الشرط الخامس: أن يكون تحصيل الثمن مأموناً، وذلك كأن يواعده إلى خروج العطاء(15) المأمون، وكذلك إذا واعده إلى نهاية الشهر، وقبض الرواتب وكانت الجهة التي يعمل عندها المشتري مأمونة من عادتها ألا تتأخر في دفع الرواتب.
وهذه الصورة وإن كانت قريبة من السلم، إلا أنهم لم يعدوها سلماً محضاً، ولهذا أجازوا تأخير رأس المال، ولكن لا بد أن يكون ذلك من دائم العمل كالخباز، أما إن لم يكن من دائم العمل فهي سلم يشترط لها ما يشترط للسلم من شروط، كما أنهم لم يجعلوا لها أحكام شراء الأعيان ولهذا جاز عندهم أن يتأخر قبض جميع المبيع إذا شرع في قبض أوله، وهذا القول هو المذهب عند المالكية (16).
وهو مذهب الحنابلة في المبيع الموصوف المعيّن، ورواية عند الحنابلة في المبيع الموصوف غير المعيّن(17).
قال في الشرح الكبير:( والبيع بالصفة نوعان: أحدهما: بيع عين معينة، مثل أن يقول: بعتك عبدي التركي... ويجوز التفرق قبل قبض ثمنه وقبضه كبيع الحاضر، الثاني: بيع موصوف غير معين، مثل أن يقول بعتك عبداً تركياً ثم يستقصي صفات السلم... ولا يجوز التفرق عن مجلس العقد قبل قبض المبيع أو قبض ثمنه... وقال القاضي: يجوز التفرق فيه قبل القبض؛ لأنه بيع حال، فجاز التفرق فيه قبل القبض، كبيع العين).
أدلة الأقوال:
يستدل لأصحاب القول الأول بالأدلة الدالة على حرمة بيع الدين بالدين.
ومنها: حديث النهي عن بيع الكالئ بالكالئ(18).
ويعترض على هذا الدليل بأنه: لم يصح في هذا الباب حديث.
ومنها: إجماع الأمة على حرمة بيع الدين بالدين، وقد حكى ذلك الإمام أحمد(19).
ويعترض على هذا الدليل: بأن الإجماع لم يقع على كل صور بيع الدين بالدين بل وقع على بعض الصور دون بعض(20)، وحينئذٍ فإن التحريم يثبت في الصور التي وقع الاتفاق عليها دون التي وقع الخلاف فيها، وهذه المسألة مما وقع فيه الخلاف فلا يثبت لها التحريم.
وقد يجاب عن هذا الاعتراض بأنه: يستصحب حكم الإجماع في موضع الخلاف، فإذا كان بيع الدين بالدين ابتداء وقع الإجماع على تحريمه، فإننا نستصحب هذا الحكم في موضع الخلاف.
ولكن يقال في الإجابة عن هذا الإيراد بأن: الصحيح من أقوال الأصوليين أنه لا يصح استصحاب حكم الإجماع في موضع الخلاف؛ لأن موضع الخلاف لم يثبت فيه إجماع، والأصل فيه الجواز، فيستصحب هذا الجواز حتى يأتي دليل يمنع من الجواز، ولا دليل يدلّ على التحريم فيبقى الأصل وهو الجواز(21).
دليل القول الثاني:
أجاز أصحاب هذا القول هذه الصورة استحساناً، وإن كان القياس يخالفه واستندوا في هذا الاستحسان على ما كان عليه عمل أهل المدينة، ففي المدونة (22)، :(.. عن سالم بن عبد الله قال: كنا نبتاع اللحم كذا وكذا رطلاً بدينار، يأخذ كل يوم كذا وكذا، والثمن إلى العطاء، فلم ير أحد ذلك ديناً بدين، ولم يروا بذلك بأساً)(23).
الاعتراض على هذا الدليل:
أن هذا الأثر يحمل على أنه في كل مرة يتم الشراء يجب على المشتري ثمن ما يأخذ، ويكون وقت تسليم الثمن عند العطاء، فيكون هناك عقد بينهما في كل مرة يأخذ المشتري من البائع شيئاً، وعلى ذلك لا يكون هناك بيع دين بدين، بل هو عقد متجدد، ويترتب على ذلك أنه لا يلزم أحداً منهما التمادي على هذا الفعل بل له أن يمتنع متى ما شاء عن هذا البيع(24).
الإجابة عن هذا الاعتراض:
ما ذكر في الاعتراض خلاف ما يظهر من فعل أهل المدينة، بل الظاهر أنهم كانوا يعقدون العقد ويتسامحون في هذا التأخير للبدلين، ولهذا صرّح سالم أنهم لم يكونوا يرون ذلك من قبيل بيع الدين بالدين.
الترجيح:
الظاهر ـ والله أعلم بالصواب ـ أن الراجح هو قول المالكية؛ لأن النهي عن بيع الكالئ بالكالئ مردّه إلى الإجماع، وأما الحديث فلم يثبت مرفوعاً إلى النبي - صلى لله عليه وسلم - وعلى ذلك فأي صورة يتخلف عنها الإجماع فالأصل فيها الجواز إذا خلت من محظورين:
(1) الربا.
(2) الغرر.
وهذه الصورة لا يوجد فيها ربا ولا غرر، ولم يثبت فيها إجماع، فتبقى على الأصل وهو الإباحة، والله أعلم.
وعلى ذلك فإذا كان عقد التوريد بين تاجر وبين مصنع ينتج سلعة من السلع، وبعد العقد تم توريد هذه السلعة للتاجر وتم الاتفاق على قدر (كمية) السلع الموردة، وتم الاتفاق على موعد سداد الثمن، وكان تحصيل ثمن هذه السلع مأموناً في الأحوال المعتادة، كأن يكون التاجر صاحب مكانة اقتصادية بحيث يستطيع تصريف هذه السلع وردّ ثمنها، أو كان التاجر يتعامل مع الدولة والدولة لم يعهد عنها جحد لحقوق التجار، أقول إذا توفرت تلك الشروط فما المانع من القول بصحة عقد التوريد؟
في رأيي المتواضع لا يوجد مانع من ذلك، خاصة وأن مصالح الناس متعلقة بهذه العقود، والله أعلم وصلى وسلم على نبينا محمد.
(*) عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية(/2)
(1) القرار لم يكن بالأغلبية كما هو واضح من مناقشات اِلأعضاء، كما أن الموضوع ـ على أهميته ـ لم يأخذ حقه من البحث والمناقشة، وليت أن مجمع الفقه يذكر في قراراته كلها هل صدر القرار بالإجماع أم بالأغلبية؟ مع إدراج الرأي المخالف ـ إن وجد ـ كما يفعل المجمع الفقهي التابع للرابطة و هيئة كبار العلماء في السعودية.
(2) انظر: البحر الرائق (5/279) وحاشية ابن عابدين (4/12) ودرر الحكام لعلي حيدر (شرح م205)(1/157)
(3) تحفة المحتاج (4/217) ونهاية المحتاج (3/375) وحاشية الجمل (3/9) وحاشية البجيرمي على المنهج (2/168)
(4) المقاييس في اللغة مادة (جر) (1/413) والصحاح مادة (جرر) (2/612) ولسان العرب (2/242) والقاموس (464)
(5) القاموس المحيط (464)
(6) مواهب الجليل (6/517) ومنح الجليل (3/36)
(7) النكت على المحرر (1/300) وأعلام الموقعين (4/7)
(8) البرقيات لأحمد تيمور باشا (75)، وانظر: القاموس (وجب)(180)
(9) انظر: البحر الرائق (5/279) والموطأ مع شرح الباجي(5/15) والمجموع (9/163ـ164) والنكت على المحرر(1/300)
(10) انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية (9/43)
(11) المبسوط (12/127) وبدائع الصنائع(4/343و397و486) والهداية مع البناية (8/353)
(12) مواهب الجليل (6/517) منح الجليل (3/36)
(13) المهذب مع المجموع (9/399ـ400) وتحفة المحتاج (5/4) ونهاية المحتاج (4/184)
(14) انظر: الشرح الكبير والإنصاف (12/105)كشاف القناع (3/265) ومطالب أولي النهى (3/171)
(15) العطاء هو: الذي يعطيه الإمام من بيت المال لمستحقه. تسهيل منح الجليل (3/36)
(16) مواهب الجليل (6/516ـ517) ومنح الجليل (3/35ـ36) وشرح الخرشي مع حاشية العدوي عليه (5/223) والشرح الصغير مع حاشية الصاوي (3/220ـ221)
(17) انظر: الشرح الكبير والإنصاف (11/102ـ103) والمبدع (4/27) والإنصاف (3/163) وقولهم يحتاج مزيد تأمل وتحرير.
(18) الحديث أخرجه: الدارقطني (269)(3/71) والحاكم (2/57)من طريق الخصيب بن ناصح ثنا عبد العزيز الداروردي عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
كما أخرجه الدارقطني (270)(3/72)والحاكم(الموضع السابق) من طريق حمزة بن عبد الواحد عن موسى بن عقبة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر.
وهذا الإسناد وإن كان ظاهره الصحة، إلا أن الطحاوي في شرح معاني الآثار (5554)(4/21) وفي شرح مشكل الآثار (795)(2/265) وأحمد بن منيع (كما في المطالب العالية (2/97)) والبيهقي في الكبرى (5/290) والعقيلي في الضعفاء الكبير (4/162) أخرجوه من طريق موسى بن عبيدة الربذي (لا عقبة) عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر، وأخرجه البيهقي (الموضع السابق) وابن عدي في الكامل (6/335) من طريق موسى بن عبيدة عن نافع عن ابن عمر، ثم ناقش البيهقيُّ الدارقطنيَ والحاكمَ ووهمهما في ذكر موسى بن عقبة وبيّن أنه موسى بن عبيدة الربذي، وقال:( الحديث مشهور بموسى بن عبيدة مرة عن نافع عن ابن عمر، ومرة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر).
وعلى ذلك فالحديث ضعيف من أجل ضعف موسى بن عبيدة، (انظر الضعفاء للعقيلي (4/160) و الكامل لابن عدي (6/333)) ولهذا قال فيه الإمام أحمد إنه لا يصح فيه حديث.
وانظر في تضعيف الحديث: نصب الراية (4/40) وتلخيص الحبير (3/26) وإرواء الغليل (5/220) والتحديث (113) والمغني عن الحفظ والكتاب مع جنة المرتاب (405).
ومع ضعف الحديث فقد قال الطحاوي في شرح المشكل (2/266):( واحتمل أهل الحديث هذا الحديث من رواية موسى بن عبيدة وإن كان فيها ما فيها).
ومعنى الكالئ بالكالئ: أي النسيئة بالنسيئة أو الدين بالدين، انظر: سنن الدارقطني (3/71) وشرح معاني الآثار (2/21) ومستدرك الحاكم (2/57) وسنن البيهقي الكبرى (5/290) والمطالب العالية (2/97)
(19) انظر في حكاية الإجماع: العقود لابن تيمية (451) وأعلام الموقعين (2/10) وطبقات الشافعية لابن السبكي (10/231)
(20) انظر: العقود وأعلام الموقعين (الموضعين السابقين)
(21) انظر: التمهيد لأبي الخطاب الكلوذاني (4/254) وروضة الناظر (2/509) وأعلام الموقعين (1/318) والبحر المحيط (8/20)
(22) (3/293)
(23) وانظر: مواهب الجليل (6/517) ومنح الجليل (3/36)
(24) مواهب الجليل (6/517) ومنح الجليل (3/36)(/3)
رأيت رؤيا البارحة!!
تركي العبدلي
</TD
هذا حال كثير من الناس أبان الأزمات التي لا يملك لها حلا ، سواء كانت هذه الأزمات على نطاق ضيق كالأسرة ، أو أوسع من ذلك أو أقل .
ولكن عندما يملك حلا ينصرف انصراف كلي أو شبه كلي عن موضوع الرؤى والأحلام ، لذلك لا تجد الشخص الذي يقع في إشكال مع مرءوسه في وظيفته فيترتب على هذا الخلاف خصم جزء من راتبه ،أقول تجده يسلك كل السبل في سبيل تصحيح ما وقع من سوء فهم واسترجاع حقه الذي خصم ، كما أنك لا تجده يقول لمديره إني رأيت فيك رؤيا البارحة بأنك ظلمتني !!
نعم قد يستأنس في خاطره ، لكن من المستبعد أن تكون دليلا يضاف إلى ملف القضية لإثبات مصداقيته ، وإلا ستصبح المسألة فوضى وكل يدعي وصلا بليلى .
ألا وإن الأزمة العراقية قد انتهى فيها ذلك الفصل الذي أثار الأمتين العربية على وجه الخصوص والإسلامية ، لكن المشكلة الحقيقية لم تنتهي بعد ، ألا وهي لِمَ يحدث في أمتنا ما يحدث ؟ والى متى نحن مستضعفون أمام هذه القوى الغاشمة ؟ وماذا قدمنا لنصرة هذه الأمة ؟ وما هي الحلول الجذرية التي قدمناها غير تلك الأجساد الطاهرة التي تتبرع أن تكون طعما لطائرات العدو ؟
قد صدمنا البارحة بأفغانستان واليوم بالعراق ، وللأسف أن أصحاب الرؤى وكتب الفتن الذين يقرءونها بطريقة مستحدثة ـ بخلاف ما عليه أهل العلم في جميع الأعصار والأمصارـ وينزلون ما ذكر فيها على أشخاص معينين ، يصرحون أكثر من مرة بأن النصر سيأتي قريبا ويَعِدون بأنه فجأة ! لاحظ فجأة ! تنقلب الموازين سواء في أفغانستان أو العراق أو فلسطين من قبل !
ولا هذا ولا ذاك حدث وآلامنا تعظم وجرحنا يثعب دما والمستفيد هو العدو ، ولو أنفقوا بعض الوقت الذي ينفقونه في الحديث في الرؤى والأحلام وأحاديث الفتن فيما تستفيد منه الأمة عمليا لكن ذلك أنفع وأكثر جدوى .
فبعيدا عن الإطالة يجب علينا أن نضع هدفا ونسعى من أجل تحقيقه ، وهو صنع أجيال إسلامية رصينة ، تتمتع بقدرة عالية من الإيمان و التمسك بالكتاب والسنة عقيدة وعملا، دؤوب على نصر الإسلام ، قائمة على شرع الله عز وجل، تملك من الطاقات على اختلافها الشيء الكثير، تعرف كيف تتعامل مع الحدث بمحوريه ، الفقه الشرعي والتطبيق العملي ، بعيدا عن الوسائل التقليدية الممجوجة كالشجب والاستنكار ، والتي مللناها طويلا حتى غدت كذاك التصفيق الذي يطلقه المشجعون في نهاية المباراة معلنين نهايتها .
و يجب أن نعلم أن هذه الوسائل أي المظاهرات والشجب والاستنكار، وسائل ضعيفة هشة لا يعبه بها إن لم تكن بجانبها قوة اقتصادية كبرى تؤثر في الرأي العالمي ، وأيضا بجانب قوة عسكرية يهابها المعتدي ، بالإضافة إلى تقدم تكنولوجي شريطة ( صنع في بلد مسلم )، حتى نقضي على هذا الوهن الذي أصاب أمتنا .
فالجيل الذي نحن نعيشه جيل هش من الداخل ، كثير منه ضحل التفكير، قليل من الذين يدعون الإسلام والتمسك به قائم بالإسلام كما يجب فكرا وسلوكا ، فهو لا يهتم بتربية من حوله من طلبة وأبناء وزوجة ، غير أنه يملي عليهم بعض الأفكار الفضفاضة ، أما هو فقد لا تجد عنده قيام ليل ولا صيام تطوع فالثلاث البيض لا يعرفها وكذلك الاثنين والخميس قد نسيها والثلث الأخير من الليل نادرا ما يتذكره بل وأخشى أن كثير من شباب الصحوة لا يصلي الفجر في جماعة إلا اللهم القليل ، كما أنك أيضا لا تجد إلا القليل من يسعى لتنمية قدرات الأمة ، وتربية أجيالها ، فإن كان هذا حالنا فأي نصر نرتجي وأي إسلام ندعو له !(/1)
رؤية إستراتيجية في القضية الفلسطينية
كتبها
ناصر بن سليمان العمر
مقدمة
أرض فلسطين أرض أسلامية :
الصراع في فلسطين صراع قديم :
فكرة الدولة اليهودية :
هل اليهود والنصارى حلفاء؟
لماذا لم ننتصر ؟
الطريق إلى بيت المقدس؟
معالم على الطريق!
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا.
"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون" "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءا واتقوا الله الذي تسائلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا" "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدا، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً".
أمّا بعد :
يعيش إخواننا في فلسطين هذه الأيام مرحلة عصيبة من تاريخهم ، فالإستكبار اليهودي قد بلغ أوجه، وكشف شارون عن وجه بني صهيون الحقيقي، فالقتل ، والتشريد وهدم المنازل والحصار الإقتصادي الرهيب، وخامسة الأثافي: الخذلان المخزي من لدن المسلمين عامة والعرب خاصة لإخوانهم في فلسطين، كل هذه الأحوال تطرح سؤالاً مهماً؟ هل لهذا الأمر من نهاية؟ وهل لهذه البلية من كاشفة؟ ويتحدد السؤال أكثر : أين المخرج؟ وما هو السبيل ؟ وبخاصة وقد بلغ اليأس مبلغه في نفوس كثير من المسلمين وبالأخص إخواننا في فلسطين ،وأصبح التشاؤم نظرية يروج لها البعض ، مما زاد النفوس إحباطاً، والهمم فتوراً.
وأقول : مع مرارة الواقع، ووجهه الأسود الكالح ، وامتداد هذا الليل وتأخر بزوغ الفجر، مع ما يحمله هذا الليل من فواجع ومواجع مصحوباً بالرعود والبروق والصواعق والرياح العاتية ، كل ذلك لا ينسينا سنن الله في الكون ، وأن الظلم مهما طال فلن يستمر، وأن تقدم مدة الحمل مؤذن بالولادة ، وساعات الطلق الرهيبة تعلن نهاية المعاناة ، "فإن مع العسر يسرا ، إن مع العسر يسرا" "ولن يغلب عسر يسرين، " حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين" .
وأقول بحق إن تلك الأحداث المؤلمة التي يستخدمها المتشائمون واليائسون دليلاً على تشاؤمهم ويأسهم، هي نفسها من أقوى البراهين لديّ على التفاؤل والنظرة إلى المستقبل بأمل مشرق، وعزيمة صادقة ، وثقة بوعد الله وقرب تحقق وقوعه "أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون" وهذا التفاؤل وتلك الثقة لم تبن على عاطفة جياشة مجردة من الدليل، سرعان ما تهتز أمام ريح عاتية، أو تذبل لطول الطريق وقله الزاد وانفضاض المعين والرفيق، بل هي قناعة مبنية على أسس عميقة الجذور، من السنن الكونية التي لا تتخلف، وآيات الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وكلام الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحي، في ظروف مشابهة من تسلط قريش وطغيانهم واستكبارهم، مع ضعف المؤمنين وقلة المعين والناصر، أتى الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكون حالهم، ويطلبون منه الدعاء والإستنصار، وتحس من كلامهم بمرارة المعاناة واستطالة الطريق، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقلهم نقلة أخرى ، نقلة الواثق بربه، المؤمن بصدق وعده، "والله ليسيرن الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون" نعم لقد تحقق هذا الوعد ، وصدق الله ورسوله ، ولكن ذلك لم يكن بين عشيةوضحاها، بل احتاج إلى زمن طويل من الجهاد والبلاء ، فليست العبرة متى يتحقق النصر، وإنما المهم كيف يتحقق، وبأى وسيلة يستجلب؟ سواء طال الزمن أو قصر، فلله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله – ينصر من يشاء وهوالعزيز الرحيم.
وفي ظل تلك الأركان الصلبة، سأقدم هذه الرؤية ، آملاً أن تكون مساهمة في رفع تلك المعاناة المعنوية ، المنبثقة عن المعاناة الحسية التي طال أمدها ، وأسود ليلها.(/1)
إننا من أجل أن نعرف كيف يتحقق النصر ، لابد أن ندرك كيف وقعت الهزيمة، ومن أجل أن نرسم طريق الخلاص لابد أن نعرف كيف حدثت المعاناة، وما بني في عشرات السنين ، لا تنتظر زواله بين غمضة عين وانتباهتها، السنن الكونية تدل على غير ذلك ، فكما أن هناك اركاناً للهدم، فهناك أسس للبناء، وما شيدته الجاهليات المتعاقبة على مرور الأزمان ، اقتضي وقتاً ليس باليسير حتى هدمه الأنبياء والمصلحون وأقاموا مكانه بناء راسخاً لا تهزه الرياح "فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً" ، "حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إنّ نصر الله قريب" ، "وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً"، ومتى جاء الحق وزهق الباطل؟ بعد جهاد وصبر ومصابرة وطول معاناة.
وسأسوق هذه الرؤية مسلسلة بنقاط مستقلة ، تؤخذ النتيجة من مجموعها لا من آحادها ، حيث يكمل بعضها بعضاً، ويأخذ بعضها برقاب بعض، وأسأل الله التوفيق والسداد، وأن يجعل لي فرقاناً ينير لي الطريق ويدلنى على مكامن القوة والضعف فيه ، لأدلّ قومي إليه فإن الرائد لا يكذب أهله.
أرض فلسطين أرض إسلامية :
في الحديث الصحيح الذى رواه أبو ذر – رضى الله عنه – قال قلت يا رسول الله : أي مسجد وضع في الأرض أول؟ فقال صلى الله عليه وسلم "المسجد الحرام ثم المسجد الأقصى" قلت كم كان بينهما؟ قال : "أربعون سنة" . وهذا ولا شك قبل بعثة موسى عليه السلام، وإبراهيم عليه السلام الذى رفع مع إسماعيل القواعد من البيت هو الذى عيّن بأمر الله مكان المسجد الأقصى وهو الذى قال الله فيه " ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين".
فالمسجد الأقصى على مرّ التاريخ كان مسجداً إسلامياً ومن قبل أن يوجد اليهود، ومن بعد ما وجدوا "سبحن الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله" وفلسطين أرض الأنبياء منهم إبراهيم وموسى وعيسى وزكريا ويحي وغيرهم – عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- وكلهم مسلمون "إن الدين عند الله الإسلام" ، " لا نفرق بين احدٍ منهم ونحن له مسلمون" إذاً فلسطين أرض إسلامية ، لا حق لأحد غير المسلمين فيها، "إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين" .
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : بينما نحن في المسجد، إذ خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (انطلقوا إلى يهود) فخرجنا معه ، حتى جئناهم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فناداهم، فقال : (يا معشر اليهود أسْلموا تَسْلَموا) فقالوا : قد بلغت يا أبا القاسم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (ذلك أريد، أسْلِموا تسْلَموا) فقالوا : قد بلغت يا أبا القاسم ، فقال لهم صلى الله عليه وسلم (ذلك أريد) فقال لهم الثالثة : (اعلموا أنما الأرض لله ورسوله ، وإني أريد أن أجليكم من هذه الأرض، فمن وجد منكم بما له شيئاً فليبعه، وإلاّ فاعلموا أن الأرض لله ورسوله) رواه مسلم.
وهذا منطلق مهم، وأرضية صلبة يبنى عليها ما بعدها من مواقف وتضحيات ، فليست قضية فلسطين خاصة بمن ولد على أرض فلسطين دون النظر إلى دينه وعقيدته، بل هي قضية إسلامية تخص المسلمين أينما ولدوا، وحيثما وجدوا، ولا شك ان من ولد على أرض فلسطين من المسلمين فالقضية تعنية من باب أولى ومن لم يكن مسلماً فلا حق له في فلسطين ولو ولد فيها أباً عن جدّ.
فعندما لحق أحد المشركين – من أهل المدينة – برسول الله صلى الله عليه وسلم - يريد الدفاع عنها ، عندما جاءت قريش يوم بدر، وكان صاحب نجدة وبأس، قال له صلى الله عليه وسلم "ارجع فلن استعين بمشرك"، وعندما أعلن اسلامه وإيمانه، أذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمشاركة قائلاً له "فانطلق".
يهود الأمس ويهود اليوم :
بسبب قوة الصراع بين المسلمين واليهود وبخاصة على أرض فلسطين، وما نراه صباح مساء من جرائم ترتكب في حق إخواننا في الداخل، وما يدّعيه اليهود من الحق التاريخي في الأرض المباركة، كل ذلك أفرز بعض الأخطاء التي وقع فيها كثير من المسلمين، من الخلط بين يهود الأمس الذين آمنوا بموسى – عليه السلام – وبين يهود اليوم، وهذا الخلط له سلبياته العقدية والعملية، ومن هنا كان لابد من إيضاح بعض المسائل المهمة في هذا السياق، أوجزها بما يلى : -(/2)
بنوا إسرائيل الذين آمنوا بموسى - عليه السلام – غير يهود اليوم، فأولئك كانوا مسلمين مؤمنين، وهؤلاء كفار مشركون تبعاً لمن كفر بموسى وخرج عن شريعته، وبنوا إسرائيل هم نسل يعقوب – عليه السلام – الذي قال الله عنه "ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون". وانسجاماً مع هذه الحقيقة قال يوسف – عليه السلام - : "واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء". والذين آمنوا بموسى – عليه السلام – قال الله فيهم : "ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضّلناهم على العالمين" وقال فيهم : "ولقد اخترناهم على علم على العالمين" وقال فيهم: "وجلعنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لمّا صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون"، وقال فيهم محمد صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن عباس الصحيح : "عرضت علىَّ الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهيط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي، فقيل لي : هذا موسى وقومه" الحديث. أمّا الذين خرجوا عن ملة موسى فقد وقعوا في الشرك كما قال سبحانه "وقالت اليهود عزير بن الله" وقال فيهم: "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله" ثم قال : "وما أمروا إلاّ ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلاّ هو سبحانه عمّا يشركون" وقال عنهم "وقالت اليهود يد الله مغلولة غلّت أيديهم ولعنوا بما قالوا". إذاً فيهود اليوم لا علاقة لهم بالذين آمنوا بموسى – عليه السلام وكتب لهم الأرض المقدسة، وإنما هم امتداد لمن كفر بموسى والأنبياء من بعده، ممن حرّف التوراة، وخرج عن دين التوحيد وشريعه موسى – عليه السلام -.
أغلب يهود اليوم ليسوا من بني إسرائيل، بمعنى أن الذين يحتلون فلسطين اليوم ليسوا من نسل بني إسرائيل الذين كانوا مع موسى عليه السلام أو سلالتهم، حيث إن اليهود الذين يعتبرون من نسل بني إسرائيل وهم المعروفون بـ (السفاراديم) لا يزيدون عن 20% من عدد اليهود في العالم، مع ما داخل هذا العدد من امتزاج وتزاوج مع جنسيات وسلالات أخرى، بمعنى أن هذه النسبة القليلة ليست نسبة خالصة من نسل بنى إسرائيل. أمّا النسبة الكبرى من يهود اليوم 80% فليسوا من نسل اليهود الأصليين، بل هم من أصول أوروبية وشرقية ومن مختلف بلدان العالم، وهم المعروفون ب (الاشكنازيم) حيث دخلوا اليهودية بالتحول من ديناناتهم الوثنية وغيرها. ومن خلال هذه الحقيقة التاريخية تسقط دعوى المحتلين لفلسطين بـ (الحق التاريخي) ويتضح أنهم محتلون لا عائدون، وأن بلادهم وبلاد آباءهم هي تلك البلاد التي قدموا منها لا التي جاؤا إليها، أمّا النسبة القليلة التي تعتبر من نسل بني إسرائيل فلا حق لهم في فلسطين من وجهين :
أولاً : أنهم خرجوا عن دين موسى الصحيح وحرّفوا التوراة، وفلسطين أرض إسلامية لا حق لغير المسلمين فيها.
ثانياً : أن فلسطين لم تكن لبني إسرائيل وإنما كانت للجبارين، وهم أهلها قبل بني إسرائيل، وكتبها الله لبنى إسرائيل وأذن لهم بدخولها عندما كانوا على المنهج الصحيح، فلما انحرفوا، سقط حقهم فيها. ومن خلال ما سبق تسقط دعوى الحقّ التاريخي، ويثبت بطلان هذه الدعوى جملة وتفصيلا.
أن صفات اليهود التى ذكرها الله في القرآن، ممتدة عبر التاريخ يتوارثونها جيلاً بعد جيل، وأمة بعد أمة، وهي صفات الغدر والخيانة، والجبن والبخل، والدسائس والمؤآمرات، والعلو والإستكبار وغيرها من الصفات التي بينها الله سبحانه وتعالى في القرآن، وقد تجلّت في اليهود الذين آذوا موسى – عليه السلام – وخرجوا عن شريعته، وهي صفات جبليّة خلقية ترسخت مع مرور الزمن وابتعادهم عن المنهج الصحيح، حتى أصبحت جزءاً من دينهم المحرّف، وخصائصهم الثابتة، يربّون عليها أبناءهم يشبّ عليها الصغير، ويشيب عليها الكبير، ويُعلمّمُها من يدخل في هذا الدين من غيرهم. ولم يسلم من تلك الصفات إلا القليل منهم وهم الذين آمنوا بموسى عليه السلام والتزموا بما جاء به، قال سبحانه : "منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون" ولذلك نجد القرآن وهو يذكر صفات اليهود لا يعمم الحكم عليهم، بل يفرّق بين المؤمنين وغيرهم "وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لمّا صبروا، وكانوا بآياتنا يوقنون" ، "وترى كثيراً منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون" ، "قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منّا إلاّ أن آمنّا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون". إن فقه هذه الحقائق والتعامل معها جزء من استراتيجية التعامل مع اليهود، والغفلة عن ذلك ستؤدى إلى خلل في التصور والاعتقاد والعمل، مما يؤخر حسم المعركة ويطيل أمدها، لأن ما بُنِىَ على خطأ فمآله إلى بوار.
الصراع في فلسطين صراع قديم :(/3)
الصراع هناك لم يكن وليد اليوم ،وإنما له جذوره في التاريخ، ولم يكن ذلك الصراع صراعاً عرقياً أو قومياً، وإنما هو صراع بين الحق والباطل،بين صاحب الحق وبين الدخيل ، بين الكفر والإسلام، وبيت المقدس كان على مرّ التاريخ ملكاً للمسلمين ، وهم الأنبياء واتباعهم الموحدون، وعندما تزيغ طائفة عن هذا الطريق يبعث الله من المؤمنين من يعيد الحق إلى نصابه والبيت إلى أهله، بل قد يبعث الله من يؤدب أولئك الذين خرجوا عن دينه وانحرفوا عن سبيله، وطغوا واستكبروا "وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيرا، فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولى بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولا"، وهكذا كان عندما خرج بنوا اسرائيل عن دينهم وبغوا وطغوا بعث الله عليهم بختنصر، فقتلهم شرّ قتله ، فكانوا عبرة في التاريخ.
وبعدما خرج الروم عن دينهم ، وحرّفوا الانجيل أذن الله للمسلمين بفتح بيت المقدس، فاصبحت ولاية من ولايات المسلمين لا حق للروم فيها سوى الاقامة التي شرعها الله لأهل الذمة بعقود وعهود.
ولما ضعفت الخلافة الاسلامية نقض النصارى العهود واستنجدوا ببني جلدتهم في الغرب ، فكان الصراع الذي طال أمده حتى قيض الله لهذه الأمة نور الدين الذي وضع الأسس لعودة بيت المقدس إلى أهله، ثم جاء صلاح الدين فكان الفتح على يديه ، بعد معركة حطّين، فدخل بيت المقدس صلحاً كما دخله عمر – رضى الله عنه - ، فارتفعت رايات التوحيد على رايات الصليب والنواقيس. واستمر المسلمون يسيطرون على تلك الأرض المباركة حتى ضعفوا – مرة أخرى – وابتعدوا عن دينهم ، ودبّ الخلاف بينهم ، فجرت عليهم سنة الله في الأمم "ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون" فتحالفت قوى الكفر في أقطار الأرض وجاؤوا بهذه الشرذمة ، عقوبة من الله للمسلمين على فعلهم ولعلهم يرجعون.
إن المتأمل لهذا الصراع في جميع فتراته يدرك طبيعة المعركة ، وأنها بين الحق والباطل ، بين التوحيد والشرك، بين الكفر والإيمان ، لم تكن المعركة – أبداً – عرقية ، أو قومية ، أو وطنية ، لم تكن بين جنس وجنس، وقبيلة وقبيلة من أجل أرض أو تراب، إن ادراك هذه الحقيقة، يبين لنا كيف حدثت الهزيمة ، ولماذا تأخر النصر ، وكيف يتحقق الانتصار" إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد" ، "أولمّا أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم".
إننا إن لم ندرك هذا الأمر ، ونعرف سرّه، سنكون كمن يبحث عن الماء في أعالي الرمال ، بل أصدق من ذلك " أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً" .
إن فقه هذه الحقيقة التي لا جدال فيها ولا ريب ، يجعلنا نضع الأمور في نصابها ونعيدها إلى جذورها ، ومن ذلك إننا عندما ندعم اخواننا في فلسطين إنما ندعمهم لأننا وهم مسلمون ، كلنا في خندق واحد، دينا واحد، وقضيتنا واحدة، أما من عداهم فهم واليهود سواء ، سواء اكانوا عرباً أم عجماً، ولدوا في أرض فلسطين أو كانوا دخلاء غرباء .
ومن ذلك أننا بسبب قوة الصراع واختلاط الحق بالباطل ،وكثرة اللبس والتزييف قد ننكر حقائق ثابته ، خوفاً من أن الاعتراف بها يسلب الحق من أيدينا، وليس هذا هو الطريق ، فما كان إنكار الحقائق وسيلة لإعادة الحق وردّ الباطل في يوم من الأيام.
فنجد أن اليهود يتمسكون لإثبات حقهم في فلسطين، بما أحدثه بعض الأنبياء في القدس- عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام – فنأتى فننكر حدوث هذا الأمر ، خوفاً من ضياع الحق من أيدينا ، وهذا مسلك وعر وطريق لا يوصل إلى الحق ، وكان الأجدر والأولى ، أن نبين أن ما أحدثه الأنبياء من بناء أو إصلاح في بيت المقدس أو المسجد الأقصى أيّا كان نوعه أو تاريخه – فهو حجة لنا ، ودليل اثبات لقضيتنا ، لأن الأنبياء مسلمون، لا علاقة ليهود اليوم فيهم، ولا حجة لهم فيما فعلوه، ولا نقف عند اختلاف الاسم، فما بنى في المسجد فهو من المسجد، ما دام من بناه نبياً أو رسولاً "قولوا امنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحدٍ منهم ونحن له مسلمون"، "ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلما وما كان من المشركين" ، "إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين" .
وأشير هنا إلى مسألة وقع فيها اللبس والخطأ عند كثير من المسلمين، وهو اعتقادهم بأن مسجد قبة الصخرة ليس من المسجد الأقصى، وإنما مسجد عمر هو الأقصى ،وحقيقة الأمر أن كلا المسجدين من الأقصى حيث إن المسجد الأقصى شامل للمسجدين ولما بينهما، وهو بناء سليمان عليه السلام- وكل ذلك ملك للمسلمين، لا حق لأحد غيرهم فيها .
فكرة الدولة اليهودية :(/4)
عندما انحرف اليهود عن الدين الصحيح الذي جاء به موسى – عليه السلام – لم يستقروا في أرض ، ولم يملكو وطناً ملكاً شرعياً ، وإنما كانوا يتنقلون في اصقاع الأرض، فالتشرد من طبيعتهم والتفرق من خصائصهم.
وكانوا يستغلون ما معهم من بقية دين ونصوص توراة يستفتحون بها على الذين كفروا ، وبهذا دخلوا يثرب، وتمكنوا من السيادة عند الأوس والخزرج، "فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين"، وهكذا ديدنهم فالمكر والخديعة سفينتهم، واستغفال الشعوب مطيتهم، وعندما تم اجلاؤهم من المدينة أولاً، ثم من جزيرة العرب ثانياً، لم يستقروا في أرض ولم يجتمعوا في بلد، بل تفرقوا أيادي سبأ "وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزّقناهم كل ممزّق، إن في ذلك لآية لكل صبار شكور" . لقد عاش اليهود أقليات مستضعفة في أرجاء المعمورة لم يدخلوا بلداً إلا أحدثوا فيه فساداً "ويسعون في الارض فسادا والله لا يحبّ المفسدين"، ولم يستوطنوا بلداً إلا كانوا مصدرا للقلاقل والفتن ، يستمدون أمنهم من خوف الآخرين، ولذلك كرهتهم الشعوب، لكن لديهم قدرة عجيبة مبنية على الخداع والدسائس والمؤامرات في اقناع الآخرين بحاجتهم إليهم، ولذلك سيطروا على كثير من مقدرات الأمم، وبخاصة الإقتصادية منها، لما جبلوا عليه من حبِّ المال، وعدم التورع عن أي وسيلة تحقق اهدافهم ومآربهم، والذي يتأمل في تاريخ اليهود منذ قديم الزمان يصل إلى حقيقة لا مراء فيها بأنهم : إما أن يكونوا مستعلين جبارين ظالمين، أو أقلية محتقرين مستضعفين، والأخيرة هي السمة السائدة في تاريخهم إلا عندما كانوا أهل ذمة في حمى الإسلام، فقد كفل لهم حقوقهم، ومنع الآخرين من ظلمهم ، ولكنهم يخربون بيوتهم بأيديهم، فاعتبروا يا أولى الأبصار.
ولقد وطن اليهود أنفسهم على هذا الأمر ، ولم يكونوا يحلمون بأن يعودوا أمة لها شأن ، أو دولة لها كيان ، ولذا فإن فكرة الدولة اليهودية فكرة طارئة، لم يجتمع اليهود على الإيمان بها ، بل هناك معارضة قوية لدى كثير منهم، لإقامة الدولة اليهودية، وكان على رأس المعارضين اليهودي الألماني أينشتاين ، صاحب نظرية النسبية المشهور ، ويصل الذي يعارضون فكرة الوطن القومي لليهود إلى أكثر من ثلاثة ملايين يهودي ، حيث يرون أنها وسيلة لإجتماعهم ليقتلوا ، كما يعرفون من نصوص التوراة ، ويرون أن بقاءهم أقليات تسيطر على مراكز النفوذ وأصحاب القرار ، دون أن يكونوا هم البارزين والظاهرين للناس أولى وآمن، مما يمكنهم من اللعب على المتناقضات ، دون أن يضعوا بيض الثعبان في سلة واحدة .
إذاً صاحب فكرة الوطن القومي هم الملاحدة من اليهود، وعلى رأسهم الصهيوني المعروف "هرتزل"، ولم تكن فلسطين هي الخيار الأول لهم وإنما كانت هناك عدة دول منها أوغندا، ولكن بعد دراسات دعمها الغرب النصراني وجدوا أن أرض فلسطين هي الأرض المناسبة لإقامة دولتهم، وبخاصة أن هناك نصوصاً من التوراة تخدمهم، كالنصوص الوارده في يهودا والسامرة، وأرض الميعاد، وهيكل سليمان وهلم جرّا .
ويكفى أن نعلم أن نسبة اليهود الذين في فلسطين بعد الهجرات المتوالية التي نظمتها الوكالة اليهودية وتعاونت معها الدول الكبرى لم تتجاوز 20% من عدد اليهود في العالم، ولولا التعاون الدولي والاعتماد على النصوص التوراتية لترغيب الهجرة إلى فلسطين لما تحقق نصف هذا العدد، ومما هو جدير بالذكر أنه إلى قبيل نهاية القرن التاسع عشر – أي قبل المؤتمر اليهودي الذي قرر إقامة الدولة اليهودية في فلسطين – لم يكن يوجد في فلسطين من اليهود سوى (24) ألف يهودي فقط .
وهنا سؤال مهم ؟
هل إسرائيل دولة دينية أو علمانية ؟
والجواب باختصار : إن إسرائيل دولة علمانية عنصرية قامت على فكرة دينية ، أي أن حكومات إسرائيل حكومات علمانية استغلت الدين اليهودي لتحقيق اهدافها، وهذا الأمر ليس بدعاً في التاريخ ، فكم من دولة قامت معتمدة على الدين ، وهي من الدين بمعزل ، ولذلك نجد كثيراً من الدول العلمانية المعاصرة ، إذا واجهتها الأزمات وخافت أن ينفضّ من حولها الناس ، استغلت الدين ، ولوّحت بنصوصه" فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلمّا نجاهم إلى البر إذا هم يشركون" .
والتاريخ يكرر نفسه ، ولكن أكثر الناس لا يعقلون .
مراحل قيام إسرائيل :
كان عدد اليهود في فلسطين في نهاية القرن التاسع عشر لا يزيد عن خمسين ألفاً، بل كانوا قبل عشرين سنة من هذا التاريخ لا يزيدون عن 24 ألف يهودي، مما يؤكد أن اليهود زرعوا في فلسطين شوكاً وليسوا من نبتها ، ولقد قامت إسرائيل على ثلاث دعائم : -
التخطيط اليهودي الماكر .
التآمر الدولي .
الخيانات العربية الضالعة بالولاء للشرق والغرب.
وهيء لنجاح هذا الثالوث ضعف المسلمين وتفرقهم ، بل وتناحرهم وبخاصة بعد سقوط الدولة العثمانية ، بل إن القوميين العرب ضالعون في مؤامرة اسقاط الدولة العثمانية.
ويُمكن أن تختصر مراحل قيام إسرائيل بما يلي : -(/5)
المؤتمر اليهودي في سويسرا عام 1897م الذي أقرّ قيام وإنشاء وطن قومي لليهود .
وعد بلفور – وزير خارجية بريطانيا – عام 1917م الذي وعد اليهود بإنشاء وطن قومي لهم في فلسطين .
قرار عصبة الأمم عام 1922م بوضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني مما ساعد بريطانيا – بدعم دولى – على الوفاء بوعدها بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين .
مؤتمر سايكس بيكو وتقسيم الدول إلى مناطق استعمارية للدول الكبرى بعد الحرب العالمية .
قيام دولة إسرائيل عام 1948م .
وبين تلك المراحل أحداث كبرى لا تخفى على من يعنى بتلك القضية.
هل كان هناك جهاد في فلسطين ؟ ونظرية الدولة التي لا تقهر ؟
منذ دخل اليهود إلى فلسطين وبدأوا في تنفيذ مخططهم لإقامة دولتهم ، بدأ الجهاد هناك، واتخذ اشكالاً عدة ، وعلى رأسها القتال المسلح وغالباً بصورة ما يسمى – حرب العصابات – وكان يقوى حينا ويضعف أحايين أخرى، كل هذا من داخل فلسطين، أما من خارجها فلم يكن هناك أي مواجهة مع اليهود إلا الجهاد الذي قام به المسلمون بعد قيام إسرائيل وهو ما يسمى – بكتائب الإخوان – وهي مواجهة محدودة أحبطها القوميون قبل اليهود، وكذلك كانت هناك معارك خاطفة كما حدث في الكرامة ونحوها، أما ما عدا ذلك فلم تدخل إسرائيل في أي حرب حقيقية مع العرب – سوى عام 1973م – وهي حرب ذات أهداف محددة ، ولذلك لم يسمح بتجاوزها عندما تحققت تلك الأهداف وأهمها :
تحريك الوضع الذي كان يسيطر عليه الجمود آنذاك .
إعادة سيناء إلى مصر عربوناُ لأن تتزعم مصر محادثات السلام.
تهيئة المنطقة لمرحلة السلام مع اليهود.
أما ما عدا ذلك فلم تكن هناك مواجهات حقيقية مع اليهود، يقول أمين الحافظ وهو رجل علماني كان رئيساً لسوريا في الخمسينات: "لم يدخل جيش من الجيوش العربية الحرب مع إسرائيل عام 1948م إلا كتائب الإخوان"
وقد شهد مثل هذه الشهادة بهجت أبو غربية وهو من المعاصرين للأحداث المتخصصين في قضية فلسطين، والذي يرجع إلى مراكز البحوث المتخصصة يدرك هذه الحقيقة بالأدلة والبراهين.
أما عام 1967م، فلم تكن هناك أي مواجهه بل ضربت الطائرات العربية وهي جاثمة على الأرض وكثير من قادتها في الملاهي والحانات، وتم احتلال سيناء والجولان والضفة الغربية في ساعات معدودة ، ومراجع التاريخ خير شاهد على ذلك .
إذاً فنظرية الدولة التي لا تقهر حدثت مع الهزيمة النفسية التي حلّت بالعرب، وهي من صنع الإعلام العَربي قبل غيره، وكانت جزءاً من الاستراتيجية اليهودية في حرب المسلمين ، واشاعة الرعب في قلوبهم ، نمّاها وقوّاها الخيانات العربية المتوالية التي تزعمها القوميون والعلمانيون وحلفاء اليهود من المنافقين ، انسجاماً مع ولائهم للشرق والغرب، حيث كانوا ينفذون ما يمليه عليهم أسيادهم حماة دولة إسرائيل وصنّاعها.
وإلاّ فاليهود أذل وأحقر من أن تكون لهم دولتهم التي لا تقهر ، والقرآن الكريم وصف نفسية اليهود وجبنهم وصفاً لم يصف به أحداً من البشر، "ضربت عليه الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباؤا بغضب من الله، وضربت عليهم المسكنة " ، "لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر ، بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى" والآيات في هذا السياق كثيرة واضحة ، فكيف يكون لليهود كيان لا يقهر ، ولو اتيح للمسلمين أن يدخلوا حرباً حقيقية مع اليهود لما ثبتوا ساعة من نهار " لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون" هذا كلام الحق سبحانه ، ومن أصدق من الله قيلا، ومن أصدق من الله حديثا ، وتأمل قوله سبحانه " لأنتم أشدُّ رهبة في صدورهم من الله، ذلك بأنهم قوم لا يفقهون" لتعلم خرافة دولة إسرائيل التي لا تقهر ، ولتعلم أن واقعها الآن مصداق لقوله تعالى "وحبل من الناس" فلولا هذا الحبل من الناس لكان للمسلمين معها شأن آخر.
وما فعله ويفعله أطفال الحجارة مع اليهود، من أقوى البراهين المعاصرة على تعرية تلك المزاعم وسقوط دعوى إسرائيل التي لا تقهر.
إستراتيجية حماية إسرائيل :
إسرائيل دولة عنصرية غريبة غير مندمجة مع من حولها ، فهي خليط من شعوب يهودية غير متجانسة ، متفاوتة في بيئتها الاجتماعية، متعددة الاعراق والديانات والمذاهب، تنخر فيها الطبقية والحزبية مجتمعة الإجسام مختلفة القلوب، "تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى" وهي مع ذلك فهي أقلية في وسط بيئة غير بيئتها ، وأرض غير أرضها، مع ما يحمله ذلك الشعب – صاحب الأرض – من عداء تاريخي لها، له أسبابه ودواعية ، وتلك الدولة واقعة بين دول تتوجس منهم ، ويتوجسون منها ، وهي تعلم أن شعوب تلك الدول تنتظر اللحظة التاريخية للأنقضاض عليها ، وإعادة الحق إلى نصابه ، واسرائيل تفقه هذه الحقيقة مهما حاول بعض حكام المنطقة أن يشعروها بالحماية والأمان.
وهي مع ذلك لا تملك مقومات الدولة المستقرة الآمنة ، وإنما تعتمد على الدعم الخارجي اللامحدود، عسكريا واقتصادياً وسياسياً من الشرق والغرب.(/6)
وتعاملاً مع هذه الحقيقة ، وأدراكاً لهذا الواقع من قبل إسرائيل وحلفائها ، طرحت عدة مشاريع استراتيجية لحماية إسرائيل وترسيخ أقدامها ، وتجنيبها المخاطر والمفاجآت أهمها : -
إسرائيل الكبرى .
تفتيت المنطقة (الدويلات والطائفية).
مرحلة السلام .
الشرق أوسطية .
أما النظرية الأولى فقد ثبت فشلها واستحالتها ، وذلك أنها لم تستطع أن تحافظ على أمنها واستقرارها وسيطرتها على رقعة صغيرة، لا تعادل إلا نسبة صغيرة من مخطط إسرائيل الكبرى ، فكيف تستطيع أن تحافظ على أضعاف ذلك، وقد أدرك زعماء إسرائيل فشل تلك الإستراتيجية قبل حلفائها وخصومها.
أما النظرية الثانية ، فمع ما تحقق فيها من نجاح محدود فقد أدرك الجميع صعوبة الاعتماد عليها ، وبخاصة بعد حرب لبنان التي كانت منطلقاً لتحقيق تلك الاستراتيجية ، ثم جاءت الحرب العراقية الإيرانية ، ثم حرب الخليج، ومحاولة تفكيك العراق، كل تلك الأحداث ونتائجها أثبتت فشل هذه الاستراتيجية وصعوبة تحقيقها ، وأنها لم تكن بالسهولة التي رسمها المخططون لها ، ولذلك فلا يمكن الاعتماد عليها لحماية أمن إسرائيل واستقرارها. وأن ما تحقق من تلك النظرية كان له سلبياته على إسرائيل نفسها ، حيث إن احاطتها بدول صغيرة ضعيفة يسهل اختراقها ويشكل هماً لإسرائيل نفسها، واسرائيل تدرك قبل غيرها أن مصلحتها أن تحاط بدول قوية حليفة تسهر على حمايتها وردع من يريد بها سوءاً .
أما مرحلة السلام ، فسيأتي الحديث عنها لاحقاً .
بقيت النظرية الرابعة (الشرق أوسطية) وهي نظرية سياسية حديثة ، جاءت من قبل حلفاء إسرائيل عندما ادركوا صعوبة نجاح الاستراتيجيات الأخرى، وقد تزعمها "شمعون بيريز" رئيس وزراء إسرائيل سابقاً ، ووزير خارجيتها حالياً ، زعيم حزب العمل، والمرشح للعودة لرئاسة حكومة إسرائيل مستقبلاً حيث أن شارون جاء لمهمة محدودة سيرحل بعد تنفيذها، كما رحل سلفه (نتن ياهو) حيث إن هؤلاء يشكلون حرجاً لحلفاء إسرائيل المدعين للديموقراطية وحرية الشعوب.
وقد بدأت هذه النظرية قبل عدة سنوات ، وكان من أبرز ميادينها – المؤتمر الاقتصادي – الذي عقد في المغرب والقاهرة والدوحة ، مع عقد تحالفات اقتصادية مع عدد من دول المنطقة .
والعولمة القادمة ، وبالأخص منظمة التجارة العالمية قد تساهم في دفع هذه الاسترايتجية إلى الأمام.
وهي تقوم على أن تندمج دول المنطقة على استراتيجية اقتصادية وسياسة لا ترتكز على القومية أو الدين ، بل على رقعة جغرافية محدودة (الشرق الأوسط).
وهذه النظرية ترعاها أمريكا وتدعمها دول الغرب ، ويصعب الجزم بمستقبلها ، حيث إن المؤتمرات السابقة لم تحقق النجاح المنشود ، ونجاحها يعتمد على شكل ما ستكون عليه المنطقة بعد إعادة ترتيبها في ظل المتغيرات الدولية الجديدة ، والأيام القادمة حبلى بكل جديد ، نسأل الله أن يكفينا شرها .
هل اليهود والنصارى حلفاء ؟
الدارس للتاريخ يدرك شدة العداء بين اليهود والنصارى، فمنذ محاولة قتل عيسى – عليه السلام – ثم رفعه بعد ذلك ، والعداء مستحكم بين الطرفين، والتهم تتوالى بينهما ، واستمر الأمر على ذلك منطلقاً من عقيدة صلبة ذكرها القرآن " وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب".
وقد شهد التاريخ صوراً مروعة من بطش النصاري باليهود، لأن اليهود أقلية والنصارى أكثرية ، وبخاصة العداء مع الكاثوليك، وعندما دخل الرومان بيت المقدس جعلوه مقبرة لليهود، وعندما سقطت الأندلس – وكان اليهود يعيشون بأمان في ظل الحكم الإسلامي - بطش بهم النصارى حتى فروا إلى تركيا، وهم المعروفون بيهود الدونمة ، الذين ساهموا مساهمة فعالة في سقوط الدولة العثمانية ، وليس خبر مصطفي كمال عنا ببعيد، وجزوا الأتراك جزاء سنمار. وفي أوروبا بطش بهم كثير من حكام الغرب، وبخاصة هتلر، وهذه حقيقة يجب الاعتراف بها، لكن اليهود بالغوا فيها وفي وصفها، من أجل استغلال الغرب، واستجلاب عطف العالم، ودفع الآتاوات وبخاصة من المانيا، وإنكار هذه الحقيقة ليس منهجاً علمياً، والأعتدال هو الصحيح.
هذه صورة موجزة عن علاقة اليهود بالنصارى، ولكن قد يسأل سائل فيقول بماذا نفسر قوله تعالى في سورة المائدة " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض. . " الآية .
فالجواب : من وجهين ذكرهما المفسرون:
الوجه الأول :
ذكره البغوى وابن أبي حاتم وغيرهما ، ومعناه أنهم أولياء بعض في العون والنصرة إذا كان الأمر يتعلق بالمسلمين فهم يد واحدة ضدهم وفي حربهم وخلافهم.
الوجه الثاني :
وهو أقوى - مع أنه لا يخالف الوجه الأول – وقد ذكره صاحب المنار، فقال : ومعناه : إن اليهود بعضهم أولياء وأنصار بعض، والنصارى بعضهم أولياء وأنصار بعض ، لا أن اليهود أولياء وحلفاء النصارى ، والنصارى أولياء وحلفاء اليهود.
وبهذا يستقيم تفسير آية البقرة وآية المائدة، وأحداث التاريخ.(/7)
إذاً العداء متأصل بين الفريقين وهذا لا يمنع من اتحادهم ضد المسلمين ماضياً وحاضراً.
وقد حدث التغيُّر الكبير في العلاقة بين اليهود والنصارى بعد ظهور حركة الإصلاح الديني التي قام بها "مارتن لوثر" و "كالفن" وأضرابهما ضد الكنيسة الكاثوليكية البابوية التي كانت تفرض هيمنتها على الدين والحياة، ومن ذلك احتكار تفسير النصوص الدينية، فقد طالبت الحركة الإصلاحية البروتستانتية بالرجوع المباشر إلى النصوص وترجمت التوراة والإنجيل إلى اللغات الحية كالألمانية والفرنسية والإنجليزية. وهنا اعتقد البروتستانت حرفية تلك النصوص ومنها ما يتعلق بوعد الله لإبراهيم عليه السلام وذريته بأن يعطيهم الأرض الواقعة بين الفرات والنيل، وغير ذلك من النصوص التي تفضِّل اليهود على غيرهم وتعطيهم الحق في العودة إلى فلسطين حسب ما هو في التوراة المحرفة. ومن هنا نشأت الحركة الصهيونية في أول أمرها نصرانية لا يهودية. وقد تفاقم خطر الصهيونية الإنجيلية في العقدين الأخيرين من القرن العشرين وأصبحت من أكبر قوى الضغط في أمريكا وأصبح لزعمائها مكانة متميزة لا سيما في الحزب الجمهوري. ولا يزال اليهود غير الصهاينة ومعهم الكاثوليك وغيرهم يعادون هذه الحركة كما أن الاتجاه الليبرالي يعاديها بشدة لأسباب أخرى. لكن كثيراً من الزعماء يداهنونها لمآرب سياسية وغيرها. وعلى كل حال لا يستطيع أي باحث أن يتجاهل البعد الديني في المواقف السياسية للدول البروتستانتيه مثل أمريكا وبريطانيا وألمانيا. وقد ساعد على ذلك اختراق الصهيونية للفاتيكان نفسه الذي وصل إلى إعلان المجمع المسكوني الشهير عن تبرئة اليهود من دم المسيح عليه السلام أي تكذيب نصوص أناجيلهم وإبطال عقيدتهم التى اعتقدوها نحو ألفي سنة، هذا مع أن الدول الصليبية في الجملة تعتبر الإسلام هو العدو التاريخي الدائم لها وترى في الحضارة الاسلامية الند والمقابل للحضارة الغربية عامة بوجهيها الديني والعلماني.
لماذا لم ننتصر ؟ :
والانتصار الذى نتحدث عنه ، ونسعى إليه هو إخراج اليهود من فلسطين، وتخليص بيت المقدس من قبضتهم، وإقامة دولة الإسلام التي تحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم في الارض المباركة .
والانتصار بهذا المفهوم لم يتحقق بعد ، جرياناً مع سنة الله في الأمم، حيث إن عوامل النصر قد تخلفت فتخلفت آثارها "أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم" ، " وما اصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير" .
إنه من السهل جداً أن نعيد عوامل الهزيمة إلى عدونا ، ولكن ليس هذا هو الطريق الذي يوصل إلى تحقيق أهدافنا ، وإنما هو تسلية للذات وتبرير للهزيمة .
لا يستطيع أحدٌ أن ينكر دور أعدائنا فيما حل بنا، ولكن هل ينتظر من الأعداء والخصوم إلاّ ذاك، هل نتوقع من خصمنا أن يسلّم لنا فلسطين على طبق من ذهب، أو يمكننا من رقابه نتصرف بها كيف شئنا ؟
إننا من أجل أن نحقق النصر الذي ننتظر لابد أن نكون صرحاء مع أنفسنا ، صادقين مع بعضنا ، نشخّص الداء دون مجاملة أو مواربة أو تبعيض ، فعندما وقعت بعض الهزائم – وهي محدودة – في عهد النبي صلى الله عليه وسلم نزل الوحي يحدد مكامن الهزيمة الداخلية التي أحدثت الهزيمة الخارجية "ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين" وفي أحد "إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريدالدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم"
أرأيتم هذا البيان وهذا التحديد لعوامل الهزيمة ليس فيه اشارة واحدة إلى قوة الأعداء ومخططاتهم وتربصهم بالمؤمنين لأن هذا من الأمر المسلم به الذى جرى تقريره في مواضع اخرى "ودّ الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة" ، "لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة وأولئك هم المعتدون" ، "عضوا عليكم الأنامل من الغيظ".
وخلاصة الأمر، أننا أضعنا فلسطين لإضاعتنا لأمر الله، فما وقع بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة، "وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير"، "أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير"
وقال صلى الله عليه وسلم : (إذا تبايعتم بالعينة ، ورضيتم بالزرع، وأخذتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد، سلّط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم" الحديث.
أمّا لماذا تأخر النصر فأسبابه كثيرة أهمها ما يلي : -
أننا لم نتلاف أسباب ضياع فلسطين، وبقينا على بعدنا عن الله وتفريطنا في أوامره ونواهيه ، سواء في داخل أنفسنا وبيوتنا وأسرنا ، أو في عموم حياتنا ومجتمعنا، ومشركو الأمس أحسن حالاً من كفار زماننا، فأولئك كانوا "إذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين" أمّا هؤلاء فزاد بلاؤهم وطغيانهم وحربهم لله ورسوله، وتعقبهم للمجاهدين في سبيله ، وركنوا إلى الذين ظلموا.(/8)
تفرق المسلمين ،وبالأخص الجماعات الجهادية ، وهذا الخلاف والتفرق أذهب ريحها وأوهن من عزيمتها "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم".
عدم وجود خطة استراتيجية شاملة لمواجهة اليهود، وإنما هي ردود افعال، أو استجابة لظروف معينة، أو استثمار لفرص محدودة، تنتهى بانتهاء أسبابها، ودواعيها.
ضعف المنهج وعدم خلوصه من الشوائب لدى كثير من الدعاة والجماعات الإسلامية والجهادية منها بالأخص ، وتفاوتها بالإلتزام بمنهج أهل السنّة والجماعة ، ولذلك تورط بعضها بتحالفات واتفاقات مشبوهة ، مع بعض المنظمات العلمانية وغيرها كالروافض والنصيريين.
عدم ادراكنا لطبيعة المعركة مع اليهود ، وإنها معركة عقيدة ودين ، والانخداع ببعض الاستراتيجيات الغربية ، والمساهمة في تنفيذها كالسلام والتطبيع والتعايش السلمي، مما أضاع علينا زمناً طويلاً .
انشغال الشعوب المسلمة بقضايا أخرى صرفتها عن القضية الأساس ، واشغلتها بنفسها عن عدوها، مما زاد في ضعفها وتفرقها وهوانها، وتناحرها فيما بينها .
عدم الأخذ بأسباب القوة الحقيقية ، والتخبط في هذا الأمر ، مما مكن العدو من أن يحقق أهدافه بيسر وسهولة .
الهزيمة النفسية، والاستجابة لما يبثه الإعلام الغربي والعربي من أن دولة إسرائيل دولة لا تقهر، ساهم في ذلك الخيانات العربية في دخولها معارك مع إسرائيل ثم الإنسحاب أمامها دون حرب حقيقية ، وإلا لو صدقت العزائم لعرفنا وادركنا خرافة الدولة التي لا تقهر، وما تحطيم خط بارليف عنا ببعيد، مع ما نسج حوله من خيالات وأوهام، وإذا هو يتهاوى في ساعات معدودة، مما يثبت أن مفاتيح النصر بأيدينا لو اردنا ذلك وأخذنا بأسبابه "ولينصرنّ الله من ينصره، إن الله لقوى عزيز".
في الاتجاه الصحيح [انتصارات على الطريق] :
ومع كل ما ذكر من مآس وجراحات وآلالام ، ومع ما نعيشه ويعيشه إخواننا في فلسطين – اليوم – من مصائب تدع الحليم حيرانا، فإن هناك بشائراً أصبحت تلوح في الأفق، تبشر بأن الأمة بدأت تسير في الإتجاه الصحيح، وتحققت انتصارات لا يستهان بها هي من أهم الخطوات نحو الانتصار الحقيقي، بل لا يمكن أن يتحقق ذلك الأنتصار بدونها ، وقد لحظت أن الكثير ممن يتطرق لقضية فلسطين لم ينتبه أو ينبه لها مع أهميتها وآثارها على المدى القريب والبعيد، وهذه الحقائق التي سأذكرها ، مما يساهم في إبعاد اليأس والقنوط، ويشيع الأمل والتفاؤل في النفوس، حيث إن النفوس اليائسه والمتشائمة لا يمكن أن تنتصر على غيرها ، فإذا كانت عاجزة عن الانتصار على ذاتها فهي عن الانتصار على عدوّها أعجز. . وأهم هذه المكاسب ما يلي : -
أولاً : كانت المنظمات الفلسطينية قبل ثلاثين سنة تملأ الساحة ضجيجاً وصراخاً بأنها ستحرر فلسطين ، وهذه المنظمات خليط عجيب من المنظمات المنحرفة عن الصراط المستقيم فمنها القومية والبعثية والشيوعية والوطنية ، وقليل منها الإسلامية ، وكان كثير من الناس يحسن الظن بهذه المنظمات ويرى أنها قد تساهم في تحرير فلسطين، ولذلك وجدت الدعم والتأييد البشرى والمالي والسياسي من قبل بعض المسلمين، وظلوا ينتظرون تحرير بيت المقدس على أيدى تلك المنظمات ، وقد وقع هؤلاء الذين أحسنوا الظن بها في الخطأ .
إن هذه المنظمات منظمات عميلة للشرق والغرب وليس لديها أي برنامج جاد للحرب مع إسرائيل ، بل ليس لديها أي برنامج صادق لتحرير فلسطين ، وإنما هي منظمات ذات مصالح خاصة ، ومن ثم فإنه لا يمكن لمثل هذه المنظمات أن تحرر فلسطين ، ولا ينتظر منها ذلك، ومع ذلك فكان هناك من يحسن الظن بها، وينتظر أن يكون الفرج على يديها، فضاع علينا زمن طويل، وأهدرت أنفس وأموال، وجعلت الثقة في غير أهلها.
والأنتصار الذي تحقق هو سقوط تلك المنظمات ،وسقوط برامجها الكاذبة ،ومن ثم سقوط الثقة بها وإنكشفاها على حقيقتها ، ولم يبق إلا المنظمات الجهادية التي تعلن قديماً وحديثاً أن الجهاد في سبيل الله هو الطريق الصحيح لتحرير فلسطين، وما بقى من منظمات غير إسلامية فهي في طريقها إلى الزوال وسبب بقائها يعود لأسباب سياسية والناس يفقدون ثقتهم بها يوماً بعد يوم ، وكل يوم تقدم دليلاً على فشلها وضلوعها في الخيانة .
ويتبع هذا الانتصار – حيث هو قريب منه – سقوط دعوى الحكومات العربية – وبخاصة الثورية منها – التي كانت تزعم أنها ستحرر فلسطين، بل وترمى إسرائيل في البحر، والمؤسف أن الناس قد صدقوا ذلك حينها ، وما علموا أنها شعارات كاذبة ، ومزايدات مكشوفة ثم تكشف الأيام عن مؤامرات هؤلاء ومحادثاتهم السرية مع اليهود، وولاءهم للشرق والغرب، وأن مؤتمراتهم ليست إلا لإسكات الشعوب ، وامتصاص غضبتها ، وهي بهذا تتواطأ مع العدو في تحقيق أهدافه ، وثبت أن أكثرهم صراخاً ، واعلاهم صوتاً ، أشدهم عمالة، وأعمقهم ولاء ، وإلاّ فأين نتائج وثمار تلك المؤتمرات على مدى خمسين سنة .(/9)
إن الوصول إلى هذه الحقيقة فيما يتعلق بتلك المنظمات وهذه الحكومات يعد انتصاراً باهراً ، مما يجعل الأمة تسير في الإتجاه الصحيح، وتبحث عن طوق النجاة عند غير هؤلاء ، وهذه مرحلة مهمة من مراحل الطريق الطويل المؤدي إلى النصر – بإذن الله - .
ثانياً : بعد سنوات طويلة من المعارك الوهمية والهزائم المتوالية أمام إسرائيل، وبعد الصراخ وبيانات الشجب والاستنكار التي تصدرها القمم العربية ترسخت، بل رسخت لدى الشعوب قناعة بأن إسرائيل دول لا تقهر، تولى كبرها الاعلام العربي الذي أوصل الأمة إلى هذه الهزيمة النفسية، ومن هنا كثر الحديث بأنه يستحيل اخراج إسرائيل من فلسطين، وأن استمرارنا بهذا الطريق يعنى مزيداً من الخسائر والهزائم، ولذلك بدأت مرحلة خطيرة، حيث طرحت استراتيجيات كبرى تطالب بالسلام والتعايش مع العدو، وتطبيع العلاقات مع الصهاينة، وما كان أحد يستطيع أو يجرؤ على الحديث عنها قبل (30) سنة تقريباً، ولو فعل لاتهم بالخيانة وبيع القضية ، وإن ننس فلا ننسى مؤتمر الخرطوم المسمى بمؤتمر اللاءات الثلاث " "لا صلح ، لا اعتراف ، لا مفاوضات".
وبعد حرب رمضان بدأت مرحلة السلام (سلام الأقوياء) - زعموا – وكان السادات عراب هذه المرحلة، والعجيب كيف كان موقف العرب من رحلة السادات ثم كيف أصبح ، فما هي إلا سنوات وإذا العرب يسيرون بالطريق نفسه الذي سار به السادات ، وأن موقفهم بعد رحلته المشؤمة لم يكن إلا مشهداً ضمن المسرحية الطويلة، من أجل ترويض الشعوب وامتصاص غضبها، ثم تهيئتها للمرحلة المقبلة، وهكذا كان، فبدأت تلك المرحلة العصيبة من تاريخ الأمة، وتسابق العرب وفي مقدمتهم قادة فلسطين من العلمانيين وأشباههم لبيع فلسطين وإنهاء القضية إلى الأبد –زعموا – وإذا المؤتمرات تعقد مع زعماء اليهود، والمفاوضات على قدم وساق، ثم تلاها توقيع المعاهدات، وفتح السفارات في عدد من الدول العربية ، وبدأت الزيارات الثنائية ، والعقود التجارية، وأصبحت مصطلحات السلام، والتطبيع، والتعايش مع اليهود مصطلحات تتكرر على مسامعنا، ويشدوا بها الإعلام صباح مساء، وتعقد لها المؤتمرات – ولا تزال – وكانت هناك أصوات أخرى تبين أن هذا ليس هو الطريق لتحرير فلسطين، وإنهاء القضية، ولم يسمع لتلك الأصوات في حينها، وما هي إلا سنوات محدودة، فإذا أركان السلام تتهاوى، والعهود تنقض – من قبل اليهود أنفسهم - ، ولا عجب في ذلك فالذين نقضوا عهودهم مع ربهم وأنبيائهم ، أينتظر منهم أن يفوا بعهودهم مع أعدائهم "أو كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم" ، ولكن العرب لا يعقلون ولا يتعلمون ، وما ذاك إلا لبعدهم عن كتاب ربهم وسنة نبيهم، وإلا فالقرآن قد كشف عن هذه الحقيقة وركز عليها في مواضع عدة.
وفي السنّة قصة أسلاف هؤلاء من بني قريظة والنضير وبني قينقاع ومعاهدتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نقضهم لتلك العهود والمواثيق، وخياناتهم المتكرره في التاريخ ماضياً وحاضراً من أقوى الدلائل على طبيعة هؤلاء وسجيتهم ولكن قومي لا يفقهون.
والأنتصار الذي بدأ يتحقق ، هو الفشل المبكر لتلك الاستراتيجيات ، حيث لم يعد لها تلك القوة والزخم الذي طرحت به ، وتراجع منظّروها إلى الخلف بعد أن أوقعتهم إسرائيل في حرج شديد أمام شعوبهم، ومع أن العرب لم يعلنوا هزيمتهم بعد، ولا يزالون يلهثون خلف سراب السلام ، فإن هذه المرحلة وتلك الاستراتيجيات قد أعلنت مبكراً عن فشلها ، والأمر يسير في هذا الاتجاه، ولو كابر المكابرون ، وأصر المعاندون، فإن ذلك لن يغير من الحقيقة شيئاً، وقد تأسف أمين جامعة الدول العربية لفشل مرحلة السلام، وطالب بعض النواب في الأردن بوضع خطة للإنسحاب من معاهدة السلام التي سبق أن وقعها الأردن مع إسرائيل.
أن الوصول إلى هذه الحقيقة على مستوى الأمة أمر مهم ، وانتصار حقيقي ، حيث يصعب الوصول إلى الانتصار الأكبر دون تحقيق هذه النتيجة ، وذلك أن إفلاس جميع النظريات والاستراتيجيات التي لا تسير في الاتجاه الصحيح يختصر الطريق ويوحّد الجهود ، ويقربنا من الوصول إلى الغاية المنشودة ، "والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون".
ثالثاً :(/10)
من الإنجازات المهمة التي تحققت في معركتنا الطويلة مع اليهود تهاوى دعوى (إسرائيل التي لا تقهر) على أيدي أطفال الحجارة ، وتحقيقهم لما عجز عنه الجنرالات وأصحاب الأوسمة النياشين ، بل هدم ما بناه أولئك الزعماء والقادة الذين على أكتافهم قامت نظرية (الدولة التي لا تقهر) إن سقوط تلك الدعوى في غاية الأهمية ، وذلك لأن قيامها والترويج لها أدخل الأمة في هزيمة نفسية حرجة، استغلها المتآمرون مع اليهود لتقديم تنازلات ضخمة ، بدعوى المحافظة على ما يمكن الحفاظ عليه ،وانقاذ ما يمكن أنقاذه لأننا أما دولة لا تقهر فمن العبث استمرار الصراع معها، فجاء هؤلاء الأطفال يحملون بأيديهم الحجارة وعلى السنتهم كلمة (الله أكبر) تدوى في الآفاق وتهتز لها قلوب الظالمين خوفاً ورعباً " وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى" .
وأعجب من ذلك وأقوى أثراً هذا الصمود العجيب من قبل أولئك الأطفال ، بالرغم من البطش والتنكيل والعذاب الذى يصبّه اليهود صباً على هؤلاء الفتية وأسرهم وبيوتهم وكان الأقربون فضلاً عن الأعداء لم يكونوا يتصورون استمرار تلك المواجهة أكثر من أيام أو بضعة أسابيع، وإذا هي وقد مرّ عليها بضعة أشهر تزداد أشتعالاً وقوة، علماً أن المواجهة الأولى لم يمض عليها إلا عدة سنوات، مع ما حدث فيها من مآس وآلام وجراحات توقع المراقبون إلاّ تعود إلا بعد سنوات طويلة لقسوة بطش العدو وخذلان الصديق، ولكن على قدر أهل العزم تأتي العزائم.
إن في تلك المعركة التي خاضها ويخوضها أولئك الأبطال من الدروس والعبر ، ما نحن بأمس الحاجة إليه من أجل بناء رؤية شرعية متفائلة لمواجهتنا الطويلة مع اليهود " لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب" ، "فاعتبروا يا أولى الأبصار"
رابعاً :
وأهم تلك الانتصارات ، وأبعدها أثراً هو الوصول إلى أن الطريق الوحيد لتحرير بيت المقدس وتخليص فلسطين من اليهود هو الجهاد في سبيل الله ، نعم الجهاد لا غير ، وهذه القناعة لم تكن تحدث عند كثير من المسلمين إلا بعد فشل جميع النظريات والاستراتيجيات الأخرى ، ولأن الأمر لم يصل إلى نهايته في فشل مرحلة السلام ، حيث لا يزال هناك فئات من الناس ترى في السلام مخرجاً وعلاجاً ، لذلك فهناك من لا يرى الجهاد طريقاً وسبيلاً . ولكننى أتحدث عن المبشرات والإنجازات ، حيث إن البدايات توصل إلى النهايات ، وفرق كبير بين الذين كانوا لا يرون الجهاد سبيلاً قبل عشر سنوات ، وبين من يطالب به الآن. لقد كثر من يطالب بالجهاد، وأنه هو السبيل لتحرير فلسطين حتى رأينا ذلك من بعض الكتاب الذين لم يعرف عنهم الحديث في مثل هذه الأمور، بل بعض الكتاب المنحرفين، والذين كانوا قبل فترة يسيرة ينظّرون لمرحلة السلام، والتعايش مع اليهود فإذا هم اليوم يطالبون بقتال اليهود ، حيث لا يصلح معهم إلا ذاك.
إنني أدرك أن الوصول إلى هذه القناعة ليس بالأمر السهل، حيث يقف ضدها الشرق والغرب، وتبعاً لذلك يوحون إلى أوليائهم بمحاربة هذه النظرية والوقوف ضدها بكل سبيل، وذلك أنهم يدركون خطورتها وأثرها على مسار القضية ، ومن هنا فإننى أرى أن أي تجاوب مع تلك القناعة – بأن الجهاد هو الحل – على مستوى الأمة يعدّ انتصاراً ولو كان يسيراً، كيف وهو أكبر من ذلك، ويزداد يوماً بعد يوم ،ولو وجد المسلمون طريقاً لتحقيق تلك القناعة لرأيت العجب العجاب.
الطريق إلى بيت المقدس :
وبعد تلك الجولة الشاملة التي غاصت في أعماق التاريخ والدراسة المتأنية للماضي والحاضر يأتي السؤال الذي بدأنا به هذه الدراسة ، أين المخرج؟ وما هو الطريق ؟
ومع أنني أرى أن كل مبحث في هذه الدراسة له علاقة وثيقة بالإجابة على هذا السؤال، فإننى ساضع معالم رئيسة مهمة تحت عناوين محددة تجيب على هذا السؤال إجابة مباشرة ،وتحدد الطريق – بإذن الله – للسالكين.
يومان مشتبهان :
ذلك اليوم الذي احتل فيه الصليبيون بيت المقدس وعاثوا في أرض فلسطين ، وهذا اليوم الذي يحتل فيه اليهود فلسطين ودنسوا بيت المقدس ، يومان يتشابهان من عده وجوه أهمها : -
هناك احتلال صليبي ، وهنا احتلال يهودي.
أمة مشرذمة متفرقة ، وإمارات متناحرة بالأمس حيث كان في الشام وحده (15 إماره) واليوم وما أدراك ما اليوم ، فجامعة الدول العربية فيها أكثر من عشرين دولة ، ومنظمة المؤتمر الإسلامي أكثر من أربعين دولة .
الدويلات الباطنية بالأمس، كالعبيديين وأشباههم ، واليوم ، هنا رافضة ونصيريين وبعث ودروز ، وما أشبه الليلة بالبارحة .
ونتيجة لكل ما سبق تفرق المسلمين وضعفهم ، وتناحرهم فيما بينهم ، وهكذا كان الأمس ، وهو كذلك اليوم.(/11)
إنني عندما أذكر التشابه بين العصرين ، فإنني أريد أن يذهب اليأس من قلوب القانطين ، وذلك أنهم عندما يرون واقعنا اليوم وما تعيشة الأمة من تفرق وتشرذم ، مع تسلط الأعداء ، وخذلان الأصدقاء يستبعدون أن يتحقق الإنتصار أو يتحرر بيت المقدس ، ولذا فإننى أقول لهم كانت الحال أيام الصليبيين مثل حالنا أو أسوأ ، ومع ذلك فما هي إلا سنوات معدودة ، فإذا صلاح الدين يدخل إلى بيت المقدس فاتحاً منتصراً ، بعد أن أخذ بأسباب النصر الحقيقية ، فهلا أخذنا بتلك الأسباب لنحصل على تلك النتائج "إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم".
الجهاد هو الطريق :
الجهاد في سبيل الله هو الطريق الوحيد لتحرير فلسطين وتخليص بيت المقدس ، وهذه هي الحقيقة على مرّ التاريخ، فما خرج الجبارون ودخل المؤمنون إلى الأرض المقدسة إلا بالجهاد، وما فتح المسلمون بيت المقدس إلا بالجهاد ، وما أخرج الصليبيون من فلسطين إلا بالجهاد ، ولن يخلص بيت المقدس من اليهود إلا بالجهاد في سبيل الله ، وما سوى ذلك فهو طريق مسدود، وضياع للأنفس والأموال والأوقات.
والجهاد الذي أعنيه هو الجهاد في سبيل الله ، إيماناً بالله وتصديقاً برسله ، من أجل إعلاء كلمة الله ، وليس هو القتال تحت راية عمّية من أجل أرض أو تراب أو حميّة أو عصبية ، وهذه رايات جاهلية لن يحقق أصحابها إلا مزيداً من الخسائر والدمار والعار والشنار.
قد يقول قائل وكيف يكون الجهاد وأنت تعلم الوضع الذي نعيش فيه والظروف الدولية التي تحيط بنا ؟
فأقول : الجهاد يتحقق بطرق من أهمها :
الجهاد من الداخل، وذلك باعداد المجاهدين من أهل فلسطين وتربيتهم التربية الإسلامية الصافية، ودعمهم بالمال والعدة والعتاد، ونواة هذا الأمر موجودة الآن عبر ما يقوم به إخواننا المجاهدون من داخل فلسطين.
تربية الأمة على الجهاد الشامل للاعداد العلمي والتربوي والمادي، وابعاد شباب الأمة عن سفاسف الأمور ومهلكات الأمم ، وانتظار اللحظة الحاسمة، واستثمار الفرص، ومحاولة فتح جبهة مع العدو، وما فعله الرافضة في جنوب لبنان يدل على أن الأمر ليس بمستحيل ، فإذا علم الله صدقنا وجهادنا فتح لنا من الأبواب مالا نحتسب ، " قال أصحاب موسى إنا لمدركون ، قال كلا إن معي ربى سيهدين، فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم"
والمهم أن تبقى جذوة الجهاد حيّة ، تتوارثها الأجيال ، جيلاً بعد جيل حتى يأتي الله بالفتح أو أمر من عنده ، فيصبح هؤلاء المنهزمون على ما أسرّوا في أنفسهم نادمين.
دعم المجاهدين في داخل فلسطين :
إنّ أهم بنود معاهدة الذل والخنوع ، والمسماة ظلماً وجوراً بالسلام وهي معاهدة ذل واستسلام، والتي وقعها اليهود مع حلفائهم من المنافقين المتاجرين بقضية فلسطين، من أهم بنودها ضرب قواعد المجاهدين في الداخل ، وتعقبهم أينما كانوا ، وتقليم أظافرهم على يد أبناء جلدتهم ، عندما فشل اليهود في ذلك ، وهذا يؤكد لنا أهمية الجهاد من داخل أرض فلسطين ،وهي نظرية صحيحة نادى بها بعض السياسيين من قادة العرب قبل أكثر من خمسين عاماً .
ولذلك فإننى أرى أن من أهم الخيارات الإستراتيجية المتاحة دعم المجاهدين في الداخل بكل وسيلة ممكنة ، ومن أهمها :
الدعم البشري إن أمكن وبخاصة من يستطيع من المسلمين دخول أرض فلسطين، بعد تهيئة الأسباب لذلك، وعلى إخواننا الفلسطينين الذين يقيمون خارج فلسطين مسؤولية عظمى، أكبر من غيرهم تجاه هذه القضية، وليحذروا من الركون إلى الدنيا ونسيان قضيتهم الأولى.
الدعم المادي – وهو أهم الوسائل المتاحة – وذلك بدعم المجاهدين في أنفسهم وأسرهم ،وذلك أن سياسة التجويع وهدم المنازل وتفريق الأسر قد أوهنت من عزائمهم وهدت من قوتهم ، والدعم المادي له صورة التي لا تخفى ، وهو من أهم ركائز الإنطلاق لإعداد القوة ومواجهة العدو، وأشير هنا إلى أن دعمنا لإخواننا في الداخل ليس هبة أو تبرعاً فضلاً عن أن يكون منّة نمنّ بها عليهم، بل هو واجب علينا، وجزء من الجهاد الذي أمر الله به في مواضيع عدة في القرآن الكريم، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم . والمهم أن يصل المال إلى أهله ويعطى من يستحقه .
الدعم الإعلامي ،وهو سلاح العصر الفتاك، ومع كل أسف فإن المسلمين متأخرون في ذلك كثيراً ، علماً أن الإعلام اليوم هو الذي يقود الشعوب ،ويوجهها حيث شاء، ويكفى للدلالة على هذا الأمر ، أن نشير إلى قضيّة محمد الدرّة ، حيث هزت العالم أجمع ، وخدمت قضية فلسطين بما لم يخدمه الإعلام منذ عشرات السنين، وهي لقطة من مصور استثمرها إيما استثمار ، فكانت أثارها الباهرة التي شاهدناها ولا تزال إلى اليوم .(/12)
إن من الخطأ أن نتصور أن العالم كله مع اليهود ، وذلك أن البشرية فطرت على كره الظلم والوقوف مع المظلوم، ولذلك برع اليهود في استثمار هذا الأمر في قصتهم مع هتلر ، فبالغوا في تصوير ما حدث لهم ليستجلبوا عطف العالم وتأييده وهكذا كان ، فلو استطعنا أن نستثمر الأعلام بوسائلة المتعددة ، ونقدم للعالم صورة عما يفعلة اليهود في فلسطين، لتغيرت المعادلة ، ولكن خلا الجو لليهود ، فاستثمروه، واليوم الفرصة متاحة لنا ، فهل نفعل؟؟
ومن أهم وسائل الدعم ، هو ترشيد الإنتفاضة ، وتوجييها إلى الطريق الصحيح ، حيث يكون قتالهم خالصاً لله ، لا من أجل عصبية أو حمية أو أرض ، حيث إن عدداً من الذين يواجهون اليهود في الداخل ينقصهم الوعي الصحيح بأن المعركة معركة إسلامية، وأنها معركة عقيدة وولاء وبراء ، وقد تأثر بعضهم ببعض المدارس الوطنية والعلمانية، التي كانت موجودة في فلسطين ولم تنته بعد، وإن كانت ضعفت والحمد لله، ويتطلب هذا اشاعة العلم الشرعي، ونشر التوحيد الخالص، وبيان المنهج الصحيح الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته وهو منهج أهل السنة والجماعة ، الذي بدونه لن يتحقق للأمة مجدها وعزها وسؤددها، فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها .
وأخيراً من الوسائل العظيمة المؤثرة ؛ الدعاء ، وحسبك به سلاحاً وقوة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني بهذا الأمر قبل المعركة وأثناءها، فقد ثبت عنه في الصحيح أنه كان يدعو قبل دخوله المعركة ، وكان من دعائه "اللهم منزل الكتاب وهازم الأحزاب ، اهزمهم ، وانصرنا عليهم"
وموقفه يوم بدر ، وقصة أبي بكر معه ، معروفة مشهورة.
وقد أدرك المسلمون هذا الأمر من لدن الصحابة ومن بعدهم، وأولوه عناية خاصة، حتى ذكر بعض الفقهاء أنه يستحب أن يبدأ القتال بعد صلاة الجمعة بعد أن يكون المسلمون قد دعو لهم فيها.
وممن أشتهر بالعناية بهذا الأمر محمد بن واسع –رحمه الله - ، وعندما التقى القائد قطز بالمغول ومعهم أكبر جيش وقوة آنذاك، وكان ذلك في معركة عين جالوت عام 658هـ التجأ إلى ربه وتضرّع إليه، ففتح الله عليه وهزم المغول، وقصته مشهورة معروفة.
إن الدعاء سلاح المؤمن، وبخاصة المضطر والمجاهد في سبيل الله " أمّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء" وسهام الليل لا تخطى ، عندما ينادى جلّ وعلا" "أنا الملك أنا الملك ، من ذا الذي يدعوني فأستجيب له ، من ذا الذي يسألني فأعطيه ، من ذا الذي يستغفرني فأغفر له".
ومن أحسن ما سمعت تعليقاً على سقوط إحدى صالات الأفراح على مجموعة من اليهود فهلك عدد كبير منهم وجرح آخرون ، فقال أحد الأخوة : لعل هذا استجابة لدعاء مسلم بظهر الغيب ، فالدعاء الدعاء .
"ادعوا ربكم تضرعاً وخفيه إنه لا يحب المعتدين" .
إن الوقوف مع إخواننا في الداخل ودعمهم بوسائل الدعم المتعددة له ثمرات عظيمة ، من أهمها : -
القيام بالواجب الشرعي تجاه هؤلاء المجاهدين، "وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحبّ إليَّ مما افترضته عليه" حديث قدسى . وبيان أننا أمة واحدة كالجسد الواحد إذا اشتكي منه عضو تداعي له سائر الجسد بالحمي والسهر.
إحياء فريضة الجهاد ، وحسبك بهذه الفريضة شرفاً وعزة ورفعة ومنعة ، "لغدوة في سبيل الله أو روحه خير من الدنيا وما فيها "
إضعاف إسرائيل وتعميق مشكلاتها ، مما يوهن من عزيمتها ويسهل القضاء عليها ، ويوقف الهجرة إليها .
ترسيخ مفهوم أن القضية إسلامية ، ولن تحلّ بغير الإسلام ، والجهاد ذروة سنامة .
إيقاف المهرولين والمتنازلين عند حدهم، وليس كمثل الجهاد لهم ردعاً وسلاحاً، وإثبات أنهم لا يملكون القرار، وأن الأمة لم تفوضهم بالتوقيع نيابة عنها ، فالسيف أصدق أنباء من الكتب .
إستمرار جذوة القضية حيّة ، فخمودها مما تقرّ به أعين الظالمين والمنافقين ، فلا نامت أعين الجبناء.
بيان أن هذه الأمة أمة معطاءة ، لا ينضب معينها ، ولا يتوقف سلسبيلها ، وأن الضربات المتلاحقة لا توهن من عزيمتها ، ولا تفتّ في عضدها ، وإن سكنت حيناً ، فما هي إلاّ استراحة المحارب ، سرعان ما تنفض الغبار عنها ، وتعيد الكرة تلو الأخرى .
وإنني اقترح لتحقيق هذا الدعم وإخراجه إلى حيز الواقع مفصَّلاً أن تتعاون الجهات ذات العلاقة في الأرض المحتلة وخارجها على وضع برامج تنفيذية تفصيلية يجري تعميمها ونشرها بين فئات المجتمع الإسلامي كله، وتُهيأ لها الطاقات البشرية المتخصصة والمتفرغة قدر الإمكان، يبيّن فيها واجب المجاهدين في الداخل، وما يجب على إخوانهم في الخارج، من الدعم المادي، وكفالة المجاهدين، وإعالة الأسر، وإقامة المشاريع التي تضمن استمرار الجهاد وقوته بالإضافة إلى المشاريع الدعوية والتعليميّة، مع العناية بإقامة المؤسسات الإعلامية المستقلة التي تعطي الصورة الحقيقية عما يجري في داخل أرض فلسطين، وتربط المسلمين بقضيتهم الكبرى في مشارق الأرض ومغاربها.(/13)
وأشير هنا إلى أن هناك بعض السلبيات التي حدثت وتحدث من جراء استمرار الإنتفاضة واشتعالها ، فلابد من دراستها وتلافيها ، وإتخاذ الأسباب المانعة من تكرارها ، وليس الخلل في الإنتفاضة ذاتها ، وإنما هي أمور قد تحفّ بها ، مما يتيح الفرصة للمتاجرين والمنافقين لإستثمارها ، وتشوية القضية من خلالها ، فلابد من الوعي والحذر ، "ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين".
معالم على الطريق :
من أجل تحرير فلسطين، وعودة بيت المقدس لابد من توافر عوامل عدة، أخذاً بالأسباب الشرعية، وانسجاماً مع السنن الكونية، فما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، وما ضاع في عشرات السنين لا يسترد بأيام أو شهور، ولذلك لابد من تظافر الجهود، والأخذ بأسباب النصر، والتوكل على الله (إعقلها وتوكل) ومساهمة في بيان القوة التي أمرنا الله أن نأخذ بها {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة}. فسأذكر عدداً من المنطلقات التي أرى أنها تساهم مساهمة مباشرة في تحقيق الانتصار، ولأن بعضها قد سبق بيانه والتفصيل فيه، فسأشير إليه إشارة عابرة من أجل ترابط الموضوع وانتظام حلقاته، وإلا فإن كل ما سبق من فصول ومباحث له ارتباط بهذا السياق ومعلم من معالم الطريق، وأهم تلك المعالم:
العودة الصادقة إلى الله والرجوع إليه، فما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى:30) (أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى:34) (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) (الكهف:59) فما ضاعت فلسطين إلا لبعد الأمة عن الله، وتنكبها للطريق المستقيم، فحلّت عليها سنة الله في الأمم، ولذلك فأول خطوة في الطريق الطويل لإعادة الحق إلى نصابه أن نعود إلى الله، وأن نستغفره من ذنوبنا وخطايانا، وأن نكثر التضرع والإنابة إليه، وأن نحكم شريعة الله في أنفسنا وبيوتنا ومجتمعنا وفي شأننا كله (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (لأعراف:96)، (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء:65).
تربية الأمة على الإسلام، وتنشئتها على المنهج الصحيح، وتخليصها من البدع والانحراف، وترسيخ المفاهيم الصحيحة في نفوسها، كمفهوم الحب والبغض في الله، ومبدأ الولاء والبراء، وحقيقة التوحيد، وماهي الفرقة الناجية والطائفة المنصورة، وبيان منهج أهل السنة والجماعة، وتنقية الأمة من المناهج المنحرفة كالقومية، والوطنية، وغيرها من المناهج الأرضية، والتركيز على العلم الشرعي، فتربية العقل أهم من تربية الجسد، ومن الخطأ تقديم المهم على الأهم.
الإيمان المطلق بأن الاسلام هو المنطلق الوحيد لتعاملنا مع قضية فلسطين، ومنه تستمد جميع الأحكام المتعلقة بتلك القضية،وفي ضوئه تعالج جميع المستجدات، وأن الرجوع إلى أي مصدر أو جهة أو هيئة سواه يعني مزيدا من الخسائر والتأخر والبعد عن تحقيق النصر (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (الذريات:50).
توعية الأمة بأن الجهاد هو الوسيلة الوحيدة لتحرير فلسطين وإخراج اليهود منها، وأن أي وسيلة سواه مآلها إلى الضياع وبعثرة الجهود، وتمكين الأعداء، واضعاف الأمة، والفشل الذريع (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (التوبة:29) وأن يكون الجهاد لإعلاء كلمة الله، لا من أجل عصبية أو مال أو أرض، بل ليكون الدين كله لله (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ).
وحدة الكلمة واجتماع الصفوف على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم – (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) (آل عمران: من الآية103) ونبذ التفرق والاختلاف والتنازع (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) (لأنفال: من الآية46). فالخلاف شرّ كما قال ابن مسعود - رضي الله عنه - مع سعة الأفق، وعدم حصر المواجهة وتحمل أعباء المعركة بفئة من المسلمين دون غيرهم، فكل مسلم له حق المساهمة والمدافعة عن حقوق المسلمين، بعيداً عن أي تعصب أو حزبية، والقاعدة هنا قوله - صلى الله عليه وسلم – "ارجع فلن أستعين بمشرك". فمن كان داخل دائرة الإسلام فله حق الولاء والنصرة، ومن عداه فلا.(/14)
وهنا مسألة مهمة ولها ارتباط وثيق في موضوعنا، وهي: هل القتال خاص بالصالحين والأخيار، ولا يجوز أن يشارك فيه العصاة والفساق من المسلمين ؟ وسبب هذا السؤال ما نسمعه بين فينة وأخرى من القدح في المجاهدين في كثير من بلاد المسلمين، ووصمهم بالفسق والفجور ونحو ذلك، وتبرير عدم مساعدتهم بمثل هذه التهم.
والجواب على ذلك من شقين :
الأول : خطورة تعميم الأحكام، مع ما يترتب على ذلك من مفاسد لا تحصى، والواجب على المسلم إلتزام العدل والقسط "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألاّ تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى"، وقال سبحانه : "وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا" وقال سبحانه "إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكّرون". وعندما ذكر الله بني إسرائيل وما وقعوا فيه من انحراف قال : "منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون" فلم يعمم الحكم على الجميع، وجاء مثل ذلك في آيات كثيرة في القرآن، فتعميم الحكم بأن أهل ذاك البلد فسّاق أو مبتدعة أو نحو ذلك من البغى والظلم الذي نهى الله عنه إلا إذا كانوا كلهم كذلك بعد التثبت والتحقق، وهذا بعيد، حيث لا يخلو بلد من الصالحين والأخيار، ولو كانوا قليلاً (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ).
الثاني : أن وجود الفسق والفجور ليس مبرراً لترك الجهاد، حتى لو كان القائد فاسقاً أو فاجراً، فضلاً عن أن يكون فرداً من أفراد المسلمين، ولذلك بوّب العلماء في كتبهم لهذه المسألة "ويغزى مع كل برّ وفاجر" قال الإمام أحمد، وسئل عن الغزو مع بعض الظلمة وأئمة الجور، فقال عن هؤلاء الذين يعتذرون عن الجهاد بسبب ذلك: سبحان الله، هؤلاء قوم سوء، هؤلاء القعده مثبطون جُهّال، فيقال : أرأيتم لو أن الناس كلهم قعدوا كما قعدتم، من كان يغزوا؟ أليس كان قد ذهب الإسلام، ما كانت تصنع الروم ؟ (فلله درُّ هذا الإمام ما أعلمه وأبعد نظره) ! .
وقال ابن قدامة : ولأن ترك الجهاد مع الفاجر يفضي إلى قطع الجهاد، وظهور الكفار على المسلمين واستئصالهم، وظهور كلمة الكفر، وفيه فساد عظيم، قال سبحانه: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض".
وما زال المسلمون منذ عهد الصحابة يقاتل معهم البر والفاجر، وقضية أبي محجن في القادسية مشهورة معروفة حتى قال ابن قدامة معقباً عليها : وهذا اتفاق لم يظهر خلافة، بل كانوا يقاتلون مع البر والفاجر، قال علقمة : كنا في جيش في أرض الروم، ومعنا حذيفة بن اليمان، وعلينا الوليد بن عقبة، فشرب الخمر ، فأردنا أن نحدّه فقال حذيفة : أتحدون أميركم وقد دنوتم من عدوكم فيطمعوا فيكم. (ولم ينقل عنهم أنهم عزلوه أو تركوا الجهاد معه) وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : (إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر) متفق عليه .
أمّا صاحب البدعة، فقد ذكر العلماء قاعدة جيدة في حكم القتال معه ملخصها :
أن من قاتل من أجل بدعته لنشرها أو الدفاع عنها فلا يجوز القتال معه.
أمّا من يقاتل الكفار – لا من أجل بدعته – ولكنه متلبس بالبدعة، فيجوز القتال معه.
ومن الواجب أن نسعى لإصلاح إخواننا في كل مكان، والاّ نرضى بالواقع السيء ولا نقره، فإن من الجهاد تربية الأمة على المنهج الصحيح، وان يتولّى عليها خيارها، ولكن هذه مسألة وتلك مسألة أخرى، فالسعي إلى الكمال مطلوب وهو من أعظم وسائل النصر، ولكن الكمال عزيز، ومراعاة قاعدة المصالح والمفاسد من أهم ما يجب أن نعنى به وبخاصة في هذا الباب، فمن الحكمة أن نعرف خير الخيرين، وشرّ الشرين، "ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيرا، وما يذّكّر إلاّ أولوا الألباب".
ومن المسائل التي اكتفى بالاشارة إليها هنا، هي أن العلماء وهم يتحدثون عن الجهاد وشروطه وآدابه يفرقون بين جهاد الطلب وجهاد الدفع، فيتوسعون في الثاني، ويسقطون كثيراً من الشروط التي يجب توافرها في جهاد الطلب، فلابد من مراعاة ذلك في قتالنا مع اليهود لأنه من جهاد الدفع لا من جهاد الطلب.
وجود خطة محكمة، واستراتيجية واضحة، تراعى فيها الظروف والامكانات، وتدرس فيها العوائق، ويراعى فيها التدرج، بحيث تكون خطة عملية واقعية، بعيدة عن الفوضى والاستعجال، والإفراط أو التفريط، مع تجنب الصدام والمعارك مع غير العدو الحقيقي، والاّ يستدرج المجاهدون إلى معارك جانبية تخدم العدو وتؤخر النصر.(/15)
هزيمة الأمة ليست في الميدان العسكري فقط وإنما هي هزيمة شاملة في أغلب الميادين الاعلامية والتقنية والعلمية وغيرها، وإسرائيل لديها من التفوق في هذه الميادين ما يفوق الخيال، وهناك جامعات تقنيّة في إسرائيل تُعدّ من أرقى الجامعات في العالم كجامعة (وايزمان)، وانطلاقاً من قوله تعالى "واعدوا لهم ما استطعتم من قوة" وتحقيقاً لهذه الاستراتيجية لابد من الأخذ بأسباب القوة الحقيقية المتنوعة، سواء أكانت بشرية أو اقتصادية، أو تقنيّة أو اعلامية أو غيرها، والقوة لا تتجزأ، والأخذ بسبب منها دون الآخر خطأ فادح، وهزيمة محققة، ومخالفة لأمر الله سبحانه "واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم".
إيجاد مدرسة لإعداد القادة، وتربية الرواد الذين يقودون الأمة إلى سبيل النجاة، فإن من أشد ما تحتاجه الأمة اليوم وجود القادة الصادقين، والأئمة الربانيين، الذين يأخذون بيدها إلى شاطئ السلامة، ويخرجونها من الظلمات إلى النور، وما خرج الصليبيون إلا على يد قادة أفذاذ من أمثال: نور الدين وشيركوه وصلاح الدين وغيرهم من القادة الأبطال الذين جمعوا بين الصبر واليقين، حيث بهما تنال الإمامة بالدين (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة:24) فجعل الله الفتح على أيديهم، كما جعل الفتح على يد أسلافهم من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعين لهم بإحسان.
نحن نؤمن بأن الانتصار على اليهود قضاء قدري كوني وشرعي، حيث ثبت عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بالحديث الصحيح - ( لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أوالشجر : يا مسلم يا عبد الله، هذا يهودي خلفي، فتعال فاقتله) والانتصار النهائي والمعركة الفاصلة ستكون آخر الزمان حين يكون المسلمون تحت راية المسيح عليه السلام وأميرهم المهدي ويكون اليهود تحت راية المسيح الدجال. ومقتضى الإيمان بهذا النصر أن نعمل بجد ويقين لا أن نتكل ونتخاذل، فترك القتال والاستعداد له بحجة أن تلك المعركة الفاصلة لم يحين وقتها خطأ لأمور : -
أن النصوص المبشرة بانتصار المسلمين جاء بعضها مطلقاً لا تقييد فيه بكون المعركة بين جيش الإسلام بقيادة المسيح عليه السلام والمهدي وجيش اليهود بقيادة الدجال، فحمل بعض هذه النصوص على بعض ليس متعيناً وليس من شرط حدوث الخارق (تكليم الحجر والشجر) أن يكون في آخر الزمان فليس على الله بعزيز أن يكون في جولة قبل ذلك بل في هذه الجولة .
أننا لا نعلم متى تقع المعركة الفاصلة ولا ما مقدماتها ولم نُتعبَّد بانتظارها وإنما تعبدنا الله بالجهاد والإعداد لليهود وغيرهم.
أن عموم الأدلة يدل على أن المعركة مع الكفر مستمرة دائمة وليس هناك من دليل شرعي أو تاريخي يمنع وقوع معارك أخرى بيننا وبين اليهود قبل المعركة الفاصلة فإن الحرب سجال حتى يأتي الفتح الأعظم، وهكذا كان بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين قريش حتى جاء نصر الله والفتح ودخل الناس في دين الله أفواجاً.
وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، قال: فينزل عيسى ابن مريم ـ عليه السلام - فيقول أميرهم: تعال صَلِّ لنا، فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء، تكرمة الله هذه الأمة).
من المهم أن نركز على ما ورد في القرآن حول اليهود ، فلن نجد مَنْ وَصَفَ اليهود، وعَرّف بنفسياتهم ثم حكم عليهم بما هم أهل له مثل القرآن، وحيث إن منطلقنا في التعامل معهم هو كتاب الله، فلابد من دراسة القرآن، وما ورد فيه من آيات عن بني إسرائيل دراسة معمّّقة، حيث نبني على ذلك رسم خطط المستقبل وقواعد التعامل في الحرب والهدنة.
فمن صفاتهم: الذل والمسكنة (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ).
وكذلك الغدر والخيانة (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ).
ومن صفاتهم الجُبن والضعف (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ) (لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ).
ومن صفاتهم عدم اتحاد كلمتهم وتفرقهم واختلاف قلوبهم بل وشدّة تناحرهم (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى).
فمن كانت هذه بعض صفاته، كيف يُنزَّل فوق منزلته، أو يُوثق في عهده، أو يخاف من قوته.
وما تخبطت الأمة في تعاملها مع اليهود إلا عندما لم تجعل القرآن الكريم نبراس حياتها، ومنطلقها في صراعها، فما نالت إلا الهوان والخسران، لأنها جعلت الغرب والشرق وأمم الكفر ملاذها وحجّتها ومنطلقها في خططها واستراتيجياتها، ومفزعها عند المحن (لمجلس الأمن لا إلا الله اشتكوا )(/16)
ولنأخذ لذلك مثلاً يبين هذا البرهان، فمنذ بدأ العرب في عقد معاهداتهم مع اليهود، كلما عقدوا عقداً مع حكومة سقطت تلك الحكومة، وجاءت أخرى فنقضت العهد وعقدت معاهدة أخرى، فما تعقده حكومة الليكود تنقضه حكومة العمال، وما تعقده حكومة العمال تنقضه حكومة الليكود، وهكذا دواليك، وهذا مصداق قوله تعالى: (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ). ولكن العرب لا يتعظون ولا يتعلمون ولا يعقلون.
لابد من التفاؤل والبعد عن اليأس والتشاؤم، حيث لا مكان لذلك في حياة المسلم، ولا ينبغي أن تكون الظروف المحيطة ومرارة الواقع وبطش الأعداء وخذلان الأصدقاء مبرراً لليأس والقنوط، ولقد كان - صلى الله عليه وسلم - في أحلك الظروف وأشدّّ الأيام معاناة أكثر الناس تفاؤلاً وحسن ظن بالله، نجد ذلك عندما ذهب إلى الطائف وما لقيه هناك من أذى، ثم يوم هجرته عندما لحقه سراقة، وقبل ذلك عندما اشتكى له صحابته ما يجدونه من أذى قريش، وكذلك يوم الخندق، في كل تلك المواقف وغيرها كان متفائلاً موقناً بتحقق وعد الله، وقرب مجيئه، وهناك أمور تساهم في تفاؤلنا وحسن ظننا بالله، من أهمها:
أ- ... النصوص الواردة في الانتصار على اليهود، وسبق الحديث عنها، وبيان مدلولها.
ب- حديث القرآن عن اليهود، وبأن الله ضرب عليهم الذلة والمسكنة وباؤا بغضب من الله (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ).
... ومن ضربت عليه الذلة أينما ثُقف كيف لا نفرح ونتفائل بالانتصار عليه.
ج - إن إسرائيل تعاني من مشكلات مستعصية، وتزاد مع الأيام عمقاً وأثراً، فهي دولة غير مندمجة غريبة قائمة على دعم الغير ، مع التناقض والطبقية في المجتمع اليهودي نفسه، حيث التناحر على أشده (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى). ومن كانت هذه حاله فإن الانتصار عليه قريب - بإذن الله - إذا أخذنا بالأسباب ونادى منادِ الايمان: حيّ على الجهاد.
د- فشل جميع الحلول التي طرحت لإنهاء القضية، وإفلاس جميع المنظمات الأرضية التي كانت تزايد على قضية فلسطين وتتاجر بها ، كل ذلك يزيدنا تفاؤلاً باجتماع الأمة على كلمة واحدة، والسير على طريق واحد.
هـ- ما فعله ويفعله الأبطال في داخل فلسطين من المجاهدين وأطفال الحجارة وأسرهم يجعلنا نزداد تفاؤلاً، وثقة بوعد الله، وتحقق وقوعه، وأن هذه الأمة - أمة الاسلام - لا تنضب أبداً ، ولا يتوقف معينها وخيرها.
الصبر والمصابرة وعدم الإستعجال هو منهج الأنبياء والرسل والمصلحين على مدار التاريخ، وقضية فلسطين من أصعب القضايا التي واجهتها الأمة منذ قرون طويلة، وهي متشابكة الأطراف، متعددة الجوانب، كثيرة العقد، تحتاج إلى صبر وأناة، بعيداً عن الاستعجال واستباق النتائج (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران:200). (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ). (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) ولقد ورد الصبر في القرآن في أكثر من تسعين موضعاً، مما يدل على أهميته وأثره في تحقيق المراد، وما يجري في فلسطين ابتلاء وامتحان للأمة ليعلم الله صدقها وصبرها، وتميزها (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (آل عمران:179). (وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ). (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً).
وتسلية للمجاهدين الصابرين وبثاً لروح التفاؤل في نفوس المؤمنين، أسوق هذه الأحاديث تثبيتاً وبشرى للمسلمين، وكبتاً للمنافقين والعلمانيين وأعداء هذا الدين: عن ثوبان – رضي الله عنه – قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك).
وعن عقبة بن عامر - رضي الله عنه – سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك".(/17)
وعن سعد بن أبي وقاص – رضي الله عنه – قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة"، وعن جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما – قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، قال فينزل عيسى ابن مريم – عليه السلام – فيقول أميرهم تعال صل لنا فيقول: لا ، إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة"
وبعد :
فمن خير ما أختم به هذه الورقات حديثان عظيمان ، وهما رسالة لكل مسلم، وتأمل آخر كل حديث فالحر تكفية الإشارة.
فقد ثبت عن أبي ذر – رضي الله عنه – قال : قلت يا رسول الله : أي الأعمال أفضل؟ قال الإيمان بالله ، والجهاد في سبيله، قال : قلت أي الرقاب أفضل ؟ قال: أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمناً، قال : قلت : فإن لم أفعل؟ قال : تعين صانعاً أو تصنع لا خرق، قال : قلت : يا رسول الله : أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟ قال : تكف شرك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك.
وعن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أي الناس أفضل؟ فقال : رجلٌ يجاهد في سبيل الله بماله ونفسه، قال : ثم من؟ قال : مؤمن في شعب من الشعاب يعبد الله ربه، ويدع الناس من شرّه".
اللهم عالم الغيب والشهادة، فاطر السماوات والأرض، رب كل شيء ومليكه اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك فإنك تهدى من تشاء إلى صراط مستقيم.
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذلّ الشرك والمشركين، ودمّر أعداءك أعداء الدين، وانصر عبادك المجاهدين في سبيلك في كل مكان، وطهر بيت المقدس وجميع بلاد المسلمين من اليهود والنصارى والمشركين.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يُعزّ فيه أهل الطاعة، ويُذلُ فيه أهل المعصية، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر. اللهم منزل الكتاب، ومجرى السحاب، وهازم الأحزاب، اهزم اليهود وانصرنا عليهم. سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام علىالمرسلين والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
وكتب
ناصر بن سليمان العمر
الرياض في 27/3/1422هـ(/18)
رؤية إسلامية للأحداث في لبنان
الحمد لله القوي العزيز، والصلاة والسلام على سيد المجاهدين وأصحابه الميامين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. إلى الغيارى من إخواننا المسلمين في كل مكان: إن رسالتنا هذه تصلكم ونحن إن شاء الله في عبادة الرباط في سبيل الله وأمام دور جديد يضاف إلى أدوارنا السابقة، والناس يتطلعون إلى أقوالنا وأفعالنا نظرة اقتداء، فإما أن يجدوا ما يقوّي إيمانهم وإرادتهم ويثبّتهم، وإلا فحسبنا الله ونعم الوكيل.
وتتوجه إليكم جمعية الاتحاد الإسلامي تعليقاً على الحرب الدائرة الآن في لبنان بهَدْي نبوي هو التناصح والتذكير ببعض الملامح المبدئية أو السياسة الشرعية التي نظن نفعها في مثل هذه الظروف لتوصيلها إلى الناس (أو مخاطبتهم بناء عليها):
1. إن أيَّ إيلام ومواجهة للكيان الصهيوني وإظهار عجزه وهزّ صورة أسطورته: هو مما يسُرّ المسلمين، ولكن يجب توظيفه لخدمة فَهم هوِّية صراعنا مع اليهود وأهداف هذا الصراع، فلا بد من توجيهه إلى تلك الأهداف.
2. نعتقد أنَّ معركتنا مع اليهود لا تُنال إلا بالإيمان والتقوى ونهج النبوة، وبالجِدّ والصبر والإعداد والقوّة.
3. نؤكد على الابتعاد عن أي شكل من أشكال إثارة الفِتَن والنَّعرات المذهبية أو الاستجابة لذلك؛ لأن الانجرار إلى الفتنة ضرر كبير سيلحق بالمسلمين في لبنان.
4. أما بالنسبة لعملية أسر الجنديَّيْن من قوات العدو التي أشعلت الحرب فلا يَعنينا تبريرها وليس من وظيفتنا تلميع صورة القائمين بها، لأننا لا نأمن من أهدافها ولا من مخططات مَن أدارها، ونَحْذَر من استغلال أيّ نصر يتحقق لمزيدٍ من الإساءة إلى أهل السُّنة والاستعلاء عليهم.
5. والوقت مناسب جداً لطرح سؤال مهم على كل شرائح أهل السُّنة والجماعة: أين أنتم؟ وما هو المكان الذي تريدونه لأنفسكم؟ وهل تظنون أن المجد يُنال بالجُبن والفرار وعدم أخذ دور في الحياة؟ والفرصة سانحة للتقدُّم بالشباب الجادّ من أهل السُّنة خطوات إلى الأمام في الوعي والجِدِّية على ضوء وضوح ما نحصده من عقوبات تراكم تقصيراتنا السابقة. ورحم الله من قال:
والعزُّ على صهواتِ المجد مركبُهُ والمجدُ يُنتجه الإسراءُ والسهرُ
6. يجب لفت نظر الناس أن يذهبوا أبعد من متابعة الأحداث إلى قراءة ما وراءها من سنن الله التي لا تُعيرها وسائل الإعلام المنحرفة أي اهتمام؛ ومثال على ذلك قول الله تعالى: ?وإذا أردنا أن نُهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمّرناها تدميراً? فهذا التدمير والتخريب والقتل والويلات والبكاء والعذابات هو عذاب من الله لكثرة الفسق والفجور والانغماس في الغفلة خاصة فيما كان بدأ يُرتكب باسم موسم السياحة والاصطياف، فكُفِرَتْ أنعُمُ الله رغم أن الناس كانوا ينعمون بالأمان ويتناولون الملذّات، فأنزل الله عذابه على لبنان واللبنانيين وحرَمَهم الأمان والاستقرار.
- ولَكَم بُذلتْ أموال الأثرياء والمستثمرين بل والأموال العامة التي أُخِذت منا ضرائب ومُكوساً:
لبناء مراكز القمار والعهر والفجور والخمور ومحاربة الله بالربا! وكم جاهروا بالفواحش والموبقات!
- وكَمْ انتشر التعرّي على الشواطئ والطريق واللوحات! وصُرف الشباب عن واجباتهم إلى التُّرَّهات!
- وكَمْ انشغل الكثيرون بالسفاسف مثل المونديال عن معاناة المسلمين في العالم كمجزرة شاطئ غزة!
- وكَمْ أقاموا أخوّة قومية أو وطنية مقزَّمة أو عصبية منتنة ونبذوا الموالاة والأخوة على أساس الإيمان!
- وكَمْ أُهينت المقدَّسات وسُب صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وزوجاته!
- وكَمْ والَى البعضُ الظالمين من الحكام والنافذين! وخذل المومنين المصلِّين. وكَمْ وكَمْ؟!
7. ليس كل ذلك -في هذه الظروف القاسية- داعياً جديداً لليأس فواجب الدعاة هو التبشير وبثّ الإيجابية؛ وإن الله لغفّار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى، بل هو تذكير بأن الله عز وجل يحبّ من عباده في الشدائد الاستكانة له ودعاءه والتضرُّع إليه؛ حيث قال: ?ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربِّهم وما يتضرّعون?.
8. ينبغي أن نوصي رجالنا وأبناءنا بالصمود بنية الرِّباط؛ ونحرِّضهم على ذلك بنصوص فضائل الرباط والجهاد وبركة بلاد الشام؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه" رواه مسلم.
9. كما ينبغي التذكير بخطورة الاحتكار والاستغلال برفع أسعار أقوات الناس وسائر حاجاتهم، ونذكّر بجزيل ثواب تيسير الحاجات والبذل من الأموال وإطعام الطعام وإفشاء السلام والصلاة بالليل والناس نيام، والأولوية بالمعروف للأقربين خاصة أن الفئات الأخرى تجد ما تلبي به حاجاتها من مؤسساتها وغيرها. ونعلمكم بأننا أطلقنا بفضل الله (حملة التكافل الإسلامي للإغاثة) مساهمة مع بقية العاملين الصالحين للقيام بهذا الواجب بما تيسر من الإمكانات.(/1)
10. أخيراً تقبلوا منا تقدير صمودكم وجهودكم بالخير، ودعوتنا للتعاون على البر والتقوى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
============
مقالات متفرقة ... أطفالنا ومكاسب الحرب
...
مقالات متفرقة
لا يتمنى الناس ملاقاة الأعداء، ولا يحبون الحروب والدمار، إلا أن الحرب عندما تنزل بدار قوم لا بد من مواجهتها وإتقان التعامل معها على كل صعيد.
ونحن أمام الحروب تختلف مواقعنا وبالتالي نتقاسم آثار الحروب بحسب أعمارنا وإمكاناتنا وحجم الأضرار المترتبة علينا، والكل متفق أن الطفولة هي الخاسر الأكبر في الحرب. مع الإشارة إلى أن لوائح الأضرار وتقدير الخسائر قلّما تلحظ آثار الحروب على الطفولة وبالتالي قلَّما تسعى للتعويض عليها أو مسح آثارها والتي ستظهر ولو بعد حين.
ولعلنا أمام الحروب ننقسم إلى قسمين – الأول الإيجابي والثاني السلبي:
أما من كان من القسم الإيجابي فإنه يربح ويخسر ويتقن فن إدارة الأزمة، ويحرص على أن يحوِّل الخسائر إلى أرباح ويتعاطى بشكل إيجابي فيعتبر الحرب فرصة لا بد من استثمارها.
وأما من كان سلبياً فإنه يتقن فن التأفف واليأس والتشاؤم والإحباط والاستسلام فيستعظم الأمور، ويهرب من المشكلة ويعجز عن المواجهة.
ولكي نحصر الحديث عن مكاسب الحرب وخسائرها بالنسبة للطفولة نتحدث عن أطفالنا ومكاسب الحرب، وقد يستغرب البعض كيف يكون للحرب مكاسب وخاصة بالنسبة للطفولة!! جراح، وموت، وخوف وبكاء ويُتم وآلام.
يتفق خبراء التربية المعاصرون على أن أفضل الأساليب التربوية وأكثرها نفعاً تلك التي تكون عن طريق المواقف. فالموقف يرسِّخ المعلومة أكثر ويجعلها حيَّة لفترة أطول.
والحرب موقف عام يشمل المواقف المتعددة التي يمكن استخدامها في التربية والتعليم، ويكون ذلك وفق الآتي:
- إيقاظ الوعي: لأن أبناءنا تكبر أجسامهم غالباً دون مواكبة نموّ عقولهم، والحرب فرصة لتسليط الضوء على أسبابها ونتائجها ومتطلَّباتها والتدليل على العدو وأهدافه وتاريخ الصراع معه.
- تنمية مفهوم التوكل: في الحرب تتجلي صورة الإنسان بضعفه فهو العاجز أمام النار والحديد وتكنولوجيا الإبادة والتدمير، والأولاد بحاجة إلى أن ينمو فيهم الإيمان بأن الله سبحانه القادر، وأنه عز وجل المعين واللطيف والذي يحفظ عباده بحفظه، وأن الإنسان إذا مسه الضر ينبغي أن يلجأ إلى الله وأن يحمد الله إنْ نجّاه وكان معه، ويبقى شاكراً له بعد كشف الضر عنه. ?وما بكم من نعمة فمن الله، ثم إذا مسَّكُمُ الضُّرُّ فإليه تجأرون، ثم إذا كشف الضُرَّ عنكم إذا فريقٌ بربهم يشركون? النحل: 54.
- التذكير بالنعم والحرص عليها وتجنب مُضيِّعِاتها: فكم من الأطفال من يأكل ولا يبدأ ببسم الله، وكم منهم من يلعب وهو آمن ولا يحمد الله، والحرب فرصة لنتذكر ما كنا فيه من نعم وكيف نحافظ عليها، وما هي أسباب زوالها، ومَن مالكها وواهبها الحقيقي سبحانه؟ ?وضرب الله مثلاً قريةً كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقُها رَغَداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون? النحل 112.
- بناء وترميم القوة المادية والجسدية: إذ لا يليق بأبنائنا أن يرتعدوا إذا سمعوا صوت الطائرة مع أنه مخيف ومرعب وعلينا أن نبني فيهم قوة التحمل وروح الإقدام لكي تنكسر أمامهم رهبة وهيبة الآله الحربية، ويستصغروا جنود الأعداء وتقنياتهم، وهذا يحتاج إلى تشجيع من الأهل وتجنب تخويف الأبناء وإلقاء الرعب في قلوبهم، وتنفع هنا عقيدة التوكل وانتهاء الأجل، كما ينفع لفت الانتباه إلى أهمية العلم والاختراع وخاصة في المجالات العسكرية.
- التربية على الشطف والبعد عن الترف: إنه جيل الكومبيوتر وألعابه، وجيل الأطعمة الجاهزة وخدمة التوصيل المجاني، وجيل الكماليات والترف. والحرب دواء ناجع لهذا الجيل، كي يتحلى بمقومات الرجولة ويتحمل القسوة وألم الجوع والعطش، وافتراش الأرض والتحاف السماء، والجلوس على التراب والمشي على الأقدام.
- تنمية الحس الجماعي والانخراط في فريق العمل: فالحرب بويلاتها تُلزم الناس بالتكافل ومدّ يد العون، وعلى أبنائنا إتقان العمل مع فريق منظَّم، للوقوف بجانب المحتاج ومساعدته وبَلْسمة جراحه وتخفيف آلامه ففي الحديث: " أحب الأعمال إلى الله عز وجل: سرور تُدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي له دَيْناً، أو تطرُدُ عنه جوعاً".
- لفت الانتباه إلى أهمية الإعلام وعظيم دوره: فإننا في الحروب أمام الوسائل الإعلامية وهي التي تشكل آراءنا وتصنع عواطفنا ومشاعرنا، فكم من إنسان عظيم تآمر الإعلام عليه فجعله هملاً لا يعرف به أحدٌ، أو شوَّه الإعلام صورته وعرض مواقف له وأخفى أخرى بُغية حرقه وتهميشه. وكم من إنسان سلط الإعلام الضوء عليه فجعله في موقع لا يُجارَى. وكم من قضية طوقها الإعلام وأخفى أخبارها، وأخرى جعلها أمَّ القضايا وهي من أسفلها وأحقرها.(/2)
فعلينا - بالإضافة إلى تربية أبنائنا أن يكونوا أكثر وعياً فلا يصدقوا كل ما في وسائل الإعلام - علينا أن نصنع منهم إعلاميين مميزين، يتقنون نقل الخبر، وتحليل الحدث واستشراف المستقبل، وإلا كانوا صرعى الإعلام وصنيعته.
- تربية الأبناء على الأمل والإعداد: قد نربح في حرب وقد نخسر في أخرى، واليأس لا يقدم الخاسر ولا يخفف خسائره، وعلينا أن ننشئ في أبنائنا روح الأمل ونفسية التفاؤل، وأن نجنِّبهم ونحذّرَهم من عقلية المستحيل وأن نغرس فيهم أهمية العمل، وأن الله مع العبد إن كان العبد مؤمناً عاملاً، وأن الضربة التي لا تقضي عليهم تزيدهم قدرة وقوة بإذن الله.
- هذه هي مكاسب حربية في حق الطفولة والإنسانية وإنْ كنا لا نرغب في صناعة الحروب إلا أننا نتقن العيش وفق مقتضياتها فإن أتت فنحن لها، وسنَخْرج منها منتصرين بشكل أو بآخر بإذن الله.
نسأل الله أن يحفظ أطفالنا وأن يجعلهم للمستقبل عُدّةً وعَتاداً، جنوداً وقادةً، يساهمون في صناعته كما رآه الرسول صلى الله عليه وسلم مستقبلاً ممَّيزاً يعمُّ فيه الحق وينتصر الإسلام وتعلو راية العدل بإذن الله
===============
عادلة: قوة الدمار وعزيمة الإعمار
...
مقالات متفرقة
لا شك أن الحرب الهمجية الصهيونية التي اشتعلت فجأة ضد لبنان فدمّرت وقطّعت، وقتلت وحرّقت، كانت أقسى الحروب ضراوة مما سمعنا وعايشنا في هذه المنطقة الملتهبة.
فقد نفّذ الجيش اليهودي خلال شهر واحد 9.000 غارة وأسقط 175.000 قذيفة وصاروخ، ودمّر تدميراً كاملاً 15.000 وحدة سكنية، وتدميراً جزئياً 20.000 وحدة سكنية، وقُتل حوالَيْ 1400 ما بين رجل وامرأة وشيخ وطفل، وجُرح حوالَيْ 15.000 جراح بعضهم خطيرة.
والخسائر المباشرة لمختلف القطاعات تقدّر بأكثر من عَشَرة مليارات دولار، أما غير المباشرة فأكثر من ذلك بكثير! وأخطر منها الخسائر المعنوية من خوف ورعب ودمار نفسي عند كثيرين ممن أُصيبوا، وخاصة عند الأطفال من جرّاء المشاهد المروّعة، عدا العاهات والتشوُّهات التي أصابت آلافاً من الناس.
وإذا كان هذا التوحُّش يفرض علينا بعض الحقائق فإنه يفرض أول ما يفرض ما يلي:
1. طبيعة العدوان والتلذُّذ بالجريمة عند اليهود.
2. أن الكيان الصهيوني الغاصب لأرض فلسطين طالما أنه قابع في المنطقة فإن على المسلمين أن يفهموا بأن الأمان والاستقرار على المدى الطويل مستحيلان حتى ينفُذ قَدَر الله الموعود فيهم فيَقْلع المسلمون الصالحون هذه الجرثومة المؤذية والسامّة من جسم الأمة بعد أن تتم عودتُّها إليه سبحانه وتسترجع هيبتها وكرامتها وقوتها. هذا هو المنطق وقبل ذلك هذا هو حكم الله عزّ وجلّ الذي لا لَبْس فيه والذي أجمع عليه أهل العلم قاطبة.
3. وجوب القيام من المسلمين عامة ـ ونحن في لبنان خاصة ـ بمراجعة جريئة وجادّة لأوضاع أنفسنا وأخلاقنا وأوضاع بلدنا لنخلص إلى نتيجة هامة وهي أن جريمة الظلم المتفشّية في مختلف ميادين الحياة والفساد وشيوع المُجُون والعُهر وإغضاء الطَّرْف عن الرذيلة كما حصل قبل الحرب بشهرين مع حَدَث انعقاد أول مؤتمر للمثليين جنسياً في بيروت! وحَدَث عرض مسرحية (حكي نسوان) الجنسية العاهرة على أحد مسارح بيروت ... كل ذلك لا بدّ أن تكون نتيجتُه نزول العقاب الرباني وقَدَر التدمير الذي يسلّطه الله على يد أشرار مجرمين كما حصل على يد العدو الصهيوني اللئيم.
ولنتأمل طويلاً وعميقاً قولَه تعالى: ]وإذا أردنا أن نُهلك قريةً أمرنا مُترفيها[ أي بالاستقامة والعدل والإحسان ولكنهم لم يستجيبوا وأمعنوا في الغفلة ]ففسقوا فيها فحقّ عليها القولُ فدمّرناها تدميراً[، وقولَه عز وجل: ]واتقوا فتنةً لا تصيبَنَّ الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب[.
4. أنه يجب أن يكون مقابل إرادة الإفناء والتدمير والتخريب والإيذاء التي تجلّت في طبيعة الشرّ عند الأعداء... عزيمةُ التوبة إلى الله واستمطار رحمته والتضرع إليه والاستكانة بين يديه، واتخاذ خطوات سريعة وجذرية نحو تحقيق الصلاح الفردي والمطالبة بالإصلاح العامّ على مختلف الأصعدة لنتخلّص من الفساد والظلم والسرقات والغِشّ والمُجُون والعُري، وكذلك أن يكون مقابلَها أيضاً إرادةُ القيام وعزيمة النهوض لتجديد الوعي واستنفار الطاقة للدور الاجتماعي وللبناء والترميم وتطوير الأداء الإسلامي في الدعوة وبناء المؤسسات واستثمار طاقات الشباب واختصاصاتهم في المؤسسات الإسلامية والخدمة الاجتماعية.(/3)
لذا تطرح جمعية الاتحاد الإسلامي في إصدارها هذا العام ـ وقد حصل ما لم يكن في الحُسبان إذ كنا نُعِدّ لغير هذا الإصدار ـ على أهل الرأي وأصحاب الفكر وكذلك على المُوسِرين وأصحاب المال من أهل الخير أن يطّلعوا على الحقائق الواردة في الصفحات التي بين أيديهم مشفوعةً بالأرقام والإحصاءات ليساهموا معنا في الفكرة والخطة، وفي الإنفاق والدعاء، لكي ينهض المسلمون في لبنان ويعالجوا آثار الحرب ويكونوا على المستوى المطلوب منهم في الدور الدعوي والحضور الاجتماعي الإيجابي والأداء المؤسساتي. وما ذلك على الله بعزيز وهو سبحانه الموفق إلى سواء السبيل.
===============
مقالات متفرقة ... ما بعد الحرب... ماذا نستفيد؟؟
...
مقالات متفرقة
قال الله سبحانه: ?أوَلا يَرَون أنهم يُفتنون في كل عام مرةً أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يَذَّكرون? [التوبة: 126]. بعد كل محطة لا بد للمسلم من أن يقف للمراجعة لِيَثبُتَ على ما سبق له من الخير، وليتوب عن الذنوب والتقصيرات التي وقع فيها؛ التقصيرات التي لا تنحصر في الصلاة والصوم -رغم عظمتهما- بل في كل شُعبة من شُعَب الإيمان البِضع والسبعين مع الآليات العملية التي تساعد على تحقيقها، وكذلك الاهتمام بالشؤون العامة للمسلمين، بدل ثقافة الأنانية الفردية.
وهذه بعض الأفكار العملية المقترحة التي يمكن أن نتحرك بها ونُوجه إليها:
1. إحياء همة السعي إلى إرضاء الله ?وما أُمروا إلا ليَعبدوا اللهَ مخلصين له الدين?.
2. عدم الانطفاء إنْ تأكّد توقّف الحرب في لبنان فإن النهوض يكون بتراكم مستمر للإنجازات، والمطلوب من المسلمين ليس فقط تحرير أرضهم بل أيضاً نشر شريعة الله وتحرير الناس من الضلال والظلم؛ ?واعبد ربَّك حتى يأتيَك اليقين?، فلا بد أن نتحول من ردة الفعل إلى الفعل.
3. استصحاب نِية الرِّباط (وخاصة أننا في بلاد الشام وهي أرض رِباط إلى يوم القيامة) وفي الحديث: "رِباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه" رواه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: "مَن مات ولم يَغْزُ ولم يُحدِّث نفسَه بغَزْوٍ مات على شُعبة مِن النِفاق" رواه مسلم...
4. فَهْم طبيعة الصراع مع اليهود؛ ?لَتجدنَّ أشدَّ الناس عداوةً للذين آمنوا اليهودَ والذين أشركوا? وقد احتلوا أرض الإسلام فلسطين وهم يَسْجنون 10.000 مسلم ومسلمة وطفل، وقَتّلوا ودمّروا وشرّدوا وأفسدوا وهتكوا الأعراض. قال ابن عابدين: (إن هَجم العدو على ثَغر مِن ثُغور الإسلام فيصير [أي الجهاد] فرضَ عين على مَن قَرُب منه، فأما مَن وراءَهم بِبُعْدٍ من العدو فهو فرض كِفاية إذا لم يُحتَجْ إليهم؛ فإن احتيج إليهم بأن عَجز من كان بقُرب العدو عن المقاومة مع العدو، أو لم يعجِزوا عنها ولكنهم تكاسلوا ولم يجاهدوا فإنه يُفترض على من يَلِيهم فرضَ عين كالصلاة والصوم لا يسعهم تَرْكُه، وثم وثم ... إلى أن يُفترض على جميع أهل الإسلام شرقاً وغرباً على هذا التدريج). وذلك الدَّفع على الرجال والنساء. هذا هو الحكم الشرعي وإذا سقط الجهاد بالعجز: وَجب الإعداد وتأمين الإمداد.
5. فَهْم سُنن الله في خَلقه؛ فالعدو والباطل يجب على أهل الحق مواجهتهم ?ولولا دَفْعُ اللهِ الناسَ بعضَهم ببعضٍ لفسدت الأرض?، ?والعاقبة للمتقين?. فالواجب هو سلوكُ طريقِ الحق والصبرُ واليقينُ بوعد الله دون استعجال ?ويقولون متى هو قُلْ عَسى أَن يكونَ قريباً?. قال الإمام حسن البنا عن الثبات في "رسالة التعاليم": (والوقت عندنا جزء من العلاج، والطريق طويلة المدى بعيدة المراحل كثيرة العقبات، ولكنها وحْدَها التي تؤدي إلى المقصود مع عظيم الأجر وجميل المثوبة، وذلك أن كل وسيلة من وسائلنا تحتاج إلى حسن الإعداد وتَحيُّن الفُرص ودِقة الإنفاذ، وكل ذلك مرهون بوقته).
6. التضحية لله؛ قال الله سبحانه: ?ذلك بأنهم لا يصيبهم ظَمَأٌ ولا نَصَبٌ ولا مَخْمصةٌ في سبيل الله ولا يطؤون موطئاً يَغيظ الكفار ولا ينالون مِن عدو نَيْلاً إلا كُتِب لهم به عَمَلٌ صالح? [التوبة: 120].
7. تصحيح المفاهيم بنور الإسلام؛ فكُل ما يُنَكِّل باليهود المحتلين يَسُرُّنا، والاستجابة للمشاريع الأمريكية لإشعال الفتن الداخلية تحقق مصلحة الأعداء، وأموال ودماء الناس ـ مسلمين وغير مسلمين ـ لا يجوز انتهاكها دون وجه حق، ويجب التنبيه إلى خطورة الاتباع الأعمى للقيادات، وإلى مقوّمات القيادة المستأهِلة للاتباع "المبصر" فهي لا تنحصر في الثراء أو القوة أو الفصاحة والتأثير بل لا بد من تبنِّي منهاج النبوة والسلف الصالح؛ قال صلى الله عليه وسلم: "من قاتل تحت راية عُمِّية [فيها ضلال] ... فقُتل فقِتلةٌ جاهلية" رواه مسلم.
8. رفع المعنويات ونشر التفاؤل (بالبسمة والكلمة الطيبة وإفشاء السلام) وفي الحديث: "بَشِّروا ولا تُنَفِّروا".(/4)
9. قضاء حوائج الناس؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أحب الأعمال إلى الله عز وجل: سرورٌ تُدخِله على مسلم، أو تَكْشِف عنه كُربةً، أو تَقضي له دَيناً، أوتَطرد عنه جوعاً" رواه ابن أبي الدنيا بسند حسن.
10. المشاركة في الدورات المفيدة المتاحة كدورات الإسعافات الأولية والدفاع المدني ودورات المهارات وإدارة الأزمات؛ كما قال الإمام أبو حنيفة: (إنا نستعِدُّ للبلاء قبل وقوعه؛ فإذا ما وقع عَرَفنا الدخولَ فيه والخروجَ منه).
11. فَهْم طبيعة الحياة الدنيا فهي دار ابتلاء؛ وفي الآية: ?ولَنَبْلُوَنَّكم بشيءٍ مِنَ الخوفِ والجوعِ ونقصٍ من الأموالِ والأنفسِ والثمرات وبَشِّر الصابرين? فالدنيا مَزْرعة الآخرة، والمِحنة فيها مِنحة.
12. دعوة المسلمين وغيرهم إلى الله؛ ?كنتم خيرَ أُمّة أُخرجت للنّاس تَأمرون بالمعروف وتَنْهَوْن عن المنكر وتُؤمنون بالله?.
13. الاقتصاد في النفقات الشخصية حفظاً لمقومات الصمود والمواجهة، والبعد عن الترف، والإنفاق في سبيل الله حيث يُضاعَف الأجر إلى سبعِ مِئة ضعف، وفي مشاريع الخير الأخرى.
14. التعرف إلى النماذج الإسلامية العظيمة واختيار قدوة منها، وإلى التجارِب الناجحة؛ مثل عمر المختار في ليبيا، وعبد الحميد بن باديس في الجزائر، والإمام شامل في داغستان، وخَطّاب في الشيشان، وعبد الله عزام في فلسطين وأفغانستان ، والعالم المجاهد محمد الصواف والمجاهدين المقاومون في العراق، والشيخ المجاهد حسن حَبَنَّكة ومصطفى السباعي في سوريا،والمجاهد البطل الشيخ الفرغلي والداعية العملاق الشهيد سيد قطب في مصر، والعالِم المجاهد عز الدين القسّام وأحمد ياسين ويحيى عياش وعبد العزيز الرنتيسي وحَسَن سلامة وصلاح شحادة وأم نضال فرحات في فلسطين، والشيخ محرّم عارفي وجمال حبّال في صيدا، وفي البقاع محمد اللدَن وأبي حسان فرحات، وغيرهم من المجاهدين في لبنان الذين أجبروا جيش اليهود "الذي لا يُقهر" على الفرار سنة 1985 في أول انكسار له أمام مقاومة شعبية إسلامية رغم قلة إمكاناتها.
15. تنمية مهارات الذّات ووَضْع ذلك ضمن الأهداف اليومية، فالتطوير البشري هدف من أعظم أهداف رسالات الأنبياء عليهم السلام: ?هو الذي بَعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويُزكِّيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة? [الجمعة:2]. واستثمار أوقات الفراغ بتلاوة القرآن وتقوية الإيمان وإرتياد بيوت الله، والمطالعة بِنََهَم.
16. المشاركة في مشروع إسلامي جادّ يتوخّى النهوض بالمسلمين، فالمسلم ضعيف بنفسه قوي بإخوانه في الله، وكل جهد وطاقة عنده ينبغي أن توضع في إطار مشروع موثوق المَسلك واضح الراية، لكيلا يتاجر المنحرفون والعلمانيون بجهودنا وولائنا لِخدمة أهدافهم التي استَقَوها من علاقاتهم ورزناماتهم المشبوهة.
17. الدعاء والتضرُّع إلى الله ?فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون? [الأنعام:42] فالله هو الموفِّق سبحانه:
إذا لم يكن مِن الله عونٌ للفتى فأولُ ما يَقضي عليه اجتهادُهُ
والحمد لله ربّ العالمين
لجنة الدعوة والتعليم الشرعي في جمعية الاتحاد الإسلامي
الأربعاء 22/7/1427هـ = 16/8/2006م
وهذه بعض الأفكار العملية المقترحة التي يمكن أن نتحرك بها ونُوجه إليها:
1. إحياء همة السعي إلى إرضاء الله ?وما أُمروا إلا ليَعبدوا اللهَ مخلصين له الدين?.
2. عدم الانطفاء إنْ تأكّد توقّف الحرب في لبنان فإن النهوض يكون بتراكم مستمر للإنجازات، والمطلوب من المسلمين ليس فقط تحرير أرضهم بل أيضاً نشر شريعة الله وتحرير الناس من الضلال والظلم؛ ?واعبد ربَّك حتى يأتيَك اليقين?، فلا بد أن نتحول من ردة الفعل إلى الفعل.
3. استصحاب نِية الرِّباط (وخاصة أننا في بلاد الشام وهي أرض رِباط إلى يوم القيامة) وفي الحديث: "رِباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه" رواه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: "مَن مات ولم يَغْزُ ولم يُحدِّث نفسَه بغَزْوٍ مات على شُعبة مِن النِفاق" رواه مسلم...
4. فَهْم طبيعة الصراع مع اليهود؛ ?لَتجدنَّ أشدَّ الناس عداوةً للذين آمنوا اليهودَ والذين أشركوا? وقد احتلوا أرض الإسلام فلسطين وهم يَسْجنون 10.000 مسلم ومسلمة وطفل، وقَتّلوا ودمّروا وشرّدوا وأفسدوا وهتكوا الأعراض. قال ابن عابدين: (إن هَجم العدو على ثَغر مِن ثُغور الإسلام فيصير [أي الجهاد] فرضَ عين على مَن قَرُب منه، فأما مَن وراءَهم بِبُعْدٍ من العدو فهو فرض كِفاية إذا لم يُحتَجْ إليهم؛ فإن احتيج إليهم بأن عَجز من كان بقُرب العدو عن المقاومة مع العدو، أو لم يعجِزوا عنها ولكنهم تكاسلوا ولم يجاهدوا فإنه يُفترض على من يَلِيهم فرضَ عين كالصلاة والصوم لا يسعهم تَرْكُه، وثم وثم ... إلى أن يُفترض على جميع أهل الإسلام شرقاً وغرباً على هذا التدريج). وذلك الدَّفع على الرجال والنساء. هذا هو الحكم الشرعي وإذا سقط الجهاد بالعجز: وَجب الإعداد وتأمين الإمداد.(/5)
5. فَهْم سُنن الله في خَلقه؛ فالعدو والباطل يجب على أهل الحق مواجهتهم ?ولولا دَفْعُ اللهِ الناسَ بعضَهم ببعضٍ لفسدت الأرض?، ?والعاقبة للمتقين?. فالواجب هو سلوكُ طريقِ الحق والصبرُ واليقينُ بوعد الله دون استعجال ?ويقولون متى هو قُلْ عَسى أَن يكونَ قريباً?. قال الإمام حسن البنا عن الثبات في "رسالة التعاليم": (والوقت عندنا جزء من العلاج، والطريق طويلة المدى بعيدة المراحل كثيرة العقبات، ولكنها وحْدَها التي تؤدي إلى المقصود مع عظيم الأجر وجميل المثوبة، وذلك أن كل وسيلة من وسائلنا تحتاج إلى حسن الإعداد وتَحيُّن الفُرص ودِقة الإنفاذ، وكل ذلك مرهون بوقته).
6. التضحية لله؛ قال الله سبحانه: ?ذلك بأنهم لا يصيبهم ظَمَأٌ ولا نَصَبٌ ولا مَخْمصةٌ في سبيل الله ولا يطؤون موطئاً يَغيظ الكفار ولا ينالون مِن عدو نَيْلاً إلا كُتِب لهم به عَمَلٌ صالح? [التوبة: 120].
7. تصحيح المفاهيم بنور الإسلام؛ فكُل ما يُنَكِّل باليهود المحتلين يَسُرُّنا، والاستجابة للمشاريع الأمريكية لإشعال الفتن الداخلية تحقق مصلحة الأعداء، وأموال ودماء الناس ـ مسلمين وغير مسلمين ـ لا يجوز انتهاكها دون وجه حق، ويجب التنبيه إلى خطورة الاتباع الأعمى للقيادات، وإلى مقوّمات القيادة المستأهِلة للاتباع "المبصر" فهي لا تنحصر في الثراء أو القوة أو الفصاحة والتأثير بل لا بد من تبنِّي منهاج النبوة والسلف الصالح؛ قال صلى الله عليه وسلم: "من قاتل تحت راية عُمِّية [فيها ضلال] ... فقُتل فقِتلةٌ جاهلية" رواه مسلم.
8. رفع المعنويات ونشر التفاؤل (بالبسمة والكلمة الطيبة وإفشاء السلام) وفي الحديث: "بَشِّروا ولا تُنَفِّروا".
9. قضاء حوائج الناس؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أحب الأعمال إلى الله عز وجل: سرورٌ تُدخِله على مسلم، أو تَكْشِف عنه كُربةً، أو تَقضي له دَيناً، أوتَطرد عنه جوعاً" رواه ابن أبي الدنيا بسند حسن.
10. المشاركة في الدورات المفيدة المتاحة كدورات الإسعافات الأولية والدفاع المدني ودورات المهارات وإدارة الأزمات؛ كما قال الإمام أبو حنيفة: (إنا نستعِدُّ للبلاء قبل وقوعه؛ فإذا ما وقع عَرَفنا الدخولَ فيه والخروجَ منه).
11. فَهْم طبيعة الحياة الدنيا فهي دار ابتلاء؛ وفي الآية: ?ولَنَبْلُوَنَّكم بشيءٍ مِنَ الخوفِ والجوعِ ونقصٍ من الأموالِ والأنفسِ والثمرات وبَشِّر الصابرين? فالدنيا مَزْرعة الآخرة، والمِحنة فيها مِنحة.
12. دعوة المسلمين وغيرهم إلى الله؛ ?كنتم خيرَ أُمّة أُخرجت للنّاس تَأمرون بالمعروف وتَنْهَوْن عن المنكر وتُؤمنون بالله?.
13. الاقتصاد في النفقات الشخصية حفظاً لمقومات الصمود والمواجهة، والبعد عن الترف، والإنفاق في سبيل الله حيث يُضاعَف الأجر إلى سبعِ مِئة ضعف، وفي مشاريع الخير الأخرى.
14. التعرف إلى النماذج الإسلامية العظيمة واختيار قدوة منها، وإلى التجارِب الناجحة؛ مثل عمر المختار في ليبيا، وعبد الحميد بن باديس في الجزائر، والإمام شامل في داغستان، وخَطّاب في الشيشان، وعبد الله عزام في فلسطين وأفغانستان ، والعالم المجاهد محمد الصواف والمجاهدين المقاومون في العراق، والشيخ المجاهد حسن حَبَنَّكة ومصطفى السباعي في سوريا،والمجاهد البطل الشيخ الفرغلي والداعية العملاق الشهيد سيد قطب في مصر، والعالِم المجاهد عز الدين القسّام وأحمد ياسين ويحيى عياش وعبد العزيز الرنتيسي وحَسَن سلامة وصلاح شحادة وأم نضال فرحات في فلسطين، والشيخ محرّم عارفي وجمال حبّال في صيدا، وفي البقاع محمد اللدَن وأبي حسان فرحات، وغيرهم من المجاهدين في لبنان الذين أجبروا جيش اليهود "الذي لا يُقهر" على الفرار سنة 1985 في أول انكسار له أمام مقاومة شعبية إسلامية رغم قلة إمكاناتها.
15. تنمية مهارات الذّات ووَضْع ذلك ضمن الأهداف اليومية، فالتطوير البشري هدف من أعظم أهداف رسالات الأنبياء عليهم السلام: ?هو الذي بَعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويُزكِّيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة? [الجمعة:2]. واستثمار أوقات الفراغ بتلاوة القرآن وتقوية الإيمان وإرتياد بيوت الله، والمطالعة بِنََهَم.
16. المشاركة في مشروع إسلامي جادّ يتوخّى النهوض بالمسلمين، فالمسلم ضعيف بنفسه قوي بإخوانه في الله، وكل جهد وطاقة عنده ينبغي أن توضع في إطار مشروع موثوق المَسلك واضح الراية، لكيلا يتاجر المنحرفون والعلمانيون بجهودنا وولائنا لِخدمة أهدافهم التي استَقَوها من علاقاتهم ورزناماتهم المشبوهة.
17. الدعاء والتضرُّع إلى الله ?فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون? [الأنعام:42] فالله هو الموفِّق سبحانه:
إذا لم يكن مِن الله عونٌ للفتى فأولُ ما يَقضي عليه اجتهادُهُ
والحمد لله ربّ العالمين
لجنة الدعوة والتعليم الشرعي في جمعية الاتحاد الإسلامي
الأربعاء 22/7/1427هـ = 16/8/2006م
وهذه بعض الأفكار العملية المقترحة التي يمكن أن نتحرك بها ونُوجه إليها:(/6)
1. إحياء همة السعي إلى إرضاء الله ?وما أُمروا إلا ليَعبدوا اللهَ مخلصين له الدين?.
2. عدم الانطفاء إنْ تأكّد توقّف الحرب في لبنان فإن النهوض يكون بتراكم مستمر للإنجازات، والمطلوب من المسلمين ليس فقط تحرير أرضهم بل أيضاً نشر شريعة الله وتحرير الناس من الضلال والظلم؛ ?واعبد ربَّك حتى يأتيَك اليقين?، فلا بد أن نتحول من ردة الفعل إلى الفعل.
3. استصحاب نِية الرِّباط (وخاصة أننا في بلاد الشام وهي أرض رِباط إلى يوم القيامة) وفي الحديث: "رِباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه" رواه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: "مَن مات ولم يَغْزُ ولم يُحدِّث نفسَه بغَزْوٍ مات على شُعبة مِن النِفاق" رواه مسلم...
4. فَهْم طبيعة الصراع مع اليهود؛ ?لَتجدنَّ أشدَّ الناس عداوةً للذين آمنوا اليهودَ والذين أشركوا? وقد احتلوا أرض الإسلام فلسطين وهم يَسْجنون 10.000 مسلم ومسلمة وطفل، وقَتّلوا ودمّروا وشرّدوا وأفسدوا وهتكوا الأعراض. قال ابن عابدين: (إن هَجم العدو على ثَغر مِن ثُغور الإسلام فيصير [أي الجهاد] فرضَ عين على مَن قَرُب منه، فأما مَن وراءَهم بِبُعْدٍ من العدو فهو فرض كِفاية إذا لم يُحتَجْ إليهم؛ فإن احتيج إليهم بأن عَجز من كان بقُرب العدو عن المقاومة مع العدو، أو لم يعجِزوا عنها ولكنهم تكاسلوا ولم يجاهدوا فإنه يُفترض على من يَلِيهم فرضَ عين كالصلاة والصوم لا يسعهم تَرْكُه، وثم وثم ... إلى أن يُفترض على جميع أهل الإسلام شرقاً وغرباً على هذا التدريج). وذلك الدَّفع على الرجال والنساء. هذا هو الحكم الشرعي وإذا سقط الجهاد بالعجز: وَجب الإعداد وتأمين الإمداد.
5. فَهْم سُنن الله في خَلقه؛ فالعدو والباطل يجب على أهل الحق مواجهتهم ?ولولا دَفْعُ اللهِ الناسَ بعضَهم ببعضٍ لفسدت الأرض?، ?والعاقبة للمتقين?. فالواجب هو سلوكُ طريقِ الحق والصبرُ واليقينُ بوعد الله دون استعجال ?ويقولون متى هو قُلْ عَسى أَن يكونَ قريباً?. قال الإمام حسن البنا عن الثبات في "رسالة التعاليم": (والوقت عندنا جزء من العلاج، والطريق طويلة المدى بعيدة المراحل كثيرة العقبات، ولكنها وحْدَها التي تؤدي إلى المقصود مع عظيم الأجر وجميل المثوبة، وذلك أن كل وسيلة من وسائلنا تحتاج إلى حسن الإعداد وتَحيُّن الفُرص ودِقة الإنفاذ، وكل ذلك مرهون بوقته).
6. التضحية لله؛ قال الله سبحانه: ?ذلك بأنهم لا يصيبهم ظَمَأٌ ولا نَصَبٌ ولا مَخْمصةٌ في سبيل الله ولا يطؤون موطئاً يَغيظ الكفار ولا ينالون مِن عدو نَيْلاً إلا كُتِب لهم به عَمَلٌ صالح? [التوبة: 120].
7. تصحيح المفاهيم بنور الإسلام؛ فكُل ما يُنَكِّل باليهود المحتلين يَسُرُّنا، والاستجابة للمشاريع الأمريكية لإشعال الفتن الداخلية تحقق مصلحة الأعداء، وأموال ودماء الناس ـ مسلمين وغير مسلمين ـ لا يجوز انتهاكها دون وجه حق، ويجب التنبيه إلى خطورة الاتباع الأعمى للقيادات، وإلى مقوّمات القيادة المستأهِلة للاتباع "المبصر" فهي لا تنحصر في الثراء أو القوة أو الفصاحة والتأثير بل لا بد من تبنِّي منهاج النبوة والسلف الصالح؛ قال صلى الله عليه وسلم: "من قاتل تحت راية عُمِّية [فيها ضلال] ... فقُتل فقِتلةٌ جاهلية" رواه مسلم.
8. رفع المعنويات ونشر التفاؤل (بالبسمة والكلمة الطيبة وإفشاء السلام) وفي الحديث: "بَشِّروا ولا تُنَفِّروا".
9. قضاء حوائج الناس؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أحب الأعمال إلى الله عز وجل: سرورٌ تُدخِله على مسلم، أو تَكْشِف عنه كُربةً، أو تَقضي له دَيناً، أوتَطرد عنه جوعاً" رواه ابن أبي الدنيا بسند حسن.
10. المشاركة في الدورات المفيدة المتاحة كدورات الإسعافات الأولية والدفاع المدني ودورات المهارات وإدارة الأزمات؛ كما قال الإمام أبو حنيفة: (إنا نستعِدُّ للبلاء قبل وقوعه؛ فإذا ما وقع عَرَفنا الدخولَ فيه والخروجَ منه).
11. فَهْم طبيعة الحياة الدنيا فهي دار ابتلاء؛ وفي الآية: ?ولَنَبْلُوَنَّكم بشيءٍ مِنَ الخوفِ والجوعِ ونقصٍ من الأموالِ والأنفسِ والثمرات وبَشِّر الصابرين? فالدنيا مَزْرعة الآخرة، والمِحنة فيها مِنحة
=================
صراعنا مع اليهود...الهوّية والمرتكزات
...
مقالات متفرقة
بقلم: رئيس الجمعية حسن قاطرجي
لا بدّ ابتداءً من التأكيد على أننا نخوض صراعاً مريراً مع اليهود، فهم أشرس شعوب الأرض عداوة لأمة الإسلام كما أخبرنا الله عزّ وجلّ: (لتجدَنّ أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا).
ومن الضروري في معركتنا المعاصرة معهم أن نفهم بأن هويّة هذا الصراع إسلامية حضارية وهكذا يجب أن تبقى، ولا يجوز بحال تقزيمه ليقتصر على الصراع لتحرير الأرض فحسب، وإنْ كان من كامل حقّنا الجهاد لاسترجاع الأرض ولكن لتكون تحت وصاية رسالة الله الخاتمة ...(/7)
كما أنه من الضروري أيضاً أن نتذكّر أنّ الأمة الإسلامية انتدبها الله سبحانه وتعالى لهداية الخلق إلى دينه الخاتم (الإسلام)، فقد قال تعالى: (ولتكن منكم أمةٌ يدعون إلى الخير)، وقال سبحانه: (وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين)، وقال جلّ وعلا مبيِّناً تكليفه وأمْرَه للمؤمنين: (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السِّلْم كافة) أي في الإسلام كلِّه وبطاقاتكم جميعها وكلكم جميعاً. والتعبير عن الإسلام في هذه الآية بالسلم له دلالة رائعة وبعيدة في أن الإسلام رسالة رحمة ومسالمة للبشرية عندما تهيمن شريعته ويسود دستوره.
ومن الجدير القول: إن الصراع بين الحق والباطل قديم لا يتوقف، وليس من الواقعية أن يتجرّد الحق من قوة البيان ولا من قوة السلاح والسِّنان، وذلك من أجل أن يبقى عزيزاً شاهداً على هزالة الباطل وضعفه ورافعاً للفتنة عن الناس كل الناس.
لذا رفع الله سبحانه وتعالى في كلِّ رسالاته من شأن العلم والحُجّة والبرهان، كما عظّم من شأن القوة والجهاد بالسِّنان.
فقال تعالى: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)، وقال:(أجعلتم سِقاية الحاجِّ وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين . الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظمُ درجة عند الله وأولئك هم الفائزون).
من هنا كان مَن يُسالم المسلمين ويفسح المجال لدعوة الإسلام تزحف ليتعرف عليها كل إنسان لابد أن يُقابَل بالسلم والأمان من جانبهم يقول الله عزّ وجلّ: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يُخرجوكم من ديارهم أن تبَرُّوهم وتُقْسطوا إليهم)، بخلاف من يعاديهم ويتصدى للحق ويفتن الناس عن حرية المعتقد؛ فإن المسلمين يعادونه ويجاهدونه، فقد قال الله عزّ وجلّ: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة). وقال: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم).
وعوداً إلى اليهود فإن صراعنا معهم مرّ بحلقات مختلفة وجولات مريرة، وفي عصرنا الذي نعيشه تشهد أمتنا منذ احتلالهم لأرض فلسطين المباركة حلقة جديدة من أخطر حلقات الصراع، وما الهمجية الوحشية التي أظهرها هذا العدوّ في لبنان (ويُظهِرها صباحَ مساءَ في فلسطين) إلا إحدى حلقات ذلك المسلسل الذي يفرض علينا حقائق لا بد من أخذها في الاعتبار:
1. طبيعة العدوان والتلذُّذ بالجريمة عند اليهود.
2. إن هذا الكيان الصهيوني الغاصب لأرض فلسطين طالما أنه قابع في المنطقة فإن على المسلمين أن يفهموا بأن الأمان والاستقرار على المدى الطويل مستحيلان إلى أنْ يَنفُذ قَدَر الله الموعود فيهم، حين يقلَع المسلمون الصالحون هذه الجرثومة المؤذية والسامّة من جسم الأمة بعد أن تتم عودتُها إليه سبحانه، وتسترجع هيبتها وكرامتها وقوتها.
3. وجوب القيام من المسلمين عامة – ونحن في لبنان خاصة – بمراجعة جريئة وجادة لأوضاع أنفسنا وأخلاقنا وأوضاع بلدنا لنخلص إلى نتيجة هامة وهي أن جريمة الظلم المتفشِّية في مختلف ميادين الحياة، والفساد المتنوّع وشيوع المُجون والعُهر وإغضاء الطَّرْف عن الرذيلة، كما حصل قبل الحرب بشهرَيْن مع حدَث انعقاد أول مؤتمر للمِثليّين جنسياً في بيروت! وحدَث عرض مسرحية (حكي نسوان) الجنسية العاهرة على أحد مسارح بيروت... كل ذلك لا بدّ أن تكون نتيجتُه نزولَ العقاب الرباني وقَدَر التدمير الذي يسلّطه الله على يد أشرار مجرمين، كما حصل على يد العدو الصهيوني اللئيم.
ولنتأمل طويلاً وعميقاً قولَه تعالى: (وإذا أردنا أن نُهلِك قريةً أمرنا مترفيها) أي بالاستقامة والعدل والإحسان ولكنهم لم يستجيبوا وأمعنوا في الغفلة (ففسقوا فيها فحقّ عليها القولُ فدمّرناها تدميرا)، وقولَه عز وجل: (واتقوا فتنةً لا تصيبَنّ الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أنّ الله شديد العقاب).
4. أنه يجب أن يكون مقابل إرادة التدمير والتخريب والإيذاء التي تجلّت في طبيعة الشر عند الأعداء... عزيمةُ التوبة إلى الله واستمطار رحمته والتضرع إليه والاستكانة بين يديه، واتخاذ خطوات سريعة وجذرية نحو تحقيق الصلاح الفردي والمطالبة بالإصلاح العامّ على مختلف الأصعدة لنتخلّص من الفساد والظلم والربا والغِشّ والمُجون والعُري، وكذلك أن يكون مقابلَها أيضاً إرادةُ القيام وعزيمةُ النهوض لتجديد الوعي واستنفار الطاقة للدور الاجتماعي وللبناء وتطوير الأداء الإسلامي في الدعوة وبناء المؤسسات واستثمار طاقات الشباب واختصاصاتهم في المؤسسات الإسلامية والخدمة الاجتماعية.(/8)
وبعيداً عن ملابسات الحرب التي شنّها اليهود المجرمون على لبنان وخصوصيات الوضع اللبناني وميزان القوى فيه؛ فإن الجهاد في سبيل الله ضد اليهود اليوم في فلسطين خاصة ليس مجردَ دفعٍ للصائل - أي المعتدي - لحماية المال والعِرض والممتلكات ... ولكنه أبعد من ذلك بكثير فهو جهاد لإعلاء كلمة الله وتطبيق حكم الإسلام على أرض النبوّات ومهد الحضارات ومسرى صاحب خاتم الرسالات سيدنا محمد عليه أفضل الصلوات وأزكى التحيات. لذا فإن من أهم ما يجب التنبيه عليه وتوضيحه للناس في جهادنا ضد اليهود بيانَ هوية الصراع كما مرّ، وتوضيح مرتكزات الجهاد الإسلامي التي هي:
1- الأول: الإخلاص لله وطلب رضاه وحده في الجهاد، فلا يقاتل المجاهد رياءً ولا سُمعة، ولا من أجل الدنيا وطمعاً بالوجاهة، وإنما يقاتل لله سبحانه وتعالى؛ فقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الرجل يغزو، يريد الأجرَ والذّكْرَ (أي يريد مع الأجر والثواب أن يُذكر على ألسنة الناس وأن يكون له صِيْت وشرف بين الناس)، ما له؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((لا شيء له)). فكرّر السائل سؤاله – مستغرباً – ثلاثاً والرسول صلى الله عليه وسلم يكرر: ((لا شيء له)). ثم أبان صلى الله عليه وسلم عن سرِّ ذلك فقال: ((إن الله عزّ وجلّ لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً وابتُغي به وجهُه)) رواه أبو داود والنَّسائي.
وتجدر ملاحظة أن جواب النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيمن يقاتل يريد الأجر من الله والتقرب إليه بجهاده والتحبُّب إليه بأعظم فرائضه، ويريد مع ذلك أيضاً أن يُذكر، فما بالنا فيمن لا يقاتل عبادةً لله بل لا يخطر على ذهنه ذلك كلُّه؟!!
2- الثاني: طَلَب إعلاء كلمة الله وتطبيق الحكم الإسلامي، فقد ورد في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يقاتل حميةً، والرجل يقاتل شجاعة، والرجل يقاتل رياءً (أي ليراه الناس وليفتخر بذلك بينهم)، فقال صلى الله عليه وسلم ((من قاتل لتكون كلمةُ الله – أي شرعُه ودينُه – هي العليا فهو في سبيل الله)).
ومفهوم المخالفة من هذا النصّ أنّ مَن يقاتل لغير ذلك كأنْ يقاتل من أجل زِعامة دينوية أو من أجل دولة علمانية أو من أجل إخراج المحتل عن الأرض ولْيحكُمْ فيها بعد ذلك مَن يحكم، فلا يكون قتاله في سبيل الله وبالتالي لا يكون قتلُه شهادة.
3- الثالث: القتال تحت راية إسلامية واضحة على هَدْي رسول الله وأصحابه رضي الله عنهم لقوله صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح مسلم، كتاب الإمارة -: ))مَن قاتل تحت راية عُمِّيّة... فقُتِل، فقِتْلهٌُ جاهلية)) وعُمّيَّة من التعمية بمعنى الاختلاط والتلبيس وعدم الوضوح.
لذا يتوجَّب علينا في زمن اختلاط المفاهيم واشتداد ظلام التعمية الذي تصنعه العولمة الثقافية، ومع شيوع مفاهيم (الصَّنَمية الوطنية) التي يُشيعها السياسيون والمفكرون العلمانيون في كل بلد ... التأكيد على وجوب أن تكون الهوية والمرتكزات واضحة تماماً حتى لا تذهب جهودنا سُدىً، ونطيل أمد حسم المعركة مع الكيان الصهيوني الغاصب ... الحسم الموعودين به من قِبَل المعصوم صلى الله عليه وسلم - الصادق المصدوق – في نبوءته الشريفة: ((تُقاتلكم يهود – وفي رواية للإمام مسلم في صحيحه: تَقْتتلون أنتم ويهود – فتُسَلَّطون عليهم)) وهي رواية الإمام البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما.
فاللهم نوِّر بصائرنا بأنوار القرآن وحقائق الإسلام، ولا تُزغ قلوبَنا بعد إذ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب. آمين.
=================
الوجه الآخر الأهمّ لأسباب دمار لبنان
...
مقالات متفرقة
خطبة جمعة للطبيب الداعية الدكتور محمد أنيس الأروادي
الحمد لله حمداً كثيراً على ما قدر، وأشكره على السراء والضراء، قال تعالى: ?فَأَمَّا الإنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَةُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرمَنِ@ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْه رزِقَهُ فيقول رَبِّي أًهَانَنِ ? (الفجر: 15-16) فَقَدَرُه واقع لا محالة والإنسان المسلم ليس له إلا أن ينظر ويفكر بما وقع عليه، فاحمدوا الله عباد الله، وعودوا إلى الإسلام تعيشوا بسلام.
وأشهد أن لا إله إلا الله تفرد بالإلهية لا رب سواه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى آله عدد نجوم السماء، وارض اللهم عن أصحابه الغر الميامين.(/9)
أما بعد: فإن الأمور في الكون بقدر الله وحوله وقوته، وما من شيء يتحرك فيه إلا بأمر الله جل جلاله. ولا يظنَّنّ أحد أنه مهما أُعطي من قوةٍ قادرٌ على تغيير مسار الأحداث، كل ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ. يقول ربنا في محكم تنزيله: ?وَلَنبْلُوَنَّكُمْ بِشَيءٍ مِنَ الْخَوْفِ واَلْجُوع وَنَقْصٍ منَ الأَموال واَلأََْنْفُس واَلثَّمَرَات وَبَشّر الصَّابِرِين @ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصيِبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون@ أُولَئِكَ عَلَيْهم صَلَوَاتٌ منْ رَبِّهمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُون? (البقرة:155-157).
والدمار الذي نزل بلبنان من جراء العدوان الصهيوني المجرم ما هو إلا نقص في الأموال والثمرات وجوع وخوف، مصداقاً لقوله جل وعلا، وحتى نرى أن زهرة الدنيا التي أحببناها وتعلقنا بها قد تزول أمام أعيننا في لحظة من لحظات الزمن. ألم يقل عز مِنْ قائل:? زُيِّنَ لِلنَّاس حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآب? (آل عمران: 140).
فجعل كل ما في الدنيا خيالاً وأوهاماً غير ثابتة حين يخرج الناس عن العهد الذي أُخذ عليهم في عالم الذّر، وحين تسود الفوضى بديلاً عن النظام والتشريع الإلهي.
كان عنوان الحدث قبل الحرب على لبنان (الصيف الواعد) فماذا يعني ذلك؟ إنْ كان يعني مهرجانات غنائية، وشواطئ يُعصى فيها الله، وبيع لكل ما حرّم الله، فها هي النتائج أمام أعيننا، لا بيع ولا شراء وتوقُّف تام لعجلة الاقتصاد القائم في جوانب كثيرة من جوانبه على عدم التفريق ما بين الحلال والحرام. لقد ظن الناس أنهم يُرزقون بذكائهم وشطارتهم ونشاطهم، فتبين أن ذلك غير صحيح، فكل التجار لا يستطيعون فعلَ شيء أمام آلة الحصار التي أجبرتهم على الوقوف مشلولين أمام الأحداث التي ظهرت وهي أكبر منهم مجتمعين. سيقول البعض أننا لم نكن سبباً في هذه الحرب ولكنها أخذَتْنا أخذاً ونسُوا قول الله تعالى:?وما أصابكم من مصيبةٍ فبما كسبت أيديكم ?.
طبعاً أخذتنا الأحداث، ومتى كان الإنسان صانعاً لقَدَره؟ إنه جزء من مسيرة التاريخ، والتاريخ حركة إلى الأمام يتفاعل البشر مع بعضهم البعض فيه تبعاً لما قدّره الله عليهم. ذهب مال الصالحين مع مال الفاسدين في دوّامة طحنت الناس جميعاً، وذلك مصداقاً لقوله تعالى: ?وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً? (الإسراء:16).
لماذا ذهب الصالح مع الطالح في هذه المعمعة؟ بالتأكيد لأن الصالحين ما نَهَوْا عن المنكر ولا وعظُوا الناس بل اكتفَوْا بالمشاهدة والمراقبة. لقد اتّبعوا سياسة (من حيط لحيط ياربِّ وصِّلني إلى البيت) فجعلوا الواقع مصدراً للحكم على الأحداث بدل من أن يكونوا حَكَماً عليها، قاسوا الأمور على النفعية المادية وليس على الحلال والحرام. قال تعالى: ?إن الله لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُوِنِه مِنْ وَالٍ? (الرعد: 11).
فهل غيّرنا ما بأنفسنا؟ ماذا كان يقدم لبنان إلى العالم العربي والإسلامي؟ لقد قدّم عبر السنوات الماضية حفلات المجون بواسطة الإعلام الداعر الذي لم يرعَ إلا ولا ذمّة في شباب الأمة، ولا خوفاً عليهم من الضياع والانصياع للشهوات والهوى، فشغل الله إعلامه بالحرب والدمار. إن الواقع لن يتغير إلا بالعودة إلى الحدود التي رسمها القرآن للمجتمعات الإسلامية، والتغيير لن يكون حتى نعود إلى الإسلام عقيدةً وأحكاماً في مجتمعاتنا، وفي بيوتنا، وحتى نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر في كل مجالسنا، وحتى نعظ الحكام ونخوّفهم من الله العظيم دون أن ننافقَ لهم ونلويَ نصوص القرآن والسنة إرضاءً لهم ولأهوائهم، فنصوِّر لهم أن الإسلام يرضى عن أشياء يفعلونها وهي تُغضب الله عز وجل. قال صلى الله عليه وسلم : " لا تَكُونُوا إِمَّعَةً تَقُولُونَ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفَسكُمْ إِنْ أَحْسَنَ النّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا وَإِنْ أَسَاءُُوا فَلَاَ تَظْلِمُوا" .(/10)
أما ما أصبح متداولاً من تعبيرات لمعالجة الواقع باستعمال مفهوم (الواقعية) – أي المكيافيليّة – وهو ما يجري على ألسنة كثير ممن يتعاطَوْن الشأن العام والمعنيّين بالعمل السياسي والديني على وجه الخصوص فالقصد منه، في زعمهم، التخلص مما في الواقع من سلبيات وما ينجم عنه من أخطار عن طريق مصالحته والاندماج فيه، ويضربون لذلك الأمثال، فيقولون: العين لا تقاوم المِخْرَز. فما حضّ كثيرون على تقوى الله في حجاب المرأة وتستُّرها في مجتمع تُرى فيه النسوة فسيفساءَ عجبيةً غريبة، فنرى في شوارعنا الأم المحجبة ومعها ابنتها التي تُظهر بطنها!! ونرى المسجد في الوسط التجاري يقف على مَقْربة منه الفسقة وبائعات الهوى!! فكيف بالله عليكم يستوي هذا الأمر، ثم نتذمر ونقول: إننا لم نكن سبباً في هذه الحرب. إن ترقيع الحالة الاجتماعية التي نعيشها أدى إلى هذا الخراب، وعدمُ وضوح الرؤية الإسلامية وضبابية المواقف وازدواجيتها، أوصلنا إلى ما نحن فيه. لقد فقدنا القرار بل صودر منا قرار انتمائنا فما عُدنا ندري هل ننتمي فعلاً إلى أمة النبي صلى الله عليه وسلم أم إلى الأمم التي اخترعوها لنا من أيام سايكس بيكو إلى أيام الشرق الأوسط الجديد؟.
وحاول البعض أن يتفهموا مواقف الغرب واستيعابها فاعتبروا النهج الغربي الذي قدّم النموذج الحضاري دواءً لنا، فتبيّن بعد ذلك عقم التفكير المنحط الذي وصلنا إليه، كم حذَّرْنا من خطورة ما رسمه الأعداء في العراق ولم يستجب أحد، ولم يحاول أحد أن يفهم أن سقوط الجبهة الشرقية للعالم الإسلامي حضارياً سيجرّ الخراب على الجميع، لأن سقوط العراق لم يكن سقوطاً عسكرياً فقط، بل كان دماراً لما بقي من الخلافة الإسلامية التي غُيِّبت عن القيادة لمدة مائة عام، نسُوا ما فعله التتار وكيف اجتاحوا بلاد المسلمين في غفلة من أهلها مع أن التتار لم يستطيعوا تغيير مفاهيم الإسلام، ظنوا أن أمريكا ستجلب لهم السعادة بالمفاهيم المعادية للدين فما جلَبَتْ إلا الخراب في بلاد يُقتل فيها المسلم بدم بارد.
إن العمل على النهوض من واقع سيء بترقيعه خارجياً دون الغوص في أسبابه يُسهم عن علم أو عن غير علم في ترسيخ ما هو فاسد وسيء على حساب ما ينبغي أن يؤدي إلى الصلاح الحقيقي. لذلك نرى أن الواقعية بمعنى التعايش أو التصالح بين الحرام والحلال لا يجر على المسلمين إلا الفساد والانحطاط، والتخلي عن وظيفتنا في إصلاح المجتمع لن يجلب لنا إلا التبعية وفقدان القرار.
إن الأخذ بمبدأ الواقعية الدينية والسياسية التي يقصدها العاملون في السياسة والدين المتآلفون مع المناخ الدولي ولا سيما مع الولايات المتحدة الأمريكية في وقتنا الراهن تعني الخضوع لما يفرضه علينا الأعداء – وذلك من منطلق قناعتهم أن التغيير على أساس الإسلام والحكم به غير ممكن – وهو ما يؤدي إلى تحكُّم الواقعية والانتهازية بقرارتنا، وبالتالي يترتب عليه تطويع الإرادة الإسلامية وإخضاعها لإرادة شياطين حُكّام العالم الغربي، فتضيع حدود الله من حرام بيّن وحلال بيّن. لقد جُعل الانتماء إلى الهوية الإسلامية وإلى الإسلام سُبّة تدفع الأجيال إلى الابتعاد عن التمسك به، ودفع ذلك المسلمين إلى التبرؤ من مظاهره خطوة بعد خطوة، ومن ثم فك ارتباطهم به تدريجياً. وقد نبه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك فقال: "لتُنتَقضَنّ عُرَى الإسلام عُرْوَةً عُرْوَةً كُلَّمَا انتُِقضَتْ عُرْوَةٌ تَشَبَّث النَّاسُ بالَّتي تَليها وَأَوَّلُهُنَّ نَقْضاً الحكم وآخرهنّ الصلاة"، وها نحن نرى الصلاة قد تصبح تُهمة.
إن الأعداء يبثون روح اليأس في الأمة وإشعارها باستحالة تحقيق أهدافها بإقامة دولة شعارها عدالة الإسلام قوية تحفظ حدود الله ولا تخاف إلا منه جل جلاله، ويحاولون تكريس واقع التجزئة في العالم الإسلامي، وزرع عدم الثقة في نفوس الأجيال عن طريق عدم الوعي الديني، وإلغاء التربية الإسلامية بتغيير مناهج الإسلام بحجة تشجعيها على الإرهاب لأنهم قالوا: إن الإسلام يدعو في عقيدته إلى العنف والقتال.
فماذا أعددنا لمجابهة ذلك؟ هل أعددنا لهم انسياقنا كالأغنام في فتن المذهبية مثلاً؟ ها هم يروّجون لحروب بين الشيعة والسنة وبين الكُرد والعرب، فانساق الرَّعاع دون ضوابط وتلوثت أيديهم بالدماء، ها هم قادة العدو في المنطقة الخضراء في بغداد يديرون حرباً بين المسلمين وبأيدي المسلمين! إنهم يخططون لنا ذلك أيضاً، إن أولمرت ووزير دفاعه يتمَّنْون أنْ يقتل بعضننا البعض في لبنان كما يتقاتل المسلمون في العراق في داحس وغبراء جديدة يضربون رقاب بعضهم البعض.(/11)
إن شاشة (أل ب سي) تروّج للفتن المذهبية وخاصة في برنامج (كلام الناس)، وأنا أحذركم منه فهذا المذيع الخبيث يوعز إلى بعضهم بأسماء أناس من عائلات بيروتية وهمية تحرض على الفتنة فلا تُصغوا لهم، فنحن في بيروت كنا ومازلنا أصحاب القضية الفلسطينية، وإن كان غيابنا عن الساحة قَسْرياً بسبب الأحداث الماضية فهذا لا يعني أنّا تخلَّيْنا عما أمرنا الله به. إن انكفاءنا عن الفتنة ليس جُبناً ولا خوفاً فقدر الله واقع لا محالة ولكنا نربأ بأنفسنا أن نخالف شرع الله، فكونوا في الفتنة التي يحيكونها لنا في لبنان على مذهب سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه حين اعتزل الناس يوم الفتنة وجلس في بيته يدعو الله أن يحقن دم المسلمين والله غالب على أمره. ذكر ابن جرير: أن عمر بن سعد بن أبي وقاص خرج إلى أبيه وهو على ماء لبني سُلَيْم، معتزلاً في البادية، فقال: يا أبتِ قد بلغك ما كان من الناس بصِفِّين، وقد حكّم الناس أبا موسى الأشعري وعمرو بن العاص، فإنك صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد أصحاب الشورى، ولم تدخل في شيء كَرِهَتْه هذه الأمة، فاحضُرْ فإنك أحق الناس بالخلافة . فقال: لا أفعل، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنه ستكون فتنة، خير الناس فيها الخفِيُّ التقي"، واللهِ لا أشهد شيئاً من هذا الأمر أبدا.
وروي أن سعداً قال لابنه لمّا لامه على ترك الدخول فيما الناس فيه: يا بُنَيّ، آتي جيفةً قد احتوشها كلاب، لا شاَركْتُهم فيها أبدا. قالوا: إذاً تَهْلِكَ جوعاً وهُزالاً. فقال: لأَنْ ألقى الله مؤمناً مهزولاً وديني معي، أحبُّ إلي من أن ألقاه منافقاً سميناً وليس معي دين. قال بعض السلف: حضَّهُم والله على الزهد في المال والشرف، اللذين هما أشد فساداً في الدين من الذئاب الجياع الضارية في زَريبة غنم. واعلم، أن التراب يأكل اللحم، ولا يأكل الدين، وأن الدنيا متاعها قليل، ويفضي العبد إلى ما قدم، ولو ملك ما ملك، وعاش ما عاش، وأن الفساد والنفاق هو الغالب على محبي الدنيا والرئاسة، وهما اللذان كانا سبب هلاك فرعون وقارون وغيرهما.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
=================
إلى أين؟!!
...
مقالات متفرقة
بقلم: الشيخ يحيى كريدية
مع سماع دويّ أوّل صاروخ أطلقته طائرات الغدر اليهودي هاجَ الناس وماجوا كموج البحر، وسارع عشرات الألوف من المسلمين اللبنانيين من حملة الجنسيات الغربية للاصطفاف في طوابير طويلة أمام سفارات دولهم التي سارعت لإجلاء رعاياها من لبنان.
بينما لم ينتظر العدد الأكبر من أبناء الطبقة المترفة مِنَّة سفارة ولا سفير عليهم، بل جَدُّوا السير مُسرعين عبر كل وسيلة ممكنة مُوَلِّين وجوههم شطر الشرق والغرب.
أما العدد الأكبر - إلا مَن رحم الله تعالى - مِمَّن لا يحمل جنسيّة غربية، أو لا يملك ما يعينه على الفرار, فكان لسان حاله ومقاله يقول: ((يا ليتني معهم)).
وفي تلك الأثناء شاعت على ألسنة الناس عبارات تدلُّ السائلَ على نفسيات القوم, وتظهر أثر التربية ((الوطنية)) و((القوميّة)) التي كانت تُغذِّي العقول والأفكار خلال السنوات الطويلة الماضية: ((فخّار يكسّر بعضه))، ((اللهم أسألك نفسي))، ((هذه الحرب ليست حربنا))، ((مَن يقدِر على إسرائيل؟))، ((ماذا تريدنا أن نفعل بوجه الطائرات والصواريخ؟)).
أما أكثر ما يؤلم ويهز الوجدان من الأعماق هو فرار العديد من أئمة المساجد والدعاة وحفظة كتاب الله تعالى. فإذا سألت عن إمام المسجد الفلاني، أجابك المصلّون الأيتام أنه أخذ أسرته وفرّ إلى الشام أو إلى الجبل!! وقد تضطر للوهلة الأولى أن تعيد السؤال للتأكد من الإجابة. نعم! أئمة ودعاة فرّوا تاركين مساجدهم، ورواد مساجدهم، من غير إمام ولا رعاية ولا توجيه في تلك الظروف العصيبة والحالكة التي تجعل الحليم حيران.
والعجب كل العجب من داعية يحمل في صدره ((انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون)) [التوبة: 41]، ومِن حافظ لكتاب الله يتلو آناء الليل وأطراف النهار قوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولّوهم الأدبار* ومن يُولِّهم يومئذٍ دُبُرَه إلا متحرِّفاً لقتالٍ أو متحيِّزاً إلى فئةٍ فقد باء بغضبٍ من الله ومأواه جهنّم وبئس المصير)) [الأنفال: 15- 16]. وكذلك العجب كل العجب من فقيه يُدرّس الناس أحكام الجهاد، وأن الكفار إذا دخلوا أرض المسلمين وجب على أهلها أن يهبوا لدفعهم، حتى الولد من غير إذن الوالدين، والمرأة من غير إذن زوجها.
نعم العجب الكبير من كل أولئك وقد فرُّوا حين كان ينبغي لهم أن يطبقوا الأحكام الشرعية التي يحفظونها ويُدرِّسونها للناس في مجالسهم وعلى منابرهم، وخير ما ينطبق على أمثال هؤلاء أنهم دعاة حرب في السلم ودعاة فِرار في الحرب.(/12)
إن لم يكن بوسعنا القتال للعجز، أوَليس بوسعنا الرباط والصمود والثبات وتثبيت الناس وتذكيرهم بسنن الله في الابتلاء والإنفاق والتوعية والإغاثة…؟
لقد كشفت الأحداث الأخيرة خللاً عظيماً في فَهم حقيقة التديُّن، وتشوّهاً كبيراً في في عقلية بعض المسلمين، وصلة ضعيفة بأحكام الشرع عند شريحة كبيرة جداً، فغالب الناس يقررون ويتصرفون ويتحركون بمعزل عن أحكام الشرع والأوامر الإلهية والربانية، بل لا يُلقون لها بالاً، وأن الشرع - عند من حسُن حاله منهم - هو أداء للشعائر التعبدية من صلاة وصوم وحج فحسب، أما ما هو زائد على ذلك من مدافعة الفساد وإحياء فريضة الدّعوة وتطبيق أحكام الجهاد والرباط والصبر والمصابرة فكأنّهم غير ملزمين به.
إنّ ما كشفته الأحداث الأخيرة يحمّلُ العلماء العاملين والدعاة المخلصين، والعاملين في حقل الدعوة الإسلامية المباركة مسؤوليةً عظيمة في تبليغ شرع الله للناس، والوقوف في وجه الأفكار والمناهج الهدّامة التي تُربي الناس على الخضوع والخنوع والاستسلام في وجه ما يُحاك للأمة من مؤامرات.
ما دام الإسلام والتديّن عند كثير من الدعاة والعلماء والحفّاظ هو ثقافة وجمعاً للمعلومات، وطلباً وجمعاً وجمعٌ للإجازات والأسانيد، وما دام جواب السؤال (إلى أين؟) هو إلى الشام وقبرص وتركيا واليونان، وإلى الشرق والغرب.. فلنعلم أننا على خطرٍ عظيم وبلاءٍ كبير.
وعندما يتحوّل العلم من بطون الكتب وسطور المتون إلى ساحات الوغى وأرض الرباط، وينعكس عملاً إيجابياً وجهداً وثباتاً على أرض الواقع، وعندما يصبح جواب (إلى أين؟) هو إلى حيث يَرضي الله عنّا، عندها وعندها فقط نكون قد وضعنا أرجلنا على الطريق الصحيح، وحددنا مسار وجهتنا إلى حيث العزّة والنصر والتمكين.
إلى حين ذلك يبقى السؤال المطروح لكل من يقرأ هذه السطور، أنت، أنت: (إلى أين؟!!).
================
مقالات متفرقة ... نداء إلى المسلمين في لبنان
...
مقالات متفرقة
فرّوا إلى الله... وأعدوا أنفسكم بقلم : الداعية خباب الحمد
لبنان ... ذلك البلد الغنيّ بالأراضي، والمتميّز بأنه جزء من بلاد الشام التي باركها الله، خرج من أراضيه علماء أفذاذ، ومفكرون نجباء من القدماء والمعاصرين ... كالأوزاعي ... والحافظ محمد بن علي الصُّوري ... والحافظ ابن جُمَيْع الصيَّداوي ... والإمام البقاعي صاحب نَظم الدُّررَ ... ومحمد رشيد رضا ... ونديم الجسر ... إلى غير ذلك من قائمة الشرفاء العلماء.
هذه البلاد الطاهرة الزكيَّة ... أريد لها وللأسف أن تكون محوراً من محاور الفساد، ومصدِّرة لثقافة العري، ومرتعاً للعُهر والخنا – نسأل الله السلامة -.ففتح صانعو القرار في لبنان ومن يعاونهم ذراعهم لكل الوافدات الغربيَّة بخيرها وشرِّها، فحققوا لأهل الهوى والرذيلة والشهوات أمانِيَهم، ببث ما يثير الغرائز والشهوات، ويزيد من عذابات النفس والمغنيات والفنانين والفنانات ...
هكذا لبنان صار في عيون الكثير من الناس ...
بيد أني مع كل حرقة وألم يخالج قلبي أعترف وكلُّ مسلم بأنَّه آلمنا ما اقترفنه الأيادي الصهيونيَّة الآثمة، من القتل والدمار والخراب على أرض لبنان الحبيبة، التي بلغت خسائرها مليارات الدولارات في تحطيم البُنى التحتيَّة والفوقيَّة، ولا حول ولا قوَّة إلا بالله! ولكن لابد لنا من وقفة مراجعة مع النفس لمحاسبتها: لماذا سلَّط الله علينا الأعداء، فأذاقوا المسلمين وإخوانّنا في لبنان مُرَّ البلاء؟
لماذا قدَّر الله أن يكون ذلك في وقت السياحة وزمن منتجعات الاستجمام والراحة؟
لماذا عمَّ البلاء والقتل لجميع أهل لبنان صالحهم وطالحهم؟
مع هذه الأسئلة لابد أن يكون لنا وقفة مراجعة للنفس من خلالها!
إننا لابد أن نعلم أنَّه ما نزل بلاء إلا بذنب، وما رُفع إلا بتوبة، كما قال عمُّ الرسول صلى الله عليه وسلم العبَّاس بن عبد المطَّلب – رضي الله عنه – والله تعالى يقول في كتابه الحكيم: ?وما أصابكم من مصبية فبما كسبت أيدكم ويعفو عن كثير? ويقول: ?أولمَّا أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم?.
إنَّ هذه الآيات وغيرها من الآثار والأحاديث تبيِّن أنَّ البلاء لا ينزل بأمَّة الإسلام إلاَّ لعدَّة أسباب، ومن أهمِّها الذنوب التي اقترفها الخلق في حقِّ ربِّهم وخالقهم جلَّ وعلا.
نعم ... إنَّه تعالى رحيم، يُهمل ولا يُهمل، ويعفو عن كثير، وقد قال صلى الله عليه وسلم : "إنَّ الله يملي للظالم حتَّى إذا أخذه لم يُفْلته" وتلا قوله تعالى: ?وكذلك أخذ ربِّك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إنَّ أخذه أليم شديد? أخرجه مسلم في صحيحه.(/13)
إنّني – والله – لا أشمت بإخواني المسلمين في لبنان أو غيره ... كلاَّ وربِّ العزَّة ... ومعاذ الله ... فهم إخواننا المسلمون لهم ما لنا وعليهم ما علينا ... بل نخشى على أنفسنا في كثير من بلاد المسلمين أن نصاب بما أصيب به إخواننا لكثرة ذنوبنا ومعاصينا، ولعدم نصرتنا لإخواننا في العديد من بلاد المسلمين المنكوبة والمحتلة.
ولكنَّني أُنذر نفسي وأُنذرهم أنَّ عذاب الله تعالى لا ينزل إلا لسبب وجيه علمناه أو لم نعلمه، فلنحاسِبْ أنفسنا، ونستشعِرْ الحكمة من هذا البلاء الواقع بنا ...
ومع هذا فإنَّا نقول: ليسوا سواءً فقتلانا من المسلمين في الجنَّة – بإذن الله – وقتلى اليهود في النار ... وإنَّ هذه الكوارث والمُلمَّات هي بإذن الله تكفير للسيئات ... وإنَّ الحروب من بلاءات الشر التي يبتلي الله بها عباده لعلَّهم يتوبون إلى الله ويُفيئون إلى ظلال الإسلام.
ولي مع هذه الحرب الدائرة في لبنان عدَّة وقفات، أسأل الله تعالى أن ينفع بها ويجعلها خالصة لوجهه الكريم، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
1-لابد من أن يتقرب إلى الله ليكشف هذه المحنة، ونستغفر ممَّا بدر من الذنوب والمعاصي التي اقترفناها، وقلَّة المحذَّرين منها والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر حتَّى من الصالحين!
ونحن نعلم أنَّه تعالى يقول: ?واتقوا فتنةً لا تصيبنَّ الذين ظلموا منكم خاصَّة? أي: احذروا يا مسلمون أن تُصابوا وتَنالوا من البلاء، صالحكم وطالحكم، وألاَّ يستثنى أحد منكم، بسبب ما اقترفتم في حق الله من الكبائر والموبقات.
كما أنَّ من المعلوم بأنَّ سنن الله تجري على البَرِّ والفاجر، وأنَّ الأمم قد تَهِلك ولو كان فيها الصالحين – إن لم يكونوا مصلحين – وذلك لأنَّهم لم يكن لهم دور إيجابي في نصرة دين الله، والدعوة إليه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على الأذى فيه، ولهذا قالت أم المؤمنين زينب بنت جحش لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله! أَنَهِْلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم، إذا كَثًير الخَبَث".
كما أنَّه ينبغي العلم بأنَّ هذا البلاء لا يُرفع إلا بدعاء صادق، وقلب يعجُّ إلى الله بالتوبة، قال الأمام ابن القيم رحمه الله: " إذا اجتمع على الإنسان قلبُه، وصدقت ضرورتُه وفاقُته، وقَوِيَ رجاؤه، فلا يكاد يُرَدّ دعاؤه".
2-للأسف أنَّ لبنان يعجُّ بما يستجلب غَضَبَ الله، ولا أزعم أنَّ ذلك كلَّه من أهل السنَّة وإن كان يبدر منهم شيء ليس بالقليل، وللنصارى قَصَبُ السَّبْق في ذلك، ولغيرهم من الدروز والطوائف الباطنيَّة الشيء الكبير.
3-أهميَّة تحريك الشباب للالتحاق بالأعمال الإغاثيَّة ومعاونة الأسر المكلومة بقدر الإمكان، وضرورة التقدّم بالشباب الجادّ من أهل السنة بعدَّة خطوات إلى الأمام في الوعي والجدية واستبانة سبيل المجرمين، مع أهميَّة معرفة حقيقة الطائفة التي ينتسب إليها الحزب، فالمحقَّقون من علماء أهل السنَّة والجماعة على أنَّ هذه الطائفة لديها انحرافات عقديَّة خطيرة، ومنها بُغْضهم لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
4-لابدَّ الصبر على الحرب، والثبات على مناكفة أعداء الله اليهود، مع التذكير بنقطة في غاية الأهميَّة وهي الثبات على الأرض بنية الرباط وعدم المهاجرة منها بقدر الإمكان، والاستفادة من تجربة الفلسطينين، حيث أيقنوا بأهمية ذلك، بل إننا نرى كثيراً منهم يرحل لفلسطين، لينال أجر الرباط والصبر والمصابرة، إرغاماً لأعداء الله.
5-لابدَّ لأهل السنَّة والجماعة في لبنان أن يعدُّوا للجهاد في سبيل الله بقدر الإمكان، وأن يكوَّنوا لأنفسهم راية واضحة ليست جاهليَّة يقاتلون تحت لوائها أعداء الدين من الصهانية، ولا بأس أن يستفيدوا من خبرة الحزب القتاليَّة، فهم – والحق يقال – لديهم مهارة كبيرة في الحروب والمعارك في إدارتها مع العدو الصهيوني.
ومن المهم أن تكون لدينا قناعة بأهميّة الدفاع عن الوطن، وعدم تسليمه لأعداء الدين، وأنَّ نهيِّئ نفوس المسلمن في لبنان – خاصة أهل الجِدِّ منهم – ليكونوا مشاريع شهادة في سبيل الله لمن يواجهونهم من أعداء الدين.
وكذلك فإنَّمن اللوازم لدعاة وعلماء أهل السنَّة في لبنان أن يعلِّموا الناس خطورة الترف والحياة المخمليَّة، وأنَّه داء يستجلب الأعداء علينا حينما يَرَوْن ضعفنا ورخاوة قوتنا.
6-على أهل السنَّة والجماعة أن يستثمروا الوقت الراهن فهو وقتهم المناسب جداً (أفراد ودعاة ومؤسسات وجمعيات إسلامية) لاتخاذ خطوات جادة تعمل على النهوض بحال أهل السنَّة بلبنان دعوةً وعلماً وتوعية وإعداداً لهم.(/14)
7-العمل في هذه المرحلة على إزالة الغبش الذي طرأ على عقيدة المسلمين خصوصاً فيما يتعلّق بمفهوم الولاء والبراء، والحبّ في الله والبغض في الله، ومن ذلك خطر تأثر كثير من أنباء المسلمين بالنصارى وبالتيار العلماني المتغلغل في أوساطهم أو بمشروع الحزب السياسي والتشييعي،، وأنَّه لابدَّ أن يكون للدعاة دور في التوعية بخطر مشاريع هذه التيارات على المنطقة برمّتها مع الحذر من الانجرار إلى فتنة، وكم كان الكثير من أبناء أها السنَّة والجماعة منخدعين بعنتزيات مقتدى الصدر في العراق قبل سنة ونصف، ولكن خفتت هذه العنتزيات، وبان الوجه الحقيقي له، وانكشفت القناع عما يبديه هذا الرجل من حقد طائفي على أهل السنَّة في العراق، وما الجيش الذي سمَّاه: " جيش المهدي" في العراق لمقاتلة أهل السنَّة، وإخراجهم من بلدانهم ومُدُنهم التي عاشوا بها ردحاً من الزمن، إلاَّ دليل على أنَّه وأمثاله لا يؤمَن جانُبهم، ولا يوثق بهم، وقد يحتقر كثير من عوامّ المسلمين هذا الكلام، وذلك لأنّض العواطف في هذه الأيام سيدة الموقف، ولكنَّ الأيام بيننا وبين انخدع بشعارات برّاقة آنية، يدّعي أصحابها نُصرة الفلسطينيين، والتاريخ يشهد، والأيام قادمة، وسيعلم الناس كيف أنَّ علماء ودعاة أهل السنَّة والجماعة الربانيين كانوا صادقين في رؤيتهم الواعية لأهداف هذه المشاريع كافة.
وهنا تساؤل يفرض نفسه:
قد يقول بعض الإخوة الدعاة: نحن لا نختلف معكم بأنّض المقاومة في لبنان شيعية، ولكنَّنا لا نريد أن نزيد الخناجر خنجراً في ظهورهم، وهم يقفون ضدَّ الصهاينة وحدهم في لبنان، ولهذا فلا داعي لإثارة التحذير منهم في هذا الوقت بخاصَّة.
والجواب عن ذلك: لقد أخذ الله على أهل العلم بأن يقولوا الحق ولا يخافوا في الله لومة لائم بالحكمة والموعظة الحسنة وعلى قاعدة درء المفاسد مقدَّمٌ على جلب المصالح. كما أنَّ أهل السنَّة والجماعة يقولون ما لهم وما عليهم كما يقول الإمام عبد الرحمن بن مهدي – رحمه الله-.
وبناءً عليه فإنَّنا نقول: لقد فتَّ في عَضُدنا أن نجد مواقف مستغربة لكثير من صانعي القرار في بلاد المسلمين التي يُلمس فيها بوضوح الخنوع والرضوخ، بل قد تكون هذه المواقف مساعدة للصهانية في زيادة الهجمة الشرسة على أهل لبنان.
كما أنَّنا نستغرب – من جهة مقابِلة – سِرّ هذا الانبطاح للحزب، وكأنَّ أمينه العام هو الرجل الذي لا يقف أحد غيره ضدَّ الصهانية، بل صارت كثير من وكالات الأنباء العالميَّة ترصد الهجمات وعمليات الصد والرد لمقاومة الحزب أكثر ممَّا يُذيقه الأعداء الصهانية لإخواننا في فلسطين من مُرِّ البلاء، وهو ما أدَّى بحكومة حماس الإسلاميَّة بأن تستغرب هذا الموقف الذي أقبل كثيراً على حرب لبنان وترك المتابعة لقضيَّة أهل فلسطين ولم تتحدث كثير من وسائل الإعلام العربيّضة عنها إلاَّ بالنَّزز اليسير!
إنَّ الموقف الصحيح هو عدم تأييد الهجمة الشرسة التي تمسّ إخواننا المسلمين في لبنان، وفي الوقت نفسه عدم الرفع لمكانة الحزب، وإعطائهم هالة إعلاميَّة ضخمة، أو أن نؤمِّل ونراهن عليهم كحزب يعمل لمصلحة وصالح الفلسطينيين خصوصاً والمسلمين عموماً، فإنَّ لهذا الحزب أجندة خاصَّة يتحرك من خلالها وله خطط من ورائها سيعلمها كثير ممَّن يجهلها من أهل السنَّة اليوم!
====================
مقالات متفرقة ... لماذا ينقمون على المجاهدين؟
...
مقالات متفرقة
بقلم: خباب الحمد
لن تنضج فصائل العمل الإسلامي بجميع أطيافها، إلاَّ باستمرار التداول فيما بينهم بالنقد والتوجيه، والنصح والتقويم، وتحمُّل بعضهم البعض في نقد الأعمال والتوجُّهات المغايرة للمنهج الإسلامي القويم .
ولا أظن أنَّ أحداً يجادل في أهمية النقد البنَّاء لجميع أشكال العمل الإسلامي سواء الفكرية أو العلمية أو السياسية أو التربويَّة ... فإنَّ العمل البشري سيبقى معرَّضاً للخلل والقصور، ويبقى الكمال لله عزَّ وجل.
وفي هذا الزمن الذي يصح أن يوصم بأنَّه زمن صراع وقتال بين أهل الإيمان وأهل الكفر، فإنَّ فيه للمجاهدين في سبيل الله دوراً كبيراً في الدِّفاع عن حياض الإسلام، ودفع العدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا معاً، ورد كيد العتاة ومغتصبي حقوق المسلمين وبلادهم وأعراضهم.
وحيال جهود المجاهدين، نجد أنَّ هناك أناساً لا يهنأ لهم بال، ولا يقرُّ لهم قرار إلاَّ بالقدح فيهم، ولمزهم، والسخرية منهم، والتندّر بأحوالهم، بل الإقذاع في ذلك وكأنَّهم مجرمون إرهابيُّون!
وحسبي في هذا المقال أن أخاطب من خلاله شريحتين لهما دور واضح في تسفيه جهود المجاهدين، وكثرة البَرَم منهم والحديث في وسائل الإعلام عنهم لتشويه صورتهم، والتنقيص من قدرهم وهما:
1. من يسمُّون أنفسهم بالإسلاميين الليبراليين، الذين يتصدَّرون الوسائل الإعلاميَّة بالقدح واللمز والتشويه للمجاهدين في سبيل الله.(/15)
2. بعض المنتسبين لأهل العلم ـ وإن كانوا قلَّة ـ والذين يحقِّرون من جهود المجاهدين، ويقولون لا جهاد حقيقياً وصحيحاً في هذا الزمان، بل جميع الحركات المنتسبة للجهاد حركات عميَّة جاهليَّة!
وحقَّ لنا أن نعجب من هؤلاء القادحين كيف يسمحون لأنفسهم بأن يكونوا نوَّار فتنة، ومشعلي حربٍ ضروسٍ، ضدَّ أناس خرجوا بأنفسهم وأموالهم ابتغاء رضا الله ـ تعالى ـ ؟! فهم معرَّضون للقتل والاستشهاد في سبيل الله، بل هؤلاء المجاهدون يدافعون عن حرمات المسلمين وعن هؤلاء الذين يلمزونهم، ويحتقرونهم.
نعم ... إنَّ المجاهدين غير معصومين فهم بشر تعترضهم الأخطاء، وينتابهم القصور، ويقعون في الزلل، ولا شك في ذلك، بل إنَّهم لا يدَّعون ذلك لأنفسهم، فهم يطلبون من المسلمين المناصرة والمناصحة على حدٍّ سواء.
ولكن هل المنهج العلمي الصحيح يُبيح لهؤلاء اللاَّمزين أن يُقدِموا على لمز المجاهدين، والطعن فيهم واتِّهامهم بالإرهاب والتطرف؟
وهل مثل هذه العبارات يلمس من ورائها نصحٌ وتذكير للمجاهدين ، أو نقد بنَّاء يصبُّ في مصلحة الإسلام والمسلمين؟
والجواب عن ذلك: يستحيل أن يكون الهزء بالمجاهدين وحركات الجهاد في سبيل الله من قبيل النصح، والفرق بين ذلك واضح.[1]
- تقويم الخطأ بالنصح والتوجيه لا بالسخرية والتسفيه :
إنَّ المنهج الصحيح وهو منهج أهل السنَّة والجماعة يقرر أن لا أحد فوق النصح، ولا يعني أنَّه إذا أخطأ المجاهدون في سبيل الله أنَّهم لا يُنصحون ولا يُبيَّن لهم خطؤهم وقصورهم، ولكن تبيين الخطأ شيء واللمز من طرف خفي شيء آخر، وكذلك التبرؤ من بعض الأفعال الخاطئة شيء والتبرؤ من الشخص الفاعل شيء آخر، إنَّها موازنة تقتضي الإنصاف والعلم والعدل.
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة:(ولهذا كان النبي ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ يستعمل خالد بن الوليد على الحرب، منذ أسلم، وقال: ( إنَّ خالداً سيف سلَّه الله على المشركين) مع أنَّه أحياناً قد كان يعمل ما ينكره النبي ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ، حتَّى إنَّه ـ مرَّة ـ قام ثمَّ رفع يديه إلى السماء وقال: ( اللهم إنِّي أبرأ إليك ممَّا فعل خالد ) لمَّا أرسله إلى بني جُذَيْمة فقتلهم، وأخذ أموالهم بنوع شبهة، ولم يكن يجوز ذلك، وأنكره عليه بعض من معه من الصحابة، حتَّى وَدَاْهُم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وضمن أموالهم؛ ومع هذا فما زال يقدِّمه في إمارة الحرب؛ لأنَّه كان أصلح في هذا الباب من غيره، وفعل ما فعل بنوع تأويل)
وكلام شيخ الإسلام دقيق ، فكما أنَّ العلماء يخطئون وكذا التجَّار والأطبَّاء والمهندسون؛ فإنَّ المجاهدين كغيرهم في هذا الأمر، إلاَّ أنَّ الفارق في طريقة تقويم الخطأ ما بين ناصح أو حاقد، فالناصح يبيِّن الحق، ويذكر سبب الخطأ، ثمَّ يذكر الوجه الصحيح لعلاج ذلك، وأمَّا الحاقد فإنَّه لا يفتأ يلمز ويهمز في المجاهدين، وشتَّان شتَّان ما بين الأمرين !
ولننظر لطريقة القرآن الكريم في تقويم أخطاء المجاهدين، فحين لم يلتزم الرماة في غزوة أحد بأمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونزلوا لأرض المعركة مع أنَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمرهم بأن يلزموا مكانهم، ولا ينزلوا لأرض المعركة إلاَّ حين انتهائها بينهم وبين كفَّار قريش، إلاَّ أنَّهم استعجلوا الأمر ونزلوا لأرض المعركة قبل انتهائها، وبعد هزيمتهم تساءلوا: ما السبب في ذلك؟
قال الله تعالى: ? أولمَّا أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنَّى هذا قال هو من عند أنفسكم ?، ففي هذه الآية بيَّن ـ سبحانه وتعالى ـ خطأ أولئك المجاهدين، إلاَّ أنَّه ـ عزَّ وجل ـ لم يقدح في عدالتهم، أو يشكِّك في نيَّاتهم.
وذلك لأنَّ هؤلاء لهم دور كبير في نصرة الإسلام، والمنهج الإسلامي في عمليَّة النقد متوازن وموضوعي في الوقت ذاته، فالعتاب وتبيين الخطأ لكلِّ من أخطأ فريضة إسلاميَّة، ولكنَّ ذاك الخلل ينبغي أن يغتفر في الحسنات الكثيرة التي أصاب بها المخطئ، وكثيراً ما كان يركِّز ابن القيِّم ـ رحمه الله ـ على ذلك ويستشهد بحديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (إذا كان الماء قلَّتين لم يحمل الخبث). وكذلك فإنَّه يقول :" أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم" ، وبهذا يكون الاتزان في منهج التعامل مع أخطاء ذوي الأقدار والمروءات.
وعلى ضوء هذه الآيات والأحاديث ينبغي أن ننتهج بنهجها، وحرّي بنا أن نسير في مضمارها، بدون تلكؤ ولا ارتياب ؛ ذلك أنَّ الآيات والأحاديث كلام ليس بالأغاليط بل هو وحي يوحى، فأين هؤلاء القادحون من هذا؟
* خطورة التشبُّه بالمنافقين في نقد المجاهدين :
إنَّ المرء المسلم ينبغي عليه أن يكون حذراً لدينه في أن يكون مشابهاً للمنافقين في بعض أحوالهم، ومن قرأ سورة الأحزاب بتأمُّل سيجد فيها وصفاً لحال أولئك المنافقين الذين ما فتئوا يقدحون برسول الله والعصابة المؤمنة المجاهدة من الجيل الأول رضوان الله عليهم.(/16)
والعجب من هؤلاء المغتابين الهمَّازين للمجاهدين أنَّهم حين يتكلَّمون عن المخالفين لشرع الله، أو الكفَّار عموماً حتَّى المحاربين منهم فإنَّك تجدهم يتوقَّون أشدَّ التَّوَقّي للكلمات التي لا تثيرهم عليهم ولا تستفزُّهم؛ ويطالبون الناس بالعدل معهم، وإنصافهم؛ خشية إثارة مشاعرهم بل يجادلون عنهم ، مع أنَّ الله سبحانه يقول:? ولا تكن للخائنين خصيماً * واستغفر الله إنَّ الله كان غفوراً رحيماً * ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إنَّ الله لا يحبُّ من كان خوَّاناً أثيماً? ويقول ـ تعالى ـ محذِّراً من مغبَّة فعل: ?هاأنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أمَّن يكون عليهم وكيلاً ?.
وفي مقابل ذلك تجد الكلمات التي يقتبسونها من قاموس المجرمين ليطلقوها ويلصقوها بالمجاهدين، وفي حال سماعهم إشاعة عن مجاهد أو اتهاماً له سارعوا بإذاعة ذلك بكل وسيلة ممكنة، وكأنَّ لحومهم مسموح لها التعرُّض بالقيل والقال، فهل هذا عدل وإنصاف؟!
نعم ! إنَّي لا أنكر أنَّه يتوجَّبُ علينا أن نكون متحرِّين لنقاوة الجهاد، وناصحين لإخواننا المجاهدين في كل صقع محتل من أصقاع المسلمين، بألاَّ يصيب جهادهم خللٍ ولا خطأ ولا دخل، ولكن لا يكون ذلك إلاَّ بالأساليب الطيِّبة النافعة، التي لا تستغلُّها الوسائل الإعلاميَّة للقدح فيهم، وتشويه صورتهم.
وقبل الختام :
فقد أجمع علماء الإسلام على حرمة الغيبة والسخرية بالمسلمين، وعدُّوها من كبائر الذنوب، وعلى هذا فإنَّه يجدر بنا أن يكون لدينا دور تجاه الذَّبِّ عن أعراض المجاهدين قدر الإمكان، فإنَّهم قوم خرجوا بأموالهم وأنفسهم لا يبتغون إلاَّ ما عند الله عزَّ وجلَّ من الأجر العظيم، والثواب الجزيل، بل هم حرَّاس الدين وحماته في هذا الزمان وفي كل زمان، فكيف يَليق بنا أن نقدح فيهم وهم الذين كان لهم الدور الكبير في صدِّ عدوان المعتدين؟!
لهذا فإنَّ اللاَّمزين للمجاهدين والقادحين فيهم، لا يقال لهم إلاَّ ما قاله الشاعر العربي الأوَّل:
أقلُّوا عليهم لا أبا لأبيكم من اللوم
أو سدُّوا المكان الذي سدُّوا
لقد وصف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المجاهدين بالخيرية فقال:" خير الناس في الفتنة رجل معتزل في ماله يعبد ربَّه ويؤدي حقه، ورجل آخذ بعنان فرسه في سبيل الله يخيفهم ويخيفونه"[2] ؛ بل جعل رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ من صفات الطائفة المنصورة طائفة مجاهدة في سبيل الله في عدد من الأحاديث النبويَّة ساق الإمام مسلم فيها ثلاثة أحاديث .
ولنتذكر إنجازات المجاهدين الأبرز في تحقيق المناعة للأمَّة ، بمواردها واقتصادها وسيادتها ، وكيف أنَّهم قاموا بمنع أفكار التمدُّد ـ أو تأخيرها على الأقل ـ في الغزو الصهيوصليبي لديار المسلمين وأراضيهم، وعلى سبيل المثال : فنحن لا ننسى كيف كان اليهود يقولون: أرضك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل ، وهم يتمنَّون إقامة أرض إسرائيل الكبرى ، بيد أنَّهم حين رأوا قوَّة المقاومة في فلسطين ، وإضعافهم لقوَّتهم ، بدؤوا يضعون الحواجز والجدار العازل بينهم وبين الفلسطينيين ، وينادون كذلك بأهميَّة تحديد وترسيم حدود إسرائيل ، وهذا لم يتأتَّ إلاَّ بفعل ضربات المقاومة الجهاديَّة في أرض فلسطين .
إنَّها دعوة لنستشعر الأحاديث النبويَّة الواردة في ثواب من ذبَّ عن عرض أخيه المسلم .
وأخيراً : فإنَّ على المجاهدين أن يكون لديهم رحابة في الصدر لمن ينقد بعض أعمالهم، ولو قسَوْا في ذلك، ولا يكون لديهم حساسية تجاه هذا الأمر، بل يستمعوا لكلِّ ناصح وناقد، ولو اعتدّوْا في نقدهم، فليأخذوا ما وجدوه موافقاً للحقِّ في ذلك، وينتهوا عنه، ويتركوا سخرية المستهزئين، والله الموعد لكلِّ من تربَّص، وكذلك فليحذروا من المخترقين للصفوفهم، أو المتسلِّلين بينها لتشويه صورة جهادهم، فإنَّ ذلك أمر لا تخفى أهميَّته على كلِّ مجاهد. ويوم القيامة ينتظر الجميع وليس عنه مفر، ليحيى من حيَّ عن بيِّنة، ويهلك من هلك عن بيِّنة، وكفى بربِّك هادياً ونصيراً، وإذا كانت لحوم العلماء مسمومة، فإنَّ لحوم المجاهدين كذلك مسمومة وإنَّ هذا العصر عصر الجهاد والمقاومة وهو في أعلى مراتب الأولويات !(/17)
رؤية إسلامية لمشكلة التعددية (1/2) د. بسطامي محمد خير*
التعددية في الغرب
لعل فكرة التعددية من أكثر المقولات تداولاً في عالم اليوم؛ إذ نالت شيوعاً وصيتاً في كل مجال من المجالات من علم وفكر ودين إلى اجتماع وثقافة وسياسة واقتصاد، وأصبحت أكثر شعارات العصر الرنانة البراقة المستحسنة، التي يلهج بها كل أحد، ويتزين بها، وباتت دليلاًِ على الانفتاح والسماحة والتمدين.
ومع هذا الشيوع والذيوع لا يماري المختصون بتعريف هذا المصطلح من أنه من الصعب تحديد معنى دقيق أكثر من المعنى اللغوي المتفق عليه، وهو أن التعدد يعني أكثر من الواحد، أما ما وراء هذا المعنى البسيط فإن المصطلح غامض غائم، ويشتمل على معان شتى حسب السياق الذي يرد فيه؛ حتى لقد وصل الأمر ببعض الدارسين إلى القول بأنه ينبغي لنا أن نسلم بتعددية التعددية.
وقبل الاسترسال في بحث الموضوع من المهم التفريق بين أمرين أساسيين.. فمما لا شك فيه أن التعددية وصف لظاهرة مشاهدة محسوسة، ألا وهي التنوع، والتباين، والاختلاف بين البشر في: ألوانهم، وجنسياتهم، وآرائهم، ومعتقداتهم، وقيمهم، وثقافاتهم، وأديانهم، ومناهج حياتهم؛ هذه حقيقة واضحة، جلية، قد لا يتجادل حولها اثنان، لكن التعددية أصبحت اليوم مصطلحاً للمبادئ والمفاهيم التي تتناول أمراً آخر، ألا وهومنهج التعامل مع ظاهرة التباين والتنوع في حياة الناس؛ فالتعددية بوجهها الأول وصف لظاهرة طبيعية قائمة وواقعة في كل المجتمعات، والتعددية بوجهها الثاني نظرية، وتصور لحقيقة حدود التباين والتنوع، وضوابط الاتفاق والافتراق، وكيفية تنظيم المجتمع على أساس ذلك.
وعلى هذا فإن مصلح التعددية السائد المتداول اليوم يُقصد به تلك التصورات والمناهج المعاصرة لتفسير وتنظيم مشكلة التنوع والتباين في المجتمعات البشرية، وقد نشأت هذه المبادئ والمفاهيم الغربية للتعددية خلال تطور طويل في الغرب، وكانت مرآة لفلسفته ونظرته للحياة في ميادينها المختلفة، ويريد الغرب الآن جعلها أنموذجا يحتذيه العالم كله، بل فرضها في كثير من الأحيان ومع أن استعلاء ثقافة على ثقافة أخرى هو في حد ذاته يناقض مبدأ التعددية التي ينادي الغرب بها إلا أن ازدواج المعايير أمر لا غبار عليه عند القوم في التعامل مع غير بني جنسهم.
ومقصود هذا المقال الموجز التأمل في قضية التعددية الغربية المعاصرة؛ باعتبارها تصوراً ومنهجاً لحل مشكلات التنوع والاختلاف؛ مع محاولة تقديم رؤية إسلامية لها، ومن ثَم تقويمها، وبيان المقبول منها والمرفوض، وسيقتصر المقال على أهم الميادين التي تطرح من خلالها مسألة التعددية؛ إذ الإلمام بأطرافها كلها لا سبيل إليه في هذا المختصر.
تاريخ التعددية في الغرب والإسلام:
قد يكون من المناسب في البداية تقديم ملامح عن تاريخ فكرة التعددية، ونشأتها في الغرب، مع بعض الملامح أيضاً؛ مما يقابل الفكرة في الإسلام.
ترجع أصول التعددية في الغرب إلى بعض الفلسفة اليونانية؛ حيث ظهرت الفكرة لمناهضة فلسفة وحدة الوجود، ونقضها لها، ومضمونها أن الوجود ليس واحداً، بل متعدداً، وحيث بدأ الغرب يحاول النهوض بإحياء مخلفات التفكير اليوناني بعثت فكرة التعددية الفلسفية من جديد في القرن السابع عشر الميلادي، وظلت حبيسة في الإطار الفلسفي دون أن تجد لها سوقاً نافقاً حتى بداية القرن العشرين، ثم تنامت من جديد على يد المفكرين الإنجليز مثل (وليام جيمس) و(برتراند رسل) اللذين وجدت آراءهما قبولاً فائقاً في مناخ من اليأس السائد بين العلماء آنذاك بسبب إخفاق العلوم التجريبية في حل الكثير من معضلات الكون؛ حتى أعلن أحدهم انتصاره قائلاً: (لقد تكسرت هيمنة الحقيقة المطلقة على أيدينا).
ومن الفلسفة انتقلت الفكرة إلى ميدان السياسة؛ حيث دعا العلماء في أوروبا وأمريكا – ومن أبرزهم هارولد لاسكي – إلى تحطيم سلطان الدولة المطلق.. وفي الفترة التي تلت انهيار الاستعمار للبلاد الآسيوية والإفريقية ظهرت كثير من النزاعات والحروب الإقليمية والعرقية والدينية بسبب عوامل داخلية ومكائد؛ مما أبرز تفكيراً جديداً في العلوم الاجتماعية عن التعددية وتعايش الجنسيات والثقافات والديانات، ثم انتقل داء النزاع والصراع إلى عقر ديار الغرب، وخاصة في عواصمه ومدنه الكبرى؛ إذ هاجرت وهُجِّرت أعداد كبيرة من سكان آسيا وإفريقيا؛ واستوطنت هنالك، ووجدت بين الغربيين سحنات غريبة، وثقافات، وديانات غير مألوفة؛ فكانت التعددية محاولات لحل المعضلات التي نشأت من جراء هذه الهجرات، ولاستيعاب هذا التنوع والتباين في البرامج التعليمية والمؤسسات الاجتماعية.(/1)
وخلاصة الأمر: أحسب أن التعددية بمبادئها المعاصرة الرائجة ليست إلا حلولاً أبدعها الفكر الغربي لمشكلات مختلفة أحدثها تطوره التاريخي الخاص، ونظرته للحياة ومناهجها ونظمها.ويبقى السؤال: ما المقبول والملائم لظرف بلادنا من ذلك كله، وما المرفوض؟ هذا هوموضوع مقالنا التالي: التعددية في الإسلام.(/2)
رؤية استشرافية لمستقبل الإنسانية
2005-09-18
الشبكة الليبية/محمد العلي
رؤية استشرافية لمستقبل الإنسانية
عندما تظهر الحقيقة الغائبة ، وعندما يستأصل الشر من جذوره ، وبعد إغلاق محابس الفساد والشرور ، وفتح محابس الإصلاح و الخير والسرور ، وبعد ما يتغير الوسط والجو العام وتختفي مظاهر حياة الغاب والكهوف والهمجية .. والبدائية والتخلف .. وكل مظاهر الشرك والوثنية ، و بعد ما تكتسي النساء بأثواب الحياء ، سينزل الخير وتتقاطر البركة من السماء .. مثل ذرات المطر الخفيفة الندية ، فترسل الشمس خيوط أشعتها الشفافة الناعمة البهية .. لتنعكس على بسمة الحياة ، وتُفَجِر الأرض خيراتها بعد ما تغذت بالحب وبالألفة وبالحركة الطبيعية الفطرية وبالروح الجديدة وبالخير والعطاء من الناس ، فتفرح لفرحهم وتشاركهم الفرحة وتبادلهم العطاء ، وستتجاوب معهم وتفرد ذراعيها لتحتضنهم وتفرش لهم الخضرة في أحضانها وترحب بهم .. بالبسمة وبالضحكة والمزاح بالهواء والنسيم العليل وقطرات الماء الخفيفة الندية وبحركة الفراشات والعصافير ، وتتزين لهم بالورود والزهور الطبيعية والرياحين لتستقبلهم كاستقبال الضيف الكريم العزيز لزائريه الأوفياء الكرماء ، فينتشر الأطفال والصغار للجري واللعب ، تملأ صدورهم البهجة وتطل من عيونهم الفرحة والسرور ،ينتشر صوت تسبيح الطيور وتغريدهم للترحيب بهم ، وسيزيد تكاثر الطيور وأعدادهم مثل باقي الأنعام بعد أن استشعروا بالأمن والعدل والسلم والسلام ، وسيفرح الأباء والأمهات لفرح أطفالهم وأبنائهم ولفرحة الحياة .وعند المساء يطل البدر بطلعته البهية لينير لهم مجالس الفرحة والسعادة والحياة النقية وهم جلوس حول مواقد النار في ليالي الشتاء أو الربيع أو على سواحل البحر وضفاف الأنهر في الصيف والخريف ، وستفيض عليهم الأرض بالنعم والخيرات ليأكل الناس من تحت أرجلهم ومن فوقهم ، فيبروا شيخهم وكبيرهم ويعطفوا على صغيرهم ويأووا يتيمهم ويحسنوا إليه .. ويسقوا ضعيفهم ويطعموا مسكينهم ويكسوا عابري السبيل والمحرومين ، ويبروهم ويعطفوا عليهم فيرفعوا أيديهم بالشكر لله والدعاء ، فيسمعه السميع البصير المجيب... فيستجيب ، فيزيدهم خير وبركة وعطاء ونماء ، ويرفع عنهم الأمراض والأوبئة الخلقية والعاهات والأوجاع والسخط والغضب وكل داء وبلاء .وسيشعر الإنسان بتغير الأجواء ، وسيشعر بالفرق بين حكم الدولة الوثنية البوليسية دولة العصابات الجبرية القهرية العضوضة التي سلبت منه الحرية والإرادة و همشته وأشعرته بالضيق والعنت والضنك وجعلت منه مجرماً بحق نفسه وغيره وربه ، وبين الدولة الإسلامية المدنية الراشدة - دولة المؤسسات المدنية التي جعلت منه حراً مؤمناً بربه واثقاً من نفسه سلماً لغيره ، وكفلت حقوقه الشرعية وضرورات حياته الإنسانية ، وأمنته وبصرته وثقفته وأخرجته من الظلمات إلى النور ، ووسعت عليه الدنيا وخففتها من الأعباء الثقيلة التي كانت تلقى على كاهله لتشغله عن خالقه ، وعن نفسه وأهله وعياله .. وعن أقاربه وجيرانه ، وتجعله يجري في جميع الاتجاهات ، وكأن هناك من يطارده ...! ، أو كأنه وحش من وحوش الغاب والصحراء ...! ، وسيشعر براحة في الصدر وخفه, بعد ما يشعر بأن صدره أصبح بحجم الفضاء الفسيح الذي تهفهف فيه ريح الربيع البديع العليل ، وبعد ما طُرِدَت من صدره كل الأصنام والأوثان البشرية والمادية وكل الأمراض والأوجاع والأوساخ والكلاب النابحة التي تمنع نور الله وروحه من الدخول.وسيعرف- إنسان الحرية الجديدة - الفرق بين الحرية الغوغائية الفوضوية التي كان يتغنى بها الهمج والرعاع والغوغاء أزلام الشيطنة الغربية ، وبين الحرية الحقيقية التي منحها رب الخلق والبرية ، وسيفهم حين إذ سبب مطالبة المنافقين والأفاقين بالحرية القذرة الشخصية المزعومة ، فبداية حريتهم المزعومة تعني نهاية حريته المأمونة ، لإبقائه أسيراً مخدراً مقيداً يجري وراء الشهوات والمسرات والملذات يعيش بلا دين وبلا عقل سليم وبلا هوية وبلا شخصية ، لكي يلتف المتطفلون على حقوقه ليصادروها وهو في غفلة من أمره بعد ما يعيش وهم الحرية والتعددية السياسية الفوضوية البوليسية ، وسيحمل في قلبه المعروف للبارئ الحفيظ صاحب الفضل والمنة والمعروف راعي الدولة الإسلامية الراشدة الحديثة بعد ما سحبه من بين أنياب ومخالب الكلاب البوليسية العضوضة وأزلامها من المسعورين والنابحين والناعقين في ظلام الوثنية والجاهلية الحديثة . فحينئذ سيعض بنواجذه على كتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم - بعد ما يتخلص من العبودية الطارئة المذلة والحكم البوليسي العضوض .. وإلى الأبد ، وهذا التشبث والعض ، سيكون عضاً وتشبثاً شديداً ومن القلب ، لا يتركه حتى يلقى الله على ذلك ليخر ساجداً بين يديه ليشكره على فضله ونعمه التي لا تعد ولا تحصى ، وبعد ما ذاق مرارة العض والذل والبؤس والتشرد والحرمان والهرولة بالحياة من الحكم(/1)
البوليسي الجبري القهري العضوض ، لن يسمح لأحد ما أن يعبث بإنسانيته ويصادر حريته وحقوقه الطبيعية والشرعية وضرورات حياته الإنسانية ليعض عليه وعليها مرة أخرى ليصيبه بالسعار والخبال وليجعله في صاف الهمج والرعاع والغوغاء والأفاقين والمنافقين والمهرولين ، أو ليجعل منه مُشَرداً مُنحدِراً ، لا عقل ولا قيمة ولا إنسانية و لا حقوق ولا كرامة له ، يداس بالأقدام يشحذ اللقمة من العابرين بعد أن أصبح من المتسولين ، أو يبيع لحمه ويتاجر في عرضه ليأكل لقمة تسد رمقه وجوعه أو ليكسي جسده بعد ما أذهب دينه وعقله وحُرم من ضرورات حياته الإنسانية وحقوقه الشرعية ، وهو لن يسمح لأحد بأسره وتكبيله بالقيود وجره على وجهه في مسالك الحياة ومتاهاتها بعد أن شاهد الحقيقة وأستوعب قوانين " النشأة والحياة والمصير " . وإنسان الدولة الإسلامية المدنية الراشدة ... بعد أن يرى الحق ويتلمسه ويقلبه بين يديه ويذوقه ويستطعمه ، سيميزه وسيتعرف عليه وعلى حقوقه التي منحها ربه الحق المبين ، وسيصبح الحق .. يقيناً .. مبينا داخل قلبه يراه حق اليقين ، ساطع سطوع الشمس في رابعة النهار ، لا تغطيه غمامات الشرك والتعتيم ، ولا تسكنه قيم الكفر والنفاق ولا صنميه الأشياء ، ولا يخالطه الهوى بعد ما أصبح الخالق إلهه وهواه ، قال تعالى:" فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون (32) " - يونس
وسيتحول إنسان الدولة الإسلامية الراشدة إلى إنسان حر مؤمن مثقف شريف نزيه عفيف اليد واللسان .. رضي النفس حبيب صبور قنوع أمين حليم رحيم شهم كريم سخي صدوق نبيل عزيز غيور شجاع ، يدافع عن الحق بعد أن عرف الحق حق المعرفة ، وعرف أن ربه الأول الآخر الباقي هو الملك الحق المبين ، فيسكن الحق في القلب فيثبت على الإيمان به بعد ما يكون في جنب الرحمن مستظل بظله بأمان واطمئنان ، فيستنير فكره بعد ما ينطلق في ملكوت الله يحلق في الآفاق الفسيحة فيمد أمته بما يفيض الله عليه من خير وفير بعد ما تصبح عقول الأمة عقول نيرة تستمد نورها من نور الله الذي يسكن حبه في القلوب. فنور القلب يمد العين بالنور لتنجلي الأبصار وترفع عنها الحجب لتقرأ آيات الله في الآفاق وفي الأنفس ، فتزيد يقينا على يقين ، فيسموا الفكر وتطمئن النفس وتسمو الروح وترتقي ، فيتصل نور القلب بالأذن فتكون أذن صافية صاغية لكلام ربها يدخُل فيها الذكر الحكيم بسهولة ويسر ليصب في القلب فيزداد نور على نور وضياء على ضياء ورقة على رقة.
قال تعالى : " الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم (35) " النور(/2)
وعند ربط الفرد بشبكة العلاقات الاجتماعية الإنسانية الإسلامية العامة ، وبسبب ربط قلوب الأفراد بالخبر الصادق للوحي- الكتاب والسنة- عين الحياة ، سَيُفَجِر اللطيف الخبير الكريم ينابيع جديدة عذبة من الخير والعلم والحكمة والمعرفة والنور بعدد قلوب المؤمنين ، وستسيل كالأنهار والسيول المتدفقة العذبة السريعة الجريان ، وستجد طريقها بسهولة ويسر عبر قنوات الشبكة الاجتماعية الإنسانية الإسلامية العامة ، لتصب في أماكن متفرقة متشعبة حسب تصنيفها ، ثم تتجمع في مكان واحد ليعاد ضخها عبر قنوات وشرايين الشبكة العريضة إلى أفراد الأمة لتتشربه قلوبهم وتتغذى به عقولهم ، فترتوي لتخرج مره أخرى وبصورة متكاملة بديعة عن طريق الحركة والجهد والتفاعل والنشاط والعمل فتتجسد على أرض الواقع ، فتكون خالية من الفتن والشبهات والأمراض والآفات ، لأن مصدرها عقل سليم متصل مع قلب أستمد نوره من الله العليم الواسع المصور بديع السماوات والأرض ، وستتجسد تلك الأعمال من خلال يد استمدت حركتها وقوتها من روح الإسلام وقيمه ومن مثلها الأعلى ، فيكون المنتج منتجاً مثالياً لا يضاهيه منتج أخر في المثالية والمتانة والإتقان والقوة والصلابة والكمال والإبداع ، ويخلو من الحيل والخداع ، فيستحق ختم (( صنع في الدولة الإسلامية )) .قال تعالى : " ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم(27)" لقمانقال تعالى: " نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم ( 76 ) " يوسفوسيفتح الله المؤمن الفتاح على أفراد آخرين في الدولة ليطوروا المنتجات الصناعية وغيرها من منتجات ومخرجات وليزيدوها خير على خير وإبداع على إبداع من فيض الله الذي لا ينبض ولا ينقص ولا يجف ، ثم تأخذ طريقها إلى نفس الدورة الطبيعية للحياة ، وهكذا ستتراكم العلوم والمعارف والحكم ونتائج الأعمال والأنوار والفيوض الإلهية التي ستنبع من المنبع الصافي الأصيل للحياة والعلم والمعرفة والحكمة والنور لتستفيد منها الإنسانية والبشرية كافة ، فينتشر هذا النور الذي يحمله المؤمنون في قلوبهم وسيكونون مشاعل طوافة بعد ما يتحركون ويطوفون بها في مشارق الأرض ومغاربها ويكونون رسل سلم وسلام وهداية للناس كافة يهدي الله على أيديهم من يشاء . قال تعالى : " يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم (16) " (المائدة) . عند إذ ... سينكشف زيف المدنية الغربية ، وسينطفئ نورها الخادع المزيف المصطنع الذي أعمى القلوب وأذهب العقول وأعمى الأعين وأغلق الآذان.والمؤمن في ظل الدولة الإسلامية الراشدة ، وبعد أن يرى الحقيقة التي سيتصرف على أساسها ، سيصبح في صورته وهيئته وتعبيره وحركته كالرسام الفنان المبدع الذي يتعامل مع ألوان مختلفة و متنوعة ، وستكون له صورة وهيئة وتعبير وحركة مثالية ، بعد ما يعرف قيمة القيم وقيمة أسماء وصفات الله وحقيقتها وحقيقة تأثيرها على تصوره ومشاعره وحركته وتفاعله وردود أفعاله وتعامله ونتائج عمله ، فتكون كلها صورة وهيئة وتعبير وحركة مثالية متناهية في الدقة بعد ما يضع كل لون ونوع في المكان المناسب ، فتتناسق الصورة والهيئة والتعبير والحركة ، فتكون صورة وهيئة وتعبير وحركة مثالية .. لأنه أستمدها من المثل الأعلى ، فيصبح المؤمن إنسان مثالي للناس كافة.وبعد فترة قصيرة من الزمن وبعد ما تتجسد الدولة على أرض الواقع وتقوى أركانها ويعلوا بنيانها وتتضح معالمها وتشتغل آلياتها ومصانعها ستنتج منتجات وتقنيات جديدة من عقولها النيرة الصافية التي تستمد نورها من الله لتغير وجه المنتجات والصناعات فتكون بناء على رؤيتها الجديدة التي ستبهر المغرورين من جديد ، وذلك بعد أن تمتلك القدرة على التعامل مع (( روح العقيدة والفكرة )) وفك باقي أسرارها ، فتصبح هي صاحبة المعلومة الصحيحة والأصيلة التي تتوافق مع حركة البيئة والكون ومتطلبات الحياة الجديدة ، وذلك بعد أن (( تفقه حقيقة عقيدة التوحيد وفكرة الإسلام )) ،حقيقة (( لا إله إلا الله محمد رسول الله )).فيلتحق العاملون في المصانع والشركات العملاقة التي تقتات على قيمهم وإنسانيتهم وعرقهم وجدهم وكدهم وتعبث بمقومات حياتهم ليلتحقوا بالشركة الاجتماعية الإنسانية الإسلامية العامة العالمية المتحدة للدولة الجديدة ، وتبقى بعض الشركات والمصانع التي تحافظ على حقوق الموظفين والعمال والكادحين وتشغلهم بما يرضي الله حيث ستصبح تلك الشركات والمصانع كما هي كيان حر مستقل عندما تتوافق مصالحها مع مصالح الدولة الإسلامية والبشرية والمستضعفين كافة ، وإلا ستنهار كما أنهار من قبلها وأصبح ذكرى وعبرة للمؤمنين يتدارسونها في مجالسهم الخاصة والعامة ، وذلك بعد ما يفرد العقاب الإسلامي جناحيه على الكرة الأرضية ، ويغرز مخالبه في عنق الباطل ليمنعه من الإغارة والاعتداء على الناس(/3)
والمستضعفين.وبعد ما يشع نور الحضارة الإسلامية ويغطي العالم من جديد سيرتفع صوت المؤذن منادياً ومن قلب يفيض بالنور" الله أكبر ... الله أكبر ... الله أكبر" فيخرج من فمه نور ، لينتشر فيسمعه كل مخلوق حي كان أو جماد ، ويسمعه كل من طغى وتكبر ليعرف ويستيقن أن قول الله القادر الواجد المقتدر صدق وحق ، قد أنجز وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده ، فيقول المتكبر من غير حق ( حقاً وصدقا " الله أكبر ... الله أكبر ... الله أكبر " وأستغفر الله رب العالمين وأتوب إليه ) ، فيلتحق في زمرة المؤمنين ، فتزيد الأمة لبنة وخلية حية جديدة تزيدها قوة وصلابة ومنعة ، وسينكب على عين الحياة للارتواء لتعود له الحياة ، فيحمد الله على فضله ونعمه وهداه ، فيزيد الهادي السميع الكريم الأمة هدى على هداها ، فسبحانه هو الهادي الودود فعال لما يريد.وسيصبح المؤمن حريصاً على متانة وصلابة أركان دولته التي يجد فيها حقوقه وعافيته وحريته وحركته التي توافق فطرته وتحفظ له إنسانيته ، وسيصبح إنسان قنوع بعد ما يكون أحد لبناتها وخلاياها الحية الموضوعة في مكانها المناسب وتحيطها الرعاية والحماية الكاملة ، فيشعر بأنه هو الدولة والحكومة ، فأي اعتداء على الدولة والحكومة هو اعتداء عليه ، وأي اعتداء عليه هو اعتداء على الدولة والحكومة بعد ما يتم ربط الفرد في الشبكة الاجتماعية الإنسانية الإسلامية العامة ويكون متصل بها اتصالا مادياً وروحياً ونفسيا تاما ستستشعر مراكز الحس بآلامه فتتحرك أحد آلياتها القريبة المادية أو الروحية لمعالجة أي طارئ أو عارض يعاني منه سواء كان طارئ " فكرياً أو نفسياً أو روحياً أو مادياً أو اجتماعياً أو صحياً...الخ " فيشعر بقيمته وانتمائه فيزيد حبه وولائه لله ولإخوانه المؤمنين فيصبح ولي من أولياء لله الصالحين ، وبهذا سيجد الناس راحتهم بعد ما تحقق أمنهم واستقرارهم وتحققت كل آمالهم وأحلامهم المشروعة في الحياة الدنيا ، وذلك بحسب قوانين " النشأة الحياة والمصير ".وسيتغير وجه الأرض فتصبح الأرض غير الأرض والناس غير الناس وستشرق الأرض بنور ربها بعد ما فاض عليها النور من منبع النور والحياة وتحرك في أرجاء الأرض وفاض من قلوب المؤمنين وأنتشر على الآخرين ، وبفضل من بديع السماوات والأرض الله الملك الحق المبين.قال تعالى: " يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون (32) " (التوبة) نصر من الله وفتح قريب.
محمد العلي- الكويت - نقلا عن شبكة الفرسان(/4)
رؤية النبي صلى الله عليه و سلّم في المنام
السؤال :
رأيت النبيَّ صلى الله عليه و سلّم مُعرِضاً و مشيحاً بوجهه الشريف عنّي ، و أنا أستأذن في الدخول عليه و لا يؤذنُ لي ، فما تأويل ذلك حفظكم الله ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
رؤية النبيّ صلى الله عليه و سلّم في المنام حقّ ، و من رآه في منامه فقد رآه حقيقةً لأنّ الشيطان لا يتمثّل بالنبيّ عليه الصلاة و السلام .
روى الشيخان و أصحاب السنن و أحمد بألفاظ متقاربة ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَخَيَّلُ بِي ) .
و من أهل العلم من حمَل هذا الحديث على ظاهره ، فقال : إن كلّ من رأى النبيَّ صلى الله عليه و سلّم في المنام ، و على أيّة صورة كانت الرؤيا فقد رآه حقيقةً .
قال الحافظ ابن حجر في ( فتح الباري ) في شرح هذا الحديث : ( أي من رآني فقد رأى حقيقتي على كمالها بغير شبهة و لا ارتياب فيما رأى بل هي رؤيا كاملة ... و الذي يظهر لي أن المراد من رآني في المنام على أي صفة كانت فليستبشر و يعلم أنه قد رأى الرؤيا الحق التي هي من الله لا الباطل الذي هو الحلم فإن الشيطان لا يتمثل بي ) .
و ذهب آخرون إلى التفريق بحسب حال الرائي و صفة المرئي ، فقالوا : إن كان الرائي يعرف صفات النبيّ صلّى الله عليه و سلّم الخَلقيّة و الخُلُقيّة ، و رآه في المنام على تلك الصفات فقد رآه حقّاً ، و من رأه خلافاً لما هو عليه في الحقيقة فهذه رؤيا كسائر الرؤى ، و تحتاج إلى تعبير و تأويل . و هذا الرأي أرجح من سابقه لأمور منها أنّ الرائي قد يرى النبيَّ صلّى الله عليه و سلّماً على صفة لا تليق به ، كما لو رآه حليقاً أو مدخِّناً ، و حاشاه أن يكون كذلك حقيقةً ، بل الواجب تأويل الرؤيا في هذه الحال بحسب حال صاحبها .
و يُرشَد الرائي إلى أنّ السبب في ورود رؤياه على هذه الحال راجع إلى ضعف إيمانه ، أو عَدَم اتّباعه ، أو تقصيره في أمور دينه ، و يُنصَح بالتدارك قبل التهالك .
قال القاضي عياض رحمه الله ( كما رواه عنه الإمام النووي في شرح صحيح مسلم ) : يحتمل معنى قوله فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بي : فقد رأى الحق إذا رأوه على الصفة التي كان عليها في حياته ، لا على صفة مضادة لحاله ، فإن رُئيَ على غير هذا كانت رؤيا تأويل لا رؤيا حقيقية فإن من الرؤيا ما يخرج على وجهه و منها ما يحتاج إلى تأويل و عبارة .اهـ .
و بناءً على ما تقدّم نقول للأخ السائل : إنّ رؤياك بشارة خير إن شاء الله ، و أمّا إعراض النبيّ صلّى الله عليه و سلّم فلعلّ فيه تذكير لك باتباع سنّته ، و الاعتصام بهديه ، و التمسّك بما جاء به ، حتى تكون أهلاً لمرافقته في الجنّة .
و الله أعلم ، و صلى الله و سلّم و بارك على نبيّنا محمّد و آله و صحبه أجمعين ، و الحمد لله ربّ العالمين .(/1)
رؤية شاملة لدلالة النص
06-1-2006
بقلم محمد جلال القصاص
"...فمن أراد أن يناقش النص فليناقشه في سياقه الكامل الذي يشمل دلالته الشرعية المأخوذة من فعل الصحابة رضوان الله عليهم ، أما القفز إلى النص مباشرة وفهمه بمقدمات عقلية أو لغوية أو عرفية خاصة ببيئة المتكلم فهذا مما لا يقبل بحال ...."
كثير من المشاكل الفكرية ترجع في الغالب إلى عدم وضوح المصطلحات محل النقاش ، ومن هذا مصطلح (النص) الذي كثر الكلام عليه في أطروحات الحداثيين و (التنويريين) ومن قاربهم من (العقلانيين) .
مفهوم آخر للنّص اصطلح على أن تطلق لفظة (النّص) على منطوق الوحيين الكتاب والسنة الصحيحة . وهذا الأمر فيه نظر . إذ أن منطوق القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة لا يمكن بحال أن ينفصل عن سياق عام يشمل فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعل الصحابة رضوان الله عليهم ، أو قل سبب نزول (النص) وكيفية امتثال النبي -ـ صلى الله عليه وسلم - وصحابته (للنص) .
فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يبلغنا فقط منطوق القرآن الكريم - الذي يقال عنه النص في عرف القوم - وإنما بلغنا القرآن ومراد الله من كلامه ، وهذا هو معنى البلاغ المبين المذكور في سبع مواضع من كتاب الله :
قال تعالى : (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ) (المائدة : 9) .
وقال تعالى : (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) (التغابن :1).
وقال تعالى : (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) (النور : 54 ) .
وقال تعالى : (وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) (العنكبوت : 18) .
وقال تعالى : (وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (النحل : 35) .
وقال تعالى : ((فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ) (النحل : 8) .
وقال تعالى : (وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ) (يس : 17) .
والبلاغ المبين هو : الذي يحصل به توضيح الأمور المطلوب بيانها، أو هو الَّذِي يُبِين عن معناه لمن أَبْلَغَهُ ، ويفهمه من أُرْسِلَ إليه ، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يأتنا فقط بألفاظ القرآن بل بألفاظ القرآن وبمراد الله من هذه الألفاظ ، والصحابة رضوان الله عليهم لم يتلقوا من النبي صلى الله عليه وسلم فقط منطوق القرآن الكريم ثم ذهبوا يفهمونها كما شاءوا . لا . بل كانوا يتعلمون الإيمان ثم يضبطون ما فهموه بالقرآن الكريم كما جاء في الحديث . عن جُنْدُبِ بن عبد الله قال : (كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن فتيان حَزَاوِرَةٌ فَتَعَلَّمْنَا الإِيمَانَ قبل أن نتعلم القرآن ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيمانا) . وجاء في مسند الإمام أحمد من حديث أَبِي عبد الرحمن قال : (حدثنا من كان يُقْرِئُنَا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم كانوا يَقْتَرِئُونَ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَشْرَ آيَاتٍ فَلَا يَأْخُذُونَ فِي الْعَشْرِ الأُخْرَى حَتَّى يَعْلَمُوا مَا فِي هَذِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ قَالُوا فَعَلِمْنَا الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ) .(/1)
والمراد : أن الصحابة رضوان الله عليهم تلقوا (نص) - منطوق - وتلقوا معنى ، وهذا كله هو ما نحن ملزمين به - كتابعين لهؤلاء الكرام - ، قال تعالى : { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } . وقال تعالى : (فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة : 137 ) فالصحابة هم من أراد الله بوصف المؤمنين في هذه الآيات ذلك أن الله عز وجل شهد لهم بالإيمان في آيات أخرى من كتابه قال تعالى : { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } ( التوبة : 1 ) . وَقَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا }( الفتح : 18 ) .
والخلاصة أنه لا بد - من وجهة نظري - من إعادة تعريف النص الشرعي على أنه : منطوق القرآن كما فهمه الصحابة رضوان الله عليهم وأقرهم عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا يجوز لأحد أن يأخذ آية من كتاب الله ثم بعد ذلك يفهمها ويطبقها بغير الفهم والتطبيق الذي كان عليه صحابة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - ؛ إذ أنه من المعروف أن (العمل المتوارث المستمر من عصر الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم حجة شرعية يجب إتباعها، وتلقيها بالقبول) .
فمن أراد أن يناقش النص فليناقشه في سياقه الكامل الذي يشمل دلالته الشرعية المأخوذة من فعل الصحابة رضوان الله عليهم ، أما القفز إلى النص - منطوق القرآن أو السنة - مباشرة وفهمه بمقدمات عقلية أو لغوية أو عرفية خاصة ببيئة المتكلم فهذا مما لا يقبل بحال . ومن فعلَ هذا نرده بأننا تلقينا وحيين - كتابا وسنة - ، وقد كان هناك قوم شاهدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسمعوا منه ورأوا من أحواله وأفعاله ما يجعلهم أكثر الناس دراية بمراد الله من خطابه ؛ فليس السامع الغائب كالسامع الشاهد ، ومات رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهو راض عنهم وزكاهم ربهم وأمرنا بإتباع سبيلهم قال الله : (فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة : 137 ) وقال الله (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً) (النساء : 115 )، فنحن نرفض تماما التعامل مع منطوق القرآن والسنة بغير السياق العام الذي نزل فيه أعني التطبيق العملي المتمثل في فعل الصحابة رضوان الله عليهم ومعهم إمامهم محمد - صلى الله عليه وسلم - .(/2)
وأضرب مثال أبين به قولي : آيات الحجاب - وهي مما يكثر حولها دندنة القوم - أعني قول الله تعالى : (... وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ... الآية ) (الأحزاب : 53) وقول الله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً) (الأحزاب : 59 ) وقول الله تعالى : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولى ...) (الأحزاب : 33 ) وقول الله تعالى : (وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ... الآية) (النور : 31 ) هذه الآيات لها سياق نزلت فيه وتفهم دلالتها من خلاله ... المنافقون على نواصي الطرقات وبالأزقة يتحرشون بالسافرات من النساء حين يخرجن ليلا لقضاء الحاجة ، وعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يطالب بضرب الستر بين الرجال والنساء كي لا يرى الرجال أبدانهن ــ وهن العفيفات الطاهرات أمهات المؤمنين ونساء الصحابة رضي الله عنهن أجمعين - ولا يرى النساء أشخاص الرجال - وهم صحابة النبي الكرام - ونزلت الآيات فشق النساء مروطهن وتخمرن بها ... وأصبحن كالغرابيب لا يُعرفن ولا يرى منهن شيء لا بوصف ولا بكشف ، ولا تطمع فيهن عين لزينة في الثياب أو زينة تسمع أو ترى من تحت الثياب وقد فارقن بهذا الثياب الكافرات ، فلم يكن الأمر اقتباس من عادات الجاهلية كما يدعي الجهلة من المثقفين اليوم ، ولا سرقة من ثقافة اليهود بل تشريع من رب العالمين للصادق الأمين وصحابته الأكرمين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أقول من المعلوم أن التشريع في الإسلام ارتبط بالحركة ؛ وأن الوحي كان يتنزل بناء على الأحداث لتوجيهها أو لتصحيحها ، ولم ينزل القرآن مرة واحدة ، ولم يكن المراد من الوحي هو مجرد التلاوة والإقرار بما يحمله من أحكام دون الامتثال العملي ، فكيف - مع هذا كله - يؤخذ منطوق القرآن والسنة النبوية بمعزل عن ملابسات أسباب النزول ، وامتثال الصحابة للأمر والنهي(/3)
رؤية شرعية في شركة التأمين التعاونية
خالد بن إبراهيم الدعيجي 3/11/1425
15/12/2004
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فهذه الورقات محاولة لبيان حقيقة الشركة التعاونية للتأمين، وهل هي تزاول التأمين التعاوني أو التجاري.
وينتظم عقد هذه المحاولة في النقاط الآتية:
أولاً: التعريف بالشركة.
ثانياً:أنواع التأمين.
ثالثاً: حكم التأمين.
رابعاً: الفرق بين التأمين التجاري والتأمين التعاوني.
خامساً: هل شركة التعاونية للتأمين تمارس التأمين التعاوني أم التجاري؟
سادساً: حكم الاكتتاب بشركة التعاونية للتأمين.
وهذه المحاولة عبارة عن مفاتيح لطلبة العلم لمعرفة حقيقة الشركة، ومن ثم الإدلاء برأيهم فيها.
وأسأل الله عز وجل أن ينفع بها، وأن تكون خير معين لمن تصدر للإفتاء.
والله أعلم وصلى وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
1. التعريف بالشركة.
تأسست الشركة الوطنية للتأمين التعاوني في عام 1986م كشركة مساهمة سعودية مغلقة ، وهي مملوكة بالكامل لمؤسسات حكومية سعودية مبينة كما يلي:
صندوق الاستثمارات العامة 50%، المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية 25%، صندوق معاشات التقاعد 25%. والغرض من إنشاء الشركة مزاولة أعمال التأمين التعاوني، ويتمثل النشاط الرئيسي للشركة في تقديم كافة خدمات التأمين من سيارات ، بحري، حريق، طاقة، طبي، هندسي، طيران، وتأمين حوادث متنوعة.
وتدير الشركة أعمال التأمين بالإنابة عن المؤمن لهم ،كما تقوم بتقديم التمويل لعمليات التأمين عند الحاجة.
وتتقاضى الشركة أتعاباً مقابل إدارة استثمارات عمليات التأمين تعادل 10% من صافي إيرادات استثمارات عمليات التأمين.
بيع 70% من أسهم الشركة للمواطنين.
وقد صدر قرار مجلس الوزراء رقم 112 وتاريخ 5/4/1425هـ، القاضي ببيع كامل الأسهم المملوكة للدولة من صندوق الاستثمارات العامة في الشركة التعاونية للتأمين ونسبته 50%، ونسبة 10% من مساهمات المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية، ونسبة 10% من مساهمات المؤسسة العامة للتقاعد. فيكون إجمالي النسبة 70% .
وحدد يوم الثلاثاء التاسع من ذي القعدة من عام 1425هـ لطرح الاكتتاب للمواطنين (1).
2. أنواع التأمين:
ينقسم التأمين من حيث شكله إلى قسمين:
القسم الأول: التأمين التعاوني، أو التبادلي.
مفهومه: "أن يجتمع عدة أشخاص معرضين لأخطار متشابهة، ويدفع كل منهم اشتراكاً معيناً، وتخصص هذه الاشتراكات لأداء التعويض المستحق لمن يصيبه الضرر، وإذا زادت الاشتراكات على ما صرف من تعويض كان للأعضاء حق استردادها، وإذا نقصت طولب الأعضاء باشتراك إضافي لتغطية العجز، أو أنقصت التعويضات المستحقة بنسبة العجز، وأعضاء شركة التأمين التعاوني لا يسعون إلى تحقيق ربح، ولكنهم يسعون إلى تخفيف الخسائر التي تلحق بعض الأعضاء، فهم يتعاقدون ليتعاونوا على تحمل مصيبة قد تحل ببعضهم"(2).
حكمه: أفتى بجوازه كل اللقاءات الفقهية التي تناولت التأمين وأهمها:
أسبوع الفقه الثاني المنعقد في دمشق سنة 1961م وهو المعروف بمهرجان ابن تيمية، وكذلك مؤتمر العلماء الثاني المنعقد بالقاهرة عام 1385هـ، والمؤتمر السابع المنعقد أيضاً في القاهرة عام 1392هـ، والمؤتمر الأول للاقتصاد الإسلامي المنعقد في مكة عام 1396هـ، والمجمع الفقهي السابع لرابطة العالم الإسلامي في عام 1398هـ ، وقرار هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية في قرارها رقم 300/2/1399، وقرار المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي سنة 1406هـ.
ولهذا نقل الإجماع على جوازه عدد من الهيئات الشرعية كهيئة الراجحي الشرعية في فتواها رقم (40)، وكذلك الشيخ الدكتور مصطفى الزرقا " رحمه الله" (3).
ولكن في هذا الإجماع نظر إذ يوجد من فقهاء العصر من يخالف في هذه المسألة ويرى التحريم، ومنهم الدكتور سليمان الثنيان في كتابه التأمين وأحكامه(4).
القسم الثاني: التأمين التجاري أو ذي القسط الثابت.
مفهومه: وفي هذا ينفصل المؤمن (وهو شركة التأمين) عن المستأمنين الذين تتعاقد مع كل واحد منهم على حدة ويقوم المؤمن بتوزيع المخاطر على المؤمن لهم في صورة أقساط دورية ثابتة يحددها طبقاً لما تقتضيه الأسس الفنية التي يعتمد عليها والمتمثلة في قواعد الإحصاء. ويلتزم المؤمن طبقاً لهذا العقد بدفع مبلغ التأمين عند تحقق حدوث الواقعة التي يتوقف عليها استحقاقه ويتعهد المؤمن (وهو شركة التأمين) بدفع هذا المبلغ بدون التضامن ولا التنسيق مع المستأمنين وما يزيد لديه من مبالغ فإنه يستأثر بها المؤمن ويتحمل الخسارة (5).
حكمه: اختلف الفقهاء المعاصرون في حكم هذا التأمين على قولين:(/1)
القول الأول: التحريم وهو قول جمهور الفقهاء المعاصرين، وبه صدر قرار هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية رقم 51 وتاريخ 4/4/1397هـ. وكذلك مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته الأولى شعبان 1398، وكذلك المجمع الفقهي الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، القرار رقم 9(9/2) سنة 1406هـ=1985م.
القول الثاني: الجواز،وبه صدر قرار الهيئة الشرعية لشركة الراجحي لمصرفية رقم 40 (6)وانتصر له من الفقهاء المعاصرين الشيخ الدكتور مصطفى الزرقا رحمه الله (7).
والذي يترجح للباحث حرمة التأمين التجاري، لقوة أدلة المحرمين وضعف أدلة المجيزين. ولا يمكن خلال هذه العجالة عرض الأدلة ومناقشتها.
3. الفرق بين التأمين التجاري والتعاوني.
لقد ذكر الفقهاء المعاصرون عدة فروق، وتكمن أبرزها فيما يلي:
الفرق الأول: أن التأمين التعاوني من عقود التبرع التي يقصد بها أصالة التعاون على تفتيت الأخطار ، فالأقساط المقدمة من حملة الوثائق في التأمين التعاوني تأخذ صفة الهبة (التبرع) (8).
أما التأمين التجاري فهو من عقود المعاوضات المالية الاحتمالية .
الفرق الثاني: أن التعويض في التأمين التعاوني يصرف من مجموع الأقساط المتاحة.فإذا لم تكن الأقساط كافية في الوفاء بالتعويضات طلب من الأعضاء زيادة اشتراكاتهم لتعويض الفرق. وإذا لم يمكن زيادة الاشتراكات للوفاء بالتعويض لم يقع التعويض ، إذ ليس هناك التزام تعاقدي بالتعويض. أما التأمين التجاري فهناك التزام بالتعويض مقابل أقساط التأمين. ويترتب على هذا الالتزام تحمل الشركة لمخاطرة الأصل المؤمن عليه دون سائر المستأمنين. ولذا كان الهدف من العقد هو المعاوضة، ولكن هذه المعاوضة لا تسمح بربح الطرفين، بل إن ربحت الشركة خسر المستأمن وإن ربح المستأمن خسرت الشركة. فهي معاوضة تتضمن ربح أحد الطرفين مقابل خسارة الآخر ولابد وهذا أكل المال بالباطل (9).
الفرق الثالث: في التأمين التجاري لا تستطيع الشركة أن تعوض المستأمنين إذا تجاوزت نسبة المصابين النسبة التي قدرتها الشركة لنفسها، أما في التأمين التعاوني، فإن مجموع المستأمنين متعاونون في الوفاء بالتعويضات التي تصرف للمصابين منهم، ويتم التعويض بحسب المتاح من اشتراكات الأعضاء.
فالمستأمن في التأمين التعاوني لا ينتظر مقداراً محدداً سلفاً إذا وقع الخطر، وإنما ينتظر تضافر قرنائه بتعويضه بحسب ملاءة صندوق التأمين وقدرة الأعضاء على تعويضه. فالطمأنينة التي يشعر بها المستأمن تعاونياً نابعة من شعوره بوقوف الآخرين معه، وليس من عوض محدد بمقتضى التزام تعاقدي غير صادق في حقيقته، كما هو الحال في التأمين التجاري (10).
الفرق الرابع: أن التأمين التعاوني لا يقصد منه الاسترباح من الفرق بين أقساط التأمين التي يدفعها المستأمنون وتعويضات الأضرار التي تقدمها الجهة المؤمِّن لديها بل إذا حصلت زيادة في الأقساط المجبية عن التعويضات المدفوعة لترميم الأضرار ترد الزيادة إلى المستأمنين (11).
بينما الفائض التأميني في التأمين التجاري يكون من نصيب الشركة.
الفرق الخامس:المؤمِّنون هم المستأمنون في التأمين التعاوني، ولا تستغل أقساطهم المدفوعة لشركة التأمين التعاوني إلا بما يعود عليهم بالخير جميعاً. أما في شركة التأمين التجاري فالمؤمِّن هو عنصر خارجي بالنسبة للشركة، كما أن شركة التأمين التجاري تقوم باستغلال أموال المستأمنين فيما يعود عليها بالنفع وحدها (12).
الفرق السادس: شركة التأمين التعاوني هدفها هو تحقيق التعاون بين أعضائها المستأمنين، وذلك بتوزيع الأخطار فيما بينهم، أي بمعنى ما يشتكي منه أحدهم يشتكون منه جميعاً. وبمعنى آخر أنها لا ترجو ربحاً وإنما الذي ترجوه تغطية التعويضات والمصاريف الإدارية. وعلى العكس من ذلك فإن شركة التأمين التجاري هدفها الأوحد هو التجارة بالتأمين والحصول على الأرباح الطائلة على حساب المستأمنين (13).
الفرق السابع: في شركة التأمين التعاوني تكون العلاقة بين حملة الوثائق وشركة التأمين على الأسس التالية:
1. يقوم المساهمون في الشركة بإدارة عمليات التأمين، من إعداد الوثائق وجمع الأقساط، ودفع التعويضات وغيرها من الأعمال الفنية، في مقابل أجرة معلومة وذلك بصفتهم القائمين بإدارة التأمين وينص على هذه الأجرة بحيث يعتبر المشترك قابلاً لها .
2. يقوم المساهمون باستثمار( رأس المال) المقدم منهم للحصول على الترخيص بإنشاء الشركة، وكذلك لها أن تستثمر أموال التأمين المقدمة من حملة الوثائق، على أن تستحق الشركة حصة من عائد استثمار أموال التأمين بصفتهم المضارب.
3. تمسك الشركة حسابين منفصلين، أحدهما لاستثمار رأس المال، والآخر لحسابات أموال التأمين ويكون الفائض التأميني حقاً خالصاً للمشتركين ( حملة الوثائق).(/2)
4. يتحمل المساهمون ما يتحمله المضارب من المصروفات المتعلقة باستثمار الأموال نظير حصته من ربح المضاربة، كما يتحملون جميع مصاريف إدارة التأمين نظير عمولة الإدارة المستحقة لهم
5. يقتطع الاحتياطي القانوني من عوائد استثمار أموال المساهمين ويكون من حقوقهم وكذلك كل ما يتوجب اقتطاعه مما يتعلق برأس المال(14).
بينما العلاقة بين حملة الوثائق وشركة التأمين، في التامين التجاري، أن ما يدفعه حملة الوثائق من أموال تكون ملكاً للشركة ويخلط مع رأس مالها مقابل التأمين. فليس هناك حسابان منفصلان كما في التأمين التعاوني.
الفرق الثامن: المستأمنون في شركات التأمين التعاوني، يعدون شركاء مما يحق لهم الحصول على الأرباح الناتجة من عمليات استثمار أموالهم.
أما شركات التأمين التجاري فالصورة مختلفة تماماً؛ لأن المستأمنين ليسوا بالشركاء، فلا يحق لهم أي ربح من استثمار أموالهم، بل تنفرد الشركة بالحصول على كل الأرباح (15).
الفرق التاسع: شركات التأمين التعاوني لا تستثمر أموالها في النواحي التي يحرمها الشرع.
وعلى النقيض من ذلك فشركة التأمين التجاري لا تأبه بالحلال والحرام (16).
الفرق العاشر: في التأمين التعاوني لابد أن ينص في العقد على أن ما يدفعه المستأمن ما هو إلا تبرع وأنه يدفع القسط للشركة لإعانة من يحتاج إليه من المشتركين (17). أما في التأمين التجاري لا ترد نية التبرع أصلاً، وبالتالي لا يذكر في العقد.
4. هل الشركة التعاونية للتأمين تمارس التأمين التجاري أم التعاوني؟.
من خلال رجوع الباحث إلى قوائم الشركة المالية، تبين له ما يلي:
(أ) أن الشركة قامت بفصل الذمة المالية لحملة الوثائق عن ذمتها المالية، فهناك حسابان مستقلان أحدهما لحملة الوثائق وآخر للشركة، ، وكذلك قامت باستثمار أموال حملة الوثائق بجزء من صافي الأرباح قدره 10%، وكذلك قامت بإدارة عمليات التأمين بمبلغ مقطوع، وهي بهذه الطريقة طبقت قرار الندوة الاقتصادية الثانية عشرة لدلة البركة.
وإليك بيان المبالغ التي حصلت عليها الشركة جراء هذا العمل:
أولاً: رواتب تشغيل وإدارة + مصاريف عمومية وإدارية أخرى:
العام ... 1998 ... 1999 ... 2000 ... 2001 ... 2002 ... 2003
المبلغ [آلاف الريالات] ... 38.383 ... 40.090 ... 50.094 ... 68.376 ... 72.366 ... 92.373
ثانياً: أتعاب إدارة .
وجاء في إيضاح هذه الأتعاب بقولهم:" تتقاضى الشركة أتعاباً مقابل إدارة استثمارات عمليات التأمين تعادل 10% من صافي إيرادات استثمارات عمليات التأمين".
وإليك بيان مبالغ هذه الأتعاب:
العام ... 1998 ... 1999 ... 2000 ... 2001 ... 2002 ... 2003
المبلغ [آلاف الريالات] ... 2.084 ... 2.204 ... 3.446 ... 2.441 ... 4.249 ... 6.763
(ب) كذلك قامت الشركة بتطبيق قرار بعض الهيئات الشرعية القاضي بأنه إذا حصلت زيادة في الأقساط المجبية عن التعويضات المدفوعة لترميم الأضرار ترد الزيادة إلى المستأمنين.
وإليك بيان بهذه المبالغ المرجعة للمستأمنين، ونسبتها لإجمالي أقساط التأمين المكتتبة،
المبالغ المرتجعة لحملة الوثائق ونسبتها لإجمالي أقساط التأمين: (المبلغ بآلاف الريالات)
العام ... 1998 ... 1999 ... 2000 ... 2001 ... 2002 ... 2003
إجمالي أقساط التأمين ... 683.765 ... 682.742 ... 716.983 ... 1.023.206 ... 1.081.173 ... 1.545.797
المبلغ المرتجع ونسبته لإجمالي أقساط التأمين ... 18.200
2.66% ... لا يوجد ... 22.000
3.06% ... 15.800
1.54% ... 10.000
0.92% ... 18.000
1.16%
هذا ما قامت به الشركة خلال الأعوام الست الماضية، وهي بذلك تطبق ما جاء في قرارات بعض الهيئات الشرعية.
ولكن سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز له فتوى محررة بعدم جواز إرجاع شيء من الأموال للمشتركين في التأمين التعاوني وقال رحمه الله : " صدر قرار من هيئة كبار العلماء بجواز التأمين التعاوني وهو الذي يتكون من تبرعات من المحسنين ويقصد به مساعدة المحتاج والمنكوب ولا يعود منه شيء للمشتركين - لا رؤوس أموال ولا أرباح ولا أي عائد استثماري - لأن قصد المشترك ثواب الله سبحانه وتعالى بمساعدة المحتاج ولم يقصد عائداً دنيوياً " (18).
(ج) إن من أهم الفروق بين التأمين التعاوني والتجاري ما قال سماحة الشيخ عبد العزيز رحمه الله وهو أن التأمين التعاوني قائم على التبرع، وهذا هو بيت القصيد، وليس في وثائق الشركة أو سياستها أو عقودها ما يفيد هذا المعنى.
(د) و من الفروق بين التأمين التعاوني والتجاري أنه في التأمين التعاوني لا تلتزم الشركة بالتعويض كما سبق بيانه. وليس في وثائق الشركة ولا سياستها ما يدل على ذلك أيضاً. بل واقع الحال أن الشركة تلتزم بالتعويض مطلقاً.
ولهذا نجد شركات التأمين التجاري تلجأ إلى إعادة التأمين مع شركات أخرى بسبب التزامها بالتعويض.(/3)
فالتعاونية للتأمين طبقت هذا المبدأ، ولهذا عقدت عدة عقود إعادة التأمين مع شركة ألمانية، وإليك قيمة هذه العقود:
قيمة عقود إعادة التأمين خلال الأعوام السابقة:
العام ... 1998 ... 1999 ... 2000 ... 2001 ... 2002 ... 2003
المبلغ [آلاف الريالات] ... 487.352 ... 424.671 ... 498.845 ... 735.523 ... 663.152 ... 716.584
فلو كان ما تمارسه الشركة تأميناً تعاونياً لما التزمت بالتعويض،لأنه لو قدر وان زادت التعويضات عن قيمة الصندوق فإن لها أن تطالب المشتركين بالتبرع، أو أنها تدفع نسبة من التعويض.
(هـ) أجمع الفقهاء المعاصرون، سواء منهم من أجاز التأمين التجاري أو منعه، على وجوب اجتناب المحرمات في معاملاتها مطلقاً .
ولكن نجد القائمين على هذه الشركة - عفا الله عنهم - قد استثمروا أموال الصندوق بالسندات المحرمة قطعاً، وإليك بيان المبالغ المقتطعة من الصندوق للاستثمار في السندات ونسبته لموجودات الصندوق.
قيمة استثمار الشركة لأموال المستأمنين بالسندات، ونسبته لموجودات الصندوق:
العام ... 1998 ... 1999 ... 2000 ... 2001 ... 2002 ... 2003
المبلغ [آلاف الريالات] ... 336.110
42.88% ... 399.550
46.23% ... 338.172
33.95% ... 343.346
29.06% ... 419.417
31.19% ... 430.525
24.34%
وهناك استثمارات أخرى بالأوراق المالية لم تفصح الشركة عن نوعيتها، فلم يتعرض الباحث لها ولم يستفصل عنها.
5. بماذا يستثمر المساهمون أموالهم؟.
ذكرنا فيما سبق أن الشركة جعلت حسابين منفصلين:
حساب لحملة الوثائق، وحساب لأموال المساهمين الذين ذكرناهم في النقطة الأولى، علماً أن الشركة عندما أسست كان المبلغ المدفوع (250.000) ألف ريال . ومن ثم استثمر هذا المال في استثمارات متنوعة، وإليك حصيلة هذه الاستثمارات وما آلت إليه:
موجودات صندوق المساهمين خلال السنوات السابقة:
العام ... 1998 ... 1999 ... 2000 ... 2001 ... 2002 ... 2003
المبلغ [آلاف الريالات] ... 406.436 ... 387.879 ... 385.711 ... 353.755 ... 354.619 ... 428.686
وقد تنوعت استثمارات المساهمين لأموالهم، ولكن سوف أذكر أهم استثمارين يؤثران في حكم الاكتتاب بهذه الشركة:
الاستثمار الأول: الاستثمار بسندات ربوية.
العام ... 1998 ... 1999 ... 2000 ... 2001 ... 2002 ... 2003
المبلغ [آلاف الريالات] ... لا يوجد ... لا يوجد ... 121.595
31.52% ... 88.161
24.92% ... 72.397
20.41% ... 34.981
8.16%
ومن المعلوم أن الفقهاء المعاصرين اتفقوا على أنه إذا نصت الشركة في نشرة الاكتتاب أنها سوف تقترض أو تقرض بالربا فلا يجوز الاكتتاب فيها ، وعليه فهذه الشركة قد أعلنت هذا صراحة لجميع الناس، ومارست هذا الفعل المحرم عملياً، فمن يقدم على الاكتتاب فقد وافقهم وأقرهم على هذا الفعل المحرم، ويعتبر شريكاً معهم على هذا الفعل المحرم.
علماً أن الشركة لها استثمارات في أوراق مالية لكنها لم تفصح عن نوعيتها وطبيعتها.
الاستثمار الثاني: الاستثمار في شركات تأمين تجارية:
وقد أعلنت الشركة في قوائمها أنها تملك ما نسبته 50% من شركة تأمين زميلة، وقد استفسر الباحث عن اسم هذه الشركة، وهي: الشركة المتحدة للتأمين، ومقرها في البحرين، وتمارس التأمين التجاري، وقيمة هذه الاستثمار (24.097) ألف ريال، ويمثل نسبة 5.86 % من موجودات الشركة.
6. حكم الاكتتاب بشركة التعاونية للتأمين.
مما سبق بيانه الذي يظهر للباحث أنه لا يجوز الاكتتاب بهذه الشركة للأسباب الآتية:
أولاً: أن التأمين الذي تمارسه الشركة لا يختلف كثيراً عن التأمين التجاري. وبالرغم من محاولة الشركة لفصل حسابات المستأمنين عن حملة الأسهم إلا أن عنصر الالتزام بالتعويض مطلقاً يناقض هذا الفصل، ويجعل الشركة تتصرف كما لو كان الحسابان حساباً واحداً.
ثانياً: أن الشركة تستثمر مبلغاً لا يستهان به في السندات الربوية، وقد أصدر مجمعان فقهيان قرارين يقضيان بتحريم هذا النوع من المساهمات، وهما المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، والمجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي.
ثالثاً: أن الشركة تستثمر جزءا من أموالها بشركات تأمين تجارية محرمة.
رابعاً: أن الشركة لا تعلن التزامها بأحكام الشريعة الإسلامية، ولا تلتزم الرقابة الشرعية على جميع نشاطاتها المالية.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
________________________________________
(1) صحيفة الاقتصادية، الاثنين 25 رمضان 142هـ، عدد 4064.
(2) الغرر وأثره في العقود ص 638، للدكتور الضرير، الطبعة الثانية. من ضمن مطبوعات مجموعة دلة البركة.
(3)فتاوى في التأمين ص 88، من مطبوعات دلة البركة.
(4) ص 282-283.
(5)دراسة شرعية لأهم العقود المالية المستحدثة، د محمد مصطفى الشنقيطي 2/475.
(6) قرارات الهيئة الشرعية لشركة الراجحي المصرفية 3/357.
(7) فتاوى التأمين ص45.(/4)
(8) قرار مجلس هيئة كبار العلماء، رقم (51)وتاريخ 4/4/1397هـ.
(9) وقفات في قضية التأمين، ص 20، للدكتور سامي السويلم.
(10) وقفات في قضية التأمين، ص 21، للدكتور سامي السويلم.
(11) الهيئة الشرعية لشركة الراجحي المصرفية، رقم الفتوى 42.
(12) فتوى الهيئة الشرعية لبنك فيصل الإسلامي ، نقلاً من فتاوي التأمين ص 99.
(13) المرجع السابق.
(14) ندوة البركة الثانية عشرة للاقتصاد الإسلامي، قرارات وتوصيات ندوات البركة للاقتصاد الإسلامي ص212.
(15) فتاوى الهيئة الشرعية لبنك فيصل الإسلامي، نقلاً من فتاوى التأمين ص 105.
(16) فتاوى الهيئة الشرعية لبنك فيصل الإسلامي، نقلاً عن فتاوى التأمين ص 105.
(17) فتاوى الهيئة الشرعية لبنك فيصل الإسلامي، نقلاً عن فتاوى التأمين ص91.
(18) بيان من الشيخ رحمه الله في تاريخ 22/2/1417هـ.(/5)
رؤية هلال رمضان أو شوال
سليمان بن إبراهيم الرشودي * 30/9/1424
24/11/2003
إذا رُئِيَ هلال رمضان في أي بلد لزم المسلمين – جميعاً- أن يصوموا، وإذا رُئِيَ هلال شوال لزمهم أن يفطروا.
مما يثير الأسى والحزن في نفس المسلم أنه في كل عام عند دخول شهر رمضان أو حلول عيد الفطر يبرز تفرق المسلمين وتشتتهم عند بداية صومهم ثم عند فطرهم، حتى وإن تقاربت بلادهم جغرافياً. والصوم عبادة وليس سياسة ولكن رغم ذلك فإن أنظمة الحكم المتمسكة باختلافها وتفرقها فيما بينها قد فرضت هذا الاختلاف والتفرق على شعوبها حتى في عباداتهم وعلماء الأمة في كل قطر لم يحركوا ساكناً، وكأن الأمر لا يعنيهم؛ بل سايروا هذا الواقع وفقاً للحدود السياسية التي حددتها ورسمتها الدول الاستعمارية تطبيقاً لاتفاقية (سايكس بيكو) المشؤومة وأخضعت الأحكام الشرعية لدخول شهر رمضان ولعيد الفطر طبقاً للحدود السياسية المرسومة حسب هذه الاتفاقية الاستعمارية.
وإليك – أخي المسلم- البيان والبرهان فيما يلي:
أولاً: أن وقت دخول شهر رمضان أو شهر شوال أو غيرهما من الشهور العربية التي بنيت عليها الأحكام الشرعية قد بينها القرآن الكريم وحددتها السنة النبوية الثابتة عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم-، والصوم والفطر والحج إنما هي عبادات لها أحكامها الشرعية التي إنما تؤخذ من النصوص الشرعية من الكتاب والسنة ونبني عليها فحسب. فقد ورد السؤال وجوابه في آية واحدة من سورة البقرة حيث يقول الله – سبحانه - : ( يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج ) آية (189).
وروى ابن كثير في تفسيره عن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "جعل الله الأهلة مواقيت للناس فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يومياً" [الحديث صحيح الإسناد] أهـ. قال شيخنا عبد العزيز بن باز – رحمه الله –: هذا الحديث دليلٌ على أن المعتبر في العبادات هو رؤية الهلال وأن الحساب لا يعول عليه في ذلك وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية إجماع العلماء على ذلك . أهـ. وفي الحديث الآخر الذي رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن عمر " لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له " وفي رواية " فأكملوا العدة ثلاثين" وقال ابن رشد – رحمه الله – في كتابه العظيم (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) : "فإن العلماء أجمعوا على أن الشهر العربي يكون تسعاً وعشرين ويكون ثلاثين وعلى أن الاعتبار في تحديد شهر رمضان إنما هو الرؤية لقوله عليه الصلاة والسلام: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته " أهـ.
ثانياً: السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل لكل بلد رؤيته فلا يصوم أهل كل بلد أو يفطرون إلا إذا رُئِيَ في بلدهم فحسب، أم أنه إذا ثبتت رؤية الهلال شرعاً في بلد ما وجب الصيام على المسلمين جميعاً في مشارق الأرض ومغاربها؟ وهل حكم الصوم والإفطار في كل بلد أو إقليم مرتبط شرعاً بالحدود السياسية لذلك البلد أو الإقليم الذي رُئِيَ فيه الهلال من حيث وجوب الصوم أو الإفطار من عدمه. أم ماذا؟
هذا سؤال مهم وهو الذي يخطئ فيه – كل سنة – كثير من الناس أفراداً وجماعات، ويبدو لي أن علماء وفقهاء المسلمين في هذا الزمان قد قصروا كثيراً في هذا المجال، إذ لم يبينوا للناس أن الحكم الشرعي للصوم والفطر لا علاقة له بالنظام السياسي في كل بلد، كما أنه لا علاقة له بالحدود السياسية حتى يجنبوا المسلمين من الوقوع في هذا الخطأ الفاحش، حيث تجد على جانبي الحدود السياسية مسلمين بعضهم صائم أول يوم من رمضان وبعضهم مفطر تبعاً لأنظمتهم السياسية التي ينتمون إليها مع أن مساكنهم بجوار بعضها أو يفصل بينها بضع مئات من الأمتار.
وهذا – كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية- ليس من الإسلام في شيء وذلك للأسباب التالية:
أن حكم الصوم والفطر متعلق بوقت دخول شهر رمضان أو خروجه، وهذا إنما يعتبر – شرعاً- برؤية الهلال من جهة الغرب في بداية كل شهر – كما تقدم-، ولا يلتفت في ذلك إلى حساب الفلكيين أو التقاويم المبنية على حسابهم؛ لأن الصيام عبادة والعبادات أحكامها توقيفية لا تتلقى إلا من المشرع، وهو رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذي قال : " لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه".
وأما حكم رؤية الهلال في بلد ما وهل يلزم المسلمين جميعاً في البلاد والأقاليم الأخرى الصوم والفطر بناءً على هذه الرؤية أم يكون خاصاً بأهل ذلك البلد؟ فالصحيح الذي لا يسع المسلمين العمل بسواه اليوم هو أنه إذا ثبتت رؤية هلال رمضان شرعاً في أي مكان من الأرض وجب على المسلمين الذين بلغهم خبر رؤية الهلال جميعاً أن يصوموا، وإذا ثبتت رؤية هلال شوال وجب عليهم جميعاً أن يفطروا وذلك لما يلي:(/1)
1. من حيث الدليل فالأمر في قول النبي – صلى الله عليه وسلم –: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته"، عام وموجه لجميع المسلمين الذين يجب عليهم الصوم في جميع البلدان وقوله: (لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين) قال الإمام الشوكاني -رحمه الله – في نيل الأوطار: "وهذا لا يختص بأهل ناحية على جهة الانفراد بل هو خطاب لكل من يصلح له من المسلمين؛ لأنه إذا رآه بلد فقد رآه المسلمون، فيلزم غيرهم ما لزمهم... إلى أن قال: "فلا يشك عالم أن الأدلة قاضية بأن أهل الأقطار يعلم بعضهم بخبر بعض وشهادته في جميع الأحكام الشرعية والرؤية من جملتها وسواء كان بين القطرين من البعد ما يجوز معه اختلاف المطالع أم لا فلا يقبل التخصيص إلا بدليل" أهـ.
2. الحديث الذي رواه أصحاب السنن عن ابن عباس "أن أعرابياً جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم – وشهد أنه رأى هلال رمضان قال له: أتشهد أن لا إله إلا الله. قال نعم، قال: أتشهد أن محمداً رسول الله. قال نعم، قال: يا بلال أذِّنْ في الناس فليصوموا غداً".
فأمر النبي – صلى الله عليه وسلم – الناس بالصيام برؤية ذلك الأعرابي ولم يسأله أين رأى الهلال ولا عن المكان الذي رآه فيه هل هو بعيد أم قريب مع أن الأعرابي قد جاء من البادية وليس من المدينة.
وأما الأثر الذي رواه مسلم عن كريب أنه قال: قدمت الشام واستهل عليّ رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني عبد الله بن عباس، ثم ذكر الهلال فقال متى رأيتم الهلال – يعني في الشام – فقلت رأيته ليلة الجمعة، فقال أنت رأيته فقلت نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية أمير الشام قال لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل الثلاثين يوماً أو نراه فقلت ألا تكتفي برؤية معاوية فقال لا هكذا أمرنا النبي – صلى الله عليه وسلم – فقد استدل بهذا الأثر من قال بأن لكل بلد رؤيته، وهذا الاستدلال إنما يصلح لمن لم يبلغهم خبر رؤية الهلال في البلد الآخر إلا بعد أيام فهنا يستدل بهذا الأثر بأنه لا يلزمهم قضاء ذلك اليوم الذي رُئِيَ في ليلته الهلال في بلد بعيد عنهم كالشام بالنسبة للحجاز، لأن ابن عباس قال: " لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين يومًا أو ما نراه" وذلك لأنه لم يبلغهم خبر رؤية الهلال في وقته، أي في اليوم الأول الذي رُئِيَ فيه الهلال بالشام، وإنما بلغهم بعد عدة أيام. أما في وقتنا هذا الذي توفرت فيه وسائل الاتصال والمواصلات وأصبح الخبر يبلغ القاصي والداني خلال دقائق من نشره وبطرق متواترة؛ فإن الحكم هنا يختلف بحيث أصبحت رؤية الهلال في أي بلد رؤية لجميع المسلمين، وحكمها يلزم جميع المسلمين متى بلغهم خبرها بأنها رؤية ثابتة شرعاً لأن المسلمين أمة واحدة، وقد شبهها النبي –صلى الله عليه وسلم- بالجسد الواحد، والقرآن الكريم نص على أن الأهلة (مواقيت للناس والحج) أي لجميع الناس على جهة العموم وللمسلمين على جهة الخصوص، حيث تتعلق بها أحكام عبادات لهم كالصوم والحج والعدد ونحوها، وخطاب الأمر بالصوم والفطر إذا رُئِيَ الهلال "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" خطاب عام موجه لجميع المسلمين متى بلغهم خبر رؤيته لزمهم حكم هذه الرؤية من صوم وفطر وحج أينما كانوا، أما الحدود السياسية القائمة اليوم بين البلاد الإسلامية؛ فإنما هي حدود وضعتها الدول الاستعمارية الأوربية كبريطانيا وفرنسا وإيطاليا، رسمتها على الخرائط عند نهاية الحرب العالمية الأولى في أوائل القرن الماضي –كما هو معروف- بموجب اتفاقية (سايكس بيكو) حيث قامت الدول المذكورة باقتسام البلاد الإسلامية فيما بينها كما تقسم الغنيمة!؛ فقسمت البلاد الإسلامية إلى قطع وأوصال، ومزقتها إلى كيانات صغيرة ضعيفة وجعلت من كل وصلة دويلة مبتورة ومفصولة عن بقية العالم الإسلامي والعربي بالذات، وبذلك قصمت ظهر ذلك المارد النائم، وقطعت أوصال الجسد الإسلامي الكبير بعد ما قضت على آخر خلافة إسلامية وهي الخلافة العثمانية!، حيث نخرت في تلك الخلافة من الداخل وتكالبت عليها من الخارج حتى قضت عليها، ونفذت تلك الدول الاستعمارية الصليبية الحاقدة مخططاتها في الضحية وهو الوطن الإسلامي الكبير وشعوبه المستضعفة، وما زال المسلمون يعيشون مآسي وآثار تلك المخططات الآثمة إلى اليوم من تقسيم وهيمنة واحتلال عسكري وسياسي وثقافي وتخلف على جميع المستويات.(/2)
والذي يهمنا في هذا البحث هو أن هذه الحدود السياسية القائمة اليوم بين تلك الكيانات إنما هي أثر من آثار اتفاقية (سايكس بيكو)، فلا اعتبار لها من حيث الأحكام الشرعية للعبادات كالصوم والفطر ونحوهما كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إنه إذا اعتبرنا حداً –أي للبلد- كمسافة القصر أو الأقاليم فكان رجل في آخر المسافة والإقليم فعليه أن يصوم ويفطر وينسك وشخص آخر بينه وبين غلوة سهم لا يفعل شيئاً من ذلك، وهذا ليس من دين المسلمين" أ.هـ. وقول شيخ الإسلام هذا يكشف مدى المهزلة التي تترتب على قول من قال باختلاف حكم صوم والفطر تبعاً لاختلاف البلاد والأقاليم حتى ولو بلغهم خبر رؤية الهلال في وقته كما هو جارٍ اليوم، وقوله هذا قبل سبعة قرون يوم أن كانت وسيلة المواصلات الجمل والحصان، فكيف لو عاش معنا اليوم في عصر الطائرة والتلفاز والإنترنت والقنوات الفضائية؟! وماذا عساه أن يقول في حكم حدود اتفاقية (سايكس بيكو) وما يبنى عليها من أحكام رغم توفر وسائل الاتصال المذكورة؟!.
ولعل من المناسب اليوم في سبيل توحيد كلمة المسلمين في صومهم وفطرهم وعيدهم والقضاء على تلك البلبلة والفوضى التي تحصل كل سنة عند دخول شهر رمضان وعند خروجه وليست من الإسلام في شيء، طرح حل لهذه المشكلة وذلك بتشكيل هيئة شرعية من علماء المسلمين في البلدان الإسلامية يكون مقرها في إحدى البلاد الإسلامية، ولتكن مكة المكرمة لمكانتها في قلوب المسلمين، وتقوم هذه الهيئة الشرعية بتلقي ما يثبت رؤية هلال رمضان أو رؤية هلال شوال أو رؤية هلال ذي الحجة من شهادات شهود الرؤية من شتى البلاد الإسلامية، ويقوم بتولي سماع تلك الشهادات –من الشهود مباشرة في بلدانهم- قضاة أو علماء شريعة يقومون بسماعها واتخاذ الإجراءات الشرعية اللازمة لثبوتها وقبولها، ثم يقومون بتدوينها وبعثها للهيئة الشرعية المركزية المختصة لتتولى جمعها وتمحيصها، ثم إثبات الحكم الشرعي المبني عليها من دخول شهر رمضان أو خروجه أو دخول شهر ذي الحجة ثم إعلانه لعموم المسلمين للعمل بموجبه في جميع البلاد الإسلامية.
وفق الله الجميع لما فيه خير الإسلام والمسلمين من وحدة وقوة وعزة وكرامة "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله".* كاتب ومحامي سعودي(/3)
رؤيةٌ شرعيةٌ في الجدال والحوار مع أهل الكتاب
تأليف:الشريف محمد بن حسين الصمداني 14/6/1424
12/08/2003
تقديم:*
الحمد لله الذي أمر وأوجب جدال الكفار ومحاورتهم بقوله:( وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [سورة النحل 16/125] والقائل: (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) [سورة العنكبوت 29/46] والصلاة والسلام على نبي الهدى والرحمة الذي امتثل لأمر الله وجادلهم في مكة والمدينة وفي حال القوة والضعف وفي السلم والحرب وأمر بذلك وسماه جهاداً فقال عليه الصلاة والسلام: ((جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم)) رواه أحمد وغيره. قال ابن حزم -رحمه الله- ((وهذا حديث غاية في الصحة وفيه الأمر بالمناظرة وإيجابها كإيجاب الجهاد والنفقة في سبيل الله))، وهذا الواجب قد فرَّط فيه كثيرٌ من الدعاة والمصلحين، ففي الوقت الذي نجد فيه دعاة التقريب بين الأديان ودعاة العصرانية ينشطون لذلك ويعقدون الندوات والمؤتمرات تارة باسم التعاون وأخرى باسم التسامح والتعايش وثالثة لتحاشي النزاعات وصدام الحضارات -زعموا- وغير ذلك من التُرَّهات؛ في الوقت نفسه نجد تقاعساً كبيراً وعزوفاً من دعاة الحق عن هذا النوع من الجهاد وأحسنهم حالاً من اهتم بدعوة أهل الكتاب -وفي هذا خيرٌ كبير- مع أن دعوة أهل الكتاب والمشركين ليست هي جدالهم ومحاورتهم وما يُدرأ من المفاسد والشرور بالجدال لا يمكن درؤه بمجرد الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة التي أُمرنا بها، قال شيخ الإسلام -رحمه الله- ((أما الجدلُ فلا يدعى به، بل هو من باب دفع الصائل؛ فإذا عارض الحق معارض جودل بالتي هي أحسن)) والله عز وجل قد يدفع بالحجة واللسان ما لا يدفعه بالسنان قال العلامة ابن حزم -رحمه الله-: ((ولا غيظ أغيظ على الكفار والمبطلين من هتك أقوالهم بالحجة الصادعة وقد تهزم العساكر الكبار والحجة الصحيحة لا تغلب أبداً فهي أدعى إلى الحق وأنصر للدين من السلاح الشاكي والأعداد الجمة)).
وما أحوج من أراد أن يتصدى لهذا النوع من الجهاد أن تكون له رؤية شرعية يتسلح بها في جهاده لأعداء الله، هذا وقد تكفل أخونا الفاضل الشريف محمد بن حسين الصمداني بإيضاح هذه الرؤية من خلال كتابة هذا البحث الموسوم بـ ((رؤية شرعية في الجدال والحوار مع أهل الكتاب)) وقد قرأته و وجدته بحثاً قيماً يجدر بمن تصدى للحوار مع أهل الكتاب أن يستفيد منه وقد ذكر فيه مؤلفه -جزاه الله خيراً- مباحث مهمة استوقفني منها الشرط الأول من شروط المحاور المسلم ولوازمه وهو الأهلية وإعطاء الإسلام حقه من النصرة والبيان ومن لوازم هذا الشرط -كما ذكر-:
1- العلم والعدل.
2- معرفة ما ينكي وينجع في رد صيال الخصم وجداله.
3- الصدع بالحق والجهر به.
وقد علمت أنه أطلعه على عددٍ من المشايخ الفضلاء وطلاب العلم فاستحسنوه.
أسأل الله عز وجل أن يجزي الباحث خير الجزاء، وأن يرزقنا وإياه الإخلاص في أقوالنا وأعمالنا وأن ينصر جنده ويعلي كلمته إنه ولي ذلك والقادر عليه.**
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين أمَّا بعد:
فإنَّ المواجهة مع أهل الكتاب قديمةٌ قِدمَ الإسلام بدءاً بمظاهرة أهل الكتاب للمشركين بمكة على المؤمنين وقولهم:(هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) [سورة النساء 4/51] ومروراً بالمعاهدات والمواثيق بعد الهجرة الشريفة وجدالهم بالمدينة النبوية وإقامة الحجة عليهم ودعوتهم للإسلام والتحاكم إلى القرآن ثم إجلاء بني النضير، ثم قتل أهل الغدر منهم كما في قصة بني قريظة بعد الأحزاب، ثم كانت خيبر، ثم إرسال الرسل وكتابة الكتب لملوكهم ودعوتهم للإسلام ثم كانت مؤتة ثم النفير لبني الأصفر في الشام فكانت تبوك حتى ((أنزل الله تعالى في ذلك أكثر سورة براءة وذمَّ الذين تخلفوا عن جهاد النصارى ذماً عظيماً. والذين لم يروا جهادهم طاعة جعلهم منافقين كافرين وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) [سورة المنافقون 63/6] وقال تعالى: (وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ) [سورة التوبة 9/84] الآية. فإذا كان هذا حكم الله ورسوله فيمن تخلف عن جهادهم إذْ لم يره طاعة ولا رآه واجباً فكيف حكمه فيهم أنفسهم...))(1)واستقبل بعد ذلك وفد نجران وطلب مباهلتهم فنكلوا ثم ختم جهاده صلى الله عليه وسلم مع أهل الكتاب قبل موته بعملين جليلين هما:
1- الأمر بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب.
2- إعداد العدة لجهاد النصارى.(/1)
وبعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم استخلف أبو بكر الصديق رضي الله عنه فكان أول عمل يعمله إمضاء غزو الروم وجهاد أهل الكتاب وتابعته الأمة على هذا العمل الجليل فكان الفاروق عمر وعثمان رضي الله عنهما فقامت سوق الإسلام ودخل الناس في دين الله أفواجاً واستمر الأمر على ذلك مدة خلافة بني أمية وصدراً من خلافة بني العباس ثم خلفت خلوف تسلطت في زمنهم البدع على الرقاب وقامت سوق دولها.
بنوبويه بدار الخلافة ببغداد والعبيدية القداحية اليهود ببلاد مصر وما حولها فتراجع حال أمة الإسلام في مواجهة أهل الكتاب واستمر الأمر في تراخٍ وإدبار حاشا ما كان من الطائفة المنصورة القائمة بحجة الله في أرضه. وقد صوَّرَ ابن السبكي حال العلماء في عصره - القرن الثامن - بقوله: ((... فقل لهؤلاء المتعصبين في الفروع: ويحكم ذروا التعصب ودعوا عنكم هذه الأهوية ودافعوا عن دين الإسلام وشمروا عن ساق الاجتهاد في حسم مادة من يسب الشيخين أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ويقذف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها التي نزل القرآن ببراءتها وغضب الرب تعالى لها حتى كادت السماء تقع على الأرض ومن يطعن في القرآن وصفات الرحمن فالجهاد في هؤلاء واجب فهلا شغلتم أنفسكم به!)).
ثم قال: ((… ويا أيها الناس بينكم اليهود والنصارى قد ملأوا بقاع البلاد فمن الذي انتصب منكم للبحث معهم والاعتناء بإرشادهم بل هؤلاء أهل الذمة في البلاد الإسلامية تتركونهم هملاً تستخدمونهم وتستطبونهم ولا نرى منكم فقيهاً يجلس مع ذمي ساعة واحدة يبحث معه في أصول الدين لعل الله تعالى يهديه على يديه.
وكان من فروض الكفايات ومهمات الدين أن تصرفوا بعض هممكم إلى هذا النوع فمن القبائح أن بلادنا ملأى من علماء الإسلام ولا نرى فيها ذمياً دعاه إلى الإسلام مناظرة عالم من علمائنا بل إنما يسلم من يسلم إما لأمر من الله تعالى لا مدخل لأحد فيه أولغرض دنيوي … ثم ليت من يسلم من هؤلاء يرى فقيهاً يمسكه ويحدثه ويعرفه دين الإسلام لينشرح صدره لما دخل فيه بل والله يتركونه هملاً لا يدرى ما باطنه: هل هو كما يظهر من الإسلام أو كما كان عليه من الكفر لأنهم لم يُرووه من الآيات والبراهين ما يشرح صدره فيا أيها العلماء في مثل هذا فاجتهدوا وتعصبوا …))(2).
وبهذا ومثله تكالب الأعداء وتسلط أهل الكتاب على رقاب المسلمين في ديارهم فكانوا هم الجباة والصيارفة وهم الوزراء والصيادلة وهم المتصرفون في الأموال والأبدان بالحساب والطب وهذا كثير في كتب التاريخ والسير(3).
وازداد المرض في أمة الإسلام واتسع الخرق على الراقع إلا بقايا من أهل العلم والذكر سجل التاريخ لنا ردودهم على أهل الكتاب. ولما كان المرض موجوداً في بعض طبقات العلماء فإنَّ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى لم يعدم أن يقال في ردوده على الرافضة في "منهاج السنة النبوية" وعلى النصارى في "الجواب الصحيح" أنها من قبيل تضييع الزمان!! … هذا خليل بن أيبك الصفدي يقول في شيخ الإسلام ابن تيمية: ((… وضيع الزمان في رده على النصارى والرافضة ومن عاند الدين وناقضه ولو تصدى لشرح البخاري أو لتفسير القرآن العظيم لقلد أعناق أهل العلوم بدر كلامه النظيم))(4).
ولما كان الحال كذلك منذ مدد متطاولة واستيقظ الناس على انحلال أمر الخلافة بسقوط دولة بني عثمان وتفرق الأمة وتنازعها ورأوا استيلاء النصارى على الديار والعباد تباين الناس في كيفية التعامل مع هذا الواقع المؤلم فمنهم من ساير خطاب ما يسمى بتيار الإصلاح الذي ظهر في أواخر عهد الدولة العثمانية كجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومدرستهما ومنهم من اجتر الطريقة المغروسة في جسد الأمة والتي لا تحتاج إلى مزيد تعريف ولا كثير بيان وهي مواصلة الانغلاق على النفس وترك العدو والاشتغال به لا دعوة وإرشادا ولا رداً على شبهاته وجهادا (5)… ولهذا صحَّ أن يقال (… كثير من علماء أهل السنة وطلبة العلم من محبي شيخ الإسلام لا يكادون يتجاوزون كلامه في الفقه والتفسير والحديث إلى ما كتبه في الرد على الفلاسفة والمناطقة وأهل الكتاب والمتكلمين وإنما ظهر الاهتمام بهذه المخالفات منذ زمن قريب على يد طلاب الدراسات العليا في الجامعات …))(6).وقال الشيخ العلامة محمد بن عثيمين رحمه الله تعالى مصوراً لشيء من ذلك الحال:(… وكنا قبل هذا الوقت نقول: لا حاجة لقراءة ((الجهاد))؛ لأنه لا يوجد جهاد ولا لقراءة أحكام أهل الذمة؛ لأنهم غير موجودين عندنا. أما الآن فلابد لطلبة العلم من أن يقرؤوا ويحققوا أحكام الجهاد وأحكام أهل الذمة وسائر الكفار لأنه في هذا الوقت انفتحت جبهات للجهاد - ولله الحمد - في سبيل الله وأما الكفار فقد ابتلينا بهم وكثروا بيننا لا كثَّرهم الله فالواجب أن نعرف كيف نعامل هؤلاء الكفار …)(7). أهـ.(/2)
وبقيت أمة من الناس تهدي بالحق وبه تعدل لا يضرها من خالفها ولا من خذلها وهم الذين سكبوا في أقلامهم مداد الوحي فنشروا حجج الله وبيناته في الخلق. وقد أثنى ابن القيم رحمه الله تعالى على ((قلمهم)) وسماه بـ((القلم الجامع)) وقال فيه: ((القلم الثاني عشر: القلم الجامع وهو قلم الرد على المبطلين ورفع سنة المحقين وكشف أباطيل المبطلين على اختلاف أنواعها وأجناسها وبيان تناقضهم وتهافتهم وخروجهم عن الحق ودخولهم في الباطل. وهذا القلم في الأقلام نظير الملوك في الأنام وأصحابه أهل الحجة الناصرون لما جاءت به الرسل المحاربون لأعدائهم وهم الداعون إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة المجادلون لمن خرج عن سبيله بأنواع الجدال. وأصحاب هذا القلم حربٌ لكل مبطلٍ وعدو مخالف للرسل فهم في شأن وغيرهم من أصحاب الأقلام في شأن))أهـ(8).
ولما كانت الحاجة ماسة لبحث هذا الموضوع خاصة في مثل هذه الأزمان التي للكفر فيها جولة بالسنان وصولة بالحجج الباطلة والأدلة الفاسدة كان من المتعين التنبيه على ما يتعلق بأحكام ((الجدال والحوار مع أهل الكتاب)) وما يتعلق به من ألفاظ ومصطلحات حادثة وذلك بتقرير حكم الجدال مع أهل الكتاب في الشرع وما يتعلق به على وجه الاختصار.
وهو أمر سهل التحرير لوضوحه في الكتاب والسنة ومنهج الأئمة الأعلام لكنَّ البيئة التي ينشأ فيها المرء ربما جعلته يظن أن هذا ليس من دين الإسلام خاصة إذا غُذيَ ذلك بما يرى ويرى عن الدعوات المشبوهة لإقامة الحوارات الحضارية ودعوات التعايش والسلم المدني ونحو ذلك.
وقد اشتمل البحث - في اختصار - على: مقدمة وتمهيد وفصلين ثم خاتمة. وذلك على النحو الآتي:
المقدمة: اشتملت على عرض مختصر للموضوع والسبب الداعي للكتابة فيه.
أما التمهيد فتضمن أربعة مباحث:
المبحث الأول: تعريف الحوار والجدل في اللغة والاصطلاح.
المبحث الثاني: أنواع المنكرين لمجادلة أهل الكتاب.
المبحث الثالث: أنواع المجادِلين لأهل الكتاب.
المبحث الرابع: أنواع المجادَلين من أهل الكتاب.
وأما الفصل الأول فكان في: مشروعية مجادلة أهل الكتاب من القرآن والسنة وفيه:
المبحث الأول: الأدلة من القرآن.
المبحث الثاني: الأدلة من السنة.
المبحث الثالث: حكم جدال وحوار أهل الكتاب.
ثم يأتي الفصل الثاني وجعلته في: شروط الحوار والجدال مع أهل الكتاب وتضمن ثلاثة مباحث هي: المبحث الأول: الشروط الواجب توفرها في المحاور المسلم.
المبحث الثاني: شروط المحاور الكتابي.
المبحث الثالث:موضوعات الحوار والجدال مع أهل الكتاب.
ثم كانت الخاتمة.
ونسأل الله أن يلهمنا الرشد ويرزقنا حسن القصد وأن يجعلنا من القائلين بعلم وعدل وأن يعصمنا بالورع وهو حسبنا ونعم الوكيل.
التمهيد
المبحث الأول: الحوار والجدل في اللغة والاصطلاح:
أولاً: الحوار والجدل في اللغة:
الحوار في اللغة ((تراجع الكلام))(9).وفي ((لسان العرب)): ((وهم يتحاورون أي: يتراجعون الكلام. والمحاورة: مراجعة المنطق والكلام في المخاطبة))(10).
أما الجدل: فقال ابن فارس: ((الجيم والدال واللام أصل واحد وهو من باب استحكام الشيء في استرسال يكون فيه وامتداد الخصومة ومراجعة الكلام))(11).
ثانياً: الحوار والجدل في الاصطلاح:
الحوار في الاصطلاح: هو بنفس المعنى اللغوي السابق فهو إذاً: مراجعة للكلام بين طرفين أو أكثر دون وجود خصومة بينهم بالضرورة(12).
أما الجدل: فكما يعرفه الجويني هو: ((إظهار المتنازعين مقتضى نظرتهما على التدافع والتنافي بالعبارة أو ما يقوم مقامهما من الإشارة والدلالة))أهـ(13).
وتوجد ألفاظ قريبة من الحوار والجدال منها: المحاجة والمناظرة والمناقشة والمباحثة.
وبحثنا سيدور حول الجدال مع أهل الكتاب لا مع عموم الكفار والمشركين.
المبحث الثاني: أنواع المنكرين للجدال مع أهل الكتاب:
رأينا في المقدمة أن هناك إعراضاً من بعض المنتسبين للعلم عن دعوة ومواجهة أهل الكتاب. ودعا إلى ذلك جملة أسباب منها:
1-الركون إلى انتشار الإسلام.
2-أن الأصل في ذلك أنه من باب فروض الكفاية.
3-الاشتغال بالفروع الفقهية والتعصبات المذهبية وحصر جانب الجدال في باب المذاهب الفقهية الأربعة أوبين المعتزلة والأشاعرة أوأهل الكلام والفلاسفة.
وقد مرت فترات بالأمة ظهر فيها اشتغال مجرد بالعلم من قبل الطلبة وأهل العلم وهو اشتغال على مستوى الكتب والدراسة دون معرفة الواقع الذي يحتاج في كثير من مسائله إلى تفصيل وقول بعلم وعدل.
ولئن كانت تلك جملة من الأسباب التي منعت طوائف من أمة الإسلام عن الاشتغال بالرد على أهل الكتاب أوالحوار معهم فإنَّ هناك طوائف رأتْ أنَّ الباب يجب أنْ يغلق والنافذة يجب أن تسد فأنكرت الاشتغال بالرد عليهم من باب الشرع الذي دعاهم للقيام بالجدال والدعوة للإسلام!
فما هي أهم شبه هؤلاء وما هي أهم مرتكزاتهم؟
الشبهة الأولى: منع الجدال مع أهل الكتاب بناءً على ظهور دلائل النبوة.(/3)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((… ومما يعجب منه أن بعض المنكرين لمجادلة الكفار بناءً على ظهور دلائل النبوة نجده هو ومن يعظمه من شيوخه الذين يعتمد في أصول النظر على نظرهم ومناظرتهم ويزعمون أنهم قرروا دلائل النبوة قد أوردوا من الشبهات والشكوك والمطاعن على دلائل النبوة ما يبلغ نحو ثمانين سؤالاً وأجابوا عنه بأجوبة لا تصلح أن تكون جواباً في المسائل الظنية بل هي إلى تقرير شبه الطاعنين أقرب منها إلى تقرير أصول الدين …))(14).
الشبهة الثانية:منع الجدال مع أهل الكتاب بناءً على نسخ آيات الجدال معهم بآيات السيف وفرضية الجهاد.
ردَّ شيخ الإسلام على أصحاب هذا الاتجاه من تسعة أوجه حررها في كتابه العظيم ((الجواب الصحيح)). يقول رحمه الله تعالى: ((فإنَّ من الناس من يقول: آيات المجادلة والمحاجة للكفار منسوخات بآية السيف لاعتقاده أن الأمر بالقتال المشروع ينافي المجادلة المشروعة وهذا غلط فإنَّ النسخ إنما يكون إذا كان الحكم الناسخ مناقضاً للحكم المنسوخ كمناقضة الأمر باستقبال المسجد الحرام في الصلاة للأمر باستقبال بيت المقدس بالشام …))
ثم قال رحمه الله تعالى: ((… وقوله: (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) [سورة العنكبوت 29/46] فهذا لا يناقض الأمر بجهاد من أمر بجهاده منهم ولكن الأمر بالقتال يناقض النهي عنه والاقتصار على المجادلة. فأما مع إمكان الجمع بين الجدال المأمور به والقتال المأمور به فلا منافاة بينهما وإذا لم يتنافيا بل أمكن الجمع لم يجز الحكم بالنسخ ومعلومٌ أن كلاً منهما ينفع حيث لا ينفع الآخر وأن استعمالهما جميعاً أبلغ في إظهار الهدى ودين الحق ومما يبين ذلك وجوه: …))(15).
ثم عدَّدَ رحمه الله تعالى تسعة أوجه للقول بذلك وكلامه نفيس للغاية (16).
المبحث الثالث: أنواع الداعين للحوار والجدال مع أهل الكتاب:
هناك عدة اتجاهات وتيارات تدعو للحوار والجدال مع أهل الكتاب. وكل اتجاه يحمل في طياته أفكاراً واجتهادات متنوعة تتنوع وتختلف بحسب اختلاف أفراده وبحسب ما يغلب عليهم من مواد(17).ومن هذه التيارات:
التيار الأول: دعاة التقريب بين الأديان: كروجيه جارودي(18) وأحمد كفتارو(19) وغيرهما. ويستند هؤلاء في الغالب على عقائد الباطنية وكلام ابن عربي وغيره من ملاحدة الصوفية الذين ينادون بصحة كل الأديان. يقول جارودي:((إنني عندما أعلنت إسلامي لم أكن أعتقد بأني أتخلى عن مسيحيتي ولا عن ماركسيتي ولا أهتم بأن يبدو هذا متناقضاً أو مبتدعاً)). ويقول: ((هذا النضال هو نضال كل أصحاب العقيدة أو المؤمنين بعقيدة مهما يكن نوع إيمانهم ولا يهمني ما يقوله الإنسان عن عقيدته: أنا مسلم أو: أنا مسيحي أو: أنا يهودي أو: أنا هندوسي))(20).
ولما انتشرت بعض آراءه الكفرية الإلحادية قيل: ((إنه ارتد عن الإسلام))! قال الشيخ عبد العزيز ابن باز رحمه الله تعالى: ((لا يحكم عليه بأنه مرتد عن دين الإسلام كما توهمه بعضهم وإنما هو كافر أصلي لم يدخل في الإسلام))(21). ولهذا قال العلاَّمة بكر أبو زيد فيه: (النصراني المتلصص إلى الإسلام)(22).
التيار الثاني: دعاة العصرانية: يجمع هذا التيار في طياته: ((الفقيه الذي أثقلت كاهله المتغيرات الحديثة..والصحفي الذي يفتقر إلى علوم الشريعة.. والعقلاني المغرق في عقلانيته))(23)..والمثقف الباحث عن موقع ثقافته الحضارية.. والقومي الذي يتخبط في خبال الجاهلية… وهم درجات بحسب ما يغلب عليهم من مواد. ومن أبرزهم: الدكتور حسن الترابي والدكتور يوسف الحسن والدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري والدكتور محمد عمارة وعبده سلاَّم وغيرهم.
ومن أهم الصيغ التي تحدد مباديء ((التعايش)) و ((الحوار)) بين ((المسلم)) و ((غير المسلم)) عند هؤلاء ما يلي:
أولاً: الاتفاق على استبعاد كل كلمة تخدش عظمة الله.
ثانياً: الاتفاق على أن الله يختار رسله من أهل الصدق والأمانة.
ثالثاً: ما وجدناه متوافقاً في تراثنا نرد إليه ما اختلف فيه وبذلك يمكن وضع قاعدة مشتركة بين الأديان (24).
ويقرر بعض هؤلاء أنهم لا يستطيعون التقريب بين الأديان أوتذويب أحدها في الآخر وأنَّ أيَّ محاولة لذلك إنما هي من قبيل الغش الثقافي والخداع الفكري وهي أشد خطراً من الغش الاقتصادي والتجاري.
كما يدرك بعضهم أن النصارى لا يؤمنون بالتعايش ولا بالحوار ولا بالتعاون؛ وهم - أي النصارى - إذا نادوا بالتعايش أودعوا إلى الحوار قصدوا بذلك استغلالهما لفرض الهيمنة الدينية التي لا تكاد تختلف في شيء عن الهيمنة السياسية والاقتصادية(25).
ويرون أن المسلمين لا يمنعهم مانع من أن يستجيبوا لدعوة ((التعايش)) مع غيرهم حتى وإنْ كان مفهوم ((التعايش)) عند غير المسلمين منافياً - جزئياً أوكلياً - للمفهوم الإنساني المتحضر الذي يؤمن به المسلمون(26).(/4)
ويتذرع هذا التيار في دعوته لإقامة الحوار مع أهل الكتاب بشبهات شتى منها: ((مواجهة الإلحاد المادي)) و((التعاون والتسامح)) و((التعارف)) و((الدعوة إلى الله وإفهام الغرب تعاليم الإسلام)) و((أنه ضرورة يفرضها النظام العالمي الجديد)) و((أنَّ الحوار وسيلة لتحاشي النزاعات والحروب وصدام الحضارات)) وأن ((الإسلام يدعو العالم لأن يكون منتدى حضارات))(27) و((هو وسيلة لتحقيق الوحدة الوطنية بين مختلف طوائف الأمة)) و((أنه وسيلة للمحافظة على الأقليات المسلمة في الغرب)).
ولا ريب أنَّ هذه قضايا متفاوتة في نفسها ومتباينة في قائليها ولا يمكنُ رؤيتها من منظار واحد بل إن بعضها ربما دعا إليها تيار آخر كتيار دعاة التقريب بين الأديان وربما شاركهم فيها بعض الدعاة والمفكرين والقول في جميع تلك القضايا يحتاج إلى تفصيل في كل مسألة منها وليس هذا محل بسطها أونقدها(28).
التيار الثالث: بعض المتصدين للواقع من الدعاة والمفكرين.
ويمكن تصنيف هؤلاء على وجه الإجمال إلى فريقين:
الفريق الأول: من يلمس منه ضعف في التأصيل أوتذبذب في الموقف الشرعي. وربما اقترب هؤلاء من دعاة العصرانية في بعض المسائل والقضايا حتى لا يمكن التفريق بين أقوالهم.
والفريق الثاني: من يلمس منه وضوح في التأصيل الشرعي.
و من أبرز من تصدى لبيان بطلان أديان النصارى والرد عليهم في العصور المتأخرة: الشيخ رحمة الله الدهلوي الهندي والداعية أحمد ديدات(29).
المبحث الرابع: أنواع المجادَلين والمحاوَرين من أهل الكتاب:
من استقرأ القرآن والسنة وكلام الأئمة يجد أنه لا يُستثنى أحد من أهل الكتاب من أصل الجدال فهناك الجدال مع كل من: أهل الذمة وأهل الهدنة والأمان وأهل الحرب لرد صيالهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((والمجادلة قد تكون مع أهل الذمة؛ والهدنة؛ والأمان؛ ومن لا يجوز قتاله بالسيف؛ وقد تكون في ابتداء الدعوة؛ كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يجاهد الكفار بالقرآن؛ وقد تكون لبيان الحق وشفاء القلوب من الشبه مع من يطلب الاستهداء والبيان...))(30).
الفصل الأول: مشروعية مجادلة أهل الكتاب من القرآن والسنة:
أنزل الله القرآن لهداية الناس أجمعين فخاطب فيه عقول الناس حين تستبد بها الأهواء وحين تكتنفها الشبهات وحين تتنازعها الشهوات وما ترك حالة من حالات النفس العارضة إلا و وقف معها يجادلها ويعظها ويذكرها وهو في كل ذلك يرشدها إلى الهداية لعبادته وحده لا شريك له والى الاستقامة على أمره. ولأهل الكتاب من هذا الخطاب والجدال حظ كبير في القرآن والسنة ذلك أنَّ المسافة الفاصلة بينهم وبين الهدى:تركُ الهوى. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((ولهذا تجد اليهود يصممون ويصرون على باطلهم لما في نفوسهم من الكبر والحسد والقسوة وغير ذلك من الأهواء. وأما النَّصارى فأعظم ضلالاً منهم وإنْ كانوا في العادة والأخلاق أقل منهم شراً فليسوا جازمين بغالب ضلالهم بل عند الاعتبار تجد من ترك الهوى من الطائفتين ونَظَرَ نوعَ نظرٍ تَبيَّنَ له الإسلام حقاً...))(31).
المبحث الأول: أدلة مشروعية مجادلة أهل الكتاب من القرآن:
1-قال تعالى:(ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن). قال ابن كثير في تفسيرها:((وقوله: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن ُ) [سورة النحل 16/125] أي: من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب..))(32) اهـ. وقال الشيخ ابن سعدي رحمه الله: ((... فإنْ كان المدعويرى أنَّ ما هو عليه الحق أوكان داعية إلى الباطل فيجادل بالتي هي أحسن وهي الطرق التي تكون أدعى لاستجابته عقلاً ونقلاً. ومن ذلك الاحتجاج عليه بالأدلة التي كان يعتقدها فإنَّه أقرب إلى حصول المقصود وأن لا تؤدي المجادلة إلى خصام أومشاتمة تذهب بمقصودها ولا تحصل الفائدة منها بل يكون القصد منها هداية الخلق إلى الحق لا المغالبة ونحوها)). أهـ(33).
2-وقال تعالى: (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)[سورة العنكبوت 29/46]. قال الشوكاني رحمه الله: (((وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي: إلا بالخصلة التي هي أحسن وذلك على سبيل الدعاء لهم إلى الله عز وجل والتنبيه لهم على حججه وبراهينه رجاء إجابتهم إلى الإسلام لا على طريق الإغلاظ والمخاشنة. (إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) بأن أفرطوا في المجادلة ولم يتأدبوا مع المسلمين فلا بأس بالإغلاظ عليهم والتخشين في مجادلتهم))(34).
والمتأمل في القرآن يجد أنَّ معظم القضايا التي جادل القرآن فيها أهل الكتاب تدور على محورين:
1-توحيد الله وعبادته.
2-إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم والإيمان به(35).(/5)
والأمر بمجادلة أهل الكتاب في القرآن جاء مقروناً بالإحسان ومن الإحسان:
1- اتباع طريقة القرآن في جداله لأهل الكتاب ((والأصل في باب مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن هو آية آل عمران: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [سورة آل عمران 3/64](36). ولهذا أمتثلها النبي صلى الله عليه وسلم فكتبها في رسالته إلى هرقل عظيم الروم يدعوه إلى الإسلام ونبذ الشرك. وقد حرَّفَ العصرانيون معنى ((الكلمة السواء)) إلى معانٍ فاسدة(37).
2- عدم تكذيب ما عندهم تكذيباً عاماً لمجرد كونه من كتبهم بل ينبغي السكوت عن ذلك فلا يصدقون ولا يكذبون (38).
3- ومنه: عدم تفضيل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على أنبيائهم عليهم الصلاة والسلام على وجه الحمية والعصبية لحديث أبي هريرة عند البخاري: قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تخيروني على موسى …))(39).
وفي رواية عند البخاري أيضاً:((لا تفضلوا بين أولياء الله))(40).
4- ومنه: أن تكون المجادلة: :((بحسن خلق ولطف ولين كلام ودعوة إلى الحق وتحسينه ورد الباطل وتهجينه بأقرب طريق موصل لذلك وأن لا يكون القصد منها مجرد المجادلة والمغالبة وحب العلو بل يكون القصد بيان الحق وهداية الخلق))(41).
5- ومنه: أن ينزل خطاب كل طائفة منهم على ما يقتضيه فقه الواقع ومعرفة المجادل أو المحاور بأحوالهم إذْ إنهم: (ليسوا سوآء ً). وقد قال تعالى: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) [سورة الأنعام 6/55] فيفوت من الإحسان في جدالهم على قدر تفريط المجادل في:
1-العلم بالحق ومعرفة تفصيل الآيات.
2-ضعف استبانة سبيل المجرمين وما هم عليه من الضلال المبين.
المبحث الثاني: أدلة مشروعية مجادلة أهل الكتاب من السنة:
وردت عدة أحاديث تدل على مشروعية جدال أهل الكتاب منها:
1-حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي …)) الحديث وفيه: ((.. ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن..)) رواه مسلم (42).
2-وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم))(43). قال ابن حزم:((وهذا حديث غاية في الصحة وفيه الأمر بالمناظرة وإيجابها كإيجاب الجهاد والنفقة في سبيل الله)). أهـ(44).
والنبي صلى الله عليه وسلم مبين للقران فجداله مع أهل الكتاب هو التطبيق العملي للجدال القرآني مع أهل الكتاب وهو في هذا ماضٍ على سنة الأنبياء من قبله في جدالهم لأقوامهم وبيان الحق لهم كما قال تعالى في جدال نوح لقومه: ((قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا..)) وكذا الآيات الكريمات التي فيها جدال إبراهيم لأبيه ولقومه وللملك ومحاجة موسى لفرعون ولقومه ولهذا كان الجدال عن الحق: ((حِرْفةُ الأنبياء)) كما يقول الفخر الرازي(45).
وهو صلى الله عليه وسلم على سنة الأنبياء من قبله يدعو إلى الله على بصيرة فكان يواجه الناس على اختلاف عقائدهم منهم: المسترشد الذي يطلب الحق ليلتزم به ومنهم الجاهل الذي يبتغي العلم فيستنير به ومنهم الجاحد الذي يسلك سبيل المدافعة والمنازعة بغية تثبيت ما عنده وتزهيق ما عند غيره لكنه قد يستسلم لما تنتج عنه المدافعة والمنازعة وظهور الحجة وبيان المحجة ومنهم المعاند المتلدد الذي لا يلوي على شيء غير الوقوف أمام كل جديد بالصد والإنكار بدعوى التزام ما كان عليه الأولون من الآباء والأجداد … ومن هؤلاء وهؤلاء من ينتسب إلى كتاب منزل أصابه من التحريف والتبديل ما جعله يخلط حقاً بباطل ورشاداً بِغَي وصدقاً بكذب وهم اليهود والنصارى…فواجههم عليه الصلاة والسلام وقد وعى طريقة القرآن في بيان الحق
وتثبيته ودفع الباطل وتزهيقه فكانت العلاقة وثيقة بين جدل القرآن مع أهل الكتاب والجدل معهم في السنة
لمطهرة ولا عجب فالنبي صلى الله عليه وسلم هو المفسر والمبين لوحي القرآن (46).
ومواجهة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكتاب اتخذت عدة صور منها: دعوتهم للإسلام ومجادلتهم ومناظرتهم وأخذ المواثيق ثم جهادهم وقتالهم وسبي ذراريهم وإجلائهم من الديار.
ومن الوسائل التي اتبعها عليه الصلاة والسلام في دعوة أهل الكتاب(47) ما يلي:
أولاً: غشيانهم في محافلهم ومجتمعاتهم لدعوتهم إلى الإسلام.
من هذا حديث أنس رضي الله عنه قال: ((كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقعد عند رأسه فقال له: أسلم؛ فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال له: أطِعْ أبا القاسم صلى الله عليه وسلم فأسلَمَ فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار)). رواه البخاري(48).(/6)
ثانياً: الكتابة إلى ملوكهم ورؤسائهم.
روى ابن عباس - كما في حديث أبي سفيان الطويل مع هرقل - أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل: ((بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد بن عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم. سلامٌ على من اتبع الهدى. أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام. أسلم تسلم يؤتِكَ اللهُ أجرَك مرتين. فإنْ توليتَ فإنَّ عليك إثمَ الأريسيين. و(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [سورة آل عمران 3/64]. رواه البخاري(49).
ثالثاً: استقبال وفودهم.
من ذلك استقبال وفد نجران النصارى. قال حذيفة رضي الله عنه: جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه. قال: فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل فوالله لئن كان نبياً فلاعننا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا. قالا: إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلاً أميناً ولا تبعث معنا إلا أميناً. فقال: لأبعثن معكم رجلاً أميناً حقَّ أمين فاستشرف له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قُمْ يا أبا عبيدة ابن الجراح فلما قام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا أمين هذه الأمة)) رواه البخاري(50).
المبحث الثالث: حكم مجادلة وحوار أهل الكتاب:
ينقسم حكم الجدل معهم إلى قسمين:
الأول: الجدل الممدوح:
وهو الجدل الذي يقصد به تأييد الحق أوإبطال الباطل أوأفضى إلى ذلك بطريق صحيح. ومن هذا الجدل ما هو فرض عين ومنه ما هو فرض على الكفاية. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ((… والدعاء إلى سبيل الرب بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن ونحو ذلك مما أوجبه الله على المؤمنين فهذا واجب على الكفاية منهم. وأما ما وجب على أعيانهم فهذا يتنوع بتنوع قدرهم وحاجتهم ومعرفتهم …))(51). وقال رحمه الله أيضاً:((… فأما المجادلة الشرعية كالتي ذكرها الله تعالى عن الأنبياء عليهم السلام وأمر بها في مثل قوله تعالى: (قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا) وقوله:) (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه) وقوله: (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه) وقوله: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [سورة النحل 16/125] وأمثال ذلك فقد يكون واجباً أومستحباً وما كان كذلك لم يكن مذموماً في الشرع))(52).
وذكر ابن القيم رحمه الله في ((الهدي)) ضمن فقه قصة وفد نجران: ((ومنها: جواز مجادلة أهل الكتاب ومناظرتهم بل استحباب ذلك بل وجوبه إذا ظهرت مصلحته من إسلام من يرجى إسلامه منهم وإقامة الحجة عليهم ولا يهرب من مجادلتهم إلا عاجز عن إقامة الحجة …)). أهـ (53). وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله - في فوائد قصة أهل نجران -:((وفيها جواز مجادلة أهل الكتاب وقد تجب إذا تعينت مصلحته))(54).
الثاني: الجدل المذموم:
وهو الجدل الذي يقصد به الباطل أو تأييده أو يفضي إليه أو كان القصد منه مجرد التعالي على الخصم والغلبة عليه فهذا ممنوع شرعاً ويتأكد تحريمه إذا قلب الحق باطلاً أو الباطل حقاً. قال ابن تيمية رحمه الله:
((والمذموم شرعاً ما ذمه الله ورسوله كالجدل بالباطل والجدل بغير علم والجدل في الحق بعدما تبين …)) (55)ويدخل في هذا النوع دعوات التقارب ونظريات الخلط بين الأديان فإنَّها من الباطل الصرف؛ كما يدخل فيه كثير من الحوارات الحضارية المعقودة مع أهل الكتاب لما تفضي إليه من الباطل.
ومما يحسن مراعاته في هذا المقام التفريق بين مقام الدعوة ومقام دفع الصائل وهل هما على حد سواء أم لا؟ من استبان عنده الفرق بين المقامين لُمِسَ من كلامه نصرة الإسلام وعزته ولهذا فإنَّ الفرق جليٌ بين من يرد وينافح على سبيل الدعوة وبين من يرد على هيئة دفع الصائل!
إنَّ الرد على جاحد الحق الذي يقيم الحجج والشبه على باطلة لا ينبغي أن يكون من باب الدعوة بالحكمة أوالموعظة الحسنة بل يجب أن يكون من باب دفع ضرره عن المسلمين وصياله عليهم فإذا صال عسكر الكفر على المسلمين بالسلاح المادي وجب أن يرد ذلك بالسلاح المادي إنْ كان في المسلمين طاقة وقدرة والقدرة بالسيف ليست دائمة للمسلمين بخلاف ما إذا صال عسكر الكفر بالحجج الباطلة فإنه يجب على أهل العلم والإيمان الدفاع عن الإسلام بإقامة حججه الصحيحة ودلائله الصريحة وذلك أن الإسلام منصور أبداً في مقام الحجة والبرهان هذا هو الأصل.(/7)
ولا يغيظ الكفار شيء كما يغيظهم إقامة حجة الإسلام وبيان براهينه والتدليل على أباطيل الكفر وأحابيله. يقول أبو محمد ابن حزم -وهو كلام نفيس-: ((وقال تعالى: (ولا يطئون موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح). ولا غيظ أغيظ على الكفار والمبطلين من هتك أقوالهم بالحجة الصادعة وقد تهزم العساكر الكبار والحجة الصحيحة لا تغلب أبداً فهي أدعى إلى الحق وأنصر للدين من السلاح الشاكي والأعداد الجمة وأفاضل الصحابة الذين لا نظير لهم إنما أسلموا بقيام البراهين على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم عندهم فكانوا أفضل ممن أسلم بالغلبة بلا خلاف من أحد المسلمين. وأول ما أمر الله عز وجل نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يدعو له الناس بالحجة البالغة بلا قتال فلما قامت الحجة وعاندوا الحق أطلق الله تعالى عليهم السيف حينئذ؛ وقال تعالى: (قل فلله الحجة البالغة). وقال تعالى:(بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق). ولا شك في أن هذا إنما هو بالحجة لأن السيف مرة لنا ومرة علينا وليس كذلك البرهان بل هو لنا أبداً ودامغ لقول مخالفينا ومزهق له أبداً. ورب قوة باليد قد دمغت بالباطل حقاً كثيراً فأزهقته منها يوم الحرة ويوم قتل عثمان رضي الله عنه ويوم قتل الحسين وابن الزبير رضي الله عنهم … وقد قتل أنبياء كثير وما غلبت حجتهم قط …)). أهـ(56).
وإذا تقرر ذلك فإنَّ المجادل عن الإسلام عليه أن يدرك أحوال من يجادل ويحاور في قبوله أورده للحق فإنْ أنزلهم منزلة واحدة فهناك يفقد الكلام معناه ويصبح الأمر مضطرباً محيراً لمن قلَّتْ بصيرته في هذا الباب ويكون ذلك داعياً لفتنة بعض المسلمين ببعض. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:((الإنسان له ثلاثة أحوال:
إما أن يعرف الحق ويعمل به.
وإما أن يعرفه ولا يعمل به.
وإما أن يجحده.
فأفضلها أن يعرف الحق ويعمل به.
والثاني: أن يعرفه لكن نفسه تخالفه فلا توافقه على العمل به.
والثالث: من لا يعرفه بل يعارضه.
فصاحب الحال الأول هو الذي يدعى بالحكمة فإنَّ الحكمة هي العلم بالحق والعمل به فالنوع الأكمل من الناس من يعرف الحق ويعمل به فيُدْعون بالحكمة.
والثاني: من يعرف الحق لكن تخالفه نفسه فهذا يوعظ بالموعظة الحسنة
فهاتان هما الطريقان: الحكمة والموعظة. وعامة الناس يحتاجون إلى هذا وهذا فإنَّ النفس لها هوى تدعوها إلى خلاف الحق وإنْ عرفته؛ فالناسُ يحتاجون إلى الموعظة الحسنة والى الحكمة فلابد من الدعوة بهذا وهذا.
وأما الجدلُ فلا يدعى به بل هو من باب دفع الصائل؛ فإذا عارض الحق معارض جودل بالتي هي أحسن. ولهذا قال: (وجادلهم) فجعله فعلاً مأموراً به مع قوله: (ادعهم) فأمر بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة وأمره أن يجادل بالتي هي أحسن وقال في الجدال: (بالتي هي أحسن) ولم يقل بـ (الحسنة) كما قال في الموعظة؛ لأن الجدال فيه مدافعة ومغاضبة فيحتاج أن يكون بالتي هي أحسن حتى يصلح ما فيه من الممانعة والمدافعة والموعظة لا تدافع كما يدافع المجادل فما دام الرجل قابلاً للحكمة أوالموعظة الحسنة أولهما جميعاً لم يحتج إلى المجادلة فإذا مانعَ جودل بالتي هي أحسن)).انتهى(57).
* راجعه وقدم له: الشيخ /علوي بن عبد القادر السقاف.
**أقوال ابن تيمية وابن حزم منقولة من أصل البحث فليرجع إليها(1)- الجواب الصحيح (1 / 301-302). وانظر : الفتاوى (4 / 203-205) .
(2)-معيد النعم ومبيد النقم (ص 75- 76).
(3)-انظر على سبيل المثال : الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري لآدم ميتز (1 / 75-118) ، ومن روائع حضارتنا للسباعي (86 -91 ) ، والحوادث الجامعة المنسوب لابن الطوفي (38- 40) . وهذا الدردير الفقيه المالكي يقول عن ملوك مصر وتمكينهم للنصارى من إحداث ما يريدون :"..وملوك مصر لضعف إيمانهم قد مكنوهم من ذلك ، ولم يقدر عالم على الإنكار إلا بقلبه أوبلسانه لا بيده ، وزاد أمراء الزمان أن أعزوهم ، وعلى المسلمين رفعوهم ، ويا ليت المسلمين عندهم كمعشار أهل الذمة ، وترى المسلمين كثيراً ما يقولون : ليت الأمراء يضربون علينا الجزية كالنصارى واليهود ويتركونا بعد ذلك كما تركوهم ، و" سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ".." أهـ .(الشرح الصغير على مختصر خليل مطبوع بحاشية بلغة السالك للصاوي:1 / 369) . وقبله قال بعض شعراء مصر (حسن المحاضرة :1/201):
يهودُ هذا الزمان قد بَلَغوا ... ...
غايةَ آمالهم وقد ملكوا
العِزُّ فيهم والمالُ عندهم ... ...
ومنهم المستشارُ والملكُ
يا أهلَ مصر إني نصحتُ لكم ... ...
تهودوا قد تهودَ الفلكُ
(4)-الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية (ص 287).
(5)-لا يدعى إلى اشتغال سائر أهل العلم بذلك ، فإنَّ هذا من المتعذر ، و {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} ، ولكن لابد من تقرر ذلك وأنَّه من دين الإسلام .(/8)
(6)من مقدمة الشيخ سفر الحوالي لكتاب (قدم العالم وتسلسل الحوادث لكاملة- الكواري) (ص 19) حاشية رقم (2) .
(7)-الشرح الممتع (8 / 91-92).
(8)- التبيان في أقسام القرآن (131-132).
(9)- انظر : تاج العروس (3 / 162) ، ومعجم مقاييس اللغة (2 / 117)
(10)-لسان العرب (4 /218).
(11)معجم مقاييس اللغة (1 / 433) ، وصحَّحَ ابن فارس في "حلية الفقهاء " أنه مأخوذ من " جدلت- الحبل " . (ص 12) .
(12)- أصول الحوار ، نشر الندوة العالمية (ص 9) .
(13) -الكافية في الجدل للجويني (ص 21) ، ولهم فيه تعاريف كثيرة ، أدقها وأضبطها كما يقول الدكتور عثمان بن علي حسن تعريف الجويني . انظر : "منهج الجدل والمناظرة" (1 / 27) .
(14)- الجواب الصحيح (1 / 243) .
(15)- (1 / 218- 219) .
(16)- (1 / 219-246) .
(17)-لا يعني ذكرنا لبعض الأسماء في تيار واحد أن جميع أفراد التيار يتبنون نفس الفكر والاجتهادات في كل المسائل أوأنهم على مستوى واحد من العلم . كما أن بعض هذه الاتجاهات ربما يلتقي بعض أفرادها مع تيار آخر في المفاهيم والأصول ، فتكون مادتهم واحدة ، وهذا الالتقاء ليس كافياً لأن ننسبهم إلى هذا الاتجاه أوذاك ، لعدم استقرار أصولهم ، والتقسيم أملته ضرورة البحث.
(18)- هوروجيه جان شارل جارودي ، ولد عام 1913 م ، في مرسيليا ، واعتنق البروتستانتية ، ثم انضم إلى الحزب الشيوعي الفرنسي ، وتحصل على عدة شهادات في الفلسفة ، له مؤلفات كثيرة ، أشيع نبأ إسلامه عام 1402 ، وهو من أكبر دعاة التقريب بين الأديان اليوم . انظر سيرته الذاتية مفصلة في : دعوة التقريب بين الأديان ، للقاضي (2 / 841-857) .
(19)- هو الشيخ أحمد بن الشيخ محمد أمين ابن الشيخ موسى الشهير بـ" كفتارو" ، ولد سنة 1915 بدمشق ، صوفي ، نقشبندي ، أصله من الأكراد ، يعمل مفتياً لسوريا ، من دعاة التقريب بين الأديان . انظر : دعوة التقريب بين الأديان (3/ 1036-1069) .
(20)- دعوة التقريب بين الأديان (2/ 935-937) ، والحوار مع أهل الكتاب ، للقاسم(ص 128-132).
(21)-انظر : مجلة الدعوة : عدد 1583 ، عام 1416 ، الخميس 1 ذي الحجة ، (ص 14 - 15) .
(22)-انظر : الإبطال لنظرية الخلط بين الإسلام وغيره من الأديان ، لبكر أبو زيد (32) .
(23)-انظر : دعوة التقريب (2/632- 634).
(24)-الحوار من أجل التعايش ، لعبد العزيز بن عثمان التويجري (ص 91) ، وفي البناء الحضاري للعالم الإسلامي (3 / 209-210 ).
(25)- انظر : الحوار من أجل التعايش (ص 90).
(26)- انظر : الحوار من أجل التعايش (ص 90) .
(27)- في البناء الحضاري للعالم الإسلامي ، للتويجري (3 / 201-202) ، وهل الإسلام هو الحل ، لعمارة (ص 189) .
(28)- انظر في مناقشتها والرد عليها : دعوة التقريب بين الأديان (4 / 1513 - 1542).
(29)- هو رحمة الله بن خليل الرحمن الدهلوي ، فقيه حنفي ، عالم بمناظرة النصارى ، جاور بمكة وتوفي بها سنة 1306 ، وقيل : سنة 1308 ، من أهم كتبه : " إظهار الحق " ، طبع عدة طبعات ، أفضلها بتحقيق د . أحمد محمد ملكاوي. انظر: الأعلام للزركلي (3 / 18) ، وهدية العارفين (1/ 366).
(30)-النبوات (2 / 621- 622).
(31)- نقض المنطق (ص 27) . وانظر: الفتاوى (4 / 108 ، 203) ، والجواب الصحيح (6 / 44) .
(32)- تفسير ابن كثير (4 / 532).
(33)- تفسير ابن سعدي (3 / 93) .
(34)- فتح القدير (4 / 205) .
(35)- منهج الجدل والمناظرة (1/ 486)، وسيأتي في الفصل الثاني (المبحث الثالث:موضوعات الجدال مع أهل الكتاب) مزيد بيان لهذا الأمر.
(36)- دعوة التقريب بين الأديان (2 / 725) ، وانظر:الإبطال لبكر أبوزيد (101).
(37)- دعوة التقريب بين الأديان (2 / 725-737 ).
(38)- هذا والذي يليه من " منهج الجدل والمناظرة " (1/ 326-327) .
(39)- رواه البخاري رقم 3408 . الفتح (6/441) . .
(40)- رقم 3414 . الفتح (6 /450).
(41)- تفسير ابن سعدي (4 / 64).
(42)-صحيح مسلم : كتاب الإيمان : (1/ 384).
(43)-الحديث رواه أبو داود وأحمد والنسائي والحاكم ، وصححه ابن حزم ، والنووي في "رياض الصالحين" ، والسيوطي في "الجامع الصغير". انظر: فيض القدير (3 / 344). وصححه الألباني في تخريج المشكاة (2 / 1124) : رقم (3821) ، و"صحيح الجامع الصغير" (رقم 3090).
(44)- الإحكام في أصول الأحكام (1/29).
(45)- التفسير الكبير ، للفخر الرازي (27/29).
(46)- بتصرف من: مناهج الجدل في القرآن الكريم للألمعي (440-441) ، ومنهج الجدل والمناظرة (1/ 599-600).
(47)- انظر: دعوة التقريب بين الأديان (4/1577-1596) ، و منهج الجدل والمناظرة (1/652 -676).
(48)- رقم (1356) انظر : الفتح (3 / 219) . وفي معناه : حديث أبي هريرة في ذهاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المدراس، ودعوتهم للإسلام. صحيح البخاري : رقم (3167).
(49)- صحيح البخاري مع فتح الباري (1 / 31-33) رقم : 7.
(50)-صحيح البخاري مع الفتح (8 / 93-94) رقم 4380 .(/9)
(51)-درء تعارض العقل والنقل (1 / 51-52).
(52)- درء تعارض العقل والنقل (7 / 156).
(53)- زاد المعاد (3 / 639).
(54)-فتح الباري (8 / 95) : كتاب المغازي ، باب قصة أهل نجران.
(55)-درء التعارض (7/156).
(56)-الإحكام في أصول الأحكام (1 / 28).
(57)-الرد على المنطقيين (467-468).(/10)
رباني يعظ الخليفة المنصور
أ.د/محمد أديب الصالح
رئيس تحرير مجلة حضارة الإسلام
قدم أبو جعفر المنصور مكة –شرفها الله- حاجاً. فكان يخرج من دار الندوة إلى الطواف في آخر الليل يطوف ويصلي ولا يُعلم به، فإذا طلع الفجر رجع إلى دار الندوة وجاء المؤذنون فسلموا عليه وأقيمت الصلاة فيصلي بالناس.
خرج ذات ليلة حين أسحر، فبينما هو يطوف إذ سمع رجلاً عند الملتزم يقول:
اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض، وما يحول بين الحق وأهله من الطمع والظلم.
فأسرع المنصور في مشيه حتى ملأ مسامعه من قوله، ثم خرج فجلس ناحية المسجد وأرسل إليه فدعاه فأتاه الرسول وقال له:
- أجب أمير المؤمنين.
فصلى ركعتين واستلم الركن وأقبل مع الرسول فسلم عليه.
فقال له المنصور: ما هذا الذي سمعتك تقوله من ظهور البغي والفساد في الأرض وما يحول بين الحق وأهله من الطمع والظلم؟! فو الله لقد حشوت مسامعي ما أمرضني وأقلقني.
فقال: يا أمير المؤمنين. إن أمنتني على نفسي أنبأتك بالأمور من أصولها، وإلا اقتصرتُ على نفسي ففيها لي شغل شاغل.
فقال له: أنت آمن على نفسك.
قال: الرجل الذي دخله الطمع حتى حال بينه وبين الحق وإصلاح ما ظهر من البغي والفساد في الأرض: أنت.
فقال المنصور: ويحك وكيف يدخلني الطمع والصفراء والبيضاء في يدي والحلو والحامض في قبضتي؟؟
قال الرجل: وهل دخل أحداً من الطمع ما دخلك يا أمير المؤمنين!!!
إن الله استرعاك أمور المسلمين وأموالهم فأغفلتَ أمورهم، واهتممتَ بجمع أموالهم، وجعلتَ بينك وبينهم حجاباً من الجص والآجرّ، وأبواباً من الحديد، وحجبة معهم السلاح.
ثم سجنتَ نفسك، وبعثتَ عمالك في جمع الأموال وجبايتها، واتخذت وزراء وأعواناً ظلمة، إن نسيت لم يذكّروك، وإن ذكرتَ لم يعينوك، وقويتهم على ظلم الناس بالأموال والكراع والسلاح، وأمرت أن لا يدخل عليك من الناس إلا فلان وفلان، نفرٌ سمَّيْتَهم.
- ولم تأمر بإيصال المظلوم ولا الملهوف ولا الجائع ولا العاري ولا الضعيف ولا الفقير ولا أحد إلا وله في هذا المال حق.
فلما رآك –هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك، وآثرتهم على رعيتك، وأمرتَ أن لا يُحجبوا عنك –تجبي الأموال ولا تقسمها قالوا:
هذا قد خان الله فما لنا لا نخونه وقد سخر لنا؟؟
فائتمروا على أن لا يصل إليك من علم أخبار الناس شيء إلا ما أرادوا فلما انتشر ذلك عنك وعنهم أعظمهم الناس وهابوهم وكان أول من صانعهم عمالك بالهدايا والأموال لينفقوا بها على ظلم رعيتك.
ثم فعل ذلك ذوو القدرة والثروة من رعيتك لينالوا ظلم من دونهم من الرعية فامتلأت بلاد الله في الطمع بغياً وفساداً، وصار هؤلاء القوم شركاءك في ظلمك وأنت غافل.
فإن جاء متظلم حيل بينه وبين الدخول إليك، وإن أراد رفع صوته أو قصته إليك عند ظهورك، وجدك قد نهيت عن ذلك ووقفت للناس رجلاً ينظر في مظالمهم.
فإن جاء ذلك الرجل فبلغ بطانتك سألوا صاحب المظالم أن لا يرفع مظلمته إليك، وإن كان للمتظلم به حرمة وإجابة لم يمكنه مما يريد خوفاً منهم فلا يزال المظلوم يختلف إليه ويلوذ به ويشكو ويستغيث وهو يدفعه ويقتل عليه. فإذا جهد وأخرج وظهرتَ صرخ بين يديك، فيضرب ضرباً مبرحاً فما بقاء الإسلام على هذا؟؟
"بعد هذا التحليل العميق الرهيب. بدا المنصور كأنما غاب عن وعيه وفقد صبره. فقال للرجل في ضراعة:
كيف احتيالي فيما خولت فيه ولم أر من الناس إلا خائناً؟
قال الرجل: يا أمير المؤمنين عليك بالأئمة الأعلام المرشدين.
سأل المنصور: ومن هم؟؟
الرجل: العلماء العاملون. علماء الآخرة لا علماء الدنيا.
قال المنصور: قد فروا مني.
قال الرجل: هربوا منك مخافة أن تحملهم على ما ظهر من طريقتك من قبل عمالك ولكن فتّح الأبواب، وسهل الحجاب وانتصر للمظلوم من الظالم، وامنع المظالم وأنا ضامن على أن من هرب منك سيأتيك، فيعاونك على صلاح أمرك ورعيتك".
وبلغ التأثر بالمنصور حداً لم يتمالك به نفسه. فراح يبكي وينتحب حتى ارتفع صوته. ورفع يديه إلى السماء يجأر بالدعاء إلى الله ضارعاً قائلاً:
يا ليتني لم أخلق ولم أك شيئاً. اللهم وفقني أن عمل بما قال هذا الرجل.
بينما مضى الرجل مختفياً دون أن يعلم به أحد.
* مجلة حضارة الإسلام –السنة 12 –العدد 7-8 –رمضان/شوال 1391 –كانون الثاني 1972م.(/1)
ربانيون لا رمضانيون
الحمد لله الذي فرض على عباده الصيام، وجعله مطهراً لنفوسهم من الذنوب والآثام،الحمد لله الذي خلق الشهور والأعوام،والساعات والأيام، وفاوت بينها في الفضل والإكرام، وربك يخلق ما يشاء ويختار، أما بعد،،،
ما أشبه الليلة بالبارحة، هذه الأيام تمر سريعة وكأنها لحظات، لقد استقبلنا رمضان الماضي، ثم ودعناه، وما هي إلا أشهر مرت كساعات، فإذا بنا نستقبل شهراً آخر،وكم عرفنا أقواماً، أدركوا معنا رمضان أعواماً،وهم اليوم من سكان القبور، وربما يكون رمضان هذا لبعضنا آخر رمضان يصومه، إن إدراكنا لرمضان، نعمة ربانية، ومنحة إلهية، فهو بشرى، تساقطت لها الدمعات، وانسكبت العبرات: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ...[185] } [سورة البقرة] .
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: [ قَدْ جَاءَكُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ شَهْرٌ مُبَارَكٌ افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ يُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَيُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ] رواه النسائي وأحمد .
وقال صلى الله عليه وسلم: [إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ وَسُلْسِلَتْ الشَّيَاطِينُ] رواه البخاري ومسلم .
نعم، كم من قلوب تمنت،ونفوس حنت،أن تبلغ هذه الساعات، شهرٌ، تضاعف فيه الحسنات، وتكفر السيئات، وتُقال فيه العثرات، وترفع الدرجات، قال صلى الله عليه وسلم: [إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ وَيُنَادِي مُنَادٍ يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنْ النَّارِ وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ] رواه الترمذي وابن ماجة.
نعم، شهر رمضان، هو شهر الخير والبركات، والفتوح والانتصارات، فما عرف التاريخ غزوةَ بدر وحطين، ولا فتحَ مكة والأندلس، إلا في رمضان؛ لذا كان الصالحون يعدون إدراك رمضان من أكبر النعم:
قال المعلى بن الفضل:' كان السلف يدعون الله ستة أشهر أن يبلِّغهم رمضان!' . وقال يحيى بن أبي كثير: كان من دعائهم:' اللهم سلمني إلى رمضان، وسلِّم لي رمضان، وتسلَّمه مني متقبلاً' .
نعم، كانوا يتهيئون لرمضان بالصلاة والصيام، والصدقة والقيام، أسهروا له ليلهم، وأظمئوا نهارهم، فهو أيام مَّعْدُوداتٍ، فاغتنموها، لو تأملت حالهم، لوجدتهم، بين باك غُلب بعبرته، وقائم غص بزفرته، وساجدٍ يتباكى بدعوته، كان يدخل على أقوام صدق فيهم قول الله: { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ[16]فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[17] } [سورة السجدة] .
كانوا ربانيين، لا رمضانيين، هم في صيام وقيام، في رمضان وغير رمضان: باع رجل من الصالحين جارية لأحد الناس، فلما أقبل رمضان أخذ سيدها الجديد يتهيأ بألوان الطعام، فقالت الجارية: لماذا تصنعون ذلك؟ قالوا: لاستقبال الصيام في شهر رمضان، فقالت: وأنتم لا تصومون إلا في رمضان ؟! والله لقد جئت من عند قوم السنة عندهم كلها رمضان، لا حاجة لي فيكم، ردوني إليهم، ورجعت إلى سيدها الأول.
كانوا يدركون الحكمة من شرعية الصيام، فالصوم لم يشرعْ عبثاً..نعم، ليستْ القضية،قضية ترك طعام !! أو شراب..كلا،
القضيةُ أكبرُ من ذلك بكثير، شرع لكي يعلمَ الإنسان،أن له رباً يشرعُ الصومَ متى شاء، ويبيحُ الفطرَ متى شاء، يحكم ما يشاء ويختار، فيخشاه ويتقيه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[183] } [سورة البقرة].
والتقوى هي الخوفُ من الجليل،والعملُ بالتنزيلُ،والقناعةُ بالقليل،والاستعدادُ ليوم الرحيل، ومن حقق التقوى؛ شعر بأن حياته كلَّها ملك لله تعالى، نعم، هذه حقيقة التقوى !! أن تطيع الله بكل جوارحك.
فهل يكون متقياً، من يصوم بطنه عن الطعام، ولا تصوم عينه عن النظر الحرام، ولا سمعه عن السماع الحرام، ولا يصوم لسانه عن الآثام؟!
هل يكون متقياً، من يجمع الثواب في النهار، ثم يحرق ذلك في الليل، بأغنية ماجنة، ورقصة فاتنة، يزينها له شياطين الإنس،
بل إن شياطين الإنس لم يكتفوا بليل الصائمين،وإنما أشغلوا نهارهم، أصبحت جموع من الصائمين، تتسمر أمام الشاشات في النهار والليل، واكتفوا من الصيام بالإمساك عن الطعام فقط، ولا يستشعرون أنهم وقعوا في الحرام،(/1)
عجباً، هل ينكر أحد منا حرمة النظر إلى المرأة الأجنبية، أو حرمة الغناء وآلات الطرب، أو حرمة النظر إلى ألعاب السحر والشعوذة، بل تعرض على الناس برامج، إذا تأملت فيمن أنتجها وصاغها، بل وكتب حواراتها، وجدت أكثرهم من الفساق، وشراب الخمور، وأصحاب الشهوات المسعورة، يحاربون الله ورسوله، ويكسبون الأموال.
لقد تبلدت أحاسيس بعض الناس، حتى صاروا يتقبلون أن ينظروا إلى رجل يحتضن بنتاً شابة،لأنه يمثل دور أبيها، أو يضطجع بجانبها على فراش واحد لأنه يمثل دور زوجها، صرنا نأخذ الأمر بعفوية بريئة، صرنا لا ننكر ظهور المرأة حاسرة متكشفة، تعودنا، مناظر احتساء الخمور، والتدخين، والسرقات، والقتل، والسباب، تقبلنا كل هذا على أساس أنه تمثيل،
أي تقوى تحققها هذه البرامج،إنها والله تقضي على البقية الباقية من الإيمان، بل إنها تتبع ما تبقى في القلب من تقوى وتزيلها.. فهل يليق هذا برمضان، شهرِ الحسنات، والرحمات ؟!
سبحان الله، أين ليالي رمضان، التي كانت تقضى، بين قارئ للأذكار،ومستغفر بالأسحار، كانت تقضى بين ساجد خاشع، وقائم خاضع، لصدر أحدهم أزيز كأزيز المرجل من البكاء، الكل في هدوء وسكينة، تتنزل عليهم الرحمات، ويباهي الله بهم ملائكته، فجاء التلفاز وأبدلها بالأفلام، والمسلسلات، وجولات المصارعة الحرة، وكرة القدم، والأدهى من ذلك كله،أن يُخدَع الناسُ في رمضان بما يسمى مسلسلاتٍ الدينية، ففي شعبان يظهر الممثل في دور ماجن فاجر، يقبل خليلته ، ويشرب الخمر، فإذا دخل رمضان، رأيته في شخصية أبي بكر وعمر، وخليلته الفاجرة في دور عائشة وخديجة، إن هذا لشيء عجاب!!
نحن لا نلوم هؤلاء، فقد غسلنا أيدينا منهم، لكننا نلوم العقلاء المؤمنين، الذين تستخفهم هذه التوافه فيتابعونها دون نكير، فمن يصفدُ عنا مردةَ شياطينِ الإنس، الذين لا يرونَ لرمضان حرمةً، ولا يرقبون في مسلم إلاًّ ولا ذمة، فيهيئون أسبابِ الرذيلة، بكلِّ خسةٍ ووقاحة !! فبمناسبةِ رمضان،يحي الفنانُ فلان حفلةً غنائية، وتقيمُ فرقةُ فلان مسرحيتهَا الماجنة، ألا شاهتْ تلك الوجوه،ما أجرأَها على انتهاكِ حرماتِ الله !
كيف يكون حال أحدهم لو أن الله بدل أن يجعله مسلماً موحداً، جعله بوذياً يسجد لحجر، أو جعله من عباد البقر، أو ممن يقولون: الله ثالث ثلاثة، أو يقولون: عزير ابن الله،إن الإسلام الذي هدوا إليه هو خير مما يجمعون، فطوبى لصائم استشعر هذه النعمة، فحقق التقوى، فصام الشهر، واستكمل الأجر، أخذ رمضان كاملًا، وسلمه للملائكة كاملًا ، فلا غيبة، ولا نميمة، ولا أذية للمؤمنين، ولا تقاعس عن صلوات، أو وقوعاً في محرمات، صام فصامت جوارحه وأركانه، قانتًا آناء الليل، طوبى لمن كانوا كذلك، من عُبّاد رب الشهور كلها، بواطنهم كظواهرهم، شوالهم كرمضانهم، الناس في غفلاتهم، وهم في بكائهم، ربانيون لا رمضانيون.
هؤلاء هم الذين يتحقق فيهم قوله صلى الله عليه وسلم: [ كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ وَلَخُلُوفُ فِيهِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ] رواه البخاري ومسلم .
وقال صلى الله عليه وسلم: [مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ] رواه البخاري ومسلم .
ولا شك أن هذا الثواب الجزيل، لا يكون لمن امتنع عن الطعام والشراب فقط، وإنما لا بد أن يتأدب بآداب الصوم،
فالصائم المتقي، يحفظ اللسان، كما قال صلى الله عليه وسلم: [مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ] رواه البخاري . وقد كان السلف يحذرون من فلتات اللسان، في غير صومهم فكيف بهم إذا صاموا،؟!
كان أبو هريرة رضي الله عنه وأصحابه إذا صاموا جلسوا في المسجد، وقالوا:' نحفظ صيامنا' . وهذا هو حال العاقل، فلماذا يغتاب الناس فيعطي حسناته لغيره، بل كان بعضهم يحاسب نفسه على الكلام المباح فضلاً عن غيره .
ومن أفضل الأعمال، في هذا الشهر الكريم: قيام الليل، في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: [مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ] رواه البخاري ومسلم . ومدح الله المؤمنين فقال: { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا[63] } [سورة الفرقان] .وقد كان قيام الليل دأب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكانوا يستشعرون عظمة ربهم إذا وقفوا بين يديه . وكانوا يجدون في الصلاة خشوعاً، وفي السجود خضوعاً.(/2)
ولم يكن العبّاد من الرجال فقط ففي النساء نصيب، فمعاذة العدوية كانت تصلي أكثر الليل، وتقول:'عجبت لعين تنام وقد عرفت طول الرقاد في ظلم القبور، وتبكي' . وكانت حفصة بنت سيرين تسرج سراجها من الليل ثم تقوم في مصلاها، وكانت تقرب كفنها، لتذكر الموت في صلاتها، فتخشع .
كانوا يركعون ويسجدون، ويصلون ويقومون، حتى صار ذلك لهم عادة، وكانوا في رمضان أشدَّ منهم اجتهاداً، فكان الصحابة في عهد عمر رضي الله عنه يصلون ثلاثاً وعشرين ركعة، ويختمون القرآن مراراً في رمضان، وفي 'الموطأ' عن ابن هرمز قال:' مَا أَدْرَكْتُ النَّاسَ إِلَّا وَهُمْ يَلْعَنُونَ الْكَفَرَةَ فِي رَمَضَانَ قَالَ وَكَانَ الْقَارِئُ يَقْرَأُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فِي ثَمَانِ رَكَعَاتٍ فَإِذَا قَامَ بِهَا فِي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً رَأَى النَّاسُ أَنَّهُ قَدْ خَفَّفَ' .
وعن خالد بن دريك قال:' كان لنا إمام بالبصرة يختم بنا في شهر رمضان في كل ثلاث، فمرض فأمنا غيرُه، فختم بنا في كل أربع، فرأينا أنه قد خفف' . وقال السائب بن زيد:' كَانَ الْقَارِئُ يَقْرَأُ بِالْمِئِينَ حَتَّى كُنَّا نَعْتَمِدُ عَلَى الْعِصِيِّ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ وَمَا كُنَّا نَنْصَرِفُ إِلَّا فِي فُرُوعِ الْفَجْرِ' فقارن حالهم بحالنا اليوم !
ومن فضل الله تعالى، أن من صلى التراويح كاملة مع الإمام، فكأنما قام الليلة كاملة، كما قال صلى الله عليه وسلم: [ مَنْ قَامَ مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ] رواه أبوداود والترمذي والنسائي وابن ماجة والدارمي وأحمد .
شهر رمضان هو شهر القرآن، وكان جبريل يدارس النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في رمضان، وكان عثمان رضي الله عنه يختم القرآن كل يوم مرة، وكان الزهري إذا دخل رمضان، يفر من الحديث ومجالسة أهل العلم، ويقبل على تلاوة القرآن من المصحف، وكان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على قراءة القرآن، وكان قتادة في غير رمضان، يختم القرآن في كل سبع ليال مرة، فإذا جاء رمضان ختم في كل ثلاث ليال مرة، فإذا جاء العشر ختم في كل ليلة مرة، وكان إبراهيم النخعي يختم في العشر الأواخر كل ليلة، وفي بقية الشهر في ثلاث.
وفي رمضان يجتمع الصوم والقرآن،فتدرك المؤمن الصادق شفاعتان يشفع له القرآن لقيامه، ويشفع له الصيام لصيامه، كما صح في المسند أنه صلى الله عليه وسلم قال: [الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ الصِّيَامُ أَيْ رَبِّ مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ وَيَقُولُ الْقُرْآنُ مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ قَالَ فَيُشَفَّعَانِ] .
ومن أفضل العبادات في هذا الشهر الكريم: الدعاء، ويستحب في كل وقت، وله أوقات يتأكد فيها: فعند الإفطار، للصائم دعوة لا ترد، وفي ثلث الليل الآخر . ويستحب للداعي أن يتحرى أوقات الإجابة، كما بين الأذان والإقامة، وساعةِ يومِ الجمعة، ودبرِ الصلواتِ المكتوبةِ،وغيرِها. والمرأة فيما ذكرنا شقيقة الرجل، في الحرص على الطاعات، واغتنام الأوقات،
ومن أفضل الأعمال في هذا الشهر الكريم: الجود والإحسان، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، كان أجود بالخير من الريح المرسلة، فكم من حسنة إلى منكوب، وصدقة على مكروب، غفر الله بها الذنوب، وستر بها العيوب، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، والصدقة تطفئ غضب الرب، ذكر في 'تاريخ بغداد' أن فقيراً جاء إلى عبد الله بن المبارك، فسأله أن يقضى عنه ديناً عليه، فناوله عبد الله كتاباً، إلى وكيل ماله،
فذهب به الفقير، فلما قرأه الوكيل، قال للفقير: كم الدين الذي سألت فيه عبد الله أن يقضيه عنك؟ قال: سبعمائة درهم، فكتب الوكيل إلى عبد الله، أن الرجل سألك أن تقضي عنه سبعمائة درهم، وكتبت له سبعة آلاف، وسوف تفنى الأموال أو فنيت، فكتب إليه عبد الله: إن كانت الأموال قد فنيت، فإن العمر أيضاً قد فني، فأجز له ما سبق به قلمي .
والصدقة في رمضان لها صور متعددة: فمنها:
إطعام الطعام: قال تعالى: { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا[8]إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا[9]إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا[10]فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا[11]وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا[12] } [سورة الإنسان] . و قال صلى الله عليه وسلم: [ أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلَامَ وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ] رواه الترمذي وابن ماجة والدارمي .(/3)
ومن إطعام الطعام، تفطير الصائمين: وكان ابن عمر رضي الله عنهما لا يفطر إلا مع اليتامى والمساكين، وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا] رواه الترمذي وابن ماجة والدارمي وأحمد .
ومن أفضل الطاعات الجلوس في المسجد حتى تطلع الشمس، فعنه صلى الله عليه وسلم قال: [مَنْ صَلَّى الْغَدَاةَ فِي جَمَاعَةٍ ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ] رواه الترمذي . هذا الفضل في كل الأيام فكيف بأيام رمضان ؟
ومن الأعمال الفاضلة في رمضان: العمرة، ففي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: [عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً] وفي رواية: [ حَجَّةً مَعِي] .
* * * * * * * *
ومن أفضل الطاعات أيضاً، تلك العبادة التي يخلو المرء فيها بربه، يدع الدنيا وراءه، إنها سُنّة الاعتكاف، وقد [كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَكِفُ كُلَّ رَمَضَانَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْمًا] رواه البخاري .
والاعتكاف المطلوب، ليس الاعتكاف الذي يجعل المساجدَ مهاجعَ للنائمين، أو مجالسَ للمتزاورين، وموائدَ للأكل، وحلقاتٍ للضحك وفضول الكلام، فهذا اعتكاف لا يزداد به صاحبه إلا قسوة في قلبه، إن الاعتكاف المطلوب، هو الذي تسيل فيه دموع الخاشعين، وترفع فيه أكف المتضرعين المخبتين، إنه الاعتكاف الذي لا يصرف منه لحظة في غير طاعة .
قال الزهري:'عجباً للمسلمين تركوا الاعتكاف، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم ما تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله'.
ولله في كل ليلة عتقاء من النار، فاجتهد أن تكون واحداً منهم !!
فرمضان فرصة لمن فرط في صلاته، ليتدارك نفسه، فبين الرجل وبين الكفر، أو الشرك ترك الصلاة، ورمضان فرصة للمدخن أن يتوب، ورمضان فرصة لمن قطع رحمه أن يصلها، ولا يدخل الجنة قاطع، فمن كان بينه وبين أحد من أرحامه، أو أحد من المسلمين، بغضاء أو شحناء، فليسارع إلى الإصلاح، وإذا صامت بطوننا عن الغذاء، فلتصم قلوبنا عن الشحناء،
إن رمضان فرصة لنا جميعاً، أن نتخلص من ذنوب لعلّ بعضها، تتبعنا إلى قبورنا، نعم، ذنوب تدخل معنا قبورنا، نموت نحن، وتعيش هي بعدنا، تصب علينا السيئات، إنها تلك الذنوب التي يجمعها من ينشر الفساد في الأرض عن طريق بيع أجهزة محرمة، أو فتح مقاهٍ يجتمع فيها الفساق، أو محلات ينشر بها مجلات فاسدة، أو مسكرات ودخان، فمن أعان على هذه المعاصي فهو شريك لأصحابها في الإثم، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة،
قال أبو حامد: طوبى لمن إذا مات ماتت معه ذنوبه، والويل الطويل لمن يموت وتبقى ذنوبه، مائةّ سنة، ومائتي سنة، أو أكثر، يعذب بها في قبره، ويسئل عنها إلى آخر انقراضها . وقال تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ[12] } [سورة يس] . أي نكتب ما أخروه من آثار أعمالهم، كما نكتب ما قدموه .
ومن أهم ما ينبغي أن نستغل به هذا الشهر المبارك: نصح الناس، ودعوتهم إلى الله، فقد أقبل الناس على الخير، وانتهى الكثيرون عن معاص كانوا مقيمين عليها فيما قبل رمضان، وكم من عاص كانت توبته في رمضان، بسبب آية طرقت سمعه، أو موعظة أثرت في قلبه، وقد قال صلى الله عليه وسلم : [ لَأَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ] رواه البخاري ومسلم .
وروى الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم قال: [إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ] رواه الترمذي والدارمي . ورب كلمة يتكلم بها الداعية، تكون سبب هداية لمن يسمعها، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً، يكتب الله له بها رضاه إلى يوم يلقاه .
ولقد دعا صلى الله عليه وسلم; إلى الله في كل مكان، وحال، وزمان، دعا من أحبوه، ومن أبغضوه، ومن أحسنوا معه، ومن آذوه، ولم يكن اهتمامه صلى الله عليه وسلم مقتصراً على كبار الناس المؤثرين في المجتمع، بل اعتنى بالصغار والكبار، والعبيد والأحرار، فيا أيها الصائمون والصائمات، هل نغتنم أيام شهرنا في ذلك ؟
إن اغتنمه التجار في التجارة، والممثلون في التمثيل، والمغنون في الغناء، أفلا نغتنمه نحن لهداية الناس، بالابتسامة، والكلمة، والرسالة، والكتاب، والشريط، والدعوة الصادقة، لعل الله تعالى أن يفتح بسببك القلوب .(/4)
وأسأل الله تعالى أن يوفقنا لصيام رمضان وقيامه،إيماناً واحتساباً، وأن يجعلنا ممن يقبل صيامه، ويغفر زلَلَهُ وإجرامه،
وأن يمُنّ علينا بالعتق من النيران، والفوز بالجنان، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
من محاضرة:' ربانيون لا رمضانيون ' للشيخ/ محمد بن عبد الرحمن العريفي .(/5)
ربما تكون الخاتمة
د. عبد الرحمن صالح العشماوي*
أعجبني منطق شابٍ ملتزمٍ بدينه، عابدٍ لربه يتعامل مع الناس بخلقٍ حسن، وابتسامةٍ تشرح الصدر مع كونه ذا تجارة ناجحةٍ، وقد كان مجاوراً لي في رحلةٍ جوية من الرياض إلى جدة، أعجبني منطقه حينما قال لي، بعد حوارٍ بيننا: إنني أنظر إلى ضرورة العمل الصالح وأهميته للإنسان من زاويةٍ مهمة، ألا وهي (الخاتمة)، فأنا أدعو ما يدعو كل مسلم ملتزمٍ بدينه دائماً بالثبات على الحق وحسن الختام، وأضع أمام عينيّ دائماً عبارة (إنما الأعمال بخواتيمها)، وأتذكر دائماً وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته ألا ينقطعوا عن سؤال ربهم حسن الختام، ولا أنسى أنه ليس هنالك أحد من البشر ولا من غيرهم من المخلوقات مهما أوتي من العلم يستطيع أن يحدد اللحظة التي سيودع فيها الحياة، ومن أجل ذلك عقدت العزم برغم التقصير على ألا ينقطع عني العمل الطيب، وإذا مالت نفسي إلى الدعة واللهو، وجنحت إلى بعض الملذات أحذرها مباشرة بقولي: (ربما تكون الخاتمة) وهل يرضى الانسان أن يختم حياته بسوء؟
منطق جميل من شابٍ ملتزمٍ بدينه، ناجحٍ في حياته.
قلت له: وأين أوقات عملك؟
قال: العمل في الدنيا إذا أصلح الإنسان نيته، وحفظ أمانته، وراقب ربَّه عبادة قلت له: كيف؟ قال: غاضبت مرة أحد العاملين عندي وقلت له كلاماً شديداً آذاه، وخرج مغضباً، وما إنْ غاب عن مكتبي شخصه حتى قلت لنفسي: (ربما تكون الخاتمة)؟ وانطلقت سريعاً، ولحقت به طالباً منه الرجوع، واعتذرت عما بدر مني من كلام لايليق، وطلبت صفحه عني، فما كان منه إلا أن بكى وهو يقول: أصفح عنك فيما قلت، وأطلبك أن تصفح عني فيما ارتكبت من الخطأ في العمل قلت له: نعم، فصار من أفضل العاملين، إنني بهذا أعبد الله وأنا أؤدي عملي الدنيوي.
قلت لهذا الشباب الرائع إن عتاب العامل على خطئه من باب حفظ أمانة العمل.
قال: نعم ولكن ذلك يمكن أن يحدث دون أن تسمعه كلاماً لايليق.
قلت في نفسي: ما أجمل هذا النموذج من المسلمين!
وخطرت ببالي صورٌ من السيرة النبوية الكريمة تؤكد ما قاله هذا الشاب في موضوع الرفق في الحديث مع المذنب حتى ونحن نعاقبه.
فهذا خالد بن الوليد رضي الله عنه يضرب بعظم كبير كان يُرْجَم، فينضح منه الدم على رداء خالد، فيسبّه، فنبهه الرسول صلى الله عليه وسلم قائلاً:
«لاتسبوا أخاكم»، إنه شرع الإسلام الذي لايحيق عن الحق، فهنالك عقاب للمخالف والمذنب تضبط به أمور الحياة، وهناك شفقة ورحمة، وحفاظ على إنسانية المذنب، لأن الخطأ لايلغي حقوق الإنسان الأخرى.
ربما تكون الخاتمة ذكرتني هذه الجملة البديعة بالقصة التالية:
قصة من السيرة يطرحها أبو هريرة رضي الله عنه على الصحابة رضوان الله عليهم في صورة سؤال قال فيه: حدثوني عن رجلٍ دخل الجنة، لم يُصل قط، فإذا لم يعرفه الناس سألوه، من هو؟، فيقول: أصَيْرم بني عبد الأشهل (عمرو بن ثابت بن وقش)، كان يأبى الإسلام على قومه، فلما كان يوم أحدٍ بدا له فأسلم، ثم أخذ سيفه فغدا، حتى دخل في عرض الناس، فقاتل حتى أثبتته الجراح، قال: فبينما رجال من بني عبد الأشهل يلتمسون قتلاهم في المعركة إذا هم به، فقالوا: والله إن هذا للأصيرم! ماذا جاء به؟ لقد تركناه وإنه لنمكر لهذا الحديث فسألوه: ماذا جاء بك يا عمرو، أحدبٌ على قومك، أم رغبة في الإسلام؟ فقال: بل رغبة في الإسلام آمنت بالله وبرسوله وأسلمت ثم أخذت سيفي، وغدوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتلتُ حتى أصابني ما أصابني، فما لبث أن مات، فأخبرهم الرسول عليه الصلاة والسلام إنه من أهل الجنة.
إشارة:
ربح الذي فينا ينزه قوله *** عن كل قولٍ ساقطٍ متهلهلٍ(/1)
ربيع المؤمن
بقلم : موقع الشبكة الليبية
تبارك الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ، والحمد لله الذي جعل الشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم ، سبحانه ؛ يسبح الرعد بحمده والملائكة من خِيفته ، وتبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا ، والحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما ، سبحانه متصف بصفات الكمال والجلال ، منزه عن النقص والمثال ، أشهد أنه ربي حقا حقا والصلاة والسلام على الرحمة المهداة والنعمة المسداة نبي الرحمة للعالمين ، خير ولد آدم ، وأعبدهم وأتقاهم لربه ؛ صلى الله عليه مادام الليل والنهار صلاة تامة دائمة إلى يوم التغابن، أشهد بحبه وأنه رسول الله حقا حقا ، ورضي الله عن الصحابة الكرام خير خلق الله بعد الرسل الكرام ، رافعي لواء المجد ، حاملي لواء الدين ، ومن سار على دربهم ولزم غرهم إلى يوم تبلى فيه السرائر .
أيها الأحبة :
لم يتغزل الأدباء في فصل من فصول العام كمثل تغزلهم ووصفهم للربيع ، فأمسوا يصفونه ويتغزلون في حسنه وجماله ، وما يعود على النفس من بهجة وسرور ، فعند إقبال الربيع ؛ تتزين الأرض وتلبس أجمل الحلل ، تغري بها أصحاب الذوق الرفيع ، ومتذوقي الجمال ..
فالوجه الطلق الضحوك ـ من الحسن والجمال ـ حتى كأن يريد أن ينطق بحسنه وجماله ، تتفتح أوائل أوراق ورده خجلى ؛ ببرد الندى ، كأنه يوصل بينهن حديثا خاصا مكتوما ، وبات الندى عليها كمثل لآلئ قد زاد منهن الفرادى التوأم ، وتبدو الأرض من جمالها كأنها العروس في زفافها ، تعطي للعين بشاشة من بعد نضارة بدت في محياها ، تدفع بذلك قذى العين وما لفها من أيام مضت ، وينشر نسماته العطرة كأنها تهب بأنفاس الأحبة ، نعمة من الله .
وأي حبيب أقرب من محمد عليه الصلاة والسلام . عجز الأميري أن يصف ربيعه فقال :
ربيعك للروح كالبلسم *** بهيج الضحى رائق المبسم
يحرك في النفس وجدانها *** ويطلقها من إسار الدم
ويبعثها حرة لا تضيق*** بكيد العواذل واللوم
ويرفعها من حضيض التراب *** إلى الأفق الأرحب الأكرم
ويغمرها بحنان السماء *** و يمنحها هيبة المسلم
فتشرق في القلب أنواره *** وينبض بالحمد للمنعم
ويمشي سويا على منهج *** سليم يؤدي إلى أسلم
ويعبق فيه أريج الهدى *** زكيا يطول على الموسم
أرقُ وأندى من الياسمين *** وأبهى جمالا من البرعم
ربيعك يا سيد الكائنات *** سناه ينير القلوب العمي
ويروي غليل العطاش الذين *** يرون السراب كسيل طمي
أعد الأبيات وكرر وتمعن ثم صلي على الربيع الدائم .... ( محمد)
فالأديب الحق له مزيتان : إحداهما تذوقه لما يراه ويسمعه ذوقا عميقا كأنه يجد حلاوته في فمه ، لكنه يجدها في نفسه ، وثانيهما قدرته على تحويل تلك المعاني التي يجدها في نفسه إلى كلمات تعبر أصدق التعبيرعما يجول في خاطره وما يتذوقه.
هذا هو الربيع ... وهذا هو الأديب
غير أن المؤمن الحصيف يمتلك مزيتان أكثر مكانه مما يملكه الأديب هما : أسساً وحساً تؤهلانه لأن يتذوق ما حوله ، وأن يعبر عن هذا التذوق في صورة عمل ، ليس بالضرورة أن يكون بيانا بألفاظ ، بقدر ما يكون بيانا بأعمال ، هذا دأب المؤمن ؛ فإن كان أديبا مسلما فذلك الزبد بالعسل ؛ كما قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه.
أسساً تمكنه من فهم ما حوله ربما بطريقة يميزها حسه الإيماني ونظرته إلى الدنيا والآخرة ... وحساً يمسيه متأثرا غاية التأثر بما يسمع ويرى ويعقل .
قال تعالى : ) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (الأنفال:2
وصف الله تعالى المؤمنين في هذه الآية بالخوف والوجل عند ذكره . وذلك لقوة إيمانهم ومراعاتهم لربهم , وكأنهم بين يديه .
وقال سبحانه ( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ) الزمر:23
تضطرب وتتحرك بالخوف مما فيه من الوعيد . وقال زيد بن أسلم : ذرأ أبي بن كعب عند النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه فرقوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اغتنموا الدعاء عند الرقة فإنها رحمة ) .
وعن العباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا اقشعر جلد المؤمن من مخافة الله تحاتت عنه خطاياه كما يتحات عن الشجرة البالية ورقها ) . وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ما اقشعر جلد عبد من خشية الله إلا حرمه الله على النار ) .(/1)
وعن شهر بن حوشب عن أم الدرداء قالت : إنما الوجل في قلب الرجل كاحتراق السعفة , أما تجد إلا قشعريرة ؟ قلت : بلى ؛ قالت : فادع الله فإن الدعاء عند ذلك مستجاب . وعن ثابت البناني قال : قال فلان : إني لأعلم متى يستجاب لي . قالوا : ومن أين تعلم ذلك ؟ قال : إذا اقشعر جلدي ، ووجل قلبي ، وفاضت عيناي ، فذلك حين يستجاب لي . راجع تفسير القرطبي.
والمسلم إذ هو كذلك لا ينسى ما رواه مسلم في صحيحه ( إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ )
فهو يسعى للجمال يتذوقه ويحبه ويحرص عليه لأن الله جميل يحب ذلك منه .
( إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ ) … فيكون المؤمن موقنا بهذا يسعى للجمال ، يتذوقه ، يحبه ، ويحرص عليه ؛ لأن الله جميل يحب ذلك منه .
أخرج الإمام أحمد في مسنده عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { الشِّتَاءُ رَبِيعُ الْمُؤْمِنِ } . وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وقال : " رواه أبو يعلى و إسناده حسن " .. وبالرغم من أن الشيخ الألباني- رحمه الله - ضعفه في صحيح الجامع ، لكن كلام الإمام الهيثمي واضح ، وعلى أي حال فمعنى الحديث صحيح صحيح .
أرأيتم كيف تتغير فصول السنة في حس المسلم ، وفقا لأسسه وحسه ، ليكون الشتاء بمطره وبرده وثلجه وصقيعه ؛ ربيعاً تتفتح فيه أزهار قلبه ، وتنتشر الزينة بين جنبات نفسه ، يجمع في موسمه هذا وروداً وأزهاراً ، ويطلق لعيني بصيرته العنان لتنعم بمناظر الرقي والقرب من الله تعالى .
وإنما كان الشتاء ربيعاً للمؤمن لأنه يرتع فيه في بساتين الطاعات ، ويسرح في ميادين العبادات ، وينزه قلبه في رياض الأعمال الميسرة فيه .
وإذا كنا قد ذكرنا بأن للمؤمن حساً يشعر فيه بالخوف من الله تعالى ويقشعر بدنه من آيات الله سبحانه وتعالى ، فإن المقابل لهذه الروح المحبة للقرب من الله : أن الله يضحك لصنيع عبده ! ، جزاء قيامه من فراشه الوفير ، ودفئ جسده ، طالبا الدفء لروحه وقلبه .
فعن عبد الله بن مسعود أنه قال { ألا إن الله يضحك إلى رجلين : رجل قام في ليلة باردة من فراشه ولحافه ودثاره ، فتوضأ ، ثم قام إلى الصلاة ، فيقول الله عز وجل لملائكته : ما حمل عبدي هذا على ما صنع ، فيقولون: ربنا رجاء ما عندك ، وشفقة مما عندك ، فيقول فإني قد أعطيته ما رجا،وأمَّنته مما يخاف }. الطبراني في الكبير وقال الهيثمي في مجمع الزوائد حسن .
فهي المعاني كلها تجتمع لك أيها المؤمن في فصل الربيع هذا ، وأنت تتجول بين سهوله الخضراء ، وتنهل من أنهاره الصافية العذبة ، و تتمتع بظله الوافر ، تترقى ؛ بين ربى الأعمال الصالحة ، وتستنشق عبير الطاعات ، لتطمئن نفسك ويصلح حالها ، وتشعر بالدفء الحاني ، والسمو الإيماني ، تنزل منكسرا متضرعا ، فتصعد مجبورا باسما ، تتخلق بالجميل سبحانه ، من بعد ضحكة زينت بها دربك الوتير .
وأنا إذ أذكرك ونفسي بهذا الخير يسرني أن أقدم لك باقة من الزهور الإيمانية ، ناصحاً لك على الخير ، و داعيا لك بكل فلاح وهدى .
بدء الخير والفلاح ..
عن أبي هريرة َقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلَاتُهُ فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ فَإِنْ انْتَقَصَ مِنْ فَرِيضَتِهِ شَيْءٌ قَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ انْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ فَيُكَمَّلَ بِهَا مَا انْتَقَصَ مِنْ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ يَكُونُ سَائِرُ عَمَلِهِ عَلَى ذَلِكَ . الترمذي وقال حسن ، و أخرجه الترمذي بسند صحيح . راجع تحفة الأحوذي .
هذا أول ما نقدمه لك وأنت تلج بستانك الإيماني هذا ؛ لأنها أول ما تحاسب عليه ، فإن كان يبس الخريف قد أيبس الخشوع في قلبك ، أو حر الصيف قد جفف دموعك ، فها هو ذا ربيعك الماطر قد ولج ، يسقي الأرض بماء طهور ، لتسقي مآقيك بخير ونور ، وتهطل في قلبك الساجد مزيد إشراقات الصلاة .. تبتغي الفلاح والنجاح ، وتهرب من خيبة وخسران .. لتتعلم كيف ترتب أولوياتك وتصنع فيها صبغة النجاح ، فتكون صاحب فلاح في بدء أمرك ، ليكون بدء المسير مضيئا .. فلا تغفل عن هذا الأصل .
كن وليا لله ... ولا تلتفت
هو هو أبو هريرة يهديك طبقا آخر من الخير ، إذ يقول : ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله قال : من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه ، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ؛ فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، وإن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه ، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته ) البخاري .(/2)
فملازمة النوافل والحرص عليها هي الطبق الذهبي التالي ، ويكون تقربك من الله بها بإيمانك ثم إحسانك ، فيقرب الرب الكريم منك بما يخصه به في الدنيا من عرفانه ، وفي الآخرة من رضوانه ، وفيما بين ذلك من وجوه لطفه وامتنانه ، فاقترب منه سبحانه وابتعد عمن خلق إذ أنت تريد القرب في سجود وخشوع وإنابة .
كي يحبك ! ويحك تتقرب ليحبك ! ، فما تريد بعد ! وكيف حبه ؟ حبا يتصل بكل جارحة فيك .. حبا يقلب لك جسدك كله .. حبا ترى به سبحانه كل الوجود .. وتسمع به .. وتبطش به .. وتسير به .. تبصر تسمع تبطش وتسير معه وبه ! .. ليصل الحب إلى روحك فتستعيذ به عز وجل فيعيذك .. وتسأله فيعطيك ! .. وأنت ما عليك إلا القرب .. يحبك الله .. فيأتيك الموت وأنت له مؤثر وإليه مشتاق .. وما عليك إلا أن تتقرب .
بذا تكون وليا يدافع الله عنك سرا وجهرا ، علانية ورمزا ، وله في حبه هيام ، وفي هيامه وجد ، وهل الحب إلا عمل في القلب والحال معا ..
راية الحب الرباني ..
ويقدم لك الصحابي المبارك ـ أبو هريرة رضوان الله تعالى عليه ـ راية الحب بنداء رباني يردده الروح الأمين ويردده معه أهل السماء ، إذ يقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا أحب الله عبدا نادى جبريل إن الله يحب فلانا فأحبه فيحبه جبريل فينادي جبريل في أهل السماء إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في أهل الأرض ) البخاري .
ذكر ابن كثير في تفسيره ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب " إن الله أمرني أن أقرأ عليك" لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب " قال وسمانى لك ؟ قال " نعم " فبكى ) وقال أخرجه البخاري ومسلم .
أبي بن كعب الصحابي الجليل يفرح ويبكي لكون الله ذكر اسمه ، فكيف بك وقد ذكر الله اسمك لجبريل ، وجبريل يذكره لأهل السماء ، ويكتب لك القبول في الأرض ! ، أتراك تبكي وتتقرب ، أم تراك تبكي وتقصر ، أم تراك تبكي وتراوح ، أتترك الخير والفلاح وأول أمرك ، و لا تهيم بالولاية ، ثم تطلب ذكر اسمك ! ، هذا لعمري من الطلب الكاذب ... فها هي زهرات الخير والفلاح قد تفتحت ، وها هي ذا الأبواب مفتحة لك لتقترب .. وهي هي ثم راية الحب يعطيها الله وعدا لك ؛ إن حرصت وجعلت القرب لك عادة ، والصدق معه عبادة ، والإحسان للخلق سجية ، وبكاء أبي بن كعب حافز لك ومعين ... ولا تلتفت لما يقوله الخلق ، من بعد أن قال رب الخلق أجمعين .. ثم ارفع يديك لله أن يوفق ويرحم .. فهو سبحانه نعم المعين ...
وبعد أن عرفت فقه الولاية ودربها الجميل العالي ؛ درب الحب الرباني ، والعاطفة الرحمانية ، آن لك الولوج لباب العمل ، وتشمير الساعد ، والتطلع للفردوس وعليين ، وبناء منهجي موثوق في جنان الخلد أيها المؤمن :
ابن لك بيتا في الجنة
عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا قَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ ( مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يُصَلِّي لِلَّهِ كُلَّ يَوْمٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً تَطَوُّعًا غَيْرَ فَرِيضَةٍ إِلَّا بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ أَوْ إِلَّا بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ . ) رواه مسلم ... قَالَتْ أَمُّ حَبِيبَةَ فَمَا بَرِحْتُ أُصَلِّيهِنَّ بَعْدُ .
قلها : ربح البيع ربنا ، تصلي ثتني عشرة ركعة ببيت في الجنة !! ، ما الذي نريد من ربنا ! وأي جهد نبذله لهذا العطاء والكرم من الكريم المنان ، الرحيم الرحمن ، ما أكرم عطاء ربنا ، نصف ساعة في اليوم أو أقل ببيت في الجنة !! ، أي عقد للعمل هذا ! ، أم أي تجارة هذه ! .. سبحانك لا نثني عليك أنت كما أثنيت على نفسك ....
أرض لها ذهب والمسك طينتها ..... والزعفران حشيش نابت فيها
أنهارها لبن محض ومن عسل ..... والخمر يجري رحيقا في مجاريها
بيتٌ وأي بيت في أرض الجنة ؛ وأي جنة :
بناؤها : لبنة من فضة ولبنة من ذهب وملاطها المسك وحصباؤها اللؤلؤ و الياقوت و تربتها الزعفران . أنهارها : فيها نهر من عسل مصفى و نهر من لبن و نهر من خمر لذة للشاربين و نهر من ماء ، وفيها نهر الكوثر للنبي محمد عليه الصلاة والسلام أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل فيه طير أعناقها كأعناق الجزرـ أي الجمال ـ .
خيامها : فيها خيمة مجوفة من اللؤلؤ عرضها ستون ميلاً في كل زاوية فيها أهلٌ يطوف عليهم المؤمن .
أهلها : أهل الجنة جرد مرد مكحلين لا يفنى شبابهم ولا تبلى ثيابهم ، وأول زمرة يدخلون على صورة القمر ليلة البدر لا يبولون و لا يتغوطون ولا يمتخطون و لا يتفلون أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك ومباخرهم من البخور .
خدمها : ولدان مخلدون لا تزيد أعمارهم عن تلك السن إذا رأيتهم كأنهم لؤلؤا منثورا ، ينتشرون في قضاء حوائج السادة .
نعيمها : يقال له تمنى ، فعندما يتمنى يقال له لك الذي تمنيت وعشر أضعاف الدنيا .(/3)
قمة النعيم فيها : أعظم النعيم لأهل الجنة رؤية الرب عز وجل ( وجوه يومئذ ناظرة ) .
فيا لها من كرامات إذا حصلت .... و يا لها من نفوس سوف تحويها
وبيتك وسط هذا كله ، بثنتي عشرة ركعة ... فهل تعجز ... اللهم لا
ياه ، كل هذا بثنتي عشرة ركعة ! ، كل هذا في ربيعك تقدر أن تزرع تلك المعاني في قلبك ، فيكون الربيع هو أول تفتح الخير ، ليستمر النماء بخضرة وبهاء طوال عمرك ، وكيف لا وقد حل الربيع في خير الشهور ؛ رمضان لتضاعف أعمالكم ، وتكسب بها سقاء الرضوان ، بقدر تقربك وبقدر
حبك ، وبقدر غرسك وسجودك وتنفلك ، تكون أنت القريب الحبيب ممن ؟؟ من الله .
وأعلم أن هذا المضمار لست فيه وحدك ، فإن كان الخطاب يخص لمن حرص على ثنتي عشرة فاعلم أن هناك من يضاعف الأرقام ، وله قرب كبير ، وهزته الأشواق ، وحن للحبيب ، فهل تكسل ! اللهم لا .
وخذ معك في بيتك ، آل بيتك ومن تحب ، وصف لهم البيت وعماره ، وحثهم عليه ، كي يشاركونك فيه فتذكر نداء الله تعالى إليك :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) التحريم:6 .
تعلم فن الغراس ... وكن حارثا نبها
في بيتك وقصرك في الجنان حديقة غنّاء ولها غراسها الخاص بها ، ومناسب لتربتها المتميزة . وهي لا نبت فيها إلا ما زرعت ، وتخيل حديقة كبيرة من غير زرع ولا شجر ولا أزهار ، وحدائق غيرك مغرية خضراء عالية ، فكن ماهرا وسابق .
عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلَامَ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ عَذْبَةُ الْمَاءِ وَأَنَّهَا قِيعَانٌ وَأَنَّ غِرَاسَهَا سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ . الترمذي وقال حسن غريب . خرجه الماوردي بمعناه . وفيه - فقلت : ما غراس الجنة ؟ قال : ( لا حول ولا قوة إلا بالله ) .
وخرج ابن ماجة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر به وهو يغرس غرسا فقال :
( يا أبا هريرة ما الذي تغرس؟ ) قلت غراسا . قال : ( ألا أدلك على غراس خير من هذا سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر يغرس لك بكل واحدة شجرة في الجنة ) .
وليس شجر الجنة كأي شجر ، بل هو الذهب في ساقها ؛ عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما في الجنة شجرة إلا وساقها من ذهب ) قال الترمذي هذا حديث حسن غريب ، وأخرجه ابن أبي الدنيا وابن حبان في صحيحه .
ونوّع غراسك في حديقتك الغناء وكن نبها في فن الغراس ؛ عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من قال سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة . أخرجه الترمذي وابن حبان في صحيحه والحاكم .
* باقة كالريحان ..فلا تردها *
أيها الحبيب:
اقبل باقتي على طبق مذهب يحل لك استعماله،فهذا ما أول نقدمه لك وأنت تلج بستانك الإيماني هذا فلا تغفل عن هذا الأصل .حتى إذا أطلقت لنفسك العنان تريد متعة النظر إلى الجمال والطبيعة ، وروعة خلق الله تعالى نعطيك هذه الوردة الجميلة، والتي أسمها :
كثر غراسك .. فإن أرضك واسعة كبيرة .. ولن يغرسها غيرك.
فلا تغفل أيها الحبيب عن هذا الخير ... واجتهد أن يكون بستانك عامرا ..وما أن بدأت في غراسك المبارك حتى همسنا في حنايا نفسك ، ولمسنا مشاعرك وعاطفتك وإيمانك ، بعطر مبارك ، تتشوق إليه نفسك ... للتتذكر أن :
لك بيتا في الجنة فلا تهمل صيانته وعمارته :
هذا البستان الربيعي الجميل ... عليك أن تنظر إلى كنزك فيه ، فلا تهمله ، ولا تكثر الغياب عليه ..
عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَكُنَّا إِذَا عَلَوْنَا كَبَّرْنَا فَقَالَ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا قَرِيبًا ثُمَّ أَتَى عَلَيَّ وَأَنَا أَقُولُ فِي نَفْسِي لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ فَقَالَ لِي يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ قُلْ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ فَإِنَّهَا كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ . البخاري
فلا تشتغل بما تظن أنه كنز في الدنيا عن كنز يدلك عليه الصادق المصدوق ، بل أكثر من هذا الكنز في أرضك ، قد جهدك ، وقدر ما يحيط بك من قوى مادية طاغية.
أيها الحبيب :
إياك إياك أن تجعل لشيء من لهب المعاصي أن يقترب من بستانك الجميل .. فلا يكفي أن تمتنع فقط بل أجعل بينك وبين لهيبها بوناً كبيرا لتنجو ..(/4)
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَاعَدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا . رواه مسلم
وجهك الوضاح هذا نريد له الخير ، نريد له ألا يمسه ما يؤذيه ، فاحفظ هذا ، ولا تلتفت إلى ما سواه ..
فإن أردت الضياء .. أردت النور .. تنير دربك .. تنير بصرك .. تنير بصيرتك .. فلا تنسى حبيبك ... وتذكره فهو ربيع بذاته ...وكرر معي: اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
صلى الله عليك أيها النبي الكريم وسلم وعلى آل بيتك الأطهار وصحبك الأبرار ..
هذا هو النور الذي ندعوك إليه ...
عن أنس رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من صلى عليّ واحدة ، صلى الله عليه بها عشرا } صحيح الجامع 6358 .
وما معنى أن يصلي عليك ربنا أيها المؤمن إذ أنت صليت على نبينا الحبيب عليه الصلاة والسلام ..
قال تعالى { هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} (الأحزاب:43)
فهو النور الذي يشرق في سماء نفسك ، وفي أفق عقلك وفكرك ... يبدد ظلمات المعاصي .. ويطرد عنك آثارها .. وبقدر كثرة صلاتك على الحبيب المصطفى بقدر ما تحوز من الخير والنور ... آلا ترى ذلك الصحابي الكريم الذي قال للرسول صلى الله عليه وسلم أجعل لك كل صلاتي فقال عليه الصلاة والسلام ( يكفك الله أمر الدنيا والآخرة)..
لا تبتعد أيها الحبيب فما زلت أريدك ... تذوق ما أعطيتك من باقتي هذه .. ولا زالت لم تكتمل بعد.
أيها الحبيب :
بعد أن أشرقت نفسك بكثرة الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ هاهو ذا يناديك الحبيب يا محب ، يناديك لتتمتع بجمال الربيع ولا تكدر نفسك :
{ مَنْ لَزِمَ الِاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } . أبو داود و النَّسَائِيُّ وَابْن مَاجَهْ .
فإن كان لك ضيق ... أو غلب عليك هم ... أو ضاقت بك سبل العيش والرزق الحلال ، فهلا أكثرت من الاستغفار ، وداومت على طرق الباب فإنه :
أخلق بذي الصبر أن يحضى بحاجته **** ومدمن القرع للأبواب أن يلج
أيها الحبيب :
حتى إذا ما هدئت نفسك في هذا البستان الجميل ، دعوتك للجلوس تحت شجرة عظيمة ، ممتدة الظل ، أصلها ثابت وفرعها في السماء ؛ شجرة العبودية الوافرة العطاء ، تجلس تحتها ، لتكسر نفسك ُتجبرها من كسر ألمّ بها ، تذلها بين يدي الكبير المتعال ، تطأطأ رأساً بين يدي الملك الديان ، تطلب العون والتوفيق ، والصفح والمغفرة ... ترفع يديك ... تستشعر عظمة الرب الكريم الودود لتتودد إليه لنفسك .
وها أنا ذا أمدك بدعاء لو وزن بذهب لما شاطت كفته أبداً ..
{ اللهم اجعل غُدُونا إليك مقرونا بالتوكل عليك ، ورواحنا عنك موصولاً بالنجاح منك ، وإجابتنا لك راجعة إلى التهالك فيك ، وثقتنا بك هادية إلى التفويض إليك ، اللهم أعذنا من جشع الفقير ، وريبة المنافق ، وطيشة العجول ، وفترة الكسلان ، وحيلة المستبد ، ورِقبة الخائف ، وطمأنينة المغرور .. يا ودود يارب العالمين ... اللهم أسألك أن تجعل الإخلاص قرين عقيدتي ، والشكر على نعمتك شعاري ودثاري ، والنظر في ملكوتك دأبي وديدني ، والانقياد لك شأني وشغلي ، والخوف منك أمني وإيماني ، واللياذ بذكرك بهجتي وسروري .. اللهم إني اسألك خفايا لطفك ، وفواتح توفيقك ، ومألوف برِّك ، وعوائد إحسانك ، وجاه المقدمين من ملائكتك ، ومنزلة المصطفين من رسلك ، ومكانة الأولياء من خلقك ، وعاقبة المتقين من عبادك ... يا رب يا رب أسألك القناعة برزقك ، والرضا بحكمك ، والنزاهة عن محظورك ، والورع في شبهاتك ، والقيام بحججك ، والاعتبار بما أبديت ، والتسليم لما أخفيت ، والإقبال على ما أمرت ، والوقوف على ما جزرت ... لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا أقل من ذلك يا رب العالمين }.
وبعد أن تجفف دموعك من مناجاة الرب الرحيم ... اسمح لنا بزيارة لك ، وأن نكون ضيوفاً عندك، تحت نفس الشجرة ـ شجرة العبودية الوافرة الظلال ـ وسيكون ضيوفك قومٌ سبقوك إلى هذا الربيع الُمزهر ، ونهلوا منه أطيب الثمر ، وهم اليوم عند ربهم ، ينبئونك بخبر مفيد ، فأفسح لهم في مجلسك ..
أول القوم قدوماً عليك هو الإمام ابن القيم عليه الرضى والقبول ، إذ يهمس في أذنك وهو يعانقك : ( سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول : في بعض الآثار الإلهية قول الله تعالى: إني لا أنظر إلى كلام الحكيم ، وإنما أنظر إلى همته ) . لعل هذه العبارة تزيد من شوقك للذلة بين يدي من له الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم .(/5)
وهذا ابن الجوزي ينصحك كابن له ويعطيك لفتة من كبده فيقول : ( ما تقف همة إلا لخساستها ، وإلا فمتى علت الهمة فلا تقنع بالدون ؛ وقد عرف بالدليل أن الهمة مولود مع الآدمي ، وإنما تقصر بعض الهمم في بعض الأوقات ، فإذا حثت سارت ، ومتى رأيت في نفسك عجزا فسل المنعم ، أو كسلاً فسل الموفق ، فلن تنال خيراً إلا بطاعته ، فمن الذي أقبل عليه ولم ير كل مراد ؟ ومن الذي أعرض عنه فمضى بفائدة ؟ أو حظي بغرض من أغراضه ؟ )
أيها الحبيب : افهم مراد القوم ؛ فإنهم ناصحون لك ، ولا تسوف ، ولا تؤجل ، فالبدار البدار ، إنما هو بستانك في الجنة ـ بحول الله ـ فلا تكسل عن العناية به .
فكن صاحب همة عالية ، ونية صادقة ، فإن غفوت فلا تطيل الرقاد ، بل نم على أحسن النيات ..
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك فيما يرويه عن ربه : ( إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً ) البخاري عن ابن عباس .
وهو الذي قال عليه الصلاة والسلام : ( مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ ) مسلم .
وهو الذي قال عليه الصلاة والسلام في حق المتخلفين عن غزوة تبوك من الحريصين على الخروج معه : ( لَقَدْ تَرَكْتُمْ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ وَلَا قَطَعْتُمْ مِنْ وَادٍ إِلَّا وَهُمْ مَعَكُمْ فِيهِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَكُونُونَ مَعَنَا وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ ) أبو داود ومسلم .
فلا أقل من نية طيبة ، تجوب بها أودية أفغانستان ، وجبال الشيشان ، أو هضاب بيت الأقصى المبارك .. إذ أنت في محرابك ، قد حبسك العذر .
لا تعجب أيها الحبيب فقد تسبق بهمتك قوم آخرين :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ ،
قَالُوا: وَكَيْفَ ؟؟
قَالَ : كَانَ لِرَجُلٍ دِرْهَمَانِ تَصَدَّقَ بِأَحَدِهِمَا ، وَانْطَلَقَ رَجُلٌ إِلَى عُرْضِ مَالِهِ فَأَخَذَ مِنْهُ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَتَصَدَّقَ بِهَا . النسائي بسند جيد
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه **** وأيقن أنّا لاحِقان بقيصرا
فقلت له لا تبكِ عينك إنما **** نحاول مُلكا أو نموت فنُعذرا
وقبل أن يسير من عندك القوم هذا وليد الأعظمي يقول في مجلسك خاتماً زيارة القوم لك :
عاد الربيع جميلاً في مباهجه *** إن الربيع لمعنى من معانينا
فهل يعود ربيع الروح ثانية *** بالحق والعدل والإيمان مقرونا ؟
ما قيمة الحسن والأرواح ذابلة *** تستمريءُ الذل والإفساد والهونا
رانت عليها الخطايا فهي صائدة *** والقلب يصدأ إن لم تجله حينا .
وقبل أن أودعك .. أيها الحبيب .. أجد نفسي ملزما بحسن الختام معك .. وقبلا منك بذكرى رسول الله صلى الله عليه وسلم :
كالروح والريحان ذكرك يعبق **** فتهلل الدنيا له وتصفق
وتسرها ذكرى ربيع محمد **** حيث الحياة جميلة تتألق
يهتز عند الفجر نفح عبيرها **** كالمسك في أرجائها يتفتق
وربى موشاة الأديم بسندس **** خضر تموج كأنها إستبرق
وجداول ماء العيون كمائها **** عذبا يفيق وسلسلا يترقرق
والأقحوان الطلق يبسم ثغره **** والياسمين منضد ومنسق
وعيون نرجسة له ترنوا كما **** يرنو المحبُ إلى الحبيب ويحدق
وتطير ما بين الزهور فراشة **** طوراً تغيب بها وطورا تُشرق
هذا ربيع محمد وبهاؤه **** كل القلوب لحسنه تتعشق
وتعيش بالذكرى تجدد عهدها **** بالحق والخير الذي يتدفق .
وهذا ما جاد به القلم ، والله الحافظ من الزلل ، وصلي اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين(/6)
رثاء الرسول القائد
حسان بن ثابت
بطيبةَ رسمٌ للرسولِ iiومعهدُ
ولا تنمحي الآياتُ من دارِ iiحرمةٍ
وواضحُ آياتٍ، وباقي iiمعالمٍ
بها حُجراتٌ كان ينزلُ iiوسطَها
معالمُ لم تطمسْ على العهد iiآيُها
عرفتُ بها رسمَ الرسولِ وعهدَه
ظللتُ بها أبكي الرسولَ، iiفأسعدتْ
تَذكَّرُ آلاءَ الرسول، وما iiأرى
مفجَّعةٌ قد شفّها فقدُ iiأحمدٍ
وما بلغتْ من كل أمر عُشيرَه
أطالتْ وقوفاً تذرفُ العينُ iiجهدَها
فبوركتَ، يا قبرَ الرسولِ وبُوركتْ ... منيرٌ، وقد تعفو الرسومُ iiوتهمدُ
بها منبرُ الهادي الذي كان يَصعدُ
وربعٌ له فيه مصلّى iiومسجدُ
من اللهِ نورٌ يُستضاءُ، iiويُوقدُ
أتاها البِلى، فالآيُ منها iiتَجددُ
وقبراً به واراه في الترب iiمُلحدُ
عيونٌ، ومثلاها من الجفن iiتُسعدُ
لها مُحصياً نفسي، فنفسي iiتبلّدُ
فظلتْ لآلاءِ الرسول iiتُعددُ
ولكنَّ نفسي بعضَ ما فيه iiتَحمدُ
على طللِ القبرِ الذي فيه iiأحمدُ
بلادٌ ثوى فيها الرشيدُ iiالمُسدَّدُ(/1)
رثاء الشيخ أحمد ياسين ـ رحمه الله ـ
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
يا لَلْبَشائِرِ مِنْ سَبيلٍ دَامٍ طلَعتْ تُصَدِّقُ وَثْبَة الإقدامِ ... ...
لا تَأسفنَّ ! فقد رَبِحْتَ وفُزْتَ في شَرَفٍ أَبرَّ وجَوْلةٍ و مَرامِ ... ...
ما كِدْتَ تَخْرجُ من أَبَرِّ عِبَادةٍ حتى هَرَعْتَ إلى أَعَزِّ وسامِ ... ...
ونََثرْتَ في الفجرِ المنوّر مِنْ دمٍ حُرٍّ لِتُشْرِقَ زهوةُ الأحلامِ ... ...
والفجرُ ! يا لَلْفَجْرِ دفقةُ نوره خَفْقُ الدّماء وعَزْمةُ الإلهامِ ... ...
شُعَلُ الدِّماء تُضيء كُل َّ ثّنيّةٍ وتُزيلُ كُلُّ ظُلامةٍ و ظَلامِ ... ...
وكأنَّما فجْرٌ أَطلّ و أقْبلتْ منه زُحُوفُ كتائبٍ و خِيامِ ... ...
عَبَقٌ ! و نشْرُ المسْكِ مِنْ أنفاسِهِ و رفيفُ أنداء وظلُّ غَمامِ ... ...
و حَنينُ أفئدةٍ تُظلِّلُ مَوْكِباً يَسْعى إلى خُلْدٍ و طيب مَقَامِ ... ...
و رفيفُ أجنحة الطيور كأنّها ذُهِلَتْ لمصرعه و شَدْوُ حمامِ ... ...
والرَّوضُ والزّهْرُ المفوِّحُ والنّدى يا لوعةَ الأنداء و الأنسامِ ... ...
يَسْري النسيمُ بها على كلّ الرّبا فَتُعيدُ من حََزنٍ ومن آلامِ ...
*** ... ... ***
يا سينُ ! صبرك والرَّدى مترصّدٌ قَدَراً و سُنّةَ خالقٍ عَلامِ ... ...
يُوفي به الرّحمنُ أجْر الصّابر ينَ نعيمَ جَنّات وصِدْقَ سلامِ ... ...
و يَرُدُّ حَشْدَ المُجْرمين لِمَهْلكٍ نارٍ تأجّجُ أو لهيبِ ضرامِ ...
زَعَمُوا بَأنّك مُقْعَدٌ يا ويْحَهمْ المُقْعَدون هُمُ و جَمْعُ نِيامِ ... ...
فَزَعُوا إلى عَرَضٍ فأقْعَدَ عزمَهم ذُلُّ التنافسِ في رخيصِ حُطامِ ... ...
*** ... ... ***
إنَّي لأعْجب أن يَهبَّ إلى الرّدى نَفرٌ ويَنْأى الحَشْدُ من أقوامِ ... ...
عجَباً كأن مرابع الأقصى قضـ ـيّةُ عُصْبةٍ فيه وأهلِ خيامِ ... ...
عجباً ! وما زال الدَّويُّ مُرَجّعاً مِنْ ساحِهِ شكْوى وطُولَ مَلامِ ... ...
أبِكلِّ يومٍ صَرخةٌ دوّتْ بها الأ شْلاء تُنْثَرُ أو جريحٌ دامِ ... ...
و مِن الثكالى رُوِّعتْ بفقيدها ومِن الرضيع وصَيْحةِ الأيْتامِ ... ...
دوّى النّداءُ و زلزلَ الآفاقَ ! هَلْ مُصْغٍ يُجيبُ ويقظةٌ لِنيامِ؟! ... ...
تَهْوي العَمائر و الكبودُ تَقطّعتْ والنَّاس بين تَشَرُّدٍ و خِيامِ ... ...
عَجَباً أتَنْتفضُ الحجارةُ و الرُّبا وتَغيب عنها نَخْوةُ الأرحامِ ؟! ...
*** ... ... ***
أين السبيلُ ؟! فهل لأجْل دُوْيْلَةٍ؟! خُنِقتْ تَثُور مَطامع الأقوام ِ؟! ... ...
أين السبيلُ ؟! وهَلْ يُقَرُّ الغَاصبو نَ ؟! وأيُّ نَهْجٍ يُرْتَجى لسلام؟!ِ ... ...
كَيْف التنازلُ و الرُّبا خَفَّاقةٌ ودمٌ تَفجَّرَ والقلوب دوامي ؟! ... ...
وطُيوفُ تاريخٍ ووحْيُ نُبُوّةٍ وجَلالُ إسْراءٍ وعِزُّ مَقَامِ ... ...
*** ... ... ***
أنا لسْتُ مَنْ يَبْكي الشّهيدَ فإنَّه حيٌّ بِدارِ كَرَامَةٍ وكِرامِ ... ...
أَبْكي عَلى الموتى تَدُبُّ جُموعُهُمْ يَحْيَوْنَ في دُنْيا وشَرِّ مُقَامِ ... ...
فُرِحُوا بِزُخْرفِها وهَامُوا حَوْلَها يا شرَّ زُخْرُفِها وشَرَّ هُيامِ ... ...
أبكي على المِلْيارِ ! مَا بًيْن الَّذيـ ـنَ قَضَوا عَلى خَدَرٍ وبَيْنَ نِيامِ ... ...
التَّائهينَ عَلى الدُّروبِ تَسُوقُهُمْ صُورٌ مِنَ الأحْلامِ و الأوْهامِ ... ...
مُتَفَرِّقينَ مُمَزَّقينَ كأنَّهم قِطَعٌ مِنَ الأغْنامِ و الأنْعامِ ... ...
غَابُوا بِنَفْخَةٍ عَابِرٍ فَكأنَّهم أَضْحَوْا هَبَاءَ رَمادَةٍ و رِغامِ ... ...
*** ... ... ***
لهفي عليك أُخَيَّ أَحمدُ ! لم يزلْ دربُ الجهاد على لظىً و ضِرامِ ... ...
مِنْ كُلِّ وثَّابٍ لِمَلْحمة الجها دِ و صابرٍ مُسْتَبْسِلِ وعِصامِ ... ...
فعسى يَضُمُّ المؤمنين سبيلُهَا في أمّةٍ نَهضتْ و صِدْقِ وِئَامِ ... ...
صفّاً تُوثّقُه العُرا ! وولاؤه لله صَفْوُ وفائه ودِعامِ ... ...
*** ... ... ***
فَاهْنأْ أُخَيَّ فَقَدْ رَبِحْتَ مَعْ الذيْـ ـنَ قَضَوْا بِجَنْبِكَ في وِفَاءٍ دَامِ ... ...
تَمْضُونَ لِلْحُسْنَى بِفَضْل الله نُعْـ ـمَى أَشْرَقَتْ لِمُصدّقٍ قَوَّامِ ... ...
يَا ربِّ فَارْحَمْهُمْ ووسِّعْ قَبْرَهُمْ رَوْضَاً مُنَدَّى في هُدَىً وسَلامِ ... ...
واجْزِ الذينَ سَعَوا إليكَ ! قُلُوبُهُمْ خَفَقَتْ لِمطْلَعِ جنَّةٍ و مَقَامِ ... ...
يَغْفُو عليكُمْ مِنْ عَليلِ نسائمٍ ورفيفُ أنداءٍ و صِدْقُ سَلامِ ... ...
ودُعاءُ أبْرارٍ تَسابق جَمْعُهُمْ لِتَواثُبٍ و شهادةٍ وزِحامِ ... ...
الرياض
1425/2/2هـ
2004/3/23م ... ...(/1)
رجاء ودعوة
تقديم د. زينب بيره جكلي
كلية الآداب والعلوم
ما كنت لأكرر حديثي عن اللغة العربية ، وإنها لملء القلب والجوانح ، لولا أن جرحا أمضَّني في صميم الصميم ، وجعلني أفوه بما يقلقني حول مستقبل العربية في موطنها الأصلي .
جاءتني طالبة عربية تقدم اعتذارها عن حضور حصة دراسية لمساق في اللغة العربية ، وقد سطرت اعتذارها باللغة الإنجليزية ، ووقعت تحته باللغة نفسها !!…
نظرت إلى الطالبة مليَّا … ألهذا الحد تتغرب أجيالنا التي يرجى منها نهضتنا ؟ وهل كانت الإنجليزية أعذب بيانا من فصحانا ؟ أم أن عقدة النقص جعلتها تعلن انتماءها لغير وطنها ؟
إن لغتنا وعاء فكرنا وحضارتنا ، وإنها لفخرنا وعزتنا. ألا يكفي أن نزل بها خير كتاب للبشرية قاطبة وهو لها على مدى عصورها كلها ؟ ولكن الضغوط اشتدت عليها حتى من أبنائها بشكل أو بآخر ، وكانت أولى بوادره في القرن التاسع عشر يوم دعا "محمد عثمان جلال " وهو" كاتب مصري درس في فرنسا " إلى الأخذ باللهجة العامية ، ودعا آخرون في مصر أيضا إلى الأخذ بالأحرف اللاتينية على غرار ما حصل في تركيا العلمانية في عهد "مصطفى كمال أتاتورك "، ولكن هذه الدعوات لاقت غيورين في بلادنا العربية فأوقف نشاطها بتصديهم لها ، ومر على ذلك زمان طويل أكل الدهر عليها وشرب ، ولكنها عادت اليوم مع أفكار العولمة والدعوة إلى التغيير الاجتماعي والثقافي ، وتسربت الدعوة إلى الجامعات فغدا في مكتباتها كتب ودواوين باللهجة العامية ، وباتت طالباتها يتكلمن لغة هجينا فهذه تقول " أوكيه ، وأخرى تلفظ أوفيس ، وثالثة تنطق كلاس " وما شابه ذلك من مفردات وعبارات أجنبية ، مع هجوم بعضهن على العربية ، ولا سيما " نحوها " حتى في حصص اللغة العربية !!…
لقد غدا أبناؤنا يتخلون عن بيانهم الساطع ، ويدافعون عن اللهجات العامية ، ويدعون إلى تنسيب الأولاد بالمدارس الأجنبية منذ نعومة أظفارهم ، بحجة التراث ، أو مواكبة العصر أو لأن البلاد تحوي جاليات لايجمع بينها إلا الإنجليزية ، أو بحجة أن الحفاظ على الفصحى بات صعبا وسط هذا الضجيج والحضارة المصنوعة بأيد أجنبية … ولكني أسأل أصحاب هؤلاء الدعوات المنحرفة : أيمكن أن يتخلى ابن البلد الأصلي عن لغته من أجل أبناء الجاليات الأخرى ؟ لقد جاء هؤلاء ليعيشوا في هذه البلاد مدة من الزمن قد تطول أو تقصر ثم سيعودون إلى بلادهم فهل نستنيم لمطالبهم ونترك لغتنا - نحن الأمة العريقة في التاريخ - من أجل رغباتهم وأهوائهم ؟
أما من يدعو إلى العامية بحجة أنها لغة آبائه وأجداده ، فإني أقول له إن لغته "الأم " هي اللغة التي انطلقت من أرضه ، من الجزيرة العربية إلى العالم كله، وحملت علوم السابقين ، وترجمت بها كتب الأولين فما باله يتخلى عنها إلى لغة هجين تداخلت فيها الفصحى مع الفارسية والتركية والكردية وهلم جرا …
وأما قولهم بأن الفصحى ماتت ففرية يكررونها علها ترسخ في العقول غير الرشيدة، وإن تعاون الجامعات والمجامع الثقافية على ترجمة الكتب الأجنبية العلمية وإيجاد المصطلحات للعلوم المعاصرة لخير رد على هؤلاء ، وحبذا لو قامت جامعة الشارقة بأقسامها العربية والأجنبية ، في الدراسات الإنسانية والعلمية بهذا المشروع الضخم ، إذا لقدمت للأجيال إرثا لاينسى قبل أن تضيع اللغة في موطنها الأصلي ، وقبل أن يتحقق لعدونا مراده ، لا حققه الله ، ولنا في أمتنا والأمم الأخرى قديما وحديثا خير مشجع على ذلك فقد ترجم الفيتناميون العلوم كلها إلى لغتهم خلال سنة واحدة بعد تحررهم لينشئوا أبناءهم على لغتهم ، وكذلك فعل اليابانيون ، بل في أمريكا مقاطعة تدرس علومها بالفرنسية لأن أبناءها يتكلمون الفرنسية ، ومن درس بلغة أمه أتقن علمه بشكل أقوى ، ونحن الآن نضطر إلى تخفيف المناهج ليتعلم أبناؤنا العلوم بالإنجليزية ، ولو استمر الحال على ما نحن عليه لتخرج من أيدينا أناس ولاؤهم لشكسبير لا إلى خالد بن الوليد والرشيد والمنصور. والله المستعان(/1)
رجال أحبوا الله فنذَروا نفوسهم للخدمة في سبيل الله
سعيد مراد ...
(وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ)(البقرة:165)...
المؤمن واثق من فضل ربه، ذاكرا لأنعم الله، متحدثا بعطاء الله له في الدنيا، منتظرا ثواب الله ورضوانه في الآخرة... هذا بالضبط ما شاهدته في تركيا خلال زيارة استمرت أكثر من عشرة أيام في مدينة إسطنبول.. رأيت الإيمان متجسّدا في قلوب أخوة كراما علي أنفسهم أخلصوا لله دينهم فنذروا نفوسهم وأموالهم في طاعة الله طوعا؛ فقد أيقنوا أن ما لله دامَ واتّصل وما لغير الله انفصم وانقطع... فكان حبهم لله يسموا ويعلوا علي حب ما سواه... لقد أخذوا هذه المعاني وتعلموها قولا وعملا علي يد الأستاذ الشيخ محمد فتح الله كولن الذي جعل الدنيا مزرعة للآخرة واتخذ من الدنيا مطيّة لتحقيق العبودية المطلقة لله متأسيا في ذلك بأعظم معلّم عرفتْه البشرية "سيّد الكونين والثقلين صلى الله عليه وسلم " من عرب ومن عجم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذلك الرجل الذي بدأ حياته في رحاب العلوم الدينية التي تلقّاها في بيت شغَل كل أفراده بذكر الله وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. عاش حياته في أحضان أب اشتغل بالدعوة إلي الله علي بصيرة، وفي أحضان أم أحبّت رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من نفسها، وكانت دائما ما تشغل نفسها بالصلاة علي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد نذرت هذه الأسرة الطيبة ابنها لحفظ القرآن الكريم ودراسة السنة الشريفة، أعدّته إعدادا طيبا حتى صار من أتقي رجال عصره وأصغى علماء بلده وبارك الله فيه وفي دعوته فصارت دعوة عالمية تملأ الآفاق وأثمرت هذه الدعوة المباركة رجالا (صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ)(الأحزاب:23).
وكان عطاء هؤلاء الرجال مثلا يحتذي به ونموذجا نقدمه للبشرية المرهقة الضائعة اليوم كي يدركوا أن الإسلام بخير، وأن المسلمين فيهم خير كثير، والأمل معقود علي نواصيهم حتى يصنعوا سلام العالم الذي نعيش فيه من خلال عمل يقدمونه وجهد يبذلونه ودعوة عظيمة للحوار بين كل البشر من أجل تحقيق التعايش السلمي بين جميع شعوب العالم.
ونماذج العطاء أكثر من أن تحصى وهي نماذج مشرفة لكل إنسان مسلم تعطي في مجالات عدة منها:-
مجال التعليم من خلال المدارس المنتشرة في أنحاء تركيا في جميع مراحل التعليم من رياض الأطفال حتى الجامعة وطلاب هذه المدارس احتكروا كل المراكز المتقدمة في جميع المراحل حتى صارت هذه المدارس موضع اهتمام المجتمع التركي بكل طوائفه وفئاته ومستوياته الاجتماعية من وزراء وبرلمانيين ورجال أعمال ورياضيين وفنّانين. الكل يرغب ويطلب ملحأ أن ينتظم أبناؤه في هذه المدارس، التي تتمتع بمستوي رفيع من الأساتذة خلُقيا ومعرفيا وتنظيميا مما ينعكس علي سلوك الطلاب في حياتهم العلمية والعملية. وانتشرت هذه المدارس وامتدت الخدمة خارج تركيا، وصارت مضرب المثل في العطاء والخدمة والتضحية... ومن النماذج المشرفة للعاملين في هذه المدارس؛ شاب يذهب للخدمة في سيبيريا وما إدراك ما سيبيريا مناخها شديد البرودة لدرجة أن السيارات تسير فوق المسطحات المائية من شدة تماسكها بسبب الجليد. ومع هذه البرودة تأتي حرارة الإيمان فتملأ الكيان الإنساني بالدفئ والحيوية. وهذا نموذج آخر رجل من أفضل الرجال يصحب تلاميذه في رحلة ويتعرض أحد التلاميذ للغرق في بُحيرة، فيُلقي الأستاذ بنفسه لإنقاذ تلميذه وينجوا التلميذ ويذهب الأستاذ إلي ربه شهيدا مجاهدا أمينا صادقا مع نفسه ورسالته.. والسؤال: ما الذي صنع هؤلاء الرجال؟ إيمان قويّ بالله وبالخدمة في سبيله. هل نرى مثل هذه النماذج وغيرها كثير في مجتماعتنا اليوم؟ إنهم رجال أشد حبا لله واقتداء برسول الله صلي الله عليه وسلم.
أما في مجال الخدمة العامة فالتنافس بين هؤلاء الرجال علي أشده، وصدق الله إذ يقول: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) (المطففين:26). فمن الرجال من يقيم علي نفقته الخاصة صروح العلم ومراكز الإقامة للطلاب والمساجد والمؤسسات الخيرية في مجال خدمة ذوى الاحتياجات الخاصة وكبار السن والمرضى... وإذا سألت أحدهم ماذا أبقيت لأهلك قال مقالة الصديق أبو بكر رضي الله عنه "أبقيت لهم الله ورسوله"... إننا أمام سيل الخير يتدفّق، إنهم أحبّاب الله... وقد صدق فيهم قولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا أحبّ الله عبدًا أَجرى الخَير على يدَيه للناس»، وصدق فيهم قول الله عز وجل (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) (العاديات:8)(/1)
وفي مجال الاقتصاد تأتي مؤسّسات تقدم خدمه استثمارية إنتاجية في مجالات عديدة ترتقي بالاقتصاد التركي وتدعمه حتى صارت ذات نشاط اقتصادى رفيع. أضفْ إلي ذلك نشاط رجال الأعمال في كل مناحي النشاط الاقتصادي أنهم يمثلون نماذج رائعة جمَعوا بين سعادة الدنيا ولم يتناسوا العمل من أجل الآخرة، لقد جمع الله لهم خير الدنيا والآخرة وتحقق فيهم قول الله عز وجل (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) (القصص:77)... فأتاهم الله من فضله وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنه.. فلم يبخلوا بعطاء الله لهم على خلق الله فقدّموا بين يدي الله الكثير وأعطاهم الله خيرا كثيرا.. إنهم رجال جعلوا الدنيا مزرعة للآخرة.
وتتواصل قوافل الخير وأعمال الخدمة آناء الليل وأطراف النهار. فقد رأيتُ رجالاً رهبانا بالليل فرسانا بالنهار، فالرجل منهم يعمل، ينتج، يخدم طوال النهار، ثم هو في الليل حريص علي الأوراد؛ يقرأ القرآن، يتهجد، يذكر الله بكل أنواع الذكر من استغفارٍ ومدارسة العلم والتفقه في الدين... وقد شاء الله أن أشاهد ذلك بنفسي فقد مارستُ معهم هذه الألوان من العبادة والتقرّب إلي الله عز وجل.
إننا أمام أصحاب عزائم قوية وإرادة مخلصة أخلصوا لله دينهم وصدقوا ما عاهدوا الله عليه علي الرغم من كل التحدّيات والصعوبات والمغريات التي أحاطت بهم من كل جانب.. لقد أقبلت عليهم الدنيا بكل مغرياتها وأحاطت بهم المخاطر من كل ناحية وحاصرتهم عوامل الضعف والهدم الدنيوية إلا أنهم بقوة إيمانهم وارتباطهم بشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أحاطت به التحديات في مكة المكرّمة خلال ثلاث عشرة سنة عاشها في جو من الإرهاب والتحدّي إلا أنه صمد وجاهد في الله حق جهاده وواجه الإساءة بالإحسان حتى هاجر وأسس دولة المدينة وعاد من جديد إلي مكة حيث نصره الله وأيّده وقابل الإساءة بالإحسان... إن رسول الله صلي الله عليه وسلم كان ولا يزال المثل الأعلى الذي يجب علي كل مسلم أن يقتدي به قولاً وعملا ويسلك منهجة في الحياة. ثم إنهم تعلّموا من سيرة أستاذهم الشيخ محمد فتح الله كولن ومن أستاذه الشيخ الإمام سعيد النورس. كيف أنهم صبروا وثابروا حتى أيّديهم الله بنصره، وجعلهم مناراة هدي للبشرية وسط ظروف غاية في الصعوبة والقسوة إلا أنها عزيمة أهل الإيمان الصادقين في حبّهم لله وللرسول وحرصهم عمل فعل الخيرات وعمل الطاعات والدعوة إلي الحق بمنطق الحق الذي لا يزيغ ولا يضل ولا ينحرف ولا ينساق وراء الدنيا بكل مباهجها.
إن الرجال الذين عرفناهم في هذه الرحلة المباركة من جند الله المخلصين الذين عز أن نجد أمثالهم إلا نادرا. ونسأل الله أن جعل في بلاد الإسلام أمثالهم في التقوى وحب الله وحب رسوله.
لقد كانت رحلة مباركة طيبة تركت في النفوس دروسا عظيمة، وحفرت لها في القلوب مكانا بارزا، وصارت في عقولنا نماذج مشرقة بنور الإيمان. نسأل الله عز وجل أن يديم عليهم التوفيق والتأييد والثبات علي هذه المبادئ وتلك القيم السامية الرفيعة التي نحتاج إليها زادا يقوّينا في مسيرتنا الإيمانية نحو الله عز وجل.
لقد تركتْ هذه الرحلة المباركة تأثيرا عميقا في عقلي ووجداني، إما في عقلي فقد أشغلت وأوقدت تفكيري بكثير من المعاني والتأملات والدروس والصبر... وإما في وجداني فقد أججت مشاعري وملأت عواطفي وأثارت شجوني حيث إنني تعرفتُ علي رجال يحترمون العلم ويقدرون العلماء. فالاحترام والكرم والحفاوة التي لقيتها من الأفراد والمؤسسات من كبار السن والشباب والأفراد والأسر ما زاد عن الحد وبلغ غاية القصد من مرضاة الله عز وجل. إن هذه الرحلة لم تكن مجرد انتقال من مكان إلي مكان، ولكن كانت انتقال عبر عصور مشرقة من تاريخ الإسلام منذ عصر النبوة المنيرة إلي عصر الخلافة الرشيدة إلي عصرنا هذا الذي استطاع الأستاذ الشيخ محمد فتح الله كولن وأستاذه الإمام سعيد النورسى إن يعيد للإسلام والمسلمين عبق العصور الإيمانية المشرقة والمتنعمة بحب الله وحب رسول الله صلي الله عليه وسلم. لقد كنت قبل الرحلة أتطلع لعودة الإسلام إلي دنيا الناس بكل عظمته وبكل معانيه السامية السامقة... وعدت من تركيا وقد شاهدت رجالا أقوياء رحماء فيما بينهم يشقّون الأرض كي تشرق بنور ربها من جديد برسالة النور التي أتانا بها "النور الساطع الخالد: محمد صلى الله عليه وسلم". نورا يبعث الأمل ويجدد العزائم بقوة الإيمان وصدق اليقين بأن اللهَ (غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ)(يوسف:21).
سعيد مراد, أستاذ الفلسفة الإسلامية وتاريخ الأديان بجامعة الزقازيق(/2)
رجال اختلف فيهم الرأي
\\ من أرسطو إلى لويس عوض \\
أنور الجندي
(1)
لطفي السيد
وأكذوبة أستاذ الجيل
خلفت لنا الفترة مسلمات خطيرة وكلمات دخيلة وحاولت سحب كثيرة من سحب الغزو الفكري والتغريب أن ترسم صورة خادعة لبعض الشخصيات وكان أخطر ما أطلق في هذه الفترة كلمة عميد الأدب على الدكتور طه حسين وأستاذ الجيل لطفي السيد فإلى أى مدى كان هذا اللقب صحيحاً بالنبة لمنشيء حزب الأمة مترجم أرسطو والخصم الخصيم للعروبة وللوحدة الإسلامية جميعاً.
وفي الحق إن اسم لطفي السيد لمع لمعاناً شديداً وخدع به كثيرون وكان لامتداد العمر وتغير الأوضاع واقتناص بعض الفرص التي جاءت بها الظروف عاملا من عوامل القداسة إلى سنيت بها مثل هذه الشخصيات بالرغم من فساد جوهرها.
وليس علينا أن نصدر حكما جازماً على شخصية ما يسلم به الجميع ولكن علينا أن نلقى الأضواء الكاشفة على مثل هذه الشخصية من واقع التاريخ وبالوثائق الثابتة ثم ندع القارئ ليحكم هو: هل كان لطفي السيد حقيقة أستاذ الجيل وأي جيل.
أولا: الدعوة إلى قصر التعليم على أبناء الأعيان باعتبار أنهم وحدهم الذين سيتولون الحكم ومقاومة تعليم سواء الأمة ومعارضة الاتجاه إلى المجانية وذلك حتى يمكن المحافظة على وجود طبقة معينة تتولى حكم البلاد دون أن يتاح ذلك لباقي أفراد الشعب.
وقد رد عليه مصطفى كامل صاحب اللواء ورئيس الحزب الوطني ولخص آراءه وكشف عن فسادها.
ثانيا: الدعوة إلى العامية: وقد سار في هذا التيار مؤيداً الخطوات التي كان قد قطعها المستشرقون والمبشرون (مولار وويلكوكس) وكان أبرز ما دعا إليه إبطال الشكل وتغيره بالحروف اللينة وتسكين أواخر الكلمات وإحياء الكلمات العامية المتداولة وإدخالها في صلب اللغة الفصحى والنزول باللغة المكتوبة إلى ميدان التخاطب العامي وكانت وجهة دعوته: تمصير العربية بإحياء العامية "مقالاته في الجريدة خلال شهري إبرايل ومايو 1913 ) وقد رد عليه عبد الرحمن البرقوقي مصطفى صادق الرافعي بما يكشف زيف هذه الاتجاه.
ثالثا: مقاومة التضامن العربي الإسلامي وقد عارض مساعدة المصريين لجيرانهم فى طرابلس الغرب أثناء الغزو الإيطالي الاستعماري عام 1911 وكتب في هذه المعنى تحت عنوان "سياسة المنافع : لا سياسة العواطف" مقالات متعددة دعا فيها المصريين إلى إلتزام الحياد المطلق فى هذه الحرب الإيطالية التركية وإلى الضن بأموالهم أن تبعثر فى سبيل أمر لا يفيد بلادهم وقد أثارت هذه المقالات على لطفي السيد عاطفة بل وطعنا جارحا على حد تعبير تلميذه الدكتور محمد حسين هيكل فى مذكراته .
رابعا: أيد وجهة النظر البريطانية الاستعمارية في التعاون مع الجاليات المسيطرة المحتلة ودعا إلى أن تملك هذه الجاليات في الاراضى المصرية فيكون لها الحق فى التملك والسيطرة على البنوك والتجارة وغيرها.
خامسا: مجد اللورد كرومر: الحاكم البريطانى الذى أذل المصريين لمدة ربع قرن مسيطراً على سياسة البلاد وساحقاً لكرامتها ومغتصباً لثروتها وحياتها يوم خروجه من البلاد تحية الأبطال وقال عنه.
"أمامنا الآن رجل من أعظم عظماء الرجال ويندر أن نجد في تاريخ عصرنا ندا له يضارعه في عظائم الأعمال: هو اللورد كرومر وقال: لو بقي اللورد كرومر عاماً واحداً فى منصبه لعيد عيده الذهبي في خدمة دولته" نشر هذه الجريدة فى نفس اليوم الذى ألقى فيه كرومر خطاب الوداع فسب المصريين جميعا، وقال لهم أن الاحتلال البريطاني باقى إلى الأبد.
سادسا: رسم لطفي السيد خلال عمله فىالجريدية (1908 – 19149 منهجا للحياة الاجتماعية والسياسية والتوبوية والاقتصادية يقوم على التبعية العامة للنفوذ الأجنبى والاحتلال البريطاني والفكر الغربي تحت اسم عبارة ماكرة خادعة هى "مصر للمصريين" وقاوم بهذا الفكر ذلك الاتجاه الأصيل الذى كان يحمل لواءه دعاة الوطنية الصادقة والفكر الإسلامى النير وكون مدرسة تحقق لها بعد الحرب العالمية الأولى السيطرة على مقدرات الأمور بعد أن أقصى رجال الوطنية الحقة.
سابعا: تبين أن مترجمات لطفي السيد عن أرسطو ( التى ترجمت من الفرنسية ) (السياسة الكون والفساد. الأخلاق) ، وهي منسوبة إليه، تبين أنه ليس مرتجمها وأن مترجمها الحقيقي هو قسم الترجمة فى دار الكتب المصرية وذلك بشهادة عديد من معصري هذه الفترة.
(الاستاذ أحمد عابدين مدير دار الكتب السابق لا يزال حيا يرزق).
ثامنا: بالرغم من دعوة لطفى السيد العريضة إلى الدستور والحرية فإن الوزارات التي قبل الاشتراك فيها كانت كلها تتسم بطابع واحد فهي جميعا وزارات انقلاب ضد الدستور والبرلمان الحريات العامة يقول الاستاذ فاروق عبد القادر: أن الباحث في حياة لطفي السيد ليس بوسعه أن يتجاهل هذا التناقض كيف للرجل الذى كتب مطالبا بالدستور مدافعا عن الحرية أن يشترك في وزارات عبثت بالدستور وصادرت الحرية. كيف يشترك فى وزارات طابعها الإرهاب والسطو على الحريات.(/1)
تاسعاً: إن حزب الأمة الذي أنشأه لطفي السيد كان بإجماع الآراء صناعة بريطانية أراد بها اللورد كرومر أن يواجه الحركة الوطنية بجموع من الإقطاعيين والثراة والأعيان "الذين وصفهم بأنهم" أصحاب المصالح الحقيقية وقد كان هدف حزب الأمة والجريدة بقادة الفيلسوف الأكبر لطفي السيد تقنين الاستعمار والعمل على شرعية الاحتلال والدعوة إلى المهادنة مع الغاصب وتقبل كل ما يسمح به دون مطالبته لشئ.
هذه مجموعة من الخطوط العامة نضعها بين يدي القاريء العربى المثقف دون أن نقدم حكما على لطفى السيد وندعه هو أن يصدر هذا الحكم. ولقد تعددت المصادر والأبحاث التي تكشف حقيقة هذه الرجل فليرجع إليها من يشاء وكلها تجمع على أن هذه الدعوة التى حملها لطفي السيد إنما هي خطة دقيقة محكمة من خطط الاستعمار الغربي والنفوذ الأجنبي، فإن اللورد كرومر أراد في إطار عمل مرسوم أن ينشئ فى مصر جيلا جديداً يسير فى ركب الاستعمار معجبا به مقدراً له ومحبا ولذلك عمل خلال عشرين سنة أو يزيد على صياغة هذا الجيل عن طريق المدرسة وعن طريق الثقافة وكانت دعوته الملحة الحارة أن بريطانيا ستسلم مصر لأبنائها متى ظهر هذا الجيل الذى يعمل بالتعاون مع الاستعمار ولفت نظر الشباب المتعلم وهم جميعا من أبناء الطبقة التي أنشأها النفوذ الاستعماري وسودها وجعلها مركز القيادة السياسية إلى أنهم هم حكام مصر فى المستقبل القريب .. وكان حريصا على أن تتشكل هذه القوة أو هذا الحزب فى نفس الوقت الذي كان الاحتلال يضرب القوى الوطنية وأصحاب الأصالة ليقضي عليهم ويفرغ البلاد منهم وسلمها لهذا الجيل الذى كان من قيادته: لطفي السيد وسعد زغلول وعبدالعزيز فهمى وقد تشكل حرب الأمة من مجموعة من أصحاب النفوذ وكبار الباشوات والملاك مثال محمود سليمان وحسن عبد الرازق وحمد الباسل وفخري عبد النور وسليمان أباظة وعبدالرحيم الدمرداش والطرزى وغيرهم وكان رأي هؤلاء أن السلطة الفعلية قد آلت كلها إلى كرومر الذى يمثل سلطة الاحتلال وأن مصالحهم الشخصية تقضي عليهم أن يكونوا على وفاق معهم فألفوا حزبهم بصفة رسمية في 21 سبتمبر 1907 برئاسة محمود سليمان باشا وتولى لطفي السيد قيادة فكرهم وصحيفتهم التى جمعوا لاه فى ذلك الوقت مبلغ 30 ألف جنيه: وقد ظهرت الجريدة فى 9 مارس 1907 تصور الاحتلال على أنه حقيقة واقعة وترى أن عدم الاعتراف بشريعته لا تعني عدم وجوده ولا يقلل من سلطته أو نفوذه وكانت ترى أن هؤلاء المحتلين ماضون في طريقهم مستقلون بتصريف الأمور رضي المصريون بذلك أم كرهوا وأن التخلص من الاحتلال يحتاج إلى قوة لم تتوفر للمصريين وأن دعاة الحركة الوطنية خياليون ينفقون الوقت فيما لا طائل تحته وأنهم أصحاب خيال وتهايج.
وبذلك استطاع لطفي السيد أن يرسي مفاهيم الإقليمية المصرية الضيقة التي تكره العرب وتكره المسلمين وتعارض كل تقارب وكل صلة بل وتكره الاتصال بالفكر الإسلامي الذي هو أساس الثقافة والتعليم وقد صور هذا المعنى مستشرق غربي هو ألبرت حوراني حين قال عن لطفي السيد ما يلى: كان يرى أن بريطانيا قوية وأن لها مصالح جوهرية في مصر وأنها هي نفسها قد أعلنت عن بقائها فى مصر إلى أن تصبح هذه قادرة على حماية المصالح وإذن لا يمكن إخراجها بالقوة.
وقد أعلنت بريطانيا تحديد احتلالها وخلقت الشعور بأنها باقية إلى الأبد وأن مصلحة مصر تقضي التعاون معها في أي تدبير تتخذه في سبيل إنماء قوة البلاد وهكذا كان ينفث لطفي السيد سموم التثبيط والدعة في وجه دعاة الوطنية ولا يقف عند هذا الحد بل يهمهم بأنهم خياليون مغالون فى الخيال ويتهم خطتهم بأنها ولاء لتركيا بينما لم يكن مصطفى كامل ومحمد فريد إلا دعاة إلى الحرية والاستقلال والجلاء دون أن يلينوا أي لين لتقبل وعود بريطانيا وكانوا في دعوتهم لا يستهدفون العودة إلى النفوذ التركي العثماني وإنما كانوا يؤمنون بأن حركة الحرية يجب أن تتم داخل إطار أوسع من الإقليمية ويجب أن تكون فىيإطار الجامعة الإسلامية والمفاهيم الإسلامية الأصلية التي كانت بريطانيا عن طريق حزب الأمة تهدف إلى تجريد المصريين منها ودفعهم إلى التعبية فى التشريع والتعليم والاقتصاد لتكون مصر خاضعة تمام الخضوع للقانون الوضعي ولمفاهيم العرب فى التعليم والثقافة ولتنقطع الصلة تماما بين مصر وبين جيرانها عرباً ومسلمين وبين الفكر والثقافة فى مصر وبين الفكرالإسلامي الأصيل المستمد من القرآن والسنة.
ولقد كان لطفي السيد فى دعوته هذه ينتقض أهمية الأرضية الإسلامية للفكر والثقافة والتعليم ويغالي فى التبعية للفكر الليبرالي الغربي الذى كان فى هذه الفترة خصيصا الدين والأخلاق.(/2)
يقول ألبرت حوراني: " إن الانطباع القوي الذى نتركه قراءة مقالات لطفي السيد التى نشرها في الجريدة "وهي كل ثروته للفكرية" هو الاندهاش من الدور الصغير الذى لعبه الإسلام فى تفكير رجل تتلمذ على "محمد عبده" لا شك أنه كان يشعر بأنه هو ومعظم مواطنيه مسلمون بالوراثة، وأنهم جزء من الأمة، لكن الإسلام لم يكن المبدأ المسيطر على تفكيره فلم يهتم بالدفاع عن الإسلام كالأفغاني، ولا يهتم كمحمد عبده بإعادة الشريعة الإسلامية إلى مركزها كأساس خلقى للمجتمع. وفى هذا يقول لست مما يتشبثون بوجوب تعلم دين بعينه أو قاعدة أخلاقية بعينها، ولكنى أقول بأن التعليم العام يجب أن يكون له مبدأ من المبادئ تتمشى عليه المتعلم من صغره إلى كبره هذا المبدأ هو مبدأ الخير والشر.
وهكذا نرى أن مفهومه للأخلاق والدين مستمد من الفكر الغربي ويعلق حوراني فيقول : وهكذا نرى أنه تخلى عن أول مبدأ من مبادئ محمد عبده واستعاض عنه بمبادئ جديدة. ويقول: لقد أخذ يطرح أسئلة جديدة لا تدور حول الشروط التى تؤدى إلى ازدهار المجتمع الإسلامي أو انحلاله، بقدر ما تدور حول الشروط التى تؤدي إلى ازدهار أي مجتمع أو انحلاله، كذلك لم تكن للمفاهيم التى أجاب بها على هذه الأسئلة هي مفاهيم الفكر الإسلامي، بل مفاهيم الفكر الأوربي حول التقدم والمجتمع الأفضل.
ويقرر حوراني أن لطفي السيد ورفاقه تأثروا بنمطين من التفكير الأوربي:
أولا: تفكير كونت ، ورينان ، وبلى ، وسبنسر ، ودور كايم الذين ذهبوا إلى أن المجتمع البشري متجه بحكم سنة التقدم نحو طور مثالي يتميز بسيطرة العقل واتساع أفق الحرية الفردية وحلول التعاقد الحر والمصلحة الفردية محل العادات والأوضاع الراهنة.
ثانيا: تفكير جوستاف لوبرن الذي يقول بفكره الطبع القومي، وأن كل شعب له بنية ذهنية ثابتة بثبوت بنيته الجسدية.
ويقول الحورانى: إن لطفي السيد يحدد فكرة الأئمة على أساس الأرض، لا على أساس اللغة والدين، وهو لم يفكر بأمة إسلامية أو عربية بل بأمة مصرية: أمة القاطنين أرض مصر، وكان شعوره بوجود مصر شديد بحيث أهمل الأحرار على عناصر الوحدة الأخرى. فمعظم القاطنين في مصر يشتركون فى الأصل واللغة والدين.
سعد زغلول
دعوة صريحة إلى الكتاب المؤرخين:
انشروا مذكرات سعد زغلول المخطوطة لتشكفوا حقيقة هذه الشخصية الخادعة ولتضعوه فى مكانه الصحيح من تاريخ مصر.
إن الحقائق تكشف عن دور سعد زغلول فى:
أولا: تجميد اللغة العربية وإتاحة الفرصة للغة الانجليزية بوزارة المعارف.
ثانيا:- بعث قانون كرومر للمطبوعات لمحاكمة الصحفيين والكتاب الوطنيين.
ثالثا:- التعاون مع الأجانب لإدخال الحضارة الغربية إلى مصر العربية.
سعد زغلول
كان من أهم الأسئلة فى ندوة الاعتصام ما قدمه عدد من الشباب استفساراً عن صحة ما نشر عن تاريخ سعد زغلول من فصول في إحدى الصحف اليومية ومدى تطابق هذا مع واقع التاريخ ومن خلال نظرة إسلامية صحيحة.
ولا ريب أن شخصية سعد زغلول هي واحدة من أكثر الشخصيات العمل الوطنى فى مصر بعد الحرب العالمية الأولى، ولكنه لا يمكن دراستها، ألا يفهم الاطار السياسى الذي يدأ منذ أن احتلت بريطانيا مصر وواجهت الحركة الوطنية التى قاومت النفوذ الاجنبي بقيادة مصطفى كامل ومحمد فريد وعدد من المجاهدين الذين عملت القوة البريطانية على تصفيتهم وإقصائهم وتقديم جيل جديد من أصحاب الولاء للنفوذ البريطاني وفي مقدمة هؤلاء أحمد لطفي السيد وسعد زغلول وعبد العزيز فهمي.
هذه المرحلة السابقة لظهور هيئة الوفد المصري التي قادها سعد زغلول لها أهميتها في الكشف عن الدور الذي قام به سعد زغلول في معارضة الحركة الوطنية وكبح جماحها، وتقديم رجالها للمحاكمة كما فعل فى محاكمة فريد وهو وكبير الحقانية، وكذلك دوره في تجميد اللغة العربية وهو وزير المعارف واتاحة الفرصة للغة الانجليزية، وكذلك دوره فى إعادة بعث قانون المطبوعات القديم الذي كان كرومر قد أجاره ثم أوقفه وذلك لمحاكمة الكتاب والصحفيين الوطنيين بأقصي العقوبات، هذه الصفحة لسعد زغلول يجب أن تدرس قبل أن يقدم على المسرح كزعيم وطني بعد الحرب العالمية الأولى.(/3)
ولقد اختلفت حول سعد زغلول كتابات المؤرخين والباحثين، فوضعه كتاب الوفد وأصحاب الولاء لحزبه موضع لقداسة "وفى مقدمة هؤلاء الأستاذ العقاد". وشف عن حقيقته مؤرخو الحزب الوطني " وفي مقدمة هؤلاء الأستاذ عبد الرحمن الرافعي"، وجاءت كتابات كثيرة بعد ذلك فتضح سعد فى حجمه الصحيح، وكان فى مقدمة ذلك تلك الدعوة الصريحة الموجهة إلى المؤرخين والكتاب والباحثين أن ينشروا مذكرات سعد زغلول التى كتبها بخط يده فإنها هي وحدها القادرة على أن تقدم للناس بغير ولاء ولا خصومة حقائق هذه الشخصية ودورها وعملها وحقيقتها من خلال كتابات صاحب المذكرات نفسه، تلك التي كتبها بكل حريته وإرادته خلال فترة تزيد على ثلاثين عاما من أكتوبر 1897 إلى 1926، وتضم مراحل عضوية الجمعية التشريعية وتولية الوزارة وفترة المنفي وفترة رئاسة الوزارة وتضم ثلاثاً وخمسين كراسة فقد كان يسجل الأحداث يوما بعد يوم عقب وقوعها مباشرة.
تكشف هذه المذكرات عن أشياء كثيرة:
أولا: علاقة سعد بالإنجليز:
يقول عن اللورد كرومر: كان يجلس معى الساعة والساعتين ويحدثني في مسائل شتى كي أنور منها فى حياتي السياسية (مذكرات سعد زغلول كراس 28، ص1516)ن والمعروف أن كرومر في تقاريره السنوية كان حريصاً على أن يذكر أنه يعد جيلا جديداً من الشباب المصرى المتفرنج الذى يعجب بالغرب ويحرص على التفاهم مع الاستعمار البريطاني وقبول العمل معهم.
ومن هنا كانت صلة كروم بسعد زغلول عن طريق صهره "مصطفى فهمى" الذى كان أول رئيس وزراء بعد الاحتلال، والذى قضى في الحكم ثلاثة عشر عاماً، وكان أثير الإنجليز محبوباً عندهم، وقد أصهر إليه سعد زغلول فأعد نفسه ليكون أول وزير مصري. ولعل من الحقائق العجيبة أن اللورد كرومر عام 1907م أعلن أنه يترك مصر مستريحاً لأنه أقام فعلا القاعدة الأساسية لاستدامة الاحتلال، وكان فى هذا العام قد ألف حزب الأمة، وأصبح لطفي السيد هو حامل لواء "الجريدة" وسعد ناظر المعارف ، وقد سخر كرومر فى خطبة الوداع الذى أقامها له رجال حزب الأمة من أولياء النفوذ الأجنبي من المصريين جميعاً، ولم يمدح فى خطابه إلا رجلا واحداً، هو سعد زغلول.
ومن هنا نجد سعد زغلول يكتب فى مذكراته أثر استعفاء كرومر من منصبه في 11/4/1907 وكان يجلس في منزله مع كل من حسن باشا عاصم ومحمود باشا شكرى عندما تلقوا خبر الاستعفاء فقال: أما أنا فكنت كمن تقع ضربة شديدة على رأسه أو كمن وخز بآلة حادة فلم يشعر بألمها لشدة هو لها ( كراس 6 ص 240) وكتب في موضع آخر يقول: "قد امتلأت رأسي أوهاماً وقلب خفقاناً وصدري ضيقاً" (كراس 6/246).
ويقول لورد كرومر في تقريره السنوي عن تعيين سعد زغلول ناظراً للمعارف " لم يكن السبب الرئيسي في تعيينه كما يظن أحياناً أنه استياء من الحالة التى كانت تسير عليها مصلحة المعارف العمومية فلا زالت قاصرة في أن توفر أية بادرة لتغير جذري في السياسية التعليمية، إنه يرجع أساساً إلى الرغبة في ضم رجل قادر ومصري مستنير من تلك الطائفة الخاصة من المجتمع المعنية بالاصلاح في مصر".
وقال كرومر:" كما أن سعد من تلاميذ محمد عبده وأتباعه الذين أطلق عليهم "جيروند" الحركة الوطنية المصرية، والذي كان برنامجهم تشجيع التعاون مع الأجانب لادخال الحضارة الغربية إلى مصر، الأمل الذى جعل كرومر يحصر فيهم أمله الوحيد في قيام الوطنية المصرية.
وكان سعد في مقدمة الداعين لإقامة حفل لتوديع اللورد كرومر وكتب في مذكراته يعلن ضيقه بالذين انتقدوا كرومر عقب استعفائه، وقال: إن صفاته قد اتفق الكل على كمالها "كراس6/245"، وأشار إلى علاقة غورست خليفة كرومر به وأنه لما زاره قام فأوصله إلى باب حديقة دار الوكالة البريطانية.
ثانيا: أخلاقيات سعد
وتكشف المذكرات أخلاقيات سعد ومواقفه المتعددة من الحياة الاجتماعية: وأبرز هذه الجوانب علاقته بالقمار وقد كتب فيها طويلا فقال في "كراس 26 – ض1390"، " كنت أتردد بعد عودتي من أوربا على الكلوب "أي نادى محمد على" فملت إلى لعب الورق، ويظهر أن هذا الميل كان بداية المرض فإني لم أقدر بعد ذلك أن أمنع نفسي من التردد على النادي ومن اللعب وبعد أن كان بقليل أصبح بكثير من النقود وخسرت فيه مبلغا طائلا.
وقد بدأ ذلك حوالى 1901، فقد كتب في إبريل 1913، يقول: كنت قبل 12 سنة أكره القمار واحتقر المقامرين وأرى أن اللهو من سفه الأحلام واللاعبين من المجانين ثم رأيت نفسى لعبت وتهورت في اللعب وأتى عليّ زمان لم أشتغل إلا به ولم أفتكر إلا فيه ولم أعلم إلا له ولم أعاشر إلا أهله حتى خسرت فيه صحة وقوة ومالا وثروة "مذكرات سعد كراس 3/129".(/4)
وكتب خلال زيارته لأوربا صيف 1908 " أفطر مع الست والباشا "أي مصطفى فهمي" وحسين "ابن محمود صدقي" في الساعة تسعة وبعد أن نتمشى مع الباشا قليلا نعود إلى البيت لتلعب البوكر مع الست وحسين إلى الساعة ثمانية ونتمشى قليلا ثم نعود لنلعب البوكر إلى الساعة 11 مساء وقد انفعل أثناء اللعب عند الخسارة وصادف أن الزهر كان يعاكس وكان زهر حسين سعيد ولكن مع ذلك كسبت ولم أخسر غير أن حارق كانت من طريقين: طريقي وطريق الست "كراس 24 ص1300 – 1301".
ويتساءل سعد عن الأسباب التى دفعته إلى المقامرة فيكتب ما يلى:
أريد أن أعرف ما أريد حتى أتمكن من معالجة نفسي من هذا الداء، هل أريد بسطة في الرزق، أنه يقبضه في الكثير الغالب، هل أريد سعة في الجاه، أنه يضيقه بما يحط من القدر في نفوس الناس، هل أريد تناسي آلام تتردد على النفس عند خلوها من الشغل وهو كثير، لا أشعر بهذه الآلام، ويقول: ما كنت أصغى لنصائح زوجتي ولا أرق لتألمها من حالتى ولا أرعوى عن نفسى، وأشار إلى توباته المتعددة، وعودته عنها فيقول: وقد بخيل لي أن كتابة هذه الخواطر وتسجيل هذه الواردات مما يساعد على الاستمرار في ارتكاب هذا الإثم، كأن النفس تجد في هذه الاعترافات المكتوبة والاشمئزازات المرسومة، فضيلة تكفها عن الإنصاف بها وعن الإقلاع عن نفس الرذيلة أو أن الاعتراف كفارة عن الذنب المقترف والجريمة المرتكبة ترجيحا.
ويقول: إلى أوصى كل من يعيش بعدي من لهم شأن في شاني أني إذا مت من غير أن أترك اللعب أن لا يحتفلوا بجنازتي ولا يحدوا على ولا يجلسوا لقبول تعزية ولا يدفنوني بين أهلي وأقاربي وأصهاري، بل بعيداً عنهم وأن ينشروا على الناس ما كتبته في اللعب حتى يروا حالة من تمكنت في نفسه هذه الرذيلة وبئست العاقبة. الكراسة 28 ص 1571":
وتفيض مذكرات سعد زغلول بالتفاصيل المسهبة التى تبين هدى سيطرة هذه الغواية عليه ومحاولة الإقلاع عنها وللتخلص منها وعودته إليها المرة بعد المرة فقد وردت تفاصيل ضافية في الكراسات 3 و 28 و 29 و 30 في اثنى عشر موضعا من هذه الكراسات.
وقد أشارت المذكرات بوضوح إلى أثر القمار في حياة سعد وخاصة حياته الاقتصادية كما يشير إلى ذلك الدكتور " عبد لخالق لا شين"، فقد وقع سعد الذي يقتني الضياع الواسعة تحت طائلة ديون كثيرة مما دفعه عام 1910م إلى أن يبيع الضيعة التي اشتراها بناحية قرطسا "بحيرة" لقاء اثنى عشرة ألف جنيه: يقول : " بعت هذه الأطيان وذهب كل ثمنها أدراج الرياح فلم استفد منه فائدة" كما باع الضيعة الأخرى بدسونس ومطوبس عام 1918 بمبلغ 16 ألف جنيه وصاع كل إيرادات سعد في مدى عامين وكانت 3000 جنيه مرتب النار " الوزير" و 1500 جنيه إيجارات باقي أطيانه وأصبح مدينا بمبلغ 6550 جنيها وبذلك بدد سعد الكثير من ممتلكاته يقول في مذكراته "25 مارس 1912":
أصبحت منقبض الصدر، ضائق الذرع، ولم أنم ليلى بل بت وله تساورني الهموم والأحزان وأتنفس الصعداء على فرط منى من اللعب وضياع الأموال التى جمعتها بكد العمل وعرق الجبين وصيرورتي إلى حال سيئة".
وهكذا أجهر القمار على ثروته التى كونها من المحاماة وكانت لا تقل عن 400 فدان و 18 ألف جنيه فضلا عما ورثه من صهره مصطفى فهمي: الذى كان يملك 648 فدانا، و 8600 جنيه وألف أردب قمح وألقي جنيه مواشى وكانت صفية زغلول الى أطلق عليها "أم المصريين" واحدة من ثلاث بنات خلفها مصطفى فهمي جلاد شعب مصر ثلاثة عشر عاما.
وبعد فهل هذا وحده ما تكشفه مذكرات سعد زغلول التى تطالب بطبعها وإذاعتها لترسم صورة حقيقية لهذه الزعامة التى اختلف فيها الرأى فرفعها بالهوى والصداقة والولاء السياسي لبعض الناس إلى قداسة وبطوله وخفضها آخرون بالخلاف السياسي إلى مكان آخر، وما نريد أن نظلم أحداً ولكنا تطالب بالكشف عن الحقائق عن طريق الوثائق وما يمكن أن توجد وثيقة أشد صدقا من مذكرات كتبها الرجل عن نفسه.
ومن خلال المذكرات تتكشف أشياء كثيرة خطيرة ومثيرة.
3
قاسم أمين
كانت حركة تحرير المرأة قادها قاسم أمين مؤامرة استعمارية تستهدف تدمير الأسرة المسلمة وتحطيم اليت المسلم حتى قال محمد فريد: إن دعوة قاسم أمين قد أحدثت تدهوراً مريعا في الآداب العامة وأحدثت انتشاراً مفزعاً لمبدأ العزوبة وأصبحت ساحات المحاكم غاصة بقضايا هتك الأعراض وعرب الشابات من دور أهلهن.
لقد تراجع قاسم أمين بعد قليل من دعوته إلى تحرير المرأة وجاءت هدى شعراوي فاحتضنها دوائر الماسونية والتغريب واليهودية العالمية.(/5)
في محاولة لتقويم حركة قاسم أمين لتحرير المرأة بعد أن قربت وثائق عدة تكشف عن خطة أشبه بالمؤامرة وراء هذه الدعوة، وتطرقت الأسئلة إلى أم المصريين "صفية زغلول" وإلى زعيمة النهضة النسائية في مصر " هدى شعراوي" التى دعت بعض الأقلام التى تجهل الحقيقة أو تخدع كتابها إلى إقامة تمثال لها والحقيقة أنه لكي نعرف خلفيات هذه القضية يجب أن نذكر شيئا مهما هو أن كتابا ظهر في مصر عام 1894 " أي بعد الاحتلال البريطاني بعام واحد لمحام مصري موال لكرومر والنفوذ الأجنبي يدعى "مرقص فهمي" تحت عنوان "المرأة في الشرق" صور فيها خطة الاستعمار في المطالبة بتحقيق أربعة أغراض:
أولا: القضاء على الحجاب الإسلامي.
ثانيا: إباحة الاختلاط للمرأة المسلمة بالأجانب عنها.
ثالثا: تقييد الطلاق ووجوب وقوعه أمام القاضي.
رابعا: منع الزواج بأكثر من واحدة.
خامسا: إباحة الزواج بين المسلمات وغير المسلمين.
وكان هذا المخطط هو النواة الأساسية للنفوذ الأجنبي الذى تدرس على ضوئه حركة قاسم أمين وهدى شعراوي. ذلك أنه لما تمض سنوات خمس حتى ظهر كتاب " تحرير المرأة" فكان ذلك خطوة على الطريق ظن البعض وما يزال يظن سلامتها ونقاءها وبعدها عن الهوى وتحررها من أي خلفية موحية.
فما هي هذه الخلفيات لذلك الحدث الخطير؟!
أولا: كتب داود بركات رئيس تحرير الأهرام بجريدته الصادرة في 4 مايو 1927 مقالا:
فقال فيه: إن قاسم أمين قرأ كتاب الدوق داركير "المصريين" ورد عليه بكتاب باللغة الفرنسية وفند اتهاماته .. قلما ظهر هذا الكتاب وصف بأنه لم يكن في صف النهضة النسائية .. فقد رفع الكتاب من شأن الحجاب وعده دليلا على كمال المرأة، كما ندد بالداعيات إلى السفور وقد رأت فيه الأميرة نازلي فاضل تعريضا بها .. ثم استطرد يقول " وكانت الأميرة نازلي فاضل ولها صالون يحضره سعد زغلول ومحمد عبده وجماعة من الطامعين إلى تولي السلطة في مصر تحت قيادة النفوذ البريطاني وبرعاية اللورد كرومر".
ويقول داود بركات متابعا:
وقد أشير على جريدة المقطم – وهي لسان الانجليز في مصر في ذلك الوقت – أن تكتب ست مقالات عن الكتاب تفند أخطاء فاسم في هذا الاتجاه، ودفاعه عن الحجاب. واستنكاره اختلاط الجنسين .. ثم أوقفت الحملة بعد اتفاق الشيخ محمد عبده وسعد زغلول مع قاسم أمين على تصحيح رأيه .. وقد حمل الشيخ محمد عبده الدعوة إلى تحرير المرأة في دروسه في " الرواق العباسي " بالأزهر حين أعلن أن الرجل والمرأة متساويان عند الله . وقد ترددت آراء كثيرة بأن الشيخ محمد عبده كتب بعض فصول الكتاب أو كان له دور في مراجعتها ومما أورده لطفي السيد أنه اجتمع في جنيف عام 1897 بالشيخ محمد عبده وقاسم أمين وسعد زغلول وأن قاسم أمين أخذ يتلو عليه فقرات من كتاب تحرير المرأة وصفت بأنها تنم عن أسلوب الشيخ محمد عبده نفسه.
* * *
ثانيا: كتب فارس نمر صاحب المقطم مقالا في مجلة الحديث "الحلبية" عام 1939 وأشار إلى هذا الحادث فقال:
"أنه ظهر كتاب للدوق دار كير يطعن فيه على المصريين طعنا مراً، ويخص النساء بأكبر قسط منه .. إذ رماهن بالجهل وضعف مكانتهن في المجتمع .. فاهتاج الشباب وتطوع قاسم أمين للرد على كتابه.
ويستطرد فارس نمر يقول:(/6)
وهنا أشير لحقيقة لا يكاد يعلمها إلا ندرة في مصر. هذه الحقيقة أن كتاب قاسم أمين الذى رد فيه على "دوق دار كير" لم يكن في صف النهضة النسائية التى كانت تمثلها الأميرة نازلى .. بل كان الكتاب يتناول الرد على مطاعن المؤلف الفرنسي، ويرفع من شأن الحجاب، ويعده دليلا على كمال المرأة، ويندد بالداعيات إلى السفور، واشتراك المرأة في الأعمال العامة.. ولما ظهر كتابه هذا ساء ما به إخوانه من أمثال محمد المويلحي، ومحمد بيرم، وسعد زغلول. ورأوا فيه تعريضا جارحاً بالأميرة نازلي، وتشاوروا فيما بينهم في الرد، واتفقوا أخيراً أن أتولي الكتابة عن هذا الموقف وعرض فصوله وانتقاد ما جاء به خاصا بالمرأة وبدأت في كتابة سلسلة مقالات عنه. ولكن ذلك النقد لم يرق في نظرة قضاة محكمة الاستئناف؛ ورأوا فيه مساسا بهم. لأن قاسم أفندي كان أحدهم ورأوا أن أفضل وسيلة يبذلونها لكي أكف عن الكتابة أن مؤلفه يرجوا الأميرة نازلي فاضل لكي تطلب إلى ذلك.. وتطوع الشيخ محمد عبده للقيام بهذه المهمة.. وذات مساء حضرت إلى صالون الأميرة كما حضر الشيخ محمد عبده ومحمد بيرم والمويلحي .. وبعد قليل تحدث الشيخ محمد عبده مع الأميرة في هذا الشأن.. فالتفتت إلى سموها وقالت لي: أنها لا تجد بأسا في أن أكف عن الكتابة في الموضوع .. وكانت هي لم تقرأ الكتاب ولم تعرف أنه يشمل الطعن فيما تدعو إليه .. فلما رأي ذلك محمد المويلحي قال لسموها: أنه يدهش من طلب الأميرة وخاصة لأن الكتاب تعرض لها .. فبنت الدهشة عليها، وكانت إحدى نسخ الكتاب موجودة عندها. وعبثا حاولت أن أقفل باب الحديث في هذه الشأن وخاصة بعد أن لمحت عليها معالم الاضطراب والجد والعنف .. فلما اطلعت على ما جاء به ثارت ثورة شديدة ووجهت القول بعنف إلى الشيخ محمد عبده .. لأنه توسط في هذا الموضوع .. ومرت الأيام بعد ذلك واتفق محمد عبده وسعد زغلول والمويلحي وغيرهم على أن يتقدم قاسم أمين بالاعتذار إلى سمو الأميرة .. فقبلت اعتباره ثم أخذت يتردد على صالونها .. وكلما مرت الأيام ازدادت في عينه، وارتفع مقامها لديه .. وإذا به يضع كتابه الأول عن المرأة الذى كان الفضل فيه للأمير نازلي والذي أقام الدنيا وأقعدها بعد أن كان أكثر الناس دعوة إلى الحجاب".
انتهى كلام فارس نمر.
ثالثا: أشارت هدى شعراوي في محاضرة لها إلى هذا المعنى، وكشفت هذا السر الذي ظل خافيا زمنا طويلا ولم يكشف إلا بعد وفاة قاسم أمين بعشرين سنة:
غير أن الذي يلفت النظر أن قاسم أمين عدل عن رأيه هذا من بعده، وتبين له أنه أخطأ الطريق .. وقد تبين هذا حين صرح قاسم أمين في حديث له إلى صحيفة "الظاهر" التى كان يصدرها المحامي محمد أبو شادي حيث أعلن رجوعه عن رأيه، وأعلن أنه كان مخطئا في "توقيت" الدعوة إلى تحرير المرأة.. هذا التصريح نشرته جريدة "الظاهر" في أكتوبر 1906.
قال قاسم أمين:
"لقد كنت أدعو المصريين قبل الآن إلى اقتفاء أثر الترك بل الافرنج في تحرير نسائهم وغاليت في هذا المعنى حتى دعوتهم إلى تمزق ذلك الحجاب .. وإلى إشراك النساء في كل أعمالهم ومآدبهم وولاتهم . ولكني أدركت الآن خطر هذه الدعوة بما اختيرته من أخلاق الناس.. فلقد تتبعت خطوات النساء في كثير من أحياء العاصمة والإسكندرية لأعرف درجة احترام الناس لهن، وماذا يكون شأنهم معنهن إذا خرجن حاصرات فرأيت من فساد أخلاق الرجال بكل أسف ما حمدت الله على ما خذل من دعوتي واستنفر الناس إلى معارضتى .. رأيتهم ما مرت بهم امرأة أو فتاة إلا تطاولوا إليها بألسنة البذاء، ثم ما وجدت زحاما في طريق فمرت به امرأة إلا تناولتها الأيدي والألسن جميعا .. أنني أرى أن الوقت ليس مناسبا للدعوة إلى تحرير المرأة بالمعنى الذى قصدته من قبل".
ومعنى كلام قاسم أمين أمير هذا الذي نشره قبل وفاته بعام ونصف عام أن قاسم قد اكتشف بعد سبع سنوات من دعوته "التى جاءت استدراجا ومرضاة لنفوذ وليست خالصة لوجه الله تعالى:" أنها لم تكن قائمة على أسسها الصحيحة وهي الدعوة إلى تربية الخلق والإيمان بالله، وأنها لم تكن على طريق الحق.. أو ربما أن قاسم رأى بعد أن تغيرت الظروف بزوال كرومر ووفاة محمد عبده وانطفاء نفوذ نازلي فاضل "رتيبة كروم" أن يتخفف من هذه التبعة.. وربما كان لبعض التجارب أثرها في نفسه .. ومما يروى أن صديقا عزيزاً زاره ذات مرة فلما فتح له الباب قال: جئت هذه المرة من أجل التحدث مع زوجك !! فدهش قاسم .. كيف يطلب مقابلة زوجته .. فقال له صديقه : ألست تدعو إلى ذلك؟! إذن لماذا لا تقبل التجربة مع نفسك .. فأطرق قاسم أمين صامتا .. ومما يذكر أن السيدة زوجة قاسم أمين كتبت منذ سنوات تعلن أن دعوة قاسم أمين كانت خطيرة وأنها لم تكن قائمة على أساس صحيح.
وقال محمد فريد وجدى:(/7)
أن دعوة قاسم أمين قد أحدثت تدهوراً مريعاً في الآداب العامة، وأحدثت انتشاراً مفزعاً لمبدأ العزوبة، وأصبحت ساحات المحاكم خاصة بقضايا هتك الأعراض وهرب الشابات من دور أهلهن.
ونعت الدكتورة بنت الشاطش ما تكشف من حركة تحرير المرأة مما أسمته مهزلة أليمة موجعة. تقول بنت الشاطئ:
"إن الرجال ساقونا لنعمل لحسابهم.. وهم يوهموننا أننا نعمل ويعملون معنا لحسابنا.. ذلك أن الرجال وثبوا لنا الخروج زاعمين أنهم يؤثروننا على أنفسهم.. ولكنهم كذبوا في هذا المزاعم فما أخرجونا إلا ليحاربوا بنا السآمة والضجر في دنياهم".
ثم قالت بنت الشاطئ:
"إن المرأة دفعت ضريبة فادحة ثمنا للتطور ويكفي أن أشير في إيجاز إلى الخطأ الأكبر الذي شوه نهضتنا.. وأعني به إنحراف المرأة الجديدة عن طريقها الطبيعي وترفعها عن التفرغ لما تسميه: خدمة البيوت وتربية الأولاد .. ونحن نرى البيوت أصبحت مقفرة منهن .. أما الأبناء فتركوا لخدم .. وقد نشأ هذا الإنحراف الضال نتيجة لخطأ كبير في فهم روح النهضة .. وبلغ من سواء ما وصلت إليه أن نادت مناديا بحذف نون النسوة في اللغة كأنما لأنوثة نقص ومذلة وعار .. وأهدر الاعتراف بالأمومة كعمل من الأعمال الأصيلة لنا حتى سمعنا عن يسأل كيف تعيش أمة برئة معطلة .. يقصد بالرئة المعطلة هؤلاء الباقيات في بيوتهن يرعين الأولاد .. وزعموا أن المرأة تستطيع أن تجمع بين عملها في البيت ووظيفتها في الخارج".
انتهى كلام الدكتورة بنت الشاطئ.
***
أما ما هي ملابسات زعامة هدي شعرواي للحركة النسوية فالواقع أن هناك عدة ملابسات لا يفسرها إلا فهم تاريخ الحركة الوطنية في مصر لرجلين.. أحدهما والدها محمد باشا سلطان والآخر زوجها على باشا شعراوي.
أما والدها محمد سلطان فيقول الدكتور عبد العزيز رفاعي في كتابه "محمد سلطان أمام التاريخ":
إنه كان من أعلام الثورة العرابية. ولكنه تنكر لها في أحلك أوقاتها، ومشى في ركاب أعدائها: الخديو والانجليز، حتى نال حظوته من الخديوي بالإحسان، ومن الإنجليز بالتقدير، وقد أثبت ما أورده السيد محمد رشيد رضا في كتابه: "الأستاذ الإمام محمد عبده"، جـ1 ص 258، 259، عن الدور الذي لعبته محمد سلطان في خدمة مخابرات الانجليز في سبيل الوصل إلى معسكر العرابيين في التل الكبير وهكذا حمل لواء الخيانة للثورة العرابية، وطاف ببورسعيد والإسماعيلية لمعاونة الجيش الإنجليزي الزاحف والإيقاع بجيش عرابي معلناً الثقة في الجيش الغازي ومطمئنا الأهالي على حياتهم، وقد أفهمهم حسن نيات الإنجليز إزاء المصريين، وأبان لهم أنهم لا يستهدفون غزو البلاد، بل يستهدفون تأديب العصاة.
وتابع سلطان نشاطه فأخذ يفرق الناس عن عرابي، ويجمعهم لمعاونة الإنجليز فأرسل إلى شيخ بدو الهنادي المقيم في الصالحية ويدعى سعود الطماوي والآخر إلى محمد صالح الحوت ليتفق معهما على استمالة العربان ولم يكتف محمد سلطان بنشاطه في الجاسوسية وبث الدسائس في منطقة القناة وفي ميدان المعركة، بل مد نشاطه إلى داخل البلاد ليقضى على كل معاونة شعبية لحركة عرابي، ورافق "ولسلي" قائد القوات البريطانية للتفاوض مع مشايخ العربان.
كما كانت الأموال التى أعدها الخديو لرشوة شيوخ البدو في عهدة سلطان "راجع بلنت: التاريخ السري ومذكرة سلطان إلى الخديو في الإسماعيلية بدار المحفوظات التاريخية دوسية رقم 2".
وكان سلطان هو الذي أبلغ الخديو هزيمة عرابي، ودخل سلطان القاهرة مزهوا يتطلع لفجر جديد في حياته بعد أن سجل خيانته، وكتب تاريخها بنفسه، وقلده الخديو النيشان المجيدي الأول رفيع الشأن ووضعه على صدره بيده، وأعطاه عشرة آلاف جنيه تعويضا للأضرار التي لحقت به ثم عينه رئيسا لمجلس شورى القوانين.
ولكن ضربة القدر لم تمهله ليتمتع بما اشترى من أطيان فداهمه مرض السرطان واشتد به المرض وتوفي في أوربا سنة 1884 ، وقد أنعم الإنجليز عليه بنيشان سان ميشيل وسان جورج الذي يخول صاحبه لقب "سير".
هذه هي خلفية الحياة الإجتماعية لقائدة النهضة النسوية والتى تزوجت وهي في الرابعة عشر من رجل غني موسر صديق لوالدها يبلغ الخمسين من العمر هو على شعراوي باشا أحد الثلاثة الكبار الذين قابلوا المندوب البريطاني بعد انتهاء الحرب العالمية الأولي "سعد زغلول و عبد العزيز فهمى" بوصفهم من رجال حزب الأمة الموالى للاستعمار البريطاني لعرض مطالب البلاد.
ولم يلبث شعرواي باشا أن توفي وقد كان الثلاثة هم دعاة الولاء البريطاني والتعامل مع الإنجليز والشاجبين لمفاهيم الحزب الوطني في المفاوضة قبل الجلاء.(/8)
وقد وجدت السيدة هدى شعرواي الفرصة سانحة للتبريز خاصة وأن السيدة صفية زغلول ابنة مصطفى فهمى الذى حكم مصر بالحديد والنار خلال أول الاستعمار البريطاني ثلاثة عشر عاماً وزوج سعد زغلول والمساماة بأسماء الاضداد " أم المصرين" تستأثر بالزعامة السياسية فأرادت تفتح مجالا جديداً تنفرد فيه بالزعامة فكان ذلك هو مجال المرأة خاصة وأنها نزعت نقابها في ثورة 1919.
ولقد تلقفتها جماعات تحرير المرأة العالمية والمنبثة في أوربا وخاصة في باريس وبرلين وبروكسل والتابعة للمحافل الماسونية ومنظمات الصهيونية العالمية ووجدت فيها طيراً سميناً فدعتها إلى حضور المؤتمرات النسوية العالمية التى كانت الصهيونية العالمية تديرها من وراء، والتى كانت تستهدف بأحداث الضجيج حول حقوق المرأة السياسية في البرلمان والحكم خلخلة المجتمعات الإسلامية ودفعها إلى طريق الانهيار.
والمعروف أن هدى شعرواي لم تنطلق في دعوتها من أي منطلق إسلامي، بل على العكس من ذلك كانت سيدة سافرة رزة لها صالون ويتحلق حولها عدد من الرجال المجندين لكتابة الخطب والكلمات التى كانت تلقيها في الاحتفالات وكانت تنفق على ذلك أموال سلطان باشا التى دفعت ثمنها الثورة العرابية، وكان في مقدمة هؤلاء إبراهيم الهلباوي باشا محامي دنشواى والشيخ محمد الأسمر الشاعر .. وقد استطاعات أن تجند بعض الشباب، وأن ترسل بهم في بعثات تعليمية خاصة على حسابها إلى أوربا/ ومنهم من عمل في الصحافة من بعد، وحمل لواء الدعوة إلى تقديس هدى شعراوى، ودعا إلى تلك الأفكار التى تحرض المرأة على التحرر من القيود الاجتماعية، والانطلاق حتى كان أحدهم يقول لواحدة سألته:
" لو كنت بغير أولاد لقلت لك اتركيه ورزقك على الله، والمعروف أن السيدة هدى شعراوى لم تكن تعبأ في دعوتها بالمفهوم الإسلامي المرأة، أو تصدر عن فهم حقيقي لرسالة البيت والأسرة ولم تكن تتحرك في هذا الإطار .. وإنما كانت تضع أمامها المرأة الغربية كمثل أعلى .. وذلك فقد شجعت أسباب الزنة والأزياء والمودات المستحدثة. وكانت أجنحتها من المثقفات ثقافة فرنسية وذات الولاء الماركسى والصهيوني، ولم يكن للمفهوم الإسلامي لديهم أي أهمية.
ويقول الأستاذ حسين يوسف:
إنه لم يكن عجبا أن يعمل الاتحاد النسائي بزعامة هدى شعرواي الأهداف التي يحرص الاحتلال على الوصول إليها، وإن يردد في عام 1923 نفس المبادئ التى نادى بها مرقص فهمى من قبل، وتورط فيها قاسم أمين .. ولما كان داة تدمير مفاهيم المرأة المسلمة لا ينامون فإنهم يدعون اليوم إلى تجديد ذكرى هدى شعراوى بإقامة تمثال لها.. والهدف هو دعو هذه الأفكار المسمومة التي تستهدف تدمير الأسرة المسلمة وتحطيم البيت المسلم.
(4)
طَه حسَين
عميد الأدب العربى الذى مازالت مؤلفاته تحمل سموم الاستشراق
وتهاجم الإسلام والقرآن
عن مجلة الاعتصام – نشرت جريدة المجتمع الكويتى، بعددها رقم 177 بتاريخ 13 من ذي القعدة سنة 1393 ( 1973/ ، مقالا مطولا كشفت فيه عن كثير من الحقائق التي لابد لأبناء الجيل الإسلامي الحالي، أن يعرفوها، حتى لا ينخدعوا بالدعاوات الكاذبة التى ملأت الآفاق في رثاء طه حسين، وتمجيده في حين أنه كان صنيعة لأعداء الإسلام، وداعية للمدنية الغربية بكل مفاسدها وشرورها.
وفيما يلي بعض ما تضمنه المقال المذكور من وقائع، وفيها الكفاية لإدراك الحقيقة.
استطارت في صحف البلاد العربية كلمات عجلى ومرات سريعة خاطفة حاولت أن تسد فراغاً صحفياً على وجه العجلة فلم تتمكن من أن تراجع التاريخ أو تنثبت من الوقائع، وربما صاحب ذلك هوى من شأنه أن يتعارض مع الحق، وربما كانت كتابات بعض المتصدرين في مجال الصحافة ممن لم يحسنوا مراجعة الآثار المكتوبة حول القضايا المثارة ومنهم من شهد السنوات الأخيرة فنشأ طفلا يرى "طه حسين" رجلا كهلا تحيطه هالة، أو تدرس كتبه في الجامعات أو يشرف على بعض المؤسسات الثقافية واللغوية فظن هؤلاء – وبعض الظن إثم – أن الرجل له تاريخ مشرف جديد بأن يشاد به ويرثى ولقد حوت كتابات الكتاب الكثير من الخطأ ومن الهوى، ومن عجب أي بعض المؤمنين لحق بمن كتبوا عن الإسلام أو هاجموا بعض خصومة أمثال لويس عوض وسلامة موسى وغيرهم يسقطون في هوة الخداع إزاء طه حسين وهو أشد خطراً من هؤلاء جميعا وأبعد أثراً.
ولسنا الآن في مجال الحديث عن موقع طه حسين من الأدب العربي أو الفكر الإسلامي فذلك أمر له من بعد دراسات ومراجعات ولكننا تقف عند حد تصحيح بعض الأخطاء التى تضمنتها هذه المراثي التى أعادت الرجل حيا بعد أن مات موتا معنويا منذ عشر سنوات عندما توقف عن الكتابة وداهمه المرض الذى كان حفيا بأن يفسح له سبيل العودة إلى الله ولقد كان يتردد في هذه السنوات بل كان الدكتور نفسه يقول:
إنه لا يسمع من الإذاعة غير القرآن المرتل وكان بعض السنج من الناس يقول: لقد تاب الرجل وأناب.(/9)
وكذلك قالوها يوم اصدر كتابه "على هامش السيرة" ولكن الفهم السليم للإسلام يدعونا إلى أن تتحرز من مثل هذه المظاهر الكاذبة وأن نتعمق مفهوم التوبة في الإسلام وهو مفهوم يفترض على صاحبه أن يرجع عن كل ما خالف به أصول الإسلام أو حقائق القرآن وأن يعلن على ذلك على الملأ وأن يحجب مؤلفاته التى نشر ذلك من قبل بل وعليه أن يصحح ذلك ويوضحه وأمامنا مثلان:
مثل في القديم هو أبو الحسن الأشعرى" حين خرج عن فتنة الاعتزال إلى ضوء السنة الصحيحة فإنه لم يلبث أن وقف في المسجد الجامع بعد الصلاة على كرسى وأعلن توبته بل وخرج من ملابسه وقال: لقد خرجت من الأثم الذي كنت فيه كما أخرج من ثوب هذا وألقى إلى الناس بمؤلفاته الجديدة التى يعارض بها قديمه الذى خرج عنه وأمامنا الدكتور محمد حسين هيكل الذى أعن في مقدمة كتابه "منزل الوحى" أنه قد خاض في شبابه لجج النظريات وكان مخطئا حين حاول أن يختار لبني وطنه فكر الغرب أو منهج الفرعونية وأنه عاد إلى الحق حين تيقن أن الإسلام هو المنطلق الوحيد للمسلمين إلى النهضة. فهل فعل طه حسين شيئا من ذلك إذا كان حقيقة قد تحول، نحن نعتقد أن طه حسين لم يتحول حتى مات عن مفاهيمه الأولي وأنه أصر على فكره إصراراً كاملا حتى حين كتب إسلامياته المتعددة وأن المراجعة الدقيقة لهذه المؤلفات تكشف عن أنها تحول في المظهر أو كما يقول الغربيون أن طه حسين غير جلده، أو أنه حسين سقط في نظر الناس بعد كتاب "الشعر الجاهلي" إنما أراد أن يعود إليهم كاسبا ثقتهم بالكتابة عن "هامش" السيرة وكانت خدعة أخرى كشفها صديقه ورفيقه على الطريق في المرحلة الأولي الدكتور هيكل حين قال إن إحياء الأساطير في هامش السيرة خطر على السيرة نفسها لأنه يعيد إليها ما حررها منه علماء المسلمين أربعة عشر قرنا وحرصوا على حمايتها منه وقال عنها مصطفى صادق الرافعي إنه تهكم صريح.
لقد خدع طه حسين الكثيرين بكتاباته الإسلامية ولكن هذا الخداع لم يطل فقد كشفه كثيرون في مقدمتهم محمود محمد شاكر الذي كشف فصولا متعددة عن "الفتنة الكبرى".
* * *
من أبرز ما يحاول الذين رثوا طه حسين أن يثبتوه أن طه حسين في مؤلفاته وكتاباته كان خصماً سياسياً الذين هاجموه, وألبوا عليه وأن ما أورده في كتبه لم يكن على هذا النحو من الخطر في مهاجمة الإسلام.
وذلك هو أسلوب الاستشراق في مواجهة الأمور وهو نفسى أسلوب طه حسين الذي كان إذا أراد أن يهاجم الإسلام هاجم الأزهر وإذا أراد أن يرد عادية خصومه قال إنما يهاجمون حزبه السياسي ولقد حرص طه حسين حين اشتدت الحملات عليه عاما بعد عاما بعد كتابه الشعر الجاهلي أن ينفصل من معسكر الأحرار الدستوريين وأن يلجأ إلى معسكر الوفد حتى يحتمي به.
وقد أكسبه ذلك سناداً ضخماً أعانه ليس فقط على الاستمرار في الحركة – ولكن مكنه من توصيل إلى ضربة أخرى وجهها إلى الفكر الإسلامي تلك هي كتابه: "مستقبل الثقافة " وكذلك فقد استفاد طه حسين من السياسة فهي التي حمته من العزل ومن المحاكمة ومن أشياء كثيرة، بل هى التى كانت تسهل له أن ينتقل بالرغم من مواصلة كشف أساليبه – من منصب أستاذ الجامعة إلى عميد كلية الآداب إلى مدير الجامعة إلى وزير المعارف.
وإذا كان رثاة طه حسين يريدون حقاص أن يصدقوا الناس ويقولوا لهم أن طه حسين عندما كان في حزب الأحرار الدستوريين – قد هاجم سعد زغلول بأكثر من "مائة مقال" في خلال سنوات "1922 – 1927" حتى وفاته فلما تحول طه حسين إلى الوفد بعد ذلك كتب عن سعد زغلول وخطب يرفعه فوق هامة الدهر دون أن يحس بالخزي أو الخجل ودون أن يرى ابتسامات السخرية من سامعيه وقارئيه لكذبه فى الأولى وفي الآخرة وتضليله وغشه.
وتردد مراثي طه حسين عبارات تقول أنه أضهد ككل أصحاب الرسالات فأى نوع من الاضطهاد شهده طه حسين. هل اعتقل ليلة واحدة في أي عهد هل قدم للمحاكمة مرة واحدة هل عذب؟ هل حيل بينه صيف واحد وبين السفر إلى فرنسا حتى في أشد أيام أزمة الشعر الجاهلي . لم يحدث ذلك قط وإنما كان ذلك من لغو القول وباطله.
إن طه حسين كان يعرف أنه في حماية قوى كبرى ربما ليست ظاهرة ولكنها تختفي وراء الأحزاب، وراء عدلي وثروت، وتلتمس أسلوبها إلى ذلك بالعطف على الكفيف والرحمة بالمجنون. كما قال سعد زغلول للأزهريين : هبوا أن رجلا مجنوناً قال ما قال، وماذا علينا إذا لم يفهم البقر!!
ويردد أصحاب المرائي أن لطه حسين حياة حافلة بالنضال ولكنه أي نضال، لقد بدأ طه حسين حياته في محيط حزب الأمة الذي أنشأه كرومر وفي أحضان لطفي السيد داعية الولاء للاستعمار البريطاني تحت اسم مصر للمصريين وعدو الجامعة الإسلامية والعروبة والشريعة الإسلامية واللغة العربية وتعليم أبناء الفقراء.(/10)
ولقد لقى طه حسين في حياته "عبد العزيز جاويش" وبيئة الحزب الوطني ولكنه سرعان ما أعرض عنها، لأنها ليست ممهدة الطريق ولأنها كانت تحمل مفاهيم النضال والجهاد، وكسب صلته بأصحاب البيوتات وفي مقدمتهم آل عبد الرزاق الذى كان أثيراً لدى عطفهم ومعونتهم ولما عاد من أوربا اندمج في حزب الأمة المجدد تحت اسم "الأحرار الدستوريين" ولم يدخل الوفد إلا بعد أن فقد الحزب أمانته للأمة وانصهرت فيه العناصر اليسارية والشيوعية.
أما أخلاقه التى يشيدون بها فهى تنجلى صراحة في موقفه من اساتذته الذين عاونوه في أول الحياة والذي شقوا له الطريق فلم يلبث أن هاجمهم في عنف وصلف واحتقار، بل وعارض مفاهيمهم الأصلية: وفي مقدمة هؤلاء الشيخ المهدى ومحمد الخضرى وأحمد زكي باشا وأعلن أنه يرفض المنهج الذى رسمه الشيخ محمد عبده.
وقد سجل جميع الباحثين في سيرته وفي مقدمتهم أولياء الثقافة الغربية من أمثال إسماعيل أدهم أحمد أنه لم يكن عالما ولا صاحب منهج، وأنه صاحب هو وغرض وأن ذلك الطابع يسود كل انتاجه.
أما مفاهيمه العامة فقد أثار الدنيا حين أعلن أن العرب استعمروا مصر كالرومان وحرقت مؤلفاته في ميدان عام في دمشق، وقال أن مصر جزء من حضار البحر المتوسط، وهاجم المجاهدين من أهل المغرب في رسالته وصور استعمار فرنسا خدمة عظمى تقدمها لهم فرنسا. وكان له موافقة في معارضة العروبة والرابطة الإسلامية في دعوته إلى تمصير اللغة وإلى تمصير الأدب، وكلها دعاوى زائفة مشبوهة.
وكانت دعوته إلى الحضارة الغربية فاسدة لأنه لم يأخذ فيها بأسلوب الحيطة أو أسلوب العلم بل كان حريصا على أن تنصهر مصر والبلاد العربية في هذه الحضارة على النحو الذى صوره حين قال " أن نقبل من الحضارة ما يحمد منها وما يعاب وما يجب منها ما يكره".
كان داعية الفناء في الغرب تحت خدعة زائفة ظل يروجها وكانت موضع سخرية الناس لسذاجتها وهي قوله: أننا لن نستطيع أن نساوى الغرب إلا إذا سرنا سيرته، وكيف يمكن ذلك وقد سارت تركيا ومع ذلك سخر منها الغرب لأنها عجزت عن أن تقدم شيئا في مجال العلم وما زالت عالة عليه بعد أن فقدت شخصيتها الإسلامية.
ويكذب أو يخدع أولئك الذين يقولون أن طه استوعب ثقافة التراث أو أنه نقل ثقافة التراث أو أن وجهته في الكتابات الإسلامية كانت خالصة لوجه الله أو العلم أو الحق ذلك أن طه حسين قد أراد أن يتخذ من التراث منطلقا إلى تحقيق جانب من رسالته، تلك هي إثارة الشبهات والروايات الباطلة، والتقليل من جلال أبطال الإسلام، وتصويرهم بصورة رجال السياسة في الغرب المسيطرين على مطامع الحكم ومطالب الحياة، ولا يستطيع أن يفهم التراث أو يقدمه المسلمين في هذا العصر إلا رجال آمنوا بالإسلام دينا ونظلم حياة وعمرت قلوبهم تلك الأمانة للإسلام والغيرة على معطياته ومنجزاته. أما طه حسين فقد عاش حياته كلها يسخر بعظمة أمة الإسلام وبما في صفحاتها من بطولات ويفسرها طبقا للمذهب الاجتماعي الفرنسي، المتصل بالتفسير المادي للتاريخ القائم على الجبرية وهو مذهب ينكر عظمة النفس الإنسانية وجلال الروح ومكانة المعنويات - كان طه حسين كذلك في أول ما كتب "ذكرى أبي العلاء" وظل كذلك إلى آخر ما كتب "مرآة الإسلام والشيخان".
وكل ما يحاول الإغرار أن يجمعوه من آرائه عن القرآن أو الإسلام أو التاريخ فإنما يقدم إليه مفهومه الباطل فيجعله هباء منثوراً، فهو لا يرى في القرآن أكثر من أنه كتاب بلاغة" ولا يرى في البطولات إلا أنها من نتاج البيئة، ولا يرى في النبوة إلا أنها قدرة رجل عظيم استوعب فكرة عصره، فهو لا يؤمن بالنبوة، وذلك واضح من كتاباته ومن مراجعات الباحثين لآثاره وهي كثيرة ومقدمتها كتاب غازى التوبة ومحمد محمد حسين والرافعي ومحمد أحمد الغمراوي وكاتب هذه السطور.
إن طه حسين مع الأسف لم يكن يؤمن بشئ، كان ساخراً وكان مشككاً وكان متقلباً ولقد كدت أكتب عبارة "أولها حرف ر".
وآية ذلك أنه ألقى العمامة في البحر عندما ركب السفينة أول مرة إلى أوربا في مشهد درامي، تمثيلى، وأنه كان يقول القول وينقضه فقد أعلن إمارة العقاد للشعر ثم سحب ذلك في سنواته الأخيرة، أما قدره العلمى فقد كشف عنه سكرتيره البير بيزان وسكرتيره زكي مبارك وظهر ذلك واضحاً في سقطات فاضحة.(/11)
من مثال قوله:" وقد وقعت بين القيسية واليمانية معركة "مرجرات" ثم اتضح من بعد أنها "مرج راهط" ولكن هكذا يكتبها المستشرقين وقد أشار زكي مبارك إلى ذلك في دعاية ساخرة حين قال : أن طه حسين دخل حديقة المستشرقين بالليل ليسرق ثمرة أو ثمرتين فصادفته هذه الثمرة المعطوبة" ولا شئ يستطيع أن يحمى طه حسين من شبهة الاتصال بالصهيونية أو اليهودية العالمية في مجال الفكر وربما عن طريق آخر بالإضافة إليهما، ولذلك قصة طويلة لها وقائعها الثابتة والأكيدة والمتصلة طوال حياته منذ أعلن عن عدم وجود إبراهيم إسماعيل عام 1926 إلى أن صير مديراً لدار الكتاب المصري 1946 وبين ذلك تاريخ طويل يمكن أن يروى في مقال متصل ويؤيده ما قاله شارل مالك في رثاء طه حسين.
هناك سؤال لماذا انقلب إسلاميا داعيا إلى التراث؟
والإجابة السريعة قبل إيراد التفاصيل هي محاولة تمكينه من أن يكون مرجعا إسلامياً يستغله للتبشير والاستشراق في السنوات الخمسين القادمة ولذلك فقد حولوه من مغايظة الجماهير إلى إرضاء الجماهير، إرضائها بالخداع والزيف.
وكلام عن الإسلام كله بمفهوم الإسلام الغربي المسيحي: أنه علاقة بين الله والإنسان، عبادة، لاهوت وليس أكثر من ذلك ، وطه حسين يعتنق ما كان يعتنقه فولتير ورينان غيرهما من التفرقة بين الإيمان بالقلب والكفر عن طريق العقل. هذه الإزدواجية التى يعرفها الغربيون ويفخرون بها، وتعتنقها بعض الفضائل المضللة من توابع المستشرقين في البلاد العربية ممن لا قيمة لم ولا وزن وممن لن يتبقى لهم آثار ولا أعمال.
إن طه حسين بالعمل فى مجال الإسلاميات منذ أصدر هامش السيرة 1933 ونشره في الرسالة كان يفتح صفحة جديدة وأخيرة في تاريخه وتاريخ الفكر الإسلامي هي صفحة تقديم البديل من أجل القضاء على الأصيل ومع الأسف فقد شارك هيكل والعقاد وانكشف أمرهم عام 1939 حين قاله لهم إمام كبير:
" بيننا وبين الإسلام أن تؤمنوا بأن الإسلام نظام حكم وفهم مجتمع، فصمتوا صمت القبور. استطاع طه حسين من خلال كتاباته الإسلامية أن يصور الروابط بين الصحابة على نحو مؤسف ردئ، وكان قد أعلن من قبل في رده على العلامة: رفيق العظم احتقاره التاريخ كما اتخذ في بعض الشعراء الماجنين دلالة على فساد القرن الثاني الهجرى الحافل بأعلام المسلمين في الفقه والعلم والتصوف والأدب والفكر كله.
لقد تحول طه حسين في أساليبه يخوض معركة أشد خطراً، هي معركة تزييف مفهوم الإسلام والتاريخ الإسلامي، وقد جرى في ذلك مع منهج الاستشراق الذى تغير في أواخر الثلاثينات حين تحول من مهاجمة الإسلام علانية إلى خداعه بتقديم طعم ناعم في أوائل الابحاث ثم دس السم على مهل ومن خلال فقرات وكان هذا هو أسلوب الاستشراق اليهودي الماكر.
وقد استخدم طه حسين هذا المنهج ببراعة ونجح فيه. فلم يكن طه حسين يؤمن بالدين ولا بالتراث ولا بعظمه هذه الأمة ولا بأمجادها الإسلامية ولا بحركة اليقظة فيها، ولقد تهدمت كل أعماله قبل وفاته وخذلته كل الكتابات الجديدة والإيجابية عن الشعر الجاهلي وعن ابن خلدون، وعن مفهوم العروبة المرتبط بالإسلام وعن هزيمة الفرعونية وعن اندحار دعوته إلى الغض من شأن الأزهر.
سلامة موسى
محاولة إعادة سلامة إلى الحياة محاولة خاسرة وقد باءت بالفشل الذريع. سلامة موسى الرجل الذي لم يعرف في تاريخه الطويل موقف يدعو فيه لتحرير مصر من الاستعمار البريطاني وقد سقطت جميع آرائه وكشف حركة اليقظة عن زيفها وفسادها.
لقد كانت كل كتابات سلامة موسى وأفكاره في حقيقتها جماع خيوط المخطط الماسوني التلمودي بباطله وهدمه وأخطاره ولقد عرف أن سلامة موسى كان يلفظ الإسلام والمسيحية معاً وهو الذي أضاف إلى قائمة الرسل والأنبياء فرويد وماركس ودارون ولينين.
كان السؤال الهام في الندرة عن تلك الظاهرة الخطيرة التى حاولت بها بعض الجهات طرح كتب سلامة موسى في السوق مرة أخرى بأعداد كبيرة، ونشرت عديداً من كتبه ما عدا كتابه " اليوم والغد" الذي قال بعض أصحاب الولاء أنهم أن يعيدوا طبعه والسر أن هذا الكتاب يكشف حقيقة سلامة موسى، ودعوته المسمومة، والشعوبية والماركسية جميعاً.
والحق إن كتابات سلامة قد تجاوزها الزمن، ولم تعد تمثل أى عطاء ثقافي بعد أن سقطت كل هذه الدعاوى التى روجها الاستشراق والتغريب في الثلاثينات والأربعينات.. شأنه في هذه شأنه في هذا شأن طه حسين ومحمود عزمي وعلىعبد الرازق ومن تبعهم أمثال حسين فوزى وتوفيق الحكيم ولويس عوض وغيرهم.
والواقع أن النفوذ التغريبي لا يمهد ولا يتوقف عن غاياته وإن بدأ أنه يغير جلده بين حين وآخر ليخدع أجيالا جديدة بتلك السموم التى قدمها على أيدى عملائه ثم تكشف زيفها.
دعا سلامة موسى إلى استعمال العامية وهدم العربية، وجدد الدعوة لويس عوض في مصر ويوسف الخال وأنيس فريحة في الشام وكانت النتيجة هي الفشل المحقق.
دعا سلامة موسى إلى الفرعونية وجدد الدعوة بعده كثيرون ولم يصلوا إلى الشئ.(/12)
دعا سلامة موسى إلى الفرعونية، وجدد الدعوة إلى إبطال حكم من أحكام الدين وذلك بشأن ميراث المرأة، وقد لنه الباحثون دراس قاسياً مريراً.
دعا سلامة موسى إلى الماركسية وقد كشفت الأيام زيف دعوته وفساد جهته.
والحقيقة أن سلامة موسى لم يكن إلا رجلا يحمل الغرب فيذروه في وجهه الناس حقداً وكراهية لهذه الأمة أن يتحقق لها امتلاك إراداتها وخدمة لكل التيارات الحاقدة عليها والكارهة لها، ولقد كان الكاتب في هذه الفترة يعرف بأنه ماركسي أو غربي أو داعيا لفرنسا أو انجلترا ولكن سلامة موسى كان يعمل لكل هذه الجهات عن طريق الماسونية والمخطط الصهيوني الذى كان يحتضن كل فكر هدام.. فكان ينثر من كنانته كتابات عن "دارون" ومذهبه، وعن "فرويد" ومذهبه، وعن إقليمية مشوبة بالفرعونية، وعن العامية مشوبة باللاتينية ويحتضن كل كتاب هذه السموم من "ولكوكس" إلى " ماركس" ويدعى ويناقض دعوته بمدح الخديو إسماعيل، وموالاة الاستعمار البريطاني ولا ريب فقد تخرج سلامة موسى من مدرستين:
من مدرسة تربية أبناء العرب الذين يقعون في فخاخ القوى العظمى فقد ذهب سلامة موسى إلى بريطانيا وفرنسا في ذلك الوقت الباكر وجند لهذه الغاية، أما الأخرى فقد كان تابعا لمدرسة شلبى شميل، وجورجي زيدان، وفرح أنطون، ويعقوب صروف هذه المدرسة التى كونها التبشير في بيروت، ثم قذف بها إلى مصر والبلاد العربية فتولت مقاليد الصحافة والثقافة وحملت حقدها الوافر على الإسلام والخلافة الإسلامية، واللغة العربية، وتاريخ الإسلام وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
إن هناك وقائع خطيرة كاشفة لحقيقة سلامة موسى بعد أن فضحه أصحاب دار الهلال الذى كان يعمل عندهم، ويتصل من ورائهم ببعض الجهات ليشي بهم " إبريل 1931 – مجلة الدنيا الجديدة" وقد نشرت الزنكفراف خطاباته التى يقول فيها لمسئول:
"فإنا أكتب لسعادتكم وإرادة الهلال تهيئ عدداً خاصا من المصور لسعد زغلول تستكتب فيه عباس العقاد وغيره من كتاب الوفد ومثل هذا العمل يتفق مع التجارة ولكنه لا يتفق مع الدعوة للحكومة الحاضرة ومشروع المعاهدة .. لأن الإكبار من ذكر سعد. وتخصيص عدد له هو في الحقيقة أكبار من شأن الوفد ودعوة إليه إني مستعدة الدعوة للمعاهدة فهل لي أن انتظر معاونتكم".
كتب هذا أبان وزارة اليد الحديدية التى شكلها محمد محمود، وتاريخ الخطاب 22 أغسطس 1939 وهو لا يزال في دار الهلال ما يزال يتقاضى مرتبة منها، ويدخلها كل يوم يبتسم في وجه أصحابها، ويظهر لهم الود والإخلاص وفي الوقت نفسه يدس لهم، ويتجسس عليهم، ويرسل التقارير إلى وزارة الداخلية.
ثم عاد يتمسح بالوفد "إبريل 1931" فكشفت دار الهلال هذه الوثيقة وقالت:" أنت تتمسح اليوم بأعتاب الوفد، وتتعلق زعماء الوفد .. إن لدى دار الهلال البرهان القاطع على تلونك وغدرك".
ولم يقف الأمر عند هذا الحد .. فقد أرسل خطابا "نشرت صحف دار الهلال" صورته الزنكفرافية موجها إلى الأستاذ حسين شفيق المصري في 3 نوفمبر 1930 هذا نصه".
عزيزي حسين:
بعد التحية: تعرف الخصومة بينى وبين السوريين "أي أصحاب دار الهلال" فأرجو أن ترسل لي خطابات على لسان سوري وقح يشتمني فيه بإمضاء اسكندر مكاريوس أو غيره من الهكسوس .. وأنا في إنتظار الخطاب.
أخوك سلامة موسى
وقد علق الأستاذ شفيق المصرى على هذا يقول:
كان يريدنى أن أزور خطابا، وأن افترى على أمة، وأن انزل إلى الدرك الأسفل من النذالة بالكيد لقوم ليس بيني وبينهم يغر الصداقة والمودة.
هذا اللعب من لعب الصبيان فعجيب أن يكون منه وهو ينادي بأنه فيلسوف من علماء النفس، أغفر له كل شئ لا أن يظن بى ما ظن من الجهل والحمق .. وهو يدعوني إلى كتابة ذلك الكتاب الذي اشتمه فيه بتوقيع رجل برئ لا ذنب له إلا أن في الدنيا رجالا لا يحاسبون ضمائرهم، ولا يرون أبعد مما بين أنوفهم وجباههم.
* * *
بل ويذهب سلامة موسى إلى أبعد من ذلك فيقول:
"ومما يدل على أن حركتنا الوطنية بأيدي ناس غير قادرين على الاضطلاع بها أن الحركة التي قامت في العام الماضي وكانت غايتها اصطناع القبعة قاومها زعماؤنا وقتلوها في مهدها.. فأثبتوا بذلك أنهم لا يزالون أسيويين في أفكارهم، لا يرغبون في حضارة أوربا إلا مكرهين.. وقد أدرك مصطفى كمال الذى لم تنجب بعد نهضتنا رجلا مثله ولا ربعه ولا يعرف مقدار ما للقبعة من القيمة والإعلان بالإنسلاخ عن آسيا، والانضمام إلى أوربا، ولم يمنع من استعمال السيف في هذا".
ويقول:
"هذا هو مذهبي الذي اعمل له طول حياتي سراً وجهراً فأنا كافر بالشرق، مؤمن بالغرب وفي كل ما أكتب أحاول أن أغرس في ذهن القارئ تلك النزعات التى اتسمت بها أوربا في العصر الحديث، وأن أجعل قرائي يولون وجوههم نحو الغرب، ويتنصلون من الشرق.. ليس هناك حد يجب أن نقف عنده في اقتباسنا من الحضارة الأوربية ويقول:(/13)
"وليس علينا للعرب أي ولاء، وإدمان الدرس لثقافتهم مضيعة الشباب، وبعثرة لقواهم .. وكيف يمكننا أن نعتمد على جامعة دينية بينما فى العالم نظرية تقول: أن الإنسان لم يكن راقيا فانحط كما تقول الأديان. بل هو كان منحطا فارتقى، تعنى بها نظرية التطور بل كيف يمكن لإنسان مستنير قرأ تاريخ السحر والعقائد أن يطلب منه أن يخدم جامعة دينية، إن الجامعة الدينية في القرن العشرين وقاحة شنيعة".
ويقول :
"لا عبرة بما يقال من أن الإسلام أمر بالشورى فإن خطب جميع الخلفاء نثبت أنهم كانوا ينظرون إلى أنفسهم نظراً بابويا بل البابا نفسه إذا قيس إليهم في بعض الاشياء يعد دستوريا".
ويقول:
"إن أكبر تجربة اجتماعية رآها العالم هي الشيوعية الروسية الحديثة وظهور الشيوعية هو بمثابة حاجز بين الماضي والمستقبل فهي تفصل الاثنين فصلا واضحا وهي على ما فيها من نقائض لليوم وعلى ما ينال الناس البعيدين عنها من الرعب فإنها ستكون بذرة لجملة أنظمة اجتماعية في المستقبل".
وهكذا تحوى كتابات سلامة موسى كل السموم التى علموه أن يثيرها في أفق العرب والمسلمين يوما بعد يوم، علموه أن الاشتراكية هي الهدام الأكبر للمسلمين وازدراء كل ما هو عربي، والدعاية للشيوعية، وكذلك الدعاية للإباحية.
يقول سلامة موسى:
"ليس من مصلحة الإنسان أن يعيش في قفص من الواجبات الأخلاقية، يقال له هذا حسن فاتبعه، وهذا سئ فاجتنبه".
وعلموه الدعوة إلى التبعية للغرب وللاستعمار.
يقول سلامة موسى أيضا:
"أجل يجب أن نرتبط بأوربا، وأن يكون رباطنا بها قويا نتزوج من أبنائها وبناتها، ونأخذ عنها كل ما يجد فيها من اكتشافات واختراعات وننظر الحياة نظرها، ونتطور معها تطورها الصناعي، ثم تطورها الاشتراكي والاجتماعي، ونجعل أدبنا يجرى وفق أدبها بعيدا عن منهج العرب، ونجعل فلسفتنا وفق فلسفتها.
هذا هو سلامة موسى الذي يريدون أن يحيوه مرة أخرى ويجددوا فكره. هذا الفكر الذي تجاوزه المسلمون والعرب اليوم وإن كانوا قد خدعوا به هناك يوم كان دعاة التغريب تعوى كتاباتهم بالسموم!!
إن كل ما قدمه سلامة موسى عن الماركسية والفرويدية والدارونية هي كلمات مجمعة قد جاوزها البحث العلمي الآن، وكشف زيفها فقد ظهر الآن فساد ما دعا إليه دارون وتبين أن وراء إذاعة دعوتها ونرها كانت التلمودية التى تريد أن تقول أن الإنسان حيوان لتمهد لفرويد اليهودي نظريته في الجنس وكانت الماركسية والفرودية والداروينية من أدوات الفكر الصهيوني. الذي حاول أن يؤسس مدرسة في البلاد العربية والإسلامية. كما دعا إلى البهائية التى عرفها في لندن سنة 1910 عندما اتصل بجماعة الدهريين ولم يدع كتابا لم يقرأه وكانت معظم مؤلفاتهم في نقض الأديان السماوية – على حد تعبيره – ولا بد أنه اتصل بمحافل الماسونية، وتعلم فيها فإن كل اتجاهه كان ماسونياً تلمودياً ولم تعرف حقيقته إلا بعد أن ترجمت بروتوكولات صهيون إلى اللغة العربية عام 1948، وأن كل محاولاته وخططه كان ثمرة هذه التبعية الماسونية التلمودية وقد أشار كثيرون إلى أنه لم يكن مسيحياً صادقاً وإنما كان ولاؤه لفرويد وماركس.
وقالوا الشجرة الفاسدة تثمر ثمراً رديئا وكل شجرة لا تثمر ثمراً جيداً تقطع وتلقى في النار.
ولا ريب أن دعوة سلامة موسى إلى وحدة الأديان هي من مفهوم البهائية وأن اهتمامه بالسلطان "أكبر" الهندي الذي أجرى هذه التجربة داخل في دعوته كذلك دعوته إلى وحدة الوجود، ومذهب "سبينورا" في وحدة المادة، والقوة والروح والجسد هي من طريق خطة الواضح، وكذلك فهو يرى أن حرق جثمان الميت أطهر وأنظف !!
وقد تمنى سلامة موسى أن يحرق جسده بعد موته، وقد عمل على نشر آراء تولستوي وغاندي لأنه تحاول مواجهة مفهوم الإسلام الجامع ومفهوم الجهاد وحتى ديانته المسيحية فإنها لم تسلم من هجومه وهو يعتقد أنها حجبت عن عقول الناس نور الثقافة اليونانية وحريتها، وأن هذا الحجب والحجر ظل ألفا وخمسمائة سنة حتى بدت بشائرالنهضة الأوربية التى كان أساسها الخروج عن سلطان الكنيسة وأطباقها على النفس والعقل البشريين، والعودة إلى أسس الثقافة اليونانية وحريتها.
وقد بشر بدين جديد دعا إليه ودخل هذا الدين في عقيدته أنه دين البشرية كما يسمه وهو ما دعا إليه أوجست كونت ويرى أن دين البشرية بذرة من ديانة بوذا وهو دين لا يدعو إلى الإيمان بالله، أو الخلود في العالم الثاني، ولا ريب أن هذا الاتجاه الذي استكمله بأنبياء آخرين آمن بهم هم ماركس وفرويد يوحي بماسونيته وولائه التلمودى الصريح، كذلك فإن دعوته إلى العالمية هي دعوة الصهيونية العالمية التي تريد هدم الأمم المسلمة في مرحلة ضعفها واحتوائها للسيطرة عليها وتذيبها في أتون الأممية.(/14)
ولا ريب أن حملة سلامة موسى على اللغة العربية العظمى، والشعر والأدب العربي هي دعوة مبطنة للحملة على الإسلام والقرآن وهي الدعوة التى حمل لواءها لويس عوض من بعد وتؤكد دعوته في مجموعة موالاة الدعوة الشعوبية التى ترمى من وراء القضاء على العرب وكيانهم إلى القضاء على الإسلام باعتبار أن تلك هي قاعدته الأساسية.
قد كانت أصدق كلمة لباحث معاصر أنه لم يعرف لسلامة موسى مقال وطني واحد دعا فيه إلى تحرير مصر من الاستعمار البريطاني.
إن محاولة إعادة سلامة موسى إلى الوجود محاولة باطلة فقد سقطت آراؤه جميعا وكشفت حركة اليقظة عن زيفها وفسادها.
ما هو رأي مصطفى صادق الرافعي في سلامة موسى؟
يقول الاستاذ مصطفى صادق الرفعي:
رأيي في سلامة موسى معروف لم أغيره يوماً، فإن هذا الرجل كالشجرة التي تنبت مراً. لا تحلو ولو زرعت في تراب من السكر. ما زال يتعرض لي منذ خمس عشر سنة. كأنه يلقي على وحدي أنا تبعة حماية اللغة العربية وإظهار محاسنها وبيانها، فهو عدوها وعدو دينها وقرآنها ونبيها. كما هو عدو الفضيلة أين وجدت في إسلام أو نصرانية.
دعا هذا المخذول إلى استعمال العامية وهدم العربية. فأخزاه الله على يدي، ورأيته أنه لا في عيرها ولا نفيرها. وأنه في الأدب حائط لا قيمة له. وفي اللغة دعي لا موضع له. وفي الرأي حقير لا شأن له فلما ضرب وجهه عني هذه الناحية وافتضح كيده دار على عقبيه واندس إلى غرضه الدنئ من ناحية أخرى. فقام يدعو إلى "الأدب المكشوف" فأخزاه الله مرة أخرى ولم يزد بعمله على أن انكشف هو. فلما خاب فى الناحيتين. اتجه الشارع الثالث فانتحل الغيرة على النساء والإشفاق عليهن. وقام يدعو المسلمين إلى إبطال حكم من أحكام دينهم وإسقاط نص من نصوص قرآنهم ظنا منه أنهم إذا تجرأوا على واحدة هانت الثانية. وانفتح الباب المغلق الذى حاول هذا الأحمق فتحه طول عمره من نبذ القرآن وترك الإسلام وهجر العربية كأن إبليس لعنه الله قد كتب على نفسه "كمبيالة" تحت إذن وأمر "سلامة موسى" إذا محيت العربية أو غير المسلمين دينهم أو أبطلوا قرآنهم. فكانت البدعة الثالثة أن يدعو المسلمين جهرة إلى مساواة الرجل بالمرأة في الميراث. فأخزاه الله.
ثم قام هذا المفتون يدعو إلى الفرعونية. ليقطع المسلمين عن تاريخهم. وظن أنه في هذه الناحية ينسيهم لغتهم وقرآنهم وآدابهم، ويشغلهم عنها بالمصرولوجيا، والوطنولوجيا. ثم أتم الله فضحه بما نشره أصحاب دار الهلال.
ويقول الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني تحت عنوان:
سلامة موسى ليس بشئ إن لم يكن دجالا !!
بضاعته بضاعة الحواة والمشعوذين وله حركاتهم وإرشادتهم وأساليبهم يزعم نفسه أديباً، وتعالى الأدب عن هذا الدجل. ويدعى العلم، وجل العلم أن يكن هذا دعاؤه، ويحاكي الملاحدة ليقول عنه المغفلون أنه واسع الذهن، وليتسنى له أن يغمز الإسلام ويبسط لسانه في العرب، والحقيقة أنه لا أديب ولا عالم، وإنما هو مشعوذ يقف في السوق، ويصفر ويصفق ويصخب، ويجمع الفارغين حوله بما يحدث من الصياح الفارغ، والضجة الكاذبة.
لقد آن لمن تعنيهم كرامة الأدب أن يقتلعوا هذه الطفيليات، وأن يطهروا من حشراتها ونباتها رياضه، وأن يقصو عن مجاله هؤلاء الواغلين الذين يتخذون اسمى ما في الدنيا وأجل ما في النفس طبولا لهم، ويتذرعون بالتهجم على الدين –على دين واحد في الحقيقة– وعلى العلم والفلسفة والأدب لنيل ما يستحقون، ويفسدون عقول الناس، ويبلبلون خواطرهم بما يغالطونهم فيه ويخادعونهم".
على عبدالرازق
كتاب الإسلام وأصول الحكم
ليس من تأليفه وإنما هو من تأليف المستشرق اليهودي مرجلبوت كان هدف الكتاب ضرب الإسلام في عقيدة من أكبر عقائده، وفريضة من أعظم فرائضه وهو أنه دين ودولة ونظام مجتمع. ومن ثم فقد عبر الكتاب عن وجه نظر الاستشراق اليهودي التلمودي الهدام.
وكان الكتاب لعنة على علي عبد الرازق فقد أصاب حياته بالظلام والغربة، فمات الكتاب قبل أن يموت وانطوت صفحته وهو حي، ومازالت قوى التغريب تعيد طبع الكتاب ونشره مع مقدمات ضافية يكتبها كتاب شعوبيون أو شيوعيون يضللون الناس ويخدعونهم بأسمائهم وألقابهم لإحياء فكرة مسمومة.
صادر القضاء الكتاب وأصدرت هيئة كبار العلماء قرارات بإدانة المؤلف بعد زعم أن نظام الحكم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان موضع غموض وإبهام وموجب للحيرة.
كان السؤال في الندوة عن دعوى على عبدالرازق في كتابه الإسلام وأصول الحكم" التى ما تزال قوى التغريب والغزو الثقافي والماركسيون والشعوبيون تجدد نشرها والحديث عنها بوصفها أسلوباً من أساليب العمل لخداع جماهير المسلمين عن حقيقة دينهم، وإذاعة مفهوم الدين العبادي القائم على الروحيات والمساجد وإنكار حقيقة الإٍسلام بوصفه دينا ومنهج حياة، ونظام ومجتمع.(/15)
ويتقول الادعاء الخبيث الذي يثيره الاستشراق والشعوبيون على أن في الإسلام مذهبين أحدهما يقول بأن الإسلام دين ودولة والآخر يقول: بأن الإسلام دين روحى ويضعون على عبدالرازق على رأس الفريق الذي يقول هذا القول.
والواقع أن الإسلام ليس فيه غير رأي واحد. وهو الرأي الأول وأن ما ذهب إليه على عبد الرزق عام 1925 لم يكن من الإسلام في شئ ولم يكن على عبد الرازق نفسه إماما مجتهداً وإنما كان قاضيا شرعياً تلقفته قوى التغريب فاصطنعته تحت اسم "التجديد" ودعى على عبد الرازق إلى لندن لحضور حلقات الاستشراق التي تروج للأفكار المعارضة لحقيقة الإسلام وعدم مقوماته وأهدى هذا الكتاب الذي وضع عليه اسمه مترجما إلى اللغة العربية وطلب إليه أن يضيف إلى مادته بعض النصوص العربية التى يستطيع اقتباسها من كتب الأدب.
أما الكتاب نفسه فان من تأليف قزم من أقزام الاستشراق وداهية من رجال الصهيونية واليهودية العالمية هو المستشرق "مرجليوث" الذي تقضى الصدف أن يكون صاحب الأصل الذى نقل عنه طه حسين بحثه عن "الشعر الجاهلي" والذى أطلق عليه محمود محمد شاكر "حاشية طه حسين على بحث مرجليوث" ويمكن أن نطلق الآن اسم "حاشية على عبد الرازق على بحث مرجليوث" وقد كشف هذه الحقيقة الدكتور ضياء الدين الريس في بحثه القيم "الإسلام والخلافة في العصر الحديث".
وهكذا نجد أن السموم المثارة في أفق الفكر الإسلامي توضع أساساً من رجال التغريب ثم تختار لها أسماء عربية لتحمل لواءها وتذيعها إيماناً بأن الاسم العربي أكثر تأثيراً وأبعد أثراً في خداع الجماهير.
ولقد طالما تحدث التغريبيون عن كتاب "الشعر الجاهلي" و"الإسلام وأصول الحكم"، على أنهما دعامة النهضة في الفكر الحديث ونحن نرى أنهما دعامة التغريب التى حاولت خداع جماهير المسلمين عن حقائق الإسلام العظيم.
ومع أن حركة اليقظ الإسلامية واجهت كتاب على عبد الرازق المنحول، وفندت فساد وجهته وأخطائه فإن قوى التغريب ما تزال تعيد نشره وطبعه. مع مقدمات ضافية يكتيبها كتاب مضللون شعوبيون يخدعون الناس بألقابهم وأسمائهم. وهم يجدون في هذه المرحلة التي يرتفع فيها صوت تطبيق الشريعة الإسلامية. والدعوة إلى الوحدة الإسلامية مناسبة لنفث هذه السموم مرة أخرى ولن يجديهم ذلك نفعا فإن كلمة الحق سوف تعلو وتنتشر وتدحض باطل المضللين مهما تجمعوا له وقموه في صفحات براقة مزخرفة وأساليب خادعة كاذبة.
أول من كشف حقيقة الكتاب
إن أول من كشف حقيقة الكتاب هو الشيخ "محمد بخيت" الذى رد على الشيخ على عبدالرازق في كتابه "حقيقة الإسلام وأصول الحكم" وهو واحد من الكتب التى صدرت في الرد عليه حيث قال:
"لأنه علمنا من كثيرين ممن يترددون على المؤلف أن الكتاب ليس منه إلا وضع اسمه عليه فقط فهو منسوب إليه فقط ليجعله واضعوه من غير المسلمين ضحية هذا العار، وألبسوه ثوب الخزى إلى يوم القيامة" وقد علق الشيخ علي عبد الرازق على هذا المعنى حين قال الماركسيين الذين اتصلوا به سنة 1964 لإعادة طبع كتابه إن هذا الكتاب كان شؤما عليه، وقد ألصق به كثيراً من المتاعب والشبهات والحقيقة أنه بعد أن طرده الأزهريون من "هيئة كبار العلماء" ظل منفياً ومهجوراً وعاش بقية حياته منقطعاً عن الحياة العامة. بالرغم من أن محاولات جرت لإعادته إلى زمرة العلماء، وإلى مجمع اللغة ، فقد كان الكتاب أشبه باللعنة على حياته كلها.(/16)
ومن هذا الخيط الرفيع بدأت محاولة الدكتور ضياء الدين الريس فاستطاع أن يصل إلى الحقيقة بأن كاتب الكتاب في الحقيقة هو مستشرق إنجليزي يهودي الأصل شن الهجوم على الخلافة لأن بلاده "بريطانيا" كانت في حرب مع تركيا وقد أعلن الخليفة العثماني الجهاد الديني ضدها والنصوص في الكتاب قاطعه بأنه كان موجها ضد الخلافة العثمانية. فإنه يذكر الاسم "السلطان محمد الخامس" الخليفة في ذلك الوقت الذى كان يسكن قصر يلدز" وهناك نص على جماعة الاتحاد والترقي" وهي التي كانت تحكم تركيا. أي دولة الخلافة طوال أعوام الحرب العالمية الأولى. ويقول أن الاتحاديين تلاميذ الماسونيين، وقد تربوا في محافلهم واعتنقوا شعارهم ومفاهيمهم، وقاموا بدور مسموم وهو فتح باب فلسطين أمام اليهود المهاجرين. وكان السلطان عبدالحميد قد رفض ذلك، وكانوا هم: أي الاتحاديون أداة الصهيونية العالمية في إسقاط هذا السلطان الشهيد ورجح الدكتور الريس أن مرجليوث اليهودي الذى كان أستاذاً للغة العربية في اكسفورد ببريطانيا هو كاتب الكتاب. لأن آراء الكتاب هي آراؤه التى كتبها من قبل عن الدولة الإسلامية، وفندها الدكتور الريس في كتابه "النظريات السياسية في الإسلام"، وأثبت خطأها وبطلانها بالأدلة العلمية. وهو يكتب عن الإسلام بنزعة حقد شديد، ويتسم أسلوبه بالمغالطات والمعلومات المضللة والقدرة على التمويه. كما يتصف بالالتواء. وهذا الصفات كلها تظهر في هذا الكتاب المنسوب إلى الشيخ عبدالرازق. ومعروف أن الشيخ على عبدالرازق ذهب إلى بريطانيا وأقام فيها عامين فلابد أنه كان متصل بالمستر مرجليوث، أو تتلمذ عليه. وكذلك "توماس أرنولد" الذي يشير إليه الشيخ ويصفه بالعلامة قد ألف كتابا عن الخلافة بوجه عام، والعثمانية بوجه خاص. وقد نقدناه "يقول الدكتور الريس" في كتابنا "النظريات السياسية الإسلامية".
والقصة تتلخص في أنه أبان الحرب العالمية الأولى والحرب دائرة بين الخليفة العثماني وبريطانيا أعلن الخليفة الجهاد الدينى ضد بريطاني ودعا المسلمين أن يهبوا ليحاربوها، أو يقاوموها. وكان بريطانيا تخشى غضب المسلمين الهنود بالذات أو ثورتهم عليها. في هذه الفترة كلفت المخابرات البريطانية أحد المستشرقين الإنجليز أن يضع كتابا يهاجهم فيه الخلافة وعلاقتها بالإسلام، ويشوه تاريخها ليهدم وجودها ومقامها ونفوذها بين المسلمين. وقد استخدمت السلطات البريطانية هذا الكتاب في الهند وفي غيرها. وبعد أن انتهت الحرب كان الشيخ عبد الرازق قد اطلع على هذا الكتاب أو عثر عليه. هذا إن لم يفترض أن هذا كان باتفاق بينه وبين هذا المستشرق الذى اتصل به حينما كان في انجلترا أو في بعض الجهات البريطانية التى كانت تعمل في الخفاء للقضاء على فكرة الخلافة، أو التى تحارب الإسلام فأخذ الكتاب فترجم إلى اللغة العربية. أو أصلح لغته إن كان بالعربية، وأضاف بعض الأشعار أو الآيات القرآنية التى تبدو أنها لم تكن في أصل الكتاب وبعض الهوامش والفقرات، وأخرجه للناس على أنه كتاب من تأليفه ظنا منه أنه يكسبه شهرة. ويظهره باحثاً علمياً، ومتفلسفاً ذي نظريات جديدة. غير مدرك ما في آرائه أو في ثناياه من خطورة. ولا يستغرب هذا لأنه لم يدرك أن إنكار القضاء الشرعي هو إنكار لوظيفته نفسها وعمله، وإلغاء لوجوده وكانت هذه هي البدعة السائدة في ذلك الوقت بين كتاب " السياسة" جريدة من أسموا أنفسهم، حزب الأحرار الدستوريين" وهذا هو الذي فهمه "أمين الرافعي" فكتب في جريدة الأخبار أنه لم يستغرب أن يقدم الشيخ على عبد الرازق على إصدار هذا الكتاب لما عرفه عنه من الضعف في تحصيل العلوم، والإلحاد في العقيدة. ثم قال: هذا إلى أنه انغمر منذ سنين في بيئة ليس لها من أسباب الظهور سوى الافتئات على الدين، وتقمص أثواب الفلاسفة والملحدين، وصار خليقا باسم " الاستاذ المحقق" والعلامة الكبير.
ولم يعرف الأستاذ الرافعي أن المؤلف الحقيقي ربما كان غير الشيخ عبد الرازق. ولكن كلامه يكاد يكون إثباتا لذلك. وهناك قرائن أخرى.
أولا: ذكر اسم كتاب مترجم عن التركية طبعة 1924. بينما هناك فقرة تنص على أن تاريخ التأليف قبل عام 1918. وأنها ذكرت اسم السلطان محمد الخامس وقيل في الهامش أنه كتاب في عهده. وأقرب تفسير لذلك أن الكتاب ليس من تأليف شخص واحد.
ثانيا: يتحدث المؤلف عن المسلمين كأنه أجنبي عنهم وهم منفصلون عنه. فيذكرهم بضير الغائب ولا يقول عندنا أو العرب. أو نحو ذلك كما يقول المسلم عادة.
ثالثا: يكرر الشيخ عبد الرازق "عيسى وقيصر مرتين" ويكرر هذه الجملة التى يسميها الكلمة البالغة "دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله " مع أن أي مسلم صحيح الإسلام لا يمكن أن يؤمن بهذا التعبير. وأن قيصر وما لقيصر لله رب العالمين.(/17)
رابعا: يتعاطف مع المرتدين الذين خرجوا على الإسلام، وشنوا الحرب على المسلمين. فيدافع عنهم. في نفس الوقت الذي يحمل على رأي أبي بكر الصديق المسلم الأول بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فينكر خلافته. ويقول إن محاربته لهؤلاء المرتدين لم تكن حربا من أجل الدين. ولكن نزاعا في ملوكية ملك ولأنهم "رفضوا أن ينضموا لوحدة أبي بكر " وما هي وحدة أبي بكر يا عدو أبي بكر والإسلام.. أليست هي وحدة أبي بكر يا عدو أبي بكر أو ليست هي وحدة المسلمين حكومة الإسلام والمسلمين. ويتكلم عن أبي بكر هكذا بغير احترام أو تبجيل كأنه رجل عادي. أو كما يتكلم عدو.
هل هذا هو أسلوب المسلم. فضلا عن الشيخ. في الكلام عن الصحابة وعن أفضل الناس وأحبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وخير من دافعوا عن الإسلام، وجاهدوا في سبيل الله عز وجل.
خامسا: أن الأسلوب الذي كتب به الكتاب أسلوب غريب، ليس مألوفا في الكتب العربية. فهو أسلوب مناورات ومراوغة، ويتصف بالالتواء واللف والداو والدوران. فهو يوجه الطعنة أو يلقي بالشهبة ثم يعود فيتظاهر بأنه ينكرها ولا يوافق عليها ويفلت منها ثم ينتقل ليقذف بشبهة أو طعنة أخرى على طريقة "اضرب واهرب" رجل سياسى متمرن في المحاورة والمخادعة. وهو أشبه بالأسلوب الإفرنجي، وأسلوب الدعايات السياسية، أو الدينية التبشيرية، وليس هو أبدا الأسلوب العربي الصريح. فضلا عن أسلوب أحد الشيوخ المتعلمين فى الأزهر. وهذا مما يغلب الرأي بأنه كتاب مترجم.
سادسا: ولم يعرف عن الشيخ على عبد الرازق – من قبل – أنه كان كاتباً تمرس في الكتابة، ومرن على التأليف .. فيكتب بهذا الأسلوب، ويتعمد الطعن في الإسلام وتاريخه وعظمائه رجاله. ولم يعرف للشيخ كتاب أو مقالات قبل هذا الكتاب "أي في السياسة والتاريخ" بل كل ما كتب من قبل كان "كئيبا" في اللغة أو في علم البيان وهذا كل انتاجه في أربعة عشر عاما بعد تخرجه من الأزهر، ثم بعد أن كتب هذا الكتاب ظل أربعين عاما لم يكتب كتابا آخر في نفس موضوعه أو مثله، ولم يحاول أو لم يستطع حتى أن يدافع عن نفسه ويرد على خصومه بكتاب آخر.
سابعا: هناك من القرائن والأدلة العديدة ما يدعو العقل إلى أن يرجح صحة الخبر الذى رواه فضيلة المفتى الشيخ محمد بخيت نقلا عن كثيرين من أصحاب الشيخ على عبد الرازق المترددين عليه من أن مؤلف الكتاب شخص آخر من غير المسلمين. وقد غلبنا نحن أنه أحد المستشرقين .. ولكننا نقيد هذا الخبر بأن الشيخ قد أضاف بعض فقرات وتعليقات، وأنه هو الذي أورد الآيات من القرآن.. والظاهر أنها محشورة حشراً مجموعات في مكان واحد وأبيات الشعر التى استشهد بها. كما كتب المقدمة التى زعم فيها أنه بدأ البحث في تاريخ القضاء منذ سنة 1915، وذلك ليغطى المفارقة الظاهرة بين وضع الكتاب ووقت صدوره. فإنه من غير المعقول أن يستغرق تأليف كتيب لا يزيد عن مائة صفحة عشر سنوات.
ثامنا: كانت هناك أسباب ودوافع مختلف دفعت الشيخ إلى إصدار هذا الكتاب. ولكن كان أقواها في نهاية الأمر حب الظهور والرغبة في الشهرة، وأن يوصف بأنه باحث أو محقق أو مجدد. كما فعل غير من قبل .. ونحن نعرف أن مسألة مألوفة في الشرق .. ولا سيما في النقل من الكتب الأجنبية.
وفي مثل هذه المسائل بالذات. فإن هذه الحالة أسهل. لأن النقل أو الترجمة من كتيب مجهول. أو كانت المسألة بتصريح أو اتفاق لخدمة غرضين فالطرف الأول يريد نشر آرائه لغايات سياسية ودينية والطرف الثاني له مأرب سياسي. ولكن الدافع الذاتي إنه يريد الشهرة أو الظهور أو الغرور.
من تقرير هيئة كبار العلماء في كتاب "الإسلام وأصول الحكم"
والخلاصة أنه إذا رجعنا إلى هدف الكتاب الحقيقى وجدناه يتمثل في الحقائق التالية كما فصلها تقرير هيئة كبار العلماء.
أولا: جعل المؤلف الشريعة الإسلامية روحية محضة لا علاقة لها بالحكم والتنفيذ في أمور الدنيا مع أن الدين الإسلامي على ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من عقائد وعبادات ومعاملات الإصلاح أمور مشتمل على أحكام كثيرة في أمور الدنيا، وأحكام كثيرة في أمور الآخرة.
ثانيا: زعم أن الدين لا يمنع من جهاد النبي صلى الله عليه وسلم كان في سبيل الملك. لا في سبيل الدين، ولا لإبلاغ الدعوة إلى العالمين.
ثالثا: زعم أن نظام الحكم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان موضع غموض وإبهام، أو اضطراب أو نقص، وموجباً للحيرة.
رابعا: زعم أن مهمة النبي صلى الله عليه وسلم كان بلاغا للشريعة. مجرداً من الحكم والتنفيذ.
خامسا: انكر إجماع الصحابة على وجوب نصب الإمام، وعلى أنه لابد لسلامة من يقوم بأمرها في الدين والدنيا.
سادسا: أنكر أن القضاء وظيفة شرعية. وقال: إن الذين ذهبوا إلى أن القضاء وظيفة شرعية جعلوه متفرعا من الخلافة.
سابعاً: زعم أن حكومة أبي بكر والخلفاء الراشدين من بعده –رضى الله عنهم- كانت لا دينية. وهذه جرأة لا دينية.(/18)
وهكذا تتكشف تلك المؤامرات الخطيرة التى استغلها الاستشراق وبعض التغريبيين خصوم الشريعة الإسلامية للقول بأن هناك رأيين: بينما لا يوجد غير مفهوم واحد . هو أن الإسلام دين ومنهج حياة ونظام مجتمع. وأن ما قال به على عبد الرازق هو وجهة نظر الاستشراق الصهيوني التلمودي الهدام .. وأنه ليس رأي أي مجتهد أو عالم أو إمام في الإسلام. وأن على عبد الرازق لم يكن إلا مضللا أو مخدوعا.
(7)
سَاطع الحصري
سقطت نظرية ساطع الحصرى فيلسوف القومية العربية، لأنها قامت على أساس التفسير الغربي للتاريخ، ففصلت العروبة عن الإسلام وهو أول من جعل العنصرية والعرق والدم بديلا لمفهوم الإسلام الذى يقوم على الإخاء الإنساني، وهو أول مسئول عن التعليم العالي التركي في الوزارة التى شكلها الاتحاديون بعد سقوط الخلافة مباشرة وأول من صرح بأن قومية إسرائيل تقوم على الدين وأن الإسلام دين تعبد وينكر أنه نظام حياة ومجتمع، والحقيقة أنه ما ذنب العروبة والإسلام إذا كان ساطع الحصرى غربي الفكر والذوق أعجمي النطق يتجاهل أن لغتنا لغة فكر وعقيدة وأن ديننا يجمع بين المادة والروح بين العقل والقلب وبين الدنيا والآخرة.
حدثني الدكتور مختار الوكيل مدير مكتب الجامعة العربية في جنيف، وهو رجل صادق مؤمن، أنه في خلال عمله زار الأستاذ ساطع الحصرى في سويسرا ورأي السيد عبد الفتاح حسن السفير المصري دعوته إلى طعام للغداء فلما قدم مع الدكتور الوكيل حياة السفير المصري فقال:
"مرحبا بالمناضل الكبير في خدمة العروبة والإسلام" وقد عجب الرجلان من ساطع الذى رد في عنف وحدة:
"عرب نعم .. إسلام لا .. أنا لاييك .. أنا لاييك".
وكلمة "لاييك" تعنى أن صاحبها علماني أو لا دينى.
* * *
ما نزال ندوة الاعتصام تركز على تاريخ الإسلام والعرب المعاصر وعلى الأعلام البارزين: سعد زغلول، لطفي السيد، ساطع الحصرى إلخ وقد أحرز ساطع الحصرى شهرة وافرة في سنوات مابعد الحرب العالمية الثانية باعتباره "فيلسوف القومية العربية، حيث روج لنظرية خطيرة كانت بعيدة الأثر في حجب مفهوم العروبة الأصيلة المرتبطة بالإسلام فكراً وعقيدة، وبالعالم الإسلامي تكاملا وإخاء .. لقد كان دعاة حركة اليقظة في البلاد العربية يرون أن الجامعة الإسلامية قائمة بين العرب والمسلمين "فرساً ودركاً" بعد زوال الدولة العثمانية. ولكن ساطع الحصري كان من أوائل الدعاة إلى فصل العرب عن المسلمين بمفهوم القومية الغربي الوافد الذي طرحه في أفق الفكر السياسي العربي. وهذا يرجع إلى أن ساطع الحصري كان ثمرة من انضج ثمار المدرسة الاتحادية التركية، وأكبر الدعاة الذين نقلوا مفهوم القومية الطورانية التركية إلى أفق العروبة التي كانت ترتبط بمفهوم الإٍسلام في العلاقة بين الشعوب التي جمعها التوحيد والقرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم والفكر الإسلامي الأصيل.
لقد كان ساطع الحصري مديراً للتعليم في الدولة الاتحادية التي حكمت تركيا بعد إسقاط السلطان عبد الحميد بمفهوم العلمانية بالطورانية.
وقد تعلم في مدرسة الاتحاديين، وآمن بفلسفتهم، ونقل فكرهم ومضامينهم إلى العرب، وذلك في سبيل تمزيق الوحدة الإسلامية الجامعة عرباً وتركاً وفرساً، وخلق أسلوب القوميات والاقيلميات التى تقوم على الصراع والاستعلاء بالجنس والعنصر.
وهو أول من حمل لواء العنصرية والعرق والدم بديلا لمفهوم الإسلام الذى يقوم على الإخاء الإنساني. وقد كان فلاسفة الفكر القومي التركي من الاتحاديين تلاميذ الفلسفة الوضعية متشبعين بالنزعة الطورانية العدوانية. وقد استمد ساطع الحصري مفهومه للعروبة من مفهوم القومية الغربية، والنظرية التى طبقها الاتحاديون في تركيا. فقد ركز على اللغة والتاريخ وعزلهما عن الفكر الإسلامي الجامع ككل كما ركز طه حسين على الأدب وعزله من وحدة الفكر الإسلامي.
ونظرية ساطع الحصري التى روجت لها بعض الأحزاب السياسية العربية قد اثبتت خلال أكثر من ثلاثين عاما فشلها الذريع، وعجزها عن العطاء، لأنها فرغت مفهوم العروبة من قيمه وتاريخه وعناصره الأخلاقية والروحية وجعلته مفهوماً مادياً خالصاً.
وقد اعترف ساطع الحصرى بأن إسرائيل قومية تقوم على الدين ورفض اعتبار الإسلام مقوماً بوصفه دينا. ذلك أن مفهوم ساطع الحصري للإسلام ناقص، فهو يراه دينا لاهوتياً وليس ديناً ومنهج حياة ونظام مجمتع على النحو الذي يؤمن به دعاة العروبة الإسلامية.
لقد فهم الإسلام على أنه "عين عبادي" كما فهم الأوربيون المسيحية، ولم يفرق بين الدين بعامة والإسلام، ولم يفرق بين العصر والبيئة والجذور الثقافية التي يختلف فيها عن مفهوم القومية في أوربا. ولقد كان مفهومه العروبة ناقصاً. فلم يصل إلى مفهوم العروبة المترابط مع الإسلام. هذا الترابط الجذري الذي لا سبيل للانفكاك عنه.(/19)
ويرى كثير من الباحثين أن ساطع الحصري لم يعايش المناخ العربي قبل أن يضع مجموعة آرائه، وأنه استهدي بمناخ البلقان والنظرية الألمانية في حركته القومية التي رفع فيها شعار اللغة في مواجهة الدولة العثمانية المتحرر منها. وأنه كان حاقداً على الترك حقد المحافل الماسونية التى احتضنت الاتحاديين ووجهتهم وجهتها، ودفعتهم إلى الدعوة إلى الذئب الأغبر كرمز لها بدلا القرآن.
وقد كان أكبر أساتذته في مفهوم القوميات "ماكس مولر" "وتوردو" وهما فيلسوفان يهوديان قصداً من وراء نظرية اللغة إلى إحياء القومية اليهودية.
وقد اعتبر ساطع الحصري اللغة أساس القومية، وعارض نظرية الأرض التى دعا إليها أنطون سعادة دون أن يتنبه إلى أن الفكر لا اللغة هو مصدر الوحدة.
وقد أجرى ساطع الحصري الجدل حول عديد من النظريات الأوربية في القومية دون أن يواجه جوهر المفهوم العربي الإسلامي المصدر والجذور. هذه الجذور التى تجعل من العسير فصل اللغة عن الفكر واعتبارها مقوماًَ منفصلا، أو الاعتماد على نظرية بقاء اللغة أو ضياع اللغة مع أن الأساس هو بقاء للعقيدة والفكر الذى يحمى وجود الأمة الحقيقى.
والواقع أن ساطع الحصري كان غربي الفكر أساساً بل وغربي الذوق أعجمي النطق، وأن تركيبه الثقافي والاجتماعي يحول بيته وبين تبنى نظرية عربية أصلية مستمد من واقع الأمة العربية وكيانها، وذاتيتها وقيمها التى لا تنفصل فيها اللغة والتاريخ عن الفكر نفسه. وفي ذلك مغالطة أو جهل. ذلك أن اللغة العربية ليست لغة أمة فحسب ولكنها في نفس الوقت لغة فكر وعقيدة فإذا كان العرب وهم مائة مليون يتحدثون بها فإنها لغة العقيدة والفكر لألف مليون من المسلمين مرتبطين بالقرآن الكريم والسنة الشريفة، وذلك التراث الضخم من الفقه والعلم والتاريخ. وأن اللغة لا تنفصل عن الفكر وأن تاريخ العرب لا ينفصل عن تاريخ الإسلام.
ومرجع ذلك إلى أن ساطع الحصري نشأ – كما ذكرنا – في بيئة الاتحاديين الأتراك الذين كانوا صنائع للفكر الغربي، والذين نشأوا في أحضان المنظمات الماسونية، وحملوا لواء الإيمان بالفصل من الدين والمجتمع، وفهموا الإسلام فهما غربيا على أنه دين لاهوتي.
وعلى هذا الفهم الخاطئ القاصر قامت نظرية ساطع الحصري التى لمعت تحت تأثير الخداع والأهواء حتى أن بعض دعاة الماسونية في العالم العربي راح يفسر عن طريقها تاريخ الإسلام كله فيرى أنه تاريخ قومي عنصري عربي. ومن ثم وجهت عبارات الحقد والخصومة إلى الأمة الإسلامية، وهذا هو الثمرة الحقيقية التى تهدف إليها حركة الغزو الثقافي والتغريبي من طرح هذه النظرية القومية، الإقليمية الضيقة العدوانية الوافدة. بديلا عن المفهوم الأصيل للعروبة في إطار الإسلام كما كان يفهمه شكيب إرسلان ورشيد رضا ومحب الدين الخطيب وحسن البنا ومصطفى السباعي ومحمد المبارك.
هذه النظرية المضطربة التى خدع بها ساطع الحصرى الكثيرين، والتى سايرها كثير من المثقفين قبل أن يعرفوا سمومها العميقة. فلما عرفوها هاجموها وكشفوا زيفها.
والنظرية مضطربة من أساسها. ولو كان ساطع الحصرى حسن النية لصحح موقفه من فهم الدين فهما غربيا لا تركيا وفهم الإسلام بمعناه الجامع بين العقيدة ونظام المجتمع. لقد اعتمد أساس نظرية مفهوم الدين اللاهوتي بمفهوم أوربا والغرب للدين، ولذلك عجزت النظرية عن أن تنجح في إطار الفكر الإسلامي، بل إن كل العناصر التى عالجها كانت عناصر البيئة الغربية في مواجهة الصدع بين الجامعة المسيحية الأوربية وبين القومية الإقليمية والتي كانت وراءها اليهودية الصهيونية لتمزيق هذه الوحدة والسيطرة على كل قطر على حدة. وهو نفس ما أرادته بالنسبة للجامعة الإسلامية التركية التى وقفت أمام دخول الصهيونيين إلى فلسطين وموقفهم من السلطان عبد الحميد واضح معروف.
إن كل التحديات التى تعالجها نظرية القومية الوافدة لا توجد أساساً في المناخ الإسلامي. هذا فضلا عن اختلاف مفهوم "العروبة" عن مفهوم القومية في الغرب فضلا عن اختلاف مفهوم الإسلام عن مفهوم الدين بصفة عامة.
ومصدر خطأ ساطع الحصرى أنه عجز عن فهم أبعاد الفكر الإسلامي وأعماقه، وعلاقة العرب بالإسلام، وعاش في مؤلفاته خادماً لنظرية القومية الأوربية الوافدة التى قدمها النفوذ الأجنبي من بين ما قدم ليحطم الوحدة العربية الإسلامية الجامعة بعد أن عجز عن فرض الإقليميات القائمة على التاريخ القديم كالفرعونية والفينيقية والأشورية والبابلية.
وذلك أنه لما رأي هذه المحاولات تتهادى ورأي أن العرب يتجهون إلى الوحدة أراد أن يفرغ هذه الوحدة من مضمونها العقائدي الجامع بين الروح والمادة والعقل والقلب والدنيا والآخرة إلى مفهوم اقتصادي مادي صرف، وبذلك فشلت نظرية القومية الوافدة كما فشلت مناهج التعليم الغربي، والقانون الوضعي وأسلوب التنظيمات السياسية الليبرالية وغيرها.(/20)
ولقد وقف ساطع الحصرى في وضوح موقف الخصومة والحقد والتعصب على الإسلام كلما عرض له، وقد تجاهله طويلا في أبحاثه كأن العرب لم يعرفوه خلال تاريخهم الطويل. وكانت محاولاته للفصل بين اللغة العربية والفكر الإسلامي من ناحية. وبين تاريخ العرب وتاريخ الإسلام محاولة ساذجة. ثم كشف نفسه وأسقط مكانته كاملة حين اعترف بالقومية اليهودية القائمة على الدين، بينما عارض عنصر الدين في فهم القومية العربية وإن كانت كلمة "دين" لا تؤدي معنى الإسلام حين يكون البحث حول العروبة.
وقد ثبت أن ساطع الحصرى قد خدم بدعوته وفكره مفاهيم الماسونية والنظرية القومية الوافدة التى كان النفوذ الغربي حريصا على تلقينها العالم العربي. وهي ليست إلا صورة مفهوم الإقليمية اللبنانية والمعروف أن ساطع الحصري كان من أعمدة وزارة المعارف في تركيا منذ أوائل حكم الاتحاديين في تركيا العثمانية إلى أن انتهت الحرب الأولى. وإنه كان من أخطر الموجهين للبرامج التربوية والتعليمية في العراق. حيث عمد إلى فصلها عن الإسلام فصلا تاماً. وكان دوره أشبه بدور الدكتور طه حسين في التعليم المصري.
لقد حاول ساطع الحصرى أن يقيم "فكراً عروبياً إقليميا". منفصلا عن الإسلام في روحه ومضامينه وشريعته. ولقد تجاهل أعماق الأثر الذي تركه الإسلام في الفكر والثقافة، واللغة والتاريخ وتجاهل أثر القرآن الكريم في اللغة العربية وفي العرب، ومدى ترابط ذلك إلى أكثر من ثلاثة آلاف سنة بالأمة الوسطى الحنيفية السمحاء التى جاء بها إبراهيم عليه السلام فربطت هذا العالم الوسط "عالم العرب والإسلام" بروابط تاريخية وثقافية عميقة دعمتها الأديان السماوية التى نزلت في أرض الرافدين، وختمتها رسالة الإسلام العالمية التى نزلت في الجزيرة العربية.
(8)
محمد التابعي
الرجل الذي أنشا صحافة البحث وراء أسرار البيوت والذي نقب عن خفايا الأسر والأعراض، وهو الرجل الذى دعا رجاله الثورة إلى ديكتاتورية الحزب الواحد وحرض على الدعاة إلى الله بالقتل والإبادة.
انتهت حياة الرجل الذي كان له أكبر الأثر في إنشاء الصحافة الهزلية: الكاريكاتير الساخر، والبحث خلف أسرار الناس والتطلع إلى ما وراء الأبواب المغلقة. ذلك هو الأستاذ محمد التابعي الذي تصدر هذا الفن في الصحافة المصرية الحديثة منذ عام 1926م حينما تولى إصدار مجلة "روز اليوسف" مع السيدة فاطمة اليوسف صاحبة هذا المجلة، ثم انفرد بهذا الفن حين أصدر مجلة "آخر ساعة" عام 1934 وكانت فنون الكاريكاتير السياسي والسخرية قد بدأها "سليمان فوزي" صاحب "الكشكول" التي كانت تحمل على حزب الوفد حملات قاسية مما دعا مكرم عبيد إلى اقتناص محمد التابعي ليحمل لواء هذا الفن للدفاع عن الوفد بنفس أسلوب الصحافة الهزلية والكاريكاتير والسخرية من كل القيم والإيغال في مهاجمة كل الأخلاقيات واقتحام أسوار الأسر والبيوت لابتداع فن الخبر الاجتماعي المثير الذي كان سلاحاً قاسيا في ضرب السياسيين القدامى ورجال الأحزاب بعضهم ببعض.
وقد بلغ الأستاذ محمد التابعي بإشرافه على مجلة روز اليوسف قمة التعريض والهجاء والنقد اللاذع عن طريق الخبر والكلمة والصورة.
وقد بدأ التابعي عمله في الصحابة ناقداً مسرحياً ثم تحول إلى التعليق السياسي وعندما حُوكِمَ وصدر الحكم عليه بالحبس سنة أشهر مع إيقاف التنفيذ لم يكن ذلك في سبيل الدفاع عن حقوق وطنيه وإنما كان من أجل مقالات عن مقالات عن مغامراته في أوربا تحت عنوان "ملوك وملكات أوربا تحت أجنحة الظلام". يقول الصحفي محمد على غريب: إنه لما كانت توجد مجلة الكشكول وقد تخصصت في مهاجمة سعد زغلول ولقيت الرواج العجيب، لذلك صح الرأي في أن تصبح روز اليوسف مجلة سياسية واستطاع التابعي أن يجهز على مجلة الكشكول وقد عرف أسلوب التابعي بالسخرية القاسية والدعاية العنيفة.
ويعد محمد التابعى صاحب هذه المدرسة التى سارت عليها من بعد كل صحف الكاريكاتير في مقدمتها روز أليوسف، وأخبار اليوم.. ويعد مصطفى أمين ومحمد حسنين هيكل وإحسان عبد القدوس من تلاميذ هذه المدرسة العتيدة. وقد تعود التابعي كما كتب على أمين في آخر ساعة ألا يعود من الخارج إلا ليحزم حقائبه لرحلة جديدة حتى إنه لم يكن يستقر في مصر أكثر من شهرين في السنة فيقضى الشتاء في سان مورتز والربيع في باريس ومونت كارلو، والصيف بين رأس البر والاسكندرية وإيطاليا، والخريف في القاهرة ليستريح من عناء رحلات الشتاء والربيع والصيف، وإنه يوما في جزيرة كابري ويرها في مونت كارلو وإنه يسافر ومعه أكثر من عشرين حقيبة ملابس الصيف والشتاء والربيع والخريف وملابس الصبح والضحى وبعد الظهر والمساء والليل وإنه ينزل في الجناح الملكي لفندق سوفرنيا.(/21)
وقد دمغ القضاء المصري صحافة الكاريكاتير الهزلية هذه في كثير من المحاكمات التى قدم لها التابعي بأنها "تنشر فاحش القول وسقطه وإنها غالت في الاقذاع في الناس، والبحث وراء أسرارها في تعريض وتلميح، وإن أصحابها يغمسون أقلامهم في السموم القاتلة والتصادير الخلاعية التى كان لها أسوأ الأثر في قرائها من الشباب المراهقين. وكان التابعي حريصاً على فضح أسرار الأسر والبيوت وكشف خفاياها وأعراضها لحساب الخصومة الحزبية.
هذا هو الأثر الأول والضخم في حياة محمد التابعي الذى نماه من بعده وطوره اتباعه وتلاميذه وحواريوه بكل الدول الصحفية تقريباً والذى كان ولا يزال بعيد الأثر في الصحافة المصرية الحديثة. وما كتابات إحسان عبد القدوس التى ينشرها بالأهرام هذه الأيام عنا ببعيد.
أما الأثر الثاني في حياة محمد التابعي فهي موقفه الخطير فى التحريض على الدعاة في سبيل الله ورجال الدعوة الإسلامية كراهية في تطبيق الشريعة الإسلامية، وعملا على تدمير القوى المؤمنه التى تحمل لواء الدعوة إلى تحرير الحياة الفكرية والاجتماية من التحريض على الفساد والشهوات والصور العارية والقصص الماجنة وغيرها من الأساليب التى كان يعمل لها أصحاب التابعي وتلاميذه وهم يبثون في ثنايا كتاباتهم ذلك اللون الخطير الذي أريد به إفساد شباب الأجيال وتدميرهم وانحلالهم.
وقد وقف التابعي مرتين موقف التحريض على "جماعة الإخوان المسلمين" في محاولات الحل الذى تعرضت له مرتين عام 1949م وعام 1954 . وفي كل مرة كان قاسيا على أهل القرآن، متهما إياهم بكل نقيصة، محرضا عليهم بالقتل والسحق والإبادة حتى لا يجد قلما أو لساناً ينقد تصرفه الفاسد ودعوته الضالة.
أما الأثر الثالث الذى يوضع في ميزان أعماله عند الحساب فهو دعوته الحادة المسمومة إلى ديكتاتورية "الحزب الواحد" وتنكره لكل أساليب الديمقراطية والنظم التي تسمح بالرأي الآخر أو وجهة النظر الأخرى.. وقد غالى التابعي في الدعوة إلى الحزب الواحد وأغرى به حكام مصر في فترة من أدق فترات التاريخ السياسي كان المصريون يتطلعون فيها إلى نظام دستوري يحقق الشورى والعدل، فإذا به يظاهر دعوة الدكتاتورية القابضة على الرقاب والعقول والنفوس فكانت تلك هي آخر كلماته التى عارضه فيها أقرب الناس إليه وتلميذه الأثير "مصطفى أمين". ثم أصابت التابعي على أثر ذلك ضربة القدر التى لا تتخلف إزاه كل ظالم ومدمر لقيم هذه الأمة وأخلاقها.
(9، 10)
مدحت وأتاتورك
المؤامرة على تركيا الخلافة مؤامرة على الإسلام بدؤها مدحت ووسطها الاتحاديون. وختامها أتاتورك.
"الرد على عبد الحميد الكاتب"
لماذا هذا الحقد الشديد البالغ من أقلام عربية لكتاب مسلمين جغرافيا على الخلافة الإسلامية والجامعة الإسلامية والوحدة الإسلامية والتضامن الإسلامي الذي تشرق في هذه الأيام شمسه وتبدو علاماته وتعلو راياته بعد أن تعددت كتابات الكتاب عن الصحوة الإسلامية ولماذا يوصف عمل مصطفى كمال أتاتورك بإسقاط الخلافة الإسلامية بأنه "ضربة موفقة" أو قول أحد المؤرخين الشعوبيين: "وهكذا سقطت الخلافة الإسلامية إلى الأبد"!
وقد نسى هؤلاء وأولئك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن أول دينكم نبوة ورحمة تكون فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله جل جلاله. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله جل جلاله. ثم يكون ملكا عاضا فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعه الله جل جلاله. ثم يكون ملكا جبرية فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعه الله جل جلاله. ثم تكون خلافة راشدة على منهاج النبوة تعمل في الناس بسنة النبي ويلقى الإسلام يجرانه على الأرض يرضى عنها ساكن السماء وساكن الأرض. لا تدع السماء من قطر إلا صبته مدراراً، ولا تدع الارض من نباتها وبركاتها شيئا إلا أخرجته، وما ينطق عن الهوى. وهذا الحديث الصحيح يؤكد عودة الخلافة الإسلامية مرة أخرى على نحو أوثق صلة بحكم الله ونظامه الذى جاء به القرآن الكريم. ولقد كان سقوط الخلافة الإسلامية "حدثا" خطيراً لم يكتب عنه بعد، وكان له أثره في نفوس العاملين في حقل اليقظة الإسلامية، وقد كان مصدراً لقيام المفهوم الصحيح للإسلام بوصفه منهج حياة أو نظام مجتمع. وما من دعوة إسلامية إلا وقد أخذت على أهلها العهد بالعمل لعودة الخلافة الإسلامية متى جاء أوانها، وما تزال الحركات الإسلامية كلها عاملة على هذا النهج سائرة في هذا الطريق.
ولا ريب أن قيام عدد من المنظمات الإسلامية العالمية هي بشائر الخير في هذا الطريق. فإن الدعوة إلى قيام الجامعة الإسلامية أصبح اليوم عملا ضروريا بعد أن فسد الدعوات الإقليمية والقومية، وفي مقدمتها الجامعة العربية. ولابد للمسلمين من أن يصلوا إلى الطريق الحقيقي لمواجهة تآمر الغرب والصهيونية والشيوعية عليهم وهو إحياء جامعتهم وإقامة خلافتهم.
معلومات مسمومة:(/22)
ولست أدرى لماذا هذا الاهتمام بإعادة طرح معلومات مسمومة كاذبة مضللة انتشرت زمناً وكانت أشبه بالمسلمات، روجها اليهود والمارون ثم تبين زيفها وتكشفت الحقائق التى تدحضها؟
لماذا العودة إلى الزيف بعد أن ظهرت الحقائق؟!
ولماذا الادعاء بأن مدحت مصلح. وأن مصطفى كمال أتاتورك مجاهد؟!!
والحقيقة أن الرجلين ومن بينهما من رجال "الاتحاد والترقي" هم عملاء النفوذ الاجنبي والصهيونية. لقد تكشفت هذه الحقائق في العالم الإسلامي كله ولم يعد في إمكان كاتب ما أن يضلل الناس بإعادة هذه الأكاذيب ورصفها، وخداع الناس في أمر رجل كان والده حاخاما يهوديا مثل "مدحت" أو رجل هو من الدونمة أصلا مثل "أتارتورك" إن الدعاوى الصهيونية والغربية قد خدعت المسلمين طويلا بتزييف "صفحة الدولة العثمانية" والسلطان عبد الحميد من أجل هدف معروف وواضح هو إسقاط هذا السلطان، وإزالة الدولة العثمانية وهدم الخلافة الإسلامية لتمكين الصهيونية العالمية من الوصول إلى فلسطين، والاستقرار في القدس!!
لقد كان أتاتورك والاتحاديون هم مادة تجربة جديدة فاسدة أريد بها القضاء على النظام الإسلامي وهدم الشريعة الإسلامية وإقرار نظام العلمانية والمادية والوثنية في المجتمع والتربية والسياسة في البلاد الإسلامية، ومحاولة لجعله مثلا أعلى للتقدم والتجديد ثم جاءت أحداث التاريخ بعد خمسين عاماً لتكشف زيف هذه المحاولة وفسادها بعد أن تعددت حلقات هذا الغزو التغريبي الذى جاءت ثورة إيران اليوم بمثابة الدليل الأكيد على فساد هذه التجربة وعلى سقوط هذا المنهج ومؤكدة بأن المجتمع الإسلامي الأصيل القائم على فكرة التوحيد الخالص منذ أربعة عشر قرنا يرفض العضو الغريب، ويتأكد له بعد التجربة المتصلة مع الديمقراطية الغربية والاشتراكية الماركسية وفشلها أن السبيل الوحيد أمامه هو المنهج الرباني الأصيل، وإن الذين حرضوه طوال هذه السنين بالتماس المنهج الغربي "شرقية وغربية" سبيلا للنهضة في العالم الإسلامي لم يكونوا صادقين في دعواهم، فإن هذا الأسلوب في الاحتواء والعمل على صهر المسلمين في بوتقة الأممية الغربية كان من نتائجه سقوط الخلافة الإسلامية، والدولة العثمانية، وسقوط فلسطين والقدس في أيدي الصهيونية والحيلولة دون امتلاك المسلمين لإرادتهم وتطبيق شريعتهم الإسلامية والعمل على منعهم من أداء فريضة الجهاد، أو امتلاك القوة القادرة على تجديد بناء الحضارة الإسلامية القائمة على العدل والرحمة والإخاء الإنساني.
مدحت باشا:
إن الصورة التى رسمتها تلك الكتابات المسمومة لمدحت باشا كاذبة ومضللة. فلم يكن مدحت بطلا قومياً ولكنه كان واحداً من قوى المؤامرة التى أعدت بإحكام للقضاء على الخلافة الإسلامية والدولة العثمانية، وقد كان أمره مكشوفاً لدى السلطان عبدالحميد الذى كان قد وضع يده على مخطط الدونمة بالاشتراك مع أحرار الترك الذين كانوا قد جندوا لخطة إزالة الدولة العثمانية والخلافية الإسلامية من طريق الصهيونية بعد أن حققت قبل ذلك إزالة الجيتو بالثورة الفرنسية وما كان مدحت شهيداً في الحقيقية، لأن الشهادة لا تكون للخونة، وما قتلوه في الحقيقة ولكنه قتل نفسه بخيانته لوطنه وللإسلام، والعمل على تمكين اليهود من النفوذ، وهو من الدونمة الذين دخلوا في الإٍسلام تقية لإخفاء هويتهم، ولتدمير الدولة العثمانية من الداخل. وكان يعمل بتوجيه من المتآمرين المقيمين في باريس، والمتآمرين المقيمين في سالونيك. ولم يكن الدستور الذى دعا إليه مدحت إلا محاولة لإخراج الدولة العثمانية من النظام الإسلامي والشريعة الإسلامية وتغليب نفوذ العناصر المعادية للإسلام، وتمكينها من الانقضاض على الدولة.
وكان السلطان عبد الحميد يعلم مدى ما تهدف إليه المخططات الصهيونية. ولقد شهد المؤرخون المنصفون بأن الدولة العثمانية الإسلامية قد تسامحت إلى أبعد حد مع العناصر غير الإٍسلامية، ومكنتهم من أداء عباداتهم وإقامة شعائرهم، وفتح المدارس وإقامة الجماعات إلى الحد الذى كان عاملا من عوامل تمكنهم من التآمر على الدولة وإسقاطها. ولقد كان السلطان عبد الحميد هو نقطة المؤامرة في الحقيقة لأنه وقف أمام مطامعهم وأهوائهم، ورد "هرتزل" عن محاولاته ومؤامراته بالرد الحاسم وسمع من تمثل اليهود أن ذلك سيكلفه عرشه أو حياته .. وقد كشف السلطان عبد الحميد في مذكراته دور الدونمة ورجال الاتحاد والترقي.
الانتقاص من قدر الخلافة الإسلامية:(/23)
وإذا كانت هناك محاولة للانتقاص من قدر الخلافة الإسلامية، واتهامها بالتقصير. فإن هناك ما يؤكد كذب ذلك، وما أورده جمال الدين في حديثه إلى المخزومي باشا في كتابه "خاطرات جمال الدين"، يكشف عن مدى قدرة السلطان عبد الحميد على فهم تيارات الغربيين وقدرته على ضرب مخططاتهم وضرب بعضهم ببعض. ولقد قام السلطان عبد الحميد بإعلان تلك الصيحة المفزعة التى عجلت به. وهي قوله:" يا مسلمى العالم اتحدوا" وكان هدفه أن يجمع المسلمين ممن هم خارج الدولة العثمانية "العرب والترك" تحت لواء الخلافة والوحدة. وفزع الغربيون واليهود من ذلك فزعاً شديداً. فقد مضى بخطى حاسمة وحقق نتائج هامة.
ولقد كان عقلاء المجاهدين المسلمين يؤمنون بأن المحافظة على الدولة العثمانية إحدى العقائد الإسلامية بعد التوحيد والنبوة. ومن ذلك محمد عبده وشكيب أرسلان ورشيد رضا وغيرهم. وقد كانت الدعوة الحقيقية هي محاولة إصلاح الدولة العثمانية من تحت مظلة الخلافة وتعديل تنظيمات الحكم دون إسقاط الدولة. كان ذلك فهم أحرار العثمانين والعرب جميعا، وقد كان هذا ممكناً لولا ذلك الدور الذي قامت به الماسونية واليهودية العالمية في سبيل تحطيم نفوذ السلطان عبد الحميد، وإحلال نفوذ الاتحاديين أعوانهم الذين تربوا في محافلهم. والذين سلموا لهم فلسطين، وسلموا للإيطاليين في طرابلس الغرب، وأدخلوا الدولة العثمانية الحرب العالمية الأولى ولا ناقة لها فيها ولا جمل حتى يحطموها ويقضوا عليها.
وحدة إسلامية وليست عنصرية
كذلك فإن علاقة مصر والبلاد العربية بالدول العثمانية لم تكن علاقة استعمار. فإن كلمة استعمار لا تطلق إلا على النظام الغربي الحديث وإنما كانت علاقة ترابط تحت لواء الأخوة الإسلامية، واستعانة البلاد المستضعفة بالدولة القوية، والمصريون والجزائريون وغيرهم هم الذين طلبوا من الدولة العثمانية الارتباط بها خوفا من تجدد مؤامرات الحروب الصليبية.
زيف ما في كتب الموارنة واتباعهم:
ولاشك إنه من أكبر أخطاء الباحثين هو إعادة نشر ما جاء في الكتب المدرسية والدراسات التاريخية السابقة لظهور "بروتوكولات حكماء صهيون" عن السلطان عبد الحميد وتركيا العثمانية. وهذا كله زائف ومن صنع الصهيونية وأعوانها من الموارنة. أما اليوم فإن الرؤية التاريخية المنصفة قد اتسعت ومن الظلم أن يقف الباحثون عند الحملات الكاذبة المضللة وتجاهل الرؤية الصحيحة لإبعاد الواقع التاريخي لقد حملت كتب جورجي زيدان وأحمد أمين وغيره صورة مضللة زائفة للسلطان عبد الحميد، وصورة براقة زاهية للاتحاديين الذين علقوا العرب على المشانق ومكنوا للصهيونية وحطموا الدول العثمانية وهم الذين تربوا في أحضان المحافل الماسونية. وعلى الباحث المنصف أن يرجع إلى الإضافات الجديدة التى ظهرت بعد الخمسينات والتى تكشف فساد ما كتبه جرجي زيدان وفارس نمر وسليم سركيس.
والجديد يجلو الحقيقة، فما كتبه جواد رفعت ومحمد جميل بيهم، وعبد الله التل، والعقاد وخليفة التونسي وعجاج نويهض وتوفيق بروه فإن هذه الكتابات قد غيرت تلك الصورة الزائفة التى ما زال يعتمد عليها خصوم الإسلام.
والقضية أن اليهود عندما أحسوا بأن السلطان عبد الحميد قد وقف في طريقهم نهائيا عملوا على تصفيته، ومهدوا لذلك باتهامه بالاستبداد والفساد، وأذاعوا ذلك في صحف الموارنة في مصر مثل المقطم والهلال والمقتطف وغيرها.
ثم جاء أحمد أمين وأمثاله فنقلوا منهم. لأن الحقائق لم تكن قد تكشفت بعد، ولم تكن البروتوكولات قد ترجمت إلى العربية، فلماذا هذا التزييف يحجب مرحلة من الحقائق، والعودة إلى إذاعة ما قبلها من الضلال بإعلاء شأن مدحت وأتاتورك، وهما من هما في الخيانة والتبعية.
حقيقة أتاتورك :
إن أتاتورك في الحقيقة لم يكن مجاهداً ولا مصلحاً، وإنما كان تتمة الاتحاديين. لقد أخروا دوره في المرحلة الأولى قبل الحرب ليتولى الدور الثاني. فالاتحاديون أسقطوا الدولة العثمانية بأن أدخلوها الحرب لتصفى ماليتها ووجودها. وجاء أتاتورك ليفرض عليها اللون الغرب، وينقلها نقلة واسعة من دولة الخلافة الإسلامية إلى دولة علمانية تكتب بالحروف اللاتينية، ويقضى على الإسلام تماماً، ومعاهدته السرية المعروفة التى عرفت بمعاهدة لوزان تكشف ذلك في وضوح وقد استطاع أتاتورك إخفاء وجهه الحقيقي حتى يؤدى دوره كاملا فخدع المسلمين في المرحلة الأولى بالصلاة وإمساك المصحف، وطلب الدعاء منهم. أما دوره في الجهاد في أزمير فقد كشفت الوثائق أنه كان زائفا، وأن غيره هو الذى قام بدور البطولة، وأنه استلب منهم هذا المجد وحطمهم ونسبه إلى نفسه.(/24)
ولقد كان أتاتورك عميلا غربيا كاملا، وعميلا صهيونيا أصيلا، وقد أدى دوره تماما. وأقام تلك التجربة المظلمة المريرة التى تركت آثارها من بعد العالم الإسلامي كله، والتي كشفت الأحداث في الأخير فسادها، وتبرؤا الأتراك المسلمون من تبعتها، وكانت ظاهرة عودتهم إلى الأصالة مرة أخرى. وذلك دليل على أنها كانت تجربة زائفة مضادة لفطرة ولطبائع الأشياء، والدليل إن المسلمين لم يتقبلوها بل رفضوها، وقد كشف أكثر من مستشرق وفي مقدمتهم "هاملتون جب" إن العرب لم يقعوا في براثن هذه التجربة التى خرجت بهم عن الأصالة وعن الذاتية الإسلامية.
ولقد كان من أكبر معالم اضطراب كمال أتاتورك أنه عندما أحس بدنو أجله أن دعا السفير البريطاني ليتولى بدلا منه رئاسة الدولة التركية. وكان كعلامة من علامات الخسة والنذالة والخيانة!!
وقد صفع المؤرخ العالمي أرنولد توينبي التجربة الكمالية التى يفخرون بها ويمجدونها الآن بعد أن رفضها أهلها وحكموا بفسادها. لقول توينبى إن الأتراك كانوا عالة على الحضارة الغربية وأنهم تغربوا ولم يقدموا أي شئ إلى هذه الحضارة، فكانوا عاجزين عن الإبداع في أي مجال من مجالات الإنتاج.
والواقع أن مصطفى كمال أتاتورك لم يكن كما يدعى المدعون شيئا جديداً ولكنه كان حلقة في المؤامرة التى بدأها مدحت وكان وسطها رجال الاتحاد والترقي للقضاء على السلطان والدولة العثمانية. ثم ختمها أتاتورك بالقضاء على الخلافة الإسلامية، ولا ريب أن انتقاص قدر الدولة العثمانية وحكامها مجاف لواقع التاريخ، وهو من عمل أتباع التغريب والشعوبية، وهو عمل ضمن مخطط يرمى إلى إثارة الخلافات والخصومة بين عناصر الأمة الإسلامية، ودعوة للوقيعة بين العرب والترك والفرس. وهم عناصر الأمة الواحدة التى جمعها القرآن وقادها محمد صلى الله عليه وسلم وآمنت بأنه لا إله إلا الله مهما كانت هناك خلافات فرعية فإنهم جميعا أمة واحدة، ولو كان هناك قليل من الإنصاف والأمانة التاريخية لدى كتابنا المزيفين لراجع الكاتب ما كتبه استيورت وهو غربى في كتابه "حاضرالعالم الإسلامي قبل أربعين عاما" وكيف تحدث عن عظمة الدولة العثمانية " ودورها الذى قامت به في وجه الصليبية الغربية.
أما صيحة العناصر والأجناس التى حاول كاتب أخبار اليوم يجعلها قضية فإنها لم تكن كذلك في ذلك الوقت، وإنما هي المؤامرة التي عمد النفوذ الأجنبي بها إلى استغلال صيحة القوميات لتفكيك عرى الدولة العثمانية. أما المسلمون فلم يكونوا يعرفون مصرية وسورية وجزائرية وغيرها ولا كلمة العروبة نفسها، ولكنهم كانوا مسلمين فحسب وإنما ظهرت هذه الدعوات إلى الإقليمية والقوميات بتحريض عناصر غير مخلصة لتفكيك عرى الوحدة، وهدم هذه الجامعة الإسلامية التى كان الغرب يخشاها، ولإقامة قومية زائفة هي القومية الصهيونية.
ولا ريب أن الأسلوب الذى اتخذ في إسقاط السلطان عبد الحميد هو أسلوب لم يعرفه النظام الإسلامي في تاريخه كله وهو من صنع المؤامرة الصهيونية التلمودية التى استطاعت أن تحمى وتحرك هذا الخداع عن طريق قوة عسكرية تتحرك هاتفة بإسم السلطان خدعة ثم تكون في نفس الوقت متآمرة عليه لخدمة هدف غامض على كل الذين قاموا به، ولا يعرفه إلا القليل وهو إعادة اليهود إلى فلسطين.
كذلك فإن ما قام به أتاتورك لم يكن نصراً عسكرياً أو سياسياً وإنما كان هناك إشارة بقبول التوجيه الغربي: وتوقيع ملحق معاهدة لوزان وهو الذى فتح الطريق إلى كل شئ، وبه حلت جميع المشاكل، وانسحبت كل الجيوش، وتحقق ما يسمى النصر والاستقلال. وكتبت على أثر ذلك آلاف الكتب في تمجيد البطل الذى لم يكن إلا عميلا من عملاء الخيانة لحسابه الصهيونية العالمية، والنفوذ الغربي، والشيوعية أيضا فإن الشيوعيين هم أول من عاونه لقاء موقفه من عداء الإسلام.
ولا شك أن الضربة الذى وجهها أتاتورك إلى الخلافة الإسلامية قد فتحت صفحة خطيرة في تاريخ الإسلام الحديث، وأن الذين فرحوا لذلك من كتاب يكتبون باللغة العربية سوف يرون أنهم كانوا غير بعيدي النظر في فهم الأمور، وأنهم استعدوا ذلك الفرح من مشاعر حافلة بالحقد والكراهية للإسلام، وأن الخلافة الإسلامية عائدة لا محالة، وأنها هي العنوان الحقيقي للجامعة الإسلامية والتضامن الإسلامي، وأنه لا سبيل إلى نهضة المسلمين إلا بقيام الخلافة الإسلامية. ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله وعندها ستنكس روؤس الظالمين.
المعاهد السرية
التى عقدها أتاتورك والتى سميت بشروط كرزن الأربعة:
ينص بروتوكول معاهدة لوزان المعقود بين الحلفاء والدولة التركية عام 1923 المعروفة بشروط كرزن الأربعة على ما يلى:
أولا – قطع كل صلة بالإسلام.
ثانيا – إلغاء الخلافة الإسلامية.
ثالثا - إخراج أنصار الإسلام من البلاد.
رابعا – اتخاذ دستور مدني بدلا من دستور تركيا القديم المؤسس على الإسلام.
غاندي(/25)
غاندي سرق الحركة الوطنية من المسلمين. والهندوسي الهندي المتعصب الذي أخفى هندوسيته البغيضة وراء المغزل وللشاة.
وكان أول سياسي طالب بتأجيل الاستقلال منادياً بمهادنة السلطة وعدم مناوأة حكومة الاستعمار.
وكانت فلسفة غاندي التي استقاها من تولستوى ولقنوها لنا في الشرق هي التعامى عن تصرفات المستعمر والاستسلام له.
والحقيقة أن الزعماء المسلمين هم الذين أعلنوا استقلال الهند الحقيقي وعينوا قضاة المحاكم وحكام المقاطعات وتجاهلوا جميع كل السلطات وقد ظهرت آثار المسلمين واضحة في الحركة الوطنية وضعفت وطنية الهندوك فحاربوا المسلمين بكل سلاح حتى سلاح الفتنة الوطنية والدس الرخيص.
كان السؤال: حول غاندي وتكريمه، والأحاديث التى تنشر عنه في الصحف، وتصويره بصورة البطل: ومحاولة القول بأنه كان رمزاً للمصريين أبان الحركة الوطنية المصرية بعد ثورة 1919 وكانت الإجابة كالآتي:
بدأت الحركة الوطنية لتحرير الهند في أحضان الحركة الإسلامية وقد أزعجت الاستعمار البريطاني هذه الخطوة فعمد إلى القضاء عليها بأسلوب غاية في المكر والبراعة نحى بها المسلمين عن قيادة الحركة الوطنية وأسلمها إلى الهندوس، وأجراها على الأسلوب الذي سيطر على الهند بعد ثورة 1957 التى قادها المسلمون كان حريصاً ألا يتحقق للمسلمين السيطرة على الهند بعد أن ظلت تحكم الهند أكثر من خمسمائة عام مرة أخرى بعد أن أسقط دولتهم ..
والمعروف أن المسلمين قاطعوا مدارس الاحتلال وعزفوا عنها حتى أتيح لهم إقامة نهضة تعليمية داخل إطار دينهم وثقافتهم وذلك بإنشاء عدد من المعاهد الإسلامية، انتشرت في "لاهور" و " لكنؤ" ولم تلبث أن حققت تقدما واضحا في هذا المجال. ثم اتجه العمل لتحرير الهند فألفت الجمعية الإسلامية العامة في لكنؤ (بمباوي) وكان يشرف عليها كبار المسلمين في الهند مطالبين بحقوق المسلمين في الهند كوطنيين وكان الهندوك قد أعلنوا إنشاء المؤتمر الوطنى العام وسموه المجلس الملى الوطنى الهندى العام. وكان غايته أن ينالوا حقوقا سياسية تخولهم السيادة على الأقليات "وهم لا يريدون من كلمة الأقليات غير المسلمين" وفي عام 1916 تنبهت حكومة الاحتلال إلى حركة الجمعية الإسلامية فأوعزت إلى محمود الحسيني أن يغادر الهند وقبض على أعوانه: أبو الكلام أزاد، حسرت مهاني، ظفر الله خان، محمد على، شوكت على .ولما عقدت الهدنة في 11 نوفمبر 1918، أعلنت الحكومة البريطانية استعدادها لإجراء إصلاحات في قانون الهند. فاتفق الفريقان "المسلمون والهندوس" على عقد مؤتمر في لكنؤ يجتمع فيه زعمالء الفريقين.
وفي عام 1919 أطلقت الحكومة سراح المسجونين السياسية المسلمين، فاجتمع زعماءهم في لكنؤ بدعوة مولاى عبد البارى رئيس علماء أفرنجى محل فتداولوا في تأسيس جمعية إسلامية لتنظيم مطالب الاستقلال وكان قد ظهر في هذا الوقت تآمر الدول الكبرى على تمزيق شمل الدولة العثمانية. فأطلق هذه الجماعة "جمعية إنقاذ الخلافة من مخالب الأعداء الطامعين" وتأسست جميعة الخلافة في بومباي "18 فبراير 1920" برئاسة غلام محمد فتو، ميان حاجى خان. ودخل في عضويتها الزعماء المسلمون المعرفون في الهند. ودعت اللجنة المسلمين إلى جمع الإعانات للدفاع عن حوزة الخلافة، فأقبل المسلمون بسخاء وجمع ما لا يقل عن سبعة عشر مليون روبية إلى أضعاف ذلك كما يقول السيد عبد العزيز الثعالبي الزعيم التونسى الأشهر في تقريره الذى قدمه للأزهر الشريف في يونيو 1937 بعد زيارته للهند ودراسته لأحوال المسلمين هناك.(/26)
كان "غاندى" إلى تلك الآونة غير معروف في الهيئات السياسية في الهند، وكان متطوعاً في فرقة تمريض الجنود، ولما انتهت الحرب وانفصل عنها كانت جمعية الخلافة في بدء تأليفها فأقبل عليها وكان اسمه غير معروف إلا بين الأفراد القلائل الذين عرفوه في الناتال وجنوب أفريقيا. فتيامن به زعماء المسلمين رغم تحذير المولدى "خوجندى" وكان على صلة به من قبل، ويعلم من أمره ما لا يعلمون وبالأخص من ناحية تعصبة للهنادكة مع المسلمين. وشاءت الغفلة أن تنطوى هذه الحركة العظيمة على يديه. فقعد في جمعية الخلافية مقعد الناصح الأمين وجعل يشير عليها باستئلاف الهنادكة فقبل الأعضاء نصحه عن حسن نية، وتدبوه السعى إلى ذلك فقام وطاف الهند على حساب الجمعية يدعو إلى الوفاق ويقول المطلعون على خفايا الأمور أنه كان يتصل بالهنادكة، ويتآمر معهم على شل الحركة الإسلامية ولما عاد من الرحلة سعى إلى إقناع جمعية الخلافة بالانضمام إلى الكونجرس "المؤتمر الوطني" الذى تأسس لملاحقة المسلمون، وانتزع حقوقهم في الهند. فانضمت إليه جمعية الخلافة وتبعتها بقية الأحزاب الإسلامية المعروفة ارتكازاً على الثقة في "غاندي" وعقد الكونجرس اجتماعا فوق العادة بعد انضمام المسلمين إليه في مارس ولما تلى عليهم القانون الأساسى اقترحوا تعديل المادة التى تقول باصلاح حالة الهند إلى عبارة "استقلال الهند" فوافق على ذلك المؤتمر، وشرعت الأحزاب الهندوكية منذ ذلك الوقت تطالب بالاستقلال التام طبق رغبة المسلمين وكانوا قبل ذلك لا يطالبون إلا باجراء إصلاحات. فارتاعت الحكومة "البريطانية" لهذا التغيير وعدته فاجعة في سياسة البلاد وعلى أثره ألقت القبض على الزعماء، وزجتهم في السجون. واجتمع قادة الحركة وعرض أبو الكلام آزاد اقتراحا باسم الأعضاء المسلمين يتضمن إعلان "الأمة الهندية" وبأن الحكومة الحاضرة غير شرعية مع دعوة البلاد إلى مقاطعتها فوافقت الجمعية، وانعقد على أثره "مؤتمر جمعية الخلافة" فأعلن موافقته أيضا بالاجماع. وبعد أن جرى تصديق المؤتمر على قرار المقاطعة قام غاندى خطيبا وقال، إن اتحاد الهندكة مع المسلمين يبقى متينا ما لم يشرع المسلمون في مناوأة الحكومة، ويشهروا السلاح في وجهها. ورد عليه أبو الكلام آذاد فقال:
"إن كان غاندي يتصور أن أعمال المسلمين في الهند لا تقوم إلا على مساعدة الهنادكة فقد آن له أن يخرج هذه الفكرة من دمائه وليعلم غاندى أن المسلمين لم يعتمدوا قط على أحد إلا على الله عز وجل وعلى أنفسهم".
وشرعت الأمة الهندية عقب ذلك في مقاطعة الحكومة وإظهار العصيان المدني فامتنعت عن دفع الضرائب والرسوم، وتخلى المحامون عن الدفاع أمام المحاكم. وأعاد الناس الرتب النياشين، والبراءات للحكومة، وأحرق التجار المسلمون جميع ما في مخازنهم من البضائع الانجليزية، وترك المسلمون الموظفون مناصبهم في الحكومة فحل الهنادك محلهم وهاجر كثير من المسلمين إلى الأفغان بعد أن تركوا أملاكهم وأرضهم في الهند واشتدت المقاطعة في البنغال اشتداداً عظيما ليس له مثيل. فقد امتلأت سجونها بالمقاطعين من المسلمين حتى إذا أعيى الحكومة أمرهم صارت تقبض كل يوم على ألف شخص في الصباح وتطلقهم في المساء لأن السجون لم تعد تسع المعتقلين. وخطب اللوردريدنج "الحاكم العام" في كلكتا فقال:
إننى شديد الحيرة من جراء هذه الحركة ولست أدرى ماذا أصنع فيها.
ومن هذا السياق تستطيع أن تصور قوة المسلمين في الحركة الوطنية، وضعفها في الهندوكية ولا شك أن الهندوكي بالغاً ما بلغ من النشاط السياسى لا يستطيع أن يجابه الحكومة، كما لا يستطيع أن يحارب المسلمين إلا بسلاح الدس. وقد اجتمع زعماء المسلمون في عام 1921 وأعلنوا استقلال الهند استقلالا فعليا وعينوا ولاة الولايات، وحكام المقاطعات، وقضاة المحاكم في جميع المدن. فكان الوطنيون يرفعون قضياهم أمامهم، ويتجاهلون محاكم الحكومة وبسبب ذلك تعطلت أعمال الحكومة والبوليس، وحدث إرتباك شديد في الدوائر العالية بالهند غير أنها بدلا من أن تستعمل سلاح القوة القاهرة لكفاح الشعب الأعزل لجأت إلى المناورات السياسية وهي أشد خطرًا، وكان بطل هذه المناورات المهاتما غاندى، فقد اتفق اللورد ريدنج مع غاندى على حل الوفاق القومي بين المسلمين والهندوك وقد أذيع الحديث بواسطة المصادر البريطانية بعد ستة أشهر. فقد نقل إلى اللورد قال لغاندى:(/27)
"إن مصدر الحركة الاستقلالية في الهند هم المسلمون، وأهدافها بأيدي زعماءها فلو أسرعنا وأجبناكم إلى طلباتكم، وسلمنا لكم مقاليد الأحكام ألا ترى أن مصائر البلاد آيلة للمسلمين. فماذا يكون حال الهنادكة بعد ذلك؟ هل تريدون الرجوع إلى ما كانوا عليه قبل الاحتلال البريطاني وهل تفيدكم يومئذ كثرتكم وأنتم محاطون بالأمم الإسلامية من كل جانب، وهم يستعدون قوتهم منها عليكم. إذا كنتم تريدون أن تحتفظوا لأنفسكم باستقلال الهند فعليكم أن تسعوا أولا لكسر شوكة المسلمين وهذا لا يمكنكم بغير التعاون مع الحكومة وينبغي لكم أيضا تنشيط الحركات الهندوكية للتفوق على المسلمين في جميع الأعمال الحيوية وفي بلوغهم الدرجة المطلوبة فإنى أؤكد لكم أن حكومة بريطانيا لا تتصل في الاعتراف لكم بالاستقلال".
وقبل انصراف غاندي أوعز اللورد إليه أن يشير على "مولانا محمد على" كتابة تعليق على خطاب كان ألقاه في مؤتمر الخلافة، وحمل فيه على الحكومة حملة عنيفة .. يقول في هذا التعليق:
"أن ما فهمته الحكومة كان مخالفاً لمرادى" فصدع غاندي بالأمر ودعا محمد على لكتابة هذا البيان بعد أن أفهمه أن الكتاب سيكون سرياً لايطلع عليه أحد غير اللورد فكتب البيان تحت التأثير السحرى الذى كان لغاندي عليه. وما كاد الخطاب يصل إلى اللورد حتى أذيع في جميع أقطار الهند بعد أن صورته الحكومة بمقدمة قالت فيها:
"إن محمد على تقدم إلى الحكومة يطلب منها العفو عن الهفوة التى ارتكبها".
وأنهم محمد على من المسلمين بالتراجع، ورمى بالخور والضعف غير أنه لم يحاول أن يصحح موقفه إلا حين مؤتمر الخلافة في كراتشى "أغسطس 1920" حين أعلن سياسة المناوأة للحكومة لا موالاتها. فتلقى منه الهنادكة والمسلمون هذا التصريح بالارتياح التام ولكن عقب انقباض المؤتمر أمرت الحكومة باعتقاله مع ستة آخرين من الزعماء: شوكت على، حسين أحمد، كثار أحمد، بير غلام محمد، الدكتور سيف الدين كتشلو. وساقتهم جميعاً إلى المحكمة المخصوص للمحاكمة. فرفضوا الاعتراف بالحكومة وهيبة المحكمة عملا بقرار المؤتمر السابقة وامتنوعا عن الدفاع عن المتهم. ولكن المحكمة أدانتهم بمجرد الاتهام، وحكمت عليهم بالحبس عامين مع الأشغال الموجهة إليهم. وبعد الحكم أصدر محمد على، سيف الدين كنشلو منشوراً بتوقيعهما يخاطبان فيه الشعب وينصحانه بعدم الاهتمام بما حصل ويعدانه بأن الزعماء المعتقلين سيحضرون اجتماع الكونجرس القادم في ديسمبر بمدينة "أحمد أباد" سواء رضيت الحكومة أم كرهت لاعتقادهما أن الكونجرس سيعلن بصفة رسمية استقلال الهند، وتأليف حكومة وطنية التى ستقرر الإفراج عنهم، ولكن الحكومة لم تأبه لهذا المنشور لأنها كانت واثقة من أن الكونجرس لن يفعل. ولما عقد اجتماع الكونجرس "ديسمبر سنة 1920" حضر غاندي وقال:
"بما أن الزعماء يعتقلون، ولا سبيل للمداولة معهم في منهاج أعمال المؤتمر فاقترح عليكم تعيينى رئيسا للمؤتمر، وتخويلى السلطة المطلقة لتنفيذ ما أراه صالحاً من الاجراءات".
فوافقته اللجنة على ذلك دون أن تتنبه إلى ما كان يغمره هو من المقاصد التى قد لا تنفق مع خطة المؤتمر، وتقرر فيها أيضا إسناد رئاسة مؤتمر الخلافة إلى أجمل خان، ومؤتمر مسلم ليك إلى حسرت مهاتى. وقبل اجتماع مؤتمر الخلافة قال غاندى للحكيم أجمل خان:
"إن إعلان الاستقلال في الظروف الواهنة غير مناسب".
وما زال به حتى أقنعه بالعدول عن إعلان ذلك مع أن الزعماء المسيحيون كانوا ينتظرون بفارغ الصبر، وكانت الحكومة تتوقع صدوره من أحزاب المسلمين بقلق شديد وما عساها تصنع لو تخلف غاندي عن الوفاء لها بوعده. وفي أغسطس 1921 اجتمع الكونجرس تحت رئاسة غاندى في أحمد أباد فأعلن أن الوقت الذى يصر فيه المؤتمر باستقلال الهند لم يحن بعد، فهاج الأعضاء وماجوا. وعقب انتهاء جلسات المؤتمر انعقد مؤتمر الخلافة، وتهيب الحكيم أجمل خان أن يثير عاصفة من قبل المسلمين فأمسك عن إعلان الاستقلال. أما حسرت مهاتى فقد أعلن في مؤتمر مسلم ليك أن الهند تريد أن تعرب بواسطتهم عن إراداتهم في الاستقلال. فعلى الهنود أن يشعروا اليوم بأنهم مستقلون وألا يعترفوا بقوانين الحكومة الملغاة. فأمرت الحكومة بالقبض عليه وحكم عليه بالسجن عشر سنين مع الأشغال، وأجمعت الصحف الهندية على نقده ووصفه بالشدة وخفضت العقوبة إلى سنتين. وعقب ظهور هذا الفشل الكبير في سياسة البلاد اعترت المسلمين شكوك في تصرفات غاندى، واستيقنوا أن زعماء الهنادكة متفقون على ذلك فدب الانشقاق بين الطرفين:
هذا هو النص الذى أورده العلامة الزعيم عبد العزيز الثعالبى عن دور المسلمين في الحركة الوطنية الهندية وكيف قضى عليه غاندى بالتآمر مع النفوذ البريطاني فانهار مخطط الاستقلال. وفي خلال سجن زعماء الحركة المسلمين تسلم غاندى الحركة وحولها إلى وجهة أخرى مخالفة مما دعا المسلمين من بعد إلى المطالبة بكيان خاص لهم.(/28)
هذا هو غاندي في حقيقته التى لم تعرف في بلادنا وفي المشرق. والتى أخفيت عنا تماماً خلال تلك الفترة التى كان المصريون بتوجيه من السياسة البريطانية يعجبون بغاندي ويدعون بدعوته إلى الاستسلام النفوذ الأجنبي وقبول ما يعرض وعدم العنف. وهذه هي الفلسفة التى استقاها غاندي من تولستوي وذاعت كثيراً في بلاد المسلمين معارضة لمفهوم الإسلام الصحيح من الجهاد المقدس في سبيل استخلاص الحقوق المغتصبة أبان الحركة الوطنية المصرية حيث كانوا يجدون في غاندي وأخباره ما يؤيد النفوذ الأجنبي ويدفع الوطنيين المصريين ناحية التفاهم مع الاستعمار البريطاني ولذلك فإن هذه الصفحات التى ينشرها بعض الكتاب لرسم صورة مزخرفة لغاندى يجب أن لا تخدعنا كثيراً فإنه رجل هندوسي متعصب لهندوسيته كاره للمسلمين. وقد كان هو وتلميذه نهرو أشد عنفاً وقسوة في معاملة مسلمى الهند، وقد كانت أنديرا غاندى ابنة نهرو أبان حكمها قد حكمت على المسلمين في بعض المناطق بتعقيمهم عن طريق العمليات الجراحية عملا على الحد من تعداد المسلمين في الهند. فيجب علينا أن نعرف الحقائق ولا تخدعنا الأوهام الكاذبة والصور البراقة التى يراد بها تغطية حقيقة وجريمة كبرى هي أن غاندي في الحقيقة سرق الحركة الوطنية من الزعماء المسلمين وتآمر عليهم مع الحركة البريطانية وأدخل أمثال محمد على وشوكت على وأبو الكلام آزاد وهم من أقطاب المسلمين، أدخلهم السجون، وسحب الحركة الوطنية بالتآمر من أيديهم، وحال دون قيام حكومة هندية حرة يكون المسلمون فيها سادة. وذلك للعمل لخدمة الاستعمار البريطاني وتسليم الهند إليه لتحويل المسلمين إلى أقلية فيها مما دعا المسلمين إلى العمل على قيام باكستان والتحرير من نفوذ غاندي والهندوكية والاستعمار البريطاني.
(12)
زكي نجيب محمود
كان السؤال في الندوة عن مخططات التغريب والعزو الثقافي في هذه المرحلة لمواجهة حركة اليقظة الإسلامية، وانكشاف مخططات الاستشراق والتبشير، وافتضاح كل خيوط المؤامرة التى جند لها عدد كبير من التغريبيين بقيادة "المعلم" طه حسين. ثم تحطم كل هذه المخططات قبل رحليه.
والحقيقة أن النفوذ الأجنبي قد غير جلد طه حسين وحاول أن يقدم مخططاً جديداً لقيادات جديدة بعد أن هلك هذا التغريبى الكبير ووضع أمر ذلك في عدة خطوات اتخذت بسرعة لتغطية الفراغ .. منها عقدة مؤتمر ثقافي مغلق في الكويت ضم مجموعة من اتباع الاستشراق والتغريب، واليساريين، وأتباع الفلسفة المادية. وكان على رأسهم "زكي نجيب محمود" و " محمد النويهي" لمواجهة الموقف بعد وفاة ذلك الزعيم الصنم الذى كان يمر في السنوات الأخيرة من حياته بمرحلة الاحتضار.
وكذلك كلف المستشرق "جاك بيرك" بالطواف في البلاد العربية . ودول الإمارات لإلقاء محاضرات من طه حسين في محاولة لاستعادة الثقة به بعد أن تحطمت هذه تماماً نتيجة للأبحاث الى كشفت عن دخيلته وخاصة ما كاتب محمود محمد شاكر ومحمد نجيب البهيتى وكاتب هذه السطور.
كذلك فقد حاولت جريدة الأهرام في عهد هيكل أن تجمع في نطاقها مجموعة كبيرة من دعاة التغريب أمثال توفيق الحكيم الذى وصف إسرائيل بأنها دولة متحضرة. وحسين فوزى الذى تنكر لعروبته واعتز بفرعونيته ورضى لنفسه أن يجعل درجة الدكتوراة من جامعات العدو. ونجيب محفوظ الذى عرف بتلمذته لزعيم التغريب سلامة موسى وهي ما تزال تحتفظ بهم إلى اليوم بعد أن أضيف إليهم أنيس منصور ويوسف إدريس.
وقد بدأ في السنوات الأخيرة أن الأضواء كلها قد ركزت تماماً على الدكتور زكي نجيب محمود كقائد لهذه الكتيبة التغريبية وقد مهد الدكتور لذلك بأن أعلن أنه أعاد النظر في التراث الإسلامي "وأسماء العربي" في محاولة لخداع البسطاء ولتغطية ماضى طويل في الفكر المادي كانت قمته كتاب المعروف "خرافة الميتافيزيقا" أي بمعنى صريح اتهام مفهوم الغيب الذى جاء به الإسلام بأنه خرافة. وإنكار كل ما سوى المحسوس والمعفول متابعة في ذلك للمذهب الفلسفي الذى اعتنقه طوال حياته مقلداً في ذلك فيلسوفاً أوربياً مادياً ملحداً ينكر الأديان المنزلة ويفاخر بأنه يمثل مدرسته "أوجست كونت" وفي طريق كسب الأنصار والتقرب إلى الشباب الواعي المثقف يتحدث الدكتور زكي نجيب محمود عن الإيمان بالله وعن الإيمان باليوم الآخر، وعن أعلام التراث: الغزالى وغيره. وذلك كله محاولة لإلقاء حاجز بين الماضى والحاضر وإحراز الثقة التى تمكنه من بث مفاهيمة وآرائه.(/29)
ونحن لا نتهم أحداً في عقيدته ولا تتعقب العورات ولا نلتقط ما نتكشف عنه السرائر من وراء الوعى ولكننا نقرر بدأءة بأن المنهج الذى يدعو إليه زكي نجيب محمود معارض لمفهوم الإسلام الصحيح من جوانب عديدة وخاصة بالنسبة لتلك القضية الكبرى التى يثيرها في كل كتاباته وهي مسألة العقل والعقلانية فالإسلام لا يعطى العقل هذا السلطان المطلق كله، ولا يقر مثل هذا المعنى. وإنما يرسم للعقل طريقا كريماً في ضوء الوحى. والعقل في الإسلام مناط التكليف ولكنه ليس حكماً على كل شئ ذلك لأن العقل أداة تصلح إذا صلح تكوينها وتفسد إذا فسد تكوينها. وهي إن اهتدت بالوحى أضاءت وأشرقت عليها أنوار الفهم. أما إذا اهتدت بالفكر البشري فإنها تكون بمثابة أداة تبرير لكل شر ولكن أهواء النفس.
فالعقلانية بالمعنى الذى يدعو إليه زكي نجيب محمود نظرية مادية صرفة ومرفوضة تماماً. وإذا كان هو وجماعة المستشرقين والتغريبيين يعتزون من التراث بالجانب الخاص بالمعتزلة فإن هذا الاعتزاز لا يمثل إلا إنحرافاً في مفاهيم الفكر الإسلامي. فالمعتزلة خرجوا عن مفهوم الإسلام الجامع المتكامل بين العقل والقلب، والروح والمادة، والدنيا والآخرة. وأعلوا مفهوم العقل. فانحرفوا وتحطموا وحكمت عليهم الأمة كلها بأنهم خرجوا عن مفهوم الإسلام الصحيح حين دعوا إلى خلق القرآن واستعدوا الخلفاء على المسلمين والعلماء. وقد هزمهم الله شر هزيمة على يد الإمام أحمد بن حنبل، وأعاد للإسلام مفهومه الأصيل الجامع.
والموقف نفسه يقفه الإسلام بالنسبة للدعوة إلى التصوف كمنطلق وحيد لهم الحياة والأمور من خلال الحدس والروحانيات وحدها ولقد كان هو زكي نجيب محمود في دراساته في التراث مع ذلك المفهوم العقلاني الذى انحرف عن مفهوم الإسلام الجامع، والذى استمد مادته من الفلسفات اليونانية الوثنية المادية، والالحادية الإباحية التى غامت سحابتها على الفكر الإسلامي ثم انقشعت تحت تأثير أضواء المفهوم القرآنى الأصيل.
كذلك فإن مفهوم الدكتور زكي نجيب محمود للألوهية مفهوم ناقص وقاصر لا مفهوم الإسلام "على النحو الذى أورده في مقاله في الهلال".
لقد مرت البشرية بمراحل كثيرة في فهم الألوهية ناقصة ومنحرفة وجاء الإسلام بالمفهوم الجامع الحق فلم يعد هناك مجال لإعادة ترديد هذه المفاهيم بعد مرور أربع عشر قرنا على نزول دعوة التوحيد الخالص.
إن الذى يقبله شباب الإسلام اليوم من الباحثين هو مفهوم الله الحق لا مفهوم الآلهة كما فهمه الوثنيون أو المعددون، أو المشركون الذين كانوا يؤمنون بالله خالقا ولا يؤمنون به مصرفاً للأمور كلها .. وقد جاء الإسلام ليكشف هذه الحقيقة وحدها، ويدعو إليها وهي: "إسلام الوجه لله".
أما مفهوم الإيمان بالله على النحو الذى كتب عنه الدكتور زكي نجيب محمود فهو عرفه المشركون ولم يقبله منهم الإسلام. ولعل من أكبر الخطأ عرض مفهوم أرسطو وأفلاطون في الألوهية ومحاولة تفسيره بمفهوم الإسلام مع أنه كان أبعد ما يكون عن ذلك بل إن القرآن الكريم دحض كثيراً من مفاهيم أرسطو وأفلاطون والفلسفات اليونانية والوثنية والعنوصية لنقضها وقصورها. وخاصة ما ادعاه هؤلاء من أن الله تبارك وتعالى يدير ظهره الكون ولا يعلم الجزئيات، وأن المادة خالدة إلى غير ذلك من تلك التفاهات بل إن مفاهيم أرسطو وأفلاطون للألوهية تدخل تحت ما أسموه "علم الأصنام" فكيف يقدم هذا المفهوم الشباب المسلم اليوم على أنه مفهوم الألوهية الحقة؟! ولقد كشف علماء المسلمين منذ وقت بعيد فساد مفاهيم الفكر البشرى ونقصه. وكيف أنها منحرفة . وكيف أن الله تبارك وتعالى يعلم الأمور كلها " وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس".
وأن هذا الكون ليس مخلداً، ولا باقياً وأن له نهاية كما كانت له بداية، وأن الله تبارك وتعالى يمسك هذا الكون لحظة بعد لحظة ويديره ساعة، وأن كل ما يقوله الفلاسفة هراء.
والمسلمون يعلمون أن الكتب المنزلة حرقت وغيرت مفهوم الألوهية الحقة "الله رب العالمين" فنسبه البعض إلى أنفسهم وقالوا: إنه رب الجنود وربهم وحدهم. وقال الآخرون بأن لله ولداً وكذبوا "ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه".
وليس مفهوم الألوهية صحيحاً ولا كاملا إلا فى الإسلام وحده. مفهوم إسلام الوجه لله: "إياك نعبد وإياك نستعين".
وقد حاول الفكر البشرى أي يزيف مفهوم الألوهية الحقة. وأخطأت الماسونية حين قالت:" المهندس الأعظم" وهناك انحرافات الباطنية والماديين والوجوديين ودعاة وحدة الوجود والحلول والاتحاد على النحو الذى عرف عن كثيرين. وهناك مفهوم الإسلام بوصفه ديناً لاهوتياً. والحقيقة أن المطلوب ليس إثبات وجود الله تبارك وتعالى ولكن المطلوب معرفة حقيقة هذا الوجود بعيداً عن هذه المفاهيم المنحرفة ويستتبع الإيمان بالله تبارك وتعالى، والإيمان بشريعته.(/30)
ولكن الدكتور زكي نجيب محمود لا يلبث أن ينتقص من شأن هذه الشريعة وبصفها بأنها قاصرة ومجافية للعصر ويطالب بتخطيها في سبيل تحقيق المعاصرة، وهو يقبل بالحضارة الغربية كما كان يقبل بها سلفه طه حسين "حلوها ومرها وما يحمد منها وما يعاب" فما عرف عنه أنه دعا المسلمين إلى أخذ العلوم مثلا دون أسلوب العيش ولكنه يدعو إلى شئ غريب هو أن المسلمين ليس لهم فلسفة حياة وهو ادعاء باطل وظالم.
فكيف يمكن أن يقال لأصحاب القرآن الذى وضع منهجاً للحياة والمجتمع غاية في الاحكام جربته الشعوب والأمم ألف عام فأقام فها حياة الرحمة والعدل والإخاء البشري. كيف يمكن أن يقال لهذه الأمة إنها لا تمتلك منهج حياة. وكيف يقبل وهو العقلاني الصحيف هذا المنهج الذي يعيش الغرب سواء الغرب الليبرالى أم الماركسى في ذلك الخضم العفن الفاسد المتآكل من الشهوات والإباحيات والانحراف والتحلل والغربة بشهادة كتاب الغرب والشرق على السواء.
وكيف يغض وهو الأمين على الكلمة عن أزمة الحضارة وأزمة الإنسان الغربي. وقد قرأ عشرات من الكتابات آخرها ما كتبه "سلجوستين" ودمغ به حضارة لغرب التى يكبرها زكي نجيب محمود وحسين فوزي وتوفيق الحكيم. ويفخرون بها ويغوصون بأقلامهم في تلك الحمم من الدماء والعفن والفساد. وهم يقولون لا إله إلا الله على الأقل وراثة، ويرون كيف يقدم الإسلام ذلك المنهج النقى الطاهر الأخلاقي الكريم الذى يرفع من قدر الإنسان. وكيف يحق لأمة تحمل لواء القرآن "ألف مليون مسلم" أن تتخلى عن رسالتها في تبليغ كلمة الله الحق إلى العالمين وتنصهر في بوتقة الأممية والحضارة المنهارة التى تمر بآخر مراحلها.
وهل من الأمانة أن يدعو هؤلاء أمتهم إلى هذا وهم روادها، والرائد لا يكذب أهله ولا يغشها. إن مسئولية القلم وريادة الفكر هو أضخم المسئوليات عند الله تبارك وتعالى يوم الحساب. وقد كان أولى بهم جميعاً أن يصدقوا أمتهم النصح ويدعونها إلى أن تقميم حضارة الإسلام مجددة في إطار "لا إله إلا الله" والأخلاق والرحمة والإخاء الإنساني وأن يلتمسوا أسلوب العيش الإسلامي ليقدموا للبشرية نموذجاً جديداً نقيا تتطلع إليه النفوس والأرواح اليوم بعد أن عم الفساد البلاد الغربية كلها من جديد. ولن يكون غير الإسلام وسوف يدمغهم التاريخ بأنهم كانوا رواداً غير مؤتمنين على الأمانة. وسوف تكتب أسماؤهم في سجل الذين عجزوا عن أن يقولوا كلمة الحق، وأن ينصحوا لأمتهم وهم الذين عاشوا حياة الغرب، وعرفوا فساد مناهجه وأساليب حياته، وعرفوا أن هذه الأمة الإسلامية الكريمة على الله أعز من أن تسحق في أتوان الشهوات وأن تدمر بأيدى أبنائها ودعاتها الذين تلمع أسماؤهم وتخدع الناس شهرتهم.
إن الدكتور زكي نجيب محمود قد أخطأ الطريق حين فهم التراث الإسلامى ذلك الفهم الذى جعله يكرم أمثال "ابن الراوندى" "ومزدك"، و"مانى"، و"الحلاج"، و"الباطنية"، و"الشعوبية" و"إخوان الصفا" وتلاميذهم.
كذلك فهو مؤمن بمجموعة من المسلمات الخاطئة من عصارة مفاهيم الفكر البشري الوثني المادي فضلا عن أن إيمانه بالعلم والعقل وحدهما وهو في مفهوم الإسلام قصور شديد عن المفهوم الجامع.
وإني لأسأل الدكتور زكي نجيب محمود: هل يؤمن بالوحي؟ هذا هو مقطع المفصل بيننا وبينه. وإذا كان يؤمن به فلماذا لم يعلن فساد منهج كتابه "خرافة الميتافيزيقا" ولماذا لا يؤمن بهذا الوحى الذى جاء به القرآن شريعة ومنهج حياة؟
وإذا كان الدكتور زكي نجيب محمود قد تراجع عن، خرافة الميتافيزيقا" وغيرها من آرائه. أليس من الشجاعة أن يعلن ذلك صراحة حتى يستطيع أن يكسب إلى صفه بعض الناس.
إن محاولة اقتعاد مكان طه حسين اليوم هو أمر مضيع. فقد انتهى ذلك العهد وصحا الناس وخطت حركة اليقظة الإسلامية خطوات واسعة فكشفت عن فساد تلك النظريات والأطروحات الزائفة التى قدمها الآباء العتاة الذين كانوا يستقبلون أبناءنا في الجامعات الأوربية وهم من اليهود أمثال مرجليوث ودور كايم غيره.
أما قول الدكتور زكي نجيب محمود أن الثقافة الإسلامية في العصر العباسى قد اغترفت ثقافات الدنيا بغير حساب فهو قول باطل. لقد وقفت الثقافة الإسلامية موقف التحليل والغربلة لكل ما ترجم، وأخذت منه ما وجدته صالحاً ومطاباق لمفهوم التوحيد الخالص. أما ما عدا ذلك فقد رفضته وشنت عليه حربا عنيفة، وأخرجت دعاته من طريق الفكر الإسلامى فأطلقت عليهم اسم "المشاؤون المسلمون" إعلانا لتبعيتعم المشائين اليونانيين، ولم تقبل منهم ما جاءوا به.(/31)
وأعلن المسلمون أن منهج اليونان أو منهج العنوصية الشرقية كلاهما باطل وأن للإسلام منهج خاص مستقل كما نفعل نحن اليوم إزاء ما يقدمه التغريبيون من فكر الشرق والغرب مما هو ليس مقبولا في الإسلام بحال.كذلك فإن نظرية زكي نجيب محمود بالتوفيق بين المترجم الوافد الغربي وبين المجدد من التراث الإسلامي "وهو ما يسميه بالعربي استنكاراً" هذه نظرية ليست متسحدثة بل هي نظرية طه حسين وهيكل والزيات وغيرهم. وهي نظرية اتضح بطلانها. أما ما تعارفت عليه اليقظة الإسلامية فهى أن يقوم أساس إسلامي أصيل من مفهوم الإسلام الجامع "بوصفه منهج حياة ونظام مجتمع" وفي ضوئه يحاكم التراث كله والوافد كله، ولا يقبل إلا ما يزيد هذا المنهج قوة وعماً مع الاحتفاظ بأسلوب العيش الإسلامي "عقيدة وشريعة وأخلاقا" ودعوى زكى نجيب محمود بالمواءمة مرفوضة. فالمسلمون على استعداد التضحية بالتقدم المادي في سبيل الاحتفاظ بالقيم الأساسية التي هي في حقيقتها ليست معوقة للتقدم المادي ولكنها حائلة دون فساد الحضارة الغربية وزيفها وانحلالها الذى يود هؤلاء القوم إغراق هذه الأمة فيه والله يقول الحق وهو يهدى السبيل.
(13)
سارتر
وعبد الرحمن بدوى
جرى التساؤل في الندوة حول نظرية الوجودية بعد أن هلك سارتر وما هي الآثار التي تركتها على جبين الأدب العربي والفكر الإسلامي؟
والواقع أن نظرية الوجودية قد نفقت قبل هلك سارتر بوقت طويل وإن حاول هذا الشقي أن يمد من عمرها بانتمائه في السنوات الأخيرة إلى الشيوعية واحتضانه لقضايا الصهيونية إذ هو نصف يهودي كما كان يطلق عليه عباس العقاد لأن أمه يهودية. وقد خدع بعض البلهاء من المصريين حتى أعدوا له زيارة ليحصلوا منه على تصريح يخدم القضية الفلسطينية بعد أن نقلوه إلى خيام اللاجئين في غزة . فما أن غادرها حتى كشف عن هويته الصهيونية اليهودية وأعطى الماركسيين الذين احتفلوا به درساً كشف عن عمالتهم هم، ومكره هو والذين رافقوه ومع هذه اللطمة القاسية فإن كتاباً مصريين وعرباً ما زالوا يذكرون سارتر ويتحدثون عنه ويشيدون بمذهبه وبما يسمونه الوجودية العربية التى قادها عبدالرحمن بدوى وكان لها على فترة طويلة أعواناً.
وكات كتب سارتر تظهر في باريس بالفرنسية وفي بيروت بالعربية في وقت واحد. وربما ندم بعض الكتاب عن تبعيتهم لسارتر، وأحسوا أنهم أخطأوا الطريق بعد أن قرأوا ما كتبه "جاك بيرك" مثلا حين قال:
"إن سارتر عقل كبير ولكنه مع الأسف يفتقر إلى الذكاء السياسى وليس من الضروري أن يكون العقل الكبير عقلا سياسيا ولكن المشكلة عند سارتر أنه يريد أن يكون سياسياً فيما يجابه من التيارات اليسارية ومنها الشيوعية بنوع من العقد النفسية .. ومن المؤسف أن سارتر الذى يبقى معظم فلسفته على فهم الآخر لا يفهم الآخر ولا يحس به . لم يستطيع سارتر أن يتغلب على ما أحيط به من الدعاية والتضليل الصهيوني. فاعتبر إسرائيل "صيحة" وقلب القصة فاعتبر إسرائيل "مدعى عليها" وقد بلغت الدعاية الصهيونية به أن يقلب الحقيقة التاريخية في أوربا كلها . إنهم ينفون أن يكون الوجود الصهيوني استعماراً.
ويردد كثير من أنصار سارتر فشل سارتر وكيف تبخرت مفاهيمه التى ضللت الشباب العربي ردحا من الزمن، وكيف انقشع بريق اسمه فظهرت الوجودية فلسفة للفوضى والانحلال، وكيف هوجمت فلسفة سارتر من كلتا النزعتين الرأسمالية والشيوعية ورفضوا مفهومه عن الحرية ووصفوها بأنها حرية فوضوية ومن ثم حاول سارتر أن يتقرب إلى الشيوعيين وتراجع عن كثير من آرائه السابقة.
وفي مصر تقدم عبدالرحمن بدوى برسالة دكتوراه عن "الزمان الوجودي" ورأس الحفل الدكتور طه حسين واشترك مع المستشرق بول كراوس وأعلن طه حسين أن عبد الرحمن بدوى أول فيلسوف وجودي مصري، وقد قدم بدوي الفكر الوجودي وترجم كل المصطلحات الوجودية الشاقة وترجم كتاب سارتر الضخم: "الوجود والعدم".
ولم يلبث عبد الرحمن بدوى أن اختفى وطوته الموجة التى تطوى كل المذاهب الضالة والمنحرفة، وكشف الفكر الإسلامي عن آصالته في أنه يرفض كل ما ليس متصلا بقيمه الأساسية مهما بدأ يوماً وله بريق أخاذ.
لقد كان فلسفة سارتر شؤماً عليه. فقد أضفت عليه ظلال مظلما ما زال يلاحقه.(/32)
وقدكان عبد الرحمن بدوي قبل سارتر تابعاً للفلسفات الباطنية والمحسوية يحييها ويرد إليها الروح، ويقدم شخصيات قلقة في تاريخ الإسلام ويشيد بأمثال الرواندي والحلاج وغيرهما من الزنادقة. وإلى جانب ذلك فقد قدم في الفلسفة الإسلامية الجانب الصوفي المتصل بوحدة الوجود والحلول وأشاد بالسهروردي وابن عربي وابن سبعين: تلك الشخصيات الضالة التى عمل استاذه الأول ماسينون" على إحيائها. وكان طه حسين هو صاحب الدعوة إليها في الأدب العربي منذ أعادة انبعاث "إخوان الصفا" وكما سقط الفكر الباطني سقط الفكر الوجودي وانهارت تلك الصروح على رؤس أصحابها {أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير، أمن أسس بنيائه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم}.
وإذا كان الأدب الغربي قد عرف وجودية كيركجارد، وكامي، وسارتر، فإن ذلك كله مستمد من أصول أصيلة فيه تقوم على فكرة الخطيئة المسيحية، أما في الفكر الإسلامي فإن محاولة زكي نجيب محمود عن المنطق الوضعي وفؤاد زكريا عن الفلسفة الماركسية وعبدالرحمن بدوي عن الفلسفة الوجودية هي محاولات ضالة باطلة سرعان ما لفظها الفكر الإسلامي صاحب الصرح الشامخ القائم على فكرة التوحيد الخالص والإخاء الإنساني والعدل والرحمة.
وقد ذابت محاولات إحياء الفلسفة الصوفية التى قام بها "ماسنون" أربعين عاماً بإحياء الحلاج لأن المسلمين عرفوا طريقهم إلى التوحيد الخالص . فقد اسقطت حركة اليقظة محاولات إحياء الفلسفة، والتصوف الفلسفي، والكلام ، والاعتزال، وجعلته ركاماً حين أحيت "المنهج القرآني" الأصيل حيث بدت كل محاولات الفلاسفة الإسلاميين المعاصرين وكأنها مقدمات موقوفة انطوت صفحتها حين برز نور المفهوم القرآني: مفهوم أهل السنة والجماعة على نفس النسق الذى واجه المشائين القدامي أمثال ابن سينا والفارابي. وقد تكشفت نزعتهما إلى الباطنية الإسماعيلية في الأخير بعد أن خدع بهما الكثيرون، وحين يتنادى باسمه اليوم بعض غلمان المستشرقين فإن الأمر لا يخدع أحداً ذلك أن الحقائق التى تكشفت قد ردت كبار الكتاب عما خدعهم به البريق الخاطف.
يقول أنيس منصور:
"من الضروري أن نفلت من جاذبية شخص كبير لتجد نفس ومعك حريتك. لقد وقعنا في غلطة حين تأثرنا بأستاذنا عبد الرحمن بدوى ذلك أن كثيراً مما رآه رؤيته هو والذي وجده شاتا كان مشكلته هو والذي أحبه كان مزاجه هو ولكن في السنوات الأخيرة عاودت قراءة الفلسفة من ينابيعها التى أفزعنا منها عبد الرحمن بدوى فلم أجدها كذلك.
وهكذا تبين أن هذه الهالة كانت باطلة، بل إن أنيس منصور يبشرنا بأن سارتر عندما مات قال على فراش الموت: لا شئ ، كل شئ عدم.
ويستطرد أنيس منصور قائلا: سارتر الفيلسوف الوجودي الملحد كانت آخر كلماته لا شئ. أي لا فائدة من أي شئ. فهى يرى أن الوجود والعدم لهما نفس القوة ولهما نفس المعنى. فهي كالليل والنهار لا ينفصلان، ولا تعرف على أي شئ أجاب سارتر لآخر مرة بكلمة لا شئ، ولا فائدة، لا معنى، لا هدف، كل شئ عدم، أو كل وجود عدم، أو كل موجود معدوم.
* * *
وهكذا يندم أنيس منصور على أنه تابع هذا الفكر الضال أكثر من عشرين عاماً من عمره قضاها في تحسين هذا الفكر وزخرفته وتقديمه إلى الشباب في عشرات من الكتب التى طبع منها مئات الألوف لتخدعهم عن الحقيقة ولتزيف لهم الواقع ولتردهم عن الفم الأصيل. عندما كتب مقالاته عن رحلته إلى الأراضى المقدسة، وكان عليه أن يعلن انسحابه من كل هذه المفاهيم والعقائد، وأن يصحح موقفه أمام قرائه خلال هذه السنوات الطويلة. واليوم يصف فلسفة الوجودية بأنها فلسفة المقابر، لأن سارتر تحدث عن الموت والدمار والخراب، والوحدة والقلق والفزع، والخوف والغثيان والعدم، والتقت كل هذه المعاني السوداء في قلمه وفي خياله. هناك وجودية ملحدة عند سارتر وكامي وهيدجر واسبرز وأونامونو. ووجودية مؤمنة عند جابريل مارسيل، وبرديالف، وجاك مارتيان.
وكان حقا على أنيس منصور أن يقرأ الفكر الإسلامي الأصيل ويعرف زيف الوجودية جملة بمفهوم الانطلاق من الضوابط والحدود والقيم التى رسمها الدين الحق، وأن يعلم أن نظرية الوجودية كما جاء بها سارتر إنما كنت تمثل تحدياً خاصاً مر بالشعب الفرنسي بعد سقوطه في قبضة ألمانيا إبان الحرب. هذا السقوط الذى كشف كما قال زعيمه "بيتان" عن انهياره الأخلاقي العاصف.
ولما كانت الصهيونية العالمية هي التى صنعت هذا بالثورة الفرنسية فإنها قدمت سارتر على جميع أجهزة الإعلام والدعاية لتفتح صفحة أشد عنفاً من الانهيار الخلقى والاجتماعي. تلك التى صنعتها فلسفة سارتر بظهور جماعات الوجوديين الذين تشكلوا في الغرف المظلمة والحوارى الضيقة وتحت أسطح العمارات ليمارسوا أسوأ صور الجنس ويعلنوا احتقارهم للمجتمع. ومنهم نشأت بذرة "الهيبية" التى تعم الآن العالم كله.(/33)
ولقد كان أخطر ما في الدعوة الوجودية إنكار الله تبارك وتعالى والسخرية بالأديان واعتبار الإيمان بالله عائقا كبيراً عن حرية الإنسان وأن أثر التعاليم الربانية على الإنسان جد خطير لأنه يضيع عليه فرصة التمتع بالأهواء والتمرغ في الشهوات. فالوجودي لا يؤمن بوجود الله "تبارك وتعالى" ولا يؤمن بنظام خلقى يسود على الإنسانية. الإنسان عندهم حر ومسئول أمام نفسه فحسب . لا أمام الله. وهكذا تجد سارتر يدعو إلى الحرية المطلقة من كل قيد!!
ولقد جاء سارتر إلى مصر ترافقه سيمون دي بوفوار، التى قالت لنساء مصر في صراحة تامة: نحن نريد أن نحطم "قوامة" الرجل ودعت إلى حياة زوجية محررة من "العقد الشرعي" كحياتها هي مع سارتر، ولقد كشفت إحدى المرافقات لسارتر خلال رحلته إلى مصر في الفترة الأخيرة خفايا كثيرة في الزيارة اللعينة. فأشارت إلى أن
"رفيق" سارتر وسيمون كان رجلا يهودياً "كلود لانزمان"، وهو الذى وجه الزيارة على النحو الذى أرادته الصهيونية. وقد أشارت إلى أن كتاب اليسار استقبلوا سارتر بتقدير بالغ كان موضع دهشته هو أساساً. وذلك مثلا حين كتب أحد الشيوعيين مقالا عنوانه "سارتر ضمير العصر" وكان سارتر يتساءل بعدها "أنا ضمير العصر كله؟!
أنا لست حتى ضمير نفسى" ثم يطلب ضاحكا من لاتومان أن يتحمل عنه بعض هذه الألقاب.
وتقول الكاتبة :" لقد سمع ورأى. ولكنه لم يتأثر فيه أنمله بما سمع ورأى.
"ولقد كان استقبالنا لسارتر أشبه بمظاهرة. وكان كلامنا معه أشبه بالصدى في وادى مهجور. إلا أن الصهيونية كانت أذكى منا وأكثر دقة في قيادته إلى أهدافها. فقد دست "كلود لانزمان" بفكره الصهيوني المغلف بطبقة مزيفة من الفكر التقدمي التضليل. دسته على سيمون في وقت كان فيه سارتر يتأرجح بين وجوديته والشيوعية فاستطاعت سيمون بتأثير من "لانزمان" أن تسوق سارتر إلى أن يخرج عن قاعدته ويسير وراءها منوما أو كالمنوم. فانبهر بما قدم إليه فترة. قبل أن يعود إلى قواعده سالماً. وقد رأينا كيف كان لانزمان يقف في الظل وراء سارتر في كل زياراته ليسمعه صوت "هرتزل" واضحا مجلجلا وهو يهمس به إليه.
كان هذا في مارس 1967 وفي نوفمبر من نفس العام اكتملت الصورة. فقد منحت إسرائيل شهادة الدكتوراة الفخرية لسارتر في سفارة إسرائيل بباريس بحضور عدد من المثقفين الفرنسيين على رأسهم سيمون وفرانسواز جيرو وزيرة الثقافة الفرنسية، وأذاع التلفزيزن الفرنسى كلمة سارتر التى قال فيها:
"إن قبولي لهذه الدرجة العلمية التي اتشرف بها له مدلول سياسي في القبول يعبر عن الصداقة التى أحملها لإسرائيل منذ نشأتها.
هذا سارتر الذي كتب "المسألة اليهودية" وهو الذي زار إسرائيل وأشاد بها، وهو الذي شارك في المظاهرات، ووقع البيانات المويدة لإسرائيل. وقد قبل سارتر الدكتوراة الفخرية منالجامعة العبرية بينما رفض من قبل كل الجوائز التى أهديت له بما فيها جائزة نوبل.
وكان سارتر قد قام بزيارته لإسرائيل قبل حرب 1967 ببضعة شهور. وما لبثت نذر الحرب بعد عودته إلى فرنسا أن بدت في الأفق في مايو 1967 فسارع سارتر ومجموعة من المثقفين الفرنسيين الآخرين إلى إصدار بيان في تأييد إسرائيل التي سيدمرها العرب. ولكن إسرائيل بدأت بالهجوم، واحتلت من الأرض ، وقتلت من العرب ودمرت. فلم يراجع سارتر نفسه، ولم يعدل موقفه إلا بعد أن اشتعل النضال الفلسطيني بعد الهزيمة، وامتدت نيرانه إلى بعض العواصم الأوربية.
وبعد فلقد سقط فكر سارتر قبل أن يذهب لأن دعوته هي نوع من هوى النفس. وهي مواجهة لتحد عاشه في عصره. ولكن الزمن يتحول ، والفكرة التي تكون اليوم استجابة لوضع معين .. فإنها سرعان ما تسقط مع تحولات الزمن والبيئات. ولذلك فغن الوجودية لم تستطع أن تكون مذهباً قائماً أو مستمراً . وهكذا كل الأيدلوجيات البشرية التى صنعها الفلاسفة. وظنوا أنهم قد استطاعوا حل مشاكل عصرهم. ذلك أن هناك منهجاً واحداً: هو الذى يستطيع أن يحل مشاكل الإنسان في كل العصور والبيئات. ذالك هو منهج الله الحق "لا إله إلا الله".
(14)
لويس عوض
*توفيق الحكيم يرى عزل مصر عن البلاد العربية وتحويلها إلى فندق سياحي عالمي للوافدين العرب تقدم لهم كرم الضيافة من المتعة والراحة.
*لويس عوض يحاول تحطيم دور مصر الرائد في مواجهة الفكر العربي وموقفها التاريخي من الإعصار التتري والحروب الصليبية.
*كراهيتهم الإسلام ثابتة في الأعماق لا تظهر على السطح ولكن بتدو في التصرفات وطريقة معالجة القضايا والمشاكل.
*طه حسين يقول في تمجيد الفرعونية وإعلاء شأنها على الإسلام: إذا كان الإسلام سيقف حجر عثرة في طريق مصريتنا الفرعونية لنبذناه.
*كان الإسلام وما يزال روح المجتمعات الدولية ومهد الحضارات الإنسانية ووقود الحركات الوطنية والتحررية.
*لا غرو فالإسلام هو الذى صنع الشخصية المصرية منذ أربع عشر قرناً والإسلام اعتنقه المسلمون ديناً واعتنقه غير المسلمون حضارة وثقافة وعادات.(/34)
دارت التساؤلات حول يوميات كتاب الصحف اليومية وما أثاره لويس عوض وتوفيق الحكيم والسيد ياسين من وجوه النظر حول علاقة مصر بالتاريخ الغربي والإٍسلامي، وبالدولة العثمانية والغرب، ومحاولة تصوير مصر على أنها شخصية فرعونية غارقة في الوثنية أو منحازة إلى الغرب. وتتجاهل هذه الدراسات أن الإسلام هو الذي صنع الشخصية المصرية منذ أربعة عشر قرناً وأن التاريخ وعلماء التاريخ قد أعلنوا بما لا يحتاج إلى مزيد من الإيضاح .. سواء منهم الغربيون أو العرب، أنه قدحدث انقطاع حضاري جب كل ما كان قبل دخول مصر في الإٍسلام، وأن تاريخاً ضخماً طويلا استمر أكثر من ألف سنة من تاريخ اليونان والرومان في هذه المنطقة من الشام إلى مصر إلى أفريقيا كل هذا التاريخ بقرائه ولغاته ومفاهيمه وقيمه قد أصبح في خبر كان بعد دخول الإٍسلام بقرن واحد فقد اعتنقت المنطقة كلها الإٍسلام .. اعتنقه المسلمون دينا واعتنقه غير المسلمين حضارة وثقافة وعادات". وقد أشار كرومر إلى هذا المعنى حين قال: إن المسلمين والمسيحيين يضدرون عن أخلاقي واجتماعي واحد مع طول التأثر.
ولكن إخواننا ينسون هذه الحقيقة الواضحة ويناقشون الشخصية المصرية على أنها منعزلة لم يصنعها القرآن أو الثقافة الإسلامية أو الفكر الإسلامي أو اللغة العربية، وينسون أن المنطقة كلها هجرت لغاتها القديمة بعد قرنين من دخول الإسلام إليها، كذلك فقد كان الإسلام ولا يزال روح المجتمعات وشارة الحضارة ووقود الحركات الوطنية والتحريرية، ولقد كان الدعوات إلى الإقليمية والقوميات واحدة الفكرة والمنهج .. ولذلك سرعان ما عجزت عن تحقيق أشواق النفس العربية الإٍسلامية. وستظل هذا الظاهرة الإسلامية الفكرية والاجتماعية أساساً مكيناً وحصناً حصيناً للشخصية المصرية ما عاشت .. لأنها عميقة الجذور من ناحية ولأنها منصهرة فيها انصهاراً عضوياً يعجز خصوم الإسلام عن القضاء عليه.
إن الدكتور لويس عوض لا يستطيع أن يخرج عن التفسير الفرعوني الوثني الذى سار عليه كل كتاباته وعرف به ومن ثم فقد أصبح في تقدير الباحثين غير منصف ولا راغب في معرفة الحقيقة الخالصة لوجه الحق وحده.
ولقد جاءت تساؤلات عن محاولات توفيق الحكيم في تحييد مصر عن البلاد العربية وعزلها، والدعوة إلى جعلها فندقاً عالمياً سياحياً يقدم للوافدين من كل مكان المتعة والترفيه، وكان في ذلك مشاركاً للدكتور لويس عوض في تحطيم دور مصر العالمي الذى عاشت تقوم به في مواجهة التيارات الغازية والغزوات الطامعة التى واجهت عالم الإسلام، وكان لها دورها الخطير في رد هذه الغزوات وحماية عالم الإسلام وحماية الغرب نفسه كما حدث في الإعصار التتري وفي الحرب الصليبية وفي الاستعمار الغربي الحديث، وسوف يكون لها دورها الخطير في دفع الغزوة الصهيونية ووقاية المسلمين والعرب منها..
ولا ريب أن دعوة توفيق الحكيم تصدر عن مفهوم بعيد أشد البعد عن الانتماء العربي الإسلامي .. ولقد كان توفيق الحكيم طوال حياته يفخر بذلك معليا شأو العنصرية في حديثه عن مصر، كارهاً لطابع مصر العربي الإسلامي .. وبالرغم من أن الدكتور طه حسين أعلى من شأن الفرعونية على الإسلام حتى قال قولته المشهورة: "إذا كان الإٍسلام يقف حجر عثرة أمام مصريتنا وفرعونيتنا لنبذناه" بالرغم من هذا فإن الدكتور طه حسين يرى أن رأي توفيق الحكيم في العرب أشد تحاملا وتعصبا من رأي كثيرين من متعصبة المستشرقين أمثال رينان ودوزى. ولعل التقارب في الرأي بين توفيق الحكيم ولويس عوض يرجع إلى مصادر الثقافة الغربية الواحدة التى تأثر بها كلاهما في فترة كانت البعثات الأجنبية سواء إلى فرنسا أو إلى انجلترا تستهدف سحق مقومات هذه الأمة وإلقائها في أتون الإقليمية فهي كراهية مشتركة للعروبة والإسلام، وهو ممتدة إلى اللغة العربية وإلى القرآن وهي مبثوثة في الأعماق لا تظهر على السطح ولكنها تبدو في التصوف وفي تناول القضايا.(/35)
وبالرغم من أن توفيق الحكيم قد لخص تفسير القرطبي وظن بعض الذين يأخذون بظواهر الأمور أنه في الطريق للتعرف إلى الإسلام إلا أنه لم يلبث أن كشف عن تلك المحاولة المسمومة التى ترددها طائفة معروفة الآن باسم طائفة الخادعين المسلمين بالحديث عن الشريعة الإسلامية وذلك حين ردد ما كان يقوله منذ سنوات عن تطوير الشريعة الإسلامية وهي دعوة يحمل لواءها من وقت بعيد: محمد النويهي وعبد الحميد متولى ومحمد أحمد خلف الله وآخرون بهدف تذليل الشريعة لتبرير أوضاع المجتمعات الحديثة وفي مقدمتها الربا وعلاقات المرأة والرجل خارج نطاق الزواج، واحتواء الشريعة الإسلامية ونصوصها في داخل القانون الوضعى على النحو المسموم الذى دعا إليه عبدالرازق السنهوري منذ سنوات وهي دعوى ممتدة يغذيها النفوذ الأجنبي ليحول بها دون تطبيق المجتمعات الإسلامية للشريعة الإسلامية أو عدوتها إلى طريق الأصالة، ومن أهم هذه المحاولات المسمومة: القول بتغير الأحكام مع تغير الزمان " وهو قول محدود جداً يتصل بالفرعيات ويعتمد في ذلك على نص للشيخ محمد عبده الذي يعتمد عليه الماركسيون وأعداء الشريعة لا يمثل الإمام المجتهد ولا المتخصص في هذا الأمر، وإنما هي اجتهادات كان لها وضع وظروفها في وقت كانت الشريعة الإسلامية تضرب بالسياط على أيدى كروم في مصر وليوق في المغرب وهي لا تمثل اجتهاداً يمكن الأخذ به ، كذلك الخطأ الذى وقع فيه على عبد الرازق حين أراد أن يصف الإسلام بأنه دين روحاني ويلغى نظامه الاجتماعي إلغاء تاماً وتلقف بعض المستشرقين هذه النصوص الزائفة التى لم يعتمد فيه على كتاب أو سنة لضرب الإسلام. كذلك هناك ما يثار من شبهة الشبهات والتغيير ومحاولة وضع العقيدة في مكان الثبات والشريعة في مكان المتغير وهذا أيضا غير صحيح على إطلاقه. وأن الشريعة الإسلامية إنما جاءت خالصة ثابتة صالحة لكل العصور والبيئات إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وقد دحض الدكتور عبد المنعم النمر شبه توفيق الحكيم هذه التى ما زال يرددها منذ سنوات حين قال له : كان الحكيم يريد أن يجعل كل ما شرعه الله لتنظيم حياة الإنسان خاضعا للتغيير بتغير المجتمع وراثة، ومن هنا تهب ريح الخطأ في التفكير، بل والخطر أيضا على شريعة الله إذ معنى ذلك ومؤداه لو قبلناه أن لنا أن نبيح الزنا والخمر والرقص متى قبل المجتمع ذلك ونتحلل من عقوبات السرقة والحرابة والزنا ومن كل شئ حرمه الله ورسوله لو قبل المجتمع ذلك !! وهذا اتجاه خطير يهدم الشريعة ويزلزل كيانها لأنه يجعلها تابعة وخاضعة لهو الناس وما يتجهون إليه في حياتهم في أي مكان وفي أي عصر والله تبارك وتعالى يقول لرسوله:{ ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تبع أهواء الذين لا يعلمون}.
ونقول أن الجماعة ينتدبون أحدهم فترة بعد فترة ليثير القضية ثم ينظرون ثمة ليعود آخر إلى إثارتها وكل همهم أن يخرج المجتمع الإٍسلامي العربي والمصري من شريعة الله إلى قبول الربا والرشوة والتساهل في أمر العرض واستعراض المرأة لمفاتن جسدها ومراقصة الأجانب. وهكذا.
الحقيقة أن قضية المرأة تأتي في المقام الأول من عملية تحطيم المجتمع، وهي تهدف إلى تدمير الأسرة وتعاون على ذلك قوى كثيرة منها القصة والمسرحية والأغنية والصورة العاربة وبعض كتاب اليوميات الذين يزينون التيارات التى تهدم المجتمع ممثلة في بعض الروايات الجنسية والكرة والرقص.
وتجرى الصحف لاهثة وراء تفاهات يسمونها نصراً للمرأة سواء في مجال الرقص أو الغناء أو قيادة السيارات وكلها أمور لا أهمية لها تستهدف إخراج المرأة من مكانها الحق ووضعها الصحيح. وتلك مجموعة أخرى من الكتاب لها صلاتها بالروتاري والليونز ومخططات الهدم والتدمير.
سجلت صفحات الدكتور لويس عوض أحقاداً وسموماً بالغة الخطر عمقة الأثر:
(أولا) من أخطرها حملته على اللغة العربية الفصحى ودعاواه الكاذبة في مواجهتها كراهية الإسلام والقرآن، وقد كان من أخطرها كتابه "مدخل إلى فقه اللغة العربية" التى حاول فيه الادعاء بأن العرب جاءت من القوقاز، وأن اللغة العربية لغة آرية ليس لها أي تميز خاص وقد خاض في شبهات حول الإعجاز القرآني وغير على نحو مضلل.
(ثانيا) موقفه من الشعر العربي وهجومه على الأصالة واحتضانه لشعراء التفعيلة من أمثال: صلاح عبد الصبور وأدونيس والسياب وغيرهم ودعوته إلى تحطيم عامود الشعر وكسر بلاغة اللغة العربية وهي دعوى قديمة ما زال يرددها ويجددها.
(ثالثا) موقفه المتعددة من التراث الإسلامي والفكر الإسلامي وهي مواقف توحى بالشبهة في سلامة البحث وعلميته، والالتجاء إلى أفكار المستشرقين ومتابعتهم وكراهية أمة العرب والإسلام، والتى تكشف عن أحقاد دفينة.
وقد واجهه كثير من المفكرين وكشفوا زيفه، وفي مقدمتهم الأستاذ محمود محمد شاكر في كتابه "أسمار وأباطيل".
محتوى الكتاب
الموضوع ... ... ... الصفحة
1- لطفي السيد
2- سعد زغلول
3- قاسم أمين
4- طه حسين(/36)
5- سلامة موسى
6- على عبد الرازق
7- ساطع الحصرى
8- محمد التابعي
9-10- مدحت وأتاتورك.
11- غاندي
12- زكي نجيب محمود
13- سارتر وعبدالرحمن بدوى
14- لويس عوض(/37)
رجال ومواقف
إن للرجال مواقف عظيمة، تظهر فيها قوتهم وشجاعتهم وصبرهم وثباتهم على دين الله، وعلى رأس هؤلاء الرجال: أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام.
وحسبك من تابعيهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين خلد التاريخ ذكرهم.
هذا ما تحدث عنه الشيخ، ذاكراً بعض النماذج لهؤلاء الرجال من الأنبياء والصحابة والتابعين.
الأنبياء عليهم السلام هم الرجال ...
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الإخوة الكرام: هذا الحديث بعنوان: (رجالٌ ومواقف) وعلى رأس الرجال أنبياء الله عز وجل ورسله.......
إبراهيم عليه السلام
فهذا إبراهيم عليه السلام يجمع له الكفار الحطب؛ لإشعال النار لحرقه، لكنه هو الرجل، شهرٌ كامل يجمع الحطب لحرق نبي من أنبياء الله، بل هو خليل الرحمن أبو الأنبياء، ليلقى في النار فيحرق، فإذا به يربط بالمنجنيق، ما استطاعوا أن يقتربوا من النار لعظمها.. تخيل! ويمر الطير فوق النار فيسقط من شدة حرها!
نار عظيمة تتأجج، فإذا بالمنجنيق يرمى، وإبراهيم عليه السلام في الهواء، فيأتيه جبريل في هذه اللحظات العصيبة، ويقول له: ألك حاجة؟ وفي هذه اللحظات يتعلق الإنسان بأي سبب ولو قشة أو شعرة، أما إبراهيم فقلبه معلق برب البشر، برب الأسباب جل وعلا.. فقال جبريل: أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم، حسبنا الله ونعم الوكيل. فيسقط إبراهيم في النار والناس ينتظرون حرقه، فإذا به يقوم في النار، فينفض الغبار عن جسده، ثم يقوم ويكبر ويصلي في النار، قال تعالى: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ [الأنبياء:69-70].
رجلٌ وأي رجل يدعو الله أن يرزقه الولد، ولك أن تتخيل رجلاً كبيراً في السن، وامرأته عاقر، ويرزقه الله عز وجل الولد على هذه الفترة، وفي هذه السن! كيف يتعلق قلب الأب بابنه بعد أن حرم من الولد سنوات، ورزق بالولد على كبر السن؟! تخيل لو كنت مكانه كيف تتعلق بهذا الولد؟ ثم لما كبر الولد شيئاً قليلاً، وبدأ يسعى مع أبيه، ويعينه في العمل، إذا بوحي الله عز وجل لإبراهيم أن اذبح هذا الولد: قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الصافات:102] ورؤيا الأنبياء حق، فهي وحي من الله جل وعلا.
والغريب ليس فقط في إبراهيم عليه السلام فهو نبي، وهو رجل كبير، وتربى على التوحيد منذ نعومة أظفاره، لكن الغريب من هذا الصبي الصغير الذي بدأ يسعى، ماذا يرد؟ وماذا يقول؟ أبوه يقول: أريد قتلك، أريد ذبحك، الله عز وجل أمرني بهذا، هل تستطيع هذا الأمر؟
بعض الناس لو أمره الله عز وجل بأمرٍ بسيط لرده بهواه وبعقله وبشهوته، ويقول: لا أستطيع، ولا يمكن أن أفعل هذا، ولا أقدر عليه، والله يأمر إبراهيم بذبح هذا الولد: قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى [الصافات:102] ماذا رد عليه؟ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102] الله أكبر! هذا معنى الإسلام، هذا معنى الاستسلام لله، أما أن يقول الإنسان: أنا مسلم، ثم يرد أمر الله، ويتكبر على شرعه، فأي إسلامٍ هذا؟ الإسلام أن تستسلم لله: قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102] لم ينتهِ الاختبار بالأمر فقط، بل جاء إبراهيم بابنه على تلك الصخرة، وحد السكين ليذبحه على تلك الصخرة، وبكل استسلامٍ لله ورضىً بشرعه، يضع الابن وجهه وجبينه على تلك الصخرة، وينتظر من أبيه أن يذبحه.. فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات:103] ووضع على رقبته السكين، ولكن الاختبار قد انتهى، فإذا بإبراهيم ينجح، وإذا بابنه يفوز، وإذا بالنداء من السماء: وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا [الصافات:104-105] ففاز في هذا الاختبار.
قد يقول بعض الناس: لِمَ يحرِّم الله هذا؟ ولِمَ يوجب الله علينا هذا؟ ولِمَ منعنا الله من هذا وأباح لنا هذا؟ لا تقل: لِمَ؟ لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23] نفذ شرع الله جل وعلا، فإن تبينت لك الحكمة فبها ونعمت، وإن لم تتبين لك الحكمة فافعل واستسلم لله عز وجل.
نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ...(/1)
وعلى رأسهم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، رجلٌ وأي رجل! يذهب إلى الطائف يدعو إلى الله جل وعلا، بعد أن عانده وعارضه كفار قريش، فذهب إلى الطائف ماشياً على قدميه، فلما وصل إلى الطائف دعاهم إلى الله فكذبوه، أتعرف ماذا صنعوا؟ لقد تبعوه بالحجارة مع الأطفال والصبيان والعبيد، يرجمونه ويضربونه بها، وهو أفضل من وطئت قدمه الثرى محمد عليه الصلاة والسلام، أفضل إنسانٍ خلقه الله جل وعلا: (سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر ) سيد الأولين والآخرين يرمى بالحجارة!
ومن خلفه؟ إنهم الأطفال والسفهاء والعبيد، حتى خرج عليه الصلاة والسلام، فإذا به يدعو .. ولكن.. هل سبهم؟ هل شتمهم؟ هل دعا عليهم بالويل والثبور؟ لا والله، أتعرف ماذا قال؟ اسمع وتدبر إلى دعائه.. رفع يديه وقال: (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا إله المستضعفين.. إلى من تكلني؟ إلى قريبٍ يتجهمني؟ أم إلى بعيدٍ ملكته أمري؟ أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحل بي سخطك، أو ينزل بي غضبك، لك العتبى حتى ترضى ) وجاءه الملك فقال له: (مرني يا محمد فلأطبق عليهم الأخشبين -أهل مكة ومن فيها- قال: لا. إني أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً ) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:127-128] صبر لكن بعزة، ورضي لكن بغير ذلة.
في يوم من الأيام يطوف بالبيت عليه الصلاة والسلام، وحوله ثلاث مائة وستون صنماً! فلما طاف الشوط الأول رآه مشركو قريش وقد جلسوا؛ عتبة بن ربيعة وهشام بن أمية ، وأمية بن خلف وغيرهم، جلسوا في النادي يستهزئون، فلما مر عليهم غمزوه، وتكلموا عليه، فلم يأبه لهم، فطاف، وفي الشوط الثاني غمزوه فلم يأبه لهم وطاف، فلما مر عليهم في الشوط الثالث غمزوه فاستقبلهم، لقد كان يصبر لكن بغير ذلة، وكان يتحمل بعض أقوالهم ولكن بعزة، فجاءهم عليه الصلاة والسلام وقال: (تسمعون معشر قريش -وكانوا يضحكون ويتمايلون من شدة الضحك- أما والذي نفس محمدٍ بيده لقد جئتكم بالذبح ) يعني: سوف يأتي يوم فيه جهاد، فيه قتال، أما الآن فسلم ودعوة بالتي هي أحسن، ولكن: (أما والذي نفس محمدٍ بيده لقد جئتكم بالذبح ) يقول الراوي: فكأنما على رءوسهم الطير، سكتوا وصمتوا، ثم قال أشدهم فيه وصاة -أكثرهم سخرية- قال: انصرف أبا القاسم راشداً فوالله ما كنت جهولاً.
وفي موقف آخر، وهو يصلي عند الكعبة، يأتي أشقى القوم فيرمي على ظهره سلى الجزور؛ نجاسات وقذارات، فتأتي فاطمة سيدة النساء في الجنة رضي الله عنها وهي جارية، تركض إلى أبيها رسول الله فتزيل النجس والقذارة عن ظهره، فأتم صلاته ثم استقبل القوم وقال: (اللهم عليك بهشام ، اللهم عليك بعتبة ، اللهم عليك بفلان وفلان. يقول الراوي: لقد رأيتهم كلهم صرعى يوم بدر ) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ [القمر:45-46] نعم. توعدهم الله في مكة بالهزيمة، يوم كان المسلمون مستضعفين.
الصحابة ومواقف الرجولة ...
أبو بكر الصديق رضي الله عنه ...
يستأذن أبو بكر يوماً من الأيام النبي صلى الله عليه وسلم في إعلان الإسلام، في الدعوة إلى الله، فما أذن له، لا زال الإسلام في بدايته، ثم استأذنه، ثم استأذنه، حتى أذن له النبي عليه الصلاة والسلام، فقام أبو بكر أول خطيبٍ في الإسلام، قام يخطب ويدعو إلى الشهادتين، وإلى توحيد الله، فلما رآه المشركون تآلبوا عليه، وأخذوا يضربونه، حتى جاء الفاسق عتبة ، فأخذ نعله ونزعها وضرب بها وجه أبي بكر رضي الله عنه، حتى سقط على الأرض وكاد يموت، وكاد يقتل، وحملوه إلى بيته وظنوه قد صرع، وهو أبو بكر الذي قال الله فيه: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ [الزمر:33] رسول الله وَصَدَّقَ بِهِ [الزمر:33] وهو أبو بكر وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [الزمر:33].
عمر بن الخطاب رضي الله عنه ...(/2)
وهذا عمر بن الخطاب ؛ هذا الرجل الذي كان ذو شدة وغلظة قبل الإسلام، ولما أسلم وتولى أمر المسلمين، وصار أميراً للمؤمنين تغير، وكان يمشي في الليل ينظر أحوال المسلمين وشئونهم في الليل، فإذا به يرى ناراً من بعيد، فقال لمولاه أسلم : تعال معي نستكشف النار، فإذا به يقرب من النار فيرى عند النار امرأة عجوزاً وعندها أطفال صغار يبكون، وعلى النار قدرٌ ليس فيه إلا الماء، فقال عمر بعد أن سلم: ما شأنكم يا أهل الضوء؟! قالت العجوز: هؤلاء أطفالي وليس في القدر شيء، وضعت النار تحتها أصبرهم حتى يناموا وهم جياع، ليس عندي شيء أطعمهم إياه، ثم قالت المرأة العجوز: والله لئن قدمت على الله لأخاصمن عمر .. ومن الذي أمامها؟ إنه عمر وهي لا تدري، فقال عمر بن الخطاب : وما يدري عنك عمر يا أمة الله؟! أي: ماذا يعلم عنك وأنت في الصحراء؟ فقالت المرأة العجوز: يتولى أمر المؤمنين ولا يدري عني لأخاصمنه عند الله. فذهب عمر وقال لمولاه أسلم : تعال معي، فذهب إلى بيت المال.. فدخل وأخذ كيساً من دقيق، فحمله على ظهره، فقال مولاه: يا أمير المؤمنين! أحمل عنك، فقال له عمر : أوتحمل عني وزري يوم القيامة؟ يقول أسلم : فذهب إليها، وأخذ يصنع طعامها بنفسه .. حتى صنع طعامهم، وترك الكيس الطحين عندهم، ثم ذهب من بعيد، فقلت له: يا أمير المؤمنين! نرجع قال: لا والله، أجلس حتى أراهم يشبعون كما جاعوا، فجلس ينظر إلى الأطفال وهم يأكلون، يقول: فنظرت إليه فإذا عيناه تدمعان، فإذا بعمر بن الخطاب يبكي لامرأة عجوز جاع أطفالها .. مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً [الأحزاب:23].
علي بن أبي طالب ...
سمعتم بعلي بن أبي طالب ، الخليفة الراشد رضي الله عنه .. بعد أن تولى الإمارة صنعوا له قصراً يسكن فيه ليكون أمير المؤمنين، فلما نظر إليه قال: ما هذا؟ قالوا: قصرك يا أمير المؤمنين. فتولى وهو يقول لهم: قصر الخبال هذا، والله لا أسكنه، قصر الخبال هذا والله لا أسكنه، ورجع إلى بيته القديم.
علي بن أبي طالب يجلس في مصلاه ويقبض بيده على لحيته وهو يبكي ويقول: يا دنيا.. طلقتك ثلاثاً، يا دنيا غري غيري فقد طلقتك ثلاثاً يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [فاطر:5].
ينزل يوماً من الأيام رضي الله عنه إلى السوق، يبيع سيفه بأربعة دراهم، يقول: والله لو كانت عندي أربعة دراهم أشتري بها إزاراً لما بعت سيفي، وهو أمير المؤمنين! حقاً إنه كما قال: يا دنيا طلقتك ثلاثاً، غري غيري لن تستطيعي عليَّ.
من رباهم وعلمهم؟ إنه نبينا عليه الصلاة والسلام، علمهم الشجاعة، علمهم القوة، علمهم الزهد في الدنيا، وعلمهم حب المسلمين، وحب الخير لهم ونشره.
ولا زلنا مع أولئك الرجال في الصدر الأول في زمن الخلافة الراشدة .. في غزوة الأحزاب ينادي علي رضي الله عنه أحد المشركين وهو عمرو بن عبد ود ، هذا الرجل ينادي في الصحابة ويقول: ألا هل من مبارز؟ هل من مبارز؟ وهو فارسٌ من فرسان قريش، قوي شجاع بطل لا يقوى عليه كل العرب، شجعانها وفرسانها، فينادي هذا الفارس البطل المشرك ويقول: هل من مبارز؟ فقال علي وكان عند الرسول، قال: يا رسول الله! أنا أبارزه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا علي ! إنه عمرو ، دعك -أي اصبر- فنادى في الثانية وقال: هل من مبارز؟ فقال علي : يا رسول الله! أنا أبارزه. فقال النبي لعلي : يا علي ! إنه عمرو ، فنادى في الثالثة وقال: ألا هل من مبارز؟ فقال علي : أنا له يا رسول الله. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: اذهب، وكان علي شاباً يافعاً، وعمرو بن عبد ود قد امتلأ بالسلاح والعتاد، ولكنها الشجاعة الإيمانية، إنها البطولة ولكنها تحت ظل رسول الله، ويخرج علي فيقول له عمرو بن عبد ود : من أنت؟ وهو لا يعرفه، فقال: أنا علي بن أبي طالب . قال عمرو بن عبد ود : يا بني! إن في أعمامك من هو أسن منك، فارجع فليأتِ من هو أكبر منك سناً، وأعلم منك بالحرب، فإني لا أريد قتلك، فقال له علي بن أبي طالب : أما أنا فوالله إني أريد قتلك. قال: ماذا؟ فاشتد الصراع، وثارت المعركة، وثار الغبار، فإذا بعمرو يشق درع علي بن أبي طالب نصفين، ويجرح علياً جرحاً، ثم يثور الغبار، ولا يعلم أحدٌ ما الذي حدث، وما الذي يجري في الغبار، فإذا بالصحابة في لحظة من اللحظات كلٌ منهم يكبر .. الله أكبر! الله أكبر! فاستبشر رسول الله، وعلم أن الذي انتصر هو علي بن أبي طالب ، فإذا بالغبار يهدأ، وإذا بالمعركة تنتهي، وإذا بعمرو صريعاً في الأرض مضرجاً بالدماء، وعلي بن أبي طالب رافعاً سيفه يرجع إلى صفوف المسلمين، والصحابة يكبرون .. الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر!
نعم، إنهم رجال وهي مواقف.(/3)
و في غزوة خيبر يخرج ذلك الذي يسمى مرحباً ؛ يهودي لكنه شجاعٌ وبطل، فينادي في الصحابة ويقول:
قد علمت خيبر أني مرحب
شاكي السلاح بطلٌ مجربُ
إذا الحروب أقبلت تلهب
فقال علي :
أنا الذي سمتني أمي حيدره
أنا أسد، إذا كنت أنت مرحب فأنا أسد ..
أنا الذي سمتني أمي حيدره
كليث غاباتٍ كريه المنظره
أكيلهم بالسيف كيل السندرة
وتبدأ المعركة، فإذا بعلي بن أبي طالب يقسمه نصفين.
إنهم رجال وهي مواقف: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب:23].
صهيب الرومي ...
هل سمعتم بأبي يحيى صهيب الرومي ؟ هذا الصحابي الجليل الذي جمع في مكة مالاً عظيماً وصار ثرياً، ولما أذن له بالهجرة وأراد أن يهاجر ما تركه كفار قريش، وقالوا له: جمعت أموالنا وتريد أن تخرج بها، والله لا ندعك. فخرج، فتبعه ما يقارب الثلاثين أو الأربعين فارساً، فقال لهم وهم ينادونه من بعيد ويريدون قتله: والله لا تصلون إلي حتى أضع في كل رجلٍ منكم سهماً، وكانوا جمعاً كثيراً لكنه الشجاع البطل، ومعه قوة الإيمان، وشجاعة الإيمان.
الكفار يحبون الحياة ويخافون من الموت، أما المؤمنون فهم ضدهم؛ يتمنون الموت ويريدونه، ولهذا فهم أشجع الناس .. قال: والله لا تصلون إلي حتى أضع في كل رجلٍ سهماً، ثم أصير بعد إلى السيف فتعلمون أني الرجل، ثم قال: فإن شئتم المال دللتكم على مالي واذهبوا إليه. قالوا: نعم. لا نريد غير مالك. لا يريدون إلا الدنيا وشهواتها، فإذا به يعطيهم كل ما جمعه في هذه السنين، لأجل شيءٍ واحد؛ أن يهاجر إلى رسول الله، وهاجر ولا يملك إلا ما يلبس، كل أمواله ضحى بها لأجل هذا الدين، لأجل هذه العقيدة، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يستقبله وهو قادمٌ إلى المدينة ويقول له: (ربح البيع أبا يحيى ، ربح البيع أبا يحيى ، ربح البيع أبا يحي ) فأنزل الله عز وجل قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ [البقرة:207] يبيع نفسه وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ [البقرة:207].
بسر بن أرطأة وموقفه مع النصارى ...
هل سمعتم برجل اسمه بسر بن أرطأة ؟ إليكم خبره، وقد لا تصدقون، ولكن هي الحقيقة .. هذا الرجل كان قائداً على سرية، وكانت السرية في مؤخرة الجيش، وكانت تصاب بالسهام من الأعداء ولا يدري من أين تأتيهم السهام، كلما رجعوا ما وجدوا شيئاً، وتتقدم السرية وكل فترة تصاب بالسهام ولا يدري من أين تأتيهم، فإذا به يقول لأصحابه: تقدموا ودعوني، ويتخلف ويتخفى، ويبحث في الشعاب، وفي الوديان لوحده، فإذا به يرى بين الشعاب كنيسة، وعندها براذين -أي: بغال ضخمة- وخيول، فعلم أنها لفرسان فماذا صنع؟ تخفى، وجاء إلى الباب وفتحه ودخل وهم لا يدرون ولا يشعرون، وأغلق الباب وهو لوحده، وبدأ يصارعهم لوحده، ولم يصلوا إلى رماحهم وسهامهم حتى قتل منهم ثلاثة، فلما وصلوا نشبت بينه وبينهم معركة، وأصحابه كانوا على إثره، كانوا خلفه، علموا أنه سوف يحدث أمراً فلما علموا أنه دخل وأنه بدأ يقاتلهم دخلوا خلفه، فلما دخلوا وجدوه مثخناً بالجراح ولم يمت، وكانوا قد شقوا بطنه فوضع يده على الجرح فلم ينزف الدم كثيراً، فدخل أصحابه وقتلوا من قتلوا، وأسروا من أسروا، فلما أسروا من أسروا قال الأعداء للمسلمين: من هذا؟ قالوا: لم تسألون؟ قالوا: مثل هذا لم تلد النساء، مثل هذا لم تلد النساء، مثل هذا لم تلد النساء!! إنه بشر بن أرطأة .. وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران:146].......
رجال ومواقف مع عبادة الله وخشيته ...
تميم بن أوس الداري ...
فهذا تميم الداري يصلي ليلة كاملة بآية واحدة، يرددها ويبكي، وهي آية: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية:21].
إنهم رجال، تجدهم آخر الليل:
عباد ليلٍ إذا جن الظلام بهم كم عابدٍ دمعه في الخد أجراه
وأسد غابٍ إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدون رؤياهُ
سفيان الثوري وخشية الله ...
كان سفيان الثوري كثير البكاء .. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (عينان لا تمسهما النار: عينٌ بكت من خشية الله ) فمتى آخر ليلة بكيت فيها من خشية الله، وأنت قائمٌ تصلي، أو تقرأ القرآن، أو رافعٌ يديك تدعو الله، سل نفسك هذا السؤال، سفيان كان كثير البكاء، وكان يقول لما سئل: لم تبكي؟ قال: أخاف أن أكون في أم الكتاب شقياً، أخاف أن الله يكون قد كتبني من أهل النار. وهو القائم الصائم، العابد الزاهد، العالم الورع، ويقول: أخاف أن أكون في أم الكتاب شقياً، أن يكون الله قد كتبني من أهل النار.
عتبة الغلام(/4)
هل سمعت بشابٍ يُقال له: عتبة الغلام ؟ هذا الرجل له قصص أغرب من الخيال، هذا الشاب كان يقوم الليل، وكان كثير البكاء، بات ليلة من الليالي عند عنبة الخواف ، يقول: فسمعته يبكي طوال الليل، وهو يقول: اللهم إن تعذبني فإني لك محب، وإن تغفر لي فإني لك محب. ويسأل الله المغفرة، يقول: فلما جئته في الصباح قلت له: يا عتبة ! لم هذا البكاء؟ لم هذا القيام الطويل والبكاء الشديد؟! فقال له: يا عنبة ! ذكرت يوم العرض على الله. ثم سقط، فحمله عنبة وقال له: يا عتبة ! قم ما الذي جرى؟ يا عتبة ! قم ما الذي جرى؟ ثم أفاق فقال له: يا عنبة ، قطع ذكر يوم العرض على الله أوصال المحبين، ثم بكى وقال وهو يخاطب ربه: أراك مولاي تعذب محبيك وأنت الحيي الكريم، يقول عنبة : ثم بكى وأخذت أبكي معه .. تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [السجدة:16].
سفيان الثوري مع الفضيل بن عياض ...
نختم بهذا الموقف ..
إنه لسفيان الثوري مرة أخرى، يتقابل مع عابد الحرمين الفضيل بن عياض رحمهم الله جميعاً، عابدٌ مع عابد التقيا، فإذا بهما يتذاكران الله جل وعلا، فبكى هذا وبكى هذا .. فيقول سفيان من تأثره: إني لأرجو أن يكون مجلسنا هذا أعظم مجلسٍ جلسناه. أي: أرجو أن يكون عند الله من أعظم المجالس في الدنيا بركة، فقال له: الفضيل بن عياض : ترجو هذا؟ أما أنا فأخاف أن يكون هذا أعظم مجلسٍ جلسناه علينا شؤماً عند الله، فقال سفيان : ولم ذاك يا فضيل ؟! لم تخاف من هذا المجلس الذي ذكرنا الله فيه فبكينا؟! فقال له الفضيل : ألست يا سفيان نظرت إلى أحسن ما عندك فتزينت به لي، وتزينت لك به فعبدتني وعبدتك؟ أي: كل واحد أخذ يرائي الثاني، انظر لاتهامهم لأنفسهم! فأخذ سفيان يبكي حتى علا نحيبه، ثم قال: أحييتني أحياك الله، أحييتني أحياك الله. قال بعضهم:
أيا من ليس لي منه مجيرُ بعفوك من عذابك أستجيرُ
أنا العبد المقر بكل ذنبٍ وأنت السيد الصمد الغفورُ
فإن عذبتني فبسوء فعلي وإن تغفر فأنت به جديرُ
أفر إليك منك وأين إلا يفر إليك منك المستجيرُ
وأحسن من هذا قول الله جل وعلا: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53].
لنرجع إلى الله جل وعلا، ولنجعل أولئك الرجال؛ الأنبياء والرسل، والصديقين والشهداء والصالحين، وأولئك الأسلاف، لنجعلهم قدوتنا، ولنتأسَّ بهم: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:90].
نسأل الله تبارك وتعالى أن يحشرنا وإياهم في جنة الفردوس، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
سلامة الصدور ...
أيها الإخوة: هذا اليوم يوم الأحد.. وغداً يوم الإثنين، سوف تُرفع الأعمال إلى الله، فيغفر الله عز وجل لكل عبدٍ لا يشرك بالله، إلا رجلين بينهما شحناء، رجل بينه وبين أخيه شحناء، وخصومة، وبغض لأجل دنيا، قال: إلا رجلين بينهما شحناء، فيقول الرب جل وعلا لملائكته: (أنظرا -أي: أخِّرا- هذين حتى يصطلحا ) لا يغفر لهم الذنب حتى يصطلحا .. يدخل على الصحابة رجل، فيقول لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (يدخل عليكم رجل من أهل الجنة فإذا برجلٍ يدخل وعلى لحيته آثار الوضوء، ونعلاه تحت إبطيه، وهو رجل عادي حاله حال الصحابة، وفي اليوم الثاني قال: يدخل عليكم رجلٌ من أهل الجنة، فدخل نفس الرجل، وفي اليوم الثالث نفس الرجل، فبات أحد الصحابة عنده، وسأله بعد أيام وقال له: يا فلان! إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال فيك كذا وكذا، وما رأيتك كثير صلاة ولا صيام ولا عبادة قال: لم يكن إلا ما رأيت -قيامه مقتصد، عنده عبادة لكن ليست بالأمر الغريب على الصحابة- إلا أنني لا أبيت وفي قلبي على أحد من المسلمين شيئاً. ابن عمر : هذه التي بلغت بك، وهي التي لا تُطاق ).
هل تستطيع أن تنام ولا تحمل في قلبك على أحدٍ من المسلمين شيئاً؟ جرب هذا الأمر.
هل تستطيع أن تكون كأبي ضمضم ؟ من هو أبو ضمضم ؟ رجل كان إذا أصبح قال: اللهم إني قد وهبت نفسي وعرضي. -أي: كل من تكلم فيَّ فقد أحللته، وعفوت عنه، كل يوم في الصباح، يقول: يا رب كل من تكلم في فقد أبحته، وعفوت عنه .. هل تستطيع هذا؟ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134].
فأنصحك إذا في قلبك على أخيك، أو على صديقك، أو على جارك، أو على أحد أقربائك شيء، أو بينك وبينه خصومة (لا يحل لمؤمنٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام ) لتكن أنت..(/5)
زين العابدين علي بن الحسين رضي الله عنه وعن أبيه، هذا الرجل كان جالساً في مجلس علم، فدخل عليه رجل فسبه وشتمه، وما رد عليه رداً واحداً، ولو أراد لرد، ولقام أصحابه وتلاميذه يضربونه ويقتلونه، ولكنه لم يرض أن يرد لنفسه كلمة واحدة، أتعرف ماذا صنع؟ انتظر إلى الليل، فلما حل الليل ذهب إلى الرجل في بيته وطرق الباب وفتح الرجل الباب.. الآن ماذا يريد؟ هل يريد أن يدافع عن نفسه؟ أتعرف ماذا قال؟ قال بعد أن سلم: يا فلان! إن كان حقاً ما قلته فيَّ فغفر الله لي، وإن كان كذباً فغفر الله لك والسلام، وتركه وذهب، فجاء الرجل يتبعه فمسكه في الطريق وحضنه وأخذ يبكي وهو يقول: ادعُ الله أن يحللني، فدعا الله عز وجل له .. قال تعالى: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134].
لنكن -أيها الأخوة- كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.......(/6)
رجل الرحمة والمحبة والسلام (1/3)
د. بدران بن الحسن 22/3/1426
01/05/2005
بين يدي خير الأنام
سينصب كلامنا في هذا المقال على موضوع شخصية النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- باعتباره القدوة الحسنة المرتضاة من الله تعالى لكافة البشر، هذه الشخصية التي يُراد لها في وسائل الاعلام خاصة أن تبقى باهتة، في حين يُطبّل لأناس لا يتوفر فيهم معشار جزء من خلقه وأخلاقه صلى الله عليه وسلم.
وخاصة منذ أحداث 11/9 وما تلاها من هجوم على الإسلام والمسلمين، واتهامهم بل واتهام النبي - صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم - بأنه رجل حرب ونهب وسلب، وأنه كان غليظ القلب، وأن الاسلام دين العنف والرهبة والقتال، وصار رموز الكنيسة وغيرهم من رموز الأديان الأخرى يُنعتون بأنهم رجال المحبة والرحمة والسلام، وتناسى الناس في زحمة الكذب الاعلامي والتزوير في الحقائق التاريخية والدينية والثقافية شخصية النبي -صلى الله عليه وسلم- تلك الشخصية التي نالت القدر الأوفى من كل الشمائل والخلال النبيلة، والقيم الإنسانية العليا.
لقد كان ميلاد محمد -صلى الله عليه وسلم- إيذاناً ببدء ثورة شاملة، حررت الإنسان والزمان والمكان، ورفعت عنها إصر عبوديات وأغلال كثيرة كانت تعيق انطلاقها جميعاً، فأخذ الإنسان حريته بيده، وصاغ هوية زمانه ومكانه صياغة جديدة، فجرت عناصر الخير في كل شيء، كان احتجاجاً قبلياً على كل عناصر الخير، فوقف الإنسان على ربوة التاريخ يسدّد خطواته نحو الأشرف والأفضل، ووقف المكان ليُلهم ويحتضن وينبت الأروع والأنصع، ووقف الزمان ليفسح ويتيح للأكمل والأشمل!
ولد الهدى فالكائنات ضياء ... ...
وفم الزمان تبسّم وثناء
ولقد شكلت شخصية محمد -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- الرجل الذي اكتملت فيه كل الأخلاق الحميدة، وانتفت منه كل الأخلاق الذميمة، ولذلك خاطبنا الله بقول: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة). والمطّلع على سيرة النبي محمد -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- يدرك أنها كانت حقيقة تاريخية لا تجد الإنسانية غيره قدوة حسنة تقتدي بها، وهي تتلمس طريقها نحو عالم أكمل وأمثل، وحياة فُضلى، ومن الطبيعي ألا تجد الإنسانية مثلها الأعلى في شخصيات وهمية، وإلا فهي تضلّ طريقها المستقيم وتسير مقتدية بالخيال والأوهام، فمن حقنا إذاً أن نتخذ من سيرة النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- نموذجاً لسلوكنا في حياتنا.
وحياة محمد -صلى الله عليه وسلم- تكشف أمامنا المثلى الأعلى في جميع أحوال الحياة؛ في السلم والحرب، في الحياة الزوجية، مع الأهل والأصحاب، في الإدارة والرئاسة والحكم والسياسة، في البلاغ والبيان، بل في كل أوجه الحياة. فمحمد -صلى الله عليه وسلم- هو المثل الكامل.
ولن تجد الإنسانية في غيره مثلاً حياً لها؛ فسيرة محمد -صلى الله عليه وسلم- حقيقة تاريخية، يصدّقها التاريخ الصحيح ولا يتنكر لها، وهي سيرة جامعة محيطة بجميع أطوار الحياة وأحوالها وشؤونها، وهي سيرة متسلسلة لا تنقص شيئاً من حلقات الحياة، وهي أيضاً سيرة عملية قابلة للتطبيق، ذلك أن ما كان يدعو إليه محمد -صلى الله عليه وسلم- في القرآن والحديث كان يحققه بسيرته أولاً، وهذا ما شهد به معاصروه، فقالت عائشة -رضي الله عنها- وقد سئلت عن أخلاقه صلى الله عليه وسلم: «كان خلقه القرآن»(1).
وفي مقالنا هذا، نحاول أن نتكلم عن خلال ثلاث هي الرحمة والمحبة والسلام، وتخصيصنا لهذه الخلال الثلاث بالحديث يأتي من محاولة كثير من الجهات ادّعاءها بهتاناً وزوراً، وقد كثر الحديث منذ أحداث 11/9 عنها ونسبتها إلى أي دين آخر ما عدا الإسلام، وكذلك نسبتها إلى أي شخصية أخرى ماعدا سيد الخلق وقدوة الرجال وحبيب الله ورحمة العالمين وأساس سلم العالم محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
محمد الرحمة المهداة
إن رحمة النبي -صلى الله عليه و سلم- بُعد مهم في شخصيته، وفي دعوته، ومن صميم شخصيته رسولاً ونبياً ومبلغاً عن ربه وهادياً للناس. وحينما نقرأ قوله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) ونقف أمام الآية ندرك سعة رحمة هذا النبي الكريم، وكيف كان صلى الله عليه وسلم يفيض رحمة في خلقه وسلوكه وأدبه وشمائله. وإنه لتناسب وتآلف في أرقى مستوياته بين الرسالة والرسول في هذه الرحمة، حتى لا يُتصور أن يحمل عبء بلاغ هذه الرحمة إلى العالمين إلا رسول رحيم ذو رحمة عامة شاملة فياضة طبع عليها ذوقه ووجدانه، وصيغ بها قلبه وفطرته..(لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم ) [التوبة: 128]. فهو مثل أعلى للرحمة الإلهية لذلك وصفه الله تعالى بأنه رؤوف رحيم.(/1)
لقد أرسله الله تعالى رحمة للعالمين.. رحمة شاملة للوجود بأجمعه. يستطيع المؤمنون الاستفادة من الرحمة التي كان يمثلها النبي -صلى الله عليه و سلم- ذلك لأنه (بالمؤمنين روؤف رحيم) ويستطيع الكافرون والمنافقون أيضاً -إلى جانب المؤمنين - الاستفادة من هذه الرحمة كذلك. فعندما قيل له: ادع على المشركين قال صلى الله عليه وسلم: "إني لم أُبعث لعانًا، وإنما بُعثت رحمة"(2).
كما أن رحمته شملت أسرته وأمته وأصحابه، فقد كان صلى الله عليه وسلم خير الناس وخيرهم لأهله وخيرهم لأمته، من طيب كلامه، وحُسن معاشرة زوجاته بالإكرام والاحترام، حيث قال عليه الصلاة والسلام: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي" (3). كما أنه في تعامله مع أهله وزوجه كان يُحسن إليهم، ويرأف بهم ويتلطّف إليهم ويتودّد إليهم، فكان يمازح أهله ويلاطفهم ويداعبهم. كما كان يعين أهله ويساعدهم في أمورهم ويكون في حاجتهم، وكانت عائشة تغتسل معه صلى الله عليه وسلم من إناءٍ واحد، فيقول لها: (دعي لي)، وتقول له: دع لي (4).
وكان صلى الله عليه وسلم رحيماً بالجميع، بل إنه يسمع بكاء الصبي فيسرع في الصلاة مخافة أن تفتتن أمه. و كان صلى الله عليه وسلم يمر بالصبيان فيسلم عليهم (5). وجاء الحسن والحسين، وهما ابنا ابنته وهو يخطب الناس فجعلا يمشيان ويعثران فنزل النبي صلى الله عليه وسلم من المنبر، فحملهما حتى ووضعهما بين يديه، ثم قال صدق الله ورسوله(وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [لأنفال:28] نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان فيعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما.
فرحمة النبي -صلى الله عليه وسلم- جعلته لطيفاً رحيماً، فلم يكن فاحشاً ولا متفحّشاً، ولا صخّاباً في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح. بل إن سيدنا أنس -رضي الله عنه- يقول: "خدمت النبي -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين، والله ما قال أفّ قط، ولا قال لشيء لم فعلت كذا وهلا فعلت كذا" (6) ، وعن عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت: "ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم خادماً له، ولا امرأة ولا ضرب بيده شيئاً قط إلا أن يجاهد في سبيل الله"(7). وفي رواية "ما ضرب رسول الله شيئًا قط بيده ولا امرأة ولا خادمًا إلا أن يجاهد في سبيل الله" .
ولذلك قال فيه القرآن الكريم: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وشاورهم في الأمر) [آل عمران:159] ، فقد كان منهجه الرحمة بالعباد والتخفيف من الإصر والغلال التي عليهم، وهو في هذا يقول صلى الله عليه وسلم: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)(8) .
وتتجلّى رحمته -صلى الله عليه وسلم- بالمذنبين، وبمن لا يعرفون كيف تقضى الأمور فيعفو ويصفح ويعلم، عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ جاء أعرابي، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: مَه مَه، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (لا تزرموه، دعوه) ، فتركوه حتى بال ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له: "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول، ولا القذر، إنما هي لذكر الله، والصلاة، وقراءة القرآن" قال: فأمر رجلاً من القوم فجاء بدلو من ماء فشنّه عليه"(9).
كانت رحمة النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل غضبه، بل إنه في الحرب كان يقاتل بشجاعة، ولكنه أيضاً كان صاحب شفقة عظيمة، كان سياسياً، ولكنه في الوقت نفسه صاحب مروءة كبيرة وقلب كبير. ففي غزوة أحد استشهد عمه حمزة أسد الله ورسوله رضي الله عنه، ومُزّق جسده تمزيقاً. كما مُزّق جسد ابن عمته عبد الله بن جحش تمزيقاً(10). وشُجّ رأسه المبارك صلى اله عليه وسلم، وكُسِرت رباعيّته، وغطّى الدم جسده الشريف(11).
وبينما كان المشركون جادّين في حملتهم لقتله كان أكثر رحمة بهم، وكان يدعو: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"(12). فهل يوجد أرحم من محمد في مثل هذه اللحظات.
وفي فتح مكة كيف تعامل مع من أخرجوه وظاهروا على إخراجه وإيذائه؟ وكيف تعامل مع من حاصروه في شعب أبي طالب وتسببوا في وفاة أحب زوجاته إليه خديجة الكبرى رضي الله عنها، وفي وفاة عمه أبي طالب؟ فكيف كانت معاملته لأهل مكة بعد كل هذا التاريخ المملوء عداوة وبغضاً؟
لقد دخل مكة بعشرة آلاف مقاتل، دخل على مركبه، والدرع على صدره، والمغفر على رأسه، والسيف في يده، والنبال على ظهره، ولكنه مع كل مظاهر لباس الحرب هذه كان أنموذجاً للرحمة.(/2)
سأل أهل مكة: «ما ترون أني فاعل بكم؟» فأجابوه: "خيراً أخٌ كريمٌ وابن أخ كريم" فقال لهم ما قاله يوسف عليه السلام لإخوته: (لا تثريبَ عليكم اليوم يَغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) (يوسف: 92) لقد قال لهم: "اذهبوا فأنتم الطُلَقاء"(13).
هذا هو محمد النبي -صلى الله عليه وسلم- وهذه رحمته التي شملت كل الناس، واستمرت دستوراً هادياً إلى أن تقوم الساعة، وليست تلك الرحمة الكاذبة التي تأتي ردود أفعال من أناس يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، كما أنها ليس تلك الرحمة ذات الوجهين التي تُطبّق على البعض، ويُحرم منها البعض، كما نراه في كثير من الشخصيات والنظم والقوانين الدولية والمحلية، التي تحاكم آخرين وتستثني آخرين. أو تلك المؤسسات والشخصيات التي ترأف وترحم الحيوان، ولكنها تشرّع لظلم الإنسان لأخيه الانسان.
|1|2|
1- مجلة «حضارة الإسلام» المجلد الأول، العدد السابع، السنة الأولى، 1960-1961، ص 63-69،
2- رواه الترمذي
3- رواه مسلم.
4- رواه الشيخان
5- رواه السيخان
6- رواه مالك والشيخان
7- رواه الترمذي
8- رواه مسلم
9- رواه البخاري، المغازي
10- اب هشام، السيرة النبوية، 3/103
11- رواه البخاري، المغازي: ومسلم، الجهاد
12- رواه البخاري، الانبياء؛ مسلم، الجهاد
13- ابن هشام، السيرة النبوية، 4/55؛ ابن كثير، البداية والنهاية، 4/344.7- رواه الترمذي
رجل الرحمة والمحبة والسلام (2/3)
د. بدران بن الحسن 21/4/1426
29/05/2005
أم لم يعرفوا رسولهم؟
يقول الله تعالى في محكم تنزيله: (أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون) [المؤمنون: 69]، هذه الآية تشكل في الحقيقة مسوغًا هاماً لنا في تناول شخصية النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك أن معرفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سيرته وفي سنته وفي شمائله من أهم الأمور التربوية التي تساعدنا على الاقتداء به صلى الله عليه وسلم. فإنه لا توجد سيرة أخرى أجدى بأن تُقتدى ويُحتفل بها مثل سيرته صلى الله عليه وسلم. وفي تاريخ البشرية كلها لا نجد حياةً نُقلت إلينا تفاصيلها، وحُفظت لنا وقائعها في وضوح كامل، وتفصيل عميم شامل كما حُفظت، وكما نُقلت إلينا حياة محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- رسول الله ورحمته المهداة إلى الناس أجمعين، فكل كلمة قالها، وكل خطوة خطاها، وكل بسمة تألّقت على محيّاه، وكل دمعة تحدرت من مآقيه، وكل مسعًى سار لتحقيقه، وكل مشاهد حياته حتى ما كان منها من خاصة أمره، وأسرار بيته، وأهله، نُقل إلينا موثّقاً بأصدق ما عرف التاريخ الإنساني من توثيق وتدوين.
ولا عجب في هذا، فمادام الله قد اختاره ليختم به النبوة والأنبياء، فمن الطبيعي أن تكون حياته منهجاً جليلاً لأجيال لا منتهى لأعدادها، وأن تكون هذه الحياة بكل تفاصيلها أشد وضوحاً، وتألقاً من فلق الصبح ورابعة النهار، لا بالنسبة إلى عصره فحسب، بل بالنسبة إلى كل العصور والأجيال.
إن حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- وشمائله، وجوانب شخصيته، ونتائج دعوته درس لكل سالك إلى طريق الله، وكل قائد أو مربٍّ أو رب أسرة أو سالك أي سبيل من سبل الخير إلى أن ينقطع الزمان.
وفي الحلقة السابقة تناولنا صفة الرحمة في شخصية النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي هذه الحلقة ننتقل إلى صفة أخرى لا تقلّ تميّزاً عن الأولى، ولكن تسلك بنا طريقاً آخر لإدراك أحد أهم أبعاد شخصيته صلى الله عليه وسلم، وهو المحبة. فكيف كان النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل محبة؟ وما هي الجوانب التي شملها هذا الخلق العظيم؟ وما موقفنا نحن تجاه محبته؟
منهجه يدعو إلى مجتمع المحبة:
إنها لصورة قاتمة باهتة مخيفة تلك التي رسمها البعض للإسلام في أذهان الناس حتى صار الناس يخافون من الدين ومن التدين؛ لأنهم يظنونه شيئاً قاسياً لا يرحم، وأتباعه غلاظ لا يلينون، وأحكامه سيف قاطع على الرؤوس.
وقد استثمر المستشرقون الموقف، واتهموا النبي -صلى الله عليه وسلم- والإسلام بالحقد والكراهية، وكل أوصاف التجهم والتعصب والعنف، حتى لكأنها صارت حقيقة، وأُسقط في أيدينا، وظن بعضنا أن هذا الزيف حقيقة.
ولكن الحقيقة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نور يُستضاء به في ظلام الجاهلية، ومحبة خالصة تؤلف بين القلوب، وأن الإسلام شمس مضيئة أنارت ظلام الجاهلية، وهو دين الحب والأمل و الحياة واليسر، و شرائعه هي شرائع الحق والعدل، وأحكامه هي أحكام الحياة.
وللقيمة الرفيعة لخلق الحب والمحبة في الحياة، وأهميته في تحقيق السعادة للفرد والأسرة والمجتمع والأمة والإنسانية، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- سعى لتحقيقه بوسائل متعددة، وربّى أصحابه وأمته على هذه النفسية الراقية، وحث على إشاعته بين الناس، ببناء كل العلاقات على أساس من الحب؛ حبّ الله، وحب الخير، وحب الصلاح والصالحين، وحب الإنسانية.(/3)
وبعبارة أخرى فإن نهجه صلى الله عليه وسلم، وحياته كلها دعوة للتحابب. عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه مسلم في كتاب الإيمان : " لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابوا . أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم" .
وجاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة أيضاً عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : الإمام العادل . وشاب نشأ بعبادة الله . ورجل قلبه معلّق في المساجد . ورجلان تحابّا في الله: اجتمعا عليه وتفرّقا عليه . ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال : إني أخاف الله . ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله . ورجل ذكر الله خالياً، ففاضت عيناه ". فمن الناس الذين يصلون إلى تلك المرتبة العالية يوم القيامة (ورجلان تحابا في الله ) فاجتمعا على حب الله وافترقا على حبه . بمعنى أن سبب اجتماعهما حب الله، واستمرا على ذلك حتى قضى الله أمراً كان مفعولاً فتفرّقا بموت أو سفر أو غيره، وهما صادقان في حبّ كل واحد منهما صاحبه لله تعالى، حال اجتماعهما وافتراقهما .
ليس هذا فحسب، بل إن شرائع الإسلام وأحكامه كلها دعوة للمحبة، فالزكاة مثلاً التي هي قرينة الصلاة وجوباً وأهمية، فإن المستفيد منها وهو الفقير يشعر بأنه ليس وحده في المجتمع، وإنما هو فرد في جماعة لا تنساه وتكفله، ومن هنا تتلاشى الأحقاد وتنبت المحبة والألفة، وهكذا تكون الجماعة كالجسد الواحد، الغني يدفع من مال الله الذي عنده فيجد البركة والنماء، والفقير يتناول رزق ربه فيسدّ حاجته، والمجتمع ينقى ويطهر من الأمراض الخبيثة.
ولهذا فإن حب الخير للناس مما يقوم عليه ويتقوى به إيمان المؤمن، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن رجلاً لم يعمل خيراً قط، وكان يداين الناس، فكان إذا أرسل غلامه للتقاضي يقول له: خذ ما تيسر، واترك ما عسر، وتجاوز لعل الله يتجاوز عنا، فلما هلك سأله الله تعالى: هل عملت خيراً قط؟! قال: لا إلا أنني كنت أداين الناس فكنت أقول لغلامي: خذ ما تيسر واترك ما عسر، وتجاوز لعل الله يتجاوز عنا، فقال الله له: قد تجاوزت عنك".
فهذه العلاقة بين المؤمن والمؤمن يحرص عليها النبي -صلى الله عليه وسلم- لأنها تهب الجماعة المسلمة قوتها وصلابتها؛ فلا تهون ولا تتفتت ولا تعبث بها الفتن، فيقول صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا"، ويقول صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"، فإن كل مؤمن هو لبنة في بناء المجتمع، يدخل الإيمان بينه وبين غيره كالمونة اللاصقة الجاذبة الموضوعة بين لبنات البناء، فيشتد البناء ويقوى وترتفع هامته، ثم إن من فيض الإيمان تنبعث الرحمة الهادية، التي ترجو ما عند الله، وإنه لحق، حيث يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولايسلمه ولا يخذله، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا، فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة". ذلك هو الحب الذي جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- لبناء المجتمع عليه.
النبيّ الإنسان المحبّ:
وإذا التفتنا إلى حياته الخاصة صلى الله عليه وسلم في بيته ومع أولاده وأهل خاصته وجدناه المثل الأعلى في الحب والود والشفقة. فكان صلى الله عليه وسلم يحب الأطفال، ويقبّل أولاده، ويعطف عليهم، ويأمر بالمساواة في المحبة بينهم، كما كان يحب أهله وزوجاته، وهو القائل: "حبب إليّ من دنياكم ثلاث: الطيب والنساء، وجُعلت قرة عيني في الصلاة".
لقد كان صلى الله عليه وسلم يحترم ويود ويحب زوجاته، ويقدر مشاعرهن بطريقة لا يرقى إليها أي من المحبين الذين ادّعوا أو أحبّوا أهليهم وأولادهم.
لقد كان قدوة، بل خير قدوة صلى الله عليه وسلم، فقد كان يعيش بين أزواجه رجلاً ذا قلب وعاطفة ووجدان، حياته مليئة بالحب، والحنان، والمودة، والرحمة.
ومما يذكر أنه كان مع عائشة -رضي الله عنها- التي يحبها كثيراً، يراها تشرب من الكأس فيحرص كل الحرص على أن يشرب من الجهة التي شربت منها، وهي صورة يندر أن يقوم به مدّعو الحب بيننا، إنه حب النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- للصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما.
ومِن تودّده لها وزيادة في حبها أنه كان يسابقها في وقت الحرب، يطلب من الجيش التقدم لينفرد بأم المؤمنين عائشة ليسابقها ويعيش معها ذلك الحب الزوجي الراقي.(/4)
وفي المرض، حين تقترب ساعة اللقاء بربه وروحه تطلع إلى لقاء الرفيق الأعلى، لا يجد نفسه إلا طالباً من زوجاته أن يمكث ساعة احتضاره صلى الله عليه وسلم إلا في بيت عائشة، ليموت ورأسه على صدرها، ذاك حبّ أسمى وأعظم من أن تصفه الكلمات أو تجيش به المشاعر.
إنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرسم لنا طريقاً للحب فريداً من نوعه أوسع مما حصرته فيها مفاهيمنا المادية العلمانية التي تضيّق علينا واسعاً وتحرمنا من مشاعرنا. ولذلك فهو في حبه هذا لعائشة -رضي الله عنها- لا يجعله هذا الحب أن ينسى أو يتناسى حبه العظيم الخالد لخديجة الكبرى التي كانت أحب أزواجه إليه، والتي قدمت له في ساعة العسرة ما لم يقدمه أحد آخر.
وفي لحظة شعور امراة تسأله السيدة عائشة -رضي الله عنها- وتقول: ما لك تذكر عجوزاً أبدلك الله خيراً منها (تعني نفسها)؟! فيقول لها: لا والله، ما أبدلني زوجاً خيراً منها، ويغضب لذلك، ويبين لها أن حب خديجة لم يفارق قلبه أبداً، ذلك هو الحب الوفي الذي يريد أن يعلمنا إياه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنه يعلمنا أنه يحب عائشة، ولكن يحب أيضاً خديجة -رضي الله عنها- كما يحب زوجاته الأخريات رضي الله عنهن.
ومما تذكره كتب السيرة أنه صلى الله عليه وسلم حج بنسائه، فلما كان في بعض الطريق نزل رجل فساق بهن فأسرع، فقال النبي كذلك، سوقك بالقوارير –يعني النساء– فبينما هم يسيرون برك لصفية بنت حيي جملها، وكانت من أحسنهن ظهراً، فبكت وجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين أخبر بذلك، فجعل يمسح دموعها بيده، وجعلت تزداد بكاء وهو ينهاها.
إنه لموقف جميل من الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم- مع زوجته حين مسح دمعتها بيده، ثم أمر الناس بالوقوف والنزول، علماً بأنه لم يكن يريد أن ينزل. لم يحقر النبي -صلى الله عليه وسلم- مشاعر صفية وعواطفها، بل احترمها وأنزل القافلة كلها من أجلها. فكم منا من رجل مسح دموع زوجته وطيب خاطرها!
إنه محمد النبي الحبيب -صلى الله عليه وسلم- مسح الدمعة بيده، ومرّر يده الكريمة على خد زوجته في قمة من مشاعر الحب والاحترام والعناية والتقدير لعواطف المرأة ومشاعرها. والذين يتفاخرون اليوم من الغربيين ومن العلمانيين باحترام المرأة لم يبلغوا ولن يبلغوا ما قام به محمد صلى الله عليه وسلم.
إبراهيم بن محمد:
لقد ابتلي النبي -صلى الله عليه وسلم- بما لم يبتل به أحد، ولكنه كان المثل الأعلى في الاحتساب والصبر، وحين مات ابنه إبراهيم عليه السلام، اهتزت مشاعر الأبوة والحب، فيبكي ويحزن "إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع، وإنا يا إبراهيم على فراقك لمحزنون". يعلمنا عليه الصلاة والسلام كيف يكون الحب، وكيف يكون الحزن على فراق الحبيب، ولكن كل ذلك في حدود ما يرضي الله تعالى. إنهما حب وحزن نابعان من أب نبي بشر تتجلى فيه أعلى معاني الحب والرحمة والشفقة على فراق الأحبة، ولكنه حب لا ينسيه أنه مبلّغ عن الله، وأنّ أمانة الرسالة أعظم الأمانات. ولذلك حينما كسفت الشمس وظن بعض الناس أنها لموت إبراهيم، قال صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا تنكسفان لموت أحد أو حياته".
ويمتد حبه لأمته صلى الله عليه وسلم التي كان يبكي من أجلها في هدأة الليل، فقد كان يقف في سكون الليل وظلمته الحالكة ليصلي صلاة التائب على الرغم من أنه غُفر له ما تقدم وما تأخر من ذنبه، وكان في ذلك الليل يتذكر أمته ويسكب عليها الدموع، ويسأل الله: "أمتي، أمتي".
حاجة البشرية والحضارة للحبّ:
إن البشرية اليوم والحضارة الإنسانية التي يهيمن عليها النوذج الحضاري الغربي، وتهيمن عليها الأذواق الغربية والمفاهيم الغربية في كل شيء حتى في مفهوم الحب- قد فقدت الحياة فيها كرامتها وقداستها حينما حولت كل المعاني والقيم والعلاقات إلى أشكال وماديات ومظاهر.
ولفقدان الحب صار يُحتفل به مثل ما يُحتفل بأي شيء آخر، وخصصوا له يوماً، وكأن بقية الأيام ليست للحب، وفيه يتذكر العشاق بعضهم بعضاً من خلال تبادل الهدايا والبطاقات، أو أي شيء مادي، وصارت تنفق أموال طائلة في مناسبة عيد الحب، بل إن من الناس من يفلس بهذه المناسبة.
وارتبط الحب في المفاهيم الغربية المهيمنة بالجنس والعري وتبادل الغراميات المحرمة، أو تلك التعبيرات المزيفة الجافة الفارغة من أي معنى.
ولكن الحب الحقيقي الذي جاء محمد -صلى الله عليه وسلم- لتعليمنا إياه هو ذلك الحب المرتبط بالله تعالى وبنهجه في الحياة، وبما ارتضاه من علاقات ومعانٍ وقيم وتعبيرات عن المشاعر.
ونختم بهاتين الآيتين المعبرتين عن عمق الحب وأهمية ارتباطه بالله تعالى. يقول الله تعالى:(ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة...)[الروم:21] ويقول عز وجل: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم) [آل عمران: 31].
رجل الرحمة والمحبة والسلام (3/3)(/5)
د. بدران بن الحسن 6/5/1426
13/06/2005
مقدمة:
في الحلقتين السابقتين تناولنا خلقي الرحمة والمحبة عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورأينا كيف أنهما تتكاملان بينهما، وأنهما بلغتا درجة الكمال في شخصه صلى الله عليه وسلم، واتصفت بهما تصرفاته وأقواله كلها، وشملت كل جوانب الحياة، ومختلف مستويات الخطاب والممارسة، وشتى أصناف الناس.
وفي هذه الحلقة الأخيرة من حديثنا عن (رجل الرحمة والمحبة والسلام) نفرد الحديث عن السلم والسلام في شخصه -صلى الله عليه وسلم- وفي سيرته ودعوته والدين الذي جاء به، ليدرك القارئ الكريم أن السلم والسلام – بلغة العصر- كان مشروعاً إستراتيجياً للنبي -صلى الله عليه وسلم- شاملاً للأشخاص والأزمان والأمكنة، ولم يكن إجراءات مرحلية، او تخطيطاً وقتياً لتفادي مشكلات معينة، بل لكي يدخل الناس (في السلم كافة) [البقرة: 208] ويعمّ السلام بأن (يكون الدين لله) الذي هو دين الإسلام والسلم، ذلك أن (الدين عند الله الإسلام)، ورب العباد يدعو إلى السلام، قال تعالى: (والله يدعوا إلى دار السلام) [يونس: 25].
السلم مبدأ ومسلك وغاية:
إنّ الإسلام دين السلم وشعاره السلام، فبعد أن كان عرب الجاهلية يشعلون الحروب لعقود من الزمن من أجل ناقة أو نيل ثأر ويهدرون في ذلك الدماء، جاء الإسلام وأخذ يدعوهم إلى السلم والوئام، ونبذ الحروب والشحناء التي لا تولّد سوى الدمار والفساد.
ولذلك فإن القرآن جعل غايته أن يدخل الناس في السلم جميعاً، فنادى المؤمنين بأن يتخذوه غاية عامة، قال الله -عز وجل- مخاطباً أهل الإيمان: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) [البقرة: 208]، بل إن من صفات المؤمنين أنهم يردون على جهالات الآخرين بالسلم، فيكون السلم هنا مسلكاً لردّ عدوان الجاهلين، قال تعالى: (...وإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَما). ذلك أن مسلك السلم لا يستوي ومسلك العنف، ومسلك العفو لا يستوي ومسلك الانتقام، ومسلك اللين لا يستوي ومسلك الشدة والغلظة، ولذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعو ويوصي دائماً أصحابه بالدفع بالتي هي أحسن، والإحسان إلى المسيئين، مصداقاً لما قال تعالى موصياً سيد الخلق أجمعين -صلى الله عليه وسلم-: (...وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) كما أنهم دعوا إلى الجنوح للسلم فقال تعالى: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) وشجع القرآن المسلمين على التزام السلم – وهذا وقت الحرب- وطالبهم بتلمّس السلم إن وجدوا رداً إيجابياً من الطرف الآخر، فقال تعالى: (فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا).
لا إكراه في الدين: سلم دون تلفيق
الإسلام رسالته واضحة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان واضحاً وسيبقى دينه واضحاً للعالمين، بأن هناك فرقاً بين احترام حرية الاخرين في اختيار ما يعتقدون، وبين التلفيق بين الأديان، أو قبول أديان الضلالة.
فالإسلام متناسق وواضح ومنسجم مع منطقه الداخلي ومع الحقيقة الموضوعية، ولذلك فإنه لا يقبل التلفيق بين الإديان، فالإسلام هو الحقيقة المطلقة، ولا يقبل بحال من الأحوال قبول العقائد الأخرى في منطق الإسلام، كما أن التأكيد على التمايز بين الحق والضلال واضح في منهجه -صلى الله عليه وسلم- وذلك في سورة الكافرون حيث يقول تعالى:(قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عباد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين)، ولكن في الوقت نفسه لا يصح بحال من الأحوال إجبار وإكراه الآخرين على قبوله، ولذلك بيّن القرآن الكريم أن (لا إكراه في الدين) لأنه (تبين الرشد من الغي).
بل إن القرآن نفسه به آيات كثيرة تدعو إلى احترام عقائد الآخرين حتّى ولو كانت فاسدة وغير صحيحة، وذلك لسماحة الإسلام حتى في مقابل أصحاب العقائد الضالّة التي لا قداسة لها في نظر الإسلام. فأمرنا الله تعالى بعدم إيذاء الكافرين وإثارتهم وإهانة دينهم أو أديانهم عبر سبّ آلهتهم فقال سبحانه: (وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْم)، بل دعانا إلى اتخاذ مسلك آخر أكثر إيجابية ومبدئية، وهو منهج الإحسان والدعوة بالحسنى بدل السبّ والشتم والشحناء؛ لأنه مناقض لمنهج الاسلام وغايته في تحقيق السلم، فقال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُواعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُواعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين).
صفح من أجل السلم(/6)
من أجل تحقيق رسالته في السلم فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- يعلمنا مسلكاً مهماً آخر لتحقيق السلم، وذلك من خلال حثّنا على الصّفح وغضّ النظر عن إساءة الآخرين. ووضع القرآن الكريم لذلك آيات بينات تُعدّ دستورا خالداً يختلف عن تلك المقولات الجوفاء التي تترنم بها بعض الأديان، يقول تعالى: (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). [التغابن: 14]، وقال سبحانه: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ). [النور: 22]، وقال تعالى: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الُْمحْسِنِينَ) [المائدة: 13]، وقال عزوجل: (وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتية فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) [الحجر: 85]، وقال سبحانه: (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الزخرف:89] ، وقال تعالى: (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِه) [البقرة: 109]. هذا بالإضافة إلى الآيات التي تدل على الغفران والغضّ عن السيئة والمحبة والإحسان وما أشبه.
ولقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- نموذجاً وقدوة في الصفح والعفو من أجل السلم مبدأ وغاية، لقد كانت المرحلة المكية من الدعوة النبوية فترة عصيبة أُوذي فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- في شخصه الكريم، وفي أهل بيته وفي صحابته، ولكنه لم يكن يرد الإيذاء، بل كان يردّ رداً جميلاً، فحين كان أبو لهب يرميه بالحجارة، وأم جميل تلقي في طريقه الأشواك، وبعض الكفار يلقي سَلَى الشاة على رأسه وهو قائم يصلي عند الكعبة، وبعضهم يبصق في وجهه الطاهر الشريف، وأبو جهل يشج رأسه وغيرها، كان صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون"، ثم إنه لما انتصر على قوى الكفر والطاغوت ورجع إلى مكة فاتحاً كان أرحم بأهلها من الأم بولدها، وحقق السلم المطلق فلم تُرق قطرة دم في فتح مكة، ولما قال بعض أصحابه: "اليوم يوم الملحمة" قال: "بل اليوم يوم المرحمة"، وخاطب أهل مكة قائلاً: "ما تظنون أني فاعل بكم"، وقد أقدره الله عليهم، قالوا: "أخ كريم وابن أخ كريم"، فقال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، وكان يوماً سجله التاريخ في تحقيق الفتح بالسلم، فهل هناك سلم مثلم سلم محمد صلى الله عليه وسلم.
الحج: دورة مكثفة لتعلم السلم
هناك صلة رائعة بين خليل الله إبراهيم عليه السلام أبي الأنبياء، وبين الحج وبين الإسلام وبين السلام. فالإسلام دين الحنيفية السمحة، وهو ملة أبينا إبراهيم، وهو الذي سمّانا المسلمين من قبل، وهو الذي أذن في الناس بالحج، فكان محمد -صلى الله عليه وسلم- النبي الخاتم الذي اكتملت على يديه الرسالة واختتمت النبوة وتمت به النعمة.
والعجيب في الأمر أن شعيرة الحج مرتبطة أيضا بتقديم الأضحية التي هي حيوان يقدم قربانا لله تعالى، وهي سنة سنها أبونا إبراهيم الخليل فدية عن ابنه اسماعيل الذبيح عليهما السلام.
وكأن الله تعالى يعلمنا أن الحنيفية السمحة جاءت لتحقيق السلم من خلال تخليص بني البشر من سفك الدماء وقتل النفس وافتدائها بالذبح العظيم الذي أمر الله تعالى به.
ولقد رسّخ الإسلام شعائر الحج ورتبها بطريقة تجعل الحاج في سلم شامل، ليس مع الناس فقط، بل مع كل شيء؛ الشجر والحجر والحيوان ومع الكون كله، تسليماً لرب العالمين.
إن الحج تجربة تمثّل ورشة مكثفة للتدريب على الشحن الروحي والتعبئة على السلم والتدريب على محاربة نوازع النفس السيئة. وإن الأضحية التي يقدمها الحاج والطواف بالبيت العتيق تمثل شعيرة خالدة تعبر عن ذلك الإعلان العالمي الإبراهيمي بالتوقف عن تقديم القرابين البشرية، وتوديع عقلية العالم القديم، في حل المشاكل بالعنف، لذا كان الحج في ترميزه المكثف، تدريباً سنوياً لشحن الانسان بالروح السلامية، فالمظهر متشح بالبياض، والكعبة أصبحت بيت الله الحرام، فيحرم ممارسة العنف بكل أشكاله وامتداداته، فلا جدال في الحج، الجدال بمعنى التنازع والتوتر، وينعم الجميع ببحيرة للسلام في أرض غير ذي زرع، ويأمن الطير والدواب والإنسان على أنفسهم من العدوان، بعد أن كان الناس يُتخطّفون من حولهم، ويمتد السلام من النفس إلى البدن فلا يُنتف الشعر أو تُقص الأظافر، وينتهي بتدشين تجربة على ظهر الأرض، سنوية لاتقبل الإلغاء أوالتأجيل، للسلام الزماني المكاني، في البيت الحرام من خلال الأشهر الحرم.
إن الحج يعلمنا أن العالم كله ينبغي أن يتحول إلى حرم آمن في كل وقت، ولذلك يأتي هذا التدريب السنوي لملايين من البشر على تحقيق مطلق السلم مع كل المخلوقات في البلد الأمين في الأشهر الحرم.(/7)
كما أنه يعلمنا السعي لتحقيق السلام العالمي من خلال هذه التجربة الإنسانية الفريدة، التي يتم فيها التدريب سنوياً على السلام والسلام المطلق مع المكان والزمان والكائنات، وهو بذلك يذكرنا أننا يبنبغي أن نوسع من هذه الورشة والدورة المكثفة وننقلها إلى المستوى الإنساني الأوسع، بتبني الأسلوب السلمي في بقية الأماكن وبقية الأوقات ومع مختلف القضايا.
الجهاد مسلك لتحقيق السلم
معنى الجهاد:
الجهاد كلمة شاملة تعني لغوياً الجد والمبالغة وبذل الوسع والمجهود والطاقة كما في قوله تعالى: (والذين لا يجدون إلاّ جهدهم). وتعني دينياً تحقيق الإيمان الحقيقي وما يتمخّض عنه، ومقارعة كل ما يبغضه الله من كفر وانحلال وفسوق، ومن ثم قال ابن تيمية: "الجهاد حقيقة الاجتهاد في حصول ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح، ومن دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان" (كتاب العبودية، ص104). وقد وردت كلمة الجهاد في القرآن الكريم في مواضع كثيرة،، ومما ورد في القرآن الكريم من استخدام لكلمة (جهاد) قوله تعال: (لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات، وأولئك هم المفلحون) [التوبة: 88]، وقوله: (يا أيها النبي جاهد الكفّار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنّمُ وبئس المصير) (التوبة، 72)، وقوله: (فلا تطع الكافرين وجاهدهم جهاداً كبيراً) [الفرقان: 52].
أهميّة الجهاد في منهج نبي الرحمة والمحبة والسلام:
إن الجهاد في معنى القتال هو أحد المسالك التي سنها النبي -صلى الله عليه وسلم- بوحي من الله تعالى من أجل أن يعم السلام وينتشر الخير ويدفع تسلط الطواغيت والظلمة والكافرين، إنقاذاً للمظلومين، وتحقيق لحرية الناس وحقهم في العيش في امن وسلام، وقد أمر الله تعالى نبيه الكريم بجهاد الكفار والمنافقين بوقله: (يا أيّها النبي جاهد الكفّار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنهم وبئس المصير)، وقوله تعالى: (فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهُم لعلهم ينتهون)(التوبة: 12)، كما أمرنا أن نعد العدة من أجل ردع الظالمين وإرهابهم حتى لا يروّعوا الآمنين، فقال تعالى: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة ومن رباط الخيل تُرهبون به عدوّ الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم).[ الأنفال: 60].
كما ربط الله تعالى بين القتال وبين ذكر الله تعالى، فقال عز وجل: (يا أيّها الذين آمنوا إذا لقيتم فئةً فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون) [الأنفال: 45]، وحرّم الله استدبار العدو الكافر بقوله: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولُّوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلاّ متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواهُ جهنم وبئس المصير). [الأنفال: 15-16]، داعياً إلى بذل الغالي والنفيس من أجل تحقيق السلم الذي يأتي من خلال انتشار معاني حب الله والجهاد في سبيله، وإلى تفضيل ذلك على الآباء والأبناء والأموال والعشيرة على الدنيا الفانية والشهوات والهوى، فقال عز من قائل: (قُل إن كان آباؤكُم وأبناؤُكُم وإخوانُكُم وأزواجُكم وعشيرتُكُم وأموالٌ اقترفتموها وتجارةٌ تخشون كسادها ومساكنُ ترضونها أحبَّ إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربّصوا حتّى يأتي الله بأمره واللهُ لا يهدي القوم الفاسقين)[ التوبة: 24].
وقد وهب الله سبحانه المجاهدين درجات عليا وجزى المستشهدين في سبيله جزاءً أوفى قائلاً بمنح الجنة للمجاهدين في سبيله بأموالهم وأنفسهم: (إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنّة) [التوبة: 111]، ومبشراً الشهداء بأنهم أحياءٌ عند ربهم يرزقون: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يُرزقون) [آل عمران: 169]، (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياءٌ ولكن لا تشعرون) [البقرة:154] كل هذا ليس رغبة في القتال من أجل القتال، وليس رغبة في سفك الدماء، ولكنه دفع للعدوان حينما تنتفي الدوافع والمسالك السلمية لتحقيق السلم، وأن يكون الدين لله. ولذلك فإن الله تعالى يشدد على المؤمنين بأن يكون جهادهم على وعي تام بمبادئه وغاياته، فلا قتال لمن أراد السلم، قال تعالى: (ولا تقولوا لمن القى اليكم السلم لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا) [النساء: 94]، وقال تعالى: (وان جنحوا للسلم فاجنح لها) [الأنفال: 61]، كما أن المنهج النبوي يؤكد عدم العدوان بقوله تعالى: (فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا) [النساء: 90] لأن القتال يكون لمن بدأ بالعدوان ومن أجل إنهاء العدوان فقط، قال تعالى: (فقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم) وقال سبحانه: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلونكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم) [الممتحنة: 8].
لماذا جاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟(/8)
كما سبق القول فإن الإسلام دين محمد -صلى الله عليه وسلم- ومنهجه لم يفرض الجهاد رغبة في السيطرة والتوسع، أو كسباً للمنافع الدنيوية، أو إرغاماً للناس على تركهم عقائدهم السابقة والدخول في الدين الجديد، أو حبّاً في اظهار القوة والتفوق الحربي، وإنما شُرع دفعاً للظلم، ومقاومة للباطل ومقارعة للكفر، ونشراً للعدل والحرية والسلام عن طريق كسر الأطواق المضروبة حولها، وتحقيقاً لأهداف الدعوة إلى الله، ودفاعاً عن الأعراض والأوطان والأموال.
والمتتبع لسيرته صلى الله عليه وسلم يجد أنه ما قاتل إلا لتحقيق السلم ونشر العدل وبناء الأخوة بين الناس من خلال رد العدوان وكسر طوق الظالمين. فالنبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه أُخرجوا من ديارهم بغير حق، فأمرهم الله تعالى بقتال من يعتدي عليهم، وباخراج من يحاول إخراجهم من ديارهم وأراضيهم، (وأخرجوهم من حيث أخرجوكم) [البقرة:191]، ولكن في إطار العدل والسلم كمسلك وغاية، فقال تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحبّ المعتدين] [البقرة: 190].
كما أن الجهاد شُرع لفتح الطريق أمام الفضيلة والخير والعدل والسلم إذا وقف أهل الباطل في طريق السلام العالمي، ومن أجل أن تتحقق الحرية والأمن والسلام للمستضعفين في الأرض، قال تعالى: (ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرّجال والنساء والولدان، الذين يقولون ربّنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلُها وأجعلْ لنا من لدنك وليّاً واجعل لنا من لدنك نصيرا) [النساء: 75].
وبما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جاء رحمة للناس كافة، كما قال تعالى: (وما أرسلناك إلاّ كافةً للنّاس بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون). [سبأ: 28]، وأرسل دينه رحمةً لجميع مخلوقاته، ومن ثمّ فإنّ الوقوف في وجه الدين، وحرمان البشر من عطائه الروحي والمادي مرفوضٌ في شرع الإسلام، وإنّ المسلمين مطالبون بحرب من يقف في وجه حرية انتشار الحق والخير والعدل (وقاتلوهُم حتّى لا تكون فتنةٌ ويكون الدين كلُّه لله).[الأنفال: 39].
هذه إذن بعض دوافع شرع الجهاد، وهي واضحة في أنها مسلك لتحقيق السلم وفتح الآفاق أمام الناس حتى لا تكون هناك فتنة او سفك للدماء بغير وجه حق. وذلك بعض مما أمكن بيانه من شمائله صلى الله عليه وسلم، فهو بحق رجل المحبة والرحمة والسلام(/9)
رحل الطنطاوي..ـ
النسخة الأخيرة.. من ((العالم الموسوعي))ـ
كأنه قبضة من أرض الشام، عُجنت بنهري النيل والفرات، لوحتها شمس صحراء العرب، فانطلقت بإذن ربها نفساً عزيزة أبية، تنافح عن الدعوة وتذود عن حياض الدين.ـ
ذلكم هو العلامة الكبير، الفقيه النجيب، والأديب الأريب الشيخ علي الطنطاوي الذي فقدته الأمة قبل فترة، لتنثلم بذلك ثلمة كبيرة، ضاعفت آلامنا وأدمت قلوبنا.ـ
كان الشيخ الطنطاوي قوة فكرية من قوى الأمة الإسلامية، ونبعا نهل منه طالبو العلم، والأدب في كل مكان، كان قلمه مسلطا كالسيف سيالاً كأعذب الأنهار وأصفاها، رائعة صورته، مشرقا بيانه، وفي ذلك يقول عن نف سه ((أنا من "جمعية المحاربين القدماء" هل سمعتم بها؟ كان لي سلاح أخوض به المعامع، وأطاعن به الفرسان، وسلاحي قلمي، حملته سنين طوالاً، أقابل به الرجال، وأقاتل به الأبطال، فأعود مرة ومعي غار النصر وأرجع مرة أمسح عن وجهي غبار الفشل. قلم إن أردته هدية نبت من شقه الزهر، وقطر منه العطر وإن أردته رزية حطمت به الصخر، وأحرقت به الحجر، قلم كان عذبا عند قوم، وعذاباً لقوم آخرين)).ـ
ولد الشيخ علي الطنطاوي في مدينة دمشق في 23 جمادى الأولى 1327 هـ ((12 يونيو 1909 م)) من أسرة علم ودين، فأبوه الشيخ مصطفى الطنطاوي من أهل العلم، وجده الشيخ محمد الطنطاوي عالم كبير، وخاله الأستاذ محب الدين الخطيب الكاتب الإسلامي الكبير والصحافي الشهير.ـ
تفتح وعيه على قنابل الحلفاء تدك عاصمة الأمويين وفلول الأتراك تغادر المدينة وديار الشام مقفرة بعد أن عز الطعام وصارت أوقية السكر (200 غرام) بريال مجيدي كان يكفي قبل الحرب لوليمة كبيرة. وكان أول درس قاس تعلمه وعاشه تفكك الدولة العثمانية وتحول ولاياتها السابقة إلى دويلات. فسوريا أصبحت أربع دول: واحدة للدروز والثانية للعلويين، والثالثة في دمشق والرابعة في حلب.ـ
كان الفتى علي الطنطاوي وقتها مازال تلميذا في المدرسة لكن وعيه كان يسبق سنه، فعندما أعلن في مدرسته عن المشاركة في مسيرة لاستقبال المفوض السامي الجديد الجنرال ويفان الذي حل محل الجنرال غورو، رفض ذلك وألقى خطبة حماسية، قال فيها: ((إن الفرنسيين أعداء ديننا ووطننا ولا يجوز أن نخرج لاستقبال زعيمهم)).ـ
لله درك يا فتى أدركت ما لم يدركه الكبار، فكيف تستقبل أمة عدوها الذي سلبها حريتها وكيف تنسى ما قاله قائد هذا العدو بعد معركة ميسلون ودخول الشام عندما زار الجنرال غورو قبر صلاح الدين وقال له: ها نحن عدنا يا صلاح الدين.. الآن انتهت الحروب الصليبية.ـ
تلك المعركة التي كانت نقطة تحول في وعي الفتى علي الطنطاوي، فقد خرج منها بدرس ممهور بدماء الشهداء واستقلال الأمة.. درس يقول إن الجماهير التي ليس عندها من أدوات الحرب إلا الحماسة لا تستطيع أن ترد جيشا غازيا. أصبح الاحتلال الفرنسي واقعا جديدا في سوريا، وغدا حلم الدولة المستقلة أثراً بعد عين، وكما حدث في كل بقاع العالم الإسلامي كان العلماء رأس الحربة قي مواجهة المحتل وتولى الشيخ بدر الدين الحسيني شيخ العلماء في مدن سوريا قيادة ثورة العلماء الذين جابوا البلاد يحرضون ضد المستعمر، فخرجت الثورة من غوطة دمشق وكانت المظاهرات تخرج من الجامع الأموي عقب صلاة الجمعة فيتصدى لها جنود الاحتلال بخراطيم المياه ثم بالرصاص، والشاب علي الطنطاوي في قلب من تلك الأحداث.ـ
خطيب المقاومة
في أحد الأيام كان على موعد لصلاة الجمعة في مسجد القصب في دمشق فقال له أصحابه: إن المسجد قد احتشد فيه جمهور من الموالين للفرنسيين واستعدوا له من أيام وأعدوا خطباءهم فرأينا أنهم لا يقوى لهم غيرك، فحاول الاعتذار فقطعوا عليه طريقه حين قالوا له إن هذا قرار الكتلة ((كان مقاومو الاحتلال ينضوون تحت لواء تنظيم يسمى الكتلة الوطنية وكان الطنطاوي عضوا فيها)) فذهب معهم وكان له صوت جهور، فقام على السّدة مما يلي ((باب العمارة)) ونادى: إليّ إليّ عباد الله، وكان نداء غير مألوف وقتها، ثم صار ذلك شعاراً له كلما خطب، فلما التفوا حوله بدأ ببيت شوقي:ـ
وإذا أتونا بالصفوف كثيرة * * * جئنا بصف واحد لن يكسرا
وأشار إلى صفوفهم المرصوصة وسط المسجد، وإلى صف إخوانه القليل، ثم راح يتحدث على وترين لهما صدى في الناس هما الدين والاستقلال، فلاقت كلماته استحساناً في نفوس الحاضرين، وأفسدت على الآخرين أمرهم، وصرفت الناس عنهم. ولما خرج تبعه الجمهور وراءه، وكانت مظاهرة للوطن لا عليه.ـ(/1)
في 1928 دعاه خاله محب الدين الخطيب للقدوم إلى مصر وكان قد أصدر مجلة "الفتح" قبل ذلك بعامين فسافر علي الطنطاوي إلى مصر للدراسة في كلية دار العلوم، لكن المناخ الثقافي في مصر في ذلك الحين شده للانخراط في العمل الصحفي الذي كان يشهد معارك فكرية وسجالات أدبية حامية الوطيس حول أفكار التقدم والنهضة والإسلام والاستعمار وغيرها، وكان طبيعياً أن يأخذ الشاب علي الطنطاوي موقعه في صفوف الذائدين عن حياض الإسلام المناوئين للاستعمار وأذنابه، وظل الطنطاوي في موقعه لم يتراجع أو يتململ أو يشكو تكالب الأعداء أو قلة الإمكانيات فكان الفارس الذي لم يؤت من ثغره.ـ
لم يكمل دراسته في كلية دار العلوم وعاد إلى دمشق ليلتحق بكلية الحقوق التي تخرج فيها عام 1933، ثم عمل مدرساً في العراق، ولما عاد إلى دمشق عمل قاضياً شرعياً، عن علم ودراسة وتدرج في الوظائف التعليمية والقضائية حتى بلغ فيها مكانة عالية، ثم درّس في العراق سنة 1936 ورجع إلى بلده فلم يلبث أن انتقل إلى القضاء فكان القاضي الشرعي في دوما، ثم مازال يتدرج في مناصب القضاء حتى وصل إلى أعلى تلك المناصب، وكان قد ذهب إلى مصر لدراسة أوضاع المحاكم هناك.ـ
ذهابه إلى السعودية
ثم هاجر إلى المملكة العربية السعودية 1963 م فعمل في التدريس في كلية اللغة العربية وكلية الشريعة في الرياض ثم انتقل إلى التدريس في كلية الشريعة في مكة المكرمة ثم تفرغ للعمل في مجال الإعلام وقدم برنامجاً إذاعياً يومياً بعنوان "مسائل ومشكلات" وبرنامجاً تلفزيونياً أسبوعياً بعنوان "نور وهداية".ـ
وظل طوال تنقله بين عواصم العالم الإسلامي يحن إلى دمشق ويشده إليها شوق متجدد. وكتب في ذلك درراً أدبية يقول في إحداها:ـ
ـ((وأخيراً أيها المحسن المجهول، الذي رضي أن يزور دمشق عني، حين لم أقدر أن أزورها بنفسي، لم يبق لي عندك إلا حاجة واحدة، فلا تنصرف عني، بل أكمل معروفك، فصلّ الفجر في "جامع التوبة" ثم توجه شمالاً حتى تجد أمام "البحرة الدفاقة" زقاقاً ضيقاً جداً، حارة تسمى "المعمشة" فادخلها فسترى عن يمينك نهراً، أعني جدولاً عميقاً على جانبيه من الورود والزهر وبارع النبات ما تزدان منه حدائق القصور، وعلى كتفه ساقية عالية، اجعلها عن يمينك وامش في مدينة الأموات، وارع حرمة القبور فستدخل أجسادنا مثلها.ـ
دع البرحة الواسعة في وسطها وهذه الشجرة الضخمة ممتدة الفروع، سر إلى الأمام حتى يبقى بينك وبين جدار المقبرة الجنوبي نحو خمسين متراً، إنك سترى إلى يسارك قبرين متواضعين من الطين على أحدهما شاهد باسم الشيح أحمد الطنطاوي، هذا قبر جدي، فيه دفن أبي وإلى جنبه قبر أمي فأقرئهما مني السلام، واسأل الله الذي جمعهما في الحياة، وجمعهما في المقبرة، أن يجمعهما في الجنة، {رب اغفر لي ولوالدي} {رب ارحمهما كما ربياني صغيراً} رب ارحم بنتي واغفر لها، رب وللمسلمين والمسلمات)).ـ
ويعد الشيخ علي الطنطاوي أحد رموز الدعوة الإسلامية الكبيرة في العالم الإسلامي وشخصية محببة ذائعة الصيت نالت حظاً واسعاً من الإعجاب والقبول، وله سجل مشرف في خدمة الإسلام والمسلمين.ـ
كان يتمتع بأسلوب سهل جميل جذاب متفرد لا يكاد يشبهه فيه أحد، يمكن أن يوصف بأنه السهل الممتنع، فيه تظهر عباراته أنيقة مشرقة، فيها جمال ويسر، وهذا مكّنه أن يعرض أخطر القضايا والأفكار بأسلوب يطرب له المثقف، ويرتاح له العامي، ويفهمه من نال أيسر قسط من التعليم.ـ
اشتهر الشيخ الطنطاوي بسعة أفقه وكثرة تجواله وحضور ذهنه وذاكرته القوية ولذلك تجيء أحكامه متسمة بصفة الاعتدال بعيدة عن الطرفين المذمومين: الإفراط والتفريط.ـ
وقد كتب في صحف بلده في الشام، فاحتل مكانة مرموقة فيها، ثم أضحى من كبار الكتاب، يكتب في كبريات المجلات الأدبية والإسلامية مثل "الزهراء" و "الفتح" و "الرسالة" و "المسلمون" و "حضارة الإسلام" وغيرها، وكانت له زوايا يومية في عدد من الصحف الدمشقية.ـ
ومن المجالات التي سبق إليها الكتابة في أدب الأطفال والمشاركة في تأليف الكتب المدرسية. وتحقيق بعض كتب التراث، وله جولات في عالم القصة فهو من أوائل كتابها.ـ(/2)
كانت مساجلاته تملأ الأوساط الفكرية والأدبية طولاً وعرضاً، وكان لا يكف عن إصدار رسائله التي يحذر فيها من مغبة الانخداع بالنحل الباطلة.ومن طريف ما تعرض له في إحدى مساجلاته ما يرويه عن نفسه ((كنا يوما أمام مكتبة "عرفة" فجاء رجل لا يعرفه فاندس بيننا وحشر نفسه فينا، وجعل يتكلم كلاما عجيبا، أدركنا منه أنه يدعو إلى نحلة من النحل الباطلة، فتناوشوه بالرد القاسي والسخرية الموجعة، فأشرت إليهم إشارة لم يدركها: أن دعوه لي، فكفوا عنه وجعلت أكلمه وأدور معه وألف به، حتى وصلت إلى إفهامه أني بدأت أقتنع بما يقول، ولكن مثل هذه الدعوة لا بد فيها من حجة أبلغ من الكلام، فاستبشر وقال: ما هي؟ فحركت الإبهام على السبابة، وتلك إشارة إلى النقود. قال: حاضر، وأخرج ليرتين ذهبيتين يوم كانت الليرة الذهبية شيئاً عظيماً. مد يده بالليرتين فأخذتهما أمام الحاضرين جميعاً، وانصرف الرجل بعد أن عرفنا اسمه، فما كاد يبتعد حتى انفجرت الصدور بالضحك، وأقبلوا عليّ مازحين، فمن قائل شاركنا يا أخي، وقائل: اعمل بها وليمة، أو نزهة في بستان، قلت سترون ما أنا صانع، وذهبت فكتبت رسالة، تكلمت فيها عن الملل والنحل والمذاهب الإلحادية، وجعلت عنوانها "سيف الإسلام" وكتبت على غلافها "طبعت بنفقة فلان" باسم الرجل الذي دفع الليرتين، وبلغني أنه كاد يجن ولم يدر ماذا يفعل، ولم يستطع أن ينكر أمراً يشهد عليه سبعة من أدباء البلد، وقد بلغني أن جماعته قد طردته بعد أن عاقبته)).ـ
كما كان الفقيد –يرحمه الله- داعية شجاعاً ثابتاً على مبدئه لا يلين، ولا يهادن، كما يقتحم الأهوال، وينازل الرجال، يلج عرين الآساد، وربما عرض نفسه –باختياره- لمخالب تمزق جلد التمساح، كل ذلك في سبيل إيمانه بفكرته الإسلامية، والتضحية من أجل إعلائها مهما كان الثمن.ـ
وقد ترك الشيخ علي الطنطاوي أثراً كبيراً في الناس وساهم في حل مشكلاتهم عن طريق كتابته ورسائله وأحاديثه، وقد كان له دور طيب في صياغة قانون الأحوال الشخصية في سوريا، وهو واضع مشروع هذا القانون على أسس الشريعة الإسلامية، كما وضع قانون الإفتاء في مجلس الإفتاء الأعلى، وانتخب عضواً في المجمع العلمي العراقي في بغداد. وفي كل أعماله كان يبتغي الأجر من ربه ويسعى إلى واسع مغفرته، يقول: ينجيني قانون {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} إني والله أخشى ذنبي ولكني لا أيأس من رحمة ربي.. وآمل أن ينفعني إذا مت صلاة المؤمنين عليّ ودعاء من يحبني، فمن قرأ لي شيئاً أو استمع لي شيئاً فمكافأتي منه أن يدعو لي، ولدعوة واحدة من مؤمن صادق في ظهر الغيب خير من كل ما حصلت من مجد أدبي وشهرة ومنزلة وجاه.ـ
الطنطاوي مربياً
رزق الشيخ الجليل خمساً من البنات، وقد كن لفقد إحداهن "بنان" –وقد قتلت اغتيالاً في مدينة "آخن" الألمانية مع زوجها عصام العطار- أكبر الأثر على نفسه ولكنه احتسب الله فيها وتمسك بالصبر والتسليم بقضاء الله، وقد كان لفضيلته أسلوبه المتميز في التربية ومعاملة البنات.ـ
تقول حفيدته عبادة العظم: نشأت وترعرعت في كنف جدي وأمي وأنا أعتقد –كما يظن ويعتقد كل طفل- أن كل الناس يتربون ويتوجهون في بيئة إن لم تماثل بيئتي فهي مشابهة لها، وكنت أسمع الناس يمتدحون جدي فلا أدرك من الحقيقة إلا أن الناس عرفوه لنه يحدثهم في الراديو والتلفزيون، فأحبوه، فامتدحوه، وكنت أنا مثلهم أحبه كثيراً، لما أراه منه، فلم أعر الأمر اهتماما.ـ
وما لبثت أن كبرت قليلا، واختلطت بالناس فبدأت أدرك شيئاً فشيئاً الفروق الجوهرية بين جدي مربيا وبين سائر المربين، وكنت كلما اجتمعت مع أقراني لمست التباين بين أسلوبه في التوجيه وبين أسلوب بقية الوالدين، وكنت كلما سمعت مشكلات الآباء في تربية الأبناء، أعترف لجدي بالتميز والإبداع في معالجة الأخطاء وتعديل الطباع، وساهمت خالاتي وأمي في تبصيري، وذلك بما كنّ يقصصنه عليّ من قصصهن مع جدي، وبما كن يكننّه له من الاحترام والشكر والتقدير، وبما كنّ يحملنه من إيمان عميق بالله، ومبادئ عظيمة تعلموها من شرع الله.ـ
فلم أكد أتفهم هذه الحقائق، وأتبين الأثر الكبير الذي أوجده جدي فينا، حتى شرعت بكتابة المواقف المهمة العالقة في ذاكرتي، إذ أحسست بأن هذه التوجيهات حري بها أن لا تبقى حبيسة معرفة بعض الناس الذين هم أحفاد الطنطاوي بل ينبغي أن تنشر ليطلع عليها الناس، لتكون لهم عوناً في تنشئة أبنائهم وبناتهم ولهذا أصدرت عنه كتابي.ـ
وعن كتابها "هكذا ربانا جدي علي الطنطاوي" تقول:ـ(/3)
لم اكن عند جدي عندما عرض الكتاب عليه لأول مرة. فقد حمله إليه زوج خالتي "نادر حتاحت" بصفته ناشر الكتاب، ولما قرأه جدي اتصل بي هاتفيا وقال: الكتاب جيد بل هو جيد جداً، وأسلوبه جميل. لكنه عقّب بقوله: ومن الصعب عليّ يا ابنتي أن أمتدح هذا الكتاب أو أدلي برأيي الصريح عنه، لأنه عني، وأخشى أن يظن الناس أني أفعل لأجل ذلك. ثم ختم كلامه بقوله: وأنا لست كما وصفت فأنت التي جملت الحوادث وصورتها بتلك الطريقة.ـ
وكان ذلك تواضعاً منه فأنا ما كتبت غير الحقيقة وما صورت إلا ما رأيته، وما قال ذلك جدي إلا تواضعاً.ـ
وعن رؤية الشيخ الطنطاوي للمرأة وخصوصاً أنه لم يرزق بالبنين تقول:ـ
جدي إنسان كأي إنسان آخر يحب أن يرزق البنين، فيحملون اسمه ويتعلمون مما علمه الله ويكونون خلفاء له وهو لم يتوقع أصلا ألا يولد له ذكر، فلما جاءته ابنته الأولى رضي بقضاء الله وسعد بها، بل أحبها وأخواتها –من بعد- حباً شديداً، وأولاهن من العناية والرعاية والاهتمام ما لم يوله أب آخر ممن أعرف أو سمعت عنهم.ـ
أما احترامه للمرأة فهو شيء معروف عنه، وكان في أحاديثه يدافع عن النساء ويذبّ عنهن، ويحذر الرجال من الظلم والتعدي، وكان يردد دائماً: أن الدرجة للرجل على المرأة درجة واحدة، وليست سلماً. حتى لقّبوه بناصر المرأة، وهو كذلك معنا فقد كان يؤثرنا أحياناً –نحن الحفيدات- على الأحفاد، وقد بذل لنا الكثير، وأكرمنا زيادة عنهم في بعض المواقف ولكن دون أن يشعروا حتى لا يتسبب ذلك في أذاهم.ـ
وحول شخصية الشيخ علي الطنطاوي وكيف جمع بين العلم والدين والأدب والحياة تقول: ساءلت نفسي هذا السؤال مرة، ثم وجدت الجواب في سيرة جدي، فقد مر بظروف قاهرة ومؤلمة، فعوذه الله بمجموعة من العطايا، أهلته إلى النجاح.ـ
كان يتيماً وحيداً بلا أب ولا أم ولا سند مادي أو معنوي، فأعطاه الله العقيدة السليمة، وقوة الشخصية، فكان بلسانه وقلمه سيفاً مسلولاً على أعداء الله ورسوله، فان يترصد الباطل ويقتله، ينازل الفسوق فيقهره، ويبارز الكفر والانحلال والمجون فيغلبهم جميعاً، وكان صدّاعاً بالحق، لا يسكت عن إنكار منكر، ولا تمنعه منه هيبة ذي سلطان، جريئاً لا يهاب أحداً ولا يخشى إلا الله، متمرداً على العادات والتقاليد المخالفة للإسلام، فرفع الله بعمله هذا ذكره بين الناس.ـ
وكان محباً للعزلة والانفراد فأعطاه الله حب العلم، والشغف بالقراءة والاطلاع، ورزقه الذكاء والذاكرة العجيبة، وسرعة الاستيعاب فلم تكن إلا سنون حتى جمع علماً غزيراً متنوعاً، فهو أديب، ولغوي فقيه، وعالم نفس، وهو قارئ نشيط في الطب والفلك، فسهل الله له بعلمه الطريق إلى عقول الناس.ـ
وكان هيّاباً للاجتماع بالناس، فأعطاه الله القدرة على مخاطبتهم من بعيد، أي عن طريق وسائل الإعلام على اختلاف مشاربهم، وأعطاه روح الفكاهة، وحلاوة الأسلوب، والابتكار في العرض، والقدرة على الإقناع، والمرونة في الإفتاء فوصل إلى قلوب الكثيرين.ـ
وتقول أمان علي الطنطاوي ترثي والدها الفقيد:ـ
إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا عليك يا أبتاه لمحزونون، أبتاه أنت شمس حياتنا ونور أيامنا.. أبتاه يعز علينا الفراق، ويحز في النفس غياب صوتك ووجهك، لكنك في القلب أنت في العقل أنت.. أبتاه يا نبض أيامي، أبتاه ملهم أفكاري.. أبتاه يا أحب وأغلى الناس، رحمك الله وأسكنك فسيح جناته. عن مجموع محبيك يدعون لك بالرحمة والمغفرة وأن يسكنك فسيح جناته ويجعل قبرك روضة من رياض الجنة، ويجمعنا معك في جنة الخلد. أبتاه ها قد لحقت ببنان التي حزنت عليها دوماً ولم تذكر اسمها إلا هذا العام ولم تلح في طلبها إلا وأنت مريض بالإشارة، أشرت بإصبعك الثاني قلت لك: بنان، هززت رأسك، يا أحب الناس ها قد التقيت ببنان. جعلك الله وإياها من أهل الجنة.ـ
قالوا عنه
يقول الشيخ مجاهد محمد الصواف الذي رافق الشيخ علي الطنطاوي منذ كان في العاشرة من عمره: من أبرز سماته –رحمه الله- هدوء الشيخ وفهمه لما يجري في العالم وارتباطه العميق بالدعوة إلى الله والتزامه في ذلك بالقرآن والسنة مما مكنه من طرح موضوعاته وما يهدف إليه من نشر التوعية والدعوة بشكل يقبله الناس. وكان كاتباً رائعاً إذا أمسك القلم وإذا أراد أن يبكي أبكى، وإذا أراد أن يضحك أضحك فيجمع في أسلوبه الدعوي كل أساليب التربية، فكان يجيب عن أطنان من الرسائل ولم يكن يتحرج في الإجابة عن أي سؤال يطرح في مجتمعنا، واستطاع بحكمته ووسطيته وأسلوبه الرائع في طرح القضايا والمشكلات أن يكسب القبول من الناس جميعاً.ـ
أسلوب مميز(/4)
وقال الدكتور حسن محمد سفر أستاذ نظم الحكم الإسلامي بجامعة الملك عبد العزيز بجدة: بفقدان العلامة الشيخ علي الطنطاوي، فقد العالم الإسلامي علماً من أعلام الفكر والثقافة الإسلامية وكان رحمه الله يطل على المسلمين من الشاشة أسلوب مبسط يبين فيه أحكام الإسلام ووجهة نظر المجتهدين من علماء الشريعة فيما يتعلق بالمسائل والأحكام والفتاوى وكان هذا الأسلوب الشيق مميزاً يضيف إليه سماحته من الطرف والقصص ما يربط به الموضوع فتستخلص منه العبر والعظات، وقد كان هذا الأسلوب محبباً لدى الشباب، فرحم الله هذه الثلة المباركة من علماء الإسلام وعوضنا في سماحته كل خير وحفظ الله علماءنا ليؤدوا الرسالة التي أنيطت بهم والحمد لله على كل حال.ـ
موسوعة
الشيخ محمد فيصل السباعي مدير إدارة النشر بجامعة أم القرى وأحد المقربين من الشيخ الطنطاوي يقول:
لقد رافقت الشيخ علي الطنطاوي في كثير من الفترات عرفت فيها حماسه وغيرته على الإسلام وعرفت فيه رمزاً من رموز العلم والتعليم، عرفته رحمه الله قرابة نصف قرن، وكان عالماً عاملاً كثير التواضع للجميع وبخاصة في مجال الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة وكان رحمه الله موسوعة متنقلة وإنا لنشهد له بالخير والصلاح ولا نزكيه على ربه ونسأل الله تعالى أن يجزيه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء والمثوبة ويعوض العالم الإسلامي بفقده ويلهم ذويه ومحبيه الصبر والسلوان وأن يسكنه فسيح جناته(/5)
رحلة إلى دار القرار
دار الوطن
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلاما على عباده الذين اصطفى.. أما بعد:
فإنه مهما عاش الإنسان في هذه الحياة ومهما طال به البقاء بها، ومهما استمتع بشهواتها وملذاتها، فإن المصير واحد والنهاية محتومة، ولابد لكل إنسان من نهاية، وهذه النهاية هي الموت الذي لا مفر منه، قال تعالى: كل نفس ذائقة الموت [آل عمران:185].
وقال الشاعر:
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته *** يوما على آله حدباء محمول
إنه لابد من يوم ترجع فيه الخلائق إلى الله جل وعلا ليحاسبهم على ما عملوا في هذه الدنيا، قال تعالى: واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله [البقرة:281]، يوم طالما نسيناه، يوم هو آخر الأيام، يوم تغص فيه الحناجر، فلا يوم بعده ولا يوم مثله، إنه اليوم العظيم يوم كتبه الله على كل صغير وكبير، وكل جليل وحقير، إنه اليوم المشهود واللقاء الموعود.
ثم إنه قبل هذا اليوم لحظة ينتقل فيها الإنسان من دار الغرور إلى دار السرور، كل بحسب عمله، تلك اللحظة التي يلقي فيها الإنسان آخر النظرات على الأبناء والبنات والإخوان، يلقي فيها آخر النظرات على هذه الدنيا، وتبدو على وجهه معالم السكرات، وتخرج من صميم قلبه الآهات والزفرات.
إنها اللحظة التي يعرف الإنسان فيها حقارة هذه الدنيا، إنها اللحظة التي يحس الإنسان فيها بالحسرة والألم على كل لحظة فرط فيها في جنب الله تعالى، فهو يناديه: رباه، رباه: رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت [المؤمنون:100-99].
إنها اللحظة الحاسمة والساعة القاصمة التي يدنو فيها ملك الموت لكي ينادي، فيا ليت شعري هل ينادي نداء النعيم أو نداء الجحيم؟!!
إن الغربة الحقيقة إنما هي غربة اللحد والكفن، فهل تذكرت انظراحك على الفراش، وإذا بأيدي الأهل تقلبك، فأشتد نزعك وصار الموت يجذبك من كل عرق، ثم أسلمت الروح إلى بارئها، والتفت الساق بالساق، ثم قدموك بعد ذلك ليصلي عليك، ثم أنزلوك في القبر وحيدا فريدا، لا أم تقيم معك، ولا أب يرافقك، ولا أخ يؤنسك.
وهناك يحس المرء بدار غريبة ومنازل رهيبة عجيبة، وفي لحظة واحدة ينتقل العبد من دار الهوان إلى دار النعيم المقيم إن كان ممن تاب وأمن وعمل صالحا، أو ينتقل إلى دار الجحيم والعذاب الأليم إن كان ممن أساء العمل وعصى المولى جل وعلا.
لقد طويت صفحات الغرور، وبدا للعبد هول البعث والنشور، مضت الملهيات والمغريات وبقيت التبعات.. فلا إله إلا الله من ساعة تطوى فيها صحيفة المرء إما على الحسنات أو على السيئات، ويحس بقلب متقطع من الألم والحسرة على أيام غفل فيها كثيرا عن الله واليوم الآخر، فها هي الدنيا بما فيها قد انتهت وانقضت أيامها سريعا، وها هو الآن يستقبل معالم الجد أمام عينيه، ويسلم روحه لباريها، وينتقل إلى الدار الآخرة بما فيها من الأهوال العظيمة. في لحظة واحدة أصبح كأنه لم يك شيئا مذكورا... فلا إله إلا الله من ساعة ينزل فيها الإنسان أول منازل الآخرة ويستقبل الحياة الجديدة، فإما عيشة سعيدة، أو عيشة نكيدة والعياذ بالله.
ولا إله إلا الله من دار تقارب سكانها، وتفاوت عمارها، فقبر يتقلب في النعيم والرضوان المقيم، وقبر في دركات الجحيم والعذاب الأليم، فهو ينادي ولكن لا مجيب، وهو يستعطف ولكن لا مستجيب.
ثم يأتي بعد ذلك اللقاء الموعد واليوم المشهود، اليوم الذي تتبدل فيه الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار، يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون، وصاح الصائح بصيحته فخرج الموتى من تلك الأجداث وتلك القبور إلى ربهم حفاة عراة غرلا، فلا أنساب، ولا أحساب، ولا جاه ولا مال، فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون، فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون، تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون [المؤمنون:101-104].
إنه اليوم الذي يجمع الله فيه الأولين والآخرين، إنه اليوم الذي تتبدد عنده الأوهام والأحلام، إنه اليوم الذي تنشر فيه الدواوين وتنصب فيه الموزاين، إنه اليوم الذي يفر فيه المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، واليوم الذي يود المجرد لو يفتدي فيه من العذاب ببنيه وصحبته وأخيه وفصيلته التي تؤويه.
فيا أخي الحبيب:
يا من تعصي الله تصور نفسك وأنت واقف بين الخلائق ثم نودي باسمك: أين فلان ابن فلان؟ هلم إلى العرض على الله، فقمت ترتعد فرائصك، وتضطرب قدمك وجميع جوارحك من شدة الخوف، قد تغير لونك، وتحل بك من الهم والغم والقلق ما الله به عليم.(/1)
وتصور وقوفك بين يدي بديع السموات والأرض، وقلبك مملوء من الرعب، وطرفك خائف، وأنت خاشع ذليل. قد أمسكت صحيفة عملك بيدك، فيها الدقيق والجليل، فقرأتها بلسان كليل، وقلب منكسر، وداخلك الخجل والحياء من الله الذي لم يزل إليك محسنا وعليك ساتراً. فبالله عليك، بأي لسان تجيبه حين يسألك عن قبيح فلعلك وعظيم جرمك؟ وبأي قدم تقف عدا بين يديه؟ وبأي طرف تنظر إليه؟ وبأي قلب تحتمل كلامه العظيم الجليل، ومسائلته وتوبيخه؟
وكيف بك إذا ذكرّك مخالفتك له، وركوبك معاصيه، وقلة اهتمامك بنهيه ونظره إليك، وقلة اكتراثك في الدنيا بطاعته؟!
ماذا تقول إذا قال لك: يا عبدي، ما أجللتني، أما استحييت مني؟! استخففت بنظري إليك؟! ألم أحسن إليك؟! ألم أنعم عليك؟! ما غرك بي؟
أخي الحبيب:
تذكر أهل الصالحات حين يخرجون من قبورهم وقد ابيضت وجوههم بآثار الحسنات، خرجوا بذلك الأثر العظيم من الله الكريم، وما عظم المقام عليهم، تتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون... تذكر عندما يقول الرب تبارك وتعالى بحقهم: يا ملائكتي، خذوا بعبادي إلى جنات النعيم، خذوهم إلى الرضوان العظيم، فأصبحوا بحمد الله في عيشة راضية، وفتحت لهم الجنان، وطاف حولهم الحور والولدان، وذهب عنهم النكد والنصب، وزال العناء والتعب.
وتذكر في المقابل تلك النفس الظالمة المعرضة عن منهج الله تعالى العاصية له، عندما يقول الله تبارك وتعالى بحقها: يا ملائكتي، خذوه فغلوه، ثم الجحيم صلوه، فقد اشتد غضبي على من قل حياؤه مني، فوقفت تلك النفس الآثمة الظالمة على نار تلظى وجحيم تغيظ وتزفر، وقد تمنت تلك النفس أن لو رجعت إلى الدنيا لتتوب إلى الله وتعمل صالحاً، لكن هيهات هيهات أن ترجع، فكبكبت على رأسها وجبينها، وهوت في تلك المهاوي المظلمة، وتقلبت بين الدركات والجحيم، والحسرات والزفرات... فلا إله إلا الله ما أعظم الفرق بين هؤلاء وأولئك بين من كان في النعيم ومن كان في الجحيم. وصدق الله تعالى إذ يقول: إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم [الأنفطار:13-14].
فيا أخي الحبيب:
يا من تقرأ هذه الرسالة: قف قليلا وحاسب نفسك كثيراً:
فإن كنت ممن يسارع في الطاعات والقربات ويتجنب المعاصي والمخالفات فاحمد الله على ذلك، واسأله الثبات حتى الممات، وهنيئا والله لك ما أنت مقدم عليه بإذن الله.
وإن كنت غير ذلك فتب إلى الله وارجع إلى الهدى، ولا داعي للعناد والإصرار على المعاصي التي ستعرضك لعذاب الله، فإنك والله لأعجز من أن تطيق شيئا من هذا العذاب، إن الجبال الشم الراسيات لو سيرت بالنار لذابت من شدة حرها! فأين أنت أيها الإنسان الضعيف من تلك الجبال؟ إنك تصبر على الجوع والعطش، وتصبر على الضر وعلى التكاليف، لكن والله الذي لا إله إلا هو لا صبر لك على النار... ألا فأنقذ نفسك من النار ما دمت في زمن الإمهال قبل أن تندم ولات ساعة مندم، واعلم أن الصبر عن محارم الله في هذه الدنيا أيسر والله بكثير من الصبر على عذابه يوم القيامة.
ثم اعلم أخي أن طريق الاستقامة والالتزام ليس فيه تعقيد وكبت حرية كما يظنه البعض، بل إن طريق الاستقامة والالتزام كله سعادة، كله لذة، كله راحة، كله طمأنينة، وماذا يريد الإنسان في هذه الحياة غير ذلك؟! أما حياة المعصية والآثام فكلها قلق ونكد وحسرة في الدنيا، ثم عذاب وهوان في الآخرة.
فجرب يا أخي هذا الطريق من الآن ولا تتردد، فإني والله لك من الناصحين، وعليك من المشفقين.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/2)
رحلة الإيمان : النداء المهيب
أخيتي الحبيبة: تأهبي معي لاستئناف المسير في رحلتنا إلى دار القرار، والتي بدأناها في المقالات السابقة، وها نحن في هذه المقالة نتابع المسير، ونصل إلى محطة هامة، نصل إلى ذلك النداء المهيب، إنه نداء العرض على ديان السموات والأرض، والذي تبدأ معه محكمة العدل الإلهية النظر في ملفات العباد.
يومئذ تعرضون لا تخفي منكم خافية:
قد رأينا أخيتي فيما سبق كم يحبنا النبي صلى الله عليه وسلم ، فلا يتركنا –بأبي هو وأمي - يوم القيامة؛ فيشفع لنا لبدء الحساب، ويسقينا من نهر الكوثر شربة لا نظمأ بعدها أبدًا، وأكرر عليك السؤال: هذا ما قدم نبيك لكِ، فماذا قدمت له؟؟؟
وفي ذلك اليوم العظيم، وذلك المشهد الرهيب، يأذن تبارك وتعالى ببدء الحساب، والعرض عليه جل وعلا.
ويفاجأ كل عبد بنداء مهيب، من قبل ملائكة الجبار جل وعلا: يا فلان بن فلان، قم وتهيأ للعرض على ديان السماوات والأرض، وساعتها حين يحين دورك، ستعرفين أخيتي أنك المقصودة بهذا النداء ، ولو تشابه اسمكِ مع ملايين النساء الأخريات.
قال رسول صلى الله عليه وسلم: [[ ما منكم أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه؛ فلا يرى إلا ما قدم من عمله، وينظر أشأم منه؛ فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه؛ فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة ]]. رواه البخاري.
وحينها تنصب محكمة العدل الإلهية، محكمة عظيمة مهيبة، لا كمحاكم الدنيا، محكمة قاضيها هو الله، الحكم العدل، الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
وشهودها كثيرون جدًا، من ملائكة كرام كاتبين، وأرض تحدث بما ارتكب عليها من خير أو شر، وجوارح وأعضاء، تحدث بما ارتكبت من الفضائح، وفي هذه المحكمة لا نقض ولا استئناف، بل يظهر الحكم النهائي فورًا في نفس المحاكمة من الله الحكم العدل على عبده بالانضمام إلى أحد أصناف ثلاثة:
الصنف الأول: إلى الجنة بغير حساب:
فمن المؤمنين قمم أفذاذ، لا يحتاجون إلى حساب لتَثبُت استقامتهم على درب الإيمان، إنهم الذين صاموا في الدنيا عن كل ما حرم الله، وجعلوا فطرهم في جنات عدن، عند مليك مقتدر.
تاجروا مع الله تعالى التجارة الرابحة، باعوا أنفسهم وأموالهم لمن وهبهم إياها بسلعة الله الغالية التي هي الجنة، فربح البيع، ربح البيع، لسان حالهم يعبر عنه الإمام ابن المبارك رحمه الله، حينما انبرى يدفع عن الدين، باذلًا نفسه في سبيل ربه، فقال:
بغض الحياة وخوف الله أخرجني وبيع نفسي بما ليست له ثمنًا
إني وزنت الذي يبقى ليعدله ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا
يصفهم سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم بقوله: [[ ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفًا -أو سبعمائة ألف- متماسكون آخذ بعضهم بعضًا، لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم، وجوههم على صورة القمر ليلة البدر ]]. رواه البخاري.
ولا تيأسِ أخيتي- من قلة العدد- فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبث الأمل في قلبكِ، ويزيد فرصتك في اللحاق بهم، فيقول صلى الله عليه وسلم:
[[ أعطيت سبعين ألفًا من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب، وجوههم كالقمر ليلة البدر، قلوبهم على قلب رجل واحد، فاستزدت ربي عز وجل؛ فزادني مع كل واحد سبعين ألفًا ]]. صححه الألباني في صحيح الجامع.
بل وتعالي لنرفع الأمل في قلبك إلى عنان السماء، بهذا البيان الثالث من الرحمة المهداة صلى الله عليه وسلم إذ يقول: [[ وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفًا، بلا حساب عليهم ولا عذاب، مع كل ألف سبعون، وثلاث حثيات من حثيات ربي ]]. صححه الألباني في صحيح الجامع.
أما وقد تشوقت لهم، ورجوتِ أن تكون منهم؛ فإليكِ صفاتهم العكَّاشية على لسان سيدنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، إذ ينبيك عنها فيقول في حديث طويل:
[[..... قال: كانوا لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون، فقام إليه عكاشة بن محصن، فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، قال: فأنت منهم، ثم قام إليه رجل آخر، فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: سبقك بها عكاشة ]]. رواه البخاري.
فتوهمي أخيتي أنكِ منهم، كم سيكون فرحكِ وأنتِ تسيرين وسط هذه الكوكبة من أهل كرامة الله ورضوانه، مبيضَّة وجوهم ، مشرقة برضا الله ، مسرورون فرحون مستبشرون ؟؟!!
فبالله عليكِ، هل يساوي هذا النعيم الخالد أن يباع بأي متعة زائلة؟؟؟
الصنف الثاني: فسوف يحاسب حسابًا يسيرًا:
وأما الزهرة الصالحة، أما المؤمنة التقية، أما من عرفت الطريق إلى الله في الدنيا؛ فهنالك تجد برد الوصول، فهذه من أصحاب العرض على الله أو الحساب اليسير، كما أخبرنا صلى الله عليه وسلم حين قال: [[ من حوسب يوم القيامة عذب ]]، فقالت عائشة رضي الله عنها: أوليس يقول الله تعالى: [[ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً ]] قال صلى الله عليه وسلم: [[ ليس ذلك بالحساب، إنما ذلك العرض ]]. صححه الألباني في صحيح الجامع(/1)
وهو أن يخلو الله تعالى بعبده؛ فيعاتبه حتى ليكاد العبد يذوب حياءً من ربه، ويفيض عرقه خجلًا من مولاه، ثم يغفر الله له، ويرضى عنه بمنه وكرمه، يصور لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك المشهد الرقراق فيقول:
[[ إن الله تعالى يدني المؤمن؛ فيضع عليه كنفه، ويستره من الناس، ويقرره بذنوبه، فيقول: تعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي رب، حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه هلك؛ قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته بيمينه، وأما الكافر والمنافق، فينادى على رؤوس الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ]]. صححه الألباني في صحيح الجامع.
توهمي أيتها الغالية:
إنكِ بين يدي الله ، يعرض ذنوبك كلها، ما تذكرت منها وما نسيتِ إياه، مما أحصاه الله ونسيتيه.
فيذكرك ربك بتقصيركِ في حجابك، أو تقصيرك في صلاتك، أو بعقوقك والديكِ، أو بمشاهدة فيلم محرم، أو استماع إلى أغنية فارغة، أوباستهزائك بأختك المسلمة، أو بهجرك لسنة نبيك، أو ...، أو .....، أو .... [[يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ]][غافر : 19].
كيف سيكون حالك؟ هل سيتساقط جلدك من الخجل؟ أو تذوبين من الخوف؟
وتذكري أخيتي أن هذا هو من عوتب، فكيف بمن حوسب؟؟؟
الصنف الثالث: الحساب العسير:
وإذا كان العاصي لئيمًا في حياته الدنيا؛ فإنه يحسب أن لؤمه وذكاءه سينجيه يوم القيامة، ولكن هيهات هيهات، وتأملي في ذلك المشهد المضحك المبكي، الذي يصور حال أصحاب الحساب العسير:
عن أنس t قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك، فقال: [[ هل تدرون مم أضحك؟ ]] قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: [[من مخاطبة العبد ربه، يقول: رب ألم تجرني من الظلم؟ فيقول: بلى، فيقول: فإني لا أجيز على نفسي شاهدًا اليوم إلا من نفسي، فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا، وبالكرام الكاتبين شهودًا، فيختم على فيه، ويقال لجوارحه: انطقي، قال: فتنطق بأعماله، ثم يخلي بينه وبين الكلام، فيقول: بعدًا لكن وسحقًا، فعنكن كنت أناضل]]. رواه مسلم.
هكذا تنطق الجوارح بما فعلت في الدنيا من معصية الله، في شهادة دامغة لا يملك معها صاحب المعصية إنكارًا أو تشكيكًا، كما قال تعالى: [[الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ]][يس : 65]. هذا أخيتي ما تجنيه المعصية. هذا ما يجنيه الإعراض عن طريق الله.
هذا ما يجنيه الاستهانة بأوامر الله.هذا ما يجنيه استصغار الذنوب والإصرار عليها.
هذا ما يجنيه طول الأمل.
أختاه توهمي: أن اسمك قد نُودي على رؤوس الخلائق..
توهمي: أن الملائكة قد أخذت بعضدكِ تدفعك للعرض على الجبار.
توهمي: أنك أمام الحكم العدل، الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات والأرض
تُرَى، كيف سيخاطبك ربك؟ ترى ما هي نتيجة المحاكمة؟ تُرى أي الأصناف الثلاثة أنتِ؟
أخيتي الغالية، إن لديك من الخير الكثير؛ فلا تنساقي للنفس وشهواتها، وتهيئي للعرض على ديان السموات والأرض، في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلى من أتى الله بقلب سليم .وإلى أن ألقاء في المحطة التالية من رحلة الإيمان، فلا تنسني من صالح دعائك.
المصادر:
هزة الإيمان فريد مناع.
رسالة التوهم الحارث المحاسبي.(/2)
رحم الله أخي " الحبيب" د. الحبر يوسف نور الدائم*
الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ، والصلاة والسلام على سيد ولد آدم الذي قيل له ( إنك ميت وإنهم ميتون) وكفى بالموت واعظا ، وإنما الصبر عند الصدمة الأولى ( وإنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب).
وإذا المنية أنشبت أظفارها ** ألفيت كل تميمة لا تنفع
وما المال والأهلون إلا ودائع ** ولا بد يوما أن ترد الودائع
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ** يحور رمادا بعد إذ هو ساطع
ولقد استقبلت مقابر "حمد النيل" بأمدرمان شهابا ساطعا ، وعلما خافقا ، ذلكم هو الأخ الكريم ، صاحب الفضل العظيم "الحبيب أحمد الطيب" له من الله الرحمة الواسعة ، والمغفرة السابغة، والرضوان العميم ...عرفته منذ سنوات خلت فألفيته –ما علمت- سيدا ضخما ، وقامة سامقة تتعلق بالمعالي وتتجانف عن السفاسف ، وترنو إلى التي هي أقوم ببصرة نافذة ، وقريحة مشتعلة ، وعزيمة ماضية.
بسط الله له في الرزق ، وأكرمه ونعّمه فعلم-وكان حريصا على مدارسة العلم ، ومجالسة العلماء- أنها الفتنة والابتلاء والامتحان فلم يطغه مال ، ولم تستفزه نعمة. لم يكن "الحبيب" رحمه الله شحيحا بخيلا اقطع ، ولم يك كز الأنامل بل كان أبيض فياضا يداه غمامة ينفق في وجوه الخير والبر والإحسان. ذكر له بعض طلاب كلية الآداب بجامعة الخرطوم أنهم في حاجة إلى مصلى فتبرع تبرعا سخيا يدل على سماحة وكرم وأريحية ولم يحوجهم إلى مطاردة أو ملاحقة أم مماطلة. وإنما هذا مثال والأمثلة كثيرة يعرفها عنه أهله وأصدقاؤه ومن له به فضل معرفة أو اتصال أو تعامل.
لقد كان رحمه الله ممن يرتاد المساجد ، ويحرص على صلاة الجماعة حتى وهو مريض منهوك.عرفته المساجد في وطنه ، وعرفته في خارج وطنه وكم قد زار أم القرى وطيبة على ساكنها أفضل الصلاة وأتم التسليم.
زار تلك البقاع الطيبة حاجا ومعتمرا وفي مرة من المرات سمعنا النداء من المسجد الحرام وكنا قد حضرنا لتونا إلى فندق من الفنادق ولمّا نضع رحالنا بعد فاقترح رحمه الله أن نمضي إلى المسجد فورا فقلت له " دا فقهك ؟! " الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يريحون الرواحل قبل أن يقوموا للصلاة " فاتخذها –رحمه الله- مكان تندر ومفاكهة وكان يقول لبعض أصحابنا وهو يبتسم ضاحكا "قال لي دا فقهك ؟" . رحمك الله أخي الحبيب فقد كنت سمحا متواضعا ذا مكارم ...وفي جلسة من تلك الجلسات العامرات بالآداب وطيب الكلام سألني أحدهم مازحا ما تقول في رجل زيّن ظاهر بيته بالرخام ؟ فقلت له ما أرى في هذا الذي فعله إلا مبالغة وشططا غير مرغوب فيه ، فأردف قائلا أخونا فلان دا –وبيني وبين فلان هذا مودة ومحبة- هو الذي زيّن ظاهر بيته بالرخام فقلت له أو تريده أن ( يليس) بيته في كل عام ؟ يكفى أن يكون المطر في الخريف غاسلا للرخام ! فقال أخي الحبيب "حبيب" ( انت آشيخنا فتاويك دي مفصلة على أفراد الناس واللا شنو ؟!
ويا رعى الله ذلك العهد وسقاه :-
ذكرت بها وصلا كأن لم أفز به
وعيشا كأني أقطعه وثبا
وإذا أضفت إلى تواضعه وحسن أدبه وسماحة نفسه وعلو همته وجود يديه ، وهذا ما ذكرنا آنفا ....إذا ذكرت إلى ما ذكرناه شجاعته وصبره ، وحسن توكله ، وقلة شكواه وهذا مما أظهره في مرضه الذي أصابه –ونسأل الله أن يثقل ميزانه ، وأن يكفر سيئاته ، وأن يزيد في حسناته- إذا أضفت هذا إلى ذاك علمت أي رجل كان "الحبيب أحمد الطيب " الذي مضى طيبا بإذن الله ونسأل الله أن يجمعنا وإياه في مستقر رحمته...والعزاء فيه عزيز ...وعزاؤنا لأهله وزوجه وذريته وذويه ولإخواننا وإخوانه أحمد البدوي ، وسعود البرير ، وعبد الحي يوسف ، ومالك علي دنقلا ، وفيصل حسب النبي ، ومحمد البخيت ، وعبد الرحيم محمود وسائر من ذكرنا ومن لم نذكر من أحبائه وعارفي فضله ، وإنا لله وإنا إليه راجعون وصل اللهم وبارك على نبيك وصفوة خلقك ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(/1)
رحمة للعالمين
أحمد بهجت, صحيفة الأهرام, 08.11.2002 ...
يبدأ الشيخ محمد فتح الله كولن حديثه عن النبي المرسل رحمة للعالمين ... برسم لوحة لشكل الدنيا يومئذ .. الدنيا يسودها ظلام دامس , ظلام يحمل في طياته نورا مرتقبا , واصداء تحمل بشري ظهور نبي جديد .
لم يكن انسان ذلك العصر يحمل قيمة تعطي للحياة معني , وتجعل لها هدفا يستحق العيش من اجله .
كان اسم هذا العصر ( عصر الجاهلية ) والجاهلية هنا لاتأتي كنقيض للعلم , بل كمرادف للكفر الذي هو نقيض الايمان والاعتقاد .
كان مجيء الرسول نعمة كبري للبشرية , ورحمة سابغة للعالمين , وهذا مايشير اليه القرآن الكريم في قوله تعالي :
لقد من الله على المؤمنين اذ بعث فيهم رسولا من انفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم , ويعلمهم الكتاب والحكمة .
كان العهد الذي سبق بعثة الرسول عهدا مظلما , وكل عهد تهتز فيه عقيدة التوحيد يعد عهدا مظلما لان الايمان بالله اذا لم يحكم جميع القلوب سيطر الظلام على الأرواح واسودت القلوب وعميت فلم تعد قادرة على الرؤية .
في هذا العهد كان المشركون يعبدون الأوثان والاصنام التي ملأوا بها الكعبة , وكانوا يفخرون بهذه العبادة ويجدون فيها السلوي , وكان بعضهم يقول إنهم لايعبدون هذه الاصنام الا لتقربهم الى الله زلفى , وكان هذا يعني ان شعور العبودية الذي اودعه الله في فطرة الانسان كأمانة قد تعرض للخيانة .
هذا هو الشر الاول من شرور الجاهلية , ويشير القرآن الكريم الى شر آخر يتصل بكراهية البنات , قال تعالى واذا بشر احدهم بالانثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم , يتوارى من القوم من سوء مابشر به ايمسكه على هون ام يدسه في التراب ألاساء مايحكمون .
قال رجل للرسول : يارسول الله انا كنا اهل جاهلية وعبادة اوثان , فكنا نقتل البنات وكانت عندي ابنة لي فدعوتها الي فجاءت مسرورة بدعوتي لها ومشينا حتى اذا اتينا بئرا قريبة فاخذت بيدها ورميت بها في البئر وهي تقول ياابتاه ياابتاه
فبكي رسول الله حتى تقاطر دمعه .(/1)
((رحمةً للعالمين))
عمر الحبر يوسف*
إن تعجب فعجب أمر أولئك القوم الجهلاء الذين يحاولون النيل من رسول الله صلي الله عليه وسلم - بأبي وأمي هو- يحملهم علي ذلك حقد دفين وحسد لا ينقطع. ومرد هذا العجب إلى الفعل وباعثه أما الفعل فلأن مثل تلك التفاهات من رسومات ونحوها تسييء أول ما تسييء إلى أصحابها فهي تبين بجلاء مرض نفوسهم وانحطاط ثقافتهم وخواء فكرهم ثم هي من بعد تسييء إلى الإنسانية جمعاء عبر حقبها وعصورها فلئن كان التاريخ الإنساني يحفظ سير أعلام المصلحين العظام فمحمد صلى الله عليه و سلم هو سيدهم وإمامهم بلا ريب.
المصلحون أصابع جمعت يداً ** هي أنت بل أنت اليد البيضاء
وأما الباعث فمرد العجب فيه إلى أن أولئك القوم يحسدوننا ونحن على ما نحن فيه من تأخر وهم على ما هم فيه من تقدم وتطور –مادي- فكيف لو غيرنا ما بأنفسنا لنظفر بسعادة الدنيا والدين ؟!وتحققت فينا سنة الله في العالمين؟! أيموتون بغيظهم؟!.
الحق أن الرسول صلى الله عليه وسلم اجتمع فيه من كريم الخصال ما تفرق في غيره فما من خلق يحمد إلا وكان له فيه صلى الله عليه وسلم القِدح المعلى والسهم الرابح. وقد كان خلق الرحمة ملازما له صلى الله عليه وسلم لا يفارقه لا في حرب ولا وفي سلم ولا في عسر ولا في يسر، لا يفارقه وهو مطارد في شعاب مكة ولا يفارقه وهو يقيم دولته في المدينة المنورة ، رحمة وسعت الكبير والصغير والخصم والنصير، بل وسعت الطير والحيوان (وفي كل ذات كبد رطبة أجر).
يبكي صلى الله علية وسلم وتفيض عيناه لموت صبي صغير يقول له بعض أصحابه: ما هذا يا رسول الله؟ يقول: هذه رحمة يضعها الله في قلوب من يشاء من عباده.
وجاء يهودي يتقاضاه دينا فأخذ بمجامع ثياب النبي صلى الله عليه وسلم وأغلظ له القول كان مما قال: إنكم يا بني عبد المطلب لقوم مطل.فانتهره عمر وشدد له في القول قال صلى الله عليه وسلم: أنا وهو كنا إلي غير هذا أحوج يا عمر , تأمرني بحسن القضاء وتأمره بحسن التقاضي ثم قال: لقد بقى من أجله ثلاث وأمر عمر يقضيه ماله ويزيد عشرين صاعاً لما روعه فكان ذلك سبباً في إسلام اليهودى.
وفي غزوة أحد تكسر رباعية النبي صلى الله عليه وسلم ويشج وجهه الكريم فشق ذلك على الصحابة جداً فقالوا يا رسول الله لو دعوت عليهم .فيقول: إني لم أبعث لعاناً ولكنني بعثت داعيا ورحمة اللهم اهدي قومي فإنهم لايعلمون.
وإذا رحمت فأنت أم أو أب ** هذان في الدنيا هم الرحماء
ويفتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة فيدخلها خاشعاً مطرق الرأس يتلو سورة الفتح متوجهاً إلى بيت الله فيجتمع إليه زعماء مكة الذين أخرجوه منها وحاولوا قتله وآذوه في نفسه وبيته وأصحابه، فيقول لهم: يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم ؟ قالوا: خيراً أخ كريم وابن أخ كريم، فيقول: اذهبوا فانتم الطلقاء.
إنه صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة للعالمين كما قال تعالى: ( ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )) وهو المبعوث ليخرج الناس – كل الناس – من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد.وهو الذي أخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام وسماحته.
ولنتأمل قوله تعالى: (( قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآيتنا يؤمنون.الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم )).إن الحياة الإنسانية الكريمة لا تكون الا بعمل المعروف الطيب وهجر المنكر الخبيث ولا يكون الإنسان إنسانا إذا لم يتحرر من أغلال الشرك وهوى النفس وانطماس البصيرة. فالإسلام دعوة تحرير للروح من أسر المادة، وتحرير للعقل من قيد الجهل والخرافة وتحرير للفكر من التقليد والتبعية.
لقد كان الناس قبل بعثته صلى الله عليه وسلم في ظلمات من الجهل بعضها فوق بعض:
أتيت والناس فوضى لا تمر بهم ** إلا على صنم قد هام في صنم
فأحدث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك التغيير العجيب الذي يجعل عابد ما يصنع بالأمس يخاطب الحجر الأسود قائلاً: ( والله إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر ولولا أنى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك ) ويجعل إبن بيئة الجاهلية يخطب في الناس عند وفاته صلى الله عليه وسلم قائلاً:( من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ).
لقد كانت بعثته صلى الله عليه وسلم إتماماً لمكارم الأخلاق وصوناً للحرمات وأداءاً للحقوق ونصرة للمستضعفين ودعوة للخير والصلاح والسلم والإخاء.(/1)
إن عالمنا اليوم أصبح قرية صغيرة بثورة الاتصال والمعلومات لكنه في الوقت ذاته أصبح غابة كبيرة بطغيان المادة وثورة النزوات. إحتكم الناس فيه إلى قانون الغاب وارتدوا إلى وحوش كاسرة أبعد ما تكون عن صورة الإنسان الكامل. وإن الإنسانية اليوم لتتلفت ذات اليمين وذات الشمال تطلب مخلصاً يخلصها من هذا الشقاء التي هي فيه.ولن يكون خلاصها إلا بمنهج يوائم بين الروح والمادة ويوافق بين الحرية والمسئولية ويراعي الفرد والجماعة.منهج يؤمن بالدين ليرفع به الدنيا ولا وجود لمنهج كهذا إلا في الإسلام
(( لذلك كله نقول إن طريقنا في البناء الحضاري لن يكون طريق الغرب بأية حال، لأن الغرب تجربة وظاهرة خاصة لا تغري إلا بالبحث عن طريق خاص لا يستنقذ امة الإسلام وحدها وإنما كل اليتامى والثكالى من بني الإنسان الذين خلفتهم الحضارة الغربية من ورائها من جراء إجرامها المتصاعد وظلمها المتفاقم وطغيانها العامد للإلغاء والاستئصال لكل من لم يستجب لملاءتها))(1)
إن الإسلام هو المنهج الإنساني العالمي الكامل، وأكرم بدين ويجعل غرس الفسيلة قربة، والتبسم في وجوه الآخرين صدقة، و إماطة الأذى عن طريق شعبة من شعب الإيمان.
-------------
(1) ما بين القوسين مقتبس من مقال لإستادنا / محمد عبد الله الغبشاوي.(/2)
رد الشبهات حول ثبوت كرامات الأولياء
الأولياء جمع ولي، والولي مشتق من الوَلاء وهو القرب، كما أن العدو مشتق من العَدو وهو البعد، فولي الله من والاه بالموافقة له في محبوباته ومرضياته، وتقرّب إليه بما أمر به من طاعاته، وكل من عظم إيمانه وطاعته عظمت عند الله ولايته.
وقد ذكر الله تعالى أقسام أهل ولايته ممن اصطفاهم لوراثة كتابه في قوله تعالى: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك الفضل الكبير}(فاطر: 32)، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم درجات الولاية في قوله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه) رواه البخاري.
هذا ما يتعلق بالولاية، أما الكرامة فهي عند العلماء: أمر خارق للعادة يجريه الله على يد عبد صالح لحاجة دينية أو دنيوية.
وثبوت كرامات الأولياء أمر أجمع عليه سلف الأمة قاطبة ودلت على إثباته الآيات والأحاديث، إلا أن المعتزلة أنكرتها بدعوى أنه يلزم من إثباتها حدوث التباس بين المعجزة والكرامة فينسد بذلك باب إثبات النبوة، ويلتبس مقام الولي بمقام النبي.
ولنذكر شيئا من أدلة ثبوت الكرامات ثم نأتي على الشبه السابقة بالرد والنقض:
فمما يدل على ثبوت كرامات الأولياء قوله سبحانه عن مريم عليها السلام: {كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب}(آل عمران: 27) جاء في تفسير هذه الآية عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: " وجد عندها الفاكهة الغضة حين لا توجد الفاكهة عند أحد، فكان زكريا يقول: يا مريم أنى لك هذا؟ قالت: هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب " ولا شك أن وجود الفاكهة في غير وقت أوانها أمر خارق للعادة، وهو ما حدث لمريم عليها السلام بيانا لمكانتها وعظم منزلتها.
ومن الأدلة على ثبوت الكرامة قصة أصحاب الكهف، وكيف لبثوا نائمين في كهف ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعًا من غير طعام ولا شراب، انظر الآيات من سورة الكهف: 13 ـ 26.
ومن أدلة ثبوت الكرامات من الحديث النبوي: حديث أنس رضي الله عنه أن أُسَيد بن حُضير وعبَّاد بن بشر – رضي الله عنها خرجا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة، وإذا نور بين أيديهما حتى تفرقا، فتفرق النور معهما. رواه البخاري.
وحديث أسيد بن حضير رضي الله عنه، قال: "بينما كنت أقرأ من الليل سورة البقرة، وفرسي مربوط عندي، إذ جالت – دارت الفرس، فسكتُّ فسكنت، فقرأت فجالت الفرس، فسكتُّ فسكنت، ثم قرأتُّ فجالت. وكان ابنه يحيى قريبا منه فأشفق أن تصيبه، فأخذه من مكانه خشية أن تصيبه، قال: فرفعتُّ رأسي إلى السماء فإذا مثل الظُّلَّة – السحاب فيها أمثال المصابيح، فخرجَت حتى لا أراها. فلما أصبح حدَّثت النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: وتدري ما ذاك؟ قال: لا، قال: تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأتَ لأصبحت ينظر الناس إليها، لا تتوارى منهم) رواه البخاري.
وفي قصة أسر خبيب بن عدي رضي الله عنه، قالت من كان أسيرا عندها: (ما رأيت أسيرا خيرا من خبيب لقد رأيته يأكل من قطف عنب وما بمكة ثمرة وإنه لموثق في الحديد وما كان إلا رزقا رزقه الله إياه) رواه أحمد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى 3/153: " ومن أصول أهل السنة والجماعة: التصديق بكرامات الأولياء وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات في أنواع العلوم والمكاشفات وأنواع القدرة والتأثيرات كالمأثور عن سالف الأمم في سورة الكهف وغيرها وعن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين وسائر قرون الأمة وهي موجودة فيها إلى يوم القيامة "
الردُّ على من أنكر ثبوت الكرامة:
تمسك من أنكر كرامات الأولياء بدعوى أنها لا تتميز عن المعجزة، وزعم أن إثبات الكرامات يفضي إلى اشتباه حال الولي بالنبي، حيث إن كلا من المعجزة والكرامة خارق للعادة، وقالوا: إن تجويز ذلك مفض إلى ظهور معجزة الأنبياء على يد الأولياء، مما يعني تكذيب النبي الذي تحدى بالمعجزة، والجواب على هذه الشبهة من وجوه:
الوجه الأول: أن الكرامة ثابتة بالنص والإجماع، وما كان كذلك يجب رد كل ما خالفه من تعليل أو تأويل.
الوجه الثاني: أن الولي ما صار وليا إلا باتباعه النبي، فتكون الكرامة في حقه دليلاً وشاهداً على صدق النبي، إذ إنه لم يؤت الكرامة إلا باتباعه والإيمان به، وعليه فلا يصح معارضة معجزة النبي بكرامة الولي.(/1)
الوجه الثالث: أن الكرامة غير مستحيلة عقلا، فالله سبحانه قادر على أن يحدث ما يشاء متى شاء، وعلى أن يضع القوانين الطبيعية وأن يخرقها إذا أراد، لا يمتنع عليه شيء ولا يعجزه شيء.
الوجه الرابع: أن ما ادعاه المعتزلة من خوف الاشتباه بين النبي والولي غير واقع أساسا، إذ لم يحدث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أن حصل إشكال من هذا القبيل رغم جريان الكرامات في عهده على يد أصحابه، وكذلك بعد موته، إذ لا تجري كرامة على يدي ولي فيدعي النبوة إلا ويقطع الناس بكذبه فتسقط ولايته ولا تثبت نبوته. ولا يحتاج الناس بعدها للتفريق بين الكرامة والمعجزة، إذ النبي صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء وكل دعوى النبوة بعده فغي وضلال، فتحصّل من ذلك أن ما أورده المعتزلة لم يكن سوى تشغيب ليس إلا.
الوجه الخامس: أن تفريق الناس بين حال النبي وبين حال الولي لا يكون بفعل واحد أو قضية فريدة، فحال النبي يظهر في مجمل حياته كلها، وكذا حال الولي، فمن ادعى من الأولياء النبوة لم يكن ليجري الله على يديه من أدلة التأييد ما يلتبس به على الناس أمره، حتى يظنوه نبيا يوحى إليه، ولهذا يكثر في هذا الزمان عمل السحرة والمشعوذين، ولا يقول أحدٌ من الناس إنهم أولياء الله، فهم وإن كان يجري على أيديهم ما ظاهره أنه خارق للعادة، إلا أن مجمل أحوالهم يدل على كذبهم ودجلهم، واستعانتهم بالجن والشياطين في أعمالهم، ولذلك تجدهم من أبعد الناس عن هدي النبوة ونور الوحي، ولا تجد فيهم استقامة على الشرع أو حرصا على أركان الدين من صلاة وصيام وحج ونحو ذلك، فضلا عن إتيانهم المنكرات الظاهرة والمعاصي الجلية، فلا يلتبس على الناس حالهم بل يميزون بينهم وبين الولي، ويعلمون أن الولي مستقيم على شرع النبي، وأنه لولا استقامته ما حصّل منزلة الولاية، أو حصلت له الكرامة.
وبهذا يتبين صحة القول بثبوت كرامات الأولياء، ولكن ليحذر المسلم من أقوام جعلوا من باب الكرامة مدخلا للإضلال والإفساد، فادعوا زورا وبهتانا حصول الكرامات لهم، بل جعلوها ديدنهم، فمشائخهم هم أكثر الناس كرامات، ويد القدرة مطلقة عندهم، فلا يحتاجون أمرا إلا وجرت على أيديهم في شأنه كرامه، فإذا أرادوا الصلاة كانت صلاتهم في الحرم، وإن أرادوا الحج انتقلوا عبر آفاق السماء في زمن لم تظهر فيه الطائرات، بل جعلوا من الكرامات مدخلا للسلوكيات المشينة والأعمال التي يستحى من ذكرها.
والكرامة إنما تحصل للأولياء لا على سبيل المفاخرة وإنما لقضاء حاجة دينية كتثبيت على طاعةٍ، أو لحاجة دنيوية كإنارة طريق الصحابيين اللذين خرجا من عند النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة، أما التوسع في اختلاق الكرامات فلم يكن سوى من بدع المبتدعة وكذبهم.
30/08/2005
http://www.islamweb.net المصدر:(/2)
رد شبهات المكذبين بعذاب القبر أ.د. جعفر شيخ إدريس*
كون بعض الناس يعذبون في قبورهم أمر جاءت به أحاديث متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والتواتر يدل دلالة قاطعة على نسبة الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم.. فالذي ينكر عذاب القبر مكذب له صلى الله عليه وسلم، إلا أن يكون جاهلا بهذا التواتر، أو جاهلا بأمر عقلي وهو أن التواتر يدل دلالة قاطعة على نسبة القول أو الفعل إلى من نسب إليه.. ومن كان مكذبا للنبي في أمر يعلم أنه قاله فلا يكون مؤمنا به، ولا بربه الذي أرسله، وإن كرر النطق بالشهادتين ألف مرة أو زاد.
وكل حجة يتشبث بها من ينكر أمرا جاء به كتاب الله، أو قاله رسول الله لا بد أن تكون باطلة عقلا؛ كما هي باطلة شرعا.. بل إنها لتدل على ضيق أفق صاحبها؛ لأنها كثيرا ما تعتمد على الخلط بين الممكن والمألوف.. أعني أن أحدهم ينكر إمكان حدوث شيء ما لمجرد أنه أمر غير مألوف؛ فهو يخلط بين المستحيل وغير المعهود.. هكذا فعل العرب الجاهليون في إنكارهم للبعث.. كانوا يرون أنه من المستحيل أن تبعث أجسادهم بعد أن يصيروا عظاما نخرة.. فكان الرد القرآني العقلي عليهم: (وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) (الإسراء).. أي إذا كنتم مؤمنين بأن الله تعالى هو الذي خلقكم أول مرة ولم تكونوا شيئا - وقد كانوا مؤمنين بذلك - فكيف يستحيل عليه أن يعيد خلقكم مرة ثانية؟!.. أليست الإعادة أهون من البداية؟!..
كذلك الأمر بالنسبة لعذاب القبر؛ أنكره بعض الزنادقة في الماضي، ويقلدهم في إنكارهم بعض الزنادقة المحدثين.. لكن الزنادقة الذين أنكروا عذاب القبر قديما كانوا أذكي من زنادقتنا المحدثين؛ ولذلك أثاروا من الشبهات أعظم مما يثير هؤلاء المقلدون لهم.. ولم ير أهل السنة بأسا في رواية شبهاتهم؛ لأنهم كانوا موقنين بأنها حجج باطلة؛ يسهل محقها.. نذكر في ما يلى مثلا لهذه الردود السنية:
* رد ابن القيم على الزنادقة:
ذكر الإمام ابن القيم في كتابه الروح (تحقيق سعيد محمود عقيل، نشر دار النخيل) كثيرا من هذه الشبهات، وفصل فيها، وكان مما ذكر عنهم قولهم: (ونحن نرى المصلوب على خشبة مدة طويلة لا يسأل، ولا يجيب، ولا يتحرك، ولا يتوقد جسمه نارا، ومن افترسته السباع، ونهشته الطيور، وتفرقت أجزاؤه في أجواف السباع، وحواصل الطيور، وبطون الحيتان، ومدراج الرياح كيف تسأل أجزاؤه مع تفرقها؟!..)..
ثم بدأ رحمه الله في الرد عليهم ردا استغرق أكثر من عشر صفحات (77-91)؛ لكننا نلخصه في هذه الكلمات:
- أن الرسل لم يخبروا بما تقطع العقول باستحالته.
- أن يفهم عن الرسول مراده من غير غلو ولا تقصير؛ فلا يُحَمَّل كلامه ما لا يحتمله، ولا يقصر به عن مراده وما قصده من الهدى والبيان.. إن سوء الفهم عن الله ورسوله أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام، بل هو أصل كل خطأ في الأصول والفروع، ولا سيما إن أضيف إليه سوء القصد.
- أن الله تعالى جعل الدور ثلاثا: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار.. وجعل لكل دار أحكاما تختص بها.. جعل أحكام دار الدنيا على الأبدان، والأرواح تبعا لها.. وجعل أحكام البرزخ على الأرواح والأبدان تبعا لها.. تجري أحكام البرزخ على الأرواح؛ فتسري إلى أبدانها نعيما أو عذابا، كما تجري أحكام الدنيا على الأبدان فتسري إلى أرواحها نعيما أو عذابا.. فأحِطْ بهذا الموضع علما، واعرفه كما ينبغي يزل عنك كل إشكال يرد عليك..
فإذا كان يوم حشر الأجساد، وقيام الناس من قبورهم صار الحكم، والنعيم، والعذاب على الأرواح والأجساد ظاهرا باديا..
- أن الله تعالى جعل أمر الآخرة وما كان متصلا بها غيبا؛ فأول ذلك أن الملائكة تنزل على المحتضر، وتجلس قريبا منه، ويشاهدهم عيانا، ويتحدثون عنده؛ قال تعالى: ( فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85) (الواقعة)..
- أن النار التي في القبر والخضرة ليست من نار الدنيا؛ وإنما هي من نار الآخرة وخضرتها؛ وهي أشد من نار الدنيا؛ فلا يحس بها أهل الدنيا.. وقدرة الرب تعالى أوسع، وأعجب من ذلك.. وقد أرانا الله من آيات قدرته في هذه الدنيا ما هو أعجب من ذلك بكثير؛ ولكن النفوس مولعة بالتكذيب بما لم تحط به علما إلا من وفقه الله وعصمه.. فهذا جبريل كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم، ويتمثل له رجلا؛ فيكلمه بكلام يسمعه؛ ومن إلى جانب النبي لا يراه، ولا يسمعه.. وهؤلاء الجن يتحدثون، ويتكلمون بالأصوات المرتفعة بيننا ونحن لا نسمعهم.(/1)
- ينبغي أن يعلم أن عذاب القبر ونعيمه اسم لعذاب البرزخ ونعيمه، وهو (يعني البرزخ) ما بين الدنيا والآخرة، وسمي عذاب القبر ونعيمه باعتبار غالب الخلق؛ فالمصلوب، والمحروق، والغرق، وأكيل السباع والطيور لهم من عذاب القبر ونعيمه قسطهم الذي تقتضيه أعمالهم.
* وزيادة من عندنا:
- يقال لمن ينكر عذاب القبر بحجة أن بعض الناس يموتون غرقا أو حرقا: أ أنت من المؤمنين بالبعث؟ إن كنت مؤمنا به فأنت تعتقد أن الله تعالى سيبعث الذين ماتوا حرقا؛ حتى ولو تفتت أجسادهم وذرت في الهواء.. فما الذي يمنعه سبحانه إذًا من أن يجمعها، ويجعلها جسدا كما كانت فور تفتتها؟ (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يس: 82)
- إن ما قلته عن الذين يحترقون أو يغرقون يقال مثله عن الذين يقبرون؛ ذلك أن المقبور لا يلبث - إن لم يكن نبيا - أن يتفتت، ويصير عظاما نخرة؛ كما قال المشركون، بل حتى عظامه ستتفتت وتتحول إلى المواد الأولية التي خلق منها الجسد!؛ فكيف إذًا يسأل أو يعذب؟!.
- أننا نعلم حتى في هذه الحياة الدنيا أن الإنسان إنما هو إنسان بروحه؛ لا بجسده؛ وذلك أننا نرى الجسم يتغير؛ فيزداد وزن الإنسان بضع أرطال أو ينقص، وتبتر بعض أجزاء جسمه، ويصح بعضها أو يمرض، ويظل الإنسان مع ذلك هو الشخص الذي نعرفه..
- بل نزيد على ذلك أمرا ربما لم يكن معروفا للأقدمين، بل ولكثير من المحدثين؛ وهو أن جسم الإنسان في تغير مستمر؛ حتى إنه لا يبقى من خلاياه شيء كان قبل بضع سنوات ما عدا خلايا الدماع التي يقال إنها إذا فقدت لا تعوض، وإن كانت بعض الخلايا الباقية تقوم بمهمتها..
والجسم إنما هو وسيلة لعذاب الروح؛ قال تعالى عن المعذبين في النار: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء: 56).
- ثم نضيف إلى ما ذكره الإمام بعض ما نعرف الآن من عجائب خلق الله في هذه الدنيا؛ مما يتصل بهذا الأمر؛ مما لم يكن بعضه معروفا في زمنه رحمه الله.. فنحن نعرف الآن أنه كما أن هنالك حدا أدني لما يسمعه الإنسان من أصوات؛ فهنالك أيضا حد أعلى!!.. أعني أنه كما أن هنالك أصواتا لا تسمعها الأذن البشرية لخفوتها وقد تسمعها بعض الحيوانات؛ فهنالك أيضا أصوات لا تسمعها هذه الأذن لشدة علوها؛ وقد يسمعها حيوان مثل الكلب!!.. وهذا يعني أنه قد توجد الآن في المكان الذي أنت فيه أصوات أعلى بكثير من أصوات الطائرات التي تصك الآذان لكننا لا نسمعها، بينما تسمعها بعض الحيوانات.(/2)
رسالة إلى أبي الطيب المتنبي
الدكتور محمد الجهني
إن زرت حمصاً فحقاً أن ترى حلبا وأن تمر إذا غادرتها كسبا
وزر علي بن حمدان بمجلسه وقل لحاجبه إن كان محتجبا
إني رأيت جيوش الروم iiغازية ... ... وحثت السير ليلاً تبتغي iiحلبا
كان الدمستق يحدوها iiفغادرها ... ... و ورث الحقد قسطنطين و iiالغضبا
فما يمر بعرب لا تحالفه ... ... إلا و يقطع منها الرأس و iiالذنبا
يستخبر الريح عنها وهي iiغافلة ... ... متى رأى غرة من دونها وثبا
و ما يمر بأرض من ديارهم ... ... إلا ويستخلف الرهبان و iiالصلبا
قد كان يحذر للأهوال iiمنقلباً ... ... واليوم ليس يبالي أيها iiركبا
وسل أبا الطيب الجعفي عن نفر ... ... وشوا به يبتغون المال و iiالرتبا
وسله هل أدركوا جاهاً و منزلة ... ... وهل قضى عند سيف الدولة iiالأربا
و لا تغادره حتى تلتقي زمناً ... ... به وخذ عنه ما أملى و ما كتبا
وقل له لا تزر مصراً فإن iiبها ... ... علجاً قد امتهن الإخلاف و iiالكذبا
تملك الملك لا ديناً ولا iiأدباً ... ... ولا حياءً ولا علماً ولا iiنسبا
ولا العراق فإني قد رأيت بها ... ... غويها فاتك الضبي iiمرتقبا
يروع الآمنين الغافلين iiبها ... ... ويهلك الحرث والأرواح و iiالنشبا
و عج إلى الشام حيث الأكرمون iiيداً ... ... والأكثرون ندىً والطاهرون iiأبا
فإن رأيت بها خيلاً iiمسومة ... ... وعسكراً ورماحاً أشرعت وظبا
فاعلم بأن بني مروان قد iiعزموا ... ... على جهاد يرد المجد و iiالسلبا
وبشر القدس نصراً تستريح iiبه ... ... وأن آخر وعديها قد اقتربا
وقف بجامعها الميمون منكسراً ... ... واستنطق الباب والمحراب iiوالقببا
وسله عمن بكى ليلاً iiبروضته ... ... ومن أقام ومن صلى ومن iiخطبا
ولا تخبره من أخبارنا iiخبراً ... ... وإن ألح بتسآل وإن iiغضبا
ولا تخبره أنا أمة iiجهلت ... ... فباعت الدين والأخلاق iiوالأدبا
وإن أشار إلى الأقصى iiبمسألة ... ... فلا تحدثه عمن باع واغتصبا
ولا تحدثه عمن خان iiأمته ... ... ومن تهود من أقوامنا iiوصبا
ولا تخبره أن السلم iiغايتنا ... ... مع اليهود وأن العهد قد iiكتبا
ولا ترق دمعة في ساحه iiأبداً ... ... فإن فعلت رأيت الويل iiوالعجبا
فلا تلمني إذا اهتزت iiمنارته ... ... وارتج من حولك المحراب واضطربا
بلى وحدثه عن صيد iiغطارفة ... ... بيض وما لبسوا بيضاً ولا يلبا
تمنطقوا بحزام الموت iiطيبة ... ... نفوسهم يقذفون النار iiواللهبا
فقبلهم ما رأى شارون نائبة ... ... وما دعا قبلهم ويلاً ولا iiحربا
يا ناقمين على الإسلام ويحكم ... ... إليكم القول مبسوطاً iiومقتضبا
سلوا الممالك والأفلاك iiقاطبة ... ... والبر والبحر والهندية iiالقضبا
سلوا النصارى وهل خنا لهم iiذمماً ... ... وهل نقضنا لهم في أرضنا iiطنبا
سلوا المكارم والأخلاق هل iiعرفت ... ... لنا مثيلاً سلوا الأقلام iiوالكتبا
سلوا الممالك كم دانت لنا iiرهباً ... ... من السيوف وكم دانت لنا iiرغبا
وهل قتلنا بها شيخاً iiوأرملة ... ... وهل هتكنا بها عرضاً لذات خبا(/1)
رسالة إلى أهل العراق في هذه الأحداث العصيبة
الشيخ محمد بن أحمد الفراج
يا أهل العراق ..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. أيها الصامدون الثابتون.. أيها الرابضون في الخنادق أمام الزحف الصليبي اليهودي الحاقد.. هذه كلمات يسطرها بنان كان يود لو كان معكم يضرب من أعداء الله كل بنان ، قلب متحرق يعيش شعوركم ويحس إحساسكم كغيره من آلاف الملايين ، تحترق قلوبهم لما يجري لكم ويرقص قلبها طرباً لبطولاتكم وثباتكم .
فيا أهل العراق .. يأهل الرافدين .. يا أهل الكوفة والبصرة .. يا أهل بغداد .. يا دار الخلافة ومنبت العلم والعلماء والفقه والفقهاء والحكمة والحكماء .. بلد أمير المؤمنين الرشيد وإمام أهل السنة أحمد بن حنبل ..والقائد المظفر المثنى بن حارثة ..
أنتم الآن رمز الأمة وحملة لواء بطولاتها فلا تخذلوها .. الله الله .. ولا تبتغوا بإسلامكم بديلاً فهو سر عزتكم وكرامتكم ، ما عُرفت بلادكم بحضارة أشور ولا بابل ولكن بحضارة الدين والإسلام ، ولا استمدت إمامتها من حمو رابي ولا بختنصر ولكن من خلفاء الإسلام وأئمة الدين .. فا الله الله .. ارفعوا لواء الجهاد وهوية الإسلام وأخلصوا الدين لله وتبرأوا من كل راية جاهلية قومية وبعثية وقبلية واجعلوها جهاداً صادقاً ناصعاً بعد تصحيح الاعتقاد وتحكيم الشريعة ، وادعوا الأمة جميعاً لتشارككم شرف الدفاع عن الحرمة والحوزة والديانة ، حتى يكون قتيلكم شهيداً و تليدكم عزيزاً .
يا أهل العراق .. أيها الصامدون .. صبراً صبراً في مواجهةٍ الزحف الصليبي فإنما الشجاعة صبر ساعة والمهزوم من يئن أولاً .
تذكروا أسلافكم المجاهدين أهل القادسية والجسر والمعارك الفاصلة و (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله )
من دياركم وأراضيكم سقط العرش الكسروي ودمر البيت الأبيض ( إيوان كسرى ) قال صلى الله عليه وسلم ( عصابة من أمتي تفتح البيت الأبيض ) ( أو القصر الأبيض ) فعسى أن يكون على أيديكم سقوط البيت الأبيض إيوان بوش والظالمين ..
ومن دياركم انطلقت ألوية فتح الهند والسند والصين والروس .
أيها الصامدون .. تذكروا الشعوب الصامدة التي قاتلت حتى آخر قطرة دم ووقفت في وجه الاستعمار حتى آخر رجل .. تذكروا أهل فيتنام الذين ذهبوا مثلاً خالداً في تاريخ البطولة والتضحية ودنسوا وجه أمريكا القبيح فلا يكن الكافرون أشد وأقوى منكم بأساً ( ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليماً حكيماً ) . لا يكن الروس الملا حدة أقوى منكم بأساً حينما سطروا بطولات خارقة وقاتلوا هتلر قتال المدن على خرائب ليننغراد وعلى أطلال ستالين غراد وفي شوارع كييف وفوق ركام سيبا ستيبول ومنسك وكركوف وغيرها .. أبوا على الغزاة الألمان وصمدوا شهوراً وسنين وتحملوا أعنف قصف جوي ومدفعي عرفته البشرية إلى ذلك الوقت وقاتلوا فرق الإنزال المجوقلة وحصدوا فرق الصاعقة والكوماندوز حتى هزموا الألمان هزيمة منكرة وحطموا جيشهم الذي كان عداده بالملايين ..
تذكروا تضحياتهم بل تذكروا تضحيات إخوانكم الأفغان وخوضهم غمار حرب واجهوا فيها بالبنادق أقوى جبروت عسكري مجهز بكل الطائرات والصواريخ والمدافع حتى هزموا الاتحاد السوفيتي وكان على أيديهم تفككه .
صبراً يا أيها العراقيون المسلمون العرب .. لا يكن هؤلاء الصليبيون العلوج أشد بأساً منكم ، فإنما هم لفيف من اللقطاء والبغايا والخمارين والحشاشين ، وهاهم يهاجمونكم يا أحفاد الصحابة والعرب الأباة في عقر داركم وعلى مرأى ومسمع من العالم ، فلا يكن النساء الفاجرات وأولاد العلوج أشد منكم بأساً .
إياكم أن تتراجعوا في وجوه نساء الغرب ومخنثيه، إنها سبة التاريخ و وصمة العار قاتلوا حتى النهاية فإما الفوز وإما الشهادة .
عش عزيزاً أو مت وأنت كريم بين طعن القنا وخفق البنود
أيها العراقيون.. اعلموا أن قضيتكم عادلة وأنتم مظلومون معتدى عليكم في دياركم ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير * الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق ) وكل هذه الصفات محققة فيكم، قوتلتم وُظلمتم وأراد الغزاة إخراجكم من دياركم وسلب أموالكم وبترولكم فلا تكونوا عبيداً للغرب، اثبتوا واصبروا إن الله يحب الصابرين.
واعلموا أن أمريكا غاشمة ظالمة مستبدة متكبرة مغرورة بقوتها ظانة ألا غالب لها وهذه أمارات الزوال والهزيمة ( وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعداً ) فعسى أن يكون موعد هلاكهم على أيديكم وفي دياركم وقال تعالى ( ومن يظلم منكم نذقه عذاباً كبيراً ) وقال تعالى ( ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ) وقال تعالى ( لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين ) وقال سبحانه ( والله لا يحب كل مختال كفور ) فأمريكا مكروهة مبغوضة لله بتكبرها وغطرستها وظلمها..(/1)
واحرصوا أنتم على أسباب محبة الله لكم بتحكيمكم شرعه واتباع هدي رسوله والمحافظة على الطاعة وترك المعصية ورفع راية الجهاد الخالص والاجتماع وترك الفرقة حتى يكون النصر حليفكم لمحبة الله إياكم إذا حققتم أسبابها قال تعالى ( إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص )
يا أهل العراق.. ماذا عليكم لو أعلنتموها إسلامية خالصة جامعة وتبرأتم من كل عصبية سوى الدين كالبعثية والاشتراكية وغيرها، لتلتئم حولكم الشعوب وتهوي إليكم القلوب وترضوا علام الغيوب، ومن الملاحظ أن خطاباتكم في أول المعركة كانت تتسم بالصبغة الدينية وتحلى بالآيات القرآنية، ولكن في الآونة الأخيرة لا حظنا أنها بدأت تنحى منحى حزبياً بغيضاً، وهذا من شأنه أن يفُض من حولكم المتعاطفين ويفرق المسلمين.. فاتقوا الله.. واجعلوه جهاداً في سبيله لإعلاء كلمة الله.
وفي ختام كلمتي أحب أن أزف لكم بعض المبشرات التي يرجى معها دحر هذا العدو الكافر فمنها:
1 / ما أعد الله للمجاهدين في سبيله من الثواب الأوفى إذا صدقوا النية وأخلصوا القصد وقاتلوا لتكون كلمة الله هي العليا ، وكم في القرآن والسنة من الآيات والأحاديث الواعدة بهذا الثواب ويكفيكم قوله تعالى ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتِلون ويقتَلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم ) قال الحسن البصري ( يا عجباً أنفساً خلقها وأموالاً وهبها فباع واشترى معها وضمن الربح لها) الله أكبر ما أعظم كرم الله ، تأملوا الشروط في الآية بعدها وحققوها : ( التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين ) والسائحون : المجاهدون أو الصائمون .
واعلموا أن قتال أهل الكتاب من أفضل القتال والجهاد، وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أفضل الشهداء في زمانهم من يقتلهم النصارى في الملحمة بينهم وبين المسلمين هذا قدركم يا أهل العراق جاءكم الجهاد في دياركم يسعى، ودخلت عليكم الشهادة أرضكم وبيوتكم فقولوا مرحباً بلقاء الله واعلموا أنها سوق الجنة قامت في أرضكم فبيعوا واشتروا مع الله وانووا الجهاد الصادق وحققوا الدين الخالص والتوحيد الحق وتجردوا من كل أنواع الشرك والضلالات والبدع والمحدثات فوالله لا نحب أن يودعنا منكم ذاهب إلا إلى جنة عرضها السماوات والأرض.
2 / ومن المبشرات كثرة دعوات المسلمين لكم في أرجاء الدنيا شعوراً منهم بفداحة ما وقع عليكم من ظلم وإجرام وليتكم تسمعون ضجيج الأصوات بالدعوات من المساجد والبيوت والمجامع من العجائز والأطفال والصغار والكبار والرجال والنساء يدعون الله لكم بالنصر والثبات ولعدوكم بالهزيمة والخذلان فلستم وحدكم في الساحة ، فكم من جنود لله مجاهيل تقاتل معكم ( وما يعلم جنود ربك إلا هو ) ويحييون الليالي ويتهجدون في الظلام ويدعون الواحد الأحد ويستمطرون لكم النصر( إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم )
وحري أن يستجيب الله الدعاء إذا تظافرت وتظاهرت عليه الجموع وأنتم كذلك لا تملوا الدعاء والتضرع فإنه من أسباب النصر والتمكين .
3 / ومن المبشرات أن عدوكم ظالم باغ متغطرس متكبر يقاتل جنوده المكرهون لا لهدف ولا لغاية وأنتم تقاتلون في بلادكم وبيوتكم ودون محارمكم فاصبروا فإن النصر مع الصبر ، وعدوكم يقاتل غريباً وحيداً في صحراء لم يتعودها ولا يتحملها ولئن صبرتم قليلاً يوشك أن تشتد عليه الشمس فتذوب أجسادهم المنعمة كما يذوب الثلج تحت واهج اللهب ، لا تملوا ولا تستبطئوا ، قاتلتم إيران ثمان سنين فقاتلوا هؤلاء سنة وهم غرباء لا يتحملون ولا يصبرون .
4 / ومن المبشرات مراءٍ صادقة عرضت علينا وعلى غيرنا ورؤيا المؤمن حق وهي من المبشرات ومما يستأنس به المسلم ولا يعتمد عليها ولولا خشية الإطالة لقصصت عليكم بعضاً منها وتعبيرها وهي من القوة والوضوح بحمد الله.
وهناك مبشرات كثيرة أكتفي بهذا داعياً ربنا العظيم أن يدحر هذه الدولة الظالمة الباغية ومن حالفها وظاهرها على الظلم ، وأوصيكم مرة أخرى بتحكيم شرع الله وتحقيق التوحيد والبراءة من الأحزاب القائمة على غير عصبية الدين والإسلام والإيمان ورفع راية الجهاد وجمع الكلمة تحت لواء الحق والتوحيد الخالص والدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والرجوع إلى الله بكل خير .
( عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون )
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أخوكم
محمد بن أحمد الفراج
22 / 1 / 1424هـ
http://www.ayobi.com/article.php?sid=128(/2)
رسالة إلى الأطباء
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ... وبعد .
فيرجى من الأخوة الأطباء المسلمين الكرام أن يكونوا قدوة حسنة للمرضى وغيرهم في الالتزام بتعاليم الإسلام الحنيف وطاعة الله ورسوله في جميع المجالات وأن يعتوا بالمرضى من الناحية الدينية ومعالجة قلوبهم بالإيمان الصادق والعمل الصالح الذي هو سبب السعادة الأبدية بالفوز بالجنة والنجاة من النار لقول الله تعالى { ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً }(1) وقوله { فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز } (2) وقوله { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم }(3) ومن ذلك دعوة غير المسلمين إلى الإسلام وليحتسبوا ثواب ذلك عند الله وليثقوا منه بعظيم الأجر والجزاء.
ومن ذلك حث المرضى المسلمين على الصبر واحتساب الأجر والطهارة واجتناب النجاسة وأداء الصلاة في وقتها بحسب الاستطاعة والإكثار من ذكر الله والدعاء والاستغفار والتوبة إلى الله تعالى والدال على الخير كفاعله.
والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ، وبذلك يثابون ويشكرون ويدعى لهم وجزاهم الله خيراً على علاج القلوب والأبدان.
كما ينصح الأطباء الكرام بعدم الاختلاط بالنساء والخلوة بهن لأنهن عورة وفتنة وقد قال رسول الله ((صلى الله عليه وسلم)) ( ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء ) متفق عليه ، وقال ((صلى الله عليه وسلم)) ( اتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء ) رواه مسلم .
وأذكركم بما قيل مما يتعلق بمراقبة الله في الخلوة فقد كان الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله يرد هذين البيتين :
فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيبولا أن ما تخفي عليه يغيب إذا ما خلوت الدهر يوماًولا تحسبن الله يغفل ساعة وقال آخر :
والنفس داعية إلى العصيان إن الذي خلق الظلام يراني وإذا خلوت بريبة في ظلمة فاستح من نظر الإله وقل لها
والله ولي التوفيق ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
***
----------------------------------------------
(1) سورة الأحزاب آية 71.
(2) سورة آل عمران آية 185.
(3) سورة لقمان آية 8.(/1)
رسالة إلى الأم المسلمة
أم عائشة المصرية
الحمد لله أولاً وآخرا وصلاةً وسلاماً أتمين أكملين على النبي المصطفى وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد/
فقد يجد المربي صعابا في معرفة خصال الكبار لما وراء تصنعاتهم الكاذبة ونظراتهم المستعارة من أخلاق وصفات، أما ذلك الطفل الصغير فليس على أخلاقه غطاء ولا حجاب يسترها ولهذا تجده كالعجين يتشكل كما يريد صانعه ، ومما لاجدال فيه أن الطفل يتعلم بطريق الحواس (التقليد) قبل أن يعقل، وعلى هذه النظرية تتمشى روح التعليم برياض الأطفال، ولذا فإن دورك أيتها الأم المسلمة خطير خطير
ولابد أن تنتبهى إلى أن أمور التربية قائمة على أساس كلمتين: الواجب والنظام.
فَلِواجبك ونظامك المنزلى أثر كبير في تهذيب ولدك وتربية ابنتك وقد قال المصطفى عليه الصلاة والسلام: "كلكم راع وكلكم مسؤل عن رعيته والمرأة راعية في بيتها ومسئوله عن رعيتها"
والنصيحة هنا أيتها الأم العزيزة ألا تجعلى تربيتك لأولادك في شكل أوامر وقواعد فالطفل مَيَّال بطبعه إلى الملاطفة لا الحكم عليه، لهذا يجدر بكِ أن تكون تربيتك سلسة لينة فيتناول منها الصغير قدراً عظيماً بشهية كبيرة وميل شديد. فهذا هو واجبك نحو بنيك صغاراً على الجملة وللتفصيل حديث آخر.
وبعد ذلك يترعرع طفلك وتتناوله المدرسة ومن ثَمَّ يصير يافعاً ثم رجلاً كاملاً وكلها مراحل تحتاج إلى رعاية خاصة من الأبوين الحريصين على صلاح أبناءهم
أما ابنتك فلا تزال في رعايتك حتى حوالى العشرين من سنها ـ وهذه السن وما قبلها من أشد أدوار العمر خطورة فراقبيها بكل ما أوتيتِ من قوة وعزيمة وزوِّدى أخلاقها دائما بما غرستيه في الصغر من معانى الفضيلة والبعد عن الرذيلة.
راقبيها في أقوالها وأفعالها وحركاتها وغدوها ورواحها مع صديقاتها وجاراتها ـ وفي واقع الأمر المرأة أصلح من الرجل في التربية خاصة في مثل هذه السن وتلك الظروف، وإن لم تكن تربيتنا المنزلية قائمة على دعائم ثابتة وتهُبُّ المرأة من غفلتها فسوف تستمر المعاناة وتزداد انتكاسة الأخلاق في بلادنا أكثر مما هي عليه، وما أرجح عقل نابليون زعيم فرنسا حينما سئل أى حصون فرنسا أمنع ؟!
فأجاب: أمنع حصون فرنسا المرأة المربية الصالحة التي تقدس واجبات أسرتها.
فإليكن أيتها الأمهات أناشدكن النصح الذى لو اتَّبَعْتُنَّه لأصبحتن مطمئنات لمستقبل ذريتكن وبذلك يرفرف فوق أمتنا لواء السعادة الأبدية(/1)
رسالة إلى الشباب
الحمد لله تعالى وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واقتفى أثره ..وبعد
أخي الحبيب زهرة الدنيا وأمل الأمة : هذه رسالة للشيخ الدويش توجه بها إلى إخوانه الشباب قرأتها فأعجبتني فأحببت أن تشاركني في قراءتها لعل الله تعالى أن ينفعني وإياك بما جاء فيها ، ويجعلها سببا في عودتنا إلى طريق الله المستقيم .. آمين....
قال الشيخ .. حفظه الله : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد :
فأحييك أخي الشاب بتحية الإسلام، تحية أهل الجنة، تحية خص الله تبارك وتعالى بها هذه الأمة: وكلي أمل أن تتفضل بقراءة وجهة نظري بكل تجرد وموضوعية؛ وأحسب حينئذ أن نقاط الاتفاق بيني وبينك ستكون أكثر من نقاط الاختلاف، وأن اختلافك معي في قضية من القضايا لا يعني إهمال وإلغاء جميع ما توافقني عليه.
أتمنى أن تفكر بموضوعية وإنصاف وتجيب على هذه الأسئلة بصوت خافت لا يسمعه غيرك، أجب عليها في نفسك بكل صراحة، ولن يجنى مرارة التستر على العيوب والمخادعة إلا من يخادع نفسه.
أي العبوديتين تختار؟
تأمل في هذا الإنسان وحياته، مرة يلم به مرض، ومرة يصيبه جوع، مرة يضيق صدره … بينما تراه فتياً نشيطاً، يتحدث بملء فيه، ويعلو صوته وصياحه إذا به يصاب بفيروس لا تراه عينه المجردة فيتحول ذلك الإنسان صاحب القوة والحيوية إلى جسم ممدد طريح الفراش، ل اتكاد تميز صوته، ولا يستطيع حراكاً .
يملك المال ويوغل في الثراء، فما يلبث أن تصيبه كارثة تحوله إلى أسير لديونه، وإذا به في طرفة عين قد انقلب من قمة الثراء إلى حضيض الفقر والحاجة والفاقة.
إنها أمارة نقصه وضعفه وهكذا شاء الله أن يكون المخلوق كذلك، لذا فلابد أن يكون المخلوق عبداً، فإما أن يكون عبداً لله يخضع له ويستجيب لأمره، وإما أن يبتلى بعبودية ماسواه، أرأيت كيف يسجد ويركع بعض الناس لأحجار نحتوها بأيديهم؟ أرأيت كيف يتعبد النصارى بخرافات سطروها بأقلامهم وألغوا لأجلها عقولهم وألبابهم؟
من الشاذ؟
إن العالم الفسيح من حولنا بأرضه وسمائه ونجومه وأفلاكه، وكل صغير وكبير ندركه أو لا ندركه، كل ذلك يسجد ويخضع لخالقه تبارك وتعالى، ويلهج بالتسبيح له عز وجل. { يسبح له السموات والأرض ومن فيهن ، وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كا ن حليما غفورًا}
والظل الذي نتقي به لهيب الشمس المحرقة يتفيأ ذات الشمال واليمين ساجداً لله تبارك وتعالى.
بل هذه الشمس التي نراها كل يوم، تعلن خضوعها وسجودها لخالقها، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم "فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها.."
فما بال الإنسان بعد ذلك؟ ما باله يستنكف ويستكبر على خالقه؟ بل ما باله يتمرد على نظام الحياة أجمع؟ وماذا عساه يساوي في هذا الكون؟ وأين مكانه في هذا العالم الفسيح؟
فمن الشاذ والغريب حينئذٍ؟ ومن الذي يسبح ضد التيار؟ أهو المسلم القانت الساجد المسبح لله تبارك وتعالى فيتجاوب مع هذا الكون الخاضع لربه؟ أم هو الذي يتمرد على خالقه، ويستنكف عن طريق الهداية، فيستظل ويختبئ حين يواقع المعصية وراء حائط يسبح ويسجد لربه، والسيارة والهاتف والقلم… وسائر ما ييسر له طريق المعصية يخضع لمولاه ويسبح ويسجد له.
فالذي يسلك طريق الهداية يسير وفق السنة التي يسير عليها الكون أجمع، أما الذين يتنكبون طريق الهداية فيعيشون تناقضاً في حياتهم، ليس مع الكون الأرحب الواسع بل مع ذواتهم وأنفسهم، فأجسادهم وأعضاؤهم تخضع لله.
أسرى ولكن لايشعرون ..
أرأيت أتباع الشهوات والغارقين في أوحالها؟ أتظن أنهم يعيشون السعادة؟
إنهم أسرى وعبيد لهذه الشهوة المحرمة تأمرهم فيطيعون، وتنهاهم فينتهون، ولسكرهم في لذتهم لا يدركون ما هم فيه، وهاهو أحدهم لا يجد شبهاً لنفسه وحاله إلا بأهل الجنون، فرحم الله امرءًا عرف قدر نفسه.
قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم العشق أعظم مما بالمجانين
العشق لايستفيق الدهر صاحبه وإنما يصرع المجنون في الحين
إن أحدهم يقدم ما يملك فداء لمن يعشقه ويحبه، بل قد ينحر دينه قرباناً بين يدي معشوقه، وهاهو أحدهم يعبر عن ذلك:
رهبان مدين والذين عهدتهم يبكون من حذر العذاب قعوداً
لو يسمعون كما سمعت كلامها خروا لعزة ركعاً وسجوداً
ويستغرق المعشوق فؤاد من يعشقه فلا يبقى فيه مكان للبحث عن رضا مولاه، بل قد يصبح رضا الله مرتبة دون رضا معشوقه، كما قال هذا الشقي عن محبوبه -عافانا الله :
اسلم يا راحة العليل ويا شفا المدنف النحيل
رضاك أشهى إلي فؤادي من رحمة الخالق الجليل(/1)
ولو أدرك أتباع الشهوات اللاهثون وراءها مرادهم، فسرعان ما تنتهي حياتهم، وتنتهي معها المتعة ويبقى دفع الثمن الباهظ الذي لا يمكن أن يقارن بحال بتلك الشهوة العاجلة واللذة الفانية، وهاهو الناصح الأمين صلى الله عليه وسلم يخبرنا عن ذلك فيقول : " يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة ثم يقال: هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول:لا والله يارب، ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة، فيقال له: ياابن آدم: هل رأيت بؤساً قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط" .
فالدنيا كلها ومتاعها وشهواتها تنسى في غمسة واحدة في العذاب، فكيف بما بعد ذلك؟
ماذا تنتظر؟
أعرف أن الشاب الغافل ليست هذه أول كلمة يسمعها، وأنه قد مرت به مواقف عدة دعته للتفكير في التوبة والرجوع إلى الله، لكن السؤال الذي لم أجد له إجابة مقنعة إلى الآن هو: لماذا الإصرار على الخطيئة؟ ولماذا التردد في سلوك سبيل الصالحين؟
انظر إلى من حولك، إلى من هو في سنك وعمرك، ممن هداهم الله فأقبلوا على طريق الصلاح والتقوى، وانظر إلى من كان له تاريخ في الغفلة والصبوة، فنهض وعاد إلى مولاه، إنهم بشر مثلك، ولهم شهوات وتنازعهم غرائز، وتعرض لهم الفتن وتشرع أبوابها أمام ناظريهم، فما بالهم ينتصرون على أنفسهم؟ وما الذي يجعلهم يستطيعون وأنت لاتستطيع؟ ولم ينتصرون وتنهزم أنت؟ بل ربما أنت أقوى شخصية من أحدهم، وأكثر ذكاء من الآخر وفطنة؛ إن الذي جعل هؤلاء ينتصرون على أنفسهم يمكن أن يجعلك كذلك.
فهلا سلكت أنت الطريق وأقبلت إلى ربك؟!
واعلم بأن الله يفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه أشد من فرح رجل كان في صحراء على دابة فأضاعها وعليها طعامه وشرابه، ونام تحت شجرة ينتظر الموت فلما استيقظ وجدها عند رأسه، فقال من شدة الفرح ـ اللهم أنت عبدي وأنا ربك ـ أخطأ من شدة الفرح .. ففرح الله بتوبة عبده أشد من فرح هذا الرجل بدابته، فأقبل عليه، واتخذ القرار الحاسم ولا تتردد.
أيهما أكثر رجولة؟
صفة الرجولة صفة يحبها جميع الناس، ونفي الرجولة عن أحد تهمة جارحة يرفضها المرء ولو كانت جميع صفات الرجولة معدومة لديه.
أيهما أكثر رجولة وأقوى شخصية؟ الشاب الذي تقعد به نفسه عن فعل ما أمره به مولاه فتنتصر عليه، أم الشاب الذي يجتاز العقبات، ويستجيب لأمر ربه ولو كان شاقاً على نفسه؟
أيهما أكثر رجولة وأقوى شخصية الشاب الذي يسير وراء غرائزه وشهواته، ويستجيب لنفسه في كل ما تدعوه إليه وتدفعه له؟ أم الآخر الذي يملك الغرائز والشهوات، وتدعوه نفسه وتدفعه إليها، لكنه يكبح جماحها ويضبطها، ويقول لها: ليس من حقك أن تتمتعي بكل ما تريدين، فثمة عاقبة وخيمة للسير في هذا الطريق، وثمة عاقبة حميدة لمن يمنع نفسه عن الحرام؟ وهو وإن ترك الشهوة العاجلة فهو يعلم أن نهايتها في الدنيا مؤلمة، إما مرض عضال، أو فضيحة تنغص حياته، أو مصيبة أو كارثة، وحين ينجو من عذاب الدنيا لن ينجو من عذاب الآخرة إلا أن يمن الله عليه بعفوه.
أما الامتناع عنها فعاقبته السعادة في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة .
إن أشجع قرار، وأولى قرار يتخذه الإنسان هو أن يغير مجرى حياته، ويسلك في قطار الصالحين الأخيار. فأتمنى أن نكون شجعانا وجريئين؛ فنتخذ هذا القرار.(/2)
رسالة إلى العقل والقلب
بقلم طارق أبو عبد الله
أما فكرت في نفسك قط من عساه يكون ذلك الرجل الذي شغل البشرية بما جاء به إلى يومنا هذا و بُعثت به من العدم أمة كانت تعيش في جاهلية عمياء فأصبحت في غضون سنوات قليلة دولة راسخة الأركان وحضارة مزدهرة امتدت في جميع أنحاء المعمورة لا يقف في وجهها شيء ؟
أما تأملت كيف استطاع رجل بمفرده – لو كان بمفرده – أن يحدث أكبر تغيير شهده التاريخ و هو على يقين بما جاء به و ما سيصل إليه من أول يوم بدأ فيه دعوته ؟ ألم تسأل ما الذي جناه هذا الرجل لنفسه من متاع الدنيا مقابل تحمله مشاق هذه الدعوة و الصبر على أذى قومه و تكذيبهم ثم جهادهم عليها جهادا كبيرا ؟ إذا أردنا الإجابة عن هذه الأسئلة فلابد أن نبدأ من البداية التاريخية التي يتفق عليها المصدقون به و المكذبون من قومه و من أهل الكتاب من وقت عاش إبراهيم عليه السلام.
هناك في تلك البقعة المباركة حيث ترك النبي إبراهيم عليه السلام ولده الرضيع إسماعيل و زوجته هاجر وحدهما في الصحراء بأمر من ربه و سافر إلى الشام تولى الله أمر الصبي و أمه و فجر لهما بئر زمزم ينبوعا صافيا و ماء معينا بمعجزة إلهية باقية إلى يومنا هذا يرتوي منها الحجاج و المعتمرون من جميع أنحاء الأرض ثم ألف الله حولهم قلوب مجموعة من البدو فعاشت معهما حول الماء و نما بينهم الفتى إسماعيل و تعلم لغتهم حتى أمر الله إبراهيم عليه السلام أن يعيد بناء البيت الحرام بعد أن هدمه طوفان نوح عليه السلام لكي يعبد الناس عنده ربهم .
فرفع إبراهيم و إسماعيل قواعد البيت و أذن إبراهيم في الناس بحج البيت فلبى الناس النداء - و ما زالوا يلبون إلى يومنا هذا – و ظل هذا البيت آية و قبلة للناس تحج إليه العرب و تعظمه أشد التعظيم و لا ينكر حقه و فضله يهودي و لا نصراني حتى أن الملك النصراني الذي أراد هدمه – و هو إبرهة – كي ينصرف الناس عنه إلى كنيسة بناها بالحبشة رد الله كيده في نحره و أرسل عليه طيرا من السماء ترميه بحجارة ملتهبة أهلكته و جنوده في حادثة خلدها القرآن في سورة كاملة[1]لم ينكرها أي من مشركي العرب و هم الذين كانوا يتلهفون لكي يجدوا خطأ واحدا في القرآن. و في نفس هذا العام وُلد من بني إسماعيل بجوار البيت ذلك الفتي اليتيم الأمي الذي عرف بين عشيرته بالصادق الأمين و عاش بينهم أربعين سنة كان فيها مثال الصدق و الشهامة و الأخلاق الفاضلة فنشأ حنيفا على ملة أبيه إبراهيم لا يشارك قومه في عبادتهم للأوثان و لا في لهوهم و لعبهم وحُبِّب إليه الخلوة فكان يخلو بنفسه في أحد جبال مكة يعبد ربه و يتأمل في ملكوت السماوات و الأرض حتى نزل عليه روح القدس و أمين الوحي جبريل عليه السلام فأقرأه أولى آيات القرآن الكريم ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ . خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ . اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ . الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ . عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ .) فعاد محمد يرجف بها فؤاده فدخل على خديجة زوجته قائلا زملوني زملوني[2]و أخبرها بما حدث فقالت " كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق".
ثم ذهبت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل وكان امرءا تنصّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت له خديجة: يا بن عم، اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا بن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقاله له ورقة: هذا الناموس الذي نزّل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعا[3]، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك.
و هذه كانت البداية .. بداية الرسالة.
و الآن نعود لنسأل أنفسنا نفس الأسئلة السابقة
هل كان هذا الرجل بمفرده أم أنه كان مؤيدا من عند الله عز و جل؟
و هل يجب عليّ أن أتخذ موقفا واضحا و منصفا منه أم يكفي أن أسير هكذا كما سار أبائي و أجدادي و لا أشغل نفسي بأمره؟
إن العقل الراجح و البحث المحايد إذا نظر في دعوى محمد –صلى الله عليه و سلم - للنبوة ذلك الأمر العظيم فعليه أن يبحث في ثلاثة أمور على الأقل هي
1. حياة محمد و سيرته و أخلاقه و تعامله مع أعدائه فضلا عن أصحابه
2. ما جاء به محمد و ما دعا إليه من عقائد و شرائع و معاملات
3. موقفه من الأنبياء السابقين الذين يتفق الناس على نبوتهم وأصحاب الديانات الأخرى من أهل الكتاب و موقف أهل الكتاب منه(/1)
وقبل أن نستطرد في هذا البحث أود أن نتفق معا على قاعدة في غاية الوضوح والبداهة وهي أن العقيدة الصحيحة المنزلة من عند الله في السماء لهداية البشر إلى ربهم يجب أن تكون هي أوضح الأمور و أبسط المسائل لا يكتنفها الغموض والتعقيد ولا يختلجها التكلف أو التناقض ويجب أيضا أن تكون مبنية على أدلة قوية واضحة وضوح الشمس لا على الظنون والأوهام ويجب ألا تحتاج الحقيقة إلى السب والشتم واختلاق الأكاذيب للإقناع بها ويجب أن يفهمها الناس على اختلاف عقولهم وأفهامهم بدون الحاجة إلى الخوض في متاهات الفلسفة و السفسطة.
فإذا اطمئن قلبك لسلامة هذا المنهج ونمت في نفسك روح البحث عن الحق في هذا الأمر الخطير فالجزء الأول من هذه الرسالة الصغيرة يضع أمامك خطوطا رئيسية و علامات في طريق بحثك لك أن تقرأها و تعرضها على قلبك و عقلك ثم تتبع ما تطمئن إليه نفسك و ينشرح له صدرك
و أما الجزء الثاني فيناقش جانبا آخر من قضية الدين – أهم قضية في حياة الإنسان الدنيوية والأخروية - و هي مناقشة عقلانية لبعض العقائد التي تربي بعضنا عليها بدون أن يعطي نفسه فرصة للتفكر فيها بهدوء إيمانا بأن الإنسان السوي هو الذي يحترم عقله و فطرته و لا يسير كالقطيع مغمض العينين في أمر قد يترتب عليه سعادته الأبدية أو شقاؤه الأبدي و لكنه الذي يعمل عقله و فكره و لا يعطلهما و يسأل ربه في كل وقت أن يهديه الصراط المستقيم الذي يوصله إليه
النبي الأمي
أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ ؟
كل من قرأ سيرة محمد و أخباره و أيامه من الباحثين المنصفين غير المسلمين أجمعوا على أن هذا الرجل قد اجتمعت فيه كل صفات الكمال البشري من حسن الخلق و رجاحة العقل و سلامة الفطرة و رقة الطبع و الشجاعة و بلاغة اللسان. هذا الفيلسوف الإنجليزي توماس كارليل الحائز على جائزة نوبل يقول في كتابه الأبطال : " لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد متحدث هذا العصر أن يصغي إلى ما يقال من أن دين الإسلام كذب ، وأن محمداً خدّاع مزوِّر.
وإن لنا أن نحارب ما يشاع من مثل هذه الأقوال السخيفة المخجلة ؛ فإن الرسالة التي أدَّاها ذلك الرسول ما زالت السراج المنير مدة اثني عشر قرناً لنحو مائتي مليون من الناس ، أفكان أحدكم يظن أن هذه الرسالة التي عاش بها ومات عليها هذه الملايين الفائقة الحصر والإحصاء أكذوبة وخدعة ؟!
إلى أن قال : " وعلى ذلك ، فلسنا نَعُدُّ محمداً هذا قط رجلاً كاذباً متصنعاً ، يتذرع بالحيل والوسائل إلى بغيته ، ويطمح إلى درجة ملك أو سلطان ، أو إلى غير ذلك من الحقائر. وما الرسالة التي أدَّاها إلا حق صراح ، وما كلمته إلا قول صادق.
كلا ، ما محمد بالكاذب ، ولا المُلفِّق ، وهذه حقيقة تدفع كل باطل ، وتدحض حُجة القوم الكافرين.
ثم لا ننسى شيئاً آخر ، وهو أنه لم يتلق دروساً على أستاذ أبداً ، وكانت صناعة الخط حديثه العهد إذ ذاك في بلاد العرب ـ وعجيب وأيم الله أُمِّيَةَ العرب ـ ولم يقتبس محمد من نور أي إنسان آخر ، ولم يغترف من مناهل غيره ، ولم يكن إلا كجميع أشباهه من الأنبياء والعظماء ، أولئك الذين أشبِّههم بالمصابيح الهادية في ظلمات الدهور.
وقد رأيناه طول حياته راسخ المبدأ ، صادق العزم بعيداً ، كريماً بَرًّا ، رؤوفاً ، تقياً ، فاضلاً ، حراً ، رجلاً ، شديد الجد ، مخلصاً ، وهو مع ذلك سهل الجانب ، ليِّن العريكة ، جم البشر والطلاقة ، حميد العشرة ، حلو الإيناس ، بل ربما مازح وداعب ، وكان ـ على العموم ـ تضيء وجهه ابتسامةٌ مشرقة من فؤاد صادق ؛ لأن من الناس من تكون ابتسامته كاذبة ككذب أعماله وأقواله " . ويقول:
: " كان عادلاً ، صادق النية ، كان ذكي اللب ، شهم الفؤاد ، لوذعياً ، كأنما بين جنبيه مصابيح كل ليل بهيم ، ممتلئاً نوراً ، رجلاً عظيماً بفطرته ، لم تثقفه مدرسة ، ولا هذبه معلم ، وهو غني عن ذلك"
و بعد أن أفاض كارليل في إنصاف النبي محمد ختم حديثه بهذه الكلمات : "هكذا تكون العظمة• هكذا تكون البطولة•هكذا تكون العبقرية"
أما <لا مارتين> الفيلسوف الفرنسي فيدافع بحرارة النبي صلى الله عليه وسلم وينفي بصرامة وقوة أن يكون كاذباً أو مفترياً على الله فيقول:(/2)
<إن حياة محمد، وقوة كقوة تأمله وتفكيره وجهاده، ورباطة جأشه لتثبيت أركان العقيدة الإسلامية••• إنه فيلسوف وخطيب ومشرع وهاد للإنسانية إلى العقل وناشر للعقائد المعقولة الموافقة للذهن وهو مؤسس دين لا فرية فيه ومنشئ عشرين دولة في الأرض وفاتح دولة في السماء من ناحية الروح والفؤاد، فأي رجل أدرك من العظمة الإنسانية ما أدرك محمد وأي آفاق بلغ إنسان من مراتب الكمال ما بلغ محمد• و يقول في موضع آخر : "أعظم حدث في حياتي هو أنني درست حياة رسول الله محمد دراسة واعية ، وأدركت ما فيها من عظمة وخلود، ومن ذا الذي يجرؤ على تشبيه رجل من رجال التاريخ بمحمد ؟! ومن هو الرجل الذي ظهر أعظم منه ، عند النظر إلى جميع المقاييس التي تُقاس بها عظمة الإنسان؟! إن سلوكه عند النصر وطموحه الذي كان مكرساً لتبليغ الرسالة وصلواته الطويلة وحواره السماوي هذه كلها تدل على إيمان كامل مكّنه من إرساء أركان العقيدة. إن الرسول والخطيب والمشرع والفاتح ومصلح العقائد الأخرى الذي أسس عبادة غير قائمة على تقديس الصور هو محمد ، لقد هدم الرسول المعتقدات التي تتخذ واسطة بين الخالق والمخلوق[4]"
و هذا جوتة الأديب الألماني : ""إننا أهل أوربة بجميع مفاهيمنا ، لم نصل بعد إلى ما وصل إليه محمد ، وسوف لا يتقدم عليه أحد، ولقد بحثت في التاريخ عن مثل أعلى لهذا الإنسان ، فوجدته في النبي محمد … وهكذا وجب أن يظهر الحق ويعلو، كما نجح محمد الذي أخضع العالم كله بكلمة التوحيد"[5]
ويقول الأديب الروسي (ليو تولستوي) والذي حرمته الكنيسة بسبب آرائه الحرة الجريئة:
"أنا واحد من المبهورين بالنبي محمد الذي اختاره الله الواحد لتكون آخر الرسالات على يديه ، وليكون هو أيضاً آخر الأنبياء … ويكفيه فخراً أنه هدى أمة برمتها إلى نور الحق ، وجعلها تجنح للسكينة والسلام ، وفتح لها طريق الرقي والمدينة"[6]
ويقول العلامة شيريل ، عميد كلية الحقوق بفيينا :"إن البشرية لتفتخر بانتساب رجل كمحمد إليها"
فهل ترى أن كل هؤلاء الأدباء و المفكرين – و لولا قصر الرسالة لذكرت أكثر من ذلك- من مختلف الجنسيات قد اخطأوا في مدح محمد؟ أو أنهم أجمعوا علي الثناء عليه بمحض الصدفة؟ أم أنهم كانوا غير مشهورين فأرادوا أن ينالوا الشهرة من خلال مدحهم له – صلى الله عليه و سلم- ؟ أم أن هذه الشخصية العظيمة تستحق فعلا الثناء والمدح؟ ترى هذا الرجل الذي لبث بين ظهراني قوم جاهليين و ظل فيهم أربعين سنة لا يشاركهم في عبادتهم للأوثان و لا يقارف منكرا مدة شبابه كله حتى إذا بلغ من العمر أربعين سنة و أصبح إلى الشيخوخة أقرب منه إلى الشباب أتى بهذا الأمر العظيم بعزيمة أمضى من السيف و أمل أسطع من البرق لا يكل و لا يمل حتى أدى رسالته و نجح في مهمته هل يمكن أن يكون مزوِّرا؟
هؤلاء أهل مكة قالوا له بألسنتهم قبل أن يبلغهم الدعوة " ما جربنا عليك كذبا قط" و كانوا يودعون عنده أماناتهم حتي بعد أن جهر بالدعوة لإنه عندهم ما زال الصادق الأمين و لو كذب مرة واحدة لما آمن به أحد منهم فهل تراه يذر الكذب على الناس ثم يكذب على الله ؟ و قد بلغ من حسن أخلاقه أن الرجل كان يأتيه قبل أن يسلم و هو أشد الناس كراهية له – ص – فما يمكث معه إلا قليل حتى يقوم من عنده داعيا قومه قائلا لهم جئتكم من عند خير الناس و قد أصبح أحبهم إليه –صلى الله عليه وسلم.
هب أن أخلاقه هذه كانت تكلفا مع الناس فهل يتحمل أن يتكلف أيضا داخل بيته مع زوجاته و بناته – على كثرتهن – أم أنه كان يحسن معاشرتهن[7]و يقول [خيركم خيركم لأهله و أنا خيركم لأهلي ] حتى أن أول من آمن به و صدقه زوجته خديجة؟ و حينما سئلت زوجاته عن حاله في بيته قالت كان في مهنة أهله - تعني في خدمة أهله - فإذا حضرت الصلاة خرج فصلى وفي حديث آخر كان يخصف نعله ويخيط ثوبه ويعمل في بيته كما يعمل أحدكم في بيته ولم يضرب بكفه امرأة قط و كان يستئذن زوجاته إذا أراد أن يُمَرّض في بيت إحداهن و كان يداعبهن و سابق عائشة زوجته مرتين فسبقته و سبقها وكان يمزح ولا يقول إلا حقا و كان يدعو أصحابه إلى إحسان عشرة النساء و يقول اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهنَّ بأمانة الله و كان يقول أن خير الدراهم هو الدرهم الذي ينفقه الرجل على أهل بيته
بل إن خادمه أنس بن مالك يقول : [خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي: أف، ولا: لم صنعت؟ ولا: ألا صنعت[.و كانت آخر وصيته قبل موته الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم يوصي بالمحافظة على الصلاة وإحسان معاملة الخدم والعبيد(/3)
و كان –ص- أكرم الناس فما سُئل شيئا يملكه و قال لا و كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر وكان مثالا في الحلم والصفح فقد روي أنه كان نائما تحت ظل شجرة و سيفه معلق عليها فجاء أعرابي فأخذ السيف و قال يا محمد من يمنعك مني فقال : الله . فسقط السيف من يد الرجل فأخذه النبي و قال له من يمنعك أنت الآن مني فقال لا أحد فعفا عنه وانصرف الرجل و قسم مرة مالا بين ناس فجاءه أعرابي فجذبه من طرف ردائه و قال هذه قسمة ما أريد بها وجه الله فغضب رسول الله و ما زاد على أن قال و من يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله؟ رحم الله موسى فقد أوذي بأكثر من هذا و صبر و كان أرحم الناس و أرضاهم بقضاء الله انظر إليه و قد فاضت روح ابنه إبراهيم بين يديه فقال و هو تدمع عيناه : " تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، والله يا إبراهيم إنا بك لمحزونون ".و كان أشجع الناس حتى أن الصحابة كانوا يحتمون به في المعركة إذا اشتد وطيسها و حمي أوارها. أفما آن للعاقل أن يفكر : هل يمكن أن تجتمع كل هذه الشمائل-التي لم تتغير طوال حياة صاحبها- إلا في نبي كريم متبع لملة أبيه إبراهيم؟ هل جنى محمد – ص – لنفسه من دعوته تلك شيئا من متاع الدنيا الزائل أم أنه كان يربط الحجر والحجرين على بطنه من الجوع و يقول اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة [8]؟ ألم يكن يظل بالشهر و الشهرين و لا توقد في بيته نار و يقول اللهم اجعل رزق آل محمد كفافاً في حين أنك ترى في كل دين آخر ما يكفل للكهنة و رجال الدين فيه مصادر الثروة و الغنى[9]فما الذي صبره على ذلك إن لم يكن من الصادقين ؟ و ما الذي حمله على ألا يقبل غلو أصحابه في حبه و مدحه فتراه لا يرفع نفسه عن قدره و يقول لأصحابه لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبده فقولوا عبد الله و رسوله و في إحدى المواقف جلست جويريات يضربن بالدف صبيحة عرس إحدى نساء الأنصار و جعلن يضربن بالدف ويندبن من قتل من أبائها يوم بدر، إذ قالت إحداهن: وفينا نبي يعلم ما في غد، فقال: دعي هذا، و قولي بالذي كنت تقولين و مصداق ذلك في كتاب الله :" قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ"
و لما توفي أحد المهاجرين قالت عنه امرأة من الأنصار : رحمة الله عليك يا أبا السائب، فشهادتي عليك: لقد أكرمك الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك أن الله أكرمه). فقلت: بأبي أنت يا رسول الله، فمن يكرمه الله؟ فقال: (أما هو فقد جاءه اليقين، والله إني لأرجو له الخير، والله ما أدري، وأنا رسول الله، ما يفعل بي). قالت: فوالله لا أزكي أحدا بعده أبدا
أترى لو كان محمد يتحامى الكذب دهاء و سياسة خشيةً أن يكشف الغيب قريبا أو بعيدا عن خلاف ما يقول ما الذي كان يمنعه أن يتقول ما يشاء في شأن ما بعد الموت و هو لا يخشى من يراجعه فيه و لا يهاب حكم التاريخ عليه؟ لقد منعه الخلق العظيم و تقدير المسئولية الكبرى أمام حاكم آخر أعلى من التاريخ و أهله[10]
هب أنه كان يكذب على الناس أفكان يكذب على نفسه أيضا؟ فقد كان مجموعة من الصحابة يحرسون النبي حتي نزلت هذه الآية : " يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ " فقال لهم (أيها الناس، انصرفوا فقد عصمني الله) [11]ولم يتخذ حرسا بعدها و قد وقف وحده في ميدان المعركة وسط المشركين و قد تفرق أصحابه من حوله و هو يهتف : أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب فمن ذا الذي حماه و عصمه حتى بلغ الرسالة كاملة و أدى الأمانة أوفى أداء؟ و ما الذي جعله واثقا تمام الثقة من النصر و التمكين لدينه حتى في أحلك المواقف و أقسى الأزمات[12]فيبشر أصحابه بعروش كسري و قيصر في حين أن اليهود و العرب يحاصرونهم من أسفل منهم و من فوقهم وقد زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر إلا إن كان موعودا من الله الذي لا يخلف الميعاد بالنصر والتمكين؟ هبه امتلأ رجاء ببقاء هذه الدعوة و ظهورها ما دام يتعهدها بنفسه فمن الذي تكفل له بعد موته ببقائها و حمايتها وسط أمواج المستقبل العاتية؟ و كيف يجيئه اليقين في ذلك و هو يعلم من عِبَر الزمان ما يفت في عضد هذا اليقين فكم من نبي قُتل و كم من كتاب فقد أو حُرِّف ؟[13]هل رأيت كاهنا أو ساحرا أو عرافا جاءه مثل هذا اليقين الذي لا يتزعزع و الثبات الذي لا يتردد؟؟(/4)
ومن الذي ألف حوله قلوب أصحابه و جمعهم على دعوته بعد أن كانوا قبائل متناحرة لا يجمعهم نظام ولا ينقادون تحت لواء[14]؟ أرأيت كيف استجابوا له في النهاية إذ دعاهم إلى ترك دين أبائهم وأجدادهم إلى عبادة الله وحده و ترك الأنفة والفخر إلى ضرب الظهور بالسياط إن شربوا الخمر أو قذفوا إنسانا و قطع الأيدي إن سرقوا أو أفسدوا في الأرض؟ فمن الذي حول طباعهم من الغلظة والبداوة وبعد أن كان أحدهم يأنف أن تسبق ناقته ناقة أخرى إلى رفق الإسلام و رحمته وتواضعه فأصبح السيد والعبد يقفان متجاورين في الصلاة؟ ومن الذي كان يجيب دعائه إذا دعا لأحد من أصحابه ؟ ألم يدعُ للمدينة المنورة بأكملها ألا يدخلها طاعون فما دخلها وباء إلى اليوم ؟ ألم يدع لقبيلة بأكملها أمام أصحابه أن تسلم وتأتيه فأسلمت عن بكرة أبيها؟ أتراه يغامر لو كان كاذبا بأمر كهذا؟ أيمكن لرجل أمي أن يغامر و يزعم أنه نبي يؤمن بجميع الأنبياء من قبله من أول آدم مرورا بموسى و عيسى عليهما السلام و يجعل الكفر بواحد منهم كالكفر بالجميع ثم يتحدى أهل الكتاب من اليهود و النصارى الموجودين في عهده – بل إلى قيام الساعة – و يناقشهم في أخص أمور دينهم بل و يفضحهم و يواجههم بتحريفهم لكتب أنبيائهم؟ لقد بلغ من تحديه إياهم أنه لما هاجر توجه إلى أحد معاقل اليهود في الجزيرة العربية و هي يثرب -و كان يمكنه أن يهاجر إلى أرض ليس بها أهل كتاب فما الذي دعاه إلى ذلك لو كان من الكاذبين؟ قل لي بربك لو كان هذا الدين من عند نفسه و ليس من عند الله فما حاجته للإيمان بالأنبياء السابقين و يدخل في هذه المواجهات[15]مع اليهود و النصارى و يعلن أن إلهه و إلههم واحد و لكنهم هم الذين غيروا شريعته و بدلوا و حرفوا. ثم إنك تجد أن علماء اليهود و النصارى المنصفين يدخلون في دينه أفرادا وجماعات و يتبعون شريعته منذ أن بعثه الله و إلى اليوم.[16] إن الكثيرين منهم عندما يتجردون من الأهواء و النزعات الشخصية و العصبية فإنهم سرعان ما يبصرون الحق و يعتنقونه بل إن عدداً من المستشرقين والمبشرين النصارى الذين بدئوا حملتهم مصممين على القضاء على الإسلام وإظهار عيوبه المزعومة ، أصبحوا هم أنفسهم مسلمين ، وما ذلك إلا لأن للحق حجته الدامغة التي لا سبيل إلى إنكارها. قال الله عز وجل " أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ "
ثم كيف يمكن لرجل عادي – لو كان عاديا – أن يؤلف وحده شريعة محكمة لا تدع أمرا من أمور الإنسان إلا ونظمته على الوجه الأمثل بدءا من طريقة الأكل و الشرب حتى نظام الحكم فما تركت خيرا من أمور الدنيا إلا و أمرت به و لا شرا إلا و نهت عنه و يشهد بذلك مفكرو الغرب أنفسهم و الدراسات الحديثة و الفضل ما شهدت به الأعداء. و ما زالت إلى اليوم هذه الشريعة معينا لا ينضب للباحثين و العلماء يستخرجون منها من الحكم الباهرة و الأحكام الدقيقة ما يدعو الناس للإيمان و التصديق.[17] كيف أمكن لرجل بمفرده- لو كان بمفرده- أن يحدث أكبر تغيير ديني و حضاري و سياسي و اجتماعي في العالم استمر إلى الآن حتى إن مفكري الغرب عندما اجتمعوا لكي يحددوا المائة الأوائل الذين كان لهم أكبر تأثير في تاريخ البشرية جعلوا محمدا على رأسهم و ظهر ذلك في كتاب المائة الأوائل لمايكل هارت[18]ألم تمر على أمة الإسلام مائتا عام إلا وكان المسلمون يعيشون نهضة علمية في شتى المجالات في حين كانت أوروبا ترزح تحت جبال من الجهل و التخلف و الخرافات؟!(/5)
ثم ألم يكن أولى به لو كان يدعي النبوة أن يخفف من تكاليف الشريعة لأقصى درجة ممكنة لكي يستكثر من الأتباع و لا ينفر الناس من الدخول في الدين الجديد [19]لكنك ترى أنه أخبرنا أن الله فرض علينا خمس صلوات في اليوم و الليلة منها ما يوافق ساعات نوم الإنسان و أمرنا بزكاة تؤخذ من أغنيائنا لترد على فقرائنا و أمرنا بصيام شهر كامل كل عام و بحج بيت الله الحرام مع ما في ذلك من مشقة للبعض ثم حض بعد ذلك على أداء الزيادة من هذه الطاعات و قيام الليل تقربا إلى الله ثم الأمر بالإحسان إلى الخلق بمختلف أنواع البر و صلة الأرحام والأقارب وإن قطعوا و العفو عن الأنام إن ظلموا و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و الجهاد في سبيل الله ثم النهي عن لذائذ النفوس و شهواتها المحرمة كالزنا و كل ما يدعو إليه من نظر أو لمس أو تبرج و شرب الخمر و أكل الربا ثم يكون بعد ذلك أول الناس التزاما بما يدعو إليه حتى في خلوته حين يظن أن لا يراه بشر بل و يزيد على أصحابه في الطاعة ما لا يطيقونه هم[20]. فما الذي حمله على ذلك إن لم يكن من الصادقين في عبادته لربه و في نبوته؟ هل الذي يأمر بهذه الأوامر يمكن أن يكون كاذبا على الله؟ ( أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ ) ألا تعجب أنه مع كل تكليفات الإسلام هذه فإنه أوسع الأديان انتشارا و ذلك باعتراف غير المسلمين و يقبل عليه الناس من جميع الفئات و الأعمار حتى الأطفال.[21] لو كان محمد كاذبا فلماذا تركه الله ينشر دعوته طوال23 سنة بدون أن يعاقبه أو على الأقل بكشف كذبه للناس ولو بزلة لسان؟!
أو كان صدفة أن يولد هذا النبي و يحيا أكثر عمره بجوار بيت الله الحرام الذي بناه إبراهيم عليه السلام و ما زالت آثار إبراهيم موجودة فيه إلى اليوم ثم يتخذه قبلة في صلاته؟ ومن الذي حفظ الكعبة من التدمير على يد إبرهة والمشركين و حفظ مكانتها و مهابتها في قلوب المؤمنين ؟ تُرى لو أن هذا الدين كان من تأليفه فهل تكون الكعبة المشرفة من بنائه أم تكون بئر زمزم من حفره؟! ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً )
النبأ العظيم
قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
كل المؤرخين مجمعون على أن النبي نشأ أميا لا يعرف القراءة و الكتابة و أنه لم يكن يقرض الشعر في حياته بينما كانت العرب تفتخر ببراعتها البلاغية و يقيمون الأسواق يتباهون فيها بالقصائد الطوال و المعلقات الجياد و لم يكن لمحمد أى شأن يذكر في هذا المضمار من قريب أو بعيد. ثم ماذا؟ ثم خرج علهم محمد بين عشية وضحاها بآيات بينات غاية في البلاغة و جمال النظم تحدى بها قومه بل تحدى بها العالم كله -وهكذا الرسل تأتي بمعجزات من جنس ما برع فيه أقوامهم ليكون أبلغ في الإعجاز- وقال للناس( لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ). فانظر إلى هذا النفي المؤكد بل الحكم المؤبد هل يستطيع عربي يدري ما يقول أن يصدر هذا الحكم و هو يعلم أن مجال المساجلات مفتوح بين العرب على مصراعيه؟ ألم يكن يخشى أن يثير هذا التحدي حميتهم الأدبية فيهبوا لمنافسته و هم جميع حذرون؟ سل نفسك لو طوعت لمحمد نفسه أن يصدر هذا الحكم على أهل عصره فكيف يصدره على الأجيال القادمة إلى يوم القيامة بل على الإنس و الجن؟ ثم سلها ألم يفز القرآن في هذا التحدي فلم يهم بمعارضته أحد إلا باء بالعجز الواضح و الفشل الفاضح على مر العصور و الدهور. [22] لقد نزل هذا التحدي إلى أن يأتوا بعشر سور مثله فما استطاعوا ثم نزل أكثر إلى سورة واحدة تضارع أقصر سور القرآن و أعلن أنهم لن يستطيعوا فهل سمعت أن رجلا ألف سورة مثل سور القرآن تلقاها العالم بمثل ما تلقى به القرآن؟ سل نفسك كيف ظل القرآن محفوظا إلى اليوم كما وعد الله (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) يتناقله المسلمون جيلا بعد جيل متواترا[23] بينهم بنفس اللغة لا تتغير فيه كلمة و لا حرف و لا حركة تشكيل بطريقة هي أعلى طرق الرواية تثبتا و حفظا في حين أن غيره من الكتب فُقِدت أو غُيِّرت أو اندثرت لغاتها الأصلية. سل التاريخ كم مرة تسلط الكفار على المسلمين فأثخنوا فيهم القتل و أكرهوا أمما منهم على الكفر و أحرقوا الكتب و هدموا المساجد و صنعوا ما كان يكفي القليل منه لضياع هذا القرآن كُلا أو بعضا كما فُعل بالكتب من قبله لولا أن يد العناية تحرسه فبقي وسط هذه المعامع رافعا راياته و أعلامه حافظا آياته و أحكامه...[24](/6)
ألم تعجب كيف يسره الله القرآن للحفظ ما لم ييسر لأى كتاب آخر فتجد أن الطفل يبلغ السادسة من عمره و قد حفظ القرآن كله و قد يكون مع ذلك أعمى ! كيف يحدث ذلك الانسجام العجيب بين الفطرة البشرية و بين القرآن إلا أن يكون خالق النفس البشرية هو نفسه مصدر هذا القرآن؟
ثم إنك إذا تأملت طريقة نزول القرآن رأيت عجبا...فإنه لم ينزل جملة واحدة من السماء لكن كان ينزل مفرقا حسب الوقائع و الأحوال فربما نزلت بدايات سورة و لا تنزل خواتيمها أو أواسطها إلا بعد عشر سنين تكون خلالها نزلت سور أخرى و ختمت أو لم تختم فإذا هبط جبريل على النبي بآيات جمع النبي أصحابه ليكتبوا وراءه ثم يقول ضعوا آية كذا في سورة كذا في موضع كذا وآية كذا في سورة كذا و هكذا فتوضع الآية في مكانها الذي نزلت من أجله في أول السورة أو وسطها أو آخرها بين آيتين قد تكونا نزلتا قبلها بعشر سنين فتقرأ السورة فلا تحس بأي تنافر بين أجزائها. ثم إن الآية توضع مكانها الذي نزلت من أجله ولا يتغير هذا المكان بعد ذلك أبدا لا تقديما ولا تأخيرا حتى اكتمل هذا الكتاب المعجز في أجمل صورة و أعظم تركيب فأي تدبير محكم وأى تقدير مبرم وأى علم محيط لا يضل و لا ينسى ولا يتردد كان قد أعد لهذه المواد المبعثرة نظامها و هداها إلى ما قدره لها حتى صيغ منها ذلك العقد النظيم و سرى بينها هذا المزاج العجيب؟ [25](أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيرا )
و الآن سل نفسك هل رأيت كتابا ألف بهذه الطريقة أبد الدهر؟ وهل يستطيع كاتب أن يؤلف كتابا في مدة ثلاث و عشرين سنة لا يؤلفه مرتبا و لكن مفرقا قطعا قطعاً على غير ترتيب لا يقدم فيه و لا يؤخر و لكن يملي من وحي ضميره العبارات و الجمل مفرقة بين الحوادث و السنين فتجد كل جملة لها مكانا ينتظرها بين جاراتها لا يجور ولا يجار عليه و كأنه أحصى ما سوف تلده الأيام من مفاجآت الحوادث المستقبلية صغيرة و كبيرة في مدى دهره ثم قدّر ما سوف تتطلبه تلك النوازل من كلام فقدر لكل حادثة قدرها؟! فكيف لو كان أميا لا يقرأ ما يكتب له؟!!
هذا من جهة مبناه فإذا نظرت إلى محتواه وجدت من الإعجاز في المعاني ما لا يقل عن الإعجاز في النظم و المباني.[26]ذلك أن القرآن حوى بين طياته كل ما يحتاج الإنسان إليه في حياته لكي يحيا حياة طيبة صالحة. تحدث القرآن عن وحدانية الله عز وجل و أقام عليها البراهين العقلية القاطعة وذكر من صفات الرب الحسنى وأفعاله الكريمة و سننه في خلقه ومظاهر نعمه عليهم ما يزيد إيمان المؤمنين ويرقق قلوب الكافرين وذكر من آيات الله المبثوثة في كونه ودعا الإنسان للنظر والتأمل فيها وتحدث عن نشأة الإنسان و الغرض من خلقه و مصيره بعد موته ثم أخبره كيف يعبده و يتقرب إليه بأنواع العبادات البدنية والمالية والقلبية و تضمن الإخبار عن عالم الغيب من الملائكة و الجن و الشياطين و كذا الإخبار عن قصص الأمم السابقة و أحوالهم مع أنبيائهم وعقاب الله للأقوام الظالمين بما جعله الله عبرة لكل معتبر و رد القرآن على شبهات المشركين و حذر المعاندين و أنذرهم و بشر المؤمنين و ثبّتهم وحاور أهل الكتاب فأسكتهم و ضرب للناس من كل شيء مثلا و تحدث عن أهوال يوم القيامة و علاماته و ذكر ما أعده الله لعباده المؤمنين في جنات النعيم و ما ينتظر الكافرين من عذاب أليم ثم رسم للإنسان منهجا يسير عليه في حياته و حد له حدودا ووضع له ضوابط تضمن له و لمجتمعه السعادة الكاملة و الأمن التام فذكر أحكام المعاملات المالية و أحكام النكاح و الطلاق و البيع و الشراء والدَيْن والميراث وأحكام الإمارة والقضاء و الحدود و القصاص حتى آداب الاستئذان والنظر والثياب ذكر القرآن منها ما يكفل للمجتمع طهارته و للإنسان عفافه و كرامته حتى مأكل الإنسان ومشربه أباح له كل طيب و حرم عليه كل خبيث على التفصيل و الإجمال وذكر أيضا آداب التعامل مع الوالدين و إن كانوا غير مسلمين ومع الزوجة و ذوي الأرحام وإن كانوا غير بارين حتى الخدم و العبيد و الأرامل والمطلقات والأيتام لم ينسهم القرآن حتى الطفل الرضيع والرجل الأعمى والأعرج ذكرهم الله (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً )
وهكذا لم تخل آية في القرآن من حكمة وموعظة أو بشارة أو إنذار أو أمر أو نهي لما فيه مصلحة العباد الدينية والدنيوية فلله درها من آيات كم ألانت قلبا قاسيا و كم فتحت عقلا مغلقا و كم شفت وساوس صدر مريض.
فهو معجزة كبيرة وشاملة وغنية تتجاوز كل الأزمنة والأمكنة، وتلبي جميع المطالب الإنسانية بدءً من العقائد وانتهاءً بأصغر الآداب الاجتماعية . [27]( فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ )(/7)
فإذا نظرنا إلى القصص القرآني سنجد أنه حوى أحسن القصص وقعا في النفوس وأصدقها أحداثا و أكثرها عبرة في الوقت الذي كانت كتب اليهود والنصارى حافلة بالمغالطات التاريخية وقصص العاهرات و نسبة النقائص والفواحش للأنبياء بينما القرآن قصصه في أرفع درجات السمو الأخلاقي و الكمال الإنساني. وإن تعجب فعجب قول من يدعي زورا وبهتانا أن القرآن استقى أخباره التاريخية من الكتب الموجودة بأيدي أهل الكتاب في عهده!! و كأن القرآن لم يفضح تزويرهم صراحة و يواجههم بتحريفهم و يكشف مغالطاتهم[28]ثم إنك تجد أن القرآن يحوي تفاصيل دقيقة لم تذكرها هذه الكتب وكفاك بقصتي يوسف وموسى عليهما السلام دليلا. [29]
فهل كان صدفة أن توافق أخبار القرآن عن الأمم السابقة و أنبيائهم الصحيح المحرر[30]من علوم أهل الكتاب و تزيد عليها و أما ما داخلها من التحريف و التغيير فلا يأبه له القرآن بل يصححه و يفضحه أحيانا كثيرة ؟ و ممن ؟ من رجل أمي لا يقرأ ولا يكتب !!
كفاك بالعلم في الأمي معجزة في الجاهلية والتأديب في اليتم ؟
هب أن محمدا اطلع على أخبار الأولين فهل تراه اتخذ عند الله عهدا أن تصدق الأيام ما أخبر به من أمور المستقبل ولو بعد مئات السنين؟ فقد أخبر القرآن عن حوادث ستقع في المستقبل و حدثت كما أخبر تماما. فمثلا ذكر القرآن عن أناس معينين أنهم لن يسلموا وسيموتون على الكفر مثل أبي لهب وامرأته حمالة الحطب والوليد بن المغيرة فمن أين علم محمد أن هؤلاء لن يسلموا ؟! و كيف لم يخش أن تطوع لأحدهم نفسه فيعلن إسلامه نفاقا لكي يحرج محمدا؟ فيا عجبا لهذه الآيات هل كانت مؤلفة من حروف و كلمات أم كانت أغلالا وضعت في أعناقهم إلى الأبد؟ و مثل آخر في أول سورة الروم حيث دار بين الفرس الوثنيين و الروم النصارى أهل الكتابمعركةهزم فيها الفرس الروم ففرح المشركون بذلك لأنهم وثنيون مثلهم و حزن المسلمون فنزلت (الم . غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)
و لقد صدق الله وعده فتمت للروم الغلبة على الفرس بإجماع المؤرخين في أقل من تسع سنين و كان يومها هو اليوم الذي انتصر فيه المسلمون على المشركين في غزوة بدر. فكيف حدث ذلك بهذه الدقة إلا إذا كان الذي صدرت هذه الآيات عن علمه هو الذي صدرت هذه الحوادث عن مشيئته و حكمه؟(/8)
أما عن الآيات التي تتحدث عن خلق الكون و خلق الإنسان و الليل و النهار و الجبال و البحار والرياح و السحب والمطر والحيوان والنبات و النجوم والكواكب و الشمس و القمر والأرض و السماء فقد ذكر القرآن من أسرارها في كلمات وجيزة ما كانت تعجز علوم الدنيا حين نزل القرآن أن تتوقعه و لم يكتشفها العلم إلا في العصر الحديث و ما وقف أمامها فطاحل العلماء مبهورا أن يكون رجل أمي قد أتى بكلام مثل هذا منذ ألف و أربعمائة سنة!! ألم يخبر القرآن بأن للجبال أوتاد و أن البحر مسجور و الرياح لواقح و السحب ثقال و الكائنات أزواج و السماء ذات رجع و الأرض ذات صدع والليل و النهار مكوران على بعض و الشمس و القمر بحسبان و مواقع النجوم أمرها عظيم[31]!! هل كان أحد في ذلك الوقت يعرف المراحل الدقيقة لخلق الأجنة في بطون أمهاتها أو يعرف أن الذي يرتفع في الجو يضيق صدره من صعوبة التنفس أو أن كل شيء خلق من ماء أو أن الحديد نزل من السماء ليستقر في الأرض و لم يتكون داخلها كما يتكون البترول مثلا أو أن السماء تتسع باستمرار أو أن هناك أنواعا من النجوم مختفية عن الأنظار تسير في السماء تكنس ما حوله وصفها بأنها جوار كنس أو أن السماوات والأرض كانتا في بداية الخلق قطعة واحدة فتقها الله ؟ ( وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُون ) ؟ كل هذه الحقائق التي أثبتتها العلوم الحديثة وغيرها يذكرها القرآن في غاية الوضوح و أمثالها في السنة النبوية كثير و أسلم بسببها كثير من العلماء[32]فما الذي حمل محمدا على ذكر هذه الحقائق لقوم أميين ومن الذي ضمن له أن العلم سوف يثبت صحتها يوما من الأيام؟ [33] هذا غير الآيات التي تسبر أغوار النفس البشرية وتخبر بما يجول في خاطرها سواء كانت هذه النفس نفس مؤمن مصدق أو كافر معاند أو كتابي مرتاب . ألم تنزل الآيات تفضح المنافقين الموجودين في المدينة و تخبر بخطرات نفوسهم؟ ألم يدع الأعراب الإيمان فنزلت (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ) ألم يكن الأولى لو كانت هذه دعوة شخصية ألا ينفر محمد الأتباع من حوله بل يستكثر منهم و يحتفظ بهم في صفه؟[34]ناهيك عن التأثير الكبير الذي أحدثه القرآن في نفوس أصحاب النبي يقول الأستاذ فتح الله كولن : " لقد أحدث القرآن في أول عهده بالنزول وأول عهده بتشريفه الدنيا تأثيرا لا يمكن تصوره في الأرواح وفي العقول والقلوب أيضا، بحيث أن درجة الكمال التي وصلت إليها الأجيال التي نشأت في جوه النوراني كانت معجزة قائمة بذاتها لا نحتاج معها إلى ذكر أي نوع آخر من معجزاته. ولا يمكن العثور على أي أمثال لهم في مستواهم من ناحية التدين والتفكير وأفق الفكر والخلُق ومعرفة أسرار العبودية.
فالحقيقة أن القرآن قد أنشأ جيلا من الصحابة آنذاك لا نبالغ إن قلنا إنهم كانوا في مستوى الملائكة. وحتى اليوم فهو يقوم بتنوير قلوب المتوجهين إليه الناهلين من نبعه، ويهمس في أرواحهم أسرار الوجود. والذين يَدَعون أنفسهم بكل أحاسيسهم ومشاعرهم وقلوبهم وقابلية إدراكهم تسبح في جوه الذي لا مثيل له سرعان ما تتغير عواطفهم وأفكارهم، ويحس كل واحد منهم بأنه قد تغير بمقياس معين وأنه أصبح يعيش في عالم آخر" (هَذَا بَصَائِرُ للنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَومٍ يُوقِنُونَ ) ويمكنك أن تقرأ في القرآن لكي تشعر بهذا بنفسك فهو متاح على الإنترنت.
والآن آن لنا أن نسأل أنفسنا هذا السؤال : من أين أتى محمد بالقرآن؟ هناك ثلاثة احتمالات لا رابع لها. إما أن يكون من كلام محمد نفسه وإما أن يكون من كلام شخص آخر كان يتصل به محمد بصورة غير معروفة في جميع الأماكن والأزمنة ليتلقى منه الآيات و إما أن يكون وحيا من عند الله أوحاه إليه عن طريق الملك الذي أنزل على جميع الأنبياء من قبل و هو روح القدس جبريل عليه السلام كما أخبر بذلك القرآن نفسه.(/9)
فإذا نظرنا إلى الاحتمال الأول سنجد أن القرآن صريح في لأنه لا صنعة فيه لمحمد ولا لأحد من الخلق لكنه منزل من عند الله بلفظه ومعناه. فأى مصلحة لمحمد لو كان القرآن من كلامه أن ينسب بضاعته لغيره وينسلخ منها انسلاخا ولو انتحلها لما وجد أحدا من البشر يعارضه ويزعمها لنفسه؟ إن قومه أنفسهم قد استبعدوا هذا الاحتمال- أن يكون القرآن من تأليف محمد- لإنه عاش بينهم أربعين سنة يحضر مشاهدهم و يتعامل معهم ولم تبد عليه أثارة من تلك العلوم التي لا عهد لهم بها قبل ذلك. (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ) ثم إنك تقرأ كلام النبي وأحاديثه في كتب السنة و تقرأ القرآن فلا تحس بأنهما خرجا من ذات المنبع بل تجد الفرق في الأسلوب بينهما واضحا هذا خطاب إلهي و ذاك كلام بشري.. ثم لماذا لم يحو القرآن لو كان من عند محمد خطرات نفسه و آلامه و أحزانه المختلفة التي مرت به و هو الذي مرت به الأحداث الجسام مثل وفاة زوجته خديجة و عمه أبي طالب في عام واحد و محاصرة المشركين له و لأصحابه في أحد شعاب مكة ثلاث أعوام و مقتل عمه حمزة ووفاة جميع أبنائه في حياته إلا فاطمة ولكنك لا ترى إشارة لذلك في القرآن.
وهل تكون الآيات التي تعاتب النبي في القرآن و توجهه و تأمره و تنهاه من وضعه؟ أيكون من عنده ثم يجعل فيه حين دعا على بعض المشركين (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ) أم يكون من عنده ثم يقول فيه لنفسه (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاه ) أو يقول فيه (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) و ذلك حين أقسم ألا يتناول نوعا معينا من الطعام ؟ بل إنه عبس مرة في وجه رجل مسلم أعمى جاء يسأله عن شيء لإنه كان مشغولا بدعوة أشراف قريش إلى الإسلام فنزلت سورة عرفت بسورة عبس , بدايتها : (عَبَسَ وَتَوَلَّى {1} أَن جَاءهُ الْأَعْمَى {2} وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى {3} أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى )
ألم يكن أولى به – لو كان كما يدعي المبطلون كاذبا – أن يكتم هذه الآيات؟
بل كانت تنزل به النوازل من شأنها أنها تحفزه إلى القول و كانت حاجته القصوى تلح عليه أن يتكلم بحيث لو كان الأمر إليه لوجد له مقالا و مجالا و لكنه كانت تمضى به الليالى و الأيام تتبعها الليالى و الأيام و لا يجد فى شأنها قرآنا يقرؤه على الناس.
ألم يرجف المنافقون بحديث الإفك عن زوجه عائشة رضي الله عنها و أبطأ الوحي و طال الأمر و الناس يخوضون حتى بلغت القلوب الحناجر و هو لا يستطيع إلا أن يقول بكل تحفظ و احتراس " إنى لا أعلم عنها إلا خيرا" ثم إنه بعد أن بذل جهده فى التحرى و السؤال و استشارة الأصحاب و مضى شهر بأكمله و الكل يقولون ما علمنا عليها من سوء لم يزد على أن قال لها آخر الأمر " يا عائشة أما إنه بلغنى كذا و كذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله و إن كنت ألممت بذنب فاستغفرى الله " هذا كلامه بوحى ضميره و هو كما ترى كلام البشر الذى لا يعلم الغيب و كلام الصدّيق المتثبت الذى لا يتبع الظن و لا يقول ما ليس له به علم على أنه لم يغادر مكانه بعد أن قال هذه الكلمات حتى نزل صدر سورة النور معلنا براءتها و مصدرا الحكم المبرم بشرفها و طهارتها . فماذا كان يمنعه- لو أن أمر القرآن إليه- أن يتقول هذه الكلمة الحاسمة من قبل ليحمى بها عرضه و بذب بها عن عرينه و ينسبها إلى الوحى السماوى لتنقطع ألسنة المتخرصين ؟ و لكنه ما كان ليذر الكذب على الناس و يكذب على الله [ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ . لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ . ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ . فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ] [35](/10)
والآن إذا انتقلنا إلى الاحتمال الثاني – وهو أن يكون أحدا من الإنس أو الجن قد أوحى بهذا القرآن العظيم والشريعة الكاملة إلى محمد – فبرغم من تهاوي كثير من أركان هذا الاحتمال بما سبق ذكره إلا أنه لا مانع من مناقشة بعض ما قد يحيك في صدر المتشكك أو يقذف به الشيطان في فؤاد المرتاب. أولا الذي يردد هذه الشبهة يلزمه أن يخبرنا من هو هذا الشخص – سواء كان إنسا أم جنا - الذي آتاه الله علوم الأولين والآخرين وأطلعه على الغيب و ما هو كائن إلى يوم القيامة و زوده بالعلوم والمعارف الحديثة التي لم تكن لتخطر على بال أوسع الناس خيالا حينئذ فأخرج لنا هذا الكتاب مصدقا لما بين يديه من الكتب السماوية و مهيمنا عليها لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه!! لا شك أن هذا الشخص - لو كان موجودا لكان عربيا لأن القرآن بلسان عربي مبين – فهل تظن أن بين العرب الذين كانوا يعيشون في جاهلية عمياء في ذلك الوقت من كان يمكنه أن يفيض قلبه عن بعض علوم هذا الكتاب؟ هب أن هذا كان صحيحا في الكتاب فمن أين أتى النبي بالسنة - وهي جميع أقواله وأفعاله- وبها من الإعجاز ما يداني إعجاز القرآن؟ وهل كان محمد ذو الذكاء الثاقب والفطنة الحادة مخدوعا طوال 23 سنة [36]يظن أنه يوحي إليه من عند الله و ما هو من عند الله؟!! إن أى قارئ في سيرة النبي محمد ليلحظ بكل وضوح أنه كان صادقا في دعوته وفي جهاده – أو على الأقل كان يظن ذلك – فهل تظن أن رحمة الله وعدله وكرمه كانت تترك رجلا بهذه الأخلاق النبيلة و السجايا الكريمة والنوايا الصادقة التي شهد عليها أعداؤه يُغرر به طوال هذه المدة؟؟ و لماذا لم يعلن هذا الشخص عن ذاته –لو كان موجودا –ويعرفنا بنفسه أو ينسب هذا القرآن لشخصه فينال بذلك عز الدنيا وشرف الدهر؟! ما الذي جناه هذا الشخص لنفسه من دعوة الناس للإيمان بالله و اليوم الآخر والالتزام بالأخلاق الفاضلة؟ ثم كيف يمكنه أن يضع شريعة فذة ونظاما كاملا للحياة شهد بروعته الفلاسفة والمفكرون غير المسلمين؟ هب أن هذا حدث أيمكنه أيضا أن ينصر هذه الدعوة من محاولات وأدها المستمرة ويُمكِّن لهذا الدين في الأرض إلى يومنا هذا ويحفظ مصادره الأساسية من الضياع على مدار التاريخ؟ إن هذا مما تأباه العقول السليمة والفطر السوية وصدق الله إذ يقول: (وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ . وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ . إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ .فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ )
والآن لم يبق إلا أن يكون وحيا من عند الله أوحاه إلى محمد ليخرج الناس من الظلمات إلى النور عن طريق رسول كريم هو جبريل عليه السلام (مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) ولم يبق إلا أن تقرأ آيات القرآن وكلام النبي بنفسك و تتدبرهما بعقلك وقلبك وانظر هل يكون هذا إلا تنزيل من لدن حكيم عليم؟
البشارة
وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَد
بالرغم مما نال الكتب السابقة كالتوراة والإنجيل من تحريف و تبديل إلا أن الله شاء أن تبقى البشارة بالنبي محمد إلى يومنا هذا واضحة وضوح الشمس يراها كل من له عينان نذكرها إن شاء الله لكي تطمئن بها قلوب و تبتهج بها أرواح. أما في العهد القديم فإننا نجد موسى عليه السلام يبشر بظهور نبي ورسول مثله فعندما ينزل موسى عن جبل الطور بعد ما كلمه ربه يقول مخاطباً بني إسرائيل: " قال لي الرب: قد أحسنوا في ما تكلموا. أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به، ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه، وأما النبي الذي يطغى فيتكلم باسمي كلاماً لم أوصه أن يتكلم به، أو الذي يتكلم باسم آلهة أخرى، فيموت ذلك النبي.
وإن قلت في قلبك: كيف نعرف الكلام الذي لم يتكلم به الرب؟ فما تكلم به النبي باسم الرب ولم يحدث ولم يصِر، فهو الكلام الذي لم يتكلم به الرب، بل بطغيان تكلم به النبي، فلا تخف منه " (التثنية 18 / 17 – 22 )
والنص كما هو واضح يتحدث عن نبي عظيم يأتي بعد موسى عليه السلام، ويذكر صفات هذا النبي، والتي نستطيع من خلالها معرفة من يكون.ويزعم النصارى أن هذا النبي قد جاء، وهو عيسى عليه السلام،
لكن النص دال على نبينا صلى الله عليه وسلم، إذ لا دليل عند النصارى على تخصيصه بالمسيح، إذ يذكر النص التوراتي أوصاف هذا المبعوث المبشر به:
1) ) أنه نبي " أقيم لهم نبياً "، والنصارى يدعون للمسيح الإلهية، بل يدعي الأرثوذكس أنه الله نفسه، فكيف يقول لهم: أقيم نبياً، ولا يقول: أقيم نفسي.(/11)
2) ) أنه من غير بني إسرائيل، بل هو من بين إخوتهم أي أبناء عمومتهم "من وسط إخوتهم"، وعمومة بني إسرائيل هم بنو عيسو بن إسحاق، وبنو إسماعيل بن إبراهيم.
ومن المعهود في التوراة إطلاق لفظ " الأخ " على ابن العم، وعليه فهذا النبي يحتمل أن يكون من العرب تحقيقاً للبركة الموعودة في نسل إسماعيل، وقد يكون من بني عيسو بكر إسحاق. لكن أحداً من بني عيسو لم يدع أنه النبي المنتظر.
(3) هذا النبي من خصائصه أنه مثل موسى الذي لم يقم في بني إسرائيل نبي مثله، وفي التوراة السامرية ما يمنع صراحة قيام مثل هذا النبي فقد جاء فيها: " ولا يقوم أيضاً نبي في بني إسرائيل كموسى الذي ناجاه الله" (التثنية 4/10(
وهذه الخصلة، أي المثلية لموسى متحققة في نبينا صلى الله عليه وسلم، ممتنعة في المسيح، حيث نرى الكثير من أمثلة التشابه بين موسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، والتي لا نجدها في المسيح، من ذلك ميلادهما الطبيعي، وزواجهما، وكونهما صاحبا شريعة، وكل منهما بعث بالسيف على عدوه، وكلاهما قاد أمته، وملك عليها، وكلاهما بشر، بينما تزعم النصارى بأن المسيح إله، وهذا ينقض كل مثل لو كان.
(4) من صفات هذا النبي أنه أمي لا يقرأ ولا يكتب، والوحي الذي يأتيه وحي شفاهي، يغاير ما جاء الأنبياء قبله من صحف مكتوبة" وأجعل كلامي في فمه"، وقد كان المسيح عليه السلام قارئاً(انظر لوقا 4/16-18.(
5) ) أنه يتمكن من بلاغ كامل دينه، فهو " يكلمهم بكل ما أوصيه به ". وهو وصف منطبق على محمد صلى الله عليه وسلم، فقد كان من أواخر ما نزل من القرآن عليه صلى الله عليه وسلم قوله تعالى ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً )
وقبيل وفاة موسى عليه السلام ساق خبراً مباركاً لقومه بني إسرائيل، فقد جاء في سفر التثنية: "هذه البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته، فقال: جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من سعير، وتلألأ من جبل فاران، وأتى من ربوات القدس، وعن يمينه نار شريعة...."( التثنية 33/1-3.(
وجبل فاران هو جبل بمكة و يؤيد ذلك ما تقوله التوراة عن إسماعيل: " كان الله مع الغلام فكبر.وسكن في البرية وكان ينمو رامي قوس، وسكن في برية فاران، وأخذت له أمه زوجة من أرض مصر " (التكوين21/20-21).) فالمقصود إذن بتلألأ الرب من جبل فاران هو بعثة النبي محمد من مكة ليكون إماما للمؤمنين ورحمة للعالمين
أما في العهد الجديد فإننا نجد البشارة أيضا واضحة ففي متى 43:21 قال المسيح لليهود : ( أقول لكم: إن ملكوت الله سينزع من أيديكم ويسلم إلى شعب يؤدي ثمره. ) فمن يا ترى هذا الشعب ؟ إن تلاميذ المسيح كانوا من بني إسرائيل حتى بولس كان من بني إسرائيل أيضا ولهذا لا يمكن تفسير كلام المسيح أن المقصود به هم تلاميذه. ولا يمكن أن يكون مقصود المسيح هم الوثنيون الذين اعتنقوا مبادىء بولس وإلا أي ثمرة هذه التي أداها الوثنيون لمبادىء المسيح وأي ملكوت لله هذا الذي سلم للوثنيين؟ لم يبق إذن إلا أن يكون مقصود المسيح هم المسلمون الذين عظموا المسيح وأمه ورفعوا راية التوحيد في الأرض وحملوا لواء العبودية لله رب العالمين. وفي إنجيل يوحنا (1/19-21) أرسل اليهود من أورشليم بعض الكهنة واللاويين يسألون يوحنا : «من أنت؟» فاعترف ولم ينكر، بل أكد قائلا: «لست أنا المسيح». فسألوه: «ماذا إذن؟ هل أنت إيليا؟» قال: «لست إياه!»؛ «أو أنت النبي؟» فأجاب: «لا» نجد ذكرا لثلاثة أشخاص هم إيليا والمسيح والنبي. فمن يا ترى يكون هذا النبي الذي كان اليهود ينتظرونه غير النبي محمد ؟ وفي موضع آخر من إنجيل يوحنا حيث يبشر بمجيء النبي المنتظر يقول المسيح موصياً تلاميذه: " إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي، وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزياً آخر، ليمكث معكم إلى الأبد، روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله، لأنه لا يراه ولا يعرفه، وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم، ويكون فيكم... إن أحبني أحد يحفظ كلامي، ويحبه أبي وإليه نأتي، وعنده نصنع منزلاً. الذي لا يحبني لا يحفظ كلامي، والكلام الذي تسمعونه ليس لي، بل للآب الذي أرسلني، بهذا كلمتكم وأنا عندكم، وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الآب فهو يعلمكم كل شيء، ويذكركم بكل ما قلته لكم …. قلت لكم الآن قبل أن يكون، حتى متى كان تؤمنون " (يوحنا14/15 – 30)
وفي الإصحاح الذي يليه يعظ المسيح تلاميذه طالباً منهم حفظ وصاياه، ثم يقول:"إن لي أموراً كثيرة أيضاً لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن، وأما متى جاء ذاك، روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأمور آتية، ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم" (يوحنا 15/26( 16/14-(/12)
ونبينا محمد هو روح الحق الذي مكثت تعاليمه إلى الأبد وعلمنا كل شيء و هو الذي مجد المسيح فنزهه مما نسبه إليه اليهود وهو الذي لا يتكلم من قبل نفسه ولكن ( مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى . عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى )
وليس المقصود بقوله: " لا يستطيع العالم أن يقبله، لأنه لا يراه ولا يعرفه، وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم" الرؤية البصرية والمعرفة الحسية، بل المعرفة الإيمانية. ومثله ما جاء في يوحنا"أجاب يسوع: لستم تعرفونني أنا، ولا أبي، لو عرفتموني لعرفتم أبي أيضاً" (يوحنا 8/19(ومثله في الأناجيل كثير.
و كلمة المعزي التي في الترجمة الحالية للإنجيل هي ترجمة خاطئة للكلمة اليونانية البارقليط الموجودة كما هي في تراجم عالمية أخري والتي كانت موجودة حتى القرن التاسع عشر كما هي في الترجمة العربية للإنجيل مما يدل على أنها اسم علم.
وفي تفسير كلمة " بارقليط " اليوناني نقول: إن هذا اللفظ اليوناني الأصل، لا يخلو من أحد حالين، الأول أنه "باراكلي توس". فيكون بمعنى: المعزي والمعين والوكيل.
والثاني أنه " بيروكلوتوس "، فيكون قريباً من معنى: محمد وأحمد.
ويقول أسقف بني سويف الأنبا أثناسيوس في تفسيره لإنجيل يوحنا " إن لفظ بارقليط إذا حرف نطقه قليلاً يصير "بيركليت"، ومعناه: الحمد أو الشكر، وهو قريب من لفظ أحمد".
ويسأل عبد الوهاب النجار الدكتور كارلو نيلنو – الحاصل على الدكتوراه في آداب اليهود اليونانية القديمة- عن معنى كلمة " بيركلوتس " فيقول: " الذي له حمد كثير".
ويرى عبد الأحد داود أن تفسير الكنيسة للبارقليط بأنه " شخص يدعى للمساعدة أو شفيع أو محام أو وسيط " غير صحيح، فإن كلمة بارقليط اليونانية لا تفيد أياً من هذه المعاني، فالمعزي في اليونانية يدعى (باركالوف أو باريجوريس)، والمحامي تعريب للفظة (سانجرس)، وأما الوسيط أو الشفيع فتستعمل له لفظة " ميديتيا "، وعليه فعزوف الكنيسة عن معنى الحمد إلى أي من هذه المعاني إنما هو نوع من التحريف. يقول الدكتور سميسون في كتاب "الروح القدس أو قوة في الأعالي": "الاسم المعزي ليس ترجمة دقيقة جداً". بل إن أدوين جونس في كتابه " نشأة الديانة المسيحية" يعترف بأن معنى البارقليط: محمد، لكنه يطمس اعترافه بكذبة لا تنطلي على أهل العلم والتحقيق، فيقول بأن المسيحيين أدخلوا هذا الاسم في إنجيل يوحنا جهلاً منهم بعد ظهور الإسلام وتأثرهم بالثقافة الدينية للمسلمين.
ومما يؤكد أن لفظة روح الله دالة على الأنبياء أيضاً، ما جاء في رسالة يوحنا الأولى: "فلا تؤمنوا أيها الأحباء بكل روح من الأرواح، بل امتحنوا الأرواح حتى تعلموا هل هي من عند الله أم لا ؟ لأن كثيرين من الأنبياء الكذبة برزوا إلى هذا العالم " ( يوحنا(1) 4/1-2 )، فالأنبياء الصادقون هم روح الله، والأنبياء الكذبة هم روح الشيطان.
وبين يوحنا كيفية معرفة روح الحق من روح الضلال، فقال: " بهذا تعرفون روح الله: كل روح يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد فهو من الله، وكل روح لا يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد فليس من الله، وهذا هو روح ضد المسيح الذي سمعتم أنه يأتي، والآن هو في العالم" (يوحنا (1) 4/2 - 6.(
ورسولنا هو روح الحق بدليل قول يوحنا، لأنه يعترف بالمسيح أنه رسول من عند الله، وأنه جسد، وأنه من الله كما سائر الناس هم من الله أي الله خلقهم.أما تفسير الكنيسة للبارقليط بأنه روح القدس بالمعنى الذي وضعته للأقنوم فهو تفسير خاطيء عقليا لعدة أمور:
أولا أن نصوص العهد القديم صريحة في أن الروح القدس كان موجودا أثناء حياة المسيح والأنبياء قبله يؤيدهم ويؤيد أتباعهم[37]في حين أن النبوءة فيها " إذا لم أذهب فإنه لا يأتيكم "
ثانيا أن النصارى يعتقدون باتحاد أقنومي المسيح وروح القدس فكيف يكونا متحدين ويرسل أحدهما الآخر؟؟
ثالثا قال المسيح عن البارقليط
ثالثا يلزم من يقول هذا أن يخبرنا ما الذي قدمه هذا الأقنوم للعالم خلال الألفي عام الماضية فمكث فيه للأبد وذكرهم بكل ما قاله المسيح ولم يستطع العالم أن يقبله وما هي النبوءات التي أخبر بها مؤلفو العهد الجديد وحدثت بالفعل. [38]
رابعا قول المسيح عن البارقليط كل ما يسمع يتكلم به يدل على أنه يتكلم في حين أن اعتقاد النصارى في الروح القدس أنه يلهم و يدل أيضا على أن كلامه ليس من عند نفسه و لكنه يبلغ ما يسمعه في حين يعتقد النصارى أن الروح القدس إله مساو لله فكيف يكون إلها ولا يتكلم من عند نفسه؟(/13)
خامسا قوله قلت لكم قبل أن يكون حتى متى كان تؤمنون يوحي بأن الذي يتحدث عنه المسيح لم يكن موجودا أصلا أثناء الكلام في حين أن الروح القدس كان موجودا و يوحي أيضا بأن هذا الشخص الذي يتحدث عنه المسيح سوف تدعو الناس للإيمان بنفسه و لكن أكثر الناس لن يقبلوه لذا دعا المسيح تلاميذه للإيمان به في حين أن تأثير الروح القدس الذي يدعيه النصارى في إلهام كتبة الأناجيل تأثير خفي لا يستلزم من أحد الإيمان بشيء محدد يترتب عليه ثواب وعقاب ويجعل المسيح يركز عليه بهذه الطريقة .
وبذلك فإننا نرى في البارقليط النبوءة التي ذكرها القرآن الكريم ( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ )
إلى الذين تهفو أرواحهم شوقا إلى نور الله .. إلى الذين تساءلت عقولهم كثيرا فلم يجدوا لهم آذانا صاغية ولم يجدوا جوابا شافيا .. إلى كل من اشتاق لأن يعرف الحقيقة ناصعة البياض لا لبس فيها ولا غموض .. ها قد آن الأوان لذلك
الإسلام
وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ
عندما سئل النبي صلى الله عليه وسلم ما الإسلام كان أول ما قال: ( أن تعبد الله ولا تشرك به) وإذا نظرت في القاموس عن معنى كلمة إسلام ستجد أن معناها الحرفي لها هو الإذعان والانقياد و الاستسلام. ولما كان كل موصوف له من اسمه نصيب فالإسلام إذن يعني أن تُسلم الوجه والقلب والجوارح وجميع أمورك لله رب العالمين فلا تكون عبادتك وقصدك وتوجهك في جميع تصرفاتك إلا إلى إله واحد هو الله عز وجل وأن تنقاد بجسدك وقلبك وروحك لأمر الله ونهيه وأن تستسلم لحكمه وتقف عند حدوده هذا باختصار هو الإسلام. (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ )
والإيمان بالله على النحو السابق يستلزم عدة أمور منها أن تؤمن أن الله واحد في ذاته لا قسيم له ولا ند له ولا معبود بحق سواه وأن تؤمن بربوبيته سبحانه فلا شريك له أى أنه وحده هو خالق السماوات والأرض من العدم وأنه هو وحده الذي يملك أمور جميع الخلائق من خلق ورزق وإماتة وإحياء قال تعالى (قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ . فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ )
و أن الله له الأسماء الحسنى والصفات العلى فلا شبيه له ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ )[39] وأنه منزه عن النقص والقصور و عن الزوجة والولد( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَد لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَد وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) وأنه لا يشبه أحدا من خلقه فهو فوق خلقه أجمعين محيط بهم بعلمه وسمعه وبصره وهو أقرب إلى العبد من حبل الوريد له السلطان والقهر، والخلق والأمر السماوات مطويات بيمينه، والخلائق مقهورون في قبضته ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ ) وهو أول ليس قبله شيء وآخِر ليس بعده شيء فلا يفني ولا يموت ولا تأخذه سِنة ولا نوم و لا يحدث أمر في هذا الكون إلا بقضائه وقدره، وحكمته ومشيئته. فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن لا يخرج عن مشيئته لفتة ناظر، ولا فلتة خاطر بل هو المبدئ المعيد، الفعال لما يريد (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ) لا راد لأمره، ولا معقب لحكمه ولا مهرب لعبد عن معصيته، إلا بتوفيقه ورحمته ولا قوة له على طاعته، إلا بمشيئته وإرادته فلو اجتمع الإنس والجن، والملائكة والشياطين على أن يحركوا في العالم ذرة أو يسكنوها دون إرادته ومشيئته، لعجزوا عن ذلك . ( ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ . لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ )(/14)
لذا فهو وحده المستحق للعبادة –والعبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله من أعمال القلوب والجوارح –فلا يستعان إلا به ولا يُتوكل إلا عليه ولا يُخاف إلا منه ولا يرجى إلا إياه هذا هو التوحيد الذي دعا إليه جميع الأنبياء فكان كل منهم يقول لقومه ( اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) و الإيمان بالله يستلزم من العبد أن يؤمن بجميع رسله من لدن آدم حتى محمد – صلى الله عليه وسلم –وهو خاتمهم وأفضلهم وبالكتب المنزلة على هذه الرسل مثل التوراة والإنجيل والقرآن وأن تؤمن بملائكة الله و اليوم الآخر ( يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) حين يجمع الله الناس ثم يحاسبهم و يدخل المؤمنين الجنة -دار كرامته ويعذَب الكافرون في النار. وللإسلام أركان لا يتم إلا بها هي شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا.(/15)
هذا هو الإسلام عقيدة صافية نقية لا تعقيد فيها ولا ألغاز ولا أسرار يستأثر بها البعض دون البعض. دين لا يتعارض مع الفطرة البشرية. دين يجعل مسئولية الإنسان أمام الله وحده ويجعل كل إنسان مسئول عن عمله وحده فلا تزر وازرة وزر أخرى. دين لا يجعل بين الله والإنسان وساطة ولا تباع فيه صكوك غفران ولا يملك أحد - حتى النبي نفسه - أن يغفر لأحد أو يدخله الجنة بل يجعل علاقة الإنسان بربه علاقة مباشرة. دين جعل قلب الإنسان معلقا بربه لا بصورة ولا تمثال ولا قطعة خشب أو حديد على أى شكل كانت. دين لا طبقية فيه ولا أفضلية لأحد دون أحد إلا بالتقوى والعمل الصالح قال رسول الله لابنته فاطمة : (يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئا ) . دين لا يفرق في حدوده بين وزير و غفير قال رسول الله ( وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ). دين يحترم عقل الإنسان ولا يحجر على تفكيره بل دعا إلى التفكير والنظر والتدبر في آيات الله المتلوة والمبثوثة في كونه[40]. دين لا يتعارض مع مستجدات العلم و مطالب الحياة مهما تقدمت بالإنسان العهود. دين وضع أفضل منهج للتعامل مع غرائز الإنسان فلا رهبانية معقدة [41]و لا إباحية منحلة ولكن منهج وسط يعترف بحاجات الإنسان و يوفر له أطهر السبل لإشباعها. دين لم تقم فيه سلطة مقدسة تحكم باسم الإله زاعمة أن حقها في الحكم والتشريع مستمد من قرابتها أو تفويضها من الله ولم تظهر فيه كنيسة تستذل رقاب الناس بوصفها الممثلة لابن الله; المستمدة لسلطانها من سلطان الابن أو سلطان الأقنوم .[42]دين عرّف الإنسان بنفسه ومكانه في هذا الكون وحرره من عبوديته لذاته أو لبشر مثله و أخبره بالغاية من وجوده في هذه الحياة وهي ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون ). جعل الإسلام حياة الإنسان كلها تصب في هذه الغاية فصار لها معنى وصارت كل حركة من حركات الإنسان يبتغي بها وجه الله حتى اللقمة يضعها الرجل في فم زوجته يثاب عليها من الله. الإسلام ليس مجرد شعائر منفصلة عن الحياة تؤدي في دور العبادة ولكنه منهج متكامل للحياة جاء ليتولى قيادة الحياة البشرية وتنظيمها وتوجيهها وصيانتها فما ترك جانبا من جوانب الحياة إلا تناوله بالرعاية والإصلاح. الإسلام لم يغفل غرائز الإنسان أو يتجاهلها ولكنه يعترف بها ويرشّدها [43]. الإسلام هو الدين الذي أنشأ من ظلمات الجاهلية في غضون مائتي عاما حضارة أذهلت العالم و صارت مؤلفاتها هي المورد العلمي الأول لجامعات أوروبا في حين أن النصرانية احتاجت إلى نحو من ألف وخمسمائة سنة لكي تنشئ ما يمكن أن يدعى حضارة مسيحية!![44]والإسلام هو الدين الذي يقف اليوم في مواجهة جميع أديان العالم التي توحدت ضده مما يدل على أنه هو الحق إذ أن الباطل يتعدد والحق لا يتعدد. و هو الدين الوحيد الذي يضع أنبياء الله في أسمى مكانة و أرفع منزلة و يجعلهم معصومين من الزلل و المعاصي. وهو الدين الذي صلاته هي أجمل الصلوات وأخشعها يقف فيها الغني بجوار الفقير في صفوف منتظمة .. الكل سواسية يناجون ربهم ويسألونه وحده المغفرة بلا غناء ولا موسيقى ولا تصفيق.[45]دين متميز حتى في ندائه للصلاة بالأذان. فالأذان له معنى ويحوى ركائز العقيدة وليس مجرد صلصة أجراس أو ضجيج أبواق. دين جعل نظافة البدن وطهارة الإنسان شعيرة من شعائره التي لا تجد لها مثيلا في غيره. دين لا يحتاج أتباعه لإجراء تغييرات وتعديلات فيه كلما جد عليهم جديد لإن شريعته منزلة من عند الله العليم الحكيم الذي يعلم كل شيء وأثبت التاريخ و التجارب البشرية أنها الوحيدة الصالحة لقيادة ركب الحياة في كل زمان ومكان. وهو الدين الذي نقلت إلينا تصرفات نبيه وأقواله وأفعاله وحركاته وسكناته كاملة ووجدناها مثالا للخلق الفاضل المستقيم وهو الذي ظل كتابه محفوظا بحفظ الله منذ نزل إلى اليوم فتجد الآية التي تطبع اليوم في أحدث المصاحف هي نفسها التي كانت مكتوبة على الجريد أيام الرسول والآية التي يتلوها المسلم الأمريكي هي نفسها التي يتلوها المسلم الصيني. ( فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ. أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ )[46]
المسيح عليه السلام
وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَار
يتبوأ المسيح عيسى بن مريم وأمه عليهما السلام مكانة سامية في الإسلام فالمسيح هو كلمة الله و روح منه ألقاها إلى مريم عليهما السلام وهو بشر كما أن الرسل جميعا من البشر وهو رسول من أولي العزم من الرسل [47]و هم أفضل الرسل جميعا وذًكر في القرآن أكثر من 25 مرة وأمه مريم بنت عمران من أفضل نساء العالمين لم تُذكر امرأة باسمها في القرآن غيرها. قال تعالى في سورة آل عمران :(/16)
( وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ {42} يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ {43} ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ {44} إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ {45} وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ {46} قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُلَهُ كُن فَيَكُونُ {47} وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ {48} )
و قد كانت حياة المسيح مليئة بالمعجزات من لحظة ولادته حتى رفعه إلى السماء فقد كانت ولادته معجزة إلهية جعلها الله آية للعالمين حيث ولد من غير أب و قد وصف الله أحداث ولادته في سورة مريم [48]فقال تعالى :
( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً {16} فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً {17} قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً {18} قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً {19} قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً {20} قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً {21} فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً {22} فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً {23} فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً {24} وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً {25} فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً {26} فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً {27} يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً {28} فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً {29} قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً {30} وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً {31} وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً {32} وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً {33} ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ
الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ {34} مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ {35} وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ {36} فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيم )
ثم أمده الله بالمعجزات الدالة على نبوته كما أمد الرسل من قبله بالمعجزات. قال تعالى حاكيا عن عيسى بن مريم: ( وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ {49} وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ {50} إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ )(/17)
ثم يذكر الله ختام قصة عيسى مع بني إسرائيل عندما كذبوه و كفروا به : ( فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ {52} رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ {53} وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ {54} إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ {55} فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ {56} وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ {57} ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ {58} إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ {59} الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ)
وذلك أن اليهود حاولوا قتل عيسى عليه السلام فنجاه الله منهم وتوفاه بالنوم ثم رفعه إلى السماء الثالثة فهو يحيا فيها حتى ينزل قبل يوم القيامة و أُلقى شبهه على شخص غيره فأخذه اليهود وقتلوه. قال تعالى عنهم:( وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً . بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيما ) و عندما ينزل عيسى بن مريم في آخر الزمان فإنه سوف يكسر الصليب ولا يقبل إلا الإسلام وتندحر الملل الكافرة و يعم السلام وتكثر البركة وتُرفع الشحناء والضغينة قال صلى الله عليه وسلم " الأنبياء إخوة لعلات دينهم واحد وأمهاتهم شتى وأنا أولى الناس بعيسى بن مريم لأنه لم يكن بيني وبينه نبي وإنه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض سبط كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل بين ممصرتين فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويعطل الملل حتى يُهلك الله في زمانه الملل كلها غير الإسلام ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال الكذاب وتقع الأمنة في الأرض حتى ترتع الإبل مع الأسد جميعا والنمور مع البقر والذئاب مع الغنم ويلعب الصبيان والغلمان بالحيات لا يضر بعضهم بعضا فيمكث ما شاء الله أن يمكث ثم يُتوفى فيصلي عليه المسلمون ويدفنونه. ." [49] وقد وردت على لسان نبينا عدة نصوص في فضل المسيح ومريم الصديقة عليهما السلام فقد قال
النبي صلى الله عليه وسلم :(ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد، فيستهل صارخا من مس الشيطان إياه، إلا مريم وابنها ) وقال (كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء: إلا مريم ابنة عمران، وآسية امرأة فرعون ) وقال :(رأى عيسى بن مريم رجلاً يسرق فقال له: أسرقت؟ قال: كلا، والذي لا إله إلا هو، فقال عيسى: آمنت بالله وكذبت عيني ) وقال عن الرجل الذي يؤمن بعيسى قبل أن يسمع عن محمد (ص) (إذا آمن بعيسى، ثم آمن بي فله أجران ) وقال-وهذا الحديث بشرى لكل نصراني- :(من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل) [50]وقد كانت رسالة المسيح عليه السلام متممة لرسالة موسى و مبشرة برسالة محمد باسمه الصريح كما مر بنا – "حتى متى كان تؤمنون" – وكانت لبني إسرائيل فقط و لم تكن هي الرسالة الأخيرة للبشرية لذلك لم يشأ الله أن يظل الإنجيل ولا كلام المسيح محفوظا بكامله للناس.(/18)
والآن بعد أن عرفت نظرة الإسلام للمسيح عليه السلام فإني سائلك: ترى لو كان هذا الدين من عند محمد ولم يكن محمد رسولا من عند الله ما الذي دعاه لأن ينظر للمسيح هذه النظرة المعتدلة بعيدا عن غلو النصاري إلى تقديسه وانحراف اليهود إلى عدائه؟ ألم يكن أحرى به لو كان كاذبا أن ينحاز إلى إحدى الطائفتين لكي ينال تأييدها بدلا من أن يواجههما جميعا؟ ما الذي كان يمنعه لو كان كاذبا أن يدعى أن إلهه الذي يعبده هو المسيح –ولم يكن لينكر عليه أحد– فينال بذلك تأييد الدولة الرومانية القوية بالإضافة لنصارى الجزيرة العربية؟ (فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ )
والآن لنحاول مناقشة بعض ما يعتقده الناس في المسيح عليه السلام بهدوء بعيدا عن التعصب الأعمى .
لعلك إذا سألت أفراد الأسرة النصرانية الواحدة عن طبيعة المسيح عليه السلام تسمع إجابات شتى فمن قائل هو الله – تعالى الله عما يصفون – و من قائل هو ابن الله والمثقف منهم سيقول لك إن به جزء بشري يسمى ناسوتا و جزء إلهي يسمي لاهوتا !! و هذا انعكاس للغموض الذي يكتنف شخصية المسيح لدى النصارى و للتعقيد الذي أقحمته الكنيسة في مسألة الإله وهي التي من المفترض أن تكون من أبسط أمور العقيدة لدى الإنسان. ويتفق عموم النصارى على أن هذا الإله أو نصف الإله لم يكن بالقوة الكافية حتى نالت منه يد البشر بالتعذيب والإهانة والصلب في حادثة هي أشبه بالتمثيليات الدرامية أو الأساطير البدائية منها إلى الحقيقة الإلهية! ومن العجيب أن يُعتقد أن هذه الجريمة الكبرى من البشر في حق الإله إنما كانت سببا لخلاص البشر و مغفرة خطاياهم وذنوبهم التي هي أقل خطرا بكثير من محاولة قتل الإله نفسه !! و لأن كل من هذه العقائد أصبحت مسلمات راسخة في عقول كثير من الناس غير خاضعة للنقاش ولا التفكير فهذه دعوة لكل باحث عن الحقيقة بصدق لكي يعيد النظر فيما يعتقده و تربى عليه ولم تتح له فرصة للنقاش فيه من قبل.
هب أنك أخطأت في حق والدك خطأ يسيرا و أغضبته وبينما أنت نادم وتحاول أن ترضي أباك إذا بأخيك الأصغر تأخذه عاطفة الأخوة و التضحية فتفتق ذهنه عن فكرة غبية وهي أن يضحي بنفسه من أجلك فيسلم لك نفسه لكي تقتله أمام أبيك و بذلك يتحمل هو الإثم عنك وتنجو أنت من تبعة الذنب ووخز الضمير فهل تقبل أنت أو يقبل أبوك هذا الكلام؟؟ فكيف لو اقترح عليك أخوك أن تقتل والدك نفسه تكفيرا عن خطيئتك؟! بالطبع هذا كلام لا يقبله عقل. ولكن لماذا تقبله في حادثة الصلب المزعومة وترضاه للمسيح عليه السلام ولا ترضاه لأخيك الصغير؟ لعلك تجيب بأن المسيح ما نزل إلى الأرض أصلا إلا لهذه المهمة وهي التضحية بنفسه لكي يغفر الله خطايا البشر! وإني أسألك: الذي يريد أن يضحي بنفسه من أجل إنسان يتحمل عنه الآلام أم يتحمل منه الآلام؟؟! هل خطيئة آدم بأكله من الشجرة تكفرها خطيئة اليهود بمحاولة قتل المسيح؟ و هل ضاقت رحمة الله عز وجل الذي يقبل التوبة عن عباده ووسعت رحمته كل شيء أن يغفر لآدم خطيئته - وهو الذي تاب بعدها واستغفر وأناب[51]-فظل ناقما على البشر كل هذه المدة حتى ينزل بنفسه سبحانه متجسدا في هيئة مخلوق ضعيف كي ترتكب البشرية هذه الجريمة النكراء في حقه ثم تسقط عنها أوزارها مكافأة لها؟ هل من العدل أن يذنب آدم فيُصلب المسيح ؟ ألم يذكر العهد القديم أن النفس التي تخطيء هي تموت وأن كل إنسان مسئول عن عمله وأن الله يقبل توبة التائبين؟[52]هل من العقل أن تزعم أن الله تاب على بولس الذي كان العدو الأول لتلاميذ المسيح وللمؤمنين ولم يتب على آدم الذي خلقه الله بيديه وأسجد له ملائكته إلا بعد أن يعلق المسيح عاريا تماما على رؤوس الأشهاد؟ وإذا كان المسيح قد نزل من أجل ذلك فلماذا جاء في إنجيل متى صراخ المسيح قبل أن يقتل كما يزعمون لما وضع على الصليب « إيلي إيلي، لم شبقتني، أي: إلهي إلهي، لماذا تركتني؟ » متى 27/46 وجاء في يوحنا 11/53 أن المسيح هرب من طالبيه مراراً!! أينزل من أجل ذلك ثم يهرب ويصرخ ويستغيث بالله كي يخلصه بينما ترى كثيرا من المجرمين والقتلة يتقدمون للقتل بقدم ثابتة وجأش رابط أم أنه كان يجهل مهمته على الأرض؟ ولم نذهب بعيدا ونقارن المسيح بالقتلة والمجرمين ألم يأمر الله إبراهيم بذبح ولده فما كان من الولد إلا أن استجاب لأمر الله صابرا محتسبا بدون أن يسأل حتى عن العلة؟ هل من منطقي لو كان المسيح هو الله أن يكون أقل شجاعة من بعض خلقه؟!(/19)
وإذا كانت هذه هي مهمة المسيح فلماذا عندما بشر الأنبياء بالمسيح لم يبشروا به على أنه المخلص الذي سوف يخلص البشرية من ذنبها الموروث ولكن بشروا به على أنه نبي صاحب رسالة وفقط بدون ذكر أي شيء عن حادثة الصلب المزعومة- التي كانت ستُعد أهم حادثة في حياة المسيح لو كانت مهمته حقا أن يعلق على الصليب؟ ؟ وكيف نفسر النصوص التي تخبر عن رضا الله عن الشعب أو عن أمة من الأمم إذا كانت البشرية كلها كانت ما زالت موصومة بهذا الذنب القديم ولم يخلصها منه أحد بعد؟ وهل من الرحمة أن تكون مهمة المسيح هي تحمل الآلام والتعذيب عن البشر بقتله على الصليب ثم يكون جزاء من لم يؤمن أن المسيح مات على الصليب وظل يعبد الله كما كان يعبده إبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى من قبل المسيح هو العذاب في النار؟ لو كان ذلك كذلك لكانت حادثة الصلب نقمة على البشر وليست رحمة لهم إلا إذا كانت حادثة الصلب هذه قد افتدت جميع الناس من النار و سيدخل المؤمن والكافر الجنة في النهاية !!
؟ وإذا كان الصلب قد حط عن البشر خطاياهم فما فائدة تعاليم المسيح والرسل من قبله إذا كان تكفير خطايا البشر مضمون و أكيد لهذه الدرجة ؟ ولماذا قال المسيح إن كل كلمة باطلة يتكلم بها الناس، سوف يؤدون عنها الحساب في يوم الدينونة. فإنك بكلامك تبرر، وبكلامك تدان؟[53] وما الذي سيمنع الإنسان أن يرتكب أكبر الفواحش وأعظم المنكرات إذا علم أن الخلاص مضمون؟ ولماذا الحاجة إلى التعميد الذي تفعله الكنيسة بكل مولود إذا كانت حادثة الصلب المزعومة هذه قد غفرت للإنسان خطيئته [54]؟ وإذا كان كل مولود يرث نصيبا من هذه خطيئة أبيه آدم فهل ورثت مريم وابنها عليهما السلام أيضا هذه الخطيئة من أبيهما آدم عليه السلام ؟ وماذا عن ظلم البشر بعضهم لبعض هل يتحملها الصليب أيضا فلا قصاص بينهم ولا عدل أم أن هذه خارج الموضوع؟ وماذا عن الذنوب التي ارتكبتها البشرية بعد المسيح إلى اليوم من يكفرها؟ أم تراها تحتاج لمسيح جديد لكي يقتله أحد الأشقياء فتسقط عن البشر بقية خطاياهم؟ إننا نفهم أن الذي يضحي بشيء فإنه يضحي به من أجل شخص آخر أو لاسترضاء من هو أعلى منه وأقدر كما ذبح إبراهيم الكبش فداءً لإسماعيل وتقربا إلى الله بذلك فإذا كان الله نفسه هو الذي ضحى بولده –تعالى الله عما يصفون- فمن أجل من يا ترى فعل ذلك وليس في الكون من هو أعظم منه؟ ( قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ؟ إن من يقرأ الروايات المختلفة لحادثة الصلب في الأناجيل سيجد بينها تناقضات لا يمكن الجمع بينها فمثلا من يقارن تفاصيل المحاكمة والصلب والقيامة واكتشاف قبره ومن رآه عند قيامته وماذا قال على الصليب ومن حمل الصليب وغير ذلك في الروايات المختلفة سيجد اختلافات واضحة تدل على أن القصة واهية من أساسها أو أن كتابها اعتمدوا على الإشاعات والأساطير وليست وحيا من الله [55]! إنه لا يكاد أحد يتصور أن المسيح الذي كان يصوم ويتحمل الصبر عن المأكل والمشرب ويقضي الأسابيع لا ينال فتات العيش هو الذي كان على خشبة الصليب يستغيث بأعدائه و يطلب منهم أن يسقوه إذ تملكه الظمأ وهو الذي طالما كان يقول (أن لي خبزا لستم تعرفونه)[56]حتى بطرس رئيس الحواريين كان يقسم على أنه لا يعرف الرجل الذي على الصليب( متى 72:26).
لقد جعلت حادثة الصلب المزعومة هذه من المسيح عليه السلام شخصية أسطورية مخلصة بدلا من شخصية النبي المعلم الذي يرشد الناس إلى الهدى والنور. شخصية يلجأ إليها الناس في السراء والضراء بعد أن كانوا يلجئون إلى الله. حادثة الصلب جعلت عبادة الإنسان مركزة حول المسيح عليه السلام بعد أن كانت لله وحده. ولكي لا يصير المسيح ندا لله في هذا الدين الجديد تم اختلاق الكذبة الثانية التي هي أكبر من أختها بادعاء أن المسيح هو الله نفسه –سبحانه وتعالى عما يصفون. ولخطورة هذه المسألة فسنناقشها أيضا بشيء من التفصيل.(/20)
أولا هل يليق برب السماوات والأرض ومن فيهن أن يتجسد في صورة طفل رضيع يخرج من فرج امرأة ضعيفة ثم يمر بمراحل نمو الإنسان المختلفة يأكل الطعام ويخرج الفضلات حتى إذا اكتمل نموه وصار رجلا ناضجا لقي من البشر صنوف الإهانة والتعذيب ألوانا؟ هل كان هذا المخلوق الضعيف الذي يلتقم ثدي أمه هو كان يدبر أمور جميع الكائنات في الوقت الذي لا يستطيع هو أن يدبر أمر طعامه وشرابه؟ [57]أم أنه كان يمسك السماوات والأرض أن تزولا وهو في بطن أمه؟ ألا ترى أنه من المخجل أن نساوي الله بالبشر؟ هل يمكن للإله العظيم أن يحل في جسد ضعيف له بداية ونهاية؟ وأين هو هذا الجسد- جسد المسيح - الآن؟ هل فني الجسد وهلك بمجرد صعود المسيح للسماء أم أن هذا الجسد الذي يحتاج للطعام خالد وليست له نهاية؟ وإذا كان الجسد تعرض للفناء فهل يفنى الإله أو تفنى صفة من صفات الإله؟؟ وهل كلام السيد المسيح الذي في الإنجيل يوحي بأنه كلام إله قادر قهار يخاطب عبيده أم كلام معلم رفيق يخاطب تلاميذه؟ ولماذا لم يأمر المسيح تلاميذه بالسجود له صراحة إن كان هو الإله فهذا على الأقل أفضل من السجود لصوره وتماثيله داخل الكنيسة؟! [58] لماذا لم يخبر صراحة أنه هو الإله - إن كان كذلك – فيحسم القضية ويقطع الشك؟ هل من العدل لو كان المسيح هو الله أن يترك أهم قضية في هذا الكون يكتنفها الغموض وتحيط بها الشبهات ويتركها عرضة لآراء الرجال و أهواء الملوك في المجامع؟ لماذا لم يخلف لنا في العهد الجديد نصا واضحا صريحا على لسانه يخبر فيه أنه هو الإله فيريح الملايين من ظلمات الشك؟
وماذا عن الحواريين : هل كانوا يعاملون المسيح على أنه إله يمشي على الأرض أم نبي إنسان ومعلم متواضع ولذا سموا تلاميذ؟[59]هل يمكن أن يكون للإله تلاميذ؟؟ ولو كانوا يعبدون المسيح فكيف أمكنهم أن يبقوا داخل هيكل اليهود بعد رفعه حوالي ثلاثة عقود يعبدونه يوميا وسط اليهود الذين يعبدون الله ؟[60] انظر إلى بطرس في (أعمال 22:2) يقول : " أيها الرجال الإسرائيليون اسمعوا هذه الأقوال. يسوع الناصري رجل قد تبرهن لكم من قبل الله بقوات وعجائب وآيات صنعها الله بيده في وسطكم كما أنتم أيضا تعلمون" . فهل عرفت أنت عن المسيح ما لم يعرفه الحواريون ؟ ايكون المسيح إلها ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه أذى حفنة من اليهود؟ أتقبل أن تعبد إلها ضعيفا؟ أيكون المسيح هو الله ثم يأتي إلى عبد من عبيده لكي يعتمد منه ويكمل نفسه؟ ألم يذكر العهد الجديد أن المسيح جاء إلى يحيى-يوحنا المعمدان- لكي يعتمد منه؟ إن المسيح لو كان هو الله لسجد له يحيى حالا فهل كان يحيى يجهل ربه؟ [61]وإذا كان المسيح هو الله فهل يمكن أن يموت الإله؟ إن نصوص العهد القديم تنفي ذلك يكل صراحة انظر مثلا في إرمياء 10:10 : (أما الرب فهو الإله الحق، الإله الحي) وفي حزقيال (3:18) : حي أنا يقول الرب. وفي دانيال 26:6 "هو الإله الحي القيوم إلى الأبد"
ومن الذي كان يخاطبه المسيح في الأناجيل بلفظ أبي وإلهي إن كان هو الأب والإله أم أنه كان يخاطب نفسه؟ انظر قول المسيح عليه السلام : (وهذه الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ، ويسوع الذي أرسلته) يوحنا 17 : 3. وقوله :« إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم » يوحنا 20:18وقوله عن نفسه: "أنا لا اقدر أن أفعل من نفسي شيئاً " (يوحنا 5/30) لذا عجز أن يعد ابني زبدي بالملكوت (متى 20/23)، ولما سماه أحدهم صالحاً قال: "لم تدعوني صالحاً؟ ليس أحد صالحاً إلا واحد، وهو الله" (لوقا 18/18-20). وأخبر في مرقص32:13 أنه لا يعلم وقت يوم القيامة ولكن الله هو الذي يعلمها فهل يكون المسيح هو الله ويجهل ما يعلمه الله؟ أم أن العلم والإرادة والصلاح صفات للجسد وليست صفات للروح؟ ومن الذي كان يصلي له المسيح إن كان هو الإله ؟! ألم يذكر العهد الجديد أن المسيح كان يعبد الله؟ أكان المسيح يعبد نفسه؟ و هل استعمال المسيح لمصطلح ابن الإنسان عن نفسه تكرارا ومرارا في الإنجيل (ذكرت 81 مرة ) إلا تأكيدا لبشريته وبراءته مما سينسبه الناس إليه؟ بل إن المسيح قال عن نفسه صراحة أنه نبي إنسان ففي يوحنا (8/40) قال ( أنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله ) وفي لوقا 4/25 قال «الحق أقول لكم: ما من نبي يقبل في بلدته. » فهل بعد شهادة المسيح لنفسه شهادة أخرى؟ وفي لوقا 7/17 قال الناس أمامه بعد أن أحيا ميتا[62]بإذن الله «قد قام فينا نبي عظيم وتفقد الله شعبه !» وفي متى (8:9 ) بعد أن رأى الجموع معجزاته "تعجبوا ومجدوا الله الذي أعطى الناس سلطانا مثل هذا" فهل يا ترى كان الجموع يمجدون المسيح أم رب المسيح؟ وإذا كان المسيح إلها فماذا عن أم المسيح عليه السلام هل هي الأخرى إلهة أم ماذا؟ وهل يمكن للمخلوق أن يلد الخالق[63](/21)
وأما إن كنت تعتقد أن الله تعالي عن أن يشابه خلقه أو أن يقتل على أيديهم وأنه كان وما زال في السماء فوق جميع خلقه و لا يخرج أحد منهم عن قبضته لكن له ولد هو المسيح أرسله إلي الأرض لهذه الغاية وهو أن يتعذب بأيدي البشر من أجل البشر فقل لي بربك من أين علمت أن لله ولد؟؟ أمن الكتاب المقدس؟ فإن الكتاب المقدس يعتبر البشر جميعا أبناء الله بمعنى أن الله هو الذي يطعمهم ويرزقهم لا أبنائه على الحقيقة[64]كما أطلق على أنبياء آخرين هذا الوصف[65]. ( قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ . سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) ثم ما حاجة الله لكي يتخذ ولدا و هو الغني عن خلقه أجمعين؟ (َقَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) وهل هذا الولد كانت حياته سرمدية مثل حياة الله عز وجل أم أنه حادث على هذا الكون؟ فإن كان حادثا فهو مخلوق مثله كبقية مخلوقات الله عز وجل وإلا فكيف يكون مولودا وسرمديا في نفس الوقت؟ ( لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَّاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) وهل مشيئة هذا الولد تابعة لمشيئة الرب أم أن له إرادة مستقلة؟ وهل الإنسان مأمور بعبادة الرب وحده أم الرب وما تنسب له من ولد؟ هل تستقيم الحياة إذا عبد الإنسان أكثر من إله؟ ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) ثم هل ضاقت السبل على رب الأرض والسماوات فلم يجد وسيلة لتكفير خطيئة آدم إلا التضحية بولده-بفرض وجود الولد؟ و كيف تنزه الرهبان والقساوسة عن اتخاذ الولد وتنسب ذلك لله رب العالمين؟ ( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )(/22)
أما قضية التثليث وهي اعتقاد أن الله إله واحد مكون من ثلاثة أقانيم مختلفة فهي ثالثة الأثافي و اللغز المحير والمعضلة الكبرى التي ورثها رجال الكنيسة عن أسلافهم على علاتها وذلك أن آباء الكنيسة الأُوَل لم يكتفوا بنسبة الولد لرب العالمين لكنهم أضافوا لله شريكا ثالثا هو روح القدس وجعلوا الثلاثة واحدا والواحد ثلاثة. ويبدو أن الوقت لم يسعف النصارى الأوائل لكي يضعوا تفسيرا مقنعا لهذا فقد شغلتهم الاختلافات الكثيرة وعقد المجامع الكنسية و تكفير بعضهم بعضا واختيار الأناجيل لذا فإن علماء النصارى المعاصرين أنفسهم يعترفون بصعوبة فهم حقيقة التثليث فيقول أحدهم : إن الثالوث سر يصعب إدراكه وإن من يحاول إدراك سر الثالوث كمن يحاول وضع مياه المحيط كله في كفه[66]ويقول القمص باسيليوس إسحق: " أجل إن هذا التعليم عن التثليث يفوق إدراكنا " [67] فهل يعقل أن تكون الحقيقة الكبرى في هذا الكون بهذا القدر من التعقيد؟ وأين ذكر التثليث في العهد القديم [68]الذي تنضح نصوصه بالتوحيد؟ هل يمكن أن يكون التثليث حقيقة ولا يأتي له ذكر على لسان أى نبي من الأنبياء في الكتاب المقدس بل ولم يعلمها المسيح لتلاميذه و لم يسمع بها أحد منهم في حين لا تكاد تخلو سورة في القرآن من التوحيد؟ (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ َيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ) فالجملة اليتيمة التي تثبت التثليث في يوحنا (1) ستعرف في آخر الرسالة أنها مدرجة ولم تكن في النسخ القديمة. ولكن على العكس هناك نصوص تفند هذا الإدعاء انظر مثلا قول المسيح عليه السلام : ( اسمع يا إسرائيل الرب إلهنا رب واحد ) مرقص 12 : 29 ألا ترى أن هذه الجملة تعني لا إله إلا الله؟ ولو كان ما يدعيه النصارى صحيحا لقال المسيح "اسمع يا إسرائيل أنا إلهك رب واحد وثلاثة أقانيم" وإلا لكان المسيح غير أمينا. [69]وأيضا هناك قول المسيح أيضا : (وهذه الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ، ويسوع الذي أرسلته) يوحنا 17 : 3.دليل آخر على التوحيد فهل هذه الجملة الصريحة يفهم منها عاقل أن الله مكون من ثلاثة أقانيم؟ ولا عجب ألا نجد في الكتاب المقدس ذكرا لثالوث ولا سادوس فإن أمر الروح القدس نفسه ظل مشكلا على القوم ثمانية قرون إلى عام 879 م حتى عقدوا المجمع الكنسي الثامن ليبحثوا أمره. وما روح القدس إلا ملك من الملائكة- وهو جبريل عليه السلام - أرسله الله بالوحي للأنبياء والرسل ويؤيد الله به المؤمنين، ونصوص العهد القديم والجديد شاهدة في أن روح القدس حل في كثير من الأنبياء ، وفي الحواريين وفي غيرهم ، و يأتي روح القدس بمعنى القوة والنصر والتأييد ولم يرد على لسان أى نبي أن الروح القدس إله مع الله (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً . لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً . فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلُيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً ) وأما المسيح فقد خلقه الله من أم بدون أب كما خلق حواء من أب بدون أم ونفخ فيه من روحه كما نفخ في آدم من روحه وأحيا له الموتى كما أحيا الموتى لأنبياء عديدين من قبل فهل نقول على آدم وحواء وهؤلاء الأنبياء أنهم أقانيم أيضا؟ ألا ترى أنه لو كان المسيح وروح القدس إلهين من دون الله لكان ممكنا أن يريد كل واحد منهم شيء غير الآخر؟ فمن الذي تنفذ إرادته في هذه الحالة؟ أم أن كلا منهما إله ناقص الألوهية؟ ( مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ) وإذا كان الثلاثة هم واحد فكيف يموت أحدهم على الصليب ويبقى اثنان لم يموتا؟! المفروض إن كان الثلاثة واحد والواحد ثلاثة أن يموتوا جميعا أو يحيوا جميعا. ولكن لما كان الله لا يموت كان يستلزم ذلك أنه لو كان هناك 3 أقانيم أن يموت أحدهم فقط دون الآخرين وهذا يعني أن الثلاثة(/23)
أقانيم منفصلة وغير متحدة وهذا ينافي عقيدة التوحيد التي جاء بها الأنبياء جميعا. فكما ترى إن عقيدة الثالثوث والصلب لا تنسجمان معا بصورة منطقية ولا يمكن أن تكون هي الحق.
إن عقلاء الغرب بدأوا يدركون هذه الخدعة الكبرى فقد ظهر عام 1977 كتاب اسمه "أسطورة تجسيد الإله" The Myth of God Incarnateكتبه سبعة من كبار رجال اللاهوت البريطانيين بما فيهم رئيس لجنة مذهب كنيسة إنجلترا يعلنون فيه إنكار ألوهية المسيح ويقرون ببشريته فقط.[70]وقد أدلت مجلة تايم (27 فبراير 1978) بحثا هاما اشتغلت به دوائر جامعات وكنائس العالم الغربي وهو ظاهرة الدعوة إلى بشرية المسيح والمعارضة لألوهيته جاء فيه: إن موجة الرفض لفكرة ألوهية المسيح أو ازدواج طبيعته تزداد قوة وانتشارا في أوساط المفكرين اللاهوتيين سواء في الجامعات أو في الكنائس الغربية وهؤلاء الرافضون يعلقون أنه لا يوجد في الإنجيل ولم يثبت عن المسيح القول بألوهيته ويؤكدون أنه عليه السلام بشر عادي. [71]وفي سنة 1993 ألقي البابا يوحنا بولس الثاني خطابه الرسولي وأشار فيه إلى الانفصال المتزايد بين الكنيسة والرأي العام النصراني وذلك لعدم تصديق النصارى للعقيدة النصرانية الحالية كما طالب النصارى بعدم مناقشة العقيدة النصرانية والتسليم الأعمى بها. فهل يمكن أن يكلف الله البشر بالإيمان بعقيدة هذا شأنها؟؟
في البدء كانت الكذبة
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ
إذا نظرنا في تاريخ النصرانية لنعرف كيف تسربت هذه الوثنية إليها سنرى أن أتباع المسيح عليه السلام بعد رفعه إلى السماء ظلوا يعبدون الله الواحد الأحد في الهيكل تنفيذا لتعاليم المسيح عليه السلام : [ إلى طريق أمم لاتمضوا وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا بل اذهبوا بالحرى إلى خراف بني إسرائيل الضالة ] متى 10 / 5، 6 ولكنهم مع اضطهاد اليهود لهم حتى لا ينازعوهم السلطة الدينية داخل الهيكل تحولوا إلى عبادة الله في البيوت الواسعة وكان الذي يقود عمليات الاضطهاد ضد أتباع المسيح رجل يهودي اسمه شاؤول من طائفة الفريسيين أشد الطوائف اليهودية بغضا للمسيح ولكن ظل للحواريين كيانا منظما و ظلوا متمسكين بتعاليم المسيح بألا يمضوا إلى طريق الأمم وظلت دعوتهم مستمرة ثم حدث أمر غريب فقد تحول شاول فجأة من عدو لدود ظالم إلى رسول قديس يوحى إليه !! بدون مقدمات دخل شاؤول النصرانية ذاكرا أنه رأى نورا غامرا سمع منه صوتا إلهيا أعطاه إنجيلا إلهيا بدون أن يذكر أى شهود على هذه الحادثة !! وانتقل شاؤول فجأة من كرسي الجلاد إلى كرسي المحامي ثم أطلق على نفسه اسم بولس ثم أصبح بعدها أهم شخصية في تاريخ المسيحية باعتراف المؤرخين للآثار والتغييرات الكبيرة التي حدثت بسببه حتى إن المسيحية تسمى باسمه أحيانا فيقال مسيحية بولس. [72]ثم أخذ بولس يدعو الناس إلى ما كان غائبا عن تلاميذ المسيح وما كان غائبا عن المسيح نفسه طوال حياته على الأرض من أمور مثل تجسيد الإله وألوهية المسيح ونظرية المخلص وعقيدة الفداء والصلب والخطيئة الأصلية والتي كانت عند الأمم الوثنية التي أراد بولس أن تنتشر فيها دعوته مع اختلاف الأسماء.[73]
وهنا يحق لنا أن نسأل عدة أسئلة إذا كان بولس رسولا له كل هذه الأهمية فلماذا لم يبشر المسيح تلاميذه بنبوته؟؟ إن ذلك لم يحدث بدليل ما جاء في أعمال الرسل : و لما جاء شاؤول بولس إلى أورشاليم حاول أن يلتصق بالتلاميذ وكان الجميع يخافونه غير مصدقين أنه تلميذ[74]!! ولماذا لم يختره المسيح ليكون من تلاميذه و يتلقى عنه مباشرة قبل أن يرفع إلى السماء؟ولنا أن نسأل أيضا كيف ينتقل رجل فجأة من الكفر المحض إلى النبوة والرسالة بدون أن يمر بأى مرحلة وسيطة ولم يكن أى من الأنبياء السابقين كافرا قط فضلا عن أن يكون عدوا لدودا للدعوة؟ ولماذا لا نجد أى نص في كتاب سماوي يدل أو يشير إليه أو يصفه، فرسائله تعد شهادة منه لنفسه فهي غير مقبولة، وكذلك ما كتب بتأثير منه؟ ولماذا لم يؤيده الله بمعجزة كما أيد موسى عليه السلام حين كلمه وكما أيد جميع الأنبياء ؟ وما فائدة رسالته بعد رفع المسيح مباشرة إلا إن كان المسيح لم يبلغ رسالة ربه على الوجه الأكمل حاشاه من ذلك؟ وكيف عرف بولس فجأة بعد أن سمع الصوت أن الذي يخاطبه هو صوت الرب وليس شيطانا؟ و لماذا لم يذهب بولس بعد تنصره مباشرة إلى التلاميذ ليتلقى عنهم دين المسيح بل ذهب إلى الجزيرة العربية [75]ومكث بعيداً عن التلاميذ ثلاث سنين، ثم لقي اثنين منهم فقط لمدة خمسة عشر يوماً (انظر غلاطية 1/18- 19)(/24)
و لو كانت هذه التغييرات التي أحدثها بولس وحيا من عند الله ألم يكن أولى أن ينال هذا الشرف أحد تلاميذ المسيح الذين آمنوا به في حياته وصحبوه و نالهم الاضطهاد في سبيل دينه من هذا الذي كان يحارب دعوة المسيح؟ بل ألم يكن أولى أن يخبر بها المسيح صراحة ولا يدعها لشخصية يكتنفها الريبة والغموض؟و لماذا لم يذكر بولس اسم شاهد واحد على الأقل على قصة الرؤية هذه؟ ألم يقر المسيح بأن شهادته هو لنفسه وحدها لا تكفي وإنما يلزم شهادة أخرى معه كما نصت على ذلك التوراة؟ [76]فهل بولس أفضل أم المسيح؟؟ ؟ و ماذا عن الاختلافات في قصة رؤية بولس المزعومة بين الروايات المختلفة التي تضحض هذه الواقعة؟ [77]
إن للرسل علامات من أظهرها أن يكونوا في الدرجة القصوى من حسن الخلق و السجايا الكريمة فهل تحقق هذا في بولس؟ إذا نظرت في نصوص العهد الجديد ستجد له مواقف تطفح غرورا ونفاقا وكذبا في سبيل تحقيق أهدافه فتجده يقول:"صرت لليهود كيهودي…وللذين تحت الناموس كأني تحت الناموس…و للذين بلا ناموس كأني بلا ناموس…صرت للكل كل شيء" (كورنثوس(1)9/20-21. فهو يريد أن ينشر دين الله بالكذب والطرق الملتوية وانظر إليه عندما خاف من الجند قال لهم: "أيجوز لكم أن تجلدوا إنساناً رومانياً"فذهب القائد بنفسه إلى بولس وسأله: "أأنت حقا روماني؟" فأجاب: "نعم!" فقال القائد: "أنا دفعت مبلغا كبيرا من المال لأحصل على الجنسية الرومانية". فقال بولس: "وأنا حاصل عليها بالولادة!»أعمال22/25-28فانظر إلى هذا الكذب البواح مع أنه يهودي فريسي ابن فريسي كما في ( أعمال 6:23 ) وهو يسيء الأدب مع الله قائلا بلا ذوق " لأن جهالة الله أحكم من الناس، وضعف الله أقوى من الناس" (كورنثوس(1)1/25) ويقول عن التوراة (لو كان العهد السابق بلا عيب، لما ظهرت الحاجة إلى عهد آخر يحل محله) عبرانيين (8/7) ويقول مستحلاً المحرمات: " كل الأشياء تحل لي" (كورنثوس(1)6/12) [78]بالإضافة لإنه جعل نفسه حواريا بل قديسا معصوما فوق الأنبياء جميعا يدين العالم كله بما فيهم الملائكة الذين جعل المسيح دونهم بقليل [79]انظر عبرانيين 9/2 و كورنثوس(1)6/2-3
ولم يكتف بولس بذلك ولكنه ملأ العهد الجديد بأرائه المحضة ثم جعلها وحيا مقدسا من عند الله فتراه يقول (إِذاً من زُوِّج فحسنا يفعل ومن لا يُزَوج يفعل أحسن) ( كورنثوس (1) 7/39 ) فهل هذا يتفق مع فطرة الله التي فطر الناس عليها ؟ وماذا يحدث لو طبق جميع الناس هذه النصيحة الغبية؟ حتى رسائله الشخصية البحتة التي لا تعني أى شيء بالنسبة للناس جعلها وحيا أيضا من عند الله فيقول في رسالته إلى تيموثاوس " سلم على برسكا وأكيلا، وعائلة أونيسيفورس. أراستس مازال في مدينة كورنثوس. أما تروفيموس، فقد تركته في ميليتس مريضا. اجتهد أن تجيء إلي قبل حلول الشتاء.يسلم عليك إيوبولس، وبوديس، ولينوس، وكلوديا، والإخوة جميعا). فما علاقة هذه السلامات والتحيات بوحي الله للعالمين؟ و هو لا ينسى ردائه أيضا في هذه الرسالة فيقول )وعندما تجيء، أحضر معك ردائي الذي تركته عند كاربس في ترواس، وكذلك كتبي، وبخاصة الرقوق المخطوطة.!!) فهل هذا كلام مقدس؟(/25)
إن المسيح عليه السلام قد بشر ببولس رسولا للشيطان لا رسولا للرحمن فقال : "لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء ما جئت لأنقض بل لأكمل فإني الحق أقول لكم : إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد من الناموس حتى يكون الكل، فمن نقض إحدى هذه الوصايا الصغرى وعلم الناس هكذا يدعى: أصغر في ملكوت السماوات" (متى 5/17-19)، و بولس معناها "الصغير") و هو الذي نقض وصايا المسيح ووصايا موسى عليهما السلام التي قال عنها المسيح " إ ن أردت أن تدخل الحياة فاحفظ الوصايا ". متى [ 19 : 16 ] وقال أيضا " « على كرسي موسى جلس الكتبة والفريسيون فكل ما قالوا لكم أن تحفظوه فاحفظوه وافعلوه ولكن حسب أعمالهم لا تعملوا لأنهم يقولون ولا يفعلون.)) متى [ 23 : 1 ] فقد أحل بولس شرب الخمر ودعا إليها صراحة وأحل أكل لحم الخنزير وحلل ذبيحة الصنم وأبطل مفهوم النجاسة و حرم الختان –مع أن المسيح قد اختتن[80]- وألغى تقديس يوم السبت وقال عن الشريعة التي كان المسيح من أشد الناس تمسكا بها أنها (لم توصل الذين كانوا يعبدون الله بحسبها ولو إلى أدنى درجات الكمال)[81] ثم وصل به الحال إلى أن ألغى الشريعة معللا ذلك بكل وقاحة بأن الشريعة تجلب الغضب ، وحيث لا تكون شريعة لا تكون معصية [ رومية 4 : 15 ] وقال "لذا نحن - أي بولس- نقرر تبرير أعمال الإنسان من خلال إيمانه ، بدون التزامه بالشريعة " [82][ رومية 3 : 28 ] فجعل بولس فصلا تاما بين الإيمان والعمل وجعل المطلوب من الشخص فقط كي ينجو أن يؤمن أن المسيح مات على الصليب كفارة لأخطاء البشرية ثم لا عليه بعد ذلك أن يفعل ما يريد طالما آمن بالمخلص فالنجاة ستأتيه أوتوماتيكيا !! حتى أنه أخبر أن الكافر الذي لا يؤمن بالمسيح قد يدخل الجنة إذا كان متزوجا من امرأة مؤمنة (كورنثيوس1 8:7-16)[83]
ولا يخفى ما لهذا الاعتقاد من أثر في التسبب في الانحلال الخلقي و الفوضى الاجتماعية. و على عكس ذلك قال يعقوب تلميذ المسيح في رسالته : " قائلاً : (ياإخوتي، هل ينفع أحدا أن يدعي أنه مؤمن، وليس له أعمال تثبت ذلك، هل يقدر إيمان مثل هذا أن يخلصه؟ ) [14:2] و قوله " وهذا يؤكد لك، أيها الإنسان الغبي، أن الإيمان الذي لا تنتج عنه أعمال هو إيمان ميت " [2: 20]
و قد دعي بولس في الدنيا بالصغير، ولسوف يدعى في الآخرة أصغر جزاء تبديله للناموس والوصايا
غير أن أخطر الشروخ التي أصابت جدار المسيحية على يد بولس على الإطلاق هي الوثنية المتمثلة في عقائد تجسيد الإله و صلبه وأكل لحمه ودمه في العشاء الرباني وغير ذلك مما نبت من أفكاره الفلسفية[84]أو معتقدات الشعوب الأخرى التي أراد للمسيحية أن تنتشر فيها. يقول شارل جنيبر" إن الدراسة المفصلة لرسائل بولس الكبرى تكشف لنا النقاب عن مزيج من الأفكار فيبدو لأول وهلة غريبًا حقًا فهي مزيج من الأفكار اليهودية ثم من المفاهيم المنتشرة في الأوساط الوثنية اليونانية ومن الذكريات الإنجيلية والأساطير الشرقية" [85]
ويبدو أن هم بولس الأول الذي استطاع تحويل المسيحية من دعوى قومية إلى بني إسرائيل كما كانت في عهد المسيح إلى دعوة عالمية كان الاستكثار من الأتباع و المؤمنين الجدد من أبناء الأمم المجاورة لذا صاغ لهم من معتقداتهم القديمة دينه الجديد الذي لا يمت للمسيح بصلة إلا اسمه ويدل على ذلك التشابه الشديد بين عقائد النصارى الحالية والعقائد الوثنية القديمة. [86]فكما أن الآلهة عند الرومان تتجسد على شكل مخلوقات وتصارع البشر جعل بولس إلهه الجديد كذلك وكما أن البشرية في نظر الحضارات القديمة تحتاج إلى منقذ يخلصها من اللعنة جعل بولس ذلك في دينه الجديد ومن أمثلة ذلك ديانة (مثرا) الذي كانوا يسمونه في أوروبا (مثرا إله الخلاص ) والمثراوية تحوي المعمودية والعشاء الرباني[87]أيضا حتى أن بعض الباحثين أعلن في وضوح أن النصرانية هي المثراوية في ثوبها الجديد ولهذا قيل«لم تتنصر الروم ولكن تروَّمت النصارى». يقول د. جنيبر : [ ورأى بولس بوضوح أيضًا أن الأتباع الجدد من المشركين لم يكونوا ليتقبلوا كل القبول ( فضيحة الصليب ) وأنه يجب تفسير ميتة عيسى المشينة تفسيرًا مرضيًا يجعل منها واقعة ذات مغزى ديني عميق.. وأعمل بولس فكره في هذه المشكلة.. ووضع لها حلاً كان له صدى بالغ المدى.. لقد تجاهل فكره عيسى الناصري ( المسيح عليه السلام ) ولم يتجه إلا إلى عيسى المصلوب ( الشخصية التي اخترعها بولس ) فتصوره شخصية إلهية تسبق العالم نفسه في الوجود.. رجل سماوي احتفظ به الله إلى جانبه أمدًا طويلاً حتى نزل إلى الأرض لينشيء فيها حقًا بشريًا جديدة يكون هو دمها..][88](/26)
فإذا نظرنا إلى موقف تلاميذ المسيح من بولس فبرغم من أن بعضهم تقبله في البداية عملا بحسن الظن الذي علمهم إياه المسيح إلا أنهم عارضوا دعوته ووقفوا في وجهها بعد أن ظهرت لهم بدعه المهلكة ودليل ذلك اختفاء ذكرهم عن عالم المسيحية بعد ظهور بولس، فقد اختفت كتاباتهم وحوربت، ولم ينج منها إلا إنجيل برنابا ورسالة يعقوب المضمنة في رسائل العهد الجديد والتي تمتلئ بمخالفة بولس وخاصة في مسألة الفداء.حتى برنابا وهو الوحيد الذي قدم بولس إلى التلاميذ نفر منه بعد ذلك واختلف معه وتركه واختفى ذكره من العهد الجديد بعد هذه الحادثة و لو كان بولس رسولا من عند الله حقا لما تركه تلميذ المسيح عليه السلام[89].
وقد ظل المؤمنون من أتباع التلاميذ الذين كانت لهم رسائلهم وكتبهم أيضا يعبدون الله على شريعة المسيح بدون أن يتأثروا ببدع بولس وحارب الكثير منهم دعوة بولس واتهموه بأنه أفسد الديانة المسيحية بعد أن عجز عن القضاء عليها بالسيف والسلطان فدخل في المسيحية وأخرجها من التوحيد إلى الوثنية. حتى بدأ تدخل السلطة وانعقاد المجامع الكنسية. وفي ذلك يقول الشاعر القروي السوري رشيد سليم الخوري -المولود في أسرة أرثوذكسية : " إن الكنيسة ظلت حتى مطلع القرن الرابع الميلادي تعبد الله على أنه الواحد الأحد وأن يسوع المسيح عبده ورسوله حتى تنصر قسطنطين عاهل الروم وتبعه خلق كثير من رعاياه اليونان والرومان فأدخلوا بدعة التثليث وجعلوا لله سبحانه وتعالى أندادا شاركوه منذ الأزل في خلق السماوات والأرض وتدبير الأكوان ومالأهم الأسقف الأنطاكي مكاريوس فثار زميله الأسقف أريوس على هذه البدعة ثورة عنيفة شطرت الكنيسة واتسع بين الطائفتين نطاق الجدل حتى أدى إلى الاقتتال وفاز أريوس بالحجة القاطعة في المجامع بيد أن السلطة وضعت ثقلها في الميزان فأسكتت صوت الحق وأنفذت صوت الباطل واستمر المسيحيون يعمهون في ضلالتهم "
و قضية المجامع هذه أمرها عجيب. فإزاء تعدد مذاهب النصارى في المسيح عليه السلام وتعدد أناجيلهم كذلك التي بلغت أكثر من خمسين إنجيلا كما تذكر بعض الروايات تم عقد المجامع الكنسية وأولها مجمع نقية عام 325 م الذي اجتمع فيه أكثر من ألف أسقف لكي يحددوا طبيعة المسيح عليه السلام ويختاروا الأناجيل المعترف بها من ضمن عشرات الأناجيل وبرغم أن 338 أسقفا فقط هم من قالوا بألوهية المسيح إلا أن الإمبراطور الروماني قسطنطين انحاز إلى هذا الرأي –وهو الأقرب إلى وثنيته- وانفض المجمع على لعن أريوس الذي يقول بالتوحيد ونفيه وطرد من قال برأيه وحرق كتبه واختيار أربعة أناجيل فقط هي أناجيل يوحنا ولوقا ومتى ومرقص التي كانت تعزز عقيدة ألوهية المسيح وحرق بقية الأناجيل وقتل كل من يثبت اقتناؤه لها وأما الرسائل السبع فلم يعترف المجمع المذكور بالكثير منها ، وإنما تم الاعتراف بها فيما بعد وهذا القدر من التاريخ يتفق عليه جل المؤرخين. وهكذا تحققت نبوءة المسيح وهي قوله (ستطردون خارج المجامع، بل سيأتي وقت يظن فيه من يقتلكم أنه يؤدي خدمة لله. وهم يفعلون هذا بكم لأنهم لم يعرفوا أبي، ولا عرفوني ) يوحنا 2:16 و إنا لنعجب أشد العجب من دين يتم اختيار عقائده وكتبه بهذه الطريقة ... هل يمكن أن يترك الله الناس في حيرة بدون بينة واضحة أو كتاب منير فيحددوا طبيعة إلههم وكتبهم المقدسة من خلال المؤتمرات التي تتلاعب فيها الأهواء والمصالح وحب الرياسة وتقلبات السياسة بالنفوس البشرية؟[90]أم أن الحق كان واضحا ولكن اختلاف الكهنة والعلماء وإتباع الأهواء أذهب به؟ ولماذا تم رفض بقية الأناجيل برغم أن الأشخاص الذين كتبوها تعتبرهم الكنيسة قديسين؟ ولماذا كانت هذه الأربعة فقط هي وحي الله وما عداها ليس وحيا؟(91) وما الذي يضمن أن قرارات هذه المجامع هي قرارات معصومة من الخطأ وهي التي كانت قلما كان يسلم أعضاؤها من الاختلاف بل كانت تنتهي غالبا بلعن بعضهم بعضا !! لا شك أن أي عاقل لا يقبل أن يتحدد دينه واعتقاده و هو أهم ما لديه بهذه الطريقة.
و برغم نتيجة هذه المجامع وانحياز الإمبراطور الروماني لوثنية روما في شكلها الجديد واضطهاد الدولة الرومانية لأتباع أريوس فإنه ظل من النصارى من يعبد الله وحده واستمر من عقلاء النصارى ومصلحيهم من كل جيل من يستيقظ عقله ليعلن فساد مبدأ التثليث والتجسد من حين لآخر فيناله ما يناله من الاتهام بالهرطقة والتكفير والحرمان من دخول الجنة من الكنيسة حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم فانتصر لأتباع التوحيد وأصبحوا ظاهرين من حينها و تولت أمة الإسلام أمر الدعوة إلى عبادة الله وحده و ما زال يلبي هذه الدعوة إلى اليوم كل من استمع لنداء عقله وفطرته وقلبه من علماء النصارى وعوامهم على السواء.[92](/27)
على أن فساد النصرانية لم يقتصر في أمر الألوهية ولكن جعلت الكنيسة لنفسها سلطة مغفرة الذنوب ودخول الجنة وجعلت لذلك صكوكا فأقحمت نفسها بين العبد وربه و احتكرت لنفسها حق تفسير الإنجيل بل وقراءته [93]وجعلت لنفسها أسرارا لا يجوز للناس الاطلاع عليها و أدخلت بدعة تقديس مريم عليها السلام وتقديس أشخاص عاديين وبدعة القربان المقدس وادعت عصمة البابا[94]بل صار البابا يتلقى من الرب مباشرة وجعلت السجود للصور والتماثيل والصلبان كعباد الأوثان داخل الكنائس- وهي جمادات لا تنفع ولا تضر- [95]فأصبح تعلق النصراني بتمثال المسيح وصورته والصليب بعد أن كان بالله و وبدلت التشريعات التي كانت سائدة أيام المسيح كالصوم وحرمت الطلاق وحولت اتجاه القبلة من بيت المقدس إلى مشرق الشمس وابتدعت الرهبنة التي تقوم على تعذيب الجسد وأوقدت شرارة سلسلة من الحروب الهمجية عرفت في التاريخ باسم الحروب الصليبية و صادرت الكنيسة عقول الناس وأفكار العلماء واضطهدتهم فأشعلت الصراع النكد مع العلم وظلت أوروبا تعيش في عصور الظلام مئات السنين حتى نبذ أهلها الدين وضاقوا ذرعا بتسلط الكنيسة وطغيانها فظهرت عدة ثورات وحركات إصلاحية[96]نادت بالتحرر من سلطة الكنيسة ورُفِع شعار اللادينية وحينها فقط بدأ ما يعرف بعصر النهضة الأوروبية!!
يكتبون الكتاب بأيديهم
فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً(/28)
أنزل الله على عيسى عليه السلام الإنجيل وقال عنه في القرآن ( فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ) و هذا الكتاب المبارك هو الذي كان يسمى بالإنجيل فقط غير منسوب إلى مؤلف من البشر وقد علمه المسيح عليه السلام لتلاميذه ووردت إشارات عنه في الكتاب المقدس [97]إلا أنه يبدو أن هذا الإنجيل قد تعرض للفقد مع معظم كتابات التلاميذ التي كانوا يكتبون فيها مذكراتهم و تسجيلهم للأحداث ووصاياهم وقد عرفت أيضا باسم الأناجيل إثر المحاولات الغاشمة من الكنيسة للقضاء عليها وحرقها وقتل مقتنيها. و قد بلغت هذه الكتب أكثر من خمسين إنجيلا و منها إنجيل برنابا وإنجيل الطفولة ويُنسب لمتى الحوارى وإنجيل فيليب ويُنسب لفيليب الحوارى وإنجيل المصريين ويُنسب لمرقص الحوارى و إنجيل الإثنى عشر رسولا و إنجيل العبرانيين أو الناصريين و إنجيل السبعين وينسب لتلامس وإنجيل مريم المجدلية وإنجيل الحياة وإنجيل الولادة وإنجيل التذكرة وإنجيل مرقيون وقد تم رفض أكثر هذه الأناجيل بعد مجمع نيقية وبقيت شذرات منها في المكتبات القديمة إلا أن إنجيل برنابا منها هو الذي ذاع صيته وانتشر و ترجم إلى لغات عديدة. وقد جاء ذكر إنجيل برنابا في ثنايا قرارات الكنسية منذ القرن الرابع الميلادي تحرض على منع قراءته مثل قرار البابا ديماسوس عام 366 م وقرار البابا جلاسيوس الأول الذي جلس على كرسي البابوية عام 492 م يحرم فيه قراءة عدة كتب منها إنجيل برنابا .ويتفق المؤرخون على أن أقدم نسخة عثروا عليها لهذا الإنجيل، نسخة مكتوبة باللغة الإيطالية، عثر عليها كريمر أحد مستشاري ملك بروسيا، و ذلك فى سنة 1709. و قد انتقلت النسخة مع بقية مكتبة ذلك المستشار فى سنة 1738 إلى البلاط الملكي بفينّا. و كانت تلك النسخة هى الأصل لكل نسخ هذا الإنجيل في اللغات التي ترجم إليها. وبرنابا كاتب هذا الإنجيل هو أحد حواريي المسيح ، واسمه يوسف بن لاوي بن إبراهيم وجاء في العهد الجديد أنه باع حقله وجاء ووضعه عند أرجل تلاميذ المسيح ( انظر أعمال 5/36 – 37 )، عرف بصلاحه وتقواه وقد ذهب برنابا للدعوة في أنطاكية.. "ووعظ الجميع أن يثبتوا في الرب بعزم القلب ، لأنه كان رجلاً صالحاً وممتلئاً في الروح القدس والإيمان ، فانضم إلى الرب جمع غفير " ( أعمال 11/22 – 24 ) و يعتبر إنجيل برنابا وثيقة إدانة ضد التحريف الذي أحدثه بولس الكذاب وبابوات الكنيسة من بعده في النصرانية وشاهدا على صدق النبي محمد صلى الله عليه وسلم إذ أنه يقر بوحدانية الله عز وجل و ببشرية المسيح عليه السلام ويبشر برسول الإسلام باسمه الصريح محمد لذا لم تعترف به الكنيسة وحرمت قراءته ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره فالكتاب مترجم للعربية ومتاح للجميع[98]وهذا لا يعني أنه خالي من الأخطاء فهو كأي عمل بشري معرض لذلك لكنه أقرب الأناجيل إلى الصواب. وهذه إحدى فقراته يبشر المسيح فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم " فأجاب يسوع....الحق أقول لكم إن كل نبى متى جاء فإنه إنما يحمل علامة رحمة الله لأمة واحدة فقط . و لذلك لم يتجاوز كلامهم الشعب الذى أرسل إليهم. و لكن رسول الله متى جاء. يعطيه الله ما هو بمثابة خاتم. فيحمل خلاصا و رحمة لأمم الأرض الذين يَقبلون تعليمه. و سيأتى بقوة على الظالمين. و يبيد عبادة الأصنام بحيث يخزى الشيطان. لأنّه هكذا وعد الله إبراهيم قائلا (أنظر فإنى بنسلك أبارك كل قبائل الأرض و كما حطّمت يا إبراهيم الأصنام تحطيما هكذا سيفعل نسلك"(.(/29)
أما التوراة فلم تسلم هي الأخرى من التلاعب والتحريف فقد آتى الله موسى الكتاب فيه هدى ونور ومن كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء لكن أحبار السوء الذين ورثوا الكتاب كانوا يشترون به ثمنا قليلا فيخفون كثيرا من أجزائه للهروب من أحكامه غالبا وكسب المال ويكتبون بدلا منها كتبا بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله حتى تحول الكتاب إلى هذه المجموعة المشوهة أخلاقيا وعلميا من الأسفار التي تعرف بالعهد القديم بعضها لمؤلفين مجهولين كما ذكر مراجعو الطبعة المنقحة RSVمثل سفر صموئيل وسفر أخبار الأيام[99]والتي لا نجد بينها التوراة كما كانت على عهد موسى. وصدق الله إذ يقول ( وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) وهذا لا يمنع أن يكون في هذه الأسفار أثارة من علم الأنبياء وبقايا من وحي السماء، لكنها غارت في بحور من تخليط البشر وتحريفهم وسترى أمثلة على ذلك ولذلك فإن فِرَق النصارى مختلفون في كتابهم المقدس أشد الاختلاف فتجد مثلا البروتوستانت -وهم أشد الفرق تعظيما له ولذلك سموا بالإنجيليين- لا يعترفون بسبعة أسفار من كتاب الكاثوليك وتوجد اختلافات كثيرة في الأسفار المعترف بها لديهم بين كتابهم وكتاب الكاثوليك فأي الكتابين هو الصحيح؟؟ هذا بالإضافة للأسفار المفقودة ومشار إليها في ثنايا العهد القديم مثل كتاب حروب الرب المذكور في سفر العدد 14:21و كتاب ياشر المذكور في يشوع 10:13.
و أما الأناجيل المعترف بها اليوم- وهي إنجيل متّى ، وإنجيل مرقص ، وإنجيل لوقا ، وإنجيل يوحنا التي ضمنتها الكنيسة مع رسائل بولس و بقايا التوراة المحرفة في كتاب واحد أسمته الكتاب المقدس فبالرغم من أي من كتّاب هذه الأناجيل لم يدع الإلهام لنفسه وإنما اعترف بعضهم بأن ما كتبه هو مجرد تسجيل للأحداث حسبما يراها هو فإن الكنيسة تصر على هذه الدعوة ولكن ما بهذه الأناجيل من أخطاء وتناقضات[100]يكشف زيف هذه الدعوة بكل وضوح. يقول روبرت كيل تسلر[101]في كتاب حقيقة الكتاب المقدس: " أما ما يخص العهد الجديد فإن النص الأصلي -وهو ليس لدينا كما ذكرنا من قبل - قد تكوَّن بين أعوام (50) و(200) بعد الميلاد، وهذه مدة كبيرة من الزمن بعد وفاة يسوع، بل إن (50) سنة لتعد أيضاً فترة زمنية كبيرة وفي هذا الزمن استطاعت بعض الأساطير أن تجد لها طريقاً تنتشر فيه ، في وقت لم يعد فيه شهود عيان عند تكوين معظم النصوص الأصلية وهنا يجب علينا أن نتذكر : كم من الأساطير نشأت فقط بعد عدة سنوات بسيطة من حريق جيوفارا؟ " وإذا لم تكن مصدقا بوجود الإشاعات في الأناجيل فقل لي بربك من أين عرف المؤلفون الأحداث التي تلت القبض على شبيه المسيح إذا كان كل التلاميذ قد تركوه وهربوا كما هو مذكور في متى 56:26 ومرقس 50:14 إلا عن طريق الإشاعات؟
أول هذه الأخطاء هي نسبة الأناجيل نفسها لأصحابها فهي نسبة تعتريها الشكوك وتحوم حولها الشبهات من كل جانب.أما بالنسبة لإنجيل يوحنا فقد كتب في أواخر القرن الأول الميلادي في حين أن يوحنا الحواري كما يقول بعض المؤرخين مات مشنوقا سنة 44م على يد غريباس الأول وهو كما يذكر مؤلفه مكتوب خصيصا لإثبات ألوهية المسيح فقد ظلت الأناجيل نحو قرن من الزمان ليس فيها نص على ألوهية المسيح فالأساقفة اعتنقوا ألوهية المسيح قبل وجود النص الذي يدل عليها ولما أرادوا أن يحتجوا على خصومهم لم يجدوا مناصا من أن يلتمسوا دليلا ناطقا بذلك فكتب أحدهم أو بعضهم هذا الإنجيل[102]. تقول دائرة المعارف البريطانية : "يعتقد كثير من العلماء أن نسبة هذا الإنجيل إلى يوحنا الحواري غير صحيحة"[103] وجاء في الترجمة المسكونية للإنجيل كلام مماثل لذلك. ولولا خشية التطويل لذكرت أراء عددا من الباحثين بأسمائهم ولكن أكتفي بذكر كلام القس فهيم عزيز بعد طرحه لسؤال من كاتب إنجيل يوحنا : يجيب القس فهيم عزيز : " هذا السؤال صعب، والجواب عنه يتطلب دراسة واسعة غالباً ما تنتهي بالعبارة : لا يعلم إلا الله وحده من الذي كتب هذا الإنجيل ". وهذه شهادة من أهلها لا تحتاج معها لشهادة آخرى. أما إنجيل متى فقد جاء في مقدمة الرهبانية اليسوعية لإنجيل متى: " أما المؤلِّف، فالإنجيل لا يذكر عنه شيئاً وأقدم تقليد كنسي ينسبه إلى الرسول متى .. ولكن البحث في الإنجيل لا يثبت ذلك الرأي أو يبطله على وجه حاسم، فلما كنا لا نعرف اسم المؤلف معرفة دقيقة يحسن بنا أن نكتفي ببعض الملامح المرسومة في الإنجيل نفسه... ".(/30)
أما مرقس ولوقا فلم يكونا من تلاميذ المسيح عليه السلام يقول المفسر دنيس نينهام مفسر مرقس : " لم يوجد أحد بهذا الاسم عرف أنه كان على صلة وثيقة، وعلاقة خاصة بيسوع، أو كانت له شهرة خاصة في الكنيسة الأولى ". وقال بطرس قرماج في كتابه " مروج الأخبار في تراجم الأبرار " عن مرقس : "كان ينكر ألوهية المسيح ". وأما لوقا فقد كفانا عناء البحث في أقوال المؤرخين إذ يقول بنفسه في مقدمة إنجيله " إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقنة عندنا، كما سلمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخداماً للكلمة
رأيت أنا أيضاً - إذ قد تتبعت كل شيء من الأول بتدقيق - أن أكتب على التوالي إليك أيها العزيز ثاوفيلس، لتعرف صحة الكلام الذي علِّمتَ به " فالذين كانوا في البدء هم التلاميذ و هو يعلن أنه لم يكن معهم. [104]
أما عن النسخ الأصلية التي كتبت منها هذه الأناجيل فيقول موريس نورن في " دائرة المعارف البريطانية " : " إن أقدم نسخة من الأناجيل الرسمية الحالية كتب في القرن الخامس بعد المسيح، أما الزمان الممتد بين الحواريين والقرن الخامس فلم يخلف لنا نسخة من هذه الأناجيل الأربعة الرسمية، وفضلاً عن استحداثها وقرب عهد وجودها منا، فقد حرفت هي نفسها تحريفاً ذا بال، خصوصاً منها إنجيل مرقس وإنجيل يوحنا" وهذا يعني أن هذه الأناجيل منقطعة السند[105]فضلا عن أن هذه النسخ القديمة ليست باللغة الأصلية التي كتبت بها الأناجيل ولا يُعلم من ترجمها ولا متى ترجمت !! ولا توجد أي طريقة علمية لإثبات أن هذه النسخ هي نفسها التي كانت موجودة في القرنين الأول والثاني الميلادي إلا المقارنة بين عدة نسخ من هذه المخطوطات لنفس الإنجيل لا تعتمد على بعضها البعض وحينها لن تكون المقارنة بالتأكيد في صالح الكتاب المقدس!! حتى عملية النسخ نفسها قبل اختراع الطباعة لا يمكن التسليم بدقتها نظرا لإنه لم يكن محفوظا عن ظهر قلب في صدور الرجال كالقرآن ولتغير اللغة ومعاني الكلمات عبر القرون المتطاولة فضلا عن أن اللغات مختلفة في ثرائها اللغوي عن بعض وقد توجد كلمات في لغة لا يوجد نظير لها في لغة أخرى لذا لا يمكن التسليم بالدقة الكاملة لمن ترجم كلام المسيح مثلا من الآرامية ثم إلى اليونانية ثم إلى اللاتينية والعربية وأي ادعاء بأن الكتاب الحالي هو كتاب مقدس يلزم أن يكون جميع المترجمين الذين ترجموه قديسين أو موحي إليهم من الروح القدس فهل تضمن الكنيسة ذلك؟ [106](/31)
لكن حدث اكتشافان أثريان هامان في أواسط القرن العشرين قد يؤديان لحدوث انقلاب في النظرة للكتاب المقدس والعقيدة النصرانية من أساسها. الأول هو مخطوطات كثيرة ترجع للقرن الأول الميلادي[107]أو قبله تخص جماعات مسيحية موحدة عاشت في هذه الفترة عثر عليها أحد البدو صدفة داخل أوان من الفخار في كهوف قمران بجوار البحر الميت عام 1947 لذا هي تعرف بمخطوطات البحر الميت ((Dead Sea Scrolls. هذه المخطوطات كتب عنها الدكتور ف. البراين و هو عمدة في علم آثار الإنجيل : " إنه لا يوجد أدني شكل في العالم حول صحة هذا المخطوط و سوف تعمل هذه الأوراق ثورة في فكرتنا عن المسيحية، و قال عنها القس ( أ. باول ديفيز ) في كتابه عن مخطوطات البحر الميت[108]( إن مخطوطات البحر الميت و هي من أعظم الاكتشافات أهمية منذ قرون عديدة ، قد تغير الفهم التقليدي للإنجيل ). ويعتقد كثير من العلماء أن هذه المجموعة التي كتبت المخطوطات هي من الأسينيين ويعتقد آخرون أنهم من الأبيونيين الذين كانوا يعتقدون بوحدانية الله وبشرية المسيح عليه السلام و تنكروا لبولس الكذاب و قد اضطهدهم الرومان. وتتحدث الوثائق صراحة عن التنبؤ بمسيحين سوف يرسلهما الله للعالم أحدهما سيكون من نسل هارون وإسرائيل (يعقوب) عليهما السلام و ستكون مهمته محصورة في التوجيه الديني ( priestly messiah) ويسميه أتباعه بمعلم البر والتقوى (Teacher of Righteousness) ولكن أحد الكهنة وهو الكاهن الشرير Wicked ) ( Priest سوف يخونه من أجل المال ويحاول تسليمه لأعدائه لكن الله يعاقبه هو بأن يسلمه إليهم و يجعلهم يقتلونه وتتحدث أيضا المخطوطات عن الكذاب (Man of lies)[109]الذي لوث اسم المعلم واحتقر التعاليم وأضل الكثيرين وواضح أن معلم البر والتقوى هو المسيح عليه السلام والكاهن الخائن هو يهوذا الذي دل الرومان على مكانه فمكر الله به وألقى عليه شبه المسيح وأما الكذاب فهو بولس الذي لوث اسم المسيح ونسب إليه ما لم يقله وأضل الملايين من بعده. وأما المسيح الآخر الذي تتحدث عنه المخطوطات فهو الذي سوف تشرق شمسه على كل العالم لتبدد الظلمات وسوف تكون كلماته كوحي السماء وسوف يحكم سيفه على جميع العالم وسوف يُرسل لجميع أبناء عصره و يمحو الجيل الذي بعث فيه الشر من العالم وسوف يختلق الناس الأكاذيب عنه[110] وقد وردت له ولأصحابه صفات كثيرة في هذه المخطوطات تنطبق على النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويمكنك أن تقرأ في هذه المخطوطات بنفسك فهي موجودة في العديد من المكتبات العامة ومترجمة للعربية والإنجليزية وموجود فصول منها على الانترنت.
وأما الاكتشاف الثاني فهو مكتبة كاملة من الكتابات المسيحية القديمة عثر عليها في نجع حمادي Nag Hammadi Library) )بمصر وهي موجودة الآن بالمتحف القبطي في القاهرة و من ضمن محتويات هذه المكتبة إنجيل توماس ( توما ) وهو يحوي سردا لأقوال المسيح عليه السلام وإنجيل فيليب وإنجيل الحق وإنجيل المصريين، إلى جانب بعض كتابات منسوبة للحواريين، مثل كتاب جيمس- يحمس في المصرية- و بعكس الأناجيل الأربعة المعروفة فلم يرد أي ذكر لقصة الصلب المزعومة في مكتبة نجع حمادي بل ورد تكذيب صريح لها. و محتويات هذه المكتبة أيضا مترجمة ومتاحة للباحثين ومن أمثلة ما ورد في إنجيل بطرس على لسان بطرس (رأيته يبدو وكأنهم يمسكون به فقلت ما هذا الذي أراه يا سيد هل هو أنت حقا من يأخذون؟ أم أنهم يدقون قدمي ويدي شخص آخر قال لي(المخلص) من يدقون المسامير في يديه وقدميه هو البديل فهم يضعون الذي بقي فيّ شبهه في العار انظر إليه وانظر إلىّ) وتدل الرسومات الموجودة على أغلفة مجلدات هذه المكتبة على أن المسيحيين الأوائل في مصر كانوا يتخذون مفتاح الحياة الذي يرمز لخلود الروح عند المصريين القدماء كرمز للمسيح عليه السلام وليس الصليب الروماني المعروف الآن و من يذهب إلى المتحف القبطي في القاهرة يجد أن مفتاح الحياة هو الصليب الوحيد الذي يرمز لقيامة المسيح خلال القرون الثلاثة الأولى للميلاد. ولم تستخدم الكنائس المسيحية الصليب الروماني إلا منذ النصف الثاني من القرن الرابع عندما أصبحت كنيسة روما مسيطرة على الحركة المسيحية، ومع هذا فإن ذلك الصليب لم يصبح مقبولا لدى عامة المسيحيين إلا بعد أن أعلنت الكنيسة الرومانية عن العثور في مدينة القدس على ما قيل إنه الصليب الخشبي الذي مات عليه يسوع. ثم تطور الأمر بعد ذلك- خلال القرن الخامس- عندما وضعت الكنيسة الرومانية صور لجسد المسيح على الصليب الخشبي.[111](/32)
إذا عدنا إلى الكتاب المقدس الموجود بين أيدي الناس اليوم -على اختلاف نسخه - وأخذنا ننظر في متنه وجدنا عجبا بدءا من التناقضات الصارخة بين رواية مؤلفي هذا الكتاب للأحداث و القصص الخيالية التي نسجت عن المسيح بل عن الله عز وجل التي لا يمكن أن يقبلها عقل و الكلام الفاحش الذي يتناول الجنس و النساء بصورة خارجة عن الحياء ونسبة جميع الخطايا للأنبياء بدءا من شرب الخمر والسرقة حتى الزنا والكفر بالله عز وجل مما أدى لظهور علم كامل في الغرب يعرف بعلم نقد الكتاب المقدس[112]يعتمد على إجراء البحوث العصرية و المقارنة بين النسخ والمخطوطات الموجودة لمعرفة الأخطاء الموجودة في هذا الكتاب والتي أوصلها بعضهم إلى ما يزيد عن 20 ألف خطأ !! [113]
وإذا أردت أمثلة فأول هذه الاختلافات التي تلفت النظر هي التباين الصارخ في سلسلة نسب المسيح بين إنجيلي متى ولوقا فهما مختلفان اختلافا يصعب الجمع بينهما سواء في عدد أجداد المسيح أو في أسمائهم ومثال ذلك عندما وصلت السلسلة إلى داود عليه السلام جعل متى المسيح من ولد سليمان الملك بينما جعله لوقا من ولد ناثان بن داود وهما أخوان ولا يعقل أن يكون المسيح من ذرية أخوين!! ثم إذا تأملت في سلسلة متى ستجد أنه ذكر للمسيح أربع جدات هن ثامار وراحاب وراعوث و وزوجة داود التي كانت لأوريا الحثي و لكل واحدة من هؤلاء الأربع سوءة تذكرها التوراة، فأما ثامار فهي التي ولدت فارص-وهو مذكور ضمن أجداد المسيح- زنا من والد أزواجها الذين تعاقبوا عليها واحداً بعد واحد. ( انظر قصتها مع يهوذا في التكوين 38/2 - 30 ). وأما زوجة أوريا الحثي فهي التي تتهم التوراة - زوراً - داود بأنه فجر بها ، فحملت، ثم دفع داود بزوجها إلى الموت، وتزوجها بعد وفاته. ( انظر القصة الكاذبة في صموئيل (2) 11/1 - 4 ). وأما راحاب زوجة سلمون، وأم بوعز، وكلاهما من أجداد المسيح - حسب متى -، فراحاب هي التي قال عنها يشوع: "امرأة زانية اسمها راحاب " ( يشوع 2/1 )، وذكر قصة زناها في سفره. وأما راعوث فهي راعوث المؤابية والتوراة تقول: " لا يدخل عموي ولا مؤابي في جماعة الرب، حتى الجيل العاشر " ( التثنية 23 / 3 ). ولحسن الحظ هذه المرة فإن المسيح ليس داخلاً في هذا الطرد من جماعة الرب، إذ هو الجيل الثاني والثلاثون لها[114]. فهل يعقل أن يكون المسيح عليه السلام ولد زنا؟؟! إن اعتقاد بطلان هذه القصص الكاذبة أهون بكثير من اعتقاد أن أجداد المسيح زناة. لكن الأدهى من ذلك وأمرّ هو أن كلا من الإنجيلين بدلا من أن ينسب المسيح إلى مريم عليها السلام نسبه إلى يوسف النجار !! أي أن هذه السلسلسة الطويلة من النسب هم أباء وأجداد يوسف النجار وليسوا أباء المسيح فما هي علاقة المسيح بيوسف النجار؟؟ ترى هل خاف كاتبا الإنجيل من اليهود فنسبا إلى مريم ما كان اليهود يرمونها به زورا وبهتانا فجعلوا المسيح من ذرية يوسف النجار؟؟(/33)
و لا يقف التناقض بين الأناجيل عند نسب المسيح ولكن الاختلافات بينها تشمل أسماء تلاميذ المسيح الإثنى عشر إذ يقدم العهد الجديد أربع قوائم للتلاميذ الاثني عشر تختلف كل واحدة عن الأخرى في متى ( 10/1 - 4 )، ومرقس ( 3/16 )، لوقا ( 6/14 ) وأعمال ( 1/13 ). وكذا تشمل الاختلافات رواية أحداث كثيرة تروى عن المسيح بل وتجد التناقض على لسان المسيح نفسه فمثلا تجد في متى (11 : 14 ) المسيح يقول عن يحيى أنه إيلي وفي يوحنا (1 : 19-28(يحيى ينكر أنه إيليا و في إنجيل متى 16 : 18-19 سمى المسيح سمعان بطرس وأعطاه مفاتيح ملكوت السموات وقال له كل ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السماوات، وكل ما تحله على الأرض يكون محلولاً في السماوات بينما في نفس الصفحة قال له " اذهب عني يا شيطان .أنت معثرة لي"16 : 23 ويذكر يوحنا أن المسيح قضى ثلاثة أعياد فصح في نبوته بينما تذكر الأناجيل الثلاثة الأخرى أن المسيح مارس النبوة عاما واحدا …إلى غير ذلك من عشرات بل مئات الاختلافات الصارخة في نصوص العهد القديم والجديد على السواء مثل التناقضات بين روايات حادثة الصلب المشار إليها آنفا فهل يا ترى يوحي الله بكلام يناقض بعضه بعضا؟ حاشاه وكلا. إذا لابد أن هذه الروايات هي من كلام بشر يخطئون ويصيبون ويتعصبون ويتقلبون وأما أن يأتوا بكلام مقدس من عند أنفسهم فهذا ما لا يستطيعون ! كل هذه التناقضات دعت الأب كاننجسير Kannengiesserأستاذ معهد باريس الكاثوليكي في كتابه الإيمان بالقيامة وقيامة الإيمان[115]أن يقول ما معناه: " لا ينبغي اعتبار روايات الأناجيل حقائق لإنها نصوص مكتوبة تبعا للمناسبة أو نتيجة نضال جماعات متصارعة تسعى كل منها لإنفاذ نظرتها " وذكر الأب روجيت Roguet من باريس أيضا في كتابه مقدمة للأناجيل كلاما مثل هذا [116]و أما عن النبؤات الكاذبة التي لم يحدث أي منها إلى الآن فلم يبخل مؤلفو العهد الجديد بها ومن أظهرها نبوءة المسيح في (متى 24 :29-34) بأن القيامة ستحدث في حياة الجيل الذي كان معه وقد مضى أكثر من أربعين جيلا ولم تقم القيامة!!(/34)
وأما عن نسبة النقائص لله عز وجل فالكتاب المقدس قد صور الرب تبارك وتعالى بصوراً لا تليق أبداً بجلاله سبحانه وتعالى ، ووصفه بأقبح الصفات . فمثلا تجد في سفر صموئيل الثاني [ 22 : 9 ] أن الرب له أنف يخرج منه دخان وله فم يخرج منه نار ( كتنين ضخم ) يقول كاتب السفر :( عندئذ ارتجت الأرض وتزلزلت. ارتجفت أساسات السماوات واهتزت لأن الرب غضب. نفث أنفه دخانا، و نار آكلة من فمه، جمر اشتعلت منه . .) بينما يجعل صاحب سفر ناحوم [ 1 : 3 ]السحاب غبار رجل الله !!! يقول (طريق الرب في الزوبعة والعاصفة، والغمام غبار قدميه) أما صاحب سفر العدد فإنه يصف الرب بأنه( يجثم كأسد، ويربض كلبوة.) [ 24 : 9 ] !! و لا يختلف مؤلف المزمور كثيرا عن أصحابه فإنه شبه الرب تبارك وتعالى بأنه ينام ويسكر ويصرخ عالياً من شدة الخمر فيقول في [ 78 : 65 ] (( فاستيقظ الرب كنائم كجبار معيط من الخمر يصرخ عالياً من الخمر )) ( تعالى الله عما يصفون ) إلى غير ذلك من نصوص العهد القديم التي تجعل الرب يصارع الإنسان بل ويُهزم ويتعب وينسى ويغار و يبكي و يحزن ويندم لإنه خلق الإنسان - التكوين [ 6 : 5 ] و أما في العهد الجديد فإن صاحب سفر رؤيا يوحنا يجعل الله في صورة خروف له سبعة قرون وسبع أعين (هؤلاء سيحاربون الخروف والخروف يغلبهم لأنه ربُّ الأرباب وملك الملوك [ 17 : 14 ]) !! ويتحدث العهد الجديد أيضا بسوء أدب عن الله قائلا "الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله" (كورنثوس (1) 2/10). وينسب الكتاب المقدس لله الأمر بالزنا والسرقة فأول ما يبدأ به هوشع سفره يقول :" أول ما كلم الرب هوشع قائلاً : اذهب خذ لنفسك امرأة زانية وأولاد زنى لأن الأرض قد زنت زنى" فهل يعقل أن يكون هذا الكلام وحي من عند الله؟ أما المسيح عليه السلام فلم يسلم أيضا من سوء أدب مؤلفي العهد الجديد المجهولين ولم يقف الافتراء إلى جعل المسيح من ذرية زناة ولكنهم ذكروا أن الشيطان قد أخذ المسيح عليه السلام لكي يختبره وصعد به فوق قمة جبل-(متى 1:1-15)!! فهل يمكن أن يكون المسيح نبيا ثم يكون للشيطان سلطان عليه؟[117]فماذا لو كان إلها أو ابنا للإله ؟!! كما اتهموا المسيح أيضا بشرب الخمر-وهو ما يخالف تعاليم التوراة- في قوله لليهود: "جاء ابن الإنسان يأكل ويشرب. فيقولون: هوذا إنسان أكول وشريب خمر، محب للعشارين والخطاة" (متى 11/9). و اتهموه بقسوة القلب فينقل لوقا عن المسيح أمراً غريباً قاله للجموع التي تتبعه: " إن كان أحد يأتي إلي، ولا يبغض أباه وأمه وأولاده وإخوانه حتى نفسه أيضاً فلا يقدر أن يكون تلميذاً " ( لوقا 14/26 - 27 ) وتبع رجل المسيح ثم جاءه يستأذنه ليدفن أباه، فيذكر متى أن المسيح نهاه وقال: " اتبعني. ودع الموتى يدفنون موتاهم " ( متى 8/22 )، واستأذنه تلميذ آخر في وداع أهله، فلم يأذن له (لوقا 9/61-62) وجعلوه يتبرم من قضاء حوائج الناس فتقرأ في متى" تقدم إليه رجل جاثياً له، وقائلاً: يا سيد ارحم ابني، فإنه يصرع ويتألم شديداً، ويقع كثيراً في النار، وكثيراً في الماء. وأحضرته إلى تلاميذك، فلم يقدروا أن يشفوه. فأجاب يسوع، وقال: أيها الجيل غير المؤمن الملتوي. إلى متى أكون معكم. إلى متى احتملكم. قدموه إليّ ههنا. (متى 17/14-16)، وقصة مثلها في ( متى 15 /22 - 28 ). ونسبوا إليه اتهام الأنبياء قبله بأنهم سراق ولصوص في قوله:" جميع الذين أتوا قبلي هم سراق ولصوص. ولكن الخراف لم تسمع لهم" (يوحنا 10/7-12)..- وقد طال السباب المنسوب للمسيح تلاميذه وخاصته، فقد قال لتلميذيه اللذين لم يعرفاه: " أيها الغبيان والبطيئا القلوب في الإيمان بجميع ما تكلم به الأنبياء" (لوقا 24/25)، ومن عجائب العهد الجديد أنه يعتبر المسيح ملعوناً فيقول: "المسيح افتدانا من لعنة الناموس، إذ صار لعنة لأجلنا، لأنه مكتوب: ملعون كل من علّق على خشبة" (غلاطية 3/12)، ولا تقف البذاءة عند ذلك فلم تسلم أعراض الأنبياء السابقين أيضا من التهم الشنيعة والجرائم البشعة. فقد جعل العهد القديم نبي الله نوح عليه السلام يشرب الخمر ويسكر ويتعرى !! سفر التكوين [ 9 : 20 ] ونبي الله لوط يزني بابنتيه !! سفر التكوين [ 19 : 30 ] . نبي الله داود يزني بزوجة جاره ويدبر مؤامرة دنيئة ضده اغتاله فيها !!!سفر صموئيل الثاني [ 11 : 2 ] نبي الله هارون يكفر ويدعو اليهود إلى عبادة العجل !!وهذا في سفر الخروج [ 32 : 2] و نبي الله سليمان يخالف وصايا الرب ويتزوج من نساء الأمم اللاتي يغوين قلبه لآلهتهن فيكفر في أواخر حياته ويعبد الأوثان !! سفر الملوك الاول [ 11 : 1] فهل هؤلاء الذين اصطفاهم الله على خلقه وشرفهم لحمل رسالته يمكن أن يكونوا كذلك؟ هل يمكن أن يكون كذلك من قال عنهم القرآن ) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا(/35)
عَابِدِينَ)؟؟وهل يعقل أن يرتكب الأنبياء الذين اختارهم الله هذه الفواحش ويكون البابوات الذين تختارهم الكنيسة معصومين؟ وهل يمكن أن نأمن قوما رموا مريم العذراء عليها السلام بالزنا وهي تحيا بينهم على أعراض أنبياء ماتوا من مئات السنين؟؟ وكأي كتاب قليل البضاعة فقير المحتوى يراد له أن يروج بين العامة ويحقق أعلى الأرباح فيطعمه مؤلفه ببعض الكلام الجنسي الذي يخاطب في الإنسان غريزته لا عقله أو كأي مجلة لم تعد تجد ما تجذب به قارئها إلا أن تصدر صفحاتها بصور فاضحة قام مؤلفو العهد القديم بوضع السفر سيء السمعة الذي طالما أحرج الكنيسة بمحاولة تفسيره وتبرير وجوده في كتاب يفترض أن يكون مقدسا وهو سفر نشيد الإنشاد. هذا السفر الذي لم يكد يترك جزءا من جسد المرأة إلا وتغزل به وشبب به يدعي أصحاب الكتاب المقدس أن الله أوحاه إلى نبيه سليمان فمثلا في إنشاد (7/1-4) تقرأ : " ما أجمل رجليك بالنعلين يا بنت الكريم! دوائر فخذيك مثل الحلي صنعة يدي صناع. سرتك كأس مدورة لا يعوزها شراب ممزوج. بطنك صبرة حنطة مسيجة بالسوسن. ثدياك كخشفتين توأمي ظبية. " فهل يمكن أن يكون هذا الكلام الذي يستحي الرجل أن يُقرئه أبناءه وحيا من عند الله ؟؟[118]هذا بخلاف قصص الزواني والعاهرات وزنا المحارم والعري والخيانة التي يحفل بها الكتاب المقدس ولولا خشية الإطالة وتدنيس صفحات هذه الرسالة لنقلت لك ما يندى له الجبين من ذلك ولكن هذه بعض الإشارات ويمكنك أن ترجع إليها بنفسك حزقيال [ 23 : 19 ] , حزقيال [ 16 : 35 ] , هوشع [ 1 : 2 ] , صموئيل الثاني [ 12 : 11 ] , إشعياء [ 20 : 2 ] , ، اشعيا [ 3 : 16 ] , القضاة [ 16 : 1 ] , راعوث [ 3 : 4 ] , لملوك الأول [ 1 : 1 ، 3 ] , التكوين [ 38 : 13 ] , حزقيال [ 23 : 1 ].
أما عن الأخطاء العلمية والتاريخية في الكتاب المقدس ( إن كنت ما زلت تعتقد أنه مقدس ) فحدث ولا حرج. فيذكر سفر التكوين مثلا مرة أن الله خلق النباتات والحيوانات أولاً ثم خلق الإنسان بعد ذلك التكوين ( 1 : 20 - 27 ) ومرة أخرى أن الله قد خلق الإنسان أولاً ثم خلق الأشجار والحيوانات . التكوين ( 2 : 7 ، 19) وهذا الخطأ يعرفه علماء اللاهوت. ويذكر العهد القديم أيضا أن ولادة إبراهيم كانت في القرن العشرين من بداية الوجود الإنساني وبالتحديد في عام 1948 من بداية الخليقة و بتقدير الفترة بين إبراهيم و عيسى عليهما السلام من نصوص العهد القديم سنجد أن عمر البشرية على ظهر الأرض لم يتجاوز 6 ألاف سنة فقط!! في حين أن هذا بخلاف المسلم به من أن حضارات قامت قبل 5 ألاف سنة من الميلاد حيث عثر على مصنوعات بشرية تعود لأكثر من خمسة آلاف سنة قبل الميلاد. وعثرت بعثة جامعة القاهرة على آثار بشرية في منطقة الفيوم ترجع لعشرات الآلاف من السنين . وتذكر دائرة المعارف البريطانية أن الآثار الإنسانية في فلسطين ترجع لمائتي ألف سنة، وصدق الله العظيم إذ يؤكد أن البشرية ضاربة جذورها في التاريخ قروناً طويلة، فيقول: (وَعَاداً وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً )
ومن الأخطاء العلمية زعم التوراة أن الأرض مسطحة ، ولها زوايا موافقة بذلك المستوى العلمي السائد حين كتابتها، فتقول: " قد جاءت النهاية على زوايا الأرض الأربع (حزقيال 7/2).[119]ويمكنك الحصول على المزيد من الأمثلة من كتاب العالم الفرنسي المسلم موريس بوكاي دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة[120]فهل بعد كل ذلك يقول قائل أن القرآن اقتبس من التوراة والإنجيل؟؟
هذا كله بخلاف الزيادات الطفيفة أو التعديلات أو الإضافات التي ما زالت في تغير وتحريف مستمر كلما ترجم الإنجيل أو نسخ أو طبع طبعة جديدة منذ كتبت الأناجيل أول مرة وإلى اليوم ويمكنك ببساطة التأكد من ذلك بمراجعة نسختين من الكتاب المقدس بينهما فترة زمنية كافية أو مختلفتين في اللغة إذا كنت تجيد كلا اللغتين.[121]
فإذا علمنا كل هذا لا نستغرب إذاً أن يقول دكتور W.Graham Scroggie وهو أحد أبرز المنصرين في العالم من معهد Moody Bible Instituteفي كتابه " هل الكتاب المقدس كلام الله؟ "نعم إن الكتاب المقدس من وضع البشر، بالرغم من إنكار البعض ( من المسيحيين ) لِهذا القول من قبيل الحماسة وليس عن علم، فقد خطت أقلام البشر هذه الأسفار بعباراتهم، بعد أن خطرت على عقولهم، فصدرت بأسلوب البشر وتحمل صفاتهم. " ا.هـ.[122]
خاتمة
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ
أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا
بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا
مُسْلِمُونَ(/36)
وفي الختام ها قد عرضت عليك رسالتي وبقي دورك أنت و قد تعمدت أن أذكر لك عناوين المواقع و أسماء الكتب والعلماء باللغة الإنجليزية لكي تتأكد بنفسك ومجال الاختيار مفتوح أمامك لكن تمهل فهذا ليس اختيارا عاديا لكنه أهم اختيار في حياتك وبعد حياتك واعلم أن من رحمة الله أن جعل الحق واضحا وضوح الشمس لذا فلن يغني أحد عنك من الله شيئا إن ضللت عنه أو أضلوك عنه فأنت إنسان عاقل مسؤول بمفردك أمام الله و أنت لن تخسر شيئا بالتفكير فيما ذكرته لك والتأكد منه ولكن عليك أن تكون مخلصا في طلب الحق وأن تكون مستعدا أن تؤثره على غيره كما فعل نبي الله إبراهيم عليه السلام فلك فيه أسوة حسنة. فتوجه إلي السماء بقلبك وروحك - إلى ربك الذي خلقك - بدون أن تتمثله بصورة أو تمثال فالله أعظم من أن يشابه ما صنعته أيدي البشر واسأله أن يهديك الطريق الموصل إليه وعندما تعرف الحق فاعلم أنك قد عرفت الله حقا فاصبر من أجله وصابر عليه فقد سبقك كثيرون إليه وتحملوا من أجله ولكن احذر أن تحجب النور عن قلبك إن أبصرته فقد لا تراه مرة أخرى.
ويسرنا أن نتلقى تعليقاتك واستفسارتك على البريد: ask.about.islam@gmail.com
وهذه بعض المواقع التي يمكنك أن تستعين بها في رحلتك الإيمانية
الحوار الإسلامي المسيحي http://arabic.islamicweb.com/christianity
ابن مريم.. المسيح الحق http://www.ebnmaryam.com
الحقيقة.. المسيحية في الميزان http://www.alhakekah.com
التوضيح لدين المسيح http://www.tawdeeh.com
الحقيقة العظمى http://www.truth.org.ye
الجامع لحوار النصارى http://www.aljame3.com
موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة http://www.55a.net
http://www.halimo.comشبهات وهمية عن الإسلام
________________________________________
[1] هي سورة الفيل
[2] أى غطوني
[3] أى شابا قويا لكي أنصرك
[4] (السفر إلى الشرق) ص277
[5] (شمس الله تسطع على الغرب) زيغريدهونكه (465)
[6] نقلا عن كتاب ربحت محمدا و لم أخسر المسيح للدكتور عبد المعطي الدالاتي
[7] عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني لأعلم إذا كنت عني راضية، وإذا كنت علي غضبى) قالت: فقلت: من أين تعرف ذلك؟ فقال: (أما إذا كنت عني راضية، فإنك تقولين: لا ورب محمد، وإذا كنت غضبى، قلت: لا ورب إبراهيم). قالت: قلت: أجل والله يا رسول الله، ما أهجر إلا اسمك.
[8] قال الله عز وجل : قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ
[9] فتجد ان الكنيسة مثلا ادعت لنفسها حق مغفرة الذنوب فيأتي المذنب فاضحا نفسه و يجلس بين يدي بشر مثله يخطئ و يذنب ربما أكثر منه ثم يعترف أمامه بذنوبه ثم يمن عليه هذا الشخص الخطاء بالمغفرة و ذلك في مقابل مبلغا من المال يتبرع به أو يشتري به صكا يعرف بصك الغفران كما كان يحدث في الماضي
[10] النبأ العظيم للدكتور محمد عبد الله دراز ص 36- 37
[11] وقد كان هذا الموقف سببا في إسلام صحفية أمريكية عندما سمعت به
[12] عن خباب بن الأرت قال:
شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا؟ قال: (كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه. ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون
[13] النبأ العظيم . بتصرف
[14] قال تعالى : هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ {62} وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
[15] ومنها أنه دعا النصارى مرة إلى المباهلة و هي أن يجمعوا أطفالهم و نساءهم و أنفسهم في مكان واحد ثم يبتهلوا إلى بأن يجعل لعنته على الكاذبين فما أجابوا(/37)
[16] و أولهم كان ورقة بن نوفل كما مر في المقدمة ثم كان عبد الله بن سلام و هو من علماء اليهود و فضلائهم و كعب الأحبار و هو من علمائهم أيضا و من النصارى فقد آمن به النجاشي ملك الحبشة مع أنه لم يره و لم يخش على ملكه منه وقال عندما سمع القرآن "إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة " و غيرهم كثير و في العصور الوسطى هناك مثلا القس الإندلسي بن محمد عبد الله الترجماني الميروقي ،الذي ألف بعد إسلامه كتاب تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب و في عصرنا الحالي هناك مثلا القس دافيد بنجامين الكلداني كان قسيسا للروم من طائفة الكلدان و بعد إسلامه تسمى بعبد الأحد داوود و ألف كتاب الإنجيل و الصليب و القس إسحاق هلال مسيحه الذي كان رئيس لجان التنصير في شمال أفريقيا و قصته التي يرويها بنفسه مسجلة هناhttp://media.islamway.com/lessons/several//converts.rm: و كذا القس المصري إبراهيم خليل فلوبرس الأستاذ السابق بكلية اللاهوت الإنجيلية الذي حصل على ماجستير من جامعة برينستون الأمريكية في مجال التهجم على الإسلام ً ثم سمى نفسه إبراهيم خليل أحمد و الشماس الدكتور وديع أحمد وهذا هو موقعه: http://www.wadee3.5u.com و القس المصري "فوزي صبحي سمعان" الذي أسلم هو وأبوه وأخته لله رب العالمين و يعمل الآن مدرسا للدين الإسلامي و كذا القُمُّص المصري "عزت إسحاق معوَّض" الذي صار داعية مسلما و هؤلاء و غيرهم يمكنك قراءة قصصهم من : http://tanseer.jeeran.com/priests.html أما من غير العرب فهم كثيرون أيضا فمنهم القس الأمريكي يوسف استس و هذا هو موقعه http://www.islamtomorrow.com/ و هذه مجموعة من اليهود المعاصرين الذين دخلوا في الإسلام http://www.jews-for-allah.org/ /
[17] و هل أدل على ذلك من حكم الطلاق الذي أباحه الإسلام كحل أخير حين تصل المشاكل بين الزوجين إلى طريق مسدود و حرمته الكنيسة فلما ظهر أن منعه يصادم طبيعة البشر و ظهرت كثير من الأمراض الاجتماعية نتيجة لتحريمه – كالزنا مثلا – أباحته كثير من الدول اليوم. و كذلك تحريم الإسلام لأكل لحم الخنزير و إباحة الكنيسة له ثم ظهر علميا أن الخنزير هو المسبب لمرض الالتهاب السحائي المخي و انفلونزا الخنزير كما أنه تعيش في أمعائه الدودة الشريطية التي تنتقل إلى أمعاء من يأكلها وتسبب له التهاب الأعصاب وارتفاع ضغط الدماغ و قد وجد الأطباء مؤخرا دودة في مخ امرأة بعد تناولها وجبة لحم خنزير هذا بالإضافة إلى صفات الخنزير التي تنتقل إلى آكلها مثل انعدام الغيرة و هذا مشاهد.
[18] ترجم للعربية بعنوان الخالدون مائة أعظمهم محمد ويقول مايكل هارت فيه : "كان محمد الرجل الوحيد في التاريخ الذي نجح في مهمته إلى أقصى حد ، سواء على المستوى الديني أم على المستوي الزمني"
[19] كما فعل مدعي النبوة الكذاب الذي سيأتي ذكره في النصف الثاني من الرسالة
[20] فقد كان قيام الليل في حقه صلى الله عليه و سلم فرضا فيقوم من ثلث الليل إلى ثلثيه كل ليلة في حين أنه في حق بقية المسلمين تطوع
[21] و ذلك برغم بلايين الدولارات التي تنفقها المؤسسات التبشيرية النصرانية للصد عن سبيل الله
[22] النبأ العظيم ص 48
[23] و معنى تواتر الخبر أن يتناقله جمع كبير من الناس يستحيل تواطؤهم على الكذب عن جمع كبير مثلهم و هكذا إلى يومنا هذا فقارن بين هذه الطريقة و الطريقة التي نقلت بها الكتب الأخرى كما في آخر الرسالة
[24] ذلك بأن الذي يمسكه أن يزول هو الذي يمسك السماوات و الأرض أن تزولا.
[25] النبأ العظيم بتصرف
[26] يقول بروفيسور الرياضيات الأمريكي المسلم جيفري لانغ في كتابيه حتى الملائكة تسأل و الصراع من أجل الإيمان: (القرآن هذا الكتاب الكريم قد أسرني بقوة ، وتملّك قلبي ، وجعلني أستسلم لله ، والقرآن يدفع قارئه إلى اللحظة القصوى ، حيث يتبدّى للقارئ أنه يقف بمفرده أمام خالقه وإذا ما اتخذت القرآن بجدية فإنه لا يمكنك قراءته ببساطة ، فهو يحمل عليك ، وكأن له حقوقاً عليك ! وهو يجادلك ، وينتقدك ويُخجلك ويتحداك … لقد كنت على الطرف الآخر ، وبدا واضحاً أن مُنزل القرآن كان يعرفني أكثر مما أعرف نفسي … لقد كان القرآن يسبقني دوماً في تفكيري ، وكان يخاطب تساؤلاتي )(/38)
[27] للمفكر التركي محمد فتح الله كولن. وله أيضا :" لقد أتى القرآن بنظرة متميزة للكون وللأشياء وللإنسان بأسلوب غاية في الروعة والسحر. لأنه يتناول الإنسان ككل ضمن الوجود بأكمله، ولا يهمل أيَّ شيء، بل يضع كل شيء مهما كان صغيرا في مكانه المناسب. الأجزاء فيه مرتبطة ارتباطا وثيقا ودقيقا بالكل، والأجوبة المختلفة عن أدق الأسئلة التي تخطر على بال الإنسان في هذا المعرض الكوني الهائل ترد فيه. وبينما يقوم بتحليل أدق المسائل الموجودة سواء في عالم الشهود أم فيما وراء الأستار حتى أدق تفاصيلها، لا يدع هناك أي تردد أو شبهة أو علامة استفهام في العقول. أجل! إن القرآن في جميع هذه التفاصيل الدقيقة التي يوردها لا يدع أي فراغ في هذا الموضوع لا في العقول ولا في القلوب ولا في المشاعر ولا في المنطق، لأنه يحيط بعقل الإنسان وبأحاسيسه وبمشاعره وإدراكه"
[28] لم يكن الإنجيل قد ترجم للعربية بعد أثناء حياة النبي صلى الله عليه وسلم
[29] فمثلا ذكر القرآن عن فرعون موسى بعد أن غرق في البحر ( فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية) وعندما تم دراسة مومياء منفتاح التي يظن أنها لفرعون موسى في فرنسا بواسطة فريق من علماء التشريح توصلوا إلى أن سبب وفاته هو الغرق فعلا و نلاحظ أن القرآن هو الكتاب الوحيد الذي ذكر بقاء جثة فرعون محفوظة بعد غرقه – فهل كان محمد على علم ببراعة المصريين في التحنيط؟ ثم أسلم رئيس الفريق الفرنسي و هو الدكتور موريس بوكاي و عكف على دراسة القرآن والإنجيل والتوراة لمدة عشر سنين ثم ألف كتاب القرآن والإنجيل والتوراة والعلم الذي أصبح من أكثر الكتب انتشارا وترجم لعدة لغات عالمية
[30] فترى مثلا في قصة أصحاب الكهف عند أهل الكتاب أنهم عاشوا في الكهف ثلاثمائة سنة شمسية وفي القرآن أنهم (لبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا) و هذه السنون التسعة هي فرق ما بين عدد السنين الشمسية والقمرية فانظر إلى هذا الحساب الدقيق في أمة أمية لا تقرأ ولا تحسب! – النبأ العظيم
[31] الجبال ممتدة في باطن الأرض من أسفل فهي تشبه الوتد و السحب يصل وزن الواحدة منها إلى أكثر من عشرة ملايين طن من الماء على هيئة بخار و الرياح تحمل حبوب اللقاح فتلقح الأزهار و تسير السحب المشحونة كهربيا حتى تلامس بعضها فيحدث التفريغ الكهربي و البحر تخرج من قيعانه صهارات و حمم بركانية ملتهبة تم تصويرها بالغواصات الحديثة وللمزيد من صور الإعجاز العلمي يمكنك الرجوع إلى www.55a.net
[32] منهم مثلا الدكتور كيث مور Keith Mooreعالم الأجنة الشهير صاحب كتاب The Developing Humanالذي ترجم لأكثر من25 لغة ووقف مرة في أحد المؤتمرات قائلا :
"إن التعبيرات القرآنية عن مراحل تكون الجنين في الإنسان لتبلغ من الدقة والشمول مالم يبلغه العلم الحديث, وهذا إن دل علي شئ فإنما يدل علي أن هذا القرآن لايمكن أن يكون إلا كلام الله, وأن محمداً رسول الله" وصدق الله إذ يقول (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)
[33] إنه الله العليم الحكيم. قال تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد)
[34] " تعاوا نعيد النظر فيما نعتقد" تاليف حسن يوسف
[35] النبأ العظيم
[36] حتى أنه قيل له : ( وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً {74} إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً )
[37] انظر مثلا لوقا 26:2 و 67:1 و 15:1
[38] "هل بشر الكتاب المقدس بمحمد صلى الله عليه وسلم؟" للدكتور. منقذ بن محمود السقار .... بتصرف
[39] فأين هذا من رؤيا يوحنا التي وصف الله فيها بأنه خروف ذو سبعة قرون ؟!!
[40] في حين قرر مجمع روما سنة1215 ما يلي: "على الناس أن يتلقوا قول الكنيسة بالقبول وافق العقل أو خالفه وعلى المسيحي إذا لم يستسغ عقله قولا قالته الكنيسة أو مبدأ دينيا أعلنته عليه أن يروض عقله على قبوله فإذا لم يستطع فعليه أن يشك في عقله ولا يشك في قول البابا" !!
[41] وأنت ترى نتائج هذه الرهبانية في عدد حوادث الاغتصاب التي اقترفها رجال الكنيسة حتى أن عدد القسس الذين ارتكبوا جرائم من هذا النوع وأعلن عنها في الجرائد في الولايات المتحدة وحدها يصل إلى 1608 قسيسا و هذه بعض مواقع ضحايا الاعتداءات الجنسية لرجال الكنيسة الغربية :http://www.snapnetwork.org و http://www.thelinkup.org و http://www.survivorsfirst.org أما نتائج الإباحية المنحلة بين عوام النصارى في أكثر دول العالم فواضحة ولا تحتاج إلى بيان !(/39)
[42] من تفسير "في ظلال القرآن" بتصرف
[43] "الإسلام ليس فلسفة ولكنه منهاج حياة .. ومن بين سائر الأديان نرى الإسلام وحده ، يعلن أن الكمال الفردي ممكن في الحياة الدنيا ، ولا يؤجَّل هذا الكمال إلى ما بعد إماتة الشهوات الجسدية ، ومن بين سائر الأديان نجد الإسلام وحده يتيح للإنسان أن يتمتع بحياته إلى أقصى حدٍ من غير أن يضيع اتجاهه الروحي دقيقة واحدة ، فالإسلام لا يجعل احتقار الدنيا شرطاً للنجاة في الآخرة .. وفي الإسلام لا يحق لك فحسب ، بل يجب عليك أيضاً أن تفيد من حياتك إلى أقصى حدود الإفادة .. إن من واجب المسلم أن يستخرج من نفسه أحسن ما فيها ) من كتاب (الإسلام على مفترق الطرق) للمفكر محمد أسد ( كان يهوديا وأسلم ) ص 19- 25
[44] المستشرق روم لاندو في (الإسلام والعرب) ص(9-246)
[45]وكم من أناس دخلوا الإسلام بسبب رؤيتهم للمسلمين وهم يصلون. يقول المفكر الفرنسي رينان : "الإسلام دين الإنسان .. وكلما دخلت مسجداً هزني الخشوع وشعرت بالحسرة لأني لست مسلماً" وصدق الله العظيم إذ يقول ( رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ . ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ )
[46] هذه الأمور وغيرها جعلت الكثيرين يدخلون الإسلام بمجرد سماعهم عنه أو تعاملهم مع المسلمين وإلا كيف انتشر الإسلام في الصين وروسيا وجنوب إفريقيا والأمريكتين؟؟
[47] وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم وتسليماته
[48] ولاحظ أن القرآن سمى سورة كاملة بسورة مريم و سورة أخرى باسم آل عمران ولم يسم سورا باسم فاطمة أو عائشة أو آل محمد
[49] رواه أحمد في مسنده
[50] و قال أيضا ما من أحد يسمع بي من هذه الأمة ولا يهودي ولا نصراني فلا يؤمن بي إلا دخل النار
[51] قال تعالى : (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ {35} فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ {36} فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ {37} )
[52] مثال ذلك « لا تموت الآباء لأجل البنين، ولا البنون يموتون لأجل الآباء، بل كل واحد يموت لأجل خطيته » أيام 2- 25/4 .
و : « الذي سيجازي كل واحد حسب أعماله » رومية 2/6 .و في التوراة «وكلم الرب موسى وهارون قائلاً: افترزا من بين هذه الجماعة فاني أفنيهم في لحظة. فخرّا على وجهيهما وقالا: اللهمّ اله أرواح جميع البشر، هل يخطئ رجل واحد فتسخط على كل الجماعة» العدد 26/23 ، واستجاب له فعذب بني قورح فقط. وأيضا (وأنتم تقولون لماذا لا يحمل الابن من إثم الأب . أما الابن فقد فعل حقاً وعدلاً حفظ جميع فرائضي وعمل بها فحياة ً يحيا . النفس التي تخطيء هي تموت . الابن لا يحمل من إثم الأب ، والأب لا يحمل من إثم الابن . برّ البارّ عليه يكون ، وشر الشرير عليه يكون ... فإذا رجع الشرير عن جميع خطاياه التي فعلها وحفظ كل فرائضي وفعل حقاً وعدلاً فحياةً يحيا. لا يموت ، كل معاصيه التي فعلها لا تذكر عليه في بره) حزقيال 18 : 19-22 .
[53] متى 12: 36
[54] كل مولود في الإسلام يولد على الفطرة مبرئا من كل خطيئة كالصفحة البيضاء ثم هو مسؤول عن نفسه أمام الله لا يحاسب إلا على سعيه
[55] استنتج المفكر البريطاني إينوك باول Enoch Powellفي كتابه تطور الإنجيل( The Evolution of the Gospel) بعد أن قام بإعادة ترجمة إنجيل متى من اليونانية إلى أن قصة الصلب لم تكن موجودة في النص الأصلي للأناجيل ولكنها أضيفت في مرحلة متقدمة
[56] المسيح والتثليث- د. محمد وصفي
[57] ( مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ )
[58] ( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ )
[59] تقول دائرة معارف لاروس : "إن تلاميذ المسيح الأولين الذين عرفوا شخصيته وسمعوا قوله كانوا أبعد الناس في الاعتقاد بأنه أحد الأقانيم الثلاثة... وما كان بطرس تلميذ المسيح يعتبر المسيح أكبر من رجل يوحى إليه.(/40)
[60] انظر أعمال (2/46) واقرأ ما كتبه الدكتور Robert Alleyالأستاذ بجامعة Richmond : " إن الفقرات التي يتكلم فيها المسيح عن ابن الله هي إضافات متأخرة تمثل ما كانت الكنيسة تعتقده وادعاء مثل هذا لا يتناسب مع حياة المسيح التي نتخيلها. فأول ثلاثة عقود بعد (موت المسيح) كانت المسيحية فرعا بداخل الديانة اليهودية وأول ثلاثة عقود في تاريخ الكنيسة كان وجودها داخل هيكل اليهود ولا يمكن تصور أبدا أن أتباع المسيح كانوا يعلنون ألوهية المسيح تحت هذه الظروف" و مما يجدر ذكره أن هذا الرجل فقد منصبه كرئيس قسم الأديان بالجامعة لقوله " لا يمكنني أن أتخيل ولو لدقيقة واحدة أن المسيح امتلك الشجاعة الكافية لكي بدعي الألوهية لنفسه"
[61] من " المسيح والتثليث" للدكتور محمد وصفي- بتصرف
[62] جاء في العهد القديم أن أنبياء آخرين قد حصلت لهم معجزة إحياء الموتى انظر حزقيال (1:37-10) وملوك أول (17:17-24) وملوك ثاني (22:4-27)
[63] قال تعالى عن المسيح عليه السلام:(إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ )
[64] جاء تفسير مصطلح ابن الله بمعنى المؤمن بالله : ( وأما الوصف الذي قَبِلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنون باْسمه ) يوحنا : 1 : 12
[65] انظر ً : (خروج 4: 22 ، مزمور 2 : 7 ، وأخبار الأيام الأول 22 : 10.9 ، متى 5 : 9 ، ولوقا 3 : 38 و أما اطلاق المسيح هذا الوصف عن نفسه فلم يرد إلا في مكانين بإصحاحي 5, 11 بإنجيل يوحنا. يقول Hastingsفي قاموسه للكتاب المقدس إن استعمال المسيح لهذا المصطلح هو أمر مشكوك فيه ويقول شارل جنيبر: " والنتيجة الأكيدة لدراسات الباحثين، هي : أن المسيح لم يدع قط أنه هو المسيح المنتظر، ولم يقل عن نفسه إنه ابن الله... فتلك لغة لم يبدأ في استخدامها سوى المسيحيين الذين تأثروا بالثقافة اليونانية"
انظر: المسيحية، نشأتها وتطورها، ص.50.
[66] من كتاب سر الأزل
[67] من كتابه: الحق
[68] جاء في دائرة المعارف الأمريكية عن عقيدة التثليث [.. أن عقيدة التثليث هي العقيدة المسيحية التي تقول بالطبيعة الثلاثية للإله هي عقيدة ليست من تعاليم العهد القديم ولا توجد في أي مكان بين ثناياه..] دائرة المعارف الأمريكية ط 1959
وقد اعترف كبار علماء اللاهوت في قاموس الكتاب المقدس أن : مادة التثليث لم ترد في الكتاب المقدس ويظن أن أول من صاغها هو ترنفيان في القرن الثاني الميلادي وقد خالفه الكثيرون ولكن مجمع نيقية أقر التثليث عام 325 أ.هـ. فانظر كيف يحفل الكتاب المقدس بقصص الزانيات والزواني ويخلو من أهم مبادئ العقيدة النصرانية !!
[69] . ومن يدري لعل هذه الجملة تروق لأباء الكنيسة يوما فيضيفونها في طبعات الكتاب المقدس الجديدة بدلا من الجملة الأصلية!!
[70] جاء في مقدمة هذا الكتاب
[ The writers of this book are convinced that another major theological development is called for in this last part of the Twentieth Century. The need arises from growing knowledge of Christian origins and involves a recognition that Jesus was (as he is presented in Acts 2.21) “A man approved by God “ for a special role within the Divine purpose, and that the later conception of him as God Incarnate, The Second Person of the Holy Trinity living a human life, is a mythological or poetic way of expressing his significance for us. ]. وترجمتها
و ترجمته: [ إن كُتَّاب هذا الكتاب مقتنعين بأن هناك، في هذا الجزء الأخير من القرن العشرين، حاجة ماسة لتطور عقائدي كبير آخر. هذه الحاجة أوجدتها المعرفة المتزايدة لأصول المسيحية، تلك المعرفة التي أصبحت تستلزم الاعتراف بعيسى أنه كان (كما يصفه سفر أعمال الرسل: 2/21): " رجل أيده الله " لأداء دور خاص ضمن الهدف الإلهي، و أن المفهوم المتأخر عن عيسى و الذي صار يعتبره " الله المتجسد و الشخص الثاني من الثالوث المقدس الذي عاش حياة إنسانية " ليس في الواقع إلا طريقة تعبير أسطورية و شعرية عما يعنيه عيسى المسيح بالنسبة إلينا [
[71] انظر عدد 8 أبريل 98 بعنوان The Search For Jesus و15 أغسطس 88 بعنوان Who Was Jesusو 12 أبريل 2004 بعنوان Why Did Jesus Have To Die? و18 ديسمبر 95 بعنوان Is the Bible Fact or Fiction? فكلها أمثلة توضح حيرة الإنسان الغربي إزاء هذه العقيدة الغامضة
[72] وهنا أطلب من القارئ أن يحاول بنفسه تطبيق المعايير التي وضعناها في أول الرسالة للحكم على أي إنسان يدعي النبوة والرسالة على بولس هذا.
[73] يقول دجوستاف ليون "ولو قيل للحواريين الاثنى عشر أن الله تجسد في يسوع. ما أدركوا هذه الفضيحة ولرفعوا أصواتهم محتجين" حياة الحقائق / ص 163، و187
[74] أعمال 9/26(/41)
[75] تقول دائرة المعارف البريطانية في الإجابة عن هذا السؤال: "إن ارتحاله إليها كان لحاجته إلى جو هادئ صامت يتمكن فيه من تفكير في موقفه الجديد، وأن القضية الأساس عنده هي تفسير الشريعة حسب تجاربه الحديثة".
[76] يوحنا 8/17 ويلاحظ هنا أنه جعل الشهادة الأخرى هي شهادة الله عز وجل له. فهل بعد هذا نقول أن الله هو المسيح؟؟!
[77] فقد ذكر في أعمال الرسل إصحاح 9/7 أن الرجال المسافرين معه وقفوا يسمعون الصوت بينما في إصحاح 22/9 المسافرون لم يسمعوا الصوت وفي أعمال 9/4 أن بولس "وحده سقط على الأرض"ينما المسافرون وقفوا، وفي الرواية الثالثة أن الجميع
سقطوا، فقد جاء فيها " سقطنا جميعا على الأرض" أعمال 26/14
[78] وهذا يعطينا فكرة عن الأهداف التي كانت تحرك بولس. فأين هذا من قول الله للنبي أكثر من مرة في القرآن " اتق الله " ؟
[79] فأين هذا من تواضع النبي صلى الله عليه وسلم وقوله ( لا تفضلوني على يونس بن متى ) وقول الله له: (ليس لك من الأمر شيء) ؟
[80] لوقا 21:2
[81] عبرانيين 7/17
[82] قال فرانس أوفربيك Frans Overbeck(أحد قيادات رجال اللاهوت الأحرار) : إن كل الجوانب الحسنة التي تشهدها المسيحية ترجع إلى عيسى ، أما الجوانب السيئة (وهي تطغي على الجوانب الحسنة بأضعاف مضاعفة) فقد أحدثها بولس فيها. ( مبادىء المسيحية)
[83] يقول إريك بروك Erick Brockفي كتاب مبادىء المسيحية Die Grundlagen desChristentumsعن بولس: " إن أهم جذور كل البلاء الذي أصاب المسيحية جاءت من أفكاره، وكم نحن الآن في حاجة إلى أن نشير مراراً إلى أن الحقيقة تؤكد أن كل المفكرين الأحرار المعتدلين قد أشاروا إلى أن المباديء الخربة التي تتبناها المسيحية اليوم ما هي إلا مباديء مخزية ولكن لم يرق الحال للكنيسة لتخلصنا من هذه الرسائل والأفكار البولسية".
[84] يقول جوستاف لوبون كان بولس مفطورًا على فرط الخيال وكانت نفسه مملؤة بذكريات الفلاسفة (حياة الحقائق) ص 163، 187
[85] لمسيحية نشأتها وتطورها / شارل جنيبر ص70 ويقول أيضا [.. لقد تطورت المسيحية إلى تأليف ديني تجمع فيه سائر العقائد الخصبة والشعائر النابعة من العاطفة الدينية الوثنية قامت المسيحية بترتيبها وتركيبها وأضفت إليها الانسجام] وراجع كتاب The Bible Myths and their Parallels in other Religions لمؤلفه T.W Doaneوكتاب Mythology Christianity and
لمؤلفه John Mackinnon Robertson
[86] يقول الدكتور خالد شلدريك الذي أسلم بعد أن فهم عقيدة التثليث: "إن عقيدة الأب والابن من عقائد الوثنيين القدماء فإن البوذيين يعبدون بوذا في طفولته مع أمه ياما في نفس الصورة التي نراها منقوشة في كل كنيسة للمسيح في طفولته مع أمه مريم واتخذ النصارى من عيد الوثنيين للاعتدال الخريفي 25 ديسمبر موعد ولادة الشمس عندهم عيدا لميلاد المسيح" وقد كان الثالوث موجودا أيضا في ديانات وثنية سابقة ففي الهند كان عندهم الثالوث الإلهي براهما و كريشنا و سيفا وكان عند المصريين القدماء الثالوث إيزيس وأوزوريس وحورس وصدق الله العظيم إذ يقول ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) وهذا من إعجاز القرآن أنه أخبرنا كيفية نشأة عقيدة النصارى في المسيح. فهل كان محمد على اطلاع بتاريخ الحضارات القديمة؟
[87] يعلق المؤرخ أرنولد توينبي على مسألة أكل لحم المسيح وشرب دمه بأن سكان منطقة البحر المتوسط كانوا قديما يفعلون ذلك تقربا إلى أحد آلهة الإنبات التي تنبت عناصر الخبز والنبيذ في هذه المناطق وقد انتقلت هذه الطقوس إلى المسيحية عن طريقهم وليس لها أصل في الدين المسيحي. أ.هـ والآن أيها القارىء الفطن هل تظن حقا أن الخبز والخمر يتحول إلى جسد المسيح حقا؟ وإذا كان المسيح هو الإله فهل يصير الخبز والخمر لحم الإله ودمه؟؟ أللإله لحم ودم كالبشر؟! ألا تستحي أو تشمئز من أن تأكل لحم إلهك وتشرب دمه؟!!
[88] المسيحية نشأتها / جنيبر ص 105 وجاء في كتاب يسوع المسيح للقس بولس إلياس : ( لقد لقح الفكر المسيحي بالأفكار الوثنية وقد حافظت الكنيسة المسيحية على تقاليد الشعوب الوثنية و على تنوع الطقوس عند مختلف الطوائف) ثم يستطرد قائلا ( إنه في مفتتح القرن السابع الميلادي كتب البابا غريغورس الأول إلى القديس أوغسطينوس قائلا : "دع البريطانيين وعاداتهم واترك لهم أعيادهم الوثنية واكتف بتنصير تلك الأعياد والعادات مكتفيا بوضع إله المسيحيين موضع آلهة الوثنيين" )(/42)
[89] تكررت قصة بولس بحذافيرها في الإسلام مع رجل يهودي يدعى عبد الله بن سبأ لم ير النبي قط دخل الإسلام نفاقا ومواراة بعد وفاة النبي وأثار الفتن ضد عثمان بن عفان و نسب الألوهية لعلي بن أبي طالب وظهرت بسببه عقيدة التشيع التي أخذت كثيرا مما عند ديانة الفرس وهذا يدل على الدور الخبيث الذي يلعبه اليهود لتشويه العقائد على مر التاريخ.
[90] و من أمثلة ذلك ما صدر عن المجمع الفاتيكاني الثاني في الستينات من تبرئة اليهود من دم المسيح عليه السلام ضاربا بنصوص الكتاب المقدس عرض الحائط إكراما لليهود !!
[91] يقول العالم الألماني تولستوي في مقدمة إنجيله الخاص الذي وضع فيه ما يعتقد صحته: " لا ندري السر في اختيار الكنيسة هذا العدد من الكتب وتفضيلها إياه على غيره، واعتباره مقدساً منزلاً دون سواه مع كون جميع الأشخاص الذين كتبوها في نظرها رجال قديسون ... ويا ليت الكنيسة عند اختيارها لتلك الكتب أوضحت للناس هذا التفضيل...إن الكنيسة أخطأت خطأ لا يغتفر في اختيارها بعض الكتب ورفضها الأخرى واجتهادها.. ".و قال جون لوريمر في تاريخ الكنيسة عن هذه الأناجيل [.. لم يصلنا إلى الآن معرفة وافية عن الكيفية التي اعتبرت بها الكتب المقدسة كتب قانونية..] فإذا كانت قد فرضت بالقوة فمن الذي فرضها ولمصلحة من ؟ وإذا كان ليس هناك معرفة عن كيفية اختيارها لتكون كتبًا قانونية فكيف تكون مقدسة؟
[92] هذا مثال واحد من آلاف الأمثلة وهو للأمريكية: Barbara A. Brown التي أسلمت في أوائل التسعينات وألفت كتاب A closer look at Christianity: ويمكنك قراءته من هنا http://home.swipnet.se/islam/books/Closer-Look/frcont13.htm
ويمكنك التعرف على نماذج أخرى ممن دخل الإسلام من http://thetruereligion.org/modules/xfsection
[93] فقد ظل مكتوبا باللغة اليونانية حتى القرن السادس عشر عندما تم ترجمته للغة اللاتينية التي يعرفها الناس وقد دفع أحد المترجمين حياته ثمنا لهذه الجريمة!!
[94] وجعلت الكنيسة البابا نائبا للمسيح على الأرض وبالتالي فأرائه غير قابلة للنقاش ، وما يحدده في العقيدة يعتبر قضايا يقينية حتى كاد البابا أن يكون إلها رابعا (وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً )!!
[95] برغم ما جاء في سفر الخروج : . (لا يكن لك آلهة أخرى أمامي، لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً، ولا صورة مما في السماء فوق، وما في الأرض من تحت، وما في الماء من تحت الأرض، لا تسجد لهن، ولا تعبدهن؛ لأني أنا الرب إلهك، إله غيور ) 20/3- 6ولو كان استعمال هذه الصور والصلبان صوابا لاستعملت أيام المسيح أو في الثلاثة أجيال الأولى على الأقل
[96] مثل حركة البروتوستانت وهي تعني بالعربية المعارضين التي تزعمها مارتن لوثر في القرن السادس عشرو هي تخلو من كثير من هذه المظاهر الوثنية واستعباد البشر الذي عند طوائف النصارى الأخرى
[97] مثل ما جاء على لسان بولس : " إني أتعجب أنكم تنتقلون هكذا سريعاً عن الذي دعاكم بنعمة المسيح إلى إنجيل آخر ليس هو، غير أنه يوجد قوم يزعجونكم، ويريدون أن تحولوا إنجيل المسيح " غلاطية 1/6-8 ويقول مرقس: " من يهلك نفسه من أجلي ومن أجل الإنجيل فهو يخلصها " ( مرقس 8/35). ويقول ،" انْطَلَقَ يَسُوعُ إِلَى مِنْطَقَةِ الْجَلِيلِ، يُبَشِّرُ بِإِنْجِيلِ اللهِ قَائِلاً: 15«قَدِ اكْتَمَلَ الزَّمَانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكُوتُ اللهِ. فَتُوبُوا وَآمِنُوا بِالإِنْجِيلِ "( مرقص 1/15-16 ) فأي إنجيل ترى كان هذا الذي يعنيه المسيح؟؟ أكان يدعو الناس للإيمان بإنجيل لم يُكتب بعد؟؟
[98] ويمكنك قراءة بعض فصوله بالعربية من: http://www.multimania.com/barnaba/ وبالإنجليزية من http://www.barnabas.net وهذه مقدمة إنجيل برنابا يوضح فيها سبب تأليفه لهذا الكتاب:
برنابا رسول يسوع الناصري المسمى المسيح يتمنى لجميع سكان الأرض سلاماً و عزاءً. 2- أيها الأعزاء إن الله العظيم العجيب( وهي تسمية لا تصح لله ) قد افتقدنا في هذه الأيام الأخيرة بنبيه يسوع المسيح برحمة عظيمة للتعليم والآيات التي اتخذها الشيطان ذريعة لتضليل كثيرين بدعوى التقوى.3- مبشرين بتعليم شديد الكفر. 4- داعين المسيح ابن الله. 5- ورافضين الختان الذي أمر الله به دائماً. 6- مجوزين كل لحم نجس. 7- الذين ضل في عدادهم أيضاً بولس الذي لا أتكلم عنه إلا مع بالغ الأسى. 8- وهو السبب الذي لأجله أسطر ذلك الحق الذي رأيته وسمعته أثناء معاشرتي ليسوع لكي تخلصوا ولا يضلكم الشيطان فتهلكون في دينونة الله. 9- وعليه فاحذروا كل أحد يبشركم بتعليم جديد مضاد لما أكتبه لتخلصوا خلاصاً أبدياً.
[99] عجيب أن يقرأ الإنسان في العهد القديم معتقدا بقدسيته بدون أن يدري على الأقل أسماء مؤلفي أسفاره!!
[100] جاء في مجلةLOOKعام 1952 في مقال بعنوان حقيقة الكتاب المقدس أن العهد الجديد وحده به نحو 20ألف خطأ !!
[101] Robert Kehl. Zeller(/43)
[102] جاء في خاتمة إنجيل يوحنا"هذا هو التلميذ الذي يشهد بهذا، وكتب هذا، ونعلم أن شهادته حق " ( يوحنا 21 / 24 ). فهذه الفقرة كما يقول المحققون دليل على عدم صحة نسبة الإنجيل إلى يوحنا، إذ هي تتحدث عن يوحنا بصيغة الغائب. إلا إذا كانت من إضافة أحد الناسخين أو المترجمين بدون إشارة منه بذلك وفي هذه الحالة ما الذي يضمن ألا تكون أجزاء أخرى هي من إضافة الناسخين؟
[103] يمكنك مراجعة ذلك بنفسك في الموسوعة البريطانية في أي مكتبة عامة تحت كلمة Bible أو Gospel
[104] يفهم من هذه المقدمة أمور أخرى منها: أن إنجيله خطاب شخصي، وأنه دوّنه بدافع شخصي، وأن له مراجع نقل عنها بتدقيق، وأن كثيرين كتبوا غيره، ولم يذكر لوقا في مقدمته شيئاً عن إلهام إلهي ألهمه الكتابة أو وحي من روح القدس نزل عليه. نقلا عن ( هل العهد الجديد كلام الله )
[105] فأين هذا من دقة تدوين الأحاديث النبوية التي يُعرف سلسلة رواتها من أول رجل سمعها من النبي إلي آخر رجل في السلسلة يرويها اليوم للناس كما سمعها و كل منهم يقول : قال فلان حدثنا فلان ؟؟
[106] جاء في مقدمة الطبعة الأمريكية المعدلة عام 1952 أن طبعة الملك جيمس حوت أخطاء جسيمة كثيرة جدا!
[107] يوجد اختلاف بين علماء التاريخ حول تاريخ ولادة المسيح عليه السلام
[108] Davies, A. Powell. The Meaning of the Dead Sea Scrolls.
[109] ويسمى أيضا Spouter or Preacher of lies
[110] انظر 4Q541 frag. 9 col. I ونبينا محمد هو الذي حارب أعداءه وحكم سيفه و بالتالي لا تنطبق هذه الصفات على غيره . والله اعلم
[111] مخطوطات البحر الميت - أحمد عثمان ص127- 147
[112] من أوائل من كتب فيه ريشارد سيمون (( Richard Simonفي كتابه التاريخ النقدي للعهد القديم Critical History of the Old Testament"."
[113] وما جاء على لسان الأب كارل رانير في المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني الذي انتهى عام 1965 قوله : " لقد أصبح من الصعب تصديق الأناجيل من كثرة ما تم بها من تحريف وقد ألح العديد من رجال الكهنوت في المجمع على ضرورة القيام بمراجعة الأناجيل حتى لا يصاب المسيحيون بالإحباط وحتى لا يتعرض المثقفون للفضيحة وحتى لا تتعرض العقيدة المسيحية نفسها للسخرية !!"
[114] ( هل العهد الجديد كلمة الله ) ص 151
[115] Foi en la Resurrection, Resurrection de la foi""
[116] Initiation to the Gospels.
[117] عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال:(إن عفريتا من الجن تفلت علي البارحة - أو إن الشيطان- ليقطع علي الصلاة، فأمكنني الله منه، فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد، حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم، فذكرت قول أخي سليمان: {رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي}) فرده الله خاسئا
[118] يقول ( ول ديورانت) فى كتابه المشهور قصة الحضارة "مهما يكن من امر هذه الكتابات الغرامية فان وجودها فى العهد القديم سر خفى .... ولسنا ندرى كيف غفل او تغافل رجال الدين عما فى هذه الاغانى من عواطف شهوانية واجازوا وضعها فى الكتاب المقدس" الجزء 3 صفحة 388 .
[119] من كتاب هل العهد القديم كلمة الله ؟؟ د. منقذ السقار
Maurice Bucaille, The Bible, The Quran and Science[120] يمكنك قراءته من : http://home.swipnet.se/islam/books/maurice/frcont15.htm(/44)
[121] يقول الدكتور روبرت في كتابه " حقيقة الكتاب المقدس " :" لا يوجد كتاب على الإطلاق به من التغييرات والأخطاء والتحريفات مثل ما في الكتاب المقدس "، وينقل روبرت أن آباء الكنيسة يعترفون بوقوع التحريف عن عمد، وأن الخلاف بينهم محصور فيمن قام بهذا التحريف. ومن الطريف أن د. روبرت قد أعد لمطبعة " تسفنجلي " مذكرة علمية تطبع مع الكتاب المقدس، ثم منع من طبعها، ولما سئل عن السبب في منعها قال : " إن هذه المذكرة ستفقد الشعب إيمانه بهذا الكتاب ". ولعل أهم أمثلة تحريف الطبعات قاطبة ما جاء في رسالة يوحنا الأولى " فإن الذين يشهدون (في السماء هم ثلاثة الأب والكلمة والروح القدس، وهؤلاء الثلاثة هم واحد، والذين يشهدون في الأرض) هم ثلاثة الروح والماء والدم، والثلاثة هم في الواحد " ( يوحنا (1) 5/7 - 8)، والفقرة الأولى التي تتحدث عن شهود السماء غير موجودة في النسخ القديمة، وقد كتب إسحاق نيوتن رسالة بلغت خمسين صفحة أثبت فيها تحريف هذه العبارة التي بقيت في سائر الطبعات والتراجم بلغات العالم المختلفة إلى أواسط هذا القرن. وكانت بعض الطبعات العربية القديمة قد وضعتها بين هلالين لتدل على عدم وجودها في المخطوطات القديمة كما في ترجمة الشرق الأوسط 1933م، ومثلها صنعت طبعة دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط، لكن الفقرة موجودة بدون أهلة في سائر التراجم العربية سوى ترجمة العالم الجديد البرتسنتية وترجمة الكاثوليك العربية المسماة بالرهبانية اليسوعية، فإنهما أزالتاها ، واعتبرتا نص التثليث المهم نصاً دخيلاً ملحقاً بالكتاب المقدس. وفي عام 1952م أصدرت لجنة تنقيح الكتاب المقدس نسخة ( R. S. V)، النسخة القياسية المراجعة، وكان هذا النص ضمن ما حذفه المنقحون، لكن هذا التنقيح لم يسرِ على مختلف تراجم الإنجيل العالمية. وكذلك ما جاء مرقص(16/9-20) فإنها موجودة في بعض النسخ دون بعض فقد ذكر جورج بوست في قاموس الكتاب المقدس أنها لم تكن في الكتب القديمة وغير ذلك من نصوص مثل يوحنا 53:7 ويوحنا8 :1 -11 ومتى 17 :21
[122] من كتابه هل الكتاب المقدس كلام الله ص 17(/45)
رسالة إلى الغاضبين
د. محمد عمر دولة*
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الرسول الأمين، رحمة الله للعالمين، وأشرف الأنبياء والمرسلين، وبعد،
فإنني أتوجه إلى إخواني الأحبة من ملايين المسلمين الغاضبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم في كل مكان بهذه الكلمات: وفاءً وولاءً.
أولا: جزاكم الله ـ يا أهلَ المحبة وأصحابَ الغَيْرة ـ عن دينِنا ورسولِنا الكريم صلى الله عليه وسلم خيرَ الجزاء؛ فالغضب للحبيب دليلُ المحبة والولاء.
ثانيا: لقد أنذرْتم المجرمِين ـ شُلَّتْ أيديهم ـ وأسمَعتم العالمَ صوتا هادراً مُدَوِّياً مفادُه أنَّ المسلمين يذبُّون عن النبيًِّ صلى الله عليه وسلم ؛ (فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ) (التحريم 4)0
ثالثا: لقد أحييتم في كلِّ مسلمٍ ـ بغضبتِكم المباركة ـ رُوحَ الثقة في أمةِ الإسلام؛ فإنَّ ثورةَ الغضب لرسول الله صلى الله عليه وسلم التي انطلقت في كل مكان من العالم الإسلامي تؤكد يقظة هذه الأمة وأن عقيدتها حيةٌ لم تمت؛ ولكنها تحتاج إلى من ينهض بها من جديد؛ لتستعيد أمجادَها.
رابعا: لقد حرََّكْتم ـ أيها الغاضبون الشرفاء ـ الغيرةَ عند بعض حكومات المسلمين؛ فغضبوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقاطعوا حكومة (الدانمارك)؛ لِتهاوُنِها في مُحاسَبة الصحيفة التي بلغَت بها شِقْوَتُها وسفاهتُها حدَّ الإساءةِ إلى أشرف الخلق صلى الله عليه وسلم ؛ بعد أن طال عهدُ الأمة بمواقفِ حكوماتِها المشرَّفة؛ فنسأل الله أن يديم الوفاقَ بين المسلمين وبين حكامهم؛ ليتعاونوا على نصرة الإسلام.
خامسا: لقد فضحتم ـ لله دَرُّكم ـ كذبَ الرأي العام الغربي الذي يعتبرُ سبََّ النبي صلى الله عليه وسلم تعبيرا عن الحرية، وأما كشفُ جرائم اليهود الغاصِبين فهي في موازينهم الظالمة معاداة للساميَّة!
وعينُ الرضا عن كلِّ عَيبٍ كليلةٌ ولكنَّ عينَ السُّخطِ تُبدي المساويا!
سادسا: لقد برهَنتم بغضبتكم الراشدة على هذه الصحافة السافلة أن مِلة الكفر واحدةٌ؛ فالكفار بعدما تداعَوْا جميعاً لحربِ الإسلام عسكريا في الحملة الصليبية على العراق وأفغانستان؛ هاهم اليوم يشنون حملتهم العقائدية والإعلامية؛ ليسيئوا لرسول الإسلام صلى الله عليه وسلم كما قال عز وجل: (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ((البقرة 217).
سابعا: لقد كشفتم ـ بانتفاضتِكم ـ عوار الحضارة الغربية الخاوية من القيم والمبادىء؛ فتبا لحضارةٍ لا تعظم العظماء ولا تحترم النبلاء؛ بل تتدهور في أخلاقها وتسفُّ في إعلامها؛ حتى تبلغ الدرك الأسفل من الإنسانية؛ فتسبُّ الأنبياء! وصدق الله العظيم حيث قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ( (آل عمران 118) وقال جلَّ جلاله:( وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً (النساء 89)0 وقال تعالى:( وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (البقرة 109).(/1)
ثامنا: لقد اتضح ـ بانتفاضتكم المباركة ـ ما يتصف به الغرب الكافر من أخلاقٍ منحطة لا تراعي المقدسات؛ وافتضح ما يكنُّه هؤلاء القوم للإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم من أحقادٍ صليبية وما يخفونه عن المسلمين من كراهية دينيةٍ وأطماعٍ استعمارية؛ فآن لكل عاقلٍ أن يَعِيَ قولَ الله عزََّ وجل: هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) ن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (آل عمران 119-120).
تاسعا: لقد أيقظتم ـ بصَيحتِكم العالية وصَحوتِكم الغالية ـ قلوباً غافلةً عن أنَّ الحريةَ سيفٌ مسلَّطٌ على الإسلام وأهله وعقائد المسلمين؛ وبيَّنتم جَورَ الإعلام الغربي الظالم؛ فإذا تعلق الأمرُ بالإسلام وعقائده ورسوله صلى الله عليه وسلم فلا بأس بالتعبير عن مُعاداته، وإذا تعلق الأمرُ بقضايا الاستعمار الصليبي للعراق وأفغانستان، أو شكك الناس في محرقة اليهود وكشفوا عوارَهم؛ فهذا تعبيرٌ عن الإرهاب وكراهية للسامية؛ وذلك مصداقا لقول الله عز وجل: وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ (البقرة 120).
عاشرا: لقد أقمتم الحُجة على كل علماني لا يؤمن بالأحقاد الصليبية ضد المسلمين؛ كما قال عز وجلَّ: وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً (النساء 102).
فجزاكم الله خيرا ـ أيها الفضلاء ـ فقد أسمَعَت غَضْبتُكم مَن به صَممُ! وكأنِّي أرى العلمانيِّين من بني جلدتنا المنبهرين بالغربِ يعضُّون على أيديهم؛ فليتهم يذكرون عاقبتَهم غدا وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (الفرقان 27)0
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.(/2)
رسالة إلى المتخلفين عن الصلاة
أخي الحبيب …
أحييك بتحية الإسلام تحية أهل الجنة يوم يلقونه سلام ، فسلام الله عليك ورحمته وبركاته ، وبعد أحدثك عن حبي لك ، أو عن إشفاقي ووجلي عليك أم أحدثك حديث
غير ذلك كله ؟ أحدثك عن أمنياتي وآمالي وطموحاتي ، وعن كل ذلك سأحدثك .
أخي الحبيب …
يجمعني بك رباط أخوة يلبسنا بها كتاب ربنا الكريم ( إنما المؤمنون إخوة ) – المؤمنون - يجمعنا بك نسب عريق فأنت يا أخي ابن الخالد وحفيد لمعاذ وذو رباط بسليمان أنت الذي يجلك ربك بقوله ( ولقد كرمنا بنى آدم ) – الإسراء فعشت بهذا التكريم أسمى مخلوق على وجه البسيطة أنت الذي تدخل في زمام أمة عاشت كل معاني التكريم في قول ربها ( كنتم خير أمة أخرجت للناس) – آل عمران وحديث رسولها : ( أنتم الآخرون السابقون يوم القيامة ) وكل هذا لك أنت لأنك فتى الإسلام وشريانه الحيوي ، أو يحق لك اليوم أن تنسى مل هذه المعالم ولا تعطيها قدرها المرموق ، أين أنت يا أخي عن بيوت الله ؟ كم صلت جمع المسلمين من صلاة أو لم ترهم راكعين ساجدين ، أين أنت يا أخي عن هذه الجموع أين أنت عن القارين والتالين ، بل أين أنت عن سماع الآذان الذي يتردد في أنحاء قريتنا الحبيبة ، أو تصر يا أخي أن تكون نشازا ضد هذا الكون كله ، مصداقا لقول ربك ( ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس ) – الحج : 18- أين أنت يا أخي من سجود الشجر والدواب ، أو تحب يا أخي أن يغلبك وينتصر عليك يا أخي حيوان أو جماد ؟ فيخر ساجدا لله طائعاً له ملبيا لندائه ، وأنت تأبى ذلك كله فوا عتبى عليك يا فتى الإسلام .
أخي الحبيب …
تلفت عند تأخرك عن أداء الصلاة من هم أقرانك ؟ من هم الذين يعيشون سمات التخلف ؟ إن لم يكن الشاذين من الناس ، فهم فئة غلبهم الشيطان ، وانتصرت عليهم شهواتهم وأنستهم أهوائهم حق خالقهم ومولاهم ، أ فيسرك أن تكون جليس هؤلاء وتترك ثلل العابدين الطائعين ؟
أخي الحبيب …
قف مع نفسك لحظات وأن تسمع صوت المؤذن – اله أكبر – قدر معنى هذه الكلمة أعطها حقها من الرعاية أ فيسرك أن تكون هذه الكلمة أهون شي عندك ؟ أ فتنسى كل معالم الربوبية ؟ أ فيعجبك أن يردد المؤذن – الله أكبر- وأنت تلوى عنقك عن سماعه ؟ أو ما سألت نفسك لماذا الأمة كلها تستجيب لهذا النداء وأنت الوحيد الذي تكابر ؟ أ فتعاند من خلقك أتجابه من رباك عد لنفسك ذكرها من الذي رباك ؟ من الذي خلقك فسواك ؟ من الذي أمدك بالنعم ؟ من الذي جعلك مخلوقا كريما في أعلى معاني الكرامة ؟ أ فتسنى ذلك كله ؟ لا يا فتى الإسلام فليس ذلك من خلق الكرماء .
أخي الحبيب ...
أو نسيت حديث القرآن ( أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون (97) أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون (98) أ فأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ) – الأعراف: 97 ، 98 99 - .
أخي الحبيب …
أو لا تريد الجنة ( فيها ما عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولاخطر على قلب بشر ) أو لا تخاف من النار ( يوم نقول لجنهم هل امتلأت وتقول هل من مزيد ) – ق : 30 – أو لا تخشى لقاء الله : ( إن ربك لب المرصاد ) – الفجر14 –
أخي الحبيب …
الأمل يحدوك إلى التزام المنهج الحق والسير مع الرفقة الصالحة ، فهيا نأخذ بيد بعض إلى أبواب المسجد ، فنغسل كل خطيئة ونلج الى أبواب الرحمن ، وحينها تكتب في عداد الطائعين الصالحين .
أخي الحبيب …
كلى أمل بعد رسالتي هذه أن تكتحل عيني برؤيتك بين صفوف المسلمين في بيوت الله عز وجل فذلك كل ما أتمنى . ،،،،،(/1)
رسالة إلى المعلم
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وبعد ..
فيا أيها الأستاذ ، سلام الله عليك ورحمته وبركاته.
قم للمعلم ووفه التبجيلا *** كاد المعلم أن يكون رسولا
يا وارث علم الرسول صلى الله عليه وسلم ، يا مربي الأجيال ، يا فاتح العقول بذكر الله عز وجل ، جزاك الله عن أمة محمد خير الجزاء ، وأثابك الله على ما تحمله من رسالة إذا كنت تريد الخير ..
أيها الأستاذ : أجيالنا يجلسون أمامك ،
أيها الأستاذ : وضعنا قلوبنا وأكبادنا تستمع لما تقول من لسانك ،
أيها الأستاذ : أما ترى أساتذة البغي والعدوان والباطل كيف ينشرون مبادئهم ومخططاتهم الهدامة ، ألا تنشر فكرك الواضح البناء الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم ؟؟..
أيها الأستاذ : لئن يهدي بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم ، فاتق الله عز وجل في هؤلاء الشبيبة ، وهؤلاء النشء فانهم يرونك قدوة وأسوة ومعلماً ..
أيها الأستاذ : إن الكلمة الصادقة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب ، والكلمة الكاذبة إذا خرجت من اللسان لا تتجاوز الآذان .
أيها الأستاذ : إن النفع عند العقلاء يكون بقدر ما ينتفع الشخص أولاً قبل الناس .
قال تعالى ( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ).
فما مقدار عملك لعلمك ؟..
عليك أيها الأستاذ أن تتقي الله عز وجل فيما تعلمت لتكون صورة حية لهذا الدين ، الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم .
أيها الأستاذ : كان علماء السلف إذا تعلموا أموراً أعطوها للناس بسلوكهم وبتعاملهم وأخلاقهم ومناهجهم في الحياة .
أيها الأستاذ : أساتذتنا من القرون المفضلة خرجوا إلى الشعوب الإسلامية في إندونيسيا وماليزيا فبلغوا دعوة الله بأعمالهم قبل أقوالهم ، فإنا ندعوك اليوم في أول هذا العام الدراسي إلى أن تقدم للشبيبة علماً نافعاً ، وعملاً صالحاً ورسالة خالدة ، وكلاماً مؤثراً ، وأن تتقي الله عز وجل في هذا النشء ، وهذا الجيل الذي ينتظر منك النصح 00 إنهم عطشى أمامك ، فاسكب على قلوبهم من فيض حنانك وودك ما تجعله ان شاء الله بلسماً شافياً .. إنهم جوعى وهم ينتظرون اللقمة الطيبة اللذيذة التي تكمن في تقديم المادة الطيبة من قول الله عز وجل ، وقول رسوله صلى الله عليه وسلم .
سدد الله خطاك ، ونفع بك ، وجعلنا وإياك من المقبولين عنده ، الصادقين في ديوان الخلود ..
أخوكم
عائض بن عبدالله القرني(/1)
رسالة إلى المغترب المبتعث 24/3/1426
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: لقد استوقفتني كلمة لمالك بن نبي يصور فيها واقع بعض المبتعثين، فيقول:"حين كان الطالب الياباني يذهب إلى الغرب في أواخر القرن الماضي، كان يذهب ليتعلم التقنية، مع الحفاظ المتشدد على أخلاق بلاده، كما سيذهب بعده التلميذ الصيني المتواضع <<نسيان هماسين>> ليتعلم في مختبر <<جوليو كوري>> بباريس، وليعود لبلاده بالمعلومات النووية التي تدهش العالم اليوم، بينما غالب ما يحدث للطالب، الذي يذهب من بلادنا، أن يعود بشهادة، ولكن بعد أن يترك روحه في مقاهي وخمارات الحي اللاتيني، أو النوادي الموجودة بسان حرمان"!
وما ذكره المفكر الجزائري يمثل واحدة من الآفات العظمى التي تعرض للمبتعثين، فإن فقدان الهوية وذوبان الأذهان الهشة في الثقافة الغربية، فضلاً عن كونه أحد علامات ضعف الشخصية والاعتداد بالنفس والدين، فإنه يمثل ضربة قاضية تقصم الهدف المنشود من الابتعاث، بل المقصود من وراء العملية التعليمية كلها، فلا خير في تعليم هدفه الرئيس متقوقع حول خدمة الذات وهموم النفس المتعلقة بالأمور المعيشية أو الحياتية الاعتيادية، بل لا خير في تعليم ليس الهدف من ورائه رفع الأمة أو سد ثغرة فيها، أو النهوض بحضارتها وقيمها وأخلاقها ودينها جميعاً.
فكيف إذا كان ما يسببه أولئك الذائبون هو ارتفاع في منسوب المد التغريبي، الأمر الذي يجعله يطغى فيغمر القيم والأخلاق التي ابتعث المبتعث من أجل رفعها.
وما أعظم خيبتنا حينما يهاجر عقل كان بإمكانه أن يصبح إسلامياً جباراً، و كنا نؤمل أن يرجع إلينا بالخطط والمشاريع التنموية التي ترفع شأن البلاد وأهلها، فإذا به يتعاظم ثم يتسامى في أجواء الغرب -رغم برودة المناخ- على أبناء دينه وأرضه! بينما يطرق حياء بيني يدي (جورج) إذا لحظ طرفه ما وُصم بالرجعية وإن كان من صميم الدين، وربما خطف بهرج الغرب بصيرته، فعاد ينظر نظر الشزر إلى ما مقته (لويس) أو إبليس ويتمنى أن لو كان بمقدوره أن يقبره، بينما كان المؤمل أن يبرزه.
إنها خيبة أمل عظيمة.. ولكن العزاء فيك أنت أنت من أخاطب أيها المبتعث!
فأنت تضع نصب عينيك ما جاء في دائرة المعارف البريطانية وإن لم تقرؤه فيها "من اتفاق أعظم علماء التربية في العهد الحاضر، على أن عملية التربية ليست بضاعة تصدر إلى الخارج، أو تستورد إلى الداخل، كالمصنوعات أو المواد الخام، أو الحاجيات والمخترعات التي تختص ببلد دون بلد، إنما هي لباس يفصل على قامة هذه الشعوب وملامحها القومية، وتقاليدها الموروثة، وآدابها المفضلة، وأهدافها التي تعيش لها، وتموت في سبيلها، وأن التربية ليست إلاّ وسيلة راقية مهذبة لدعم العقيدة التي يؤمن بها شعب أو بلد، وتغذيتها على الاقتناع الفكري القائم على الثقة والاعتزاز، وتسجيلها بالدلائل العلمية إذا احتيج إليها، لتخليد هذه العقيدة، ونقلها سليمة إلى الأجيال القادمة، وأن أفضل تفسير لنظام التربية أنها السعي الحثيث المتواصل، يقوم به الآباء والمربون لإنشاء أبنائهم، على الإيمان بالعقيدة التي يؤمنون بها، والنظرة التي ينظرون بها إلى الحياة والكون، وتربيتهم تربية تمكنهم من أن يكونوا ورثة صالحين للتراث الذي ورثه هؤلاء الآباء عن أجدادهم، مع الصلاحية الكافية للتقدم والتوسع في هذه الثروة" ومن أجل هذا رضيت بالغربة وغادرت عرين عزك لتعود موطداً لأركانه.
لقد أثنى مالك على الطالب الياباني الذي رجع مع حفاظه المتشدد على أخلاقه وأعراف مجتمعه، وعلى الطالب الصيني الذي يعود بالمعلومات التي تصنع الضجيج وتملأ العالم إيجاباً وسلباً، وتكفل لبلده البقاء كدولة دائمة العضوية في مجلس ظلم الشعوب المسلمة.
ولكنه نسي أن يذكرك، وأنت الطالب المثابر، والداعية المجاهد، وعالم الغد المنتظر.
نسي أن يذكرك مع أنه لم يسلم على يدي <<نسيان هماسين>> الذي أشاد به من أسلم على يديك، وما رأى الغربيون من دماثة أخلاقه وكريم فعاله ما رأوا منك، ولا عرفوا من خلاله شهامة أهل الصين ووفائهم، كما عرفوا منك شهامة أهل هذا الدين ووفائهم. أنت علمتهم أن البذل قد يكون لغير الدنيا قد يكون لغير المصلحة الشخصية قد يكون لأجل الأخرى، ولا أظنهم يجدون هذا المعنى عند غيرك أيها المسلم، فتحت أعينهم على حضارة تتجاوز أهداف أصحابها حدود الشهوات المبتذلة، أو متع الدنيا الفانية إلى ما ورائها.
عرفوا في إكرامك لزوجك، وبرك بأقاربك وأرحامك، وحنوك على الصغير، وتوقيرك للكبير، ومراعاتك لحقوق لم ينص عليها القانون عندهم معاني الإنسانية التي غابت عنهم.(/1)
رأتك عجوزهم تبر أباك وأمك فأنت تنفق من مكافأتك المحدودة جزءاً مقدراً في الاتصال بهم والاطمئنان على أحوالهم وطلب رضاهم، فإذا جاءتك مهاتفة من أحدهما أو كلاهما فإذا بها تراك تطير فرحاً، فتنكس رأسها المسكينة المحرومة وتدمع عينها التي ما اكتحلت برؤية بنيها منذ نمو قوادمهم واشتداد أجنحتهم، فلا تدري إلى أي أصقاع الأرض طاروا، وفي أي فجاجاها حطوا، وهم كذلك في شأنها!
أخي المبتعث الكريم..
الحديث معك ذو شجون، ولا أود الإطالة مخافة السآمة، وأنت اللبيب الذي يفهم بالإشارة، والحر الذي تكفيه العبارة.
ولكني أذكرك بأن ههنا أناساً ينتظرونك ولست أعني العائلة الكريمة ولا الجماعة أو الربع، بل تنتظرك أمة مكلومة فلا تخيب رجاءها ولا تعد إليها خالٍ وفاضك من آمالها.
هذا والله أسأل لك التوفيق والتسديد، والثبات والعصمة، وأن يوفقك للصبحة الصالحة، التي تعينك على أمر دنياك ودينك، وأن يردك إلينا بالسلامة قافلاً كما صحبك بها مرتحلاً.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
محبكم
ناصر بن سليمان العمر(/2)
رسالة إلى حماس ومبتغي الخير ...
28-08-2006
ملاحظة:تمت كتابة هذا الموضوع قبل أحداث غزة…
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين،أما بعد:
فلكم كنت متردداً في كتابة هذا الموضوع بالغ الأهمية،خاصة في ظل هذه الظروف المدلهمة،فالشعب الفلسطيني يمر مرحلة حرجة للغاية، يصعب معها قراءة الأحداث المتسابقة ضمن خارطة بينة واضحة المعالم، والحديث عن الأزمة الحالية التي تمر بها حكومة حماس على الخصوص، والشعب الفلسطيني عامة،له أبعاد عميقة متشعبة المرامي،وعرة السلوك، متزاحمة الحلول التي لا تصل في كثير من الأحيان إلا إلى طرق مسدودة يحسبها الظمآن ماءً ،حتى إذا جاءها وجدها سراباً لا تزيد الأمور إلا تأزماً وتعقيداً
وقد أحببت من خلال هذه العجالة نصحاً لإخواننا في حركة حماس والمسلمين عامة أن أبين منهجاً واضحاً للتعامل مع الواقع الحالي تبرئة للذمة واحتساباً للأجر من الله سبحانه،رغم ما قد يحمله إخواننا المسلمون علينا من تجهيل وتسفيه وتضليل، لكنها ضريبة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر،المنطلق من نظرة واضحة بينة، لا تحول بينها النظرات الحزبية الضيقة التي جعلت على العيون غشاوة لم يعد أصحابها يرون إلا ما يحبون،وأصموا آذانهم عن سماع ما يكرهون، وأخذوا يتبعون كل مهترئ ومعيب ليستروا به عوراتهم وأنى لهم أن يخفوا الحقائق عن المبصرين ، وإن وافقهم عامة الأسواق المنبهرين بصواعق الشعرات البراقة،ورعود الخطابات العريضة التي يحسب السامع لها أن النصر من الواقع قد أصبح قاب قوسين أو أدنى، واختصاراً ندخل الموضوع من بابه لنلقي الضوء على الأحداث كما هي بعيداً عن التوهم والخيال.
لقد خاضت حماس انتخابات المجلس التشريعي،رغم تحذير كثير من العلماء لها،وثنيها عن مرادها حتى لا تخالف الحكم الشرعي البين،وتتسع دائرة الخلاف الواسعة، وتعطي تبريراً لأعداء الأمة لتحقق أهدافاً لها سعت جاهدة من أجل ترسيخ معالمها،وكنت قبل ذلك كتبت مقالاً بعنوان ( المشاركة في المجلس التشريعي خطأ فادح وجهل في الواقع الحالي ) إلا أن أخواننا حفظهم الله أصروا على موقفهم،وواصلوا زحفهم فرحين بما علمناه مسبقاً من استقرائنا لواقع الشعب الفلسطيني من حصول تأييد عام لبرنامجها الانتخابي الصوري، الذي يسقط راية فتح التي طالما حلم الشعب بسقوطها لما اقترفته أيديهم من ظلم وفساد وانحلال ،فكانت النتيجة محتمة وإن لم يتوقعها أخواننا في الحركة كما سنبينه لاحقاً إن شاء الله تعالى ،وبما أن أزمة الأمور اليوم بيد الحركة إذ هي الحكومة المنتخبة، والسلطة المنفذة نوجه إليها هذه الرسالة واضحة المقصد، بعيدة النظرة،عميقة المعنى،دقيقة العبارة ، آخذين بعين الاعتبار عدم موافقتنا لكم بدخول المجلس التشريعي، وثباتنا على ما كنا قد بيناه في رسالتنا(حكم المشاركة في المجلس التشريعي) ولكن بما أنكم أصبحتم داخله،وحملتم رايته،ووقفتم أمام أزمات بما كسبت أيديكم،نشارككم الرأي من باب النصح والتوجيه ، وتبرئة الذمة كما سبق القول آنفاً،وعليه نقول لأخواننا من خلال استقرائنا للأحداث السياسية قراءة دقيقة،-إذ المبحث هنا مبحث سياسي ،لا شرعي ،فالحكم الشرعي تكراراً واقراراً واضح لا ريب فيه - لا يوجد أمامكم إلا حلول ثلاثة لا رابع لها، أحلاها مر وهي :
أولَ : الثبات على مواقفكم ،وهذا أملنا بكم .
ثانياً : التماشي مع السياسية الدولية والرضوخ إلى الحلول الجزئية، والتنازلات المؤلمة.
ثالثاً : الانسحاب والعودة إلى ما كنتم عليه قبل.
فأما القضية الثانية، وهي التماشي مع السياسية الدولية والرضوخ إلى الحلول الجزئية، والتنازلات المؤلمة، فهي قضية محرمة من حيث الأحكام الشرعية ،وتوافق لما عليه القوم المتهمين بالتآمر على شعبهم وأمتهم، وبما أنكم لا تخالفوننا الرأي في هذه المسألة المجمع عليها ،لا نحتاج إلى عظيم تفصيل، وتطويل تبيين، لذا نقف منها عند هذا الحد .
وأما النقطة الأولى وهي التي يجب أن تثبتوا عليها ما أنتم عليه من إصرار على عدم التنازل عن أي شبر من حدود ال67 على رأسها القدس الشرقية،( وسلام على القدس الغربية وأخواتها في ال 48 ) يحتاج منكم إلى مقومات الثبات والصمود، وتحقيق الأهداف المنشودة ، وتتلخص في نقاط ثلاث :
1 : القوة الرادعة .
2 : الاكتفاء الذاتي .
3 : القوة المعنوية المنبثقة عن الإيمان والصبر .(/1)
فنحن نعلم يقيناً أن ما يسمى بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي ، ليس محصوراً بهذين الشعبين، بل هو صراع دولي تسنده القوة العالمية بما نتج عن اتفاقيات دولية أقرها مجلس الأمن ،فالاعتراف بدولة إسرائيل شرط أساسي للتعامل مع أي حكومة منتخبة بغض النظر عن نشأت أفكارها،وتصوراتها، وحتى يخضع المجتمع الدولي إلى إرادة حكومة حماس القائمة على عدم اعترافها بدولة إسرائيل يحتاج إلى قوة رادعة،وإلا فلن يؤثر الضعيف في القوي بما يتعارض مع مصالحه وتطلعاته ، وقوة الحكومة الحالية المؤثرة بعدوها تنحصر في نقطتين رئيسيتين،
1 : الأسلحة الخفيفة من صواريخ محدودة المسافة والتأثير،
2 : العمليات ( الاستشهادية) ولا شك أن هذه القوة ناهيكم عن عدم تأثيرها بشكل كبير يؤدي إلى قلب الأمور رأساً على عقب، فإن أخطارها على الشعب الفلسطيني وخيمة،إذ سيكون تعامل (إسرائيل) مع الحكومة تعامل دولة ضد دولة، إذ أصبح للشعب الفلسطيني بنظر المجتمع الدولي سيادة مستقلة خاصة بعد الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة، وفتح الحدود مع مصر دون سيادة إسرائيلية،وهذا لا شك أبعاده خطيرة للغاية،ولو رجعنا خطوة إلى عهد الحكومة السابقة التي تبنت مشروع السلام واعترفت بدولة إسرائيل ، وأدانت بشدة العمليات الفدائية ضد إسرائيل، وقامت بأعمال الردع من اعتقالات وغيرها،ووجهت بما نعلم بسبب قيام بعض حركات المقاومة بتنفيذ عمليات داخل العمق الإسرائيلي ، فكيف إذا كانت الحكومة هي من يتبنى المقاومة؟؟؟؟؟؟؟؟
وحماس تعلم جيداً النتائج المترتبة على ذلك،بل أقول وبكل صدق ووضوح، إن الحكومة لا تملك القوة الرادعة لتحقيق أهدافها، ما يحملنا على مناقشة النقطة التالية وهي : الاكتفاء الذاتي :
من خلال ما نعايشه من أحداث يومية نعلم يقيناً بأن الحكومة الفلسطينية لا تمتلك الاكتفاء الذاتي، فهي عاجزة عن توفير رواتب موظفيها،بل إن مصادر تمويلها لا يتعدى المداخل التالية:
1: ما يرجع عليها من ضرائب وغيرها من خلال التنسيق مع الجانب الإسرائيلي غير المعترف به من قبل الحكومة.
2: التبرعات من الدول العربية وشعوبها،ومؤسساتها وجمعياتها... إلخ
3 : التبرعات من الدول العالمية على رأسها أمريكيا وأوروبا .
وإن أبرز هذه المصادر أمريكيا وأوروبا، وهذه المصادر الثلاثة تتوقف عند التعارض مع مصالح( الأسرة الدولية )بل هي متوقفة فعلاً: بغض النظر عن أسباب توقفها،إن كان الأمر متعلقاً بالتحويل أو غيره،وهذا ما أدخل الحكومة في مأزق كبير جعلها عاجزة عن حل أبسط المشاكل اليومية، والسؤال هو إلى متى ستبقى الحكومة ثابتة على موقفها رغم الأزمة الخانقة؟ وهذا ما يحملنا على الحديث عن النقطة الثالثة وهي : القوة المعنوية المنبثقة عن إيمان الأمة وصبرها :
عندما نتحدث عن هذه القضية نأخذ بعين الاعتبار أننا نتحدث عن شعب كامل متكامل،فيه الصغير والكبير، والصحيح والمريض...إلخ ناهيك عن الفئة المغرضة العريضة التي تعمل على إسقاط الحكومة بكل الوسائل المتاحة، فكم يصمد هذا الشعب الضعيف والمنهوك أصلاً أمام هذه المقاطعة الدولية خاصة أن حكومته لا تملك برنامجاً عملياً لإخراجه من الأزمة الخانقة دون تنازلات منها عن ثوابتها وبرنامجها الانتخابي؟؟؟؟؟؟
فلا بد من الوقوف على الحقيقة عينها، والبعد عن المكابرة والخيال، فنحن لا نعيش في منأى عن الواقع كما يزعم البعض،بل نعيش قلب الحدث،ونعاني مما يعاني منه شعبنا، وعليه أعاود القول بصراحة تامة فأقول: إن الشعب الفلسطيني لا يملك مقومات الصبر طويل المدى على مقاطعة العالم له،فهو يتجرع القهر والفقر والهوان،ولا يملك بديلاً ولو حتى نسبياً لمساعدته على الثبات والصمود .
إذن الحكومة لا تمتلك مقومات الثبات التي يحملها على التحدي والمخالفة،فهل الواجب عليها أن تنسحب من الحكومة وترجع الأمور إلى ما كانت عليه سابقاً؟؟؟؟
هذا هو الحل الثالث أمام الحكومة، -وإن كنا نعتقد بأن حماس لن تتنازل عن الحكومة وقد صرح بهذا كثير من كوادرها، فمن قائل : سنقلب الطاولة رأساً على عقب ، ومنهم من قال : إن سقطت الحكومة فلن تقوم مكانها حكومة أبداً إلى غير ذلك من الأقوال - وهو حل له أبعاد خطيرة منها على سبيل المثال:
• ... زعزعت ثقة الناس بالإسلام وكونه لا يصلح ليكون بديلاً .
• ... عودة الفاسدين إلى ظلمهم وتخاذلهم وتآمرهم على شعبهم.
• ... التنازل عن الثوابت والأهداف العامة.
• ... توسع دائرة الفساد في المجتمع الفلسطيني، والتسلط على الملتزمين والتضييق عليهم . إلى غير ذلك من الأمور السيئة التي تترتب على انسحاب الحكومة.(/2)
والسؤال هو : إذا كانت كل الحلول غير ممكنة ،فما هو الحل الأمثل للخروج من هذه الضائقة ؟ أخواننا في الله هذا ما يجعلنا نتثبت من أن الأصل في حماس عدم انجرارها في اللعبة السياسية القذرة، فإن ما أصاب المجتمع الفلسطيني وعلى رأسه الحكومة بسبب مخالفتها للنهج القويم الواضح،فإن مبدأ انتخابات المجلس التشريعي يقوم على مخالفة صريحة للإسلام إذ يجعل السيادة المطلقة للشعب، وعلى الشعب أن يختار من يمثله،لا ما يمثله ،فالقوم متفقون على أن الدستور الذي ينطلق منه الحكم لا بد أن يكون وضعياً أي كفرياً والأصل في كل مسلم أن ينأى بنفسه عن هذا الطاغوت الذي أمرنا الله سبحانه بالكفر به، لا بالانقياد إليه بغض النظر عن الأسباب، ولا ننسى أخواننا في الله أن شعار المنافقين الذين خرجوا عن الحكم بما انزل الله سبحانه إلى غيره كان ( الإحسان والتوفيق ) وهو على وزن ( الإصلاح والتغيير) عذراً فنحن لا نشك في إخلاصكم وصدق نياتكم والعياذ بالله من ذلك ، ولكننا نذكركم بأحوال المنافقين كي لا تقعوا فيما وقعوا فيه .
وما نراه من حق والله سبحانه أعلى وأعلم،أن تعلنوا للناس كافة أنكم كنتم مخطئين في مشاركتكم في انتخابات المجلس التشريعي، وأنكم لم تفهموا المسألة فهماً صحيحاً ، وأن تعملوا على بناء المجتمع بناء إسلامياً على منهج السلف الصالح لتتكون لكم قاعدة إيمانية كبيرة تستطيعون من خلالها تحقيق أهدافكم ، وإلا ستدخلون المجتمع في دوامة دموية لا يعلم حقيقتها إلا الله سبحانه، فأنتم تعلمون جيداً بخطورة أعدائكم وما يكيدون بكم ، وأنهم يتربصون بكم الدوائر، وتذكروا أن الذي أوصلكم إلى ما وصلتم إليه هو شعبكم،فلا تقلبوه عليكم ،فما كنتم متوقعين منه أن يوصلكم إلى ذلك ولا أدل على صدق ما أقول من كونكم لم تعدوا برنامجاً للتعامل مع الأمور المستجدة،بل رضيتم بأن تكونوا فصيلاً معارضاً في حكومة ( فتح) وأنتم تعلمون جيداً نتائج ذلك ،ونهاية أقول : ( فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ) .
والله من وراء القصد وآخر دعوانا إن الحمد لله رب العالمين .(/3)
رسالة إلى صاحب البقالة
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ...
هذه رسالة من أخ ناصح لك مشفق عليك يتمنى لك الفلاح في الدنيا والآخرة وسعة الرزق وبركته .. وإنه ليسعدني أن أقدم لك هذه النصيحة التي أرجو أن تلقى منك قبولاً وهذا هو ظني بك .. وإن العاقل المهتدي من إذا استمع القول اتبع أحسنه ، وأسأل الله لي ولك ولجميع المسلمين الفقه في الدين وأن تكون عضواً صالحاً ومصلحاً في مجتمعك إنه سميع قريب مجيب .
أخي العزيز : قد يخفي عليك حكم شرب الدخان فأقول لك : دلت الأدلة الشرعية على أن شرب الدخان من الأمور المحرمة شرعاً وذلك لما اشتمل عليه من الخبث أما ما كان ضاراً لهم في دينهم أو دنياهم أو مغيباً لعقولهم فإن الله سبحانه قد حرمه عليهم وهو عز وجل أرحم بهم من أنفسهم وهو الحكيم العليم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره ومن الدلائل القرآنية على تحريم شربه قوله سبحانه وتعالى : { يسئلونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات}(1) وقال تعالى في وصف نبينا محمداً ((صلى الله عليه وسلم)) { يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث}(2) فأوضح سبحانه بهاتين الآيتين أنه سبحانه لم يحل لعباده إلاّ الطيبات والأشربة النافعة أما الأطعمة والأشربة الضارة كالمسكرات والمخدرات وسائر الأطعمة والأشربة الضارة في الدين أو في البدن أو العقل فهي من الخبائث المحرمة وقد أجمع الأطباء وغيرهم من العارفين بالدخان وأضراره بأن الدخان من المشارب الضارة ضرراً كبيراً وذكروا أنه سبب لكثير من الأمراض كالسرطان وموت السكتة وغير ذلك .
أخي لعلك بعد تلك المقدمة فطنت إلى ما أقصده فإن اللبيب بالإشارة يفهم .. يقول الله تعالى : { وتعاونوا على البر والتقوى ولاّ تعاونوا على الإثم والعدوان }(3) أريد منك بارك الله فيك أن تكرر قراءة هذه الآية فإن معناها جلي وواضح .. وإذا كنا أمة القرآن الأمة المسلمة بربها وخالقها فلابد أن نكون على ما يرضاه الله لنا من امتثال أوامره وشكر نعمه واجتناب نواهيه وإلاّ فإننا لا نستحق أن نكون عبيداً له .
أخي : ما قصدته وفقك الله هو تنبيهك بأن بيع الدخان على إخوانك المسلمين محرم لأنه من التعاون على الإثم والعدوان والذي نهى الله عنه بقوله { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } كما أن المال الذي تجمعه من بيعه مالاً حراماً سحتاً وكما ورد في الحديث ( أيما جسد نبت على السحت فالنار أولى به ) رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه .
إنني أدعوك إلى التوبة إلى الله عز وجل ومقاطعة بيعه امتثالاً لأمر الله سبحانه وتعالى وحتى يكون ما تكسبه من مال وتنفقه على نفسك وأولادك حلالاً خالصاً لا يشوبه مال حرام ( لأن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه ) كما ورد في الحديث . وإنني أوصيك بتقوى الله لأنها من أسباب الرزق كما قال تعالى : { ومن يتق الله يجعل به مخرجاً (2) ويرزقه من حيث لا يحتسب }. (الطلاق 2-3) .
أخيراً : تذكر ساعة الرحيل والقدوم على الله وتذكر يوم العرض الأكبر عليه سبحانه حين تسأل عن الصغيرة والكبيرة وعن مالك من أين اكتسبته وفيم أنفقته ؟؟
أسأل الله العلي العظيم لك الهداية وأن تكون عضواً صالحاً ومصلحاً في مجتمعك .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
أخوك الناصح
----------------------------------------------
(1) سورة المائدة من آية 4.
(2) سورة الأعراف من آية 157.
(3) سورة المائدة من آية 2.(/1)
رسالة إلى صاحب المقهى
أخي صاحب مقهى الإنترنت وفقه الله لكل خير
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد
هذه رسالة من أخ ناصح لك مشفق عليك يتمنى لك الفلاح في الدنيا والآخرة وسعة الرزق وبركته وأنه ليسعدني أن أقدم لك هذه النصيحة التي أرجو أن تلقى منك قبولاً وهذا هو ظني بك ..وإن العاقل المهتدي من إذا استمع القول اتبع أحسنه .
أخي العزيز : يقول الله تعالى " إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون " فهل ترضى وتود بأن تكون من الذين يحبون بأقوالهم وأفعالهم أن تشيع الفاحشة بين المؤمنين ؟ حاشا أن تكون منهم فالأمر لا يتعدى غفلة منك أو جهلاً أو تساهلاً .
إنني أوصيك بتقوى الله في نفسك وفي شبابنا لم تسببه هذه المقاهي من فساد عظيم وكما تعلم أن هذه الشبكة فهي من الفساد ما الله به عليم .
فيا أخي : أترضى لابن من أبنائك أن ينحط في أخلاقه ويضعف دينه بسبب مقهى إنترنت ؟!
أحسبك لا تقبل ذلك كله...
واعلم أخي : أن من أسباب الرزق تقوى الله كما قال تعالى :" ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب "
أخي الحبيب : إن منعك للمواقع السيئة في المقهى الخاص بك لهو أكبر دليل على حرصك على الكسب الطيب وحرصك على شباب المسلمين.
وختاماً : إليك هذه الوصايا لعلى الله أن ينفعك بها :
1- أحرص على عدم تواجد الزبائن في المقهى أثناء الصلوات تمسكاً بمكانة الصلاة.
2- وضع قائمة مختارة أمام كل جهاز من المواقع الإسلامية والمعلوماتية النافعة.
3- إعادة النظر في تصميم المقهى.فلماذا تلك العوازل بين الأجهزة فهي مما يشجع على الشر.
و تذكر أخي ساعة الرحيل والقدوم على الله وتذكر يوم العرض الأكبر عليه سبحانه حين تسأل عن الصغيرة والكبيرة وعن مالك من أين اكتسبته وفيم أنفقته ؟؟
وأسأل الله العلي العظيم لك الهداية وأن تكون عضواً صالحاً ومصلحاً في مجتمعك ،،،
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته,,
وكتبه أخ لك يرجو منك الدعاء(/1)
رسالة إلى طالب الجامعة
المحتويات
حديث خاص
طالب الجامعة والمرحلة الجديدة
هدف الدراسة وغايتها بين طالبين
الإعداد للمستقبل
هل أنت في الجامعة أم في الرابعة الثانوية؟
الطالب الجامعي والتخصص
طالب الجامعة والدعوة
الوقت لدى طالب الجامعة
حتى لا نظلم طالب الجامعة
ا لحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا أله ألا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله . أما بعد:ـ فحديثنا هذه الأمسية ينطلق من المحاور الآتية:
حديث خاص :
هذا حديث خاص؛ فهو نخبوي، حديث لفئة خاصة من الشباب، وحين يلقى الموضوع داخل أسوار الجامعة ويستمع له طلاب الجامعة فلا بد أن يكون حديثاً حول ما يعنيهم هم.
إننا بحاجة إلى أن نتحدث حديثاً خاصة لفئات شتى من المجتمع: للمرأة، للطفل، للأستاذ، للشاب، لطالب الجامعة، وقد يقف الموقع والمنبر الذي يتحدث المحاضر من خلاله عائقاً دون توجيه الحديث إلى طائفة خاصة ونخبة خاصة، أما وقد كان الحديث هنا داخل أسوار هذه الجامعة فكان هذا دافعاً بالحديث لطالب الجامعة وحده.
إن طالب الجامعة يستحق منا الكثير، يستحق أن نخاطبه، وأن نعني بالحديث عن مشكلاته والبحث عنها وعلاجها، كم هم الآلاف الذين يدرسون لا في هذه الجامعة وحدها، يل في العالم الإسلامي بأسره، وعلى هؤلاء تعقد بإذن الله عز وجل الخناصر والآمال، فهم رجال الأمة في المستقبل، وهم صانعوا مستقبلها، وفي وقت تعيش فيه الأمة مرحلة حرجة، مرحلة حالكة.
إن طالب الجامعة ممن ينبغي أن يسهم أولاً في فهم هذه المرحلة التي تعيشها أمته، وفي إدراك قضيتها ثم في المساهمة بدوره ومسؤوليته.
ومن ثم فحين نعني بتوجيهه والحديث عن مستقبله ومشكلاته، فنحن نصنع الشيء الكثير ونساهم بإذن الله عز وجل في رسم خطوات قد تكون أكثر تفاؤلاً وأكثر صحة لمستقبل طالما تنتظره الأمة.
طالب الجامعة والمرحلة الجديدة:
لا شك أن طالب الجامعة يعيش مرحلة جديدة من حياته، ولعلنا أن نشير هاهنا إلى بعض الملامح التي تميز هذه المرحلة التي يعيشها طالب الجامعة، وقد أطيل فيها قليلاً لأني أشعر أنها مهمة لفهم ما يأتي بعدها، أو بعبارة أخرى لتفهموا المنطلقات التي أنطلق من خلالها في الحديث، وفي طرح بعض ما أراه من رؤية حول طالب الجامعة.
أولاً : طالب الجامعة يأتي إلى هذه المرحلة وقد اجتاز مرحلة المراهقة بكل ما تحمله من مشكلات، كنا مع شاب مراهق تسيره حماسة وعاطفة جياشة، شاب فوجئ بدخوله في مرحلة جديدة من حياته فلم يحسن التعامل معها، شاب يعيش على بوابة مرحلة خطيرة فهي التي ترسم مستقبل عمره، وعاش هذا الشاب سني المراهقة ثم اجتازها.
حين جاء إلى الجامعة كان قد اجتاز تلك المرحلة التي كانت تتسم بالحماسة الفائرة التي تتحكم بنسبة كبيرة في تشكيل تفكير الشاب وتوجيهه وصياغة تصرفاته وأعماله فيما بعد، تلك الحماسة التي تشكل سحباً دون الرؤية المنضبطة الحقيقية، وتسهم في حجب جوانب كثيرة ينبغي أن تحكم تصرفات الشاب وتوجهه، اجتاز تلك المرحلة بما فيها من عواطف جياشة وأحلام اليقظة، بما فيها من مؤثرات قد تكون سبباً في انحراف الشباب وانجرافه.
لقد كنا في تلك المرحلة نتحدث عن الشاب، عن الانضباط وعن الاتزان وعن تحكيم العقل و المنطق، كنا نتحدث مع ذاك الشاب حديث المشفق حديث الناصح بضرورة المحافظة على الهداية والاستقامة، والحرص على الانضباط بالضوابط الشرعية؛ لأننا نرى أنه على أبواب مرحلة قد تزل به فيها القدم.
وهذا لا يعني أننا تجاوزنا هذا الحديث؛ فلا يزال المرء ما دام في دار الدنيا بحاجة أيضاً إلى الحديث في هذا الجانب، ما لم يفارق الدنيا ويودعها، لكن هذا الحديث كان أكثر إلحاحاً في تلك المرحلة السابقة.
إذا فقد أتى الشاب إلى هذه المرحلة وقد اجتاز مرحلة المراهقة بكل ما فيها؛ فلا يسوغ أن يتعامل هو مع حياته على ضوء تلك المعطيات السابقة التي عاشها في مرحلة المراهقة، ولا يجوز أيضاً أن نخاطبه ونعامله معاملة المراهقين.
ثانيا: يعيش الشاب في مرحلته الجديدة تغيراً في عاطفته؛ قد كان في السابق يحمل عواطف معينة تتمحور حول دائرة ضيقة، أما الآن فقد صار يحمل عواطف اجتماعية وإنسانية، صار يدرك ما تعيشه الإنسانية، صار يدرك المجتمع والأمة ومصائبها، صار يدرك ذلك كله ويتطلع للتغير، ويتأثر بهذه العواطف أيًّا كانت ثقافته، بل أيًّا كانت أيدلوجيته وفكره ومعتقده؛ فطالب الجامعة في هذه المرحلة يعيش عواطف اجتماعية وإنسانية تتجاوز حدود محيطه الذاتي، وتتجاوز حدود محيطه الأسري القريب.
ومن ثم تشهد هذه المرحلة في الجامعات عموماً مرحلة الانتماء للأحزاب السياسية والتوجهات الفكرية، والحماس لمنطلقاتها؛ لأن تلك الأحزاب والاتحادات والجمعيات تحمل على عاتقها هم الإصلاح، أياً كان هذا الإصلاح الذي تراه.(/1)
قد تختلف برامج الإصلاح بل تتناقض، وتتضارب، لكنها كلها تدور حول الرغبة في الإصلاح سواء كان أولئك جادون فعلاً في رغبتهم أو ليسوا جادين، والذي يرفع الشاب في هذه المرحلة إلى الانتماء لتلك الأحزاب والتنظيمات هو شعوره بالعواطف الاجتماعية والإنسانية، ونحن وقد حمانا الله وكنا في مأمن تلك التوجهات والأحزاب والتنظيمات؛ فصرنا نعيش مجتمعاً خاصاً له طبيعته الخاصة وله تفكيره الخاص ونسأل الله عز وجل أن يجنبننا ما يعانيه من حولنا من تفرق وتشرذم، إلا أن حديثنا هنا عن طبيعة طالب الجامعة وأنه يحمل مثل هذه العواطف للإصلاح والتغيير، وليس هذا دعوة للانخراط في مثل هذه الأفكار والتوجهات.
إذا فطالب الجامعة في هذه المرحلة تغيراً نفسيًّا؛ فقد تجاوز التمركز حول ذاته وبرز له خط الغيرية فصار يفكر في الغير، ويحمل العواطف الاجتماعية والإنسانية .
ثالثاً: التغير العقلي والنمو العقلي؛ فهو يعيش مرحلة خصبة من تفكيره العقلي، وهذه أخصب مراحل العمر، ولهذا ترى الطالب في هذه المرحلة يتعامل مع تخصصات جديدة وعلوم جديدة فيستطيع أن يجتازها، دع عنك من قد يفشل في اجتياز تخصص ما أو قد يجد فيه صعوبة، وقد تكون هذه الصعوبة غير عائدة بالضرورة إلى قدراته العقلية، قد تكون عائدة إلى توافقه مع هذا التخصص أو ميوله أو اقتناعه به، أو إلى أسباب نفسية وخارجية، وقد تعود أيضاً إلى أسباب ترجع إلى قدراته العقلية.
لكن حينما تنظر هذه النظرة الشمولية فإنك ترى أن الأسباب العائدة إلى قدراته العقلية قد لا تحمل بالضرورة المسؤولية الكاملة حول فشل الطالب في هذا التخصص أو غيره.
إذا فالشاب في هذه المرحلة يشهد مرحلة متميزة، مرحلة تمتاز بالعمق والقدرة على الاستيعاب أكثر من غيرها، ومن ثم فهذه المرحلة هي التي يقرأ فيها الطالب كثيراً، وهي التي يستوعب فيها الطالب أكثر.
رابعاً: هذه المرحلة مرحلة التفكير في المستقبل بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وتتحكم رؤية الشاب للمستقبل في تحديد مدى هذا التفكير ومساره، ثم ما يترتب على هذه التفكير فيما بعد من رؤية للإعداد للمستقبل وصياغته.
لقد كان الشاب في المرحلة الثانوية -وكان يعيش مرحلة المراهقة - همه الفريق الرياضي وانتصاره، وهمه ظروف معينة يعيشها داخل أسرته، وحتى الشاب المستقيم الخير فإن همه أيضاً يقف دون خطوط معينة لا يتجاوزها، حتى مستقبله لا يفكر فيه إلا تفكيراً عاجلاً، لكن حين صار إلى السنة الأخيرة من المرحلة الثانوية وبالتحديد الفصل الدراسي الثاني بدأ يفكر تفكيراً جادًّا في المستقبل فصار على بوابة مرحلة جديدة، إن خريج المرحلة المتوسطة يلتحق بالمرحلة الثانوية، فهو أمام خيار واحد محدد سلفاً، أما خريج المرحلة الثانوية فهو أمام خيارات عدة.
كما بدأ يفكر تفكيراً آخر: في الزواج، في الوظيفة، في سائر مايتعلق بالمستقبل، بدأ يفكر في ذلك كله تفكيراً جادًّا.
تفكير الشاب وثقافته قد تشكل رؤيته للمستقبل، فهناك من تنحصر رؤيته للمستقبل في الزواج والحصول على الوظيفة المناسبة، وقد تكون الوظيفة المناسبة وظيفة قريبة من موقع أهله وسكنه، أو وظيفة تعطيه مكانة اجتماعية مرموقة، أو وظيفة تتفق مع ميوله؛ فتنحصر دائرة المستقبل أمام هذا الشاب داخل هذا الإطار، وهناك من يتجاوز هذا الإطار فيرى أن مستقبله الحقيقي يتمثل في أن يسهم في صياغة مستقبل مجتمعه وأمته، وأن يفكر في أن يكون له دور فعال في صياغة الأحداث، وفي التغيير في المجتمع، فهو الآن طالب، لكنه بعد سنوات محدودة سيقف أستاذاً يتحدث أمام جمع من الطلاب، أو سيقف خطيباً أو يقف خبيراً في دائرة، أو موظفاً يسهم في اتخاذ قرار يؤثر بصورة أو بأخرى في مجتمعه.
إن هذا يفكر في المستقبل، والشخص الآخر الذي يفكر في الزواج والوظيفة ولا يتجاوز تفكيره هذه الدائرة هو الآخر يفكر في المستقبل، إذا فنحن في المرحلة الجامعية مع طالب يفكر في المستقبل أيًّا كان إطار تفكيره وتوجهه، ويشكل المستقبل حيزاً واسعاً من نطاق تفكيره.
لذا فأدعوكم إلى مراجعة التفكير، ما رؤيتك للمستقبل؟ هل هذه الرؤية تليق بموقعك أم هي رؤية عاجلة لا تتجاوز حدود الحصول على وظيفة مناسبة أو على شريكه الحياة وبناء مسكن يقيك من الشمس والهواء والأمطار؟ إنها الأفكار التي كانت تسود لدى رجل الصحراء والبادية، وأحسب أن ثقافة طالب الجامعة وتفكيره تدفعه إلى تفكير أبعد ورؤية أسمى من هذه الرؤية العجلى القاصرة.(/2)
خامساً: لقد انتقل الشاب من المرحلة الثانوية إلى المرحلة الجامعية نقله بعيدة، كان في المرحلة الثانوية يدرس كتاباً مطبوعاً بالألوان وعناصر وفقرات محددة، كتاب محدد بصفحاته ثم يتلقى أسئلة الامتحان وهي في الأغلب محددة فيما درس، وتعتمد على حفظه للمعلومات واستظارها فيما بعد، لكنه أتى إلى الجامعة فوجد الصورة تختلف كلية، إما أن يكون مرجعاً أو كتاباً يختلف عن سابقه أو أن يعمد إلى الكتابة مع الأستاذ، أو إلى التصوير ممن يكتب بعد ذلك، المهم أن هذا تغير له أثره في نفسية الطالب فيما بعد، كذلك طبيعة المقررات والتخصصات، فهو الآن أمام مقررات جديدة، قد يقرأ في الجدول عنوان المادة ولا يفهم إلا العنوان وبعض المفردات، أما مضمون هذه العنوان وما وراءه فلا يعرف شيئاً منه، بخلاف دراسته السابقة فقد كان يدرس مادة تتكرر معه طوال دراسته ومراحله .
ونظام الدراسة وطريقتها، القسم، التخصص، ا لجامعة، كل هذه الأوضاع وهذا التغير في طبيعة الدراسة لابد أن يسهم في تغير شخصيه طالب الجامعة ويؤثر فيها بصورة أو أخرى.
سادساً : طالب الجامعة أصبح الناس ينظرون إليه نظرة أخرى تختلف عن نظرتهم إلى طالب المرحلة الثانوية، ولابد أن تترك هذه النظرة أثرها في شخصيته، وفي نظرته هو لنفسه وما ينبغي أن تكون عليه .
سابعاً : كان الشاب يعيش في مدينته وربما في قريته أو ريفه، ثم جاء إلى الجامعة وإلى هذه المدينة بصخبها وضجيجها، جاء وعاش حياة الاغتراب كان في السابق، كانت والدته أو والده يتحمل عناء لإيقاظه لصلاة الفجر، وكان يعتمد على أهله في ذلك، ثم يعود بعد صلاة الفجر ليسترخي على فراشه ويكون على والده أو والدته أو غيرهم مسؤولية إيقاظه إلى المدرسة، وربما إيصاله، أما الآن فهو يتحمل مسؤولية نفسه؛ فيستيقظ للصلاة، ويستيقظ للذهاب إلى الجامعة، ولديه الحرية في الحضور للمحاضرة وعدمه، ولهذا نرى بعض الطلاب قد لا يستطيع أن يحسن استخدام هذه الحرية التي لم يعتد التمتع بها، فتكثر حالات الحرمان والغياب في المراحل الأولى من الجامعة، ثم يستقر به بعد ذلك المطاف.
قد أكون أطلت في الحديث حول المرحلة الجديدة لدى طالب الجامعة، ذلك أني أرى أهميتها، وهي منطلق حديثي وخطابي لطالب الجامعة.
هدف الدراسة وغايتها بين طالبين:
نحن أمام طالبين في المرحلة الجامعية، الطالب الأول : الذي يرى أن هذه الدراسة فرصة للحصول على وثيقة تؤهله لوظيفة تدر له مبلغاً من المال، أو تعطيه مكانة اجتماعية. وطالب آخر يدرس بنية أخرى تختلف عن ذاك؛ فهو يبتغي وجه الله عز وجل، ويرى أنه خلق لعبادة الله سبحانه وتعالى، وإذا كان المرء خلق لعبادة الله عز وجل فهذه المرحلة التي تتحكم في صياغة حياة الشاب فيما يستقبل حياة من عمر هي مرحلة أوْلى أن تحاط بهذا بالسياج، وأن تكون داخل هذه الدائرة، ومن ثم فإنه يحيط هذا العمل بنية خالصة يبتغي بذلك وجه الله عز وجل، إنه يريد أن يحصل علماً شرعيًّا ينتفع به أو ينفع به غيره، أو يريد أن يحصل على تخصص يخدم أمته ومجتمعه من خلاله.
قد يكون الفرق بينهما في النية فقط، لكنها تترك أثرها بعد ذلك في قرارات كثيرة يتخذها الطالب في دراسته للجامعة.
كيف يُقيِّم كل منهما أستاذ الجامعة؟ إن الطالب الأول يُفضِّل ذاك الأستاذ الذي مقرره لا يتجاوز صفحات معدودة، والذي يكون سخيًّا كريماً في تصحيحه ودرجاته، بفضل الأستاذ الذي لا يرسب عنده أحد، هذا هو المعيار الأول في تقويمه لهذا الأستاذ بعيداً عن شخصيته، وبعيداً عن فكره وتوجهه وعن عمقه، بعيداً عن إخلاصه وصدقه.
أما الطالب الآخر فالأستاذ المفضل لديه هو الذي يقدم شيئاً جديداً، هو الأستاذ الذي يراه قدوة في فكره الذي يحمله وفي عطائه وفيما يقدمه.
إنني لا أطالب الطالب أن يتخلص من طبيعته وبشريته، وأحسب أني أكون مثالياً حين أطالبك بالتخلص من هذا، فإنني أعرف أنك طالب، ويهمك أن تجتاز المراحل الدراسية، أسال الله أن يعينك ويوفقك، لكن حين يكون هذا هو وحده الحاكم على حياتك وتصوراتك فإن هذا أمرٌ يحتاج إلى مزيد تأمل ومناقشة.
حين يتخرج الطالب فنحن أمام طالبين قد تخرجا ومضت تلك المرحلة بما فيها، الطالب الأول كان همه الحصول على هذه الوثيقة وقد حصل عليها وودع كل ما تلقاه ودرسه حين خرج من بوابة الجامعة يحمل هذه الوثيقة، أما الشخص الآخر فقد تخرج ولا يزال يحمل فكراً ويحمل علماً.
إن الإنسان الجاد الذي يعي مصلحة نفسه يحترم تخصصه، فأيهما يخدم مصلحتك ويخدم مستقبلك: حين تعتني بدراستك وتهتم باستيعاب هذا التخصص وما درسته حتى تكون فيما بعد ناجحاً في عملك؟ ومؤهلاً لان ترتقي في وظيفتك لأنك تحمل المؤهلات التي تؤهلك لذلك، مؤهلاً لأن تنجح في إدارة عملك حين تقوم بالعمل.(/3)
إن منطق الإنسان المادي البحث الذي يفكر بعقلانية بحتة بعيداً عن قضية النية الصادقة والخالصة، ينبغي أن يكون جادًّا في دراسته، وأن يعيد النظر في كثير من جوانب نظرته لأستاذه ونظرته للمواد الدراسية؛ لأن هذا يرسم مستقبله وقد يندم في المستقبل حين يدرس مقرراً يعتمد على مقرر سابق.
من الذي سيخدم الأمة والمجتمع ؟ النموذج الأول أم الثاني؟ ثم سؤال آخر ما الفرق بين الحالتين ؟ما الفرق بين الشخص الجاد الذي يتعلق بهدف جاد ويوظف وقته على خدمته وتحقيقه والشخص الآخر والنموذج الآخر؟
إنني أعرض أمامك نموذجين ورؤيتين لطالب الجامعة، ومن حقك أن تقتنع بهذه الرؤية أو تلك، ومن حقك أن تختار هذه الوجهة أو تلك، لكني أحسب أن اختيارك لهذا الخيار أو ذاك سوف يؤثر فيما بعد على جوانب كثيرة من حياتك.
الإعداد للمستقبل:
يفكر طالب الجامعة كثيراً في المستقبل، ويقوده هذا التفكير إلى الاقتناع بأن الشاب يمكن أن يصنع شيئاً كثيراً في المستقبل.
إننا نقول كثيراً لطلابنا في المرحلة الثانوية: إنكم شباب يجب أن تسهموا في مستقبل أمتكم ومجتمعكم، ونتحدث لهم عن المستقبل حديثاً يشعرون أنه مثالي، لكن طالب الجامعة لابد أن ينظر نظرة أخرى؛ فما بقي عليه إلا أربع سنوات أو أقل أو أكثر، وتتحول إلى أستاذ أو إلى معيد في الجامعة، أو إلى موظف في قطاع عام أو خاص، وتسهم إسهاماً فاعلاً في صياغة مستقبل المجتمع والأمة أياً كان هذا الإسهام.
وأعيذك بالله من حال الأستاذ الذي لا يراعي المسؤولية، الأستاذ الذي يرى أن وظيفته ومهمته مجرد إعطاء معلومات جافة ليحصل بعد ذلك على مقابل مادي، أو الموظف الذي يرى أن دوره لا يتجاوز كتابة بضع كلمات على الأوراق.
إذن أنت بين خيارين للمستقبل: أن تكون إنساناً عاملاً منتجاً، أو مجرد موظف أمنيته الحصول على مقر عمل قريب من سكنه، والحصول على عائد مادي يتناسب مع طموحه، وما سوى ذلك لا شأن به.
ومن حقك أن تختار الموقع الذي تراه يليق بشخصك، لكنك حين تختار الخيار الأول –وهو اللائق بك- فينبغي أن تعلم أن هذا الاختيار يفرض عليك الإعداد لهذا المستقبل، الإعداد لأن تكون مؤهلاً لأداء هذا الدور الذي ترسمه لنفسك، من خلال استيعابك لتخصصك الذي تدرسه، وعنايتك به، وشعورك بأن الدراسة أبعد هدفاً من مجرد الحصول على الشهادة، ومن خلال الاستزادة في تخصصك خارج إطار الجامعة، في القراءة والاطلاع والمتابعة.
ويأتي العلم الشرعي في رأس القائمة؛ فهو يحتاجه الجميع، لاليكون طالب علم متخصص، إنما ليحصَّل الحد الأدنى الذي لاغنى للشاب المسلم عنه أياً كان تخصصه، ليؤهله ذلك لقدر من الاستقلال في فهم اجتهادات العلماء، ولأن يقرأ في كتب أهل العلم ويبحث عما يشكل عليه.
هل أنت في الجامعة أم في الرابعة الثانوية؟
لقد درس طالب الجامعة ثلاث سنوات على الأقل في المرحلة الثانوية، ثم انتقل إلى الجامعة، فهل هو أصبح فعلياً طالباً جامعياً؟ أم أنه لايزال في الرابعة الثانوية؟
إن بعض الطلاب يعيش بعقلية طالب المرحلة الثانوية وتفكيره، فلا يعدو انتقاله إلى المرحلة الجامعية من أن يكون زيادة في رصيده الدراسي من السنوات.
حين يطلب من طالب جامعي إعداد بحث عن شخصية من الشخصيات، فإنه لا يعدو أن يكتب عن: ولادته، نشأته، طلبه للعلم، ثم يذكر لك نتفاً من أحداثه، ثم وفاته وأين دفن؟ وما ذا قال الناس عنه؟ وهذا يقدم مادة مفيدة لمن يقرأ، لكن هل يليق أن يكون طالب الجامعة بمثل هذه العقلية؟ أليس المطلوب من طالب الجامعة أن يحلل هذه الشخصية وأن يبحث –بعد أن يجمع هذه المعلومات- عن أسباب النجاح الذي حققه هذا العلم المترجم له، ثم عما قيل حوله من تهم وأخطاء، وماذا انتقد عليه؟ وما العوامل التي أثرت في تفكيره؟ وما الآثار التي تركها هذا الرجل؟
كثير من البحوث التي يقدمها طلاب الجامعة لاتتجاوز القص واللصق، وقد تتفاوت المهارات تبعاً لمهارة الطالب في الحصول على المكان الذي يبدأ منه القص وترتيب هذه القصاصات التي يجمعها، وتختلف مهارة الطلاب في التوفيق بين هذه المقولات أما التحليل والمناقشة ووجهة النظر الشخصية المبنية على منطلقات علمية فهذا يندر أن يوجد عند كثير من طلابنا.
مثال آخر : طريقة تلقى المعلومات، كان الطالب في المرحلة الثانوية يعتمد على سماع معلومات يلقيها عليه الأستاذ ثم يحفظها ويعيد استظهارها، ولهذا فهو لا يستطيع أن يتحدث عن هذا الموضوع أو هذه المشكلة من خلال وجهة نظر أو اقتناع خاص، أما إذا انتقل إلى المرحلة جامعية فإن انتقل بنفس العقلية السابقة فإنه في الواقع لا يعدو أن يكون في السنة الرابعة الثانوية.
إن طالب المرحلة الجامعية يجب أن يسهم في الحصول على المعلومات، وتقييمها ونقدها وتحليلها، وأن تكون لديه القدرة على صياغة أفكار جديدة من خلال معطيات تعطي له سابقاً.(/4)
وطالب الجامعة ينبغي أن يكون له دور في فهم الحياة؛ فلا يسوغ أن يكون مجرد إنساناً يعيش في المجتمع ويتطبع بما فيه، ويحمل الأفكار السائدة أياً كانت هذه الأفكار، بل لابد أن يرتقى إلى مرحلة أعلى، فيسهم في فهم الحياة، ويسهم في فهم المجتمع، وفي تقويم الأفكار والعادات والتقاليد التي يراها في المجتمع، وفي الحكم على صحتها وخطئها، ثم يسهم في التغير الإيجابي.
وحين يشارك طالب الجامعة في الأنشطة التي تقدم من خلال الجامعة، أو الأنشطة الأخرى التي يقضيها مع زملائه، فينبغي أن يكون له معها شأن آخر، لقد اعتاد في المرحلة الثانوية أن تقدم له أنشطة في قوالب محددة يسير فيها، ولهذا لا نلومه حين يتهم هذا النشاط بالفشل أو الضعف، ويقف عند هذا الحد دون أن يكون له دور إيجابي.
أما طالب الجامعة فلا بد أن تتغير رؤيته لمثل هذه الأنشطة، لقد كان في السابق لا يزيد على أن يكون مجرد متلق لمثل هذه الأنشطة أو منفذ لها، أما الآن فلابد أن يسهم في النقد البناء، وأن يسهم في التقويم والإصلاح، ولهذا فليس مما يليق بطالب الجامعة أن ينتقد هذا البرنامج ويقف عند حدود النقد، بل لابد أن يتحمل مسئووليته في الإصلاح والتقويم.
إننا كثيراً ما نسمع انتقاد الطلاب للأنشطة التي تقدم في الجامعة، وأنها ليست على مستوى طموحهم، ومن حق الطالب أن ينتقد ويطالب بمستوى أعلى، لكنه لابد أن يدرك بأن عليه أن يسهم هو في صياغة مثل هذه الأنشطة، وأن يدرك أن موقعه قد تغير؛ فلا يسوغ أن ينتظر منا أن نقدم له برنامجاً على مدار الأربع والعشرين ساعة، أو نقدم له مثل البرنامج الذي كان يعيشه في المرحلة الثانوية؛ إنه الآن في مرحلة جديدة ينبغي أن يتأقلم معها.
الطالب الجامعي والتخصص:
سؤال عند ما أطرحه عليكم فإني لا أزيد على أن أثير الهم والأشجان: ما المعيار الذي اخترتم على أساسه التخصصات التي توجتهم إليها؟ وليس هذا مجال إجابة هذا السؤال.
لكن الطالب الآن أمام تخصص اختاره وتوجه إليه، وقد يكون اختيار هذا التخصص طوعاً، وقد يكون كرهاً، باعتبار أنه لم يجد إلا هذا التخصص، وحتى التخصص الذي اختاره الطالب طوعاً هو الآخر قد يكون ناشئاً عن قناعة وتفكير وشعور بالحاجة إليه، وقد يكون ناشئاً عن موافقة الزملاء، أو لاعتبارات معينة، أو لاعتبار أنه يخدم وظيفة شاغرة في بلده .. الخ هذه العوامل.
ومهما كان معيار اختيار التخصص فالطالب الآن يجب أن يتعامل مع الأمر الواقع، فالأمة الإسلامية بحاجة إلى جميع التخصصات أيًّا كانت، وبحاجة إلى أن يبدع شباب الأمة وجيلها، وهي بحاجة إلى الاستغناء عن أعدائها فيما بعد.
ومن ثم فالطالب الذي تخرج في الجامعة ويحمل شهادة تؤهله أنه مختص في هذا الجانب أو ذاك ينبغي أن يحمل مصداقية في ذلك من خلال عنايته بتخصصه وفهمه له، ومن خلال متابعته لما يطرح في إطار تخصصه.
ولايقف الأمر عند الاعتناء بالتخصص واستيعابه، بل لابد من الاعتناء بالجوانب الشرعية المرتبطة بالتخصص، ويبدو هذا واضحاً في الدراسات الإنسانية، التي ليست علماً محايداً، فلابد من الاعتناء بالتأصيل الشرعي لهذه العلوم، والمنتظر من الطالب الجاد الذي يدرك قيمة تخصصه أن يعتني بتحصيل مايحتاجه من العلم الشرعي في إطار تخصصه، وأن يعتني بمتابعة الطرح الإسلامي المتعلق بهذا التخصص.
طالب الجامعة والدعوة:
يشعر طالب الجامعة بمسؤوليته تجاه الواقع الذي يعيشه داخل أسوار هذه الجامعة، حينها يتساءل ما دور طالب الجامعة في الدعوة؟ كيف ينجح طالب الجامعة في دعوته؟…إلخ هذه التساؤلات.
إن طالب الجامعة بحاجة إلى أن يستفيد من خبرات الآخرين، وبحاجة إلى أن يستنير بآرائهم، لكن لا يسوغ أن يكون مجرد إنسان يجيد طرح التساؤلات والمشكلات، ويبحث عن الحلول الجاهزة.
إن مهمته تبدأ من التفكير في المشكلة، والبحث عن أسبابها وحلولها، ودور خبرات الآخرين ليس في إعطاء الحلول، إنما في إثراء التجربة وتقويمها. أما الطالب الذي يقتصر على التساؤل، وينتظر الوصفات الجاهزة فلو أعطي هذه الحلول فإن قدرته على تطبيقها وتنفيذها قد لا تكون بتلك الصورة المتناسبة مع حجم المهمة التي تنتظر منه.
وأمام طالب الجامعة فرص كبيرة للدعوة؛ فمرحلة الدراسة الجامعية مرحلة النضج، ومرحلة تلقي الأفكار والإيمان بها والحماسة لها؛ ولذا تمثل الجامعات منطلقاً خصباً لكثير من الأفكار والدعوات، الصحيحة والباطلة على حد سواء.
ويضاف لذلك تغرب طالب الجامعة ومفارقته لأهله وعشيرته، ومفارقته لأصدقائه السابقين كل ذلك يهيئ الأرضية المناسبة لاستماعه للدعوة واستجابته لها.
الوقت لدى طالب الجامعة:
يؤدي تغرب الطالب عن أهله وعشيرته إلى توفر قدر كبير من وقت الفراغ لديه؛ وبخاصة أولئك الذين لاتتطلب دراستهم جهداً كبيراً منهم خارج أسوار الجامعة.(/5)
ويتساءل كثير من الطلاب: كيف أقضي وقتي وكيف أستفيد منه؟ وتساؤلات أخرى: كيف أدعو في الجامعة ؟ كيف أستطيع أن أطلب العلم وأوفق بين التخصص الذي أعيشه والتحصيل العلمي الشرعي؟
قد نقبل من طالب يدرس في السنة الرابعة الثانوية بإلقاء هذه التساؤلات، وهو ينتظر توصيات وخطوات محددة تقف مهمته عند التنفيذ، أما طالب الجامعة فمن حقه أن يثير هذه التساؤلات، وأن يستفيد من رؤية الآخرين، لكن لا ينبغي أن يكون انطلاقه في العمل متوقفاً على حصوله على هذه الإجابة، وحين يتلقى الإجابة فينبغي أن تكون معينة له وموجهة، أكثر من محددة لمساره في خطوت معدودة.
وننتظر من طالب الجامعة أن يطور أفكار الآخرين، وأن يتجاوز القبول المطلق والرفض المطلق لما يسمعه من آراء.
وثمة جانب له أهميته يتعلق بوقت طالب الجامعة المغترب بوجه أخص: فكثيرة هي المناقشات التي تدور بين الشباب في سكنهم ولقاءاتهم، وكثيرة هي القضايا التي تملأ وقتهم، فما نصيب القضايا الجادة من حديثهم؟ وهل فكروا في أن التخطيط لمضمون ما يطرح للنقاش سيولد مع مرور الوقت ثمرات عدة، ويسهم في اغتنام أوقات كثيرة كانت ضائعة؟
وحين نتجاوز المضمون إلى الأسلوب والمنهج، فهل النقاش الذي يدور نقاش موضوعي منطقي، نقاش يليق بطالب في مثل هذه المرحلة؟ هل هو نقاش بعيد عن مجرد النزاع والجدل والخصومة، نقاش يفترض سماع وجهات نظر الآخرين واحترامهم والقبول والرد، نقاش يليق بطالب يعيش في المرحلة؟
حتى لا نظلم طالب الجامعة:
إن العدل منهج شرعي، فحين ننتقد جوانب من شخصية طالب الجامعة اليوم، فينبغي ألا ننسى الجوانب المشرقة والمضيئة لدى شبابنا، فهم التزموا بالإسلام في عصر القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر، ولعلهم من أسعد الناس بوصف النبي r بقوله:"فطوبى للغرباء"، وهاهم يقبلون على العبادة والعلم والدعوة وإصلاح أنفسهم والناس، وهاهم يفوقون غيرهم حتى في المجالات الدنيوية، وليس هذا ميدان الإفاضة في ذكر هذه الجوانب المشرقة، إنما هي إشارة عاجلة يقتضيها المقام (وللتفصيل في ذلك ارجع إلى محاضرة القابضون على الجمر).
ومن جانب آخر ينبغي ألا نحمله ما لايحتمله، فكثير من مظاهر الانتقاد التي تناولناها ليس طالب الجامعة هو وحده المسؤول عنها؛ بل هو إفراز لبيئة تربوية واجتماعية، فقد عاش في أسرة تسيطر عليها أنماط معينة من التفكير والنظريات والرؤية للمجتمع والمستقبل.
لقد عاش وهو يسمع والده وأمه يحدثانه كثيراً: اجتهد في دراستك حتى تتفوق وتحصل على وظيفة مناسبة، وحين يرون منه إهمالاً فإنهما يحدثانه عن المستقبل والحصول على الوظيفة المرموقة، أو الحصول على التقدير الذي يؤهله لأن يحصل على تلك الوظيفة التي تتناسب مع مقامه وطموحاته.
ومع هذه التربية التي تلقاها في بيته وأسرته، أتى إلى المدرسة وصار يسمع هذا الكلام من أستاذه للأسف، لقد كنتم تسمعون كثيراً وأنتم في السنة الثالثة الثانوية الحديث عن المعدل والتقدير الذي يؤهل للتخصص المناسب، نعم من حق الطالب أن يحرص على الحصول على معدل يؤهله لاختبار تخصص يريده، ومن حقه أن يجتهد في هذه الدراسة في هذه المرحلة بل ينبغي له ذلك، لكن حين يوجه لذلك فإنه يوجه لا لأجل أن يحصل على تخصص يمتعه بوظيفة ذات مركز اجتماعي مرموق، بل ليخدم الأمة ويسهم في نهضتها، مبتغياً بذلك وجه الله عز وجل ساعياً إلى مرضاته.
كم مرة سمعتم الحديث عن المستقبل الذي يعني المشاركة في بناء الأمة، المشاركة في التغير في المجتمعات لا أقول من آبائكم بل من أساتذتكم ومعلميكم؟
وتحدثنا عن ذاك الذي يفكر بعقلية ساذجة وسطحية، عن ذاك الذي يريد أن يتلقى فقط الأفكار والآراء دون تمحيص ومناقشة، وهذا هو الآخر لا يعدو أن يكون إفرازاً للتربية التي عاشها في بيته؛ فوالده لم يربه على استقلال التفكير، ولم يفتح له المجال للمناقشة، ولم يستمع لوجهة نظره، ووالدته كذلك، وأستاذه كذلك، لقد اعتاد أن الشخص المثالي هو الذي دائماً يهز رأسه ويقول سمعاً وطاعة، وهو الذي يستجيب لكل ما يسمع دون مناقشة وتردد، ولست أدعو هنا إلى التمرد والعصيان والفوضى، لكني أرى أن هذا الشاب الذي تربى على هذا المنهج إفراز لأزمات تربوية نعاني منها داخل الأسرة، بل داخل المؤسسات التربوية.
وهذه الأزمات هي المسؤولة عن خروج طالب الجامعة بمثل هذا التفكير، وبمثل هذه السطحية التي لا تليق بمثل هذه المرحلة.
لكن المؤمل بعد ذلك في طلابنا أن يسعوا إلى تجاوز هذه الأمراض والسلبيات، وألا يستسلموا لها باعتبار المسؤول عنها غيرهم.
وأحسب بعد ذلك كله أنكم توافقوني -وإن اختلفتم معي في بعض النتائج أو بعض الأفكار- إن الأفكار المرضية التي نعاني منها ينبغي أن نتحدث عنها بصراحة ووضوح، فإن هذه أولى خطوات العلاج، لكني أيضاً يجب أن أكون واقعيًّا ولا أحمل طالب الجامعة المسؤولية الكاملة عما هو عليه.(/6)
هذا والله اعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وسبحانك اللهم بحمدك ،أشهد أن لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك.(/7)
رسالة إلى طالب مُمتَحن
• أيها الطالب المُمتحَن ..
• يا من تستعد لدخول قاعات الاختبار ...
• يا من تعقد العزم والتصميم على تحقيق النجاح ...
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وبعد :
فما أن تقترب فترة الامتحانات حتى تُعْلَنَ حالة الطوارئ في المجتمع ، وتبدأ أيام القلق والتوتر عند الطلاب والطالبات ، والآباء والأمهات ، والمدرسين والمدرسات لأنهم ينظرون إليها باعتبارها فترةً عصيبةً تضطرب فيها الأنفس وتتوتر الأعصاب ويزداد القلق لما يترتب عليها من نجاح أو رسوب .
وهنا أوجه هذه الرسالة إلى كل طالب وطالبة يستعدان لدخول قاعات الامتحانات فأقول مستعيناً بالله وحده :
• أيها المُمتحَن ، لعلك تتفق معي أن الطلبة الفاشلون وحدهم الذين يعيشون أجواء الرعب وأيام التوتر ويخافون من شبح الامتحانات لأنهم مهملون في التحصيل منذ بداية العام الدراسي ، ومقصرون في بذل أسباب الجد والاجتهاد والتي قال فيها الشاعر :
أخي لن تنال العلم إلا بستةٍ *** سأنبيك عن تفصيلها ببيان
ذكاءٌ وحرصٌ واجتهادٌ وبلغةٌ *** وإرشادُ أستاذٍ وطول زمان
فإياك والإهمال ، واحرص – بارك اله فيك – على العناية بدروسك ومذاكرتها أولاً بأول ، والاجتهاد في ذلك مستعيناً بالله وحده ، متوكلاً عليه جل وعلا . وتَذكَّر أن من جد وجد ، ومن زرع حصد .
• إياك أن تكون من أولئك الطلاب الذين يعمدون في أيام الامتحان إلى مواصلة النهار بالليل في المذاكرة ؛ فلا ينامون ولا يرتاحون وإنما يطيلون السهر بتناول الحبوب المنشطة أو الإكثار من شرب المنبهات ونحوها في محاولة منهم لإنقاذ ما يمكن إنقاذه عن طريق مضاعفة ساعات الدراسة والمذاكرة المكثفة لمختلف المواد ناسين أو متناسين أن في ذلك التصرف من الإرهاق الذهني ، والإجهاد البدني ما لا تُحمد عقباه . لا سيما وأنه متى كان الجسم والعقل مُجْهَدين ، كان مستوى التحصيل ضعيفاً والقدرة على التركيز مفقودة .
• لا تحاول المذاكرة واسترجاع المعلومات قبيل الدخول إلى قاعة الامتحان ، فإن ذلك أسلوب خاطئ يؤدي إلى نتائج سيئة ، حيث تختلط الأمور ، وينعدم التركيز ، وتتداخل المعلومات . وعليك عدم إشغال الذهن بمثل هذه الطريقة في المذاكرة لأن من الأفضل أن تكون هادئاً صافي الذهن في فترة ما قبل الامتحان . وتأكد أن هناك الكثير من المعلومات التي ما أن تقرأ ورقة الأسئلة حتى يُمكِنُك تَذكَّرها – بإذن الله وحده - .
• إياك والوقوف عند سؤال قد يصعب عليك فهمه أو استيعابه ، وعليك أن تجاوزه إلى غيره ثم العودة إليه مرة أخرى حتى لا يكون سبباً في ضياع وقت الامتحان وتعطيل الإجابة على بقية الأسئلة .
ولا تنس أن من الحكمة للطالب أن يوزع زمن الامتحان على عدد الأسئلة ومراعاة ترك بعض الوقت للتفكير والمراجعة .
• تَذكَّر أن محاولة الغش مهما كان نوعها ليست سوى دليل على عدم الثقة بالنفس ، والخوف الدائم من الفشل لا سيما وأن الغش لون من الانحرافات السلوكية التي يحاول الطالب الغشاش من خلالها الحصول على درجات ليست من حقه بأية طريقة ممكنة . فالحذر الحذر من مجرد التفكير فيه لأن الوقت الذي ستقضيه في التخطيط له وإعداد وسائله المختلفة يكفي – بإذن الله – لدراسة المادة واستيعابها بشكل جيد تضمن معه النجاح إن شاء الله .
• احرص على كتابة الإجابات بخط واضح ومقروء ، وعليك أن تهتم بنظافة ورقة الإجابة وتنسيقها قدر الإمكان حتى لا تتداخل الإجابات مع بعضها .
كما أن عليك أن تقرأ الأسئلة جيداً حتى تتمكن من كتابة الإجابة المطلوبة دونما إطالة أو إيجازٍ مخلٍّ بالمعنى .
وعليك – أخي الطالب المُمتحَن – التأكد قبل دخول قاعة الامتحان من وجود كل ما قد تحتاج إليه في أداء الامتحان كالأقلام والأوراق وغيرها من الأدوات اللازمة .
•• وختاماً :
عليك بالتوكل على الله وحده أولاً وآخراً ، والالتجاء إليه سبحانه بكثرة الدعاء حتى يُذَكِّرَكَ ما نسيت ، ويُعَلِّمَكَ ما جهلت ، ويكتب لك التوفيق والسداد والهداية والرشاد .
والله أسأل أن يوفقنا وإياك إلى ما فيه الخير والصلاح ، والنجاح والفلاح . وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماٍ كثيراً ...
كتبها أخوكم
صالح بن علي أبو عرَّاد الشهري(/1)
رسالة إلى طالب
إرشادات للاختبار :
من المسلّمات أن النتائج مرهونة بأسبابها ، وأن للغايات وسائل توصل إليها ، وطالب العمل يتمنى نيل التقديرات العالية ، والتفوق على أقرانه .
والأمنيات وحدها لا تكفي للوصول إلى الغايات ، ما لم تقترن بالجد والمثابرة ، وسلوك السبل الموصلة إلى الأهداف المرجوة .
ونود أن نشير إلى بعض الإرشادات التي من شأنها أن تعين الطالب على الاستعداد والتحضير للاختبارات .
أولاً : المحتويات والأوقات :
يحسن عمل خطة ، وجدول زمني يتضمن توزيع المقررات العلمية على الأوقات المتاحة توزيعاً يتناسب فيه الوقت مع المحتوى العلمي من حيث الكم والكيف .
ويمكن أن يوزع المقرر الواحد على عدة أوقات تسهيلاً لمذاكرته ويختار الطالب الزمان والمكان المناسبين من حيث الهدوء والإضاءة والجو الصحي ، ويذاكر منفردًا أو مع من هو أقدر على فهم المقرر .
ثانياً : القراءة والتلخيص :
يفضل أن يقرأ المحتوى العلمي ثلاث مرات :
أ- قراءة سريعة يرّكز على العناوين الرئيسية وكذلك الجانبية والبنود الفرعية .
ب- قراءة متأنية لهضم الأفكار والموضوعات العلمية ثم تلخيصها فكرة فكرة .
ج- قراءة عميقة مع التركيز في التلخيص على الأفكار والنقاط الأساسية .
ولا بأس أن يتدرج أثناء القراءة والمذاكرة من السهل إلى الصعب ليجد في نفسه تجاوباً مع المادة العلمية فيزداد نشاطاً وتفاؤلاً .
ثالثا : الإجابة المثالية :
يفضل أن يكون الطالب هاديء النفس ، واثقاً من قدراته ولا يستجيب إلى انفعال الخوف والوهم .
فتعتريه حالة من الذهول والتوتر والاضطراب فتعكس عليه سلبيا بأنه غير قادر على الفهم .
ويجدر به أن يستعين بالله تعالى ويقرأ بعض الأوراد المسنونة ثم يقرأ الأسئلة بهدوء نفس ، ويستوعب كل سؤال قبل أن يشرع بالإجابة عليه ، ويرتب الأفكار وينظمها ، ثم يكتبها بخط واضح ومرتب ، ويحدد لكل جواب بداية ونهاية يشعر أستاذ المقرر بقدرته على الفهم والاستيعاب ، ولا بأس أن يتدرج في الإجابة على الأسئلة ، فيبدأ بالسهل ، ويوزع الوقت على الأسئلة حتى لا يطغى سؤال على سؤال ، ويجعل السؤال الذي يحتاج إلى كتابة كثيرة في القسم الأخير من الوقت .
فتوى لسماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز
س: أنا طالب في إحدى الكليات في مدينة الرياض ، وألاحظ بعض الطلبة يغشون في الامتحانات ، وخاصة بعض المواد منها مثلاً مادة اللغة الإنجليزية وعندما أناقشهم في ذلك يقولون ، إن الغش في مادة اللغة الإنجليزية ليس حراماً وقد أفتى بذلك بعض المشايخ ، أرجو إفادتي في هذا العمل وهذه الفتوى .. وجزاكم الله عنّا وعن المسلمين خيراً .
((الطالب محمد .ع . ب الرياض ))
الجواب : قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( من غش فليس منا )) رواه مسلم ، وهذا يعم الغش في المعاملات ، والغش في الامتحانات ، ويعم اللغة الإنجليزية وغيرها ، فلا يجوز للطلبة والطالبات الغش في جميع المواد لعموم هذا الحديث وما جاء في معناه ..
هذا ونتمنى لجميع الطلبة التوفيق والتفوق وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله
والله ولى التوفيق.
سماحة الشيخ / ابن باز ( الدعوة 877 )(/1)
رسالة إلى فرعون وموسى في شأن الإرهاب العالمي المعاصر
بقلم: د. مصطفى بوهندي
إلى السيدين العظيمين الذين شغلا التاريخ والناس منذ فجر المعرفة، فرعون وموسى.
اعذراني سيدي، إن اقتحمت عليكما قدسيتكما، وراسلتكما للمشاركة في معالجة ظاهرة الإرهاب في العالم المعاصر.
وليعذرني أولائك الذين لا يرون للأديان دورا في معالجة القضايا الكبرى المعاصرة، إن أنا استلهمت من القرآن والكتب المقدسة اقتراحات للمساهمة في مدارسة هذه الظاهرة.
الدفاع عن الحق لا يكون إلا بالطرق الحقة المشروعة، فلا يمكنك أن تستنكر السرقة وتسرق، ولا أن تستنكر الزنا وتزني، ولا أن تستنكر قتل الأبرياء وتقتلهم أنت بغير حق تحت أي مسمى كان
وليعذرني أولئك الذين يتكلمون باسم الدين، ولم يقرءوا في نصوصه أن يقال لفرعون قولا لينا، وأن يقال لموسى: {يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس، إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين}.
سيدي فرعون، يا صاحب العظمة والمهابة وكل الألقاب التي ترغب أن ينعتك الناس بها.
أحييك تحية تليق بمقامك السامي، وأتمنى أن تصلك رسالتي وأنت في أحسن حال أنت وأهلك وكل أفراد شعبك.
وبعد
فلقد تلقينا ببالغ الأسى والحزن نبأ مقتل أناس مسالمين أبرياء من أجناس مختلفة، ما كانوا في ساحة حرب ولا في موقع عدوان، نسأل الله لهم أن يغفر ذنبهم ويتقبلهم من الشهداء، ونخشى أن يبوء قاتلوهم بآثامهم جميعا فيكونوا من أصحاب النار.
ولقد تألمنا قبل ذلك لكل الأعمال الإرهابية التي لم تترك مكانا من العالم إلا ووصلته، بدمويتها وفواجعها ولا إنسانيتها ومختلف الشرور المنبعثة منها،
كما تألمنا لكل ردود الفعل الهمجية المتخذة بسببها في حق كثير من الناس الأبرياء كذلك، أفرادا وهيئات وشعوبا بأكملها، دون التمييز بين الصالح منها والطالح.
سيدي فرعون
إن الذي يؤلمنا أكثر من كل هذه المآسي هو استمرارها من دون أن يبرز في الأفق إشارة لتوقفها من كل الأطراف، وبيني وبينك فإن قدرتك على إيقاف مسلسلها أكبر من قدرة مخالفيك، وإني أعلم أن رغبتك في توقفها كبيرة لا يوازيها شيء، لكنني أظن أن الطرق التي اتبعت في ذلك غير مجدية، إن لم تكن تأتي بنتائج معاكسة، ولهذا أرسلت إليك رسالتي، وظني كبير أنك ستتفهمها وتعمل بما تراه صالحا منها.
كثيرا من أشياع موسى قد ارتكبوا جرائمهم عن سبق إصرار وترصد، واعتقدوا أن ما قاموا به هو نوع من الجهاد المقدس، الذي ينالون به رضوان الله وجنته ونعيمها، وربما يشفعون بذلك في سبعين من أقاربهم فلا تمسهم النار، وربما يحصلون بسبب ذلك على سبعين من الحور العين كأنهن بيض مكنون
إني معك في أن ما ارتكبه موسى ومن سار على نهجه من قتل لا يمكن أن يكون مبررا على الإطلاق، وهو جريمة بكل المقاييس، وإن كان قتل خطإ عند موسى. وإنه نفسه قد علم ذلك، واعتبره من عمل الشيطان العدو المضل المبين. وقد اعترف لربه بهذا الظلم لنفسه وطلب لها المغفرة، وتاب إلى ربه معلنا أنه لن يساهم أبدا في أي جريمة ولن يكون ظهيرا للمجرمين حين قال: {هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين، قال ربي إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم، قال رب فبما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين}.
وأقر معك أن كثيرا من أشياع موسى قد ارتكبوا جرائمهم عن سبق إصرار وترصد، واعتقدوا أن ما قاموا به هو نوع من الجهاد المقدس، الذي ينالون به رضوان الله وجنته ونعيمها، وربما يشفعون بذلك في سبعين من أقاربهم فلا تمسهم النار، وربما يحصلون بسبب ذلك على سبعين من الحور العين كأنهن بيض مكنون.
أقر معك بهذا وأكثر منه، لكني أنبهك إلى أنك تتحمل النصيب الأكبر من المسؤولية في صناعة موسى ومن معه بكل تلاوينهم. وفي دفعهم إلى أن يقذفوا أنفسهم في اليم للالتحاق بقصرك في الضفة الأخرى دون مبالاة بالغرق وبكل ما يعترضهم في الوصول إليك. إذ أصبح قصرك هو الملاذ الآمن لهم من بطش جنودك وأعوانك في الأرض.لا ملجأ لهم منك إلا إليك. فإذا آواهم آلك أو استخدمهم أقرباؤك أو أحبهم أبناؤك فقد نجوا منك، وتربوا حينها في بيتك ونالوا مما عندك من خيرات ونعم، وحصلوا على ما يحصل عليه أبناؤك من علم ومعرفة وجاه ومكانة ومقام كريم. وكل هذا يا سيدي تستطيع أن تمنه على موسى ومن معه. لكنك لو رجعت إلى أبعد من ذلك قليلا لوجدت أن لك دخلا كبيرا في كل ما حل بهؤلاء من تهميش واستضعاف وإذلال واستعباد، حين كنت تتعامل معهم ولا يهمك إلا نفسك وشيعتك، وحين جعلت أهل الأرض شيعا تستضعف طائفة منهم تذبح أبناؤهم وتستحيي نساءهم، بل في كثير من الأحيان كنت لا تفرق بين ذكورهم وإناثهم وكبارهم وصغارهم، وكنت تبيدهم جميعا، وجعلت عليهم من بني جلدتهم من يسومهم سوء العذاب ويضرب عليهم الذلة والمسكنة، وكنت بذلك سيدي تصنع عداء الناس وكراهيتهم لك ولقومك، ولذلك فمهما أحسنت إليهم من بعد، فإنهم لم ينسوا بعد أنك أسأت إليهم من قبل ومن بعد.(/1)
سيدي فرعون
لم أرد بكلامي هذا أن أحملك مسؤولية الماضي، ولا أن أزيد من عداء الناس لك وكراهيتهم، ولا أن أنبش في الجراح القديمة التي نريد أن نشفى منها بشكل نهائي. وإنما أردت فقط أن أنبه إلى أن الواقع المأساوي الذي نعيشه جميعا لم يكن من صناعة هؤلاء المجرمين وحدهم، وإنما كانت لك المشاركة الكبيرة فيه، ونود – الآن- نحن جميعا أن نتعاون على تركه. فمهما يكن فنحن بشر لنا أخطاؤنا ولنا قدرتنا على تجاوز هذه الأخطاء وإصلاحها، ولنا قدرة على أن يغفر بعضنا لبعض ويصفح بعضنا عن بعض، ونتجاوز كثيرا من شرورنا، ونتعاون لتحقيق مصيرنا المشترك بعيدا عن نزغ الشيطان وغرور الإنسان.
سيدي فرعون
لن يكون القاتل في غير ميادين الوغى إلا أحد المجرمين، ولن يكون الذي استباح دماء غير المحاربين إلا واحدا من الجبارين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون. {ومن قتل نفسا بغير أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيي الناس جميعا}
إن لي أملا كبيرا في أن تصلك رسالتي بعد هذه القرون كلها فتتذكر وتخشى، وأهديك إلى ربك فترضى. فإني لم أيأس وأنا أكتب إليك من أن يكون لك قلب كما لكل الناس قلوب، وأن يكون عامرا بالمحبة كما هي قلوب الأسوياء، ولا أعتقد أن الذين انتخبوك قد كانوا كلهم مخدوعين فيك. ولولا ظنهم الحسن في مؤهلاتك العلمية والعقلية والخلقية لما أعطوك أصواتهم. وإني لأعلم سيدي فرعون أن هناك ظروفا موضوعية وذاتية تفرض نفسها عليك، فالتاريخ والثقافة والاجتماع والسياسة والاقتصاد وكل الجوانب النفسية المرتبطة بهذه الأشياء جميعا، تجعل انتقالك إلى تقمص أحوال مخالفيك وأعدائك وتقدير مواقفهم والتماس الأعذار لهم، بعيدا عن فكرة الثأر والرد العنيف والمعاقبة بالمثل أمورا بالغة الصعوبة، ولن ينفع حينها قول المسيح: "أحب أعداءك" ولا قول القرآن: {ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم، وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم}، ولا كل أقوال العقلاء والحكماء الداعية إلى الحلم والحكمة في مواجهة الطيش والعدوان. لكنني يا سيدي فرعون أراسلك رغم كل هذه الموانع التي منعت الكثيرين من مراسلتك، بعد أن يئسوا منك، لكنني لم أيأس، وكتبت إليك وأنا أخاطب فيك فرعون العظيم العادل الحكيم، الذي يقدم مصلحة البشرية جميعا على مصلحة فئة صغيرة منها،بعد أن أثبتت تلك السياسة فشلها، وتأكد أنها سبب إيقاد نار الإجرام. فرعون الذي له قيم إنسانية يدعو إليها ويبشر بها بعد أن أقامها على نفسه أولا، وعلى رأسها العدل والحرية وحقوق الإنسان والمحبة والتسامح والغفران. وأظنها كافية لرأب الصدع وإعادة الثقة وإخماد نار العداوة والبغضاء وإصلاح ذات البين بين الناس ودفع نزغ الشيطان.
سيدي فرعون
اسمح إلى أن أنتقل بخطابي إلى غريمك موسى الذي ربيته في بيتك وليدا ولبث فيه من عمره سنين وفعل فعلته التي فعل وهو من الضالين.
سيدي موسى: يا أمل المستضعفين والمقهورين والمظلومين
أحييك بأطيب التحيات الزكيات التي تليق بمقامك العالي بالله.
أعذرني سيدي إن أنا سمحت لنفسي باستدعائك للمشاركة في مدارسة مشكلة الإرهاب العالمية، واعلم يا سيدي أنك لن ترضى عن المآل الذي آلت إليه الأمور في هذا المجال وإن كانت باسم الله والدين وتحرير الإنسان.
سيدي موسى: لقد قتلت نفسا بغير حق، واعتبرت فعلك هذا من عمل الشيطان، وتبت منه وقررت أن لا تكون ظهيرا لأي من المجرمين الذين يقتلون النفس التي حرم الله بغير حق. واكتشفت يا سيدي أن ما قمت به قد ورطك فيه أحد شيعتك حتى قلت له: {إنك لغوي مبين}. لكنك يا سيدي لم تستطع أن تبقى على توبتك، وتلتزم بالعهود التي أخذتها على نفسك من عدم الرجوع إلى فعلتك ومظاهرة المجرمين من شيعتك. إذ بمجرد أن رأيت واحدا من أعدائك الذي استصرخك عليه من علمت أنه غاويك، حتى كدت تبطش به لولا أنه أرجعك هو إلى وعيك عندما قال لك: {يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس، إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين}.
سيدي موسى: ليس أقوى من هذا الخطاب في ردك عن غيك وكل الذين ساروا على نهجك، فالقتل لا يمكن أن يكون سبيل المصلحين. ولن يكون القاتل في غير ميادين الوغى إلا أحد المجرمين، ولن يكون الذي استباح دماء غير المحاربين إلا واحدا من الجبارين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون. {ومن قتل نفسا بغير أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيي الناس جميعا}.
إني لأعلم أنك صاحب قضية عادلة، إذ عانت شيعتك من كثير من التمييز العنصري والاستضعاف وسوء العذاب والإذلال والإهانة والتفقير والتجويع والقتل والتشريد وكل الأعمال غير الإنسانية لفترات طويلة. لكن كل ذلك لا يمكن أن يبرر قتل نفس واحدة بريئة بغير الحق(/2)
سيدي موسى: كدت أن ترتكب جريمة أخرى، وهو ما يعني أنك خرجت عن طورك بمجرد ارتكابك للجريمة الأولى رغم كل العهود التي أخذتها على نفسك. وإني لأعلم أنك صاحب قضية عادلة، إذ عانت شيعتك من كثير من التمييز العنصري والاستضعاف وسوء العذاب والإذلال والإهانة والتفقير والتجويع والقتل والتشريد وكل الأعمال غير الإنسانية لفترات طويلة. لكن كل ذلك لا يمكن أن يبرر قتل نفس واحدة بريئة بغير الحق. ومن يفعل ذلك فكأنه يزكي كل الإجرام الذي طرأ في حق الناس جميعا بما فيهم شيعته. كدت أن ترتكب الجريمة الأخرى لأنك ارتكبت جريمتك الأولى، فكسرت بذلك حاجز حرمة الأنفس، فلن يوقفك بعدها شيء، لأنك تحولت من طورك الإنساني إلى طور وحشي لا تحكمه قيم. وإذا قتلت النفس الأخرى صرت جبارا متوحشا متعطشا للدماء، لا يروي عطشه إلا بشربها، ولن يكون في هذه الحالة إلا خطرا محدقا بالبشرية بما فيها أقرب الناس إليه. و لا يمكن أن يكون بذلك صاحب مبدإ أوقضية أو رسالة أبدا. بله أن يكون محررا للناس.
سيدي موسى: اسمح لي إن أنا حشرتك ضمن المقتدين بك في سلوك أنت تعترف أنه من عمل الشيطان. لكنني أردت أن أقيم بك الحجة عليهم، فلا يجعلوا منك قائدا عليهم في سلوك إجرامي أنت تتبرأ منه. لقد هربت بسببه،لكن الله هيأ لك ظروفا أعاد فيها تربيتك ليعدك على عينه للدعوة والرسالة التي تحتاج إلى كثير من الحكمة والرحمة، فصرت راعي غنم في ما يقارب العقد من الزمن، حتى يلطف من أوصافك العنيفة التي تبلورت في قصر فرعون. غير أن كل ذلك قد ولى ونشأت أجيال جديدة، ربيت هي الأخرى في قصر فرعون، وتعلمت فيه كل أشكال العنف التي تعلمتها وأكثر، لكنها اعتبرت – بخلافك – عملها مشروعا، واعتبرتك قائدا لها في هذا العمل. وكونت على أساس ذلك جماعاتها الإرهابية المكلفة بالتصفية الجسدية للأفراد والجماعات، في الأماكن الخاصة والعامة، للجانين والأبرياء سواء بسواء. واعتبرت كل ذلك جهادا في سبيل الله وعملا من أعمال دينه. وفاتها أن هذا الطريق هو طريق الجبابرة الطغاة والفراعنة البغاة، وأن أصحابه لا يمكنهم أن يحملوا رسالة للناس ولا أن يكونوا مصلحين فيهم. وأحسب أن الشيطان قد زين لهم أعمالهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
واسمح لي يا سيدي إن خاطبتهم من خلالك، فإني أعلم صدق كثير منهم، وأعلم عدالة قضيتهم، وأقر لهم بحقهم في الدفاع عن حقوقهم. لكن قتل الأبرياء ما كان أبدا في يوم دفاعا عن حق، وإنما هو جريمة توازي بينه وبين ظالمه فيصير كلاهما مجرما جبارا في الأرض، محققا لمراد الشيطان في نشر العداوة والبغضاء والحقد والكراهية بين بني البشر، مغلقا كل أبواب الرجوع الممكنة إلى الحكمة والحق والإحسان.
يا سيدي: الدفاع عن الحق لا يكون إلا بالطرق الحقة المشروعة، فلا يمكنك أن تستنكر السرقة وتسرق، ولا أن تستنكر الزنا وتزني، ولا أن تستنكر قتل الأبرياء وتقتلهم أنت بغير حق تحت أي مسمى كان.
اسمح لي يا سيدي إن خاطبتهم من خلالك، فإني أعلم صدق كثير منهم، وأعلم عدالة قضيتهم، وأقر لهم بحقهم في الدفاع عن حقوقهم. لكن قتل الأبرياء ما كان أبدا في يوم دفاعا عن حق، وإنما هو جريمة توازي بينه وبين ظالمه فيصير كلاهما مجرما جبارا في الأرض، محققا لمراد الشيطان في نشر العداوة والبغضاء والحقد والكراهية بين بني البشر، مغلقا كل أبواب الرجوع الممكنة إلى الحكمة والحق والإحسان
يا سيدي: سمعنا البعض منهم يستبيح دماء جميع الناس، معتبرا نفسه في ساحة وغى، يتلذذ بسماع انفجار هنا، وأشلاء هناك، ويعتد بمقتل أطفال في مدرسة ونساء في سوق مزدحمة، ومسافرين في محطة مترو، معتبرا كل ذلك نصرا للإسلام وقضيته، وتحقيقا للعدل في الأرض ضد فرعون ومن معه.. ولست أعلم يا سيدي أكبر من هذا الهوس الإجرامي إلا أن ينسب إلى الله سبحانه وتعالى وإلى دينه.
سيدي موسى: وددت لو سمعت كلامي أنت وكل الذين ساروا على نهجك قبل توبتك، ووددت أكثر لو أنهم أعطوا لأنفسهم حق إعادة النظر في السبيل الذي يسلكونه والمآل الذي يصيرون إليه، والزاوية التي يحشرون الإسلام فيها في نظر العالمين. وأعتقد أن كثيرا منهم ما قرءوا نصوص القرآن إلا مفصولة عن سياقاتها، وأرجو أن يعيدوا قراءتها في هذه السياقات، ليعلموا أن الجهاد المسلح لا يمكن أن يكون إلا في ساحة الحرب ولرد العدوان. ولا يجوز نقله بحال إلى مواطن الأبرياء الآمنين غير المقاتلين {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم والله يحب المقسطين}، فكيف إذا كان هؤلاء قد آووكم وأكرموا مثواكم عندما أخرجكم أهلوكم من دياركم، وجئتم من أوطانكم إليهم مهاجرين وهاربين مترقبين. منكم من يبحث عن الطعام ومنكم من يبحث عن السلام، فأطعموكم من جوع وآمنوكم من خوف.فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟(/3)
سيدي موسى: وددت من أتباعك وأنا أعلم صدق كثير منهم، أن يتخذوا من رجل السلام الأول، ابن آدم الأول، قدوتهم في مواجهة العنف الحاصل ضد أشياعهم، ولا يردوا على الإجرام بمثله إن كانوا يخافون الله رب العالمين. إذ قال وهو يرد على أخيه الذي أراد قتله بغير حق: {لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك. إني أخاف الله رب العالمين، إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين}. وإني أعلم أن الجو الثقافي الذي نشأ فيه أتباعك لا يسمح لكثير منهم بتفهم المعاني الإنسانية العظيمة الواردة في هذه النصوص. لأن أكثر ما يتلقونه في مجالسهم هو رسائل التحريض على الإثم والعدوان والثأر والكراهية والانتقام، وليس تلك الرسائل التي تفيض بالحب والخير والعفو والصفح والغفران، حتى قال قائلهم: "لقد نسخت آية السيف والقتال كل آيات الصفح والرحمة والغفران". ورغم ذلك فإنني أصر على التوجه إليهم بهذه الرسالة، بعد أن يئس كثير من الناس من استجابتهم. مذكرا إياهم بقوله تعالى: {ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم، وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم، وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم}. فهذا مقام آخر لا يلقاه إلا الذين صبروا ولا يلقاه إلا ذو الحظ العظيم، مقام الجهاد بالخير والحب والحسنى، بالمال والنفس من أجل الرحمة في الأرض، وهو مقام إحياء الأنفس بدل إزهاقها، وبذل كل العمر في ما ينفع الناس من علم نافع وعمل صالح وقول معروف ونهي عن الفحشاء والمنكر، وغيرها مما لا يدركه إلا الذين صبروا عليه وفق سنن الله في أرضه. وحتى لا أطيل أكثر فأنتم يا أتباع نهج موسى مدعوون لإعادة قراءة كتاب الله بعيدا عن سلطة العصبية والقبيلة والثأر والانتقام، وفي إطار قوله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}.
وفي الختام
سيدي فرعون وموسى: ألا يمكننا أن نعيش جميعا في هذه الأرض، بعيدا عن سياسة التمييز العنصري التي صنعتها يا فرعون، وبعيدا عن فلسفة الإرهاب التي تتبعها يا موسى؟ وإنكما قادران على تغيير نهجكما، والبشرية تنتظر قراركما لتعيش بسلام
وتقبلوا سيدي فائق تقديري واحترامي، والسلام عليكما
البيضاء 20/07/2005.(/4)
رسالة إلى قلبي ...
أيها القلب..
بل قد أقول: أيها العدو؛ مالك قد تبدَلت حالك، وانقلبتْ موازينك، أصبحت ترى الأشياء على غير العادة، وكأن الله قد ختم عليك، فلم تعُد تفرق بين الحق والباطل ، ولا الخير والشر، ولا الهدى والضلال، تساوت عندك الأشياء: جيدها ورديئها .. حسنها وقبيحها.. أبيضها و أسودها..
أيها القلب....
حياتي أصبحت مرهونة بك، وأعمالي متوقفة عليك، فإن صلحت ؛ صلحت حياتي..وحسنت أعمالي؛ وكنت – في هذه الحين- سببا في نجاتي ونجاتك... ولكن... وآه منك أيها ؟؟ إذا فسدت ؛ فإن حياتي سوف تتحول إلى جحيم؛ و سوف تشتعل النيران حتى تمزق نياطك..وهنا.. أيها القلب المسكين‘ تكون سببا في هلاكي وهلاكك.. لا.. لا..لا.. لا..
أيها القلب...
بل أيها العدو، ما أصبحت أشعر بالأمان وأنت معي، حولت حياتي إلى خوف، إلى ألم، إلى صراخ، إلى ندم...
لو تمكنت منك – ولو مرة واحدة – لأخرجتك من بين ضلوعي، ومزقتك حتى تصبح أشلاء، لا.. لا .. لا .. لن أمزقك.. لن أضيعك، بل سأخرجك وأطهرك ، وأعيدك إلى موضعك طاهراً مطهراً نقيًا، لا تعرف الشرَ، ولا تعرف الحزن ، كيف أصبحت بهذه القسوة، وهذا العنف ، ظامت كل من حولك ، وأول من ظلمتهم هو أنت، والظالم الذي لا ينكسر ولا ينطوي ، يسير في الفلاة بلا زاد، ولا زوَاد ، راحاته أوشكت أن تنهار، لقد أتعبت الراحلة، لقد قضيت على نفسك.
بل قضيت على كل شيء جميل ، حولته إلى صورة قوامها فَقْد الإحساس ، وألوانها الحسرة و الألم، وريشتها الذنوب والمعاصي.
والآن قد جاء وقد الحساب... وقت العقاب، وقت المحاورة، وَسَمْتَ نفسك بالشجاعة، وأنت أجبن ما رأيت، ما تستطيع أن تُقدِم على عمل الخير والبِر، تقدم على كل ما هو شر و بلاء، وَسَمْتَ نفسك بالنبض والحياة، وحياتك أصبحت معطلة لا حراك فيها، توقفت عن العبادة، قطعت صلتك بالله: قطعت صلتك بالخالق عز و جل، وَسَمْتَ نفسك بالجمال ، وأنت أقبح ما يكون بخصالك وأفعالك، تقول غير الذي تفعل ، وتفعل غير الذي تقول، وتبدي خلاف ما تظهر، وتظهر خلاف ما تبدي، والخارج يناقض الداخل، والداخل يناقض الخارج، وَسَمْتَ نفسك بالصبر، وأنت أجزع ما رأيت، ما استطعت أن تصبر على البلاء، وجزعت على خالقك، وتمردت عليه، بعدت عن قرآنه، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، أصبح منهجك في هذه الحياة هو اللا منهج، تسير في الطرقات عبثا وكأنك ملكت الدنيا و ما فيها، تمشي مختالا فرحا مغرورا ونسيت قول الله عز وجل: (وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً) سورة الإسراء..
تتجبر ، تبطش، تهدم ، تدمر وكأن الله قد كتب لك هذه الحياة تعيش فيها خالدا مخلدا: كل أعمالك محصورة، وكل أنفاسك معدودة: عمرك له بداية أنت تعرفها – أو أظنك عرفتها، وله نهاية ما أظنك – ولا أظن أحدا- يعرفها.
النهاية ...
نعم النهاية ، حياة موت ، عقاب وثواب ، عزة وإهانة، وجنة و نار.
لماذا تختار العقاب والإهانة والنار؟
لماذا فرطت في كل قيمك ومبادئك التي كانت قائمة على الكتاب والسنة، وأصبحت متمسكا بمبادئ وقيم مجهولة المصدر و الهوية، قيمتها في استيرادها، لباسك مستوردٌ،.... ما الذي تنتظر ايها القلب؟ هل بقي لديك شيء تتمسك به؟ لماذا تخليت عن دينك و تعاليمك وهويتك و مبادئك؟
أنا أخاف عليك ؛
لأنك قلبي، قطعة مني ، لا أفارقها و لا تفارقني.
أيها القلب الحبيب تذكر قول الرسول صلى الله عليه و سلم: ((إن في الجسد لمضغة إن صلحت صلح الجسد كله، وإن فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)).
أأدركت قيمتك، وما يترتب عليك من صلاح و فساد، بصلاحك يصلح الجسد كله، و بفسادك يفسد الجسد كله، يالك من عضو مهم، عضو تتوقف عليه كل الأعضاء، تعمل بأمره ، وتنتهي بنهيه.
(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ)
سورة الحديد /16
هذه الآية سمعها أحد الصالحين – عليه رحمة الله – وكان قد نوى أن يزني بامرأة، ولما جن عليه الليل، وذهب إليها، كانت قد تهيأت لملاقاته، وعندما خرج في موعده إذا بقارئ يقرأ قوله تعالى : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ)
فقال: بلى. يا رب آنت. واتخذ موقفا إيجابيا كان سببا في تغير حياته تغيرا جذرياً، لم يتردد، ولم يسوف، لم ينتظر الغد حتى يأخذ القرار، القرار جاء في لحظة: بلى. يا رب آنت، هذا هو القلب المؤمن يعود سريعا إلى الله حتى ولو أذنب ، حتى ولو سرق: حتى ولو زنى، المهم أن يعود إلى الله يعود إلى ربه، يعود إلى خالقه، يعود إلى بارئه، وفرحة الله بالعبد الآيب التائب النادم، فرحة كبيرة، وهي أشد من فرحة الحصول على الحياة.(/1)
جاء في الأثر أن رجلا فقد راحلته في الصحراء، وعليها زاده و شرابه، كاذا يصنع هذا الرجل، ضاع كل شيء، ضاعت الحياة، ماذا ينتظر؟ إنه لا ينتظر شيئا سوى الموت. نعم الموت، وما ظنك – أيها القلب- بإنسان ينتظر الموت، يتحول نعيم الحياة إلى بؤس، تتحول أيامه و سنواته التي كان ينتظره، يتحول غده الذي كان يرسم فيه آماله وطموحاته، كل ذلك يتحول إلى لحظات وثوان، لحظات ينتظر فيها الإنسان النهاية، موته في الفلاة الواسعة ، لن يعلم به أحد، سباع مفترسة ، ووحوش ضارية جميعها فرح بذلك الصيد الجديد، الكل يستعد لهذه الفريسة، إنها ستمزقه إلى أشلاء. لا، ليس هناك أشلاء ستبقى، سيصير بعد لحظات وكأنه ما كان على هذه الدنيا، وقد ذهب هذا الرجل الميت ينتظر الموت كي يقضي على البقية الباقية التي تبقت في نبضاته اليائسة، وفي أنفاسه المكلومة، ما هي إلا لحظة ويظهر الفرج، إنها راحلتي ، إنه متاعي ، إنه زادي ، إنها حياتي... نعم إن الحياة عادت لي، أشعر بها، نبضات قلبي تتزايد وتضطرب ، اللهم لك الشكر ؛ لأنك أعدت لي الحياة مرة أخرى ((اللهم أنت عبدي وأنا عبدك)) أخطأ من شدة الفرح، أراد أن يقول ((اللهم أنت ربي و أنا عبدك))
كلمات شكر بهذا الفرح وهذا العثور على الحياة مرة أخرى, انظر أيها القلب إلى هذه الفرحة الغامرة التي ملأت قلب هذا الرجل، هل تتفق معي أن هذه فرحة كبيرة ما كان ليحصل عليها لولا أن تغمده الله برحمته؟ ففرحة الله بعبده التائب الآيب أشد فرحا من هذا الرجل.
أيها القلب: اجعل خفقاتك تسبيحا و نبضاتك تكبيرا واستغفارا، حول وجهتك إلى مولاك، وبارئك، وابتعد عن وجهه الشيطان، إنه لا يريد بك إلا شرا، وحزنا، وألما, وغما, وكمدا, وهما, وحسرة، وندامة، إن له هدفا يسعى جاهدا لتحقيقه ، إن الشيطان قد أقسم بعزة الله ليغوينك ( قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ 82 ) سورة ص.
انظر إلى هذه الحرب التي أعلنها عليك عدوك صريحة ، حرب لا تحتمل التفكير ولا المراجعة.
أيها القلب الصديق الحبيب.. ما زال الطريق أمامك، وما زال فيك نبض حياة، ومازال بك شعور و إحساس، فاستغفر ربك من الحياة السابقة، واستعد لعمل الخيرات في حياتك القادمة، وتذكر مغفرة الله ورحمته،وإحسانه و فضله، وعفوه، وكرمه، وجوده وعطائه، وسخائه: وبادر إلى الأعمال الطيبة، ولا تنس قول الرسول الكريم ((كل ابن آدم خطَاء، وخير الخطائين التوابين)) .
جعلك الله من القلوب التي تلين وتخشع في ذكر الله، وتعود إلى الحق، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
من كتاب "رسالة إلى قلبي"
نقله لكم أم أحمد
تصفح قسم :(/2)
رسالة إلى معاكس قبل فوات الأوان
أخي الحبيب ...
أرجو أن تقرأ هذه الرسالة بنفس الهدوء الذي كتبت به بعيدا عن التشنج و الانفعال أو اتخاذ موقف سلبي قبل أن تستكمل قراءتها ، أخي قد يقوم البعض منا بأعمال يكون دافعه لها الشهوة المجردة دون التفكير المتعقل لعواقبها ، ومن ذلك ما يقوم به المعاكس ، لذا نقول له : دعنا نقف معك قليلا ونلقي الضوء على ما تقوم به :
1 ـ إن الفتاة التي تعاكسها هي من أفراد مجتمعك ، ويعني ذلك أنك تساهم في إفساده إرضاءً لشهوتك ، وكان من المفترض أن تساهم في إصلاحه ، فهل ترضى لمجتمعك وفتياته الفساد ؟!
2 ـ إن الفتاة التي تعاكسها وتود أن تفعل بها الفاحشة ، أو أنك قد فعلت : إنما هي في المستقبل إن لم تكن زوجة لك فهي زوجة لقريبك وكذلك الفتاة التي عاكسها غيرك وساهم في إفسادها قد يبتليك الله بها عقوبة لك في الدنيا قال الله تعالى : ( الخبيثات للخبيثين ) [ النور : 26] .
3 ـ إن فساد النساء يعني فساد المجتمع ، وقد يبدأ من عندك أو مما تساهم في تنشيطه ، وينتهي في المستقبل مع قريباتك لأنهن جزء لا يتجزأ من مجتمعك ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء ) [ رواه مسلم ] .
4 ـ إن كانت الفتاة ترضى أن ترتبط معك في علاقة غير مشروعة ، فما ذنب أهلها بتدنيسك لعرضهم ؟
ثم هل طواعيتها لك عذر مقبول لاعتدائك ؟! بمعنى آخر لو أن أحدا من الناس بنى علاقة غير مشروعة مع أحد قريباتك ثم اكتشفت ذلك ، فهل يكفيك عذرا أن يقول لك من هتك عرضك : هي التي دعتني لذلك لتغفر له خطيئته ؟ ولا تنس حديث الشاب الذي جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال له : ائذن لي في الزنا فقال عليه الصلاة والسلام : أتحبه لأمك لابنتك لزوجتك لعمتك لخالتك وكان يقول : لا والله يا رسول الله جعلني الله فداك فقال عليه الصلاة والسلام : ولا الناس يحبونه لبناتهم وأخواتهم وعماتهم وخالاتهم أو كما قال صلى الله عليه وسلم ) [ رواه أحمد عن أبي أمامة ] .
5 ـ لو خيرت بين الموت أو أن يهتك عرضك ماذا تختار ؟ إذاً كيف ترضى لنفسك الوقوع في محارم
الناس ؟! قال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( من قتل دون أهله فهو شهيد ) [ رواه أحمد وأبو داود والنسائي وهو صحيح ] .
6 ـ ما هو الشعور الذي ينتابك وأنت تعيش في مجتمع خنته وهتكت محارمه ؟
7 ـ هل يكفيك من الفاحشة أن تقوم بها مرة ـ مرتين ـ ثلاث أم أن الشيطان يريد لك الهلاك ؟
قال تعالى : ( إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير ) [ فاطر : 6 ] .
8 ـ سمعت عن القول المأثور ( الجزاء من جنس العمل ) فهل أنت مستعد أن تبتلى في عرضك الآن أو حتى بعد حين مقابل التنفيس عن شهواتك ؟ قد تقول : أتوب قبل أن يأتيني زوجة وبنت ! فأسألك : هل تضمن أن الله يقبل توبتك ولا يبتليك ؟!
قال تعالى : ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) [ الشورى : 40] .
قال الشافعي رحمه الله :
عفوا تعف نساؤكم في المحرم *** وتجنبوا ما لا يليق بمسلم
إن الزنى دين فإن أقرضته *** كان الوفاء بأهل بيتك فاعلم
9 ـ إذا صنف الناس إلى مصلحين ومفسدين فأين تصنف نفسك ؟
قال تعالى : ( ولا تفسدوا الأرض بعد إصلاحها ..) [ الأعراف : 56] .
10 ـ ما هو شعورك وأنت تفعل الفاحشة بزانية ؟ يدخل عليك والديك ، وإخوانك من الذكور و الإناث ، وكل صديق يثق بك ويحبك ، وكل عدو يود أن يشمت بك ، ثم الناس كلهم ، ويرونك على هذه الحال ؟ بل ما هو موقفك وأنت بعيد عن أعينهم مستأمن لكن عين الله تراك ؟ وهل تذكرت وقوفك بين يدي الله في أرض المحشر عندما ينصب لكل غادر لواء فيقال : هذه غدرة فلان كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري و مسلم .
11 ـ إن كنت ذكيا وحاذقا واستطعت بذكائك التلاعب بأعراض المسلمين دون أن يكتشف أمرك فما هو موقفك من قول الله تعالى : ( ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار ) [ إبراهيم : 42] .
12 ـ هل تظن أن ستر الله عليك في هذا العمل كرامة ؟ قد يكون خلاف ذلك ، بأن يكون استدراجاً لك لتموت على هذا العمل وتلاقي الله به ( إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ) [ رواه البخاري ومسلم ] ، ( ومن مات على شيء بعثه الله عليه ) [ السلسلة الصحيحة 1/ 283] .
13 ـ ثم لنفترض أن الله ستر عليك كرامة ، أفلا تستحي منه وتتوب ؟!
14 ـ نهاية طريق حياتك الموت ( ثم توفى كل نفس ما كسبت ) [ البقرة : 281 ] ، فهل تستطيع أن تشذ عن الخلق وتغير هذا الطريق ؟! إذاً لماذا لا تستعد للموت وما بعده ؟؟(/1)
15 ـ روى البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إنه أتاني الليلة آتيان وإنهما قالا لي انطلق ـ وذكر الحديث حتى قال : فأتينا على مثل التنور فإذا فيه لغط وأصوات فاطلعنا فيه فإذا فيه رجال ونساء عراة وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم ، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا ) فلما سأل عنهم الملائكة قالوا : ( وأما الرجال والنساء العراة الذين هم في مثل بناء التنور فإنهم الزناة والزواني ) .
فهل تود أيها الشاب أن تكون منهم ؟!
16 ـ قد تقول لا أستطيع الزواج لغلاء المهور ، فهل الحل الوقوع في الحرام ؟! ثم إن سلوكك طريق الحرام تواجهك فيه مصاعب فتتغلب عليها مأزور غير مأجور فلماذا لا تسعى في طريق الحلال وتواجه فيه الصعوبات وأنت مأجور ؟ قال صلى الله عليه وسلم : ( ثلاث حق على الله عونهم ـ ذكر منهم ـ الناكح يريد العفاف ) [ أخرجه الترمذي والنسائي وحسنه الألباني ] .
17- هذه مقارنة بسيطة وسريعة بين معاشرة الزوجات ومعاشرة الزانيات :
معاشرة الزانيات ............ معاشرة الزوجات
الخبيثات للخبيثين ............ الطيبات للطيبين
علاقة في الخفاء لأنها مستقبحة..... علاقة مشروعة ومعلنة
تخشى من حمل الزنا .............. ترجو من معاشرتهن الأولاد
تؤزر على الزنا بهن ............. تؤجر على معاشرتهن
الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو ..... إلا المتقين
فماذا تختار؟
18- إن ممارسة الشيء والاستمرار عليه مدعاة لحبه والدعوة إليه ، فيخشى على من داوم فعل هذه الفاحشة أن يستسيغها حتى في أهله بعد حين ، فيصبح ديوثا والعياذ بالله من ذلك .
19- قد تكون المرأة التي بدأت معها علاقة غير مشروعة عن طريق الهاتف متزوجة وفي لحظة ضعف أو غياب وعي استرسلت معك في الحديث ثم قمت بالتسجيل كالعادة ثم بدأت بتهديدها .. الخ ، هل تعلم أنك بهذا العمل قد ارتكبت جريمة شنعاء ؟!! ليس في حق المرأة فقط بل وفي حق زوجها الذي أفسدت عليه زوجته والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : ( ليس منا من خبب ـ أفسد ـ امرأة على زوجها ) [ رواه أبو داود و صححه الأرناؤوط ] ، ثم في حق أطفالها إن كان لديها أطفال فما ذنبهم أن يدنس عرضهم ويفرق بين أبويهم وقد يكون ذلك أيضا سببا في ضياعهم وانحرافهم . والمسؤول عن ذلك كله هو أنت فما هو عذرك أمام الله ؟
20- المخلص لك من هذا الداء بعد الله تعالى هو الزواج والصحبة المصلحة ، و البعد عن الصحبة السيئة من الجنسين .
21- وختاما ... نتمنى أن لا تكون ممن قال الله فيهم : ( وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد ) [ البقرة : 206 ] ولكن عد إلى الله واعلم أن التوبة تَجُب ما قبلها ، قال تعالى : ( فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم ) [ المائدة : 39]
وقال تعالى : ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم * وأنيبوا إلى الله وأسلموا له .. ) [ الزمر : 53، 54](/2)
رسالة إلى من تنتظر فارس الأحلام
عبدالحكيم بن علي السويد
دار الوطن
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
قال رسول الله : { تنكح المرأة لأربع: لدينها، وجمالها، ومالها، وحسبها. فاظفر بذات الدين تربت يداك } فركز النبي على ذات الدين؛ لأهميته. والحياء من الدين.
وقال رسول الله مخاطباً الشباب: { يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج }، وهذا فيه حث للشباب على المبادرة إلى الزواج؛ لأنه هو الطريقة الشرعية التي يمكن من خلالها إلتقاء الجنسين وما يترتب على ذلك من سكن ومحبة ومودة. قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21]. وكذلك في الزواج تكثير للنسل وبقاؤه وأيضاً مباهاة النبي للأمم يوم القيامة، فقد قال : { تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة }، وفي رواية: { فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة }.
فأي فتاة تريد ذلك الشاب الذي تعيش في كفنه ويحقق أحلامها ويكون ذلك الرجل العاقل صاحب الدين والخلق الذي يحس بهمومها ويتألم بآلامها ويسعى إلى إسعادها، ويخشى الله فيها.
اعلمي يا أخية أن الشاب عندما يريد أن يحقق هذا المطلب الضروري، لابد له من الطرف الآخر وهي شريكة حياته ورفيقة دربه المتمسكة بدينها المعتزة به، الرفيع خلقها، تلك الزوجة الودودة الآن، والأم الحنونة مستقبلاً صاحبة الإحساس المرهف والعواطف الجياشة التي يحيطها الحياء من كل جانب حتى أنها متى فارقها ذلك الحياء اعتبرت الحياة مفارقة لها من شدة تمسكها به، فالحياء أمره عظيم، وهو محمود كذلك عند الرجال، فهذا أشرف الخلق نبينا محمد أشد حياء من العذراء في خدرها، وكذلك الصديق كان يضع رداءه على نفسه إذا ذهب للخلاء لقضاء الحاجة حياء من الله، ولهذا جميع الرجال على اختلاف ميولهم واتجاهاتهم يبحثون عن ذات الحياء عند بدء التفكير في الزواج، وكلما ازداد الحياء عند المرأة كلما زادت الرغبة في الارتباط بها لمن فكر في الزواج، ويزداد تمسكه بها بعد الزواج، فهو من أقوى العوامل التي تجعل الرجل يبحث عنك ويطرق بابك ويتمنى أن تكوني شريكة حياته ورفيقة دربه، وقد يظن كثير من النساء أن الحياء قبل الزواج فقط وهذا خطأ كبير، فالحياء بعد الزواج مطلوب كذلك، فهو بإذن الله يجعل نهر المحبة بين الزوجين دائم الجريان، وحبل المودة دائم الاتصال، ومزرعة الحب يانعة الثمار، فالحياء بالنسبة للمرأة كالرائحة الزكية بالنسبة للوردة، كالماء للسمكة متى خرجة منه هلكت.
ولذلك يجب أن تحرص كل فتاة منذ نعومة أظفارها على هذه الصفة الرائعة الجميلة، وأن تعرض ما يصدر منها سواء كان فعلاً أو كلمة على ميزان الحياء فإن كانت موافقة فالحمد لله، وإن كانت مخالفة فتتركها بلا ندم وتبحث عن الصحيح الموافق للشرع، وقد قال رسول الله : { لا يأمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به } حديث حسن صحيح.
فكم فتاة جميلة قامت بعمل تراه حسناً في نفسه، جلب لها الحسرة والندامة، فكان الأزواج يتركون التقدم إليها، أو يتراجعون عن خطبتها إذا علموا بأعمالها وبحثوا عن أخرى ذات حياء ودين.
فكم فتاة جمعت من الصفات الحسنة التي يرغبها الشباب الشيء الكثير، ولكن عندما يعلم هذا الشاب الراغب للزواج عن بعض التصرفات الغير مدروسة، من قبل الفتاة، وقد قامت بها من قبل، فينصرف عنها بغيرها وهو يتمثل قول الشاعر:
وتجتنب الأسود ورود الماء *** إذا كان الكلاب يلغن فيه
وكم من فتاة اجتمعت فيها من الصفات الحسنة التي يرغب بها الشاب المقدم على الزواج الشيء الكثير، ولكن عندما يعلم أن خلق الحياء ضعيف عند هذه الفتاة، يتراجع عن نيته بالزواج منها وهو يتمثل قول الشاعر:
فلا والله ما في العيش خير *** ولا الدنيا إذا ذهب الحياء(/1)
أخيتي لا يخفى عليك كثرة الفتن في هذا الزمان، وأكثرها موجه ضدك أنت، نعم أنت لأنك ستكونين أماً عن قريب إن شاء الله لعدد من البنين والبنات، فإن ضعفت حتماً سيكون أبناؤك ضعفاء وبالتالى يكون المجتمع ضعيفاً هشاً أعلى اهتماماته شهواته، من مأكل ومشرب وملبس، فاعلمي أخيتي أنك من أقوى الوسائل التي يريد الأعداء التمكن منها، وذلك بأن يستغلوا الفتاة المسلمة بإنشغالها بنفسها، وجعل أكبر اهتماماتها طريقة لبسها وشكل عباءتها، وقصة شعرها ولون حذائها، ومكان سفرها وغير ذلك مما بالغت به المرأة المسلمة في هذه الأيام، حتى إن بعض الفتيات وللأسف أصبحت فتنة في نفسها ولغيرها من شباب المسلمين، وقد قال النبي : { ما تركت فتنة بعدي أضر على الرجال من النساء } ومن ثم تنسى الفتاة ما الهدف الذي خلقت من أجله، و تنسى أن أنفاسها معدودة، وآمالها مقطوعة، بعد ذلك تتهاون في أمور دينها، حتى تتفاجأ في نهاية المطاف وعند قرب خروج الروح وتحشرجها في صدرها أنها شاركة أعداء الإسلام من حيث لا تعلم في محاولاتهم لهدم الدين والعفة، وهذه هي الحسرة، وإن ما نشاهده هذه الأيام من مناظر غريبة على ديننا ومجتمعنا وتقاليدنا من بعض النساء المسلمات هو بسبب أن الحياء قد نزع منهن حتى أصبحنا نرى تبرج المرأة في السوق وكثرة الذهاب له بلا حاجة، وإظهار بعض مفاتنها لغير محارمها، والتهاون في حجابها، والتخاطب مع الرجال. عن أبي أسيد الأنصاري أنه سمع رسول الله وهو خارج من المسجد، فاختلط الرجال مع النساء في الطريق فقال رسول الله : { استأخرن، فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق، عليكن بحافات الطريق } فكانت المرأة تلتصق بالجدار، حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به. [صحيح أبي داود].
واللبس العاري عند الخروج من المنزل، وسفرها بلا محرم، وركوبها مع السائق بمفردها، والمشي وسط الطرقات وترك جوانبها، وقد قال : { ليس للنساء وسط الطريق } [رواه البيهقي]. وقال النبي : { إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت } [رواه البخاري].
أخيتي اجعلي من نساء السلف قدوة لك، ثم تنبهي لما يحاك ضدك، واعلمي أنهم يريدون إخراجك من هذه القلعة الحصينة العالية وهي قلعة الحياء لتسقطي في أوحالهم التي يعدونها، فتمسكي بحيائك تسعدي في الدارين، ففي الدنيا أي رجل يتمنى أن يبني عشه معك لأنك ستكونين نعم المعينه بعد الله سبحانه وتعالى على أمور دينه ودنياه، ويكون لك نعم الزوج الذي يبذل الغالي والنفيس من أجل سعادتك.
وقد قال النبي : { لا يأتي الحياء إلا بخير } فصاحبة الحياء:
- متمسكة بدينها فخورة به.
- اهتماماتها عالية أخروية.
- عدم اغترارها بمظاهر الدنيا البراقة.
- تخشى الله في سرها وعلانيتها.
- تخاف الله بزوجها بقيامها بحقوقه التي عليها.
- تراعي مشاعر زوجها فهي تفرح لفرحه وتحزن لحزنه.
- محتشمه في لبسها ومظهرها ومعتدلة في إنفاقها.
وأما في الآخرة فأعد الله لك من الأجر ما لا رأته عينك ولا سمعته أذنك، ولا خطر على قلبك، فتمسكي أخيتي بهذا الخلق الجميل، خصوصاً في هذا الزمن الذي كثرت فيه منابر الإفساد على اختلاف مللها ونحلها، والتي تعمل ليل نهار على هدم هذا الصرح الشامخ والقلعة الحصينة والسور المتين في كل فتاة مسلمة ألا وهو الحياء.
وفي الختام.. أذكرك بحديث النبي : { إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عظيم } فمتى تقدم الشاب لخطبتك وانطبق وصف النبي ، فلا تترددي في قبوله بعد التثبت من ذلك، واجتهدي في الدعاء الخالص لله بأن يهب لك الرجل الصالح صاحب الدين والخلق.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(/2)
رسالة إلى مهمومة
عبد الله القحطاني
الحمد لله تعالى ولي الصالحين، رب العالمين، ومجيب دعوة الداعين، والصلاة والسلام على صفوة المرسلين، وقدوة الناس أجمعين وعلى الآل والأصحاب أقمار الدين وزينة المتقين :
هذه رسالة أرسلها... إلى كل من أحاطها الملل في حياتها، وسكن القلق عيشُها في صباحها ومسائها
أرسلها... إلى كل من بارت عليها الحيل وضاقت بها السبل
أرسلها ... إلى كل من فنيت آمالها ، وأوصدت الأبواب في زمانها
أرسلها ... إلى كل من ضاقت عليها الأرض بما رحبت، وضاقت عليها نفسها بما حملت
أرسلها ... إلى كل من تربى في فكرها الوساوس، وزاد في منسوب عيشِها الدسائس
أرسلها ... إلى كل من ذاقت طعم الهم ، وتجرعت كأس الغم
أرسلها ... إلى كل من اضطربت مشاعرها ،واحترّت أعصابها
أرسلها ... إلى كل من تأخر عليها الفرج ، ويأست مِن من بيده مفاتيح الفرج
أرسلها ... إلى كل من لامها اللائمين ، وعذلها العاذلين
أرسلها ... إلى كل عاطلة عن العمل ، وذاقت طعم الملل والكسل
أرسلها ... إلى كل من واجهتها الصعاب، وترعرع في نفسها راسب الاكتئاب
أرسلها... إلى كل من خافت من المستقبل ، وانزعجت من كابوس الماضي
أرسلها... إلى كل من أصيبت بعاهة في جسدها، وأصيبت بالقرحة ومرض القلب وكل مرض نغص عيشُها
أرسلها ... إلى كل من عانت وعانت من جفاء وقسوة ولدها
أرسلها ... إلى كل من عانت وعانت من جفاء وقسوة والدها
أرسلها ... إلى كل فتاة صدرها أضيق من سمِّ الخياط
أرسلها ... إلى كل شابة تصرمت حياتها بين كل ذنب وحرام ، وفقدت الأنس بالعليم العلام
أرسلها ... إلى كل شابة عاشت بين صفحات الاكتئاب، وضاقت عليها الأحوال من كل باب
أرسلها ... إلى كل فتاة أحسَّت بالعنوسه، وفقد الزواج
أرسلها... إلى كل امرأة انهار زواجها ، وفقدت حلاوة العيش ونعيم الزواج
أرسلها ... إلى كل فتاة لم تنعم بالحياة ، ولم تتلذذ بطعم الإيمان
إليكم أيها المسلمات... إليكم هذه الرسالة طرزتها بالود والوفاء، جملتها بكل مايزيل العناء بإذن العليم العلام....
ياالله ... ياالله ... ياالله ...
ولقد ذكرتك والخطوب كواحِلٌ *** سودٌ ووجهُ الدهرِ أغبرُ قاتِمُ
فهتفت في الأسحار باسمكِ صارخاً *** فإذا مُحيا كُلَّ فَجرٍ بَاسِمُ
ياالله .. قلت وقولك الحق {قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب}
ياالله .. قلت وقولك الحق {قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر}
ياالله.. قلت وقولك الحق {أليس الله بكاف عبده}
مهما رسمنا في جلالك أحرُفاً *** قُدسيةً تشدو بها الأرواحُ
فلأنت أعظمُ والمعاني كلها *** يارب عند جلالكم تَنداحُ
أيها المهمومة :
بقربي تعالي .. وسبِّح المُتعالِ..
أيها المهمومة :
... افهمي ما أقول ، وترجمي كل ما تقرأينُ على أرض واقعك ، وليكن لديكِ وعياً في هذه الحياة،ولا تُصيُّرُكِ التوافه إلى الحضيض، وحققِ السعادة في دنياك وآخرتك .
أيها المهمومة :
اصبري وما صبركِ إلا بالله ،
استقبلي المكارة برحابة صدر....
استقبلي الهموم والغموم بقوة وشجاعة تناطح السحاب ....
فهل أوجد العلماء
وهل أوجد الحكماء والأطباء
حلاً للأزمات والمصائب غير الصبر؟!
اصبري يا مهمومة فالله يقول { اصبروا وصابرو }
اصبري يا مهمومة فالله يقول {اصبر وما صبرك إلا بالله }
اصبري يا مهمومة فمحمد صلى الله عليه وسلّم يقول ( إن الله إذا أحبَّ قوماً ابتلاهم )
اصبري مهما داهمتكِ الخطوب
اصبري مهما أظلمت أمامكِ الدروب
فإن مع العسر يسر....
وإن مع الكرب فرج....
أيها المهمومة :
من الذي يفزع إليه المكروب
من الذي يستغيث به المنكوب
من الذي تصمد إليه الكائنات
إنه الله لا إله إلا هو
حقٌ علي وعليكِ أن ندعوه في الشِّدة والرخاء
حق علي وعليكِ أن ننطرح على عتبات بابه سائلين .... باكين ....ضارعين.... منيبين
{أمن يجيب المضطر إذا دعاه }
الله قريب
الله سميع
الله مجيب
يجيب المضطر إذا دعاه
يا مهمومة
يا مهمومة
يا مهمومة
يا مغمومة ...
مُدّي يديكِ ....
ارفعي كفيكِ ....
اطلقي لسانكِ....
أكثري من طلبه ....
بالغي في سؤاله ....
ألِحّي عليه ....
ألزمي بابه ....
انتظري لطفه ....
أيها المهمومة :
إذا أصابكِ مايُهِمُّكِ ....
ونزلت عليكِ النوازل ....
وأصابتكِ الملمات ....
وقهركِ الرجال ....
وفشلتِ في الأعمال ....
فلا تغضبي ....
ولا تجزعي ....
ولا تنهري أهلكِ....
ولا تشتكين على أحد....
ولا تجعلي شدّة المصيبة على أبيكِ أو على ولدكِ أو على أخيكِ أو على بيتكِ
ولكن قولي
الحمد له ...
قولي
الشكر لله ...
قولي
قدر الله وما شاء فعل....
ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم ، إلا في كتابٍ من قبل أن نبرأها
وقال محمد فصلي على محمد /
عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير إن أصابتها سرا شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له
إذن
استسلمي للقدر ....
لا تتسخطي ....
لا تتذمري ....
اعترفي بالقضاء والقدر....
وليهدأ بالكِ ....(/1)
ولا تقولي لو أني فعلت كذا لكان كذاو كذا ولكن قولي قدر الله وما شاء فعل ....
أيها المهمومة :
قد يكون همكِ بسب فراغك القاتل أوالعطالةِ عن العمل ...
ولكن ....
تذكري نعمة الله عليكِ
يكفيكِ أنكِ مسلمة ....
يكفيكِ انكِ مؤمنة ....
يكفيكِ أنكِ تصلين ....
يكفيكِ أن حواسَّكِ غير معطّلة ....
يكفيكِ الأمنَ والأمان ....
يكفيكِ أنكِ قادرة على العمل وإن لم تتيسر لكِ ظروف العمل ....
يكفيكِ انكِ في صحة وعافية دائمة....
فانظري لمن ملك الدنيا بأجمعها
هل راح منها بغير القطن والكفن
أيها المهمومة :
سوف أدلكِ على واسطة تحقق لكِ كل ما تريدين....
ولكن إذا نويتِ الدخول عليه
فتهيأي تهيأًً كاملا والتزمي بالشروط التي يجب إحضارها إليه من أجل أن يقبل ما عندكِ
ثم بعد ذلك
أدخلي عليه
فهو يفتح أبوابه لكِ كل ليل لكي يقبل طلبات المحتاجين....
ثم أرسلي له برقية مباشره بينكِ وبينه حتى تخرجين من عنده بثقة كاملة في الحصول على المطلوب وصد قيني أن هذا الواسطة سوف تحقق لكِ من طلبكِ إحدى ثلاث أشياء ....
من هو هذا الواسطة لكي نذهب إليه هذه الليلة ....
إنه ملك الملوك....
إنه رب الوزراء ....
إنه إله الرؤساء....
إنه الله ....
إنه الله ....
إنه الله الذي أمره بين الكاف والنون ....
{إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون}
فاستعدي قبل الدخول عليه سبحانه عز وجل ....
فرغي قلبكِ من الشهوات ....
والتزمي بشروط إجابة الدعاء....
فإن الله لا يقبل من قلبٍ غافلٍ لاه ....
حققي شرط أكل وشرب الحلال....
فأنى يستجاب لآكل الحرام
بعد ذلك أدخلي عليه لوحدكِ في ظلمة الليل ....
أدخلي عليه في ذلك الوقت الذي ينام فيه أهل الوساطة الذين نتعلق بهم....
ولكن...
ما نام الذي ما تنام عينه ....
ما نام الحي القيوم ....
يقول للعباد ....
يقول للشابات ....
يقول للنساء....
هل من سائلٍ فأعطيه ....
....هل من داعٍ فأستجيب له....
هل من مستغفر فأغفر له ....
نعم أليس الله سبحانه فرج الكرب عن أيوب ..
أليس الله سبحانه ألان الحديد لداود ..
أليس الله سبحانه فلق البحر لموسى ..
أليس الله سبحانه جعل النار بردا وسلاما على إبراهيم ..
أليس الله سبحانه شق القمر لمحمد ..
لا إله إلا الله
سافر الناس يتوسطون بالناس ونسو رب الناس ....
لا إله إلا اله
في هذا الوقت قدمي ما لديكِ على ربكِ ....
ادعِ ربكِ ....
ناديه ....
اسأليه....
استغفري منه ....
استغفري منه ....
استغفري منه ....
ثم إذا فرغتِ من دعائكِ له ،فإنكِ سوف تفوزين بإحدى ثلاث أشياء
إما أن يحقق لكِ طلبك ....
وإما أن يدِّخر لكِ يوم القيامة بشيء أفضل بكثير وكثير مما تطلبينه في هذه الدنيا ....
وإما أن يدفع الله بهذا الدعاء بلاءً ينزل ُ عليكِ من السماء....
إذا اشتملت على اليأس القلوب *** وضاق بها الصدر الرحيب
وأوطنت المكاره واطمأنت *** وأرست في أماكنها الخطوب
ولم تر لانكشاف الضر نفعا *** وما أجدى بحيلته الأريب
أتاك على قنوط منك غوثٌ *** يمُنُّ بها اللطيف المستجيب
وكل الحادثات وإن تناهت *** فموصول بها فرج قريب
أيها المهمومة :
أذا ضاق صدركِ ....
وصعب أمركِ ....
وكثر مكركِ ....
وأظلمت في وجهكِ الأيام ....
فعليكِ بالصلاة....
عليكِ بالصلاة....
عليكِ بالصلاة....
{يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة }
سبحان الله الصلاة هي مستشفى تداوى البشر من السقم وتشرح الصدر من الهم والغم
،فكان الرسول في المهمات العظيمة يشرح صدره بالصلاة ،
وكان العظماء يحاطون بالنكبات ،فيفزعون إلى الصلاة ، فيفرج الله عنهم .
أيها المهمومة:
اعلمي....
ثم اعلمي ....
ثم اعلمي....
أن قلة التوفيق....
وفساد الرأي ....
وخفاء الحق ....
وفساد القلب ....
وإضاعة الوقت ....
والوحشة بين العبد وبين ربه ....
ومنع إجابة الدعاء ....
وقسوة القلب ....
ومحق البركة في الرزق....
وحرمان العلم ....
ولباس الذل ....
وضيق الصدر ....
وطول الهم....
والابتلاء بقرناء السوء ....
تنشأ
وتتولد
.... .. من المعصية والغفلة عن ذكر الله ........
فالله الله في ترك الذنوب ....
الله الله في ترك الذنوب ....
فالله الله في ترك الذنوب ....
كلنا نعرف الحلال و الحرام ....
ولكن السعيدة
من فعلت الحلال وتركت الحرام
والشقية منا
من فعلت الحلال وفعلت الحرام
فتوبي إلى الله وارجعي إليه واسمعي الآيات التي تقوي من رجائكِ،وتشد عضدك ، وتزرع في النفس التفاؤل وعدم القنوط قال الله {قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم }
وقال الله {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون}
وقال الله {ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيما}
أيها المهمومة :
إن سِرَّ أسباب راحة البال ....
وهدوء الجنان....(/2)
هو الاستغفار ....
يقول ابن تيميه :
إن المسألة لتغلق علي ،فأستغفر الله ألف مره ، أكثر أو أقل فيفتحها الله علي .
قال الرب:{ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيم }
أيها المهمومة :
أبشري باللطف الخفي ....
أبشري بالأمل المشرق....
أبشري بالمستقبل الحافل....
فقد آن أن تداوين شككِ باليقين ....
قدآن أن تقشعي عنكِ غياهب الظلام بفجر صادق....
آن أن تقشعي مرارة الأسى بحلاوة الرض....
أبشري أيتها المهمومة .. بصبح يملؤكِ نورا ..
أيها المهمومة ....اطمئني فإنكِ تتعاملين مع اللطيف بالعباد والرحيم بالخلق .
أيها المهمومة.... اطمئني فإن العواقب حسنه ،والنتائج مريحة ، والخاتمة كريمه
لمعت نارهم وقد عسعس الليـ ــل ومل الحادي وحار الدليل
فتأملتها وفكري من البيـ ــن عليل وطرف عيني كليل
وفؤادي ذاك الفؤاد المعنى وغرامي ذاك الغرام الدخيل
وسألنا عن الوكيل المرجى للملمات هل إليه سبيل
فوجدناه صاحب الملك طرا أكرم المجزلين فرد جليل
أيها المهمومة:
هدئي أعصابكِ بالإنصات إلى كتاب ربكِ ، أنصتي إلى تلاوة ممتعه حسنه مؤثره من كتاب الله تسمعينها من قارئ جيد حسن الصوت ، أو اقرئي كتاب الله العظيم الذي هجره بعض الناس ، اقرئي هذا الكتاب ، وتدبريه ورتليه ، فإن ذلك يفضي على نفسكَِ
السكينة
والراحة
والطمأنينة
قال تعالى/
الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئنُ القلوب
هذه رسالتي بإختصار
أرجوا أني قد عالجت بهذه الرسالة ولو بشيء بسيط من همكِ ....
يامن هو عالم بالسرائر ....
يامن هو مطلع على مكنونة الضمائر....
فرَّج همَ المهمومين من المسلمين ....
وفرج كرب المكروبين ....
إنك على كل شيء قدير....(/3)
رسالة الأديب الإسلامي
الورقة المقدمة إلى الملتقى الدولي الأول للأدب الإسلامي
المنعقد في وجدة - المغرب بتاريخ 7 - 8 - 9 من أيلول 1994
عبد الله الطنطاوي
- 1 -
الأديب شاهد على عصره، كما المصلح. وإذا كان إسلامياً، ارتفعت واشتدّت وتائر شهادته، بما أوتي من صدق اللسان، ونبل الجنان، ودقّة الإحساس، وحدّة الملاحظة، وموضوعية النظرة، والعدل في الأحكام، لأنه يخشى الله الذي حرّم الكذب في القول، لأنه يتنافى مع الإيمان، وحرّم الظلم، لأنه يتضادّ مع أوامر الله الذي حرَّم الظلم على نفسه، وجعله حراماً على عباده، وأمرهم بألاّ يتظالموا، وتوعّد الظالمين بما لم يتوعّد غيرهم، (والله لا يهدي القوم الظالمين).
والأديب الإسلامي يعي من أمر شهادة الزور ما لم يعه غيره من الأدباء ذوي الانتماءات غير الإسلامية، إنه يعلم أنها كبيرة من الكبائر، فيزورّ عنها، ويتجافى عن طريقها، ليكون شاهد صدق وعدل.. صدقٍ مطلق، وعدلٍ مطلق.. صدقٍ في القول، وصدقٍ في الفنّ، (.. وما يزال الرجل يصدق ويتحّرى الصدق، حتى يُكتب عند الله صدّيقاً)(1).
وإنّ أشعر بيت أنت قائله بيت يقال إذا أنشدتَه، صَدَقا (2)
لأن الأهداف النبيلة، يُتوصَّل إليها بوسائل شريفة.
والأديب الإسلامي في تسامٍ وصعود أبداً، ساعياً نحو أهدافه العليا التي ينشدها لنفسه، ولأمته، وللعقيدة التي تملأ كيانه، وللقيم الإسلامية التي يجهد من أجل أن تكون قيماً حيّة في نفوس الناس، ممكَّناً لها في أرض الله الواسعة.
والأديب الإسلامي - بهذا وبغير هذا - ربّما يكون أهمّ شاهد، وهو ليس محايداً في أداء شهادته.. إنه منحاز.. منحاز إلى الحقّ والحقيقة.. إلى هذا الدين الذي هو عين الحق والحقيقة.. إلى قيمه ومثله.. إلى أخلاقياته ومبادئه وتعاليمه، وإلى ما يفيض منها وعنها.. وهو يؤدي شهادته فيما يبدع، معبراً عن إرادة الإنسان الحر الطليق، لا عن غرَائز ينساق إليها من ينساق من أدباء البوهيمية والبهيمة على حدّ سواء.
والأديب الإسلامي ينظر إلى الحياة والأحياء نظرة إيجابية متفائلة.. ينظر في حبّ وودّ، البسمة على شفتيه، وإسعاد الآخرين يتلامح في لمعان عينيه.. خلّف وراءه كلَّ ما يمسّ مروءة المسلم، لأدباء الواقعية السوداء، والواقعية الحمراء، ولسائر الذين يضعون على عيونهم نظارات سوداً، لا ترى في هذه الحياة سوى المواجع والوهدات الموغلة في الهبوط.. الهبوط نحو الغرائز، يشارك فيها البهائم، ويأبى أن يصّعّد بها أو يتسامى إلى القمم التي تليق بالإنسان، وإنسانية الإنسان، وكرامة الإنسان، وشموخ الإنسان، ومروءة الإنسان.. إنهم عاكفون على انتهاب اللذات في أوكار الحرام، وهم الدعاة النشطاء على أبواب تلك الأوكار، بما يكتبون من شعر وقصة ومسرحية ونقد..
- 2 -
وإذا كان الشاعر في أيام العرب الخوالي، موضع إجلال القبيلة واحترامها، لأنه كان لسانها المنافح عنها، النائل من أعدائها..
وإذا كان الشاعر في الإسلام المبشّر بهذا الدين، الذائد عن نبيّه، وعن أصحابه وأتباعه، وعن العقيدة التي جاء بها، فكان بذلك موضع الحفاوة والتكريم من الرسول القائد، ومن أصحابه من قبل ومن بعد.. حتى ليقولُ النبي العظيم لشاعره حسان: اهجهم وروح القدس معك.. اهجهم وجبريل معك.. ويقول لشاعره الآخر كعب بن مالك الذي جاءه خائفاً وجلاً من قول الله تعالى: »والشعراء يتبعهم الغاوون. ألم تر أنهم في كل وادٍ يهيمون، وأنهم يقولون مالا يفعلون، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وذكروا الله كثيراً، وانتصروا من بعد ما ظُلموا، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون«(3) قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعدما سمعه يقول في خوف من تلك الآيات: »إنّ الله عز وجلّ أنزل في الشعراء ما أنزل« أجابه النبي:
«إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه. والذي نفسي بيده، لكأنّ ما ترمونهم به نضح النبل»(4).
وأديب اليوم - شاعراً وناثراً - هو شاعر الأمس، وكان الأحرى بدعاة الإسلام، أن يحتفوا به، ويقدّموه ويوقّروه، لأنهم أحوج إليه في هذه الأيام.. أيام الصراع العقدي، من أيّ وقت مضى، وإن تكن أهميته كبيرة وملحّة في سائر الأماكن والأزمان.. وهانحن أولاء، وهاهم أولاء، يشهدون احتفال أصحاب المذاهب الفكرية والسياسية والاقتصادية بأدبائهم، يقدّمونهم، ويقدّمون لهم كلّ شيء مما يخطر على البال أو لا يخطر، والذين زاروا الشاعر التركي الشيوعي ناظم حكمت في قصره في كييف، بعد هربه من تركيا، والتحاقه بالاتحاد السوفياتي، قد حدّثونا أحاديث عجب..(/1)
الشيوعيون والوجوديون والاشتراكيون والليبراليون وسواهم، يتخذون من الأدب بعامة، وسيلة مهمة من وسائل نشر أفكارهم، وإثبات ذواتهم في معترك الصراع الفكري والعقدي منذ بداية هذا القرن، وقبل هذا القرن، وكان تأثير هذه الآداب الوافدة والمقلّدة لها، كبيراً على شبابنا الذي تمشرق وتمغرب، فكان منهم الشيوعي، ومنهم الوجودي، ومنهم ومنهم، وقد تولّت دار الآداب ومجلة الآداب في بيروت، كبر الدعوة الوجودية، والأدب الوجودي في عالمنا العربي، حتى غدا سارتر وسيمون دي بوفوار وكولن ولسن سادة الساحتين: الأدبية والفكرية في الخمسينيات، أو من ساداتها..
لا أريد نكء الجراح، ولا أحبّ استعداء الآخرين في هذه الظروف الدقيقة، ولكنها شكوى جريح يئنّ ويضمّ أنينه إلى أنّات إخوانه الذين يشهدون تجهُّم الدعاة الإسلاميين لأدبائهم، أو إهمالهم، أو ما نرى من اللامبالاة بهم، وهاهي ذي مناهجهم تُعنى بكل شيء إلا بالأدب، وها هي ذي صحفهم، إذا تكرمت وأفردت باباً للأدب، فإنه إلى جوار بريد القراء، وإلى جوار الكلمات المتقاطعة، والتسليات الأخرى.. مع أنّ أدباء الإسلامية، كما ورد في مقدمة ديوان البوسنة بحق: »صار الشعر مرآة لوجداناتهم المؤمنة، يشدو بأفراحها، وينبض بآلامها، ويحدو تطلعاتها«.
و »في عصرنا الحديث، رسم شعرنا خريطة زمانية ومكانية لنكبات المسلمين، فمن مذابح البلقان في القرن الماضي، إلى سقوط القدس قبل ربع قرن، ومن مذابح الأفغان وهجرتهم، إلى مآسي المسلمين في الجمهوريات الإسلامية«و »ظهرت في الشعر الإسلامي رؤية جديدة، تتجاوز هموم الذات المفردة، إلى هموم الجماعة الواحدة، وتتخطى الأحلام الفردية الضيقة، إلى آمال الأمة الواسعة..«(5).
لماذا؟
لأنهم طبّقوا مفهوم التلاحم والتناصر في قول الرسول القائد: »مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى«(6).
وشكوى ثانية نجأر بها، هي ما نلقاه من أكثر دور النشر التي تسمّي نفسها إسلاميّة، وأدباء الإسلامية يلقون منها الألاقي، ولو كنا بصدد الحديث عنها وعن سواها، ولولا أنّ الشكوى إلى غير الله مذلّة، لكانت لنا وقفة طويلة مع كثير من هؤلاء، بل وقفات، نتجاوزها الآن، لأننا سنتحدث عن رسالة الأديب الإسلامي في هذه الأيام العصيبة، وسنذكر منها البعد عن السلبية والانهزامية، وإبعاد الناس عنهما فيما ينحو ويكتب، وحديثنا عن كثير من دور النشر، إن لم يبعث على اليأس، فعلى الحزن والاكتئاب..
- 3 -
ولنعرّج قليلاً نحو المثقفين.. نحو النخب الأدبية، ودعونا من النخب السياسية، لأننا فيما نقوله عن الأولى نقول أضعافه عن الثانية..
أولاً: نحبّ أن نؤكد مع الدكتور طه العلواني: »أنّ انفصال النخبة وثقافتها عن الأمة، إنما وُلد مع المحاولات الأولى، ولم يكن وليد السنوات الأخيرة فقط«(7).
ومن هؤلاء، كان الشعراء المداحون النواحون، وكان الكتبة الديوانيون، وكان علماء السلطان أو علماء الشيطان بمنطقهم التبريري الذي تفوح منه روح الكذب والغش والخداع والتدليس وتلبيسات إبليس، محاولة تغطية الشمس شمس الحقيقة، بغربال ممزَّق، فتبدو الأنانية والمصالح الذاتية في ألوان فاقعة من النفاق الحارّ حيناً، البارد في أكثر الأحيان.
»إنّ كثيراً من الجرائم، ارتكب في الفكر والواقع من قِبَلِ مجتمع النخبة في أقطارنا، باسم الحداثة والتنمية والتقدم«.
وإن الحداثة والتقدم اللذين ننقدهما ونرفضهما، هما التقدم نحو الخلف.. تقدُّم التبعية، وتحديث القمع والتسلط والاستبداد الذي يسهم في تعميق التفسخ والانقسامات، وفي جعل مجتمعاتنا غير قادرة على هضم الجديد، واستيعاب النظم العصرية من بابها الخاص.
والنتيجة.. واقع مسخ، ومجتمعات مفتونة متعددة ومتصارعة، تتعايش تحت سقف الدولة القطرية المحدثة.. وفي النهاية.. مُرّرت تحت عباءة التقدم والحداثة والتنمية، إجراءات وأفعال، هي في النتيجة ضدُّ الحداثة والتنمية والتقدم.(8)
فالنخب الثقافية، والأدباء منهم، ويشكّلون سوادهم، هم السائرون في ركاب الطواغيت، يزيّنون لهم جرائمهم، ويحرّضونهم على الشرفاء، ويخططون للإيقاع بهم، ويدافعون عن الطغيان، وينظمون القصائد »العصماء« في مناقبهم، وفي إنجازاتهم، وفي الفتوحات والانتصارات الباهرة التي تحققت على أيديهم، ويدبّجون المقالات السود في إطرائهم..
ونظرة سريعة إلى ما يذاع ويُنشر، تغني عن أيّ تحليل وتركيب.. نظرة سريعة إلى إعلام الأنظمة التي نحترق بهجيرها، تغني عن أيّ شرح أو تطويل.. إذا جلست إلى أحد أولئك النخب، انطلق لسانه الذرب، يسوّغ سقوطه تحت أقدام الطاغية، وقد يتجرأ وينصحك بأن تسير معه، ولا تسبح ضدَّ التيار، فيجرفك التيار وتغرق، ويمزّقك شرَّ ممزّق.. نصيحةَ أخ لأخيه، أو تلميذ لأستاذه، أو أستاذ لتلميذه، أو أب رؤوم وأمّ حنون للولد التائه الذي لا يعرف أين تكمن مصلحته..(/2)
سبق أن قلت: لا أريد أن أستعدي أحداً، فصهْ، ومهْ..
- 4 -
وبعد:
أفليست رسالة أديب (الإسلامية) تتحّد مع صفات الأدب الإسلامي ومقوّماته التي تلازم الأديب المسلم في أقواله وأفعاله، ليكون مثالاً حياً لتلك القيم الخالدة، وخلودها فيما احتوته من إنسانيات تتقاصر دونها إنسانيات الآداب الأخرى المنبثقة من تصورات حسيرة كليلة لا ترقى، ولا ينبغي لها أن ترقى إلى قمم تلك التصورات الإسلامية الإنسانية المتسامية أبداً نحو الكمال، حتى لتشفّ عما وراءها من آلاء ولألاء، هي من تضوّعات العقيدة الربانية التي جاء الوجود بها سيد الوجود، من لدن عزيز حميد، كما تنفح الزهرة أريجها في غيو ما تكلف، ولا انتظار كلمة شكر أو أجر، والأديب كالوردة، يفوح عبيرها، لينعش شامّيها دونما استئذان.. فهو في كل ما يكتب، يحذي من حوله، من يطالع ما يكتب من قصة أو مقالة أو شعر، وما يشاهد من مسرحية أو مسلسل تلفزيوني.. في صفاء ونقاء، وفي غيرية صادقة، لا مداجية ولا ممارية ولا مواربة.. يعطي ولا ينتظر ممن يعطيهم أكثر من كلمة حنان، تصدر عن قلب عامر بالصدق والحب والإخلاص.. وأظنّ أن هذا من حقّه.. من حق الأديب الأصيل الذي يقدّم ذوب روحه، وهو يترجم عن مشاعر الأمة، ويعبر عن تطلعاتها وأشواقها وطموحاتها النبيلة.. وهو يشقى لإسعادها.. إذا تمتع غيره بمنظر طبيعي جميل، شقي من أجل نقل ما أحسّ به من جمال، لأبناء أمته، من خلال قصيدة يتذوقونها.. يتذوقون لغتها العصرية، وصورها وموسيقاها، معانيها الجديدة، وأفكارها البناءة، ومتعة الجمال في كل جزئية من جزئياتها.
إنه يحمل على كاهله أعباء أمته، لأنه ينتمي إلى عقيدتها ودينها، إلى أرضها ومجتمعها، فيرقص في أعراسها، ويبكي لانتكاساتها وهزائمها، وهو يشحذ العزائم، ويكبس الملح على الجرح، ويحرّض على النهوض من الوهدات التي تردّت فيها، ويحفزها على التغيير نحو الأمثل فالأمثل، ولا يرضى بدور المتفرج على الحرائق، أو التشفي بالخصوم المتسببين بالانتكاسات والارتكاسات والهزائم، ماداموا من الأمة التي وُلد الأديب فيها، واكتوى بنيران أولئك الخصوم المنحرفين غير الشرفاء في خصوماتهم، لأنه أكبر منهم ومن خصوماتهم، ولأنه إنما خاصمهم من أجل الدين والمبادئ والقيم، ومن أجل الشعب والأرض، من أجل الكرامة والعرض، من أجل البناء السليم، والتنمية السليمة، وليست المعركة شخصية..
إنه يبتعث شخصيتنا الإسلامية التي هبّت عليها رياح التغريب حيناً من الدهر، لم نكن فيه شيئاً مذكوراً..
جاء الأدباء الشرفاء، يحملون رؤوسهم على أكفهم، فحرّكوا أرواح الناس، وأوقدوا نيران الكرامة في قلوبهم، فثارت العواطف، وتحركت الأرواح، وغلت الدماء، وكان ما كان من الجماهير التي جاهدت بدمائها، وحررت أرضها، وكسرت الأغلال التي كانت تكبّلها.. كل هذا بفعل الكلمة المؤمنة الحية التي منحتها القوة على البذل والعطاء، مهما بلغت التضحيات.
وهذا يعني أن الأديب الإسلامي، مدعوٌّ ليكون القدوة العملية في سائر أحواله، ولن يكون كذلك، إلا عندما يكرس نفسه لله، خالصاً، فتخرج كلماته من القلب، لتتمكن من قلوب الملايين، كفعل الأفغاني والكواكبي وإقبال وسيد والندوي ومن إليهم من الأعلام في عصرنا الحديث، أما إذا حدث الانفصام بين القول والعمل، فالكارثة سوف تتلوها كارثة، وسوف تغدو الكلمات حبراً على ورق يلعن كاتبه، ويبرأ إلى الله منه، لأنه سيكون شاهد زور في كل ما يكتب.
- 5 -
وحان الوقت لنتكلم عن رسالة الأديب الإسلامي في هذا القرن.. الخامس عشر من الهجرة المباركة.
وتتمثل في نظرية الهدم والبناء.. هدم المتداعي، وتقويض المعادي، والتصدي للأمراض الفردية والمجتمعية، وإعمال المباضع فيها، لإجراء عمليات جراحية استئصالية، تجتثها من جذورها، وتجهز على المحتضر منها، ثم إزالة الأنقاض، وتطهير المكان، ليؤسس البناء على التقوى بمعانيها الإيجابية جميعاً.
إننا لا نريد استعداء أحد علينا نحن أبناء الصحوة، ولكن.. لابدّ مما ليس منه بد.. لابدّ من الإشارة إلى الأعداء الذين تداعوا علينا من كل جانب، تداعي الذئاب الجريحة الجائعة الحاقدة إلى فريستها.. فالمذاهب المادية، وكلها وضعية فيها ما فيها من الفساد والإفساد، من صهيونية تلمودية، ومن صليبية متصهينة حاقدة، ومن ماركسية واشتراكية ووجودية ملحدة، ومن ليبرالية وإمبريالية ظالمة، ومن داروينية وفرويدية فاسقة فاجرة، وكلُّها وسائر أخواتها من المذاهب المادية و (الروحية) الوضعية العلمانية، تشنّ الحروب التي لم تتوقف لحظة واحدة على الإسلام والمسلمين، وإذا توقفت، فمن أجل التقاط أنفاسها اللاهثة، لتعدّ وتستعدّ، حتى تسنح لها لحظة ضعف، أو ثلمة في ثغر، لتنقض كما الكواسر..
ترى.. ما موقفنا نحن أدباء الإسلامية منها؟(/3)
هل ندعها وموبقاتها وشرورها وأحقادها؟ متمثلين بقول من قال: لأن توقد شمعة خير لك من أن تلعن الظلام ، هل نفضحها، لنحصّن الأجيال القادمة، ولكي ينفضَّ عنها المؤمنون بها، أو الذين لم تتمكن من نفوسهم بعد؟
هل نتصدى لعملية التطبيع والتدنيس والخيانات المستعلنة في وضح النهار؟ أو ندفن رؤوسنا في الرمال، أو نتوارى ريثما تمرّ عواصف عصر العلوّ الثاني لبني صهيون؟
إنّ أعداء الإسلام والمسلمين كثر، في الداخل وفي الخارج، وفي دواخل النفوس أمراض فتاكة، هي أشدّ علينا من أعدائنا الذين هم خارج نفوسنا.
من هذه الأمراض التي ندعو الأدباء إلى الإجهاز عليها: أمراض الحسد والغيبة والنميمة والبغض والكره والبخل والجبن والغدر والأنانية، والعكوف على المصالح الذاتية، والفسوق والفجور، والانحراف بأنواعه الشتى..
ومن هذه الأمراض: التواكل والتعصب للرأي، أو إعجاب كلّ ذي رأي برأيه، والفردية والتطرف والغلو في الحبّ والكره والحياة في الماضي، وتجاهل الحاضر والمستقبل.
ومن هذه الأمراض: الإقليمية والشللية وما ينجم عنهما من حروب هي أشبه بالحروب القبلية في ماضينا الجاهلي، حروب القبائل الجاهلة التي تتعصب للقبيلة ولشيخ القبيلة، ولابن القبيلة، ظالماً كان أو مظلوماً..
والأديب الإسلامي، بما أوتي من رهافة حسّ، ومن تألق إيماني يستشف من خلاله قوابل الأيام، وما يمكن أن يستجد فيها من قضايا تمسّ مروءة الإنسان، كالذي يدعونه (صراع الأجيال) وما ينجم عن ذاك الصراع من افتئات على إنسانية الإنسان، فالكبير لا يرحم الصغير، ولا ينصحه ولا يرشده، ولا يقدّم له شيئاً من خبراته، والصغير لا يوقّر الكبير، ولا يرعى له حرمة السبق والريادة والنضال في شتى الميادين، بل يشنّع عليه، وقد يتهمه بالخرف، أو بأنه قد أفضى إلى ما قدّم من عمل خاطئ، أو أنه قدّم كلّ ما عنده، ولم يعد لديه ما يقدمه في غير زمانه، وفي غير عصره الذي ولّى الأدبار.. وبهذا يفرح أبالسة الإنس والجن، ويصفّقون لهذا الولد الصفيق.. يصفقون للمعركة، وتدمى عيون الإسلام وبنيه: وبنوه هم الشرف والمروءة والنخوة والنجدة.. تدمى لهذا التطاول على تعاليم أستاذ الحياة محمد صلى الله عليه وسلم، وما تدعو إليه، وما تحذّر منه وتنذر، عندما يصير الفتى إلى الكهولة فالشيخوخة، ويرتدّ إلى أرذل العمر، ويجيئه فتيان ويعبثون به، ويسخرون مما كتب وأبدع، فشيخ اليوم كان فتى الأمس، وفتى اليوم سيكون شيخ الغد..
أنا لا أتحدث من فراغ، بل من ظاهرة شهدناها لدى الآخرين، ونشهدها اليوم لدى بعض الشواذ الذين يزعمون أنهم إسلاميون، ومن أدباء (الإسلامية). تقولون: أنت تقول: شواذ، والشاذ لا حكم له.. هذا صحيح، ولكني أخشى من تكوُّن ظاهرة، ويصير الاستثناء قاعدة، لأننا نحيا في عصر العجائب، وانقلاب المفهومات، »وهو واقع الحال الذي يعيشه العالم العربي اليوم، بعد حربين مدمرتين: حرب العراق وإيران، وحرب الخليج الأخيرة. وقد تهاوت في هاتين الحربين بقايا شعارات وقيم النهضة والحداثة والتقدم، لتترك بين أيدي العرب والمسلمين فراغاً فكرياً وثقافياً هائلاً، لا يمثل الفراغ السياسي القائم في المنطقة إلا بعض مظاهره«(9).
ولهذا.. أندب الأديب الإسلامي ليجعل من رسالته محاربة هذا الشذوذ المرضي المثير للقرف والغثيان، على حدّ تعبير السارتريين.
وثمة مرض خطير يهدّد مقوّمات العقيدة، وأركان الإيمان، ودعائم التوحيد في قلوب أبناء الأمة، أعني الاستبداد السياسي، فما أساء إلى الأمة شيء إساءة الاستبداد السياسي لها(10).
ومن هنا وجب محاربة هذا المرض، بتربية أبناء الأمة على الحرية والكرامة والشجاعة والاتصال بالله، والخوف منه وحده، لا من الطواغيت مهما علوا واستكبروا ولجّوا في طغيانهم، عندئذ تتهاوى الديكتاتوريات، إذ »ما يمكن أن يطغى فرد في أمة كريمة أبداً، وما يمكن أن يطغى فرد في أمة رشيدة أبداً، وما يمكن أن يطغى فرد في أمة تعرف ربها، وتؤمن به، وتأبى أن تتعبّد لواحد من خَلقه، لا يملك لها ضراً ولا رشداً. (11)
ثم إن الحريات السياسية سبيل الإسلاميين لتسلّم زمام قيادة الأمة، فحماية هذه الحريات، وتكريسها، والدعوة إليها، وتحويلها إلى هدف استراتيجي ثابت، يجب أن يصبح واحداً من أهم دعائم بنائهم، وجزءاً من مشروعهم الحضاري. (12)
ومن أولى من الأديب الإسلامي بالقيام بهذه المَهمّة المُهمّة؟
والأديب وهو ينفّر من تلك الأمراض التي جمعها أستاذ الحياة عليه السلام بقوله: »لا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخواناً« (13)، ويقبّحها بإبداعاته الفنية من قصة ومسرحية وشعر ومقالة، ويحاول القضاء عليها، يبرز دور العقيدة في حياة الإنسان »وليس من الضروري أن تُذكر العقيدة صراحة، أو يذكر الدين، بل ترسم الحياة من خلال العقيدة وأثرها في النفوس.
فالاحساس بجمال الكون وروعته عبادة.
والإحساس بالارتباط الحي مع الكائنات عبادة.(/4)
والتوجه للناس بالحب والعطف والرعاية عبادة.
والجهاد في سبيل الحق والخير عبادة.
والتسليم لقدر الله عبادة.
والتطلع إلى الله في المحن والأزمات عبادة.
وتحمّل الألم والاصطبار عليه عبادة.
وشكر المنعم على نعمه عبادة. (14)
وإذا كانت عبادة الله هي الغاية من وجود الإنسان وغير الإنسان على هذه الأرض »وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون« (15) فإن الأديب يحقق هذا الهدف العالي وهذه الغاية المثلى من خلال ما قدّمنا، وبذلك يؤدي وظيفته، وينهض برسالته في محورين متعانقين: محور العبودية الشخصية لله الواحد الأحد، ومحور غرس القيم العقدية من خلال الجمال الطليق الذي يسم الوجود بميسه الناعم الودود الذي لا يقف عند حدود الحس، ولا ينحصر في قالب محدود.. إنه يعرض الحياة كلها من خلال المعايير الجمالية، سلباً أو إيجاباً، وهو يهدف من خلال ما يعرض، إلى غرس الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، وقضائه وقدره، وما ينشأ عن غراس الإيمان من قيم الحق والعدل والحب والخير والجمال وما إليها من مُثُل وقيم.. وإلى تحبيب الناس بالله الرحمان الرحيم، الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، ثم استخلفه في الأرض، وسخّر له سائر المخلوقات، وأمره بالصالحات من الأعمال، ليدخل الجنة، ونهاه عن السيئات والموبقات التي تسوقه إلى جهنم.
والأديب الإسلامي ليس واعظاً بالمعنى الذي نعرفه ونصطلح عليه، يحمل عصاه ويشحذ لسانه الماضي، ويجلد بهما عباد الله، بل هو يعظ الناس بأسلوب غير مباشر، بأسلوب بعيد عن الخطابة التي لها مجالاتها الأخرى.. إنه يلجأ إلى التبشير الخفيف الناعم بالقيم الإسلامية، لتتسلل إلى النفوس بهينة ولين، لا تشكل ثقلاً على رأس أو قلب، ولا توتّر أعصاباً، ولا تستفزّ غير الحليم.. من خلال البطل الحق المتمثل بالأنبياء عامة، وبخاتمهم خاصة، وبالصحابة والتابعين وتابعيهم من العلماء والصالحين والمصلحين والمجاهدين والمفكرين والأدباء والقادة، يقدّمهم في فنية وإبداع جذاب، ليس فيه غَوْل ولا غُول.. لا جموح ولا تغالي ولا كذب.. مما يأباه الإسلام الذي يشكّل عقل الأديب الإسلامي، وينضج عواطفه، ويتسامى بمشاعره، بل يشكّل كيانه كلّه، لأنه بدون هذا التشكيل السليم، تطرأ الانحرافات، وتكون التهويمات الجامحة المنفرة، وهذا يعني أن تتكوّن لدى الأديب خبرات فنية عالية، ليتمكن من التعبير عن المفهوم الإسلامي بصورة تتكافأ مع الأداء.
والأديب الإسلامي متفائل دائماً، يشيع تفاؤله فيما يبدع، حتى في أشد اللحظات حلكة وظلاماً، لأنه يديم النظر في دستوره الخالد، في القرآن العظيم، ويعرف أن أكثر الآيات المبشرة بالغلبة والنصر، كانت تنزل والمسلمون في كرب شديد.. ونحن الآن في كرب شديد، تغشّينا ظلمات بعضها فوق بعض، وروح التشاؤم والقنوط والإحباط تسري في النفوس فتقتلها، وهذا يعني أن دور الأدباء في هذه المرحلة الدقيقة من حياتنا دور كبير ودقيق، لأن الأمة في مسيس الحاجة إلى من يستنهض هممها، ويشدّ من عزائمها، ويبشرها بأن الدورة الحضارية التي كانت وما تزال للصليبيين والصهاينة واليهود، قد آذنت بالأفوال، وهذا وعد الله، والله لا يخلف وعده.. إنها في حاجة إلى من يرفع معنوياتها، من أجل النهوض الواعي المدروس، وللمعنويات خطرها العظيم في كسب المعارك أو في الهزائم.. لابدّ من إعطاء جرعات من الأمل.. لابدّ من إعلان الحرب على المثبّطات التي تشيع الإحباط في النفوس المتعبة.. لابدّ من إعلان الحرب على اللامبالاة في حياتنا العملية، بالعمل على تربية النشء الجديد خاصة، وغرس روح الكفاح فيه، وهذا من جملة مهمات الأديب الإسلامي.
ولعل الغوص في أعماق تاريخنا الإسلامي، واقتناص الجوانب المضيئة منه، وترك المعتم.. اقتناص الروائع الإيمانية والخلقية، والمثل الإنسانية الرفيعة.. لعل ذلك ينهض ببعض العبء.. إنه يتحدث عن الماضي، وهو يعيش زمانه، ويرنو إلى الأجيال القادمة لتحمل الراية.. له عين نفاذة على الماضي، ليختار من إيجابياتها ما يعينه على البناء، وتجاوز سلبيات الواقع المعيش، بوضع الصُّوى باتجاه الطريق اللاحب الموصل إلى ما يرمي إليه من أهداف..
والأديب الإسلامي ملتصق بأبناء أمته، تقلقه همومها، وتحزنه أحزانها، وتفرحه أفراحها، وأدبه هو المرآة التي تعكس آمالها ومطامحها والآفات التي تفتك بها، من جهل ومرض وتخلف وفقر وعَوَز.. فيصوّر معاناتها مع الحاكم الطاغية، والموظف المتعجرف، ومع ربّ العمل المستكبر، ومع الحياة في مباهجها ومشكلاتها..(/5)
والأديب الإسلامي منتم إلى أمة القرآن، وإلى لغة القرآن، ومن أدبه الرسالي، تعليم الناس لغة أهل الجنة، وتحبيب النشء والكبار بها، وتعويدهم على النطق بها، والكتابة بها، وتلك هي الحضارات القديمة تخبرنا أن ظهورها ارتبط بتكوين لغاتها، وأفولها ارتبط بتراخي أبنائها في المحافظة عليها، وهذه هي الحضارات الحديثة، يسعى قادتها إلى بسط لغاتهم على الناس رغبة ورهبة وقسراً، ونحن أحرى منهم وأجدر، ومسؤوليتنا أكبر في جعل اللغة العربية لغة الشعوب المسلمة في كل مكان، هدفاً استراتيجياً نسعى إلى تحقيقه بالوسائل المتاحة، والأديب أولى الناس بهذا.. والحديث عن لغة القرآن يقودنا إلى هدف استراتيجي آخر، لا يقلّ أهمية عن تعميم لغة القرآن التي تمهّد له، أعني.. الدعوة إلى الوحدة العربية، فالاستعمار لم يحكمنا إلا بعد أن مزّقنا ومزّق دولتنا، وأقام لنا كيانات ذوات حدود وهمية، وأغرى بيننا العداوة والبغضاء، فتقاتلنا ودمّرنا البلاد، وأهلكنا العباد في حروب أوقدها أبالسة هذا الزمان، لخضد شوكة الأمة، ونحن لن نتحرر من التبعية للشيطان الأكبر، وللأبالسة الصغار، إلا بالقضاء على التجزئة، إلا بالوحدة.
عندما أراد نور الدين الشهيد تحرير القدس وسائر بلاد الشام من أيدي الصليبيين، فكّر طويلاً في السبيل إلى ذلك، فما وجده إلا في توحيد هذه الأمة.. توحيد شامها مع عراقها مع مصرها.. فعمل عشرين عاماً من أجل الوحدة، وعندما امتدت يده لقطف الثمار، عاجله القدر، واخترمته المنون، وتفككت الدولة، وعصفت الأهوية والأمزجة بالوحدة، وفرح الصليبيون، وأقاموا الأفراح والأهازيج في دويلاتهم وقلاعهم، ولكن، شاء الله أن ينهد صلاح الدين لمتابعة المهمة، وعرف أن طريق نور الدين هو الطريق، فعمل اثني عشر عاماً من أجل التوحيد، ثم انقضّ على الإمارات الصليبية، ودحر جيوشها، وحرّر القدس والمسجد الأقصى وقبة الصخرة، وما أسعفه الأجل في تحرير ماشاء الله من بلاد الشام..
وطريقنا اليوم هو طريق نور الدين وصلاح الدين، وهو طريق الرسول القائد من قبل، ومهمة الأديب الإسلامي تبيان هذا فيما يبدع.. بل إنّ من أهمّ مهماته، الدعوة إلى تصالح الإسلاميين عامة، والرؤوس المفكّرة المدبّرة المنظّرة فيهم خاصة، من أدباء وعلماء ومفكرين وسياسيين.. إلى تصالح تلك النخب التي تدّعي الإسلام، تمهيداً لتصالح الحكام والشعوب والفئات والأحزاب والمذاهب المتناحرة على الأرض العربية والإسلامية أولاً وقبل كل شيء، لنضرب المثل للحكام والفئات التي لا تريد الإسلام، أما إذا بقيت النخب الإسلامية متناحرة، فسوف تكون قدوة سوء لغيرها، ومسوّغاً لخلافاتهم التي لا تنتهي حتى تبدأ.
إن رسالة الأديب الإسلامي هائلة، ومهماته شاقّة، ومواقفه دقيقة، لأنها مستمدّة من تصوره الإسلامي بما فيه من ثوابت.. إنها ليست مواقف آنية، تمليها عليه ظروف متقلبة، بل يمليها عليه تصور سليم، منبثق من عقيدة سليمة راسخة.
- 6 -
وأخيراً ..
يعاني الأديب ما يعاني من عدم وجود نظرية متكاملة للأدب الإسلامي، فهو يستمدّ عناصر إبداعاته من المدارس الأدبية المختلفة، من الاتباعية (الكلاسية) إلى الإبداعية (الرومانسية) إلى مدرسة الفن للفن، إلى مدارس الواقعية القديمة والجديدة.
بين هذه المدارس الأدبية خلافات وفروق معروفة مشهورة، وبينها قواسم أو جوامع مشتركة، كالتقائها في عدد من العناصر الفنية لكل جنس من الأجناس الأدبية: قصة ومسرحية وقصيدة .. إذ لا بدّ للقصة مثلاً، في كل مدرسة من تلك المدارس، من تحقق عناصر لا تنهض القصة بدونها، كالموضوع والفكرة والشخصيات بأبعادها الجسدية والنفسية والاجتماعية، وكالزمان والمكان والحدث والحبكة مفكّكة ومُحْكمة.. لا بدّ من وجود هذه العناصر في القصة الكلاسية، وفي القصة الرومانسية، وفي القصة الواقعية، مع بعض الاختلافات في بعض تلك العناصر.
والأديب الإسلامي يسير - فنياً - على نهج من أرسى دعائم تلك الأجناس الأدبية..
إنه يقول الشعر في أسلوبه الذي قعَّد قواعده الخليل بن أحمد الفراهيدي بعد قرنين من ظهوره سويّاً، كما يقوله في أسلوبه الحديث، فيما يسمى بشعر التفعيلة..
وهو يكتب القصة والرواية والمسرحية، والمسلسل التلفزيوني، وسيناريو أفلام الكرتون، كما جاءتنا بعناصرها الفنية من الغرب ومن الشرق، لسبب وجيه، هو خلوّ تراثنا الأدبي من بعض هذه الأجناس، بما فيها من مقومات فنية لا تنهض بدونا..(/6)
الأديب الإسلامي أديب كسائر الأدباء .. يعني أنه يمتلك الأدوات الفنية لكل جنس من تلك الأجناس، فهو عالم بها، أو هكذا ينبغي أن يكون، حتى يتّسم بها، ويكون جديراً بالانتماء إليها.. وكما نطلق صفة العالم بالدين على الفقهاء والمحدّثين والمفسّرين، وكما نطلق على العالم بالطب أو الهندسة أو الزراعة أو الصيدلة صفة العالم، كذلك نطلق على من امتلك الأدوات الفنية للأدب، أو لأيّ جنس منه، صفة الأديب، لأن كلاً من هؤلاء العلماء والأدباء، قد امتلك ناصية العلم في باب من أبوابه الواسعة.
وعندما يصدر الأدب من أديب مسلم، وبتصورات إسلاميّة حيّة، بما فيها من فيوضات ربانية، ومنطلقات وغايات إنسانية، نطلق على ذلك الأدب صفة (الإسلامية) وعلى الأديب كذلك، فيغدو أديباً إسلامياً.
نخلص من هذا، إلى أن من وظائف الأديب الإسلامي، خلق مدرسة فنية، تلتقي مع ما سبقها من مدارس حيناً، وتفترق عنها حيناً آخر، فيما لا بدّ من الافتراق به عنها، في مقوّم أو أكثر من مقوماتها الفنية، أو في جزئية أو جزيئات من تلك المقوّمات.. إنه يفعل ذلك متميزاً أو مضطراً، حين تصطدم بمفهوم من المفهومات الإسلامية، أو بقيمة من قيمها الأصيلة..
قد يحدث هذا، برغم ما يبدو من حيادية العناصر الفنية التي تبدو أوعية نظيفة بريئة، يتولّى كبر ما ينتابها من فساد، أولئك الأدباء الذين يملؤونها بنتاجهم المعبّر عن قيم فكرية وعقدية تتباين سموّاً وهبوطاً..
وقد يجد، بل سوف يجد الأديب الإسلامي نفسه في حاجة إلى الناقد الإسلامي الذي يعينه في خلق المدرسة الإسلامية المتميزة في الأدب والفن، ليتكامل العمل في ولادة هذه المدرسة القديمة المتجددة، بكل ما تحتاج إليه من عناصر ومقومات وقيم فنية، ووسائل حياة.
وهذه مسألة في غاية الأهمية، وقد تكون من أولويات رسالة الأديب والناقد الإسلاميين، نتطلع إليها في لهفة متحرقة ، ونصعّد ابتهالاتنا إلى الله الخالق المصوّر المبدع، أن يلهم أدباءنا سبيل الرشاد، ليتمكنوا من أداء رسالة الأدب، لأنهم هم الشهود، وأدبهم هو الشهادة الحق على العصر الذي يحيون فيه، وهم الشهداء على الناس.
الهوامش
1 - أخرجه الستة إلا النسائي.
2 - ديوان حسان بن ثابت - بيروت: 169
3 - سورة الشعراء: 224 - 227
4 - أخرجه الإمام أحمد.
5 - ديوان البوسنة والهرسك: 5
6 - رواه مسلم وأحمد.
7 - فادي إسماعيل: الخطاب العربي المعاصر: 8
8 - نفسه : 14
9 - نفسه : 7
10 - طارق البشري - مشكلتان : 69
11 - سيد قطب - في ظلال القرآن -
12 - مشكلتان : 71
13 - رواه مسلم.
14 - محمد قطب - منهج الفن الإسلامي - 134
15 - سورة الذاريات :(/7)
رسالة الحسن البصريإلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما
اللهم صل و سلم و بارك على سيدنا محمد عبدك و رسولك و خليلك و على آله الطيبين الطاهرين . عدد ما في علم الله العظيم . صلاة و سلاما و بركات دائمة بدوام ملك الله العظيم
أما بعد:
اِعْلمْ يا أمير المؤمنين أن الدنيا دار ظعن و ليست بدار إقامة . و إنما أهبط إليها آدم من الجنة عقوبة . و قد يحسب من لا يدري ما ثواب الله أنها ثواب . و من لم يدر ما عقاب الله أنها عقاب . و لها في كل يوم صرعة . و ليست صرعة كصرعة . هي تهين من أكرمها . و تذل من أعزها . و تصرع من آثرها . و لها في كل حين قتلى . فهي كالسم يأكله من لا يعرفه و فيه حتفه . فالزاد منها تركها. والغنى منها فقرها . فكن فيها يا أمير المومنين كالمداوي جرحه . يصبر على شدة الدواء مخافة طول البلاء . يحتمي قليلا مخافة ما يكره طويلا فإن أهل الفضائل كان منطقهم فيها بالصواب. و مشيهم بالتواضع. مطعمهم الطيب من الرزق. مغمضي أبصارهم عن المحارم. فخوفهم في البر كخوفهم في البحر. ودعاؤهم في السراء كدعائهم في الضراء. لولا الآجال التي كتبت لهم ما تقاوت أرواحهم في أجسادهم خوفا من العقاب. و شوقا إلى الثواب. عظم الخالق في نفوسهم. فصغر المخلوق في أعينهم .
واعلم يا أمير المؤمنين أن التفكير يدعو إلى الخير و العمل به. و أن الندم على الشر يدعو إلى تركه. و ليس ما يفنى وإن كان كثيرا بأهل أن يؤثر على ما يبقى و إن كان طلبه عزيزا. و احتمال المؤنة المنقطعة التي تُعقب الراحة الطويلة خير من تعجيل راحة منقطعة تُعقب مؤنة باقية و ندامة طويلة . فاحذر الدنيا الصارعة الخاذلة القاتلة التي قد تزينت بخدعها وقتلت بغرورها و خدعت بآمالها . فأصبحت الدنيا كالعروس المجلية . فالعيون إليها ناظرة . و القلوب عليها والهة . و النفوس لها عاشقة . و هي لأزواجها كلهم قاتلة . فلا الباقي بالماضي معتبر . و لا الآخر لما رأى من أثرها على الأول مُزدَجَر . و لا العارف بالله المصدق له حين أخبر عنها مدَّكر . فأبت القلوبُ إلا لها حبا . و أبت النفوسُ إلا لها عشقا . و من عشق شيئا لم يلهم نفسه غيره . و لم يعقل شيئا سواه . مات في طلبه و كان آثر الأشياء عنده . فهما عاشقان طالبان مجتهدان:
فعاشق قد ظفر منها بحاجته . فاغتر و طغى و نسي و لها . فغفل عن مبتدأ خلقه. وضيع ما إليه معاده . فقلَّ في الدنيا لبثه. حتى زالت عنه قدمه . و جاءت منيته على شر ما كان حالا . و أطول ما كان فيها أملا . فعظم ندمه . و كثرت حسرته مع ما عالج من سكرته . فاجتمعت عليه سكرة الموت بكربته . و حسرة الفوت بغصته . فغير موصوف ما نزل به .
و آخر ميت مات من قبل أن يظفر منها بحاجته . فمات بغمه و كمده . و لم يدرك فيها ما طلب . و لم يرح نفسه عن التعب و النصب و اللعب .
فخرجا جميعا بغير زاد . و قدما على غير مهاد . فاحذرها الحذر كله . فإنما مثلها كمثل الحية لين مسها تقتل بسمها . فأعرض عما يعجبك فيها لقلة ما يصحبك منها . و ضع عنك همومها لما قد أيقنت به من فراقها . و اجعل شدة ما اشتد منها رجاء ما ترجو بعدها . و كن عند أسرِّ ما تكون منها أحذر ما تكون لها .(/1)
فإن صاحب الدنيا كلما اطمأن منها إلى سرور صحبته من سرورها بما يسوؤه. و كلما ظفر منها بما يحب انقلبت عليه بما يكره . فالسار منها لأهلها غار . و النافع منها غدا ضار . و قد وصل الرخاء منها بالبلاء . و جعل البقاء فيها إلى الفناء . فسرورُها بالحزن مشوب . والناعم فيها مسلوب. وانظر يا أمير المومنين إليها نظر الزاهد المفارق . و لا تنظر نظر المبتلى العاشق الوامق . و اعلم أنها تُزيل الثاوي بالساكن . و تفجع المترف فيها بالآمن . ولا ترجع فيها ما تولى منها و أدبر . و لا بد مما هو آت منها ينتظر . و لا يتبع ما صفا منها إلا كدر . فاحذرها فإن أمانيها كاذبة . و آمالها باطلة . و عيشها نكد . و صفوها كدر . و أنت منها على خطر . إما نعمة زائلة . و إما بلية نازلة . و إما مصيبة فادحة . و إما منية قاضية . فلقد كدرت المعيشة لمن عقل . فهو من نعيمها على خطر . و من بليتها على حذر . و من المنية على يقين . فلو كان الخالق تبارك و تعالى اسمه لم يخبر عنها بخبر . و لم يضرب لها مثلا . و لم يأمر فيها بزهد . لكانت الدنيا قد أيقظت النائم . و نبهت الغافل . فكيف وقد جاء عن الله عز و جل منها زاجر و فيها واعظ . فما لها عنده قدر . و لا لها عنده وزن من الصغر . فلهي عنده أصغر من حصاة في الحصى . و من مقدار نواة في النوى . ما خلق الله عز وجل خلقا فيما بلغنا أبغض إلى الله تبارك و تعالى منها . ما نظر إليها منذ خلقها . و لقد عرضت على نبينا محمد صلى الله عليه و سلم بمفاتيحها و خزائنها لا ينقصه ذلك عند الله عز و جل جناح بعوضة فأبى أن يتقبلها . و ما منعه من القبول لها – مع ما لا ينقصه الله عز و جل شيئا مما عنده كما وعده – إلا أنه علم أن الله عز و جل أبغض شيئا فأبغضه . و صغر شيئا فصغره . و لو قبلها كان الدليل على محبته قبوله إياها . و لكنه كره أن يخالف أمره . أو يحب ما أبغض خالقه . أو يرفع مما وضع مليكه . ولا تأمن من أن يكون هذا الكلام عليك حجة، نفعنا الله و إياك بالموعظة و السلام عليك و رحمة الله .
إبلاغ الواعي لحديث التداعي
الأستاذ الدكتور.مرهف سقا
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فهذا شرح حديث ثوبان رضي الله عنه في تداعي الأمم على خير الأمم أسأل الله تعالى أن أكون موفقاً فيه فهو حسبي ونعم الوكيل أبدؤه بسرد ألفاظ الحديث مخرجة ثم شرح ألفاظها ثم شرح الحديث واستنباط ما يرشد إليه.
روايات الحديث :
1 ـ عن ثوبان قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها فقال قائل ومن قلة نحن يومئذ قال بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن فقال قائل يا رسول الله وما الوهن قال حب الدنيا وكراهية الموت( 1 ).
قال المنذري: أبو عبد السلام [ الراوي عن ثوبان ]هذا هو صالح بن رستم الهاشمي الدمشقي سئل عنه أبو حاتم فقال مجهول لا نعرفه .
2 ـ عن ثوبان : عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : توشك الأمم أن تداعى عليكم كما يتداعى القوم على قصعتهم ينزع الوهن من قلوب عدوكم ويجعل في قلوبكم وتحبب إليكم الدنيا قالوا من قلة قال أكثركم غثاء كغثاء السيل (2) .
3 ـ عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الآكلة على قصعتها قال قلنا يا رسول الله أمن قلة بنا يومئذ قال أنتم يومئذ كثير ولكن تكونون غثاء كغثاء السيل ينتزع المهابة من قلوب عدوكم ويجعل في قلوبكم الوهن قال قلنا وما الوهن قال حب الحياة وكراهية الموت(3) .
4 ـ ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم إن رسول الله قال توشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الآكل إلى قصعتكم قالوا من قله نحن يومئذ قال بل انتم يومئذ كثير عددكم وليقذفن الوهن في قلوبكم قالوا وما الوهن قال حب الحياة وكراهية الموت(4)
5 ـ عن ثوبان مولى النبي صلى الله عليه وسلم قال يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى على القوم إلى قصعتهم قال قيل من قلة قال لا ولكنه غثاء كغثاء السيل يجعل الوهن في قلوبكم وينزع الرعب في قلوب عدوكم بحبكم الدنيا وكراهتكم الموت (5)
6 ـ عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة على قصعتها قالوا من قلة بنا يومئذ قال أنتم ذلك اليوم كثير ولكن غثاء كغثاء السيل تنتزع المهابة من قلوب عدوكم ويجعل في قلوبكم الوهن قالوا وما الوهن قال حب الدنيا وكراهية الموت(6 ) .(/2)
7 ـ عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال توشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها قيل أمن قلة نحن يومئذ قال بل أنتم كثير ولكن غثاء كغثاء السيل ولتنزعن المهابة منكم وليقذفن الوهن في قلوبكم قالوا وما الوهن قال حب الدنيا وكراهية الموت .
رواه عن دحيم الدمشقي عن بشر بن بكر عن جابر(7) .
غريب الحديث والمعنى(8):
يوشك الأمم : أي يقرب فرق الكفر وأمم الضلالة .
التداعي الاجتماع ودعاء البعض بعضا . وهي بحذف إحدى التاءين، أي تداعي بأن يدعو بعضهم بعضا لمقاتلتكم وكسر شوكتكم وسلب ما ملكتموه من الديار والأموال والمراد من الأمم فرق الكفر والضلالة.
الأكلة: ضبط في بعض النسخ الصحيحة بفتحتين بوزن طلبة وهو جمع آكل وقال في المجمع نقلا عن المفاتيح في شرح المصابيح ويروي الأكلة بفتحتين أيضا جمع آكل انتهى وقال فيه قبيل هذا ورواية أبي داود لنا الآكلة بوزن فاعله وقال القاري في المرقاة آكلة بالمد وهي الرواية على نعت الفئة والجماعة أو نحو ذلك كذا روي لنا عن كتاب أبي داود وهذا الحديث من أفراده ذكره الطيبي رحمه الله ولو روى الأكلة بفتحتين على أنه جمع آكل اسم فاعل لكان له وجه وجيه انتهى.
قال صاحب عون المعبود : قلت قد روي بفتحتين أيضا كما عرفت.
والمعنى كما يدعو أكلة الطعام بعضهم بعضا ( إلى قصعتها ) الضمير للأكلة أي التي يتناولون منها بلا مانع ولا منازع فيأكلونها عفوا صفوا كذلك يأخذون ما في أيديكم بلا تعب ينالهم أو ضرر يلحقهم أو بأس يمنعهم قاله القاري.
قال في المجمع أي يقرب أن فرق الكفر وأمم الضلالة أن تداعى عليكم أي يدعو بعضهم بعضا إلى الاجتماع لقتالكم وكسر شوكتكم ليغلبوا على ما ملكتموها من الديار كما أن الفئة آكلة يتداعى بعضهم بعضا إلى قصعتهم التي يتناولونها من غير مانع فيأكلونها صفوا من غير تعب انتهى.
(ومن قلة ) خبر مبتدأ محذوف وقوله (نحن يومئذ ) مبتدأ والخبر صفة لها أي إن ذلك التداعي لأجل قلة نحن عليها. (يومئذ كثير ) :أي عددا وقليل مددا ولكنكم غثاء كغثاء
غثاء كغثاء السيل: (غثاء ) بالضم والمد وبالتشديد أيضا،وهو ما يحمله السيل من زبد ووسخ، شبههم به لقلة شجاعتهم ودناءة قدرهم. ولينزعن : أي ليخرجن .
المهابة أي الخوف والرعب. وليقذفن : بفتح الياء أي وليرمين الله ( الوهن ) :أي الضعف. وكأنه أراد بالوهن ما يوجبه، ولذلك فسره بحب الدنيا وكراهية الموت قاله القاري. وما الوهن : أي ما يوجبه وما سببه قال الطيبي رحمه الله سؤال عن نوع الوهن أو كأنه أراد من أي وجه يكون ذلك الوهن قال حب الدنيا وكراهية الموت وهما متلازمان فكأنهما شيء واحد يدعوهم إلى إعطاء الدنية في الدين من العدو المبين ونسأل الله العافية.
واقعنا والحديث :
يضعنا النبي صلى الله عليه وسلم أمام صورة حركية مدهشة ، يمثلها بقوم جياع شرهين يبحثون عن وليمة باردة سهلة يأكلونها، وعندما يجدون هذه الفريسة؛ يقف كل واحد منهم على مشارف الطرق ويذهب إلى النوادي والمحافل يدعو الأمم والفرق والأفراد ، بينما هنا الداعي إلى الطعام لئيم حاقد تأصل فيه الشر حتى صار معدناً للشر ، أي كما يدعو صاحب الطعام ضيوفه إلى الوليمة كذلك الأمم والفرق الضالة تدعوا بعضها عليكم إذ أنتم الوليمة يومئذ.
وتأمل هذا التشبيه الأول للمسلمين بالقصعة ، الغنيمة الباردة .. التي يهيئها صاحبها بالنسق الذي يسيل لعابه ويتحكم بشكلها وطعمها ، والقصعة بين يديه مستسلمة تنتظر موعد وصولها إلى فم آكلها .
إن تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم تداعي الأمم بتداعي الأكلة ليوحي بنفسية عفنة انطوت على شراهة واندفاع شديد نحو القصعة يغذيه جوع دموي دفين .
ولعل هذا ما أدى بسيدنا ثوبان رضي الله عنه أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن سبب التداعي ، هل هو من القلة حتى استخفت هذه الأمم بالمسلمين واستهترت بما معهم؟ .
فكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم جواب الحكيم الذي يفتح مدارك الوعي الإيماني في قلب وعقل المسلم حتى لا يكون ثغرة يؤتى من خلالها على المسلمين وبلادهم فيكون سبباً لذلة إخوانه .
نعم ليست القلة هي السبب ، ألم تر إلى المسلمين في بدر لقد كانوا قلة ،ولم يستطع عليهم عدوهم ، وكذلك في الأحزاب تداعى الجمع عليهم ولم يحقق الله آمال الكافرين في المسلمين مع أن المسلمين قلة .
إذن ليس للعدد وزن ولا قيمة عند الله ، ولم يجعله الله السبب الرئيس للانتصار في المعارك.(/3)
بل المسلمون عندما تتداعى الأمم عليهم يومئذ كثير ، ولكن .. هم غثاء كغثاء السيل ، تأمل أخي المسلم هذا التشبيه الثاني للمسلمين بالغثاء وهو ما ارتفع على وجه الماء وحمله السيل من الوسخ والجيف والأعواد .... مما لا ينفع الناس ولا يقوم به شيء ، ومعلوم أن الغثاء تبع للسيل الجارف لا يقوى على المصادمة ولا خيار له في الطريق الذي يسلكه مع السيل ، بل شأن هذا الغثاء السمع والطاعة من السيل الذي يحصد كل ما أتى أمامه .
ويبين النبي صلى الله عليه وسلم سبب هذا الاستسلام والانقياد الأعمى مع معرفة المنقاد أنه ذاهب إلى الهاوية، وكأنه صلى الله عليه وسلم قرأ ما في نفس كل سامع للحديث السؤال الذي يتداعى إلى النفس : وممّ هذا ؟
فيجيب الرسول الرحيم بقوله ((ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن )) وفي لفظ آخر ((ينزع الوهن من قلوب عدوكم ويجعل في قلوبكم )) وفي رواية (( ينتزع المهابة من قلوب عدوكم ويجعل في قلوبكم الوهن )) ، وفي لفظ : (( تنتزع المهابة من قلوب عدوكم ويجعل في قلوبكم الوهن )) .
إن هذه الألفاظ تشير إلى :
ـ أن أعداءنا كانوا يهابوننا ، (( ينتزع المهابة من قلوب عدوكم )) ومثله من روايات الحديث السابقة ، وهذه المهابة لنا في قلوب العدو سببها الوهن الذي فيهم ، والذي فسره النبي صلى الله عليه وسلم بـ (حب الدنيا وكراهية الموت) ، وهذا ما يؤيده الرواية الأخرى للحديث ((ينزع الوهن من قلوب عدوكم ويجعل في قلوبكم)) .
إذن إن الوهن الذي أصاب أعداءنا سببه حبهم للدنيا كما قال تعالى : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) (البقرة:96).
هذا من طرفهم ، وأما من طرف المسلمين فحبهم للموت كان يزرع المهابة في قلوب عدوهم ، وهذا مما يجعل أعداء الإسلام يحسبون للمسلمين كل حساب عندما تراودهم أنفسهم في التورط بالقتال مع المسلمين .
ولكن يوم التداعي الذي يحدثنا عنه النبي صلى الله عليه وسلم تتغير الأحول ، وتتداخل القلوب وتتدخل الأهواء ، ويتحكم الهوى ، وتدخل الدنيا نفوس المسلمين وقلوبهم، وتصبح المصالح هي الموجهة بدل الإيمان ، وتؤثر الدنيا على الدين ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (المائدة:105): (بل ائتمروا بالمعروف و تناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، فعليك بخاصة نفسك ، ودع العوام ، فإن من ورائكم أياماً الصبر فيهن مثل القبض على الجمر ، للعامل فيهن أجر خمسين رجلاً يعملون كعملكم .) قال عبد الله بن المبارك : وزاد غير عتبة : ( قيل يا رسول الله : أجر خمسين رجلاً منا أو منهم ؟، قال : بل أجر خمسين منكم . ) (9 ).
ولكن ثوبان رضي الله عنه سمع بـ ( الوهن ) فأخذت انتباهه ، لأنها لفظ مجمل ، والضعف وهن ، والمرض وهن ... فأي أنواع الوهن يصيبهم ؟ ، ثم لكل نوع من الوهن أسبابه..
لكن الجواب أعطى للوهن مدلولاً إيمانياً يشمل كل المعاني السابقة ، وأضاف إليها أم المعاني ، إنه : حب الدنيا وكراهية الموت ، وعند الطيالسي : ( بحبكم الدنيا .. ) فالباء سببية ، أي بسبب حبكم الدنيا وكراهيتكم للموت .
إنه وهن قلبي ، وهن نفسي ، وهن فكري ، وهن عقائدي تسرب إليكم لتشرب قلوبكم حب الدنيا ، فتعلقت بها كتعلق الغريق بقشة يظن فيها النجاة .
فالعدو يمتلك الدنيا ورفاهيتها ، وأخذ يتحكم بها فينا كما يريد ، ويلوح بها أمام أعينا كما يلوح الرجل لكلبه بقطعة لحم ، يزينها له ليستعبده ، فيلهث الكلب ويسيل لعابه ، ويرضى لنفسه أن يكون منقاداً لسيده مقبل أن يعطيه الطعام .
كذلك الذي أشرب قلبه حب الدنيا واستمسكت نفسه بها وظن أن السعادة فيها ، أخذ يخاف من زوالها من يديه فأتقن سبب تحصيلها ، أتدري ما هو ؟ ، أن يكون ذليلاً منقاداً في السيل الجارف ، أن يكون إمعة لا رأي له ، أن يكون ريشة في مهب الريح تتقاذفه الأفكار وتتلاعب فيه العواطف ،أن يكون سلاحاً يحارب به إخوانه المسلمين في الأرض ويحارب به الإسلام .
هل أدركت معي أخي المسلم سر تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم لحال المسلمين في زمن التداعي بـ ( القصعة، والغثاء ).
وهل أدركت سر المهانة التي يعيشها المسلمون اليوم ؟ وسر استهانة عدونا بنا وسبب جرأته علينا .
هل وهل .. أسئلة كثيرة تطرح نفسها في كل وقت عندما :
ـ تسمع أن أعداء الإسلام كافة يريدون تغيير المناهج الشرعية في بلاد المسلمين ، وتنعقد المؤتمرات لذلك في بلاد المسلمين ؟.(/4)
ـ تسمع تصريحات الصليبيين علناً في محاربة الإسلام ، والقضاء على العلماء ، وما تعلنه جرائدهم وأبواقهم اللئيمة مطالبة بهدم الكعبة المشرفة زادها الله تعظيماً .
ـ تسمع شتمهم للنبي صلى الله عليه وسلم ووصفه بما لا يرضاه أحدنا لنفسه فكيف لنبيه؟
ـ ترى قتل المسلمين في أندونيسيا وكشمير وأفغانستان وفلسطين والعراق .. بجهود دولية وتحالفات رسمية تحت شعار الإنسانية .
ـ ترى من هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ويحملون أفكاراً علمانية يلبسونها ثياباً إسلامية ليستسيغها شباب المسلمين ، ويحرفوا عقولهم ...... .
وغير ذلك كثير مما ينفطر القلب له ، ونحن الذين يبلغ تعدادنا ملياراً وجاوز الربع مليار
ولكننا كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم غثاء كغثاء السيل .
كم خسرنا عندما خسرنا إيماننا ، كم خسرنا عندما خسرنا خلافتنا ، كم خسرنا عندما خسرنا تشريعنا ، وكم .. وكم.. بل كم خسر العالم عندما خسرنا نحن ، وعندما خسرنا إسلامنا ؟.
إنني لا أتكلم بلهجة اليائس من رحمة الله حاشا ، ولكن أنبه لعلي أجد من يسمع العلاج من هدي النبوة ، فالعلاج في الحديث أن ننزع حب الدنيا من قلوبنا ، وأن نتذاكر الموت فيما بيننا ، وأن نملك مفاصل القوة وأسبابها وأولها كراهية الدنيا وحب الموت .
ولا يظنن ظان أن المقصود بكراهية الدنيا تركها والإعراض عنها بل ترك حبها والتعلق فيها ، و أن تكون بأيدينا لا في قلوبنا .
وأنا على يقين أن الإسلام سبلغ ما بلغته الشمس ، وأن راية الإسلام سترفع في كل مكان على وجه الأرض وخاصة في ما ، ولكن لنقرأ قوله تعالى :
( هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (محمد:38)
( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الأنفال:53)
(لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ) (الرعد:11).
المراجع
(1) ـ أبو داود في السنن 4/111 :دار الفكر ت محيي الدين عبد الحميد
(2) ـ مصنف ابن أبي شيبة ج: 7 ص: 463 ط مكتبة الرشد الرياض ت كمال الحوت
(3) ـ مسند أحمد ج: 5 ص: 278 ط دار قرطبة مصر .
(4) ـ مسند الروياني ج: 1 ص: 427 ت أيمن علي أبو يماني ط دار قرطبة 1416
(5) ـ مسند الطيالسي: ص: 133 ط دار المعرفة بيروت
(6) ـ حلية الأولياء ج: 1 ص: 182 ط دار الكتاب العربي الرابعة 1405
(7) ـ تهذيب الكمال ج: 13 ص: 46 مؤسسة الرسالة في ترجمة صالح بن رستم . وقد أخرج الحديث البخاري في تاريخه الكبير فقال : (عن أبي هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم يوشك أن تداعى عليكم الأمم
قاله عيسى بن إبراهيم نا عبد العزيز بن مسلم وقال مؤمل عن عبد العزيز عن إسماعيل عن قيس عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم والأول أصح .
التاريخ الكبير ج: 4 ص: 340 ط دار الفكر ت هاشم الندوي
(8) ـ عون المعبود ج: 11 ص: 272 ، 273 ، ط دار الكتب العلمية الثانية1415.
(9) ـ أخرجه الترمذي وقال : هذا حديث حسن غريب صحيح ، وكذا رواه أبو داود من طريق ابن المبارك ورواه ابن ماجه وابن جرير وابن أبي حاتم عن عتبة بن أبي الحكم . انظر ابن كثير صـ 444 ط مؤسسة الرسالة . ت أنس مصطفى الخن .
المصدر : مركز أبحاث فقه المعاملات الإسلامية
أقرأ أيضا:
• ... دعوة للتأسي والاقتداء بشمائل النبي المصطفى e
• ... قصة الثلاثة الذين خلفوا
• ... خير الرجال وشر الرجال
• ... فساد الأمم
• ... من هدي النبوة الخاتمة
• ... الحياء خلق الأمة الإسلامية
• ... الصدق والصديقون
• ... الظلم ظلمات يوم القيامة
• ... أخلاق المؤمنين من جوامع كلم الرسول صلى الله عليه وسلم
دعوة للتأسي والاقتداء بشمائل النبي المصطفى - صلى الله عليه وسلم -
تحل بنا ذكرى المولد النبوي الشريف والأمة الإسلامية تعيش إحدى أحلك فتراتها مصداقا لما سبق أن حذر منه النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - أمته بعد أن زاغت عن المحجة البيضاء؛ فتكالبت عليها الأمم شرقية وغربية واحتلت عقر دارها ودنست مقدساتها، وأذلت حكامها واستضعفت شعوبها واستنزفت ثرواتها. فهل تستفيق الأمة من سباتها ويؤوب حكامها إلى رشدهم؟(/5)
إن لنا في ذكرى مولد خير الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام أعظم الدروس والعبر إن نحن عقدنا العزم على الاقتداء بسيرته واتباع ما جاء به من نور وهداية: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً } (الأحزاب:21).
ينبغي أن نذكر ابتداء أن إحياء ذكرى مولد المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ليست احتفالا بعيد حتى تعد ابتداعا في الدين؛ وإنما هي مجرد وقفة للتذكر والاعتبار من أجل التأسي والاقتداء.
ويحسن في هذا المقام أن نذكر ببعض شمائله التي أوجبت له مدح البارئ عز وجل وثناءه ووصفه له بالشهادة فقال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً } (الأحزاب:45- 46).
وفي حديث أبي هالة في وصفه للرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي أورده القاضي عياض في كتابه "الشفا بتعريف حقوق المصطفى - صلى الله عليه وسلم -" يقول: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دائم الفكر، ليست له راحة، ولا يتكلم في غير حاجة، طويل السكوت، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه[أي: لسعة فمه. والعرب تتمادح بهذا وتذم بصغر الفم ]، ويتكلم بجوامع الكلم فضلا، لا فضول فيه ولا تقصير، دمثا ليس بالجافي ولا المهين، يعظم النعمة وإن دقت، لا يذم شيئا، لم يكن يذم ذواقا، ولا يمدحه، ولا يقام لغضبه إذا تعرض للحق بشيء حتى ينتصر له، ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها، إذا أشار أشارَ بكفه كلها، وإذا تعجب قلبها، وإذا تحدث اتصل بها، فضرب بإبهامه اليمنى راحته اليسرى، وإذا غضب أعرض وأشاح [مال وانقبض ]، وإذا فرح غض طرفه، جل ضحكه التبسم، ويفتر عن مثل حب الغمام [ البرد ].
قال الحسن: فكتمها الحسين بن علي زمانا، ثم حدثته فوجدته قد سبقني إليه، فسأل أباه عن مدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومخرجه وشكله، فلم يدع منه شيئا.
قال الحسين: سألت أبي عن دخول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: كان دخوله لنفسه مأذونا له في ذلك، فكان إذا أوى إلى منزله جزأ دخوله ثلاث أجزاء: جزءا لله، وجزءا لأهله، وجزءا لنفسه، ثم جزءا جزأه بينه وبين الناس، فيرد ذلك على العامة بالخاصة، ولا يدخر عنهم شيئا، فكان من سيرته من جزء الأمة إيثار أهل الفضل بإذنه وقسمته على قدر فضلهم في الدين، منهم ذو الحاجة، ومنهم ذو الحاجتين، ومنهم ذو الحوائج، فيتشاغل بهم، ويشغلهم في ما أصلحهم، والأمة من مسألته عنهم وإخبارهم بالذي ينبغي لهم، ويقول: « ليبلغ الشاهد منكم الغائب، وأبلغوا حاجة من لا يستطيع إبلاغي حاجته، فإنه من أبلغ سلطانا حاجة من لا يستطيع إبلاغها ثبت الله قدميه يوم القيامة، ولا يذكر عنده إلا ذلك، ولا يقبل من أحد غيره ».
وقال في حديث سفيان بن وكيع : يدخلون روادا [محتاجين إليه طالبين]، ولا يتفرقون إلا عن ذواق [عن علم يتعلمونه]، ويخرجون أذلة – يعني فقهاء.
قلت: فأخبرني عن مخرجه كيف كان يصنع فيه؟
قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخزن لسانه إلا مما يعنيهم ويؤلفهم ولا يفرقهم، يكرم كريم كل قوم، ويوليه عليهم، ويحذر الناس، ويحترس منهم، من غير أن يطوي عن أحد بشره وخلقه، ويتفقد أصحابه، ويسأل الناس عما في الناس، ويحسن الحسن ويصوبه، ويقبح القبيح ويوهنه، معتدل الأمر غير مختلف، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يملوا، لكل حال عنده عتاد، لا يقصر عن الحق، ولا يجاوزه إلى غيره، الذين يلونه من الناس خيارهم، وأفضلهم عنده أعمهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة.
فسأله عن مجلسه: عما كان يصنع فيه.
فقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر، ولا يوطن الأماكن [أي لا يتخذ لمصلاه موضعا معلوما]، وينهى عن إيطانها، وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس، ويأمر بذلك، ويعطي كل جلسائه نصيبه حتى لا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه فيه، من جالسه أو قاومه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه. من سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول. قد وسع الناس بسطه وخلقه، فصار لهم أبا، وصاروا عنده في الحق سواء، متقاربين متفاضلين فيه بالتقوى.
وفي الرواية الأخرى: صاروا عنده في الحق سواء، مجلسه مجلس حلم وحياء، وصبر وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبن فيه الحرم [أي لا يذكرن بسوء]، ولا تنثى فلتاته [ أي لا يتحدث بها، أي لم تكن فيه فلتة، وإن كانت من أحد سترت].
يتعاطون فيه بالتقوى متواصفين، يوقرون فيه الكبير، ويرحمون الصغير، ويرفدون ذا الحاجة [ أي يعينون ]، ويرحمون الغريب.
فسألته عن سيرته - صلى الله عليه وسلم - في جلسائه.(/6)
فقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ، ولا سخاب [ السخاب= كثير الصياح] ولا فحاش، ولا عياب ولا مداح. يتغافل عما لا يشتهي ولا يوئس منه، قد ترك نفسه من ثلاث: الرياء، والإكثار، وما لا يعنيه. وترك من ثلاث: كان لا يذم أحدا، ولا يعيره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا في ما يرجو ثوابه، إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير، وإذا تكلموا لا يتنازعون عنده الحديث. من تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم حديث أولهم، يضحك مما يضحكون منه، ويتعجب مما يتعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في المنطق، ويقول: « إذا رأيتم صاحب الحجة يطلبها فأرفدوه، ولا يطلب الثناء إلا من مكافئ، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يتجوزه فيقطعه بانتهاء أو قيام.
أما عن سكوته - صلى الله عليه وسلم - فقال: كان سكوته على أربع: على الحلم، والحذر، والتقدير والتفكر. فأما تقديره ففي تسوية النظر والاستماع بين الناس، أما تفكره ففيما يبقى ويفنى.
وجمع له الحلم - صلى الله عليه وسلم - في الصبر، فكان لا يغضبه شيء يستفزه. وجمع له في الحذر أربع: أخذه بالحسن ليقتدى به، وتركه القبيح لينتهى عنه، واجتهاد الرأي بما أصلح أمته، والقيام لهم بما جمع لهم أمر الدنيا والآخرة.
تلك أوصافه - صلى الله عليه وسلم - كما جاءت في الأثر، ونقلها خيار صحبه وآله الكرام البررة، أما ما اختصه البارئ عز وجل به من المدح والثناء في محكم كتابه فصورة مشرقة لرسول رؤوف رحيم وقائد حكيم عطوف كريم؛ قال تعالى: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } (آل عمران:159-160) .
ومن وحي هذه الآيات الكريمة يصور فضيلة الشيخ محمد أبو زهرة أخلاق النبوة الكريمة وصفات القيادة الحكيمة، فيقول في شأنها:
« بيّن سبحانه أن القيادة الحكيمة تكون مع العزيمة رحيمة، ومع استقبال الأحداث بقوة تكون خالية من الفظاظة والقسوة، وتلتزم الصفح عن الخطأ ليعتزموا الصواب، والاستغفار من الذنب لتجدد التوبة ، ولذا قال تعالى في حال النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وما انبعث منه في موقفه يوم أحد: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } . الباء هنا باء السببية، وما زائدة في الإعراب، ولكنها في المعنى لتقوية معنى الرحمة. والمعنى: بسبب رحمة عظيمة فياضة أفاضها المولى العلي القدير كنت لينا معهم في كل أحوالك، وكنت لينا لهم بعد الأخطاء التي وقعوا فيها، والكارثة التي نتجت عن مخالفتك، فما لُمتَهم ولا عَنَّفْتهم، بل سكتَّ حيث رأيت ما أصابهم من غم استغرقهم، وحزن استولى عليهم، ولقد شكر الله سبحانه وتعالى لنبيه ذلك اللين، إذ لم يؤاخذهم، ولم يفرط في القول معهم؛ لأن اللوم على الماضي يُيْئس النفس من غير جدوى، وهو رجعة إلى الوراء، والقائد الحكيم يتجه إلى الأمام، ولا يلتفت إلى ورائه إلا بمقدار ما ينير له السبيل أمامه، وبمقدار ما يجنبه خطأ وقع فيه، وبمقدار ما يحفز همة من معه، ويشحذ عزيمتهم، وإن المبالغة في اللوم على ما وقع في الماضي يُلقي باليأس، وفي اليأس الهزيمة، واليأس والقنوط إسراف على النفس بالهموم، ولا نجاح لمن هو في هم دائم، وحزن واصب، فكان لين النبي - صلى الله عليه وسلم - معهم في هذه الآلام التي أصابتهم كالبلسم الشافي لأسقامهم، والقائد الماهر الحكيم يجب أن يجمع إلى العزيمة القوية الموجهة إلى العمل البِشْرَ ولين العريكة، وتسهيل الخروج من أوضار الخطأ، حتى لا يعنتهم ولا يبهظهم ( أي يثقل عليهم)، وحسبهم ما أصابهم، وإن الشدة في مثل هذه الأحوال والغلظة في القول والعمل تنفر ولا تجمع، وقد بيّن ذلك سبحانه وتعالى بقوله: { ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك } .(/7)
وهذا النص الكريم يثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس فظا ولا غليظا ولا قاسيا؛ لأن "لو" تدل على نفي الجواب لنفي الشرط، والمعنى أنك لست فظا ولا غليظ القلب وهذا الذي يتفق مع صفات النبوة والقيادة الحكيمة الرشيدة الهادية الموجهة إلى أمثل الطرق الجامعة للقلوب، لأنك لو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك. والفظاظة خشونة المظهر، والعشرة السيئة، وسوء القول وتجهم الوجه؛ وغلظ القلب قسوته، وقد نفى الله سبحانه وتعالى عن نبيه الغلظة في المظهر والباطن، فالغلظة في المظهر هي الفظاظة، والغلظة في الباطن هي قسوة القلب، وكلا الوضعين من شأنه أن ينفر، ولقد قال تعالى في وصف نبيه: { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ } (التوبة:128) .
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - باشّاً لطيف المعشر متسامحا رحيما، لا يقسو ولا يعنت أحدا، ولا يغضب ولا يسب، وما ضرب أحدا بيده قط، وكان سهلا في معاملاته متسامحا، وكان طلق الوجه دائما، رآه أعرابي، فاسترعاه بشاشته وطلق محياه، فقال له: أأنت الذي تقول عنه قريش إنه كذاب؟ والله ما هذا الوجه وجه كذاب! وأسلم إذ دعاه النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ولقد وصف عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال: « إنه ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي السيئة بمثلها، ولكن يعفو ويصفح ». وكان عليه السلام لا يثير غيظه شيء ويداري الناس إلا أن يكون في المداراة حق مضيع. ولقد روت عائشة رضي الله عنها أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: « إن الله أمرني بمداراة الناس كما أمرني بإقامة الفرائض ».
وإذا كانت الغلظة منفرة فالعفو جامع، ولذلك أمر الله تعالى نبيه الكريم بما يترتب على الرفق والبشاشة، وهو العفو فقال: { فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ } .
________________________________________
من تربية الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه الصادقين
قصة الثلاثة الذين خلفوا في غزوة تبوك
برواية الإمام البخاري(/8)
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَكَانَ قَائِدَ كَعْبٍ مِنْ بَنِيهِ حِينَ عَمِيَ قَالَ سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ(1) يُحَدِّثُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ قِصَّةِ تَبُوكَ قَالَ كَعْبٌ لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا إِلَّا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ غَيْرَ أَنِّي كُنْتُ تَخَلَّفْتُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ وَلَمْ يُعَاتِبْ أَحَدًا تَخَلَّفَ عَنْهَا إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ عِيرَ قُرَيْشٍ حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ وَلَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ حِينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الْإِسْلَامِ وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ وَإِنْ كَانَتْ بَدْرٌ أَذْكَرَ فِي النَّاسِ مِنْهَا كَانَ مِنْ خَبَرِي أَنِّي لَمْ أَكُنْ قَطُّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْغَزَاةِ وَاللَّهِ مَا اجْتَمَعَتْ عِنْدِي قَبْلَهُ رَاحِلَتَانِ قَطُّ حَتَّى جَمَعْتُهُمَا فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ غَزْوَةً إِلَّا وَرَّى بِغَيْرِهَا حَتَّى كَانَتْ تِلْكَ الْغَزْوَةُ غَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا وَمَفَازًا وَعَدُوًّا كَثِيرًا فَجَلَّى لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ فَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِ الَّذِي يُرِيدُ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرٌ وَلَا يَجْمَعُهُمْ كِتَابٌ حَافِظٌ يُرِيدُ الدِّيوَانَ قَالَ كَعْبٌ فَمَا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَتَغَيَّبَ إِلَّا ظَنَّ أَنْ سَيَخْفَى لَهُ مَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيُ اللَّهِ وَغَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ الْغَزْوَةَ حِينَ طَابَتْ الثِّمَارُ وَالظِّلَالُ وَتَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ فَطَفِقْتُ أَغْدُو لِكَيْ أَتَجَهَّزَ مَعَهُمْ فَأَرْجِعُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا فَأَقُولُ فِي نَفْسِي أَنَا قَادِرٌ عَلَيْهِ فَلَمْ يَزَلْ يَتَمَادَى بِي حَتَّى اشْتَدَّ بِالنَّاسِ الْجِدُّ فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جَهَازِي شَيْئًا فَقُلْتُ أَتَجَهَّزُ بَعْدَهُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ ثُمَّ أَلْحَقُهُمْ فَغَدَوْتُ بَعْدَ أَنْ فَصَلُوا لِأَتَجَهَّزَ فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا ثُمَّ غَدَوْتُ ثُمَّ رَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا فَلَمْ يَزَلْ بِي حَتَّى أَسْرَعُوا وَتَفَارَطَ الْغَزْوُ وَهَمَمْتُ أَنْ أَرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُمْ وَلَيْتَنِي فَعَلْتُ فَلَمْ يُقَدَّرْ لِي ذَلِكَ فَكُنْتُ إِذَا خَرَجْتُ فِي النَّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطُفْتُ فِيهِمْ أَحْزَنَنِي أَنِّي لَا أَرَى إِلَّا رَجُلًا مَغْمُوصًا عَلَيْهِ النِّفَاقُ أَوْ رَجُلًا مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ مِنْ الضُّعَفَاءِ وَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ تَبُوكَ فَقَالَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْقَوْمِ بِتَبُوكَ مَا فَعَلَ كَعْبٌ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ حَبَسَهُ بُرْدَاهُ وَنَظَرُهُ فِي عِطْفِهِ فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ بِئْسَ مَا قُلْتَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ فَلَمَّا بَلَغَنِي أَنَّهُ تَوَجَّهَ قَافِلًا حَضَرَنِي هَمِّي وَطَفِقْتُ أَتَذَكَّرُ الْكَذِبَ وَأَقُولُ بِمَاذَا أَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ غَدًا وَاسْتَعَنْتُ عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ ذِي رَأْيٍ مِنْ أَهْلِي فَلَمَّا قِيلَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَظَلَّ قَادِمًا زَاحَ عَنِّي الْبَاطِلُ وَعَرَفْتُ أَنِّي لَنْ أَخْرُجَ مِنْهُ أَبَدًا بِشَيْءٍ فِيهِ كَذِبٌ فَأَجْمَعْتُ صِدْقَهُ وَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَادِمًا وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَيَرْكَعُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ فَلَمَّا(/9)
فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَهُ الْمُخَلَّفُونَ فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ وَيَحْلِفُونَ لَهُ وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا فَقَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَانِيَتَهُمْ وَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ فَجِئْتُهُ فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَ فَجِئْتُ أَمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لِي مَا خَلَّفَكَ أَلَمْ تَكُنْ قَدْ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ فَقُلْتُ بَلَى إِنِّي وَاللَّهِ لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا لَرَأَيْتُ أَنْ سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلًا وَلَكِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ الْيَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَنِّي لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَيَّ وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ إِنِّي لَأَرْجُو فِيهِ عَفْوَ اللَّهِ لَا وَاللَّهِ مَا كَانَ لِي مِنْ عُذْرٍ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيكَ فَقُمْتُ وَثَارَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ فَاتَّبَعُونِي فَقَالُوا لِي وَاللَّهِ مَا عَلِمْنَاكَ كُنْتَ أَذْنَبْتَ ذَنْبًا قَبْلَ هَذَا وَلَقَدْ عَجَزْتَ أَنْ لَا تَكُونَ اعْتَذَرْتَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا اعْتَذَرَ إِلَيْهِ الْمُتَخَلِّفُونَ قَدْ كَانَ كَافِيَكَ ذَنْبَكَ اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَ فَوَاللَّهِ مَا زَالُوا يُؤَنِّبُونِي حَتَّى أَرَدْتُ أَنْ أَرْجِعَ فَأُكَذِّبَ نَفْسِي ثُمَّ قُلْتُ لَهُمْ هَلْ لَقِيَ هَذَا مَعِي أَحَدٌ قَالُوا نَعَمْ رَجُلَانِ قَالَا مِثْلَ مَا قُلْتَ فَقِيلَ لَهُمَا مِثْلُ مَا قِيلَ لَكَ فَقُلْتُ مَنْ هُمَا قَالُوا مُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ الْعَامرِيُّ (2)وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيُّ(3) فَذَكَرُوا لِي رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ قَدْ شَهِدَا بَدْرًا فِيهِمَا أُسْوَةٌ فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِي وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلَامِنَا أَيُّهَا الثَّلَاثَةُ مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ وَتَغَيَّرُوا لَنَا حَتَّى تَنَكَّرَتْ فِي نَفْسِي الْأَرْضُ فَمَا هِيَ الَّتِي أَعْرِفُ فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً فَأَمَّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانَا وَقَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا يَبْكِيَانِ وَأَمَّا أَنَا فَكُنْتُ أَشَبَّ الْقَوْمِ وَأَجْلَدَهُمْ فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصَّلَاةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَأَطُوفُ فِي الْأَسْوَاقِ وَلَا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ وَآتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَأَقُولُ فِي نَفْسِي هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلَامِ عَلَيَّ أَمْ لَا ثُمَّ أُصَلِّي قَرِيبًا مِنْهُ فَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ فَإِذَا أَقْبَلْتُ عَلَى صَلَاتِي أَقْبَلَ إِلَيَّ وَإِذَا الْتَفَتُّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنِّي حَتَّى إِذَا طَالَ عَلَيَّ ذَلِكَ مِنْ جَفْوَةِ النَّاسِ مَشَيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ جِدَارَ حَائِطِ أَبِي قَتَادَةَ وَهُوَ ابْنُ عَمِّي وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَوَاللَّهِ مَا رَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ فَقُلْتُ يَا أَبَا قَتَادَةَ أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُنِي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَسَكَتَ فَعُدْتُ لَهُ فَنَشَدْتُهُ فَسَكَتَ فَعُدْتُ لَهُ فَنَشَدْتُهُ فَقَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَفَاضَتْ عَيْنَايَ وَتَوَلَّيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ الْجِدَارَ قَالَ فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي بِسُوقِ الْمَدِينَةِ إِذَا نَبَطِيٌّ مِنْ أَنْبَاطِ أَهْلِ الشَّأْمِ مِمَّنْ قَدِمَ بِالطَّعَامِ يَبِيعُهُ بِالْمَدِينَةِ يَقُولُ مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ حَتَّى إِذَا جَاءَنِي دَفَعَ إِلَيَّ كِتَابًا مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ فَإِذَا فِيهِ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللَّهُ بِدَارِ هَوَانٍ وَلَا مَضْيَعَةٍ فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ فَقُلْتُ لَمَّا قَرَأْتُهَا وَهَذَا أَيْضًا مِنْ الْبَلَاءِ فَتَيَمَّمْتُ بِهَا التَّنُّورَ فَسَجَرْتُهُ بِهَا حَتَّى إِذَا مَضَتْ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً مِنْ الْخَمْسِينَ(/10)
إِذَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِينِي فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ فَقُلْتُ أُطَلِّقُهَا أَمْ مَاذَا أَفْعَلُ قَالَ لَا بَلْ اعْتَزِلْهَا وَلَا تَقْرَبْهَا وَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبَيَّ مِثْلَ ذَلِكَ فَقُلْتُ لِامْرَأَتِي الْحَقِي بِأَهْلِكِ فَتَكُونِي عِنْدَهُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِي هَذَا الْأَمْرِ قَالَ كَعْبٌ فَجَاءَتْ امْرَأَةُ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ شَيْخٌ ضَائِعٌ لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ فَهَلْ تَكْرَهُ أَنْ أَخْدُمَهُ قَالَ لَا وَلَكِنْ لَا يَقْرَبْكِ قَالَتْ إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا بِهِ حَرَكَةٌ إِلَى شَيْءٍ وَاللَّهِ مَا زَالَ يَبْكِي مُنْذُ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ إِلَى يَوْمِهِ هَذَا فَقَالَ لِي بَعْضُ أَهْلِي لَوْ اسْتَأْذَنْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي امْرَأَتِكَ كَمَا أَذِنَ لِامْرَأَةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ أَنْ تَخْدُمَهُ فَقُلْتُ وَاللَّهِ لَا أَسْتَأْذِنُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يُدْرِينِي مَا يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اسْتَأْذَنْتُهُ فِيهَا وَأَنَا رَجُلٌ شَابٌّ فَلَبِثْتُ بَعْدَ ذَلِكَ عَشْرَ لَيَالٍ حَتَّى كَمَلَتْ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَلَامِنَا فَلَمَّا صَلَّيْتُ صَلَاةَ الْفَجْرِ صُبْحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً وَأَنَا عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عَلَى الْحَالِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسِي وَضَاقَتْ عَلَيَّ الْأَرْضُ بِمَارَحُبَتْ سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ أَوْفَى عَلَى جَبَلِ سَلْعٍ بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَا كَعْبُ بْنَ مَالِكٍ أَبْشِرْ قَالَ فَخَرَرْتُ سَاجِدًا وَعَرَفْتُ أَنْ قَدْ جَاءَ فَرَجٌ وَآذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى صَلَاةَ الْفَجْرِ فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنَا وَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَيَّ مُبَشِّرُونَ وَرَكَضَ إِلَيَّ رَجُلٌ فَرَسًا وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ فَأَوْفَى عَلَى الْجَبَلِ وَكَانَ الصَّوْتُ أَسْرَعَ مِنْ الْفَرَسِ فَلَمَّا جَاءَنِي الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرُنِي نَزَعْتُ لَهُ ثَوْبَيَّ فَكَسَوْتُهُ إِيَّاهُمَا بِبُشْرَاهُ وَاللَّهِ مَا أَمْلِكُ غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتُهُمَا وَانْطَلَقْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا يُهَنُّونِي بِالتَّوْبَةِ يَقُولُونَ لِتَهْنِكَ تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ قَالَ كَعْبٌ حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ حَوْلَهُ النَّاسُ فَقَامَ إِلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّانِي وَاللَّهِ مَا قَامَ إِلَيَّ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرَهُ وَلَا أَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ قَالَ كَعْبٌ فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنْ السُّرُورِ أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ قَالَ قُلْتُ أَمِنْ عِنْدِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ قَالَ لَا بَلْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ وَكُنَّا نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهُ فَلَمَّا جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِ اللَّهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ قُلْتُ فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا نَجَّانِي بِالصِّدْقِ وَإِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ لَا أُحَدِّثَ إِلَّا صِدْقًا مَا بَقِيتُ فَوَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَبْلَاهُ اللَّهُ فِي صِدْقِ الْحَدِيثِ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ مِمَّا أَبْلَانِي مَا تَعَمَّدْتُ(/11)
مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَوْمِي هَذَا كَذِبًا وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنِي اللَّهُ فِيمَا بَقِيتُ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ إِلَى قَوْلِهِ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ فَوَاللَّهِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ نِعْمَةٍ قَطُّ بَعْدَ أَنْ هَدَانِي لِلْإِسْلَامِ أَعْظَمَ فِي نَفْسِي مِنْ صِدْقِي لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا أَكُونَ كَذَبْتُهُ فَأَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ الَّذِينَ كَذَبُوا فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ لِلَّذِينَ كَذَبُوا حِينَ أَنْزَلَ الْوَحْيَ شَرَّ مَا قَالَ لِأَحَدٍ فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَى قَوْلِهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنْ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ قَالَ كَعْبٌ وَكُنَّا تَخَلَّفْنَا أَيُّهَا الثَّلَاثَةُ عَنْ أَمْرِ أُولَئِكَ الَّذِينَ قَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ حَلَفُوا لَهُ فَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ وَأَرْجَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَنَا حَتَّى قَضَى اللَّهُ فِيهِ فَبِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا وَلَيْسَ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ مِمَّا خُلِّفْنَا عَنْ الْغَزْوِ إِنَّمَا هُوَ تَخْلِيفُهُ إِيَّانَا وَإِرْجَاؤُهُ أَمْرَنَا عَمَّنْ حَلَفَ لَهُ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَقَبِلَ منه.
1 - كعب بن مالك ابن أبي كعب عمرو بن القين بن كعب بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة الأنصاري الخزرجي: شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه وأحد الثلاثة الذين خلفوا فتاب الله عليهم، شهد بيعة العقبة، ذكره عروة في السبعين الذين شهدوا العقبة . وله عدة أحاديث تبلغ الثلاثين. آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين طلحة بن عبيد الله وكعب بن مالك، وقيل بل آخى بين كعب والزبير، شهد غزوة أحد وقال عنها: لما انكشفنا يوم أحد كنت أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وبشرت به المؤمنين حيا سويا وأنا في الشعب، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم كعبا بلأمته وكانت صفراء فلبسها كعب، وقاتل يومئذ قتالا شديدا حتى جرح سبعة عشر جرحا
2 - مرارة بن الربيع الأنصاري الأوسي من بني عمرو بن عوف ويقال إن أصله من قصاعة حالف بني عمرو بن عوف صحابي مشهور شهد بدرا على الصحيح هو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليه في تبوك.
3 - هلال بن أمية بن عامر بن قيس بن عبد الأعلم بن عامر بن كعب بن واقف واسمه مالك. شهد بدراً وأحداً، وكان قديم الإسلام ، كان يكسر أصنام بني واقف، وكانت معه رايتهم يوم الفتح، وأمّه أُنيسة بنت هِذم أخت كلثوم بن الهِذم الذي نزل عليه النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة مهاجراً. وهو الذي لاعن امرأته ورماها بشريك بن سحماء. وهو أحد الذين تخلفوا عن غزوة تبوك فتاب الله تعالى عليه.
________________________________________
خير الرجال وشر الرجال(/12)
حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ وَعَفَّانُ قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ قَال:َ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَال:َ خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُطْبَةً بَعْدَ الْعَصْرِ إِلَى مُغَيْرِبَانِ الشَّمْسِ حَفِظَهَا مِنَّا مَنْ حَفِظَهَا وَنَسِيَهَا مِنَّا مَنْ نَسِيَهَا فَحَمِدَ اللَّهَ قَالَ عَفَّانُ وَقَالَ حَمَّادٌ وَأَكْثَرُ حِفْظِي أَنَّهُ قَالَ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَال:َ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الدُّنْيَا خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَنَاظِرٌ كَيْفَ تَعْمَلُونَ؛ أَلَا فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ. أَلَا إِنَّ بَنِي آدَمَ خُلِقُوا عَلَى طَبَقَاتٍ شَتَّى، مِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ مُؤْمِنًا وَيَحْيَا مُؤْمِنًا وَيَمُوتُ مُؤْمِنًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ كَافِرًا وَيَحْيَا كَافِرًا وَيَمُوتُ كَافِرًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ مُؤْمِنًا وَيَحْيَا مُؤْمِنًا وَيَمُوتُ كَافِرًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ كَافِرًا وَيَحْيَا كَافِرًا وَيَمُوتُ مُؤْمِنًا. أَلَا إِنَّ الْغَضَبَ جَمْرَةٌ تُوقَدُ فِي جَوْفِ ابْنِ آدَمَ، أَلَا تَرَوْنَ إِلَى حُمْرَةِ عَيْنَيْهِ وَانْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ، فَإِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَالْأَرْضَ الْأَرْضَ. أَلَا إِنَّ خَيْرَ الرِّجَالِ مَنْ كَانَ بَطِيءَ الْغَضَبِ سَرِيعَ الرِّضَا وَشَرَّ الرِّجَالِ مَنْ كَانَ سَرِيعَ الْغَضَبِ بَطِيءَ الرِّضَا، فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ بَطِيءَ الْغَضَبِ بَطِيءَ الْفَيْءِ وَسَرِيعَ الْغَضَبِ وَسَرِيعَ الْفَيْءِ فَإِنَّهَا بِهَا. أَلَا إِنَّ خَيْرَ التُّجَّارِ مَنْ كَانَ حَسَنَ الْقَضَاءِ حَسَنَ الطَّلَبِ وَشَرَّ التُّجَّارِ مَنْ كَانَ سَيِّئَ الْقَضَاءِ سَيِّئَ الطَّلَبِ، فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ حَسَنَ الْقَضَاءِ سَيِّئَ الطَّلَبِ أَوْ كَانَ سَيِّئَ الْقَضَاءِ حَسَنَ الطَّلَبِ فَإِنَّهَا بِهَا. أَلَا إِنَّ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءًً يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ، أَلَا وَأَكْبَرُ الْغَدْرِ غَدْرُ أَمِيرِ عَامَّةٍ. أَلَا لَا يَمْنَعَنَّ رَجُلًا مَهَابَةُُ النَّاسِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالْحَقِّ إِذَا عَلِمَهُ، أَلَا إِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائرٍِ. فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ مُغَيْرِبَانِ الشَّمْسِ قَالَ: أَلَا إِنَّ مِثْلَ مَا بَقِيَ مِنْ الدُّنْيَا فِيمَا مَضَى مِنْهَا مِثْلُ مَا بَقِيَ مِنْ يَوْمِكُمْ هَذَا فِيمَا مَضَى مِنْهُ . ( رواه أحمد في مسنده )
الحديث الشريف المرفوع إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – مشتمل على مواضيع تتعلق بالعلم والإيمان والأخلاق والجنايات والجهاد والأقضية والأحكام .
التوجيه النبوي بدأ بأمر اتِّقاءِ فتنةِ الدنيا والنساء ، وعلى أساس درجة هذا الاتقاء تكون الخاتمة إيمانا أو كفرا ، جنة أو نارا . كما نهى – صلى الله عليه وسلم – عن الغضب وجمرته ؛ فالغضب ممقوت مذموم وشَرٌّ كله ما لم يكن في سبيل الله ؛ فالرجل سريع الغضب بطيء الرضا هو شر الرجال لقوله – صلى الله عليه وسلم – "... وشر الرجال من كان سريع الغضب بطيء الرضا..." و "...خير الرجال من كان بطيء الغضب سريع الرضا ..." والخيريَّةُ والشر يكونان بدرجة الغضب و فترة الرضا ؛ ومثل ذلك في التجارة وسائر المعاملات الدنيوية، فالخَيِّرُ حَسَنُ القضاء حَسَنُ الطلب، والشِّرِّيرُ سَيِّئُ الطلب سيئ القضاء، وبحسب الحسن أو السوء في الطلب والقضاء تكون خيرية الرجال .
ومن توجيهاته – صلى الله عليه وسلم – في هذا الحديث الشريف وجوبُ التزامِ الصدق والوفاء والإخلاص، يُستنبَط هذا الحكم بمفهوم المخالفة من التحذير من الغدر وَتَوَعُّدِ الغادرِ بالفضيحة يوم القيامة بعلامة تكون بحسب غدرته؛ وأكبرُ الغدر خيانةُ أمير عامَّةِ. وفي ذلك إشارة إلى أن من الخيانة كتمانَ الحق خوفا ومهابةً من الناس، ومن باب أولى أن كتمانه طمعا ورغبا محرَّمٌ قطعا، وأفضلُ قولٍ للحق ما كان في وجه السلطان الجائر، ذلك أفضل الجهاد، وذلك أفضل الذخر من الدنيا للآخرة، فما الدنيا إلا وَمضةٌ مضى أكثرها وما بقي منها أقل ، ثم عند الله الخصام .
يزيد بن هارون السلمي( الطبقة الصغرى من الأتباع) ت/206 هـ .
عفان بن مسلم بن عبد الله البصري أحد كبار التابعين ت/219هـ
حماد بن سلمة بن دينار أبوسلمة البصري ( الطبقة الوسطى من الأتباع ) ت/167هـ
علي بن يزيد بن عبد الله بن جدعان أبو الحسن التميمي ( الطبقة دون الوسطى من الأتباع )ت131هـ
أبي نضرة المنذر بن مالك بن قطعة أبو نضرة العبدي العوفي( الطبقة الوسطى من التابعين ) ت 108هـ(/13)
أبو سعيد الخدري ، سعد بن مالك بن سنان بن عبيد الخدري الأنصاري( صحابي جليل ) ت/74 هـ
الأوداج : العروق المحيطة بالعنق.
الفيء : الرجوع عن الغضب.
لواء : علامة يشهر بها في الناس .
المهابة : المخافة والخشية .
جائر : ظالم
________________________________________
فساد الأمم
أخرج ابن ماجه في سننه :
حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ خَالِدٍ الدِّمَشْقِيُّ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبُو أَيُّوبَ عَنِ ابْنِ أَبِي مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ :
أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمِ الَّذِينَ مَضَوْا وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُم.
بجوامع الكلم الطيب الذي هو وجه آخر من دلائل نبوته الكريمة، يحدد الرسول - صلى الله عليه وسلم - مقياس التفضيل في الإسلام: فأفضل المؤمنين أحسنهم أخلاقا. وليس من شك في ذلك؛ إذ الإيمان والأخلاق أمران متلازمان ومترابطان؛ فالإيمان عماد الخلق، والخلق هو الترجمة الصادقة للإيمان.
وبجوامع كلمه المعهود يحدد - صلى الله عليه وسلم - أهم السنن والمبادئ التي تحكم صلاح المجتمع وفساده، وبهديه النبوي الشريف يشير إلى أعظم العبر وأجل التوجيهات الاجتماعية للأفراد والجماعات تأكيدا لقاعدة ثابتة، وهي أن صلاح المجتمعات وفسادها منوطان بأخلاق أفرادها، وهو عين ما أثبته قوله تعالى :
- { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } (الأنفال:53) .
- { إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ } (الرعد: من الآية11) .
فالآيات القرآنية الكريمة تؤكد حقيقة اجتماعية وتاريخية، أساسها أن صلاح أي مجتمع وفساده منوطان في المقام الأول بأخلاق أفراده صلاحا وفسادا؛ فأي أمة آلت إلى انحطاط بعد رفعة، وافتقار بعد غنى، وذل بعد عز، وضعف بعد قوة، إنما كان ذلك بسبب تبدل جوهري في نفسها أو بتعبير آخر في أخلاقها العامة والخاصة. فإذا ما أرادت الرفعة والغنى والعز والقوة وجب عليها أن تتوسل بما يكفل إحداث تغيير جوهري في نفسها، أو بتعبير آخر في أخلاقها العامة والخاصة التي كانت سببا في الانحطاط.
ويؤكد الحديث الشريف مبينا ومفصلا ومذكراً أن الفساد في صوره المختلفة يستوجب عقوبة إلهية مناسبة ومستحقة، قال تعالى :
- { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ } (القصص:59) .
- { وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً } (الإسراء:16) :
1 – فمتى شاعت الفاحشة في قوم ولم يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر أوشك الله تعالى أن يعمهم بعذاب من عنده جزاءً وفاقاً لما رضوا به من إفساد : { إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } (النور:19). وقال عليه الصلاة والسلام : « إن الله عز وجل لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى تكون العامة تستطيع أن تغير على الخاصة، فإذا لم تغير العامة على الخاصة عذب الله عز وجل العامة والخاصة». ( مسند أحمد 4/236 «17737» ) ، وهذا عين ما تشهده مجتمعات العصر من انتشار للأمراض والأوبئة التي لم يعرفها السابقون؛ مما يؤكد آيات القرآن المعجزة ويقدم كل يوم دلائل النبوة الخاتمة.(/14)
2 – ومتى نقص قوم المكيال والميزان وفشا فيهم الظلم والجور والغش إلا عاقبهم تعالى بما يستحقون من السنين وضيق العيش وظلم السلطان وتجبره، وحسبنا ما أنذرنا منه - صلى الله عليه وسلم - حين قال : « إذا رأيت أمتي تهاب الظالم أن تقول إنك ظالم، فقد تُوُدِّعَ منهم » ( مسند أحمد 2/221؛ والحاكم في مستدركه) .
3 – ومتى منع القوم زكاة المال، وكنزوا الذهب والفضة وجعلوها حكرا على فئة قليلة مستغلة، كان جزاؤهم منع القطر عنهم، ولولا أن رحمة الله وسعت كل شئ وشملت البهائم والزرع لما أنزلت السماء قطرة ماء.
4 – ومتى نقض القوم عهد الله وعهد رسوله - صلى الله عليه وسلم - وما يقتضيه هذا العهد من إيمان بالله عز وجل وبرسوله عليه الصلاة والسلام، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وحفظ لحدود شرعه، سلط الله عليهم عدوا من غيرهم يسومهم الذل والصغار، وينتزع بعضا مما في أيديهم؛ لأنهم ليسوا أهلا للأمانة التي حُمِّلوها واستُحْفِظُوا عليها.
5 – ومتى تركوا كتاب الله وراء ظهورهم واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، عاقبهم تعالى بأن جعل بأسهم بينهم شديد، وتفرقوا أحزابا وشيعا، كل حزب بما لديهم فرحون.
ومن يتأمل حال الأمة اليوم لا يجدها إلا وقد تحقق فيها قول نبينا - صلى الله عليه وسلم - ؛ فهل من مذّكر .
عن عائشة – رضي الله عنها قالت : دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد حفزه النَّفَسُ، فعرفت في وجهه أن قد حفزه شئ، فما تكلم حتى توضأ، وخرج فلصقت بالحجرة، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال : « أيها الناس، إن الله عز وجل يقول لكم : مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، قبل أن تدعوني فلا أجيبكم، وتسألوني فما أعطيكم، وتستنصروني فلا أنصركم »( ابن ماجة، كتاب الفتن " ح 4004 " ؛ وتهذيب الكمال للحافظ المزي 13/527 ) .
________________________________________
من هدي النبوة الخاتمة
روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم حمد الله وأثنى عليه ثم قال:
" إِنَّمَا هُمَا اثْنَتَانِ الْكَلَامُ وَالْهَدْيُ(1)، فَأَحْسَنُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَأَحْسَنُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّد،ٍ أَلَا وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدِثَاتِ الْأُمُورِ(2) فَإِنَّ شَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، أَلَا لَا يَطُولَنَّ عَلَيْكُمُ الْأَمَدُ فَتَقْسُوَ قُلُوبُكُمْ (3)، أَلَا إِنَّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ(4) وَإِنَّمَا الْبَعِيدُ مَا لَيْسَ بِآتٍ، ألَا إنَّمَا الشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّه (5)ِ وَالسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ (6)، أَلَا إِنَّ قِتَالَ الْمُؤْمِنِ كُفْرٌ (7) وَسِبَابُهُ فُسُوقٌ (8)، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ (9)، أَلَا وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ لَا يَصْلُحُ بِالْجِدِّ وَلَا بِالْهَزْلِ (10)، وَلَا يَعِدُ الرَّجُلُ صَبِيَّهُ ثُمَّ لَا يَفِي لَهُ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ (11) وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارَ، وَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ (12) وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّهُ يُقَالُ لِلصَّادِقِ صَدَقَ وَبَر،َّ وَيُقَالُ لِلْكَاذِبِ كَذَبَ وَفَجَرَ، أَلَا وَإِنَّ الْعَبْدَ يَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا " .
( أخرجه البخاري في الأدب المفرد ، ومسلم في البر والصلة وأخرجه ابن ماجه بسند جيد).
الشرح
(1) – (إنما هما اثنتان الكلام والهدي): أي إنما وقع التكليف في دينكم باثنتين لا ثالث لهما، وهما الكتاب والسنة؛ فلا تضيفوا إلي دينكم بدعا ومحدثات تثقل كاهلكم وتزيد من تكاليفكم.
(2) – (محدثات الأمور) : المبتدعات والزيادة في الدين.
(3) – (الأمد) : لها ثلاثة معان، هي: الأجل أو الزمان أو الأمل؛ وكلها معنية في هذا السياق؛ فطول الأجل مع الغفلة عن التذكر يجعل القلب قاسيا، وطول الزمان كذلك والتعلق بالآمال الكاذبة بدون عمل صالح كل ذلك يورث قلبا قاسيا غافلا ، قال تعالى: ( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد:16) ، وقال تعالى أيضا : ( فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (الزمر:22) .
(4) – (إنما هو آت قريب) : الموت قريب من المرء؛ لأن إتيانه متيقن، ويوم الحشر والعرض والحساب قريب كذلك مهما ظن الإنسان أنه بعيد.(/15)
(5) – ( إنما الشقي من شقي في بطن أمه) : إشارة إلى شقاء الآخرة لا شقاء الدنيا، روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يبعث الله إليه ملكا ، ويؤمر بأربع كلمات ، ويقال له : أكتب عمله ورزقه ، وأجله ، وشقي أم سعيد ، فإن الرجل منكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار ، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة ، فيدخل الجنة ".( أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه وأبو داود وابن حنبل) .
(6) – (من وُعِظ ) : أي من وفَّقَه الله تعالى للاتعاظ فرأى ما جرى على غيره بالمعاصي من العقوبة فتركها خوفا من أن يناله مثل ما نال غيره ، وهذا هو السعيد حقا.
(7) – (قتال المؤمن كفر): أي حرام كالكفر، لاسيما إذا استحل المقاتل ذلك؛ أي عدّه مباحا، روى أبو بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا التقى المسلمان بسيفيهما فقتل أحدهما ، فالقاتل والمقتول في النار " قيل : يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال :" إنه كان حريصا على قتل صاحبه" (أخرجه أحمد والشيخان وأبو داود والنسائي) .
(8) – (وسبابه فسوق) : أي أن شتمه خروج عن طاعة الله تعالى وليس هو من صفات المؤمنين . روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء "(أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم ) .
(9) – (أن يهجر أخاه) : يفهم منه إباحة الهجر إلى ثلاث، وهو رخصة؛ لأن من طبع الآدمي عدم تحمل المكروه، ثم المراد حرمة الهجران إذا كان الباعث عليه وقوع تقصير في حقوق الصحبة والأخوة وآداب العشرة ، وهذا طبعا بين الأجانب وليس بين الأهل، فمحل الحرمة - إذن - الهجر فوق ثلاث ما لم يكن هجره لله تعالى وإلا فلا ، والدليل عليه قصة الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك فأذن الرسول صلى الله عليه وسلم في هجرانهم خمسين ليلة حتى صحت توبتهم عند الله .
(10) – (فإن الكذب لا يصلح بالجد ولا بالهزل) :أي إن الكذب حرام جده وهزله.
(11) – (إن الكذب يهدي إلى الفجور): أي أن الكذب يؤدي بصاحبه إلى الفجور، ويفضي بصاحبه إلى الفسوق.
(12) – (إن الصدق يهدي إلى البر) :أي أن الصدق يبلغ المرء درجة الأبرار.
نبذة موجزة من سيرة الراوي
الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:
هو عبد الله بن مسعود بن غافل الهذلي ، أسلم مبكرا ، وعن قصة إسلامه قال: كنت أرعى غنما لعقبة بن أبي معيط فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي يا غلام هل من لبن فقلت نعم ولكنني مؤتمن، قال فهل من شاة حائل لم ينز عليها الفحل فأتيته بشاة فمسح ضرعها فنزل لبن فحلبه في إناء وشرب وسقى أبا بكر ثم قال للضرع اقلص فقلص ثم أتيته بعد هذا فقلت يا رسول الله علمني من هذا القول فمسح رأسي وقال يرحمك الله فإنك عليم معلم . قال أبو عمر ثم ضمه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يلج عليه ويلبسه نعليه ويمشي أمامه ويستره إذا اغتسل ويوقظه إذا نام، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إذنك علي أن ترفع الحجاب وأن تسمع سوادي حتى أنهاك وكان يعرف في الصحابة بصاحب السواد والسواك شهد بدرا والحديبية وهاجر الهجرتين جميعا الأولى إلى أرض الحبشة والهجرة الثانية من مكة إلى المدينة فصلى القبلتين وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة فيما ذكر في حديث العشرة بإسناد حسن جيد .
ومما روي عن فضله أن عليا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كنت مؤمرا أحدا وفى رواية بعضهم مستخلفا أحدا من غير مشورة لأمرت وقال بعضهم لاستخلفت ابن أم عبد وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم رضيت لأمتي ما رضى لها ابن أم عبد وسخطت لأمتي ما سخط لها ابن أم عبد
و روي عنه أنه قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر فقلت يا رسول الله إني قتلت أبا جهل قال بالله الذي لا إله غيره لأنت قتلته قلت نعم فاستخفه الفرح ثم قال انطلق فأرنيه قال فانطلقت معه حتى قمت به على رأسه فقال الحمد لله الذي أخزاك هذا فرعون هذه الأمة جروه إلى القليب قال وقد كنت ضربته بسيفي فلم يعمل فيه فأخذت سيفه فضربته به حتى قتلته فنفلني رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه . وقال الأعمش عن شقيق أبى وائل سمعت ابن مسعود يقول إني لأعلمهم بكتاب الله وما أنا بخيرهم وما في كتاب الله سورة ولا آية إلا وأنا أعلم فيما نزلت ومتى نزلت قال أبو وائل فما سمعت أحدا أنكر ذلك عليه وقال حذيفة لقد علم المحفظون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عبد الله ابن مسعود كان من أقربهم وسيلة وأعلمهم بكتاب الله .
________________________________________
الحياء
خلق الأمة الإسلامية(/16)
عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله عز وجل إذا أراد أن يهلك عبدا نزع منه الحياء ، فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا مقيتا ممقتا فإذا لم تلقه إلا مقيتا ممقتا نزعت منه الأمانة ، فإذا نزعت منه الأمانة لم تلقه إلا خائنا مخونا ، فإذا لم تلقه إلا خائنا مخونا نزعت منه الرحمة ، فإذا نزعت منه الرحمة لم تلقه إلا رجيما ملعنا، فإذا لم تلقه إلا رجيما ملعنا نزعت منه ربقة الإسلام ) .
سنن ابن ماجة 2/1347 ، الحديث 4054 .
إن لفظ الحياء مشتق من جذره اللغوي : "حيي ، يحيى ، حياة " خلاف الموت ، من باب " رضي" .
وإذا كان الحياء في الاصطلاح هو انقباض النفس عن القبائح الذي هو حياة معنوية حقيقية ؛ فإن نقيضه الذي هو الموت المعنوي يعني إقبال النفس على المعاصي وانشراحها وجراءتها على حدود الله تعالى وأعراض عباده .
فنقيض الحياء الوقاحة ، وقد يقابل بالبذاء ، ومن ذلك الحديث المروي عن أبي بكرة أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " البذاء من الجفاء والجفاء في النار ، والحياء من الإيمان ، والإيمان في الجنة " ( صحيح ابن حبان 13 / 10 - الحديث 5704 ) .
إن الإيمان هو أساس رسالة الإسلام ، غير أن الإيمان ليس دعوى بدون دليل ؛ إذ ربط البارئ عز وجل ربطا محكما بين الدين والخلق في قوله صلى الله عليه وسلم : " إن لكل دين خلقا وخلق الإسلام الحياء " ؛ بل إنه لم يعده جزءا من الإيمان فحسب وإنما عده الدين كله ، فحين قال صحابة للرسول صلى الله عليه وسلم : "إن الحياء من الدين " قال عليه الصلاة والسلام :" بل هو الدين كله " ثم قال : " إن الحياء والعفاف والعي على اللسان لا على القلب ، والفقه من الإيمان فإنهن يزدن في الآخرة وينقصن من الدنيا ، وإن الشح والعجز والبذاء من النفاق ، وإنهن يزدن في الدنيا وينقصن من الآخرة وما ينقصن من الآخرة أكثر مما يزدن في الدنيا " ( حديث 85 - مكارم الأخلاق 1/ 3)
ولهذا قرن الحياء بالإيمان حتى أصبح ارتفاع أحدهما يعني ارتفاع الآخر، كما جاء في الحديث : " إن الحياء والإيمان في قرن ، فإذا سلب أحدهما تبعه الآخر " .
والحديث الذي بين أيدينا يبين في حكمة نبوية بالغة أن منطلق الانحراف هو نزع الحياء الذي يقود بالضرورة إلى الفحش والبذاء والوقاحة ، وهي خصال النفاق ؛ والمتصف بها لن تجده إلا مقيتا مبغضا ، حتى إذا ما أبغضه الناس لم يتورع عن خيانة الأمانة ، فتأكدت بذلك خصلة ثانية من خصال النفاق المهلكة .
ولا شك أن من تجرأ على الخيانة والغدر قد نزعت الرحمة من قلبه ، وحل محلها الغلظة والجفاء والقسوة ، وهي مدعاة للعن صاحبها وطرده من رحمة الله ، فلم يبق له إلا نزع ربقة الإسلام .
وإذا كان هذا التوجيه النبوي يعني كل مسلم ، فإن أصحاب الرسالة وأرباب الدعوة إلى الله تعالى هم الأحوج إلى تدبر قوله صلى الله عليه وسلم وامتثال أمره ، لعظم ما حملوه من أمانة التبليغ وخطورة ما اشتغلوا به من أداء الرسالة ، فخلق الحياء لدى الداعية سر كل خير وفضيلة كما أن انعدامه أصل كل شر وبلية ؛ لأن الاشتغال بالدعوة رسالة وأمانة ، وفاقد الحياء بغيض ممقوت عاجز عن أداء الأمانة ، فشيمته الغدر والخيانة ، ومن كانت هذه خصاله نزعت منه الرحمة فلم يتورع عن المكر بالمؤمنين وإلحاق الأذى بالدعاة الصادقين والإساءة إلى دعوة الله بالكذب والافتراء والتشويه .
إن أعراض مرض انعدام الحياء من المرء تبدأ بسيطة كشأن أغلب المعاصي ، ثم تتعاظم وتشتد إلى أن تورد صاحبها المهالك .
تبدأ أولا جدالا حول الأحكام الشرعية ونصوصها ، ثم تأويلا مغرضا لها حسب المصالح والأهواء ، ثم انتقاء منها ما يناسب المصالح الشخصية ، ونيلا من الذين يحافظون عليها ويجرونها على مقاصدها الشرعية ، ثم يتعدى ذلك إلى تحريف النصوص نفسها ومحاولة إلغائها وضرب بعضها ببعض ، ثم ينحط المرء إلى أسفل الدركات بالجدل في أصلها والتعدي على حدودها .
وإذا تجرأ الإنسان على ربه وتشريعه كان من باب أولى أن يتجرأ على خلق الله وأعراضهم ودمائهم وأموالهم .
إن التجرؤ على خلق الله لابد أن يسبقه التجرؤ على الله ، وإن لم تكن أعراض التجرؤ على الله ظاهرة . وما التجرؤ على خلق الله بسفك دمائهم وانتهاك أعراضهم وأكل أموالهم إلا إعلان صارخ بأن المرء قد قطع صلته بربه ، ونزعت منه ربقة الإسلام ؛ وهذا ما يبينه ويؤكده قوله صلى الله عليه وسلم : " لا يزال الرجل في فسحة من دينه ما لم يسفك دما حراما ، فإذا سفك دما حراما نزع منه الحياء " ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " إذا لم تستحي فاصنع ما شئت " .
الصدق والصديقون(/17)
عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا ، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وما زال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا )) حديث حسن صحيح . أخرجه الترمذي في سننه ج4/ص347 – ح 1971 .
الإيمان والخلق جزءان مترابطان لحقيقة واحدة ، وهما من الترابط والاتصال بحيث لا يقبلان الانفصال ؛ فإذا ما اختل أحدها تبعه – بالضرورة – اختلال الآخر .
ولعل أقرب خلق إلى الإيمان وأوثقه هو خلق الصدق الذي يدل أصل اشتقاقه اللغوي على نقيض الكذب ، وعلى الكامل من كل شئ ، والصلب من الرماح والشجاعة والصلابة والقوة والجودة ، وهي كلها معان تؤكد حقيقة الصدق وأهميته .
وقد عُرِّف الصدق بأنه مطابقة القول لما في الضمير وللشيء المخبر عنه معا ؛ وبدون ذلك لا يكون القول صدقا تاما ؛ ولذلك قال الله تعالى في شأن المنافقين :{ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ }المنافقون(1) ، فقول المنافقين حق وصدق في الحقيقة لمطابقته الواقع ، ولكنه في الوقت ذاته كذب منهم ؛ لأنه مخالف لما يضمرونه .
وإذا كان الصدق هو إلزام اللسان الإخبار عن الأشياء بما هي عليه ؛ فإن "التصديق" هو تحقيق صحة هذا الإخبار وتقبله من سامعه ، حتى إنه ليغدو مرادفا للإيمان تماما كما في قوله تعالى:{والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون } الزمر (1) ؛ {وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} المعارج (26) أي يؤمنون بيوم الدين .
ومن مادة الصدق أيضا اشتقت الصداقة التي هي صدق الاعتقاد في المودة والنصيحة ؛ فالصديق هو من يصدق في مودته لصديقه ، فلا يرائي ولا ينافق ولا يخادع ولا يخون النصيحة .
ومن الصدق كذلك أخذت كلمة "الصدقة " ، وهي ما يخرجه الإنسان من ماله قربة لله تعالى كالزكاة يتحرى به الصدق في فعله ويجعله جزءا من البرهان العملي على صدقه في إيمانه واستجابته لربه .
وهكذا نجد أن العلاقة جد وثيقة بين كلمة الصدق ومشتقاتها كالتصديق والصداقة والصدقة والتصدق ؛ فهي تدور حول محور الانتماء إلى الحق والثبوت واللزوم والقوة ؛ ومن هنا قيل لمهر المرأة "صداق " لقوة ثبوته ، ولأنه حق لازم .
لقد أعلى الله تعالى من شأن الصدق فوصف به نفسه عز وجل في آيات قرآنية كثيرة :{ قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } آل عمران (95) ، {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً } النساء (122) ، { اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا}النساء (87) .
كما وصف به رسله عليهم الصلاة والسلام في قوله تعالى : { قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} يس (52) ، { وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا}الأحزاب (22)
بل لقد كان الصدق الوعاء الأول الذي استوعب الرسالة ؛ فالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم المشهود له بأنه على خلق عظيم ، عُرف منذ نشأته الأولى بخلق الصدق حتى لقبه قومه بـ"الصادق الأمين" ، وشهد له أعداؤه بالصدق والأمانة ، فلم يجرؤوا على اتهامه بالكذب وإنما لجأوا إلى رميه بالسحر والجنون .
وقد ظل الرسول صلى الله عليه وسلم مستمسكا بخلق الصدق في كل أحواله ؛ في جده وفي مزحه ؛ لأنه كان قرآنا يمشي على الأرض ، فالله تعالى :{ أعلم حيث يجعل رسالته }الأحزاب 124
إن خلق الصدق هو صفة الأخيار من عباد الله الصالحين القائمين بالطاعة الملتزمين بالصراط المستقيم :{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } الحجرات (15) .
إن الإنسان متى قال الصدق سُمي صادقا ، وما زال الرجل يصدق ثم يصدق ثم يصدق حتى يصير صديقا ، لا يتأتى منه الكذب لتعوده الصدق ؛ فالتعبير بلفظ التحري- كما النص النبوي - إشارة لطيفة إلى أن التحلي بهذا الخلق محتاج إلى جهد ومران ومغالبة نفس وهوى .(/18)
وقد يتبادر إلى الذهن أن الصدق إنما يكون في القول والحديث ، ولكنه أشمل من ذلك وأعمق ؛ فهو كما يكون في الأقوال يكون في الأعمال والأحوال . فالصدق في الأقوال هو – كما قال ابن القيم - :( استواء اللسان على الأقوال كاستواء السنبلة على ساقها ، واستواء الأفعال على الأمر والمتابعة كاستواء الرأس على الجسد ، والصدق في الأحوال هو استواء أعمال القلب والجوارح على الإخلاص واستفراغ الوسع وبذل الطاقة ؛ وأعلى مراتب الصدق هي مرتبة الانقياد لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع كمال الإخلاص كله لله تعالى الذي أرسله بدينه ودعوته) .
وعلى هذا يكون الصدق صدق قول ، وصدق نية ، وصدق عزم ، وصدق وفاء بالعزم ، وصدق عمل ، وصدق تحقيق لأمر الدين كله ، وفي ظل هذه المعاني السامية يمكن أن نفهم الصدق الوارد في قوله تعالى :{ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا } الأحزاب (23) .
وقوله تعالى :{ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوآ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } البقرة (177 ) .
إن الصدق موقف وجداني قراره القلب وبيانه القول، وترجمته العمل الموافق لما استقر في القلب وأفصح به اللسان، وإلا كان الزيف والادعاء .ولذا قرن الأمر القرآني بين التقوى وبين التزام جماعة الصادقين فقال تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ }التوبة (119) .
وهذه الآية مع التي تليها( الآية120من سورة التوبة) ترشد المؤمن إلى أربع صفات :
- الإيمان
- التقوى وما تقتضيه من وجوب اتقاء محارم الله واجتناب ما يغضبه سبحانه وتعالى في النية والقول والعمل
- ملازمة الصادقين "وكونوا مع الصادقين "
- فداء كتاب الله وسنة رسوله بالنفس والمال والولد :{ مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ }التوبة (120) .
كما ترشد في الإطار الدعوي والحركي إلى ضرورة اختيار الأعضاء الصادقين الذين توفرت فيهم هذه الصفات، وإبعاد الكذبة والمنافقين وتجار السياسة والمناورات الحزبية ، كي يكون بناء الحركة الإسلامية على أرض صلبة ، وهو أيضا ما يشير إليه الحديث الشريف من ضرورة التزام الأعضاء الصدق ومداومتهم عليه وتحريهم له،حتى يصير لديهم خلقا وسجية، واستبعاد المتشيطنة والكذابين الذين يرفعون شعار الدعوة ويسخرونها لأغراضهم وأهوائهم ويبررون سقوطهم في الكذب والنفاق وتمرير المواقف السياسية الضالة بدعوى الضرورة والمصلحة القائمة على غير أساس
الظلم ظلمات يوم القيامة
عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال : ((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي و جعلته بينكم محرما ، فلا تظالموا )) – أخرجه مسلم وابن حنبل والترمذي وابن ماجة
إن الرسول - صلى الله عليه وسلم – وقد بُعث بشيرا ونذيرا ، قد جاهد لتبليغ الرسالة وأداء الأمانة وتحقيق المقاصد العليا لهذا الدين ، تطبيقا عمليا وواقعيا لأحكامه في الكتاب والسنة؛ ويأتي في مقدمة هذه الأحكام الشرعية بعللها ومقاصدها : التحريم الصارم المطلق للظلم بكل صوره وبجميع أسبابه ونتائجه .
ذلك أنه إذا كان الظلم في اللغة له معان متقاربة ومتداخلة، تدور حول الجور أو مجاوزة الحد أو وضع الشيء في غير موضعه، أو النقص أو السواد أو التمويه ؛ فإنها لا تبتعد كثيرا عن المعنى الاصطلاحي الذي هو : مجاوزة حدود الله تعالى في أي صورة من الصور، سواء أكان ذلك بالكفر شركا أو إلحادا أو جحودا، أو استحلالا لما حرم الله أو تحريما لما أحل الله، أو إنكارا لما هو معلوم من الدين بالضرورة، أو بما هو دون ذلك من المعاصي والسيئات كبيرها وصغيرها ، ظاهرها وباطنها، وهذا ما يؤكده قوله تعالى : ( ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه ) (الطلاق 1 ) .(/19)
للظلم - إذن – دوائر كثيرة بعضها أخص من بعض، ودرجات متباينة بعضها أخطر من بعض ؛ وكلما كانت الدائرة أقرب إلى مجال الاعتقاد وما يرتبط به من تصورات، كان الأمر أدعى إلى الاهتمام به وبخطورة ما يترتب عليه من نتائج ، وكلما كان الظلم المرتكب أكثر شمولا وأعمق تأثيرا كانت تداعياته أكثر ضررا .
إن أكبر دوائر الظلم هي الشرك بالله تعالى ( إن الشرك لظلم عظيم) - لقمان13 - ؛ لأنه كذب شنيع وافتراء عظيم على الله عز وجل ، ذلك أن في الإشراك قلبا للحقائق ووضعا للأشياء في غير موضعها، وهذا أصل الظلم وحقيقته، فمن أشرك بالله أو عدل به غيره أو اتخذ له سبحانه ندا فقد ارتكب الظلم الأعظم وخلع ربقة الإسلام من عنقه. وإذا كان أعظم ظلم للنفس هو الإشراك بالله تعالى ، فإن له علاجا ناجعا هو التعجيل بالتوبة وتصحيح العقيدة والاستغفار ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إن الله هو الغفور الرحيم )- الزمر 53-
إلا أن هناك ظلما أقل درجة من الشرك الذي يتخلص منه المرء بمجرد التوبة النصوح والتوحيد الخالص ؛ هذا الظلم هو ظلم العباد . وهو وإن كان أقل درجة من الشرك، فإن التوبة منه معلقة برد المظالم لأهلها، مما يجعل أمر التحلل منه أشد عسرا : قال عليه الصلاة والسلام :" من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم ، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته ، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه " -أخرجه البخاري – كتاب المظالم - .
هذا الظلم يتمثل في صور شتى:
ـ ظلم المرء لذوي الأرحام بالإضرار بهم أو التقصير في رعايتهم أو التخلي عنهم أو اغتصاب حقوقهم.
ـ ظلم المسلمين عامة بعدم النصح لهم.
ـ ظلم الإنسانية عامة بالتقصير في واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة .
ـ ظلم الدعاة إلى الله تعالى والمجاهدين في سبيله والمعتقلين والمهاجرين والشهداء، بالتخلي عنهم وإهمال أسرهم وذرياتهم وعدم الدفاع عنهم ؛ فإن بلغ الأمر إلى أكل لحومهم والشماتة بما أصابهم أو أصاب ذرياتهم، أو القيام بالتجسس عليهم وقذفهم، أو السعي لإطالة محنتهم، كان ذلك أقرب إلى أعظم الظلم الذي هو محاربة الله ورسوله بمحاربة أوليائه ودعاة دينه، وهذا ما عبر عنه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحديث القدسي الذي رواه عن رب العزة ( من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب)) - البخاري -
ذلك أن هؤلاء الدعاة المخذولين من قبل إخوانهم، هم في حقيقة الأمر قد اختاروا الله تعالى على ما سواه، ووالوه وعادوا أعداءه وانقطعوا لخدمة دينه، فهم أولياء له عز وجل ( ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) . ولئن اختارهم الله في الدنيا للبلاء فعسى أن يكون لهم في الآخرة حسن الجزاء .
ولئن فرح الخاذلون لما أصاب الدعاة الصادقين ، فكفاهم عقوبة من الله تعالى إن لم يهتدوا إلى التوبة قوله تعالى :
- " وما للظالمين من أنصار" – البقرة 270 -
- " وما للظالمين من نصير"- الحج 71 -
- " وما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع " – غافر 18 -
إن الحقيقة الغائبة عن أولئك الخاذلين أن ابتلاء الدعاة الصادقين يتضمن في واقع الأمر ابتلاء آخر للمعافين والشامتين الخاذلين، وكشفا لحقيقة أمرهم، وإلا فإن العافية والمعافاة والنصر من الله سبحانه وتعالى فقط. وما دفع الخاذلين إلى ما ارتكبوه من إثم وظلم في حق الدعاة المبتلين، إلا اختلال في مقاييسهم الشرعية، وضبابية في نظرتهم الدنيوية، وانعدام المروءة في نفوسهم الدنيئة، وعسى أن تكون مواقفهم الظالمة هذه رحمة بالدعوة وتطهيرا لصف الدعاة: ( ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب ) – آل عمران 179 –
أخلاق المؤمنين
من جوامع كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم
روى عقبة بن عامر الجهني (1) أن النبي صلى الله عليه وسلم حمد الله وأثنى عليه ثم قال:(/20)
" أما بعد، فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله تعالى، وأوْثَقَ العُرَى(2) كلَّه التقوى، وخيرَ المِلَلِ ِملَّة ُإبراهيم، وخيرَ السنن سنةُ محمد صلى الله عليه وسلم، وأشرف الحديث ذكرُ الله، وأحسن القَصَص هذا القرآن، وخير الأمور عَوَاِزمُها (3) وشر الأمور مُحْدَثاتُها(4)، وأحسن الهُدَى هُدَى الأنبياء، وأشرف الموت قتل الشهداء، وأعْمَى العَمَى الضلالة ُبعد الهُدَى، وخير العلم ما نفع، وخير الهدى ما اتُّبِعَ، وشَرُّ العَمَى عمى القلب، واليد العليا خير من اليد السفلى، وما قَلَّ وكَفَى خير مما كَثُرَ وألْهَى، وشر المَعْذِرَةِ(5) حِينَ يحضر الموت، وشر الندامة يوم القيامة، ومن الناس من لا يأتي الصلاة إلا دُبُرًا(6)، ومنهم من لا يذكر الله إلا هَجْراً(7)، وأعظم الخطايا اللسان الكَذُوب وخير ما وقع في القلوب اليقين، والارْتِيَابُ من الكفر، والنِّياحة من عمل الجاهلية، والغَلُولُ(8) من جُثَا(9) جهنم، والكنز(10) كَيٌّ من النار، والشعر من مزامير إبليس، والخمرُ ِجماع الإثم(11)، والنساء حبالة الشيطان(12)، والشباب شعلة من الجنون، وشر المكاسب كسب الربا، وشر المآكل مال اليتيم، والسعيد من وُعِظَ بغيره، والشقيُّ من شَقِيَ في بطن أمه، وإنما يصير أحدكم إلى مَوْضِعِ أربعِ أذْرُع(13)، والأمر بآخِرِه، وَمِلَاكُ(14) العمل خواتمه، وشرُّ الرَّوَايَا(15) رَوَايا الكذب، وكل ما هو آتٍ قريبٌ، وسِبَابُ المؤمن فُسوق، وقتال المؤمن كفر، وأكل لحمه من معصية الله، وحرمة ماله كحرمة دمه، ومن يَتَألَّ(16) على الله يُكَذِّبْه، ومَن يغفرْ يغفِرِ الله له، ومن يَعْفُ يَعْفُ الله عنه، ومن يَكْظِمِ الغيظَ يَأجُرْهُ الله، ومن يصبرْ على الرزِيَّةِ يُعَوِّضْه الله، ومن يَتَّبِعِ السُّمْعَة(17)َ يُسَمِّعِ اللهُ به، ومن يصبرْ يُضَعِّفْ الله له، ومن يعص اللهَ يعذبْهُ، اللهم اغْفِرْ لي ولأمتي، اللهم اغفر لي ولأمتي، أستغفر الله لي ولكم".
أخرجه البيهقي في الدلائل، وابن عساكر عن عقبة بن عامر الجهني وأبو نصر السجزي في الإبانة عن أبي الدرداء، وابن أبي شيبة عن ابن مسعود موقوفا وجلال الدين السيوطي في الجامع الصغير مرفوعا وحسنه
[1] - عقبة بن عامر بن عبس من جهينة، صحابي مشهور، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا، وروى عنه جماعة من الصحابة والتابعين، منهم ابن عباس وأبو أمامة وأبو إدريس الخولاني، وهو أحد من جمع القرآن، جمع له معاوية في إمرة مصر بين الخراج والزكاة فلما أراد عزله أمره بغزو " رودس "، فلما توجه لغزوها عزله، فقال:" أغربة وعزلا؟ ". توفي في خلافة معاوية.
2 – أوثق العرى : الواو والثاء والقاف كلمة تدل على عقد وإحكام ، ومنها الميثاق ( أي العهد المحكم ) .
أما العين والراء والواو فكلمة تدل على ثبات وملازمة ومنها العروة بمعنى الشجر الذي لا يسقط ورقه ، والعروة من الإسلام شريعته لأنها باقية أبدا من تمسك بها نجا .
3 – العوازم : ج عزيمة وهي الفرائض التي فرض الله تعالى ، ومنها العزم ، وهو ما عقدت القلب عليه من أمر أنت متيقنه وفاعله .
4 – المحدثات : البدع في الدين خاصة ، أي استحداث عبادات لم يشرعها الله تعالى .
5 – المعذرة عند الموت : التوبة بعد فوات وقتها ، أي عند الغرغرة .
6 – دُبُراً : بضمتين أو فتحتين ، آخر الشيء ، أي لا يصلون إلا بعد خروج الوقت .
7 – الهَجْر: بفتح فسكون : الترك والإعراض، والمراد هجر القلب لذكر الله وترك الإخلاص فيه .
8 – الغَلول : بفتح الغين ،الخائن في الغنيمة ، سارق المال العام .
9 – جثا : بضم الجيم مقصورا ، ج مفرده جثوة بتثليث الجيم ، الحجارة المجموعة ، والمراد: من جماعة جهنم .
10 – الكنز : المال الذي لم تؤد زكاته ، يكوى صاحبه به في جهنم .
11- جماع الإثم : بكسر الجيم ، معظم الإثم .
12 – النساء حبالة الشيطان : فاسقات النساء واتباع الشهوات فيهن ، أما الصالحات فقد وردت فيهن آيات كريمة وأحاديث صحيحة تمجدهن وتثني عليهن وتحض على اختيارهن للأسرة والذرية .
13 – أربع أذرع : القبر .
14 – ملاك العمل : بكسر الميم وفتحها، ما يقوم به ، يقال : القلب ملاك الجسد .
15 – الروايا : ج راوية ، أي ناقل الكذب .
16 – يتأل : حذف منه حرف العلة لأنه فعل شرط مجزوم ، من آلى يولي ، إذا حلف ، يقال : إئتلى الرجل إذا حلف ، وفي القرآن : { ولا يأتل أولو الفضل منكم ...} ، يقال لليمين : ألوة بتثليث الهمزة ، وألية بفتح الهمزة وكسر اللام وتشديد الياء . يقال تألى على الله أي حلف ليغفرن الله له .
17 – السمعة : بضم الراء ، الرياء وحب الشهرة .(/21)
رسالة العبودية
شيخ الإسلام ابن تيمية
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : العبادة هى اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والاعمال الباطنة والظاهرة فالصلاة والزكاة والصيام والحج وصدق الحديث وأداء الامانة وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود والامر بالمعروف والنهى عن المنكر والجهاد للكفار والمنافقين والاحسان الى الجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم والدعاء والذكر والقراءة وامثال ذلك من العبادة وكذلك حب الله ورسوله وخشية الله والانابة إليه واخلاص الدين له والصبر لحكمه والشكر لنعمه والرضا بقضائه والتوكل عليه والرجاء لرحمته والخوف لعذابه وامثال ذلك هى من العبادة لله.
وذلك ان العبادة لله هى الغاية المحبوبة له والمرضية له التى خلق الخلق لها كما قال تعالى ((وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون)) وبها ارسل جميع الرسل كما قال نوح لقومه ((اعبدوا الله مالكم من إله غيره)) وكذلك قال هود وصالح وشعيب وغيرهم لقوههم.
وقال تعالى ((ولقد بعثنا فى كل امة رسولا ان اعبدوا الله اجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة)) وقال تعالى ((وما ارسلنا من قبلك من رسول الا نوحى اليه انه لا اله الا انا فاعبدون)) وقال تعالى ((وان هذه امتكم امة واحدة وانا ربكم فاعبدون)) كما قال فى الآية الاخرى ((يا ايها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا انى بما تعملون عليم وجعل ذلك لازما لرسوله الى الموت قال واعبد ربك حتى يأيتك اليقين)).
وبذلك وصف ملائكته وانبياءه فقال تعالى ((وله من فى السموات والارض ومن عنده لايستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون)) وقال تعالى ((ان الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون)) وذم المستكبرين عنها بقوله ((وقال ربكم ادعونىاستجب لكم ان الذين يستكبرون عن عبادتى سيدخلون جهنم داخرين)) ونعت صفوة خلقه بالعبودية له فقال تعالى ((عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا)) وقال ((وعباد الرحمن الذين يمشون على الارض هونا)) الآيات ((ولما قال الشيطان فبما اغويتنى لازينن لهم فى الارض ولا غوينهم اجمعين إلا عبادك منهم المخلصين)) قال الله تعالى ((ان عبادى ليس لك عليهم سلطان الا من اتبعك من الغاوين)).
وقال فى وصف الملائكة بذلك ((وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون الىقوله وهم من خشيته مشفقون)) وقال تعالى ((وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا ادا تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الارض وتخر الجبال هذا ان دعوا للرحمن ولدا وما ينبغى للرحمن ان يتخذ ولدا ان كل من فى السموات الارض الا آتى الرحمن لقد احصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيمامة فردا)).
وقال تعالى عن المسيح الذي ادعيت فيه الالهية والنبوة ان هو الاعبد انعمنا عليه وجعلناه مثلا لبنى السرائيل ولهذا قال النبى صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح [لا تطرونى كما اطرت النصارى عيسى بن مريم فانما انا عبد فقولوا عبد الله ورسوله].
وقد نعته الله بالعبودية فىاكمل احواله فقال فى الاسراء (( سبحان الذى اسرى بعبده ليلا )) وقال فى الايحاء (( فأوحى لى عبده ما اوحى )) وقال فى الدعوة (( وانه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا )) وقال فى التحدى (( وان كنتم فى ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله )) فالدين كله داخل فى العبادة.
وقد ثبت فى الصحيح ان جبريل لما جاء الى النبى صلى الله عليه وسلم فى صورى اعرابى وسأله عن الاسلام قال ان تشهد ان لا اله الا الله وان محمدا رسول الله وتقيم الصلاو وتؤتى الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت ان استطعت اليه سبيلا قال فما الايمان قال ان تؤمن بالله وملائكته وكتبه وورسله والبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره قال فما الإحسان قال ان نعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ثم قال فى آخر الحديث هذا جبريل جاءكم يعلمكم دنيكم فجعل هذا كله من الدين والدين يتضمن معنى الخضوع والذل يقال دنته فدان اى ذللته فذل ويقال يدين الله ويدين لله أي يعبد الله ويطيعه ويخضع له فدين الله عبادته وطاعته والخضوع له.
والعبادة اصل معناها الذل ايضا يقال طريق معبد اذا كان مذللا قد وطئته الاقدام.
لكن العبادة المأمور تتضمن معنى الذل ومعنى الحب فهى تتضمن غاية الذل لله بغاية المحبة له فإن آخر مراتب الحب هوالتتيم واوله العلاقة لتعلق القلب بالمحبوب ثم الصبابة لا نصباب القلب اليه ثم الغرام وهو الحب اللازم للقلب ثم العشق وآخرها التتيم يقال تيم الله أى عبد الله فالمتيم المعبد لمحبوبه.(/1)
ومن خضع لانسان مع بعضه له لايكون عابدا له ولو أحب شيئا ولم يخضع له لم يكن عابدا له كما قد يحب ولده وصديقه ولهذا لا يكفى أحدهما فى عبادة الله تعالى بل يجب أن يكون الله أحب إلى العبد من كل شئ وأن يكون الله أعظم عنده من كل شئ بل لا يستحق المحبة والذل التام إلا الله.
وكل ما أحب لغير الله فمحبته فاسدةوما عظم بغير أمر الله كان تعظيمه باطلا قال الله تعالى قل إن كان آباؤكم وابناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد فى سبيله فتربصوا حتى يأتى الله بأمره فجنس المحبة تكون لله ورسوله كالطاعة فإن الطاعة لله ورسوله والارضاء لله ورسوله والله ورسوله أحق أن يرضوه والايتاء لله ورسوله ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله .
وأما العبادة وما يناسبها من التوكل والخوف ونحو ذلك فلا يكون إلا لله وحده كما قال تعالى ((قل يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا الى قوله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بانا مسلمون)) وقال تعالى ((ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله انا إلى الله راغبون)) فالايتاء لله والرسول كقوله ((وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)) وأما الحسب وهو الكافى فهو الله وحده كما قال تعالى ((الذين قال لهم الناس ان الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل)) وقال تعالى ((يا ايها النبى حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين)) اى حسبك وحسب من اتبعك الله .
ومن ظن ان المعنى حسبك الله والمؤمنون معه فقد غلط غلطا فاحشا كما قد بسطناه فى غير هذا الموضع وقال تعالى أليس الله بكاف عبده.
تحرير ذلك ان العبد يراد به المعبد الذى عبده الله فذلله ودبره.
وصرفه وبهذا الاعتبار المخلوقون كلهم عباد الله من الابرار والفجار والمؤمنين والكفار وأهل الجنة واهل النار اذ هو ربهم كلهم ومليكهم لا يخرجون عن مشيئته وقدرته وكلماته التامات التى لا يجاوزهن برولا فاجر فمال شاء كان وان لم يشاؤا وما شاؤا ان لم يشأه لم يكن كما قال تعالى أفغير دين الله يبغون وله اسلم من فى السموات والارض طوعا وكرها واليه يرجعون.
فهو سبحانه رب العالمين وخالقهم ورازقهم ومحييهم ومميتهم ومقلب قلوبهم ومصرف امورهم لا رب لهم غيره ولا مالك لهم سواه ولا خالق الا هو سواء اعترفوا بذلك أو انكروه وسواء علموا ذلك أو جهلوه لكن أهل الإيمان منهم عرفوا ذلك واعترفوا به بخلاف من كان جاهلا بذلك او جاحدا له مستكبرا على ربه لا يقر ولا يخضع له مع علمه بأن الله ربه وخالقه.
فالمعرفة بالحق اذا كانت مع الاستكبار عن قبوله والحجد له كان عذابا على صاحبه كما قال تعالى وجحدوا بها واستيقنتها انفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسرين وقال تعالى الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون ابناءهم وان فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون وقال تعالى ((فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون)).
فإن اعترف العبد ان الله ربه وخالقه وأنه مفتقر اليه محتاج اليه عرف العبودية المتعلقة بربوبيةالله وهذا العبد يسأل ربه فيتضرع اليه ويتوكل عليه لكن قد يطيع امره وقد يعصيه وقد يعبده مع ذلك وقد يعبد الشيطان والاصنام.
ومثل هذه العبودية لاتفرق بين اهل الجنة والنار ولا يصير بها الرجل مؤمنا كما قال تعالى وما يؤمن اكثرهم بالله الا وهم مشركون فإن المشركين كانوا يقرون ان الله خالقهم ورازقهم وهم يعبدون غيره قال تعالى ((ولئن سألتهم من خلق السموات والارض ليقولن الله)) وقال تعالى ((قل لمن الارض ومن فيها ان كنتم تعلمون سيقولن لله قل افلا تذكرون الى قوله قل فأنى تسحرون)).
وكثير ممن يتكلم فى الحقيقة ويشهدها يشهد هذه الحقيقة وهى الحقيقة الكونية التى يشترك فيها وفى شهودها ومعرفتها المؤمن والكافر والبر والفاجر وابليس معترف بهذه الحقيقة واهل النار قال ابليس رب فانظرنى الى يوم يبعثون وقال رب بما اغويتنى لا زينن لهم فى الارض ولا غوينهم اجمعين وقال ((فبعزتك لا غوينهم اجمعين)) وقال (( أرأيتك هذا الذى كرمت على)) وامثال هذا من الخطاب الذى يقر فيه بان الله ربه وخالقه وخالق غيره وكذلك اهل النار قالوا ((ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين)) وقال تعالى ((ولو ترى اذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا)).
فمن وقف عند هذه الحقيقة وعند شهودها ولم يقم بما امر به من الحقيقة الدينية التى هى عبادته المتعلقة بالهيته وطاعة امره وامر رسوله كان من جنس ابليس واهل النار وان ظن مع ذلك انه خواص اولياء الله واهل المعرفة والتحقيق الذين يسقط عنهم الأمر والنهى الشرعيان كان من اشر اهل الكفر والالحاد.(/2)
ومن ظن ان الخضر وغيره سقط عنهم الأمر لمشاهدة الارادة ونحو ذلك كان قوله هذا من شر اقوال الكافرين بالله ورسوله حتى يدخل فى النوع الثانى من معنى العبد وهو العبد العابد فيكون عابدا لله لا يعبد الا اياه فيطيع امره وأمر رسله ويوالى أولياءه المؤمنين المتقين ويعادى اعداءه وهذا العبادة متعلقة بالهيته ولهذا كان عنوان التوحيد لا اله الا الله بخلاف من يقر بوبوبيته ولا يعبده او يعبد معه الها آخر فالاله الذى يألهه القلب بكمال الحب والتعظيم والاجلال والاكرام والخوف والرجاء ونحو ذلك وهذه العبادة هي التى يحبها الله ويرضاها بها وصف المصطفين من عباده وبها بعث رسله.
وأما العبد بمعنى المعبد سواء اقر بذلك او أنكره فتلك يشترك فيها المؤمن والكافر وبالفرق بين هذين النوعين يعرف الفرق بين المقائق الدينية الداخلة فى عبادة الله ودينه وامره الشرعىالتى يحبها ويرضاها ويوالى اهلها ويكرمهم بجنته وبين الحقائق الكونية التى يشترك فيها المؤمن والكافر والبر والفاجر التى من اكتفى بها ولم يتبع الحقائق الدينية كان من أتباع ابليس اللعين والكافرين برب العالمين ومن اكتفى بها فى بعض الأمور دون بعض أو فى مقام او حال نقص من إيمانه وولايته لله بحسب ما نقص من الحقائق الدينية.
وهذا مقام عظيم فيه غلط الغالطون وكره فيه الاشتباه على السالكين حتى زلق فيه من اكابر الشيوخ المدعين التحقيق والتوحيد والعرفان مالا يحصيهم الا الله الذى يعلم السر والاعلان والى هذا اشار الشيخ عبد القادر رحمه الله فيما ذكر عنه فبين ان كثيرا من الرجال إذا وصلوا الى إلى القضاء والقدر أمسكوا الا انا فإنى انفتحت لى فيه روزنة فنازعت اقدار الحق بالحق للحق والرجل من يكون منازعا للقدر لا من يكون موافقا للقدر.
والذى ذكره الشيخ رحمه الله هو الذى امر الله به ورسوله لكن كثير من الرجال غلطوا فإنهم قد يشهدون ما يقدر على احدهم من المعاصى والذنوب أو ما يقدر على الناس من ذلك بل من الكفر ويشهدون ان هذا جار بمشيئة الله وقضائه وقدرة داخل فى حكم ربوبيته ومقتضى مشيئته فيظنون الاستسلام لذلك وموافقته والرضا به ونحو ذلك دينا وطريقا وعبادة فيضاهون المشركين الذين قالوا ((لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء)) وقالوا ((انطعم من لويشاء الله اطعمه)) وقالوا ((لو شاء الرحمن ما عبدناهم)) ولو هدوا لعلموا أن القدر أمرنا ان نرضى به ونصبر على موجبه فى المصائب التى تصيبنا كالفقر والمرض والخوف قال تعالى ما اصاب من مصيبة الا باذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه قال بعض السلف هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم انها من عند الله فيرضى ويسلم وقال تعالى ((ما اصاب من مصيبة فى الارض ولا فى انفسكم الا فى كتاب من قبل ان نبرأها ان ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا علىما فاتكم ولا تفرحوا بما أتاكم)). وفى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال احتج آدم وموسى فقال انمت آدم الذى خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه واسجد لك ملائكته وعلمك اسماء كل شئ فلماذا أخرجتنا ونفسك مكن الجنة فقال أدم أنت موسى الذى اصطفاك الله برسالته وبكلامه فهل وجدت ذلك مكتوبا على قبل ان أخلق قال نعم قال فحج آدم موسى وأدم عليه السلام لم يحتج على موسى بالقدر ظنا أن المذنب يحتج بالقدر قان هذا لايقوله مسلم ولا عاقل ولو كان هذا عذرا لكان عذرا لابليس وقوم هود وكل كافر ولا موسى لام آدم أيضا لأجل الذنب فان آدم قد تاب إلى ربه فاجتباه وهدى ولكن لامه لأجله المصيبة التى لحقتهم بالخطيئة ولهذا قال فلماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة فأجابه آدم أن أن هذا كان مكتوبا قبل أن أخلق فكان العمل والمصيبةالمترتبة عليه مقدار وما قدر من المصائب يجب لاستسلام له فإنه من تمام الرضا بالله ربا.(/3)
واما الذنوب فليس للعبد ان يذنب واذا اذنب فعليه ان يستغفر وفيتوب من المعائب ويصبر على المصائب قال تعالى فاصبر ان وعد الله حق واستغفر لذنبك وقال تعالى ((وان تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا)) وقال ((وان تصبروا وتتقوا فان ذلك من عزم الامور)) وقال يوسف ((انه من يتق ويصبر فان الله لا يضيع اجر المحسنين)) وكذلك ذنوب العباد يجب على العبد فيها ان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بحسب قدرته ويجاهد فى سبيل الله الكفار والمنافقين ويوالي اولياء الله ويعادي اعداء الله ويحب فى الله ويبغض فى الله كما قال تعالى ((يا ايها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون اليهم بالمودة)) الى قوله ((قد كانت لكم اسوة حسنة فى ابراهيم والذين معه اذ قالوا لقومهم انا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء ابدا حتى تؤمنوا بالله وحده)) وقال تعالى ((لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله)) الى قوله ((اولئك كتب فى قلوبهم الايمان وايدهم بروح منه)) وقال تعالى ((افنجعل المسلمين كالمجرمين)) وقال ((ام نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين فى الأرض ام نجعل المتقين كالفجار)) وقال تعالى ((ام حسب الذين اجترحوا السيئات ان نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون)) وقال تعالى ((وما يستوى الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوى الأحياء ولا الاموات وقال تعالى ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا)) وقال تعالى ((ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء الى قوله بل اكثرهم لا يعلمون وضرب الله مثلا رجلين احدهما ابكم لا يقدر على شيء)) الى قوله ((وهو على صراط مستقيم)) وقال تعالى ((لا يستوى اصحاب النار واصحاب الجنة اصحاب الجنة هم الفائزون)) ونظائر ذلك مما يفرق الله فيه بين اهل الحق والباطل واهل الطاعة واهل المعصية واهل البر واهل الفجور واهل الهدى والضلال واهل الغي والرشاد واهل الصدق والكذب.
فمن شهد الحقيقة الكونية دون الدينية سوى بين هذه الأجناس المختلفة التى فرق الله بينها غاية التفريق حتى يؤل به الأمر الى ان يسوى الله بالاصنام كما قال تعالى عنهم الله (( ان كنا لفي ضلال مبين اذ نسويكم برب العالمين )) بل قد آل الأمر بهؤلاء الى ان سووا الله بكل موجود وجعلوا ما يستحقه من العبادة والطاعة حقا لكل موجود اذ جعلوه هو وجود المخلوقات وهذا من اعظم الكفر والالحاد برب العباد.
وهؤلاء يصل بهم الكفر الى انهم لا يشهدون انهم عباد لا بمعنى انهم معبدون ولا بمعنى انهم عابدون اذ يشهدون انفسهم هي الحق كما صرح بذلك طواغيتهم كابن عربي صاحب الفصوص وامثاله من الملحدين المفترين كابن سبعين وامثاله ويشهدون انهم هم العابدون والمعبودون وهذا ليس بشهود لحقيقة لا كونية ولا دينية بل هو ضلال وعمى عن شهود الحقيقة الكونية حيث جعلوا وجود الخالق هو وجود المخلوق وجعلوا كل وصف مذموم وممدوح نعتا للخالق والمخلوق اذ وجود هذا هو وجود هذا عندهم واما المؤمنون بالله ورسوله عوامهم وخواصهم الذين هم اهل الكتاب كما قال النبى صلى الله عليه وسلم ان لله اهلين من الناس قيل من هم يا رسول الله قال [اهل القرآن هم اهل الله وخاصته] فهؤلاء يعلمون ان الله رب كل شيء ومليكه وخالقه وان الخالق سبحانه مباين للمخلوق ليس هو حالا فيه ولا متحدا به ولا وجوده وجوده.
و النصاري كفرهم بأن قالوا بالحلول والاتحاد بالمسيح خاصة فكيف من جعل ذلك عاما فى كل مخلوق ويعلمون مع ذلك ان الله امر بطاعته وطاعة رسوله ونهى عن معصيته ومعصية رسوله وانه لا يحب الفساد ولا يرضي لعباده الكفر وان على الخلق ان يعبدوه فيطيعوا امره ويستعينوا به على ذلك كما قال (( إياك نعبد واياك نستعين )) ومن عبادته وطاعته الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب الامكان والجهاد فى سبيله لاهل الكفر والنفاق فيجتهدون فى اقامة دينه مستعينين به دافعين مزيلين بذلك ما قدر من السيئات دافعين بذلك ما قد يخاف من ذلك كما يزيل الانسان الجوع الحاضر بالاكل ويدفع به الجوع المستقبل وكذلك اذا آن اوان البرد دفعه باللباس وكذلك كل مطلوب يدفع به مكروه كما قالوا للنبى صلى الله عليه وسلم يا رسول الله ارأيت ادوية نتداوى بها ورقى نسترقى بها وتقاة نتقى بها هل ترد من قدر الله شيئا فقال هي من قدر الله وفى الحديث ان الدعاء والبلاء ليلتقيان فيعتلجان بين السماء والارض فهذا حال المؤمنين بالله ورسوله العابدين لله وكل ذلك من العبادة.(/4)
وهؤلاء الذين يشهدون الحقيقة الكونية وهي ربوبيته تعالى لكل شيء ويجعلون ذلك مانعا من اتباع امره الدينى الشرعي على مراتب فى الضلال فغلاتهم يجعلون ذلك مطلقا عاما فيحتجون بالقدر فى كل ما يخالفون فيه الشيعة وقول هؤلاء شر من قول اليهود والنصارى وهو من جنس قول المشركين الذين قالوا لو شاء اله ما اشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم.
وهؤلاء من اعظم اهل الارض تناقضا بل كل من احتج بالقدر فانه متناقض فانه لا يمكن ان يقر كل آدمى على ما فعل فلا بد اذا ظلمه ظالم او ظلم الناس ظالم وسعى فى الارض بالفساد واخذ يسفك دماء الناس ويستحل الفروج ويهلك الحرث والنسل ونحو ذلك من انواع الضرر التى لا قوام للناس بها ان يدفع هذا القدر وان يعاقب الظالم بما يكف عدوان امثاله يقال له ان كان القدر حجة فدع كل احد يفعل ما يشاء بك وبغيرك وان لم يكن حجة بطل اصل قولك حجة واصحاب هذا القول الذين يحتجون بالحقيقة الكونية لا يطردون هذا القول ولا يلتزمونه وانما هم بحسب آرائهم واهوائهم كما قال فيهم بعض العلماء انت عند الطاعة قدرى وعند المعصية جبرى اى مذهب وافق هواك تمذهبت به.
ومنهم صنف يدعون التحقيق والمعرفة فيزعمون ان الأمر والنهى لازم لمن شهد لنفسة فعلآ واثبت لة صنعا اما من شهدا أن افعالة مخلوقة او انة مجبور على ذلك وان الله هو المتصرف فية كما تحرك سائر المتحركات فانة يرتفع عنة الأمر والنهى والوعد والوعيد.
وقد يقولون من شهد الارادة سقط عنة التكليف ويزعم احدهم ان الخضر سقط عنة التكليف لشهودة الارادة فهؤلاء لا يفرق بين العامة والخاصة الذين شهدوا الحقيقة الكونية فشهدوا ان الله خالق أفعال العباد وانة يدبر جميع الكائنات وقد يفرقون بين من يعلم ذلك علما وبين من يراة شهودا فلآ يسقطون التكليف عمن يؤمن بذلك ويعلمة فقط ولكن عمن يشهدة فلآ يرى لنفسة فعلآ أصلآ وهؤلآء لا يجعلون الجبر وإثبات القدر مانعا من التكليف على هذا الوجه.
وقد وقع فى هذا طوائف من المنتسبين الى التحقيق والمعرفة والتوحيد وسبب ذلك أنة ضاق نطاقهم عن كون العبد يؤمر بما يقدر علية خلآفة كما ضاق نطاق المعتزلة ونحوهم من القدرية عن ذلك ثم المعتزلة اثبتت الأمر والنهى الشرعيين دون القضاء والقدر الذى هو إرادة اللة العامة وحلقة لآفعال العباد وهؤلآء اثبتوا القضاء والقدر ونفوا الأمر والنهى فى حق من سهد القدر إذا لم يمكنهم نفى ذلك مطلقا وقول هؤلآء شر من قولة المعتزلة ولهذا لم يكن فى السلف من هؤلآء احد وهؤلآء يجعلون الأمر والنهى للمحجوبين الذين لم يشهدوا هذة الحقيقة الكونية ولهذا يجعلون من وصل الى شهود هذة الحقيقة يسقط عنة الأمر والنهى وصار من الخاصة وربما تأولوا على ذلك قولة تعالى واعبد ربك حتى يأتيك اليقين وجعلوا اليقين هو معرفة هذه الحقيقة وقول هؤلاء كفر صريح وان وقع فيه طوائف لم يعلموا انه كفر فانه قد علم بالاضطرار من دين الاسلام ان الأمر والنهي لازم لكل عبد ما دام عقله حاضرا الى ان يموت لا يسقط عنه الأمر والنهي لا بشهوده القدر ولا بغير ذلك فمن لم يعرف ذلك عرفه وبين له فإن اصر على اعتقاد سقوط الأمر والنهي فانه يقتل.
وقد كثرت مثل هذه المقالات فى المستأخرين ، واما المستقدمون من هذه الأمة فلم تكن هذه المقالات معروفة فيهم.
وهذه المقالات هي محادة لله ورسوله ومعاداة له وصد عن سبيله ومشاقة له وتكذيب لرسله ومضادة له في حكمه وان كان من يقول هذه المقالات قد يجهل ذلك ويعتقد ان هذا الذي هو عليه هو طريق الرسول وطريق اولياء الله المحققين فهو فى ذلك بمنزلة من يعتقد ان الصلاة لا تجب عليه لاستغنائه عنها بما حصل له من الأحوال القلبية او ان الخمر حلال له لكونه من الخواص الذين لا يضرهم شرب الخمر او ان الفاحشة حلال له لأنه صار كالبحر لا تكدره الذنوب ونحو ذلك.
ولا ريب ان المشركين الذين كذبوا الرسل يترددون بين البدعة المخالفة لشرع الله وبين الاحتجاج بالقدر على مخالفة امر الله فهؤلاء الأصناف فيهم شبه من المشركين اما ان يبتدعوا واما ان يحتجوا بالقدر واما ان يجمعوا بين الأمرين كما قال تعالى عن المشركين واذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله امرنا بها قل ان الله لا يأمر بالفحشاء اتقولون على الله ما لا تعلمون وكما قال تعالى عنهم ((وقال الذين اشركوا لو شاء الله ما اشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء)).(/5)
وقد ذكر عن المشركين ما ابتدعوه من الدين الذي فيه تحليل الحرام والعبادة التى لم يشرعها الله بمثل قوله تعالى ((وقالوا هذه انعام وحرث حجر لا يطعمها الا من نشاء بزعمهم وانعام حرمت ظهورها وانعام لا يذكرون اسم الله عليها)) افتراء عليه الى آخر السورة وكذلك فى سورة الاعراف فى قوله ((يا بنى آدم لا يفتتنكم الشيطان كما اخرج ابويكم من الجنة الى قوله واذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله امرنا بها قل ان الله لا يأمر بالفحشاء)) الى قوله ((قل امر ربى بالقسط واقيموا وجوهكم عند كل مسجد)) الى قوله ((وكلوا واشربوا ولا تسرفوا انه لا يحب المسرفين قل من حرم زينة الله التى اخرج لعبادة والطيبات من الرزق)) الى قوله ((قل انما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغى بغير الحق وان تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وان تقولوا على الله ما لا تعلمون)) .
وهؤلاء قد يسمون ما احدثوه من البدع حقيقة كما يسمون ما يشهدون من القدر حقيقة وطريق الحقيقة عندهم هو السلوك الذي لا يتقيد صاحبه بامر الشارع ونهيه ولكن بما يراه ويذوقه ويجده ونحو ذلك وهؤلاء لا يحتجون بالقدر مطلقا بل عمدتهم اتباع آرائهم واهوائهم وجعلهم لما يرونه ويهوونه حقيقة وامرهم باتباعها دون اتباع امر الله ورسوله نظير بدع اهل الكلام من الجهمية وغيرهم الذين يجعلون ما ابتدعوه من الاقوال المخالفة للكتاب والسنة حقائق عقلية يجب اعتقادها دون ما دلت عليه السمعيات ثم الكتاب والسنة اما ان يحرفوه عن مواضعه واما ان يعرضوا عنه بالكلية فلا يتدبرونه ولا يعقلونه بل يقولون نفوض معناه الى الله مع اعتقادهم نقيض مدلوله واذا حقق على هؤلاء ما يزعمونه من العقليات المخالفة للكتاب والسنة وجدت جهليات واعتقادات فاسدة.
وكذلك اولئك اذا حقق عليهم ما يزعمونه من حقائق اولياء الله المخالفة للكتاب والسنة وجدت من الاهواءالتى يتبعها اعداء الله لا اولياؤه.
واصل ضلال من ضل هو بتقديم قياسه على النص المنزل من عند الله واختياره الهوى على اتباع امر الله فإن الذوق والوجد ونحو ذلك هو بحسب ما يحبه العبد فكل محب له ذوق ووجد بحسب محبته فأهل الايمان لهم من الذوق والوجد مثل ما بينه النبى صلى الله عليه وسلم بقوله فى الحديث الصحيح ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الايمان من كان الله ورسوله احب اليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه الا الله ومن كان يكره ان يرجع فى الكفر بعد اذا انقذه الله منه كما يكره ان يلقى فى النار وقال صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح ذاق طعم الايمان من رضى باله ربا وبالاسلام دينا وبمحمد نبيا.
وأما أهل الكفر والبدع والشهوات فكل بحسبه قيل لسفيان بن عيينة ما بال أهل الأهواء لهم محبة شديدة لأهوائهم فقال أنسيت قوله تعالى واشربوا فى قلوبهم العجل بكفرهم أو نحو هذا من الكلام فعباد الاصنام يحبون آلهتهم كما قال تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله وقال فان لم يستجيبوا لك فاعلم انما يتبعون أهواءهم ومن اضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله وقال أن يتبعون الا الظن وما تهوى الانفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى ولهذا يميل هؤلاء الى سماع الشعر والأصوات التى تهيج المحبة المطلقة التى لا تختص بأهل الايمان بل يشترك فيها محب الرحمن ومحب الاوثان ومحب الصلبان ومحب الاوطان ومحب الاخوان ومحب المردان ومحب النسوان وهؤلاء الذين يتبعون أذواقهم ومواجيدهم من غير اعتبار لذلك بالكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة.
فالمخالف لما بعث به رسوله من عبادته وطاعته وطاعة رسوله لا يكون متبعا لدين شرعه الله كما قال تعالى ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون أنهم لن يغنوا عنك من الله شيء.(/6)
رسالة المسجد الأَقصى إلى المسلمين
نجوى وشكوى وحنين
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
أنا المسجدُ الأَقصى ! وهذي المرابعُ ... ... بقايا ! وذكرى ! والأَسى والفواجعُ
لقد كنتُ بين المؤمنين وديعةً ... ... على الدّهرِ ما هبّوا إِليَّ وسارعوا
يَضمُّون أَحناءً عليًّ وأعْيُناً ... ... وتحرُسني مِنْهم سيوفٌ قواطعُ
زُحوفٌ مع الأَيامِ موصولةُ العُرا ... ... فترتجُّ من عزْم الزُّحوف المرابع
إِذا أعوزَ القومَ السلاحُ تواثُبوا ... ... تجودُ قُلوبٌ بالوفا وأضالعُ
وعَهْدٌ مع الله العليِّ يشدُّهُ ... ... يقينٌ بأنَّ المرءَ لله راجِعُ
وأنّ جِنانَ الخُلد بالحقّ تُجْتَلَى ... ... وبالدَّم تُجْلَى ساحةٌ ووقائِعُ
مواكبُ نورٍ يملأ الدهرَ زحْفُها ... ... فيُشرقُ منها غَيْهَبٌ ومطالِعُ
وتَنشُرُ في الدنيا رسالةَ ربِّها ... ... فَتُصغِيْ لها في الخافِقَين المسامعُ
وتنشُرُ أنداءً وتَسْكُبُ وابلاً ... ... فتخضّرُّ ساحاتٌ ذَوَتْ وبَلاقعُ
* * * ... ... * * *
فما بالُ قومي اليوم غابُوا وَغُيِّبوا ... ... وما عادَ في الآفاقِ منهمْ طلائعُ
وما بال قومي بدَّلوا ساحَةَ الوغى ... ... فغابَتْ ميادينٌ لهم ومصانِعُ
وما بَالُهمْ تَاهوا عن الدرب،ويَحَهمْ ! ... ... فجالتْ بهم أهواؤهمْ و المطامعُ
فغابَ نداءٌ ما أجلَّ عَطاءَه ... ... تُردّدُهُ في كل أفقٍ مجامِعُ
وكانتْ ميادينُ الشّهادةِ ساحَهم ... ... فصارَ لَهُمْ ملءَ الدّيارِ مَرَاتعُ
وفي كلِّ يومٍ مَهْرَجَانٌ يَضُمُّني ... ... وتَنْدُبُني بين القصيد المدامِعُ
وكانت دماءُ المؤمنين غنيّةً ... ... تُصَبُّ وأرواحُ الشهودِ تدافِعُ
فأصبَحْتُ ، يا ويحي ،أَحاديثَ مَجْلسٍ ... ... وأدمعَ بكَّاءٍ حَوتْه المضاجِعُ
وكان يُدوّي في الميادين جولةٌ ... ... فصارَ يُدوّي بالشعاراتِ ذائعُ
وَكمْ كنْتُ أَرجو أن تكون دُموعُهمْ ... ... دِماءً تُرَوّى مِن غِناها البَلاقِعُ
* * * ... ... * * *
أَيذْبَحُني أهُلي ويَبكونَ بَعْدَها ... ... عليَّ ؟ ! لقد سَاءتْ بذاك الصنائِعُ
فَكَمْ تاجرٍ أَلقى بِلَحْميَ سِلْعَةً ... ... وقَدْ عَزَّ في الأسواقِ منها البَضائِعُ
فهذا يُنادِي بالتجارة جَهْرَةً ... ... وذاك يُواريه شِعارٌ مخادِعُ
فغاصُوا جميعاً بِالوُحُولِ وَغُيَّبوا ... ... بتيهٍ ودارَتْ بَيْنَ ذاكَ المصَارعُ
* * * ... ... * * *
فما أَنا جُدْرانٌ تَدورُ وسَاحَهٌ ... ... ولكنّني أُفْقٌ غَنيُّ وواسِعُ
يَمُدُّ لِيَ الآفاقَ وحيُ رسالةٍ ... ... وحَبْلٌ متينٌ للمنازِلِ جامِعُ
رياضٌ يَرِفُّ الطيبُ منها وتَغْتَني ... ... مِنَ الطّيب سَاحَاتٌ بها ومَرَابعُ
فِمنْ مُهْجَةِ الإِسْلام مَكّةَ خفقتي ... ... ومِنْ طيبَةٍ وحيٌ إلى الحقِّ دافعُ
ومن كلِّ دارٍ مِنَبرٌ ومآذِنٌ ... ... بيوتٌ تدَوِّي بالنّداء جَوامِعُ
قُلوبٌ لها خفقُ الحياةِ وأضْلُعٌ ... ... تجيشُ وآمالٌ غَلَتْ وَوَدائِعُ
تظلُّ عُروقي بالحياةِ غنيَّةً ... ... إذا اتّصلتْ بين الدّيار الشرائِعُ
وأَيُّ حَياةٍ دونَ ذلك تُرْتَجى ... ... إذا انتزَعْتني مِنْ ضُلوعي المطَامِعُ
* * * ... ... * * *
ونادَى مُنادٍ حَسْبُنَا كِسرةٌ هنا ... ... ونَادَى سِوَاهُ نَرْتَجي ونُصانِعُ
وطافتْ على الدُّنيا الهزائمُ كلُّها ... ... شعارٌ يُدَوّي أو ذليلٌ وضارعُ
تَشُدُّ عليَّ اليوْمَ قبْضَةُ مُجْرِمِ ... ... وَيَجْتَالُني مَكرٌ لهُ وأصابعُ
وفي كلّ يوم ، وَيْحَ نَفْسي ، مَسَارحٌ ... ... تُدَارُ وأَهْواءٌ عَليْها تَنازَعً
تُدَارُ خيوطُ المكْر خَلْفَ ستارها ... ... وتُعْلَنُ آمالُ عَليْها لَوامِعُ
ويَطْوِي عَلى هُوْنٍ أسايَ وذِلتي ... ... شِعَارٌ يُدَوّي أو أمانٍ روائعُ
تُمزَّقَ أَوصَالي وتُنْزَعُ مُهْجتي ... ... ويُطلَبُ نَصْرٌ والنُّفوس خَواضِعُ
يقولون " تحريرٌ " ويُجْرون صَفْقَةً ... ... عَليْها شُهودٌ ضِامنون وبائعُ
يقولون " تقرير المصير " ! وإنّه ... ... لَتدميرُ آمالٍ : فَمُعْطٍ ومانِعُ
يفاوضُ فيه الشاةَ ذئبٌ وثعلبٌ ... ... وقد مَهَّدَتْ عَبْر السنينَ الوقائعُ
يقولونَ : أهلُ الدار أدرى بِحالِها ... ... وأين هُمُ ؟ ! إني إلى الله ضارعُ
وأهليْ ! وما أهلي سوى أُمَّةٍ لها ... ... من الله عزمٌ في الميادين جامع
وصفٌّ يشدُّ المؤمنين جميعهُم ... ... كأَنَّهُمُ البُنْيانُ : عالٍ ومانعُ
إذا لمْ تَقُمْ في الأرض أمَّةُ أَحمدٍ ... ... فكلِّ الذي يُرْجَى عَلى السّاحِ ضائعُ
حنانيكَ يا أَقصَى ! حنانَيك كُلَّما ... ... خَطَرْتَ وشدَّتني إليكَ النّوازعُ
فيافٍ ترامتْ بَيْنَنَا ، ومَسَالِكٌ ... ... تُسَدُّ ، وأشواقٌ إليك تُصارعُ
تَمُرُّ مَعَ الذّكرى لتُوقِظ أُمّةً ... ... وحوْلكَ غافٍ لو علمتَ وقابعُ
أُطأطئ رأسي ما خَطرتَ وأَنثني ... ... وطرفِيَ من هُوْنِ المذلَّة خاشِعُ
وأُصْغي ! ونجوى البرتقال تهُّزني ... ... وَوَشْوشَةُ الزيتونِ منكَ قَوارعُ(/1)
يعيدُ لنا العُتْبى حنينٌ مرجّعٌ ... ... يُردّدُهُ فيك الحمامُ السواجِعُ
فيا أيها الأقْصى أنينُك موجعٌ ... ... تهيجُ به بينَ الضلوع الفواجعُ
حَنينكَ أصداء العصورِ ولَهفة ... ... فصبراً وما يُدريكَ ما الله صانِعُ
* * * ... ... * * *
رجعتُ ! فناداني ! وعدتُ لكي أَرى ... ... على جانِبَيْه دَمْعةً تتدافَعُ
وقال : إبائي يحجزُ الدمعَ كلَّهُ ... ... ولكنَّ حُزني اليوم طاغٍ ودافعُ
جَرَتْ دَمْعةٌ في الأرض مِنهُ فأَوْقَدتْ ... ... عزائمَ أجيال وزحفاً يُتابعُ
تَخُوضُ مَيادينَ الجِهادِ وتَعْتَلي ... ... ذُرَاها تُدَوِّي بالجِهادِ المجامعُ
فَلَسْطِينُ حقُّ المسْلَمين جَمِيعهم ... ... وهذا كتابُ اللهِ بالحقَّ سَاطِعُ
* * * ... ... * * *
الرياض
25/1/1419هـ
20/5/1998م ... ... ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· من ملحمة الإسلام من فلسطين إلى لقاء المؤمنين(/2)
رسالة المسلم في حقبة العولمة
العولمة والسنن
مجالات العولمة
بعض الآثار السلبية لعولمة الإعلام
الموقف الشرعي من العولمة
مشاركة أ.د ناصر بن سليمان العمر
المشرف العام على موقع المسلم
www.almoslim.net
ضمن الأوراق المقدمة إلى
مركز الدراسات الإسلامية بقطر
والتابع لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية
وكان تحريره في ربيع أول/1424
بسم الله الرحمن الرحيم
رسالة المسلم في حقبة العولمة
أولاً: توطئة
العولمة لفظ مأخوذ من (عالَم)، وكما أن الناس اختلفوا فيها ما بين مندد ومسدد، فقد اختلفوا كذلك في تعريفها، ولكن يكاد يتفق الجميع على حد أدنى، وهو اصطباغ عالم الأرض بصبغة واحدة شاملة لجميع من يعيش فيه، وتوحيد أنشطتهم الاقتصادية والاجتماعية والفكرية من غير اعتبار لاختلاف الأديان والثقافات، والجنسيات والأعراق(1).
فمهما تعدّدت السياقات التي ترد فيها (العولمة)، فإن المفهوم الذي يعبّر عنه الجميع، في اللغات الحيّة كافة، هو الاِتجاه نحو السيطرة على العالم وجعله في نسق واحد. ومن هنا جاء قرار مجمع اللغة العربية بالقاهرة بإجازة استعمال العولمة بمعنى جعل الشيء عالمياً.
وكل هذا لا يخرج عن اعتبار العولمة -في دلالتها اللغوية أولاً- هي جعل الشيء عالمياً، بما يعني ذلك من جعل العالم كلِّه وكأنه في منظومة واحدة متكاملة. وهذا هو المعنى الذي حدّده المفكرون باللغات الأوروبية للعولمة Globalization في الإنجليزية والألمانية، وعبروا عن ذلك بالفرنسية بمصطلح Mondialisation، ووضعت كلمة (العولمة) في اللغة العربية مقابلاً حديثاً للدلالة على هذا المفهوم الجديد(2).
وتظهر مشكلة العولمة في هذا التعريف، فطالما أن الأعراق متنوعة، والثقافات متعددة، والأديان مختلفة، والأهواء متباينة، فمن يحكم هذه الصبغة الواحدة؟ من يضع ضوابطها ويحدد قوانينها؟ ثم كيف يلزم تاجر صغير كان يعيش في أرضه آمناً في سربه، عنده قوت يومه، بمزاحمة غيره من العمالقة له في أرضه؟ وإذا كان هذا محتملاً لكون العصفور يرزق مع النسر، وتلك الطير تغدوا خماصاً وتروح بطاناً؟ فبأي مبرر تلغى عادات الناس وأنماطهم الاجتماعية؟ ومن الذي يضع الصبغة الجديدة للوحدة الاجتماعية؟ وكيف ألزم بلايين البشر بغسل أدمغتهم، وتنظيفها من فكرهم الأصيل لآخر دخيل؟
ولهذه الإشكالات وغيرها كان من الطبيعي أن يكون في المجتمعات الإسلامية والعربية شبه إجماع بين أطراف الرأي العام السياسي فيها، ماركسيهم وقوميهم وإسلاميهم يقول بأن العولمة، بالموجهات الرئيسة التي تحركها، لا تتضمن أي جديد بل هي شكل من الاستعمار لا تختلف في أهدافها عن أهداف الموجات الاستعمارية السابقة. فلا يمكن لرأس المال المهيمن، وللشركات العملاقة المتعددة الجنسيات أن تنزع نحو أهداف أخرى غير السيطرة على الأسواق وغزو موارد الكوكب واستغلال العمل المأجور والرخيص أنّى وجد. والفرق بين المشروعين الاستعماريين، القديم والجديد، هو أن المشروع الجديد يحتاج إلى التأقلم مع الظروف العالمية التاريخية المتغيرة، أي صعود هيمنة الولايات المتحدة الأحادية على العالم، وتحويل حلف شمال الأطلسي إلى التحالف العسكري السياسي الوحيد في العالم، وفي خدمة مجموعة صغيرة من الدول الصناعية· كما أن الاستعمار الجديد يستخدم خطابا للمشروعية يشدد على قيم نشر الديمقراطية واحترام حقوق الشعوب بدل الخطاب الذي حرك قوى الاستعمار الأسبق الذي ركز بشكل رئيس على قيم تمدين الشعوب الهمجية، أعني كل الشعوب غير الأوربية، وتحضيرها أو إدخالها في الحضارة الفعلية· ولئن كانت للاستعمار الأول أشكال تدخله العسكرية، فإن الاستعمار الجديد يعمد إلى أساليب جديدة، لا تقل فعالية عن السابقة على الرغم من أنها اتسمت بقسط أكبر من الأغطية القانونية· فالتدخل العسكري الانفرادي والمكشوف للدول الاستعمارية قد ترك مكانه(3) حتى الحادي عشر من سبتمبر عام ألفين وواحد.
__________
(1) العولمة والعالم الإسلامي: حقائق وأرقام، لعبد سعيد إسماعيل، وقد عرض لتعاريف مختلفة للعولمة.
(2) العولمة والحياة الثقافية في العالم الإسلامي، للدكتور عبدالعزيز بن عثمان التويجري.
(3) رهانات العولمة، وهي مقالة للدكتور برهان غليون.(/1)
يقول توماس فريدمان مقرراً أن العولمة الحالية نوع من الهيمنة الأمريكية: "خلال التسعينات، أصبحت أميركا وبشكل جلي الأكثر قوة -اقتصاديا وعسكريا وتقنيا- من أية دولة أخرى في العالم، إذا لم يكن في تاريخ البشرية. وقد حدث ذلك، إلى حد كبير، بسبب انهيار الإمبراطورية السوفيتية، وتحول العالم إلى البديل الرأسمالي المتمثل في اقتصاد السوق الحر، وما صاحب ذلك من ثورة تقنية الإنترنت في أميركا. كل ذلك أدى إلى هيمنة شديدة لقوة الولايات المتحدة وأفكارها الثقافية والاقتصادية المتعلقة بكيفية تنظيم أمور المجتمع، هيمنة ظهرت بجلاء من خلال العولمة، إلى درجة أن أميركا بدأت بالتأثير على حياة البشر في أنحاء المعمورة، بطريقة فاقت حتى تأثير الحكومات على شعوبها، كما قال لي دبلوماسي باكستاني ذات يوم.
أجل، لقد بدأنا بالتأثير على حياة الشعوب -بشكل مباشر أو غير مباشر- وبدرجة تفوق تأثير حكومات تلك الشعوب"(1).
ثانياً: العولمة والسنن
كان الناس في عصرهم الأول نموذجاً مثالياً لعولمة حضارية، وحدة على مستوى البشرية جمعاء؛ فكرية ثقافية، سياسية، اقتصادية، وكان ذلك وفقاً لمنهج الله الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، ثم جاءت الأذواق والأهواء بعجرها وبجرها، فحاولت جبابرة القرون -جيلاً بعد جيل- رفض الكتاب الذي أنزل ليقوم الناس بالقسط، موظفةً الحديد والنار في محاولات شتى لفرض أضرب من "العولمة" بل لفرض نفوسهم ونفوذهم على العالمين، (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلاّ الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم)(2) ، (وما كان الناس إلاّ أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون)(3).
إن إرادة الله الكونية اقتضت وجود الخلق، ومشيئته الشرعية اقتضت توحدهم على منهج الحق كما قال سبحانه: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم - وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون)(4) ولكن خالفت الإرادة الكونية المشيئة الشرعية (فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً كل حزب بما لديهم فرحون)(5)، "أي يفرحون بما هم فيه من الضلال لأنهم يحسبون أنهم مهتدون"(6).
فاقتضت حكمته –سبحانه وتعالى- وجود الخير والشر في هذا الكون (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)(7)، (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين - إلاّ من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين)(8)، (هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير)(9)، (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ - وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن ُيدْخِلُ مَن يَشَاء فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ)(10).
وكما اقتضت حكمته وجود الخير والشر، جرت سنته بدوام التدافع بينهما، فقد جعل الله الأيام دولاً، (ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين)(11)، (.. ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز)(12)، (وتلك الأيام نداولها بين الناس)(13).
غير أن العاقبة للتقوى، فصاحب الحق يجب عليه أن يستعين بالله ويصبر، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون - إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين - وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين)(14).
فالناس من حيث المآل فريقان، فريق في الجنة وفريق في السعير، وعلى الأعراف فريق ثالث مآله إما إلى جنة أو إلى نار، فالمحصلة فريقان.
أما في الدنيا فصراع أهل الحق مع أهل الباطل مستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وإلى أن يرسل الله ريحاً تقبض أرواح المؤمنين فلا يبقى في أرض الله من يقول الله الله، وعندها تقوم الساعة على شرار خلق الله.
__________
(1) عن مقال لتوماس فريدمان بعنوان: "نظرية حول كل شيء".
(2) سورة البقرة: 213.
(3) سورة يونس: 19.
(4) سورة المؤمنون: 51.
(5) سورة المؤمنون: 53.
(6) تفسير ابن كثير 3/248.
(7) سورة يونس: 99.
(8) سورة هود: 119.
(9) سورة التغابن: 2.
(10) سورة الشورى: 7-8.
(11) سورة البقرة: 251.
(12) سورة الحج: 40.
(13) سورة آل عمران: 140.
(14) سورة الأنبياء: 105-107.(/2)
كما أن أهل الباطل طوائف مختلفة ولكن مآلها واحداً، تجمعهم أهواء وأهداف مصالحهم الضيقة، فيتداعون لحرب من يعارضهم من أهل الحق، كما أخبر صلى الله عليه وسلم (توشك أن تداعى عليكم الأمم كما تدعى الأكلة على قصعتها)، ولكن هم مع ذلك طرائق قدداً، تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى.
ولما كان الناس كذلك، فقد راعت شريعة الإسلام العالمية هذه السنة الكونية، فجاءت تشريعات الإسلام معتبرة للفروق بين ما يجب التفريق فيه كالأديان، فأصحابها بين متبع للباطل ومتبع للحق، فهم متباينون، ومن الجور التسوية بين المتباينين، و لا يمكن أن يسمى هذا عدلاً.
وجاءت كذلك ملغية للتفرقة فيما تلزم المساواة فيه، كالتفريق بين الناس على أساس الأعراق بينما هم كلهم لآدم وآدم من تراب.
أما النظام العالمي الأمريكي فله حقيقة ودعوى تجاه هذه المسألة:
أما حقيقته، فهي فرض للهيمنة الثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية للدولة الأقوى،على كافة الشعوب والمجتمعات، وهو شكل جديد من أشكال الاستعمار كما سبق، وقد اعترف بنحو هذا بعض الأمريكيين كالكاتب الصحفي (توماس فريدمان).
أما دعواه فهي زعم أن النظام العالمي الجديد قائم على عدم التفريق بين الناس على أي أساس، سواءً أكان ديناً أو عرقاً، رجلاً أو امرأة أو غير ذلك، فلا فرق البتة، ولست هنا في مقام مناقشة تفصيلية لهذه الفكرة.
ولكن يكفي القول بأن العدل هو التسوية بين المتساويين والتفريق بين المختلفين، وإن إلزام المختلفين بفعل واحد أو سلوك طريق بعينه سيكون مجحفاً في حق بعضهم.
كما أن اعتبار الفروق لامناص منه، والواقع التطبيقي العملي الفعلي اضطر هؤلاء لاعتبار بعض الفروق، فعلى سبيل المثال، لماذا يمنع غير الأمريكي مثلاً من الترشح لحكم أمريكا؟ أليست المساواة تقتضي جواز ترشح أي إنسان سواء جاء من إحدى الولايات أو جاء من إحدى القارات؟ كذلك لماذا يمنع من كان دون سن معينة من الترشح؟ ومع ذلك لم نر أحداً خرج يطالب بحقوق الشباب! إذاً فلابد من ضوابط ومحددات، وهذه المحددات هو ما يرفض العالم أن تكون أمريكا هي صانعتها، وبخاصة في بلداننا.
وأخيراً أشير إلى فشل هذا النظام في إلغاء هذه الفوارق حتى بين مصدريه من أبناء الملة الواحدة، فهذه بريطانيا تعيش ردحاً من الزمن أزمة سياسية ثقافية اجتماعية عجزت أن توحد فيها بين رؤى الجيش الأيرلندي الكاثوليكي الذي يسعى للانفصال، وبين الوحدويون البروتستانت، ومازلنا نسمع بين الفينة والأخرى نبأ انفجار عبوة وضعها متطرفون بروتستانت، أو مقتل بروتستانتي برصاص كاثوليكي أو اشتباكات بين كاثوليك وبروتستانت، كل ذلك في الدولة التي تعد الحليف الأول لراعية العولمة الجديدة!
وقل مثل ذلك عن الجيش الأحمر الياباني الوثني، وجيش التحرير الكوبي الشيوعي.
وكم من مرشح غربي فاز في الانتخابات العامة بسبب برنامجه الاقتصادي الإصلاحي!
وبعد ذلك يريد النظام العالمي الجديد أن يقنعنا بإمكانية إلغاء سنة كونية لن تنتهي إلاّ بنهاية هذه الدنيا.
ثالثاً: مجالات العولمة
أولاً: العولمة الاقتصادية.
يتحدث الناس عن مجالات مختلفة للعولمة، منها الاقتصادي، ومنها الثقافي، ومنها الإعلامي، ومنها السياسي، ومنها العسكري، وغير ذلك.
وهذه لمجالات متداخلة فيما بينها، يصعب فصلها، غير أن الثلاثة الأولى هي مفاتيح أنماط العولمة الأخرى وأهم آلاتها، فالاقتصاد والثقافة والإعلام، هي التي تصنع المجتمعات فالسياسات وما يتبعها. فلهذا ولأن تفصيل الحديث عن أنماط العولمة المختلفة يحتاج إلى جهد وبسط ربما طال أمده، أكتفي في هذه الدراسة بالإشارة إلى الأنماط أو المجالات الرئيسة للعولمة.
الأسئلة التي سبق طرحها يعاد طرحها مرة أخرى لفهم المشكلة الاقتصادية، فطالما أن الأعراق متنوعة، والثقافات متعددة، والأديان مختلفة، والأهواء متباينة، فمن يحكم هذه الصبغة الواحدة؟ من يضع ضوابطها ويحدد قوانينها؟
ولأن هذا نذر يسير من الأسئلة والإشكالات، فلا عجب أن تشهد (براغ) عنفاً لم تشهد مثله منذ قرون! فقد انقلبت العاصمة التشيكية في سبتمبر من عام ألفين رأساً على عقب، ففي اليوم السادس والعشرين تلقى عشرات الآلاف، بل مئات الآلاف من خلال شبكة الإنترنت رسالة تحدد موعداً للقيام بتحرك في مدينة (براغ) التشيكية، وتطالب الرسالة أولئك الذين تلقوها، بالحضور في الموعد المحدد من أجل المساهمة في التظاهر ضد العولمة والرأسمالية العالمية. للاحتجاج على الشركات والمؤسسات الكبرى التي أصبحت تتحكم بمصائر العالم من خلال تزايد نفوذها اكثر فأكثر وما يتبع ذلك من آثار مأساوية على العديد من شعوب العالم وخاصة الفقيرة منها المستثناة عملياً من دورة المناقصة التجارية.(/3)
وقد تم اختيار الموعد على ضوء انعقاد المؤتمر السنوي لصندوق النقد والبنك الدوليين في مدينة (براغ) نفسها، ومما يلفت النظر أن الدعوة وجهت خطاباً خاصاً لمن سبق له التظاهر ضد العولمة في (سياتل) و(ملبورن) و(لندن).
ويرى بعض الغربيين: أن العولمة الرأسمالية والحركات النقابية والعمالية والاجتماعية المضادة لها سيكون بينهما صراع كبير في القرن الحادي والعشرين، وقد ابتدأ بالفعل هذا الصراع في مطلع القرن الحادي والعشرين في مدينة (سياتل) بأمريكا –معقل فكرة العولمة- عام (1999). فمؤتمر (سياتل) الذي اجتمعت فيه معظم الحركات والمنظمات المضادة للعولمة استطاع أن يكشف مؤتمر التجارة العالمية الذي يضم قادة العالم الرأسمالي(1).
إذاً فمناهضة العولمة حركة عالمية لا تخضع لأيديولوجية معينة بمعنى أنها ليست محصورة في إيديولوجيا كالماركسية مثلاً وهذا ما كان يحصل للحركات النقابية العمالية سابقاً، بل هي حركة تتجاوز القوميات والأقطار وتعمل لصالح العمال والفلاحين والمضطهدين في شتى أنحاء العالم، كما يزعم أنصارها.
وهدف هذا الطيف المتباين وهو: محاربة الليبرالية أو الرأسمالية الجديدة بل قل العالمية الجديدة، التي تريد أن تلغي الآخر وتحكم للأقوى بالسيادة والبقاء، ولذا يرى كثير ممن لا تجمعهم أيديولوجية أن العولمة آفة متوحشة تحتقر الإنسان والفقراء و المهمشين والعاطلين عن العمل، سواء كان ذلك على نطاق الدول الرأسمالية ذاتها أو على نطاق دول العالم الثالث، فإنها تؤدي إلى كم من المآسي في نهاية المطاف.
وهذه الحركة الجديدة المضادة للعولمة الرأسمالية ليست أحادية الجانب وليست متفقة بالضرورة على كل شيء بل كما يقول بعض دعاتها: "إنها ليست حزبا نمطيا ببغائيا يقول نفس الشيء عن كل شيء على الطريقة الشيوعية السابقة، ومن يتأمل حالها يجد فيها كل الاتجاهات: من أحزاب الخضر المدافعة عن البيئة، إلى الأحزاب الاشتراكية، فالحركات السلمية فالحركات الإنسانية، فحركات تحرر المرأة، وغيرها"(2).
بعضها يتعاون فيما بينه، وبعضها يعمل مستقلاً لتحقيق نفس الهدف.
وكما أن الأيديولوجيات المناهضة للعولمة مختلفة، فإن الاستراتيجيات التي اعتمدتها الجهات المناضلة مختلفة، فبعضهم يتبع استراتيجية عنيفة إلى حد ما، كما فعل النقابيون الفرنسيون الذين هجموا على المطاعم الأميركية في بعض مناطق فرنسا، وكان ذلك بقيادة (جوزيه بوفيه) ليصبح بذلك المناضل المعروف في الوقت الحاضر!
ومن الطريف أن الرجل عندما قدم للمحاكمة في شهر يونيو من عام ألفين بتهمة تخريبه لأحد مطاعم (ماكدونالدز) تجمع في فرنسا نحواً من 40 ألف شخص للاحتجاج على تقديمه للمحاكمة.
فقد كان هدفه وهدف من معه ظاهراً بالنسبة لهم وهو لفت الأنظار إلى خطورة الأغذية الصناعية، والدفاع عن الأغذية الطبيعية أو الصحية، وهو هدف مشروع في وقت لا تبالي فيه الرأسمالية العالمية بتسميم اللحوم، وتشكيل خطر حقيقي على الصحة العامة، ومن براهين ذلك عندهم قضية البقرة المجنونة وقضايا أخرى مشابهة، فالرأسماليون من شدة حرصهم على الربح بأسرع وقت ممكن وبأكبر قدر ممكن، لا يتورعون عن تقديم اللحوم المطحونة كغذاء للحيوانات بدلا من العلف النباتي!
وقد قال توماس فريدمان معلقاً على مظاهرات سياتل، كلمة يصح لمتظاهري (بوفيه) قولها، قال: "لقد كان لمظاهرات سياتل جانبها الأحمق، لكن ما أراد المحتجون الجادون طرحه هناك كان: "يا أميركا، إنك الآن تؤثرين على حياتي بشكل يفوق تأثير ما تفعله حكومتي. إنك تؤثرين علي بنفس أسلوب تغلغل ثقافتك في ثقافتي، وبنفس أسلوب تسريع تقنياتك لتغيير جميع مناحي حياتي، وبنفس الأسلوب الذي فرضته إجراءاتك الاقتصادية علي، إنني أريد أن أدلي برأيي في كيفية فرضك لقوتك، لأنها الآن باتت قوة تشكل حياتي".
عوداً على بدء، فما اتبعه (جوزيه بوفيه) استراتيجية، وبعض المناهضين للعولمة قد يلجأ إلى استراتيجية أخرى أشد، ومن هؤلاء أولئك الذين جعلوا برجي التجارة العالمية أثراً بعد عين.
ومنهم من يكتفي بمسيرات يحشد لها مئات الآلاف كتلك التي خرجت في بوليفيا عام ألفين بمناسبة خصخصة شركة المياه.
إن هذا الاعتراض العالمي على ما يسمى بالعولمة الأمريكية هو الذي حدا بتوماس فريدمان للتساؤل: لماذا لم تتهيأ الأمم عسكرياً ضد الولايات المتحدة؟
__________
(1) العولمة الحركات الاجتماعية والأمميات الجديدة، لبيتر وتر مان.
(2) بيتر وترمان في كتابه العولمة والحركات الاجتماعية، والأمميات الجديدة.(/4)
قال: "يجيب مايكل ماندلباوم، مؤلف كتاب "الأفكار التي غزت العالم" قائلا: "تطرح واحدة من أبرز مدارس العلاقات الدولية -مدرسة الواقعيين- أنه متى ما برزت قوة مهيمنة، كأميركا، في النظام العالمي، فإن دولا أخرى ستحشد جهودها بشكل طبيعي ضد هذه القوة. لكن ولأن العالم يدرك بشكل أساسي أن هيمنة أميركا (سلمية)، فان عملية التصدي لها لا تتخذ شكل العمليات الحربية. وبدلا من ذلك، تصبح مسعى لكبح جماحها، باللجوء إلى قواعد منظمة التجارة العالمية أو الأمم المتحدة -وبقيامها بذلك فإنها تطالب باستخدام حق النقض (الفيتو) في ما يتعلق بكيفية تفعيل قوة أميركا".
وهناك أيضا سبب آخر لرد الفعل غير العسكري وهو أن بروز أميركا كقوة مهولة حدث خلال عصر العولمة، حيث باتت الاقتصاديات متشابكة للغاية، إلى حد أن الصين وروسيا وفرنسا، أو أي تجمع منافس آخر لا يمكنه إلحاق الأذى بالولايات المتحدة بدون إصابة اقتصادياته بضرر ما.
ثم ذكر أن الناس الوحيدين الذين بإمكانهم إلحاق الضرر العسكري هم من ليست لهم أي مصالح مع النظام الدولي، ومثل بأسامة بن لادن.
وأضيف سبباً آخراً على ما ذكراه، وهو أن أصحاب القرار والنفوذ والأموال في العالم ليس من مصلحتهم حرب العولمة، وهؤلاء هم القطاع المؤثر الحقيقي بصورة مباشرة أو غير مباشرة في قرارات الدول.
فإذا كانت المعارضة للعولمة حدت بطرح هذا التساؤل، وهذه الآراء في الدول الغربية لكون الفارض والمسيطر دولة أخرى، فإن ما يسمى بدول العالم الثالث أشد معارضة لهذا النظام، والإسلامية والعربية منها على وجه الخصوص، فكيف تخضع هذه الأمم لغير الشرائع الإلهية أو الأحكام الدينية، ثم إن الدراسات الاقتصادية أو التجارية والإحصائية والاجتماعية المبنية على مصلحة مجتمع ما، ليس من العدالة فرضها على المجتمعات الأخرى.
العلاقة بين الاقتصاد الإسلامي والعولمة:
يتميز النظام الاقتصادي الإسلامي بميزتين متناقضتين، الأولى فيما يتعلق بتشريعاته وأحكامه، والثانية فيما يتعلق بالأجهزة التنفيذية وآلياتها، أما الأولى: فهي مُنَزّلة من لدن حكيم خبير، ولهذا جاءت تشريعاته الاقتصادية -كشأن سائر تشريعات وأحكام دين الإسلام- وسطاً بين النظام الاقتصادي الاشتراكي الشرقي المجحف، والنظام الرأس مالي الغربي الجشع.
فالإسلام يحث على العمل والكسب وفي الصحيحين: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من تذرهم عالة يتكففون الناس)(1)، ولكن جعل للكسب ضوابط تحكمه وفقاً لمصالح عامة وحكم عظيمة، فأحل الله البيع وحرم الربا، ونهى عن معاملات كالاحتكار، وأنواعٍ من البيوع المحرمة، وحض على أخرى كعقود الإرفاق التي تجاوز فيها عن أمور راعاها في عقود المعاوضة، ووضع شروطاً تؤثر في الحكم على العقود وتبين الصحيح من الفاسد.
ثم أوجب في المال المكتسب حقاً معلوماً للسائل والمحروم، وأيضاً ندب إلى إخراج جزء منه كصدقة، كل ذلك وفق ضوابط ومعاير محكمة دقيقة.
ولم يكتف الشارع في النظام الإسلامي بسن القوانين التي تنظم العملية الاقتصادية المجردة، بل سن كذلك التشريعات التي تحكم الأخلاقيات والصفات التي ينبغي أن يتحلى بها المتعاملون.
وقد بدأت البنوك العالمية في الاستفادة من نظرية البنك الإسلامي، والذي من صوره ما يعرف بالبنوك التساهمية، التي تقوم على أنواع من المضاربات وقد يتحمل فيها الزبون كلاً من الربح والخسارة مع الخضوع لمتغيرات السوق في تحديد معدلات الفائدة على رؤوس الأموال والودائع.
أما الميزة الثانية فهي عكس الأولى، وذلك فيما يتعلق بالأجهزة التنفيذية وآلياتها، فهذه تتميز -في العقود الأخيرة- بالعقم والقصور، على الرغم من وجود الموجهات التشريعية التي تحث على إتقان العمل والإعداد وحسن التفكير والسياسة والتدبير.
وما زال هذا القصور قائماً والتقصير متواصلاً حتى يومنا هذا على الرغم من إمكانية الاستفادة من وسائل التقنية العالمية، وربما كان السبب في هذا التأخر والقصور هو مشاكل الإدارة العامة والخاصة التي يعاني منها المجتمع المسلم في كافة مؤسساته على اختلاف مستوياتها اللهم إلاّ القليل النادر.
أما نظام العولمة الحالي فهو قائم على تحكيم النظام الاقتصادي الأمريكي الرأسمالي في العالم، وهو النظام الذي تعطبه سلبيات عدة، من أهمها عدم ضبط مسألة تضخيم الأرباح ولو كانت على حساب موت الآخرين جوعاً، فوفقاً لقوانين هذا النظام ليس هناك ما يمنع أن تلقي دولٌ الفائض من إنتاجها في البحر حتى تحافظ على سعر المنتج، بينما يموت آخرون بسبب فقده، كما أن النظام الاقتصادي العالمي الجديد تحكمه نوازع الشركات متعددة الجنسيات العملاقة أو حتى الشركات المحلية منها.
__________
(1) صحيح البخاري 1/435، وصحيح مسلم 3/1251.(/5)
كما أنه لا مجال فيه لتشريعات سمحة تنظر إلى ميسرة، أو تأخذ صدقة من أغنيائهم فتردها إلى فقرائهم، أو تبطل بيع ما لا نفع فيه، أو تمنع ما لم ينضبط جانب الغنم أو الغرم فيه، أو تفسد من المعاملات ما كان فيها جهالة أو غرر، أو تحرم سلعاً لمفسدتها فتمنع من التعامل بها ... إلى غير ذلك.
"ومما لا شك فيه أن السنوات العشرين الأخيرة شهدت تحولات ضخمة على الصعيد العالمي كله نتيجة لهذا النظام فأصبحت المؤسسات متعددة الجنسية المائة الكبرى في العالم تتحكم بـ 20% من إجمالي أموال العالم كما أن 51 % من أكبر قوة اقتصادية تسيطر عليها مؤسسات كبرى بينما لا تسيطر الحكومات سوى على الـ49 % الباقية فقط ويبدو في الإطار نفسه من المقارنة بأن مبيعات شركات (جنرال موتورز) و(فورد) مثلاً تفوق الناتج القومي الإجمالي لجميع دول جنوب الصحراء في القارة الأفريقية، وتتجاوز ممتلكات شركات (آي.بي.ام) و(بي.بي) و(جنرال إلكتريك) الإمكانيات الاقتصادية التي تمتلكها معظم البلدان الصغيرة في العالم، كذلك فإن دخل بعض محلات (السوبر ماركت) الأمريكية قد يزيد على دخل معظم دول وسط أوروبا وشرقها! بما فيها بولندا، والمجر ورومانيا ... الخ.
وللوصول إلى هذه المراحل دخلت المؤسسات الضخمة في شراكات مريبة من أجل تعزيز نفوذها المالي والاقتصادي، لتكون النتيجة بالتالي التحكم في كل ما يحتاجه الإنسان العادي حتى في أبسط حاجات حياته اليومية.
وهذا يسميه بعضهم بـ(الاستملاك الصامت)، أو قل بعبارة أدق (الاستعباد الصامت) حيث أصبحت الحكومات مغلولة الأيدي، والناس مقيدين بشروط تفرضها المؤسسات الكبرى التي تحدد قواعد اللعبة حسب مصالحها الذاتية والتي لا تملك الحكومات سوى تنفيذها، فهذه الحكومات غدت ترى أن من واجبها الأول تهيئة الظروف المواتية لازدهار المؤسسات المعنية وتوفير البنى الأساسية التي يحتاجها رجال الأعمال بأرخص التكلفة وحماية نظام التجارة الحرة في العالم.
وهذا ما سيضطر حكومات الدول النامية في نهاية المطاف للانصياع الكامل لشروط (اللوبي) الدولي"(1)، وهو ما أدى إلى ظهور تيارات احتجاجية قوية كالتي أشرنا إليها سابقاً، لا يربطها شيء ولا تجري في إطار حدود جغرافية معينة، فالمنادون بها لا تربطهم صلات ثقافية أو تاريخية مشتركة، فهم جماعات وجمعيات أهلية متنوعة يجمعها هدف واحد محوره استعادة الشعوب لحقها في الاختيار وفي تقرير مصيرها، وكلها يحذر من مغبة المضي في هذا الطريق الوعر الذي سيكون من نتيجته تكرار الكوارث الاقتصادية والاجتماعية في كافة أنحاء العالم.
ومن بعض ثمار هذا النظام دخول أكثر من 75 دولة القرن الحادي والعشرين، وهي خاضعةٌ كلياً أو جزئياً، لمشيئة البنك الدولي، مستسلمةً لإرادته، منفذةً لسياسته، وذلك تجنباً لإعلان عجزها وإفلاسها. وبموجب ذلك تلتزم هذه الدول بتوجيه اقتصادياتها نحو عدم النموّ، ونحو تخفيض الإنفاق، ونحو وقف الدعم لبعض المواد الاستهلاكية التي تقدمها لمساعدة شعوبها الفقيرة.
فلا عجب إن أثبتت دراسات الأمم المتحدة أن 12 مليون طفل تحت سن الخامسة، يموتون سنوياً نتيجة أمراض قابلة للشفاء. وهذا يعني أن كل يوم يموت 33 ألف طفل لأسباب يمكن تجنبها بما فيها سوء التغذية، وتشمل هذه الدراسة أطفالاً من العالم الإسلامي من بنغلاديش حتى موريتانيا، فحكوماتها تحت وطأة تضخم ديونها لا تستطيع توفير الحد الأدنى من الاحتياجات الطبية والوقائية.
ومن ثمار ذلك أيضاً أن ثلث سكان العالم يعيشون تحت خط الفقر، بينما تمتلك بعض المؤسسات والشركات ما لا تمتلكه دول مجتمعة!
وأخيراً وهو من الأهمية بمكان، النظام العالمي الاقتصادي نظام لا يخضع لأي تشريع إلهي، فما قضى به الرأسماليون هو التشريع الماضي سواءً خالف الوحي المنزل أو وافقه، فالدراسات الاقتصادية أو التجارية والإحصائية والاجتماعية والتي تمثل مصالح القطاع المالك هي التي تحكم، وليست النصوص والقوانين الإلهية المقدسة.
ولا شك أن نظام الإسلام هو النظام الجدير بأن يكون النظام العالمي البناء، والذي تعود مصلحته على جميع الشعوب سواءً أكانوا ضمن القطاع المالك المنتج، أو المستهلك المستخدم، وما يطلب من بني الإسلام ورواده، وخاصة أهل التخصص الاقتصادي والسياسي والإداري هو العمل على إيجاد آليات فعاله وأجهزة ومؤسسات تنفيذية، تتبناه وتبني اقتصاد دولها عليه، ومن ثم تبين محاسنه وتدعو الآخرين إليه، وعندها لن تستطيع الدكتاتوريات الوقوف أمامه إذا أقنعت الأمم به وتحولت الشعوب إليه، ووجدت فيه بديلاً لتلك المؤسسات الضخمة التي تحكمت في كل صغيرة وكبيرة من حياتها وكادت أن تملكها.
__________
(1) مستفاد من مقال يتحدث عن كتاب المديرة المساعدة لمركز الأعمال الدولية والإدارة التابع لجامعة كمبردج، وهو بعنوان الرأسمالية العالمية وموت الديمقراطية، الاستملاك الصامت، وقد نشر في جريدة البيان الإماراتية بتاريخ 25/1/1423.(/6)
ثانياً: العولمة الثقافية.
الثقافة لفظ عام ولعل ما يهمنا هو مفهومها عند دعاة تصديرها وعولمتها، أو بتعبير أدق عند من يملك الآلة المادية لتصديرها وفرضها، فكلمة culture التي تترجم إلى العربية على أنها الثقافة والتهذيب وقد يعطونها أحياناً معنى الحضارة، هذه الكلمة جذرها cult ومعناها: عبادة ودين، ومن مشتقاتها cultivation ومعناها: تعهد، تهذيب، رعاية.
وعند النظر إلى اصطلاح الثقافة عند الغربيين نجد أن من عرفها لا يخرج كثيراً عن معناها اللغوي ورغم تباينهم في ضبطها بحد جامع مانع، إلاّ أنهم يتفقون على أهمية العقيدة ودور الدين في صنع الثقافة وتوجيه سلوك الإنسان(1).
وما تهدف إليه العولمة الثقافية هو إيجاد ثقافة عالمية، تعني بتوحيد القيم، حول المرأة والأسرة , وجميع ما يمكن أن يندرج تحت لفظة (الثقافة)، فهي توحيد للثقافات بغير حدود، وآلة ذلك الإعلام بوسائله المختلفة، والاتصالات بقطاعاتها المتعددة. وهذه العولمة مبنية على سرعة انتشار المعلومات، وسهولة حركتها مع إمكانية الوصول إليها بغير رقيب أو حسيب.
ولا يكاد يؤيد العولمة الثقافية المطلقة في المجتمعات الإسلامية والعربية إلاّ بعض الحداثيين الذين لا يدينون بقضية ولا يعترفون بهوية، فهؤلاء لا تحمل العولمة عندهم أي تهديد ثقافي، بل تقدم فرصا لتجاوز نهائي وحاسم للخصوصيات المريضة، والموروثات الثقافية التي سيطرت على المجتمعات العربية في الحقبة الماضية. وهؤلاء شراذم قليلة في أغلب المجتمعات، وخاصة الإسلامية.
أما بالنسبة للآخرين، على تعدد مشاربهم القومية والدينية، فالعولمة تعني بالضرورة اختراق البنية الثقافية المحلية، وتفاقم مخاطر الاستلاب والغزو والاستعمار الثقافي، بل مخاطر محو الهوية ونزع الخصوصية الشخصية، التي ما زالت الأمم تضحي بالأرواح في سبيل الحفاظ عليها.
وإذا علمنا -استناداً إلى إحصاءات الأمم المتحدة- أنه قد اقتُلع أكثر من 75 مليون إنسان من بيوتهم في الربع الأخير من القرن العشرين بسبب الحروب والصراعات الدينية و الإِثنية والقبلية، فإنه لا يمكن أن نعلل ذلك بغير حرص الناس أياً كانت مشاربهم على الحفاظ على هويتهم وخصوصيتهم، ورفضهم تسلط أي أفكار أو ثقافة دخيلة على المجتمعات.
والناس إزاء رفض هذا النوع من العولمة طوائف تتعدد رؤاهم بحسب أفكارهم وهوياتهم منهم الساذج الذي يرفض العولمة الثقافية لأن ما جاءت عَبره من وسائل حديثة ومبتكرات عصرية سوف تقتل الحس الشعري والإبداع القريحي الفطري! وقد عبر عن ذلك بعض الأدباء المعاصرين ممن يشار إليهم بالبنان قائلاً: " مع قدوم القرن الواحد والعشرين، سيحمل الشعر حقائبه، ويسافر إلى جزيرة في عرض البحر. لا توجد فيها تكنولوجيا متقدمة. ولا أقمار صناعية. ولا تلفونات موبايل …ولا إنترنت"!
وآخرون يرون في قبولها جملة تغيير للدين، وقتل لكثير من حميد السلوك والأخلاق، وطيب الخصال والعادات، ودعوة تبيعة ذيلية للغرب.
والذي يتأمل واقع الناس اليوم يلحظ أن العالم يشهد تطوراً مطرداً في مجال الاتصالات والإعلام وسائر العلوم التجريبية المختلفة، وعلى الرغم من هذا التقدم المذهل، وعلى الرغم من دعاوى العولمة تظل نسبة المالكين لهذه المبتكرات محدودة جداً.
فالإحصائيات تفيد بأن حوالي: "15 بالمائة من سكان العالم يوفّرون تقريباً كلَّ الاِبتكارات التكنولوجية الحديثة، و50 بالمائة من سكان العالم قادرون على استيعاب هذه التكنولوجيا استهلاكاً أو إنتاجاً، و بقية سكان العالم، 35 بالمائة، يعيشون في حالة انقطاعٍ وعزلةٍ عن هذه التكنولوجيا"(2).
أما براءات الاختراع المسجلة فقد نبهت هيئة اليونسكو في تقريرها العلمي الأخير، إلى تدني نصيب الدول العربية من براءات الاختراع التكنولوجي على مستوى العالم، حيث بلغ نصيب أوربا من هذه البراءات 47.4%، وأمريكا الشمالية 33.4%، واليابان والدول الصناعية الجديدة 16.6% وبقي حوالي 2.6% يتنافس فيها العالم.
ولا يرى بطبيعة الحال دعاة العولمة أن من واجبهم أو واجب المؤسسات إشاعة المعرفة التي توصلت بها شركة أو مؤسسة إلى ابتكار ما أو اختراع، ولكن غاية ما هناك أن يستغل نفوذ الإعلام وتطوره المذهل في تصدير الدعاية لاستهلاك تلك المبتكرات العلمية، بالإضافة لثقافات أخرى تراها الشعوب المصدرة حريات تفخر بعرضها، وأفكار من واجبها الدعوة إليها، وكثير منها وسائل قصدوا بها تغيير فكر وثقافة الآخر وصهره في الفكر الحداثي الغربي.
__________
(1) نقل الدكتور معن زيادة في كتابه: معالم على طريق تحديث الفكر العربي ص30 وما بعدها العديد من تعريفات الغربين لمصطلح الثقافة.
(2) العولمة والحياة الثقافية في العالم الإسلامي لعبدالعزيز التويجري.(/7)
وقد نسب الفرنسي (جيل كيبيل) الخبير في الشؤون الإسلامية والذي تحدث عن حتمية دخول العالم الإسلامي في الحداثة، وانصهار المسلمين في الديموقراطية، نسب الفضل في التحول المرتقب نحو العولمة إلى ثورة الاتصالات والمعلوماتية التي ستدخل فضائل الديموقراطية في وعي الأمم الإسلامية.
وإذا تأملت حال بعض الشعوب وجدت ذلك جلياً، فأي شعب من شعوب ما يسمى بالعالم الثالث أثرت فيه الثقافة الغربية المصدرة، فجعلت من شبابه رجالاً يحاكون (توماس أديسون) في المثابرة والتحصيل، أو يسيرون على خطى (آينشتاين) في البحث والتأصيل؟
كم عدد هؤلاء؟ وما نسبتهم إلى من يترسمون خطى (شوارزنجر) و(جيمس بوند) ويتابعون جديد أستاذ ثقافتهم (هوليود)!!
حتى غدا المثقف –للأسف- عند كثير من هؤلاء هو من يعرف أشهر الأفلام وأبطالها، والجاهل الأضحوكة من يخلط بين (بوب مارلي) و (مايكل جاكسون)!
بل أصبح المثقف في ذهن كثيرين هو الذي يعرف بعض مشاهير الغربيين من ممثلين وفانين ولاعبين وغيرهم من حثالة المجتمع، والأدوار التي قاموا بها، والبطولات التي حققوها! وعلامة الثقافة عندهم أن يذكر هؤلاء في كتاباته ومقالاته!
وهذا الفهم هو ما يريده الغربيون بعولمة الثقافة، فهم يريدون أن تطغى الثقافة الحداثية (الغربية) على كافة الثقافات، وقد صرح عدد من أعمدة الفكر الغربي المعاصرين مثل (فرنسيس فوكوياما) أن عولمة الثقافة لا تتأتى إلاّ بسيطرة ثقافة معينة على الثقافات المتعددة.
فليست العولمة الثقافية إذاً انتقالاً من ظاهرة الثقافة الوطنية والقومية إلى ثقافة عليا جديدة تسمى بالثقافة العالمية، بل هي اغتصاب ثقافي وعدواني رمزي على سائر الثقافات، وبخاصة ثقافتنا العربية والإسلامية .
ووفقاً لفرضية (فوكوياما) في (نهاية التاريخ و الإنسان الأخير) فإنه يرى أن الحداثة هي التي ستطغى وتظهر في المجتمعات الراديكالية، وأن مصير الراديكاليات إلى زوال وسقوط بما في ذلك الراديكالية الإسلامية التي لا يمكن أن تكون عالمية(1)، وهذا ما أيده العديد من خبرائهم المختصين، وقد سبقت الإشارة إلى كلمة (جيل كييبل). غير أنهم يرون سقوط جميع الراديكاليات حصل فعلياً بما فيها الشيوعية، غير أن الإسلام (الراديكالي) لا يزال يسبب إشكالات، ولكن حربه ومنعه من إقامة تحالفات مع الكونفوشستية الصينية، وقيام النظم العلمانية كفيل بحل النظام الإسلامي.
هذا ما زعموه، ومع أن حلهم المقترح هو الواقع الماثل فلا تحالف للإسلاميين مع ثقافات كونفوشسانية و لا غيرها، كما أن الحرب مستعرة على الإسلام، وكثير من دول المسلمين علمانية، لا يتجاوز حكم الإسلام فيها قانون الأحوال الشخصية. ومع ذلك (مشكلتهم!) لا تزال قائمة تزداد يوماً بعد يوم.
ومع أني لست أدري لماذا تعتبر العلمانية حلاً يمكن أن يجيء بالديمقراطية والليبرالية والثقافة التي يدعون إليها، مع أنها جاءت في الاتحاد السوفيتي –بعد سقوطه- بالشيوعية والاشتراكية مرة أخرى! وجاءت في بعض الدول بقوميات ما أنزل الله بها من سلطان!
ومع أن هذا الرفض للتبعية الغربية أو لمحاولات الاستنساخ لا ينفرد به أصحاب الاتجاهات الإسلامية وحدهم، وإنما هو موقف لكافة التيارات الوطنية والقومية المتباينة اللهم إلاّ ممسوخوا الهوية من الحداثيين، وهؤلاء لا يخالفون بقية القوى الوطنية، بل يخالفون العالم أجمع في سبيل موافقة الغرب.
ومع أن واقع الدول الإسلامية بعيد كل البعد عن تمثيل من ينعت بالأصولية الإسلامية! بخلاف بعض الدول الأخرى التي نجد للتيارات الأصولية دوراً فاعلاً فيها، فتنامي دور الأصولية المسيحية في الولايات المتحدة، واليهودية في إسرائيل، والهندوسية في الهند، لا يجوز غض الطرف عنه، فإن تأثيرها على القرار السياسي أصبح قوياً في تلك البلدان، كما أن تأثير الاشتراكية كان و لا يزال في دول أخرى، في حين أن ما يسمى بالأصولية الإسلامية مازالت خارج دائرتي، التمثيل الثقافي الرسمي، والقرار السياسي، بل هي قوى مطاردة في العالم العربي على الأقل(2).
مع كل هذا فإن هؤلاء (المفكرون!) يتصورن أن مشكلة المسلمين في النظام الإسلامي الجذري أو (الراديكالي) كما يقولون!
إن هذا التصور الخاطئ يمثل أول الإشكالات التي تكتنف العولمة.
والإشكال الثاني هو في إصرار الباحثين الغربيين على اعتبار التغريب معياراً وحيداً للحداثة، التي ينبغي أن يتبناها العالم ليصل إلى الرقي والتحضر.
__________
(1) ومايزال الغربيون يروجون لفرضية فوكوياما ويمجدونها حتى أن كتابه نال جوائز باعتباره كتاب الساعة وروج له العديد من مشاهير الثقافة الأمريكية على صفحات أشهر الصحف، وعلى العموم مايزال ينشر فكرته هذه ويكتب حولها بين الفينة والأخرى.
(2) مستفاد من مقال جيد للأستاذ فهمي هويدي، بعنوان: خطأ في التشخيص وفي العلاج، نشر في الشرق الأوسط بتاريخ 24/ديسمبر/2001.(/8)
والإشكال الثالث: هو اعتبارهم أن الحداثة هي الثقافة التي يجب أن تفرض على الجميع. وأخيراً الإشكال الكبير وهو عدم اكتشاف هؤلاء لما يعيشونه من وهم ومشاكل كبرى بسبب الشق الآخر من الحداثة. فالحداثة جزآن جزء يدعو إلى التطور والتقدم في مجالات العلوم التطبيقية وآلاتها، وجزء يدعو إلى التحلل والتفسخ من روابط و قوانين الأديان ومعتقداتها، وما يريدونه منا هو أن نأخذ الحداثة بجزئها الثاني ولا أظن أنه يعنيهم كثيراً أخذنا لجزئها الأول ولا أقول أو تركه، فهم لا يدعون إليه ولا يقدمونه، وإنما هو علم (باطن) لا يمكن أن يناله إلاّ من (اصطفوه) والأصل أنه محتكر ضمن أروقة المؤسسات الكبرى.
إن مشكلة الثقافة الإسلامية الحقيقية مع الغرب بل مشكلات الثقافات والحضارات الأخرى مع هؤلاء هي في رفضهم الاعتراف بشرعية النموذج الحضاري الذي يحاول أن يبني نفسه على نحو مستقل، يرفض تجارب الاستنساخ الغربية، فضلاً عن أن تكون لهم أذن يصغون بها لما يقدمه الآخر (غير الغربي)، أو عقول حاضرة تقيم ما يقول!
فخيارات دعاة العولمة الجديدة محدودة، إما أن تكون تبعاً، وإما تكون غيراً، وإذا كنت غيراً فأنت حضارة أخرى تجري عليك نظرية "صراع الحضارات" التي أعدت في الكابيتول هول وروج لها (صمويل هنتنجتون) في كتابه الشهير، وحلم بنتيجتها (فوكوياما) في نهاية التاريخ.
وأما مفكروا أهل الإسلام فهم على ثقة من أنه متى ما أصغت الآذان، وحضرت العقول، وأحضرت الحجج، فإن العالم لن يرضى بغير الإسلام بديلاً، فإن فيه ذكرى (لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد).
العلاقة بين الثقافة الإسلامية والعولمة:
إن الله هو رب العالمين، والدين الذي ارتضاه للعالم هو الإسلام (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)(1)، وقد بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، فأدى الرسول الكريم رسالة ربه، فخاطب العرب والعجم، بل دعا الثقلين، ثم أخبر من لا ينطق عن الهوى بأن دين هذه الأمة ظاهر، وأنه أكثر الأنبياء تبعاً.
فأمة الإسلام مبعوثة لتنقل ركناً ركيناً من أركان الثقافة إلى البشرية بل إلى العالم، فقد قال الله تعالى عن نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم: (وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلاّ ذكر وقرآن مبين - لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين)(2) ومما قيل في معناها: "لينذر بهذا القرآن المبين كل حي على وجه الأرض"(3).
وقال سبحانه: (قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين - إن هو إلاّ ذكر للعالمين)(4)، (وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلاّ ذكر للعالمين)(5)، ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)(6)، وقال سبحانه: ( تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً)(7)، ( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون)(8).
وفي حديث الصحيحين: (أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي) قال صلى الله عليه وسلم: (كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة)(9).
فاستجاب نبينا صلى الله عليه وسلم لأمر ربه وبدأ بدعوة قومه، فاستجابة له قلة وجمع من الضعفاء على استخفاء، أما الأقوياء والكبراء فقد فرحوا بما عندهم من العلم، (وقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين)(10) فجاهروا بصريح العداء، وزعموا أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم معتقدات (راديكالية) بالية، لها جذور قديمة، لا أساس لها من الصحة (إن هذا إلاّ خلق الأولين)(11)، (وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً)(12).
ولكن سنة الله في الأمم تمضي فما هي إلاّ سنوات قلائل حتى تغيرت الحال، ومما امتن الله به على عباده المؤمنين: (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون)(13).
وتنفيذاً لأمر الله لم يكتف صلى الله عليه وسلم، بدعوة من بدأ بهم من عشيرته الأقربين، فدعا قومه ثم سائر العرب، بل خاطب الأمم والشعوب ممثلة في عظمائها، وكان من ثمرات ذلك إسلام بعضهم كالنجاشي بأرض الحبشة، وإقامة جسور للدعوة بأرض مصر عن طريق الاتصال بمقوقسها، أما كسرى فمزق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فمزق الله ملكه، وعظيم الروم آثر اتباع الهوى من بعد ما تبين له الحق.
__________
(1) سورة آل عمران: 85.
(2) سورة يس: 70-71.
(3) تفسير ابن كثير 3/581.
(4) سورة ص: 87.
(5) سورة يوسف: 104.
(6) سورة الأنبياء: 107.
(7) سورة الفرقان: 1.
(8) سورة سبأ: 28.
(9) حديث جابر رواه البخاري 1/128، ومسلم 1/370.
(10) سورة سبأ: 35.
(11) سورة الشعراء: 137.
(12) سورة الفرقان: 5.
(13) سورة الأنفال: 26.(/9)
ولأنه صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين لم يكتف بدعوة البشر بل دعا صلى الله عليه وسلم الجن أيضاً فانقسموا (فمن أسلم فأولئك تحروا رشداً)(1)، (قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً - يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا)(2)، (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ - قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ - يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ - وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ)(3).
وقد تكفل الله بنشر دعوة الإسلام، فعن ثوبان رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن ملك أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها"(4)، فهذا وعد بقبول دعوة الإسلام وعالميتها، وفي حديث ابن عباس: خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: (عرضت علي الأمم فجعل يمر النبي معه الرجل والنبي معه الرجلان والنبي معه الرهط والنبي ليس معه أحد ورأيت سواداً كثيراً سدّ الأفق فرجوت أن يكون أمتي فقيل هذا موسى وقومه، ثم قيل لي انظر فرأيت سواداً كثيراً سدَّ الأفق، فقيل لي انظر هكذا وهكذا فرأيت سواداً كثيراً سدّ الأفق فقيل هؤلاء أمتك ومع هؤلاء سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب)(5).
إن هذا الانتشار الواسع لأمة جاءت في ختام الأمم، لدليل يبين أن لديها من الخصائص والمميزات ما لا يوجد في سواها.
كما أن لسيادتها وظهورها في عصرها الأول عندما قام أهلها بها حق القيام، لدليل على صدق الوعد بظهورها في الآخرين على سائر الملل.
فإذا سرنا على نفس الطريق تحقق الوعد الإلهي بظهور هذه الدعوة وقبولها على نطاق واسع، وإذا تأخرنا تأخر، وبشائر الحاضر بحمد الله حاضرة شاهدة، فعجلة الدعوة رغم النكوص والعراقيل والحواجز والسدود لم تتوقف وإن تباطأت، فدعوة الإسلام –بحمد الله- في اطراد مستمر، والناس يدخلون في دين الله يوماً بعد يوم، رغم ضعف الآلة الإعلامية والمقومات المادية الأخرى.
ومتى رجع المسلمون لسابق عهدهم وترسموا خطى سلفهم، ازدادت قوة دعوتهم، وانتشرت ثقافتهم واكتسحت، كما ظهر الصدر الأول وعلا في سنوات قلائل.
ومن البشائر أيضاً أنه ليس ثمة مكان -بحمد الله- في أرض الله يخلو من مسلم، وهذا يدل على مواءمة دعوة الإسلام وثقافته لكافة المجتمعات، وعلاجها لظروف أي زمان ومكان، وليس هذا تنظيراً علمياً بل هو واقع عملي.
وليس معنى هذا أن دعوة الإسلام خاضعة للتشكل كالطين أو العجين، يلعب به الصبيان فيصورونه كيف شاءوا، ولكن المراد بيان أن في شريعة الله علاجاً لكافة أوضاع البشر أين كانوا وأيان وجدوا، وأن من تمسك بها فهو موعود بالحياة الطيبة، وكل المطلوب ممن أرادها هو أن ينهل من المعين الصافي الذي نهل منه الصدر الأول، دون أن يحاول تغيير مجراه، أو تحسين محتواه، فالذي وضعه عليم خبير، والذي أداه حريص أمين.
فالواجب أن نؤدي ما علينا من تبليغ دعوة الله، فنأخذ بالأسباب المادية ونضع الخطط والبرامج الاستراتيجية، والله قد كفل القبول والعالمية.
أما ما يرد إلينا من علوم وثقافات وافدة، فإن فيها حقاً وخيراً، وهذا يقبل ممن جاء به، كما أن فيها باطلاً وشراً، وهذا يرد على من جاء به، وهو غالب ما يرد، والمطلوب أن لا نخضع شريعتنا ونلويها حتى توافق ما وفد، وإنما نُحكِّمها فيما يرد، ونرضى بحكمها، ثم لا نجد حرجاً فيما قضت، ونوقن بأنه الخير والحق.
__________
(1) سورة الجن: 14.
(2) سورة الجن: 1-2.
(3) سورة الأحقاف 29-32.
(4) صحيح مسلم 4/2215.
(5) صحيح البخاري 5/2170.(/10)
إن في سنة نبينا صلى الله عليه وسلم وفي عمل الصدر الأول تقرير لهذا المنهج، فقد نقل أهل السير لنا استفادته -صلى الله عليه وسلم- من ثقافة الفرس يوم حفر الخندق بمشورة سلمان الفارسي رضي الله عنه، وقد لبس -صلى الله عليه وسلم- جبة من صوف رومية، وعرف الإستبرق وأصله أعجمي، وأطلقوا على الجمال طويلة العنق ما كان يطلقه العجم فقالوا بختي و بختية، ورمى الصحابة بالمنجنيق وهي فارسية، واستعملوا سيوف الهند، وعرفوا الصولجان، و قرأوا المجال -مفرد مجلة- وهي وافدة، وأقر نبينا -صلى الله عليه وسلم- الدركلة ضرب من لعب الحبشة حتى جاء في الأثر: (خدوا يا بني أرفدة حتى يعلم اليهود والنصارى أن في ديننا فسحة)(1).
وبالمقابل نبذ الصدر الأول ثقافات وعادات وافدة، ومنها اللعب (بالإسبرنج) وهي الفرس التي في الشطرنج، وعرفوا الشطرنج وما فيه من بياذق أو بيادق وكلها فارسية، وجاء في الأثر: (من لعب بالنرد شير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه)(2)، وعرفوا لعبة السُّدُّر -نوع من القمار- وأنكروها، وعرفوا السمسرة من فارس وتكلموا فيها.
و لما قدم معاذ بن جبل من الشام سجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما هذا؟) قال: يا رسول الله قدمت الشام فرأيتهم يسجدون لبطارقتهم وأساقفتهم فأردت أن أفعل ذلك بك.
قال: (فلا تفعل)(3).
بل أكثر من ذلك كان عندهم نوع استقراء وتحليل للثقافة الوافدة، فقد تصوروا بعضها، وحكموا عليها –حكماً خاصاً- قبل أن تفد، ومن ذلك ما جاء في البخاري: عن عائشة رضي الله عنها قالت:لما اشتكى النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكرت بعض نسائه كنيسة رأينها بأرض الحبشة يقال لها مارية، وكانت أم سلمة وأم حبيبة -رضي الله عنهما- أتتا أرض الحبشة فذكرتا من حسنها و تصاوير فيها، فرفع رأسه فقال: (أولئك إذا مات منهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا ثم صوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله)(4).
فينبغي للمسلمين أن يعدوا الدراسات ويقيموا الثقافات من حولهم، حتى يميزوا بين حقها وباطلها وفقاً لضوابط الشرع، فيقبلوا ما فيها من خير، ويحصنوا المجتمعات ضد ما فيها من شر، وأول ذلك يكون بتقرير الثقافة الإسلامية في نفوس ذويها، وترسيخ مفاهيمها وبيان محاسنها قبل دعوة الآخرين إليها.
آثار العولمة الثقافية: أولاً الآثار العقدية
الآثار العقدية:
1- خلخلة عقيدة المسلمين، والتشكيك فيها، وذلك عبر وسائل وأساليب متعددة، مباشرة وغير مباشرة. وإذا ضاعت العقيدة، وفقد المسلم ركناً ركيناً يجنح إليه إذا تشعبت الأمور، فكيف تكون حاله؟ إن في ما نشهده من نسبة ارتفاع وفيات الانتحار في العالم الغربي مقارنة بالعالم الإسلامي، جواباً على هذا السؤال.
وقف الكون حائرا أين يمضي
عبث ضائع وجهد غبين ... ولماذا وكيف لو تشاء يمضي
ومصير مقنع ليس يرضي
2- إضعاف عقيدة الولاء و البراء، والحب والبغض في الله
إن استمرار مشاهدة الحياة الغربية، وإبراز زعماء الشرق والغرب داخل بيوتنا، والاستمرار في عرض التمثيليات والمسلسلات، والاستماع إلى الإذاعات، والأشكال الأخرى لاستيراد الثقافات سيخفف ويضعف من البغض لأعداء الله، ويكسر الحاجز الشعوري، فمع كثرة الإمساس يقل الإحساس. والله جل وعلا يقول: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)(5) الآية.
3- تقليد النصارى في عقيدتهم
وذلك باكتساب كثير من عاداتهم المحرمة التي تقدح في عقيدة المسلم، كالانحناء، ولبس القلائد والصلبان، وإقامة الأعياد العامة والخاصة، وقد رأينا القصات العالمية، وأشهر (الموضات)، إلى غير ذلك من صنوف التشبه المحرمة (ومن تشبه بقوم فهو منهم)(6).
__________
(1) انظر زوائد الهيثمي، مسند الحارث 2/826، والصحيحة 4/443 رقم (1829)، وقد أعلها أبو حاتم كما في العلل لابن أبي حاتم 2/297، ولكن جاء بمعناه عند الإمام أحمد 6/116: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: "لتعلم زفر أن في ديننا فسحة إني أرسلت بحنيفية سمحة"، قال ابن كثير (التفسير 2/199): " أصل الحديث مخرج في الصحيحين والزيادة لها شواهد من طرق عدة".
(2) حديث بريدة بن الحصيب في صحيح مسلم 4/1770، ورواه غيره.
(3) رواه ابن حبان في صحيحه 9/479، والحاكم في مستدركه 4/190، وروى نحوه أبو داود في السنن 2/244، وابن ماجة 1/595، ومسند أحمد 4/381، ورواه غيرهم وقد صححه الألباني في الإرواء 7/55-56 وأدب الزفاف 178 والصحيحة 1203 وغيرها.
(4) صحيح البخاري 1/450، ومسلم 1/376، ورواه غيرهما.
(5) سورة المجادلة آية: 22.
(6) حديث ابن عمر رواه ابن أبي شيبة 6/471، ومن طريقه أبوداود في سننه 4/44 برقم (4031)، ورواه الإمام أحمد 2/50، وله شواهد مرسلة، وقد حسنه ابن حجر في الفتح 10/271، وفيه عبدالرحمن بن ثابت بن ثوبان والأقرب أنه حسن الحديث.(/11)
4- نشر الكفر، والإلحاد، حيث إن كثيراً من شعوب تلك الدول لا يؤمنون بدين، ولا يعترفون بعقيدة سماوية. فلا حرج عندهم إذا نشروا أفلاماً تدعو بطريقة أو بأخرى لتعلم السحر، ومن أمثلتها أفلام السحر التي يقحمونها ببعض الألعاب القتالية، وهي منتشرة.
5- ومن أخطر الآثار العقدية الدعوة إلى النصرانية فالعولمة الغربية تتيح للتيارات الفكرية الموجودة بها نشر أفكارها، عن طريق الاستفادة من تقنياتها، فبينما تطحن العولمة الاقتصادية الشعوب الفقيرة يوجد اسطول طائرات يضم أكثر من 360 طائرة في أمريكا وحدها توزع بها الكنائس الإعانات على الفقراء، ومع الدعوة للانفتاح الإعلامي وبينما لايتجاوز عدد الإذاعات الإسلامية أصابع اليدين يربو عدد الإذاعات والتلفزيونات التنصيرية عن 4050 إذاعة، وهذا أيضاً في أمريكا وحدها وفقاً لإحصائيات (دافيد بار) خبير العمل الإحصائي في الولايات المتحدة، ووفقاً لإحصائيات عام 1992 فيوجد بالعالم 24900 مجلة تنصيرية، وعلى الصعيد السياسي يجد المتأمل أن التيارات الأصولية لها أثرها البين على السياسة الأمريكية وبالأخص اليمين المسيحي، والذي من أبرز رجالاته (بات روبرتسون)، و (جيري فلويل)، و(جيري فيناز)، و(فرانكلين جرهام) صاحب الحملة (الإغاثية!) إبان غزو العراق.
وقديماً استرعى الانتباه المشروع التنصيري الذي يستعد الفاتيكان فيه لبناء محطة تلفزيونية كبيرة، للبث في كافة أنحاء العالم للتبشير بتعاليم الإنجيل بواسطة ثلاثة أقمار اصطناعية تسمى بمشروع نومين(1) (2000) مع العلم أن القمر الواحد يغطي ثلث مساحة الكرة الارضية.
كما عقد قديماً في هولندا اجتماع عالمي للتنصير حضره (8194) منصر، من أكثر من مائة دولة، وكلف (21) مليون دولار، برئاسة المنصر جراهام، وقد تحمل نفقات هذا المؤتمر منظمة سامرتيان برس، وهدف المؤتمر دراسة كيفية الإفادة من البث المباشر في التنصير(2).
ويقول الدكتور: عمر المالكي: "والأمر الملفت للنظر وجود شبكة للبرامج الدينية التي تشرف عليها الكنائس، مثل شبكة البث المسيحي(3) NBN وشبكة CBN والشبكة الأخرى يصل بثها إلى أكثر من سبعة عشر مليون عائلة عن طريق الكابلي VATC وبرامجها على مدار الساعة تقدم عن طريق القمر الصناعي SATC 3 وتوجد عدة قنوات للبث الديني، واحدة منها للبث الديني اليهودي، ومن المقرر بنهاية 1990 م أن يصل عدد الكنائس الموصلة بشبكات البث الخاص عن طريق الأقمار الصناعية إلى عدة آلاف"(4).
هذه بعض آثار وأخطار العولمة الثقافية على عقيدة المسلمين ودينهم، وقد لا تبدو تلك الآثار سريعة، ولكن مع الزمن والتكرار يحدث الأثر.
ثانيا: الأثر الثقافي العام
إن البلاد العربية –وللأسف- موغلة في الأمية، والجهل، وارتفاع نسبة الأمية في البلاد العربية له تأثير سلبي أثناء التلقي من الثقافة الوافدة، فالكأس إذا كانت خالية، أمكن ملؤها بأنواع المائعات.
وإلقاء نظرة سريعة على هذه الأرقام تغني وتوضح المراد:
وفقاً لإحصائيات اليونسكو يقول مدير مكتب اليونسكو الإقليمي (فكتور بلة) في المؤتمر الثالث لوزراء التربية والتعليم والمعارف في الوطن العربي الذي استضافته الجزائر بمشاركة 20 دولة عربية في 10/2/1423هـ الموافق 23/4/2002م: إن عدد الأميين بالوطن العربي يبلغ نحو 70 مليونا، وإن ما يزيد على 90% من الطلبة العرب لا يمتلكون ثقافة معلوماتية.
وقال : إن غالبية الدول العربية تتجاهل تعليم الطفل في المرحلة التحضيرية، كما أن 40% من الأطفال ممن تتراوح أعمارهم بين السادسة والخامسة عشرة لم يلتحقوا بمقاعد الدراسة.
وأضاف أن أحدث الإحصاءات المتوافرة لدى اليونسكو تظهر أن أكثر من 70 مليونا في الوطن العربي لا يعرفون القراءة ولا الكتابة، وأشار إلى أن ذلك لا يعني الحديث عن الأمية الحاسوبية.
وصنف (بلة) التعليم في الوطن العربي بأنه يقع ضمن أدنى المستويات في العالم، واعتبرها نسبة مزعجة تشكل خطرا على التنمية في الدول العربية.
وأفاد تقرير حديث عن إحصائيات منظمة اليونسكو في الدول العربية(5)، أنه من بين كل ثلاثة رجال في العالم العربي يوجد واحد أمي، ومن بين كل امرأتين توجد واحدة أمية.
وفي ندوة(ماذا يريد التربويون من الإعلاميين) التي عقدت في الرياض عام 1402 هـ تحت إشراف مكتب التربية العربي لدول الخليج، جاءت دراسة مهمة أذكر بعضا منها:
يوجد أكثر من 33% من أطفال البلاد العربية ما بين سن 6 - 14 خارج المدرسة، ويقدر هذا العدد بأكثر من خمسة عشر مليون طفل.
يوجد 75% من شباب البلاد العربية ما بين سن 15- 17 خارج المدرسة الثانوية بمختلف أنواعها.
__________
(1) الحاجة إلى تنسيق وتكامل. إعلامي- حمود البدر ص 19.
(2) مجلة رابطة العالم الإسلامي (290).
(3) الصحيح أن يقول: النصراني، لأن هذا هو الاسم الصحيح لهم في القرآن الكريم.
(4) مجلة البيان عدد (34).
(5) تقرير عام 2002 عن أحوال العرب، وهو موجود في موقع منظمة اليونسكو.(/12)
يوجد حوالي 90% من شباب البلاد العربية من 18- 24 دون تعليم عال، أو جامعي.
يوجد قرابة 50% من أفراد المجتمع العربي فوق سن (15) من الأميين(1). بل إن مما يزيد الوضع صعوبة وتعقيداً، ما يقضيه الطالب بين حجرات الدراسة وما يقضيه أمام التلفزيون، فقد ذكر الدكتور حمود البدر أن الأبحاث والدراسات أثبتت أن بعض التلاميذ في البلاد العربية عندما يتخرج من الثانوية العامة يكون قد أمضى أمام التلفزيون (15.000) ساعة، بينما لم يقض في حجرات الدراسة أكثر من (10.800) ساعة على أقصى تقدير(2).
مع أن هذه الإحصائيات كانت في وقت لايشاهد التلميذ فيه إلا قناة أو قناتين، فكيف وقد أتيحت لهم مشاهدة عدة قنوات، دون حسيب أو رقيب؟ وكيف بعد دخول الإنترنت، وكيف إذا فتحت الأبواب لوسائل العولمة الثقافية الأخرى على مصراعيها؟
لهذا فإن الثقافات الوافدة، قد تشكل خطراً على الهوية العربية والإسلامية، وبخاصة في ظل ضعف التحصينات، والانفتاح على العالم الغربي وخصوصاً إعلامه، وإذا كانت الدول التي لا تعاني من هذه المشاكل قد خافت على ثقافتها من الثقافات الوافدة، ورأت أن هويتها بدأت تزول، فحري بنا أن نعمل على تحصين ثقافتنا، وإلاّ فإن مدّ الثقافات الوافدة سوف يجرف كل خاوٍ لا يقوى على القيام له.
وقد شكت وزيرة الثقافة اليونانية (ملينا يركورى) من أن بلدها قد دهمتها الثقافة الأمريكية(3).
وفي فرنسا صرح وزير الثقافة الفرنسي في السبعينات أنه خائف من وقوع الشعب الفرنسي ضحية للاستعمار- الثقافي الأمريكي(4).
وجاء بعده وزير الثقافة الفرنسي (جاك لانق) وشن حملة قاسية على القنوات التلفزيونية التجارية، وقال إنها أصبحت صنابير تتدفق منها المسلسلات الأمريكية، فقد لاحظ أنه في يوم الأحد، وفي الساعة الواحدة ظهرا، تجد خمس قنوات فرنسية تبث مسلسلات أمريكية، مع أن عدد القنوات الفرنسية ست قنوات فقط، أي أكثر من 80% تبث الثقافة الأمريكية(5).
وشكا رئيس وزراء كندا (بيار ترودو) من تأثير الثقافة الأمريكية على الشعب الكندي (6).
إذا كانت هذه حال أولئك القوم وشكواهم مع أنهم في وضع سياسي متقارب، ودينهم واحد، ومناهجهم متشابهة، فكيف بنا، وماذا ستكون حالنا مع الثقافة الوافدة؟ يقول الأستاذ عبد الرحمن العبدان، وهو يتحدث عن البث المباشر، وخطورته في الجانب الثقافي: (ثم البرامج الثقافية الموجهة، والتي يمكن أن نسميها بالغزو الفكري، وهذه سوف تسيء لكثير من مفاهيم الشعوب المستهدفة وقيمها، ولا بد من مراقبتها، وتبصير المتلقين بأهدافها، وتحصينهم من آثارها)(7).
وقد صرح وزير خارجية كندا عام 1976 م بأن برامج التلفزيون الأمريكي تدفع كندا نحو الكارثة(8)، فهي تمثل عنده غزو ثقافي.
حتى أن بعض الدراسات أثبتت أن هناك بعض الأطفال الكنديين لا يعرفون أنهم كنديون؛ لتأثرهم بالبرامج الأمريكية التي تبث إلى كندا(9).
وفي فرنسا عندما شعر الرئيس الفرنسي (شارل ديغول) بخطورة تأثير الأفلام الأمريكية على الثقافة الفرنسية، قام بعدة إجراءات منها:
1- إلغاء الاعتماد على الدولار كعملة احتياطية.
2- الانسحاب من الحلف الأطلسي.
3- إعادة النظر في العلاقات الثقافية، والسياسية مع أمريكا.
وقد أعلن صراحة أن تلك الإجراءات (حماية لفرنسا من الاستعمار الثقافي الأمريكي) (10). وما أحسن ما عبر عنه فهمي هويدي(11) معلقا على دخول البث التلفزيوني إلى تونس حيث قال:
"خرج الاستعمار الفرنسي من شوارع تونس عام 1956 م، ولكنه رجع إليها عام 1989 م، لم يرجع إلى الأسواق فقط، ولكنه رجع ليشاركنا السكن في بيوتنا، والخلوة في غرفنا، والمبيت في أسرة نومنا.
رجع ليقضي على الدين، واللغة، والأخلاق، كان يقيم بيننا بالكُره، ولكنه رجع لنستقبله بالحب، والترحاب، كنا ننظر إليه فنمقته، أما الآن فنتلذذ بمشاهدته، والجلوس معه إنه الاستعمار الجديد، لا كاستعمار الأرض، وإنما استعمار القلوب، إن الخطر يهدد الأجيال الحاضرة، والقادمة، يهدد الشباب والشابات والكهول والعفيفات، والآباء، والأمهات. وقال: إن الفرنسيين غادروا تونس عام 1956 م وعادوا إليها عام 1989 م ليقتحموا كل بيت، وقرروا أن يقضوا داخله 20 ساعة كل يوم، يمارسون تأثيرهم على اللغة،والأخلاق، والفكر، والوعي، عند الصغار والكبار، والنساء والرجال، والشباب، والفتيات، وإن كان الخطر أكبر يهدد الجيل الجديد كله"(12).
__________
(1) انظر بحوث ماذا يريد التربويون من الإعلاميين ص 75.
(2) الحاجة إلى تنسيق وتكامل تربوى ص 13.
(3) أقمار الفضاء غزو جديد ص 52.
(4) أقمار الفضاء غزو جديد ص 59.
(5) مجلة اليمامة عدد (1038).
(6) أقمار الفضاء غزو جديد ص 52.
(7) جريدة الرياض عدد (8450).
(8) أقمار الفضاء غزو جديد ص 52.
(9) أقمار الفضاء غزو جديد ص 52.
(10) أقمار الفضاء غزو جديد ص 59- 60.
(11) كاتب سياسي له شطحات فكرية معروفة.
(12) الأهرام 27/6/1989 م.(/13)
وأختم هذه الحقائق بما ذكره أحد الغربيين مشيرا إلى أسلوب صناعة الفكر الشرقي.
"كنا نحضر أولاد الأشراف، والأثرياء، والسادة من أفريقيا،وآسيا، ونطوف بهم لبضعة أيام في أمستردام ولندن، فتتغير مناهجهم، ويلتقطون بعض أنماط العلاقات الاجتماعية، فيتعلمون لغتنا، وأسلوب رقصنا وركوب عرباتنا، ثم نعلمهم أسلوب الحياة الغربية، ثم نضع في أعماق قلوبهم الرغبة في أوروبا، ثم نرسلهم إلى بلادهم، وأي بلاد؟ بلاد كانت أبوابها مغلقة دائما في وجوهنا، ولم نكن نجد منفذا إليها، كنا بالنسبة إليهم رجسا ونجسا.
ولكن منذ أن صنعنا المفكرين ثم أرسلناهم إلى بلادهم، كنا نصيح في لندن، وأمستردام، وننادي بالإخاء البشري وكانوا يرددون ما نقوله، كنا حين نصمت يصمتون، لأننا واثقون أنهم لا يملكون كلمة واحدة يقولونها غير ما وضعنا في أفواههم"(1).
ثالثاً: العولمة الإعلامية
إن العولمة منظومة متكاملة يرتبط فيها الجانب السياسيُّ بالجانب الاِقتصادي، والجانبان معاً يتكاملان مع الجانب الاجتماعي والثقافي، ولا يكاد يستقل جانبٌ بذاته، ولكن آلة ذلك كله التي لا تنفصل البتة عن أي شكل من أشكال العولمة هو الإعلام بوسائله المتعدد، فمهما رأيت صوراً لعولمة ثقافية أو اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية، فاقطع بأنها جاءت محمولة عبر آلية إعلامية.
فنجاح مروجي ثقافاتهم واقتصادياتهم وسياساتهم بل وحروبهم، كان من أعظم أسبابه نجاحهم في عولمة إعلامهم.
وإذا كان حافظ إبراهيم قال منذ عشرات السنين:
لكل زمان مضى آية ... وآية هذا الزمان الصحف
فاليوم لم تعد الصحف هي الوسيلة الإعلامية الوحيدة بل تعددت قنوات ووسائل الاتصال حتى حار الإنسان فيها، واتخذت أشكالاً عدة أبرزها ما يلي:
1- الإذاعات: وهي أوسع القنوات الإعلامية انتشاراً للأسباب التالية:
(أ) أنه يشترك فيها المتعلم، والعامي، والصغير والكبير، والرجل والمرأة.
(ب) قلة تكلفتها المادية، بخلاف كثير من وسائل الإعلام الأخرى، فما على المرء إلا أن يشتري جهاز راديو حسب إمكاناته المادية، حتى لو لم يملك إلا دريهمات معدودة. فسيجد ما يلائمه منها، مما يحوي عدة موجات.
(جـ) سهولة الاستعمال، فيستطيع الإنسان أن يستمع إلى الراديو في أي مكان كان ما لم يوجد حاجز طبيعي.
(د) طول مدة الإرسال، وكثرة الإذاعات؛ فالإرسال الإذاعي يستمر ساعات طويلة في أغلب الإذاعات، وهناك إذاعات يستمر إرسالها (24) ساعة متصلة.
(هـ) عدم وجود رقابة على الإذاعات، ويستطيع المستمع أن ينتقل من إذاعة إلى أخرى دون حسيب، أو رقيب من البشر.
ولهذا فقد لعبت الإذاعات دوراً مهما في حياة الناس، ولا تزال مع التقدم الهائل في الوسائل الإعلامية الأخرى تحتل مكانة بارزة، وتؤثر تأثيراً واضحاً.
ويكفي أن أشير إلى أن هناك عدداً من الإذاعات العالمية استحوذت على أغلب المستمعين، وعلى رأسها ثلاث إذاعات، وهي:
1- إذاعة لندن.
2- صوت أمريكا.
3- مونت كارلو.
وقد كشفت الأحداث المختلفة تأثير تلك الإذاعات، وتسابق الناس للاستماع إليها، ومازالت الدول المصدرة للثقافة تطلق إذاعاتها الموجهة للعالم العربي، وقد أطلقت الولايات المتحدة قبل أشهر محطة إذاعة جديدة باللغة العربية باسم [إذاعة سوا]، تشرف عليها [صوت أمريكا] موجهة للعالم العربي، وذكر مسئولون أمريكيون أنهم بصدد مغازلة الشباب العربي الغاضب والقلق والشباب المسلم بشكل عام، وتبث على مدار 24 الساعة، وقد كانت الحكومة الأمريكية قد بدأت التخطيط للمحطة منذ ستة أشهر، حيث أطلق عليها اسم الشيفرة [مبادرة 911]، وتم رصد 30 مليون دولار كنفقات لمدة ستة أشهر لشبكة إذاعية جديدة تستهدف الشباب العربي.. وفي الوقت نفسه بذلت لجنة العلاقات الدولية في مجلس النواب الأمريكي جهوداً مكثفة لمضاعفة نفقات البث الإذاعي الأمريكي؛ التي تبلغ 479 مليون دولار لتغطية كل العالم الإسلامي من نيجيريا إلى إندونيسيا. وفي هذا الإطار دفعت لجنة المخصصات في مجلس النواب الأمريكي الأموال الطائلة بزيادة قدرها 19 مليون دولار؛ لإحياء محطات إذاعية منفصلة خاصة بأفغانستان(2).
2- الصحف، والمجلات، والدوريات، والنشرات:
وقد تربعت الصحافة على عرش التأثير زمنا طويلا، حتى أصبحت في فترة من الفترات تسمى السلطة الرابعة.
واليوم تبوأت الصحافة مكانة أسمى، وتأثيرا أقوى، حتى أصبح الملوك، والرؤساء يخطبون ود رؤساء التحرير، ويتقربون منهم، ويغدقون عليهم العطايا، والهبات رجاء وخوفا، بل تعدى الأمر إلى صغار المحررين، والمبتدئين من المراسلين، وأصبح كثير من الناس لا يستطيع أن يستغني عن مطالعة الصحف، والمجلات يومياً، بل الكثير منهم لا يتناول فطوره إلا بعد الاطلاع على صحف اليوم.
3- التلفزيون والفيديو:
__________
(1) استمع إلى شريط الندوة التي عقدها الحرس الوطني عن البث المباثر على هامش الجنادرية عام 1409 هـ.
(2) المجتمع، العدد 1495، 23-29 محرم 1423هـ، الموافق 6-12 أبريل 2002م.(/14)
على الرغم مما تقوم به الوسائل الإعلامية الأخرى، فإن تأثيرها -رغم قوته- لا يتعدى 30% من قوة تأثير التلفزيون والفيديو، وقد أثبتت الدراسات، والبحوث العلمية التي أجريت حول مدى تأثير التلفزيون والفيديو أن تأثيرهما لا تقاربه أي وسيلة أخرى، وستتضح هذه الحقيقة من خلال هذا الكتاب، وذلك للأسباب التالية:
(أ) انتشار هذا الجهاز حتى أنه قل أن يخلو منه بيت،أو يسلم من مشاهدته إنسان.
(ب) عدد الساعات التي يقضيها المرء عند التلفزيون والفيديو، فقد ذكر الدكتور حمود البدر(1) أن الدراسات، والأبحاث أثبتت أن بعض الطلاب عندما يتخرج من المرحلة الثانوية يكون قد أمضى أمام جهاز التلفزيون قرابة (15) ألف ساعة، بينما لا يكون أمضى في حجرات الدراسة أكثر من (10800) ساعة على أقصى تقدير(2) أي في حالة كونه مواظبا على الدراسة محدود الغياب.
ومعدل حضور بعض الطلاب في الجامعة (600) ساعة سنويا، بينما متوسط جلوسه عند التلفزيون (1000) ساعة سنويا.
(جـ) طول مدة البث يوميا، واستمراره جميع أيام الأسبوع دون عطلة، أو إجازة.
(د) الحالة النفسية للمتلقي، حيث أن المشاهد للتلفزيون، أو الفيديو يكون في حالة نفسية جيدة راغبا للمشاهدة مستعدا للتلقي، متلذذا بما يرى، بخلاف الطالب في المدرسة، ومهما كانت حالة الطالب من الارتياح لأستاذ من الأساتذة، أو مادة من المواد، فإنها لا تصل إلى حالة مشاهد يرى فيلما غريزيا، أو حلقة من حلقات المصارعة، أو مباراة من مباريات كرة القدم.
(د) إن أسلوب عرض البرامج، و التمثيليات بلغ الذروة في الإخراج،واستخدام التقنية مع التشويق، والإغراء وحسن العرض مما يجعل المشاهد أسيراً لها مع قوة التأثير.
(هـ) إن الراديو يدرك بحاسة السمع، والصحافة تدرك بحاسة البصر، أما التلفزيون فتشترك فيه حاستان هما السمع والبصر، مما يجعل تأثيره أكثر. ولقد تطور التلفزيون تطورا مذهلا، ووصل إلى تقنية عالية الجودة.
ولقد كان المشاهد أسير قناة واحدة، أو قناتين، وعلى كل الأحول لا تتعدى القنوات التي تبث من بلده، أو من الدول المجاورة إن كان بثها قويا خمس قنوات.
ثم جاء الفيديو، وأتاح للمشاهد فرصة الاستمرار في مشاهدة ما يرغب من أفلام دون أن يكون أسير ما يبث في التلفاز ضمن إطار ضيق.
أما الآن فقد بدأ البث التلفزيوني العالمي، مما يفتح الباب على مصراعيه، ويجعل تأثير التلفزيون فيما مضى محدوداً إذا قورن بالمرحلة المقبلة، والانفتاح المذهل.
4- الإنترنت: " أعلنت وزارة الاتصالات اليابانية أن نسبة انتشار الإنترنت في أوساط الأسر اليابانية لم تكن تتعدى 6% قبل ثلاث سنوات.
وأضافت أن عدد اليابانيين المتصلين بالإنترنت عبر الخطوط الثابتة والهواتف المحمولة ارتفع في ديسمبر الماضي إلى 43 مليون شخص مقارنة بـ 26.3 مليون قبل ستة أشهر"(3)، وهذا مؤشر يبين مدى سرعة تزايد الإقبال على الإنترنت في العالم، وفي عالمنا العربي نجد أنه على الرغم من تأخر دخول الإنترنت فإن نسبة مستخدميها في دولة الإمارات العربية بلغت 28% وقد أصبحت بعض الدول العربية تقدم خدمة الإنترنت مجاناً، وكل هذه مؤشرات تدل على أن الإنترنت في السنوات القليلة المقبلة، قد تشهد انتشاراً واسعاً في عالمنا العربي، ربما زاحم التلفاز التقليدي وذلك لعدة أسباب:
أ- لم تعد الإنترنت تعتمد على جهاز حاسب، أو جهاز واحد، بل طرق الوصول إليها متعددة، فقد أصبح من الممكن الوصول إليها عبر الهاتف النقال، والكابل مودم الذي يرتبط مع تلفزيون الإنترنت، بالإضافة لما يسمى بتلفاز الويب، كما أن هناك أجهزة أخرى يستفيد المستخدم منها عبر الإنترنت، ومنها الهواتف التي تتصل بالإنترنت، وإن كان الوصول عن طريق الحاسب الآلي لا يزال الطريقة السائدة.
ب- وكما أن طرق الوصول إليها متعددة، فإن ما توصله أو تقدمه متعدد، يشمل ما يقدمه التلفاز، والإذاعة، والصحافة، وسائر الوسائل الإعلامية الأخرى، بل وغيرها، وإذا كانت بعض الأطباق الفضائية تقدم مئات القنوات، فإن أعداد القنوات والإذاعات والصحف والمجلات والوكالات وغيرها التي تنشر موادها عبر الإنترنت وتقدم بثاً مباشراً عبر صفحاتها يفوق الحصر، كما أنها تقدم من الخدمات ما لا تقدمه أجهزة الإعلام التقليدية، كالبريد الإلكتروني، والقوائم البريدية، ومجموعات الأخبار، وغيرها.
__________
(1) وكيل جامعة الملك سعود سابقاً، وأمين مجلس الشورى السعودي حالياً.
(2) الحاجة إلى تنسيق وتكامل إعلامي ص 13.
(3) عن موقع أخبار أوس: http://news.awse.com/09-Feb-2003/Technology/31176_ar.htm.9/فبراير/2003.(/15)
ج- تمتلك الإنترنت مزية لا تملكها وسائل الإعلام التقليدية، وهي التفاعل مع المستخدم، فكما أنك تتلقى، فبإمكانك أن تعطي، فالإعلان التقليدي في الصحف مثلاً قد يعرض منتجاً ثم تنتهي مهمته في إطار محاولة إقناع القارئ بأهمية اقتنائه، ولكن الإنترنت لا تكتفي بذلك، بل تقدم للمستخدم نموذج الشراء، وما عليه إلاّ أن يدخل المعلومات ثم بضغط زر يأته المنتج على رجليه! وقد استفاد الغرب وبعض الدول العربية من إمكانية التفاعل هذه، فجعلت الخدمات الحكومية يتم التعامل معها عن طريق الإنترنت، وقد وعدت حكومة الإمارات العربية بتوفير معظم الخدمات الحكومية على الإنترنت بحلول العام 2005(1) الأمر الذي يستشرف منه مزيد تفاعل مع الشبكة العنكبوتية في ربوع عالمنا العربي يمضي قدماً.
د- تمثل الإنترنت وسيلة حرة بضوابط محدودة جداً مقارنة بغيرها من الوسائل الإعلامية، فمهما وجدت قناة أو إذاعة، فإنها تخضع لقوانين الدولة التي توجد بها، ومسئولوها عرضة للمساءلة عند تجاوز الخطوط الحمراء، التي تخطها مصالح الدول أو أهواؤها! أما الإنترنت، فبوسع كل شخص أن يعرض ما أراد، وإذا كان أحدهم في (لهايدبارك) بوسعه أن يقول ما يشاء، ولكن ليس له أن يبيع مخدرات أو يعرض أسلحة، فإن الإنترنت توفر لكل أحد أن يقول ما أراد ويروج أو يبيع ما يشاء!
وللإنترنت مزايا أخرى، تنبئ عن توسع انتشارها في المستقبل.
5- وهناك وسائل إعلامية كثيرة كوكالات الأنباء،والأشرطة السمعية، وما أتاحته وسائل الاتصال الحديثة كالهاتف، والفاكس، والبريد الإلكتروني، وغيرها مما يساعد على تبادل المعلومات بسرعة فائقة، حيث أصبح العالم الرحب كقرية صغيرة، من حيث انتشار الأخبار، وسرعة وصول المعلومات، وتأثير الأحداث، والتدخل في شؤون الآخرين بسرعة مذهلة، فانقلاب في روسيا في الشرق تساهم أوربا وأمريكا في إسقاطه خلال يومين، وإشاعة حول بنك من البنوك في الغرب تقضي على بنك آخر في الشرق.
وقيام انقلاب في الشرق يؤدي إلى انهيار سوق الأسهم في الغرب خلال ساعات معدودة، وفشل الانقلاب يعيد الأمور إلى نصابها.
ولهذا الانتشار الواسع للوسائل الإعلامية المختلفة، ولتأثيرها في القطاع الواسع الذي تغطيه، نستطيع أن نقول إن الإعلام اليوم هو الذي يتولى مقاليد الأمور في العالم، والذي يستطيع أن يسيطر على وسيلة من وسائل الإعلام المؤثرة يكون قد شارك في الحكم عالمياً، ومحليا حسب تأثير وسيلته، وقوة نفوذها. وعندما أدركت بعض الأقليات هذه الحقيقة سعت لامتلاك الإعلام في بعض الدول الكبرى، فكان لها أبرز الأثر في تكوين آراء المجتمع، وصنع قرارات الدولة.
وإذا تساءلت عن أشكال وأنماط من العولمة الاجتماعية في المجتمعات العربية وعن سر وجودها، وجدت أن سببها عولمة الإعلام، فالموسيقي الأمريكية التي انتشرت في ربوع عالمنا العربي , والنمط الأمريكي الصرف في اللباس، أو نصف الأمريكي (ثوب وقبعة)، والأطعمة السريعة وغيرها من السلع الاستهلاكية، واللغة الإنجليزية ذات اللكنة الأمريكية، والطفل الكرتوني (كالطفل السوبرماني أو الطفل العنكبوتي أو الوطواطي إلى غيرها من الحشرات والحيوانات...)، كل هذه مع كثير من العادات الدخيلة، دخلت المجتمعات العربية من خلال الوسائل الإعلامية، التي باتت تمثل ما يمكن أن نسميه بـ (ثالوث الأبوة) الأب، الأم، الإعلام، فقد غدا الأخير العنصر الثالث مع الأبوين في التربية والتوجيه أو ضدهما!
__________
(1) جاء هذا على لسان سالم الشاعر، مدير الخدمات الإلكترونية في حكومة دبي، انظر الموسوعة العربية للكمبيوتر والإنترنت بتاريخ 5/يونيو/2003، وقد نشر الخبر في الموقع: http://www.c4arab.com/showanews.php?nid=416، وغيره.(/16)
إن هيمنة الإعلام الغربي على العالم أمر لا يجادل فيه من له سمع أو نظر، أما مظاهر هيمنة الإعلام الغربي داخل وطننا العربي فكثيرة جداً منها الصحف والمجلات الغربية المتداولة في الأوساط العربية، وبالأخص تلك المعربة الموجهة لقراء الشرق الأوسط، ومنها الإذاعات المختلفة متعددة اللغات، ومنها شبكة الإنترنت العالمية، وإذا تأملنا قطاع التلفاز مثلاً بحكمه الأوسع انتشاراً وجدنا أثر الإعلام الغربي وطغيانه بيناً، ففي إحصاءات منظمة اليونسكو عن الوطن العربي نجد أن شبكات التليفزيون العربية تستورد مابين ثلث إجمالي البث كما في سوريا ونصف هذا الإجمالي كما في تونس والجزائر . أما في لبنان فإن البرامج الأجنبية تزيد علي نصف إجمالي المواد المبثوثة إذ تبلغ 58,5% وتبلغ البرامج الأجنبية في لبنان 69% من مجموع البرامج الثقافية ولا تكتفي بذلك بل وغالب هذه البرامج يبث من غير ترجمة، وثلثا برامج الأطفال تبث بلغة أجنبية من غير ترجمة في معظمها ، ولعل القارئ الكريم يدرك بأنه لا مزية للبرامج الناطقة بالعربية على الناطقة بلغات أجنبية أخرى، فلا فرق بين (ميكي) ذو اللسان العربي الفصيح، وأصله الأمريكي، بل قد يكون المستنسخ المعرب أكثر قدرة على تصدير العولمة الأمريكية من أصله.
وإذا كانت الإحصاءات السابقة تمثل نسبة الغزو الغربي للإعلام الرسمي، فلك أن تتصور نسبة هذا الغزو وأثره، على البيت الذي ملئ بالأطباق، وفي العائلة التي أدمنت البث المباشر.
ويذكر الدكتور محمد عبده يماني(1) أن منظمة اليونسكو أجرت دراسة اتضح من خلالها أن 90% من الأخبار التي يتناقلها العالم من إنتاج خمس وكالات عالمية فقط، وهي:
(أسوشيتدبرس) و(يونايتدبرس) و(وكالة الصحافة الفرنسية) و(رويتر) و(تاس السوفيتية). والأوليان أمريكيتان، والثالثة فرنسية، والرابعة بريطانية، والخامسة سوفيتية.
ولذلك يقول الدكتور على النجعي(2) وهو يعدد مخاطر البث المباشر:
ومن وجهة نظري فإن تأثير البث المباشر لا يتوقف على إدخال عادات قبيحة على المجتمعات النامية، بل إن من أخطر ما يحمله هذا التوجه العالمي، هو تفتيت المجتمعات، والتقليل من أهمية ودور وسائل الإعلام المحلية، التي تسير في ضوء أطر محددة وسياسات مرسومة، حيث يصبح بإمكان كل مواطن أن يختار الوسيلة التي يرغب في مشاهدتها والبرنامج الذي يختاره(3).
وبطبيعة الحال هذه القدرة على الاختيار تكون عند ساكن العالم الثالث، أما القدرة على العرض فعند الغربيين، وهذا هو الواقع الذي لم يعد سراً، ومما يؤكد هذه الحقيقة ما ذكره تقرير لليونسكو حيث جاء فيه: (إننا نعتقد أن ما يعرف باسم التدفق الحر للإعلام، هو في حقيقة الأمر تدفق باتجاه واحد، وليس تبادلاً حقيقيا للمعلومات)(4).
وأوضحت دراسة مشتركة بين ندوة تامبير واليونسكو، أن هناك اتجاهين لا جدال حولهما في مجال تدفق المعلومات:
ا- أنه تدفق في اتجاه واحد من الدول الكبرى المصدرة إلى باقي دول العالم.
2- أن المادة الترفيهية هي السائدة في هذا التدفق(5).
ومن أجل توضيح المراد ببرامج التسلية والترفيه الواردة في هاتين الدراستين لنقرأ ما قاله الأستاذ عبد الرحمن العبدان(6): "برامج الترفيه والتسلية ومعظمها -إن لم يكن جميعها- لن تكون ملتزمة، وهذه سوف تنقل للشعوب المشاهدة كثيرا من العادات غير الحسنة التي تتنافى مع القيم الإسلامية، خاصة وأن هذه البرامج قد تشد الشباب والشابات بحيويتها وعصرية إعدادها وجودة عرضها، وتدفعهم للإعجاب بها دون إدراك لخطورتها، وبالتالي التأثر بها، وهذا مكمن الخطورة.
ويواصل قائلا: ولست بحاجة لشرح الآثار السلبية المترتبة على ذلك، وما فيها من الهدم وتدمير السلوك"(7).
رابعاً: بعض الآثار السلبية لعولمة الإعلام.
في تحقيق أجرته جريدة عكاظ مع بعض مدمني مشاهدة الأفلام اعترف عدد منهم بخطورة هذه الأفلام (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا )(8) وكان مما قالوه:
ا- قال شاب: إن هذه الأفلام عديمة الفائدة، والتي تعتبر مضيعة للوقت بالإضافة إلى كونها الطريق إلى اكتساب عادات وأفكار سيئة تؤدي إلى انحراف بعض الشباب، خاصة في مرحلة المراهقة.
2- واعترف آخر بأن بعض هذه الأفلام قد تتسبب في انحراف الشباب الذين ليس لديهم وعي كامل بخطورة ما تحتويه.
3- وثالث يقول: لهذه الأفلام سلبيات، منها ضياع الوقت، واكتساب أفكار قد تكون سيئة(9).
__________
(1) وزير الإعلام السعودي السابق.
(2) وكيل وزارة الإعلام المساعد لشؤون التلفزيون.
(3) انظر جريدة الرياض (8450).
(4) أصوات متعددة ص 303.
(5) انظر كتاب تدفق المعلومات ص 75- 76.
(6) وبخاصة أن الأستاذ - عبد الرحمن أمين عام المجلس الأعلى للإعلام في المملكة.
(7) جريدة الرياض العدد (8450).
(8) سورة يوسف جزء من الآية: 26.
(9) جريدة عكاظ العدد (9186) الملحق.(/17)
أما المجتمعات الأخرى "فقد عزا الغربيون مثل (ريجيس دوبريه) في كتابه الموسوم بـ "الميديولوجيا: علم الإعلام العام" عزا هزيمة الشيوعية إلى انتصار ما أسماه (بالفيديولوجيا) على (الأيديولوجيا)، أي انتصار الاستهلاك الفوري الذي يروج له التليفزيون المرئي (الفيديو) على حساب الأفكار والقناعات (الأيديولوجيات).
وفي دراسة (لبنيامين باربر) تحت عنوان "ثقافة الماك وورلد في مواجهة الديمقراطية"، يقرر محرر الدراسة أن الثقافة العالمية الأمريكية هي الترجمة الحرفية (للفيديولوجيا)، التي تتعارض مع الثقافات القديمة، ولكنها تلجأ إلى أسلوب آخر، فـ"ماك وورلد" يتزين قليلا بطابع الثقافات التي يلتهمها، فإذا بالإيقاعات الأمريكية اللاتينية تتداخل مع "البوب" في الأحياء المكسيكية الفقيرة في لوس أنجلوس، ولنا أن نقول: ربما تغير النمط قليلاً في بعض الدول العربية بإخراج وجبة (بينية) "ماك عربي"،على نمط القبعة الأمريكية والثوب العربي.. ثم يقول باربر: وإذا بـ (ميكي) يتكلم الفرنسية في ديزني لاند باريس. ووفقاً لوجهة نظر باربر فإن قناة الموسيقى الأمريكية، و الماكدونالدز، وديزني لاند، هي في نهاية المطاف، وقبل كل شيء، أيقونات الثقافة الأمريكية، وهي أحصنة طروادة التي تتسلل من الولايات المتحدة إلى ثقافة سائر الأمم.
ويقول: إن أيقونات الثقافة الأمريكية الجديدة يتم تسريبها إلى الثقافات العالمية التي تبدو عاجزة عن مقاومتها، عن طريق أشباه المنتجات الثقافية، كالأفلام أو الدعايات، وتتفرع منها مجموعة من السلع المادية ولوازم الموضة والتسلية، وهكذا لا تبقى أفلام "الملك الأسد" و"جوراسيك بارك" و"تايتانيك" مجرد أفلام، وإنما تصبح وسائل حقيقية لتسويق الأغذية والموسيقى والألبسة والألعاب والأنماط الاجتماعية والأفكار الثقافية.
إن أيقونات الثقافة الأمريكية الجديدة تنتج التماثل والتشابه وهذا بدوره كما يرى علماء النفس يسهل عملية التحكم والسيطرة، وأبعد من ذلك إنتاجها لنفس أنماط السلوك، فمن وجهة نظر (ريجيس دوبريه) أن كل دقيقة عنف ينتجها فيلم كفيلم "الحديقة الجوراسية" ينقل مستهلكا من الشرق إلى الغرب. فالأسواق تحتاج إلى عملة واحدة هي الدولار، وإلى لغة واحدة هي الإنجليزية وإلى سلوك متشابه في كل مكان يجد تعبيره في سلوك أبطال الثقافة الجديدة.
ومن وجهة نظر (ريجيس دوبريه) كذلك: أنهم أول حضارة أقامت مذبحا منزليا للتبذير، هو "جهاز اللاقط" و أوبريه لا يتوقف عند مستوى الاستهلاك الذي ينحته التلفزيون في حياة البشر، من خلال الدعاية التي تقولب ومن خلال أفلام الجنس والعنف، فهو يرى أن هذا "المذبح المنزلي" ستتحطم عليه قناعاتنا وخياراتنا وعاداتنا، لأنه ينشر اللامبالاة والاستهلاك والقبول السطحي وبالأخص الإشاعة الاجتماعية، يقول (دوبريه): إن التلفاز بالتأكيد يذهب إلى أبعد من الكتاب المطبوع ولكنه أقل عمقا. فدرجات التأثير ربما تكون بعكس مساحات التغطية. وصلابة قناعاتنا تنقص عندما تزيد سرعة المعلومات ومرور العلامة.
إن (باربر) يرى أن الترويج أو الدعاية للمنتجات الأمريكية يعني الترويج لأمريكا وثقافة السوق والمخازن التجارية التي تفرض علينا القيام بفك ارتباط بهويتنا الثقافية، ما عدا صفة المستهلك، والتنكر لمواطنتنا لنتذوق أكثر هذه المتعة الوحيدة الناتجة من التسوق.
أثر آخر من آثار العولمة الإعلامية يتحدث عنها فيريليو، فمن وجهة نظر فيريليو أن هناك فارقا جوهريا بين القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين، فإذا كانت "جنية الكهرباء" على حد تعبيره قد أضاءت المدن إضاءة مباشرة في القرن العشرين، فإن القرن الواحد والعشرين سيشهد "الإضاءة غير المباشرة للعالم " بحيث يصبح في الإمكان بفضل التكنولوجيات التليفزيونية التي تتطلب منهجاً بصرياً شمولياً جديداً، يقوم بمراقبة كل شيء، النظر إلى كل شيء، والانشغال بكل شيء.
فإذا كانت بعض كبريات الصحف في ديسمبر 1997 خصصت صفحتها الأولى للكلب الجديد الذي كان قد حصل عليه زعيم دولة عظمى، وتولت صفحة في الداخل إكمال الملف، محللة -على حد تعبير بعض محرري لوموند ديبلوماتيك- موقع الحيوان في تاريخ ذلك البيت الرئاسي الأبيض، ومستعيدة قائمة الكلاب السابقين الذين حلوا ضيوفا على ذلك البيت. فما بالك بما يمكن أن ينشر ويقرأ وينظر عبر وسائل الإعلام العالمية المختلفة، وبماذا يمكن أن يشغل الناس!" (1).
__________
(1) مستفاد في مجمله من مقال بعنوان: الخواء الثقافي وظاهرة انتشار المسوخ، تأملات من عصر العولمة، لتركي الربيعو، وقد نشر في صحيفة نزوى العمانية العدد الثاني والعشرون، وقد أحال النقول إلى مصادرها.(/18)
هذا نذر مما ذكره بعض الغربيين، ولاشك أنها أثار سالبة وأخطار فعلية، ولكن ليت الإعلام العالمي اكتفى بهذا، إن كثيراً مما سبقت إشارة إليه من مفاسد مترتبة على العولمة عامة والثقافية منها خاصة، تتحمل الوسائل الإعلامية وزرها، ولكن بالإضافة إلى ما ذكر من آثار سلبية، في العولمة الثقافية، على العقيدة خصوصاً وعلى الثقافة عموماً، نضيف ما أمور أخرى سلبية للعولمة الإعلامية:
1- مساعدة المخابرات الأجنبية في الوصول لأهدافها:
فقد كشف تقرير للجنة المواصلات الفيدرالية الأمريكية، أن (60) إذاعة بعد الحرب العالمية الثانية كانت مرتبطة ارتباطاً مباشراً بالمخابرات المركزية الأمريكية(1).
وقد ذكر أحد المسؤولين الأمريكيين –وكان يعمل في سفارة بلاده في إحدى الدول العربية- أن السفارة قد سيطرت على القناة التي تبث باللغة الإنجليزية، حتى قال: إن القناة تدار من السفارة بدلا من إدارة التلفزيون في ذلك البلد.
2- الاضطرابات:
فقد ذكر تقرير صادر من اليونسكو ما يلي:
إن إدخال وسائل إعلام جديدة وخاصة التلفزيون في المجتمعات التقليدية، أدى إلى زعزعة عادات ترجع إلى مئات السنين، وممارسات حضارية، وغالبا ما يصاحب فوائد الاتصالات الحديثة سلبية يمكن أن تشيع الاضطرابات بدرجة كبيرة في النظم القائمة(2).
3- الجريمة:
قال الطبيب النفسي (ستيفن بانا) الأستاذ بجامعة كولومبيا: إذا كان السجن هو جامعة الجريمة فإن التلفزيون هو المدرسة الإعدادية للانحراف(3).
وتوضح دراسات العالم الفرنسي (جان خيرو) أن أسباب سوء التكيف بين المنحرفين ترجع إلى مشاهدة أفلام العنف.
وتدل الإحصائيات الأخيرة التي أجريت في أسبانيا أن 39% من الأحداث المنحرفين قد اقتبسوا أفكار العنف من مشاهدة الأفلام والمسلسلات والبرامج العدوانية(4).
وفي دراسة لسلبيات التلفزيون العربي ذكر الباحث أن 41% ممن أجري عليهم الاستبيان يرون أن التلفزيون يؤدي إلى انتشار الجريمة، و 47% يرون أنه يؤدي إلى النصب والاحتيال(5).
وذكر الدكتور حمود البدر، إنه من خلال إحدى الدراسات التي أجريت على (500) فيلم طويل تبين أن موضوع الحب والجريمة والجنس يشكل 72% منها وتبين من دراسة أخرى حول الجريمة والعنف في مائة فيلم وجود (168) مشهد جريمة أو محاولة قتل. بل إنه وجد في (13) فيلما فقط (73) مشهدا للجريمة(6).
وقد قام الدكتور تشار بدراسة مجموعة من الأفلام التي تعرض على الأطفال عالميا فوجد أن 27.4% منها تتناول الجريمة(7).
من أخطر ما يخشى أن يؤثر فيها البث المباشر أخلاق الأمة وسلوكها.
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
ومن أبرز ما خلّفته الأفلام من شرور خلال السنوات الماضية ما أحدثته من خلل في أخلاق الرجال وأعراض النساء.
ويتخذ هذا الخلل عدة صور من أبرزها:
ا- شيوع الرذيلة وسهولة ارتكابها، حتى أصبحت أمرًا عاديا في بعض المجتمعات.
2- تفجير الغرائز والبحث عن سبل غير شرعية لتصريفها، وذلك لما يرد في الأفلام من عري فاضح، مع اختيار أجمل النساء للقيام بأدوار معينة في الأفلام، حتى إن بعضهن لا دور لها إلا عرض مفاتنها.
3- تعويد الناس على وسائل محرمة هي بريد للفتنة، وسبيل إليها، كالخلوة، و الاختلاط، و المغازلة.
4- الدعاية لأمور محرمة تؤدي إلى الانحراف، كدعايات شرب الخمر، والمسكرات بجميع أنواعها.
5- بث الأفلام الدعائية التي ترغب المشاهد في السفر للخارج، مع ما يحدث هناك بعد ذلك.
6- بعض الأفلام التي تدعو إلى المخدرات بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وبعضها يدعوا إلى أنواع مختلفة من الجريمة، يظهر دعاتها وكأنهم أبطال، فيأتسي بهم الجهال.
ومما يساعد على ذلك شيوع الأمية في عالمنا العربي والإسلامي وقد سبقت الإشارة إليه.
ولعل التأمل في الأرقام التالية يوضح ما سبق بيانه:
يقول الدكتور (بلومر): (إن الأفلام التجارية التي تنتشر في العالم تثير الرغبة الجنسية في معظم موضوعاتها، كما أن المراهقات من الفتيات يتعلمن الآداب الجنسية الضارة من الأفلام، وقد ثبت للباحثين أن فنون التقبيل والحب، والمغازلة، والإثارة الجنسية، والتدخين يتعلمها الشباب من خلال السينما، والتلفزيون)(8).
وتبين من خلال دراسة أجرتها هيئات أوروبية متخصصة أن متوسط مدة الإرسال التجاري اليومي 9 ساعات يتوزع كما يلي:
من 75% إلى 80% مواد وبرامج تسلية.
من 5% إلى. ا% برامج ثقافية ووثائقية.
5% تخصص للمعلومات.
من 2% إلى 10% برامج موجهة للشباب والرياضة(9).
وفي دراسة ذكرها الدكتور محي الدين عبد الحليم عن (الدراما) توصل فيها إلى ما يلي:
__________
(1) أقمار الفضاء غزو جديد ص 25.
(2) أصوات متعددة ص 338.
(3) الإعلام والبيت المسلم ص 113.
(4) الإعلام والبيت المسلم ص 115- 118.
(5) التلفزيون بين المنافع والأضرار ص 65.
(6) الحاجة إلى تنسيق وتكامل تربوي ص 14.
(7) بصمات على ولدي، طيبة اليحى.
(8) بصمات على ولدي، طيبة اليحى.
(9) مجلة اليمامة عدد (1038).(/19)
23% من الذكور يرون أنها مفيدة(1).
77% يرون أنها تؤدي إلى الانحراف وتدعو إلى الرذيلة، وتتنافى مع عادات المجتمع.
أما الإناث -وهنا الخطورة- فقد رأى قرابة 45% أنها مفيدة(2).
و 55% يرين أنها تؤدي إلى الشر والفساد والانحراف(3). ويلحظ الفرق بين النساء والرجال لسرعة تأثرهن في الغالب.
ومما تجدر الإشارة إليه -بل الوقوف عنده- مما يشكل خطرا على الأخلاق، وبخاصة على النساء والأطفال، موضوع الدعايات التلفزيونية، مع العلم أن هناك قنوات متخصصة في الدعاية التجارية فقط.
ولندع الأرقام تتحدث:
نوقشت رسالة ماجستير بعنوان: (صورة المرأة في إعلانات التلفزيون) وذلك في إحدى الدول العربية، اعتمد الباحث فيها على ما يلي:
1- تحليل مضمون (356) إعلانا تلفزيونيا، بلغ إجمالي تكرارها (3409) خلال 90 يوما فقط.
2- مسح شامل لإدارة الإعلانات بالتلفزيون.
3- مقابلات مع عدد من مديري وكالات الإعلان.
وقد توصل الباحث إلى عدد من النتائج من أهمها:
ا- استخدمت صورة المرأة وصوتها في (300) إعلان من (356)، كررت قرابة (3000) مرة في (90) يوما.
2- 42% من الإعلانات التي ظهرت فيها المرأة لا تخص المرأة.
3- سن النساء اللاتي خرجن في الدعاية من (15- 30) سنة فقط.
4- 76% من الإعلانات اعتمدت على مواصفات خاصة في المرأة كالجمال والجاذبية، و 51% على حركة جسد المرأة، و 12.5 % من هذه الإعلانات استخدمت فيها ألفاظ جنسية.
5- إن الصورة التي تقدم للمرأة في الإعلان منتقاة وليست عشوائية(4).
وإذا كان هذا الأمر في تلفزيون عربي عليه بعض الرقابة، وأغلب شعب هذا البلد مسلمون، فكيف بإعلانات دول الانحلال و الرذيلة ؟
وقام الدكتور سمير حسي(5) بإعداد دراسة حول (برامج وإعلانات التلفزيون كما يراها المشاهد والمعلنون) توصل فيها إلى ما يلي:
98.6% من الأطفال يشاهدون الإعلانات بصفة منتظمة.
96% من الأطفال يتعرفون على المشروبات المعلن عنها بسهولة (6).
96% قالوا إن هناك إعلانات يحبونها، ولذلك تجدهم يحفظون نص الدعاية، ويقلدون المعلن(7).
ويقول الدكتور محسن الشيخ: من أخطر البرامج المقدمة من خلال الشاشة الصغيرة هي الإعلانات التجارية، لأنها قصيرة ومسلية، وتحمل رسالتها إلى الأوتار العقلية فتوقظها (8).
أما الأطفال فقد قام الدكتور (تشار) بدراسة مجموعة من الأفلام التي تعرض على الأطفال عالميا فوجد أن:
29.6% تتناول موضوعات جنسية.
27.4% تتناول الجريمة.
15% تدور حول الحب بمعناه الشهواني العصري المكشوف(9).
وأخيراً هذه بعض الإحصاءات تبين آثار المواد التي تعرض بواسطة الإعلام(10):
أظهرت إحصائية ضمن رسالة علمية جامعية بعضاً من السلبيات المنعكسة على الأسرة (النساء بشكل أخص) بسبب متابعتها للقنوات الفضائية وجاء ضمن ذلك:
85% يحرصن على مشاهدة القنوات التي تعرض المناظر الإباحية.
53% قلت لديهن تأدية الفرائض الدينية.
32% فتر تحصيلهن الدراسي.
42% يتطلعن للزواج المبكر ولو كان عرفيا.ً
22% تعرضن للإصابة بأمراض نسائية نتيجة ممارسة عادات خاطئة.
ولا يعني ذلك أن كل ما جاء عن طريق نافذة العولمة باطل أثره سيء، ولكن المقصود التنبيه إلى السيء وبيان أثره، وأن العولمة إذا قبلت مطلقاً فهذا يعني قبول ما أشير إليه، أما إذا قبلت العولمة أن تخضع للموازين، فميزان شريعتنا أولاها، وعندها يمكن أن يقبلها المسلمون، كما أنها لو خضعت لميزان إحدى الأمم فسوف تقبلها تلك الأمة. وعندها لن تكون عولمة!
خامساً: الموقف الشرعي من العولمة.
__________
(1) لا تنظر إلى من هلك كيف هلك ولكن انظر إلى من نجا كيف نجا. لا تعجبن من هالك كيف هوى بل فاعجبن من سالم كيف نجا.
(2) لا تنظر إلى من هلك كيف هلك ولكن انظر من نجا كيف نجا.
(3) التلفزيون- مروان كجك ص 197.
(4) مجلة الإصلاح في دبي العدد (134) ذي الحجة عام 1409 هـ.
(5) أستاذ الإعلام بجامعة الإمام- كلية الدعوة والإعلام.
(6) ونحن نعلم أي مشروبات سيعلن عنها في البث المباشر؟.
(7) التلفزيون لمروان كجك ص 157.
(8) الحاجة إلى تنسيق وتكامل تربوي ص 10.
(9) بصمات على ولدي- طيبة اليحى، وماذا يقول الذين يدعون أنهم لم يروا ما يخدش الأخلاق الأصيلة، أو أنهم يراعون التوقيت لبرامج الأطفال.
(10) سلبيات مشاهدة القنوات الفضائية، نقلاً عن مفكرة الإسلام اليوم http://links.islammemo.cc/arkam/one_news.asp?IDNews=489.(/20)
يرفض قطاع عريض من البشر العولمة كما سلف، ولكن رفضه من قبل المسلمين أشد، وليس ذلك للتصور الذي يحاول أن يرسمه بعض الغربيين، فبعض مثقفيهم نمى إلى علمه أن الله هو الذي يشرع لعباده في نظر المسلمين فقرر متوهماً أنه "لا توجد، بالنسبة إلى المسلم سلطة تشريعية بشرية، اللَّه هو الوحيد مصدر القانون"(1)، وردّد قوله هذا (لوي غارديه) فقال: "اللَّه هو الشارع بامتياز"(2).
ولاشك أن المسلمين يؤمنون بأن التشريع من خصائص الربوبية (ألا له الخلق والأمر)(3) (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله)(4)، (ولا يشرك في حكمه أحداً)(5)،قال العلامة الشنقيطي رحمه الله: "ولما كان التشريع وجميع الأحكام، شرعية كانت أم كونية قدرية، من خصائص الربوبية.. كان كل من اتبع تشريعاً غير تشريع الله قد اتخذ ذلك المشرع رباً، وأشركه مع الله"(6).
ولكن ما يغفل عنه هؤلاء هو أن المقصود بهذا كل تشريع يتعبد به الناس، ولهذا قال (من الدين)، فكل ما شرعه الله ديناً لا تجوز مخالفته، وكل تشريع في الدين بغير دليل باطل يرد ولا يقبل (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)(7)، ولا يعني هذا المنع من وضع قوانين تنظم الأمور الدنيوية والحياتية وتحكم الوسائل وفقاً للشرع فيما سُكت عن النص عليه، فضلاً عن عد ذلك مصادماً لتشريع الله كما قالت الكنيسة! ولكن يجب أن تكون تلك القوانين والنظم تحت إطار تلك التشريعات الربانية والموجهات العامة والخاصة، وهذا ما فهمه من أنزل عليهم الوحي، وخاطبهم النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا أشد هذه الأمة تمسكاً بما جاء به، ففي تاريخنا نجد أن أول من دون الدواوين، وجعلها على الطريقة الفارسية, لإحصاء الأعطيات وتوزيع المرتبات لأصحابها حسب سابقتهم في الإسلام، وأول من استحدث التأريخ الهجري، وأول من وضع وزارة للمالية (بيتاً للمال)، هو الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
فالشارع الحكيم وضع أحكاماً عامة وخاصة في كثير من الأمور الحياتية الدنيوية، وأوكل مهمة سن الآليات التنفيذية والقضايا التنظيمية إلى البشر، بحسب ما يتوفر لهم من وسائل قادتهم إليها مبتكرات عصرهم، ما لم تخالف الشرع، وفي صحيح مسلم عن عائشة وأنس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنتم أعلم بأمر دنياكم)(8).
فلم يمنع الإسلام فيما يتعلق بأمور الدنيا وتنظيم المعاش من سن تشريعات ليست من الدين ولكنها تنظم أمر المعاش، شريطة أن تكون خاضعة للتشريعات الإلهية العامة والخاصة لا تناقضها، تقود إلى العمل بها لا تعارضها.
وبناء على هذا، فالإسلام يرفض العولمة لكونها غير خاضعة لتشريعاته السمحة، التي جاءت لهداية البشرية وإرشادها للطريق الأقوم، وهذا يعني أن رفض الإسلام للعولمة معللاً لاعتقاد المسلمين أن تشريع الخالق العليم أحكم، (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)(9)، وليس هذا الرفض رفضاً مجرداً عن التعليل أو تقديم البديل، ولكنه رفض مع تبين الطريق الأرشد، كما أنه ليس رفضاً مطلقاً لكافة تفاصيل العولمة وآلياتها، ولكن لما خالفت فيه التشريعات الربانية، بحجة تحصيل المصلحة الشخصية أو المحدودة على حساب مصلحة الأمم والمجتمعات.
والحقيقة التي لابد من الاعتراف بها، أن للعولمة قوانينها ونظمها، وهذه القوانين والنظم لابد لها من يحكمها، فمن يكون؟
لسان حال دعاة العولمة يقول: يحكمها الأقوى وفقاً للمصالح التي يراها، فيجيز ما أراد ويمنع ما أراد، ويقترح السبل والوسائل التنظيمية التي أراد.
وهذا ما يرفضه قطاع عريض، وتيارات متباينة من البشر، فليست مصلحة الأقوى أولى، وليست شريعة الغاب، دستوراً يُرضى.
أما المسلمون فيقولون: يحكمها الأصلح للبشرية جمعاء، وهذا له شقين، شق نزل من السماء، وأهل الإسلام يؤمنون بأنه الأصلح، فعلى الأقل ليس لغيرهم أن يلزمهم بسواه، ولهم أن يدعوا الناس لهداه، وشق آخر لا يعارض ما جاء به الأنبياء، فهو محل نظر وتقييم ولكل رأيه الذي من حقه أن يبديه، ولكل نظامه الذي يرتئيه.
الفرق بين رفض العولمة والتعامل معها بسياسة الرفض:
إن رفض العولمة، لا يعني الانزواء في ركن قصي، مع المبالغة في إغماض العينيين، فهذا أمر لا يليق بأمة الرسالة، التي بعثها الله لتخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.
__________
(1) زاعمه هو (برنارد لويس) وهو كما يقول عنه فهمي هويدي: "صاحب الموقع المشهود في معسكر الخصوم الذين يتحدثون عن الأمة باحتقار وازدراء شديدين".
(2) الحياة الاجتماعية والسياسية في المدينة الإسلامية، مجلة المقاصد، العدد 12، ص137.
(3) سورة الأعراف جزء من الآية: 54.
(4) سورة الشورى: 21.
(5) سورة الكهف جزء من الآية: 26.
(6) أضواء البيان 7/169.
(7) حديث عائشة وهو متفق عليه انظر البخاري 2/959، ومسلم 3/1343.
(8) صحيح مسلم 4/1836.
(9) سورة الملك: 14.(/21)
ومن الملحوظ على هذه الأمة في عصورها المتأخرة، مواقف السلب وعدم الإيجابية، فقد رضيت أن تكون في صفوف المتفرجين، وعلى هامش الحياة، فإذا ما وقع حدث ما أو كاد أن يقع، هبت تصرخ وتولول، وتنادي بالويل والثبور وعواقب الأمور.
إن أمر هذه الأمة أمر عجب، فلم يكن هذا دأبها فيما مضى، وليست هذه سِمَتها، ولم يكن كذلك سَمْتها، بل كانت هي الأمة الرائدة، الأمة القائدة، فهل عقمت؟ أم ماذا حل بها؟ وما سر تغير حالها وتبدل شأنها؟
تأملت هذا الواقع فأزعجني ما أرى، وأقض مضجعي ما أشاهد، ثم ازددت يقينا أن سر قوة هذه الأمة، ومكمن عزها، ومنبع مجدها، هو في دينها وعقيدتها، ومدى التزامها بمبادئها. ولا يعود هذا إلى أصلها ونسبها ولغتها، كما تصور الواهمون ونادى المضللون.
لذا فإننا سنظل عالة على الأمم، كالأيتام على موائد اللئام، والخدم في قصور الأسياد، ما لم نعد إلى ديننا، ونعرف حقيقة عزنا ومجدنا (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ )(1).
وهناك لن نقف مكتوفي الأيدي أمام مكائد الشرق ومؤامرات الغرب، بل سيهرع الشرق والغرب والشمال والجنوب يخطب ودنا، ويستجدي رضانا، ويتسول ما يفيض به كرمنا، مع أننا سنكون أكرم من أن ننتظر السائل حتى يسأل والمحتاج حتى يطلب، وسنجود بمهجنا وأرواحنا -فضلا عن أموالنا- في سبيل نشر عقيدتنا، وترسيخ مبادئنا، إذا أصر الظالمون إلا على الحيلولة بيننا وبين نشر الخيرية التي منحنا الله إياها.
إن هذه الأمة لم تعقم، ولن تعقم بإذن الله، والطريق أمامنا مفتوح، والسبيل سالك والمنهج واضح، فعلينا أن ننبذ الكسل والخمول:
لا تصحب الكسلان في حالاته
عدوى البليد إلى الجليد سريعة ... كم صالح بفساد آخر يفسد
كالجمر يوضع في الرماد فيخمد
ولكن علينا أن ندرك أنه لا بد من تحمل الصعاب وبذل المهج والأرواح وإلا:
فمن يتهيب صعود الجبال ... يعش أبد الدهر بين الحفر
وإذا كانت النفوس كبارا ... تعبت في مرادها الأجسام
وبذلك يكون يصدق فينا قول الله عز وجل:
(كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ )(2).
وحتى يتحقق هذا الأمل الموعود لابد من العمل على محاور ثلاثة:
المحور الأول: تطوير النظم الإسلامية وآليات تفعيلها، ثم تطبيقها في المجتمعات الإسلامية، ومن ثم إخراجها للناس، ودعوتهم إليها.
المحور الثاني: بيان ما في العولمة الوافدة من مثالب، وبيان الحلول الشرعية، والبرامج الإسلامية التي يمكن أن تحل محلها، مع توضيح الوجه الذي جعلها تفضل غيرها.
المحور الثالث: تحصين المجتمع المسلم من مثالب العولمة، وما فيها من أخطاء.
وجماع هذا كله، بناء المجتمع المسلم، المؤهل في كافة المجالات، وعلى أكتاف هذا المجتمع تقوم الدول التي إن قالت سمع لها.
وقد شاركت في ندوة بجامعة أم القرى حول البث المباشر(3) وبعد انتهاء الندوة قام الأستاذ أحمد محمد جمال(4) فعلق على الندوة بكلام جيد، وكان مما قال:
"إن الحل أو المواجهة ليست بأيدي الشعوب المستضعفة، كما لا يمكن ولا يجوز الانتظار حتى نصلح شأننا، ونقوم إعوجاجنا، ولكن الحل أو المواجهة بأيدي ولاة أمور المسلمين -على مد أقطارهم- فهم أصحاب السلطة المادية والسياسية والتنفيذية، وهم القادرون على التجمع والاتفاق على خطة للمواجهة الجماعية.
ولاة أمور المسلمين هم القادرون على المواجهة بالأسلوب الذي يتفقون عليه، سواء أكان....، أم بمقاطعة دبلوماسية واقتصادية وسياسية للدول صاحبة هذه الأقمار المعادية، أو انسحاب جماعي من المنظمات الدولية، أم بأية وسيلة حاسمة يتفقون عليها، ويبادرون بتنفيذه دون إبطاء ولا استثناء"(5).
وما ذكره الأستاذ أحمد من الحلول الحاسمة لأحد مظاهر العولمة (البث المباشر)، أتفق معه فيه على وجه الإجمال، ويصلح أن يقال حول مظاهر العولمة الأخرى، وإن كنا لا نتوقع حدوث ذلك، في واقعنا الحاضر، ولكن مع العمل الدؤوب في بناء المجتمعات، والجيل الذي يمثل مؤسسات الدولة وقطاعتها المختلفة، فسنصل إلى نتيجة، كما وصل سلفنا الصالح ونبينا الكريم والذي بدأ دعوته فرداً.
__________
(1) سورة المنافقون آية: 8.
(2) سورة آل عمران آية: 110.
(3) وذلك في 15-8 -1410 هـ وقد شارك في الندوة كل من د/ عبد القادر طاش و د/ أحمد البناني وذلك بدعوة من رئيس اللجنة الثقافية د/ عبد العزيز العقلا.
(4) الأستاذ بجامعة أم القرى والكاتب المعروف.
(5) انظر مجلة التضامن الإسلامي عدد شوال 1410 هـ حيث نشر هذا الكلام، وقد اقتصرت على مكان الشاهد.(/22)