فيؤدي الحج أولا, ثم يُحرم بالعمرة. والمتمتع: هو الذي يُحرم بالعمرة أولا في أشهر الحج ويتمها, ثم يُحرم بالحج في سنته وأشهره. والقارن: هو الذي يجمع بين إحرام العمرة وإحرام الحج قبل الطواف. فيأتي بالعمرة أولا, ثم يأتي بالحج قبل أن يحلَّ من العمرة بالحلق أو التقصير.[125]
وقد ترجم البخاري رحمه الله (باب التمتع والقِران والإفراد بالحج وفسخ الحج لمن لم يكن معه هديٌ) أورد فيه حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ولا نُرى إلا أنه الحج. فلما قدمنا تَطَوَّفْنا بالبيت. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم مَنْ لم يكنْ ساقَ الهديَ أن يحلَّ, فحلَّ مَنْ لم يكنْ ساقَ الهديَ. ونساؤه لم يسقْنَ فأحلَلْنَ. قالت عائشة رضي الله عنها: فحضتُ؛ فلم أطفْ بالبيت. فلما كانت ليلةُ الحَصْبةِ قالت: يا رسولَ الله يرجعُ الناس بعمرةٍ وحجةٍ وأرجعُ أنا بحجَّةٍ! قال: وما طفتِ لياليَ قدمْنا مكة؟ قلتُ:لا. قال: فاذهبي مع أخيك إلى التنعيمِ فأَهِلِّي بعُمرةٍ. ثم موعدُك كذا وكذا. قالت صفية: ما أُراني إلا حابستهم. قال: عَقْراً حَلْقاً أوَ ما طُفتِ يومَ النحر؟ قالت: قلتُ: بلى. قال: لا بأس. انفري. قالت عائشة رضي الله عنها: فلقيَنِي النبي صلى الله عليه وسلم وهو مُصْعِدٌ مِن مكة وأنا مُنهبطةٌ عليها وأنا مُصْعِدةٌ وهو مُنهبِطٌ منها) وحديث عائشة أيضا (خرجْنا مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عامَ حجةِ الوداع. فمِنَّا مَنْ أهَلَّ بعُمرةٍ. ومِنَّا مَنْ أهَلَّ بحجَّةٍ وعُمرةٍ, ومِنَّا مَنْ أهَلَّ بالحجِّ. فأمّا مَن أهَلَّ بالحجِّ أو جَمَعَ الحجَّ والعُمرةَ لم يحلوا حتى كان يوم النحر).
وأخرج مسلم رحمه الله تعالى هذين الحديثين في (باب بيانِ وُجُوهِ الإحرام. وأنه يجوز إفرادُ الحجِّ والتمتعُ والقِرانُ، وجواز إدخال الحجِّ على العمرةِ، ومتى يحل القارن من نسكه؟) قال النووي رحمه الله: "اعلمْ أنّ أحاديثَ الباب مُتظاهِرةٌ على جوازِ إفرادِ الحجِّ عن العُمرةِ وجوازِ التمتعِ والقِرانِ, وقد أجمعَ العلماءُ على جوازِ الأنواعِ الثلاثة".[126]
ب) ولكنهم اختلفوا اختلافا واسعا في حج النبي صلى الله عليه وسلم مفردا أم قارنا أم متمتعا؟ وفي الأفضل من هذه الأوجه تبعا لما يثبت من حجته صلى الله عليه وسلم. وقد انبنى هذا الخلاف على اختلاف الأحاديث الصحيحة الواردة في ذلك؛ حتى إنّ أبا جعفر الطحاوي "تكلم في ذلك في زيادة على ألف ورقة وتكلّم معه أبو جعفر الطبري ثم أبو عبد الله بن أبي صفرة ثم المهلب والقاضي أبو عبد الله بن المرابط والقاضي أبو الحسن بن القصار البغدادي والحافظ أبو عمر بن عبد البر وغيرهم".[127](/19)
ج) وقد أحسن الإمام ابن القيم رحمه الله بَسْطَ الأدلةِ على القِرانِ في (زاد المعاد) فقال: "إنما قلنا: إنه أحرم قارناً لبضعةٍ وعشرين حديثاً صحيحةً صريحةً في ذلك. أحدها: ما أخرجاه في الصحيحين عن ابن عمر قال: (تمتعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في حجةِ الوداعِ بالعُمرةِ إلى الحجِّ وأهدى. فساق معه الهدي مِن ذي الحُلَيفة. وبدأ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فأهَلَّ بالعُمرةِ ثم أهَلَّ بالحج). وثانيها: ما أخرجاه في الصحيحين أيضا عن عُروة أنَّ عائشة أخبرته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثلِ حديثِ ابن عمر سواء. وثالثها: ما روى مسلم في صحيحه مِن حديث ابن عمر أنه (قَرَنَ الحجَّ إلى العمرةِ وطاف لهما طوافاً واحِداً ثم قال: هكذا فعَلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم). حتى ذكر رحمه الله اثنين وعشرين حديثاً ثم جَمَعَ روايات أصحاب أنس (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لبيكَ عُمرةً وحجاًّ) ثم قال: "فهؤلاء ستة عشر نفساً مِن الثقاتِ كلُّهم مُتفِقون عن أنس أنَّ لفظ النبي صلى الله عليه وسلم كان إهلالاً بحجٍّ وعُمرةٍ معا: وهم الحسن البصري وأبو قِلابة وحُمَيد بن هلال وحُمَيد بن عبد الرحمن الطويل وقتادة ويحيى بن سعيد الأنصاري وثابت البُناني وبكر بن عبد الله المزني وعبد العزيز بن صهيب وسليمان التيمي ويحيى بن أبي إسحاق وزيد بن أسلم ومصعب بن سليم وأبو أسماء وأبو قدامة عاصم بن حسين, وأبو قَزَعَة وهو سُوَيد بن حجر الباهلي. فهذا إخبارُ أنس عن لفظِ إهلالِهِ صلَّى الله عليه وسلم الذي سمعه منه. وهذا عليٌّ والبراءُ يُخبِران عن إخبارِهِ صلى الله عليه وسلم عن نفسِهِ بالقِرانِ, وهذا عليٌّ أيضا يُخبِرُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فعلَهُ, وهذا عمر بن الخطاب يُخبِرُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنَّ ربَّهُ أمرَهُ بأن يفعلَه وعلَّمه اللفظَ الذي يقولُ عند الإحرام, وهذا عليٌّ أيضا يُخبِرُ أنه سمع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يُلَبِّي بهما جميعا, وهؤلاء بقيةُ مَنْ ذَكَرْنا يُخبِرُون عنه بأنه فعَلَهُ. وهذا هو صلى الله عليه وسلم يأمر به آلَهُ ويأمرُ به مَنْ ساق الهديَ. وهؤلاء الذين رَوَوُا القِران بغايةِ البيانِ: عائشة أم المؤمنين وعبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عباس وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعثمان بن عفان بإقراره لعليٍّ وتقرير عليٍّ له, وعمران بن الحصين والبراء بن عازب وحفصة أم المؤمنين وأبو قتادة وابن أبي أوفى وأبو طلحة والهرماس بن زياد وأم سلمة وأنس بن مالك وسعد بن أبي وقاص؛ فهؤلاء هم سبعة عشر صحابيا رضي الله عنهم، منهم مَن روى فِعْلَهُ, ومنهم مَن روى لفظَ إحرامِهِ. ومنهم مَن روى خَبرَه عن نفسِهِ ومنهم مَن روى أمْرَهُ به".[128] ثم نقلَ عن شيخِهِ ابن تيمية رحمه الله أنّ "أحاديث التمتع متواترةٌ رواها أكابرُ الصحابة... بل رواها عن النبِيِّ صلى الله عليه وسلم بضعة عشر من الصحابة" ثم ختم رحمه الله بخلاصةٍ نفيسةٍ: أنه "لا تناقضَ بين أقوالِهم فإنه تمتعَ تمتُعَ قِران, وأفْردَ أعمالَ الحجِّ وقَرَن بين النُّسكين, وكان قارِناً باعتبارِ جَمْعِهِ بين النُّسكَيْن ومُفرِداً باعتبارِ اقتصارِهِ على أحدِ الطَّوافَيْن والسَّعْيَيْن, ومُتمتِّعاً باعتبارِ ترفُّهِه بتركِ أحدِ السَّفَرَيْن. ومَنْ تأمَّلَ ألفاظَ الصحابةَ وجَمَعَ الأحاديثَ بعضَها إلى بعضٍ واعتبرَ بعضَها ببعضٍ, وفَهِمَ لغةَ الصحابة؛ أسفرَ له صُبْحُ الصوابِ وانقشَعتْ عنه ظُلمةُ الاختلافِ والاضطِراب".[129]
النسك الثاني: الطواف:
عندما يَصِلُ المُحرِم إلى مكةَ المكرَّمة زادَها اللهُ شَرَفاً "يُستحَبُّ له إذا بلغَ الحَرَمَ أنْ يَستحضِرَ مِن الخضوعِ والخشوعِ في قلبِهِ وجسدِهِ ما أمْكَنَهُ ويقولُ: اللهمَّ هذا حَرَمُكَ وأمْنُكَ فَحَرِّمْنِي على النارِ وأمِّنِّي مِن عذابِك يومَ تبعثُ عِبادَك, واجْعلْنِي مِن أوليائك وأهلِ طاعتِك".[130]
ثم يغتسلُ لدخولِ مكةَ كما ترجَمَ البخاري (باب الاغتسالِ عندَ دُخولِ مكة) عن نافع بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم قال: (كان ابنُ عمر رضي الله عنهما إذا دَخَلَ أدْنَى الحرمِ أمْسَكَ عن التلبية, ثم يَبِيتُ بذي طِوًى, ثم يصلِّي به الصبحَ ويغتسِلُ, ويحدِّثُ أنّ نبِيَّ اللهِ كان يفعلُ ذلك) وأخرَجَ مثلَهُ في (بابِ دُخولِ مكة نهاراً أو ليلاً). وروى مسلم نحوَه في (بابِ استحبابِ المبيتِ بذي طوى عند إرادةِ دخولِ مكةَ، والاغتسالِ لِدُخولِها, ودُخولِها نهاراً).(/20)
ويُستحَبُّ له أن يدخلَ مكةَ مِنْ ثَنيَّةِ كداء وهي بأعلى مكة ويدخل المسجدَ مِن باب بَنِي شيبة لما رواه البخاري في (باب مِن أين يدخلُ مكة؟) ومسلم في (باب استحبابِ دخولِ مكةَ مِن الثنيةِ العليا) عن ابن عمر قال: (كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يدخلُ مكةَ مِن الثنيَّةِ العُليا, ويخرجُ مِن الثنيةِ السُّفلَى) وأورد البخاري في (باب مِن أينِ يخرجُ مِن مكة؟) حديث عائشة: (أنَّ النبِيَّ صلى الله عليه وسلم دخلَ عامَ الفتحِ من كَدَاء وخرج مِن كُدًى مِن أعلى مكة).[131]
ويبدأ المحرم بالطوافِ "ولا يُعَرِّجُ على شيءٍ, ولا يصلِّي تحيةَ المسجدِ حتى يقصدَ الحجرَ الأسودَ وهو مبتدأ الطواف"[132] "ولا يُشْغَل أوّلَ دُخولِه بتحصيلِ منزلٍ ولا حطِّ قُماشٍ ولا تغييرِ ثيابٍ ولا غيرِ ذلك بل يُبادِرُ بالطواف".[133]
ويستقبلُ الحجرَ الأسودَ بجميعِ بدنِهِ ويستلمُهُ ثم يُقبِّلُه ويسجدُ عليه "ويُكرِّر التقبيلَ والسجودَ ثلاثاً".[134]والاستلام هو "المسح باليد عليه وهو مأخوذٌ من السِّلام بكسر السين وهي الحجارة, وقيل: من السَّلام بفتح السين الذي هو التحيّة".[135]وقد روى البخاري في باب (ما ذُكر في الحجرِ الأسود) عن عمر رضي الله عنه (أنه جاء إلى الحجرِ الأسود فقبَّلَهُ فقال: إني لأعلمُ أنك حجرٌ لا تضرُّ ولا تنفع, ولولا أني رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يُقبِّلُك ما قبَّلْتُك). وقد قال ابن عاشور في تفسير (إنَّ أوَّلَ بيتٍ وُضِعَ للناسِ للذي ببكةَ مُبارَكاً وهُدىً للعالمين): "ومِن بركةِ ذاتِهِ أنَّ حجارتَهُ وضعَتْها عند بنائه يدُ إبراهيم ويدُ إسماعيل, ثم يدُ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ولاسيما الحجر الأسود".[136]
وبعد استلامِ الحجرِ يجعلُ المحرمُ البيت على يسارِه ويطوفُ سبعةَ أشواطٍ من الحجرِ إلى الحجرِ يرملُ في الثلاثة الأُوَل. والرَّمَلُ: الإسراعُ، قال ابن دُرَيْد: هو شَبِيهٌ بالهرولة. وأصلُهُ أن يُحَرِّكَ الماشي مَنكِبَيْهِ في مَشيِهِ".[137] وقد روى البخاري في (باب استلامِ الحجرِ الأسودِ حين يَقدَمُ مكةَ أولَ ما يَطُوف, ويَرْمُلُ ثلاثاً) ومسلم في (باب استحباب الرَّمَل في الطوافِ والعمرةِ والطوافِ الأولِ في الحج) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حين يقدَمُ مكةَ إذا استلمَ الرُّكنَ الأسودَ أوَّلَ ما يَطُوفُ يَخُبُّ ثلاثةَ أطوافٍ من السَّبع).
قال الحافظ ابن حجر في شرح ترجمة البخاري (باب مَنْ لم يستلمْ إلا الرُّكنَيْن اليَمانِيَيْن): "في البيتِ أربعةُ أركانٍ: الأولُ له فضيلتان: كَوْنُ الحجرِ الأسودِ فيه, وكَوْنُهُ على قواعدِ إبراهيم. وللثاني: الثانيةُ فقط. وليس للآخَرَيْن شيءٌ منها؛ فلذلك يُقبَّلُ الأوَّلُ ويُستَلَمُ الثاني فقط, ولا يُقبَّلُ الآخَران ولا يُسْتَلَمان.. هذا على رأيِ الجمهور. واستحَبَّ بعضُهم تقبيلَ الرُّكنِ اليماني أيضاً"[138]وقال النووي: "اتفق العلماءُ على أنّ الرَّمَلَ لا يُشْرَعُ للنساء, كما لا يُشرَعُ لهنَّ شدةُ السَّعي.[139]
ويمشي في الأربعة الأُخَر على السَّكينَة، وكلَّما حاذَى الرُّكنَ اليماني استلمَهُ وكَبَّر, "فإنْ لم يُمْكِنْهُ الاستلامُ أشار إليه باليد"[140]وقد روى البخاري في (باب مَنْ أشارَ إلى الرُّكنِ إذا أتى عليه) و(باب التكبيرِ عند الرُّكن) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (طاف النبي صلى الله عليه وسلم بالبيتِ على بعيرِه, كلما أتى الرُّكنَ أشارَ إليه بشيءٍ كان عندَه وكبَّر).
ولا يُلبِّي في الطوافِ ولا يجوزُ له أن يطوفَ مُستصحِباً لنجاسةٍ أو حدثٍ أو مَكشوفَ العورة ولا يجوزُ له أن يطوفَ على شادروان الكعبة أو في الحِجر "لأنه طاف في البيتِ لا بالبيتِ وقد قال تعالى: (وليطَّوَّفُوا بالبيتِ العتيق)".[141]
وعند الفراغِ من الطوافِ يصلِّي ركعتين خلفَ المقامِ فإنْ مَنَعَهُ الزحامُ صلاَّهما في الحِجر وإلا ففي المسجدِ وإلا ففي الحرمِ وإلا فخارجَ الحرم".[142]يقرأ في الأُولَى بعد الفاتحة (قُلْ يا أيها الكافرون) وفي الثانية (قُلْ هو الله أحَد). وقد أخرج البخاري رحمه الله في (باب مَن طافَ بالبيتِ إذا قَدِمَ مكةَ قبلَ أن يرجعَ إلى بيتِه, ثم صلَّّى ركعتين ثم خرجَ إلى الصفا) عن ابن عمر رضي الله عنهما (أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان إذا طافَ في الحجِّ أو العمرةِ أوَّلَ ما يَقدَم سعى ثلاثةَ أشواطٍ ومشى أربعةً ثم سجدَ سجدتين, ثم يطوفُ بين الصفا والمروة).
النسك الثالث: السعي بين الصفا والمروة:(/21)
مِن أركانِ الحجِّ السعيُ بين الصفا والمروة كما قال الله تعالى: (إنَّ الصَّفا والمروةَ مِن شعائرِ الله فمَنْ حَجَّ البيتَ أو اعتمرَ فلا جُناحَ عليهِ أن يطََّوَّفَ بهما). وقد روى البخاري في (باب وُجوبِ الصفا والمروة وجُعِلَ مِن شعائرِ الله) ومسلم في (باب بيان أنَّ السعيَ بين الصفا والمروة ركنٌ لا يصحُّ الحجُّ إلا به) واللفظ مسلم أنَّ عُروةَ قال: (قلتُ لعائشة: ما أرى عليَّ جُناحاً أن لا أتطوّفَ بين الصفا والمروة. قالت: لو كان كما تقول لكان فلا جُناح عليه أن لا يَطَّوَّفَ بهما. إنما أُنزل هذا في أُناسٍِ من الأنصار كانوا إذا أهلُّوا لمناةَ في الجاهلية فلا يحلُّ لهم أن يَطَّوَّفوا بين الصفا والمروة. فلما قدِمُوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له فأنزل الله تعالى هذه الآية؛ فلَعَمْرِي ما أتمَّ الله حَجَّ مَنْ لم يَطُفْ بين الصَّفا والمروة).
وبعد إتمام الحاجِّ للطوافِ يخرجُ إلى السعيِ فيبدأ من الصفا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جابر عند مسلم: (أبدأ بما بدأ الله به), فإذا دنا من الصفا والمروة قرأ (إنَّ الصفا والمروةَ مِن شعائرِ الله), ثم يرقى على الصَّفا حتى يرى الكعبة فيستقبلها ويرفع يديه فيحمد الله ويدعو ما شاء الله أن يدعو. وكان مِن دُعاء النبي صلى الله عليه وسلم هنا: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له. له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. لا إله إلا الله وحده أنجزَ وعدَه ونصرَ عبدَه وهزمَ الأحزابَ وحدَه) يُكرِّرُ ذلك ثلاثَ مرّات ويدعُو بين ذلك.
ثم ينزل مِن الصفا ماشياً, فإذا بلغَ العلمَ الأخضرَ ركضَ ركضاً شديداً بقدرِ ما يستطيعُ ولا يُؤذِي؛ فقد رُوِي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يسعى حتى تُرَى رُكبتاه مِن شدةِ السعي.. وإذا بلغَ العَلَمَ الأخضرَ الثانِيَ مشى كعادتِه حتى يصلَ إلى المروة. فيرقى عليها ويستقبلُ القِبلة, ويرفعُ يديه ويقول ما قاله على الصَّفا, ثم ينزلُ من المروةِ إلى الصَّفا فيمشي في موضعِ مشيِهِ ويسعى في موضعِ سَعْيِهِ... حتى يكملَ سبعةَ أشواطٍ: ذهابُه من الصفا إلى المروة شوطٌ ورجوعُه من المروة شوطٌ آخر.[143]
وقد ذكرَ الإمامُ النووي في مَنسكِه جملةً من الأدعيةِ فقال: "حسنٌ أن يقولَ: اللهم إنك قلتَ: (ادعُوني أستجبْ لكم) وإنك لا تُخلِفُ الميعاد؛ وإني أسألُك كما هديتَنِي للإسلامِ أن لا تَنْزِعَه مني وأن تتوفَّاني مُسلماً".[144]قال: "ويُستحَبُّ أن يقولَ بين الصفا والمروةِ في سعيِهِ ومشيِهِ (رَبِّ اغفرْ وارْحَمْ وتجاوَزْ عما تعلمُ إنك أنتَ الأعزُّ الأكْرَم) (ربَّنا آتِنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً وقِنا عذابَ النار). ولو قرأ القرآنَ كان أفضل".[145]
النسك الرابع: الوُقوف بعرفة:
بالانتهاءِ من السعيِ تتم أعمالُ العمرة؛ وبناءً على ذلك فإنَّ الحاجَّ "إذا فَرَغَ مِن السَّعيِ فإنْ كان مُعتمِراً مُتمتِّعاً أو غيرَ مُتمتِّعٍ حَلَقَ رأسَهُ أو قصَّرَ وصار حَلالاً, وإنْ كان حاجّاً وكان سعيُه بعد طوافِ القُدومِ أقامَ في مكة, فإذا كان يومُ الثامنِ مِن ذي الحجةِ خرجَ مِنْ مكةَ بعد صلاةِ الصُّبحِ إلى مِنًى بحيث يُصلِّي الظهرَ بها وكذلك العصرَ والمغربَ والعشاءَ ويَبيتُ ويُصلِّي بها الصبحَ".[146]وقد روى البخاري في (باب: أين يُصلِّي الظهرَ يومَ التروية؟) عن عبد العزيز بن رُفَيع قال: (سألتُ أنسَ بن مالك رضي الله عنه قلتُ: أخبرني بشيءٍ عقلته عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم أينَ صلَّى الظهرَ والعصرَ يومَ التَّرْوية؟ قال: بمِنىً). وروى في (باب الصلاة بمنًى) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (صلَّى رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلم بِمِنًى ركعتين).
وقد أخرج أحمد وأبو داود عن ابن عمر قال: (غَدا رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلم حيث صلَّى الصُّبحَ في صبيحةِ يومِ عرفةَ حتى أتَى عرفةَ فنزل نَمِرَة. حتى إذا كان عند صلاةِ الظهرِ راح رسول الله صلى الله عليه وسلم مُهجِّراً فجمعَ بين الظهرِ والعصرِ. ثم خطبَ الناس. ثم راح فوقفَ) قال ابن حجر في شرح (باب التهجير بالرَّواحِ يومَ عرفة): "ظاهرُهُ أنه توجَّهَ مِن مِنًى حين صلَّى الصبحَ بها, لكنْ في حديث جابر الطويل عند مسلم أنَّ توجُّهَهُ صلَّى الله عليه وسلم منها كان بعد طُلوعِ الشمسِ، ولفظُه: (فضُرِبَتْ له قُبةٌ بِنَمِرَة, فنزل بها حتى إذا زاغَتْ الشمسُ أمَرَ بالقصوى فرُحِّلَتْ فأتَى بطنَ الوادي) ونَمِرَة ـ بفتح النون وكسر الميم ـ موضعٌ بقُربِ عرفات خارجَ الحرمِ بين طرفِ الحرمِ وطرفِ عرفات".[147](/22)
فبعد طُلوعِ الشمسِ مِن يومِ عرفة يتوجَّهُ الحاجُّ مِن مِنًى إلى عرفة، وبذلك جاءت الترجمة في البُخاري ومسلم (باب التلبيةِ والتكبيرِ إذا غدا مِنْ مِنًى إلى عرفة). ويُسَنُّ أن ينْزِلوا بنَمِرَة إلى الزوالِ؛ لِفعلِه صلَّى الله عليه وسلم. فإذا زالت الشمسُ سُنَّ للإمامِ أو نائبِهِ أن يخطُبَ الناس خُطبةً تُناسِبُ الحالَ يُبين فيها ما يُشرَعُ للحاجِّ في هذا اليومِ وبعدَه ويأمرُهم فيها بتقوى الله وتوحيدِه والإخلاصِ له في كلِّ الأعمالِ, ويُحذِّرُهم مِن مَحارمِه, ويُوصِيهم فيها بالتمَسُّكِ بكتابِ الله وسنةِ نبيِّهِ صلَّى الله عليه وسلم, والحُكْمِ بهما والتحاكُمِ إليهما في كُلِّ الأُمورِ؛ اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كُلِّه, وبعدَها يُصلُّون الظهرَ والعصرَ قَصْراً وجمعاً في وقتِ الأُولَى بأذانٍ واحِدٍ وإقامَتَين لفعلِهِ صلى الله عليه وسلم كما رواه مسلم من حديث جابر.[148]
وينبغي للمسلم في هذا المقام أن "يُلِحَّ في الدعاء ويسألَ رَبَّهُ مِن خَيْرَي الدنيا والآخرة, وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دعا كرَّرَ الدعاءَ ثلاثاً؛ فينبغي التأسي به في ذلك عليه الصلاة والسلام. ويكون المسلمُ في هذا الموقفِ مُخْبِتاً لربِّهِ سبحانه مُتواضِعاً له خاضِعاً لجنابِهِ مُنكسِراً بين يديه يرجُو رحمتَه ومغفرتَه, ويخافُ عذابَه, ويحاسِبُ نفسَه ويُجدِّدُ توبةً نَصُوحاً؛ لأنَّ هذا يومٌ عظيمٌ ومجمعٌ كبيرٌ يجودُ الله فيهِ على عبادِهِ ويُباهِي بهم ملائكته ويُكثِرُ فيه العتقَ من النار. وما رُئيَ الشيطانُ في يومٍ هو فيه أدحرُ ولا أصغرُ ولا أحقرُ منه في يومِ عرفة إلا ما رُئيَ يومَ بدرٍ, وذلك لما يَرَى مِن جُودِ الله على عبادِهِ وإحسانِه إليهم وكثرةِ إعتاقِهِ ومغفرتِه. وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنَّ النبِيَّ صلَّى الله عليه وسلم قال: (ما مِنْ يومٍ أكثر مِن أنْ يعتقَ الله فيه عبداً مِن النار مِن يومِ عرفة, وإنه ليدنُو ثم يُباهِي بهم الملائكةَ فيقول: ما أراد هؤلاء؟)؛ فينبغي للمسلمين أن يُرُوا اللهَ من أنفسِهم خيراً وأن يُهِينُوا عدوَّهم الشيطانَ ويُحزِنوه بكثرةِ الذِّكرِ والدُّعاءِ ومُلازمةِ التوبةِ والاستغفارِ من جميعِ الذنوبِ والخطايا. ولا يزال الحُجَّاجُ في هذا الموقفِ مُشتَغِلِين بالذِّكرِ والدُّعاءِ والتضرُّعِ إلى أن تغربَ الشمس".[149]
النسك الخامس: المبيت بمزدلفة:
بعد غروبِ الشمسِ مِن يوم عرفة يدفع الحاج إلى المزدلفة؛ لقوله عز وجل (ثم أفِيضُوا من حيثُ أفاضَ الناسُ واستغفِرُوا اللهَ إنَّ اللهَ غفورٌ رحيم). ويلزم السكينة لما رواه البخاري في (باب السير إذا دفع من عرفة) ومسلم في (باب الإفاضة من عرفات إلى المزدلفة واستحباب صلاتي المغرب والعشاء جمعاً بالمزدلفة في هذه الليلة) عن أسامة رضي الله عنه وقد سُئل: (كيف كان يَسيرُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حين أفاضَ مِن عرفة؟ قال: كان يَسيرُ العَنَقَ فإذا وَجَدَ فَجوةً نَصَّ) قال هشام: والنَّصُّ فوق العَنَق.[150]
وأخرج البخاري في (باب أمرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالسكينة عند الإفاضة وإشارتِهِ إليه بالسوط) عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه دفع مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة فسمع النبيُّ صلى الله عليه وسلم وراءه زجراً شديداً وضرباً للإبل؛ فأشار بسوطِهِ إليهم: (أيها الناسُ عليكم بالسكينة؛ فإنّ البِرَّ ليس بالإيضاع). قال البخاري: "أوْضَعُوا: أسرعوا" قال ابن حجر: "مِن هذا أخذَ عمرُ بن عبد العزيز قولَهُ لما خطبَ بعرفة: (ليس السابقُ مَنْ سبقَ بعيرُه وفرسُه, ولكنِ السابقُ مَن غُفر له) وقال المهلب: إنما نهاهم عن الإسراعِ إبقاءً عليهم لئلا يُجْحِفُوا بأنفسِهم مع بُعدِ المسافة".[151]
ولا يصلي الحاج المغربَ بعرفات بل يسيرُ إلى المزدلفة، فيصلِّي المغربَ والعشاءَ بِجَمْعٍ بأذانين وإقامتين مع قصرِ العشاء كما رواه البخاري في (باب الجمع بين الصلاتين بالمزدلفة) عن أسامة قال: (دفع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مِن عرفة فنزلَ الشِّعبَ فبالَ ثم توضأ ولم يُسبِغ الوضوءَ فقلت له: الصلاة. قال: الصلاةُ أمامك. فجاء المزدلفة فتوضأ فأسبغ, ثم أقيمت الصلاة فصلى المغربَ ثم أناخَ كلُّ إنسانٍ بعيرَه في منزله. ثم أُقيمت الصلاة فصلَّى, ولم يُصلِّ بينهما).
وروى البخاري نحو ذلك في (باب مَن جمعَ بينهما ولم يتطوع) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء بجمع كل واحدة منهما بإقامة ولم يُسبِّحْ بينهما, ولا على إثرِ كلِّ واحدةٍ منهما).(/23)
ويجوز للضعفةِ مِن النساءِ والصِّبيانِ ونحوِهم أن يدفعوا إلى مِنًى آخرَ الليل؛ لحديث عائشة وأم سلمة. وأما غيرُهم مِن الحُجَّاجِ فيتأكَّدُ في حقِّهم أن يُقيمُوا بها إلى أن يُصَلُّوا الفجر.[152] وقد ترجم البخاري (باب مَن قدَّمَ ضَعَفةَ أهلِه بليلٍ فيقفون بالمزدلفة ويدعون ويقدِّم إذا غاب القمر)، وأورد حديث سالم بن عبد الله بن عمر (كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يُقدِّم ضَعَفةَ أهلِه فيقفون عند المشعرِ الحرامِ بالمزدلفة بليلٍ فيذكرون الله عز وجل ما بدا لهم, ثم يرجعون قبل أن يقفَ الإمامُ وقبلَ أن يدفع, فمنهم مَن يقدم منًى لصلاة الفجر. ومنهم مَن يقدم بعد ذلك. فإذا قامُوا رَمَوا الجمرة, وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: أَرْخَصَ في أولئك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم)، وذكر وقوعَ ذلك من ابن عباس وأسماء وسودة رضي الله عنهم. وكذلك بوَّبَ مسلم (استحباب تقديم دفعِ الضَعفة من النساء وغيرهن من مزدلفة إلى منًى في أواخرِ الليلِ قبل زحمةِ الناسِ واستحباب المكث لغيرهم حتى يُصَلُّوا الصبحَ بمزدلفة).
النسك السادس: المرور بالمشعرِ الحرام:
ويقفُ الحاجُّ عند المشعرِ الحرام, وهو جبلٌ صغيرٌ في آخرِ المزدلفة يُسَمَّى (قُزح), فيصعده إن أمكنَه أو يقفُ تحته مستقبلَ القبلة شرَّفها الله تعالى ويدعو, ويحمد اللهَ تعالى ويُكبِّره ويُهلِّلُه ويُكثِرُ التلبية[153]وعلى ذلك ترجمة البخاري (باب التلبية والتكبير غداةَ النَّحر حين يرمي الجمرة) ذكر فيه حديث ابن عباس رضي الله عنهما(أنَّ أسامة كان ردف النبي صلى الله عليه وسلم مِن عرفة إلى المزدلفة, ثم أردف الفضلَ مِن مزدلفة إلى منًى. قال: فكلاهما قالا: لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يُلبِّي حتى رمى جمرة العقبة).
فإذا أسفرَ الصبحُ سار إلى مِنىً بسكينةٍ ووقارٍ مُلبِّياً ذاكِراً. ويُسَنُّ له أن يلتقطَ سبعَ حصيات؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لما سار مُردفاً الفضل بن العباس "أمر ابنَ عباس أن يلتقطَ حصى الجِمار سبع حصيات مثل حصى الخذف وقال للناس (بأمثال هؤلاء فارمُوا وإياكم والغُلوَّ في الدين) ولم يلتقطْها من الليل... فلما أتى بطن مُحَسِّر حرَّكَ راحلتَه وأسرع في السير. ومُحسِّرٌ بَرزخٌ بين مِنىً ومزدلفة ليس مِن هذه ولا مِن هذه. وعُرَنة برزخٌ بين عرفة والمشعر؛ فبين كلِّ مشْعَرَيْن برزخٌ ليس واحداً منهما, فمنًى من الحرم وهي مَشعرٌ, ومحسِّر من الحرم وليس بمشعر, ومزدلفة حرمٌ ومَشعَر, وعُرَنة ليست بمشعر وهي من الحِلِّ, وعرفة مشعرٌ وهي من الحِلِّ, وسلَكَ صلى الله عليه وسلم الطريقَ الوسطى بين الطريقين وهي التي تخرُج على الجمرةِ الكبرى حتى أتى مِنىً".[154]
النسك السابع: رمي جمرة العقبة:
فإذا أتى منى رمى سبع حصيات إلى جمرة العقبة واحدةً واحدةً, ويرفع يديه عند الرمي حتى يُرى بياض إبطيه, ويُكبِّر مع كلِّ رميةٍ، كما روى مسلم في (باب رمي جمرة العقبة مِن بطنِ الوادي, وتكون مكة عن يسارِه ويُكبِّر مع كلِّ حَصاة) حديث عبد الرحمن بن يزيد قال: (رمى عبدُ الله بن مسعود جمرةَ العقبة مِن بطنِ الوادي بسبعِ حَصَيات يُكبِّر مع كلِّ حَصاة. قال: فقيل له: إنّ أُناساً يرمونها مِن فوقها فقال عبدُ الله بن مسعود: هذا والذي لا إله غيره مقامُ الذي أُنزِلتْ عليه سورةُ البقرة).
ويُندَبُ أن يكونَ رميُ الجمارِ في الضحى؛ لما رواه مسلم في (باب بيانِ وقتِ استحبابِ الرمي) عن جابر قال: (رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرةَ يومَ النحرِ ضُحى، وأما بَعْدُ فإذا زالت الشمس) أي "وأما أيامُ التشريقِ الثلاثة فيُرمَى كلَّ يومٍ منها بعد الزوال".[155] ثم ينصرف الحاجُّ إلى المنحرِ فيذبحُ بُدنه بمِنىً، وقد روى مسلم عن جابر رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نحرتُ هاهنا ومِنًى كلُّها مَنحَر؛ فانحروا في رِحالِكم, ووقفتُ هاهنا وعرفةُ كلُّها مَوقفٌ, ووقفتُ هنا وجَمْعٌ كلُّها مَوقِف). وفي لفظٍ عند أحمد وأبي داود: (كلُّ عرفةَ موقفٌ, وكلّ مِنًى مَنْحَرٌ, وكلُّ مزدلفةَ موقفٌ, وكلُّ فجاجِ مكةَ طريقٌ ومَنْحَرٌ).
النسك الثامن: الحلق أو التقصير:
بعد النَّحرِ يحلق الحاج أو يقصر والحلق أفضل؛ لما رواه البخاري في (باب الحلق أو التقصير عند الإحلال) ومسلم في (باب تفضيل الحلق على التقصير وجواز التقصير) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (حلقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في حَجِّهِ) و أنَّ (رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اللهم ارحم المحلِّقين. قالوا: والمقصِّرين يا رسول الله؟ قال: اللهم ارحم المحلِّقين. قالوا: والمقصّرين يا رسول الله؟ قال: والمقصِّرين). ونقل ابنُ حجر الإجماعَ على جواز التقصير[156]وقال في بيان حكمته "فيه إشارةٌ إلى التجرُّدِ؛ ومِن ثَمَّ استحبَّ الصُّلحاءُ إلقاءَ الشُّعورِ عند التوبة".[157](/24)
والسنةُ تقديمُ رميِ الجمارِ على النحرِ, وتقديمُ النحرِ على الحلقِ؛ لما رواه مسلم في (باب بيانِ أنَّ السنةَ أن يُرْمَى ثم يُنحَر ثم يحلق والابتداء بالجانب الأيمن مِن رأس المحلوق) عن أنس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى مِنًى فأتى الجمرةَ فرماها ثم أتى منزلَه بمنًى ونَحَرَ ثم قال للحلاقِ: خُذْ وأشارَ إلى جانبِهِ الأيمن, ثم الأيسرِ ثم جعلَ يُعطيهِ الناس).
وقد جوَّزَ النبي صلى الله عليه وسلم تقديمَ بعضِ ذلك على بعضٍ؛ لما رواه البخاري في (باب إذا رمَى بعدما أمسى أو حَلَق قبل أن يذبح ناسيا أو جاهلاً) ومسلم في (باب جواز تقديم الذبح على الرمي, والحلق على الذبح وعلى الرمي, وتقديم الطواف عليها كلِّها) عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قيل له في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير. فقال: لا حرج) وأخرجا نحو ذلك عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
النسك التاسع: طواف الزيارة ويسمى طواف الإفاضة:
قال الصنعاني: "ويقال: طواف الصَّدَر".[158] وهو من الأمورِ الثلاثة التي يحصل بها للحاجِّ التحلُّلُ التام: وهي رميُ جمرة العقبة, والحلقُ أو التقصير, وطوافُ الإفاضة مع السعيِ بعده للمتمتِّع وكذلك للمفردِ والقارن إذا لم يسعَيا مع طوافِ القدوم. "فإذا فعلَ هذه الثلاثةَ حلَّ له كلُّ شيءٍ حرم عليه بالإحرام من النساء والطيبِ وغير ذلك. ومَن فعلَ اثنين حلَّ له كلّ شيءٍ حرم عليه بالإحرام إلا النساء ويُسمَّى هذا التحلُّل الأول, ويُستحّب للحاج الشربُ مِن ماءِ زمزم والتضلُّعُ منه, والدعاءُ بما تيسَّرَ مِن الدعاءِ النافع".[159] وقد روى مسلم في (باب استحبابِ طوافِ الإفاضةِ يومَ النحر) عن ابن عمر رضي الله عنهما (أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أفاضَ يومَ النَّحرِ ثم رجعَ فصلَّى الظهرَ بمنًى).
النسك العاشر: المبيت بمِنًى ورمي الجمار:
يخرج الحاج إلى مِنًى, فيَبِيتُ بها ليلةَ الحادي عشر, فإذا زالتْ الشمسُ يومَ الحادي عشر بدأ بالجمرةِ التي تلي مسجدَ الخيف, فيرمي سبعَ حصياتٍ كما فَعَلَ في جمرةِ العقبةِ. فإذا فرغَ مِن رَميِها تنحَّى قليلاً ثم دعا اللهَ عزَّ وجلَّ, وألَحَّ في الدعاءِ طويلاً نحواً مِن سورةِ البقرة, ثم يأتي الجمرةَ الوُسطى, فيفعلُ ذلك, ثم يأتي جمرةَ العقبة فيختم, إلا أنه لا يقفُ عندها ولا يدعو, كذلك فعلَ النبي صلى الله عليه وسلم[160] كما روى البخاري في (باب إذا رَمَى الجمرتين يقوم مستقبلَ القبلة ويُسْهِل)[161] و(باب رفعِ اليدين عند الجمرتين الدنيا والوسطى) و(باب الدعاء عند الجمرتين) عن سالم بن عبد الله أنَّ عبد الله بن عمر (كان يرمي الجمرة الدنيا ـ وفي رواية (التي تلي مسجد منى) ـ بسبع حصيات, يُكبِّر على إثرِ كلِّ حَصاةٍ, ثم يتقدَّم فيُسهِل, فيقوم مستقبلَ القبلةِ قياماً طويلاً فيدعو ويرفع يديه, ثم يرمي الجمرة الوسطى كذلك, فيأخذ ذات الشمال فيُسهِل, ويقوم مستقبلَ القبلة قياماً طويلاً, فيدعو ويرفع يديه, ثم يرمي الجمرة ذات العقبة من بطنِ الوادي ولا يقف. ويقول: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل) وقد ترجم مسلم رحمه الله (باب وجوب المبيت بمنى ليالي التشريق والترخيص في تركه لأهل السقاية).
ثم بعد الرمي في اليومين المذكورَيْن مَنْ أحبَّ أن يتعجَّلَ مِن مِنًى جاز له ذلك, ويخرج قبل غروبِ الشمس, ومَن تأخَّرَ وبات الليلةَ الثالثةَ ورَمَى الجمراتِ في اليومِ الثالثِ فهو أفضلُ وأعظمُ أجراً كما قال الله تعالى: (واذكُرُوا الله في أيامٍ معدوداتٍ فمَنْ تعجَّلَ في يومين فلا إثمَ عليه ومَن تأخَّرَ فلا إثمَ عليهِ لمن اتقى).[162]ولأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رخَّصَ للناسِ في التعجُّلِ ولم يتعجَّلْ هو. بل أقام بمنى حتى رمى الجمراتِ في اليومِ الثالث عشر بعد الزوال, ثم ارتحلَ قبل أن يصلِّيَ الظهر[163]وعلى ذلك بوَّبَ المحبُّ الطبري (ما جاء في جوازِ تعجيلِ النَّفْر) وأوردَ حديثَ عبد الرحمن بن يَعمُر عند أحمد (أيامُ مِنىً ثلاثةٌ، فمَن تعجَّلَ في يومين فلا إثمَ عليه، ومن تأخَّر فلا إثم عليه)، وعن الحسن البصري وإبراهيم النخعي: "لا إثم عليه في تعجيلِهِ في اليومِ الثاني, ولا إثم عليه في تأخيرِه إلى اليومِ الثالث", وعن مجاهد في قوله تعالى: (فمن تعجَّلَ..) الآية. قال: "كلُّهم مغفور له"[164].
فائدة: قال الصنعاني: "تضمَّنت حَجتُهُ صلى الله عليه وسلم رفعَ يديه للدعاء ستَ مرات: الأولى: على الصفا, والثانية: على المروة, والثالثة: بعرفة, والرابعة: بمزدلفة, والخامسة: عند الجمرة الأولى, والسادسة: عند الجمرة الثانية".[165]
آخر المناسك: وهو طواف الوداع(/25)
وقد طاف النبي صلى الله عليه وسلم للوداعِ ليلاً سَحَراً, ولم يرملْ في هذا الطواف, وصلَّى الفجرَ في المسجدِ. وقرأ بالطورِ وكتابٍ مسطور, ثم نادى بالرحيل, فارتحل راجعاً إلى المدينة, فلما أتى ذا الحُليفة بات بها, فلما رأى المدينة كبَّرَ ثلاثاً وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له. له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير, آيبون تائبون عابدون ساجدون لربِّنا حامدون. صدقَ الله وعدَه ونصرَ عبدَه, وهزمَ الأحزابَ وحدَه)".[166]
العمرة:
العمرة مشروعةٌ بالكتاب والسنة, ولفظُ العمرة مأخوذٌ من الاعتمار وهو الزيارة. والمقصود بها هنا: زيارةُ الكعبة المشرفة، والطوافُ حولها، والسعيُ بين الصفا والمروة, ثم الحلق أو التقصير، ثم التحلل بعد ذلك من الإحرام.[167]
وأفعال العمرة مشهورةٌ, ويفسدها ما يُفسد الحجَّ, وإحرامُها كإحرامِِهِ, وطوافُها وسعيُها كطوافِهِ وكسعيِهِ, والحلقُ فيها مثلُه في الحج[168].
زيارة النبي صلى الله عليه وسلم
يُسَنُّ للحاج والمعتمر زيارةُ مسجد النبي صلى الله عليه وسلم والصلاةُ فيه ثم زيارةُ قبرِ النبي صلى الله عليه وسلم والسلامُ عليه مع خفضِ الصوتِ عنده واستحضارِ عظمةِ النبي صلى الله عليه وسلم, ولا يجوزُ لأحدٍ أن يتمسَّحَ بالحُجرةِ أو يُقبِّلها أو يطوفُ بها؛ لأنّ ذلك لم يُنقلْ عن السلفِ الصالحِ بل هو بدعةٌ مُنكرةٌ وعلى هذا اتفاقُ العلماء.[169] ورحم الله الإمام النووي فقد قال في (باب زيارة قبرِ سيِّد البشر محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يتعلق بذلك): "إذا انصرف الحاج والمعتمر مِن مكةِ استُحِبَّ استحباباً مُتأكِّداً أن يقصدَ المدينةَ لزيارةِ قبر رسولِ الله صلى الله عليه وسلم والصلاةِ في مسجده, ويُكثرَ من الصلاةِ والتسليمِ عليه صلى الله عليه وسلم في ذهابِه وإيابِه, وإذا رأى أشجارَ المدينة زاد من ذلك, ويغتسلُ قبلَ دُخولِهِ ويلبس أنظفَ ثيابِه, ويستحضر شرفَ المدينة ومَن شَرُفَتْ به, ولْيكنْ مِن أولِ قدومِهِ إلى أن يرجعَ مُستشعِراً لتعظيمِهِ صلى الله عليه وسلم ممتلئَ القلب بهيبتِهِ كأنه يراه, فإذا وصلَ المسجدَ قدَّمَ رِجْلَهُ اليمنى, وقال ما سبق في دخول المسجد الحرام[170] فيدخل فيقصد الروضة الكريمة وهي ما بين القبر والمنبر, ويصلِّي تحيةَ المسجد, ويدعُو ويحمد الله تعالى على هذه النعمة ويسألُه المزيد, ثم يزورُ القبرَ الشريف فيستدبرُ القِبلةَ ويستدبرُ جدارَ القبر, ويبعد عن رأسِ القبرِ قدرَ أربعة أذرع, ويقفُ مطأطئاً رأسَه غاضَّ الطرفِ مِن الهيبةِ والإجلالِ مُستحضِراً في قلبِهِ جلالةَ موقفِهِ ومنزلةَ مَن هو في حضرتِه صلى الله عليه وسلم , ثم يُسلِّمُ ولا يرفعُ صوته".[171]
وقد ذكرَ أهلُ العلم آدابَ زيارةِ النبي صلى الله عليه وسلم، ومِن هؤلاء المحبُّ الطبري حيث قال: "منها: أن يكثرَ مِن توجُّهه إلى زيارتِه صلى الله عليه وسلم, فإذا وقعَ بصرُه على أشجارِ المدينة وحَرَمِها وما يعرف بها, زاد مِن الصلاةِ والتسليمِ عليه صلى الله عليه وسلم, ويسأل الله أن ينفعَهُ بزيارتِهِ صلى الله عليه وسلم, وأن يقبلها منه. ومنها: أن يغتسلَ الزائرُ قبل الدخول وأن يلبسَ أحسنَ الثياب. ومنها أن يستحضرَ في قلبِهِ شرفَ المدينة وأنها أفضلُ أرض الله تعالى بعد مكة عند بعض العلماء, وعند بعضٍ أفضل على الإطلاق, وأنَّ الذي قصده ـ صلى الله عليه وسلم ـ خيرُ الخلائق أجمعين. ومنها: أن يكونَ دخولُه إلى المسجد مِن باب جبريل عليه السلام, ويبدأ بتحيةِ المسجدِ عند أولِ دُخولِه, ثم يأتي القبرَ ويقفُ أمامَه, فيُسلِّم على النبي صلى الله عليه وسلم, ثم على ضَجِيعَيْهِ رضي الله عنهما, ثم يأتي مِن جهة رأسِه, فيقفُ للدعاءِ خاشِعاً مُتواضِعاً مُجتهداً في الإخلاصِ حَسنَ الظنِّ بالله تعالى جميلَ المعتَقَدِ في الإجابة. وقد رُوي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقول: (السلام عليك يا رسول الله, السلام عليك يا أبا بكر, السلام عليك يا أبتاه). وعن مالك أنه كان يقول: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته), ثم إن كان أحد وصَّاه بالسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلْيقلْ: السلامُ عليك يا رسولَ الله مِن فلانِ بن فلان, أو فلانُ بن فلانٍ يُسلِّمُ عليك يا رسولَ الله, أو نحو هذا من العبارات. ومنها: ألاَّ يُطافَ بقبرِهِ صلى الله عليه وسلم, بل لا يجوزُ ذلك, ويكرهُ إلصاقُ الظهرِ والبطنِ بدارةِ القبر، قاله الحَلِيمي وغيره، قالوا: ويُكرَه مسحُه باليدِ وتقبيلُه, بل الأدبُ أن يبعدَ منه, كما يبعدُ منه لو حَضَرَه في حياتِه صلى الله عليه وسلم. وينبغي أن لا تفوتَه صلاةٌ مكتوبةٌ مع الجماعة في مسجدِه, مُدةَ إقامتِه فيه. وينبغي أن يعتكفَ في مسجدِه صلى الله عليه وسلم ولو يوماً واحداً, وكذلك يفعلُ في المسجدِ الحرام, والأَوْلَى أن يكونَ بقربِ البيتِ في الحِجْر في القَدْرِ الذي فيه مِن البيت".[172]
الخاتمة:(/26)
الحمد لله ربِّ العالمين على تمامِ هذا المختَصَرِ بفضلِهِ ومنِّهِ وكَرَمِهِ، والصلاة والسلام على صاحب الحوضِ المورودِ والمقامِ المحمود. وبعد، فهذا كتابٌ استخلَصْتُهُ مِن كلامِ أهلِ العلمِ رحمهم الله أجمعين. وقد جمعتُهُ لنفسي ولعامةِ المسلمين مِمَّنْ يَشُقُّ عليهم تتبُّعُ الأحكامِ؛ وأسألُ اللهَ عزَّ وجلَّ أن يكونَ مُعِيناً لي ولهم على التفقهِ في الدِّين، وأن يجعلَهُ قِرًى لقاصد أُمِّ القرى، ومُثيراً للغرامِ الساكنِ إلى أشرفِ الأماكن، وشِفا بحقوق المصطفى صلَّى الله وسلم عليه.
وإنِّي لأعتذرُ للعلماءِ؛ فليس هذا المختصَرُ مُصنَّفاً لهم؛ فهم أدْرى بهذا الشأنِ منِّي وأعلم بالدليل؛ وليس فيه لهم ما يروي الغليل. فمن اطَّلَعَ مِن هؤلاء النبلاءِ على هذا الكتابِ فليلْتمسْ لي العذرَ أنها أمانةٌ أؤدِّيها ومن بابِ (أعطِ القوسَ باريها).
وإنِّي أتضرَّعُ إلى الله عزَّ وجلَّ أن يجعلَه من العلم الذي يُنتفَعُ به. وأنْ يَدَّخِرَهُ عنده صدقةً جاريةً. وأرجو من حجاجِ بيتِ الله ممن قرأ هذا الكتابَ أن يذكرني في تلك البقاعِ المباركة وأن يدعُوَ لي ولوالدَيَّ ولشيوخي وللمسلمين والمسلمات. والحمد لله الذي بنعمتِهِ تتمُّ الصالحات، وصلى الله وسلم وبارك على سيِّدِنا محمد الذي كان يُطيَّبُ بعَرَقِهِ الطِّيبُ ويحِنُّ إلى كفِّهِ الغصنُ الرَّطيب، وعلى آله وصَحبِه ومَنْ تبعه مِنْ لَبِيبٍ ونَجِيب.
فهرس الموضوعات:
1. التشويق إلى زيارة البيت العتيق:
1. امتنّ الله عز وجل بالحج على أعظم النبيين صلى الله وسلم عليهم أجمعين .
2. أنّ الحج شعار الأنبياء والمرسلين وأهل الحنيفية.
3. أنّ الحج من قواعد التوحيد.
4. أنّ في ذلك براءةً من الرّجس وطهارةً من الشرك.
5. أنّ في الحج والعمرة اعترافاً بالربوبية لله الخالق الرازق مالك الملك ذي الجلال والإكرام.
6. اقتران الحج في الهدي النبوي بأعظم الأعمال كالإيمان والجهاد.
7. تضمّن الحج والعمرة تكليفاً يتعلق بعقد القلب والبدن والمال.
8. إظهار العُبوديّة والشُّكر لله تعالى.
9. إظهار وحدة المسلمين بدينهم الذي يجمعهم على اختلافِ الحدود الجغرافية والأنساب القبلية
10. تحقيقُ المساواةِ بين فئاتِ المجتمعِ الإسلامي كُلِّه.
11. حصول التعارف بين المسلمين على اختلاف شعوبهم وقبائلهم.
12. اجتماع أهل الدعوة على التفكّر في شؤون الأمة ودراسة أحوال المسلمين.
13. لقاء طلبة العلم بكبار العلماء الراسخين.
14. في رحلة الحج والعمرة وما تتضمّنه من المناسك تذكيرٌ بالرحلة الأبدية إلى الدار الآخرة.
15. استحضار ذكريات الصالحين مِن قبلِنا واستخلاص الدروس النافعة من حال إبراهيم وهاجر.
16. إظهار الزهد في الدنيا والاستعداد للآخرة.
17. إحياء روح العبودية والخشوع والذلة والانكسار.
18. التشبه بالصالحين المتتبِّعين آثار النبي صلى الله عليه وسلم.
19. والحج موسِمُ التوبةِ والإقلاعِ عن الذنوبِ والمعاصِي والعِتْقِ مِن النَّار.
20. إطفاء الشوق بمشاهدة هذه البقاع المباركة.
21. مُصاحبة أهل الخير.
22. تعرُّض الصالحين لدعوة الحجيج التائبين إلى ربهم المتضرّعين في مواطن يجاب فيها الدعاء.
23. التعوُّد على مقارعة الشيطان والتحصُّن بالطاعات من همزاته.
24. تحرِّي المال الحلال, وتلك خصلة تذكِّر المتساهلين في طلب الرزق بتوخِّى الرزق الطيب.
25. تذكُّر أمجاد المسلمين وزيارة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين فتحوا البلاد وحرّروا العباد.
26. استحضار أيام الفتوح, بزيارة بدر وأُحُد وغيرها من المشاهد.
27. معرفة آيات الله ووعده الصادق في استمرار الحنين إلى البيت العتيق وتواصل الاستجابة للنداء الخالد.
28. إصلاح المسلمين ما بينهم وبين ربّهم وتجديد التوكل عليه واليقين في تفريجه الكروب.
29. إعادة الثقة بالأمة المسلمة, وعدم الحكم على خير أمة أخرجت للناس.
30. التعرض لنفحات الخير في البلاد المقدسة في حرم الله وأمنه.
2. مدخلٌ لفقهِ الحج والمواقيت:
أولاً: الحج في لغة العرب وفي القراءات.
ثانياً: الحج في الشرع.
ثالثاً: فرض الحجّ.
رابعاً: فضل الحجّ والعمرة.
خامساً: شروط وجوب الحجّ.
لطيفة: جرتْ في مجلس اللخمي في مسألة سقوط فرض الحج بسبب ما يجري على الحجاج .
سادساً: الحج عن الغير:
أ) يجوز الحج عن الغير مثل الوالد إذا كان عاجزا أو نذر أن يحجّ فاخترمته المنية قبل أن يحقق أمنيته التي صارت بنذره فرضا عليه.
ب) ذكرَ ابنُ حجر من الحديث "أنّ مَن مات وعليه حَجٌّ وجب على وليّه أن يجهز من يحج عنه.
ج) يشترط لمن يحجّ عن غيره أن يكون قد حجّ عن نفسه.
سابعاً: أركان الحجّ: الإحرام, والحضور بعرفة جزءا من ليلة النّحر, والطواف بالبيت بعده, والسعي بعد طواف صحيح.
ثامناً: الميقات الزماني للحج.
تاسعاً: الميقات المكاني.(/27)
أ) وقّت النبي صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحُليفة, ولأهل الشام الجُحفة، ولأهل نجد قرن المنازل, ولأهل اليمن يَلمْلَم، هنّ لهنّ ولمن أتى عليهنّ من غير أهلهنّ ممن كان يريد الحجة والعمرة. فمن كان دونهنّ فمن أهله, حتى إنّ أهل مكة يهلّون منها).
ب) وقَّتَ النبي صلى الله عليه وسلم لأهل العراق ذات عرق ووافق عمر الشارع في ذلك.
ج) فائدة: الإجماع على ما ثبت من المواقيت، وعلى أنّ مَنْ أحرمَ قبل الميقات أنه مُحرِمٌ.
د) اختلاف الفقهاءِ في مَن مرّ على ميقاتين هل يُحرم من ميقاته الأصلي أم من الذي مرّ عليه؟
هـ) لأهل مكة والذين بين الميقات ومكة الإحرامُ من أمكنتهم في الحجّ. وأما في العمرة فيجب أن يخرجوا إلى أدنى الحِلّ ليحرموا منه.
و) يجوز دخول مكة بغير إحرام لغير الحاجِّ والمعتمرِ.
ي) اختُلف فيمن جاوز الميقات مريداً للنسك فلم يُحرم. والجمهور: أنه يأثم ويلزمه دمٌ؛ إلا إنْ رجع إلى الميقات قبل التلبُّس بالنسك.
تنبيهٌ مُهِمٌّ: اعتبار (مجمع الفقه الإسلامي) في السودان الإحرام من (جدّة) جائزٌ لأهل السودان. ويؤيِّدُه وقوعُ (جدة) قبل خطِّ المحاذاةِ الواصلِ بين الجُحفة ميقاتِ أهلِ الشام ويلملم ميقاتِ أهلِ اليمن.
3. المناسك:
النسك الأول: الإحرام
1. تعريفه: الإحرام هو نية أحد النُّسكين. وحقيقته: التزام حرمات مخصوصة يوجب الخروج عليها القضاء.
2. صفة الإحرام: اتفق الفقهاء على أنّ المرء يصير مُحرِما إذا اقترنت نية الحج أو العمرة بالتلبية والتجّرد من المخيط.
3. الاختلاف في إطلاق الإحرام وتعيينه حجا أو عمرة مع الاتفاق على انعقاد الإحرام المعيَّن.
4. جواز تعليق الإحرام بما أحرم به فلانٌ.
5. سنن الإحرام:
أ) الاغتسال: وهو سنة مؤكّدة لكل محرم ذكرا كان أو أنثى, كبيرا أو صغيرا, حتى الحائض والنفساء.
ب) التنظيف بإزالة الشَّعَث, وأخذ الشعر والأظافر ونتف الإبط وقص الشارب وحلق العانة وقطع الرائحة الكريهة.
ج) التطيّب في بدنه استعداداً للإحرام. وهو سنة عند الشافعية والحنابلة ومستحب عند الأحناف ويكون بطيب أو بخور أو ماء ورد.
مسألة: يُكره الطّيب عند المالكية قبل الغسل أو بعده بما تبقى رائحته.
فائدة: أجاز الشافعية والحنابلة تطييب ثوب الإحرام، وذهب الحنفية والمالكية إلى المنع من ذلك.
د) صلاة ركعتين قبل الإحرام. واتفاق الفقهاء على أنّ صلاة الفريضة تجزي عن ركعتي الإحرام.
هـ) التلبية بلبّيك اللهم لبّيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك، إنّ الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.
الاختلاف في ابتداءِ التلبيةِ عُقَيْبَ الصلاةِ كما قال الأحنافُ، أو عند ركوبِ الدابة كما قال المالكية والحنابلة.
آداب التلبية.
6) محظورات الإحرام:
1. لبس المخيط:
أ) يحرم على الرجل بمجرد الإحرام ستر رأسه ووجهه بعمامة أو خرقة أو ثوب.
ويستثنى من ذلك ما لا يعد ساتراً كأن يتوسّد المُحرِم عمامة أو وسادة أو يستظل بمحمل أو يضع يده على رأسه.
ولا يلبس المُحرم إلا إزاراً ورداءً ونعلاً غير مخيطة أو قبقاباً ونحوه بحيث يظهر أغلب الأصابع.
ويجوز لمن لم يجد الإزار أن يلبس السراويل ولمن لم يجد النعلين أن يلبس الخفين.
ب) وأما المرأة: فتستر بالمخيط رأسها وسائر بدنها سوى الوجه. فالوجه في حقّها كرأس الرجل, وإحرامها في وجهها؛ فيحرم عليها تغطيته في إحرامها, كما يحرم على الرجل تغطية رأسه باتفاق العلماء.
2. ترفيه البدن بالطيب وإزالة الشعر وتقليم الأظافر ونحوهما مما يجري مجرى الطيب:
3. النساء: وهذا يشمل عقد الزواج والجماع ومقدماته.
4. الصيد: فلا يجوز للمحرم قتل صيد البر واصطياده أو الدلالة عليه إلا المؤذي المبتدئ بالأذى غالباً كالأسد والذئب والحية والفأرة والعقرب والكلب العقور.
7) مباحات الإحرام:
أ. غسل الرأس بما ينظفه من الوسخ من غير نتف شيء من الشعر, ويغتسل من الجنابة.
ب. الاكتحال بما لا طيب فيه.
ج. الفصد والحجامة إذا لم يقطع الشعر. ويجوز حكّ الرأس والبدن من غير نتف.
د. النظر في المرآة
هـ. صيد البحر.
و. قتل الفواسق.
ز) الاستظلال بالبيت والمحمل والمظلة ونحوها مما لا يصيب الرأس أو الوجه.
ح) شدّ حزام النقود على الوسط, وكذلك عقد الإزار لستر العورة.
ط) الكلام في طاعة الله.
8. أنواع الإحرام.
أ) اتفاق الفقهاء على أنّ أوجه أداء الحج والعمرة ثلاثة أنواع: الإفراد, والتمتع, والقِران.
ب) اختلاف العلماء في حج النبي صلى الله عليه وسلم مفردا أم قارنا أم متمتعا؟
ج) اختيار الإمام ابن القيم رحمه الله.
النسك الثاني: الطواف.
النسك الثالث: السعي بين الصفا والمروة.
النسك الرابع: الوقوف بعرفة.
النسك الخامس: المبيت بمزدلفة.
النسك السادس: المرور بالمشعر الحرام.
النسك السابع: رمي جمرة العقبة.
النسك الثامن: الحلق أو التقصير.
النسك التاسع: طواف الزيارة ويسمى طواف الإفاضة.
النسك العاشر: المبيت بمِنىً, ورمي الجمار.(/28)
فائدة: تضمّن حجة النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه للدعاء ستَ مرات.
آخر المناسك: وهو طواف الوداع.
العمرة.
زيارة النبي صلى الله عليه وسلم.
الخاتمة:
ذكر الحافظ ابن كثير أنّ وفداً من العراقيِّين حَجُّوا سنة أربعٍ وتسعين وثلاثمائة (394 هـ)
وكانوا يخافون قطّاعَ الطريق، ومعهما قارئان مِن أحسنِ الناسِ صوتاً، وقد كان أميرُ العراقِ عزمَ
على العَوْدِ سريعاً إلى بغداد على طريقِهم التي جاؤوا منها، وأن لا يسيروا إلى المدينة النبويّة؛ خوفاً
من الأعراب... فشقّ ذلك على الناس، فوقف هذان الرجلان القارئان على جادّة الطريق التي منها يُعدَل
إلى المدينة النبويّة، وقرءا: (ما كان لأهلِ المدينةِ ومَنْ حولَهم مِن الأعرابِ أن يتخلَّفُوا عن رسولِ اللهِ
ولا يَرْغَبُوا بأنفُسِهم عن نفسِه)... الآيات؛ فضجّ الناسُ بالبكاء، وأمالت النوقُ أعناقها نحوهما؛
فمال الناسُ بأجمعِهم والأمير إلى المدينة النبويّة؛ فزارُوا وعادُوا سالمين إلى بلادهم".
البداية والنهاية لابن كثير 6/406.
قال ابن الشبل:
مَنْ رأى البرق بنجدٍ إذْ تراءَى
أَسْلبَ النومَ وأهدى البُرَحاءَ
فاضَ فيضاً كجفوني ماؤه
والتظى وهناً كأنفاسي التظاءَ
نامَ سُمّارُ الدُّجى عن ساهرٍ
تَخِذ الهمّ سميراً والبكاءَ!
أسعدتْهُ أدمعٌ تفضحُهُ
وإذا أحسن الدمع أساءََ!
يا خليليَّ ولم أُشْعِرْكما
الهوى حتى تبيّنتُ الإخاءَ
عَلِّلا قلبِي بذكرى قاتلي
رُبَّ داءٍ قاد للنفس دواءَ!
[مُثِيرُ الغَرامِ السَّاكِن إلى أشرفِ الأماكن لابن الجوزي ص 198].
[1] الحج 27.
[2] رواه البخاري ومسلم.
[3] الجامع الكبير للترمذي 2/220. دار الغرب الإسلامي بيروت. تحقيق د.بشار عواد.
[4] كتاب متن الإيضاح للنووي ص 4.
[5] انظر (معاني العقيدة من خلال الحج) للشيخ عبد العزيز آل عبد اللطيف. مجلة البيان عدد رقم 88.
[6] سورة البقرة الآية 127 - 130.
[7] في ظلال القرآن 17/2418.
[8] تفسير التحرير والتنوير 2/11 - 12.
[9] الجامع لأحكام القرآن 12/37.
[10] في ظلال القرآن 17/2419 – 2420.
[11] متفق عليه.
[12] مثير الغرام الساكن لأشرف الأماكن.ص 31
[13] بدائع الصنائع 2/118 نقلا عن الفقه الإسلامي وادلته للشيخ وهبة الزحيلي 3/2069.
[14] افتتاحية مجلة البيان عدد 112 (الحج بين الواجب والواقع).
[15] المرجع السابق.
[16] الحجرات 13.
[17] آل عمران 104.
[18] طبقات ابن سعد 5/497 – 498 وتهذيب الكمال للمزي 11/195.
[19] سير أعلام النبلاء 6/17ودمعة على حبّ النبي صلى الله عليه وسلم .لعبد الله صالح الخضيري (ضمن كتاب حقوق النبي صلى الله عليه وسلم بين الإجلال والإخلال ص30)
[20] التحرير والتنوير 17/246.
[21] مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي 3/99.
[22]في ظلال القرآن 17/2419.
[23] التفسير الكبير للرازي 23/26.
[24] مثير الغرام الساكن ص 94
[25] الحج 32.
[26] مختصر منهاج القاصدين ص 50.
[27] القرى لقاصد أم القرى ص 350.
[28] مختصر منهاج القاصدين ص50
[29] مثير الغرام الساكن ص 109.
[30] الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض 2/622
[31] دمعة على حب النبي صلى الله عليه وسلم ص39
[32] ديوان ابن أفلح 4/23 ومثير الغرام 129.
[33] رحلة الصِّدِّيق إلى البيت العتيق. للشيخ صديق حسن خان ص 31.
[34] لبيك اللهم لبيك. للشيخ محمد متولي الشعراوي ص 45.
[35] رحلة الصّدّيق ص 36.
[36] مثير الغرام 39 – 40.
[37] رحلة الصديق ص 99.
[38] مثير الغرام الساكن ص 32.
[39] المؤمنون 97-98.
[40] الإحياء 1/270 وأحكام الحج وآدابه لمناع القطان ص 64.
[41] أهم الأحكام في مناسك الحج والعمرة على هدي خير الأنام للصنعاني ص 8 ورحلة الصّدّيق ص 36.
[42] في ظلال القرآن 17/2419.
[43] تفسير القرآن العظيم 1/262.
[44] النبوة والأنبياء في ضوء القرآن لأبي الحسن الندوي ص 9 – 10.
[45] هدي الساري مقدمة فتح الباري ص 14.
[46] مقدمة الصنعاني في أهم الأحكام لمناسك الحج والعمرة ص 3 – 4.
[47] الموطأ ـ الجامع ـ ما جاء في سكنى المدينة والخروج منها ص 889.
[48] فتح الباري 4/591.
[49] الصّحاح 1/303.
[50] لسان العرب 2/ 226.
[51] نقله الجوهري في الصحاح 1/303 وابن منظور في اللسان 2/226.
[52] معجم مقاييس اللغة لابن فارس 2/29.
[53] لسان العرب 2/227.
[54] الصحاح 1/304.
[55] معجم المقاييس 2/29.
[56] لسان العرب 2/227.
[57] الصحاح 1/304.
[58] سورة آل عمران آية 97.
[59] راجع الوافي في شرح الشاطبية للشيخ عبد الفتاح القاضي ص 237.
[60] الصحاح 1/304
[61] لسان العرب 2/227..
[62] فتح الباري 4/152.
[63] سورة البقرة آية 196.
[64] ضمام بن ثعلبة الذي جاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أركان الإسلام وكان يستحلف النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ثم ذكر أنه رسول قومه وقال عمر: ما رأيت أحسن مسألة من ضمام.(/29)
[65] محمد بن عمر الواقدي حديثه واهنٌ لكنه حجة في التواريخ كما قال الذهبي :"كان إلى حفظه المنتهى في الأخبار والسّير والمغازي والحوادث وأيام الناس والفقه وغير ذلك...) ميزان الاعتدال 3/662 – 666.
[66] فتح الباري 4/152 – 153.
[67] الإجماع لابن منذر ص 54 وتبيين المسالك شرح تدريب السالك إلى أقرب المسالك للشيخ محمد الشيباني 2/200.
[68] شرح النووي على مسلم 9/102.
[69] ص 50 وقد عاصر محب الدين الطبري الإمام النووي فقد ولد الطبري سنة 615 هـ وتوفي سنة 694 هـ وولد النووي سنة 631 هـ وتوفي سنة 676 هـ وكلاهما في شرح حديث أبي هريرة متقارب في مباحثه رحمهما الله تعالى.
[70] فتح الباري 4/152.
[71] المرجع السابق 4/158 وقد خصّ رحمه الله حديث العباس بن مرداس رضي الله عنه بجزء ردّ فيه على حكم ابن الجوزي على هذا الحديث بالوضع, وقد خلص إلى أنه يدخل في حدّ الحسن ولاسيما بالنظر إلى مجموع طرقه. وأورد له شواهد عدّة وختم هذا الجزء بقوله:"ويشهد لأصل الحديث قوله تعالى (إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) فإنّ جميع المعاصي ـ حتى التبعات ـ دون الشرك" قوة الحِجَاج لعموم مغفرة الحُجّاج لابن حجر ص 33 دار الحديث تحقيق محمد عبد الحكيم القاضي.
[72] القِرى لقاصد أُمّ القُرى ص 28 /29/31
[73] صفاقص: مدينة في جنوب تونس. وإليها يُنسَب عالم القراءات علي النوري الصفاقصي صاحب (غيث النفع في القراءات السبع).
[74] مواهب الجليل للحطاب 2/497-498. دار الفكر بيروت. ط2. 1398.
[75] الحج والعمرة في الفقه الإسلامي. نور الدين عتر ص 28 وأحكام الحج والعمرة في الفقه الإسلامي محمد عبد الهادي ص 29.
[76] سورة الطلاق آية 1.
[77] فتح الباري 4/545.
[78] شرح النووي على مسلم 9/98.
[79] فتح الباري 4/545 والإجماع لابن المنذر ص 67 دار طيبة الرياض.
[80] رواه أبو داود.
[81] تبيين المسالك 2/205.
[82] البقرة آية 197.
[83] البقرة آية 189.
[84] فتح الباري 4/205.
[85] القِرى لقاصد القُرى ص 90.
[86] التحقيق والإيضاح لكثير من مسائل الحج والعمرة والزيارة على ضوء الكتاب والسنة ص 19.
[87] قال ابن حجر: "المِصْرَان تثنية مِصْر. والمراد بهما الكوفة والبصرة وهما سُرَّتا العراق. والمراد بفتحها غلبة المسلمين على مكان أرضهما. وإلا فهما من تمصير المسلمين" الفتح 4/167.
[88] أفاد ذلك الشيخ الألباني رحمه الله في كتابه (حجّة النبي صلى الله عليه وسلم كما رواها عنه جابر رضي الله عنه) ص 47 – 48.
[89] الأضواء 5/326.
[90] حجة النبي صلى الله عليه وسلم كما رواها جابر ص 48.
[91] نقله الألباني عن التركماني في (الجوهر النقي 5/28 – 29) المرجع نفسه. ونقله ابن حجر في الفتح 4/168.
[92] الإجماع ص 54.
[93] فتح الباري 4/163.
[94] المرجع السابق نفسه, وللشيخ أحمد الكبيسي كتابٌ مُفِيدٌ في هذا الموضوع: (المكّيّيون والميقاتيون وما يختص بهم من أحكام الحجّ والعمرة).
[95] القِرى لقاصد أم القُرى ص 99.
[96] فتح الباري 4/540.
[97] فتح الباري 1/164.
[98] حاشية الدسوقي 2/23. وراجع بالتفصيل رسالة الشيخ أحمد عبد السلام: (تحرير القول في المكان الذي يُحرم منه المتوجِّهُ إلى مكة المكرَّمة من السودان) ص 43 وما بعد.
[99] ومال إلى ذلك بعضُ أهلِ العلم في السودان مثل: فضيلة الشيخ عبد الرحيم أبو الغيث وفضيلة الشيخ أحمد عبد السلام في رسالته: تحرير القول في المكان الذي يحرم منه المتوجِّه إلى مكة المكرمة من السودان. وكذلك شيخه مجذوب مدثر الحجّاز في كتابِه: (مناسك الحج). وقد تفضَّلَ مولانا شيخُ الإسلام محمد علي الطريفي رئيس هيئة الفتوى بجامعة القرآن الكريم سابقاً بما يلي: "بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على سيِّدِنا رسولِ الله وعلى آله وأصحابِه الذين آمنوا به وعزَّرُوه ونَصَرُوه واتبعوا النورَ الذي أُنزِلَ معه أولئك هم المفلحون. أما بعد، فما ذكرَه ابنُنا محمد عمر دولة مما يتعلق بالميقاتِ المكاني لأهلِ السودان (جدة) للحاج والمعتمر قد تكلمَ عليه ممن سبقوه من العلماء الأخيارِ الأحبار؛ وقد راعَوا سماحةَ الدين ورفعَ الحرَج ودفعَ المشقة. وهو الذي رأينا أن نكونَ عليه في حياتِنا ومناسِكِنا. وعلى الله وحدَه قصدُ السبيل. والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبِه وسلم".
[100] انظرْ رسم المواقيت وتعليق أخينا الباحث المهندس محمد الرفاعي وَفَّقَهُ الله ونفع به.
[101] وقد رجع فضيلة الشيخ د.عبد الحي يوسف حفظه الله إلى القول بهذه الفتوى. وذكر أنَّ الإحرامَ من (جدة) لو فُرِضَ أنه قبل الميقات فهو جائزٌ بإجماعِ أهلِ العلم كما نقله ابنُ المنذر. ولا يكون داخلاً في الكراهة التي ذُكِرَتْ عن مالك رحمه الله؛ إذ المرادُ التيسيرُ على الناسِ بموافقةِ مُرادِ الشارع، وليس التقدم بين يدي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم.(/30)
[102] الفقه الإسلامي وأدلّته 3/2180.
[103] القِرى لقاصد أم القُرى ص 130.
[104] الفقه الإسلامي وأدلته 3/2180.
[105] فتح الباري 4/201.
[106] المرجع السابق 4/202.
[107] المرجع نفسه.
[108] شرح النووي على مسلم 8/199.
[109] نصب الراية 3/17.
[110] وقد تقدّم أنه في (باب الطيب عند الإحرام)
[111] فتح الباري 4/174.
[112] فتح القدير 2/136 والحج والعمرة في الفقه الإسلامي. نور الدين عتر ص 53.
[113] فتح الباري 4/172.
[114] الهداية 2/136 وشرح المنهاج 2/99 والمغني 3/275 وأحكام الحج والعمرة في الفقه الإسلامي لمحمد عبد الهادي ص 67.
[115] فتح الباري 4/193.
[116] عن الصحابة رضي الله عنهم.
[117] فتح الباري 4/193 – 194.
[118] شرح النووي على مسلم 8/90 والحج والعمرة في الفقه الإسلامي. نور الدين عتر ص 55 وأحكام الحج والعمرة محمد عبد الهادي ص 68 – 69 وقد زاد ابن حجر على ذلك فذكر في حكم التلبية "مذاهب أربعة يمكن توصيلها إلى عشرة" [فتح الباري4/194].
[119] الفقه الإسلامي وأدلته 3/2191 وقال الشافعية: يلبي مع النية.
[120] فتح الباري 4/181.
[121] شرح النووي على مسلم 8/91.
[122] الفقه الإسلامي وأدلته 3/2291.
[123] شرح النووي على مسلم 8/129 – 130.
[124] الفقه الإسلامي وأدلته 3/2315.
[125] الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي 3/2193.
[126] شرح النووي على مسلم 8/134.
[127] نقله النووي عن القاضي عياض (شرح النووي على مسلم 8/136).
[128] زاد المعاد في هدي خير العباد 2/89 – 98.
[129] المرجع السابق 1/101.
[130] الإيجاز في المناسك للنووي ص 29.
[131] قال المحب الطبري :"كَداء بالفتح والمدّ غير مصروف: هي الثنيّة العليا مما يلي مقابر مكة عند الحَجُون. وبمكة ثلاث كدايا: هذه وهي التي يُستحب الدخول منها, وكُدًى بالضم والقصر والتنوين: الثنية السفلى مما يلي باب العمرة والثالثة كُدَيّ بالضم وتشديد الياء مصغَّر: موضع بأسفل مكة. والأُوليان هما المشهورتان. وهذه يخرج منها من يخرج إلى جهة اليمن. هكذا ضُبط عن المحققين"[القِرى لقاصد أم القُرى ص 254].
[132] مناسك الحج للعز بن عبد السلام ص 20.
[133] الإيجاز للنووي ص 30.
[134] المرجع السابق ص 30 – 31.
[135] شرح النووي على مسلم 9/8 – 9.
[136] التحرير والتنوير 4/16.
[137] فتح الباري 4/269.
[138] المرجع السابق 4/275 –276.
[139] شرح النووي على مسلم 9/7.
[140] مناسك الحج للعز بن عبد السلام ص 21.
[141] الإيجاز للنووي ص 31.
[142] المرجع السابق ص 34.
[143] المنهج لمريد العمرة والحج للشيخ محمد بن صالح العثيمين ص 18 – 19 ومناسك الحج للعز بن عبد السلام ص 22 – 23.
[144] الإيجاز في المناسك ص 35.
[145] المرجع السابق ص 36.
[146] المرجع نفسه ص 37.
[147] فتح الباري 4/321 – 322.
[148] التحقيق والإيضاح لكثير من مسائل الحج والعمرة والزيارة ص 72.
[149] المرجع السابق ص 80 – 82.
[150] العَنَق ـ بفتح المهملة والنون ـ هو السير الذي بين الإبطاء والإسراع. قال في (المشارق): هو سير سهل في سرعة, وقال القزاز: العنق سير سريع. وقيل: المشي الذي يتحرك به عنق الدابة, وفي (الفائق): العنق: الخطو الفسيح [فتح الباري 4/330].
[151] فتح الباري 4/336.
[152] التحقيق والإيضاح للشيخ ابن باز رحمه الله ص 84 ـ 85.
[153] الإيجاز في المناسك 40.
[154] أهم الأحكام في مناسك الحج والعمرة
[155] شرح النووي على مسلم 9/48.
[156] فتح الباري 4/389.
[157] المرجع السابق 4/390.
[158] أهم الأحكام في مناسك الحج والعمرة ص 26.
[159] التحقيق والإيضاح للشيخ ابن باز ص 97 – 98.
[160] مناسك الحج للعز بن عبد السلام ص 26.
[161] يُسهِل: يقصد السَّهلَ من الأرض. فتح الباري 4/413.
[162] راجع تفسير القرآن العظيم 1 /320 – 321.
[163] التحقيق والإيضاح للشيخ ابن باز ص 100 – 101.
[164] القِرى لقاصد أمّ القرُى ص 537.
[165] أهم المناسك في الحج والعمرة للصنعاني ص 28.
[166] المرجع السابق ص 29.
[167] الحج في الإسلام لمحمد محمود الصواف ص 184.
[168] مناسك الحج للعز بن عبد السلام ص 29
[169] الإيجاز للنووي ص 50 ومناسك الحج للعز بن عبد السلام ص 29 وأهم الأحكام في مناسك الحج والعمرة لابن تيمية ص 33 والتحقيق والإيضاح لابن باز ص 133.
[170] وهو الدعاء (اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك).
[171] الإيجاز في الماسك للنووي ص 48 - 49
[172] القرى لقاصد أمّ القرى ص 678 – 679.(/31)
زخرف وحقيقة
وقف مع صحبه أمام الجامع الأحمر في دلهي في الهند ، فَتدافع نَفرٌ من إِخواننا المسلمين المستضعفين الصابرين ، فوقعت عيناه على شيخ عليه بقيّة من ثياب ، أَنهكه الجوع حتى برزتْ عظامه ، فَتخيَّل أَنه دار بينهما الحوار التالي
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
مددتُ يَدي كيما أَجُود بِدرْهَمٍ
عَليْه فحيَّاني وبشَّ وأَقْبَلاَ
عليه بقايا من ثيابٍ وخرقةٍ
أَغارَ عليها الدّهرُ ثمّ تَحوَّلا
وقد برزتْ منه العظامُ ! عَرَفتُها
عِظامٌ ! ولكنْ رابَ نفسي وأَذْهلا
بقايا ! وأَشْباحٌ ! وشيٌْ ! فبعضُها
تَوارَى ومِنْها مَا أطلَّ وَنُسِّلاَ
عرفْتُ من الأَحناءِ صدراً منسَّقاً
ومن ساعديه خِلْت شَيئاً تهدَّلا
ومن وَهَنِ الساقين أشباهَ هيكلٍ
وبَطْناً رماهُ الذغْرُ دهراً فأجْفلا
* * *
* * *
فقلت له : مَنْ أنت ؟ قال جهلتَني
وإني أَنا الإِنسان أَصلا ومَنْزِلاَ
أبي آدمٌ خرَّتْ مَلائكةُ السما
سجوداً له ! مَنْ كان أَعلى وأفضَلاَ
وكرَّمني ربي ! فيا لفضيلةٍ
ووسّع في زرقٍ فأعطى وأجْزلا
ولولا الطغاةُ المجرمون وظلمُهم
لما كُنتَ تلقى في الورى مُتسوِّلا
فذاك ابتلاءٌ لا أَشك بعدِلهِ
فَأصْبرُ كَيْ أَلقى الجزاء المؤجَّلا
وأسعى جهاداً في الحياة وَرُبِّما
طَغى ظَالمٌ فِيْها فَآذَى ونكّلا
وأعظمُ ما عندي يقيني بخالقي
وصَبْري على ما قد قضاه وعَجَّلا
وأَمضي مع الدنيا أُؤدي أمانةً
وأطلبُ في الأُخرى نجاةً ومَوْئِلا
ولكن تُرى مَنْ أنت ؟ فيم سألتني
وأنكرتَني ؟ هلاّ عَرْفتُك أَوَّلا
عليكَ ثيابٌ قد تخّفيتَ خَلفها
وطِيبٌ ! فَهَلْ أوْفَيتَ ما كان أجملا
* * *
* * *
فَحِرْتُ ولم أَدْرِ الإِجابة علَّني
سمعتُ مقالاً ما أجلَّ وأَعْدَلا
وما كنتُ قَبْل اليوم راجعتُ سيرتي
ولا سَأَلتْ نَفْسي السؤالَ المعلَّلا
ظننتُ به جَهْلاً فَلمّا سمعتُه
علمتُ بأني كنتُ أَعْيا وأَجْهَلا
وعدتُ إِلى نفسي ! فكم كان مثلُهُ
يجاهد كي يَلقى رغيفاً ومَنْزلاً
ملايينُ كالقطعانِ سيموا مذلّةً
وأُلقُوا على وجْهِ البسيطة نُحَّلا
وعُصْبةُ إِجرامٍ على الأَرْض أُتْخِمَتْ
لتبِنيَ مِنْ دنيا الجريمة مَعْقِلا
وحَشدُ سكَارى في دَياجيرِ ظُلمَةٍ
فأهْوى بِهِ طُول النِّفاق وذَلَّلا
فَيُعْلونَ مِنْ دُنيا الشعاراتِ رايةً
تُخَدِّرُ شعْباً أو شَبَاباً مُؤَمَّلا
* * *
* * *
فَعُدتُ لَهُ : مَنْ أَنت ؟ قَال : جهِلْتَني
نَسِيتُم عُراً شُدَّت وعَهْداً مُفَصَّلا
أخوكَ أَنا في الله لو كُنْتَ ذاكراً
مِن الدّين حقّاً لا يَغيبُ مُنزَّلا
فما أَنا إِلاّ من بقيّة أُمَّةٍ
هوى مجدُها مِنْ بعد عِزٍّ وحُوِّلا
لقدْ كَانت الدنيا تسير بركبهمْ
ومَجْدُهُمُ في الخافقين بهم عَلاَ
إِذا صَدَقوا الرَّحمن عَزُّوا وُمكِّنوا
وإِن نكثُوا أَهْوَوا إِلى الذلِّ والبلا
تمزَّقَتِ الأَرْحَامُ فِيِهمْ وقُطّعتْ
حبالٌ وجَالَ الشرُّ فيهم وأوغَلا
وَتِلْك دِيارُ المسْلمينَ تناثَرتْ
فَأَضْحوا بِهَا مُسْتَضعَفين وعُزَّلاَ
* * *
* * *
فكم عُصْبَةٍ مَرَّتْ عَليْنا وأَرْعَبَتْ
لِتَنْهشَ لَحْماً أَو تُقطِّع مِفْصَلاَ
يَهيجُهُمُ سِحْرُ البلادِ ونِعْمةٌ
مِنَ الله تَجْري في المرابع سَلْسَلا
يَسِيل لُعابُ المشركين لَخيرها
فهَبُّوا إِليْها جَحْفلاً ثَمَّ جَحْفلا
وحَسْبُك غُدْرُ الإنكليزِ وَبطْشُهُمْ
يَعبُّون عَبّاً أَو يُصِيبُون مَقْتَلاً
يَنالُون شهْداً من نَعِيم دِيارِنَا
ويُبْقُونَ سُمّاً في الدِّيار وحَنْظلا
وما تَرَكوا ظِلاّ على الناس آمِناً
ولا تَركوا ريّاً نقيّاً ومَنْهَلا
وكَمْ أِشعلوا نَاراً تَلظّى وفِتنَةً
تُمزِّقُ أَرْحَاماً وتُطْلقُ مُرْمِلاً
ولكنَّنا نبْني مَعَ الصَّبْر عَزْمةً
أَجَلَّ وَ أَعْلى في الحياة وأكْمَلا
نُرابِط مَهْما طَالَ مِنْ صبْرنا هنا
لِنَرفَع للتوحيد مَجْداً مُؤثَّلاَ
نعِيدُ إِلى الإِنْسَانِ جَوهَرَ حَقِّه
ليَحْطُمَ أَغْلالاً وقَيْداً مُكبِّلاً
ومِنْ كُلّ أَرْضٍ في البَسيطةِ وَثْبةٌ
لتجْمعَ أَشْتاتَ القُلُوبِ وَتَحْفلا
* * *
* * *
رَجَعْتُ إِلى نَفْسي فَكَمْ كُنْتُ جَاهِلاً
وكَمْ عَرَفتْ دنيايَ مِثْليِ جُهَّلاَ
رَأيتُ فقيراً شقّ لله دَرْبَه
رِضىً وغَنيّاً في النَعيم مُضلَّلا
* * *
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· ديوان عبر وعبرات(/1)
زكاة الأسهم المتعثرة
د. يوسف بن أحمد بن عبد الرحمن القاسم 25/2/1426
04/04/2005
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين ، أما بعد:
فإن من أهم ما ينبغي أن تجرَّد لها الأقلام والمحابر ، وأن تستنهض لها همم الباحثين في مجال الفقه، هو استقراء المسائل النازلة ، واستنباط الأحكام الشرعية المناسبة لها من عموم أدلة الكتاب والسنة، أو من القواعد الشرعية، والمقاصد الكلية، مع محاولة استنتاج هذا الحكم من كلام أهل العلم بواسطة التخريج والقياس ، وبهذا يمكن أن نسدَّ ثغرة في هذا المجال المهم من مجالات العلم الشرعي.
هذا، وإن من المسائل النازلة في هذا العصر المتاجرة والاستثمار في الأسهم عبر الشركات المحلية وغيرها . وقد كتب في هذه النازلة العديد من الكتب والرسائل العلمية .
وفي الآونة الأخيرة قامت كثير من المساهمات عبر ما يسمى بشركات توظيف الأموال، مما أدى إلى وقوع التعثر في مساهمات عديدة، لسببٍ أو لآخر، وهنا وقع الكثير من المشكلات ، ومنها ما أشكل على كثير من المساهمين ، وهو مدى وجوب الزكاة في هذه الأسهم المتعثرة، وحيث لم أقف على بحث خاص بهذه المسألة ، فقد عقدت العزم – مستعيناً بالله وحده – على هذه المهمة ، ووضعت لهذا البحث المخطط الآتي:
أولاً: التمهيد، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: التعريف بمفردات عنوان البحث.
المبحث الثاني: حكم زكاة الأسهم (غير المتعثرة).
ثانياً: موضوع البحث (زكاة الأسهم المتعثرة) ، وفيه فصلان:
الفصل الأول: حقيقة الأسهم المتعثرة.
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: واقع الأسهم المتعثرة.
المبحث الثاني: أسباب تعثر الأسهم.
المبحث الثالث: مدى اعتبار القيمة السوقية للأسهم المتعثرة.
الفصل الثاني: حكم زكاة الأسهم المتعثرة.
وفيه تمهيد، ومبحثان:
المبحث الأول: التخريج على زكاة دين المعسر، والمماطل.
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: مفهوم الإعسار، والمماطلة.
المطلب الثاني: حكم زكاة دين المعسر، والمماطل.
المطلب الثالث: التخريج.
المبحث الثاني: التخريج على زكاة المال الضِّمار.
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: مفهوم المال الضِّمار.
المطلب الثاني: حكم زكاة المال الضِّمار.
المطلب الثالث: التخريج.
الخاتمة.
وبالله التوفيق.
التمهيد
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: التعريف بمفردات العنوان:
أما الزكاة ، فهي في اللغة: من الزَّكاء، وهو النماء والزيادة ، يقال: زكا الزرع والأرض، تزكو، زُكُوَّاً. وسُمِّي القدر المخرج من المال زكاةً؛ لأنه سببٌ يرجى به الزكاء – يعني النماء – وزكَّى الرجل ماله تزكيةً، والزكاة اسم منه ، وإذا نسبت إلى الزكاة وجب حذف الهاء وقلب الألف واواً، فيقال (زكوي) (1).
والزكاة في الشرع: هي حقٌ يجب في المال، كما عرفها بذلك ابن قدامة في المغني (2).
وأما الأسهم ، فهي في اللغة : جمع سهم، وهو الحظ والنصيب، والشيء من مجموعة أشياء ، يقال أسهم الرجلان : إذا اقترعا، وذلك من السُهْمة. والنصيب: أن يفوز كل واحد منهما بما يصيبه، قال الله تعالى: "فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ" (3) ثم حمل على ذلك، فسمي السهم الواحد من السهام، كأنه نصيب من أنصباء ، وحظ من حظوظ ، وهذا هو أحد المعاني التي ذكرها ابن فارس (4) في تعريف السهم، وهو المتعلق بموضوعنا . وجاء في المعجم الوسيط (5): "ساهمه : قاسمه، أي أخذ سهماً، أي نصيباً معه، ومنه شركة المساهمة" أ.هـ .
والأسهم في الاصطلاح : هي ما يمثِّل الحصص التي يقدمها الشركاء عند المساهمة في مشروع الشركة، سواء أكانت حصصاً نقدية أم عينية، ويتكون رأس المال من هذه الأسهم .
وقيل هي: صكوك تمثِّل أنصباء عينية أو نقدية في رأس مال الشركة ، قابلة للتداول، تعطي مالكها حقوقاً خاصة (6).
وأما المتعثرة ، فهي في اللغة: من عَثَر، يَعْثُر، عِثاراً، إذا كبا ، أو سقط، ومنه العَثْرة: أي الزَلَّة، يقال: عثر به فرسه فسقط، وتعثر لسانه: تلعثم. والعواثير: جمع عاثور، وهو المكان الوعث الخشن؛ لأنه يعثر فيه . وقيل: هو الحفرة التي تحفر للأسد، واستعير هنا للورطة والخطة المهلكة . وأما العواثر، فهي جمع عاثر وهي حبالة الصائد، أو جمع عاثرة، وهي الحادثة التي تعثر بصاحبها (7).
والمتعثرة في اصطلاح الباحث: هي الأسهم التي لا يستطيع مالكها من الانتفاع بها ولا من تحصيل قيمتها .
وبهذا ندرك العلاقة الواضحة بين التعريف اللغوي والاصطلاحي، فالأسهم حين تعثرت، فإنها قد زَلَّت أو تأخرت عما أنشئت لأجله، كما أنها وقعت بصاحبها فلا يمكنه الانتفاع بها، وبهذا وقع في ورطة مالية، أو كأنه سقط في حفرة صيد لا يستطيع الخلاص منها .
المبحث الثاني
حكم زكاة الأسهم (غير المتعثرة)(/1)
الزكاة هي أحد أركان الإسلام الخمسة، وهي – في الأصل – واجبة بكتاب الله تعالى، وسنة رسوله –صلى الله عليه وسلم -، وإجماع أمته، كما قاله ابن قدامة - رحمه الله – في المغني (8).
ومن الصور المالية المعاصرة: ما يسمى بالأسهم التجارية والأسهم الاستثمارية، والمتمثلة في شركات الأسهم أو الشركات المساهمة، وهي طريقة حديثة في الاستثمار والتجارة جاد بها التقدم العلمي في هذا العصر.
وقد اتفق العلماء المعاصرون على وجوب الزكاة في هذه الأسهم ، إما في أصلها، أو في ريعها . واختلفوا في كيفية زكاتها، وأرجح هذه الأقوال، وأقربها إلى الصواب، هو القول بالتفريق بين المساهمات التجارية فتأخذ حكم زكاة عروض التجارة، وبين المساهمات الاستثمارية ، والتفريق في المساهمات الاستثمارية، بين ما هو زراعي فيأخذ حكم زكاة الخارج من الأرض، وما هو حيواني فيأخذ حكم زكاة الحيوان، وهكذا … وتفصيل ذلك على النحو الآتي:
مالك الأسهم لا يخلو ، إما أن يكون قصده في التملك التجارة بها بيعاً وشراءً وهي ما تسمى بالأسهم التجارية، فيشتريها اليوم ليبيعها غداً أو بعد غد، طلباً للربح في تداولها وتقليبها، فهذا تجب الزكاة عليه في جميع ما يملكه من أسهم ، سواء كانت الأسهم زراعية، أم صناعية، أم تجارية، أم حيوانية… الخ، فيزكي أسهمه بحسب قيمتها السوقية ، كل سنة .
وإما أن يكون قصد المالك للأسهم الاستثمار بها، بحيث يستفيد من عائدها السنوي، وهي ما تسمى بالأسهم الاستثمارية، فهو لا يشتري هذه الأسهم بنية بيعها ، وإنما بقصد الاستمرار في تملكها، فهذا يزكي أسهمه بحسب طبيعتها، فإن كانت أسهماً في شركة زراعية، ومجالها الاستثماري في زراعة الحبوب والثمار، فتخضع لأحكام الزكاة فيما تخرجه الأرض من الحبوب والثمار مما يكال ويدخر، وإن كانت في شركة حيوانية كتربية الأنعام على سبيل الإنتاج والتسمين ، فتخضع لأحكام زكاة الحيوان ، وإن كانت في شركة تجارية تختص بتداول السلع بيعاً وشراءً كشركات الاستيراد ، فتخضع لأحكام زكاة عروض التجارة ، وإن كانت في شركة صناعية، كشركات الإسمنت والجبس والأدوية ونحوها، فتجب الزكاة في صافي أرباحها ، قياساً على زكاة ما يعد للكراء . وهذا القول المفصَّل هو الذي تجتمع به أدلة الزكاة ، وبه يرتبط الحكم بمناطه الذي أناط به الشارع وجوب الزكاة، وبه يزول التناقض والاضطراب الذي لحق ببعض الآراء المعاصرة.
وإلى هذا القول ذهب الشيخ عبدالله بن منيع (9)– حفظه الله – وغيرُه.
وفي هذه المسألة أقوالٌ أخرى ، ليس هذا التمهيد محل بسطها (10).
الفصل الأول
حقيقة الأسهم المتعثرة
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: واقع الأسهم المتعثرة:
في عصرنا الحاضر ، كثرت الشركات المساهمة وانتشرت، وتنوعت أغراضها وتعددت، وأقبل عليها الأغنياء ومتوسطوا الحال ، بل وربما محدودوا الدخل – بأموال حصلوا عليها بطريق القرض أو التقسيط – كل ذلك؛ لأجل تحصيل ما تجود به الأسهم من أرباح، دون مزيد عناء أو مشقة.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل ظهرت شركات أخرى غير مرخصة، وهي ما تسمى بشركات توظيف الأموال، تقوم بتحصيل الأموال من أربابها ، ثم تقوم بتوظيفها – أو تدعي ذلك أحياناً – في مشاريع عقارية أو غيرها، وربما أغرت الناس بأرباح مرتفعة، ليس لها مثيل في السوق المحلي، فيقبل عليها الناس زرافات ووحدانا، وغالباً ما يقع تعثر الأسهم في مثل هذا النوع من الشركات، حيث إنها لا تخضع لنظامٍ قانوني ولا محاسبي، فيكثر فيها التلاعب بأموال الناس دون رقيب، فربما تم تحصيل الأموال لغرض المساهمة في عقارٍ ما ، أو لأجل بيع وشراء سلعة ما، ثم يتم توظيفها لهذا الغرض ولأغراض أخرى، بل ربما كان بعض هذه الأموال هدفاً لأسلوب تدوير المال، أو لما يسمى بالتسويق الشبكي (11)، أو غير ذلك، ولا ينكشف الأمر إلا بعد إيقاف ضخ الأموال المساهمة إلى هذه الشركة، أو بعد تجميدها من الجهة الرسمية، وعند ذلك يظهر العجز ويقع التعثر، ولا يعلم المساهم بمقدار هذا التعثر الذي لحق بماله ، ولا بمدى إمكان الحصول على رأس المال أو لا.
ومن صور التعثر التي يكثر وقوعها في هذا العصر، ما يقوم به مجموعة من أرباب المال، من المساهمة في أرض عقارية – مثلاً – وبعد شراء العقار الخام لغرض المتاجرة فيه، يظهر خصم يدَّعي استحقاقه لهذه الأرض أو لهذا العقار، فتبدأ الخصومة في الجهة المختصة، وربما استمرت سنين عديدة، فتتعثر المساهمة، ولا يتمكن أربابها من استرجاع المال ولا جزء منه ، حتى تنتهي الخصومة ، وهكذا… في مسلسل طويل من الصور.
فإذا تعثرت هذه الأسهم، ولم يتمكن المساهم من استرداد رأس ماله ولا جزءٍ منه، مدة سنة أو أكثر، وكان هذا المال مما تجب فيه الزكاة في الأصل، فإنه يشكل على كثير من المساهمين مدى وجوب الزكاة في هذه الأسهم المتعثرة.
المبحث الثاني
أسباب تعثر الأسهم
مما تقدم، يتبين أن لتعثر الأسهم أسباباً عديدةً ، منها :(/2)
أولاً: توظيف الأموال في جهات مشبوهة لا يعلم بها المساهم ، كتوظيفها في مجال التسويق الهرمي، ونحو ذلك، مما يؤدي في كثير من الأحيان إلى تعثر مفاجئ ، لا يعرف سببه.
ثانياً: تجميد حسابات الشركة من قبل الجهات الرسمية، إما لأسباب غير قانونية وقعت فيها تلك الشركة، وإما لتظلم بعض المساهمين لدى الجهة المختصة ضد القائمين على تلك المساهمات بسبب تأخر صرف الأرباح، أو عدم التمكن من استرداد رأس المال، لأسباب غير معروفة لديهم.
ثالثاً: ظهور خصومة في بعض المساهمات العقارية - مثلاً - مما يستدعي إيقاف العمل في تلك المساهمة، حتى تفصل الجهة القضائية لصالح المساهمين، أو لصالح المخاصمين في ذلك العقار (محل المساهمة).
المبحث الثالث
مدى اعتبار القيمة السوقية (12)للأسهم المتعثرة
كثير من هذه الأسهم المتعثرة، يبادر أصحابها بالتخلص منها، وذلك ببيعها ولو بثمنٍ بخس، إما حاجةً لهذا المبلغ، وإما خوفاً من إفلاس الشركة، وربما أعلن عن هذه الأسهم المعروضة للبيع في أعمدة الصحف، فيبادر بعض الناس بشرائها بأقل من قيمتها المدونة في تلك العقود أو الصكوك ، طمعاً في تحصيلها من الجهة المعنيَّة والظفر بقيمة السهم التي تفوق سعر الشراء.
وهذه القيمة السوقية للأسهم المتعثرة لا اعتبار لها في الشرع ؛ لأنها مبنية على الغرر، وهو بيع ما هو مجهول العاقبة (13)، وهو – هنا – بيع ما هو مجهول القدر ، فالمشتري لهذه الأسهم لا يدري هل يحصِّل كامل قيمة السهم، أو كامل القيمة مع الأرباح، أو لا يحصل إلا بعض القيمة، أو لا يحصل شيئاً، وكذا البائع لا يدري ما يحصِّله المشتري، وقد (نهى النبي – صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغرر) كما في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه (14) عن أبي هريرة – رضي الله عنه - . وهذه الصورة من البيع المجهول العاقبة، هي كبيع العبد الآبق والبعير الشارد، حيث يبيعه صاحبه بثمن بخس، ولا يدري هل يظفر به المشتري، أو لا ، فإن ظفر به غُبِن البائع، وإلا غُبِن المشتري، كما صرح بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في قواعده النورانية (15)، حيث قال: "والغرر هو المجهول العاقبة، فإن بيعه من الميسر الذي هو القمار ، وذلك أن العبد إذا أبق ، أو الفرس أو البعير إذا شرد ، فإن صاحبه إذا باعه ، فإنما يبيعه مخاطرة ، فيشتريه المشتري بدون ثمنه بكثير، فإن حَصَل له قال البائع: قمرتني، وأخذت مالي بثمن قليل. وإن لم يحصُل ، قال المشتري: قمرتني، وأخذتَ الثمن مني بلا عوض، فيفضي إلى مفسدة الميسر التي هي إيقاع العداوة والبغضاء، مع ما فيه من أكل المال بالباطل، الذي هو نوع من الظلم" أهـ. وما ذكره شيخ الإسلام – رحمه الله – هو واقع بعينه في بيع مثل هذه الأسهم المتعثرة، وعلى هذا، فلا يصح القول بإخراج الزكاة وفق هذه القيمة التي لم يعتبرها الشارع، والله تعالى أعلم .
الفصل الثاني
حكم زكاة الأسهم المتعثرة
وفيه تمهيد، ومبحثان:
التمهيد:
هذه الأسهم المتعثرة تختلف من حيث كونها مرجوة الحصول، أولا، وذلك أن بعض المساهمات المتعثرة يتوقع أصحابها أن ينتهي التعثر في مدة سنتين أو أقل أو أكثر، ويرجع لهم رأس المال أو بعضه، وبعضها الآخر لا يتوقع أصحابها أن ينتهي التعثر ولا في مدة عشرين سنة للظروف المحيطة بالقضية ، وربما يقطع البعض من المساهمين بعدم إمكان الحصول على شيء من رأس المال، فالحال الأولى يمكن تخريجها على دين المعسر والمماطل، وهو ما كان مرجو الحصول ولو بعد زمن، والحال الثانية يمكن تخريجها على المال الضِّمار، وهو ما لا يرجى حصوله، كالمال المغصوب والمسروق، ونحو ذلك، وعلى هاتين الحالتين جرى تخريج هذه المسألة المعاصرة ، ولكل حالة مبحث خاص، فإلى المبحث الأول.
المبحث الأول
التخريج على زكاة دين المعسر والمماطل
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: مفهوم الإعسار، والمماطلة:
أما الإعسار ، فهو في اللغة: من العُسْر، وهو ضد اليسر، يقال: تعسَّر الأمر، وتعاسر، واستعسر: إذا اشتد والتوى . وأعسر: إذا افتقر (16). والعُسْرة: هي الضيق وقلة ذات اليد (17).
وهو في الاصطلاح: عدم قدرة المرء على أداء ما عليه من مال (18).
وأما المماطلة ، فهي في اللغة: من المَطْل، وهو التسويف ، يقال: مطله بدينه مَطْلاً: إذا سوَّفه بوعد الوفاء مرةً بعد أخرى (19).
وهي في الاصطلاح : لا تخرج عن معناها اللغوي، فهي: إطالة المدافعة عن أداء الحق، وهي غالباً ما تطلق على مطل الموسر، القادر على قضاء الدين، بلا عذر (20).
المطلب الثاني: حكم زكاة دين المعسر، والمماطل:
اختلف العلماء في الدين إذا كان على معسر أو مماطل، هل تجب زكاته على الدائن، أو لا؟ على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه تجب فيه الزكاة ، فيزكيه إذا قبضه لما مضى، وهذا هو مذهب الحنفية (21)، والشافعية على القول الجديد وهو المذهب (22)، والحنابلة على رواية وهي الصحيح من المذهب (23)، وهو قول الثوري ، وأبي عبيد (24).(/3)
القول الثاني: أنه يزكيه إذا قبضه لسنة واحدة، وهذا هو مذهب المالكية (25)، وهو قول عمر بن عبدالعزيز ، والحسن، والليث، والأوزاعي (26).
القول الثالث: أنه لا تجب فيه الزكاة بحال، وهذا هو القول القديم للشافعية (27)، ورواية عند الحنابلة (28)، وهو قول قتادة ، وإسحاق ، وأبي ثور (29).
الأدلة :
أ – استدل أصحاب القول الأول بما يأتي:
(1) ما رواه ابن أبي شيبة (30)، وأبوعبيد (31)، عن علي – رضي الله عنه -: (أنه سئل عن الرجل يكون له الدين المظنون، أيزكيه؟ فقال: إن كان صادقاً فليزكه لما مضى إذا قبضه) .
(2) ما رواه أبو عبيد (32)، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في الدين: (إذا لم ترج أخذه فلا تزكه حتى تأخذه ، فإذا أخذته فزك عنه ما عليه).
(3) أن الدائن هو المالك الحقيقي للمال، فيجب عليه زكاته كما لو كان المال عند مليء باذل (33)، وكما لو كان وديعة (34).
مناقشة أدلة هذا القول:
يجاب عما استدلوا به بما يأتي :
1 – أما أثر علي – رضي الله عنه - فيجاب عنه من وجهين:
الأول: أن هذا القول عن علي – رضي الله عنه - مخالف لعموم النصوص الشرعية ، الدالة على أن الزكاة لا تجب إلا على رب المال – وهو هنا من هو في ملكه – ومنها قوله تعالى : "خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا" (35) ولذا قال ابن حزم في المحلى (36): "إذا خرج الدين عن ملك الذي استقرضه ، فهو معدوم عنده – يعني الدائن – ومن الباطل المتيقن أن يزكي عن لا شيء ، وعما لا يملك، وعن شيء لو سرقه قطعت يده؛ لأنه في ملك غيره" أ.هـ.
الثاني: أنه جاء عن بعض الصحابة قول مخالف لهذا الرأي، حيث روي عن عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت: (ليس في الدين زكاة) (37) يعني: مطلقاً، سواء كان على مليء أو على معسر أو مماطل ، كما حكاه عنها - وعن ابن عمر أيضاً - ابن قدامة في المغني (38)، وعليه فلا يجب الأخذ بقول علي – رضي الله عنه -.
2 – وأما أثر ابن عباس – رضي الله عنهما – فيجاب عنه بما أجيب به أثر علي – رضي الله عنه - ، وأيضاً فإنه ضعيف، كما في الإرواء (39).
3 – ويجاب عن القياس على المليء الباذل، وعلى الوديعة، بأنه قياس مع الفارق، فالمال الذي عند الملي، والمال المودع، هو بمنزلة ما في يده (40)، فيمكنه أخذه والتصرف فيه، وهذا بخلاف الدين الذي عند المعسر والمماطل، فربما يحاول تخليصه منه سنين، ولا يقدر على ذلك، وبهذا يتضح الفرق بين المسألتين.
ب – استدل أصحاب القول الثاني: بأن المال كان في يد الدائن أول الحول، ثم حصل بعد ذلك في يده، فوجب أن لا تسقط الزكاة عن حول واحد (41).
مناقشة دليل هذا القول :
يجاب عنه بأن هذا المال قد انقطع حوله بانتقاله من يد الدائن إلى يد المدين، فهو كما لو خرج من يده بهبة – أو نحوها – ثم عاد إليه ، فإنه ينقطع حوله – قولاً واحداً – لخروجه عن ملكه ، فكذا هنا ، وكما لو نقص النصاب أيضاً؛ فالمانع من وجوب الزكاة إذا وُجِد في بعض الحول فإنه يمنع . وأيضاً فإن هذا المال في جميع الأعوام على حالٍ واحد، فوجب أن يتساوى في وجوب الزكاة أو سقوطها كسائر الأموال (42).
ج – استدل أصحاب القول الثالث بما يأتي:
1 – أن هذا المال الواقع في يد المعسر والمماطل قد خرج من ملك الدائن إلى ملك المدين، ومن شروط وجوب الزكاة : أن يكون المال مملوكاً ملكاً تاماً لصاحبه، وعليه فلا يتوجه القول بوجوب الزكاة عليه.
2 – أن هذا المال غير مقدور على الانتفاع به، فأشبه دين المكاتب (43).
3 – أن الزكاة إنما تجب في المال النامي أو في المال الذي يمكن تنميته، والدين الذي على المعسر والمماطل غير نامٍ، فلم تجب زكاته، كعروض القُنْية (44).
الترجيح:
وبعد عرض الأقوال، والأدلة، ومناقشة أدلة القول الأول والثاني، يتبين رجحان القول الثالث وهو عدم وجوب الزكاة في دين المعسر والمماطل ؛ لقوة ما استدلوا به ، ولأن المال إذا خرج من ملك صاحبه فالأصل براءة ذمته من زكاته، فلا يقال بالوجوب إلا بدليل ظاهر، ولا دليل هنا ينقل عن البراءة، وأيضاً فإنه يلزم من القول بالوجوب ، القول بالازدواج في إيجاب الزكاة، بحيث تلزم الدائن والمدين، وهذا لازم باطل؛ لأنه يؤدي إلى إيجاب زكاتين في مالٍ واحد، وهذا القول رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية (45)، وصدر به قرار مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثانية (46)، والله تعالى أعلم .
المطلب الثالث :
التخريج :
مما تقدم يتبين أن هذه الأسهم المتعثرة إذا كانت مرجوة الحصول خلال سنين قليلة، فإنه يكون حكم زكاتها كزكاة الدين الذي على المعسر والمماطل ، وعلى القول الراجح، فإنه إذا انفك التعثر ، وعادت الأسهم إلى أربابها، فإنه يستأنف بها المساهم حولاً، ولا تجب الزكاة فيها لما مضى، والله تعالى أعلم.
المبحث الثاني
التخريج على زكاة المال الضِّمار
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: مفهوم المال الضِّمار :(/4)
المال الضِمَار في اللغة: هو الغائب الذي لا يرجى عوده (47)، وأصله من الإضمار ، وهو التغيب والاختفاء ، ومنه الضمير ، وهو السر وداخل الخاطر، يقال: أضمره: إذا أخفاه (48).
وهو في الاصطلاح لا يخرج عن معناه اللغوي، فهو: كل مالٍ غائبٍ لا يرجى حصوله (49)، مع قيام أصل الملك ، كالمال المغصوب، والمفقود، والمسروق، والمجحود – إذا لم يكن للمالك بينة – وكالمال المودع عند من لا يعرفه إذا نسي شخصه سنين، وكالمال الذي انتزعه السلطان قهراً من صاحبه… (50)الخ .
المطلب الثاني: حكم زكاة المال الضمار:
اختلف العلماء في حكم زكاة المال الضمار، في الفترة الميؤوس فيها من عوده لصاحبه ، على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه لا تجب فيه الزكاة بحال، وهذا هو مذهب الحنفية (51)، والقول القديم عند الشافعية (52)، ورواية عند الحنابلة (53)، وهو قول الليث (54).
القول الثاني: أنه يزكيه إذا قبضه لسنة واحدة، وهذا هو مذهب المالكية (55)، وهو قول عطاء، والحسن، والأوزاعي (56).
القول الثالث: أنه تجب فيه الزكاة ، فيزكيه إذا قبضه لما مضى ، وهذا هو مذهب الشافعية على القول الجديد وهو الأظهر عندهم (57)، وهو الصحيح من مذهب الحنابلة (58)، وهو قول الثوري ، وزفر (59).
الأدلة :
أ – استدل أصحاب القول الأول بما يأتي :
1 – ظواهر النصوص الشرعية الدالة على أن الزكاة تؤخذ من المال الذي تحت يد مالكه ، ومنها قوله تعالى : "خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَة" (60) وهذا المال الضمار مفقود، فكيف يؤمر بإخراج زكاته .
2 – ما روي عن علي – رضي الله عنه - موقوفاً، ومرفوعاً إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا زكاة في مال الضمار) (61) (62).
3 – أنه مال خرج عن يده وتصرفه، وصار ممنوعاً منه، فلم يلزمه زكاته، كمال المكاتب ، فإنه لا تجب فيه الزكاة على السيد (63).
4 – أن كل ما استقر في ذمة غير المالك، فإنه لا زكاة فيه ، وإلا لزم منه أن يزكى عما في ذمة الغير ، وهو خلاف القياس (64).
5 – أن الزكاة إنما تجب في المال النامي وما في حكمه ، وهذا المال الضمار ليس بنامٍ ، فلا تجب زكاته (65).
ب – استدل أصحاب القول الثاني بما يأتي :
1 – ما رواه ابن أبي شيبة (66)، عن عمرو بن ميمون قال: (أخذ الوالي في زمن عبدالملك مال رجل من أهل الرقة – يقال له أبو عائشة – عشرين ألفاً، فأدخلت في بيت المال، فلما ولي عمر بن عبدالعزيز أتاه ولده فرفعوا مظلمتهم إليه، فكتب إلى ميمون : ادفعوا إليهم أموالهم ، وخذوا زكاة عامه هذا، فلو أنه كان مالاً ضماراً أخذنا منه زكاة ما مضى) وفي لفظ له (67): (أن رجلاً ذهب له مال في بعض المظالم ، ووقع في بيت المال، فلما ولي عمر بن عبدالعزيز، رفع إليه، فكتب عمر: أن ادفعوا إليه وخذوا منه زكاة ما مضى، ثم أتبعهم بعد بكتاب: أن ادفعوا إليه، ثم خذوا منه زكاة ذلك العام، فإنه كان مالاً ضماراً).
2 – واستدلوا أيضاً : بدليلهم السابق في زكاة الدين الذي على المعسر (68).
مناقشة أدلة هذا القول:
1 – أما أثر عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله – فيجاب عنه : بأنه اجتهاد منه يخالف ما تقتضيه عموم النصوص الشرعية الدالة على أن الزكاة إنما تؤخذ من الأموال التي تحت يدأربابها،والقاعدة الشرعية:أنه لا اجتهاد في مورد النص.
1 – ويجاب عن دليلهم الثاني بما أجيب به في المناقشة السابقة لهذا الدليل (69).
ج – استدل أصحاب القول الثالث:
1 – أن ملكه عليه تام، فلزمته زكاته ، كما لو أُسر أو حُبس وحيل بينه وبين ماله (70).
2 – أنه يثاب عليه ويؤجر فيه إن ذهب، فكذا تلزمه زكاته (71).
3 – واستدلوا أيضاً : بأدلتهم السابقة في زكاة الدين الذي على المعسر (72).
مناقشة أدلة هذا القول:
1 – أما قياس المال الضمار على ما لو أسر أو حبس عن ماله، فهو قياس مع الفارق، وذلك أن محل الزكاة في المال الضمار مفقود، وهو المال – محل الوجوب – فكيف يخرج زكاة مالٍ لا وجود له ؟ كما أن من شروط وجوب الزكاة الملك التام للمال، وهو غير متحقق هنا، وهذا بخلاف ما لو حبس ، فالمال موجود ومملوك ، ولكنه لم يتمكن من الانتفاع به لسبب خارجي ، كما لو مرض أو سافر فلم يتمكن من الانتفاع به حال مرضه أو سفره ، فإنه يلزمه زكاته .
2 – وأما الثواب والأجر على ذهاب المال، فإنه لا يلزم منه وجوب الزكاة؛ إذ لا تلازم بين الأمرين، فالأجر والثواب بابه واسع ، وأما الزكاة فلها شروط لا تجب إلا بتحققها .
ويجاب عن أدلتهم السابقة بما أجيب به في المناقشة السابقة لهذه الأدلة (73).
الترجيح :(/5)
وبعد عرض الأقوال ، والأدلة ، ومناقشة أدلة القول الثاني، والثالث، يتبين رجحان القول الأول، وهو عدم وجوب الزكاة في المال الضمار؛ لقوة ما استدلوا به ، ولأنه القول الذي يتفق مع أصل براءة الذمة من المال الخارج عن ملك صاحبه، ويتفق أيضاً مع مقاصد الشريعة من رفع الحرج عن المكلف ، حيث لا يكلَّف المسلم بإخراج زكاة مال ليس في ذمته، بل هو في ذمة غيره، كما ينسجم مع مقصد التيسير الذي جاءت به شريعتنا الغراء، والله تعالى أعلم.
المطلب الثالث:
التخريج:
مما تقدم يتبين أن هذه الأسهم المتعثرة إذا لم تكن مرجوة الحصول، بمعنى أنه ميؤوس من تحصيلها ، فإنه يكون حكم زكاتها كزكاة المال الضمار، وعلى القول الراجح ، فإنه إذا انفك التعثر، وعادت الأسهم إلى أربابها ، فإنه يستأنف بها المساهم حولاً، ولا تجب الزكاة فيها لما مضى، والله تعالى أعلم.
الخاتمة
وتشتمل على ملخص لأهم نتائج البحث، فأقول:
تلخص مما تقدم، أن تعثر الأسهم أصبح ظاهرة في واقعنا المعاصر، لأسباب كثيرة، منها: كثرة الخصومات العقارية التي تطال بعض المساهمات فتتعثر بسببها ، ومنها كثرة الشركات المساهمة التي لا تلتزم بالأنظمة المالية والمحاسبية، مع ضعف الديانة وقلة الأمانة – إلا من رحم الله – فساهم هذا الواقع في ظهور ما يمكن أن يسمى بالأسهم المتعثرة، أو بالمساهمات المتعثرة، ومع هذا الواقع فقد أشكل على كثيرين مدى وجوب الزكاة في هذه الأسهم، وبالنظر إلى كلام الفقهاء المتقدمين فإنه يمكن تخريج هذه المسألة على مسألة الزكاة في دين المعسر والمماطل، ومسألة الزكاة في المال الضمار، وعلى هذا ، فإنه إذا كانت هذه الأسهم المتعثرة مرجوة الحصول ، فإنها تخرج على زكاة دين المعسر والمماطل، وتبين بعد عرض الخلاف في هذه المسألة أن الراجح: هو أن الدين الذي على المعسر والمماطل لا يزكى، وإنما يستأنف به الدائن حولاً، فكذا هنا في الأسهم المتعثرة . أما إذا كانت هذه الأسهم غير مرجوة الحصول أو ميؤوس منها، فإنها تخرج على زكاة المال الضمار، وقد تبين بعد عرض الخلاف في هذه المسألة أن الراجح هو: أن المال الضمار لا يزكى ، وإنما يستأنف به مالكه حولاً، فكذا هنا في الأسهم المتعثرة ، فإنه يستأنف بها المساهم حولاً، ولا يزكي لما مضى .
أما ما يثار بأن هذه الأسهم المتعثرة لها قيمة سوقية، وبالتالي فإنه يجب أن تزكى وفق هذه القيمة ، فقد تقرر في ثنايا البحث أن هذه القيمة السوقية لا اعتبار لها عند الشارع؛ لأنها مبنية على الغرر والغبن، وعليه فلا يصح هذا القول، والله تعالى هو الموفق والهادي .
فهرس المصادر والمراجع
(1) القرآن الكريم.
(2) صحيح مسلم، للإمام مسلم بن الحجاج القشيري، دار الحديث، الطبعة الأولى، 1412هـ.
(3) إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، لمحمد بن ناصر الدين الألباني.
(4) أبحاث فقهية في قضايا الزكاة المعاصرة ، لمحمد بن سليمان الأشقر وآخرون، دار النفائس، الطبعة الأولى، 1418هـ.
(5) الأسهم والسندات وأحكامها في الفقه الإسلامي، لأحمد بن محمد الخليل، دار ابن الجوزي، 1424هـ.
(6) الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام ، دار الفكر، 1408هـ.
(7) الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف (مع الشرح الكبير) للمرداوي علي بن سليمان بن أحمد ، دار هجر، الطبعة الأولى، 1415هـ.
(8) الاستذكار لابن عبدالبر يوسف بن عبدالله النمري، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 2000م .
(9) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني علاء الدين أبي بكر بن مسعود، دار الكتاب العربي، الطبعة الثانية، 1402هـ.
(10) الدراية في تخريج أحاديث الهداية لابن حجر أحمد بن علي العسقلاني، دار المعرفة .
(11) روضة الطالبين وعمدة المفتين للنووي يحيى بن زكريا، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية، 1405هـ.
(12) الشرح الكبير لأبي الفرج عبدالرحمن بن محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي، دار هجر، الطبعة الأولى، 1415هـ.
(13) طلبة الطلبة في الاصطلاحات الفقهية للنسفي أبي حفص عمر بن محمد، دار النفائس، الطبعة الأولى، 1416هـ.
(14) الغرر وأثره في العقود في الفقه الإسلامي، للصديق محمد الأمين الضرير، دار الجيل، الطبعة الثانية، 1410هـ.
(15) فتح القدير لابن الهمام محمد بن عبدالواحد السكندري، دار إحياء التراث العربي، ودار الكتب العلمية.
(16) فتوى جامعة في زكاة العقار ، لبكر بن عبدالله أبوزيد، دار العاصمة، الطبعة الأولى، 1421هـ.
(17) القاموس المحيط للفيروزآبادي محمد بن يعقوب، مؤسسة الرسالة، الطبعة السادسة، 1419هـ.
(18) القواعد النورانية الفقهية (الكلية) ، لابن تيمية أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام، مكتبة التوبة، الطبعة الأولى، 1423هـ.
(19) القوانين الفقهية لابن جزي محمد بن أحمد بن محمد الكلبي، دار الكتاب العربي، الطبعة الثانية، 1409هـ.(/6)
(20) الكافي في فقه أهل المدينة المالكي، لابن عبدالبر يوسف بن عبدالله بن محمد النمري، مكتبة الرياض الحديثة، الطبعة الثالثة، 1406هـ.
(21) لسان العرب ، لابن منظور محمد بن مكرم الإفريقي، دار صادر، الطبعة الأولى.
(22) مجلة مجمع الفقه الإسلامي، التابعة لمنظمة المؤتمر الإسلامي، العدد الثاني الصادر عام 1407هـ، والعدد الرابع، الصادر عام 1408هـ.
(23) مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر لداماد افندي عبدالله بن محمد بن سليمان، دار إحياء التراث العربي.
(24) مجموع فتاوى وبحوث ، لعبدالله بن سليمان المنيع، دار العاصمة ، الطبعة الأولى، 1420هـ.
(25) مختصر الطحاوي، لأبي جعفر أحمد بن محمد بن سلامة، لجنة إحياء المعارف النعمانية بحيدرآباد الدكن بالهند.
(26) المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، للفيومي أحمد بن محمد بن علي، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1414هـ.
(27) المصنف لابن أبي شيبة أبي بكر عبدالله بن محمد الكوفي، مكتبة الرشد، الطبعة الأولى، 1409هـ.
(28) معجم المصطلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء ، لنزيه حماد، الدار العالمية للكتاب الإسلامي ، الطبعة الثالثة، 1415هـ.
(29) معجم مقاييس اللغة، لابن فارس أبي الحسين أحمد، دار الفكر، 1399هـ.
(30) المعونة على مذهب عالم المدينة للقاضي عبدالوهاب البغدادي، دار الفكر.
(31) المغني ، لابن قدامة أبي محمد عبدالله بن أحمد بن محمد المقدسي، دار هجر، الطبعة الثانية، 1412هـ.
(32) مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج للشربيني محمد الخطيب، دار الفكر.
(33) مواهب الجليل لشرح مختصر خليل للحطَّاب محمد بن محمد بن عبدالرحمن المغربي، دار الفكر ، الطبعة الثالثة، 1412هـ.
(34) نصب الراية للزيلعي عبدالله بن يوسف ، دار الحديث، 1357هـ.
(35) الهداية شرح بداية المبتدي (مع فتح القدير) للمرغيناني أبي الحسن علي بن عبدالجليل الرشداني، دار إحياء التراث العربي، ودار الكتب العلمية.
________________________________________
(1) المصباح المنير ص254، مادة (زكى).
(2) 4/5 .
(3) سورة الصافات ، آية (141).
(4) معجم مقاييس اللغة 3/111، مادة (سهم) وانظر : المصباح المنير ص293، مادة (سهم) .
(5) 1/459 .
(6) الأسهم والسندات وأحكامها ص48 .
(7) لسان العرب 4/539-541، مادة (عثر) .
(8) 4/5 .
(9) في مجموع البحوث والفتاوى له 2/179-189، حيث قرَّر هذا القول أحسن تقرير، ومنه استفدت هذا التفصيل.
(10) ينظر : الأسهم والسندات وأحكامها ص265، وأبحاث فقهية في قضايا الزكاة المعاصرة 1/55، وبحوث زكاة الأسهم في الشركات في مجلة مجمع الفقه الإسلامي 4/1/705 ، وفتوى جامعة في زكاة العقار ص14.
(11) التسويق الشبكي (ويسمى الهرمي) هو نوع من التسويق يصنف من حيث المبدأ ضمن صور الغش والاحتيال التجاري ، وصورته: أن يشتري الشخص منتجات شركة ما مقابل الفرصة بأن يقنع آخرين بمثل ما قام به ، ويأخذ هو مكافأة أو عمولة مقابل ذلك ، وهكذا يقوم المشتري بمثل ما قام به المشتري الأول ، فيحصل على العمولة هو والأول أيضا ، فيكون ذلك المنتج ستاراً وهمياً لإعطاء هذه المعاملة الصفة الشرعية ، ومقصود المشتري هو العمولة لا المنتج ، ويكون حظ المشتري الأول من العمولة أكثر من الثاني والثالث ، وحظ الثاني منها أكثر من الثالث والرابع ، وهكذا في تسلسل هرمي … = ينظر لهذه النازلة (التي لم يقدم فيها بحثٌ مطبوع): حكم التعامل مع شركة بزنس كوم للدكتور سامي السويلم في موقع الإسلام اليوم ، نافذة الفتاوى.
(12) لم أخصص مبحثاً للقيمة الاسمية للأسهم المتعثرة؛ لأنه لا يمكن أن يقدم عاقل رشيد على شراء هذه الأسهم بقيمتها الاسمية، وهو لا يعلم هل يحصِّل هذه الأسهم أو لا، وإذا حصَّلها فما هو العائد؟ ولذا فإنه لو أقدم أحد الأغرار على شراء هذه الأسهم بقيمتها الاسمية ، فإنه لا يجوز بيعه؛ لما يلحقه من الغبن والغرر، حيث إن التعثر يؤدي إلى حالة من الكساد بحيث تكون قيمة السهم أقل من قيمته الاسمية بكثير.
(13) ينظر في تعريف الغرر: كتاب الغرر وأثره في العقود ص34 .
(14) صحيح مسلم، كتاب البيوع ، 3/1153 .
(15) القواعد النورانية ص223 .
(16) القاموس المحيط ص439، مادة (عسر).
(17) معجم مقاييس اللغة 4/319، مادة (عسر).
(18) معجم المصطلحات الاقتصادية ص69 .
(19) المصباح المنير ص575، القاموس المحيط ص1057، مادة (مطل).
(20) معجم المصطلحات الاقتصادية ص314 .
(21) مختصر الطحاوي ص51، وفتح القدير 2/123، مجمع الأنهر 1/194 .
(22) روضة الطالبين 2/194، مغني المحتاج 1/410 .
(23) المغني 4/270 ، الإنصاف (مع الشرح الكبير) 6/326 .
(24) حكاه عنهما ابن قدامة في المغني 4/270 .
(25) الكافي لابن عبدالبر 1/293، مواهب الجليل 2/314 .
(26) حكاه عنهم ابن قدامة في المغني 4/270.
(27) روضة الطالبين 2/194 .
(28) المغني 4/270، الإنصاف 6/327 .
(29) حكاه عنهم ابن قدامة في المغني 4/270 .(/7)
(30) مصنف ابن أبي شيبة ، كتاب الزكاة ، 2/390 .
(31) الأموال 1/528 .
(32) الأموال 1/528 .
(33) المغني 4/270 .
(34) الشرح الكبير 6/326 .
(35) سورة التوبة، آية (103).
(36) 6/101 .
(37) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه ، في كتاب الزكاة ، 2/390 .
(38) 4/270 .
(39) إرواء الغليل 3/254 .
(40) المغني 4/270 .
(41) المعونة 1/371 .
(42) المغني 4/271 ، الشرح الكبير 6/326 .
(43) المغني 4/270 .
(44) المغني 4/270 .
(45) كما حكاه عنه المرداوي في الإنصاف 6/328 .
(46) مجلة مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي 2/1/113 .
(47) المصباح المنير ص364 ، القاموس المحيط ص429، مادة (ضمر).
(48) القاموس المحيط ص429 ، مادة (ضمر) ، طلبة الطلبة ص95 .
(49) طلبة الطلبة ص95 .
(50) بدائع الصنائع 2/9 ، الكافي لابن عبدالبر – وسمى هذا المال: الثاوي – 1/293 ، معجم المصطلحات الاقتصادية ص221 ، مادة (ضمار).
(51) بدائع الصنائع 2/9 ، الهداية (مع فتح القدير) 2/121 .
(52) روضة الطالبين 2/192 ، مغني المحتاج 1/409 .
(53) المغني 4/272، الإنصاف 6/327 .
(54) حكاه عنه ابن عبدالبر في الاستذكار 3/161 .
(55) القوانين الفقهية ص104 ، مواهب الجليل 2/314، الاستذكار 3/162 . وحكى ابن عبدالبر في الكافي (1/293-294) عن الإمام مالك روايتين : الأولى: أنه يزكيه لكل سنة، والثانية لا زكاة عليه لما مضى وإن زكاه لعام واحد فحسن، ثم قال: "وقد روي عن ابن القاسم ، وأشهب، وسحنون : أنه يزكيه لما مضى من السنين، إلا أنهم يفرقون بين المضمون في ذلك وغير المضمون ، فيوجبون الزكاة في الغصوبات إذا رجعت لعام واحد ، والأمانات وما ليس بمضمون على أحد يزكى لما مضى من السنين ، وهذا أعدل أقاويل المذهب" أهـ.
(56) حكاه عنهم ابن عبدالبر في الاستذكار 3/162 .
(57) روضة الطالبين 2/192 ، مغني المحتاج 1/409 .
(58) الإنصاف 6/326 .
(59) حكاه عنهما ابن عبدالبر في الاستذكار 3/161 .
(60) سورة التوبة، آية (103) .
(61) بدائع الصنائع 2/9 .
(62) قال الحافظ ابن حجر في الدراية (1/249): "لم أجده عن علي" أهـ وقال الزيلعي في نصب الراية (2/334) : "غريب" أهـ.
(63) مغني المحتاج 1/409، المغني 4/272 .
(64) الاستذكار 3/162 .
(65) الهداية (مع فتح القدير) 2/122، مغني المحتاج 1/409 .
(66) مصنف ابن أبي شيبة ، كتاب الزكاة ، 2/420، رقم (10614) .
(67) 2/420، برقم (10615).
(68) ينظر: ص16 .
(69) ينظر: ص16 .
(70) المغني 4/272 .
(71) الاستذكار 3/162 .
(72) ينظر: ص14-15 .
(73) ينظر: ص15-16 .(/8)
زكاة الأسهم في الشركات.
الكاتب: الشيخ د. مسفر بن علي القحطاني
المراد بهذه المسألة :-
عرف عصرنا لوناً من رأس المال استحدثه التطور الصناعي والتجاري في العالم وذلك ما يعرف بالأسهم أو السندات ، وهذه الأوراق المالية تقوم عليها المعاملات التجارية في أسواق خاصة بها وهي التي تسمى ( بورصة الأوراق المالية ) . وهذه الأسهم حقوق ملكية جزئية لرأس مال كبير للشركات المساهمة أو التوصية بالأسهم وكل سهم جزء من أجزاء متساوية لرأس المال ([1]).
وقيل في المعنى المراد بالأسهم أنها صكوك تمثل حصص في رأس مال شركة مساهمة . وهي قابلة للتداول بالطرق التجارية وتمثل حقوق المساهمين في الشركات التي أسهموا في رأس مالها ([2]).
ولقد بحث فقهاؤنا المعاصرون حكم زكاة أسهم الشركات المعاصرة وكيفية إخراج الواجب فيها ، وذلك أنها من المسائل المستجدة التي لم يسبق فيها نص أو اجتهاد لأئمة المذاهب السابقين .
الحكم الفقهي لهذه النازلة:-
نجد أن هناك اتجاهين عند من بحث زكاة الأسهم من العلماء المعاصرين لأجل الوصول إلى حكمها وكيفية زكاتها .
فالاتجاه الأول :
ينظر إلى هذه الأسهم والسندات تبعاً لنوع الشركة التي أصدرتها : أهي صناعية أم تجارية أم مزيج منهما ؟ فلا يعطى السهم حكماً إلا بعد معرفة الشركة التي يمثل جزءاً من رأس مالها ، وبناء عليه يحكم بتزكيته أو بعدمها ([3]).
والاتجاه الثاني :
ينظر إليها كلها نظرة واحدة ويعطيها حكماً واحداًبغض النظر عن الشركة التي أصدرتها ، فيعتبرها عروض تجارة تأخذ أحكامها في كل شيء ([4]).
ومجمع الفقه الإسلامي المنبثق من منظمة المؤتمر الإسلامي اطلع على كثير من البحوث الواردة إليه بخصوص موضوع أسهم الشركات .
وقرر فيها الحكم الشرعي والكيفية المناسبة والراجحة من أقوال أهل العلم في زكاة أسهم الشركات جاء في قراره ما يلي :-
(( أولاً :
تجب زكاة الأسهم على أصحابها ، وتخرجها إدارة الشركة نيابة عنهم إذا نص نظامها الأساسي على ذلك ، أو صدر به قرار من الجمعية العمومية ، أو كان قانون الدولة يلزم الشركات بإخراج الزكاة ، أو حصل تفويض من صاحب الأسهم لإخراج إدارة الشركة زكاة أسهمه .
ثانياً :
تخرج إدارة الشركة زكاة الأسهم كما يخرج الشخص الطبيعي زكاة أمواله ، بمعنى أن تعتبر جميع أموال المساهمين بمثابة أموال شخص واحد وتفرض عليها الزكاة بهذا الاعتبار من حيث نوع المال الذي تجب فيه الزكاة ، ومن حيث النصاب ، ومن حيث المقدار الذي يؤخذ ، وغير ذلك مما يراعى في زكاة الشخص الطبيعي ، وذلك أخذاً بمبدأ الخلطة عند من عممه من الفقهاء في جميع الأموال .
ويطرح نصيب الأسهم التي لا تجب فيها الزكاة ، ومنها أسهم الخزانة العامة وأسهم الوقف الخيري وأسهم الجهات الخيرية ، وكذلك أسهم غير المسلمين .
ثالثاً :
إذا لم تزك الشركة أموالها لأي سبب من الأسباب ، فالواجب على المساهمين زكاة أسهمهم ، فإذا استطاع المساهم أن يعرف من حسابات الشركة ما يخص أسهمه من الزكاة ، لو زكت الشركة أموالها على النحو المشار إليه ، زكى أسهمه على هذا الاعتبار ، لأنه الأصل في كيفية زكاة الأسهم .
وإن لم يستطع المساهم معرفة ذلك :-
فإن كان ساهم في الشركة بقصد الاستفادة من ريع الأسهم السنوي ، وليس بقصد التجارة فإنه يزكيها زكاة المستغلات ... فإن صاحب هذه الأسهم لا زكاة عليه في أصل السهم ، وإنما تجب الزكاة في الريع ، وهي ربع العشر بعد دوران الحول من يوم قبض الريع مع اعتبار توافر شروط الزكاة وانتفاء الموانع .
وإن كان المساهم قد اقتنى الأسهم بقصد التجارة ، زكاها زكاة عروض التجارة ، فإذا جاء حول زكاته وهي في ملكه ، زكى قيمتها السوقية وإذا لم يكن لها سوق ، زكى قيمتها بتقويم أهل الخبرة فيخرج ربع العشر ( 5ر2 % ) من تلك القيمة ومن الربح ، إذا كان للأسهم ربح .
رابعاً :
إذا باع المساهم أسهمه في أثناء الحول ضم ثمنها إلى ماله وزكاه معه عندما يجيء حول زكاته . أما المشتري فيزكي الأسهم التي اشتراها على النحو السابق ))([5]).
ـ تقرير الاستدلال على حكم هذه النازلة :-
إن إيجاب الفقهاء الزكاة في أسهم الشركات مبني على كونها حصصاً مالية تنتج جزءاً من أرباح الشركة تزيد وتنقص تبعاً لنجاح الشركة وزيادة ربحها أو نقصه .(/1)
والأسهم من حيث التعامل والتداول بين الأفراد كسائر السلع مما يجعل بعض الناس يتخذ منها وسيلة للاتجار بالبيع والشراء ابتغاء الربح من ورائها . وهذا التعامل مشروع لأنه مبني على أسس سليمة من شروط البيع وأحكامه ، فمما يؤثر في جواز التبادل التجاري في الأسهم ؛ ما ورد أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لما توفى كان ذا مال فراضي ورثته إحدى زوجاته على أن تأخذ مقابل سهمها في الميراث مبلغ ثمانين ألف دينار وكانت التركة تشمل نقوداً وعقاراً وحيواناً وكان هذا الإجراء بعد أن استشار الخليفة عثمان رضي الله عنه الصحابة ([6]) فكان ذلك إجماعاً ولم تكن الدقة في معرفة التركة وتعدد أنواعها وكونها غير مصفاة مانعاً من ذلك . وهذا هو عين بيع الأسهم في الشركات سواء سميناه بيعاً أو صلحاً أو معارضة .
أما عن إخراج إدارة الشركة زكاة الأسهم باعتبار أن جميع أموال المساهمين بمثابة أموال شخص واحد فهذا تكييفه مبني على قول الجمهور غير الأحناف في جواز الخلطة في الأموال وأن لها تأثيراً في الزكاة على خلاف بينهم في بعض الشروط التي لا بد من توافرها ليتحقق ذلك التأثير ([7]).
أما إذا لم تخرج الشركة الزكاة فإن الوجوب لا يسقط عن المساهم وكيفية إخراج الزكاة مبني على قصده من المساهمة فإن كان قصده الاستفادة من ريع الأسهم السنوي فإنه يزكيها قياساً على زكاة المستغلات كما هو الحال في زكاة العقارات والأراضي المأجورة .
وإن كان قصده من المساهمة التجارة فإنه يزكي قياساً على زكاة عروض التجارة كما هو مبين في قرار المجمع السابق الذكر .
-------------------
([1]) فقه الزكاة للقرضاوي 1 / 521.
([2]) انظر : مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد الرابع 1 / 712 و 730 .
([3]) ويمثل هذا الاتجاه : الشيخ عبد الرحمن عيسى في كتابه ( المعاملات الحديثة وأحكامها ) ص 73 و 74 نقلاً من فقه الزكاة 1 / 524 ، وكذلك الشيخ عبد الله البسام في بحثه المنشور في مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد الرابع 1 / 721 ، وكذلك الشيخ عبد الله بن منيع في كتابه (بحوث في الاقتصاد الإسلامي) ص 91 .
([4]) ويمثل هذا الاتجاه : أبو زهرة وعبد الرحمن حسن وخلاف والقرضاوي وغيرهم انظر : فقه الزكاة 1 / 527 .
([5]) مجموع قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي في دورته الرابعة قرار رقم ( 28 ) ص 63 و 64 .
([6]) أخرجه الحاكم في المستدرك بنحوه 3 / 415 .
([7]) انظر : بدائع الصنائع 2 / 30 ؛ بداية المجتهد 2 / 96 و 97 ؛ مغني المحتاج 2 / 74 ؛ المغني 4 / 54 و 55 ؛ المجموع 5 / 407 .(/2)
زكاة الدَّين
لمعرفة هذا الموضوع فإن الحديث عنه سيتحدد في المطالب التالية :
1. تعريف الدَّين .
2. أقسام الدَّين.
3. تعلق الزكاة بدين المديون.
4. أقوال الفقهاء في زكاة دين المديون.
5. الراجح في زكاة دين المديون .
6. تعلق الزكاة بدين الدائن .
7. أقوال الفقهاء في زكاة دين الدائن.
8. الآثار المروية في زكاة الدَّين .
9. قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن زكاة الديون .
تعريف الدَّين :
الدَّين في اللغة : واحد الدُّيون ، وكلُّ شيء غير حاضر دَينٌ ، وقد دَانَهُ أقرضه فهو مَدِينٌ و مَدْيُونٌ ، ودَانَ هو أي استقرض فهو دَائِنٌ أي عليه دين (1) .
الدَّين في اصطلاح الفقهاء : عبارة عن مال حكمي في الذمة (2) .
أقسام الدَّين :
الدَّين إما أن يكون للشخص على الغير أو للغير على الشخص ، بمعنى أن الشخص الذي ستتعلق بدينه الزكاة إما أن يكون : دائن أو مديون : والحديث عن تعلق الزكاة بالدَّين يختلف بحسب ذلك ، ولذلك سأقسم الحديث عن زكاة الدَّين إلى قسمين :
القسم الأول : زكاة الدَّين الذي للغير على الشخص ( دين المديون):
إذا كان شخص له مال تجب فيه الزكاة وعليه ديون قدر ماله أو أكثر أو أقل ، فإن كانت لا تنقص النصاب فلا تمنع من وجوب الزكاة ، وعليه أداء زكاة ذلك المال باتفاق العلماء .
أما إذا كان هذا الدين ينقص المال عن النصاب أو يقضي عليه فإن في وجوب الزكاة عليه عند المذاهب الفقهية المشهورة أقوال نلخصها في التالي :
أقوال الفقهاء :
عند الشافعية (3) ثلاثة أقوال أصحها: لا يمنع وجوب الزكاة سواء كان الدَّين حالاً أو مؤجلاً، وسواء كان من جنس المال أم لا ، والثاني : يمنع ، والثالث : يمنع في الأموال الباطنة وهي الذهب والفضة وعروض التجارة ، ولا يمنعها ف الأموال الظاهرة وهي الزروع والثمار والمواشي والمعادن.
عند الحنابلة (4) : يمنع الدَّين وجوب الزكاة في الأموال الباطنة، وهي الأثمان وعروض التجارة، فإن كان معه مائتا درهم وعليه دين فلا زكاة عليه، هذا إذا كان يستغرق النصاب أو ينقصه ولا يجد ما يقضيه به سوى النصاب أو مالا يستغني عنه، فإن كان لا ينقص به النصاب أسقط قدر الدَّين وأخرج زكاة الباقي، فإن كان له ثلاثون مثقالاً وعليه عشرة فعليه زكاة العشرين".
وعند الحنفية (5): الدَّين يمنع الزكاة ، فمن كان عليه دين يحيط بماله فلا زكاة عليه، وإن كان ماله أكثر من الدَّين زكى الفاضل إذا بلغ نصاباً .
وعند المالكية (6) : أن الدَّين يسقط زكاة القدر المساوي له من العين، فمن له نقد أو عروض تجارة تجب فيه الزكاة وعليه دين ولو مؤجلاً فإنه يخصم مما عنده ويزكي الباقي إن كان نصاباً .
كلام ابن رشد وترجيحه :
قال ابن رشد (7) : وأما المالكون الذين عليهم الديون التي تستغرق أموالهم أو تستغرق ما تجب فيه الزكاة من أموالهم وبأيديهم أموال تجب فيها الزكاة فإنهم اختلفوا في ذلك :
1. فقال قوم : لا زكاة في مال حيا كان أو غيره حتى تخرج منه الديون فإن بقي ما تجب فيه الزكاة زكى وإلا فلا وبه قال الثوري وأبو ثور وابن مبارك وجماعة .
2. وقال أبو حنيفة وأصحابه : الدين لا يمنع زكاة الحبوب ويمنع ما سواها .
3. وقال مالك : الدين يمنع الزكاة الناض فقط إلا أن يكون له عروض فيها وفاء من دينه فإنه لا يمنع .
4. وقال قوم : بمقابل القول الأول وهو أن الدين لا يمنع زكاة أصلاً .
والسبب في اختلافهم : اختلافهم هل الزكاة عبادة أو حق مرتب في المال للمساكين ؟ فمن رأى أنها حق لهم قال : لا زكاة في مال من عليه الدين لأن حق صاحب الدين متقدم بالزمان على حق المساكين وهو في الحقيقة مال صاحب الدين لا الذي المال بيده . ومن قال هي عبادة قال : تجب على من بيده مال لأن ذلك هو شرط التكليف وعلامته المقتضية الوجوب على المكلف سواء كان عليه دين أو لم يكن وأيضا فإنه تعارض هنالك حقان : حق لله وحق للآدمي وحق الله أحق أن يقضى .
والأشبه بغرض الشرع إسقاط الزكاة عن المدين لقوله عليه الصلاة والسلام فيها " صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم " والمدين ليس بغني .
الراجح :
كلام ابن رشد هو الأقرب إلى الصواب وإليه ذهب جمهور العلماء المعاصرين وذلك للأدلة التالية :
1. السائب بن يزيد أن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يقول: هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤد دينه حتى تحصل أموالكم فتؤدون من الزكاة، وفي رواية: فمن كان عليه دين فليقض دينه وليزك ماله.....وعن يزيد بن حصيفة أنه سأل سليمان بن يسار عن رجل له مال وعليه دين مثله أعليه زكاة؟ فقال له: لا " (8).
2. إن ملكية المديون ضعيفة وناقصة ، لتسلط الدائن عليه ومطالبته بدينه، ومن شروط المال الذي تجب فيه الزكاة تمام الملك.
3. أن رب الدين مطالب بتزكيته لأنه ماله وهو صاحبه ، فلو زكاه المديون لوجبت الزكاة في المال مرتين .
4. إن المديون ديناً يستغرق النصاب أو ينقصه ممن يحل له أخذ الزكاة لأنه من الفقراء ومن الغارمين.(/1)
5. أن الصدقة لا تجب إلا عن ظهر غنى ولا غنى للمديون وهو محتاج لقضاء دينه.
القسم الثاني : زكاة الدَّين الذي على الغير للشخص (دين دائن):
من كان له دين على آخر ، وهذا الدَّين يبلغ نصاباً وحال عليه الحول وهو لا زال في ذمة المدين ، ففي وجوب الزكاة فيه أقوال للفقهاء نجملها ثم نذكر القول الذي نرجحه :
أولاً : مذهب الحنفية (9) :
الديون على ثلاث مراتب عند " أبي حنيفة " - رحمه الله تعالى :
(1) دين قوي : وهو ما يكون بدلاً عن مال كان أصله للتجارة لو بقي في ملكه .
حكمه :لا يلزمه الأداء ما لم يقبض أربعين درهماً فإذا قبض هذا المقدار أدى درهماً ، وكذلك كلما قبض أربعين درهماً.
(2) ودين وسط : وهو أن يكون بدلاً عن مال لا زكاة فيه لو بقي في ملكه كثياب البذلة والمهنة .
حكمه : لا يلزمه الأداء ما لم يقبض مائة درهم فحينئذ يؤدي خمسة دراهم.
(3) ودين ضعيف : وهو ما يكون بدلاً عما ليس بمال كالمهر وبدل الخلع والصلح عن دم العمد .
حكمه :لا تلزمه الزكاة ما لم يقبض ويحول الحول عنده.
وقال " أبو يوسف " و " محمد " - رحمهما الله تعالى - الديون كلها سواء وكلها تجب الزكاة فيها قبل القبض .
ثانياً : المالكية (10) :
من أقرض غيره مالاً فلا يزكي هذا الدَّين إلا بعد قبضه ، وإنما يزكه بعد قبضه إن كان نصاباً لسنة واحدة فقط ، ولو بقي الدَّين في ذمة المدين سنين.
ثالثاً : مذهب الشافعية (11) :
إذا أمكن استيفاء الدَّين بأن كان على مدين مليء باذل له ، أو جاحد له ولكن عند الدائن بينة إثبات فإن كان الدَّين حالَّاً غير مؤجل وجبت الزكاة فيه ، وإن كان الدَّين مؤجلاً فأصح الأقوال فيه : تجب الزكاة فيه ، ولكن لا يجب إخراجها في الحال.
أما إذا كان يتعذر استيفاؤه لإعسار المدين أو جحوده ولا بينة للدائن ، أو لمطل المدين أو غيبته ففي وجوب الزكاة فيه أقوال الصحيح منها : وجوب الزكاة ولكن لا يجب إخراجها قبل قبض الدَّين ، فإذا قبضه الدائن أخرج زكاته عن المدة الماضية.
رابعاً : مذهب الحنابلة (12) :
الدَّين عندهم نوعان :
الأول : دين على معترف به باذل ، فعلى صاحب هذا الدَّين زكاته ، إلا أنه لا يلزمه إخراج زكاته حتى يقبضه فيؤدي لما مضى من المدة.
الثاني : دين على معسر أو جاحد له أو مماطل به ، وهذا فيه روايتان عند أحمد : الأولى : لا تجب والثانية : يزكيه إذا قبضه لما مضى من المدة .
الآثار المروية في زكاة الدَّين :
1. عن ابن عمر : إذا كان دينك في ثقة فزكه وإن كنت تخاف عليه التلف فلا تزكه حتى تقبضه (13) .
2. عن ابن عمر قال ليس في الدَّين زكاة (14) .
3. عن ابن عمر قال زكوا زكاة أموالكم حولاً إلى حول وما كان من دين ثقة فزكه وإن كان من دين مظنون فلا زكاة فيه حتى يقضيه صاحبه (15) .
4. عن علي قال كان يسأل عن الرجل له الدَّين على الرجل قال ما يمنعه أن يزكي قال لا يقدر عليه قال وإن كان صادقا فليؤد ما غاب عنه (16) .
5. عن الحسن قال سئل علي عن الرجل يكون له الدَّين على الرجل قال يزكيه صاحب المال فإن أدى ما عليه وخشي أن لا يقضي قال يمهل فإذا خرج أدى زكاة ماله (17) .
6. عن عائشة قالت ليس في الدَّين زكاة (18).
7. عن عائشة قالت ليس فيه زكاة حتى يقبضه (19).
8. عن ابن جريج قال أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في دين لرجل على آخر يعطي زكاته قال نعم قال بن جريج فكان عطاء لا يرى في الدَّين صدقة وإن مكث سنين حتى إذا خرج زكاه واحدة وكان يقول في الرجل يبتاع بالمال فيحل فإذا حل ابتاع به وأحال به على غرمائه ولم يقبض في ذلك قال لا صدقة فيه قال عطاء وإن كان على وثيق فلا يزكه حتى يخرج (20) .
9. عن عطاء قال ليس على صاحب الدَّين الذي هو له ولا الذي هو عليه زكاة (21) .
10. عبد الرزاق عن معمر قال سألت الزهري عن الرجل يكون له الدَّين أيزكيه قال نعم إذا كان في ثقة وإذا كان يخاف عليه التوى فلا يزكيه فإذا قبضه زكاه لما غاب عنه (22) .
11. عن حماد قال الزكاة على من المال في يده قال وكان ابن المسيب يقول إذا كان الدَّين والسلف على مليء فعلى سيده أداء زكاته فإن كان على معدم فلا زكاة فيه حتى يخرج فيكون عليه زكاة السنين التي مضت قال ذلك الأمر (23).
قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن زكاة الديون (24) :
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10-16 ربيع الآخر 1406هـ /22 – 28كانون الأول (ديسمبر ) 1985م، بعد أن نظر في الدراسات المعروضة حول زكاة الديون وبعد المناقشة المستفيضة التي تناولت الموضوع من جوانبه المختلفة وتبين منها :
أولاً : أنه لم يرد نص من كتاب الله تعالى أو سنة رسوله يفصل زكاة الديون .
ثانياً : أنه قد تعدد ما أثر عن الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم من وجهات نظر في طريقة إخراج زكاة الديون.
ثالثاً : أن قد اختلفت المذاهب الإسلامية بناءً على ذلك اختلافا ًبيناً .(/2)
رابعاً : أن الخلاف قد انبنى على الاختلاف في قاعدة هل يعطى المال الذي يمكن عليه صفة الحاصل ؟
قرر ما يلي :
أولاً : تجب زكاة الدَّين على رب الدَّين عن كل سنة إذا كان المدين مليئاً باذلاً .
ثانيا ً : تجب الزكاة على رب الدَّين بعد دوران الحول من يوم القبض إذا كان المدين معسراً أو مماطلاً .
وفي الختام أسأل الله أن يوفق الجميع إلى ما يحبه ورضاه فهو الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
إعداد / أبي أسامة
نصر محمد السلامي
(1) لسان العرب (ج13ص164) ومختار الصحاح ( ج1ص 218)
(2) بدائع الصنائع للكاساني (ج5ص234)
(3) المجموع للنووي (ج5ص317)
(4) المغني لابن قدامة (ج2ص344 )
(5) اللباب(1ص137)
( 6) تبيين المسالك(2ص81)
( 7) بداية المجتهد (ص238)
( 8) الموطأ(ج1ص246)
( 9) المبسوط للسرخسي (ج2ص194)
( 10) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي (ج1ص468)
( 11) المجموع للنووي(ج6ص22)
( 12) المغني لابن قدامة (ج3ص46)
( 13) مصنف عبد الرزاق (ج4ص99)
( (14) مصنف عبد الرزاق (ج4ص103)
( 15) مصنف ابن أبي شيبة (ج2ص389)
( 16) مصنف عبد الرزاق (ج4ص100)
( 17) مصنف ابن أبي شيبة (ج2ص389)
( 18) مصنف عبد الرزاق (ج4ص103)
( 19) مصنف ابن أبي شيبة (ج2ص390)
( 20) مصنف عبد الرزاق (ج4ص101)
( 21) مصنف ابن أبي شيبة (ج4ص390)
( 22) مصنف عبد الرزاق (ج4ص104)
( 23) مصنف عبد الرزاق (ج4ص104)
( 24) مجلة المجمع العدد 2،) ج 1/61)(/3)
زكاة الزيتون
السؤال :
هل تجب الزكاة في الزيتون ؟ و إذا كانت واجبةً فما مقدارها ؟ و هل يصح إخراجها زيتاً ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
اختلف العلماء قديماً و حديثاً في إيجاب زكاة الزيتون و غيره من أصناف الخارج من الأرض التي لم يُنَصَّ عليها في السنَّة ، و مرد اختلافهم في هذه المسألة هو الاختلاف في تحديد العلة الموجبة لإخراج الزكاة في الأصناف المنصوص عليها .
و إيجاب الزكاة في الزيتون هو مذهب جمهور العلماء من الحنفية و المالكية ، و هو مذهب الإمام الشافعي في القديم ، و رواية عن الإمام أحمد ، و هو المنقول عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما [ كما في مصنف ابن أبي شيبة و غيرة ] ، و عن جمع من التابعين و من تبعهم بإحسان ، رضوان الله عليهم أجمعين .
و استُدِلَّ لمذهب الجمهور بأدلَّة منها :
أولاً : قوله تعالى : ( وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَ غَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَ النَّخْلَ وَ الزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَ الزَّيْتُونَ وَ الرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَ غَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) [ الأنعام : 141 ] .
فقد ذكر سبحانه و تعالى الزيتون و أصنافاً أخرى من الزروع و الثمار ، و عقَّب على ذلك كله بقوله : ( وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ) فلا يصح استثناء شيئ من تلك الأصناف إلا بدليل خاص يستثنيه ، و ليس في كتاب الله و لا سنة رسوله ما يستثني الزيتون من وجوب إيتاء الزكاة يوم الحصاد في الأصناف المذكورة في الآية الكريمة .
قال الإمام القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية : ( اختلف الناس في تفسير هذا الحق ، ما هو؛ فقال أنس بن مالك و ابن عباس و طاووس و الحسن و ابن زيد و ابن الحنفية و الضحاك و سعيد بن المسيب : هي الزكاة المفروضة ، العشر و نصف العشر . و رواه ابن وهب و ابن القاسم عن مالك في تفسير الآية ، و به قال بعض أصحاب الشافعي .
و قال علي بن الحسين و عطاء و الحكم و حماد وسعيد بن جبير و مجاهد : هو حق في المال سوى الزكاة ، أمرَ الله به ندباً . و روي عن ابن عمر و محمد بن الحنفية أيضاً ، و رواه أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم . قال مجاهد : إذا حصدت فحضرك المساكين فاطرح لهم من السنبل ، و إذا جذذت فألق لهم من الشماريخ ، و إذا درسته ودسته و ذريته فاطرح لهم منه ، و إذا عرفت كيله فأخرج منه زكاته .
و قول ثالث : هو منسوخ بالزكاة ؛ لأن هذه السورة مكية و آية الزكاة لم تنزل إلا بالمدينة ... روي عن ابن عباس و ابن الحنفية و الحسن و عطية العوفي و النخعي و سعيد بن جبير . و قال سفيان : سألت السدي عن هذه الآية فقال : نسخها العشر و نصف العشر . فقلت : عمّن ؟ فقال عن العلماء .
قلتُ : و سواء كان الحق الواجب المستفاد من الآية الكريمة هو الزكاة المعروفة ، أو ما يندب إلى إخراجه من المحصول غير الزكاة فإنه مضاف إليها و ليس بديلاً عنها ، بل تظل واجبة في الذمة ، و الله أعلم .
ثانياً : عموم قول النبي صلى الله عليه و سلم : ( فيما سَقَت السماء و العيون العُشر ، و ما سُقي بالنضح نصف العشر ) رواه البخاري و أصحاب السنن عن سالم بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما .
قلت : و نقول في توجيه الحديث ما قلناه في الآية الكريمة من عدم جواز تخصيص العام إلا بدليل ، و ليس ثمة دليل على التخصيص .
ثالثاً : محصول الزيتون يمكن ادِّخاره ، و الناس يتمونون به حولاً كاملاً و بعضهم يزيد على الحول ، لذلك ألحقه من قال بوجوب الزكاة فيه بالزبيب و التمر ، باعتبار الادخار علَّةٌ جامعة تُرَجِّح القول بقياسه على سائر المدخرات من الثمار و الغلال .
و القول بوجوب الزكاة في الزيتون هو الراجح إن شاء الله ، إذ تؤيده عمومات الأدلة الشرعية من الكتاب و السنة ، وهذا ما أقرته الندوة الثامنة لقضايا الزكاة المعاصرة المنعقدة في الدوحة سنة 1418 للهجرة ، حيث جاء في توصياتها القائمة على فتاوى و اجتهادات العلماء المشاركين : ( وجوب الزكاة في كل ما تنتجه الأرض من الزرع و الثمار و الخضروات إذا بغت النصاب ) .
فإذا تقرر وجوب إخراج زكاة الزيتون فليُعلَم أن ذلك واجب بمجرد جني الثمار لقوله تعالى : ( و آتوا حقه يوم حصاده ) ، و الواجب إخراجه نصف العُشر مما سقي بمؤونة سواء كان السقي بالمضخات ، أو بماء الآبار المنقول أو غير المنقول ، و عُشر ما سُقي بلا بمؤونة .
و لا تجب الزكاة فيما لم يبلغ النصاب و هو خمسة أوسق ، لقوله عليه الصلاة و السلام : ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ) رواه البخاري ، و تعادل الأوسق الخمسة ثلاثاً و خمسين و ستمائة [ 653 ] كيلو إذا قوبل بالأوزان المعاصرة .(/1)
و بوسع المزكي أن يخرج الزكاة الواجبة في الزيتون حباً أو زيتاً ، و توسَّع بعض أهل العلم فأجاز إخراج ثمن الواجب نقداً ، و الأولى تخيير المزكي مع مراعاة اليسر و السهولة في حقه ، و الأنفع و الأصلح للفقير المستحق للزكاة .
قال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى : ( فصلٌ : و الرطب الذي لا يتمر و الزيتون الذي لا يعصر ، و العنب الذي لا يزبب ، قال مالك و غيره : تخرج الزكاة من ثمنه إذا بلغ خمسة أوسق ، و إن لم يبلغ ثمنه مائتي درهم ، و إن كان يتناهى فبيع قبل تناهيه . فقيل : تخرج الزكاة من ثمنه ، و قيل تخرج من حبه أو دهنه ) .
هذا ، و الله أعلم و أحكم ، و هو الهادي إلى سواء السبيل .
و صلى الله و سلم على نبينا محمد و آله و صحبه أجمعين .(/2)
زكاة الشخصية الاعتبارية
أ. د. الصديق محمد الأمين الضرير*
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وبعد:
فهذا بحث عن زكاة الشخصية الاعتبارية اكتبه ملتزماً فيه، بقدر الإمكان، بالموضوعات المطلوبة وهي:
- مفهوم الشخصية الاعتبارية.
- مشروعية دخولها في الخطاب التكليفي.
- هل يجوز شغل الذمة الحقيقية بزكاة الشخصية الاعتبارية.
- أثر الأشخاص الحقيقيين في وجوب الزكاة على الشخصية الاعتبارية ( مساهمون يدينون بأديان متعددة).
- إذا أفلست الشخصية الاعتبارية ولم تزك لسنوات مضت قبل إفلاسها فما الحكم؟.
- الشخصيات الاعتبارية التي نشأت بقوانين خاصة هل يحكمها قانون الزكاة ؟.
- مصادر أموال الشخصية الاعتبارية (متعددة الجنسيات) ومدى مشروعية دخولها في وعاء الزكاة. والله أسال أن يوفقني إلى الصواب وأن يجنبني مواطن الزلل، إنه سميع مجيب.
1- مفهوم الشخصية الاعتبارية:
1-1 الشخصية الاعتبارية اصطلاح حديث غير معروف في الفقه الإسلامي بلفظه(1) وإن كان معروفاً بمعناه في بعض تطبيقاته، دخل السودان مع دخول الإنجليز وتطبيقهم القانون الإنجليزي، وظل مستعملاً إلى اليوم، وورد النص عليه في قانون المعاملات المدنية لسنة 1984، الملتزم بتطبيق الشريعة الإسلامية، في الفصل الرابع تحت عنوان الأشخاص، وفيما يلي نص المواد الخاصة به:
المادة 17- الأشخاص نوعان: أشخاص طبيعيون، واشخاص اعتباريون.
المادة 23 الشخصية الاعتبارية هي:
أ- الدولة والمؤسسات العامة، وغيرها من المنشآت التي يمنحها القانون الشخصية الاعتبارية.
ب- الهيئات والطوائف الدينية التي تعترف بها الدولة بشخصية اعتبارية.
ج- الاوقاف.
د- الشركات التجارية.
هـ الجمعيات والمؤسسات المنشآة وفقاً لأحكام القانون.
و- كل مجموعة من الأشخاص أو الأموال تثبت لها الشخصية الاعتبارية بمقتضى نص القانون.
1-2 حقوق الشخص الاعتباري.
المادة 24 (1) الشخص الاعتباري يتمتع بجميع الحقوق إلا ما كان منها ملازماً لصفة الإنسان الطبيعية، وذلك في الحدود التي قررها القانون.
(2) دون المساس بعمومية نص البند (1) أعلاه يكون للشخص الاعتباري:
أ- ذمة مالية مستقله.
ب- أهلية في الحدود التي يعينها سند إنشائه، أو التي يقرها القانون.
ج- حق التقاضي.
د- مواطن مستقل، ويعتبر موطنه المكان الذي يوجد فيه مركز إدارته، والشخص الاعتباري الذي يكون الذي يكون مركزه الرئيسي في الخارج وله نشاط في السودان يعتبر مركز إدارته بالنسبة للقانون الداخلي المكان الذي توجد فيه الإدارة المحلية.
(3) يكون له من يمثله وفقاً لأحكام القوانين الحاصة.(2)
1-2 المادة (17) فيها اعتراف صريح من القانون السوداني بالشخصيات الاعتبارية.
والمادة (23) حددت الشخصيات الاعتبارية وحصرها في ست، والعنوان المطلوب الحديث عنه هو زكاة الشخصية الاعتبارية، فهل المطلوب مني الحديث عن زكاة كل الشخصيات الاعتبارية التي ذكرها القانون، أم الحديث عن شخصية معينة من هذه الشخصيات الاعتبارية ؟
الذي ظهر لي من الموضوعات الفرعية المطلوب الحديث عنها أن المطلوب مني الحديث عن الشركات التجارية باعتبارها شخصيات اعتبارية، ولهذا ساحصر حديثي عنها.
1-4 المادة (24) بينت حقوق الشخص الاعتباري، فأعطي البند (1) الشخص الاعتباري جميع الحقوق التي للشخص الطبيعي إلا ما كان منهاملازما لصفة الإنسان الطبيعية.
ثم جاء البند (2) فخص أربعة حقوق بالذكر.
ونص البند (3) على وجوب أن يكون للشخص الاعتباري من يمثله وفقاً لأحكام القوانين الخاصة.
وكل ما جاء في هذه المادة يطبق على الشركات التجارية (شركات المساهمة) المطلوب بيان زكاتها.
ولا أرى في هذه المواد الي بينت المراد من الشخصية الاعتبارية وحقوقها خصائصها ما يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية.
2- مشروعية دخول الشخصية الاعتبارية (شركة المساهمة) في الخطاب التكليفي:
3- الحديث عن هذا الموضوع يتطلب الحديث عن الحكم الشرعي في علم أصول الفقه، وبخاصة عن المحكوم عليه.
عرف الأصوليون الحكم الشرعي بأنه خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين طلباً، أو تخييراً، أو وضعاً، واصطلحوا على تسمية الحكم المتعلق بفعل المكلف على وجهة الطلب أو التخيير بالحكم التكليفي وعلى تسمية الحكم المتعلق بفعل المكلف على جهة الوضع بالحكم الوضعي، فالحكم الشرعي على هذا نوعان
أ- حكم تكليفي وهو ما اقتضى طلب فعل من المكلف، أو كفه عنه أو تخييره بين فعله وتركه.
ب- حكم وضعي وهو ما اقتضى وضع شئ سبباً لشئ أو شرطاً له، أو مانعاً منه.
والذي يهمنا الحديث عنه هو الحكم التكليفي، وما يشترط في المكوم عليه المكلف – لصحة تكليفه شرعاً:
يشترط في المكلف لصحة تكليفه شرعاً شرطان:(/1)
الأول: القدرة على فهم دليل التكليف، وهذه القدرة تتحقق بالعقل، ولكن لما كان العقل أمراً خفياً لا يدرك بالحس الظاهر ربط الشارع التكليف بأمر ظاهر يدرك بالحس هو مظنة العقل وهو البلوغ، وعلى هذا فلا يكلف الصبي ولا المجنون، وإيجاب الزكاة والنفقة والضمان عليها، ليس تكليفاً لهما، وإنما هو تكليف للولى عليهما بأداء الحق المالي المستحق في مالهما.
الثاني: أن يكون المكلف أهلاً لما كلف به.
الأهلية في اصطلاح الأصوليين قسمان: أهلية وجوب، وأهلية أداء
(1) أهلية الوجوب: هي صلاحية الإنسان لأن تثبت له حقوق وتجب عليه واجبات، أو بعبارة أخرى، أهلية الإنسان لأن يطالب ويُطلب، سواء كان بنفسه أم بواسطة من له الولاية عليه.
ومناط هذه الأهلية الحياة فتثبت لكل إنسان حي منذ ولادته إلى موته سواء أكان صغيراً، أم كبيراً، عاقلاً أم مجنوناً، وهذه هي أهلية الوجوب الكاملة، وقد نكون أهلية الوجوب ناقصة، وذلك في حالة الجنين في بطن أمه فانه تثبت له بعض الحقوق كالميراث، ولكنه لا تثبت عليه حقوق.
وأهلية الوجوب هذه أثر من آثار الذمة لا توجد إلا حيث توجد الذمة، لأن الذمة هي وصف شرعي اعتباري يصير به الإنسان أهلاً للوجوب له وللوجوب عليه.
(2) أهلية الأداء: هي صلاحية المكلف لأن تعتبر شرعا أقواله وأفعاله بحيث إذا صدر منه عقد أو تصرف كان معتبراً شرعاً وترتبت عليه أحكامه، ومناط أهلية الأداء ثبوت العقل والتمييز، فغير المميز وهو الطفل والمجنون، يكون معدوم الأهلية، والمميز الذي لم يبلغ الحلم يكون ناقص الأهلية، ومن بلغ الحلم عاقلاً يكون كامل الأهلية(3)
واضح من هذا البيان أن مباحث الحكم التكليفي كلها تتعلق بالإنسان وأن أهلية الأداء لا يمكن أن تتحقق في غير الإنسان، ولو كانت ناقصة، وعلى هذا فإنها تكون معدومة بالنسبة للشخص الاعتباري- شركات المساهمة- وهذا لا نزاع فيه.
أما أهلية الوجوب التي تعتمد على وجود الذمة فقد اختلف الفقهاء في ثبوتها لغير الإنسان: فبعضهم لا يثبتها لغير الإنسان، فالحيوان وما لا حياة له ليس أهلاً لأن يملك، ولاذمة له عندهم، وأثبتها بعضهم لغير الإنسان واستدلوا لرأيهم بالأحكام الثابتة للوقف والمسجد وبيت المال التي تقتضي أن لهذه الجهات حقوقاً قبل غيرها، وعليها واجبات مالية يقوم بها من يتولى أمرها. من ذلك أنه يجوز لناظر الوقف أن يستدين على الوقف، وأن يستأجر له من يقوم بعمارته، فيكون ما يستدينه وما يستحقه الأجير ديناً على الوقف، يطالب به الوقف من غلته، وإذا أجرت أعيان الوقف كانت الأجرة ديناً للوقف في ذمة المستأجر، ومن ذلك وجوب النفقة على بيت المال للفقير الذي ليس له قريب تجب نفقته عليه، ومن ذلك أيضاً جواز الهبة للمسجد ويقبلها الناظر نيابة عنه.
واستدلوا أيضاً بأنه ليس في القرآن ولا في السنة ما يمنع من أن تفرض الذمة لغير الإنسان من الشركات والمؤسسات المالية على نحو يناسب هذه الجهات.(4)
وقد أخذ القانون المدني الأردني وقانون المعاملات المدنية لسنة 1984 (السوداني) بهذا الرأي فجعل للشخص الاعتباري ذمة مالية مستقله. وجعل له من يمثله في المادة 24(2)و(3).
نخلص من هذا إلى أن الشخصية الاعتبارية (شركات المساهمة) لا تثبت لها أهلية الأداء، وتثبت لها أهلية الوجوب بالقدر الذي يناسبها.
وبناء على هذا فإن الشخصية الاعتبارية لا تدخل في خطاب التكليف
(3) الشخصية الاعتبارية في قانون الزكاة لسنة 1990م.
الفصل الثاني
وجوب الزكاة
المادة 14 (1) تجب الزكاة على كل شخص:
أ- سوداني مسلم يملك داخل السودان أو خارجه مالاً تجب فيه الزكاة مع مراعاة عدم الازدواج في دفع الزكاة.
ب- غير سوداني مسلم يعمل في السودان أو يقيم فيه ويملك مالاً في السودان تجب فيه الزكاة، مالم يكن ملزماً بموجب قانون بلده بدفع الزكاة، ودفعها فعلاً.
(2) تشمل كلمة شخص الوارد في البند (1) الأشخاص الاعتبارية على أن لا يخضع مال غير المسلمين من الأشخاص الاعتبارية للزكاة.
الشروط العامة لوجوب الزكاة
المادة 5 (1) يشترط لوجوب الزكاة أن:
أ- يكون الشخص مالكاً للنصاب الشرعي، ولو تغيرت صفة المال خلال الحول.
(2) إذا تعدد الملاك أو اختلط الملك بحيث يجوز اعتباره ملكا واحداً فتجب الزكاة في المال مجتمعاً إذا بلغ النصاب.
(3) تطبق أحكام البند (2) على وجه الخصوص على الشركات والشراكات، والملكية الشائعة، وملكية الأسرة.
سوى القانون بين الشخص الطبيعي والشخص الاعتبارى بالنسبة للزكاة فأوجبها على الشخص الطبيعي كما أوجبها على الشخص الاعتباري.(/2)
الشخص الطبيعي الذي تجب عليه الزكاة قد يكون صغيراً، وقد يكون كبيراً بالغاً، عاقلاً أو مجنوناً، وهذا هو رأي جمهور الفقهاء بالنسبة لوجوب الزكاة على الطفل والمجنون، ولا إشكال في إيجاب الزكاة على البالغ العاقل لأنه من أهل التكليف، وله أهلية أداء كاملة، وإنما الإشكال في وجوب الزكاة على الصغير، وقد تقدم الجواب عنه بأن الزكاة واجبة في ماله، والمخاطب الواجب عليه إخراجها هو الولي على الصغير.
هذا بالنسبة للشخص الطبيعي فكيف يكون الحال بالنسبة للشخص الاعتباري الذي سوى القانون بينه وبين الشخص الطبيعي؟ هل تكون التسوية بينه وبين الشخص الطبيعي، الإنسان البالغ العاقل، أم بينه وبين الإنسان الصبي أو المجنون؟
لقد تبين فيما تقدم أن الشخصية الاعتبارية ( شركات المساهمة) ليست أهلاً للتكليف، وعلى هذا فلا يمكن التسوية بينها وبين الإنسان البالغ العاقل، فيتعين التسوية بينها وبين الصبي في وجوب الزكاة.
يشترط لوجوب الزكاة على الشخص أن يكون مالكاً للنصاب الشرعي، فالصبي لا تجب عليه الزكاة إلا إذا كان مالكاً للنصاب، فهل يتحقق هذا الشرط في الشخصيةالاعتبارية (شركة المساهمة)؟ هل تملك الشركة الأموال التي دفعها المساهمون؟
يقول فقهاء القانون التجاري نعم، فإذا صح قولهم هذا فإن الزكاة تجب على الشركة في مالها كما تجب الزكاة على الصغير في ماله، ويجب على إدارة الشركة إخراجها كما يجب على الولي إخراج زكاة مال الصغير.
هل يقبل الفقه الإسلامي ما يقول رجال القانون ؟
الفقه الإسلامي يقبل الشخصية الاعتبارية من حيث المبدأ، ولكنه لا يقبل كل الأحكام التي يقررها القانون للشخصية الاعتبارية، ومن الأحكام التي يرفضها الفقه الإسلامي ما يقرره القانون من أن الأموال التي يكتتب بها المساهمون تكون ملكاً للشركة، أي أن السهم يخرج من ملك المساهم، ويدخل في ملك الشركة بمجرد مساهمته في الشركة.
هذا القول غير مقبول شرعاً وعملاً :
غير مقبول شرعاً : لأن السهم في الشركة يمثل حصة شائعة في موجودات الشركة مملوكة للمساهم ولا يوجد سبب من أسباب نقل الملكية بنقله إلى الشركة.
وغير مقبول عملاً، لأن:
أ - المعمول به أن المساهم يتصرف في سهمه بالبيع، وهذا دليل بقائه في ملكه،
ب - المساهم يستحق ربح أسهمه سنوياً وتتحمل خسارتها، وهذا أيضاً دليل بقائها في ملكه.
ج- الشركة إذا صفيت يستحق المساهم في موجوداتها بنسبة اسهمه في الشركة فبأي سبب ينتقل الملك إليه إذا كانت هذه الموجودات مملوكه للشركة ؟
وهناك شرط آخر لوجوب الزكاة على الشخص غير شرط كونه مالكاً للمال هو شرط كونه مسلماً، وقد نص عليه القانون الذي أوجب الزكاة على الشخص الطبيعي والشخص الاعتباري على السواء. وتحقق هذا الشرط في الشخص الطبيعي واضح، ولكن كيف يحقق في الشخص الاعتباري – شركات المساهمة - ؟
الشخص الاعتباري لا يمكن أن يوصف بكونه مسلماً، أو غير مسلم: لأنا قد بينا أنه ليس أهلاً للتكليف، وليست له أهلية أداء مطلقاً، وعلى هذا فلا يمكن أن تجب عليه الزكاة لعدم تحقق شرط الإسلام.
إن الفهم الصحيح لهاتين المادتين يؤدي إلى عدم وجوب الزكاة على الشخصية الاعتبارية – شركات المساهمة – وهو عكس ما قصده واضع القانون.
ثم إنا لو أخذنا بالرأي القائل بوجوب الزكاة على الشخص الاعتباري – شركة المساهمة – فإنه يترتب عليه عدم إخراج الزكاة في أكثر البلاد الإسلامية : لأن هذه البلاد لا تلزم الشركات بإخراج الزكاة، والمساهمون لا يخرجونها لأنها ليست واجبة عليهم، وإنما هي واجبة على الشخصية الاعتبارية – شركة المساهمة - !
رأي القائلين بوجوب الزكاة على الشركة.
يرى بعض الذين كتبوا في هذا الموضوع أن الزكاة تجب على الشركة بصفتها شخصية اعتبارية ولا تجب على المساهمين.
من هؤلاء الدكتور شوقي اسماعيل شحاته حيث يقول عند كلامه عن زكاة الأسهم :
والسؤال الذي الذي نطرحه للإجابة عليه هو هل تجب الزكاة على الشركات المساهمة وتربط على مال الشركة المساهمة، أم تجب على حملة الأسهم بصفتهم الشخصية وفقاً لما يمتلكونه منها(/3)
في رأيي الذي سبقت الإشارة إليه أنه لما كانت الشركة المساهمة لها شخصية اعتبارية مستقله، وبناء على أن الزكاة تكليف متعلق بالمال نفسه فإنها تجب على الشخص الاعتباري حيث لا يشترط التكليف الديني، واساسه البلوغ والعقل، وقياساًعلى زكاة الماشية، وأن الخلطة فيها قد خصت بخصوصية تراجع الخلطاء فيما بينهم بالسوية على التفصيل الذي سبقت الإشارة إليه، وأن الشركة في الماشية هي شركة أموال بالمفهوم المعاصر، وليست شركة أشخاص، وأن الشركة في الماشية تكون على وجه المخالطة – لا الملك – ومؤداها أن الزكاة تجب في مال الشركة المجتمع ككل، وليس في مال كل شريك على حدة وعلى انفراد فنكون بذلك قد عالجنا زكاتهامعالجة شركات الأشخاص التي تربط عليهم الزكاة منفردين، ولا معنى على هذه الصورة لتلك الخصوصية التي حصلت بها زكاة الماشية التي قسنا عليها زكاة الشركات المساهمة تأسيسا على أن الشركة في الماشية هي شركة أموال – كالشركة المساهمة – بمفهوم عالمنا المعاصر.
وعلى هذا القول لا يعفى من زكاة الأسهم في الشركات المساهمة أحد من المساهمين، ولو كانت حصته سهماً واحداً، وتؤدى الزكاة من صافي مال الشركة المساهمة النامي ونمائه بسعر 2.5% ربع العشر
يرى الدكتور شوقي أن زكاة الأسهم في الشركات المساهمة تجب على الشركة،
ويستدل لرأيه بالآتي:
أ- الشركة المساهمة لها شخصية اعتبارية مستقلة.
ب- الزكاة تكليف متعلق بالمال نفسه.
ج- لا يشترط في المكلف بالزكاة التكليف الديني الذي أساسه البلوغ والعقل.
د- القياس على زكاة الماشية – الخلطة –
أوافق الدكتور شوقي على ثلاثة الأدلة الأولى، وعلى أن الشركة المساهمة يمكن أن تجب عليها الزكاة قياسياً على وجوب الزكاة على الصبي، ولكن هناك شرط هام لوجوب الزكاة على الشخص لم يتعرض لم يتعرض له الدكتور شوقي هو أن يكون الشخص مالكا للنصاب الشرعي ملكاً تاماً، فالصبي تجب عليه الزكاة في ماله المملوك له فمن المالك لموجودات الشركة؟ المساهمون أم الشركة؟
لم يتطرق الدكتور لهذا، وحديثه عن زكاة الماشية، وما يترتب على الخلطة يدل على أن الأسهم في شركات المساهمة مملوكة للمساهمين، وليست مملوكة للشركة ؛ لأن الأسهم لو كانت مملوكة للشركة فإن الحديث عن الخلطة لا يكون له محل ؛ لأن المالك يكون واحداً هو الشركة، ولا مكان للخلط، والواقع أن استدلال الدكتور شوقي على وجوب الزكاة على الشركة قياسياً على زكاة الماشية غير مفهوم، لأن الشركة إذا كانت تخرج الزكاة
أصلاً عن نفسها، لأنها مالكة للأسهم فإن الخلطة لا تتحقق كما تقدم، وإنما تتحقق الخلطة ونحتاج إلى بيان الحكم فيها إذا كانت الزكاة واجبة على المساهمين، والشركة تخرجها نيابة عنهم.
ويتفق الدكتور أحمد مجذوب أحمد مع الدكتور شوقي في أن الزكاة تجب على الشركة المساهمة لا على المساهمين وذلك حيث يقول: والذي أراه وأؤيده أن تكون الزكاة على الشركة كشخص اعتباري، وتكون هي المسئولة عن إخراج الزكاة عن الأموال التي تحت يدها، وذلك للآتي: ويذكر الأدلة التي ذكرها الكتور شوقي؛ ويسهب في الحديث عن الخلطة، ويضيف إلى الأدلة مصلحة للفقراء.
ولكن الدكتور أحمد مجذوب يكتب بعد فراغه من ذكر الأدلة مباشرة ما ينقض رأيه في وجوب الزكاة على الشركة، وهذا نص ما كتبه:
حكم زكاة الأسهم المعدة للاقتناء بغرض النماء والاستثمار طويل الأجل
هذه الأسهم كما ذكرنا تمثل مصدراً إيرادياً لمالكها، ولا يستهدف المتاجرة بها وتمثل حصة في رأس مال شركة قائمة، ووفق الترجيح الذي اخترته فإن الشركة تخرج الزكاة نيابة عن مالك السهم، وفي حالة عدم التزام الشركة بذلك، أي لأن نظامها الإسلامي يمنعه، أو نظام الدولة يقضي بذلك، أو لعدم موافقة المساهم عليه ابتداءً فإن ملك الأسهم يخرج الزكاة من الريع (5)
هذا كلام صريح في أن المساهم هو المالك للأسهم، وان الشركة تخرج الزكاة نيابة عنه، وليس للشركة أن تخرج زكاة أسهمه إذا لم يوافق على ذلك، وهذا هو الرأي الصواب الذي يجب الأخذ به.(6)
3- هل يجوز شغل الذمة الحقيقة بزكاة الشخصية الاعتبارية:
يبدو أن واضع هذا السؤال ممن يرون وجوب الزكاة على الشخصية الاعتبارية أصالة وتعلقها بذمتها الحكمية، وهو يسأل هل يجوز نقل هذا الوجوب من الشخصية الاعتبارية إلى الشخص الطبيعي – المساهم – وتعلقها بذمته الحقيقة؟
هذا السؤال مبني على حكم خاطئ هو وجوب الزكاة على الشخصية الاعتبارية،ولو سلمنا بصحة الحكم جدلاً، فإن الجواب هو: لا يجوز، لأن الزكاة إذا وجبت على شخص، وثبتت في ذمتة سواء أكان الشخص حقيقياً أم اعتبارياً، لا يمكن أن تنتقل من ذمته إلى ذمة شخص آخر. ولكن يمكن لمن تعلقت الزكاة بذمته أن يوكل شخصاً آخر حقيقياً أو اعتبارياً بإخراج الزكاة نيابة عنه والله أعلم.
4- أثر الأشخاص الحقيقيين في وجوب الزكاة على الشخصية الاعتبارية (مساهمو يدينون بأديان مختلفة).(/4)
هذا السؤال كسابقه مبني على أن الزكاة واجبة على الشخصية الاعتبارية، والجواب على هذا الاعتبار هو:
لا أثر للأشخاص الحقيقيين على وجوب الزكاة على الشخصية الاعتبارية لأن الشخصية الاعتبارية تجب عليها الزكاة باعتبارها شخصية منفصلة عن الأشخاص الحقيقيين – المساهمين – فإذا كانت الشركة مسلمة تجب عليها الزكاة ولو كان جميع المساهمين غير مسلمين، وإذا كانت الشركة غير مسلمة لا يجب عليها الزكاة، ولو كان جميع المساهمين مسلمين، هذا هو الحكم الشرعي الذي يترتب على الحكم الخاطئ بوجوب الزكاة على الشخصية الاعتبارية – شركة المساهمة – أصالة. والله أعلم.
5-إذا أفلست الشخصية الاعتبارية ولم تزك لسنوات مضت قبل إفلاسها فما الحكم ؟
هذا السؤال يمكن الجواب عنه على الرأيين ؛ الرأي الخاطئ الذي يجعل الزكاة واجبة على الشخصية الاعتباريةـ الشركة ـ أصالة، والرأي الصائب الذي يجعل الزكاة واجبة على المساهمين وتخرجها الشركة ( الشخصية الاعتبارية) نيابة عنهم.
فعلى الرأي الأول تكون الزكاة ديناً من الديون التي على الشخصية الاعتبارية (الشركة) وقد نصت المادة (53) من قانون الزكاة لسنة 1990م على أن يكون لأموال الزكاة امتياز على كل مال آخر للمدين بها.(7)
وإذا لم يكن للشخصية الاعتبارية مال فلا يطالب المساهمون بدين الزكاة، لأنه متعلق بذمة الشخصية الاعتبارية لا بذممهم، ويطالب به المسئولون عن الشخصية الاعتبارية إذا ثبت تقصيرهم في أداء الزكاة إلى أن أفلست الشركة.
وعلى الرأي الثاني القائل بوجوب الزكاة على المساهمين، وتخرجها الشركة نيابة عنهم، فإن إفلاس الشركة لا يعفي المساهمين من الزكاة التي وجبت عليهم، ولم تخرجها الشركة إلى أن أفلست، ويجب عليهم أداؤها من أموالهم الأخرى والله أعلم.
6- الشخصيات الاعتبارية التي نشأت بقوانين خاصة هل يحكمها قانون الزكاة ؟
المادة (4) من قانون الزكاة لسنة 1990م التي أوجبت الزكاة على الأشخاص الاعتبارية لم تستثن سوى مال غير المسلمين من الأشخاص الاعتبارية(8) ، والشروط العامة لوجوب الزكاة الواردة في المادة (5) إذا تحققت في شخصية اعتبارية يجب عليها إخراج الزكاة، سواء نشأت بقانون خاص أو غير خاص(9) ، والمادة (24) التي بينت الأموال التي لا تجب فيها الزكاة لم يذكر منها أموال الشخصيات الاعتبارية التي نشأت بقوانين خاصة. (10)
وعلى هذا فإن قانون الزكاة لسنة 1990م يحكم الشخصيات الاعتبارية التي نشأت بقوانين خاصة ما لم يوجد نص خاص يستثني شخصية من هذه الشخصيات الاعتبارية. – والله أعلم.
7- أموال الشخصية الاعتبارية (متعددة الجنسيات) ومدى مشروعية دخولها في وعاء الزكاة.
السؤال غير مفهوم لي، وجوابي عنه : لا أدري.
الخلاصة
إن موضوعات هذه الورقة تدور حول إمكانية وجوب الزكاة على الشخصية الاعتبارية – شركات المساهمة – ولا يمكن وجوب الزكاة على شخص إلا إذا كان مسلماً مالكاً للنصاب بشروطه، ولا سبيل إلى تجريد المساهمين من أموالهم التي ساهموا بها وتمليكها للشخصية الاعتبارية – الشركة – بل إن الواقع يشهد أن الشركة نفسها مملوكة للمساهمين، فكيف يعقل أن تكون الأسهم مملوكة لغير المساهمين
والله الموفق والهادي إلي الصراط المستقيم.
ملحق
الشخصية الاعتبارية في قانون الزكاة لسنة 2001م
اطلعت بعد كتابة البحث على قانون الزكاة لسنة 2001م الصادر في يونيو سنة 2001م، الذي ألغى قانون الزكاة لسنة 1990م، فكان لزاماً علي أن أتبع البحث بهذا الملحق:
أدخل هذا القانون تعديلاً في قانون الزكاة لسنة 1990م يتعلق بموضوعنا، فقد عدلت عبارة:
تجب الزكاة على كل شخص: الواردة في المادة 14 (1) من قانون الزكاة لسنة 1990م إلى:
تؤخذ الزكاة على كل شخص: الواردة في المادة 16 من قانون الزكاة لسنة2001م.
فما مدلول هذا التعديل؛ هل هو رجوع عن الحكم الذي في قانون 1990بوجوب الزكاة على الشخصية الاعتبارية ؟
إن هذا التعديل باستبدال الكلمة تؤخذ بكلمة تجب لا يغير من الحكم شيئاً فكل ما قلته عن المادة 14 في قانون الزكاة لسنة 1990م، ينطبق على المادة 16 من قانون الزكاة لسنة 2001م، لأن عنوان المادة 16 هو نفس عنوان المادة 14 – وجوب الزكاة – وكلمة "تؤخذ" تؤول إلى "يجب" لأنها إلى بيان الأساس والصفة التي تؤخذ بها الزكاة من الشخص، سواء كان طبيعياً أم معنوياً، والأساس الذي تؤخذ به الزكاة من الشخص الطبيعي هو الوجوب غير شك، ولا وجوب الزكاة عليه ما أخذت منه، والقانون سوى في هذه المادة بين الشخص الطبيعي والشخص الاعتباري.
ان التسوية بين الشخص الطبيعي والشخص الاعتباري بالنسبة للزكاة وإعطاءهما حكماً واحداً مستحيل، ولابد من مادة منفصلة لكل منهما ينص في المادة الخاصة بالشخصية الاعتبارية – شركات المساهمة – على أن الزكاة تجب على المساهم، وأن الشركة تخرجها نيابة عنه، فيكون الواجب على الشركة إخراج زكاة الأسهم نيابة عن مالكيها، وليس أصالة عن نفسها.
والله أعلم
----------(/5)
1 ويقال أيضاً:الشخصية الحكمية، والشخصية القانونية،والشخصية الافتراضية،وكل هذه التسميات مقابل الشخصية الحقيقية (الإنسان).
2 هذه المواد مأخوذة من القانون المدني الأردني (المادة(50)و(51) وأشارت المذكرات الإيضاحات للقانون المدني الأردني إلى أن المادة 50 تطابق المادة (54) سوري، وتقابل المادة (47) عراقي و (52) مصري والمادة 51 تطابق المادة (55) سوري و (52) مصري، وتقابل المادة (48) عراقي.
3 انظر علم أصول الفقه للأستاذ عبد الوهاب خلاف 100-104 و134-138، الطبعة العشرون-وأحكام المعاملات الشرعية للأستاذ على الخفيف 273-187 الطبعة الثالثة.
4 انظر الشركات في الفقه الإسلامي للأستاذ على الخفيف 24-36 والشخصية الاعتبارية في الفقه الإسلامي للدكتور أحمد علي عبد الله 236و244-248.
5 زكاة أسهم الشركات ص 15 بحث مقدم للندوة الحادية عشرة لقضايا الزكاة المعاصرة.
6 انظر قرار مجمع الفقه الإسلامي العالمي بجده المنشور في مجلة المجمع العدد الابع ج1 ص881، وبحوث زكاة الأسهم في الشركات المنشورة في نفس العدد ص703-826 ومنه بحث الدكتور الصديق محمد الأمين اضرير ص 757.
7 هذا هو نص المادة (51) من قانون الزكاة لسنة 2001م مع حذف بها.
8 حذفت الفقرة الخاصة بهذا الاستثناء من قانون الزكاة لسنة 2001م (المادة (16)).
9 المادة (5) من قانون الزكاة لسنة 1990م تقابلها المادة (17) من قانون الزكاة لسنة 2001م.
10 المادة (24) من قانون الزكاة لسنة 1990م تقابلها المادة (37) من قانون الزكاة لسنة 2001م(/6)
زهد الفقير
فؤاد المنشاوي
زهد الفقير لقلة في iiالزاد
لو كان زهد الزاهدين iiلقلة
فالزهد مَنْ زَهِدَ الحياةَ iiوعنده
زَهِدَ الحياةَ فباعها في iiصفقة
ومرابطٌ سد الثور iiبِصِفَّةٍ
* * ii*
وغلامه زهد الحياة iiفباعها
فإذا المدينة بعد موت iiغلامها
والكفر يُهْزَمُ والشهادة iiمنبرُ
والركب ماض والخلائق iiتبتلى
يحيا الشهيد وفي العطاء iiمفازةٌ
فاحرص أخيَّ على صحابة من يرى ... أم إنه من سنة iiالعباد؟
لوجدتنا في قمة iiالزهاد
من زينة الأموال iiوالأولاد
وبنانه مرهونة iiلزناد
متعلماً أو نافراً iiلجهاد
* * ii*
فدماؤه زُهْدُ بكل iiمكان
لُحْنُ يردد قصة الإيمان
يروي الفداء بأعذب iiالألحان
ولهيب أخدود مع iiالأزمان
ويموت ذو حِرْص على iiالأكفان
أن الحياة دقائق وثوانِ(/1)
زهرة أين داركِ غدا ؟
ها قد رأيتِ أخيتي القبر وهو روضة جنان للمؤمن، وقد رأيته أيضًا وهو حفرة نيران للفاجر ...
والآن .. بعد أن رأيتِ المصيرين؛ مصير المؤمن ومصير الفاجر، تعالي لتتوقي أسباب الغواية، ولتعرفي أسباب الهداية ...
طريق الهلاك ......
قال الإمام ابن القيم: [أما الأسباب التي يعذب بها أصحابها في القبور، فجوابها من وجهين؛ مجمل ومفصل.
أما المُجمل: فإنهم يُعذَّبون على جهلهم بالله، وإضاعتهم لأمره، وارتكابهم لمعاصيه، فلا يعذب الله روحًا عرفته وأحبته وامتثلت أمره، واجتنبت نهيه، ولا بدنًا كانت فيه أبدًا، فإن عذاب القبر وعذاب الآخرة أثر غضب الله وسخطه على عبده، فمن أغضب الله وأسخطه في هذه الدار، ثم لم يتب ومات على ذلك؛ كان له من عذاب البرزخ بقدر غضب الله وسخطه عليه، فمستقل ومستكثر، ومصدق ومكذب.
وأما الجواب المفصل: فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجلين اللذين رآهما يعذَّبان في قبورهما، يمشي أحدهما بالنميمة بين الناس، ويترك الآخر الاستبراء من البول ..... ]
فعذاب القبر من معاصي القلب، والعين والأذن، والفم واللسان، والبطن والفرج، واليد والرجل، والبدن كله.
زهرة ... هذا الهلاك فاحذري.
1- الشرك بالله والكفر به:
ومن أعظم أسباب عذاب القبر الإشراك بالله.
قال تعالى: 'وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ' [الأنعام: 93].
وذلك أن الكافر إذا احتُضر؛ بشَّرته الملائكة بالعذاب والنكال، والأغلال والسلاسل، والجحيم وغضب الرحمن الرحيم؛ فتفرق روحه في جسده وتأبى الخروج؛ فتضربهم الملائكة حتى تُخرج أرواحهم من أجسادهم، قائلين لهم: 'أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ' [الأنعام: 93].
2- الكذب:
ففي الحديث الذي رواه البخاري عن سمرة بن جندب t، والذي يصور مشاهد العذاب في القبر ... قال صلى الله عليه وسلم:
[[... فانطلقنا ، فأتينا على رجل مُستلق لقفاهُ، وإذا آخرُ قائمٌ عليه بكلوب من حديد، وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه فيشرشرُ شدقهُ إلى قفاهُ، ومنخره إلى قفاهُ، عينه إلى قفاهُ، ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعلُ به مثل ما فعل بالجانب الأول، فما يفرغُ من ذلك الجانب حتى يصح ذلك الجانبُ كما كان ثم يعودُ عليه فيفعل مثل ما فعل المرة الأولى .. ] الحديث
الكلوبُ: حديدة معوجة ينزع بها الشيء أو يعلق.
يُشرشِرُ: يقطع.
ثم جاء البيان في آخر الحديث بقول الملكين للرسول صلى الله عليه وسلم: [[ ... وأما الرجُل الذي أتيتَ عليه يُشرشرُ شدقهُ إلى قفاهُ، ومنخره إلى قفاهُ، وعينهُ إلى قفاهُ؛ فإنهُ الرجل يغدو من بيته، فيكذبُ الكذبة تبلغُ الآفاق ... ]] الحديث.
[3-4] هجر القرآن بعد تعلمه، والنوم عن الصلاة المكتوبة:
وفي نفس الحديث السابق يوضح لنا النبي صلى الله عليه وسلم مشهد عذاب القبر لمن هجر القرآن بعد تعلّمه، ولمن نام عن الصلاة المكتوبة ... قال صلى الله عليه وسلم: [[ ... وأنا أتينا على رجل مُضجع، وإذا آخر قائمُ عليه بصخرة، وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه؛ فيثلغُ رأسهُ، فيتدهدهُ الحجرُ ها هنا، فيتبعُ الحجر، فيأخذهُ فلا يرجعُ إليه حتى يصح رأسهُ كما كان، ثم يعودُ عليه فيفعل به مثل ما فعل المرة الأولى ! .... ]]
[يَثْلغَْ رأسهُ]: أي يشدخه ويشقه.
[يَتَدهْدَهُ]: أي يتدحرج، والمراد أنه دفعه من عُلوٍ إلى أسفل، وتدهده إذا انحط.
ثم جاء البيان في آخر الحديث بقول الملكين للرسول صلى الله عليه وسلم: [[ ... وأما الرجلُ الأول الذي أتيتَ عليه يُثلغُ رأسه بالحجر؛ فإنه الرجل يأخذُ القرآن فيرفضهُ، وينام عن الصلاة المكتوبة]].
وهجر القرآن يجمع الآمرين ترك القراءة وترك العمل.
أما النوم عن الصلاة المكتوبة، وترك صلاتها مع جماعة المسلمين، بل يثقل رأسه على الفراش؛ فجزاؤه أن يثُلغ ويرضخ هذا الرأس الذي هذا فعله وشأنه، وهكذا يُعذب إلى قيام الساعة، فقد جاء في بعض الروايات:
[[ ... فيفُعل به إلى يوم القيامة]].
[ 5-6 ]عدم الاستبراء من البول، والمشي بين الناس بالنميمة:
فعن ابن عباس t قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بحائط -أي بستان- من حيطان المدينة، فسمعَ صوت إنسانين يُعذبان في قبورهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [[إنهما ليُعذبان، وما يعُذبان في كبير]] ثم قال: [[بلى وإنهُ لكبير، كان أحدُهما لا يستتر من بوله]] وفي رواية: البول، [[وكان الآخر يمشي بالنميمة، ثم دعا بجريدة رطبة، فكسرها كسرتين، فوضع على كل قبر منهما كسرةً، فقيل له: يا رسول الله لِمَ فعلت هذا ؟ قال صلى الله عليه وسلم: [[لعلهُ أن يُخففَ عنه ما لم ييبسا]] متفق عليه.
7- الغيبة:(/1)
جاء في بعض روايات للحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [[وأما الآخر فيُعذَّب في الغيبة]]
وعن ميمونة مولاة النبي صلى الله عليه وسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: [[يا ميمونة، إن من أشد الناس عذاب القبر: من الغيبة والبول]] رواه ابن سعد بإسناد حسن .
وسبب تخصيص عذاب القبر من البول والغيبة والنميمة أنه:
8- إيذاء الناس باللسان:
ففي حديث أبي هريرة t في رواية ابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [[كان أحدهما لا يستتر من البول، وكان الآخر يؤذي الناس بلسانه، ويمشي بينهم بالنميمة]] صححه الحافظ في الفتح.
9- حبس الحيوان وتعذيبه:
قال صلى الله عليه وسلم: [[ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء]] صححه الألباني.
وفي حديث الكسوف الذي رواه مسلم عن جابر t: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [[ ... وعُرضت عليّ النار؛ فرأيت فيها امرأة من بني إسرائيل تُعذَّب في هرةٍ لها، ربطتها فلم تُطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض]]
10- الدّين:
وعن سعد بن الأطول صلى الله عليه وسلم: [أن أخاه مات وترك ثلاثمائة درهم، وترك عيالاً، قال: فأردت أن أنفقها على عياله ، قال: فقال لي نبي الله صلى الله عليه وسلم: [[إن أخاك محبوس بدَينه، فاذهب فاقض عنه]].
11- الإعراض عن ذكر الله:
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: 'فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً' [طه: 124] قال: [[عذاب القبر]]
وقال الإمام ابن القيم في الداء والدواء: وفُسرت المعيشة الضنك بعذاب القبر، ولا ريب أنه من المعيشة الضنك، والآية تتناول ما هو أعمّ منه.
والمقصود بالبكاء المذكور في الحديث الأول هو النياحة المذكورة في الحديث الثاني، وذلك لأن مجرد البكاء لا شيء فيه بالنسبة للميت وأهله؛ لأن البكاء رقة في القلب تظهر بوضوح عند الموت وفراق الأحبة ... ولقد بكى النبي صلى الله عليه وسلم عند موت ابنه إبراهيم، وعند موت بعض أصحابه رضي الله عنهم وعن إبراهيم.
12- أمر الناس بالبر ونسيان النفس:
وقال صلى الله عليه وسلم: [[رأيتُ ليلة أُسري بي رجالاً تُقرضُ شفاههم بمقاريض من نار ، فقلتُ من هؤلاء يا جبريل؟ فقال: الخُطباء من أمتكَ يأمرون الناس بالبر وينسون أنفُسهم، وهم يتلون الكتاب، أفلا يعقلون؟!]] رواه البيهقي وحسنه الألباني .
كيف السبيل إلى روضة المحبين ؟ ... طوق النجاة.
1ـ الإيمان والتقوى والعمل الصالح:
قال تعالى: 'فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً [2] وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا' [الطلاق: 2، 3]
فمن كان في الدنيا من الأتقياء؛ فإن الفرجَ والمخرج يكون له ثوابًا في قبره.
2- الاستقامة على طاعة الله جل وعلا:
قال الله تعالى: 'إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [13] أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ' [الأحقاف : 14]
فلقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أنه من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه، فمن مات على الطاعة مخلصًا لله، ومتبعًا لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه يموت على الطاعة وينور الله له قبره بتلك الطاعة ،بل ويصبح قبره روضة من رياض الجنة، جزاءً لكل لحظة عاشها في طاعة الله جل وعلا.
3- الشهادة في سبيل الله تعالى:
قال الشيخ الألباني: تُرجى الشهادة لمن سألها مخلصًا من قلبه، ولو لم يتيسر له الاستشهاد في المعركة، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: [[من سأل الله الشهادة بصدق، بلغُه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه]] [أخرجه مسلم].
4- قراءة سورة تبارك:
فلا تغفلي عنها أخيتي، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [[سورة تبارك هي المانعة من عذاب القبر]] صححه الألباني.
5- التوبة الصادقة عند النوم:
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في كتاب الروح، وهو يذكر أنفع الأسباب المنجية من عذاب القبر:
[ومن أنفعها أن يجلس الرجل عندما يريد النوم لله ساعة يحاسب نفسه فيها على ما خسره أو ربحه في يومه، ثم يجدد له توبة نصوحًا بينه وبين الله، فينام على تلك التوبة، ويعزم على أن لا يعود إلى الذنب إذا استيقظ، ويفعل هذا كل ليلة، فإذا مات في ليلته مات على توبة، وإن استيقظ مستقبلاً للعمل مسرورًا بتأخر أجله حتى يستقبل ربه ويستدرك ما فاته].
6- الدعاء:
ولا ينبغي أبدًا أن يغفل المسلم عن الدعاء، فالدعاء من أعظم أسباب النجاة في الدنيا والآخرة.(/2)
فعلينا أن نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العُليا وباسمه الأعظم، أن ينجينا من عذاب القبر [ونحن مُوقنون بالإجابة].
7- الاستعاذة بالله من عذاب القبر:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت علي امرأة من يهود المدينة، فذكرت عذاب القبر فقالت المرأة لعائشة: أعاذك الله من عذاب القبر، فلما خرجت اليهودية سألت عائشة النبي عن عذاب القبر فقال : [[نعم : عذاب القبر]] وفي رواية: [[عذاب القبر حق]] فقالت عائشة : [[فما رأيت النبي يصلي بعدها إلى ويستعيذ من عذاب القبر]] رواه البخاري.
فإذا كان هذا هذا هو الطريق إلى روضة الجنان ، وذاك هو الطريق إلى حفرة النيران، فاختاري لنفسك أخيتي.
ترى أيهما تسلكين؟(/3)
زهرة .... احذري
مفكرة الإسلام : بالطبع يتردد أخيتي بذهنك سؤال ومما الحذر ؟
الحذر من أمر هام قد غفلنا عنه وغفل عنه الكثير، فهل عرفتيه ؟؟
هلم فاسمعي قول النبي صلى الله عليه وسلم من حديث طويل.....
[[ ... والذي نفسي بيده إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ]] متفق عليه
ترى أخيتي على ماذا سيختم لنا ؟
كم خاف منها الصالحون:
فهذا سفيان الثوري رحمه الله كان كثير ما يرى باكياً ، فقيل له : أكل هذا من الذنوب ؟ فيقول: أخاف أن أسلب الإيمان عند الموت.
وهذا سيد التابعين مالك بن دينار رحمه الله يقوم لله تعالى في ثلث الليل الآخر ، وبعد أن ينهي صلاته لربه يمكث في مصلاه متفكراً ، قابضاً على لحيته ، ودموعه تسيل على خده وهو ويقول: يا رب مالك بن دينار ، قد علمت ساكن الجنة من ساكن النار ، فأي الدارين دار مالك ؟.
وما ربك بظلام للعبيد:
اعلمي أخيتي أن الله تعالى لا يظلم أحداً من خلقه بل إنه سبحانه دائماً رحيم بعباده ولكن من تموت على سوء خاتمة فتأكدي أنها هي التي قد ظلمت نفسها ، تريدين أن تعرفي كيف ؟ تأملي في حالها :
1- تجدينها قد طال أملها في الحياة ، وظنت أنها لن ترحل من الدنيا ، وغفلت عن ساعة الموت ، بينما يقول حبيبنا صلى الله عليه وسلم [[ كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ]] رواه البخاري
2- كم من فتاة قد ارتدت الحجاب ثم خلعته ، أو عزمت على ألا تعود إلى ارتكاب المحرمات ثم تعود وهي لا تدري أنها بذلك تحيد عن الطريق وتعدل عن الاستقامة ويمكن أن يختم لها بالمعصية ، وتأملي قوله تعالى:
[[ فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين ]] [ الصف: 15 ]
2- تعلق القلب بغير الله شقاء و هلكة فأي شيء تتعلقين به غير الله لابد وأن يشغل خاطرك ويسيطر عليك وتصبحي أسيرة له ، ومن كان أسيراً ، وعبداً لغير الله فهو ذليل ، ولن يخلو له بال أو يطمئن له قلب.... أنصتي لقوله تعالى: [[ الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب ]] [ الرعد : 38 ]
4- كم معصية يمكن أن تفعلها الفتاة وتظن أنها صغيرة , والصغيرة تجتمع مع الصغيرة ، حتى تجتمع الذنوب على القلب فيصبح أسودا ، يعلوه الران ، فذلك قوله تعالى [[ كلا بل ران قلوبهم ما كانوا يكسبون ]]
فما رأيك كيف سيختم لصاحبة هذا القلب الأسود ؟؟؟
5- سوف ... سوف ... سوف هي كلمة يعلو بها صراخ أكثر أهل النار
فهذه زهرة تؤجل التخلي عن المعصية ، وأخرى تؤجل في لبس الحجاب ، وثالثة تؤجل في البعد عن الاختلاط بالشباب ، حتى يمر العمر ، وتضيع فرصة التوبة عندما يحل الأجل دون سابق إنذار ، [[ فإذا جاء أجلهم فلا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون ]].
يا لها من علامات:
عندما يموت الإنسان على سوء الخاتمة عياذاً بالله ، تظهر له علامات تفضحه وتوضح سوء خاتمته عند الموت ، يقول الشيخ القحطاني وهو يحكي بعض ما رآه أثناء تغسيله للموتي: يكون الواحد منهم أبيض اللون ، وعندما أبدء في تغسيله أجده أصبح وكأنه فحمة سوداء وتخرج منه رائحة كأنه يشوى وعند الدفن تظهر علامات أخرى فها هو شاب كان تاركاً للصلاة ويسمع الأغاني عندما مات أرادوا أن يحفروا له قبراً فإذا بحية كبيرة تخرج من القبر ، فحفروا له آخر فإذا بتلك الحية تندفع من الأرض وتصل إليه فحفروا له ثالثاً فإذا بتلك الحية أيضاً , فلما أعياهم الجهد ويأسوا أن يخرجوا تلك الحية من القبر دفنوه معها فإذا بها تلتف عليه من أول رأسه حتى قدميه فأهالوا عليه التراب وهم يسمعون صوت تكسير عظامه.
ولا تزال هناك علامات حتى بعد الدفن فها هو رجل يخرج من بيته ماراً بطريق المقابر وإذا به يشاهد قبراً يتأجج ناراً فلم يصدق عينيه حتى ظن أنه نائم وعندما استيقن مما رآه سأل عن صاحب هذا القبر عرف أنه فلان الذي كان يأخذ الأموال بالربا من الناس .
وهذا آخر كان عمره 18 عاماً ، وكان وسيماً أسود البشرة مات في حادث وبعدما دفن بثلاث ساعات طلب الطبيب الشرعي إخراجه لتشريحه وذلك لوجود شبهة جنائية من ذلك الحادث وبالفعل تم إخراجه من قبره بعد ثلاث ساعات ، فإذا به قد شاب شعره وتغيرت ملامحه وغارت عيناه وأصبح لونه مثل الثلج وسال الدم من فمه وأنفه حتى كفنه قد مزق عليه فيا لها من علامات.
عبر لمن كان لها قلب:
وهذه عروس في فرح عرسها ، فقامت أحد المدعوات لتحييها ، وبدأت ترقص على الأغاني من بداية الليل واستمرت على حالها هذا عدة ساعات وهي تلبس ملابس الرقص [ كاسيات عاريات ] والعياذ بالله .
وقد استمرت في رقصها حتى سقطت مغشية عليها ، فوق ما يسمونه الكوشة قبل أن تأتي العروسة والعريس فأخذت الحاضرات يحاولن اسعافها ، ولكن بدون فائدة ....
فتقدمت إحدى زميلات هذه المدعوة إلى الكوشة فقالت أنا أعرف كيف تفيق ؟؟؟
فقط زيدوا من الموسيقى والطبل حول أذنيها فهي ستنتعش وتفيق .(/1)
فزادوا صوت الموسيقى حولها لعدة دقائق ولكن دون جدوى فكشف عليها بعض الحاضرات فوجدنها ميتة !!!!!!!! ؟
فأسرعت الحاضرات بتغطيتها ولكن حدثت المفاجأة التي لم يكن يتوقعها أحد ، انكشفت الجثة.
حيث لم تثبت عليها العبي التي غطت لها ، تتطاير العبي كلما حاولوا تغطيتها فترتفع من جهة وتنقلب مرة من جهة الصدر ومرة من جهة الفخذين ومرة من جهة الرأس والأرجل وهكذا.
فحضر زوجها مسرعاً وحاول تغطية عرضه بشماعة ولكن دون فائدة أيضاً والمفاجأة الثانية كانت بعد الغسل , فحدث نفس الشيء بالنسبة للكفن فكلما وضعوا الكفن عليها ارتفع وانكشف وحاولوا مراراً ولكن بدون جدوى.
فسأل أهلها أحد الأخيار ما الحل ؟
فقال: تدفن كما هي فدفنت على حالها ... عارية.
فتاة ترى مقعدها من النار:
في إحدى كليات البنات في منطقة ما ... كان أحد الأساتذة مسترسلاً في قصة ماشطة ابنت فرعون حين دعاها فرعون . فقال لها: يا فلانه أولك رب غيري ؟ قالت: نعم.
ربي وبك الله عز وجل الذي في السماء ، فأمر بقدر من نحاس فقالت : إن لي إليك حاجة .
قال: وما هي ؟ قالت: أن تجمع عظامي وعظام ولدي في ثوب واحد وتدفنا قال: ذلك لك علينا لما لك علينا من حق. فأمر بأولادها فألقوا في القدر بين يديها واحداً واحداً ، وهي ترى عظام أولادها طافية فوق الزيت ...
وتنظر صابرة إلى أن انتهي إلى صبي لها رضيع ، وكأنها تقاعست من أجله فقال الصبي: يا أمه اصبري فإنك على الحق واقتحمي فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ثم ألقيت مع ولدها ...
وظل الشيخ يذكر هذه المرأة المؤمنة وما لها من نعيم فلقد احتسبت أولادها الخمسة واحتملت حرق الزيت المغلي لها كل هذا في سبيل الله ثم بدأ يتحدث عن نعيم الجنة وما يقابله من عذاب النار فإذا بفتاة متبرجة تصرخ وتبكي وتسقط على الأرض صامتة فاجتمعت عليها الطالبات وهم ينادونها فلانه .. فلانه لم تجب بل شخصت ببصرها إلى السماء أيقنوا إنها ساعة الاحتضار
أخذوا يلقونها الشهادة ، قولي لا إله إلا الله . قولي لا إله إلا الله ، لا تجب وزاد شخوص بصرها ونظرت إليهم وقالت: أشهدكم أني أرى مقعدي من النار !!!!
أشهدكم أني أرى مقعدي من النار !!!!
أختاه ، ماذا لو كنت مكانها؟!
طريق النجاة:
أختاه تذكري أن عمرك واحد لن يتكرر وإذا ضاع بعضه ربما ضاع كله فتذكري حالك عند الخاتمة كيف يكون وماذا تختارين ، إن أردت النجاة فكوني حازمة مع نفسك وهيا نتعاهد :
1- سارعي بالتوبة ولا تسوفي وأقبلي على ربك واعلمي أنه ينتظر توبتك واسمعي قول النبي صلى الله عليه وسلم [[ لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره بعد أن أضلها في فلاة ]] فهنيئا لك بفرح ربك بك ، بعد أن تعودي إليه.
2- إياكِ أخيتي وصديقات السوء فهم كما قال عنهم الحبيب صلى الله عليه وسلم كنافخ الكير لن يصيبك منهن إلا الأذى.
3-حاسبي نفسك واعرفي ذنوبك وأقلعي عنها وتذكري لو جاءك ملك الموت وأنت على المعصية ماذا سيكون مصيرك ؟؟
4-حافظي على ذكر الله فهو حصن لك من الشيطان .
5-عليك بالدعاء أن يرزقك الله حسن الخاتمة ويعافيك من سوء الخاتمة
ولا تنسينا من صالح دعائك.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(/2)
زهور من حديقة التراث
وضوح السؤال
قال رجل لهشام ابن عمرو القرطي : كم تعد من السن؟ قال : اثنتين وثلاثين سنا ، ست عشرة من أعلى وست عشرة من أسفل . قال : لم أرد هذا . قال : كم لك من السنين ؟ قال : والله ما لي فيها شيء ، السنون كلها لله تعالى . قال : يا هذا ما سنك ؟ قال : عظم . قال : ابن كم أنت ؟ قال : ابن اثنين رجل وامرأة . قال : كم أتى عليك ؟ قال : لو أتى علي شيء لقتلني . قال : فكيف أقول ؟ قال : تقول : كم مضى من عمرك؟
أيام المتنبي
أجاب دمعي وما الداعي سوى iiطلل
دعا فلباه قبل الركب iiوالإبل
ظللت بين أصيحابي أكفكفه
وظل يسفح بين العذر iiوالعذل
أشكو النوى ولهم من عبرتي iiعجب
كذاك كانت وما أشكو سوى iiالكلل
وما صبابة مشتاق على iiأمل
من اللقاء كمشتاق بلا iiأمل
والهجر أقتل لي مما iiأراقبه
أنا الغريق فما خوفي من iiالبلل
قد ذقت شدة أيامي iiولذتها
فما حصلت على صاب ولا عسل(/1)
زواج البدل .. عربة في قطار أنواع الزواج
بشار دراغمة ومحمد جمال 24/5/1427
20/06/2006
صفحات من ظلم المرأة العربية. نجدها بحسرة في زوايا هذا الوطن الممتد على هامش كبير من الألم. عندما نكون في قرن يحمل الرقم (21) بينما لا تزال المرأة سلعة يهديها الأب أو الأخ لصديق، فيرد الصديق الجميل، ويقدم شقيقته أو ابنته دون أي حقوق شرعية تُذكر تحت اسم يُعرف مجازاً بـ"زواج البدل". تلك الحقوق التي حفظها ديننا الإسلامي الحنيف أضاعها الكثير منا بجهل وأحياناً بقصد.
ينتشر زواج البدل في العديد من البلدان العربية، وهنا في فلسطين، فهو ظاهرة لا زالت قائمة خاصة في المجتمع الريفي. وتتلخص قصته بأن يتزوج شخص ما من فتاة فيقوم هذا الشخص بتزويج أخته لأخ زوجته، وبذلك يتفق الاثنان على عدم دفع مهر المرأة. ويكتفيان بأن قدم كل منهما للآخر شقيقته كزوجة شرعية، دون أي حقوق في المهر الذي أوصى بها القرآن الكريم.
العائلية هي السبب
وتروي عائشة الأسباب التي دفعت عائلتها إلى تزويجها عن طريق زواج البدل بسبب العائلية والقرابة؛ إذ إن "والدي يؤمن بالعائلية أكثر من غيره؛ فقد تحدث مع عمي، واتفّقا على أن نتزوج دون مهر، ولا ذهب، وغير ذلك من الحقوق المشروعة في الزواج العادي، وكانت ابنة عمي "لطيفة" مقابلي في هذا الزواج".
مضيفة:" لم يستمر زواجنا سوى أربع سنوات، تبعتها المشاكل نتيجة خلاف حصل مع زوجة أخي أدى في النهاية إلى انفصالهما. نتيجة لخلافهما انفصلت عن زوجي، وحصل خلاف حادّ داخل العائلة بحيث بات الخصام والصدام واضحاً بين والدي وعمي.
زواج كله مشاكل
وتذكر سامية بأن تجربتها مع هذا النوع من الزواج سيئة لكثرة المشاكل التي تحصل معها؛ إذ لا تمر بضعة أسابيع دون حصول مشكلة معهم، لكثرة تدخل الأهل في حياتهم الخاصة داخل البيت، الذي لا تستطيع من خلاله الإحساس بنوع من الاستقلالية الحقيقية بحيث لا توجد حرية كاملة حتى في الحياة الخاصة بيني وبين زوجي، لان أهل زوجي ما زالوا يعيشون على نظام العائلة الممتدة، وكل شيء بيننا مشترك من الطعام على راتب زوجي الذي لا ننعم به أبداً.
مضيفة: "لا أنصح الفتيات بزواج البدل؛ لأنه عادة قديمةه يجب أن تتلاشى آثارها من مجتمعنا، بشكل ينتقص من حقوق المرأة المسلمة التي كفلتها لها الشريعة الإسلامية، من المهر والذهب والبيت والحياة المستقرة داخل العائلة، بعيداً عن تدخل أحد في حياة الأزواج الخاصة.
ومن جانبها ترى لطيفة الغزاوي متزوجة عبر زواج البدل قبل عشرين عاماً أن زواج البدل يمكن أن يكون ناجحاً إذا كان هناك تفاهم بين الزوج وزوجته، يحصل هذا من خلال منع الآخرين من التدخل في شؤون العائلة الداخلية، بهدف الحفاظ على الرباط الأسري، وحماية الأطفال، مع إعطاء الزوجة حقها الشرعي في المهر والمسكن وغيره. وتضيف: "والحمد لله استطعت أنا وزوجي الحفاظ على أسرتنا، وتربية أطفالنا حتى أصبحوا رجالاً في الجامعات، ولم تحصل معنا أي مشاكل صعبة، وفي حال حدوثها كنا نحلها داخلياً، وسراً، دون علم أحد من أهلنا، هكذا اتفقنا منذ البداية، حتى تكون حياتنا ناجحة".
وأضافت الغزاوي: مع كل هذا الأمر الذي أعيش فيه بسعادة، فإنني أحبذ أن يتم زواج الأبناء في هذه الأيام بعيداً عن زواج البدل، حتى لا تكون هناك مسوّغات لأحد في هدم أي أسرة نتيجة لحصول خلافات عائلية، ومشاكل بين الزوجين.
زواج مرفوض
ومن جانبها ترفض رانيا هذا النوع من الزواج على الرغم من أنها لم تتزوج بعد وتقول: بهذه الطريقة يتم الانتقاص من حقوق المرأة، وبالتالي تكون المشاكل الزوجية كثيرة، وأنا لن أقبل بزواج البدل أبداً، مهما كلف الأمر، وقد رأيت زميلتي في الجامعة تعاني من هذا الزواج، بعد إكراهها على الزواج من قريب لها، بالتالي لا يمكن أن تأخذ المرأة مهرها على الورق دون أن يكون مهراً حقيقياً، وفي أغلب الأحيان لا تحصل المرأة على حقوقها الشرعية المطلوبة في ذلك.
وتضيف: هذا الزواج يُعدّ بيعاً للمرأة وانتقاصاً من حقوقها الشرعية والقانونية، والتي كفلتها الشريعة الإسلامية، بحيث لا يمكن الانتقاص من تلك الحقوق المشروعة، ولا أحد يستطيع مصادرتها أبداً.
موقف الدين(/1)
وقال محمد فخر الدين أستاذ الشريعة الإسلامية: إن هذا النوع من الزواج مباح من الناحية الشرعية، لكن بشرط حفظ حق المرأة في المهر، إلا إذا استغنت هي عنه عن طيب خاطر، ودون أن تكون مجبرة على ذلك امتثالاً لقوله تعالى: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً). [النساء:3-4] أوضح "فخر الدين" أن سلبيات زواج البدل كثيرة جداً على الرغم من أن مقاصد الزواج تهدف إلى تقوية العلاقات الاجتماعية مع الناس، ولكن إذا كان هذا النوع من الزواج يؤدي إلى كثير من المشاكل بين العائلات، فإنه يفقد المقاصد الأساسية المتضمنة حماية الأسرة وعيشها بجو من الرحمة والسكينة. مضيفاً بأن زواج البدل نادراً ما ينجح لكثرة المشاكل التي تحصل بين الزوجين، ممّا يعكر الحياة الزوجية، وقد يؤدي في كثير من الأحيان إلى انهيارها، عبر الوصول إلى الطلاق؛ إذ يترك الزوجان خلفهما الأطفال دون حماية وإعالة حتى عاشوا مع والدهم أو والدتهم، تبقى المعضلة الأساسية في عدم تحقيق المقاصد الشرعية من هذا الزواج.
ويضيف "فخر الدين": "تتعرض المرأة في حال حصول خلاف مع زوجة أخيها إلى إجحاف حقيقي، وخصوصاً إذا كانت تعيش حياة مستقرة مع زوجها؛ إذ تصل تلك المشاكل إلى حد الطلاق، إذا لم ينجح الزواج في الطرف الآخر، وإذا حصل طلاق يتم بدون دفع مستحقات الزوجتين؛ لأنه يقوم على التبادل بحيث لا تأخذ كل منهما مهرها من خلال هذا النوع من الزواج.
لا يجوز ربط زوجة بأخرى
ويدعو الدكتور محمد شرف أخصائي علم الاجتماع والأسرة إلى فصل كل زيجة عن الأخرى، لأجل التعامل مع كل زوجه بمهر منفصل، لا أن يكون المهر على الورق دون تطبيقه على أرض الواقع، لوجود اتفاق بين أهل الأزواج، موضحاً: "لا يجوز بأي حال من الأحوال ربط أي زوجة بالأخرى، وبالتالي لا يحق ربط السابق باللاحق أي في حال حصول الطلاق يجب أن تحصل الزوجات المطلقات على حقوقهن كاملة".
ويذكر الدكتور شرف بأن زواج البدل له مفاهيم اجتماعية مختلفة تقوم في أساسها على تبادل الزوجات ويضيف: "وكانت هذه الظاهرة قديمة منذ عصر الجاهلية، بدأت في ذلك الوقت عن طريق عندما كان يبادل الأب ابنته ليتزوج هو امرأة مقابلها من العائلة التي يزوج ابنته لها".
ويختم قائلاً: "يتحمل مسؤولية إخفاق زواج البدل أكثر من طرف، وعلى رأسهم المحيطون بالأسرة من العائلة الممتدة حتى الأب والأم، وبطبيعة الحال سيعيش الأطفال بعيداً عن الأب والأم، وهذا بحد ذاته له تأثيرات سلبية على المجتمع بشكل عام(/2)
زواج بنية الطلاق !
الحمد لله على نعمائة ، و الصلاة و السلام على نبيه محمدٍ و آله ، و بعد ..
فإن عقد زواج الرجل الذي بيَّت نية تطليق زوجته إذا قضى منها وطراً ، بعد زمن محدد أو غير محدد من طرفه ، دون إشعار الزوجة بذلك ، و لا الاتفاق معها عليه ، عقد شرعي صحيح ، و إن تلبس بالحرمة بسبب ما فيه من كذب و غش و خداع و ظلم محرم .
و قد يستغرب البعض قولنا : إن العقد صحيح ، مع قولنا : إن فيه من الكذب و الغش و الخداع و الظلم المحرم ما يأثم صاحبه عليه ، و لا تبرأ ذمته منه إلا بتوبةٍ و إباحة .
و بيان ذلك : أن صحة العقد مترتبة على قيام أركانه و توفر شروطه ، و هي :
أولاً : الإيجاب و القبول من الطرفين ، و المقصود به اتفاق رغبتيهما على الزواج وفق ما بينهما من شروط ، و مهر مسمى .
ثانياً : موافقة ولي الزوجة ، و هو شرط عند جمهور العلماء .
ثالثاً : تسمية ( تحديد مقدار ) المهر المدفوع للزوجة ، أو الثابت لها في ذمة الزوج .
رابعاً : إعلان الزواج و إشهاره ، و أقل ما يتم الإعلان به إشهاد ذَوَيْ عدل على العقد .
فأيما عقد قران استوفى هذه الشروط فهو عقد صحيح ، و المراد بكونه صحيحاً أن تترتب عليه آثاره الشرعية ، و لا يخرجه عن الصحة ارتكاب أحد طرفيه أمراً محرماً كالغش و التغرير و نحو ذلك ، بل يظل العقد صحيحاً ، و يبوء الآثم بإثم ما اقترف .
و عليه فإن الرجل الذي تزوج مبيتاً نية التطليق ، و العزم عليه عاجلاً أو آجلاً تلزمه آثار عقد النكاح ديانةً و قضاءاً ، و من أهمها :
• إلحاق أبنائة من ذلك النكاح به نسباً .
• إلزامه بالنفقة و السكنى و سائر ما أوجبه عليه الشارع تجاه أبنائة ، و زوجته ما دامت في عصمته ، أو عدَّةِ طلاقها منه .
• لزوجته النفقة و عليها العدة إذا طلقها ، و لها مع ذلك حقها من إرثه إن مات قبل أن يطلقها .
و هذه الأمور و غيرها مما أوجبه الشارع الحكيم سبحانه لا تجب إلا من عقد صحيح ، و لا أعلم أحداً من أهل العلم لم يثبتها في زواج من بيَّت نية الطلاق قبل الزواج ، فلزِمَ أن يكون عقداً صحيحاً .
بل المعروف عن جمهور العلماء ( من أتباع المذاهب الأربعة و غيرهم ) رحمهم الله تعالى هو القول بصحة هذا النكاح فقد جاء في [ فتح القدير في الفقه الحنفي ، ص : 349 ] قول الكمال بن الهمام رحمه الله : ( لو تزوج المرأة و في نيته أن يقعد معها مدة نواها صحَّ ، لأن التوقيت إنما يكون باللفظ ) .
و قال الإمام الباجي المالكي رحمه الله [ في المنتقى بشرح موطأ الإمام مالك : 3 / 355 ] : ( من تزوج امرأةً لا يريد إمساكها ، إلا إنه يريد أن يستمتع بها مدةً ثم يفارقها ، فقد روى محمد عن مالك أن ذلك جائز ) .
أما عند الشافعية فقد جاء [ في حاشية الشبراملسي على شرح المنهاج : 6 / 210 ] : ( أما لو توافقا عليه قبل و لم يتعرضا له في العقد لم يضر لكن ينبغي كراهته ) و [ في نهاية المحتاج : 6 / 277 ]: ( خرج بذلك إضماره ، فلا يؤثر و إن تواتطآ قبل العقد عليه . نعم ، يُكره إذ كل ما لو صرح به أبطل يكون إضماره مكروهاً ، نص عليه ) .
و قال الإمام النووي رحمه الله: ( قال القاضي : و أجمعوا على أن من نكح نكاحاً مطلقاً و نيَّتُه أن لا يمكث معها إلا مدة نواها فنكاحه صحيح حلال ، و ليس نكاح متعة. و إنما نكاح المتعة ما وقع بالشرط المذكور. و لكن قال مالك : ليس هذا من أخلاق الناس . و شذ الأوزاعي ، فقال : هو نكاح متعة و لا خير فيه ) [ شرح صحيح مسلم : 9/182 ] .
و انظر نحو ذلك في [ الحاوي ، للماوردي : 9 / 333 ] و [ مغني المحتاج ، للشربيني : 3/183 ] .
و من الحنابلة قال محقق المذهب الإمام ابن قدامة المقدسي رحمه الله [ كما في المغني مع الشرح الكبير : 7 / 573 ] : ( و إن تزوجها بغير شرط، إلا أن في نيته طلاقها بعد شهر، أو إذا انقضت حاجته في هذا البلد فالنكاح صحيح في قول عامة أهل العلم ، إلا الأوزاعي قال : هو نكاح متعة . و الصحيح : أنه لا بأس به ، و لا تضر نيته ، و ليس على الرجل أن ينوي حبس امرأته ، و حسبه إن وافقته و إلا طلقها ) .
و قد أسهب في تحرير هذه المسألة ، و أطال النفس في الانتصار إلى ما ذهب إليه الجمهور من تصحيح نكاح من نوى الطلاق ما لم يشترطه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، فارجع إليه و انظره محتسباً [ في مجموع الفتاوى : 32 / 147 ] .
و لا يحسبن أحدٌ أننا إذ نفتي بصحة عقد الناكح يريد الطلاق أننا نحل نكاح المتعة ، أو ندعو لخفر الذمم ، و نقض العهود !
لا و الله ، و معاذ الله ، فنكاح المتعة ثبت تحريمه بما لا لبس فيه من نصوص السنة النبوية ، ثم انعقد إجماع أهل العلم على تحريمه ، فكان هذا كافياً في تحريمه ، و التحذير منه شرعاً ، أما الزواج بنية الطلاق فلا دليل على حرمته أصلاً ، و لا ذكر له – على التخصيص - في نصوص الشريعة المطهرة أساساً .
و لا يخفى ما بين نكاح المتعة و النكاح بنية الطلاق من فوارق من أبرزها :(/1)
• إن نكاح المتعة يتم بالاتفاق بين الزوجين ( على فرض صحة تسميتهما زوجين ) على الأجل المضروب بينهما للنكاح ، و تقع الفرقة بينهما بمجرد انقضاء الأجل ، أما الزواج بنية الطلاق فلا يفرق فيه بين الزوجين إلا بطلاق بائن و عدة واجبة .
• إن المرأة في نكاح المتعة لا حق لها سوى الأجر ( المسمى صداقاً ) ، بخلاف المتزوجة ممن ينوي طلاقها ، فلهذه الحق في الميراث و المتعة في العدة و سائر حقوق الزوجة على زوجها .
• عدة المطلقة من نكاح من يضمر نية الطلاق كعدة مثيلاتها من بنات جنسها ، أما في المتعة فللمرأة بعد انقضاء أجل متعتها عدة خاصة تخالف عدة المطلقة و من مات عنها زوجها من المسلمات .
• إن الزواج بنية الطلاق قابل للاستمرار و الديمومة إذا أراد الزوج ذلك ، و غير من نيته ، أما في المتعة فلا حق للزوج في الاستمرار مع زوجته ، و لا حق لها في ذلك بعد انقضاء الأجل المضروب بينهما ، بل تجب الفرقة فوراً .
فهل يقول منصف يرى هذه الفوارق و يقف على غيرها أن من أفتى بصحة الزواج بنية الطلاق قد أحل ما حرم الله ، و سوى بين النكاح المشروع و نكاح المتعة الممنوع ؟!
صحيح أننا نفتي بصحة نكاح من يريد الطلاق ما لم يشترطه ، و لكننا لا ندعو بذلك إلى التساهل في حل عِرى النكاح ، أو التحريض على الغش و التغرير بفتيات المسلمين ، و الاستهانة بالأعراض ، حاشا و كلاّ .
و لكننا ننظر إلى هذه الحكم باعتباره وسيلة لتحصين الشباب ، و إيصاد أبواب الفتن المشرعة في وجوههم ، و أخص منهم من قُدِّرت عليه الغربة فلم يجد منها مفراً ، و حاصرته الفتن فلم يحُر لنفسه منها ملاذاً .
و قد نظر إلى واقع طلابنا المبتعثين ، و شبابنا المغتربين في هذا الزمان بعض أهل العلم و الفضل فلم يرَ خيراً من النكاح بنية الطلاق عوناً لهم في غربتهم ، و تحصيناً لأنفسهم من الفتن .
فقد أفتى بصحة النكاح بنية الطلاق للمغترب الشيخ العلامة محمد الأمين بن المختار الشنقيطي رحمه الله فقال : ( و مما سألونا عنه : الغريب في بلد يريد التزوج فيه و نيته أنه إن أراد العود لوطنه ترك الزوجة طالقاً في محلها .. هل تزوجه مع نية الفراق بعد مدة يجعل نكاحه نكاح متعة فيكون باطلاً أم لا ؟
فكان جوابنا : إنَّه نكاح صحيح ، و لايكون متعةً إلا بالتصريح بشرط الأجل عند عامة العلماء إلا الأوزاعي فأبطله ، و نقل كلامه هذا الحافظ ابن حجر في فتح الباري و لم يتعقبه بشئ ، و عن مالك رحمه الله أنه قال : ليس هذا من الجميل و لا من أخلاق الناس ) [ انظر : رحلة الحج إلى بيت الله الحرام ، للعلامة الشنقيطي ، ص : 100 ] .
و أفتى بصحة هذا النكاح سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ، فقال رحمه الله : أما الزواج بنية الطلاق ففيه خلاف بين العلماء ، منهم من كره ذلك كالأوزاعي رحمه الله و جماعة ، و قالوا : إنه يشبه المتعة فليس له أن يتزوج بنية الطلاق عندهم . و ذهب الأكثرون من أهل العلم كما قال الموفق ابن قدامة رحمه الله في المغني إلى جواز ذلك إذا كانت النية بينه و بين ربه فقط و ليس بشرط ، كأن يسافر للدارسة أو أعمال أخرى ، و خاف على نفسه فله أن يتزوج ، و لو نوى طلاقها إذا انتهت مهمته ، و هذا هو الأرجح إذا كان ذلك بينه و بين ربه فقط من دون مشارطة و لا إعلام للزوجة و لا وليها بل بينه و بين الله ... أما أن يتزوج في بلاد سافر إليها للدراسة أو لكونه سفيرا أو لأسباب أخرى تسوغ له السفر إلى بلاد الكفار فإنه يجوز له النكاح بنية الطلاق إذا أراد أن يرجع كما تقدم إذا احتاج إلى الزواج خوفاً على نفسه . و لكن ترك هذه النية أولى احتياطاً للدين و خروجاً من خلاف العلماء ، و لأنه ليس هناك حاجة إلى هذه النية ؛ لأن الزوج ليس ممنوعاً من الطلاق إذا رأى المصلحة في ذلك و لو لم ينوه عند النكاح . اهـ .
و قد حكى بعضهم عن الشيخ رحمه الله رجوعه عن هذه الفتوى ، و لكن هذا زعمٌ لم يثبت ، بل الثابت نقيضه فيما أعلم ، و الله أعلم .
و أكثر من نهى عن هذا النكاح فقد نهى عنه سداً للذرائع المفضية إلى الفساد و التساهل المفضي إلى الإفراط في تتبع الشهوات ، و الوقوع في الفتن ، لا لورود دليلٍ يحرِّمه ، أو تيقن وقوع مفسدة لدرئها يَحظُرُه .
لذلك قال الشيخ محمد الصالح العثيمين رحمه الله في تحريم هذا الزواج [ في جوابه على السؤال رقم 1391 من أسئلة لقاء الباب المفتوح ] :
ثم إن هذا القول – أي : القول بالجواز - قد يستغله ضعفاء الإيمان لأغراض سيئة كما سمعنا أن بعض الناس صاروا يذهبون في العطلة أي في الإجازة من الدروس إلى بلاد أخرى ليتزوجوا فقط بنية الطلاق ، وحكي لي أن بعضهم يتزوج عدة زواجات في هذه الإجازة فقط ، فكأنهم ذهبوا ليقضوا وطرهم الذي يشبه أن يكون زنى والعياذ بالله .(/2)
ومن أجل هذا نرى أنه حتى لو قيل بالجواز فإنه لا ينبغي أن يفتح الباب لأنه صار ذريعة إلى ما ذكرت لك. أما رأيي في ذلك فإني أقول : عقد النكاح من حيث هو عقد صحيح ، لكن فيه غش وخداع ، فهو يحرم من هذه الناحية . والغش والخداع هو أن الزوجة ووليها لو علما بنية هذا الزوج ، وأن من نيته أن يستمتع بها ثم يطلقها ما زوَّجوه ، فيكون في هذا غش وخداع لهم . فإن بيَّن لهم أنه يريد أن تبقى معه مدة بقائه في هذا البلد ، واتفقوا على ذلك : صار نكاحه متعة .
لذلك أرى أنه حرام ، لكن لو أن أحداً تجرَّأ ففعل : فإن النكاح صحيح مع الإثم . انتهى كلامه رحمه الله .
فتأمل ما ختم به كلامه رحمه الله ، و هو قوله : ( فإن النكاح صحيح مع الإثم ) ، و بهذا يلتقي مع مذهب الجمهور رحمهم الله جميعاً ، إذ قالوا بصحة النكاح بنية الطلاق ، و لكن ذلك لا يبرئ ذمة المتزوج مما اقترف من الغش و التغرير و الظلم المترتب على تصرفه .
و بهذا ننتهي إلى أن النكاح بنية الطلاق صحيح من حيث ترتب آثاره عليه ، و فاعله آثم لما اقترفه من تغرير في حق زوجته ، و ما أنزله بها من ظلم ، و لو لم يكن كذلك لعُدَّ فاعله زانياً و العياذ بالله ، و هذا بعيد لم يقل به أحد .
هذا و الله الهادي إلى سواء السبيل ، و بالله التوفيق .
و كتب
د.أحمد بن عبد الكريم نجيب(/3)
زوجة أخرى .. وحب يتيم
إعداد: عبد الفتاح الشهاري 20/2/1426
30/03/2005
شارك في التحقيق:
من السعودية ... منال الدغيم
من العراق ... ضحى الحداد
من فلسطين ... براهيم الزعيم
من الجزائر ... سامية مرزوقي
الزواج سنة من سنن الله في خلقه أوجبه الله –تعالى- للمحافظة على النسل والنفس
وتكوين الأسر والمجتمعات، وهو أيضاً من أهم عوامل الاستقرار النفسي والاجتماعي
والبناء الحضاري؛ فكانت الزوجة الأولى والثانية وحتى الرابعة في الدين الإسلامي
الحنيف لحل الكثير من المشاكل الاجتماعية، وإذا كان أسلافنا قد تجاوزوا هذا
الإشكال، وأخذوه بكل معانيه السامية فإنه -في وقتنا الحالي- لا يزال حبر الكثير
من المنظرين يسيل بين القبول و الرفض متجاهلين
بذلك الواقع المعيش، فمتى ولماذا يضطر الزوج للزواج بأخرى؟ وهل دائماً تكون الزوجة هي المظلومة في هذا الموقف؟ ألا يمكن أن تتحقق السعادة في ظل وجود الزوجة الأخرى؟ وهل يحقّ للزوج التلويح بالزواج بأخرى تهديداً لزوجته فيما يخالف هواه؟ ثم أخيراً ما هو الموقف الشرعي والنفسي من هذا الزواج؟ وما مدى قبول هذه القضية في المجتمع؟ للاطّلاع على مختلف الآراء كان لنا هذا التحقيق.
عدم الإنجاب هو السبب
السيدة فضيلة (من الجزائر) تقول: إن السبب الذي من أجله تزوّج زوجها بأخرى هو عدم قدرتها على الإنجاب، وقد قامت هي بإقناع زوجها بذلك خاصة بعد كبرها في السن، بل وتوضح لنا السيدة فضيلة أنها هي التي قامت بنفسها بخطبة المرأة الثانية؛ قائلة: أنه لا يمكن لها أن تحرم زوجها من الأولاد خاصة وأنه كان طيباً معها، ويعاملها معاملة حسنة.
الزوج الطائش
السيدة لبنى، تقول كان زوجي طائشاً وغير مبالٍ؛ فقد ارتمى في حب فتاة بعمر ابنته بعد أن جرى المال في يده، فأهمل بيته وأولاده، وبدأ بضربي وإهانتي، وكان يريد تطليقي لولا أن أهله وقفوا إلى جانبي وأجبروه أن يتكفل بفتح منزلٍ خاصٍ لي ولأولادي؛ إلا أني لم أسلم مع هذا أيضاً من إزعاج زوجته الثانية لي عن طريق الهاتف لكي أترك لها زوجي.
الزواج الثاني.. تهديد × تهديد
يجد بعض الرجال التهديد بالزوجة الأخرى سلاحاً يشهره في وجه زوجته عند كل اختلاف، لكن هل هذا التهديد سيعالج حقاً المشكلة؟
الأخت ليلى الزايد (جامعية)، توافق على أن الغضب ورؤية التقصير يثيران تهديد الزوج بالأخرى، لكنها لم تبدِ رأيها حول حقّه في ذلك، وإن لمّحت بأنه يؤثر على الزوجة ضيقاً وحنقاً، وقد يؤدي بها إلى التحسّن!
وترى السيدة سلافة أنه يحق للزوج أن يهدّد زوجته بأخرى كوسيلة ضغط، إذا رأى أن الزوجة قد أخلّت بحقوقه الزوجية إخلالاً كبيراً، ولم تُجْدِ معها النصيحة تلو الأخرى.
الزوجة الأخرى.. للقبول أسباب
من الأسباب التي تدعو المرأة لأن تكون ضرّة لغيرها هو (العنوسة)، فالسيدة كريمة (من الجزائر) تقول: أنا ضرّة وقد رضيت بذلك لأن قطار الزواج قد فاتني، وأنا أفضّل أن أكون زوجة ثانية بدلاً من أن أكون عانسًا، وتضيف: إنني أبحث بالدرجة الأولى عن الاستقرار النفسي، وتؤيدها في هذا السيدة (نصيرة) التي تقول: لقد عانيت كثيراً من العنوسة ونظرة المجتمع لي، وقد أجبرني أهلي على أن أكون ضرّة، فالمهم أنني تزوجت.
الزوج أيضاً ضحيّة
موضوع تعدد الزوجات لا يستلزم فقط معرفة رأي الزوجات بل الأزواج أيضا؛ فالسيد علي (من الجزائر) يقول: اضطررت للزواج مرة أخرى لسوء أخلاق زوجتي فهي صعبة المزاج وطلباتها لا تنتهي، ولا شيء يرضيها، فهي لا ترى في شخصي سوى راتبي لتصرفه في أمور الزينة وعلى صديقاتها وقريباتها. ويضيف السيد علي: حاولت أن أغير طباعها، ولكني لم أستطع فاضطررت للزواج من أخرى لأجد عندها الاستقرار العائلي.
ويؤيده في الرأي الأستاذ أبو محمد من السعودية؛ إذ يقول إن زواجي المبكّر من الثانية جاء لرفض زوجتي الأولى كثيراً من حقوقي الزوجية، فحاولت أن أتجاوز المشكلة بزواجي من الثانية.
ويرى الأستاذ أبو فيصل من السعودية أن هناك عدة أسباب تدفع الرجال للتعدّد، فهناك الرغبة في كثرة الأولاد، كما أن بعضهم يودّ إعفافاً أكثر من امرأة، وبعضم يتزوج بأخرى لعدم كفاية زوجته من الناحية الجسديّة.
الرغبة في التعدد(/1)
الدكتور مازن هنية رئيس لجنة الإفتاء بالجامعة الإسلامية بغزة (والمتزوج بأكثر من واحدة) سألناه عن رأيه في الدوافع الشخصية لتعدّد الزوجات، فقال: عندما نسأل عن الدوافع الشخصية لتعدد الزوجات فهذا سؤال ساذج في ظني؛ لأن الشخص قد تكون له دوافع كثيرة، لكن إن لم تكن الرغبة موجودة لما وُجد التعدّد بغض النظر عن كافة الدوافع الجانبية، لأن الزواج نفسه في حد ذاته مسؤولية بدون تعدّد، ولو لم يوجد الدافع من ذات الإنسان والرغبة للزواج لتقاعس الكثيرون عن الزواج، وهذا يشهد له المجتمع الغربي، فحيث إن الناس يستطيعون تحقيق رغباتهم بغير الزواج فقد اكتفوا بتحقيق هذه الرغبة، وعزفوا عن الزواج لئلا يتحملوا المسؤولية والآثار المترتبة على ذلك الزواج، فتعدّد الزوجات قد تكون له دوافع كثيرة ومتعددة ومختلفة من شخص إلى شخص، لكن أساسها هي الرغبة في التعدّد هذا إذا تحدثنا عن القضية بشكل كلي لا جزئي.
وأضاف هنية: إن تعدد الزوجات في الشريعة الإسلامية أمر أباحه الله سبحانه وتعالى، ويمكن لأي شخص استناداً لرغبته في التعدّد أن يعدّد لأن الإنسان أسير فكره. وأوضح أن التعدّد مشروع، وما دام كذلك فإنه يجوز لأيّ شخص القيام به، ولا غضاضة ولا حرج في ذلك حيث قال تعالى: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) وهذا نص صريح وواضح في إباحة التعدد، فمحاسنه الإيجابية بقدر آثاره على الأزواج ومساوئه أيضا بقدر آثاره السلبية على الأزواج.
التعدّد عندما يكون إيجابياً
يوضح د. مازن هنية رئيس لجنة الإفتاء بالجامعة الإسلامية بغزة بأنه لو تم تقييم الموضوع من ناحية المجتمع، فتعدد الزوجات مما لا شك فيه أمر ايجابي على المجتمع؛ لأننا عندما نرى أن الفتيات قد حصل لهن الإحصان فان هذا يؤدي إلى أمان المجتمع، ٍأما إذا وجدنا الكثير من الفتيات لم يحدث لهن هذا الإحصان في الزواج فهذه تُعدّ مشكلة.
اختراق وتفكيك للأسرة
في الجانب الآخر تقول أ.د فوزية العطية (أستاذة علم الاجتماع - كلية الآداب - جامعة بغداد): الزواج بأخرى - من وجهة نظر علم الاجتماع- دون سبب قويّ هو تفكيك للأسرة، وذلك لاختلال وزن الأسرة من خلال توزيع الحب والعاطفة والمال والوقت بين عائلتين أو أكثر, والضحية الكبرى دائما الأطفال الذين سمعنا وشاهدنا منهم الكثير ممن سلكوا مسلكاً غير صحيح لانعدام التربية أو الرقابة عليهم بسبب اهتمام الوالدين بأنفسهم فقط، تاركين أولادهم في مهب الريح، والزواج بأخرى هو حلال شرعاً، ولا يتم إلا بأسباب مثلاً إذا كانت الزوجة الأولى عاقراً، أو إذا كان مكتفياً مادياً أراد أن يتزوجها للإحسان أو لأسباب أخرى تستدعي لذلك، وبالطبع فكما يقول عز وجل: (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم) فالإنسان عبارة عن كتلة من المشاعر والأحاسيس التي لا يستطيع السيطرة عليها، فالرجل لا يقدر أن يوازن في حبه لزوجاته؛ فهو بالتأكيد سيفضل واحدة على أخرى, من هنا يبدأ الصراع وتعيش العائلتان في دوامة كبيرة, وما يهمّنا هنا الأسرة، فهي مؤسسة اجتماعية مهمتها تنشئة الأطفال في بيئة هادئة وسعيدة بعيدة عن النزاعات، ومع وجود هذه المشاكل تتفكك العائلة بسهولة ويسهل على أي غريب التسلل وتجزئتها؛ ففي سجون الأحداث مثلا تمتلئ بالأولاد الذين دخلوا بسبب تزوج الأب من أخرى، وتفكك العائلة مما يؤدي إلى ضياع هذا الولد, وفي سجن النساء أيضا هنالك نساء دخلن السجن بسبب قتلها لزوجها الذي فضّل أخرى عليها، ومن وجهة نظري فسبب ميل الرجل الزواج بأخرى حالياً هو زيادة الإنجاب وخصوصاً من ذكور إذا كانت زوجته تنجب البنات, والسبب الآخر هو أنه يحس بأن الزواج بأخرى له مكانة وهيبة اجتماعية، وإذا كان مثلاً غنياً يحب أن يتزوج، وهنالك أسباب أخرى مثل عامل الجنس وغيرها.
قضية مقبولة
من جهته يقول د جميل الطهرواي أستاذ الخدمة الاجتماعية: إن علم الاجتماع والعلوم الإنسانية علوم متغيرة في كل مجتمع يكون لها نظرة خاصة؛ فهي ليست كالعلوم الأخرى التي وصلت إلى حد كبير من الموضوعية مثل علوم الفيزياء والكيمياء؛ فبالنسبة إلى نظرة الاجتماعيين ستكون نظرة الاجتماعيين نابعة من تقييمها لثقافة المجتمع وما يهم هذا المجتمع، أما بالنسبة لمجتمعنا الفلسطيني الذي يتميز بانتمائه إلى الدين الإسلامي فيعتبر تعدّد الزوجات قضية مقبولة بدون طرح المبررات العقلية كارتفاع عدد نسبة الإناث، كذلك إصابات العمل في كل العالم في الذكور أكثر، فنحن المسلمين نقبل بدون مناقشة؛ لأنه إما أن نؤمن أو لا نؤمن، لأن الله تعالى أباح تعدّد الزوجات .
وللشرع رأيه
حول هذه الظاهرة وآثارها، يقول الشيخ أ.د. فالح بن محمد الصغير، أستاذ الفقه بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية:(/2)
إن الزواج الناجح يقوم على المودة والرحمة، وغض النظر عما في الطرف الآخر من تقصير، ولن ينجح الزواج القائم على البغض والكراهية والتعنيف والإيذاء، ومما يؤذي الزوجة ويحرمها الراحة النفسية ويسبّب لها الهمّ والغم، ويوقعها في حرج من أمرها، هو تهديدها من الزوج بالتزوّج بأخرى لما خلق الله الغيرة في النساء.
وظن الرجل أن معنى قِوامته هو أن يتسلط عليها بالسبّ والشتم وإثارة الغيرة فيها حتى تفقد عقلها ظن في غير محلّه، بل يصل الأمر إلى ضرب الزوجة ضرباً مبرحاً كأول علاج للتقصير من الزوجة سواء أكان هذا التقصير بقصد أو بدون قصد!
أما شرعنا الحنيف، فإنه يعلمنا أن معنى القِوامة ليس في التشديد والتعنيف والتوبيخ والتهديد، إنما هو توجيه برفق ولطف وإرشاد بالحكمة والإحسان، ولا يكون ذلك إلا بالاقتداء بقدوتنا محمد -صلى الله عليه وسلم- القائل: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي"، الذي لم يكن يواجه الناس بالعتاب فضلاً عمن هن أقرب الناس إليه من الزوجات والبنات.(/3)
زوجتي
الشيخ: علي الطنطاوي (رحمه الله)
قال لي صديق، معروف بجمود الفكر، وعبادة العادة، والذعر من كل خروج عليها أو تجديد فيها، قال:
أتكتب عن زوجك في الرسالة تقول إنها من أعقل النساء وأفضلهن؟ هل سمعت أن أحداً كتب عن زوجته؟ إن العرب كانوا يتحاشون التصريح بذكرها، فيكنون عنها بالشاة أو النعجة استحياء وتعففاً، حتى لقد منع الحياء جريراً من رثاء زوجه صراحة، وزيارة قبرها جهاراً، ومالك بن الريب لما عد من يبكي عليه من النساء قال:
فمنهن أمي وابنتاها وخالتي وباكية أخرى تهيج البواكيا.
فلم يقل وامرأتي.. وكذلك العهد بآبائنا ومشايخ أهلنا، لم يكن يقول أحد منهم: زوجتي بل كان يقول: أهل البيت وأم الأولاد، والجماعة، والأسرة، وأمثال هذه الكنايات. أفترغب عن هذا كله، وتدع ما يعرف الناس، وتأتي ما ينكرون؟
قلت: نعم..
فكاد يصعق من دهشته مني، وقال:
- أتقول نعم بعد هذا كله؟
قلت: نعم! مرة ثانية. أكتب عن زوجتي فأين مكان العيب في ذلك؟
ولماذا يكتب المحب عن الحبيبة وهي عشيقته بالحرام، ولا يكتب الزوج عن المرأة وهي حبيبته بالحلال؟
ولماذا لا أذكر الحق من مزاياها لأرغب الناس في الزواج، والعاشق يصف الباطل من محاسن العشيقة، فيحبب المعصية إلى الناس؟
إن الناس يقرؤون كل يوم المقالات والفصول الطوال في مآسي الزواج وشروره، فلم لا يقرؤون مقالة واحدة في نعمه، وخيراته؟
"ولست بعد أكتب عن زوجي وحدها، ولكني كما كان هوجو يقول:
"إني إذ أصف عواطفي أباً، أصف عواطف جميع الآباء".
لم أسمع زوجاً يقول إنه مستريح سعيد، وإن كان في حقيقته سعيداً مستريحاً، لأن الإنسان خلق كفوراً، لا يدرك حقائق النعم إلا بعد زوالها، ولأنه ركب من الطمع، فلا يزال كلما أوتي نعمة يطمع في أكثر منها، فلا يقنع بها ولا يعرف لذاتها، لذلك يشكو الأزواج أبداً نساءهم، ولا يشكر أحدهم المرأة إلا إذا ماتت، وانقطع حبله منها وأمله فيها، هنالك يذكر حسناتها، ويعرف فضائلها، أما أنا فإني أقول من الآن –تحدثاً بنعم الله وإقراراً بفضله-: إني سعيد في زواجي وإني مستريح وقد أعانني على هذه السعادة أمور يقدر عليها كل راغب في الزواج، طالب للسعادة فيه، فلينتفع بتجاربي من لم يجرب مثلها، وليسمع وصف الطريق من سالكه من لم يسلك بعد هذا الطريق.
أولها: أني لم أخطب إلى قوم لا أعرفهم، ولم أتزوج من ناس لا صلة بيني وبينهم.. فينكشف لي بالمخالطة خلاف ما سمعت عنهم، وأعرف من سوء دخليتهم ما كان يستره حسن ظاهرهم، وإنما تزوجت من أقرباء عرفتهم وعرفوني، واطلعت على حياتهم في بيتهم وأطلعوا على حياتي في بيتي، إذ رب رجل يشهد له الناس بأنه أفكه الناس، وأنه زينة المجالس ونزهة المجامع، وأمها بنت المحدّث الأكبر، عالم الشام بالإجماع الشيخ بدر الدين الحسيني رحمه الله، فهي عريقة الأبوين، موصولة النسب من الجهتين.
والثاني: أني اخترتها من طبقة مثل طبقتنا، فأبوها كان مع أبي في محكمة النقض، وهو قاض وأنا قاض، وأسلوب معيشته قريب من أسلوب معيشتنا، وهذا الركن الوثيق في صرح السعادة الزوجية، ومن أجله شرط فقهاء الحنفية (وهم فلاسفة الشرع الإسلامي) الكفاءة بين الزوجين.
والثالث: أني انتقيتها متعلمة تعليماً عادياً، شيئاً تستطيع به أن تقرأ وتكتب، وتمتاز من العاميات الجاهلات، وقد استطاعت الآن بعد ثلاثة عشر عاماً في صحبتي أن تكون على درجة من الفهم والإدراك، وتذوق ما تقرأ من الكتب والمجلات، لا تبلغها المتعلمات وأنا أعرفهن وكنت إلى ما قبل سنتين ألقي دروساً في مدارس البنات، على طالبات هتّ على أبواب البكالوريا، فلا أجدهن أفهم منها، وإن كن أحفظ لمسائل العلوم، يحفظن منها ما لم تسمع هي باسمه، ولست أنفر الرجال من التزوج بالمتعلمات، ولكني أقرر –مع الأسف- أن هذا التعليم الفاسد بمناهجه وأوضاعه، يسيء على الغالب إلى أخلاق الفتاة وطباعها، ويأخذ منها الكثير من مزاياها وفضائلها، ولا يعطيها إلا قشوراً من العلم لا تنفعها في حياتها ولا تفيدها زوجاً ولا أماً. والمرأة مهما بلغت لا تأمل من دهرها أكثر من أن تكون زوجة سعيدة، وأماً.
والرابع: أني لم أبتغ الجمال وأجعله هو الشرط اللازم الكافي كما يقول علماء الرياضيات، لعلمي أن الجمال ظل زائل لا يذهب جمال الجميلة، ولكن يذهب شعورك به، وانتباهك إليه، لذلك نرى من الأزواج من يترك امرأته الحسناء، ويلحق من لسن على حظ من الجمال، ومن هنا صحت في شريعة إبليس قاعدة الفرزدق وهو من كبار أئمة الفسوق، حين قال لزوجته النوار في القصة المشهورة: ما أطيبك حراماً وأبغضك حلالاً.(/1)
والخامس: إن صلتي بأهل المرأة لم يجاوز إلى الآن، بعد مرور قرن من الزمان، الصلة الرسمية، الود والاحترام المتبادل، وزيارة الغب، ولم أجد من أهلها من يجد الأزواج من الأحماء من التدخل في شؤونهم، وفرض الرأي عليهم، ولقد كنا نرضى ونسخط كما يرضى كل زوجين ويسخطان، فما تدخل أحد منهم يوماً في رضانا ولا سخطنا ولقد نظرت إلى اليوم في أكثر من عشرين ألف قضية خلاف زوجي، وصارت لي خبرة أستطيع أن أؤكد القول معها بأنه لو ترك الزوجان المختلفان، ولم يدخل بينهما أحد من الأهل ولا من أولاد الحلال، لانتهت بالمصالحة ثلاثة أرباع قضايا الزواج.
والسادس: أننا لم نجعل بداية أيامنا عسلاً كما يصنع أكثر الأزواج، ثم يكون باقي العمر حنظلاً مراً وسماً زعافاً، بل أريتها من أول يوم أسوأ ما عندي، حتى إذا قبلت مضطرة به، وصبرت محتسبة عليه، عدت أريها من حسن خلقي، فصرنا كلما زادت حياتنا الزوجية يوماً زادت سعادتنا قيراطاً.
والسابع: أنها لم تدخل جهازاً وقد اشترطت هذا، لأني رأيت أن الجهاز من أوسع أبواب الخلاف بين الأزواج، فإما أن يستعمله الرجل ويستأثر به فيذوب قلبها خوفاً عليه، أو أن يسرقه ويخفيه، أو أن تأخذه بحجز احتياطي في دعوى صورية فتثير بذلك الرجل.
والثامن: أني تركت ما لقيصر لقيصر، فلم أدخل في شؤونها من ترتيب الدار وتربية الأولاد، وتركت هي لي ما هو لي، من الإشراف والتوجيه، وكثيراً ما يكون سبب الخلاف لبس المرأة عمامة الزوج وأخذها مكانه، أو لبسه هو صدار المرأة ومشاركتها الرأي في طريقة كنس الدار، وأسلوب تقطيع الباذنجان، ونمط تفصيل الثوب.
والتاسع: أني لا أكتمها أمراً ولا تكتمني، ولا أكذب عليها ولا تكذبني، أخبرها بحقيقة وضعي المالي، وآخذها إلى كل مكان أذهب إليه أو أخبرها به، وتخبرني بكل مكان تذهب هي إليه، وتعود أولادنا الصدق والصراحة، واستنكار الكذب والاشمئزاز منه، ولست والله أطلب من الإخلاص والعقل والتدبير أكثر مما أجده عندها: فهي من النساء الشرقيات اللائي يعشن للبيت لا لأنفسهن، للرجل والأولاد، تجوع لنأكل نحن، وتسهر لننام، وتتعب لنستريح، وتفنى لنبقى، هي أول أهل الدار قياماً، وآخرهم مناماً، لا تنثني تنظف وتخيط وتسعى وتدبر، همها إراحتي وإسعادي. إن كنت أكتب، أو كنت نائماً أسكتت الأولاد، وسكنت الدار، وأبعدت عني كل منغص أو مزعج. تحب من أحب، وتعادي من أعادي، وإن كان حرص النساء على إرضاء الناس فقد كان حرصها على إرضائي، وإن كان مناهن حلية أو كسوة فإن أكبر مناها أن تكون لنا دار نملكها نستغني بها عن بيوت الكراء.
تحب أهلي، ولا تفتأ تنقل إلي كل خير عنهم، إن قصرت في بر أحد منهم دفعتني، وإن نسيت ذكرتني، حتى إني لأشتهي يوماً أن يكون بينها وبين أختي خلاف كالذي يكون في بيوت الناس، أتسلى به، فلا أجد إلا الود والحب، والإخلاص من الثنتين، والوفاء من الجانبين!!
إنها النموذج الكامل للمرأة الشرقية، التي لا تعرف في دنياها إلا زوجها وبيتها، والتي يزهد بعض الشباب فيها، فيذهبون إلى أوربة أو أميركة ليجيئوا بالعلم فلا يجيئون إلا بورقة في اليد، وامرأة تحت الإبط، امرأة يحملونها يقطعون بها نصف محيط الأرض أو ثلثه أو ربعه، ثم لا يكون لها من الجمال، ولا من الشرف ولا من الإخلاص ما يجعلها تصلح خادمة للمرأة الشرقية، ولكنه فساد الأذواق وفقد العقول، واستشعار الصغار وتقليد الضعيف للقوي. يحسب أحدهم أنه إن تزوج امرأة من أمريكا أو أي امرأة عاملة في شباك السينما، أو في مكتب الفندق، فقد صاهر طرمان، وملك ناطحات السحاب، وصارت له القنبلة الذرية، ونقش اسمه على تمثال الحرية!!
إن نساءنا خير نساء الأرض، وأوفاهن لزوج، وأحناهن على ولد، وأشرفهن نفساً، وأطهرهن ذيلاً، وأكثرهن طالعة امتثالاً وقبولاً، لكل نصحٍ نافع وتوجيه سديد.
وإني ما ذكرت بعض الحق في مزايا زوجتي إلا لأضرب المثل من نفسي على السعادة التي يلقاها زوج المرأة العربية (وكدت أقول الشامية المسلمة) لعل الله يلهم أحداً من العزاب القراء العزم على الزواج فيكون الله قد هدى بي، بعد أن هداني..(/2)
زوجي بخيل... ماذا أفعل؟!
سهير الجبرتي 17/7/1426
22/08/2005
كل فتاة تتمنى أن ترتبط بزوج تتوافق صفاته بصفاتها، وطباعه بطباعها؛ كي يبنوا سوياً بيتاً سعيداً وعشاً هادئاً، تكسوه السكينة وترفرف عليه السعادة، ورويداً رويداً يتحقق الحلم، ولكن لا تجد المرأة في زوجها كل ما تريد ..فمع الحياة الزوجية تتكشف صفات وتظهر العيوب، والمرأة الذكية هي التي تتغلب على عيوب زوجها تباعاً، وتسعى لإصلاحه، وتمد جسور المودة والمحبة مع زوجها؛ فالحياة أخذ وعطاء، ولابد من التغاضي عن أشياء كثيرة حتى تسير القافلة وترسو إلى بر الأمان، ولكن بعض الزوجات ..يدخلن في مشاكل عارمة بسبب بخل الأزواج، ويؤكدن أنه لا يمكن قبول الرجل البخيل حتى إن إحداهن تقول: أستطيع أن أقبل كل صفات الرجل وأهضمها إلا واحدة وهي صفة البخل .. وحول هذه المشكلة التي تؤرق كثيراً من الزوجات وتهدد العديد من الأسر نطرحها على علماء الإسلام والاجتماع لبحث أسبابها وطرق علاجها.
البخل في العواطف
في البداية تقول الدكتورة أمينة كاظم -أستاذة علم النفس والاجتماع بكلية البنات جامعة عين شمس-: إن البخل ليس في الأمور المادية فقط بل يكون بخيلاً أيضاً في العواطف والمشاعر الإنسانية مع الآخرين؛ فالبخل عنده عامل عام، فالشخصية بوجه عام ليست معطاء، ولكنْ هناك فرق بين البخل والحرص؛ فالحرص ممكن أن يُقبل، فأحياناً تكون المرأة مسرفة، ويرى الزوج أن زوجته ليست لديها المقدرة على إدارة البيت فيتعامل معها بنوع من التوازن والحرص، ويحاول أن يوفق أوضاعه وإمكانياته حتى يتمشى مع أحواله، أو يكون الزوج من متوسطي الحال فترى الزوجة نتيجة لتبذيرها وإسرافها أن ذلك بخل مع أنه في الحقيقة حرص مقبول.
أما البخل فهو أن يكون الزوج يملك ويستطيع، ولكن لا يصرف على بيته إلا القليل، ولا يريد مساعدة الآخرين سواء مساعدة مادية أو معنوية.
وعلى الزوجة في هذه الحالة أن تتعايش مع واقعها وتسعى لإصلاح زوجها وتعويده على العطاء.
هل البخل مكتسب أم وراثة؟
تجيب الدكتورة أمينة على هذا السؤال قائلة: أنا -في رأيي- صفة البخل مكتسبة، وقد تبدو أنها موروثة، ولكن الأرجح اكتسابها من الأهل والبيئة؛ فهناك أسر تملك المال، ولكن عندما تتصرف فيه تشعر أنها اقتطعت جزءاً من حياتها؛ فأسلوب النشأة عامل أساسي في إكساب هذه الصفة.
وأحياناً يتصف الأهل بالبخل، ويكون رد الفعل عند الأولاد مغايراً لما تربوا عليه، فيصرف الأولاد ببذخ وبلا معنى، ويقول الله في كتابه الكريم : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) [الاسراء:29].
" بعيد من الله ..بعيد من الجنة"
وسألنا الدكتور عبد المنعم البري عن رأي الإسلام في الزوج البخيل وكيف تتعامل معه الزوجة فقال فضيلته: النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن البخيل الشحيح بعيد عن الله، بعيد عن الجنة، قريب من النار والمؤمن الكريم قريب من الله قريب من الناس قريب من الجنة بعيد عن النار، فالله كريم يحب كل كريم".
وقد يجتمع البخل والإيمان ..سئل الرسول -صلى الله عليه وسلم- "أيكون المؤمن بخيلاً قال: نعم، أيكون المؤمن جباناً قال: نعم، قالوا: يا رسول، الله أيكون المؤمن كذّاباً؟ قال: لا".
فالبخل ابتلاء من الله، ولا تصبر عليه إلا مؤمنة سعيدة الدارين، وقال تعالى: (ضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون ..)
فزوجها طاغية .. ومع ذلك رضيت والتزمت جانب الرضا، وقالت: (...رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ...)[التحريم: من الآية11] فاختارت الجار قبل الدار ..فالمرأة الصابرة المحتسبة عند الله -عز وجل- تلحق بامرأة فرعون ..ومن طريف ما يُعلم عن العرب أن البخل عند المرأة ميزة، وعند الرجل معرة فقالوا في المرأة: الجبن، الكبر، البخل ..فالجبن ميزة عند المرأة حتى لا تقدم على المغامرات، فالبخل عيب كبير في الرجل؛ إذ هو ضد المروءة والشهامة، وهما من أبرز الصفات المطلوب أن يتحلى بها الرجال.
هل للبخل علاج؟!
ليس في شريعة الإسلام داء إلا وله دواء وعلاج؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء" أخرجه البخاري وغيره؛ فالبخل كغيره من الأمراض والأخلاق الذميمة له علاج بشرط:
• أن يعترف صاحب المرض بمرضه وألاّ يكابر أو يحاول تفسير الأمور حسب هواه، فمن صفات المؤمنين (عباد الرحمن) التوسط في الإنفاق، وذلك هو المقياس أو المعيار الذي يُحكم به على المرء في عملية الإنفاق، فيقول الله تعالى في سورة الفرقان:( وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) [الفرقان:67].(/1)
• أن يعرف أن جمع المال ليس هدفاً لذاته، وأن البخل به شر محض يجني البخيل عاقبته. قال تعالى: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ...)[آل عمران: من الآية180]
• أن يعلم أن بخله على أهله هو الإثم بعينه، قال صلى الله عليه وسلم: " كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوته " [مسلم] ، وقال صلى الله عليه وسلم : "ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكاً تلفاً" [متفق عليه] .
وقال صلى الله عليه وسلم : "دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة (أي عتق رقبة) ، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك".
• أن تعلم زوجة البخيل أن الله –تعالى- جعل لها مخرجاً من بخل زوجها بالمعروف، وهي أن تأخذ ما يكفيها بالحق دون زيادة أو إسراف؛ فقد جاء في الصحيحين عن عائشة – رضي الله عنها – أن هنداً قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني إلا ما أخذت من ماله بغير علمه، فهل علي في ذلك من جناح؟ فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك" .
• أن تحفز أبناءها على الكسب من عمل أيديهم ـ في فترة الإجازات الصيفية ـ فربما يساعد ذلك في التغلب على مشكلة بخل الزوج.
• أن يحاول أهل الزوجة تعويض ابنتهم عن بخل زوجها بتوفير جزء من المال يعينها على الحياة تفادياً للصدام مع الزوج، وهذا موجود في بعض العائلات، ويُعدّ جزءاً من حل هذه المشكلة.(/2)
زيادة أجر العامل بالتزوير في السجلات
السؤال :
أعمل في أحد المستشفيات الجامعية التابعة لإحدى الجامعات ، و يُصرَف لي بدل انتقال شهرياً ، و لكن الذي يحدث هو عند ملئ الاستمارات الخاصة بذلك يكتب الموظّف المسئول أننا - أي نحن جميع الموظفين – كنّا خلال الشهر نأتي للعمل بعد مواعيد العمل الرسمية ، و الحقيقة اننا لم نكن نأتي للعمل الإضافي بتاتاً ، و بعض الناس ان هناك فائض في الميزانية يتم صرف هذا البدل منه و لكن لابد من تسوية الأوراق بهذه الطريقة داخل الحسابات و الإدارات المالية المُتَابِعة لذلك .
فما الحكم في ذلك مع العلم بأن هذا يوافق عليه مدير المستشفى و رئيس الجامعة و يتم في بعض المصالح الأخرى .
أفيدونا أفادكم الله .
سؤال مماثل :
أقوم بتدريس مادّة الحاسب الآلي لطلاب كلية الطب ، و معي اثنان من الزملاء بواقع عشرة دروس لنا جميعا في الأسبوع نصيبي منها أربعة دروس ، وعند محاسبتنا مالياً ، يُزعَمُ ان كلاً منا قد درَّسَ عشرة حصصٍ بمفرده ، و ذلك بموافقة رئيس القسم حتى يتناسب ذلك مالياً مع ما نقوم به من جهد ، و لأنه في حالة عدم احتساب ذلك سيرفض كثير من الناس التدريس لقلة المقابل .
فهل علينا وزر في ذلك ؟
الجواب :
ينبغي للمسلم أن يحرِص على الكسب الحلال ، و إن كان كفافاً ففيه البركة إن شاء الله ، و لِمَن تغذى بالحرام أشدّ الوعيد ، فقد روى الترمذي بإسناد حسن عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم : « إِنَّهُ لاَ يَرْبُو لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إِلاَّ كَانَتِ النَّارُ أَوْلَى بِهِ » .
و لذلك جاء التوجيه إلى وجوب العمل ليأكل المسلم من سعيه و كدّ يده ، و ذلك أطيَبُ الطعام ، لما رواه البخاري عَنِ الْمِقْدَامِ رضى الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنّه قَالَ : « مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَاماً قَطُّ خَيْراً مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ ، وَ إِنَّ نَبِىَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ » .
و إذا كان الأمر كذلك ، فلا يجوز التحايل للعامل ( الذي أقدم على العمل التعاقدي غيرَ مُكرهٍ عليه ) ليحظى بأكثر من حقّه المنصوص عليه في عَقدِ العمل الذي وقّعه مختاراً .
و لا يُغيّر من الحكم شيئاً تواطؤ المحاسب أو المدير المباشر في العَمل ، بل هم شُركاء في الوِزر ، لإقدامهم على التزوير أو إقراره أو تمريره ، على نحوٍ يصدق على من انتحله الوصف النبوي الوارد في حديث الشيخين عَنْ عَائِشَةَ و أسماء بنتي الصدّيق رضي الله عنهم أجمعين أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِى ضَرَّةً ، فَهَلْ عَلَىَّ جُنَاحٌ إِنْ تَشَبَّعْتُ مِنْ زَوْجِى غَيْرَ الَّذِى يُعْطِينِي ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : « الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلاَبِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ » .
و هذا لا يخصّ ما تأخذه المرأة من زوجها بغير إذنه أو عِلمه ، بل هو عامٌّ لعموم اللفظ ( و العبرة به ) لكلّ من يأخذ ما لا يَحلّ له ، و ما لم يُعطَ عن طيب نفس .
روى مسلمٌ في صحيحه عن مُعَاوِيَةَ بنَ أبي سفيان رضي الله عنه ، قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : « إِنَّمَا أَنَا خَازِنٌ فَمَنْ أَعْطَيْتُهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ فَيُبَارَكُ لَهُ فِيهِ ، وَ مَنْ أَعْطَيْتُهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ وَ شَرَهٍ كَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَ لاَ يَشْبَعُ » .
و أقلّ ما في المال المكتَسَب من الطريق المذكور في السؤال أنّه لا يخلو من شبهة ، و حريّ بالمسلم أن يتَّقي الشُبهات استبراءً لدينه ، فقد روى البخاري و مسلم ، ( و اللفظ له ) ، و أصحاب السنن و أحمد عن النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ أنّه قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : « إِنَّ الْحَلاَلَ بَيِّنٌ وَ إِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ وَ بَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ ؛ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَ عِرْضِهِ وَ مَنْ وَقَعَ فِى الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِى الْحَرَامِ ، كَالرَّاعِى يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ ، أَلاَ وَ إِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى ، أَلاَ وَ إِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ » ، و في روايةٍ للبخاريّ أيضاً : « الْحَلاَلُ بَيِّنٌ ، وَ الْحَرَامُ بَيِّنٌ ، وَ بَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ ، فَمَنْ تَرَكَ مَا شُبِّهَ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ كَانَ لِمَا اسْتَبَانَ أَتْرَكَ ، وَ مَنِ اجْتَرَأَ عَلَى مَا يَشُكُّ فِيهِ مِنَ الإِثْمِ أَوْ شَكَ أَنْ يُوَاقِعَ مَا اسْتَبَانَ ، وَ الْمَعَاصِى حِمَى اللَّهِ ، مَنْ يَرْتَعْ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكْ أَنْ يُوَاقِعَهُ » .(/1)
أمّا إن لم يرضَ أحدٌ بالعَملَ بالأجرِ المعروض ، إلاّ إن عَلِم أنّ بوُسعِه أن يزيد دَخله بطريقٍ فيها تحريفٌ أو تزييف في السجّلات أو المستندات على النحو المذكور في السؤال ، فالأولى عَدَم الإقدام على العَمل حتّى يُضطَرّ ربُّّّّه ( صاحب العمل ) إلى إنصاف العاملين ، و إعطائهم الأجر المجزيء على عَمَلهم ، و إن أدّى عَدَمُ الإقدام عليه إلى شلّ العَمَل ، و توقُّف عَجَلته ، فلن يدومَ هذا ، و ( من تَرك شيئاً للّه عوّضَه خيراً منه ) ، و الله أعلم .(/2)
زيارة الآثار المبنية على القبور!
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ العقائد والمذاهب الفكرية/ البدع/البدع المتعلقة ببعض الأمكان والأزمنة
التاريخ ... 29/09/1426هـ
السؤال
يوجد طراز معماري قديم في الهند اسمه "تاج محل"، وهو موقع بُني قبل مئات السنين، ويمثل تحفة معمارية فريدة، لكنه أقيم فوق قبر، فهل تجوز زيارة هذا الموقع؟.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فتجوز الزيارة لغير قصد التعبد وطلب الأجر والثواب، وإنما لغرض التسلية والسياحة وحب الاستطلاع على الفن المعماري؛ فقد أذن الرسول –صلى الله عليه وسلم- بزيارة ديار ثمود "مدائن صالح"، مع أنها موطن عذاب، بشرط أن يكون الزائر يقصد في زيارته العظة والاعتبار بعاقبة أولئك الكفار، ومن علامة ذلك في الزائر البكاء أو التباكي، قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح البخاري (433) من حديث عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما-: "لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم لا يصيبكم ما أصابهم"، وهذا الحديث قاعدة في الزيارة والسياحة في المواقع الأثرية التي تمثل أو تحكي شيئاً عن الأمم الماضية. والله أعلم(/1)
زيجات القرن الحادي والعشرين..الطوابع والوشم والكاسيت!
د. ليلى بيومي 20/1/1427
19/02/2006
تُعدّ ظاهرة الزواج السّري إحدى الظواهر الغريبة التي طرأت على المجتمع المصري خلال السنوات الأخيرة بين شباب الجامعات والمدارس الثانويّة؛ بل والإعداديّة أيضاً، وتطور الأمر من كتابة العقد على ورق الكراسة إلى عقود مطبوعة تُباع في المكتبات بخمس جنيهات، ويقوم الطالب والطالبة بالتوقيع عليه دون شهود أو بوجود أحد الأصدقاء، وبدون مهر، ولا ولي ولا إشهار ولا توثيق، وقد ظهرت منه أنواع أخرى، مثل: زواج الكاسيت.. الوشم.. الطوابع.
فزواج الكاسيت لا يحتاج إلى ورقة أو شهود، وإنما يكتفي الطرفان بوجود كاسيت وشريط، ويسجل عليه كلٌّ منهما الكلمات التي يردّدها المأذون الشرعي، ويحتفظ كل منهما بنسخة منه.
أما زواج الوشم فهو عبارة عن كتابة وثيقة الزواج بالوشم على الجلد. وزواج الطوابع أسهل الأنواع، حيث يقوم كل طرف بلصق طابع بريد على جبين الآخر فيصيرا زوجين!!
جولة مع الطالبات حول "العرفي"
تقول سارة شعبان (ربة منزل عمرها 38عاماً): لقد تزوجت زوجي ووالد أولادي زواجاً رسمياً، وبعد سنوات قليلة تدهورت حالتنا الاقتصادية نتيجة توقفه عن العمل، وكثرت المشاكل بيننا، وانفصلت عنه، وأخذت الأبناء معي لأربيهم، وبهذا الانفصال حصلت على معاش والدي الذي كان موظفاً كبيراً.
ولاحقاً تدخل الأقارب والأصدقاء للإصلاح بيني وبين زوجي، واتفقنا على الاستمرار معاً، لكن كان الحل الأمثل هو عقد زواج عرفي عند المحامي. بسبب الحاجة إلى معاش والدي.
تستعرض (منى) والتي رفضت ذكر اسمها كاملاً – ربما خجلاً – تجربتها مع الزواج العرفي, تلك التجربة التي بدأت مع مقدمها للقاهرة للالتحاق بالجامعة قادمة من الخليج وتقول: عندما التحقت بالجامعة جاءت والدتي معي في العام الدراسي الأول، ثم ما لبثت أن لحقت به، وتركتني مع أخي. وأنا وأخي لا ينقصنا شيء، فعندنا الشقة المجهزة والمال.. لكن ينقصني أمي وأبي، ووجدت ضالتي في زميلي بالكلية، وهو شاب يعيش في منطقة شعبية.. ذكي ولبق.. ولا تملك أسرته أية إمكانات لزواجه.. وأحياناً يعمل في مجال النقاشة لكي يساعد نفسه.. وهو يرتدي ثياباً أنيقة في الجامعة، وبالطبع أهلي لن يوافقوا على هذا الزواج، فكان الحل هو الزواج العرفي، وأحتفظ معي بورقة الزواج، وأمّنت نفسي بعدم الحمل، ولا أدري حتى الآن هل سيستمر زواجنا أم لا؟!
وتعترف (سها طايل) الطالبة بكلية الإعلام من جانبها بأن ما يحدث الآن من علاقات بين الشباب ليست زواجاً عرفياً لكنه زواج سريّ، لأنه يتم بعلم الشاب والفتاة فقط، وأحياناً كثيرة تكون ورقة إثبات الزواج مع الشاب الذي يمزقها وقت اللزوم. ولأنه شيء جديد على مجتمعنا فقد سبب صدمة، وأنا أعرف طالبات تزوجن عرفياً في معظم الكليات النظرية (آداب- حقوق- تجارة) لكن الكليات العملية تقل فيها هذه الزيجات تماماً؛ لأن الجدول الدراسي مشحون، ولا وقت فيه لمثل هذه الأمور.
"م.ع" إحدى الطالبات بالسنة الثالثة بكلية التجارة قالت: أنا لا أرى في الزواج العرفي حرجاً، والفتاة تتزوج من الشاب عرفياً تجنباً لتعقيدات الزواج، والتي قد تطول وتدوم لسنوات ونحن الآن في عصر السرعة، وكل شيء أصبح سهلاً وميسوراً، وماذا ننتظر أن يحدث بعد أن يتصادق الفتاة والشاب لسنوات، والجميع على علم بذلك فكل فتاة لها صديق، ومع التعود ومرور الوقت، وقضاء معظم أوقات اليوم سوياً يشعران باحتياجهما للزواج فيتم الزواج العرفي مؤقتاً كتجربة حتى يتم الزواج الرسمي!
تداعيات تعقيد الزواج
تقرّ "ر.ص" وهي فتاة جامعية بأنها لجأت إلى الزواج العرفي بعدما ضاقت ذرعاً برفض أهلها لعدد العرسان الذين تقدموا إليها من الباب بحجة أنهم دون المستوى المادي أو الثقافي، وترى أن المتهم في هذه القضية هم الأهل الذين يدفعون أولادهم للزواج السري أو العرفي الذي سيحقق أحلامهم في الارتباط بفارس الأحلام وفتاة الأحلام في غيبة عن الأهل الرافضين للزواج الرسمي بكل ضماناته التي يكفلها للطرفين على حد سواء، وكم من مآسٍ تسبب فيها الأهل لأبنائهم وبناتهم جرّاء دفعهم دفعاً للزواج العرفي.
فما أجمل الركون إلى حكم الله ودينه وتنفيذ سنة نبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- القائل: "إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه... إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير".(/1)
سألت قلبي
( في رثاء الوالد الشيخ عبد الكريم محمد نجيب رحمه الله )
سألتُ قلبيَ مَن يهوى و يهواهُ؟ يُدمي العيون إذا ما قال أوّاهُ
أتُراكَ تذكُرُ يا قلباه فاتنةً فيجيشُ فيكَ غرامٌ لستَ تنساهُ؟
فأجابَ ويحَكَ هل للحبِّ منزلةٌ في قلب مُفعَمَةٍ بالحُزن دنياهُ؟
مَن ليس يَعرِفُ هل يَسعى لمصرَعِهِ أم المنيّة من تسعى لتلقاهُ
من فَرْطِِ نازِلةٍ أَوهت عزيمته إذ فَتَّ فيه مُصابٌ كان يخشاهُ
مذ جاء في جَزََعٍ يوماً ليُنبئه برحيل والده خِلٌّ و واساهُ
فأصاب مَقْتَلَهُ و أسال مُقْلَتَهُ و أقَضَّ مضجَعَه حُزناً و أبكاهُ
لكأنّ عَبْرَتَه أَودَت بمُقلتِه فانسابَ من دمها ما فاضَ مجراهُ
لو كان ذا جَلَدٍ لم يُغنه جَلَدٌ أو كان ذا جَزَعٍ لم تُغْنِه الآهُ
فمُصابه جَلَلٌ و فقيدهُ عَلَمٌ في رأسه دُرَرٌ و النور يغشاهُ
يمضي بهمتّه فيحار حاسده مِن فَرط هِمَّته أيَّان مُرساه
الدين صبغته و الخير صنعته و الله غايته و الحقّ مَرماهُ
بالعلم سيرته تُفضي إلى عمَلٍ و الهديُ سُنَّتُه حيث الورى تاهوا
قاسى بغربته في الله محنته فاسأله عن جلدٍ من كان أعطاه؟
وجراح أمّته ما كان يَشغله عن بعضها بعضٌ يوماً فَينساهُ
و لسانه رطِبٌ بالذِّكر يشغله و الثغر باسمةٌ ، طَلْقٌ مُحَيَّاهُ
حتى إذا أَزِفَت يوماً منِيّتَه و لِسانُهُ ثَقُلَت و الموت وافاهُ
نادى أحبّته بِدئاً بأصغَرِهم فعسى يودّعهم و الكلّ لبَّاهُ
إلاّ صغيرهمُ يا وَيحَ أصغَرهم أمسى على قدَرٍ في الغربِ مأواه
يمشي على عثَرٍ و ينوح منفرداً يبكي على مَثلٍ ما كان لولاه
و يقول في وَجَلٍ لله مُلتَجِئاً ياربُّ مغفِرةً و ارحمه ربّاه
قد عاش مدرسةً و مضى لنا مثلاً فمماته عِبَرٌ و كذاك مَحْياهُ
دَبْلِن ( إيرلندا ) بتاريخ 12/02/2002م(/1)
سؤال التجربة التاريخية
01-6-2006
بقلم د. محمد الفقيه
"...وحتى نخرج من هذا علينا أن نقرأ التاريخ قراءة واعية مستوعبة لتجاربة رابطة بين أحداثه بعيدًا عن الانفعالات النفسية وتحكم الأهواء ، وهذا مع الأسف إحدى المميزات التي جعلت شعوباً أخرى تتقدم علينا وتتأهل للريادة ...."
لا تقتصر دراسة التاريخ على المتعة التي يجدها المطلع في سير الأقدمين وما جرى لهم من ترف وعلو شأن أو مصائب ونكسات ، فالنفوس تتشوف للقصص التاريخي وتلذ لسماعه وتطلب المزيد منه ، وتفزع إليه حينما يصيبها الملل أو التعب .
ويذكر الطبري في تفسيره أن الصحابة رضي الله عنهم أصابهم الملل يومًا ما فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يقص عليهم فأنزل الله تعالى سورة يوسف أورد فيها قصة يوسف صلى الله عليه وسلم كاملة من المنشأ حتى الوفاة ، بل تتجاوز دراسة التاريخ المتعة إلى ما هو أهم وأجدى وهو أخذ الدرس والعبرة والعظة من أحوال المتقدمين والاستفادة من تجاربهم .
وقد أرشد القرآن في آيات عديدة لهذا الأمر وحث على العودة للتاريخ واستقراء العبر والعظات من حوادثه وتجاربه ، ففي قوله تعالى : {قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين} إرشاد إلى استقراء التاريخ المحسوس المشاهد وهو آثار أولئك الأقوام وديارهم وما خلفوه ورائهم وعدم الاقتصار على التاريخ الروائي فقط ، لأن التاريخ المحسوس المشاهد له أثر أقوى في قلوب وعقول مشاهديه .
وفي آية أخرى يقول تعالى : {فاعتبروا يا أولي الأبصار} فهو إرشاد إلى أخذ العبرة من تجربة الآخرين وقياس النفس عليهم ، فنحن بشر مثلهم أتتنا رسالة مثلهم ، فإن اتبعنا طريقهم أصابنا ما أصابهم ، وسوف يجري علينا من سنة الله في التاريخ ما جرى عليهم .
وفي هذا العصر نشطت الدراسات التي تعنى باستقراء التاريخ وإعادة تقييمه ، ومحاولة الاستفادة من تجاربه ، ولعل الجميع ينادي بالاستفادة من التجارب التاريخية ، ولكن الصعوبة تمكن في أن التجربة وفهم أبعادها تعطي حكمًا خاصًا بمن جربها وعاشها ، وغالبًا ما تعطي شعورًا وأحاسيس أكثر مما تعطي معلومات وحقائق ، كذلك نقل التجربة بأبعادها وحقائقها ممن عايشها يكتنفه كثير من الصعوبة ، وما الصراع بين الأجيال إلا حول محاولة السابقين نقل التجربة ، ومحاولة اللاحقين رفض نقل التجربة من باب رفض الوصاية والانطلاق بتجربة جديدة لا علاقة لها بالسابقة أي منقطعة عنها تمامًا، ثم يأتي الجيل الذي بعدهم بانقطاع أيضًا ، وهكذا تتراكم الانقطاعات ونبقى ندور في نفس الدائرة ، وحتى نخرج من هذا علينا أن نقرأ التاريخ قراءة واعية مستوعبة لتجاربة رابطة بين أحداثه بعيدًا عن الانفعالات النفسية وتحكم الأهواء ، وهذا مع الأسف إحدى المميزات التي جعلت شعوباً أخرى تتقدم علينا وتتأهل للريادة حيث استقرأوا التاريخ وحوادثه وربطوا حاضرهم بماضيهم واستفادوا من تجارب السابقين .
فالولايات المتحدة مثلاً لديها عشرات المراكز المتخصصة لدراسة التجارب التاريخية ، وصدر منها كثير من الدراسات العميقة ، ومنها على سبيل المثال دراسات حول أسباب انهيار الدول والحضارات حتى يحافظوا على شباب حضارتهم ويبعدوا عنها شبح الشيخوخة ومن ثم الأنهيار .
والدولة الصهيونية لديها أكثر من مركز متخصص في دراسة فترة الحروب الصليبية ، حتى يستفيدوا من تجربتهم في اجتياح العالم الإسلامي وبقاءهم فترة طويلة ، فحتى يستطيع الصهاينة تحقيق توسعهم السرطاني في جسد الأمة ويطيلوا فترة بقائهم أقصى مدة ممكنة عملوا على دراسة عصر الحروب الصليبية .
والفكرة المسيطرة على الغالبية منا أن الأجيال السابقة لها ظروفها الخاصة وتجاربها الأكثر خصوصية ، كما أن طبيعة عصورهم مختلفة جدًا عن عصرنا ، فكل أمة تعيش في شبة عزلة بعاداتهاوأفكارها وطبائعها لذلك يوجد التشابه بين تجاربهم ، أما في عصرنا هذا عصر القرية الواحدة حيث انعدمت الحدود وتلاشت الفوارق الكثيرة بين الأمم بسبب التقدم الهائل في وسائل التقنية والاتصال والصناعة الإعلامية ، فأصبحت حركة المجتمع ومتغيراته والعوامل المؤثرة فيه مختلفة تمام الاختلاف عن العصور السابقة ، وقد يكون في هذه النظرة الباهتة جزءًا من الحقيقة لكنها جافت كامل الحقيقة ، فالأجيال السابقة لم تكن كل أمة معزولة لوحدها كما يحصل في بعض القبائل في أدغال أفريقيا أو استراليا حيث كانت تعيش في عزلة تامة عن غيرها ، فالتاريخ يثبت اتصالات واسعة كانت تتطور بمرور الوقت نقلت بسبها الأفكار والمعتقدات والصناعات والعلوم وغيرها من شرق الأرض إلى غربها والعكس كذلك ، وعصرنا كغيره من العصور هو عصر الغالب الذي يفرض أفكاره ومعتقداته وطبائعه بشتى الوسائل ويحاول محو ماعداها ، على أن هذه النظرة الظالمة للماضين تصل أحيانًا لأجيال قريبة شاركتنا في كثير من ظروف وطبيعة عصرنا ، لكنا نرفض تجاربها بحكم إنها أصبحت من الماضي ، ولو وعينا التاريخ حق الوعي ما كان هذا حالنا .(/1)
ولو ألقينا نظرة خاطفة في المائة سنة الماضية من تاريخنا المعاصر لوجدنا أنها مكتنزة بالتجارب الثريّة وقد عايشنا بعضها أو عايشنا من عايشها ، وقد تميز القرن الماضي بأنه قرن التجارب على مستوى العالم ، فكل فكرة بقيت جامدة على امتداد التاريخ دبت فيها الحياة وتمثلها أقوام في هذا القرن ، والعالم الإسلامي ليس معزولاً عن العالم ، فقد تأثر إيجابًا قليلاً وسلبًا كثيرًا بما حصل من أحداث على مستوى العالم ، كما أن هذا القرن تميز بأفكار الإصلاح والنهضة والمد والجزر في العمل الإسلامي .
وتشتد حاجتنا بالوعي بهذه التجارب خاصة ونحن الآن نمر بمرحلة مخاض عسير بعد تحطم السفينة وضياع البوصلة وفقدان القبطان وكثافة الضباب وقوة الموج ونحن في لجة البحر تتقاذفنا الأمواج في جميع الاتجاهات فلا نستطيع تمييز الطريق الصحيح ، ولم نجد من يمسك بالدفة ويصلح عطلها بل من يلملم شتاتها ، فاستحضار التجارب ووعي الدروس من أهم ما نقوم به في هذه المرحلة .
ولو أردنا استعراض جميع التجارب التي حصلت لطال بنا المقام ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله .
(1)
ولنبدأ بالصدمة الحضارية التي أصابت العالم الإسلامي عمومًا والمبتعثين للدراسة في الغرب خصوصًا ، حينما أفاق العالم الإسلامي على تاريخ مزهر وواقع مخجل ، وعدو متفوق متقدم غزاة في عقر داره بخيله ورجله وأفكاره وصناعاته ، فأدت الصدمة إلى خلخلة الاتزان التي مازلنا نعاني منها حتى إشعار آخر ، ومن أكثر الأمور عجبًا ذلك الشيخ الأزهري المعمم الذي أرسل في بعثة ليكون مفتيها ومرشدها ، ولتكون مواعظه حصنًا لهم ضد التأثيرات ، فكان أولهم تأثرًا وأسرعهم في تلقي الفكرة الأوربية واحتضانها وأجرؤهم في نقلها بحذافيرها للعالم الإسلامي ، وهنا تساءل لماذا تأثر هذا الشيخ وأمثاله ؟ بل كانوا على رأس المتأثرين .
فالمفترض أن يكونوا الحصن الأخير المقام والحامي لأفكار الأمة وعقائدها ، هل هناك خلل في إعداده لمواجهة المتغيرات ؟ وهل كان التعليم الديني منغلقًا - كما يدعيه البعض - ومانعاً العقول من التفكير ، فينهار الطالب عند أول صدمة ويستسلم استسلامًا كليًا ؟
قد يقال : إن تأثره بسبب الظرف التاريخي ، فقد كان مع بداية الاحتكاك بين الشرق والغرب ، ولم يكن المجتمع - والعلماء جزء من تكوينه - بعون هذا الفارق الثقافي والحضاري ولا كيفية التعامل معه ، لكن بعد ذلك وعوا التجربة وعملوا على تحصين طلابهم فكريًا وثقافيًا ضد هذا النوع وأمثاله من الغزو .
هذا ما نتمناه ولكن هل وعينا التجربة وعيًا متكاملاً ؟ أشك في ذلك بدليل التأثر بل التساقط المستمر إلى يومنا هذا وإن اختلفت طريقة التأثر .
ثم ما ترافق مع الصدمة من محاولة مستميتة للتوفيق بين الإسلام وبين ما انتجته تلك الأمم من فكر وثقافة ، وقد اكتنف محاولة التوفيق هذه كثيرًا من التجاوزات كان الغبن يقع فيها غالبًا على الدين وثوابته ، وقد تفرع عن هذا خلاف في المقبول والمرفوض من نتاج الغرب ، وربما تواضعوا على حل نظري وهو أن نستقدم التقنية وما ينفعنا ، ونرفض الأخلاق والأفكار ، ولم يطبق هذا الحل ولا نعرف كيف يطبق وكان التوصل إليه تصوريًا لم يخضع لدراسة جادة .
وقد تزامن مع هذا أيضًا أطروحات النهضة والمحاولة للعودة بالأمة لأمجادها الغابرة ، حينما أدرك المسلمون أنهم في ذيل الأمم ، وقد سبقتهم سبقًا كبيرًا على كافة الأصعدة ، فكثرت أطروحات النهضة وتنوعت بتنوع المشارب ، وكل يدلي بدلوه ويرى أن ما قدم هو الحل الأمثل لانتشال الأمة من هذا الواقع المؤلم ، وكانت الحلول تبنى على تشخيص الداء ، وهو (سبب التخلف) .
والجميع مازال يطرق عقله وفكره السؤال الخالد الذي لم يحد إجابة جادة عليه : "لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم ؟" فالتشخيصات كانت نظرية وأقرب وعلاجاتها كانت نظرية أيضًا وأقرب للخيال ، وقد اختلفت بينها اختلافًا كبيرًا وبل وتصادمت ، ولا نزال نعاني إلى يومنا هذا من اختلافها وتصادمها وتكرر الأخطاء نفسها .
فالكواكبي على سبيل المثال شخص داء الأمة في الإستبداد ، والنتيجة أن دوائها في مقاومة الإستبداد بكافة أشكاله .
والشيخ محمد عبده يشخصه في سوء فهم الدين وسوء التعامل معه من قبل حملته ، فنادى بما يسمى بالإصلاح الديني وأصبح مشروعه الأكبر بعدما تخلى عن المشروع السياسي الذي كان متابعًا فيه لشيخه الأفغاني ولعن السياسة ومشتقاتها ، ونادى بالإصلاح الديني في جوانب شتى ، فنادى بإصلاح الأزهر ، وإصلاح المناهج الدينية وطريقة التعليم الديني ، ودعا لنبذ التفكير وحارب الخرافة التي تغلغلت في عقول الناس وحياتهم ولبست لبوسًا دينيًا ، وبطبيعة الحال اصطدم مع أصحاب الاتجاهات التي نادى بإصلاحها ووجد مؤيدين من طوائف وأفكار مختلفة تدثروا بعباءته الواسعة الفضفاضة.(/2)
ولما توفي ظهرت انقساماتهم وضرب كل في واد ، والرجل من أكثر الشخصيات التي اختلف الناس حولها بين مؤيد مطلق له ولكل ما يقول ، وبين نابذ له ولجميع ما يقول ، وهذا إجحاف كبير ، فالرجل يؤخذ من كلامه ويرد ، وله أطروحات وأفكار جيدة ، كما أن له سقطات مريعة ، وكيثرًا ما يصدم النابذون له بمقولات له تتوافق مع فكرهم ، والعكس كذلك.
والموقف العدل أن تدرس تجربته كاملة وافية يؤخذ فيها الاعتبار بالظروف التي عايشها وطبيعة زمانه ومصادر الثقافة فيه ، والعوامل الداخلية والخارجية التي أثرت فيه ، ثم تدرس تطورات مدرسته ومنهجه وتأثيره فيمن خلفه ، ولا يؤخذ الرجل جملة أو يترك جملة .
وتزداد أهمية دراسة محمد عبده في هذا الوقت بالذات ، لأن الدعوة للإصلاح الديني عادت جذعه ونخشى أن نكرر نفس الأخطاء التي من ضمنها أن يكون الإصلاح استجابة لضغوط خارجية وليست حاجة داخلية ، فمشكلتنا بل مشكلاتنا ليست مع فهم الدين وتطبيقه فهو مَقْصي من حياتنا إلا في القليل .
إضافةً مثل هذه الدعوة وأمثالها يدخلها من ليس من أهلها وفي قلبه دغل على الدين وأهله ، فيشطح بها بعيدًا . وربما دعا لإصلاح حتى اليقينيات .
(2)
ونعرّج بعد ذلك على الدعوة التي اشتهرت باسم التقريب بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية ، حيث رأت زمرة أن السيطرة الواسعة للغرب في كافة الجوانب السياسية و الاقتصادية والثقافية ، إضافة للقوة العسكرية الضاربة والتقدم التقني المذهل ، ثم سمعوا عن الادعاءات التي أطلقها مفكرون غربيون عن التسامح وقبول الرأي الآخر والبحث عما يسعد الإنسان أيًا كان مصدره ، وجعل العقل هو الحكم في جميع القضايا الخلافية فتوهموا أن الغرب لو اقتنع بفكرتنا وأطروحاتنا الإسلامية فسوف يدخلون في دين الله أفواجًا ، وتصبح قواهم العسكرية والاقتصادية وغيرها في خدمة الإسلام ، بل إن الناس سيدخلون في الإسلام تبعًا للغرب فهم بطبيعة وضعهم تبع لهم في كل شيء ، ولكن وقف في سبيل تطبيق هذا المشروع عقبات وأسوار وخنادق ، فهم رأوا أنهم لو قدموا لهم الإسلام بوضعه الصحيح بيقينياته وأحكامه فسوف يرفضون لكن إن مارسوا عليه بعض عمليات التجميل - أقصد التشويه - فحذفوا وغيروا وبدلوا كل ما يتعارض مع الفكرة الغربية وقدموا لهم الفكرة الإسلامية من الجانب الذي يحبونه فسوف يقتنعون بالإسلام شيئًا فشيئًا .
والنتيجة تتلخص في عبارة قيلت في بعضهم : "قرب الأزهر إلى الغرب خطوات ولم يقرب الغرب إلى الأزهر خطوة واحدة" ، لقد وقع الضيم والظلم مع الأسف على الإسلام وحده ، فنفوا بعض اليقينيات ، وحذفوا كثيرًا من الأحكام وانتفوا من أقوال العلماء مالا يتعارض مع الفكرة الغربية حتى لو عارض الدليل ، ومما قاله أحدهم : "لا مانع من الأخذ بالقول بجواز أن تلي المرأة تزويج نفسها طالما أن يتعارض مع الفكرة الغربية" ، وبعض الشخصيات الفلسفية الغربية التي أظهرت ميلاً للإسلام إنما كان في الغالب قناعة فلسفية ، فهو يرى مثلاً أن النظرية الاقتصادية الإسلامية أفضل من غيرها في استثمار الأموال ، أو يميل إليه من زاوية سياسية أو اجتماعية لكنه لم يقتنع به كدين ويسلم وجهه لله كما ينبغي ، ولذلك إذا سمعت أطروحاته وجدها تتنافى كثيرًا مع الإسلام .
والآن الدعوة تعود من جديد في ظل الهجوم الغربي البربري على الإسلام واتهامه بأنه مصدر التطرف والإرهاب . ويقول أصحاب هذه الدعوة لماذا لا ينصب خطابنا على المفكرين الأحرار في الغرب ؟ دون المتعصبين منهم وأصحاب القرار السياسي ، أما التجربة السابقة فلنا غنمها وعليهم غرمها وخطابنا معهم لن يؤثر سلبًا على ديننا ، وهذا ما نتمناه إن أمكن تحقيقه ، لكن لابد من وعي التجربة قبل الإقدام عليها ، ولسنا أفضل ممن سبق ، والسالك في طريق لابد أن يصيبه ما أصاب من سلك قبله ، وهذا سنة تاريخية ، فمن كان في بداية الطريق فالخيار كاملاً في يده ليسلك أو يتنحى ، أما إذا ركب متن الطريق لابد أن يفرض عليه جميع نظام ذلك الطريق ويسير بنفس الطريقة التي يسير بها البقية فهو لا يتميز عن غيره وربما تكون التنازلات بداية طفيفة لكنها تزيد كلما توغل في الطريقة ، ولا أدعو إلى ترك هذا السبيل مطلقا ولكن أكرر لابد من وعي التجربة كاملة ، ثم الوعي بطبيعة وعقلية مفكري الغرب وكيفية مخاطبتهم .
(3)
وإذا انتقلنا لتجربة الجماعات الإسلامية - والحديث ذو شجون - وبدءًا بجماعة الإخوان المسلمين أو الجماعة الأم كما يحلو لأتباعها أن يطلقوا علهيا وما تفرع عنها من جماعات أو نشأت مستقلة عنها ، فدراسة ظروف نشأتها ومسارها ومبادئها والتغيرات التي طرأت عليها ، وثباتها على مبادئها الأولى أو انحرافها عنها ، وجدوى العمل تحت ظلالها أو الاستقلال عنها، وأثرها في تنظيم العمل الإسلامي وبعض المساوئ المرافقة مثل العصبية للجماعة والنبذ والإقصاء لكل من خالفها ولم يستظل بظلها .(/3)
ونحط رحالنا في فترة الصحوة الإسلامية المباركة بتجربتها الثرية المتشبعة الواسعة ، بدءًا بظروف انطلاقها واكتساحها للشارع الإسلامي ، فنحن نعتمد في تفسير انطلاقها على ما يكتبه أعداؤها حيث يختلفون تحليلات باهتة واهية لأسباب انطلاق الصحوة وقوتها وانتشارها ، فبعضهم فسره بفشل المشروع القومي الذي أخذ بقلوب الناس ثم تبين أنه كذبة العصر وأن إبطاله من شموع سرعان ما ذبت تحت شمس الحقيقة فكان فرصة كبرى لانطلاق المشروع الإسلامي ، وبعضهم عد الفقر في الدول الفقيرة والغنى في الدول الغنية سببًا ، ولا أدري كيف يقبل هذا التناقض ولكنهم يستخدمون أي تعليل في سبيل خدمة فكرتهم وإسقاط مخالفهم .
إن هذا الأمر (أقصد بداية الصحوة ونشأتها وتطورها) يحتاج لدراسة وتأمل حتى نوفر لهذه الصحوة الاستمرار ونجدد شبابها باستمرار فتتأخر شيخوتها التي بدأت علاماتها تظهر مبكرة جدًا ، ولا ننسى التأكيد على النظر في مسيرة الصحوة وما اكتنف هذه المسيرة من معوقات وعقبات وصمودها أمامها إلى أن بدأ الضعف والتراجع والانهيار النفسي في صفوف أبناءها، وكذلك طبيعة خطابها الجماهيري حيث كان يخاطب الفئة العريضة من أبناء الأمة وكان قريبًا لمشكلاتهم وهمومهم بعكس الخطاب العلماني الذي كان نخبويًا فاختنق في فئة تخاطب نفسها ولا يشعر بها أحد .
وهل إهمال الصحوة للخطاب النخبوة كان خطأ ينبغي تداركه أن استطعنا ذلك ، فالصحوة اتكأت كثيرًا على نجاح الخطاب الجماهيري والتفاف الشباب حولها فخطابها كما ذكرنا سهل وقريب من القلوب ، ولكن الخطأ يكمن في أن المراهنة على التفاف الجماهير وإهمال النخب مراهنة خاسرة ، لأن هذه الجماهير سرعان ما تنفض عند أول إحساس بالخطر ولا تصمد أمام التأثيرات والمتغيرات ، ولعل التوازن هو الأجدى وأكثر شباب الصحوة عندما شبوا عن الطوق وما عاد يشبع نهمهم المعرفي الأطروحات السابقة ، ووجدوا بغيتهم في الخطاب العلماني الجديد المسمى زورًا وبهتانًا بالخطاب الإسلامي المستنير ، فانصرفوا إليه ، وأقبلوا يلتهمونه بكبير نهم وقليل فهم ؛ فأدى بتساقط كثير منهم ، وانحرافهم عن الصراط ، وأصبحوا ينادون بعكس الأفكار التي تبنوها وآمنوا بها ، بل أصبحوا يعادونها ويعادون أهلها .
وإلى الآن هل استوعبنا هذا التغير وهذه المرحلة ، هل سينتبه الحرس القديم للصحوة لتطورات العصر ويأتي بخطاب يوافقها ، لأن بعض الخطابات القديمة تجاوزها الزمن ، وفي المقابل هل سينتبه الجيل الجديد الذي يدعو لمشروع ما بعد الصحوة إلى خطورة كثير من الطرق التي يسلكونها بل إن بعضهم أصبح لعبة في أيدي العلمانيين يوجهونه كيفما شاؤوا ، وأصبح بعضهم أشد على الإسلام من أعدائه ، ثم نتساءل هل كان عزل الطلاب عن الكتابات المنحرفة أجدى كما كان يمارس أم تبصيرهم بها وتحصينهم ضد ضلالاتها هو الأجدى ، هل كان جهل الشباب بهذه الأفكار ثم انتشارها وصد لها إليهم رغم الخطر جعلهم يقعون فريسة لها ؟
البعض يتهم مشايخ الصحوة أنهم منعوا من قراءة هذه الأفكار وأملوا عليهم رأيًا واحدًا ، وكان الأجدى ألا يمنعوهم عنها بل يبصرونهم بكيفية التعامل معها ويوسعون أفقهم فلا يتأثرون بها ، ولكن هذا رأي مجرد تصوري والأولى دراسة هذه التجربة والخروج بعد ذلك بالرأي الأقرب للصواب .
وأما الدروس العلمية التي انتشرت في كل مكان بسبب اهتمام الصحوة بجانب العلم الشرعي ، هل الدروس بهذه الطريقة مجدية وتخرج علماء ؟
(4)
ولاننسى التجربة الجهادية حينما انطلق الجهاد من أرض الأفغان ووقفت الأمة خلف المجاهدين الذين أوقفوا المد الأحمر الشيوعي بلن كانوا أحد أسباب سقوطه ، وكان لانتصاراتهم على الشيوعيين أكبر الأثر في الروح المعنوية لدى الأمة ، واستعادة جزء من كرامتها ، بل لعله السبب الأكبر في انتشار الصحوة في فئات الشباب فيمموا نحو أفغانستان من كل مكان وحدث النصر الكبير على الشيوعيين ، ثم حدث الاختلاف الكبير بينهم والتقاتل بينهم مما أدمى قلوب المؤمنين وأخجلهم وقد كانوا رافعي الهامات بأمجادهم ، ثم القطيعة الكبيرة بين شباب الجهاد ومجتمعهم بُرمّته واضطراب الهدف الجهادي وعدم وضوحه عند بعضهم حتى عدّوا الصديق عدوا ، فهل كان اختلال الموازين في الجهاد في وقت كانت الأمة مستفيدة من وجود التنافس بين القطبين ؟ ثم قبول العون من أمريكا المسيحية العلمانية هل كان يصب في مصلحة الإسلام ؟ أو على الأقل حقق مصلحة مشتركة لهم فمدوا لهم أيديهم ثم كشروا لهم عن أنيابهم ، لينتبه الإسلاميون الذين يضعون أيديهم في يد أمريكا بدعوى تحقيق مصلحة مشتركة لمثل هذه التجربة .
ولكن السؤال الأهم كيف نستفيد من تجاربنا ؟ ولعل التنظير أسهل عمل يقوم به الإنسان لكن حسبه هنا ما بوسعه ، ولعله يأتي من يخرج الفكرة من حيز التنظير إلى حيز التطبيق ، وربما تتلخص الإجابة في نقاط :(/4)
1- إنشاء مراكز متخصصة لدراسة التجارب التاريخية ، وتكون الدراسة على أحدث وأفضل المناهج التاريخية لاستقراء التاريخ الإسلامي .
2- أن تكون الدراسة مجردة للبحث العلمي بعيدًا عن إضفاء التمجيد أو كيل الاتهامات .
3- لا نغفل الجانب الديني في دراستنا على التاريخ ، فالبعض يظن أن الدراسة المنهجية العلمية تستبعد التفسير الديني للتاريخ ، كما أنا لا نقتصر عليها ، بل نستفيد منها ومن المناهج الأخرى بطريقة لا يطغى أحدها على الآخر .
4- الحاضر امتداد للماضي والمستقبل امتداد للحاضر ، ومن الخطأ القطيعة بين هذه الأزمنة الثلاثة فحاضرنا يبني على ماضينا شئنا أم أبينا والمستقبل ثمرة الحاضر ، فإذا وعينا هذا نظرنا للماضي نظرة المستفيد المجرب وأكملنا سيرة البناء مع حذرٍ ووعي أكبر ، ثم حولنا الحاضر إعدادًا للمستقبل لتكون مخرجاته صالحة للمستقبل ومن هنا تأتي أهمية الدراسات المستقبلية ، فالبعض بهملها ويطن أن الحاضر هو نهاية التاريخ فيعمل مخرجاته على وفقه ، ولا يحدث تغير إلا ويهب إليه كأنه النهاية ويهدم بناءه الذي كان عليه فيتجاوزه الزمن وهو لا يشعر والمجتمعات التي نهضت والتي استمرت في نهوضها أهتمت بهذا الجانب ، فالبقاء الآن للأسرع بجانب الأقوى .
5- استيعاب جميع القدرات وتنوع التخصصات فالعمل يحتاج لكل خبرة وقدرة ولا تستطيع عقلية واحدة أن تقدم الدراسة الصحيحة بمفردها فقد انتهى زمان حكيم القرية .
6- أن يكون حكمنا على الأشخاص والمواقف والحوادث شموليًا ينظر للقضية من كافة جوانبها دون الاقتصار على جانب واحد فقط ، وإذا حاكمنا تجربة نحاكمها بعد دراسة ظروفها والعوامل الداخلية والخارجية المؤثرة فيها وسياق زمانها لا زماننا .(/5)
سؤال النهضة والتنمية المعلق يعود أكثر إلحاحاً وأهمية
إبراهيم غرايبة 29/7/1426
03/09/2005
كان فتح مدينة القسطنطينية عام 1453م ثم الزحف الإسلامي غرباً حتى أسوار فيينا عاصمة النمسا عام 1683 مصحوباً أيضاً بانحسار إسلامي في الأندلس وشرق آسيا والمحيط الهندي وامتداد بحري استعماري برتغالي، ثم هولندي ثم بريطاني في الخليج العربي والهند، وأفاق العرب والمسلمون في عام 1798 على دوي المدافع الفرنسية تدك المدن المصرية.
ربما كان الخروج الإسلامي من الأندلس عام 1492 بعد ثمانمائة عام من الوجود الحضاري والسياسي المميز، ثم الانسحاب التركي العثماني عام 1683 عن فيينا بعد فشل الحصار عليها، وما تبع ذلك من سلسلة الهزائم التركية، والتي ربما بدأت جذورها قبل ذلك بمائة عام، منذ عهد السلطان سليم الثاني حفيد سليم الأول الذي أدخل الوطن العربي في الدولة العثمانية عام 1516، وابن سليمان القانوني الذي بلغ بالدولة العثمانية إلى أوجها، ثم الحملة الجغرافية والاستكشافية والاستعمارية التي بدأت عام 1492، وهو العام الذي سقطت فيه غرناطة بحملة كولومبوس لاكتشاف طريق بديل إلى الهند أدى إلى معرفة الغرب بالقارة "الأمريكية" التي كان يعرفها العرب قبله بألف وخمسمائة سنة على الأقل، وما تبعها من حملات بحرية في المحيطات والبحار أدت إلى هيمنة على السواحل والممرات والخلجان والطرق البحرية التي كانت تحت سيطرة العرب، ثم الاحتلال البريطاني للقارة الهندية والسيطرة على الطريق البحري والبري الممتد بين أوروبا والهند بدءاً بمضيق باب المندب وجبل طارق ومروراً بالجزر والسواحل والخلجان في البحر المتوسط والبحر الأحمر والخليج العربي وبحر العرب والمحيط الهندي.
وأفاق العرب والمسلمون متأخرين ربما بعد ثلاثمائة سنة على حقيقة تخلفهم عن الغرب، وتقدمه عليهم أشواطاً بعيدة، فكانت الحملة الفرنسية على مصر بداية للسؤال العربي الإسلامي القاسي والملح، ما الذي حدث؟ ما الذي أوقف المد الإسلامي الحضاري والسياسي والعسكري بعد ألف عام من النمو والاتساع المتواصل؟ كيف يستعيد العرب والمسلمون نهضتهم؟
أين الخطأ؟ هو السؤال الذي يعتقد برنارد لويس أن المسلمين دأبوا على طرحه منذ مدة طويلة عندما أدركوا تفوق الغرب عليهم، فهو سؤال يشي بالمرارة والقلق وإحساس متزايد وعميق بالغضب، فقد كان المسار الإسلامي آخذاً بالصعود والتفوق لأكثر من ألف سنة من الفتوحات والانتصارات، بدأت في الشام والعراق في القرن السابع الميلادي، وتواصلت في آسيا وأفريقيا وأوروبا، وصاحب تلك الحملات العسكرية تجارة واسعة ومتنوعة وممتدة في القارات الثلاث، وحركة ثقافية وعلمية وفنية.
ثم بدأ المد الإسلامي بالتوقف والانحسار، فتوقفت الانتصارات، وبدأ الانحسار من أنحاء مختلفة من العالم بدءاً بالأندلس في نهاية القرن الخامس عشر، وتوقفت حركة الترجمة الكبرى، وتوقف الإنتاج العلمي والمعرفي، وبدأ الأوروبيون يحرزون تقدماً ملموساً في فنون الحضارة، وبقدوم ما يُسمّى "المعرفة الجديدة" بدأوا يتقدمون بسرعة، وسبقوا التراث العلمي والتكنولوجي ثم الثقافي للعالم الإسلامي بأشواط طويلة.
وعندما استطاع فاسكو دي غاما الوصول بحراً من البرتغال إلى رأس الرجاء الصالح في نهاية القرن الخامس عشر فتح طريقاً بحرياً بين أوروبا وآسيا متجاوزاً المجال الإستراتيجي للطريق السابق الذي كان يسيطر عليه المسلمون، وبدأ البرتغال والإسبان والهولنديون ينشئون قواعد لهم في جنوب شرق آسيا، وفي الموانئ والسواحل المطلة على المحيط الأطلسي والمحيط الهندي لتأمين طرق التجارة والتحكم بها.
وكانت القارة الأمريكية التي اكتشفها الغرب مصدراً للموارد والهيمنة التي لا تصلها القوة الإسلامية العثمانية، ومكنت الأراضي الخصبة والمعادن التي امتلكها الأوروبيون من الاستغناء عن كثير من المنتوجات القادمة من الشرق الأوسط وآسيا، ونشطت المهارات التجارية والحرفية.
وكانت هزيمة الأتراك في فيينا عام 1683 بداية تحول وانكسار، وتبعتها هزائم متوالية ومتواصلة، في مالطة عام 1684، وفي المواجهة مع روسيا عام 1696 عندما استولى القيصر الروسي بطرس الأكبر على مدينة أزوف على البحر الأسود.
وبعد الحملة الفرنسية على مصر بدأ المسلمون يتطلعون إلى التجربة الفرنسية الثقافية والحضارية بصفة ذلك خطوة للنهضة من جديد، وأملاً في أن يجدوا في هذه الأفكار محركات تدير عجلة العلوم والتقدم.
وأصبحت التجربة الأوروبية "العلمانية" تمثل مرجعية لحركات التحديث والإصلاح في العالم الإسلامي في القرنين التاسع عشر والعشرين، وهو ما دعا إليه كثير من المصلحين والمفكرين، مثل جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعبد الرحمن الكواكبي.(/1)
وكان المثقفون الذين حكموا العالم الإسلامي وتولوا المناهج والإدارة فيه ممن سار في طريق الغرب، وتحولت الدول الإسلامية إلى علمانية، ثم ظهرت موجة إسلامية مضادة تدعو إلى نبذ العلمانية، باعتبار أن الإسلام مختلف عن المسيحية، فالدولة الإسلامية ليست دينية إلا بالقدر الذي تُعدّ فيه بريطانيا ملكية، ومشكلة النزاع بين الدين والدولة هي مسيحية أوروبية، ولا تنطبق على العالم الإسلامي.
كان المسلمون يحتقرون الغرب ولا يأبهون بالجهود الحثيثة التي يبذلها للنهضة والتقدم، وعندما أفاقوا على صدمة التفوق التقني في بداية القرن الثامن عشر كان الغرب قد سبقهم بأربعمائة سنة في التقدم العلمي، وبدأ التأثير الغربي يغزو الشرق من مدخل التقنية.
عرف الشرق الساعة الميكانيكية التي يصنعها الغرب لقياس الزمن بدقة تتفوق على الوسائل التي كانت تستخدم في الشرق، كان ذلك في القرن السادس عشر الميلادي، ثم المطبعة والنظارات الطبية والتلسكوب.
وبدأ الحكام في الأستانة (استمبول) والقاهرة يستعينون بالغرب لتحديث دولهم وجيوشهم، واستقدم الخبراء من الغرب للمشاركة في عمليات إعادة تنظيم الجيش، واستخدمت أنظمة الإدارة الغربية، والأسلحة الغربية، وأُرسلت البعثات التعليمية إلى الغرب لاقتباس العلوم الغربية "الإفرنجية".
وبدأ تذوق الموسيقى الغربية والفنون الغربية أيضاً، وانتشر اللباس الغربي، وأنظمة العمارة في البيوت والقصور والمباني العامة، حتى المساجد صارت تبنى على الطراز المعماري الغربي.
وعندما يظهر تأثير أجنبي في شيء ذي أهمية جوهرية لثقافة ما، مثل المؤسسات والمساجد فهذا يعني أن الثقة بالنفس ثقافياً قد اهتزت.
كان التأثير البصري الغربي طاغياً بدءاً في اللوحات الفنية والصور الشمسية ثم في اللباس، وكان لذلك تأثير على الهوية والمعتقدات، فالصور والتماثيل التي كانت محرمة في الثقافة الإسلامية صارت شائعة في القصور والمطبوعات والنقد وطوابع البريد، وبدأ التغيير في الجيوش التي صارت جميعها ترتدي أزياء غربية، ثم امتد تغيير اللباس إلى المجتمعات، وعندما يغير الناس ملابسهم ويرتدون ملابس مجتمع آخر يكونون قد اتخذوا خياراً ثقافياً آخر، وقد يكون مقاومة أو قبول تغيير الملابس- والذي ظل موضع جدال في الشرق أكثر من قرنين- يستند إلى هذه الدلالة.
وبدأت الترجمة تشهد مساراً مختلفاً عما عهدته طوال القرون الماضية، فقد بدأت ترجمة الروايات والمسرحيات، واتجهت الترجمة نحو اللغات الغربية، وانحسرت اللغة الفارسية والتركية من الوسط العربي، كما انحسرت العربية من الأوساط الإيرانية والتركية، واقتبست بلدان الشرق الأوسط الأنواع الأدبية الأوروبية، مثل الرواية والقصة القصيرة والمسرحية، واستوعبت في الشرق استيعاباً كاملاً، وزادت أعداد الكتب الأصيلة من هذه الأنواع التي تصدر في هذه البلدان، بل لقد أصبحت هذه هي الأنواع الأدبية المعتادة للتعبير، وامتد التأثير إلى النسيج اللغوي نفسه، حتى إن الكتابات العربية الحديثة والأصيلة في الشرق الأوسط وبخاصة في الصحف تبدو وكأنها ترجمة حرفية من الإنجليزية والفرنسية.
وامتد التأثير الثقافي إلى التسلية والترفيه، فانتشرت ألعاب الورق، والألعاب الرياضية البدنية، مثل كرة القدم والسلة والبولو.
وكان دعاة الإصلاح والتحديث في العالم الإسلامي يركزون جهودهم في ثلاثة مجالات رئيسة، هي المجالات العسكرية والاقتصادية والسياسية، ولكن النتائج كانت مخيبة للآمال، فقد أدى السعي للنصر بجيوش محدثة إلى سلسلة من الهزائم المهينة، وأدى السعي للرخاء عن طريق التنمية الحديثة إلى الفقر والفساد والاعتماد على المساعدات الخارجية.
ولم تساعد الجيوش ولا المدارس والجامعات والمصانع والبرلمانات دول الشرق ومجتمعاتها، ولا أوقفت الفجوة بين العالم الإسلامي وبين الغرب، وكل ما عملته أنها ساعدت بعض النخب.
ولم يقتصر الأمر على أن يجد المسلمون أنفسهم ضعفاء وفقراء بعد قرون من الثراء والقوة، فقد أتى القرن العشرون بمزيد من الإذلال والهزائم، وتقدمت عليهم دول أخرى كانت أضعف وأفقر، مثل اليابان ودول شرق آسيا.
ومازال السؤال الأساسي مطروحاً: أين الخطأ؟ وكيف نصحح؟
الكثير من المسلمين يطرحون السؤال اليوم في سياق النقد الذاتي بعيداً عن رد الأسباب كلها إلى الاحتلال والهيمنة والاستعمار، ويردها البعض إلى قضايا ومفاتيح إصلاحية ونهضوية، والبعض يردها إلى قضايا ثقافية وفكرية تعود إلى التخلي عن الثقافة الإسلامية والتبعية الثقافية والفكرية للغرب.
والمشروع الغربي للإصلاح يرد مشكلات العالم الإسلامي إلى غياب الحرية، حرية التفكير وحرية الاختيار، وحرية الاقتصاد، وحرية المرأة.(/2)
وأيا كان السبب، وأيا كانت الإجابة فإن منطقة الشرق الأوسط تبدو في طريقها الحالي وكأنها مقدمة على تفجير نفسها والعالم كله معها أيضاً، وهذا يجعل لسؤال الإصلاح والنهضة وجاهة وأهمية ربما تفوق المرحلة الماضية، فالمشهد العربي والإسلامي اليوم يبدو سباقاً بين الحرب الأهلية والمصالحة، وبين النهضة والتخلف، توظيف فرص اللحاق بالعالم أو ضياعها إلى الأبد، ذلك أن العالم يبدو مقدماً على التشكل في خريطة جديدة، وقد نرى في السنوات العشرين القادمة أقطاباً متعددة للعالم، الصين، والهند، وأوروبا، وروسيا.
وقد يتعرض الوطن العربي إلى احتلال أوروبي جديد.
وإذا استطاعت الأمة العربية والإسلامية أن تسوي خلافاتها، وتعمل على تكاتف طاقاتها ومواهبها ومواردها لتحقيق أهداف نهضوية مشتركة، فقد تضع لنفسها مكاناً لائقاً على الخريطة العالمية، ولكنها إذا لم تفعل فلن يبقى وضعها كما هو في السنوات الخمسين الماضية، بل إنها قد تتجه نحو الفوضى والتبعية والفقر والتخلف.(/3)
سؤال حول النذر
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لقد نذرت لله تعالى أن أحفظ خمسة أحاديث في اليوم لمدة محددة وقد تحقق النذر والحمد لله ولكنني ملتزم مع مجموعة ونحفظ القرآن السؤال
1- هل يجوز لي استبدال هذه الأحاديث بسور أو آيات فإذا كان يمكنني أرجو تحديد الكمية ؟
2- هل يمكنني دفع كفارة يمين مع الاستمرار في الحفظ ولكن التراخي فيه ؟
3- هل يمكنني استبدال هذه الأحاديث بأحاديث قدسية ؟
أرجو عرض السؤال على أحد علماء الإفتاء وعدم القياس على فتوى سابقة أو الاكتفاء بفتوى سابقة لسيادتهم والإجابة على كافة فروع السؤال لكي يرتاح ضميري وجزاكم اللّه خيراً .
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى بعد حمدِ الله كما ينبغي لجلاله ، و الصلاة و السلام على نبيّه محمّدٍ و آله :
اوّلاً : الأولى بالمسلم أن يتقرّب إلى الله تعالى بحسب وسعه و طاقته ، و أن لا يشق على نفسه فيوجب عليها ما لم يوجبه الله و لا رسوله من الأعمال ، و ليعلم أنّ النذر لا يغيّر من قدر الله شيئاً ، و لا يُثاب المرء على إنجازه ، لأنّه غير واجب و لا مستحبّ أصلاً ، فقد روى الشيخان ، و أصحاب السنن ، و أحمد ، و غيرهم عن سَعِيدُ بْنُ الْحَارِثِ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ - رضى الله عنهما - يَقُولُ أَوَلَمْ يُنْهَوْا عَنِ النَّذْرِ إِنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : « إِنَّ النَّذْرَ لاَ يُقَدِّمُ شَيْئاً ، وَلاَ يُؤَخِّرُ ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِالنَّذْرِ مِنَ الْبَخِيلِ » .
ثانياً : قد ينذر الإنسان نذراً ، و يريد به مجرّد القَسَم ، فيكون حًكمًه حكمَ اليمين ، و هو الذي لا اشتراط فيه ، كأن يقول الناذر : لله عليّ كذا و كذا . من غير أن يشترط جلب خير أو دفع شر ، و أمّا صيغة النذر المنعقِد فكأن يقول الناذر : إن حصل كذا ، فلله عليّ كذا ، أو نحو ذلك من الصيغ التي ترتب فعل الطاعة على جلب خيرٍ أو دفع شر .
و الظاهر أن ما أقدمت عليه الأخت السائلة هو من قَبيل النذر ( و ليس حَلِفاً ) مبنىً و معنىً ، بدليل قولها : ( و قد تحقق النذر والحمد لله ) .
ثالثاً : يجب على من نذر طاعةً لله تعالى أن يفي بنذره ، و من نذر بمعصيةٍ أن يكفّ عنها و لا يأتيها فقد توعّد الله من لم يَفِ بنذره في قوله : ( وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ) .
و روى البخاري في صحيحه ، و أصحاب السنن في سننهم و مالك في موطّئه ، و أحمد في مسنده ، و غيرهم عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - أنّ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ « مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلاَ يَعْصِهِ »
و ما ورد في استفتاء الأخت السائلة ممّا يجب الوفاء به ، خاصّةً و أنّ طلب العلم ، و منه حفظ الحديث عبادة و طاعة ، و كلّ طاعةٍ نَذَََرَ العبد فعلها ، وجب أداؤها .
رابعاً : ما دمتِ قد نذرت أن تحفظي خمسة أحاديث في اليوم فليس لك أن تستبدليها بآيات أو سُوَر أو غير ذلك ، بل الواجب عليك هو الالتزام بما ألزمت نفسك به عند انعقاد النذر .
خامساً : إذا تعذّر عليك الوفاء بنذرك على الصيغة التي حددتيها عند انعقاده ( و هي خمسة أحاديث يومياً ) فلك أن تكفّري عن نذرك كفّارة يمين ، و تجتهدي في حفظ القرآن الكريم و ما تيسر من الأحاديث ، و قليل دائم خيرٌ من كثيرٍ منقطع ، أما إن كنت قادرة على الوفاء فاتقي الله و لا تفرّطي في جنبه ، و أدّي ما ألزمت نفسك به على أكمل وجه .
سادساً : الأحاديث القدسية تأخذ حكم الأحاديث النبويّة في كافّة الأحكام ، لأنّها من قول النبيّ صلى الله عليه و سلّم ، و إن كان معناها من عند الله تعالى ، أو جاءت بصيغة الرواية عن ربّ العالمين .
هذا ، و الله تعالى أجلّ و أعلى و أعلم و أحكم .
و تعميماً للفائدة ألفتُ نظر من وَقفَ على هذه الفتوى إلى الفائدة التالية :
مسألة : لو حلف امرؤٌ أن يحفظ قدراً من الأحاديث النبويّة ، فهل يُجزؤُه أن يحفظ من آيات القرأن الكريم قدراً مماثلاً ، و يكون بذلك بارّاً بقَسَمه ؟(/1)
و الجواب : ممّا لا شك فيه أنّ حفظ القرآن الكريم أفضل من حفظ الحديث ، لأن تلاوة القرآن عبادة ، و للقارئ بكلّ حرف عشر حسنات ، فقد روى الترمذي و الدارمي عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم « مَنْ قَرَأَ حَرْفاً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا لاَ أَقُولُ الم حَرْفٌ وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَ لاَمٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ » ، و ليس ذلك للحديث ، و عليه أرى أنّه لا بأس في هذه الحال أن يحفظ من حلف أن يحفظ مقداراً ما من الأحاديث ما يعادلها أو يزيد عليها من كتاب الله ، بدلاً منها ، فقد روى البخاري و الترمذي و مالك و أحمد عن أبي هريرة ، و مسلم عَنْ عَدِىٍّ بن حاتم ، و النسائي عن عبد الرحمن بن سمُرة و عَمْرو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ ، أنّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم قَالَ : « إِذَا حَلَفَ أَحَدُكُمْ عَلَى الْيَمِينِ فَرَأَى خَيْراً مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْهَا وَلْيَأْتِ الَّذِى هُوَ خَيْرٌ » .
أما تحديد المقدار فلا يمكن على وجه الدقّة لأنّ الآيات تتفاوت في الطول و القصر ، كما هو الحال بالنسبة للأحاديث ، و لذلك فلا بدّ من التسديد و المقاربة في تحديد المقدار الذي يتوجّب عليه أن يحفظه , و الله أعلم .
و جاء في الموطّأ ( 2 / 479 ) : قَالَ يَحْيَى : وَ سَمِعْتُ مَالِكاً يَقُولُ مَنْ قَالَ عَلَىَّ نَذْرٌ وَلَمْ يُسَمِّ شَيْئاً إِنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ . اهـ .
، ففي هذه الحالة يأتي الذي هو خير ، و يُُُكفّر عن نذره كفّارة يمين(/2)
سؤال حول تزوير الشهادات
السؤال
السلام عليكم و رحمة الله
أنا طالب باكستاني أدرس الطب في إحدى دول أوربا الشرقية
و ملخص المشكلة أن الطلاب هنا يلجؤون إلى وسائل غير قانونية في اجتياز الامتحانات أو حتى في اجتياز سنة دراسية فإذا ما لجأ طالب إلى مثل هذه الوسائل ثم سعى فيما بعد إلى تعويض ما فاته من معلومات من خلال التمرين المتواصل في المستشفيات و الحصول على شهادة الأطباء المتخصصين المشرفين عليه بأنه أصبح قادراَ تماماَ على مزاولة الطب ففي هذه الحالة هل يعد كسب هذا الطالب من عمله في الطب فيما بعد كسباَ حراماَ ولكم جزيل الشكر
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
إن الحالة التي ذكرتها في سؤالك ممّا ابتلي بها كثير من الشبّان المسلمين الذين يدرسون خارج بلدتنهم ، و الجواب عن استفسارك ذو عدّة شعب :
الأولى : أن الحصول على شهادة دراسيّة لمن لم تتوفر فيه شروط الحصول عليها نوع من التزوير يصدق على من انتحله الوصف النبوي الوارد في حديث الشيخين عَنْ عَائِشَةَ و أسماء بنتي الصدّيق رضي الله عنهم أجمعين أنّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال : « الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلاَبِسِ ثَوْبَىْ زُورٍ » ، و لا شك في أنّ من حصل على الإجازة بدون اجتياز متطلباتها و شروطها قد تشبّع بما لم يعط ، فكانت الشهادة التي حصل عليها بهذه الطريق شهادة زور .
الثانية : قد يتعرّض الطالب المسلم في بعض البلدان إلى ابتزاز و استغلال ، فيحرم من حقّه أو بعضه ما لم يفتدي نفسه ببعض المال ، فإن فعل فلا حَرَج إن شاء الله ، إذا كان ذلك لرفع الظلم عن نفسه ، و تحصيل حقّه لا غير .
الثالثة : ما ذكره السائل من أن من حصل على الشهادة بالطريقة المذكورة قد يثابر و يجدّ في عماه لاحقاً حتى يبلغ من المستوى العلمي و الكفاءة و الخبرة بالممارسة و التدريب ما يجعله أهلاً لحيازة تلك الإجازة ، لا يرفع عنه إثم ما تقدّم ، لأنّ الأصل في الطالب أن يتأهل لها قبل التخرّج و ليس بعده ، و إن كان طبيباً – على سبيل المثال – فقد يكون أودى بحياة بعض المرضى و أضر بصحة آخرين و قصّر في واجبه مع غيرهم ، قبل أن يبلغ المستوى المطلوب لممارسة مهنته ، فمن يحمل اثم ذلك كلّه ؟
أمّا ما يكسبه من المال بعد تمكّنه من مهنته فلا أرى فيه شبهة حرام ، و لا أقول بحرمته ، لأنّه لا يترتب عليه أذى لأحد ، أو تعدٍ على حقوق الآخرين ، و ما دام المرء يجيد صنعته فليدأب على العمل في مجالها و لا يَعجَز ، و ما مثله في نظري إلا كمثل صانعين أحدهما تخرج في معهد صناعي و الآخر مارس الصناعة حتى أتقنها ، فهما في الكفاءة سواء ، و أهلية العمل و الكسب سواء .
و العلم عند الله .(/1)
سؤال حول مراتب الجنّة
السؤال
السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته
لقد استمعت إلى حديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بمعنى الحديث بأنه يقال للذي يحفظ شيئاً من كتاب اللّه إقرأ وارتقي فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها
ولكننا نعلم بأن مراتب الجنة مئة درجة فكيف يكون ذلك وآيات القرآن الكريم بالملايين أرجو الإفادة في هذا الموضوع وفي موضوع مراتب الجنة والفرق بين المرتبة والأخرى وجزاكم اللّه خيرا
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
أولاً : الحديث الذي أشرتَ إلى معناه صحيح رواه أحمد في مسنده و أبو داود في سننه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ « يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ اقْرَأْ وَارْقَ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِى الدُّنْيَا فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا » .
ثانياً : لعلك تشير في ذكر عدد مراتب الجنّة إلى ما رواه البخاري عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم « مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَصَامَ رَمَضَانَ ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ جَاهَدَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ، أَوْ جَلَسَ فِى أَرْضِهِ الَّتِى وُلِدَ فِيهَا » . فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ نُبَشِّرُ النَّاسَ . قَالَ « إِنَّ فِى الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ ، أُرَاهُ فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ » .
و ما رواه مسلم في صحيحه عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ « يَا أَبَا سَعِيدٍ مَنْ رَضِىَ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِيناً وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ » . فَعَجِبَ لَهَا أَبُو سَعِيدٍ فَقَالَ أَعِدْهَا عَلَىَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَفَعَلَ ثُمَّ قَالَ « وَأُخْرَى يُرْفَعُ بِهَا الْعَبْدُ مِائَةَ دَرَجَةٍ فِى الْجَنَّةِ مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ » . قَالَ وَمَا هِىَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ » .
ثالثاً : إنّ آيات القرآن الكريم ليست بالملايين كما ذكرتَ و لكنها 6236 آية كريمة .
رابعاً : لا تعارض بين الحديثين الذين أشرت إليهما و ذلك للسببين التاليين :
• إن درجات الجنة لا يعلم عددها إلا الله تعالى ، و أمّا ما جاء من أنّها مائة فتلك عدّة درجات المجاهدين خاصّة ، إذ أنّ لهم مائة درجة ما بين كلّ درجتين منهما كما بين السماء و الأرض ، لا يشاركهم فيها غيرهم ، أما سائر أهل الجنّة فلهم درجات أُخر الله أعلم بحالها و وصفها .
• إن الحديث الذي أشرت إليه في سؤالك ، و فيه أنّه يقال لقارئ القرآن يوم القيامة : ( اقْرَأْ وَارْقَ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِى الدُّنْيَا فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا ) ، ليس فيه دليل على أن لقارئ القرآن بكل آية درجة ، و لكنه يدل على ترقي القارئ بمقدار ما يقرأ من كتاب الله ، و عليه فلا إشكال و لا تعارض بين الأحاديث ، فقد تكون للمئة آية أو أكثر أو أقل درجة واحدة أو أكثر , و هذا غير مذكور في الحديث الشريف , فلا داعي لشغل أذهان العباد بالبحث فيه ، أو تصور تعارض ليس موجوداً أصلاً .
أسأل الله تعالى أن يكرمنا و إيّاك – أخي السائل الكريم – بالجنة ، و أن يبلغنا فيها الدرجات العلى ، إنّه على ذلك قدير ، و بالإجابة جدير .
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته(/1)
ساعة الاحتضار
فتذكر -أخي الكريم- عسر هذه اللحظات، وتذكر ما يحصل فيها من ابتلاءات، فوالله إنَّها لأحرى بالتذكر والتأمل، والاستعداد والتشمير عن ساعد الجد بالانتهاء عما حرّم الله، وفعل ما افترضه وأوجبه، والإكثار من الخيرات وما ينفع في الدار الآخرة. فإن ذلك من أعظم ما يسهل على المرء سكرة الموت، ويجعله ثابتاً موقناً في دينه ساعة الاحتضار.
فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- تعالى يحتضر ويقرأ: ?إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ?54? فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ? [القمر:55،54]. وهذا عمر بن عبدالعزيز -رحمه الله-، عند موته يقول: أجلسوني، فأجلسوه، فقال: «أنا الذي أمرتني فقصّرت، ونهيتني فعصيت، ولكن لا إله إلا الله، ثم رفع رأسه فأحدَّ النظر. فقالوا له: إنك لتنظر نظرًا شديدًا يا أمير المؤمنين. قال: إني أرى حضرة ما هم بإنس ولا جن» ثم قبض -رحمه الله- وسمعوا تاليًا يتلو: ?تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ? [القصص:83](/1)
ساعة فراق
إسماعيل محمد ربعي
كان علي يعشق الترحال ، ويحب الرحلات منذ أيام طفولته .. نما عوده واشتدّ ساعده .. ارتقى سلم العلم فلمع نجمه وكان تسبيحه على اللسان بالذكر الحسن والنجاح الباهر ، ما من أحد إلاّ واستنشق عبير أريجه ، تخرّج من الجامعة كأي طالب .. ولكن روح الطموح والسعي الجاد ، جعلته يغامر من جديد ويركب قطار السفر من بلد إلى بلد .. أمه بقلبها الحنون ذي الدفء العاطفي ، ما كانت تتركه لحظة دون أن تحيطه بزخات من الرضى والدعاء .. إنه ذو الوجه الحسن عند الجميع .
والده إمام مسجد صاحب صوت ندي وخطيب جهوري .. تعقد في بيته جلسات القضاء ، ويفك الخصوم ، ويخرج الجميع بالرضا .. فلا تثور حفيظة واحد عنده .. بل الكل يدعون له ولولده بالتوفيق.
علا علي كالطير يغرد في عنان السماء ويغوص في عباب البحر .. فضل ما تستجيب له نفسه .. قدّم الطلب ونال الموافقة وحمل الخبر لوالديه فكان وقعه وقع الصاعقة على أمه .. ولدي تتركني .. لا تدخل عليّ .. ستغيب عن وجهي .. من الذي أسمع صوته وهو يقرأ القرآن ؟؟ ويقوم الليل .. ستطفأ أنوار غرفتك .. أيهجر المطبخ الذي كنت أقضي أغلب وقتي فيه في إعداد الطعام لك ولأصدقائك ؟!! من لي بعد اليوم يسمعني بارك الله فيك يا عمتي على حسن صنيعك هذا الغداء أو كأس الشاي أو فنجان القهوة ..
تأخذ أحمد والدموع تنهمر من عينيها قائلة : لا أصدق أنك سوف تسافر يا ولدي .. ولكن سفرك اليوم بعيد .. بعيد جداً .. أفي كل عام أو عامين لقاء ؟!! يا ولدي ابق هنا يكفيك القليل وعِشْ معنا وعلي يذرف الدمع ويقول : هي سنة الحياة يا أماه .. إنها رحلة العلم والعودة إن شاء الله .
الأم تتركه وتذهب إلى غرفتها ترتبها ثم تعود وإذا بها أشد بكاء فيقول لها علي : كفى يا والدتي رحمك الله .. تقبله وتسمع القول ثم تغادر إلى عملها .
إما الأب فيطلق حوقلات عدة فهو يملك القلب الذي يتّسع للصبر ويتحمّل الأثقال من الهموم .
وكلما مر يوم اقترب السفر .. إنه ركوب السيارة على المطار ثم الطائرة إلى بلاد الغرب .. بدأ الجيران يأتون إلى أم علي .. الكل يواسي ويهدّء من روعها .. فأمثالها كُثر لكن تربيتها در .. فهي الجوهرة المصونة ذات الأدب الرفيع والخلق القويم .. ما أحسن سيرتها عند جيرانها .. وأندى يديها فهي موج من العطاء وبشاشة وجه عند اللقاء .. خدر في حيائها .. كانت تكتم على أنفاسها وتكبح تأجج عواطفها .. وإذا خلت مع نفسها أرسلت الدمع مدراراً .. كانت تمطر لؤلؤاً من نرجس .. وطالما سقت ورداً وتنهدت من الأعماق قائلة : يا علي .. علي يا ولدي .. أنت ستسافر وستتركني .. كان تعلقها بولدها تعلُّق الطفل الرضيع بأمه .
وفي يوم الإثنين كانت الطيور تهاجر فتقطع المسافات الطويلة عابرة القارات والمحيطات باحثة عن الدفء والغذاء .
لكن علياً ما كانت رحلته بحثاً عن ماء أو غذاء .. بل رحلة علم ونماء .. اقتربت ساعة الصفر .. فهو يرتب في شنطه ويتفقد أمتعته ولا يدري ماذا يفعل .. في حيرة من أمره .. وإذا نظر إلى أمه تقطع قلبه من الوريد إلى الوريد .. وتصدّع رأسه .. أيظن أن عمله وسفره اغضبها وأسكب الدمع من عينيها .. صراع مع النفس .. إنه قرار اتخذه وأعدّ له عدّته .. فعليه أن يترجل ويستنهض الهمة ولا تخور قواه .. إنها فرصة العمر بالنسبة له في الخارج .
الجارات يشاركن أم علي أحاسيسها ساعة فراق ولدها .. لست أدري .. أمغيب شمس أم أفول نجم سيحدث .. لكن الشمس ستبزغ من جديد والنجم يلمع ساعة الظلام .. وبعد الليل النهار سفر ثم إياب .
بدأ هدير السيارة .. علي يبدأ في حمل الشنط والوالد يتكلم مع الجيران .. والكل يحمل عن علي المتاع .. ما أجمل سنابل القمح وهي تموج وترتد معاً .. عقل واحد بل جسد واحد وشعور واحد .. وعلي ينظر إلى خالاته وعماته وهن يقبّلْنه داعيات له بالتوفيق .. وعلي لا يملك أنفاسه وتنطلق الدموع من عينيه .. ويحاول الصبر قدر المستطاع .. لكن حر العاطفة فار مِرجل دمع العين فنزل دمعه مدراراً ..
وما أن دار نظره إلى أمه إلاّ ورآها لا تحتمل الوقوف .. فسارع إليها واحتضنها وهي لا تملك من قواها شيئاً .. إنه حنان الأم وعاطفة الوالدين .. إنها وقفات المحبة والإخلاص .. ما أروع الصدق والإحساس النابع من القلب .. فكل بحار الدنيا لا تساوي دمعة أم على ابنها .. وأي ابن إن كان علياً .
تتعلق به أمه .. لا تتركني يا ولدي .. ارتفع صوتها .. هدّأ من اشتعال عاطفتها .. حملتها جاراتها وابتعدن بها عن السيارة .
وما إن أدار السائق مقود السيارة وارتفع هديرها إلاّ والأم ترفع يديها كالآخرين مودعة .. في حفظ الله يا ولدي .. يحفظك الله يا ولدي .. لا تنس أماً لك .. لا تنس قلباً تعلّق بك .. لا تنس جنيناً حملْته في أحشائي وكان جزءً مني لحماً في بطني .. دماً في جسدي .. روحاً في بدني .. وفقك الله يا ولدي .. فأنا في انتظار سماع أخبارك .(/1)
وتلحق سيارة الأم والخالات الإبن إلى المطار .. وهناك يجلس الجميع وتعود الروح للجسد ويجف الدمع .. لكن احمرار عيني علي ما منع الدمع عنهما .
يقدم الابن جواز السفر وتوزن الحقائب فيبدأ الوداع الأخير .. قبل الدخول إلى قاعة الانتظار للانطلاق الأم تقول : آخر لقاء يا ولدي .. آخر نظرة يا فلذة كبدي .. لا لا ... ولدي فأنت في قلبي لا تغادر جسمي ما نبض قلبي .. أنت في عقلي .. أنت في ذاكرتي كل ما أمسيت وأصبحت .. فأنت استجابة دعائي ولك كل رضائي .. فعين الله ترعاك .
ويأتي دور الأب فيحتضن الولد ولا يتركه ويتجرع أنفاسه لكن دمعه كان أسبق منه .. فتنهّد واستغفر وذكر الله وحوقل
دعا قائلاً : بتوفيق الله يا ولدي .. ولا تنس ما عودتنا عليه من صوتك الندي وترتيلك القرآن .. وقيامك الليل .. وكن يا ولدي مع الله .. فالله معك .. ولا تنس الدعاء لوالديك وأنت في جو السماء .. فدعوة المسافر مستجابة .. وكن المثال والأمام وادع إلى سبيل ربك بالحكمة والمواعظ الحسان .
فرسالتك يا ولدي رسالة أنبياء .. ودعوتك دعوة أبيك إبراهيم .. واعلم أنك من خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنه عن المنكر .. ولتكن يا ولدي السفير الناجح .. واجعل الناس يعرفون الإسلام من خلال معاملة أبناء الإسلام لغيرهم فأنت الندرة وأنت القدوة .
وما زال علي يطرق رأسه أرضاً ويسمع كل حرف لينقشه في ذاكرته .. هذه الكلمات الأخيرة لأنها من والد خبر الحياة وعرك الدهر وتجرّع التجارب حنظلها وحلوها .. وخالط الناس وتحمّل لسع اللسان ووقع السنان .. وبقي طول الزمن لا يتوجع .. ولريب الأيام لا يتضعضع .. فهو مثال الأب وعنوان الصبر وبريد الذكرى واللوحة في الصدر لا تنسى .
وتقدم الإبن نحو سلم الطائرة وهو يحمل في ذاكرته نموذج الحياة ورسالة الداعية وهموم الطالب وأمل الأهل وحب الوطن ورضا الوالدين .. وأخذ يتذكر في هذه الساعة .. ساعة الوداع .. وداع الأهل .. الوطن .. وحلقت الطائرة في عنان السماء .. وطار العصفور وابتعد عن عشه .
أيعود إليه ؟؟ أيهتدي إليك ؟؟ أم تطويه شهور السنة وأيام الشهور .. فيغفل عن حمل الرسالة وتضيع منه الأمانة .. يا ترى من يدري ؟!!
لكن علياً ليس من هؤلاء .. الذين لا تمتد لهم جذور في أعماق الأرض .. بل أنه منغرس فيها زمن الزيتون الرومي .. وعاش أجداده فيها زمن الديناصور البدائي .. إنه يحمل الانتماء ويعشق عود الريحان ونبات الأقحوان .. حتى طعم الماء من الساقية له عنده نكهة وحلاوة عنب الخليل لها على لسانه لذّة .
إنه غرد وارتفع وحط على الأرض ثم ارتفع .. نهل من عذب العلوم وارتوى من عصير الليمون ، وشرب المعرفة وتفوّق في الهندسة .. بل كان الداعية .. ونفذ الوصية ونور قلوباً داكنة وطرح أفكاراً طيبة .. وهدى الله على يديه عباداً صلح حالهم واستقام خُلُقهم .. وبدد إسلامهم دياجير الظلمة والكفر كغيرهم .
إنه في الجامعة إمام الجامع والمرجع النافع .. سريع الفهم شديد الحفظ .. قوي الذاكرة عالي الخُلق كريم الطبع أحبه النصراني ومال إليه الكتابي .. فكان الشمعة وقت الظلام .. نام الناس وقام .. أفطر الشباب وصام .. حمل الأمانة وبلّغ الرسالة .. وإن تعب تذكر كلام الوالد وحث نفسه واعتلى العزائم .. فكان له في كل يوم مطلعاً وفي كل شهر موعداً .. فهو المحاضر في الجامعة والداعية في النادية .
حس القوم خطر دعوته ولكن حسن سيرته وحلو طلعته وجمال أسلوب دعوته أغلق كل باب وما فتح سؤالاً لجواب .. أحبه القاصي قبل الداني وانتشر عبير ريحانه وتنشق الجميع في بلاد التيه رائحة المسك وذاقوا طعم الزعفران من عشرته .
ما أجمل الزهور وما أحسن النحل وهو يحط عليها ويلثم وجنتيها ويرتشف من رحيقها وينفع الناس .. فمنه يخرج الشفاء كما وصفه رب السماء .
إنه علي ما حنى ظهره إلا لربه وما ضعف يوماً بل كان مع أمه كل أسبوع وفي محاضن أهله كل شهر .. فهو معهم وإن بعدت الديار .. فالبعيد قريب .. والغائب لبيب .. صنع الرجال في بلاد التيه .. وبنى العقيدة والإيمان .. فزانت القلوب وعمرت الصدور وجنى الثمار وعاد بهمة عمر .. إنه ابن الوطن وربيب الإيمان ومنبت الإحسان .. وبمثل ذلك فليعمل العاملون .. وليكن الأبناء المبتعثون .. وروح وريحان وخُلُق عباد الرحمن .
www.ibenbaz.org
info@ibenbaz.org
والسلام عليكم ورحمة الله وبركات(/2)
سبحان الذي أسرى بعبده..
عبد المعز الحصري
قال الله تعالى (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا، إنه هو السميع البصير).
يبلغ قطر السماء الدنيا 240.000 مليون سنة ضوئية، السنة الضوئية = 9.5 مليون كم، أي 228كم وأمامها 22 صفر. يا سائلنا عن أمتنا عن عزتنا وحضارتنا.. طاولنا النجم برفعته وتجاوزناه برفعتنا..
أقول بعد الحمد لله تعالى إن أول من ركب الفضاء وطار في الهواء هو الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) لأنه نفد من أقطار السماوات والأرض، ووصل إلى مكان لم يصله نبي مرسل ولا ملك مقرب، فليدع أي إنسان الحضارة، فالحضارة الإسلامية سبقت كل الحضارات في جميع الميادين (من علم الأجنة حتى علم الفضاء) جاءت سورة الإسراء مبتدئة بكلمة سبحان، وفي الحديث معناها: "تنزيه الله من كل سوء" الملائكة تسبح الله وتقول كما ورد في الحديث "سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان ذو العرش والجبروت، سبحان الحي الذي لا يموت، سبوح قدوس رب الملائكة والروح". وملائكة العرش تسبح "سبحانك حيث كنت" (أسرى: سار ليلاً) (بعبده: قال العلماء لو كان للنبي (صلى الله عليه وسلم) صفة أشرف منها لوصفه به في تلك الحالة العلية، ولما كمل (صلى الله عليه وسلم) وصفه الله في أشرف مقاماته بعبده في الإسراء ونزول القرآن ومقام الدعوة) وللمحبة عشر مراتب.. فالمرتبة الثانية هي العبودية، وزاد الله رسوله (صلى الله عليه وسلم) المرتبة الأولى وهي الخلة، بعبده تعني: الروح والجسد معاً يقظة لا مناماً كان الإسراء. (ما كذب الفؤاد ما رأى) أي ما كذب الفؤاد ما رأى البصر حقاً وصدقاً (ما زاغ البصر وما طغى) فلبصر من الإبصار، والإبصار شيء مادي ورد في الصحيح عن أنس بن مالك أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: "أتيت بالبراق وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه قال: فركبته حتى أتيت بيت المقدس قال: فربطته بالحلقة التي تربط بها الأنبياء. قال: ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم خرجت فجائني جبريل عليه السلام بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فقال جبريل: اخترت الفطرة. قال: ثم عرج بنا إلى السماء.." أخرجه أحمد بتمامه في المسند، ومسلم (162) في الإيمان، والبخاري (4709) والترمذي (3130) وفي الحديث (ثم جاء بالمعراج الذي تعرج فيه أرواح بني آدم فإذا هو أحسن ما رأيت أولم تروا إلى الميت كيف يحد بصره إليه فعرج بنا..).
والمعراج هو كالسلم ذو درج يرتقي فيها فصعد فيه إلى السماء الدنيا ثم إلى السماوات ثم إلى سدرة المنتهى ثم إلى الجبار جل جلاله. قال تعالى (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس) قال ابن عباس رضي الله عنه: هي رؤيا عين أريَها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) رواه البخاري.
وروى عن ابن عباس أيضاً أنه قال: أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد (صلى الله عليه وسلم) والرؤية عند العلماء على ثلاثة أقوال: منهم من أثبت الرؤيا يعيني رأسه (صلى الله عليه وسلم) ومنهم من قال رأى الله بقلبه، ومنهم من نفى الرؤية مطلقاً، وهذا رأي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها (.. إلى المسجد الأقصى) سمي بذلك لأنه كان أبعد مسجد عن أهل مكة في الأرض، يعظم بالزيارة بناه سليمان عليه السلام، فالمسجد الأقصى أولى القبلتين وثاني بيت وضع للناس للعبادة وثالث الحرمين.
روى الشيخان عن أبي ذر الغفاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أول بيت وضع للناس مباركاً يصلي فيه الكعبة. قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى. قلت: كم كان بينهما؟ قال: أربعون عاماً) البخاري 6-/407. وفي الحديث "إن الجنة تحن شوقاً إلى بيت المقدس" (.. الذي باركنا حوله) بارك الله المسجد الأقصى، وما حوله من بلاد الشام، بارك الله في الزروع والثمار والخيرات وكثرة العباد والدعاة، فمن آثار البركة الصلاة فيه بخمس مائة صلاة عدا المسجد الحرام، والمسجد النبوي الشرف، ومن آثار البركة لا يزال الجهاد فيه قائماً. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لاواء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك، قالوا يا رسول الله: وأين هم؟ قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس" رواه الإمام أحمد.
(لنريه من آياتنا) وهذه هي الحكمة من الإسراء والمعراج رؤية ما آمن به صلى الله عليه وسلم غيباً رؤية عين اليقين ليكون له قوة وصبر وجلد على تبليغ الدعوة وتحمل مشاق الجهاد في سبيل الله رأى الجنة (سقف الجنة هو عرش الرحمن) ورأى النار والملائكة والأنبياء عليهم السلام والبيت المعمور (وهو الكعبة السماوية يدخله سبعون ألفاً من الملائكة يتعبدون فيه، ولا يعودون إليه إلى يوم القيامة.(/1)
ورأى سدرة المنتهى وما يغشاها (إذ يغشى السدرة ما يغشى) ورأى نماذج من النعيم والعذاب وجاءنا (صلى الله عليه وسلم) بعد أن عرج به إلى السموات بالصلوات الخمس ففرضت عليه من الله العظيم على النبي العظيم لأنها عبادة عظيمة ودون واسطة الوحي، وهذا دليل شرفية وعظمة الصلاة فهي من أعظم العبادات، ففيها مناجاة العبد لربه، وفيها منهاة عن الفحشاء والمنكر، وفيها شفاء، ففي الحديث "إن في الصلاة شفاء" وروي في الحديث "إن أول ما افترض الله على الناس في دينهم الصلاة، وآخر ما يبقى الصلاة، وأول ما يحاسب به الصلاة" الترغيب وبالسند الجيد عن أم سلمة كان من آخر وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم "الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم حتى جعل النبي صلى الله عليه وسلم يلجلجها في صدره وما يفيض بها لسانه "فالصلاة مفروضة مطلوب إقامتها على الغني والفقير، والصحيح والسقيم، وعلى المقيم والمسافر، ورائد الفضاء والمحارب، والمسلم ومطلوب منا أن نعلم أولادنا الصلاة وهم أبناء سبع، ونضربهم عليها وهم أبناء عشر، فإذا كنت تول وجهك شطر المسجد الحرام فإنك تعرج بقلبك، فالصلاة معراج المؤمن حتى تكون أقرب ما تكون إلى الله وأنت ساجد تستمد العون والقوة في سجودك لربوبيته بعبوديتك، لتحررك من عبدوية غير الله، وتكون دافعاً لك لتحرير المسجد الأقصى الذي هو ميراث الرسول (صلى الله عليه وسلم) لهذه الأمة، ففهم الصحابة –رضي الله عنهم- ففتحها عمر –رضي الله عنه- وحررها صلاح الدين –رحمه الله- فمن لها؟؟
أنت أيها المؤمن هداك الله ورحمك الله وأولادك للقدس الشريف، فعلينا أن نتبرع بالغالي والرخيص في سبيل تحرير القدس، ففي إسرائه ومعراجه (صلى الله عليه وسلم) التقت السماء بالأرض المباركة (المسجد الأقصى) ذهاباً وإياباً، والتقى المسجد الحرام بالمسجد الأقصى ذهاباً وإياباً، ولقد ذكرت هذه الأرض المباركة في القرآن ثمان مرات، وفي أربعين حديث عنه صلى الله عليه وسلم ستة عشر شهراً باتجاه المسجد الأقصى، وفي صلاة واحدة صلى المسلمون ركعتين أوليين إلى المسجد الأقصى، وركعتين آخريين إلى الكعبة المشرفة، وسمي ذلك المسجد بمسجد القبلتين، ليعلم الناس أن الدين عند الله الإسلام، ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه.
(فاستوى وهو بالأفق الأعلى) اعتدل وتهيأ واستقام واستعد جبريل وهو في الأفق الأعلى تكريماً وتشريفاً وحفاوة برسول الله (صلى الله عليه وسلم) (ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى) رأى الرسول (صلى الله عليه وسلم) جبريل عليه السلام مرة أخرى وهو يستعد لاستقبال الرسول (صلى الله عليه وسلم) وهذا زيادة في التكريم والحفاوة والاستقبال للرسول (صلى الله عليه وسلم) من قبل جبريل عليه السلام(/2)
سبحانك هذا بهتان عظيم!
د. خالد بن عبد الله القاسم 11/10/1425
24/11/2004
منذ صدور البيان الموجه للعراقيين ومعظم الكتابات التي تنشر في الصحف المحلية وفي الشبكة العنكبوتية يوميًا تهاجم البيان، مع تنوع الأساليب من التهكم بالكاتبين، والسخرية منهم، أو وصفهم بالسفه، أو السعي لمصالح خاصة، مع محاولة مكشوفة لاستعداء الدولة عليهم، أو نزع الوطنية عنهم، أو التشهير بهم؛بل ووصفهم أحيانًا بالخروج على ولي الأمر، وإثارة الفتن، بل بلغ الأمر ببعضهم إلى استباحة دمائهم وأموالهم (كما في صحيفة "الوطن" 8/10/1425هـ)، وآخرين إلى تحريض المحتل، وقد قال أحدهم: (إنه يمكن لمؤسسات حكومية وأهلية في العراق أو حتى في الولايات المتحدة الأمريكية التي تقود الحرب الدولية على الإرهاب مقاضاة أصحاب هذه النصوص التحريضية (صحيفة "الجزيرة" 9/10/1425هـ) لا أدري من المحرض وقد أيد البيان علماء العراق ولم يطالهم الاحتلال بشيء، وإني أتساءل: أهم أحرص من الاحتلال ذاته؟
نحن مسؤولون عما نكتب ومقاومة المحتل من البدهيات في الشرائع السماوية والقوانين الأرضية والسؤال: من الذي يقف أمام القضاء؟ هل من ينصر المظلوم، أم من يحتل العراق بكذبة؟ وهذا ينطبق على كل من صفق له، ونحن نذكِّر الجميع بقول المولى سبحانه وتعالى: (أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين) (أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعاً)، ونحن نعلم أن البيان عكّر مزاج المحتل وآخرين معه والعبرة بما يرضي الله –سبحانه وتعالى- وما هو في مصلحة الأمة.
ولم يتناول كثير من البيان بقراءة موضوعية؛ بل لم تنشره أي صحيفة محلية مع نشرها لعشرات المقالات الانتقادية، فالبيان دعا باختصار إلى وحدة العراق وإلى وأد الفتنة بين أبنائه، وإلى عدم استهداف الأبرياء، وإلى مناصرة الشعب العراقي ضد الاحتلال أو عدم التعاون مع الاحتلال وإلى حقن الدماء بين العراقيين، ولم يدعُ البيان إلى الفتنة ولا إلى خروج على ولاة الأمور، وليس في البيان دعوة الشباب أو غيرهم إلى الذهاب إلى العراق؛ حيث كان موجهاً –أصلاً- للشعب العراقي، لقد كان البيان يتحدث عن الحالة العراقية التي لا تسرّ وهي بداية لأكل الثور الأبيض. وعندما نتحدث عن العراق فإننا نتحدث عن بلد مسلم جار لنا يهمنا أمره ويسوؤنا ما يسوؤه ويضرنا ما يضره، وهو محتل كفلسطين. ألم يقل المصطفى –صلى الله عليه وسلم-:"مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
هل الحديث عن العراق أمر محرم؟ والبيان لم يخرج إلا بعد أن مُلئت آذاننا من أصوات المخذِّلين الذين هم في الحقيقة عون للاحتلال شعروا أم لم يشعروا! أم ساغ لهم ما لم يسغ لنا! ويحل لهم ما يحرم علينا! وهل الحديث عن شرعية المقاومة أمر محرم؟! والبيان لا يعني بالمقاومة ما تقوم به جهات مشبوهة واستخبارات معادية في استهداف الأبرياء وزرع الفتنة؛ بل إن البيان يحذِّر من هذا، وهو في أقل أحواله رأي فقهي له وجاهته أفتى به عشرات العلماء في شتى بقاع العالم الإسلامي، وهو حق للشعوب في كافة الأعراف.
فهذا مجلس أمناء الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين يصرح بشرعية المقاومة على لسان أمينه العام الدكتور محمد سليم العوا، وكذلك الشيخ يوسف القرضاوي.
ومفتي المملكة عندما سُئل: هل العراق يعدُّ فيه الجهاد فرض عين؟ وهل يلزم علينا أن نذهب إلى الجهاد في العراق؟ فقال:"أما هم في أنفسهم فلا شك أن عليهم أن يدافعوا عن أنفسهم؛ لأنهم ابتلوا في نفوسهم وأموالهم وبلادهم فلا شك أنهم مدافعون ونرجو لهم التوفيق أما غيرهم فعليه أن يدعو لهم". (الوطن 29/2/1425هـ).
وفرق بين البدء بالجهاد وجهاد الطلب الذي له شروطه، وبين دفع الصائل (جهاد الدفع) والدفاع عن النفس الذي يجب بحسب القدرة. قال ابن قدامة –رحمه الله-:"ويتعين الجهاد في ثلاثة مواضع... وذكر منها إذا نزل الكفار ببلد تعين على أهله قتالهم ودفعهم"، وقال ابن تيمية:"فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه". وقال نحو قولهما عامة فقهاء الإسلام، ونقل الإجماع ابن حزم -رحمه الله- حيث قال:"واتفقوا أن دفاع المشركين وأهل الكفر عن بيضة الإسلام وقراهم وحصونهم وحريمهم إذا نزلوا على المسلمين فرض على الأحرار البالغين المطيقين". وهذا الدفع لأهل العراق لا يشترط فيه وجود أو إذن الإمام كما قال الإمام عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ عندما ردّ على من قال ذلك:"بأي كتاب أم بأية حجة أن الجهاد لا يجب إلا مع إمام يتبع"، والجميع يرى تأثر المحتلين بالمقاومة وهو أمر لا ينكره عاقل. وهو احتلال يستهدف الدين والوحدة والحضارة والثقافة والهوية والثروة النفطية وغيرها.(/1)
أما ما يتعلق بما جاء في البيان (والنصر قدر المستطاع) فهي صريح كتاب الله وسنة رسوله –صلى الله عليه وسلم-، وهي من حقوق المؤمنين، ولا يختلف فيها عالمان وأقل أحوالها الدعاء لهم كما ذكر ذلك مفتي عام المملكة العربية السعودية ونصرهم بالكلمة لمن أتيح له، وقد صرح عدد كبير من موقعي البيان أن النصرة البدنية ليست في صالحهم، بل منعوا منها. ولعل من النصر بقاء التواصل بينهم وبين العلماء في العالم الإسلامي، وذلك لمحاصرة الأفكار الغالية والمتطرفة ولوأد الفتن بينهم، وهذا ما أراد البيان إيصاله.
وكما يقال:"أهل مكة أدرى بشعابها" وعلماء العراق هم أدرى بواقعهم، وأعرف بما يناسبه وما يصلح له؛ فتحت عنوان:(علماء السنة بالعراق يرحبون بخطاب نظرائهم السعوديين الرياض –عبد الحي شاهين 26/9/1425هـ).
رحبت هيئة علماء المسلمين في العراق بالبيان الذي صدر مؤخراً من السعودية ووقّع عليه (26) عالماً شرعياً أقروا فيه بشرعية المقاومة في العراق وتحريم التعاون مع قوات الاحتلال في البلد، وأكد الدكتور محمد عياش الكبيسي ممثل هيئة العلماء المسلمين العراقيين في الخارج أن فحوى ومضامين خطاب العلماء السعوديين جاء منسجماً مع توجهات الهيئة، ومع كل البيانات التي سبق وأن أصدرتها، وقال الكبيسي الذي كان يتحدث لـ (الإسلام اليوم) من مقر إقامته في الدوحة: إن خطاب الـ (26) عالماً كان موفقاً في توقيته، وفيما نص عليه من ضرورة التوحد بين العراقيين لتفويت الفرصة على الاحتلال في تطبيق سياسته المعهودة في التفريق بين أبناء البلد وضرب بعضهم بالبعض. وأضاف الكبيسي في تصريحه:"إن شرعية المقاومة هو أصل واضح في الشرع، وهيئة العلماء أكدت على هذا الأصل في أكثر من مناسبة، وفي عدة بيانات غير أن مجيء هذا التأكيد من العلماء في السعودية له تأثير كبير على العراقيين لمكانة (علماء الحرمين في نفوسهم)". ورأى ممثل العلماء العراقيين في الخارج أن توقيت الخطاب كان مناسباً جداً مع المرحلة التي يعايشها العراقيون حالياً لأنهم في أشد الحاجة إلى هذه المواقف.
إننا لم نسمع من كثير من هؤلاء المنتقدين للبيان كلمة حق في بلد اغتصبت أرضه، ونهبت خيراته وثرواته، وانتهكت حرماته ومقدساته في حرب بشعة انتقدها جهات إنسانية في الغرب.
إنني آسف لهذه الطريقة التي تناول بها إخواننا البيان والكيل من التهم والتحريض، وكان الأولى وحدة الصف والنقد الهادف وفتح الصدور للآراء المخالفة، والبعد عن الهوى، وعدم الأمركة أكثر من الأمريكان، والنصيحة الخالصة لله ولرسوله، وهي باعثنا لهذا البيان ونحن والله أحرص ما يكون على السمع والطاعة في المنشط والمكره وعلى وحدة الصف، وعلى النصح لله ورسوله وولاة المسلمين، وإننا مع اهتمامنا بشأن العراق فاهتمامنا بشبابنا وشباب الإسلام ومصالحه أولى، ونحن أول من أدان الإرهاب والغلو والتطرف في بلدنا في وسائل الإعلام وخطب الجمعة وفي قاعات الدرس والمجالس العامة والخاصة.
نسأل الله تعالى أن يُصلح أحوالنا، وأن يؤمننا في أوطاننا، ويهدي ولاة أمورنا لكل خير، وأن يغفر لكل من أساء لنا، وأن يتولانا برحمته، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله ومن تبعه بإحسان.(/2)
سبع ثوانٍ فقط ! ... ... ...
إنها سبع ثوانٍ فقط ، لكنها بميزان المآسي والأحزان كالدهور !
ذهبت سريعًا ، لكن أثرها سيظل سنين طويلة ، فالدمار الذي أعقبته ، والهلاك الذي خلَّفته ، والمآسي التي أدخلتها على الكثير من البشر لن تنسى ...
فسبحان القوي المتين !
زلزال خاطف أصاب قطعة من الأرض محدودة ولثوانٍ معدودة ، فأعقب الآلاف من القتلى والمشردين ومن لا مآوى لهم ، فمن أمره وقدَّره ؟
إنه جندي مخلوق من جنود الله القوي القادر القاهر ، أحدثه ليرينا قوته الباهرة ، وعظمته القاهرة ، ويشعرنا بضعفنا ، وهوان أمرنا ، وأننا مسلوبون من كلِّ قوة إلا ما أعطانا ، محرومون من كلِّ نصرة إلا ما يسَّر لنا ، فأي ضعف أشدُّ ممن ينتظر الموت دون أن يستطيع دفعه أو منعه ؟!
وصدق الله القائل :[ ولله جنود السموات والأرض ...] والقائل :[ .. وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر ] والقائل :[... وأن القوة لله جميعًا ] !!
لقد أرنا الله في لحظات خاطفة شيئاً من قوته وجبروته ونقمته وسطوته ، فهل نحن معتبرون ؟!
إن الموت يتخطَّف من حولنا ، بصور شتى ، فتارة بالحروب المهلكة ، وأخرى بالأمراض المعطبة ، وأخرى بالفيضانات المردية ، وأخرى بالجفاف المميت ، وأخرى بالحرِّ الشديد ، وأخرى بالبرد القارص ، وأخرى بالأعاصير المدمرة ، وأخرى بالزلازل الجائحة ، وأخرى بالبراكين المحرقة ، وأخرى بالمجاعات ، وأخرى بالآفات التي سرت بالمطعومات ، والعبر تتوالى ، والعظات تتلاحق ، والنُّذر تتابع ، فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً أو يُحدثون حسيسًا ؟!
أما آن للوقائع العجيبة أن تُغيِّر من واقعنا المؤلم ؟ أما حان لنا أن نراجع أنفسنا قبل أن ينزل بنا ما نزل بالقوم الظالمين ؟
أما كان حقيق بنا أن نُصلح ما بيننا وبين ربِّنا ، ليحفظنا بحفظه ، ويرعانا بعنايته ، ويحوطنا برعايته ، فقد أرانا قوته ، وأبان لنا بأحداث حديثة طرفًا من شديد عقابه وأليم عذابه ؟!
قال تعالى :[ وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ]
وليس بيننا وبين الله نسب أو عهد وميثاق أن لا يصيبنا بما أصاب به غيرنا ، فمن لم يعتبر بغيره ، كان عبرة لغيره ، فالله من وراء الجميع محيط !
عبداللطيف بن هاجس الغامدي ... ...(/1)
سبعون مسالة في الصوم
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضلّ له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أما بعد :
فإن الله قد امتن على عباده بمواسم الخيرات ، فيها تضاعف الحسنات ، وتُمحى السيئات ، وتُرفع الدرجات ، تتوجه فيها نفوس المؤمنين إلى مولاها ، فقد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها . وإنما خلق الله الخلق لعبادته فقال : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) ، ومن أعظم العبادات الصيام الذي فرضه الله على العباد، فقال : ( كتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ) ، ورغبهم فيه فقال : ( وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون ) ، وأرشدهم إلى شكره على فرضه بقوله : ( ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون ) ، وحببّه إليهم وخفّفه عليهم لئلا تستثقل النفوس ترك العادات وهجر المألوفات ، فقال عزّ وجلّ: ( أياما معدودات ) ، ورحمهم ونأى بهم عن الحرج والضرر ، فقال سبحانه : ( فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ) ، فلا عجب أن تُقبل قلوب المؤمنين في هذا الشهر على ربهم الرحيم يخافونه من فوقهم ويرجون ثوابه والفوز العظيم .
ولما كان قدر هذه العبادة عظيما كان لابدّ من تعلّم الأحكام المتعلقة بشهر الصيام ليعرف المسلم ما هو واجب فيفعله ، وما هو حرام فيجتنبه ، وما هو مباح فلا يضيّق على نفسه بالامتناع عنه .
وهذه الرسالة تتضمن خلاصات في أحكام الصيام وآدابه وسننه كتبتها باختصار عسى الله أن ينفعني بها وإخواني المسلمين والحمد لله رب العالمين
تعريف الصيام
1- الصوم لغة : الإمساك ، وشرعا الإمساك عن المفطّرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس بالنية .
حكم الصيام
2- أجمعت الأمة على أن صوم شهر رمضان فرض ، والدليل من الكتاب قول الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا كُتِب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ) ، و من السنة قول الرسول صلى الله عليه وسلم : بُني الإسلام على خمس : وذكر منها صوم رمضان رواه البخاري فتح 1/49 ومن أفطر شيئا من رمضان بغير عذر فقد أتى كبيرة عظيمة ، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الرؤيا التي رآها : " حتى إذا كنت في سواء الجبل إذا بأصوات شديدة ، قلت : ما هذه الأصوات ؟ قالوا : هذا عواء أهل النار ، ثم انطلق بي ، فإذا أنا بقوم معلقين بعراقيبهم ، مشققة أشداقهم ، تسيل أشداقهم دما ، قال : قلت : من هؤلاء ؟ قال : الذين يُفطرون قبل تحلّة صومهم " أي قبل وقت الإفطار صحيح الترغيب 1/420. قال الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى : وعند المؤمنين مقرر أن من ترك صوم رمضان من غير عذر أنه شرّ من الزاني ومدمن الخمر ، بل يشكّون في إسلامه ، ويظنّون به الزندقة والانحلال . وقال شيخ الإسلام رحمه الله : إذا أفطر في رمضان مستحلا لذلك وهو عالم بتحريمه استحلالا له وجب قتله ، وإن كان فاسقا عوقب عن فطره في رمضان . مجموع الفتاوى 25/265
فضل الصيام
3- فضل الصيام عظيم ومما ورد في ذلك من الأحاديث الصحيحة : أن الصيام قد اختصه الله لنفسه وأنه يجزي به فيضاعف أجر صاحبه بلا حساب لحديث : " إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به " البخاري فتح رقم 1904 صحيح الترغيب 1/407 ، وأن الصوم لا عِدل له النسائي 4/165 وهو في صحيح الترغيب 1/413 ، وأن دعوة الصائم لا تُردّ رواه البيهقي 3/345 وهو في السلسلة الصحيحة 1797 ، وأن للصائم فرحتين إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربّه فرح بصومه رواه مسلم 2/807 ، وأن الصيام يشفع " للعبد يوم القيامة يقول : أي ربّ منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه " رواه أحمد 2/174 وحسّن الهيثمي إسناده : المجمع 3/181 وهو في صحيح الترغيب 1/411 ، وأن " خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك " مسلم 2/807 ، وأن " الصوم جُنّة وحصن حصين من النار " رواه أحمد 2/402 وهو في صحيح الترغيب 1/411 وصحيح الجامع 3880 ، وأنّ " من صام يوما في سبيل الله باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا " رواه مسلم 2/808 ، وأنّ " من صام يوما ابتغاء وجه الله خُتم له به دخل الجنّة " رواه أحمد 5/391 وهو في صحيح الترغيب 1/412 . وأنّ في الجنة بابا " يُقال له الريان يدخل منه الصائمون لا يدخل منه أحد غيرهم فإذا دخلوا أُغلق فلم يدخل منه أحد " البخاري فتح رقم 1797 .(/1)
وأما رمضان فإنه ركن الإسلام وقد أُنزل فيه القرآن ، وفيه ليلة خير من ألف شهر ، و " إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ " رواه البخاري الفتح رقم 3277 ، وصيامه يعدل صيام عشرة أشهر أنظر مسند أحمد 5/280 وصحيح الترغيب 1/421 ، و " من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه " رواه البخاري فتح رقم 37 ، و "لله عزّ وجلّ عند كلّ فطر عتقاء " رواه أحمد 5/256 وهو في صحيح الترغيب 1/419 .
من فوائد الصيام
4- في الصيام حكم وفوائد كثيرة مدارها على التقوى التي ذكرها الله عز وجل في قوله : " لعلكم تتقون " ، وبيان ذلك : أن النفس إذا امتنعت عن الحلال طمعا في مرضاة الله تعالى وخوفا من عقابه فأولى أن تنقاد للامتناع عن الحرام .
وأن الإنسان إذا جاع بطنه اندفع جوع كثير من حواسه ، فإذا شبع بطنه جاع لسانه وعينه ويده وفرجه ، فالصيام يؤدي إلى قهر الشيطان وكسر الشهوة وحفظ الجوارح .
وأن الصائم إذا ذاق ألم الجوع أحس بحال الفقراء فرحمهم وأعطاهم ما يسدّ جوعتهم ، إذ ليس الخبر كالمعاينة ، ولا يعلم الراكب مشقة الراجل إلا إذا ترجّل .
وأن الصيام يربي الإرادة على اجتناب الهوى والبعد عن المعاصي ، إذ فيه قهر للطبع وفطم للنفس عن مألوفاتها . وفيه كذلك اعتياد النظام ودقة المواعيد مما يعالج فوضى الكثيرين لو عقلوا .
وفي الصيام إعلان لمبدأ وحدة المسلمين ، فتصوم الأمة وتُفطر في شهر واحد .
وفيه فرصة عظيمة للدعاة إلى الله سبحانه فهذه أفئدة الناس تهوي إلى المساجد ومنهم من يدخله لأول مرة ومنهم من لم يدخله منذ زمن بعيد وهم في حال رقّة نادرة ، فلا بدّ من انتهاز الفرصة بالمواعظ المرقِّقة والدروس المناسبة والكلمات النافعة مع التعاون على البرّ والتقوى . وعلى الداعية أن لا ينشغل بالآخرين كليّا وينسى نفسه فيكون كالفتيلة تضيء للناس وتُحرق نفسها .
5- آداب الصيام وسننه
ومنها ما هو واجب ومنها ما هو مستحب ، فمن ذلك :
الحرص على السحور وتأخيره ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " تسحروا فإن في السحور بركة " رواه البخاري فتح 4/139 ، فهو الغداء المبارك ، وفيه مخالفة لأهل الكتاب ، و " نِعمَ سحور المؤمن التمر " رواه أبو داود رقم 2345 وهو في صحيح الترغيب 1/448
تعجيل الفطر لقوله صلى الله عليه وسلم : " لا يزال الناس بخير ما عجّلوا الفطر رواه البخاري فتح 4/198 ، وأن يفطر على ما ورد في حديث أنس رضي الله عنه قال : " كان النبي صلى الله عليه وسلم يُفطر قبل أن يصلي على رطبات ، فإن لم تكن رطبات فتميرات ، فإن لم تكن تميرات حسا حسوات من ماء ." رواه الترمذي 3/79 وغيره وقال حديث حسن غريب وصححه في الإرواء برقم 922 ، ويقول بعد إفطاره ما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أفطر قال : ذهب الظمأ ، وابتلت العروق ، وثبت الأجر إن شاء الله " رواه أبو داود 2/765 وحسن الدار قطني إسناده 2/185 البعد عن الرفث لقوله صلى الله عليه وسلم " .. إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفُث .. " رواه البخاري الفتح رقم 1904 والرفث هو الوقوع في المعاصي ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " من لم يدع قول الزور والعمل به ، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه . " البخاري الفتح رقم 1903 ، وينبغي أن يجتنب الصائم جميع المحرمات كالغيبة والفحش والكذب ، فربما ذهبت بأجر صيامه كله ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " رُبّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع . " رواه ابن ماجه 1/539 وهو في صحيح الترغيب 1/453
ومما أذهب الحسنات وجلب السيئات الانشغال بالفوازير والمسلسلات ، والأفلام والمباريات ، والجلسات الفارغات ، والتسكع في الطرقات ، مع الأشرار ومضيعي الأوقات ، وكثرة اللهو بالسيارات ، وازدحام الأرصفة والطرقات ، حتى صار شهر التهجد والذكر والعبادة ـ عند كثير من الناس ـ شهر نوم بالنهار لئلا يحصل الإحساس بالجوع ، ويضيع من جرّاء ذلك ما يضيع من الصلوات ، ويفوت ما يفوت من الجماعات ، ثم لهو بالليل وانغماس في الشهوات ، وبعضهم يستقبل الشهر بالضجر لما سيفوته من الملذات ، وبعضهم يسافر في رمضان إلى بلاد الكفار للتمتع بالإجازات !! وحتى المساجد لم تخل من المنكرات من خروج النساء متبرجات متعطرات ، وحتى بيت الله الحرام لم يسلم من كثير من هذه الآفات ، وبعضهم يجعل الشهر موسما للتسول وهو غير محتاج ، وبعضهم يلهو فيه بما يضرّ كالألعاب النارية والمفرقعات ، وبعضهم ينشغل بالصفق في الأسواق والتطواف على المحلات ، وبعضهن بالخياطة وتتبع الموضات ، وتنزل البضائع الجديدة والأزياء الحديثة في العشر الأواخر الفاضلات لتشغل الناس عن تحصيل الأجور والحسنات .(/2)
* أن لا يصخب ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم ، إني صائم " رواه البخاري وغيره الفتح رقم 1894 ، فواحدة تذكيرا لنفسه ، والأخرى تذكيرا لخصمه . والناظر في أخلاق عدد من الصائمين يجد خلاف هذا الخُلق الكريم فيجب ضبط النفس ، وكذلك استعمال السكينة وهذا ما ترى عكسه في سرعات السائقين الجنونية عند أذان المغرب.
* عدم الإكثار من الطعام ، لحديث " ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنٍ .. " رواه الترمذي رقم 2380 وقال هذا حديث حسن صحيح ، والعاقل إنما يريد أن يأكل ليحيا لا أن يحيا ليأكل ، وإن خير المطاعم ما استخدمت وشرها ما خُدمت . وقد انغمس الناس في صنع أنواع الطعام ، وتفننوا في الأطباق حتى ذهب ذلك بوقت ربات البيوت والخادمات ، وأشغلهن عن العبادة ، وصار ما ينفق من الأموال في ثمن الأطعمة أضعاف ما يُنفق في العادة ، وأصبح الشهر شهر التخمة والسمنة وأمراض المعدة . يأكلون أكل المنهومين ، ويشربون شرب الهيم ، فإذا قاموا إلى صلاة التراويح قاموا كسالى ، وبعضهم يخرج بعد أول ركعتين .
* الجود بالعلم والمال والجاه والبدن والخُلُق ، وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس { بالخير } ، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن ، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة " . رواه البخاري الفتح رقم 6 فكيف بأناس استبدلوا الجود بالبخل والنشاط في الطاعات بالكسل والخمول فلا يتقنون الأعمال ولا يحسنون المعاملة متذرعين بالصيام .
والجمع بين الصيام والإطعام من أسباب دخول الجنة كما قال صلى الله عليه وسلم : " إن في الجنة غرفا يُرى ظاهرها من باطنها ، وباطنها من ظاهرها ، أعدها الله تعالى لمن أطعم الطعام ، وألان الكلام ، وتابع الصيام ، وصلى بالليل والناس نيام " رواه أحمد 5/343 وابن خزيمة رقم 2137 وقال الألباني في تعليقه : إسناده حسن لغيره ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " من فطّر صائما كان له مثل أجره ، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء . " رواه الترمذي 3/171 وهو في صحيح الترغيب 1/451 قال شيخ الإسلام رحمه الله : والمراد بتفطيره أن يُشبعه . الاختيارات الفقهية ص : 109
وقد آثر عدد من السلف ـ رحمهم الله ـ الفقراءَ على أنفسهم بطعام إفطارهم ، منهم : عبد الله بن عمر ، ومالك بن دينار ، وأحمد بن حنبل وغيرهم . وكان عبد الله بن عمر لا يفطر إلا مع اليتامى والمساكين .
ومما ينبغي فعله في الشهر العظيم
* تهيئة الأجواء والنفوس للعبادة ، والإسراع إلى التوبة والإنابة ، والفرح بدخول الشهر ، وإتقان الصيام ، والخشوع في التراويح ، وعدم الفتور في العشر الأواسط ، وتحري ليلة القدر ، ومواصلة ختمة بعد ختمة مع التباكي والتدبر ، وعمرة في رمضان تعدل حجة ، والصدقة في الزمان الفاضل مضاعفة ، والاعتكاف في رمضان مؤكد .
* لا بأس بالتهنئة بدخول الشهر ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبشّر أصحابه بقدوم شهر رمضان ويحثّهم على الاعتناء به فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتاكم رمضان شهر مبارك ، فرض الله عز وجلّ عليكم صيامه ، تُفتح فيه أبواب السماء ، وتُغلّق فيه أبواب الجحيم ، وتغلّ فيه مردة الشياطين ، فيه ليلة هي خير من ألف شهر ، من حُرم خيرها فقد حُرم " رواه النسائي 4/129 وهو في صحيح الترغيب 1/490
من أحكام الصيام
6- من الصيام ما يجب التتابع فيه كصوم رمضان والصوم في كفارة القتل الخطأ وصوم كفارة الظهار وصوم كفارة الجماع في نهار رمضان وكذلك من نذر صوما متتابعا لزمه .
ومن الصيام ما لايلزم فيه التتابع كقضاء رمضان وصيام عشرة أيام لمن لم يجد الهدي والصوم في كفارة اليمين ) عند الجمهور ( وصوم الفدية في محظورات الإحرام ) على الراجح ) وكذلك صوم النذر المطلق لمن لم ينو التتابع .
7- صيام التطوع يجبر نقص صيام الفريضة ، ومن أمثلته عاشوراء وعرفة وأيام البيض والاثنين والخميس وست من شوال والإكثار من الصيام في محرم وشعبان .
8- جاء النهي عن إفراد الجمعة بالصوم البخاري فتح الباري برقم 1985 وعن صيام السبت في غير الفريضة رواه الترمذي 3/111 وحسنه والمقصود إفراده دون سبب ، وعن صوم الدهر ، وعن الوصال في الصوم ، وهو أن يواصل يومين أو أكثر دون إفطار بينهما .
ويحرم صيام يومي العيد وأيام التشريق وهي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة لأنها أيام أكل وشرب وذكر لله ، ويجوز لمن لم يجد الهدي أن يصومها بمنى .
ثبوت دخول الشهر
9- يثبت دخول شهر رمضان برؤية هلاله أو بإتمام شعبان ثلاثين يوما ، ويجب على من رأى الهلال أو بلغه الخبر من ثقة أن يصوم .(/3)