أيها المؤمنون إن أخطر شيء تواجهه الأمة الإسلامية هو الخضوع والاستسلام والتشاؤم واليأس والشعور بأننا لم نخلق إلا للخضوع والخنوع، والعيش على هامش الحياة عالة على أعدائنا. والتعامل مع الحوادث والأشياء تعاملاً مادياً صرفاً ناسين الله جل جلاله وفعله وبطشه وقدرته، ونصره لأوليائه متى ما آمنوا واستقاموا، وانتقامه من أعدائه.
إنها سنة مطردة وقانون مستمر ? كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ?[ المجادلة:21]
? وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ?[الصافات:171-173].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وجعلنا به من المؤمنين العاملين.
الخطبة الثانية:
في كل زمن يظهر فراعنة يظلمون الناس ويستعبدونهم مستخدمين سياسات الذل والقهر والاستبداد مع الشعوب .. غير أنه في كل زمن يسلط الله على فرعونه من ينغص عليه عيشته ويقض مضجعه من قِبَلِِِ من لا يأبه له أيكترث به من الضعفاء والمقهورين.
إن فيما قصه الله علينا من نبأ موسى وفرعون تقرير لحرية الشعوب وحقها في التخلص من استعباد الأقوياء المستكبرين لقد امتن الله على بني إسرائيل عندما حررهم من ذل الاستعباد الذي ذاقوا أهواله حيناً من الدهر وذلك في قوله سبحانه: ? وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ?[القصص:5]. وفي هذا بيان وإعلان للبشرية بأنه ليس من حق أمة أن تستضعف أمة غيرها وتستعبدها وتخضعها لقوتها وسيطرتها وتستغل مواردها وثرواتها وتذيقها ألواناً من الظلم والبطش، فإذا فعلت ذلك كان الله في عون المستضعفين الباحثين عن الحرية والكرامة ، فينصرهم الله ويحررهم من ربقة الاستعباد والطغيان ، والتاريخ يحمل في طياته الأدلة والبراهين الكثيرة على أمم تحررت من سيطرة المستبدين الظالمين. وكانت عاقبتهم وخيمة إذ انقض عليهم المستضعفون وانتقموا منهم أشد انتقام.
إن الناس إذا رضوا بالظلم فإن الله يسلط عليهم الظلمة ويبقى الحال كذلك ما بقي الناس راضين بحالهم ، حتى إذا ما شعروا بالذلة، وأحسوا بالعبودية والقهر وبدؤوا يستنكرون ذلك، وصمموا وعزموا على الخلاص منه .. هنالك يمنُّ الله عليهم بنصره وتأييده ما كانوا أهلاً لذلك، فيجعلهم سادة بعد أن كانوا عبيداً، وحاكمين بعد أن كانوا محكومين.
فبنوا إسرائيل الذين كان يستضعفهم فرعون قد مكن الله لهم في الأرض وأهلك عدوهم وأورثهم الملك والسلطان بعد رحلة طويلة من المعاناة والجهد والابتلاء.
ورسول الله r والقلة المؤمنة التي كانت معه في مكة كانوا يعانون ظلم وطغيان وجبروت قريش ، غير أنه في نهاية المطاف مكن الله لدينه ونبيه والمؤمنين فنصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده.
ولقد مرت أمتنا الإسلامية في تاريخها الطويل بفترات ضعف وغثائية نال منها أعداؤها لكنها سرعان ما تستعيد عافيتها، ويمن الله عليها بالعزة والنصر. وفي تاريخنا المعاصر نماذج من الشعوب التي كانت مقهورة مستذلة مستضعفة غير أنها هبت من رقدتها وانتفضت على الظلم والظالمين.
هؤلاء الصليبيون الحاقدون الذين اتفقوا فيما بينهم على محاربة المسلمين وإسقاط وحدتهم السياسية التي كانت تمثلها الخلافة العثمانية، واستيلائهم على بلدان العالم الإسلامي فيما عرف بالاستعمار، وطبقوا في حق الشعوب سياسات إجرامية فضيعة، إلا أن المستضعفين من المسلمين هبوا لكفاح المستعمرين وجهادهم حتى أخرجوهم من ديارهم .. صحيح أن المستعمرين .. عملوا على إبقاء سياستهم وبرامجهم مهيمنة .. وحاولوا وضع السلطة في أيدي عملائهم إلا أنهم في غاية الخوف والقلق من المسلمين يخشون سطوتهم.(/6)
ولقد تجسد الحقد اليهودي والصليبي في الدولة العبرية التي تعاونوا على غرسها في قلب العالم الإسلامي وأمدوها بكل أسباب التفوق والبقاء من المال والسلاح ، حتى غدت دولة اليهود هي الدولة القوية المتطورة يرتجف منها القادة والزعماء ويخشون سطوتها ، إنها قوة مادية ضخمة وترسانة حديثة ومتطورة، إلا أن الله عز وجل قيض لها من يقاومها ويراغمها !! من الضعفاء من الأطفال ولكنهم كبار في أعمالهم يواجهون الصواريخ والطائرات وكافة الأسلحة بالحجارة ويدافعون عن الدين والمقدسات. إن رجلاً مقعداً مثل الشيخ أحمد ياسين يحسب له اليهود مالا يحسبونه لكل زعماء الدول العربية .. إن قدر الله غالب ، ومشيئته ماضية ، لا راد لقضائه ولا مبدل لكلماته ومهما طال الطريق وزادت المعاناة إلا أن العاقبة والنهاية والمآل للمتقين. فها هي القوى العالمية تسعى لإيقاف الانتفاضة ولكنها تفشل لأن الله يريد ولا راد لأمره "أن يمن على الذين استضعفوا"، والاتحاد السوفييتي الذي كان يخيف الشرق والغرب أرأيتهم كيف مزقهم الله وكسر شوكتهم وقضى على هيمنتهم إن مما لا شك فيه أن اعتداءهم على أفغانستان كان من أهم عوامل إضعافهم وانتكاسهم على أيدي شعب أعزل إلا من الإيمان والمقاومة والصمود في وجه الطغيان. وها هي أمريكا اليوم تخرج بقضها وقضيضها وأسلحتها ونفوذها لمحاربة المستضعفين واستخدام السياسة الفرعونية في الذبح والتقتيل والقصف والتدمير خوفاً وفزعاً من قيام دولة إسلامية تقضي على هيمنها وتزيل كبرياءها وغطرستها. لقد قال أحد رؤساء الاتحاد السوفييتي السابق بعد غزوهم لأفغانستان:إنه الجرح الذي لا يندمل وقد صدق وهو كذوب لقد كان جرحاً قاتلاً .. وبناء على الاستقراء والتتبع لسنن الله في الطغاة الظالمين .. فإن أمريكا قد وقعت في الشراك، وساقها الله بظلفها إلى حتفها، وسيرينا الله عاقبة أمرها وإن طال الزمن ، فإن النزيف من الجرح الذي أصابها سيقضي عليها ، والله غالب على أمره.(/7)
درّة الأقصى مُحمَّد الدرّة
وأبوه جمال الدرّة
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
ضُمَّني يا أبي إِلَيْكَ ! فَإِني ... ... خائفٌ ! والرصاص حولي شديدُ
ضُمّني ! و احمني ! فما زالَ يَنصَـ ... ... ـبُّ علينا رَصَاصُهُمْ و يَزيدُ
لا أرى في يَدَيكَ أَيَّ سلاح ... ... لا ولا في يَدِيْ سلاحٌ يُفيدُ
كيف نلقى عدوّنا عُزَّلاً و هْـ ... ... ــوَ لديه سلاحُه والحشودُ
ضُمَّني ! ضُمَّني ! ولسْتُ جباناً ... ... إنّ عزمي ، كما علمتَ ، حديدُ
أنا من أُمّة بَناهارسول اللّـ ... ... ـه والوحيُ والكتاب المجيدُ
غيرَ أنّ الهَوَان رُعْبٌ فَفِيه ... ... نُذُرٌ وَ لْوَلَتْ و فيه وَعيد
نَزَع الذُلُّ عن مَحَيّايَ آما ... ... لاً وغابَتْ مَعَ الفَضاءِ الوعودُ
هاهم المجرمون ! ويحي ! وحوشٌ ... ... نَفَرتْ أم جحافِلٌ وجنودُ
أقبلوا يا أبي ! و دوّى رصاصٌ ... ... كلُّ ساحٍ عواصفٌ ورعودُ
... * * * ... * ... * * * ...
لا تخفْ يا بُني ! صبراً ! فإن اللّـ ... ... ـه يقْضي مِنْ أمره ما يُريدُ
وحْدَنا نحنُ يا بُنيَّ ! فَصَبْراً ... ... كلُّ ركنٍ نَرْجُو حِماهُ بَعيدُ
كيفَ جِئنا هُنا ! و كيفَ حُصِرنا ... ... لا أرى ملجأً إليه نَعودُ
إنّه الله وحْدَه ملجأ الخا ... ... ئف يأوي إلى حماه الشريدُ
... * * * ... * ... * * * ...
عجباً يا أبي لَديْهِمْ سِلاحٌ ... ... فاتِكٌ نارُه لظىً و وَقُودُ
... * * * ... * ... * * * ...
جَرَّدونا بُنيَّ منه ! رَمَوْنا ... ... ثمَّ دارَتْ بنا ليالٍ سُودُ
... * * * ... * ... * * * ...
قلتَ لي يا أبي : مَلايينُ هُمْ في الـ ... ... أرض ، نْحنُ المليارُ أوقَد نَزيدُ
هل يَرانا الأرحام في الأرض ؟ هل هَـ ... ... ـبَّ أبيٌّ أو مُشْفِق ،أو نجيدُ
أين إخواننا ؟! وأين بنو العَمِّ ؟! ... ... وأيْنَ الأَخوال ؟! أين الجدود ُ؟!
... * * * ... * ... * * * ...
وتوالى الرّصاص ! و الموتُ دفّا ... ... قٌ و دوّى نداؤه المفؤودُ
شَدَّهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ واستغاثتْ ... ... أضلُعٌ أو حناجِرٌ أو زُنُودُ
... * * * ... * ... * * * ...
يا أبي ..! يا .. .. ! وغابَ منه نِداءٌ ... ... و طوتهُ عَنّا فيافٍ و بيدُ
أسْكَتَتْهُ رصَاصَة ورماه ... ... في ذراعَيْ أبيه قلبٌ حقودُ
ضمَّه ضمة المودّع ! والدمْعُ ... ... لهيبٌ على الهوان شَهيدُ
أسكتتْهُ رصَاصَةٌ ثمَّ أُخْرى ... ... و طوى صَوَتَه النّديَّ حدودُ
رجّعَتْهُ كلُّ الرّوابي دوِيّاً ... ... وصداه على الزّمانِ جَديدُ
غيرَ أن الآذانَ صُمَّتْ فأغْفَتْ ... ... أعْيُنٌ دُونها و نامَتْ جُهودُ
ضمّه ضَمّةً إلى الصدْر ِ يَسْـ ... ... ـكُب فيها حَنانَه ويجودُ
الحنانُ الندي ! و الأمَلُ الضا ... ... ئعُ ! تيهٌ أمامه ممدودُ
كلُّ ساحٍ مع الضجيج خلاءٌ ... ... كلُّ دْربٍ أمامَهُ مَسْدودُ
أفرغَ الشوق َ فوقَهُ فَجَرتْ ... ... بالشَّوقِ منهُ دماؤه والوريدُ
... * * * ... * ... * * * ...
وابلُ من رصاصهم صُبّ ! لكن ... ... رَمَق لم يَزَلْ لديه يجودُ
مالَ للخَلْفِ وارتخى ساعِداهُ ... ... وارتخى مِنْه عزمُه المشهودُ
همّ ! لو يستطيع ضمّ فتاه ... ... ودمٌ فائرٌ و شوقٌ يزيد
أفْلتَ الطفل من يَدْيـ ... ... ـه ! فَضَمَّتْهُ قلوبٌ و فيّةٌ و كبودُ
... * * * ... * ... * * * ...
كمْ أَبيٍّ تَراهُ يَقْتَحِمُ النَّا ... ... رَ مُغِيثاً ! هوى ! فَجَلَّ الصمودُ!
كمْ أبيٍّ تراهُ هبَّ فأَرْدا ... ... هُ شَتِيْتٌ من الرصاص بَديْدُ
كمْ صَبِيٍّ هَوى هناك و طِفْلٍ ... ... فوَّح الساحُ منهمُ و النجودُ
كم شَبابٍ تواثبوا وكهولٍ ... ... وشيوخٍ إلى الميادين نودوا
صُرعوا كُلُّهمْ فهبَّتْ طُيوفٌ ... ... مِنهُمُ تلتَقي و هَبَّتْ شُهُودُ
أقْبلُوا كُلُّهمْ يضمّون طيفاً ... ... مِنْ مُحَيَّاكَ يجْتَلي و يرودُ
مَوْكِبٌ في معالم الغيب يجلو ... ... آيةً من نِدائِه ويُعيدُ
أيها المؤْمِنونَ قُوموا إلى السَّا ... ... حِ ! إلى جَولةٍ هناكَ ! وجُودوا
... * * * ... * ... * * * ...
أيها الطِّفل ! لا تَهُنْ ! حولك اليـ ... ... ـــوم قُلوبُ تفتّحتْ وحشودُ
الملايينُ من حَواليكَ هَبُّوا ... ... وتداعَتْ حناجِرٌ و زنودُ
كمْ وفيٍّ هناك هبَّ ولكنْ ... ... أقْعَدَتْه عن الوفاء السدودُ
وملايين من حواليك غابوا ... ... في سُبَاتٍ يطول فيه الركُودُ
... * * * ... * ... * * * ...
أيُّها الطِّفْلُ ! أنْتَ نَفْحةُ طِيْبٍ ... ... ورُؤى أُمَّةٍ وفتْحٌ جَدِيد ُ!
أنْتَ أنشودَةُ الزّمان ! و معنىً ... ... عَبْقَريٌّ بها ! و لحْنٌ فَريدُ !
كلُّ جُرْحٍ على مُحَيَّاك مِسْكٌ ... ... نَشْرُه رَوْح جَنَّةٍ و خلودُ
دَمُكَ الحرُّ ! يملأ الأفْقَ نوراً ... ... لم يزل دفقُه الغنيُّ يزيدُ
دَمُكَ الحرُّ ! قطرة منه يُجْلى ... ... بين أنوارها الكميُّ النَّجيدُ
دَمُكَ الحرَّ ! قطرة منه تُحْييْ ... ... أُمَّة تعتلي0 الذرا و تسودُ(/1)
دَمُكَ الحرَّ ! قطرَةٌ منه توفي ... ... بلهيب على البطاح يعودُ
... * * * ... * ... * * * ...
الشعاراتُ كلها سَقَطَتْ في الأر ... ... ض وأهوتْ مزاعمٌ و وُعُود
و الليالي تحفّزت لِوُثُوبٍ ... ... بالمنايا و جُنَّ فيها الرعودُ
والرياحُ الهوجاء تعصف بالأر ... ... ض فتهوي شوامخٌ وسدودُ
انهضي ! أُمّتي ! أفيقي ففي الدر ... ... بِ دواهٍ يَشيب منها الوليدُ
... * * * ... * ... * * * ...
الجمعة 9 رجب 1421هـ
6/10/2000م
طبعة أولى ... ... ...(/2)
دسائس اليهود وخياناتهم
الحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ?يا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجَالاً كَثِيراً وَنِساءً، واتَّقُوا اللَّهَ الذي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً?[ النساء : 1]. ?يا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وأَنْتُمْ مُسْلِمُون? [آل عمران: 102]. ? يا أيُّهَا الَّذين آمَنوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمالَكُمْ، ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً? [الأحزاب:71].
اليهود الذين يزيّنهم إخوانهم من المنافقين الذين يسارعون فيهم، ويخادعون أمتهم ودينهم وأوطانهم حين يكذبون ويفترون ويضعون السموم للإسلام وأهله .. حقيقة اليهود الذين يقدمون لنا اليوم على أنهم أصدقاء وباحثين عن الأمن والسلام.. هم في واقع الحال كتلة من الإجرام واللؤم والغدر والخيانة، هذه حقيقتهم كما وصفهم الله لنا في كتابه الكريم فقد أطنب القرآن الكريم في ذكر اليهود والنصارى أهل الكتاب ونبأنا من أن أخبارهم وأعمالهم الشيء الكثير ولا سيما فيما يتعلق بمعاملتهم للآخرين من نقض العهود والمواثيق وعدم الالتزام، مع الغدر والخيانة والكذب والافتراء والتحريف ، لقد نقضوا ميثاقهم مع الله فهم ? الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ... ?[ البقرة:27] وهم الموغلون في الخيانة والغدر، قال الله عنهم كاشفاً عن نفسياتهم المنتنة وأخلاقهم القبيحة.. ? فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ?[المائدة:13].
وصدق الله.. وكذب المنافقون والعلمانيون والدجالون الذين يروجون لليهود بيننا فهذه صفات اليهود التي لا تفارقهم، فلعنات الله تلاحقهم، فهم مطرودون بعيدون عن رحمة الله، قست قلوبهم وتحجرت فلم يعد فيها مكان للخير ولا للرحمة، قد خلت من المشاعر الإنسانية هذه حقيقة اليهود مهما حاولوا مكراً وخديعة أن يظهروا خلاف هذا المظهر من إبداء اللين في القول، والنعومة في الملمس عند الكيد والتآمر وعند الغدر والخيانة لهذا حذر الله نبيه صلى الله عليه وسلم من خيانتهم فقال: ?... وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ ...? [المائدة:13].
إن خيانات اليهود شاملة لكل النواحي والجوانب فهم خائنون مع أنبيائهم، وهم خائنون مع المسلمين وهم خائنون مع حلفائهم، خائنون مع الناس جميعاً. بإمكانك أن تطلع على خائنة منهم في كل مجال، خائنة في أقوالهم، وخائنة في حركاتهم، وخائنة في أعمالهم، وخائنة في عهودهم ومواثيقهم.
جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجراً إلى المدينة المنورة فلما استقر به المقام، وضع دستوراً للمجتمع المدني الذي كان اليهود يشكلون جزءاً منه ، فأحسن صلى الله عليه وسلم معاملة اليهود ولم يؤذهم وصان حقوقهم، وحقن دماءهم.. ولكن يهود جبلوا على الغدر والخيانة، والإساءة إلى من أحسن إليهم .. فقد قابلوا هذه المعاملة الحسنة بإساءات متكررة، بل عمدوا إلى محاولات عديدة لقتل النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا ليس غريباً عليهم فهم الذين يتعاملون مع أنبياء الله ورسله بإحدى طريقين إما بتكذيبهم وإما بقتلهم كما قال تعالى عنهم: ? َفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ ?[البقرة:87 ] فاليهود لم يكفوا عن إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم ونقض المواثيق والعهود التي كانت تبرم بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ولم يألوا جهداً في الخيانة والمكر والدس.
ومن صور غدرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم أن بني النضير أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلبون منه أن يأتي إليهم في ثلاثين رجلاً من أصحابه وهم يحضرون ثلاثين حبراً من أحبارهم ليلتقوا في مكان حددوه للمناقشة والحوار فإن صدقك الأحبار وآمنوا بك آمنا كلنا.
فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثين رجلاً كما طلبوا وخرج إليه ثلاثون حبراً من اليهود حتى إذا برزوا قال بعضهم كيف تخلصون إليه ومعه أصحابه كلهم يجب أن يموت قبله؟(/1)
فقالوا للرسول صلى الله عليه وسلم كيف نفهم وتفهم ونحن ستون رجلاً، أخرج إلينا في ثلاثة من أصحابك ونخرج إليك في ثلاثة من علمائنا فليسمعوا منك فإن آمنوا بك آمنا كلنا وصدقناك. وانتبدوا ثلاثة منهم معهم الخناجر وقد أزمعوا على الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن الله تعالى أطلع نبيه على غدرهم وخيانتهم فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وتركهم.
وفي السيرة النبوية أن بعضهم خلا إلى بعض ورسول الله صلى الله عليه وسلم بجوار بيت أحدهم يتحدث معهم. فقالوا إنكم لن تجدوا الرجل على مثل هذه الحالة، فمن رجل يعلوا على هذا البيت فيلقي صخرة عليه ويريحنا منه، وانتدبوا لذلك أحدهم .. فصعد ليلقي عليه الصخرة كما قال وينفذ الجريمة ولكن الله أطلع نبيه على خيانة يهود وغدرهم فقام وخرج راجعاً إلى المدينة ثم غزاهم في اليوم الثاني وأدبهم وأجلاهم عن المدينة.
وبقي الحقد هو الذي يغذيهم ويدفعهم فقد سلكوا طرقاً عديدة كلها تنضح خيانة وحقداً لمحاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قاموا بعمل دس حرضوا فيه أهل الشرك والوثنية على حرب النبي صلى الله عليه وسلم واستئصال الإسلام وأهله وحاولوا أن يضعوا السحر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسحره لبيد بن الأعصم اليهودي..
وحاولوا وضع السم للنبي صلى الله عليه وسلم في الطعام فقد كلفوا امرأة منهم تقوم بهذه المهمة حيث أهدت شاة مشوية قد حشتها سماً فأكل منها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكل منها بعض الصحابة فمات ونجى الله رسوله فجيء بالمرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن سبب فعلتها فقالت أردت قتلك، فقال: "ما كان الله ليسلطك على ذلك, عليَّ، فقال بعض الصحابة ألا نقتلها، قال : لا".
وفي رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أكل من الشاة قال: اجمعوا لي من ها هنا من اليهود . فجمعوا له ، فقال صلى الله عليه وسلم: "إني سائلكم عن شيء فهل أنتم صادقوني عنه، فقالوا نعم يا أبا القاسم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبوكم؟ قالوا أبونا فلان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كذبتم بل أبوكم فلان" فقالوا صدقت وبررت. فقال : هل أنتم صادقوني عن شيء إن سألتكم عنه؟ فقالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبناك عرفت كما عرفته في أبينا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أهل النار؟ فقالوا: نكون فيها يسيراً ثم تخلفونا فيها، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : اخسئوا فيها والله لا نخلفكم فيها أبداً، ثم قال هل أنتم صادقوني عن شيء إن سألتكم عنه؟ فقالوا: نعم، فقال: هل جعلتم في هذه الشاة سماً؟ فقالوا: نعم، فقال: وما حملكم على ذلك؟ فقالوا أردنا إن كنت كاذباً أن نستريح منك، وإن كنت نبياً لم يضرك.
وما تزال هذه حالهم وهذه طبيعتهم في المجتمع الإسلامي على مدار التاريخ. على الرغم من أن المجتمع الإسلامي هو المجتمع الوحيد الذي آواهم ، ورفع عنهم الاضطهاد ، وعاملهم بالحسنى، ومكن لهم من الحياة الرغيدة فيه، ولكنهم كانوا دائماً كما كانوا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم – عقارب وحيات وثعالب وذئاباً تضمر المكر والخيانة.. ولا يتوانون لحظة عن المكر والغدر إن قدروا على التنكيل الظاهري بالمسلمين فعلوا ، وإلا لجئوا في حال ضعفهم إلى المؤامرات والدسائس ونصبوا الشباك للمسلمين وأقاموا لهم المصائد، وتآمروا مع كل عدو للإسلام والمسلمين، لينزلوا بهم المصائب ويتحينون الفرص للانقضاض عليهم قساة جفاة لا يرحمون ولا يرعون فيهم عهداً ولا ميثاقاً.. هذه هي حقيقة اليهود الذين يحتفى بهم اليوم ويستقبلون.
راجعه/ عبد الحميد أحمد مرشد.
صحيح مسلم: كتاب السلام : باب السم: الحديث رقم: (2190) عن أنس رضي الله تعالى عنه .
صحيح البخاري: كتاب الطب: باب: ما يُذكر في سَمِّ النبي صلى الله عليه وسلم: الحديث رقم:(5441)عن أبي هر(/2)
دستور المستضعفين (1/2)
أ. د. عماد الدين خليل 29/3/1426
08/05/2005
في مقابل الحملة الشاملة الحاسمة الرهيبة على ظاهرتي (الترف) و(الغنى الفاحش) في التجربة الاجتماعية، ما الذي يقدمه القرآن الكريم عن الفقر والفقراء والمساكين والمعدمين؟ هل هي دعوة للتبرع لهم والإحسان إليهم فحسب؟ فأين إذن السلطة الإسلامية؟ وهل يمنع هذا الأسلوب (الأدبي)، دونما ضمانات تشريعية، ظهور وتضخم طبقة المترفين وتحول المال إلى دولة بين الأغنياء؟ ما الذي دفع القرآن الكريم إلى أن يعرض في عشرات المواضيع مسألة (الإنفاق) على الفقراء، و(الحض) على إطعامهم، بكل ما يتضمنه فعل (الحض) من قوة وفاعلية لتحقيق هذا الهدف، وهو إشباع الجائعين وسد حاجاتهم الأساسية؟ ومن أولى من السلطة المشرعة والمنفذة، بالتخطيط لهذا المطلب الحيوي الخطير وتنفيذه في عالم الواقع ، بما تمتلكه من قوة وفاعلية؟
صحيح أن (الإنفاق) الفردي و(الصدفة) الاختيارية و(التكافل) الاجتماعي، وغيرها من فاعليات العطاء التي يمارسها المسلم إزاء إخوانه تمثل جزء أساسياً من برنامج العدل الاجتماعي في الإسلام وتغطي مساحة واسعة من نداءات القرآن في هذا المجال، وتلعب دوراً كبيراً في إحداث التوازن والانسجام والتعاون والترابط بين أفراد المجتمع المسلم وفئاته، وتجتث أدران الحقد والكراهية والشر لكي تزرع بدلاً منها علائق التكافل والمحبة والخير … لا سيما في الفترات التي تغيب فيها السلطة، فيتعرض الفقراء والمعدمون للموت جوعاً، فتمتد إليهم اليد التي لا (تتبرع) و (تمنّ) ولكن تعطي وتواسي وتندمج وتتعاون لكي تنقذهم من هذا المصير المفجع.
أي منا لم يمارس بنفسه، أو يشاهد إخوانه ورفاقه المؤمنين، يحصون أموالهم سنة بسنة لكي يقتطعوا منها حق (السائل) و(المحروم)، ويقدموها وزيادة دونما جلبة ولا ضوضاء، في عصر طُرحت فيه شعارات ومزايدات ما زادت الفقراء والمعدمين إلا جوعاً ونصباً؟!
ومع ذلك فلا يعدو أن يكون هذا (العطاء)، على أهميته، مساحة محدودة فحسب من المساحات الشاسعة لبرنامج العدل الاجتماعي الذي رسم القرآن والسنة خطوطه العريضة، ونفذ الرسول صلى الله عليه وسلم والراشدون (رضي الله عنهم) مخططاته الفذة، وبنى الفقهاء والمجتهدون على هذا وذاك مقولاتهم ونظرياتهم العجيبة المتفردة.
وفي أكثر من ثلاثين موضعاً من القرآن الكريم ترد الدعوة لإطعام الفقراء والمساكين وسد حاجاتهم الأساسية، وفي أكثر من أربعين موضعاً يرد التأكيد على فريضة الزكاة والصدقات وتقييم دافعيها والتنديد بمانعيها، وفي أكثر من سبعين موضعاً يتردّد ذكر الإنفاق وتُسلّط عليه الأضواء من كافة زواياه، وفي أكثر من موضع يجيء التأكيد على أن هذا العطاء ليس تبرعاً ولا منّاً ولكنه (حق) السائلين والمحرومين(وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ(1) (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ(24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)(2) (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)(3) (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ)(4).
وفي آيات أخرى يرد الحض على إشباع الجائعين وسد حاجاتهم الأساسية كجزء أصيل من متطلبات الإيمان، كممارسة الصلاة سواء بسواء، وان التوقف عن هذا (الحضّ) يخرج أصحابه من حظيرة الدين ويدمغهم بالكذب (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ(1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ(2) وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ(3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ(4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ(5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ(6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) (5) (إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ(33)وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ(34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ(35)وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ(36)لا يَأْكُلُهُ إِلا الْخَاطِئُونَ) (6)(كَلا بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ(17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) (7).
ولن يكون (الحض)، ما دام قد اقترن بالإيمان، وأصبح وقفه وقفاً لحركة الدين نفسه، لن يكون بكلمات متثائبة تُقال، أو بيد تدفع بقايا الطعام إلى المساكين الذين يقفون وراء الأبواب خائفين متوسلين. إنما (بالفعل) الدائم والحركة المستمرة، وبالثورة إذا اقتضى الأمر لتحقيق هذا المطلب الأساس … تماماً كما أن الصلاة فعل دائم وحركة مستمرة، وإنها بمجرد تحولها إلى الظل وإلى أن تغدو ممارسة جانبية، تدمغ صاحبها بالنفاق …
وهذا هو الذي دفع أبا بكر الصديق (رضي الله عنه) إلى أن يشهر السيف بوجه ما نعي الزكاة ويعلن (وَاللَّهُ لأقاتلن مِنْ فَرَّقْ بَيْنِ الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ).(/1)
ولا يتصورَنّ أحد أن كثرة ورود الفقراء والمساكين وأبناء السبيل في القرآن الكريم، يجيء بمثابة تأكيد لأبدية ظاهرة (الفقر والحرمان) التي هي كما هو معروف اجتماعياً مسألة (نسبية)، لأن كثرة ورود الكفر والشرك، واللات وهبل والعزى، ووأد البنات، وأكل مال اليتيم، وممارسة الربا أضعافاً مضاعفة، وشرب الخمر ولعب الميسر، وعبادة الناس، لا تحمل أية دلالة على أبديتها!! ثم إن القرآن الكريم لا يمكن أن يناقض نفسه فيدعو إلى تأييد ظاهرة يشن هو نفسه الحملة عليها، ويصل بها في إحدى آياته إلى أن يربطها بالشيطان وبما يأمر به ويدعو إليه من الفحشاء (يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ) (8) .
***
وثمة آيات أخرى تصل بنا إلى آفاق أبعد في مسألة التوازن الاجتماعي.. الآية التي تطلب من المسلمين، دولة وجماعة، أن (يتحركوا) مقاتلين مجاهدين لإنقاذ المستضعفين في الأرض من أيدي ظالميهم وجلاديهم وتعطي الإشارة إلى أن (السيف) هو الحكم الأخير عندما تعجز كل الأساليب الأخرى عن وقف الظلم وتخليص البائسين … وان الجهاد تلك الثورة المسلحة هي الحركة التي تنقل المقاتل المسلم الى كل ميدان يمارس فيه الظلم ضد الإنسان، أياً كان شكل هذا الظلم وأياً كانت دوافعه: (وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا) (9).
وهذه الآية التي يطرحها القرآن ليتحرك المسلمون على ضوئها على المستوى الجماعي، تقابلها آية أخرى تدعوهم إلى أن يتحركوا على المستوى الفردي كذلك، وأن يقتحموا (العقبة)، هكذا، بكل ما يتضمنه (فعل) الاقتحام من قوة وعنف وإرادة لا بد منها جميعاً لاجتياز الحاجز (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ(12) فَكُّ رَقَبَةٍ(13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ(14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ) (10) … تحرير المستعبدين وإطعام الجائعين، ذلك هو الهدف الذي يقتحم المؤمن من أجله الحواجز بقوة وعنف وحزم وإرادة!!
والآية التي تطرح نفسها كسؤال خطير أمام الرسول صلى الله عليه وسلم وأمام أي (مشرع) مسلم يجيء بعد الرسول صلى الله عليه وسلم: (وَيَسْأَلُونَكَ : مَاذَا يُنفِقُونَ؟ ) ويجيء الجواب الدائم غير الموقوت، بيناً صريحاً: (قُلْ: الْعَفْوَ) (11)!!
والعفو هنا هو كل ما زاد عن الحاجة … وسنتذكر هذا المبدأ الخطير في التسوية الاجتماعية عندما نستمع فيما بعد إلى إحدى كلمات الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا بأس أن نوردها هنا ، قال صلى الله عليه وسلم (من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له …) ويقول شهود العيان: إن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل)!!
وهنالك الآية التي (تأمر) المسلمين: دولة ومشرّعاً وجماعة، ألاّ يسمحوا لأموالهم التي لكل فئة منهم حق معلوم فيها، والتي جعلها الله لهم سبباً من أسباب البقاء والنماء، أن تذهب إلى (السفهاء)، بهذا التعبير الصريح في تنديده (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا) (12) . والآيات التي تقطع الطريق على أية محاولة لطمس حقوق الناس في أموالهم لكي يزداد أصحاب السلطة والواجدون غنى، والفقراء والمعدمون فقراً، وتسم هذه المحاولة التي يمكن أن تتم بألف أسلوب بالإثم والعدوان والظلم والإجرام، أكثر من ذلك تسمها بقتل النفس. وليس كفقدان العدل الاجتماعي معولاً ينزل على بنية المجتمعات فيفتتها ويدمرها ويمحوها (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (13) (وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا) (14) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا(29)وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) (15) .(/2)
والآية التي تصب حمماً من نار على طبقة (رجال الدين) من (الأحبار والرهبان) الذين اشتروا بعقيدتهم ثمناً قليلاً، وراحوا يدجلون على الناس باسم الدين ليأكلوا أموالهم ويضخموا بها حجم كنوزهم من الذهب والفضة. وكأن القرآن الكريم يفتح أعين المسلمين جيداً، ويستفز وعيهم الدائم كي لا يتيحوا لظاهرة هدامة كهذه أن تبرز في مجتمعهم وبين ظهرانيهم، مهما كانت على درجة من الضآلة والخفاء، ويندد بكل من تحدثه نفسه بممارسة الأسلوب الذي مارسه الأحبار والرهبان طويلاً. وهذا وغيره من الأسباب يفسر لنا انعدام ظهور المرتزقة بالدين في تاريخنا وظهور نقيض هذا تماماً، رجال الفكر الإسلامي وهم أشد الناس فقراً وتواضعاً واندماجاً في حياة الناس العاديين، ورفضاً لمواقع السلطة وإنكاراً لإغراء الذهب والفضة. ليس هذا فحسب، بل إن القرآن يوجه تحذيره الرهيب إلى المسلمين أنفسهم ألا يكنزوا الذهب والفضة، وأن ينفقوها في سبيل الله، وأنه بدون هذا وذاك فسوف تنقلب عليهم وبالاً يوم الحساب … وأي مترف أو غني تستحيل حياته إلى تكديس للمال، والناس يتضوّرون جوعاً، دون أن يتحرك بأمواله لوقف ظاهرة الجوع والحرمان، فإن له أن يتصور أن هذا الخطاب موجه إليه، وأنه غريب عن المجتمع الإسلامي الذي ينتمي إليه، بل إنه مارق عن قيمه وأهدافه (يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنْ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ(34)يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ) (16) . (وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ أي اليهود: يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(62)لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (17).
وفي آيات أخرى من سورة الفجر يتكرر هذا التنديد بجمع المال وأكل التراث ويرتبط جدلياً بعدم إكرام اليتامى و(الحض) على إطعام الفقراء، مبتدئاً بكلمة الزجر القرآنية العنيفة: كلا !! (كَلا بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ(17)وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ(18)وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمًّا(19)وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا)(19). ونحن لا نستطيع إلا أن نلحظ السمة الجماعية المشتركة في فعل (تحاضون)، والمفهوم الحركي الكامن في صيغة المبالغة.
________________________________________
(1) الإسراء 26.
(2) المعارج 24 – 25.
(3) الداريات 19.
(4) الأنعام، بعض الآية 141.
(5) الماعون 1 – 7.
(6) الحاقة 33 – 37.
(7) الفجر 17 – 18.
(8) البقرة 268.
(9) النساء 74.
(10) البلد 11 – 16.
(11) البقرة 219.
(12) النساء 5.
(13) البقرة 188.
(14) النساء 2.
(15) النساء 29 – 30.
(16) التوبة 34 – 35.
(17) المائدة 62 – 63.
(18) الفجر 17 – 20.(/3)
دعاء السحر
محمد الخليلي
abuokashah@hotmail.com
دعاء iiالسحر
ودمع العيون
تذلل iiإليه
وبين iiيديه
وأدِّ iiالجهاد
وجاف iiالرقاد
ثيابا ً iiفطهِّر
وربك iiكبر
فمهر iiالحسان
وروح iiالجنان
دع العين iiتهمِل
وكبِّر iiوهلل
أعد َّالعتاد
لنيل iiالمراد
وصلِّ القيام
ليرض السلام
لربك iiفارغب
وزك ِّ لتكسب
إذا ما iiالقمر
ألا قم iiوصلِّ ... سهام iiالقدر
جلاء الكرر
توكل عليه
أنِخ iiوافتكر
لرب iiالعباد
وقم iiفاعتبر
وقومك iiأنذر
لكي ينتصر
وصك iiالأمان
لمن iiيصطبر
وخدا ً iiتبلل
بجوف iiالسحر
ليوم iiالمعاد
بيوم iiالحشر
إذا الكلُّ iiنام
على المدَّكر
وقمْ صلِّ وانصبْ
ليلة iiالقدر
سرى في iiالسحر
ووفِّ iiالنُذُر(/1)
دعاء
د.محمد إقبال
شعر: الفيلسوف د. محمد إقبال
ترجمة: د.عبد الوهاب عزام
أنت في الكون كروح iiمستسر ... ... روحنا أنت ، ومنا iiتستتر
منك فيه نغمة عود iiالحياه ... ... في هواك ، الموت محسود iiالحياه
عد فسكّنْ القلوب iiالبائسه ... ... عد فعمّر ذي الصدور iiاليائسه
عد فكلفنا الفعال الماجدا ... ... ألهبنّ العشق فينا iiالخامدا
إننا نشكو تصاريف القضاء ... ... أنت تغلى السعر والأيدي خلاء( 2 )
عن فقير لا تحجب ذا iiالجمال ... ... عشق سلمان امنحنا iiوبلال
عين سهد لفؤادٍ قلق ... ... امنحنّا واضطراب iiالزئبق
آية أظهر من الآي iiالمبين ... ... لنرى أعناق قوم خاضعين(3)
أظهر البركان من iiأعوادنا ... ... وامح غير الله في iiنيراننا
كفنا ألقت بخيط iiالوحدة ... ... كم ترى أمرنا من عقدة ؟( 4 )
قد مضينا كنجوم iiحائرة ... ... إخوة لكن وجوه نافره
انظمن في السلك هذا iiالورقا ... ... جددن سنة حبّ أخلقا( 5 )
ابعثنا مثل ما كنا iiلكا ... ... ائتمن فيما ترى iiأحبابكا
منزل التسليم أبلغ iiركبنا ... ... عزم إبراهيم يسره iiلنا
علمن العشق من أفعال " لا ii" ... ... رمز إلا الله علم غافلا( 6 )
* * ii* ... ... * * ii*
أنا كالشمع لغيري أحرق ... ... وبدمعي كل حفل iiيشرق
ربِّ ! هذا الدمع نور في القلوب ... ... ذو هياج واضطراب iiونحيب
أبذر الدمع فتنمو iiشعل ... ... نار شقر الروض منها تنصل( 7 )
أمس في قلبي ، وعيناي iiالغد ... ... أنا في الجمع فريدٌ موحد( 8 )
" ظن كلٌّ أنني نعم iiالسمير ... ... ليس يدري أي سر في الضمير"( 9 )
أين يا رباه في الدنيا النديم ... ... نخل سيناء أنا ، أين الكليم ii؟
ظالم نفسي فكم iiعنّيتها ... ... شعلاً في صدرها iiأذكيتها
شعلاً للحس تذرو ما به ... ... وتشب النار في أثوابه( 10 )
وبها العقل جنوناً iiعلّما ... ... وبها أُحرِق ما قد علما (11)
قد علت من حرها شمس iiالسماء ... ... حولها للبرق طوق في iiالفضاء
كل عرق فيّ ناراً iiيقطر ... ... شعلاً ينبت في الشَعَرُ
بلبلي يلقط هذا الشررا ... ... فتراه نغماً iiمستعمرا
صدر عصري ما بقلب يؤهل ... ... نوح قيس حين يخلو المحمل( 12 )
يخفق الشمع وحيداً iiويله ... ... في فراش لا يرى أهلاً له( 13 )
كم أرجّي مسعداً لي في iiالبشر ... ... ونجياً كم أرجي في iiالدهر
* * ii* ... ... * * ii*
يا من الأنجم منه تستنير ! ... ... أرجعن نارك من روحي iiالكسير
اسلبن نفسي ما أودعتها ... ... عطلن من نورها iiمرآتها
أو فهب لي وجه خِلّ iiلبق ... ... هو مرآة لعشق iiمحرق
* * ii* ... ... * * ii*
يخفق الموج بموج في iiالعباب ... ... لا يسير الموج إلا في iiصحاب
ومع الكوكب يسري iiالكوكب ... ... وعلى الأقمار يحنو iiالغيهب
ومع الليل نهار أبداً ... ... ومسير اليوم يقتاد iiغدا
نهراً ، أبصرُ، يفنى في iiنهر ... ... ونسيم الروض في عرف iiالزهر
رب حانٍ آهل من شربه ... ... راقص المجنون مجنوناً iiبه
أنت يا واحد لا شبه لكا ... ... عالماً أنشأته من iiأجلكا
وأنا مثل شقيقات iiالفلا ... ... مفردٌ ، في بهرة الجمع خلا( 14 )
هب نجياً يا ولي النعمة ... ... محرماً يدرك ما في iiفطرتي
هب نجياً لقنا ذا iiجنة ... ... ليس بالدنيا له من صلة( 15 )
روحه أودع من iiأنايته ... ... وأرى في قلبه iiمرآتيه
وأسويه بطيني iiمحكماً
وأرى آزره والصنما ( 15 )
الهوامش :
(1) الخطاب لله تعالى .
(2) يعني تكلفنا واجبات عظيمة وليس في يدنا اليوم أسبابها .
(3) إشارة إلى الآية : [إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين] .
(4) يعني أضاع المسلمون خيط الاتحاد فتعقدت أمورهم .
(5) الورق ورق الكتاب والسلك الخيط الذي يجمع به الورق .
(6) يريد النفي في كلمة التوحيد ، نفي ما سوى الله ، و " إلا الله " هي الإثبات في هذه الكلمة ز
(7) الشقر شقائق النعمان . وهي زهر أحمر يضرب به المثل في الاحتراق ولكن الشاعر يقول إن هذه النار الباردة تمحوها نار دموعي .
(8) قلبه متصل بذكرى الماضي ولكن عينيه تريان المستقبل وتطمحان غليه . وهذا معنى يكرره إقبال.
(9) البيت من فاتحة المثنوي لجلال الدين الرومي في وصف الناي .
(10) نار تحرق المحسوسات وتنفذ إلى البواطن .
(11) هذه النار نار العشق تخرج بالعقل عن حدوده الضيقة . وتحرق ما لقنه الناس من علم انظر الكلام عن العشق والعقل في مقدمة ضرب الكليم .
(12) يبكي إقبال لخلو عصره من القلب كما يبكي المجنون لخلو المحمل من ليلى .
(13) يعني أنه كالشمع لا يجد فراشاً أهلاً لناره . ليس له أصحاب أو تلاميذ يفقهون عنه ما يقول .
(14) الشقيقات جمع شقيقة واحدة الشقائق التي تسمى شقائق النعمان . هو وحيد وإن كان في جماعة .
(15) يريد إقبال نجياً مجنوناً . والجنون في لغة إقبال الهيام والإقدام إلى غير حد .
(16) يكون له ناحتاً كآزر ويكون صنماً له يتوجه إليه توجه العابد إلى الصنم .(/1)
دعاء
فؤاد المنشاوي
إلهي حارت الألباب iiفينا
إذا مرض الفؤاد نموت iiوهناً
وما كانت منازلنا iiقبوراً
وقد كانت مرابعنا iiلخيل
فوهم اللات والعزى iiتلاشى
ونار الفرس قد دانت iiلسعد
وسيف الله في اليرموك يروي
فلول الروم تخرج من iiدمشق
بلاد الشام تحيا في iiنعيم
ومصر كنانة المختار iiكانت
فألأحقها بركب النور iiحتى
فلو صدق اللسان لقال حقاً
فأبدلنا الخيول برهن iiشاة
نصرت الجمع في بدر iiوكانوا
وراع الجيش في نادي iiحنين
ونحن اليوم في كرب iiعظيم
ففرج كربنا رحماك iiربي
وأيد نافراً للدين iiواغفر
فمنك النصر والتأييد iiفامنن ... ونحن اليوم قلب iiالمسلمينا
فلا كنا إذا لم نحي iiدينا
لأحياء بلحد iiدارسينا
نواصيها لخير iiالفاتحينا
بفتح دك صرح iiالجاهلينا
فأطفأها بخيل iiالسابقينا
حكايات تهز iiالعالمينا
ويبقى الأهل فيها iiآمنينا
بشرع الله خير iiالفاصلينا
لعمرو من طراز iiالأولينا
أضاءت في سماء iiالعارفينا
ولو صدق الفؤاد لهام iiفينا
وشل الذل والعار اليمينا
لعيرٍ - يا إلهي- iiطالبينا
فأنزلت الجنود iiمثبتينا
بوهن الشاة نحيا iiصاغرينا
وهدئ روع أهل iiضارعينا
لعباد بليل iiساجدينا
بفتح شامل iiللمسلمينا(/1)
دعاء
مواعظ و أذكار الدعاء من السنة:
"اللهم آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقنا عذاب النار"اللهم أكثر مالي، وولدي، وبارك لي فيما أعطيتني" اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والهرم والبخل، وأعوذ بك من عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات- اللهم إني أعوذ بك من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء". "اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمةُ أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادةً لي في كلِّ خيرٍ، واجعل الموت راحةً لي من كل شرٍّ"اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة".رب أعني ولا تُعن عليَّ، وانصرني ولا تنصر عليَّ، وامكُر لي ولا تمكُر عليَّ، واهدني ويسِّر الهدى إِليَّ، وانصرني على من بغى عليَّ، ربِّ اجعلني لك شكَّاراً، لك ذكَّاراً، لك رهَّاباً، لك مِطواعاً، إِليك مخبتاً أوَّاها منيباً، ربِّ تقبل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، وثبِّت حجتي، واهد قلبي، وسدِّد لساني، واسلل سخيمة قلبي "اللهم إنا نسألك من خير ما سألك منه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ونعوذ بك من شر ما استعاذ منه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، وأنت المستعان، وعليك البلاغ، ولا حول ولا قوة إلا بالله "اللهم إني أسألك الهدى، والتُقى، والعفاف، والغِنى".اللهم اهدني وسددني، اللهم إني أسألك الهدى والسداد"."اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك""اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار وعذاب النار، وفتنة القبر، وعذاب القبر، وشر فتنة الغنى، وشر فتنة الفقر، اللهم إني أعوذ بك من شر فتنة المسيح الدجال، اللهم اغسل قلبي بماء الثلج والبرد، ونقِّ قلبي من الخطايا كما نقَّيت الثوب الأبيض من الدنس، وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب. اللهم إِني أعوذ بك من الكسل والمأثم والمغرم".اللهم إني أعوذ بك من شرِّ ما عملتُ، ومن شرِّ ما لم أعمل"لا إِله إِلا الله العظيم الحليم، لا إِله إِلا الله رب العرش العظيم، لا إِله إِلا الله ربُّ السماوات، وربُّ الأرض، وربُّ العرش الكريم"اللهم رحمتك أرجو فلا تكِلني إلى نفسي طرفة عينٍ، وأصلح لي شأني كله، لا إِله إِلا أنت"لا إله إِلا أنت سبحانك إِني كنت من الظالمين"."اللهم مصرِّف القلوب صرِّف قلوبنا على طاعتك".يا مُقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك". "اللهم إِني عبدك ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك. أسألك بكلِّ اسم هو لك سمَّيت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علَّمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حُزني، وذهاب همي". "اللهم إِني أعوذ بك من العجز، والكسل، والجبن، والبخل، والهرم، وعذاب القبر، اللهم آتِ نفسي تقواها، وزكِّها أنت خير من زكَّاها. أنت وليُّها ومولاها. اللهم إِني أعوذُ بك من علمٍ لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفسٍ لا تشبع، ومن دعوةٍ لا يُستجاب لها"اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلِّها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة"اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي، ومن شر بصري، ومن شر لساني، ومن شر قلبي، ومن شر منيي"اللهم إِني عبدك ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ في قضاؤك. أسألك بكلِّ اسم هو لك سمَّيت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علَّمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حُزني، وذهاب همي"اللهم رب جبرائيل، وميكائيل وربَّ إِسرافيل، أعوذ بك من حرِّ النار ومن عذاب القبر"اللهم ألهمني رشدي، وأعذني من شر نفسي "اللهم إني أسألك علماً نافعاً، وأعوذ بك من علمٍ لا ينفع".اللهم إني أعوذ بك من البرص، والجنون، والجذام، ومن سيء الأسقام"اللهم إِني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحبَّ المساكين، وأن تغفر لي، وترحمني، وإِذا أردت فتنة قومٍ فتوفَّني غير مفتونٍ، وأسألك حبَّك، وحبَّ من يُحبك، وحبَّ عملٍ يُقربني إلى حبك"اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفَّني إذا علمت الوفاة خيراً لي، اللهم إِني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة وأسألك كلمة الحق في الرِّضا والغضب، وأسألك القصد في الغنى والفقر، وأسألك نعيماً لا ينفد، وأسألك قُرَّة عينٍ لا تنقطع، وأسألك الرِّضا بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذَّة النظر إلى وجهك، والشوق إِلى لقائك، في غير ضرَّاء مُضرَّةٍ، ولا فتنةٍ مُضلةٍ، اللهم زيِّنا بزينة الإِيمان، واجعلنا هُداةً مهتدين".اللهم احفظني بالإِسلام قائماً، واحفظني بالإِسلام قاعداً، واحفظني بالإِسلام راقداً، ولا تُشمت بي عدواً ولا حاسداً. اللهم إني أسألك من كلِّ خيرٍ خزائنه بيدك، وأعوذ بك من كلِّ شرٍّ خزائنه بيدك".اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك،(/1)
ومن طاعتك ما تُبلِّغنا به جنَّتك، ومن اليقين ما تهوِّن به علينا مصائب الدنيا، اللهم متِّعنا بأسماعنا، وأبصارنا، وقوَّاتنا ما أحييتنا، واجعلهم الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همِّنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلِّط علينا من لا يرحمنا".اللهم إني أعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من أن أردَّ إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا وعذاب القبر"اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت وبك خاصمت. اللهم إني أعوذ بعزتك لا إِله إِلا أنت أن تُضلَّني. أنت الحيُّ الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون"اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كلِّ إثمٍ، والغنيمة من كلِّ برٍّ، والفوز بالجنة، والنجاة من النار"اللهم أعنا على ذكرك، وشُكرك، وحُسن عبادتك"اللهم إِني أسألك إِيماناً لا يرتدُّ، ونعيماً لا ينفد، ومرافقة محمدٍ صلى الله عليه وسلم في أعلى جنة الخلد"اللهم قني شرَّ نفسي، واعزم لي على أرشد أمري، اللهم اغفر لي ما أسررت، وما أعلنت، وما أخطأت، وما عمدت، وما علمت، وما جهلت"اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت ولا مُضلَّ لمن هديت، ولا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرِّب لما باعدت، ولا مباعد لما قرَّبت، اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهم إِني أسألك النعيم يوم العيلة، والأمن يوم الخوف، اللهم إني عائذٌ بك من شر ما أعطيتنا وشرِّ ما منعتنا، اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم توفَّنا مسلمين، وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدُّون عن سبيلك واجعل عليهم رجزك وعذابك، اللهم قاتل الكفرة الذين أُوتوا الكتاب، إله الحقِّ.اللهم اجعل أوسع رزقك عليَّ عند كبر سني، وانقطاع عمري"اللهم اغفر لي ذنبي، ووسع لي في داري، وبارك لي في رزقي"اللهم إني أسألك من فضلك ورحمتك، فإِنه لا يملكها إلا أنت"اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة، فإن جار البادية يتحول"اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن دعاء لا يُسمع، ومن نفس لا تشبع، ومن علم لا ينفع. أعوذ بك من هؤلاء الأربع"اللهم إني أعوذ بك من غلبة الدين، وغلبة العدو، وشماتة الأعداء"اللهم اغفر لي، واهدني، وارزقني، وعافني، أعوذ بالله من ضيق المقام يوم القيامة"اللهم متِّعني بسمعي، وبصري، واجعلهما الوارث مني، وانصرني على من يظلمني، وخذ منه بثأري"اللهم إني أسألك عيشةً نقيةً، وميتةً سويَّةً، ومردّاً غير مُخزٍ ولا فاضح"اللهم إني أعوذ بك من العجز، والكسل، والجبن، والبخل، والهرم، والقسوة، والغفلة، والعيلة، والذلة، والمسكنة، وأعوذ بك من الفقر، والكفر، والفسوق، والشقاق، والنفاق، والسمعة، والرياء، وأعوذ بك من الصمم، والبكم، والجنون، والجذام، والبرص، وسيء الأسقام"اللهم إني أعوذ بك من الفقر، والقلة، والذلة، وأعوذ بك من أن أظلم أو أُظلم"اللهم إِني أعوذ بك من التَّردِّي، والهدم، والغرق، والحرق، وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت، وأعوذ بك من أن أموت في سبيلك مدبراً، وأعوذ بك أن أموت لديغاً"اللهم إني أعوذ بك من الجوع، فإِنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة، فإِنها بئست البطانة"اللهم إني أعوذ بك أن أُشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم".اللهم انفعني بما علَّمتني، وعلِّمني ما ينفعني، وزدني علماً"اللهم إِني أسألك من الخير كله: عاجله وآجله، ما علمت منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشرِّ كله عاجله وآجله، ما علمت منه وما لم أعلم. اللهم إِني أسألك من خير ما سألك عبدك ونبيك، وأعوذ بك من شرِّ ما استعاذ بك منه عبدك ونبيُّك. اللهم إني أسألك الجنة، وما قرَّب إليها من قولٍ أو عملٍ، وأعوذ بك من النار وما قرَّب إليها من قولٍ أو عملٍ، وأسألك أن تجعل كلَّ قضاءٍ قضيتهُ لي خيراًاللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق، والأعمال، والأهواء"اللهم إنك عفوٌّ كريمٌ تحبُّ العفو فاعف عني"اللهم ارزقني حبك، وحُبَّ من ينفعني حبه عندك، اللهم ما رزقتني مما أُحبُّ فاجعله قوةً لي فيما تحب، اللهم ما زويت عني مما أحبُّ فاجعله فراغاً لي فيما تحبُّ"اللهم طهرني من الذنوب والخطايا، اللهم نقِّني منها كما يُنقَّى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم طهرني بالثلج والبرد والماء البارد"اللهم إني أعوذ بك من البخل، والجبن، وسوء العمر، وفتنة الصدر وعذاب القبر".اللهم رب السماوات [السبع] ورب الأرض، ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيءٍ، فالق الحبَّ والنوى، ومنزل التوراة والإِنجيل والفرقان، أعوذ بك من شرِّ كلِّ شيءٍ أنت آخذٌ بناصيته، اللهم أنت الأول(/2)
فليس قبلك شيءٌ، وأنت الآخر فليس بعدك شيءٌ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيءٌ، وأنت الباطن فليس دونك شيءٌ، اقض عنا الدين وأغننا من الفقر"اللهم ألِّف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، ونجِّنا من الظلمات إلى النور، وجنِّبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وبارك لنا في أسماعنا، وأبصارنا، وقلوبنا، وأزواجنا وذرياتنا، وتُب علينا إِنك أنت التَّوَّاب الرحيم، واجعلنا شاكرين لنعمك مثنين بها عليك قابلين لها وأتممها علينا"اللهم جنبني منكرات الأخلاق، والأهواء، والأعمال، والأدواء"اللهم قنِّعني بما رزقتني، وبارك لي فيه، واخلف عليَّ كل غائبةٍ لي بخيرٍ"اللهم حاسبني حساباً يسيراً"اللهم إني أعوذ بك من يوم السوء، ومن ليلة السوء، ومن ساعة السوء، ومن صاحب السوء، ومن جار السوء في دار المقامة"اللهم إني أسألك الجنة وأستجير بك من النار" (ثلاث مراتٍ). "اللهم فقِّهني في الدِّين"اللهم اغفر لي خطيئتي، وجهلي، وإِسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي هزلي وجدِّي، وخطئي وعمدي، وكلُّ ذلك عندي"اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت. فاغفر لي مغفرةً من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم اللهم اغفر لي، وارحمني، واهدني، وعافني، وارزقني"."واجبرني وارفعني اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تُهنَّا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضنا وأرض عنا"اللهم أحسنت خلقي فأحسن خُلُقي"اللهم ثبِّتني واجعلني هادياً مهديّاً"اللهم آتني الحكمة التي من أُوتيها فقد أُوتي خيراً كثيراً "اللهم صلِّ وسلِّم على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن تبعهم بإِحسان إلى يوم الدين."اللهم إني أسألك يا الله بأنك الواحد الأحد، الصمد، الذي لم يلد ولم يُولد، ولم يكن له كفواً أحد، أن تغفر لي ذنوبي، إنك أنت الغفور الرحيم"اللهم إني أسألك بأنَّ لك الحمد لا إِله إِلا أنت [وحدك لا شريك لك] المنَّان يا بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإِكرام، يا حيُّ يا قيُّوم، إِني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار"اللهم إني أسأل علماً نافعاً، ورزقاً طيباً، وعملاً متقبَّلاً"اللهم إِنِّي أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إِله إِلا أنت، الأحد، الصمد، الذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد"ربِّ اغفر لي، وتُب عليَّ، إِنك أنت التَّوَّاب الغفور"اللهم إني أسألك خير المسألة، وخير الدعاء، وخير النجاح، وخير العمل، وخير الثواب، وخير الحياة، وخير الممات، وثبِّتني، وثقِّل موازيني، وحقق إِيماني، وارفع درجاتي، وتقبَّل صلاتي، واغفر خطيئتي، وأسألك الدرجات العُلى من الجنة، اللهم إني أسألك فواتح الخير، وخواتمه، وجوامعه، وأوله، وظاهره، وباطنه، والدرجات العلى من الجنة آمين. اللهم إني أسألك خير ما آتي، وخير ما أفعل وخير ما أعمل، وخير ما بطن، وخير ما ظهر، والدرجات العلى من الجنة آمين. اللهم إني أسألك أن ترفع ذكري، وتضع وزري، وتصلح أمري، وتطهر قلبي، وتحصِّن فرجي، وتُنوِّر قلبي، وتغفر لي ذنبي، وأسألك الدرجات العلى من الجنة آمين. اللهم إني أسألك أن تبارك في نفسي، وفي سمعي، وفي بصري، وفي روحي، وفي خلقي، وفي خُلُقي، وفي أهلي، وفي محياي، وفي مماتي، وفي عملي، فتقبَّل حسناتي، وأسألك الدرجات العلى من الجنة آمين".(/3)
دعاة الجن المؤمنون
محمد إسماعيل السيد أحمد
قال الله - تعالى -: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ(30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (32)}
ــــــــــــــــــــــ
معاني الكلمات:
صرفنا إليك: وجهنا إليك
نفرا: مجموعة
الجن: عالم من مخلوقات الله - عز وجل -، أجسامهم نارية الأصل، لهم خاصية التشكل والاستتار، يروننا ولا نراهم على خلقتهم الحقيقية، منهم مؤمنون وأكثرهم كافرون. وسموا جنا لاستتارهم وعدم رؤيتنا لهم.
أنصتوا: قال بعضهم لبعض اسكتوا واستمعوا.
قُضي: أُتِمّ وانتهي من تلاوته.
ولوا: رجعوا.
منذرين: من الإنذار وهو التحذير والتخويف، وهنا تحتمل معنى التبليغ.
ما بين يديه: ما قبله من الكتب السماوية المنزلة على رسل الله.
داعي الله: حامل الدعوة لتبليغها وهو النبي محمد.
يُجِرْكم: أي يحميكم ويمنع عنكم العذاب.
فليس بمعجز: لا يستطيع الهرب من بين يدي الله - عز وجل -.
أولياء: جمع ولي وهو النصير، أي ليس له نصراء يستطيعون تخليصه من عذاب الله.
شرح الآيات:
بينما كان رسول الله يتلو القرآن في خلوة بعيد عن المشركين، إذ وجه الله - سبحانه - إليه مجموعة من الجن، فلما سمعوه، قال بعضهم لبعض: اسكتوا نستمع و فجعلوا يستمعون.فلما انتهى رسول الله من التلاوة، رجعوا على قومهم لينذروهم، بعد أن مس الإيمان شغاف قلوبهم وآمنوا به، فقالوا لقومهم: يا قومنا لقد سمعنا بضع آيات من كتاب جديد، أنزله الله من بعد موسى فيه ما يصدق التوراة وما قبله من الكتب المنزلة من عند الله، وهذا الكتاب يهدي إلى الحق ويدل على طريق الحياة الكريمة المستقيمة.فآمنوا به، يغفر الله لكم من ذنوبكم ويقيكم من عذاب الله الأليم الذي أعده للكافرين.
ومن لا يستجيب لدعوة هذا النبي الكريم، فإن الله سيهلكه.
وإذا أراد الله إهلاك من لا يستجيب لداعي الله، فلن يستطيع أحد حمايته مهما بلغ شأنه، هو وهذا المعاند ومن يشد أزره وينصره فهم في ضلال بين واضح لا جدال فيه.
نسأل الله اللطف والهداية لنا ولجميع المسلمين وان يثبتنا على الصراط المستقيم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
http://www.motamani.com المصدر:(/1)
دعاة على أبواب جهنم
( العلمانيون ) المفسدون في الأرض ...
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين والصلاة والسلام على اشرف الأنبياء والمرسلين الذي ما ترك من خير وإلا ودل الأمة عليه وما ترك من شر إلا نهاها عنه وحذرها منه،
أما بعد:
فقد روى البخاري في صحيحة عن أبي إدريس الخولاني “ أنه سمع حذيفة بن اليمان يقول: كان الناس يسالون الرسول صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يد ركني، فقلت يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر ؟ فقال: نعم، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير ؟؟ قال: نعم وفيه دخن قلت: وما دخنه ؟ قال: قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر ؟ قال: نعم دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله صفهم لنا، قال هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا الحديث "
فهذا الحديث الشريف نور من نور النبوة يزيد في المؤمن إيمانه ويقوي يقينه عندما يرى مصداق هذا الحديث في حياته، فالحبيب عليه الصلاة والسلام عندما وصف لأمته الدعاة على أبواب جهنم وصفهم غاية الوصف وأوضحه، فقال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، فمعنى قوله هم من جلدتنا أي من قومنا، ويتكلمون بألسنتنا، أي من أهل لساننا وهؤلاء الدعاة لا يخلو منهم زمان، ففي زماننا يتحقق هذا الوصف في زنادقة ملحدين هم ( العلمانيون )
دعاة على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها فهم من بني جلدتنا ( من بني قومنا ) ويتكلمون بألسنتنا ( بلغتنا )
ولعل سئل يسأل منهم العلمانيون ؟
قبل أن نجيب عن العلمانيين علينا أن نعرف معنى العلمانية وكيف نشأت ؟ فالعلمانية هي معنى كلمة (secularism) ومعناها: ابتعد عن الدين، فلا تبالي بالدين ولا الاعتبارات الدينية، وقد ظهرت كمذهب أو مصطلح يناهض انحرافات الكنيسة في أوربا التي حرمت العلم والعلوم التجريبية كالطب والهندسة والصناعة وغيرها من العلوم
فكانت العلمانية ردة فعل على الكنيسة، وذلك في ظل الثورة الفرنسية سنة 1789م، فكانت هذه بداية العلمانية في العالم، إذا العلمانيون هم فئة من الناس همهم وغايتهم ومنهجهم إبعاد الدين عن الحياة وعن المجتمع، ( ما لقيصر لقيصر وما لله لله ) فكانت العلمانية خيرا للشعوب الأوربية من انحرافات الكنيسة وجهلها وحربها على العلوم التجريبية
علمانيو العرب !!
فجاء ينو قومنا من العلمانيين وقاسوا ظلم الكنيسة بعدل الإسلام وجهل الكنيسة بنور الإسلام، وصدق الله ـ سبحانه وتعالى ـ في وصف من هذه حاله عندما انتكست فطرته وتبدلت مفاهيمه وصار أضل من الحيوان، قال تعالى: " ولقد ذرانا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون " سورة الأعراف الآية 179
فالعلمانيون العرب لينهم أخذوا من الغرب ما يفيد أمتهم ولكنهم اخذوا كل رذيلة ساقطة وصاروا معول هدم للدين والقيم والأخلاق، فجروا شعوبهم للهلاك والدمار قال الله تعالى " الم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار * جهنم يصلونها وبس القرار " سورة إبراهيم الآية 28/29
كيف نعرف العلمانيين ؟
العلماني والعمانيون كالزنادقة يظهرون الإسلام عندما يضطرون ويحرجون، ويبطنون الكفر والإلحاد وقد يظهرون إذا حانت لهم الفرصة فحالهم كقول الله تعالى " وإذا لقوا الذين امنوا قالوا ءامنا وإذا خلو إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون " سورة البقرة الآية: 14
أما في هذا الزمان فأصبح العلمانيون لا يتورعون عن إظهار زندقتهم وفسادهم لأهل الإسلام، وسبب ذلك ضعف أهل الإسلام وتخاذلهم عن نصرته والذب عنه، “ فإلى الله المشتكى "، ورضي الله عن عمر عندما قال " أشكو إلى الله جلد الكافر وعجز الثقة "
العلمانيون:
لا يجعلون للدين قيمة في حياتهم فلا يحلون حلالا ولا يحرمون حراما، بل شرعوا القوانين الشيطانية وسموها تعاليم وأنظمة ولوائح، كل ذلك ليبعدوا الناس عن دين الله ـ سبحانه ـ فلا يحكمون به ولا يتحاكمون إليه
العلمانيون:
همهم وغايتهم خلخلة القيم الراسخة في المجتمع الإسلامي من الإخوة والطهر والعفاف وحفظ العهود والتكافل وأحاسيس الجسد الواحد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واستبدلوا ذلك بالقطيعة والتفرق والإباحية ونشر الرذيلة في المجتمع الإسلامي، وتسخير ما في أيديهم من إذاعة وتلفزيون ومجلات وجرائد وغيرها من الوسائل لتحقيق غاياتهم في أبناء المجتمع المسلم
العلمانيون:
ولاؤهم وانتمائهم في الأقاليم أو الوطن أو غيرها من الروابط الطاغوتية الشيطانية فلا حرج عليك أن توالي في ذلك كله، أما أن توالي وتعادي في الله ـ سبحانه وتعالى ـ فتلك جريمة لا تغتفر في نظر هؤلاء العلمانيين، ومن شعاراتهم في ذلك: " الدين لله والوطن للجميع "
العلمانيون:(/1)
يجعلون الدين وتعاليمه سخرية يتلاعب بها كتابهم، بل ولربما أظهروا سنن المصطفى عليه الصلاة والسلام ـ كاللحية مثلا ـ بصورة طرائف ( كركتير ) ليضحكوا الناس ولينفروهم عن الإسلام وهديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ
قال الله تعالى " إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون * واذا مروا بهم يتغامزون "
المطففين الآية 29/30
ثمار العلمانية الخبيثة في الشعوب الإسلامية
العلمانية شجرة خبيثة نمت فأثمرت خبثا وفسادا في المجتمعات الإسلامية قال الله تعالى:" والذي خبث لا يخرج إلا نكدا " الأعراف: 58
ومن ثمارها الخبيثة:
1/ تبديل حكم الله سبحانه وتعالى بحكم الطاغوت:
فأصبحت المحاكم القانونية الطاغوتية بدل المحاكم الشرعية وبذلك صارت الدول العربية أكثر الدول العربية ضعفا ودمارا وتفككا، فساسها الأعداء حتى أصحبت غريبة في ديارها حقيرة لا عزة لها، مأسورة بأيدي أعداءها
وصدق الشاعر:
وأي اغتراب بعد غربتنا التي * بها أضحت الأعداء فينا تحكم
واصدق منه قول الحبيب عليه الصلاة والسلام واصفا حال الأمة في آخر الزمان فقد روى الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها فقال قائل: ومن قلة نحن يؤمئذ قال: بل أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن ؟ فقال: حب الدنيا وكراهية الموت " صحيح أبي داودللألباني
2/ فساد التعليم عند أكثر المجتمعات الإسلامية ومن مظاهر فساد التعليم:
أ ـ تقليص المواد الشرعية، وتقليل نصابها في الحياة الدراسية التعليمية
ب ـ منع تدريس النصوص التي تذكر أبناء المسلمين بعداوة اليهود والنصارى للإسلام وأهله . وطمس عقيدة الولاء البراء في المناهج
ج ـ الاختلاط في التعليم بين الرجال والنساء
د ـ انتشار المدارس الأجنبية " التنصيرية " في بلاد المسلمين
3/ ظهور الإباحية والفوضى الأخلاقية:
ومن مظاهرها:
أ ) انتشار الجريمة بجميع صورها من زنا واغتصاب، وشذوذ جنسي، وسرقة، وقتل وانتحار، والمتأمل لواقع المسلمين يجد ارتفاع نسبة الجرائم بشكل يدعو إلى الاستغراب، ولا غرابة أن تجد السجون مليئة بل ضاقت بشباب المسلمين " وإنا لله وإنا إليه راجعون "
ب ) ما صاحب هذه الجرائم من تفشي الأمراض الفتاكة بين الشباب من الإيدز والزهري وغيرها من الأمراض التي لم تكن قبل
ج) التفكك الأسري: فارتفعت نسبة الطلاق والخيانات الزوجية، فضاهت ما يحدث في أوروبا وبلاد الغرب، وهذا لا يستنكر مادام دعاة الاختلاط والإباحية من الزنادقة العلمانيين يعيثون في الأرض فسادا في بلاد المسلمين
د ) المخدرات التي انتشرت انتشارا عجيبا بين الفتيان والفتيات حتى كثرت المستشفيات والمصحات، ودور النقاهة الخاصة لعلاج متعاطي المخدرات
وباليتهم تذكروا قول الله تعالى " ومن أعرض عن ذكري فأن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى " سورة طه، الآية 124
* حكم العلمانيين في شريعة الإسلام:
العلمانيون كفرة مشركون مرتدون، وذلك لأسباب كثيرة منها:
(1) حكمهم بغير ما أنزل الله سبحانه وتعالى وذلك بالقوانين الطاغوتية قال تعالى:" ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " سورة المائدة: 44 ولم يكتفوا بهذا بل سنوا القوانين الشيطانية وسموها بغير اسمها كالأنظمة واللوائح والتعاليم ليخادعوا بها الناس ويصرفوهم عن دين الله قال الله تعالى " أن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم " سورة النساء 142
(2) شركهم بالله ـ سبحانه وتعالى ـ إذ جعلوا حياتهم لغيره، وشعاراتهم في ذلك كثير منها ما ذكرنا أنفا ـ " الدين لله والوطن للجميع " وشعار " لادين في سياسة ولا سياسة في دين " والله سبحانه وتعالى يقول:" قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين " الأنعام 162 فمن صرف حياته لغير الله سبحانه وتعالى فقد كفر وأشرك وخرج من ملة الإسلام
(3) استباحتهم ما حرم الله سبحانه وتعالى فاستباحوا الربا، والتبرج، والسفور، ودعوا الناس إليها ودافعوا عنها وتصدوا لمن ينكرها أو يحذر منها
(4) سخريتهم بتعاليم الإسلام وأهله، ورميهم بالتخلف والجمود والرجعية والإرهاب
فهل بعد هذا يشك عاقل بكفر هؤلاء العلمانيين وشركهم ؟
الواجب على كل مسلم نحو العلمانيين:
أ ) الواجب على المسلمين إن كانوا رعاة أن يحصروهم ويقعدوا لهم كل مرصد، ويقيموا عليهم حكم الله في المرتدين لقوله صلى الله عليه وسلم:" من بدل دينه فقتلوه " رواه البخاري وأي تبديل أعظم من تبديل العلمانيين لدين الله سبحانه وتعالى
ب ) والواجب على المسلمين إن كانوا رعية أن يهتكوا ستر العلمانيين، ويفضحوهم، ويبينوا شركهم وكفرهم، ويحذروا منهم، ولا يخافوا في الله لومة لائم قال الله تعالى:" يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم ومأوئهم جهنم ويئس المصير " التوبة 73(/2)
اللهم يارب جبريل وميكائيل فاطر السموات والأرض أرنا في العلمانيين ومن أعانهم وأيدهم عجائب قدرتك، اللهم أحصهم عددا واقتلهم بددا ولا تبق منهم أحدا
وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على هديه إلى يوم الدين
" وإذا قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون "
...(/3)
دعاة في البيوت
تناول الدرس أهمية البيت كمؤسسة موجودة في جميع المجتمعات، وذكر عددا من الآداب التي تبرز إهتمام الإسلام بالبيوت، ثم وجوب التوجه إلى البيوت بالدعوة إلى الله تعالى، وذكر جملة من الواجبات تجاه بيوتنا بالشرح والتفصيل مع ذكر نماذج من السنة وحياة الرعيل الأول.
إن الحمد لله؛ نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه، وعلى آله، وأصحابه، وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً ، أما بعد ،،،
أهمية هذا الموضوع
أعتقد أن هذا الموضوع- دعاة في البيوت- من أخطر الموضوعات التي يجب أن يتحدث عنه الخطباء والمحاضرون لأسباب منها:
أولاً :أن البيت الذي تأوي إليه الأسرة يحوي جميع شرائح المجتمع، ففيه الأبوان والأولاد والصغار من الأطفال، وفيه الذكور والإناث، فهو عبارة عن مؤسسة متكاملة، وهذه المؤسسة في النهاية هي التي تكوِّن المجتمع الأكبر .
ثانياً :كثير من المجتمعات قد تفتقد بعض المؤسسات: كالمدارس، أو أماكن العمل، أو الأصدقاء والقرناء، بل هناك مجتمعات كثيرة لا يوجد فيها حتى المسجد ، لكن البيت من بداية الدنيا إلى اليوم: لايوجد مجتمع ليس فيه بيوت تأوي إليها الأسر، بغض النظر عن كون هذا مجتمع مسلم أو كافر، غنى أو فقير، كبير أو صغير، فالأسرة ، فالبيت موجود في كل مجتمع، ومؤسسة بهذا الانتشار و الشمول جديرة بأن نخصص لها جزءاً من وقتنا للحديث عنها .
عناية الإسلام بالبيوت
منذ نزل القرآن الكريم؛ نجد عناية الإسلام بالبيت كمؤسسة، ومن ذلك :
1- تحريم دخول المنزل إلا بإذن أهله : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا [27] {سورة النور . معنى تستأنسوا : يعنى تستأذنوا : السلام عليكم، أ أدخل؟ ثلاثاً، فإن أَذِن لك، وإلا فارجع، ولا يجوز لإنسان أن يدخل بيتاً إلا بعد الاستئذان، فإن أُذِن له، وإلا رجع، ولهذا فرض الاستئذان؛ لحماية البيوت، وبيان كرامتها .
2- تحريم النظر بلا إذن : حتى مجرد النظر حرمه الإسلام، ففي يوم من الأيام اطَّلَعَ رَجُلٌ مِنْ جُحْرٍ فِي حُجَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِدْرًى يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ فَقَالَ
3- إذا نظر بلا إذن فعينه هدر :
بل بلغ من عناية الإسلام بهذا الأمر أنه لو نظر إنسان في بيتك، وتيقنت هذا، ففقأت عينه، فعينه هدر لا قيمة لها؛ لأنه قد أهدر كرامتها حين استخدمها فيما لا يجوز، وسمح لبصره بأن يتسلل إلى بيوت الآخرين، فإن بيوت الناس فيها عورات محفوظة معنوية، ومن أجل هذا وضع الإسلام هذا السياج.
4- أهمية حق الجار: التشريعات الإسلامية كثيرة في حقوق الجار، وجارك له حقوق عظيمة حتى قال الرسول عليه الصلاة والسلام مَا زَالَ يُوصِينِي جِبْرِيلُ بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ] رواه البخاري ومسلم وأبوداود والترمذي وابن ماجه وأحمد . إلى هذا الحد كثرت الوصاية بالجار حتى توقع الرسول عليه الصلاة والسلام أن الأمر يؤول إلى أن الجار يصبح يرث مثل ما يرث الأب، والابن، و غيرهم .
5- صلاة النافلة في البيت أفضل : ومن ذلك أيضاً تجد أن الرسول عليه السلام كان يأمر أصحابه بأن يصلوا في بيوتهم أحياناً يعنى صلاة النافلة، فعَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ اجْعَلُوا فِي بُيُوتِكُمْ مِنْ صَلَاتِكُمْ وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا] رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وأحمد. بل قال عليه السلام في الحديث الآخر أَفْضَلُ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ] رواه البخاري ومسلم وأبوداود والترمذي والنسائي والدارمي ومالك وأحمد . فالنوافل يستحب أن يؤديها الإنسان في المنزل لأنها أبعد عن الرياء ... وحتى يراك أهل البيت، فيقتدوا بك في عملك وعبادتك ...وحتى تطرد الشياطين عن هذه المنازل بذكر الله تعالى فيها، وإقام الصلاة، فإن هذه البيوت إذا أقيمت فيها الصلاة أصبحت تشبه المساجد، لكن إذا تركت الصلاة فيها، فإنها تصبح كالقبور التي لا تجوز الصلاة فيها، فما بالك إذا تحولت البيوت إلى أماكن للفساد، والرذيلة، والانحلال، وأصبح بها قنوات ونوافذ كثيرة توصل إلى البيت رياح الفساد، فحينئذ لاتصبح كالقبور فإن القبور ليس فيها هذا، بل تصبح أشبه ما تكون بالمواخير، وأماكن الفساد، وبيوت الحرام.
وجوب التوجه إلى البيوت بالدعوة إلى الله تعالى
الإسلام جعل للبيوت هذه الكرامة، وهذه المكانة، ولو نجحنا في إقناع الناس بالاهتمام ببيوتهم، وتوجيه الدعوة إليها؛ فإننا سنحصل على نتائج مهمة منها :(/1)
أ – كثرة عدد الشباب الدعاة : سنجد ألوفاً من الشباب يقومون بمهمة الدعوة، وبدون مرتب أيضاً إلا من الله تعالى .
ب- تكوين الشباب القادرين على اقتحام البيوت دعوة لله : فبالدعوة المنزلية تكون جندت دعاة يستطيعون أن يقتحموا البيوت، فالداعية قد يخاطب الناس في المسجد، أو في المركز، أو في النادي لكن لا يستطيع أن يقتحم بيوت الناس ليخاطبهم وهم في قعر بيوتهم، ولو فرض جدلاً أن داعية استطاع أن يقتحم بيوت الناس؛ فإنه لا يملك من وسائل التأثير والقوة ما يملكه الشاب، أو تملكه الفتاة في بيتها... ففي البيت أنت عنصر من عناصر تكوين المنزل: هذا أبوك، وهذه أمك، وهذا أخوك، وهذه أختك، وأحيانا هذه زوجتك وهذا طفلك، وولدك، فأنت ترتبط معهم بوشائج وروابط قوية وكبيرة ، تستطيع من خلالها أن تفعل في هذا البيت ما لا يستطيع أن يفعله غيرك في أي حال من الأحوال ، ومن يتصور أن ينتظر مسلم في الدنيا أن يأتي دعاة يدخلوا بيته؛ ليصلحوا أخته، أو زوجته، أو أمه، أو أباه ... هذا لا يتصور بحال من الأحوال .
إننا اليوم ولله الحمد نجد إقبال الناس على الإسلام بشكل غريب منقطع النظير سرت له قلوب المؤمنين فأصبح حديثاً على ألسنتهم كما قال الأول :
أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره هو المسك ما كررته يتضوع
فنحن كلما تحدثنا عن الصحوة، والإقبال على الإسلام نفرح، ونعلن انتصار الإسلام في هذا الزمان على أيدي أولئك القوم الذين آمنوا بربهم، وزادهم الله تعالى هدى . أما أعداء هذا الدين، وهذه الصحوة، فهم يتحدثون حديث المسعور الذي فوجئ بما لم يكن له به حساب ؛ حتى أصبحت مراكز القوى الغربية تصدر التقارير بعد التقارير عن خطر هذه الصحوة وأهمية وكيفية مواجهتها. هذه الصحوة المباركة الكبيرة لا شك تجد في نفوس الكثير من شبابها آمالاً وتطلعات كبيرة، فأي شاب تجده يحلم بانتصار الإسلام، وأن ترفع راية الإسلام خفاقة في كل الأرض، وأن يطرد اليهود من فلسطين، وأن تعود بلاد الإسلام المنكوبة المسلوبة، وأن نسر بتحكيم الإسلام في أنفسنا ودماءنا وأموالنا وأعراضنا، وأن يقوم الإسلام من جديد كما قام أول مرة، ويكتسح الدول الكافرة كما وعد الرسول صلى الله عليه وسلم .
الخطوة الأولى لهذا الهدف الكبير
هذه لاشك آمال وطموحات وتطلعات عزيزة في نفس كل إنسان لكن السؤال المهم هو : ما هي الخطوة الأولى لهذا الهدف الكبير؟ هدف بناء الإسلام ... نشر الإسلام في الدنيا كلها ... هناك مثل يقول: رحلة ألف ميل تبدأ بخطوة واحدة... فما هي هذه الخطوة الواحدة ؟ أقول: الخطوة الواحدة هي إيجاد الداعية في البيت، ومن المؤسف أن تجد بعض الشباب، والفتيات الذين يطمعون في تغيير الدنيا عاجزين عن تغيير بيوتهم، فمن عجز عن حمل هذه الأمانة القليلة كيف يستطيع أن يحمل الأمانة العظمى؟
نماذج من الرعيل الأول : أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانت تنفعل نفوسهم بأحلام وتطلعات انتصار الإسلام: أبو بكر وعمر وعثمان وعلى وبلال وسلمان وعمار وصهيب يوم كانوا في مكة تحت التعذيب والإيذاء والتكذيب والسخرية كانوا يتوقعون ذلك اليوم الذي ترتفع فيه كلمة لا إله إلا الله؛ ولذلك صبروا وصابروا ؛ حتى رزقهم الله تعالى النصر ؛ ومكن لهم في الأرض ، ولكن كانوا يعرفون أن انتصار الإسلام يمر من خلال بيوتهم، ولنأخذ أمثلة على ذلك:
أبو بكر رضي الله عنه :من أولاده؟ أولاده كانوا في ضمن قافلة الإسلام ..كانوا من المؤمنين بالرسول صلى الله عليه وسلم، والمجاهدين في سبيله ودورهم في قضية الهجرة وبناته لايخفى.
عمر رضي الله عنه : من أولاده ؟ ومن أكبرهم وأكثرهم شهرة ؟ عبد الله بن عمر الذي رشح للخلافة رضى الله عنه بعد عهد الخلفاء الراشدين.
على بن أبى طالب رضي الله عنه : من أولاده؟ الحسن والحسين... وأمثالهم من المؤمنين الصالحين الذين أراقوا دماءهم طاهرة زكية؛ لترتفع لا إله إلا الله.
الزبير رضي الله عنه : من أولاده ؟ أولاده عبد الله بن الزبير .... وأمثالهم من الرجال الصالحين الصادقين الذين تربوا على الإسلام، وضحوا في سبيل الإسلام ... وهكذا بقية بيوت الصحابة كان كل بيت محضناً للتربية ... كل واحد من أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام خرَّج لنا مجموعة من الشباب المؤمنين المجاهدين، ومن خلال هذه الأعداد التي تخرجت من البيوت تكوَّن جيش الإسلام، وتحقق انتصار الإسلام، وجاء وعد الله تعالى بالنصر والتمكين.
واجباتنا في البيوت
واجبات أساسية أريد أن أقف عندها ، وهي:(/2)
الواجب الأول : القيام بحاجات البيت ، يجب أن يحرص الشاب الداعية، والفتاة على أن يقوموا بالمصالح والاحتياجات الدنيوية لأهل البيت؛ لأن الشاب الصالح إذا تخلى عن دوره، جاء دور الشاب المنحرف، فأصبح هذا الشاب المنحرف هو الذي يقوم بكل الاحتياجات والمتطلبات، وبالتالي أصبح الشاب المنحرف هو القيِّم الحقيقي على البيت ... هو الشخصية المؤثرة، أما الطيب، فليس له وزن، لماذا ؟ لأنه لم يؤد دوره، وهذا من الأخطاء التي يقع فيها بعض الطيبين، فعليك أن تبذل من وقتك وجهدك ما يحقق لأهل البيت متطلباتهم ... وهكذا بالنسبة لبعض الأخوات.
الواجب الثاني :التوعية، والإرشاد، والتعليم، فالأقربون أولى بالمعروف، والرسول صلى الله عليه وسلم قال له ربه: }وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [214] { سورة الشعراء . فجمعهم، وقال: [ يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا] رواه البخاري ومسلم والنسائي وأحمد والدارمي . فالأقربون أحق، وأولى بأن توجه الدعوة إليهم، وغير صحيح أن تدعو البعيد وبيتك نفسه فيه ألوان الفساد وصوره. لابد أن تبدأ بالبيت من خلال التوعية والتوجيه والتربية والإرشاد عن طريق: التعليم : اجعل عندك حلقة للتعليم في المنزل، ففي الحديث: أن الرسول عليه السلام خصص للنساء يوماً معلوماً، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَتْ النِّسَاءُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَلَبَنَا عَلَيْكَ الرِّجَالُ فَاجْعَلْ لَنَا يَوْمًا مِنْ نَفْسِكَ فَوَعَدَهُنَّ يَوْمًا لَقِيَهُنَّ فِيهِ فَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ فَكَانَ فِيمَا قَالَ لَهُنَّ: [مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمُ ثَلَاثَةً مِنْ وَلَدِهَا إِلَّا كَانَ لَهَا حِجَابًا مِنْ النَّارِ ] فَقَالَتْ امْرَأَةٌ :وَاثْنَتَيْنِ فَقَالَ:[ وَاثْنَتَيْنِ] رواه البخاري ومسلم وأحمد . ومن الملاحظ في الكلام الذي قاله الرسول صلى الله عليه وسلم أنه تكلم مع النساء، ومع أهل البيت بالأمور التي يحتاجونها. إذن لابد أن تحرص على التوجيه والتربية في البيت خاصة فيما يحتاجه أهل المنزل. وصور التعليم كثيرة: فيمكن أن تجعل في البيت مكتبة صغيرة للكتب، وبجوارها مكتبة أخرى صوتية، وتجعل في البيت درساً، ولو في الأسبوع مرة.
الواجب الثالث : الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وله أمثلة كثيرة: فقد مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ فَقَالَ اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي] قَالَتْ:إِلَيْكَ عَنِّي فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي وَلَمْ تَعْرِفْهُ فَقِيلَ لَهَا: إِنَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَتْ بَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ، فَقَالَتْ: لَمْ أَعْرِفْكَ فَقَالَإِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى] رواه البخاري ومسلم وأبوداود وأحمد . فأمرها بالمعروف: أولاً: بالصبر والتقوى، وأمرها ثانياً: بأنه كان يجب عليها أن تصبر عند الصدمة الأولى حين سمعت خبر موت ولدها... مثال آخر: أَتَتْ امْرَأَة مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِنْتٌ لَهَا فِي يَدِ ابْنَتِهَا مَسَكَتَانِ غَلِيظَتَانِ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ أَتُؤَدِّينَ زَكَاةَ هَذَا] قَالَت:ْ لَا قَالَ أَيَسُرُّكِ أَنْ يُسَوِّرَكِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ] فَخَلَعَتْهُمَا فَأَلْقَتْهُمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: هُمَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .رواه النسائي و أبوداود وأحمد. إذن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يربي أصحابه على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بحيث إذا وجد أمراً مما ينكر أو يُستنكَر نبَّه عليه من خلال الوعظ والإرشاد ، والتذكير بالله تعالى في الأمر والنهى، والتذكير بالله في القصة السابقة : [اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي] ...الوعيد بالنار أَيَسُرُّكِ أَنْ يُسَوِّرَكِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ] إذن نحن مطالبون بأن نحيى قلوب أهل البيت، ونربطها بالخوف من الله تعالى، والطمع في رضوانه وجنته، وهذا أمر مبني على تحريك الإيمان في النفوس.(/3)
الواجب الرابع:مراقبة أهل البيت ومحاسبتهم على الأخطاء ، حتى الكبير ممكن أن يسأل ويناقش، حتى الفتاة المتزوجة ، لا تقل : هي في عنق زوجها، وفي ذمته بل يمكن أن يحاسبها أبوها ويسائلها,
ولهذا أمثلة:
1- رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاطِمَةَ ابْنَتَهُ فَقَالَ لَهَا أَيْنَ أَقْبَلْتِ] قَالَتْ: أَقْبَلْتُ مِنْ وَرَاءِ جَنَازَةِ هَذَا الرَّجُلِ قَالَ فَهَلْ بَلَغْتِ مَعَهُمْ الْكُدَى] قَالَتْ: لَا وَكَيْفَ أَبْلُغُهَا وَقَدْ سَمِعْتُ مِنْكَ مَا سَمِعْتُ قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ بَلَغْتِ مَعَهُمْ الْكُدَى مَا رَأَيْتِ الْجَنَّةَ حَتَّى يَرَاهَا جَدُّ أَبِيكِ] رواه أبوداود والنسائي وأحمد . فالنبي صلى الله عليه وسلم سألها مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتِ].
2- قصة عائشة رضى الله عنها قَالَتْ: لَمَّا كَانَتْ لَيْلَتِي الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا عِنْدِي انْقَلَبَ فَوَضَعَ رِدَاءَهُ وَخَلَعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهُمَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ وَبَسَطَ طَرَفَ إِزَارِهِ عَلَى فِرَاشِهِ فَاضْطَجَعَ فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا رَيْثَمَا ظَنَّ أَنْ قَدْ رَقَدْتُ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ رُوَيْدًا وَانْتَعَلَ رُوَيْدًا وَفَتَحَ الْبَابَ فَخَرَجَ ثُمَّ أَجَافَهُ رُوَيْدًا فَجَعَلْتُ دِرْعِي فِي رَأْسِي وَاخْتَمَرْتُ وَتَقَنَّعْتُ إِزَارِي ثُمَّ انْطَلَقْتُ عَلَى إِثْرِهِ حَتَّى جَاءَ الْبَقِيعَ فَقَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ انْحَرَفَ فَانْحَرَفْتُ فَأَسْرَعَ فَأَسْرَعْتُ فَهَرْوَلَ فَهَرْوَلْتُ فَأَحْضَرَ فَأَحْضَرْتُ فَسَبَقْتُهُ فَدَخَلْتُ فَلَيْسَ إِلَّا أَنْ اضْطَجَعْتُ فَدَخَلَ فَقَالَ مَا لَكِ يَا عَائِشُ حَشْيَا رَابِيَةً] قُلْتُ لَا شَيْءَ قَالَ: [لَتُخْبِرِينِي أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ] قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي فَأَخْبَرْتُهُ قَالَ فَأَنْتِ السَّوَادُ الَّذِي رَأَيْتُ أَمَامِي] قُلْتُ نَعَمْ فَلَهَدَنِي فِي صَدْرِي لَهْدَةً أَوْجَعَتْنِي ثُمَّ قَالَ أَظَنَنْتِ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْكِ وَرَسُولُهُ] قُلْتُ مَهْمَا يَكْتُمِ النَّاسُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ قَالَ فَإِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي حِينَ رَأَيْتِ فَنَادَانِي فَأَخْفَاهُ مِنْكِ فَأَجَبْتُهُ فَأَخْفَيْتُهُ مِنْكِ وَلَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ عَلَيْكِ وَقَدْ وَضَعْتِ ثِيَابَكِ وَظَنَنْتُ أَنْ قَدْ رَقَدْتِ فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَكِ وَخَشِيتُ أَنْ تَسْتَوْحِشِي فَقَالَ إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَ أَهْلَ الْبَقِيعِ فَتَسْتَغْفِرَ لَهُمْ] رواه النسائي وأحمد. انظر مسائلة الرسول عليه الصلاة والسلام لعائشة: لماذا؟ أين كنت؟ ما الذي دفعك إلى الخروج؟ ثم انظر إنه يؤدبها، يضربها في صدرها ضربة توجعها... والمقصود من هذه القصص: أن الرسول عليه السلام كان يحاسب زوجاته، وبناته والآخرين ويأمر الناس أن يحاسبوا مَن تحت أيديهم ...
إذن أختم هذه المحاضرة بتلخيص لما ذكرته
أولا:البيت مهم، ولو نجحنا في تجنيد الشباب ليكونوا دعاة في البيوت؛ لنجحنا في تجنيد ألوفاً مؤلفة يستطيعون أن يدخلوا إلى أعماق البيوت، ويؤثروا فيها.
ثانيا: وسائل التغيير والإصلاح في المنزل:
أولاً:أن يكون للشاب والفتاة شخصية قوية في البيت من خلال الخدمات والإصلاحات والمشاركات.
ثانياً : من خلال قنوات التوجيه والتوعية والإرشاد والتعليم .
ثالثاً : من خلال الرقابة الصحيحة على المنزل، وعلى من فيه.
أسال الله عز وجل أن يوفقني وإياكم بأن نكون قائمين على بيوتنا فعلاً كما يجب، مصلحين فيها، محققين للأمانة التي حملنا الله تبارك وتعالى إياها، وأستغفر الله تعالى لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
دعاة في البيوت، للشيخ سلمان بن فهد العودة
تناول الدرس أهمية البيت كمؤسسة موجودة في جميع المجتمعات، وذكر عددا من الآداب التي تبرز إهتمام الإسلام بالبيوت، ثم وجوب التوجه إلى البيوت بالدعوة إلى الله تعالى، وذكر جملة من الواجبات تجاه بيوتنا بالشرح والتفصيل مع ذكر نماذج من السنة وحياة الرعيل الأول.
إن الحمد لله؛ نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه، وعلى آله، وأصحابه، وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً ، أما بعد ،،،
أهمية هذا الموضوع
أعتقد أن هذا الموضوع- دعاة في البيوت- من أخطر الموضوعات التي يجب أن يتحدث عنه الخطباء والمحاضرون لأسباب منها:(/4)
أولاً :أن البيت الذي تأوي إليه الأسرة يحوي جميع شرائح المجتمع، ففيه الأبوان والأولاد والصغار من الأطفال، وفيه الذكور والإناث، فهو عبارة عن مؤسسة متكاملة، وهذه المؤسسة في النهاية هي التي تكوِّن المجتمع الأكبر .
ثانياً :كثير من المجتمعات قد تفتقد بعض المؤسسات: كالمدارس، أو أماكن العمل، أو الأصدقاء والقرناء، بل هناك مجتمعات كثيرة لا يوجد فيها حتى المسجد ، لكن البيت من بداية الدنيا إلى اليوم: لايوجد مجتمع ليس فيه بيوت تأوي إليها الأسر، بغض النظر عن كون هذا مجتمع مسلم أو كافر، غنى أو فقير، كبير أو صغير، فالأسرة ، فالبيت موجود في كل مجتمع، ومؤسسة بهذا الانتشار و الشمول جديرة بأن نخصص لها جزءاً من وقتنا للحديث عنها .
عناية الإسلام بالبيوت
منذ نزل القرآن الكريم؛ نجد عناية الإسلام بالبيت كمؤسسة، ومن ذلك :
1- تحريم دخول المنزل إلا بإذن أهله : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا [27] {سورة النور . معنى تستأنسوا : يعنى تستأذنوا : السلام عليكم، أ أدخل؟ ثلاثاً، فإن أَذِن لك، وإلا فارجع، ولا يجوز لإنسان أن يدخل بيتاً إلا بعد الاستئذان، فإن أُذِن له، وإلا رجع، ولهذا فرض الاستئذان؛ لحماية البيوت، وبيان كرامتها .
2- تحريم النظر بلا إذن : حتى مجرد النظر حرمه الإسلام، ففي يوم من الأيام اطَّلَعَ رَجُلٌ مِنْ جُحْرٍ فِي حُجَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِدْرًى يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ فَقَالَ3- إذا نظر بلا إذن فعينه هدر : بل بلغ من عناية الإسلام بهذا الأمر أنه لو نظر إنسان في بيتك، وتيقنت هذا، ففقأت عينه، فعينه هدر لا قيمة لها؛ لأنه قد أهدر كرامتها حين استخدمها فيما لا يجوز، وسمح لبصره بأن يتسلل إلى بيوت الآخرين، فإن بيوت الناس فيها عورات محفوظة معنوية، ومن أجل هذا وضع الإسلام هذا السياج.
4- أهمية حق الجار: التشريعات الإسلامية كثيرة في حقوق الجار، وجارك له حقوق عظيمة حتى قال الرسول عليه الصلاة والسلام مَا زَالَ يُوصِينِي جِبْرِيلُ بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ] رواه البخاري ومسلم وأبوداود والترمذي وابن ماجه وأحمد . إلى هذا الحد كثرت الوصاية بالجار حتى توقع الرسول عليه الصلاة والسلام أن الأمر يؤول إلى أن الجار يصبح يرث مثل ما يرث الأب، والابن، و غيرهم .
5- صلاة النافلة في البيت أفضل : ومن ذلك أيضاً تجد أن الرسول عليه السلام كان يأمر أصحابه بأن يصلوا في بيوتهم أحياناً يعنى صلاة النافلة، فعَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ اجْعَلُوا فِي بُيُوتِكُمْ مِنْ صَلَاتِكُمْ وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا] رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وأحمد. بل قال عليه السلام في الحديث الآخر أَفْضَلُ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ] رواه البخاري ومسلم وأبوداود والترمذي والنسائي والدارمي ومالك وأحمد . فالنوافل يستحب أن يؤديها الإنسان في المنزل لأنها أبعد عن الرياء ... وحتى يراك أهل البيت، فيقتدوا بك في عملك وعبادتك ...وحتى تطرد الشياطين عن هذه المنازل بذكر الله تعالى فيها، وإقام الصلاة، فإن هذه البيوت إذا أقيمت فيها الصلاة أصبحت تشبه المساجد، لكن إذا تركت الصلاة فيها، فإنها تصبح كالقبور التي لا تجوز الصلاة فيها، فما بالك إذا تحولت البيوت إلى أماكن للفساد، والرذيلة، والانحلال، وأصبح بها قنوات ونوافذ كثيرة توصل إلى البيت رياح الفساد، فحينئذ لاتصبح كالقبور فإن القبور ليس فيها هذا، بل تصبح أشبه ما تكون بالمواخير، وأماكن الفساد، وبيوت الحرام.
وجوب التوجه إلى البيوت بالدعوة إلى الله تعالى
الإسلام جعل للبيوت هذه الكرامة، وهذه المكانة، ولو نجحنا في إقناع الناس بالاهتمام ببيوتهم، وتوجيه الدعوة إليها؛ فإننا سنحصل على نتائج مهمة منها :
أ – كثرة عدد الشباب الدعاة : سنجد ألوفاً من الشباب يقومون بمهمة الدعوة، وبدون مرتب أيضاً إلا من الله تعالى .(/5)
ب- تكوين الشباب القادرين على اقتحام البيوت دعوة لله : فبالدعوة المنزلية تكون جندت دعاة يستطيعون أن يقتحموا البيوت، فالداعية قد يخاطب الناس في المسجد، أو في المركز، أو في النادي لكن لا يستطيع أن يقتحم بيوت الناس ليخاطبهم وهم في قعر بيوتهم، ولو فرض جدلاً أن داعية استطاع أن يقتحم بيوت الناس؛ فإنه لا يملك من وسائل التأثير والقوة ما يملكه الشاب، أو تملكه الفتاة في بيتها... ففي البيت أنت عنصر من عناصر تكوين المنزل: هذا أبوك، وهذه أمك، وهذا أخوك، وهذه أختك، وأحيانا هذه زوجتك وهذا طفلك، وولدك، فأنت ترتبط معهم بوشائج وروابط قوية وكبيرة ، تستطيع من خلالها أن تفعل في هذا البيت ما لا يستطيع أن يفعله غيرك في أي حال من الأحوال ، ومن يتصور أن ينتظر مسلم في الدنيا أن يأتي دعاة يدخلوا بيته؛ ليصلحوا أخته، أو زوجته، أو أمه، أو أباه ... هذا لا يتصور بحال من الأحوال .
إننا اليوم ولله الحمد نجد إقبال الناس على الإسلام بشكل غريب منقطع النظير سرت له قلوب المؤمنين فأصبح حديثاً على ألسنتهم كما قال الأول :
أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره هو المسك ما كررته يتضوع
فنحن كلما تحدثنا عن الصحوة، والإقبال على الإسلام نفرح، ونعلن انتصار الإسلام في هذا الزمان على أيدي أولئك القوم الذين آمنوا بربهم، وزادهم الله تعالى هدى . أما أعداء هذا الدين، وهذه الصحوة، فهم يتحدثون حديث المسعور الذي فوجئ بما لم يكن له به حساب ؛ حتى أصبحت مراكز القوى الغربية تصدر التقارير بعد التقارير عن خطر هذه الصحوة وأهمية وكيفية مواجهتها. هذه الصحوة المباركة الكبيرة لا شك تجد في نفوس الكثير من شبابها آمالاً وتطلعات كبيرة، فأي شاب تجده يحلم بانتصار الإسلام، وأن ترفع راية الإسلام خفاقة في كل الأرض، وأن يطرد اليهود من فلسطين، وأن تعود بلاد الإسلام المنكوبة المسلوبة، وأن نسر بتحكيم الإسلام في أنفسنا ودماءنا وأموالنا وأعراضنا، وأن يقوم الإسلام من جديد كما قام أول مرة، ويكتسح الدول الكافرة كما وعد الرسول صلى الله عليه وسلم .
الخطوة الأولى لهذا الهدف الكبير
هذه لاشك آمال وطموحات وتطلعات عزيزة في نفس كل إنسان لكن السؤال المهم هو : ما هي الخطوة الأولى لهذا الهدف الكبير؟ هدف بناء الإسلام ... نشر الإسلام في الدنيا كلها ... هناك مثل يقول: رحلة ألف ميل تبدأ بخطوة واحدة... فما هي هذه الخطوة الواحدة ؟ أقول: الخطوة الواحدة هي إيجاد الداعية في البيت، ومن المؤسف أن تجد بعض الشباب، والفتيات الذين يطمعون في تغيير الدنيا عاجزين عن تغيير بيوتهم، فمن عجز عن حمل هذه الأمانة القليلة كيف يستطيع أن يحمل الأمانة العظمى؟
نماذج من الرعيل الأول : أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانت تنفعل نفوسهم بأحلام وتطلعات انتصار الإسلام: أبو بكر وعمر وعثمان وعلى وبلال وسلمان وعمار وصهيب يوم كانوا في مكة تحت التعذيب والإيذاء والتكذيب والسخرية كانوا يتوقعون ذلك اليوم الذي ترتفع فيه كلمة لا إله إلا الله؛ ولذلك صبروا وصابروا ؛ حتى رزقهم الله تعالى النصر ؛ ومكن لهم في الأرض ، ولكن كانوا يعرفون أن انتصار الإسلام يمر من خلال بيوتهم، ولنأخذ أمثلة على ذلك:
أبو بكر رضي الله عنه :من أولاده؟ أولاده كانوا في ضمن قافلة الإسلام ..كانوا من المؤمنين بالرسول صلى الله عليه وسلم، والمجاهدين في سبيله ودورهم في قضية الهجرة وبناته لايخفى.
عمر رضي الله عنه : من أولاده ؟ ومن أكبرهم وأكثرهم شهرة ؟ عبد الله بن عمر الذي رشح للخلافة رضى الله عنه بعد عهد الخلفاء الراشدين.
على بن أبى طالب رضي الله عنه : من أولاده؟ الحسن والحسين... وأمثالهم من المؤمنين الصالحين الذين أراقوا دماءهم طاهرة زكية؛ لترتفع لا إله إلا الله.
الزبير رضي الله عنه : من أولاده ؟ أولاده عبد الله بن الزبير .... وأمثالهم من الرجال الصالحين الصادقين الذين تربوا على الإسلام، وضحوا في سبيل الإسلام ... وهكذا بقية بيوت الصحابة كان كل بيت محضناً للتربية ... كل واحد من أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام خرَّج لنا مجموعة من الشباب المؤمنين المجاهدين، ومن خلال هذه الأعداد التي تخرجت من البيوت تكوَّن جيش الإسلام، وتحقق انتصار الإسلام، وجاء وعد الله تعالى بالنصر والتمكين.
واجباتنا في البيوت
واجبات أساسية أريد أن أقف عندها ، وهي:(/6)
الواجب الأول : القيام بحاجات البيت ، يجب أن يحرص الشاب الداعية، والفتاة على أن يقوموا بالمصالح والاحتياجات الدنيوية لأهل البيت؛ لأن الشاب الصالح إذا تخلى عن دوره، جاء دور الشاب المنحرف، فأصبح هذا الشاب المنحرف هو الذي يقوم بكل الاحتياجات والمتطلبات، وبالتالي أصبح الشاب المنحرف هو القيِّم الحقيقي على البيت ... هو الشخصية المؤثرة، أما الطيب، فليس له وزن، لماذا ؟ لأنه لم يؤد دوره، وهذا من الأخطاء التي يقع فيها بعض الطيبين، فعليك أن تبذل من وقتك وجهدك ما يحقق لأهل البيت متطلباتهم ... وهكذا بالنسبة لبعض الأخوات.
الواجب الثاني :التوعية، والإرشاد، والتعليم، فالأقربون أولى بالمعروف، والرسول صلى الله عليه وسلم قال له ربه: }وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [214] { سورة الشعراء . فجمعهم، وقال: [ يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا] رواه البخاري ومسلم والنسائي وأحمد والدارمي . فالأقربون أحق، وأولى بأن توجه الدعوة إليهم، وغير صحيح أن تدعو البعيد وبيتك نفسه فيه ألوان الفساد وصوره. لابد أن تبدأ بالبيت من خلال التوعية والتوجيه والتربية والإرشاد عن طريق: التعليم : اجعل عندك حلقة للتعليم في المنزل، ففي الحديث: أن الرسول عليه السلام خصص للنساء يوماً معلوماً، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَتْ النِّسَاءُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَلَبَنَا عَلَيْكَ الرِّجَالُ فَاجْعَلْ لَنَا يَوْمًا مِنْ نَفْسِكَ فَوَعَدَهُنَّ يَوْمًا لَقِيَهُنَّ فِيهِ فَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ فَكَانَ فِيمَا قَالَ لَهُنَّ: [مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمُ ثَلَاثَةً مِنْ وَلَدِهَا إِلَّا كَانَ لَهَا حِجَابًا مِنْ النَّارِ ] فَقَالَتْ امْرَأَةٌ :وَاثْنَتَيْنِ فَقَالَ:[ وَاثْنَتَيْنِ] رواه البخاري ومسلم وأحمد . ومن الملاحظ في الكلام الذي قاله الرسول صلى الله عليه وسلم أنه تكلم مع النساء، ومع أهل البيت بالأمور التي يحتاجونها. إذن لابد أن تحرص على التوجيه والتربية في البيت خاصة فيما يحتاجه أهل المنزل. وصور التعليم كثيرة: فيمكن أن تجعل في البيت مكتبة صغيرة للكتب، وبجوارها مكتبة أخرى صوتية، وتجعل في البيت درساً، ولو في الأسبوع مرة.
الواجب الثالث : الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وله أمثلة كثيرة: فقد مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ فَقَالَ اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي] قَالَتْ:إِلَيْكَ عَنِّي فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي وَلَمْ تَعْرِفْهُ فَقِيلَ لَهَا: إِنَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَتْ بَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ، فَقَالَتْ: لَمْ أَعْرِفْكَ فَقَالَإِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى] رواه البخاري ومسلم وأبوداود وأحمد . فأمرها بالمعروف: أولاً: بالصبر والتقوى، وأمرها ثانياً: بأنه كان يجب عليها أن تصبر عند الصدمة الأولى حين سمعت خبر موت ولدها... مثال آخر: أَتَتْ امْرَأَة مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِنْتٌ لَهَا فِي يَدِ ابْنَتِهَا مَسَكَتَانِ غَلِيظَتَانِ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ أَتُؤَدِّينَ زَكَاةَ هَذَا] قَالَت:ْ لَا قَالَ أَيَسُرُّكِ أَنْ يُسَوِّرَكِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ] فَخَلَعَتْهُمَا فَأَلْقَتْهُمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: هُمَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .رواه النسائي و أبوداود وأحمد. إذن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يربي أصحابه على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بحيث إذا وجد أمراً مما ينكر أو يُستنكَر نبَّه عليه من خلال الوعظ والإرشاد ، والتذكير بالله تعالى في الأمر والنهى، والتذكير بالله في القصة السابقة : [اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي] ...الوعيد بالنار أَيَسُرُّكِ أَنْ يُسَوِّرَكِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ] إذن نحن مطالبون بأن نحيى قلوب أهل البيت، ونربطها بالخوف من الله تعالى، والطمع في رضوانه وجنته، وهذا أمر مبني على تحريك الإيمان في النفوس.(/7)
الواجب الرابع:مراقبة أهل البيت ومحاسبتهم على الأخطاء ، حتى الكبير ممكن أن يسأل ويناقش، حتى الفتاة المتزوجة ، لا تقل : هي في عنق زوجها، وفي ذمته بل يمكن أن يحاسبها أبوها ويسائلها,
ولهذا أمثلة:
1- رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاطِمَةَ ابْنَتَهُ فَقَالَ لَهَا أَيْنَ أَقْبَلْتِ] قَالَتْ: أَقْبَلْتُ مِنْ وَرَاءِ جَنَازَةِ هَذَا الرَّجُلِ قَالَ فَهَلْ بَلَغْتِ مَعَهُمْ الْكُدَى] قَالَتْ: لَا وَكَيْفَ أَبْلُغُهَا وَقَدْ سَمِعْتُ مِنْكَ مَا سَمِعْتُ قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ بَلَغْتِ مَعَهُمْ الْكُدَى مَا رَأَيْتِ الْجَنَّةَ حَتَّى يَرَاهَا جَدُّ أَبِيكِ] رواه أبوداود والنسائي وأحمد . فالنبي صلى الله عليه وسلم سألها مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتِ].
2- قصة عائشة رضى الله عنها قَالَتْ: لَمَّا كَانَتْ لَيْلَتِي الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا عِنْدِي انْقَلَبَ فَوَضَعَ رِدَاءَهُ وَخَلَعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهُمَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ وَبَسَطَ طَرَفَ إِزَارِهِ عَلَى فِرَاشِهِ فَاضْطَجَعَ فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا رَيْثَمَا ظَنَّ أَنْ قَدْ رَقَدْتُ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ رُوَيْدًا وَانْتَعَلَ رُوَيْدًا وَفَتَحَ الْبَابَ فَخَرَجَ ثُمَّ أَجَافَهُ رُوَيْدًا فَجَعَلْتُ دِرْعِي فِي رَأْسِي وَاخْتَمَرْتُ وَتَقَنَّعْتُ إِزَارِي ثُمَّ انْطَلَقْتُ عَلَى إِثْرِهِ حَتَّى جَاءَ الْبَقِيعَ فَقَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ انْحَرَفَ فَانْحَرَفْتُ فَأَسْرَعَ فَأَسْرَعْتُ فَهَرْوَلَ فَهَرْوَلْتُ فَأَحْضَرَ فَأَحْضَرْتُ فَسَبَقْتُهُ فَدَخَلْتُ فَلَيْسَ إِلَّا أَنْ اضْطَجَعْتُ فَدَخَلَ فَقَالَ مَا لَكِ يَا عَائِشُ حَشْيَا رَابِيَةً] قُلْتُ لَا شَيْءَ قَالَ: [لَتُخْبِرِينِي أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ] قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي فَأَخْبَرْتُهُ قَالَ فَأَنْتِ السَّوَادُ الَّذِي رَأَيْتُ أَمَامِي] قُلْتُ نَعَمْ فَلَهَدَنِي فِي صَدْرِي لَهْدَةً أَوْجَعَتْنِي ثُمَّ قَالَ أَظَنَنْتِ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْكِ وَرَسُولُهُ] قُلْتُ مَهْمَا يَكْتُمِ النَّاسُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ قَالَ فَإِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي حِينَ رَأَيْتِ فَنَادَانِي فَأَخْفَاهُ مِنْكِ فَأَجَبْتُهُ فَأَخْفَيْتُهُ مِنْكِ وَلَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ عَلَيْكِ وَقَدْ وَضَعْتِ ثِيَابَكِ وَظَنَنْتُ أَنْ قَدْ رَقَدْتِ فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَكِ وَخَشِيتُ أَنْ تَسْتَوْحِشِي فَقَالَ إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَ أَهْلَ الْبَقِيعِ فَتَسْتَغْفِرَ لَهُمْ] رواه النسائي وأحمد. انظر مسائلة الرسول عليه الصلاة والسلام لعائشة: لماذا؟ أين كنت؟ ما الذي دفعك إلى الخروج؟ ثم انظر إنه يؤدبها، يضربها في صدرها ضربة توجعها... والمقصود من هذه القصص: أن الرسول عليه السلام كان يحاسب زوجاته، وبناته والآخرين ويأمر الناس أن يحاسبوا مَن تحت أيديهم ...
إذن أختم هذه المحاضرة بتلخيص لما ذكرته
أولا:البيت مهم، ولو نجحنا في تجنيد الشباب ليكونوا دعاة في البيوت؛ لنجحنا في تجنيد ألوفاً مؤلفة يستطيعون أن يدخلوا إلى أعماق البيوت، ويؤثروا فيها.
ثانيا: وسائل التغيير والإصلاح في المنزل:
أولاً:أن يكون للشاب والفتاة شخصية قوية في البيت من خلال الخدمات والإصلاحات والمشاركات.
ثانياً : من خلال قنوات التوجيه والتوعية والإرشاد والتعليم .
ثالثاً : من خلال الرقابة الصحيحة على المنزل، وعلى من فيه.
أسال الله عز وجل أن يوفقني وإياكم بأن نكون قائمين على بيوتنا فعلاً كما يجب، مصلحين فيها، محققين للأمانة التي حملنا الله تبارك وتعالى إياها، وأستغفر الله تعالى لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
دعاة في البيوت، للشيخ سلمان بن فهد العودة(/8)
دعاية الواعظ للمنكر! (2)
د. يوسف بن أحمد القاسم 5/8/1427
29/08/2006
يروي لنا الشيخ الأديب علي الطنطاوي - رحمه الله - في كتابه الذكريات (1/36) عن أحد شيوخه, فيقول: "ومن طريف أخبار ذوي الغفلة من الوعّاظ، أن أحد مشايخنا جاءه من يقول له: إن (منيرة المهدية) تغني وترقص في (العباسية)، فأعلن غضبه في درسه في الجامع الأموي، وقال: كيف ترقص هذه المرأة أمام الرجال، وهي كاشفة جسدها، مبدية مفاتنها؟! أين الدين، وأين النخوة؟ فقالوا: نعوذ بالله، وكيف يكون هذا؟! وأين - يا سيدنا - ومتى؟ قال: في العباسية، في الليل، بعد صلاة العشاء. وكان نصف المقاعد خالياً، فامتلأت تلك الليلة المقاعد كلها! فليتنبه الواعظون، فكثيراً ما تكون المبالغة في وصف المنكر دعاية له!" أهـ.
وبحق، لقد كان هذا الشيخ الواعظ غيوراً على محارم الله تعالى، ولكن مع نوع غفلة، وقصر نظر, كانا سبباً في قيامه بوظيفة الدعاية للمنكر من حيث لا يشعر؛ إذ حشد جمهور هذه المغنية الراقصة من بين أروقة الجامع الأموي, ومن خلال مجلس الوعظ والإرشاد! فبدافع الغيرة، والدفاع عن الدين والنخوة، وصف هذا الواعظ ذلك المنكر بدقة، فوصف الفعل، وسمى الفاعل، بل وحدد الزمان، وعيّن المكان، فأرشد من لم يدُر بخلده ذلك المنكر، ولم يسمع به لحضور ذلكم المشهد الماجن، وبطبيعة الحال فإن الواعظ لم يفطن لهذا الدور الذي قام به! وكان لسان حال عدد من المستمعين لهذا التقريع, و(المتأثرين) بهذا الحدث، والمتلهفين له، هو انتظار وقته الموعود؛ للتطفل برؤيته، أو الاستمتاع بمشاهدته، وبهذا أصبح الترهيب ترغيباً، وصار التحذير يحمل طابع التشويق، بحيث تشوّف عدد من طلابه، أو من حاضري مجلس وعظه؛ لرؤية هذا الرقص والغناء، إما بدافع الفضول، وإما لقضاء الوطر، وهذا كله بسبب غفلة ذلك الداعية، وقلة حنكته في مجال التربية والوعظ، ولا يخفى أن من أبرز صفات الداعية، وأهمها أن يكون حكيماً في دعوته، كما قال الله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ).
فإن كان الداعية حكيماً، يضع الأمور في مواضعها، وإلا أصبح ينقض ما يفتله غيره، ويفسد أكثر مما يصلح!
وللأمثلة على غفلة بعض الوعاظ شواهد عديدة في واقعنا المعاصر, أضرب لها مثالاً واحداً، نراه يتكرر كثيراً في بعض الكلمات الوعظية، والمحاضرات التوجيهية، عبر برامج الإذاعات والقنوات، وأشرطة التسجيل، وهو دعوة كثير من هؤلاء الفضلاء إلى البر بالوالدين والإحسان لهما، ولكن من خلال سرد قصص العقوق البشعة التي يقشعر لها البدن، ويشتعل منها الرأس شيباً، وذلك بهدف وصف واقع هذا العقوق, والتنفير منه، والتنديد به، وأحياناً أخرى لأجل بيان عاقبته، وسوء مغبته، وفي ظني أن هذا الأسلوب الوعظي - الصادر بنية حسنة، وغيرة صادقة - يجرئ النفوس على التمرد والعصيان، أكثر مما يحدوها إلى البر والإحسان، فكم من مقصر في حق الوالدين أو أحدهما، يسمع قصص العقوق البالغة في القبح، والموغلة في الوحشية، المتمثلة في قتل الوالدين، أو ضربهما، أو سبهما، أو طردهما من المنزل وإلقائهما في ملاجئ العجزة، أو نحو ذلك مما تشمئز منه النفوس الإنسانية، فضلاً عن المسلمة، فيقارن نفسه المقصرة بهذه الصور الوحشية من العقوق، فيرى نفسه قد بلغت من البر مداه، ومن الإحسان أعلاه، مع كونه مقصراً في جنب والديه، فيهون عليه ما هو فيه من تفريط، ويصغر في عينه ما هو واقع فيه من تقصير، بل ربما يرى أنه قد قام بالبر كما يجب؛ مقارنة بغيره, ومن هنا كان خطأ الداعية أو الواعظ حين اتخذ من أسلوب هذا القصص مطية له في الحث على البر والصلة والإحسان.
ويتضح هذا أكثر بالنظر إلى أسلوب الشارع الحكيم، حين أمر بالبر بالوالدين، وحذّر من عقوقهما، فهو حين أمر بالبر ضرب أروع الأمثلة، وأعظم القصص في البر، مما تتشوف النفس إلى بلوغه، وتذعن له بالتقصير مهما بلغت من بر وإحسان، كما يتجلّى هذا في حديث الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة، ومنهم ذلك الولد البار الذي كان له أبوان شيخان كبيران، وكان لا يقدم قبلهما أهلاً ولا مالاً، فنأى به طلب الشجر يوماً، فلم يرجع إليهما إلاّ بعد نومهما، فحلب لهما غبوقهما، فوجدهما نائمين، فكره أن يوقظهما وأن يقدم عليهما أهلاً ولا مالاً، فلبث ينتظر استيقاظهما - والقدح في يده- حتى برق الفجر، فاستيقظا، فشربا غبوقهما, ففرّج الله تعالى عنه ما هو فيه من كرب، فانظر إلى هذه الصورة التي يتجسد فيها البر بأبهى صوره، والتي يقف عندها كثير من الأبناء البررة حائرين، عاجزين عن الوصول إلى هذه المرتبة العلية التي دونها خرط القتاد! مكتفين باحتقار النفس أمام هذه المنزلة الرفيعة، مهما كانت الهمة في البر والإحسان، ومهما بلغت المنزلة فيهما.(/1)
وبالمقابل، حين يضرب الشارع مثالاً للعقوق، فإنه يمثله بأدنى صوره؛ ليزجر النفوس المسلمة عما هو أشنع منه فعلاً، وأقبح منه جرماً، ففي القرآن الكريم يضرب الشارع مثالاً للعقوق بقوله: (فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا). فهذه الكلمة المكونة من حرفين (أفٍ) اعتبرها الشارع من العقوق، إذاً فكيف بمن تفوّه بما هو أكثر منها عدداً، وأقسى لفظاً، وأقبح معنى! وحين حذّر النبي -صلى الله عليه وسلم- من سبّ الوالدين في قوله: "لعن الله من سبّ والديه" لم يفسر سبّهما بمواجهتهما بالسبّ والشتم، كلا, وإنما فسره بقوله: "يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه"، وكأن سبّ الوالدين- حاضراً, أو مستقبلاً - لا يقع من ولد مسلم لوالده مواجهة, وإنما من حيث لا يشعر من وقع منه السب، بحيث يكون سبه للغير ذريعة لذلك، وإذا كان ذلك كذلك، فكيف بمن يسب والديه، ويقابلهما بالكلام المستهجن والقبيح، لا شك أن إثمه أكبر, وعقوبته أعظم، كما يدل عليه السياق تلميحاً لا تصريحاً، وهو كما ترى أبلغ من أسلوب التصريح الذي تنبو منه الأسماع.
وحين أراد الشارع أن يجسد صورة من صور العقوق بين ولد ووالده، لم يضرب مثالاً صريحاً وبالغاً في القبح والدناءة، ولم يضرب مثالاً ظاهراً للعيان، يبدو للمكلف من أول وهلة بأنه عقوق، وإنما ضرب مثالاً يدع المكلف في حيرة، ويلتبس عليه الأمر كما التبس ذلك على جريج العابد في قصته المشهورة مع أمه، حين نادته وهو في صلاته، مقبل على ربه، فأُرتج عليه، وقال: يا رب أمي وصلاتي، ومع وقوع هذه الحيرة منه، وجهله بالواجب عليه هل يقبل على صلاته، أم يجيب أمه، مع هذا كله، فإنه حين دعت عليه أمه أن يرى وجوه المومسات، استجاب الله دعاءها، وقد جاءت القصة في سياق أثر التأخر عن إجابة نداء الوالدة، وسوء عاقبته، ولاسيما مع حاجتها الملحة، وكونه في صلاة نفل لا فرض، بحيث أصيب جريج بدعوة أمه، مع فرط عبادته، وكأن الشارع أراد من المسلم أن يعتبر بذلك، وألاّ يصل إلى هذا الحد الذي وصل إليه جريج، فيبوء بالعقوبة العاجلة، ولو كان عابداً في صومعته، فضلاً عن أن يجرؤ عاق أن يقدم على ما هو أعظم من هذا وأشنع، وهنا يتجلى الأسلوب الإلهي الحكيم في التحذير من العقوق، والتخويف من مغبته بأدنى صوره، وأخف أشكاله، والله تعالى أعلم وأحكم.(/2)
· دعاء وابتهال إلهي
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
إلهي ! وفي جَنْبيّ خَفْقَةُ وامِقٍ ... ... وإنِّيَ أوَّابٌ إِليكَ و خَائِفُ
... ...
وَفي الدَّار أَهْوالٌ تَمورُ و فِتْنةٌ ... ... تَدُورُ ودَمْعٌ بين ذلكَ نازِفُ
... ...
ودَفْقُ دماءٍ والضَّحَايا تَنَاثَرَتْ ... ... زَلازِلُ جُنّتْ حَوْلَنَا وَرَواجِفُ
... ...
تَصَدَّعَ بُنَيانٌ فأهْوَى وهذِه ... ... أَعَاصِيرُ مازَالَت به وعَواصِفُ
... ...
تهافَتَتِ الدُّنْيا عَلَينَا فَأَقْبَلِتْ ... ... حُشودٌ تَوَالتْ في الدّيار زَوَاحِفُ
... ...
كأنَّهُمُ مَالَوا إلى قَصْعَةٍ لَهْمُ ... ... فَضجّتْ لها أحشادُهم والطوائفُ
... ...
وحُوشٌ عَلَى أنْيَابِها المَوْتُ مُقْبِلٌ ... ... وكُلُّ فُؤادٍ دُونَ ذلك وَاجفُ
... ...
كَأَنّ الرّدَى بَيْن المخالِبِ رَابضٌ ... ... فإن وثَبَتْ فالمَوتُ ماضٍ وخاطفُ
* ... * ... *
إلهي ! وهذي أُمَّتي مَزَّق الهَوى ... ... قُوَاها وغَشّاهَا هِوىً وزخارفُ
... ...
يقود خُطاها في الدَّياجير تائهٌ ... ... ويَدْفَعُها بَين الأعاصير واكفُ (1)
... ...
فُهُنَّا وداستْنَا زُحُوفٌ ومُرِّغِتْ ... ... جِباهٌ وأهوى في الوُحول غُطارفُ(2)
... ...
ومالوا على أَعرَاضِنا فاستباحها ... ... لِئامٌ فَلمْ يلقَوا كُماةً تُخَالفُ
... ...
فكم مِنْ فَتَاةٍ مَزَّقَ القَهْرُ سِتْرَها ... ... وروَّعها في النائِبات الكواشِفُ (3)
... ...
هُناكَ على " البُوسْنا " دَواهٍ وفتنةٌ ... ... وفي أَرْض " كشميرٍ " لظىً وقذائِفُ
... ...
وهذي فِلسْطِينُ المُدَمّاةُ وَيْلَنا ... ... يَغِيبُ تَلِيدُ المجْدِ مِنْها وطارفُ
... ...
تَغيبُ وراءَ الأفق مِنْها مَعَالِمٌ ... ... نَديُّ ظِلالٍ مِنْ رُباها ووارفُ
... ...
تطير قُلوبُ المؤمنين لِسَاحِها ... ... فَتنْهضُ لِلّقيا رُبى ومشارفُ
... ...
وللمَسجدِ الأَقْصَى حَنينٌ ولهفةٌ ... ... تجيشُ بهَا أشْواقُنَا والعَواطِفُ
... ...
وفي كُلِّ أرْضٍ فِتْنَةٌ بعد فِتْنَةٍ ... ... ويَومٌ عَبُوسُ الشَرِّ والهَوْل كَاسِفُ(4)
... ...
وَقَدْ كُشِفَتْ عَوْراتُنا وتَقَطّعَتْ ... ... عُرَانا وهانَتْ سَاحَةٌ ومَوَاقِفُ
... ...
تَمُّر بِنَا الأحْداثُ حَتَّى كَأَنَّها ... ... أَحَاديثُ لَهْوٍ تَنْطَوي وَسَوالِفُ
... ...
إِلهي ! فَمَنْ لِلْمُسْلِمينَ وَقَدْ غَفَوْا ... ... وما أَيَقظَتْهُمْ آيةٌ وَمَصَاحِفُ
... ...
إِلهي ! أَعِنَّا واسْكُب النُّور بَيْننا ... ... بأَفْئدَةٍ ضَاقَت عَلَيْها المَصَارفُ
... ...
وأَلِّفْ قُلوباً فَرَّق الحِقْدُ بَينها ... ... وقَدْ يَجْمعُ الأضْدَادَ يوماً تآلفُ
... ...
وَهَبْنَا يَقِيناً في القُلوبِ لَعَلَّنَا ... ... نَهُبُّ إلى سَاحَاتنا ونُشارِفُ
... ...
وأَنْزل عَلَيْنا رَحْمةً تغسل الذي ... ... نَهُمُّ به من مأثَمٍ ونُقَارفُ
... ...
ونَنْزعُ عَنْ آثامِنا ، عَلَّ تَوْبةً ... ... يُفيقُ بِهَا لاَهٍ عن الأمْرِ عازِفُ
... ...
فَتدْفُقُ في المَيْدَان مِنّا جَحافِلٌ ... ... يَمُوجُ بِهَا شَاكي السّلاحِ وعاطِفُ
... ...
ونَحْمِلُ للدّنيا رسَالةَ ربِّنا ... ... نُخاصِمُ في هَدْيٍ لها ونُعَاطِفُ
... ...
ونَمْضي بِهَا صَفّاً كَأَنَّ جُنودَه ... ... قواعدُ بُنيانٍ ، فَداعٍ وزَاحفُ
... ...
فَتنزلُ نَصْراً يا إلهي ورَحْمةً ... ... إِذا صَحَّ عَزْمٌ في الميادين عاكِفُ
* ... * ... *
الجمعة
23/11/1413هـ
14/5/1993م ... ... ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· ديوان مهرجان القصيد .
(1) وَكَفَ : يَوكفُ وَكفاً : مال وحار ، أو وقع في عيب أو مأثم ، أو فسد رأيه .
(2) غُطارفُ : السيد الكريم .
(3) كَشفت الكواشفُ فلاناً : فضحته .
(4) يوم كاسِفٌ : شديد الشرّ والهول(/1)
دعوة و نداء
ذكرى وتذكير
أبيات من الشعر أطلقها مدوّية في أذن كل مسلم وكل حركة إسلامية ، وقد امتدّت الأحداث والفواجع في ديار المسلمين ، وامتدّ المكر والكيد من أعداء الله ، وامتدّ التمزّق بين المسلمين ، وأمامنا الأحداث الدامية والفتن والفواجع دروس وعبر فهل نعتبر ؟!
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
أخي رُوَيْدَكَ ! بي ممّاَ يَحلُّ بِنا ... ... همٌّ يَطُولُ وبي مِنْ قوْمنِا عَجَبُ
همٌّ يَكادُ مَعَ الأهْوالِ يَذْهَبُ بي ... ... وغَضْبةٌ لم تَزَلْ في الصَّدْر تَضطربُ
ضَجَّتْ شِعاراتُنا في كلِّ ناحِيةٍ ... ... ولم تضجَّ بنا الساحاتُ و الهضبُ
يَكادُ بنياننا يَنْهارُ مِنْ وَهَنٍ ... ... والناس في غفوة الأحلام قد ذهبوا
ما بالُنا افْتَرَقَتْ ساحاتُنا شِيعَاً ... ... يكاد يَطْحَنُهمْ مِن خُلْفهِمْ حَرْبُ
كلُّ يُقيمُ عَلَى أحلامِهِ وثَناً ... ... يَظَلُّ في وهْمِهِ يَرْجو ويَرْتَقِبُ
الجاهليّة مَدَّت مِنْ مَخالِبها ... ... فَقْطّعَ الرّحِمُ الموصُولُ والسَّبَبُ
*** ... * ... ***
أخي مَدَدْتُ يَدِيْ بالأمْسِ مرتَجِياً ... ... عَوْناً على الحقِّ! نِعْمَ السعيُ والطَّلَبُ
رَجَوتُ لُوْ يَلْتَقي حَشدُ الدعاة على ... ... صَفٍّ وَيَنْهضُ بُنيانٌ لنا أشِبُ
ولو تَلُمُّ عُرَا الإيمان فُرْقَتنا ... ... وعروةُ الحقِّ والتوحيد مُنْتَسَبُ
أشاحَ وانْفضَّ مَنْ أمّلتُ نصَرتَهُمْ ... ... وأدْبَروا في دُرُوب الخُلف و احْتَجَبُوا
كلٌّ يظنُّ هَواهُ الحقَّ يَدْفَعُه ... ... وهْمٌ يُزَيَّنُ فيه النّصْرُ والغَلبُ
حتى جَنَوا غُصَصاً تَدْمَى وفاجعةً ... ... وَفَتْنَة لم تَزَلْ تَعْلُو وتَلتَهبُ
و ذلّة لم تَزَلْ تُحنِي أُنُوفَهُمُ ... ... إلى التُّرابِ وتحنِيهمْ بها الكُرَبُ
هَمْسٌ يَدُور ونجْوَى لا وَفَاءَ بها ... ... كم فرّقَ المسلمين الظنُّ و الكذبُ
وفوَّتوا فُرَصاً كانت نجاتُهُمُ ... ... فيها فما عادَ يُجدي اللَّومُ والعَتَبُ
لله أشْكُو الذي نَلْقَاه ! ما يَئِسَتْ ... ... نفسي ولا وهَنَ البذلُ الذي يجبُ
ولا العَزَائِمُ هَانتْ وهي صادقة ... ... لله يدفَعُها الترْغيبُ والرّهَبُ
خوفاً مِنَ الله ، أشواقاً لجَنَّتِهِ ... ... تَكَشَّفَتْ عندها الأسْتَارُ والحُجُبُ
فانهضْ لنجمَع مِنْ أشْتاتنا أمَلاً ... ... وتَوْبَةً عَلَّنا نَدْنُو و نَقْتَرِبُ
*** ... * ... ***
الرياض
15ذو الحجة 1416هـ
الموافق 2/5/1996م ... ... ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· من ملحمة الإسلام من فلسطين إلى لقاء المؤمنين .(/1)
دعوة ونداء
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
(( المص . كتاب أنزل َ إليك فلا يكنْ في صَدْركَ حرَجٌ منهُ لتنذرَ به وذكرى للمؤمنين . اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم و لا تتبعوا من دونهِ أولياء قليلاً ما تذكرون )) [ الأعراف : 1ـ3 ]
مع هذه اللحظات المظلمة من حياة الأمة المسلمة ، لا يختلف اثنان على أن الخطر محدق وأنَّ النوازل منذرة بعذاب شديد من عند الله .
ولا يختلف المؤمنون الصادقون أبداً على أن الله حق عادل لا يظلم أبداً ، وأنْ ما نلاقيه هو بما كسبت أيدينا نحن المسلمين .
وإذا غفلنا عن العبر والدروس كلها من تاريخنا الطويل ، فلا يعقل أبداً أن نغفل عن العبر التي يقدمها القرن الأخير ، القرن العشرون ، وما لاقاه المسلمون من فشل بعد فشل ، وما لاقته الأمة كلها من فواجع وأهوال ، وهزيمة بعد هزيمة ، ذلك كله بما كسبت أيدينا .
وإنّ الكبر الذي في النفوس ، الكبر الذي يزينه الشيطان للكثيرين ، والعصبية الجاهلية لأوثان شتى ، أوثان من عرض الدنيا ، ومن أهوائنا ومصالحنا الشخصية ، ومن إقليمية وقومية وعائلية ، ومن حزبية انحصر فيها الولاء حتى مزقتنا ، وأوثان من شهوة المال والسمعة وحب الدنيا ، هذه كلها أعمت أبصارنا عن أن نرى أخطاءنا وعيوبنا ، وأقعدت عزائمنا عن معالجة العيوب والأخطاء ، حتى تراكمت العيوب وأقامت حاجزاً عالياً يحجب الرؤية العادلة ويخنق الكلمة الأمينة .
لذلك نوجه الدعوة والنداء إلى المؤمنين الصادقين ، ليلتقوا في لقاء كريم ، في لقاء المؤمنين ، ليلتقوا على حق بين لا يصح الخلاف فيه في دين الله ، وعلى أسس محددة يأمر بها الله سبحانه وتعالى ، وعلى نهج مفصل يقوم على ذلك كله ، وعلى قاعدة عامة رئيسة يجب أن نتعاون فيما أمر الله أن نتعاون فيه ، ويعذر بعضنا بعضاً فيما أذن الله لنا الخلاف فيه .
وإنْ أول الأمر أن ننبذ تلك الأوثان كلها ، والعصبيات كلها ، حتى يكون ولاؤنا الأول ولاءٌ خالصاً لله وحده ، نقياً صافياً ، تثبته الكلمة والموقف والسلوك ، وعهدنا الأول هو عهدنا الثابت مع الله ، عهداً بيناً فصله منهاج الله . وأن ينبع من هذا الولاء الأول الخالص لله والعهد الأول كل موالاة وكلُ عهد بين المؤمنين ، وكلُ مودة وأن تعود الروابط روابط إيمانية يصوغها منهاج الله قرآناً وسنة ولغة عربية ويصوغها الإيمان والتوحيد في واقعنا ، وأن توضع المناهج العملية التطبيقية لبناء ذلك وتكوينه وصياغته ، ولتنميته وحمايته .
وإن الأمر الثاني بعد الإيمان والتوحيد والمناهج التطبيقية لبنائه في النفوس ، هو التزام منهاج الله قرآناً وسنة ولغة عربية ، التزاماً عملياً منهجياً لا التزام شعار ، التزام علم وتدبر وتصديق وممارسة إيمانية في الواقع ، وأن تقوم المناهج التطبيقية لتحقيق ذلك في واقع المسلمين ، كما كان في مدرسة النبوة ، حتى لا تظل قضايانا الإيمانية شعارات ومزايدات في أمواج يدفعها التنافس على الدنيا ، حتى نتبع في ذلك كله أمر الله وما أنزله إلينا (( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ... ) ) ، وحتى لا نتبع من دونه أولياء أبداً . واتباع الذي أنزل من عند الله لا يتم إلا بصدق الإيمان والتوحيد ، وبصدق العلم بمنهاج الله ، وبفهم الواقع الذي نعمل فيه ، وبسلامة الممارسة الإيمانية .
والأمر الثالث الذي ندعو إليه هو أن يصاحب دراسة منهاج الله دراسة الواقع الذي جهلناه طويلاً ، وأن تكون دراسة الواقع دراسة منهجية من خلال دراسة منهاج الله ، قائمة عليه ملتزمة به ، نرد الواقع كله إلى كتاب الله ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم رداً أميناً يقوم على صدق الإيمان والتوحيد ، وعلى صدق العلم بمنهاج الله ، وأن تقوم المناهج التطبيقية التفصيلية لتحقيق ذلك في واقع الأمة ، تحقيقاً عملياً ، حتى لا تظل قضايانا الإيمانية تموج في شعارات وزخارف لا نجد رصيدها الحق في الواقع .
والأمر الرابع هو الممارسة الإيمانية التي يجب أن تخضع للأسس الثلاثة السابق عرضها ، من خلال التدريب المنهجي والإعداد والبناء المنهجي ، في مدرسة الدعوة الإسلامية لتأخذ الممارسة الإيمانية شمولها وامتدادها في واقع الأمة ولتأخذ سائر خصائصها الربانية .
وإننا نؤمن أنها مسؤولية كل مسلم يلتزم بذلك ، ثم يدعو بيته وأسرته حتى يلتزموا ، ثم يكون كل مسلم مسؤولاً وعوناً صادقاً على جمع كلمة الأمة كلها على هذا الحق الذي يأمر به الله ، دون أن يعطله الضعفاء والحائرون وأعداء الله المفسدون في الأرض ، ثم تنطلق الأمة المسلمة الواحدة كلها لتدعو الناس جميعاً إلى الإيمان والتوحيد .
وإننا نؤمن أن هذه الجهود كلها يجب أن تنتظم في نهج مفصل محدد ، يرسم الدرب ويبين معالمه ، ويحدد الأهداف التي يقود إليها الدرب ، حتى لا تنفصل الأهداف عن الدرب ، وحتى يجتمع الدرب والأهداف في نهج واحد يقوم على الأسس الأربعة السابق ذكرها .(/1)
وإننا نؤمن أن هذا النهج يجب أن يبين تفاصيل الميزان الذي يوزن به الرجال والناس ، وأن يبين منازل المؤمنين ، ليقف المؤمنون عند منازلهم العادلة ، وعلى قدر وسعهم وطاقتهم ، وعلى قدر مسؤولياتهم وأماناتهم ، وبذلهم وعطائهم على أساس من منهاج الله ، وميزانه ، لا على أساس الهوى والمصالح .
وإننا نؤمن أن هذا النهج يجب أن يكون نامياً متطوراً مع الأيام ، لا يتوقف نموه وتطوره ، ولا يتعجل الخطوات والمراحل ، حتى لا تضطرب مسيرته ، وتختلط أهدافه .
وإننا إذ نقدم هذا النهج نظرية مع قاعدتها الصلبة وركنيها الأساسين وأسسها وعناصرها ، فإننا نقدم كذلك تفصيلات كل جزء من هذه النظرية العامة مع مناهج تطبيقية ونماذج عملية في عدد من الميادين ، لتنطلق المسيرة في أمة واحدة ، تستكمل في مسيرتها النهج النامي مع البذل والسعي والعطاء بدون توقف أثناء المسيرة .
من أجل هذا كله ، ومن أجل المسيرة في بناء الأمة المسلمة الواحدة نوجه هذه الدعوة وهذا النداء ، إلى جميع المسلمين في أنحاء المعمورة ، نرجو بذلك طاعة الله خاشعين له تائبين إليه ، ناصحين لله ورسوله وللمؤمنين ولعامة المسلمين وأئمتهم ولأنفسنا .
نوجه هذه الدعوة وهذا النداء ليأخذ التعاون ، الذي أمر الله به ، صورته الجادة الصادقة ، لنعذر أنفسنا بين يدي الله ، يوم لا ينفع مال ولا بنون ، ولا زخرف ولا أهواء ، إلا من أتى الله بقلب سليم صادق .
نوجه هذه الدعوة وهذا النداء إلى " لقاء المؤمنين الصادقين المتقين العاملين " ، إلى نهجه ودربه وأهدافه ، موجزين ذلك كله في كتاب " النهج والممارسة الإيمانية " وكتاب " موجز النظرية العامة في الدعوة الإسلامية والنهج العام وأساس لقاء المؤمنين " .
إننا نؤمن بأن كل جماعة إسلامية لن تستطيع وحدها أن تبلغ ما تعلنه من أهداف في أجواء الشقاق والتدابر ، والضعف والهوان ، وسيصاب الجميع بالهزيمة والخسران ، وأعظم أسباب الخسران هو عدم رضاء الله وغضبه وعقابه وعذابه . وإننا نؤمن أن ساحة العمل الإسلامي تتسع لكل الطاقات الصادقة ، والقدرات المؤمنة ، لجميع العاملين الصادقين الذين يرجون الله والدار الآخرة ، الذين يكون ولاؤهم الأول الصادق لله ، وعهدهم الأول الصادق مع الله ، وحبهم الأكبر لله ولرسوله ، هو سبب لقائهم ومصدر قوتهم ورباط جمعهم ، حتى لا يبقى تنافس على عرض من الدنيا زائل من شهوة المال أو السمعة أو الجاه أو الأهواء ، وحتى لا يبقى إلا تنافس في طرح المناهج التطبيقية الجامعة ، وفي صدق النية ، وفي صدق الزاد ، وفي صدق البذل والعطاء لله ورسوله ، ومعالجة الأخطاء وتنمية الجهود وتزكيتها على درب الجنة يطرق أبوابها العاملون الصادقون الباذلون المتقون .
من أجل ذلك يجب التحرر من كل الأهواء التي تتعارض مع هذا الولاء وهذا العهد وهذا التصور للتعاون والعمل ، حتى لا يسقط في الطريق وأثناء المسيرة أحد تاركاً أخاه وسط الطريق ، لا يعينُه إلى الوصول إلى الهدف الأكبر والأسمى _ الجنة _ . " .... والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه " .
من أجل ذلك لا بد من الوضوح والجلاء ، والفهم المتبادل والمعرفة الواسعة الواضحة ، واتباع جميع الوسائل التي تبني الثقة واليقين والاستمرار جميعاً في المسيرة دون انقطاع .
إلى هذا كله نوجه " الدعوة والنداء " في هذه اللحظات الحرجة من تاريخ الأمة المسلمة ، ليلتقي المؤمنون الصادقون في " لقاء المؤمنين " والذي يجمع هو الكتاب والسنة والنهج الواضح المفصل القائم عليها ، ووضوح الدرب والأهداف .
ذكرى وعِتاب
أبياتٌ من الشِّعر أطلقها مُدَوِّيةً في أُذُنِ كلِّ مسلم يخشى الله واليوم الآخر ، وقد امتدَّت الأحداث والفواجع في ديار المسلمين ، قتلاً وتدميراً وتشريداً وتجويعاً واغتصاباً ، على مكر من الأعداء مازال يمتدُّ ويتَّسع ، وتتكشَّفُ خَبيئة كيده يوماً بعد يوم ، حين تزول البسمة الماكرة عن وجهه ، وتبرز الأنياب والأظافر والمخالب ، وكلُّ أسلحة الهلاك ! دروس وعبر ، وفواجع ونذر ، فهل نعتبر ، ونصحو من غفوتنا .
ذكرى وتذكير ، ودعوة ونداء ، كلمات موجزة عن سعي جاد لتذكير القلوب ، وجمع النفوس ، معذرةً إلى الله سبحانه وتعالى ، دون يأس أو كلل أو ملل ، وإنما هي ثقة متينة بالله ورحمته ، إذا تابعنا التذكير والدعوة ، والنداء والنصيحة ، مادام الصراط المستقيم مشرقاً بنور الحق ، مستقيما فلا يضلُّ عنه صادق ، وواحداً فلا يُخْتَلَفَ عَلَيه ، يجمع المؤمنين في الأرض أُمة مسلمة واحدة ، إلاّ إذا غَلبَ الهوى والخلاف !
عقودٌ كثيرة مضت وأنا أُؤَكِّد هذه الدعوة الإيمانية الشرعية ، الدعوة إلى لقاء المؤمنين على أُسسٍ ربّانية، ونهج عام واحد ، يرسم الصراط المستقيم الذي بيَّنه الله لنا وفصّله وأمرنا باتباعه ، ليجمع المؤمنين صفاً واحداً كالبنيان المرصوص . فلماذا تاه المسلمون عنه فتفرقوا ، واختلفوا عليه فتمزقوا ، ثم ضعفوا وهانوا ؟ !(/2)
عقودٌ كثيرة وأنا أُذكّر بخطر النهج المتبع في قضية فلسطين ، في نصح وتذكير ، ودراسات وكتب ، ولقاءات ومؤتمرات ، وسفر وتجوال .
دعوة ونداء
أَخي رُوَيْدَكَ ! بي مما يَحلُّ بنا
...
...
همٌّ يَطُولُ وبي مِنْ قوْمِنا عَجَبُ
همٌّ يَكادُ مَعَ الأهْوالِ يَذهَبُ بي
...
...
وغَضْبةٌ لم تَزَلْ في الصَّدْرِ تَضطربُ
ضَجَّتْ شِعَاراتُنا في كلِّ ناحِيَةٍ
...
...
ولم تضجَّ بِنا الساحات و الهضبُ
يَكادُ بنياننا يَنْهارُ مِنْ وَهَنٍ
...
...
والناس في غفوة الأحلام قد ذهبوا
ما بالنا افتَرَقَتْ ساحاتنا شِيعَاً
...
...
يكاد يَطْحَنُهمْ مِن خُلْفهِمْ حَرَبُ
كلٌّ يُقيمُ عَلى أحْلامِهِ وثَناً
...
...
يَظلَُّ في وهْمِهِ يَْرجو ويَرْتَقِبُ
الجاهليّة مَدَّتْ مِنْ مَخالبها
...
...
فَقُطّع الرّحِمُ الموصُولُ و السَّبَبُ
*
...
*
...
*
أَخي ! مَددْتُ يَدِيْ بالأمس مرتَجياً
...
...
عَوْناً على الحقَّ !نِعْمَ السعيُ والطَّلَبُ
رَجَوتُ لَوْ يَلْتَقي حَشدُ الدعاة على
...
...
صَفًّ ويَنْهضُ بُنيانٌ لنا أَشِبُ
ولو تَلُمُّ عُرَا الإيمانِ فرْقَتنا
...
...
وعروةُ الحقَّ و التوحيدِ مُنْتَسَبُ
أَشَاح و انْفَضَّ مَنْ أمّلتُ نصَرتَهُمْ
...
...
وأدْبَروا في دُرُوبِ الخُلفِ و احْتَجبُوا
كلٌّ يظنُّ هَواهُ الحقَّ ، يَدْفَعُه
...
...
وهْمٌ يُزَيَّنُ فيه النّصْرُ و الغَلبُ
حتى جَنَوا غصَصاً تَدْمَى و فاجعةً
...
...
وَفتْنَةً لم تَزَلْ تَعْلُو و تَلتَهبُ
وذلّةً لم تَزَلْ تُحْنِي أُنُوفَهُمُ
...
...
إِلى التُّرابِ و تحنِيهمْ بها الكُرَبُ
هَمسٌ يَدُور ونجْوَى لا وَفاءَ بها
...
...
كم فرّقَ المسلمين الظنُّ و الكذبُ
*
...
*
...
*
و فوَّتوا فُرَصاً كانت نجاتُهُمُ
...
...
فيها فما عادَ يُجدي اللّومُ و العَتَبُ
لله أشْكُو الذي نَلْقَاه ! ما يئِسَتْ
...
...
نفسي ولا وَهَنَ البذلُ الذي يجبُ
ولا العَزَائِمُ هَانتُ وهي صادقةٌ
...
...
لله يدفَعُها الترْغيبُ و الرّهَبُ
خوفاً مِنَ الله ، أشواقاً لجَنَّتِهِ
...
...
تَكَشَّفَتْ عندها الأَسْتَارُ و الحُجُبُ
فانهضْ لنجمَع مِنْ أَشْتاتنا أَمَلاً
...
...
وتَوْبَةً عَلَّنا نَدْنُو و نَقْتَرِبُ
*
...
*
...
*
الرياض 15ذو الحجة 1416هـ الموافق 2مايو 1996م(/3)
دعوات أم مواعظ
د.عبدالوهاب بن ناصر الطريري* 16/9/1423
21/11/2002
الموقف في دعاء القنوت مظنة إجابة الدعاء حيث تبسط الأيدي في دبر قيام الليل ويؤمن الجميع على الدعاء وفيهم العباد والصلحاء والضعفاء ومن لو أقسم على الله لأبره، وهم في حال من الخشوع والاخبات ورقة القلب، وكل ذلك من أسباب اجابة الدعاء، ولذا فإن اغتنام هذا الموقف باختيار جوامع الأدعية ومأثورها، الجامعة لخيري الدنيا والآخرة، وهو ما نلاحظه في كثير من المساجد حيث الأئمة من الحفاظ وطلبة العلم، ولكن ثمة ملاحظات قليلة تصدر بحسن نية من البعض نذكرها من باب التذاكر والتواصي بالحق فمن ذلك:
(1) الإطالة المملة في الدعاء والتي تشق على الناس وتثقل عليهم العبادة، فيؤمنون وقلوبهم قد كلت وسئمت، وهذا من فتنة الناس عن العبادة وتثقيلها عليهم، وإذا كان النبي – صلى الله عليه وسلم – قد أنكر على معاذ إطالته قراءة القرآن في الصلاة، فكيف بإطالة الدعاء.
(2) ترتيل الدعاء كما ترتل آيات الكتاب مع أن الأصل في الدعاء الانكسار والإخبات، والخضوع بلا تكلف ولا تقصد لنغمة معينة أو أداء معين ولم ينقل إلينا أداء الدعاء مرتلاً كما نقلت آيات الكتاب العزيز؛ فإثقال الدعاء بالمد اللازم والإدغام بغنة والقلقلة، تكلف يبعد عن لب الدعاء وهو الخشوع فيه.
(3) التفصيل عند الدعاء بأحوال البرزخ ويوم القيامة بطريقة تحول الدعاء إلى موعظة؛ فربما سمعت من يدعو بالثبات عند الممات إذا بردت القدمان وشخصت العينان، ويبس اللسان في وصف طويل لحالة الاحتضار وهذا من الوعظ وليس من المسألة في شيء ومثله من يسأل أن يجيرنا الله من النار إذا جئ بها يوم القيامة تقاد بسبعين ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك، فأين هذا كله من الدعاء القرآني الجامع (وقنا عذاب النار)؛ ومثل ذلك التفصيل في ذكر نعيم الجنة والذي هو لازم دخولها ولذا أنكر سعد ابن أبي وقاص – رضي الله عنه – على ابنه لما سمعه يسأل الله الجنة ونعيمها واستبرقها ويستعيد من النار وأغلالها وكذا وكذا وقال له: إني سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: "إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء" وإن بحسبك أن تقول: اللهم أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل".
وهذا التفصيل يخرج بالدعاء عن مقصودة وهو المسألة إلى باب آخر وهو الوعظ والتذكير والترقيق وهو مطلوب ولكن في غير هذا الموقف.
إن الاسترسال بهذه الطريقة يشعرك بأنك تستمع إلى خطيب قد ولاك ظهره وليس إلى قانت يسأل لك ربه.
(4) التفصيل في الدعاء على الكفار، بتجميد الدماء في عروقهم، وحبسهم في جلودهم، وأن يتمنوا الموت فلا يجدوا إليه سبيلاً وأن ترمل نساؤهم وييتم أطفالهم في طائفة من هذا النوع طويلة فإين هذا مما ورد في الدعاء على المعتدين "اللهم اهزمهم وزلزلهم" " اللهم أشدد وطأتك عليهم " "اللهم اكفناهم بما شئت" ونحوه.
بل انك تعجب غاية العجب عندما تسمع تعميم العقوبة على كل كافر من اليهود والنصارى والشيوعيين والدعاء عليهم بالفناء والهلاك وهذا فيما أحسب من الاعتداء في الدعاء لأمور منها:
أ. أننا نعلم بخبر نبينا أن ذلك مخالف لقدر الله – عز وجل – الذي قدره وخبر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذي أخبر، فالروم في آخر الزمان أكثر الناس، وستجرى الملاحم الكبرى في أخر الزمان مع الكفار، وستقوم الساعة على شرار الناس، "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ" [هود:118].
ب. أننا على يقين أن من الكفار من لهم نفوس سوية، وفطر مستقيمة وأنهم مهيؤون لقبول الدعوة وتلقى الهداية، كما قال جل وعز عن مشركي قريش (عسى أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة) ولو أيقنا أن كل الكفار قد شد على قلوبهم لما كان لرواية حديث (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) كبير معنى، ولم يكن لكل جهد نبذله في الدعوة مبرر ولا جدوى.
ومثل ذلك الدعاء على الكفار أن يقطع الله نسلهم، ونحن نتذكر أن النبي – صلى الله عليه وسلم – استأنى بقومه وهو يقول "لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً وقوله – صلى الله عليه وسلم – وقد قيل له يا رسول الله ادع على المشركين فقال – صلى الله عليه وسلم – (إني لم أبعث لعانا، وإنما بعثت رحمة).
نعم إن من أسباب هذا الانفعال كله الشعور بحرارة الظلم والبغي من الدول الكبرى والذي أمض القلوب، وأقض المضاجع، وعقد المرارات في أفواه المسلمين، ولكن المسلم يصدر في دعائه وسائر عباداته من الأدلة الشرعية وليس المشاعر النفسية.(/1)
(5) النواح والصياح في البكاء بطريقة مجيشة، وانفعال وتفاعل ربما تجاوز إلى الصراخ والعويل المزعج. وتقارنه بما ورد عن النبي – صلى الله عليه وسلم – تجد البون واسعاً، فأين هذا وحديث ابن مسعود عندما قرأ على النبي – صلى الله عليه وسلم – صدر سورة النساء حتى قال له: حسبك، قال: فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان، وهذا مشعر أن ابن مسعود ما شعر ببكائه إلا حين التفت إليه.
إن في جوامع الأدعية المأثورة غنى عن كثير من التفصيل المطنب، وفي الخشوع المخبت إقتفاء للهدي النبوي، وعصمة من الأحوال التي يكون لرؤية الناس حضور فيها، ومرادات النفوس غلابة، ومساربها خفية، والموفق من استعصم بما ورد، ومن اقتدى فقد اهتدى. *المشرف على المكتب العلمي لموقع الإسلام اليوم www.islamtoday.net(/2)
دعوة إلى الصفاء بين الزوجين
مفكرة الإسلام : إن السعادة الزوجية أشبه بقرص من العسل تبنيه نحلتان، وكلما زاد الجهد فيه زادت حلاوة الشهد فيه.
ولا شك أن مسؤولية السعادة الزوجية تقع على الزوجين، فلابد من وجود المحبة بين الزوجين.
وفي الوقت نفسه نقول: إن البيت السعيد لا يقف على المحبة وحدها بل لابد أن تتبعها روح التسامح والتصافي بين الزوجين إن الزواج في نظر الإسلام سكن نفسي واطمئنان روحي وصفاء قلبي مشترك، وتعاون بين الزوجين على قطع مرحلة الحياة معًا على درب واحد.
وانظر ما أروع تعبير القرآن الكريم في هذا الشأن: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21].
وبهذه المودة وهذا الصفاء تحل كل المشاكل الناشئة فيما بعد، فهي مشاكل تنشأ بين حبيبين لا جامع بينهما إلا الوفاء أما غيرهما فالرابط بينهما هو المنفعة والمصلحة.
وهذه دعوة خاصة إلى الصفاء والتصافي بين الزوجين، والتجاوز عن الزلات.
ولكن كيف يتحقق الصفاء بين الزوجين؟
يمكن تحقيق الصفاء بين الزوجين عبر هذه المراحل التالية:
ـ المصارحة اللطيفة لها فعل السحر في إعادة علاقتكما الزوجية إلى الهدوء والسكينة إن عكّر صفوها معكّر.
ـ اطلب من زوجتك أن تجلس بقربك وضمها إلى صدرك مع لمسات ونظرات تعبّر عن حب وشوق، وأحسن معاملتك لزوجتك تحسن هي إليك، أشعرها أنك تفضلها على نفسك، وأنك حريص على إسعادها، ومحافظ على صحتها، ومُضحٍ من أجلها ـ إن مرضت مثلاً ـ بما أنت قادر عليه.
ـ لاطف زوجتك بعبارات تشعل ما في قلبها من عاطفة وغريزة، وتأسَّ برسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك 'فهلا بكرًا تلاعبها وتلاعبك' [رواه البخاري] وحتى عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وهو القوي الشديد الجاد في حكمه ـ كان يقول: 'ينبغي للرجل أن يكون في أهله كالصبي ـ أي في الأنس والسهولة ـ فإن كان في القوم كان رجلاً'.
ـ وللزوجة أقول تهيئي لاستقبال زوجك بترحيب حار ومظهر جميل ورائحة طيبة تنسيه عناء العمل ومتاعبه.
ـ انظري في عيوب زوجك نظرة حبيب فتصغر عيوبه ويهون ما كنت ترينه كبيرًا، وتأملي قول الشاعر:
عين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا
ـ التزمي الهدوء عندما يغضب زوجك ثم صارحيه بما صدر منه وعاتبيه بود 'ويبقى الود ما بقي العتاب'.
ـ وللزوج أقول الزم الهدوء ولا تغضب؛ فالغضب أساس الشحناء والتباغض، وإن أخطأت تجاه زوجتك فاعتذر إليها ـ وهذا ليس عيبًا ـ، لا تنم ليلتك وأنت غاضب منها وهي حزينة باكية، تذكّر أن ما غضبت منه ـ في أكثر الأحوال ـ أمر تافه لا يستحق تعكير صفو حياتكما الزوجية، ولا يحتاج إلى كل ذلك الانفعال. استعذ بالله من الشيطان الرجيم وهدئ ثورتك، وتذكّر أن ما بينك وبين زوجتك من روابط ومحبة أسمى بكثير من أن تدنسه لحظة غضب عابرة، أو ثورة انفعال طارئة.
ـ اشتغلي أيتها الزوجة بمرضاة زوجك حتى تلقي منه ما يرضيك، ويترجم ذلك قول الأعرابية لابنتها: 'كوني له أمة يكن لكِ عبدًا'.
وفي الحديث عن أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راضٍ دخلت الجنة' رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.
ـ أكثري من كلمة حبيبي أحبك فهي لم تخصص للعشاق إنما لك أنت وزوجك.
ـ إن كنتِ امرأة عاملة فلا تعكري صفو العلاقة بينك وبين زوجك بمشاكل العمل وانعكاساته على نفسيتك بل دعي كل ما يخص العمل في مكانه وعودي إلى البيت صافية وخالية.
ـ إن كرهت عزيزي الزوج من زوجتك خلقًا فتذكّر خُلقًا آخر حتى تصفو مشاعرك تجاهها، وتذكّر معنى قول رسولنا الحبيب صلى الله عليه وسلم : 'لا يفرك مؤمن أي لا يبغض مؤمنة إن كره منها خلقًا رضي منها آخر'.
فحاول أن تغض الطرف عن بعض نقائص زوجتك، وتذكّر ما لها من محاسن ومكارم تغطي هذا النقص.
ـ أشعر زوجتك أنها في مأمن من أي خطر، وأنك لا يمكن أن تفرّط فيها أو أن تنفصل عنها.
ـ قابل التصرفات الصادرة من زوجتك بنوع من الحلم بعيدًا عن العنف.
ـ ولا تهن زوجتك؛ فإن أي إهانة توجهها إليها تظل راسخة في قلبها وعقلها، وأخطر الإهانات التي قد لا تستطيع زوجتك أن تغفرها لك هي أن تنفعل فتضربها أو تشتمها أو تلعن أباها أو أمها أو تتهمها في عرضها.
ـ تجنب هذا الأسلوب من المدح إذا أردت أن تثني على زوجتك 'أنت إنسانة رائعة...ولكن' فقد تنسى كل مديحك ولا تتذكر إلا ما استثنيته فقط.
وهنا نقف ونسأل: هل الصفاء بين الزوجين يؤثر على العلاقة بينهما وعلى حياة أفراد الأسرة؟
وللإجابة على هذا السؤال تذكر أهمية التصافي على علاقة الزوجين وحياة أفراد الأسرة فيما يلي:
ـ الصفاء يقوي انتماء الزوجة لزوجها ويزيد من رغبة الزوج في القرب من زوجته.
ـ الصفاء ينعش الحياة الزوجية فيعيش الزوجان حالة حب يتجدد كل يوم.(/1)
ـ وبه يزداد احترام الزوج لأسرة زوجته، كما يقوي تقدير الزوجة لأسرة زوجها وصفاء قلبها تجاههم.
ـ والصفاء يُضفي جو من الهدوء وراحة البال على المنزل.
ـ بالصفاء يعي كل من الزوجي دوره فيكون زوجًا وأبًا بمعنى الكلمة وتكون زوجة وأمًا بمعنى الكلمة.
ـ بالصفاء تتجدد الأجواء الإيمانية في المنزل فتستقيم نفس الزوجة والزوج إذا كانا على يقظة وتقوى علاقتهما بالله عز وجل.
ـ بالصفاء تتوثق وتصفو علاقة كلا الزوجين بمن حولهما من أصدقاء وأقرباء.
ـ بالصفاء يصبح الزوجان قادرين على مواجهة مشاكل الأبناء وتصرفاتهم بحكمة وهدوء بعيدًا عن العنف والانفعال.
ـ والصفاء يؤدي إلى استقرار نفسيات الأبناء وهدوئها، ويتكيف الأبناء مع والديهم ويزداد الانتماء إليهم، فيلجأون إلى والديهم إذا شقّ عليهم أمر أو احتاجوا لمساعدة.
ـ وبالصفاء تقل خلافات الأبناء مع بعضهم وتسير نحو التفاهم والانسجام ويتحسن التحصيل العلمي والمستوى الدراسي للأبناء.
وفي الختام أدعو الله لجميع الأسر المسلمة أن تصفو قلوبهم لتصفو حياتهم.(/2)
دعوة إلى الهدوء
د. عبد الرحمن صالح العشماوي*
هدوء النفس من داخلها يعني أنها مستقرة سعيدة، راضية مطمئنة، سليمةٌ من شوائب القلق والحيرة والاضطراب، ومن نيران الغيرة الجانحة والحقد والبغضاء.
هدوء النفس من داخلها يؤكد أنها في حالة مصالحة تامة مع القلب والعقل، والروح والبدن، وأنها لا تشكو من سوء الظنِّ، ولا تتخبّط في ظلمات الشك، ولا تهيم في دروب الضياع.
هدوء النفس من داخلها هو الذي يجعل صاحبها قادراً على المشاركة الفاعلة في بناء الحياة على وجه الكوكب الأرضي ودفع مسيرتها في طريق النجاح وهو الذي يكوِّن شخصية الإنسان السَّويَّة التي لا تعاني من إفراطٍ ولا تفريط، الشخصية التي تتفاءل من دون غفلةٍ وتَحْذَر من دون وساوس، وتعطي كلَّ حالةٍ ما تستحق من الاهتمام دون مبالغة، وتنصرف إلى النافع المفيد من الأقوال والأعمال.
هذا هو الهدوء الذي ندعو إليه، ونحثُّ أنفسنا عليه، ونعتقد أنه طريق من أهم طرق الاستقرار والنجاح، وأنه سبب من أسباب الفلاح.
كيف تكون النفس هادئة؟
إنها مسألة مهمة في حياة البشر، وهي تبدو شديدة الصعوبة، بعيدة التحقيق في نظر كثير من الناس، بل إنَّ بعضهم قد يظنها مستحيلة التحقيق، وإننا لنسمع من يقول: أين الهدوء؟ أين الراحة؟ أين الاستقرار النفسي؟ ذلك ما لا يمكن أن يصل إليه الإنسان في الدنيا.
ونقول:
إن الهدوء النفسي لا يقاس بمظاهر الحياة الدنيا ذات البريق، ولا بالمال الكثير، ولا بالجاه والمنصب، ولكنه يقاس بالإيمان واليقين، وصدق التوجّه إلى ربّ العالمين، وسلامة الصدر من الحسد وداوعيه، والبغضاء وأسبابها، ولن يتحقق ذلك إلا بقوة صلة الإنسان بربّه عبادةً، ودعاءً ورجاءً، وامتثالاً لأوامره، وانتهاءً عن نواهيه.
إن هدوء النفس يصبح سهل التحقيق، قريب المنال حينما يصبح الإنسان مدركاً لمعنى وجوده في الأرض، وسعيه في مناكبها، مطبقاً لما أمر به الدين الحقّ من الخير وحبّه وعمله، والسعي إلى نشره بين الناس، ودعم كلِّ عملٍ أو قول أو موقفٍ لنفع الناس ومصلحتهم، لأن الإنسان - في هذه الحالة - يؤكد ويقوّي وسائل الاستقرار النفسي بالانسجام بين أقواله وأفعاله وبين دواعي الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها.
إنَّ كثيراً من البشر ممن نعرفهم ونعيش معهم ظنوا أن الطريق إلى هدوء النفس إنما هو بجمع المال، والحصول على الوجاهة الاجتماعية، والشهرة والمكانة بأي وسيلة ممكنة، ولكنهم - بسبب هذا الظن الخاطئ - أوغلوا في سراديب القلق والاضطراب وعدم الاستقرار وهم لا يشعرون، فلم تستقر نفوسهم، ولم تهدأ، ولم تنشرح صدورهم، حتى سمعنا قائلهم يقول: هذه الحياة نكد في نكد، وشقاء في شقاء، وقد سألت أحدهم ذات يوم: كيف أنت الآن بعد رحلتك الطويلة الناجحة في دنيا المال والأعمال؟
فقال لي: ماذا تتوقع من رحلة في غابات مليئة بالوحوش؟ قلت له: وماذا تنوي أن تصنع الآن؟ قال: لقد عزمت على السكن في مكة أو المدينة، لأكون قريباً من أحد المسجدين المباركين فما وجدت راحة النفس وهدوءها إلا فيهما.
لقد صدق الرجل فهدوء النفس لا يتحقق إلا بالإيمان بالله، وطاعته واللجوء إليه، وحسن التوكل عليه، والإحسان إلى الناس امتثالاً لأمره، وإنّ في لحظات من ذكر الله عز وجل من الراحة والهدوء ما يساوي مظاهر الدنيا وبهرجها طول الحياة لو فطن الغافلون.
وهناك صورة أخرى لرجل غني رأيتها عن قرب، صورة للسعادة والهدوء النفسي تبدو على وجهه وفي مسيرة حياته، وما التقيت به إلا وجدت الرّضا في وجهه بارزاً، وحينما اطلعت على سيرته أدركت سبب هدوئه وراحته، إنه على صلةٍ وثيقة بربه، متعلق به متوكّل عليه، يحسن إلى الفقير، ويساعد المحتاج، ولا يتوانى عن مدِّ يد العون للناس أبداً، ويرتّب أوقاته ترتيباً دقيقاً على أوقات الصلوات، ويكثر من الدعاء والذِّكر في الخلوات.
هكذا يمكن أن يجد الغني والفقير، والكبير والصغير (هدوء النفس) وراحة الضمير، وانشراح الصدر، مهما تغيّرت مسيرة الحياة البشرية، واضطربت أحوالها.(/1)
دعوة إلى مدّ الحياة
د. عماد الدين خليل/ الإسلام اليوم
-1-
ومَن وعى التاريخَ في صدره ** أضافَ أعماراً إلى عمره ..
وأنا أتذكر هذا البيت تذكرت في الوقت نفسه كيف يمنح الإسلام الإنسان فرصة فذة لمدّ رحلة حياته القصيرة وإغنائها، وجعلها أعماراً لاتُحصى بدلاً من العمر الضيق، المسطح، الواحد، القصير الذي يعرفه الإنسان العادي، ويتألم من ضيقه وقصره وسرعة انصرامه!!
إن الشاعر يريد أن يقول هنا بأن إدراك التاريخ والإلمام بدقائقه المتلاحقة الموغلة في الزمن، ومعايشتها كما لو كانت واقعة اللحظة، يمنح حياة الإنسان امتداداً في الماضي يضيف من خلاله الكثير من التجارب والمواقف والأحداث إلى مكونات هذه الحياة المحدودة، فيمتد بها، ويغنيها بأعمار جديدة لاتُعد ولا تُحصى ..
-2-
في القرآن الكريم دعوة (يومية) في الاتجاه نفسه، إن آياته البينات ترحل بالمؤمنين عبر كل تلاوة في مجرى الزمن، وتحكي لهم عن وقائع التاريخ المزدحمة، وأحداثه المتلاحقة ومعطياته المتمخضة عن القيم والعبر والدلالات معظم سور القرآن تضرب على الوتر نفسه، فلا تخلو من واقعة تاريخية أو حدث ماضٍ أو دعوة لاستلهام المغزى من هذه التجربة أو تلك .. إن الامتداد الذهني والوجداني إلى الماضي يشكل مساحة واسعة في كتاب الله، وقد تحدثت عن الموضوع بإسهاب في مقدمة كتاب (التفسير الإسلامي للتاريخ) .. لكنني هنا بصدد مسألة أخرى .. إن تأكيد القرآن على المعايشة التاريخية، وإعادة عرضها المرة تلو المرة، بأسلوب مؤثر وصيغ تهز الوجدان، يلعب دوره في إغناء حياة الإنسان ومدها وتكثيفها ومنحها الفرصة لأن تكسب - بتعبير الشاعر - أعماراً أخرى .. لكن الأمر لا يقف عند هذا الحد .. إن القرآن الكريم والتجرية الإيمانية عموماً، تسعى لأن تمد أبصار الإنسان إلى المستقبل القريب والبعيد جنباً إلى جنب مع التوجه صوب الماضي. وهذا النزوع المستقبلي كما أنه يؤكد حركية الإسلام على المستوى العام، فإنه على المستوى الوجودي الخاص -إذا صح التعبير - يمنح الإنسان فرصة أخرى لمدّ حياته وإغنائها وكسب رصيد زمني تتضاءل إزاءه السنون الخمسون والستون أو حتى التسعون التي تُحسب عمراً للإنسان.
وأي مستقبل هذا الذي يتواصل معه الإنسان المسلم؟
إنه زمن مفتوح على مصراعيه، ممتد في الأبدية، لاتقطّع فيه، ولا حواجز، ولا زوال .. إنها الرؤية التي تلغي واقعة الموت من حسابها، فتحرّر الإنسان من عمره المحدود وتطلقه في المدى عبر آلاف السنين صوب يوم الحساب!!
ويوم الحساب في كتاب الله قريب بعيد.. ومهما يكن من قربه أو بعده فإنه يجيء بمثابة بدء لزمن الخلود الذي لاينتهي أو ينعدم أبداً..
كل منا تملّكه هذا الإحساس اللذيذ، المطمئن، العزيز، بين الحين والحين.. وأن عمره ليس بمحدود وأن زمنه ليس بفانٍ، وأنه ممتد بمشيئة الله وقوة الروح في الزمن
القادم .. وليس الموت حاجزاً أو فاصلاً، ليس الموت نهاية طريق أو باباً موصداً .. إنه مجرّد نقلة، نقلة سريعة، ينطلق الإنسان بعدها لمواصلة الحياة بهذا الشكل أو ذاك مما لا يعلم كنهه إلا الله سبحانه.
كل منا أحس، في مجابهته الضغوط النفسية والمتاعب التي لا تنقضي والأحزان المتجددة، أنه قادر على تجاوز الأسر والانطلاق في الزمن، حيث لاخوف ولا تناقص ولا عد تنازلي باتجاه لحظة الأفول الأخيرة ..
إن رحلة الإنسان في التصور الإسلامي ماضية إلى هدفها .. طويلة مديدة .. وإنها وهي تتوجه صوب يوم الحساب القريب البعيد لتأمل في معانقة خلودها الموعود!!
وما أروعه من إحساس يملأ وجدان الإنسان وعقله وقلبه باقتناع ليس إلى تعريفه من سبيل ، ويدفعه إلى نفور جارف ورفض حاسم لكل أولئك الذين رأوا في حياتهم الدنيا فرصتهم الأولى والأخيرة، وفي سنيهم الخمسين والسبعين عمرهم الوحيد.. أيكون الإنسان، بعد هذه الرحلة القصيرة، لقمة سائغة للعدم؟ إنه تصوّر تضيق معه نفس المؤمن الذي يرفض خرافة العدم هذه، حتى ليكاد يختنق وهو يعاينها من بعيد ..
لقد خُلق الإنسان لكي يظل موجوداً .. لكي يمتد في الزمن فلا يكون عرضة لانعدام أو فناء ..إن هذا هو الذي يميز الإنسان عن الحيوان والأشياء .. إنها مرهونة بعمر محدود، تتلاشى بعده وتضيع .. أما الإنسان فإنه يتفرد على الكائنات، ويظل ممتداً في الأبدية، دائماً في الزمان .. ليس الإنسان (شيئاً) أو (حيواناً)!!
-4-(/1)
والقرآن الكريم معروفة طرائقه الفنية المؤثرة في التعامل مع الزمن .. إنه يتنقل بحرية بين الأزمان الثلاثة .. يلغي الحواجز ويزيل المتاريس، ويمضي يحدثنا عن وقائع الكون والحياة والعالم .. الماضي وكأنه يتخلق أمام أعيننا .. المستقبل وكأنه أصبح ماضياً.. الحاضر وكأنه ممتد، ممتد، ماضياً ومستقبلاً .. فلا أول له ولا انتهاء .. (من أجل هذا يغدو التاريخ) في القرآن الكريم وحدة زمنية، تتهاوى الجدران التي تفصل بين الماضي والحاضر والمستقبل، وتتعانق هذه الأزمان الثلاثة عناقاً مصيرياً .. حتى الأرض والسماء .. زمن الأرض وزمن السماء .. قصة الخليقة ويوم الحساب .. تلتقي دائماً عند النقطة الحاضرة في (بانوراما) القرآن .. فهذا الانتقال السريع بين الأزمان الثلاثة يوضح حرص القرآن على إزالة الحدود التي تفصل بين الزمن باعتباره وحدة حيوية متصلة، فتغدو حركة التاريخ التي يتسع لها الكون حركة واحدة تبدأ يوم خلق الله السماوات والأرض، وتتجه نحو يوم الحساب. إن الحياة الدنيا فعل تاريخي مستمر يتشكل من الماضي والحاضر، ويرتبط بمستقبل يوم الحساب الذي هو بمثابة المصير النهائي لفاعلية الإنسان في العالم .. ولهذا يقدم لنا القرآن وصفاً رائعاً يتميز بالحيوية والتدفق لمجرى التاريخ البشري، وبهذا التوافق بين الماضي والحاضر والمستقبل، وينقلنا بخفة وإبداع بين الآونات الثلاث حيث تذوب الفواصل والحواجز وتسقط الجدران) (1).
وهذا التوحّد في الزمن، هذه الرؤية الامتدادية التي تلم الماضي والحاضر والمستقبل وكأنها طريق واحد غير منصرم ولا مقطوع.. هذا الموقف الشمولي الذي يصور آدم وذريته جيلاً واحداً من الناس منذ لحظة الهبوط إلى العالم وحتى يوم الحساب .. تمنح الإنسان المسلم قدراً هائلاً من التحرر .. من الإحساس بالقدرة الجارفة على الاستجابة لتحديات الموت والانقطاع والفناء .. بل على تحديها ومجابهتها واختراقها.. إنه حي موجود على أي حال .. هنا في الأرض أم هنالك في السماء .. هنا في الحياة الدنيا أم هنالك في السموات العليا .. في زمن الفناء أم في الدنيا الخلود .. إنه حي موجود .. فممّ يخاف؟ وعلامَ؟ إن القرآن الكريم يقولها بوضوح:
(وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ
يُرْزَقُونَ) (2).
وإنه للمفتاح الذي يفسر لماذا كانت جماعات المسلمين تتهافت على الموت ..
تتعشقه .. تركض إليه ركضاً .. تتزين وتطهم خيولها وهي ذاهبة إليه.. لقد كان الموت دائماً بمثابة العرس الذي يزف أرواح المجاهدين إلى الخلود.. وكانت لياليه المترعة تصنع الفجر الإسلامي المرة تلو المرة ..
لقد كانت جماعات المسلمين، ولا تزال، تحمل هذا الإحساس المترع بالديمومة .. بالاستمرار .. بالتواصل الذي لاتقطّع فيه ولا انصرام .. فما الموت؟ وما القتل؟ وما الشهادة؟ إنهم (موجودون) قبل الموت وبعده .. (حاضرون) قبل القتل وبعده .. أحياء في الأرض والسماء ..
لقد فتح المسلمون العالم .. غيّروا خرائطه .. أسقطوا دولاً وممالك
وإمبراطوريات .. سحبوا العروش المحملة بالذهب والفضة من تحت الأكاسرة والقياصرة .. أعادوا صياغة الوجود من جديد .. فعلوا هذا كله لأنهم كانوا يحملون مفتاحه الوحيد: حب الموت، ليس لأنهم يريدون أن يموتوا، ولكن لأنهم يطمحون للحياة.. يتعشقون الدوام والامتداد .. وما كانوا بقادرين على تحقيق أمنيتهم الكبيرة هذه دون مجابهة الفناء ..
-5-
وثمة مايمنح المسلم امتداداً لحياته، وإغناء لتجربتها، وتكثيفاً لوجودها، باتجاه
آخر: العالم والطبيعة والكون..
إن الإسلام يدعوه صباح مساء.. وكتاب الله سبحانه يناديه ليل نهار أن يفتح عقله وقلبه وحسه ووجدانه وبصيرته على العالم والطبيعة والكون .. أن يعيشها ويعيش فيها .. أن ينمي تجربته لكي تستوعب العالم والطبيعة، وأن يوسع مدى رؤيته لكي تعانق السماوات العليا وتلف أقطار الكون ..
يكفي أن نطالع في القرآن دعوته الملحة للنظر في صفحات النفس والطبيعة
والعالم .. في كتاب الكون المفتوح، لكي يتبين لنا المدى الشاسع الذي لاتحده حدود، والذي يريد الإسلام للمنتمين إليه أن يتحركوا خلاله، ويجوسوا عبر آفاقه البعيدة ..
((3)فَلْيَنْظُرْ الإنسان إلى طَعَامِهِ(24)أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا(25)ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا(26)فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا(27)وَعِنَبًا وَقَضْبًا(28)وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً(29)وَحَدَائِقَ غُلْبًا(30)وَفَاكِهَةً وَأَبًّا)(4).
(أولَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) (5).(/2)
(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إلى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ(6) وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ
بَهِيجٍ ) (6).
(أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إلى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) (7).
(فَانظُرْ إلى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (8).
(وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنْ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُوا إلى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (9) .
(قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ) (10).
(قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (11).
(وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ) (12).
وإن الإنسان المسلم يحس إحساساً غامراً مترعاً بالغبطة والنشوة والفرح بأن وطنه الحقيقي ليس المدينة التي يولد فيها، أو الإقليم الذي يحيا فيه، أو الدولة التي يحسب
عليها .. أن وطنه هو العالم كله.. وأرضه هي الطبيعة على امتدادها .. وبلاده الكون على مداه .. إنها قد سُخّرت له جميعاً، وهو سيد المخلوقات وأكرمها عند الله .. يتحرك فيها كما يشاء، ويصوغ من طاقاتها وكنوزها حياته السعيدة المؤمنة .. ويتوجه من خلال إبداعها وجمالها وتنظيمها المعجز .. إلى الخلاق المبدع الذي صنع هذا كله ..
إنه - مرة أخرى - إحساس مترع بالغبطة والثقة والاستعلاء والنشوة والفرح والامتداد، هذا الذي يحتويه صدر المسلم وعقله ووجدانه وقلبه، وهو يحس بإنه ابن هذا العالم وأن وطنه الحقيقي الكون كله على امتداده المفتوح ..
إن الإسلام هنا يمد العمر الإنساني في الطبيعة والعالم والكون، كما كان هناك يمده في التاريخ والمستقبل .. هنا يمده في المكان وهناك يمده في الزمان.. وهو في كل الأحوال يمنح الإنسان ألف فرصة وفرصة لتجاوز عمره المسطح المحدود صوب عمر مترع عميق غير محدود!!
-6-
ومن خلال هذا الامتداد الأفقي في الزمان والمكان يخطو المسلم بامتداد عمقي في الروح والنفس والفكر والحس والوجدان ..
إن رؤيته الإيمانية تتطلب منه أن يجعل من حياته تجربة جيّاشة بالفعل، والديمومة والتحقق، مترعة بالحس والتأمل والتفكير .. طافحة بالغبطة والفرح والاطمئنان واليقين .. إن الروح لتزداد غنى (بالنظر) الدائم الذي يدعو إليه كتاب الله .. والعقل ليزداد إدراكاً
(بالتفكر) الدائم الذي يدعو إليه كتاب الله .. والحس ليزداد امتلاء بالتعامل المكثف مع الطبيعة والعالم، ذلك الذي يدعو إليه كتاب الله .. والوجدان ليزداد شفافية ورقة وصفاء بالمعاناة الدائمة التي يدعو إليها كتاب الله .. إن العمر الحقيقي الذي يليق بمكانة الإنسان في العالم هو ذلك الذي يتحدث عنه القرآن الكريم وهو يحكي عن أولئك
(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (12).
إنها - من حيث التفتنا - دعوة لتعميق الخبرة البشرية .. لمد التجربة إلى الجذور البعيدة .. وإنها لفرصة فذة للعمر المحدود أن يزداد اتساعاً وتوغلاً وامتداداً صوب الأعماق، تماماً كما كان هناك يزداد اتساعاً وتوغلاً وامتداداً صوب الآفاق .. هنا في صميم النفس وهنالك في أبعاد الزمان والمكان ..
ترى .. أبعد هذا كله .. دعوة لمد الحياة البشرية، وتكريمها، وإغنائها، ومنحها الفرصة لأن تعيش عمرها كاملاً غير مسطح ولا منقوص.. كدعوة هذا الدين؟!
==============
(1) التفسير الإسلامي للتاريخ ، للمؤلف ، ص 14.
(2) سورة آل عمران ، آية 169.
(3) سورة عبس ، آية : 24 فما بعد .
(4) الاعراف : 185 .
(5) ق : 6-7 .
(6) الغاشية : 17 .
(7) الروم : 50 .
(8) الانعام : 99 .
(9) يونس : 101 .
(10) العنكبوت : 20 .
(11) الحجر : 16 .
(12) آل عمران : 191 .(/3)
دعوة للإنصاف
حين نلقي نظرة سريعة على الجهود المبذولة لإحياء واقع الأمة نجد إنتاجاً ثرا متنوعا، فهذا يعنى بالعلم ونشره، قد أخذ على عاتقة إزالة غشاوة الجهل عن جسد الأمة، والآخر سلك سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فسخر وقته لإنكار المنكرات المتفشية في واقع الأمة، وأعطى لذلك نفيس وقته وعصارة جهده. الثالث قد تألم لواقع من استهواهم الشيطان وساروا في طريق الانحراف فرأى أن أفضل ما يعنى به وخير ما يقدمه استنقاذ هؤلاء من براثن الفساد والانحراف، والرابع قد رق قلبه للأكباد الجائعة، والبطون الخاوية هنا هناك، فأصبح ينفق من خالص ما يملك، ويجمع النفقات من فلان وفلان، والخامس قد استهوته حياة الجهاد ودع الدنيا وعاش هناك ينتقل من أرض إلى أرض مجاهدا مقاتلا في سبيل الله، والسادس رأى أن هذا الدين دين الناس جميعا فسخر طاقته لدعوة غير المسلمين، والثامن قد سخر قلمه لخوض المعارك الفكرية دفاعا عن الإسلام، ومصاولة لأعدائه، والدخلاء من المتحدثين زورا باسمه. وآخرهم رأى أن عدة الأمة في شبابها وأن تربيتهم وإعدادهم من خير ما يقدم للأمة فصار هذا شأنه...
إنها كما ترى أخي الكريم جهود خيرة مطلوبة لا تستغني عنها الأمة، وهي كذلك لا يمكن أن يقوم بها فرد واحد، أو جماعة واحدة، وهي مهما اختلفت مراتبها وأولويتها مطلوبة في هذه المرحلة.وحين نتجه للواقع العملي بعد ذلك نرى التخصص قد حوله البعض إلى تنافر، فتراه يحشد الأدلة، ويسوق الحجج لبيان أن هذا الطريق الذي اختاره هو خير ما ينبغي عمله، وأن ما سواه لا يعدو أن يكون اشتغالا بالدون، وانصرافا عن المنهج السديد.... ويغدو صاحبنا ينظر نظرة احتقار إلى من سد غير ثغرة، واعتنى بغير بابه، ويتحسر على جهود هؤلاء المساكين الذين يضيعون أوقاتهم فيما لا فائدة فيه.
ولكن حين ندرك :
أولا : سوء واقع الأمة، والهوة الساحقة بينه وبين ما أراده الله لها. ولم تكن هذه الهوة نتيجة قفزة واحدة بل قد تضافر عليها جهود جبارة مغرضة، ناهيك عن المدى الزمني لهذه الجهود المتضافرة لإفساد الأمة.
ثانيا : اتساع رقعة الانحراف في واقع الأمة لتشمل كافة الجوانب العقدية، والفكرية، والسلوكية.... فمن تحدث عن الانحراف العقدي، أو عن انحراف المفاهيم والتصورات، أو عن الانحراف السلوكي أو عن الخلل في الجوانب العبادية، أو عن انتشار الجهل وندرة العلم فسوف يجد في جانب واحد فقط مما يتحدث فيه ما يثري حديثه، ويستهلك وقته وقلمه.
ثالثا : أمر آخر يرتبط بأدوات التغيير وهم البشر فلقد خلق الله الناس معادن، ومواهب وطاقات، فما يصلح لأمر لايصلح له آخر، ومن سد ثغرا قد لايسده غيره. قال الإمام مالك رحمه الله " إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق فرب رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد؛ فنشر العلم من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه وأرجو أن يكون كلانا على خير "
رابعا :-وهب أن هذا الفرد أو هذه الجماعة أصبحت تملك قدرات خارقة خيالية، وتجيد كل الجوانب من تصحيح العقيدة، ونشر العلم، واستنقاذ المنحرفين، وتربية النشء، ودعوة المرأة، والجهاد... إلى آخر هذه القائمة هب جدلا أن هذا الفرد أو تلك الجماعة أطاقت الأمر كله فهل يعني أنها سدت الثغرة وقامت بالأمانة ؟!
خامسا :-لابد للجيش من رجل في الساقة، ورجل في الميمنة، ورجل في الميسرة ورجل في الحراسة، ورجل يعد الطعام، بل ورجل يخلف أهل من سار للجهاد، وهي منازل متفاوتة، لكن حين نحتكم إلى المنطق نفسه، والنظرة إياها، فسيعيب من كان في الساقة على من كان في الحراسة، ومن كان في الميمنة سينتقد من كان يعد الطعام، وأما صاحب الميسرة فسينعى على من خلف الغزاة في أهلهم، كأنه لم يسمع قوله صلى الله عليه وسلم " من خلف غازيا في أهله بخير فقد غزا".
فهلا نظرة منصفة، رؤية واقعية، تضع الأمر في نصابة، فيسد كل ثغرة ويلزم مكانه ؟ ومع ذلك يحترم جهود الآخرين، ويشعر أن الجميع يسعى لهدف واحد، وأن ما فيه غيره ليس بدون ما هو فيه.(/1)
دعوة للتأمل
أولا - نقول لهم : ماالضابط في تحسين البدع ومن المرجع فيه ؟؟
فإن قالوا : الضابط موافقة الشرع . قلنا : ما وافق الشرع ليس ببدعة أصلا
وإن قالوا : المرجع العقل . قلنا : العقول مختلفة فكل صاحب بدعة يزعم أن بدعته حسنة عقلا وبهذا لايمكن رد أي بدعة .
ثانيا - إذا جازت الزيادة في الدين باسم البدعة ( الحسنة ) - على قولهم - جاز أن يستحسن مستحسن حذف شيء من الدين باسم البدعة ( الحسنة ) فيضيع الدين بين الزيادة والنقص وكفى بهذا ضلالا.
ثالثا - إذا كان في الشريعة ( بدعة حسنة ) - على قولهم - فإننا نبتدع اطراح البدع ونبذها فإن كان قولنا هذا عليه دليل فلاتجوز مخالفته , وإن لم يكن عليه دليل فهو بدعة ( حسنة ) - وهم يقولون بشرعية البدعة ( الحسنة ) - فالبدعة علىجميع الافتراضات باطلة .(/1)
دعوة للتفاؤل
بندر بن محمد الربيعي * 5/2/1426
15/03/2005
أسْدَل الليل لباسه الكالح، ورصّعت النجوم وجه السماء، ولطّمت الرياح أغصان الشجر.. خَفَقان .. وَجَل .. ظلمات ثلاث، بعضها فوق بعض .. محاط بعظام قاسية كأنها أسوار سجن، وهذه واحدة.. وظلمة الليل البهيم في جو ماطر وريح شديدة، وهذه أخرى .. وفوق هذا كله؛ ظلمة.. ما أعظمها من ظلمة قد انطبعت على جبينه.. وتلوَّث بها خدّاه .. قد فاحت رائحته التي تزكم الأنوف.. اجتمعت عليه الذئاب الضاريات من كل حدب .. كاد يرتمي في أحضانها، ويتمرغ بين أنيابها .. يعلم أنها ذئاب لكن قول من قال:
لا تَلُم المشتاق في أشواقه ... ...
حتى يكون حشاك في أحشائه
فَتَنَه احمرار شفاهها؛ حسب ذلك طيف من غزل.. همَّ بأن يقترب .. علَّه يظفر بقُبلة، أو معانقة؛ عسى أن تُطوى صفحة الضنك والشقاء التي شاهت ببقع من حبر الخطيئة والغفلة.
فجأة.. وكأنها أول مرة – وليست كذلك - .. يسمع بصَدَحٍ أحلى من أحلى نشيد ، وأروع من أي قصيد.. "الله أكبر ، الله أكبر ..." جَلْجَلَت في كهوف نفسه المظلمة ؛ فخرجت خفافيش السوء .. وتحركت مياه راكدة طالما تلوَّثت بوَحَل الرذيلة .. عندها، وعندها فقط.. هطل من عينيه وابل صيب على أرض جرداء؛ فأنبتت بذورُ الأمل أغصانَ الإيمان، وأوراق الحياة الطيبة، وأثمرت وأينعت خوف الله، ومحبة الناس .. وأشرق فجر جديد .. هبت نسائمه اللطيفة، تدغدغ الأفق .. ليبسم ثغره .. ويضحك فوه .. ويتفاءل بإطلالة غدٍ ثوبه قشيب.
هذه حكاية قلب عاش في الظلمات، صارع – ذات مرة – ذئاب الشهوات؛ فانتصر .. ربما هو قلبي، أو قلبك .. من يدري؟! هي دعوة للتفاؤل، والسعي نحو الإنجاز المثمر والعمل الرشيد في شؤون الحياة كلها. ارفع شعار (أنا متفائل): فالميم " مؤمن بربي، ومبتسم"، والتاء " تغيير للذات .. وتطوير أيضاً "، والفاء " فأل حسن وكلمة طيبة"، والألف " إرادة قوية"، والهمزة " أنا عاقد العزم "، واللام " للقِمَّة همَّتي" .
فالنفس فيها كنوز مبعثرة، وجواهر مكنونة، فقط ثق بنفسك وقدراتك .. خذ قلماً وورقة .. سطِّر إيجابياتك وسلبياتك .. وارسم لوحة التفاؤل إن وجدت الأولى أكثر نصيباً من أختها.. ضع لك برنامجاً في قراءة كتاب، وتصّفح موقعاً..احضُرْ دورة تطويرية .. أسعد الآخرين .. مارس الرياضة .. توضّأ واسجد لربك، واشكره أن حباك نعمه .. وادعه أن يرزقك قلباً متفائلاً، وأن يبصرك بقدراتك وإمكانياتك.. واعلم يقيناً أن المِنَح في أرحام المِحَن، وبعدها انطلق ولا تلتفت.. فالطريق مليئة بالكسالى والقاعدين.. والصبح قد بزغ نوره .. صدِّقني .. وإن النجاح لناظره قريب.
ومما تجدر الإشارة إليه أن ما نتوقع أن يحدث يصبح سبباً للاتجاه نحو ما توقعناه. وهذا ما يسميه بعضهم
(1): قانون التوقع. أي إذا توقعت مثلاً أن أكون ناجحاً – توقعاً قوياً- فإن هذا يصنع النجاح؛ لأن فكرة النجاح تتمكن أكثر وتوجّه سلوكي نحو تحقيقها. والذين يتوقعون الشيء السيّئ يتصرفون بما يناسب توقعهم.
قال المدير- في إحدى المدارس- لثلاثة من المدرسين: بما أنكم أفضل ثلاثة مدرسين فقد اقترحنا لكل منكم ثلاثين طالباً هم أحسن طلاب المدرسة ذكاءً لتدرسوهم في صفوف خاصة؛ ولكن لا تخبروهم بذلك، ونحن نتوقع لهم نتائج جيدة، وفعلاً كانت النتائج رائعة، وقال المدرسون: إنهم وجدوا الطلاب يتجاوبون ويفهمون بشكل لم يعتادوا عليه. ثم جرى إخبار المدرسين أن الموضوع لم يكن إلا تجربة، وأن الطلاب هم طلاب عاديون أيضاً اختيرت أسماؤهم بالقرعة!!
ومن هذا نقول: إن ما يتوقعه منا الآخرون يتحكم فيما نعمله؛ فإذا توقّعوا العمل الجيد المتفوق فسوف يكون كذلك، وإذا توقعوا الفشل والإخفاق فسوف يكون كذلك – على شرط أن يكون التوقع قوياً وواضحاً-.
وأهم إنسان في تحقيق توقعاتي هو أنا. إن ما أتوقعه من نفسي يتحقق الكثير منه.
فإذا توقع أحدهم من نفسه أن يكون مجتهداً لهذا الفصل الدراسي فسوف يحقق نتائج إيجابية والسبب أنه سيوجه طاقته للتركيز في المحاضرات ومضاعفة الجهد في المذاكرة لأن الأمل يتدفق من داخله، وينبوع التفاؤل يجري أمام ناظريه، فكلما تكاسل أو عجز ناداه منادٍ من أعماقه .. فذكّره العهد ورسم في مخيلته صورة النجاح ، وأذاقه حلاوة التفوق.
آهٍ ثم آهٍ.. ما أروعها لحظات التفاؤل، وما أجملها ساعات الأمل! واقرأ ختاماً هذا النداء القدسي: "أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء". وما عسانا نظن بربنا إلا أن يغفر لنا ويرحمنا ويعتقنا من النار. وهذا والله من أعظم ما يدفع العبد لفعل الخيرات، وترك المنكرات. ويا أخي إذا جرّبت حياة التفاؤل فزد، وإن لم تجرّب فجرّب فالحياة مغامرة جريئة أو لا شيء!!
* مدير إدارة كلية الصيدلة - جامعة الملك خالد - أبها
1. براين ترييسي:علم نفس النجاح.(/1)
دعوة للتفكر ..؟؟
أحبتي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
نتجول عبر قراءة سطور كتاب فن التأمل متأملين بحكم الله بما خلق ..
مقدمة
• هل تفكرت يوماً في حقيقة وجودك، كيف حملتك أمك ثم ولدتك، فجئت إلى هذا العالم ولم تكن من قبل شيئاً..؟
• هل تأملت يوماً كيف تنبت تلك الأزهار المزروعة في أحواض غرفة الجلوس من قلب تراب أسود فاحم موحل بألوان زاهية وشذىً عطر..؟
• هل شغلك انزعاجك من طيران البعوض حولك عن التفكر كيف انها تحرك أجنحتها بسرعة فائقة تجعلك غير قادر على رؤيتها..؟
• هل تفكّرت يوماً بأن قشور الفاكهة المهملة هي في حقيقتها أغلفة حافظة عالية الجودة، وبأن هذه الفاكهة - كالموز والبطيخ والبرتقال مثلاً- موضبة في داخلها بطريقة تحفظ طعمها وشذاها..؟
• هل تدبّرت يوماً كيف يمضي العمر حثيثاً، فتذكرت أنك سوف تشيخ وتصبح ضعيفاً وتفقد جمالك وصحتك وقوتك؟
• هل فكرت في ذلك اليوم الذي سوف يرسل الله فيه ملائكة الموت لترحل معهم عن هذا العالم؟
• هل تساءلت يوماً لماذا يتعلق الناس بدنيا فانية فيما هم بحاجة ماسة إلى المجاهدة من أجل الفوز بالآخرة؟
ان الإنسان هو المخلوق الذي أنعم الله عليه بملكة التفكير، ومع ذلك فإن معظم الناس لا يستخدمون هذه الملكة المهمة كما يجب، حتى أن بعض الناس يكاد لا يتفكر أبداً!..
في الحقيقة كل إنسان يمتلك قدرة على التفكر هو نفسه ليس على دراية بمداها، وما ان يبدأ الإنسان باستكشاف قدرته هذه واستخدامها، حتى يتبدى له الكثير من الحقائق التي لم يستطع أن يسبر أغوارها من قبل. وهذا الأمر في متناول أي شخص، وكلما استغرق الإنسان في تأمل الحقائق، كلما تعززت قدرته على التفكر. ولا يحتاج الإنسان في حياته سوى هذا التفكر الملي والمجاهدة الدؤوبة من بعده..
إن الهدف من هذه القراءة هو دعوة الناس إلى" التفكير كما ينبغي"، وإبراز الوسائل التي تساعدهم على ذلك. فالإنسان الذي لا يتفكر يبقى بعيداً كليّاً عن إدراك الحقائق ويعيش حياةً قوامها الإثم وخداع الذات، وبالتالي فإنه لن يتوصل إلى مراد الله من خلق الكون، ولن يدرك سبب وجوده على الأرض.. فالله سبحانه وتعالى خلق كل شيء لسبب، وهذه حقيقة ذكرها عز وجل في القرآن الكريم بقوله: { وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين. ما خلقناهما الا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون } الدخان: (38-39). وقوله: { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم الينا لا ترجعون } ( المؤمنون: 115)
اذاً على كل إنسان أن يتفكر في الغاية من خلقه لأن ذلك له علاقة مباشرة به أولاً، وبكل ما يراه حوله في الكون وكل ما يعرض له في حياته تالياً. ان الإنسان الذي لا يتفكر، لا يدرك الحقائق الا بعد الموت حين يقف بين يدي ربه ليلقى حسابه، وحينها يكون الأوان قد فات. والله تعالى يذكر في محكم كتابه إن كل الناس سوف يتفكرون عندما يعاينون الحقيقة في يوم الحساب { وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنّى له الذكرى يقول يا ليتني قدمت لحياتي } (الفجر: 23-24 )
لقد أعطانا الله جلّ وعلا الفرصة للتفكر واستخلاص العبر ورؤية الحقائق في هذه الحياة الدنيا لنفوز فوزاً عظيماً في الآخرة، فأنزل الكتب السماوية، وأرسل الرسل داعياً الناس عبرهم للتفكر في أنفسهم وفي خلق الكون من حولهم. { أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى، وإن كثيراً من الناس بلقاء ربهم لكافرون } الروم:8
التفكّر العميق
معظم الناس يظن أن "التفكر العميق" يقتضي من الإنسان أن يعتزل المجتمع ويقطع علاقاته بالناس ثم ينسحب إلى غرفة خالية ويضع رأسه بين يديه و... إنهم يصنعون من التفكر العميق قضية صعبة جداً، تجعلهم يخلصون إلى القول بأن الأمر سمة خاصة بالفلاسفة فقط.. مع أن القضية أبسط من ذلك بكثير، فكما ذكرنا في المقدمة فإن الله تعالى يدعو جميع عباده ليتفكروا ويتدبروا خاصة في آيات القرآن الكريم الذي أنزله الله لهذا الغرض. يقول جل وعلا: { كتاب أنزلناه اليك مبارك ليدّبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب } (ص:29 )، ويمتدح الله تعالى عباده الذين يقودهم تدبّرهم وتفكّرهم إلى إدراك الحقيقة وبالتالي إلى مخافته سبحانه. فالمهم في الأمر كله اذاً أن يستطيع الإنسان تطوير ملكة التفكر عنده وتعميقها أكثر فأكثر.(/1)
ان الإنسان الذي لا يبذل جهده في التفكر والتدبر والتذكر يعيش في حالة دائمة من الغفلة، وحالة الغفلة التي يعيشها أولئك الذين لا يتفكرون، بما توحيه كلمة الغفلة من التجاهل مع عدم النسيان والانغماس في الشهوات والوقوع في الاثم والاستخفاف والاهمال، هي نتيجة من نتائج تجاهلهم وتناسيهم للغاية من خلقهم ولكل الحقائق التي يعلمهم اياها الدين، وهذا الأمر عظيم وخطير ومؤداه في النهاية الى نار جهنم؛ لذلك حذرنا القرآن الكريم أن نكون من الغافلين، فقال تعالى: { واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين} الأعراف:205 وقال: { وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون } (مريم:39 ).
ويبين الله تعالى زيغ الذين يتبعون ما ألفوا عليه آباءهم اتباعاً أعمى دون أن يفكروا بما يحمله التقليد من ضلال، ولو نوقشوا في أمرهم لأجابوا فوراً بأنهم مؤمنون بالله ملتزمون بتعاليمه، لكن بما انهم لم يعقلوا فيتفكروا ويتدبروا ويتّعظوا فإن ايمانهم هذا لم يؤدّ بهم الى الصلاح وبالتالي الى مخافة الله الحقة.ان عقلية هؤلاء البشر تظهر بوضوح من خلال الآيات التالية: { قل لمن الأرض ومن فيها ان كنتم تعلمون. سيقولون لله قل أفلا تذكرون. قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم. سيقولون لله قل أفلا تتقون . قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه ان كنتم تعلمون. سيقولون لله قل فأنّى تسحرون } (المؤمنون: 84-90)
التفكر يبطل السحر عن الناس
في الآيات السابقة يسائل الله تعالى الناس { قل فأنّى تسحرون } تسحرون في الآية الكريمة تعني حالة من الجمود العقلي تسيطر بشكل كامل على بعض الناس، فيغشى بصر من يصاب بها ويتصرف وكأنه لا يرى الحقائق أمام عينيه، وتضعف قدرته على التمييز والحكم على الأمور، ويصبح عير قادر على ادراك الحقائق المبسطة، كما يغفل عن ما يدور حوله من أمور غير اعتيادية وتخفى عنه دقائق الأحداث. هذا الجمود العقلي هو الذي أدى الى أن يعيش البشر منذ آلاف السنين حياة الغفلة بعيدين كلياً عن التفكر والتدبر والاعتبار. ويمكن لهذا المثال الذي سنذكره الآن أن يوضح لنا تأثير هذا السحر الذي حل بشكل جماعي على الأمم:
كلنا يعرف أن هناك طبقة أرضية تسمى "الصهارة" تحتوي مواد مذابة على درجة عالية جداً من الغليان تكمن مباشرة تحت القشرة الأرضية؛ وبما أن القشرة الأرضية رقيقة جداً ويمكن مقارنة سماكتها بالنسبة الى الكرة الأرضية ككل بسماكة قشرة التفاحة بالنسبة الى التفاحة كلها، فإننا قريبون جداً من الانفجار الذي قد يحدث لهذه الطبقة، فهو تقريباً تحت أقدامنا، ومع ذلك فمعظم الناس لا يتدبرون هذا الأمر، تماماً كما ان أهلهم وإخوانهم وأقاربهم وأصدقاءهم، وجميع وسائل الاعلام ومنتجي البرامج التلفزيونية، وأساتذة الجامعات، لا يتنبهون الى هذا الأمر. ولكن لو افترضنا أن شخصاً مصاباً بفقدان الذاكرة الكلي، يحاول إعادة بناء ذاكرته والاستعلام عن محيطه عبر طرح الأسئلة على الناس من حوله، فمن المفترض أن أول سؤال سوف يتبادر الى ذهنه، أين أنا ؟ ماذا لو قيل له انه يقف على عالم من النار الملتهبة، وأن هذا اللهب يمكن أن يتفجر على سطح الأرض فيما لو حدثت أية هزة أرضية أو ثورة بركانية.
ولو افترضنا أن نفس الشخص أخبر بأن هذا العالم الذي يعيش فيه مجرد كوكب يسبح في فجوة مظلمة مترامية الأطراف تسمى الفضاء، وهذا الفضاء يختزن هو الآخر طبقة ملتهبة أعظم خطراً من تلك الكامنة تحت سطح الأرض، تتحرك فيها -على سبيل المثال- آلاف الأطنان من النيازك الحارقة بحرية تامة وليس هناك ما يمنعها أن تحيد عن مسارها وتصطدم بالأرض، بتأثير جاذبي من كوكب آخر -مثلاً- أو لأي سبب آخر.
إزاء كل هذه الحقائق لن يستطيع هذا الشخص أن ينسى خطورة الوضع الذي يعيش فيه، ولسوف يبدأ بالتساؤل: كيف يمكن للناس أن يعيشوا في هذا المحيط، مع كل ما يكتنفه من مخاطر، ويتمسكوا به ويعضّواعليه بالنواجذ؟! لكنه سوف يدرك فيما بعد ان هناك نظاماً متكاملاً قد أخذ حيّزه من الوجود. فرغم الخطر الكامن داخل الكوكب الذي يعيش فيه، هناك توازن دقيق يمنع هذا الخطر من إلحاق الضرر بالناس، إلا في ظروف استثنائية، وهذا الادراك سيجعله يفهم أن الارض ومن عليها من مخلوقات انما تستمد وجودها وتعيش بأمان بإرادة الله تعالى وحده الذي أوجد هذا النظام المتكامل للحياة.
هذا واحد من ملايين، بل بلايين، الامثلة التي يجب أن يتفكر فيها البشر. ولعل إعطاء مثال آخر يساعدنا على أن ندرك كم تؤثر الغفلة على قدرة الناس على التفكر وتحد من قدراتهم العقلية.(/2)
يعلم الناس أن الحياة الدنيا فانية وأن العمر يمضي حثيثاُ ومع ذلك فإنهم يتصرفون وكأنهم لن يبارحوا هذا العالم وأنهم مخلدون. وهذا في الحقيقة نوع من السحر تعاقبت على حمله الأجيال، وله تأثير بالغ عليهم لدرجة أنه عندما يتحدث شخص ما عن الموت فإن الناس يقفلون الموضوع مباشرة لأنهم يخافون أن يبطل هذا الحديث السحر عنهم ويضعهم في مواجهة الحقائق.
أولئك الناس الذين بددوا حياتهم كلها في شراء سيارة ومنزل جميل وآخر لقضاء العطلة الصيفية والبحث عن مدارس ذات مستوى ليرسلوا أبناءهم اليها، تناسوا أنهم سوف يموتون في يوم من الأيام ويخلّفوا وراءهم البيوت والسيارات والأولاد، وتركوا التفكير بما يجب أن يقدموا للحياة الحقيقية بعد الموت. ان الموت قادم لا محالة، وكل الناس سوف يموتون حتماً عاجلاً أم آجلا ، واحداً تلو الآخر، سواء صدقوا ذلك أم لا، وبعد ذلك تبدأ الحياة الأبدية لكل منا، إما الى الجنة أو الى النار، فالأمر يعتمد على ما أسلف الانسان في هذه الحياة القصيرة. ومع أن هذه الحقائق واضحة كعين الشمس، فإن السبب الوحيد الذي يجعل الناس يتعاملون مع الموت وكأنه غير موجود، هو ذلك السحر الذي سيطر عليهم لأنهم أعرضوا عن التفكر.
ان الذين لا يؤدي بهم التفكر الى إنقاذ أنفسهم من هذا السحر وبالتالي من حياة الغفلة سوف يفهمون الحقائق عندما يرونها رأي العين بعد الموت، قال تعالى:? لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد (ق:22)
فكما يقول الله تعالى في الآية الكريمة فإن البصر الذي تكتنفه الغشاوة في الحياة الدنيا بسبب عدم التفكر، ولكنه سيكون حاداً عندما يحاسب الانسان في الآخرة بعد الموت.
وجدير بالذكر في هذا المقام أن الناس هم الذين يفرضون على أنفسهم هذا النوع من السحر بملء إرادتهم لأنهم يظنون انهم بهذه الطريقة سوف يعيشون حياة رغد واسترخاء. لكن من السهل جداً اتخاذ قرار التخلص من الجمود العقلي وعيش الحياة بوعي وإدراك، فلقد قدم الله تعالى الحلول للناس، فالذين يتفكرون يستطيعون بكل سهولة أن يبطلوا عن أنفسهم هذا السحر فيما هم على قيد الحياة، ويفهموا كل ما يدور حولهم من الأحداث والغاية منها ودقائق معانيها، والحكمة مما يقضيه الله من أمور في كل لحظة.
التفكر ممكن في أي زمان وأي مكان
ان التفكر والتدبر لا يستدعيان مكاناً أو زماناً أو شروطاً محددة، فالإنسان يمكن أن يتفكر ويتدبر خلال المشي في الشارع، عند توجهه الى مكتبه، خلال قيادته لسيارته، أو خلال عمله أمام شاشة الكومبيوتر، أو خلال جلسات السمر مع أصدقائه، وربما خلال مشاهدة التلفزيون أو حتى خلال تناول الطعام.
فخلال قيادة السيارة مثلاً يمكن يمكن رؤية مئات الأشخاص في الشوارع، وعندما ينظر الانسان الى هؤلاء الأشخاص يمكنه أن يتفكر في أمور شتى، فلربما انصرف ذهنه الى الاختلاف الكامل في المظهر بين هؤلاء الناس، فليس هناك واحد منهم يشبه الآخر! كم هو مذهل هذا الاختلاف في المظهر بين الناس الذين لديهم نفس الأعضاء من العيون الى الحواجب الى الرموش والأكف والأيادي والأرجل والأفواه والأنوف.. ولو استغرق الانسان في التفكير أكثر لتذكر أن الله قد خلق الالوف من البشر عبر بلايين السنين وكل واحد منهم مختلف عن الآخر، وما ذلك الا دليل على عظمة الخالق سبحانه وتعالى. والذي يراقب كل هؤلاء الناس يحثّون الخطى؛ تتجاذبه أفكار شتى، فللوهلة الأولى يبدو أن كل واحد من هؤلاء هو نسيج وحده، له عالمه الخاص وأمنياته ومشاريعه وذوقه وأسلوبه في العيش، وأمور تفرحه وأخرى تحزنه.. ولكن هذه الخلافات بين البشر ليست أساسية، فبشكل عام كل انسان يولد ويكبر ويتعلم ثم يتزوج وينجب الأولاد ويزوجهم فيصبح جدّاً أو جدة ثم يتوفى في النهاية.. من هذه الناحية ليس هناك اختلاف كبيرفي حياة الناس، سواء كانوا يعيشون في حي في استانبول أو في مدينة في المكسيك، فإن ذلك لن يغير شيئاً ، فكل هؤلاء الناس سوف يموتون وربما بعد قرن من الزمان لن يبقى منهم أحد على قيد الحياة. ومن يدرك هذه الحقائق لا بد أن يسأل نفسه: بما أننا في يوم من الأيام سوف نموت جميعاً لماذا يتصرف الناس وكأننا لن نبارح هذا العالم؟ ولماذا يتصرف من أدرك حتمية موته وكأن هذه الحياة الدنيا لن تنتهي في حين يجدر به أن يجاهد من أجل الفوز بالآخرة؟!(/3)
وفي حين أن غالبية الناس لا تتفكر بهذه الأمور فإن من توصل الى التفكر بها سيخلص الى نتائج حاسمة. فلو سئل معظم الناس بشكل مفاجىء: بماذا تفكرون في هذه اللحظة ؟ سوف يظهر بوضوح انهم يفكرون بأمور ليست ذات بال ولا تعود عليهم بالنفع . وعلى كل حال، فإن كل انسان يمكن أن يتفكر بحكمة في أمور مهمة وذات قيمة ومعنى ويتدبرها ويخلص الى نتائج من وراء ذلك. ويعلمنا القرآن الكريم أن من صفات المؤمنين أنهم يتفكرون ويتدبرون ليخلصوا الى النتائج التي تعود بالنفع عليهم.?إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب، الذي يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا م اخلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار? آل عمران: 190-191 فكما تخبرنا الآيتان الكريمتان فإن تفكر المؤمنين مكّنهم من رؤية جانب الإعجاز في الخلق وتمجيد حكمة الله وعلمه وقدرته.
إخلاص النية لله عند التفكر
من أجل أن يعود التفكر بالنفع على الانسان ويهديه الى جادة الحق، يجب عليه أن يفكر دائماً بطريقة إيجابية. هناك فرق كبير بين من ينظر إلى شخص حباه الله بحسن الهيئة من منظار عقدة النقص الناشئة عن عدم التكافؤ في المظهر الخارجي بينهما، فيشعر بالغيرة ويؤدي به تفكره الى ما لا يرضي الله، وبين من يسعى الى مرضاة الله فينظر الى هذا الشخص على أنه جمال من خلق الله، ويعتبر حسن هيئته برهاناً على كمال الله في خلقه، فيشعر بسعادة غامرة ويدعو الله أن يزيد هذا الانسان جمالاً في الآخرة، كما يدعو لنفسه أن يرزقه الله الجمال الأبدي في دار الخلود، ويفهم أن الانسان لا يمكن أن يكون كاملاً في الحياة الدنيا، لأن حياتنا هذه خلقت غير كاملة كجزء من ابتلائنا فيها، وبذلك كله يزيد توقه وتطلعه الى الفوز بالجنة. وهذا كله مثال واحد على الإخلاص في التفكر، ولسوف يعرض للإنسان الكثير من الأمثلة المشابهة في حياته، خاصة وأنه في امتحان دائم ليرى ان كان سيسلك سلوكاً حسناً ويفكر بأسلوب يرضي الله.
إن نجاح الانسان في امتحان التفكر، وكون التفكر سيعود عليه بالنفع في الآخرة يعتمد على التدبر والاعتبار من الدروس والتحذيرات التي يستخلصها أثناء تفكره، ولذلك فإن من الضرورة بمكان أن يتفكر الانسان بصدق دائماً. قال تعالى:?هو الذي يريكم آياته وينزّل من السماء رزقاً وما يتذكر إلا من ينيب (غافر:13).
بماذا يتفكر الناس عادة....؟
ذكرنا سابقاً أن الناس لا يتفكّرون ولا يطوّرون قدرتهم على التفكر، وبالإضافة الى ذلك يجب توضيح نقطة هامة. بالطبع هناك أشياء كثيرة تخطر على بال الانسان في كل لحظة من لحظات حياته، فبالكاد تمر دقيقة يكون عقل الانسان فبها خالياً، باستثناء ساعات النوم. لكن معظم هذه الأفكار عديم الفائدة ولا طائل تحته وغير ضروري؛ فهي لا تنفع في الآخرة ولا تؤدي الى أي مكان ولا تقدم أية منفعة.
فإذا حاول الانسان أن يتذكر بماذا فكر خلال النهار ثم سجّله ليراجعه في آخر النهار سيدرك كم أن معظم أفكاره لا جدوى لها، وحتى لو وجد بعضها نافعاً فمن الأرجح أن يكون مخطئاً في تقديره. فبشكل عام الأفكار التي تبدو صحيحة قد لا يكون لها أي نفع في الآخرة.
وتماماً كما يضيّع الناس أوقاتهم في حياتهم اليومية بمعالجة أمور تافهة، فإنهم كذلك يمضون يومهم في اللغو منجرفين في أفكار غير ذات جدوى. وفي قوله تعالى: { قد أفلح المؤمنون.. والذين هم عن اللغو معرضون } المؤمنون:3 ينصح الله تعالى الناس أن يكونوا أقوياء العزيمة في اعراضهم هذا. وبالتأكيد فإن أمر الله هذا يصح أيضاً على أفكار الناس. هذا لأننا إذا لم نسيطر على أفكارنا بوعي فإنها سوف تظل تنساب في عقولنا بشكل متواصل، فيقفز الإنسان دون وعي من فكرة إلى أخرى. فمثلاً، خلال التفكير بالأشياء التي سوف يتسوّقها في طريقه إلى البيت يجد نفسه فجأة يفكّر بأشياء أخبره بها صديق قبل سنة أو سنتين: هذه الأفكار غير المضبوطة وغير النافعة قد تستمر دون اعتراض خلال النهار كله.
الا أن السيطرة على التفكير ممكنة. فكل منا يمتلك القدرة على التفكير بأشياء تفيده وتفيد إيمانه، وعقله، وتحسّن كياسته وإحاطته بالأمور.
وفي هذا الفصل سوف نذكر كل أنواع الأفكار التي يفكّر بها الغافلون بشكل عام. والغاية من ذكر هذه الموضوعات بالتفصيل ان يتنبّه الذين يقرأون هذا الكلام فوراً عندما تمر أشياء مماثلة في أذهانهم - حين يكونون في طريقهم إلى العمل أو المدرسة أو حين يزاولون أعمالهم اليومية - فوراً إلى أنهم يفكّرون بأمور غير مجدية فيسيطروا على أفكارهم ويتفكّروا في أمور تعود عليهم بالنفع حقيقة.
مخاوف غير ذات نفع
عندما يفشل الإنسان في السيطرة على أفكاره وتوجيهها نحو البلوغ به إلى حسن الختام، فإنه قد يشعر بالتخوف من شرور مرتقبة أو يتعامل مع الأحداث التي لم تحصل وكأنها حصلت بالفعل، فيقوده ضلاله إلى الحزن والكرب والخوف والقلق.(/4)
فمن عنده شاب يدرس لامتحان جامعي، مثلاً، قد يخترع سيناريوهات لما قد يحصل فيما لو رسب ولده في الامتحان قبل أن تجري الامتحانات: "إذا رسب ابني في الامتحان، فإنه لن يستطيع أن يجد وظيفة جيدة في المستقبل يكسب منها ما يكفي من المال، ولن يكون قادراً على الزواج، ولو تزوج سيستطيع تحمل مصاريف حفل الزفاف؟.. إذا فشل في الإمتحان فإن كل ما صرف من مال على الفصول التحضيرية سوف يذهب هباء، وفوق هذا سوف نكون محتقرين في أعين الناس... ماذا لو نجح ابن صاحبي ورسب ابني..."
وسوء الفهم هذا سوف يستمر ويستمر، مع ان ابن هذا الشخص لم يخضع للامتحان بعد. وخلال حياته كلها لا يمكن للإنسان البعيد عن الدين أن يقاوم مثل هذه المخاوف التي لا ضرورة لها، وهذا بالتأكيد له سببه. ففي القرآن ذكر السبب الذي يجعل الناس غير قادرين على التحرر من هذا القلق هو أنهم يعيرون سمعاً لوساوس الشيطان، إذ يقول الشيطان?ولأضلنّهم ولأمنينّهم.. (النساء:119 ).
وكما يرى في الآية أعلاه فإن من يشغل نفسه بمخاوف لا جدوى منها، وينسى الله تعالى ولا يفكّر بصفاء، يكون دائماً عرضة لوساوس الشيطان. وبكلمات أخرى إذا كان الإنسان مخدوعاً بهذه الحياة الدنيا لا يستعمل قوة إرادته ويتصرف بوعي، وإذا سمح لنفسه بالانجراف بمجرى الأحداث فإنه يصبح تحت سيطرة الشيطان بشكل كامل. فإقلاق
ولذلك فإن التشاؤم وسوء الفهم والمخاوف المتحكمة في الذهن مثل "ماذا سأفعل إذا حصل كذا وكذا" سببها وساوس الشيطان.
والله سبحانه وتعالى يعلم الناس الطرق التي تقيهم من هذا الوضع. ففي القرآن ينصح الله الناس باللجوء إليه إذا نزغهم من الشيطان نزغ فيقول:"إن الذين اتّقوا إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون. وإخوانهم يمدّونهم في الغيّ ثم لا يقصرون (الأعراف 201 - 202) .
وكما هو مذكور في الآية فإن من يتفكّر يدرك الصواب ومن لا يتفكّر يمضي إلى حيث يجره الشيطان. المهم ان نعرف أن هذه الأفكار لن تنفع الإنسان بل على العكس سوف تمنعه من التفكير بالحقيقة، والتفكر بأمور مهمة وبالتالي تطهير ذهنه من الأفكار غير المجدية. فلا يمكن للإنسان ان يتفكّر بطريقة صائبة إلا إذا حرر ذهنه من الأفكار التافهة. وبهذه الطريقة "يعرض عن اللغو" كما يأمر الله تعالى في القرآن.
ما هي الأسباب التي تمنع الناس من التفكر؟
هناك عوامل عديدة تمنع الناس من التفكر، مجموع هذه العوامل أو بعض منها، أو حتى واحد فقط قد يعيق تفكر الإنسان ويمنعه من ادراك الحقائق. لذلك يجب عليه أن يحدد العوامل التي تؤثر فيه سلباً ليتخلص منها، وإلا فإنه لن يستطيع أن يرى الوجه الحقيقي لهذه الحياة الدنيا، فيخسر خسراناً مبيناً في الآخرة.
والله سبحانه ينبئنا عن حال أولئك الذين تعوّدوا أن يفكروا بسطحية، فيقول تعالى?يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون. أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيراً من الناس بلقاىء ربهم لكافرون (الروم: 7-8).
وفيما يلي بعض العوامل التي تمنع الناس من التفكر:
• اتباع الأكثرية يؤدي الى الجمود العقلي:
اعتقاد الناس أن ما تفعله الأكثرية بينهم هو الصحيح، من أهم الأسباب التي تؤدي الى الضلال. فالإنسان عادة يفضل قبول ما تعلمه من الناس من حوله على البحث عن الحقيقة عبر التفكر، ويرى أن الأشياء التي تبدو غريبة للوهلة الأولى، يعتبرها الناس عادية لدرجة أنهم لا يتنبهون اليها، لذلك فإنه بعد فترة يبدأ بالاعتياد عليها. مثال على ذلك: كثير من الناس حولنا لا يسلّم بأننا سنموت في يوم من الأيام، حتى انهم لا يسمحون لأحد بالتحدث عن هذا الموضوع كي لا يذكرهم بالموت. وعندما ينظر المرء حوله ويرى كيف يتصرف الناس فإنه يقول في نفسه: بما أن هذا حال كل الناس، لن يضيرني أن أتصرف بنفس الطريقة، فيعيش حياته دون أن يتذكر الموت أبداً، ولو أن الناس من حوله خافوا الله وجاهدوا في سبيل الفوز بالآخرة حق جهاد، لكان في أغلب الظن غيّر تصرفه.
مثال آخر على ذلك: تنقل الصحف والتلفزيونات يومياً مئات الأخبار عن الكوارث والظلم والاضطهاد وغياب العدالة، وعن الجرائم وحالات الانتحار، كما تغطي حوادث السرقة وتأتي على ذكر أحوال آلاف المعوزين من البشر؛ ومع ذلك فإن كثيراً من الناس يطوون صفحات الجريدة، ويطفئون جهاز التلفاز وهم بشعرون بسكينة داخلية، وبشكل عام فإن الناس لا يتساءلون لماذا هذا الكم الهائل من تلك الأنباء، وماذا يجب فعله إزاء هذا الواقع؟ وما سبل الوقاية التي يجب اتخاذها لمنع وقوع مثل هذه الأمور؟ وماذا يمكنهم أن يفعلوا إزاء هذه المعضلات؟ بل ان معظمهم ينحو باللائمة على غيره متبعاُ مبدأ: "هل يتوقف عليّ إنقاذ العالم؟"
• التكاسل الذهنيِ(/5)
التكاسل هو العامل الذي يمنع أغلبية الناس عن التفكر، وبسبب التكاسل الذهني يقوم الناس بأعمالهم بالطريقة التي تعوّدوا أن يروها دائماً دون تغيير. ولإعطاء مثال من خضم حياتنا اليومية، فإن ربات البيوت ينظفن بيوتهن بنفس الطريقة التي شاهدن والداتهن يقمن بها، وهنّ بشكل عام لا يتساءلن كيف يمكن إنجاز الأعمال بشكل أنظف وطريقة عملية أكثر، والأمر نفسه بالنسبة الى الرجال، فلو احتاج شيء ما الى إصلاح فإنهم يصلحونه بنفس الطريقة التي تعلموها منذ طفولتهم، ومعظمهم يرغب عن تطبيق أسلوب عملي جديد أكثر فاعلية. وأسلوب هذا النوع من الناس متشابه أيضاً، فالمحاسب مثلاً يتكلم بنفس الطريقة التي تكلم بها محاسب ما قابله في حياته.. والأمر كذلك بالنسبة الى الأطباء والمصرفيين ومندوبي المبيعات.. وغيرهم من الناس الذين تجمعهم طبقة اجتماعية معينة فتكون لهم طريقة معينة في التحدث ولا يكلفون أنفسهم عناء التفكير للبحث عن طرق أفضل وأحسن وأصوب، إنما يقلدون ما سمعوه فقط!
كما أن الحلول المبتكرة للمشاكل تعكس كسلهم الذهني. فمثلاً، حارس مبنى ما يعالج مشكلة النفايات فيه تماماً كما كان يفعل من كان قبله، وعمدة مدينة ما يحاول حل مشكلة زحمة المرور عبر مراجعة ما فعله من كان قبله. وفي حالات كثيرة عدم التفكير يجعل صاحب المشكلة غير قادر على إيجاد حل.
طبعاً الأمثلة المذكورة أعلاه هي أمور يعاني منها الناس في حياتهم اليومية، ولكن هناك قضية أهم من ذلك وأعمق بكثير لو أخفق الناس في التفكير فيها، فقد يؤدي بهم ذلك الى الخسران الأبدي المبين، والمقصود من هذا الكلام إخفاق المرء في التفكر في الغاية من وجوده في هذه الدنيا، وتجاهله لحقيقة أن الموت لا يمكن تفاديه، وأننا حتماً سنبعث بعد الموت. ففي القرآن يدعونا الله الى التفكر في هذه الحقائق فيقول جلّ وعلا:? أولئك الذين خسروا أنفسهم وضلّ عنهم ما كانوا يفترون. لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون. إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا الى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون (هود: 21-24) ويقول أيضاً:?أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكّرون (النحل:17).
• كثرة التفكر مضرة
هناك قناعة سائدة في المجتمعات أن التفكير العميق مضر! فتجد الناس يحذر بعضهم بعضاًَ بالقول: " لا تفكر كثيراً، والا فقدت صوابك"! وهذه بالطبع ليست الا خرافة ابتدعها من نأوا بجانبهم عن الدين. ليس على الناس ان يتجنبوا التفكير ولكن عليهم أن يتجنبوا السلبية أو الانجراف في الوسوسة المبالغ فيها وسوء الفهم
ولأن أولئك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر يتفكرون دون أن يلزموأ أنفسهم بالخير والصلاح، فيتفكرون، ولكن بطريقة سلبية، فإنهم يخرجون من تأملاتهم بخلاصات لا تعود عليهم بأي نفع. فمثلاً، هم يتفكرون في كون الحياة الدنيا مؤقتة، وفي حتمية الموت في يوم من الأيام، ولكن هذا الأمر يثير لديهم الكثير من التشاؤم، بعضهم يتشاءم لأنه يعلم أنه يمضي هذه الحياة المؤقتة في معصية الله، ويحضر نفسه لنهاية بائسة في الآخرة، وبعضهم الآخر يتشاءم لأنه يعتقد أن أثره سيتلاشى كلياً بعد الموت.
أما الشخص الحكيم الذي يؤمن بالله واليوم الآخر فإنه يخرج بنتائج مختلفة تماماً عندما يتدبر في حقيقة هذه الدنيا الفانية.. فقبل كل شيء إدراكه لكون الحياة مؤقته يدفعه الى المجاهدة بشدّة من أجل حياته الحقيقية الأبدية في الآخرة. وبما أنه يعرف أن هذه الحياة سوف تنتهي عاجلاً أم آجلاً، فإنه لا ينجرف في طلب شهوات ومتاع الحياة الدنيا، بل على العكس من ذلك، فإنه يعرض عنها الى أبعد الحدود.. لا شيء في هذه الدنيا الفانية يزعجه فهو دائماً راضً عمّا قسمه الله له من نعم وجمال، لأنه يعلّق آماله على الفوز بالحياة الأبدية المرضية. فقد خلق الله تعالى هذه الحياة الدنيا غير كاملة ليبتلي الناس، والمرء الذكي يفكر: إذا كان هذا العالم غير الكامل فيه هذا الكم من الجمال الذي يسعد الانسان، فلا بد أن جمال الجنة فاتن الى درجة تفوق الخيال، فتراه يأمل أن يعاين في الدار الآخرة منبع كل جمال يشاهده في هذه الدنيا. وهذه القناعات كلها لا تتأتى لديه إلا عبر التفكر العميق.
ولذلك فمن الخسارة بمكان قلق الانسان من ان يصيبه التشاؤم إذا ما وصل الى الحقيقة ، وبالتالي تفاديه التفكر، لأن الانسان الذي يفكر دائماً بإيجابية، ويعلل النفس بالرجاء بفضل إيمانه بالله، ما من أمر يقوده الى التشاؤم.
• تفادي المسؤولية التي تترتب على التفكر(/6)
يظن معظم الناس أن بإمكانهم التملص من مختلف المسؤوليات عبر تفادي اللتفكر وتشغيل ذهنهم بقضايا معينة، وهم يحسبون أنهم إن فعلوا ذلك فسوف ينجحون بإبعاد أنفسهم عن كثير من الموضوعات. فواحدة من الطرق التي تخدع الناس تكمن في افتراضهم أن بإمكانهم التهرب من مسؤولياتهم تجاه ربهم عبر عدم التفكر، وهذا هو السبب الرئيسي الذي يجعل الناس لا يتفكرون بالموت والبعث من بعده. أذا تفكر المرء أنه سيموت في يوم ما، وتذكر أن هناك حياة أبدية بعد الموت، فإنه بالضرورة سيجاهد بشدة لحياته بعد الموت.. لكن مع ذلك، ترى بعض النفس يخدع نفسه خداعاً عظيماً بافتراضه أنه تخلص من هذه المسؤولية عندما لا يتفكر في وجود الآخرة، فإذا لم يحرز الإنسان الحقيقة في هذه الحياة الدنيا فإنه سوف يفهمها عندما يدركه الموت الذي لا مهرب منه ?وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد. ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد (ق:19-20)
• عدم التفكر بسبب الانجراف في تيار الحياة اليومية
غالبية الناس يقضون حياتهم كلها في" عجلة"، فعندما يصلون الى سن معينة يتوجب عليهم العمل والاعتناء بأنفسهم وبأسرهم. ويسمون ما يفعلونه"كفاحاً من أجل الحياة" ويشكون من عدم وجود وقت لديهم ليفعلوا أي شيء إذ عليهم أن يندفعوا في سبيل كفاحهم هذا. وفي غمرة "ضيق الوقت" يصبح التفكر من الأشياء التي لا يمكنهم تخصيص أي وقت لها. ولذلك فإنهم ينجرفون الى أي مكان يسحبهم اليه تيار الحياة اليومية. وبطريقة العيش هذه يفقدون الاحسلس بالأمور التي تجري حولهم.
وعلى كل حال لا يجب أن يكون هدف الانسن تبديد الوقت بالاستعجال من مكان الى آخر. فالمهم أن يكون الاناسن قادراً على رؤية الوجه الحقيقي لهذه الحياة واتخاذ أسلوب للعيش وفقه. ولا يجب أن تقتصر غايات الانسان على كسب المال، أو الذهاب الى العمل أو الدراسة في الجامعة أو شراء منزل.. فقد يحتاج الانسن باتأكيد الى القيام بهذه الأشياء، ولكن عليه عند القبام بها أن يضع نصب عينيه دائماً أن هدف وجوده هو أن يكون عبداً لله وأن يسعى لاكتساب مرضاته ورحمته ودخول جنته، وباقي الأعمال تنفع كوسائل تعين الانسان على الوصول الى غايته الحقيقية. أما اتخاذ هذه الوسائل كغايات حقيقية وأهداف محددة فإنه خداع كبير يضل به الشيطان الانسان.
ومن يعيش دون أن يتفكر قد يجعل من هذه الوسئل غايته الحقيقية بكل سهولة. ويمكننا أن نضرب مثالاً على ذلك من حياتنا اليومية. فمما لا شك فيه أنه من الحسن أن يعمل وينتج أشياء ذات منفعة لمجتمعه. والمؤمن بالله ينجز مثل هذه الأعمال بحماس ويرجو الثواب من الله تعالى في الحياة بعد الموت. أما إذا قام إنسان بنفس العمل دون أن يذكر الله ولأساب دنيوية فقط مثل السعي وراءالمنصب أو تقدير الناس فإنه يرتكب خطأً، لأنه حوّل أمراً ما من وسيلة لكسب مرضاة الله الى غاية. وسوف يندم على فعلته عندما يواجه الحقائق في الآخرة. وفي الآية التالية يشير الله سبحانه وتعالى الى أولئك الذين ينغمسون في هذه التصرفات في الحياة الدنيا بما يلي:?كالذين كانوا من قبلكم كانوا أشدّ منكم قوّة وأكثر أموالاً وأولاداً فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذي من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون (التوبة:69)
• النظر الى كل شيء بعين العادة وبالتالي عدم رؤية أية حاجة للتفكر فيها
عندما يصادف الناس أموراً معينة للمرة الأولى قد يفهمون طبيعتها الاستثنائية مما قد يحفزهم على التحري أكثر عما يرونه. ويعد فترة تنشأ لديهم مقاومة اعتيادية لهذه الأشياء فلا تعود تؤثر بهم.
وبالتحديد فإن الأشياء والأحداث التي يلاقونها كل يوم تصبح عادية بالنسبة لهم.
فعلى سبيل المثال قد يتأثر من يدرس الطب تأثراً بالغاً عندما يرى جثة للمرة الأولى أو في المرة الأولى التي يموت فيها أحد مرضاه. مما يجعلهم يتأملون ملياً. ويمكن ان يكون السبب أنهم يواجهون انساناً بلا حياة أشبه بالبضاعة، كان منذ دقائق مليئاً بالحياة يضحك ويخطط ويتكلم ويستمتع وتلمع عيناه بالحياة.. وعندما توضع الجثة أمامهم للتشريح للمرة الأولى فإنهم يتفكرون في كل شيء في هذه الجثة, يتفكرون بأن الجسد يفنى بسرعة كبيرة, وأنه تفوح منه رائحة نتنة، والشعر الذي كان جميلاً فيهما مضى يصبح غير جميل ولا يود أحد لمسه.. وبعد ذلك يتفكرون في أن مكونات كل الأجسام هي نفسها وكل واحد منا سيلاقي نفس النهاية, وأنهم هم أيضاً سينتهون الى هذا الشكل.
ولكن بعد رؤية بضع جثث أو فقدان بضعة مرضى ينشأ لدى هؤلاء الناس مقاومة اعتيادية لأشياء محددة فيبدأون بالتعامل مع الجثث وحتى المرض وكأنهم أشياء.(/7)
وبالتأكيد هذا الوضع لا يصدق على الأطباء وحدهم, فغالبية الناس ينطبق عليها هذا الوضع في مناحي مختلفة من حياتهم. فمثلاً ينعم الله على انسان يعيش في ظروف صعبة برغد العيش فإنه يفهم ان كل ما يمتلكه رحمة له. فسريره أصبح أكثر، ولبيته منظر جميل, ويمكنه ان يشتري ما يريد ويمكنه أن يدفئ منزله في الشتاء كما يرغب، وبإمكانه التنقل بسهولة بسيارة.. وغيرها من النعم كلها التي قسمت لهذا الانسان، وبالنظر بوضعه السابق فإنه يبتهج بكل واحدة منها، ولكن من يمتلك هذه الأشياء منذ نعومة أظافره قد لا يتفكر في قيمتها كثيراً.ولا يمكنه تقدير هذه النعم إلا إذا أعاد التفكر فيها.
ومن الناحية المقابلة فالإنسان الذي يتفكر لا فرق عنده إذا سواء كان امتلاكه لهذه النعم منذ ولادته أو أنه أحرزها فيما بعد. فهو لا ينظر إلى ممتلكاته بطريقة اعتيادية إذ انه يعلم ان أي شيء يملكه قد خلقه الله وأن الله قادر على استرجاعه منه لو شاء. فمثلاً يدعو المؤمنون بالدعاء التالي عندما يركبون دوابهم, وهي السيارات في أيامنا هذه:? لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخّر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنّا الى ربنا لمنقلبون (الزخرف:13 )
وفي أية أخرى، يتعلم المؤمنون أن يقولوا إذا ما دخلوا حدائقهم: ما شاء الله لا قوة إلا بالله (الكهف: 31) وكلما دخلوها يتذكرون ان الله خلقها وهو يمدها بأسباب الحياة. أما بالنسبة للإنسان الذي لا يتفكر قد يتأثر عندما يرى جمال الحدائق ولكنها فيما بعد تصبح مكاناً عادياً بالنسبة له, ويتلاشى تقديره لجمالها.كما ان بعض الناس لا يلاحظون النعم أبداً لأنهم لا يتفكرون فيها، فهم يعتبرونها أموراً عادية من المفروض وجودها، ولذلك فإنهم لا يستطيعون استشفاف المتعة من جمالها.
• خلاصة: من الضرورة أن يزيل الانسان كل الأسباب التي تمنعه من التفكر
كما ذكرنا سابقاً فإن كون معظم الناس لا يتفكرون ويعيشون غافلين عن الحقيقة ليس عذراً كافياً لعدم التفكر. فكل إنسان هو فرد مستقل بنفسه ومسؤول أمام الله عن نفسه فقط. ومن المهم جداً أن نضع نصب أعيننا أن الله يبتلي الناس في هذه الحياة الدنيا، وعدم اهتمام الآخرين وكونهم من الناس الذين لا يتفكّرون ولا يعقلون ولا يرون الحقيقة هو جزء من ابتلائنا في معظم الأحيان. ومن يتفكر بصدق لا يقول:" إن معظم الناس لا يتفكرون وليسوا على اطلاع بهذه لأمور فلماذا يجب عليّ أن أتفكر وحدي؟" بل على العكس من ذلك فإنه يأخذ حذره من خلال تفكره في غفلة هؤلاء الناس ويلجأ الى الله كي لا يكون واحداً منهم. فمن الواضح أن وضع هؤلاء الناس لا يمكن أن يكون عذراً له. وفي القرآن الكريم يعلمنا الله في الكثير من الآيات أن أكثر الغافلين لا يؤمنون.?وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين(يوسف:103 )
{آلمر، تلك آيات الكتاب والذي أنزل اليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون }(الرعد:1)
{وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعداً عليه حقاً ولكن أكثر الناس لا يعلمون } ( النحل:38 )
{ ولقد صرّفناه بينهم ليذّكروا فأبى أكثر الناس إلا كفوراّ }( الفرقان:50 )
وفي آيات أخرى يبلغنا الله بنهاية هؤلاء الذي ضلّوا لأنهم اتبعوا الأغلبية ففشلوا في اطاعة أوامره لأنهم نسوا الغاية من خلقهم ? وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل، أولم نعمّركم ما يتذكّر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير? (فاطر:37)
لهذا السبب يجب على كل انسان أن يتخلص من الأسباب التي تمنعه من التفكر، وأن يتفكر بصدق وإخلاص ويستخلص العبر والتحذيرات من تفكره.
وفي الفصل التالي سوف نناقش ما يمكن أن يتفكر فيه الإنسان من أحداث ومخلوقات يصادفها في حياته اليومية، وهدفنا أن تؤمن هذه الموضوعات لقراء هذا الكتاب أرشاداً يساعدهم على قضاء ما تبقى من حياتهم كأشخاص يتفكرون ويستخلصون العبر مما يتفكرون فيه.
تلك الأشياء التي يجب أن نتفكّر فيها
من بداية هذه القراءة ، أشرنا الى أهمية التفكر، والمنافع التي يجلبها للإنسان، والى كونه ملكةً مهمة جداً تميّز الانسان عن غيره من المخلوقات. كما ذكرنا أيضاً الأسباب التي تمنع الناس من التفكر. والهدف الرئيسي من ذلك كله تشجيع الناس على التفكر ومساعدتهم على إدراك الغاية من خلقهم وتعظيم قدرة الله وعلمه اللا محدودين.
في الصفحات التي تلي سوف نحاول ان نصوّر بماذا يمكن للإنسان المؤمن بالله أن يتفكر من خلال ما يمر به من أشياء يومياً، وما هي العبر التي يمكن أن يستخلصها من الأحداث التي يشهدها، وكيف يجب عليه أن يشكر الله ويتقرب اليه عندما يعاين علمه وإبداعه -سبحانه وتعالى- في كل شيء.(/8)
بطبيعة الحال ما سنذكره هنا لا يغطي الا قسماً صغيراً من قدرة الإنسان على التفكر، فالإنسان عنده القابلية للتفكر في كل لحظة (ليس في كل ساعة ولا دقيقة ولا ثانية، بل في كل لحظة) من حياته. ومدى قدرته على التفكر واسع لدرجة يستحيل معها وضع حدود أو ضوابط له. والهدف مما سنذكره هو مجرد فتح الأبواب أمام الناس للاستفادة من ملكة التفكيرعندهم كما يجب.
يجب أن تتولد في الذهن القناعة بأن الأشخاص الذين يتفكرون هم وحدهم القادرون على فهم وتقدير مختلف الأمور. وقد ذكر الله في الآيات الكريمة التالية حال أولئك الذين لا يبصرون الأمور الاعجازية من حولهم فلا يستطيعون التفكر فيها، فقال تعالى:?ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً، صمُّ بكمُ عميُ فهم لا يعقلون?(البقرة: 171)... (لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون? )الأعراف:179 [?أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً الفرقان:44
ان الذين يتفكرون يرون آيات الله والجوانب الإعجازية في المخلوقات وفي الأحداث، فيفهمون، وأمثالهم هم القادرون على استخلاص العبر من كل شيء حولهم، كبيراً كان أم صغيراً.
• عندما يستيقظ الإنسان في الصباح...
لا يحتاج المرء الى شروط خاصة للبدء بالتفكر، فمن اللحظة التي نستيقظ فيها من النوم، تجد الكثير من الأفكار طريقها الينا، فهناك يوم كامل يمتد أمامنا، قلما نشعر خلاله بالتعب أو النعاس، ونكون على استعداد لمعاودة كل الأمور مرة أخرى. والتفكر بهذا يذكرنا بقوله تعالى:? وهو الذي جعل لكم الليل لباساً والنوم سباتاً وجعل النهارنشوراً.الفرقان:47
عندما نغسل وجوهنا أو نستحم نستجمع قوانا ونستعيد رشدنا بشكل كامل، وعندها نصبح على استعداد للتفكر في أشياء مفيدة، فهناك شؤون التفكر فيها أهم بكثير من التفكير ماذا سنتناول كفطور، أو في أي ساعة سنغادر المنزل! فقبل كل شيء كوننا استطعنا أن نستيقظ في الصباح معجزة عظيمة في حد ذاتها، فرغم كوننا فاقدي الوعي كلياً خلال النوم فإننا في الصباح نستعيد وعينا ووجودنا، وتخفق قلوبنا، ونتمكن من التنفس، والكلام والرؤية والمشي.. مع أنه ليس هناك ما يضمن أن هذه النعم ستعود الينا في الصباح، أو اننا لن تصيبنا أي مصيبة خلال الليل. فلربما أدّى شرود أحد الجيران الى تسرب غازي، فيوقظنا حدوث انفجار كبير، أو قد تحدث كارثة في المنطقة التي نعيش فيها نخسر على إثرها أرواحنا..وقد نتعرض لمشاكل أخرى في أجسامنا، فقد نستيقظ مصابين بآلام مبرحة في الكلى، أو الرأس ، ومع ذلك، لم يحدث شيء من هذا واستيقظنا في الصباح آمنين مطمئنين.. التفكر بهذه الأمور يجعلنا نشكر الله على رحمته بنا وحفظه لنا. فاستهلال النهار بصحة جيدة معناه أن الله يعطينا فرصة أخرى لتحقيق المزيد من أجل آخرتنا.
لذلك، فإن أفضل ما نفعله أن نمضي يومنا في مرضاته سبحانه وتعالى، ونجعلها قبل كل شيء، فنخطط لإبقاء أذهاننا مشغولة بمثل ما ذكرناه من أفكار. ونقطة البداية في تحصيل مرضاة الله، سؤله أن يعيننا في أمرنا هذا، ودعاء سيدنا سليمان عليه السلام مثال جيد لكل المؤمنين:?ربّ أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ وأن أعمل صالحاً ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين .النمل:19.
• بماذا يجعلنا ضعفنا نتفكر....؟
ملاحظة مدى ضعفنا عندما نستيقظ من الفراش يدفعنا الى البدء بالتفكر، وعندما نستحم أو نغسل وجوهنا وننظف أسناننا كل صباح نستغرق في التفكير بأشياء أخرى تدل على ضعفنا، فالطبقة الجلدية في جسمنا تخفي تحتها مشهداً رهيباً، وأجسادنا عرضة للالتهابات بأنواعها، ولا أحد منا يستطيع احتمال عدم النوم أو الصبر على الجوع والعطش، وهذه كلها من دلائل ضعفنا.
وإذا كان من ينظر في المرآة مسناً، فقد تخطر على باله أفكار أخرى، فأولى علامات الشيخوخة تظهر في الوجه بعد العقد الثاني من العمر، إذ في الثلاثينيات تبدأ التجاعيد بالظهور تحت العينين وحول الفم ولا يعود الجلد متورداً، ومع تقدم العمر يبدأ الجسم بالذبول، ويتحول لون الشعر الى الأبيض وتظهر الشيخوخة حتى على اليدين.
عندما نتفكر في هذه الأمور نجد أن الشيخوخة من أهم الوقائع التي تكشف الطبيعة المؤقتة لهذه الحياة الدنيا. فمن يشيخ يشعر بأن العد العكسي لحياته قد بدأ، وفي الحقيقة فإن ما يشيخ وما يجري عليه العد العكسي هو الجسد ، الذي يذبل شيئاً فشيئاً ، أما الروح فلا تشيخ.
ومعظم الناس يتأثر في شبابه بكونه حسن الهيئة أو غير جذاب، فيجنح أصحاب الهيئة الحسنة الى التعجرف، أما من هم أقل منهم حظاً في الجمال، فيشعرون بعقدة النقص وعدم السعادة، فتأتي الشيخوخة لتظهر أن الجمال والقبح أمران مؤقتان، وأن ما ينفع عند الله وما يقبل عنده أعمال الانسان الصالحة والتزامه بأوامر الله وحسن خلقه.(/9)
في كل مرة نواجه فيها ضعفنا ندرك أن الكمال والتنزه عن النقص هما لله وحده، مما يدفعنا الى تمجيد عظمة الله. فالله تعالى خلق كل ضعف في الانسان لهدف، ومن هذه الأهداف مساعدة الناس على عدم التعلق بالحياة الدنيا، وعدم البغي فيما أوتوا. ومن أدرك هذا عبر التفكر فإنه سيدعو الله أن يعيد خلقه في الآخرة خالياً من الضعف.
شيء آخر يلفت النظر في أمر ضعفنا ندعو أولئك الناس المغرورين والمتعجرفين الى تدبّره والاعتبار منه: انظروا الى الوردة تنبت من تراب أسود موحل، بشذى صافٍ نظيف، فيما تفوح من البشر رائحة لا تحتمل إذا لم نعتن بنظافتنا كما يجب!..
• بماذا تجعلنا بعض معالم جسم الإنسان نتفكّر..؟
ولا يقتصر التفكّر عند النظر في الملرآة على ما ذكرناه، فقد تخطر على بالنا أشياء كثيرة لم نتفكر فيها من قبل، مثل رموش عيوننا وحواجبنا، وكيف أن أسناننا وعظامنا تتوقف عن النمو عندما تصل إلى طول معين فيما يستمر الشعر بالنمو. وبكلمات أخرى كيف أن أعضاء الجسم التي يسبب نموها الزائد مساوئ وقبحا ًتتوقف عن النمو، وتستمر الأخرى التي تضفي على الإنسان جمالاً - كالشعر مثلاً- بالنمو، هذا مع ملاحظة التكامل والتناسق التام في نمو العظام. فلا تنمو الأطراف العليا من الأيدي والأرجل بدون فائدة جاعلة الجسم يبدو دون الحجم بالنسبة لها.. فنمو العظام يتوقف في الوقت المناسب، كما لو أن كل عظمة تعرف المقدار الذي يجب أن تصل إليه.
صحيح أن الأمور التي ذكرناها تحدث كنتيجة لتفاعلات كيميائية معينة في الجسم، ولكن الإنسان الذي ينظر اليهل لا بد أن يتساءل: كيف تحدث هذه التفاعلات الكيميائية، ومن الذي قدر الكميات المحددة للهرمونات في أنزيمات الجسم، لتنظم النمو في جميع أنحائه؟ ومن يضبط كمية إفرازات هذه الهرمونات؟ بدون شك من المستحيل الادعاء أن هذه الأشياء تحدث بمحض الصدفة، ومن المستحيل أيضاً للخلايا التي يتأسس منها جسم الإنسان والذرات غير العاقلة التي تتألف منها الخلايا أن تتخذ مثل هذه القرارات ، لذلك فإن من الواضح أن كل ما ذكرناه هو من إبداع الله تعالى الذي خلقنا في أحسن تقويم.
• في الطريق
مباشرة بعد الاستيقاظ من النوم صباحاً والاستعداد يمضي معظم الناس في شؤونهم فمنهم من يتوجه إلى عمله ومنهم من يذهب إلى المدرسة، ومنهم من يمضي لتسوية بعض الأمور في مكان ما في هذا العالم الرحب. بالنسبة للمؤمن هذه الرحلة القصيرة هي نقطة البداية للقيام بالأعمال الصالحة التي ترضي الله سبحانه وتعالى. فعندما نستيقظ نشكر المولى تعالى الذي وهبنا يوماً آخر نكسب فيه من رزقه، والآن وقد مضينا في أمرنا، فقد بدأت الرحلة التي يمكن أن نكسب من خلالها هذا الرزق وعندما نتفكر في هذا الأمر لا بد أن نذكر قوله تعالى ?وجعلنا النهار معاشا 0النبأ:11) ووفقاً لهذه الآية يجب علينا أن نخطط كيف سنمضي يومنا في أعمال ذات نفع للعباد ترضي الله سبحانه وتعالى.
وعندما نترك المنزل نمر بشكل تلقائي بالكثير من الأمور التي يجب أن نتفكر فيها، فهناك الآلآف من الناس والسيارات والأشجار الكبيرة والصغيرة، والتفاصيل التي لا تعد ولا تحصى من حولنا، وبالطبع فإن توجهات المؤمن محددة، فسوف نحاول الاستفادة لأقصى الحدود مما نراه حولنا ونتفكر في الأحداث والأسباب. فما يمر بنا من مشاهد إنما يمر بعلم الله وإرادته، ولا بد أن يكون هناك سبب من وراء ذلك فبما أن الله جعلنا نخرج، ووضع هذه المشاهد أمامنا، فلا بد أن فيها ما يجب أن نراه ونتدبره.
وحين نصل إلى سيارتنا أو أي وسيلة نقل أخرى. وفي خلدنا كل هذه الأفكار. نشكر الله مرة أخرى، إذ مهما كانت المسافات طويلة فقد سخر لنا الله وسيلة للوصول، وكما هو معلوم، فقد خلق الله للناس الكثير من الوسائل ليستعينوا بها في السفر. وقدّم التطور التكنلوجي إمكانيات جديدة مثل السيارات والقطارات والطائرات والسفن والمروحيات والحافلات وغيرها. وعند يتدبّر هذا الأمر يتذكر الإنسان أن الله تعالى هو الذي سخّر التكنولوجيا في خدمة البشرية. ففي كل يوم يخرج العلماء باكتشافات واختراعات جديدة تسهل علينا حياتنا، وهميصلون اليها جميعاً بالوسائل التي خلقها الله على الأرض. ومن يتفكر، يتابع رحلته شاكراً المولى تعلى الذي سخر لخدمتنا كل هذه الأمور.
وفيما نمضي في وجهتنا حاملين مثل هذه الأفكار فإن كومة نفايات، أو رائحة كريهة أو أماكن معتمة نمر بها تثير في أذهاننا أفكاراً متعددة.
فقد خلق الله في هذا العالم أماكن ومشاهد تجعلنا قادرين على تصور الجنة والنار، أو التخمين من خلال المقارنة كيف ستكونان. فأكوام النفايات والروائح الكريهة والأماكن الضيقة المعتمة القذرة تسبب كرباً كبيراً لأرواحنا ! ولا أحد يود أن يكون في مثل هذه الأماكن، وكل هذه الخصائص تذكر الإنسان بجهنم، وكل من يلتقي بهذه المشاهد يتذكر الآيات التي تتحدث عن النار: فالله سبحانه وتعالى يصف لنا ظلمة وقذارة وكراهة المشاهد في جهنم.(/10)
{ وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال. في سموم وحميم. وظل من يحموم. لا بارد ولا كريم } (الواقعة:41-44)
{ وإذا ألقوا منها مكاناً ضيقاً مقرنين دعوا هنالك ثبورا. لا تدعوا اليوم ثبوراً واحداً وادعوا ثبوراً كثيرا }(الفرقان:13-14)
وعند تذكر هذه الآيات القرآنية ندعو الله أن يجيرنا من نار جهنم ونسأله أن يغفر لنا ذنوبنا.
ومن زاوية أخرى فإن الإنسان الذي لا يوظف أفكاره بهذه الطريقة سوف يمضي نهاره متذمراً قلقاً، باحثاً عمّا يغضب في كل حدث، فيستشيط غاضباً من الناس الذين يلقون نفاياتهم ومن البلدية التي تتاخر في جمعها، ويشغل ذهنه طوال النهار بأفكار غير مجدية لا تنفعه في آخرته، مثل زحمة السير الناجمة عن الحفر في الطرقات، وكيف أصابه البلل نتيجة توقعات خاطئة لخبراء الأرصاد الجوية، وكيف حصل علاوة على ذلك على توبيخ غير منصف من رب العمل. وهذه الأفكار التافهة لا تنفع في الآخرة، وقد يتوقف الإنسان عن التفكير فيما إذا كان عليه ان يتخلى عن مثل هذه الأفكار المتعددة، والغريب ان الكثير من الناس يدّعون أن السبب الحقيقي الذي يشغلهم عن التفكر هو الكفاح الذي عليهم أن يخوضوه في هذا العالم، فيتعللون بالمشاكل الصحية وتأمين ضروريات الحياة والطعام وغيرها.. وهذه ليست سوى أعذار، فمسؤوليات المرء وأوضاعه لا علاقة لها بالتفكير فمن يحاول أن يفكر لينال رضى الله سوف يجد أن الله في عونه، وسوف يرى الأمور التي كانت بالنسبة له مشاكل قد حلت واحدة واحدة وفي كل يوم يمر سوف يكون قادر على تخصيص المزيد من الوقت للتفكر وهذا أمر مفهوم ومجرب فقط من قبل المؤمنين.
• بماذا يجعلنا هذا العالم المتعدد الألوان نتفكر..؟
خلال متابعة رحلتنا نحاول أن نراقب ما حولنا من آيات الله وإعجازه في خلقه فنقدّره سبحانه وتعالى حق قدره عندما نتفكر فيها.
عندما ننظر من شباك السيارة يطالعنا عالم متعدد الألوان، فنتساءل: لو لم يكن هذا العالم متعدد الألوان كيف كان سيبدو كل شيء فيه..؟
أنظروا في الصورة في أسفل الصفحة وتفكروا : هل ستكون بهجة المناظر الطبيعية من جبال وبحار وحقول وأزهار هي نفسها دون ألوان.؟ وأي متعة سنستقيها من مشاهد السماء والفاكهة والفراشات والثياب ووجوه الناس بغياب الألوان.؟
فضل من ربنا تعالى أننا نعيش في عالم متعدد الألوان نابض بالحياة . فمهرجان الألوان الذي نشاهده في العالم، وهذا التناسق الكامل في ألوان الكائنات الحية آيات شاهدة على إبداع الله الذي لا يضاهى وتفرده في الخلق .
لا شيء من مشاهد الطبيعة يؤذي العينين، فالتفاعل الدقيق بين الألوان، وتناسق الألوان في الكائنات الحية من أزهار وطيور وبحار وسماوات وأشجار وغيرها يورث السكينة في النفس ويعطي الراحة للعينين. وكل هذا يدل على الكمال في خلق الله.
ومن خلال التفكر في هذه الأمور نفهم أن كل ما نراه حولنا هو نتاج علم الله وقدرته اللامحدودين.
وفي مقابل هذه النعم التي منحنا إياها الله علينا أن نخافه سبحانه وتعالى ونسأله أن لا يجعلنا من الكافرين بأنعمه. والله سبحانه وتعالى يذكرنا في القرآن الكريم بوجود الألوان، ويذكر أنه لا يخشاه تعالى من عباده إلا العلماء، كما يبين سبحانه وتعالى أن المؤمنين يتفكرون ويتدبرون دائماً، ويستخدمون ألبابهم في الاكتشاف واستخلاص العبر والنتائج.
ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات مختلفاً ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود. ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء إن الله عزيز غفور [فاطر:27-28]
• بماذا يجب أن تذكّرنا عربة نقل الموتى..؟؟
ومن يمضي لشأنه مستعجلاً قد تعترض طريقه فجأه عربة نقل الموتى، وفي هذه الصدفة فرصة للمرء ليلتقط أنفاسه. فهذا المشهد الذي قد يلتقيه سيذكره بحتفه. فيوماً ما هو أيضاً سوف يكون في عربة نقل الموتى. ومهما حاول الانسان تفادي الموت فإنه ملاقيه لا محالة، عاجلاً أم آجلاً، سواء كان في سريره أو في طريقه أو في إجازة فإنه سوف يغادر هذا العالم قطعاً، فالموت حقيقة لا يمكن تفاديها.
في تلك اللحظة يتذكر الانسان المؤمن الآيات التالية: كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون. والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوّئنهم من الجنة غرفاً تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين. الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون? (العنكبوت: 57-59).
وبالطبع فإن تفكرالإنسان أن جسده سوف يوضع في كفن، ويواريه أقاربه الثرى، وأن اسمه وشهرته سوف يحفران على شاهد قبره، يزيل تعلّقه بالدنيا. ومن يفكر بهذه الأمور بإخلاص وصدق يكتشف كم من الحماقة الاستجابة لمتطلبات جسد سوف يفنى في التراب.(/11)
في الآيات من سورة العنكبوت يبشر الله عباده الصابرين والمتوكلين عليه بمباهج الجنة بعد الموت، ولهذا عندما يتفكر المؤمنون في أنهم سيموتون في يوم من الأيام، يحاولون العيش مخلصي النية لله ملتزمين حسن الخلق وصالح الأعمال التي أمر الله بها للفوز بالجنة. وكلما تذكروا قرب الأجل تزداد عزيمتهم ويحاولون التخلّق بأسمى القيم والاستزادة منها أكثر فأكثر خلال حياتهم.وعلى العكس منهم فإن الذي يعطون الأولوية لغير هذه الأفكار ويمضون حياتهم في قلق لا طائل تحته، لا يتذكرون أن الموت واقع بهم حتى لو مروا بعربة نقل الموتى أو المقبرة نفسها، وحتى لو توفي أحد أحبائهم.
• خلال النهار
في مواجهة كل الأحداث التي يمر بها خلال النهار لا يبرح المؤمن يتفكر في آيات الله محاولاً إيجاد تفسير لدقائق الأمور.
والمؤمن يتلقى كل نعمة أو ابتلاء بالقبول الحسن الذي يرضي الله سبحانه وتعالى. وليس لاختلاف الأماكن أهمية كبرى عند المؤمن، فهو يتدبر كون الله خالق كل شيء، ويحاول أن يبحث عن الغايات الكامنة وراء ما قدر الله من أحداث وما خلق من محاسن، سواء كان في المدرسة أو العمل أو السوق. فالمؤمن يعيش حياته مهتدياً بآيات الله، وتصرف المؤمنين هذا مستمد من الآيتين التاليتين:
{رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار. ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب } (النور:37-38)
• بماذا تجعلنا الصعوبات التي تعترضنا نفكر..؟
قد يتعرض الإنسان لمختلف الصعوبات في النهار. ولكن مهما كانت هذه الصعوبات عليه أن يضع ثقته بالله ويتذكر أن الله يمتحننا بكل شيء نفعله ونفكر فيه في هذه الحياة الدنيا. وهذه حقيقة مهمة جداً يجب أن لا نغض الطرف عنها ولو للحظات، ولذلك إذا واجهتنا صعوبات فيما نفعله أو فكرنا بأن الأمور لا تسير في وجهتها الصحيحة، لا يجب أن ننسى أبداً أن هذه الأمور قد قدّرت علينا كجزء من امتحاننا، وهذه الأفكار التي تمر في ذهن الانسان تصح على الأمور الأساسية والفرعية التي تعترضنا خلال يومنا، فمثلاً قد نتكلف مبالغ إضافية نتيجة الإهمال أو سوء الفهم، وقد نخسر ملفاً في الكمبيوتر أمضينا ساعات في إعداده نتيجة لانقطاع التيار الكهربائي، وقد يرسب الطالب في امتحان جامعي مع أنه بذل مجهوداً في الدرس وقد يمضي نهارنا ونحن واقفون في صف طويل نظراً لتأخر تقدم عمل ما بسبب الإجراءات البيروقراطية، وقد نخطئ في عملنا نتيجة نقص في الملفات وقد يفوت الإنسان الطائرة أو الحافلة في طريقه إلى مكان من الضروري أن يصل إليه.
وهناك عدد كبير من أمثال هذه الصعوبات أو المشاكل التي قد تعترض- أو انها قطعاً- سوف تعترض الإنسان خلال حياته.
في كل هذه الأحداث الإنسان الذي يحمل الإيمان يجزم بأن الله يبتليه في إيمانه وفي صبره، ومن الحماقة بمكان بالنسبة للإنسان الذي سيموت ويحاسب في الآخرة أن ينجرف في مثل هذه الأحداث وأن يضيع الوقت في القلق بشأنها. فالمؤمن يعلم أن هناك خيراً وراء كل هذه الأحداث. فهو لا يقول واحسرتاه لأي حدث ويسأل الله أن يسهل له أموره ويحسن به الظن في جميع الأمور.
وعندما يتبع اليسر المصاعب ندرك أن هناك استجابة لدعائنا وأن الله سميع مجيب الدعوات. فنشكره سبحانه وتعالى.
وبتمضية النهار ونحن نتفكر في هذه الأفكار لا يفقد الانسان الأمل ولا يقلق ولا يشعر بالأسف أو اليأس مهما مر به.. فنحن نعلم أن الله خلق كل هذه الأمور لخيرنا وان هناك رحمة فيها.وفوق ذلك علينا أن نفكر بهذه الطريقة ليس في الأمور الأساسية التي تقع لنا، وإنما أيضاً في الفاصيل كبيرها وصغيرها التي نقابلها خلال حياتنا اليومية كما ذكرنا من قبل.
فكروا بإنسان لا يستطيع أن يسوي أمراً بالطريقة التي يتمناها أو يتعرض لمشاكل جدية وهو على وشك الوصول إلى هدفه. هذا الشخص يصبح فجأة غاضباً حزيناً ومكروباً وباختصار تتكون لديه جميع أنواع المشاعر السلبية، ولكن من يتذكر بأن هناك خيراً في كل أمر، يحاول البحث عن الغاية الخفية في هذا الحدث الذي أظهره الله.
فقد يفكر بأن الله قد لفت انتباهه كي يحسب لأمره هذا حسابات أدق. فيقول ربما ساعدني ما حصل على تجنب ضرر أعظم.
فمن تفوته الحافلة وهو يحاول الوصول إلى موعد معين قد يفكر أنه ربما قد وقي بتأخره من التعرض لحادث في الحافلة، أو لضرر أكبر من ذلك. وهذه فقط أمثلة قليلة، فقد يفكر الإنسان أيضاً بأن هناك الكثير من الغايات الكامنة وراء تأخره هذا، وهذه الأمثلة قد تتضاعف في حياة الإنسان. والمهم في هذا كله أن مشاريعنا قد لا تحل بالطريقة التي نتمناها. فقد نجد أنفسنا في وضع مختلف تماماً عن الذي خططنا له. وفي مثل هذه الظروف فإن يسلّم ويبحث عن الخير في الأحداث المعينة التي يواجهها يفوز، يقول الله تعالى:(/12)
كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون(البقرة:216)
فكما يذكر الله تعالى في هذه الآيات، فنحن لا نعلم ولكن الله هو الذي يعلم ما هو خير لنا وما هو شر لنا. ومما يورث الإنسان السكينة أن يتخذ الله اللطيف الرحيم ولياً ويسلم له تمام التسليم.
أ• مور نتفكر فيها خلال عملنا
من المهم خلال القيام بعمل ما أن لا ندع أذهاننا تفرغ، وأن نفكر دائماً بالخير. فالعقل البشري قادر على القيام بأكثر من عمل في نفس الوقت. فالإنسان الذي يقود سيارته أو ينظف بيته أو يمشي في الشارع يمكنه أيضاً التفكير في أعمال الخير في نفس الوقت، فخلال تنظيف المنزل يشكر الإنسان الله الذي منّ عليه بالوسائل اليومية مثل الماء والمنظفات. ومعرفة أن الله يحب الطهارة والمتطهرين تجعله ينظر إلى الأمر الذي يقوم به كنوع من العبادة نأمل أن تنال رضى الله . بالإضافة إلى ذلك فإنه يسعد فيتأمين مكان مريح لغيره من الناس عبر تنظيف المكان الذي يعيش فيه.
ومن يعمل في وظيفة ما يمكنه دائماً أن يدعو الله في سره فيسأله أن يسهل له عمله، ويفكر بأنه لا يمكن أن ينجح في أي شيء دون إرادة الله. ونرى من خلال القرآن أن الأنبياء الذين هم قدوة لنا كانوا يتوجهون باستمرار إلى الله في سرهم. ويتفكرون في الله خلال عملهم، وواحد من هؤلاء الأنبياء الكرام وهو سيدنا موسى عليه السلام. فبعد مساعدته لامرأتين التقاهما في سقاية قطيعهما توجه إلى الله بالكلمات التالية:
{ ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير. فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إليَّ من خير فقيرٌ } (القصص:23-24)
مثال آخر نراه في القرآن عن هذا الموضوع هو مثال النبي إبراهيم والنبي إسماعيل عليهما السلام. فالله تعالى يذكر أن هذين النبيين تذكروا المؤمنين بالخير عندما كانا يعملان معاً فتوجها إلى الله تعالى بالدعاء حول عملهما.
{ وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم. ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم } (البقرة:127-129)
• بماذا تجعلنا شبكة العنكبوت نتفكر...؟
هناك أشياء كثيرة يمكن أن يتفكر فيها الإنسان الذي يمضي نهاره في المنزل. فمثلاً، خلال التنظيف قد يرى عنكبوتاً قد نسج شبكته في إحدى زوايا المنزل. ولو أدرك أن عليه التفكر في هذا المخلوق الذي لا يهم أحداً عادة، سوف يرى أن آفاقاً جديدة فتحت له. فهذه الحشرة الصغيرة التي يراها أمامه هي معجزة في التصميم. فهناك تناسق في الشبكة التي ينسجها العنكبوت، وإذا حصل وتسائل كيف يمكن لحشرة صغيرة أن تنجز مثل هذا التصميم الكامل المدهش فأجرى بحثاً سريعاً فسوف يصادف حقائق أخرى استثنائية. فالخيوط التي يستخدمه العنكبون مرنة ثلاثين بالمائة أكثر من خيوط المطاط ذات السماكة نفسها. والخيوط التي ينتجها العنكبوت تضاهي بجودتها العالية الخيوط التي يستخدمها الإنسان في تصنيع البزات الواقية من الرصاص. فعجباً لتلك المادة التي يعتبرها الناس مجرد شبكة عنكبوت بسيطة فيما هي واحدة من أفضل مواد التصنيع في العالم.
ولو استمر الإٌنسان في التفكر بعد أن عاين هذا التصميم المتكامل لإحدى الكائنات الحية من حوله، فإنه سوف يصادف المزيد من الحقائق المدهشة. فلو تفحص الذبابة التي يلتقي بها باستمرار دون أن يعيرها إنتباهه والتي تغضبه فيحاول قتلها، سوف يرى أن لديها عادة تنظيف نفسها بشكل تفصيلي متقن. فالذبابة تحط بشكل متكرر في أماكن مختلفة لتنظيف أطرافها الأمامية والخلفية كل على حدة، ثم تمسح بعناية الغبار عن جناحيها ورأسها عبر أطرافها الأمامية والخلفية، وتستمر بهذه العملية حتى تتأكد من نظافتها. وكل أنواع الذباب والحشرات تنظيف نفسها بطريقة مشابهة وبنفس الانتباه والدقة والتفصيل. وهذا يدل على أن الله المتفرد في الخلق هو الذي علمها كيف تنظف نفسها.
والذبابة نفسها تخفق بجناحيها خلال الطيران خمسمائة مرة في الثانية تقريباً. وفي الواقع ليس هناك آلة من صنع الإنسان تستطيع أن تعمل بمثل هذه السرعة لأنها سوف تتحطم وتحترق نتيجة الاحتكاك. في حين أن عضلات الذبابة ومفاصلها وأجنحتها لا تتأذى.(/13)
وإذا أخذنا بعين الاعتبار اتجاه وسرعة الريح . فإن الذبابة تستطيع الطيران في اي اتجاه دون أن تنحرف، في حين أنه حتى مع وجود التكنولوجيا الحالية، فإن الإنسان بعيد عن إنتاج اختراع يتمتع بهذه الميزات غير العادية ، وبتقنيات طيران مثل هذه. ومن الواضح أن الذبابة لا تفعل كل ذلك بفضل قدرتها وذكائها، فالله هو الذي أعطى الذبابة هذه الخصائص والقدرات الرائعة.
وفي كل مكان نلمحه حولنا هناك حياة مرئية وأخرى غير مرئية إذ ليس هناك سنتمتر مربع على الأرض لا حياة فيه، فالبشر والنباتات والحيوانات مخلوقات يمكن للإنسان أن يراها، ولكن هناك أيضاً مخلوقات لا يمكنه رؤيتها ولكنه على دراية بوجودها، فعلى سبيل المثال، البيوت التي نعيش فيها مليئة بمخلوقات مجهرية تسمى "العث" وفي الهواء الذي نستنشقه عدد لا يحصى من الفيروسات، وكمية البكتيريا التي تعيش في تربة حديقتنا كبيرة بشكل مدهش، ومن يتفكر في كل هذا التنوع المدهش الذي تزخر به الحياة على الأرض، يتذكر النظام المتكامل لجميع المخلوقات. فكل واحد من المخلوقات التي نراها علامة على إبداع الله، تماماً كما تكمن في المخلوقات المجهرية معجزاته العظيمة. فلكل من الفيروسات والبكتيريا والعث غير المرئية بالنسبة لنا، آليات جسدية خاصة، فقد خلق الله لها بيئتها وجعل لها أنظمة في التغذية، وأجهزة تناسل وأنظمة مناعة، ومن يتدبر هذه الأمور يتذكر الآية التالية:
{ وكأيّن من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم } (العنكبوت:60)
• بماذا يجعلنا المرض نفكر..؟
الإنسان مخلوق يتميز بالكثير من نقاط الضعف، وعليه أن يبذل مجهوداً مستمراً لمعالجة نقائصه. والمرض يكشف بشكل واضح ضعف الإنسان، لذلك عندما نمرض أو يمرض أحد أصدقائنا يجب علينا التفكير في الغايات الكامنة في المرض.
وعندما نتفكر نجد أنه حتى الزكام الذي يعتبر مرضاً بسيطاً يعطينا دروساً وتحذيرات. فعندما نلتقط مثل هذا المرض نفكر فيما يلي: أولاً المسبب الرئيس للزكام هو فيروس دقيق جداً غير مرئي بالعين المجردة، ومع ذلك فإن هذا الكائن الصغير كافٍ لإفقاد رجل يتراوح وزنه بين 60 و 70 كيلو غراماً قوته، وجعله مرهقاً لدرجة تمنعه من المشي أو الكلام، ومعظم الأحيان لا تجدي الأدوية أو الأطعمة التي نتناولها نفعاً، وكل ما نستطيعه هو أخذ قسط من الراحة والانتظار. داخل الجسد تدور رحى حرب لا يمكننا التدخل فيها، فنحن مقيدو الأيدي والأرجل من قبل كائن حي دقيق. وفي مثل هذا الوضع يجدر بنا أن نتذكر الآيات القرآنية وما فيها من الكلمات قالها نبي الله إبراهيم عليه السلام:
{ والذي هو يطعمني ويسقين. وإذا مرضت فهو يشفين. والذي يميتني ثم يحيين. والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين. رب هب لي حكماً وألحقني بالصالحين } (الشعراء:79-83)
وعلى الإنسان الذي يصاب بأي نوع من الأمراض أن يقارن بين تصرفه عندما كان في صحة جيدة وتصرفة خلال مرضه ويتفكر في الأمر. وعليه أن يتذكر حاله المتواضع أثناء مرضه وكيف أدرك بقوة كم هو بحاجة إلى الله تعالى، وكم دعا ربه مخلصاً عندما كان متوجهاً لإجراء عملية جراحية مثلاً..
وعندما نعاين مرض أحد غيرنا علينا فوراً أن نشكر الله عندما نتذكر صحتنا الجيدة، فعندما يرى المؤمن إنساناً برجل عرجاء عليه أن يتذكر كم أن رجليه نعمتان أساسيتان ومهمتان بالنسبة له: فيفهم أن كونه قادراً على المشي إلى أي مكان يريده، حالما يستيقظ في الصباح وكونه قادراً على الركض عند الضرورة، وقدرته على الاعتناء بنفسه دون حاجته إلى أحد، بحد ذاتها فضائل عظيمة من الله تعالى، وعندما يتفكر ويقارن، يتفهم أكثر قيمة ما منح من نِعم.
• بماذا يتفكر الإنسان عندما يقابل شخصاً متعجرفا،ً مددللاً، مزعجاً، سيء الطبع...؟
خلال النهار، سواء كنا في المكتب أو المدرسة، يصادف المرء أنواعاً مختلفة من الناس، وقد لا يكون كل هؤلاء الناس من ذوي الطباع الحسنة وممن يخافون الله. والمؤمن الذي يقابل مثل هؤلاء الأشخاص لا يتأثر بهم بل يظل متمسكاً بالسلوك الذي أمر الله به، فهو يعلم أن ميزة سوء الخلق عند هؤلاء الأشخاص سببها افتقارهم إلى الايمان بالله، وعدم تصديقهم بالآخرة. فيخطر على باله ما يلي: يحذر الله سبحانه وتعالى الناس من كرب الجحيم، ويسألهم أن يفكروا في العذاب الذي لا نهاية له وأن يحسنوا أخلاقهم في الحياة الدنيا ويتواضعوا لله ويلتزموا بالدين بإخلاص. ولو أدرك الإنسان أنه في مواجهة تهديد خطير كهذا، فإنه بالتأكيد سوف يأخذ احتياطاته لتجنبه. ولكن أولئك الذين لا يتفكرون في الأمر ولا يستوعبون خطورته يتصرفون وكأنه لا نار ولا عذاب يعدّان لهم.(/14)
ومن يكون على دراية بهذه الحقائق يتذكر اموراً أخرى مهمة جداً، فعند الانتظار على شفير نار جهنم، تتغير أخلاق كل واحد من هؤلاء الناس بشكل كامل . فإذا قبض يوم الفصل على من كان لا يتردد اليوم في إظهار أخلاق ملؤها الدلال والوقاحة ٍوالتعجرف، خالية من كل إيمان بالله ثم أحضر وسيق أمام حفرة الجحيم وسحب على الأرض وتعرض لخزي مستمر، فإن تعابير وجهه وتصرفاته وطريقة كلامه والألفاظ التي يستعملها لن تكون هي نفسها التي كانت من قبل. وإذا سيق الكافر المتغطرس العنيف الذي ارتكب الجرائم ولم يعد لديه أي مظهر من مظاهر الإنسانية إلى شفير نار جهنم فإنه سوف يحس بالندم الأبدي عندما يعاين عذابها.
ومن يختلق كل أنواع الأعذار ليبرر عدم التزامه بالدين وعدم عبادته لله في الحياة الدنيا لن يكون قادراً على اختلاق نفس الأعذار عندما ينتظر على مشارف جهنم. في ذلك الوقت لن تكون التوبة ممكنة حتى لو أراد الكافر أن يفي بها ولن تكون الدعوات مستجابة رغم أن الكافر يجدّ حينها في الدعاء.
إن من يخاف الله لا ينسى هذه الأمور البتة فيتفكر في نار جهنم وبفضل تفكره يدرك ما هي التصرفات الحقيقية وما هي الكلمات الصحيحة وما هي الأخلاق الحميدة. وبما أن عنده إيمان قوي بوجود جهنم فإنه يتفكر فيها باستمرار، ويتصرف دائماً وكأنه قريب من نارها، ولا يني يتفكر بأنه سوف يدعى للمحاسبة عن كل ما قام به.
• الله يدعو الناس للتفكر في النار وفي يوم الفصل.
{ يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد }(آل عمران:30)
• خلال تناول الطعام
{ الله الذي جعل لكم الأرض قراراً والسماء بناءً وصوّركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين }(غافر:64)
لقد وهب الله الناس في هذه الحياة ألواناً من الطعام والشراب مختلفة، صافية، لذيذة،... وكل هذه الأطعمة والأشربة مظاهر لفضل الله الذي لا ينتهي ورحمته بالعباد، فالناس يستطيعون أن يعيشوا بخير على لون واحد من الطعام والشراب ولكن الله تعالى وهبهم نعماً لا تحصى من الخضار والفاكهة، وأنواع مختلفة من اللحوم وغيرها..
والمؤمن الذي يعرف أن كل هذه النعم من الله تعالى يتفكر فيها ويشكر الله في كل مرة يجلس فيها لتناول وجبة طعام.
• بماذا تجعلنا الفاكهة التي تقدم خلال وجبة الطعام نتفكر؟
في آيات كثيرة من القرآن، يذكر الله تعلى أنه أنعم على الناس بأنواع كثيرة من الطعام وهذه الأطعمة تكون موجودة أمام أي شخص يجلس لتناول وجبة. فطاولة الطعام تمتلئ بمختلف أنواع الخضروات المزروعة، والعديد من المنتجات الحيوانية، والإنسان بطبيعته مفطولر على حب التمتع بهذه الأطعمة، فكل واحد منها ألذ من الآخر، وهي في نفس الوقت ضرورية للبقاء على قيد الحياة، فلتتفكر فيما لو أن هذه الأطعمة المغذية والضرورية للبقاء على قيد الحياة كانت بدون نكهة أو كان طعمها رديئاً. أو لو كانت مضرة بالرغم من طعمها الطيب، أو لو كان هناك عدد قليل من الأطعمة نتغذى بها فقط من أجل البقاء على قيد الحياة.. ان رحمة الله هي السبب الوحيد الذي امام أطعمة بهذا الشكل الذي نشاهده على المائدة وليس امام طعام وشراب غير ذي نكهة.
حتى لو فكر الإنسان بالفاكهة وحدها سوف يدرك النعم العظيمة التي تظهر لنا. والإنسان الحي الضمير الذي يرى أنواعاً كثيرة من الفاكهة على طاولة الطعام سيفكر فيما يلي:
" بأنه من قلب تراب داكن تنبت فاكهة بألون متعددة وشذى متنوع، ومحتويات نظيفة تماماً وكل واحد منها له طعم طيب. وهذا فضل عظيم منحه الله للناس.
" وبأن الموز والتنغرين والبرتقال والبطيخ بنوعيه الأصفر والأحمر، وغيرها من الفواكه كلها مخلوقة في أغلفتها الخاصة بها، فقشرتها تحميها من التلف والفناء. وتحفظ لها شذاها، فبعد فترة قصيرة من تقشيرها تتحول الفاكهة إلى اللون الأسود وتفسد.
" عند تفحصها واحدة واحدة يظهر أن كل نوع من أنواع الفاكهة له ميزة دقيقة. فالبرتقال والتنغرين مثلاً مقطعة. لأنها لو كانت قطعة واحدة لكان من الصعب تناول مثل هذه الفاكهة الكثيرة العصارة. لكن الله تعالى قد شكلها على هيئة شرائح من أجل راحة الناس. ومما لا جدال فيه أن هذا التصميم الرائع الخالي من النقائص الذي يلبي حاجاتنا آية من خلق الله العليم سبحانه وتعالى.(/15)
" والفراولة على سبيل المثال، فاكهة مميزة جداً بطعمها وشكلها. فبالأشكال التي عليها تبدو وكأنها صممت تصميماً فائق الدقة، وبلونها الأحمر المنعش المتوّج بأوراق خضراء تشكل الفراولة واحدة من أسمى آيات الإبداع الرباني.. وحلاوة شذاها وطعمها ولكونها خالية من البذور الكبيرة ولا قشرة لها مما يسهل أكلها، فإنها تذكر الإنسان بفاكهة الجنة وفي كونها تنبت بمعظم أجزائها في التراب ثم يكون لها هذا اللون الجميل الملفت، دلالة عظيمة من الله تعالى الذي خلقها فأظهر إبداعه وحكمته وعلمه فيما خلق.
" ووجود أنواع مختلفة من الفاكهة في كل موسم موضوع آخر حري أن نتفكر فيه ففضل ونعمة من الله للناس أنه في فصل الشتاء الذي يكون الناس فيه بأمس الحاجة إلى فيتامين ج توجد فاكهة الغنية بهذا الفيتامين مثل التنغرين والبرتقال والغريب_فروت فيما تتوفر في الصيف أنواع الفواكه التي تطفئ العطش مثل البطيخ بنوعيه الأحمر والأصفر، والدراق والكرز.
وقد أهدانا الله سبحانه وتعالى تلك الصورة الخلابة للفاكهة على أغصانها أو حيثما زرعت. فمنظر المئات من حبات الفاكهة على غصن جاف أشبه بالعظمة وهي مربوطة اليه بإحكام ومملوءة بالعصارة من داخلها، وما يظهر منها وكأنه جرى تلميعه بشكل خاص دليل آخر أن كل واحد من أنواعها قد خلقها الله . فعلى سبيل المثال عناقيد العنب تبدو وكأنها قد وضعت على أغصان الدوالي واحدة واحدة. والله تعالى قد خلق كل واحدة منها بشكل فريد وشكّل لها مظهراً على الأغصان يجعلها تروق للناس. ولهذا السبب خلال وصف الجنة في القرآن يذكر الله أن الفاكهة فيها تكون جاهزة للقطاف، وذلك في قوله تعالى: ?ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا (الإنسان:14).
وبالطبع ما ذكر هنا هو غيض من فيض، فنعم الله أكثر من أن تحصى، ومن يدرك ذلك على مائدة الطعام يتذكر آية كريمة أخرى:?أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون. وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم(النحل:17-18).
• بماذا تجعلنا الروائح والنكهات نتفكر...؟
وإذا استمرّينا في التفكر، نصل الى إدراك المحاسن والدقائق في خلق الله أكثر. وخلال التأمل ملياً في هذه الأمور فإن الانسان الحي الضمير يعي أيضاً أن كونه قادراً على على استمداد المتعة مما أنعمه الله عليه فضل كبير من الله سبحانه وتعالى، ويتذكر أن حاستي الشم والتذوق تساعداننا على الإحاطة بالكثير من الجمال الكائن في هذه الدنيا. فيستمر الانسان بالتفكير: لو لم يكن لدينا حاسة الشم لما استطعنا أن نستمتع بالورود والفواكه والمشاوي كما نستمتع الآن. ولو لم يكن لدينا حاسة التذوق لما تعرّفنا على الطعم الفريد للشوكولا والحلوى واللحوم والفراولة وغيرها من النعم.
يجب ألا يغيب عن بالنا أنه لو لم يتفضل الله سبحانه وتعالى علينا بكل هذه النعم لكنّا الآن نعيش في عالم ليس فيه لون أو طعم أو رائحة. ولولا فضله سبحانه وتعالى علينا لما استطعنا اكتساب أي من هذه النعم بأي حال من الأحوال. ولكن الله تعالى قد أنعم على الناس فخلق النكهات والروائح، تماماً كما خلق لنا الجهاز العصبي كي نحيط بها.
خلال التنزه في الحديقة..
• بماذا تجعلنا مظاهر الجمال التي نراها في الطبيعة نتفكر؟
إن من يؤمن بالله يسبّحه على ما يراه من جمال في الطبيعة، فهو على علم ودراية بأن الله هو خالق كل ما يوجد من جمال، وأن كل هذه المحاسن هي ملك لله، وتجلّيات لما يختص به سبحانه وتعالى من جمال.
خلال التنزه في الطبيعة، يصادف الإنسان المزيد من الجمال، فمن القشة إلى الأقحوان الأصفر، ومن الطيور إلى النمل.. كل شيء مفعم بالتفاصيل التي تحتاج إلى التفكير فيها. وحينما يتفكر الناس فيها يصلون إلى فهم قوة وقدرة الله.
فالفراشات مثلاً ذات جمال بديع جداً، فبأجنحتها المتساوقة وتصاميمها المزكرشة بتماثل تام وكأنها مرسومة باليد وألوانها الفوسفورية، تشكل الفراشات دليلاً على إبداع الله وقدرته العظيمة على الخلق.
وبشكل مماثل فإن النباتات التي لا تعد ولا تحصى، وأنواع الأشجار على الأرض هي من المحاسن التي خلقها الله، وقد خلق الله الأزهار بألوانها والأشجار بأشكالها المختلفة كي تضفي على حياة الإنسان بهجة كبيرة.
والمؤمن يتفكر كيف أن الورود والأزهار، مثل البنفسج والأقحوان والزنبق والقرنفل والأوركيد ناعمة الملمس تنبت من بذورها ملساء تماماً دون تجاعيد وكأنها مكوية!
ومن العجائب الأخرى التي خلقها الله تعالى شذى هذه الأزهار، فالوردة مثلاً لها عبير قوي دائم التجدد، ورغم أحدث التطورات التكنلوجية لم يستطع العلماء أن يصنعوا رائحة تضاهي تماماً عبير الورود، فالأبحاث المخبرية التي تحاول تقليد هذا العبير لم تثمر عن نتائج مرضية .
فبشكل عام فالعطور التي صنعت أساساً برائحة الورود حادة ومزعجة في حين أن رائحة الوردة الأصلية لا تزعج!(/16)
ومن يؤمن بالله يعلم أن كلاً من هذه النباتات خلق له ليُسَبِّح الله، وليبرز له إبداع الله وعلمه في ما خلقه سبحانه وتعالى من جمال ، ولذلك فإن من يرى هذا الجمال حينما يتنزه في الحديقة يمجد الله فيقول ?ما شاء الله ولا قوة إلا بالله[الكهف:39]. ويتذكر أن الله قد سخر هذا الجمال لخدمة الإنسان وأنه سوف يمنح المؤمنين نعماً ممتازة لا تقارن في الآخرة فيزداد حبه لله تعالى.
• هل تفكرت يوماً في نملة رأيتها خلال تنزهك في الحديقة..؟
الناس بشكل عام لا يدركون أي معنى للتفكير في الكائنات الحية التي يرونها في محيطهم. ولا يتخيّلون ان هذه الكائنات الحية التي يصادفونها كل يوم لها ميزات مثيرة للاهتمام. أما بالنسبة للمؤمن فإن كل كائن حي خلقه الله يحمل آثار الكمال في خلقه، والنمل بعض هذه المخلوقات.
فالمؤمن الذي لا يعمي عينه عن النمل الذي يراه حين يتنزه في الحديقة يشهد الكمال في خلق الله من خلال رؤيته لميزاتها المدهشة.
فحتى مشاهدة تحركات النملة تستحث العقل فهي تحرك أرجلها المتناهية الدقة بأسلوب متتال منتظم إلى أبعد حد، فهي تعرف تمام المعرفة أي رجل يجب أن تقوم بالخطوة الأولى وأيها تقوم بالخطوة التالية، وتتحرك بسرعة دون ترنّح.
وهذه الحشرة الصغيرة ترفع فتاتاً أكبر بكثير من جسمها، وتحمله إلى وكرها بقلبها وروحها، وتسافر مسافات طويلة بالمقارنة مع جسمها الضئيل.
وبكل سهولة تستطيع أن تجد وكرها في الأرض التي لا معالم تميزها دون أن يكون هناك مرشد في خدمتها. ورغم أن مدخل الوكر صغير لدرجة لا نستطيع معها نحن أنفسنا أن نجده، لا تختلط عليها الأمور فتجده أينما كان.
عندما يرى الإنسان هذه النملات في الحديقة وهي مصطفة في خط الواحدة تلو الأخرى، تكدح بحماس لتحمل الطعام إلى وكرها لا يمكنه التوقف عن التساؤل عن طبيعة هذا التصميم على العمل بكد الذي تملكه هذه الحشرات الصغيرة جداً،.
ثم يدرك الإنسان أن النملة لا تحمل الطعام لنفسها فقط ولكن أيضاً لأعضاء أخر في المستعمرة، للملكة، ولصغار النمل.
وما يحتاج الإنسان أن يتفكر به هو كيف يمكن لهذه الحشرة الصغيرة جداً التي لا تمتلك دماغاً متطوراً أن تعرف الاجتهاد والنظام والتضحية بالنفس. وبعد التأمل ملياً بهذه الحقائق يصل الإنسان إلى الخلاصة التالية: النمل مثله مثل باقي الكائنات الحية تعمل بإلهام من الله، ولا تأتمر الا بأمره سبحانه وتعالى.
• بماذا تجعلنا التحركات "المدركة" لنبتة اللبلاب نتفكر..؟
والمؤمن عندما يتنزه في الحديقة، يتفكر أيضاً بنتة اللبلاب (نبتة متعرشة) التي يصادفها، وهي من أجمل ما خلق الله تعالى. فبالنسبة لمن يتفكر هناك دائماً آيات يتعلمها من كل شيء حي.
فعلى سبيل المثال، في لف نبتة اللبلاب نفسها حول غصن ما أو أي شيء، أمر يحتاج الإنسان للتفكر فيه بدقة. ولو أن مراحل نمو هذه النبتة صوّرت، ثم أعيد عرض الشريط بسرعة لرأينا أن هذه النبتة تتحرك كما لو أنها كائن مدرك. فكأنها ترى أن هناك غصناً أمامها فتمد نفسها باتجاهه وتوثقه إليه وكأنها تحكم الخناق حوله. وأحياناً تلتف حول الغصن عدة مرات لتثبت نفسها، ثم تنمو بسرعة بهذه الطريقة، وتنشيء لنفسها طريقاً جديداً أما بالعودة أو التقدم إلى الأسفل عندما يصل ممرها إلى نهايته.
والمؤمن الذي يشهد كل هذه الأمور يدرك مرة أخرى أن الله سبحانه وتعالى خلق كل الكائنات الحية بأنظمة فريدة خالية من الخلل.
وفيما يستمر المرء بمراقبة تحركات نبتة اللبلاب فإنه يشهد معلماً آخر مهماً من معالم هذه النبتة، حيث يرى أن هذه النبتة تلصق نفسها بإحكام بالسطح الذي تتموقع عليه عبر تمديد أذرع إلى جوانبه، كما تفرز هذه النبتة "غير المدركة" مادة دبقة قوية لدرجة قد تنزع الدهان عن الحائط إذا حاول الإنسان إزالتها.
وجود مثل هذه النبتة يظهر للمؤمن الذي يتفكر في هذه الأمور القدرة الكلية لله خالقها.
• بماذا تجعلنا الأشجار نتفكر...؟
نشاهد الأشجار في كل يوم وكل مكان، ولكن مع ذلك هل تفكرتم يوماً كيف يصل الماء إلى أبعد ورقة في أعلى غصن في الشجرة الباسقة؟
يمكننا أن نمتلك فهماً أفضل للطبيعة غير العادية لهذا الأمر عن طريق المقارنة. فمن المستحيل أن يرتفع الماء من الخزان الكائن في قبو المبنى الذي نسكن فيه، إلى الطوابق الأعلى دون محرك دفع مائي، أو غيره من المحركات القوية. إذ لا يمكن حتى ضخ المياه إلى الطابق الأول ، وهذا يعني أنه يجب أن يكون هناك نظام ضخ في الأشجار شبيه بمحرك الدفع المائي، وإلا إذا لم يستطيع الماء الوصول إلى جذع الشجرة وأغصانها فإن الشجرة تموت سريعاً. لقد خلق الله كل شجرة مزودة بكل المعدات الضرورية، وعلاوة على ذلك فإن نظام الدفع المائي في الكثير من الأشجار أرفع من أن يقارن بذلك الموجود في المباني التي نعيش فيها؛ وما ذكرناه واحد من الموضوعات التي يتفكر فيها من ينظر إلى كل الأشياء بعين البصيرة، عندما يشاهد النباتات.(/17)
وهناك موضوع آخر له علاقة بأوراق الأشجار. فمن يتفكر في الأشياء التي يشاهدها، لا يعتبر، حين ينظر إلى الأشجار، أوراقها أشكالاً عادية ألف مشاهدتها. فهو يتفكر في أمور مختلفة لا تخطر لمعظم الناس، فمثلاً، مع أن أوراق الأشجار رقيقة جداً، فإنها لا تجف بفعل الحر الشديد، ولو أن إنساناً بقي في الخارج ولو لوقت قصير في حرارة تبلغ أربعين درجة مئوية، فإن لو جلده يتغير، ويعاني من الجفاف، في حين تستطيع أوراق الأشجار أن تبقى خضراء لأيام وحتى شهور في الحر الشديد دون أن تحترق، على الرغم من ضآلة كميات المياه التي تجري في أوعيتها الشبيهة بالخيوط؛ وهذه معجزة في الخلق تبين أن الله خلق كل شيء بعلم منقطع النظير. وبالتفكر في معجزة الخلق هذه يرى المؤمن عظمة الله ويذكره سبحانه وتعالى.
• خلال قراءة الجريدة أو مشاهدة التلفاز..
يتابع الناس الأخبار في الجريدة اليومية وعبر التلفاز أما خلال النهار أو حين يعودون إلى بيتهم في المساء. وفي هذه التقارير الكثير من القضايا التي يمكن أن يتفكر فيها الإنسان الحي الضمير ويأخذ حذره منها ويرى فيها آيات الله.
• بماذا يجعلنا تكرر قضايا العنف والسرقة والجريمة نتفكر؟
في كل يوم على الصفحات المحلية للأخبار في الجرائد والنشرات الأخبارية، تطالعنا تقارير عديدة عن القتل والجرح، واللصوصية والسرقات والسلب والانتحار. وتكرر وقوع هذه الأحداث والعدد الكبير للأشخاص الميالين جداً إلى ارتكاب مثل هذه الجرائم يشير إلى الضرر الذي يعاني منه الناس الذين لا يؤمنون بالله. فخطف شخص ما لطفل صغير من أجل الفدية مسبباً له خوفاً عظيماً، أو حتى قتله، وتصويب شخص أخر مسدساً في وجه رجل وقتله، دون تردد، وقبول ثالث الرشوة، أو القيام بسلب الأموال أو الانتحار.. كلها تشير إلى أن هؤلاء الأشخاص لا يخافون الله ولا يؤمنون بالآخرة. فمن يخاف الله ويعرف أنه سيحاسب في الآخرة لا يفعل هذه الأمور أبداً. كل هذه الأفعال عقوبتها في الآخرة نار جهنم إذا لم يتب عنها مرتبكها وإذا لم يسامحه الله ويرحمه.
وقد يقول أحدهم:"أنا ملحد لا أؤمن بالله ومع ذلك فأنا لا أقبل الرشوة". ولكن هذا التعبير من إنسان لا يؤمن بالله غير مقنع أبداً. فمن المحتمل جداً أن يخل هذا الشخص بوعده إذا تبدلت الظروف، فعلى سبيل المثال إذا اضطر هذا الإنسان إلى إيجاد المال لسبب طارئ، وصودف أن كان في وضع فيه فرصة للسرقة أو قبول الرشوة، فمن غير المتوقع أن يكون عند كلمته عندما تكون حياته على المحك. ومع أن هذا الشخص قد يتجنب قبض الرشوة في الظروف الصعبة، فإنه قد يميل إلى ارتكاب غيرها من المحظورات، أما المؤمن فلا يقوم بأي عمل لا يستطيع أن يتحمل عاقبته في الآخرة.
إذاً، فإن سبب هذه الأحداث التي تجعلنا من المعترضين بأصواتنا في الجرائد والتلفزيونات وفي حياتنا الاجتماعية، وتدفعنا إلى أن نصرخ بقوة: "ماذا حصل لهذا المجتمع" هو في الحقيقة، قلة التدين. والمؤمن الذي يرى هذه التقارير لا يعمي عينيه عنها بل يفكر بأن الحل الوحيد بالتحدث بدعوة الناس الى الدين، وإحياء قيمه.. ففي المجتمع الذي يتكون من أناس يخافون الله ويعلمون أنهم سيحاسبون في الآخرة من المستحيل لهذه الأحداث أن تقع بهذه الدرجة التي تقع فيها في أوقاتنا هذه. ففي مثل هذا المجتمع سوف يعيش الناس في أعلى درجات الأمن والسلام.
• بماذا تجعلنا برامج النقاش التي تستمر حتى الصباح نتفكر..؟
تشكل برامج النقاش التي تذاع على التلفاز مادة أخرى للتفكر فيها لمن يتابع التفكر في الأمور من حوله.
وبرامج النقاش هذه تستضيف الأشخاص الأكثر إلماماً بموضوع الساعة والأكثر علماً به. فيناقش هؤلاء موضوعاً ما لساعات من غير أن يكون أحد منهم قادراً على إيجاد حل أو الوصول إلى استنتاج ما، مع أن هؤلاء الذين يشاركون في هذه البرامج يعتبرون مؤهلين لحل هذه القضايا.
وبالفعل، فإن حلول معظم هذه القضايا واضح بما فيه الكفاية ومع ذلك فإن مصالح الناس الشخصية، وبقاؤهم تحت تأثير نفوذهم الحالي وسعيهم لإظهار انفسهم بدل البحث بإخلاص عن الحلول يوصلهم إلى مأزق وطريق مسدود.
والإنسان الحي الضمير الذي يشهد كل هذايجزم بأن سبب هذه الأحداث يكمن في بعد المجتمع عن دين الله، فمن يؤمن بالله لا يظهر منه أي تصرف أخرق، لا مسؤول أو فارغ. فهو يعلم أن هناك خيراً في كل حادث يعرّضه الله له، وأنه في امتحان دائم في هذه الحياة، وعليه أن يستخدم رشده وعلمه وقوته بطريقة ترضي الله.
بالإضافة إلى ذلك، عندما يشاهد المؤمن هذه البرامج يتذكر قوله تعالى: ..وكان الإنسان أكثر شيءٍ جدلا[الكهف:54].(/18)
ان وجود مثل هذه البرنامج يكشف عن طبيعة الناس المولعة بالجدل والخصام. وهذا ما يؤدي بهم في معظم الأوقات إلى الفشل في فهم المطلوب، فهوسهم بما سيقولون، ومحاولتهم قوله أولاً، ومقاطعتهم بعضهم بعضاً ورفعهم أصواتهم بسهولة وانفعالهم الشديد بلمحة، ومباشرتهم بكيل الشتائم لبعضهم، تكشف بوضوح الجوانب السلبية لذوي الثقافات الرفيعة ظاهرياً الذين ينقصهم الإيمان بالله.
بمشاركة أشخاص مخلصين وصادقين مائة بالمائة، ممن يخافون الله لا يمكن لهذه المناقشات المطولة وغير المثمرة أن تحدث،ف بما أن الهدف هو إيجاد الحلول الأكثر إرضاءً لله ومنفعة للناس، فإن أفضل أساليب التفكير وأكثرها ضميرية،توضع وتطبق دون تضييع الوقت، وبما أن ضمير الكل سوف يرتاح بالوصول إلى النتيجة النهائية فإن الخصام والجدل لن يقعا.
وإذا كان هناك لأي واحد اعتراض مبني على أسباب معقولة تظهر طريقة أفضل في الحل فإن اقتراحه يطبق مباشرة، وخلافاً لغيرهم، فإن من يؤمنون بالله لا يظهرون تصرفات عنيدة ومتعجرفة؟ وعندما يتذكرون قوله تعالى .. وفوق كل ذي علم عليم?[يوسف:76]، يطبقون أفضل الخيارات التي يقدرون عليها.
هذه النقاشات التي تستمر حتى الصباح دون الوصول إلى أي حل تستحق أن تؤخذ بعين الاعتبار لأنها تظهر ما يمكن أن يحدث في البيئات التي لا تعيش قيم وأخلاق الدين الرفيعة.
• بماذا يجعلنا الفقر والمجاعة في كل زاوية من زوايا العالم نتفكر؟
عدم العدل بين الناس من القضايا التي تتداول باستمرار في وسائل الإعلام، ففيما هنالك في أحد جوانب العالم بلدان مزدهرة بشكل ملحوظ تتمتع بدرجات عالية من الرفاهية، هناك في الجانب المقابل أناس لا يجدون ما يأكلونه وليس لديهم دواء لعلاج حتى أبسط الأمراض و يتكرر وقوع الموت في صفوفهم بسبب الإهمال. أول ما يكشفه هذا الوضع هو النظام الجائر السائد في العالم. من السهل جداً على البلدان الغنية إنقاذ هؤلاء الناس، فعلى سبيل المثال، قرب الأمم التي تموت من الجوع في أفريقيا هناك مجتمعات كدست الثروات من مناجم الماس، وبالتالي أنشأت "مدنية" متقدمة. ورغم أنه من السهل جداً إعادة إسكان هؤلاء الأشخاص الذين يعيشون في الفقر قريبين من المجاعة متروكين عرضة للموت ، أو تأمين الموارد التي تتوافق مع احتياجاتهم، في المناطق التي يعيشون فيه،ا فإنه لعقود من الزمن لم يتم البحث عن حلول أساسية لمشكلتهم؛ ومع أن مساعدتهم ليست مهمة يستطيع عدد قليل من الناس القيام بها، إلا أنه من أجل إيجاد حل نحتاج الى الكثير من التضحية بالنفس، وذلك فإن عدد الأشخاص الذين يمكن الادعاء بأنهم ينكبون على محاولة حل مثل هذه المشكلة قليل جداً.
تريليونات من الدولارات تبدد في كل جزء من العالم لأسباب مختلفة، حتى ان بعض الناس يرمون طعامهم لأن كمية الملح التي فيه لم تعجبهم، فيما يموت غيرهم لأنه غير قادر على إيجاد كمية كافية من الطعام ليأكلها وفي هذا دليل واضح ضد نظام عالمي جائر سببه عدم تطبيق قيم الدين على الأرض.
ومن يرى كل هذا يجزم بأن الشيء الوحيد الذي يزيل هذا الجور هو الالتزام بأوامر الله، فالناس الذين يخافون الله ويتصرفون بما تمليه عليهم ضمائرهم لا يمكن أن يسمحوا بمثل هذا الظلم والجور. وسوف يساعدون المعوزين بحلول محدودة وسريعة وطويلة الأمد، دون أن يسمحوا بأي نوع من أنواع التفاخر، وإذا اقتضت الضرورة يستثمرون جميع الإمكانيات الموجودة في العالم.
ويخبرنا الله في القرآن الكريم أن مساعدة الفقراء والمعوزين هي من صفات الأشخاص الذين يخافون الله واليوم الآخر ?ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً. إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورا. إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريرا?[الإنسان:8-10]. وعدم إطعام الفقراء من صفات الأشخاص الكافرين الذين لا يخافون الله ?خذوه فغلّوه. ثم الجحيم صلّوه. ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه. إنه كان لا يؤمن بالله العظيم. ولا يحض على طعام المسكين. فليس له اليوم هاهنا حميم. ولا طعام إلا من غسلين. لا يأكله إلا الخاطئون?[الحاقة:30-37].
• بماذا تجعلنا الكوارث التي تحدث حول العالم نتفكر...؟
بعض التقارير التي يصادفها الناس باستمرار في الجرائد والتلفزيونات تتعلق بالكوارث، فالناس قد يتعرضون للكوارث في أي وقت. فقد تحدث هزة أرضية قوية، وقد يشب حريق وقد يحدث فيضان، ومن يرى هذه التقارير يتذكر أن الله قادر على كل شيء فباستطاعته أن يسوي مدينة ما بالأرض إذا أراد، وبالتفكر في هذا الأمر يدرك الإنسان أنه لا ملجأ من الله إلا إليه، ولا مغيث إلا هو، فحتى أقوى المباني والمدن المجهزة بأحدث وسائل التكنلوجيا لا تستطيع أن تقف في وجه قوة الله فهي الأخرى قد تفنى في لحظات.(/19)
وكل هذه المشاهد هي من أجل أن يتفكر فيها الإنسان ويعتبر، ومن يسمع تقارير الكوارث يفكر أيضاً بأن الله قد أنزل الكارثة على مدينة ما لسبب معين. ففي القرآن الكريم يذكر الله تبارك وتعالى أنه ينزل العقاب بالأمم العاصية تنبيهاً لهم أو جزاءً على أفعالهم، ومن ثم فإن سبب حدوث الكوارث إما أن يكون تطبيق مجتمع ما لقيم تغضب الله، فيعاقبهم على ذلك أو امتحاناً للناس ببعض الشدة في هذه الدنيا.
وبالتفكر في هذه الإمكانيات يخاف المؤمن أن تقع به هذه الكوارث فيستغفر الله سبحانه وتعالى على أعماله.
لا يمكن لأي شخص أو أمة أن تتفادى وقوع أي كارثة إلا إذا أراد الله. ولا فرق في ذلك بين أغنى وأقوى المدن وأي مكان آخر عادي يعتبر قليل المخاطر بسبب موقعه الجغرافي، فالله تعالى يقول انه ليس هناك أمة تستطيع تفادي الكارثة عندما تحل بها.
{ أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون. أ وأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحىً وهم يلعبون. أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون. أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون } [الأعراف:97-100]
• بماذا تجعلنا مستجدات موضوع الربا نتفكّر...؟
موضوع آخر يتداول به باستمرار في الأنباء هو التراجع الاقتصادي؛ وتحديداً هناك عدد من المواد الاخبارية السلبية تنشر عن الربا يومياً. ومن يقرأ هذه التقارير التي تذكر أن الربا أصبح خارجاً عن السيطرة وسبباً للنكماش الاقتصادي يدرك أن الله يضعف أرباح الناس جزاء على تبني مثل هذا الصنيع المحرّم والبغيض_اي الربا. وكما تذكر الآية الكريمة:? يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كلّ خوّان أثيم البقرة:276 فإن الله سبحانه وتعالى يزيل الأرباح المحققة عن طريق الربا ويقلل الانتاجية. هذه الحقائق مذكورة أيضاً في آية أخرى على الشكل التالي: { وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون }الروم:39.
ومن يتفكر في هذه التقارير يرى فيها هي أيضاً مثالاً على ما تبينه آيات القرآن الكريم للناس.
• التفكر في الأماكن الجميلة
ومن الممكن أيضاً أن نرى في البرامج التلفزيونية وفي المجلات والصحف الجمال الذي خلقه الله ونتفكّر فيه. فمشاهدة أو زيارة مكان ذي منظر خلاب مثل بيت جميل أو حديقة أو شاطىء بحري يمتع الجميع بالتأكيد. فقبل كل شيء هذه المشاهد تذكرنا بالجنة، ومن خلال مشاهدتها يتذكر المؤمن مرة أخرى أن الله الذي ينعم علينا بهذه النعم ويرينا هذا الجمال الباهر سوف يخلق في أماكن لا تضاهى جمالاً في الجنة.
ومن يرى هذه المشاهد يتفكّر بالتالي أيضاً: كل جمال خلق في هذه الحياة الدنيا فيه العديد من النقائص والعيوب لأن الحياة الدنيا دار اختبار. ومن يمضي بعض الوقت في أحد المنتجعات التي كان قد شاهدها قبل ذلك في التلفاز يلاحظ هذه العيوب. فشدة رطوبة الطقس وملوحة مياه البحر المزعجة والحر المحرق والبعوض أمثلة على ذلك. بالإضافة الى ذلك فإن الكثير من الصعوبات الدنيوية قد تحدث مثل حروق الشمس، مشاكل وكالة السفر التنظيمية، والطبيعة العصبية للأشخاص الذين يشاركهم المكان.
أما في الجنة فإن منابع كل هذا الجمال ستكون هناك. ولن يكون هناك أي شيء مزعج، ولن ينعقد أي حديث غير مرضٍ. ففي كل جمال يقابله المؤمن في هذه الحياة الدنيا يزداد توقه الى الجنة، ويشكر الله دائماً على نعمه التي أنعمها عليه في هذه الحياة، ويستمتع بالتفكير بأن منابع هذه الأمور الجميلة توجد في الجنة، ولا ينسى هذا أبداً بالانجراف بمفاتن الحياة الدنيا، فيعيش حياته بالطرق التي تنتهي به الى امتلاك الجمال الأبدي، وتجعله أهلاً لدخول الجنة.
بماذا نتفكّر عندما نقرأ في المجلات العلمية أن حجر بناء المادة هو الذرة..؟
ما لم يتفكر الانسان بالأشياء التي يعرفها، فإنه لن يستطيع أن يدرك دقائقها، ولا أن يفهم ماهية هذا المحيط الاستثنائي الذي يعيش فيه.
ولهذا الاعتبار فإن المؤمن يتفكر باستمرار في الأحداث والكائنات الحية التي خلقها الله، ومع أن هذه الأمور قد تكون معروفة لدى الكثير من الناس، إلا أن المؤمن من خلال تفكّره فيها يكون قادراً على استخلاص نتائج مختلفة عما يصل اليه الآخرون.
فعلى سبيل المثال من المعروف حيداً أن المكوّن الأساس لكل ما في الكون من كائنات حية وجماد هو الذرّة. فكل الناس يعلمون أن الكتاب الذي يقرأون فيه والكنبة التي يجلسون عليها والماء الذي يشسربونه وكل الأشياء التي يرونها حولهم مكوّنة من ذرّات. ولكن فقط ذوي الضمائر الحيّة يفكرون أبعد من ذلك ويشهدون على قوة الله العظيمة.(/20)
فعندما يرى مثل هؤلاء الأشخاص تقارير حول هذا الموضوع يفكرون بالتالي: الذرات مخلوقات جامدة فكيف يمكن لمادة جامدة أن تتجمع لتكوّن إنساناً متحركاً قادراً على الرؤية والسمع وتفسير ما يسمعه والاستمتاع بالموسيقى التي يسمعها والتفكير واتخاذ القرارات، والحزن والفرح..؟ وكيف يقدر الانسان على اكتساب مثل هذه السمات التي تميّزه عن غيره مما يتكوّن من الذرات..؟
بالتأكيد ان الذرات الجامدة غير المدركة لا يمكن أن تعطي الانسان هذه الخصائص. فمن الواضح أن الله هو الذي خلق الانسان بروح قد وهبت كل هذه الخصائص، وهذا يذكّرنا بقوله تعالى: الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الانسان من طين. ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين. ثم سوّاه فنفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون السجدة:7-9
بعض الحقائق التي يصل إليها الإنسان عبر التفكر العميق
هل تفكرت يوماً في كون كل شيء مسخّر للإنسان وحده..؟
عندما يبحث المؤمن في كل ما في الكون من أنظمة وكل ما فيه من كائنات حيّة وجماد بعينٍ يقظة، يرى أنها كلها مسخّرة للإنسان، ويفهم أنه ليس في الوجود شيء جاء بمحض الصدفة، بل خلق الله كل شيء بإتقان لخدمة الإنسان.
فمثلاً يتنفس الإنسان كل الوقت دون بذل جهد، فالهواء الذي يستنشقه لا يحرق مجرى تنفسه ولا يصيبه الدوار ولا يسبب له أوجاعاً في الرأس، فنسب الغازات في الهواء ملائمة لجسم الإنسان. ومن يتفكر في هذه الأمور يتذكر نقطة أخرى هامة جداً، فلو كان تركز الأوكسيجين في الهواء أكثر قليلاً أو أقل قليلاً فما هو عليه لاختفت الحياة في الحالتين. فيتذكر عندها الأوقات العصيبة التي قضاها في الأماكن الخالية من الهواء الطلق. وفيما يتابع المؤمن التفكر في هذا الموضوع فإنه يشكر الله باستمرار لأنه يدرك بأن الغلاف الجوي للأرض كان يمكن ان يتألف مما تألفت به الغلافات الجوية لباقي الكواكب، ولكن الأمر ليس كذلك فالغلاف الجوي للأرض مخلوق بتوازن كامل وبترتيب يسمح للبلايين من الناس التنفس دون جهد.
ومن يستمر في التفكر في الكوكب الذي يعيش فيه، يفكر كم أن الماء الذي خلقه الله مهم لحياة الإنسان فيرد على ذهنه كون الناس بشكل عام يفهمون أهمية الماء فقط عندما يحرمون منه لفترة طويلة. فالماء مادة نحتاجها في كل لحظة من حياتنا. فعلى سبيل المثال، هناك كمية معتبرة من خلايا جسمنا ومن الدم الذي يصل إلى جميع أنحاء الجسم مكونة من الماء. ولو لم تكن كذلك فإن سيلان الدم سوف يقل ويصبح جريانه في العروق صعباً جداً. وسيلان الماء مهم ليس لأجسامنا فقط ولكن للنباتات أيضاً، حيث ان الماء يصل إلى أبعد أطراف اوراق الاشجار عبر المرور بأوعيتها الشبيهة بالخيوط.
كما ان كمية المياه الكبيرة في البحار هي التي تجعل أرضنا مأهولة. فلو أن نسبة البحار إلى اليابسة في الأرض كانت أصغر لتحولت اليابسة الى صحارى ولاستحالت الحياة.
والإنسان الحيّ الضمير الذي يتفكر في هذه الأمور مقتنع كلياً بأن إيجاد هذا التوازن الكامل على الأرض بالتأكيد ليس صدفة. وملاحظة كل هذا والتفكر فيه يظهر ان الله العظيم ومالك القدرة الأبدية خلق كل شيء لهدف.
بالاضافة إلى ذلك يتذكر هذا الإنسان ان هذه الأمثلة التي يتفكّر فيها هي غيض من فيض، وفعلاً من المستحيل إحصاء الأمثلة فيما يتعلّق بالتوازن الدقيق على الأرض، ومع ذلك فإن الإنسان الذي يتفكر يستطيع ملاحظة النظام والكمال والتوازن المنتشرفي كل زاوية من زوايا الكون وبالتالي يمكنه الوصول إلى خلاصة مفادها ان الله سخّر كل شيء للإنسان. ويذكر الله تعالى هذه الحقائق في القرآن الكريم بقوله:?وسخّر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكّرون الجاثية:13
• بماذا يجعلنا الخلود نتفكّر؟
كل منا مطّلع على مفهم الخلود، ولكن هل تفكّرتم فيه يوماً.؟
الخلود من أهم الموضوعات التي يتفكر فيها من يؤمن بالله. فخلق الله للحياة الأبدية في الجنة والنار موضوع مهم يحتاج كل واحد منا أن يتفكر فيه، ومن يفعل ذلك تدور في خلده الأمور التالية: الطبيعة الأبدية للجنة من أعظم النعم والمكافآت التي تمنح في الحياة بعد الموت، فإذا كان من الممكن أن يعيش الانسان في هذه الحياة الدنيا مائة عام، فإن الحياة الرائعة في الجنة لا تنتهي أبداً، فهي غير محدودة بزمن، فبالمقارنة مع بلايين يلايين العصور تبدو هذه البلايين قصيرة بالنسبة لها.
من يتذكر هذه الأمور يلاحظ أنه من الصعوبة بمكان أن يحيط الانسان بماهية الخلود، ويمكن لهذا المثال ان يوضح الموضوع: إذا كان هناك بلايين بلايين الناس استمروا في التوالد على مدى بلايين بلايين العصور بنفس الوتيرة ليلاً نهاراً وإذا عاش كل واحد منهم بلايين بلايين السنوات الى منتهاها فإن الرقم الذي سيصلون اليه بمجموعه يبقى صفراً بالنسبة الى الرقم الذي سيعيشونه في الحياة الأبدية.(/21)
ومن يتفكر بهذا يصل الى النتائج التالية: إن الله عنده علم عظيم، فما هو أبدي بالنسبة للإنسان قد انتهى بالنسبة اليه، وكل الأحداث التي وقعت من اللحظة الأولى لبداية الزمان الى نهايته، بكل أشكالها وأزمنتها، فإنها قد حدثت وانتهت بعلم الله تعالى.
وبنفس الطريقة يجب أن يفكر المرء بأن جهنم هي المكان الذي سيخلد فيه الكافرون الى الأبد، وفيها أنواع العذاب المختلفة والكربات، حيث سيكون الكافرون عرضة لعذاب جسدي وروحي لا ينقطع ولا يتوقف ولا يعطى المعذّب أي وقت لينام أو يرتاح. ولو كان هناك نهاية للحياة في جهنم لكان هناك أمل لأصحاب النار حتى لو كانت هذه الراحة بعد بلايين بلايين السنين، ولكنهم يجزون بالعذاب الأبدي على شركهم بالله وكفرهم.?والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون الأعراف:36
من المهم جداً أن يحاول كل فرد فهم موضوع الخلود من خلال التفكر فيه، فإن هذا يزيد من سعيه الى الآخرة ويعزز فيه الخوف والرجاء معاً، ففيما يخلف من العذاب الأبدي فإنه يتعلق بالرجاء بدخول الجنة والنعيم المقيم.
• بماذا تجعلنا الأحلام نتفكّر..؟
الإنسان الذي يتفكر يرى غايات مهمة كامنة وراء وجود الأحلام. فهو يتفكر كم تبدو الأحلام التي يراها خلال نومه واقعية، حيث لا تختلف من هذه الناحية عن لحظات اليقظة. فعلى الرغم من أن الجسم يكون في حالة استلقاء على السرير، فإن الانسان يمضي في منامه في رحلات عمل، ويلتقي أشخاصاً لم يلتق بهم من قبل، ويتناول طعام الغداء وهو يستمع الى الموسيقى، ويستمتع بنكهة طعامه، ويرقص على وقع الموسيقى، ويتحمس لما يقع من أحداث، ويفرح، ويحزن، ويخاف، ويتعب.. وقد يقود مركبة آلية لم يقدها من قبل، ودون أن يتقن فن القيادة أصلاً!
ومع أن جسده كان مستلقياً بلا حراك، وعيناه مغمضتان فإنه رأى صوراً متعددة في الأماكن التي رآها في منامه، ومع أن الغرفة كانت خالية فإنه سمع أصواتاً، مما يعني أن الذي أبصر لم تكونا العينين، وأن الذي سمع لم تكونا الأذنين، فكل شيء حدث في ذهنه، ومع ذلك كان كل شيء يبدو واقعياً وكأن كل هذه الانطباعات الذهنية لها شكل أصيل.
اذن ما الذي يشكل مثل هذه الصور التي لا اصل لها في العالم الخارجي، فالانسان لا يستطيع أن يشكّلها خلال نومه عن وعي وقصد، ولا دماغه يستطيع أن يولّد هذه الصور من تلقاء نفسه، فالدماغ عبارة عن كتلة من اللحم مكوّنة من جزئيات بروتينية، ومن غير المنطقي أبداً الادعاء بأن هذه المادة تستطيع تشكيل الصور بنفسها، أو تشكيل وجوه بشرية وأماكن وأصوات لم ترها أو تسمعها من قبل. فمن إذن يرينا هذه الصور في أحلامنا خلال فترة النوم؟
من يمعن التفكر في هذه الأسئلة سوف يرى الحقيقة الواضحة، وهي أن الله تعالى هو الذي يجعل الناس ينامون فيتوفى أنفسهم عندها، ثم يعيدها اليهم عندما يستيقظون، ويريهم الأحلام خلال نومهم.
ومن يعلم أن الله هو الذي يرينا الأحلام، فإنه يتفكر أيضاً بالغايات والأسباب الكامنة وراء خلقها، ففي أحلامه يكون الانسان واثقاً من الناس وما يمر به من أحداث وكأنه في حالة اليقظة، ولو أن أحدهم قال لنا:"إنكم تحلمون الآن، استيقظوا.." لما صدّقناه! ومن يدرك كل ذلك سوف يتساءل: من يستطيع الادّعاء أن هذه الحياة ليست فانية، وأنها ليست شبيهة بالحلم، وأنه كما نستيقظ من أحلامنا الآن، فإننا يوماً ما سنستيقظ من هذه الحياة لنرى مشاهد مختلفة تماماً.. هي مشاهد الآخرة.
التفكر في آيات القرآن الكريم
القرآن الكريم آخر كتاب أنزله الله على عباده، وكل إنسان يعيش فوق هذه البسيطة ملزم بتعلّم القرآن وتنفيذ الأوامر المنزلة فيه. ومع أن معظم الناس يقرّون بأنه كتاب مقدس فإنهم لا يتدبّرون آياته، ولا يتفقّهون في ما نزل فيه، ولا يطبقون ما أمرهم الله به من خلاله ، فهم يكتفون بمعرفة القرآن من خلال المعلومات التي يحصّلونها من هنا وهناك، في حين أن أهمية تفكر الانسان في القرآن ومكانته أمر عظيم.
فقبل كل شيء، من يتدبر القرآن سيرغب في معرفة خالقه وخالق هذا الكون الذي يعيش فيه، من أعطاه الحياة عندما كان عدماً، وأنعم عليه بنعم وأمور جميلة لا تعدّ ولا تحصى، ليسلك السبيل الذي يرضيه سبحانه وتعالى. والقرآن الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلّم هو خير مرشد الى هذا السبيل. من أجل ذلك يحتاج الانسان الى معرفة الكتاب الذي أرسله الله والتفكر في كل آية من آياته حتى يميز الخبيث من الطيّب، وينفذ أوامر الله كما يحب سبحانه ويرضى.
ويذكر الله تبارك وتعالى الغاية من إنزال القرآن فيقول: { كتاب أنزلناه اليك كبارك ليدّبّروا آياته وليتذكّر أولوا الألباب } ص:29
{ كلا إنه تذكرة. فمن شاء ذكره. وما يذكرون إلا أن يشاء الله، هو أهل التقوى وأهل المغفرة} المدثّر54-56(/22)
كثير من الناس يقرأون القرآن ولكنهم يغفلون عن أهم هدف من وراء القراءة، وهو تدبر كل آية، واستخلاص العبر والدروس منها، وتطويع سلوكنا وفقاً لما استخلصناه.. فمن يقرأ -مثلاً- قوله تعالى:?فإن مع العسر يسراً. إن مع العسر يسراً الشرح:5-6 ويتدبر معناه سوف يفهم ان الله جعل لكل عسرٍ يسرأً، ولذلك فإنه لو مر بعسر فما عليه إلا أن يثق بأن الله سوف يجعل معه يسراً. وإذا كان هذا وعد من الله لنا فحريّ بنا أن ندرك أن اليأس والامتلاء بالهلع في اللحظات الصعبة إنما هو دليل على ضعفٍ في إيماننا، ولذلك يجب علينا بعد قراءة هاتين الآيتين وتدبّر معناهما، أن نكيّف تصرفاتنا بمقتضاهما طوال حياتنا.
وفي القرآن أيضاً يذكر الله قصصاً من حياة الرسل والأنبياء الذين عاشوا في الماضي، ليدرك الناس كيف كانت حياة وتصرفات وحديث من رضي الله عنهم، فيتخذهم قدوة. ويأمرنا الله تعالى أن نتفكّر في قصص هؤلاء الأنبياء ونستخلص منها العبر فيقول:
لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب... يوسف:111
وفي موسى إذ أرسلناه الى فرعون بسلطان مبين الذاريات:38
فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين العنكبوت:15 (النبي المشار اليه في هذه الآية هو نوح عليه السلام.)
كما أن في القرآن ذكر للأمم الغابرة، وأحوالهم والكوارث التي أنزلوها على أنفسهم. ومن الخطأ الجسيم قراءة الآيات المتعلقة بما حدث لهم من باب السرد التاريخي البحت، لأن الله تعالى أنزل هذه الآيات -كما غيرها- لنتدبّرها ونصلح أنفسنا من خلال الاتعاظ بما حل بهذه الأمم.
ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدّكر القمر:51
وحملناه على ذات ألواح ودسر. تجري بأعيننا جزاءً لمن كان كفر. ولقد تركناها آية فهل من مدّكر. فكيف كان عذابي ونذر. ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر القمر:13-17
لقد أنزل الله القرآن هادياً للبشر، ولذلك فإن التفكر في آياته، والعيش بمقتضى ما في كل آية من دروس وتحذيرات هو السبيل الوحيد الى رحمة الله وقبوله لنا ودخول جنته.
إلام يدعو الله الناس للتفكر فيه من خلال القرآن الكريم..؟
وأنزلنا اليك الذكر لتبيّن للناس ما نزل اليهم ولعلّهم يتفكّرون النحل:44
في هذه الآية الكريمة -كما في غيرها من الآيات- يدعو الله الناس الى التفكر. فالتفكر والتدبر، وإدراك الغايات الخفية، والإعجاز في خلق الله، عبادة بحد ذاتها. فكل موضوع نتفكر فيه يعيننا أكثر على فهم وتعظيم قدرة الله وعلمه وإبداعه، وغيرها من صفاته سبحانه وتعالى.
• الله يدعو الإنسان الى التفكّر في خلقه
ويقول الإنسان أءذا متّ لسوف أخرج حيّا. أولا يذكر الإنسان أنّا خلقناه من قبل ولم يك شيئا مريم:66-67
• ويدعو الناس الى التفكر في خلق الكون..
إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآياتٍ لقوم يعقلون البقرة:164.
• ويدعوهم الى التفكر بالطبيعة الفانية لهذه الحياة الدنيا
إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فأختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازيينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس وكذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون يونس:24.
أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون البقرة:266.
• والى التفكر في ما هم فيه من نعم ورحمات
{وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهاراً ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}
{وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون } الرعد:3و4.
• ويدعو الانسان للتفكّر في أن هذا الكون كله مسخّر له
وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون الجاثية:13.
ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون. وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون. وما ذرأ لكم في الأرض مختلفاً ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذّكّرون. وهو الذي سخر البحر لتأكلو منه لحماً طرياً وتستخرجوا منه حليةً تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون. وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهاراً وسبلاً لعلكم تهتدون. وعلامات وبالنجم هم يهتدون أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تتذكرون النحل:11-17.
• ويدعو الناس الى التفكر في أنفسهم
أولم يتفكروا في أنفسهم...الروم:8.(/23)
• ويدعوهم الى التفكر بالقيم والأعمال الصالحة
{ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفساً إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصّاكم به لعلكم تذكرون } الأنعام:152.
{إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون } النحل:90.
{يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون } النور:27.
• والله يدعو الناس الى التفكر في الآخرة، والساعة ويوم الحساب.
{يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوءٍ تود لوأن بينها وبينه أمداً بعيداً ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد } آل عمران:30.
{واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولو الأيدي والأبصار. إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار } ص:45-46.
{ فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم } محمد:18.
• ويدعو الإنسان الى التفكّر في كل ما خلقه من كائنات حية
{وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون. ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل بك ذللاً يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون }النحل:68-69.
• ويدعوه الى التفكر بالعقاب الذي قد ينزل به فجأة
{ قل أرأيتكم أن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين } الأنعام:40.
{قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به أنظر كيف نصرّف الآيات ثم هم يصدفون } الأنعام:46.
{قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتةً أو جهرةً هل يهلك إلا القوم الظالمون } الأنعام:47.
{قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتاً أو نهاراً ماذا يستعجل منه المجرمون } يونس:50.
{أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذّكّرون } التوبة:126.
{ ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدىً ورحمة لعلهم يتذكرون } القصص:43.
{ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدّكر } القمر:51.
{ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذّكرون } الأعراف:130.
• ويدعوه الى التفكر في القرآن
{أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً }النساء:82.
{أفلم يدّبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آبائهم الأولين }المؤمنون:68.
{كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدّبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب }ص:29.
{فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون } الدخان:58.
{كلا إنه تذكرة. فمن شاء ذكره } المدثر:54-55.
{وكذلك أنزلناه قرآناً عربياً فصرّفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكراً } طه:113.
• والرسل دعوا قومهم الذين لا يفقهون الى التفكر
{قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يتوي الأعمى والبصر أفلا تتفكرون } الأنعام:50.
{وحاجه قومه قال أتحاجّونّي في الله وقد هداني ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئاً وسع ربي كل شيءٍ علماً أفلا تذكرون } الأنعام:80.
• والله يدعو الناس الى مقاومة تأثير الشيطان
{وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم. إن الذين اتقوا إذا مسهم من طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون. وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون }الأعراف:200-202.
• ويشجع من أرسل اليهم القرآن على التفكر بعمق
{إذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري. إذهبا إلى فرعون إنه طغى. فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى }طه:42-44.
• ويدعو الناس الى التفكر في الموت والأحلام
{الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منانها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون } الزمر:42.
خلاصة
إن تلك القراءة كانت "دعوة إلى التفكر" فالحقيقة يمكن أن تقال للإنسان بطرق عديدة ويمكن إظهارها باستخدام تفاصيل، وجزئيات الأدلة وبكل الوسائل. ولكن إذا لم يتفكر الانسان بنفسه بالحقيقة بكل صدق وإخلاص متوخياً الفهم، فكل هذه الجهود غير مجدية. لهذا السبب عندما بلّغ رسل الله رسالاتهم الى الناس، أخبروهم الحقيقة بوضوح ثم دعوهم الى التفكر فيها.
والانسان الذي يتفكر يحيط بأسرار الخلق وبحقيقة هذه الحياة الدنيا وبوجود الجنة والنار وببواطن الأمور، ويحصل على فهم أعمق لأهمية كونه انساناً مرضياً عند الله، فيعيش الدين كما يجب ويتعرف الى صفات الله في كل ما يراه. ثم يبدأ بالتفكير بالطريقة التي تطالب بها اغلبية الناس ولكن كما يأمر الله سبحانه وتعالى. ونتيجة لذلك فإنه يستمتع بالجمال أكثر بكثير مما يستمتع به غيره ولا تسبب له المخاوف التي لا أساس لها أو الأطماع الدنيوية الكرب.(/24)
وكل هذا نزر يسير من الأشياء الجميلة التي يفوز بها من يتفكر في هذه الحياة الدنيا، أما الفوز العظيم في الآخرة الذي يناله من يصل الى الحقيقة عبر التفكر فهو محبة ورضا ورحمة وجنة ربنا سبحانه وتعالى.
ومن ناحية أخرى فقد أزف اليوم الذي سوف يتفكر فيه الذين يتهربون من رؤية الحقيقة عبر التفكر، بل إنهم سيتفكرون ويستغرقون ويرون الحقيقة واضحة كعين الشمس. ومع ذلك فإن تفكرهم في ذلك اليوم لن ينفعهم بل سيجلب لهم الحزن. والله تعالى يذكر في كتابه متى سوف يتفكر مثل هؤلاء الناس:? فإذا جاءت الطامة الكبرى. يوم يتذكر الانسان ما سعى. وبرّزت الجحيم لمن يرى النازعات: 34-36
دعوة الناس الذين يفترضون أنهم يستطيعون التهرب من المسؤوليات من خلال عدم التفكر الى التفكر حتى يستطيعوا أن يدركوا النهاية التي ستحل بهم، هي بالنسبة للمؤمنين فعل عبادة. ولكن كما يقول ربنا سبحانه وتعالى في القرآن الكريم: { فمن شاء ذكره } .المدّثر:55
المصدر كتاب فن التأمل لهارون يحيى(/25)
دعوة للحوار
المحتويات
مقدمة
لماذا نحن بحاجة إلى الحوار والجدال ؟
الأمر الأول : الأمر به في القرآن
الأمر الثاني : الحوار من منهج الأنبياء
الأمر الثالث : أنه ميدان يسع الجميع
الأمر الرابع : سعة الانتشار
الأمر الخامس: الحوار اتصال من أكثر من طرف
الأمر السادس : قلة العقبات
الأمر السابع : الحوار لا يحتاج إلى متفرغ
الأمر الثامن : حتى تصبح الدعوة قضية حية
من وسائل الإقناع
مقدمة
الحمد لله وصلى الله وسلم على رسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه … وبعد : فعنوان حديثنا " دعوة للحوار " وبين يدي هذه الموضوع لابد أن نذكر أنفسنا بحديثٍ نسمعه في منتدياتنا ، و نقرؤه فيما يكتب ويسطّر ، و نسمعه في المنابر العامة ، وأصبح هذا الحديث يأخذ انتشارا ً بين طبقات أوسع في المجتمع من ذي قبل ، ذلكم هو الحديث عن الدعوة إلى الله تبارك وتعالى ، لقد أصبحت الدعوة إلى الله عز وجل تساؤلاً يطرحه الكثير من الشباب ، لكنه يطرحه ضمن دائرةٍ محدودة من مجتمعات المسلمين ، فهو يعيش في إطار محدود ولا يتعامل إلا مع شريحة وقطاع معيَّنيْن ، فالطالب لم يعش إلا في جو الطلاب وجو الشباب ، في ظل نموذج محدود ومحصور بزمان معين .و لا يدري عما يدورخارج هذة الدائرة فيها.
إنه لا يليق أن نظل ندور في هذه الحلقة ، بل نتجاوز إلى مرحلة أخرى وهي: أن نتساءل عن الأساليب الجديدة ، والوسائل والمعوقات، وننتقل نقلة أخرى لأننا إذا بقينا نحدث الناس ونخاطب الناس داخل هذه الدائرة المحدودة ، فلا نتحدث إلا عن أهمية الدعوة والحاجة إليها وفضلها عند الله عز وجل- مع أهمية هذا الحديث- إذا كنا ندور فقط في ظل هذه الدائرة فسنبقى ولن نتطور ولن نتقدم .إننا نحتاج كثيراً للحديث عن فضل الدعوة وأهميتها، ويجب أن تكون مستقرة وبديهية .
في هذا الحديث إنما أخاطب فئة خاصة من الناس، هم أولئك الذين يشعرون أنَّ عليهم مسؤولية في الدعوة وأن عليهم واجباً ، أمّا أولئك الذين لا يزالون إلى الآن يتساءلون هل لهم دور في الدعوة أم لا ؟
فأولئك من وجهة نظري يجب أن نتجاوزهم، وأنَّ الوقت لا يتسع لأن نضيعه في الخطاب مع غير الجادين ، إن الواقع يفرض نفسه فأي مسلم عنده غَيرة وعنده حميِّة لدين الله عز وجل وغضب إذا انتهكت محارم الله يرى أينما ما ذهب يمنة ويسرة في واقع المسلمين ما يحرق فؤاده وما يدمي قلبه ، والذي لم يتألم قلبه لواقع المسلمين اليوم ولم يتحرك قلبه فليبكِ على قلبه، وليراجع منزلة الدين في نفسه أصلاً، وأين منزلة الدين لديه إذا كان ما يراه من واقع المسلمين اليوم من فساد وتخلف ومن مشكلات - يتصدع رأسك و أنت تحاول أن تحصي رؤوسهاوعناوينها فقط فكيف بالتفاصيل - الذي لا تحرك هذه الأوضاع قلبه يجب أن يعيد منزلة الدين في قلبه، وفي وجود الغيرة عنده على حرمات الله عز وجل ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما من نبي أرسله الله إلاَّ وكان له أصحاب يهتدون بسنته ويهتدون بأمره، ثم إنه تخلف بعدهم خلوف يقولون مالا يفعلون ويفعلون مالا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل " . إن الذي لم يجاهد في سبيل الله في إنكار المنكرات، وتغيير هذا الواقع بالأسلوب الشرعي المناسب وافتقد حتى القضية القلبية فهو يحتاج أن يعيد النظر في إيمانه " . ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ، ماذا ؟ لأن الإيمان لابد أن يُوجِد عند الإنسان الغيرة والحمية للدين.
إن ما سبق كله يدعونا إلى أن نتساءل دائماً ونبحث عن أساليب للدعوة إلى الله عز وجل، وقد لا تكون بالضرورة أساليب جديدة نبتكرها، لكن قد نكون غافلين عنها، ومن ذلك:
ما نلقي الحديث حوله وهو قضية الحوار .
هذا الحديث ليس حديثاً عن أدب الحوار، ولا كيف نتحاور مع الناس، إنما هو حديث عن حاجتنا لاستخدام الحوار في دعوتنا إلى الله عز وجل والجدل و إقناع الناس، ونشعر جميعاً حينما نتأمل في واقعنا أنَّ هذه اللغة لغة مفقودة كثيراً في دعوتنا، وأنّا ربما لا نصنف هذا اللون وهذا الأسلوب ضمن أساليب الدعوة إلى الله عز وجل .
لماذا نحن بحاجة إلى الحوار والجدال ؟
الأمر الأول : الأمر به في القرآن
نحن بحاجة إليه لأنه أسلوب دعا إليه القرآن فالله تبارك وتعالى يقول :
(( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن )) فيأمر تبارك وتعالى نبيه والسائرين على نهجه أن يدعو إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن يجادلوا الناس بالتي هي أحسن حتى لا يكون الجدال مراءً ، أو جدلاً عقيماً، فهو أمرٌ يُخاطَب به النبي صلى الله عليه وسلم ولا شك أنَّ المسلمين والدعاة لله عز وجل والعاملين لدين الله تبارك وتعالى يتأسون به عليه الصلاة والسلام .(/1)
ويقول تبارك وتعالى : ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ، إلا الذين ظلموا منهم ). هذه الآية ينهى الله – تبارك وتعالى – فيها أن يجادل أهل الكتاب جدلاً مذموماً وذلك لأن أهل الكتاب بطبيعتهم أهل جدل وأهل شقاق وأهل مراء ونعرف هذا في كتاب الله تبارك وتعالى ،فقد قصَّ الله عز وجل علينا قصص بني إسرائيل وقص علينا أخبارهم وأنباءهم ، اقرؤوا سورة البقرة في أولها وكيف كان أولئك يتخاطبون مع نبي من أنبياء الله تبارك وتعالى ، كيف كانوا يتخاطبون مع موسى حين قال :
(إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ، قالوا أتتخذنا هزوا - أهذه لغة يخاطب فيها نبي من أنبياء الله ؟! – قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ، قالوا ادع لنا ربك ( لاحظ الخطاب ) ادع لنا ربك ) كأن الله في منطق هؤلاء رب لموسى وحده …
( ادع لنا ربك يبين لنا ما هي )…
(ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها )…
( ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا )…
وحين قال لهم موسى : ( ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ) ، بدأ الحوار معهم بمقدمة وكأنه كان يتوقع منهم هذا اللجَجْ والخصومة فذكرهم بنعمة الله عليهم ( اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين ) ... ( يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين . قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين و إنَّا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون . قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ) ثم قالوا بعد ذلك : ( قالوا يا موسى : إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون – حتى وصل موسى إلى اليأس – قال ربَّ إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين ). وحين كتب الله عليهم التيه أربعين سنة تاهوا في الصحراء حتى ذهب هذا الجيل جيل الهزيمة جيل الجدل والخصومة، وجاء الجيل الجديد ثم أرسل الله إليهم يوشع بن نون وبدأهم من البداية وخطبهم وقال : (( لا يتبعني أحدٌ بنى داراً ، ولم يرفع سقوفها ، ولا يتبعني أحدٌ قد تزوج امرأةً ولمَّا يدخل بها – يعني أي إنسان متعلق بالدنيا فلا يتبعني - ثم قال للشمس : "أنت مأمورة وأنا مأمور" فحبس الله الشمس حتى فتح الله عز وجل له الأرض المقدسة )) هكذا كان بنو إسرائيل يتعاملون مع الأنبياء ولهذا في هذه الآية يأمرنا سبحانه وتعالى أن نجادل بني إسرائيل . لكن بالتي هي أحسن .
الأمر الثاني : الحوار من منهج الأنبياء
حينما نقرأ القرآن نجد أنه كثيراً ما يورد لنا قصص الأنبياء والتي ما وجدت عبثاً وما ملئ بها القرآن حشواً ، بل خاطبنا الله عز وجل بها لنعتبر ونتعظ ونأخذ من سير الأنبياء عليهم السلام منهجاً، فهم يمثلون قمة النجاح في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، وقمة النجاح في استخدام الأسلوب المناسب مع أقوامهم ، حينما تقرأ قصص القرآن نرى أنها لا تكاد تفتقد الحوار والجدل بين الأنبياء وأقوامهم ، أي قصة من قصص الأنبياء، فكانوا يخاطبون أقوامهم ، ويجادلونهم أفراداً وجماعات ، ومن ذلك على سبيل المثال :
نوح وقومه ؛ هاهم قوم نوح يعلنون الشكوى أمام نوح أنهم لم يعودوا يصبروا على جداله ( قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ) فقد شعروا أنهم قد أُلجموا بالجدل والخصومة فهربوا إلى بابٍ آخر- وهذا شأن المكابرين المعاندين - فانصرفوا واستعجلوا العذاب
( فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ) فيجيبهم نبي الله بالمنطق الذي كان يليق بأنبياء الله بأن قضية العذاب قضية لا تهمه وأنها أمر بيد الله عز وجل ( قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين ) فهذه ليست قضيتي ، ولست مسؤولا عن عذابكم إنما هذا أمرٌ بيد الله إذا شاء الله أن يعذبهم فسيعذبهم ، أمّا الحوار والجدل معهم فهي قضية ليست مقصودة لذاتها إنما كان ذلك لأجل النصيحة لهم ( ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم ، إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون ) .(/2)
يوسف في السجن :نموذج آخر يحدثنا عنه القرآن ، ذلكم هو الحوار والجدل الذي دار بين يوسف و أصحابه في السجن حينما جاءوا إليه يستفتونه في رؤياهم؛ فبدأ معهم الحوار بقضية التوحيد وقضية الألوهية وكأنه شعر أن هذه القضية أهم من قضية الرؤيا وتعبير الرؤيا . فحين جاءوا إليه يستفتونه ( نبئنا بتأويله إنَّا نراك من المحسنين . قال لا يأتيكما طعامٌ ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي ) .أولاً : وعدهم أنه سيجيب على هذا السؤال ، ثم نسب العلم إلى الله ( إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون . واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون . يا صحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ) ؟ انظر لأسلوب الحوار الذي كان يطرحه معهم فيطرح هذا التساؤل تنزلاً معهم ) أأرباب متفرقون خير ؟ أم الله الواحد القهار ؟ ما تعبدون من دونه إلا أسماءاً سميتموها أنتم وآبائكم ( الآلهة من الذي سماها ؟ أنتم الذين سميتم هذه الآلهة فكيف تعبدونها، ثم بعد ذلك عبّر لهم الرؤيا .
إبراهيم ووالده : ويحكي لنا القرآن أيضاً حواراً آخر بين إبراهيم وبين أبيه .
( واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقاً نبياً . إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً . يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطاً سوياً . يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيًّا . يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليًّا . قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنَّك واهجرني مليّا . قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيًّا .) .
واستعراض سائر النماذج - نماذج الحوار والجدل بين الأنبياء وأقوامهم - استعراض يطول فحين نريد أن نستعرض كل المواقف التي جادل الأنبياء فيها أقوامهم، فهذا يعني أن نذكر كل قصص الأنبياء التي ذكر الله في القرآن، لأن كل حياة الأنبياء كانت جدلاً وحواراً بينهم وبين أقوامهم .
إذن فهؤلاء هم الأنبياء -وهم قدوة الدعاة إلى الله - هاهم لا يفتقدون هذا المنهج، وهم كما قال نوح :
( قال رب إني دعوت قومي ليلاً ونهارا . فلم يزدهم دعائي إلا فرارا . وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم ... ) . ثم قال : ( ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا ) فاستعمل معهم كل الأساليب : دعاهم أفرادا ، دعاهم جماعات ، دعاهم في الليل , دعاهم في النهار ، ولك أن تتصور هذه الأساليب والوسائل التي استخدمها نوح مع قومه وقد بقي معهم ألف سنة إلا خمسين عاماً حتى تضجروا منه فقالوا ( قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين )
أما خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم - ولاتخفاكم سيرته- كم هي مواقف الحوار والجدل التي كان النبي صلى الله عليه وسلم فيها يجادل الناس، وكم هم الذين أسلموا من خلال لقاء وحوار بينهم وبينه .
هاهو عمرو بن عنبسة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : من أنت . قال : أرسلني الله فجلس النبي صلى الله عليه وسلم وإياه حتى أسلم رضي الله عنه .
ولئن جاء عمر رضي الله عنه جاء بصورة الرجل المقبل ليسأل ، فقد جاء ضماد بصورة أخرى جاء إلى مكة وكان كاهناً يرقى الناس أيام الجاهلية وسمع قريشاً يتهمون النبي بالجنون والسحر، فجاء إلى النبي وقال له أريد أن أرقيك - وهو جاد- ، قال إذا كنت تشكو من سحر أو من جن وفيك داء أرقيك فإن الناس يُشفون على يدي، فخاطبه النبي صلى الله عليه وسلم وسمع حديثاً آخر وخطاباً آخر ثم انصرف وقد أسلم .
هل تظن أن أولئك الذين أسلموا كلهم سمعوا دعوة النبي صلى الله عليه وسلم من خلال خطاب عام كان يخاطب به الملأ ، نعم قد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب الناس في المجامع العامة؛ فقد صعد إلى الصفا ودعا الناس ثم قال : " إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد" وكان يخاطب الناس في المواسم، كان كثيراً ما يجادل بالتي هي أحسن ويجادل استجابةً لأمر الله .
وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين ساروا على نهجه كانوا يفتحون الجدل والحوار، ومن أوضح الأدلة على ذلك ما حصل بعد صلح الحديبية، فقد ذكر أهل السير أن الذين دخلوا في الإسلام ما بين صلح الحديبية وفتح مكة،أكثر من الذين دخلوا في الإسلام منذ بعث النبي والسر؛ ذلك أنه لما تمت الهدنة بين النبي وقريش كان هناك مجالٌ للقاء والحوار؛ فأسهم ذلك في نشر هذه الدعوة وخطاب فئات ربما كانت لم تسمع بها .
الأمر الثالث : أنه ميدان يسع الجميع
كثيراً ما نسمع الشكوى والتساؤل؛ فكثير من الناس يتساءل ويقول إني أريد أن أشارك في الدعوة ، وأريد أن أساهم ، لكنني لا أملك القدرة ولا الإمكانات ، والكثير من الناس يطرح هذا السؤال جادًّا وهو يشعر أن الدعوة إلى الله تتطلب قدرات لا يملكها .(/3)
فتتطلب أولاً : رصيداً من العلم الشرعي - قد لا يملكه – باعتبار تخصصه أو باعتبار ضعف حصيلته ، أوقلة اهتمامه ، أو دخوله في الاستقامة حديثاً ،أو لأي اعتبار آخر.
وقد يشعر أن الدعوة تحتاج منه إلى أن يكون كاتباً أو خطيباً أو رجلاً مؤثراً … إلخ ، فهو قد يشعر أن هذه الدعوة تتطلب قدرات وإمكانات لا يطيقها هو ولا يملكها ، وحينئذٍ يتساءل بجد : ما الدور الذي أقوم به ؟
إن كل إنسان في المجتمع وأيًّا كانت قدراته ، أيًّا كانت مكانته يستطيع أن يفتح حواراً مع الناس الذين حوله ومع أقرانه ؛ فالطالب مثلاً يستطيع أن يناقش أحد زملائه ، ويحادثه حديثاً وديًّا ، ليس بالضرورة أن تكون نصيحة موجهة ، أو خطاباً رسميًّا كما يقال له يا أخي أنا أود أن أسألك سؤالاً : هل أنت راضٍ بوضعك الآن ؟ هل تشعر أن الحال التي أنت عليها ترضي الله ورسوله ؟ هل لو أتاك الموت على هذه الحال أنت راضٍ ؟ ألا ترى أنك خلقت لحكمة وغاية ألا يستطيع أن يقول هذا الكلام ؟!! وهل يرى أحد أن هذا الكلام يحتاج إلى علم جم وغزير ؟، أبداً هذا الكلام يستطيع أن يقوله كل مسلم.
حينما تجد زميلاً لك قد بدأ يصاحب الأشرار وتأخذ بيده وتقول يا أخي أنت تعرف أن الأشرار قد يؤثرون عليك وقد يوقعونك في الفساد وقد تبدأ أنت معهم من نقطة صغيرة وتنتهي إلى نهاية مزعجة وأنت تعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم حذرنا من صحبة الأشرار وهو صلى الله عليه وسلم ناصحٌ لنا وقد ضرب لنا مثلاً بالجليس الصالح والجليس السوء .
أنا لا أتصور أبداً أن أحداً منكم لم يمر عليه هذا الموقف ، لا أحد منكم لم ير زميلاً له قد بدأ يصاحب الأشرار ، لكن من منا حينما رأى زميله يصاحب الأشرار وقد بدأ معهم هذه الخطوات طرح معه هذا الحوار وهذا الحديث ، صحيح أنه كلما كان الإنسان أكثر قدرات كان أقدرعلى الإقناع ، لكن ضع في ذهنك أن الشخص المقابل لك هو في مستواك ومثلك ، فحين تكون أنت طالباً في المرحلة المتوسطة أو الثانوية أو الجامعة أو موظفاً ، فالذي تتعامل معه هو مثلك تماماً مثل ثقافتك ، مثل قدراتك ، بل أنت قطعاً ستكون أكثر قدرات منه باعتبار أنك إنسان متدين على الأقل أنت تقرأ ، وأنت تسمع ، نحن نريدك أن تعيش مع من هو مثلك، وهكذا نشعر أنه لا توجد فئة من فئات المجتمع إلا تستطيع أن تخاطب من في مستواها.
إن أي إنسان في المجتمع يستطيع أن يجيد مثل هذه اللغة مع من حوله من الناس ، إذن فاستخدام هذا الأسلوب وهذه اللغة سيقضي على هذا التساؤل ، وسنشعر حينما نفكر هذا التفكير أن الميدان قد أصبح مفتوحاً للجميع ، وأصبحت قضية الدعوة تستوعب كل الناس، وتستوعب كل الطاقات في المجتمع ، نحن لا نجادل أبداً أن التصدر لدعوة للناس يجب أن تكون لطبقة تأهلت لذلك ، ونحن نشعر أنه لا يجوز بحال أن يدعو الإنسان الناس إلى شيءٍ لا يعلمه، ولا يجوز أن يتصدر المقل لما لا يحسنه هذه قضايا بديهية ولسنا بحاجةٍ أن نؤكد عليها ، لكن هناك قضايا لا يعذر بها أحد ، فالنبي صلى الله عليه وسلم حينما خاطب الأمة قال : (( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده … )) فكل مسلم يرى المنكرات التى يعلم الجميع أنها منكر.
الأمر الرابع : سعة الانتشار
أن هناك وسائل دعوية قد تمتلك رصيداً من الجاذبية ، وقد تملك عاملاً من عوامل الجذب والإثارة ، لكنها تخاطب فئة محدودة من الناس وشريحة قليلة مهما بلغت من الانتشار فالكتاب إذا طبع منه عشرة آلاف نسخة اعتبر واسع الانتشار ، والكتاب المثير لا يزال في عالمنا الإسلامي- الذي لا يعرف القراءة -لا تعد الأرقام فيه بالملايين بل بالآلاف ، وافترض أن هذا الكتاب طبع منه مليونا نسخة أو ثلاثه ملايين نسخة ، ماذا تصنع مع العالم الإسلامي الواسع ؟.
والشريط الذي يعد وسيلة واسعة الانتشار ، ما أعلى رقم يباع منه ؟ فئة محدودة من الأشرطة التي تنتشر انتشاراً واسعاً ، وستبقى محصورة في دائرة معينة مهما اتسعت الانتشار لكن حينما تتوسع قضية الدعوة ، و نفتح مجالاً للحوار و يصبح كل واحد يحمل قضية الدعوة ؛ فهذا يعني أننا سنخاطب المجتمع بأسره ، وسنخاطب كافة الطبقات ، ولا شك أن دين الله عز وجل يجب أن يبلَّغ للناس وأن يخبر به الناس كافةً .
دعنا نسأل: هل هناك شاب في مجتمعنا لم يتقابل مع شاب متدين أبداً ؟ اذهب إلى الشارع في أي مكان وأمسك بيد أي شاب واسأله عن ذلك ، فستراه قد قابل شاباً متديناً في المدرسة، وربما كان في فصله، أو جاره في المقعد، وقابل شاباً في الحي ، ربما كان قريباً له أو أخاً .
وانظر إلى أي فتاة في المجتمع ، ألم تقابل يوماً من الأيام فتاةً متدينة ؟ معلمة،أو زميلة، أو جارة، وهكذا سائر فئات المجتمع.
حينما تكون الدعوة قضية نحملها في كل مناسبة، وقضية حوار نفتحه في كل وقت في حالات فردية أو جماعية ، حينما نقابل أي شخص نفتح معه هذا الحوار ، فهذا يعني أنَّ هذه الرسالة أوستصل للناس كافة ، وستصل إلى طبقات واسعة من المجتمع .(/4)
كثير من الطلاب الذين قد حاورتهم شخصيًّا ، يقول لي : إني أول مرة أسمع هذا الكلام، وأول مرة أجد من يواجهني بهذا الخطاب ، وهذا منطق عجيب ، أنت تعيش في بيئةٍ مليئةٍ بالمتدينين كم أستاذا متديناً درسك ؟ كم طالباً متديناً زاملك ؟ كم قريب لك متدين ؟ ومع ذلك لا يوجد واحد منهم دعاك أو نصحك .
الأمر الخامس: الحوار اتصال من أكثر من طرف
كثير من الوسائل الدعوية تعتمد على الخطاب من طرف واحد ومن جهة واحدة ، الآن وأنا أتخاطب معكم أتحدث وأنتم تسمعون، والأستاذ يتحدث مع الطلاب في الفصل من طرف واحد، الطالب يستقبل والأستاذ يتحدث ،وهكذا الخطيب والكتاب والشريط كلها وسائل اتصال من طرف واحد .
أما الحوار فيقيس التفاعل مع المستمع وردة فعله، ويتيح للمستمع أن يطرح اعتراضه ويبدي اقتناعه.
الأمرالسادس : قلة العقبات
حينما تنشر كتاباً أو شريطاً فأنت تحتاج إلى خطوات وأعباء تستغرق وقتاً وجهداً ، وقد تكون أكثر من العائد المتوقع من هذه الوسيلة ، أما الحوار فهو ميدان متاح في أي وقت وأي مجال .
الأمر السابع : الحوار لا يحتاج إلى متفرغ
إن هذا النوع في الدعوة لا يتطلب تفرغاً ، ولا مزيداً من الأوقات ، فأنت في المدرسة تتحدث مع زملائك في وقت الفسحة ووقت الراحة ، وأنت في العمل تتحدث معهم ، وأنت في مناسبة اجتماعية تتحدث مع الناس.
وكثير مما نطرحه في المجالس حديث فارغ وكلام غير مفيد ، هذه الفرص واللقاءات موجودة نستطيع أن نستثمرها في قضية دعوية ونفتح هذا الحوار، فلا تحتاج إلى تفريغ وقت، ولا نحتاج إلى جهد ، ولا تحتاج إلى تحضير موضوع ولا إلى إعداد فبدلاً من أن يكون حديثك حول هموم الدنيا وحول الهموم الخاصة يكون حول هذه الأمور والقضايا المفيدة .
الأمر الثامن : حتى تصبح الدعوة قضية حية
إن هذا الأسلوب يحول قضية الدعوة إلى قضية حيّة ، قضية تعيش في النفوس وقضية لا يتكلف لها الإنسان ولا يحسب لها حساباً، وتصبح جزءاً من حياتنا.
أضرب لك مثالاً بقضية التشجيع والحديث عن الرياضة ؛ قلما تجد مجلساً للشباب أو الفتيات إلا وتجد أمور الرياضة تملأ الحديث فتجد نقاشاً طويلاً وجدلا،ً وكل إنسان يبدي ما لديه من قدرات في الإقناع برأي معين حول هذا أو ذاك ، هذه قضية تلقائية لا شعورية في أي مناسبة في أي وقت تسيطر عليهم ، حينما نعيش نحن هذه القضية – قضية الدعوة – وتصبح قضية تشغل بالنا وسيطر علينا في كل مناسبة وكل وقت وتتحول إلى قضية حيّة - فلا تكون مقصورة على وسائل خاصة وعلى برنامج واحد نؤديه .
إذا قابلت إنساناً في الطائرة تحدثت أنا وإياه وأثرت قضية من القضايا ، وإذا جلست في مناسبة زواج مع أحد الأقارب تحدثت أنا وإياه ، وفي الفصل ، وفي المدرسة ، وفي مقر العمل ، في أي مكان وأي مناسبة مع من تعرف ومن لا تعرف ، والناس تلقائياً في أي مناسبة أو لقاء يدور بينهم حوار وحديث، ويدخلون في موضوعات ويشّرق أحدهم ويغرب . فلم لا يكون للقضايا الدعوية الجارة نصيباً من هذه القضية ؟
إذا حين نحيي مبدأ الحوار ونستثمر الفرص المتاحة تصبح قضية الدعوة جزءاً لا يتجزأ من حياتنا، بخلاف ما لو نشعر أنها قضية رسميّة- كما يقال- وكأنها قضية تحتاج إلى إعداد و خلافة… .
هذه بعض الأمور التي تؤيد أن تكون قضية الحوار والجدل مبدأً وأسلوباً من أساليب الدعوة التي يجب أن نعيشها ونمارسها .
من وسائل الإقناع
أقد يتساءل البعض كيف أقنع الناس ؟ وقد تواجهني عقبات كثيرة فكيف أتخطاها؟ هذا يحتاج إلى حديث آخر لكن يمكن أن نشير إلى بعض القضايا المهمة فيما يتسع له الوقت وهي قضايا نحتاج إليها في الحوار والجدل حتى يكون الحوار الذي نريده:
من وسائل الإقناع أولاً : يجب أن لا تُلجئ صاحبك للاعتراف بالخطأ ، فحينما تتحاور مع شخص فلا تضطره إلى ذلك لأن هذا صعب جدًّا على النفس، ولعلك تستعيد من الذاكرة مواقف الجدل فأحياناً يكون الجدل في قضية تافهة ويظهر الحق لكن يكاد المخطئ ويأبى أن يعترف فقدّر مشاعر الناس فلست في مجلس قضاء تريد أن تدين خصمك لكنك ببساطة تريد أن تثير القضية، وهذا سيتحقق بدون اعترافه بالخطأ .
الأمر الثاني : أعطه فرصة للتراجع فعندما يحضر شخص ويطرح رأياً فأتناقش معه، فمن الممكن أن أقول له أنا أعرف أن هناك نقصاً في معلوماتك، ولو كنت تعرف هذه المعلومات لوافقتني فهذا الأسلوب يجعل مَنْ أمامك يتراجع ، أو أقول له أنت انتبهت لجانب من الموضوع وهناك جانب آخر، فأعطه فرصة للتراجع ، فالمحاور الذكي هو الذي يعطي فرصة مقنعة ومعقولة للتراجع .
الأمر الثالث : الانطلاق من نقطة الاتفاق ، فعند جدالك مع أي شخص يجب أن تنطلق معه من نقطة تتفقون عليها.
من يطعن في واقع المتدينين ويضرب على ذلك أمثلة من واقعهم يمكنك أن توافق على المقدمة لكن تتحفظ على النتيجة، فتقول ربما أن فئة منهم تقوم بما تقول لكن ليس بالضرورة أن هذا حال جميعهم؛ فلا تصر على نقاط الخلاف فتخسر كل القضية .(/5)
مثال آخر : كثير من الشباب غير المتدينين حينما تناقشه يقول : أنا جربت المتدينين وهم غير جادين وغير صادقين ولا أريد أن أكون مثلهم ،فلو أصررت على بطلان كلامه قد تخسر الحوار أويبقى الحوار معه حول هذه النقطة التي أثارها، بينما الهدف الذي أريده أنا هدف آخر فأقول : افترض أن كلامك صحيح، لكن هل الواقع الذي أنت عليه صحيح أم لا ؟ هل يرضي الله أم لا ؟ وإذا قصر المتدينون ووقعوا في أخطاء فهل هذا عذر لك في أن تقع في أخطاء من نوع آخر ؟
الأمر الرابع: حسن اختيار الألفاظ عندما أقول لإنسان : أنت جاهل في هذا الموضوع ، فهذه كلمة مرفوضة ، لكن من الممكن أن تصاغ بأسلوب أليق مثل أن تقول له : إن معلوماتك ناقصة حول هذا الموضوع . أوتقول له : هناك أشياء استجدت ، : أنا أعرف أشياءً باعتبار واقع عملي قد تخفى عليك، بدلاً من أن تقول له : أنت تتكلم بواقع تجهله.
الأمر الخامس : أعطه فرصةً للتفكير ، أعطه تساؤلات ودعه يفكر فيها ولينتهي الحوار هنا ، لكنه سيبقى يفكر فيها لأن جو الحوار والجدل جو مشحون وصعب ، فصعب أن يقتنع بخطئه وأن يستسلم ، لكن إذا بقي يفكر لوحده وبَعُدَ عن جو الحوار فيمكن أن يقوده ذلك إلى خطوة ونتيجة عملية .
الأمر السادس : الهدوء في الحوار وعدم التعالي ، لا تجعل نفسك معلماً للناس وتصور لهم أنك تعلم ما لا يعلمون ، ولو أنك تواضعت لأكبروك في أعينهم ، ولو تعودت على ذلك لكنت صاحب حجة تغنيك عن رفع صوتك وتعاليك .
الأمر السابع : تجنب الأحكام الجاهزة ، ربما تحكم على شخص بقولك : أنت فيك كذا وكذا ، ويجب عليك كذا وكذا ، وإن أصدرت أحكاماً فيجب أن تكون موضوعية وغير قاسية فالناس لم يُنصبوك قاضياً .
الأمر الثامن : يمكن أن تستبدل الأمر باقتراح : شخص يذكر أنه قدم محاولة شعرية ، وأعطاها لك باعتبارها أول محاولة ، وشعرت بعدم قدرته على الشعر فلا تجرحه بل قل : كلماتك فيها من المعاني والمشاعر والأسلوب الجيد لكن لو اتجهت للكتابة النثرية لتوقعت أنك ستنجح أكثر .
الأمر التاسع : حسن الاستماع والإنصات للآخرين فحن نجادل لايسوغ أن نفترض فيمن يجادلنا أن يستمع ، وأن يتلقى ، وإذا رفض نتهمه بأنه يرد الحق وأنه مستكبر وصاحب هوى ولا يجدى معه الحوار …إلخ
لقد قال يوسف : ( أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار … ) ؟! وقال عز وجل: ( هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) . الإنسان الواثق من نفسه ومما عنده وهو على حق يتواضع ويجادل، 0ويتنزل مع الناس، ويستمع إليهم ويؤيد أقوالهم، ويطلب منهم المزيد كي يشعر محاورك أنك تحترم ما عنده .
إذا كنت تريد إقناع الناس ففكر كثيراً في أسلوب الحوار والجدل ، أما إذا كنت تشعر أن الحوار والجدل هو أسلوب للتعالي وإثبات الذات فإنك قد دخلت في دائرة المجادلة بأسلوب غير الأسلوب الشرعي اللائق ، ودخلت دائرة المراء والجدل المذموم الباطل ، وهذا أسلوب لا يصلح لمثلك .
هذه قضايا أردت أن أختم بها الحديث لأني أشعر أنها قضايا مهمة ، وإذا اقتنعنا بضرورة الجدل والحوار فيجب علينا أن نتعلم فن الأسلوب والحوار.
نسأل الله أن يوفقنا للحق والصواب وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم(/6)
دعوة للعمل
المحتويات
مقدمة
القرآن يدعو إلى العمل
وفي السنة النبوية دعوة للعمل
أهل العلم على الجادَّة يدعون إلى العمل
من صور الإخلال بالعمل
صور مشرقة
مقدمة
سنة الله في الحياة ألاَّ يعيش فيها ولا يفلح إلاَّ الرجل العامل، بل ولا يأكل رزقه إلاَّ الرجل العامل، وحتى أصحاب الشهوات والمبادئ الأرضية لا بد لهم من عمل يحصلون من خلاله على ما يريدون، فكيف بالمسلم العابد لله عز وجل؟
إن صاحب المؤسسة الخاصة والعمل الشخصي لا يريد أن يوظف لديه إلاَّ الرجل العامل المنتج، والتقارير ومعايير الكفاية لديه مرتبطة بالعمل الذي يقدمه والإنتاج الذي يحققه، ومدير الدائرة الرسمية هو الآخر لا يريد إلا الموظف العامل، ومعايير التقويم الرسمية وغير الرسمية لديه أيضاً مرتبطة بعمل الموظف وما يقدمه، ولا نزال نسمع أن فلاناً المسئوول أو فلاناً المدير، حين انتقل من دائرته أو من شركته اختار بعض الموظفين في مكتبه لينقلهم معه، والسبب في ذلك أنه أدرك أنهم عاملون جادون، فهو يريد رجلاً عاملاً يعينه ويعتمد عليه.
فالعمل هو مطلب الجميع ومعيار التقويم، بل حتى في تاريخ الأمم أيضاً، فالأمم إنما ترتقي وتفلح بالعمل والإنتاج، وأي أمة سطرت لها تاريخاً سواءً أكانت حضارة مرتبطة بدين سماوي قامت به على هداية الناس، أم حضارة مادية ارتفعت بها على الناس في دنياهم، فأي أمة دخلت التاريخ لم تدخل التاريخ إلاَّ من بوابة العمل. وفتش في صفحات التاريخ فإنك لن تجد فيه مكاناً لأمةٍ من الكسالى أو غير العاملين، اللهم إلاَّ أن تجد لها صفحات من الذم، والحديث أنها كانت ضحية للمتآمرين والطامعين.
القرآن يدعو إلى العمل
أولا : حين نقرأ القرآن الكريم نجد أنه قد أولى هذا الأمر عناية وجعله مطلب أساساً؛ فالإيمان لابد وأن يعطف العمل الصالح على الإيمان في أكثر من خمسين موضعاً في القرآن الكريم.
ولا شك أن ذكر الإيمان مجرداً يدخل فيه العمل الصالح؛ إذ الإيمان كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم : "الإيمان بضع وستون شعبة، فأعلاها قول: لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق".
ثانياً:- الإيمان في القرآن حين لا يصاحبه عمل يصبح دعوى فارغة لا يحق لصاحبها أن يدَّعيها ((قالت الأعراب آمنَّا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن يطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئاً إن الله غفور رحيم * إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون))، إنه لا يحق لكم أن تدعوا الإيمان ولا يحق لكم أن تقولوا آمنَّا لأنكم لمَّا تصلوا إلى مرحلة الإيمان، فالمؤمنون هم الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، إن المؤمنين حقًّا هم العاملون الذين عملوا وقدموا أنفس ما يملكون من الأنفس والأموال جاهدوا في سبيل الله عز وجل بأعز ما يملكون أولئك هم الصادقون.
ثالثاً:- يعلق القرآن الجزاء في دار الدنيا على العمل: ((يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون)) ،إنَّنا نقرأ في القرآن الكريم كثيراً من المصارع التي آلت إليها الأمم المكذبة والأمم الضالَّة، ونقرأ التعقيب في آيات القرآن الكريم أن هذا الجزاء الوخيم الذي صار إليه أولئك المكذبون إنما كان في مقابل عملهم السيئ وفي مقابل ما قدَّموه، فالعمل هو الذي قادهم إلى هذا المصير المحتوم.
والعمل الصالح يلقى المرء جزاءه في الدنيا بركةً وسعةً في الرزق: ((و لو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض)).
رابعاً: السؤال يوم القيامة والحساب إنما هو عن العمل ((ولو شاء الله لجعلكم أمةً واحدة ولكن يضلُّ من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون)) ، ((وترى كل أمةٍ جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون)) ،فحين يسأل المرء يوم القيامة ويحاسب ويجزى، فهو إنما يحاسب ويجازى على أعماله، وعلى ما قدّم أخيراً كان أم شرًّا ؛ فالعمل إذا هو مناط الحساب والجزاء.
خامساً: الثواب الأخروي وهو الأساس الذي شمَّر إليه المشمرون، الذي تسابق إليه العاملون، وتنافس فيه الصالحون مرتبط أيضاً بالعمل، ((ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون)) ((كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون))، فما فاز من فاز، ولا أفلح من أفلح في دار القرار ودار النعيم المقيم إلاَّ بالعمل، والرصيد الوحيد الذي يؤهله لهذا التكريم وتلك المكانة إنما هو عمله الصالح.(/1)
سادساً: العقاب الأخروي في نار الجحيم مرتبط هو الآخر بالعمل: ((ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلاَّ ما كنتم تعملون)) ، ((فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنَّا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون)) ، وحين يطالبون بالعودة إلى دار الدنيا -وأنَّى لهم ذلك- فهم إنَّما يطلبونها من أجل أن يمكنوا من العمل؛ فقد أدركوا الآن قيمة العمل، فقد نسوا الدنيا التي كانوا يعيشون فيها من أجل الشهوات الفانية: من أجل المال، من أجل الجاه، وتلك المعاني التي كانت تستحق عندهم التضحية بالمبادئ، وبكل ما يملكه الإنسان؛ فهم يريدون العودة إلى الدنيا لأجل أن يعملوا: ((و هم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنَّا نعمل أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكَّر)) ، ((فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنَّا نعمل)).
سابعاً: التفكير في آيات الله عز وجل وما يتبعه من مشاعر لا بد أن يتحول إلى رصيد عملي يقول الله عز وجل: ((إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب * الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار * ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار * ربنا إنَّنا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنَّا ربَّنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفِّر عنَّا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار * ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد * فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عاملٍ منكم من ذكرٍ أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيل وقاتلوا وقتلوا لأكفرنَّ عنهم سيئاتهم ولأدخلنَّهم جنَّاتٍ تجري من تحتها الأنهار)) هذا التفكير وهذا الدعاء دعاهم إلى العمل ((فاستجاب لهم ربهم أنِّي لا أضيع عمل عاملٍ منكم من ذكرٍ أو أنثى))، وما هو هذا العمل؟ ((فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا))، إن الهجرة والإيذاء في سبيل الله عز وجل وما يتبعها إنما هي نتيجة لذلك العمل الذي كانوا يقدِّمونه، حين تصدَّوا لحمل دين الله عز وجل ودعوة الناس إليه حتى واجهوا ما واجهوا من قومهم وأوذوا وقاتلوا وقتلوا وأخرجوا من ديارهم، وهاجروا من أجل أن يفرِّوا بدينهم من تلك الفتنة التي تعرضوا لها. إنَّ هذه الهجرة مع أنّها عمل، وهذا الإيذاء الذي تعرضوا له مع أنه عمل إلاَّ أنهما أيضاً ناشئان عن عمل وجهد، فلن يتعرض للإيذاء ولن يضطر للهجرة إلاَّ ذاك الذي واجه الأعداء بما يكرهون، والذي أعلنها صريحة مدوية في وجه الأعداء فاضطر لأن يتحمل الأذى والضيم في سبيل الله عز وجل، ويُتبع ذلك بالخروج من تلك الديار وتلك البلاد فاراً بدينه من الفتن.
ثامناً: والوعظ والتأثر به والخوف من الله سبحانه وتعالى لابد أن يقود إلى العمل؛ فينتج رصيداً عملياً: ((يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيرا * ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيرا * إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منك جزاءً ولا شكوراً، * إنَّا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً * فوفاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا))، لقد كانوا يخافون من هذا اليوم العبوس القمطرير، فماذا كان أثر هذا الخوف؟ وماذا كانت نتيجته؟ لقد دعاهم هذا الخوف وهذا التأثير الذي لمسوه في قلوبهم إلى أن يطعموا الطعام على حبه للمسكين واليتيم والأسير، وفي آية أخرى ((ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون * يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون)).
وهكذا سائر المشاعر القلبية؛ فالحب الذي هو شعور من المشاعر القلبية التي تختلج في مشاعر الإنسان لابد أن يدفع إلى العمل ((قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني بحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم)).
تاسعاً: لقد مقت الله عز وجل القول بغير عمل وذمه وعابه: ((يا أيها الذين آمنوا لمَ تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون)) ،وأتبعت هذه الآيات بقوله: ((إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًّا كأنهم بنيان مرصوص)) ، فالله سبحانه وتعالى إنما يحب العاملين، إنما يحب المقاتلين الذين يجاهدون في سبيل الله عز وجل، الذين يعملون ولا يشغلهم القول عن العمل.
هذه شواهد متضافرة من كتاب الله سبحانه وتعالى الذي نتلوه جميعاً صباح مساء كلها تدعونا إلى العمل، وكلها تجعل القضية مرتبطة أصلاً بالعمل.
وفي السنة النبوية دعوة للعمل(/2)
فالعلم -الذي هو من أشرف العبادات وأفضل من النوافل- ما لم يقد صاحبه إلى عمل، يصبح شرًّا يستعاذ بالله منه. لقد دعا صلى الله عليه وسلم وعلمنا أن ندعو: "اللهم إنِّي أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن دعاء لا يسمع، ومن نفس لا تشبع، أعوذ بك من هؤلاء الأربع" فالعلم أيًّا كان هذا العلم ما لم يقد صاحبه إلى عمل، ما لم ينفع صاحبه لا يصبح فضولاً فقط، بل يصبح شرًّا يستعاذ بالله منه وما قيمة العلم إذا لم يثمر العمل؟
ووظيفة المسلم في الحياة هي العمل؛ فقد علمنا صلى الله عليه وسلم أن ندعو للمريض إذا عدناه بأن نقول: "اللهم اشف عبدك فلاناً ينكأ لك عدوًّا أو يمشي إلى صلاة" فأمرنا عليه الصلاة والسلام بهذا الدعاء للمريض لأن وظيفة المسلم في هذه الحياة هي أن يعمل؛ فينكأ العدو بجهاده بسنانه، وينكأ العدو بأن يغيظ قلوبهم بالكلمة الصادقة، وبالدعوة لدين الله عز وجل، وبقول كلمة الحق غير وجلٍ ولا هياب، والنكاية بالعدو وإغاظته عمل متعد نفعه إلى سائر المسلمين، ثم ذكر الصورة الأخرى من العمل الذي نفعه قاصر على الإنسان نفسه وهي الصلاة، فذكر أعلى الأعمال القاصرة وهي الصلاة، وأعلى أعمال العبد التي يتعدى نفعها إلى الآخرين وهو الجهاد.
إذاً فوظيفة المسلم وهمه وشغله في هذه الحياة هو أن ينكأ عدواً أو يمشي إلى الصلاة، وحين يصاب بالمرض فإنه يدعو له بالشفاء من أجل أن يعود لأداء مهمته.
و أما الواقع العملي للنبي صلى الله عليه وسلم فهو خير شاهد على ذلك، إنك حين تقرأ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، تقرأ فيها سيرة ذاك الرجل الداعي إلى الله عز وجل، الذي يضحي بأوقاته وراحته وبكل ما يملك صلى الله عليه وسلم في العمل ونصرة هذا الدين، إنك تراه صلى الله عليه وسلم في أوائل صفوف المجاهدين، وأول من يفزع إذا سمع وجبة أو صيحة، وأول من يرق قلبه حين يرى بعض أصحابه قد أصابته فاقة، وأول من ينفق على محتاج أو يحن على مسكين، وتراه صلى الله عليه وسلم سبَّاقاً في كل ميدان من ميادين العمل، أليس لنا فيه قدوة صلى الله عليه وسلم وأسوةٌ حسنة؟
إنّنا حين ندعو إلى اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم وإلى التأسي بسنته وحين نقول: إن من علامة محبة المرء للنبي صلى الله عليه وسلم اتباعه لسنته، فإنه لا يجوز أن نقصر هذه السنة على جزء يسير من حياته صلى الله عليه وسلم، من أعمال أو مظهر أو هيئةٍ كان عليها صلى الله عليه وسلم ؛ فسنَّة النبي صلى الله عليه وسلم هي أداء الصلاة في وقتها مع الجماعة، هي قيام الليل، هي صيام النوافل، هي تشمير الثياب، هي إعفاء اللحية، هي الدعوة إلى الله عز وجل، هي الجهاد في سبيل الله عز وجل، هي الرحمة بالخلق، هي الإحسان إلى الناس، هي العمل بكل هذه الشريعة وبكل ما جاءت به، إن تمام التأسي بسنة النبي صلى الله عليه وسلم واتباعها أن ننظر إلى سيرته صلى الله عليه وسلم في كل أحواله وسائر أيامه صلى الله عليه وسلم ونسير وراءها.
وكان صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه على العمل :
جاءه رجل فقال له يا رسول الله: متى الساعة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ما أعددت لها؟. إن الذي ينبغي أن يشغلك ليس الحديث عن وقت الساعة متى تكون، فهذا أمر علمه عند الله عز وجل، إنَّما الأمر الذي ينبغي أن يشغلك وينبغي أن تسأل عنه هو العمل، فأنت عرضة لأن يتخطفك الأجل في ساعة من ليل أو نهار، وهمك المرتبط بالساعة والذي يعنيك من الساعة هو أن تسأل ماذا عملت؟ وما قدمت؟ وماذا أعددت لهذه الساعة؟
أهل العلم على الجادَّة يدعون إلى العمل
أولاً : حين نقرأ في سير العلماء من سلف هذه الأمة بدءاً بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وعبر تاريخ هذه الأمَّة الطويل نجد أن أهل العلم كانوا على هذا المنهج يدعون إلى العمل؛ فهم قد تتابعوا على أن يوصوا طالب العلم بالعمل، وعلى أن يعقدوا فصولاً فيما يكتبون من آداب العالم والمتعلم، وفصولاً في الحديث عن العمل بالعلم.
و للخطيب البغدادي رحمه الله جزءٌ مشهور أسماه "اقتضاء العلم العمل" وأقوالهم مشهورةٌ مشهودةٌ في ذلك.
فأبو الدرداء رضي الله عنه يقول: "إن أخوف ما أخاف إذا وقفت على الحساب أن يقال لي: قد علمت فماذا عملت فيما علمت". ويقول أيضاً: " لا تكون عالماً حتى تكون بالعمل عاملاً".
و كان يقول علي رضي الله عنه: علمت فاعمل.
و قال الحسن: الذي يفوق النَّاس بالعلم جدير بأن يفوقهم بالعمل.
ثانياً: المسائل الفقهية التي لا يترتب عليها عمل تعتبر من لغو الحديث عند علمائنا، ولهذا فإنهم يوصون طالب العلم أن يعتني بقراءة وبحث المسائل التي يترتب عليها ثمرة عملية، وكثيراً مايعقب علماء الأصول وعلماء الفقه بحث كل مسألة بأن يقولوا: والثمرة العملية لهذه المسألة كذا وكذا. أي ما يترتب عليها من عمل.
ثالثاً: السائل حين يسأل وحين يستفتي لا بد أن يسأل عن مسألة يعقبها عمل، فهو يسأل ليعمل، وإلاَّ كان مجادلاً مماحكا لا يستحق الإجابة عن سؤاله.(/3)
و أما واقعهم العملي وتاريخهم فخير شاهدٍ على ذلك، لقد كانوا يتصدرون لتعليم الناس، ويقضون نفيس أوقاتهم في ذلك، وهذا من خير العمل الذي يقدمونه للأمة، وما هذا التراث الذي نراه بين أيدينا من التصنيف والتأليف والتعليم إلاَّ جزاءً من نتيجة هذا العمل الذي كان يبذله سلف الأمة ويتواصون به.
وكانوا أيضاً قائلين بالحق محتسبين على العامَّة والخاصة، قد حفظت تراجمهم مواقف خالدة في إنكار المنكرات وقول الحق والوقوف في وجه الفجرة والظالمين.
ومع ذلك كانوا في الصفوف الأولى من المعارك، فقد كان في مقدمة صفوف صلاح الدين الفقهاء والمحدثون والعلماء، حتى أمر أحد المحدثين أن يحدث ويقرأ وهو بين الصفين، ثم قال: هل سمع أحدٌ في هذا الموطن؟ قال: لا. فصار يفتخر صلاح الدين رحمه الله أنه أول من سمع الحديث وهو بين الصفين وقد التحمت السيوف.
إذاً فقد كان أهل العمل عاملين، سبَّاقين في تعليم العمل والتصدي للناس ونفعهم والإحسان إليهم، وفي قول كلمة الحق، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي التجديد لهذا الدين، وكم صفحة مرَّت على هذه الأمة فاحتاجت إلى مجدد ليرفع الغشاوة عن هذه الأمة فقام أهل العلم وتصدوا وتحملوا ما تحملوا من مضايقة الناس ونقدهم وعيبهم والتشكيك في نواياهم والطعن فيهم، فقد واجه عبدالغني المقدسي رحمه الله ما واجه، وواجه شيخ الإسلام ابن تيمية ما واجه، وواجه محمد بن عبدالوهاب ما واجه، وكل المصلحين الذين مرُّوا على تاريخ هذه الأمة واجهوا ما واجهوا من الطعن والتشكيك في نواياهم وتآمر أهل الفساد وعلماء السوء وأهل البدعة والهوى عليهم، ومع ذلك تحملوا ذلك كلَّه في ذات الله سبحانه وتعالى؛ فقد كان همهم وداعيهم هو العمل.
ولعل ما ذكرنا من الآيات القرآنية والشواهد من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ومن مواقف أهل العلم يعطينا الاقتناع التام بأن العمل يجب أن يكون همَّنا دائماً، وأن يكون هو الهاجس الوحيد لنا؛ فنتساءل دائماً ماذا عملنا وماذا قدمنا؟
من صور الإخلال بالعمل
ثمة صور من الإخلال بالعمل قد تبدو لنا أحياناً أنها مفيدة، وأنها من مجالس الخير لكنَّها صور شاذة، لا يقع فيها إلاَّ الذين تخلَّوا عن العمل، فلنشر إلى بعض هذه الصور:
أولاً: لغة النقد التي يحترفها البعض وتملأ مجالسهم؛ فينتقد الأفراد والجماعات والدعاة والعلماء والكتَّاب، وينتقد البرامج والمؤسسات الدعوية نقداً صارخاً لا يبقي على الأخضر واليابس، بل يكون النقد هدفاً يقرأ من أجله ويسمع من أجله.
إن هناك من تطوع ليقدم خدمة لأعداء الدين وأعداء الدعوة بالمجان، فقضى نهاره ولياليه في الطعن والنقد والتصنيف والإثارة، إنك حين تتساءل عن حال هذا الرجل ماذا قدم؟ هل هدى الله عز وجل على يديه شابّاً ضالاًّ؟ أو أنقذ فتاةً من الغواية أو دعا رجلاً غير مسلم إلى الإسلام؟ أو أنكر منكراً ظاهراً أو تصدى لتعليم علم؟ لا تكاد تجد رصيداً يذكر من هذه الأعمال.
مساكين أولئك الذين أوقاتهم في مثل هذه الأحاديث، مساكين أولئك الذين أصبح همهم الطعن في الآخرين والنقد والتقويم والتصويب، فأنت ترى من اشتغل بالعمل، واشتغل بالعمل لنصرة الدين طلباً للعلم أو تعليماً ونشراً له، أو تحفيظاً لكتاب الله عز وجل، أو دعوة إلى الله عز وجل، دعوةً للمسلمين المقصرِّين ، دعوةً لغير المسلمين، جهد هنا وجهدٌ هناك، فترى هذا التيار المتدفق من هذه الجهود المبذولة، وترى أولئك قد أفلسوا من هذا الرصيد كلِّه وانشغلوا بالغيبة والنميمة والتصنيف.
إن أشد عقوبة وأقسى عقوبة يعاقب بها المرء أن يحرم العمل، وأن ينشغل الآخرون فيغتنموا أوقاتهم بالعمل المنتج والمثمر الذي يكون لهم رصيداً عند الله عز وجل، أما هو فيشغل المرء نفسه بمثل هذه الأعمال، فماذا عساه أن يلقى عند مولاه حين يوقفه فيسأله ماذا عملت وأنت ترى المنكرات العامة التي أصبحت تعج بها المجتمعات؟ ماذا فعلت وأنت ترى الأمَّة تقاد إلى الهاوية ، وأنت ترى الأعداء قد تآمروا على الإسلام من الشرق والغرب؟
إنَّنا لا نرفض مبدأ النقد ولا نرفض مبدأ الحديث عن الأخطاء، لكن هذا شيء وما يُصْنَع وما يدور في مجالس هؤلاء العابثين شيء آخر.
ثانياً: كثرة الشكوى من مشكلات الواقع، ومشكلات العمل الإسلامي، ومشكلات الشباب والدعوة، إلى آخر هذه القائمة الطويلة، وهي غالباً ما تكون شكوى صادقة، لكنَّها تحتل مساحة من التفكير فينطبع أثرها على السلوك والعمل فيصبح صاحبها محطم الآمال سريع اليأس.
قد ترى أحد الشباب قد شغل بمشكلة خاصة؛فهو –على سبيل المثال- يشتكي من أنَّه يقع في هذه المعصية أو تلك، تراه يشتكي أنه يقصر في هذه الطاعة أو تلك؛ فتسيطر هذه المشكلة على تفكيره وتستولي عليه؛ فتصبح هاجساً أمامه، حتى يتحول إلى شاب محطم الآمال، ليس له قدرة على أن يعمل أو ينتج؛ فتتحول تلك المشكلة وبالاً عليه.(/4)
أو ذاك الذي شغل بمشكلات الدعوة ومشكلات العمل الإسلامي ومشكلات الأمة؛ فأصبح محطَّم الآمال، لا يتحدث إلا عن صور الإحباط الذي حصل له: من جرَّاء ثقته بهذا العمل فبان على خلاف ما يظنه، أو ثقته بفلان فبان أنه ليس كذلك، إلى غير ذلك…..
إن هذه المشكلات موجودة سواءً أكانت في شخصك، أم كانت في أوساط الشباب والناشئة، أم في أوساط العمل الإسلامي، وهي مشكلات يعاني منها الجميع، وتؤرق ذهن المخلص الصادق، وذهن من يحمل همَّ هذا الدين وهذه الدعوة الصادقة، ولكن السؤال الذي يفرض نفسه: ماذا قدَّمنا من عمل؟ وماذا يغني الانشغال بالمشكلات والتفكير فيها؟ إنه لا يعدو أن يكون فيروساً يقتل العمل المنتج، فيروساً يقضي على الإبداع، فيروساً يحطَّم كل همة يمكن تتولد عند صاحبها.
لقد نهى الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن ينشغل بهذه الأمور وبهذه الهموم؛ فنهى نبيه العامل الذي تحمل ما تحمل في سبيل الدعوة لدين الله عز وجل والجهاد لإعلاء كلمته نهاه سبحانه وتعالى عن أن يهلك نفسه وأن ينشغل بالهم على أولئك المعرضين: ((فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً)) ،((لعلك باخع نفسك ألاَّ يكونوا مؤمنين إن شاء الله ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين)) ، ((فإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتعي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكوننَّ من الجاهلين)). فما بالنا بعد ذلك ننشغل بالحديث عن المشكلات؛ فتسيطر علينا حتى تؤدي بنا إلى الإحباط.
ثالثاً: كثرة التساؤل: ما دوري؟ ماذا أصنع؟ كيف أطلب العلم؟ كيف أحفظ؟ كيف أدعو؟ إلى غير تلك القائمة الطويلة من الأسئلة التي ترد، ولا يعقبها خطوات عملية جادَّة.
إن التساؤل ابتداء مطلب مهم لا جدال فيه، لكنه مطلب سليم حين يكون مصحوباً بإرادة العمل، بالهمة التي تدفع إلى العمل، أما حينما يكون سؤالاً يكرره الشاب في كل مناسبة فليس الأمر كذلك.
قف الآن وتفكر في نفسك ماذا قدَّمت وأنت على مدى سنين تطرح هذه الأسئلة؟ أليس هذا من القول بغير عمل؟ ألم تصل إلى إجابة على هذه الأسئلة؟
إنها أسئلة قد تكون جادَّة لكن لا بد أن تكون أسئلة مصحوبة بالعمل بإرادة العمل والنية الجادة العازمة.فإذا شعرنا أنَّنا لم نتقدم خطوات جادَّة فإنِّنا غير عاملين.
رابعاً: الانهزام أمام أي مشكلة، أو تعويق أو مضايقة، والتخلي بحجة عدم فتح المجال، وعدم التأييد إلى غير ذلك من الأعذار.
شابٌ يدرس في مدرسة أو يعمل في مؤسسة أو يدرس في جامعة في أي مكان على عرض هذا العالم الإسلامي وطوله؛ فيحاصر نشاطه وتوصد الأبواب أمامه، فيقف مكتوف الأيدي بانتظار فتح الأبواب أو طلب الانتقال إلى مجال آخر يمكن أن يعمل فيه، أي منطق يسيطر على تفكير هذا الصنف من الناس، هل كان أنبياء الله عز وجل كذلك؟ ومن بعدهم الدعاة والمصلحون، هل كانوا يفكرون بهذه العقلية؟
بل وهل كان دعاة الفتنة وأصحاب الطوائف والمبادئ الأرضية كذلك؟ ألم يكونوا يعملون، سنوات طويلة وهم يضايقون ويتعرضون للسجن والمضايقة والملاحقة والمتابعة، ومع ذلك يدعون ويتحملون؟ وأقرأ في تاريخ الطوائف الباطنية، بدءاً بالعصور المتقدمة من تاريخ الإسلام كيف كان القرامطة والإسماعيلية والدروز والنصيرية والرافضة وغيرهم من أصحاب الأفكار الضالة؟ كيف يعملون ويتعلمون مع المضايقة ومع التضييق على جهودهم؟
فما بالنا نحن يسيطر علينا هذا المنطق: لدي استعداد أن أعمل لكن عندما يفتح المجال أمامي، عندما تبارك جهودي، عندما أُدعى إلى العمل.
خامساً: الاكتفاء بحمل المشاعر المؤيدة للخير وأهله، والمشاركة في المنتديات والدروس العامة، دون أدنى خطوة إيجابية أو مشاركة فعَّالة، ولعلنا نجد قطاعاً كبيراً من الناس يرى أن دوره يقف عند هذا الحد؛ فيتصور الشاب أن هذا غاية ما يمكن تقديمه، وأن الذهاب والإياب مع الأخيار والمشاركة في الأعمال والمنتديات كافٍ في أن يجعله في قطار الدعاة إلى الله عز وجل.
إن هذا بلا شك خطوة مطلوبة، أن يختار الشاب رفقة صالحة يصحبهم في حلهم وترحالهم، في إقامتهم وسفرهم، ويشاركهم مناشطهم، لكن هذا وحده لا يكفي أن يجعله منخرطاً في سلك العاملين و الدعاة إلى الله عز وجل، فلابد أن يقدم عملاً، لا بد من أن يقدم مبادرة ومشاركة في أي مجال يمكن أن يساهم فيه.
سادساً: ما يدور في مجالس المثقفين خاصة وأنصاف المتعلمين من الحديث المستفيض عن الدعوة والدعاة.(/5)
فليت الدعاة يصنعون كذا، ولعلهم يقولون كذا أو يتحفظون من هذا القول أو من ذاك، وهي مقترحات جادَّة وانتقادات منضبطة، لكنَّها تدار في هذه المجالس والمتحدث يعبث بمسبحته أو يهز يده، إنهم يتحدثون كثيراً في مجالسهم ومنتدياتهم عن الدعوة وعن همومها، ولو فعل الدعاة ولو صنعوا ولو تجنبوا ولو صار كذا وكذا، ولكن هذا الحديث لا يعدو أن يكون حديثاً مجرداً في مثل هذه المجالس وهذه المنتديات، لا تكاد ترى له أثراً عمليًّا أو مشاركةً فعالة من أولئك.
إنَّها طبقة من الناس المؤيدين للخير والمحبين له، لكنها طبقة تعاني من البطالة والفراغ العملي، ويظن أحدهم أنه حين يملأ مجالسه بمثل هذا الحديث قد قدم خيراً كثيراً للأمة.
سابعاً: الحديث المستفيض عن واقع المجتمع: نقداً لصور الانحراف وقصص الفساد؛ فيأخذ الحديث ساعات طوال مع النماذج والأمثلة، يجتمع النّاس والخيرون منهم خاصة في مجلس من المجالس فيتحدثون عن انتشار الفواحش، فهذا يذكر قصة، والآخر يذكر حادثة، والثالث قضية، والرابع إحصائية وهكذا يستمرون في حديث طويل لا يقطعهم عنه إلا شغل آخر؛ فيظنون أن هذا حديثاً خيراً، وأن هذا من باب إشغال المجلس بما يفيد؛ فيقضون ساعات طويلة، وينتهي المجلس بعد ساعات دون أي نتيجة عملية، إن هذا الحديث ولو كان مصحوباً بالبكاء والنشيج والتألم على واقع المجتمع، فهو لا يسمن ولا يغني من جوع، ولا يمكن أن يدفع الأمة ولو خطوة واحدة، لقد تجاوزنا جميعاً ويجب أن نتجاوز الاكتفاء بالشعور بواقع المجتمع، ونتجاوز مرحلة فساد الناس، ومرحلة الاكتفاء بالحوقلة والاسترجاع، أن نتجاوز ذلك إلى العمل والمشاركة الفعالة، وماذا يجدي عنَّا شابٌ يتوقد همةً وحيوية يملأ مجالسه بالبكاء والتألم على واقع الأمة، والإفاضة في الحديث عن ذكر الصور المؤلمة من ألوان الانحراف والفساد التي تعج بها مجتمعات المسلمين، دون أن يتبع ذلك بأي رصيد عملي أو خطوة عملية.
و لو ألزمنا بعد نهاية كل مجلس من هذه المجالس أن نخصص ونقتطع جزءاً من هذا الوقت للسؤال عن الدور العملي الذي يجب أن نقوم به لمواجهة هذه المشكلة أو تلك، لتحول حديثنا إلى لغةٍ أخرى، ولتحولت مجالسنا إلى مجالس منتجة.
ثامناً: الحديث عن المؤامرات التي تحاك ضد الإسلام والصحوة من الأعداء في الداخل والخارج، حديث المتشائم، حديث من يقول بلسان حاله رويداً، فالسيل لن تسدَّه بعباءتك، ولست وكيلاً لآدم على ذريته، منطق من يقول لكم دينكم ولي دين، لقد فسد الناس ومرجت عهودهم، ولا مجال للإصلاح؛ فالدعوة تحاصر، والمنكر يحمى ويدعى إليه، وماذا عساك أن تقدم؟ فلا يزيد صاحبنا على الحوقلة والاسترجاع.
إن الحديث عن الأعداء وعن تآمرهم مطلب مهم بل ملح، فلا بد أن نكون واعين لما يحيك أعدائنا من المؤامرات، ولا بد أن نتحدث عن الأعداء وخططهم ومؤامراتهم، التي تحاك في الداخل والخارج من القريب والبعيد، لكن هذه الأحاديث يجب أن تدعونا إلى العمل، وإلى أن يكون رصيداً عملياً، أما أن تسيطر هذه الأحاديث علينا فتصبح هماً يشغلنا عن العمل، هماً يحولنا إلى أناس محطمين ومبددي الأعمال فهذا من الانشغال بالقول عن العمل.
تاسعاً: تدافع الأدوار والمسئووليات وإلقاء التبعات على الآخرين، يحق لموظف يعمل من أجل أن يتسلم الراتب أن يقول إن إنجاز هذا العمل من مهمة فلان، ويحق له أن يقول هذا ليس شأني بل هو من اختصاص فلان، يحق لعامل بناء أو عامل في شركة أن يتحدث بهذا المنطق، أما الدعاة إلى الله عز وجل، أما الذين يسابقون في الخيرات ويعملون لله فيجب أن يكون لهم منطق آخر ولغة أخرى.
كم نحتاج إلى ذلك الصنف من الناس الذي همه العمل، إن كان في الساقة كان في الساقة، وإن كان في الحراسة كان في الحراسة، ذاك الصنف الذي يعمل في كل الأحوال: في السرَّاء والضراء، الذي يعمل مع المشكلات ومع العقبات، يعمل بهدوء وصمت، ويتكيف مع الظروف أيًّا كانت.
صور مشرقة
حتى لا يكون حديثنا متشائماً، وحتى نضع الأمل المشرق أمام الراغبين في الاستجابة للدعوة إلى العمل، فلنختم بالإشارة إلى بعض العناصر الفعَّالة والنماذج الجادة العاملة.
إن منهم: ذلك الشاب الذي ثنى ركبته في بيت من بيوت الله، ليعلَّم أبناء المسلمين كتاب الله عز وجل، في حين يعيش أقرانه جلسات الانبساط والحديث المتبادل.
وذاك الذي أخذ على عاتقه تربية النشء ومصاحبتهم، والتوجه لكل مؤامرات الأعداء التي تسعى لغمس الشباب في مستنقع الرذيلة .(/6)
والآخر الذي تصدَّى لإنكار المنكرات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فصار ليله في الأسواق والمجامع العامة، أو في مراكز الاحتساب متحملاً الأذى والمضايقة، بل حتى الامتناع من حضور هذه المجالس حيث لا تتيسر له. وقبل يومين كنت أتحدث مع أحدهم فصار يحدِّثني عن موضوع هذه المحاضرة ويقول إنه لن يتيسر لي حضورها لأنِّي منشغل بهذا العمل وهذا الميدان، فقلت: لا يعنينا حضورك؛ فأنت من العاملين ولست بحاجة إلى أن ندعوك إلى العمل.
والرابع الذي رقَّ قلبه للأكباد الجائعة والبطون الخاوية، فصار يقوم على المحتاجين، فيعتني بشؤونهم ويقوم برعايتهم في المبرَّات الخيرية أو الجمعيات الاجتماعية، التي تسهر على رعاية حال أولئك.
وهل ننسى بعد ذلك ذاك الشاب الذي اختار الغربة والبعد عن العشيرة والأهل، ليعمل في منطقة نائية محتسباً لله عز وجل، فلله درُّه كلما رأيناه تذكرنا التضحية والصدق والعزيمة الجادة، وتذكرنا مصعب بن عمير ومعاذ بن جبل –رضوان الله عليهم- وغيرهم من أولئك الذين كانوا يغتربون للدعوة إلى دين الله سبحانه وتعالى.
إنها صور كثيرة مشرقة من صور أولئك العاملين، فها هو الميدان أمامك فإن شئت فاقرأ التاريخ: تاريخ الأنبياء والدعاة والمصلحين، تاريخ سلف هذه الأمة، وإن شئت فانظر إلى هذه النماذج التي تراها بعينيك؛ فترى هذه النماذج الفعَّالة العاملة، إنها كلَّها تقول بلسان حالها: هيا إلى الميدان والعمل، كلها تدعوك بلسان الحال والمقال إلى العمل الجاد والمنتج.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يكتب لنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح.(/7)
دعوة للمصارحة
المحتويات
مقدمة
دعوة للمصارحة على المستوى الفردي
أولا: أسلوب الإسقاط
ثانياً أسلوب التبرير
ثالثاً: اجتناب التفكير في المشكلة
رابعا: عقدة البحث عن الحل والعلاج
خامسا: الورع البارد
المصارحة على المستوى الجماعي
آثار تخلف المصارحة
أن تصبح الأخطاء جزءاً من تفكيرنا
فتح المجال أمام المفسدين
فشل المشروعات الإصلاحية
مقدمة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
فلعلنا نقف قليلاً حو ل المعنى اللغوي للمصارحة قبل أن نبدأ في الموضوع.
يقول الأزهري : صرح الشيئ وصرحه إذا بينه وأظهره. ويقال : صرح فلان ما في نفسه تصريحاً أي أبداه.. والتصريح خلاف التعرض. ومن أمثال العرب: صرحت بجدان وجلدان إذا أبدى الرجل أقصى ما يريده.
وفي اللسان : انصرح الحق أي بان، وكذبٌ صرحان أي خالص. ولقيته مصارحةً ومقارحةً وصراحاًً وكفاحاً بمعنى واحد إذا لقيته مواجة. وصرح فلان بما في نفسه وصار أبداه وأظهره.
أي أن هذا المعنى الذي نستعمله صحيحاً لغةً؛ وذلك أن بعض الكلمات قد تستخدم في غير موضعها فمن ثم كان لابد من تحقيق مثل هذا المعنى وصحة استعماله لغةً.
معشر الأخوة الكرام : الصدق خلقٌ محمود ومطلوب شرعاً، قال عز وجل[يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين] وعد الله سبحانه وتعالى الصدق ضمن صفات عباد الله الصالحين [إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات..] إلى آخر الآية وقال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث المشهور" إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار " وفي الحديث الآخر " الصدق مع البر وهما في الجنة، والكذب مع الفجور وهما في النار ".
وفي المقابل فالكذب خصلة شنيعة وصفة مرذوله يحق على صاحبه لعنة الله [ألا لعنة الله على الكاذبين] وهو سلم وطريق إلى الفجور الذي يؤدي إلى النار "إن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ".
وفي الحديث الآخر "الكذب مع الفجور وهما في النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً " وحينما يكون المؤمن جباناً أو بخيلاً فإنه لا يمكن أن يكون كذاباً.
وكما أن الصدق صفة مطلوبة شرعاً يستحق صاحبها الثناء، و الكذب مذموم في الشرع مغمرس صاحبة بصفة من صفات المنافقين حتى يدعها، فهما كذلك في الخلق المستقيم والفطرة السليمة، فمازال الناس برهم وفاجرهم يدركون أن هناك تناسب بين الكذب وبين السب والانتقاص، لذا لايطيق أحدهم بأن يوصف بأنه كذاب، وغاية السب والشتم لأي امرئ أن تتهمه بالكذب وحتى أكذب الناس الذي يتخذ الكذب حرفة ويأخذ على ذلك أجراً لا يرضى بأن يوصف بالكذب.
ولئن كانت هذه شناعة الكذب على الناس وممارسته عليهم بهذا القدر من السوء والرفض فما بالكم بمن يمارس الكذب على نفسه، إنها قضية أكثر سوءاً وأكبر خطأً واستخفافاً بالنفس.
إننا أحياناً نمارس الكذب على أنفسنا أفراداً وجماعات، وبصورة تفرض سحباً من الأوهام المفتعلة، وتضع سياجاً يحول دون الرؤية الواضحة الصادقة، فكم نفتعل العمى والعشى ونحن نستطيع أن نبصر الحقيقة بأم أعيننا، ومن واجبنا أن نتسائل من المستفيد والخاسر من حجب الحقائق وافتعال الضبابية حول الواقع؟.
إن مرحلة العواطف والحماسة مرحلة يجب أن نتجاوزها ومرحلة ستر العيوب وإخفاء الأخطاء سلوك يجب أن نتخلى عنه.
ومن ثم كان لابد من دعوة للمصارحة فهي دعوة للمصارحة على المستوى الفردي وعلى المستوى الجماعي.
دعوة للمصارحة على المستوى الفردي
من سجية النفس أنها ترهب الخطأ وتهاب الانحراف وترفض تأنيب الضمير واللوم الداخلي، وتلك صفة يكفي في استحقاقها كون المرء إنساناً، فالناس مؤمنهم وكافرهم برهم وفاجرهم حين يقعون في الخطأ ويواجهون سياطاً من اللوم والعتاب من أنفسهم -أياً كان هذا الخطأ ومهما كان مصدره ومهما كانت مقاييسه وموازينه- فهم يسعون إلى التهرب من تحميل أنفسهم مسؤولية أخطائهم وتبعتها.
وحين تثقل على النفس سيئة الخطأ وتنوء بحمل نتائج التقصير فإن الإنسان حينئذ يمارس حيلاً لا شعورية مع نفسه لينفي عنها الخطأ أو يخفف تبعاته، كل ذلك يعمله مع نفسه حتى يسلم من اللوم والعتاب الظاهري، لكن هذه الحيل تسهم في إخفاء الحقيقة وفي تكوين ركام من الأوهام تحجب عنه الرؤية الصادقة..
فلئن كان الكذب فجوراً و شناعة حينما يمارسه المرء مع الأخرين، فهو كذلك حين يمارس مع نفسه، بل يزيد مع ذلك استغفالاً لنفسه وسلوك طريق النعامة التي تخفي رأسها وتظن أن الفريسة لا تراها.(/1)
إن الطالب الذي يفشل في الامتحان كان جاداً وقد بذل الجهد ولكن الأستاذ كان فاشلاً؛ فالأستاذ لا يجيد شرح المادة، أو كانت درجات أعمال السنة هي السبب، أو أن أسئلة الامتحان كانت مفاجئة وغامضة، أو كان التصحيح غير دقيق، أو كانت نفسيته يوم الامتحان ليست مستقرة فلم يوفق للإجابة، وهكذا يفتعل هذا الطالب ألواناً من الحجج والمعاذير يقنع نفسه ويخدعها لكي لا يتحمل المسؤلية، أما لو كان صادقاً مع نفسه لاعترف بتحمل المسؤلية فهو يعرف أستاذه طوال العام فإذا كان الأستاذ على سبيل المثال لا يجيد شرح المادة فقد كان بإمكان الطالب أن يعطي هذه المادة جهداً مضاعفاً حتى يعوض القصور الذي يأتتي من أستاذه، وليست هذه أول مرة يدخل فيها قاعة الامتحان؛ فهو يتوقع أن تأتيه الأسئلة على أي صورة وعلى أي احتمال.
ومن الأساليب التي نستخدمها للتهرب من مواجهة النفس ومصارحتها:
أولا: أسلوب الإسقاط
وعندما يسلك الشاب سلوكاً غير مستقيم فيواجه بالمناصحة يحتج بأن والده لم يحسن تربيته، أو أنه نشأ في بيت غير محافظ، وحين ترى من شاب مستقيم صالحٍ خيراً وترى فيه عيباً فتناقشه فيه فماذا سيقول لك ؟ سيقول لك إني تربيت مع مجموعة غير جادة، إني كنت مع رفقة كانوا غير حريصين على العلم ولم يحرصوني حتى مضت زهرة عمري وريعان شبابي ولم أستفد، والسبب هو فلان الذي يتحمل المسؤلية فهو الذي رباني، السبب هو استاذي، السبب هو فلان أو فلان من الناس.
إنه يجيد أن يحمل المسؤلية لأي شخص كان ولو لم يكن له علاقة بالأمر من قريب أو بعيد.
في غزوة بني قريظة حين حكَّم فيهم صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ رضي الله عنه فحكم فيهم بأن تقتل مقاتلهم وأن تسبى ذراريهم، كان كل من بلغ الحلم قتل ومع ذلك كان هذا الشاب صغير السن ربما يبلغ الرابعة عشر أو الثالثة عشر أو أكثر أو دون ذلك وقد عاش في بيت يهود من أب يهودي وأم يهودية، وعاش في وسط أحياء اليهود يرضع الحقد على هذا الدين، يسمع من والده ومن عمه ومن أقاربه ذم هذا الرجل وأنه كذاب وغير صادق، ومع ذلك فهل قتل ظلماً ؟
لم يقتل ظلماً فهذا حكم الله من فوق سبع سموات وسيلقى الله عز وجل ويحاسبه، فإن كان أحداٌ يُعْذَر بسوء التربية فسيعذر هؤلاء، فهم أولى بالعذر من غيرهم ممن عاش في بيئة مسلمة، يسمع الكلمة صباح مساء، فلماذا نتهرب من المسئولية ونحملها الآخرين ونسقط تبعاتنا على غيرنا؟
ثانياً أسلوب التبرير
أحياناً لانرى شخصاً بعينه يمكن أن نحمله المسؤولية، لكن ثمة أعذار كانت هي السبب وراء وقوعنا في ذلك؛ ففلان الذي وقع في المعصيية والانحراف يرى أنه مسؤول عن نفسه ويرى أن والده أو قريبه أو مربيه لا يتحمل المسؤولية ولكن من جهة أخرى يرى أنه عاش في عصر بدت أمامه فتنٌ لا يستطيع دفعها، يرى أنه عاش في مرحلة أو فترة لم يستطع فيها أن ينتصر معها على تلك الفتن التي وجهته، والآخر الذي يمتنع عن مجالٍ من مجالات الدعوة يفترض أن هناك مفاسد يخشى أن تترتب على عمله، ويفتعل أعذاراً وأوهاماً يرى أنه معذورٌ فيها عن قعوده وتخليه، والعذر الأول والأخير لو كان صريحاً وصادقاً مع نفسه هو الكسل وليس غير الكسل.
ثالثاً: اجتناب التفكير في المشكلة
حين يفشل الفرد في الإسقاط ويفشل في التبرير فقد يسلك أسلوباً ثالثاً فيتهرب من التفكير في المشكلة، ويسعى لأن يشغل نفسه بالتقكير في أي أمر آخر غير مشكلته هذه، فهو لايطيق أن يتحمل تأنيب النفس ولوم الضمير.
رابعا: عقدة البحث عن الحل والعلاج
حين يفشل المرء في ذلك كله يعمد إلى أسلوب يتصور من خلاله أنه يبحث عن الحل والعلاج وهو يزيد الأمر تعقيداً، فهناك من يقصر في طاعة من الطاعات أو يقع في معصية من المعاصي ويفشل في جهاد نفسه واستنقاذها فيعمد بعد ذلك للبحث عن العلاج وعبارته التي يرددها: أنا شاب أشكو من كذا وكذا فما الحل؟ هذه العبارة كثيراً ما نراها ضمن أسلئة المحاضرات، أو نقرأها في زاوية الفتاوى أو المشكلات التي تعرض في الصحف، أو في رسالة يحملها البريد.
إن هذا لا يعني الاعتراض على السؤال أو طرح المشكلات، لكن الواقع أوسع من ذلك، إنك ترى هذا الشاب يطرح هذا السؤال في كل مناسبة، ويلقيه في أكثر من لقاء، ويبقى مع ذلك في تطلع إلى الحل، يبقى يثير السؤال نفسه ويطرحه، ولهذا ترى أن السؤال الذي يطرح في هذا اللقاء هو السؤال الذي يطرح في لقاء الغد وربما من الشخص نفسه، وربما بنفس اللغه.(/2)
ومكمن الداء هنا انصراف الشاب عن الحل الحقيقي إلى البحث عما وراء ذلك، إن المعصية طريقها واضح لاخفاء فيه، وما نهى الله عز وجل الإنسان إلا عما يطيق تركه، والطاعة طريها لا يختلف عليه اثنان، وما أمر الله عز وجل الإنسان إلا بما يطيق، فلا يزيغ عن طريق الله عز وجل إلا هالك [لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها] ومع تكرار السؤال والإلحاح فيه دون جدوى يغيب عن الشاب أن الحل بيده، وأن العلاج ببساطة أن يترك ماكان يفعل أو يفعل ما كان يترك، وأن يجاهد نفسه على ذلك، وحين يفشل فلا يعني هذا أن هناك عشرون خطوة نسي هو الخطوة العشرين وهي العقدة والسبب في عدم الوصول إلى الحل، إن مكمن الداء وأساس المشكله هو ضعف الإيمان وضعف العزيمة والإرادة.
ولنعرض أيها الإخوة نماذج من الأسئلة التي كثيراً ما تصلنا حتى لا نحلق في الخيال: سؤال وصلني في احد الدروس يقول : إنني أعق والدي فما الحل ؟ إنني لا أملك أن أقول لهذا الشاب إلا: الحل أن لا تعق والديك، هل هناك حل أخر غير هذا الحل ؟ سؤال آخر يتكرر أيضاً " إنني أسمع الغناء وأريد أن أتخلص منه فما الحل؟ إنني شاب لي صحبة فاسدة وأريد أن أتخلى عنهم فكيف ذلك؟ لا استيقظ لصلاة الفجر فما الوسيلة لحل هذه المشكلة؟ مشكلتي أني أقع في العادة السرية وأجاهد نفسي لكني لا أستطيع تركها فما الحل؟ إنها قائمة كبيرة من الأسئلة تتكرر كثيراً، ويجاب عن السؤال ثم ترى السائل نفسه يعرض السؤال مرة أخرى، وبنفس اللغة وربما على الشخص نفسه، وهكذا يبقى في حلقة مفرغة.
لا اعتراض على أن يطرح الشاب مشكلاته، ولا نرفض أن يسأل أو يبحث عن الحل، ولا نعترض على المتحدث حين يجيب وحين يذكر خطوات للحل، لكننا نخشى أن تتحول القضية إلى عقدة يتصور الشاب بعد ذلك أنه معذور لأنه لم يصل إلى الآن إلى الحل.
زارني شاب جلس معي قرابة الساعة يشكو لي مشكلته، ثم قال :لقد ذهبت إلى فلان من طلبة العلم سبع مرات، وفلان كذا وكذا مرة، وفلان.. فقلت له : هل أنت مقتنع بعد ذلك مما عرضت لك أنه هو الحل؟ قال : لا، قلت أتريد حلاً لم تأت به الشريعة الإسلامية؟! لست أدري، المشكلة هي منك أنت وحدك، المشكلة أنك إنسان ضعيف الشخصية، ضعيف الإيمان، ضعيف العزيمة والإرادة هذه المشكلة أولاً وأخيراً.. فلا داعي أن تضيع أوقات الناس، وتشغلهم بهذا السؤال، إذا لم تستطع فكن صريحاً وواقعياً وأعلنها في نفسك إنني أنا ضعيف، وجاهد نفسك ولا داعي لإضاعة الوقت لأنك حين تبحث عن الحلول وحين تكثر السؤال عن الحل فإن هذا يهوَّن عليك بشاعة الخطأ الذي وقعت فيه، ويخفف عليك اللوم من نفسك وتأنيب الضمير لأنك تتصور أن هناك حلاً لا يملكه إلا رجل رأيته في المنام ولم تره في اليقظة، فأنت تسأل في كل مناسبة وكل لقاء علك أن تجد من رأيته في المنام وقد ترى ملك الموت فبل أن تجد ذلك الرجل.
لسنا نعترض على السؤال وعلى تناول المشكلات وعلى الحديث عنها، لكن حين تناولها يجب أن تناولها باقتصاد، ويجب أن تتصور مكمن الداء وأساس المشكلة، وحينما نجيب عن السؤال وعن المشكلة فيجب أن نوقف السائل على أن الحل بيده، وأن الحل ليس هذه الخطوات المحددة التي أعطيناه إياها.
خامسا: الورع البارد
في مقابل تلك الحجج السابقة هناك من يدرك تبعات العمل الجاد وتكاليفه على النفس، فلا يطيق الصبر ولا يستطيع أن يصارح نفسه بالكسل ويفاتحها بالخمول، فيقول حينئذ بأنه يتورع عن تحمل المسؤولية ويخاف من الأمانة، وكم نرى من نماذج ممن يملك القدرة والعلم والوقت فيضيع عمره سدى وأوقاته هداراًَ، وحين يدعى إلى العمل والمشاركة يعتذر بأنه ليس أهلا لذلك، وأن الأمانة أكبر والمسؤولية أشد مع أنه يعلم أن كثيراً ممن هم في الميدان من هؤلاء دونه بمراحل.
وبعضهم يسلك مسلكاً آخراً؛ فينتقد العاملين ويتحدث عن زلاتهم وأخطائهم، ويرى أن هذا الميدان من العمل فيه أخطاء عدة، والميدان الآخر فيه من الأخطاء كذا وكذا، ومن يحاضرون يخطؤن كذا، ومن يتصدرون حلق القرآن يخطؤن في كذا وكذا، ومن يربون الشباب يخطؤن في كذا وكذا، فيعطيك قائمة من الأخطاء للناس جميعاً.
وكثير مما يقال حول هذه الأخطاء والزلات قد لايكون نتاج اقتناع تام، بل هو صدر عن حيلة نفسية ومن رجل كسول لا يستطيع العمل ولا يطيق الصبر على تحمل أعباء الطريق ومشقته، فحينئذ لا مناص له من خيارين لا ثالث لهما، الخيار الأول أن يقول : إن أولئك عاملون جادون ناصحون، صادقون، وأنا رجل كسول فاشل، وهذا خيار صعب على النفس أن تقوله، فحينئذ يلجأ إلى الخيار الثاني فهو لا يطيق أن يتحمل ولا يطيق أن يضحي وأن يتخلى عن تلك الأوقات التي يقضيها مع أقرانه في الانبساط والأحاديث الجانبية، ويسافر هنا وهناك حيثما أراد فلا يطيق ذلك فحينئذ يعمد إلى حيلة نفسية فينتقد العاملين ويتحدث عن أخطائهم.
إنه يوهم نفسه بكثرة الأخطاء من العاملين حتى لا يرى الحقيقة حتى لا يرى أنه مقصر ومهمل ويصارح نفسه بالحقيقة المرة.(/3)
المصارحة على المستوى الجماعي
كل ما سبق على المستوى الفردي، أما على المستوى الجماعي فنمارس ذلك كثيراً، فمع هذه الصحوة المباركة واليقظة الخيرة لا بد من أخطاء وتجاوزات، ولاتساع نطاق الصحوة وامتداد رواقها لابد من أن تكون الأخطاء مكشوفة والعيوب ظاهرة، وفي المقابل فالتصحيح لا مناص منه ولا سبيل إليه إلا أن يكون تحت ضوء الشمس وبمستوى وضوح الأخطاء.
ولست أدري متى نتجاوز تلك المرحلة التي نمارس فيها دفن الأخطاء ومواراة العيوب والتستر على الحقائق باسم المصلحة؟ ومتى ننتهي من شهر سلاح إثارة الفتنة والبلبلة في وجه الناصح والمنتقد ويصبح هذا السلاح عصاًَ يلوح بها بين حين وآخر؛ فنمارس ألوان الإرهاب الفكري في وجه من يدعو إلى التقويم ومن يدعو إلى التصحيح ويسعى للإصلاح.. إن هذا هو المعوق الأول للمصارحة: خوف الفتنة والبلبلة وتفريق الصف فنمارس دفن الأخطاء والعيوب والتستر عليها حتى لا تكون هناك فتنة ولا بلبلة في وسط الصحوة وحتى تأتي الطامة الكبرى والبلبلة الكبرى بعد ذلك.
والمعوق الثاني : عقدة القنوات الخاصة :
هناك من ينادي وبصدق أن نقد المربين يسمعه المتربون، ونقد الأساتذة يقرأه الطلاب، ونقد الآباء صار بمحضر الأبناء، ومن ثم يدعو أولئك إلى أن يكون النقد من خلال قنوات وزوايا خاصة، لكن هذه القنوات ليس لها وجود إلا في أذهان أصحابها.
يستطيع الأب أن يوجه اللوم للأم في لقاء خاص، ويستطيع مدير المدرسة أن ينتقد الأساتذة وحدهم، لكن قطاعات الصحوة أكبر من ذلك كله، والحديث عن أخطائها لا يمكن إلا من خلال كلمة تسجل وتسمع في الآفاق من الجميع، أو مقالة تطبع وتقرأ من الكافة، وحين يسمع الجميع عن الخطأ فهذا مدعاة أن يعلموا أن قضيتهم في أيدي أمينة فهناك من يتحدث بالنيابة عنهم.
إن أخطاءنا لم تعد سراً ولم تعد خافية، فنحن مثلاً حين نتحدث عن أخطاء المربين فسيسمع ذلك المتربون حتماً ولا بد، ويقرأونه لأنه لا مجال للحديث إلا تحت ضوء الشمس.
إن خلاصنا الكرام من عقدة التلازم بين الخطأ والانحراف، فنتصور أن من وقع في الخطأ فهو منحرف، وأن من أخطأ مرة فهو فاشل، إن خلاصنا من هذه العقدة التي نفترضها يريحنا كثيراً من هاجس التخوف من المصارحة، فنتحدث بوضوح فنقول هذه أخطاؤنا ونحن مع ذلك ناجحون، هذه هي أخطاؤنا ومع ذلك لم نفكر بالفشل فهل نصل إلى هذا المستوى من النضج والتفكير؟ فنتحدث عن الأخطاء ونحن نشعر أننا ناجحون؟ نتحدث عن الزلات ونحن نشعر أننا ناصحون، نتحدث عن الهفوات ونحن نشعر أن تجاربنا ليست فاشلة.
إن هذا النتاج الذي نراه الآن بأم أعيننا نتاج جهد الجميع، وهو دليل واضح على النجاح، ولكن فشلنا في تجربة لا يعني أننا فاشلون وخطؤنا لا يعني أننا قد فقدنا الصواب حتى النهاية.
المعوق الثالث : استثمار الأعداء
إن مما يعيق المصارحة عن البعض التخوف من استثمار هذه الأخطاء والاتكاء عليها من قبل أعداء الصحوة، مع أن هذه الأخطاء لم تعد سراً أو أمراً لا يدركه إلا الخاصة. وسيأتي بإذن الله مزيد من الحديث عن هذا الجانب عندما يأتي الحديث عن المنهج القرآني.
المعوق الرابع : لا ينجو أحد من الخطأ
إن البشر من طبيعتهم الخطأ والقصور فهو ملازم لأعماهم وجهودهم، لكن ذلك ليس مسوغاً لارتكاب الخطأ والتهاون فيه، ولو ساغ ذلك لاحتج من يقع في الكبائر بأن بأن كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون.
إن العصمة لغير الأنبياء مطلب مستحيل، بل اعتقاد ذلك خلل في المنهج وانحراف في المعتقد؛ فلا بد من الخطأ والتقصير وهو ملازم للبشر، لكن هذا شيء وكونه وسيلة للدفاع عن الأخطاء شيء آخر.
أخيرا : بعد هذه المعوقات للمصارحة سواءً كانت على مستوى فردي أو مستوى جماعي، وبعد تلك الأعذار وتلك الأساليب والحجج التي نفتعلها لتكون عائقاً لنا وحاجزاً عن الوصول للحقيقة، بل نسلكها لتكون وسيلة ممارسة الكذب على أنفسنا نقف وقفات مع المنهج القرآني.
إننا نقرأ القرآن فنجد فيه عتاباً لمن ؟ لنبي الله صلى الله عليه وسلم، يقول الله عزوجل وفي سورة مكية : (( عبس وتولى. أن جاءه الأعمى... )) الآيات.
فيعاتب الله سبحانه وتعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم في آيات تتلى يقرأها المسلمون جميعاً، بل يسمعها كفار مكة ويجهر بها صلى الله عليه وسلم أمام الناس، ومع ذلك لم يكن هذا منقصاً لشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان بالإمكان أن يكون هذا العتاب رؤيا يراها النبي صلى الله عليه وسلم -ورؤيا الأنبياء وحي أو حق- أو كلمة يقولها له جبريل، لكن لحكمة بالغة يأتي هذا العتاب قرآناً يتلى إلى يوم القيامة، عتاباً للنبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ ليكون ذلك قدوة ومنهجاً للناس .(/4)
ونقرأ في القرآن العتاب بل الوعيد لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في كافة مراحل الدعوة كلها، فنقرأ في القرآن المكي قوله تعالى (( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون )).
ويهاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ويستقر هناك ويعيش المسلون ويخوضون أول معركة كانت فرقاناً بين الحق والباطل وهي معركة بدر وصارت تلك المعركة شهادة لكل من خاضها وعاش فيها، وقال الله لهم: " اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم " ومع ذلك يواجَهُ أولئك بعتاب يقول الله عز وجل فيه (( ما كان للنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم. ولولا كتابٌ من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم )).
ثم تدور الأيام فتأتي بعدها غزوة أحد، ويعاتب أولئك أيضاً في عتاب صريح وإيقاف على مكمن الداء وأساس المشكلة (( أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم )) ثم يقول الله عز وجل (( ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين. إذ تصعدون ولا تلون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غماً بغم لكي لا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم )) (( وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك ))
ولهذا قال أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ما كنت أعلم أن منا من يريد الدنيا حتى نزلت هذه الآية.
ولا يتوقف العتاب فيتكرر في حادثة الإفك حين أشاع أحد المنافقين فرية فماجت في صف المجتمع المسلم فجاء ذلك العتاب والوعيد الشديد (( ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والأخرة لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم ))
وفي غزوة حنين وهي من آخر المشاهد يقول الله عز وجل (( ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا) الآية.
وهكذا نقرأ في القرآن الكريم آيات عظيمة يواجه فيها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعتاب يسمعه المنافقون أعداء الله ورسوله، ويسمعه اليهود وأهل الكتاب، ويسمعه كفار قريش والمشركون الذين يتربصون الدوائر ويبقى هذا القرآن يتلى إلى قيام الساعة ومع ذلك كله لم يكن هذا مانعاً أن يكون أولئك خير القرون كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم " خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم " ومع ذلك لم يكن ذلك كله مانعاً لأن يكون أولئك أمنة لهذه الأمة يقول عليه السلام " النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون" ثم إن أولئك كلهم ممن قال الله عزوجل فيهم (( وكلاً وعد الله الحسنى )) ومعيار النجاة إلى يوم القيامة هو اقتفاء أثر ذلك الجيل؛ فقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال :"من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي".
لقد كان ذلك النقد ضرورة للتربية والبناء، ومع ذلك لم يك معوقاً لذلك الجيل ولتلك النخبة أن تصل لتلك المنزلة، فما بالنا نضع أبراجاً عاجيَّة، ونضع حول أنفسنا أسواراً من الأسلاك الشائكة خوفا من النقد الذي نتصور أنه يعني الفشل، ويعني إثارة الفتنة واستثمار الأعداء لهذه الفرص، إلى غير ذلك من الأوهام التي نفتعلها لنخادع أنفسنا ولنمارس حجب الحقائق عن أنفسنا و الركام والعشى على أعيننا حتى لا نرى الحقيقة، وخير لنا أن نراها.
آثار تخلف المصارحة
إن إهمال المصارحة وممارسة التستر على العيوب ومخادعة النفس يولد آثاراً سيئة، منها:
أن تصبح الأخطاء جزءاً من تفكيرنا
إن ممارسة حجب الحقائق سواء كنا أفراداً أو جماعات مدعاة إلى استفحال الأخطاء واستمرارها واستمرائها حتى تتحول هذه الأخطاء إلى جزء من تفكيرنا، فنصبح نتفكر بمنظار هذه الأخطاء و نستنكر على كل ناصح ومنتقد.
فتح المجال أمام المفسدين
إن إهمال المصارحة يعني فتح الباب على مصراعيه أمام من ينتقد وهو لايريد الإصلاح ، فهناك من يرتزق ويكتسب من نقد الصحوة أو الطعن في رموزها وبرامجها ووسائلها ، وحينما نمارس حجب الحقائق ونسكت الأصوات الناصحة الصادقة فإننا نفتح المجال لأولئك لماذ ؟ لأن أولئك الذين يتاجرون لابد أن يجدواأخطاء تقع فعلاً ، فيضخمونها ويبالغون فيها .(/5)
وحين تحدث هؤلاء مع الذين لم يتعادوا أن يسمعوا إلا الثناء ولم يعتادوا أن يسمعوا النقد، ويرون أن أولئك يتحدثون عن واقع فسوف يستمعون ويستجيبون لأولئك المنتقدين. لكن لو بنينا منهجاً نقدياً صحيحاً للنقد وكنا صرحاء واضحين وسمعنا للصوت الناصح الذي يتحدث بحكمة؛ فينتقد الأخطاء ويضع الأخطاء في موقعها الشرعي لم يجد أولئك مكانا ًومجالاً لترويج مقولاتهم، ولكان أقلنا تفكيراً وأضعفنا إدراكاً يستطيع أن يقول وبأعلى صوته لأولئك نعم إن ما تقولونه فيه جزء من الحقيقة ولكن هذا لا يعني الفشل، ولا يعني أن كل ما تقولونه هو الحق، وهذا لا يعني سلامة نيتكم ومقصدكم وإرادتكم.
إنه لا سبيل لتجاوز هذه العقبات ولا سبيل لإسكات تلك الأصوات إلا ببناء منهج للنقد واضح وصريح، فتحدث فيه عن أخطائنا تحت ضوء الشمس وفي وضح النهار.
فشل المشروعات الإصلاحية
من نتائج حجب الحقائق السقوط في النهاية؛ لأن الحواجز التي نفرضها تبقى حواجز مؤقتة فلا بد أن يكتشف الناس الخطأ بعد ذلك ولأضرب لكم مثلاً واقعياً.
الجهاد الأفغاني: بدأ في وقت نسيت فيه الأمة الجهاد، حتى صار من يدَّرس الفقه يقفز باب الجهاد لأنه شعر أنه يتحدث عن غير الواقع فقام هذا الجهاد وأحيا هذه الفريضة في الأمة، وكان طبيعياً أن يكون في هذا الجهاد خطأ وقصور وتجاوزات، والجهاد الأفغاني والأمة الأفغانية جزء من الأمة لا يمكن أن نفصل أمراضنا عن أمراضها، فكان طبيعياً أن تمتد أمراض الأمة إلى الجهاد الأفغاني، ومن باب أولى أن تمتد أمراض العمل الإسلامي والصحوة إلى الجهاد الأفغاني؛ فكان في الصف منافقون ومرتزقة وأصوليون، كان في الصف من يريد السلطة ومن يريد الفرقة والفتنة، كان في الصف أخطاء ومع ذلك لم تكن تلك الأخطاء مخرجة للجهاد عن كونه جهاداً شرعياًً قام بواجب شرعي، ولم تكن تلك الأخطاء مخرجة لذلك الجهاد عن كونه جهاداً يجب على الأمة أن تدعمه وأن تقف معه، ولكن ما الذي كان يدور ؟ كنا نتحدث في ذلك الوقت وبعاطفة جياشة عن أولئك المجاهدين، وكأنهم صحابة أو تابعون، ونبالغ في سوق الكرامات والقصص والتي كثير منها لا أصل لها، وكثير منها كان مصدرها أصحاب الطرق وغيرهم ممن يتاجرون بمثل ذلك، ونساهم في إخفاء الحقائق أمام الناس، وحين يقع خطأ ظاهر نسارع في البحث عن تسويغه وتنزيه الصورة، فهذا الخطأ يفتعله الأعداء ويثيره المرجفون، الأعداء هم الذين يسعون إلى تفريق المجاهدين، الأعداء هم الذين يفعلون، الأعداء هم الذين يحركون المؤامرات، وحين يدخل وجل منافق في الصف يقال ليس صحيحاً هذا الأمر لقد تاب ورجع إلى الله عز و جل.
وحينما بدت أصوات ناصحة تحذر المجاهدين وتقول لهم إن في الصف منافقون، تقول لهم لا بد من تنقية الصف، لابد من مراجعة، لابد من مناصحة، وُوجهت تلك الأصوات الناصحة بأن هذا يعني الطعن في الجهاد، وأن هذا يعني الوقوف مع الأعداء في خندق واحد، وأن هذا يعني الوقوف ضد الجهاد إلى غير ذلك، وصارت تُمارس ألوان الإرهاب الفكري ضد هؤلاء بأنهم ضد الجهاد وبأنهم يثبطون ويصدون إلى غير ذلك.
وحينما تواجه هذا المتحدث في لقاء خاص وحديث صريح يقول لك أعترف بأن هناك أخطاء ولكن حين نقول هذه الأخطاء أمام العامة لممن يدعموا الجهاد فمن المصلحة أن نستر هذه الأخطاء والعيوب حينما تقوم الدولة الإسلامية بإذن الله ستتجاوز هذه الأخطاء والعيوب وكان ما كان وحان قطف الثمر وصارت النتيجة التي سمعتم عنها فتخلى الناس عن الجهاد حتى سمعنا ممن ذهب ابنه بإذن الله شهيداً في تلك البقاع من يتندم ويبكي ويقول كيف يذهب ابني شهيداً في هذه الصفوف وسمعنا العامة يقولون إن أولئك دجالون كذابون أخذوا أموالنا إلى غير ذلك وصاروا يتهمون الدعاة بأنهم خدعوهم بأن الدعاة مغفلين خدعوا، إلى غير ذلك أرأيتم ما النتيجة التي جنيناها ؟ ما رأيكم لو كنا صرحاء منذ البداية وقلنا للناس معشر المسلمين إن هذا جهاد وفيه أخطاء وفيه كذا وكذا.. ولكن هذه الأخطاء لا تمنع من دعمهم لا تمنع من التصحيح وكنا نقول وبوضوح للمجاهدين إن لديكم أخطاء صححوا كذا افعلوا كذا اصنعوا كذا من البداية لكان هذا مدعاة لئن يعي الناس لأن يستعدوا حتى ولو لم يصحح الخطأ بقبول النتيجة المؤلمة التي صار إليها الواقع التي صار الجميع يندمون على تلك الأموال التي يظنون أنهم أاعوها هدراً وذهبت سداً.
إن هذه النتيجة معشر الإخوة الكرام نحن مسؤلون عنها لأننا مارسنا حجب الحقيقة ولنتجاوز هذا الحدث ولا داعي لإثارة الماضي والرجل الجاد لا ينظر إلا أمامه ولنعتبر من تلك الأحداث ولنكن في المستقبل صرحاء مع أنفسنا صرحاء مع الناس ولنعرف أننا مهما مارسنا حجب الحقائق ومهما مارسنا افتعال الأسوار الشائكة فإن الناس لا بد لهم أن يعرفوا الحقائق فخير لنا أن يكون صرحاء مع أنفسنا أفراداً وجماعات مع الناس ومع أنفسنا حتى لا نجد تلك الثمرة والمرارة المؤلمة.(/6)
وأخيراً فمع الدعوة للمصارحة لابد من الاعتدال والتوازن فلا يفرط الفرد ويبالغ في النظر إلى أخطائه فيحمل نفسة أخطاء لا يتحملها بحجة المصارحة أو يبالغ فلا ينظر لنفسه إلا من زاوية واحدة وهي زاوية الخطأ وحده فحينئذ يصل إلى نهاية مفادها أنه لا يحمل إلا الأخطاء.
وعلى مستوى الجماعة أيضاً فليس كل ما يعلم يقال ولكل مقام مقال ونحن حين نطالب نبتعد والنقد الواضح في هذا لا يعني أن كل خطأ نعلمه أن نتحدث في كل مناسبة وكل لقاء فلكل مقام مقال ولا شك في ذلك وحينما ندعو للمصارحة فإن هذا لا يعني أن يغيب عن بالنا أيضاً النهج الشرعي في ذلك أمر معروف للجميع وهذا ليس مكان للتفصيل فيه وأما يتكلم ومتى وأين هذا له حديث آخر، ولكن أقصد أننا حينما نتحدث عن الدعوة للمصارحة سواء على مستوى الفرد أو الجماعة فإننا مع ذلك يجب أن نعلم أنه ينبغي أن يبقي في دائرة التوسط والاعتدال فلا نفرط نحن معشر الأفراد في النظر إلى أخطائنا وعيوبنا فنحمل أنفسنا أخطاء لا نتحمله لأن الخطأ في أن نفرط في الحديث عن أخطاء الصحوة بمناسبة أو غير مناسبة مما يكون مدعة للخلل في المنهج الشرعي ونشوء مفاسد تترتب على ذلك.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/7)
دعوني أُذبح بأنفلونزا الطيور
د.وسيم فتح الله
</TD
الغوث الغوث معاشر المسلمين، الغوث لمعاشر الطيور المدجنين، أما علمتم بمذابح الطير والدجاج، أما سمعتم بأنهار الدم الثجَّاج، في كل بلاد الكفر يستبيحوننا، يقتلوننا يسفكون دماءنا كالنعاج، وها أنا رسول قومي لدار المسلمين، تلك التي فيها الحاكم الأمين، أظنكم تسمونه ولي الأمرِ، يأمر بالخير وينهى عن الشرِ، وأن من شيمه نصرة المظلوم، وجبر الكسير ومداواة المكلوم، فواغوثاه معاشر الإسلام، أدركونا قبل انقراض الدجاج والحمام، أجابوه: مهلاً أيها الرسول، فمقابلة الحاكم أمر مهول، فهون عليك في هذا المقام، وحدثنا حديث الدجاج والحمام...
جلس رسول الدجاج يلتقط أنفاسه، وهو يتوسم فيمن حوله الكياسة، رأوا في عينيه الخوف والهلع، فسألوه: ما بال قلبك قد انخلع، أجاب الرسول: لو رأيتم ما نجوت منه لأصابكم الذهول، فمذابح الدجاج لدينا كغزو المغول، خرابٌ هلاكٌ شديدٌ دمار، أتى على كل شيء مثل التتار، جاؤوا بليلةٍ هادئةٍ ساكنة، وغدروا بنا قبل أن نحرك ساكناً، وكانوا قد مكروا بالليل والنهار، وحرضوا الناس علينا في بلاد الكفار، أوهموهم أن الدجاج خطرٌ على الأمن والسلامة، وزعموا أن تحت أجنحتنا أهوال يوم القيامة، قالوا: لا تنخدعوا بأن الدجاج أقلية تعيش في وئام، ولا تنساقوا وراء غصن الزيتون يحمله الحمام، فحقيقة حال الطيور أمرٌ خطير، فقد سمعنا في همهماتهم التسبيح والتكبير، وإن هذا لعمركم شرٌ مستطير، فلا نأمن أن تسري العدوى من الطيور إلى البشر، فيُسبِّح الناس بحمد الله ويستشري الخطر، وما علموا أن شأننا هذا شأن كل مخلوق، نسبح بحمد الخالق ولرضاه نتوق، ولا نُرضي سواه بالتبجيل والتعظيم، ولا نسجد لأصنام الكفر ونذعن بالتسليم، فقاطع الحُجَّابُ كلام رسول الدجاج، وأخذهم العجب وأخذوا في اللجاج: كيف تقول أيها الرسول هذا الكلام، كيف لا تأتمرون بأمرهم وتخضعون للحكام؟ ألم تعلموا أن الحاكم واجب الطاعة، وأنكم لا تملكون لرأيه إلا سماعاً؟ فقال رسول الدجاج: مهلاً إنه حاكم كافر ألا تسمعون؟ أجابوه: كيف تُكفِّر الحاكم أيها المأفون؟ دع عنك دعوى الخروج وهذه الأوهام، واترك الأمر لأهل العلم والكلام، وحدثنا حديثاً يروق لمولانا السلطان، حدثنا وارجع بنا إلى حديث الطير والحمام....
حسناً قال الرسول سأحكي لكم الحكاية، وحتى تعوا قولي سأعود إلى البداية، كنا سرباً من الحمام والطير الهجين، وكنا في إحدى القرى الفقيرة من ديار المسلمين، لم يكن يعجبنا العلف النباتي والتبن والشعير، وسعينا لتحسين مداجننا بالعيش الوفير، هاجرنا إلى بلاد المال ومداجن الهرمونات، ولم نبال بكفرها فإن الدين فينا قد مات، وبدأنا نتقلب من حالة إلى حالة، منذ أعلفونا بالنجاسة كما تُعلف الجلّالة، وازداد تراكم النجس في لحومنا حتى ران على القلوب، وترعرعنا في مداجن الكفار بشتى أنواع الحبوب، ولكن كان علينا أن نقدم ثمناً مقابل هذا الربح، فنتقرب كل شهرٍ ببعضنا قرباناً للذبح، فكانوا يُذَبِّحون منا الذكور، ويستحيون الإناث للإباضة وتكثير الطيور، وهكذا كنا في بلد الكفر والثبور، نبيع عِرض إناثنا ويقتل منا الذكور، هم ينتفعون منا غاية الانتفاع، ونحن سادرون في ملاهي الدواجن كالرعاع، حتى تغير الحال يوماً وغرد بعض الطير خارج السرب، فأحيوا عقيدة التوحيد وردوا على الكفر بالحرب، وأخذت شمس التوحيد لدينا في الشروق، فما قيمة عيشٍ رغيد تحت عبودية المخلوق، وأعلن هؤلاء بالتهلليل والتكبير ، وعندها أدرك أصحاب المداجن أن الأمر خطير، فأعلنوا الحرب شعواء على الموحدين، وبدأت مرحلة جديدة من التدجين، ولكن ما سيأتي من الأحداث أمر حزين، فدعوني ألتقط أنفاسي يا كرام، قبل أن نعود لحديث الطير والحمام...(/1)
نعم بدأت مرحلةٌ جديدة من التدجين، هدفها المعلن تطهير الدجاج وتطييبه للآكلين، فالكفار يزعمون أنهم يحبون الطهارة، وأنهم بالحرية والسلام أهل الجدارة، وهم أهل التقدم العلمي والسلام، ويهدفون إلى التعايش في أمنٍ ووئام، فللمداجن مثلاً قوانين وضوابط للسلامة، ولا يسمح لطيرٍ بمخالفتها ولا لحمامة، وأيما دجاجة خرجت عن النظام، كان مصيرها الذبح على الدوام، وإذا ما ظهرت لدى الدجاج نزعة نحو الحرية، سارعوا بإرسال فرق الاغتيال السرية، يسمون ذلك علاجاً استباقياً، ويذبحون الدجاج بالمئات ذبحاً وقائياً، ولما كثرت عندهم حالات تمرد الدجاج، أمعنوا البحث في شأنه وزاد اللجاج، وقرروا أنه لا بد من تحري منابع هذا التمرد الخطير، حتى يسعوا لجذوره بالاجتثاث والتدمير، وتذكروا أن دجاجنا مهاجرٌ من تلك القرية المسلمة، فكان التحريق والتدمير لها نتيجة محتمة، ووضعوا بعد ذلك خطة محكمة، لتجفيف منابع الطيور المحرَّمة، فراسلوا أصحاب المداجن في كل البقاع والديار، سواء أكانت ديار المسلمين أو الكفار، ووضعوا أجهزة رقابة متقنة، ليراقبوا بها كل قنٍ ومدجنة، واخترعوا تهمةً باطلةً وروجوا للفتنة، وادعوا أن الطير يحمل وباءً ومحنة، وأعلنوا حملةً شعواء على الطير المثبور، بدعوى القضاء على انفلونزا الطيور، ولربما قتلوا مع ذلك الشاة والعنزة، إمعاناً في التهويل من داء الانفلونزا، وبعد أن أحكموا الخطة وأجمعوا الآراء، بدأوا بذبحنا وبسفك الدماء، أحرقوا المداجن وسفكوا دم أبريائنا، وتعاون معهم للأسف بعض أشقيائنا، دلُّوهم على عوراتنا ومكان الاختباء، ضحكوا في وجوهنا وتعاونوا معهم في الخفاء، وقد نجى البعض بفضل الله من تلك المذابح، وتفرقنا في البلاد نستجير بعد الله بحاكمٍ صالح، فهلا أدخلتموني الآن على السلطان، فالأمر جِدُّ خطيرٌ أيها الإخوان، لعلي أدرك من بقي من الدجاج والطيور، قبل أن يعمل الكفار فيهم السكين والساطور، قالوا: حسناً سنكلم في شأنك ولي أمرنا الحاكم، ولكن بعد استيقاظه فإنه الآن نائم، وليس الأمر كما تهوِّل جِدُّ خطير، فكم جاءنا من قبلك هاربٌ مستجير، فاصبر قليلاً أيها الرسول الهمام، فقريباً ستحكي لحاكمنا قصة الدجاج والحمام...
ودخل الرسول على الحاكم النائم، بعد أن استيقظ من سباته على نغمٍ موسيقي حالم، ما قصتك أيها الرسول؟ أسرع فإنني كما ترى مشغول، فعندي اليوم مراسيم احتفالية مهمة، فلقد ترشحت غانياتنا لمسابقات القمة، وهي مناسبةٌ احتفالية عريقة، سيحضرها رؤساء الدول الصديقة، هيا تكلم على عجل، فقال الرسول على وجل: هل أتكلم وعليَّ الأمان، قال تكلم عليك الأمان، قال: أيها الحاكم يا ولي أمر البلاد، قد أهلكوا الحرث وقتلوا العباد، جاؤوا بحجةٍ فيها الويل والثبور، وقالوا نحن مصابون بإنفلونزا الطيور، وإن لم يتم القضاء علينا سريعاً، فسينتشر مرضنا في العالم انتشاراً مريعاً، فأعملوا فينا السكاكين وسفكوا الدماء، ولم ينج منا طيرٌ ولا ببغاء، وإنها لعمرك تهمة باطلة وكذب بواح، غايتهم منها أن يصير الدم مستباح، والسر أننا في الأصل من مداجن المسلمين، وها قد أتيناك من بعد الله بك مستجيرين، فما قولك أيها الحاكم، أليست في الإسلام رعايةٌ للبهائم، فتململ الحاكم متضجراً قال:دعني أختصر لك الطريق، فإن بيننا وبين القوم عهود ومواثيق، وإن كان نصركم واجباً من الواجبات، لكننا لا نستطيع التضحية بتلك الصداقات، وها هم رؤساء تلك البلاد ضيوفي الليلة على مسابقة الغناء، فكيف أفرط فيهم بعد كل هذا العناء ، أما سمعتعم أنا هزمناهم شر هزيمة في المسابقات، وقدمنا صورةً مشرقةً للمسلمين والمسلمات،فكيف أضحي بذلك لأجل بعض المدجنين، ألا تعي فقه المصالح يا مسكين؟! وهنا غمز الوزيرُ الحاكمَ غمزةً خفية، ليذكره أن له مع القوم اتفاقية أمنية، فهز الحاكم رأسه وفهم الرسول الرسالة، فقال :على رسلك أيها الحاكم قد رددت أمانك، ولا داعي أن تتعب نفسك أو تبارح مكانك، ولا داعي لأن تأمر حراسك بتسليمي لأصدقائك، فإني راجعٌ من حيث أتيت لا أبغي جوارك، إني لم أهرب أنا وقومي من ذبح السكاكين، كي يسلمني إلى عدوي حاكمٌ خائنٌ لعين، وإن كان هذا قدري فلسوف أختصر إلى الشهادة الطريق، وأمضي في بلاد الله هارباً مطلوباً في كل وادٍ وطريق، عُد إلى غانيتك والقصر والخمَّارة، عُد إلى أهل الحل والعقد والإمارة، ، ودعني أُذبح وأسلمني للهلاك والثبور، دعني أُذبح لا بيدك ولكن بأنفلونزا الطيور ......
وغادر رسول الدجاج ديار المسلمين، غادرها والقلب منه مفطورٌ حزين، ومزق بجناحيه بطاقات الدعوى لحفل الغناء، وتولى ولي الأمر لتوزيع الجوائز على أهل البغاء، اطعنوني بخنجرٍ اقتلوني بسمٍ اذبحوني بسكين، ولكن لا تخفروا ذمة الله ورسوله لا تتاجروا بالدين، ولا تجعلوا ثمن قصور دنياكم أعراض المسلمين، اقتلوني بكل شيء ولكن لا تبيعوا الدين بالقشور، اقتلوني بكل شيء اقتلوني بأنفلونزا الطيور.....(/2)
دفاع عن الأسوة الحسنة
هبة الله محمد نعمان
واجب على المسلمين، أن يعرفوا رسولهم الكريم ص معرفة جيدة، فهو الرسول النبي ص، المدرسة التي يجب أن نتربى في ربوعها، والمعلم الذي ينبغي أن نسير على نهجه.
عن أنس قال: قال رسول الله ص: "والله لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين" (صحيح البخاري).
وإني أوجه دعوة إلى الآباء والأمهات، أن يتعرفوا سيرة رسولنا الكريم، وحياته ويرووها على أولادهم، ويعلموهم ويتعلموا معهم، كيفية الدفاع عنه ص، أمام كل من يحاول أن ينقص من شأنه، ومن يحاول أن ينال منه، ولِمَ لا وقد تولى الله تعالى بذاته العلية الدفاع عنه ص فقال: إن شانئك هو الأبتر (3)؟ (الكوثر).
فالرسول الخاتم، يا من تقولون إنه كان يتزوج ليرضي رغبات، أو نزوات، أو شهوات، ما كان يتزوج إلا لأهداف سامية وغايات نبيلة، ربما لا تدركها أذهانكم وعقولكم.
فتعالوا نقص عليكم زيجاته ص:
تزوج ص وهو في الخامسة والعشرين من عمره، في زمن كان يتزوج فيه الفتيان في سن الرابعة عشرة والخامسة عشرة، ومن تزوج؟ السيدة خديجة، رضي الله عنها، وكان عمرها أربعين سنة، أرملة رجلين وعندها بنت وولدان، وعاش معها، ولم يتزوج عليها حتى ماتت وعمره ص خمسون عاماً، ومكث بدون زواج سنتين، ثم تزوج السيدة سودة بنت زمعة، أول أرملة في الإسلام، فقد هاجرت مع زوجها الهجرة الثانية إلى الحبشة، ثم مات الزوج، فأصبحت وحيدة مضطهدة من أهلها الذين لم يسلموا، وكانت رضي الله عنها مسنة، غير ذات جمال، في الثمانين من عمرها، أي لا يرغب فيها الرجال، فكان زواج الرسول ص منها رحمة بها، في كبرها، ولرعاية بناتها الأيتام، ولتخفيف عداوة قومها "بني عبدشمس أعداء الرسول وأعداء بني هاشم".
بعدها، تزوج عائشة بنت الصديق رضي الله عنهما، وكانت تبلغ من العمر تسع سنوات، فتاة لاتزال تلعب مع رفيقاتها بالدمى، وعائشة هي البكر الوحيدة التي تزوجها محمد ص، أما الباقيات من أمهات المؤمنين، فكلهن ثيبات، كانت منهن المسلمة والمشركة واليهودية والنصرانية ولكنهن اعتنقن الإسلام قبل الزواج.
وكانت زيجاته ص جميعها بأمر من الله، ولرعاية الأرملة وأولادها أو لنشر الإسلام أو لتأليف القلوب أو لتقوية الإسلام وتعضيده وكلها أهداف سامية.
وتزوج ص من بنات الأصدقاء وبنات الأعداء من أجل الدعوة إلى الإسلام، حتى انتشر الإسلام بعد وفاته على يد صحابته من المحيط غرباً إلى الصين شرقاً.
أي أن محمداً الرجل تزوج واحدة فقط، وهي السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها أما محمد الرسول النبي ص فتزوج إحدى عشرة زوجة.
حتى نزلت الآية الكريمة قبل موته بثلاث سنوات ص:
لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك وكان الله على" كل شيء رقيبا 52 (الأحزاب).
فكما كانت له ص خصوصية الزيادة، كانت عليه كذلك خصوصية المنع، من الزواج بأمر من الله، فهل يعقل أن يدعي مدعٍ بعد ذلك أو يتخرص متخرص أن النبي ص كان مزواجاً أو أنه كان يسعى لإشباع رغباته!!.(/1)
دفاعا عن الترابي أم طعنا في الشريعة؟؟ ... حسن عبد الحميد*
البيان الكارثة
السياسي السوداني الكبير في منتصف السبعينيات ـ أيام المعارضة لنظام مايو ـ حينما ضاق ذرعا بتطلعات وطموحات منافسه السياسي زعيم الحزب الآخر أطلق مقولة بلغت الآفاق وصارت مثلا، قال: ( هذا الرجل ـ يعني منافسه السياسي ـ إذا رأى جمعا يلتف حول عريس تمنى أن يكون هو العريس، وإذا رأى جمعا يلتف حول جنازة تمنى أن يكون هو المتوفي ) وهذه العبارة تفسر كثيرا من تصرفات بعض السياسيين السودانيين. جلسنا في الأيام الماضية مع أحد قادة الحركة الإسلامية في السودان، فقال لنا : ( الترابي يريد بآرائه الشاذه التي يطلقها هذه الأيام أن يشتهر، وسنحقق له رغبته ولكن على نحو آخر بتفنيد هذه الآراء وبيان شذوذها وفسادها).
ويوم السبت الماضي 22/4/2006م كان يوما مثيرا فيما يتعلق بآراء الترابي، ففي هذا اليوم كان اتحاد جامعة الخرطوم يستضيف الترابي ليمارس هوايته في الإثارة وانتزاع التصفيق ولو كان من أكف اليساريين والعلمانيين وبقايا الجمهوريين، وفي نفس الأمسية وعلى بعد أمتار منه كان المشايخ في الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة يعقدون مؤتمرا صحفيا ويفتون بكفر وردة الترابي، وفي نفس اليوم ظهرا كانت ثلة مختلطة من تيارات متنافرة تجتمع في مقر المنظمة السودانية لحقوق الإنسان بالعمارات لتدافع عن الترابي، ثم تمضي قدما لتطالب بإلغاء المادة 126 من القانون الجنائي السودان، وهي المادة المتعلقة بحد الردة، وهاهنا مجموعة من المفارقات تطل برأسها.
أولى هذه المفارقات أن المادة التي طالب المجتمعون بإلغائها كان من أثبتها في القانون الجنائي السوداني ـ أو سكت على إثباتها ـ هو الترابي نفسه!! والمعلوم أن هذه المادة دخلت القانون الجنائي السوداني أواخر أيام الرئيس النميري حينما أصدر مجموعة من القوانين في العام 1983م أطلق عليها العلمانيون ـ ومن لف لفهم ـ قوانين سبتمبر تحاشيا لذكر الشريعة الإسلامية التي كانت مثبتة في عدد من تلك القوانين، وكان الترابي حينها مستشارا لرئيس الجمهورية وحليفا أساسيا لنظام مايو. ثم لما انتهى عهد النميري بعد انتفاضة أبريل 1985م وتشكلت الحكومات الديمقراطية لم تستطع إلغاء هذه المواد، ولما أصبح الترابي نائبا عاما أيام حكومة الوفاق في العام 1988م وتقدم بمشروع القانون الجنائي السوداني أثبت فيه هذه المادة أيضا، إذ أن الترابي رغم عدم اقتناعه بقتل المرتد؛ إلا أنه لم يستطع أن يخالف الرأي العام في الجبهة الإسلامية التي يتزعمها آنذاك والتي يرى قادتها ـ وقواعدها ـ أنه لا بد من إثبات هذا الحد. ثم لما أصبح الترابي متنفذا في عهد الإنقاذ الأول ـ قبل قرارات ديسمبر 1999م ـ تم إثبات هذه المادة في القانون الجنائي السوداني، ولم نسمع من الترابي مطالبة بإلغائها، فإذا كان الترابي نفسه الذي تدافع عنه هذه المجموعة هذا هو تاريخه مع هذه المادة؛ فهل رأيتم اصطيادا في الماء العكر أسوأ من هذا الصنيع؟
ومفارقة أخرى تبرز حينما تطالع أسماء المجموعة التي تطالب بمثل هذا المطلب، ولا أعني مجموعة العلمانيين واليساريين الذين لا يُستغرب منهم مثل هذا، لكن يفاجأ المرء حينما يرى أن من بين المطالبين بإلغاء هذه المادة ـ رغم أنها تستند إلى أصل شرعي ـ أمثال الدكتور الطيب زين العابدين أحد أبرز الإسلاميين في العقدين الماضيين، والدكتور محمد محجوب هارون، وأبوبكر عبد الرازق، والأخيرين أيضا من الإسلاميين الذين ظلوا يدافعون عن حاكمية الشريعة ردحا من الزمن، وإن كان آخرهم من التلاميذ المخلصين للترابي؛ لكني لم أكن أتصور أن يتجاوزوا الحدود الشرعية دفاعا عن رأي شاذ لم يستطع صاحبه حينما كان متنفذا أن يدافع عنه.
ولا تنتهي المفارقات حينما تطالع من بين المطالبين بإلغاء هذه المادة اثنتان من نساء الأنصار: رباح الصادق المهدي، وسارة نقد الله. والسؤال موجه لجماهير الأنصار، هل تمثلكم هذه الآراء وتستطيعون أن تدافعوا عنها؟ وهل هذا الآراء تشبه تراث المهدية ورجالها؟ أفتونا يرحمكم الله.
أيها الناس..
لا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون.(/1)
دفاعا عن محمد صلى الله عليه وسلم
خطبة جمعة بمسجد محمد الفاتح
أعدها
أبو البراء عادل باناعمة
20/12/1426هـ
الحمد لله ذي القدرة القاهرة ، و الآيات الباهرة ، و الآلاء الظاهرة ، و النعم المتظاهرة ، حمدا يؤذن بمزيد نعمه ، و يكون حصنا مانعا من نقمه ، وصلى الله على خير الأولين و الآخرين ، من النبيين و الصديقين ، سيدنا محمد النبي ، و الرسول الأمي ، ذي الشرف العلي ، و الخلق السني ، و الكرم المرضي ، و على آله الكرام ، و أتباعه سرج الظلام ، ما امتد الدهر و تعاقبت الأيام .
و بعد فإن الله أمر بالتقوى ، في السر و الجهر ، و الخفاء و العلن ، لأنه سبحانه يسمع النجوى ، و يعلم السر و أخفى .
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته … }
{ يا أيها الناس اتقوا ربكم … }
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و قولوا قولا سديدً … }
اللهم إنا نعوذ بك من أن قول كلمة لا ترضاها ، و نبرأ إليك من كل زلة غفل عنها القلب أو طاش بها الرأي ، و نضرع إليك أن تجعل حياتنا كلها و أوقاتنا كلها و أعمارنا كلها خدمة لك و لدينك ولكتابك .
وبعد ،،،
أن تجيءَ متأخراً خيرٌ من ألا تجيء ...
كان هذا ما انقدح في ذهني وأنا أقلّب النظر في هذا الموضوع الخطير ..
كنت أمرُّ بحالةٍ غريبةٍ من الذهولِ الفكريّ ، والجمودِ الروحيِّ ، ألهتْني عن متابعةِ الحدثِ في وقتِهِ ، والتعليقِ عليه في إبّانِهِ ...
غيبوبةٌ هي إلا أنَّ صاحبها يتحرك ويمشي ويتكلمُ ويناقشُ !!!
وانفصالٌ عن الحياةِ تبقى معه الحياةُ !!!
موتٌ كلا موتٍ ، أو حياةٌ كلا حياةٍ ..
لا فرقَ .. فالأمرُ كما قالَ الشاعرُ :
نهضَ الموتى ! هوى من لم يمت !
كالنعاس الموت ؟ لا شيء ! خرافهْ !! [ البردوني ]
ولعلي لم أكنْ وحدي ..
فقد كان ثمّتَ ذهولٌ عميقٌ يلفُّ العالم الإسلاميّ من أقصاهُ إلى أقصاهُ !!
ذهولٌ بدتْ معه كل ردود الفعلِ أشبه بفرقعةٍ خافتةٍ في جوف قبوٍ هائلٍ مظلمٍ ...
ذهولٌ يشبهُ حالةَ بائسٍ مسكينٍ تخبّطه الضياعُ في متاهةٍ عقيمةٍ ، فآنسَ من جانب الجدارِ باباً ظنّ فيه نجاتَهُ ، فلما جاءهُ وجده أشدّ شيءٍ ظلمةً ووحشةً !! فانكفأ يلوكُ بين شدقيهِ عبارة ( إلى متى ) ؟!!
ثلاثةُ أشهرٍ وعشرونَ يوماً مرت منذ أن تجرأت صحيفةُ ( جيلاندز بوستن ) الدانمركيّة على الإساءةِ لنبيّنا صلى الله عليه وسلم أشرفِ مخلوقٍ ، وأطهرِ إنسانِ ، وأرفعَ من خطا على هذه البسيطةِ .
فهذه مئةٌ وعشرةُ أيامٍ ، أو ألفانِ وستمئةٍ وأربعون ساعةً تصرَّمتْ على هذه الفعلةِ الشنيعةِ ... ثم أجيءُ أنا اليومَ بعد كل هذا الوقت لأتكلم عنها !!
تبّاً !!!
أيُّ غفلةٍ هذه ؟
وتبّاً مرةً أخرى .. فأنا لم أكن الغافلَ وحدي ..
كانت عيناي طوال هذا الوقتِ تعبرُ الوجوهَ ، وأذناي تلتقطُ الكلماتِ ، وبصري يلتهم السطورَ .. فلم أر سوى نَأَماتٍ هنا وهناك تنادي بصوتٍ مخنوقٍ يوشك أن يضيعَ وسط هدير الحياةِ الداوي !!
في عامِ اثنين وتسعمئةٍ وألفٍ للميلادِ تجرأ السياسيّ والمؤرخُ الفرنسيُّ هانوتو على القولِ بأنّه لا دواءَ للتعصّب الإسلاميِّ إلا نسفُ قبر النبيِّ محمد صلى الله عليه وسلم .. يومها مادتِ الدّنيا ، وارتجّتِ الأرضُ ، وكان الأمر على ما وصف أحمد محرّم :
غضب الحماةُ لدينِ أحمدَ غضبةً
نُصِرَ الإله بها وعزَّ المصحفُ
هاج الحماةُ فهاجَ كلُّ مشيعٍ
عجلِ الوقائعِ بالفوارسِ يعصفُ
ضجت شعوب المسلمين وراعهم
ظلمُ الألى لولا السياسةُ أنصفوا
[ ديوان محرم 53 ]
واضطرَّ هذا الوقح لأن يرجع عن رأيه في خطابٍِ رسميٍّ ألقاهُ من بعدُ .
وها نحنُ اليومَ نرى التطاولَ على ذاتِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لا على قبرِهِ فحسبُ ، فما الذي حدث ؟
لم تتراجعِ الدانمارك .. بل أقدمت مجلة نرويجيةٌ على إعادة نشر الصورِ ذاتِها بعد مئةِ يومٍ وفي يوم عيد الأضحى !!!! مشفوعاً بتعليقٍ لرئيس التحرير يقول فيه : " إنّ حرية التعبير في منطقتنا مهدّدةٌ من دين ليس غريباً عليه اللجوء الى العنف" .
ألم أقلْ لكم : إنّها حالةُ ذهولٍ غريبةٍ لم أكنْ فيها وحدي !!!
دعوني بعد موجةِ الارتباكِ هذه ألملم أطرافَ الموضوعِ وأروي لكم الحكايةَ من أولها ...(/1)
" في الثلاثين من شهر سبتمبر (أيلول) الماضي – الموافق للسادس والعشرين من شعبان من هذا العام الهجريّ - نشرت صحيفة «يولاندز بوسطن» ، وهي من أوسع الصحف اليومية انتشاراً في الدنمارك، اثني عشرَ رسماً ساخراً ( كاريكاتورياً ) للنبي محمد عليه الصلاة والسلام، أقلُّ ما توصفُ بها أنها بذيئةٌ ومنحطة إلى أبعد الحدود ، ومع الرسوم نشرت الصحيفة تعليقاً لرئيس تحريرها عبر فيه عن دهشته واستنكاره إزاء القداسة التي يحيط بها المسلمون نبيهم، الأمر الذي اعتبره ضرباً من «الهراء الكامن وراء جنون العظمة»، ودعا الرجل في تعليقه إلى ممارسة الجرأة في كسر ذلك «التابو»، عن طريق فضح ما أسماه «التاريخ المظلم» لنبيِّ الإسلام – أظلمَ الله عينيكَ يادعيّ -، وتقديمِهِ إلى الرأي العام في صورته الحقيقية التي عبرت عنها الرسوم المنشورة " [ من مقال فهمي هويدي في الشرق الأوسط 18/12/1426 ] .
أحد هذه الرسومُ – وقد رأيتُها بنفسي - يظهرُ فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم وعلى رأسه عمامةٌ ملفوفةٌ حول قنبلةٍ مشتعلة الفتيل !!
والآخرُ صُوّر فيها النبيّ صلى الله عليه وسلم رجلاً بربرياً يحمل خنجراً ضخماً ووراءه امرأتان تلفعتا بالسودِ في إشارةٍ بذيئةٍ لساديّةٍ مقيتةٍ !!
ويظهرُ صلى الله عليه وسلم في الرسمِ الثالثِ راعياً بليداً وراءه غنمةٌ واحدةٌ لا يحسن تدبير أمرها !!
وحين قدّم المسلمون في الدانمارك مواطنين ومقيمين ودبلوماسيين احتجاجاً إلى رئيس الوزراء "رفض مقابلتهم بدوره، وأبلغهم من مكتبه بأن الأمر يتعلق بحرية التعبير التي لا تتدخل فيها الحكومة ! وقيل لهم إن بوسعهم اللجوء إلى القضاء إذا أرادوا!!" [ مقالة هويدي ] .
كتب الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي خطابات عديدة لحكومة الدانمارك وللاتحاد الأوروبي ، وكان الجوابُ ولا سيما من الجانب الدانماركي أن " قضية حرية التعبير تمثل ركناً أساسياً في الديمقراطية الدنماركية!!! الأمر الذي اعتبر رفضاً لاتخاذ موقف إزاء الحملة" .
أسفر اجتماع القمةِ الأخيرِ في مكةَ عن توصيةٍ تشير إلى " القلق إزاء الحملات الإعلامية المسيئة إلى الإسلام ونبي المسلمين" ، وقررت منظمة المؤتمر الإسلامي " إعلان مقاطعتها لمشروع دنماركي، يتمثل في إقامة معرض كبير تحت عنوان ( انطباعات عن الشرق الأوسط ) .
تحركت وفود شعبية من الدانمارك وطافت بلدان العالم الإسلاميّ ، أصدر الأزهر وغيره من المؤسسات الإسلامية الكبرى بيانات ( تدين ) ما حدث .
وفي النهايةِ كان غايةُ ما تفضل به رئيس الحكومة الدانماركية أن أشار في كلام مقتضب إلى أن حكومته تدين أيّ تصرف يسيء إلى مشاعر جماعة من الناس !! [ سياق الأحداث مستفادٌ من مقالة أ.هويدي ] .
وهكذا بكل استخفاف ظنّ سيادتُهُ أن الموضوعَ قد سُوِّيَ !!
وأنّ الجرح الغائر الذي فتقته مجلةُ ( جيلاندز بوستن ) ،ونكأته مجلة ( ماغازينت ) قد شُفي !!
ونسي أو تناسى أن هذه الرسومات ما هي إلا جزء من ( الحملة الدانماركية ) ضد الإسلام ، " بدءاً من التصريح الذي نقل على لسان ملكة الدانمرك ماجريت الثانية والذي قالت فيه : إن الإسلام يمثل تهديداً على المستويين العالمي والمحلي . وخلطت فيه الملكة بين (المتطرفين) وبين (الإسلام)، وحثت حكومتها إلى (عدم إظهار التسامح تجاه الأقلية المسلمة)، وانتهاءً بمواقع الإنترنت التي يطلقها دانمركيون أفراداً ومؤسساتٍ خاصةً تحذر من السائقين المسلمين لأنهم (إرهابيون وقتلة) ! ومروراً بقول النائب الدانماركيّ : إن الإسلام منذ بداياته كان عبارة عن شبكة إرهابية!! وبالحملة العامة في الصحف ومحطة التلفاز العامة التي أعلنت الحرب ضد الإسلام والمسلمين " [
بأبي أنت وأمي يارسول الله .. يا أشرف الخلائقِ ..
ما أهونَ من ينالُ منك وما أشرفكَ أنتَ ..
أتهجوه ولست له بكفءٍ ؟
فشركما لخيركما الفداءُ
يامن هو أولى بنا منّا ..
( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) [ الأحزاب : 6 ]
يامن جعلك الله خاتم النبيين ..
( مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ولَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ) [ الأحزاب : 40 ]
يامن جعلك الله أسوة للعالمين ..
( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ والْيَوْمَ الآخِرَ وذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً )[ الأحزاب : 21 ]
يا من بعثك ربك رحمةً للبشرِ أجمعين ..(/2)
( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ والإنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ ويَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ ويُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ ويُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ ويَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ والأَغْلالَ الَتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وعَزَّرُوهُ ونَصَرُوهُ واتَّبَعُوا النُّورَ الَذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ )[ الأعراف : 157 ] .
يامن توعّد اللهُ من آذاك بالعذاب المبين ..
( والَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) [ التوبة : 61 ]
يامن أُمِرْنا بتقديم حبه على كل محبوبٍ ..
( قُلْ إن كَانَ آبَاؤُكُمْ وأَبْنَاؤُكُمْ وإخْوَانُكُمْ وأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا ومَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ وجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ ) [ التوبة : 24 ] ..
( ثلاثٌ من كن فيه وجد بهنّ حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ) [ الشيخان ]
ألم تقل لنا يا أحبَّ الناسِ :
( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين ) .
ألم تقل :
( أحبّوا الله لما يَغذوكم من نعمه ، وأحبوني لحبّ الله إياي ) [ الترمذي ، وقال : حسن غريب ] .
صلى عليكَ اللهُ يا علمَ الهدى ..
يانوراً أشرقَ ذاتَ مساءْ !
يانبعاً باغت عطشَ الصحراءِ ..
فأيقظها خفقُ حياةٍ أنطقَ صمتَ الأحشاءْ !
يا أملاً كحّل عين الفجرِ فرأرأ مبهوراً
يبصرُ كيف الليلُ يجرُّ ثيابَ الخزيِ يفرُّ بلا إبطاءْ !
يا أحمدُ ..
يا خفقةَ روحٍ في زمنٍ نسيَ الإنسانُ به معنى الإنسانْ !
يا نفحةَ عطرٍ ..
تحملُ طُهرَ الوحيِ إلى كل مكانْ !
يا رايةَ عدلٍ حينَ أقالَ الظلمُ العدلَ بحجّةَ أنَّ الظّلم إذا عمَّ تساوى فيه الناسُ فقامَ العدلُ بلا ميزانْ !!!!
" صلى عليك الله ما صحب الدجى
حادٍ وحنّت في الفلا وجناءُ
بك بشر الله السماء فزينت
وتضوعت مسكاً بك الغبراءُ
المصلحون أصابعٌ جمعت يداً هي أنت
بل أنت اليد البيضاءُ "
اللهم صل وسلم على نبيك ورسولك محمدٍ وعلى آله وصحبِهِ أجمعين .
هذا هو نبينا نحبُّهُ كأنفسِنا .. بل فوق أنفسنا .. فقد جاء في الصحيح من حديث عبد الله بن هشامٍ قال عمر : يارسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا نفسي . فقال : ( لا ، والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك ) ، فقال عمر : فأنت الآن والله أحبّ إليّ من نفسي ! فقال : ( الآن يا عمر ) .
هذا هو نبيّنا الذي تطاول عليه الأرذلونَ جهلاً أو حماقةً أو صلفاً ..
أنا أعلمُ أن الغيظ الآن يغلي في قلوبكم كما يغلي في قلبي !!
وأعلمُ أنّ شعوراً حارقاً يجري في أوردتكم كما يجري في أوردتي !!
وأعلمُ كذلك مقدار الوجعِ الذي ينطوي عليه كل قلبِ صادقٍ منكم !!
أعلمُ ذلك لأنني أعلمُ مكانةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في قلوبكم ..
لكنني سأطلبُ منكم ـ مكرهاً ـ أن تضعوا هذه المشاعر كلها في ثلاجةٍ لبعضِ الوقتِ ، لبعضِ الوقتِ فقط !!
واعذروني على هذا الطلبِ المجنونِ فقد بدأت الحديثَ ذاهلاً .. وسأبقى فيما يبدو ذاهلاً !!
أريدُ أن نفيقَ قليلاً من هولِ الصدمةِ ـ وما أهولها ـ لندرسَ بعض آثارِها ، ونقتبسَ بعضَ عبرها .
هل سمعتُمْ من قبلُ عن قانون ( معاداة السامية ) ؟
إنه القانون الذي وقعه بوش قبل انتخابه الثاني عام 2004م بضغطٍ من اللوبي اليهوديّ ، ويقضي بوجوب منعِ كل نشاطٍ معادٍ للساميّةِ ، والسامية هنا : اليهودُ أو الصهيونية أو إسرائيل !! بموجبِ هذا القانون تصبحُ الدولُ كلها ملزمةً برصدِ أي نشاطٍ تشمّ منه رائحة المعاداة للسامية ومن ثمّ تقديم صاحبِهِ ( للعدالةِ ) لينال جزاءه ! وسيكونُ من معايير الولايات المتحدة في تعاملها مع دول العالم مدى التزامها بهذا القانون الغريب !! وبالمختصر المفيد تتحول أمريكا بموجب هذا القانون إلى شرطي عالميّ لإسرائيل !
وأقرأ عليكم هذا النصّ من تقرير معاداة السامية المنشور في الموقع الرسمي للخارجية الأمريكية[بقليل من التصرف في عبارة الترجمة] : " اللاسامية هي : بُغض اليهود- كأفراد أوكمجموعة- بشكل يمكن عزوه إلى (بغض) الديانة اليهودية أو الإثنية اليهودية ... فتصوير إسرائيل على أنها شبه شيطان والحط من قدر الزعماء الإسرائيليين وتشويه سمعتهم، أحياناً من خلال مقارنتهم بالزعماء النازيين، ومن خلال استخدام الرموز النازية لتصويرهم بشكل كاريكاتوري، يشير إلى وجود تعصب ضد السامية لا إلى انتقاد صحيح مشروع لسياسة تتعلق بقضية مثيرة للجدل "
http://jerusalem.usconsulate.gov/jerusalem-r/anti_semitism.html
هل فغرتم أفواهكم عجباً ؟!!(/3)
افغروها زيادةً وأنتم تقرؤون الفقرة التالية من التقرير عن معاداة السامية في المملكة بلدِ الحرمينِ :
" كانت هناك حوادث متكررة قام فيها الخطباء في الجوامع، الذين تدفع الحكومة مرتباتهم، باستخدام عبارات شديدة المعاداة لليهود في خطبهم. وفي حين أن وتيرة تكرر هذه التعابير تقلصت منذ هجمات أيار/مايو، 2003، في الرياض، إلا أنه استمر وقوع حوادث ابتهل فيها خطباء الجوامع من أجل موت اليهود، بما في ذلك الجامع الكبير في مكة المكرمة والمسجد النبوي في المدينة المنورة " .
http://jerusalem.usconsulate.gov/jerusalem-r/anti_semitism.html
حسناً أعلمُ يقيناً هذا القانون سارٍ تماماً في الدانمارك والنرويجِ وفي أوروبا كلها .. دون أن يكون في تطبيقه تأثير على " حرية التعبير التي لا تتدخل فيها الحكومة " كما قال رئيس الوزراء الدانماركي جواباً على احتجاجات المحتجين على الإساءةِ لنبيّنا صلى الله عليه وسلم !!
مزيداً من الدهشةِ أيها السادة ..
أعودُ بكم إلى الوراء ، إلى أكثر من ستين سنةً مضت .. حين حاول مؤرخٌ وصحفيٌّ بكل حياديةٍ مهنية وأدبٍ خطابيّ أن يقدما للعالم الدليل الواضح على بطلانِ خرافة المحرقة النازية لليهودِ .. ما الذي حصل لهما ؟ أما الأول فقد اختفى كتابه واختفى هو كليا من الحياة العامةِ ودفنه النسيان حياً !! وأما الآخرُ فقد جُرَّ جراً وضُرب ضرباً مبرحاً وهو يتناول إفطاره في أحدِ المطاعم الشهيرة في لندن . [ مقدمة هيكل لكتاب روجيه جارودي : الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية ص : 7 ، 8 ] .
وأوشكَ حزبٌ كاملٌ أن يخرج من الحياة السياسية الألمانية لأنّه قبل في عضويتِهِ رجلاً قال : "إن الأساليب التي يتبعها الجيش الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة تشبه الأساليب النازية " أما رئيس الحزبِ المسكينِ فقد خسر كل فرصةٍ له في تولي منصبٍ وزاريٍّ حتى لو فاز حزبُهُ .
ويكتبُ جارودي المفكر الفرنسي المسلم المشهورُ في صدرِ كتابه عن أساطير إسرائيل : " بعد ما يربو على نصف قرن صدرت خلاله مؤلفاتي عن كبريات دور النشر الفرنسية أجدني مضطرا اليوم لأن أصدر هذا الكتاب على نفقتي لأنني أقدمت على انتهاك حرمة أحد المقدسات : ألا وهو انتقاد السياسة الإسرائيلية " [ ص : 13 ] .
وبعد هذا كله لن تتعجب إذا علمتَ أن أشدَّ الأوروبيين عداوةً لطغيانِ إسرائيلَ وفي أكثر الدول الغربية ديمقراطية يُضطرُّ لأن يلامس بشفتيه أذنَ صاحبِهِ إذا أراد أن يبوح ببعض أفكارِهِ !!
هكذا إذنْ أفلح اليهودُ في جعل رموزهم ومقدّساتهم وحتى أساطيرهم تحت حمايةٍ عالميّةٍ رهيبةٍ لا يجرؤ أحد على مسّها إلا بعد تفكير طويل .. طويلٍ جداً .
سامحوني إذا أثقلت عليكم بالأسماء الأعجميةِ والحكايات وخرجت بكم عن نفس الخطبة المعتاد .. ولكنني فعلاً أكادُ أجنُّ من هذه الهيبةِ التي فرضها اليهودُ لهم ولكل ما يتعلق بهم ، على حين أننا اليوم نئن من الطعنِ في أشرفِ البشرِ أجمعينَ ولا يكادُ يستمع إلينا أحدٌ !!
لذلك قلت لكم : لنضع مشاعرنا بعض الوقت في ثلاجةٍ في محاولةٍ للفهمِ .
إنَّ ما يزدادُ عندي رسوخاً على مرّ الأيامِ أنَّ ( القوةَ ) هي التي صنعتْ لليهودِ كل هذا .
وحتى لا يطير بها فرِحٌ عجلانُ يبغي الوقعيةَ ، أو متهيّجٌ متميّزٌ غيظاً يبغي الإذن بالفتكِ أبين أن مقصودي بالقوةِ هنا ( القوةَ الشاملةَ ) .. الحضورَ العالمي الفاعل .. صناعةَ الحياةِ .
دائماً نتهمُ أمريكا بأنها تقف مع اليهودِ .. لكننا لم نسأل أنفسنا قطُّ كيف استطاع اليهودُ أن يجعلوا أمريكا تقف معهم ؟
كيف حولوا هذا الوحش الجبارَ ليكون أداة طيعةً في أيديهم ؟
هنا سر اللعبة اليهوديةِ التي أُديرتْ بنجاحٍ .
استطاعَ اليهودُ أن يمسكوا بزمامِ التجارةِ والصناعةِ والإعلامِ والسياسةِ فصنعوا ما صنعوا . ولو ذهبتُ أحدثكم هنا عن نفوذ اليهودِ في هذه المجالات وما يمتلكونه لأمسى المساءُ وما انتهينا . لقد خرج اليهودُ بعد الحرب العالميةِ محطّمين منبوذين مكسورين ولكنهم واجهوا واقعهم ، تحملوا ، صبروا ، تشتتوا ، تمرّسوا .. فصنعوا ما صنعوا .
أجل بصرك الآن في الواقع الحضاري للأمةِ ماذا ترى ؟
كيف نريدُ لأمّةٍ لا تمسكُ بأي مفصل من مفاصل الحضارةِ أن تفرض احترامها على الآخرين ؟
صدقوني .. حتى الجهادُ وحده لن يحلَّ المشكلةَ ..
أن يتناثر شهداؤنا في كل أرضٍ بعد إثخانٍ في العدوِّ لا يعني أننا ربحنا كل شيءٍ .. وإن كنّا ربحنا أشياءً .
إننا نخوضُ مع عدونا معركة الحياةِ تماماً كما نخوض معه معركةَ الموتِ ! وحينما يتناسقُ نغمُ صناعِ الموتِ الكريم مع نغم صناعِ الحياةِ الكريمةِ نستطيعُ أن نقولَ : لا ، فيلتفت العالمُ مضطراً باحثاً عن سبيلٍ لإرضائنا !
هذا أولُ درسٍ عميقٍ يجبُ أن نتعلّمه مما جرى .
وبنهايتِهِ يتوجّبُ عليَّ أن أقفَ فقد امتدَّ بي الحديثُ ...(/4)
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية :
ـ الحمدلله .
أيها الأحبةُ .. ر غمَ كل ما أسلفتُ إلا أنني أبشركم ببشارةٍ ربانيّةٍ كريمة .. ( إنَّ شانئك هو الأبتر ) . قال ابن كثير : أي إن مبغضك يامحمد ، ومبغض ما جئت به من الهدى والحق والبرهان الساطع والنور المبين هو الأقل الأذل المنقطع [ 4/563 ] .. إنها شهادةُ حمايةٍ ربانيةٍ ، وانتقام من الله لكل من آذى نبيه صلى الله عليه وسلم ، قال ابن تيمية رحمه الله: "إنَّ الله منتقمٌ لرسوله ممن طعن عليه وسَبَّه، ومُظْهِرٌ لِدِينِهِ ولِكَذِبِ الكاذب إذا لم يمكن الناس أن يقيموا عليه الحد.
ونظير هذا ما حَدَّثَنَاه أعدادٌ من المسلمين العُدُول، أهل الفقه والخبرة، عمَّا جربوه مراتٍ متعددةٍ في حَصْرِ الحصون والمدائن التي بالسواحل الشامية، لما حصر المسلمون فيها بني الأصفر في زماننا، قالوا: كنا نحن نَحْصُرُ الحِصْنَ أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر وهو ممتنعٌ علينا حتى نكاد نيأس منه، حتى إذا تعرض أهلُهُ لِسَبِّ رسولِ الله والوقيعةِ في عرضِه تَعَجَّلنا فتحه وتيَسَّر، ولم يكد يتأخر إلا يوماً أو يومين أو نحو ذلك،ثم يفتح المكان عنوة، ويكون فيهم ملحمة عظيمة، قالوا :حتى إن كنا لَنَتَبَاشَرُ بتعجيل الفتحِ إذا سمعناهم يقعون فيه، مع امتلاء القلوب غيظاً عليهم بما قالوا فيه .
وقد شاهدنا أثر هذه الحمايةِ الربانيةِ في السيرة النبوية ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ألا ترونَ كيف يَصْرِفُ الله عنِّي شَتْمَ قريشٍ ولعنَهم، يشتمون مُذَمَّمَاً، ويلعنون مُذَمَّمَاً، وأنا مُحَمَّدٌ!). فنَزَّه الله اسمَه ونَعْتَه عن الأذى، وصرف ذلك إلى من هو مُذَمَّم، وإن كان المؤذِي إنما قصد عينه". ومن شاهد الرسوم المقصودةَ أدرك أنها لا تمتُّ لنبيّنا صلى الله عليه وسلم بشيء لا شكلاً ولا سمتاً ولا هيئةً ولا رمزاً . فكان ذلك كشتم المشركين لمذمَّمٍ ، أذىً أصابَ غير المراد !!
أيها الأحبةُ ...
لستُ متوجّهاً هنا إلى التفصيل في بيانِ عظمةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلمَ ، وانتفاءِ تلك التهم الحقيرةِ عنه لأنني أخاطب مسلمين يعرفون قدر نبيّهم صلى الله عليه وسلم ويدركون جوانبَ عظمتِهِ وإنسانيّتِهِ .. ويفهمون جيداً مقدار ما أحدثه عليه الصلاة والسلام في حياة البشرية من تغييرٍ ..
ولكنني أتساءلُ .. إلى أي مدى أفلحنا في نقل هذه الصورةِ العظيمة لنبيّنا صلى الله عليه وسلم إلى العالم ؟
إنني – رغم كل ما أسلفتُ – أومنُ أن البشرَ لا يكونون شيئاً واحداً ، وأن هذا المزيج البشريّ المعقّد في الدانمارك وغيرها من دول العالم لا يمكنُ أن يكون كله مطبقاً على تعمد الإساءة ( يخرجُ الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ).. لا شكّ أن هناك عقولاً مضللة تحتاج فقط إلى من يبصّرُها ..
ومشكلتنا أننا لم نكن في كثير من الأحيانِ سفراءَ خير لديننا ونبيّنا .. حملنا صورةً مشوهةً عبر مسلكين متباينين مسلك الشهوانيين الذين لا يرى منهم الآخرُ إلا العربدةَ والفجور والكذب والغش والخداع .. ومسلك المغالين الذي لا يرى منهم الآخرُ إلا التفجير والتدمير والترويع أو على أقل تقدير العبوس المطلقَ والفظاظةَ !!
وبين هذين خسرنا قلوباً كان يمكنُ أن تكون مسلمةً .. أو على الأقل نصيرةً للإسلامِ .
فهل نجدد هنا النظر بشيء من التأمل لقوله تعالى : (( ولا تَسُبُّوا الَذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )) [ الأنعام : 108 ] ؟
أرجو ألا يسردَ لي أحدٌ قائمةً طويلةً بجرائم الآخر .. فنحن نعلمُها جميعاً لكننا نبحثُ هنا عما يجب أن نفعله نحن لا عما يجبُ أن يفعله غيرنا .
وما دمنا في سياق الواجب الذاتي فلنختم حديثنا بتركيز معانيه ؟
ما واجبك أيها المسلم ؟
أولا : التحرق والتألمُ لما أصاب نبيّك صلى الله عليه وسلم من عدوانٍ مقيتٍ .
ثانيا : الدعاءُ على الظالمين المعتدينَ .
ثالثا : الإسهامُ في تحريك القضيةِ بكتابةٍ في صحيفة أو موقعٍ ، أو بنشر رسالة جوالٍ ، أو بإلقاءِ كلمةٍ في جامعٍ أو مجلسٍ خاص أو عام ، أو على الأقل بتحديث أولادكَ بما فعله أولئك المجرمونَ .
رابعاً : استغلال الفرصةِ لتربيةِ الأبناء والتلاميذ بل والمجتمع على حب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وتذكرِ كيفية حب الصحابة له وافتدائهم إياه بأرواحهم رضي الله عنه .(/5)
خامساً : المقاطعةُ .. ببساطةٍ شديدةٍ اترك كل شيء يسعك تركُهُ مما أنتج في ذينك البلدينِ .. حتى يعتذرا .. ولك سندٌ شرعيٌّ من فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ثمّ سندٌ سياسيٌّ من فعل منظمة المؤتمر الإسلاميّ .. لن أسمي شيئاً من المنتجاتِ خشية الخطأ .. ولكن بلد المنشأ لكل منتجٍ معروفٌ .. احتسب ما وسعك والله يأجرك .
سادساً : الاجتهادُ في مراسلةِ الخارجية الدانماركية والنرويجية، والجهات المسؤولة في الاتحاد الأوروبي ، وكذا الصحافة الدانماركية والنرويجية . وستجدُ عبر الشبكة العنكبوتية طرقاً عديدةً لذلك .
وسامحوني على الإطالة .. لكن أقلُّ ما نفعلُهُ دفاعاً عن نبينا صلى الله عليه وسلم أن نتكلم ونسمعَ .. وأملي ألا يكون هذا نهاية المطافِ(/6)
دفاعٌ عن الشعب
محمد المجذوب
تعقيب على ميمية الشاعر عمر أبي ريشة
شاعرَ الشهباءِ.. عذرَ iiالقلمِ
ذلك الصوتُ الذي iiأرسلتَه
صيحةٌ قد توقظُ الأمةَ iiلو
راعك الحاضرُ من iiأوجاعها
وازدهاك الأمسُ iiفاستقبلتَه
حُلُمٌ مات على جفنِ iiالرُّؤى
عبثاً تنفخُ في النار فما
وسُدى تصرخُ في القومِ iiإذا
.. حبذا عتبُك لولا iiأنه
رُبَّ لومٍ جاوزَ الظلم iiإذا
شعبُك المنكودُ لم يأثمْ iiبما
ورث الروح التي عزَّت iiبها
وانتضى العزمَ الذي دانتْ iiله
غيرَ أن الله لم يَرْدُدْ له
قلبَ الدهرُ به الأقدارَ iiفالـ
كم "مثنّى" تحت أطمارِ iiفتى
عصبَ البطنَ من الجوعِ iiوقد
يقحم الموتَ إلى المجدِ iiعلى
آثر النارَ على العارِ فلم
.. فيلقٌ لو كان فيه iiخالدٌ
سلْ به (شرتوكَ) أو iiأجنادَه
لم يكونوا غير شِلوٍ iiللظُّبى
هَدَمَ الساسةُ ما شادَ القنا
لا تقلْ "لم يشتفِ الثأرُ" فما
إنه الغدرُ، وما iiأقتلَه
أسلم "اللدَّ" إلى iiجَلاّدِها
ولقد يركب أشلاءَ iiالحمى
.. بل هو الوهن الذي قد iiبثّه
زَيّنَ العجزَ لهم حتى iiلقد
أطمع الذئبَ بآساد iiالشرى
فإذا "النَّقبْ" جحيمٌ iiوإذا
حشدَ الخصمُ iiلحرَّاسِهما
فشبول النيلِ تلقى iiوحدَها
جَمَدَ الإخوةُ عن iiنجدتها
فاستمعْ حمحمةَ الخيلِ، iiوقد
يتلظون على صهواتِها
لو أُزيح الغلُّ عن iiأعناقهم
.. ذلك الشعب الذي iiجَرَّعتَه
لم يزل مطمحَ أنظارِ iiالعلى
إن يكن قد هُزمتْ قادَته
* * ii*
شاعرَ الشهباء.. لا يُلوِ الأسى
هذه الأصنامُ مهما iiصَمَدتْ
إنَّ في الأعماقِ بركانَ لظى
لكأني ناظر iiأضلاعَه
فإذا الأرضُ، كما نعشقُ، قد
وإذا (جُنبول) محطوم iiالرؤى
* * ii*
شاعرَ الشهباءِ!.. أرضيتَ iiالعلى
لا نَلُمهم إن رَضوا أو iiغضبوا
نحن مذ كنا قرابينُ الهدى
قد تلاقينا على دينِ iiالإبا
غير أن الدهرَ عاطاك iiالطِّلى
إن تفتك اليومَ نُعمى iiعَرَضتْ
ربما حاربك القومُ iiولم
واعتبرْ بي فحياتي لم تزل
ضيقوا العيش بعينيَّ iiولو
فكأني لم أكن من iiجندِهم
وكأني لم أُذبْ شرخَ iiالصِّبا
فاعذرِ الشعرَ إذا iiكفكفتُه
وإذا ما لذتُ بالستر iiفما
* * ii*
شاعرَ الشهباء.. قد يطغى الدجى
بيدَ أن الفجر آتٍ iiفارتقبْ ... فلقد هِجتَ دفينَ iiالألمِ
نَكَأ الجرحَ ولم iiيلتئم
يلمسُ الشعرُ ضميرَ iiالنُّوَّم
فمزجتَ الدمعَ حزناً iiبالدم
ثَمِلاً من نخوةِ iiالمعتصم..
فامَّحى إلا خيالَ iiالحُلُمِ
تحتها غيرُ رَمادِ iiالهِمَم
أوقر السامعَ داءُ الصمم
ساق للشعب ضروبَ التُّهمِ
أخطأ الإنصافَ رأيُ iiاللوَّم
ناله من نُوَبِ الدهرِ iiالعمي
يَعربٌ في أمسها iiالمنصرم
في عصورِ الفتحِ هامُ iiالأمم
قادةَ الماضي ذوي الأنف iiالحمي
أُسدُ يرعاها قطيعُ iiالغنم!
ليس في كفيه غيرُ iiالشَّمَم
لفَّ بالخرقةِ نصلَ المِخذَم
تربةِ "المهد" وحول ii"الحرم"
يثنِهِ حكمُ القضاء iiالمبرم
وطِئَ العربُ جباهَ iiالأنجم
هل رَأوا ثمةَ غيرَ iiالضيغم!
لو تولّى السيفُ أمرَ iiالحَكم
فخلا الساحُ لجندِ الكلِم(1)
أعجزَ الثعلبُ ليثَ iiالأجَم
حين يلقاك به ذو الرَّحِم!
وحبا "الرملةَ" كفَّ iiالمجرم
في غد نحو خَسيسِ iiالمغنم
في شيوخ الحكم روحُ iiالهرم
ألبسوا الجبنَ رداءَ iiالحِكَم
وأباح الغِيل iiللمقتحم
موطن "السّبعِ" بأيدي iiالرَّخم
كل ما في صدره من نِقَم
منه دون النقب سيلَ iiالعرم(2)
بينما الأكبدُ تَغلي iiبالدمِ
كبح الفرسانَ عضُّ iiاللُّجم
غضباً للشرفِ iiالمنثلم
أخرسَ الحقُّ لصوصَ iiالأمم
غُصصً العَتبِ ولما iiترحم
ومناطَ الأملِ المبتسم
فهو الجيشُ الذي لم iiيُهزم
* * ii*
بك فالآمالُ لم تنهدم
سوف يَطويها ظلامُ iiالعدم
مائِراً باللهب iiالمضطرم
تقذف الكونَ غداً iiبالحُمَم
طَهُرتْ من منتِناتِ iiالرّمَم
وإذا (سامُ) صريعُ iiالندم
* * ii*
فليَثرْ من شاءَ iiولْينتقمِ
إنها شنشنةٌ من iiأخزم
نهبُ الجَرحى كريمَ iiالبلسم
وتآخينا بظلّ iiالقلم
وسقى روحي نقيعَ iiالعلقم
فأنا المرءُ الذي لم ينعم(3)
يبلغوا ضرَّكَ فاغفر iiواحلم
موضعَ العبرةِ iiللمستلهِم
قَدَروا لم أروَ بل لم iiأطعم
أمسِ في قلبِ الرعيلِ iiالمقدِم
قطراتٍ في سبيل iiالعلَم
إن دونَ الحق جزَّ iiاللِمم
ذاك إلا أن ماءً في iiفمي(4)
* * ii*
ويتيهُ الركبُ في القَفر iiالظمي
طلعةَ النورِ وراءَ iiالظُّلم
الهوامش
(1) إشارة إلى قبول الهدنة التي فرضها النقراشي فأضاعت النصر، وما أشبه الليلة بالبارحة!
(2) ذلك هو حصار الجيش المصري في الفلوجة يومئذ.
(3) إشارة إلى إقالة الشاعر من وفد الأونيسكو إثر إلقائه قصيدته في حفلة نادي الضباط بحلب.
(4) إشارة إلى استتار الناظم إذ نشرت هذه القصيدة بتوقيع "ابن الشعب".(/1)
دفع الرسوم لإدارة المسجد
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ...
التاريخ ... 1/11/1424هـ
السؤال
لدينا - في مسجدنا في إحدى المدن الأمريكية - بعض الأنظمة:
(1) هناك رسم سنوي يدفعه الأعضاء لتغطية نفقات المسجد (كهرباء، ماء، وخلافه).
(2) فقط الذين يدفعون هذا الرسم يحق لهم التصويت لاختيار أعضاء مجلس إدارة المسجد، وهم الذين لهم حق التصويت في القضايا الخاصة بالجالية، وهذا يعني أن الذي لا يدفع لا يمكنه أن يكون عضواً في المجلس، ولا يمكن له التصويت حتى لو عرف عن الشخص أنه يتبرع للمسجد أو يشارك في الجالية، والتبرير المعلن كذلك هو منع المسلمين من المدن الأخرى في المشاركة في التصويت بوصفهم غير معروفين للجالية، وفي بعض الحالات قد لا تستطيع عائلة أن تدفع فيصدر لهم المجلس إعفاء خاصا نظراً لظروفهم بعد دراسة حالتهم.هل مثل هذه الأفعال جائزة في الإسلام؟ علماً بأن أعضاء الجالية قلما يشاركون في أنشطة المسجد، فأرجو تقديم شرح لحكم هذه الأعمال، وإذا أردتم إيضاحات أكثر يمكننا تقديمها.
الجواب
جزاكم الله خيراً على اهتمامكم برعاية هذا المسجد في ديار الغربة، وما ذكرتم في سؤالكم أن من لم يدفع الرسم السنوي للمسجد لا يحق له التصويت لاختيار مجلس الإدارة، ولا يكون له حق التصويت في القضايا التي تخص الجالية التي ترتاد المسجد، والذي أعرفه عن المساجد في ديار الغربة أنها تمثل مراكز إسلامية عامة، تعنى بجميع شؤون المسلمين الدينية كإقامة الصلوات والدروس والمحاضرات وعقود الزواج وإسكان الضيوف وتدريس الأولاد بنين وبنات وحل النزاعات والخلاف الذي يقع بين أفراد الجالية ونحو ذلك، فإذا كان الأمر كذلك فلا بأس بمنع من لم يدفع الرسم السنوي من حق التصويت في كل المجالات في محيط المركز غير أداء الصلوات الخمس والتراويح في شهر رمضان وسماع خطبة الجمعة والعيدين فلا يجوز منع أحد منها. ولو كان غير مشترك يدفع الرسوم السنوية، لأن الصلاة والخطبة تؤديان فيه على أنه (مسجد)، أما سائر الخدمات التي تقدم فيه بوصفه مركزاً (وليس مسجداً)، ومنع الناس من أداء الصلاة في المسجد حرام ولا يجوز، قال تعالى: "وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ" [البقرة:114]، وفيما عدا الصلوات والخطبة فإن تنظيمكم له أمر عرفي جائز، وما تعارف عليه الناس يدخل تحت القاعدة الشرعية (العرف المعتاد يجري مجرى الشرط)، والأثر الثابت عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – (ما رآه المسلمون حسن فهو عند الله حسن)، ويخضع ذلك للقدرة والإمكانات المتاحة، ويجوز أخذ الأجرة على الأعمال غير الصلاة، وإذا جازت الأجرة في هذا فأخذ الرسم السنوي وما ترتب عليه من باب أول،ى ولكني أوصيكم بالتسامح والتيسير والاحتساب ما أمكن مع المشتركين (دافعي الرسوم) وغيرهم لقوله – صلى الله عليه وسلم –:"يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا" أخرجه البخاري (69)، ومسلم (1734) من حديث أنس –رضي الله عنه-، وفي الحديث الآخر:"من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة... والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" أخرجه مسلم (2699) من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه-، ولا تنسوا أنكم في غربتكم دعاة هداة، فلا تكونوا جباة جفاة، وفق الله الجميع إلى كل خير.(/1)
دفع الرشوة لحفظ النفس والعرض
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ المعاملات/الرشوة والغش والتدليس
التاريخ ... 26/12/1425هـ
السؤال
قضيت الخدمة العسكرية، وفى قانوننا العسكري يجب عليك أن تحضر عندهم كل شهر والشهر الذي تحضر فيه يذهبوا بنا رغمًا عنّا إلى الصحراء على الحدود، وهناك في الصحراء مخاطر جمة، حيث يوجد بعض الأفارقة الذين ليس لهم دين، فكل شهر يقتل شخص أو اثنان نتيجة الجرم لكثرة الخمور، والحشيش، والفسوق، والكلام الفاحش، وإن قمت للصلاة حاربوك، ومن الممكن أن يتعرضوا لك- أي يغتصبوك ويفعلون بك اللواط- سؤالي: هناك طريقه لعدم الذهاب إلى هذا المكان، وهي بدفع شيء من المال إلى الضابط المسؤول حتى يعفيك من الذهاب، وهذا ليس من شروط الجيش ،إن المال الذي يعطى له يأخذه هو، هل تعتبر هذه رشوة؟ أفيدوني جزاكم الله خيرًا؛ لأني حائر وإخواني أيضًا حائرون. والسلام عليكم.
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
لا شك أن دفع المال إلى هذا الضابط رشوة، والرشوة محرمة؛ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَعَنَ اللهُ الرَّاشِي والمُرْتَشِي". أخرجه أبو داود (3580) والترمذي (1337) وابن ماجه (2313). وفي رواية: "والرَّائِشَ". أخرجها أحمد (22399). غير أنها في حق الآخذ (المرتشي) محرمة بالإجماع ولا استثناء في ذلك، أما في حق الراشي (الدافع)، ففيه تفصيل: فإن كانت من أجل إبطال حق شرعي ثابت عليك من مال أو غيره فهي حرام، وإن كان دفعها من أجل استرداد أو إبقاء حق شرعي لك فهي جائزة بحكم الضرورة، والضرورة استثناء من حرام، وهي دفاع عن المال أو النفس بطريق سلمي، وقد أباح الله الأكل من الميتة والخنزير للمضطر بقوله تعالى: ( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[البقرة: 173]. ومن هذه الآية ونحوها أخذت القاعدة الشرعية: "الضرورات تبيح المحظورات، والضرورة تقدر بقدرها". وذكر عبد الرزاق الصنعاني في مصنفه (14671) عن الحسن البصري أنه قال: ( ما أَعطيتَ مِن مالِكَ مُصانَعَةً عَلَى مالِك ودَمِك، فأنت فيه مأجور). وكان الناس في المدينة المنورة زمن زياد بن أبي سفيان، وكان أميرًا ظالمًا يدفعون الرشوة، قال أبو الشعثاء، وهو من كبار التابعين: (ما كان شيء أنفع للناس من الرشوة في زمن زياد). وذكر القرطبي في تفسيره عند الآية: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ)[المائدة: 42]: روي عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، أنه لما أتى أرض الحبشة أخذ بشيء فتعلق به فأعطى دينارين حتى خلي سبيله. أخرجه ابن سعد 3/151، والبيهقي 10/139.
والخلاصة: إن كان الأمر- كما تذكر- فادفع الرشوة لتنجو من انتهاك عرضك بفاحشة اللواط، نعوذ بالله من ذلك، والدفع عن العرض أهم من الدفع لحفظ المال، بل العرض شقيق النفس في الكتاب والسنة. وفقنا الله وإياك إلى الثبات على الحق.(/1)
دفعا للعقوبة ومعذرة إلى ربكم [ بيان مهم لعدد من المشايخ ]
الحمد لله وحده , والصلاة والسلام على من لا نبي بعده . أما بعد :
فقد قال الله تعالى ( فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون ) .
وقال تعالى ( وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون . لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون ) .
إن الباعث على نشر هذا البيان هو المعذرة إلى الله فيما وصلت إليه الحال اليوم من ظهور للمنكرات وانتشار للمعاصي والموبقات حتى وصل الأمر إلى المجاهرة بفعلها والإعلان بقولها دون خوف من الله ولا حياء من خلقه ، بل قد استفحل الأمر إلى أن أصبحت لهذه المنكرات حماية وشوكة تمنعها من إنكار المنكرين ، بل من احتساب المحتسبين وتضمن لها الانتشار والفتك بالمجتمع أمام أنظار المؤمنين المقهورين .
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اليوم ضعف جانبه , وكثر في الناس مجانبه , مع أن الله قد جعله فرقا بين المؤمنين والمنافقين , وهو عنوان النجاح , ودليل السعادة والفلاح , وهو أساس الدين , ولو أهمل لاضمحلت الديانة , وفشت الضلالة , وعم الفساد , وضل العباد لأن فيه حفظ الشريعة , وحماية الأخلاق ، قال تعالى (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم ) .
وقال سبحانه ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) . وقال تعالى ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ) .
وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أحاديث كثيرة ، منها ما جاء في الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) وفي رواية ( وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ) .
وكذلك ما رواه أحمد والترمذي وصححه وابن ماجه من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه , أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده ) .
وكذلك ما رواه أبو داود والترمذي من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد السفيه ولتأطرنه على الحق أطرا , أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم كما لعنهم ) .
وهو سبيل النجاة من الغضب والعذاب كما جاء في البخاري من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( مثل المداهن في حدود الله والواقع فيها , مثل قوم استهموا في سفينة , فصار بعضهم في أسفلها , وصار بعضهم في أعلاها , فكان الذين في أسفلها يمرون بالماء على الذين في أعلاها فتأذوا به , فأخذ فأسا فجعل ينقر أسفل السفينة , فأتوه فقالوا : ما لك ؟ قال : تأذيتم بي , ولابد لي من الماء , فان أخذوا على يديه أنجوه ونجوا أنفسهم , وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم ) .
وهو القطب الأعظم في الإسلام , فلو طوي بساطه , وأهمل علمه وعمله : لفشت الضلالة , وشاعت الجهالة , وخربت البلاد , وهلك العباد قال تعالى ( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون ).
بل إن المشاهد اليوم هو إضعاف شأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وإن من المؤسف ما نراه اليوم من إهمال لهذا الأصل العظيم , من قبل عامة المسلمين إلا من رحم الله , مع ما يوجد من فشو للمنكرات والمعاصي , ففي كل مدينة وقرية , وفي كل حي وشارع , بل في كل بيت – إلا ما رحم الله – تجد المنكر المعلن , والمعصية الظاهرة , ونظرة واحدة من صاحب دين وبصيرة إلى أماكن تجمعات الناس كالأسواق والحدائق والمستشفيات والشواطئ والمهرجانات والأفراح والاحتفالات تجعل الطرف يرتد حسيرا حزينا لما يرى من المنكرات العظيمة من تفويت للصلوات وانتهاك للمحرمات واقتراف للمعاصي والموبقات وما يرى من التبرج والسفور مع ما يترتب على هذا من ثمار مرة تتجلى في الزنا والعلاقات الآثمة والآثار المدمرة على الدين والدنيا , ومع هذا يقل الناصح ويندر الآمر والمنكر.
ألا نسعى إلى الخلاص لنا ولامتنا ؟؟؟؟
ولكن كيف يكون خلاصنا وخلاص أمتنا ؟ :(/1)
هو بأن يلتف الغيورون في مدنهم وقراهم حول من يعرفون صدقهم في القيام بهذا الأمر من المشايخ وطلبة العلم بحيث يوجهونهم بالطريقة الشرعية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بحيث يخرجون إلى أماكن المنكرات ، قال تعالى ( وتعاونوا على البر والتقوى ) ولحديث ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ) .
فيجتهدون بما يستطيعون من الأمر بالمعروف والنهي عن ا لمنكر والنزول إلى الأسواق والتجمعات وأماكن المعاصي ، يأمرون وينهون بلا سوط ولا سيف فوالله (لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم ) ولقد كان هدي الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والعلماء الذهاب إلى أماكن المنكر للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع من تيسر من المسلمين الغيورين , نصحا للمسلمين ومعذرة إلى الله ، ودفعا لعقوبة الله قال تعالى ( وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ) .
وكما أن في هذا العمل المبارك بهذه الطريقة من دفع البلاء واستجلاب النعماء ففيه أمر كبير وعظيم ومهم وهو قَطْع الطريق على من يستهينون بأهل الدين ولا يرعون لهم حرمة فيقطعونهم أفرادا أو مجموعات قليلة , لأن ما وصفنا هنا مجال واسع لفئات كثيرة في كل بلد وقرية من هذه الجزيرة ، وقد لمسنا منهم الإقبال على الخير والتعطش لقيام هذا الدين على حقيقته التي يريدها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم له فهذا قاطع للاستحواذ والسيطرة على أهل الدين وإذلالهم حيث يترتب عليه :
أ?- معية الله ونصره وتأييده .
ب ـ كون هذا هو المناسب للحد من الاستهانة بأهل الدين واقتطاعهم وفتّ عضدهم مما يعرفه أهل الدين كلهم من واقعهم المحسوس اليوم , فإذا قام في كل بلد وقرية رجال على هذا التوجيه الذي سبق بيانه فهذا سيحدّ من تسلط المضاد بحول الله وقوته وفيه مدافعة للظالمين بالتآزر والتعاون بين أهل الخير ، لقطع التلاعب بأهل الدين قال تعالى ( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ) .
ومن حاك في صدره الخوف من أهل المنكر أو من ورائهم فليتأمل موقف إبراهيم عليه السلام ( وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون . الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ) وليتأمل مواقف غيره من الأنبياء مع أقوامهم ليتقوى قلبه ويثق بضمان ربه فيقدم غير هياب ولا وجل لأنه يأوي إلى ركن شديد ، وليعلم أنه قد يبتلى فعليه أن يحتسب ذلك في ذات الله عز وجل حتى يتحقق له
الخير .
أخي طالب العلم : إنه ليس أحد أحق بالشجاعة والجرأة في الحق من ورثة علم النبوة وعملها فهم جند الله والموقعون عنه .
ولنتأمل أيضا ما بايع عليه الصحابة الكرام نبيهم صلى الله عليه وسلم فقد بايعوه على أن يقولوا الحق حيث كانوا لا يخشون في الله لومة لائم لما في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه المتفق عليه .
قال الشيخ حمد بن عتيق رحمه الله : فلو قدر أن رجلا يصوم النهار ويقوم الليل ويزهد في الدنيا كلها وهو مع ذلك لا يغضب لله ولا يتمعر وجهه ولا يحمر فلا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر فهذا الرجل من أبغض الناس عند الله وأقلهم دينا, وأصحاب الكبائر أحسن عند الله منه .
وقد حدثني من لا أتهم عن شيخ الإسلام وإمام المسلمين ومجدد القرن الثاني عشر محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله تعالى – أنه قال مرة : أرى ناسا جلوسا في المساجد على مصاحفهم يقرؤون ويبكون , فإذا رأوا المعروف لم يأمروا به , وإذا رأوا المنكر لم ينهوا عنه , وأشوف أناسا يعكفون عندهم يقولون هؤلاء لِحىً غوانم , وأنا أقول : إنهم لحى فوائن.... {أي لحى خبيثة} فقال السامع : أنا ما أقدر أقول : إنهم لحى فوائن ... فقال الشيخ : إنهم من الصم البكم .
ويشهد لهذا ما جاء عن بعض السلف أن الساكت عن الحق شيطان أخرس والمتكلم بالباطل شيطان ناطق ، فلو علم المداهن الساكت أنه أبغض الناس عند الله – وإن كان يرى أنه طيب – لتكلم وصدع اهـ . مجموعة رسائل حمد بن عتيق 1/124.
واعلم أخانا في الله أن التخاذل عن الأمر والنهي سبب لوقوع كوارث وبلايا كثيرة على الفرد والمجتمع منها ما يلي :
1 ـ إهلاك الساكتين مع المجرمين حين حلول العقوبة .
2 ـ انتفاء الخيرية عن هذه الأمة .
3 ـ سهولة ركوب المعاصي والمجاهرة بها .
4 ـ عدم استجابة الدعاء .
5 ـ ظهور غربة الدين وأهله لانتشار المنكر وقوة أهله .
6 ـ إلف المنكر والاعتياد عليه والإنكار على من أنكره .
7 ـ انتشار الجهل بأحكام المنكرات .
8 ـ حصول اللعن والطرد من رحمة الله ، والعياذ بالله .(/2)
9 ـ جراءة المرتدين والفساق على أهل الحق كما نراه اليوم جليا في مجتمعنا في حال المجاهدين وأنصار الجهاد ، فقد تسلط شرار خلق الله على الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر وأخذوهم فرادى ، وسلطوا عليهم أهل الظلم يحققون معهم ونحو ذلك ، ولو تعاون وتكاتف أهل الخير وكانوا يدا واحدة وقاموا جميعا متكاتفين لحصل نفع عظيم ونصر مبين ، ولرأيت مشاهد العز والقوة لأهل الخير وما يصنع الله لهم مالا يؤملون لأجل سعيهم في مرضاته ودفعهم سخطه .
فانظر – وفقك الله – كيف يجني الساكتون على أنفسهم وأمتهم ودينهم , أما المصالح المترتبة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فكثيرة لا تحصى ، ويكفي أن نعلم فيها عكس كل مفسدة من المفاسد السابقة .
ولهذا فإنه على كل طالب علم أن يجند نفسه للسعي الدؤوب للقيام بواجبه بالعمل بجميع الوسائل المشروعة ويبذل النفس والنفيس في ذلك .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين .
الموقعون
1- عبد الكريم بن صالح الحميد .
2- علي بن خضير الخضير .
3- عبد الله بن عبد الرحمن آل سعد .
4- ناصر بن حمد الفهد .
5- عبد العزيز بن سالم العمر .
6- إبراهيم بن عثمان الفارس .
7- محمد بن عبد الله الهبدان .
8- سليمان بن عبد الله السويكت .
9- ناصر بن سليمان العمر .
10 ـ رياض بن محمد المسيميري .
11- عبد العزيز بن محمد آل عبد الطيف .
12- عبد العزيز بن ناصر الجليل .
13- محمد بن سليمان البراك .
14- محمد بن صالح الجربوع .
15- عبد الله بن عطيه السلمي .
16- أحمد بن صالح السناني .
17- أسامه بن عقيل الكوهجي .
18- غسان القوز .
19- حمد بن ريس الريس .
20- حمد بن عبد الله الحميدي .
21- عبد الله بن محمد الرشود .
22- علي بن عبد الله الصيّاح .
23- أحمد بن حمود الخالدي .
24- حسين بن محمد آل مستنير .
25- محمد بن سعد القرني .
26- عبد الله بن طويرش الطويرش .
27- فهد بن سليمان القاضي .(/3)
دفن المسلم في مقابر الكفار
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ...
التاريخ ... 18/5/1425هـ
السؤال
الرجاء إرسال الرد على مركزكم؛ لأن بريدي لا يكتب العربية.
السؤال: الرجاء توضيح الرأي الشرعي لمسلم توفي في أوروبا متزوج من نصرانية (عنصرية)، تود دفنه في الكنيسة متحدية أهله وحفيدته المقيمة في نفس البلد، القانون مع زوجته، حفيدته المسلمة تحارب لدفن جدها في المقابر الإسلامية، وقد عملت على توقيف إجراءات الدفن مؤقتا، علماء الدين في هذه البلد وافقوا على أنه للضرورة لا مانع من إجراءات المراسم الكنسية، ومن ثم دفنه في المقابر الإسلامية، زوجته حولت الموضوع إلى قضية عامة وبدأت تحارب عن طريق وسائل الإعلام والعمل على تشويه صورة الإسلام، ما هي الفتوى الشرعية ورأي الإسلام؟ علماً بأن المتوفى كان مسلماً بالوراثة فقط، وما هو السبيل للمسلمين على معالجة هذه القضية؟.
الجواب
لا يجوز للزوجة الكتابية (النصرانية) دفن زوجها في مقابر غير المسلمين، ففي الشرع الإسلامي إذا توفي الرجل فأولى الناس بدفنه أهله وأقاربه.
فإن علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- لما انتهى المسلمون من دفن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وكان علي فيمن نزل في قبره، قال علي – رضي الله عنه- بعد ذلك: "إنما يلي الرجل أهله".
أما الكافر فليس من أهل المسلم ولو كان أقرب قريب لقوله تعالى لنوح مع ابنه: "إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ"[هود: من الآية46]، وأهل الرجل في اللغة يشمل الرجال والنساء، ونص ابن قدامة في المغني: على أن أولى الناس بالصلاة على الميت الوصي إن كان الميت أوصى أن يصلي عليه ويدفنه فلان من الناس، إلا إن كان فاسقاً أو كافراً فلا تنفذ وصيته؛ لأن القصد من الصلاة عليه الدعاء له، ومن كان كافراً أو فاسقاً لا يقبل دعاؤه، ثم بعد الوصي (الأمير) ثم أهله الأقرب فالأقرب، وأكثر أهل العلم يقدمون الأمير - في الصلاة على الميت ودفنه- على الأقارب، فقد ثبت في سنن النسائي (1978) أنه لما ماتت أم كلثوم بنت علي صلى عليها سعيد بن العاص – رضي الله عنهم- وكان أمير المدينة وخلفه يومئذ ثمانون من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم-، وروي عن علي بن أبي طالب وأبي هريرة وابن مسعود – رضي الله عنهم- أنهم قالوا: الإمام أحق بالصلاة على الجنازة، وبما أنكم في بلاد الدنمارك تعيشون أقلية بين النصارى وغيرهم، فإن رئيس المركز الإسلامي أو إمام المسجد يقوم مقام إمام المسلمين فيما يخصكم من أمور شرعية من صلاة وصيام ونحوهما، ومن المعلوم أن الدنمارك كغيرها من دول أوروبا تحترم حرية الأديان، فإن الحق لأهل الميت المسلم كحفيدته، وإن كان الأمر في الدولة على خلاف هذا فلا بأس باعتبار ما سميتموه رأي علماء الدين، فتجرى المراسم على الطريقة الكنسية ثم يقبر في مقابر المسلمين بعد ذلك ولا ينبغي أن تجرى المراسم الكنسية تلك إلا بعد أن تستنفذوا كل الوسائل القانونية الممكنة للعدول عنها فإن لم تنفع فيكون الأمر حينئذ من باب الضرورة الشرعية وارتكاب أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما.
أما كون الميت مسلماً بالوراثة فيكفي هذا لتجري عليه أحكام المسلمين في الحياة وبعد الموت ما دام أنه في الدنيا يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويؤدي أركان الإسلام ولو ترك بعضها تهاوناً وكسلاً لا جحوداً، وقد جاء في الأثر "اذكروا محاسن موتاكم".
أما كون الزوجة النصرانية حولت قضية دفن زوجها إلى قضية عامة وقامت تحارب الإسلام في وسائل الإعلام فاعلموا أنها ليست أول من ناصب دين الإسلام العداء، ولن تكون آخر من يحاربه، فالله يقول في كتابه عن مثل هذا النوع من البشر: "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير" [البقرة:120]، واعلموا أن الله متكفل بحماية هذا الدين رغم حقد الحاقدين وحسد الحاسدين،بقوله تعالى: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" [الحجر:9] وقوله سبحانه: "وإن جندنا لهم الغالبون" [ص:173]. وفقنا الله وإياكم للحق وثبتنا،وأماتنا عليه غير محرفين ولا مبدلين ولا مغيرين ولا خزايا ولا مفتونين آمين.(/1)
دفن المسلم في مقابر النصارى
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ...
التاريخ ... 18/3/1424هـ
السؤال
سؤالي هو أني أعيش في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد توفي ابن أخي بالأمس، ويبلغ من العمر ستة أشهر، ويوجد في الولاية التي أعيش فيها مقبرة للمسلمين، وهي عبارة عن جزء من مقبرة للنصارى تبعد عنا مسافة الساعة والنصف، ولكننا لم نتمكن من الاتصال بالإخوة المسئولين عن هذه المقبرة، رغم محاولاتنا وحدوث بعض المشاكل التي حالت بيننا وبين الذهاب هناك، فقمنا بدفنه في مقبرة للنصارى في نفس المدينة التي نعيش بها، وهي مقبرة ملك للدولة، لكن القبر تم شراؤه؛ لكي لا يتم إزاحة رفات ابن أخي في المستقبل، وبهذا ضمنا أن قبره لن يمس إن شاء الله، وتم دفنه على ما سن به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فسؤالي بارك الله فيكم هل يجوز لنا فعل ذلك أي قبره في مقبرة للنصارى؟ مع العلم أن هناك عدداً من المسلمين ممن دفنوا في نفس المقبرة، وإذا كان غير جائز هل نستطيع نقله في المستقبل إلى المقبرة الإسلامية؟ مع العلم أنها عبارة عن جزء من مقبرة للنصارى أيضاًً.
بارك الله فيكم أفيدونا وجزاكم الله عنا كل خير.
الجواب
الأصل أن يقبر المسلم في مقبرة للمسلمين ولا يقبر الكفار مع المسلمين، وبما أنكم حاولتم دفن ميتكم في مقبرة المسلمين ولم تستطيعوا، فلا حرج عليكم -إن شاء الله- في دفن الميت في مقبرة النصارى؛ لأن الله –تعالى- لا يكلف نفساً إلا وسعها، هذا فيما يخصكم، أما ما يخص الميت فقد انتقل إلى دار البرزخ، التي هي مقدمة الحياة الآخرة وليس للميت إلا ما عمل، فلا ينتفع الميت الكافر أو العاصي بجواره للميت التقي وكذلك العكس، وميتكم صغير لم يبلغ الحلم فهو ملحق بأبويه يشفع لهما يوم القيامة عند الله بدليل قوله –تعالى-:" والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء"، ولا يجوز نقل الميت من قبره إلى مكان آخر، إلا إذا خيف عليه، كأن يلحق بقبره ضرر حسي أو أذى ظاهر مثل أن تصل إليه المجاري النجسة، أو يكون طريقاً للناس في ذهابهم وإيابهم ونحوه، وأما غير هذا فلا يجوز، والمقبرة للنصارى إذا حجز جزء منها لا يدفن فيه إلا المسلمون، فالدفن في هذا الجزء جائز؛ لأنه أصبح مقبرة خاصة للمسلمين، ولو لم يتم تسويرها، وإذا لم يخصص للمسلمين جزء من هذه المقبرة فسبقت الإجابة عنه، والله أعلم.(/1)
دقائق مع صهيب (رضي الله عنه)
الدكتور محمد أديب الصالح
دراسة سير الأعلام في التاريخ أمر ذو أهمية بالغة الأثر في تكامل الثقافة والإعداد من أجل أن يأخذ الفرد دوره الفعال في حياة الجماعة وبناء المجتمع ، ونحن أمة أكرمنا الله بأن كان أعلامنا صورة حية واقعية للمبادئ التي حملوها ، ولم يبخلوا بالعطاء في سبيلها ؛ فإذا قرأت سيرة واحد من هؤلاء وقعت على الأنموذج الذي تعتبر حياته إعلاناً أي إعلان ينادي في الناس أن الإسلام وطاقات الإنسان على سبيل سواء ، وأن أولئك الرجال الذين اختصهم التاريخ واستودع أيامهم صفحاته ، إنما بلغوا ما بلغوا ، بحرصهم على الوفاء بموثقهم من الإسلام ، وإقدامهم حيث يتعين الإقدام ـ وصبرهم على مستلزمات العقيدة حيث لا يصبر إلا أقوياء الإيمان ـ فلا المال ولا الولد ولا حب الحياة بصارف عن هذا الذي هو إقدام ، ولا بمثبط عن ذاك الذي هو صبر وعطاء .
والحقيقة التي لا يسع منصفاً جهلها أو تجاهلها ، أن المسلمين الأوائل كانوا أقدر على نشر الإسلام في الجزيرة العربية ، ثم في تميزها من بقاع الأرض بذلك السلوك الفريد الذي كان ترجمان القرآن الذي حملوه إلى الناس ، وكان التعبير الفطري الميسر عن منهجهم في التفكير والطريقة التي تحكم سلوكهم تجاه أنفسهم وتجاه من يدعونهم إلى الإسلام .
وما أحسب أن واقعة من الوقائع التي يصنعها المرء بسلوكه وعطائه يمكن أن تبتلعها الأيام فلا تعطي عطاءها على ساحة البناء أو يندرس أثرها في التاريخ ؛ فالأجيال المتلاحقة تفيد وما تزال بحاجة إلى أن تفيد أكثر وأكثر من العمل القدوة الذي يصنعه الوعي الإنساني بوصفه إنساناً ، ويأخذ أبعاده بعمق وشمول منسقين مع العقيدة التي يحملها ، والفكر الذي يدعو غليه .
واليوم وقد كثرت المعوقات والمثبطات ، تبدو ضرورة ملحةً دراسة تلك النماذج بأصالة وعمق ، من أجل أن يكون ذلك عوناً للفرد على الإسهام الإيجابي النافع في كل ما هو خير لمجتمعه وأمته .
وعلى هذه الطريق المشرقة النيرة نحن على موعد مع قبسات من حياة واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذلك هو صهيب بن سنان الرومي .. ويقال : خالد بن عمرو بن عقيل . وأمه من بني مالك بن عمرو بن تميم ، ولقد ثبت أنه ليس برومي ، ولكن قيل له ذلك لأن الروم سبوه صغيراً ، رحمه الله ورضي عنه .
ويقول ابن سعد في (الطبقات) : كان أبوه وعمه على الأُبُلّة من جهة كسرى ، وكانت منازلهم على دجلة من جهة الموصل ، فنشأ صهيب بالروم فصار ألكن ، ثم اشتراه رجل من كلب فباعه بمكة فاشتراه عبد الله بن جدعان التميمي فأعتقه ، على أنه هو في حديث له مع عمر بن الخطاب قال عن نفسه : وأما انتمائي إلى العرب ؛ فإن الروم سبتني صغيراً ، فأخذت لسانهم . روى ذلك البغوي من طريق زيد بن أسلم عرابيه .
ولقد كان صهيب من السابقين إلى الإسلام والإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام ، فهو واحد من سبعة هم أول من أظهر إسلامه .
ولم تمر إسلامه دون أن يدفع ثمنها غالياً ، ولكن ما عند الله خير وأبقى لأولئك الذين صبروا على ظلم قريش وأذاها عندما آووا إلى دعوة الإسلام . جاء في صحيح الأخبار أن عمار بن ياسر كان يعذب حتى لا يدري ما يقول ، وكذا صهيب ، وعامر بن فهيرة وقوم ، وفيهم نزل قوله تعالى في سورة النحل : [ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ، ثم جاهدوا وصبروا ، إن ربك من بعدها لغفور رحيم] .
أجل : لقد كان صهيب من المستضعفين ممن يعذب في الله ، فما غيّر ولا بدل ، بل صدق ما عاهد الله عليه ، وصبر وصابر، وقد هاجر إلى المدينة مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه في آخر من هاجر في تلك السنة ، فقدما في نصف ربيع الأول ، وشهد بدراً والمشاهد بعدها .
ومن كريم مواقفه في البذل ، والشجاعة في مواجهة الباطل وأهله ما روي أنه لما هاجر، تبعه نفر من المشركين ، فسئل فقال : يا معشر قريش ، إني من أرماكم ، ولا تصلون إليّ حتى أرميكم بكل سهم معي ، ثم أضربكم بسيفي ، فإن كنتم تريدون ما لي دللتكم عليه ، فرضوا ، فعاهدهم ودلهم ، فرجعوا فأخذوا ماله ، فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له : ربح البيع ، فأنزل الله عز وجل : [ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد] .
لقد كان رحمه الله شجاعاً صادق التوكل حين لم يخفه تهديد هؤلاء النفر من المشركين ووعيدهم ، بل هددهم بأن يستنفد ما في وسعه في قتالهم ، وكان شجاعاً صادق التوكل أيضاً حين نزل على كل ما يملك من المال في سبيل أن يسلم له دينه ، وتتم له هجرته ، وفي غمرة ذلك كله كان مثال الوفاء حين عاهدهم ودلهم ، وهم المشركون ـ فرجعوا بكل جشعهم وخيلائهم وأخذوا ماله .(/1)
ولكن الله الذي لا يضيع عنده مثقال ذرة أنزل فيه وفي أمثاله قرآناً يتلى حتى يرث الله الأرض ومن عليها ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يثني على صنع صهيب فيما بذل من الدنيا ابتغاء الآخرة وطلباً لرضوان الله ويزف إليه تلك البشرى العظيمة بقوله : ربح البيع ، ونزلت الآية الكريمة : [من الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد] لتظل عنوان الكرامة والقبول فسبحان المنعم المفضل .
ولقد كان هذا الصحابي الجليل ـ والحمد لله ـ جديراً بهذه المكرمة ، فقد ثبت على طريق الحق وأسهم أيما إسهام في بناء المجتمع الذي اتسم بالإيمان والتكافل والنظام ، ولم يتخلف يوماً واحداً عن كل ما هو بذل وعطاء في ساحة المكرمات . قال رضي الله عنه : لم يشهد رسول الله مشهداً قط إلا كنت حاضره ، ولم يبايع بيعة قط إلا كنت حاضرها ، ولم يسير سرية قط إلا كنت حاضرها ولا غزا غزاة قط إلا كنت فيها عن يمينه أو شماله ، وما خافوا أمامهم قط إلا كنت أمامهم ، ولا ما وراءهم إلا كنت وراءهم ، وما جعلت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين العدو قط حتى توفي .
مات صهيب سنة ثمان وثلاثين أو سبع وثلاثين للهجرة . رحمه الله وأعلى مقامه في الآخرين ، ورزقنا حسن التأسي ، فنحن اليوم أحوج ما نكون إلى حسن التأسي بهؤلاء الرجال ، وعلى الله قصد السبيل .(/2)
دقيقة للتوبيخ أو المديح
الدكتور حسان شمسي باشا
أسلوب الدقيقة الواحدة ، أسلوب حديث في تربية الأبناء . فإذا كنت تعاني من تمرد أبنائك ، أو كنت تشعر بوجود مشكلة في تربيتك لأولادك ، فحاول تطبيق أسلوب الدقيقة الواحدة في تربيتهم ، وانظر فيما إذا كان ذلك مجديا معهم
ويعتبر الأستاذ الدكتور سبنسر جونسون رائد أسلوب الدقيقة الواحدة في العصر الحديث.
ويعتمد هذا الأسلوب على جعل الأبناء يشعرون بعدم الرضا عن تصرفهم الخاطئ ، ولكن بالرضا عن أنفسهم ، فكيف يتم ذلك بدقيقة واحدة ؟
إذا عاد ابنك متأخرا إلى البيت ، وكان قد كرر تأخره خلال الأسبوع ، انظر إلى عينيه مباشرة ، وقل له : " لقد عدت متأخرا ، وكررت ذلك للمرة الثانية هذا الأسبوع " . ثم ينبغي أن تعبر عن حقيقة شعورك بالغضب " أنا غاضب جدا منك يا بني ، وأنا حزين جدا أنك كررت ذلك مرتين " .
وأهم ما في الأمر أنك تريد من ابنك في النصف الأول من الدقيقة أن يشعر بما تشعر به . إذ لا يكفي أن يتلقى أبناؤنا التأنيب ، لكن المهم أن يشعروا به . وسيشعر ابنك بعدكلامك المختصر معه ، والمعبر بصدق عن شعورك نحو تصرفه أنه لا يحب ما فعل . وقد يشعر بكره نحوك ، إذ لا يرغب أحد منا أن يؤنبه أحد . وهذا بالضبط ما تريده من النصف الأول من الدقيقة . تريد ابنك أن يشعر بأنه غير مرتاح .
ولكن ماذا تفعل إذا شعر ابنك بالضيق ، وأخذ يدافع عن نفسه ؟ وهنا ينبغي أن تكمل النصف الآخر من الدقيقة ، فهو مفتاح النجاح لعملية التأنيب التي تقوم بها .
ففي النصف الأول من الدقيقة قلت لطفلك أنك غاضب منه ، ومصاب بخيبة أمل فيه ، وحزين بسبب سلوكه الخاطئ .. وفي النصف الآخر من الدقيقة انظر إلى وجهه واجعله يشعر بأنك تقف إلى جانبه ولست ضده . وقل له ما يريد سماعه منك . قل له أنه شخص طيب ، وأنك تحبه ، ولكنك غير راض عن سلوكه تلك الليلة ، وأن هذا الأمر يزعجك جدا . ثم ضمه إلى صدرك بقوة حتى تعلمه أن التأنيب قد انتهى دون أن تذكر له ذلك .
وهكذا ففي النصف الأول من الدقيقة قمت بتوبيخ طفلك بأسرع وقت ممكن ، وحددت له ما فعل ، وعبرت عن شعورك بالغضب تجاه ما قام به .
أما النصف الآخر من الدقيقة ففيه لحظات هدوء ومحبة ومنح للثقة . تذكر خلالها أنك لا تقبل بسلوك طفلك الحالي ، ولكنه ولد طيب ، وتشعره بأنك تحبه وتحتضنه .
و بهذه الطريقة يشعر ابنك أنها تؤلم أكثر بكثير من أسلوب التعنيف أو الضرب . ويشعر الأبناء أن تصرفاتهم السيئة لن تمر دون حساب . وأنهم أشخاص طيبون ومحبوبون .
ودقيقة للمديح :
إذا قام ابنك بعمل يستحق المديح ، فاجعله يشعر بالسعادة حينما يحسن مثلما أنك وبخته حين أساء . لاحظ أبناءك حينما يحسنون التصرف ، وقل لهم بالتحديد ماذا فعلوا من أمر حسن . أخبرهم بسرورك لما فعلوه ، وتوقف عن الكلام لثوان قصيرة ، فإن صمتك يشعرهم أنهم راضون عن أنفسهم.
واختم مديحك بالاحتضان أو أن تربت على كتفه بحنان حتى تشعره أنك مهتم به . ورغم أن مدح أبنائك لا يستغرق أكثر من دقيقة واحدة ، فإن إحساسهم بالرضا عن أنفسهم سيرافقهم طوال حياتهم .
ودقيقة لعطلة نهاية الأسبوع :
حاول أن تجلس مع أبنائك قبل عطلة نهاية الأسبوع ، اسألهم كيف يريدون قضاءها . دعهم يضعوا خطة يحددون فيها أهدافهم ، وما سيفعلونه في تلك العطلة .
اجمع تلك الأهداف ، ودعهم ينظرون إليها دقيقة واحدة . ثم يرى كل واحد فيما إذا كانت تلك الأهداف تتوافق مع سلوكهم . فواحد يضع خطة يضبط فيها طريقة تحدثه مع الآخرين مثلا ، فلا يتحدث بصوت مرتفع يزعج من حوله . وآخر يضع هدفه تصحيح طريقة مشيه ، إن كانت مشيته غير مألوفة خلال فترة معينة . وهكذا .
وينظر كل فرد إلى أهدافه الخاصة ، ويلاحظ فيما إذا كان سلوكه ينسجم مع أهدافه . ولن يستغرق ذلك منه أكثر من دقيقة واحدة .
وهكذا يشعر الأبناء بالثقة بالنفس ، والقدرة على إدارة شؤون الحياة ، فتصبح حياتهم أكثر إشراقا وحيوية .
لقد جرب هذه الطريقة عدد كبير من الآباء ، ووجدوا فيها حلولا لمشاكلهم في تربية أبنائهم . وحصلوا على نتائج أفضل في وقت قليل . لقد تعلم أطفالهم كيف يحبون أنفسهم ، ويسعون لتطوير سلوكهم نحو الأفضل . وعرفوا متعة الحياة الهنيئة في بيت متكافل خال من البغض والشحناء .
الوصايا العشر في تربية الأبناء :
1. لا تشغل نفسك بتحقيق طموحاتك وتنسى مشاكل أبنائك .
2. لا تترك مسؤولية التربية على عاتق زوجتك وحدها .
3.حاول أن تقضي وقتا كافيا مع أبنائك ، تعيش معهم أحاسيسهم ومشاكلهم .
4.تذكر حين توبخ ابنك أن تشعره بأنك تحبه ، ولكنك لا تحب سلوكه فقط . وكلما أحب أطفالك أنفسهم حاولوا تطوير سلوكهم نحو الأفضل .
5.على الآباء أن يتعلموا الإصغاء إلى أبنائهم كي يتعلم الأبناء كيف يصغون إلى آبائهم .
6.حاول تنمية الإحساس بالنجاح في نفوس أبنائك منذ الصغر ، واجعلهم يلتفتون إلى تصرفاتهم الحسنة ، وامدحهم عندما يتصرفون بشكل جيد .(/1)
7.شجع أولادك على أن يكونوا صادقين معك .
8.عندما تكون في البيت حاول أن لا تفكر إلا في شؤون بيتك وأبنائك ، وعندما تكون في العمل ، فكر فقط في عملك .
9.إذا رأيت طفلك متمردا عليك فاسأل نفسك : هل احتضنت طفلك ذلك اليوم ؟.
10.اتبع أسلوب الدقيقة الواحدة في حياتك مع أبنائك ، فالتأنيب بدقيقة ، والمديح بدقيقة، ولكنها حقا دقيقة مثمرة .
للمزيد من التفاصيل : راجع كتابنا : " كيف تربي أبناءك في هذا الزمان ؟ " ، وهو من منشورات دار القلم بدمشق .(/2)
دلائل الإيمان
من دلائل الإيمان وعلاماته التي تدل على صدق المؤمن، سروره وفرحه بالطاعات والحسنات، وحزنه وغمه بالمعاصي والسيئات، فإذا فرحت أيها المؤمن بالحسنة التي تفعلها وسررت بها، وحزنت وتألمت بالسيئة والمعصية التي وقعت منك وندمت من فعلها فأنت مؤمن، فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب الناس بالجابية فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قام في مثل مقامي هذا فقال: "أحسنوا إلى أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم يحلف أحدهم على اليمين قبل أن يستخلف عليها ويشهد على الشهادة قبل أن يستشهد فمن أحب منكم أن ينال بحبوحة الجنة فيلزم الجماعة ، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، ولا يخلون رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان، ومن كان منكم تسره حسنته وتسوؤه سيئته فهو مؤمن"وأخرجه البيهقي وغيره عن أمامة رضي الله عنه أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم ما الإيمان؟ قال: "إذا ساءتك سيئتك وسرتك حسنتك فأنت مؤمن، قال: فما الإثم؟ قال: إذا حك في صدرك شيء فدعه"
فهذا مقياس يستطيع الإنسان أن يقيس به مستوى الإيمان في قلبه، إذا صليت الصبح في جماعة ففرحت بتوفيق الله لك بذلك وسررت بأداء الصلاة حاضرة مع جماعة المسلمين تلك الصلاة المشهودة التي يُحتفى بها في الملكوت الأعلى والتي لا يحرص عليها إلا المؤمنون، فذاك علامة الإيمان. إذا أرشدت ضالاً ودللت حيراناً على الصراط المستقيم وكنت سبباً في هدايته وإرشاده فرحت بذلك العمل وسررت به فأنت مؤمن، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه "فوالله لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم" .
إذا هممت بريبة في خلوة والنفس داعية إلى الطغيان فجاهدت نفسك واستعنت بربك واستعصمت بإيمانك فأنقذك الله من رذيلة وعصمك من الوقوع في فاحشة وفرحت بذلك وسررت بالخلاص من الوقوع فيما يغضب الله فأنت مؤمن .
وإذا غلبتك نفسك وقارفت ذنباً وليس من عادتك انتهاك حرمات الله ثم استيقظ ضميرك وتذكرت عقاب الله وعظمة الله فتألمت وتبت واستغفرت وندمت على فعلتك وعقدت العزم على أن لا تعود مرة أخرى إليها وعلمت أن رحمة الله أوسع من ذنوبك إذا فعلت ذلك فأنت مؤمن.
أخرج البيهقي في الشعب بسند جيد عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يقول: "اللهم اجعلني من الذين إذا أحسنوا استبشروا وإذا أساؤوا استغفروا".
وهكذا ينبغي أن يكون المؤمن مستبشراً بثواب الله خائفاً من عقابه وهو يؤدي الطاعات ويعمل الحسنات، حين تزل قدمه فيقع في المعاصي والآثام.
هكذا هي النفس البشرية تعيش بين استبشار وفرح وبين خوف وحزن وجزع، والمؤمنون المتقون مبشرون بكل خير من الدنيا والآخرة كما قال الله تعالى ? أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ?[ يونس:62-64]
فالله يبشر عباده وأولياءه بخيرات الدنيا والآخرة ومن الخيرات العاجلة، الاطمئنان والسعادة النفسية، والنصر والفتح، والرزق والغنيمة والتمكين والاستخلاف وغير ذلك ومن البشرى العاجلة الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى، والثناء الحسن، والذكر الجميل جاء في صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: يا رسول الله أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه, قال: "تلك عاجل بشرى المؤمن". قال العلماء في معنى الحديث هذه البشرى المعجلة له بالخير هي دليل على رضاء الله تعالى عنه ومحبته له، فيحببه إلى الخلق ثم يوضع له القبول في الأرض.
إن المؤمن عليه أن يعيش مستبشراً برحمة الله ورضوانه حتى في أحلك الظروف وأصعب المواقف، ولقد كان هذا شأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أمته ليزيل عنها دواعي القلق على مستقبل الإسلام الذي يكيد له الأعداء فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم كما في مسند الإمام أحمد: "بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والدين والنصر والتمكين في الأرض" والمؤمن محتاج في حال البلاء إلى من يكشف همه، ويبشره بما يسره، إما بفرح عاجل، أو بأجر آجل، ولقد وجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أم العلاء مريضة فقال لها: "أبشري يا أم العلاء، فإن مرض المسلم مذهب خطاياه كما تذهب النار خبث الحديد".
ولقد بشر الله المؤمنين المبايعين على الإيمان والجهاد بما ادخر الله لهم من الأجر والثواب إن وفَّوا بالبيعة فقال ? فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ?[ التوبة: 111].(/1)
والمؤمن المستقيم على أمر الله يمده الله بملائكته يثبتونه ويبشرونه برحمة الله ورضوانه في هذه الحياة ويثبتونه ويطمئنونه عند دنو أجله وانتقاله من كبد هذه الحياة وخروجه منها منتقلاً إلى دار البرزخ وحياة الآخرة كما قال الله تعالى: ? إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ?[ فصلت:30-32] .
تشتد المؤامرات على الإسلام والمسلمين ويزداد العداء ويكبر الكيد وتتوالى الضربات حتى ليخيل للناظر أن الإسلام قد انمحى من الواقع وأن الكافرين قد حققوا أهدافهم واستنفدوا أغراضهم، وإن نظرة لما يجري في فلسطين والعراق وأفغانستان من حرب إبادة وتدمير بمختلف الوسائل والأساليب تدعو إلى التشاؤم والهزيمة النفسية غير أن منطق الإيمان وحقائق القرآن تنطق بغير ذلك، فهي تدعو المؤمنين إلى الصبر والثبات والسير على خُطَا الإيمان وعدم الرضوخ للواقع أو الرضى بالذلة والهوان والاستسلام في آيات كثيرة منها قوله سبحانه: ? وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ *?[ آل عمران:139], ? وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ?[ آل عمران: 186] وقال سبحانه: ? فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ?[ محمد:35]
وقال تعالى:? وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ?[ النساء:104].
ثم يبشرهم الله تعالى بما ستؤول إليه أمور الكفار وكيف ستكون نهاياتها في آيات كثيرة ويأمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بأن يعلن للكفار هزيمتهم وخسارتهم المسبقة في نهاية المطاف كما قال تعالى: ? قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ?[ آل عمران:12].
فهذا إخبار منه سبحانه، وإنذار للكافرين المغرورين بكثرتهم وقوتهم، وما لديهم من الأموال والمادة والعتاد أنهم سيغلبون في الدنيا، ويتجرعون خزي الهزيمة والذل وعار الإفلاس والخسران.
وقد حدث هذا، وحقق الله وعده على أيدي المؤمنين في بدر وخيبر والفتح وغيرها من الغزوات والانتصارات التي حققها الله على أيدي المؤمنين على امتداد التاريخ الإسلامي وهذه سنة الله تعالى أن ينصر المؤمنين ويذل الكافرين ولا يتخلف نصر الله عن المؤمنين، إلا بضعف إيمانهم وسوء أعمالهم وفساد مقاصدهم.
أما حين يكونوا مستقيمين على أمر الله مستمسكين بدينه متبعين لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم فإن النصر حليفهم ونتيجة المعركة محسومة لهم في النهاية، قد يبتليهم الله ويمحصهم ويختار منهم شهداء ويصيبهم القتل ويمسهم القرح والبلاء ثم تكون العافية الحسنة لهم.
كما قال سبحانه في التعقيب على غزوة أحد وما حصل فيها، داعياً عباده المؤمنين إلى الاستفادة من سنن التاريخ وإدراك حقائق الأمور التي يدبرها الله تعالى ? قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ *إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ* وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ?[ آل عمران:137ـ141].
ثم إن الكفار الذين كتب الله عليهم الخزي والهزيمة في الدنيا قد كتب لهم في الآخرة العذاب الأبدي والآلام والخسارة التي لا تنفك عنهم أبداً كما قال: ? إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ * قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ?[ آل عمران:10ـ12].(/2)
أيها المؤمنون: اعلموا أن نصر الله آت لا ريب فيه ، ولكنه نصر مشروط لا يتنزل إلا على المؤمنين الذين استكملوا شرائط الإيمان وأخذوا في إعداد العدة والأخذ بالأسباب وأخلصوا دينهم لله وصدقوا في حمايته ونصرته وبذلوا المهج والأموال لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، فليبشروا عندئذ بنصر الله وتحقيق وعده في قوله الكريم ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ?[ محمد:7], وبقوله: ? وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ?[ الروم: 47] وبقوله ?إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ?[ آل عمران:160].
? وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ?[ الأنفال: 10].
فكونوا أنصار الله واصبروا وصابروا واتقوا الله.
راجعه/ علي عمر بلعجم.
عبد الحميد أحمد مرشد.
ـ أخرجه أحمد في المسند 1/26,برقم: 177, وابن حبان في صحيحه 10/436, برقم: 4576, والطبراني في المعجم الأوسط 2/184,برقم : 1659, وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة 1/792, برقم: 430.
ـ أخرجه أحمد في المسند 5/251, برقم: 22213, وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 2/152, برقم: 1739.
ـ أخرجه البخاري في صحيحه 3/1077, برقم: 2783, وأبو داود في السنن 2/346, برقم: 3661.
ـ أخرجه ابن ماجة في السنن 2/1255, برقم: 3820, وأحمد في المسند 6/188, برقم: 25591, وعلق عليه شعيب الأرنؤوط بأنه ضعيف, وضعفه الألباني في ضعيف ابن ماجة 1/308, برقم: 835.
ـ أخرجه مسلم في صحيحه 4/2034, برقم:2642, وأحمد في المسند 5/156, برقم: 21417, وابن حبان في صحيحه 2/88, برقم: 366.
ـ أخرجه أحمد في المسند 5/134, برقم: 21258, ولم أجد من تعرض له بالتصحيح أو التضعيف.
ـ أخرجه أبو داؤود في السنن 2/200, برقم: 3092, والطبراني في المعجم الكبير 25/141, برقم: 340, وصححه الألباني في صحيح أبي داوود 3/188, برقم: 3438, وفي السلسلة الصحيحة 2/331, برقم: 714.(/3)
دلالة الجمع السالم على القلة والتكسير على الكثرة
د. محمد فاضل السّامرائي
من المعروف في اللغة العربية أنه قد تكون للكلمة الواحدة أكثر من جمع، فتجمع مرة جمع مذكر ومرة أخرى جمع تكسير، نحو كلمة (نبي) التي تجمع على نبيين وأنبياء. وقد تجمع الكلمة جمع مؤنث سالمًا تارة، وتارة أخرى جمع تكسير نحو كلمة (سنبلة) التي تجمع على سنبلات وسنابل.
وقد جاءت هذه الصور من الجموع في القرآن الكريم، فنرى أن الكلمة الواحدة قد اختلفت في جموعها. فكلمة (خطيئة) ـ مثلاً ـ جمعت على خطيئات وخطايا، وكلمة (نبي) جمعت على أنبياء ونبيين... وهكذا.
فمن الآيات التي وردت فيها مفردات جمعت في موطن جمع مؤنث وفي موطن آخر جمع تكسير قوله تعالى مخبرًا عن بني إسرائيل: (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) [البقرة58].
وقوله في موطن آخر مخبرًا عنهم أيضًا: ) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّةٌ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف161].
على الرغم من أن الخطاب في الموطنين لبني إسرائيل قال في الآية الأولى: (خطاياكم) وفي الآية الثانية (خطيئاتكم) فما سبب هذا التخصيص؟
يقول النحاة إن الجمع السالم بنوعيه يفيد القلة ( أي: من الثلاثة إلى العشرة) وجمع التكسير يفيد الكثرة (أي: فوق العشرة) ومعنى هذا أن كلمة (خطيئة) جمعت في آية البقرة جمع تكسير الذي يفيد الكثرة، وفي آية الأعراف جمع مؤنث الذي يفيد القلة.
يرى العلماء أن سبب التخصيص هو أن آية البقرة جاءت في مقام تعداد النعم والآلاء على بني إسرائيل، فجاءت كلمة (خطايا) على جمع التكسير الذي يفيد الكثرة ليناسب ما قصد من تكثير الآلاء والنعم، بخلاف آية الأعراف فإنها لم تبنَ على تعداد النعم على بني إسرائيل كما بنيت عليه آية البقرة، فجاءت مجموعة جمع مؤنث الذي يفيد القلة.
ولتوضيح هذا الرأي أقول: إن آية البقرة جاءت في مقام تعداد النعم والآلاء على بني إسرائيل كما نرى ذلك في الآيات التي تكتنفها، قال تعالى: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ¯... وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ ... ¯وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ¯ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ¯ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ¯ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ¯ ... وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ¯ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ¯ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ...¯ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ¯ ... وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [البقرة47 ـ 60].
نلاحظ أن آية البقرة في سياق تعداد النعم على بني إسرائيل وتكريمهم.فناسب هذا التكريم مجيء (خطايا) بصورة جمع التكسير ليبين لنا أن الله يغفر لهم خطاياهم مهما كثرت.(/1)
وهذا بخلاف آيات الأعراف فإن المقام فيها مقام تقريع وتأنيب، فإن بني إسرائيل قوم لا يتعظون. قال تعالى: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) [الأعراف138]. فإنهم من بعد ما أنجاهم الله من فرعون وأغرق فرعون وآله وهم ينظرون إليهم مروا على قوم يعبدون الأصنام فطلبوا من موسى أن يجعل لهم أصنامًا يعبدونها تأسيًا بهم.وعندما ذهب موسى لميقات ربه عبد قومه العجل، قال تعالى: (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ) [الأعراف148]. ثم إنهم كانوا ينتهكون محارم الله، فقد حرم الله عليهم أن يصطادوا يوم السبت تعظيمًا لحرمته فانتهكوها وأخذوا يحتالون لاصطياد الحيتان في هذا اليوم، قال تعالى: (واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) [الأعراف163].
فإنه لما كان المقام فيها مقام تقريع وتأنيب جاءت (خطيئة) مجموعة بالألف والتاء لتدل على القلة.
وهناك سبب آخر للتخصيص وهو أن الله تعالى أسند القول إلى نفسه في آية البقرة فناسب هذا الإسناد أن تأتي كلمة (خطيئة) مجموعة جمع تكسير ليدل هذا الجمع على أنه يغفر لهم خطاياهم مهما كانت كثيرة. بخلاف آية الأعراف فإنه لما لم يسند القول فيها إلى نفسه وإنما ذكر القول بالبناء للمجهول فقال: }وإذ قيل لهم{ أتى بجمع القلة فقال (خطيئات).
* * *
ومن الآيات التي تباينت مفرداتها في صيغ جموعها فجاءت مرة مجموعة جمع مذكر، ومرة أخرى مجموعة جمع تكسير قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) [البقرة61]. وقوله: (ِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ) [آل عمران21]. فقد جمعت كلمة (نبي) جمع مذكر في هاتين الآيتين، في حين جمعت جمع تكسير في قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) [آل عمران112]. فما سبب هذا التخصيص؟
ذكرنا أن النحاة قالوا: إن الجمع السالم بنوعيه يفيد القلة وجمع التكسير يفيد الكثرة.وعلى هذا فإن جمع المذكر يفيد القلة.
ومعنى هذا أن كلمة (نبي) جمعت جمع قلة في آية البقرة والآية الأولى من آيتي آل عمران، في حين جمعت جمع كثرة في الآية الثانية من آيتي آل عمران.
وسبب ذلك أن موطن الذم والتشنيع على بني إسرائيل والعيب على فعلهم في آية آل عمران أكبر منه في آية البقرة. يدل على ذلك أمور منها: أنه في سورة البقرة جمع (الذلة والمسكنة) وأما في آية آل عمران فقد أكّد وكرّر وعمّم فقال: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ), فجعلها عامّة، ثم قال: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ). فأعاد الفعل وحرف الجر للزيادة في التوكيد، فإن قولك: (أنهاك عن الكبر وأنهاك عن الرياء) آكد من قولك: (أنهاك عن الكبر والرياء).
ثم إنه ذكر الجمع في آية البقرة بصورة القلّة فقال: (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ). وذكره في آية آل عمران بصورة الكثرة فقال: (وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ). أي يقتلون العدد الكثير من الأنبياء بغير حق.فالتشنيع عليهم والعيب على فعلهم وذمهم في سورة آل عمران أشد.
وما ذكرنا في آية البقرة يمكن أن يقال في الآية الأولى من آيتي آل عمران.
* * *
ومن ذلك قوله تعالى: (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة261], فقد جمعت (سنبلة) في هذه الآية على (سنابل), في حين جمعت جمع سلامة في قوله تعالى: (وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ) [يوسف43].
فأنت ترى أن العدد في الآيتين واحد هو سبع ، ولكن استعمل معه (سنبلات) مرة، ومرة أخرى (سنابل) وسر ذلك أن سنابل جمع كثرة وسنبلات جمع قلة، وقد سيقت الآية الأولى في مقام التكثير ومضاعفة الأجور فجيء بها على (سنابل) لبيان التكثير.
وأما قوله: (سَبْعَ سُنبُلاَتٍ), فجاء بها على لفظ القلة لأن السبعة قليلة ولا مقتضى للتكثي(/2)
دليل الحج
الشيخ. جابر ادريس عويشة*
قيم ومضامين الحج :-
الحمد لله الذى جعل كلمة التوحيد لعباده حرزاً وحصناً ، وجعل البيت العتيق مثابة للناس وأمناً، والصلاة والسلام على نبى الرحمة وسيد الأمة وعلى آله وصحبه قادة الحق وسلم تسليما كثيراً .قال تعالى:( إن أولَ بيتٍ وُضعَ للناسٍ للذى ببكةَ مُباركاً وَهدى للعَالمينَ ، فيهِ آياتّ بينات مقامَُ إبراهيم وَ منَ دخله كان آمنا، ولله على الناسِ حج البيت من استطاع إليه سَبيلاً ، وَ من كَفر فإن الله غنى عَنِ العَالمين ) سورة آل عمران الآيات ( 96،97 ) .
فإن الحج من بين أركان الإسلام ومبانيه عبادة العمر وختام الأمر وتمام الإسلام وكمال الدين وهو من الدعائم الأساسية لعقيدة الإسلام ، والدوافع المحركة لأمة المسلمين تجعل المسلم حراً وواعياً ومسؤولاً نحو المجتمع وهى التوحيد والجهاد والحج .
والحج في جوهره ارتقاء الإنسان بالقرب من الله عز وجل وهو رمز الحكمة التى من أجلها خلق الخلق .
والحج ركن أساسي من أركان الإسلام وروحه الأصلية هي التقوى، وهو عبادة جامعة ففيه إنفاق المال ومشقة الجسد ، وذكر الله ، والتضحية في سبيله .
وهو مجموعة رموز صيغت بأعمال فهو رمز إستسلام الإنسان لله عز وجل فما الطواف والسعى والحلق والتقصير إلا ذلك وهو رمز إرتباط الأمة بأبيها إبراهيم ، فهى تحيى شعائره.
وهو المظهر العملي لوحدة الأمة بغض النظر عن الأجناس والألوان والأوطان نابعة من عقيدتهم .
وهو المظهر العملي للأخوة الإسلامية بحيث يحس بشكل عملى بأنه أخ لكل مسلم .
وهو المظهر العملي للمساواة بين الناس إذ دخلت فى دين الله ، لباسهم واحد وذكرهم واحد وهو تحقيق غاية التنوع ( وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ) فيه يتم أعظم تعارف للشعوب وهو المعول الذي يهدم الحواجز بين أبناء الأمة ، حاجز القومية والوطنية ، ويحيى في الإنسان مشاعر العطف على المسلمين والإنتصار لمواساتهم .
والحج إحياء لذكريات ربانية عرفها البشر ، ذكرى الأسرة التي لا تبالي في الله بشئ وذكرى الوالد الذى يتقرب بابنه لله عز وجل ، وذكرى الولد الذي يقدم نفسه قربانا لله عز وجل وذكرى الأم التى تثق في ربها ثقة لا حدود لها وتطيع سيدها ، وذكرى التوكل الكامل ، وذكرى العودة للبيت الذي أخرج من جواره المستضعفين .
والحج مدرسة يرتفع بها المسلم إلى آفاق أرفع وأعلى .. ويتعلم فيها بذل الجهد مع الصبر ( ولكن أفضل الجهاد حج مبرور ) ويتعلم فيها أن يعيش في عبادة دائمة ، ويتعلم أن يكون لطيفا مع المؤمنين رفيقا بهم ويتعلم فيها كبح عواطفه وإلجام نزواته .
والكعبة رمز التوحيد . إنه لا ضير أن يبقى الصالح من تقاليد العرب وشرائعهم التى ورثوها من دين إبراهيم ـ وهو بهذا يصل القديم والجديد فى تاريخ الإيمان .
والرمزية هي اللغة الوحيدة لتمثيل المعاني الدقيقة والمشاعر النبيلة التى لا يمكن أن تصورها الألفاظ ، أو تجلوها العبارات .
فالحجر الأسود في الكعبة موضع الابتداء ، ونقطة التمييز في البناء ، وعنده تكون البيعة لرب الأرض والسماء على الإيمان والتصديق والعمل والوفاء .
والإحرام فى الحقيقة ما هو إلا التجرد من شهوات النفس ، وما التلبية إلا شهادة على النفس بهذا التجرد .
وما الطواف بعد التجرد الإ دوران القلب حول قدسية الله . وما السعى بعد الطواف إلا التردد بين علمى الرحمة التماسا للمغفرة والرضوان .
وما الوقوف بعد السعى إلا بذل المهج في الضراعة بقلوب مملوءة بالخشية ، وأيد مرفوعة بالرجاء وألسنة مشغولة بالدعاء ، وآمال صادقة في أرحم الراحمين ، وما الرمى بعد هذه الخطوات والتى تشرق بها على القلوب أنوار ربها ، الإ رمز مقت واحتقار لعوامل الشر ونزعات النفس . وهو رمز مادى لصدق العزيمة فى طرد الهوى للأفراد والجماعات .
وما الذبح ـ وهو الخاتمة في درج الترقي إلى مكانة الطهر والنقاء ، إلا إزالة دم الرذيلة بيد اشتد ساعدها في بناء الفضيلة ومشهد التضحية والفداء على مشهد من جند الله الأطهار الأبرار.
*الحج شحنة روحية وعاطفية :
الحج شحنة روحية كبيرة يزداد بها المسلم فتملأ جوانحه خشية وتقى لله ، وعزما على طاعته وندما على معصيته . وتغذى فيه عاطفة الحب لله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم .
إن الأرض المقدسة ومالها من ذكريات وشعائر ، ومالها من أثر فى النفس ، وقوة الجماعة ومالها من ايحاء الفكرة والسلوك . كل هذا يترك أثره واضحا فى أعماق المسلم .
فيعود من رحلته أصفى قلباً وأطهر مسلكاً وأقوى عزيمة على الخير ، وأصلب عودا على مفردات الشر ، وكلما كان حجه مبرورا كان أثره فى حياته المستقبلية يقين لا ريب فيه .
الحج ثقافة وتدريب :
قضية توسيع لأفق المسلم الثقافى ، ووصل له بالعالم الكبير حوله .
قضية تدريب على ركوب المشاق ، ومفارقة الأهل والوطن والتضحية بالراحة فهو يلتقى مع الصوم فى إعداد المسلم للجهاد .(/1)
فحياة الحاج بسيطة خشنة ، حياة تنقل وإرتحال ، وإعتماد على النفس وبعد عن الترف والتكلف والتعقيد .
وقد تجلت هذه الحكمة حين جعل الله الحج دائراً مع السنة القمرية ـ فأشهر الحج تأتى احياناً فى شدة الصيف ، وأحياناً فى زمهرير الشتاء ليكون المسلم على إستعداد لتحمل كل هذه الأجواء .
الحج له منافع تجارية :
فهو فرصة متاحة لتبادل المنافع التجارية على نطاق واسع بين المسلمين ( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ) .
وهو تدريب عملى على المبادئ الإنسانية العليا والقيم الإجتماعية الفاضلة ـ فقد كانت قريش تترفع على سائر العرب على الوقوف معهم فى عرفات ـ وتقف فى المزدلفة ـ فأبطل الإسلام هذه العادة .
وكانوا يتخذونه مجالا للتفاخر بالأنساب والأبناء ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) وهو مؤتمر سنوى دعا اليه العلى العظيم ـ فهناك يجد المسلم اخوانا له من قارات الدنيا إختلفت ألوانهم ولغاتهم جمعتهم رابطة الايمان والإسلام .
فالحج أسراره بديعة ، وبركاته متعددة ، ومنافعه مشهودة ـ سواء على مستوى الافراد أو الجماعات أو الأمة ـ فهو تزكية النفوس وترويضها على الفضائل ، وتطهيرها من النقائض ، وتصفيتها من الكدرات ، وتحريرها من رق الشهوات ، وإعدادها للكمال الإنسانى ، وتقريبها للملأ الأعلى ، وتلطيف كثافتها الحيوانية ، لتكون رقا للإنسان بدلا من أن تسترقه وفيه تحقيق للعبودية ـ فكمال المخلوق فى تحقيق عبوديته لله ، ففى الحج تذلل لله وخضوع وإنكسار بين يديه ـ فالحاج يخرج من ملاذ الدنيا مهاجر ال ربه ، تاركا الطيب والنساء ، متنقلا بين المشاعر بلسان ذاكر يرجو رحمة ربه وشعاره ( لبيك ) اى إنى خاضع لك منقاد لأمرك ، فهذه التلبية ترهف شعور الحاج وفيه إقامة ذكر الله ـ وهو المقصود الأعظم للعبادات ـ فماشرعت إلا لأجله (ليس عليكم جناح ان تبتغوا فضلاً من ربكم ، فإذا أفضتم منت عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام وأذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين ، ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس وأستغفروا الله إن الله غفور رحيم فإذا قضيتم مناسككم فأذكروا الله كذركم أبائكم أو أشدَذكراً )
أخلاق الحاج
إن الحج عبادة روحية كسائر العبادات ، ولكن الحج له جو خاص وحياة خاصة يحياها الحجيج .
إن الحاج أنسان رقت مشاعره وسمت أخلاقه فتجرد من ذاته وملذاته حتى صار شعثا تفلا لا يأبه بالحياة ولا ملذاتها .
أنه سلم وسلام حتى مع الحيوان الاعجم فلا يقترب من الصيد ، ولا يتجه إلى طير فيفزعه ، ومع الإنسان سلم يبتعد حتى عن مجادلة أخيه ( الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فى الحج ) إن مجرد الكلام والمجادلة قد يخرجه من حظيرة الحجيج ويبعده عن الثواب المرتقب لوفد الله .
إن المسلم فى هذه البقاع يجب أن يكون مصدر رحمة لأن أيام الحج طهر ونقاء وحب للخير لبنى الإنسان ـ فإن إتجه إلى ربه بالدعاء فليكن دعاؤه عاما لكل المسلمين ، فخزائن الله ملأى ورحمته واسعة وسعت كل شئ ـ فإن إجتمعت همم الحجاج وتجردت للضراعة قلوبهم فإن الله لا يخيب أمالهم ولا يضيع سعيهم ، بل تغمرهم رحمته .
فأخلاق الحاج ليست الرحمة فحسب بل على الحجيج أن يسلكوا طريق الوحدة الشاملة والأمةالتى تزول فيها الحساسيات وتذوب فيها القوميات .
وحسن الخلق من أثقل ما يوضع فى ميزان العبد ، والحاج أولى الناس بحسن الخلق لأنه يحتاج إلى خدمة الناس ، والناس يحتاجون إلى خدماته ، والإحسان والرفق فى السفر من حسن الخلق – سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ، قيل وما بره قال إطعام الطعام وطيب الكلام .
وكان كثير من السلف يشترط على أصحابه فى السفر أن يخدمهم إعتناقا لاجر ذلك .
فضل مكة المكرمة وشرف البيت :-
قال تعالى ( جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدى والقلائد ، ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما فى السموات والأرض وأن الله بكل شئ عليم ) .
مكة هى البلد الحرام حرمه الحق عز وجل – وحرم السلاح فيه – وحرم الشرع قتل صيده وقطع شجره ، وجعله حرماً آمناً، وشرفه الله بالبيت العتيق الكعبة المشرفة التى جعلها الله سبحانه وتعالى قبلة المسلمين ومثابة للناس وسماها البلد الأمين ( والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الامين ) .
عندما يقف الحاج أمام الكعبة فهو يشعر أنه واقف أمام رب الكعبة ، وهو المكان الذى إختاره ليكون رمزا للرسالة الدينية منذ عهد إبراهيم عليه السلام إلى خاتم النبيين .
والكعبة من علامات الله على وجه الارض .. تشاهد العيون المظلمة فيها تجليات الله وتنفجر عيون العبودية من الصدور فتلهج الألسن بذكر الله ( الا بذكر الله تطمئن القلوب )(/2)
وبمكة شعائر الله – العلامات التى تذكر بالله – الصفا والمروة ( إن الصفا والمروة من شعائر الله ) وهكذا الكعبة والحجر الاسود وبقية المقامات – يقف فيها فتستيقظ العواطف الروحية من نفسه – فعاطفة العبودية لله وحده كامنة فى فطرة الإنسان .
ففى مكة علامات تاريخية – فلا يبقى زائر لها دون أن يتأثر بها – وكل موقف وحركة ونداء يدعوا لتجديد الايمان – فهتاف الحجاج وذكرهم ( لبيك اللهم لبيك ) .
فمكة والبيت هى المركز العالمى للتوحيد– وهى مقر الاجتماع العالمى والسنوى لكل مسلمى العالم منذ أن أذن إبراهيم فى الناس بالحج وإلى أن تقوم الساعة . تشد اليها الرحال ( لا تشد الرحال إلا الى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدى هذا والمسجد الأقصى)
وهذا البيت جعله الله قياما للناس – لأمر دينهم ودنياهم فالناس يتفرغون فيه للطاعات والعبادات فلا ينقطع الطواف حول البيت كذلك الصلوات والاذكار .
أما أمر دنياهم منافع لهم فى التعارف على بعضهم وتزدهر فيه التجارة – ولذا جمع لهم بين خيرى الدين والدنيا .
معنى الحج وشروطه :-
الحج لفظ قرآنى ( الحج أشهر معلومات ) معناه اللغوى هو المشى على المحجة ( جادة الطريق ) وأكثر ما يطلق إذا تكرر المشى – قال الخليل : الحج كثرة القصد الى من تعظمه .
ومدلوله الشرعى هو قصد بيت الله الحرام بمكة لزيارته وأداء مناسك حوله فهو القصد المستقيم على علم وهدى بنية صادقة وقلب مخلص الى اداء المناسك عند البيت الحرام وتعظيم شعائر الله وحرماته فى أشهر معلومة هى شوال وذو القعدة وعشر أيام من ذي الحجةمن الطواف بالبيت والسعى بين الصفا والمروة والوقوف بعرفة ورمى الجمار بمنى فى أيام معدودات .
والعمرة لغة الزيارة يقال أعمره اى زاره وقيل القصد الى مكان عامر وقيل سميت بذلك لأنها تفعل العمر كله ولا يغنى عنها الحج وإن إشتمل عليها .
والعمرة فى مدلولها الشرعى هى تعمير البيت بتعظيم شعائر الله وإقامة المناسك مثل الحج وتصح فى اى يوم من السنة وهى فى رمضان أفضل وليس فيها وقوف بعرفة ولا رمى جمار بمنى .
ويجوز الجمع بين الحج والعمرة بأن ينويها ويلبى الله تعالى بهما معا ( ويسمى قرانا ) أو ينوى العمرة وحدها ثم يتحلل منها بأدائها كاملة ثم يحرم بالحج من مكة ويسمى ( متمتعا ) إذا كان ذلك فى أشهر الحج .
حكمة :-
الحج فرض على المستطيع من الانس والجن مرة فى العمر ( ولله على الناس حج البيت من إستطاع اليه سبيلا ومن كفر فإن الله غنى عن العالمين ) .
الحكمة من مشروعية الحج :-
الحكمة من مشروعية الحج تطهير النفس لتصبح أهلا لكرامة الله تعالى فى الدار الآخرة ، وقد رغَبت فيه النصوص القرآنية والسنة .
وهو العبادة الوحيدة التى أضافها الله سبحانه لنفسه ( وأتموا الحج والعمرة لله ) ومن السنة أفضل الاعمال الايمان بالله ورسوله ثم جهاد فى سبيله ثم حج مبرور والحج المبرور ليس لها جزاء الإ الجنة والحج جهاد الكبير والضعيف والمرأة .
فوائد الحج :
قال تعالى ( وأذن فى الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ، ليشهدوا منافع لهم ويذكروا إسم الله فى أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الانعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ثم ليقضوا تفثهم وليفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق) سورة الحج الايات ( 27 – 29 ) .
الفائدة الاولى :
وهى أعظمها توجه القلوب إلى الله تعالى وإلاقبال عليه والإكثار من ذكره بالتلبية وغيرها من أنواع الذكر وهكذا يتضمن الإخلاص لله فى العبادة وتعظيم حرماته والتفكير فى كل ما يقرب إليه ويباعد عن عقابه .
الفائدة الثانية :
إنه يذكر بالآخرة لأن المشاعر تجمع الناس فى زى واحد وصعيد واحد ورؤسهم مكشوفة وهذا يشبه وقوفهم بين يدى الله يوم القيامة فى صعيد واحد حفاة عراة غرلا خائفين وجلين مشفقين ، وذلك مما يبعث فى نفس الحاج خوف الله ومراقبته والاخلاص له .
الفائدة الثالثة :
إكتساب الأجر بالطواف والسعى ورمى الجمرات لإقامة ذكر الله .
الفائدة الرابعة :
مشاهدة الاراضى المقدسة التى شع فيها نور الإسلام فيقوى الإيمان ويمتن العقيدة ويزيد فى العلم بأحكام المناسك فيرجع وقد تزود خيرا كثيرا واستفاد علما جما .
الفائدة الخامسة :
في الحج تدريب علىكمال الطاعة لله ورسوله وفيه تدريب على حياة الجندية وتحمل المشاق والتحلى بالأخلاق الفاضلة .
الفائدة السادسة :
غفران الذنوب للحاج ولمن دعا له ففى حديث البزار : الحجاج والعمار وفد الله دعاهم فأجابوه وسألوه فأعطاهم .
الفائدة السابعة :
تكفير الكبائر والعتق من النار ودخول الجنة ( الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة وحديث الترمذي(تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفى الكير خبث الحديد . )
الفائدة الثامنة :(/3)
الحجاج فى ضمان الله ففى الحديث : هذا البيت دعامة الإسلام فمن خرج ليؤم هذا البيت من حاج أو معتمر كان مضمونا على الله إن قبضه أن يدخلة الجنة وأن رده بأجر وغنيمة رواه إبن جرير بإسناد حسن .
وصايا للحاج حتى تحقق فوائد الحج :
1/ تقوى الله فى جميع الاحوال وتقوى الله هى جماع الخير وحقيقتها أداء ما افترض الله على العبد وترك ما حرم الله عليه عن إخلاص لله ومحبة له ورغبة له فى ثوابه وحذر من عقابه على الوجه الذى شرعه لعباده على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم قال أبن مسعود تقوى الله حق تقاته أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر .
2/ المحافظة على الصلوات فى أوقاتها والعناية بها وتعظيم شأنها والطمأنينة فيها لأنها الركن الأعظم بعد الشهادتين .
3/ إخراج الزكاة إن كان للحاج مالاً يزكى وصيام رمضان وحج البيت إن إستطاع إليه سبيلا .
4/ البعد عن المخالفات والبدع والأعمال التى لا خير فيها
5/ الحرص على نقاء التوحيد وصدق التوكل و الرجاء بإخلاص العبادة لله وحده والحرص على إتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ووحدة المسلمين ومحبتهم وسلامتهم وعدم أذيتهم .
علامات على طريق الحج المبرور :-
الحج عبادة والعبادة يجب أن تكون خالصةلله ولما كان الحج طاعة وتقربا وطمعا فى ثوابه فإنه يجب أن يقصد الحاج وجه الله تعالى دون رياء أو سمعة .
التوبة النصوح فيندم على ما فات ويعزم عزما أكيدا الا يعود إلى المعصية أبدا ويرد المظالم إلى أهلها إن تيسر ذلك , ويصلح ما بينه وبين اخوانه .
البحث عن الرفقة الطيبة من اراد الله به خيراً رزقه خليلا صالحا ان نسى ذكره وان ذكر اعانه ، خليلا يصبر عند المحنة ، ويقوى عند العجز ، ان يكون عالما بما يجب عليه من أعمال الحج قبل الشروع فيه ( فأسالوا اهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) يقول العلماء ما وجب عليه عمله وجب عليك علمه .
شروط الحج :
والشروط منها ما هو شرط وجوب أو شرط صحة أو هما معا وإجمالا هى :-
1- الإسلام : فلا يجب على غير المسلم لأنه غير مخاطب بفروع الشريعة .
2- البلوغ : لا يفترض الحج على الصبى لأنه غير مكلف وإن حج صح حجه لا يجزئه عن حجة الإسلام ، وعلى وليه أن يحرره من المخيط ويلبى عنه ويسعى ويطوف به – ولوالديه أجرا – لحديث إبن عباس إن إمرأة من جهينة رفعت صبيا فقالت : الهذا حج يا رسول الله ؟ .. قال ( نعم ولك اجره ) .
3- العقل : وهو شرط التكليف لأي عبادة.
4- الحرية .
5- الاستطاعة : وقد فسرها العلماء بالزاد والراحلة وهى إمكان الوصول بلا مشقة فادحة مع الأمن على النفس والمال وتحقق بعدةأمورمنهاصحة البدن وخلوه من الآفات التى تمنعه من القيام بما لا بد منه .
ومنها أمن الطريق : والمراد به الأمن على النفس والمال ومنها أن يكون مالكا لزاده وراحلته كما فى حديث الدارقطنى .
وقال بعض العلماء من أمكنه الوصول بلا مشقة فادحة ولو بلا زاد ولا راحلة لذى صنعة تقوم به اى يتكسب منها هو مستطيع .
6- أما بالنسبة للمرأةمع هذه الشروط يشترط وجود زوجها او محرم مكلف معها لحديث إبن عباس ( لا يخلوا رجل بإمرأة إلا معها ذو محرم ، ولا تسافر إمرأةإلا مع ذى محرم ) والمراد بالمحرم من حرم عليه الزواج منها على التأبيد كالأب والأخ والإبن وقدجاز بعض الفقهاء أن تحج مع الرفقة المأمونة – مع نساء ثقات أو رجال ونساء .
7- ويشترط خلو المرأة من العدة – لطلاق بائن أو رجعى أو وفاة .
المستطيع بغيره :
قال الشنقيطى فى أضواء البيان : الأكثرون الذين فسروا الاستطاعة بالزاد والراحلة إختلفوا في المستطيع بغيره هل دخل فى عموم الاية ( من إستطاه اليه سبيلا ) أو لا يجب عليه الحج ؟
والمستطيع بغيره نوعان:
من لا يقدر على الحج بنفسه ولكن له مال .
قال الشافعى يلزم عنده أجرة أجير يحج عنه بشرط أن يكون بأجرة المثل وبه قال الجمهور .
قال مالك : لا يجب عليه ذلك – وأوضح بقوله ( وان ليس للإنسان إلا ما سعى ) ولكنه قال إذا أوصى أن يحج عنه صح .
وقد رفض بعضهم : أن يحج عن الحى إذا كان كبيرا أو بحال لا يقدر أن يحج وهو قول الشافعى وأبن مبارك .
2- إذا كان المستطيع بغيره – من لا يقدر على الحج بنفسه ، وليس له مال يدفعه لمن يحج عنه ولكن له ولد يطيعه إذا أمره بالحج والولد مستطيع – فهل يجب الحج على الوالد؟ ويلزمه أمر الوالد بالحج عنه لأنه مستطيع بغيره ؟
فيه خلاف بين أهل العلم :
قال النووى فى شرح المهذب : المعضوب ( الضعيف – العرج والشلل) إذا لم يجد مالا يحج به غيره – فوجد من يعطيه فمذهب الشافعى وجوب الحج عليه وقال مالك وأبو حنيفة واحمدلا يجب الحج عليه . فإذا مات الشخص ولم يحج ، وكان الحج قد وجب عليه لإستطاعته بنفسه وكان قد ترك مالا فهل يجب أن يحج عنه من ماله ؟ قال بعضهم يجب أن يحج عنه ويعتمرمن تركته – وهذا قول الشافعى وأحمد وقال مالك وأبو حنيفة يسقط عنه بالموت . فإن أوصى بذلك فهو فى الثلث .(/4)
قال الشنقيطى : والذى يترجح : مشروعية الحج عن المعضوب والميت – وعليه فلو فرط وهو قادر على الحج حتى مات مات مفرطا مع القدرة انه يحج عنه من رأس ماله إن ترك مالا ، لأن فريضة الحج ترتبت فى ذمته فكانت دينا عليه .
وما عليه العلماء من جواز الحج عن المعضوب والميت محله إذا كان الذى يحج عنهما قد حج عن نفسه حج الاسلام .
النيابة فى الحج :
يجوز الحج بالنيابة إذا كان عاجزا عن الحج وللميت لحديث بن عباس الذى أخرجه البخارى فقال : ( جاءت إمرأة من جهينة الى النبى صلى الله عليه وسلم قالت : يا رسول الله إن أمى نزرت الحج فماتت أفأحج عنها؟ قال : حجى عنها أرايت لو كان عليها دين أكنت قاضيته ؟ دين الله أحق بالقضاء ) .
بشرط أن يكون من أراد أن يحج عن غيره أن يكون قد حج عن نفسه لحديث إبن عباس إن النبى صلى عليه وسلم سمع رجلا يقول : لبيك عن شبرمة ، قال : ومن شبرمة ؟ قال : أخ لى أو قريب لى أحججت عن نفسك ؟ قال : لا . قال ( حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة ) رواه التزمذى . كان السلف رضوان الله عليهم يعظمون هذه الشعيرة لفهمهم نصوص الكتاب والسنة فكانوا يجتهدون فى تعظيم البيت وزيارته . ومن مات مع اليسار فأمره شديد عند الله ، روى عمر بن الخطاب رضى الله عنه : لقد هممت أن أكتب فى الامصار لفرض الجزية على من لم يحج ممن يستطيع اليه سبيلا .
بيان الاعمال الظاهرة لمن يريد الحج :-
1- أن تكون النفقة حلالا ( يا أيها الذين أمنوا انفقوا من طيبات ما كسبتم ) البقرة الاية
(67) والنفقة الطيبة هى التى تكون من كسب طيب حتى لا يكون حجه وكسبه شبهة .
ومن وصايا النبى لاصحابه ( أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة ) .
2- أن يتفرغ همه حتى يكون مجردا لله معظما لشعائره منصرفا لذكره .
3- التوسع فى الزاد وطيب النفس والبذل من غير تقصير وإسراف وقد سئل الرسول صلى الله عليه سلم عن الحج المبرور فقال ( طيب الكلام وإطعام الطعام ) .
4- ترك الرفث والفسوق والجدال ( فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فى الحج ) .
5- أن يكون رث الهيئة غير مستكثر من الزينة ولا مائل لأسباب التفاخر .
6- أن يتقرب الى الله بإراقة دم وإن لم يكن واجبا ، سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الحج فقال ( الحج الثج والعج ) فالعج رفع الصوت بالتلبية والثج هو إهراق دم فى الحج .
أعمال الحج الباطنة :-
النية والتجرد فيها عما سوى الله و السعى لمرضاته ونبذ الشهوات والكف عن الملذات والإقتصار على الضروريات .
الشوق بعد التحقق بأن البيت بيت الله فقاصده قاصد لله عز وجل وزائر له .
قطع العلائق برد المظالم والتوبة الخالصة من كل المعالصى .
الاحرام والتلبية – فالإحرام إجابة النداء عز وجل عند دخول مكة يتذكر أنه إنتهى إلى حرم الله أمنا طامعا فى كرمه العميم وإذا وقع بصره على الكعبة فليستشعر عظمة هذا البيت شاكرا لله نعمة الوصول اليها .
الخشوع فى الطواف فهو كالصلاة يتبعه الخوف والرجاء وإنه مشابه للملائكة الذين يطوفون حول البيت المعمور فتملأه المحبة لله عز وجل .
عند التعلق باستار الكعبة وإستلام الحجر الاسود إن استطاع إلى ذلك فلتكن النية حبا وشوقا للبيت ورب البيت رجاء استجابة الدعاء والعتق من النار وإمتثالا وإنقيادا للأمر .
أركان الحج :
الركن هو ما يتوقف عليه صحة العبادة ولا يجبر تركه بدم ولا بغير .
الحج أربعة أركان :
الاحرام – الطواف ( طواف الركن ) السعى بين الصفا والمروة – الوقوف بعرفة .
والعمرة لها ثلاثة أركان هى : الاحرام – الطواف والسعى بين الصفا والمروة .
الاحرام :-
الاحرام أول مناسك الحج وفيه يخلع الانسان الملابس التى إعتاد لباسها ويقلع عن بعض العادات التى درج عليها بعد ان يغتسل ويلبس ملابس الاحرام استعدادا للدخول فى حرم الله ، ليبدأ رحلة ما أعظمهما من رحلة إذن لهاخليل الله إبراهيم إذ قال له ربه ( وأذن فى الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ) رحلة يخرجون لها من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا إسم الله فى أيام معدودات ) تذكرنا برحلة يؤذن لها ملك الله اسرافيل يوم ينفخ فى الصور فتأتون أفواجا رحلة يفارق فيها الانسان أهله ووطنه والسعيد من قيل له : لبيك وسعديك والخير كله فى يديك تذكرنا برحلة يفارق فيها أهله وماله السعيد فيها من وجد قبره روضة من رياض الجنة والشقى من وجد قبره حفرة من حفر النار .
رحلة يتعلق الانسان بين الخوف والرجاء فالخوف أن يقال له لا لبيك ولا سعديك طعامك حرام وسعيك حرام و الرجاءأن يفوز بالمغفرةكما قال صلى الله عليه وسلم ومن حج هذا البيت ولم يرفث ولم يفسق رجع كماولدته أمه يذكرنا برحلة يوم ينادى فى الخلائق فريق فى الجنة وفريق فى السعير .
أحكام الإحرام :
الاحرام نية الدخول فى أحد النسكين ( الحج والعمرة ) او فيهما معا المقارنة للتجرد والتلبية وفعل ما يتعلق بالحج أو كتقليد الهدى وسوقه وللإحرام واجبات وسنن ومحظورات .(/5)
واجبات الاحرم المراد بها الاعمال التى لو ترك أحدها لوجب عليه دم او صيام عشرة أيام إن عجز عن الدم .
واجبات الإحرام : ثلاثة هى الإحرام من المقيات والتجردمن المخيط والتلبية .
أولها الاحرام من الميقات :
والمراد من الميقات أو التوقيت هنا التحديد واصلة أن يجعل للشئ وقتا يخص به بداية مقدار المدة ثم إتسع فيه فأطلق على المكان ايضا .
1/ ميقات زمانى :
للحج ميقات زمانى فهو بدخول أول ليلة من شوال حتى العاشر من ذو الحجة وميقات العمرة الزمانى سائر أيام السنة ( عدا أيام نسك الحج فتكره العمرة حتى يفرغ من حجه إن لم يكن قارنا أو متمتعا .
2/ ميقات مكانى :
أجمع أهل العلم على أربعة مواقيت هى ذو الحلفية ( آبار على ) الجحفة ( رابغ ) قرن المنازل ويلملم لحديث إبن عباس قال ( وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرن المنازل ولأهل اليمن يلملم وقال هن لهن ولمن أتى عليهن غير أهلهن لمن كان يريد الحج والعمرة فمن كان دونهن فحمله من اهله وكذلك حتى أهل مكة يحلون منها ) متفق عليه .
أما ذات عرق فميقات أهل المشرق فى قول أكثر اهل العلم كما فى حديث عائشة الذى أخرجه النسائى وعلى ذلك يتضح ان هذه المواقيت هى :-
1- ذو الحليفة وهى ميقات أهل المدينة وتبعد عن مكة مسافة 450 كيلو متر وهى ما يعرف الآن ( بآبار على ) .
2- الجحفة ميقات أهل الشام ومصر وقد ذهبت معالمها وأصبحت رابغ قرية قريبة منها هى الميقات وتبعد عن مكة 204 كيلو متر .
3- قرن المنازل ميقات أهل نجد وتقع على بعد 94 كيلو متر شرق مكة .
4- يلملم ميقات أهل اليمن والهند وتقع على بعد 54 كيلو متر جنوب مكة ويعرف الآن بالسعدية .
5- ذات عرق ميقات أهل العراق وخراسان وتقع على بعد 94 كيلو متر شمال مكة .
هذه المواقيت لأهل البلاد المذكورة ولمن من مر عليها أما من كان دونهن فميقاته من محله ومن كان بمكة فميقاته للحج من منزله إن أراد الحج وإن أراد العمرة فميقاته أدنى الحل كالتنعيم والجعرانة وغيرها .
ومن أراد مكة بطريق ليس بها ميقات من هذه المواقيت فميقاته عندما يحازى واحداًَ منها .
* تجدر الإشارة الى أنه قد جرت الفتوى ان مجاوزة الحج ميقات جهته دون أن يحرم حتى يصل الى جدة أو غيرها من داخل المواقيت ويحرم منها مخالف لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى من وقع منه ذلك أن يرجع الى الميقات الذى تجاوزه فيحرم منه إن تيسر ذلك والأفضلية فدية يذبحها فى مكة ويطعمها الفقراء .
ومن كان ماراً بين ميقاتين فإنه يجتهد من أن يكون أحرامه بحذو الميقات الذى هو بطريقه ومن لم يعرف الميقات احتاط وهو فعل مالا شك فيه ، وغاية ما فيه من فتوى أنه مكروه والكراهة لا تنافى الجواز .
معنى المحازاة : لها معنيان :-
الأول المماثلة والمساواة وفى الحديث ( لتحزون سنن من قبلكم حزو النعل بالنعل الثانى : الموازة المساواة والمسافة للشئ سواءً كان أماماً أو خلفا يميناً أو عن يساراً .
*وأعتبر الفقهاء فى محازاة المواقيت المعنيين .
*هل لأهل السودان ميقات مسمى ؟
لم يرد للسودان ذكر فى المواقيت المسماة وإن أهله لا يمرون بميقات منها الإ إذا سافر إلى مصر فيسلك طريق العقبة للجحفة أو سافروا إلى اليمن عن طريق ميناء عصب وساروا بالبحر بيلملم .
وإن قلنا ذلك ربما حدث فى الماضى فإنه لا يحدث الآن فلا سفر لهم إلا عن طريق سواكن أو بورتسودان سواءً كان براً أو بحراً ولا ميناء لهم فى كل حال إلا جدة .
*ولذا جرت الفتوى من بعض العلماء بجواز تأخير الإحرام الى جدة لراكب البحر من سواكن على تقيد سند بن عنان المتوفى سنة 541هـ ( لزوم الإحرام من بحر القلزم السويس ومن يحرم من بحر عيزاب وهو بحر اليمن ) وهو قول العلامة الصوى والشيخ عليش والرهونى واللبنانى وبن فرحون والخطاب والعدوى من المالكية والاسنوى من الشافعية والشيخ ملا على القارئ من الحنفية ومنصور بن يونس من الحنابلة صاحب شرح المنتهى .
فقالوا إن من لم يحاز ميقاتاً كالذى يجئ من سواكم الى جدة من غيران أن يمر برابغ أو يلملم فيصل الى جدة قبل محازاتها من مكة احرم عن مكة بقدر مرحاتين وهو المعتمد فى مذهب مالك ( وإن وقعت الفتوى من بعض المالكية بظاهر المذهب كالشيخ خليل فإنه يجد الاحرام قبل الوصول الا ووجبت عليه الفدية ) .
تجدر الإشارة الى أن مجمع الفقه الإسلامى فى السودان قد إعتمد الفتوى بجواز الإحرام من جدة للسودانيين من باب الترخيص وإسقاط المشقة ورفعاً للحرج بفتواه رقم م ف أ / فتاوى . / 1420هـ بتاريخ 12 شوال 1420هـ - 18 يناير0 0200 م .
وقد سبقت هذه الفتوى فتاوى من قدماء العلماء ومحدثيهم . فمن القدامى تقيد سند بن عنان 541هـ وهو قول العلامة الصوى والشيخ عليش والرهونى وبن فرحون والحطاب والعدوى من المالكية .
وهو قول الاسنوى من الشافعية والملا على القارئ من الحنفية والشيخ منصور بن يونس من الحنابلة .(/6)
وهو رأى لبعض العلماء المعاصرين منهم الشيخ يوسف إسحاق حمد النيل فى رسالة خاصة بها ضمنها كتابه تبصرة المناسك ، ونبراس الحج والشيخ مجذوب مدثر الحجاز ، مناسك الحج والعمرة ومن خارج السودان الشيخ محمد محمود شاهين فى كتابه الحج – والشيخ أبوبكر حومو فى نيجريا والشيخ مصطفى الزرقاء من الاردن .
وعليه من بالمدينة من أهل السودان واراد الحج فعليه أن يحرم من ذى الحليفة ( آبار على ) لأن الإحرام من جدة إحرام بالمحازاة أو أرحرم من مكة بمرحلتين باب المحازاة وإنما جرت الفتوى فيها من باب الرخصة ( والضرورة تقدر بمقدارها ) .
6- الواجب الثانى من واجبات الاحرام :
التجرد من المحيط والمخيط :-
فلا يلبس ثوباً ولا قميصاً ولا يتعمم بعمامة ولايغطى راسه ولايلبس خفا ولاحذا وهذا خاص بالرجل فإنه يحرم فى ثوبين نظيفين . إزار : يشد حول الوسط من السرة إلى أسفل الركبتين ويطغى الرداء النصف العلوى من الجسد عدا الرأس .
ويجوز عقد إلازار وشده بتكة ونحوها وله أن يشد عليه الحزام أو الكمر لأن ذلك من مصلحة الازار فإنه لا يستمك الا بنحو ذلك . وهذا هو مذهب الجمهور ، أما مالك فيوجب فيه الفدية .
• ويستحب أن يكون ثوبا الاحرام أبيضين نظيفين لأن الابيض أحب الثياب إلى الله عز وجل لحديث بن عباس رضى الله عنهما الذى رواه البخارى ( ان النبى صلى الله عليه وسلم انطلق من المدينة بعدما ترجل وأدهن رأسه ولبس ازاره هو وأصحابه ولم ينه عن شئ من الاردية والازر يلبس الا المزعفرة التى تترع الجلد ( اى المصبوغة بالزعفران ) .
• أما فإنها عورة لذلك فهى تحرم بملابسها العادية فلها ان تلبس ما تشاء من الثياب بشرط الا يظهر منها سوى الوجه والكفين .
• عن بن عمر رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين ) ولها أن تسدل عن وجهها خشيت الفتنة .
• والمحرم يلبس فى الرجلين نعلين تحت الكعبين ، فإن لم يجد نعلين ، جاز أن يلبس خفين بعد قطعهما من اسفل الكعبين .
عن ابن عمر رضى الله عنهما : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم مايلبس المحرم ؟ قال ( لا يلبس المحرم القميص .، ولا العمامة ولا البرنس ، ولا السراويل ، ولا ثوبا مسه ولا زعفران ، ولا الخفين الا إذا لم يجد نعلين فليقطعهما أسفل الكعبين .
• وعليه فإن ترك الحاج المحيط إبتداء عليه الدم ،أما إذا إستعمل المحيط والمخيط أثناء الاحرام فإنه تجب عليه الفدية وهى عبارة عن إطعام ستة مساكين لكل مدين أو صيام ثلاثة أيام أو ذبح شاة .
• أما التطيب فيجوز قبل الإحرام لحديث عائشة رضى الله عنها : كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يحرم تطيب بأطيب ما يملك والمحرم ابتداء الطيب بعد الإحرام.
3- الواجب الثالث من واجبات الإحرام :-
التلبية : وهى قول ( لبيك اللهم لبيك ، لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك لاشريك لك ) .
ومعناها أننا مجيبون دعوتك ، مستسلمون لحكمك ، مطيعون لأمرك ، والتلبية شعار الحج ، وأفضل الحج كما جاء فى الحديث العج والثج ولذا يستحب رفع الصوت بها للرجل بحيث لا يجهد نفسه ، والمرأة ترفع صوتها بحيث تسمع رفيقتها فقط .
التلبية هى شعار الحج :
وحكمة مشروعيتها :
شرعت للتنبيه على إكرام الله تعالى لعباده ، بأن وفودهم على بيته إنما كان بإستدعاء منه تعالى ، وهى مشروعة بالسنة والإجماع .
حكمها :
1- عند الشافعى وأحمد ورواية عن مالك أنها سنة مؤكدة .
2- عند الحنفية – شرط من شروط الإحرام ولا يصبح بدونها لحديث أم سلمة رضى الله عنها عند أحمد وأبن حيان قال( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يا آل محمد من حج منكم فليهلل فى حجه أو فى حجته ) .
3- مشهور مذهب مالك أنها واجبة – وفى تركها دم .
فضلها :
1- وعن سهل بن سعيد الذى رواه أبن ماحه والبيهقى والترمزى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( ما من مسلم يلبى إلا لبى من على يمينه وشماله من حجر أو شجرة أو مدر حتى تنقطع الارض من هاهنا وهاهنا .
2- وروى الطبرانى فى الاوسط عن أبى هريرة رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( ما أهل مهل قط ، ولا كبر قط إلا بشر قيل يا رسول الله بالجنة ؟ قال نعم ) .
3- وروى إبن ماجه عن جابر رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ما من محرم يضحى يومه ( يظل ) يلبى حتى تغيب الشمس إلا غابت ذنوبه كيوم ولدته أمه ) .
مدة التلبية :
يلبى المحرم من وقت إحرامه يرمى جمرة العقبة الاولى يوم النحر ، أما من أحرم بالعمرة فيلبى حتى يستلم الحجر الاسود ، لحديث عائشة الذى أخرجه أبواؤود ( يلبى المعتمر حتى يستلم الحجر ) .(/7)
ويستحب الإكثار منها عند إختلاق الأحوال : مثل إدبار الصلاة ، وإذا صعد مرتفعا أو هبط واديا أو سمع ملبيا أو أقبل الليل أو النهار التقت الرفاق ، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم ( يا آل محمد من حج مكة ييهلل فى حجه أو حجته ) ولحديث إبن ماجه ، والترمزى ما من مسلم يلبى الإ لبى عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الارض من هاهنا وهاهنا ) .
• بعد الفراغ من التلبية يستحب الدعاء أو الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم روى بن ثابت أن النبى صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من تلبية سأل الله عز وجل رضوانه ومغفرته وإستعاذ برحمته من النار .
صفة التلبية : كما وردت فى حديث إبن عمر رضى الله عنهما المتفق عليه ( أن النبى صلى الله عليه وسلم ) قال ( لبيك اللهم لبيك ، لاشريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك لبيك ) .
• وكان عبد الله يزيد مع هذا لبيك وسعديك والخير بيديك والرغبا اليك والعمل ، وروى جابر ( وأبو هريرة ) فيما أخرجه أحمد ومسلم أن الناس ييدون لبيك ذى المعارج ونحوه من الكلام ، والنبى صلى الله عليه وسلم يسمع فلا يقول شيئاً .
سنن الاحرام :-
وهى الأعمال التى لو تركها فلا يجب فيها دم ولكن يفوته أجر كبير وهى :-
1- الإغتسال للإحرام – ولو لنفساء أو حائض إذ إمرأة أبى بكر الصديق رضى الله عنه وضعت وهى تنوى الحج فأمرها بالإغتسال .
2- الإحرام من إزار ورداء أبيض نظيف لفعله عليه الصلاة والسلام ذلك لقوله ( من خير ثيابكم البياض ، فليلبسها أحياؤكم وكفنوا فيها موتاكم ) .
3- وقوع الإحرام عقب صلاة نافلة أو فريضة .
4- تقليم الاظافر وقص الشارب ونتف الإبط وحلق العانة .
5- تكرار التلبية وتجديدها كلما تجدد حال المحرم من نزول سهل أوصعود مرتفع أو تلقى ركبان .
6- الدعاء والصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم عقب التلبية .
7- صلاة ركعتى الإحرام يقرأ فى الاولى بالفاتحة ( وقل يا أيها الكافرون ) وفى الثانية الفاتحة ( وقل هو الله أحد ) لما أخرجه مسلم من حديث إبن عمر رضى الله عنهما قال : كان النبى صلى الله عليه وسلم يركع بذى الحليفة ثم إذا إستوت به الناقة قائما عند مسجد ذى الحليفة أهل بهذه الكلمات .. ) المراد بها التلبية .
محظورات الإحرام :-
المحظورات هى الاشياء الممنوعة التى لة فعلها المؤمن الحاج وجب عليه فيها فدية دم أو صيام أو إطعام ، وعلى الجملة فإنها لا تخرج عما يترفه به الإنسان أو إزالة شعث أو لبس مخيط أو محيط وهى :-
1- تغطية الرأس بأى غطاء كان أو عمامة أو طاقية أو قلنسوة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ( لا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً ) .
2- حلق الشعر أو قصه وأن قل سواء كان شعر رأسه أو شعر غيره ( ولا تحلقوا رؤوسكم )
3- تقليم الأظافر سواء كانت فى اليدين أو الرجلين .
4- لبس المخيط والمحيط من الثياب مطلقا لحديث إبن عمر عند الشيخين ( لا يلبس المحرم القميص ولا العمامة ولا السراويل ولا ثوبا مسه ورس ولا زعفران ولا الخفين الإ يجد يجد نعلين فليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين ) ..
5- مس الطيب لحديث ( أما الطيب الذى بك فأغسله ثلاثا )
• إذا وقع الحاج فى واحدٍ من هذه المحظورات الخمسة وجب عليه فيها الفدية والفدية هىصيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين أو ذبح شاة لقوله تعالى ( من كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففديةٍ من صيام أو صدقة أو نسك ) .
• فالفدية فى تقليم الاظافر – ظفر واحد حفنة من طعام ، أما إذا تعدد ففيه الفدية ذبح شاة أو إطعام ستة مساكين كلا مدين أو صيام ثلاثة أيام .
• أما إزالة الشعرات القليلة ( كاثنى عشرة ) حفنة وهى ملء اليد الواحدة من الطعام وإن زاد فعليه الفدية .
6- قتل الصيد : فجزاؤه بمثله من النعم فإن كان ظبى غزال فشاة وإن كان حمار وحش فمثله لقوقه تعالى ( فجزاؤه بمثل ما قتل من النعم ) ولا يستثنى إلا الفواسق الخمسة وهى العقرب والحدأة والحية والكلب العقور والفار ، سواء كان قتل الصيد سهوا أم عمدا ، ويكون الذبح بمنى يوم النحر وتالييه وهى كالأضحية فى السن والسلامة من العيوب .
• أما الحمام والضب والارنب والجربوع فتقيم طعاما يحكم به عدلان حران لهما علم بباب الجزاء .
7- مقدمات الجماع : التقبيل والملامسة فإن على فاعلها دما وهو ذبح شاة .
8- الجماع : فإنه يفسد الحج بالمرة إن كان قبل عرفة أو قبل التحلل الأول غير أنه يجب عليه الإستمرار فيه حتى يتم وعلى صاحبه بدنة اى بعير ، فإن لم يجد فصيام عشرة أيام ، وعايه مع ذلك القضاء من عام قادم لما روى مالك فة الموطأ ( أن عمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب ، وأبا هريرة رضى الله عنهم سألوا عن رجل أصاب أهله وهو محرم بالحج فقالوا : ينفذان يمضيان بحجهما حتى يقضيا حجهما ثم عليهما حج قادم وهدى وإن كان بعد التحلل الاول فلا يفسد الحج وعليه الفدية .(/8)
9- أما عقد النكاح والخطبة وسائر الذنوب كالغيبة والنميمة وكل ما يدخل تحت لفظ الفسوق ففيه التوبة والاستغفار لرواية مسلم ( لا ينكح المحرم ولا ينكح ) وفى رواية ولا يخطب .
ما يباح للمحرم :-
1- الاغتسال سواء كان من جنابة أو بقصد التبرد والنظافة ، على أن يغسل رأسه برفق حتى لا يسقط شعره ، قيل لإبن عباس رضى الله عنه أتدخل الحمام وأنت محرم ؟ قال : أن الله لا يعبا بأوساخنا ، أخرجه البيهقى .
2- يجوز له التدواى ونزع الضرس ويفقا القرحة وإذا إنكسر ظفره أماط عنه الاذى لما رواه الدارقنطى والبيهقى عن بن عباس .
3- التظلل يجوز للمحرم ان يتظلل بخيمة أو مظلة أو شمسية بما يدفع عنه الحر والمطر بشرط الا يصيب رأسه ووجهه ، لما رواه مسلم وأحمد عن أم الحصين رضىالله عنها قال ( حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فرأيت أسامة بن زيد وبلالا أحدهما يأخذ يخطام ناقة النبى صلى الله عليه وسلم والآخر رافع ثوبه ويستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة .
4- شد الجزام فى الوسط لحفظ النقود ولبس الساعة والخاتم ، يقول إبن عباس رضى الله عنهما لا بأس بلبس الهيمان ( ما يحفظ النقود ) والخاتم للمحرم .
5- العلاج : كلإكتحال لعذر بشرط الا يكون مطيبا ، عن عثمان رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم إذا إشتكى عينيه يضمدها بالصبر ، وكان بن عمر رضى الله عنهما إذا رمد رمد وهو محرم أقطر عينيه الصبر اقطار .
6- قتل ما يؤذيه من الفواسق الكحية والفأر والكلب العقور وله أن يدفع ما يؤذيه من البهائم .
7- الحجامة لضرورة بلا إزالة شعر ، لحديث إبن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم إحتجم وهو محبم فى رأسه من صداع وجده .
الاشتراط فى الاحرام :-
• يجوز الاشتراط عند الاحرام يقول الحاج حين يحرم اللهم أن حبسنى حابس فمحلى حيث حبستنى .
• فمن إشترط هذا الاشتراط ثم عرض له ما يحبسه عن الحج جاز له التحلل – وأنه لا يجوز التحلل مع عدمالاشتراط .
• وبه قال جماعة من الصحابة منهم على وأبن مسعود ومذهب جماعة التابعين لما روى عن عباس ( أن ضباعة بنت الزبير قالت يا رسول الله إنى إمرأة ثقلية ، وأنى أريد الحج فكيف تأمرنى أهل ؟ فقال أهلى وأشترطى أن محلى حيث حبستنى فأدركت ، وفى رواية للنسائى ( فان لك على ربك ما استثنيت ) .
• أخرج سعيد بن منصور عن عائشة رضى الله عنها كانت تقول ( اللهم للحج خرجنا ، وله عمدنا ، فإن رضيت فهو الحج وإن حال دونه شئ فهو عمرة ) والاشتراط عند الفقهاء هو قول المحرم ( اللهم إن حبسنى حابس فمحلى حيث حبستنى ) .
وجوه الاحرام الاحرام أو أنواع النسك :-
• من وصل الميقات فى أشهر الحج فهو مخير بين ثلاثة أوجه للإحرام هى :-
1- الإفراد : هو أن ينوى الحج وحده ويقول ( لبيك بحج ) ويظل على إحرامه حتى ينتهى من أعما لالحج .
2- القرآن : وهو أن ينوى بإحرامه أداء الحج والعمرة معا فيقول ( لبيك بحج وعمرة ) فإذا وصل مكة أدى أعمال العمرة من طواف وسعى ثم لا يحلق ولا يقص ويظل محرما حتى ينتهى من أعمال الحج .
3- التمتع : وهو أن ينوى بإحرامه العمرة وحدها فيحرم من الميقات ويقول ( لبيك بعمرة) فإذا أداها حل من إحرامه ويتمتع بكل كا يتمتع به غير المحرم ، فإذا كان يوم التروية ( الثامن من ذى الحجة ) أحرم من مكانه فى مكة بالحج قائلا ( لبيك بحج ) .
• ويجب الهدى على المتمتع والقارن ، وهو ذبح شاة أو أن يشترك مع ستة آخرين فى ذبيحة من الابل أو البقر ، فإن تعزر الهدى فعليه صيام عشرة أيام – ثلاثة فى الحج وسبعة بعد الرجوع الى وطنه ، لقوله تعالى ( فمن تمتع بالعمرة الى الحج فما إستيسر من الهدى ، فمن لم يجد صيام ثلاثة أيام فى الحج وسبعة إذا رجعتم بلك عشرة كاملة ) سورة البقرة الاية 196 ؟
• والحاج مخير بأى نوع من هذه الوجوه الافراد أو التمتع أو القران وفىتفضيل بعضها على بعض إختلف الفقهاء ولكل دليل .
• فمن ذهب الى ان فضل الانواع القران لكونه صلى الله عليه وسلم حج قارنا ، وهذا مذهب ابى حنيفةورجحه إبن القيم ( زاد الميعاد ) لكثرة الرويات فيه .
• ومن ذهب الى أن التمتع أفضل إستدل بقول النبى صلى الله عليه وسلم ( يا أيها الناس أحلو فلولا الهدى معى فعلت كما فعلتم قال فأحللنا حتى وطأنا النساء وفعلنا كما يفعل لحلال حتى إذا كان يوم التروية وجعلنا مكة بظهرنا هللنا بالحج ، ومنها حديث ( لو إستقبلت من أمرى ما إستدبرت ما سقت الهدى لجعلتها عمرة ) وهذا مذهب أحمد بن حنبل وأصحابه .
• ومن ذهب الى أن الافراد أفضل – إستدل بما ذكره النووى فى شرحه لمسلم بأنه صلى الله عليه وسلم حج مفردا وبه تظاهرت الرويات وهذا مذهب المالكية والشافعية.
• والامر ى حقيقته مباح للناس فعل هذه الاتزاع الثلاثة ليدل على جوازها جميعا .
• الركن الثانى الطواف :(/9)
يشير الحاج محرما حتى يدخل مكة فإذا شاهد البيت قال : اللهم هذا البيت تشريفا وتكريما وتعظيما ومهابة وبرا ، ثم يدخل المسجد ليطوف طواف القدوم بالبيت المقدس الذى تنسى عنده الاحقاد وتمحى الضغائن ويرفع الخلاف ويعم السلام والامان.
معنى الطواف ؟
• الطواف هو الدوران حول البيت سبعة أشواط .
• والحكمة منه أنه تحية البيت الحرام .
• فضله : قال عليه الصلاة والسلام : ( إن داؤود النبى عليه السلام قال : اللهم ما لعبادك عليك إذ هم زاروك فى بيتك ؟ قال : لكل زائر حق على المزور .. حقا يا داؤود على أن أعافيهم فى الدنيا وأغفر لهم إذل لقيتهم ) .
كان السلف يحملون فى قلوبهم من تعظيم البيت ما لايحمله غيرهم فهذه إمرأة من الصالحات لما دخلت مكة فجعلت تقول أين بيت ربى ؟ فقيل لها الآن ترينه فلما لاح لها أسرعت فألصقت جبينها بحائط البيت فما رفعت الا وهى ميتة .
أنواع الطواف :-
• الاطوفة أربعة ، ثلاثة مطلوبة فى الحج ومازاد فهو نفل وهى كالاتى :-
1- طواف القدوم : يشرع لحاج دخل مكة قبل الوقوف بعرفة سواء كان مفردا أو قارنا ليس لأهل مكة طواف قدوم ولا يسن بعد الوقوف بعرفة ولا المعتمر لأنه دخل وقت طوافهما المفروض وكذا التمتع ومن قصد عرفة راسيا لضيق الوقت ، ولا الناس والمغمى عليه والحائض ، قال مالك وأصاحبه إن طواف القدوم واجب لجبر الدم – لحديث عائشة قالت ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أول شئ بدأ به حين قدم مكة أنه توضأ ثم طاف بالبيت وقال الشافعى وأحمد وأبو حنيفة طواف القدوم سنة لأنه كتحية المسجد ولا شئ على من تركه ومن أسمائه طواف القدوم – طواف القادم ، طواف الورود ، طواف الوارد ، طوتف التحية .
2- طواف الافاضة وهو : ركن الحج وسمى بطواف الإفاضة لأنه يؤتى به عندالافاضة من منى الى مكة وسمى طواف الزيارة لأن الحاج بأتى من منى فيزور البيت ولا يقيم مكة ويبيت بمنى ويسمى طواف الركن والفرض .
3- طواف الوداع : سمى بذلك لأنه لتوديع البيت وسمى بطواف الصدر لأنه عند صدور الناس من مكة ورجوعهم الى أوطانهم وطواف اخر العهد بالبيت فهو ضرورة لكل من خرج من مكة لحديث بن عباس المتفق عليه : ( أن النبى صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن يكون أخر عهدهم بالبيت الا أنه خفف الحائض ويجبر تركه بدم كسائر الواجبات ، وللطواف شروط وسنن وآداب تتوقف حقيقته عليها .
شروط الطواف :-
1- النية عند الشروع فى الافاضة والوداع والتطوع لأن النبى صلى الله عليه وسلم سماه صلاة والصلاة لا تصح إلا بالنية إتفاقا ومنهم من قال نية النسك تسرى عليه .
2- الطهارة من الحدث والخبث لأن الطواف مثل الصلاة .
3-مكانة أن يكون الطواف حول البيت لقوله ( وليطوفوا بالبيت التعيق ) والطواف بالبيت هو الطواف حوله بشرط أن كون داخل المسجد .
4- الا يكون الطواف داخل البيت أى يكون من خارج الحطيم وحجر أسماعيل والشاذروان لأنها من البيت .
• الحطيم هو مابين الحجر الاسود ومقام إبراهيم وزمزم والحجر وقبل الحجر ، وردت فيه من الآثار ما يدل على أنه خير البقاع وأنه أية من الآيات البينات التى تذكر من زارها برحمة الرحيم .
• وسمى بذلك لأن الناس كانوا يحطمون هناك بالايمان فقل من دعى هناك على ظالم الا هلك .
• الحجر هو ما بين الركن الشامى ( العراقى ) والركن الغربى وهو مدور وهو مستو بالشاذوران الذى تحت إزار الكعبة وهو حجر إسماعيل وهو جزء من الكعبة أخرجته قريش من عرض جدار البيت حين ظهر على الارض فهو جزء من الكعبة .
شازوران الكعبة : هو الاحجار الملاصقة للكعبة التى فوقها مسنم مرخك وهو مانقصته قريش من عرض جدار البيت حين ظهر على الارض فهو جزء من الكعبة .
5- أن يكون البيت على يسار الطائف .
6- أن يكون سبعة أشواط يوالى بينها بلا فصل بين كثير من الاشواط فإن كان الفاصل لصلاة مع الإمام الراتب أو بعذر كالرعاف لا يبطله فإنه يبنى على ما سبق .
7- أن يبدأ بالحجر الاسود ويختم به وأن ينتصب بقامته بعد تقبيل الحجر الاسود .
• الحجر الاسود والملتزم والمسجتاب والحطيم وحجر إسماعيل والركن اليمانى والميزاب ، هذه كلها آيات بينات وأنها من المواطن التى يتسجاب هيا الدعاء .
• والحجر الاسود المثبت فى زاوية الركن الشرقى من ناحية باب الكعبة ومن آياته بقاؤه مع مرور الوقت وإعتداء اغلبعض عليه فى بعض الفترات .
• أخرج أحمد فى مسنده وإبن حبان عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله صلى عليه وسلم يقول : ( إن الحجر والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما ولو لا أن طمس ورهما لأضاء ما بين المشرق والمغرب ) .
• وأخرج الترمزى عن ابن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : ( نزل الحجر الاسود من الجنة وهو أشد بياضا من اللبن فسودته خطايا بنى آدم ) وخبر النسائى ( الحجر الاسود من الجنة ) .(/10)
• وهو يشهد يوم القيامة لمن إستلمه بحق وأنه موضع إستجابة الدعاء وإستغفار الملائكة لمن إستلمه وتأمين الملائكة لمن إستلمه فضلا عن المزاحمة على إستلامه والإشارة إليه تفصح عن سعة رحمة بعباده .
• أما الركن اليمانى سمى كذلك لأن رجلا من اليمن بناه إسمه أبى بن سالم أخرج الترمزى عن بن عمر أنه كان يزاحم على الركنين فقيل له فى ذلك فقال : إنى أفعل فإنى سمعت رسول الله صلى عليه وسلم يقول : ( إن مسحهما كفارة للخطايا وفى رواية أحمد وبن حيان مسح الحجر الاسود والركن اليمانى يحط الخطايا خطا ) .
• وتجدر الاشارة الى أن مسح الحجر الاسود والركن اليمانى بالنسبة لمرأة مستحب فى الخلوة ويكره لهن مزاحمة الرجال على ذلك ، لحديث عائشة أنها قالت لإمرأة لا تزاحمى على الحجر وإن رأيت خلوه فأستلمى وإن رأيت زحاما فكبرى وهللى إذا حازيته ولا نؤذى أحدا أما الملتزم هو مابين الحجر الاسود وباب الكعبة ويقال له : المدعاة والمتعوز روى عن بن عباس أنه قال : سمعت رسوالله لى عليه وسلم يقول ( الملتزم موضع يستجاب فيه الدعاء ) .
8- صلاة ركعتين بعد الطواف ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) .
• مقام إبراهيم : هو الحجر الذى وقف عليه الخليل عليه السلام حين بنى الكعبة وفيه آية بينة وهى أثر قدميه فى المقام وقيل وقف عليه حين أذن للناس بالحج فضائل المقام .
ورد فى فضل المقام أحاديث وأثار منها ما أخرجه بن حيان فى صحيحه والترمذى ( إن الحجر والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما ولو أن طمس نورهما لأضاء ما بين المشرق والمغرب ) ويكفى المقام شرفا ما جاء فيه من القرآن ( فيه آيات بينات مقام إبراهيم ) وأمر سبحانه المسلمين أن يؤدى ركعتى سنة الطواف فى المقام – أى حزائه بالاتجاه الى الكعبة .
*ومن آياته إنه مازال محروسا لعناية الله تعالى الى حين رفعه الى الجنة .
• ومن آياته أثر القدم فى الصخرة غوص القدم فيها الى الكعبين والا انه بعض الصخرة دون بعضها وإبقاؤه دون سائر آيات الانبياء آية خاصة لإبراهيم عليه السلام .
9- أن يطوف ماشيا لا راكبا إلا من عذر .
10- ستر العورة .
زمان طواف الافاضة :
طواف الافاضة يبدأ حين الفجر الثانى من يوم النحر وليس لآخره زمان لحديث ( أفعل وأخرج ) وأفضل أوقاته يوم النحر لفعل النبى .
سنن الطواف :
1- تقبيل الحجر الاسود عند بدء الطواف إن امكن ذلك والا إكتفى باللمس باليد أو الاشارة .
2- الدعاء وليس بمحدود وأفضله الدعاء الأثور فيقول فى أول طوافه الله أكبر ، اللهم إيمانا بك وتصديقا لكتابك ووفاءاً بعهدك وإتباعا لسنة نبيك محمد ويقول أما الكعبة اللهم إن هذا البيت بيتك والحرم حرمك والامن أمنك وهذا مقام العائذ من بك من النار ويقول بين الركعتين اليمانين ( اللهم آتنا فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) .
3- الرمل : وهو سنة للرجال القادرين والاطفال دون النساء وحقيقته أن يسارع فى مشيه مع تقارب الخطى وتحريك المنكبين ... وفى طواف القدوم أو طواف العمرة الثلاثة الاولى منه وليقل أثناء الرمل : اللهم أجعله حجا مبرورا وذنبا مغفورا وسعيا مشكورا.
4- الاضطباع : وهو جعل وسط الرداء تحت كتفه اليمنى ورد طرفيه على كتفه اليسرى وإبقاء كتفه اليمنى مكشوفة لما رواه أحمد وأبو داؤود عن بن عباس أن النبى وأصحابه أعتمروا من الجعرانة فرملوا بالبيت وجلعوا أرديتهم تحت أباطهم ثم قذفوها على عواتقهم .
ولاترمل المرأة ولاتضطبع .
5- تقبيل الحجر الاسود واستلام الركن اليمانى باليد كلما مر عليها .
6- الدعاء بالملتزم عند الفراغ من الطواف – والملتزم هو المكان الذى بين باب البيت والحجر الاسود .
7- صلاة ركعتين خلف مقام إبراهيم ( وأتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) .
8- الشرب من ماء زمزم – نبع ماؤه مبارك – فرح الله به فأمر الله جبريل أن يظهر ماء زمزم سقياً من الله تعالى ، ففى البخارى أن جبريل همز بعقبة الارض .(/11)
إن فضائل ماء زمزم وأثره بالخير كثيرة لما إختصه الله من أمور أهمها : إنه يقوى القلب ويسكن الروح ، ويشرح الصدر – فضلا عن كونه دواء لشفاء العليل وقطع الظمأ ، روى الطبرانى من حديث إبن عباس ( خير ماء على وجه الارض ماء زمزم ) ، وروى عن إبن عباس ( اشربوا من شراب الابرار ) وفسره بزمزم وأخرج الحاكم فى المستدرك عن بن عباس قال : قال رسول الله ( ماء زمزم لما شرب له ، إن شربته تستشفى به شفاك الله ، وإن شربته لقطع ظمأً قطعه الله ، هى هزمة جبرائيل وسقيام إسماعيل ، ويروى أن الامام الشافعى شربه للعلم فكان فى غايته ، وللرمى .. فكان يصيب العشرة من العشرة روى الحاكم ( ماء زمزم لما شرب له ) ، وكان بن عباس إذا شرب من ماء زمزم قال ( اللهم إنى أسالك علما نافعا ، ورزقا واسعا وشفاء حن كل داء ، وللشارب من زمزم أن يدعو بماء شاء ،فإن هذا موطن يستجاب فيه الدعاء إن شاء الله ويسن لشارب زمزم إستقبال القبلة ، وذكر الله تعالى وتنفس ثلاثاً ، والتضلع منه فى أثناء شربه ويحمد الله ويدعوه والاصل فى تلبية الدعاء إن شاء الله ، ويسن لشارب زمزم إستقبال القبلة ، وذكر الله تعالى وتنفس ثلاثا ، والتضلع منه فى أثناء شربه ويحمد الله ويدعوه والاصل فى تلبية الدعاء مع شرب ماء زمزم هو صدق القيدة ، وإخلاص النية مع التقوى ( إنما يتقبل الله من المتقين ) ويتساوى فى القبول العالم والامى لأن العبرة لقوة الصلة بالله مع نقاء السريرة .
بعد الفراغ من صلاة ركعتى الطواف لما ما ورد فى ذلك من ( زمزم لما شربت له ) وأنها طعمة وشفاء وحث النبى للتضلع منها .
الرجوع وإستلام الحجر الاسود قبل الذهاب للسعى .
أداب الطواف :
1- أن يكون فى خشوع وإستحضار قلب وشعور بعظة الله عز وجل وخوف منه تعالى .
2- الا يتكلم بغير ضرورة وإن تكلم فبخير فقط .
3- الا يؤذى أحدا بقول أو فعل ، أذية المسلم محرمة لا سيما فى بيت الله الحرام.
4- أن يكثر من الذكر والدعاء .
5- الدنو والقرب من البيت للذكر لشرفه ولانه المقصود ولأنه أيسر للإستلام والتقبيل للحجر الاسود .
اما المرأة و الخنثى فتكون فى حاشة الطريق .
تنبيهات : هناك أخطاء يرتكبها بعض الحجاج فى الطواف ننبه اليها :-
1-إبتداء الطواف قبل الحجر الاسود والواجب الابتداء به .
2-الطواف من داخل حجر اسماعيل لأنه حينئذ لا يكون قد طاف بالبيت وإنما طاف ببعضه لأن الحجر جزء من الكعبة .
3- الرمل فى جميع الاشواط – وهو لا يكون الا قى الثلاث الاولى .
4- المزاحمة لتقبيل الحجر الاسود وأحيانا المدافعة والمشاغبة وذلك لا يجوز لما فيه من الاذى .
5- إستلام جميع اركان الكعبة وإنما المشروع تقبيل الحجر وإستلامه واستلام الركن اليمانى .
6- التزاحم للصلاة خلف مقام إبراهيم – يكفى أى مكان فى المسجد .
7- تخصيص كل شوط بدعاء خاص لم يثبت فى السنة .
الركن الثالث من اركان الحج والعمرة :-
السعى بين السعى والمروة :- الصفا هو مبدأ السعى منه يبدأ الحاج والمعتمر – والصفا فى الاصل جبل أبى قيس ، والمروة الموضع الذى منتهى السعى ، وهو فى الاصل جبل قيقعان أو أنها من جبل قيقعان ، والمسافة بينهما 765.5 ذراعا بذراع الحديد .
السعى : هو البحث وهو حركة قاصدة الى هدف – وهى أن تبذل كل ما فى وسعك لا من أجل نفسك فقط ولكن من أجل الآخرين .
والسعى إحياء لذكر سيدة المتوكلات هاجر أّم إسماعيل عليه السلام التى تركها إبراهيم عليه السلام ورضيعها وتوكات على ربها ، السعى إحياء لسنة الاخذ بالاسباب – الاخذ بالسنن الجارية – ثم التوكل الله .
والسعى هو المشىوالمروة ذهابا وجيئة بنية التعبد وهو ركن الحج إعتباره من شعائر الله يدخل ضرورة تعظيمه ( ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها تقوى القلوب).
والسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط وهو ركن من اركان الحج والعمرة لقول الرسول فيما رواه مسلم عن عائشة رضى الله عنه قالت ( طاف الرسول بين الصفا والمروة ولعمرى ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة ) .
وللسعى شروط وواجبات وسنن ومندوبات لا تتم حقيقته الا بها قال تعالى ( إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو إعتمر فلا جناح أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فهو خيرا فإن الله شاكرّ عليم ) البقرة الآية 258 والشعائر جميع شعيرة وهى العلامة ، أى من أعلام طاعة الحاج بعد أن يفرغ من طوافه يذهب للسعى بين الصفا والمروة . فكلما ذهب بين الصفا والمروة تذكر ذنوبه وحاول أن يتخلص منها ، وكلما رجع الى الصفا تذكر رحمة الله ( ان رحمة الله قريب من المحسنين ) .
شروط السعى :-
1- النية : ان يكون بنية التعبد ( وأعبدو الله مخلصين له الدين ) ولحديث البخارى ( إنما الاعمال بالنيات ) .
2-الترتيب بينه وبين طواف صحيح – بأن يتقدم الطواف على السعى لا يتخلل بينهما الوقوف بعرفة – ويشترط أن يكون الطواف صحيحا طواف ولو مندوبا .(/12)
3-ان يبدأ بالصفا وينتهى من السعى بالمروة لقوله تعالى ( إن الصفا والمروة من شعائر الله ) ولحديث النسائى والدارقنطى عن جابر رضى الله عنه أن النبى طاف سبعا رمل ثلاثا ومشى أربعا ثم قرأ ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى فصلى سجدتين وجعل المقام بينه وبين الكعبة ثم إستلم الركن ثم خرج فقال ( إن الصفا والمروة من شعائر الله ) فابدأو بما بدأ الله به.
4-أن يكون سبعة أشواط كاملة فلو بقى منها ولو خطوة لم يصح السعى ، إذ حقيقته متوقفة على إتمام اشواطه وهو فعل النبى وهو الذى عليه إجماع الامة ، فإن شك فى العدد بنى على الاقل .
5- الموالاة بين الاشواط – شرط عند الحنابلة والمالكية – وأشترط مالك الموالاة من غير تفريق كثير لصحة السعى .
* أما الجمهور فمذهبهم أن من عرض له عارض من مواصلة السعى فله أن يقطع السعى ، فإذا فرغ مما عرض له بنى على ما أتى به من السعى ، وهو فعل إبن عمر رضى الله عنهما كان يطوف بين الصفا والمروة فأعجلخ البول فتنحى ودعا بماء فتوضأ ثم قام فأتى على ما مضى .
وروى أن ( سورة ) زوج عروة بن الزبير سعت بين الصفا والمروة فقضت طوافها اى سعيها فى ثلاثة أيام وكانت ضخمة .
واجبات السعى :-
1-أن يكون عقب طواف صحيح إفاضة أو قدوم .
2-أن يكون متصلا بالطواف عند مالك .
3- السعى راجلا أو راكبا الا لضرورة عند مالك ولا يركب الا للتعليم والاقتداء.
4-تقديم طواف القدوم عليه .
5-تأخيره الى ما بعد الافاضة إن لم يكن طواف القدوم واجبا كمن أردف الحج على العمرة أو ضاق وقت طواف القدوم أو كاهل مكة والحائض والنفساء .
سنن السعى وآدابه :-
1-إستلام الحجر الاسود وتقبيله بعد الانتهاء من الطواف وصلاة ركعتى الطواف خلف مقام ابراهيم ، ثم الخروج من باب الصفا ( وهو الباب المقابل لما بين الركنين اليمانيين ) إتباعا للسنة .
2-الطهارة من الحدث والخبث وستر العورة ولو سعى سعى دون طهارة صح سعيه لقول الرسول لعائشة حين حاضت ( فأقضى ما يقضى الحاج غير الا تطوفى بالبيت حتى تغتسلى ) .
3-السعى على الصفا والمروة للذكر دون غيره – وأن خلا المكان يسن للمرأة الصعود والا وقفت أسفلهما .. وإلاكثار من الذكر و الدعاء عليهما بما أحب – والمأثور من الذكر الدعاء أفضل فيهلل ويكبر ويصلى على النبى ويقول ( الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، ولله الحمد ، الله أكبر على ما هدانا ، والحمد لله على ما والانا ، لا إله الا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحيى ويميت بيده الخير وهو على كل شئ قدير ، لا إله إلا الله وحده أجز وعده ، ونصر عبده ، وهزم الاحزاب وحده ، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ) رواه مسلم – يقول ( اللهم إشرح لى صدرى ويسر لى أمرى ) ثم يدعو بما شاء ومن السنة عند الجمهور الاضطباع فى السعى .
4- الاسراع ( أو العدو ) أو الخبب للذكور فى وسط المسعى بين الميليين الاخضريين ( وهو الموضع الذى خبت فيه هاجر ) والخبب فوق الرمل ودون الجرى ، فى ذهابه الى المروة وعودته الى الصفا إتباعا لسنة المصطفى ويقول فى عدوه : رب أغفر وأرحم وتجاوز عما تعلم إنك أنت الاعز الاكرم .
5- أن يتحرى زمن الخلوة لسعيه وطوافه وإذا كثرت الزحمة فينبغى أن يتحوط من إيذاء الناس وإذا عجز عن السعى الشديد بين الميلين الاخضرين تشبه حركته بالساعى .
6-أن يكثر من الذكر والدعاء وان ينشغل بهما دون غيرهما ويغض بصره عن المحارم ويكف لسانه عن المأثم .
7- إستحضاره فى نفسه ذله وفقره وحاجته الى الله سبحانه وتعالى .
8-عدم شرب الماء الا لعطش .
تنبيهات وملاحطات لاخطاء يقع فيها الحاج فى السعى :-
-1المحرم بالحج المفرد – إذا اتى بالسعى بعد طواف القدوم وقع ركنا ولا يعاد بعد طواف الافاضة .
2- من ضاق وقت طواف القدوم له أو من أردف الحج على العمرة ( المتمتع ) أو الحائض والنفساء على هؤلاء جميعا تأخير السعى الى ما بعد طواف الافاضة .
3-على القارن الذى سعى بعد طواف القدوم عليه أن يسعى بعد طواف الافاضة خروجا من خلاف العلماء .
4-المتمتع عليه بعد إتمام سعيه أن يحلق أو يقصر ويتحلل من إحرامه وبذلك فقد أتم العمرة ثم يحرم بالحج من مكة فى يةم التروية ويأتى بسعى آخر للحج بعد طواف الافاضة .
5-من الاخطاء الاسراع فى السعى بين الصفا والمروة فى كل شوط – والسنة أن يكون الاسراع بين العلمين الاخضرين فقط فى بقية الشوط .
6- بعض الحاج إذا صعد على الصفا يشيرون بأيديهم الى الكعبة كأنهم يكبرون للصلاة والاصح أن النبى كان يرفع يده بالدعاء.
7-حكم الشك فى عدد السعى كحكم الشك في الطواف يبنى علي الاقل المتقن .
الركن الرابع من اركان الحج :-
الوقوف بعرفة ، هو ركن الحج الاعظم:-(/13)
عرفة هي الموضع المعروف الذى حدده النبي ليقف عليه كل من نوي اداء فريضة الحج وسبب تسمية عرفة إن آدم وحواء قد تقابلا عليه بعد هبوطهما من الجنة فتعارفا فيه وقيل : لأن جبريل عليه السلام عرف الخليل إبراهيم فيه المناسك يوم عرفة وقيل سمى عرفى لأن الناس يعترفون بذنوبهم ..
يقول النبى ( الحج عرفة ) ففى عرفات يلتقى حجاج بيت الله جميعا على صعيد واحد فأصبحوا جميعا إخوانا وهم أمام الله سواء فلا يتكاد تميز بين أمير ومأمور ووجيه ومغمور كل أولئك سوى بينهم الجديد فلا إختلاف ولا تمييز بينهم ، إلههم واحد ، ودينهم واحد ، وأمتهم واحدة ، وقبيلتهم واحدة ، وتلبيهم واحدة ، فى هذا المكان تصفى النفوس من النفاق والتنافر ، وكل واحد يتذكر قول النبى فى حجة الوداع وهو يعلى حقوق الانسان ، أن دمائكم و أموالكم وأعراضكم عليكم حرام .
* فيوم عرفة هو يوم المغفرة والرحمة – عن عائشة رضى الله عنها أن النبى قال ( ما من يوم أكثر من أن يعتق فيه عبيدا من النار من يوم عرفة ، وأنه ليدنو يتجلى ثم يباهى بهم الملائكة ماذا أراد هؤلاء ) رواه مسلم .
* ويوم عرفة هو أجل الايام ففضله منيف ووقته شريف وهوعيد الاعياد وهو أفضل أيام السنة .
حقيقته :-
عرفة كلها مواقف لقول النبى ( قد وقفت هاهنا وعرفة كلها مواقف ) والافضل عند أسفل جبل الرحمة عند الصخرات لأنه موقف الرسول .
حدود عرفة :-
عرفة وادى بين المزدلفة والطائف وكلها مواقف الا وادى عرنة للحديث الذى أخرجه احمد والطبرانى ( كل عرفات مواقف ، وارفعوا عن بطن عرنة ) وعرفة الآن اصبحت معروفة الحدود ، حيث أقيمت علامات مكتوب عليها هنا بداية عرفة وهنا نهاية عرفة .
وقت الوقوف :-
هو مابين زوال شمس يوم عرفة حتى طلوع فجر يوم النحر لحديث أحمد وأصحاب السنن ، عن عبد الرحمن بن يعمر قال : شهدت رسوالله وهو واقف بعرفة وأتاه أناس من اهل نجد فقالوا يارسول الله : كيف الحج ؟ فقال ( الحج عرفة ) فمن جاء قبل صلاة الفجر من ليلة جمع فقد تم حجه .
يكفى الوقوف فى أى جزء من هذا الوقت الا أنه ينبغى للحاج إن اتى عرفة نهارا أن يمد الوقوف الى ما بعد الغروب .
من لم يحضر عرفة نهارا فقد فاته واجب يجبر بالدم عن المالكية ، وللوقوف بعرفة واجبات وسنن يتم بها : -
شروط الوقوف بعرفة :-
1- أن يعلم أنه بعرفة .
2- أن ينوى بحضور الركن .
3- كون الواقف عاقلا أهلا للعبادة .
واجبات الوقوف بعرفة :-
1- الحضور بعرفة يوم التاسع من ذى الحجة بعد الزوال الى غروب الشمس لحديث على وأسامة : ( إن النبى وقف حين غابت الشمس ) ، فمن دفع قبل الغروب يتقرب بدم.
2- المبيت بالمزدلفة بعد الافاضة من عرفات ليلة العاشر من ذى الحجة والوقوف بها ليلا ويتفاوت مقدار المبيت ولكنهم قالوا يتحقق هذا الواجب ولو بمقدار حط الرحال أو صلاة العشاء بعد النصف الثانى من الليل ، وسنة النبى عليه الصلاة والسلام المبيت بالمزدلفة وصلاة الفجر بها ثم الدفع منها وهو القائل ( خذوا عنى مناسككم ) .
• وقد ثبت إذنه للضعفه قبل صلاة الفجر كما روى مسلم فى صحيحه عن عائشة رضى الله عنها قالت : إستأذنت سودة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة تدفع قبله وقبل حطمة الناس وكانت إمراة ثقيلة فأذن لها فخرجت قبل دفعه وحبسنا حتى أصبحنا فدفعنا بدفعه .
• المزدلفة ميدان بين عرفة ومنى الا بطن وادى مسحر ( مزدلفة كلها موقف الا وادى محسر ) وحدها – من مازمى عرفة الا قرنى محسر ومن أسمائها مزدلفة وجمع والمشعر الحرام والمزدلفة كلها موقف الا وادى محسر والافضل أن يكون وقوفه خلف الامام على جبل قزح ( المشعر الحرام ) وهو آخر المزدلفة وفى حديث جابر الذى رواه مسلم ( أن النبى صلى الله عليه وسلم أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بآذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شئيا ثم إضطجع حتى طلع الفجرفصلى حين تبين له الصبح بآذان وإقامة ثم ركب القصواء حتى المشعر الحرام فأستقبل القبلة فدعا الله وكبره وهلله ووحده فلم يزل واقفا حتى اسفر جدا فدفع قبل أن تطلع الشمس حتى أتى بطن محسر فحرك قليلا ثم سلك الطريق التى تخرج الى الجمرة الكبرى فرماها بسبع حصايات يكبر بعد حصاة ويجب الوقوف عند المشعر الحرام ويذكر الله فيه ( فإذا افضتم من عرفات فأذكروا الله عند المشعر الحرام ) .
• ويسن للوقوف بالمزدلفه الاغتسال فيها بالليل للوقوف بالمشعر الحرام للعيد ولما فيها من الاجتماع- بين صلاتى المغرب والعشاء جمع تاخير باقامه لكل صلاة ، احياء هذه الليله للعباده من الصلاة والتلاوة والذكر والدعاء والتضرع .
اخذ حصى الجمار لجمره العقبه ولايام التشريق والوقوف بالمشعر الحرام والصعود اليه وصلاة الصبح والمبالغه فى الشكر ، الاسراع فى وادى محسر .(/14)
والمزدلفه هى الموضع الذى يؤمر الحجاج بنزوله – والمبيت فيه بعد اقامتهم من عرفات ليلا ويؤدون فيه صلاه المغرب والعشاء جمع تاخير، ويجمعون منه حصى الجمرات ، سميت مزدلفه لازدلاف الناس اليها – اى اقترابهم – وقيل لمجئ الناس اليها فى زلف من الليل وسميت جمع لاجتماع الناس بها ، وقيل إجتماع آدم وحواء فيها – قيل لجمع الصلاتين فيها – صلاة الصبح والمبالغة فى الشكر .. الاسراع فى وادى محسر .
المشعر الحرام : وهو الموضع الذى يستحب للحجاج الوقوف عنده للذكر والدعاء غداة يوم النحر – عند المرور عليه فى اثناء الافاضة من عرفات وهو موضع بالمزدلفة معروف ، وهو الذى يطلق عليه قزح ( فإذا أفضتم من عرفات فأذكروا الله عند المشعر الحرام وأذكروه كما هداكم ) ، معنى المشعر الحرام اى الذى يحرم فيه الصيد وغيره .
رمى الجمار فى منى وحكم المبيت فيها :
منى : هى الموضع الذى يؤمر الحجاج بنزوله والاقامة فيه حتى تطلع الشمس على ثيبر فى يوم عرفة وكذلك الاقامة فيه حتى يوم النحر وما بعده والمبيت به فى ليالى التشريق .
وسميت منى لما بها من الدماء المشروعة فى الحج – بمنى اى يراق ويصب فيها وقيل لتمنى آدم الجنة ، وقيل لمن الخليل بفداء أبنه فيها ، وقيل لمن الله فيها بالمغفرة على عباده .
رمى الجمار :
وهو القذف بالاحجار الصغار ( الحصى ) فى زمان مخصوص وأيام مخصوصة . وحكمته :
أنه عمل رمزى يمثل مقاومة الشيطان الذى يريد إيقاع الناس بالمعاصى بالفعل وهو أيضا إقتداء بفعل سيدنا إبراهيم ولتحقيق إمتثال أمر الله ..
حكم أمر الجمار :
واجب أتباعا لفعل النبى صلى الله عليه وسلم لحديث أحمد ومسلم عن جابر ( رأيت النبى صلى الله عليه وسلم يرمى الجمرة على راحلته يوم النحر ويقول لتأخذوا عنى مناسككم فإنى لا أدرى لعل لا أحج بعد حجتى هذه ) .. قال بن عباس ( الشيطان ترجمون وملة أبيكم تتبعون ) فحكمه واجب يجبر بالدم .
* وتجوز الانابة للعاجز والمريض وعليه أن يوكل غيره فى الرمى علىأن يرمى الوكيل عن نفسه أولا .
* وقت الرمى : أ- جمرة العقبة ( أو الكبرى) :-
وقت رميها من يوم النحر ( العيد) العاشر من ذى الحجة من طلوع الشمس ( لا ترموا حتى تطلع الشمس ) .
ب- رمى الجمرات الثلاث أيام التشريق : بعد زوال الشمس ويستمر للغروب يجوز إستمرار الرمى الى قبل الفجر عدى اليوم الرابع من ايام الاضحى ويجوز الرمى فيه قبل الزوال . وقد جرت الفتوى مؤخرا للمشقة والضرر جواز الرمى فى كل الاوقات بشرط ترتيب اعمال الحج .
مكان الرمى :
* الرمى فى اليوم الاول عند جمرة العقبة وفى الايام الاخر عند الجمرة الاولى والوسطى والعقبة بشرط وقوع ذلك كله فى مكان وقوع الجمار .
شروط الرمى :
أن يكون الرمى باليد أن يكون كحصى الخزف أن يسمى الفعل رميا فلا تلق الوضع أن تقع فى المرمى ، رمى السبعة واحدة واحدة .
3- الواجب الثالث :
الحلق أو التقصير :
هو إزالة شعر الرأس أو التقصير فى حج أو عمرة فى وقته حكمة الوجوب لقوله تعالى ( ثم ليقضوا تفثهم ) .
• فهو نسك واجب عن الجمهور لما رواه مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى منى فأتى الجمرة فرماها ثم أتى منزله بمنى ونحر ثم قال للحلاق خذ وأشار الى جانبه الايمن ثم الايسر ثم جعل يعطيه رأسه .
• ولا حلق على المرأة والاتفاق دائما عليها التقصير .
• ويستحب إمرار الموس على رأس المصلع .
مقدار الواجب :
الافضل فى الحلق حلق جميع الرأس أما التقصير فهو بقدر الانملة أو يزيد ( والانملة رأس الاصبع ) .
زمان الحلق :
زمان أيام النحر ومكانه الحرم :
حكمته : صيروه المحرم حلالا فيحلل كل شئ الا النساء وهو التحلل الاصغر أما التحلل الاكبر فهو بعد طواف الافاضة .
سنن الوقوف الوقوف بعرفه :
1-الخروج الى منى يوم الترويه – وهو ثامن الحجه – والمبيت بها ليلة التاسع وعدم الخروج منها الا بعد طلوع الشمس .
1- اداء خمس صلوات بمنى .
2- الوقوف بموقف النبى صلى الله عليه وسلم عند الصخره اسفل جبل الرحمه .
3- الذكر والدعاء والاستغفار والاكثار منه .
4- السكينه فى السير وعدم الاسراع ، لقوله صلى الله عليه وسلم ( ياايها الناس عليكم السكينه فان السير ليس بالايضاع ( الاسرع ) .
5- الاكثار من التلبيه فى طريقه الى عرفه ومنى ومزدلفه الى ان يشرع فى رمى الجمرات .
ملاحظات وتنبيهات على اخطاء يرتكبها الحجاج يوم عرفة :
1- نزول بعض الحجاج خارج حدود عرفة وبقاؤهم فى أماكن نزولهم حتى تغرب الشمس ، ثم ينصرفون الى المزدلفة دون أن يقفوا بعرفات وهذا خطأ يفوت عليهم الحج فليتحروا ذلك فإن لم يتيسر وصولها قبل الغروب ويجزى دخولهم أياها ليلا بليلة النحر .
2- إنصراف بعضهم من عرفة قبل غروب الشمس .
3- التزاحم من أجل صعود جبل عرفة والوصول الى قمته مما يترتب عليه كثير من الاضرار وعرفة كلها موقف .(/15)
4- وفى مزدلفة ينشغلون بجمع الحصى قبل صلاة المغرب والعشاء وإعتقادهم أنها لابد أن تكون من المزدلفة والصحيح أنه يجوز أخذها من كل مكان .
5- وهناك اخطاء فى الرمى إذ يعتقد البعض أنهم يرمون الشياطين فيرمونها بغيظ مصحوب بالسب والصحيح أن الرمى شرع لاقامة ذكر الله .
6- رميهم الجمرات بحصى كبيرة اوبالحذاء وهذا غلو فى الدين نهى عنه رسول الله صلى عليه وسلم وإنما المشروع رمى الحجارة الصغيرة .
7- التزاحم والتقاتل عند الجمرات من أجل الرمىو المشروع الرفق وتحرى الرمى دون ايذاء احد وكذلك رمى الحصى جميعا دفعة واحدة وحينئذلا يحسب له الا حصاة واحدة .
8- كثيرون بعد الرمى الجمار ينزل بعضهم يوم النحر قبل رمى الجمرات فيطوف طواف الوداع ثم يسافر الى بلده فيكون اخر عهد بالرمى بمكة بالبيت .
صفة الحج والعمرة على هدى السنة :-
* الحمد لله والصلاة والسلام على النبى المقتدى به فجملة القول فى الحج أنه عبادة كبرى يراد منها التزود بالتقوى لذا فقد وجب على المسلم الالتزام والاقتداء والتزام الادب فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فى الحج ولا يخرجه عن الشريعة مشقات السفر ، ولا هفوات الطريق .
* فعند السفر يلتزم آداب السفر وأدعيته ويصلى ركعتين قبل الخروج وبعده ثم إذا ركب قال : الله اكبر ثلاثا وسبحان الذى سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا الى ربنا لمنقلبون ، اللهم إنا نسألك فى سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى ، اللهم هون علينا سفرنا هذا وأطوى عنا بعده ، اللهم أنت الصاحب فى السفر والخليفة فى الاهل ، اللهم إنى أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب فى الاهل والمال والولد .
* وعند وصوله الى الميقات أو ما يجازيه تهيأً فى الاحرام بإزالة الشعر والتجرد من المحيط والمخيط وإغتسل ولبس ثوبين أبيضين والمرأة تلبس ما تشاء ثم يصلى ركعتين ويحرم ويقول : لبيك عمرة لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك ، وإن كان حج يلبى مثل ذلك وإن قرن بين الحجة والعمرة كذلك حسب نوع النسك الذى يريد .
* ويستحب أن تجددت هذه التلبية كلما تغيرت الاحوال من إقبال الليل وإدبار النهار أو صعود مرتفع أو هبوط واد أو ملاقاة رفاق أو ركوب أو نزول ويحسن التوسط فى الصوت ولا يجوز له بعد الاحرام لبس المحيط أو المخيط أو مس الطيب أو تقليم الاظافر أو حلق الشعر أوتغطية الرأس ولا يعقد نكاح لنفسه أو لغيره ولا أن يباشر زوجته ولا بأس من المظلة من الشمس والكمر الذى يحفظ فيه نقوده أو وثائقه .
* وإذا وصل مكة يسن له أن يغتسل ويذكر الله ويحمده أن يسر له النظر الى بيته المشرف ويدعو بدعاء النبى صلى الله عليه وسلم ( اللهم زد هذا البيت تشريفا وتكريما ) ثم يبدأ تحية البيت بالطواف سبعة اشواط يبدأها من الحجر الاسود جاعلا البيت على يساره مضطبعا ويكون على طهارة الصلاة فى الطواف ويقول فى مبتدأ الطواف ( اللهم إيمانا بك وتصديقا لكاتبك ووفاءا بعهدك وإتباعا لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم والاحسن أن يختم كل شوط بقوله ( ربنا آتنا فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) ويدعو بما يشاء أثناء الطواف ويقبل الحجر الاسود فى كل شوط إن استطاع أو يلمسه أو يشير اليه ويهلل ويكبر ثم يصلى ركعتى الطواف خلف مقام إبراهيم أو فى اى موضع بالمسجد ثم يتضلع من زمزم .
* بعد الفراغ من الطواف يذهب للسعى بين الصفا والمروة ويستقبل البيت ويقول ( لا إله الا الله والله أكبر ، لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو على كل شئ قدير ، لا إله الا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده ، وهزم الاحزاب وحده ، ثم يدعو ما يشاء ويكرر ذلك ثلاث مرات ثم يمشى نحو المروة فإذا بلغ العلامتين الخضراوين هرول ثم عاد الى مشيه والهرولة للرجال دون النساء وله أن يدعو ويذكر الله أثناء ذلك بما شاء الى ان يكملها سبعة أشواط .
* فإذا أتم الحاج سبعةحلق رأسه أو قصر إن كان معتمرا وبذلك تمت عمرته ، وإن كان متمعا وجب هدى يوم النحر شاة أو سبع بدنة أوصيام هشرة أيام ثلاثة فى الحج وسبعة فى وطنه .
* فإن كان الحاج مفردا أو قارنا بقى على أحرامه ولا يحلق ولا يقصر ولا سعى عليهما الا إذا سعيا مع طواف القدوم .
* فإذا كان يوم التروية توجه نحو منى بحيث يتمكن من أن يصلى بها الظهر ثم العصر ثم المغرب ثم العشاء ثم الصبح .
* فإذا طلعت الشمس يوم التاسع من ذى الحجة فيسير الى عرفة بسكينة وحذر من ايذاء إخوانه الحجاج وهو ملتزم التلبية ويسن له أن يغتسل ويشهد الصلاة والخطبة مع الامام ويصلى الظهر والعصر جمع تقديم ثم يقف بعرفة وعرفة كلها موقف الابطن عرمة ويستحب الاكثار من التلبية والتهليل والتكبير والتحميد والتسبيح والذكر عامة ويبقى الحاج داخل عرفات حتى مغيب الشمس .(/16)
* فإذا غربت الشمس فيسير الى مزدلفة بسكينة ويصلى بها المغرب والعشاء جمعا وقصرا ثم يبقى فيها الى أن يصلى الفجر ويسفر الصبح ويذكر الله عند المشعر الحرام ويلتقط حصى الرمل .
* ثم يسير قبل طلوع الشمس ملبيا الى منى ، أما الضعفاء وأصحاب الاعذار فلا بأس من السير من منى بعد منتصف الليل الى أن يصل جمرة العقبة وهى القريبة من مكة.
* فإذا رمى الحاج جمرة العقبة يذبح هديه إن كان عليه هدى ويحلق رأسه أو يقصر ويتحلل التحلل الاصغر وتحل المحظورات سوى النساء .
* ثم ينزل مكة ويطوف طواف الافاضة ويسعى إن كان متمتعا أو لم يسع مع طواف القدوم ويسعى إذا كان قارنا أو مفردا وبهذا يتحلل التحلل الاكبر فتحل له النساء .
* ثم يرجع الى منى بعد طواف الافاضة ويبيت فيها ثلاثة ليالى أو ليلتين أن تعجل برمى الجمرات الثلاث فى اليومين أو الثلاثة التى يقضيها بمنى .
* فإذا أراد الرجوع بعد إنتهاء أعمال الحج طاف بالبيت طواف الوداع .
صفة زيارة مسجد الرسول :
*أهم معالم دار هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وآداب زيارة المسجد النبوى الشريف .
*المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام – إحدى البقاع المقدسة التى اصطفاها الله من بقاع الارض وطهرها وجعلها منزل رسوله الكريم ومهبط وحيه العظيم ، بزغ منها نور الايمان فأنطلق شعاعه فى بقاع الارض معلنا التوحيد الخالص والدنيوية لله رب العالمين .
فكانت مهبط دين الله ومنطلق طريق الهداية والجهاد الذى به أظهر الله دينه على من سبقه من الاديان .
*أخرج مسلم عن زيد بن ثابت رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إنها طيبة وإنها تنفى الخبيث كما تنفى النار خبث الفضة ) .
* وهى دار الايمان قال تعالى ( والذين تبواءوا الدار والايمان من قبلهم يحبون من هاجر اليهم ... ) .
وهى حرم آمن وهى دار ومهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومضجعه فى الارض وقد أنعقد الاجماع على أن مكة المشرفة والمدينة المنورة أفضل من سائر البلاد على الاطلاق
* يسن للحاج أن يذهب الى المدينة فى أى وقت لزيارة مسجد النبى صلى الله عليه وسلم والصلاة فيه لأن الصلاة فيه خيرا من ألف صلاة فيما سواه الا المسجد الحرام .
* والزائر لمسجد النبى عليه الصلاة والسلام يكثر من الصلاة والسلام على النبى ويسن له أن يتطيب ويلبس أحين الثياب ، ومن رأى المدينة ونزل عن راحلته وتعظيم جهته كما فعل ( وفد عبد القيس ) فى حرمة المقدس والاولى الا يعرج لغير المسجد وأن يستحضر أن هذا مهبط الوحى .
إذا وصل المسجد النبوى فيقدم رجله اليمنى عند دخول المسجد ويسمى الله تعالى ويصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم ويقول أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم والحمدلله اللهم صلى سيدنا محمد وعلى آل محمد وأغفر لى ذنوبى وأفتح لى أبواب رحمتك .
* ثم يذهب الزائر الى قبر النبى صلى الله عليه وسلم ويقف أمامه مستقبلا له بأدب وإجلال ثم يسلم عليه ويصلى عليه وإن قال : اللهم آته الوسيلة والفضيلة وأبعثه المقام المحمود الذى وعدته اللهم أجزه عن أمته أفضل الجزاء فلا بأس .
* ثم يتحول قليلا الى يمينه ليقف أمام قبر أبى بكر رضى الله عنه فيسلم ويدعوا له .
* ثم يتحول قليلا الى يمينه ليقف أمام قبر عمر فيسلم ويدعو له .
* ثم يسن له زيارة المقابرفي البقيع للسلام على أصحابه من الصحابة والتابعين والدعاء لهم .
* ثم يسن له أن يذهب متطهرا الى مسجد قباء فيزور ويصلى فيه ركعتين لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وترغيبه فى ذلك .
* ثم يسن له زيارة أحد وقبور الشهداء ويدعوا لهم ويستحب لزائر المدينة أن يكثر من الصلاة والذكر والدعاء فى المسجد النبوى ويحرص أن يجد له موضعا فى الروضة الشريفة .
* ويلتزم الحاج الزائر الادب بعدم رفع الصوت وإستحضار أنه صلى الله عليه وسلم يسمعه ويرد وإلتزام المأثور حين السلام عليه ويتجنب المخالفات التى يقع فيها كثير من العوام من التمسح بالحديد وحيطان القبر وغيرها .
* أستاذ مساعد بجامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية(/17)
دم الجزائر فوّار بساحتها
على أثر إلغاء الانتخابات في الجزائر سنة 1992م بدأت فتنة دامية ومجازر وأشلاء وجماجم في أحداث مروّعة امتدت سنين طويلة حتى يومنا هذا .
نعيش مع الجزائر البلد الحبيب إلى قلوب المسلمين جميعاً ، وندعو الله أن يرفع عنهم البلاء وأن يهدي القلوب إلى صراط مستقيم يجمع شتات المؤمنين .
أحداث الجزائر ابتلاء وتمحيص من الله سبحانه وتعالى ، وعبرة وآيات لمن يتدبّر ، ودروس يستفيد منها المسلمون لينجوا من فتن أُخرى .
· دم الجزائر فوّار بساحتها !
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
اصْمِتْ ! فما عَادَ يُجْدي عِنَده الكَلِمُ
ولستُ أَدْري : عمىً أعياهُ أم صَممُ
أو غضبةٌ نَزَعَتْ من صَدْره أملاً
فجُنَّ والَتاعَ مِنْه الساحُ والقِمَمُ
أو حَسْرةٌ زَرَعَتْ غيظاً يُمورُ به
هَوْلٌ تَفَجَّرَ مِنهُ السَّهْل والأُجُمُ
أو حَيْرَةٌ في فيَافي الأَرْضِ تَاهَ بها
رُشْدٌ وضَلّتْ على أوهامِها القَدَمُ
أو ثَوْرةٌ مِنْ أسىً باتَتْ تُمزّقُه
فَقُطِّعَتْ بَيْنَ أَنيَابِ الأَسى الرَّحمُ
أو فُرْقَةٌ أوْهَتِ الآمَالَ فَانْفَرطَتْ
كُلُّ العُرَا وحبَالُ الودِّ والذِّمَمُ
فأصبَحُوا شِيَعاً شُقَّتْ ثُغُورُهُمُ
للمُجْرمين على أبوابها ازْدَحمُوا
تَبلَّدَ الحسُّ ! لا حُزْنٌ ولا فَرَحٌ
يَهُزُّه ، أو أسىً أَو نكبَةٌ عَمَمُ
ولا الأَعاصيرُ مَهْما ثَارَ ثائِرُهَا
ولا البَراكِينُ جُنّتْ عِنْدَها الحِمَمُ
ولا الزَّلازِلُ يطوي جوفُها قُلَلاً
ويخْتَفي عِنْدَها الإِعمارُ والنَّسَمُ
مَنْ ذاكَ ؟! ويحِي !أرى مِنْ حالِهِ عَجَباً
يُخْفِيهِ عنّي ظلامُ الليل والبُهَمُ
دَمُ الجَزائرِ فوّارٌ بِسَاحَتِها
تهيجُه أُمَمٌ من بعدها أُمَمُ
* *
* *
يا للجَزائر ! أَهْوالٌ مُرَوِّعَةٌ
وفِتْنَةٌ في رُباها اليوم تَضْطرمُ
دَمٌ تَدفّقَ في سَاحاتِها وَجَرى
كأنّه الموجُ في السّاحاتِ يَلْتَطِمُ
دَمُ الجَزائِر ، ويْحي ، كان نورَ هُدَى
وكانَ يُشْرقُ مِنْهُ السِّهْلٌ و العَلَمُ
ورايةُ الحقِّ في سَاحَاتِها خَفَقَتْ
لله ، لا لِسواهُ ، الحَرْبُ والسَّلَمُ
أرضَ الشهادَةِ ! مازالت منائِرُها
نُوْراً تَوَهّجَ من عَلْيائه الشّمَمُ
أَلقَتْ على السّاح مِنْ أَكبادِها فِلَذاً
تدافَعوا زُمَراً تمضي وتَقْتَحِمُ
لله دَرُّكِ ! كم أطْلَقْتِ من بَطلٍ
فأشْرَقَتْ مِنهُمُ الأفلاكُ والنُّجمُ
ولم تَزَل قِمَمُ الأجْيَالِ مِنْ دَمِهمْ
وهّاجَةً وذرا " أوراسَ " تضطرمُ
"أوراسُ" ذكرى! وهلْ تُنَسى معاقِلهُ
وكان يَهْدُرُ مِنها سَيْلُهُ العَرِمُ
مَنْ كانَ يأوي إليْهِ منْ مطارَدَةٍ
بالله ، لا بِسواه ، كان يَعْتَصِمُ
أَرضَ الجَزَائِر ! ماذا قد دَهاكِ وما
تكادُ مِنكِ جِراحُ الأَمْس تَلْتَئِمُ
قد كُنتِ نُوراً على الآفاقِ مُنْتَشِراً
وطلعةً بِرُؤى الآمالِ تَبْتَسِمُ
بالأَمسِ كُنِت دَماً بالنُّور مُؤْتَلِقاً
واليومَ مِنْ دَمِك الظلماءُ تكتَتِمُ
ماذا دَهاكِ ؟ ! فأضْحى الليلُ منعقداً
على رُباك وماجَ الشرُّ والغَمَمُ
هذي الجَرِيمةُ مَنْ يُوْري مواقِدَها
ومَنْ يُؤَجِّجُها ؟ الأَشباحُ والظُّلَمُ
ماذا أرى في سَواد الليل ؟ ! واعَجباً
كأنّه شَبَحٌ يَدْنُوْ ويَنْهَزِمُ
يَكادُ يَطْلعُ أَحياناً فأُنْكِرُهُ
يْحُوطُهُ في ذُهولي الشَّكُّ والتُّهَمُ
* *
* *
طِفلٌ تُمزَّقُ بالسِّكِّين أضْلُعُهُ
ونِسْوَةٌ بِجُنُونِ الفَأْسِ تُصْطَلمُ
النَّائِمون عَلَى أَحْلامِهمْ صُعِقُوْا
وما أَفَاقُوْا ! وغابَ العُمْرُ و الحُلُمُ
والعائِدونَ بِزادٍ مِنْ مُجَاهَدَةٍ
يَغْذُوْنَ مِنْ أنْفُسٍ في الدار تزدَحِمُ
عادُوْا فَما وَجَدوُا إِلاَّ بقيَّتَهمْ :
أشْلاؤهُمْ مِزَقٌ من حولِهمْ ودَمُ
لله دَرُّ أَبٍ كَمْ كان يدفَعُه
لزَوْجِه وبنيهِ الشَّوْقُ والجَشَمُ (1)
على يَدَيْهِ هَدَايا كَيْ يُفاجئَهُمْ
ففاجَؤوه : سُكُونُ الموتِ والعَدَمُ
تَنْهار أضْلاعُهُ ! يَهْوي على فَزعٍ
يكاد يَصْرَعُهُ مما رأى اللَّمَمُ (2)
ما بَيْنَ سَاقٍ هنا أو بين جُمْجُمةٍ
هناك ، تَلْقَى سِباقَ الموتِ يَحْتَدمُ
وذاكَ وَجْهٌ على عَيْنَيْه حَمْلقَةٌ
من الفُجاءَة ! من أَهْوالِها الألَمُ
كأَنَّه كان يَرْجو ! فانطوى أسَفاً
لما رأى لَهْفةَ الآمالِ تَنْهَزمُ
على المحيّا بقايا الشّوْقِ تَقْرؤُها
وخيبَةُ الأَمل المرجوِّ تَرتسم
دُقَّتْ رُؤوسٌ !وشُقَّ البَطْنُ وانْتُزِعَتْ
ضُلُوعُهمْ ! والأَسى باقٍ بِها يَصِمُ
وَلوْ رَايْتَ " ورُوداً " في مَلاَعِبهمْ
تَفتّحَتْ عَنْهُمُ السَّاحَاتُ والأَكَمُ
في رَوْضَةِ مِنْ رياض العِلْمِ يَحْضُنُهُمْ
شَوْقٌ ويغْذُوْهُمُ التَّحنَانُ والرَّحِمُ
كَأَنَّما فَرحَةُ الدُّنْيا بِفَرْحَتِهمْ
وطَلْعَةُ الشَّوْقِ بالآمَالِ تَبْتَسِمُ
ولهْفَةٌ مِنْ ذوات الخِدْر تصحَبُهمْ
نَدَى الحنَانِ وعِطْرُ العِلْم والنَّسَمُ (3)
مَرَّت عليهم يَدُ السفّاح دامِيَةً
عَلَى شَفَارِ الرّدى حُزَّتْ رؤوسُهُمُ(/1)
وبَاقَةٌ مِنْ صَبَايا الحيِّ قَطّعَها
فأسٌ ! إِلى الله نَشْكوهمْ ونَحْتَكِمُ
ما لِلمدارس تَغْزُوَها جَرَائِمُهُمْ
ما للمنَازِلِ والسَّاحات تُقْتَحمُ
أين الحَنانُ ؟ وأَيْنَ الأَهْلُ ؟ واعَجباً
كَأنّما فُتَّحَتْ لِلْمجْرم الأُطُمُ (4)
قُصِّي " بَليْدَةُ " ما عانَيْتِ من فَزَعٍ
ورجِّعي عَنْ رُبى "وهْرانَ " ما عَلِمُوا
وفي ربَى " المدْيَة " الحمراءِ مجْزرَةٌ
قد أفْلتَتْ من يَدَي " صُنّاعِها " اللُّجُمُ
هذي المجازرُ في "الملاّحة " انفجَرت
فَسَلْ تَنبِّئْكَ عن أَهْوالها التُّخُمُ
في كلُّ ناحيِةٍ ذَبْحٌ ومَهْلكةٌ
وكلِّ وادٍ وريِعٍ باتَ يَلْتَهمُ
كانَتْ مَيَادِينُها نَفْحَ الحَياةِ بها
فَعَادَ يُطلَقُ منها الموتُ والرِّمَمُ
كَأنَّما تُرِكُوا لحماً على وضَمٍ
وأُخْلِيَتْ مِنْهمُ السّاحَاتُ والأَكمُ
* *
* *
دَوّى عَلى مَسْمَع الدنيا نِدَاؤُهمُ
كَأَنّما النَّاسُ قَدْ أفْنَاهُمُ الصَّمَمُ
أين الذين ادّعوا في الأرض مَرْحمة ؟!
كَأنَّهُمْ مِنْ نَواحي الأَرض قد عُدِموا
كَلاّ ! فَإنّهُمُ أصْلُ البلاء بنا
هُمُ النِّظام الذي تُلْهىَ بِه الأُمَمُ
أين الحِبالُ التي كانتْ موثَّقَةً
بالله ؟ ! أينَ عُرَا الإِسلام والرحِمُ
طاش الصوابُ ! فما أصْغَتْ لِنائحةٍ
أُذنٌ ولا وَعَتِ البَلْوَى قُلوبُهُمُ
* *
* *
مَنْ أَضْرمَ النَّار؟! من غَذَّى اللهيبَ بها
فَعَمَّ مِنْ وَقْدِها الإِجْرامُ والضِّرَمُ
وَمَنْ رمَى الفِتْنةَ السَّوداء فانْطلقَتْ
منها الفواجعُ والشحناء والأضَمُ(5)
كلُّ الشياطينِ في سَاحَاتِها دَلَفتْ
يَشُدُّها الطمَّعُ القَتّالُ والنَّهَمُ
تَحُوكُ مِنْ عَتمْة الظَّلْمَاءِ فِتْنتَها
مَكْرٌ يُدارُ وكَيْدٌ ظلَّ يَجْتَرِمُ
تَسلَّلوا وبلادُ الله مُشرَعَةٌ
للمفْسِدين ! قُلوبٌ فُتِّحتْ لَهُمُ
ولم يَكُنْ غيرُ بَابٍ يلجَؤُون لَه
بابُ الهَوى وهَوَانُ النَّفْسِ دُونَهُمُ
ليس الملومَ عَدُوٌّ في مُخَاصَمةٍ
هو العَدوُّ فلا يُرْجَى بِه سَلمُ
نحن المَلومُون ! عَهْدُ الله نَحْمِلُه
ولَيْسَ يَحْمِلُه مِنْ دُونِنَا الأُمَمُ
يَدُ التَّقِيِّ بَرَاءٌ مِنْ جَرائِمهمْ
وقَلْبُهُ بِهُدَى الإِيمان يَعْتَصِمُ
والمسلمون نَقاءٌ في مُجاهَدَةٍ
فَخَشْيَةُ الله في ميدانِهِم عِصَمُ
لَهُمْ مِنَ الحقِّ نورٌ يستضاءُ بِهِ
ومِنْ هُداه سبيل الله يُلْتَزَمُ
وإِنَّهُم لَوَفاءٌ في معاهَدةٍ
لله يَصْدُقُ فيها الشَّرْعُ و القِيَمُ
وإِنَّهُمْ لَجَلاءٌ في مخاصَمَةٍ
لله إن ثارَ في ميدانِهِمْ خَصِمُ
صِدْقٌ إِذا شَهِدوا ، عَزْمٌ إِذا نَهَضُوا
عَوْنٌ إذا فَزعِوا ، عَدْلٌ إذا حَكَموا
مَنْ كانَ يَسْجُدُ للرحمن خاشِعَةً
أَحْناؤهُ كَيْفَ يَنحو نَهْجَ من ظَلَموا
للظالمين دُرُوبٌ ليس يَحْصُرُهَا
عَدٌ ، وللحقِّ دَرْبٌ واحِدٌ حَكَمُ
* *
* *
جُنَّتْ روابيكِ ! هل أبقَيتِ مِنْ أَمَلٍ
يُرْجَى ومِنْ فُسْحَةٍ للحقِّ يُحْتَكَمُ
بالأمسِ كُنتِ مع الإِسلام صَافِيةً
صفّاً تُوَحِّدُه الآمالُ و الهمَمُ
ما بالك انقسَمَتْ دُنياكِ وانْفَرَطَتْ
عُقُودُها وتولَّى أمْرَك اللَّسَمُ (6)
المسلمون ! وكانُوا أُمَّةً فَغَدَوا
مَعَ الهوى شِيَعاً تنأى وتصْطَدِمُ
يا ابن الجزائِرِ ! إِنّ الدّين كانَ لَكُمْ
عِزّاً تقوم به الأنْسابُ واللُّحَمُ
كاْنت عُرَاه حِبَالاً لا يُقَطّعُها
إِلا فَسَادُ هَوى يَطْغَى ويعترمُ (7)
بَدَّلْتُمُ بِعُراهُ بَعْدَ ذاك عُراً
وبالحِبال خيوطاً سَوْفَ تَنْفَصِمُ
وإِنَّ أوهن بَيتٍ أنْتَ تسْكُنُه
بَيْتُ العَناكِبِ مَهْما قِيلَ أو زَعَموا
* *
* *
ضَلّوا وقد رَكَنُوا للظّالمين وَمَا
دَرَوْا بأنَّ قَضَاءَ الله مُنْتَقِمُ
كَيْفَ الركونُ وآيُ الله بيِّنَةٌ
وسُنَّةُ الله تَجْلُوهَا لَنَا الحِكَمُ
مَنْ يَتَّبِعْ غيْرَ دَرْب المؤمنين هوىً
يَعَضُّه منْ هواهُ الذلُّ والنّدَمُ
الجاهليّة مَدَّتْ من مُخالِبها
فَمزَّقَتْهُمْ وجَالت بَيْنَهُم أُمَمُ
نادَوا بقَوْمِيَّةٍ نهْجاً فَضَلَّ بِها
قَوْمٌ عنِ الحقِّ وارتَدُّوا بها وعَمُوا
ثُمَّ انْثَنَوْا وَوُحُولُ الأَرْض عُرْوَتُهُمْ
فَضَاعَتِ الأرضُ والأَحْلامُ والحُرَمُ
وغابَ عَنْهُمْ رضَاءُ الله وانْقَلَبَتْ
أَيّامُهُمْ نِقَماً تَأتي بِهَا نِقَمُ
من كان يَرْجو وليّاً غيرَ خالِقهِ
تاهتْ خُطاهُ وغَشّى دربَهُ الظُّلَمُ
* *
* *
عَجِبْتُ للمسْلم الداعي يَمُدُّ يداً
للمجرمين ! يَبُثُّ الودَّ بينَهُمُ
يخُصُّهُمْ بوَلاءٍ مِنْ عَزائِمه
وخَشيَةٍ ملكَتْهُ إن هُمُوا نَقَمُوْا
ويُفرغُ الحُبَّ في مَيْدانِهم أَمَلاً
بأن يَنَالَ رضاً أو بعضَ ما قَسَموا
يَرْضَى القليلَ وإن عزّتْ أكفُّهمُ
وليس يُرْضِيهِ من إخوانِه الكَرَمُ
مَنُّوا عَلَيْه ! فَيُحْني رأسَه جذِلاً
ويَعْظُمُ الكِبْرُ بَيْن الأَهْل والشَّمَمُ
يَمْضِي على نَهْجهم !حَتّى وإنْ نَفَرُوا
مِنْ دِينه وجَرَوا في فِتْنَةٍ وَعمُوا(/2)
نَهْجانِ قَدْ فَرَّق الرحمن بينَهُما
نَهْجُ الهُدَى وسواه الظنُّ والرُّجُمُ
عَجبْتُ للمسلم الداعي يَمِيلُ هوى
للظالمينَ وأَعْداءُ الإِله هُمُو
يَميلُ عَنْ إخْوةٍ في الله ثمَّ يَلي
مَعَ الهَوى شِيعاً تلْهُو وتَهتَضِمُ (8)
يَظنُّ أَنَّ وِدَاد المْجرمين رِضاً
لَهُمْ وأنَّ طريقَ الفَوْزِ عَنْدَهُم
وأنّهُ سَوف يَلْقى مِنْ غَنَائِمِهِمْ
وأنّه سوف يجْري العْدلُ والقَسَمُ
أو أنّهم سَيَكُفُّون الأَذى ! عَجَباً !
هَلْ يُوقِفُ الظالِمون الظُّلْمَ ؟ ويُلَهُمُ
أو أَنّها " حِكْمةٌ " يَرْجُو خِدَاعَهُمُ
بِهَا ! لقد ضَلَّ عَنهُ الرُّشْدُ والحِكَمُ
وكيف يُحْسِنُ نَهْجاً من يَضِلُّ ولمْ
يَشدَّه لسبيل الله مُعْتَصَمُ
كيف النَّجَاةُ إذَا ضَلَّ الطريقَ فَتىً
يَدُبُّ في سُبُلٍ شتَّى ويَخْتَصِمُ
وغابَ عَنْهُ مِنَ الرَّحمن نُورُ هُدىً
وسَدَّ عنه نواحي أفقه الغَسمُ (9)
يُزيِّنُون له أبْوابهُمْ شَرَكاً
يَهْوي بهِ فإذَا آماله حُلُمُ
حتّى يرى بَعْد حِينٍ أنَّهم كَذَبُوا
وأنّه ذهَبَتْ من كَفّه النِّعَمُ
وأنّه خَسِر الدُّنيا و زُخْرُفَها
ولَيْسَ يدري أيُجْدي التَّوبُ والنَّدَمُ
عَجِبْتُ للمُسْلمين اليومَ كيْفَ نَحَوْا
للجاهليّة منَحىً ليْسَ يَنسَجِمُ
مَدُّوا بأحْلافِهِمْ لِلشركِ عَونَ يَدٍ
فَمَا تَرَى حَصَدُوا شَيْئاً وَلا غَنِمُوا
وكلَّ يَومٍ تَرَاهُمْ بَدَّلَوا لُحَماً
وكُلّما بَدّلوا مِنْ لُحْمَةٍ غَرمِوا
ولم يَعُدْ لعُرا الإسلام لُحْمتُهَا
ضَجّ الشّعَارُ وماتَتْ عندَهُ الهمَمُ
* *
* *
عودوا إِلى الله ! لا منجا لَنا أَبَداً
إلاّ إِلَيْه ! وشَرْعَ اللهِ فالتَزموا
عودوا إِلى الله صفّاً لا يُمزِّقُهُ
حِقْدٌ على جَمْرة الأهواء يَرْتَكِمُ
وأطلقوا النُّورَ في الظلماء نورَ هَدىً
ليجمعَ الناسَ أمْنُ الحقِّ والسَّلَمُ
* *
* *
الرياض
25/6/1418هـ
26/10/1997م ... ... ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· ديوان عبر وعبرات .
(1) الجَشَم : السعي وتكلف العمل بمشقة .
(2) اللمم : المس والجنون .
(3) النَّسَمُ : أول هبوب النسيم أو النسيم .
(4) الأُطُمُ : الحصون .
(5) الأضم : الحقد والحسد .
(6) الّلسَمُ : السكوت عِيَّاً لا عقلاً .
(7) يَعْتَرم : يشتد . وفي حديث عليّ رضي الله عنه : على حين فترة من الرسل واعترام الفتن . لسان العرب : (ص: 395) .
(8) تهتضم : تظلم .
(9) الغَسَم : السواد ، اختلاط الظلمة(/3)
دمشق الشام
الشيخ محمد الشمعة *
(السادة الكرام
تحية وبعد
نشكر لكم وجود هذه الرابطة ومساهمتها في نشر الأدب والثقافة في زمن الماديات , ورغبة مني في المساهمة ولو بشكل بسيط في رسالتكم الهامة , أرفق فيما يلي أبيات شعرية في مدح دمشق الشام لشاعر دمشقي قديم طواه الزمن وهو الشيخ محمد الشمعة الذي ولد في دمشق عام 1698 وتوفي عام 1774م وكان يلقب بشاعر دمشق وأديبها كما تذكر مصادر الأبحاث التي اعتمدت عليها , نرجو منكم التدقيق في هذه الأبيات نظراً لأن الحقبة الزمنية التي جاءت منها مهملة من ناحية الأبحاث الأدبية)
القصيدة الأولى كما نقلت من المخطوطات التاريخية :
حيى الحيا جلقاً داراً بها iiوطرى
داراً بها جمع لذاتي و iiمرتبعي
أيام ارتع في زهو الشباب و iiقد
في ظل روض يباهي حسنه iiارماً
كم بت فيه قرير العين iiمرتشفا
فيا بروحي دمشق الشام من iiبلد
احببْ بها جنة الدنيا التي iiجمعت
وحَبذا المرجة الفيحا iiوجبهتها
و الصالحية جنات iiمزخرفة
يحوي زهوراً و انهاراً iiمدفقة
فهذه جنة الدنيا و iiزينتها ... ... و جاد أربعَها سحُّ من iiالمطر
زمانُ انسي غدا صفوا من iiالغير
صفا لي الوقت من هم و من iiكدر
هاماتُ ادواحه كالمن iiبالزهر
ثغور غيض تضاهي بهجة القمر
عن وصفها صاحِ كلت السنُ iiالبشر
من كل منتزه مستكمِل iiالصور
من شامها يفتدى مستوقف iiالنظر
من كل قصر وروض مدهش البصر
جرت عليها ذيولا نسمةُ iiالسحر
فلا شبيه لها في البدو و الحضر ii.
القصيدة الموشح الثانية كما نقلت من المخطوطات التاريخية :
قم بنا يا صاح نجلو iiالقرقفا
و اسقنيها في زمان قد iiصفا
خمرة تحي فؤاد المستهام
ما على شاربها عندي iiملام
كم بها قلبي المعنَّى في iiغرام
آه ما أحلى أويقات iiالصفا
يا رعى الله دمشقاً iiإنها
كم غريب قد أتاها ظنها
وصفها أعي لأرباب iiالنهى
فاحْيِِ خلي القلب صب iiدنفا
إنها دار سرور و iiصفا
بلدة أكرمها المولى iiالكريم
و بها قاسيون ذو السفح iiالعظيم
و بها جامعها الرحب iiالوسيم
منبع الأقطاب أهل iiالإصطفا
رحم الله وليداً سلفاً
حبذا نيربها السامي iiالسعيد
و كذا الوادي البهي الغض الفريد
طالما أمسى به عيش iiرغيد
و به طير الهنا قد هتفا
و الرشا قد حاز قداً أهيفا ... دور
دور
دور
دور
... في رياض مع شكل iiحسن
من صروف الدهر ثم iiالمحن
في يد الندمان تجلى iiكالعروس
سيما إن عتقت عند iiالقسوس
و بها منا لقد طابت iiنفوس
حيث كنا في عظيم iiالمنن
زينة الأرض و مصباح البلاد
جنة الفردوس أو ذات iiالعماد
إذ بذكرى وصفها يحي iiالفؤاد
بصفات علها iiتنعشني
بهجة الدنيا و تاج iiالمدن
مسكن الأنبياء مأوى الصالحين
كم به من أنبياء iiساكنين
فيه يتلى قول رب العالمين
مذهب للهم ثم iiالحزن
قد بناه من قديم الزمن
كم به من نزهات و iiقصور
مرتعاً أضحى لولدان و iiحور
ثملاً من كأس صهباء iiالثغور
بلغات هيَّجت بي iiشجني
كلما هب نسيم iiينثني(/1)
دمشق المآذن
شعر / محمود محمّد كلزي
الشمس راحت خلف أفقها البعيدْ
تلمُّ ما يبعثر الصباح من أشعة ونورْ
ولوَّحتْ بهدبها المغزول من نضارْ
من خلف أُفقٍ حالمٍ بالحبِّ والسلامْ
خجلان مما خلَّف النهارْ
وفي السماء يمرح الخطّافْ
والدور.. والسطوح.. والقباب.. والسكينهْ
وقاسيونُ.. والمآذن الحزينه
يلفها الضبابْ
يصمُّ أذنَها الضجيجُ والصراخُ والسبابْ
تريد أنْ تنام.. أن تحلمَ.. أن تعودْ
كما يريدها "صلاح الدين" أن تكونْ
جيشٌ من الأبطال يحميها
يردُّ عن حياضها الظلامْ
وتنسج التاريخ من جديدْ
بالخزِّ والديباج والفسيفساءْ
وفوق قاسيون ترقص اللآلئ المنثوره
يمرُّ في خياله الماضي..
كما تمرُّ فوقه السحابْ
والمغرب الحزين..
يدعو الناسَ للمساجد المهجوره
ويذكر اللهَ.. بألف مئذنه
ويصعد الصوت إلى السماءْ
في كبرياءْ
لكنَّ.. لا أذنَ تصيخ.. لا عيونَ.. لا شعورْ
يضيع في الفضاء هذا الصوت كالدخانْ
ترسله في الأمسيات مدخنه
ويصرخ المؤذّن العنيد: "لا إله إلا الله"
لكنَّ في مدينتي.. الف إلهٍ وإلهْ
يعبده الناس.. يمرّغون فوق ترْبه الجباهْ
عيونهم.. مصلوبة على الجدارْ
تلتهم المكارم الجريحة الملقاة باستهتارْ
والكلمات الصامتات في دعاية من النيونْ
تمضغها.. تبصقها.. والناس سائرونْ
تشدّهم واجهة
فيها ضروب من مباهجٍ وضوءْ
وألف لا شيءٍ.. وشيءْ
وينظرون.. ينظرون.. ينظرونْ
عيونهم تسمّلتْ.. تحجّرت.. كأنهم بلا عيونْ
ويصرخ المؤذّن المسكين في علاه:
"حيَّ على الصلاه"
والناس.. سائرون.. سائرونْ
أقدامهم تجرّهم.. بلا انتباهْ
وأذْنهم صمَّاء.. إلا عن نداءات العفونه
وعن نداء الأقبيه
يصوغه الشيطان.. للعبيد أغنيه
***
دمشق لن تنامْ
عيونها مشدودة للحبّ والسلامْ
وقاسيونُ.. لن يمرّغ الجبينَ بالرغامْ
وسوف تبقى في مدينتي المآذنُ
السامقة العلاءْ
تمدُّ رأسها إلى السماءْ
تمدُّ كفها
لعلَّ الله يستجيب للدعاءْ
***
مدينتي تبعثر النجومْ
تريد أن تمزّق الضبابَ
والمساءْ
هوامش :
منشورة في مجلة "آمال" الجزائرية – العدد 280 لعام 1975(/1)
دموع على أسوار قبرص!؟
د. حمدي شعيب ...
أما على المستوى الجماعي؛ أي على مستوى الجماعات والمؤسسات والأمم؛ فإن الذنوب ما هي إلا قوارض أو سوس ينخر في عظام الحضارات، حتى يسقطها!.
"لما فُتِحَت قبرص، فُرِّقَ بين أهلها، فبكى بعضهم إلى بعض، فرأيتُ أبا الدرداء جالساً وحده يبكي!.
فقلت:
يا أبا الدرداء ما يُبكيك في يومٍ أعزَ اللهُ فيه الإسلام وأهله؟!!!.
فقال:
ويحك يا جُبَيْر؛ ما أهونَ الخلقُ على اللهِ عز وجل إذا أضاعوا أمره، بينما هي أمةٌ قاهرة ظاهرة لهم الملك، تركوا أمرَ اللهِ فصاروا إلى ما ترى!". [1]
حادثة غريبة رواها عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن والده رضي الله عنهما، وهو يستغرب موقف أبي الدرداء رضي الله عنه؛ الباكي الوحيد، ويستغرب تفاعل مشاعره المناقضة لمعظم مشاعر من حضروا فتح قبرص.
وهو الموقف الذي يذكرنا بموقف مؤمن آل فرعون، عندما وقف وحده، لينصح قومه المعرضين عن رسالة موسى عليه السلام إليهم، لعلهم يفيقوا ولا يغتروا وينخدعوا بحاضر ينذر بمستقبلٍ مغاير: "يَا قَوْمِ لَكُمْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا". [2]
ثم كانت فراسته التي تدل على عمق دراسته للتاريخ البشري؛ إذا تأملنا تحذيره: "يا قومِ إنِّي أَخَافُ عليكم مثلَ يومِ الأحزابِ". [3]
وهو نفس شعور وتخوف خبير الفتن حذيفة رضي الله عنه عندما خالف غيره؛ ووقف وحده، ولم يسأل عن الخير؛ بل سأل صلى الله عليه وسلم عن أسباب الشر والفتن مخافة تداول الأيام، فتدركه وتهدد أمته.
عن أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ يَقُولُ:
"كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْخَيْرِ وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي.
فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟!!.
قَال:َ نَعَمْ.
قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ.
قَالَ: نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ.
قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟!.
قَالَ: قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ.
قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟!!.
قَالَ: نَعَمْ دُعَاةٌ إِلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا.
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا!.
فَقَالَ: هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا.
قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟؟!.
قَالَ: تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ.
قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ؟؟!!!.
قَالَ: فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ". [4]
ولا تستغرب رهبة حذيفة رضوان الله عليه، وقلقه من خطر تداول الأيام؛ إذا تدبرت ذلك التحذير من خطر المداولة؛ والذي جاء في سياق خطاب معلمه صلى الله عليه وسلم، وهو يحاور مندوب قريش؛ عتبة بن ربيعة، أثناء الجلسة التفاوضية، فأنذرهم: "فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقةً مثلَ صاعقةِ عادٍ وثمود". [5]
وهي كذلك؛ رؤية الرجل المؤمن في حواره مع صاحبه الكافر؛ وتدبر أهم وأبرز مفردات خطابه الديني الهادئ الراقي: "وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تُرَنِي أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا. فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِي خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنْ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا. أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا. وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا". [6]
ولقد ارتكزت أهم نقطتين في هذا الخطاب الديني الرائد على قاعدة فقه الرجل المؤمن لسننه سبحانه الإلهية:
فالنقطة الأولى؛ تبين فقهه لسنة الله في بطر النعمة وتغييرها؛ أو قانون النعم وتغييرها؛ أو الرؤية الإسلامية للتعامل مع النعم:
لقد (أرشد الرجل المؤمن صاحبه الكافر، وهو يحاوره إلى التصرف اللائق الصحيح، الذي يشكر فيه ربه، ويعمل على دوام نعمة الله عليه. وطالبه بأن يلجأ إلى الله، وأن يعلِّق الأمر على مشيئته، ويجعله مرهوناً بقدرته، وأن يستمد قوته من قوة الله سبحانه). [7](/1)
وهي نفس رؤية خطاب التيار الإسلامي، في كل عصر؛ الذي يعبر عن رؤية أمة، اكتسبت خيريتها من الخروج إلى الناس، كل الناس، لتقودهم، إلى خَيْرَي الدنيا والآخرة،؛ أمراً بالمعروف، ونهياً عن المنكر، منطلقة من قاعدتها الإيمانية، ولتكون شهيدة عليهم: "كنتم خَيْرَ أُمةٍ أُخْرِجَتْ للناسِ تأمرون بالمعروفِ وتنهوْن عن المنكرِ وتؤمنون باللهِ". [8]
النقطة الثانية: تبين فقهه للسنن الإلهية في الذنوب؛ والظلم، والطغاة، والابتلاء؛ وهي القوانين الربانية التي من ثمار فقهها ومعرفتها؛ الرؤية العميقة لقراءة مصير الأمم والجماعات والمؤسسات والأفراد:
وتدبر كيف ختم الرجل المؤمن حواره الهادئ، محذراً صاحبه من الخطر القادم، من قِبَلِهِ سبحانه؛ ذلك الخطر الذي يأتي دوماً نتيجة لمقدمات معروفة، وحصاد لأسباب معلومة: "ويُرسِلُ عليها حسباناً من السماءِ فتُصْبِحَ صعيداً زَلَقاً. أو يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فلن تستطيعَ لهُ طَلَباً".
هكذا ختم حواره، بنبره تحذير وإنذار، معلناً في ثقة: إن الله عز وجل المعز المذل، قادر على أن يوكلك إلى سبب عزتك وبطرك وغرورك، ولن ينفعك عندما يرسل ما لم تحسب له حساباً؛ إن الله قادر على أن يهلك جنتيك ويدمرهما. فتوقع يا صاحبي صاعقة مدمرة، تدمر جنتيك، وتزيل ما فيهما، فتصبح كل واحدة منهما تراباً أملساً أجرداً. أو توقع أن يذهب النهر الذي بين الجنتين، وأن يغور في باطن الأرض بأمره سبحانه، ولن تستطيع أن تعيده!.
وهي نظرة مستقبلية استشرافية، لا يدَّعي فيها الرجل المؤمن علمه بالغيب، ولكنها مبنية على قراءة تاريخية ماضوية، واستقراءٍ لحاضر تشهد مسبباته بالمصير المستقبلي المتوقع.
فلمسنا كم كانت دراية ووعي الرجل المؤمن، بكل شهود التاريخ البشري، وبكل سنن الله عز وجل الإلهية في الأنفس أي في عالم الأحياء؛ وهي السنن الإلهية الاجتماعية، وفي الآفاق أي في عالم المادة؛ وهي السنن الإلهية الكونية.
وتوقع لصاحبه الكافر مصيراً، يفسره ويدركه كل من فقه السنن الإلهية المختلفة؛ والتي تعين على قراءة المستقبل من خلال استقراء الحاضر.
فراسة ... يصنعها فقه حضاري!!
ولو تدبرنا المواقف الراقية لهؤلاء الرواد العظام؛ لوجدنا الكثير من الملامح التربوية الطيبة:
1-قليلٌ هم أولئك الذين يفكرون عكس التيار؛ فيقرأون المستقبل المغاير للحاضر، فيكون تفاعلهم مع الأحداث مختلفاً عن غيرهم.
2-قليلٌ هم كذلك الذين يفقهون سننه سبحانه الإلهية؛ لأن هذا الفقه يهبه سبحانه لمن يستجيب لندائه سبحانه: "أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ". [9]
أي يقرأوا التاريخ فيتدبروا عوامل سقوط ونهوض الحضارات والأمم والمؤسسات بل والأفراد.
وعندما نقول أنهم فقهوا السنن الإلهية، فإننا نقصد أنهم عرفوا القوانين الربانية، والقواعد الإلهية الثابتة، وهي التي تؤدي إلى نتائج معينة، لوجود أسباب بشرية وزمانية ومكانية معينة، انطبقت عليها هذه القوانين الإلهية فكان الجزاء أو النتيجة من جنس السبب أو العمل.
وهذه السنن الإلهية تتميز بسمات ثلاث؛ هي العموم والثبات والاطراد أي التكرار إن وجدت الظروف البشرية والمكانية والزمانية.
ونذكر أن السنن الإلهية؛ هي:
أولاً: سنن إلهية كونية؛ تنظم عالم المادة في الآفاق.
ثانياً: سنن إلهية اجتماعية؛ تنظم عالم الأحياء أو الأنفس خاصة البشر.
والقسم الثاني هو الذي يهمنا؛ وهو ما يعرف بالفقه الحضاري.
وهو الفقه الذي يستمد مادته من قراءة التاريخ، ومن التدبر في القصص القرآني.
فكل حدث تاريخي أو بشري فردي أم جماعي، إنما له أسباب أوجدته.
وهذه الأسباب أوجدت خللاً.
وهذا الخلل أوجب العقاب الإلهي؛ أو الجزاء.
وهذا العقاب أو الجزاء تحكمه قوانين؛ تعرف بالسنن الإلهية الاجتماعية.
والمعادلة أو القانون أو سلسلة تتابع هذه السنة الإلهية؛ هي كالتالي:
(أسباب تعود إلى العبد -> خلل تربوي -> عقاب إلهي على هيئة جزاء من جنس العمل).
3-ومن هذه السنن الإلهية الاجتماعية؛ التي فقهها هؤلاء الرواد؛ (سنة الله في الأسباب والمسببات؛ أو قانون السببية: "فأمَّا من أعطى واتقى. وصدّق بالحسنى. فسنُيسِّرُهُ لليسرى. وأما من بَخِلَ واستغنى. وكذّب بالحسنى. فسنُيَسِّرُهُ للعسرى". [10]
ومنها سنة الله في الفتنة؛ أو قانون الابتلاء: "إنَّا جعلنا ما على الأرضِ زينةً لها لِنَبْلُوَهُم أيُّهُمْ أحسنُ عملاً". [11]
ومنها سنة الله في الظلم والظالمين؛ أو قانون الظلم: "ولقد أهلكنا القرونَ من قبلكم لَمَّا ظلموا". [12]
ومنها سنة الله في الطغيان والطغاة؛ أو قانون الطغاة: "الذين طَغَوْا في البلاد. فأكثروا فيها الفسادَ. فصبَّ عليهم ربُّكَ سوْطَ عذابٍ. إن ربَّكَ لبالمرصادِ". [13](/2)
ومنها سنة الله في بطر النعمة وتغييرها؛ أو قانون النعم وتغييرها: "ذلك بأنَّ اللهَ لم يكُ مُغَيِّراً نعمةً أنعمها على قومٍ حتى يُغَيِّروا ما بأنفُسِهِم". [14]
ومنها سنة الله في الذنوب والسيئات؛ أو قانون الذنوب والسيئات: "فأخَذَهُمُ اللهُ بذُنُوبِهِم". [15]
ومنها سنة الله في الاستدراج؛ أو قانون الاستدراج: "فلمَّا نسُوا ما ذُكِّروا به فتحنا عليهم أبوابَ كلَّ شيءٍ حتى إذا فرِحُوا بما أُوتُوا أخذناهم بغتةً فإذا هم مُبلِسونَ. فقُطِعَ دابرُ القومِ الذين ظلموا، والحمدُ للهِ ربِ العالمينَ". [16])
ومنها أيضاً، سنة المدافعة أو قانون التدافع الحضاري:
"وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ". [18]
وهو القانون الإلهي أو السنة الإلهية التي تفرز الأصوب والأبقى والأصلح في كل شيء؛ سواء أفكاراً أو آراءاً أو أفراداً أو أمماً، فإذا توقفت تلك العملية التدافعية الحضارية المختلفة الصور لكان الفساد، وهذا من فضله سبحانه من أجل ديمومة واستمرارية العملية الاستخلافية الإعمارية في الأرض.
ومنها سنة المداولة أو قانون التداول الحضاري: "وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ". [19]
وكذلك سنة أو قانون الاستبدال: "وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ". [20]
4-الفراسة الإيمانية إنما تستمد من واقع الخبرة، ودراسة العميقة للفقه الحضاري.
وهؤلاء الرواد، كانت لهم خبرة ودراية بعوامل السقوط والنهوض والتداول؛ فلم يغرهم الحاضر، وقرأوا الأسباب الحاضرة المؤدية للمستقبل المغاير؛ فأنذروا قومهم لعلهم يحذرون أو يرجعون.
وتدبر هذا البكاء المر والعجيب لأبي الدرداء رضي الله عنه!!!.
وتذكر خوف ورهبة حذيفة رضوان الله عليه!!!.
وتذكر أيضاً، عرضه صلى الله عليه وسلم، لصفحات معينة من ملفات عاد وثمود التاريخية!.
وتأمل أيضاً، فقرة الختام في حوار الرجل المؤمن، وهو يرسم صورة دقيقة لمصير الرجل الكافر، والتي صدقتها حوادث القصة بعدها، ولهذا تعتبر أخطر ركائز الخطاب الديني، في كل عصر، بل وتُعتبر حجر الزاوية.
تلك الركيزة التي تفسر لنا أن من بعض أسرار وأسباب وصف المؤمن بالفراسة، وأنه يرى بنور الله سبحانه؛ ذلك لأنه يفقه سننه سبحانه الإلهية؛ ومن خلال هذا الفقه فإنه يستطيع أن يمتلك الرؤية المستقبلية الاستشرافية، وذلك باستقراء حوادث الماضي، ومن خلال فقه الواقع والأسباب الحاضرة.
5-المؤمن، والمؤمن وحده؛ يحتكر (ظاهرة الأنس الكوني)؛ وهي سمة التناسق والتوافق والتعاون والأنس مع الوجود.
ويستشعر جنديته، وجندية جميع الخلائق، بل والوجود كله للخالق سبحانه.
ويشعر المؤمن أنه والوجود، والوجود كله عبارة عن ستار لقدر الله؛ يتم بهم على الأرض قدر الله وحركة السنن الإلهية. وأنه كأحد الخلائق، التي يجري بهم الخالق سبحانه سننه وأقداره، وبحركتهم تتم العملية التغييرية.
وتدبر كيف أن الرجل المؤمن، قد أخبر صاحبه أن السماء وكذلك الأرض، ستشاركان في عملية التغيير والهدم لملكه!.
وتأمل كلماته صلى الله عليه وسلم، وهو يستقرئ المستقبل والمصير؛ عندما يتم قدر الله بقوم عاد ثمود المارقين عن لحن الوجود المؤمن، على يد الصواعق؛ وكأنها جند رباني تنفذ سننه سبحانه.
أما غيرُ المؤمن، فإنه يتعامى عن هذه الرؤية؛ لأنه ينتسب إلى تيارٍ، قد وصفه سبحانه بعدم الفقه؛ أي بعدم فقه سننه سبحانه في الكون والحياة: "بأنهم قومٌ لا يفقهون". [21]
شهداء ... على عصرهم ... وأممهم!
ولو حاولنا ربط مواقف هؤلاء الرواد؛ لوجدنا سمات عامة تجمع خطابهم، سواء من الجانب التربوي أو الإداري؛ فمنها:
1-الفراسة الإيمانية أو (الرؤية المستقبلية).
2-الرؤية البصيرة المميزة للأشخاص الأشياء والأحداث (مهارة التحليل).
3-القدرة على الحوار، وقوة الحجة والمنطق أو (مهارة التفاوض والاتصال).
4-الثبات على المبدأ، أو (الشجاعة الأدبية).
5-الدراية بالواقع وأخباره، أو (مهارة إدارة المعلومات).
6-المبادرة، أو (الإيجابية).
7-حب الخير، أو (نظرية اربح وربح، أي التوازن في العلاقات والإنجاز).
8-الدراية بالتاريخ وأحداثه، أو (الفقه الحضاري).
9-الرجولة، وتحمل تبعات الموقف، أو (القيادية).
وهذه السمات كلها تندرج تحت معنى شامل لها؛ وهي صفة الرائد الذي لا يكذب أهله.
ونقصد بهذه السمات؛ أنها ركائز شخصية الشهيد؛ الذي يتحمل تبعات مقام الشهادة على الواقع وأحداثه وأشخاصه وأشيائه، كما تحدث عنها القرآن الكريم.
ولقد صدق كل منهم في شهادته، وصدَّقه الحق سبحانه.
لذا يمكننا اعتبار كل منهم شاهدٌ على عصره.(/3)
وتأمل كيف ذكرت صفة (الشهيد)، و(مقام الشهادة) في السياق القرآني؛ في موقف يوم القيامة عندما يبعث الحق سبحانه من كل أمة شهيداً عليها، وهو رسول كل أمة: "فكيفَ إذا جئنا من كلِّ أُمَّةٍ بشهيدٍ وجئنا بك على هؤلاء شهيداً". [22]
فإن المؤمن أيضاً من هذه الأمة القوّامة الراشدة، يستشعر أنه مُكرَّم من قِبَل الحق سبحانه، بوضعه في المكانة الرائدة؛ بجعله من الشهداء على الناس: "وفي هذا ليكونَ الرسولُ شهيداً عليكم وتكونوا شهداءَ على الناس". [23] (فالرسول صلى الله عليه وسلم يشهد على هذه الأمة، ويحدد نهجها واتجاهها، ويقرر صوابها وخطأها، وهي تشهد على الناس بمثل هذا، فهي القوّامة على البشرية بعد نبيها؛ وهي الوصية على الناس بموازين شريعتها، وتربيتها وفكرتها عن الكون والحياة. ولن تكون كذلك إلا وهي أمينة على منهجها العريق المتصل الوشائج، المختار من الله. ولقد ظلت هذه الأمة وصية على البشرية طالما استمسكت بذلك المنهج الإلهي وطبقته في حياتها الواقعية. حتى إذا انحرفت عنه، وتخلت عن تكاليفه، ردها الله عن مكان القيادة إلى مكان التابع في ذيل القافلة. وما تزال. ولن تزال حتى تعود إلى هذا الأمر الذي اجتباها له الله). [24]
ولهذا فإن حملة التيار الديني، يجب أن يستشعروا دورهم القيادي الريادي، وتبعاته الشاقة؛ لأنهم يمثلون الأمة التي جعلها الله من الشهداء على الناس، وذلك بشرط الالتزام بالمنهج والجهاد في سبيله.
المدمرات ... المغيِّرات ... الساحقات ... الماحقات؟!
وسنختزل قضية فقه السنن الإلهية؛ أو قضية الفقه الحضاري، من خلال المنظور التربوي، إلى قضية هذه الدراسة المتواضعة؛ وهي فقه سنة الله في الذنوب والسيئات؛ أو قانون الذنوب والسيئات: "فأخَذَهُمُ اللهُ بذُنُوبِهِم". [25]
حتى نتبين آثار الذنوب والسيئات على الفرد والمؤسسات والجماعات والأمم.
وقد تكون المحصلة النهائية واحدة، وهي التغيير والتدمير سواء على المستوى الفردي أو الجماعي.
وسنخلص إلى حقيقة ثابتة؛ هي:
أن الذنوب مغيِّرات للنعم والخيرات، ...
مدمرات للفرد والمجتمعات، ...
ساحقات للحضارات، ...
وماحقات للبركات!.
سوس الحضارات!؟
أما على المستوى الجماعي؛ أي على مستوى الجماعات والمؤسسات والأمم؛ فإن الذنوب ما هي إلا قوارض أو سوس ينخر في عظام الحضارات، حتى يسقطها!.
ويؤيد ذلك الكثير من الشواهد القرآنية والنبوية والتاريخية والواقعية.
والشواهد القرآنية؛ تعلمنا الخطوات المنهجية لدراسة الفقه الحضاري:
1-وتبدأ الخطوة الأولى، فيأمرنا سبحانه بقراءة التاريخ البشري، والتدبر العميق في ناموسية التغيير الحضاري:
"قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ". [26]
"قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ". [27]
2-ويقرر سبحانه أن الذنوب والمعاصي؛ هي سبب عملية التغيير الحضاري:
"أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَاق". [28] (يقول تعالى: "أو لم يسيروا" هؤلاء المكذبون برسالتك يا محمد "في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم" أي من الأمم المكذبة بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام ما حل بهم من العذاب والنكال مع أنهم كانوا أشد من هؤلاء قوة "وآثارا في الأرض" أي أثروا في الأرض من البنايات والمعالم والديارات ما لا يقدر هؤلاء عليه كما قال عز وجل: "ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه" وقال تعالى: "وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها" أي مع هذه القوة العظيمة والبأس الشديد أخذهم الله بذنوبهم وهي كفرهم برسلهم "وما كان لهم من الله من واق" أي وما دفع عنهم عذاب الله أحد ولا رده عنهم راد ولا وقاهم واق ثم ذكر علة أخذه إياهم وذنوبهم التي ارتكبوها واجترموها). [29]
3-ويخبرنا سبحانه أن الكوارث والزلازل، إنما تأتي نتيجة لِمَا اقترفته أيدي البشر، لعلهم يدركون هذه السنة الإلهية الاجتماعية؛ وهي سنة الله في الذنوب والسيئات؛ أو قانون الذنوب والسيئات، فيرجعون ويتوبون: "ظَهَرَ الفسادُ في البرِ والبحرِ بما كسبت أيدي الناسِ، لِيُذِيقَهم بعضَ ما عَمِلوا لعلهم يرجِعونَ". [30]
4-ثم يبين الحق سبحانه كيف تتم عملية التغيير والتبديل الحضاري، وكيف تعمل ناموسية التاريخ في الأمم؟!.
وتدبر كيف تحدث عملية التسوس الحضاري، وكيف تهلك الذنوب أصحابها؟!!!.
وتأمل أيضاً؛ كيف تعمل السنن الإلهية الثابتة العامة والمتكررة؟!!!.(/4)
"أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ". [31]
("ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم"، أي من الأموال والأولاد والأعمار والجاه العريض والسعة والجنود ولهذا قال: "وأرسلنا السماء عليهم مدرارا" أي شيئا بعد شيء "وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم" أي كثرنا عليهم أمطار السماء وينابيع الأرض أي استدراجا وإملاء لهم "فأهلكناهم بذنوبهم" أي بخطاياهم وسيئاتهم التي اجترموها "وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين" أي فذهب الأولون كأمس الذاهب وجعلناهم أحاديث "وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين" أي جيلا آخر لنختبرهم فعملوا مثل أعمالهم فأهلكوا كإهلاكهم فاحذروا أيها المخاطبون أن يصيبكم مثل ما أصابهم فما أنتم بأعز على الله منهم). [32]
وهكذا تسير سلسلة التغيير:
قانون الابتلاء -> نعم ربانية -> بطر إنساني -> قانون السببية -> قانون النعم -> قانون الاستدراج -> قانون الذنوب والسيئات + قانون الظلم + قانون الطغاة + قانون الاستبدال + قانون التداول الحضاري -> قانون التدافع الحضاري.
الأَكَلَة!!!؟
أما على المستوى الفردي، فإن الذنوب تسبب خللاً في توازن التركيبة الثلاثية للإنسان؛ التي هي البدن، والعقل، والروح.
وتبدأ الذنوب عملها في الجانب الروحي؛ فتؤدي إلى حدوث تصدعات روحية وشروخ نفسية.
وهذه التصدعات والشروخ قسمان:
القسم الأول: التصدعات الظاهرة:
وهي الآثار المعلومة، وهي كثيرة؛ فمنها:
1-الذنوب سبب المصائب!
"أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ". [33]
"وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ". [34]
2-الذنوب تضعف مقاومة الشيطان!
"إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ". [35]
3-المحقرات ... المهلكات!
وصغار الذنوب؛ لها آثارها التراكمية المهلكة: "إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهن مثلا، كمثل القوم نزلوا أرض فلاة، فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالبعرة، حتى جمعوا سواداً وأججوا النار، وأنضجوا ما قذفوا فيها". [36]
وتكون النتيجة؛ سقوطاً في حبائل (سلسلة الذنوب) وحلقاتها المتتابعة التي تبدأ بذنب، يتبعه ذنب، ثم يتبعه آخر، حتى يؤدي إلى تغطية القلب بالران، والذي ينتج حجاباً مهلكاً، والعياذ بالله: "كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون. كلا إنهم عن ربهم يومئذ المحجوبون". [38]
4-ثمانية العجز ... ورباعية الابتلاءات؟!
(فالذنب إما أن يميت القلب، أو يمرضه مرضاً مخوفاً، أو يضعف قوته ولابد، حتى ينتهي ضعفه إلى الأشياء الثمانية التي استعاذ منها النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهي:
"الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلع الدين وغلبة الرجال".
وكل أثنين منها قرينان:
فالهم والحزن قرينان؛ فإن المكروه الوارد على القلب إن كان من أمر مستقبل يتوقعه أحدث الهم. وإن كان من أمر ماض قد وقع أحدث الحزن.
والعجز والكسل قرينان؛ فإن تخلف العبد عن أسباب الخير والفلاح، إن كان لعدم قدرته فهو العجز، وإن كان لعدم إرادته فهو الكسل.
والجبن والبخل قرينان؛ فإن عدم النفع منه إن كان ببدنه فهو الجبن، وإن كان بماله فهو البخل.
وضلع الدين وقهر الرجال قرينان؛ فإن استعلاء ـ أي استيلاء ـ الغير عليه إن كان بحق فهو من ضلع الدين، وإن كان بباطل فهو قهر الرجال.
والمقصود أن الذنوب من أقوى الأسباب الجالبة لهذه الثمانية، كما أنها من أقوى الأسباب الجالبة:
"لجهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء".
ومن أقوى الأسباب الجالبة لزوال نعم الله، وتحول عافيته إلى نقمته، وتجلب جمع سخطه). [39]
5-ناسفات الجبال!
وهناك من الذنوب من لها القدرة على نسف جبال من الحسنات؛ وهي التي تتم في جنح الظلام، وبعيداً عن أعين الناس.(/5)
عَنْ ثَوْبَانَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَال:َ لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا. قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ. قَالَ: أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا". [40]
وما تجرأوا على هذا إلا إنهم "يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا". [41]
و(هذا إنكار على المنافقين في كونهم يستخفون بقبائحهم من الناس لئلا ينكروا عليهم ويجاهرون الله بها لأنه مطلع على سرائرهم وعالم بما في ضمائرهم ولهذا قال: "وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا". تهديد لهم ووعيد). [42]
القسم الثاني: التصدعات الباطنة:
وهي الآثار النفسية الخفية، والروحية الباطنة.
حيث تعمل الذنوب عملها في تركيبة الإنسان الثلاثية دون استشعار العبد لها، خاصة الجانب الروحي؛ فتؤدي إلى حدوث تآكلات روحية، وكأنها قوارض أو أكلة.
وينتج عن ذلك ظاهرة اعتلالية تربوية وروحية؛ تسمى (ظاهرة التآكل الروحي).
1-فما معنى ظاهرة التآكل الروحي؟
وهي ظاهرة تنشأ من خلل في التوازن التربوي بين طاقات العبد الثلاثة، وهي طاقة العقل، وطاقة البدن، وطاقة الروح. حيث يقل حظ الجانب الروحي في أعمال العبد، مثل التفريط في بعض الفرائض، وغيرها من أعمال اليوم والليلة من السنن، مثل الذكر والدعاء والاستغفار، وتلاوة القرآن.
وينشأ نوع من الخلل أو الانفصام المركب:
أولاً: داخلياً يستشعر العبد قسوةً وجفاءاً مع نفسه.
ثانياً: خارجياً يستشعر العبد قسوةً وجفاءاً مع الوجود كله.
والنتيجة هي الشعور بأن النفس والوجود يتنكران له فما هي بالنفس وما هو بالوجود الذي يعرفهما.
وبمعنى آخر؛ هي الظاهرة التي تبحث في حالة صدأ القلب، أو حالة الجفاء الروحي، التي يستشعرها العبد المؤمن، عندما يقصر في طاعته سبحانه، فلا يستشعر للعبادة حلاوة، ولا للطاعة لذة، ويقاسي ألم البعد عنه عز وجل، ويتحول هذا إلى شعور بوحدة قاسية، ومسافات شاسعة، وحواجز نفسية تفصل بينه وبين الخلائق، خاصة الصالحين.
ويسير في الأرض والعياذ بالله كالحيران الذي تتقاذفه عوامل الجذب في كل اتجاه ويصبح كحلبة يلتقي عليها المتصارعين؛ أو يكون نقطة التقاء للصراع عليه بين استهواء وإغواء شياطين الإنس والجن، وبين رفقة الخير من الدعاة المصلحين: "كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ". [43]
ويمتد هذا الشعور بغياب لذة الطاعة وألم البعد عنه سبحانه إلى حالة من غياب الرغبة في الحياة عموماً، وضياع اللذة في المعيشة في الدنيا، ثم فوق ذلك؛ استشعار خيبة الأمل في النجاة في الآخرة:
"وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى. [44]
وهو تحذير إلهي، لكل من (خالف أمري وما أنزلته على رسولي، أعرض عنه وتناساه وأخذ من غيره هداه فإن له معيشة ضنكاً؛ أي ضنك في الدنيا فلا طمأنينة له ولا انشراح لصدره بل صدره ضيق حرج لضلاله وإن تنعم ظاهره ولبس ما شاء وأكل ما شاء وسكن حيث شاء فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى فهو في قلق وحيرة وشك فلا يزال في ريبة يتردد فهذا من ضنك المعيشة. عن أبي سعيد في قوله معيشة ضنكا قال: يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه فيه. وقال عكرمة: عمي عليه كل شيء إلا جهنم ويحتمل أن يكون المراد أنه يبعث أو يحشر إلى النار أعمى البصر والبصيرة). [45]
وهذا الشعور ما هو إلا نتيجة لعقاب الله عز وجل للعاصي والمسرف المقصر في طاعته سبحانه.
2-هل ظاهرة التآكل الروحي … سنة إلهية؟!
وعندما نقول أنها سنة إلهية، فإننا نقصد أن هذه الظاهرة هي محصلة لفعل قوانين ربانية، وقواعد إلهية ثابتة، أو هي نتيجة لوجود أسباب بشرية وزمانية ومكانية انطبقت عليها القوانين الإلهية فكان الجزاء في صورة تلك الظاهرة.
إذن هذا الجفاء الروحي، نتيجة لخلل ترتب على وجود أسباب بشرية، من فعل العبد.
وعندما نقول أن ظاهرة التآكل الروحي سنة إلهية اجتماعية؛ نقصد أنها من القوانين الربانية والقواعد الإلهية، المنظمة لعالم الأحياء، أو الأنفس، خاصة البشر.
أي أن لها أسباب أوجدتها.
وهذه الأسباب أوجدت خللاً.(/6)
وهذا الخلل أوجب العقاب الإلهي؛ أو الجزاء.
وهذا العقاب تحكمه قوانين؛ تعرف بالسنن الإلهية الاجتماعية.
والأسباب أو الظروف البشرية هنا؛ هي التقصير بكل درجاته.
والنتيجة المترتبة؛ وهي حالة القسوة القلبية والانفصال عن المنظومة الكونية العابدة.
والمعادلة أو القانون أو سلسلة تتابع هذه السنة الإلهية؛ هي كالتالي:
(أسباب تعود إلى العبد -> خلل تربوي -> عقاب إلهي على هيئة جزاء من جنس العمل).
وبمعنى أبسط؛ هذه الظاهرة؛ أو هذا الشعور ما هو إلا نتيجة لعقاب الله عز وجل للعاصي والمسرف المقصر في طاعته سبحانه.
أي إذا قصر العبد في طاعته سبحانه، فإنه يترتب على ذلك خللاً داخل العبد مع نفسه، وخارجه؛ أي مع المجتمع ومع الوجود العابد لربه، وهنا تأتي السنة الإلهية في هيئة عقاب من نفس نوع الأسباب التي عملها العبد؛ أي يزيده بعداً وجفاءاً مع نفسه ومع الوجود من حوله.
وتدبر هذا الحوار؛ بين العبد وربه؛ فلقد تسائل العبد ما جرمه وما سبب هذا العقاب، وكانت الإجابة منه عز وجل؛ حيث يبين الحق سبحانه هذا القانون القرآني العام، أو السنة الإلهية الاجتماعية؛ التي تنطبق على كل من أسرف في الذنوب، وقصر في الطاعة.
(ولهذا يقول: "رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا"؛ أي في الدنيا."قال: كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى"؛ أي لما أعرضت عن آيات الله وعاملتها معاملة من لم يذكرها بعد بلاغها إليك تناسيتها وأعرضت عنها وأغفلتها كذلك اليوم نعاملك معاملة من ينساك؛ "فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا"، فإن الجزاء من جنس العمل). [46]
ثم يبين الحق سبحانه هذا القانون القرآني العام، أو السنة الإلهية الاجتماعية؛ والتي تنطبق على كل من أسرف في غية وكذب بآياته سبحانه:
"وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى". [47]
(يقول تعالى وهكذا نجازي المسرفين المكذبين بآيات الله في الدنيا والآخرة لهم عذاب في الحياة الدنيا، "ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واق"، ولهذا قال: "ولعذاب الآخرة أشد وأبقى"؛ أي أشد ألماً من عذاب الدنيا وأدوم عليهم فهم مخلدون فيه، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتلاعنين: "إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة"). [48]
وللمزيد من تحليل هذه الظاهرة؛ من حيث الأعراض العامة والخاصة، وكذلك سبل العلاج؛ والتي منها العام ومنها الخاص؛ فتراجع (ظاهرة التآكل الروحي) عند المسلمين عامة، وعند الدعاة خاصة. [49]
حذار ... من المثيرات ... والقوادح؟!!
وأخيراً؛ إذا كانت السنن الإلهية ما هي إلا سلسلة أو متوالية من التفاعلات يحكمها قانون رباني ثابت وعام ومتكرر إن وجدت ظروفه البشرية والمكانية والزمانية، وكأنها معادلة كيمائية تحتاج إلى ظروف معينة وعامل مساعد؛ يحركها أو يقدح شرارة التفاعل.
فعلى العبد دوماً أن يخشى أي عامل إثارة يقدح زناد معادلات القوانين الربانية؛ فتعمل عملها فيه كفرد وفي مؤسسته التي ينتمي إليها، ثم في أمته.
وهذه تسمى أيضاً مثيرات السنن الإلهية.
وتسمى أيضاً قوادح السنن الإلهية.
وإذا كانت الدموع المرة التي سكبها أبو الدرداء رضي الله عنه، عند أسوار قبرص في يوم من أيام الله؛ وذلك لخشيته من خطر الذنوب على الفرد والأمم؛ كان برؤيته هذه ينبه إلى أخطر قادح أو مثير من مثيرات السنن؛ ألا وهي الذنوب.
فإن أفتك ما يتعرض له العبد والأمم أيضاً؛ من مثيرات للسنن الإلهية بعد الذنوب؛ هي سهام الليل التي يرسلها المظلومون!!!.
لذا ينبغي للعبد ألا يعرض نفسه لهذه الأنات المكبوتة:
ألا أقولُ لشخصٍ قد تَقَوَّى ... على ضعفي ولم يخشْ رقيبَه
خبأتُ له سهاماً في الليالي ... وأرجو أن تكونَ له مصيبَه
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
----------------
الهوامش:
[1] [رواه أحمد في مسنده]
[2] [غافر 29]
[3] [غافر 30]
[4] [البخاري 3338]
[5] [فصلت 13]
[6] [الكهف 39-42]
[7] [مع قصص السابقين في القرآن: د. صلاح الخالدي ـ طبعة دار القلم ـ دمشق 2/140]
[8] [آل عمران 110]
[9] [غافر 21]
[10] [الليل 5-10]
[11] [الكهف 7]
[12] [يونس 13]
[13] [الفجر11-14]
[14] [الأنفال 53]
[15] [آل عمران 11 والأنفال 52]
[16] [الأنعام 44-45]
17] [السنن الإلهية في الأمم والجماعات والأفراد في الشريعة الإسلامية: د. عبد الكريم زيدان ـ طبعة مؤسسة الرسالة 21-235 بتصرف]).
[18] [البقرة 251]
[19] [آل عمران 140]
[20] [محمد 38]
[21] [الأنفال 65]
[22] [النساء 41]
[23] [الحج 78]
[24] [في ظلال القرآن: سيد قطب 17/2446]
[25] [الأنفال 52]
[26] [آل عمران 137]
[27] [الأنعام11]ْ
[28] [غافر 21]
[29] [تفسير القرآن العظيم: ابن كثير ـ تفسير آية غافر 21]
[30] [الروم 41]
[31] [الأنعام 6]
[32] [تفسير القرآن العظيم: ابن كثير ـ تفسير آية الأنعام 6]
[33] [آل عمران 165]
[34] [الشورى 30]
[35] [آل عمران 155](/7)
[37] [رواه البخاري: كتاب الرقائق باب 32 ـ أحمد 1/402 ـ وابن ماجه: كتاب الزهد باب 29 ـ الدارمي: كتاب الرقائق باب 17]
[38] [المطففين 14و15]
[39] [الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي: ابن القيم ـ المطبعة السلفية ـ الطبعة الثالثة 1400هـ ـ 84-85]
[40] [سنن ابن ماجه ـ كتاب الزهد 4235]
[41] [النساء 108]
[42] [تفسير القرآن العظيم: ابن كثير ـ تفسير آية النساء 108]
[43] [الأنعام71]
[44] [طه 124]
[45] [تفسير القرآن العظيم: ابن كثير ـ تفسير آية سورة طه 124بتصرف]
[46] [تفسير القرآن العظيم: ابن كثير ـ تفسير آيتي سورة طه 125-126]
[47] [طه 127]
[48] [تفسير القرآن العظيم: ابن كثير ـ تفسير آية طه 127]
[49] [فقه الظواهر الدعوية في ضوء السنن الإلهية ـ ظاهرة التآكل الروحي: د. حمدي شعيب](/8)
دمَّر الله عليهم
الحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ?يا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجَالاً كَثِيراً وَنِساءً، واتَّقُوا اللَّهَ الذي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً?[ النساء:1]. ?يا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وأَنْتُمْ مُسْلِمُون? [آل عمران:102]. ? يا أيُّهَا الَّذين آمَنوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمالَكُمْ، ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً? [الأحزاب:71].
الإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله لعباده وأتم به نعمته علينا فقال سبحانه: ?...وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً... ?[ المائدة:3]
جعل الله الإسلام الدين الوحيد الذي يعامل به عباده فمهما فعلوا ومهما تعبدوا بغيره فلن يقبل الله منهم صرفاً ولا عدلاً. قال تعالى: ? وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ?[آل عمران: 85].
الإسلام حقيقة من حقائق الوجود الثابتة التي لا تزول بكراهية الناس لها أو سخطهم عليها إن الإسلام حقيقة ثابتة ونور متوهج ثابت ثبوت السماوات والأرض.. لا يستطيع الكافرون مهما فعلوا من إطفاء نوره أو القضاء عليه.. وسيظل الصراع بين المؤمنين بالله ورسوله الذين يدينون دين الحق وبين الكفار الذين يسعون جاهدين لمقاومة الإسلام ومحاربة أهله. فعلى المسلمين أن لا يضعفوا أو يستكينوا وإنما عليهم أن يتمسكوا بدينهم ويحافظوا على أخلاقهم التي أمرهم الله بها .. ولا يستعظموا كيد الكافرين ومكرهم فإن الله عز وجل يهون علينا أمر الكفار الصادين عن سبيله والساعين ليل نهار لإطفاء نوره فيقول سبحانه وتعالى: ? وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ ?[الأنفال:59].
فإن الكفار مهما بيتوا من المكر والغدر والخيانة فإنهم محاطون بقدرة الله، لن يُكتب لهم سوى الخزي والخسران. إنهم لن يفلتوا من عقاب الله ونقمته إنهم أضعف وأحقر من أن يعجزوا الله جل وعلا حين يطلبهم. وهم أضعف وأحقر من أن يعجزوا المسلمين والله ناصرهم ومؤيدهم.
فليطمئن أهل الإيمان والإسلام من أن يسبقهم أهل الكفر والإلحاد، متى ما صدقوا وأخلصوا لله وتمسكوا بدينهم وأطاعوا الله ورسوله، وأخذوا بالوسائل الممكنة المتاحة، فإنهم منصورون بإذن الله إذا ساروا في طريقه لإعلاء كلمته في هذه الأرض وتبليغ دينه للناس، باذلين كل ما يملكون مجاهدين في سبيل الله لتحرير البشرية وإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد وحده لا شريك له. وما أحوج البشرية اليوم إلى من يأخذ بيدها ويعرّفها بربها وينقذها مما تعانيه من أزمات وضياع وفراغ وتخبط واضطراب لا نجاة للبشرية البتة إلا باعتناق هذا الدين والانقياد لله رب العالمين.
كل الدلائل الشرعية والواقعية تؤكد ذلك غير أن المسلمين إلا قلة منهم متهيبين من الكفار وقوتهم المادية يحسبون لهم حساباً ويقولون نخشى أن تصيبنا دائرة؟ هذا الشعور الفاشل والهزيمة النفسية أقعدت الكثير عن حمل الإسلام والاعتزاز به والدعوة إليه والجهاد في سبيله .. والله عز وجل يرينا بأم أعيننا يوماً بعد يوم آيات وعبر في أعدائه الذين لا يعجزونه .. إنه تعالى ينتقم منهم كل ما ظنوا أنهم قد امتلكوا القوة والسيطرة إنهم يحسبون حساب كل شيء وينسون الله رب العالمين فيأتيهم الهلاك والدمار من حيث لم يحتسبوا أو يسعون إلى حتوفهم بأظلافهم لقد انتقم الله منهم في حربين عالميتين سابقتين دمر الله عليهم ديارهم وحطم كبرياءهم وحصدهم وكفى الله المسلمين شرورهم.
ثم عادوا مرة أخرى يبغون في الأرض بغير الحق، يظنون أنهم قد امتلكوا ناصية الحياة والقوة والسيطرة فإذا بسنة الله تعالى تلاحقهم في الهلاك والتدمير..
قبل عشر سنوات فقط كان المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي يملأ الدنيا قوة وعتاداً واستكباراً في الأرض ، وإرهاباً.. ثم دب إلى هذا الكيان عوامل السقوط والفناء وأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا.(/1)
وها هي الأخبار تطالعنا كل يوم بما يصيبهم الله به من نكبات وقوارع تنزل بهم وتحل في ديارهم ففي روسيا تشير الإحصائيات الرسمية إلى أن المجتمع الروسي في تناقص وإدبار وانخفاض ، فمنذ أن انهار الاتحاد السوفيتي نهاية 1991م ونتيجة لمجموعة من العوامل ، أعداد الروس في التناقص حيث ذكر الرئيس الروسي في خطاب له أن روسيا قد تصبح دولة عاقراً حيث قال: "إن البلد قد يفقد سبع سكانه إذا استمرت وتائر الانخفاض الحالية (بمعدل مليون نسمة سنوياً) فسينقص عدد سكان روسيا من مائة وسبع أربعين مليون حالياً إلى مائة وعشرين مليون عام2015م، وهكذا بدأت صيحات الإنذار تنظلق في موسكو محذرة من تراجع النمو السكاني ومخاطره المستقبلية، وفي هذا الصدد يقول فاليري أستاذ علم السكان في جامعة موسكو: إن عدد سكان روسيا هبط بمقدار ثمانية ملايين نسمة خلال الثمان سنوات الماضية" أما وزير العمل الروسي فيؤكد أن نسبة التراجع السنوي أكبر مما أعلن عنه بوتين حيث يقول : (إن عدد المواليد في روسيا يبلغ 100.000 نسمة شهرياً مقابل مئة وثمانين ألف حالة وفاة).
أما الأسباب التي أدت إلى هذه النتائج فيمكن إيجازها في الآتي:
تدمير الأسرة كوحدة بناء أساسية للمجتمع من خلال السياسات الخاطئة ونتيجة لإطلاق الحرية الجنسية مما أدى إلى تضاعف أمراض الإيدز، والهربس، كما أدى تراجع الوضع الاقتصادي المنهار إلى هجرة ضخمة وخاصة في صفوف الفتيات الروسيات باتجاه العالم سعياً وراء المال؟!
انتشار الفقر والبطالة ، حيث أن هناك 89 مليون روسي يعيشون تحت خط الفقر ، كما أدت الإصلاحات الاقتصادية، التي نفذها الرئيس السابق بوليس يلتسن، إلى زيادة الوفيات بين الشباب. حيث زادت بنسبة 14% خلال ثمان سنوات من الإصلاحات.
إنهيار نظام الرعاية الصحية والاجتماعية، حيث تراجع مستوى التعليم والخدمات الصحية الغذائية، كما ترتفع معدلات الوفيات بشكل كبير بسبب الأمراض المعدية : كالسل والإيدز وغيرها.
وإذا ما أضفنا إلى هذه العوامل ما يصيبهم الله به من العقوبات التي تتمثل في الانفجارات النووية براً وبحراً، والانهيارات المتعاقبة، والحرائق والأعاصير والزلالزل التي تفاجئهم بين الفينة والفينة، مع ما يصاحبهم من قلق ورعب وخوف وهلع، وصدق الله القائل: ? سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ ?[آل عمران:151 ].
وما أكثر الآيات والعبر.. إننا نرى مصارع المكذبين في الماضي والحاضر ولكن الكثرة الكاثرة لا تعي ولا تعقل وصدق الله العظيم القائل وهو يعقب على هلاك الكافرين من الأمم الغابرة: ? إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ?[الشعراء:9-10].
إن دول الكفر القائمة على الظلم والاستكبار واحتقار الشعوب لن تنجوا من عذاب الله ، فهذه أمريكا هي الأخرى يرينا الله فيها آيات وعبر، ففي إحصائيات علمية ذكرت أن 50% من الأمريكيين يعانون من اضطرابات نفسية وعقلية وأن أمريكا أنفقت على علاج تلك الحالات عام 1996م ، 69 مليار دولار وذكرت بعض الدراسات أن 15% من بين الشباب لديهم اضطرابات القلق، وأن 15% من كبار السن لديهم أعراض الانهيار النفسي وأنهم يرون أن الانتحار يعد مخرجاً طبيعياً لهم، ولا سيما وأن نظامهم الاجتماعي والأخلاقي قد اختفى وانهار، فلا الأبناء يسألون عن آبائهم ولا يلتفتون إليهم عند تقدم السن!!
إن أعداداً كبيرة من الشعب الأمريكي مصابة بمرض الإيدز وإن الحكومة تنفق عدة مليارات سنوياً لعلاج الإيدز. دون تحقيق فائدة تذكر وإنما هو في ازدياد.
ثم إن المجتمع الأمريكي في سواده الأعظم مصاب بأدواء كثيرة مثل الشذوذ والتفكك الأسري وانتشار الزواج الغير شرعي أو القانوني، وازدياد حالات الإجرام والسطو المسلح، وانتشار الفساد الخلقي والاجتماعي وغير ذلك من عوامل التدمير والهلاك التي يتعرض لها الشعب الأمريكي وتنحته نحتًا وإن استمر على وضعه فإنه هالك ومدمر لا محالة.
ثم إن الله تعالى يرسل عليهم الجوائح والكوارث والمصائب التي تهزهم هزاً، وتدمرهم تدميراً وكأنها تقول لهم بلسان الحال: ها أنتم هؤلاء ضعفاء حقيرين لا تملكون أن تدفعوا عن أنفسكم عقاب الله. فتارة يرميهم الله بأعاصير مدمرة تدمر كل شيء في طريقها بأمر ربها من حصون وقلاع وزروع وثمار وغيرها.. وتارة تكون الأمطار والفيضانات التي تشرد الملايين وتغمر الأخضر واليابس. وتارة يسلط الله عليهم حرائق تلتهم كل ما في طريقها وإذا بالدولة الأولى في العالم تستنجد بالدول للوقوف معها في مقابلة هذه الحرائق المخيفة وإذا بالجميع كالحشرات أمام ذلك يقفون عاجزين.
الخطبة الثانية:(/2)
في حرب الخليج التي جاءوا إليها بخيلهم ورجلهم مستخدمين أحدث ما توصلوا إليه من أسلحة.. وإذا بحكام المنطقة وشعوبها يقفون مستسلمين أمام تلك الجيوش وآلاتهم العسكرية. فيرميهم الله بمرض سمي بمرض حرب الخليج لا يدرون ما سببه والذين أصيب به أكثر من مائة ألف كما يصرحون بذلك.
أما المعضلات الاقتصادية التي تواجهها فهي كبيرة ومستعصية ومن مظاهر تلك المعضلات التي تسوق أمريكا إلى الانحدار
• ارتفاع الضرائب
• ارتفاع الأسعار
• ازدياد الهوة بين الفقراء والأغنياء
• تدهور النظام التعليمي .. ارتفاع حجم العجز الميزاني
• الميل إلى الاستيراد وعدم القدرة على المنافسة كما هو حاصل في اليابان ودول شرق آسيا.
• إن فوائد ديون أمريكا لهذا العام تقدر بـ 152 مليار
إن هذه الحقائق غائبة عن أذهان كثير من الناس بسبب غياب إعلام قوي يتولى كشف هذه العورات والسوءات فإعلامنا العربي مشغول بمحاربة المد الإسلامي وتمجيد الظلم والاستبداد وإلهاء الشعوب وإشغالها بما يضرها ولا ينفعها.
أيها المؤمنون إن عمارة الأرض وخلافتها ستكون في السنوات القادمة للإسلام وأهله، لأن الإسلام هو البديل الوحيد الذي يملك عناصر البقاء والاستمرار والذي يحمل الحق والخير والعدل للبشرية جمعاء.. وهذا ما يقرره حتى غير المسلمين المنصفين وهو الوعد الحق الذي وعد الله به عباده المؤمنين ? وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ... ?[ النور: 55].
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
اللهم وهيء لأمة الإسلام قادة ربانيين يحكمون بشريعتك، سلماً لأوليائك حرباً على أعدائك يجاهدون في سبيلك لا يخافون لومة لائم.
اللهم ورد المسلمين إليك رداً جميلاً واجمع كلمتهم على الحق.. اللهم انصر عبادك المجاهدين في سبيلك في فلسطين والشيشان وفي كشمير وفي الفلبين وفي كل مكان اللهم قوّ عزائمهم وسدد آرائهم وسهامهم وأمدهم بنصرك وتأييدك فما النصر إلا من عندك أنت نعم المولى ونعم النصير.
اللهم وعليك بأعداء دينك الذين يحاربون دينك وأولياءك، اللهم اهزمهم واجعل الدائرة عليهم واجعل تدبيرهم تدميراً عليهم إنك أنت القوي العزيز.
الله وصل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين وصحابته أجمعين وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.(/3)
دور الأسرة في رعاية الموهوب
تعتبر الأسرة هي البيئة الطبيعية التي يمارس فيها الفرد حياته ، لذلك فإن لها دور هام في اكتشاف الموهوبين من أبنائها والأخذ بيدهم وتقديم وسائل الرعاية اللازمة لتنمية قدراتهم وإمكانياتهم ، غير إنها تعجز أحيانا عن القيام بدورها كاملا وذلك بسبب عوامل نقص الخبرة أو قلة التدريب أو تعرض طفلها لعوامل الحرمان المتنوعة بشكل مباشر أو غير مباشر . لذلك لابد لنا من مساعدة الأسرة على ذلك من ناحيتين هما :
أولا / كيف تتعامل الأسرة مع أفكار الطفل الموهوب ؟ وكيف تتصرفون حيال أسئلته الغير عادية ؟
ثانيا / كيف يمكن للأسرة المساهمة في تخفيض حدة القلق لدي الطفل الموهوب وأسئلته دون التأثير على مستوى إبداعه ؟
من كلا الموقفين يتطلب من الأسرة عدم السخرية من أفكار الطفل وأسئلته وذلك حتى لا يتخوف من التعبير عن أفكاره أو يتردد في الإعلان عنها ، وعادة ما تؤدي الأسئلة المطروحة من قبل الأطفال الموهوبين إلى الشعور بحالة من الرضى والاطمئنان بعد أن يكونوا قد عرفوا صحة إجاباتهم وهي بذلك تدل بشكل واضح على الرغبة في التعلم والتدريب وارتفاع الدافع إلى التحصيل لديهم .
أهم الملاحظات والتوجيهات التي تساعد الأسرة في القيام بدورها :
أولا / على الأسرة أن تعمل على ملاحظة الطفل بشكل منتظم ، وأن تقوم بتقويمه بطريقة موضوعية وغير متحيزة حتى يمكن اكتشاف مواهبه الحقيقية والتعرف عليها في سن مبكرة لأن الفشل في ذلك يؤدي بالأسرة إلى الوقوع في خطأين هما :
أ ) المبالغة من الأباء في تقدير مواهب أبنائهم بدافع شخصي أو رغبة منهم في التباهي والتفاخر بأبنائهم مما يوقع الأبناء في مشاكل متعددة بسبب رغبة الآباء بضرورة تحقيق مستويات للتحصيل والتفكير العقلي أعلى بكثير مما يقدر عليه أبناءهم .
ب ) يشعر الموهوبون في قرارة أنفسهم بعدم تفهم آباءهم لهم وتجاهل مواهبهم وقدراتهم بسبب سوء التقدير وانعدام الفهم أو بانشغالهم بالمصالح الخاصة مما يدفع إلى الشعور بالضيق بسبب الكبت والحرمان .
ثانيا / على الأسرة أن تتعرف على الموهوب في سن مبكرة ويساعدها في ذلك إتاحة الفرصة لملاحظة أبناءها عن قرب لفترات طويلة خلال مراحل نموهم المتعددة فللموهوبين سمات عقلية وصفات ذات طابع معروف تميزهم عن غيرهم من باقي الأطفال العاديين في أعمارهم .
ثالثا / يحتاج الطفل الموهوب من أسرته إلى توفير الإمكانيات والظروف المناسبة له والى إتاحة الفرصة للتعرف على الأشياء الجديدة في مجالات التفكير والإبداع مع تشجيعه على القراءة والاطلاع .
رابعا / على الأسرة أن تعامل الطفل الموهوب باتزان فلا يصبح موضوع سخرية لهم كما يجب ألا تنقص الأسرة من شأن موهبته أو تسيء استغلالها أو إهمالها ، ومن جهة أخرى يجب عليها ألا تبالغ في توجيه عبارات الإطراء والاستحسان الزائد عن الحد مما قد يؤدي إلى الغرور والشعور بالاستعلاء والتكبر .
خامسا / على الأسرة أن تنظر إلى الطفل الموهوب نظرة شاملة فلا يتم التركيز على القدرات العقلية أو المواهب الإبداعية المتميزة فقط ، وعليها أن تعرف بأن على
الطفل الموهوب أن يمارس أساليب الحياة العادية الطبيعية مثل غيره ممن هم في فئته العمرية.
وهكذا فعلينا أن نذكر بأن الموهوب طفل كغيره بحاجة إلى الحب والتقدير وأن نوفر له الأمن والاطمئنان الذي يعينه على تحقيق النمو المتكامل لجميع جوانب شخصيته .
إعداد: خالد محمد الرابغي(/1)
دور الإعلام في وحدة الأمة
أ. عادل أحمد الماجد*
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
مدخل
تحليل العنوان
(1) الدور: الدور المفترض ـ كما يراه الباحث ـ للإعلام وليس واقع هذا الدور.
(2) الإعلام: هي وسائل الإعلام العامة (القنوات الفضائية، المحطات التلفزيونية الأرضية، الإذاعات، المجلات والصحف، مواقع الإنترنت الإعلامية) ولا يدخل هنا (الكتاب والشريط والخطب والمواعظ) وإن كان يُطلق عليها وسائل إعلامية.
(3) الوحدة: هي الوحدة العامة المشتركة، وحدة الأهداف والمشاعر، وليست الوحدة الجغرافية.
(4) الأمة: الأمة في المصطلح الشرعي (هي الأمة المسلمة) ذات السيادة والمنعة وهي المرادة في الأدلة الشرعية (وإن هذه أمتكم أمة واحدة) [سورة المؤمنون 52]، ويتوسع الباحث في الأمة إلى معناها اللغوي.
الإعلام: أداة تفاهم تقوم على تنظيم التفاعل بين الناس(1)، الإعلام يُكوّن في المجتمع المواقف والاتجاهات ويُغيّر القناعات والسلوك كما يفعل التعليم بالضبط.
ولكن الإعلام يسلك في ذلك أساليب التأثير غير المباشر والتي تُبنى بطريقة تراكمية بطيئة بخلاف التعليم الذي يسلك أسلوب المباشرة عن طريق المعلومة غالباً، كما أن الإعلام يخاطب شرائح غير متجانسة في آن واحد، والتعليم يخاطب شريحة متجانسة إما عمرية أو ثقافية أو كليهما.
وجمهور الإعلام له دوافع متعددة: الحب والبغض واللامبالاة، وهي ذات مقاصد متفاوتة في التحليل والنقد والاستيعاب، بينما جمهور التعليم ذو دوافع متقاربة: كالرغبة في التعليم ورفع الجهل ونيل الشهادة الدراسية، وهي ذات مقاصد واحدة معرفة ما يراد من التعليم.
وإن كان التعليم بحاجة إلى المعلومة المنتقاة ذات الدلائل الواضحة، وإن كان يعتمد على الدقة المنهجية وله أطر ضيقة في التعامل مع الخلافيات؛ فإن الإعلام وعاء واسع يستوعب وجهات نظر مختلفة والمعلومة فيه ذات دلائل متفاوتة.
إنّ هذه الفروق بين الإعلام والتعليم مؤثرة جداً في فهم الدور الذي يجب أن يقوم به الإعلام تجاه المجتمع ولاسيما في بناء وحدة الأمة وترسيخها.
إنّ من أزمات الإعلام الإسلامي ـ كما يصفه المتابعون ـ الخلط بين الإعلام والتعليم مما جعل تأثير الإعلام محدوداً وفي دوائر تأثيرية صغيرة تتبنى الرسالة أصلاً قبل أن يبثها الإعلام.
إنّ الخلط بين التعليم والإعلام يجعل الجهود المضنية التي تبذل في الإعلام غير مؤثرة بل وربما يتحقق منها عكس المراد.
إنّ (وحدة الأمة) مشروع كبير بحاجة إلى تنوع المعالجة في الوصول إليه، ولكن يجب أن تتفاوت الأدوار بحسب الوسائل، فدور التعليم والخطب والمواعظ في هذا المشروع يجب أن يختلف عن دور الإعلام وكذا دور الاقتصاد وغيره.
تأسرنا دائماً وحدة الأمة الذهنية التي تكون بإمام واحد وبلد واحد جنسيته واحدة، هي وحدة مثالية بعيدة عنا على الأقل في هذا الزمن، فلا يمكن أن نتجاوز كل وحدة أخرى بل ونحارب كل اتحاد من أجل هذه الوحدة الذهنية.
إنّ دور الإعلام في الوحدة هو حشد الأمة نحو قضايا مشتركة تحقق المصلحة الشرعية للجميع، قد تكون الوحدة وحدة العاملين للإسلام أفراداً ومؤسسات لها قضايا كبرى مشتركة ولها قضايا كثيرة فيها خلافيات.
قد تكون الوحدة وحدة عموم المسلمين في العالم لهم قضايا مشتركة يتطلب من الإعلام دوراً في قضاياهم ورسم أولوياتهم.
وقد تكون الوحدة وحدة الوطن الإقليمي الذي يحوي نسيجاً من الأجناس والديانات تتطلب المصلحة الشرعية وحدة هذا الوطن بدلاً من التمزق والحروب الأهلية، إن دعم هذه (الوحدة) ينعش الدعوة ويجعل (للوطن) هيبة أمام العدو الخارجي الذي قد يذكي الخلافات داخل الوطن من أجل تعطيل قضايا الأمة المسلمة، وللأسف قد نساهم في ذلك دون دراسة واعية للمصالح والمفاسد.
وربما كانت الوحدة وحدة أمة الحضارة التي تتمثل في أهل المنطقة المسلمة من العالم بما فيها من ديانات وأعراق، وهذه (الوحدة) تعني أن يدفع الجميع ثمن هذا الانتماء وأن يلتزم الجميع بأعراف هذه المنطقة والدفاع عن مصالحها، إن استثناء بعض (الأعراق) أو بعض (الديانات) عن الانتماء الحضاري لهذه (الأمة). جعلها تتنصل عن تبعات هذا الانتماء فعملت على الخذلان والتعاون مع أعداء منطقتنا، ولم يلتزموا بانتمائهم لهذه الحضارة ونحن نتحمل جزءاً من هذه المشكلة حينما لم نؤكد على الوحدة الحضارية بيننا التي تلزم الجميع أن يسهم في بناء هذه الوحدة ويحترم أسس (الأمة) التي ينتمي إليها.
وأحياناً تكون الوحدة بين أمم متباعدة الجغرافيا ومنفصلة التاريخ وهي (وحدة) المواجهة حينما نقف مع غيرنا في مواجهة عدو مشترك دولة كانت أم حضارة، فإن لهذه الوحدة تبعات تتطلب من الإعلام دوراً في القيام بها ورصِّ الصفوف فيها.(/1)
مثال: أن ترى دولنا الإسلامية أنها مع دول أمريكا اللاتينية والجنوبية يجمعها تعرضها للظلم الأمريكي والتسلط على ثرواتها، قد يتطلب هذا المحور الوحدة لهذه المواجهة، يقوم الإعلام بتعزيز هذه الوحدة وحشد طاقات الأمتين تجاه هذا التسلط، ومن الحكمة إغفال القضايا الخلافية بين الأمتين وتجاوز خطوط التماس بيننا.
ومن الوحدة أن يُدعم الأفراد والهيئات والأحزاب الداعمة لقضايانا عند خصومنا دولاً كانت أم حضارات.
إن شعار الإسلام الفكري تجاه الأمم الأخرى وإن كانت ظالمة هو (ليسوا سواءً) [سورة آل عمران: 113] .
إن في الغرب عموماً، وفي أمريكا خصوصاً، من يدعم قضايانا ويدافع عنها وينقم بشدة على ممارسات دولته. إن هؤلاء بحاجة إلى إعلام ذكي يستثمر مواقفهم ويكوّن وحدة إعلامية معهم ليشعرهم بأن مواقفهم مشكورة، وليتشجع الصامتون عندهم في الجهر بهذه المواقف، كما أنها تعطي لمواقفنا مصداقية أكثر لاسيما أن الشهود من أهلها.
ولكن يبقى مصطلح (الأمة) شرعياً هي (أمة الإسلام) المعنية في قوله تعالى: (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) [سورة الأنبياء: 92] وغيرها من الأدلة التي تتحدث عن الأمة والأخوة.
إن من الأدوار المهمة للإعلام دعم أشكال الوحدة في الأمة واستثمار إيجابياتها ومعالجة سلبياتها بحنكة ومن ذلك: منظمة المؤتمر الإسلامي، جامعة الدول العربية، رابطة العالم الإسلامي، مجلس التعاون الخليجي والإتحاد المغاربي، ودعم سبل التعاون الثنائي بين الدول ثقافياً واقتصادياً وسياسياً، وكذلك المساهمة في حل المشكلات الطارئة في هذه الأشكال الوحدوية والسعي إلى اكتمالها، وكذلك للإعلام دور في عرض سبل جديدة للتعاون بين الدول والمنظمات والتجمعات في هذه الأمة وعرض تجارب التكتلات في العالم ونتائجها الإيجابية كالوحدة الأوربية أو منظمة الآسيان أو غيرها من التجارب الناجحة كي تكون أنموذجاً تسعى الأمة لتكوين وحدة مشابهة له ولو مرحلياً.
إن للإعلام دوراً في استثمار القضايا تجاه تحقيق الأهداف الشرعية في المجتمعات.
إن قضية الحرب تجاه بلاد المسلمين اليوم أمرٌ جلل وخطب كبير، يستطيع الإعلام أن يستثمر هذا الضرر في تحقيق مصالح كثيرة من أهمها التأكيد على وحدة الأمة وإبراز أهداف العدو وغيرها من عشرات المنح من هذه المحن.
وكذلك يستطيع الإعلام استثمار نجاحات الأمة وتوظيفها بشكل رائع عندما يساهم الإعلام في مناقلة التجارب الناجحة بين شعوبها، بل ويستفيد من ذلك في حشد الأمة للتعاون والوحدة ليستفيد الجميع من هذا النجاح.
والاستفادة من وجود الجاليات في الغرب والشرق وما تشكله من لُحمة كبيرة يمكن أن تكون مدخلاً للحث على الوحدة والتقارب.
وكذا امتزاج الشعوب عن طريق انتقال العمالة على عدة مستويات يعتبر فرصة لتأكيد الهوية الواحدة.
وأيضاً يجب أن يسهم الإعلام في خدمة المنتجات الإسلامية وتسويقها بين الشعوب.
وينبغي أن يساهم الإعلام في معالجة المشكلات التي نشأت داخل الشعوب في موقفها من بعضها:
ـ المشاحنات السياسية تؤثر على علاقات الشعوب، رغم أن كثيراً من الحكومات لا تمثل شعوبها.
ـ سخرية الشعوب من بعضها إما بالجهل أو الغرور أو الغباء أو الكذب أو الكسل مما يرسخ العداوات.
ـ الخلافات العمالية بين أرباب العمل وعمالتهم تسبب في مشكلات ضخمة في ظل غياب القوانين الصارمة التي تحفظ حقوق الجميع.
ـ المسابقات الرياضية.. ودورها السيئ في الخصومات والعداوات والتي يعبر عنها للأسف بعكس نتائجها.
إن المتأمل في مسائل الناس واهتماماتهم وآرائهم يدرك أن مساحة الخلاف ضيقة جداً لا تتجاوز 10% وأن 90% الباقية هي قضايا مشتركة ككليات الشريعة أو معايش الناس المشتركة مثل: توحيد الله والنبوة والآخرة والصلاة والزكاة والصيام والحج والموقف من الصدق والوفاء والتسامح والكذب والخيانة والغدر وتربية الأولاد والنجاح الأسري وتطوير دخل الأسرة وأمور تحسين المعيشة والتدريب والتطوير وعلاج الأمراض وإصلاح الأراضي والطرق والبناء وقضايا كثيرة يجمع عليها الناس.
إنّ للإعلام دوراً في تأكيد هذه القضايا المجمع عليها ليرسم لأمة وحدة في الشعور والهموم المشتركة سعياً لحشدها تجاه قضايا واحدة تخدم الأمة وتجعلها ترتقي نحو الإتحاد أمام الصعاب المختلفة.
إنه من المؤسف أن 90% مما يثار حوله النقاش والحديث هو في 10% الخلافيات بين الناس بما يجهد الذهن ويضيع الأوقات ويفرق ولا يجمع.
إن الإثارة الإعلامية والسعي وراء تحقيق التميز جعل الاهتمام ينصب على 10% من هذه الخلافيات مما جعلها تظهر وكأن الأمة الأصل فيها الخلاف.
وأنّ القضايا المجمع عليها قليلة وكأن الخوض في القضايا المجمع عليها لا يمكن أن تتم ما لم تحل قضايا الخلاف بتفاصيلها.
إننا لا ندعو إلى إغفال 10% من الخلافيات ولكننا ندعو أن لا تتجاوز 10% من اهتماماتنا وأن نتحدث عنها باتزان ورؤية شرعية صحيحة.(/2)
إنّ فصائل العمل الإسلامي قامت بجهود جبارة في رفع الجهل عن الأمة وفي بنائها حضارياَ وسلوكياً، وواجهت بكل بسالة صور الظلم والتغريب والاستعمار بشتى صوره، ونجحت في تغيير السلوك في آحاد الأمة.
ولكنها فشلت في خطابها الجماهيري في الأدوات والأساليب حتى ظلت المنابر الدعوية تخاطب نفسها بأساليب تقليدية إلى حد كبير.
وفشلت أيضاً في ردم الخلاف فيما بينها رغم أن كثيراً من الخلاف لا يعدو خلافاً في الأولويات بل بعضها خلاف إداري لا أكثر.
إن (الأمة) بحاجة أن تسمع لبعضها، إن الاستماع لرأي الآخر أساس لفهمه ونقاشه، وكثير من المتخالفين انتهى كثير من خلافهم بمجرد سماع بعضهم من بعض، إن على الإعلام أن يُسمع صوت الجميع لبعضهم.
إن إتاحة الإعلام فرصة للجميع أن يتحدثوا عن أنفسهم وآرائهم للأسباب التالية:
(1) هو حق مشروع لكل مسلم فضلاً عن داعية أن يعبر عن رأيه وفكره.
(2) أنّ تعتاد الأمة على أخذ المعلومة من أصحابها ما أمكنهم ذلك.
(3) أنّ كثيراً مما يُنقل عن الآخرين هو غير دقيق ولا صحيح مما يزيد الفرقة بين الأمة.
(4) فتح المجال للجميع أن يتحدث وفق أطر واحدة يشعر الأمة بأن قضاياها واحدة مما يساهم في وحدة الأمة.
ولنا هنا ملاحظات عدة على مناهج الإعلام في التعامل مع اختلافات الأمة:
ـ من إعلامنا من جعل الخلافيات هي مصدره الإعلامي فهو يذكيها كلما خبأت ويختار من ضيوفه من يؤجج هذه الخلافيات.
وللأسف فإن هذا الإعلام قد يوصف بالمصداقية أو أنه لا يداهن في الدين وأنه يقول الحق ولا يخاف لومة لائم.
ـ من إعلامنا من لديه (صرامة منهجية) في الأقوال والرجال فكل ما يقال في وسيلته الإعلامية فهو يعبر عن رأي هذه الوسيلة بل وربما أعتذر مراراً عن كلمات عابرة لا تتطابق مع كلماته المنهجية وتكون الصرامة بالرجال فلا يستضاف إلا من هو خالص الولاء لهذه الوسيلة ولو استضاف غيره ففي المجال الذي يوافقه فيه بل ربما أعتذر عن ذلك. وهذه الصرامة قد تناسب التعليم ولكنها لا تتناسب مع الإعلام للفوارق السابقة.
ـ من إعلامنا من ينصُّ على أنه عام للأمة ومعبر عن الجميع ولكنه في التطبيق وسيلته هي لسان متحدث باسم حزبه وجماعته، إن النص على تخصيص إعلام لمؤسسة أو منظمة أمر معتاد لا لوم فيه ولكن الإشكال أن يُدّعى أنها لعموم المسلمين في العالم وهي لا تعدو تتحدث عن آحاد تناصرهم بحق وباطل.
إنّ الحق في التفاصيل لا يملكه أحد معيَّن بل هو مشاع في عموم الأمة وكلما كان الإعلام أكثر نضجاً كانت قدرته على جمع الحق أكبر وكلما كان أثره أطيب على الأمة.
إننا هنا لا نلوم من يناصر الحق الذي عنده إذ أن هذه طبيعة بشرية ولكن عرض الحق بأساليب صحيحة تدعم إتحاد الأمة وتوحدها ولا تفرق الأمة وتباعدها.
إنّ إتاحة الفرصة للمخالف أمر عسر على النفس وخصوصاً عند من لم يعتاده ولكنه مع الزمن تظهر الإيجابيات العظيمة في جمع كلمة الأمة.
هل يعني ذلك أن الإعلام أداة محايدة يجب أن لا يؤثر فيها توجهات الإدارة والملاك، إن الإعلام المحايد هو ضرب من الخيال وخدعة كبرى، ولا يمكن لأصحاب أموال سواء كانوا حكومة أم قطاعاً خاصاً أن تضع مئات الألوف بل والملايين وليس لهم رؤية يريدون بثها في الأمة.
لاسيما أن (الإعلام) مشروع اقتصادي غير فعّال فهو مرتفع التكاليف بالغ المخاطرة بطيء الربحية. لا يقدم عليه إلا صاحب هدف غير اقتصادي غالباً وإن كان اقتصادياً فهو مشروع يخدم مشاريع اقتصادية أخرى وليس لذاته.
إن الإعلام المؤثر فعلاً هو الذي يفهم عقلية الجمهور ويخاطبهم بطريقة احترافية غير مباشرة، إعلام يدرك الرسالة جيداً ويوصلها أحياناً بلسان من يعارضها.
من الطبيعة البشرية الخلاف والاختلاف، ولا يمكن أن يطلب من أهل الإعلام تجاوز هذه الطبيعة بل إن بعض هذا الخلاف الخوض فيه مطلب شرعي.
فنقد الأشخاص والهيئات والأحزاب والدول جزء من الإعلام لا ينفك عنه، ولكن هناك شروط تجعل النقد والخوض في الخلاف مؤازراً للوحدة.
(1) الرحمة: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) [سورة الأنبياء: 107] فلغة الرحمة والشفقة أثناء النقد يقرّب القلوب ويجمع ولا يفرّق بخلاف لغة التهكم والسخرية أو التشفي الذي يفرق بل وتخسر به المحايدين من الناس.
(2) العلم: أن تكون المعلومات عن الخصم صحيحة وليست مفتراة وتمثِّل الخصم فعلاً وليست مواقف شاذة ً من آحاد ينتمون للخصم ويكون يعتقده الآن وليس أمراً رجع عنه، قال تعالى: (ولا تقفُ ما ليس لك به علم) [سورة الإسراء: 36] وجاءت مؤكدة بوضوح في قوله صلى الله عليه وسلم: ((على مثل هذا فاشهد)).(/3)
(3) العدل: (ولا يجرمنكم شنئآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) [سورة المائدة: 8] حين يتظالم الناس ويؤجج الإعلام خلافاً ظالماً ضد بعضه بعضاً فإن الخلاف سيتحول إلى عداوات بل وسيساهم العلم في الخصومة بدلاً أن يسهم في جمع الأمة لوجود البغي، كما قال تعالى: (فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم) [سورة الجاثية: 17].
(4) الغب: أن تذكر الخصم نزراً يسيراً وفي وقته المناسب، أما أن يكون ديدناً يشعر الخصم أن إعلامك قام من أجل الحديث عنه وفضحه فإن توفر الشروط الثلاث الأول سيتلاشى أثرها.
إن (الهدى) من شروط الإعلام الذي يوحد على الحق. (الهدى) الذي يعني تجاوز (الهوى) والذي يدخل الحقد بديلاً للرحمة.
الهدى يعني تجاوز (الظن) الذي يدخل الجهل بدلاً من العلم (إن يتبعون إلا (الظن) وما (تهوى) الأنفس ولقد جاءهم من ربهم (الهدى)) [سورة النجم: 23].
إن تحمّل الإعلام لدوره في وحدة الأمة له ضريبة لا بد أن ندركها ونصبر على تبعاتها وليست أعطية ننتظر أن نجني المدائح بسببها، إن الإعلام الذي يريد أن يقوم بدوره الحضاري تجاه أمته لا بد أن يدرك أن هذا الدور طريق عسرة لا بد من الصبر والمصابرة عليها، فإنه يوصم بأنه بلا منهج ولا رؤية وأنه يميّع القضايا، وأنه بسيط التفكير، ولا يعرف حقيقة العداوة، وأنه مخدوع بالمثالية، وأن الآخرين لا يُتيحون له فرصة كما أتاح لهم، كما أنه سيفقد كثيراً من مكتسباته، كالزعامة في حزبه وجماعته، وسيحجم عن كثير من القضايا التي يتقنها، كما أنه سيتيح فرصة لمن لا يعجبه من الشخصيات، وفرصة لما لا يعجبه من الأقوال والآراء يتيح لهم الفرصة في وسيلة إعلامية يملكها ووضع الآلاف وربما الملايين من ماله الخاص فيها.
يفعل ذلك مقدماً مصلحة الأمة على مصلحته الخاصة لدعم وحدة الأمة ما أمكنه ذلك.
إن الإعلام الذي يريد أن يسهم في (وحدة الأمة) عليه أن يتحمل هذه المشاق.
---------
(1) موسوعة الإعلام والصحافة ـ 100 سؤال، طلعت همام.(/4)
دور الحسبة في حفظ المجتمعات وخطورة تركها
الشيخ محمد سيد حاج*
المقدمة:
تعتبر الحسبة من كُبريات القضايا ومُهمات المسائل في الشريعة وذلك لعظم متعلِقاتِها ( المجتمع ـ القيم ).
ولا يكاد يخلو كتاب من كتب الفقه أو السياسة الشرعية إلا وفيه إيضاح وبيان لهذه القضية المهمة والتي هي جزء من النظام الإداري الإسلامي الأصيل المنبثق من نظام الخلافة والإمامة والحكم بما أنزل الله عز وجل.
ومع عظم مكانتها وأهمية أمرها ووضوح ذلك ما زال البعض يشكك في هذه القضية إما بقصد وإما بغير قصد وبعضهم حاقد وبعضهم مشفق خائف.
وقبل أن نلج إلى الموضوع لا بد من مدخلين, مدخل تعريفي, ومدخل عقدي.
المدخل التعريفي:
الحسبة لغة: من مادة ( حَسبً ) والتي من معانيها العدُّ ومن ذلك {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} (( الرحمن : 5 )) والحسب هو تعديد الآباء افتخاراًً بهم ومنه احتساب الأجر الذي هو انتظاره وطلبه وقوله سبحانه { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } (( الطلاق : 3 )) من حيث لم يعُد ويضعُه في حسابه ومن المعاني أيضاً الكفاية ومن ذلك ( حسبي الله ).
وفي الحسبة كفاية وصدٌ للشر وحفظ المجتمعات.
المحتسب ليس متطوع لأنه موضع المسؤولية وهو متفرغ لهذا العمل.
الحسبة شرعاً:أمر بالمعروف إذا ظهر تركه ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله[1].
ويعرفها ابن خلدون: وظيفة دينية كسائر الوظائف مثل إمامة الصلاة والقضاء والجهاد[2].
ويمكن أن نخلص إلى أنّ السلطان المسلم مكلف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وينيب عنه أهل الحسبة لحاجة المجتمع إليهم.
المدخل العقدي والأصولي:
1. لا اختيار للعبيد: حيث يقول الله سبحانه وتعالى: { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} (( النساء : 65 )).
ونعني بها التسليم الكامل والانقياد التام لله عز وجل في كل مفردات الحياة حيث لا صلاح للإنسان إلا بتحقيق العبودية لله والتي من مقتضاها أن لا تعارض أوامره وتعاليمه ومراده أبداً وأن نُُقِرَّ أن حكمه لنا أفضل من حكمنا لأنفسنا { وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ }(( الرعد : 41 )).
وأنَّا لن نكون أرحم بعباد الله من الله عز وجل الذي خلقهم وسواهم {أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ }(( البقرة : 140 )).
2. جميع الولايات الشرعية مفادها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ( والذي خلاصته المجتمع المعافى من الشرور والآثام والذي ترفرف في جنباته أعلام الفضيلة والخير ).
يقول تعالى{ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ }(( البقرة : 193 )).
وكل الشريعة الإسلامية معروف تحث عليه ومنكر تنهى عنه وهذا يحتاجه كل بشر وكل البشر وذلك لأن كل إنسان يحتاج هذا في نفسه وكذلك غيره من بقية أفراد المجتمع[3].
3. الكتاب الهادي والحديد الناصر:
منهج الإسلام معتدل ومتوازن ففيه القيم الروحية والشائر التعبدية وكذلك فيه القوة والشوكة التي تحمي القيم وتصون المجتمعات من الفوضى والعبث والمجون والمارقين.
ولذلك يقول تعالى {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ }(( الحديد : 25 )).
وإذا كان الأصل في الأمر بالعروف والنهي عن المنكر أنه فرض كفاية بالنسبة لعموم المسلمين وهي منوطة بالقدرة فإنها فرض عين على السلطان المسلم[4].
ذلك لأن البعض يريد أن يختزل الإسلام في كونه ديناً روحيّاً فقط وبذلك يجرده من التأثير ومن القوة المادية التي تحفظ بها كل المجتمعات بما فيها الدول الكافرة.
والإسلام يملك قوة روحية هائلة وقوة مادية نافعة ومن هنا كانت الشوكة والسلطان من المعينات والمرتكزات.
والله عز وجل { الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}(( الحج : 41 )) ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( من رأي منكم منكرا فليغيره بيده ))[5] ما معنى ( اليد ) هنا؟ هل تعني الملاطفة والود وأن نربت بها على أكتاف المفسدين اعتذاراً لهم؟ إن مفهوم اليد يعني الردع والزجر والمنع للمنكر, كما يعني استعمال السلطة وكل أجهزتها لهذا الغرض من إعلام ومناهج ومؤتمرات وطباعة كتب ومساعدة الدعاة وبذل الأموال للعفاف ومحاربة الفساد ولا يُقصد بها الجلد والضرب فقط وفي كل الأحوال، ولقد كان من فقه الخلفاء الراشدين وعلمهم وإدراكهم لهذا المعنى أن قال عثمان بن عفان رضي الله عنه مقولته المشهورة الداوية المجلجلة ( إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقران )[6].
آثار الحسبة وفوائدها على المجتمع:(/1)
من تأمل حقيقة الحسبة يجدها تعزز القيم الفاضلة للمجتمع وبالتالي تمثل خط الدفاع الأول عن الأمة وهي تسهم في بناء المجتمع بتعزيز الخير وكذلك بدفع الشر ( المعروف ـ المنكر ) وهي أيضاً صمام أمان للمجتمع المسلم ويمكن أن نتحدث عن حاجتنا لها وعن دورها في حفظ المجتمع من خلال النقاط التالية:
1. اختصاصات المحتسب:
من يتأمل الفقه الإسلامي يجد فيه للمحتسب مكانة عظيمة فهي تشمل جوانب كثيرة ولا تقتصر على ( الضرب والجلد ) كما يصورها البعض بل ذكر فقهاء السياسة الشرعية أنها تشمل الحسبة في حقوق الله وكذلك في حقوق خلقه العامة والخاصة فقد ذهب أبو يعلى الفراء ( أن المحتسب في حقوق الخلق العامة يصلح الآبار ويهيئ السقيا والشرب ويحافظ على المرافق العامة )[7].
ومن اختصاصاته:
أ. الأمر بالمعروف فيما يتعلق بحق الله سبحانه وتعالى كالتذكير بالصلوات وهي من أهم الشعائر ولذلك أرسل عمر بن الخطاب إلى ولاته يقول لهم: "إنّ أهم أمركم عندي الصلاة من حفظها وحافظ عليها حفظ دينه ومن ضيّعها كان لما سواها أشدّ إضاعة"[8].
وكذلك كل ما من شأنه أن يعيق العبادات كلها أو يعكر صفوها من اختصاصات المحتسب أن يتدخل.
ب. الأمر بالمعروف فيما يتعلق بالحقوق الآدمية العامة فقد مضى أنه يصلح المرافق يبني ما تهدم وغير ذلك مما يفيد المجتمع وللمحتسب أن يتدخل في الأمر بالمعروف لرد الحقوق الآدمية الخاصة بشرط أن لا يحصل فيها تناكر وتنازع لأن هذه محلها القضاء وله أن يتدخل في الأمر بالمعروف بأخذ الأولياء بإنكاح الأيامى[9] .
ج. النهي عن المنكر فيما يتعلق بحقوق الله: أعلى منكر يحاربه المحتسب الشرك والدجل والخرافات والسحر والسحرة وعليه أن يحارب هذا بالتوعية والتعليم والدعوة وكذلك بالتدخل لمنع هذه الأمور وتقديم من يحتاج تقديمه للقضاء ( حادثة قتل الطالبة في كلية الطب من قبل مشعوذة ). ثم تأتي البدع في الدين والنهي عنها ومنعها من أهم الأولويات.
وكذلك تأخير الصلاة وتركها وكل ما يتعلق بتضييع حقوق الله الظاهرة والتي لا خلاف فيها.
ومن المنكر الذي يتعلق بحقوق الله منع الفساد وهذا سوف نفرده بالحديث إن شاء الله.
د. النهي عن المنكر فيما يتعلق بحقوق الآدميين: مثل المشاجرات والمعاملات المحرمة في الأسواق ومنها بيع العِينة الذي انتشر في عصرنا ( الكسر ) وكذلك كل حقوق بين الآدميين وتظالم يتدخل المحتسب لمنعه, بل يرى الفراء أنه يتدخل في أمور الجودة والرداءة بالنسبة للسلع[10] .
وبالتالي يمكن أن نقول أن الشرطة كلها وبكل أقسامها محتسب وأن الأمر لا يرتبط بقسم معين منها وإن أفردوا قسماً خاصاً -جزاهم الله خيراً - لمحاربة الفساد تحت مسمى ( أمن المجتمع ).
هـ. المحتسب في بعض النواحي يتفوق على القضاء وفي بعضها أقل رتبة من القضاء وكل هذا لمصلحة الإسلام ورعاية الأخلاق والمحافظة على الوطن والمواطن.
فالمحتسب يتدخل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دون استدعي أو استعداء من أحدٍ بخلاف القاضي الذي لا بد أن ترفع له دعوى.
والمحتسب أيضا يتدخل في المنكرات الظاهرة من نفسه لمنعها لأن الحسبة وضعت للرهبة والقضاء للمناصفة.
والقضاء أعلى من الحسبة في أمرين أيضاً وهما أن المحتسب لا يسمع الدعوى بين الخصوم وليس هذا من اختصاصاته وبالتالي القاضي يقيم الحدود والعقوبات وليس للمحتسب أن يقيم الحدود ولكن له أن يعزر بقدر الحاجة.
كما أن القاضي ينظر في كل القضايا التي عنده أما المحتسب فإنه يختص فقط بالحقوق الثابتة والمعترف بها والتي لم يدخلها التناكر والتجاحد.
المهم أن الحسبة خادمة للقضاء كما أفاد ذلك إن خلدون في المقدمة[11].
2. الحسبة والنظام العام:
من أكبر آثار الحسبة وفوائدها حمايتها للنظام العام وذلك بتقديم الحق العام على الحق الخاص ( هذا إذا افترضنا تنزلاً أن للأفراد حرية أن يفسدوا )!!!
والحسبة تمثل ( نظرية الدفاع الاجتماعي ضد الجريمة إذ لها جانبان: إيجابي وسلبي، تقمع الجريمة وتطارد المجرمين من المجتمع دون حاجة لادعاء شخص وتقوم بدور الوقاية من الجرائم قبل وقوعها، بالترغيب في فعل المعروف والترهيب من ارتكاب الفواحش والمنكرات التي تؤدي إلى الإخلال بأمن الجماعة واستقرارها والحفظ على الأعراض والحرمات )[12]. بل من حق المجتمع أن يسلم من الجريمة والفساد وأن يأمن على أخلاقه وآدابه.
3. الحسبة والفوضى الفكرية والأخلاقية:
إن سلامة المجتمعات الحقيقية في سلامة المعتقد واستقامة الأفكار وإن الحسبة الفاعلة هي التي تراعي هذا الجانب في ما ينشر ويقرأ من كتب وكل عقيدة فاسدة على المحتسب منعها.
( وإذا كان من واجب المحتسب أن يمنع الغش والتدليس في المعاملات فمن باب أولى في الديانات )[13].(/2)
والحسبة تحمي المجتمعات بمنع الفوضى الأخلاقية والاستهتار الذي نراه في الطرقات والمنتزهات وغيرها. وقد مر علينا أن المحتسب ينهى عن المنكرات الظاهرة ويلاحق المجرمين ويمنع وقوع الجريمة، وكذلك يعمل على الاحتراز من الجريمة ويكون هذا مع وجود التهمة ومظانها بغير تجسس منه وإن كان له أن يمنع من الاجتماع في مظان التهم مثل من رأى رجلا وامرأة في مكان مظلم أو طريق مهجور فهذا موقف ريب فينهاه المحتسب برفق كأن يقول له: إن كانت لك محرما فقد عرضتها للتهمة وإن كانت أجنبية فعلت ما يغضب ربك ))[14].
فالمحتسب ينهى عن مواقف الريبة ومظانها احترازاً من الجريمة قبل وقوعها.
ولابد أن أشير هنا إلى سماسرة الرذيلة ودهاقنة الفجور الذين يدافعون عن الفساد وينشرونه في أوساط الشباب وهذا يذكر قول الله سبحانه: { الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }(( التوبة : 67 ))وقوله سبحانه { وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً} (( النساء : 27 )) وهؤلاء أولى بالحسم والردع من غيرهم.
4. الحسبة وأمن المجتمع:
إن ما سبق من فوائد الحسبة وآثارها الطيبة على المجتمع تعود إلى أمن المجتمع فكرياً واجتماعياً واستقراره وذلك لقلة الفساد ومحاصرته مع بركة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما أن الأمن سببه الإيمان بالله عز وجل والأعمال الصالحة { الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ }(( الأنعام : 82 ))، ولا شك أن زجر المجرمين وتخويفهم يعني أمن المجتمع وسلامته.
والحسبة أيضا تمنع ظهور الأفكار المتطرفة لأن وجود الفساد وظهوره وجرأته يستفز أهل الاستقامة فإما أن يغيروا المنكر بأنفسهم وهذا ما لا تحمد نتائجه وقد يفضي إلى مفاسد كثيرة وإما أن تقوم بهذه العمل جهات مسؤولة ولها أن تتعاون مع المصلحين في المجتمعات لمنع الفساد وبالتالي سلامة المجتمع من الفساد وقطع الطريق أمام الأفكار والأعمال المتطرفة.
كما أن الحسبة تعيد للمجتمع الثقة فيه وفي أفراده وتشعر بقوة المجتمع واستقامته وحرصه على هُويته وثقافته وشريعته. ولذلك يرى ابن تيمية أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الذي يجعل الإجماع حجة لأن حرص الأمة على المعروف ونهيها عن المنكر يجعلها لا تجتمع على ضلالة إذ إن مثلها لا يقر المنكر أبداً[15].
5. الحسبة وتأجيج الشهوات:
ما كل شخص يريد المنكر ابتداءً لكن لما يتزين له يقع فيه ومن هنا اعتبر الشارع أن بعض الأمور فتنة كقوله صلى الله عليه وسلم : (( ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء ))[16] وكقوله صلى الله عليه وسلم : (( اتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء ))[17].
قد ينظر رجل إلى امرأة تثيره في الطريق أو في مكان عام وتبقى الإثارة فيزني بأخرى.
ثم أليس من حق شبابنا أن لا يفتن ؟؟ سؤال برئ.
6. الحسبة والتدخل السريع:
عصرنا من أوضح سماته السرعة في معظم مفرداته بما فيها المعاصي ولذلك لا يتناسب مع الجريمة السريعة إلا الحسبة لأنها أصلا موضوعة لمحاربة المعاصي والمنكرات وأحياناً الإجراءات والقيود تكون من صالح الجريمة ولذلك الحسبة هنا تحفظ المجتمعات بالتدخل السريع لمنع المنكر، والأصل أنها تتدخل بغير تجسس لأنها ضد المنكرات الظاهرة ولكن لو احتاجت في بعض الحالات الخاصة للتجسس جاز ذلك لها مثل عمل كمين للمخدرات التي يراد الترويج لها أو لو وصلتها معلومة بأن شخص يريد قتل آخر فيجوز لها أن تقتحم دون إذن.
مخاطر ترك الحسبة:
1. التعرض لغضب الله سبحانه وتعالى:
وذلك لأن المعاصي والذنوب سبب لغضب الله عز وجل لأنه لا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر وهو أعظم غيرة أن تنتهك محارمه وأن يعتدى على حدوده سبحانه وتعالى.
2. السكوت على المنكرات سبب للهلاك والعقاب الإلهي:
يقول الله عز وجل: { وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }(( الأنفال : 25 )) ولا شك أن ظهور المنكرات سبب لهلاك الأمم وذهاب الدول وتسلط الأعداء ((إذا تبايعتم بالعينة , وأخذتم أذناب البقر , ورضيتم بالزرع , وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم ))[18]، بل بقول النبي صلى الله عليه وسلم لما سألته زينب بنت جحش ?:"أنهلك وفينا الصالحون" قال: (( نعم إذا كثر الخبث ))[19].
إن المعاصي والمنكرات سبب لغضب الله ومقته وعقابه { فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ* فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ }(( الفجر:11-13 )).(/3)
{ وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ }(( الشورى : 30 ))، وأدل دليل من الواقع ( الإيدز ) حيث يقول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ((لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا ))[20].
3. الجرأة وذهاب الحياء:
من مخاطر ترك الحسبة تجريء المفسدين وتأمينهم مما ينعكس على المجتمع في شكل أخطار تهدد العقائد والأنفس والأموال والأعراض والشباب والأسر.
وبالتالي يذهب الحياء وتنتكس الفطرة فتصبح كثير من المنكرات لكثرة وجودها مألوفات يبدأ المجتمع في الأول بإنكار والوجدان السليم ببغضها ومع كثرتها تصير عادية ثم مألوفة ثم تصير معروفاً يدافع عنه ( التبرج- التهاون في العلاقات بين الجنسين أنموذجاً )، (( إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت ))[21].
4. الفساد عبر القدوة:
من مخاطر ترك الحسبة ظهور أهل الفساد كقيادات في المجتمع خاصة بالنسبة للشباب والتالي يصبح الشباب بغير انتماء حقيقي لدينه وأمته.
كما أن غياب الحسبة يجعل من لا يريد المنكر ابتداءً يفعله إقتداءً، بمعنى أن المنكر تزين له فكان الإغراء والإغواء وبهذا ضل كثير من الشباب وتاهوا.
5.سفينة المجتمع:
الحسبة هي التي تقود السفينة بسلام وأمان دون أن يهلك الجميع وإلا فمن المخاطر أن يهلك المجتمع كله فلا يظهر من المجتمع الطيب إلا الصورة القبيحة والوجه الكالح فلا يظن بهذا المجتمع خيراً بالرغم من وجود الأخيار هذا مع الهلاك بكل معانيه من ذهاب القيم والحياء وظهور الفساد الذي يطال شبابنا في بيوتنا ثم العقاب الإلهي{إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ
لَشَدِيدٌ} (( البروج: 12)).
حديث السفينة:
عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ((مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا))[22].
إشكالات:
وحتى يكتمل الكلام لابد من التطرق لبعض الإشكالات والتي أقعدت الحسبة عن دورها الريادي وهذه الإشكالات بعضها مفاهيمي وبعضها سلوكي، يمكننا مناقشتها كالآتي:
1. السلبية ( خلو الخلق لخالقها ):
وهذا مفهوم خاطئ يمنع ممارسه الحسبة ويدعوا للانزواء والابتعاد عن هذه الشعيرة العظيمة (( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر )).
والرد بسيط: يقال له أن خالق الخلق قال:{ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(( آل عمران : 104 )).
ويقال هذا من يكون في المنكرات الخفية وليس فيها اعتداء على الآخرين والحسبة في المنكرات الظاهرة.
2. القول بأن من يقومون بالحسبة ليسوا بمؤهلين
ونقول: هذا جيد لا بد من المؤهل وهذا مطلوب وهو موجود في آداب المحتسب وصفاته. حيث عليه أن يكون عالما بالمنكرات الظاهرة وخبيراً بها وبمن يفعلها وأن يكون رفيقاً في أمره ونهيه وأن يكون حليماً وصابراً لا ينتصر لنفسه إنما لدينه.
والخلاصة أن يتصف بالعلم قبل الإنكار والرفق معه والصبر بعده ولكن عدم وجود الكفاءة ( وهذا غير مسلم به ) لا يمنع الحسبة والقيام بها إذ الواجب دفع المنكر بالكوادر المتاحة والموجودة وهذا أفضل من ترك المنكر ثم إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر وبأقوام لا خلاق لهم[23].
ونحن نثق في القائمين عليها اليوم ونأمل أن يستفيدوا من الملاحظات الهادفة من أجل تجويد العمل وتجاوز السلبيات.
3.ربط الحسبة بالعنف:
وهذا لا شك أنه غير صحيح فلا يلزم م قيام الجهة المسؤولة والتي معها هيبة السلطان أن يكون هذا بالعنف ولكن لا يمنع من استعماله إذا لم يندفع المنكر إلا به.
ثم إن للحسبة مراتب في الإنكار تبدأ بالقول الحسن ثم القول الخشن ثم بالتوبيخ ثم التهديد ثم الضرب واليد ثم المقاتلة ما لم تثر فتنة وليس له السيف وكل ذلك على حسب الحاجة[24].
4. تضخيم بعض الأخطاء الفرديّة للمحتسبين:
ولا شك أن هذا قد يوجد ولكن ليس سبباً لإلغاء المبدأ العظيم وإنما ينبغي أن يصحح الخطأ لصالح المبدأ. بل إن كثير من الأمور الصحيحة عند الممارسة يكون فيها خطأ فهل تلغى كلها؟؟.
5. عدم التعاون مع الجهات المختصة:
الحسبة الرسمية تمتاز بأن لها قوة السلطان لكنها قد تصنف في إطار سياسي ضيق وترتبط بالنظام الحاكم. لكن الواجب أن نتعامل مع الحسبة ودفع المنكر عن المجتمع ( كله ) باعتبارها دين وشريعة من رب العالمين وباعتبارها طاعة له سبحانه وتعالى.
كما أن الأجهزة الشرطية والعدلية هي ملك للمجتمع لا للدولة ولا لجهة معينة فيلزم من هذا التعاون معها وهذا
الأخير مهم.
الخاتمة:(/4)
وأختم هذه الورقة ببعض التوصيات والمقترحات التي أراها مهمة:
1. إشاعة مفهوم الاحتساب وفقهه بين الجميع وخاصة في ما يتعلق بالاحتساب ( المجتمعي ) أي أن يمارس جميع أفراد المجتمع الأمر بالمعروف والنعي عن المنكر ولا سيما رب الأسرة في بيته ومدير الجامعة وأساتذتها في جامعتهم وصاحب كل مؤسسة في مؤسسته وعلى جميع المسلمين القيام بهذا الواجب كل على حسب قدرته واستطاعته من علماء ودعاة وشرائح مختلفة (( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف
الإيمان ))[25].
ولا شك أن إنكار المنكر بالقلب يقدر عليه الجميع ولا يعفى منه أحد.
2. على الأجهزة الرسمية و المختصة أن تتكامل في قضية الحسبة:
حيث لا يمكن أن تبني بعض الأجهزة الأخلاق وأخرى تهدمها ( الأفلام والمسلسلات ونشر الغناء الفاضح وفتح المجال للإذاعات الغنائية وغيرها )
فلا بد أن تتكامل الأجهزة وتتسق مع بعضها ونركز هنا على الإعلام بكل أنواعه ( المرئي والمسموع والمقروء ).
3. الاهتمام بأمر القدوة الصالحة؛ لأنها أبلغ في التأثير وأقوى في الإصلاح وخاصة الأجهزة الرسمية لا بد أن تكون الأحسن أداءً والأفضل انضباطاً حتى لا تحتاج هي نفسها إلى حسبة.
4. تدريب الكوادر القائمة على هذا الأمر واختيارها بعناية:
أولاً: لتحقيق أكبر قدر ممكن من الخير، وثانياً: صيانة الحسبة حتى لا يساء إليها، وثالثاً: طلباً للكمال في هذا الموضوع، رابعاً رحمة بالمحتسب والمحتسب عليه، خامساً: ليثق المجتمع في الحسبة وأهلها.
5. إعطاء المحتسبين مساحة أكبر للتحرك ودعمهم مادياً ومعنوياً لفرض هيبة الحق وإذلال الباطل.
6. التعاون مع المحتسبين:
وأعني بهذا أن يتعاون المجتمع مع المحتسبين بالدفاع عنهم ورفع الأمر إليهم وإبلاغهم بأماكن المنكر وأن يدلوهم عليها وأن يثقوا فيهم. وهذا يحتاج إلى قناعات قوية وأن يحدث هذا بتلقائية ودون تكلف بعد أن يستشعر المجتمع خطورة المنكرات والفساد.
7. الاستفادة من المتطوعين والتكامل معهم لا سيما من المنظمات والجماعات والمجموعات الدعوية والخيرية.
8. الاستفادة من تجارب بعض الدول الإسلامية ذات الخبرة الطويلة في موضوع الحسبة (بالطريقة التي يراها القائمون على أمر الحسبة مناسبة).
9. الكوادر.
--------------------------------------------------------------
[1] الأحكام السلطانية للماوردي ص 240) (الفقه الإسلامي وأدلته لوهبة الزحيلي ج 8 ص 6258).
[2] المقدمة ص 195.
[3] (أنظر الفتاوى الكبرى ج 28 ص 133).
[4] انظر الفتاوى 28/53.
[5] رواه مسلم.
[6] مجموع فتاوى ابن تيمية11/395.
[7] راجع الأحكام السلطانية ص 289.
[8] الموطأ حديث رقم 6 موقوفاً.
[9] راجع الأحكام السلطانية للفراء 291.
[10] الأحكام السلطانية ص 303.
[11] المقدمة ص 195
[12] الفقه الإسلامي وأدلته ج 8 ص 6259.
[13] أنظر الفتاوى الكبرى 28/84.
[14] أنظر الاحكام السلطانية للفراء ص 294 – الفتاوى الكبرى 28/ 64 .
[15] أنظر الفتاوى 28/100 .
[16] متفق عليه.
[17] رواه مسلم.
[18] رواه مسلم.
[19] أخرجه البخاري في كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، حديث رقم (3598) الفتح (6/611).
[20] أخرجه ابن ماجه.
[21] رواه البخاري.
[22] رواه البخاري والترمذي.
[23] ( انظر الفتاوى 28/55).
[24] (انظر إحياء علوم الدين للغزالي 2/359 – 360 والسيل الجرار للشوكاني 586).
[25] رواه مسلم.
------------------(/5)
دور الدولة في الاقتصاد الإسلامي
إلى الإسلام > النظام الاقتصادي > دور الدولة في الاقتصاد الإسلامي
...
تمهيد :
من المبادئ الأساسية التي يقوم عليها الاقتصاد الإسلامي، مبدأ التوجيه الإداري للنشاط الاقتصادي ، وهذا المبدأ مؤسس في أصوله على نظرية التوازن الاجتماعي التي يعتمدها الإسلام أسلوبا وهدفا لتحقيق العدالة الاجتماعية. وبمقتضى هذا النظر يخضع النشاط الاقتصادي في حركته وتوجهه لإرادة الدولة بوصفها الممثل الشرعي للمجتمع غير أن هذا الخضوع مقيد بتحقيق الغاية الكبرى التي يستهدفها الإسلام وهي العدالة الاجتماعية من خلال فكرة التوازن الاجتماعي .
ومتي كانت العدالة الاجتماعية هي الغاية الكبرى التي يسعى الإسلام إلى تحقيقها فإن كل الأساليب والوسائل التي من شأنها إدراك هذه الغاية تعتبر من قبيل إدراك المصلحة العامة التي يجب على ولي الأمر أو من يمثله العمل على تحقيقها وقد منحت الشريعة الإسلامية لولي الأمر سلطات تقديرية واسعة لتمكينه من إدراك العدالة الاجتماعية على الوجه الذي رسمه الشارع.
وتنقسم السلطات إلى نوعين:
سلطات غير مباشرة تنظيمية ورقابية ، تبيح لولي الأمر التدخل في الحياة الاقتصادية.
سلطات مباشرة إنتاجية وتوجيهية ترمي إلى القيام بمهام الإنتاج في بعض الفروع الإنتاجية ، وتوجيه الإنتاج في فروع إنتاجية أخرى بالصورة التي تتفق ومصلحة المجتمع .
أولا : التدخل غير المباشر للدولة :
مظاهر التدخل غير المباشر عديدة ومتنوعة منها ما هو تنظيمي ورقابي ومن ذلك ما يلي .
تدخل الدولة لتنظيم العمل ومراقبة ومنع الوسطاء الذين يستمدون كسبهم من جهل الجمهور لثمن السلعة فيحققون أرباحا غير مبررة من فروق الأسعار. ويبدو تدخل الدولة أيضا في منع الاحتكار وتسعيرة السلع التي تقوم حاجة جمهور الناس لها ، . وقد تقتضي المصلحة العامة إزالة ملكية عقار أو منقول أو إكراه صاحبه على تقديمه للاستثمار.
وأجهزة التدخل في هذه الميادين التنظيمية والرقابية هي ولاية الحسبة، ولها موظفون يتولون أمرها في كل قطر إسلامي والقضاء الذي له التدخل في العديد من الميادين السابقة وفي حدود اختصاصه
النوع الثاني من التدخل غير المباشر فتبدو أهم مظاهره في السياسة المالية للدولة الإسلامية . والحق أن مالية الدولة الإسلامية احتلت موضعا رئيسيا من الاقتصاد الإسلامي ، وظلت إلى زمن بعيد محركا لهذا الاقتصاد ومصدرا لقوته . فقد شرع الإسلام في تنظيم مالية الدولة أسسا ومبادئ تجاوزت أحدث النظم الوضعية في الجباية والإنفاق إذ اعتمد مبدأ تعدد الضريبة ، ففرض الزكاة كضريبة مستقلة تتناول الأموال جميعا النقدية منها والعينية
كما فرض الخراج كضريبة على الأرض الزراعية والعشور كضريبة غير مباشرة على الصادرات والواردات . أما بالنسبة إلى الإنفاق فقد اختطت الشريعة الإسلامية سياسة إنفاقية هادفة اتسمت بالمرونة والعدالة ومكنت من خلال الممارسات في تطوير المجتمع المسلم والارتقاء به.
وبحلتنا لمالية الدولة في الاقتصاد الإسلامي سوف يتناول زاويتين رئيستين : زاوية الجباية وزاوية الإنفاق.
1/ النظام الجبائى الإسلامي :
لعل أهم ما يمتاز به الفكر الإسلامي المالي هو الاستقاء المباشر من الشريعة الإسلامية ، فقد تضمنت أحكاما عامة آمرة تتصل بتنظيم إيرادات الدولة ونفقاتها على نحو لا تعرفه المجتمعات من قبل ونصت منذ البداية على فرض ضريبة مباشرة على الدخل وهي الزكاة يلتزم كل مسلم امتلك قدراً محددا من الدخل المالي بأدائها كما نصت على الجزية التي يؤديها غير المسلم في مقابل ما تبذله الدولة المسلمة لحمايته وأيضا في نظير إعفائه من أداء الزكاة والخدمة العسكرية ، وفي نظير حماية الدولة الإسلامية للبلد.الذي يعيش فيه أما الخراج فقد فرضته الشريعة الإسلامية كضريبة عقارية على الأرض الزراعية في الأقاليم التي فتحها المسلمون .
وفي مجال الضرائب غير المباشرة هناك العشور التي تفرض على الواردات إلى البلاد الإسلامية وإلى جانب هذه الأنواع المختلفة من الضرائب نصت الشريعة الإسلامية على بعض مصادر الإيرادات العامة الأخرى كخمس الغنائم وما يعثر عليه من الركاز والمعادن وتركة من لا ورث له ومال اللقطة والمال الذي لا مالك له ، وأخيرا كل ما صولح عليه المسلمون ويجيز الفقه الإسلامي للأمام أن يفرض من الضرائب الدائمة أو المؤقتة ما تدعو إليه الحاجة وتستقيم به أحوال المسلمين.
2/نفقات الدولة الإسلامية :(/1)
تشير الفرائض المالية المتعددة للدولة إلى أهمية موارد الدولة الإسلامية وتنوعها أن هذه الأهمية وهذا التنوع يرتبط بالمهام الجسام التي ألقاها التشريع الإسلامي على عاتق الدولة في العديد من الميادين، وقد استلزمت هذه المهام نفقات كبيرة لتحقيقها . والهدف الأسمى الذي يرمي الإسلام إلى إدراكه من هذه النفقات هو تحقيق العدالة التوزيعية بوجه خاص والعدالة الاجتماعية بوجه عام ومن هنا استهدفت السياسة المالية للدولة التأثير على الإنتاج والتأثير على التوزيع من خلال سياسة إنفاقية هادفة .
فالدولة لا تقتصر وظيفتها على القيام فقط بالأعباء التقليدية كإقامة العدل والسهر على الأمن الداخلي وتهيئة الحماية ضد الاعتداء الخارجي كما كان الشأن في الدول الغربية إلى مطلع القرن العشرين . بل تتعدى مسؤولياتها كل هذه الأعباء لتشمل أعباء جديدة ، إذ تقوم بعدد من الوظائف الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة ،وكذلك النفقات الاجتماعية والتعليمية والصحية والضمان الاجتماعي .
ثانيا : التدخل المباشر للدولة :
قبل أن نحدد المجالات التي يجوز للدولة التدخل فيها نقول متي تتدخل الدولة الإسلامية في النشاط الاقتصادي وما هي حدود ذلك التدخل ؟.
تتدخل الدولة في النشاط الاقتصادي في عدة حالات :
أ/ تدخل الدولة إذا اثبت أن الأفراد عاجزين عن القيام بالنشاط الاقتصادي أو يقصرون فيه أو معرضون عنه كمد السكك الحديدية أو إقامة الصناعات الثقيلة، وكل ما تتعلق به حاجة الناس من الصناعات والمهن ،فإن للدولة عند الضرورة إجبار من يحسن ذلك عن إن امتنع عن القيام به .
ب/ إذا انحرف النشاط الاقتصادي عن الأصول الشرعية أو أضر بالصالح العام للمجتمع كإنتاج الخمور وإقامة المؤسسات والبنوك الربوية .
ج/ إذا أرادت الدولة أن تحقق قدرا من التنمية الاقتصادية لرفع مستوى المعيشة والرفاه العام لأفراد المجتمع
د/ في الحالات الاستثنائية كالحروب والمجاعات والحوائج .
من هنا نرى تدخل الدولة له مدى ، فلا يطلق للدولة العنان بالتدخل لمجرد شهوة ، فالتدخل ليس مصادرة أو منافسة الأفراد ، وإنما من أجل المصالح العامة دون مساس بحقوق الأفراد الشرعية، إلا إذا تعارضت مصلحة الفرد مع مصلحة الجماعة وحتى يكون تدخل الدولة مشروعا فقد وضع الشرع الضمانات الكافية التي تكفل عدم تجاوز التدخل لأهدافه المشروعة ومن أهم هذه الضمانات : شرعية الحاكم وهي عقد البيعة الذي يبرم بين الحاكم والأمة، وعدالة الحكم ، وخضوع الدولة لأحكام الشريعة الإسلامية خضوعا مطلقا لا استثناء فيه .
مجالات تدخل الدولة :
1/ في مجال التصرفات الفردية : فالدولة لا تدخل في التصرفات الفردية إلا إذا انحرفت هذه التصرفات عن الجادة أو عندما تشعر الدولة بأن الفرد لا يحترم الجماعة ، أو أنه يعمل ويتصرف بما يلحق الضرر بالجماعة وفي هذه الحالة تتدخل الدولة لمنع الضرر عن الناس فهناك بعض التصرفات التي تعتبر في نظر الإسلام من الأعمال الضارة بالمجتمع كالربا والغش والاحتكار والإسراف والاستغلال ومجموعة من البيوع المحرمة المنهي عنها.
2/ في مجال العمل : تتدخل الدولة بمنع العمل المحرم شرعا كالبغاء والفجور والقمار وصناعة الخمر ، وأعمال الشعوذة والسحر ، وغير ذلك مما هو محرم في الشريعة الإسلامية . كما تقوم الدولة بمراقبة الأعمال الجائزة شرعا عن طريق ولاية الحسبة التي تهدف إلى مراقبة الأسواق وسير العمل فيها وفق ضوابط الشريعة الإسلامية .
ويجوز للدولة ـ إذا دعت الضرورة إلى ذلك - أن تجبر بعض أهل الصناعات على القيام بما يحتاجه الناس من صناعتهم مقابل أجر المثل .
3/ في مجال الملكية : تمنع الدولة الطرق غير المشروعة في الكسب كالربا والقمار والرشوة والعقود الباطلة المشتملة على الغرر والغبن الفاحش . كما تقوم الدولة بمنع الأعمال الضارة بالمجتمع بشكل عام كالاحتكار ونحوه . ويجوز للدولة ـ عند الحاجة- أن تتدخل في فرض الأسعار وتحديد مقدار الربح ، وذلك عندما تستدعيه الضرورة العامة وحماية مصالح الجماعة .وقد تقتضي المصلحة المحققة إزالة ملكية إنسان في مقابل ثمنها العادل وبصفة عامة يجوز للدولة التدخل في الحياة الاقتصادية واتخاذ ما تحقق به مصالح الناس في أمور معاشهم كتنظيم بعض المهن ووضع اللوائح المنظمة لبعض القطاعات كالزراعة والصناعة ووضع القواعد العامة للتصدير والاستيراد والمراقبة عليها وغير ذلك .
ومع ذلك فإن تدخل الدولة له مدى فلا يطلق للدولة العنان بالتدخل لمجرد شهوة أو نزوة ، فالتدخل ليس مصادرة أو تأميما أو منافسة للأفراد والمؤسسات أو فرض اتجاه معين ، وإنما من أجل الصالح العام دون المساس بحقوق الأفراد وحرياتهم المشروعة ، فالتدخل له حدود كما أن هناك مجالات لا يجوز للدولة التدخل فيها مثل فرض نظام اقتصادي واجتماعي محرم ،أو المنع مما أحل الله أو الإضرار بمصالح الأمة .
خاتمة(/2)
نخلص كل ما سبق أن الإسلام قد وضع إطارا عاماً للسياسة الاقتصادية للدولة الإسلامية يقوم على فلسفة الوسيطة والاستناد إلى مبادئ عامة أخصها مبدأ التوجيه الاقتصادي ومبدأ التوازن الاجتماعي .وخلص البحث إلى قواعد عديدة يمكن أن يبنى عليها بحق نموذج إسلامي رائد في التنمية الاقتصادية .وواقع التخلف الذي يعيشه العالم الإسلامي اليوم لا ليدعوا إلى وقفة تأمل ومراجعة يعاد من خلالها النظر في المطبق من نماذج التنمية الاقتصادية في ربوعه .فهذه النماذج في غالبها مستورة منقولة سواء من الشرق الشيوعي أو الغرب الرأسمالي . وبالتالي فقد صيغت مقوماتها على أساس الأوضاع الهيكلية للبلد الأم .
ومتى كانت هذه الأوضاع مختلفة متباينة في النوع والدرجة من بلد إلى آخر ، بل ومن إقليم إلى آخر داخل الدولة كان من الطبيعي أن يؤدي نقلها وتطبيقها في بلد آخر أو في إقليم آخر إلى نتائج سلبية ، إذ عاشت هذه النماذج في التطبيق غريبة كل الغرابة عن الواقع الهيكلي للدولة الإسلامية التي أخذت بها لأن النقل لم يتناول في الواقع سوى الجانب المادي من النموذج ( أي تنظيماته ووسائله ) دون الجانب المذهبي ، لأن هذا الجانب الأخير لا يمكن أن يتناوله الاستيراد والنقل .وهكذا انقطعت الصلة العضوية بين النموذج وأصوله الفكرية والمذهبية ، تلك الأصول التي كانت ثمار تطور فكري طويل أسهمت في تكوينه عوامل عديدة من فلسفية واجتماعية واقتصادية وأخلاقية وغيرها
إن استبعاد الأخذ بنماذج التنمية الاقتصادية المعمول بها في دول الغرب الرأسمالي أو دول الشرق الشيوعي يقوم على مبدأ أساسي أكدته التجارب التاريخية وهو أن حلول مشاكل التخلف الاقتصادي والاجتماعي لايمكن أن تصنع في الخارج . فالتخلف ظاهرة اجتماعية اقتصادية سياسية لا بد وأن تجد علاجها في واقع البلد المتخلف ذاته . ومن هنا كانت الأصالة الفكرية شرط ضروري ولازم لانطلاق عجلة التنمية .فصياغة نماذج تنمية جديدة بعيدا عن المؤثرات الإيديولوجية المستوردة تعتبر في يقيننا الواجب الأول الذي يقع على عاتق كل مسؤول عن التنمية في البلد المتخلف وهنا تفرض النظرة الإسلامية سلطانها على اعتبار أن الإسلام تراث فاعل تمتد رؤاه الفلسفية إلى أعماق الواقع الاجتماعي والاقتصادي .
أهم مراجع البحث
1) الاقتصاد الإسلامي ـ مقوماته ومناهجه / د. إبراهيم دسوقي أباظه دار لسان العرب /لبنان / منشورات يوسف خياط
2) مدخل للفكر الاقتصادي في الإسلام / د. سعيد سعد مرطان / مؤسسة الرسالة / بيروت / الطبعة الأولى 1406ه ـ 1986م
3) النظام الاقتصادي في الإسلام / محمود بن إبراهيم الخطيب / مكتبة الحرمين / الرياض / الطبعة الأولى 1409ه ـ 1989م
4) النظام الاقتصادي في الإسلام / د. محمد عبد المنعم عبد القادر عفر / دار المجمع العالي / جدة 1399ه ـ 1989م
5) من مبادئ الاقتصاد الإسلامي / محمود بن إبراهيم الخطيب / دار طيبة / الرياض / 1409ه ـ 1989م
6) النظرية الاقتصادية في الإسلام / فكري أحمد نعمان / المكتب الإسلامي بيروت / الطبعة الأولى 1405ه ـ 1985م /دار القلم / دبي
7) النظرية الاقتصادية في منظور إسلامي / د. شوقي أحمد دنيا / مكتبة الخريجي الرياض / الطبعة الأولى 1409ه ـ 1989م
8) المذهب الاقتصادي الإسلامي / د. عدنان خالد التركماني / مكتبة السوادي / الطبعة الأولى 1411ه ـ 1990 م
9) أصول الاقتصاد الإسلامي / د. توفيق يونس المصري / دار القلم دمشق / الطبعة الأولى 1409ه ـ 1989م / الدار الشامية بيروت
10) الاقتصاد في الإسلام / حمزة الجميعي الدموهي / دار الأنصار / مصر الطبعة الأولى 1399ه ـ 1979م
11) المذهب الاقتصادي في الإسلام / د. محمد شوقي الفنجري / دار الصحوة / القاهرة الطبعة الأولى 1405ه 1985م
12) التفكير الاقتصادي في الإسلام / د. خال عبد الرحمن أحمد / لم يكتب الطابع ولا تاريخ الطبع
13) الاقتصاد الإسلامي بين النظرية والتطبيق ( دراسة مقارنة ) أشرف على ترجمته إلى العربية : د. منصور إبراهيم التركي / المكتب المصري الحديث / الإسكندرية
14) النظام الاقتصادي في الإسلام ( مبادئه وأهدافه ) د. محمد أحمد العساد ود. فتحي أحمد عبد الكريم . مكتبة وهبة / القاهرة / الطبعة الثانية 1397ه ـ 1977م /
15) موسوعة الاقتصاد الإسلامي ودراسات مقارنة / د. محمد عبد المنعم الجمال / دار الكتاب المصري / القاهرة الطبعة الأولى 1400/هـ ـ 1980م / دار الكتاب اللبناني / بيروت
16) مبادئي الاقتصاد / د. محسون بهجت جلال / مؤسسة الأنوار / الرياض / الطبعة الأولى 1389ه ـ 1969م(/3)
دور الدولة في رعاية ذوي الحاجات الخاصة في الإسلام
د. إسماعيل محمد حنفي*
مقدمة :
لقد خلق الله سبحانه الخلق من أب واحد وأم واحدة لحكمة عظيمة هي ارتباطهم بالأخّوة التي تستدعي التراحم بينهم وإن تفرقت بهم السبل وتباعدت بهم الديار : ( يا أيُّها النَّاسُ إنَّا خلقناكُم مِن ذكرٍ وأُنثى وجعلناكم شُعوباً وقبائَل لِتعارفوا ، إنّ أكرمكُم عنَد الله أتقاكُم ).(1) ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم : { من لا يرحم الناس لا يرحمه الله } (2)، ويقول : {الخلق كلهم عيال الله ، فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله} .(3)
ولذا فإنَّ مجتمع المسلمين يقوم على الإخاء والترابط والتراحم ، وهو أمرٌ ليس غريباً لأنّه ينطلق من العدالة الربانية .
إنَّ هذه المعاني في صورها المتعددة لا يمكن أن تقوم وتقوى وتستقر إلاّ في ظل دولة ، وتلك الدولة تنطلق في نظمها وأحكامها من الإسلام . ذلكم أنَّ الدولة هي التي بيدها وضع النظم وتطبيقها ومحاسبة من يخالفها ، وهي التي تمسك بالموارد وتتحكم في وجوه الصرف.
والدولة فيها رعايا من مختلف الأجناس والأعراق والأديان ، وفيها الصغير والكبير ، والغني والفقير ، والصحيح والمريض ، والسليم والمعوّق الخ …
ومسئوليتها تجاه هؤلاء جميعاً ، لأنهم يعيشون فيها يقومون بواجبات ويتمتعون بحقوق في المقابل .
وفي هذه الورقة البحثية نحاول أن نتناول فئةً من فئات المجتمع المسلم تستحق – بحسب ظروفها الخاصة – رعايةً من الدولة المسلمة ، وهي فئة ذوي الاحتياجات الخاصة.
حيث نتحدث أولاً عن المفهوم ، ثم نذكر تأصيلاًً شرعياً عاماً ، ثم نوضح تحديداً مسئولية ودور الدولة في رعاية هذه الفئة .
سائلين الله التوفيق ..
د. إسماعيل محمد حنفي الحاج
الخرطوم في 5/7/2002م
المبحث الأول
حول مفهوم ( ذوي الاحتياجات الخاصة )
تعريف ذوي الاحتياجات الخاصة ( المعاقون ) :
" هم أفراد يعانون نتيجة عوامل وراثية أو بيئية مكتسبة من قُصور القدرة على تعلُّم أو اكتساب خبراتٍ أو مهاراتٍ و أداءِ أعمالٍ يقوم بها الفرد العادي السليم المماثل لهم في العمر والخلفية الثقافية أو الاقتصادية أو الاجتماعية .(4)
ولهذا تصبح لهم بالإضافة إلى احتياجات الفرد العادي ، احتياجات تعليمية ، نفسية ، حياتية ، مهنية ، اقتصادية ، صحية خاصة ، يلتزم المجتمع بتوفيرها لهم ؛ باعتبارهم مواطنين وبشراً – قبل أن يكونوا معاقين – كغيرهم من أفراد المجتمع " .
وعرَّفت منظمة الصحة العالمية الإعاقة على أنها : " حالة من القصور أو الخلل في القدرات الجسدية أو الذهنية ترجع إلى عوامل وراثية أو بيئية تعيق الفرد عن تعلُّم بعض الأنشطة التي يقوم بها الفرد السليم المشابه في السِّن " .(5)
وجاء كذلك أنّها : " حالةُ تَحُدُّ من مقدرة الفرد على القيام بوظيفةٍ واحدةٍ أو أكثر من الوظائف التي تعتبر من العناصر الأساسية للحياة اليومية من قبيل العناية بالذَّات أو ممارسة العلاقات الاجتماعية أو النشاطات الاقتصادية ، وذلك ضمن الحدود التي تعتبر طبيعية .(6)
وعرَّف بعضُهم المعاق بأنّه : " الشخص الذي استقر به عائق أو أكثر . يوهِن مِن قدرتِه ويجعلُهُ في أمَسّ الحاجة إلى عونٍ خارجي "(7) . أو : " هو مَن فقد قدرته على مزاولة عمله ، أو القيام بعملٍ آخر نتيجةً لقصورٍ بدني أو جسمي أو عقلي ، سواءُ كان هذا القصور بسبب إصابته في حادثٍ أو مرضٍ أو عجزٍ ولادي " .(8)
أنواع الإعاقات :(9)
1- جسمية ( بدنية ) : بفقدان جزء من أجزاء الجسم أو أكثر مما يؤثر في الحركة ، أو حدوث خلل بها ، مثل الشلل .
2- حسِّية : بفقدان حاسة من الحواس أو حدوث نقص بها ، كالصَمم والعمى .
3- ذهنية : بفقدان العقل ، أو حدوث نقص فيه ( تخلُّف عقلي ) .
4- نفسية : بحدوث آثار ظاهرة واضطرابات مثل : الانطواء ، الانفصام ، القلق .
كما لا بُدّ من ملاحظة أنّ الفرد قد يعاني من أكثر من إعاقة من تلك الإعاقات ( متعدِّد الإعاقات ) . كما أنَّ بعض الإعاقات قد تصاحبها نواحي قصورٍ أخرى . فمثلاً قد يعاني المتخلِّف عقلياً من نوعٍ أو أكثر من نواحي القصور في السمع أو الحركة أو التخاطب .. الخ ..
ومثلها حالات الشلل المخي ( C . P ) ، حيث قد يعاني بالإضافة إلى الإعاقة الحركية من صعوباتٍ في النُطق والكلام أو قصور في القدرات العقلية .
أسباب الإعاقات :(10)
1- سوء التغذية لدى الأم أو الطفل .
2- الأمراض التي تصيب الطفل أو الأم .
3- أسباب خِلْقية منذ الولادة .
4- عوامل وراثية .
5- حوادث .
6- حروب وكوارث .
7- أعمال عنف .
8- تلُّوث البيئة .
رأي حول مفهوم ذوي الاحتياجات الخاصة :
يلاحظ أنّ مفهوم ذوي الاحتياجات الخاصة لم يخرج عن كونهم أشخاصاً ابتلاهم الله تعالى بما أفقدهم شيئاً من قدراتهم أو حواسهم ، فأصبحوا معوّقين عن الحركة والعمل والكسب أو العطاء كغيرهم من الناس . ومن ثم احتاجوا إلى مزيدٍ من الرعاية والعناية .(/1)
ونلاحظ أنّ ما أصاب هؤلاء فجعلهم ضمن هذه الاحتياجات الخاصة ينحصر في : عاهة خِلقية ، أو مرض أو حادث .
وأرى أنه يدخل في معنى هؤلاء : كبار السّن ، أو العَجزة الذين أثَّر فيهم تقدُّم العمر فصاروا يتحركون بصعوبة أو يأكلون بعناء شديد ، ويحتاجون لرعاية خاصة في شتى الجوانب : مأكلهم ، شربهم ، نومهم ، علاجهم ، الإنفاق عليهم ، توجيههم وتعليمهم .. الخ..
كما يدخل فيهم الزَمْنَى ، وهم الذين أصيبوا بأمراضٍ مزمنةٍ تستدعي رعاية طبية مستمرة ، ولا يمكنهم مزاولة كل عمل .
المبحث الثاني
رعاية الإسلام لذوي الاحتياجات الخاصة
( تأصيل شرعي )
يأتي اهتمام الإسلام بهؤلاء من خلال الآتي :
أولاً : باعتبار بشريَّتهم : فالله سبحانه قد كرّم البشر : قال تعالى ( ولقد كرّمنا بني آدم )(11) الآية .
ورحمته تعالى وسِعت الجميع : ( ورحمتي وسِعت كُلَّ شئ ) .(12)
كما أنه سبحانه أرسل رسوله الخاتم محمداً (صلى الله عليه وسلم ) رحمةًً لجميع الناس : (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) .(13)
وهذا التكريم ، وتلك الرحمة لكل الناس على اختلاف أجناسهم وأعراقهم ومللهم وطوائفهم كما تشير النصوص ، ومنها الحديث : { الراحمون يرحمهم الرحمن ، ارحموا أهل الأرض يرحمكم مَن في السماء } .(14)
ثانياً : باعتبار الأُخوّة الإنسانية :
فالناس كلهم إخوة لأبٍ واحد هو آدم (عليه السلام) ، وأمٍ واحدة هي حواء (عليها السلام) .
( يأيها الناسُ إنَّا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم ، إنّ الله عليم خبير ) .(15)
ويقول الرسول (صلى الله عليه وسلم) : { كُلّكم لآدم ، وآدم من تراب } .(16)
والأخوّة تستدعي ترتبطاً ومؤازرة ومعاونة .
ثالثاً : باعتبار الأخوّة الإيمانية وما يترتب عليها :
يقول الله (تعالى) : ( إنّما المؤمنون إخوة )(17) ، والإخاء الإيماني يقتضي الولاء والمناصرة والمعاونة : ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض )(18). وينفي صلى الله عليه وسلم الإيمان عمّن أهمل تلك الآصرة وموجباتها فيقول : { لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه } .(19)
وفي الحديث : { مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى } .(20)
وأولئك المعوقون هم إخوة مؤمنون يمثلون عضواً من الجسد المسلم وقد أُصيب ذاك العضو واشتكى فكن لا بُد من تجاوب بقية الجسد معه .
رابعاً : من باب الإحسان والبر :
قال سبحانه : ( إنّ الله يأمر بالعدلِ والإحسان وإيتاء ذي القربى ) .(21)
وقال سبحانه : ( وتعاونوا على البر والتقوى ) .(22)
وفي الحديث : { إنّ الله كتب الإحسان في كل شئ } .(23)
فإن كان البر والإحسان مطلوبين مع جميع الناس ، فإنَّهما يكونان أكثر طلباً مع من يحتاج إليهما مثل ذوي الاحتياجات الخاصة . ومن ثم يكون الثواب المترتب على الإحسان، والبر معهم أكثر منه مع غيرهم .
خامساً : اعتبارهم ذوي حاجات والإسلام قد رغّب في قضاء الحوائج :
وقد وردت في هذا المعنى نصوصٌ عديدة ، نورد منها :
قوله (صلى الله عليه وسم) : { خُلُقان يحبهما الله ؛ وخُلُقان يبغضهما الله ، فأمّا اللّذان يحبهما الله فالسخاء والسماحة ، وأما اللذّان يبغضهما الله فسوء الخُلقُ والبخل ، وإذا أراد الله بعبد خيراً استعمله على قضاء حوائج الناس } .(24)
وقوله (عليه الصلاة والسلام) : { ما مِن عبدٍ أنعم الله عليه نعمة فأسبغها عليه إلاّ جعل إليه شيئاً من حوائج الناس ، فإنْ تبرَّم بهم فقد عرَّض تلك النعمة للزوال } .(25)
ويقول : { الخَلْق كلهم عيال الله ، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله } .(26)
ومن هنا أوجب الإسلام على المسلم القادر الإنفاق على قريبه المحتاج ، سواء كانت حاجته بسبب فقر أصلي أم طارئ .
كما رتَّب وعيداً شديداً على أهل كل حي أو قرية أو مدينة قصّروا تجاه المحتاجين ، فقد روى الإمام أحمد في مسنده حديثاً يقول فيه (صلى الله عليه وسلم) : { أيُّما أهل عرصةٍ أصبح فيهم امرؤٌ جائعٌ فقد برئت منهم ذِمّة الله تعالى } .(27)
سادساً : استثناء ذوي الاحتياجات الخاصة من بعض الأحكام الشرعية فيه إيماء إلى وضعهم الخاص الذي يستدعي استثناءهم في تعاملات العباد مع بعضهم ، وفي علاقتهم معهم . فقد ورد ذلك في عدة مواطن ، ومنها القتال حيث ورد مثل ذلك في قوله تعالى : ( ليس على الأعمى حرجٌ ولا على الأعرج حرجٌ ولا على المريض حرجٌ ، ومن يُطعِ الله ورسولهُ يُدخِله جناتٍ تجري من تحتها الأنهار ، ومَن يتولَّ يعذَّبْه عذاباً أليماً ) .(28)
وقوله : ( ولا جُناح عليكم إن كان بكم أذىً من مطرٍ أو كنتم مَرْضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم .. )(29) الآية .
وفي قوله تعالى : ( فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعِدةُ من أيامٍ أُخَر )(30) وورد قريبٌ منها في موضع آخر في نفس السورة .(31)(/2)
وذلك في الاستثناء من أحكام الصيام اعتباراً لهذا الوضع الطارئ ، وجاز قصر الصلاة في السفر ، والتيمم بدلاً عن الوضوء ، والجمع بين الصلاتين ، وأكل الميتة للمضطر الذي أوشك على الهلاك . كل ذلك من الأحكام الاستثنائية لحالاتٍ خاصة لعموم الناس ، فكيف بمن هو مُبتلى بشئٍ في أعضائه أو حواسه ، فحكمه حكم المريض الذي يجوز له أن يصلي قاعداً أو على جنب إن لم يستطع ، أو يسقط عنه الواجب كما لو كان فاقداً للعقل ، أو مرفوعاً عنه الإثم في حالة غياب عقله .
كل ذلك يؤكد المنهج العام في الإسلام مع هذه الأوضاع : إن كان في العبادات أو المعاملات أو الجزاءات .
ولذا نجد أنّ من قواعد الشريعة : " الضرورات تبيح المحظورات "(32) ، " المشقة تجلب التيسير "(33) ، " إذا ضاق الأمر اتَّسع "(34) ، أي كلما وجدت حالة اضطرار أو ضرورة أو مشقة أو ضيق وُجِد العفو واليسر والتوسعة ، رحمةً من الله بعباده .
ومن عظمة الإسلام أنه استثنى حتى في حالة الحرب مع غير المسلمين ، فلم يجز قتل العجزة والزَّمنى والجرحى والمرضى ، ومن في حكمهم .(35) ورد في الحديث : { لا تقتلوا شيخاً فانياً ولا طفلاً ولا صغيراً ولا امرأة } .
روي أنّ أبابكر الصديق (رضي الله عنه) قال ليزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة (رضي الله عنهم) لمّا بعثهم إلى الشام : " لا تقتلوا الوِلدان ولا النساء ولا الشيوخ .. "(36) وذلك لأنهم " لا نكاية لهم في المسلمين فلا يجوز قتلهم بالكفر الأصلي..)(37) والإسلام لا يجيز قتل أحدٍ بلا حق .
فإن كان الاستثناء لهؤلاء حتى في حالة الحرب ، فمن باب أولى أن يشمل الاستثناء أمثالهم في ما هو في حالة السِّلم ، فالسبب الذي أوجب لهم الاستثناء من القتل حمايةً لهم يوجب لهم رعاية حقوقهم ومصالحهم ودفع الضرر عنهم حمايةً لهم .
المبحث الثالث
مسئولية الدولة المسلمة تجاه ذوي الاحتياجات الخاصة
(أ) الأصول الشرعية العامة :
ويمكن أن نؤصِّل لهذه المسئولية كما يأتي :
أولاً : أنّ ولي الأمر المسلم مسئول عن كل رعاياه في الدولة ، وذوو الاحتياجات الخاصة من رعاياه .
وفي الحديث : { كلكم راعٍ وكُلُّكم مسئول عن رعيته ، الإمام راعٍ ومسئول عن رعيته .. }(38) الحديث .
وفي الحديث أيضاً : { ما مِن عبدٍ يسترعيه الله رعيةً ، يموت يومَ يموتُ وهو غاشٌ لرعيته ، إلاّ حرّم الله عليه الجنة } .(39)
ثانياًً : أنّ من واجب ولي الأمر المسلم الرفق برعاياه والشفقة عليهم والتخفيف عنهم ، وأولى الناس بذلك ذوو الحاجات الخاصة .
ومما ورد في ذلك من النصوص :
قوله تعالى : ( واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ) .(40)
وقوله (عليه الصلاة والسلام) : { اللَّهُم مَنْ ولِيَ من أمر أُمتي شيئاً ، فشقَّ عليهم فاشقُقْ عليه ، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفُقْ به } .(41)
ثالثاً : إنّ قضاء حاجات المحتاجين من أولَى الأمور بالاهتمام من قِبل ولي الأمر المسلم . ولذا ورد التحذير الشديد من التهاون في ذلك ، ورد عن أبي مريم الأزدي (رضي الله عنه) أنه قال لمعاوية (رضي الله عنه) : { سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول : من ولاّه الله شيئاً من أمور المسلمين ، فاحتجب دون حاجتهم وخَلَّتهم وفقرهم ، احتجب الله دون حاجته وخَلّتِهِ وفقره يوم القيامة } فجعل معاوية رجالاً على حوائج الناس .(42)
فانظر إلى مثل هذا الحديث الذي ورد النص فيه على الحاجات والحوائج ، وهو ينطبق على جميع ذوي الحاجات ، وكلما كانت الحاجة أكثر طلباً وأهمية كان الوعيد الوارد في الحديث آكد بالنسبة لمن تهاون تجاهها من الولاة . ويظهر لنا أنّ ذوي الحاجات الخاصة هم الأولى بالرعاية وتقديم احتياجاتهم على غيرهم مراعاة لأحوالهم المعلومة .
رابعاً : إنّ مسئولية ولي الأمر المسلم عن الرعية تشبه مسئولية وليّ اليتيم عن اليتيم ، وذلك من حيث قيامه على مصالحه ورعايته لشئونه وصرف المال فيما هو أنفع له مع ترتيب الأمور بحسب أهميتها الأهم فالمهم . وهكذا .. وفي المقابل الاجتهاد في إبعاد كل ما فيه ضرر عليه .
ولذا قال الفقهاء في القاعدة الفقهية : " تصرُّف الإمام على الرعِيَّة منوطٌ بالمصلحة "(43) وعبّر الإمام الشافعي (رحمه الله) عنها بقوله : " منزلة الإمام من الرعية منزلة الولي من اليتيم " . وأصلها ما أخرجه "سعيد بن منصور" في سننه قال : حدثنا "أبو الأحوص" عن " أبي إسحاق" عن "البراء بن عازب" قال : قال عمر (رضي الله عنه) : " إنِّي أنزلتُ نفسي من مال الله بمنزلة والي اليتيم … "(44)
وأورد من أدلتها : قوله (صلى الله عليه وسلم) : { ما مِن أمير يلي أمور المسلمين ثم لم يجهد لهم وينصح لهم كنصحه وجهده لنفسه إلاّ لم يدخل معهم الجنة } .(45)(/3)
ومن فروع هذه القاعدة : ذكر الإمام جلال الدين السيوطي الشافعي (رحمه الله) (ومنها : أنه لا يجوز له أن يقدِّم في مال بيت المال غير الأحْوَج على الأحوج . قال السّبكي في فتاويه : فلو لم يكن إمام ، فهل لغير الأحْوج أن يتقدم بنفسه فيما بينه وبين الله تعالى إذا قدِر على ذلك ؟ مِلْتُ إلى أنه لا يجوز . واستنبطتُ ذلك من حديث : { إنما أنا قاسمٌ والله المعطي }(46) . قال : ووجه الدلالة : أنَّ التمليك والإعطاء إنما هو من الله تعالى لا من الإمام ، فليس للإمام أن يملِّك أحداً إلاّ ملّكه الله ، وإنما وظيفة الإمام القسمة ، والقسمة لا بُد أن تكون بالعدل . ومن العدل تقديم الأحْوج والتسوية بين متساوي الحاجات ، فإذا قسم بينهما ودفعه إليهما علمنا أنَّ الله ملَّكهما قبل الدفع ، وأنَّ القسمة إنما هي معيِّنة لما كان مبهماً ، كما هو بين الشريكين ، فإذا لم يكن إمام وبدرَ أحدهما وأستأثر به ، كان كما لو استأثر بعض الشركاء بالماء المشترك ، ليس له ذلك .
قال : ونظير ذلك ما ذكره الماوردي في باب التيمم : أنه لو ورد اثنان علي ماءٍ مباح ، وأحدهما أحْوج ، فبَدر الآخر وأخذ منه أنه يكون مسيئاً " .(47)
خامساً : ما فعله عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) في خلافته من تدوين الدواوين وتقييد أسماء الناس ، وفرض العطاء لهم جميعاً على اختلاف طبقاتهم ومراتبهم ، يؤكد فقهه في السياسة الشرعية ، ويجسِّد ما تعلمه من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من السعي في مصالح العباد ، ولذا أُثر عنه (رضي الله عنه) قوله المشهور في المسئولية : " لو مات جمل ضياعاً على شطِّ الفرات لخشيتُ أن يسألني الله عنه " .(48)
ولذا أُثر عن عمر (رضي الله عنه) " أنه منع التسوُّل ، وفرض لذوي العاهات راتباً في بيت المال ، حمايةً لهم من ذُلِّ السؤال " .(49)
سادساً : الدولة المسلمة هي كافل مَن لا كافل له :
وقد ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في ذلك :
• قوله : { أنا أولى الناسِ بالمؤمنين في كتاب الله عز وجل ، فأيُّكم ما ترك ديناً أو ضيعة فادعوني ، فأنا وليّه ، وأيكم ما ترك مالاً ليؤثر بماله عصبته من كان } .(50)
• قوله : " مَنْ ترك كَلاًً – أي ذرية ضعيفة – فليأتني فأنا مولاه " .(51)
ولذا نجد أنَّ الفقهاء (رحمهم الله) توسعوا في معنى مصرفٍ مهمٍ من مصارف الزكاة وهو مصرف (في سبيل الله) فأدخلوا فيه ذوي الاحتياجات الخاصة من مقعدين ومشلولين ومجذومين وأصحاب أمراضٍ مزمنة . حيث ورد في رسالة الفقيه ابن شهاب الزهري (رحمه الله) لعمر بن عبدالعزيز (رحمه الله) وهو يوضح له مواضع السُّنة في الزكاة : " إنَّ فيها نصيباً للزَّمْنى والمقعدين ، ونصيباً لكل مسكين به عاهة لا يستطيع عَيلة ولا تقليباً في الأرض".(52)
صور ووجوه رعاية الدولة المسلمة لذوي الاحتياجات الخاصة :
أولاً : تفعيل وتكثيف برامج التوعية لأفراد المجتمع :
وذلك لأننا نلاحظ أنَّ المجتمع يعتبر المتسبِّب الأول في كثير من الإعاقات ، كما أنّ بوسعه الحيلولة دون كثير منها إذا تمت توعيته بأسباب الإعاقة وأسس التعامل مع حالاتها المختلفة ، ووجوب تصحيح النظرة السلبية إلى المعاق .
وهذه التوعية تستدعي مشاركة أكثر من جهة في الدولة ، لا سيما أجهزة الإعلام المختلفة ، والمؤسسات التعليمية بمختلف مراحلها والجمعيات الطوعية والخيرية .
ونود هنا أن نؤكد على أهمية الجانب الوقائي ، حيث إنّه ليس من المناسب التركيز على العلاج قبل الاهتمام بالوقاية ، وهو أمر وجد اهتماماً وافياً في الإسلام ، حيث اتضح ذلك في التدابير الوقائية في أكثر من مجال : ففي الأخلاق أمر بغض البصر والبعد عن الشبهات ومواطنها ، وحذّر من خلوة الرجل بالمرأة إلا مع ذي محرم ، وحضّ على الزواج حفاظاً على الفضيلة وإبعاداً عن الرذيلة . كما أمر بأكل الطيبات ونهى عن الخبائث وحرّم الخمر ولحم الخنزير حفاظاً على العقل والصحة ، وأثنى على المؤمن القوي ، وحثّ على تعلُّم السباحة وركوب الخيل – تقوية للبدن وقاية له من الوهن . وأمر بالبقاء مع الجماعة وعدم الانعزال عنها حرصاً على المحافظة على الهداية ، وخوفاً من الزلل والانحراف .
وأمر بالاستخارة والاستشارة وقاية من الخطأ أو تقليلاً من أخطاره وآثاره ، وتطييباً للنفوس . وشرع إعداد القوة للوقاية من ضرر الأعداء .
والفقهاء قالوا في قواعدهم : " الدّفع أقوى من الرّفع "(53) أي أنّ منع الشئ قبل وقوعه أقوى من رفعه بعد أن يقع ، وقالوا كذلك : " الضرر يُدفع بقدر الإمكان " .(54)(/4)
" فهذه القاعدة تفيد وجوب دفع الضرر قبل وقوعه بكل الوسائل والإمكانيات المتاحة وفقاً لقاعدة المصالح المرسلة والسياسة الشرعية ، فهي من باب –الوقاية خير من العلاج– وذلك بقدر الاستطاعة ، لأنّ التكليف الشرعي مقترن بالقدرة على التنفيذ ، ففي جنب المصالح العامة : شُرع الجهاد لدفع شر الأعداء ، ووجبت العقوبات لقمع الإجرام وصيانة الأمن ، ووجب سد ذرائع الفساد وأبوابه من جميع أنواعه .(55)
ومن هنا فالدولة مسئولة عن توفير كل ما يلزم من أجل بناء الأفراد في المجتمع بناءً متكاملاً من مأكل ومشرب وملبس ومسكن بالإضافة إلى إبعاد كل ما يتسبب في وقوع الضرر بهم من مأكولات أو مشروبات أو آلات .. الخ ..
كذلك منع الوسائل والممارسات الخطرة في شتى المجالات .. مثل وسائل التدريب والرياضة ، ووسائل النقل من المركبات والدراجات غير المستوفية للمعايير المتفق عليها ، وكذا الأدوية والعقاقير ذات الآثار الجانبية الخطرة .. الخ ، كما عليها أن تكون حازمة في تنفيذ برامج إصحاح البيئة .
وقد ورد التنبيه على أمر الوقاية في بعض الاتفاقيات الدولية مثل اتفاقية حقوق الطفل ، حيث ورد في المادة (24) منها في فقرتها (هـ) : " كفالة تزويد جميع قطاعات المجتمع ، ولا سيما الوالدان والطفل ، بالمعلومات الأساسية المتعلقة بصحة الطفل ، وتغذيته ، ومزايا الرضاعة الطبيعية ، ومبادئ حفظ الصحة ، والإصحاح البيئي ، والوقاية من الحوادث ، وحصول هذه القطاعات على تعليم هذه المجالات ، ومساعدتها في الاستفادة من هذه المعلومات ".(56) وفي دراسة أصدرتها منظمة اليونسيف في منطقة الخليج عام 1981م عن العوامل المسببة للإعاقة وبرامج الوقاية منها أشارت إلى ضعف وغياب برامج التوعية بأسباب ومظاهر الإعاقة في برامج التلفزيون والإذاعة .(57)
ويجب أن تشمل تلك التوعية تصحيح نظرة المجتمع إلى ذوي الاحتياجات الخاصة . فالمطلوب النظرة المتوازنة التي فيها العطف مع التقدير والاحترام ، بما يزيل ما يمكن أن يكون في نفوس بعضهم من آفة الشعور بالنقص ويجعلهم منسجمين في المجتمع ، قادرين على العطاء والإبداع .
ثانياً : توفير العلاج المناسب لهم :
إنّ ذوي الاحتياجات الخاصة – بالإضافة إلى العلاج للأمراض العادية – يحتاجون لتوفير ما يلزم لمعالجة الإصابات التي تلحق بهم في بدايتها على الأقل ، أو لبذل الجهد لمعالجة ما يمكن أن يقبل العلاج مثل بعض حالات العمى ، أو توفير البدائل للأعضاء التي تعطلت أو فُقدت ، فقد نصّ الفقهاء على أنّه : " إذا تعذَّر الأصل يُصار إلى البدل " .(58)
ثالثاً : توفير فرض التعليم المناسب لهم :
إنّ من واجبات الدولة أن ترعى هذه الفئة في مختلف المراحل العمرية بتوفير التعليم الذي تحتاجه ، مع مراعاة توفير الوسائل المعينة على ذلك بالنسبة لهذه الفئة .
وتنبع أهمية التعليم بالنسبة لذوي الاحتياجات الخاصة من كونه يوفر لهم الوعي اللازم للتعامل مع الوضع الذي يعيشونه بالأسلوب السليم الذي يضمن لهم الاستقرار والطمأنينة . بالإضافة إلى تسهيل انخراطهم في المجتمع في شتى المجالات بحسب التخصصات التي توافرت لهم ، مما يجعلهم يشعرون بذواتهم ، وأنهم ليسوا عبئاً على المجتمع أو عالة عليه .
كما أنّ التعليم حقٌ لهم كما هو حق لبقية أفراد المجتمع ، بل هو واجبٌ في الحد الأدنى منه الذي لا تقوم حياة الفرد والجماعة والأمة إلا به ، ومالا يستقيم الدين إلا به كمعرفة الحلال والحرام ، وكيفية أداء الواجبات أو ما يجب أن يعتقده المسلم في أمور الإيمان . فإن كان كل ذلك لا يتم إلا بالتعليم فإنّ ذاك التعليم يصبح حتمياً لأنّ " ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب "(59) كما قال الفقهاء . ويمكن في هذا الإطار إنشاء المؤسسات التعليمية التي تناسب هذه الفئة ، وإلزام المؤسسات التعليمية العامة بإنشاء أقسام خاصة بهم .
رابعاً : توفير العيش لكريم لهم :(60)
إنّ الإسلام يسعى ليكون جميع أفراد الأمة في وضع يحفظ لهم كرامتهم وهم يعيشون في مجتمعهم ، ولا يتأتى ذلك لشخصٍ عاجز عن العمل والكسب بسبب إعاقته ، ولذا كان لابد من تحديد دقيق لما ينبغي على الدولة المسلمة توفيره :-
1- تأهيل ذوي الاحتياجات الخاصة تمهيداً لإعادتهم للأعمال والمهن التي كانوا يزاولونها قبل الإعاقة ، أو تدريبهم على مزاولة أعمال أو مهن أخرى تنسجم مع ميولهم وقدراتهم وظروفهم .
2- تأهيل الأشخاص ذوي الإعاقة الشديدة على العمل جزئياً وتوجيههم إلى المجالات التي تناسبهم وتتلاءم مع قدراتهم .
3- رعاية الأشخاص غير القادرين على العمل كلياً : عن طريق إنشاء مراكز للرعاية الاجتماعية .
4- إنشاء مراكز ومجمعات لممارسة أعمال تناسب هذه الفئة وتوفر لها دخلاً مناسباً .
5- إلزام المؤسسات والمصالح باستيعاب نسبة معينة من هؤلاء في بعض الأعمال التي يقدرون على مزاولتها .(/5)
6- استثناؤهم من بعض الأحكام العامة التي يُعامل بها العاملون في الدولة مثل مدة الدوام الرسمي .. والنص على ما يحفظ لهم حقوقهم ويرعى أحوالهم في القوانين ذات الصلة.
خامساً : تخصيص مَن يقوم على خدمتهم أو مساعدتهم :
ورد أنَّ عمر بن عبدالعزيز (رحمه الله) كتب إلى أمصار الشام " أن ارفعوا إلىَّ كُلَّ أعمى في الديوان أو مُقعَد أو مَن به فالج أو مَن به زمانة تحول بينه وبين القيام إلى الصلاة. فرفعوا إليه ، فأمر لكل أعمى بقائدٍ ، وأمر لكل اثنين من الزمنى بخادمٍ "(61) أي من الرقيق الذين عنده .
وقد فعل مثله الوليد بن عبدالملك (رحمه الله) حيث اهتم بالمرضى والمكفوفين والمعوَّقين ، فرتب لهم النفقات اللازمة والعطاء المناسب ، وجعل لكل مُقعدٍ خادماً ، ولكل ضرير قائداً ، كما بنى مستشفى للمجذومين في ضواحي دمشق لا يزال قائماً ويحمل اسمه.(62)
وقد قام كذلك أبو جعفر المنصور ببناء مستشفى للمكفوفين ومأوى للمجذومين وملجأ للعجائز في بغداد .(63)
هذه نماذج من أعمال الخلفاء في مختلف العصور ، بما يؤكد أنّ ما فهموه من واجبات الخلافة والإمامة هو الاهتمام بهذه الفئة اهتماماً خاصاً لخصوصية وضعها .
سادساً : إشراك جميع أفراد المجتمع وتجمعاته في رعاية هؤلاء :
إنّ الدولة بما مكّن الله لها يمكنها أن تجعل أفراد المجتمع وجماعاته ومؤسساته منحازين إلى هذه الفئة متعاطفين معها ، وذلك عن طريق التبصير بوضعها ، وبالواجب الشرعي تجاهها ، والثواب الذي أعدَّه الله مقابل ذلك . ومن هنا فيمكن التذكير بالآتي :
- أنّ ما أصُيب به أولئك ، إنما هو بقدر الله ، ابتلاءً واختباراً ، فإن صبروا أثيبوا على ذلك ، وكذا ذووهم والذين يقومون على أمرهم .
- أنّ ما أصاب أولئك يمكن أن يصيب أيّ شخص مّنا .
- أنّ من دلائل الإيمان وصدقه حب الخير للآخرين ، بل وتقديمهم بالعطاء : " ويُؤْثِرُون على أنفسهم ولو كان بهم خَصَاصَة " ، " ومن يُوقَ شُحَّ نفسه فأولئك هم المفلحون".(64)
- في الصدقات بابٌ واسع لتقديم العون لكل محتاج ، وتقدير هذه الحاجة متروك حسب المواقف والفروق والأحوال . والصدقة فضلها عظيم : ( مَنْ ذا الذي يُقرضُ اللهً قرضاً حسناً فيضاعفه له ، وله أجرٌ كريم ) .(65)
ومن ذلك الصدقة الجارية التي يمتد ثوابها لصاحبها حتى بعد موته ، ويمكن للفرد أن يقوم بقدر ما يستطيع ، كما يمكن للمؤسسات أن تساهم في ذلك .
- يمكن تخصيص بعض الخدمات لذوي الحاجات الخاصة ، ويتعارف الناس على ذلك ، مثل الإعفاء من رسوم النقل جزئياً ، وتخصيص مقاعد لهم ، وكذا الأمر في المرافق العامة الأخرى .
- تشجيع الناس على إحياء سنة الوقف الخيري ، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : { إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلاَّ من ثلاث : صدقة جارية ، أو علمُ ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له } .(66)
" وقد تفنّن المسلمون الأوائل – أحسن الله إليهم – في تخصيص أوقافهم وفي توجيهها إلى حالٍ من الإحسان دون الحال ، حتى بلغت ما لا يخطر على بال إنسان أن يفعله في شرقٍ ولا غرب ، فدعك من أوقاف المساجد التي كان يُوقف عليها منها ، ودعك من الأوقاف المخصّصة لطلبة العلم وإيواء المجذومين والمرضى … "(67)
وينقل الدكتور عبدالحليم عويس عن الدكتور محمد البلتاجي قوله : " ولقد تعددت صور الأوقاف ، وقد عرفنا منها في تاريخنا أكثر من ثلاثين مظهراً من مظاهر التكافل الاجتماعي في العالم الإسلامي … " وذكر منها : " .. مؤسسات لإمداد العميان والمقعدين بمن يقودهم ويخدمهم " .(68)
إنَّ جزءاً مقدّراً من ريع الأوقاف الإسلامية كان يُصرف على اللقطاء واليتامى والمقعدين والعجزة والعميان والمجذومين والمسجونين ليعيشوا فيها – أي الدُّور المخصّصة لهم – ويجدوا فيها السّكن والغذاء واللباس والتعليم والمعالجة .(69)
إنَّ الوقف بابٌ مفتوح لمن أراد من الأفراد أو المؤسسات أن يلج من خلاله لمرضاة الله تعالى واكتساب الثواب ، ثم إدخال السرور والراحة إلى نفوس أفرادٍ من هذا المجتمع هم أوَلَى من غيرهم أن تُخصّص لهم مرافق تقضِي لهم متطلباتهم بسهولة ويسر ، ويشعرون كذلك أن إخوانهم في هذا المجتمع يشعرون بهم ويسعون في قضاء حاجاتهم فتطيب نفوسهم بذلك .
سابعاً : توفير الحمية لهم ورعاية مصالحهم :
وذلك من المنطلق الشرعي في حماية المستضعفين والدفاع عنهم بل والقتال عند اللزوم دفاعاً عنهم : ( وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان..)(70) الآية ، والدولة يمكنها أن تسن من القوانين والتشريعات ما تحفظ به حقوق هؤلاء ، وتطبق الأحكام الرادعة على كل من تعدّى عليهم أو استغل ضعفهم لمصلحته .(/6)
وقد ورد أنّ أحد الولاة – وهو صاحب ديوان دمشق – أراد أن ينفق على الزَّمنى – الذين أصيبوا بأمراضٍ مزمنة تعجزهم عن العمل – صدقة غير محدّدة ، أي أنه لم يشأ أن يحدّد لهم من بيت المال حقوقاً واجبة ومقرَّرة ومفروضة ، فرُفعت شكوى منهم إلى عمر ابن عبدالعزيز (رحمه الله) في ذلك الوالي ، فكتب إليه أن يفرض لهم حقوقاً واجبة لا مجرّد صدقات وإحسانات ، وقال له : " إذا أتاك كتابي هذا فلا تعنِّت الناسَ ولا تعسرهم ولا تشق عليهم ، فإني لا أحب ذلك " .(71)
__________
(1) الحجرات 13 .
(2) البخاري مع شرح فتح الباري 10/438 .
(3) رواه البزار ، وأبو يعلى في مسنده 6/65 برقم (3315) .
(4) بحث بعنوان : استراتيجيات مستحدثة في برامج رعاية وتأهيل الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة – د . عثمان لبيب فرّاج . منشور بمجلة الطفولة والتنمية – عدد (2) ، يناير 2001م ، ص 14 .
(5) بحث بعنوان : الاتصال الجماهيري حول ظاهرة الإعاقة بين الأطفال - د . هادي نعمان الهيتي . منشور بالمجلة المذكورة سابقاً، عدد (5) ، فبراير 2002م ، 36 .
(6) المرجع السابق ، نفس الصفحة .
(7) الخدمة الاجتماعية الطبية والتأهيل – د . محمد عبدالمنعم نور ، ص 157 .
(8) كيف تربي طفلك المعوّق – صموئيل ويشك – ترجمة : د . محمد نسيم رأفت ، ص 16 .
(9) د . عثمان لبيب فراج - مرجع سابق ، ص 14 .
(10) د . هادي نعمان الهيتي – مرجع سابق ، ص 36 .
(11) الإسراء 70 .
(12) الأعراف 156 .
(13) الأنبياء 107 .
(14) سنن أبي داود 4/285 ، برقم (4941) .
(15) الحجرات 12 .
(16) مسند الربيع – الربيع بن حبيب بن عمر الأزدي المصري – تحقيق : محمد إدريس عاشور بن يوسف 1/170 برقم (419) باب في الكعبة والمسجد والصفا والمروة .
(17) الحجرات (10) .
(18) التوبة (71) .
(19) صحيح مسلم بشرح النووي 2/16 .
(20) صحيح البخاري بلفظ " تر المؤمنين " 5/2238 ، برقم (5665) ، صحيح مسلم بشرح النووي باللفظ المذكور 16/140 ، برقم (2586) ، مسند أحمد 4/270 .
(21) النحل 90 .
(22) المائدة 2 .
(23) صحيح مسلم بشرح النووي 13/106 – 107 .
(24) شعب الإيمان – البيهقي 6/2117 ، برقم (7659) .
(25) المرجع السابق 6/117 ، برقم (7660) .
(26) مسند أبي يعلى 6/65 ، برقم (3315) . تحقيق : حسن سليم أسد .
(27) مسند أحمد 2/33 .
(28) الفتح 17 .
(29) النساء 102 .
(30) البقرة 184 .
(31) البقرة 185 .
(32) الأشباه والنظائر – السيوطي ، ص 173 ، الأشباه والنظائر – ابن نجيم ، ص 85 . شرح القواعد الفقهية – الزرقا ، ص 185 .
(33) الأشباه والنظائر – السيوطي ، ص 160 ، الأشباه والنظائر – ابن نجيم ، ص 74 .
(34) الأشباه والنظائر – السيوطي ، ص 172 ، الأشباه والنظائر – ابن نجيم ، ص 84 .
(35) مسند البيهقي 9/90 .
(36) شرح الزرقاني على الموطأ 2/295 ، سنن البيهقي 9/85 ، 89 .
(37) بدائع الصنائع – الكاساني 7/101 ، بداية المجتهد – ابن رشد 1/381 . المهذب – الشيرازي 2/233 ، كشاف القناع – البهوتي 3/38 .
(38) صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 7/31 و13/100 . وصحيح مسلم بشرح النووي 12/213 ، أبو داود (2928) .
(39) البخاري 13/112 – 113 ، مسلم بشرح النووي 12/214 .
(40) الشعراء 215 .
(41) مسلم بشرح النووي 12/212 – 213 .
(42) سنن أبي داود (2948). سنن الترمذي (1332) . وإسناده صحيح ، وله شاهد من حديث معاذ عند أحمد 5/238، 235.
(43) قواعد الزركشي : حرف التاء ، الأشباه والنظائر – السيوطي ، ص 233 – 235 ، الأشباه والنظائر – ابن نجيم ، ص 23، مجلة الأحكام العدلية – مادة (58) مدخل : ف 662 .
(44) الخراج – أبو يوسف ، ص 36 .
(45) مسلم 12/215 .
والطبراني ، وفيه زيادة " كنصحه وجهده لنفسه " .
(46) الطبراني بزيادة : " إنما أنا مبلغ ، والله يهدي " . قال الحافظ الهيثمي : رواه الطبراني بإسنادين أحدهما حسن . فيض القدير 2/571 – 572 .
(47) الأشباه والنظائر – السيوطي ، ص 234 – 235 .
الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية – محمد صدقي البورنو ، ص 218 – 221 .
(48) تاريخ الطبري ، 4/202 – 203 .
(49) الخلفاء الراشدون والدولة الأموية ، مجموعة مؤلفين ، ص 64 .
(50) البخاري ، باب الفرائض 8/8 .
(51) صحيح مسلم 3/1238 . برقم (1619) .
(52) الأموال – أبو عبيد ، ص 578 – 580 .
(53) السيوطي – مرجع سابق ، ص 560 .
(54) مجلة الأحكام العدلية ، مادة (31) .
المدخل الفقهي العام – الزرقا – فقرة 587 .
(55) الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية – البورنو ، ص 80 .
(56) اتفاقية حقوق الطفل : أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1989م ، ودخلت حيز التنفيذ في 12 سبتمبر 1990م .
انظر: اللوائح الدولية بشأن المعوقين – هادي نعمان الهيتي – المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية – بغداد.(/7)
(57) اليونسكو ، المعوقون – هذه الضحايا الصامتة ، ذنب الآباء ومسئولية الأجهزة الصحية ، نشرة الطفولة العربية – الجامعة الكويتية لتقدم الطفولة العربية – يناير 1984م ، ص 15 .
(58) قواعد الزركشي : حرف الهمزة ، المدخل الفقهي العام – الزرقا : فقرة 641 .
(59) انظر : مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول – ابن التلمساني ، ص 33 .
نهاية السول – البيضاوي 1/120 .
التمهيد في تخريج الفروع على الأصول – الإسنوي – تحقيق : د . محمد حسن هيتو ، ص 83 .
(60) انظر : حقوق المعاق في الشريعة الإسلامية – د . مروان علي القدومي ، بحث منشور بمجلة جامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية – الخرطوم ، عدد 4 ، ص 149 .
(61) سيرة عمر بن عبدالعزيز – ابن الجوزي ، ص 130 .
(62) انظر : الدولة الأموية – محمود شاكر ، الخلفاء الراشدون والدولة الأموية ، ص 138 .
(63) تاريخ الدولة العباسية وحضارتها – د . محمد الطيب النجار وآخرون ، ص 87 .
(64) الحشر 9 .
(65) الحديد 11 .
(66) فيض القدير – المناوي 1/427 .
(67) مقال للأستاذ / منذر شقَّار بمجلة الوعي الإسلامي ، عدد (137) ، جمادي الأولى عام 1396هـ . بعنوان : الأوقاف الإسلامية القديمة إنسانية ورحمة وتكافل اجتماعي .
(68) التكافل الاجتماعي في ضوء الفقه الإسلامي - . عبدالحليم عويس ، ص 27 .
(69) المجتمع المتكافل في الإسلام - . عبدالعزيز خياط ، ص 234 .
وانظر كذلك : التكافل الاجتماعي – عبدالواحد علوان ، ص 80 .
(70) النساء 75 .
(71) الطبقات – ابن سعد5/281 .(/8)
دور الرسالة الإعلامية في توحيد المسلمين حول قضاياهم الكبرى
(فلسطين نموذجاً) نزار محمد عثمان*
أولاً: العولمة والتحدي الإعلامي:
مدخل:
يتميز عصرنا الذي نعيشه عصر العولمة بسقوط الحدود الزمانية والمكانية، وتلاشي المسافات؛ حيث تحول العالم إلى قرية صغيرة أصبحت فيها العلاقات البشرية أكثر تنظيمًا وسرعة، الأمر الذي أدى إلى مزيد من التفاعل البشري والانفتاح الثقافي والتنازع الحضاري.
كما يتميز بالتطور الهائل في تكنولوجيا الانتقال والاتصال، حيث وصل الإنسان إلى القمر، وأرسل أجهزة إلى المريخ جمعت صوراً لسطحه وعينات من تربته، واخترعت أدوات جديدة للتواصل بين أعداد أكبر من الناس كما في شبكة الإنترنت، والأقمار الصناعية والمحطات الفضائية، التي أصبح الانسان قادراً عبرها على أن يرى ويسمع ما يدور في أرجاء العالم.
هذه الثورة التقنية العلمية الهائلة، نسبة لميلادها وتطورها في كنف الحضارة الغربية أفرزت تحديات كبيرة على كافة الأصعدة ـ خاصة الصعيد الإعلامي ـ حيث أصبح الإعلام العالمي أداة فعالة للنظام العالمي الجديد تعمل على تمكينه من بسط سيطرته، ونشر حضارته، والعمل على تشكيل العالم وفق الطريقة التي يريد، عبر إحكام السيطرة على المؤسسات الدولية وأجهزة الإعلام العالمية من صحف وإذاعات وقنوات فضائية ونحوه.
دور الرسالة الإعلامية الغربية في إضعاف الوحدة الإسلامية:
لعله بات من مكرور القول ترديد أن المسيطرين على الإعلام العالمي اليوم ـ على اختلاف منابره ـ يسعون بكل ما أوتوا من قوة لإبقاء الأمة الإسلامية في حالة الضعف والضياع والانقسام التي تعيشها، كما يسعون لإجهاض كل محاولة لتوحيد الأمة عبر مخطط إعلامي متكامل يراعي الجودة في خطوات العملية الإعلامية فيهتم بالمرسِل والمستقبِل كما لا يهمل الرسالة ولا وسيلة إيصالها. فنجده في اهتمامه بالرسالة يراعي أن تحقق مقاصده وتوافق مخطاطته، ويتفنن في محاولة إخراجها في قالب محايد تارة وقالب منحاز تارة أخرى، وفي كل الأحوال تبقى الرسالة الإعلامية العالمية متسمة بالأتي:
- التضليل وإلباس الحق ثوب الباطل، وإظهار الجاني بمظهر الضحية، والعكس صحيح؛ ومن ذلك ما يشاع من ربط الإسلام بالإرهاب، وما يبث ويتناقل من حب اليهود للسلام!.
- البعد عن الدقة والعلمية عند الحديث عن المسلمين فتجدهم يروِّجون لممارسة حكومة السودان للرق في الجنوب، والتطهير العرقي في دارفور ونحو ذلك.
- التطفيف، وازدواجية المعايير، وسياسة الكيل بمكيالين، إذ يعتبر الإعلام العالمي الحركتين الإنفصاليتين في أندونسيا وجنوب السودان حركات تحررية مشروعة بينما حركتي المجاهدين في كشمير وحنوب الفلبين حركات إرهابية غير مشروعة(1).
- الانحياز التام ضد الفكرة الإسلامية الصحيحة، والسعي الدؤوب لزرع بذور التفرقة بين المسلمين، هذا الكيد الذي لم ينقطع منذ أيام عبد الله بن أبي بن سلول، مروراً بكتاب الوزير الروماني (ت. ج. دجوفارا)، الذي ظهرت طبعته الأولى باللغة الفرنسية عام 1914م، بتقديم لويس رينو الأستاذ في كلية الحقوق وكلية العلوم السياسية، عن مدى جدّية الأوروبيين واهتمامهم بالقضاء على وحدة الأمة الإسلامية، في ظل كيان الدولة العثمانية. وعنوان الكتاب ((مائة مشروع لتقسيم تركيا))، بالاعتماد على أوراق وأراشيف وزارات خارجية الدول الأوربية، وتبلغ صفحات الكتاب 650 صفحة من القطع المتوسط(2)، مروراً بالترويج لاتفاقيات سايكس بيكو، وسان ريمو، واتفاقيات باريس، والتي قُسمت بموجبها البلاد العربية والإسلامية إلى مناطق نفوذ واستعمار بين الدول الأوربية إلى تصريحات المستشرق اليهودي المعاصر (برنارد لويس) التي يقول فيها: ((إن المنطقة الممتدة من باكستان حتى المغرب ستبقى في حالة اضطراب إلى أن يعاد النظر في الخريطة السياسية لدولها))(3) والتي ظهرت آثارها الآن في كشمير والسودان وغيرها من دول العالم.
لماذا الرسالة الإعلامية؟ ولماذا فلسطين نموذجاً؟
العملية الإعلامية متعددة المحاور، مختلفة الجوانب، كثيرة التفاصيل غير أنه يمكن أن نميّز فيها أربعة عناصر رئيسة هي: المرسل، المستقبل، الرسالة، وسيلة إيصال الرسالة، وكل عنصر من هذه العناصر تحته فروع كثيرة، ودراسة دور الإعلام في وحدة المسلمين يتطلب أن لا نهمل أحد هذه العناصر، الأمر الذي يؤدي إلى إطالة قد لا تتناسب مع الموجهات المقررة لهذه الورقة، لذلك وقع الاختيار على أهم مكونات العملية الإعلامية: الرسالة الإعلامية دون سواها.(/1)
من جانب آخر فإن موضوع وحدة المسلمين من "أمهات الموضوعات" التي تحوي معالم عديدة، وشعباً كثيرة، رأينا أن نلجها من مدخل قضايا المسلمين الكبرى التي لا تختلف فيها الآراء ولا تتعدد حولها التوجهات، فاختيرت فلسطين نموذجاً، لأنّ قضية فلسطين تقع في وجدان كل مسلم يشعر بانتمائه لهذه الأمة وينبض قلبه بالإيمان الصادق ويجيش صدره بعزة الإسلام، ذلك أن فلسطين تحوي القدس التي لها مكانتها الدينية المرموقة التي اتفق عليها المسلمون بجميع طوائفهم ومذاهبهم وتوجهاتهم.
فالقدس هي القبلة الأولى التي توجه إليها الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه منذ أن فرضت الصلاة في ليلة الإسراء والمعراج في السنة العاشرة للبعثة قبل الهجرة بثلاث سنوات وظلت القدس قبلة المسلمين بعد هجرتهم إلى المدينة المنورة ستة عشر شهراً حتى نزل القرآن يأمرهم بالتوجه إلى الكعبة قال تعالى: (و من حيث خرجت فولّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره)(4).
كما أنّ القدس هي منتهى الإسراء ومنطلق المعراج إلى السماء وفيها أمّ الرسول صلى الله عليه وسلم الأنبياء في المسجد الأقصى ـ على أرجح الأقوال ـ وفي ذلك دليل على ختم الإسلام للنبوات وشموله للرسالات السماوية السابقة، وبدء الإسراء من المسجد الحرام وانتهاؤه بالمسجد الأقصى فيه ربط للمسجدين لن يزول مهما فعل اليهود، يقول سبحانه وتعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير)(5)، ثم إن المسجد الحرام هو ثالث الحرمين الشريفين: الأول هو المسجد الحرام في مكة، والثاني هو المسجد النبوي في المدينة، وثالثهما هو المسجد الأقصى في القدس قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تُشدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا))(6).
والقدس قبل هذا كله أرض النبيين ودار المرسلين ومأوى الصالحين،أرض المحشر والمنشر، مُهَاجر الخليل إبراهيم، وديار أيوب ومحراب داود، وعجائب سليمان ومهد عيسى عليهم جميعاً السلام.. أرض البركة التي وصفها الله بأنها مباركة في خمسة مواضع في القرآن(7) هي:
- قوله تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله..)(8).
- قوله تعالى: (ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين)(9).
- قوله تعالى: (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا..)(10).
- قوله تعالى: (ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها)(11).
- قوله تعالى: (وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير..)(12).
إن القدس في الاعتقاد الإسلامي سامية المكانة، عالية المنزلة، عزيزة الحمى.. لذلك اختيرت في هذه الورقة لتمثل قضايا المسلمين الكبرى.
ثانياً: الرسالة الإعلامية وتوحيد المسلمين حول قضاياهم الكبرى:
وفقاً لما يراه عدد من المختصين(13) يمكن أن يلعب الإعلام دوراً كبيراً في توحيد المسلمين حول قضاياهم المصيرية ـ والنموذج المختار هنا هو قضية فلسطين ـ وذلك عبر السعي لإحداث تغيير إيجابي في:
- الجانب المعرفي
- المواقف والاتجاهات
- التنشئة الاجتماعية
وسنفرد هذه المحاور بشيء من التفصيل:
(أ) دور الرسالة الإعلامية في التغيير المعرفي:
في ظل واقع التشتت العربي والتفرق الإسلامي والاستكبار الأمريكي والتجاهل العالمي يمكن للإعلاميين أن يقوموا بدور كبير في إحداث تغيير معرفي يهدف لجمع الصف وتوحيد الكلمة حول:
(1) التصور الصحيح للوحدة الإسلامية:
ويتشكل هذا التصورفي عدة نقاط أهمها:
1. الروابط الاجتماعية بين البشر كثيرة، جمعها قوله تعالى: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبييله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين)(14) فحوت الآية: الرابطة العائلية،والرابطة القومية، ورابطة الإقامة (الوطن)، ورابطة المصلحة، والرابطة الاسلامية، وبيَّنت أن الرابطة العقدية هي التي ينبغي أن يقدمها المسلمون في فلسطين وغيرها، ويبذلوا في سبيلها الغالي والمرتخص وإلا فلنتربص حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين.(/2)
2. الوحدة الإسلامية لا تعني أن تتطابق المجتمعات الإسلامية ولا تختلف عن بعضها في كثير أو قليل؛ ليس هذه مقصود الوحدة الإسلامية، بل لم يكن المسلمون كذلك عندما كانوا قلة قليلة، قامت على أكتافها دولة المدينة، "فلم يكن المهاجرون والأنصار متفقين في كل شيء بل وجد الفرق بين اللهجتين المكية والمدنية، وبين الأسلوبين اللغويين: المكي والمدني، وما يراه الدارسون للسيرة النبوية من الاتحاد الكلي فيما بين المجتمعين المكي والمدني، والمدنيتين: المكية والمدنية، ليس من الصحة في شيء، فإن الدراسة الحديثة للسيرة النبوية تقرر أن اختلافاً واضحاً كان يوجد بين المدنيتين، وكان أهل مكة ـ ولا سيما قريشاًـ يحملون الشعور الزائد بالتفوق، يدل على ذلك ما دار بين القرشيين الثلاثة وبين الأنصار، في غزوة بدر الكبرى، حين قالوا للأنصار الذين خرجوا لمبارزتهم: "مالنا بكم من حاجة" ثم نادى مناديهم: "يا محمد أخرجوا إلينا أكفاءنا من قومنا"، فلما برز لهم عبيدة وحمزة وعلي رضي الله عنهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: "نعم أكفاء كرام" مما يدل على نخوتهم القبلية وأنهم كانوا يعتزون بقبيلتهم وجنسهم، ولا يرون غيرهم أكفاءً لهم في قليل أو كثير. ولم تكن القضية قضية المهاجرين والأنصار فحسب بل كانت الأنصار تتوزعهما القبيلتان العظيمتان: الأوس والخزرج اللتان كانت بينهما معارك وحروب في الماضي القريب، هذا بالإضافة إلى أن الحياة المكية كان عمادها التجارة، على حين كانت الحياة المدنية تتوقف على الزراعة، والفلاحة، والغرس والتشجير، كما كان هناك فرق بين الحياتين بالنسبة إلى المعاشرة العائلية والحياة الأسرية ـ كما أشار إلى ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه في إحدى المناسبات ـ، ومع كل هذا، لا يعرف التاريخ أنه قامت أخوة من قبلُ أو وجدت آصرة في مثل هذا التنسيق والدقة والوضوح على مجرد أساس الوحدة في العقيدة والغاية، قامت هذه الأخوة فيما بين المؤمنين المخلصين الذين كانوا يتمتعون بالثبات على وحدة العقيدة ووحدة الهدف، وكان ذلك قوة جديدة أنشئت لانقاذ العالم المنهار وتخليص الإنسانية من بؤسها وشقوتها"(15).
3. إن الإعلام مطالب بأن يقتبس من دولة المدينة النور الذي جعلها تشع إيماناً وأمنا، وحضارة ورقياً، وقوة ومنعة، وأن يذكِّر المسلمين بقوله تعالى: (إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)، وكما قال أهل التفسير فإن هذا الموضع هو الموضع الوحيد الذي طالب فيه القرآن المسلمين بالتأسي بالكفار، الذين يوالي بعضهم بعضا.
4. لم يؤتَ المسلمون في فلسطين إلا من قبل التفرق، فعندما كان المسلمون تحت ظل خلافة إسلامية لم يستطع العدو إليهم سبيلاً ولكن بعد أن سقطت الخلافة استطاع العدو أن يحتل فلسطين، ولن ترجع فلسطين للمسلمين بغير وحدة جامعة.
5. قضية فلسطين هي قضية الأمة الإسلامية ومن الخطأ الجسيم أن يظن بعضهم أن قضية فلسطين شأن فلسطيني يخص الفلسطينيين وحدهم، والأصل أنهَّا قضية الأمة عربيِّها وعجميِّها، ويتعين علي الجميع العمل على حلها، ذلك لجملة أسباب منها:
أ- فلسطين أرض عربية إسلامية لها مكانتها المقدسة السامية التي تستوجب على الجميع العمل على حل قضيتها.
ب- قضية فلسطين تعتبر قاسماً مشتركاً بين كل التيارات العربية والإسلامية فهي همٌّ إسلامي وهاجس وطني وأرق قومي.
ت- المشروع الصهيوني لا يرمي إلى احتلال فلسطين وحدها بل يهدف إلى إسرائيل الكبرى التي تمتد من الفرات إلى النيل ويهدد الأمة بأسرها فالخطر يطال الجميع.
6. مواجهة المشروع الصهيوني المتعدد الأذرع تتطلب العمل على الأصعدة كافة: اقتصادياً وثقافياً وسياسياً وإعلامياً ـ صحافة وإذاعة وتلفزيون ومسرح ـ واجتماعياً وهذا لا يتم إلاَّ بتضافر الجهود، وتوحيد الصفوف، ومشاركة علماء الأمة ومفكريها وقواها الحية من فصائل جهادية وتنظيمات سياسية وتجمعات قومية في هذه المعركة.
7. الوحدة والتجمعات التي تقام على غير الرابطة العقدية ليس لها من حظ الوحدة إلا الاسم، الذي لا يقدِّم ولا يؤخر، والذي ربما يكون سبباً للاختلاف والتفرق، وقد جرَّبت أمتنا الوحدات القومية، والنزعات الوطنية، والولاءات الحزبية، فما زادتها إلا خبالاً على خبال، والإعلام مطالب بأن يردد مع الشيخ الندوي: "إنه لو تطلبت مصالح الأمة أن تمُحى هذه الأحزاب والجماعات كما تُمحى العبارة الخاطئة لأكون أول من يتشرف بهذه السعادة ويحوز هذه الكرامة"(16).
إن التصور الصحيح لقضية الوحدة الإسلامية رغم تنوع المجتمعات واختلافها يُعدُّ مقصداً رئيساً للإعلام الهادف المسؤول، وسنداً متيناً للعمل الجهادي في فلسطين وسائر بقاع المسلمين.
(2) بيان الموقف الصحيح من الأحداث الجارية:(/3)
من الأهداف المعرفية المهمة التي يجب أن تعمل الرسالة الإعلامية على حشد الناس حولها وتجميع الصف عليها؛ توضيح الموقف الصحيح من الأحداث الجارية، حتى يكون الناس على بصيرة من أمرهم، ولا تخدعهم الآلة الإعلامية الغربية؛ فتزلَّ أقدام بعد ثبوتها.
وفي قضية فلسطين يمكن للرسالة الإعلامية أن تعلب دوراً رائداً في تصحيح الموقف من قضايا كثيرة أهما السلام المزعوم الذي يقتضي تسلُّم الفلسطينيين جزءاً من أرض فلسطين مقابل اعترافهم بالكيان الصهيوني، يمكن للرسالة الإعلامية أن تديم الطرق على هذا الموضوع مبينة أنه سراب خادع لن يدوم طويلا للأسباب الآتية:
- الشعوب المسلمة ممثَّلة في تجمعاتها القومية والوطنية والإسلامية أجمعت على رفض هذا السلام المزعوم وعده استسلاماً لا سلاماً، وتنازلاً عن حقوق ضخمة لا يملك أحد حق منحها لليهود.
- فلسطين ليست ملكاً للفسلطينيين بل ملك للأجيال المسلمة إلى قيام الساعة والتنازل عن شبر منها لا يجوز.
- اليهود لن يسلِّموا شبرا من أرض فلسطين للفلسطينيين إلا وهم مكرهون ومتى زال الإكراه عادوا للتوسع واغتصاب الأراضي.
- السلام يخدم أهداف الكيان الصهيوني في المرحلة الراهنة ويساعده على وأد الانتفاضة الفلسطينية وإثارة النزاعات بين أهلها، كما يحملهم على الإقرار بحق المغتصب وتبعيتهم له، كما لا يخفى أنّ هذا السلام الموهوم يعمل على اختراق العالمين العربي والإسلامي.
- يجب التأكيد على خطورة الاعتراف بالكيان الصهيوني، وبيان خطل مقولة أنّ السلام هو الخيار الاستراتيجي الأوحد لحل القضية، وتثبيت خيار المقاومة والجهاد بشتى صوره وأشكاله.
(3) دحض شبهات الأعداء:
لقد دأبت الرسالة الإعلامية الغربية في إثارة الشبهات حول الإسلام والمسلمين بشتى السبل، ومختلف الطرق، لذلك وجب على الرسالة الإعلامية الإسلامية أن تعطي هذه الشبهات حقها من النظر بالرد عليها ودحضها، على أن لا تستغرقها الردود أو تلهيها عن دورها في تصحيح التصورات، والتأصيل للمواقف المتجددة.
وقد التبس على كثير من الناس ـ في الشأن الفلسطيني ـ أمر الصراع بين المسلمين واليهود حتى أصبح بعضهم يصدق أنّ لليهود حقاً تاريخياً ودينياً في فلسطين، هذا الاعتقاد الخاطئ يوجب بذل جهدٍ إعلامي مقابل يعمل على توعية الشعوب العربية والمسلمة بالحقائق التالية:
أولاً: فرية الحق التاريخي:
لا حق لليهود في القدس ولا في فلسطين إذ إنَّ القدس عربية إسلامية فالمعروف تاريخياً أنّ الذي بنى القدس هم اليبوسيون وهم العرب القدامى الذين نزحوا من شبه الجزيرة العربية مع الكنعانيين. وسكنوها إلى أن جاء إبراهيم عليه السلام مهاجراً من وطنه الأصلي بالعراق غريباً ووُلد له إسحاق عليه السلام الذي وُلد له يعقوب عليه السلام الذي ارتحل بذريته إلى مصر (معنى هذا أن إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام دخلوا غرباء إلى فلسطين وخرجوا غرباء لم يمتلكوا فيها شيئاً).
كذلك مات موسى عليه السلام ولم يدخل أرض فلسطين وإنما دخل شرق الأردن(17) والذي دخلها بعده يشوع (يوشع) وبقي فيها حتى الغزو البابلي الذي سحقها سحقاً ودمَّر أورشليم وأحرق التوراة. "فلو جمعت كل السنوات التي عاشوها ـ أي اليهود ـ في فلسطين غزاة مخربين ما بلغت المدة التي قضاها الإنجليز في الهند أو الهولنديون في إندونيسيا"(18) فمن أين لهم الحق التأريخي فيها؟
والأدلة التاريخية تؤكد أنّ أكبر رقعة استطاع الكيان الصهيوني السيطرة عليها في أي وقت من الأوقات لم تكن في العصور القديمة وإنما في العصر الحديث عند احتلالها مجمل أرض فلسطين ومرتفعات الجولان وجنوبي لبنان وأرض سيناء وكان ذلك للمرة الأولى عام 1967 م(19). إن الحق التاريخي لليهود في أرض فلسطين فرية شوهاء وكذبة بلقاء، لا تقوم على ساق ولا تنهض بها حجة وهي أوهى من بيت العنكبوت.
ثانياً فرية الحق الديني:
القول بأنّ لليهود حقاً دينياً في فلسطين لا يقوى أمام التحقيق العلمي وإعلان أنّ تأسيس الكيان الصهيوني تحقيق للنبوءة التوراتية التي تقول "إنَّ الله وعد إبراهيم عليه السلام بأن يعطي لنسله أرض فلسطين وكذلك وعد ابنه إسحق وحفيده يعقوب ـ الذي سموه إسرائيل ـ وسمَّوا فلسطين أرض الميعاد.. كل ذلك وهم كبير.. فإنّ أولى الناس بإبراهيم هو الرسول صلى الله عليه وسلم والذين اتبعوه كما ورد في القرآن: (إنّ أولى الناس بإبراهيم للذين اتّبعوه وهذا النبيّ والذين آمنوا)(20). فالإمامة لا تنتقل بالوراثة (قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين)(21).
ثم أليس إسماعيل جدُّ نبينا عليه السلام من نسل إبراهيم؟ فلماذا فَهِم اليهود أنّ النبوءة لا يدخل فيها إسماعيل عليه السلام وهو الابن البكر لإبراهيم عليه السلام.. إنّ منطق استيلاء اليهود على فلسطين لا يسنده شرع ولا يقرُّه دين وكل تبرير لهم ما هو إلا اختلاق وكذب.
(4) فضح مخططات الأعداء:(/4)
إن واقع العجز العربي والوهن الإسلامي والمكر العالمي فتح الباب على مصراعيه لعدد من مخططات الأعداء لتجد لها موطئاً في أرض المسلمين، لتُعمل معولها في مجتمعاتهم هدماً وتشتيتاً وتمزيقا، وحرصاً على وحدة المسلمين لزم أن يراعي الإعلاميون في رسالتهم الإعلامية أن يفضحوا هذه المخططات، ويسعوا إلى تعريتها حتى يحذرها الناس.
وأكبر مخططات الأعداء في الشأن الفلسطيني هو المشروع الصهيوني الذي يراد له أن يتمدد وينتشر ليُحكم السيطرة على المنطقة كلها اقتصادياً وثقافياً وأمنياً وسياسياً.. تحقيقاً لفكرة إسرائيل الكبرى.. قاعدة الحضارة وقائدة الديمقراطية.. مستخدمين في ذلك سلاح الإعلام والسلام والتسوية والتطبيع ونحوه من الوسائل.
إنّ التهوين من خطر المشروع الصهيوني دفنٌ للرؤوس في الرمال.. فقد هوّن البعض من خطره قبل خمسين عاماً، وقال كيف يمكن لدويلة صغيرة أن تهيمن على منطقتنا وأمتنا، وهاهي الدويلة الصغيرة تفرض وجودها على الحكومات العربية والإسلامية وتملى شروطها وتهدد وتتوعد.. وهاهي أمتنا تدين وتشجب وتستنكر ولا تكاد تتجاوز ذلك.
يجب على الإعلاميين فضح المشروع الصهيوني وتعريته.. وذلك بـ:
- فضح اليهود وطبيعتهم
- مواجهة التطبيع وأخطاره
أولاً: فضح اليهود وطبيعتهم
على الإعلاميين أن يعرِّفوا الشعوب بعدوها.. مستندين على القرآن الكريم وما فيه من وصف مفصل لليهود، وعلى السنة المطهرة، ثم كتب اليهود المقدسة عندهم كالتوراة وأسفار الأنبياء والتلمود والماشناه، وكتب التاريخ، وكتابات المعاصرين عنهم ـ المسلمين وغير المسلمين ـ المكتوبة باللغة العربية أو غيرها من اللغات مثل كتاب أحلام الصهيونية وأضاليلها للمفكر الفرنسي المسلم "رجاء جارودي"، ومن الواقع المعاش فبين أيدينا تجارب كثيرة في الحرب والسلم وسلسلة من الهدنات والاتفاقات والمعارضات كلها تبين أنّ اليهود لا يعرفون غير منطق القوة وأنهّم لا أيمان لهم ولا عهد ولا ذمة وأنّ أبرز صفاتهم هي العنصرية فهم يرون أنفسهم شعب الله المختار وما سواهم أميين ليس عليهم منهم شيء والعنف والطبيعة العدوانية متأصلة فيهم فقلوبهم قاسية كما وصفهم القرآن الكريم وتطلعاتهم التوسعية لإسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات ومن الأرز إلى النخيل لا تخفى بل هم يريدون السيطرة على العالم كله، ثم كذلك من صفاتهم التحرر من الأخلاق وعدم ثباتها واستخدام المعايير المزدوجة: معيار مع النفس ومعيار مع الأغيار (الأميين) (ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون)(22)، وهم يرون أنّ الغاية تبرر الوسيلة ويحترمون العهود والمواثيق متى ماكانت في صالحهم ويتجاهلونها متى مالم ترُق لهم وهم أحرص الناس على حياة وأكثر الناس شحاً وحباً للمال.. كل هذه المعاني وما شاكلها تحتاجها الشعوب المسلمة لتعرف عدوها وتقدره قدره وتعد العدة المناسبة لدفعه.. وهذا هو واجب الإعلاميين.
ثانياً: فضح التطبيع وخطورته:
أخذ التطبيع مع العدو الصهيوني صوراً عديدة منها:
- التطبيع الدبلوماسي: ومن ذلك الاعتراف بدولة لليهود في فلسطين، وتبادل البعثات الدبلوماسية معها واعتبارها دولة جوار وإشراكها في البيئة والمياه.
- التطبيع الاجتماعي: ومن ذلك دمج اليهود في المجتمعات العربية والمسلمة عن طريق السياحة والرحلات ونحوه.
- التطبيع الثقافي والإعلامي: ومن ذلك دخول اليهود في المجتمعات العربية والمسلمة عن طريق المؤتمرات والندوات والمعارض والمهرجانات والسينما والمسرح والصحافة والإعلام والجامعات ومراكز البحث العلمي.
- التطبيع التربوي: ومن ذلك توجيه المناهج الدراسية والبرامج التعليمية ـ في بعض الدول العربية ـ عن طريق حذف كل ما يتعلق باليهود ويكشف حقدهم وتآمرهم على الأمة.
- التطبيع الاقتصادي: ومن ذلك فتح الأسواق العربية والإسلامية لبضائع الكيان الصهيوني.
إن الشعوب العربية والمسلمة ترفض التطبيع الظاهر والخفي كما ترفض الاعتراف العلني والضمني بالكيان الصهيوني، وواجب الإعلاميين أن يحافظوا على هذه الجذوة متقدة ويقاوموا كل سعي نحو التطبيع مع العدو وذلك بالآتي:
(1) دعوة الشعوب لمقاطعة الكيان الصهيوني اقتصادياً وذلك بمقاطعة السلع والبضائع القادمة منه، وذلك لحرمتها لأنّ أرباحها تقوي اليهود على إخواننا في فلسطين، وواجبنا أن لا نعينهم على ذلك، كذلك تجب مقاطعة البضائع الأمريكية شجباً لموقف الإدارة الأمريكية المتذيل أبداً للصهاينة والداعم للعدوان على مقدّساتنا، وكذلك الشركات التي يقف من خلفها اليهود في كل بلاد العالم.
(2) وقف التعامل مع الكيان الصهيوني دبلوماسياً وتجارياً وثقافياً ونحوه.
(3) إعلان أن السفر إلى الكيان الصهيوني لا يحلُّ لمسلم ولو بدعوى الصلاة في المسجد الأقصى فإنما يشد المسلم رحاله إلى هذا المسجد حينما يتحرر من سلطان اليهود(23).(/5)
(4) مقاومة الغزو الثقافي للكيان الصهيوني ومقاومة التبشير بسياسات التطبيع وخاصة التطبيع التربوي وما يتضمنه من تغيير في المناهج التعليمية إرضاءً لليهود، ومقاومة كل محاولة لاختراق العقل العربي والإسلامي.
(5) رفع الروح المعنوية للشعوب المسلمة:
إن الأمة الإسلامية أمة قوية: عقدياً واقتصادياً واجتماعياً بدليل أن النظام العالمي الجديد لا يرى عائقاً يحول دون إكماله لبسط نفوذه سوى الإسلام، لذلك أجلب بخيله ورجله محذراً من خطره.
والرسالة الإعلامية منوط بها أن تنهض بعبء تذكير المسلمين بعظم الثروة التي يمتلكون والتي تتمثل في الكتاب الخالد (القرآن)، والمثال العملي لتطبيقه (سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم)، والتاريخ الناصع (سيرة السلف الصالح والأئمة المصلحين، والقادة الفاتحين)، والموقع الجغرافي المتميز، والثروات المتعددة (بشرية، زراعية، حيوانية، مائية، معدنية، بترول..)، إن التذكير بهذه الثروات يعد عاملاً مهما في استعادة الأمة لسيادتها وريادتها.
والرسالة الإعلامية منوط بها أن تذيع المبشرات ـ من القرآن والحديث واستقصاء التاريخ ـ بانتصار الإسلام والمسلمين، وتشيع التوعية بأنّ الأمة الإسلامية قد مرَّت عليها أعوام حالكة من قبل مُنِعَت فيها الجمعة والجماعة في المسجد الأقصى، ولم يُرفع فيه أذان ولم تقم فيه صلاة لمدة واحد وتسعين عاماً غير أنّ الله هيأ قادة مصلحين "ظهروا ونبغوا في أحوال غير مساعدة وفي أجواء غير موافقة بل وفي أزمنة مظلمة حالكة وفي بيئات قاتلة فاتكة وفي شعب أصيب بشلل الفكر وخواء الروح وخمود العاطفة وضعف الإرادة وخور العزيمة وسقوط الهمة ورخاوة الجسم ورقة العيش وفساد الأخلاق والإخلاد إلى الراحة والخضوع للقوة واليأس من الإصلاح"(24). تماماً في ظروف كالتي نعيشها الآن فعملوا على البناء في مجالات عدة: البناء للشخصية المسلمة والبناء للنظام الإداري والبناء للأمة المتوحدة ونحوه حتى استطاعوا استرداد المسجد الأقصى من قبضة الصليبيين. إن الشعوب المسلمة تحتاج إلى أن تبصّر بسيرة أبطال الإسلام الذين استردوا البيت المقدّس من قبضة الصليبيين مثل "عماد الدين زنكي" و"نور الدين محمود زنكي" و"صلاح الدين الأيوبي" وسائر الأبطال الذين بذلوا الغالي والمرتخص وحققوا النصر المؤزر.
إنّ مدارسة سير العلماء الصالحين والأبطال الفاتحين تنفخ العزم في الروح وتجدد الثقة في النفس وتحفز الجوارح للعمل.
(ب) دور الرسالة الإعلامية في تغيير المواقف والاتجاهات:
إن تأثير الإعلام على كثير من القيادات السياسية في العالم أمر مقرر مألوف، ودوره في كثير من القرارات الحاسمة في تاريخ الأمم والشعوب مثبت معروف، وقبلاً قال الأمين العام السابق للأمم المتحدة إن وكالة الأنباء التلفزيونية هي العضو رقم 6 في مجلس الأمن!
دور الرسالة الإعلامية الغربية:
لقد أدرك أعداء الأمة أهمية الإعلام في تغيير المواقف والاتجاهات، واستخدموه لتحقيق مآربهم فلم ينجحوا في تغيير رأي شعوبهم فحسب بل نجحوا في تشكيل الرأي العالمي كذلك؛ نقلت صحيفة الصنداي تايمز في أحد أعداد عام 1981م عن الصحفية الأمريكية اليهودية: سارة إيهرمان أن مؤسسة الضغط اليهودية إيباك قد تمكنت باستخدام الوسائل الإعلامية من تغيير الرأي العام الأمريكي خلال 48 ساعة فقط عقب قصف إسرائيل للمفاعل النووي العراقي. وتدَّعي الصحيفة بكل فخر نجاح الضغط الإعلامي في تحويل الرأي العام الأمريكي من الموقف الغاضب جداً ضد إسرائيل إلى تقبل وجهة النظر اليهودية، بل والقناعة بأن ضرب المفاعل كان عملاً شجاعاً من أجل سلام العالم.
وبيَّنت دراسة متخصصة عن القضية الفلسطينية والإعلام الأمريكي، قام بها ر. س. زهارنة الأثر الكبير للرسالة الإعلامية في كسب التأييد لإسرائيل؛ حيث تعقّب دور أكبر المجلات الأمريكية بل والعالمية ـ مجلة التايمز ـ في تغيير اتجاهات ومواقف الشعب الأمريكي حتى أصبح في غالبه يرى أن للإسرائليين حقاً مشروعاً في فلسطين؛ ذكر الباحث أن مجلة التايمز تدرجت بقرائها عبر المراحل التالية:
- منذ عام 1946 وحتى 1949م بدأت بتغيير كلمة "الفسلطينيين" إلى كلمات أخرى من مثل "سكان فلسطين" و"عرب فلسطين" وذلك لإخفاء الهوية الحقيقية للسكان الأصليين في المنطقة.
- ثم تغيَّرت هذه المصطلحات خلال الفترة من 1950م إلى نهاية الستينيات إلى: "العرب غير الأردنيين" و"العرب الإسرائيليين" و"الأردنيين".
- وصاحَبَ ذلك تطور آخر وهو التركيز على خصوصية العلاقة بين أمريكا وإسرائيل لدرجة أن مجلة التايمز قامت بنقل الموضوعات الخاصة بقضية إسرائيل من صفحات القضايا الدولية في المجلة إلى الصفحات المحلية. واستمر هذا التغيير منذ ذلك الحين.(/6)
- أما من ناحية اللقاءات الصحفية فقد كان أغلبها يتم مع مسؤولين أمريكيين أو إسرائيليين مما جعل الطرح الصحفي دائماً متحيزاً للجانب الإسرائيلي من النزاع، وكان لتصوير الفلسطينيين أنهم من العرب أثر إعلامي قوي في أمريكا بين مختلف فئات الشعب الأمريكي لاستغلال الكراهية المترسخة نحو العرب من جراء سنوات من الإعلام السلبي، إضافة إلى تصوير إسرائيل كياناً صغيراً في مقابل عدو ضخم هم العرب، بدلاً من التركيز على المجازر الوحشية التي ارتكبتها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني.
دور الرسالة الإعلامية الإسلامية:
يمكن لإعلامنا أن يلعب دوراً كبيراً في تغيير المواقف والاتجاهات وذلك عبر:
(1) توحيد الخطاب الإعلامي وتصحيحه ومن ذلك:
- البعد عن استخدام المصطلحات التي تتضمن اعترافاً بالكيان الصهيوني أو تمييعاً للقضية، واستبدالها بمصطلحات أخرى، تحمل صبغة إسلامية، ورؤية إيمانية ومن ذلك استبدال مصطلح: أزمة الشرق الأوسط بأزمة المشرق الإسلامي، لأن مصطلح الشرق الأوسط لم يكن له جذور في الاستخدام العربي والإسلامي، بل كان تعبيراً عن تقسيمات للعالم في إطار الحقبة الاستعمارية، كما أنه لم يظهر إلا في فترة تدهور دولة الخلافة في شكلها الأخير (الدولة العثمانية)، وأنه لم يصبح قابلاً للاستخدام على نطاق واسع إلا بعد انهيار الدولة العثمانية، هذا بالإضافة إلى أن الكيان الصهيوني لا يستخدمه بوصفه تعبيراً جغرافياً بل بوصفه مفهوماً شاملاً لتغيير هوية الصراع، ولإعادة ترتيب المنطقة، بإدخال هذا الكيان ضمن منظومة المنطقة، وبوصفه مصطلحاً تحته مفهومات أخرى متعددة مثل التعاون الإقليمي والسوق الشرق أوسطية، والشرق الأوسط الكبير(24).
- استبدال الأسماء اليهودية لمعالم المدن الفلسطينية بالأسماء الإسلامية فنقول: حائط البراق بدلاً من حائط المبكى، وفلسطين المحتلة بدلاً من يهودا والسامرة والجليل، والمصلى المرواني بدلاً من إسطبلات سليمان، وقبة الصخرة بدلاً من قدس الأقداس، والبلدة القديمة بدلاً من الحوض المقدس، وحارة المغاربة وحارة الشرف بدلاً من حارة اليهود، وجبل بيت المقدس بدلاً من جبل الهيكل.
- استخدام المصصلحات الإسلامية التي تشعر بحالة الصراع مع اليهود، فنقول: العمليات الاستشهادية بدلاً من العمليات الانتحارية، الأسير الفلسطيني بدلاً من المعتقل الفلسطيني، والمغتصبة اليهودية بدلاً من المستوطنة اليهودية، والمغتصِب بدلاً من المستوطِن، وتحرير كل شبر من أرض فلسطين المحتلة بدلاً من دحر الاحتلال.
- البعد عن المصطلحات اليهودية واستبدالها بالمصطحات الإسلامية: فنقول فلسطين بدلاً من أرض الميعاد، وفلسطينيي مناطق الـ 48 بدلاً من عرب إسرائيل، وأسطورة المحرقة النازية بدلاً من الهولوكست، والحقوق الفلسطينية بدلاً من المطالب الفلسطينية.
- البعد عن المصطلحات الغربية التي تسئ إلى المقاومة الفلسطينية وتصفها بالعنف والإرهاب والدموية وتتجاهل أن هذا حق مشروع في الدفاع عن النفس ورفع الظلم واسترداد الحقوق.
(2) دعوة القيادات العربية والرسمية إلى وقف التطبيع مع الكيان الصهيوني.
(3) دعوة القيادات العربية والرسمية إلى تبني الخيار الصحيح والناجع في التعامل مع العدو الصهيوني والذي تبنته حركات المقاومة الإسلامية (حماس والجهاد الإسلامي، وكتائب الأقصى) وهو خيار المقاومة والصمود وتعبئة الأمة.
(4) محاولة تأثيم الضمير الإنساني العالمي لسكوته عن الظلم الواقع على الشعب الفلسطيني وغضه الطرف عن الصلف اليهودي، وتحري مخاطبة المنظمات الإنسانية العالمية بأسلوب مؤثر جذاب بغية توجيهها والتأثير عليها لنشر رسالة إعلامية تخدم الهدف الإسلامي.
(5) توضيح أنّ الإرهاب هو ما يقوم به الكيان الصهيوني وليس ما تقوم به الحركات الجهادية من مقاومة مشروعة ومتعيِّنة للاحتلال الغاشم.
(6) تحميل أمريكا مسؤولية ما يحدث للشعب الفلسطيني وفضح تحالفها مع العدو خصماً على حقوق أمتنا، واستخدامها المعايير المزدوجة التي تتبناها دوماً لصالح بني صهيون.
(7) مطالبة المنظمات الدولية أن تتحرى العدل في قراراتها، بعيداً عن اختلال الموازيين الذي يؤدي إلى فقدان مصداقيتها.
(8) فضح أكاذيب وادعاءات اليهود حول أسطورة المحرقة النازية والمذابح التي تعرضوا لها، والعمل على إظهارهم على حقيقتهم العدوانية الإرهابية ونزع قناع البراءة والمسكنة والاستضعاف عنهم.
(ت) دور الرسالة الإعلامية في التنشئة الاجتماعية:
ويمكن أن تتم عبر عدة أمور منها:
(1) إشعار الأجهزة الإعلامية بمسؤوليتها تجاه إبقاء قضية وحدة الأمة الإسلامية حول قضاياها الكبرى ـ خاصة فلسطين ـ حاضرة في أذهان الناشئة، والسعي لتنبيه قطاعات المجتمع كافة بمسؤوليتها في هذا الصدد.
(2) دعوة القيادات العربية والرسمية إلى إعطاء أمر وحدة الأمة حول قضية فلسطينية حقها في مناهج التعليم ووسائل الإعلام عبر التركيز على:(/7)
- أساس الصراع مع اليهود وخلفياته الفكرية والتاريخية والسياسية.
- مراحل تطور القضية الفلسطينية.
- أهمية القضية ومكانتها في أولويات العمل الإسلامي.
- جرائم اليهود ضد الشعب الفلسطيني.
(3) السعي لإنفاذ برنامج إعلامي ثقافي متكامل عبر الأجهزة الإعلامية المختلفة (المقروءة، والمسموعة، والمرئية) يهدف إلى:
- توعية أبناء المسلمين بأهمية فلسطين، وربطهم بها والتركيز بشكل خاص على القدس والمقدسات الإسلامية (المسجد الأقصى، قبة الصخرة والحرم الإبراهيمي..) واستغلال المناسبات الدينية كالإسراء والمعراج وذكرى إحراق المسجد الأقصى وقيام الانتفاضة الإسلامية والأحداث الطارئة الهامة على الساحة الفلسطينية لمناصرة القضية الفلسطينية.
- العمل على المحافظة على جذوة الانتفاضة مشتعلة وعلى تطويرها وذلك باستثارة الحماس في الشعوب وقطع الطريق على حلول التسوية والاستسلام ودراسة الانتفاضة السابقة والأسباب التي أدت إلى إجهاضها.
- السعي لإيجاد مؤسسات الدعم لقضيتنا المحورية كجمعيات المناصرة للشعب الفلسطيني وهيئات الدفاع عن القدس والمقدسات الإسلامية ونحوه.
- حث الشعوب على تقديم الدعم المادي والمعنوي لقضية أمتنا وجمع الأموال لتعزيز صمود الشعب الفلسطيني.
- السعي لحشد الكفاءات والطاقات السياسية والإعلامية لدعم قضية الأمة المركزية في الجانب السياسي والإعلامي وذلك بالتعبير بمختلف الوسائل الممكنة عن معارضة الخطوات التي تستهدف تصفية القضية الفلسطينية والتفريط بمقدساتها وفي الجانب الجهادي بدعم حركات المقاومة الإسلامية والتشجيع على كفالة عائلات الشهداء والمعتقلين ودعم مشاريع البنية التحتية للحركات والتنظيمات داخل الأرض المحتلة وتأكيد مشروعية جهادها ومقاومتها للاحتلال ومواجهة محاولات إلصاق تهمة الإرهاب بها.
- مخاطبة المؤسسات الرسمية والحكومية وحضُّها على التراجع عن خيار التسوية السياسية ومبدأ الأرض مقابل السلام وتوضيح عدم جدوى هذه التسوية سيما وقد تكشفت الحقيقة العدوانية والتوسعية المتعنتة للكيان الصهيوني. والعمل على إنهاء القطيعة بين التجمعات السياسية المتعددة (لتحقيق التصالح الوطني)، وبين الأنظمة الحاكمة وشعوبها لتحقيق وحدة الجبهة الداخلية وإحياء التنافس السلمي المشروع عبر إطلاق سراح المعتقلين السياسيين وكفالة الحريات وحشد طاقات الأمة وتجميعها حول هذه القضية.
خاتمة:
إنَّ الإعلاميين اليوم أمام مسؤولية عظيمة تتطلب منهم النظر في ثوابت التأريخ وسنن الكون ومعطيات الواقع وحقائق الغيب واستنطاق الوحيين لتقديم رسالة إعلامية فاعلة تعمل على توحيد الأمة والرجوع بالشعوب إلي الحركة وفق منهج الله في طريق الجهاد والمقاومة لترتفع راية الدين وتُمكن قيم الصدق والعدالة ويُستعاد الحق وتحرر الأرض، ويؤذن المؤذن (فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين)(25).
----------
(1) انظر "رسالة من مكة.. عن أي شئ ندافع"، الشيخ سفر بن عبد الرحمن الحوالي، ص 57.
(2) التطلع للوحدة، حسن الصفار، ص 13.
(3) هل الإسلام هو الهدف، محمد السماك،، مجلة (الوعي الإسلامي) الكويتية، ص42، عدد 338، شوال 1414هـ.
(4) سورة البقرة: 150.
(5) سورة الإسراء: 1.
(6) متفق عليه.
(7) انظر القدس قضية كل مسلم د. القرضاوي ص 11.
(8) سورة الإسراء: 1.
(9) سورة الأنبياء: 71.
(10) سورة الأعراف: 137.
(11) سورة الأنبياء: 81.
(12) سورة سبأ: 18.
(13) انظر "التأثير الإعلامي في الظواهر الاجتماعية بين السلب والإيجاب"، ورقة بحثية لـ د. أحمد حسن محمد، ص 1-2. وانظر مقال "حملة سبتمبر عملية اقتلاع حقيقي"، د. محمد الحضيف، موقع لها أون لاين.
(14) سورة التوبة: 24.
(15) الطريق إلى السعادة والقيادة للدول والمجتمعات الإسلامية، أبو الحسن الندوي، ص40-42 بتصرف يسير.
(16) المرجع السابق، ص 24.
(17) القدس قضية كل مسلم د. القرضاوي ص 60.
(18) المرجع السابق ص 64.
(19) انظر تاريخ اليهود لأحمد عثمان 1/136، القدس قضية كل مسلم ص 64.
(20) سورة آل عمران: 68.
(21) سورة البقرة: 124.
(22) سورة آل عمران: 75.
(23) القدس قضية كل مسلم – ص 182.
(24) أبو الحسن الندوي – مقدمة مذكرات الدعوة والداعية ص4.
(25) مصطلح الشرق الأوسط من التعبير الجغرافي إلى البديل، بحث نشر ضمن التقرير الارتيادي الأول لمجلة البيان، طلعت رميح، ص 368-369.
(26) سورة الأنعام: 45.(/8)
...
دور الشباب في الحركات الإسلامية
رئيسي :الدعوة :
يتناول الدرس أهمية مرحلة الشباب من حيث البذل والعطاء لدين الله ودفع عجلة الدعوة إلى الله إلى الأمام مع الإشارة إلى أهمية الحركات الإسلامية المعاصرة وتجديدها للدين ثم ضرب الأمثلة على أنواع من أعمال الشباب التي ساهمت في حفظ الدين ونشره ثم يوجه للمسئولين عن الشباب نصائح هامة لترشيد واستغلال الشباب ليؤدي دوره كما يجب.
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد :
فإن الله سبحانه وتعالى، قد جعل شريعة محمد صلى الله عليه وسلم هي خاتمة الشرائع الإسلامية، ورضي الإسلام ديناً لخير أمة أخرجت للناس، كما بعث الرسل بدين الإسلام وجعله المرضي له، دون غيره من الأديان، قال تعالى:
} إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ[19] { [سورة آل عمران] . وقال سبحانه وبحمده:} الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا[3] {[سورة المائدة] وقال عز وجل:} وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ[85] {[سورة آل عمران] فالكمال الذي منّ الله به في الشريعة الإسلامية التي بعث الله بها محمدا صلى الله عليه وسلم؛ موجود في أوامرها ونواهيها وسائر أحكامها، من تحقيق لكل ما تحتاجه النفوس وتتطلبه المجتمعات مهما جدّ في حياتها من مؤثرات، أو ظهر من اختراعات . وذلك أن بعض ديانات الأرض اليوم المخالفة للإسلام لا يجد المتمعن في معتقداتها ما يتلاءم فكراً وعملًا مع متطلبات ومظاهر حياة هذا العصر، ولا ما يريح النفوس من المؤثرات المحيطة، فنشأ لديهم رغبة بفصل الدين عن الدولة في مثل قولهم :' دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله '.
? لكن الموضوع في الإسلام يختلف؛ لأن النفوس عندما تشعر بالأزمات تنتابها، وبالمشكلات تحل قريباً منها، تجد في دين الإسلام وتشريعاته الراحة والمخرج . وكلما بعدت عن دين الإسلام وضعف وازع الإيمان فيها؛ كثرت الهموم في النفوس، وتعددت المشكلات في المجتمع . وهذا ما يسمونه في العصر الحاضر: القلق النفسي .
? وما هذه الحركات الإسلامية التي تنبع من الشباب في كل بلد إسلامي إلا عودة جديدة لدين الإسلام الذي تريح أوامره وشرائعه النفوس، وتتجاوب مع متطلبات المجتمعات في كل عصر ومكان .
? والشباب في أي أمة من الأمم، هم العمود الفقري الذي يشكل عنصر الحركة والحيوية؛ إذ لديهم الطاقة المنتجة، والعطاء المتجدد، ولم تنهض أمة من الأمم غالباً إلا على أكتاف شبابها الواعي، وحماسته المتجددة . إلا أن اندفاع الشباب لابد أن تسايره حكمة من الشيوخ، ونظرة من تجاربهم وأفكارهم، ولا يستغني أحد الطرفين عن الآخر .
? وإن أمة الإسلام، وهي أمة الرسالة الباقية، وذات الصدارة بين الأمم عندما أكرمها الله بهذا الدين، وببعثة سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، كان للشباب فيها مكان بارز في ركب الدعوة المباركة، كما كان للشيوخ مكان الصدارة في التوجيه والمؤازرة . وانطلق الجميع بقيادة محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، يؤسسون دولة الإسلام الأولى والتي امتدت إلى آفاق بعيدة، ورفرفت راية الإسلام عالية فوق غالب المعمورة، في عصور الإسلام المختلفة التي كان الشباب في الطليعة يذودون عن حياض الإسلام، ويدافعون عن ديار المسلمين، باليد واللسان، علماً وعملًا . ففي الوقت الذي كانوا يتقدمون فيه صفوف الجهاد لإعلاء كلمة الله كانوا أيضا يتزاحمون بالمناكب في حلقات العلماء وجلسات الشيوخ، يلتقطون الحكمة من أفواههم، ويستنيرون بما عندهم من علوم، ويتلقون منهم النصح والإرشاد، ويستفيدون من ثمرة جهودهم وتجربتهم لمناهج الحياة المقرونة بالتطبيق العملي للإسلام وشرائعه .
? وكان من الشباب القادة لألوية الجهاد، والمندفعون لتبليغ دين الله، والذين سارت الجيوش الإسلامية تحت ألويتهم، وحقق الله النصر المؤزر على أيديهم. وتاريخنا الإسلامي حافل بالشباب المجاهد العامل، والشيوخ المجربين المجاهدين رحمهم الله .
? لقد استمر الشباب المسلم في عطاء الخير المتجدد في الحروب الصليبية في الشام والأندلس وغيرها من المواقف التي يتصادم فيها الحق بالباطل حتى اليوم، فغاظت تلك الحماسة أعداء الإسلام، حيث سعوا إلى وضع العراقيل في طريقهم، أو تغيير اتجاههم: إما بفصلهم عن دينهم، أو إيجاد هوة سحيقة بينهم وبين أولي العلم، والرأي الصائب في أمتهم، أو بإلصاق الألقاب المنفرة منهم، أو وصفهم بصفات ونعوت غير صحيحة، وتشويه سمعة من أنار الله بصائرهم في مجتمعاتهم، أو بتأليب بعض الحكومات عليهم .(/1)
? كل هذا قد يؤدي بالتالي إلى ظهور حركات تتسم بطابع الوقوف من المجتمع والقيادات، موقفاً قاسياً ومضاداً، قد يصل إلى نوع من المواجهة في بعض الأحيان، أو العمل السري الذي قد يخالطه ما يشينه، أو يغير من مجراه الطبيعي .
? وإلى جانب هذا يرى في العالم بأسره حركات إسلامية، قد ظهرت على السطح، وبعضها في أمريكا وأوروبا، تتفهم الإسلام، وتدعو إليه، وترى فيه العلاج لما في العالم من قلق ومشكلات أهمها جنوح الشباب، والمؤثرات فيهم .
هذه الحركات كان للشباب فيها دور كبير، وأفعال مؤثرة، تدعو للتبصير والمؤازرة، إلا أن بعضها وخاصة في بعض الدول الإسلامية قد تتعرض للكبت والمضايقة والاضطهاد والملاحقة . وبعضها استمر في أداء الدور الذي تنادي به تعاليم الإسلام في سبيل الدعوة، والاهتمام بتبصير المسلمين عما جد في حياتهم، ولا يسير وفق منهج الإسلام .
وقد كان لهذا النوع، وما زال أثر طيب بحمد الله في إصلاح أوساط الشباب، وإقامة كثير من المجتمعات على جادة الحق والهدى، في داخل العالم الإسلامي وخارجه عن طريق الكتاب الإسلامي والمنبر، والمحاضرات، والمخيمات والمعسكرات الإسلامية التي يلتقي المسلمون فيها من عدة أقطار، فيتذكرون علوم دينهم، ومشكلات مجتمعهم، ويتفهمون الواقع من حولهم ويعملون بقول الله تعالى:} فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ[122] { [سورة التوبة] .
ثم يحرصون على تنظيم أوقات الفراغ في العمل المثمر، وقد استغل الغربيون والشرقيون هذا الفراغ في أعمال مختلفة، فلم تحقق النتيجة المرغوبة لامتصاص طاقة الشباب، وتوجيههم .
? إن دور الشباب المسلم الذي يسير وفق تعاليم الإسلام، دور عظيم في إصلاح النفوس، وتوجيه المجتمع والمحافظة على سلامته وأمنه، لا ينكره إلا أعداء الإسلام، الذين يدركون مكانة الإسلام، وسموه في استجلاب من يرغب، منصفاً في طريق العدالة، والأخلاق الكريمة والاستقامة والتوازن في البيئة، والأمن والاستقرار في المجتمع .
وإن من أهم ما يجب ملاحظته، ونحن نتحدث عن دور الشباب في الحركات الإسلامية قديماً وحديثاً ما يلي:
العناية بالشباب منذ نعومة أظفارهم: وذلك:
بتوجيههم الوجهة الإسلامية.
والاهتمام بمناهجهم التعليمية.
وإبعاد المؤثرات الضارة بأخلاقهم.
والعمل على ربطهم بدينهم وبكتاب ربهم، وسنة نبيهم.
وأن يعنى العلماء ورجال الفكر الإسلامي باحتضانهم، وتقبل آرائهم واستفساراتهم، وإرشادهم إلى طريق الحق والصواب، بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن لاستعدادهم لتقبل التوجيه، من منطلق الرأي الصائب، الذي يحدده الإسلام، ويحث عليه .
الحرص على إيجاد القدوة الحسنة: في المدرسة والبيت، والنادي والشارع، وفي أسلوب التعامل، وعدم وجود المظاهر المنافية للإسلام، والتي قد تحدث لديهم شيئاً من الشك والريبة، أو التردد في القبول، أو اعتزال المجتمع، والشكوك فيه، بدعوى أنه مجتمع غير مطبق للإسلام يقول أبناؤه بخلاف ما يعملون . وبهذا كله يحصل الانفصال، وتحدث التصرفات المتسرعة غير المنضبطة، والتي تكون نتائجها غير سليمة على الفرد والمجتمع، وعلى العمل الإسلامي، ولا تعود بالفائدة المرجوة على الشباب أنفسهم
عقد لقاءات مستمرة مع الشباب: يلتقي فيها العلماء والمسئولون في البلاد الإسلامية بالشباب، تطرح فيها الآراء والأفكار، وتدرس المشكلات دراسة متأنية، وتعالج فيها القضايا والمسائل التي تحتاج إلى جواب فاصل فيما عرض، حتى لا تتسرب الظنون الخاطئة وتتباعد الأفكار، وينحرف العمل الإسلامي الذي يتحمس له هؤلاء الشباب، لغير الدرب الحقيقي، والمنطلق الذي رسمته تعاليمه .
وتتم هذه اللقاءات في جو من الانفتاح لإبداء الرأي المتسم بالأخوة، والمحبة، والثقة المتبادلة، بعيداً عن التعصب للرأي، أو التسفيه للآراء، أو تجهيل الآخرين .
? إن الشباب بتوجيههم ورعايتهم، مثل النبتة إذا أحسن الزارع رعايتها نمت وأثمرت، وإذا أهملت تعثر نموها، وفقد الثمر منها مستقبلاً . والشباب فيه طاقة حيوية، يحسن الاستفادة منها وتنميتها، وأسلم منهج في الحياة يربط الشباب بدينه وعلمائه وأمته وبلاده، هو منهج الإسلام . فكلما ابتعد الشباب عن منهج دينهم الواضح، وسلكوا طريق الغلو أو الجفاء، أو التشدد والانعزال؛ فإن النتائج ستكون وخيمة ولا حول ولا قوة إلا بالله .
? وإن مسئولية ولاة الأمور: من قادة وعلماء ومفكرين، مسئولية عظيمة، في الأخذ بأيديهم، ورعايتهم، وتوجيههم نحو منهج الإسلام، وتوضيحه لهم؛ ليأخذوه، منهجاً وسلوكاً، وليسيروا وفق تعاليم شريعته، قدوة وتطبيقاً .
وهذا من أوجب الأمور، وأكمل العلاج، وهو من باب النصح لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم، الذي به يكتمل الإيمان، كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم .(/2)
كما أن ترك الشاب عرضة للأفكار الهدامة، والتصورات الخاطئة، وعدم الأخذ بيده، وتفهم آرائه وأفكاره، والإجابة عن كل تساؤلاته، وإيضاح الرأي الصحيح أمامه قد يفضي إلى ما لا تحمد عقباه . فالواجب الأخذ بيده؛ ليتجنب كل ما يضر، ويسلك ما ينفع، كما فعل سلفنا الصالح رضوان الله عليهم، وفي عصور التاريخ المختلفة حيث لم يحدث ردود فعل ذات خطر على الفرد والجماعة .
? فليتعاون ولاة الأمور كباراً وصغاراً، علماء ومتعلمين، مفكرين ومسئولين، مع الشباب في البيوت والمدارس، وفي المجتمعات والجامعات، كل هؤلاء يتعاونون على إرشاد الشباب وتوجيهه، وتهيئة الأجواء السليمة له؛ ليبدع فيها، في ظل العقيدة الإسلامية السمحة منهج الإسلام الحكيم .
والله نسأل أن يوفق أمة الإسلام شيباً وشباباً، قادة وشعوباً، إلى العمل بما يرضي الله توجيهاً وتبصيراً، وعملًا واقتداءً، وأن يصلح القلوب والأعمال، وأن يهدي الجميع صراطه المستقيم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وهو الهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم .
من رسالة:'دور الشباب في الحركات الإسلامية'.... للشيخ ابن باز(/3)
دور العلماء في النهضة محمد أبو بكرالرحمنو*
إن العلماء قوم أفرغوا جهدهم في تحصيل العلم من مظانه فنالوا منه حظاً وافراً. هم أهل العقل والنهى، وأهل الذكر ورياض الجنة. هم القوم لا يشقى بهم جليسهم ويكفي أنهم ورثة الأنبياء، فإن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً ولكن ورّثوا العلم. فأي مكانة رفيعة نالوها،وأي قدر عظيم استحقوه، وأي دور في نهضة الأمة جدير بهم أن يؤدوه.
إن دور العلماء في نهضة الأمة دور رئيس في التهيئة والتوجيه والقدوة والتقويم. وهل تنهض الأمة بغير علمائها؟ بغير كتاب هادٍ جمعته في الصدور، ووعته العقول، واطمأنت به القلوب، واستنارت به البصائر؟ بغير اتباع لسنن رضيه الرب الحكيم، فبعث به رسله مبشرين ومنذرين، وختمهم بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم الهادي إلى صراط المستقيم؟.
إن نهضة الأمة تحتاج إلى كلمة مجتمعة، ومن غير العلماء الربانيين يجمع الكلمة؟ فإن أمة الإسلام ليس لها ما يوحدها من ..... ، أو مصلحة دنيوية ، أو توجهات فكرية، إلا الدين، فإنه وعاؤها ووطاؤها ، وجلدتها ورباطها، وإن العلماء هم من يبينون أحكامه ، ويحكمون بمقتضاه، ويبسطون هديه وسلطانه، فإذا اجتهدوا في تبسيط الشرع بين أفراد الأمة، حتى تعلقت به قلوبهم ورضيت به عقولهم، فأبشروا بوحدة الكلمة التي هي أرضية النهضة وقاعدتها.
إن البناء يحتاج إلى عمود وأركان كيما يقوم مستوياً شديداً، وكذلك النهضة تحتاج بعد تأسيس القاعدة التي هي اجتماع الكلمة إلى سلامة التوجه والوسائل. ومن غير العلماء يبين المسالك الصحيحة ويحكم على الوسائل بالصحة أو الفساد، ويبين علامات الطريق إلى الغايات، وفق إرادة الرب سبحانه الشرعية، فإنه سبحانه الذي يقول الحق ويهدي السبيل، كما قال عز من قائل: (وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ). فإنّ مَن عَلِم دين الله ورسالتَه، وهَدْيَ النبي صلى الله عليه وسلم وسنتَه، كان أجدر الناس بالهداية إلى سبيله، والدعوة إلى التمسك بحبله، وهي المفضية إلى سلامة التوجه وصحة الوسائل. فإذا اجتمعت كلمة الأمة حول المبادئ والمقاصد بالقلوب والأفكار، واتخذت الوسائل الصحيحة السليمة الخالية من أدران الجاهلية، المتنزهة عن اتباع سنن الأمم الضالة إلى الجحور الضبية، فقد وُضِعت الأمة الإسلامية على الطريق الصحيح، واتخذت السبيل القويم، إيذاناً بانطلاق النهضة الشاملة في جميع جوانب الحياة الدنيا، من غير نسيان ولا تفريط في الآخرة.
إن النهضة تحتاج إلى الإعداد النفسي كي تشتد على سوقها، وإلى النشاط العملي المبدع كي توطد أركانها. ومن غير العلماء يبعث الهمم، ويلهب المشاعر، ويثير الحماس، ويلهب النشاط نحو تحقيق المقاصد: عملاً بغير كلل ، وسعياًَ بغير ملل. فقد أوتوا من نور الكتاب والحكمة قبساً، واتخذوا من جوامع كلم المصطفى صلى الله عليه وسلم نَفَساَ، واستعملوا أبدانهم في تحقيق الغايات .........، حداة للركب وحرساً. فإن هم أخلصوا لله في أعمالهم ، وسعوا في بعث همة الأمة بمقالهم، وحققوا المثال بأفعالهم، فبشرانا بنهضة فتية، وانطلاقة قوية، وعزة قريبة، ونصر عزيز.
إن النهضة إن قامت تحتاج إلى الحفظ والتقويم، حتى تستمر وتتجدد ، وتزدان وتتألق. ومن غير العلماء يحفظ توجهها ،ويحرس استقامتها ، ويبسط ظلها، ويحمي بيضتها، فشأن العلماء أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر عامة الناس وخاصتهم، يردون المظالم ويحقرون الظالم، يبينون مواقع الخلل، ويمسكون بحجز الناس عن الزلل، فهم الذين يقومون على النهضة حرساً، ويسهرون على بقائها عسساً.(/1)
دور المرأة في إصلاح المجتمع
محمد بن صالح العثيمين
مكتب الدعوة و الإرشاد بسلطانة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:
فإنه يسرني أن أحضر لأعبر عما في نفسي في هذا الموضوع الخطير، وهو دور المرأة في إصلاح المجتمع.
فأقول مستعيناً بالله عز وجل، طالباً منه التوفيق للصواب والسداد. إن دور المرأة في إصلاح المجتمع دور له أهميته الكبرى، وذلك لأن إصلاح المجتمع يكون على نوعين:
النوع الأول: الإصلاح الظاهر:
وهو الذي يكون في الأسواق، وفي المساجد، وفي غيرها من الأمور الظاهرة، وهذا يغلب فيه جانب الرجال لأنهم هم أهل البروز والظهور.
النوع الثاني: إصلاح المجتمع فيما وراء الجدر:
وهو الذي يكون في البيوت، وغالب مهمته موكول إلى النساء لأن المرأة هي ربة البيت، كما قال الله سبحانه وتعالى موجهاً الخطاب والأمر إلى نساء النبي في قوله: وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً [الأحزاب:33].
أهمية دور المرأة في إصلاح المجتمع:
نظن بعد ذلك أنه لا ضير علينا إن قلنا: إن إصلاح نصف المجتمع أو أكثر يكون منوطاً بالمرأة.
السبب الأول:
أن النساء كالرجال عدداً، إن لم يكن أكثر، أعني أن ذرية آدم أكثرهم من النساء، كما دلت على ذلك السنة النبوية، ولكنها تختلف من بلد إلى بلد ومن زمن إلى زمن، فقد تكون النساء في بلد ما أكثر من الرجال، وقد يكون العكس في بلد آخر، كما أن النساء قد يكن أكثر من الرجال في زمن، والعكس في زمن آخر.
وعلى كل حال فإن للمرأة دوراً كبيراً في إصلاح المجتمع.
السبب الثاني:
أن نشأة الأجيال أول ما تنشأ إنما تكون في أحضان النساء، وبه يتبين أهمية ما يجب على المرأة في إصلاح المجتمع.
مقومات إصلاح المرأة في المجتمع:
لكي تتحقق أهمية المرأة في إصلاح المجتمع، لا بد للمرأة من مؤهلات أو مقومات لتقوم بمهمتها في الإصلاح.. وإليكم جانباً من هذه المقومات:
المقوم الأول: صلاح المرأة:
أن تكون المرأة نفسها صالحة، لتكون أسوة حسنة وقدوة طيبة لبنات جنسها، ولكن كيف تصل المرأة إلى الصلاح؟ لتعلم كل إمرأة أنها لن تصل إلى الصلاح إلا بالعلم، وما أعنيه هو العلم الشرعي الذي تتلقاه، إما من بطون الكتب – إن أمكنها ذلك - وإما من أفواه العلماء، سواء أكان هؤلاء العلماء من الرجال أو النساء.
وفي عصرنا هذا يسهل كثيراً أن تتلقى المرأة العلم من أفواه العلماء، وذلك بواسطة الأشرطة المسجلة، فإن هذه الأشرطة - ولله الحمد - لها دور كبير في توجيه المجتمع إلى ما فيه الخير والصلاح، إذا استعملت في ذلك.
إذن فلا بد لصلاح المرأة من العلم، لأنه لا صلاح إلا بالعلم.
المقوم الثاني: البيان والفصاحة:
أي أن يمن الله عليها - أي على المرأة - بالبيان والفصاحة، بحيث يكون عندها طلاقة لسان وتعبير بيان تعبر به عما في ضميرها تعبيراً صادقاً، يكشف ما في قلبها وما في نفسها من المعاني، التي قد تكون عند كثير من الناس، ولكن يعجز أن يعبر عنها، أو قد يعبر عنها بعبارات غير واضحة وغير بليغة، وحينئذٍ لا يحصل المقصود الذي في نفس المتكلم من إصلاح الخلق.
وبناءً على ذلك نسأل: ما الذي يوصل إلى هذا؟ أي يوصل إلى البيان والفصاحة والتعبير عما في النفس بعبارة صادقة كاشفة عما في الضمير؟
نقول: الطريق إلى ذلك هو أن يكون عند المرأة شيء من العلوم العربية: نحوها، وصرفها، وبلاغتها، وحينئذٍ لا بد أن يكون للمرأة دروس في ذلك ولو قليلة، بحيث تعبر عما في نفسها تعبيراً صحيحاً تستطيع به أن توصل المعنى إلى أفئدة النساء اللاتي تخاطبهنّ.
المقوم الثالث: الحكمة:
أي أن يكون لدى المرأة حكمة في الدعوة، وفي إيصال العلم إلى من تخاطب، وحكمة في وضع الشيء في موضعه، كما قال أهل العلم، وهي من نعمة الله سبحانه وتعالى على العبد، أن يؤتيه الله الحكمة. قال الله عز وجل: يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً [البقرة:269]. وما أكثر ما يفوت المقصود ويحصل الخلل، إذا لم تكن هناك حكمة، فمن الحكمة في الدعوة إلى الله عز وجل أن ينزل المخاطب المنزلة اللائقة به، فإذا كان جاهلاً عومل المعاملة التي تناسب حاله، وإذا كان عالماً، ولكن عنده شيء من التفريط والإهمال والغفلة عومل بما تقتضيه حاله، وإذا كان عالماً ولكن عنده شيء من الاستكبار وردّ الحق عومل بما تقتضيه حاله.(/1)
فالناس - إذن - على درجات ثلاث: جاهل، وعالم متكاسل، وعالم معاند، ولا يمكن أن نسوي كل واحد بالآخر، بل لا بد أن ننزل كل إنسان منزلته، ولهذا لما أرسل النبي معاذاً إلى اليمن قال له " إنك تأتي قوماً أهل كتاب " وإنما قال له النبي ذلك ليعرف معاذ حالهم كي يستعد لهم بما تقتضيه هذه الحال ويخاطبهم بما تقتضيه هذه الحال أيضاً.
أمثلة على استعمال الحكمة في دعوته :
ويدل على استعمال الحكمة في الدعوة إلى الله وقائع وقعت ممن هو أحكم الخلق في الدعوة إلى الله، ألا وهو النبي ، ولنضرب لذلك أمثلة:
المثال الأول: الأعرابي الذي بال في المسجد:
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما: من حديث أنس بن مالك { أن أعرابياً دخل المسجد ثم جعل يبول، فأخذت الصحابة الغيرة، فنهوه وصاحوا به، ولكن النبي الذي أوتي الحكمة في الدعوة إلى الله عز وجل، قال: "لا تزرموه" أي لا تقطعوا عليه بوله، فلما قضى الأعرابي بوله أمر النبي صلى الله وعليه وسلم أن يصب عليه ( أي على البول ) ذنوبا من ماء ( أي دلوا من ماء )، ثم دعا الأعرابي وقال له: "إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من الأذى ( أو من القذر ) وإنما هي للصلاة وقراءة القرآن وذكر الله عز وجل.." } أو كما قال .
وقد روى الإمام أحمد رحمه الله أن هذا الأعرابي قال: { اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحدا }.
ونأخذ من هذه القصة العبر التالية:
العبرة الأولى:
أن الصحابة رضي الله عنهم أخذتهم الغيرة وصاحوا بهذا الأعرابي، فيؤخذ من ذلك أنه لا يجوز الإقرار على المنكر، بل الواجب المبادرة بالإنكار على فاعل المنكر، ولكن إذا كانت المبادرة تؤدي إلى أمر أكبر ضرراً فإن الواجب التأني حتى تزول هذه المفسدة الكبرى، ولهذا نهاهم النبي ، بل زجرهم عن أن ينهوا الأعرابي ويصيحوا به.
العبرة الثانية:
أن النبي أقر بالمنكر لدفع ما هو أنكر منه، فالمنكر الذي أقره هو استمرار هذا الأعرابي في التبول، والمنكر الذي دفعه بهذا الإقرار هو أن هذا الأعرابي لو قام لا يخلو من أمرين:
1- إما أن يقوم مكشوف العورة لئلا تتلوث ثيابه بالبول، و حينئذٍ يتلوث منه المسجد بقدر أكبر، ويبدو الرجل للناس وهو كاشف عورته وهاتان مفسدتان.
2- وأما إذا لم يقم على هذا الوجه، فإنه سوف يستر عورته، ولكن تتلوث ثيابه بما يصيبها من البول.
فمن أجل هاتين المفسدتين أقره النبي على استكمال البول، على أنه أيضاً قد حصلت هذه المفسدة بالبول في المسجد من أول الأمر، فإذا قام فإن هذه المفسدة التي حصلت لن تختفي، فنأخذ من هذه النقطة عبرة، وهي أن المنكر إذا كان لا يؤول إلا لشيء أنكر منه، فإن الواجب الإمساك دفعاً لكبرى المفسدتين بصغراهما.
ولهذا أصل في كتاب الله، فقد قال الله تعالى: وَلا تَسُبُّوا الذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ الله فَيَسُبُّوا الله عَدْوَاً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108].
كلنا يعلم أن سب آلهة المشركين من الأمور المحبوبة لله عز وجل، ولكن لما كان سب هذه الآلهة يؤدي إلى سب من ليس أهلاً للسب، وهو الرب عز وجل، فقد نهانا الله سبحانه وتعالى عن سب آلهتهم في الآية السابقة.
العبرة الثالثة:
أن النبي بادر بإزالة المفسدة لأن التأخير له آفات، إذ كان من الممكن أن يؤخر النبي تطهير هذه البقعة من المسجد حتى يحتاج الناس إلى الصلاة فيها، فتطهر من أجل ذلك، ولكن من الأولى أن يبادر الإنسان إلى إزالة المفسدة حتى لا يعتريه فيما بعد عجز أو نسيان، وهذه نقطة هامة جداً، وهي أن يبادر بإزالته المفسدة خوفاً من العجز عن إزالتها في المستقبل، أو نسيانه … فمثلاً: لو أصابت الثوب نجاسة وهو ثوب يصلي فيه أو لا يصلي فيه.. فالأولى أن يبادر بغسل هذه النجاسة، وألا يؤخره لأنه ربما ينسى في المستقبل، أو يعجز عن إزالتها إما لفقد الماء، أو لغير ذلك.
ولهذا لما جيء إلى النبي بصبي أقعده في حجره فبال الصبي في حجر النبي فأمر صلى الله عليه مسلم بماء فأتبع البول مباشرة، ولم يؤخر غسل ثوبه إلى وقت الصلاة لما ذكرنا آنفاً.
العبرة الرابعة:
أن النبي أخبر الأعرابي بشأن هذه المساجد وأنها إنما بنيت للصلاة وقراءة القرآن وذكر الله، أو كما قال : لا يصلح فيها شيء من الأذى والقذر.
إذن فشأن المساجد: أن تعظم وأن تنظف وأن تطهر وألا يعمل فيها إلا ما يرضي الله تعالى، من الصلاة وقراءة القرآن وذكر الله عز وجل ونحو ذلك.
العبرة الخامسة:
أن الإنسان إذا دعا غيره بالحكمة واللطف واللين حصل من المطلوب ما هو أكبر مما لو أراد معالجة الشيء بالعنف، وقد اقتنع هذا الأعرابي اقتناعاً تاماً بما عَلَّمَه النبي حتى إنه قال هذه الكلمة المشهورة " اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً ".
فنجد هنا أن النبي استعمل مع هذا الرجل جانب اللين والرفق لأنه جاهل بلا شك، إذ لا يمكن لعالم بحرمة المسجد، ووجوب تعظيمه أن يقوم أمام الناس ليبول في جانب منه.
المثال الثاني: الصحابي الذي جامع زوجته في نهار رمضان:(/2)
أخرج البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، { أن النبي جاءه رجل فقال: يا رسول الله هلكتُ. قال "ما أهلكك؟" قال: وقعت على امرأتي في رمضان وأنا صائم ! وهذا جرم عظيم أن يتعمد الإنسان جماع زوجته وهو صائم في رمضان، ولكن لننظر كيف عامله النبي .. هل زجره؟ هل تكلم عليه؟ هل وبّخه؟ لا. لأن الرجل جاء تائباً نادماً، وليس معرضاً مستهتراً غير مبالٍ بما جرى منه }.
{ فسأله النبي : هل يجد رقبة ليعتقها كفارة عما وقع منه؟ فقال: لا. فسأله: هل يستطيع أن يصوم شهرين متتابعين؟ فقال: لا، فسأله: هل يستطيع أن يطعم ستين مسكيناً؟ فقال: لا. ثم جلس الرجل فأُتي النبي بتمرة، فقال: "خذ هذا فتصدق به" يعني كفارة. فقال: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟! ما بين لامتيها أهل بيت أفقر مني ! فضحك النبي حتى بدت نواجده، ثم قال: "أطعمه أهلك" }.
فنجد في هذه القصة عبراً منها، أنه لم يعنف الرجل ولم يزجره ولم يوبخه لأنه جاء تائباً نادماً، وهناك فرق بين رجل معاند ورجل مسالم جاء يستنجد بنا ويطلب منا أن نخلصه مما وقع فيه، لذلك عامله النبي بهذه المعاملة حيث رده إلى أهله ومعه الغنيمة التي حملها من رسول الله ، وهي هذا التمر الذي كان مفروضاً عليه أن يطعمه ستين مسكيناً، لو لم يكن فقيراً.
المثال الثالث: الرجل الذي عطس في الصلاة:
نأخذ هذا المثال من حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه، حين دخل مع النبي وهو يصلي فعطس رجل من القوم، فقال: الحمد لله. فقال له معاوية: يرحمك الله. فرماه الناس بأبصارهم، يعني استنكاراً لقوله.. فقال: واثكل أميّاه، فجعلوا يضربون على أفخاذهم يسكتونه فسكت، فلما انصرف النبي من الصلاة دعاه وقال له: { إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هي التكبير، وقراءة القرآن } أو كما قال .
قال معاوية: بأبي هو وأمي ما رأيت معلماً أحسن تعليماً منه والله ما كهرني ولا تهرني.
المثال الرابع: الرجل الذي لبس خاتماً من ذهب:
نأخذ هذا المثال من قصة الرجل الذي كان عليه خاتم من ذهب، وكان النبي قد بيّن أن الذهب حرام على ذكور هذه الأمة. فقال النبي : { يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيضعها في يده }. ثم نزع النبي الخاتم بنفسه، ورمى به فلما انصرف النبي قيل للرجل: خذ خاتمك وانتفع به، فقال: والله لا آخذ خاتماً طرحه النبي .
نرى في معاملة النبي لهذا الرجل شيئاً من الشدة، إذ الظاهر أن هذا الرجل كان قد بلغه الخبر بأن الذهب حرام على ذكور هذه الأمة فلهذا عامله النبي هذه المعاملة التي هي أشد من معاملة من ذكرنا سابقاً.
إذن لا بد أن يكون الداعية منزلاً لكل إنسان منزلته بحسب ما تقتضيه الحال: فهناك جاهل لا يدري، وهناك عالم ولكن عنده فتور وكسل، وهناك عالم ولكنه معاند ومستكبر، فيجب أن ينزل كل واحد من هؤلاء المنزلة اللائقة به.
المقوم الرابع: حسن التربية:
أي أن تكون المرأة حسنة التربية لأولادها، لأن أولادها هم رجال المستقبل ونساء المستقبل، وأول ما ينشئون يقابلون هذه الأم، فإذا كانت الأم على جانب من الأخلاق وحسن المعاملة، وظهروا على يديها وتربوا عليها، فإنهم سوف يكون لهم أثر كبير في إصلاح المجتمع.
لذلك يجب على المرأة ذات الأولاد أن تعتني بأولادها، وأن تهتم بتربيتهم، وأن تستعين إذا عجزت عن إصلاحهم وحدها بأبيهم أو بولي أمرهم، إذا لم يكن لهم أب من إخوة أو أعمام أو بني أخوة أو غير ذلك.
ولا ينبغي للمرأة أن تستسلم للواقع، وتقول: سار الناس على هذا فلا أستطيع أن أغيّر، لأننا لو بقينا هكذا مستسلمين للواقع ما تم الإصلاح، إذ إن الإصلاح لا بد أن يغير ما فسد على وجه صالح، ولا بد أن يغير الصالح إلى ما هو أصلح منه حتى تستقيم الأمور.
ثم إن التسليم للواقع أمر غير وارد في الشريعة الإسلامية، ولهذا لما بعث النبي في أمته مشركة يعبد أفرادها الأصنام، ويقطعون الأرحام، ويظلمون ويبغون على الناس بغير حق، لم يستسلم ، بل لم يأذن الله له أن يستسلم للأمر الواقع، بل قال سبحانه وتعالى له: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ [الحجر:94].
فأمره سبحانه أن يصدع بالحق، وأن يعرض عن المشركين ويتناسى شركهم وعدوانهم حتى يتم له الأمر وهذا هو الذي حصل، نعم قد يقول قائل: إن من الحكمة أن نغير، لكن ليس بالسرعة التي نريدها، لأن المجتمع على خلاف ما نريد من الإصلاح. فحينئذٍ لا بد أن ينتقل الإنسان بالناس لإصلاحهم من الأهم إلى ما دونه، أي يبدأ بإصلاح الأهم والأكثر إلحاحاً ثم ينتقل بالناس شيئاً فشيئاً حتى يتم له مقصوده.
المقوم الخامس: النشاط في الدعوة:
أي أن يكون للمرأة دور في تثقيف بنات جنسها، وذلك من خلال المجتمع سواء أكان في المدرسة أو الجامعة أو في مرحلة ما بعد الجامعة كالدراسات العليا. كذلك أيضاً من خلال المجتمع فيما بين النساء من الزيارات التي تحصل فيها من الكلمات المفيدة ما يحصل.(/3)
ولقد بلغنا - ولله الحمد - أن لبعض النساء دوراً كبيراً في هذه المسألة، وأنهن قد رتّبْنَ جلسات لبنات جنسهن في العلوم الشرعية، والعلوم العربية، وهذا لا شك أمر طيب تحمد المرأة عليه، وثوابه باقٍ لها بعد موتها لقول النبي : { إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له }.
فإذا كانت المرأة ذات نشاط في مجتمعها في نشر الدعوة: من خلال الزيارات، أو من خلال المجتمعات في المدارس أو غيرها، كان لها أثر كبير، ودور واسع في إصلاح المجتمع.
هذا هو ما حضرني الآن بالنسبة لدور المرأة في إصلاح المجتمع، وذكر مقومات هذا الإصلاح.
هذا والله سبحانه أسأل أن يجعلنا هداة مهتدين، وصالحين مصلحين، وأن يهبنا منه رحمته إنه هو الوهاب.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.(/4)
دور المرأة في الإصلاح 1
الشيخ/محمد حسين يعقوب
أهمية الوقت لدى المرأة وأضرار إضاعته :
لقد جرت العادة في أكثر بلاد المسلمين أن تخصص المرأة فترةً بعد العصر لاستقبال صديقاتها ،أو زيارتهن على اختلافٍ في طريقة الزيارة أهي دورية منظمة أم عفوية؟ ، وأياً كانت الحال فلا يخلو البيت يومها من إعلان حالة طوارئ فيها. فاستعدادات فوق العادة، تستنزف الجهد ، وتضيع الوقت ، وتبعثر المال. وتحول يوم الاستقبال إلى مباراة بين الأسر فيما يقدم للضيوف ، وفي إبراز مظهر البيت ولباس أهله.
ولو سُئلتْ غالبية النساء عن الهدف من هذه الزيارة؟ لكان أحسن ما يفصحن به إنه التلاقي لقتل الوقت والتسلية ودفع السأم والملل عنهن.
ولا أدري هل الوقت إلا عمر الإنسان الذي يسأل عنه ؟ ومتى السؤال؟ إنه يوم الفزع الأكبر.. يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله.
عن أبي بردة - رضي الله عنه - أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم - قال: ( لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه؟ وعن علمه ما عمل به؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيمَ أنفقه؟ وعن جسمه فيما أبلاه؟ ) .
ومن السائل؟ إنه رب العالمين الذي خلق الجن والإنس لعبادته لا للهو ولا للتسلية؛ ? لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إن كُنَّا فَاعِلِينَ ? [الأنبياء:17 ].
فماذا نقول لرب العالمين؟ إذا سألنا عن الوقت المهدور الذي إن لم يخل من المحرمات فلا يخلو من لغو الكلام والثرثرة التي ذمها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ( إن أبغضكم إليَّ وأبعدكم مني يوم القيامة: الثرثارون المتشدقون والمتفيهقون ) .
ومن أضاع وقته فقد أضاع جزءاً لا يعوض من حياته، وجديرٌ أن تطول عليه حسرته ، وهل الوقت للمرأة وحدها؟! أين حق الزوج والأولاد؟ ومتى تؤدي حقوق مجتمعها وأمتها الإسلامية؟
لمن تترك مهمتها إذا كان همها الخروج من البيت واللهو الفارغ؟ وقد تقول إحداهن: إنها أدت واجباتها، ظناً منها أن مهمتها محصورة في التنظيف وإرضاء الزوج والإنجاب ، وإن التفتت إلى تربية من أنجبتهم فقد لا يتعدى اهتمامها إطعامهم وكسوتهم المناسبة ودراستهم المتفوقة.
لا يا أختاه ، فأنت مربية الأجيال ، وممولة للمجتمع المسلم ببناته من نساء ورجال ، إن واجبي وواجبك التربية الرشيدة لأبنائنا ، وإعدادهم إعداداً إسلامياً يجعلهم قادرين على حمل الأمانة والنهوض بالأمة وبناء المجتمع الفاضل المنشود.
فإن تركتُ وإياكِ أبناءنا والتفتنا للتسلية فقد خلفنا أبناءً هم الأيتام حقاً رغم وجود أبويهم ،إن اليتيم هو الذي تلقى له أماً تخلت أو أباً مشغولاً ، بل من فقد والديه بالموت قد يجد من يشفق عليه ويرعاه ويحنو عليه،أما من فقدهما في اللهو عنه فأنى يجد من يرحمه ويفطن لمأساته ، فالمرأة المشغولة بنفسها دائماً لن تجد الوقت الكافي للإشراف على فلذات كبدها وتوجيههم ومتابعتهم والأنس بهم ، مما يساعدها على أداء رسالتها وإرضاء ربها.
صحيحٌ أن الدنيا - هي دار الامتحان - مليئة بالمتاعب والصعاب وفي اللقاء تسلية ومؤانسة... لكن هل التسلية غاية من تشعر أنها على ثغر من ثغور الإسلام ، فلا يؤتى من قبلها؟ أم هي غاية العابثات؟ أما وإن الترويح ضروري بين الفينة والأخرى فليكن على غير حساب الأخريات وأوقاتهن...!!
كثيراً ما نشكوا من غزو أعدائنا الفكري ... وأننا مستهدفون محاربون، فهل أعددنا العدة لمجابهتهم، أو على الأقل هل حصَّنا أنفسنا ضدهم روحياً وثقافياً لنطالب بالتسلية؟ ولا تنصر الدعوات وتنتشر بالتشكي والأسى.
إن ما نعانيه يوجب علينا أن نراعي واقعنا على أسس إسلامية لنستطيع النهوض من كبوتنا ، وإلا ستبقى آمالنا سراباً وأمانينا حلماً نرجوا أن يتحقق ، وهيهات أن يتحقق بدون عمل وجهد وجهاد. ? والَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ? [العنكبوت:69 ].
إن العقوبات التي يوقعها الله في أمتنا ما هي إلا لتخاذلنا عن نصرة ديننا وعدم القيام بواجبنا ، والانهزامات التي أصابتنا قد ساهمت بها المرأة من حيث لا تدري ، يوم بدأ دورها ينحسر وتخلت عن القيام بواجبها كما ينبغي في التربية والتنشئة والتعليم.
وهذه الحقيقة المؤلمة التي تدمي القلب وتحز في النفس ، تدفعنا في الوقت نفسه إلى الاستفادة من أوقاتنا للقيام بمهمتنا التي سنسأل عنها: ( المرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها ) .
فلنقم بواجبنا في تربية رجال وأمهات المستقبل ثم لنلتفت إلى التسلية. هذا وإن الرسول - صلى الله عليه وسلم- دلنا على طريقة لإبعاد الهم عن النفس ألا وهى توثيق الصلة بالله ، نقبل عليه بالطاعات، ونجعل همنا الدار الآخرة، فما الهم إلا نتيجة الحرص على الفانية.(/1)
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه ، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهى راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدِّر له ).
ولقد قال تعالى مبيناً مدى الضيق والضنك ، والعيش النكد الذي يكون فيه الغافل المعرض عن ذكر الله، وذلك في الدنيا قبل الآخرة: ? ومَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً ونَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى ?124? قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وقَدْ كُنتُ بَصِيراً ?125? قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنسَى ? [طه:124 ـ 126 ]
فلنجعل غايتنا رضا الله تعالى، وسبيلنا اتباع شريعته، عندها نشعر أنه لا فراغ يثقل على النفس ويجلب الهم والحزن، بل أوقاتنا معمورة بذكر الله وطاعته، والحياة كلها تصبح عبادة وقُربة، واستفادة من كل لحظة في حياة الإنسان عملاً بقول المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك ).
وإن كان ابن الجوزي قد عجب من أهل زمانه وإضاعتهم للوقت فقال: « رأيت عموم الخلائق يدفعون الزمان دفعاً عجيباً، وإن طال الليل فبحديثٍ لا ينفع أو بقراءة كتاب فيه غزاة وسمر، وإن طال النهار فبالنوم وهم في أطراف النهار على دجلة أو في الأسواق نشبههم بالمتحدثين في سفينة وهي تجري بهم وما عندهم خبر، ورأيت النادرين قد فهموا معنى الوجود، فَهُمْ في تعبئة الزاد للرحيل، إلا أنهم يتفاوتون ، وسبب تفاوتهم قلة العلم وكثرته بما ينفق في بلد الإقامة » .
فماذا نقول نحن عن الناس في زماننا؟! وقد أصبح العبث الفارغ أساس حياة أكثرهم ، والتبرم بالحياة سبباً في أمراض نفسية غريبة ، وصار الضيق والهلع من المجهول شبحاً يطارد ضعاف النفوس والإيمان؟!
إن أساليبهم في اللهو وإضاعة الأوقات تفوق الخيال: فبعد السهر والسحر - على شتى البرامج في وسائل اللهو الحديثة المحرمة والمباحة- النوم حتى الضحى ، واللهاث بقية النهار للدنيا فقط ، وفي أعمال الدنيا.. وكثرة النوم والتناوم هو شأن الخاملين اللاهين. أما الجادون فيحرصون على أوقاتهم حرص الشحيح على ماله أو أشد حرصاً. حقاً: « نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ » .
أيهما أفضل المخالطة أم الانفراد؟
وكأني بك أختي المسلمة تتساءلين: وهل هذا يعني البعد عن الناس وعدم الاختلاط بهم؟
إن اختيار المخالطة مطلقاً خطأ ، واختيار الانفراد مطلقاً خطأ ، والإسلام دين تجمع وألفة ، والاختلاط بالناس والتعارف بينهم من تعاليمه الأساسية ، وقد فضل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ- المسلم الذي يخالط الناس على ذلك الذي هجرهم ونأى عنهم: « المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم » وكيف يكون الإحسان للجيران والأقارب إلا بمواصلتهم ومعرفة أحوالهم؟
فكم من زيارة دلت على خير في الدنيا والآخرة مسحت بها المسلمة آلام أختها المصابة، تقوي عزيمتها، تشد أزرها وتدفعها إلى الصبر ، تحس عندها حسن الظن بالله وقرب الفرج، تشاركها أفراحها، تعلمها ما تجهله من أمور الدنيا والدين ، تتناصح وإياها وتتشاور لما فيه خيرها وخير المسلمين. أما المخالطة العشوائية التي لا يأبه لها كثير من النساء فما هي إلا مظهر من مظاهر انهزام المرأة وتخاذلها عن القيام بواجباتها الأسرية، وهروب من التبعات المنزلية لتمضي مع صويحباتها فترة لهو ولغو. وهى حالة مرضية من حيث الهدف والمضمون. فحري بنا أن نسعى حثيثاً للعلاج قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله. ? ويَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ?27? يَا ويْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً ?28? لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إذْ جَاءَنِي وكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإنسَانِ خَذُول ? [الفرقان:27-29 ].
ولما للمرأة من مكانة عظيمة في توجيه الناشئة وغرس العقيدة الصافية في نفوس الأبناء، أجيال المستقبل، كان لابد من محاولة جادة للاستفادة من وقتها وعدم إضاعته سدى في مجاملات تافهة ، ومظاهر فارغة.
لقد كانت المرأة أماً وزوجة خير عون على الخير لما تطلعت نحوه ، وشر دافع نحو الخراب والدمار لما سعت إليه. كانت مطية للأفكار الهدامة في القرن العشرين ، وستكون مشعل نور للأجيال إن تمسكت بعقيدتها ودينها.
واللهَ أسأل أن يجعل هذه المحاولة لبنة تعين الأسرة المسلمة على إكمال رسالتها ،وأن يلهم مسلمة عصرنا رشدها لتعود كسالفتها الصالحة مرشدة لكل خير وفضيلة.
استئذان الزوج في الخروج :(/2)
إن الإسلام يأمر بالنظام في كل الحالات، في العادات والمعاملات، في السفر والحضر، فإذا خرج ثلاثة في سفر دعا إلى تأمير أحدهم ؛ لذلك وتنظيماً للمجتمع فقد جعل قوامة الأسرة للرجل ، فهو أقدر على القيام بهذا الاختصاص من المرأة ، إذ جعل مجالها الطبيعي يتناسب مع فطرتها النفسية وتكوينها الجسمي، وهو إمداد المجتمع المسلم بالأجيال المؤمنة المهيأة لحمل رسالة هذا الدين.
ولا أحد ينكر فضل الاختصاص من حيث قلة الجهد ، وجودة المردود ، سواء في النواحي المادية أو الإنسانية، هذه الرئاسة والقوامة تقتضي وجوب طاعة المرأة لزوجها، وقد جاء في الفتاوى لابن تيمية: « والمرأة إذا تزوجت كان زوجها أملك بها من أبويها ، وطاعة زوجها أوجب، وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( الدنيا متاع ، وخير متاعها المرأة الصالحة ، إذا نظرت إليها سرتك ، وإذا أمرتها أطاعتك ، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسك و مالك ) .
وفى الترمذي عن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( أيما امرأة ماتت وزوجها راضٍ عنها دخلت الجنة ) وقال الترمذي: حديث حسن.
وقد ورد أيضاً في المسند وسنن ابن ماجة وصحيح ابن حبان عن ابن أبى أوفى قال : لما قدم معاذ من الشام سجد للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : ما هذا يا معاذ ؟ قال: أتيت الشام فوجدتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم، فوددت في نفسي أن نفعل ذلك بك يا رسول الله. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ: ( لاتفعلوا ذلك، فإني لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لغير الله، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها والذي نفس محمد بيده لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها ولو سألها نفسها وهى على قتب لم تمنعه ) .
وإذا أراد الرجل أن ينتقل بها إلى مكان آخر مع قيامه بما يجب عليه وحفظ حدود الله فيها، ونهاها أبواها عن طاعته في ذلك فعليها أن تطيع زوجها دون أبويها.
وإذا نهاها الزوج عما أمر الله أو أمرها بما نهى الله عنه لم يكن لها أن تطيعه في ذلك ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال : ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ) .
هذا: وطاعة الزوج ليست تسلطاً منه، ولا امتهاناً للمرأة، وانتقاصاً لشخصيتها، إنما هي من طاعة الله والقربات إليه التي تثاب عليها ويجب أن تعتز بها ... وهذا ما يميز المسلمة الواقفة عند حدود الله عن العابثة المتسيبة، التي لا أب يردها ولا زوج يمنعها، تخرج من البيت متى تشاء وحيث تشاء ، فتزرع هذا الشر لتحصد الندامة فيما بعد بمشاكل لا تنتهي ، واتهامات كثيرة ، وواقع مرير ، ونتائج وخيمة ، ولا ينجي من ذلك إلا العودة إلى تحكيم شرع الله : ? ولَهُنَّ مِثْلُ الَذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ولِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ?[البقرة:228]، وهذه الدرجة هي قوامة الأسرة.
ولا يحل للزوجة أن تخرج من بيتها إلا بإذن زوجها ، سواء كان ذلك لكونها مرضعاً أو لكونها قابلة أو غير ذلك من الصناعات ، وإذا خرجت من بيت زوجها بغير إذنه كانت ناشزاً عاصية لله ورسوله ومستحقة للعقوبة.
وهكذا فخروجها للعمل بغير إذن زوجها نشوز عن طاعة زوجها وعصيان لله ولرسوله فكيف إذا خرجت للتزاور أياً كان السبب ؟!! ولو كان ذلك لزيارة والديها المريضين.
للزوج منعها من الخروج من منزلها إلى ما لها منه بد ، سواء أرادت زيارة والديها ، أو عيادتهما ، أو حضور جنازة أحدهما. قال أحمد في امرأة لها زوج وأم مريضة : طاعة زوجها أوجب عليها من أمها ، إلا أن يأذن لها .
وحتى الخروج للعبادة تحتاج معه إلى إذنه فعن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال : ( إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد للعبادة فأذنوا لهن ).
وعن ابن حبان من حديث زيد بن خالد : ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ) قال القسطلاني : أي إذا أمنت المفسدة منهن وعليهن ، وذلك هو الأغلب في ذلك الزمان ، بخلاف زماننا هذا الكثير الفساد والمفسدين وقد ورد في بعض طرق الحديث ما يدل على أن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد وذلك في رواية حبيب بن أبي ثابت عن ابن عمر بلفظ: ( لا تمنعوا نساءكم المساجد وبيوتهن خير لهن )، وحديث عائشة - رضى الله عنها- في منع النساء علقته على شرط ( لو رأى رسول الله ما أحدثته النساء ).
وفى رواية عند البخاري عن ابن عمر - رضي الله عنهما- مرفوعاً : ( إذا استأذنت امرأة أحدكم ـ أي أن تخرج إلى المسجد أو ما في معناه كشهود العيد وعيادة المريض ـ فلا يمنعها ).
قال القسطلاني: وليس في الحديث التقييد بالمسجد ، إنما هو مطلق يشمل مواضع العبادة وغيرها.
ومقتضى الحديث : أن جواز خروج المرأة يحتاج إلى إذن الزوج .
أما قول القائل : إنهن لا يخرجن من بيوتهن مطلقاً لقوله تعالى :? وقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ ? فليس بحجة له بدليل قوله تعالى بعدها : ? ولا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى ? والمقصود به عند خروجهن.(/3)
ومعنى هذه الآية : الأمر بلزوم البيت وإن كان الخطاب لنساء النبي - صلى الله عليه وسلم- فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى . هذا لو لم يرد دليل يخصص جميع النساء ، كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة .
وليس معنى هذا الأمر ملازمة البيوت فلا يبرحنها إطلاقاً ، وإنما هي إيماءة لطيفة إلى أن يكون البيت هو الأصل في حياتهن وهو المقر وما عداه استثناءً طارئاً لا يثقلن فيه ولا يستقررن وإنما هي الحاجة وتقضى بقدرها .
وقد عرف عن أمهات المؤمنين والصحابيات أنهن كن يخرجن في حوائجهن وللمشاركة في الغزو.
فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يغزو بأم سليم ونسوة من الأنصار معه إذا غزا فيسقين الماء ويداوين الجرحى .
وفيه خروج للنساء في الغزو والانتفاع بهن في السقي والمداواة لمحارمهن وأزواجهن وغيرهم مما لا يكون فيه مس بشرة إلا موضع الحاجة.
وهذه أم عمارة تحدثنا حديثها يوم أحد : (خرجت أول النهار ومعي سقاء فيه ماء ، فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أصحابه والريح والدولة للمسلمين ، فلما انهزم المسلمون ، انحزت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلت أباشر القتال وأذب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بالسيف وأرمى بالقوس حتى خلصت إلّى الجراحة ).
وعن عمر - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول : ( ما التفت يوم أحد يميناً ولا شمالاً إلا ورأيتها تقاتل دوني ) .
وتستأذنه - صلى الله عليه وسلم- أم سنان الأسلمية في الخروج إلى خيبر للسقيا ومداواة الجرحى فقال لها عليه الصلاة والسلام: ( فإن لك صواحب قد أذنت لهن من قومك ومن غيرهم فكوني مع أم سلمة ).
وفي خيبر أيضاً عن امرأة من بني غفار قالت : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة من بني غفار فقلنا : يا رسول الله قد أردنا أن نخرج معك إلى وجهك هذا - وهو يسير إلى خيبر - فنداوي الجرحى ونعين المسلمين بما استطعنا. فقال : ( على بركة الله ) فخرجنا معه.
حتى المقعدة فلها الخروج في حوائجها نهاراً ، سواء كانت مطلقة ، أو متوفى عنها ، لما روى جابر قال: طُلقتْ خالتي ثلاثاً فخرجت تجذ نخلها فلقيها رجل فنهاها ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( اخرجي فجذي نخلك لعلك أن تتصدقي منه أو تفعلي خيرا ).
وروى مجاهد قال : استشهد رجال يوم أحد فجاءت نساؤهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وقلن: يا رسول الله نستوحش بالليل أفنبيت عند إحدانا فإذا أصبحنا بادرنا إلى بيوتنا؟ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم : ( تحدثن عند إحداكن حتى إذا أردتن النوم فلتؤب كل واحدة إلى بيتها ) .
ويدخل الرسول - صلى الله عليه وسلم- على عائشة - رضى الله عنها- وعندها امرأة قال: ( من هذه ؟ قالت: فلانة ، تذكر من صلاتها، قال: ( مه ، عليكم بما تطيقون فوالله لا يمل الله حتى تملوا، فكان أحب الدين إليه مادام عليه صاحبه ) [أخرجه البخاري في كتاب الإيمان].
كما طلب من الشفاء – وهى من المهاجرات الأول وبايعت النبي - صلى الله عليه وسلم- وكانت من عقلاء النساء وفضلائهن – قال لها صلى الله عليه وسلم : « علمي حفصة رقية النملة كما علمتها الكتابة».
وكيف يكون تعليمها إلا بلقائها معها وخروجها إليها ؟!!.
فهذه كلها حالات تخرج فيها المرأة بمعرفة الرسول - صلى الله عليه وسلم- وإقراره بخروجها أو أمره وإذنه الصريح به ، فلو كان المقصود بالقرار في البيت عدم الخروج المطلق لنهى عن الخروج ولما أذن به.
ثم إن الحبس الدائم للمرأة في البيت ما هو إلا عقوبة شرعية - كان قبل أن يشرع حد الزنا فنسخت هذه العقوبة بالحد الشرعي – أقول: كان الحبس في البيوت للمرأة التي تأتي الفاحشة وذلك لقوله تعالى : ? واللاَّتِي يَأْتِينَ الفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ فَإن شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ في البُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ المَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيل ? [ النساء:15 ].
أما المرأة العفيفة الملتزمة بأحكام دينها ، والتي تراقب الله تعالى في حركاتها وسكناتها فهي تقدر شرف مهمتها وعظم مسئوليتها : إنها إن قرت في بيتها فهي في عمل واعٍ يقظ ، لا فراغ اللاهيات ولا تفاهة العابثات من ربات الفيديو والأزياء والسينما...
إنها تعد لأمتها الإسلامية أبطالها الذين يستعيدون مجدها فتربيهم على الاعتزاز بقيم الإسلام ليفدوه بأنفسهم إن واجههم الخصوم ، ويعملون وسعهم لإعلاء كلمة الله.
وإن أرادت الخروج من بيتها فلن يكون ذلك إلا إن كانت المصلحة الشرعية في الخروج راجحة عنها في البقاء.(/4)
وإن خرجت : فبالحدود المشروعة وبالطريقة المشروعة ، تستأذن الزوج المسلم ولا تخرج بغير إذنه ، وإلا اعتبرت عاصية لمله ولرسوله ، وبالمقابل فزوجها المسلم يرعى الله فيما ائتمنه ، فيحرص على أن يبعدها عن الشبهات ومواطن الزلل. ويأخذ بيدها إلى كل خير ، ليشاركها أجرها سواء كان زيارة أقاربها وصلتهم أو بر والديها ، أو صلة أخواتها في الله ، أو العلم المشروع.
أصل بناء البيت:
ثم إن الأصل أن ينبني البيت المسلم على المودة والرحمة ، لا الغلظة والتسلط. فالزوج والزوجة كلاهما يحكم الشرع ويزن الأمور بمقياسه ، فلا يتعسف الرجل في استعمال حقه الذي منحه الله إياه ويحفظ وصية الرسول- صلى الله عليه وسلم- بالمرأة : ( استوصوا بالنساء خيراً ) وبالمقابل لا يجمح الهوى بالمرأة ولا تستكبر عن طاعة زوجها فتكون في عداد النواشز .
أما عند عدم الزوج لوفاته ، أو لعدم زواج المرأة. فتستأذن أبويها وهذا من برهما وحسن صحبتهما فهما أحرص الناس على حسن سمعتها وجلب الخير لها.
إن المؤمنة حيثما جالست غيرها تحرص على أن لا تقذف بكلامها دون تمحيص ، فهي تسعى لتكون أقوالها فضلاً عن أفعالها في ميزان حسناتها.
لذا تتواصى مع أخواتها المؤمنات بكل ما فيه خير وصلاح ، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، وإن لمست نفوراً وشقاقاً بين البعض منهن فهي تعمل على إصلاح ذات البين ، وإطفاء نار العداوة ، تتمثل قوله تعالى : ? لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ? [النساء 114].
المتأمل في هذه الآية يجد أن غالبية النجوى لا خير فيها إلا هذه الثلاث :
1- الأمر بالصدقة.
2- الأمر بالمعروف ، ونجمعهما تحت عنوان الدلالة على الخير.
3- الإصلاح بين الناس.
ومن تكلم بها أو بأحدها فهو في قربة إلى الله تعالى ، بل وكلامه من أفضل الذكر، فقد قال ابن تيمية رحمه الله:
” إن كل ما تكلم به اللسان، وتصوره القلب ، مما يقرب إلى الله ، من تعلم علم ، وتعليمه ، وأمر بمعروف ، ونهي عن منكر ، فهو من ذكر الله ولهذا من اشتغل بطلب العلم النافع ، بعد أداء الفرائض ، أو جلس مجلساً يتفقه أو يفقه فيه الفقه الذي سماه الله ورسوله فقهاً فهذا أيضاً من أفضل ذكر الله “ .
1
- الدلالة على الخير :
فإذا رزقك الله فهماً وعلماً ، أو قوة وعافية ؛ فاستخدميها لمعاونة المسلمين وتسهيل حاجاتهم ، سواء بعملها بيدك ؛ أو بتعليمها غيرك ، فما ذلك إلا زكاة الصحة التي حباك الله إياها.
( كل سلامى من الناس عليه صدقة ، كل يوم تطلع فيه الشمس ، تعدل بين الاثنين صدقة ، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة ، والكلمة الطيبة صدقة ، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة ، وتميط الأذى عن الطريق صدقة ) .
إن كثيراً من بلادنا المسلمة مليئة بالأزمات الاقتصادية بسبب القحط أو الحروب. وتنشط المؤسسات التبشيرية والشيوعية للاستفادة من تقصيرنا جميعاً ، فتستغل آلام المكلومين لتقدم لهم الغذاء واللباس والدواء طعماً لجذبهم به لمصيدتها ، وتعمل جاهدة بكل الوسائل لجلبهم لساحتها ، بتربية أبنائهم أو تعليمهم أو تطبيبهم...
فهلا استفدنا من زياراتنا ووقتنا الضائع؟! فتدارسنا أحوال أمتنا ، وعلمنا بعضنا أن نخيط الثياب التي تستر عورات أخواتنا المسلمات المحتاجات.
ولنصنع من الطعام ما يمكن أن يرسل لهن. ولنثبت أننا المسلمات اللاتي يهمهن أمر الأمة المسلمة. لا الدمى المتحركة التي تُزين لتلهي من حولها وتبعد عن جادة الصواب.. فهل النصرانيات أقدر منا؟؟ أم أنهن أكثر تضحية وإيماناً؟ نحن حفيدات عائشة وخديجة وأسماء ، أولسنا أجدر أن نضحي من أجل حقنا الأكيد أكثر من تضحيتهن من أجل باطلهن؟.
ويتامى المسلمين؟! من ينجينا من الإثم إذ يُحملون إلى البلاد الشيوعية أو النصرانية ليربوهم على دينهم؟.
ماذا نقول غداً لرب العالمين إن سألنا عنهم وعن تفريطنا وتقصيرنا في حقهم؟
أفلا يجدر بنا أن نتكفلهم؟ وماذا لو ضمت الأسرة إليها فرداً أو اثنين لتنشئتهم (لا تبنيهم فهو محرم ) وتربيتهم؟.
أو إن عملت الجمعيات الخيرية المسلمة لرعايتهم ، وساهمت المرأة المسلمة بما تستطيع ، سواء بالمادة أو بالجهد الذي تقدر عليه ، من عمل يدوي أو تعليمي أو توجيهي؟!
قد يقال : إن هذه أعمال ضخمة لا تقدر عليها جهود فردية قليلة المورد.
? إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ? [الرعد 11] فهذه الفكرة إن اقتنعت وإياي بها وأقنعت في زيارتك صديقتَك المؤمنةَ وجارتَك المسلمةَ لابد وأن نحقق خيراً كثيراً للمسلمين ، ونكون قد ساهمنا معاً في النهضة الإسلامية.
ولاشك أن ذلك مطلب شرعي بدلاً من أن تظل المسلمة مجال تنافس الدول لتلهيها عن رسالتها بمستحضرات التجميل ، وأدوات الترهل والترفيه.(/5)
وبذلك نكون قد ارتقينا بزياراتنا عن اللغو إلى التناصح لما فيه خيرنا وخير المسلمين ، وفي عملك ذلك أجر الصدقة.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ قال: ( الإيمان بالله، والجهاد في سبيله. قال: قلت: ثم أي الرقاب أفضل؟ قال : أنفسها ثمناً عند أهلها وأكثرها نفعاً. قال: قلت: فإن لم أفعل؟ قال : تعين صانعاً أو تصنع لأخرق ) .
فلك في معاونتك لأختك المسلمة أياً كانت تلك المعاونة الثواب الجزيل فعملك من أفضل القربات.
فإن كانت مريضة أعجزها المرض عن أداء مهمتها تساعدينها في تعليم أولادها الصغار ، أو عمل طعام لهم، أو ترتيب بيتها وتنسيقه بدل أن تكون زيارتها للكلام والتسلية فحسب.
وإن كانت نفساء أمضَّها ألم الولادة : تقومين على رعايتها ورعاية وليدها. فهذا أجر قد ساقه الله إليك، ولا يقدر عليه غيرك، وإن كانت جاهلة بفنون المنزل، أو حتى في التعامل الاجتماعى تعلمينها وتنصحينها فالدين النصيحة، ولك في كل ذلك أجر الصدقة، ولنذكر معاً حديث الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة ) .
فلنكن في حاجة أخواتنا المسلمات، والله معنا في قضاء حاجاتنا وتفريج كرباتنا. وأينا تستغني عن غيرها؟! وإن استغنت الواحدة عن غيرها بأعمالها ، فلابد أن تحتاج إلى التناصح والمشاورة معهن.
فما أجدرنا نحن المسلمات الحريصات على حسن تنشئة أبنائنا ونراقب الله في تربيتهم ما أجدرنا أن نستفيد من فترة زياراتنا للتناصح في تربيتهم، وحل مشكلاتهم ليحل العمل والتوجيه محل الشكوى والأسى الذي لا يصحح خطأ ولا يغير واقعاً.
فإن أقلقنا أن نجد بعضاً من أبناء المسلمين يفوتهم الفكر الديني الواعي، أو لا يلتزم آخرون بالتعاليم الشرعية، أو لا يجيد الكثير منهم التعامل مع الآخرين ... فعلينا نحن المسلمات أن نسعى إلى تصحيح هذا الواقع المرير بكل ما نستطيع وبصبر وجلد.
ذلك أن التربية ليست أن تلقي الكلمة والتوجيه على أبنائنا ثم ننتظر الاستجابة، فالمغريات كثيرة لا تنتهي... والتربية طويلة وشاقة تبدأ من نعومة أظفارهم.
فلابد من الرعاية الدؤوب لهم دون ملل. نتابعهم باستمرار في جدهم وهزلهم، لعبهم ومذاكرتهم.
وبعد أن نعمل جهدنا لنكون القدوة الحسنة لهم في كل خلق فاضل كريم، نتناصح مع أخواتنا المؤمنات في حسن اختيار القصص المفيدة التي تثقف الطفل وتعده لحياته المستقبلة، وتربي وجدانه فيعرف كيف يعطي كل ذي حق حقه. ونبعده عن القصص الخرافية والبوليسية وكذلك عن البرامج الإعلامية التي لا تليق، ونسعى بالتشاور مع بعضنا لنحيط أبناءنا بالصحبة الطيبة التي تعينهم على الخير.
فالشر كالداء المعدي، سرعان ما ينتشر بالمخالطة. فنبعدهم عنه لنحفظ عليهم دينهم وخلقهم.
وهكذا نشحذ هممنا لتكون زياراتنا هادفة لما يرضي الله وينفع المسلمين.
عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رجلاً جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله. أي الناس أحب إلى الله؟ قال: ( أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله -عز وجل- سرور تدخله على قلب مسلم ) .
فلنحرص على نفع المسلمات وإدخال المسرة على قلوبهن ، ولا نبخل بنعمة حبانا الله إياها أن نخدم بها مسلمة فنفرج بها كربتها ونعمل ما فيه مصلحتها ، وندعوها إلى اتباع الخير الذي نريده لأنفسنا، قال تعالى: ? والْمُؤْمِنُونَ والْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ ويُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ويُطِيعُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ? [التوبة 71].
ولا تَقُلْ المسلمة: مالي وللناس، فإني أدعهم وشأنهم ولا أتدخل في خصوصياتهم . نعم ذلك في أمور الدنيا المباحة التي يستوي فيها عملها وتركها »فمن حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه« أما ما فيه خطر محقق وحتى لو كان ذلك في أمور الدنيا، فالواجب النصح فالدين النصيحة.
إن المؤمنة عليها مهمة النصح والدعوة إلى دينها على قدر ما تستطيع، ومن روائع ما روته لنا السيرة ، قصة الصحابية الجليلة أم سليم.
(كانت أم سليم أم أنس بن مالك من السابقات للإسلام من الأنصار خطبها أبو طلحة قبل أن يسلم وبعد وفاة زوجها فقالت : يا أبا طلحة ألست تعلم أن إلهك الذي تعبده نبت من الأرض ؟ قال: بلى. قالت : فلا تستحي أن تعبد شجرة؟! إن أسلمت فإني لا أريد صداقاً غيره. قال: حتى أنظر في أمري. فذهب ثم جاء. فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. فقالت : يا أنس زوج أبا طلحة. فزوجه ).
إنه مهر كريم لامرأة داعية كريمة ، دعته إلى عبادة الله وحده ، والبعد عن الشرك به ، فشرح الله صدره وآمن فأكرِمْ به من مهر.(/6)
وما هلك بنو إسرائيل إلا لتركهم فضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ? كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ? أما اعتزال الناس اعتقاداً بعدم صلاحهم، فهو كما يقال : آخر الدواء الكي ذلك أننا حين نعتزل الناس لأننا نحس أننا أطهر منهم روحاً أو أطيب منهم قلباً ، أو أرحب منهم نفساً ، أو أذكى منهم عقلاً لا نكون قد صنعنا شيئاً كبيراً. لقد اخترنا لأنفسنا أيسر السبل وأقلها مؤونة.
إن العظمة الحقيقية أن نخالط هؤلاء الناس مشبعين بروح السماحة والعطف على ضعفهم ونقصهم وخطئهم وروحِ الرغبة الحقيقية في تطهيرهم وتثقيفهم ورفعهم إلى مستوانا بقدر ما نستطيع.
إنه ليس معنى هذا أن نتخلى عن آفاقنا العالية ، ومثلنا السامية ، أو أن نتملق هؤلاء الناس ، ونثني على رذائلهم أو أن نشعرهم أننا أعلى منهم أفقاً. إن التوفيق بين هذه المتناقضات وسعة الصدر لما يطلبه هذا التوفيق من جهد هو العظمة الحقيقية .
وهكذا ... فبعد أن تتعهد المسلمة نفسها بالإصلاح فتلتزم السنة وتعض عليها بالنواجذ، تساهم بالدعوة إلى الخير بين النساء. وهذا واجب ديني تأثم إن قصرت به، مهما كان مستواها الثقافي، فتعمل بقدر طاقاتها وإمكانياتها، تأمر بالمعروف بلفظ لين وقول لطيف، والله تعالى يقول لرسوله - صلى الله عليه وسلم: ? ولَوْ كُنتَ فَظاً غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ? [آل عمران 159] ، ترفق بمن حولها، توقر الكبيرة وترحم الصغيرة ، ولا تنسى أنها صاحبة هدف جليل تسعى لتحقيقه بأسلوب يرضي الله تعالى ويؤدي للنتيجة التي ترجوها.
فكما يسعى أصحاب الأهداف الدنيوية لتحقيق أهدافهم، فيتحسسون مداخل نفوس من يتعاملون معهم، ليعرفوا كيف الوصول لغايتهم، يجب أن نكون نحن المسلمات أكثر اهتماماً بمعرفة من ندعوهن لتكون دعوتنا كما أراد الله تعالى:? ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ والْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ? [النحل 125].
2- الإصلاح بين المؤمنات :
كما نجعل من زياراتنا مجالاً خصباً للإصلاح بين الناس ، فإن عمل الشيطان على إثارة العداوة بين المسلمات نزيلها بالإصلاح بينهن، فإن إزالة الخصام دليل سمو النفس التي تعمل على إشاعة المودة بين الآخرين، ليحل الوفاق محل الشقاق، والصلة مكان القطيعة، لذا كانت درجة من يصلح بين الناس أفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة التطوع لا الواجبة .
عن أبي الدرداء - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم : ( ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا : بلى. قال: إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة ) . ويروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ( هي الحالقة: لا أقول تحلق الشعر ، ولكن تحلق الدين ).
ذلك أن الإفساد بين الآخرين يؤدي إلى القطيعة التي حرمها الشرع كما جاء في الحديث الشريف: ( لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام ) .
وقال - صلى الله عليه وسلم- منفراً من الشحناء والقطيعة ومبيناً سخط الله تعالى على المتقاطعين حتى يصطلحا: ( تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين، ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً، إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا ثلاثاً ).
فإن حصلت جفوة بين المسلمات نسارع إلى الإصلاح بينهن للتغاضي عن هفوة المخطئة، فإذا بالعيش صافياً بعد كدر ، والوداد عاد بعد الجفاء.
والواجب أن تقبل عذر من تعتذر، لا أن تشيح بوجهها بعيداً عن أختها ، إصراراً على مواصلة القطيعة، وعدم قبول العذر: إذ من شرار الناس من لا يقبل عثرة، ولا يقبل معذرة كما بين الرسول - صلى الله عليه وسلم :
عن ابن عباس - رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ : ( ألا أنبئكم بشراركم؟ قالوا: بلى إن شئت يا رسول الله، قال: إن شراركم الذي ينزل وحده، ويجلد عبده، ويمنع رفده. أفلا أنبئكم بشر من ذلك؟ قالوا: بلى إن شئت يا رسول الله. قال: من يبغض الناس ويبغضونه، قال: أفلا أنبئكم بشر من ذلك؟ قالوا: بلى إن شئت يا رسول الله. قال: الذين لا يقبلون عثرة ولا يقبلون معذرة ولا يغتفرون ذنباً، قال: أفلا أنبئكم بشر من ذلك؟ قالوا : بلى يا رسول الله : قال : من لا يرجى خيره ولا يؤمن شر5 ) .
وهكذا أختي المسلمة يتلخص دورك في الإصلاح في :
• إصلاح نفسك برفع الجهل عنها وتزكيتها بالعبادات والنوافل ، والزيادة في الطاعات يوماً بعد يوم .
• إصلاح شأن بيتك وتربية أولادك على الدين .
• إصلاح أخواتك المسلمات بأمرين :
• الدلالة على الخير .
• الربط بينهن بالصلح والزيارة .(/7)
وأخيراً .... اعلمي أنك مهمة جداً ولك شأن في هذه الأمة ، فلست على هامش الحياة أبداً ، بل أنت نصف الأمة وتلدين لنا النصف الآخر ، فأنت أمة بأسرها ، فبصلاحك وإصلاحك تنصلح الأمة ويتغير واقعنا ؛ فكوني - رعاك الله - على قدر المسئولية ؛ والجنة في انتظارك بإذن الله ..(/8)
دور المرأة في التربية
المحتويات
مقدمة
أهمية الأم في تربية الطفل
الأمر الأول: أثر الأسرة في التربية
الأمر الثاني: الطفل يتأثر بحالة أمه وهي حامل
الأمر الثالث: دور الأم مع الطفل في الطفولة المبكرة
الأمر الرابع : دور الأم مع البنات
الأمر الخامس: الأم تتطلع على التفاصيل الخاصة لأولادها
مقترحات تربوية للأم
أولاً: الشعور بأهمية التربية
ثانياً: الاعتناء بالنظام في المنزل
ثالثاً: السعي لزيادة الخبرة التربوية
رابعاً: الاعتناء بتلبية حاجات الطفل
خامسا: الحرص على التوافق بين الوالدين
سادساً: التعامل مع أخطاء الأطفال
سابعاً: وسائل مقترحة لبناء السلوك وتقويمه
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، أما بعد:
فإن الحديث عن أهمية التربية ودورها في إعداد المجتمع وحمايته ليس هذا مكانه ولا وقته، فالجميع يدرك أن التربية ضرورة ومطلب ملح أيًّا كان منطلقه وفلسفته التربوية، والمجتمعات كلها بأسرها تنادي اليوم بالتربية وتعنى بالتربية والحديث عنها، ولعلنا حين نتطلع إلى المكتبة نقرأ فيها من الكتب الغربية أكثر مما نقرأ فيها مما صدر عن مجتمعات المسلمين، مما يدل على أن التربية همًّا ومطلباً للجميع بغض النظر عن فلسفتهم التربوية وأولياتهم.
أهمية الأم في تربية الطفل
تحتل الأم مكانة مهمة وأساسية في التربية، ويبدو ذلك من خلال الأمور الآتية:
الأمر الأول: أثر الأسرة في التربية
فالأسرة أولاً هي الدائرة الأولى من دوائر التنشئة الاجتماعية، وهي التي تغرس لدى الطفل المعايير التي يحكم من خلالها على ما يتلقاه فيما بعد من سائر المؤسسات في المجتمع، فهو حينما يغدو إلى المدرسة ينظر إلى أستاذه نظرةً من خلال ما تلقاه في البيت من تربية، وهو يختار زملاءه في المدرسة من خلال ما نشأته عليه أسرته، ويقيِّم ما يسمع وما يرى من مواقف تقابله في الحياة، من خلال ما غرسته لديه الأسرة، وهنا يكمن دور الأسرة وأهميتها وخطرها في الميدان التربوي.
الأمر الثاني: الطفل يتأثر بحالة أمه وهي حامل
تنفرد الأم بمرحلة لا يشركها فيها غيرها وهي مرحلة مهمة ولها دور في التربية قد نغفل عنه ألا وهي مرحلة الحمل؛ فإن الجنين وهو في بطن أمه يتأثر بمؤثرات كثيرة تعود إلى الأم، ومنها:
التغذية فالجنين على سبيل المثال يتأثر بالتغذية ونوع الغذاء الذي تتلقاه الأم، وهو يتأثر بالأمراض التي قد تصيب أمه أثناء الحمل، ويتأثر أيضاً حين تكون أمه تتعاطى المخدرات، وربما أصبح مدمناً عند خروجه من بطن أمه حين تكون أمه مدمنة للمخدرات، ومن ذلك التدخين، فحين تكون المرأة مدخنة فإن ذلك يترك أثراً على جنينها، ولهذا فهم في تلك المجتمعات يوصون المرأة المدخنة أن تمتنع عن التدخين أثناء فترة الحمل أو أن تقلل منه؛ نظراً لتأثيره على جنينها، ومن العوامل المؤثرة أيضاً: العقاقير الطبية التي تناولها المرأة الحامل، ولهذا يسأل الطبيب المرأة كثيراً حين يصف لها بعض الأدوية عن كونها حامل أو ليست كذلك .
وصورةً أخرى من الأمور المؤثرة وقد لا تتصوره الأمهات والآباء هذه القضية، وهي حالة الأم الانفعالية أثناء الحمل، فقد يخرج الطفل وهو كثير الصراخ في أوائل طفولته، وقد يخرج الطفل وهو يتخوف كثيراً، وذلك كله بسبب مؤثرات تلقاها من حالة أمه الانفعالية التي كانت تعيشها وهي في حال الحمل، وحين تزيد الانفعالات الحادة عند المرأة وتكرر فإن هذا يؤثر في الهرمونات التي تفرزها الأم وتنتقل إلى الجنين، وإذا طالت هذه الحالة فإنها لا بد أن تؤثر على نفسيته وانفعالاته وعلى صحته، ولهذا ينبغي أن يحرص الزوج على أن يهيئ لها جواً ومناخاً مناسباً، وأن تحرص هي على أن تتجنب الحالات التي تؤدي بها حدة الانفعال .(/1)
أمر آخر أيضاً له دور وتأثير على الجنين وهو اتجاه الأم نحو حملها أو نظرتها نحو حملها فهي حين تكون مسرورة مستبشرة بهذا الحمل لا بد أن يتأثر الحمل بذلك، وحين تكون غير راضية عن هذا الحمل فإن هذا سيؤثر على هذا الجنين، ومن هنا وجه الشرع الناس إلى تصحيح النظر حول الولد الذكر والأنثى، قال سبحانه وتعالى :]ولله ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء ويهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور. أو يزوجهم ذكراً وإناثاً ويجعل من يشاء عقيماً إنه عليم قدير[. فهو سبحانه وتعالى له ما يشاء وله الحكم سبحانه وتعالى؛ فيقرر للناس أنه عز وجل صاحب الحكم والأمر، وما يختار الله سبحانه وتعالى أمراً إلا لحكمة، لذا فالزوجة والزوج جميعاً ينبغي أن يرضوا بما قسم الله، ويعلموا أن ما قسم الله عز وجل خير لهم، سواءً كان ذكراً أو أنثى، وحين تفقد المرأة هذا الشعور، فيكشف لها التقرير الطبي أن الجنين الذي في بطنها أنثى، فتبدأ تغير نظرتها ومشاعرها نحو هذا الحمل أو العكس فإن هذا لا بد أن يؤثر على الحمل، ونحن هنا لسنا في عيادة طبية حتى نوجه المرأة الحامل أو نتحدث عن هذه الآثار التي يمكن أن تخلقها حالة الأم على الحمل، إنما المقصود من هذا كله أن دور المرأة يبدأ من حين حملها وأنها تعيش مرحلة تؤثر على مستقبل هذا المولود لا يشاركها غيرها.
الأمر الثالث: دور الأم مع الطفل في الطفولة المبكرة
الطفولة المبكرة مرحلة مهمة لتنشئة الطفل، ودور الأم فيها أكبر من غيرها، فهي في مرحلة الرضاعة أكثر من يتعامل مع الطفل، ولحكمة عظيمة يريدها الله سبحانه وتعالى يكون طعام الرضيع في هذه المرحلة من ثدي أمه وليس الأمر فقط تأثيراً طبيًّا أو صحيًّا، وإنما لها آثار نفسية أهمها إشعار الطفل بالحنان والقرب الذي يحتاج إليه، ولهذا يوصي الأطباء الأم أن تحرص على إرضاع الطفل، وأن تحرص على أن تعتني به وتقترب منه لو لم ترضعه.
وهنا ندرك فداحة الخطر الذي ترتكبه كثير من النساء حين تترك طفلها في هذه المرحلة للمربية والخادمة؛ فهي التي تقوم بتنظيفه وتهيئة اللباس له وإعداد طعامه، وحين يستعمل الرضاعة الصناعية فهي التي تهيئها له، وهذا يفقد الطفل قدراً من الرعاية النفسية هو بأمس الحاجة إليه.
وإذا ابتليت الأم بالخادمة -والأصل الاستغناء عنها- فينبغي أن تحرص في المراحل الأولية على أن تباشر هي رعاية الطفل، وتترك للخادمة إعداد الطعام في المنزل أو تنظيفه أو غير ذلك من الأعمال، فلن يجد الطفل الحنان والرعاية من الخادمة كما يجدها من الأم، وهذا له دور كبير في نفسية الطفل واتجاهاته في المستقبل، وبخاصة أن كثيراً من الخادمات والمربيات في العالم الإسلامي لسن من المسلمات، وحتى المسلمات غالبهن من غير المتدينات، وهذا لايخفى أثره، والحديث عن هذا الجانب يطول، ولعلي أن أكتفي بهذه الإشارة.
فالمقصود أن الأم كما قلنا تتعامل مع هذه المرحلة مع الطفل أكثر مما يتعامل معه الأب، وفي هذه المرحلة سوف يكتسب العديد من العادات والمعايير، ويكتسب الخلق والسلوك الذي يصعب تغييره في المستقبل، وهنا تكمن خطورة دور الأم فهي البوابة على هذه المرحلة الخطرة من حياة الطفل فيما بعد، حتى أن بعض الناس يكون مستقيماً صالحاً متديناً لكنه لم ينشأ من الصغر على المعايير المنضبطة في السلوك والأخلاق، فتجد منه نوعاً من سوء الخلق وعدم الانضباط السلوكي، والسبب أنه لم يترب على ذلك من صغره.
الأمر الرابع : دور الأم مع البنات
لئن كانت الأم أكثر التصاقاً بالأولاد عموماً في الطفولة المبكرة، فهذا القرب يزداد ويبقى مع البنات.
ولعل من أسباب ما نعانيه اليوم من مشكلات لدى الفتيات يعود إلى تخلف دور الأم التربوي، فالفتاة تعيش مرحلة المراهقة والفتن والشهوات والمجتمع من حولها يدعوها إلى الفساد وتشعر بفراغ عاطفي لديها، وقد لا يشبع هذا الفراغ إلا في الأجواء المنحرفة، أما أمها فهي مشغولة عنها بشؤونها الخاصة، وبالجلوس مع جاراتها وزميلاتها، فالفتاة في عالم والأم في عالم آخر.
إنه من المهم أن تعيش الأم مع بناتها وتكون قريبة منهن؛ ذلك أن الفتاة تجرؤ أن تصارح الأم أكثر من أن تصارح الأب، وأن تقترب منها وتملأ الفراغ العاطفي لديها.
ويزداد هذا الفراغ الذي تعاني منه الفتاة في البيت الذي فيه خادمة، فهي تحمل عنها أعباء المنزل، والأسرة ترى تفريغ هذه البنت للدراسة لأنها مشغولة في الدراسة، وحين تنهي أعباءها الدراسية يتبقى عندها وقت فراغ، فبم تقضي هذا الفراغ: في القراءة؟ فنحن لم نغرس حب القراءة لدى أولادنا.(/2)
وبين الأم وبين الفتاة هوه سحيقة، تشعر الفتاة أن أمها لا توافقها في ثقافتها وتوجهاتها، ولا في تفكيرها، وتشعر بفجوة ثقافية وفجوة حضارية بينها وبين الأم؛ فتجد البنت ضالتها في مجلة تتحدث عن الأزياء وعن تنظيم المنزل، وتتحدث عن الحب والغرام، وكيف تكسبين الآخرين فتثير عندها هذه العاطفة، وقد تجد ضالتها في أفلام الفيديو، أو قد تجد ضالتها من خلال الاتصال مع الشباب في الهاتف، أو إن عدمت هذا وذاك ففي المدرسة تتعلم من بعض زميلاتها مثل هذه السلوك.
الأمر الخامس: الأم تتطلع على التفاصيل الخاصة لأولادها
تتعامل الأم مع ملابس الأولاد ومع الأثاث وترتيبه، ومع أحوال الطفل الخاصة فتكتشف مشكلات عند الطفل أكثر مما يكتشفه الأب، وبخاصة في وقتنا الذي انشغل الأب فيه عن أبنائه، فتدرك الأم من قضايا الأولاد أكثر مما يدركه الأب.
هذه الأمور السابقة تؤكد لنا دور الأم في التربية وأهميته، ويكفي أن نعرف أن الأم تمثل نصف المنزل تماماً ولا يمكن أبداً أن يقوم بالدور التربوي الأب وحده، أو أن تقوم به المدرسة وحدها، فيجب أن تتضافر جهود الجميع في خط واحد.
لكن الواقع أن الطفل يتربى على قيم في المدرسة يهدهما المنزل، ويتربى على قيم في المنزل مناقضة لما يلقاه في الشارع؛ فيعيش ازدواجية وتناقضا ، المقصود هو يجب أن يكون البيت وحده متكاملة.
لا يمكن أن أتحدث معشر الأخوة والأخوات خلال هذه الأمسية وخلال هذا الوقت، لا يمكن أن أتحدث عن الدور الذي ننتظره من الأم في التربية، إنما هي فقط مقترحات أردت أن أسجلها.
مقترحات تربوية للأم
مهما قلنا فإننا لا نستطيع أن نتحدث بالتفصيل عن دور الأم في التربية، ولا نستطيع من خلال ساعة واحدة أن نُخرِّج أماً مربية، ولهذا رأيت أن يكون الشق الثاني -بعد أن تحدثنا في عن أهمية دور الأم- عبارة عن مقترحات وتحسين الدور التربوي للأم وسجلت هنا، ومن هذه المقترحات:
أولاً: الشعور بأهمية التربية
إن نقطة البداية أن تشعر الأم بأهمية التربية وخطورتها، وخطورة الدور الذي تتبوؤه، وأنها مسؤولة عن جزء كبير من مستقبل أبنائها وبناتها، وحين نقول التربية فإنا نعني التربية بمعناها الواسع الذي لايقف عند حد العقوبة أو الأمر والنهي، كما يتبادر لذهن طائفة من الناس، بل هي معنى أوسع من ذلك.
فهي تعني إعداد الولد بكافة جوانب شخصيته: الإيمانية، والجسمية، والنفسية، والعقلية الجوانب الشخصية المتكاملة أمر له أهمية وينبغي أن تشعر الأم والأب أنها لها دور في رعاية هذا الجانب وإعداده.
وفي جانب التنشئة الدينية والتربية الدينية يحصرها كثير من الناس في توجيهات وأوامر أو عقوبات، والأمر أوسع من ذلك، ففرق بين شخص يعاقب ابنه حيث لا يصلي وبين شخص آخر يغرس عند ابنه حب الصلاة، وفرق بين شخص يعاقب ابنه حين يتفوه بكلمة نابية، وبين شخص يغرس عند ابنه رفض هذه الكلمة وحسن المنطق، وهذا هو الذي نريده حين نتكلم عن حسن التربية، فينبغي أن يفهم الجميع –والأمهات بخاصة- التربية بهذا المعنى الواسع.
ثانياً: الاعتناء بالنظام في المنزل
من الأمور المهمة في التربية -ويشترك فيها الأم والأب لكن نؤكد على الأم- الاعتناء بنظام المنزل؛ فذلك له أثر في تعويد الابن على السلوكيات التي نريد.
إننا أمة فوضوية: في المواعيد، في الحياة المنزلية، في تعاملنا مع الآخرين، حتى ترك هذا السلوك أثره في تفكيرنا فأصبحنا فوضويين في التفكير.
إننا بحاجة إلى تعويد أولادنا على النظام، في غرفهم وأدواتهم، في مواعيد الطعام، في التعامل مع الضيوف وكيفية استقبالهم، ومتى يشاركهم الجلوس ومتى لايشاركهم؟
ثالثاً: السعي لزيادة الخبرة التربوية
إن من نتائج إدراك الأم لأهمية التربية أن تسعى لزيادة خبرتها التربوية والارتقاء بها، ويمكن أن يتم ذلك من خلال مجالات عدة، منها:
أ : القراءة؛ فمن الضروري أن تعتني الأم بالقراءة في الكتب التربوية، وتفرغ جزءاً من وقتها لاقتنائها والقراءة فيها، وليس من اللائق أن يكون اعتناء الأم بكتب الطبخ أكثر من اعتنائها بكتب التربية.
وحين نلقي سؤالاً صريحاً على أنفسنا: ماحجم قراءاتنا التربوية؟ وما نسبتها لما نقرأ إن كنا نقرأ؟ فإن الإجابة عن هذه السؤال تبرز مدى أهمية التربية لدينا، ومدى ثقافتنا التربوية.
ب : استثمار اللقاءات العائلية؛ من خلال النقاش فيها عن أمور التربية، والاستفادة من آراء الأمهات الأخريات وتجاربهن في التربية، أما الحديث الذي يدور كثيراً في مجالسنا في انتقاد الأطفال، وأنهم كثيرو العبث ويجلبون العناء لأهلهم، وتبادل الهموم في ذلك فإنه حديث غير مفيد، بل هو مخادعة لأنفسنا وإشعار لها بأن المشكلة ليست لدينا وإنما هي لدى أولادنا.
لم لانكون صرحاء مع أنفسنا ونتحدث عن أخطائنا نحن؟ وإذا كان هذا واقع أولادنا فهو نتاج تربيتنا نحن، ولم يتول تربيتهم غيرنا، وفشلنا في تقويمهم فشل لنا وليس فشلاً لهم.(/3)
ج: الاستفادة من التجارب، إن من أهم مايزيد الخبرة التربوية الاستفادة من التجارب والأخطاء التي تمر بالشخص، فالأخطاء التي وقعتِ فهيا مع الطفل الأول تتجنبينها مع الطفل الثاني، والأخطاء التي وقعتِ فيها مع الطفل الثاني تتجنبينها مع الطفل الثالث، وهكذا تشعرين أنك ما دمت تتعاملين مع الأطفال فأنت في رقي وتطور.
رابعاً: الاعتناء بتلبية حاجات الطفل
للطفل حاجات واسعة يمكن نشير إلى بعضها في هذا المقام، ومنها:
1- الحاجة إلى الاهتمام المباشر:
يحتاج الطفل إلى أن يكون محل اهتمام الآخرين وخاصة والديه، وهي حاجة تنشأ معه من الصغر، فهو يبتسم ويضحك ليلفت انتباههم، وينتظر منهم التجاوب معه في ذلك.
ومن صور الاهتمام المباشر بحاجات الطفل الاهتمام بطعامه وشرابه، وتلافي إظهار الانزعاج والقلق –فضلاً عن السب والاتهام بسوء الأدب والإزعاج- حين يوقظ أمه لتعطيه طعامه وشرابه، ومما يعين الأم على ذلك تعويده على نظام معين، وتهيئة طعام للابن –وبخاصة الإفطار- قبل نومها.
ومن أسوأ صور تجاهل حاجة الطفل إلى الطعام والشراب ماتفعله بعض النساء حال صيامها من النوم والإغلاق على نفسها، ونهر أطفالها حين يطلبون منها الطعام أو الشراب.
ومن صور الاهتمام به من أيضاً حسن الاستماع له، فهو يحكي قصة، أو يطرح أسئلة فيحتاج لأن ينصت له والداه، ويمكن أن توجه له أسئلة تدل على تفاعل والديه معه واستماعهم له، ومن الوسائل المفيدة في ذلك أن تسعى الأم إلى أن تعبر عن الفكرة التي صاغها هو بلغته الضعيفة بلغة أقوى، فهذا مع إشعاره له بالاهتمام يجعله يكتسب عادات لغوية ويُقوِّى لغته.
ومن صور الاهتمام التخلص من أثر المشاعر الشخصية، فالأب أو الأم الذي يعود من عمله مرهقاً، أو قد أزعجته مشكلة من مشكلات العمل، ينتظر منهم أولادهم تفاعلاً وحيوية، وينتظرونهم بفارغ الصبر، فينبغي للوالدين الحرص على عدم تأثير المشاعر والمشكلات الخاصة على اهتمامهم بأولادهم.
2- الحاجة إلى الثقة:
يحتاج الطفل إلى الشعور بثقته بنفسه وأن الآخرين يثقون فيه، ويبدو ذلك من خلال تأكيده أنه أكبر من فلان أو أقوى من فلان.
إننا بحاجة لأن نغرس لدى أطفالنا ثقتهم بأنفسهم،وأنهم قادرون على تحقيق أمور كثيرة، ويمكن أن يتم ذلك من خلال تكليفهم بأعمال يسيرة يستطيعون إنجازها، وتعويدهم على ذلك.
ويحتاجون إلى أن يشعرون بأننا نثق بهم، ومما يعين على ذلك تجنب السخرية وتجنب النقد اللاذع لهم حين يقعون في الخطأ، ومن خلال حسن التعامل مع مواقف الفشل التي تمر بهم ومحاولة استثمارها لغرس الثقة بالنجاح لديهم بدلاً من أسلوب التثبيط أو مايسيمه العامة (التحطيم).
3 – الحاجة إلى الاستطلاع:
يحب الطفل الاستطلاع والتعرف على الأشياء، ولهذا فهو يعمد إلى كسر اللعبة ليعرف مابداخلها، ويكثر السؤال عن المواقف التي تمر به، بصورة قد تؤدي بوالديه إلى التضايق من ذلك.
ومن المهم أن تتفهم الأم خلفية هذه التصرفات من طفلها فتكف عن انتهاره أو زجره، فضلاً عن عقوبته.
كما أنه من المهم أن تستثمر هذه الحاجة في تنمية التفكير لدى الطفل، فحين يسأل الطفل عن لوحة السيارة، فبدلاً من الإجابة المباشرة التي قد لا يفهمها يمكن أن يسأله والده، لو أن صاحب سيارة صدم إنساناً وهرب فكيف تتعرف الشرطة على سيارته؟ الولد: من رقم السيارة، الأب: إذا هذا يعني أنه لابد من أن يكون لكل سيارة رقم يختلف عن بقية السيارات، والآن حاول أن تجد سيارتين يحملان رقماً واحداً، وبعد أن يقوم الولد بملاحظة عدة سيارات سيقول لوالده إن ما تقوله صحيح.
4- الحاجة إلى اللعب:
الحاجة إلى اللعب حاجة مهمة لدى الطفل لا يمكن أن يستغني عنها، بل الغالب أن الطفل قليل اللعب يعاني من مشكلات أو سوء توافق.
وعلى الأم في تعامله مع هذه الحاجة أن تراعي الآتي:
إعطاء الابن الوقت الكافي للعب وعدم إظهار الانزعاج والتضايق من لعبه.
استثمار هذه الحاجة في تعليمه الانضباط والأدب، من خلال التعامل مع لعب الآخرين وأدواتهم، وتجنب إزعاج الناس وبخاصة الضيوف، وتجنب اللعب في بعض الأماكن كالمسجد أو مكان استقبال الضيوف.
استثمار اللعب في التعليم، من خلال الحرص على اقتناء الألعاب التي تنمي تفكيره وتعلمه أشياء جديدة.
الحذر من التركيز على ما يكون دور الطفل فيها سلبيًّا ، أو يقلل من حركته، كمشاهدة الفيديو أو ألعاب الحاسب الآلي، فلا بد من أن يصرف جزءاً من وقته في ألعاب حركية، كلعب الكرة أو اللعب بالدراجة أو الجري ونحو ذلك.
5 – الحاجة إلى العدل:(/4)
يحتاج الناس جميعاً إلى العدل، وتبدو هذه الحاجة لدى الأطفال بشكل أكبر من غيرهم، ولذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالعدل بين الأولاد، وشدد في ذلك، عن حصين عن عامر قال : سمعت النعمان ابن بشير رضي الله عنهما وهو على المنبر يقول: أعطاني أبي عطية، فقالت عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله، قال :"أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟" قال:لا، قال :"فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم" قال فرجع فرد عطيته. متفق عليه.
ومهما كانت المبررات لدى الأم في تفضيل أحد أولادها على الآخر، فإن ذلك لا يقنع الطفل، ولابد من الاعتناء بضبط المشاعر الخاصة تجاه أحد الأطفال حتى لا تطغى، فتترك أثرها عليه وعلى سائر إخوانه وأخواته.
ومن المشكلات التي تنشأ عن ذلك مشكلة الطفل الجديد، فكثير من الأمهات تعاني منها (ولعله أن يكون لها حديث مستقل لأهميتها).
أكتفي بهذا الحديث عن هذه الحاجات وإلا فهي حاجات كثيرة، والواجب على الوالدين تجاه هذه الحاجات أمران:
الأول: الحرص على إشباع هذه الحاجات والاعتناء بها، الثاني: استثمار هذه الحاجات في تعليم الابن السلوكيات والآداب التي يحتاج إليها.
خامسا: الحرص على التوافق بين الوالدين
التربية لا يمكن أن تتم من طرف واحد، والأب والأم كل منهما يكمل مهمة الآخر ودوره، ومما ينبغي مراعاته في هذا الإطار:
الحرص على حسن العلاقة بين الزوجين، فالحالة النفسية والاستقرار لها أثرها على الأطفال كما سبق، فالزوجة التي لاتشعر بالارتياح مع زوجها لابد أن يظهر أثر ذلك على رعايتها لأطفالها واهتمامها بهم.
التفاهم بين الوالدين على الأساليب التربوية والاتفاق عليها قدر الإمكان.
أن يسعى كل من الوالدين إلى غرس ثقة الأطفال بالآخر، فيتجنب الأب انتقاد الأم أو عتابها أمام أولادها فضلاً عن السخرية بها أو تأنيبها، كما أن الأم ينبغي أن تحرص على غرس ثقة أطفالها بوالدهم، وإشعارهم بأنه يسعى لمصلحتهم –ولو اختلفت معه- وأنه إن انشغل عنهم فهو مشغول بأمور مهمة تنفع المسلمين أجمع، أو تنفع هؤلاء الأولاد.
ومما ينبغي مراعاته هنا الحرص على تجنب أثر اختلاف الموقف أو وجهة النظر بين الوالدين، وأن نسعى إلى ألا يظهر ذلك على أولادنا فهم أعز مانملك، وبإمكاننا أن نختلف ونتناقش في أمورنا لوحدنا.
سادساً: التعامل مع أخطاء الأطفال
كثير من أخطائنا التربوية مع أطفالنا هي في التعامل مع الأخطاء التي تصدر منهم، ومن الأمور المهمة في التعامل مع أخطاء الأطفال:
1. عدم المثالية:
كثيراً مانكون مثاليين مع أطفالنا، وكثيراً ما نطالبهم بما لا يطيقون، ومن ثم نلومهم على ما نعده أخطاء وليست كذلك.
الطفل في بداية عمره لايملك التوازن الحركي لذا فقد يحمل الكوب فيسقط منه وينكسر، فبدلاً من عتابه وتأنيبه لو قالت أمه: الحمد الله أنه لم يصيبك أذى، أنا أعرف أنك لم تتعمد لكنه سقط منك عن غير قصد، والخطأ حين تتعمد إتلافه، والآن قم بإزالة أثر الزجاج حتى لا يصيب أحداً.
إن هذا الأسلوب يحدد له الخطأ من الصواب، ويعوده على تحمل مسؤولية عمله، ويشعره بالاهتمام والتقدير، والعجيب أن نكسر قلوب أطفالنا ونحطمهم لأجل تحطيمهم لإناء لا تتجاوز قيمته ريالين، فأيهما أثمن لدينا الأطفال أم الأواني؟
2. التوازن في العقوبة:
قد تضطر الأم لعقوبة طفلها، والعقوبة حين تكون في موضعها مطلب تربوي، لكن بعض الأمهات حين تعاقب طفلها فإنها تعاقبه وهي في حالة غضب شديد، فتتحول العقوبة من تأديب وتربية إلى انتقام، والواقع أن كثيراً من حالات ضربنا لأطفالنا تشعرهم بذلك.
لا تسأل عن تلك المشاعر التي سيحملها هذا الطفل تجاه الآخرين حتى حين يكون شيخاً فستبقى هذه المشاعر عنده ويصعب أن نقتلعها فيما بعد والسبب هو عدم التوازن في العقوبة.
3. تجنب البذاءة:
حين تغضب بعض الأمهات أو بعض الآباء فيعاتبون أطفالهم فإنهم يوجهون إليهم ألفاظاً بذيئة، أو يذمونهم بعبارات وقحة، وهذا له أثره في تعويدهم على المنطق السيء.
والعاقل لا يخرجه غضبه عن أدبه في منطقه وتعامله مع الناس، فضلاً عن أولاده.
4. تجنب الإهانة:
من الأمور المهمة في علاج أخطاء الأطفال أن نتجنب إهانتهم أو وصفهم بالفشل والطفولة والفوضوية والغباء …إلخ. فهذا له أثره البالغ على فقدانهم للثقة بأنفسهم، وعلى تعويدهم سوء الأدب والمنطق.
5. تجنب إحراجه أمام الآخرين :
إذا كنا لانرضى أن ينتقدنا أحد أمام الناس فأطفالنا كذلك، فحين يقع الطفل في خطأ أمام الضيوف فليس من المناسب أن تقوم أمه أو يقوم والده بتأنيبه أو إحراجه أمامهم أو أمام الأطفال الآخرين.
سابعاً: وسائل مقترحة لبناء السلوك وتقويمه(/5)
يعتقد كثير من الآباء والأمهات أن غرس السلوك إنما يتم من خلال الأمر والنهي، ومن خلال العقوبة والتأديب، وهذه لا تمثل إلا جزءاً يسيراً من وسائل تعليم السلوك، وفي هذه العجالة أشير إلى بعض الوسائل التي يمكن أن تفيد الأم في غرس السلوك الحسن، أو تعديل السلوك السيئ، وهي على سبيل المثال لا الحصر: يعتقد كثير من الآباء والأمهات أن غرس السلوك إنما يتم من خلال الأمر والنهي، ومن خلال العقوبة والتأديب، وهذه لا تمثل إلا جزءاً يسيراً من وسائل تعليم السلوك، وفي هذه العجالة أشير إلى بعض الوسائل التي يمكن أن تفيد الأم في غرس السلوك الحسن، أو تعديل السلوك السيئ، وهي على سبيل المثال لا الحصر:
1 – التجاهل:
يعمد الطفل أحياناً إلى أساليب غير مرغوبة لتحقيق مطالبه، كالصراخ والبكاء وإحراج الأم أمام الضيوف وغير ذلك، والأسلوب الأمثل في ذلك ليس هو الغضب والقسوة على الطفل، إنما تجاهل هذا السلوك وعدم الاستجابة للطفل، وتعويده على أن يستخدم الأساليب المناسبة والهادئة في التعبير عن مطالبه، وأسلوب التجاهل يمكن أن يخفي كثيراً من السلوكيات الضارة عند الطفل أو على الأقل يخفف من حدتها.
2 – القدوة:
لست بحاجة للحديث عن أهمية القدوة وأثرها في التربية، فالجميع يدرك ذلك، إنني حين أطالب الطفل بترتيب غرفته ويجد غرفتي غير مرتبة، وحين أطالبه أن لا يتفوه بكلمات بذيئة ويجدني عندما أغضب أتفوه بكلمات بذيئة، وحين تأمره الأم ألا يكذب، ثم تأمره بالكذب على والده حينئذ سنمحو بأفعالنا مانبنيه بأقوالنا.
3 – المكافأة:
المكافأة لها أثر في تعزيز السلوك الإيجابي لدى الطفل، وهي ليست بالضرورة قاصرة على المكافأة المادية فقد تكون بالثناء والتشجيع وإظهار الإعجاب، ومن وسائل المكافأة أن تعده بأن تطلب من والده اصطحابه معه في السيارة، أو غير ذلك مما يحبه الطفل ويميل إليه.
ومما ينبغي مراعاته أن يكون استخدام المكافأة باعتدال حتى لا تصبح ثمناً للسلوك.
4 – الإقناع والحوار:
من الأمور المهمة في بناء شخصية الأطفال أن نعودهم على الإقناع والحوار، فنستمع لهم وننصت، ونعرض آراءنا وأوامرنا بطريقة مقنعة ومبررة، فهذا له أثره في تقبلهم واقتناعهم، وله أثره في نمو شخصيتهم وقدراتهم.
وهذا أيضاً يحتاج لاعتدال، فلابد أن يعتاد الأطفال على الطاعة، وألا يكون الاقتناع شرطاً في امتثال الأمر.
5 - وضع الأنظمة الواضحة:
من المهم أن تضع الأم أنظمة للأطفال يعرفونها ويقومون بها، فتعودهم على ترتيب الغرفة بعد استيقاظهم، وعلى تجنب إزعاج الآخرين…إلخ، وحتى يؤتي هذا الأسلوب ثمرته لابد أن يتناسب مع مستوى الأطفال، فيعطون أنظمة واضحة يستوعبونها ويستطيعون تطبيقها والالتزام بها.
6 – التعويد على حل الخلافات بالطرق الودية:
مما يزعج الوالدين كثرة الخلافات والمشاكسات بين الأطفال، ويزيد المشكلة كثرة تدخل الوالدين، ويجب أن تعلم الأم أنه لا يمكن أن تصل إلا قدر تزول معه هذه المشكلة تماماً، إنما تسعى إلى تخفيف آثارها قدر الإمكان، ومن ذلك:
تعويدهم على حل الخلافات بينهم بالطرق الودية، ووضع الأنظمة والحوافز التي تعينهم على ذلك، وعدم تدخل الأم في الخلافات اليسيرة، فذلك يعود الطفل على ضعف الشخصية وكثرة الشكوى واللجوء للآخرين.
7 – تغيير البيئة:
ولذلك وسائل عدة منها:
أولا: إغناء البيئة: وذلك بأن يهيأ للطفل مايكون بديلاً عن انشغاله بما لايرغب فيه، فبدلاً من أن يكتب على الكتب يمكن أن يعطى مجلة أو دفتراً يكتب فيه مايشاء، وبدلاً من العبث بالأواني يمكن أن يعطى لعباً على شكل الأواني ليعبث بها.
ثانياً: حصر البيئة: وذلك بأن تكون له أشياء خاصة، كأكواب خاصة للأطفال يشربون بها، وغرفة خاصة لألعابهم، ومكان خاص لا يأتيه إلا هم؛ حينئذ يشعر أنه غير محتاج إلى أن يعتدي على ممتلكات الآخرين.
ومن الخطأ الاعتماد على قفل باب مجالس الضيوف وغيرها، فهذا يعوده على الشغف بها والعبث بها، لأن الممنوع مرغوب.
لكن أحياناً تغفل الأمهات مثلاً المجلس أو المكتبة ،ترفع كل شيء عنه صحيح هذا يمنعه وحين يكون هناك فرصة للدخول يبادر بالعبث لأن الشيء الممنوع مرغوب.
ثالثاً: تهيئة الطفل للتغيرات اللاحقة: الطفل تأتيه تغييرات في حياته لابد أن يهيأ لها، ومن ذلك أنه يستقل بعد فترة فينام بعيداً عن والديه في غرفة مستقلة، أو مع من يكبره من إخوته، فمن الصعوبة أن يفاجأ بذلك، فالأولى بالأم أن تقول له: إنك كبرت الآن وتحتاج إلا أن تنام في غرفتك أو مع إخوانك الكبار.
وهكذا البنت حين يراد منها أن تشارك في أعمال المنزل.
8 - التعويد :
الأخلاق والسلوكيات تكتسب بالتعويد أكثر مما تكتسب بالأمر والنهي، فلا بد من الاعتناء بتعويد الطفل عليها، ومراعاة الصبر وطول النفس والتدرج في ذلك.(/6)
هذه بعض الخواطر العاجلة وبعض المقترحات لتحسين الدور الذي يمكن أن تقوم به الأم، وينبغي لها ألا تغفل عن دعاء الله تعالى وسؤاله الصلاح لأولادها، فقد وصف الله تبارك وتعالى عباده الصالحين بقوله : [والذين يقولون ربنا هبنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما]
و الله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/7)
دور المرأة في الدعوة إلى الله عز وجل وإصلاح المجتمع
للمرأة دور كبير في الدعوة إلى الله وإصلاح الخلل الذي سرى في امتنا منذ زمن كبير في تجميد الإسلام وعزل المرأة عن واجباتها التي كلفها الله بها وتعمد تجهيلها والزج بها في وظائف وأعمال ليست مما يلزمها بل وتعطل عطاء عطاءها ومشاركتها الحقة في البناء والإصلاح والتنمية.
إن دور المرأة في الدعوة والبناء والإصلاح دور كبير ولن يتأتى ذلك حتى تعرف الميادين الخالية التي لا تصلح إلا بالمرأة ولا يستطيع اختراقها وبناؤها غيرها.
ولهذا يجب أن نعلم جميعاً أن ميادين الدعوة والإصلاح والبناء ميدانين:
الميدان الأول: الميدان البارز المفتوح المتجول داخل البلد وخارجه
فميادين الدعوة والإصلاح البارزة والمفتوحة والظاهرة التي تكون داخل البلد كالدعوة في المساجد والمجاميع العامة والأعمال الظاهرة والتجول في المدن والقرى والبلدان وإدارة المصانع فهذه الأعمال التي تتطلب البروز والظهور والغياب والتنقل هذا خاص بالرجل ليس للمرأة ومثل ذلك الولايات العامة التي ترتبط بالخشونة كالجندية والبناء والتخطيط وتتطلب الانتقال والسفر كل هذه وظائف سواء تتعلق بالدعوة أو التنمية خاصة بالرجال لأنهم أهل البروز والسفر والظهور، فليس من المنطق عقلاً، ولا من المشروع شرعاً بروز المرأة وظهورها لتقف في محراب مسجد لتلقي درساً مفتوحاً ولا تقف في السوق تخالط الناس وتدعوهم وترشدهم فهي أكرم عند الله من أن تمتهن ويعتدى عليها !
أما الميدان الثاني: وهو ميدان العمل في الداخل
وهذا العمل الذي يكون متخصصاً فيما يخص المرأة أولا والعمل داخل المجتمع النسائي ثانيا والعمل في البيت ثالثا: وهذه هي ميادين واسعة للمرأة تحتاج لتغطيته والقيام به في مجتمعها وبين مثيلاتها إضافة إلى إدارة بيتها والعمل على رعايته والقيام بمتطلباته لأنه المدرسة الأولى الذي يخرج منه الأجيال إلى مخالطة المجتمع وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى وجوب دور المرأة في الدعوة والبناء داخل المجتمع المغلق المتعلق بالمرأة وبما تحتاجه المرأة فقال: ’’ وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله ,, ثم قال لهن موجهاً لهن بالقيام بدور الدعوة والإصلاح ومزاولة التعليم في المجتمع الداخلي للأمة: ’’ وأذكرن ما يتلى عليكن من آيات الله والحكمة ,,(/1)
والأمر بالقرار في البيوت يستفاد منه الانقطاع والتفرغ للمجتمع في الداخل وترك الظهور والبروز لغيرهن، ولا أدل على ذلك من النهي عن ممارسة صفة التبرج الذي يفهم منه عدم الظهور والبروز لأن ذلك خروج للمرأة عن دورها وليس المراد عدم القيام بالأعمال التي تخص المرأة وعدم الخروج لها فذلك مما لا يكلف اله به البشر وإنما المقصود من هذا التوجيه الرباني أن تمارس المرأة عملها وتقتصر نفسها عليه دون التطلع للبروز والظهور للقيام بأعمال ليس مما هو من عملها ولذلك أمرها الله تعالى بمزاولة مهنة التعليم في هذا المجتمع الداخلي الذي يعجز الرجل أن يبقى فيه كما أن المرأة يصعب عليها مزاولة الأعمال البارزة لكونها تتنافى طبيعتها الأنثوية ومهما روضت المرأة لهذه الأعمال وبذلت الجهود لصناعتها امرأة برزة فإن حنينها دوماً يكون لأول منزل وميلها دائماً إلى ما فُطرت عليه [ فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ] ذلك فكما أمر الرجل بالتحرك والبروز لأداء واجباته ونشر دين الله عز وجل والتعليم ومزاولته الأعمال التي لا تصلح إلا له كذلك أمرت المرأة بالنصف الآخر الذي ينفر منه الرجل ولا يستطيع البقاء وراء الجدران لما فطر عليه وهيئ له [ ألا يعلم من خلق ] أمرت المرأة بلزوم واجبها والقيام بمسئوليتها المتروكة لها وراء الجدران وبطون البيوت وداخل المجتمع ، ولهذا أمرت بعد ذلك كما أمر به الرجل من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ولهذا كانت صلاة المرأة في بيتها أفضل من الصلاة في مسجد حيها، لأن الصلاة في المسجد يتطلب الظهور والبروز وهذا نابع للأمر بالقرار في الداخل إذاً فعمل المرأة هو القيام بالدعوة والإدارة والإصلاح والبناء داخل المجتمع وهو النصف الأدل والمهم وأما العمل والدعوة والإصلاح خارج المجتمع وهو النصف الآخر فذلك من شأن الرجل وحده ومن هنا وجب علينا عدم الخلط في المفاهيم وعدم التعدي في الوظائف وإن مما يدعو للحسرة أن الدعوات الشاذة تعمل جاهدة لتهيئ الفريقين لعمل واحد وهو العمل الخارجي وتحطيم الوظائف الداخلية للأمة وتعطيل المؤسسة الفاعل؛ لقد حدد الله عمل المرأة المرتبط بالقرار الداخلي للمجتمع البعيد عن الاختلاط ثم أمر المرأة بمزاولة مهنة الدعوة والتربية والتعليم داخل هذا القطاع كمؤسسة مستقلة ثم ساوى بعد ذلك بينهم فيما ليس فيه ظاهر ولا باطن ثم قال: [ إن المسلمين والمسلمات ..... إلى قوله : أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً ] فهذه الآيات المباركات بينت القسم الذي يختص بالنساء دعوة وعملاً وإصلاحاً ثم بينت وجه المساواة بين الجنسين وأنه متى قام كل فرد منهم بوظيفته الخاصة والعامة قياماً يقوم على الإسلامي والإيمان والتصديق والذكر نال كل واحد من الفريقين أجره العظيم.
ومما تقدم أحسب أنه لا ضير علينا أن نقول: أن إصلاح نصف المجتمع يكون منوطاً بالمرأة ويتأتى ذلك ذلك متى عقل المسلمون ووضعوا خططاً واضحة وجداول تبين حدود الأعمال البارزة التي تخص الرجال والأعمال الداخلية التي تستدعي الستر والقرار مما يخص النساء وجدولاً يبين العمل المشترك للجميع [ المسلمين والمسلمات ...] وأزعم أنه متى أدركنا ذلك نكون قد سلمنا القوس للرامي واستلمت المرأة نصف العمل الإصلاحي الدعوي ويكون نمو المجتمع وانتشار الدين وارتفاع التنمية على الوجه المطلوب وذلك للأمرين التاليين:
الأمر الأول: أن النساء كالرجال عدداً بل قد يكن أكثر منهم كما دلت السنة المطهرة على ذلك وتجميد المرأة عن عملها وسلبها وظيفتها داخل قرارها يعني توفر العمل الداخلي المنوط بالمرأة وتوظيف الرجل بالقيام به وذلك يعني مضاعفة العمل عليه فيقل إنتاجه وتأثيره .
وعلى كل فيجب الامتثال لأمر الله ورسوله وتسليم المرأة قيادة عملها في مقرها وفي موقع قرارها حتى تمارس وظيفتها الداخلية داخل المجتمع المغلق والبيت المقفول فسيكون لها دور أكيد في الدعوة والإصلاح.(/2)
الأمر الثاني: إن خروج الأجيال إلى مزاولة الحياة ومواجهة أمورها لا يكون إلا بعد أن يتربوا في المجتمع الداخلي ويتلقون عوامل البناء في داخل البيوت وبين أحضان النساء خاص لأن الرجال يناط بهم متى بلغوا سن الرجولة الأعمال خارج البيوت، ومن هنا ندرك لماذا أمرت النساء بالقرار في البيوت وعدم المغادرة منها ذلك لأنهن يقمن بالتنشئة الأولى والتأسيس للأجيال حتى يخرجوا إلى المجتمع للتعلم والمشاركة في البناء وعليه يتبن لنا أهمية ما يجب على المرأة من وظيفة يتعلق بالدعوة والإصلاح والقيام بالوظيفة المناطة بها من الرعاية والفهم لمكونات واجباتها ووظائفها فيما ائتمنت عليه وندرك غلط من خلط بين عمل الجنسين فعمل ولا زال يعمل لسلبها وظيفتها وإلحاقها بوظيفة غيرها وأصبح يدعو أن يصبح مجتمع القرار من دون موظفة أو يأتي لها بموظفة من خارج أرض القرار لا تستطيع القيام بواجب البناء والإصلاح فيتعطل نصف المجتمع وهو الجزء الداخلي له بسبب القائمين على وظائفهم ونقلهم إلى غير تخصصاتهم فيا ليت قومي يعقلون.(/3)
دور المرأة في المحن والشدائد
د. ليلى بيومي 5/7/1427
30/07/2006
لا يختلف اثنان أن الأمة العربية والإسلامية تعيش اليوم أصعب فترات حياتها؛ إذ التهديدات الخارجية ومحاصرة الغرب الصليبي لنا، وإعادة احتلال أراضينا بعد أن كنا قد طردناه وحررنا بلادنا من شروره، لكنه بحقده الصليبي، وبتنسيقه مع الصهاينة، عاد إلينا مرة أخرى بشكل أشد شراسة، تحت دعاوى زائفة مثل "الشرق الأوسط الكبير"، وإقامة الأنظمة الديمقراطية والتبشير بالحرية الزائفة.
وفي هذه الظروف، وربما نتيجة لها، تعيش الأمة حالة من التخبط السياسي والاقتصادي والعلمي، يحتاج إلى إصلاح وتنمية وتطوير، وهذا الإصلاح العام في المجتمع الإسلامي يتطلب المشاركة الفعلية للمرأة؛ حيث إنها أكثر من نصف المجتمع، كونها هي مربية الأجيال ومؤسسة المبادئ في نفوس النشء.
وفي نفس الوقت فإن دفع العدوان عن الأمة كما في فلسطين والعراق وأفغانستان ولبنان والسودان والصومال...الخ يحتاج إلى بذل وتضحية وجهاد.
وهكذا لم يعد لدينا وقت لدعاة العلمانية الذين يدلسون علينا ويوجهون المرأة وجهة غير صحيحة، ونحن، مع ذلك، نعترف أن هناك أفكاراً، ومصالح معينة، وظروفاً تاريخية غير مواتية، أبعدتنا عن الفهم الصحيح لسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبعدتنا عن التصور السليم لدور المرأة في مجتمعاتنا؛ إذ تدهورت أوضاع المرأة في مجتمعاتنا -وعبر تاريخنا الإسلامي الطويل- من صحابية جليلة واثقة من تشجيع رسول الله صلى الله عليه وسلم لها، إلى جارية تدب على رؤوس الحكام، ثم إلى دمية تُستعمل في مشروع استعماري محكم.
وربما كانت الظروف الصعبة التي تمر بها بلادنا مدخلاً لأن تحقق المرأة النموذج الرسالي الذي جاء به الإسلام، من خلال مشاركة فاعلة وواعية في إعداد الأجيال الجديدة لتحمل المسؤوليات الجسام، بل ومن خلال المشاركة المباشرة في كل مناحي الحياة، خاصة في هذه المحن والشدائد التي تعيشها الأمة.
المرأة المسلمة حين تقلب الموازين
إن أمتنا اليوم تعيش في حالة هزيمة حضارية وتخلّف على مستوى ضياع الكثير من أراضي المسلمين، واستهداف بلادهم من قبل الاستعمار الجديد، والتجزئة والاستبداد، ونهب ثرواتهم، واختراقهم سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا وإعلاميًا وثقافيًا، وبالتالي فإن كل مسلم رجلاً كان أم امرأة مطالب بالاضطلاع بواجبه للخروج من هذه الحالة والانتصار على التحديات وتجاوزها.
ومن نافلة القول التأكيد على أن المرأة المسلمة مطالبة بالجهاد والنضال والمشاركة في معارك الأمة بشرط أن يكون ذلك في إطار الضوابط الشرعية، ولكنني أضيف هنا أن تلك الضوابط الشرعية ليست مطلوبة في حالة المرأة فقط، ولكنها مطلوبة في حالة المرأة والرجل وفي كل موضوع وفي كل قضية.
إن عملية النهوض الإسلامي التي يريد المخلصون منا القيام بها تتعرض لكثير من التشويش والتزييف في محاولة لوأدها، وكلما كثرت أراجيف هؤلاء المشككين وشبهاتهم في قضية ما أدركنا أهميتها وخطورتها، لأنه لولا تلك الأهمية والخطورة لما اهتموا بها.
فهؤلاء المشبوهون مثلاً يثيرون الشبهات حول قضية الجهاد؛ لأنه الطريق الطبيعي والوحيد أمام أمتنا لانتزاع حقوقها واستعادة مكانتها الحضارية وتجاوز التحديات، وهم يثيرون الشبهات حول قضية المرأة في الإسلام؛ لأنهم يدركون أن المرأة المسلمة حين تشارك في الجهاد والنضال الإسلامي العام فسوف تكون عاملاً مهمًا في ترجيح كفة الإسلام على أعدائه في الداخل والخارج، وبالتالي تشكل خطرًا هائلاً على المشروع الاستعماري المعادي للأمة، ورصيدًا ضخمًا للمشروع الإسلامي الذي يستهدف إنهاض الأمة وتجاوز تحدياتها واستعادة سيادتها الحضارية.
وفي هذا الصدد فإننا إزاء تيار رئيس في الأمة الإسلامية المعاصرة يستلهم موقفه الأصيل من الإسلام من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وكافة مصادر ووسائل التشريع الصحيحة والمعمول بها، وهذا التيار يعرف للمرأة حقوقها ويدفعها إلى المشاركة الواسعة في معارك الأمة في كل مجال، وعلى جانبي هذا التيار الرئيس هناك تياران هامشيان؛ أحدهما يتمثل في تيار يحبذ الانغلاق والجمود ويخلط بين ما هو شريعة وما هو تقاليد أو عادات، ويريد إخضاع المرأة المسلمة لحالة من السلبية والتهميش والعزلة وحبسها في التقاليد بحسبانها من الإسلام،
والثاني يتمثل في تيار تغريبي مرتبط بالاستعمار يريد أن يحوّل المرأة إلى سلعة تجارية ويجردها من إنسانيتها ويدفعها في طريق الانحلال والتغريب ومعاداة ثقافتها ودينها، ويزعم هذا التيار أنه يريد تحرير المرأة في حين أنه يريد استعبادها وتبعية المرأة والرجل والمجتمع بأسره للاستعمار والخضوع له.(/1)
ومن العجيب أن لهذا التيار التغريبي الذي يزعم تحرير المرأة، موقفًا مشينًا من تحرر المجتمع كله من الاستعمار والتبعية، بل إن كل رموز هذا التيار -بلا استثناء- معروفون بعمالتهم للاستعمار والدعوة للخضوع له، ويدعون إلى إلغاء ثقافتنا وهويتنا والانخراط الكامل في ثقافة وهوية الغرب الصليبي.
إن الرموز الحقيقية لتحرر المرأة في بلادنا العربية هن اللاتي خُضْنَ المعارك من أجل استقلال بلادهن والدفاع عن الأرض والثقافة والهوية من أمثال للا فاطمة التي قادت انتفاضة مسلحة ضد الاستعمار الفرنسي في الجزائر في أوائل الاحتلال الفرنسي للجزائر، أو شهيدات ثورة التحرير الجزائري 1954 – 1962 أمثال الشهيدة فضيلة سعدان أو أم محمد أو تلك المرأة الفلسطينية التي تشارك في الانتفاضة، أو المجاهدة الفلسطينية الشابة عواطف، أو المرأة السودانية التي تخرج في المظاهرات أو مارست الجهاد ضد التمرد في الجنوب، أو المرأة الأفغانية التي شاركت في تحرير بلادها من الاستعمار الروسي أو المرأة المصرية التي شاركت في الكفاح المسلح ضد الحملة الفرنسية أو شاركت في ثورة 1919 أو تلك التي دخلت السجن دفاعًا عن عقيدتها.
المرأة الفلسطينية نموذجاً
إن المرأة الفلسطينية العادية مارست الجهاد في أعلى صوره؛ إذ سقط العديد من الشهيدات طوال فترات الاحتلال سواء كان ذلك برصاص مباشر من جنود الاحتلال والذين لا يأبهون بقتل النساء، أو عن طريق الغاز الخانق المسيل للدموع أثناء تواجدهن في ساحات المواجهة أو أداء الصلاة في المسجد الأقصى، كما أن المستشفيات لا تخلو من النساء الجريحات من كل الفئات العمرية.
كما لعبت المرأة الفلسطينية دوراً مهما في الجانب الإعلامي والصحفي في إبراز وإظهار الوحشية والقمع اللذين يتعامل بهما جنود الاحتلال الإسرائيلي واستخدام الأسلحة الحية في مواجهة أطفال وحجارة، ونقلت لنا وكالات الأنباء والمحطات التلفازية صوراً لكثير من الفلسطينيات الصحفيات في وسط المواجهات وتحت زخات الرصاص يتابعن أولاً بأول الأحداث في مواقعها، ولا يكاد يخلو تقرير تلفازي مصور عن أحداث هبة الأقصى من مشاهدة لمئات النسوة وهن يعترضن الجنود لدى محاولتهم اعتقال أحد الشبان، كما كانت الصحفيات الفلسطينيات من أوائل الذين قدموا تقارير تلفازية حول المجازر التي ارتكبها جنود العدو الصهيوني وخاصة مقتل الطفل محمد الدرة.
وكما كانت الصحابيات على عهد رسول الله (صلي الله عليه وسلم)، يقمن بتطبيب الجرحى وعلاجهم تقوم أيضا المرأة الفلسطينية بشكل تطوعي داخل المستشفيات وخارجها وفي ساحات الانتفاضة بنفس المهمة، من خلال التواجد في نقاط الإسعاف الميدانية التي أقيمت بالقرب من نقاط الانتفاضة، ومن ناحية أخرى تقوم الممرضات بمجهود لا يُستهان به داخل المستشفيات طوال اليوم.
لقد كان أداء المرأة الفلسطينية على سبيل المثال في الانتخابات التشريعية الأخيرة، التي فازت فيها حماس، أداءً عالياً، استكمالاً لدورها في العمل العام كأسيرة واستشهادية وناشطة اجتماعية، شاركت على مدار العقود الماضية في المشروع النضالي جنباً إلى جنب مع الرجل.
وهكذا فإن من يقول إن الحركات الإسلامية تهضم دور المرأة فهو مخطئ، فالحركات الإسلامية هي من تعطي المرأة حقها أكثر من أي حركات أخرى؛ لأنها تستمد فكرها من الإسلام الذي لم يحرم المرأة من حقها السياسي، وجعل دورها متكاملاً جنباً إلى جنب مع الرجل في كافة مناحي الحياة.
السيدة خديجة ومواجهة المحن والشدائد
السيدة خديجة، أم المؤمنين، - رضي الله عنها - هي أول من عُرفت في الإسلام بالبطولة والشجاعة في الحق، وهي أول امرأة حملت لواء الإسلام، وتحملت في سبيل ذلك ما لا يطيقه إنسان.
بعد الزواج بخير البرية محمد -صلى الله عليه وسلم- بخمسة عشر عاماً نزل الوحي على النبي - صلى الله عليه وسلم- فآمنت به، وكانت أول من آمن بالله وبرسوله، وصدق بما جاء منه، فخفف الله بذلك عن نبيه- صلى الله عليه وسلم- ، وكان الله يفرّج عنه بها إذا رجع إليها، حيث تثبته وتخفف عنه وتصدقه، وتهوّن عليه أمر الناس.
ولمّا أجبرت قريش بني هاشم عام المقاطعة أن يخرجوا من مكة إلى شعابها، لم تتردد في الخروج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- لتشاركه أعباء ما يحمل من أمر الرسالة. وعلى الرغم من تقدمها بالسن، فقد نأت بأثقال الشيخوخة بهمة عالية، وأقامت في الشعب ثلاث سنين، وهي صابرة محتسبة للأجر عند الله تعالى. وبهذا فضلت خديجة على نساء أمة محمد كما فضلت مريم على نساء العالمين.
أم سلمة وموقف لا ينسى
قالت له يا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ انحرِ الهدي، وقصّ الشعر فسيتبعك المسلمون.. ففعل وفعلوا.. وانفكت الأزمة وارتفعت المحنة التي كادت تعصف بقلوب المؤمنين، لولا أن الله تعالى سخر سيدة فاضلة لترتفع المحنة وتزول الشدة على يديها.(/2)
إن هذه الواقعة التي يسطرها التاريخ بحروف من نور لأم المؤمنين "أم سلمة" خلال صلح الحديبية، تشير بشكل واضح إلى الدور الكبير الذي تلعبه النساء في أوقات الأزمات والشدائد.
ولا يتسع المجال لاستعراض المزيد من هذه القصص المذهلة، كما أننا لا نحتاج للأمثلة المؤكدة على دور المرأة في الشدائد، فلا تكاد تخلو حياة المرء من امرأة كانت لها وقفات كبيرة الشأن عظيمة المكانة، سواء كانت تلك المرأة أمًا أو زوجة أو حتى ابنة، في المنزل كانت أو في العمل، وعلى المستوى الشخصي أو العام.
فعلى المستوى الشخصي، وكمثال بسيط على دور المرأة في المحن والشدائد؛ من الذي يتحمل المسؤولية شبه كاملة في حال ابتُليت الأسرة بطفل معاق، أليست هي المرأة، ومن الذي يتحمل مسؤولية تدبير أمور البيت في حال ضاق الحال بالزوج ولم يستطع الإنفاق على البيت بشكل كاف أو أُصيب بالمرض، أليست هي المرأة؟
ومن النماذج السامقة ما نراه في حالة اعتقال الرجل، - وهذا نشاهده بشكل خاص في فلسطين والعراق - حيث تتحمل المرأة المسؤولية كاملة، وترفض طلب الطلاق على الرغم من الضغوط الخارجية – أحياناً - خاصة من الأهل.
لقد صدق الذي قال "ما من رجل عظيم إلا وراءه امرأة عظيمة"، فالرجل إن لم تتوفر له الراحة والجو الملائم من حيث الهدوء والتشجيع فلن يبدع ويحقق الإنجاز والتفوق، فالرجل الذي يقضي يومه في حل مشاكل بيته ويعيش في اضطراب وقلق بشكل دائم، كيف له أن يجد التركيز ليحقق شيئًا ملموسًا في الحياة.
ولهذا كان خير متاع الدنيا المرأة الصالحة، وبالطبع فإن صلاح دين المرأة يشمل سلوكها وأخلاقها وموقفها من زوجها وتربيتها لأبنائها وصبرها في المحن والشدائد الخاصة بأسرتها أو بأمتها.
أم عمارة نموذج فدائي لا يموت
ونتوقف هنا قليلاً للحديث عن نموذج نسائي فريد، نقدمه لبناتنا ونسائنا في العصر الحديث وهن يعشن مآسي الأمة وإحاطة الأعداء بها، علهن يأخذن منها القدوة والمثل في كيفية مواجهة أعدائنا والدفاع عن مقدساتنا وثرواتنا واستقلالنا الوطني.
إن هذا النموذج النسائي الفريد هو نسيبة بنت كعب، وهي أم حبيب وعبد الله ابني يزيد بن عاصم. لم تكن مشاركتها في غزوة أحد ودفاعها عن النبي صلى الله عليه وسلم أول ولا آخر تضحياتها في سبيل الله. فقد كانت إحدى امرأتين وفدتا مع ثلاثة وسبعين رجلاً إلى مكة للقاء النبي -صلى الله عليه وسلم- ومبايعته عند العقبة. فهي من المبايعات على طول المدى. فقد بايعت النبي -صلى الله عليه وسلم- بيعة الرضوان عند الشجرة التي رضي الله عن كل من بايع تحتها وأثبت ذلك في محكم التنزيل.
وخرجت نسيبة إلى غزوة أحد مع زوجها وولديها فقاتلت قتالاً شديداً وجرحت اثني عشر جرحاً، وأظهرت في قتالها شجاعة نادرة نالت إعجاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن رآها من أصحابه تصول وتجول وتضرب بسيفها هنا وهناك ومعها زوجها وولداها يساعدونها في قتال العدو.، وكانت نسيبة تدور تسقي المقاتلين، فلما تحوّل الحال وانهزم المسلمون انحازت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع الصفوة الذين أحاطوا به. فلما ولى الناس عن النبي جاء ابن قمئة يقول: دلوني على محمد، لا نجوت إن نجا، فتصدت له أم عمارة ومصعب بن عمير وآخرون ممن أحاطوا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- فكان ما كان من إصابتها.
ولقد شهد النبي -صلى الله عليه وسلم- لهذه المسلمة المحتسبة فقال: "ما التفتُّ يميناً ولا شمالاً إلا رأيت أم عمارة تقاتل دوني.
وتمضي الأيام والسنون وترتفع راية الإسلام. ويفتح المسلمون مكة بإذن الله وعونه. ويلحق النبي -صلى الله عليه وسلم- بالرفيق الأعلى، وينقلب المرتدون المنافقون على أعقابهم، فكانت معركة اليمامة وهي من أشرس المعارك على المسلمين وفيها قتل ابنها حبيب. فمضت تطلب قتل عدو الله مسيلمة الكذاب، فإذا هو قتيل، وإذا عبد الله ابنها الآخر هو الذي أخذ بثأر أخيه، وخلص الإسلام من رأس الفت(/3)
دور المرأة في تربية الأسرة ...
الشيخ/صالح الفوزان ...
...
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلم.
وبعد: فحديثنا يتعلق بالمرأة المسلمة، والحديث عنها أحسبه في هذا الوقت هامًّا؛ ذلك لأن المرأة في مجتمعنا تتعرض لهجمة شرسة من أعداء هذا الدين حيث يطرح ما يسمى بقضية أو قضايا المرأة، ويقصدون به إخراج المرأة عن الوضع الذي أراد الله لها...
ونحن لا نعرف للمرأة قضية غير قضية أمتها. إن جهل الأمة بدينها، وضعفها في الأخذ به هو قضية الأمة والمرأة. وهو ما نحاول إيضاح شيء منه في هذه المقالة ولنا مع هذا العنوان وقفات.
الأولى: حول مفهوم التربية، حيث نقصد بها المعنى الواسع للبناء وما يلزم له من تعهد الأسرة ورعايتها، حتى لا يظن البعض أن التربية مجرد تهذيب الأخلاق وتقويمها وهذا من مشمولات التربية، والتربية للأسرة أوسع مجالاً من هذا.
والثانية: أنه قد يفهم من العنوان أن للمرأة دورًا في تربية الأسرة ولكنه عمل ثانوي لها، والحقيقة أن عمل المرأة في تربية الأسرة هو عملها الرئيس وما عداه فهو استثناء.
مكان المرأة:
وهذه المسألة بحاجة إلى توضيح وجلاء فنقول: إن مكان المرأة الطبيعي هو البيت وهو مكان عملها، هذا هو الأصل، وهذا ما تدعمه أدلة الشرع، وهو منطق الفطرة التي فطرت المرأة عليها.
أما دلالة الشرع على هذا فالنصوص والوقائع التي تشهد له كثيرة منها:
1 ـ قال تعالى مخاطبًا أمهات المؤمنين: ? وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ?(1)، يقول سيد قطب: « فيها إيماءة لطيفة إلى أن يكون البيت هو الأصل في حياتهن، وهو المقر، وما عداه استثناءً طارئًا لا يثقلن فيه ولا يستقررن إنما هي الحاجة تقضى وبقدرها »(2) .
2 ـ ويقول تعالى: ? لا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ ?(3)، وهي وإن كانت في المعتدة فقد قال العلماء: إن الحكم لا يختص بها بل يتعداها. فدلالة الإضافة ?بُيُوتِكُنَّ? ?بُيُوتِهِنَّ? مع أنها في الغالب للأزواج فهي إضافة إسكان لا تمليك، كأن الأصل لها سكنًا.
3 ـ في قصص الأنبياء دروس وعبر. قصة موسى مع المرأتين ?وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ? إلى قوله: ?قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ، قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ...?( 4 ) لنتأمل هذه الدروس في الآية. فهذا موسى يجد الرعاة على الماء ومن دونهم امرأتين تذودان غنمهما لئلا تختلط بغنم الناس؟ يسألهما ما شأنكما؟ لماذا لا تسقيان غنمكما مع الناس؟
يأتي الجواب: لا نسقي حتى يصدر الرعاء. إن لديهما تقوى وورعًا يمنعانهما من الاختلاط بالرجال، فكأنه يأتي سؤال آخر، ما الذي أخرجكما؟ ثم يأتي الجواب مباشرة ?وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ? فهي الضرورة والحاجة دعت لذلك، ولما اضطرتا للخروج لزمتا الخلق والأدب، فلم تختلطا بالرجال.
ثم يأتي درس آخر حيث تفكر إحدى المرأتين أن الوقت قد حان لتعود الأمور إلى طبيعتها ? قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ ? واقتنع شعيب بالحل فعرض على موسى: ? قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ...? ويقبل موسى العرض وتعود الأمور إلى نصابها فيعمل موسى بالرعي وتعود المرأة زوجة عاملة في بيتها. هكذا يقص علينا القرآن وإن في قصصهم لعبرة.
4 ـ الصلاة في المسجد مشروعة في حق الرجال ومن أفضل الأعمال فكيف إذا كانت في مسجد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومعه، ومع ذلك يحث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المرأة على الصلاة في بيتها. عن امرأة أبي حميد الساعدي، أنها جاءت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت: يا رسول الله إني أحب الصلاة معك. فقال: ( قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي ). فأمرت فبُني لها مسجدٌ في أقصى شيء من بيتها وأظلمه فكانت تصلي فيه حتى لقيت الله عز وجل [5] .
وإيحاء الحديث واضح في أن الأصل قرار المرأة في بيتها، حتى فضل الصلاة في بيتها على الصلاة في مسجده ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع أنه أذن للمرأة في الذهاب للمسجد.(/1)
5 ـ واقع المرأة في القرون المفضلة الأولى – التي هي مكان القدوة – يؤيد هذا، حيث نجد أن خروج المرأة وقيامها بعمل خارج البيت يكاد يكون حوادث معدودة لها أسبابها الداعية لها، بل هذا هو فهم الصحابة. ورد أن امرأة ابن مسعود طلبت أن يكسوها جلبابًا فقال: أخشى أن تتركي جلباب الله الذي جلببك، قالت: ما هو؟ قال: بيتك.
6 ـ ما جاء به الشرع هو الموافق للفطرة ? أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ?[6] إن قرار المرأة في بيتها هو منطق الفطرة الذي يوافق وظائفها وطبيعتها، ويقيها التشتت والتناقض ولقد أثبتت التجارب العلمية والنفسية ما يؤيد هذا، كما نادى بعض الباحثين المنصفين في الغرب لتلافي خطر تشغيل المرأة بما يخالف فطرتها وطبيعتها، ولكن أصحاب الشهوات صم عن كل داع لذلك بل يتهمونه بأنه يدعو للعودة بالمرأة إلى عهود الرجعية والرق كذا زعموا! ويأتي مزيد بيان لهذا في ثنايا الموضوع.
الموقف حول خروج المرأة:
بقي أن يفهم أن خروج المرأة ليس ممنوعًا على إطلاقه، فقد وردت نصوص تدل على جواز خروج المرأة وعملها خارج المنزل، لكن هذه الحالة ليست هي الأصل بل هي استثناء وضرورة.
ومما ورد في هذا إذن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ للمرأة في الصلاة بالمسجد مع أنه فضّل الصلاة في بيتها.
ومن ذلك ما ورد من مشاركة بعض النساء في بعض المعارك في السقي ومداواة الجرحى.
وقد تمسك بهذا دعاة تحرير المرأة، بل دعاة إفسادها من أصحاب الأهواء، كما استدل بها بعض الطيبين الذين انهزموا أمام ضغط الحضارة الوافدة دفاعًا عن الإسلام في ظنهم.
وللإجابة على هذا نقول: إن خروج المرأة وعملها خارج البيت ليس ممنوعًا على الإطلاق، بل قد تدعو إليه الحاجة كما خرجت بنتا شعيب، وقد يكون ضرورة للأمة كتعليم المرأة بنات جنسها وتطبيبهن وعليه تحمل أدلة خروج المرأة، وهي حالة استثناء وليست أصلاً، ولهذا نجد الإمام ابن حجر يقول: لعل خروج المرأة مع الجيش قد نسخ، حيث أورد في "الإصابة" ترجمة أم كبشة القضاعية وقال: أخرج حديثها أبو بكر بن أبي شيبة والطبراني وغيرهما من طريق الأسود بن قيس عن سعيد بن عمرو القرشي أن أم كبشة امرأة من قضاعة قالت: يا رسول الله ائذن لي أن أخرج في جيش كذا وكذا. قال: لا، قالت: يا رسول الله: إني لست أريد أن أقاتل: إنما أريد أن أداوي الجرحى والمرضى وأسقي الماء. قال: ( لولا أن تكون سنة، ويقال: فلانة خرجت لأذنت لك، ولكن اجلسي ).وأخرجه ابن سعد، وفي آخره ( اجلسي لا يتحدث الناس أن محمدًا يغزو بامرأة ) ثم قال: يمكن الجمع بين هذا وبين ما تقدم في ترجمة أم سنان الأسلمي أن هذا ناسخ لذاك؛ لأن ذلك كان بخيبر وكان هذا بعد الفتح [7] .
وعلى كل حال فالأدلة ثابتة في خروج بعض النساء والمشاركة في مداواة الجرحى والسقي، ولكنها حالات محدودة تقدر بقدرها ولا تغلّب على الأصل، ومن المهم أن يتضح الفرق بين كون عمل المرأة خارج البيت أصل، وبين كونه استثناء.
فإذا كان استثناء لحالات معينة فلن نعدم الحلول للسلبيات المتوقعة من الخروج.. وليس هذا مجال طرحها، أما إذا كان الخروج أصلاً كما يرى بعض المستغربين حيث يرى أن المرأة ستبقى معطلة إذا عملت في البيت، وأن هذا شلل لنصف المجتمع. أقول: إن سرنا في هذا الاتجاه فستقع سلبيات الخروج وما يترتب عليه، كما حصل في المجتمعات الغربية.
ستقع مفاسد الاختلاط، ومفاسد خلو البيوت من الأم، مهما اتخذنا من إجراءات وكنا صادقين في ذلك، ولو حاول البعض أن يغطيها بالشعار الخادع: «خروج في ظل تعاليم شريعتنا، وحسب تقاليدنا». ثم لابد أن نفهم أنه إذا تقرر لدينا أن الأصل هو عمل المرأة في بيتها، وأن عملها خارج البيت استثناء، وأن هذا مقتضى أدلة الشرع فلسنا بعد ذلك مخيرين بين الالتزام بهذا أو عدمه إن كنا مسلمين حقًّا. ? وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينً?[8] فالآية وإن نزلت في قضية معينة، فمفهومها عام. ثم هي جاءت بعد الآيات التي أمرت نساء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالقرار في بيوتهن.
ولقد بيّن الله أن ترك شريعته والإعراض عنها سبب حتمي – لا شك – للشقاء كحال أكثر أمم الأرض اليوم ?وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكً?[9] وإن حال الأمة التي لديها المنهج القويم ثم تتركه وتبحث في زبالة أفكار الرجال كقول الشاعر: كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول ما هي الأسرة؟
الوقفة الثالثة مع العنوان عن "الأسرة": ما هي الأسرة التي هي مجال عمل المرأة، ما أهميتها؟
الأسرة أحد المؤسسات التربوية الدائمة التي لا تنفك أبدًا فلا نتصور مجتمعًا بدون أسرة.(/2)
وإن وجودها واستمرارها واستقرارها من مقاصد الشرع ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً?[10] .
توحي الآية أن أصل البشر أسرة واحدة«نفس واحدة وخلق منها زوجها» ومن الزوجين بث أسرًا كثيرة. ويقول: ?وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرً?[11] نسبًا بالنسبة للذكور، وصهرًا بالنسبة للإناث.
وقد حثّ الإسلام على تكوينها متى توفرت الإمكانات، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج )[12]، وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( تزوجوا الودود الولود )[13] .
بيّن الإسلام دور الأسرة وأثرها العظيم إذ هي التي تحدد مسار حياته ودينه، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه.. )[14] .
جاءت تشريعات الإسلام كلها لتنظيم الأسرة وحمايتها من التفكك، ومن ذلك أحكام النكاح والطلاق والعدد وحقوق الآباء والأمهات، وغيرها كثير، كلها تدلّ على تلك المكانة التي أولاها الإسلام للأسرة، لأنها مكان نشوء الأجيال، وعلى قدر ما تكون الأسرة يكون مستقبل الأمة.
وإن المرأة هي العمود الفقري لهذه الأسرة، وكما قيل: وراء كل عظيم امرأة تربى في حجرها.
ألا تستحق هذه الأسرة من المرأة تفرغًا، وهل عمل المرأة فيها جهد ضائع؟ إن رسالة المرأة هي الأمومة بما تحمله، وهي أوسع من مجرد الإنجاب، بل التربية التي تعد الفرد الصالح.
إن عمل المرأة في بيتها إن ظنه البعض صغيرًا فهو كبير تلتقي فيه كثير من التخصصات ويحتاج لما تحتاج له دولة، يحتاج للعلم والفكر، يحتاج الدقة، يحتاج الإدارة، يحتاج الاقتصاد، يحتاج الرقة والإحساس، يحتاج لسمو المبادئ.
إن المرأة التي تنظر لعمل البيت نظرة استصغار لدليل على أنها لم تفهمه حق الفهم، ومن ثم لن تقوم به، كذلك الذين يرون أنها معطلة في بيتها إما أنهم لا يفهمون هذا العمل، أو أنهم يفهمونه ولكن في قلوبهم مرض.
هل يصح أن نقول: إن المرأة إذا تفرغت للعناية بالأسرة تبقى معطلة ويخسر المجتمع نصف طاقاته.
من الضروري أن تفهم المرأة هذا الدور الكبير في ظل العقيدة ?قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ?[15] إنه عبادة، فليس عملاً قسريًا، أو عملاً روتينيًا، بل هو عمل فيه روح لمن أدركت أهداف الحياة وسر وجود الإنسان. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها وحفظت فرجها وأطاعت بعلها دخلت من أي أبواب الجنة شاءت )[16] .
وبعد هذه الوقفات يأتي الحديث عن أعمال المرأة داخل بيتها والتي تمثل دورها الرئيسي في هذه الحياة لتساهم في بناء الأمة، وسوف يتضح لنا أنها أعمال كبيرة وعظيمة إذا أعطيت حقها فإنها تستغرق جل وقتها، وهذه الأعمال:
أعمال المرأة في بيتها:
أولاً: عبادة الله:
لأن ذلك هو الغاية من وجود الإنسان ككل ?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ?[17] .
لذا نجد التوجيه الإلهي لأمهات المؤمنين لما أمرن بالقرار في البيوت، قال الله تعالى: ?وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ...? [18] .
ومفهوم العبادة وإن كان أوسع من أداء الشعائر التعبدية، لكنها جزء كبير من العبادة، وأداء العبادة هو أكبر معين للمرأة على أداء دورها بإتقان في بيتها فالمرأة الصالحة هي التي تؤدي دورها على الوجه المطلوب، كما أن ذلك هو أساس التربية الصالحة بالقدوة، حيث إن قيام المرأة بأداء العبادة بخشوع وطمأنينة له أكبر الأثر على من في البيت من الأطفال وغيرهم، فحينما تحسن المرأة الوضوء، ثم تقف أمام ربها خاشعة خاضعة ستربى في الأطفال هذه المعاني بالقدوة إضافة للبيان والتوجيه بالكلام.
وهذا الجانب وإن كان معلومًا لكن لابد أن تتضح أهدافه وغاياته وأثره ويُفهم بعيدًا عن الروتين القاتل للمعاني السامية.
ثانيًا: المرأة في البيت سكن واستقرار للزوج والبيت:
قال تعالى: ?وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ?[19] .
التعبير بـ «سكن» وما يحمله من معنى. إن كلمة «سكن» تحمل معنى عظيمًا للاستقرار والراحة والطمأنينة في البيت، ولو حاولنا أن نوجد لفظًا يعبر عما تحمله ما استطعنا ولن نستطيع، ذلك كلام رب العالمين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. فالمرأة سكن للزوج، سكن للبيت. ثم وصف العلاقة بأنها "مودة ورحمة".(/3)
وقال: ?هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَ?[20] أي يأنس بها ويأوي إليها، ولنفهم سر التعبير «إليها» في الآيتين حيث أعاد السكن إلى المرأة فهي مكانه وموطنه، فالزوج يسكن إليها، والبيت بمن فيه يسكن إليها ? لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا ? ولا تكون المرأة سكنًا لزوجها حتى تفهم حقه ومكانته، ثم تقوم بحقوقه عليها طائعة لربها فرحة راضية.
لذا يحرص الإسلام على تقرير مكانة الزوج لأنها الأساس، يقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجه )[21] .
بل الإشعار بمكانته حتى بعد وفاته ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم والآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرًا... )[22] .
وليفهم أن الإحداد أمر زائد على العدة، ففيه إشعار بحق الزوج على الزوجة. وقد شرع في الإسلام أحكام تكفل أداء حقوق الزوج، ومن ثم يكون البيت سكنًا ويصبح بيئة صالحة.
على أن هذه الأحكام والتشريعات ليست خاصة بالمرأة بل هي على الزوجين، لكن دور المرأة فيها أكبر لأنها العمود كما ذكرنا، وحيث مجال حديثنا عن المرأة وعن دورها في تربية الأسرة، لابد من الإشارة لبعض المسئوليات والوسائل اللازمة لها التي تجعل البيت سكنًا كما أراد الله، ومنها:
1 ـ الطاعة التامة للزوج فيما لا معصية فيه لله:
هذه الطاعة هي أساس الاستقرار، لأن القوامة للرجل ?الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ...?[23] فلا نتصور قوامة بدون طاعة... والبيت مدرسة أو إدارة، فلو أن مديرًا في مؤسسة أو مدرسة لديه موظفون لا يطيعونه، هل يمكن أن يسير العمل، فالبيت كذلك. إن طاعة الزوج واجب شرعي تثاب المرأة على فعله، بل نجد طاعة الزوج مقدمة على عبادة النفل، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( لا تصوم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه ) [24] . وفيه إشارة إلى أهمية طاعة الزوج حتى قدمت على عبادة صيام النفل.
2 ـ القيام بأعمال البيت التي هي قوام حياة الأسرة من طبخ ونظافة وغسيل وغير ذلك:
وحتى يؤدي هذا العمل ثمرته لابد أن يكون بإتقان جيد، وبراحة نفس ورضى وشعور بأن ذلك عبادة.
وإليك أيها الأخت نماذج من السيرة ومن سلف هذه الأمة. أخرج الإمام أحمد بسنده عن ابن أعبد قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا أخبرك عني وعن فاطمة رضي الله عنها كانت ابنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكانت من أكرم أهله عليه، وكانت زوجتي، فجرَّت بالرحى حتى أثّر الرحى بيدها، وأسقت بالقربة حتى أثرت القربة بنحرها وقمّت البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت تحت القدر حتى دنست ثيابها، فأصابها من ذلك ضرر، فقدم على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بسبي أو خدم، قال: فقلت لها: انطلقي إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فاسأليه خادمًا يقيك حر ما أنت فيه، فانطلقت إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فوجدت عنده خدمًا أو خدامًا فرجعت ولم تسأله فذكر الحديث فقال: ( ألا أدلكِ على ما هو خير لكِ من خادم إذا أويتِ إلى فراشكِ سبحي ثلاثًا وثلاثين واحمدي ثلاثًا وثلاثين وكبري أربعًا وثلاثين ) فأخرجت رأسها فقالت: رضيت عن الله ورسوله مرتين.. [25] . فلم ينكر قيامها بهذا المجهود، ومن هي في فضلها وشرفها، بل أقرها وأرشدها إلى عبادة تستعين بها على ذلك، وأن ذلك خير لها من خادم.
روى ابن إسحاق بسنده عن أسماء بنت عميس قالت: لما أصيب جعفر وأصحابه دخل عليَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد دبغت أربعين منا، وعجنت عجيني وغسلت بنّى ودهنتهم ونظفتهم. قالت: فقال لي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( اتيني ببني جعفر ) قالت: فأتيته بهم، فتشممهم وذرفت عيناه، فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي، ما يبكيك؟ أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء؟ قال: ( نعم، أصيبوا هذا اليوم ) ... الحديث [26] .
3 ـ استجابتها لزوجها فيما أحل الله له:
قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح )[27] . بل الأولى في حقها أن تتقرب إليه دون الطلب، وأن تتهيأ لذلك وتتجمل. وإنه لمن المؤسف أن بعض النساء تتجمل لخروجها – وقد نُهيت عن ذلك – أكثر مما تتجمل لزوجها – وقد أُمرت به – وكل ذلك يدل على جهل بالمسؤولية، أو عدم اتباع لشرع الله.
إن لقيام المرأة بهذا الأمر، وحسن الأخذ به أثرًا كبيرًا على استقرار البيت، حيث عفة الزوج ورضاه بما عنده وعدم شعوره بالإحباط والحرمان، ومن ثم الاستقرار النفسي.
ما أكثر الرجال الذين يعيشون حياة غير مستقرة بسبب شعورهم بالحرمان، لأن المرأة لم تعر هذا الجانب اهتمامًا، أو لم تعرف كيف تقوم به حق القيام، فلتدرك المرأة دورها في ذلك، ثم لتفكر وتبحث كيف تؤديه.
4 ـ حفظ سره وعرضه:(/4)
فلا تتعرض للفتنة ولا للتبرج، ولا تتساهل في التعرض للرجال في باب المنزل أو النافذة أو خارج البيت، ولتكن محتشمة عند خروجها.
قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( فأما حقكم على نسائكم فلا يوطين فرشكم من تكرهون ولا يأذنَّ في بيوتكم لمن تكرهون )[28] .
إن هذا يعطي صيانة أخلاقية للبيت، وثقة للزوج، وتربية للأبناء على العفة، وأن البيت الذي يحصل فيه شيء من التساهل في أي أمر من هذه الأمور لن يكون سكنًا مريحًا، ولا مكان استقرار.
5 ـ حفظ المال:
يقول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيته )[29] . وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش. أحناه على ولد في صغره وأرعاه على زوج في ذات يده )[30] .
وقضية المال قضية هامة يتعلق بها أمور منها:
1 ـ الإصلاح في البيوت بحفظ ما فيها.
2 ـ عدم التبذير والإسراف.
3 ـ عدم تحميل الزوج ما لا يطيق من النفقات.
والأمور المالية اليوم أصبح لها نظام وحساب فكم من الوسائل والطرق توفر للأسرة عيشًا هنيئًا مع عدم التكلفة المالية، وقد أصبحت فنًّا يدرس، فهل تعي الزوجة دورها في ذلك.
6 ـ المعاملة الحسنة:
فالزوج له القوامة فلابد من أن تكون المعاملة تنطلق من هذا ومن صور حسن المعاملة.
ـ تحمل خطئه إذا أخطأ.
ـ استرضاؤه إذا غضب.
ـ إشعاره بالحب والتقدير.
ـ الكلمة الطيبة والبسمة الصادقة، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( تبسمك في وجه أخيك صدقة )[31] .
فكيف إذا كانت من زوجة لزوجها.
ـ الانتباه لأموره الخاصة من طعام وشراب ولباس من ناحية النوع والوقت. ولتعلم المرأة أنها حين تقوم بهذه الأمور ليس فيه اعتداء على شخصيتها أو حطّ من مكانتها بل هذا هو طريق السعادة، ولن تكون السعادة إلا في ظل زوج تحسن معاملته وذلك تقدير العزيز العليم ?الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ ?[32] يقول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجه )[33] .
فلتفهمي مقاصد الشرع ولا تغتري بالدعاية الكاذبة وليكن شعارك سمعنا وأطعنا.
?فَإِمَّا يَأتِيَنَّكُم مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى? [34] .
7 ـ تنظيم الوقت:
احرصي على تنظيم وقتك حتى يكون عملك متعة، واجعلي البيت دائمًا كالروضة نظافة وترتيبًا، فالبيت دليل على صاحبته، وبالنظافة والترتيب يكون البيت بأجمل صورة، ولو كان الأثاث متواضعًا والعكس بالعكس.
إن الزوج والأولاد حينما يعودون من أعمالهم ودراستهم متعبين فيجدون بيتًا منظمًا نظيفًا يخف عنهم العناء والإرهاق، والعكس بالعكس؛ فنظافة السكن ونظامه من أهم الأسباب لكونه سكنًا وراحة.
8 ـ قفي مع زوجك:
في الأحداث والأزمات وما أكثرها في هذه الدنيا! أمدِّيه بالصبر والرأي، اجعليه عند الأزمات يهرب لبيته، لزوجته، لسكنه، لا يهرب عنها، فذلك من أكبر الأسباب للوئام، وبهذا يكون البيت سكنًا.
9 ـ الصدق معه:
كوني صادقة معه في كل شيء وخصوصًا فيما يحدث وهو خارج البيت، وابتعدي عن الكذب والتمويه، فإن الأمر إن انطلى مرة فلن يستمر ثم تفقد الثقة، فإذا فقدت الثقة فلن يكون البيت سكنًا مريحًا، ولا مكانًا للتربية الصالحة.
10 ـ كيف تتصرفين عند حصول الخلاف؟
وأخيرًا اعلمي أننا بشر، فلا بد من الضعف، ولابد من وقوع اختلاف حول بعض الأمور، لكن المهم كيف تعالج الخلافات فإذا كان من الطبيعي حصول بعض الخلاف، فليس من الجائز أن يتحول كل خلاف إلى مشكلة قد تقوض كيان البيت، وإليك بعض التوصيات التي ينبغي الانتباه لها عند حصول خلاف.
1 ـ تجنبي الاستمرار في النقاش حالة الغضب والانسحاب حتى تهدأ الأعصاب.
2 ـ استعملي أسلوب البحث لا الجدال والتعرف على المشكلة وأسبابها.
3 ـ البعد عن المقاطعة والاستماع الجيد.
4 ـ لابد من إعطاء المشاعر الطيبة، وبيان أن كل طرف يحب الآخر، ولكن يريد حل المشكلة.
5 ـ لابد من الاستعداد للتنازل، فإن إصرار كل طرف على ما هو عليه يؤدي إلى تأزم الموقف، وقد ينتهي إلى الطلاق.
هذا بعض ما ينبغي للمرأة أن تسلكه في بيتها حتى تكون قد شاركت في إيجاد السكن الحقيقي، البيت الذي يعيش فيه الزوج هادئًا آمنًا مستقرًا فينتج لأمته، وفيه يتربى الأولاد التربية السليمة فتصلح الأمة بصلاح الأجيال، والزوجان هما أساس الأسرة فإذا كانت العلاقة بينهما سيئة فلا استقرار للبيت.
ثالثًا: جعل الأسرة في إطارها الواسع سكنًا:(/5)
من الأعمال التي تقوم بها المرأة في بيتها لتؤدي دورها في تربية الأسرة حرصها على جعل الأسرة سكنًا واستقرارًا في إطار الأسرة الواسع، إن الحديث في الفقرة السابقة يمسّ الأسرة في إطارها الضيق الزوج والزوجة والأولاد، لكن هناك إطار للأسرة أوسع من ذلك يشمل الأم والأب والأخوة والأخوات، ولهم حقوق سواء كانوا مع الزوج في البيت أو ليسوا معه. ولابد أن يلتئم شملهم وتصلح العلاقات بينهم، حيث يتعلق بذلك أحكام كثيرة، منها بر الوالدين وصلة الأرحام.
وللمرأة دور خطير في ذلك، فكم من امرأة بوعيها بهذا الجانب وخوفها من الله، كانت سببًا للصلة بين زوجها وأمه وأبيه وإخوته وأرحامه، فأصبحت أداة خير تجمع الأسرة على الخير، وكم من امرأة جاهلة بواجبها في هذا الجانب، أو تعرفه لكنها لا تخاف الله فسببت فرقة الأسرة فكان عقوق الآباء والأمهات، وكان قطيعة الرحم كل ذلك بسبب جهل المرأة بدورها في هذا الجانب وعدم القيام به.
رابعًا: تربية الأولاد:
من المجالات التي يظهر فيها دور المرأة في تربية الأسرة ( تربية الطفل ) وهذا من أهم المجالات وأخطرها لسببين:
الأول: لأنه موجه للطفل ومن الطفل تتكون الأمة، وعلى أي حال كان واقع الطفل وتربيته اليوم سيكون وضع الأمة في المستقبل كذلك، ومن هنا ندرك أنه سيمر عبر مدرسة الأم أفراد الأمة كلهم.
الثاني: ولأن الطفل كثير المجاهيل ينطبق عليه أنه واضح غامض، سهل صعب، لذا فرعايته وتربيته تحتاج لجهد ليس سهلاً، وهذا ما سوف نوضحه فيما يأتي.
إن رعاية الطفل مسؤولية الأبوين معًا، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، والرجل راع في بيته ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيته )[35] .
ويقول تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ?[36] .
ولكننا إذا نظرنا إلى واقع الأمر وجدنا أن الرجل لا يقضي في بيته ومع أطفاله إلا جزءًا يسيرًا من الوقت هذا من حيث الكم، ومن حيث الكيف فهذا الوقت يكون فيه منهكًا من العمل، يطلب الراحة، وليس لديه قدرة على التفكير في شأن أولاده. لذا يظهر لنا أن الدور الأكبر في هذا هو دور المرأة ومسؤوليتها، أخرج البخاري عن جابر بن عبد الله – رضي الله عنه – قال: ( هلك أبي وترك سبع بنات، أو تسع بنات، فتزوجت امرأة ثيبًا فقال لي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: تزوجت يا جابر فقلت: نعم، فقال: بكرًا أم ثيبًا قلت: بل ثيبًا. قال: فهلا جارية تلاعبها وتلاعبك، وتضاحكها وتضاحكك قال: قلت له: إن عبد الله هلك وترك بنات وإني كرهت أن أجيئَهُنَّ بمثلهن فتزوجت امرأة تقوم عليهن وتصلحهن، فقال: بارك الله لك، أو قال: خيرً )[37] .
الحديث دلّ على مشاركة المرأة زوجها في تربية الأولاد بل إن الدور الأول هو دورها: ( تقوم عليهن وتصلحهن ) .
أيتها الأخت:
إن قيامك بهذه المهمة العظيمة يتطلب فهمك التام لها حتى تؤديها على وجهها المطلوب، إن رعاية الطفل وتربيته التربية الجيدة لابد له من معرفة بعض الجوانب التي تتعلق بالطفل، وأعرض لبعض منها:
أولاً الجانب الصحي: إن الطفل المريض أو المعوق لن يكون فردًا تامًّا مفيدًا للأمة.
لذا فأول أمر تعمله المرأة وتوليه عناية، صحة طفلها، ولقد كتبت في هذا الموضوع كتابات متعددة ومن ذلك كتاب (رعاية الطفل الصحية) للدكتور "نبيه الغبرة" فهو يعرض رعاية الطفل الصحية بأسلوب سهل ميسر تفهمه كل امرأة لديها قدر يسير من الاطلاع، ومن الملاحظات التي تتعلق بصحة الطفل:
1 ـ المرأة الحامل وعنايتها بصحتها، حيث صحتها صحة للجنين، ولابد من عمل اللازم لذلك.
2 ـ ما بعد الولادة يمر الطفل بأدوار، لكل دور حالة خاصة ورعاية صحية خاصة، ونجملها فيما يلي.
ـ الوليد في شهره الأول حيث دقة حساسيته في هذا السن، لابد أن تعرف الأم: ما هي المظاهر الصحية وغير الصحية في تلك الفترة، كيف تعامله، مكان نومه المناسب، الرضاع السليم، اللباس.. إلى غير ذلك.
ـ المرحلة الثانية: ما بعد الوليد وهي الرضيع وفيها يحصل المشي، والنطق وما يلزم لها من رعاية صحية، فعند محاولة الطفل المشي لا يكلف فوق طاقته ولا داعي لإعانته بحاجة يمشي عليها بل يترك لقدرته.
النطق: ألا تعلمين أن اضطرابات النطق سببها تشخيص الأهل لها، أي: قولهم بوجودها واتخاذ الوسائل لمعالجتها.
ـ المرحلة الثالثة: سن ما قبل المدرسة، وفيها يتم إعداده للمدرسة، يراعى قدرة الطفل، جعل المدرسة والقراءة محببة إليه.
ـ ثم تأتي مرحلة الطفولة المتوسطة والمراهقة والتي يكون الجهد التربوي فيها صعبًا.
ثم تذكري بعض القضايا الصحية التي يجب أن يكون لديك خبرة بها.
1 ـ لقاحات الطفل ما هي، أوقاتها.
2 ـ النمو السليم للطفل.
3 ـ مجارات ملكات الطفل.
4 ـ لِعب الطفل ولُعبه.
أهمية اللعب في حياة الطفل ليس مجرد تسلية بل وسيلة للتعليم وتنمية المواهب.(/6)
لكل سنّ لُعب معيّنة تناسبه، لو أعطي لعبة أقل من مستواه الذهني لم يحفل بها، ولو أعطي لعبة فوق مستواه يحتاج لجهد أكبر من طاقته، وقد يفسدها وهناك لعب ضارة يحذر منها.
ـ السلس أو التبول الليلي أسبابه كيف يعالج بصورة صحيحة.
ـ الطفل الأعسر: البيئة والتوجيه. لهما دور كبير.
ـ الحوادث: السقوط، الابتلاع، التسمم، الحروق، الدهس.. إلخ لكل سن حوادث خطرة كيف تقين طفلك؟[38] .
هذا جانب من جوانب العناية بالطفل، هل لديك فيه الخبرة الكافية؟ لم يكن القصد من ذكرها التفصيل وإعطاء منهج صحي فليس هذا موضعه، وإنما إشارة إلى أن الأمر ليس بالسهولة المتوقعة.
إذا انتقلنا إلى الجانب الآخر وهو جانب تربية الطفل خلقيًّا وبنائه بناءً صالحًا وغرس العادات الطيبة وإبعاده عن العادات السيئة حتى ينشأ ولدًا صالحًا يكون قرّة عين لوالديه، إن هذا الجانب يحتاج لمحاضرات متعددة؛ لأنه موضوع ذو تشعب. إن من يقوم على تربية الطفل لابد أن يعرف ما هي خصائص الطفل حتى يتعامل معه على بيّنة، ثم ما هي الوسائل الجيدة والمجدية للتربية، ولابد أن تدركي أيتها الأخت أن لكل سن في حياة الطفل طبيعة خاصة ولها وسائلها التربوية الخاصة والكتابات في هذا الجانب كثيرة، وإذا كنت تؤمنين بأن هذا جزء هام من دورك العظيم في تربية الأسرة فلا بد أن يكون لديك فيه الإلمام الذي يمكنك من القيام برسالتك العظيمة [39] . وأنا أذكر إشارات بسيطة في هذا:
خصائص الطفل:
وهذه الخصائص لابد أن يعرفها من أراد أن يربي الطفل على منهج تربوي وسليم ومنها:
1 ـ القابلية، فالطفل صفحة بيضاء لم يتعمق لديه أي سلوك أو أفكار، قابل للتعديل والتوجيه. مثل الغصن اللين قابل للتشكيل على أي شكل تريد، إذن فلا بد أن تعي المرأة دورها في هذا الأمر.
2 ـ مادية في التفكير، فلا تقلق الأم إذا لم يفهم بعض الأمور؛ لأنه يربط ما أمامه بالتفكير المادي، فلو قلت له ثلاثة زائد ثلاثة لم يفهم، لكن ضع أمامه ثلاثة أقلام، وثلاثة، يقول: ستة وهكذا.
من أجل هذا فهو لا يكلف إلا بعد البلوغ ولتربيته على الصفات الحميدة لابد أن تربط بآثارها العملية المحسوسة له.
3 ـ الفردية، والأنانية، كل شيء له، دور المربي إخراجه منها حتى يحترم الآخرين.
4 ـ الطفل له حاجات لابد منها إذا لم توفر له تعرقل نموه، أو تنشئ عنده سلوكيات سيئة، منها:
أ ـ الحب والأمن من أبويه.
ب ـ التقدير والثقة فإنه إذا لم يحترم ويعطى الثقة ينشأ عنده عدم الثقة بالنفس.
جـ ـ الرفقة، لابد له من صحبة، فينبغي اختيار الرفقة الذين اعتني بتربيتهم حتى لا يقع التناقض.
كيف نربي الطفل؟
كل ما نعمله من وسائل لتربية الطفل يرجع إلى أحد الطرق الآتية:
1 ـ التلقين وهذا يعتمد فيه على مجرد الأمر وهو غير مجد كثيرًا، وللأسف أنه المستعمل لدى كثير من الناس.
2 ـ يضاف مع التلقين أمر آخر كالنصح أو الترغيب والترهيب، وهذا أجدى من سابقه.
3 ـ بالملاحظة والتقليد، وهذا أهمها وأخطرها وهنا دور القدوة والسلوكيات في البيت وسلوك الأم كيف يكون حال الطفل، فلن تستطيع تعليمه الصدق ونهيه عن الكذب وهي تكذب أمامه.
بعد هذا هناك ملحوظات عامة حول تربية الطفل ومنها:
ـ الضرب وسوء استعماله، لا شك أن الضرب وسيلة تربوية لكن كيف ومتى يستعمل؟ هذا أمر مهم.
ـ تخويف الطفل بالبعبع وآثاره على نفسية الطفل.
ـ التربية بين التدليل والقسوة.
ـ إبعاد الطفل عن الأطفال غير المهذبين.
ـ متابعة الطفل في دراسته.
ـ تربية البنت على الحياء.
ـ التربية بالنظرة وتعويد الطفل على ذلك.
ـ عدم التناقض بين الزوجين في التوجيه فهذا يأمر وهذا ينهى عن نفس الفعل.
ـ عدم التناقض بين القول والفعل.
ـ مراقبة الأطفال في البيت من حيث لا يشعرون.
ـ الدعاء واستعمال الكلمات النابية.
ولا شك أن كل نقطة مما سبق بحاجة إلى شرح وإفاضة، وليس المجال شرح وسائل التربية وطرقها، وإنما ذكرت ذلك لأبيّن أن عمل المرأة في تربية الطفل ليس عملاً يسيرًا بل هو عمل يحتاج للعلم، ويحتاج جهدًا في المتابعة.
خامسًا: أعمال أخرى:
تلك المجالات الأربعة السابقة هي أهم مجالات عمل المرأة في بيتها والتي من خلالها تشارك في إعداد الأسرة إعدادًا سليمًا، ولكن هناك أعمال أخرى فيها نفع للأسرة مادّيًّا أو تربويًّا إن بقي لدى المرأة متسع من الوقت – بعد قيامها بالأعمال الرئيسة السابقة – وهذه الأعمال كثيرة لا تنحصر، وهي متجددة حسب الظروف المادية والاجتماعية للأسرة وحسب جهد المرأة وتفكيرها، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
ـ خياطة الملابس، كم تنفق الأسرة من المال في هذا الجانب، إضافة إلى آثارها السلبية الأخرى، حيث تقضي المرأة وقتًا طويلاً أمام هذا الخياط الأجنبي وهي تحاول أن تشرح له ما تريد وهو أعجمي في الغالب يفهم بعض الكلام ولا يدرك أكثره، إضافة لما يجلب للبيوت من الموديلات والموضات المخالفة للشرع وللأخلاق والذوق الاجتماعي.(/7)
إنه من العجيب أن تخرج المرأة للعمل خارج المنزل لاكتساب بعض الريالات، ثم يصرف هذا الراتب على الخياط، وعلى المربية التي تقوم على الأطفال، ترى لو تفرغت المرأة لتربية أطفالها وما بقي لديها من وقت قضته في خياطة ملابسها كم ستوفر للأمة، ليس مبلغًا من المال إنما حفظ أجيال الأمة وحفظ أخلاقها، وهذا ليس على العموم، فقد مر بنا أن الأمة بحاجة للمرأة العاملة في بعض المجالات التي لا يقوم بها غيرها، لكن فرق أن يكون هذا استثناءً أو هو الحالة العامة.
ـ من الأعمال التي يمكن أن تقوم بها المرأة في البيت صناعة بعض التحف والأشكال الجمالية. إن طلب الجمال أمر مركوز في الفطرة، فحب الإنسان للمناظر الجميلة والأشكال الرائعة أمر مباح، وللإنسان أن يطلبها ويعملها إذا لم يكن فيها إسراف، ولا محذور شرعي كوجود الصور. وإن كثيرًا من تلك الأشكال قد تعملها المرأة. إن بعض الناس مولع بتلك التحف ويبذل كثيرًا من المال لاقتنائها، ماذا لو استغلت المرأة بعض وقتها وعملت شيئًا من تلك التحف ووفرت هذا المال. هذا الجانب من الأعمال ليس ذا أهمية كبيرة، لكن ذكرته لأبين أن أمام المرأة مجالاً للتفكير في استغلال فاضل وقتها فيما ينفعها وينفع أسرتها.
وبعد أن استعرضنا تلك الأعمال الهامة التي تقوم بها المرأة في بيتها وتشارك من خلالها في تربية الأسرة. هل يصح أن نقول: إن المرأة إذا جلست في بيتها وتفرغت لتلك المهمات تبقى معطلة، وهل تصح مقولة الذين يقولون: إن بقاء المرأة في بيتها يجعل نصف المجتمع عاطلاً عن العمل؟
ما هي المقاييس الصحيحة للبطالة؟ تخرج المرأة لتترك أقدس وظيفة وأخطرها لتؤدي دور كاتب صادر أو وارد، أو ناسخ آلة يؤديها أي شاب من الشباب العاطلين! وتترك المرأة بخروجها رعاية أطفالها وتربيتهم للخادمة والحاضنة! ثم تعود لتنفق هذا المال الذي تركت وظيفتها الأساسية من أجله تعود لتنفق هذا المال على تلك الخادمة وعلى السائق وعلى أماكن الخياطة! ولكن مرض النفوس وانتكاس الفطرة.
إنها انتكاسات البشر حين يحيدون عن منهج الله ?وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى? [40] قد يقول بعض من فرض عليهم الواقع ضغوطه وأصبحوا لا يفكرون إلا من خلال أوضاع اجتماعية معينة يقول هؤلاء: إن هذا كلام عاطفي بعيد عن الواقع العملي.
صور من واقع المرأة في الغرب:
أقول لمثل هؤلاء تعالوا واسمعوا إلى صيحات بعض الغربيين الذين هالهم ما وصلت إليه مجتمعاتهم عندما خرجت المرأة وتركت البيت، إن الغرب وإن تقدّم مادّيًّا لكنه تأخّر اجتماعيًّا وخلقيًّا وأصبحت حضارته معرضة للسقوط، وبدأ المفكرون الغربيون ينذرون بالخطر ويحذرون مما وصلت إليه حالة الأسرة، وحالة المرأة بعد نزولها لميدان العمل خارج المنزل، يقول ( أجوست كونت مؤسس علم الاجتاع ) : ( يجب أن يغذي الرجل المرأة، هذا هو القانون الطبيعي لنوعنا الإنساني، وهو قانون يلائم الحياة الأصلية المنزلية للجنس المحب ( النساء ) ، وهذا الإجبار يشبه ذلك الإجبار الذي يقضي على الطبقة العاملة من الناس بأن تغذي الطبقة المفكرة منهم، لتستطيع هذه أن تتفرغ باستعداد تام لأداء وظيفتها الأصلية، غير أن واجبات الجنس العامل من الجهة المادية ( الرجل ) نحو الجنس المحب ( المرأة ) هي أقدس من تلك تبعًا لكون الوظيفة النسوية تقتضي الحياة المنزلية )[41] .
وهذه كاتبة غربية شهيرة تقول في مقال نشر في جريدة ( الاسترن ميل ) في 10 مايو 1901 تقول: ( لأن يشتغل بناتنا في البيوت خوادم أو كالخوادم خير وأخف بلاء من اشتغالهن في المعامل، حيث تصبح البنت ملوثة بأدران تذهب برونق حياتها إلى الأبد، ألا ليت بلادنا كبلاد المسلمين، فيها الحشمة والعفاف والطهارة رداء، الخادمة والرقيق يتنعمان بأرغد عيش، ويعاملان كما يعامل أولاد البيت ولا تمس الأعراض بسوء. نعم إنه لعار على بلاد الإنجليز أن تجعل بناتها مثلاً للرذائل بكثرة مخالطة الرجال. فما بالنا لا نسعى وراء ما يجعل البنت تعمل بما يوافق فطرتها الطبيعية من القيام في البيت وترك أعمال الرجال للرجال سلامة لشرفه )[42] .
انظر إلى كلام هذه المرأة في أوائل هذه القرن، وقد زاد حال المرأة الغربية سوءًا بعد ذلك، فأين عقول دعاة التحرير أم ران عليها مرض الشهوة.
ويقول جول سيمون: ( المرأة التي تشتغل خارج بيتها تؤدي عمل عامل بسيط ولكنها لا تؤدي عمل امرأة ) [43] .(/8)
وهذه امرأة تدعى "كاتلين ليند" زوجة رائد الفضاء الأمريكي "د. دون ليزي ليند" فليست أسرة أمية، بل هي أسرة غربية في قمة التقدم العلمي، تقول هذه المرأة: « كربة بيت فإنني أقضي معظم وقتي في البيت. وكامرأة فإنني أرى أن المرأة يجب أن تعطي كل وقتها لبيتها وزوجها وأولادها.. ولازلت أذكر حديثًا لأحد رجال الدين ردًّا على سؤال: إذا كان مصير المرأة بيتها فلماذا إذن تتعلم؟ لقد قال يومها لصاحبة السؤال: إذا علمت رجلاً فإنك تعلم فردًا، وإذا علمت امرأة فأنت تعلم جيلاً أو أمة.».
ثم تقول: « وأنا مسرورة جدًّا من بقائي في البيت إلى جانب زوجي وأطفالي حتى في الأيام العصيبة – وأقصد الأيام التي كنا في حاجة فيها إلى المال – لم يطلب مني زوجي أن أعمل وكانت فلسفته أننا نستطيع أن نوفر احتياجاتنا الضرورية لكننا لا نستطيع أن نربي أولادنا إذا أفلت الزمام من بين أيدينا... » [44] .
إن هذه النصوص واضحة، وليست بحاجة إلى تعليق، بل لسنا بحاجة إليها فإننا نؤمن بأن ما اختار الله للبشر هو الصلاح، وهو ما جاء به دين الإسلام ?وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينً? [45] .
سؤال أخير:
وبعد هذا يأتي سؤال أخير وهو مهم جدًّا، هل كل امرأة تستطيع القيام بهذه الوظيفة الكبيرة، وهل مجرد جلوس المرأة في بيتها كاف لتتم هذه الوظيفة؟
وجوابًا على هذا السؤال نقول: إن الشرط الأساسي في المرأة التي تستطيع القيام بهذه المهمة هو أن تكون امرأة صالحة كما أرشد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهذا بقوله: ( تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك )[46] .
بيّن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المعايير التي يقوّم الناس عليها شريكة الحياة، ثم أمر بتقديم معيار الدين. إن بعض الناس يجعل الميزان هو الجمال ويتفنن الناس في رسمه، وبعضهم يجعل المال هو المعيار سواء كان موجودًا أو مكتسبًا.
وبعضهم يجعل الحسب والنسب معيارًا، ولكن معيار الشرع هو الدين. والمرأة الصالحة هي المؤتمنة للقيام بهذه المهمة العظيمة.
إن الذي يختار المرأة الدينة يكون قد وفر على نفسه جهدًا عظيمًا.
وإذا توفرت المرأة الصالحة فلابد أن يكون لديها قدر من العلم الذي يجعلها مؤهلة للقيام بعملها خير قيام، تعرف ما يجب عليها، واعية ومدركة لرسالتها في الحياة، وبهذا ندرك أن المقصود بالعلم هنا ليس الشهادة والمؤهل، وإنما العلم بوظائفها التي يحب أن تقوم بها والعلم بالوسائل التي تعينها على ذلك.
فيلزم المرأة بعد تعلّم دينها أن تعلم كل ما يلزم لها مما يعينها لتقوم بوظيفتها في البيت، تقوم بمتابعة كل ما يستجد مما يكتب حول الموضوعات التي تهمها كالموضوعات المتعلقة بالطفل سواء ما كان حول صحته أو عن تربيته، والموضوعات المتعلقة بالبيت والتدبير المنزلي، والموضوعات المتعلقة ببعض المواضيع الاجتماعية، والمواضيع التي تكتب حول المرأة وغيرها مما يهم المرأة.
إن وجود المرأة الصالحة مع العلم هو المؤشر على إمكانية أداء المرأة لوظيفتها.
وإن جهل المرأة وعدم صلاحها سبب للضياع حتى ولو كانت المرأة متفرغة غير عاملة فإنها سوف تضيع الوقت في الزيارات الفارغة والقيل والقال وتتبع الموضات، ومثل هذه لا يرجى منها أن تقوم بدور مهم ولا أن تخرج جيلاً صالحًا. والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. [من محاضرة الشيخ فوزان بتصرف]
(1) الأحزاب: 33
(2) في ظلال القرآن 59، 28/5 ( ط- العاشرة – الشروق )
(3) الطلاق:1
(4) القصص: [23ـ27]
(5) [الحديث أخرجه أحمد 6/371، وابن خزيمة في صحيحه 3/95، والحديث حسن انظر حاشية الأعظمي على صحيح ابن خزيمة]
(6) [الملك: 14]
(7) [الإصابة 4/463]
(8) [الأحزاب: 36]
(9) [ط: 125]
(10) [النساء: 1]
(11) [الفرقان: 54]
(12) [أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: من استطاع الباءة فليتزوج، ومسلم في كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة]
(13) [أخرجه أبو داود في كتاب النكاح، باب النهي عن تزوج من لم يلد من النساء، والنسائي في كتاب النكاح، باب كراهية تزويج العقيم، والحديث حسن صحيح، انظر صحيح أبي داود. حديث 1805، وصحيح النسائي حديث 3026]
(14) [أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب ما قيل في أولاد المشركين، وباب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه، ومسلم في كتاب القدر باب معنى كل مولود يولد على الفطرة]
(15) [الأنعام: 162]
(16) [رواه أحمد 1/191، والحديث في مجمع الزوائد 4/306، وقال: ( وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن، وبقية رجاله رجال الصحيح ) وقال شاكر: ( إسناده منقطع فيما أرى ) المسند 3/128]
(17) [الذاريات: 56]
(18) [الأحزاب: 33]
(19) [الروم: 21](/9)
(20) [الأعراف: 189]
(21) [أخرجه الترمذي في أبواب الرضاع، باب في حق الزوج على المرأة، وابن ماجه في كتابه النكاح، باب حق الزوج على المرأة، والحديث صحيح انظر صحيح الترمذي حديث رقم 926]
(22) [أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب حد المرأة على غير زوجها، ومسلم في كتاب الطلاق، باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة]
(23) [النساء: 34]
(24) متفق عليه [البخاري في كتاب النكاح، باب صوم المرأة بإذن زوجها تطوعًا، ومسلم في كتاب الزكاة، باب ما أنفق العبد من مال مولاه]
(25) [مسند الإمام أحمد 1/153، وهو في البخاري أخصر من هذا في كتاب فرض الخمس، باب الدليل على أن الخمس لنوائب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والمساكين. وفي مسلم كتاب الذكر والدعاء، باب التسبيح أول النهار وعند النوم، وأبو داود في أبواب النوم باب في التسبيح عند النوم، والترمذي في أبواب الدعوات باب في التسبيح والتكبير والتحميد عند المنام]
(26) [سيرة ابن هشام 3/380]
(27) [البخاري، كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم "آمين". ومسلم، كتاب النكاح، باب تحريم امتناعها من فراش زوجه]
(28) [بهذا اللفظ أخرجه الترمذي في أبواب الرضاع، باب ما جاء في حق المرأة على زوجها. وهو حديث حسن، انظر صحيح سنن الترمذي 1/341، أخرجه مسلم من حديث جابر في صفة حج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في كتاب الحج، باب حجة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، دون – قوله: ( ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون ) ]
(29) [أخرجه البخاري في كتاب الجمعة، باب الجمعة في القرى والمدن، ومسلم في كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل]
(30) [البخاري في كتاب النكاح، باب إلى من ينكح، وأي النساء خير ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل نساء قريش]
(31) [أخرجه الترمذي في أبواب البر والصلة، باب ما جاء في صنائع المعروف، والحديث صحيح انظر صحيح سنن الترمذي 2/186]
(32) [النساء: 34]
(33) [أخرجه أبو داود في كتاب النكاح باب في حق المرأة على زوجها والترمذي في أبواب الرضاع، باب في حق الزوج على المرأة والحديث صحيح انظر صحيح سنن أبي داود 2/402]
(34) [طه: 123]
(35) [البخاري في كتاب الجمعة، باب الجمعة في القرى والمدن، ومسلم في كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل]
(36) [التحريم: 6]
(37) [البخاري كتاب النفقات، باب عون المرأة زوجها في ولده]
(38) [انظر كتاب "رعاية الطفل الصحية" للدكتور نبيه الغبرة]
(39) [مما أنصح به في هذا الجانب سماع محاضرة مسجلة للدكتور عبد العزيز النغيمشي بعنوان ( واقع الطفل المسلم ) ]
(40) [طه: 125]
(41) [المرأة بين الفقه والقانون ص22]
(42) [المرأة بين الفقه والقانون للسباعي ص178، عن مجلة المنار لرشيد رض]
(43) [المرأة بين الفقه والقانون ص179]
(44) [رسالة إلى حواء ص2/61، نقلاً عن جريدة الأنباء الكويتية]
(45) [الأحزاب: 36]
(46) [الحديث أخرجه البخاري عن أبي هريرة، كتاب النكاح/ باب ( الأكفاء في الدين ) ومسلم كتاب الرضاع، باب ( استحباب نكاح ذات الدين ) ](/10)
دور المستشرقين في تخريب العلاقة بين الغرب والإسلام
بثت شبكة «ان.بي.سي. نيوز» - كما جاء في مقال الأستاذ فهمي هويدي بجريدة الشعب بتاريخ 26\10\2003 - شرائط فيديو ظهر فيها الجنرال ويليام بويكين نائب وكيل وزارة الدفاع الأمريكية لشؤون المخابرات، وهو يتحدث مرتديا زيه العسكري في بعض الكنائس عن الإسلام والمسلمين، قائلا انهم يريدون تدميرنا «لأننا شعب مسيحي»، و«انهم عدو روحي يدعى أمير الظلام، وعدو يدعى الشيطان»، ومضيفا "إن إلهنا حقيقي أما إله المسلمين فهو مجرد وثن " (!)
لقد كان كلام الجنرال الأمريكي - كما يقول الأستاذ فهمي هويدي - طاعنا بشكل جارح في عقيدة المسلمين ومرددا لمقولات بعض من قادة الانجيليين المتعصبين في الولايات المتحدة
وفي تقديري أننا إذا ما أخرجنا هذه التصريحات - وأمثالها يفوق الحصر - من سياقها السياسي ورجعنا بها وبأمثالها إلى سياقها الثقافي الذي ينبع منها أدركنا أنها لم تكن غريبة ، وإن استغربها بعضنا لعوامل مختلفة .
لقد كان كلام الرجل منسجما تماما مع بيئته الثقافية المتشربة بكراهيتها للإسلام على مدى الأجيال والقرون ، سواء في أمريكا أو أوربا. ومن هنا فليس من الصواب أن نعطي أهمية تذكر لما يقال عن التحقيق الذي يمكن إجراؤه أو عدم إجرائه مع الجنرال الأمريكي المذكور من رئاسته فهو مجرد فسيل في غابة الكراهية المنتجة أوربيا ضد الإسلام .
وهي كراهية على وعي كاف بالتفرقة بين ما هو الإسلام ومن هم المسلمون ، ومن ثم فهم – وفي وضوح تام – يوجهونها إلى الإسلام رأسا ، ففي نشرة قناة الجزيرة بتاريخ 25\10\2003 اعترف الصحفي الفرنسي المعروف كلود إيمبير الذي يكتب الافتتاحيات في مجلة "لو بوان" الفرنسية بحقيقة مشاعر الكراهية التي يحملها للدين الإسلامي.وصرح بأنه يحمل نفورا من الإسلام ، واتهم إيمبير الإسلام بأنه ينظر للمرأة بطريقة تقلل من مقامها بشكل مستمر، وقال إن السعي إلى إحلال شريعة القرآن مكان شرائع الدول يجعله ينفر من الإسلام، وإن الدين المسيحي يزعجه أقل ، لأنه لا يملك مثل هذا الادعاء، وأضاف أنه "لا يوجد أي سبب للتنازل إلى حد نكران القناعات العميقة بداعي التسامح".. ومضى يقول في لقاء أجرته معه محطة "LCI" عن موضوع الحجاب "إ ن الإسلام يحمل مجموعة من الحماقات والتقاليد القديمة المختلفة "، وأضاف " يجب أن أكون صريحا، ولي الحق وهناك غيري في هذا البلد يفكرون مثلي بأن أقول إن الإسلام لا الإسلاميين يحمل مجموعة من الحماقات والتقاليد القديمة المختلفة".
ومن هنا فليس من الصواب أن نعطي أهمية تذكر لما يقال عن التحقيق الذي يمكن إجراؤه أو عدم إجرائه مع الجنرال الأمريكي المذكور من رئاسته فهو مجرد فسيل في غابة الكراهية المنتجة أوربيا ضد الإسلام .
أوما يقال عن استنكار الحركة المناهضة للعنصرية والمؤيدة للصداقة بين الشعوب في فرنسا لتصريحات الصحفي المذكور، فهي مجرد فقاعات فوق سطح محيط من الكراهية التاريخية العميقة المتجددة ، التي تهب علينا من اتجاه واحد ، وهي من ناحية أخرى محض محاولات التهدئه تأتي في سياق مناسبة التوقيت .
في تقديري أنه لم يعد الأمر يسمح بتجيير المعركة إلى المسلمين باعتبارهم نموذجا سيئا للإسلام فيصبح اللوم كله استحقاقا خالصا لهم ، و يتم الاعتذار عن السيد " الغربي " في كراهيته للإسلام باعتبارها كراهية مبررة ، وهو اعتذار ناشئ من نفسية الطرف المهزوم وميله لجلد الذات وتقديره المتورم للمنتصر التاريخي ، ولقد آن الأوان للمهزومين أن يكشفوا عن جهة البلاء النازل بهم : إنها الكراهية الطافحة عليهم من نوافذ السيد الغربي بتكوينه التاريخي وبيئته الثقافية المتجذرة في الأعماق
ولقد ساهم في تكوين هذه البيئة بصفة أساسية تراث عريض مما يسمى " الاستشراق "
وفي صنيع قدمه للإسلام إدوارد سعيد لم يقدمه له أجيال من أبنائه ممن ذهبوا للغرب للاغتراف من معينه (!) كشف الراحل العبقري في كتابه " الاستشراق : الانشاء . المعرفة . السلطة . " " ــ ترجمة كمال أبوديب طبعة 1981 صـ 64 ــ 65 - عن جريمة المؤسسة الاستشراقية فيما سماه " شرقنة الشرق " ، هذه الشرقنة التي وضعت الإسلام عند الإنسان الغربي في سجن التصور الاستشراقي ، منذ صلة أوربا بالشرق حتى اليوم وكان من ضحاياه الأجيال والملايين من أمثال الجنرال والصحفي سالفي الذكر في أوربا القديمة والجديدة وأمريكا الشمالية والجنوبية على السواء
وإذا كان الدكتور إدوارد سعيد قد استفاد كثيرا من جو الحرية العلمية في الولايات المتحدة للوصول إلى ما وصل إليه في دراسته عن الاستشراق فإن جو العداء الثقافي للإسلام كان أكثر تجذرا في تلك البيئة من جو الحرية العلمية الأمر الذي ظهر أخيرا في استصدار تقنين منع مثل هذه الدراسات مستقبلا كما جاء في تقرير لقناة الجزيرة ظهر في نشرتها بتاريخ 15\12\2003(/1)
إنه بالرغم من ادعاء الغرب الموضوعية في المنهج العلمي فقد أصبح من الواضح ــ طبقاً لدراسة " ادوارد سعيد " أنه افتقد هذه المنهجية تماماً في دراسته للشرق في جميع أدواره ، إذ أصبح الشرق عنده هو الشرق الذي " يصنعه" لأغراض في المعرفة والسلطة ، أو هو الشرق الذي " يشرقنه " على حد تعبير إدوارد سعيد " .
وكما يقول نورمان دارييل ــ حسب الدراسة المشار إليها ــ لم يكن الغرب ليقبل أن ما يقول المسلمون إنهم يؤمنون به هو فعلاً ما يؤمنون به !! . فقد كان ثمة صورة مسيحية ــ أي عن الإسلام ــ لم يتخل الغرب عن تفاصيلها ــ حتى تحت ضغط الحقائق الواضحة
. وكانت جميع التصويبات التي أدخلت ... مجرد دفاع عما كان قد اتضح حديثاً أنه عرضة للنقد .
وقد ازدادت ــ كما يقول د . إدوارد سعيد ــ هذه الصورة المسيحية الصارمة للإسلام حدة وتوتراً بطرق لا تحصى . كان بينها ــ خلال العصور الوسطى - تشكيلة واسعة ..
وبحلول عصر النهضة كان الشرق الأدنى قد أدغم تماماً في التصور المسيحي للعالم ، على نحو ما حدث فى أغنية رولان ، حيث تصور عبادات العرب على أنها تشمل ماهومت ، وأبولو!! .وماهومت فى اللفظ الأوربي هو محمد r !!
يقول د. إدوارد سعيد : (! بالنسبة لأوربا كان الإسلام رجة مأساوية دائمة، ولم يصبح الإسلام رمزاً للرعب والدمار والشيطان والبرابرة الممقوتين بصورة اعتباطية )
إن أوربا لكي تمتص هذا الخطر الكئيب حولته (شيئاً منسوجاً في لحمة الحياة الأوربية ، وفى انكلترا - عصر النهضة وحدها كان أي رجل متوسط التعليم والذكاء " يستطيع أن يرى على مسارح لندن عدداً كبيراً نسبياً من الأحداث المفصلة في تاريخ الإسلام ) ، والنقطة الهامة في ذلك ــ كما يذكر إدوارد سعيد ــ هي أن ما ظل متداولاً حول الإسلام كان صورة معدلة مصغرة عن تلك القوى الخطرة التي صار الإسلام رمزاً لها في أوربا .
ومن تلك الصور المعدلة وبتعبير أدق " المشوهة " ــ والتي أثرت على المفكرين المسيحيين الذين حاولوا فهم الإسلام : قياسهم شخصية محمد r على شخصية المسيح ( فقد افترض بطريقة خاطئة تماماً أن محمداً كان للإسلام مثل ما كان المسيح للمسيحية ) ومن ذلك : ( إطلاق التسمية "المحمدية" على الإسلام ) . وأصبح التصور المسيحي للإسلام ليس هو الإسلام نفسه بقدر ما هو " تمثيل " الإسلام للمسيحي في القرون الوسطى.
يقول د. إدوارد سعيد في عرضه لقضية " التمثيل" تلك : ( إن الثقافات تميل دائماً إلى إخضاع الثقافات الأخرى لتحولات كاملة ، متلقية إياها لا كما هي ، بل من أجل مصلحة المتلقي كما ينبغي أن تكون !! ) وتمثيل المستشرق هنا هو تمثيل ( لجوهر لا يؤمن المستشرق بوجوده ذرة من إيمان ، بل إنه يفعل ما يفعل عادة لخدمة غرض ) ثم يقول ( والتمثيلات تشكيلات ــ أو كما قال رولان بارت .. التمثيلات إفساد لتشكيلات) .
إنها عملية تزييف علمية إن صح هذا التعبير
وتستمر عملية التزييف للإسلام ــ في الرؤية الغربية ــ منذ العصور الوسطى إلى اليوم .
يقول د. إدورد سعيد ( هكذا نجد في القرنين الثاني عشر والثالث عشر تصديقاً عاماً لكون الجزيرة العربية على حواشي العالم المسيحي ملجأ طبيعياً للهراطقة العصاة .... بينما يأتي مستشرق في القرن العشرين ليشير إلى أن الإسلام ليس في الحقيقة إلا هرطقة آرية من الدرجة الثانية ) .
هكذا في امتداد من القرن الثاني عشر إلى القرن العشرين !
وفى كتاب هام " المكتبة الشرقية " لبارتلمي ديربيلو ــ كتب فى آخر القرن السابع عشر وظل المرجع الرئيسي السائد في أوربا حتى أوائل القرن التاسع عشر ، نجده يقول عن محمد( صلى الله عليه وسلم ) : ( هذا هو المنتحل المشهور ماهومت ، المؤلف والمؤسس لهرطقة اتخذت لها اسم الدين نسميها نحن "الماهومتية " … وقد نسب مفسرو القرآن ، وفقهاء الشريعة الإسلامية أو الماهومتية إلى هذا النبي المزيف كل المدائح التي نسبها الآريون والهراطقة الآخرون إلى يسوع المسيح مجردين إياه في الوقت نفسه من ألوهيته … !!! ) .هكذا .
وهل يعرف القارئ ماذا فعل " دانتي " فى جحيمه الذي احتفل به نُخبة المثقفين في البلاد الإسلامية في العصر الحديث ، ورأوا فيه هرماً عالياً من أهرامات الثقافة الأوربية ، وقمة من قمم الأدب الأوربي والعالمي ، وأخذوا يقارنون بينه وبين رسالة الغفران لأبي العلاء المعري ، ويعقدون الصلة بينهما دون أن يشيروا ولو من طرف خفي إلى تشويهه وأحقاده العميقة للإسلام وإساءته البالغة لشخصية الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ؟
إنه وضع موميتو – كما يسميه – في الدائرة الأعمق من الجحيم .. فقبل أن يبلغ دانتي إلى موميتو فى رحلته في الجحيم يمر عبر دوائر تحتوى على أناس آثامهم من مرتبة أدنى ، حتى إذا وصل إلى موميتو فإنه لا يبقى بعده في الدائرة الأعمق غير يهوذا وبروتس ، ثم يصل إلى قعر الجحيم ، حيث يوجد الشيطان ذاته. !!(/2)
ولا نحدثكم عن العقاب الذي فصله تفصيلاً في هذه الدائرة فهو مما لا يطاق ذكره في هذه الإشارات .
وبالرغم من أن سيمون أوكلي في كتابه " تاريخ العرب " الصادر عام1708 قد أعلن دائماً ( أن الإسلام كان هرطقة مستنكرة ) فقد تم طرده من كمبردج عام 1709 لكشفه لحقيقة كانت صدمة مؤلمة للجمهور الأوربي ، تلك هي : أن الأوربيين يدينون للمسلمين بأول ما عرفوه عن الفلسفة.
والحقد الأكبر لأوربا ضد الإسلام فيما يقوله هنرى بيرس .. يبدأ من ظهور الإسلام إلى اليوم ، إذ كانت نتيجة الغزو الإسلامي الذي بدأ في القرن السابع إزاحة مركز الثقافة الأوربية باتجاه الشمال بعيداً عن البحر الأبيض المتوسط الذي تحول إلى منطقة عربية .
وقد كان الشرق الإسلامي بخاصة هو الذي تحدى حركة الاستعمار الأوربي في العصر الحديث .
فـ ( بالنسبة لأوربا كان الشرق ــ باستثناء الإسلام ــ حتى القرن التاسع عشر ميداناً ذا تاريخ مستمر من السيطرة الغربية التي لم تجد من يتحداها .. إلا أن الشرق العربي والإسلامي بشكل عام كانا الوحيدين اللذين واجها أوربا بتحد لم تجد له حلاً على الأصعدة السياسية والفكرية ، والاقتصادية أيضاً ...
لقد كان الإسلام استفزازاً حقيقياً لأوربا بطرق عديدة . فقد كان قريباً من المسيحية قرباً مقلقاً جغرافياً وثقافياً .. وكان بمقدوره أن يفاخر بنجاحات لا تنافس عسكرياً وسياسياً ، بل إن ذلك لم يكن كل شئ ، فالأصقاع الإسلامية مجاورة للأصقاع التوراتية ، بل حتى فوقها ، وأكثر من ذلك فإن قلب المجال الإسلامي كان دائماً ولا يزال الإقليم الأكثر قرباً إلى أوربا ..
ومنذ نهاية القرن السابع حتى معركة ليبانتو عام 1571 كان الإسلام في شكله العربي والعثماني أو شمال الإفريقي والأسباني قد طغى على المسيحية الأوربية أو هددها تهديداً فعالاً ، ولم يكن ممكناً أن يغيب عن ذهن أي أوربي ــ ماضياً أو حاضراً ــ كون الإسلام قد فاق روما إشعاعاً وسما عليها ) .
ولم يكن المؤرخ الأوربي الشهير " غيبون " استثناء من هذه القاعدة ــ في كتابه الشهير انحدار" الإمبراطورية الرومانية وسقوطها " ــ إذ يقول عن الفتح العربي الإسلامي :
( غزا هؤلاء الخلفاء الإسلاميون ــ ... خلفاءَ أغسطس وارتاكسيركس ،
وأصبح الملوك المتنافسون في الوقت نفسه فريسة لعدو كانوا لزمن طويل جداً قد اعتادوا أن يحتقروه
وخلال عشر سنوات من حكم عُمَر ابن الخطاب أخضع العرب لطاعته 36 ألف مدينة وقلعة ، ودمروا أربعة آلاف كنيسة ومعبداً للكافرين وشيدوا 1400 جامع لممارسة ديانة محمد ( !! )
وعبر مائة سنة من هربه من مكة { هكذا ... } امتد نفوذ خلفاء محمد (!!) وسلطانهم من الهند إلى المحيط الأطلسي عبر الأقاليم المختلفة والنائية ..)
وفى التاريخ الحديث ها هو نابليون يعتمد في حملته على مصر على دراسات كونت دوفولني ــ وهو رحالة فرنسي نشر كتابه " رحلة إلى مصر وسورية " في مجلدين عام 1787 م ، وكان فولني يرى : أن ثمة ثلاثة حواجز في وجه السيطرة الفرنسية في الشرق ، وأن أية قوة فرنسية لابد أن تحارب لذلك ثلاثة حروب : الأولى ضد انكلترا ، والثانية ضد الباب العالي العثمانى ، والثالثة : وهى أكثرها صعوبة : ضد المسلمين !! .
ولقد آمن فيكتور هوجو مؤلف البؤساء بمجد نابليون التكتيكي فى حملته الشرقية ، وجسده في قصيدة رآه فيها :
ابن المعجزة الذي أذهل أرض المعجزات …
وملأ الناس خوفاً بجيوشه التي لم يكن لها سابق …
ونبيلاً جليلاً ظهر للقبائل المذهولة … مثل " ماهومت " غربى.
أما كتاب " وصف مصر " الذي كان الثمرة العلمية للحملة الفرنسية ــ التي يفخر بها بعض المثقفين المصريين إلى اليوم ــ والذي طبع في ثلاثة وعشرين مجلداً ضخماً بين عامي 1809 و 1828 م ، فإن الدكتور إدوارد سعيد يرى فيه ( المصادرة التملكية العظيمة لبلد من بلد آخر ) ، حيث انطلق الباحثون من تصور عبر عنه فوربييه فى مقدمته للكتاب من أن مصر بلد ( غارق الآن في البربرية ) تغزوه ( حضارة بلغت حد الكمال ) ، الأمر الذي دفع الكاتبين إلى أن يكتبوا من منظور سابق : فأخذوا ( يشكلون من كل ملاحظة جزئية تعميماً ، ومن كل تعميم قانوناً لا يتغير للطبيعة الشرقية ) ، وبهذا ( يزيح الكتاب .. التاريخ المصري أو الشرقي عن موضعه من حيث هو تاريخ له تماسكه الداخلي والخاص ، وهويته ومعناه ) وصار " وصف مصر " كما يقول إدوارد سعيد : ( النمط الأعلى لجميع الجهود التالية التي بذلت لتقريب الشرق من أوربا ومن ثم لامتصاصه نهائياً ).(/3)
ويأتي الاستعمار الغربي بعد ذلك ليتعامل مع البلاد الإسلامية من منظور استعلائي : يقول د. إدوارد سعيد عن اللورد بلفور وهو شخصية سياسية بريطانية مرموقة فى أوائل القرن العشرين خدم بلده فى المناصب العليا ، وكان وزيراً للخارجية ورئيساً للوزراء ونائباً بالبرلمان البريطانى لمدة طويلة . (لا ينسى اللورد بلفور فى أي سياق فوقية بريطانياً ودونية مصر ) وهو يقول منتفخ الأوداج في خطبة له بمجلس العموم مبرراً احتلال مصر ( إن الأمم الغربية فور انبثاقها في التاريخ تظهر تباشير القدرة على حكم الذات لأنها تمتلك مزايا خاصة بها، ويمكنك أن تنظر إلى تاريخ الشرقيين بأكمله دون أن تجد أثراً لحكم الذات على الإطلاق ، كل القرون العظيمة التي مرت على الشرقيين ، ولقد كانت عظيمة جداً ( !! ) انقضت في ظل الطغيان . )
وهو ما تلقفه ببغاوات الاستعمار وأخذوا يرددونه في بلادنا حتى اليوم .
وماذا يعنى هذا في منطق بلفور : إنه يعنى أنه ( خير لهذه الأمم العظيمة { !! ؟ } أن نقوم نحن بممارسة هذا النمط من الحكم المطلق عليها . ).
ويرسم اللورد كرومر – المندوب السامي البريطاني في مصر في بدايات القرن العشرين - رؤية الغرب للشرق في ( أن الدقة كريهة بالنسبة للعقل الشرقي ) بينما الأوربي ( ذو محاكمة عقلية دقيقة ، وتقريره للحقائق خال من أي التباس ، وهو منطقي مطبوع ) ، ويستمر قائلاً :
( يظهر الشرقيون سذجاً غافلين ، محرومين من الحيوية والقدرة على المبادرة ، مجبولين على الإطراء الباذخ ، والدسيسة والدهاء، والقسوة على الحيوانات
والشرقيون عريقون في الكذب ، وهم كسالى وسيئو الظن ، وهم في كل شئ على طرف نقيض من العرق الإنجلو سكسونى فى وضوحه ومباشرته ونبله.).
وإنه ليجدر بنا أن نعلم أن رجال الغرب – وعملاءهم – عندما تعاملوا مع الشرق من هذا المنظور الاستعلائي في بداية القرن فقد كان ذلك ( لأن تراثاً من الاستشراق أقدم من تراث القرن التاسع عشر زودهم بمفردات وصور وبلاغيات ومجازات ليتفوهوا بها). وبأمثالها مما نسمعه في مناقشات المتأمركين اليوم كأنما هم ضمير الغرب يتكلمون باسمه
ولقد كان لا مفر ــ تحت رعاية الأدب ــ أن يتجذر العداء في قلب الأوربي المثقف ـ الذي يقرأ ـ على سبيل المثال من عيون الأدب الإنجليزي في القرن التاسع عشر في رواية والترسكوت ( الطلسم ) ما جاء على لسان المسيحي ــ في أيام صلاح الدين ــ وهو يكتشف عدوه المسلم : ــ ( لقد اعتقدت أن عرقك الأعمى قد انحدر من سلالة الشرير الرجيم الذي ما كنتم لتستطيعوا دون عونه أن تحتفظوا بأرض فلسطين هذه في وجه هذا العدد من جنود الله الشجعان { يقصد الصليبيين !! } وأنا لا أتحدث بهذه الطريقة عنك أنت بالذات ــ أيها المسلم ــ بل بشكل عام ( !!) عن قومك ودينك ، ومع ذلك فالغريب في نظري ليس أنك تنحدر من سلالة هذا الشرير، بل إنك ــ أيضاً ــ تفاخر بذلك ) .
وفى هذا النص ــ فضلاً عن أثره العام في وجدان الأوربي ، والذي ليس من المستغرب أن يؤثر بعمق هو وأمثاله من النصوص في موقف الإنسان الغربي من قضايا المسلمين عامة وقضية فلسطين بخاصة - ــ يظهر التعالي المتمثل في لعنة شعب بأكمله ، مع شئ من الأدب النفاقي الذي يجيده هؤلاء في عبارة " أنا لا أقصدك أنت بالذات " . وكما يقول د. إدوارد سعيد : ( إن الأمر ليبدو كما لو أن ثمة برميلاً اسمه " الشرقي " تطرح فيه دون تفكير جميع آراء الغرب السلطوية ، اللامنسوبة ، التقليدية حول الشرق . ) .
وماذا يمكن أن يترسخ فى وجدان الأوربى ــ المثقف بخاصة ــ وهو يقرأ لعلم من أعلام الأدب الفرنسى فلوبير فى قصته " معجبة الشرق " : (منذ زمن اعتاد صوفي أن يسير في شوارع القاهرة عارياً تماماً فيما عدا طاقية على رأسه وأخرى على عضوه ، ومن أجل أن يبول كان يرفع طاقية العضو، فتركض النساء العاقرات اللواتي أردن الإنجاب إليه ، ويضعن أنفسهن تحت قوس بوله ، ويبللن أنفسهن به . ) !!
وهكذا كما يقول د. إدوارد سعيد يصبح الشرق معرضاً حياً للشذوذ
ويظهر هذا المنحى ــ حتى في أعمال المستشرقين الجادين ، وهذا هو الأخطر فقد قال كارل بكر المستشرق الامريكي 1873 \ 1945 : ( إنه رغم أن الإسلام ـ لاحظ الصفة التعميمية الهائلة على حد تعبير إدوارد سعيد ــ ورث التراث الهيليني فإنه لم يكن قادراً على أن يفهم أو يستخدم التراث اليوناني الإنساني ) هكذا !!
( وعلاوة على ذلك فمن أجل أن يفهم المرء الإسلام – أي في الغرب الواقع تحت سلطة الاستشراق - عليه قبل كل شئ أن يعاينه لا بوصفه " ديناً " أصيلاً " بل بوصفه شيئاً من محاولة شرقية فاشلة لاستخدام الفلسفة اليونانية في غيبة للإلهام الخلاق الذي نجده ــ كما يقول بكرـ في أوربا عصر النهضة . ) هكذا !(/4)
كما يظهر فى رؤية لويس ماسينيون ــ أعظم المستشرقين الفرنسيين شهرة وتأثيراً ــ الذي كان يرى أن أعظم رجال الإسلام ــ لم يكن محمداً ( !! ) أو ابن رشد ، بل الحلاج القديس المسلم الذي صلبه المسلمون السنيون لجرأته على شخصنة الإسلام . وهو يقصد بهذه الشخصنة ذلك النوع من التجسد المسيحي للإله ، الذي يلاحظ ماسينون أن الإسلام يرفضه ( رفضاً منظماً ... ) كما يقول .
وفى عرف الاستشراق ــ كما يقول إدوارد سعيد ــ ( كان للإسلام معنى يمكن أن يوجد ــ في صياغة هي الأكثر دقة وجلاء ــ في رسالة رينان الأولى ، فمن أجل أن يفهم الإسلام فهما أفضل ينبغي أن يقلص إلى " الخيمة والقبيلة ". ) هكذا كأنك تسمع مستغربا عربيا .
وتستمر هذه النظرة الاستعلائية العدائية عند المستشرقين المحدثين ــ في منتصف القرن العشرين ــ تظهر فيما ذكره إتش . أى . آر . جب فى سلسلة محاضراته فى جامعة شيكاغو عام 1945 ، إذ يقول : صحيح أنه وجد بين الشعوب الإسلامية فلاسفة عظماء وأن بعضهم كانوا عرباً ، غير أنهم كانوا استثناءات نادرة ، فالعقل العربي سواء فى علاقته بالعالم الخارجي أو في علاقته بالعمليات الفكرية يعجز عن أن يتخلص من شعوره الجارف الحاد بانفصالية الأحداث المحسوسة وفرديتها ، وهذا بالذات ــ فيما اعتقد ــ أحد العوامل الرئيسية التي تكمن وراء ظاهرة " فقدان الحس بالقانون " التي اعتبرها الأستاذ ماكدونالد فرقاً مميزاً فى الشرقى . وهذا هو أيضاً ما يوضح ما يجد الطالب الغربي صعوبة كبيرة في فهمه ألا وهو ــ: نفور المسلمين من العمليات الفكرية العقلانية . ) هكذا .
وعن أثر جب في المناخ الثقافي الأوربي من جهة فهمه للإسلام يقول إدوارد سعيد : إن تحيز جب بالرغم من معرفته الفائقة التي تظهر في كتابه ، أو بسببها على الأرجح ( يظل عقبة كأداء في وجه كل من يحاول أن يفهم الإسلام الحديث ) .
وبالنسبة لموقف الغرب من الشرق عموماً ــ شاملاً الإسلام بوجه خاص ــ لا يسعنا أن نتجاهل موقف كارل ماركس من الاستعمار الإنجليزي للهند في القرن التاسع عشر . فبالرغم من أنه كان ينعته بأنه ( مدفوع بأكثر المصالح قذارة .. ) إلا أنه كان يرى فيه رسالة إحيائية تجديدية ، يقول : ( إن على انكلترا أن تحقق فى الهند رسالة مزدوجة : الأولى تدميرية ، والثانية احيائية تجديدية ، افناء المجتمع الأسيوى ، وإرساء الأسس المادية للمجتمع الغربي فى آسيا . ) . ويرى في هذا العمل بالرغم مما فيه من تعذيب ، وافتراس لأرواح لا تحصى ــ يمكن أن يقاس على حكم تيمورلنك ــ فإنه ( يهبنا متعة أعظم ) على حد قول " جوته " وهو يستشهد به .
والهند التي يتكلم كارل ماركس عن متعة إفنائها هي في ذلك الوقت الهند الإسلامية غالبا .
وماذا عن توماس كارليل الذى يستشهد به فى مجال الإنصاف للإسلام بناء على ما كتبه في ( الأبطال ) عن محمد صلى الله عليه وسلم ؟ بالرغم من أن كارليل لا يتهم محمداً بالكذب صراحة ــ شأن قليل من غيره من المستشرقين ــ إلا أنه كان يرى أن محمداً هو مؤلف القرآن ، وأن القرآن ــ ( هو خليط مهلهل مشوٌش ممل خام مستغلق ، تكرار لا نهاية له ، وإسهاب وإطناب ، ومعاظلة ، خام إلى أقصى الدرجات ، مستغلق وبإيجاز : غباء فارغ لا يطاق ) ــ ونحن لسنا بحاجة إلى الوقوف بجدية أمام هذا النقد الأبله ، الموجه إلى لغة القرآن من جاهل بلغة القرآن العربية ولو كان مستشرقاً ! وناقل الكفر ليس بكافر .
وفى كتاب : رحلة من باريس إلى القدس ( 1810 ــ 1811 ) يتحدث شاتو بريان عن القرآن بأنه لم يحتو على أي " مبدأ للحضارة ، أو أي تعليم يسمو بالشخصية " ، ثم يتمادى المستشرق ليمجد الحرب الصليبية باعتبار أنها ( لم تدُر حول إنقاذ كنيسة القيامة فحسب ، بل دارت حول معرفة من سينتصر : مذهب تعبدي هو عدو للحضارة محبذ ــ باطراد ــ للجهل ، وللطغيان ، وللعبودية . أو إلخ ) هكذا !!
وكان هذا كما يقول إدوارد سعيد : أول ذكر مهم لفكرة قدر لها أن تكتسب سلطة خرقاء : أوربا التي تلقن الشرق معنى الحرية ، وهى ــ أي الحرية ــ مفهوم آمن شاتو بريان ، وكل من جاء بعده بأن الشرقيين ــ وخصوصاً المسلمين ــ لا يعرفون شيئاً عنه ، يقول : " عن الحرية لا يعرفون شيئاً ، من الاحتشام ليس لديهم شئ ( !! ) " القوة هي ربهم " . عجبي
لقد هاجم مؤرخون ثقافيون محترمون (!! ) - حسب تعبير إدوارد سعيد- مثل ليوبولدفون رانكه ، وجاكوب بيركهاردت الإسلام بعنف . ففي كتابه تاريخ العالم (1881 ــ 1888 ) تحدث رانكه عن الإسلام ليصف هزيمته أمام الشعوب الجرمانية الرومانية " . وفى " شذرات تاريخية " 1893م تحدث بيركهارد عن الإسلام كشيء " بائس ، عار ، تافه ، ... وقد قام بمثل هذه العمليات بمهارة وحماسة أبلغ بكثير أوستفالد اشبنجلر فى كتابه " تدهور الغرب 1918 ــ 1922 ! وهكذا كان نولدكة وهو يعلن عام 1887 : أن خلاصة عمله كمستشرق كانت تأكيد رأيه في " المنزلة الوضيعة " للشعوب الشرقية .(/5)
ويقدم جاك فاردنبرج فى دراسته ( الإسلام في مرآة الغرب ) دراسة لخمسة خبراء مهمين كصانعين لصورة معينة للإسلام ، وفى عمل كل منهم تظهر ( درجة عالية من التحيز ، بل حتى من العدائية لدى أربعة منهم ، كما لو أن كل كاتب منهم رأى الإسلام انعكاساً لضعفه الخاص . ) وفى مجموعهم يمثل هؤلاء المستشرقون الخمسة: - خلال الفترة الواقعة بين عام 1880م ، وسنوات ما بين الحربين العالميتين - إجماعا على طبيعة الإسلام : دونية كامنة ، وقد صاغ هؤلاء الخمسة ( رؤيا للإسلام كان لها تأثير واسع على الدوائر الحكومية عبر العالم الغربي بأكمله ) حيث كانت لهم وظائفهم في الإدارات الاستعمارية فى الغرب.
ويبلور ماكدونالد ميزة الشرقى ( المسلم ) في ( فقدان الحس بالقانون ، فبالنسبة إليه ليس ثمة نظام مُرتٌب للطبيعة راسخ لا يتزحزح ) ( وإذا بدت هذه النظرة ــ كما يقول د. إدوارد سعيد - عاجزة عن أن تفسر الإنجازات الفائقة التى حققتها العلوم الإسلامية التي بنى عليها قدر عظيم من العلوم الحديثة فإن ماكدونالد يظل صامتاً ويستمر في دعواه ) .
ثم يقول إدوارد سعيد : لا شئ من هذا طبعاً جديد .. فمن شليغل إلى رينان ، ومن روبرتسن سميث إلى ت . أ . لورنس تكرر هذه الأفكار ، ويعاد تكرارها ، فهي تمثل " قراراً" يتعلق بالشرق ، لا حقيقة من حقائق الطبيعة ، بأي شكل ، وكل إنسان - مثل ماكدونالد وجِب - دخل واعياً مهنة اسمها الاستشراق فعل ذلك بناء على قرار متخذ : إن الشرق هو الشرق . ) وكفى !
وكيف ينظر مستشرق شهير معاصر ــ فون جرونباوم ــ إلى الإسلام؟ إنه كما يقول د. إدوارد سعيد : ( لا يجد فون غرونباوم من صعوبة فى الافتراض بداهة أن الإسلام ظاهرة أحادية وحدانية ، بخلاف أي ديانة أو حضارة أخرى ، ثم يمضى بعد ذلك ليظهر الإسلام ضد ــ إنساني ، عاجزاً عن التطور ، ومعرفة الذات ، والموضوعية ، إضافة إلى كونه < عقيماً > غير خلاق ، لا عليماً ، وسلطوياً ) .
وقد سقط فون غرونباوم فريسة لشيئين في آن واحد :
المذهبيات الاستشراقية الذي ورثها
والملمح الخاص للإسلام الذي اختار أن يؤوله باعتباره قصوراً : < وهو > أن في الإسلام نظرية دينية مفصحاً عنها بصورة دقيقة ، وعدداً ضئيلاً جداً ، مع ذلك ، من التجربة الدينية الواقعية ، وهكذا الأمر في جميع النواحي السياسية والاجتماعية ، و التاريخية ، والاقتصادية وعدداً ضئيلاً جداً من السلاسل المقاسة كمياً ، وهكذا .. والحصيلة النهائية هى رؤيا للإسلام مصاباً بالعرج كلياً بنظرية عاجزة عن أن توفي واقعه الوجودي حقه . وإسلام فون غرونباوم ، بعد كل حساب ، هو إسلام المستشرقين الأوروبيين المبكرين
وقد لمس إدوارد سعيد أن وجهة نظر كهذه في الإسلام هي في أعماقها ، وجهة نظر سياسية
ولذا كانت هي ما يلوكه ذيولهم من المستغربين العرب في مواجهتهم للتيار الإسلامي مقولبا في عبارة واحدة : أين هو البرنامج العملي ؟ متجاهلين أي برنامج تكون بعض التيارات قد عرضته ..
وفى الوقت الذي ينظر فيه الكونت دوكريساتى إلى سوريا باعتبارها (شرق فرنسا الخاص ) وفقاً لما أعلنه في محاضرة ألقاها على ما يسمى " التحالف الفرنسى " عام 1913 " فإنه كان يطرح ــ أيضاً ــ منظومته في أنه ( إذا كان لفرنسا أن تستمر في منع " عودة الإسلام " فقد كان من الخير لها أن تحتل الشرق ) ، وقد كررت هذه الآراء في مناسبات كثيرة ، وهو ما ورثته الولايات المتحدة في خطتها لمواجهة الإسلام في الوقت الحاضر !! .
وفى مكان آخر في جامعة شيكاغو عام 1924 نجد فالنتاين شيرول ، وهو رجل صحافة معروف وتجربة عظيمة في الشرق ، يقرر في منظومته الفكرية بكراهية ظاهرة : أن " المحمدية " هي أحد القوى العالمية العظيمة المسئولة عن أعمق خطوط الانقسام في العالم ،
ويعلق د. إدوارد سعيد على هذا التناول الاستشراقي للشرق والإسلام بأنه مناقض لما يزعمه لنفسه من ثقافة تحررية .
ويعني هذا المنظور الفكري الذي تبنته المؤسسة الاستشراقية عن الإسلام ، يعني على صعيد عملي ــ على حد قول إدوارد سعيد : ( أنه حين يجاهد الشرقيون ضد الاحتلال الاستعماري فإن عليك أن تقول : إن الشرقيين لم يفهموا أبداً معنى حكم الذات بالطريقة التي نفهمه بها نحن ( نحن أى الأوربيين )
أو عليك أن تقول - مع برنارد لويس - : إنه إذا قاوم العرب الفلسطينيون الاستيطان الإسرائيلي .. فإن ذلك لا يمثل إلا " عودة الإسلام "
أو كما حددها مستشرق معاصر ذائع الصيت مقاومة إسلامية لشعوب لا إسلامية ، وهو مبدأ إسلامي أسس في القرن السابع ... ) هكذا .
وهكذا ( إذ يجتاح الشعور ضد الاستعمار العالم الشرقى بأكمله ... فإن المستشرق يلعن ذلك كله لا بوصفه إزعاجاً فارغاً فقط ، بل بوصفه إهانة للديموقراطيات الغربية(/6)
وبينما تواجه العالم قضايا حاسمة ذات أهمية عامة بالغة فإن الصورة الكاريكاتورية للشرق تستغل من قبل سياسيين يستقون زادهم العقائدى ( الأيدلويوجى ) لا من الاخصائيين " التكنوقراطيين " نصف المتعلمين فحسب ، بل من المستشرق فائق العلم كذلك ( !! )
ويحذر خبراء العالم الخرافيون فى وزارة الخارجية الأمريكية من مخططات العرب للاستيلاء على العالم . ويوصف الصينيون الغادرون ( !! ) والهنود نصف العراة (!! ) والمسلحون السلبيون بأنهم حدءات ستنهش عطايانا ) .
ولم تكن آراء المستشرقين هذه مجرد سطور فى بطون الكتب ولكنها ذات أثر ملموس فى وجدان الرجل العادي فى الغرب وفي المستغربين من أذيالهم من العرب .
يقول د. إدوارد سعيد ( تطغى هذه الآراء المعاصرة للمستشرقين على الصحافة والعقل الشعبي ، فالعرب ــ مثلاُ ــ يصورون راكبي جمال ، إرهابيين ، معقوفي الأنوف ، شهوانيين شرهين ، تمثل ثروتهم غير المستحقة إهانة للحضارة الحقيقية
وثمة دائماً افتراض متربص بأن المستهلك الغربي رغم كونه ينتمي إلى أقلية عددية ذو حق شرعي إما في امتلاك معظم الموارد الطبيعية في العالم ، أو في استهلاكها أو في كليهما ، لماذا ؟ لأنه إنسان حق بخلاف الشرقي... إن غربياً أبيض ينتمي إلى الطبقة الوسطى يؤمن بأنه امتياز طبيعي له لا أن يدير شئون العالم غير الأبيض وحسب ، بل أن يمتلكه كذلك ، لمجرد أن العالم الأخير تحديداً ليس بالضبط إنسانياً تماماً بقدر ما "نحن" كذلك )!!
وكمصل وقائي ضد ما يمكن أن يكتشفه الغربي في هذه الثقافة الاستشراقية من خزعبلات يبادر المستشرق الفرنسي أرنست رينان إلى تحصين قومه بقوله (إنه لمن الأفضل أن يكون المرء مخطئاً مع أمته المخطئة كلها من أن يكون على درجة عالية من الصواب مع أولئك الذين يكشفون لها الحقائق القاسية.) !!
وهكذا رأينا المعارضين للحرب ضد العراق في الولايات المتحدة وبريطانيا يسارعون للاصطفاف مع حكومتهم عندما بدأت .
وهكذا بألسنة المستشرقين يقاد القطيع في الغرب ، ومع القطيع جاء بويكن يبرطع !(/7)
دور المسجد في تنمية المجتمع
أ. د. حسن عبد الغني*
التنمية: مصدر للفعل الرباعي: نمَّى؛ يقال: نمَّى الرجل المال تنمية إذا أكثره وزاده.
والتنمية كلمة شاع استعمالها كثيرا في العصر الحالي؛ ويراد بها: الارتقاء بالإنسان في حياته المادية والمعنوية: في معارفه وعلومه، وتفكيره وإبداعه، وفي غذائه، وعمله، وعلاجه، وجميع شؤونه..
والدعوة إلى التنمية الشاملة تتوافق مع توجّهات الإسلام في تحسين أوضاع الإنسان، وتحقيق مزيد من الراحة والطمأنينة والكرامة والسعادة له.
وقد سعى الإسلام إلى تحقيق التنمية من خلال عدة مجالات وميادين، ومن هذه الميادين المساجد.
ولا عجب في هذا إذا عرفنا تعجُّل النبي صلى الله عليه وسلم في بناء مسجد قباء كأول مسجد في الإسلام حال قدومه صلى الله عليه وسلم مهاجرا من مكة إلى المدينة؛ وذلك قبل أن يدخلها ويستقر فيها.. حيث قام ببناء المسجد النبوي عند مبرك ناقته، وكان الموضع قبل ذلك أرضا لبني النجار..
ثم حث المسلمين على بناء المساجد وإكثارها لتسهيل المهمة المنوطة بها؛ فقال: (من بنى لله مسجدا يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتا في الجنة).. متفق عليه.
وفي ضوء هذه التوجيهات أقبل المسلمون - رجالاً ونساءًا، حكومات وأفرادا - على بناء المساجد، ووقفها.. وإنك لا تجد مدينة أو قرية فيها مسلمون إلا ويسارعون في بناء المساجد أولا..
وقد رصد المسلمون لهذه المساجد الأموال الكثيرة؛ لتنفق على احتياجاتها المتعددة: على أئمتها، وخطبائها، ووعاظها، وموظفيها، ولوازمها من فرش وإضاءة وترميم ورعاية..
وكان الهدف من تلك الجهود المبذولة إعداد المسجد ليقوم بوظيفته التنموية الشاملة في المجتمع الإسلامي؛ لأن المسجد في الإسلام ليس مكانا للعبادة فحسب؛ بل إن له إلى جانب ذلك دورا بالغ الأهمية في التنشئة الثقافية والفكرية والعلمية، إضافة إلى كونه مصدر إشعاع تربوي واجتماعي واقتصادي وعملي.. وهذا الدور للمسجد يتعاضد مع دور الأسرة والمدرسة والمؤسسات الأخرى التي تسهم في بناء المجتمع وتنميته..
من المسجد تشع الثقافة الإسلامية الأصيلة، ومنه ينبعث الوعي الديني، وفيه يعرف الحلال والحرام، وبخاصة مع كثرة وسائل الإعلام المضللة.
في المسجد تعرف فضائل الإسلام وآدابه وأحكامه، ويجد المسلم القدوة الحسنة، ويحاكي الصالحين الأبرار، ويتعلم ضبط النفس، والصبر على الشدائد، ويتحلي بالأمانة والعفة، وفيه يتعرف على تعاليم الإسلام وحثه على العلم النافع، ودعوته إلى العمل الجاد الذي ينفع صاحبه ويرتقي بمجتمعه..
في المسجد يتعلم المسلم تحمل المسؤولية بعزم ورجولة، ومنه يتلقى قيم النظافة وآثارها الإيجابية في قوة الأفراد والمجتمع، وقضائها على الأمراض والعدوى..
في المسجد دعوة إلى روح الجماعة والتآلف بين المسلمين، وفيه يتعلم المرء الانضباط والهدوء والتزام العمل الجماعي؛ من خلال اقتدائه بالإمام، والتزامه بصلاة الجماعة..
لقد أناط الإسلام بالمسجد دورا أكبر مما ألفه الناس في عصورهم المتأخرة؛ ومن ذلك تعضيد الروابط الاجتماعية بين الجيران والأصحاب وأهل الحي، والالتزام بالقيم الاجتماعية والإنسانية..
إن المسجد يختلف عن بقية المؤسسات؛ لأنه ينمي فكر قاصده بما يسمعه من محاضرات وندوات وعلوم ومعارف دون أن يُشترط لذلك سن معينة، أو مرحلة دراسية محددة؛ فهو لا يخلو من معرفة متجددة، وتعليم مستمر؛ وهذا ما ينادي به اليوم كثير من رجال التربية والتعليم، ويعتبرونه أمرا لازما ومهما في تطوير المجتمعات، ورقيها وازدهارها..
وكم خرّجت المساجد الإسلامية والمدارس الملحقة بها من علماء أفذاذ سطعت أسماؤهم في سماء المعرفة الإنسانية دراسة وبحثا وتأليفا وإبداعا، في كافة العلوم والفنون والثقافات والحضارات!.
وكم انتفع من المساجد أعداد كثيرة من النابغين والنابهين الذين صاروا فيما بعد قادة للمجتمعات في السياسة والفكر والاختراع والإبداع الإنساني!!..
وكم حملة انطلقت من المساجد في البلدان الإسلامية تقاوم الاستعمار المحتل، وتطالبه بالحرية والاستقلال والجلاء عن الأوطان..
إن الصور والحالات السابق ذكرها أسهمت إسهاما حقيقيا في التنمية الشاملة؛ بما كان ينهله الناس في المساجد من فضائل وقيم وآداب ونشاطات فكرية وعلمية وعملية ترتقي بحياتهم وصحتهم، فضلا عن معارفهم وسلوكهم، وتحقق لهم مزيدا من الراحة والسعادة والطمأنينة..
إن المساجد اليوم نتنظر دورا أكبر لها في استعادة زمام المبادرة للمشاركة الفعالة في صياغة الفرد المسلم المتكامل في شخصيته المادية والمعنوية.
وعلى عاتق الأئمة والخطباء تقع مسؤولية تفعيل ذلك؛ من حيث اختيار الموضوعات المتوافقة مع المناسبات الزمانية والمكانية، والتعاون مع روّاد المساجد والمصلين لإيجاد جو من الألفة الاجتماعية، والتعارف الدائم الكريم..(/1)
ولا شك أن هذا يتوافق، ويلتقي مع الدعوات المتكررة الصادرة عن الإدارات المسؤولة عن المساجد، والمتضمنة العمل على تفعيل دور المساجد في المجتمع لتسهم في نشر مزيد من الوعي والرقي الاجتماعي المتكامل.(/2)
دور المعلم والموجه في الأحداث الراهنة 5/4/1425
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وبعد: إن بلادنا تمر بمرحلة حساسة جداً، وهذه المرحلة مرت بها دول أخرى، وقد توصّل المختصون من العلماء والدعاة والتربويين إلى أن علاج تلك المشكلات لا بد أن يكون علاجاً شاملاً متكاملاً، ومن أهم وسائل العلاج ما يتحمله المربون والموجهون والمشرفون والمعلمون في المدارس، ولذلك فإنني أقول: إن دور مشرف التوعية الإسلامية بالمدرسة في مثل هذه الأحداث مهم جداً، وألخصه فيما يلي:
1- العمل على نشر العلم الشرعي الصحيح.
2- توجيه الطلاب لمخططات الأعداء وما يريدونه بهذه الأمة، وهذا يحتاج إلى بيان وإيضاح وتوجيه لما يحدث في العالم.
3- توعية الطلاب بالآثار السلبية التي يستدعيها من يخالف طريق الأنبياء ويستعجل حصول المطلوب، فهناك انحراف في مناهج الدعوة والعلاج هو في الالتزام بمنهج النبي - صلى الله عليه وسلم - وسلف هذه الأمة بعيداً عن أي اجتهادات تخرج عن ذلك المنهج.
4- توجيه الطلاب للالتحاق بالأنشطة الرسمية؛ في المدارس، والمراكز الصيفية، وجمعيات تحفيظ القرآن، وجميع الأنشطة التي تأخذ مظاهر العلنية والوضوح في داخل المجتمع، بعيداً عن الأنشطة التي يكون فيها ريبة أو شك أو غموض أو لا يُعرف القائمون عليها.
5- بيان أسباب هذه الأوضاع من ذنوب ومعاصي وتقصير بالإضافة إلى المنكرات المستشرية والدعوة لإصلاحها بالمنهج الشرعي، من أجل الخروج من هذه الأحداث بسلام.
6- بيان خطورة جلساء السوء والتحذير من الأصدقاء الذين توجد لديهم أفكار شاذة منحرفة، سواء كانت من قبيل الإفراط أو التفريط أو الغلو أو الجفاء، ويجب أن توضع بعض الموازين الشرعية لدى الطلاب ليميزوا بها من صاحب الفكر المنحرف.
7- شغل الطلاب بالعمل الإيجابي فالفراغ مفسدة سواء لمن نزع نحو الغلو أو الجفاء
إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة
فلا بد أن يكون هناك شغل لفراغ الطلاب وبخاصة في المساء وآخر الأسبوع والعطل كأعطال الأعياد والعطلة الطويلة تحت إشراف واعٍ، وذلك يفتقر إلى فتح مراكز النشاط الدائمة طول العام، والمراكز الصيفية التي يشرف عليها الموثوقون من الأساتذة وطلاب العلم ونحوهم، بغرض تعليم الطلاب ما ينفعهم من علم ومهن وحرف تنفع المجتمع والأمة.
8- بيان فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتوجيهه الوجهة السليمة، فبعض الناس لديه غيرة وحماس، يريد أن يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، التزاماً بقوله – تعالى-: "وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ" (آل عمران: من الآية104)، ولكنه يخطئ في البيان، فلا بد من بيان فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتوضيح ضوابطه، ويكون ذلك بإقامة دورات متخصصة تشارك فيها رئاسة الهيئات، وتشارك فيها الجامعات وكليات الدعوة وغيرهم من المختصين حتى لا يقع انحراف في هذا الباب.
9- لا بد أن يكون المعلم والمشرف وثيق الصلة بطلابه، يفتح لهم صدره، يجرؤهم على أن يُدْلوا بما لديهم، وأن يبثوا ما في نفوسهم بكل صراحة ووضوح، عليه أن يعوِّدهم على مصارحته بما يختلج في صدورهم من إشكالات وشُبَه، فإن استطاع أن يجيب عليها فبها، وإلاّ فعليه أن ينقل المشكلة إلى أحد العلماء أو مَن يقدر على إجابة شبههم، أما إذا تركت الشبهة لدى الشاب وأهمل الإشكال فإنه سوف ينمو شيئاً فشيئاً وسيتحول فيما بعد إلى ممارسة.
10- التحذير من قبول الاتهام لمناهجنا ودعوتنا وما عليه سلفنا، لا بد أن يوضع لدى الطلاب موازين يقيِّمون بها الشُّبَه التي تُثار حول المناهج -أقصد المناهج الشرعية- وحول جمعيات تحفيظ القرآن والدعوة، ودعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب، وما عليه السلف والأئمة.
11- التربية على المنهج الشرعي الوسط، لا منهج الغلو، ولا منهج التمييع والتنازل، فمنهج الأمة منهج الوسطية الحقة، ولا بد أن يُربى الشباب على هذا المنهج قولاً واعتقاداً وسلوكاً، وهذا يحتاج إلى يكون المدرس والمعلم والمربي والمشرف قدوة عملية في منهج الوسطية، كما أن عليه أن يربط بالقدوات من السابقين واللاحقين، من المعاصرين ومن قبلهم لبيان أن الإسلام هو منهج الوسطية الحقيقية.(/1)
وأخيراً مطلوب من مشرف التوعية أن يكون فطناً، يميز في أي اتجاه يسير طلابه بعيداً عن إساءة الظنون أو اتهام الآخرين، بل المطلوب ألا يكون غافلاً فتزل بسبب غفلته قدم بعد ثبوتها، خاصة وأن الأفكار تبدأ بدايات طبيعية يسيرة، ثم تنمو شيئاً فشيئاً، وقد تستشري بين الطلاب والمشرف غافل لا يعلم ثم تكون المصيبة، وقد لاحظنا أن بعض المربين والموجهين يفاجأ عندما يجد بعض طلابه يحمل أفكاراً غريبة، ولا ينتبه لها إلا بعد أن يستشري المرض، وكان الأولى به أن تكون لديه من الوسائل والحكمة والفطنة ما تنبهه إلى خطورة استشراء هذا الأمر.
نسأل الله أن يحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كل سوء ومكروه، وأن يعين إخواننا المعلمين والمربين والموجهين على القيام بمسؤولياتهم في هذه الظروف الحرجة التي تمر بها الأمة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(/2)
________________________________________
دور زوجة الداعية مع زوجها بين الواقع والمطلوب: مواقف وتجارب
رئيسي :الأسرة والمجتمع :الثلاثاء 7 ربيع الأول 1425هـ - 27 أبريل 2004م
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد،،،
تجهل، أو تنسى وتغفل كثير من الزوجات الطيبات أنها مشاركة لزوجها في الأجر والعمل الذي يجريه الله على يديه؛ متى ما احتسبت، وهيأت له الجو المناسب في منزله لاستجماع قوته وأفكاره، وشجعته وصبرته، وقوت من عزيمته على المضي في دعوته، ونشاطاته الخيرية .
هذا الجهل، أو التجاهل أحيانًا، أو الغفلة والنسيان أسفر عن نتائج غير جيدة في علاقاته معها بل تسببت في زرع عوائق في طريق الداعية ومن ذلك:
1- كثرة التشكي منه بسبب بعده عن المنزل، أو تقصيره في طلباتها، أو من لعب أطفالها وأذاهم لها، أو من الجو والمناخ … وقد روى 'مسلم' عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ يَوْمَ الْعِيدِ فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ ثُمَّ قَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى بلالٍ فَأَمَرَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَحَثَّ عَلَى طَاعَتِهِ وَوَعَظَ النَّاسَ وَذَكَّرَهُمْ ثُمَّ مَضَى حَتَّى أَتَى النِّسَاءَ فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ فَقَالَ: [ تَصَدَّقْنَ فَإِنَّ أَكْثَرَكُنَّ حَطَبُ جَهَنَّمَ ] فَقَامَتْ امْرَأَةٌ مِنْ سِطَةِ النِّسَاءِ سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ فَقَالَتْ لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: [ لِأَنَّكُنَّ تُكْثِرْنَ الشَّكَاةَ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ ] قَالَ فَجَعَلْنَ يَتَصَدَّقْنَ مِنْ حُلِيِّهِنَّ يُلْقِينَ فِي ثَوْبِ بِلَالٍ مِنْ أَقْرِطَتِهِنَّ وَخَوَاتِمِهِنَّ .
2- كثرة الطلبات، وعدم مراعاة الأوقات المناسبة في طرحها أو طلبها .
3- عمل مقارنة ظاهرية بعيدة عن الوعي مغفلة أسرار البيوت غير مدركة للسلبيات، بين زوجها وأزواج أقاربها، أو صديقتها ومعارفها . وليتها عملت مقارنة مع كثير من البيوت التعيسة التي تعيش حياة الصخب والتهديد والضرب، والاعتداء من جراء المخدرات، أو الفضائيات، أو غيرها .
4- ضعف الأداء التربوي لأبنائها؛ بحجة أن المسئولية تقع عليه أولًا.
5- فقدان البسمات الجميلة على وجهها بسبب تأخر زوجها، أو كثرة مشاغله .
6- إجراء المواعيد مع الأقارب والأحباب دون النظر إلى إمكانات زوجها في تحقيق مطلوبها .
7- سرعة التأثر بأحاديث النساء، وتصديقها لكل ما يقال .
8- التنكر لحسناته ومواقفه الطيبة معها .
9- الاهتمام بالمظاهر والزخارف الجوفاء .
10- عملية الإسقاط والإحباط لعزيمته بسبب دنو همتها: فهمته في الثريا بينما همتها في الثرى، فعلى حين يحضر البيت وكله هم من منكر وقع، أو واجب ترك، إذا هي مشغول بالها بموضة جدت، أو لباس أخطأ الحائك في خياطته.
والمؤمل من زوجة الداعية الواعية بعيدة النظر المستشرفة لمستقبل مشرق أن تتعامل مع زوجها بالتالي:
1- الدعاء له بالتثبيت أمامه وخلفه، وهذا من أقوى الأسباب في شد أزره، ولا يكلفك أختي الكريمة شيئًا.
2- القيام بشئون الأولاد، وعدم التشكي منهم أو كثرة الاتصال عليه وإخباره بما جرى منهم، فقد قالت خولة رضي الله عنها في بيانها:' ولي منه أولاد إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إليّ جاعوا '. دلالة على دور المرأة الرئيسي في التربية .
3- جمع الطلبات وتنسيقها وتحري الفرصة المناسبة له في قضائها، مع تذكيره بالاحتساب بها .
4- تذكيره دائما بأبواب الخير وإعانته عليها .
5- تصبيره، وتذكيره بالأجر والثواب، وحسن الصبر والمواصلة، متى رأت منه مللًا أو تشكيًا وتعبًا.
6- تحمل جميع أعباء البيت، وجميع ظروفه وأحواله، وعدم إخباره بما لا يسر أثناء سفره حتى لا تشل حركته.
7-مساعدته في جمع المعلومات، أو كتابة الموضوعات، أو الأفكار الجديدة، والقيام بالكتابة، أو الطباعة له إن قدرت على ذلك .
8- الاقتراب منه متى ما رأت منه ميلًا وإقبالًا عليها، وتترك له الفرصة في الابتعاد والانفراد في البيت، أو المبيت متى ما أحست رغبته في ذلك .
9- عدم عرض أي طلبات أثناء تعبه، أو شروده الفكري، أو أثناء مداعبته وحضور شهوته، والبعد عن الاستغلال المشين والقبيح لذلك .
10- الاهتمام بالمظهر الجميل، والهندام الأنيق ساعة حضوره للبيت .
11- تهيئة الجو المناسب لراحته ونومه بعيدًا عن ضوضاء الأطفال وضجيجهم .
12- التجديد والتغيير في مواقع الأثاث من البيت مما يعطي مناخًا مناسبًا للراحة النفسية.
13- القيام بصلة رحمه والاطمئنان على أحوالهم، فإن هذا يختصر كثيرًا من وقته، ويرضي عنه أقاربه .
14- حسن الاستقبال، بل الاستبشار بضيوفه، واحتساب الأجر في إكرامهم .
15- البعد التام عن الإسراف والتبذير في أي شئ من المستهلكات [ الطعام، الماء، الكهرباء، اللباس وغير ذلك].(/1)
16- الصبر وعدم التشكي من كل عارض، أو وعكة صحية مع الاهتمام الشديد بالرقية أولًا، ومحاولة التخلص من الأدوية الكيماوية بقدر المستطاع .
من:'دور زوجة الداعية مع زوجها بين الواقع والمطلوب: مواقف وتجارب'
للشيخ/ يحي بن إبراهيم اليحيى(/2)
دورة تأهيلية لرمضان ...
يسري صابر/ صيد الفوائد ...
دار في فكري مع هذه الإعلانات المتفرقة عن دورات متعددة أن تكون هناك دورة لكل فرد مع نفسه أو مع أسرته ليجعل من شهر شعبان مؤهلا ليخوض غمار الطاعة في رمضان فيقرأ في شهر شعبان كل ما يخص شهر رمضان ووسائل اغتنامه ويجهز برنامجه في رمضان ويجدول مهامه الخيرية.
كثير من الناس يأتيه رمضان وما أعد العدة بعد بل قد يمر نصفه وهو يفكر أو يسوف فما رأيكم بارك الله فيكم أن نجعل من شهر شعبان دورة تأهيلية لرمضان فنحرص فيها على اعتياد قراءة القرآن والصوم وسائر العبادات ويكون هذا الشهر الذي يغفل عنه كثير من الناس بمثابة دفعة قوية وحركة تأهلية لمزيد من الطاعة والخير في رمضان فعن أُسَامَة بْن زَيْدٍ رضي الله عنهما قَالَ : قُلْت : يَا رَسُول اللَّه ، لَمْ أَرَك تَصُومُ مِنْ شَهْر مِنْ الشُّهُور مَا تَصُوم مِنْ شَعْبَان , قَالَ :' ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاس عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَان , وَهُوَ شَهْر تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَال إِلَى رَبّ الْعَالَمِينَ ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ' .
ذكروا أنفسكم واعتمدوا على ربكم وذكروا من حولكم وستنالون شهادة رضا ومحبة وقبول ممن ترفع إليه أعمالكم فبادر عبد الله قبل البدار رزقني الله وإياك التوفيق والسداد.
قال ابن رجب رحمه الله : صيام شعبان أفضل من صيام الأشهر الحرم ، وأفضل التطوع ما كان قريب من رمضان قبله وبعده ، وتكون منزلته من الصيام بمنزلة السنن الرواتب مع الفرائض قبلها وبعدها وهي تكملة لنقص الفرائض ، وكذلك صيام ما قبل رمضان وبعده ، فكما أن السنن الرواتب أفضل من التطوع المطلق بالصلاة فكذلك يكون صيام ما قبل رمضان وبعده أفضل من صيام ما بَعُد عنه .
وقوله ' شعبان شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان ' . يشير إلى أنه لما اكتنفه شهران عظيمان - الشهر الحرام وشهر الصيام - اشتغل الناس بهما عنه ، فصار مغفولا عنه ، وكثير من الناس يظن أن صيام رجب أفضل من صيام شعبان لأن رجب شهر حرام ، وليس كذلك .
وفي الحديث السابق إشارة إلى أن بعض ما يشتهر فضله من الأزمان أو الأماكن أو الأشخاص قد يكون غيره أفضل منه .
وفيه دليل على استحباب عِمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة ، كما كان طائفة من السلف يستحبون إحياء ما بين العشائين بالصلاة ويقولون هي ساعة غفلة ، ومثل هذا استحباب ذكر الله تعالى في السوق لأنه ذكْر في موطن الغفلة بين أهل الغفلة ، وفي إحياء الوقت المغفول عنه بالطاعة فوائد منها:
أن يكون أخفى للعمل وإخفاء النوافل وإسرارها أفضل ، لا سيما الصيام فإنه سرّ بين العبد وربه ، ولهذا قيل إنه ليس فيه رياء ، وكان بعض السلف يصوم سنين عددا لا يعلم به أحد ، فكان يخرج من بيته إلى السوق ومعه رغيفان فيتصدق بهما ويصوم ، فيظن أهله أنه أكلهما ويظن أهل السوق أنه أكل في بيته ، وكان السلف يستحبون لمن صام أن يُظهر ما يخفي به صيامه ، فعن ابن مسعود أنه قال : ' إذا أصبحتم صياما فأصبِحوا مدَّهنين ' ، وقال قتادة : ' يستحب للصائم أن يدَّهِن حتى تذهب عنه غبرة الصيام ' .
وكذلك فإن العمل الصالح في أوقات الغفلة أشق على النفوس ، ومن أسباب أفضلية الأعمال مشقتها على النفوس لأن العمل إذا كثر المشاركون فيه سهُل ، وإذا كثرت الغفلات شق ذلك على المتيقظين ، وعند مسلم ( رقم 2984 ) من حديث معقل بن يسار : ' العبادة في الهرْج كالهجرة إلي ' ( أي العبادة في زمن الفتنة ؛ لأن الناس يتبعون أهواءهم فيكون المتمسك يقوم بعمل شاق ) .
اللهم نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين. ...(/1)
دولة اليهود قامت بين الدعم الدولي و الأمريكي وبين هوان المسلمين
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
لقد نشرت مجلة المجتمع في عددها (1220) الصادر في (25) جمادى الأولى سنة 1417هـ الموافق 8/10/1996م ، مقالاً للدكتور مأمون فندي أستاذ العلوم السياسية في جامعة جورج تاون في واشنطن ، تحت عنوان : "بين الهنود الحمر والفلسطينيين ـ محاولة لفهم الجذور الثقافية للتأييد الأمريكي المطلق لإسرائيل" .
لقد جعل الدكتور مأمون فندي أساس محاولته هو أن أصل الشعب الأمريكي من الجماعات المسيحية التي كانت تطلق على نفسها البيوريتانز ، والتي هاجرت إلى أمريكا هاربة من "الفرعون الإنجليزي" ليواجهوا سكان البلاد الأصليين الهنود الحمر ، كما هاجرت بنو إسرائيل من مصر هاربة من فرعون مصر إلى فلسطين 0
فتصور هؤلاء البيوريتانز أنهم شعب الله المختار وأن أمريكا أرض الميعاد ، وأن الهنود الحمر يشبهون الكنعانيين الذين يحثهم الإله على إبادتهم ، وأصبحت الذاكرة التاريخية للشعب الأمريكي تجعله يرى اليهود في صورة أجداده البيوريتانز 0
إننا نختلف كل الاختلاف مع الدكتور مأمون في تحليله هذا ، فهذا التحليل أقرب ما يكون تسويغاً للجرائم المرتكبة منه إلى التحليل الواقعي ، وأقرب ما يكون إلى إهمال العوامل الرئيسة المعقدة المؤثرة في قضية فلسطين خلال الفترة الطويلة الماضية 0
وهذا التصور أو الشعور ليس هو الأساس الذي قام عليه التكوين الحضاري لأمريكا، فالتكوين الحضاري لأمريكا له أساب أعمق من ذلك سواء في الناحية النفسية والفكرية والاعتقادية والاقتصادية، وهذا التصور أخفى الدور الأوروبي والروسي 0
من حيث التسلسل الزمني ، فإن الدعم الأمريكي لدولة اليهود على أرض فلسطين جاء متأخراً بزخمة الذي نراه اليوم ، عن زخم الدعم الفرنسي والإنجليزي والروسي الذي كان على درجات مختلفة من حيث الشدة ،حتى أخذ دعم دولة اليهود صورة دولية ممتدة . ولا عجب أن تتزعم أمريكا اليوم هذا الدعم بزخمه الأمريكي دون أن يغيب التنسيق مع سائر الأطراف ، فأمريكا اليوم تتزعم قضايا دولية متعددة ، وتفرض رأيها فرضاً على ضوء مصالحها الخاصة تحت شعارات الديمقراطية، والعلمانية ، وحقوق الإنسان المدَّعاة ، والنظام العالمي ، وقوانين هيئة الأمم المتحدة ، وغير ذلك من الشعارات . ولا نزال نذكر التصريحات المتعاقبة لوزراء الخارجية لدول أوروبية ولرجال سياستها تقول ما معناه "إن إسرائيل وجدت لتبقى" ، وذلك مع نهاية الأربعينات وأوائل الخمسينات ، ومع أول قيام دولة اليهود في فلسطين بصورة عدوانية ظالمة مخالفة كل قوانين العالم ولكل دياناته 0
إن الكيان الحضاري لأمريكا قام على مظالم كثيرة وعدوان بعيد .لم يقف الظلم على محاولة إبادة شعب كامل ، الهنود الحمر ، وإنما امتد إلى سرقة المسلمين من أفريقيا رجالاً ونساءً وأطفالاً ، يقيدونهم بالسلاسل الحديدية ، مع الضرب المبرح والاحتقار الكبير يسوقونهم ليعملوا عبيداً في مزارع السادة الأمريكان( [1] ) 0
وامتد الظلم إلى إلقاء القنابل النووية على هيروشيما وناجازاكي في اليابان ، وامتدت المظالم في تاريخ أسود طويل لا يمكن لتمثال الحرية الحجري أن يخفيه، ولم يكن الاتحاد السوفياتي ولا دول أوروبا أقل ظلماً وفساداً في الأرض .
والذين هاجروا إلى أمريكا لم يحملوا تصوراً واحداً مثل تصور البيوريتانز ، وإنما حملت الهجرة نماذج شتى من الاتجاهات ، وامتدت الهجرة لتنطلق من بلدان أخرى غير بريطانيا ، وساهم الجميع في بناء الكيان الحضاري هنالك 0
ولو استعرضنا علاقة اليهود مع النصارى منذ أن بُعِث عيسى عليه السلام ، لوجدنا أن عداء اليهود كان شديداً ، ولوجدنا أن هذا العداء امتد مع التاريخ حتى أصبح متبادلاً لقد أعمل النصارى المذابح الوحشية في اليهود في معظم دول أوروبا ، وذلك نتيجة لخيانتهم المستمرة وتآمرهم ضد البلد الذي يعيشون فيه ، خيانة تنبع من حقد متوارث عميق ولا يكشف لك هذا الحقد المتبادل الذي أخذ يتحول إلى حذر مثل خطاب رئيس الولايات المتحدة بنجامين فرانكلين عند وضع الدستور سنة 1789م حيث جاء فيه : "هنالك خطر عظيم يتهدد الولايات المتحدة الأمريكية ، وذلك الخطر العظيم هو خطر اليهود ، ففي كل أرض حل بها اليهود أطاحوا بالمستوى الخلقي فيها وأفسدوا الذمة التجارية ونشروا الفتن فمنذ أكثر من 1700 سنة وهم يتباكون على حظهم الأسيف (ليستدروا عطف الشعوب ويخفوا هول خياناتهم وجرائمهم) .
"إنهم طفيليات لا يعيش بعضهم على بعض …… وإذا لم يبعد هؤلاء عن الولايات المتحدة الأمريكية بنص دستورها ، فسيتدفقون إلى أن يحكموا شعبنا ويدمروه ….. حتى يظل اليهود في البيوتات المالية يفركون أيديهم مغتبطين….. وإني أحذركم أيها السادة إن لم تبعدوا اليهودنهائياً فلسوف يلعنكم أبناؤكم وأحفادكم في قبورهم ……. ولا أشك اليوم أن الأبناء والأحفاد في قبورهم يلعنون ويلعنون !" 0(/1)
إن موقف أمريكا من دولة اليهود لا يُعقَل أن يُفَسَّر بتصور محدود لهجرة فئة محدودة من إنجلترا إلى أمريكا ، إن قضية اليهود من أعقد القضايا في السياسة الدولية ، وإنها تحتاج إلى تحليل عميق 0
إن الذين هاجروا في القرن السابع عشر إلى أمريكا كانوا يحملون الفكر والتصور الذي كان منتشراً بين شعوب أوروبا ودولها ، الفكر والتصور الذي يُكوِّن العامل المشترك الأول بينهم جميعاً 0
إن التصور الذي حملوه معهم كان تصور العدوان والظلم واستباحة ثروات الشعوب وحرماتها ، ونشر الحروب في الأرض كلها ، والتنافس على الدنيا وأطماعها تنافساً إجرامياً جشعاً .إنه التصور الذي أطلق دول أوروبا في الأرض ، في جميع قاراتها ، لنهب ثروات الشعوب في مختلف دول أفريقيا ودول آسيا ، وحرمان الشعوب أصحاب الأرض من ثرواتهم ، وإبقائهم فقراء ضعفاء ممزقين شيعاً وأحزاباً ، حتى تتمزق ديارهم قطعاً متناثرة تسهل السيطرة على كل منها ، وليبقوا دولاً متخلفة تسمى دول العالم الثالث ، ولتبقى سوقاً واسعة لإنتاجهم 0
هذه الروح العدوانية الإجرامية التي اصطلح على تسميتها خطأ "بالاستعمار" هي الروح التي كانت سائدة ، والتي كانت تسيطر على عقول أولئك الذين هاجروا إلى أمريكا ، إن هذه الروح العدوانية وما تحمل من تصورات وفكر هي التي كانت تصوغ العلاقات بينهم وبين أصحاب الأرض 0
إنهم كانوا جمعيهم يعلمون أنه لا يوجد دين سماوي ، ولو أصبح محرفاً ، يمكن أن يبيح هذه الجرائم الممتدة ، وأعمال الإبادة العرقية ، التي ما زالت تتجدد في التاريخ البشري 0
وكما أن البيوريتانيين لم يكونوا الفئة الوحيدة التي هاجرت إلى أمريكا ، ولا هي الفئة الوحيدة التي أرادت إبادة الهنود الحمر فيها ، كذلك لم يكن الكنعانيون هم الوحيدين الذين اصطدم بهم اليهود0 لقد دخل اليهود في صراع مع سكان فلسطين جميعهم ، ولكنهم لم يفعلوا كما فعل المهاجرون إلى أمريكا بالهنود الحمر وظل أهل فلسطين فيها لم يبادوا 0
ومهما تكن بعض النصوص الدينية لدى اليهود ، كما يدَّعون ، تدعوهم إلى إبادة الشعوب، فمن الثابت أن الله بعث الأنبياء والمرسلين إلى شعوبهم ليبلغوهم رسالة الله ودينه وليهدوهم لا ليبيدوهم ، ولا يمكن أن تكون إبادة الشعوب هدفاً من أهداف الدين ، ولكنه هدف من أهداف الطمع والجشع والعدوان على الشعوب ونهب ثرواتها ، وهدف من أهداف نصوص محرفة في الدين0
وقد أعلنت أمريكا نفسها دولة "علمانية" من خلال نشاطها ومواقفها ، لا يدخل الدين في نشاط الدولة السياسي والاقتصادي والتربوي والاجتماعي والعلمي وغيره . إنها عزلت الدين عن الحياة ، وحصرته في الكنائس ، إلا حين تحتاج الدين لأهدافها العدوانية على الشعوب ، فإنها تخرج الدين ، كما تفعل دول أوروبا ، من الكنائس ، وتكوِّن الحركات التنصيرية ، لتكون هذه الحركات مع الشركات التجارية ، مع قوافل الجاسوسية ، ممهدة للجيوش الزاحفة للعدوان والنهب والإبادة 0
ولم يكن دعم أمريكا لدولة اليهود أو تزعمها لهذا الدعم ، ولا كان دعم دول أوروبا كذلك ، هو الموقف الوحيد الملفت للنظر ، الواقع في دائرة الشبهات أو في منطقة المحرمات ، فالمواقف الباطلة في السياسة الدولية أكثر من أن تحصر ، فما هو المسوغ لهذه المواقف كلها الممتدة على تاريخ طويل 0
هنالك عامل مشترك رئيس يفسر الحالات كلها ، جميع الدول وأمريكا بينها أو على رأسها ، تعلن أن مصلحتها الخاصة هي فوق كل اعتبار ، ومصلحتها الخاصة الأولى هي العدوان الظالم لنهب الشعوب وثرواتها ، والاستئثار بالحصة الكبرى . إنها الروح العدوانية البعيدة عن أي تصور إنساني أو د ين سماوي . إنها الدافع الذي أجرى المذابح في المسلمين في الأندلس ، وكذلك في اليهود ، والذي حرك الإنجليز والفرنسيين والهولنديين والأسبان والبرتغال وإيطاليا وسائر دول العالم النصراني ، لتنطلق في الأرض ، وفي العالم الإسلامي بخاصة ، في غزوات ممتدة في التاريخ .
إنها غزوات كانت تركز على ما كان يسمى بالمسألة الشرقية ، وما أصبح يسمى بمنطقة الشرق الأوسط ، وما يمكن أن يتغير مسماة ، إلا أنه يظل في جميع الحالات "العالم الإسلامي" الذي اجتمعت دول أوروبا على تمزيقه إرباً بالرغم مما كان بينهم من نزاع حول اقتسام الغنائم والنفوذ 0
إن هذا هو الدافع الذي حرك بعض دول أوروبا في الحروب الصليبية متخفية تحت شعارات الدين الذي لا يلتزمون منه بشيء ، إلا لتسويغ العدوان والظلم ونهب الثروات . وهو العامل الذي دفع الصرب لارتكاب الجريمة الكبرى في البوسنة والهرسك ، وهو العامل الذي يفسر مأساة المسلمين في كشمير والفليبين ، وجنوب شرق آسيا ، ودول أفريقيا ودول آسيا 0(/2)
ولماذا هذا الحقد على الإسلام وأهله وداره ؟! إن لهذا الحقد عاملين أولهما الرغبة الجشعة في نهب ثروات العالم الإسلامي الغني . وثانيهما هو قناعتهم الحقيقة من أن الإسلام الذي جاء من عند الله لا يقبل الظلم في الأرض ، ولا العدوان ، ولا يساوم على ذلك ، وأن قوة الإسلام والمسلمين تظهر حين يكون المسلمون أمة واحدة متمسكة بدينها . فالطبقة العليا الظالمة في تلك الدول المعتدية لا تعبد إلا مصلحتها ، أعلنت عن ذلك صراحة . ومن أجل ذلك تغرس في نفوس الشعب وفي الرأي العام كراهية الإسلام والمسلمين . وتصل إلى ذلك بوسائل الإعلام وفي البيوت والمعاهد وغيرها من الوسائل 0
أما الرأي العام في أمريكا وغيرها من الدول فلا تبنيه الذاكرة التاريخية كما يظن بعضهم ، إنما يبنيه طوفان الإعلام الهادر الممتد زمناً طويلاً ، الإعلام الذي يثير ما يشاء من الذاكرة التاريخية وينشطه ، ويدفن منها ما يشاء . والذي يستغل الدين كلما دعت المصلحة المادية العلمانية إلى ذلك ، يستغله استغلالاً متناقضاً ، مخدِّراً أو مهيجاً 0
والرأي العام في عالم الديمقراطية والعلمانية ليس هو الذي يتخذ القرار الحاسم . فالقرار تتخذه دهاليز السياسة وقواها الخفية والعلنية ، من خلال مؤسسات تنشط أو تهدأ حسب ما يراد لها ، والرأي العام حين يتحرك فلا يتحرك ذاتياً ، ولكنه يتحرك بتوجيه تلك القوى الفاعلة المؤثرة . ألم يقنعوا الرأي العام بأن يغيب في خدر الفاحشة والجنس والخمور ، والجري اللاهث وراء الحاجات المادية التي تتحكم تلك القوى بتوزيعها على اللاهثين المخدرين لتظل ممسكة برقابهم .
لا يُعقل أن نَعِزَل قضية فلسطين وما أصابها من مظالم وطغيان عن هذه الحقائق الممتدة بجذورها في واقع أمريكا و غيرها ، ولا عن واقع السياسة الدولية والعلاقات المتشابكة المعقدة المتناقضة ، ولا عن تاريخ العالم الإسلامي كله مع تلك الدول الظالمة المعتدية
إن "الصحوة الإسلامية" اليوم ليست انعكاساً لتصور بروتستانتي أو كاثوليكي أو أرثوذكسي أو يهودي ، إن الصحوة الإسلامية التي نرجو أن تستكمل مقوماتها وشروطها ، كانت نتيجة طبيعية لفعالية الإسلام التي لا تنقطع ، ولقدرته الدائمة على تجديد الحياة في أبنائه ، على سنن لله ماضية وحكمة بالغة وقدر غالب . ولا يتعارض هذا مع توافر مثيرات وقوارع تطرق قلوب الغافلين لينهضوا ويتابعوا مسيرتهم في التاريخ البشري 0
لا ننكر أن الغرب أوجد في الأرض الإسلامية أناساً يتبنون نظرته للكون والحياة ، ويبتعدون عن نظرة الإسلام . ولا ننكر أن الغرب نجح في تمزيق العالم الإسلامي في لحظة غفا فيها المسلمون ، ولا ننكر أن الغرب جعل الدماء تتدفق في العالم الإسلامي من المجازر التي أدارها . فهذه القوارع لعبت دورها في توفير حافز من الحوافز ، حافز يظل يعمل على سنن لله ثابتة 0
إن علاقة اليهود مع النصارى امتدت أكثر من ألف و تسعمائة سنة شهدت عداء مستحكماً وحقداً متبادلاً ومجازر في اليهود رهيبة 0
ولكن هذه العلاقة بدأت تتغير اليوم إلى تعاون وثيق ملفت للنظر .فكيف تم ذلك ؟! ربما يوحي تقارب الإنجيل والتوراة بأنه السبب . وقد يكون هذا سبباً لدى بعض فئات الرأي العام حسب التوجيه الذي يصلهم ، ولكن لو كان هو السبب الحقيقي فلماذا لم يظهر أثره إلا مع نهاية القرن التاسع عشر ؟!
إن السبب الرئيس فيما نعتقد هو أن القوة الكبرى المنتسبة إلى النصرانية تخلت عن نصرانيتها وأعلنت نفسها علمانية لا تستخدم الدين إلا لمصالحها المادية الدنيوية . والقوى المحركة اليهودية تخلت عملياً عن الدين وتصوراته إلا بمقدار ما يخدم مصالحها الدنيوية المادية ، وتمثلت هذه القوى اليهودية "بالحركة الصهيونية" التي أصبحت في حقيقة ممارساتها عَلمانية تستخدم الدين لتوسيغ جريمتها في فلسطين ، وفي غيرها 0
من خلال النظرة العلمانية الخفية أو العلنية لدى هذين الطرفين ، التقت المصالح المادية الدنيوية ، ودارت المساومات حتى أخذت صورة تلمسها في الواقع التطبيقي 0
عندما تخلى كل طرف منهما عن تصوراته الدينية الحقيقة ، ومارسوا من الجرائم في الأرض ما لا يسمح به دين من أصل سماوي ، عند ذلك اصبح باب اللقاء والتقارب على المصالح الدنيوية مفتوحاً أمامهما ، فتقاربا والتقت مصالحهما ، وبرز الدعم لدولة اليهود من الدول العلمانية التي تنتسب اسمياً للنصرانية في أوربا وفي أمريكا ، وكانت فرنسا تتولى كبر هذه الجريمة في مرحلة ، ثم تولتها إنكلترا على تنسيق مع جميع الفرقاء ، واليوم تتولى أمريكا زعامة هذا الدعم لدولة اليهود على أرض فلسطين المغتصبة بالتنسيق مع سائر الدول .
ولا عجب في ذلك ، فهي تتولى دعامة قضايا كثيرة في الساحة الدولية اليوم ، ابتلاء منه سبحانه وتعالى لينكشف ضعف الضعفاء وتقوم الحجة عليهم ، وينكشف طغيان الظالمين فيأتيهم العقاب من عند الله 0(/3)
ولقد نقلت "روث بلاو" زوجة أحد كبار الحاخاميين في القدس في كتابها "حراس المدينة" بالفرنسية في الصفحة (61) عن التلمود : "إن الله استحلف الشعب اليهودي قبل أن ينفيهم من الأرض المقدسة ثلاثة أيمان : ألا يعودوا إلى الأرض قبل عودة المسيح سواء أكانت العودة في جماعات أو بالقوة ، ألا يتمردوا على شعوب العالم ، ألا يحاولوا تقصير مدة الشتات 0 وأن الله قد جعل عقوبة من يخالف هذه الأيمان أن يبيح دماءهم كما أباح دماء الغزلان في الغابات … وأن الله سيسحق جميع الأمم التي تساعد اليهود على تمردهم"( [2] ) وكذلك وزع اليهود الأرثوذكس في مدينة مونسي الأمريكية من ولاية نيويورك وثيقة تقول إن الشعب اليهودي ودولة إسرائيل شيئان مختلفان ومتعارضان لأن الديانة اليهودية والتوراة قد حرمت على الشعب اليهودي أن يكون لهم دولة قبل عودة المسيح 0
نريد أن نخلص من ذلك إلى أن دولة اليهود في أرض فلسطين المغتصبة لم تقم على أساس من التوراة أو الإنجيل ، وأن كل الادعاءات محرفة أو باطلة ، وأنها قامت على أساس المصالح العدوانية لدول عدوانية التقت مصالحها مع الحركة الصهيونية كما ذكرنا قبل قليل 0
لليهود ادعاء باطل زخرفته الدعاية ، وللمسلمين حق ثابت في فلسطين . إن فلسطين حق الأمة المسلمة على مدار التاريخ ، دخلها الأنبياء المسلمون باسم الإسلام ، ومن الأنبياء من ولد فيها وبُعِثَ باسم الإسلام 0 ولقد أُسري بخاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم إليها باسم الإسلام ، وعُرج به منها باسم الإسلام ، وأمَّ الأنبياء كلهم في المسجد الأقصى ليبرز أن الدين عند الله واحد هو الإسلام ، وأن فلسطين لا تتنسب لدم أو عرق ، وإنما تنتسب لدين ورسالة هي دين الإسلام ورسالته . وإن اعتقاد بعض اليهود ، كما ذ كرنا قبل قليل ، أنه لا يجوز أن تقوم لليهود دولة حتى يأتي المسيح ، هو اعتقاد مضطرب
إن الاعتقاد بعودة المسيح عيسى بن مريم عليه السلام حق ، ولكنه سيعود ليكسر الصليب وليُكِّذب اليهود والنصارى بما أدخلوه من تحريف ، وليقيم دولة الإسلام ، يحكم بالإسلام ، بدين الله الواحد الذي جاء به جميع المرسلين الذين ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، الذي جاء كتابه القرآن الكريم مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه 0
سينزل عيسى عليه السلام فيقتل الدجال ويحكم بالإسلام 0 وما دعوى تلك الفئة اليهودية إلا تحريفاً لجزء من هذه القضية ، فإذا أخذ الله على اليهود عهداً ألا يقيموا دولة لهم في فلسطين ، فذلك مقبول بميزان منهاج الله ألا يكون لليهود دولة في فلسطين لا قبل نزول عيسى عليه السلام ولا بعده 0
فإذا قامت لليهود دولة اليوم ، فذلك ابتلاء من الله لليهود لتقوم الحجة عليهم بمعصية الله وبالعدوان والافتراء والظلم ، وهو ابتلاء من الله ليقيم الحجة على المسلمين الذين غفلوا وغفوا عن واجباتهم الشرعية في حمل رسالة الإسلام في الأرض كلها ، وفي حماية ديار المسلمين جميعها وفيها فلسطين ، وفي حماية الأمة المسلمة الواحدة لتظل قائمة صفاً كالبنيان المرصوص 0 أنه ابتلاء من الله شديد ، فعسى أن يتقبل الله منا كلمة النصح هذه ، ننصح بها أنفسنا والمسلمين جميعاً 0
إن اغتصاب فلسطين هو من أخطر آثار العلمانية واضطراب حقوق الإنسان الوضعية حيث تعددت بهذه وتلك المكاييل والموازين ، وغلبت المصالح العدوانية على الحق والمنطق والعقل ، وأفلت الزمام ، وضاعت حقوق الإنسان وحقوق الشعوب ، في لحظة غفا فيها المسلمون غفوة شديدة ، أو خُدِّروا تخديراً شديداً ، أو شُلَّتْ قواهم حتى هانوا 0
--------------------------------------------------------------------------------
( [1] ) يقرأ كتاب : "الجذور Roots" لمؤلفه "Alex Haley" الزنجي الأمريكي الذي يشرح من خلاله القصة وهول الجريمة 0
( [2] ) د0 معروف الدواليبي ـ مقالته في الشرق الأوسط العدد 6599 ـ الأحد 12 شعبان 1417هـ ، 22/12/1996م السنة 19 ـ ص : 6 الكتاب بالفرنسية Las Gardiens de la cite نشرته دار النشر الفرنسية في باريس "Flammarion" سنة 1978م 0(/4)
ديار الكفر وديار الإسلام
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ أصول الفقه /السياسة الشرعية
التاريخ ... 16/12/1423هـ
السؤال
الإخوة الأحبة في الموقع؛ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد فسؤالي عن تحديد ديار الكفر وديار الإسلام، وهل الديار التي غالبية شعبها مسلمون ولكن تحكمها الأنظمة الكافرة أو التي لا تطبق شرع الله وكانت سابقا من ديار المسلمين هل تعتبر بهذه الصفة ديار كفر أم ديار إسلام؟ وهل يجوز السفر إليها للسياحة مع تجنب الذهاب إلى مواطن المنكرات فيها؟ وهل تجب الهجرة منها لمن هو قادر على ذلك؟ والسلام عليكم
أرجو الإجابة في أقرب وقت.
الجواب
بلاد الإسلام هي: البلاد التي يحكمها المسلمون وتجري فيها الأحكام الإسلامية ويكون النفوذ فيها للمسلمين ولو كان أغلب السكان كفاراً أو يهوداً أو نصارى أو وثنيين، وبلاد الكفر عكس هذا تماماً، وقد تكون دار الكفر للكفار الحربيين أو داراً للكفار المهادنين والمعاهدين ويكفر الحاكم إذا حكم بغير ما أنزل الله مما هو معلوم من الدين بالضرورة زعماً منه بأن حكم غير الله أفضل من حكمه أو مساوياً له. أما إذا حكم بغير شرع الله وهو يعلم أن حكم الله هو الذي لا يصلح للبشر غيره ولكنه حكم بخلافه نتيجة شهوة مادية أو مجبراً من هو أقوى منه ويهدده إن حكم بشرع الله وهو ممن إذا قال فعل – فهذا الحاكم حينئذ لا يكفر كفراً ينقله من الملة ولكنه مرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب عليه المبادرة للتوبة منها عسى الله أن يتوب عليه.
والهجرة الشرعية من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام لا تجب شرعاً إلا إذا عجز المرء عن إظهار شعائر دينه الاعتقادية والتعبدية وإظهار الدين ضد إخفائه فالمظهر لدينه هو الذي يتمكن من إعلانه ولا يضطهد من أجل ذلك. والعاجز عن إظهار ذلك هو العاجز شرعاً، وشعائر الاعتقاد والتعبد مجتمعة في أركان الإسلام والإيمان والإحسان أما الحسبة أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فليس وجوده أو عدمه شرطاً في الهجرة والإقامة اللهم إلاّ الإنكار بالقلب. وإذا نظرنا في واقع أكثر بلاد الكفر في الشرق والغرب وجدنا المسلم – في الغالب – يستطيع إظهار دينه ومعتقده وذلك لوجود الحرية الشخصية فيها، وإن حصل تقصير من المسلمين المقيمين بين الكفار فلكثرة الشر هناك ولضعف الإيمان عند بعض أولئك المسلمين لا غير، وقوة الإيمان أو ضعفه ليست شرطاً في الهجرة.
أما البلاد التي كانت سابقاً من بلاد المسلمين كبلاد الأندلس – أسبانيا والبرتغال حالياً، فتعتبر الآن بلاد كفر. أما السفر لغرض السياحة إلى هذه البلاد وغيرها الأصل فيه أنه مباح إذا اجتنبت فيها المنكرات ودواعيها. وأنصح بعدم السفر للسياحة في بلاد الكفار خاصة بالأطفال والنساء لغير ضرورة. وفق الله الجميع إلى كل خير آمين.(/1)
ديكتامقراطية أم ديكتاتوراتية
د.محمد إياد العكاري
</TD
تحيّرت في عنوان مقالتي هذه وماذا يصلح لها من تسميةٍ لأصف به عالمنا الذي نعيش فيه اليوم وواقعنا المعاصر الذي نحياه بكل ما فيه، بمصائبه ودواهيه، وآلامه و مآسيه وماذا أسميه ديكتامقراطية أم ديكتاتوراتية؟!
وكنت كتبت عنواناً لهذه المقالة قبلُ ولكنِّي أحجمت عنه، ليس رهبةً منه، وإنما لأسبر حقائق الأمور، متعرضاً لها بين السُّطور وآثرت الإبقاء على هذين العنوانين وتركت لكم حرية الاختيار في زمن الديمقراطية!! وعصر العولمة؟! وشعارات حقوق الإنسان!!..
أجل تركت لكم ذلك في زمانٍ يستطيع الإنسان أن يقولَ ما فيه بملء شِدْقيَْه، و أن ينقد حاله ببطنه وخُفَّيْه، وإن أحسن فبظهره وجنْبيْه، ولا تعجب من مقالي، ولا حُكمي ولا سؤالي طالباً منك أن تتأمَّلَ حالنا بعينٍ بصيرةٍ، وأن تحكمَ فيه بنور البصيرة.
فماذا أقول في هذا العصر؟؟ وماذا أتحدث عن أحواله؟؟وما هو لونه ووصفه؟؟ وكيف هو سَمْتُهُ ورَسْمُهُ؟
هذا العصر الذي بلغ التَّقدم العلمي أوجَه، وبلغت فيه وسائل الاتصال سقفَ مداها، وتقاربت فيه عقارب الزمان، وتجاور فيه المكان مع المكان فأصبح العالم قريةً صغيرةً وبدل أن نستفيد من عصر العولمة باحتراز الخبرات واكتساب المهارات متعاونين باحترامٍ وتقديرٍ متبادل بين الأمم والشعوب للإحاطة ببحور المعلومات بغية اللحاق بركب الحضارات كان الأمر علينا عكس ذلك عواصف دهماء تجثم فوقنا كالجبال حيث هبت علينا رياح العولمة من الغرب عاتيةً هوجاء ومن القطب الأوحد تحديداً فاندفعت بقوة اعلامياته وفضائياته، ناشرةً ثقافة القتل والرعب، والجريمة والاغتصاب هذا عدا عن الخراب والدمار الذي تخلفه هنا وهناك على ظهر المعمورة بغية الحفاظ على مصالحها أجل ثم ما لبث القطب الأوحد بعد أن فقد مع مطلع هذا القرن برجيه حيث كبر عليه أن يكون أجلحاً بعد أن كان أقرناً،وعظم ذلك في نفسه، ففقد عقله وحسَّه ، وأضاع حلمه ولبَّه ،فأضحى ينطح برجليه، ويركل بيديه، ويضرب برأسه، مرسلاً حمم نيرانه، وقذائف صواريخه، وجحيم قاذفاته إلى بلاد الإسلام تحمل الخراب والدمار بدل الأمن والسَّلام أجل هذا ما رأينا مع مطلع هذا القرن وما تجسده لنا الأحداث التي نراها صباح مساء، ليل نهار.
لقد غزانا عصر العولمة عبر الفضائيات قبل الحراب بشعاراته البراقة التي نادى بها قطبه الأوحد وما أحلاها من شعارات وما أجملها من مسميات ما لبثت أن تحولت إلى بربريات وهمجيات في زمانٍ تتسارع فيه الأنفاس خشية الريبة والحرَّاس، وتذوب فيه القلوب مما تلاقيه في دنياها من خطوب.
لقد جاء القطب الأوحد يدندن بالعولمة ويتشدّق بالديمقراطية وينادي بحقوق الإنسان ويدعي حق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها.
آهٍ آهٍ الديمقراطية ما أحلاها من كلمة وما أعظمها من مدلول ولكن ليس لها من رصيد الواقع شيء.
إنها تعريب Democracy وهو حكم الشعب لنفسه أو حكم الأكثرية حيث يتساوى الناس في الحياة السياسية انتخاباً وترشيحاً ونرى فيه تكافئ الفرص واقعاً محسوساً في حياة الناس فيبرز الأصلح ويتقدَّم الأفضل، ويعلو الخير، وتلقى البر ولا شك أن هذا مطلب الأحرار.
هذا ما سمعناه في كلامهم قبل، أما ما رأيناه بفعالهم فلا حول ولا قوة إلا بالله فقد رأينا والله عجبا...ً ولاقيناه شرراً وحطبا...ً فتذوقناه ناراً ولهباً... في أغلب عالمنا الإسلامي ناهيك عن العالم كلِّه والعراق أكبر شاهدٍ حيٍ على همجيَّة القطب الأوحد وبربريته في عصرنا هذا ..
هذا البلد الذي ضمَّ إلى صدره أقدم حضارةٍ عرفتها البشرية وهي حضارة ما بين النهرين التي عرفنا منها شريعة حمورابي وشاهدنا فيها حدائق بابل المعلقة إحدى عجائب الدنيا السبع.
هذا العراق الذي ضمَّ بين دفتيه دجلة والفرات، أرضه سوادٌ من خضرتها، وتاريخه عراقةٌ من أصالتها ،والرُّؤى شموخٌ في حضرتها هذا فوق الأرض أمَّا ما حوته تحت الأرض فالذَّهب الأسود النفط الذي يسيل له لعاب الغرب حيث تشكل ثاني أكبر احتياطي في العالم ثم ماذا ؟!
لقد فقدت الحياة معناها بعد الذي جرى في العراق من أحداث، ليجلبوا له ديمقراطيتهم ،ويحلبوا له عولمتهم فضاع الأمن، وفقد الأمان، وهُدِّمت البلاد، وشُرِّد العباد !!
لقد ادّعوا أنهم ما جاؤوا إلالينشروا الديمقراطية بين أهل العراق وإزالة مظاهر الطغيان فأين العراق اليوم؟؟
أين الديموقراطية التي يتشدَّقون بها؟؟ وأين حقوق الإنسان التي يتحدثون باسمها ؟؟(/1)
إنَّها تلعنهم صباح مساء من نفاقهم ،وتشتمهم ليل نهار من كذبهم،وتبكي ألما ًمن افترائهم ومكرهم وهم على حالهم مازالوا يعزفون على نفس الأوتار ليصدِّقهم العملاء!! ويصفق لهم السفهاء !!وينخدع بهم البلهاء من بني جلدتنا فماتشدّقوا به عن حقوق الإنسان في مطلع القرن الحادي والعشرين زاعمين أنهم أهل الديمقراطية مطالبين بحرية المرء وكرامته، وأمنه ورفاهيته جاء الواقع ليدحضه فما شاهدناه في العراق وفلسطين وغيرها من أقطار المسلمين ليشهد على كذبهم ويدلِّل على نفاقهم، ويدحض كذب دعواهم وهذا كلُّه غيضٌ من فيض.
لقد سلبوا الحرية، وصفعوا الكرامة، واغتصبوا الأرض ،وأهانوا العرض لتعود البلاد التي حلوا بها إلى عصر الظَّلام والتَّعسُّف،والخراب والدَّمار،والفقر والتَّشريد في ظل عولمتهم البلهاء ،وشعاراتهم الجوفاء، وعباراتهم الحمقاء.
وأما ما ادعوا وتنادوا لأجله من حق الشعوب في تقرير المصير فيصلح أن نقول بدلاً عنها حق الشعوب في أكل الشعير وتحليل لحم الخنزير!!، لتصبح كالبهائم !!،وتقاد كالحمير !!،وتنام على الحصير !! وتنسى أن تقول يا مجير يا مجير !!حيث يكفيها أن تقول يا سيدي النحرير !!لترى التحرير في عصر الرَّقيق والحرير،والخمر والفراش الوثير!!لتذوق المر ،وتلعق الصَّبر، وتعيش القهر، وتبقى مطيةً أبد الدهر.
لقد أضحى القطب الأوحد أخبث متحدثٍ بالديمقراطية وأكذب ناطقٍ بحقوق الإنسان وأفجر مصوِّرٍلها ليبدو لنا السُّمُّ في نقع أنيابه ويتراءى لنا الشرُّ في خُبث مقاله، ويبدو جليَّا ًالسُّوء في سود فعاله.
لقد أضحت العولمة التي يتشدقون بها لعنةً على الشعوب وباتت سُبَّةً على أصحابها مما لا قى الشُّعوب منها فأضحت تنفر من هذه العبارات الجوفاء ،واللافتات البلهاء، مما ذاقوه وعرفوه و رأوه من استخفاف بها!! وازدراء لقيمها!!واحتقار لمطالبها !!واستهتار بحقوقها !!.
.إن ما يفعله القطب الأوحد اليوم يجسد الدكتاتورية بكل معاييرها ومفاهيمها إن كان لها معايير اللهم إلا الحكم المطلق الاستبدادي.
وأصل كلمة ديكتاتورDictator تعني الحاكم المطلق المستبد أمَّاDictatorship فتعني دولة على رأسها حاكم مستبد،أعود إلى عنوان مقالتي التي بين أيديكم فهل ستسغفوني وتجيبوني بماذا أسميها بعد أن أبديت لكم مرافعتي، وشرحت لكم بين سطورها حجَّتي لتختاروا بين هذين العنوانين وما يصلح لها من مسمى هل الديكتامقراطية أم الديكتاتوراتية. وكلتا الكلمتين طبعاً القسم الأول منهما الديكتا مشتقةٌ من الديكتاتورية التي تعني الحكم الاستبدادي
وأمَّا في الكلمةالأولى ال مقراطية فهي مشتقة من الديمقراطية التي يزيفون بها دعاويهم ،وينافقون بها في عباراتهم ،وينمقون بها عسفهم واستبدادهم، لتصبح الكلمةبعد ضمَّ الجزأين ديكتامقراطية ملفوظة،ً ممجوجة،ً متناقضةً في مبناها ومعناهاحسَّاً ومعنى.
وأما في الكلمة الثانية ال توراتية فنسبةً إلى التوراة الذي يدعيه اليهود لأنفسهم- وهومنهم براء-وفيهاإشارةٌ إلى أثرهم ومكرهم في واقعنا المعاصر والسعي للمشاركة في صنع القرار بما يخدم مصالحهم في كل مكان تصل إليه أيديهم علىظهر المعمورة من خلال اللوبي الصِّهيوني سيما في دهاليز البيت الأبيض ناهيك عن ابتزاز مرشحي الرئاسة الأمريكية وأجد نفسي في وصف عالمنا اليوم وبعد جمع طرفي الكلمة مع الثَّانية الديكاتوراتية.
فهذا الأخطبوط الماكر اللعين الذي يغرز بنابيه المسمومين المال والإعلام في عالمنا أجمع وليس في البيت الأبيض فحسب من خلال اللوبي الصهيوني لجليٌ للعيان وما سمعناه أخيراً من وقف بث قناة المنار الفضائية على الأراضي الفرنسية بعد السَّماح لهاليؤكد تأثير اللوبي الصهيوني و نفوذ شبكته العنكبوتية وضغوطها على الحياة السياسية و قراراتها في فرنسا من خلال نسج حبائل مؤامراتها، ونفث حمى سمومها لتبني كيانها بالهدم والمكر، والكيد والغدر ولكن رغم ذاك فإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون وإن شاء الله مكر أولئك هو يبور.
وبعدإيحائي لكم بجوابي أترك لكم حرية الاختيار بين الديكتامقراطية والديكتاتوراتية في زمن الديمقراطية والانحدار، والعولمة والانهيار، و الباطل والانكسار إذا ماتأمَّلنا الواقع وحلَّلنا أحداثه المتسارعة بنور البصيرة.
أجل والله هو الانحدار والانهيار والانكسار بإذن الله لمبادئهم قبل واقعهم، ولشعاراتهم قبل كيانهم، ولمواقفهم قبل جيوشهم رغم ما يملكون من إمكانات وطاقات
((وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون))(الشعراء227)
د.محمد إياد العكاري
4/11/1425هـ
15/12/2004م(/2)
ديموقراطيّة الاحتلال
د. محمد بن سعود البشر 4/11/1426
06/12/2005
جاء الأمريكيون إلى العراق بدعوى البحث عن أسلحة الدمار الشامل، وعندما تأكد كذب هذه الدعوى، قالوا بأن ثمة علاقة بين نظام صدام البعثيّ وتنظيم القاعدة.. وعندما رفض العقل العراقي التصديق بوجود هذه العلاقة أصبحت دعوى نشر الديموقراطية هي الشعار الذي رفعته القوات الأمريكية. ولأن الضعيف -عادة- يُسلّم بما يُروّج له القويّ، سلّم بعض العراقيين بأكذوبة الديموقراطية الأمريكية.. وتمنّوا أن يخيب ظنهم، وأن تتحول إلى حقيقة تضمن تعايشاً سلمياً بين جميع فئات الشعب العراقي.. إلا أن الأحداث جاءت تباعًا لتكشف حقيقة الأهداف الأمريكية في العراق.
فالديمقراطية الأمريكية التي استباحت تعذيب العراقيين في أبو غريب هي ذاتها التي جاءت بحكومة عراقية تفنّنت في تعذيب أبناء العراق في معتقل الجادرية السري بصورة لم تكن تحدث في عهد نظام صدام حسين الديكتاتوري.. بشهادة رئيس الحكومة العراقية السابق إياد علاوي.
والديموقراطية الأمريكية في العراق هي أيضًا التي أعطت امتيازات لبعض الفصائل والمذاهب العراقية على حساب فصائل أخرى دون اعتبار لحق المواطنة أو المساواة.. يؤكد ذلك الموقف الأمريكي المتعسف من المسلمين السنة عند صياغة الدستور العراقي، أو توزيع الحقائب الوزارية السيادية.
هذه الديمقراطية هي التي دفعت أموالاً طائلة لرشوة بعض الصحافيين والكتّاب العراقيين لنشر مقالات إشادة وترحيب بممارسات المارينز –باعتراف قادة البنتاجون- ومعلوم ضمنًا أن من يمارس الترغيب وشراء الأقلام لمناصرته، لا يتورّع عن الترهيب، وقصف أقلام أخرى إن رفضت ذلك.
وهي الديموقراطية الأمريكية ذاتها التي استخدمت الأسلحة المحرّمة دوليًا ضد المقاومة العراقية الرافضة للاحتلال.
وأكذوبة الديموقراطية هذه لم تنطل حتى على الشعب الأمريكي، على الرغم من محاولات تخويفه وإيهامه بأن الحرب على العراق قامت لحماية الأمن القومي الأمريكي؛ إذ خرجت أصوات تطالب بالانسحاب من العراق ليقرر الشعب العراقي مصيره ويصنع مستقبله. حتى داخل الكونجرس الأمريكي، هناك من يطالب بتحديد جدول زمني للانسحاب من العراق، وهو ما رفضته إدارة بوش.. على الرغم من إجماع الفصائل العراقية على ذلك في مؤتمر المصالحة الذي عُقد بالقاهرة برعاية جامعة الدول العربية.
هذه الشواهد وغيرها تقدم لنا درسًا بليغًا مفاده: أن الإصلاح السياسي الذي تنشده الشعوب العربية لن يتحقق بضغوط من الخارج حتى ولو وصلت هذه الضغوط إلى حد الاحتلال المباشر للأرض. وإنما يجب أن ينبع من طروحات داخلية تحترم خصوصيات المجتمع، وتضع مصالح هذه الشعوب في مقدمة أولوياتها.
ودرس آخر تقدمه لنا التجربة العراقية، وتعيه جيدًا الفئات البسيطة والصامتة من أبناء الشعوب العربية والإسلامية، وهو أن الولايات المتحدة الأمريكية التي تجاهر بانحيازها التام لإسرائيل، وتدعم تفوقها العسكري وانفرادها بالسلاح النووي بالمنطقة، لا يمكن بحال من الأحوال أن تضحي بأرواح جنودها والمليارات من الدولارات لتتمتع الشعوب العربية بالديموقراطية والحرية.
هذه الدروس وغيرها تتفق والحقيقة البدهيّة القائلة: إن الاحتلال العسكري الذي تجاهل قرارات الشرعية الدولية، وانتهك حقوق الإنسان في العراق لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون طريقًا للديموقراطية، ولا يوجد في تاريخ الإنسانية بأسره واقعة واحدة تخالف هذه البدهيّة، في حين توجد عشرات الوقائع والأحداث التي تؤكدها وتثبت صحّتها.
فهل يعي العرب والمسلمون داخل العراق وخارجه هذه الدروس لكي لا يحتاجوا إلى كوارث أخرى لاستيعابها.. لاسيما أن هناك دولاً أخرى مرشحة لاستقبال الديموقراطية الأمريكية بنفس الملامح التي نراها في العراق(/1)
دين للبنك العقاري على أبيه
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ...
التاريخ ... 24/5/1425هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
شيخنا الفاضل: توفي والدي منذ سنتين، وعليه دين لصندوق التنمية العقاري بمبلغ 268000 ريال، والبيت من النوع الشعبي القديم، وهو شبه معدوم، وتقدمت للبنك العقاري، وشرحت لهم الظروف، ووصلني الرد أن أدفع مبلغ أربعين ألف ريال، ويتم تحويل المبلغ الباقي علي، وأنا أحوالي المادية لا تسمح بدفع المبلغ، ماذا أفعل. وهل إذا تركت البيت على اسم والدي أكون آثماً؟ بالله أفيدوني وجزاكم الله كل خير.
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
أولاً أنصحك أن تقدم طلباً إلى الجهة المسؤولة تبين فيه أن والدك توفي، ولم يخلف تركة تسدد ديونه، وتطلب إسقاط هذا المبلغ الذي لصندوق التنمية عن ذمة والدك ، فإن تم فالحمد لله، وإن لم يتم فلا إثم عليك؛ لأنك لا تجد ما تسدد به دين أبيك، ثم إن الدين ليس عليك، وإذا كان والدك أخذ القرض من البنك وفي نيته السداد فلا إثم عليه، أيضاً لحديث أبي هريرة –رضي الله عنه- عند البخاري(2387): "من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله"، ولا أظن أباك – رحمه الله- لا يريد رد هذا الدين، وأنت كذلك إن شاء الله سوف ييسر الله لك ما توفي به دين أبيك، وإن لم تستطع فلا شيء عليك إن شاء الله. وفقنا الله وإياك إلى ما يحبه ويرضاه.(/1)
دينار العيَّار
غزوان مصري
gazwan@gazwan.com
هاهو دينار العيَّار
كان مسرفًا على نفسه وكان له أم تعظه فلا يتعظ فمر في يوم من الأيام بمقبرة كثيرة العظام قد خرجت العظام من المقبرة فتذكر مصيره وتذكر نهايته ، وتذكر أنه على الله قادم أخذ عظْمًا نخراً في يده ففتته ،ثم فكر في نفسه وقال: ويحك يا نفسي كأني بك غدًا قد صار عظمك رفاتًا، وجسمك ترابًا ، وما زلت مكبَّة على المعاصي واللذائذ والشهوات ،ثم ندم وعزم على التوبة ،ورفع رأسه للسماء قائلا:
إلهي ألقيت إليك مقاليد أمري ،فاقبلني واسترني ،يا أرحم الراحمين .
ثم مضى إلى أمه متغير اللون ،منكسر القلب ،فكان إذا جنَّه الليل أخذ في القيام والبكاء ،وأخذ في النحيب وهو يقول:
يا دينار ألك قوة على النار؟
كيف تعرضت لغضب الجبار؟
وظل على ذلك أيامًا يقوم ليله ،ويناجي ربه ويناجي نفسه يؤدبها ويحاسبها ،فرفقت به أمه يوم رأت جسمه قد هزل ،ويوم رأت صحته بدأت تتدهور .
فقالت: ارفق بنفسك قليلا .
فقال: يا أماه دعيني أتعب قليلا لعلي أستريح طويلا ،يا أماه إن لي موقفًا بين يديْ الجليل ،ولا أدري إلى ظل ظليل ،أم إلى شر مقيل؟ إني أخاف عناء لا راحة بعده ،وتوبيخًا لا عفو معه .
قالت: بنياه أكثرت من إتعاب نفسك؟
قال: راحتها أريد ،يا أماه ليتك كنت بي عقيمًا ،إن لابنك في القبر حبسًا طويلا ،وإن له من بعد ذلك وقوفًا طويلا بين يديْ الرحمن .
وتمر ليالٍ وهو يقرأ قول الله ،ويقوم ليله بقول الله {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فيبكى ويضطرب، ثم يخر مغشيًا عليه فيا مخطئ وكلنا ذوو خطأ {أَلَمْ يَأْنِ للذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ } {أَلَمْ يَأْنِ للذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ {
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات ،والمؤمنين والمؤمنات ،الأحياء منهم والأموات.
لا تنسى أن ترسلها لغيرك فأنت بحاجة ماسة إلى صدقة جارية لتكون في ميزان حسناتك غدا(/1)
دُعَاء في جَوف اللَّيل ودَمْعَةٌَ
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
وَ دَافَع أَمْوَاجاً مِنَ الظُّلُمَاتِ ... ... إلَهي ... ! وهَذا اللّيْلُ أَلْقَى جِبَالَه
سَبِيلاً ... وَيُنَجِيني مِنَ الحُفُرَاتِ ... ... فَهَبْ لِيَ نُوراً مِنْ لَدُنْكَ يَشُقُّ ليْ
* * * ... ... * * *
لِتَطْحَنَ مِنْ كِبْرِي وَمِنْ نَزَواتي ... ... إذا كَشَفَتْ ضعَفْي اللَّيالي وَ صَرْفُها
بِعَزْمٍ ويُعْطي القَلْبَ فَيْضَ ثَبَاتِ ... ... فَمَنْ لِيَ يَا رَبِّي سِوَاكَ يَمُدُّني
* * * ... ... * * *
تُفَجِّرُ بُرْكَاناً مِنَ الشَّهَوَاتِ ... ... إلهي ... ! وَهذي فِتْنَةٌ بَعْدَ فِتْنَةٍ
ويُقْحِمُهَا الطَّاعَاتِ و الهَبَوَاتِ ... ... فَهَبْ ليْ يَقيْناً يُلْجِمُ النَّفْس عَنْ هَوىً
* * * ... ... * * *
وَأَوْقَعنِي فِي الشَّرِّ مِنْ كَبَوَاتي ... ... وَجَهْلٍ ! فَكَمْ سَدَّ المَنَافِذَ دُونَنِا
بِهِ الشرَّ أَوْ أَنْجُو مِنَ الشُّبُهاتِ ... ... فَهَبْ لِيَ عِلْماً مِنْ كِتَابِكَ أَتَّقي
تَقُود لخَيْرٍ وَاسِعِ البَركَاتِ ... ... وَمِنْ سُنَّةٍ تَهْدي فُؤَادِي وَ حِكْمَةٍ
* * * ... ... * * *
ظلاَمٌ ... وَتُزْوِي المَوْجَ مِنْ عَتَمَاتِ ... ... وَمِنْ دَمْعَةٍ في اللَّيْلِ يَنْزَاحُ دُوْنَها
فَشَقَّ ضِيَاء الفَجْرِ مِنْ عَبَرَاتي ... ... تَدَفَّقَ مِنْ لآلائِها النُّور غامِراً
و خَفَقةِ قوَّام عَلَى رَكَعَاتِ ... ... أَعِنِّي فَأَرْوِي اللَّيْلَ مِنْ دَمْع تائِب
صِيَاماً وَ لا هَلَّلتُ في عَرَفَاتِ ... ... فَلَولاَكَ مَا صَلَّيْتُ .... والقَلْبُ ما نَوى
* * * ... ... * * *
سِوَاك .... ! وَمِنْ كفَّيْك فَيْض هِبَات ... ... سَأَلْتُكَ يَا رَبِّي ..... وَمَا أَنا سائلٌ
إليك ... وَهمّي ... أَو دَويُّ صَلاتي ... ... رَجَوْتُك ... ! لاَ أَرجُو سِوَاك وَذِلّتي
وَشِرَّةَ أَهْوَائي و نَهْجَ غُوَاةِ ... ... لِتَدْفَعَ عَنِّي ظُلْمَ نَفْسي لنَفْسِها
وَ تُنِْجيَنِي مِنْ طُغْمَةٍ وَ عُتَاةِ ... ... وَتَدْفَعَ عَنِّي السُّوءَ مِنْ كُلِّ ظالِمٍ
فَأَخْذُكَ أخْذٌ قَاصِمُ الفَقَرَاتِ ... ... إذا لم أَكُنْ أَقْوى على رَدِّ ظُلْمِهم
جَليَّاً .... وَأَمْضي صَادِقَ الخُطُوَاتِ ... ... وَتُرْشِدَني لِلحَقِّ أَنْهَجُ دَرْبَهُ
وَ أُخْبِتَ في سِرّي وَ فِي جَهَرَاتي ... ... وَأُسْلِمَ للرحمن أَمْرِيْ جَمِيعَه
وتَسْبيحُ أَكْوَانٍ و رَجْعُ شُدَاة ... ... وَ أَخْشَعَ ... ! وَ الدُّنْيا خُشوعٌ وَأَوْبَةٌ
* * * ... ... * * *
بعَفْوك...! دُونَ العفْوِ..أَيْنَ نَجَاتي..! ... ... وَإنَّكَ تَعْفُو عن كَثيرٍ فَنجنّي
لِتَغْسِلَ مِنْ إثمي ... ومِنْ سَقَطَاتي ... ... وَهَبْ ليَ يَا رَبّي بِفَضْلِكَ رَحْمَةً
سَكِيْنَة إِيْمانٍ ... وَعَزْمَ ثَبَاتِ ... ... وَهَبْ لِيَ أَمْناً يَمْلأُ القَلْبَ بِشْرُه
* * * ... ... * * *
وَقَدْ مُزِّقَتْ في مَهْمَهٍ وَشَتَاتِ ... ... إلهي ..! وَهذي أُمتَّي في سُبَاتِها
تَلاطُمَ طُوْفَانٍ وَ زحْفَ مَمَاتِ ... ... أَغِثْنَا .. إلهي ...! والمصائِبُ أقْبَلَتْ
وَأطْبَقَ " أعْدَاءٌ " عَلى رَبَوَاتِ ... ... أَغِثْنَا ... وَقَدْ ضَاعَتْ دِيَارٌ وَسَاحَةٌ
أَفَاعِيلُهُ السَّاحاتِ و العَرَصَاتِ ... ... أَغِثْنا ... وَقَدْ مَاجَ الفُجُورُ وَدنَّسَتْ
نُفُوسٌ ... ومَاتَتْ نَخْوَةُ العَزماتِ ... ... أَغِثْنَا.. فَمنْ يُنْجي سِوَاك وَقَدَ وَهَتْ :
* * * ... ... * * *
11/7/1403هـ
24/4/1983م ... ... ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· ديوان جراح على الدرب .(/1)
ذبح الأضحية خارج بلدي
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ كتاب الحج والعمرة/الأضحية والعقيقة
التاريخ ... 4/12/1422
السؤال
نحن نسكن في مدينة الرياض، وتقوم والدتي وإخوتي وإخواني بذبح عددٍ من الأضاحي كل عام . وأنا أريد أن أرسل بثمن أضحيتي إلى خالي ( ليقوم بشرائها وذبحها) وخالي يسكن في فلسطين وذلك نظراً لأوضاعهم السيئة هناك، فهل تنصحونني بذلك أن أضحي في نفس المدينة التي أسكنها، وما هو الأفضل ؟ علماً بأنني أوكل من يذبح عني ولا يمكنني أن أشاهد الأضحية وهي تذبح، أرجو الإجابة عاجلاً جداً وذلك نظراً لقرب الموعد ولكي أتمكن من فعل المطلوب .
الجواب
جوز أن توكل خالك الذي يسكن بفلسطين أن يشتري أضحيتك بعد أن تدفع ثمنها له ويذبحها عنك . وذلك أن الأضحية سنة مؤكدة وقيل هي واجبة مع اليسار والغنى، وأكل المضحي من أضحيته وشهوده ذبحها سنة وليس بلازم، لاسيما وأن أهلك سيضحون بالرياض، والأضحية الواحدة تكفي عن الرجل وأهل بيته وإن كثروا .
وأرى أن وضع خالك وأسرته في فلسطين كما ذكرت - وكما هو معلوم - أحوج من أهلك بالرياض . وعليه فإن دفع ثمن الأضحية إلى من يضحي بها في فلسطين جائز شرعاً ، والله أعلم.(/1)
ذرني ومن خلقت وحيداً
تتمة سورة المدثر
الحلقة (15) الجمعة 4 ذي القعدة 1395هـ-7 تشرين الثاني 1975م
العلامة محمود مشّوح
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد أيها الإخوة المؤمنون فقد أتينا بالبيان في الأسبوع الماضي عن آيتين اثنتين من سورة المدثر؛ هما قول الله تعالى لرسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم (ولا تمنن تستكثر ولربك فاصبر) وأظنُّ البيان عنهما كان كافياً؛ وإن كان لبعض الإخوة رأي في أن أموراً أخرى يجب أن تطرح وتثار ولا بأس وخاصة بالنسبة لهؤلاء الإخوة؛ أن ألفت أنظارهم إلى أمر يتعلق بصناعة الكلام فالمتكلم الذي يعرف ما يقول يعرف أن الكلام هندسة معينة فإن الأفكار والألفاظ في الكلام؛ تُنَسَّقان وتقدمان على قدر معلوم وأن الإخلال بهذا النسق إساءةٌ إلى الأسلوب والفكرة جميعاً، وما أنكر أن أموراً كثيرة وخطيرة كان يجب أن تقال، ولقد كنت أقدر أنني سأستدرك في هذا الأسبوع بعض الذي فات ولكني من أسف لا أجدني الآن أنشط للكلام فلنقل ما يَسَّرَ الله تعالى.
أذكر بعض حوادث كانت في الأسبوع الماضي وقبله تلح على خاطري تراودني في الليل والنهار وأنا أفكر في هاتين الآيتين الكريمتين، وكثيراً ما شعرت بشعور لا أستطيع له وصفاً ولا تحليلاً وأنا أقرأ قول الله تعالى (ولا تمنن تستكثر) أشعر بصغار كبير وقماءة وقزامة أشعر بتفاهة تلفني من جميع أقطاري، أشعر بأن هذه الدنيا التي تموج وتتحرك بأشيائها وبأحيائها غير خليقة بأن يقال لها هذا الكلام؛ أيُّ عالم نوراني سام عظيم، ذلك الذي يُرْفَعُ إليه محمد صلى الله عليه وسلم ويُشَدُّ إليه المؤمنون وهم يخاطَبون بهذا الكلام، أية مرحلة من السمو وصلوا إليها، وأية عقبات ومصاعب ومشقات هذه التي قطعوها وصارعوها فصرعوها، حتى استقامت لهم أمورهم وذلت لهم نوازعهم ووجدوا أنفسهم بين يدي الأمر والنهي أطوع من الخاتم في الإصبع.
كانت الخواطر بل الحوادث ليس من تصورات الذهن ولكن من وقائع التاريخ المنير المضيء الذي يرميه الصغار والإمعات والتافهون بالرجعية وبالتخلف وبعدم الصلاح للتجاوب مع حياة الناس اليوم، حوادث من ذلك التاريخ البعيد الذي أشرق على الدنيا يوم كانت الدنيا همجاً وهملاً وشيئاً أقرب ما يكون إلى حالة الحيوان، أذكر مثلاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجلس في مجلسه وكان فيهم جِلةُ الأصحاب وكان فيهم من هم دون ذلك، وكان أمر فقام رجل يسبُ أبا بكر، وأبو بكر صامت ثم يلح في السباب وأبو بكر صامت، ثم يخرج عن الطور فيغلط ويتجاوز ما ينبغي للإنسان أن يقف عنده من حدود الأدب، فيرد أبو بكر، كل ذلك والنبي عليه الصلاة والسلام يتبسم حتى إذا رَدَّ أبو بكر رضي الله عنه قطب عليه الصلاة والسلام وعبس ثم قام، وقبل أن يغادر المجلس قال هؤلاء الكلمات الحكيمات لأبي بكر رضي الله عنه.
"إنك حين كنت ساكتاً كان إلى جوارك ملك ينافح عنك -أي يخاصم عنك- حتى إذا تكلمت غادر الملك وحضر الشيطان وما كنت لأجلس مجلساً فيه شيطان".
وأذكر أن أبا بكر رضي الله عنه بالمعهود فيه من سماحة ومن طيب عنصر، ومن طلاقة يد كان يسخر ثروته وما جمعه من مال لكفالة اليتامى والإنفاق على المساكين وتسخير هذا المال لمصالح المسلمين؛ وكان فيمن ينفق عليهم مسطح بن أثافة، وهو رجل يمت إليه بقرابة ومضت الأيام وأبو بكر يعول هذا الإنسان ينفق عليه ويقوم باحتياجاته جميعاً، وكانت حادثة الإفك حين أرجف المنافقون أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وابنة الصديق الأكبر قد قارفت الإثم، وكان أناس يتولون كبر الترويج لهذه المقالة الشنيعة وكان ممن تولى كبر الترويج لها (مسطح) هذا.. لم يرده عن غيّه أن أبا بكر والد السيدة الجليلة، هو صاحب الفضل عليه، بل ذهب يشيع قول السوء عن ابنة أبي بكر رضي الله عنه، ولما سمع أبو بكر بما كان من مسطح قطع النفقة عنه، أخذه ما يأخذ الإنسان من غضب لعرضه ومن أسفٍ للأيادي البيضاء، والفضل العظيم الذي سلف ذات يوم.
وظني أن أبا بكر رضوان الله عليه كان حينها يشعر بحرقة شديدة على هذه الأخلاق الهابطة، كيف ينزل إليها الناس، وكيف يصير الجحود ونكران الجميل، جاءه الرسول يدعوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجاب ودخل مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، فلما استقر به المجلس تلا عليه ما أنزل الله جل وعلا في شأن هذه الحادثة عموماً وفي شأنه وشأن مسطح على وجه الخصوص، وقرأ عليه قول الله تعالى:
)ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى واليتامى والمساكين ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم(.
ففاضت عينا أبي بكر رضي الله عنه وقال:
"بلى والله يا رسول الله إني لأحب أن يغفر الله لي".
ثم أرجع النفقة المقطوعة إلى مسطح.(/1)
وأذكر أو تتداعى الوقائع إلى ذهني، أذكر الجبار الغليظ في الجاهلية العُتَّلُ المستكبر في الجاهلية أذكر عمر، ذلك الطود الشامخ ذلك الطراز الفريد من الرجال، تولى الخلافة بعد أبي بكر رضي الله عنه، وكان يضع سلطانه على ممالك الدنيا القديمة المعروفة آنذاك، كان أكبر قوة على وجه الأرض في ذلك التاريخ، وكان أقوى حاكم وأشدهم رهبة في صدور الأعداء والأصدقاء على السواء، كان يمشي يوماً ومعه ابنه عبد الله بن عمر ومعه جِلَّة الصحابة حتى إذا كان في مكان ما ومن غير مقدمات، وبلا مناسبة استوقف الناس وقال:
"قد –والله- أذكر أنني كنت أرعى للخطاب غنماً في هذا المكان، وكان بي عنيفاً وعليَّ غليظاً، وكان".
وكان فالتفت إليه ابنه عبد الله يقول:
"يا أبتي علام تضع نفسك؟ لماذا تقول هذه الذكريات التي تنزل من قيمتك؟
قال له: يا بني إن أباك قد أعجبته نفسه فأحبَّ أن يضعها.. يعني أحبَّ أن يهينها وأن يذلها.. خلق مضيء..!
في الواقع لو شئت أن أسترسل في عد الوقائع اللواتي من هذا النوع لطال بنا القول إلى غير ما حد، فتلك الأيام الزاهية العظيمة حفلت بهذه النماذج التي نسيت أنفسها وذكرت الله تبارك وتعالى، أماتت شهواتها ورغباتها وأحيت في قلوبها مخافة الله تبارك وتعالى، نسيت كل شيء وذكرت الأمر والنهي فقط، أما ما يكون من جراء الأمر والنهي من كسب أو خسارة من أمن أو خوف فذلك غير منظور إليه.
هذه المعاني أثارتها في نفسي هاتان الكلمتان (ولا تمنن تستكثر)، هنالك إذاً طراز خاص من التربية أُعِدَّ المسلمون به لكي يكونوا أهلاً لحمل الرسالة، وإذا فشلت التربية عن أن تبلغ بالناس هذه المبالغ فالرسالة باقية في مكانها لا يطالها تغيير ولا تحريف طبعاً، ولكن أصحاب الرسالة من كلفوا بها سوف يدخلون في دوامة هائلة من التدهور والانحلال والانحطاط حتى يأذن الله بواحد من شيئين، إما أن يتداركهم بالرحمة واللطف فيفتح القلوب المقفلة بوسيلة ما، وإما أن يتركهم لأنفسهم وينساهم كما نسوه ويستبدل بهم قوماً غيرهم لن يكونوا مثلهم ولا على شاكلتهم، هذه الكلمات أثارت في ذهني هذه الأمور لكي نضع أيدينا جميعاً على حقيقة ما أظنكم تجهلونها لكثرة ما رددناها، ولكثرة ما أكدنا عليها ونحن سوف نظل نؤكد عليها لأن كل حديث غيرها عبث لا محصل من ورائه.
إن هذا الإسلام الذي جعله الله تعالى أمانة في أعناقنا، بل محنة قاسية رهيبة لا يكفيه منا ولا يكفينا منه مجرد الادعاء ومجرد الانتساب، إن هذا الإسلام عملية تهذيب وتعليم طويلة الأمد شاقة المراحل، فالإنسان إذا ترك نفسه لما يتحرك فيها من نوازع دون رقابة ودون محاولة جادة منه ليردَّ عن ميدان الشعور والعمل كلَّ نازعٍ لا يتفق مع رضوان الله؛ فهذا الإسلام حجة الله على هذا الإنسان، الإسلام يطلب من المسلم رقابة مستمرة، رقابة تكون على ضوء ما طلب الله تعالى. الميزان بين يديك؛ كتاب وسنة فيها كل ما أراد الله من الناس ولمصلحة الناس لا مصلحة لله في هذا فرقابتك إذاً يجب أن تكون على ضوء الكتاب والسنة.
انظر ما طلب الله فافعله وجرد نفسك من كل هاجس ومن كل نازع يدعوك إلى أن تتخلى عما طلب الله منك، انظر كل ما نهاك الله عنه فاجتنبه، واطرد من نفسك كل رغباتك وكل شهواتك، صحيح قد تزين لك نفسك الأمر الممنوع، وصحيح قد تجد للأمر الممنوع حلاوة، وقد تهش له نفسك؛ ولكن احذر.. بعد هذه الحلاوة مرارةٌ لا يمكن أن تزول، بعد هذه الحلاوة ندامة تعيش معك ما عشت، وتدخل معك قبرك عذاباً واصباً وتعاقبك في الحشر لتقذف بك في جهنم. إياك.. ما ينبغي لك أن تكون عليه، موقف الرقابة هذا؛ إن أحسنت كنت على النحو الذي أراده الله، وإن أهملت وتمنيت على الله الأماني أوردت نفسك الموارد فالله جل وعلا إذ يقول لنبيه (ولا تمنن تستكثر ولربك فاصبر) هذا في باب الكلام هين؛ ولكن في باب التطبيق أمر صعب وشاق للغاية ولا يطيقه إلا الذي قطع في التجربة مراحل طويلة، جرب اخرج الآن من المسجد مازال غبار المسجد على جبينك وعلى كفيك وعلى ركبتيك، ما زالت روائح الطاعة والعبادة في أردانك؛ ومع ذلك فعلى باب المسجد جرب إن شتمك إنسان أو أساء؛ إليك أتستطيع أن تملك نفسك إنك ربما بادرته إلى الشتيمة وما هو أكبر من الشتيمة، إذاً فماذا أفادتك العبادة؟ وما أفادك انتسابك للإسلام؟
في الأصل إن لم يكن الإسلام داعياً لك إلى أن تكفكف من غَرَبِ النفس إلى أن ترد من نوازعك السيئة والشريرة، إلى أن تأخذ نفسك بالصبر الطويل الشاق المرهق؛ فلماذا أنت مسلم؟ وإذاً فهنا ومن هذا المثل البسيط جداً.... كل شيء واقع تحت الطاقة تحت المقدور والله يقول:(/2)
(لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) وإنما شق الأمر وصعب على هؤلاء والذين تركوا أنفسهم على هواها، ولم يحاولوا أن يقوموا بأي مجهود يردهم عما هم عليه من فاسد الطبائع وسيء الأخلاق، ومستهجن السلوك، فإذاً هذا الكلام حينما نسمعه طبعاً قلنا هو موجه للنبي عليه الصلاة والسلام ولكن هو أيضاً موجه للمؤمنين عامة يجب أن نفهمه بتلك التبعات التي يستلزمها هذا الكلام، وبكل العزم والتصميم الذي يجب أن نقدمه كي نتلاءم مع هذا الأفق الرفيع العالي، الذي رفع الإسلام إليه أسلافنا الأوائل العظام الذين تتجرأ عليهم وتتطاول عليهم ألسنة السِّفْلَةِ الذين لا يساوون غبار نعال أولئك الناس.
ثم نسير لنصادف بعد ذلك قول الله تبارك وتعالى:
)فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير(.
ننظر في الصياغة وما توحيه لأن الصياغة كما قلنا دائماً عندنا هي الأساس، كل لغة لها منطق، ولغة العرب لها منطقها الخاص الذي لا يستقيم لنا فهم الكلام البليغ بغيابها، أما الناقور فهو الصور إجماعاً الذي ينفخ فيه إسرافيل عند قيام الساعة فيقوم الناس لرب العالمين، فالله جل وعلا بعد أن مضى الكلام للنبي صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى التشمير ويدعوه إلى القيام، ويدعوه إلى الإنذار، ويدعوه إلى العطاء بغير منّ وبغير قطع، وبغير استطالة على الناس، وبغير رؤية للنفس، ويدعوه إلى الصبر بلا حدود، وفي مواجهة آيات أخرى تعرض لموقف المكيين والمشركين، يأتي هذا الكلام متوسطاً بين هذين الجزأين (فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير) المؤمن المتقي حتى وهو في أقصى حالات العمل والعطاء والبذل محتاج إلى أن يُذَكَّرَ بالله، ومحتاج إلى أن يُذَكَّرَ بهول الموقف بين يدي الله تبارك وتعالى لماذا؟ لأن العمل مهما كثر ومهما عظم ومهما طالت مدة أدائه ليس هو جواز السفر الذي يدخل الإنسان الجنة، دخول الجنة تبع لرضوان الله ورضوانُ الله جل وعلا مَحْضُ التفضل، مَحْضُ العطاء من الله بلا نظر إلى العمل إطلاقاً، ولهذا فإن محمداً صلى الله تعالى عليه وآله يقول:
"لا يدخل الجنة أحد بعمله قالوا حتى أنت يا رسول الله قال حتى أنا إن لم يتغمدني الله برحمته".
فالعمل مهما يكن شأنه ووصفه، ليس هو جواز المرور إلى الجنة؛ وإنما رحمة الله هي التي توصل الإنسان إلى الجنة لأنها دليل رضوانه، والله إذا رضي على عبد لا يسخط عليه أبداً فالعبد العامل إذاً محتاج إلى التذكير بهول يوم القيامة كي لا يقصر، كي يعمل وهو على شرف الخوف من أن يرد الله عليه عمله وأن لا يتقبل منه قرباته:
)الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربِّهم راجعون(.
وقد سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وآله عن هؤلاء فقالت يا رسول الله هم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون عفواً قالت هم الذين لا ينفقون؟
قال لا يا ابنة الصديق هم الذين يقومون بالذي عليهم ويخافون أن لا يقبل الله تعالى منهم.
فإذاً الإنسان المتقي محتاج إلى هذا التذكير.
)فإذا نقر في الناقر فذلك يومئذ يوم عسير ( ثم )على الكافرين غير يسير(.
أيضاً الصنف الثاني.. الآيات التي تقص هذا المشهد محتاجون إلى أن يُذَكَّروا بهذا، محتاجون إلى أن تقرع أسماعهم، وتقرع ضمائرهم وقلوبهم بالشيء البديهي، بالشيء الذي يدركه حتى عامة الناس، هؤلاء البشر. نحن انحدرنا من أصلاب رجال أين هم؟ ضمَّهم الثرى؛ أولئك أيضاً كانوا أبناء رجال أي هم ذهبوا أمواتاً فهل من المعقول أن هذه الدنيا التي تطحن الناس جيلاً بعد جيل لا يكون لهم معاد إلى الله؟ وهل يعجز الله تعالى عن أن ينشئ الناس النشأة الأخرى؟
لا بد من موقف يصير إليه الإنسان بين يدي الديان العدل، فالكافر محتاج إلى أن يلفت نظره إلى هذه الواقعة البشرية وهي أن الناس يفنون، وأن الموت يأتي عليهم، وأن الخلود في الدنيا لا سبيل إليه، وأن الإنسان صائر إلى الرب الذي أوجده وأنشأه أول مرة، محتاجون إلى ذلك كي يتعظوا وكي يدركوا، لكن الإعجاز ليس هنا، انتبهوا إلى إعجاز الصياغة، فئتان كما قلنا: أولى الفئتين فئة المؤمنين العاملين المجدين، والفئة الثانية فئة الكافرين الضالين المكذبين. كيف وُزِّع، وكما قلت في أول الحديث، الكلامُ عند الذي -يحسن الكلام والله جل وعلا هو الذي أتقن كل شيء- له هندسة خاصة لو وزع على توزيع مغاير، لفسد الكلام والمعنى جميعاً، عندنا فئتان أولاهما: مؤمنة وثانيتهما جاحدة ومكذبة كيف وزعت هاتان الآيتان عليهما قال:
)فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير(.(/3)
يوم عسير ويوم غير يسير؛ ظاهر الأمر لمن لا يحسن ذوق الكلام، ولمن لا يقرأ ما وراء الكلام، يشعر أن هنا تطابقاً بالمعنيين؛ يوم عسير ويوم غير يسير، هذا يساوي هذا لكن فكروا أكثر؛ إن الله حين يقول: فذلك يومئذ يوم عسير، يصف ماذا يصف اليوم؛ فاليوم بذاته عسير دون ريب ما في ذلك إشكال. لكن اليوم شيء والذين يقفون بين يدي الله في ذلك اليوم شيء آخر، فذلك اليوم بذاته يوم عسير؛ ولكنه قد يكون يسيراً على من يسره الله تعالى عليه دون أن تنتقص هذه الصفة التي وصف بها اليوم فهو عسير ولكن عسره لا يمنع أن الله قد يلطف ببعض الناس ذلك اليوم فإذا هذا اليوم عليهم برد وسلام، وإذا هم لا يشعرون بشيء من عسر هذا اليوم بإطلاق.
لكن الجملة الثانية على الكافرين غير يسير، العسر: لا يعود موصوفاً به اليوم وإنما يوصف به حال الناس الكافرين، فبالنسبة للكافرين هو غير يسير، يعني أنه عسير على الكافرين مطلقاً؛ لا يمكن أن يخفف عليهم ولا يمكن أن يكون يسيراً عليهم في حال من الأحوال، هذا معنى الكلام حينما نحاول أن نتعمق به بعض الشيء؛ إعجاز الصياغة هنا حينما نتحدث عن هذا الأسلوب متعرفين على طريقة التوزيع؛ قلنا إن الفئة الأولى هي الفئة المؤمنة، والفئة الثانية هي الفئة الكافرة بالنسبة للفئة المؤمنة كان التوزيع يقضي بأن تكون الجملة المشعرة بأن اليوم عسير، ولكن احتمال تيسيره على المؤمنين وارد، كانت على أثر الحديث عن المؤمنين، ولكن الجملة الثانية التي وصفت اليوم بأنه عسير حتماً على الكافرين، كانت عند افتتاح الحديث عن الفئة الثانية الفئة المكذبة الضالة؛ فإعجاز الأداء إعجاز الصياغة إعجاز القرآن لا يتركز فقط بالمعاني العظيمة التي يبرزها هذا القرآن وإنما يتركز كذلك ويتجلى في هذا التوزيع المعجز الذي يضع كل كلمة كل جملة في المكان الذي يناسبه، في المكان الذي لو أخلي منه لما أدى الكلام المعنى المراد منه بحال من الأحوال، بعد أن ينتهي الأمر عند هذا الحد يأتي مجال الكلام عن هذا الذي خلقه الله وحيداً.
أنا لا أريد أن أسترسل في الحديث أكثر مما استرسلت وإن كنت في كل الذي قلت أهدف إلى ناحية واحدة هي أن ألقي الأضواء على النهج الذي يجعل قراءة القرآن أكثر إفادة وأكثر إنتاجاً وأكثر عطاءً لكني في الجمعة الماضية تحدثت إليكم عن الجو العام الذي وجد في مكة بعد عدة مراحل قطعتها الدعوة، أن المشركين اشمأزوا وجلسوا فيما بينهم يتشاورون في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ويتشاورون فيما هو أدهى عليهم، يتشاورون في أمر القرآن فهذا القرآن جاءهم بما لا قبل لهم به، بما لا يستطيعون له معارضة وبما لا يستطيعون دفعاً لتأثيره، وما يحدثه في النفوس، فانتهى الملأ منهم إلى أن يقولوا كلهم للوافدين عليهم من الخارج من خارج مكة في المواسم والمناسبات: احذروا محمداً (صلى الله عليه وسلم) لا تجلسوا إليه ولا تسمعوا له فإنه جاء بسحرٍ يتبع فيه أثر غيره، ويأثره أي ينقله عن غيره.
عند من حصل الاجتماع؟ عندنا روايتان؛ رواية تقول: إن المشركين جلسوا كعادتهم في دار الندوة ودار الندوة دار تجتمع بها قريش لبحث الملمات والأمور العظيمة، ورواية أخرى تقول إن المشركين أي أشرافهم سعوا إلى الوليد بن المغيرة وهو من أشراف قريش وزعمائها وأثريائها فاجتمعوا عنده.. ما يهمنا هنا توطئة للأسبوع القادم إن أحيانا الله تعالى أن أذكر لكم شيئاً بسيطاً عن الوليد بن المغيرة. الوليد بن المغيرة من سادات قريش ومن أشرافهم ومن أثريائهم ومن ذوي الكلمة المسموعة فيهم وبالنسبة لمقاييس الجاهلية فالوليد زعيم كبير من الزعماء العظام للجاهلية مقاييسها ووصفاً لمقاييسها يجب أن لا نظلم الرجل، إن الرجل تعرض في القرآن لتشنيع كبير يستحقه بكل تأكيد، ولكن نحن نريد أن نتعرف على الجو نريد أن نتعرف على الحالة التي نزلت فيها الآيات إن حذفنا شيئاً من دلالة الواقع الذي كان موجوداً في ذلك الزمان؛ فنحن لا نستطيع أن نفهم شيئاً كان الوليد في الجاهلية يسمى الوحيد؛ وهنا في القرآن يقول الله تعالى: (ذرني ومن خلقت وحيداً). وأحذر من الخلط بين المعنى أو الوصف الذي كان يوصف به الوليد في الجاهلية وبين المعنى الذي وصف به الوليد في هذا المكان، هذا شيء وذاك شيء آخر، كان الوليد يسمى الوحيد لأنه لا نظير له ولا عدل له ولا مثيل له بين العرب الجاهليين من أبناء قومه وأبناء جيله.
كانت قريش كلها تجتمع لتكسو الكعبة سنة وكان الوليد وحده يكسو الكعبة من ماله في السنة التي تليها فالوليد إذاً يساوي من حيث المناقب الجاهلية كل زعماء قريش فإذاً هذا الرجل له منزلته وله اعتباره، منزلته واعتباره جاءاه من أشياء في نفسه وفي شخصيته ترشحه لذلك.. القرآن نفسه.. الآيات هذه أعطتنا بعض الأضواء التي نستطيع أن نستدل بها على أن الوليد كان طرازاً خاصاً من المشركين: يروى أن الوليد جاء إلى محمد صلى الله عليه وسلم فقال:(/4)
"له يا ابن أخي إنك أتيت قومك بداهية، فرقت جموعهم وعبت آلهتهم وشتمت آباءهم وضللتهم وأكفرتهم".
فقال له: أي عم أتريد أن تسمع؟
قال نعم.
فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يتلو عليه القرآن والقرآن كما قلنا لمجرد أن يسمعه الإنسان الذي يتمتع بالفطرة المستقيمة لا يمكن إلا أن يتأثر به، كان النبي يقرأ وكانت تعابير وجه الوليد تتغير كان القرآن يعمل في نفسه حتى إذا سكت النبي صلى الله عليه وسلم انصرف الوليد من عنده لم يعلق بأي كلام، انصرف وأقبل على مجالس قومه، وهم يتجمهرون حول الكعبة نظر الناظرون إلى الوليد إن الوليد. ذهب بوجه وعاد إليهم بوجه آخر؛ ها هو ذا مهموم تظهر عليه علائم التفكير يسحب قدميه سحباً كأنما ينوء تحت ثقلٍ مفضح. قالوا: والله لقد جاءكم الوليد بغير الوجه الذي ذهب به.
قال أبو جهل: أنا أكفيكموه.
قام إليه استلقاه من بعيد قال له:
- يا عم سمعت أن قومك يتشاورون ليجمعوا لك مالاً.
قال: لمَ..؟ ألستُ أكثر أهل هذا الوادي مالاً.
قال: سمعوا أنك ذهبت إلى محمد تتعرض لما عنده تريد أن تستفيد من ماله، وأن تأكل من طعامه.
قال له: يا أبا الحكم إن قريشاً لتعلم أنني من أكثرها مالاً إنني والله ما ذهبت لهذا والله لقد سمعت من محمد كلاماً؛ والله ما يشبه كلام البشر إنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته، ولقد وضعته على أعاريض الشعر فوالله ما استقام لها، ولقد قلت إنه الكهانة، فلا والله ما هو بزمزمة الكهان ولقد قلت وقلت فما استقام لي شيء من ذلك والله إنه ليقول كلاماً إن أعلاه لجنان وإن أسفله لمغدق.
يعني أنه كلام يتفجر حيوية.
وحكمة قال فذلك ما أقول لك.
الوليد جاهلي ما شم رائحة الإسلام، ولا عرف كيف يأخذ نفسه بالمناهج التي تحطم الغرائز الشريرة في النفس، حمي أنفه وقال: أقالوها؟
قال: نعم.
قال: فإن الذي يقول محمد سحر.
قال لا يرضى قومك حتى تحدثهم بهذا.
فجاء إلى ناديهم فقال:
(إنْ هذا إلا سحر يؤثر).
متى قال هذا؟ قاله بعد أن قال ما هذا قول البشر.
الانطباعة الأولى في شخصية الوليد التي تملك بعض الاستعداد لأن تكتشف الحقيقة، ولأن تأخذ بالحقيقة جعلته يقول: ما هذا قول البشر. الكلام الذي يتلوه محمد ليس مما يقوله الناس، ولكنه خضع أخيراً بدسيسة أبي جهل، وفراراً من أن تعيره قريش في مجتمع يفر فيه الإنسان من العار خوفاً من أن تعيره قريش بأنه يذهب ليأكل من طعام محمد؛ أردف بأن قال: إنْ هذا إلا سحر يؤثر.
فنحن إذاً إن أخذنا هذا الكلام الذي شرح أمر الوليد وفضح الوليد وأوجب له النار وتوعده وهدده، نجد حتى في ثنايا هذا ، ما يدل على أن الوليد أخذ وصف الوحيد في الجاهلية عن جدارة وعن استحقاق؛ وفقاً للمقاييس الجاهلية، ذلك لأنه كان يتمتع بشخصية لها جوانب من جوانب الامتياز مع هذا فأحسب أنني عند هذا الحد سوف أقف لأضم هذا الذي قلته الآن إلى ما قلته في الأسبوع الماضي ولأهيل الجو للتعرف على دلالة الآيات التي حكت هذا الشأن سوف أضيف لكم في الأسبوع القادم بعض الحوادث التي تساعدكم على التعرف تماماً على خطورة أحوالنا؛ شيء عن الإنذار، وكما قلت لكم من قبل: هذه السورة تؤرخ فاتحة الإنذار أول ما قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم جاهراً بالدعوة موجهاً إياها إلى المشركين علينا في هذه الحالة أن نحاول التعرف بدقة تامة على كل ردود الفعل التي حصلت في المجتمع المكي لنتعرف بعد ذلك على المواقف التي اتخذها المسلمون كي يحولوا دون استشراء مواقف المشركين ودون تعويق المشركين، إياهم عن المضي في مسيرتهم وفي طريقتهم وقبل ذلك إن شاء الله تعالى.(/5)
سنحاول أن نقرأ النص قراءة جديدة.. نريد أن نقرأ النص حتى نتعود على قراءة النصوص قراءة يقصد منها الفهم؛ هذا واحد والثاني؛ لأن النص حين نقرأه القراءة المستقيمة سيكشف لنا كثيراً من وجوه الجو الذي كان سائداً في ذلك الحين وسوف نستعين الله تبارك وتعالى على ذلك واستعينوه أنتم أيضاً فأنا أعلم أن هذا شيء صعب كما قلت لكم، ولكن يجب أن نتعود أن ندخل دائماً من الباب الضيق فبئس الرجل الذي يدور ويفتش عن الأمور السهلة، بئس الرجل الذي لا يريد من الحياة إلا الطمأنينة والدعة والرخاء، بئس الرجل الذي يلغي الجهد والمشقة والمتاعب، نحن نعيش اليوم دنيا كل ما فيها يموج ويتحرك وكل هذا الذي يموج ويتحرك يموج ويتحرك ضدنا افهموا أيها المسلمون يموج ويتحرك ضدنا لا نستطيع أن نجد لا في شرق الأرض لا في غرب الأرض ولا في مواطن المسلمين من الدجاجلة والمضلين والمفسدين من يرضى عن الفهم المستقيم للإسلام، فعلينا إن أردنا أن تستقيم أمورنا وأن نخرج من هذه المحنة التي طالت واستطالت جداً علينا أن نعود أنفسنا على المواقف الصعبة ما لم نقف هذه المواقف فلن نستفيد شيئاً أقل شيء، أهون الأمور أضعف الإيمان، أن نتعود تحمل المشقة في الفهم والإفهام أما العمل فالله تعالى هو المعين وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.(/6)
ذروة السنام يا أمة الإسلام
عبدالحكيم بن علي السويد
دار الوطن
الحمد لله القائل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الصف:10-11]، وصلى الله وسلم على نبينا محمد القائل: { جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم } [رواه أحمد والنسائي وصححه الحاكم]. أما بعد:
فإن من الخصائص العظيمة التي امتن بها الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة وميزها عن بقية الأمم أن شرع لها الجهاد وجعل ما يحصل بسببه من الأجر والمثوبة الشيء العظيم، تلك هي الفريضة التي جعلت للمسلمين الأوائل العزة والتمكين في الأرض، ومن ثم السيادة على باقي الأمم، وقد علم أولئك فضل الجهاد فعملوا به على الوجه المطلوب الذي أراده الله ورسمه رسوله ، ولهذا لم يكن جهادهم وكفاحهم لتحقيق أهداف شخصية، أو أطماع دنيوية زائلة، أو حباً للتملك والرياسة، وإنما كان الغرض من هذا كله إعلاء الحق وجعل كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى، ومن إعلاء كلمة الله تطبيق شرعه الذي أمر به، وتعبيد الناس لله، وإعمار الأرض بما يرضيه سبحانه، وإرهاب أعداء الله، وزرع المهابة في قلوبهم كما قال تعالى: وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال:60].
(ولما كان الجهاد ذروة الإسلام، ومنازل أهله أعلى المنازل في الجنة، كما لهم الرفعة في الدنيا، كان رسول الله في الذروة العليا منه، فاستولى على أنواعه كلها، فجاهد في الله حق جهاده بالقلب والجنان والدعوة والبيان، والسيف والسنان، فكانت ساعاته موقوفة على الجهاد، ولهذا كان أعظم العالمين عند الله قدراً) [مختصر زاد المعاد].
وكذلك كان جيل الصحابة رضوان الله عليهم أفضل الأجيال، وقد قال أبو بكر الصديق في أول خطبة له بعد توليه الخلافة: (لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل) [البداية والنهابة(415/9)]. ومن ثم جيل التابعين؛ لأنهم باعوا أنفسهم في سوق الجنة لخالقها، وحملوها على راحاتهم وسيوفهم بأيمانهم.
قال الشاعر:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا *** جمعتنا يا جرير المجامع
فضل المرابطة في سبيل الله
قال شيخ اللإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (ج28): والمرابطة في سبيل الله أفضل من المجاورة بمكة والمدينة وبيت المقدس، حتى قال أبو هريرة رضي الله عنه: لأن أرابط في سبيل الله أحب إلي من أن أوافق ليلة القدر عند الحجر الأسود، وقال رسول الله : { رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل } [رواه أهل السنن وصححوه]، وفي صحيح مسلم عن سلمان، أن النبي قال: { رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه، ومن مات مرابطاً أجري عليه عمله، وأجري عليه رزقه في الجنة، وأمن الفتان } يعني منكراً ونكيراً. فهذا في الرباط فكيف في الجهاد؟ وقال رسول الله : { لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في وجه عبداً أبداً } وقال: { من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمها الله على النار } فهذا في الغبار الذي يصيب الوجه والرجل. فكيف بما هو أشق من: كالثلج، والبرد، والوحل.
فضل الجهاد في سبيل الله
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (ج28): اعلموا أن الجهاد فيه خير الدنيا والآخرة، وفي تركه خسارة الدنيا والآخرة، قال الله تعالى في كتابه: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ [التوبة:52] يعني: إما النصر والظفر، وإما الشهادة والجنة، فمن عاش من المجاهدين كان كريماً له ثواب الدنيا، وحسن ثواب الآخرة. ومن مات منهم أو قتل فإلى الجنة. قال : { يعطى الشهيد ست خصال: يغفر له بأول قطرة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويكسى حلة من الإيمان، ويزوج ثنتين وسبعين من الحور العين، ويوقى فتنة القبر، ويؤمن من الفزع الأكبر } [رواه أهل السنن]، وقال : { إن في الجنة لمائة درجة، ما بين الدرجة والدرجة ما بين السماء والأرض، أعدها الله سبحانه وتعالى للمجاهدين في سبيله }، فهذا ارتفاع خمسين ألف سنة في الجنة لأهل الجهاد. وقال : { مثل المجاهد في سبيل الله مثل الصائم القائم القانت، الذي لا يفتر من صلاة ولا صيام }، وقال رجل: { أخبرني بعمل يعدل الجهاد في سبيل الله؟ قال: "لا تستطيعه". قال: أخبرني؟ قال: "هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تصوم ولا تفطر وتقوم ولا تفتر؟". قال: لا. قال: "فذلك الذي يعدل الجهاد في سبيل الله" }. وهذه الأحاديث في الصحيحين وغيرهما.
وكذلك اتفق العلماء - فيما أعلم - على أنه ليس في التطوعات أفضل من الجهاد. فهو أفضل من الحج، وأفضل من صوم التطوع، وأفضل من صلاة التطوع. انتهى.
أنوع الجهاد(/1)
قال ابن القيم رحمة الله في مختصر زاد المعاد: الجهاد على أربع مراتب:
الأولى: جهاد النفس. وهو أيضاً أربع مراتب:
أحدهما: أن يجاهدها على تعلم الهدى.
الثانية: على العمل به بعد علمه.
الثالثة: على الدعوة إليه، وإلا كان ممن يكتمون ما أنزل الله.
الرابعة: على الصبر على مشاق الدعوة، ويتحمل ذلك كله لله، فإذا استكمل هذه الأربع صار من الربانيين، فإن السلف مجمعون على أن العالم لا يكون ربانياً حتى يعرف الحق ويعمل به ويعلمه.
المرتبة الثانية: جهاد الشيطان. وهو مرتبتان:
أحدهما: جهاده على ما يلقي من الشبهات.
الثانية: على دفع ما يلقي من الشهوات، فالأولى بعدة اليقين، والثانية بعدة الصبر، قال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24].
المرتبة الثالثة: جهاد الكفار والمنافقين. وهو أربع مراتب:
أحدهما: القلب. الثانية: اللسان. الثالثة: المال. الرابعة: النفس.
وجهاد الكفار أخص باليد، وجهاد المنافقين أخص باللسان.
المرتبة الرابعة: جهاد أرباب الظلم والمنكرات والبدع. وهو ثلاث مراتب:
أحدهما: باليد إذا قدر.
الثانية: باللسان إذا عجز عن اليد.
الثالثة: بالقلب إذا عجز عن اللسان.
فهذه ثلاث عشر مرتبة من الجهاد و { من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه به مات على شعبة من نفاق } [رواه مسلم].
هديه في الجهاد
(كان النبي يستحب القتال أول النهار، فإذا لم يقاتل أول النهار، أخر القتال حتى تزول الشمس، وتهب الريح وينزل النصر، وكان يبايع أصحابه في الحرب على أن لا يفروا، وكان يشاور أصحابه في الجهاد، ولقاء العدو، وتخير المنازل، وكان يتخلف في ساقتهم في المسير، فيجزي الضعيف، ويروف المنقطع، وكان أرفق الناس بهم في المسير، وإذا أراد غزوة ورى بغيرها، ويقول : { الحرب خدعة } وكان يبعث العيون يأتونه بخبر عدوه، ويطلع الطلائع ويبث الحرس، وإذا لقي عدوه، وقف ودعا واستنصر الله، وأكثر هو وأصحابه من ذكر الله، وخفضوا أصواتهم.
وكان يرتب الجيش والمقاتلة. ويجعل في كل كنبة كفئاً لها، وكان يبارز بين يديه بأمره، وكان يلبس للحرب عدته، وربما ظاهر بين درعين، وكان له ألوية، وكان إذا ظهر على قوم نزل بعرصتهم ثلاثاً، ثم قفل.
وكان يرتب الصفوف. ويبعث للقتال بيده ويقول: { تقدم يا فلان، تأخر يا فلان } وكان يستحب للرجل أن يقاتل تحت راية قومه، وكان إذا لقي العدو يقول: { اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم، وانصرنا عليهم } وربما قال: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ، بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ [القمر:45-46].
وكان أقربهم إلى العدو. وكان يجعل لأصحابه شعاراً في الحرب يعرفون به، وكان شعارهم مرة: أمت أمت، ومرة: يا منصور.
وكان يلبس الدرع والخوذة. ويتقلد السيف، ويحمل الرمح والقوس العربية ويتترس بالترس، ويحب الخيلاء في الحرب، وقال: { إن منها ما يحب الله، ومنها ما يبغض الله، فأما التي يحب الله، فاختيال الرجل بنفسه عند اللقاء، واختياله عند الصدقة، وأما التي يبغض الله عز وجل، فاختياله في البغي والفجور } وقاتل مرة بالمنجنيق، نصبه على أهل الطائف، وكان ينهى عن قتل النساء والولدان، وينظر في المقاتلة، فمن رآه أنبت قتله، وإلا أستحياه.
وكان إذا بعث سرية يوصيهم بتقوى الله. ويقول: { سيروا بسم الله وفي سبيل الله، ولا تمثلوا، ولا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تقتلوا وليداً } وكان ينهى عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو، ويأمر أمير سريته أن يدعو عدوه قبل القتال إلى الاسلام والهجرة، أو الاسلام دون الهجرة، ويكونون كأعراب المسلمين ليس لهم نصيب في الفيء، أو بذل الجزية، فإن هم أجابوا إليه قبل منهم، وإلا استعان بالله وقاتلهم.
وكان يشدد في الغلول جداً ويقول: { عار ونار وشنار على أهله يوم القيامة }، ولما أصيب غلامه مدعم، قال بعض الصحابة: هنيئاً له الجنة. فقال: { كلا والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من الغنائم لم تصبها المقاسم، لتشتعل عليه ناراً } فجاء رجل بشراك أو شراكين لما سمع ذلك فقال: "شراك أو شراكان من نار") [مختصر زاد المعاد].
دور المرأة في الجهاد
لقد كان للمرأة في عهد النبي وعهد الخلفاء الراشدين مواقف بطولية توحي إلى قوة إيمان أولئك النسوة وحرصهن - رضوان الله عليهم - على نصرة هذا الدين والذب عنه بكل ما يستطعن من قوة.(/2)
فكان من الأدوار التي قامت بها المرأة في الجهاد المشاركة الفعلية في القتال إذا استلزم الأمر لذلك، وهذا يتبين في شجاعة أم سليم يوم حنين حيث اتخذت خنجراً، وعندما سألها رسول الله : { ما هذا الخنجر؟ } فقالت: اتخذته إن دنا مني أحد المشركين بقرت به بطنه، فجعل رسول الله يضحك. [صحيح السيرة النبوية، إبراهيم العلي (446)]. وهذه أم عمارة قاتلت يوم أحد فاعترضت لابن قمئة في أناس من المسلمين، فضرب ابن قمئة عاتقها ضربة تركت جرحاً أجوف، وضربت هي ابن قمئة عدة ضربات بسيفها، ولكن كان عليه درعان فنجا، وبقيت أم عمارة حتى أصابها اثنا عشر جرحاً. [الرحيق المختوم، للمباركفوري (319)].
وكذلك تقوم المرأة بتطبيب الجرحى المشاركين في القتال، كما فعلت أم سليط، فقد قال عنها عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كانت تزفر لنا القرب يوم أحد. [صحيح السيرة النبوية (446)]. وغيرهن كثير.
ومنهن من تشارك بطريق غير مباشر بتحريض ودفع فلذة كبدها للجهاد، كما فعلت الخنساء عندما دفعت بأبنائها الأربعة للجهاد، وقد قتلوا جميعاً.
والمرأة في زماننا هذا عليها مسئولية جسيمة وأمانة عظيمة يجب أن تتحملها، فهي مطالبة بأنواع من الجهاد كتربية أبنائها التربية المستقيمة المتمثلة في حب الشهادة في سبيل الله، فابنها أمل المستقبل، وعندما يكبر سيكون - بإذن الله - حجر عثرة في طريق أعداء الأمة الذين يتربصون بها الدوائر. وتربية بناتها على حب الفضيلة والعفة والحياء.
وكذلك من جهاد المرأة: طاعتها لزوجها والقيام بما يصلح له أمر دينه ودنياه.
ومن جهادها: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حدود ما تستطيع، وبذل النصح والتوجيه لأخواتها المسلمات واللاتي هن في أمس الحاجة لمن يفقههن ويعلمهن ما ينفعهن.
وأيضاً جهادها بالقلم والرد على أصحاب الدعوات المضللة الذين يطالبون بخروج المرأة وتحررها من جميع القيم الدينية والأخلاقية الإسلامية الفاضلة، ويطالبونها بالتنكر على فطرتها التي فطرها الله عليها، ونزع حيائها الذي يميزها عن سائر نساء العالم، حتى تسقط المرأة المسلمة الطاهرة في شباكهم من خلال شعاراتهم البراقة التي ظاهرها النصح والتعاطف معها والأخذ بيدها والرفع من شأنها ومكانتها زعموا، ولا شك أن أصحاب هذه الدعوات ذئاب تتلبس بمسوح النعاج، فيلزم جهادهم. وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(/3)
ذكر الله تعالى ...وجيل النصر المنشود
الحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ?يا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجَالاً كَثِيراً وَنِساءً، واتَّقُوا اللَّهَ الذي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً?[ النساء:1]. ?يا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وأَنْتُمْ مُسْلِمُون? [آل عمران:102]. ? يا أيُّهَا الَّذين آمَنوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمالَكُمْ، ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً? [الأحزاب:71].
من أسباب سوء الخاتمة العدول عن الاستقامة والانحراف عنها: قيل لأحد علماء السلف الصالح فلان عرف طريق الله ثم رجع عنه ، فقال لو وصلوا إليه ما رجعوا.
فمن عرف طريق ملك الملوك وجبار السماوات والأرض ثم أعرض عنه وتنكبه، واختار طرق الغواية والضلال، وآثر الغي على الرشاد، والضلالة على الهدى، والفجور على التقى، كان ذلك من أعظم أسباب سوء الخاتمة، وقد "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله من وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب ومن الحور بعد الكور() .
قال الله عز وجل فيمن عرفوا ثم أنكروا ، وآمنوا ثم كفروا ? َفلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ?[الصف: 5] قال الإمام ابن كثير كان رجل من بني عنفوة قد وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ البقرة وجاء زمن الردة إلى أبي بكر فبعثه إلى اليمامة يدعوهم إلى الإسلام ويثبتهم على الإسلام فارتد مع مسيلمة وشهد له بالنبوة ، وكان يقول: كبشان انتطحا فأحبهما إلينا كبشنا يعني مسيلمة ورسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولقد قتل هذا الكذاب الأشر في يوم اليمامة ، قتله زيد بن الخطاب وختم له بالسوء.
وما أكثر هؤلاء المترددين الزائغين المتنكبين عن صراط الله من الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم ممن يتظاهرون ويظهرون أمام الناظرين على غير حقيقتهم. يلبسون أردية الدين والإيمان ويتدثرون به وهم له كارهون. فيأبى الله إلا أن يكشف زيفهم ويظهرهم على حقيقتهم في الحياة الدنيا قبل يوم القيامة يوم تبلى السرائر وتكشف الضمائر ويحصل ما في الصدور.(/1)
ولقد ضرب الله لنا نموذجاً لهؤلاء الناكثين الناكصين بقصة رجل آتاه الله آياته، وأسبغ عليه فضله ووهب له علماً، ومنحه الفرصة كاملة للهدى والارتقاء والاتصال بخالق الأرض والسماء.. ولكنه مع ذلك آثر ما يفنى على ما يبقى وهبط من سموه وارتفاعه إلى الأوحال والطين. تأمل في قوله سبحانه وتعالى وهو يأمر رسول الله محمداً صلى الله عليه وسلم بتلاوة ذلك النموذج بقوله الكريم: ? وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ ?[الأعراف:175-177] فقد شبه سبحانه من آتاه كتابه ، وعلمه العلم الذي منع منه غيره ، فترك العمل واتبع هواه، وآثر سخط الله على رضاه، ودنياه على آخرته والمخلوق على الخالق، بالكلب الذي هو من أفسد الحيوانات، وأوضعها قدراً، وأخسها نفساً. وهمته لا تتعدى بطنه. وأشدها شرهاً وحرصاً، ومن حرصه أن لا يمشي إلا وأنفه في الأرض يتشمم ويستروح حرصاً وشرهاً ولا يزال يشم دبره دون سائر أجزاء جسمه. وهو من أمهن الحيوانات وأحملها للهوان، وأرضاها بالدنايا، والجيف القذرة أحب إليه من اللحم، والعذرة أحب إليه من الحلوى. وإذا ظفر بميتة تكفي مئة كلب لم يدع كلباً يتناول معه منها شيئاً إلا نبح عليه وقهره لحرصه وبخله وشرهه ومن عجيب أمره وحرصه: أنه إذا رأى فقيراً ذا هيئة رثة وثياب دنيئة، وحال مزرية، نبحه وحمل عليه ، كأنه يتصور مشاركته له ومنازعته في قوته، وإذا رأى إنساناً ذا هيئة حسنة وثياب جميلة ورياسة، وضع له خطمه بالأرض، وخضع له ولم يرفع إليه رأسه وفي تشبيه من آثر الدنيا وعاجلها على الله والدار الآخرة مع وفور علمه ومعرفته، بالكلب الذي هو في حال لهثان دائم سواء حملت عليه بالرجم والطرد أو تركته فاللهث لا يفارقه يلهث قائماً وقاعداً وماشياً وواقفاً، آيات وعبر يبينها الله لنا وما يعقلها إلا العالمون.
فالذي تجرد عن الهدى وانسلخ من الإيمان والتقى شبيه بالكلب ، قال الحسن: هو المنافق لا يثبت على الحق، دُعِيَ أو لم يُدْعَ ، وُعِظ أولم يوعظ، كالكلب يلهث طرداً وتركاً.
وفي هذا المثل الذي ضربه الله لنا في كتابه حكم ودروس ذكرها العلماء رحمهم الله.
منها: قوله سبحانه? آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا ? فالعلم هو محض فضل الله على الإنسان وهو نعمة أنعم الله بها عليه لكنه لم يشكر الله ويعرف قدر النعمة قال تعالى: ? فَانسَلَخَ مِنْهَا ? أي خرج منها، انسلخ كما تنسلخ الحية من جلدها ولم يقل فسلخناه منها لأنه هو المتسبب لذلك الانسلاخ باتباع هواه وشهواته لدناءته وحقارته.
ومنها قوله سبحانه: ? فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ ? يعني أدركه ولحقه. وكان محفوظاً محروساً بآيات الله محمي الجانب بها من الشيطان لا ينال منه شيئاً إلا على غرة وخطفة، فلما انسلخ من آيات الله ظفر به الشيطان كما يظفر الأسد بفريسته ? فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ? العاملين بخلاف علمهم، الذين يعرفون الحق ويعملون بخلافه كعلماء السوء.
ومنها قوله تعالى: ? وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ? فأخبر أن الرفعة عنده ليست بمجرد العلم. فإن هذا الذي ضرب به المثل كان أعلم أهل زمانه ولم يرفعه الله بعلمه ولم ينفعه بها، ونعوذ بالله من علم لا ينفع. وإنما الرفعة عند الله تحصل باتباع الحق وإيثاره وقصد مرضاة الله.
? وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ? ركن إلى الدنيا ولصق بها واتبع سفاسف الأمور ومسافلها ، وترك معاليها ولقد ختمت الآية بقوله عز وجل: ? سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ ? [الأعراف:177].
وهل أسوأ من هذا المثل مثلاً؟ وهل هناك أسوأ من الانسلاخ والتعري من الهدى، وهل هناك أسوأ من اللصوق بالأرض واتباع الهوى؟ وهل يظلم الإنسان نفسه كما يظلمها من يصنع بها هكذا؟ من يعريها ويجردها الغطاء الواقي والدرع الحامي ، ويدعها غرضاً للشيطان يلازمها ويركبها ، ويهبط بها إلى عالم الحيوان، الهابط اللاصق بالأرض الحائر القلق اللاهث وراء الدنيا لهاث الكلب أبداً.
ما أكثر الذين يعطون علم دين الله ثم لا يهتدون به ولا يرفعون به رأساً، وإنما يتخذون ذلك وسيلة لتحريف الكلم عن مواضعه. واتباع الهوى به كم رأينا وسمعنا من عالم يعلم حقيقة دين الله وحكمه ثم يزيغ عنها ويحرفها ويعلن خلافها.. ويضلل الأمة لهثاً وراء منصب زائف أو مال زائل.(/2)
كم الذين يتنازلون ويرتدون عن دينهم وإيمانهم وقيمهم وأخلاقهم ممن يلهثون وراء الحطام ويسقطون في المستنقع الآسن ثم لا يتوبون. ولا هم يذكرون، فيخرجون من الحياة خائبين خاسرين. قد ختم لهم بسوء وعادوا إلى سوء المنقلب وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
اللهم اعصمنا وثبت أقدامنا وأفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين. واجعل خير أعمارنا أواخرها وخير أعمالنا خواتيمها وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا يا رب العالمين.
الخطبة الثانية:
جعل الله الطريق إلى النصر والعزة هو طريق الجهاد والقتال والاستشهاد نطقت بذلك الآيات المحكمات والأحاديث الصحاح التي لن يستطيع الجبناء من البشر أن يخفوها أو يلغوها مهما فعلوا، ومهما سلكوا من أساليب ورسموا من خطط لإذلال الأمة واستعبادها والحيلولة بينها وبين مصدر قوتها وعزتها والمتمثلة في الإيمان والجهاد، قال الله عز وجل في بيان ذلك: ? كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ?[البقرة:216] ويقول سبحانه حاثاً عباده المؤمنين على الحيطة والحذر داعياً لهم للاستنفار واليقظة:? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعاً وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيداً وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً?[النساء:71-76].
وأمر الله نبيه بالقتال وتحريض المؤمنين على القتال فقال له: ? فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً ?[النساء: 84].
?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ?[المائدة: 54].
? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ?[الأنفال:15-18].
? قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ?[التوبة: 29].(/3)
? فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ?[محمد:4-8].
? انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ?[التوبة:41].
وآيات الجهاد في كتاب الله كثيرة، أما الأحاديث التي وردت في فضل الجهاد والقتال والرباط والشهادة فكثيرة جداً أكتف بذكر ثلاثة منها.
روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وهو بحضرة العدو يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف"() فقام رجل رث الهيئة فقال: يا أبا موسى أأنت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا؟ قال : نعم، فرجع إلى أصحابه، فقال: أقرأ عليكم السلام، ثم كسر جفن سيفه فألقاه، ثم مشى بسيفه إلى العدو فضرب به حتى قتل" وهذا الفعل يشبه ما يسمى اليوم بـ (العمليات الاستشهادية)
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة مئة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض"()
وفي الصحيحين عن زيد بن خالد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا ، ومن خلف غازياً في أهله بخير فقد غزا"()
أيها الإخوة المؤمنون: ها هي الفرصة متاحة للتجارة مع الله في الأرض المباركة أرض النبوات والرسالات، أرض الرباط والجهاد، فها هم إخوانكم يسطرون أروع الملاحم في النكاية بالعدو اليهودي المتغطرس الذي أخذ على عاتقه القيام بدور إخضاع هذه الأمة وتدميرها وإذلالها نيابة عن كل قوى الحقد والاستكبار التي تدعمه وتقف خلفه.
إن إخوانكم في فلسطين بالأمس قاموا بعملية بطولية في عمق فلسطين التي يحتلها اليهود المغتصبون فأثلجت صدور المؤمنين وأفزعت الكافرين. إن اليهود يريدون أن يقتلوا المسلمين ولا يريدون أن يُقتلوا؟ فظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب.
وإن إخوانكم في أشد الحاجة إلى الوقوف بجوارهم ودعمهم بالمال والسلاح ورعاية أسر الشهداء ومدهم بكل ما نستطيع فعله.. إنهم يقومون بالواجب المناط على رقابنا فلا يجوز أن نخذلهم أو نكتفي بمواقف الحكام الذين هم جزء من الهزيمة فالكثير منهم عملاء ينفذون خطط أعداء الله الرامية إلى إضعاف الأمة وتدمير مقوماتها.. ولكن الله لهم بالمرصاد ولن يفلتوا من قبضته أبداً.
إنني أراقب في الأفق ملامح العزة والنصر وملامح الملاحم والبطولات التي سيسطرها قوم يحبهم الله ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله.. لا يجبنون ولا يخافون قد غدت لديهم المناعة ضد الجبن والخوف والهلع والخور والاستكانة.
إن جيل النصر قادم بإذن الله وها هي طلائعه تخط طريقها وتتشوق إلى الجنة إنهم من فئة الشباب الذين تتراوح أعمارهم ما بين العشرين إلى الثلاثين ولدوا في رحم الهزائم والنكسات ولكن قدر الله غالب وجنده هم المنصورون في نهاية المطاف.
راجعه/ عبد الحميد أحمد مرشد.
صحيح مسلم: باب ما يقول إذا ركب إلى سفر الحج وغيره: الحديث رقم: (1342) .
صحيح مسلم: كتاب الإمارة: باب ثبوت الجنة للشهيد:الحديث رقم: (1902) وسنن الترمذي: أبواب فضائل الجهاد عن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وسَلَّم: الحديث رقم: (1710) .
صحيح البخاري: كتاب الجهاد والسير:باب: درجات المجاهدين في سبيل الله: الحديث رقم: (2637) .
صحيح البخاري: كتاب الجهاد والسير: باب: فضل من جهز غازيا أو خلفه بخير: في الحديث رقم: (2688) ، وصحيح مسلم في الإمارة، باب: فضل إعانة الغازي في سبيل الله..، رقم: (1895) .(/4)
ذكر الله - فضله وفوائده
ابن القيم الجوزي
دار الوطن
الحمد لله، والصلاه والسلام على رسول الله، صلى الله علية وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد:
فإن ذكر الله نعمة كبرى، ومنحة عظمى، به تستجلب النعم، وبمثله تستدفع النقم، وهو قوت القلوب، وقرة العيون، وسرور النفوس، وروح الحياة، وحياة الأرواح. ما أشد حاجة العباد إليه، وما أعظم ضرورتهم إليه، لا يستغنى عنه المسلم بحال من الأحوال.
ولما كان ذكر الله بهذه المنزلة الرفيعة والمكانة العالية فأجدر بالمسلم أن يتعرف على فضله وأنواعه وفوائده، وفيما يلي صفحات من كلام العلامة ابن القيم، نقلناها باختصار من كتابه "الوابل الصيب". قال رحمه الله:
فضل الذكر
عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله : { ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة، ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم } قالوا: بلى يا رسول الله. قال: { ذكر الله عز وجل } [رواه أحمد].
وفي صحيح البخاري عن أبي موسى، عن النبي قال: { مثل الذي يذكر ربه، والذي لايذكر ربه مثل الحي والميت }.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : { يقول الله تبارك وتعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت منه باعا، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة }.
و قد قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا [الأحزاب:41]، وقال تعا لى: والذاكرين الله كثيرا والذاكرات [الأحزاب:35]، أي: كثيرا. ففيه الأ مر با لذكر بالكثرة والشدة لشدة حاجة العبد إليه، وعدم استغنائه عنه طرفة عين.
وقال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه: لكل شيء جلاء، وإن جلاء القلوب ذكر الله عز وجل.
ولا ريب أن القلب يصدأ كما يصدأ النحاس والفضة وغيرهما، وجلاؤه بالذكر، فإنه يجلوه حتى يدعه كالمرآة البيضاء. فإذا ترك الذكر صدئ، فإذا ذكره جلاه.
و صدأ القلب بأمرين: بالغفلة والذنب، وجلاؤه بشيئين: بالاستغفار والذكر.
قالى تعالى: ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا [الكهف:28].
فإذا أراد العبد أن يقتدي برجل فلينظر: هل هو من أهل الذكر، أو من الغافلين؟ وهل الحاكم عليه الهوى أو الوحي؟ فإن كان الحاكم عليه هو الهوى وهو من أهل الغفلة، وأمره فرط، لم يقتد به، ولم يتبعه فإنه يقوده إلى الهلاك.
أنواع الذكر
الذكر نوعان:
أحدهما: ذكر أسماء الرب تبارك وتعالى وصفاته، والثناء عليه بهما، وتنزيهه وتقديسه عما لا يليق به تبارك وتعالى، وهذا
أيضا نوعان:
أحدهما: إنشاء الثناء عليه بها من الذاكر، فأفضل هذا النوع أجمعه للثناء وأعمه، نحو "سبحان الله عدد خلقه".
النوع الثاني: الخبر عن الرب تعالى بأحكام أسمائه وصفاته، نحو قولك: الله عز وجل يسمع أصوات عباده.
وأفضل هذا النوع: الثناء عليه بما أثنى به على نفسه، وبما أثنى به عليه رسول الله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تشبيه ولا تمثيل. وهذا النوع أيضا ثلاثة أنواع:
1- حمد. 2- وثناء. 3- و مجد.
فالحمد لله الإخبار عنه بصفات كماله سبحانه وتعالى مع محبته والرضا به، فإن كرر المحامد شيئا بعد شيء كانت ثناء، فإن كان المدح بصفات الجلال والعظمة والكبرياء والملك كان مجدًا.
وقد جمع الله تعالى لعبده الأنواع الثلاثة في أول الفاتحة، فإذا قال العبد: (الحمد لله رب العالمين) قال الله:{ حمدني عبدي }، وإذا قال: (الرحمن الرحيم) قال: { أثنى علي عبدي }، وإذا قال: (مالك يوم الدين) قال:{ مجدني عبدي} [رواه مسلم].
النوع الثاني من الذكر: ذكر أمره ونهيه وأحكامه: وهو أيضا نوعان:
أحدهما: ذكره بذلك إخبارا عنه بأنه أمر بكذا، ونهيه عن كذا.
الثاني: ذكره عند أمره فيبادر إليه، وعند نهيه فيهرب منه، فإذا اجتمعت هذه الأنواع للذاكر فذكره أفضل الذكر وأجله وأعظمه فائدة.
فهذا الذكر من الفقه الأكبر، وما دونه أفضل الذكر إذا صحت فيه النية.
و من ذكره سبحانه وتعالى: ذكر آلائه وإنعامه وإحسانه وأياديه، وموا قع فضله على عبيده، وهذا أيضا من أجل أنواع الذكر.
فهذه خمسة أنواع، وهي تكون بالقلب واللسان تارة، وذلك أفضل الذكر. وبالقلب وحده تارة، وهي الدرجة الثانية، وباللسان وحده تارة، وهي الدرجة الثالثة.
فأفضل الذكر: ما تواطأ عليه القلب واللسان، وإنما كان ذكر القلب وحده أفضل من ذكر اللسان وحده، لأن ذكر القلب يثمر المعرفة بالله، ويهيج المحبة، ويثير الحياء، ويبعث على المخافة، ويدعو إلى المراقبة، ويزع عن التقصير في الطاعات، والتهاون في المعاصي والسيئات، وذكر اللسان وحده لا يوجب شيئا من هذه الآثار، وإن أثمر شيئا منها فثمرة ضعيفة.
الذكر أفضل من الدعاء(/1)
الذكرأفضل من الدعاء، لأن الذكر ثناء على الله عز وجل بجميل أوصافه وآلائه وأسمائه، والدعاء سؤال العبد حاجته، فأين هذا من هذا؟
ولهذا جاء في الحديث: { من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين }.
ولهذا كان المستحب في الدعاء أن يبدأ الداعي بحمد الله تعالى، والثناء عليه بين يدي حاجته، ثم يسأل حاجته، وقد أخبر النبي أن الدعاء يستجاب إذا تقدمه الثناء والذكر، وهذه فائدة أخرى من فوائد الذكر والثناء، أنه يجعل الدعاء مستجابا.
فالدعاء الذي يتقدمه الذكر والثناء أفضل وأقرب إلى الإجابة من الدعاء المجرد، فإن انضاف إلى ذلك إخبار العبد بحاله ومسكنته، وإفتقاره واعترافه، كان أبلغ في الإجابة وأفضل.
قراءة القرأن أفضل من الذكر
قراءة القرآن أفضل من الذكر، والذكر أفضل من الدعاء، هذا من حيث النظر إلى كل منهما مجردا.
وقد يعرض للمفضول ما يجعله أولى من الفاضل، بل يعينه، فلا يجوز أن يعدل عنه إلى الفاضل، وهذا كالتسبيح في الركوع والسجود، فإنه أفضل من قراءة القرآن فيهما، بل القراءة فيهما منهي عنها نهي تحريم أو كراهة، وكذلك الذكر عقيب السلام من الصلاة- ذكر التهليل، والتسبيح، والتكبير، والتحميد- أفضل من الاشتغال عنه بالقراءة، وكذلك إجابة المؤذن.
وهكذا الأذكار المقيدة بمحال مخصوصة أفضل من القراءة المطلقة، والقراءة المطلقة أفضل من الأذكار المطلقة، اللهم إلا أن يعرض للعبد ما يجعل الذكر أو الدعاء أنفع له من قراءة القران، مثاله: أن يتفكر في ذنوبه، فيحدث ذلك له توبة واستغفارا، أو يعرض له ما يخاف أذاه من شياطين الإنس والجن، فيعدل إلى الأذكار والدعوات التي تحصنه وتحوطه.
فهكذا قد يكون اشتغاله بالدعاء والحالة هذه أنفع، وإن كان كل من القراءة والذكر أفضل وأعظم أجرا.
وهذا باب نافع يحتاج إلى فقه نفس، فيعطي كل ذى حق حقه، ويوضع كل شيء موضعه.
ولما كانت الصلاة مشتملة على القراءة والذكر والدعاء، وهي جامعة لأجزاء العبودية على أتم الوجوه، كانت أفضل من كل من القراءة والذكر والدعاء بمفرده، لجمعها ذلك كله مع عبودية سائر الأعضاء.
فهذا أصل نافع جدا، يفتح للعبد باب معرفة مراتب الأعمال وتنزيلها منازلها، لئلا يشتغل بمفضولها عن فاضلها، فيربح إبليس الفضل الذي بينهما، أو ينظر إلى فاضلها فيشتغل به عن مفضولها وإن كان ذلك وقته، فتفوته مصلحته بالكلية، لظنه أن اشتغاله بالفاضل أكثر ثوابا وأعظم أجرا، وهذا يحتاج إلى معرفة بمراتب الأعمال وتفاوتها ومقاصدها، وفقه في إعطاء كل عمل منها حقه، وتنزيله في مرتبته.
من فوائد الذكر
وفي الذكر نحو من مائة فائدة.
إحداها: أنه يطرد الشيطان ويقمعه ويكسره.
الثانية: أنه يرضي الرحمن عز وجل.
الثالثة: أنه يزيل الهم والغم عن القلب.
الرابعة: أنه يجلب للقلب الفرح والسرور والبسط. الحامسة: أنه يقوي القلب والبدن.
السادسة: أنه ينور الوجه والقلب.
السابعة: أنه يجلب الرزق.
الثامنة: أنه يكسو الذاكر المهابة والحلاوة والنضرة.
التاسعة: أنه يورثه المحبة التي هي روح الإسلام.
العاشرة: أنه يورثه المراقبة حتى يدخله في باب الإحسان.
الحادية عشرة: أنه يورثه الإنابة، وهي الرجوع إلى الله عز وجل
الثانية عشرة: أنه يورثه القرب منه.
الثالثة عشرة: أنه يفتح له بابا عظيما من أبواب المعرفة.
الرابعة عشرة: أنه يورثه الهيبة لربه عز وجل وإجلاله.
الخامسة عشرة: أنه يورثه ذكر الله تعالى له، كما قال تعالى: فاذكروني أذكركم [البقرة:115].
السادسة عشرة: أنه يورث حياة القلب.
السابعة عشرة: أنه قوت القلب والروح.
الثامنة عشرة: أنه يورث جلاء القلب من صدئه.
التاسعة عشرة: أنه يحط الخطايا ويذهبها، فإنه من أعظم الحسنات، والحسنات يذهبن السيئات.
العشرون: أنه يزيل الوحشة بين العبد وبين ربه تبارك وتعا لى.
الحادية والعشرون: أن ما يذكر به العبد ربه عز وجل من جلاله وتسبيحه وتحميده، يذكر بصاحبه عند الشدة.
الثانية والعشرون: أن العبد إذا تعرف إلى الله تعالى بذكره في الرخاء عرفه في الشدة.
الثالثة والعشرون: أنه منجاة من عذاب الله تعالى.
الرابعة والعشرون: أنه سبب نزول السكينة، وغشيان الرحمة، وحفوف الملائكة بالذاكر.
الخامسة والعشرون: أنه سبب إشتغال اللسان عن الغيبة، والنميمة، والكذب، والفحش، والبا طل.
السادسة والعشرون: أن مجالس الذكر مجالس الملائكة، ومجالس اللغو والغفلة مجالس الشياطين.
السابعة والعشرون: أنه يؤمن العبد من الحسرة يوم القيامة.
الثامنة والعشرون: أن الاشتغال به سبب لعطاء الله للذاكر أفضل ما يعطي السائلين.
التاسعة والعشرون: أنه أيسر العبادات، وهو من أجلها وأفضلها.
الثلاثون: أن العطاء والفضل الذي رتب عليه لم يرتب علئ غيره من الأعمال.
الحادية والثلاثون: أن دوام ذكر الرب تبارك وتعالى يوجب الأمان من نسيانه الذي هو سبب شقاء العبد في معاشه و معا ده.
الثانية والثلاثون: أنه ليس في الأعمال شيء يعم الأوقات والأحوال مثله.(/2)
الثالثة والثلاثون: أن الذكر نور للذاكر في الدنيا، ونور له في قبره، ونور له في معاده، يسعى بين يديه على الصراط.
الرابعة والثلاثون: أن الذكر رأس الأمور، فمن فتح له فيه فقد فتح له باب الدخول على الله عز وجل.
الخامسة والثلاثون: أن في القلب خلة وفاقة لا يسدها شيء ألبتة إلا ذكر الله عز وجل.
السادسة والثلاثون: أن الذكر يجمع المتفرق، ويفرق المجتمع، ويقرب البعيد، ويبعد القريب. فيجمع ما تفرق على العبد من قلبه وإرادته، وهمومه وعزومه، ويفرق ما اجتمع عليه من الهموم، والغموم، والأحزان، والحسرات على فوت حظوظه ومطالبه، ويفرق أيضأ ما اجتمع عليه من ذنوبه وخطاياه وأوزاره، ويفرق أيضا ما اجتمع على حربه من جند الشيطان، وأما تقريبه البعيد فإنه يقرب إليه الآخرة، ويبعد القريب إليه وهي الدنيا.
السابعة والثلاثون: أن الذكر ينبه القلب من نومه، ويوقظه من سنته.
الثامنة والثلاثون: أن الذكر شجرة تثمر المعارف والأحوال التي شمر إليها السالكون.
التا سعة والثلاثون: أن الذاكر قريب من مذكوره، ومذكوره معه، وهذه المعية معية خاصة غير معية العلم والإحاطة العامة، فهي معية بالقرب والولاية والمحبة والنصرة و ا لتو فيق.
الأربعون: أن الذكر يعدل عتق الرقاب، ونفقة الأموال، والضرب بالسيف في سبيل الله عز وجل.
الحادية والأربعون: أن الذكر رأس الشكر، فما شكر الله تعالى من لم يذكره.
الثانية والأربعون: أن أكرم الخلق على الله تعالى من المتقين من لا يزال لسانه رطبا بذكره.
الثالثة والأربعون: أن في القلب قسوة لا يذيبها إلا ذكر الله تعالى.
الرابعة والأربعون: أن الذكر شفاء القلب ودواؤه، والغفلة مرضه.
الخامسة والأربعون: أن الذكر أصل موالاة الله عز وجل ورأسها والغفلة أصل معاداته ورأسها.
السادسة والأربعون: أنه جلاب للنعم، دافع للنقم بإذن الله.
السابعة والأربعون: أنه يوجب صلاة الله عز وجل وملائكته على الذاكر.
الثامنة والأربعون: أن من شاء أن يسكن رياض الجنة في الدنيا، فليستوطن مجالس الذكر، فإنها رياض الجنة.
التاسعة والأربعون: أن مجالس الذكر مجالس الملائكة، ليس لهم مجالس إلا هي.
الخمسون: أن الله عز وجل يباهي بالذاكرين ملائكته.
الحادية والخمسون: أن إدامة الذكر تنوب عن التطوعات، وتقوم مقامها، سواء كانت بدنية أو مالية، أو بدنية مالية.
الثانية والخمسون: أن ذكر الله عز وجل من أكبر العون على طاعته، فإنه يحببها إلى العبد، ويسهلها عليه، ويلذذها له، ويجعلها قرة عينه فيها.
الثالثة والخمسون: أن ذكر الله عز وجل يذهب عن القلب مخاوفه كلها ويؤمنه.
الرابعة والخمسون: أن الذكر يعطي الذاكر قوة، حتى إنه ليفعل مع الذكر ما لم يطيق فعله بدونه.
الخامسة والخمسون: أن الذاكرين الله كثيرا هم السابقون من بين عمال الآخرة.
السادسة والخمسون: أن الذكر سبب لتصديق الرب عز وجل عبده، ومن صدقه الله تعالى رجي له أن يحشر مع الصادقين.
السابعة والخمسون: أن دور الجنة تبني بالذكر، فإذا أمسك الذاكر عن الذكر، أمسكت الملائكة عن البناء.
الثامنة والخمسون: أن الذكر سد بين العبد وبين جهنم.
التاسعة والخمسون: أن ذكر الله عز وجل يسهل الصعب، وييسر العسير، ويخفف المشاق.
الستون: أن الملائكة تستغفر للذاكر كما تستغفر للتائب.
الحادية والستون: أن الجبال والقفار تتباهي وتستبشر بمن يذكر الله عز وجل عليها.
الثانية والستون: أن كثرة ذكر الله عز وجل أمان من النفاق.
الثالثة والستون: أن للذكر لذة عظيمه من بين الأعمال الصالحة لا تشبهها لذة.
الرابعة والستون: أن في دوام الذكر في الطريق، والبيت، والبقاع، تكثيرًا لشهود العبد يوم القيامة، فإن الأرض تشهد للذاكر يوم القيامة.(/3)
ذكرى المعراج.. وعصر الفضاء
د. منير محمد الغضبان *
هذا القرن، قرن الفضاء، ابتدأ عام 1903 من الأخوين رايت حيث كانت أولى رحلاتهما في الطائرة في 17/12/1903، ومضت في النصف الثاني من هذا القرن حيث تم الدوران حول الأرض، وإنزال أول إنسان على القمر، وأشرفت على الذروة في إرسال سفينة الفضاء غاليليو في مدارها حول المشتري بعد رحلة استمرت ست سنوات قطعت خلالها 3.7 بليون كم، وهلل العاملون في معمل الدفع النفاث لدى دخولها الغلاف الجوي للمشتري عام 1996، ووصف لورانس جونس – وهو عالم يعمل في المشروع منذ وافق عليه الكونغرس عام 1977- ما تحقق بأنه خطوة كبيرة تقربنا من نهاية الزمن، ومن ثم فإن البيانات التي سيرسلها المعمل إلى السفينة الأم، ومن ثم إلى الأرض ستساعد في معرفة كيف تكونت المجموعة الشمسية، وكيف تطورت، وقال بأن رحلة غاليليو مهمة للغاية للجنس البشري من أجل فهم كيف تطور كوكبنا نفسه، وما ندري ماذا يحمل قرننا الجديد في طياته.
هذا ما عرفته البشرية حسّاً في هذا المجال أما ما رآه علماء الفلك في هذا الكون، وحدثونا عنه فهو أن المشتري جزء من المجموعة الشمسية، والمجموعة الشمسية جزء من ملايين المجموعات الأخرى المتناثرة في هذه المجرة، بعدما بيّن هذه المجموعة، وأقرب نجم إلينا أربع سنين ضوئية، وملايين المجموعات هذه تسبح في مجرة قطرها 100.000 سنة ضوئية يمكن أن يرى من نجومها 6000 – 9000 نجم، وقد تبلغ نجومها نحو مائة مليون نجم، وأما المجرة الثانية التي هي أقرب المجرات إلينا فتبعد 750.000 سنة ضوئية، والسنة الضوئية 6.5 مليارات ميل، ويبلغ عدد المجرات هذه مائة مليون مجرة، وهذا كله في السماء الدنيا التي قال الله تعالى عنها:
)ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح، وجعلناها رجوماً للشياطين، وأعتدنا لهم عذاب السعير(.
فأين البشرية حتى اليوم من هذه الكواكب والمجرات التي تملأ الأفق، وإنها لا تزال مثل الطفل الذي بدأ يحبو خارج غرفته، وكان يتصور العالم هذه الغرفة التي يحيا بها.
لكن هذه البشرية تتناسى خالق هذه المجرات، وتتناسى أو تجحد وهي تؤرخ بمرور عشرين قرناً على ميلاد المسيح، تتناسى أن هذا المسيح عليه السلام الذي تؤرخ به بصفته أعظم أحداثها أنه قد مضى بروحه وجسده متجاوزاً هذه العوالم:
)وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم، وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه، مالهم به من علمٍ إلا اتباع الظنّ، وما قتلوه يقيناً بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً(.
توفاه الله تعالى إليه ولم يعد، وبعد قرون جاءنا الصادق المصدوق محمد صلى الله عليه وسلم ليحدثنا عنه، وكان الحادث الأكبر في تاريخ البشرية أن رجلاً منها هو سيد خلائقها على الإطلاق، اختاره الله تعالى ليلتقي به فوق السماوات العلا، وفوق مجرات السماء الدنيا، في ليلة من أسعد ليالي البشرية، ثم يعود إلينا ليحدثنا عما رآه في رحلته الخالدة، وكان هذا قبل نحو خمسة عشر قرناً من تاريخ هذه البشرية، وهذا الاصطفاء لم يحصل لأحد قبله، ولن يحصل لأحد بعده.
إن كل صور غاليلو تحدثنا عن جمادات وتربة مثل أرضنا، ولم تلق بشراً، ولا كائناً ولا مخلوقاً إلا هذه الجمادات، أما المعجزة الخالدة في تلك الليلة الخالدة التي أراد الله تعالى بها أن يكرم البشرية فيصطفي واحداً منها إليه، يرفعه بجسده وروحه، وينقله عبر سماواته، ويجمعه مع إخوانه من الأنبياء والمرسلين، وتحتفل الملائكة في السماوات بمقدمه، ثم يقف جميع الخلق بمن فيهم النبيون والملائكة عند حدٍ لو تجاوزوه لاحترقوا، ليصل المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى ويتجاوزها بينما يقف جبريل رفيقه في الرحلة عندها، ويلتقي مع ربه عياناً، وحده من دون الخلائق، ويُسمح له بالعودة إلى الأرض ليحدثهم عن الكون أرضه وسماواته وجنته وناره وملائكته وقد رآها بعينه، وقد هُيئ لهذه المقابلة بشق صدره قبل تحركه، حتى يحدثهم عن هذه الأمور لا بما أوحي إليه فقط علماً من علم الغيب، بل يحدثه علماً من عالم الشهادة الذي رآه، ويقطع مقولات الملحدين والكافرين المجرمين، حول وحدانية الله تعالى، وإنه هو الوحيد الذي أُهّل ليكون دليل البشرية كلها في رؤية عالم الغيب، سماواته وملائكته، ورسله وجنته وناره، ويعود ليخبر أمته بما رأى، ولنسمع إليه صلى الله عليه وسلم وهو أصدق البشر يروي لنا أحداث رحلته هذه، وهي التي تجحدها البشرية ولا تلقي لها بالاً:
التهيؤ للرحلة:
بينما أنا في الحطيم وربما قال في الحِجْر (حول الكعبة) مضطجعاً إذ أتاني آتٍ قال سمعته يقول: فشق ما بين هذه وهذه، فقلت للجارود وهو جنبي: ما يعني؟ قال: من ثغرة نحره إلى شعرته –فاستخرج قلبي، ثم أُتيتُ بطست من ذهب مملوءة إيماناً فغسل قلبي، ثم حُشي، ثم أعيد.
ابتداء الرحلة:
ثم أُتيت بداية دون البغل وفوق الحمار أبيض، يضع خطوه عند أقصى طرفه، فحُملت عليه.
إلى بيت المقدس:(/1)
(ثم دخلت أنا وجبريل بيت المقدس، فربطته بالحلقة التي يربط بها الأنبياء، ثم دخلت المسجد، فصليت فيه ركعتين، فعرفت النبيين من بين قائم راكع وساجد ثم أقمت الصلاة، فقمنا صفوفاً ننتظر من يؤمنا، فأخذ بيدي جبريل فقربني، فصليت بهم.
إلى السماء الدنيا:
ثم أُتيتُ بالمعراج \"فلم أر شيئاً قطُّ كان أحسن منه، فأصعدني صاحبي فيه، فانطلق بي جبريل حتى السماء الدنيا، فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معه؟ قال: محمد. قيل: وقد أُرسل إليه، قال: نعم. قيل: فمرحباً به، فنعم المجيء جاء) فالملائكة في السماوات العلا يعرفون منذ بدء الخليقة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، لكنهم لا يعرفون متى يبعث. وجبريل وهو سيد الملائكة لا يحق له أن يدخل السماء الدنيا بدون إذن، ومحمد صلى الله عليه وسلم فقد فتحت له السماء واستبشر أهل السماء بقدومه، فرحين به وبدخوله، وأنه قد بُعث.
لقاؤه مع أبيه آدم:
(فلما خلصت فإذا أنا بآدم فقال: هذا أبوك فسلّم عليه) وهذا هو أدب الابن مع الأب، أن يلتقي مع أبيه في أول خطوة من خطوات رحلة في السماوات (.. فسلمت عليه، فقال: مرحباً بالابن الصالح، فإذا أنا بآدم تعرض عليه أرواح ذريته المؤمنين فيقول: روح طيبة، نفس طيبة، اجعلوها في عليين، ثم تعرض عليه أرواح ذريته الفجار فيقول: روح خبيثة ونفس خبيثة اجعلوها في سجين).
لقاؤه مع عيسى عليه الصلاة والسلام:
وهو الوافد الأول، كما سبق وذكرنا أن الله تعالى توفاه إليه، وحق للبشرية أن تعرف هذه الحقيقة من أصدق رجل فيها، وأعظم رجل فيها، وتنتهي أسطورة الصلب والتأليه له (ثم صعد بي حتى أتى السماء الثانية، فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل ومن معه؟ قال: محمد. قيل: وقد أُرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحباً به فنعم المجيء جاء، فلما خلصت إذا بيحيى وعيسى أبناء الخالة، قال: هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما، فسلمت فردا ثم قالا: مرحباً بالأخ الصالح والنبي والصالح) وليؤكد لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم اللقاء، وصف لنا عيسى روح الله وكلمته بقوله: (فإذا بعيسى جعد، مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض، سبط الشعر، كأنما أُخرج من ديماس(1)).
لقاؤه مع يوسف عليه الصلاة والسلام:
(.. ثم صعد بي إلى السماء الثالثة، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل ومن معه؟ قيل: محمد. قيل: وقد أُرسل إليه؟ قال نعم. قيل: مرحباً به فنعم المجيء جاء، ففتح فلما خلصت فإذا يوسف، قال: هذا يوسف فسلّم عليه، فسلمت عليه، فردّ ثم قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي والصالح) ولم ينسّ عليه الصلاة والسلام أن يصف لنا يوسف بقوله: (وقد أُعطي شطر الحسن) وفي رواية (أحسن ما خَلَقَ الله قد فَضَلَ الناس بالحسن كالقمر ليلة البدر على سائر الكواكب).
لقاؤه مع إدريس عليه الصلاة والسلام:
(ثم صعد بي إلى السماء الرابعة، فاستفتح جبريل، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: من معه؟ قال محمد. قيل: وقد أُرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً به فنعم المجيء جاء) فهو صلى الله عليه وسلم ليس نكرة على أحد من الملائكة حراس السماوات، وكل ما يجهلوه عنه هو زمان بعثته (.. ففُتح فلما خلصت إلى إدريس، قال: هذا إدريس فسلّم عليه، فسلمت عليه فردّ عليه الصلاة والسلام ثم قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح.)
لقاؤه مع موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام:
(.. ثم صعد بي حتى أتى السماء الخامسة، فاستفتح قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معه؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال نعم. قيل: مرحباً به فنعم المجيء جاء، فلما خلصت فإذا هارون، قال هذا هارون فسلّم عليه، قال: فسلمت عليه، فردّ ثم قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي والصالح) ويصف لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخاه هارون بقوله: (نصف لحية بيضاء، ونصف لحية سوداء تكاد تقترب إلى سُرّته من طولها) وإن استشكلت رؤية الأنبياء في السماوات مع أن أجسادهم مستقرة في قبورهم بالأرض أجيب بأن أرواحهم تشكلت بصور أجسادهم أو حضرت لملاقاة النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة تشريفاً وتكريماً، ويؤيده حديث عبد الرحمن بن هاشم عن أنس ففيه: (وبُعثَ آدم فمن دونه من الأنبياء..).
لقاؤه مع موسى عليه الصلاة والسلام:(/2)
(.. ثم صعد بي حتى السماء السادسة، فاستفتح قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معه؟ قال: محمد، قيل وقد أُرسل إليه. قال: نعم، قال: مرحباً به، فنعم المجيء جاء فلما خلصت فإذا موسى، قال: هذا موسى فسلّم عليه، فسلمت عليه، فردّ ثم قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح) وفي رواية: (فجعل يمر بالنبي والنبيين معهم الرهط، والنبي والنبيين معهم القوم، والنبي والنبيين ليس معهم أحد، ثم مرّ بسواد عظيم قد سد الأفق من ذا الجانب ومن ذا الجانب، فقيل له: هؤلاء أمتك، ومن هؤلاء سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب، فخلصت فإذا موسى رجل آدم طوال كأنه من أزد شنوءة، كثير الشعر لو كان عليه قميصان نفذ شعره دونهما) وعودة إلى رواية البخاري (فلما تجاوزت بكى، قيل: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاماً بُعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي).
لقاؤه مع إبراهيم عليه الصلاة والسلام:
(ثم صعد بي إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معه؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً به فنعم المجيء جاء فلما خلصت، فإذا إبراهيم، قال: هذا أبوك فسلّم عليه، قال: فسلمت عليه، فردّ السلام قال: مرحباً بالابن الصالح والنبي والصالح) وفي رواية (فإذا إبراهيم رجل أشمط جالس على كرسي إلى باب البيت المعمور مع نفر من قومه فقال: مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح وقال: مر أمتك فليكثروا من غراس الجنة، فإن تربتها طيبة وأرضها واسعة، قال: وما غراس الجنة؟ قال: لا حول ولا قوة إلا بالله) أما وصفه (لم أر رجلاً أشبه بصاحبكم ولا صاحبكم أشبه به منه).
عند سدرة المنتهى:
(ثم رفعت إلى سدرة المنتهى، فإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة قال: هذه سدرة المنتهى وإذا أربعة أنهار نهران باطنان ونهران ظاهران، فقلت: ما هذا يا جبريل قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات، ثم رفع لي البيت المعمور (يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يرجعون فيه إلى يوم القيامة) ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل فأخذت اللبن فقال هي الفطرة أنت عليها وأمتك) وفي رواية مسلم (.. انتهى بي إلى سدرة المنتهى إليها ينتهي ما يُعرج به من الأرض فيقبض منها، وإليها ما يهبط به من فوقها فيقضي منها، قال: إذ يغشى السدرة ما يغشى، قال: فَرَاش من ذَهب، فأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً، أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لم يشرك من أمته شيئاً من المقحمات(2).
بين يدي رب العزة جل جلاله:
(ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صرير الأقلام ففرض الله على أمتي خمسين صلاة، قال: قلت فرجعت حتى أمرَّ بموسى، فقال موسى عليه الصلاة والسلام: ماذا فرض ربك على أمتك؟ قال: قلت: فرض عليهم خمسين صلاة، قال لي موسى عليه الصلاة والسلام فراجع ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك قال: فراجعت ربي فوضع شطرها، قال: فرجعت إلى موسى فأخبرته، قال: راجع ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك، قال: فراجعت ربي، فقال: هي خمس وهي خمسون لا يبدّل القول لدي، قال: فرجعت إلى موسى فقال: راجع ربك، فقلت: قد استحييت من ربي، ثم انطلق بي جبريل حتى نأتي سدرة المنتهى).
رؤية الجنة:
(ثم أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ(3) اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك) وفي رواية عند مسلم: (بينا أنا أسير في الجنة إذا أنا بنهر حافتاه قباب الدر المجوف، وإذا طينه مسك أذفر فقال جبريل: هذا الكوثر) وعند ابن أبي حاتم: (ثم انطلق بي حتى أتى إلى الشجرة، فغشيني من كل سحابة فيها من كل لون، فتأخر جبريل وخررت ساجداً.)
رؤية النار:
عند ابن إسحاق (تلقتني الملائكة حين دخلت السماء الدنيا فلم يلقني ملك إلا ضاحكاً مستبشراً، يقول خيراً ويدعو به، حتى لقيني ملك من الملائكة فقال: (مثل ما قالوا، ودعا مثل ما دعوا به إلا أنه لم يضحك، ولم أرَ منه البشر مثل ما رأيت من غيره، فقلت لجبريل: يا جبريل من هذا الملك الذي قال لي مثل ما قالت الملائكة ولم يضحك إلي؟ قال: أما إنه لو ضحك إلى أحد كان قبلك أو كان ضاحكاً إلى أحد بعدك لضحك إليك، هذا مالك خازن النار. فقلت لجبريل: ألا تأمره أن يريني النار؟ فقال: بلى.. يا مالك أرِ محمداً النار، قال: فكشف عنها غطاءها ففارت وارتفعت حتى ظننت لتأخذن ما أرى، فقلت: يا جبريل: مُرْه فليردَّها إلى مكانها فأمرها فقال: اخبي، فرجعت إلى مكانها الذي خرجت منه، فما شبهت رجوعها إلا وقوع الظل حتى إذا دخلت من حيث خرجت ردَّ عليها غطاءها.(/3)
ثم رأيت رجالاً لهم مشافر كمشافر الإبل، في أيديهم قطع من نار كالأفهار(4) يقذفونها في أفواههم فتخرج من أدبارهم فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة أموال اليتامى ظلماً. ثم رأيت رجالاً لهم بطون لم أر مثلها قط بسبيل آل فرعون يمرون عليهم كالإبل المهيومة يطؤونهم لا يقدرون أن يتحولوا من مكانهم ذلك، قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة الربا، ثم رأيت رجالاً بين أيديهم لحم سمين طيب إلى جنبه لحم غث منتن، يأكلون من الغث المنتن، ويتركون السمين الطيب قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يتركون ما أحلّ الله لهم من النساء ويذهبون إلى ما حرّم الله، ثم رأيت نساء معلقات بثديهنّ، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين أدخلن على الرجال من ليس من أولادهم.
رحلة العودة:
وقال له موسى: اهبط باسم الله، ولم يمر على ملأ من الملائكة إلا رحبوا به وضحكوا إليه، فلما نزل إلى السماء الدنيا نظر أسفل منه فإذا هو بوهج دخان فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذه الشياطين يحومون على أعين بني آدم لا يتفكرون في ملكوت السماوات والأرض، ولولا ذلك لرأوا العجائب، ثم ركب منصرفاً فمر بعير لقريش بمكان كذا وكذا فيها جمل عليه غرارتان فلما حاذى العير نفرت واستدارت، ومرّ بنفر قد ضلوا بعيراً لهم، ثم أتى صلى الله عليه وسلم قبل الصبح بمكة.
الرحلة الخالدة:
هذا الاصطفاء الرباني الذي أراه الله تعالى لعبده محمد صلى الله عليه وسلم حيث كانت محطته الأولى مكة المكرمة، ومحطته الثانية القدس، وانتقل بعدها فجال في ملكوت السماوات والأرض هي في أصدق كتاب في هذا الوجود:
)علَّمَهُ شديدُ القُوى، ذو مرّة فاستوى، وهو بالأفق الأعلى، ثم دنا فتدلى، فكان قابَ قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى، ما كذب الفؤادُ ما رأى، أفتمارونه على ما يَرَى، ولقد رآه نزلةً أخرى، عند سدرة المنتهى، عندها جنة المأوى، إذ يغشى السدرة ما يغشى، ما زاغ البصر وما طغى، لقد رأى من آيات ربّه الكبرى((5)
وهي مفصلة في أصدق كتاب في الوجود بعد القرآن الكريم عند الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، وهي عن أصدق إنسان في هذا الوجود، لقي سادة البشرية وأنبياءها العظام وتحاور معهم، ومثل بين يدي ربه، تلقى منه فريضة الصلاة، ورأى الجنة والنار، ومع ذلك تمر هذه الذكرى، وكأن المسلمين ليس عندهم شيء يذكر؟ فكيف بغير المسلمين؟ بينما البشرية لا تزال تحبو سجينة ضمن المجموعة الشمسية في طاقتها البشرية ولا تلقي بالاً، وتطوي كشحاً لسيدها الذي نال هذا التكريم، ودخل ملكوت السماوات بحفاوة ربانية لم يلقها نبي قبله، ولن يبلغها أحد بعده، ثم أعاده ليتابع مسيرة الجهاد في الأرض، ليقود الناس إلى الجنة التي رآها رأي عين، وينقذهم من النار التي رآها رأي عين، ويدلهم على الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي مثل بين يديه، ورآه عيناً دون واسطة(6) وعاد يحدث بذلك.
وتمر الذكرى والمسلمون مهزمون نفسياً لا يجرؤون على الحديث عنها، ولا إبرازها في محافلهم وإذاعاتهم، وتلفازاتهم وكتبهم ومجلاتهم، وكأن الحدث لم يقع، ويركزون على الإسراء فقط من أجل الأرض المغتصبة، والقدس هي محطة انطلاق المعراج النبوي إلى السماوات العلا، والقدس حين تكون موطن الإسراء ومنطلق المعراج إنما يعني هذا وراثة هذه الأمة للرسالات السماوية السابقة منذ أن قلد بطريرك القدس مفاتيحها لعمر أمير المؤمنين رضي الله عنه تنفيذاً لما أوردته الكتب المقدسة، وفي هذا القرن تغتصب القدس بالمستوطنات، تحت راية السلام وحوله.
لو كانت البشرية مهتدية راشدة لكان يوم المعراج هو أعظم أيامها ولدخلت في دين الله أفواجاً، وهي هي على كفرها تشهد أن محمداً أعظم عظماء البشرية كما قال ذلك مؤلف كتاب: \"المئة الأوائل\" – غير المسلم.
أما أن للبشرية أن ترعوي وتستسلم لله عز وجل، وتذعن لخالقها وبارئها، موقنة في تلك الكرامة الربانية العليا معراج محمد صلى الله عليه وسلم، والتي ذكرها في كتابه عز وجل:
)والنجم إذا هوى، ما ضلّ صاحبُكم وما غوى، وما ينطقُ عن الهوى، إن هو إلا وحيٌ يوحى، علّمه شديدُ القُوى، ذو مِرّة فاستوى، وهو بالأفق الأعلى، ثم دنا فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى، ما كذب الفؤاد ما رأى، أفتمارونه على ما يرى، ولقد رآه نزلة أخرى، عند سدرة المنتهى، عندها جنّة المأوى، إذ يغشى السدرة ما يغشى، ما زاغ البصرُ وما طغى، لقد رأى من آيات ربه الكبرى((7).
تُرى متى تهتدي البشرية بهذا المنار إلى هذا المسار؟؟؟ أم تكون من الذين لا يهتدون؟؟؟
الهوامش:
*
باحث إسلامي سوري
(1) الديماس: الحمّام التي يستحم بها.
(2) المقحمات: قال في المعجم الوسيط 2/716: القحمة ركوب الإثم، ولعلها هنا: الكبائر.
(3) جنابذ: قال ابن منظور في لسان العرب 3/482: الجنبذة: القبة، والمرتفع من كل شيء، وما علا من الأرض واستدار.(/4)
(4) قال في القاموس المحيط: الفِهر الحجر والجمع: أفهار، وحجر ناعم صلب يسحق به الصيدلي الأدوية.
(5) سورة النجم، من الآية: 5 – 18.
(6) وإلى هذا ذهب جمهور الصحابة رضي الله عنهم.
(7) سورة النجم، من الآية: 5 – 18.(/5)
ذكرى ميلاد الدولة الإسلامية
كل كلمة نطق بها رسول الله آلاف المعاني والعبر..اعتماد صادق ثابت على الله بغير اهتزاز أو خوف ..أمان سامية سجلها التاريخ لرسول الله لتتحقق بعد عشرات السنين ..هذه هي الهجرة ..
عندما هاجر المسلمون إلى المدينة، وأخذ الرسول عليه الصلاة والسلام يستعد للهجرة واختار أبا بكر ليكون صاحبه فيها وانطلق الإثنان إلى المدينة بعد أن ودع رسول الله مكة قائلا: (والله إنك أحب بلاد الله إلى الله وأحب بلاد الله إلي ... ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت).
نعم.. لولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت.. ويتكرر المثل النبوي الآن في قفار الأرض من المشرق إلى المغرب الأشخاص مختلفين.. لكنها هجرة واحدة.. ودعوة واحدة.. ورسالة واحدة.. يهاجر المسلم من أحب أرض على قلبه.. يهاجر من وطنه.. من مسقط رأسه.. من حياته.. ثم يقول: لولا أن أهلك أخروجوني ما خرجت.. ولكن.. سيعودون ويعود كل غريب بإذن الله بعد أن تكون راية التوحيد قد شارفت على بلادنا أحب بلاد إلى قلوبنا.. ويكون النصر كفتح مكة بعد إذن الله ..
وبعد أن غادر الرسول مكة وأخذ يمشي نحو مقصده متخفياً بدأ بأول محطة له في طريق هجرته وهي "غار ثور"، ولكن كفار قريش لم تزل قلوبهم في غل وحقد عليه فتتبعوا آثاره وحذوا حذوه إلى أن وصلوا إلى الغار، وشاءت قدرة الله أن تعميهم وتعمي أبصارهم فبحثوا وبحثوا دون جدوى!
هكذا حماية الله دائماً لعبادة المتقين المتوكلين.. ليس لنبيه وحسب.. بل لكل من قرر أن يجند نفسه لخدمة الله تعالى ولخدمة رسالته لأن الله قد قضى أن تظل هذه الرسالة محمية وقضى أن يتم نوره ولو كره الكافرون فسخر أضعف جنده، حمامة بنت عشها على باب الكهف وعنكبوت نسجت بيتها على باب الكهف فلم يجدوهما، ويتجلى لنا موقف من أعظم المواقف عندما قال أبو بكر للرسول: لو نظر أحدهم إلى خلل قدميه لرآنا فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام بثباتٍ وإيمانٍ راسخ: (ما قولك باثنين الله ثالثهما؟ لا تحزن إن الله معنا).
ثم يواصلون الرحلة.. و يأتي سراقة بن مالك ليقتل النبي صلى الله عليه وسلم، فتغوص قدما فرسه في الرمل ويتعثر ويستغيث بالنبي عليه الصلاة والسلام، فيرحمه رسول الله ويعطيه الأمان بموقف شامخ راسخ، قائلا له: (ما قولك إذا لبست سواري كسرى)! ها هو النبي يعد بسواري كسرى وهو طريد شريد ملاحق مهدد بالموت فأي شخص هذا؟ وأي ثبات ذلك الثبات؟
و يصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة والجموع المؤمنة تنتظره ومن تلك البقعة الشريفة والأرض المقدسة، انطلقت صرخة الإسلام مدوية في أنحاء الأرض بكل شعوبها وأممها، فقد شرف الله المدينة المنورة بأن كانت النافذة على العالم بالدعوة الخالدة والرسالة الخاتمة.
إنها ذكرى هجرة انتصار الفاتحين ولقد سماها الله تعالى انتصارًا بقوله عز من قائل: {إلا تنصروه فقد نصره الله، إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين، إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا، فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا، والله عزيز حكيم} صدق الله العظيم.(/1)
ذكر الله
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
( الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكّرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار ) [ آل عمران :191]
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ألا أُنَبِّئكُم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق ، وخير لكم من أن تلقوا عدوَّكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم ؟ ! قالوا : بلى يا رسول الله ! قال : " ذكر الله " ) . [ رواه أحمد والترمذي وابن ماجة والحاكم ] (1)
لقد اختلفت الصورة والمعاني للحديث المذكور أعلاه لدى بعض المسلمين . ولو نظرنا في واقعنا لرأينا الكثيرين يتفلَّتون من مسؤولياتهم ويركنون إلى القعود أو إلى الجري اللاهث خلف الدنيا بحجة مسؤوليتهم عن رعاية البيت والأولاد ، أو بأي عذر يتلمّسونه من خلال الوهن والعجز . وقد يكون هنالك من له عذره الشرعيّ في تخلّفه عن بعض التكاليف تحت ضغط واقع الحياة وإمكاناته . !
إننا نتحدّث عن الملايين الذين لم يكن لهم عذر إلا الجهل والوهن وحبُّ الدنيا . وحساب الجميع عند الله ، ولكننا نذكّر أنفسنا ونذكر الناس وندعو ونلحّ ، عسى الله أن يهدي القلوب إلى النهوض والبذل على صراط مستقيم .
يلجأ بعض الناس إلى سوء تأويل الحديث الشريف : ( ألا أنبّئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم .. قال : " ذكر الله " ) . ويتوهّم هؤلاء أو يوهمون أنفسهم بأن هنالك عملاً خاصّاً اسمه " ذكر الله " ، معزولاً عن غيره من الأعمال ، يُغني عن كل سعي ، يغني عن الإنفاق والبذل والجهاد ، يجلس الإنسان من أجله يسبّح ويذكر اسم الله ، وقد يرافق ذلك ما يُزَيّنه الشيطان من حركات باطلة لدى بعض الناس من الجهلة والمنحرفين .
إذا كان قد ظهر مثل هؤلاء في التاريخ الإسلاميّ ، فإن الملايين الكثيرة اليوم من المسلمين قاعدون عن التكاليف الشرعية الربّانيّة ، قعوداً جعلهم على نماذج شتى .
فمنهم من اعتقد أن الشهادتين تكفيه ولا حاجة له إلى الشعائر ولا إلى البذل والدعوة وغير ذلك . ومنهم من اعتقد أن أداء الشعائر هو كلُّ ما هو مكلّف به ولا حاجة له إلى ما سواه . ومنهم من يقيم شعيرة ويترك غيرها ، وتمتدّ النماذج في واقعنا اليوم امتداداً كبيراً ، حتى شُلّت قوى كثيرة من المسلمين وتعطّلت ، وحتى أصبحت مرتعاً لأعداء الله ، يستفيد أعداء الله منهم ، ولا يستفيد الإسلام منهم بشيء .
ولكن الأغرب والأعجب هو أن يظنّ بعضهم أن القعود لما يحسبه " ذكر الله " وتعطيل نشاطه وعطائه أمر يطلبه الحديث الشريف السابق ذكره .
ولو استعرضنا الآيات والأحاديث الواردة عن " ذكر الله " لوجدناها كثيرة جداً ، لا يوجد بينها ما يشير إلى التصوّر الفاسد الذي أشرنا إليه . إنها كلها تحضّ على السعي والعمل بصورة مباشرة أو غير مباشرة .
هنالك أسباب كثيرة للجوء بعضهم إلى فساد التأويل وفساد الفهم ، ومن ثمَّ فساد الممارسة . فربما كان الخلل في التصوّر الإيماني ، أو الخلل الواسع بالقرآن الكريم والسنة ، أو غلبة الأهواء ، من بين الأسباب التي تدفع إلى ذلك .
ولكنني أريد أن أشير إلى سبب آخر فقهي قد يقع فيه من كان له علم حسن بمنهاج الله . وهو سبب يؤدي إلى فساد التأويل في قضايا أخرى غير هذه القضية . هذا السبب هو أخذ النصّ من الكتاب والسنة أو أخذ جزء منه ، ثمّ دراسته معزولاً عن سائر النصوص المتعلقة به ، ومعزولاً عن قضايا أخرى متشابهة مرتبطة به . إن هذا العزل للنصّ يؤدي في كثير من الأحيان إلى سوء الفهم وسوء الممارسة والتطبيق واختلاف الفقه .
لو أنا أخذنا بذلك الفهم الخاطئ للحديث الشريف ، وقعد الناس عما أُنيط بهم من تكاليف ربّانية ، لتقلّص الإسلام في الأرض وفُتِنَ الناس ، وغلب الشرك وامتد .
يغيب عن بال هؤلاء أن القضية الأولى في حياة الإنسان على الأرض ، هي أنه يحمل أمانة يجب الوفاء بها ، وأنه محاسب على ذلك ، وأن عمله كله يجب أن يكون عبادة لله وطاعة له ، لتُمثِّل هذه الصورة الخلافة التي جُعلت للإنسان في الأرض . وهذه الأمانة والعبادة والخلافة ممتدّة متصلة مع ما أمر الله به من عمارة الأرض بحضارة الإيمان ، كل ذلك من خلال ابتلاء كتبه الله على بني آدم .
كل عمل يقوم به المسلم يجب أن يكون عبادة لله ، ويجب أن لا يعطل عملاً آخر . ولا يستقيم هذا التصور إلا إذا كان هنالك نهج متكامل يرسم المسيرة ويُرتِّب الأعمال ويُنزلها منازلها ، حسب أولوياتها ودورها .
فلا يجوز أن تُعَطَّل مسؤوليات البيت أو الوظيفة أو التجارة التكاليف الربانيّة ، ولا أن تضطرب الموازنة بين مختلف التكاليف ليطغي تكليف على آخر . ولا يجوز أن يكون ميزان الأولويات ميزاناً يُزيِّنُه الشيطان من خلال الأهواء والمصالح : إن الميزان الحق هو منهاج الله فمن الناس من يقبل على ( العُمرة ) مثلا وهو تارك لبعض الفرائض .(/1)
من أجل هذه الموازنة ، ولتكون أمينة ، كان ( ذكر الله ) ضرورة للمسلم ، حتى يبني المسلم موازنته على أساس من ذكر الله وخشيته وعلى أساس من المنهاج الرباني . فإذا غاب ذكر الله كما أمر به أو إذا انحرف عن منهاج الله فأنى للموازنة أن تعدل أو تستقيم ؟ !
ومع ذلك يبقى السؤال حائراً في أذهان الكثيرين : لماذا أخذ ( ذكر الله ) هذه المنزلة العظيمة في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حديثه السابق ذكره .
إن ( ذكر الله ) أخذ هذه المنزلة العظيمة حتى قال الله سبحانه وتعالى : (اتلُ ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون ) . [ العنكبوت : 45 ]
فجاء الحديث الشريف ليفصِّل هذا المعنى العظيم في الآية الكريمة : ( .. ولذكر الله أكبر ) ! نعم إنه أكبر من كل الأعمال وخيرهُا ، وإنه أكبر عند الله وأزكى ، وإنه أكبر وأرفع في الدرجات ، وإنه أكبر وخير من إنفاق الذهب والورق ( ومن أن تلقوا عدوّكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم .. ) !
نعم ! إنه أكبر من ذلك كله ، لأن كلَّ عمل من هذه الأعمال باطل غير مقبول عند الله إلا إذا ارتبط بذكر الله . ( فذكر الله ) هو العمل الوحيد الجامع لكل أعمال المسلم صغيرها وكبيرها . إنه النبع الذي يرتوي العمل منه ، والقوة التي تمدُّ كلَّ أعمال المسلم بالحياة والقوة وبالقبول عند الله ، ولا يوجد عمل آخر في الإسلام يقوم بهذا الدور العظيم . فكان لذلك كله أكبرَ الأعمال وأزكاها وخيرها .
ولذكر الله هو الذي يربط الأعمال فيما بينها ، ويرتبها حسب أولوياتها ، في جميع الظروف والأحول .
وذكر الله الذي تعنيه الآية الكريمة ويفصّله الحديث الشريف هو الثمرة الزكية للإيمان والتوحيد وللعلم بمنهاج الله ( اتلُ ما أوحيّ إليك من الكتاب ... ) ، وهو الثمرة الغنيّة لإقامة الشعائر ( ... وأقم الصلاة ) ، وهو الثمرة الطيبة للبعد عن الفاحشة والمنكر ( إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ) ! .
ذكر الله ، كما يأمر به الله ، هو الذي يضع الأعمال كلها على صراط مستقيم ، على نهج قويم ، على درب ممتد ليكون كلُّه ( في سبيل الله ) ، ماضياً من هدف ثابت إلى هدف ثابت ، يطلب الجنّة والدار الآخرة ـ الهدف الأكبر والأسمى .
إنه يجعل العمرة عبادة مرتبطة بغيرها من العبادات ، حتى لا تكون عملاً منعزلاً بنفسه مقطوعاً عن غيره . نعمت العمرة ونعمت السنن كلها حين يكون جزءاً من المسيرة المتكاملة والنهج المترابط بأهدافه ومراحله ، لا انقطاع ولا توقّف ولا انحراف .
إن ذكر الله هو الطِّيبُ الذي يزكو به العمل وينشر عبقه في الدنيا والآخرة .
فليس ذكر الله عملاً معزولاً عن الحياة ، أو عملاً مستقلاً عن سائر الأعمال : إنه يأخذ منزلته العظيمة من ارتباط الأعمال كلها به وارتباطه بها : الشعائر وطلب العلم ، والدعوة ، والإنفاق ، والجهاد ، والإحسان ، ورعاية البيت وأمانة الوظيفة وأمانة التجارة ، وكل ميدان عمل وسعي في الحياة الدنيا .
فعن عائشة رضي الله عنها قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه ) [ رواه مسلم وأبوا داود والترمذي وابن ماجة ](2)
نحن بحاجة اليوم إلى تركيز فقه آيات الذكر وأحاديثه في أبناء المسلمين على التصور الأمين ، وخاصة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بدأنا به هذه الكلمة ، حتى تنطلق مواهب الأمة وطاقاتها مجتمعة متآزرة على صراط مستقيم .
إن ذكر الله كما رأينا لا يعطّل التكاليف الربّانيّة ، ولكنَّه يغذّيها ويقويها ويدفعها إِلى الميدان غنيةّ قوية .
إن ذكر الله يوقظ القلب ويحيي النفس والعزيمة ، ويبعث النشاط والقوّة ، ويذكّر بما أمر الله به . إن ذكر الله هو ذكر لأوامره وتكاليفه ودينه ، والأمانة التي حملها الإنسان ، وللموت والبعث والحساب والجنّة والنار ! إنه ذكر ممتدُّ لكل قواعد الإيمان والتوحيد وقواعد منهاج الله ، لكل قواعد شرع الله ودينه الحق ، وأوامره ونواهيه .
إن ذكر الله ، على ضوء ذلك يرسم النهج ويمدّ الدرب ، ويقيم عليه الأهداف الربانيّة الثابتة معالم متلألئة متوهجة بالنور الفياض .
إن ذكر الله الذي تذكره الآية الكريمة والحديث الشريف ، هو الذكر الذي يصاحب المسلم العامل الناهض إِلى مسؤولياته وتكاليفه ، ويصاحبه وهو يعمل ويسعى ويدعو ويربّي ويتعهّد ويبني ويجاهد ، وكل ذلك في سبيل الله . فذكر الله الذي تعنيه الآية والحديث ليس للقاعد الغافل ، ولا للذي يجري ويلهث خلف الدنيا ومتاعها .
أمام المسلم وهو ماضٍ في سبيل الله خطران : خطر الضعف والتوقف ، وخطر الانحراف . إن ذكر الله بشروطه الإيمانيّة يدفع من يتوقف ويمدّه بالعون لينطلق ، ويقوّم من ينحرف ليعود إلى الصراط المستقيم .(/2)
نعم ! ولذكر الله أكبر ! ولكن كثيراً من المسلمين اليوم يظل التصوّر في ذهنهم أَن ( ذكر الله ) يعني التسبيح بالأصابع واللسان في حركات تصدر منه وهو واعٍ لها أو غير واع ، ولكنه قابع في مكانه حين يكون واقع الأمة يدعوه إلى النهوض فلا ينهض ، ويحسب أن التسبيح الذي يقوم به يكفيه .
إن كلمة ( الذكر ) من أكثر الكلمات تكراراً وتأكيداً في الكتاب والسنّة . وفي جميع الحالات تظل الكلمة المرتبطة مباشرة باسم ( الله ) جلَّ جلاله أو باسم من أسمائه أو بكتابه . وكذلك يرتبط ( الذكر ) مع جميع التكاليف الربانية . وخير ما نفعله لنوضح هذه الصورة هو أن نأخذ قبسات من كتاب الله :
( ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدَّكر ) [ القمر : 22]
( إنا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون ) [ الحجر : 9]
فالذكر هنا هو القرآن الكريم أو هو تلاوته وتدبُّره .
( قد أفلح من تزكى . وذكر اسم ربّه فصلى ) [ الأعلى : 15 ]
فلقد دفع ذكر الله المسلم الذي يزكي نفسه إلى النهوض إلى الصلاة ، ومن ثمّ النهوض إلى سائر الشعائر من صيام وحج وزكاة ، وإلى تسبيح ودعاء وغير ذلك .
( ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ) [ الحج : 28 ]
( فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين ) [ البقرة : 198 ]
فارتبط ذكر الله هنا بالحج وشعائره ومناسكه . وتتوالى الآيات لتربط ذكر الله بمعظم المناسك في الحج أو جميعها .
( ولكلّ أمّة منسكاً ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام .. ) [ الحج : 34]
وهنا نرى كيف يمتدّ ( ذكر الله ) مع جميع الرسالات الربانيّة ، ويظلّ مرتبطاً بالمناسك والعمل والسعي .
وكذلك :
( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون ) [ آل عمران : 135 ]
فقد دفع الله هنا الاستغفار والتوبة . ما دام ذكر الله يصاحب المسلم في حياته ، حتى حين يخطئ يكون ذكر الله هو القوة التي تعيده إِلى الحق والتوبة والإنابة .
( لقد كان لكم في رسول الله أُسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً ) [ الأحزاب : 21 ]
فارتبط ذكر الله بالسعي الصادق إِلى الدار الآخرة ، والسعي الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأسوة الحسنة في هذه المسيرة ، وما فيها من دعوة وبلاغ ، وتربية وبناء ، وجهاد ماضٍ في سبيل الله ، وغير ذلك من التكاليف الربانيّة .
( ومن يَعْشُ عن ذكر الرحمن نقيّض له شيطاناً فهو له قرين . وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون ) [ الزخرف : 35 ، 36]
ويصبح ذكر الله هنا هو الذي يدفع المؤمن إلى السبيل الحق والنهوض إلى ما فيه من تكاليف ربّانية ، ومن يعشُ عن ذكر الله وينس ذكر الله يتولاه الشيطان ويصدّه عن السبيل ويزيّن له الضلال ، حتى يحسب أنه مهتدٍ فيزيّن له القعود عن التكاليف التي أمره الله بها ، أو يفصلها بعضها عن بعض ليعطل هذه ويأخذ بتلك حسبَ هواه .
ذكر الله هو الذي يربط التكاليف الربانيّة كلها حتى تكون سبيلاً واحداً وصراطاً مستقيماً . واستمع هذه الآيات الكريمة :
( يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون . فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون ) [ الجمعة : 9،10 ]
وهنا ( فاسعوا إلى ذكر الله .. ) ، أي إلى صلاة الجمعة وما سبقها من تلاوة لكتاب الله ، ودعاء وتسبيح ، وخطبة . وحتى إذا انقضت الصلاة ارتبط ذكر الله بالسعي في الأرض والانتشار فيها يبتغون من فضل الله ويذكرون الله في كلّ أمرهم ، وهم يدعون إلى الإسلام أو يعلِّمون أو يتعلمون أو يجاهدون .
ولنتدبر هذه الصورة من ذكر الله ، حيث يأتي الذكر في أعمال وأنشطة متعددة مترابطة على درب واحد قويم وصراط مستقيم .
( إن ربّك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدِّر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرأوا ما تيسّر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرؤا ما تيسَّر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضاً حسناً وما تقدّموا لأنفسكم من خير تجده عند الله هو خيراً وأعظم أجراً واستغفروا الله إن الله غفور رحيم ) [ المزمل : 20 ](/3)
أنه درب ممتد ، يَقوم المؤمن فيه بهذه الأنشطة والتكاليف الربانية ، وكل تكليف منها هو ذكر لله وعبادة له : قيام الليل ، تلاوة القرآن الكريم ، القتال في سبيل الله ، إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والإنفاق في سبيل الله ، وإقراض الله قرضاً حسناً ، ليَعْنيَ امتداد العمل الصالح على هذا الدرب ، وعلى صراط مستقيم ، يصاحبه ذكر الله ، أو يكون هو نفسه ذكراً لله .
( يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون ، وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول ربِّ لو أخّرتني إلى أجل قريب فأصّدق وأكن من الصالحين ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها والله خبير بما تعلمون ) [ المنافقون : 9ـ 10 ]
ارتبط ذكر الله هنا بالصراط المستقيم الممتد ، الذي لا يجوز للمسلم أن يلهيه عنه أمواله ولا أولاده ، لتظل مسيرته على صراط مستقيم في سبيل الله ممتدّة مع ذكر الله ، أو هي كلها ذكر الله : ( لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله .) وارتبط كذلك بقضية الإِنفاق في سبيل الله ليؤكد القرآن الكريم أهميتها ، ولأنها موضوع رئيس في السورة كلها ، ولأنها من أهم قضايا المسيرة في سبيل الله .
وصورة أخرى في سورة التغابن تربط العمل كله بالله سبحانه وتعالى . تربط العفوَ والتقوى والسمع والطاعة والإنفاق ثم الانطلاق في سبيل الله الممتد ، تربط هذا كله بالله وبذكر الله يأتي هذا كله من خلال آيات بيّنات في ذروة البيان الحق :
( يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا فإن الله غفور رحيم . إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم . فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيراً لأنفسكم ومن يوق شحَّ نفسه فأولئك هم المفلحون . إن تقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم . عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم ) [ التغابن : 14 ـ 18 ]
ففي هذه الآيات البيّنات ارتبط الحذر والعفو والصفح والمغفرة بالله سبحانه وتعالى . جاء الأمر منه سبحانه وتعالى " فاحذروهم " ، وضرب الله للمؤمنين مثلاً من نفسه ليغفروا ويحذروا في هذا الموقف ، فالله غفور رحيم . وربط التقوى بالله : ( فاتقوا الله .. ) ، ثم ارتبطت بالله سائر التكاليف ( واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا . ) وامتد السبيل في تعبير قرآني جامع معجز ممتدّ الظلال : ( إن تقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعفه لكم ... ) فكأنما العمل الصالح المرتبط بذكر الله قرض لله !
هذا كله هو ذكر لله ممتد في حياة المؤمن ، لترتبط أعماله كلها ، صغيرها وكبيرها ، بالله سبحانه وتعالى ، ليصبح ذكر الله هو الجامع لهذه الأعمال كلها ، والدافع ، والموجة لها .
( رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله و إقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب ) [ النور : 37 ، 38 ]
( لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ) ! ثم تلا ذلك الصلاة والزكاة إشارة إلى الشعائر التي هي الأساس الذي يقوم عليه الإسلام كله ، وعمل المؤمن كله ، ولا يُقْبَل العمل دون الوفاء بها ، كما يفيد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( بُنيَ الإسلام على خمس ... )
( لا تلهيهم عن ذكر الله ... ) ، عن العمل في سبيل الله ، عن الصراط المستقيم ، عن النهج الممتد الذي ينيره ذكر الله في كل سعي يمضي به المؤمن ليوفي عهده مع الله ، ويؤدي الأمانة التي حملها ، والخلافة التي جعلت له والعبادة التي خُلق لها من خلال ابتلاء وتمحيص .
ويوضح لنا سبحانه وتعالى هذا السبيل الممتدة والصراط المستقيم بآيات ، تصور لنا السبيل في أساليب متعددة شتى . ففي سورة الصف نجد الصورة التالية في آيات بيّنات :
( يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون . يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم . وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب ) [ الصف : 10 ـ 13 ]
صورة مشرقة ودرب جليّ مشرق ممتد ، يشرق بذكر الله في كل عمل فيه . ( تؤمنون بالله .. ) ! وهذا هو أول الذكر ، والقاعدة الرئيسية التي يقوم عليها كل عمل بعد ذلك . وهل هنالك ذكر أشد من الإيمان به ، ثم الانطلاق للعمل بطاعته على صراط مستقيم . ويصوّر لنا القرآن الكريم هذا الصراط المستقيم بالجهاد في سبيل الله :(/4)
( ... وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم .. ) فجاءت كلمات : ( تجاهدون في سبيل الله .. ) لترسم الدرب كله بعرض أهم التكاليف فيه لتدخل كلها فيه ، وليكون الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس معبّراً عن وفاء المسلم بالتكاليف الربانيّة كلها بتكاملها وترابطها ، ولتكون ذكراً لله ممتداً . وهل هنالك ذكر أعظم من الإيمان به والانطلاق إلى تكاليف الإيمان كلها ، والاستجابة إلى الله رسوله ؟ !
حقاً ! ( ... ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون ) إن الله يعلم ما نصنع ، وكيف نصنع ذلك ، وهل كان عملنا ذكراً لله أم لم يكن ! .
نرجو أن تكون صورة ( ذكر الله ) قد وضحت ومعناه قد بان ، من خلال الآيات البيّنات .
( فذكر الله ) إذن ليس عملاً معزولاً أو يعزل أعمال المؤمن ويفصلها . إنه العمل الجامع الذي يربط عمل المؤمن كله بالله ، ويربطها كلها فيما بينها لتكون كلها مرتبطة بالله ، ولتكون كلها ( ذكر لله ) .
ولذلك جاء التوجيه الربّاني للمؤمنين جلياًّ مؤكداً بمتابعة الذكر آنا الليل والنهار :
( يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً . وسبحوه بكرة وأصيلاً . هو الذي يصلّى عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيماً ) [ الأحزاب : 41 ـ 43 ]
إنه ذكر الله ممتد في حياة المؤمن العامل القائم بالتكاليف الربانيّة ، المستجيب لله ولرسوله ، ليس بالتسبيح وحده ، وإنما بجميع ما يأمر به الله ورسوله . ولذلك جاء ذكر الله ليكون أمراً من عند الله وتكليفاً منه ، مع كل عمل المؤمن ، ليذكر المؤمن ويطلق طاقاته وقدراته في سبيل الله .
( كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون . فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون . يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين ولا تقولوا لمن يُقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون ) [ البقرة : 152ـ154]
يأتي التكليف بذكر الله : ( ... فاذكروني أذكركم ... ) من خلال التكاليف الأخرى ، ليكون ذكر الله ممتداً مع أعمال المؤمن . يأتي الأمر بذكر الله ، لينهض المؤمن إلى ما جاء به رسول الله من آيات بينات وكتاب مبين ، وإلى ما علَّمهم مما لم يكونوا يعلمون . وجاء الأمر وأعقبه الاستعانة بالصبر والصلاة ، لما في التكاليف من جهد وبذل يعظم حتى يبلغ الموت في سبيل الله .
وجاءت الأحاديث الشريفة توضح كذلك معنى ذكر الله ومنزلته في الإسلام :
فعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يقول الله عز وجلّ أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني . فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرتُهُ في ملأٍ خير منه . وإن اقترب إليَّ شبراً اقتربتُ إليه ذراعاً وإن اقترب إليّ ذراعاً اقتربتُ إليه باعاً . وإن أتاني يمشي أَتيته هرولة ) [ رواه الشيخان والترمذي ] (3)
وعن أبي موسى الأشعري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : ( مثَل البيت الذي يذكر فيه الله والبيت الذي لا يذكر فيه الله كمثل الحي والميت ) [ رواه الشيخان ] (4)
ففي الحديث الأول توجيه للمسلم بأن يذكر الله سبحانه وتعالى في نفسه وفي ملأٍ من الناس ، وبأن يقترب إلى الله ! وبماذا يقترب إلى الله ؟ بالطاعة والعمل الصالح والاستجابة لأمره . فاقترن ذكر الله هنا بالعمل والسعي للتقرّب إلى الله بالعمل والبذل لا بالقعود ، حتى يقترن العمل كله بذكر الله ، وبالله ، وليكون في سبيل الله .
وفي الحديث الثاني يظل ذكر الله نديّاً غنيّاً في البيت ، وفي بيت المسلم ، ليحيا البيت ولا يكون ميتا وكذلك الحديث الآخر عن أبي موسى الأشعري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : ( مثل الذي يذكر ربّه والذي لا يذكره مثل الحي والميت ) [ رواه البخاري ] (5)
وعن عبد الله بن بسر رضي الله عنه أن رجلاً قال : يا رسول الله ! إن شرائع الإسلام قد كثرت عليّ فأخبرني بشيء أتشبث به . قال : ( لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله ) . [ رواه الترمذي ] (6)
هكذا يأتي السؤال : أخبرني بشيء أتشبّت به ؟ ! أي عن شيء يلازمه في كل أحواله وعمله ، على ضعف وُسْعِه وطاقته . وهكذا أتى الجواب : ( لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله ) . فذكر الله هو العمل الذي يلازم المؤمن في جميع حالاته ومع جميع أنشطته وأعماله . فلا يعني الحديث أن يفصل ذكر الله عن مسؤولياته وتكاليفه التي يقوي عليها في حدود وسعه كما عرضناه .
هكذا يجب ذكر الله والصلاة على رسوله في كل مجلس يجلسه المؤمنون : فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم تِرَة " نقصان وحسرة " فإن شاء عذبهم وإن شاء عفر لهم ) [ رواه الترمذي ] (7)(/5)
فعن الأغرّ أبي مسلم أَنه شهد على أبي هريرة وأبي سعيد الخدري أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ما من قوم يذكرون الله إلا حفّتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده ) [ رواه الترمذي ] (8)
وهكذا يمتدّ ذكر الله مع المسلم في نفسه وفي بيته وفي مجالسه ، ويمتد إلى جميع الميادين .
وإذا أخذنا جانباً من ذكر الله وهو الدعاء ، فقد سنّ الإسلام للمسلم الدعاء في جميع أحواله : عند نومه واستيقاظه ، وخروجه ، وفي طريقه إلى المسجد أو عمله ، وفي دخوله المسجد ، وعند دخوله بيته وعند الطعام والشراب واللباس ، والخطبة والنكاح ، والجماع ، وفي مجلس دعوة وبلاغ ، وفي ميدان الجهاد ، وفي موقع ومع كل حالة .
فذكر الله : تسبيح ودعاء يرافق المسلم في جميع أحواله ، وطاعة وعبادة يؤديها من تلاوة أو صلاة أو سائر الشعائر ، ومن طلب العلم ، ومن دعوة وبلاغ ، وتربية وبناء ، وجهاد في سبيل الله ، وفي كل ميدان يخوضه المسلم باسم الله وفي سبيل الله ، كل هذا هو ذكر متصل لله .
وذكر الله على ضوء ما سبق يمكن أن نقسمه قسمين للتوضيح والتيسير ، علماً أنهما في الواقع متصلان يكونان تصّوراً واحداً مترابطاً متناسقاً :
القسم الأول : الدعاء والتسبيح .
القسم الثاني : كل عمل صدقت فيه النية الخالصة لله فكانت النيّة ذكراً لله ممتداً مع العمل ، وخضع في مسيرته لدين الله وشرعه ، ماضياً على صراط مستقيم ، مرتبطاً بالله ، متجهاً لله وللدار الآخرة ، ماضياً في سبيل الله ، مرتبطاً بالدعاء والتسبيح . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أحمد : المسند : 5/195 ، الفتح : 14/198ـ الترمذي : 49/6/3374ـ ابن ماجة : 28/53/3835ـ المشكأة : 2269ـ صحيح الجامع الصغير وزيادته : 2629 .
(2) مسلم : 2/30/373ـ أبو داؤد : 1/9/18 ـ الترمذي : 49/9/3381ـ ابن ماجة : 2/11/303 .
(3) البخاري : 97/15/7405. مسلم : 48/1/2675 .
(4) صحيح الجامع الصغير وزيادته : ( ط : 3 ـ ( رقم : 5827 ) . مسلم : 6/29/779 .
(5) البخاري : 80/66/6407 .
(6) الترمذي : 49/4/3372 .
(7) الترمذي : 4/8/3377 .
) (8) الترمذي : 49/7/3375 .(/6)
ذم التشبه بالكفار
أولاً: تعريف وبيان:
1- تعريف التشبه لغة واصطلاحًا.
2- حقيقة التشبه.
3- ألفاظ ذات صلة:
أ- التقليد الأعمى.
ب- الموافقة.
ثانيًا: أصناف من نُهينا عن التشبه بهم:
الصنف الأول: عموم الكفار.
الصنف الثاني: الشيطان.
الصنف الثالث: المبتدعة.
الصنف الرابع: الفساق.
الصنف الخامس: الرجال بالنسبة للنساء والنساء بالنسبة للرجال.
الصنف السادس: الحيوانات.
ثالثًا: النهي عن التشبه بالكفار.
رابعًا: حكمة النهي عن التشبه بالكفار:
1- أن أعمال الكفار مبناها على الضلال والفساد.
2- أن مخالفة الكفار تحقّق مجانبتهم ومباينتهم والبعدَ عن أعمالهم.
3- أن التشابه يوقع شيئًا من المشاكلة.
4- تحقيق مبدأ الولاء والبراء.
5- تمييز المسلمين عن غيرهم من الكفرة والملحدين.
خامسًا: أحكام التشبه بالكفار.
سادسًا: ضوابط وقواعد.
سابعًا: الأمور التي ورد النهي فيها عن التشبه بالكفار:
النوع الأول: العقائد.
النوع الثاني: العبادات:
1- في باب الطهارة.
2- في باب الأذان والصلاة.
3- في باب الصيام.
4- في باب الحج.
5- في باب الأعياد والاحتفالات والمهرجانات.
النوع الثالث: الأخلاق والعادات:
أ- الحسد.
ب- دعوى الجاهلية.
ج- اللباس والزينة.
ثامنًا: أسباب وقوع المسلمين في التشبه بالكفار:
أولاً: الأسباب الداخلية.
ثانيًا: الأسباب الخارجية.
تاسعًا: آثار التشبه بالكفار ومظاهره.
عاشرًا: سبل الوقاية من التشبه بالكفار:
أولاً: بناء شخصية الفرد المسلم.
ثانيًا: تحصين وصيانة شخصية المسلم بعد بنائها وتكوينها.
ثالثًا: تحصين وصيانة ديار الإسلام من نفوذ الكفار.
رابعًا: الدعوة والاحتساب في مواجهة التشبه بالكفار:
1- الدعوة والاحتساب لمواجهة التشبه العقدي.
2- الدعوة والاحتساب لمواجهة التشبه التعبدي.
3- الدعوة والاحتساب في مواجهة التشبه الأخلاقي.
4- الدعوة والاحتساب في مواجهة التشبه الثقافي.
خامسًا: دعاء الله سبحانه بالهداية إلى الاستقامة.
أولاً: تعريف وبيان:
1- تعريف التشبه لغة واصطلاحًا:
التشبه لغة:
قال ابن فارس: "(شبه) الشين والباء والهاء: أصل واحد يدل على تشابه الشيء وتشاكله لونًا ووصفًا، يقال: شِبْه وشَبَه وشَبيه، والشّبَهُ من الجواهر الذي يشبه الذهب"[1].
وقال ابن منظور: "الشِّبْهُ والشَّبَهُ والشَّبِيهُ: المثل، والجمع أشباه، وأشْبَه الشيءُ الشيءَ: ماثله، وفي المثل: من أشبه أباه فما ظلم... وبينهما شَبَه بالتحريك, والجمع مَشابِهُ على غير قياس... وأشْبَهْتُ فلانًا وشابَهْتُه واشتبه عليّ وتشابه الشيئان واشتبها: أشبه كل واحد منهما صاحبَه... وتشبّه فلان بكذا، وتقول: في فلان شَبَهٌ من فلان، وهو شِبْهُهُ وشَبَهُه وشبيهُهُ"[2].
إذًا التشبه لغة: مصدر تشبه، يقال: تشبه فلان بفلان إذا تكلف أن يكون مثله[3].
والتشبه مأخوذ من المشابهة، وهي المماثلة والمحاكاة والتقليد[4].
التشبه اصطلاحًا:
قال الغزي: "هو عبارة عن محاولة الإنسان أن يكون شبهَ المتشبَّه به وعلى هيئته وحليته ونعته وصفته، أو هو عبارة عن تكلّف ذلك وتقصُّده وتعلّمه، وقد يعبر عن التشبه بالتشكل والتمثل والتزيِّي والتحلي والتخلق"[5].
وقيل: "هو تمثُّل المسلم بالكفار في عقائدهم أو عباداتهم أو أخلاقهم أو فيما يختصون به من عادات أو خضوعه لهم بشكل من الأشكال"[6].
2- حقيقة التشبه:
قال ابن تيمية: "التشبه يعم من فعل الشيء لأجل أنهم فعلوه وهو نادر, ومن تبع غيره في فعل لغرض له في ذلك إذا كان أصل الفعل مأخوذًا عن ذلك الغير. فأما من فعل الشيء واتفق أن الغير فعله أيضًا، ولم يأخذه أحدهما عن صاحبه، ففي كون هذا تشبّهًا نظر، لكن قد يُنْهى عن هذا لئلا يكون ذريعة إلى التشبه، ولما فيه من المخالفة"[7].
3- ألفاظ ذات صلة:
أ- التقليد الأعمى:
والمقصود بالتقليد الأعمى هو: ما سلكه المسلمون ـ من غير إدراك ولا وعي ولا تمحيص ـ من اتباع الكفار، والأخذ منهم، والتشبه بهم في شتى ألوان الحياة وأنماط السلوك والأخلاق وأشكال الإنتاج؛ في الاعتقاد والتصور والفكر والفلسفة والسياسة والاقتصاد والأدب والفن والثقافة والنظم والتشريع, من غير اعتبار للعقيدة والشريعة الإسلامية والأخلاق الفاضلة، ومن غير إلزام للمنهج الإسلامي الأصيل[8].
ب- الموافقة:
وهي مشاركة أحد الشخصين للآخر في صورة قول أو فعل أو ترك أو اعتقاد أو غير ذلك، سواء أكان ذلك من أجل ذلك الآخر أم لا لأجله[9].
فالموافقة بهذا الاعتبار أعم من التشبه.
قال ابن تيمية: "الموافقة في القليل تدعو إلى الموافقة في الكثير، وهنا جنس الموافقة يلبس على العامة دينهم، حتى لا يميزوا بين المعروف والمنكر"[10].
[1] مقاييس اللغة (3/243).
[2] لسان العرب (7/23-25)، وانظر: القاموس المحيط (ص 1610).
[3] الموسوعة الفقهية الكويتيه (12/5).
[4] رسالة (من تشبه بقوم فهو منهم) د.ناصر العقل (ص 7).(/1)
[5] حسن التنبه لما ورد في التشبه (ق 2/2) مخطوطة بدار الكتب الظاهرية بدمشق والمكتبة السليمانية بتركيا، مصورة بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة, والنقل عنه بواسطة: التدابير الواقية من التشبه بالكفار (1/49).
وقد ذكر أكثر الباحثين المعاصرين أنهم لم يعثروا ـ في حدود اطلاعهم ـ عند العلماء المتقدمين ولا المتأخرين على تعريف اصطلاحي للتشبه بالكفار يبين ماهيته، باستثناء تعريف نجم الدين الغزي, وإنما اكتفوا ـ رحمهم الله ـ ببيان أحكام التشبه بالكفار، معتمدين في ذلك على وضوح معناه اللغوي، وعلى فهمهم الدقيق لمقتضيات النهي عن التشبه بالكفار. انظر: التدابير الواقية من التشبه بالكفار (1/48).
[6] التدابير الواقية (1/50), وانظر: من تشبه بقوم فهو منهم (ص7).
[7] اقتضاء الصراط المستقيم (1/271).
[8] انظر: التقليد والتبعية وأثرهما في كيان الأمة الإسلامية، د.ناصر العقل (ص 47-48).
[9] انظر: إحكام الأحكام للآمدي (1/172).
[10] اقتضاء الصراط المستقيم (1/547).
ثانيًا: أصناف من نُهينا عن التشبه بهم:
الذين نهينا عن التشبه بهم أصناف كثيرة:
الصنف الأول: عموم الكفار:
ويدخل فيهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، والمشركون، والمجوس، والملاحدة وغيرهم.
فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لتتبعنّ سنن من كان قبلكم شبرا شبرا وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم))، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: ((فمن؟!))[1].
الصنف الثاني: الشيطان:
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يأكلن أحدكم بشماله، ولا يشربن بها، فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بها))[2].
قال ابن تيمية: "فإنه صلى الله عليه وسلم علل النهي عن الأكل والشرب بالشمال بأن الشيطان يفعل ذلك، فعلم أن مخالفة الشيطان أمر مقصود مأمور به، ونظائره كثيرة"[3].
الصنف الثالث: المبتدعة:
جاءت نصوص كثيرة عن سلف الأمة في التحذير منهم، ومن ذلك ما جاء عن أبي قلابة أنه قال: "إياكم وأصحاب الخصومات، فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، أو يلبسوا عليكم بعض ما تعرفون"[4].
الصنف الرابع: الفساق:
قال القرطبي: "لو خُص أهل الفسوق والمجون بلباس منع لبسه لغيرهم، فقد يظن به من لا يعرفه أنه منهم، فيظن به ظن السوء، فيأثم الظان والمظنون فيه بسبب العون عليه"[5].
الصنف الخامس: الرجال بالنسبة للنساء والنساء بالنسبة للرجال:
تشبّه الرجال بالنساء والنساء بالرجال من كبائر الذنوب[6]، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لعن النبي صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال، والمترجّلات من النساء وقال: ((أخرجوهم من بيوتكم))، قال: فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم فلانًا، وأخرج عمر فلانة[7].
قال ابن حجر: "قال الطبري: المعنى: لا يجوز للرجال التشبه بالنساء في اللباس والزينة التي تختص بالنساء، ولا العكس. قلت: وكذا في الكلام والمشي، فأما هيئة اللباس فتختلف باختلاف عادة كل بلد... قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة ما ملخصه: ظاهر اللفظ الزجر عن التشبه في كل شيء، لكن عرف من الأدلة الأخرى أن المراد التشبه في الزي وبعض الصفات والحركات ونحوها، لا التشبه في أمور الخير"[8].
وقال ابن تيمية: "الأصل في ذلك ليس هو راجعًا إلى مجرد ما تختاره الرجال والنساء ويشتهونه ويعتادونه، فإنه لو كان كذلك لكان إذا اصطلح قوم على أن يلبس الرجال الخُمُر التي تغطي الرأس والوجه والعنق، والجلابيب التي تسدل من فوق الرؤوس حتى لا يظهر من لابسها إلا العينان، وأن تلبس النساء العمائم والأقبية المختصرة ونحو ذلك، أن يكون هذا سائغًا! وهذا خلاف النص والإجماع، فإن الله تعالى قال للنساء: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ} الآية [النور:31]، وقال: {قُل لأزْواجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذالِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ} الآية [الأحزاب:59]، وقال: {وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى} [الأحزاب:33]. فلو كان اللباس الفارق بين الرجال والنساء مستندُه مجرد ما يعتاده النساء أو الرجال باختيارهم وشهوتهم لم يجب أن يدنين عليهن الجلابيب، ولا أن يضربن بالخُمُر على الجيوب، ولم يحرم عليهن التبرج تبرجَ الجاهلية الأولى؛ لأن ذلك كان عادة لأولئك، وليس الضابط في ذلك لباسًا معيّنًا من جهة نص النبي صلى الله عليه وسلم، أو من جهة عادة الرجال والنساء على عهده، بحيث يقال: إن ذلك هو الواجب وغيره يحرم، فإن النساء على عهده كن يلبسن ثيابًا طويلات الذيل بحيث ينجرّ خلف المرأة إذا خرجت، والرجل مأمور بأن يشمر ذيله حتى لا يبلغ الكعبين...(/2)
فالفارق بين لباس الرجال والنساء يعود إلى ما يصلح للرجال وما يصلح للنساء، وهو ما ناسب ما يؤمر به الرجال وما يؤمر به النساء، فالنساء مأمورات بالاستتار والاحتجاب دون التبرج والظهور... فإذا اختلف لباس الرجال والنساء فما كان أقرب إلى مقصود الاستتار والاحتجاب كان للنساء، وكان ضده للرجال.
وأصل هذا أن تعلم أن الشارع له مقصودان، أحدهما: الفرق بين الرجال والنساء، والثاني: احتجاب النساء. فلو كان مقصوده مجرد الفرق لحصل ذلك بأي وجه حصل الاختلاف، وقد تقدم فساد ذلك... وكذلك الأمر في لباس الرجال والنساء، ليس المقصود به مجرّد الفرق، بل لا بد من رعاية جانب الاحتجاب والاستتار، وكذلك أيضًا ليس المقصود مجرد حجب النساء وسترهن دون الفرق بينهن وبين الرجال، بل الفرق أيضًا مقصود...
والرجل المتشبه بالنساء يكتسب من أخلاقهن بحسب تشبهه، حتى يفضي به الأمر إلى التخنث المحض، والتمكين من نفسه كأنه امرأة، ولما كان الغناء مقدمة ذلك وكان من عمل النساء كانوا يسمون الرجال المغنِّين مخانيث.
والمرأة المتشبهة بالرجال تكتسب من أخلاقهم حتى يصير فيها من التبرج والبروز ومشابهة الرجال ما قد يفضي ببعضهن إلى أن تظهر بدنها كما يظهره الرجال، وتطلب أن تعلو على الرجال كما يعلو الرجال على النساء، وتفعل من الأفعال ما ينافي الحياء والخفَر[9] المشروع للنساء، وهذا القدر قد يحصل بمجرد المشابهة.
وإذا تبين أنه لا بد من أن يكون بين لباس الرجال والنساء فرق يميز بين الرجال والنساء، وأن يكون لباس النساء فيه من الاستتار والاحتجاب ما يحصل مقصود ذلك ظهر أصل هذا الباب، وتبين أن اللباس إذا كان غالبه لبس الرجال نهيت عنه المرأة وإن كان ساترًا كالفراجي التي جرت عادة بعض البلاد أن يلبسها الرجال دون النساء، والنهي عن مثل هذا بتغير العادات، وأما ما كان الفرق عائدًا إلى نفس الستر، فهذا يؤمر فيه النساء بما كان أستر... ولو قدر أن الفرق يحصل بدون ذلك، فإذا اجتمع في اللباس قلة الستر والمشابهة نُهِي عنه من الوجهين، والله أعلم"[10].
الصنف السادس: الحيوانات:
جاءت أحاديث كثيرة في ذم التشبه بالحيوانات والنهي عن ذلك، منها:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اعتدلوا في السجود، ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب))[11].
عن عبد الرحمن بن شبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثلاث: عن نقرة الغراب، وافتراش السبع، وأن يوطّن الرجل المقام للصلاة كما يوطّن البعير[12].
وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: قال كنا إذا صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، وأشار بيده إلى الجانبين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((علام تومئون بأيديكم كأنها أذناب خيل شمس؟! إنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه ثم يسلم على أخيه من على يمينه وشماله))[13].
قال ابن تيمية: "التشبه بالبهائم في الأمور المذمومة في الشرع مذموم منهي عنه؛ في أصواتها وأفعالها ونحو ذلك, مثل: أن ينبح نبيح الكلاب، أو ينهق نهيق الحمير، ونحو ذلك. وذلك لوجوه:
أحدها: أنّا قررنا في "اقتضاء الصراط المستقيم" نهي الشارع عن التشبه بالآدميين الذين جنسهم ناقص كالتشبه بالأعراب وبالأعاجم وبأهل الكتاب ونحو ذلك في أمور من خصائصهم، وبينا أن من أسباب ذلك أن المشابهة تورث مشابهة الأخلاق، وذكرنا أن من أكثر عشرة بعض الدواب اكتسب من أخلاقها كالكلاّبين والجمّالين، وذكرنا ما في النصوص من ذم أهل الجفاء وقسوة القلوب أهل الإبل، ومن مدح أهل الغنم، فكيف يكون التشبه بنفس البهائم فيما هي مذمومة؟!
بل هذه القاعدة تقتضي بطريق التنبيه النهيَ عن التشبه بالبهائم مطلقًا فيما هو من خصائصها، وإن لم يكن مذمومًا بعينه، لأن ذلك يدعو إلى فعل ما هو مذموم بعينه، إذ من المعلوم أن كون الشخص أعرابيًا أو عجميًا خير من كونه كلبًا أو حمارًا أو خنزيرًا، فإذا وقع النهي عن التشبه بهذا الصنف من الآدميين في خصائصه لكون ذلك تشبهًا فيما يستلزم النقص ويدعو إليه فالتشبه بالبهائم فيما هو من خصائصها أولى أن يكون مذمومًا ومنهيًا عنه.
الوجه الثاني: أن كون الإنسان مثل البهائم مذموم، قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ الْجِنّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179].(/3)
الوجه الثالث: أن الله سبحانه إنما شبه الإنسان بالكلب والحمار ونحوهما في معرض الذم له، كقوله: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذالِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ} [الأعراف:176، 177] وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمّلُواْ التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} الآية [الجمعة:5]، وإذا كان التشبه بها إنما كان على وجه الذم من غير أن يقصد المذموم التشبه بها فالقاصد أن يتشبه بها أولى أن يكون مذمومًا، لكن إن كان تشبه بها في عين ما ذمه الشارع صار مذمومًا من وجهين، وإن كان فيما لم يذمه بعينه صار مذمومًا من جهة التشبه المستلزم للوقوع في المذموم بعينه.
يؤيد هذا الوجه الرابع: وهو قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: ((العائد في هبته [كالكلب يعود] في قيئه، ليس لنا مثل السوء))[14]. فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر هذا المثل إلا ليبين أن الإنسان إذا شابه الكلب كان مذمومًا، وإن لم يكن الكلب مذمومًا في ذلك من جهة التكليف، ولهذا ليس لنا مثل السوء، والله سبحانه قد بين بقوله: {سَاء مَثَلاً} أن التمثيل بالكلب مثل سوء، والمؤمن منزه عن مثل السوء، فإذا كان له مثل سوء من الكلب كان مذمومًا بقدر ذلك المثل السوء.
الوجه الخامس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه كلب))[15]، وقال: ((إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله، وإذا سمعتم نهيق الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان، فإنها رأت شيطانًا))[16].
فدل ذلك على أن أصواتها مقارنة للشياطين، وأنها منفرة للملائكة، ومعلوم أن المشابهة للشيء لا بد أن يتناوله من أحكامه بقدر المشابهة، فإذا نبح نباحها كان في ذلك من مقارنة الشياطين وتنفير الملائكة بحسبه.
وما يستدعي الشياطين وينفر الملائكة لا يباح إلا لضرورة، ولهذا لم يبح اقتناء الكلب إلا لضرورة، لجلب منفعة كالصيد، أو دفع مضرة عن الماشية والحرث، حتى قال صلى الله عليه وسلم: ((من اقتنى كلبًا إلا كلب ماشية أو حرث أو صيد نقص من عمله كل يوم قيراط))[17].
وبالجملة: فالتشبه بالشيء يقتضي من الحمد والذم بحسب الشبه، لكن كون المتشبَّه به غير مكلف لا ينفي التكليف عن المتشبِّه، كما لو تشبه بالأطفال والمجانين والله سبحانه أعلم.
الوجه السادس: أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال[18]، وذلك لأن الله خلق كل نوع من الحيوان، وجعل صلاحه وكماله في أمر مشترك بينه وبين غيره، وبين أمر مختص به.
فأما الأمور المشتركة فليست من خصائص أحد النوعين، ولهذا لم يكن من مواقع النهي، وإنما مواقع النهي الأمور المختصة، فإذا كانت الأمور التي هي من خصائص النساء ليس للرجال التشبه بهن فيها، والأمور التي هي من خصائص الرجال ليس للنساء التشبه بهم فيها؛ فالأمور التي هي من خصائص البهائم لا يجوز للآدمي التشبه بالبهائم فيها بطريق الأولى والأحرى، وذلك لأن الإنسان بينه وبين الحيوان قدر جامع مشترك وقدر فارق مختصّ, ثم الأمر المشترك كالأكل والشرب والنكاح والأصوات والحركات لما اقترنت بالوصف المختص كان للإنسان فيها أحكام تخصه، ليس له أن يتشبه بما يفعله الحيوان فيها، فالأمور المختصة به أولى، مع أنه في الحقيقة لا مشترك بينه وبينها، ولكن فيه أوصاف تشبه أوصافها من بعض الوجوه، والقدر المشترك إنما وجوده في الذهن لا في الخارج.
وإذا كان كذلك فالله تعالى قد جعل الإنسان مخالفًا بالحقيقة للحيوان، وجعل كماله وصلاحه في الأمور التي تناسبه، وهي جميعها لا يماثل فيها الحيوان، فإذا تعمّد مماثلة الحيوان وتغيير خلق الله فقد دخل في فساد الفطرة والشرعة، وذلك محرم، والله أعلم"[19].
[1] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء, باب: ما ذكر عن بني إسرائيل (3456)، ومسلم في العلم, باب: اتباع سنن اليهود والنصارى (2669).
[2] أخرجه مسلم في الأشربة, باب: آداب الطعام والشراب (2020).
[3] اقتضاء الصراط المستقيم (1/407).
[4] أسنده عبد الله بن أحمد في كتاب السنة (1/137).
[5] نقلاً عن الموسوعة الفقهية (12/11).
[6] انظر: الكبائر للذهبي (ص108).
[7] أخرجه البخاري في اللباس, باب: إخراج المتشبهين بالنساء من البيوت (5886).
[8] فتح الباري (10/345).
[9] الخفَر بفتحتين: شدة الحياء.
[10] مجموع الفتاوى (22/146-154) باختصار.
[11] أخرجه البخاري في الأذان, باب: لا يفترش ذراعيه في السجود (822)، ومسلم في الصلاة, باب: الاعتدال في السجود (493).(/4)
[12] أخرجه أحمد (3/428)، وأبو داود في الصلاة (862)، والنسائي في التطبيق (1112)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1429)، وصححه ابن خزيمة (662، 1319)، وابن حبان (2277)، والحاكم (833)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1168).
[13] أخرجه مسلم في الصلاة, باب: الأمر بالسكون في الصلاة (431).
[14] أخرجه البخاري في الحيل, باب: في الهبة والشفعة (6975) واللفظ له، ومسلم في الهبات (1622) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[15] أخرجه البخاري في بدء الخلق (3225)، ومسلم في اللباس والزينة (2106) عن أبي طلحة رضي الله عنه.
[16] أخرجه البخاري في بدء الخلق, باب: خير مال المسلم غنم... (3303), ومسلم في الذكر والدعاء، باب: استحباب الدعاء عند صياح الديك (2729) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[17] أخرجه البخاري في المزارعة, باب: اقتناء الكلب للحرث (2322), ومسلم في المساقاة, باب: الأمر بقتل الكلاب ونسخه (1575) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[18] أخرجه البخاري في اللباس, باب: المتشبهون بالنساء والمتشبهات بالرجال (5885) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[19] مجموع الفتاوى (32/256-260).
ثالثًا: النهي عن التشبه بالكفار:
التشبه بالكفار في الجملة منهي عنه.
1- قال الله تعالى: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا بَنِى إِسْراءيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطَّيّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمينَ * وَءاتَيْنَاهُم بَيّنَاتٍ مّنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُواْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بِيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ *إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِىُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية:16-19].
قال ابن تيمية: "أخبر سبحانه أنه أنعم على بني إسرائيل بنعم الدين والدنيا، وأنهم اختلفوا بعد مجيء العلم بغيًا من بعضهم على بعض, ثم جعل محمدًا صلى الله عليه وسلم على شريعة شرعها له، وأمره باتباعها، ونهاه عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون، وقد دخل في الذين لا يعلمون كل من خالف شريعته.
وأهواؤهم هو ما يهوونه، ولهذا يفرح الكافرون بموافقة المسلمين في بعض أمورهم، ويسَرّون به، ويودّون أن لو بذلوا عظيمًا ليحصل ذلك، ولو فرض أن ليس الفعل من اتباع أهوائهم فلا ريب أن مخالفتهم في ذلك أحْسَمُ لمادة متابعتهم، وأعون على حصول مرضاة الله في تركها، وأن موافقتهم في ذلك قد تكون ذريعة إلى موافقتهم في غيره، فإن من حام حول الحمى أوشك أن يواقعه، وأي الأمرين كان حصل المقصود في الجملة، وإن كان الأول ظهر"[1].
2- وقال سبحانه: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ} [البقرة:120].
قال ابن تيمية مبيّنًا وجه دلالة الآية في النهي عن التشبه بالكفار: "فانظر كيف قال في الخبر: {مِلَّتَهُمْ}، وقال في النهي: {أَهْوَاءهُم}؛ لأن القوم لا يرضون إلا باتباع الملة مطلقًا، والزجر وقع عن اتباع أهوائهم في قليل أو كثير، ومن المعلوم أن متابعتهم في بعض ما هم عليه من الدين نوع متابعة لهم في بعض ما يهوونه، أو مظنة لمتابعتهم فيما يهوونه"[2].
3- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم))[3].
قال ابن تيمية: "أمر بمخالفتهم، وذلك يقتضي أن يكون جنس مخالفتهم أمرًا مقصودًا للشارع، لأنه إن كان الأمر بجنس المخالفة حصل المقصود, وإن كان الأمر بالمخالفة في تغيير الشعر فقط فهو لأجل ما فيه من المخالفة"[4].
4- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تشبّه بقوم فهو منهم))[5].
قال ابن تيمية: "وهذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبِّه بهم، كما في قوله: {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]، وهو نظير ما سنذكره عن عبد الله بن عمرو أنه قال: (من بنى بأرض المشركين وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت حشر معهم يوم القيامة)[6]. فقد يحمل هذا على التشبه المطلق، فإنه يوجب الكفر، ويقتضي تحريم أبعاض ذلك, وقد يحمل على أنه منهم في القدر المشترك الذي شابههم فيه، فإن كان كفرًا أو معصية أو شعارًا لها كان حكمه كذلك.
وبكل حال يقتضي تحريم التشبه بعلة كونه تشبهًا"[7].
[1] اقتضاء الصراط المستقيم (1/98).
[2] اقتضاء الصراط المستقيم (1/99).(/5)
[3] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء, باب: ما ذكر عن بني إسرائيل (3462), ومسلم في للباس والزينة, باب: في مخالفة اليهود في الصبغ (2103).
[4] اقتضاء الصراط المستقيم (1/185).
[5] أخرجه أحمد (2/50)، وأبو داود في اللباس، باب: في لبس الشهرة (4031)، وعبد بن حميد (1/267)، والبيهقي في الشعب (2/75). قال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (25/331): "هذا حديث جيد"، وقال العراقي في تخريج الإحياء (1/342): "سنده صحيح"، وحسن إسناده ابن حجر في الفتح (10/271)، وصححه الألباني في حجاب المرأة المسلمة (ص104).
[6] أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (9/234).
[7] اقتضاء الصراط المستقيم (1/270-271).
رابعًا: حكمة النهي عن التشبه بالكفار:
ذكر العلماء حكمًا وأسبابًا كثيرة في النهي عن التشبه بالكفار، ومنها ما يلي:
1- أن أعمال الكفار مبناها على الضلال والفساد:
قال ابن تيمية: "إن نفس ما هم عليه من الهدْي والخلق قد يكون مضرًا أو منقصًا، فينهى عنه، ويؤمر بضده لما فيه من المنفعة والكمال، وليس شيء من أمورهم إلا وهو إما مضر أو ناقص، لأن ما بأيديهم من الأعمال المبتدعة والمنسوخة ونحوها مضرة، وما بأيديهم مما لم ينسخ أصله فهو يقبل الزيادة والنقص، فمخالفتهم فيه بأن يشرع ما يحصله على وجه الكمال، ولا يتصور أن يكون شيء من أمورهم كاملاً قط.
فإذًا المخالفة لهم فيها منفعة وصلاح لنا في كل أمورهم، حتى ما هم عليه من إتقان بعض أمور دنياهم قد يكون مضرًا بأمر الآخرة، أو بما هو أهم منه من أمر الدنيا، فالمخالفة فيه صلاح لنا"[1].
2- أن مخالفة الكفار تحقِّق مجانبتهم ومباينتهم والبعدَ عن أعمالهم:
قال ابن تيمية: "إن نفس المخالفة لهم في الهدي الظاهر مصلحة ومنفعة لعباد الله المؤمنين لما في مخالفتهم من المجانبة والمباينة التي توجب المباعدة عن أعمال أهل الجحيم، وإنما يظهر بعض المصلحة في ذلك لمن تنور قلبه حتى رأى ما اتصف به المغضوب عليهم والضالون من المرض الذي ضرره أشدُّ من ضرر أمراض الأبدان"[2].
3- أن التشابه يوقع شيئًا من المشاكلة:
قال ابن تيمية: "إن الله تعالى جَبَل بني آدم, بل سائر المخلوقات على التفاعل بين الشيئين المتشابهين، وكلما كانت المشابهة أكثر كان التفاعل في الأخلاق والصفات أتم، حتى يؤول الأمر إلى أن لا يتميز أحدهما عن الآخر إلا بالعين فقط.
ولما كان بين الإنسان وبين الإنسان مشاركة في الجنس الخاص كان التفاعل فيه أشد, ثم بينه وبين سائر الحيوان مشاركة في الجنس المتوسط، فلا بدّ من نوع تفاعل بقدره، ثم بينه وبين النبات مشاركة في الجنس البعيد مثلاً، فلا بد من نوع ما من المفاعلة، ولأجل هذا الأصل وقع التأثر والتأثير في بني آدم، واكتساب بعضهم أخلاق بعض بالمعاشرة والمشاكلة...
فالمشابهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة توجب مشابهة ومشاكلة في الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدريج الخفي"[3].
وقال أيضًا: "إن المشاركة في الهدي الظاهر تورث تناسبًا وتشاكلاً بين المتشابهين، يقود إلى موافقة ما في الأخلاق والأعمال، وهذا أمر محسوس، فإن اللابس ثياب أهل العلم يجد من نفسه نوعَ انضمام إليهم، واللابس لثياب الجند المقاتلة مثلاً يجد من نفسه نوع تخلّق بأخلاقهم، ويصير طبعه متقاضيًا لذلك، إلا أن يمنعه مانع"[4].
4- تحقيق مبدأ الولاء والبراء:
قال ابن تيمية: "إن المخالفة في الهدي الظاهر توجب مباينة ومفارقة توجب الانقطاع عن موجبات الغضب وأسباب الضلال، والانعطاف على أهل الهدى والرضوان، وتحقيق ما قطع الله من الموالاة بين جنده المفلحين وأعدائه الخاسرين"[5].
5- تمييز المسلمين عن غيرهم من الكفرة والملحدين:
قال ابن تيمية: "إن مشاركتهم في الهدي الظاهر توجب الاختلاط الظاهر، حتى يرتفع التميّز ظاهرًا بين المهديين المرضيين وبين المغضوب عليهم والضالين"[6].
[1] اقتضاء الصراط المستقيم (1/198).
[2] اقتضاء الصراط المستقيم (1/197-198).
[3] اقتضاء الصراط المستقيم (1/547-548).
[4] اقتضاء الصراط المستقيم (1/93).
[5] اقتضاء الصراط المستقيم (1/93).
[6] اقتضاء الصراط المستقيم (1/94).
خامسًا: أحكام التشبه بالكفار:
قال ابن عثيمين: "الذي يفعله أعداء الله وأعداؤنا وهم الكفار ينقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: عبادات، القسم الثاني: عادات، القسم الثالث: صناعات وأعمال.
أما العبادات فمن المعلوم أنه لا يجوز لأي مسلم أن يتشبه بهم في عباداتهم, ومن تشبه بهم في عباداتهم فإنه على خطر عظيم, فقد يكون ذلك مؤديًا إلى كفره وخروجه من الإسلام.
وأما العادات كاللباس وغيره فإنه يحرم أن يتشبه بهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من تشبّه بقوم فهو منهم))[1].
وأما الصناعات والحرف التي فيها مصالح عامة فلا حرج أن نتعلم مما صنعوه ونستفيد منه، وليس هذا من باب التشبه، ولكنه من باب المشاركة في الأعمال النافعة التي لا يُعدّ من قام بها متشبهًا بهم"[2].(/6)
"إن أحكام التشبه على جهة التفصيل لا يمكن استقراؤها، لأن كل حالة من أحوال التشبه لها حكم يعرض على النصوص وعلى قواعد الشرع من قِبَل أهل العلم والفقه في الدين, ولكن هناك بعض الأحكام العامة التي تنتظم جميع أنواع التشبه في الجملة، لا على جهة التفصيل، على النحو التالي:
أولاً: من أنواع التشبه بالكافرين ما هو شرك أو كفر، كالتشبه في العقائد، والتشبه في بعض العبادات، وكالتشبه باليهود والنصارى والمجوس في الأمور المخلة بالتوحيد والعقيدة، كالتعطيل والإلحاد والحلول, وتقديس الأشخاص من الأنبياء والصالحين وعبادتهم ودعائهم من دون الله، وكتحكيم الشرائع والنظم البشرية، كل ذلك إما شرك وإما كفر.
ثانيًا: من التشبه ما هو معصية وفسق، كتقليد الكفار في بعض العادات، كالأكل باليد الشمال، والشرب بها، والتختم بالذهب، والتحلي به للرجال، وحلق اللحى، وتشبه النساء بالرجال، وتشبه الرجال بالنساء، ونحو ذلك.
ثالثًا: ما هو مكروه، وهو ما تردد الحكم فيه بين الإباحة والتحريم، على سبيل عدم الوضوح في الحكم، أعني أنه قد تتردد بعض أنماط السلوك والعادات والأشياء الدنيوية بين الكراهة وبين الإباحة، فهذا دَفْعًا لوقوع المسلمين في التشبه، يبقى حكمه مكروهًا.
رابعًا: ما هو مباح، وهو ما ليس من خصائصهم من أمور الدنيا، أي: ليس فيه سمة تخصهم وتميزهم عن المسلمين الصالحين، وما لا يجر إلى مفسدة كبرى على المسلمين أو إلى منفعة للكفار تؤدي إلى الصغار للمسلمين، ونحو ذلك. ومن المباح: الإنتاج المادي البحت والعلوم الدنيوية البحتة"[3].
[1] أخرجه أحمد (2/50)، وأبو داود في اللباس، باب: في لبس الشهرة (4031)، وعبد بن حميد (1/267)، والبيهقي في الشعب (2/75) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. قال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (25/331): "هذا حديث جيد"، وقال العراقي في تخريج الإحياء (1/342): "سنده صحيح"، وحسن إسناده ابن حجر في الفتح (10/271)، وصححه الألباني في حجاب المرأة المسلمة (ص104).
[2] مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين (3/40).
[3] رسالة (من تشبه بقوم فهو منهم) (ص 20-23).
سادسًا: ضوابط وقواعد:
لكي تكون مسألة التشبه بالكفار واضحة جلية لجميع الناس ذكر العلماء جملة من الضوابط والقواعد الشرعية من خلال استعراض الأدلة من القرآن الكريم ثم من السنة النبوية الصحيحة الواردة في النهي عن تشبه المسلمين بالكفار، وإجماع المسلمين في العصور الفاضلة على ذلك, ومن تلكم الضوابط والقواعد ما يلي:
أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر وهو الصادق المصدوق أن هذه الأمة لا بد أن تتبع سنن من كان قبلها من الأمم الأخرى.
فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لتتبعنّ سنن من كان قبلكم شبرا شبرا وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم))، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: ((فمن؟!))[1].
قال ابن حجر: "والذي يظهر أن التخصيص إنما وقع لجحر الضب لشدة ضيقه ورداءته، ومع ذلك فإنهم لاقتفائهم آثارهم واتباعهم طرائقَهم لو دخلوا في مثل هذا الضيق الرديء لتبعوهم"[2].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها شبرًا بشبر وذراعًا بذراع))، فقيل: يا رسول الله، كفارس والروم؟ فقال: ((ومن الناس إلا أولئك؟!))[3].
قال ابن تيمية: "فأخبر أنه سيكون في أمته مضاهاة لليهود والنصارى وهم أهل الكتاب، ومضاهاة لفارس والروم وهم الأعاجم"[4].
قال ابن بطال: "أعلَمَ صلى الله عليه وسلم أن أمته ستتبع المحدثات من الأمور والبدع والأهواء كما وقع للأمم قبلهم، وقد أنذر في أحاديث كثيرة بأن الآخر شر، والساعة لا تقوم إلا على شرار الناس، وأن الدين إنما يبقى قائمًا عند خاصة من الناس"[5].
قال ابن حجر: "وقد وقع معظم ما أنذر به صلى الله عليه وسلم، وسيقع بقية ذلك"[6].
ثانيًا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأن طائفة من أمته ستبقى مستمسكة بالحق.
فعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك))[7]، وفي حديث معاوية رضي الله عنه: ((لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم))[8].
قال ابن تيمية: "أخبر أنه سيكون في أمته مضاهاة لليهود والنصارى وهم أهل الكتاب، ومضاهاة لفارس والروم وهم الأعاجم. وقد كان صلى الله عليه وسلم ينهى عن التشبه بهؤلاء وهؤلاء، وليس هذا إخبارًا عن جميع الأمة, [وقد] عُلِم بخبره الصادق أن في أمته قوم مستمسكون بهديه الذي هو دين الإسلام محضًا, وقوم منحرفون إلى شعبة من شعب اليهود، أو شعبة من شعب النصارى، وإن كان الرجل لا يكفر بكل انحراف، بل وقد لا يفسق أيضًا، بل قد يكون الانحراف كفرًا، وقد يكون فسقًا، وقد يكون معصية، وقد يكون خطأ"[9].(/7)
"وهذه القواعد لا يمكن أن ينفصل بعضها عن بعض عند النظر في مسائل التشبه، لأنا لو فصلنا هذه النصوص بعضها عن بعض لتوهم بعض الناس أن المسلمين كلهم سيقعون في التشبه، وهذا لا يمكن أبدًا؛ لأن هذا يناقض حفظ الدين، والله تعالى تكفل بحفظه، ولأن هذا يناقض إخباره صلى الله عليه وسلم بأن في أمته طائفة ستبقى على الحق ظاهرة، كما أنا لو أخذنا بهذا الحديث الآخر وهو: ((ستبقى طائفة)) ولم نأخذ بالحديث الأول وهو: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم)) لتوهم بعض الناس أن هذه الأمة معصومة من الوقوع في التشبه بالكافرين.
والأمر ليس بهذا ولا بذاك، إنما ستبقى الأمة الأوسط أهل السنة والجماعة، هم الذين على السنة لا يتشبهون. والفرق الأخرى التي افترقت عن أهل السنة والجماعة إنما افتراقها صار بوقوعها في التشبه, فما من طائفة من طوائف الأمة خرجت عن السنة إلا وقعت في شيء من سنن الأمم الهالكة"[10].
ثالثًا: لا يكون التشبه بالكفار إلا بفعل ما اختصوا به من دينهم أو من عاداتهم.
قال ابن عثيمين: "مقياس التشبه أن يفعل المتشبِّه ما يختص به المتشبَّه به. فالتشبه بالكفار أن يفعل المسلم شيئًا من خصائصهم، أما ما انتشر بين المسلمين وصار لا يتميز به الكفار فإنه لا يكون تشبّهًا، فلا يكون حرامًا من أجل أنه تشبه، إلا أن يكون محرمًا من جهة أخرى.
وهذا الذي قلناه هو مقتضى مدلول هذه الكلمة، وقد صرح بمثله صاحب الفتح حيث قال (1/272): وقد كره بعض السلف لبس البُرْنُس لأنه كان من لباس الرهبان، وقد سئل مالك عنه فقال: لا بأس به، قيل: فإنه من لبوس النصارى! قال: كان يلبس ها هنا. اهـ. قلت: لو استدل مالك بقول النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل: ما يلبس المحرم؟ فقال: ((لا يلبس القميص، ولا السراويل، ولا البرانس)) الحديث[11] لكان أولى.
وفي الفتح (1/307) أيضًا: وإن قلنا: النهي عنها ـ أي: عن المياثر الأرجوان ـ من أجل التشبه بالأعاجم فهو لمصلحة دينية، لكن كان ذلك شعارهم حينئذ وهم كفار، ثم لما لم يصر الآن يختص بشعارهم زال ذلك المعنى، فتزول الكراهة والله أعلم. اهـ"[12].
رابعًا: إن جنس المخالفة للكافرين والأعاجم ونحوهم أمر مقصود للشارع، وإن التشبه بهم منهي عنه في الجملة في عامة أمورهم الدينية والدنيوية[13].
خامسًا: أن هناك أمورًا خُصّت بالنهي، ووردت بها السنة بعينها، كالبناء على القبور واتخاذها مساجد، وحلق اللحى وإعفاء الشوارب، والأكل والشرب بالشمال، ونحو ذلك.
سادسًا: أن مخالفتهم في عامة أمورهم أصلح لنا ـ نحن المسلمين ـ في دنيانا وآخرتنا.
سابعًا: أنه ليس شيء من أمور الكفار، في دينهم ودنياهم إلا وهو إما فاسد وإما ناقص في عاقبته، حتى ما هم عليه من إتقان أمور دنياهم قد يكون اتباعنا لهم فيه مضرًا؛ إما بدنيانا وآخرتنا أو أحدهما وإن لم ندرك ذلك[14].
ثامنًا: كل ما يفعله المشركون من العبادات ونحوها مما يكون كفرًا أو معصية ينهى المؤمنون عن ظاهره، وإن لم يقصدوا به قصد المشركين سدًا للذريعة وحسمًا للمادة.
تاسعًا: لا تشبه فيما اتفقت عليه الملل.
عاشرًا: ما كان منهيًا عنه للذريعة فإنه يفعل لأجل المصلحة الراجحة.
حادي عشر: كل فعل يفعله المسلم تشبهًا بالكفار أو يؤدي إلى التشبه بهم فلا يعان عليه.
ثاني عشر: كل تشبه تضمّن تدليسًا فهو محرم[15].
ثالث عشر: يجب التفريق بين التشبه بالكفار والشياطين وبين التشبه بالأعراب والأعاجم.
قال ابن تيمية: "واعلم أن بين التشبه بالكفار والشياطين وبين التشبه بالأعراب والأعاجم فرقًا يجب اعتباره، وإجمالاً يحتاج إلى تفسير، وذلك أن نفس الكفر والتشيطن مذموم في حكم الله ورسوله وعباده المؤمنين، ونفس الأعرابية والأعجمية ليست مذمومة في نفسها عند الله تعالى وعند رسوله وعند عباده المؤمنين"[16].
[1] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء, باب: ما ذكر عن بني إسرائيل (3456)، ومسلم في العلم, باب: اتباع سنن اليهود والنصارى (2669).
[2] فتح الباري (6/574).
[3] أخرجه البخاري في الاعتصام بالكتاب والسنة, باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لتتبعن..)) (7319).
[4] اقتضاء الصراط المستقيم (1/81).
[5] انظر: فتح الباري (13/314).
[6] فتح الباري (13/314).
[7] أخرجه مسلم في الإمارة, باب: قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة...)) (1920).
[8] أخرجه البخاري في المناقب, باب: سؤال المشركين أن يريهم النبي صلى الله عليه وسلم آية فأراهم انشقاق القمر (3641), ومسلم في الإمارة, باب: قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة...)) (1037).
[9] اقتضاء الصراط المستقيم (1/83).
[10] رسالة (من تشبه بقوم فهو منهم) (ص 16).
[11] أخرجه البخاري في العلم (134), ومسلم في الحج (1177) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[12] مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (3/47-48).
[13] اقتضاء الصراط المستقيم (1/196، 473).(/8)
[14] القواعد من (4-7)، ذكرها الدكتور ناصر العقل في مقدمة تحقيقه لكتاب اقتضاء الصراط المستقيم (1/49-50).
[15] القواعد من (8-12) ذكرها جميل اللويحق المطيري في كتابه التشبه المنهي عنه في الفقه الإسلامي.
[16] اقتضاء الصراط المستقيم (1/410) وما بعدها باختصار.
سابعًا: الأمور التي ورد النهي فيها عن التشبه بالكفار:
الأمور التي ورد النهي عن التشبه بالكفار فيها يمكن حصرها في أنواع أربعة:
النوع الأول: العقائد:
وهي أخطر أمور التشبه, والتشبه بهم فيها كفر أو شرك.
ومن أمثلة التشبه في هذا المجال:
- صرف أي نوع من أنواع العبادة لغير الله تعالى.
- ادعاء النبوة.
- ادعاء أبوة الله سبحانه لأحد من خلقه، كما قالت النصارى: المسيح ابن الله، وكما قالت اليهود: العزير ابن الله. تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا.
وما يتفرع عن ذلك من أمور كفرية أو شركية، فإن هذا من الأمور العقائدية[1].
عن جندب رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: ((إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل, فإن الله تعالى قد اتخذني خليلاً، كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذًا من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك))[2].
وعن معاوية رضي الله عنه قال: (إن تسوية القبور من السنن، وقد رفعت اليهود والنصارى فلا تتشبهوا بهم)[3].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))[4].
النوع الثاني: العبادات:
وقد ورد في السنة النبوية على جهة التفصيل نصوص كثيرة في النهي عن التشبه بالكافرين في العبادات، ومنها:
1- في باب الطهارة:
عن أنس رضي الله عنه أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت، فسأل أصحاب النبيِ صلى الله عليه وسلم النبيَ صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النّسَاء فِي الْمَحِيضِ} إلى آخر الآية [البقرة:222]، فقال رسول صلى الله عليه وسلم: ((اصنعوا كل شيء إلا النكاح))، فبلغ ذلك اليهود فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه. فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله، إن اليهود تقول: كذا وكذا، فلا نجامعُهُنَّ؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننّا أن قد وجد عليهما، فخرجا فاستقبلهما هدية من لبن إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل في آثارهما، فسقاهما، فعرفا أن لم يجد عليهما[5].
قال ابن تيمية: "فهذا الحديث يدل على كثرة ما شرعه الله لنبيه من مخالفة اليهود، بل على أنه خالفهم في عامة أمورهم، حتى قالوا: ما يريد أن يدع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه, ثم إن المخالفة كما سنبينه تارة تكون في أصل الحكم، وتارة في وصفه.
ومجانبة الحائض لم يخالَفوا في أصله، بل خولفوا في وصفه، حيث شرع الله مقاربة الحائض في غير محل الأذى، فلما أراد بعض الصحابة أن يعتدي في المخالفة إلى ترك ما شرعه الله تغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الباب ـ أي: باب الطهارة ـ كان على اليهود فيه أغلال عظيمة، فابتدع النصارى ترك ذلك كله، حتى أنهم لا ينجسون شيئًا بلا شرع من الله، فهدى الله الأمة الوسط بما شرعه لها إلى وسط من ذلك، وإن كان ما كان عليه اليهود كان أيضًا مشروعًا، فاجتناب ما لم يشرع الله اجتنابه مقاربةٌ لليهود، وملابسة ما شرع الله اجتنابه مقاربة للنصارى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم"[6].
2- في باب الأذان والصلاة:
أ- مخالفة أهل الكتاب في طريقة النداء للصلاة:
عن ابن عمر رضي الله عنهما كان يقول: كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحيّنون الصلاة, ليس ينادى لها، فتكلموا يومًا في ذلك، فقال بعضهم: اتخذوا ناقوسًا مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: بل بوقًا مثل قرن اليهود، فقال عمر: أولا تبعثون رجلاً ينادي بالصلاة؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا بلال، قم فنادِ بالصلاة))[7].(/9)
وجاء تعليل انصرافه صلى الله عليه وسلم عن البوق والناقوس لكونهما من أمر اليهود والنصارى في حديث أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار قال: اهتمّ النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة كيف يجمع الناس لها، فقيل له: انصب راية عند حضور الصلاة فإذا رأوها آذن بعضهم بعضًا، فلم يعجبه ذلك، قال: فذكر له القُنْع ـ يعني الشَّبُّور[8] ـ فلم يعجبه ذلك، وقال: ((هو من أمر اليهود))، قال: فذكر له الناقوس، فقال: ((هو من أمر النصارى))، فانصرف عبد الله بن زيد وهو مهتم لهمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأري الأذان في منامه، قال فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: يا رسول الله، إني لبين نائم ويقظان، إذ أتاني آت فأراني الأذان... فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا بلال، قم فانظر ما يأمرك به عبد الله بن زيد فافعله))، قال: فأذّن بلال[9].
قال ابن تيمية: "إن النبي صلى الله عليه وسلم لما كره بوق اليهود المنفوخ بالفم وناقوس النصارى المضروب باليد علّل هذا بأنه من أمر اليهود، وعلل هذا بأنه من أمر النصارى، لأن ذكر الوصف عقيب الحكم يدل على أنه علة له، وهذا يقتضي كراهية هذا النوع من الأصوات مطلقًا في غير الصلاة أيضًا لأنه من أمر اليهود والنصارى، فإن النصارى يضربون بالنواقيس في أوقات متعدِّدة غير أوقات عباداتهم. وإنما شعار الدين الحنيف الأذان المتضمن للإعلان بذكر الله، الذي به تفتح أبواب السماء، فتهرب الشياطين، وتنزل الرحمة"[10].
ب- مخالفة اليهود في استقبال القبلة:
عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صلىّ نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرًا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يُوجّه إلى الكعبة، فأنزل الله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء} [البقرة:144]، فتوجه نحو الكعبة، وقال السفهاء من الناس ـ وهم اليهود ـ: {مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَآء إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [البقرة:142]، فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم رجلٌ، ثم خرج بعدما صلى فمر على قوم من الأنصار في صلاة العصر نحو بيت المقدس، فقال: هو يشهد أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه توجّه نحو الكعبة، فتحرّف القوم حتى توجهوا نحو الكعبة[11].
قال مجاهد: "قالت اليهود: يخالفنا محمد ويتبع قبلتنا, فكان يدعو الله جل ثناؤه، ويستفرض القبلة، فنزلت: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144]، وانقطع قول يهود: يخالفنا ويتبع قبلتنا! في صلاة الظهر، فجعل الرجال مكان النساء، والنساء مكان الرجال"[12].
ج- النهي عن قيام المأمومين والإمام قاعد:
عن جابر رضي الله عنه قال: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلينا وراءه وهو قاعد، وأبو بكر يُسْمِعُ الناس تكبيره، فالتفت إلينا فرآنا قيامًا، فأشار إلينا فقعدنا، فصلينا بصلاته قعودًا، فلما سلّم قال: ((إن كدتم آنفًا لتفعلون فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا، ائتموا بأئمتكم، إن صلى قائمًا فصلوا قيامًا، وإن صلى قاعدًا فصلوا قعودًا))[13].
د- الأمر بالصلاة في النعال لمخالفة أهل الكتاب:
عن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خالفوا اليهود، فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم))[14].
قال الألباني: "فأمر صلى الله عليه وسلم بمخالفة اليهود مطلقًا، فهو دليل على أن جنس المخالفة أمر مقصود للشارع، ثم خص بالذكر مخالفتهم بالصلاة في النعال والخفاف، وليس ذلك من قبيل تخصيص العام أو تقييد المطلق، بل هو من قبيل ذكر بعض أفراد العام"[15].
3- في باب الصيام:
أ- الترغيب في السحور:
عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر))[16].
قال النووي: "معناه: الفارق والمميز بين صيامنا وصيامهم السحور، فإنهم لا يتسحرون, ونحن يستحب لنا السحور"[17].
ب- الترغيب في تعجيل الفطر مخالفةً لأهل الكتاب:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يزال الدين ظاهرًا ما عجّل الناس الفطر، لأن اليهود والنصارى يؤخرون))[18].
قال الطيبي: "في هذا التعليل دليل على أن قوام الدين الحنيفي على مخالفة الأعداء من أهل الكتاب، وأن في موافقتهم تلفًا للدين"[19].
وقال ابن تيمية: "وهذا نص في أن ظهور الدين الحاصل بتعجيل الفطر لأجل مخالفة اليهود والنصارى, وإذا كان مخالفتهم سببًا لظهور الدين فإنما المقصود بإرسال الرسل أن يظهر دين الله على الدين كله، فيكون نفس مخالفتهم من أكبر مقاصد البعثة"[20].
ج- النهي عن الوصال في الصوم لمخالفة النصارى:(/10)
عن ليلى امرأة بشير بن الخصاصية رضي الله عنهما قالت: أردت أن أصوم يومين مواصلة، فنهاني عنه بشير، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاني عن ذلك، وقال: ((إنما يفعل ذلك النصارى، صوموا كما أمركم الله، وأتموا الصوم كما أمركم الله: {أَتِمُّواْ الصّيَامَ إِلَى الَّيْلِ} [البقرة:187]، فإذا كان الليل فأفطروا))[21].
د- مخالفة اليهود والنصارى في صوم يوم عاشوراء:
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه، قالوا: يا رسول الله، إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع))، قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم[22].
قال النووي: "ولعل السبب في صوم التاسع مع العاشر أن لا يتشبه باليهود في إفراد العاشر، وفي الحديث إشارة إلى هذا"[23].
وقد جاء التصريح بمخالفة أهل الكتاب كما في حديث آخر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صوموا يوم عاشوراء، وخالفوا فيه اليهود، وصوموا قبله يومًا، أو بعده يومًا))[24].
قال ابن تيمية: "فتدبر هذا, يوم عاشوراء يوم فاضل، يكفر سنة ماضية، صامه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بصيامه ورغب فيه، ثم لما قيل له قبيل وفاته: إنه يوم تعظّمه اليهود والنصارى! أمر بمخالفتهم بضم يوم آخر إليه، وعزم على ذلك, ولهذا استحب العلماء ـ منهم الإمام أحمد ـ أن يصوم تاسوعاء وعاشوراء، وبذلك علّلت الصحابة رضي الله عنهم"[25].
4- في باب الحج:
ومن ذلك مخالفتهم في الوقوف بعرفة والمزدلفة والدفع منهما.
فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إن المشركين كانوا لا يفيضون من جَمْع[26] حتى تشرق الشمس على ثبير[27], وكانوا يقولون: أشرِق ثبير. كَيْما نغير، فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم فدفع قبل أن تطلع الشمس[28].
5- في باب الأعياد والاحتفالات والمهرجانات:
جاءت نصوص كثيرة تدل على عدم جواز موافقتهم في أعيادهم، ومنها:
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِرامًا} [الفرقان:72].
قال ابن عباس وأبو العالية وطاوس وابن سيرين والضحاك والربيع بن أنس وغيرهم: الزور أعياد المشركين[29].
وعن أنس رضي الله عنه قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: ((ما هذان اليومان؟)) قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قد أبدلكم بهما خيرًا منهما: يوم الأضحى، ويوم الفطر))[30].
قال ابن تيمية: "فوجه الدلالة: أن العيدين الجاهليين لم يقرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تركهم يلعبون فيهما على العادة، بل قال: ((إن الله قد أبدلكم بهما يومين آخرين))، والإبدال من الشيء يقتضي ترك المبدل منه، إذ لا يجمع بين البدل والمبدل منه، ولهذا لا تستعمل هذه العبارة إلا فيما ترك اجتماعهما كقوله سبحانه: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} [الكهف:50]. فقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قد أبدلكم بهما خيرًا منهما)) يقتضي ترك الجمع بينهما, لا سيما وقوله: ((خيرًا منهما)) يقتضي الاعتياض بما شرع لنا عما كان في الجاهلية"[31].
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (لا تعلّموا رطانة الأعاجم، ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم، فإن السخطة تنزل عليهم)[32].
قال الذهبي: "قال العلماء: ومن موالاة الكفار التشبه بهم وإظهار أعيادهم، وهم مأمورون بإخفائها في بلاد المسلمين، فإذا فعلها المسلم معهم فقد أعانهم على إظهارها, وهذا منكر وبدعة في دين الإسلام، ولا يفعل ذلك إلا كل قليل الدين والإيمان، ويدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من تشبه بقوم فهو منهم))[33]" [34].
النوع الثالث: الأخلاق والعادات:
وردت نصوص في الكتاب والسنة تنهى المسلمين عن التشبه بالكفار في أخلاقهم وعاداتهم، من ذلك:
أ- الحسد:
قال الله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:109].
قال ابن تيمية: "فذم اليهود على ما حسدوا المؤمنين على الهدى والعلم، وقد يُبْتلى بعض المنتسبين إلى العلم وغيرهم بنوع من الحسد لمن هداه الله بعلم نافع أو عمل صالح، وهو خلق مذموم مطلقًا، وهو في هذا الموضع من أخلاق المغضوب عليهم"[35].
وعن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دبّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء...)) الحديث[36].
ب- النهي عن التشبه بالمشركين في دعوى الجاهلية:(/11)
عن جابر رضي الله عنه قال: غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم وقد ثاب معه ناس من المهاجرين حتى كثروا، وكان من المهاجرين رجل لعّاب فكَسَع[37] أنصاريًا، فغضب الأنصاري غضبًا شديدًا حتى تداعوا، وقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((ما بال دعوى الجاهلية؟)) ثم قال: ((ما شأنهم؟)) فأخبر بكسعة المهاجري الأنصاري، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((دعوها فإنها منتنة))[38].
ج- اللباس والزينة:
قال الله تعالى: {وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى} [الأحزاب:33].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم))[39].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لا تبد العورة، ولا تستن بسنة الجاهلية)[40].
وعن ابن مسعود قال: (لا يشبه الزي الزي حتى تشبه القلوب القلوب)[41].
وقال حذيفة رضي الله عنه: (من تشبه بقوم فهو منهم، ولا يُشْبه الزي الزي حتى يشبه الخلُق الخلُق)[42].
[1] انظر: رسالة (من تشبه بقوم فهو منهم) (ص 17)، والتدابير الواقية من التشبه بالكفار (2/462-510).
[2] أخرجه مسلم في المساجد (532).
[3] أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (19/352).
[4] أخرجه البخاري في الجنائز, باب: ما جاء في قبر النبي صلى الله عليه وسلم (1390), ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة, باب: النهي عن بناء المساجد على القبور (529).
[5] أخرجه مسلم في الحيض, باب: جواز غسل الحائض رأس زوجها (302).
[6] اقتضاء الصراط المستقيم (1/215-216).
[7] أخرجه البخاري في الأذان, باب: بدء الأذان (604), ومسلم في الصلاة, باب: بدء الأذان (377).
[8] الشبور: البوق. انظر: النهاية في غريب الحديث (2/440).
[9] أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب: بدء الأذان (498)، وصححه ابن حجر في الفتح (2/81)، والألباني في صحيح سنن أبي داود (468).
[10] اقتضاء الصراط المستقيم (1/356).
[11] أخرجه البخاري في الصلاة, باب: التوجه نحو القبلة حيث كان (399) واللفظ له, ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة, باب: تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة (525).
[12] جامع البيان (3/173-174) طبعة محمود شاكر.
[13] أخرجه مسلم في الصلاة, باب: ائتمام المأموم بالإمام (413).
[14] أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب الصلاة في النعال (652)، وصححه ابن حبان (2186)، والحاكم (956)، وهو في صحيح سنن أبي داود (607).
[15] جلباب المرأة المسلمة (ص 172).
[16] أخرجه مسلم في الصيام, باب: فضل السحور وتأكيد استحبابه (1096).
[17] شرح صحيح مسلم (7/214).
[18] أخرجه أحمد (2/450)، وأبو داود في كتاب الصيام، باب: ما يستحب من تعجيل الفطر (2336)، وابن ماجه في الصيام، باب: ما جاء في تعجيل الإفطار (1698)، وصححه ابن حبان (3503، 3509)، والحاكم (1573)، والنووي في المجموع (6/359)، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2063).
[19] انظر: عون المعبود (6/480).
[20] اقتضاء الصراط المستقيم (1/209).
[21] أخرجه أحمد (5/225)، والطبراني في الكبير (2/44)، وصحح إسناده الحافظ في الفتح (4/202-203)، والألباني في جلباب المرأة المسلمة (177).
[22] أخرجه مسلم في الصيام, باب: أي يوم يصام في عاشوراء؟ (1134).
[23] شرح صحيح مسلم (8/13).
[24] أخرجه أحمد (1/241)، والبزار (1052 ـ كشف الأستار ـ)، والحميدي (485)، والبيهقي (4/287)، وصححه ابن خزيمة (2095)، لكن في سنده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى سيئ الحفظ، قال الهيثمي في المجمع (3/188-189): "رواه أحمد والبزار وفيه محمد بن أبي ليلى، وفيه كلام"، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (3508). وصحّ موقوفًا عند عبد الرزاق (7839)، والطحاوي (2/78)، والبيهقي (4/287).
[25] اقتضاء الصراط المستقيم (1/284).
[26] جمع: مزدلفة.
[27] ثبير: جبل من جبال مكة.
[28] أخرجه البخاري في المناقب, باب: أيام الجاهلية (3838).
[29] انظر: تاريخ بغداد (12/13)، وتفسير القرطبي (13/79)، وتفسير ابن كثير (3/329-330).
[30] أخرجه أحمد (3/103)، وأبو داود في الصلاة، باب: صلاة العيدين (1134)، والنسائي في العيدين (1556)، وصححه الحاكم (1/434)، والضياء في المختارة (1911)، وصححه الحافظ في الفتح (2/442)، والألباني في صحيح سنن أبي داود (1004).
[31] اقتضاء الصراط المستقيم (1/486).
[32] أخرجه عبد الرزاق في المصنف (1609)، والبيهقي في السنن الكبرى (9/234).(/12)
[33] أخرجه أحمد (2/50)، وأبو داود في اللباس، باب: في لبس الشهرة (4031)، وعبد بن حميد (1/267)، والبيهقي في الشعب (2/75) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. قال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (25/331): "هذا حديث جيد"، وقال العراقي في تخريج الإحياء (1/342): "سنده صحيح"، وحسن إسناده ابن حجر في الفتح (10/271)، وصححه الألباني في حجاب المرأة المسلمة (ص104).
[34] تشبّه الخسيس بأهل الخميس (ص 34).
[35] اقتضاء الصراط المستقيم (ص 1/83).
[36] أخرجه أحمد (1/164، 167)، والترمذي في كتاب صفة القيامة (2510)، والبزار (2232)، قال الهيثمي في المجمع (8/30): "إسناده جيد"، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2038).
[37] كسع: ضربه على دبره.
[38] أخرجه البخاري في التفسير, باب: قوله: {سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ..} (4905)، ومسلم في البر والصلة, باب: نصر الأخ ظالمًا أو مظلومًا (2584).
[39] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء, باب: ما ذكر عن بني إسرائيل (3462), ومسلم في للباس والزينة, باب: في مخالفة اليهود في الصبغ (2103).
[40] انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (1/385).
[41] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (7/105)، وهناد في الزهد (2/438).
[42] انظر: تشبه الخسيس بأهل الخميس (ص 49).
ثامنًا: أسباب وقوع المسلمين في التشبه بالكفار:
"إن ما نلمسه اليوم من ظاهرة تشبه المسلمين بغيرهم من الأمم الكافرة أمرٌ له بواعثه ودوافعه وأسبابه العديدة التي تضافرت على الوصول بالأمة الإسلامية إلى هذه الظاهرة.
ومن هذه الدوافع والأسباب ما هو داخلي، ومنها ما هو خارجي"[1].
أولاً: الأسباب الداخلية:
1- الانحرافات العقدية.
2- الركود العلمي والفكري.
3- التنازع السياسي.
4- التعصب المذهبي.
5- التخلف المادي والاقتصادي.
6- الهزيمة النفسية والانبهار بالحضارة الغربية.
فهذه هي أهم الأسباب الداخلية لوجود ظاهرة تشبه المسلمين بالكفار، وهي أسباب لم يزل بعضها يأخذ بحجز البعض، حتى انتهى الأمر ببعض المسلمين إلى فقدانهم للمناعة الذاتية والقدرة على المقاومة، وشاع بين بعض ضعاف النفوس من المسلمين روح الانهزام الفكري, فأصبحوا بذلك مهيّئين لاستقبال البديل الغربي في العقيدة وفي الشريعة والحكم، وفي الفكر والثقافة والأخلاق، وغير ذلك من المجالات التي غزاها الفكر الوافد[2].
ثانيًا: الأسباب الخارجية:
ومنها مكايد الكفار للإسلام والمسلمين.
"وهذا حاصل من أول ظهور الإسلام حتى اليوم. فالكفار بمختلف مللهم وعقائدهم وأديانهم وأهوائهم كادوا ولا يزالون يكيدون للإسلام.
فكان من مكائدهم إيقاع المسلمين في كثير مما كانوا عليه من أمور العقائد والعادات والأعياد والسلوك.
ولذلك نجد أن أغلب أسباب الافتراق في الأمة هي مكائد الكافرين.
وما من فرقة افترقت عن الأمة إلا ونجد أن من أسباب افتراقها وجود طوائف من الكفار, إما أن يكونوا أسهموا في بثها وترويجها بين أهل الأهواء والبسطاء من المسلمين، أو كانوا رؤوسًا فيها أو من أتباعها.
فمكائد الكفار أصحاب الديانات والملل هي من أهم أسباب وقوع المسلمين في التشبه.
والله سبحانه وتعالى أخبرنا بذلك في مثل قوله تعالى: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، وفي مثل قوله تعالى: {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْواهِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118]، ومثل قوله تعالى: {مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مّنْ خَيْرٍ مّن رَّبّكُمْ} [البقرة:105]، ومثل قوله تعالى، {إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:149]، وقال: {إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران:100].
إذًا فالكفار لا شك أنهم حرصوا ـ ولا يزالون من أحرص الناس ـ على صرف المسلمين عن دينهم، وهم الآن يبذلون جهودًا أكثر من أي وقت مضى، وكل مسلم متأمل لواقع المسلمين الآن في العالم كله يدرك تكالب الكفار على الأمة المسلمة اليوم، لمحاولة فرض أحوال وأمور الكافرين من عقائد ومن عادات ومن أنظمة ومن سياسات وأخلاق وغيرها"[3].
وهناك أسباب أخرى نذكر بعضًا منها باختصار وهي كما يلي:
1- الحروب الصليبية الأولى.
2- الغزو الفكري.
3- الاستعمار.
4- الابتعاث الطلابي.(/13)
وهناك سبب داخلي خارجي في وقوع المسلمين في التشبه بالكفار، ألا وهو كيد المنافقين؛ فهم يعيشون بين ظهراني المسلمين، مظهرين الإسلام ومبطنين الكفر, وهم الأداة الفعّالة والقوية في خدمة الكفار قديمًا وحديثًا، فالمنافقون الذين بين المسلمين لهم أثر كبير في جرّ المسلمين إلى التشبه، سواء منهم من كان كافرًا وأظهر الإسلام للكيد بالمسلمين، أو كان مسلمًا وارتدّ عن دين الله في الباطن، أو كان زنديقًا مظهرًا للإسلام محرّفًا له[4].
[1] التدابير الواقية (1/84).
[2] التدابير الواقية (1/105-106).
[3] رسالة (من تشبه بقوم فهو منهم) (ص 32-33).
[4] رسالة (من تشبه بقوم فهو منهم) (ص 34-35) بتصرف.
تاسعًا: آثار التشبه بالكفار ومظاهره:
للتشبه بالكفار آثار وخيمة ومظاهر سيئة تتجلى في عقيدة المسلم وعباداته وسلوكه وأخلاقه وعاداته وتصرفاته وهيئته وحركاته وسكونه وهويته, بل في جميع جزئيات حياته.
يقول ابن تيمية مبيّنًا قاعدة تأثر المتشبِّه بالمتشبَّه به والمقلِّد بالمقلَّد: "إن الله تعالى جبل بني آدم بل سائر المخلوقات على التفاعل بين الشيئين المتشابهين، وكلما كانت المشابهة أكثر كان التفاعل في الأخلاق والصفات أتم، حتى يؤول الأمر إلى أن لا يتميز أحدهما عن الآخر إلا بالعين فقط، ولما كان بين الإنسان وبين الإنسان مشاركة في الجنس الخاص، كان التفاعل فيه أشد، ثم بينه وبين سائر الحيوان مشاركة في الجنس المتوسط، فلا بد من نوع تفاعل بقدره، ثم بينه وبين النبات مشاركة في الجنس البعيد مثلاً، فلا بد من نوعٍ ما من المفاعلة.
ولأجل هذا الأصل وقع التأثر والتأثير في بني آدم، واكتساب بعضهم أخلاق بعض بالمعاشرة والمشاكلة, فالمشابهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة توجب مشابهة ومشاكلة في الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدريج الخفي, كما أن المشابهة في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن، كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر، وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة"[1].
وقال في موضع آخر: "إن المشاركة في الهدي الظاهر تورث تناسبًا وتشاكلاً بين المتشابهين يقود إلى موافقة ما في الأخلاق والأعمال، وهذا أمر محسوس، فإن اللابس ثياب أهل العلم يجد من نفسه نوع انضمام إليهم، واللابس لثياب الجند المقاتلة مثلاً يجد من نفسه نوع تخلّق بأخلاقهم، ويصير طبعه متقاضيًا لذلك، إلا أن يمنعه مانع"[2].
فمن أبرز هذه المظاهر والآثار ما يلي[3]:
1- انحسار المفهوم الشامل للدين.
2- ضعف الإيمان بالغيب.
3- قيام حركة التشكيك في مصادر العقيدة وإثارة الشبهات حولها.
4- ضعف الرابطة الدينية بين المسلمين, وإحلال الروابط الجاهلية محلها.
5- الدعوة إلى الارتماء في أحضان الغرب الكافر.
6- الدعوة إلى تطوير المعاهد الإسلامية بما يضعِف التعليم الديني.
7- محاربة اللغة العربية الفصحى.
8- استيراد النظم والمناهج التعليمية الغربية.
9- تسرب مذاهب الأدب والنقد الغربية إلى الأدب العربي.
10- الاستمداد من النظم والقوانين الغربية.
11- فصل الدين عن السياسة.
12- تغريب المرأة المسلمة بدعوى تحرير المرأة, وذلك بمهاجمة تعدد الزوجات، وبمساواة المرأة بالرجل، ثم بإباحة الاختلاط، ونزع جلباب المرأة المسلمة.
[1] اقتضاء الصراط المستقيم (1/547-549) باختصار.
[2] اقتضاء الصراط المستقيم (1/93).
[3] انظر: التدابير الواقية (1/133-229) باختصار.
عاشرًا: سبل الوقاية من التشبه بالكفار:
إن من أجلّ نعم الله تعالى على المسلمين أن مَنَّ عليهم بالإسلام, وأرسل عليهم أفضل رسله، وأنزل عليهم أفضل كتبه، وهداهم إلى صراطه المستقيم، وبيّن لهم طريقه القويم, وكذلك أرشدهم كيف يصونون دينهم وعقيدتهم من الشرك والشبهات.
ومعلوم أن من أصل دروس دين الله وشرائعه وظهور الكفر والمعاصي التشبه بالكافرين[1]، لذا لم يقتصر الشارع على تحريم التشبه بالكفار فحسب, بل بادر بسد جميع السبل والمنافذ المؤدية إلى ذلك، وبيان ذلك فيما يلي[2]:
أولاً: بناء شخصية الفرد المسلم:
وذلك من خلال تكوين روح الاعتداد بالنفس وروح الجماعة وروح الاعتزاز بالدين لدى المسلم:
1- تكوين روح الاعتداد بالنفس لدى المسلم:
إن مما يدفع بعض الناس إلى تقليد الآخرين والتشبه بهم ومحاكاتهم ضعف شخصيتهم وشعورهم بالهزيمة النفسية من الداخل، مما يجعلهم يفقدون الثقة بأنفسهم، فيتقاعسون عن القيام بواجباتهم، ويفتقدون الأخذ بزمام المبادرة والمسارعة إلى الأعمال واقتحام العقبات، فيكتفون باتباع النماذج الجاهزة من الكفار الذين يعتقدون فيهم القوة، ويرون أنهم القدوة التي ينبغي أن تحتذى.(/14)
ومن هنا فإن الإسلام في سعيه إلى وقاية المسلم من التشبه بالكفار عمل على تقوية شخصيته الاستقلالية، عن طريق تحقيق فرديته أي: اعتداده بنفسه، والحفاظ على ذاتيتها واستقلالها، وذلك بتحقيق كرامته الإسلامية الإنسانية، وضمان حرياته العامة، وتقرير مسؤوليته الشخصية، وربط قلبه بالله وحده.
فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (لا يكونن أحدكم إمّعة)، قالوا: وما الإمعة يا أبا عبد الرحمن؟ قال: (يقول: إنما أنا مع الناس، إن اهتدَوا اهتديت، وإن ضلّوا ضلَلت، ألا ليوطِّن أحدكم نفسه على إن كفر الناس أن لا يكفر)[3].
قال الزمخشري: "الإمّعة هو الذي يتبع كلَّ ناعق، ويقول لكل أحد: أنا معك، لأنه لا رأي له يرجع إليه"[4].
وقال القاري: "فيه إشعار بالنهي عن التقليد المجرّد حتى في الأخلاق, فضلاً عن الاعتقادات والعبادات"[5].
2- تكوين روح الجماعة لدى المسلم:
اعتنى الإسلام بتكوين روح الجماعة لدى المسلم إلى جانب تكوين روح الاعتداد بالنفس لديه، حتى يتكون المجتمع من أفراد أقوياء متعاونين متحابين متساندين صفًا واحدًا كأنهم بنيان مرصوص، تتكاتف جهودهم للعمل لهذا الدين والانتصار له وإقامة الأمة الإسلامية القوية المنيعة التي تتأبى على الذل والهوان، وتترفع عن الخضوع للكفار والتبعية لهم.
ومن الطرق التي سلكها الإسلام لتكوين الروح الجماعية لدى المسلم ما يلي:
أ- تقوية أواصر الأخوة الإسلامية بين المسلمين والتحذير من كلّ ما يزعزعها.
ب- تكوين الوعي الكامل بوحدة الأمة الإسلامية وترابط مصالح الفرد والجماعة.
ج- تقرير المسؤولية الجماعية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
د- التأكيد على الجماعة في الشعائر التعبدية المشروعة أداؤها جماعة كالصلاة المفروضة.
هـ- الدعوة الصريحة إلى لزوم جماعة المسلمين وترك التفرق.
وإذْ يَهْتم الإسلام هذا الاهتمام الكبير بأن يكون المسلم متآلفًا مع الجماعة، فإنه لا يترك هذه الروح الجماعية بدون شروط تجب مراعاتها، ولهذا جاءت النصوص الكثيرة تبين هذه الشروط التي يجب توفرها في تنمية الروح الجماعية، ولعل أهم هذه الشروط أن يكون الاجتماع والتآلف والتآخي على أساس الإيمان والتقوى والعمل الصالح، كما قال تعالى: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاةَ وَءاتَوُاْ الزكاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدّينِ} [التوبة:11].
ومن هذا الباب جاء الحث على اختيار الرفقة الصالحة حتى تكون وسيلة للتعاون على الخير والمحافظة على شخصية المسلم ووقايتها من الذوبان والانحلال الذي ربما جر ـ والعياذ بالله ـ إلى التشبه بالكفار.
فعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد ريحًا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحًا خبيثة))[6].
وإن الروح الجماعية وعملية اختيار الرفقة الصالحة إذا تم تكوينهما وترسيخهما في نفس المسلم تكون لهما آثار إيجابية في حياة المسلمين أفرادًا وجماعات ودولاً وشعوبًا، ومن تلكم الآثار ما يلي:
أ- التعلم والتعليم واكتساب الخبرات.
ب- اكتشاف صفات النفس.
ج- التأدب والتأديب.
د- بعث الأمل في النفس وتجديد النشاط.
هـ- التعاون من أجل التمكين لدين الله في الأرض.
و- حفظ الهيبة والكرامة الإسلامية.
ز- بث روح التراحم والتوادد بين المسلمين.
3- تكوين روح الاعتزاز بالدين لدى المسلم:
إن الإسلام في سعيه لتكوين روح الاعتزاز بالدين لدى المسلم يتعامل مع الفرد من خلال قواه المختلفة: قواه العقلية، وقواه العاطفية، فلا يكتفي بمخاطبة عقله دون وجدانه، ولا بمخاطبة وجدانه دون عقله، بل يتعامل مع هذا وذاك، يتعامل مع العقل لكونه مركز الإدراك والتمييز، ويتعامل مع الوجدان باعتباره وعاء المشاعر والأحاسيس, ويتعامل مع الإرادة لكونها مركز التوجيه واتخاذ القرار النهائي.
يتعامل الإسلام مع الفرد من خلال هذه القوى ليصل إلى تأكيد انتمائه إلى الإسلام بعقائده وعباداته وأخلاقه ومعاملاته، بل أكثر من هذا ليصل به إلى أن يصبح معتزًا بهذا الانتماء إلى الإسلام بمعناه الواسع، فيكون محبًا له، متبعًا لأحكامه ومعرضًا عن اتباع ما سواه من الأديان والمناهج البشرية.(/15)
والمقصود بالاعتزاز بالدين هو شعور المسلم بالرفعة والغلبة والقوة على أعداء الله وآلهتهم، الشعور بعلو الإيمان على الكفر، وبعلو الإسلام على سائر الأديان السماوية وعلى ملل الكفر كلها، والشعور بأن شعوب هذه الأمة الإسلامية هم الأعلون على سائر شعوب الأمم الأخرى ما تمسكوا بالإسلام، وشعور المسلم بمحبة الله تعالى له، وبمحبته هو لله ولرسوله ودينه، ثم توكله على الله سبحانه واستمداد العون منه وحده، قال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذالِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54].
والله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالاعتزاز بالدين، فقال سبحانه: {قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ m إِنَّ وَلِيّىَ اللَّهُ الَّذِى نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف:195، 196].
والاعتزاز بالدين بهذا المعنى لا يتأتى إلا بمعرفة حقيقة هذا الدين، والتعرف على محاسنه ومزاياه، وعلى خصائصه وضرورته للإنسان واستغنائه به عن غيره. ذلك لأن الاعتزاز بالشيء ناتج عن محبته، ومحبة الشيء ناتجة عن معرفته.
ومن طرق تكوين روح الاعتزاز بالدين لدى المسلم غرْس محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ومحبة الإسلام والأمة الإسلامية في القلوب، وكذلك دعوة المسلمين بالقول الصريح إلى طلب العزة من الله وحده والإعراض عما سواه، وإبراز محاسن أركان الإسلام الأساسية وفضائل هذه الأركان على غيرها في الأديان السماوية، فضلاً عن الأديان الوضعية.
ومن أهم آثار ونتائج تكوين روح الاعتزاز بالدين لدى المسلم ما يلي:
أ- تحقيق العبودية الكاملة لله عز وجل.
ب- اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والاقتداء به.
ج- إخلاص الولاء لله ورسوله وللمؤمنين.
ثانيًا: تحصين وصيانة شخصية المسلم بعد بنائها وتكوينها:
إن من محاسن الدين الإسلامي حفظ وصيانة شخصية المسلم بعد إعدادها وبنائها وتكوينها، وذلك من الانصياع والذوبان والتأثر بالكفار أو الخضوع لهم أو موالاتهم والركون إليهم.
ومن أهم طرق تحصين شخصية المسلم بعد بنائها ما يلي:
1- التمسك بمبدأ الولاء والبراء:
وذلك لوضع الحاجز النفسي بين الطائفتين، الذي يمنع من تسرب الأفكار واختراق العادات والقيم والتقاليد، لأن ذلك أعون على مفاصلة الكفار.
يقول عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ: "أصل الموالاة الحب، وأصل المعاداة البغض، وينشأ عنهما من أعمال القلوب والجوارح ما يدخل في حقيقة الموالاة والمعاداة كالنصرة والأنس والمعاونة، وكالجهاد والهجر ونحو ذلك من الأعمال، والولي ضد العدو"[7].
2- مخالفة الكفار وعدم التشبه بهم في عقائدهم وعباداتهم وأخلاقهم وعاداتهم وسائر ما يختصون به.
3- التزام ضوابط وشروط التعامل مع غير المسلمين في حالة السلم:
ومن تلكم الشروط ما يلي:
أ- أن لا يترتب على هذا التعامل مذلة على المسلم ولا على الدين.
ب- أن لا تؤدي إلى ولاية الكافر على المسلم ولا إلى تسلطه عليه.
ج- أن لا تكون فيها موالاة للكافر، ولا تشبه به، ولا ركون إليه، أو نحو ذلك من صور الموالاة.
ثالثًا: تحصين وصيانة ديار الإسلام من نفوذ الكفار:
لم يكتف الإسلام بصيانة شخصية المسلم من التأثر بالكفار عن طريق تطعيمه عقديًا وتعبديًا وأخلاقيًا، وعن طريق رسم المنهج الصحيح لتعامله مع الكفار لمنع تسرُّب أيِّ أثر من آثارهم إليه؛ إذ لا بد أن تتوازى مع عملية صيانة شخصية المسلم عمليةُ صيانة أخرى للبيئة التي يعيش فيها، بمكافحة أسباب انتشار أوبئة الكفر والفسق في هذه البيئة، لذلك اتخذ الإسلام بعض التدابير الواقية، ومنها:
1- منع دخول الكفار إلى بعض الديار الإسلامية وهي حدود الحرمين الشريفين فضلاً عن إقامتهم فيها، كما سمح بدخولهم فقط دون الاستيطان في بعض الديار الأخرى وهي الحجاز، لما لهذه الأماكن من أهمية خاصة في قلوب المؤمنين؛ فهي مهبط الوحي ومبعث النبي صلى الله عليه وسلم ومنطلق الدعوة الإسلامية، فأولى بأن يمنع الكفار من دخولها والاستيطان فيها، للحفاظ على نقاوتها؛ لتبقى مشاعل النور والهدى للمسلمين كلما داهمتهم دياجير ظلمات التشبه بالكفار.
2- سمح الإسلام بدخول وإقامة الكفار في سائر الديار الإسلامية الأخرى سواء كانت إقامتهم إقامة دائمة مؤبدة كأهل الذمة، أو كانت إقامة مؤقتة كالمستأمنين، وذلك تلبية لمطالب الحياة البشرية القائمة على التعاون وتبادل المنافع، وطبقًا لطبيعة دين الإسلام الدعوية التي تقتضي التغلغل بين الأمم والشعوب الأخرى لإبلاغ دعوة الإسلام إليها.(/16)
3- منع تمكين الكفار في دار الإسلام, فإن الأصل في تمكين الكفار في الأرض حصول الفساد والضلال فيها، وتأسيسًا على هذا الأصل سعى الإسلام إلى منع تمكين الكفار في دار الإسلام متخذًا في ذلك التدابير الواقية التالية:
أ- منع تولية الكافر على المسلمين ولاية عامة في الدولة الإسلامية حدًا من تمكين الكفار فيها، وتفاديًا لخضوع المسلمين لسلطانهم المتنافي مع قوله تعالى: {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء:141].
ب- قيّد الإسلام ملكية الكفار للعقار في الدولة الإسلامية، حيث ملكهم فقط منافع الأراضي دون رقابها، ومن ثم لا يسمح لهم باستخدام أراضيهم في إقامة المعابد الشركية، أو الملاهي وأماكن المعاصي، كما لا يسمح لهم بالوقف والوصية على هذه الأماكن.
ج- فرض الإسلام قيودًا شرعية على الصادرات من الدولة الإسلامية وعلى الواردات إليها، فلا يسمح بتصدير السلاح وصغار العبيد وكل ما فيه قوة للكفار على حرب المسلمين، لأن ذلك يؤدي إلى تمكينهم من دار الإسلام، كما لا يسمح بتوريد ما هو محرم شرعًا إلى داخل الدولة الإسلامية حفاظًا على عقيدة المسلمين وأخلاقهم.
4- كفل الإسلام لغير المسلمين المقيمين على أرضه كافة الحقوق والحريات التي يحتاجها الإنسان في حياته، وألزمهم في مقابل ذلك بواجبات تهدف إلى كسر شوكتهم في دار الإسلام، ومن هذه الواجبات:
أ- حملهم على الخضوع لأحكام الشرع الإسلامي فيما يتعلق بالمسؤولية المدنية والمسؤولية الجنائية دون ما يتعلق بالعقيدة.
ب- منعهم من الإساءة لشعائر الإسلام، فلا يجوز لهم التعرض لدين الإسلام، ولا لكتاب الله ولا لرسوله بإهانة أو طعن أو تحريف أو تكذيب، كما يجب عليهم الامتناع عن كل ما فيه ضرر بالمسلمين في دينهم ونفوسهم وأعراضهم وأموالهم.
ج- منعهم من إظهار شعائر دينهم درءًا للفتنة في الدين، ومنعهم من التظاهر بالمنكرات التي يستحلونها وأقروا عليها بموجب عقد الذمة أو الأمان، حيث إن إظهار ذلك مما يغري بعض سفهاء المسلمين بتناوله تشبهًا بهم.
د- منع الذميين من التشبه بالمسلمين في اللباس والهيئات، وفي الأسماء والكنى والألقاب والمراكب, ومن التعالي على المسلمين في المساكن, وألزمهم بالغيار؛ وهو لبس علامة فارقة تميزهم عن المسلمين في المجتمع، حتى يمكن إنزال كل فريق منزلته، ويعطى ما يستحقه من حقوق، ويطالب بأداء ما يجب عليه من واجبات.
رابعًا: الدعوة والاحتساب في مواجهة التشبه بالكفار:
لم يكتف الإسلام بتشريع سبل الوقاية فقط، بل حمّل أيضًا الدعاة والمحتسبين وظائف ومسؤوليات لترجمة تلك التدابير إلى واقع عملي ملموس وإلى نموذج تطبيقي مشاهد. حيث إن التدابير الإسلامية لتكوين شخصية المسلم والتدابير الواقية من تأثر المسلم بالكفار والتدابير الواقية من نفوذ الكفار في دار الإسلام تحتاج إلى من يبيّنها للناس، ويدعوهم إليها بمختلف الوسائل والأساليب، ويقيم الحجج عليها، ويدفع شبه المخالفين عنها، وهذه مهمة الدعاة.
كما أن تلك التدابير تحتاج أيضًا إلى من يَحْمِل الناس على السير وفق مقتضياتها، ويمنعُهم من مخالفتها، ويؤدِّب المنحرفين عنها، ويتخذ في ذلك كافة الوسائل والأساليب الممكنة لتحقيق الأمور المذكورة، ومن هنا تأتي مهمة المحتسبين.
فمن الوظائف والواجبات الملقاة على عاتق الدعاة والمحتسبين في هذا الصدد ما يلي:
1- الدعوة والاحتساب لمواجهة التشبه العقدي:
وذلك بما يلي:
أ- كشف النقاب عن الحركات والتنظيمات العاملة على تقويض العقيدة الإسلامية، كمنظمات التنصير والماسونية والصهيونية وغيرها.
ب- الحرص على بيان العقيدة الصحيحة وتوضيحها للأمة، وتحذيرها من الشرك والبدع.
ج- الاحتساب على المظاهر الشركية والبدعية المؤدية إلى الغلو في الدين وفي الأشخاص.
2- الدعوة والاحتساب لمواجهة التشبه التعبدي:
يجب على الدعاة بيان العبادة الصحيحة وأحكامها وشروطها، وما يضاد ذلك من البدعة المحدثة في الشعائر التعبدية، وقايةً للأمة من التخبط في أوحال بدع وطقوس الأمم الكافرة, التي طالما تسربت إلى العبادات الإسلامية بسبب الجهل الذي يعيش فيه غالب المسلمين.
3- الدعوة والاحتساب في مواجهة التشبه الأخلاقي:
وذلك بما يلي:
أ- الكشف عن الوسائل والأساليب المستخدمة لتقويض الدعائم الخلقية للشعوب الإسلامية، فأعداء الإسلام يتسترون وراء شعارات مختلفة، ويلبسون أقنعة متنوعة، ويتسمّون بأسماء متعددة، مع أن الحقيقة والجوهر واحد. وهم يزرعون أفكارهم بالأساليب المختلفة الخبيثة، المباشرة منها وغير المباشرة، فتنتشر هذه الأفكار كانتشار الجراثيم في البيئة.(/17)
وجراثيم الأمراض الخلقية التي يبثها أعداء الإسلام بالوسائل المختلفة الخفية منها والظاهرة قد لا تظهر آثارها في حينها على الأفراد لوجود مقاومة عقدية أو اجتماعية، ولكن مع مرور الأيام تظهر وقد استفحل الأمر واستعصى, مما يجعل الكشف المبكّر والدائم عن تلك الوسائل والأساليب التي يستخدمها أعداء الأمة لزرع جراثيم الأمراض الخلقية في أوساط المسلمين أمرًا له الأهمية القصوى في مواجهة التشبه الأخلاقي.
ومن تلك الوسائل: إنشاء النوادي وبيوت الشباب التي يستخدمونها في ترويج المسكرات والمخدرات، ونشر الأفلام والصحف والمجلات الخليعة والماجنة ونشر تجارة الجنس عن طريق الملاهي والمراقص الليلية وفرق الرقص، وتشجيع السياحة إلى بلاد الكفر، والسماح بالتعري على شواطئ البحار والأنهار، وعن طريق ما يسمونه بالأدب المكشوف، وهو عبارة عن الكتب والقصص الجنسية التي لا تتورع عن تزيين سبل الفساد للشباب.
ب- القيام بتزكية النفوس بالأخلاق الحميدة:
المهمة الثانية التي يجب على الدعاة ـ وهم في مضمار المواجهة مع ظاهرة التشبه الأخلاقي ـ أن يعملوا على تزكية نفوس المسلمين بالأخلاق الحميدة، وذلك بالعمل على إثارة دواعي التمسك بالأخلاق الحميدة لدى الناشئة، وتنفيرهم من دواعي التحلل منها، وبيان مدى فائدة وفضيلة التحلي بالخلق الكريم، وتبصيرهم بعواقب الانحلال الخلقي الوخيمة.
ج- الاحتساب على توريد البضائع المحرمة.
د- القيام بمراقبة المطبوعات.
هـ- القيام بالاحتساب على الكفار المقيمين في ديار الإسلام في مجال الأخلاق.
4- الدعوة والاحتساب في مواجهة التشبه الثقافي:
مجال الفكر والثقافة من أخطر مجالات تشبه المسلمين بالكفار لكونه سببًا في غيره من مجالات التشبه الأخرى، وقد استخدم الكفار في التغريب الثقافي للشعوب الإسلامية وسيلتين خطيرتين:
إحداهما: المناهج التعليمية، وهي أهم وسيلة لتغيير الشعوب وتشكيلها, وتغيير هويتها حسب الغايات والأهداف التي تراد لها.
ثانيهما: وسائل الإعلام، وهذه لا تقل خطورة عن الوسيلة السابقة، إن لم تكن أخطر منها في عصرنا الحاضر، لسعة انتشارها وسهولة استخدامها ومناسبتها لمختلف فئات الأمة، فقد كان للإعلام في بعض البلاد الإسلامية بوسائله المتعددة دور بارز وخطير ساهمت به مع المناهج التعليمية في طمس معالم الثقافة الإسلامية وتشويهها، وفي التحريض على التشبه بثقافة غير المسلمين وفكرهم ومعارفهم.
ومن هنا كان لا بد لمواجهة التشبه الثقافي من إصلاح المناهج التعليمية ووسائل الإعلام معًا، وذلك بما يلي:
أ- الدعوة إلى التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية والإنسانية.
ب- الدعوة إلى التوجيه الإسلامي للعلوم المختلفة.
ج- الاهتمام بدعوة الأقليات المسلمة في بلاد الكفر.
د- الاحتساب على المدارس الأجنبية القائمة في بلاد المسلمين، وإخضاعها تحت الإشراف والرقابة.
هـ- الاحتساب على أهل الذمة في مجال التعليم والثقافة.
خامسًا:دعاء الله سبحانه بالهداية إلى الاستقامة:
لا شك أن التشبه بالكفار انحراف عن الصراط المستقيم إلى صراط المغضوب عليهم أو الضالين.
قال ابن تيمية: "وهذا الانحراف أمر تتقاضاه الطباع ويزينه الشيطان، فلذلك أمر العبد بدوام دعاء الله سبحانه بالهداية إلى الاستقامة التي لا يهودية فيها ولا نصرانية أصلاً"[8].
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا،،،
* * *
[1] انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (1/352).
[2] انظر: التدابير الواقية من التشبه بالكفار، للدكتور عثمان دوكوري.
[3] أخرجه الطبراني في الكبير (9/152)، وأبو نعيم في الحلية (1/136-137)، وروي معناه مرفوعا ولا يصح.
[4] الفائق في غريب الحديث (1/57).
[5] انظر: تحفة الأحوذي (6/145).
[6] أخرجه البخاري في الذبائح والصيد, باب: المسك (5534)، ومسلم في البر والصلة, باب: استحباب مجالسة الصالحين (2628).
[7] الرسائل والمسائل النجدية (3/290).
[8] اقتضاء الصراط المستقيم (1/83).(/18)
ذوقيات الداعية
إعداد: د.عبد الرحمن الجرعي 3/7/1424
31/08/2003
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لانبي بعده . وبعد :
فهذه كلمات فيها محاولة لفهم أسرار النفس الإنسانية ، وتلمح مواطن الجمال والكمال فيها ، ونبرأ إلى الله من أن نعيّر أحداً بعيبه أو أن نشهَّر بأحد ففي المتحدث من العيوب مايكفيه ، والباعث هو طلب الكمال البشري وعليا المناقب ، مع إحساسنا وإدراكنا بأن الدعاة هم من أكمل الناس خلقاً وذوقاً ، يعرف ذلك من خالط دهماء الناس وعامتهم ، ولكنه تطلب الأرقى من الذوق والمراتب السامية ،ولاشك أن التحلي بهذه الذوقيات ، والبعد عما يشين من السلوكيات ،مما يزيد في جمال سلوك المسلم ، ويعززمحاسنه ، ويحبب شخصيته ، ويدنيه من القلوب والنفوس. فيكون كريما على حد قول الشاعر:
إن الكريم لكالربيـ ... ...
ـع تحبه للحسن فيه
وإذا تحرق حاسدوه ... ...
بكى ورق لحاسديه
كالورد ينفح بالشذى ... ...
حتى أنوف السارقيه
معنى الذوق في اللغة :هو إدراك طعم الشيء بواسطة الرطوبة المنبثقة بالعصب المفروش على عضل اللسان ، يقال: ذقت الطعام ، أذوقه ذوقا، وذوقانا ومذاقا، إذا عرفته بتلك الواسطة ، وتعدى إلى ثان بالهمزة ، فيقال:أذقت الطعام وذقت الشيء:جربته، ومن يقال: ذاق فلان الباس:إذا عرفه بنزوله بعده"(1).
وانتقلت كلمة الذوق من موضعها الأصلي الذي قيلت فيه إلى مواضع عدة استعيرت لها، وصار الذوق يستعمل في الإحساس العام الذي تشترك فيه قوى الحس من سمع وبصر ولمس وشم ، وصار الذوق تعبيرا عن الإحساس بالألم والحزن ، أو الفرح والهناء ، أو الجوع والخوف ، وما إلى ذلك(2).
أهمية الأدب والذوق:قال القرافي في كتابه (الفروق)(3/96،4/272) " واعلم أن قليل الأدب ، خير من كثير من العمل ، ولذلك قال رُويم – العالم الصالح –لابنه : يابني اجعل عملك ملحا ، وأدبك دقيقاً. أي استكثر من الأدب حتى تكون نسبته في الكثرة نسبة الدقيق إلى الملح ، في العجين"
أسباب ضعف الذوق (3):(أ) غياب التربية الصحيحة عن كثير من أبناء الإسلام ، بسبب غياب دور الأب والأم ، ووجود المجتمع المفكك ، ربما كان الفرد في السابق يستحيي من كثير من النقائص ،وقد ضمر هذا المعنى الآن، وإنكار عامة الناس سابقا أقوى منه في هذه الأيام.
(ب) غياب القدوة الحسنة ، فسمت العالم وهديه له أثر عظيم على الأتباع " قال الذهبي " كان يجتمع في مجلس أحمد زهاء خمسة آلاف أويزيدون ، نحو خمس مئة يكتبون ، والباقون يتعلّمون منه حسن الأدب والسمت "(4).
(ج)ضعف المؤسسات التعليمية والثقافية وسلبيتها:أهلية كانت هذه المؤسسات أو رسمية،كالمدارس، ووسائل الإعلام،بل تقدم وسائل الإعلام أحيانا،رسائل ضارة بالدين والخلق.
(د)ضعف التناصح بهذا الأمر ،وضعف الاهتمامة به رغم أهميته،بل ربما عد الكلام في مثل هذا الأمر ضرب من الترف ،أو الليونة التي لايسمح بها وقت الدعاة.
تهذيب الطبائع :يزعم البعض أن أخلاق الإنسان فطرية فقط . وهذا ادعاء يرده الواقع من وجوه منها:
(أ)أن الأخلاق لو كانت الأخلاق لاتقبل التغيير لم يكن للمواعظ والوصايا معنى ولم يكن للتهذيب والتربية والأمر بهما فائدة
(ب)ولو لم يكن للتهذيب والتربية أثر لما كان للحدود والزواجر الشرعية عن اقتراف الآثام معنى.
(ج)كما أن الواقع المشاهد يدل على فائدة هذا التهذيب وإمكانه في الحيوان فضلا عن الإنسان فالصيد الوحشي يستأنس ويعلم الكلب عادات ، وتدرب الفرس(5).
- الأمر بالخلق – النهي عن سوء الخلق – وتميز الشخصية المسلمة بذلك :
انظر لكمال الأدب والذوق في قول أنس رضي الله عنه " خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أف قط ، وما قال لشيء صنعته لم صنعته ؟ ولالشيء تركته لم تركته ؟ وكان رسول الله صلى الله عليه من أحسن الناس خلقاً ، ولامسست خزاً ولا حريراً ، ولاشيئاً كان ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولاشممت مسكاً قط ، ولاعطراً كان أطيب من عرق النبي صلى الله عليه وسلم(6) تأمل يارعاك الله هذه المدة الطويلة- عشر سنين- استمر فيها النبي صلى الله عليه وسلم على ذات الخلق الرفيع ، رغم أنه لايخشى من خادمه شيئا ، ولايتوقع عتبه عليه، لكنها أخلاق النبوة ، ولعلك تقارن هذا بما ترى عليه حال المسلمين اليوم في معاملة خدمهم ، بل في معاملة من يحتك بهم-من إخوانهم- ممن ليسوا خدما، بل هم زملاء وجيران ، والله المستعان.(/1)
الذوق في المظهر العام للإنسان:( ويتمثل ذوقه في لباسه وزينته (فيلبس لباسا حسنا جميلا نظيفا،وإن لبس الأبيض فهو حسن ، وأن يكون اللباس رجوليا ويبتعد عن لباس الميوعة ، وأهل الفسق ) وقد حث الشرع على أخذ الزينة ، اتخاذ الرائحة الزكية، فلا يشم منه إلا رائحة حسنة ، وقد شرعت بعض الأحكام لإزالة الرائحة الكريهة (مثل النهي عن تناول الثوم والبصل لمن شاء صلاة الجماعة ، والاغتسال للجمعة من أجل رائحة العرق والملابس فيرى بعض الفقهاء وجوب الغسل في هذه الحالة) - ، وكذلك البعد عن المظاهر غير الرجولية كالقصات المنكرة التي نراها شائعة بين الشباب ، وفيها من التكسر ، والتشبه بالكفار ، وأهل الفسق مافيها).
ذوق اللقاء والتحية : ويتمثل في البدء بالسلام وحرص الإسلام على إفشائة بين المسلمين ، صغارا وكبارا، ولايقتصر على من يعرف بل يسلم على الجميع ولايحتقر أحدا ، والسلام سنة ، ورده واجب ، ومن الذوق في هذا المجال البشاشة والبشر والإيناس ، قال الشاعر الكريم:
أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله ... ...
ويخصب عندي والمكان جديب
وماالخصب للأضياف أن يكثرالقرى ... ...
ولكنما وجه الكريم خصيب
والبشر قد يدفع به شرور كثيرة ، ويدل لذلك حديث "بئس أخو العشيرة"، وينبغي أن يحرص المسلم على إشعار أخوانه بمحبته ، ويخبرهم بذلك ، ومن الإشعار بالمحبة: المصافحة، فإنها تزيد الود كما قاله الحسن البصري ، وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم لاينزع يده من يد مصافحه حتى يكون الآخر هو الذي ينزع(7).
والعناق وارد ومشروع عند القدوم من السفر ، وهو من أقوى الأدلة على الشوق والمحبة ، ويتمثل ذوق اللقاء كذلك في: المناداة بأحب الأسماء ، لما في ذلك من إدخال السرور على أخيك المسلم، ومن ذلك الكنية فلها وقع حسن في نفس الإنسان :
أكنيه حين أناديه لأكرمه ... ...
ولاألقّبه والسوأة اللقب
الذوق في الحديث : ومنه : اختيار الألفاظ الحسنة ، والبعد عن البذاءة قال الشافعي لتلميذه الربيع لما أغلظ في الكلام على بعض الجالسين (ياربيع أكس ألفظك) حتى وإن كان الكلام مزاحا، ويجب البعد عن الطعن في الآخرين،والتشهير بهم واغتيابهم، ولو كانوا خصوما،فليس المؤمن بالطعان ولااللعان ولاالفاحش البذيء(8).
ويبتعد المسلم عن تزكية نفسه (فلاتزكوا أنفسكم)ويحرص على خفض صوته أثناء الحديث إلا بقدر الحاجة قال تعالى(واغضض من صوتك) ويحرص أيضا على إتقان أدب السماع والإصغاء لغيره، وهو أدب لابد من تعلمه ، فليس من الذوق احتكار الحديث ، وعدم إعطاء الفرصة للآخرين ليفصحوا عما في أنفسهم .
ولابد من قبول تصحيح الخطأ عند حدوثه، فكلنا ذو خطأ ، ومن المناسب ترك الإشارة أثناء الحديث إلا لحاجة خشية أن يشير إلى بعض السامعين بما يؤذيهم ، ويحرص المسلم في حديثه على استعمال اللغة العربية السهلة مع البعد عن اللهجة غير المفهومة(مثل استخدام العامية التي لايعرفها الآخرون)
ويتكلم بالمناسب على الطعام ويتجنب مايستقبح من الكلام حتى ولو كان تعريضا ، فإن ذلك من قلة الذوق ، وكثير من الناس تعزف نفسه عن الأكل بسبب هذا الكلام النابي عن الذوق .
وينبغي أن يبتعد عن المداخلة ومقاطعة المتكلم ، كما أن ذكر نهاية القصة أو الحادثة قبل أن ينهيها المتحدث عيب لانرضاه لمسلم فضلاً عن داعية ، قال أبوتمام :
من لي بإنسان إذا اغضبته ... ...
وجهلت كان الحلم رد جوابه
وإذا صبوت إلىالمدام شربت من ... ...
أخلاقه وسكرت من آدابه
وتراه يصغي للحديث بطرفه ... ...
وبسمعه ولعله أدرى به
يقال : حدث رجل بحديث ، فاعترضه رجل فغضب عطاء ، فقال ماهذه الأخلاق ، ماهذه الطباع ؟ والله إن الرجل ليحدث بالحديث لأنا أعلم به منه ، ولعسى أن يكون سمعه مني ، فأنصت إليه وأريه كأني لم أسمعه قبل ذلك(9).
#
وإذا سئل جليسك عن شيء فلا تبادر أنت بالإجابة فإن ذلك أحفظ لأدبك ، وأنبل لمقامك ، قال مجاهد بن جبر : قال لقمان لابنه : إياك إذا سئل غيرك أن تكون أنت المجيب ، كأنك أصبت غنيمة أو ظفرت بعطية ، فإنك إن فعلت ذلك ، أزريت بالمسؤول ، وعنفت السائل ، ودللت السفهاء على سفاهة حلمك ، وسوء أدبك . وقال ابن بطة الحنبلي : كنا في مجلس أبي عمرو الزاهد الملقب بغلام ثعلب ، فسئل عن مسألة ، فبادرت أنا فأجبت السائل ، فالتفت إلي أبو عمرو الزاهد فقال لي : تعرف الفضوليات المنتقبات ؟ ! أي : أنت فضولي ، فأخجلني(10).
#
ويجب أن ينزل الناس منازلهم في كل شيء ومن ذلك (الحديث) فإذا كان في المجلس من هو عالم أو صاحب تخصص يظن أن لديه علم أكثر من المتحدث فليعط المجال وذلك من توقير العلم وأهله "قال أبو سعيد سمرة بن جندب رضي الله عنه " لقد كنت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم غلاماً ، فكنت أحفظ عنه ، فما يمنعني من القول إلا أن هاهنا رجالاً هم أسن مني " رواه البخاري ومسلم .وبعض شباب الصحوة يتصدر أحدهم في المجالس مع وجود من هو في مقام شيوخهم.
ذوق الزيارة :
#(/2)
إذا طرقت على باب أخيك أو صديقك ، أو من تقصده ، فليكن دقك برفق يعرّفه فقط بوجود طارق ، وإياك أن تطرق بابه بعنف كدق الظلمة والزبانية فتروعه وتخل بالأدب (دقت امرأة على الإمام أحمد الباب دقاً فيه عنف _ وكانت تريد أن تسأله عن مسألة من أمور الدين _فخرج وهو يقول " هذا دق الشرَطْ"-جمع شرطي- والصحابة كانوا يقرعون باب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأظافر (11).
#
ولا يسيء الظن بأخيه إن طرق عليه ثلاثاً فلم يخرج ، فلعله في وضع لايتمكن معه من الخروج ، وللإنسان في بيته أحوال خاصة لايحسن كثرة التمحل بالسؤال عنها (قال رجل فضولي- لصبي أرسلته أمه بطبق مغطى - " ما الذي في الطبق يا صبي ، فقال الصبي " يا أحمق : فلم غطته أمي ").
#
إذا زرت أخا لك دون موعد أو على موعد فاعتذر ، فاعذره فإنه أدرى بحاله ،وقد قال الإمام مالك "ليس كل الناس يقدر أن يتكلم بعذره" وكان من أدب السلف إذا زار بعضهم بعضا يقول الزائر للمزور " لعله بدا لك مانع" تمهيدا لبسط العذر من المزور فيما لو اعتذر.قال تعالى ( وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم )(12)سواء كان القول بالرجوع تصريحا أو تلميحاً.
#
لا تنظر داخل البيت المزور ولتأخذ يمنة أويسرة فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا أتى باب قوم لم يستقبله من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر "رواه أبو داود ، وفي الأدب المفرد قال صلى الله عليه وسلم " لايحل لامرىء أن ينظر في جوف بيت حتى يستأذن ، فإن فعل فقد دخل" أي صار في حكم من دخل بلا استئذان وهو محرم عليه.
#
ويجلس حيث يجلسه صاحب الدار حتى وإن كان أحد تلاميذه ، فإن الرجل أدرى ببيته وبما يصلح لضيفه. يقال: "دخل خارجة بن زيد على ابن سيرين زائراً له فوجد ابن سيرين جالسا على الأرض إلى وسادة فأراد أن يجلس معه وقال: قد رضيت لنفسي ما رضيت لنفسك ، فقال ابن سيرين : إني لا أرضى لك في بيتي بما أرضى به لنفسي ، فاجلس حيث تؤمر ".
#
استعمال الهاتف لايكون إلا بإذن صاحب الدار فلعل من النساء من تكون شاغلة لخط الهاتف ، ولاتأخذ الهاتف وتضرب الرقم فإذا أطل عليك صاحب البيت قلت له : عن إذنك فهذا ليس استئذانا.
#
و لا تفتح مغلقا ليس لك من درج أو باب ونحوه فإن هذا من الذوق النابي ، واعلم أن طول المكث في الزيارة غير صحيح بل تكون الزيارة خفيفة وبقدر الحاجة خشية الإثقال، وربما كان لدى صاحب البيت مواعيد مهمة عقل الحياء لسانه أن يبوح بها.
# ذوق المخالطة: مما يحسن التنبيه له في هذا المقام مجموعة من الأمور ومنها : تجنب العطاس بصوت مرتفع فإنه مما يفزع الجليس ويقزز نفسه ،وكذا التثاؤب بصوت مرتفع ، وإياك ومسارقة النظر إلى أوراق الآخرين المجاورين لك في مقعد الطائرة ، أو كراسي الانتظار في المستشفى فإن هذه المسارقة خصلة ذميمة.
ارجع المستعار أحسن مما كان:
في استعارة الكتب تجنب أموراً منها:
1-تأخير الكتاب عن وقت الإعارة (أعرف رجلا من الزملاء لا يعيد الكتاب المستعار حتى يكلم خمس مرات أو أكثر ، وقد أخر كتبا لأحد زملائه ما يزيد عن خمس سنين ، ومن الطريف أنه إذا جاء للاستعارة جاء في هيئة السائل الذي تحل له الصدقة.
2- التهميش والتعليق على كتاب ليس لك.
3- إهمال العناية بالكتاب وتركه للأولاد ليمزقوه (أحدهم: أعار غيره كتابا فأرجعه المستعير وعليه آثار طعام ، ثم استعار منه كتابا آخر فأعطاه المعير الكتاب وأرفق معه صحنا ، فقال :ما هذا ؟ قال (الكتاب للقرآءة ، والصحن للأكل).
لاتضحك على غيرك:
إذا سأل أحد الحاضرين سؤآل الجاهل أو المستفهم فلا تضحك عليه ، فإن ذلك خلاف المروءة ، وذلك يوغر صدر المضحوك عليه ، وربما منعه ذلك عن سؤآل يحتاج إليه في أمر دينه خشية أن يُضحك عليه . والله أمر بسؤآل أهل العلم عند الجهل "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون "(13)، وفي الحديث (ما تضحكون من جاهل يسأل عالما).
إنزال الناس منازلهم: مثل الأب ، والمعلم ، والكبير ، وهذا خلق نبوي كريم ، ومن أحق الناس بالإكرام العلماء، وذوي الفضل ، ومن له مكانة وشرف، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكرم وجهاء الناس وفضلائهم ، ويلبس لاستقبالهم أحسن اللباس.
ذوق المائدة:وفي هذا الذوق لاتجعل يد تطيش في الصحن ، ولاتتكلم وأنت تأكل فإنه خلق ذميم يجعل الأكل يتطاير، والجليس يتقزز ، وإياك والشره ، ومتابعة اللقم ، ولهذا نهينا عن القران في التمر كما في صحيح البخاري (3/445- المطبعة السلفية ) والقران هو أكل تمرتين معا ، وهو يدل على النهم ، والشره.
وقد وصف الرصافي (الديوان 151) أكولا نهما في مقطوعة جميلة صدّرها بقوله:
أكب على الخوان وكان خفا ... ...
فلما قام أثقله القيام
ووالى بينها لقما ضخاما ... ...
فما مرئت له اللقم الضخام
وعاجل بلعهن بغير مضغ ... ...
فهن بفيه وضع فالتهام
فضاقت بطنه شبعا وشالت ... ...
إلى أن كاد ينقطع الحزام
والنظر للآكلين من قلة الذوق ،فهو يحرج الآكل.(/3)
قيل (حضر أعرابي مأدبة أحد خلفاء بني أمية ، فأنشأ يأكل ، والخليفة ينظر إليه ، فرأى الخليفة في لقمة الأعرابي شعرة ، فنبهه إلى ذلك . فقال الأعرابي : أتنظر إلى نظر من يرى الشعرة في اللقمة ، والله لا أصبت من طعامك بعد هذا . فقال الخليفة : أسترها علي يا أعرابي ، ولك ألف دينار).
وكذلك استعمال الخلال يحتاج إلى ذوق لايخفى عليك.
–الذوق في استعمال السيارة:
البعض لايهتم بموقف سيارته فتجده حينا يقف خلف سيارة ، ويسد عليها الطريق ، وربما كان صاحبها في عجلة من أمره . وصاحبنا شغله شاغل ، فتأخر ، فأحنق صاحب السيارة ، فنال من السباب أو العتاب ماكان سبباً فيه ، وربما أوقف سيارته أمام بيت أوباب فضيق على الناس وهو لايشعر .
–والسفهاء في الطريق كثر وربما نالك منهم شيئا ، فلا تجاريهم ،فمن الخطأ مجاراة السفيه ، فقد يتطور الأمر ، وربما أفضى إلى ما لا تحمد عقباه
قال أبو تمام:
إذا جاريت في خلق دنيئا ... ...
فأنت ومن تجاريه سواء
فليتحمل الإنسان وليصبر . واسمع لقول القائل:
لاترجعن إلى السفيه خطابه ... ...
إلا جواب تحية حياكها
فمتى تحركه تحرك جيفة ... ...
تزداد نتناً إن أردت حراكها(14)
#
والتفرج على الزملاء وهم يعملون ، والاشتغال عنهم بعمل شخصي آخر، من قلة الذوق ، وقد يتحملون ، ولايمتعظون ، ولكن يجب عليه أن يقدر مشاعرهم ، وبأي حق ينقسم الزملاء إلى فريقين : فريق يخدم إخوانه ويتعب نفسه من أجلهم ، والفريق الآخر متكىء ، لايشارك إلا في القيام إلى الوجبة ، ولايشارك في إعداد طعام ولارفعه من الأرض ، ففي أي عقل أو شرع ،أوذوق هذا . لكن إذا ألحوا عليه في ترك مساعدتهم ، تقديرا منهم ، فلا بأس.
#
كثرة التعليق الساخر على أحد الزملاء والتغامز بين البعض من قلة الذوق، وربما كان هذا الأخ مبتلى بعادة يصعب عليه الفكاك منها ، فيكون ذلك من مداخل الشيطان في إيغار صدره ، وقد رأينا بعض آثار هذا الأمر في نماذج لاتخفى ، ومراعاة حال النفوس أمر لازم.
#
كثرة التمحل بالسؤال عن الخصوم والأقران،من فساد ذوق الداعية،فتراه يسأل ؟ماذا قالوا وهل أحدثوا اليوم شيئاً ، وهل قالوا في ّ بالذات كلاماً ، ويظل هذا ديدنه وهجيراه ، وربما أورث هذا لتلاميذه فأصبحت أنفسهم عدوانية ، ونشأ لديهم مايسمى بنفسية الصراع ، فلا يعيش الواحد منهم إلا في هذه الأجواء الساخنة ، ويذهب في هذا الخضم هدوء المؤمن وسكينته ، حتى لكأن هذا الداعية من أصحاب الصراع الدنيوي في مكاتب العقار، أو صراع الساسة من أهل الأحزاب والتكتلات السياسية .وما أجمل قول أبي العلاء الحضرمي الصحابي المعروف :
وحي ذوي الأضغان تسب قلوبهم ... ...
تحية ذي الحسنى فقد يرقع النقل
فإن دحسوا بالشر فاعف تكرما ... ...
وإن كتموا عنك الحديث فلا تسل
فإن الذي يؤذيك منه سماعه ... ...
وإن الذي قالوا ورائك لم يقل
ونفس المؤمن الصافية لاتحبذ العيش في هذه الأجواء المحتدمة ، فضلاً عن تطلبها ، قال بعض السلف كما نقله النووي في (الأذكار ص 330 ) " قال بعضهم : مارأيت شيئاً أذهب للدين ، ول أنقص للمروءة ، ولاأضيع للذة ، ولاأثقل للقلب من الخصومة" وكم من كلمات الغيبة التي يزينها الشيطان ، تحت رونق النصح ومعرفة الواقع ، بينما هي في الحقيقة نفثات مصدور ، وتمضمض بالأعراض ، يكر على الحسنات فيفنيها . والله المستعان .
#
ومما يلاحظ على بعض الدعاة ، عدم مراعاتهم لوقارهم وأعراف مجتمعاتهم فيأتون مايستهجن في بلدهم ، وإن لم يكن حراماً ، لكن الداعية الذي هو قدوة لغيره يأبى أن يكون مضغة في أفواه الناس ، ولايقولن لنفسه طالما أن هذا الفعل ليس بحرام فلا علىّ من الناس ! فإن الداعية قدوة ، وقد قال بعض السلف : لقد كنا نفعل أفعالا ، فلما أصبحنا قدوة للناس تركناها.
#
والتفسخ في المجالس من ذوق الداعية : فإذا أقبل أحد ، ولم يجد مكانا في المجلس ، فعلى من كان لديه مكان مناسب أن يفسح له في مجلسه " ياأيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم "(15).
قال الأصمعي "كان الأحنف إذا أتاه إنسان وسّع له ، فإن لم يجد موضعاً تحرّك ليريه أنه يوسّع له"(16).
وللزوجات نصيب من ذوق الداعية فهي صاحبته في طريق الدعوة ، فلنحسن التعامل معهن ، وتثني على حسن صنيعهن ، ونقلل معاتبتهن ، ونسرق الأوقات للبقاء معهن ومع الأولاد ، ونشعرهن بأنهن يشاركن في هذا الطريق ، بخدمة الضيوف ، والخلف في البيت وتربية الأولاد ، ومن الجفاء أن يظل الزوج يهدد زوجته دائما بالزواج عليها ، فليس ذلك من شأن الكرام .
وللأولاد نصيب من وقت الداعية فإن بعض أولاد الدعاة غير مهذبين ، وبلا ذوق أوحياء أو احترام للكبير حتى لكأنهم أولاد عوام ويتضح ذلك في القاموس الذي تحويه ألسنتهم من السباب والشتائم ، وربما تساهل الداعية في الزيارات لبعض الأقارب الذين لايربون أولادهم ، فيقبس منهم أولاد الداعية الخلق الرذيل ، وأبوهم مشغول بأولاد المسلمين ، وشبابهم.(/4)
#
والداعية نسّاء للهفوات من إخوانه، ينسى الإساءة ، ويستغفر لإخوانه فإن بقي في صدره شيء صارح بها إخوانه ، والعجيب من بعض دعاة الإسلام حين ينقب عن زلات إخوانه ويحفظ هناتهم ، ويخزنها في صدره ، فما أن تأتي مناسبة حتى يخرج كشف الحساب بالتواريخ والأرقام ، يتذكر التفاصيل التي يترفع عن ذكرها كل ذي مروءة ، مما يشف عن نفس غير صافية.وفيه يصدق قول القائل :
احذر مودة ماذق ... ...
شاب المرارة بالحلاوة
يحصي العيوب عليك ... ...
أيام الصداقة للعداوة(17)
أما نفس الداعية صاحب ذي النفس السوية والذوق الرفيع فهي تقول :
لاأنت قلت ولاسمعت أنا ... ...
هذا كلام لا يليق بنا
إن الكرام إذا صحبتهموا ... ...
ستروا القبيح وأظهروا الحسنا
#
والبعض يدير مجالسه كإدارة المؤسسات التجارية الربحية ، فيحاسب على القنطار والقطمير ، ولايقبل عذراً ولايتغاضى عن هفوة ، بل ربما تعمد إحراج بعض إخوانه ، وألجأه إلى الكذب حتى يخرج من بعض المواقف ، والكريم يتحاشى إحراج الأبعدين ، بله الأقربين :
تسامح ولاتستوف حقك كله ... ...
وأبق فلم يستوف قط كريم
ولاتعدفي شيء من الأمر واقتصد ... ...
كلا طرفي قصد الأمور ذميم
قال ابن الأثير عن صلاح الدين " بلغني أنه كان جالساً وعنده جماعة ، فرمى بعض المماليك بعضهم بسرموز (قشر موز) فأخطأته ، ووصلت إلى صلاح الدين فأخطأته ، ووقعت بالقرب منه ، فالتفت إلى الجهة الأخرى ، يكلم جليسه ، ليتغافل عنها(18)".
وقد تفحم غيرك وتعلوه بالحجة لكنك لاتقنعه ، ومع ذلك فقد تملأ قلبه غيظا وحَنَقاً ، ويزداد الأمر شدة ، والجرح نكآءة ، حين يكون ذلك بمحضر من الآخرين ، ويظل الأمر يكبر في نفسه ، والشيطان يؤزه حتى يظهر هذا المخزون في أقرب فرصة على شكل نافورة تمج غلاً وكراهة وصاحبنا القاسي ، يفتح فمه ، دهشة وأسفاً.
#
وكثرة الحديث عن النساء من الذوق النابي ، والمقصود كثرة مايدور في مجلس بعض النبلاء من ذكر التعدد ، والتفاخر به ، والتحدي لمن لم يعدد .قال الأحنف " جنبوا مجالسنا ذكر النساء و الطعام ، فإني أبغض أن يكون الرجل وصافا لبطنه وفرجه"
#
والسخرية من أعمال الآخرين _خاصة _ الدعوية ، واستعمال كلمات مثل هذا العمل ،لعب ، وعبث ، ومضيعة للوقت ، سقطة لا تليق بالداعية. ولعل الله عز وجل قد اطلع إلى نية هذا المستهزأ به فقبل عمله القليل ، ويخشى على الآخر أن يكون ممن يدل بعمله ، فإن الشيطان يأتي للإنسان من طريق العجب أحياناً ، ثم إن المحافظة على مشاعر الآخرين واجب شرعاً ليس لأحد أن يتخفف من ذلك ، والتوجيه يكون برفق ومحبة ، يشعر بها الآخر ، وليس لأحد أن يقول : هذا أنا وهذه طباعي ، فلا تؤآخذوني ، أو يكون كما قال الشيخ الطنطاوي- على لسان (صلبي) - عن أهل الحضر:أنهم يسيئون إساءة العدو ، ويعتذرون اعتذار الصديق .(صور وخواطر ، مقالة:أعرابي في سينما).
قال د.عبد الله الرحيلي :وقد يزهد بعض الناس في التزام حسن الأدب والخلق مع أخيه ، بحجة أنه أخوه ، وليت شعري مع من يلزمه حسن الخلق إذن .(الأخلاق الفاضلة)
وهاك أخي القارىء كلمة عظيمة لابن حزم يحسن إيرادها في هذا المقام ، قال رحمه الله " لم أر لإبليس أصيد ولا أقبح ولا أحمق ، من كلمتين ألقاهما على ألسنة دعاته : إحداهما:
اعتذار من أساء بأن فلانا أساء قبله . والثانية : استسهال الإنسان أن يسيء اليوم لأنه قد أساء أمس . أو أن يسيء في وجه ما لأنه قد أساء في غيره (19)".
وهناك صنف من الناس يصوب نظره إلى عنصر الخير في الناس ، ويتعامل معهم على أساسه ، وينشره فيهم ، فهو كالنحل ، وهذا ممكن جداً فإن الخير مركوز في الفطر ، وربما كانت عليه غشاوة رقيقة ، من جهل أو سوء خلق . وصنف آخر يصوب نظره إلى عنصر الشر في الناس وإلى الرذائل فيهم ويتعامل معهم على أساسه وينشره فيهم ، فيؤذي نفسه ويؤذي الآخرين ، فهو كالذباب .فكن كالأول ، ولاتكن كالثاني.
وأخيرا فإن من الأمور المعينة على تحصيل هذه الذوقيات وأمثالها ما يلي :
1. المطالعة في كتب الأخلاق الإيمانية ، والطرق الإحسانية. مثل : مدارج السالكين ، ,وتهذيبها لعبد المنعم العزي، وصيد الخاطر لابن الجوزي، وإحياء علوم الدين مهذباً . وتلمس مثل هذه المعاني في دواوين السنة وسيرة المصطفي ، وسير النبلاء من أصحابه وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين .
2. المطالعة الأدبية في كتب الأدب ، والنظر في دواوين الشعر ، قديما وحديثاّ ، فإن أكثر الأدباء لهم أحاسيس رقيقة ، مكنتهم من اكتشاف الأذواق الرفيعة .
3. المخالطة الاجتماعية لأهل الفضل ، وأبناء العوائل الأصيلة ، والعلماء والكتاب ، وذوي الذوق حتى من غير أهل الالتزام ، والخروج من مجتمع الدعاة إلى المجتمع الواسع ، فإن في أشراف الناس بقية خير وافر ، وإن قصروا عن إدراك معنى الدعوة ، ولم يسلكوا درب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.والله الموفق.
أهم المراجع(/5)
1.من أدب الإسلام ، لعبد الفتاح أبو غدة،مكتب المطبوعات الإسلامية بحلب.
2.فنون الذوقيات والاتيكيت الإسلامي،عبد الله البوسعيدي، دار ابن حزم.
3.تقرير ميداني ، محمد أحمد الراشد،سلسلة رسائل العين.
4.الأخلاق الفاضلة، د.عبد الله الرحيلي، دار المسلم.
5. مجتمع الذوق الرفيع ،د. يوسف العظم.دار القلم (1)- المصباح المنير،للفيومي.
(2)- مجتمع الذوق الرفيع ، د.يوسف العظم.
(3)- فنون الذوقيات ، البوسعيدي،ص8.
(4)- نزهة الفضلاء، د.محمد الشريف 2/835.
(5)- أنظر:الأخلاق الفاضلة، د.عبد الله الرحيلي.
(6)- رواه الترمذي ، وهو حديث حسن صحيح.
(7)- رواه الترمذي.
(7)- أخرجه الترمذي وأحمد.
(9)- الجرح والتعديل لابن أبي حاتم.
(10)- من أدب الإسلام،لأبي غدة ص66 .
(11)- رواه البخاري في الأدب المفرد.
(12)- سورة النور:28.
(13)- سورة النحل:43.
(14)- الحلم ، لابن أبي الدنيا ص 32، وأخطاء في أدب المحادثة والمجالسة ، للحمد ص 23.
(15) - المجادلة:11.
(16)- عيون الأخبار 1/306.
(17)- العزلة، للخطابي ص 193،194.
(18)- الكامل 9/225.
(19)- "الأخلاق والسير ص31.(/6)
ذِكْرَيَات
كان بردى يخطو على مهل، يرد على الشمس الوليدة أول تحياتها، وهي تغمره برشاش من عطر أشعتها الحمراء، وكنت في السيارة الضخمة والرفاق، الذين خرجوا من بيوتهم في هذا الصباح قبل نزوحي إلى العراق، فأقلب النظر في وجوههم شاكراً لهم فضلهم، حزيناً لفراقهم ثم أتأمل بردى، صديق الصبا وسمير الوحدة، ونجي النفس، فأبصر في خلاله ظلال الحوار والصفصاف، تميس دلالاً وتيهاً، وأرى ظلال المآذن البعيدة السامقة تظطرب في الماء فأبصر فيها ذكرياتي حية تطالعني وتحدثني، وتعيد على مسمعي قصة حياتي، وتتلو علي تاريخي، فأحس بلوعت الفراق، وأشعر في تلكه الساعة بأني أحب دمشق... دمشق مثوى ذكرياتي، ودنياي وديني، وغاية أملي في حياتي، ثم يطوي المرج هذا الصوت كله، ولا يدع حيال عيني إلا صور إخوتي، فأتأملها بعين دامعة، وقلب جاف من الفراق، ثم تجتمع كلها بعين واحدة، هو أحب الوجوه إلي وأدناها إلى قلبي... وألمح في الماء مشهداً طال عليه العهد ونأى به الزمان، فأراه ينفض عنه غبار السنين العشر، ويعود حياً جديداً... رأيتني في محطة الحجاز (محطة القطارات الرئيسة في دمشق)، آية الفن الحديث في دمشق، والمحطة مائجة بأهلها كما يموج البحر بمياهه، فمن مسافر عجل، ومن مودع باك، ومن بائع يصيح... ومن آت وذاهب، وطالع ونازل.. وكنت منزوياً في ركن من أركان القطار المسافر إلى حيفا (ميناء بفلسطين)، وإلى جانبي أختي الصغيرة.
أنظر إلى بعيد، فأرى هناك في أخريات الناس امرأة تمسك بطفلين، متلفعة بملاءة لا تبدي منها شيئاً، ولكن وراء هذا القناع الأسود عينان تفيضان بالدموع، عالقتين بمكاننا في القطار، وخلال تلك الدموع قلباً يخفق شوقاً ويسيل دمعاً، ووراء هذه الوقفة الساكنة ناراً تظطرم في الجوف، وزلزالاً شديد يدك نفسه دكاً.
وصفر القطار الذي يحملنا إلى مصر، فازداد القلب خفقاناً، ثم قذف إلى الجو بدخانه، كأنما هو حي قد أخذ بموقف الوداع، فزفر زفرة الحب الدفينة، والألم الحبيسة، ثم هدر وسار، وراحت المحطة تبتعد عنا، وعيني بيد تلك المرأة التي تلوح لي بمنديل أبيض حتى غاب عني كل شئ، هناك تلفت فرأيتني وحيداً، ورأيت القطار يجد لينأى بي عن أهلي وبلدي، فهممت بإلقاء نفسي من نافذة القطار - لولا أن تعلقت بي أختي التي كانت على صغرها أكبر مني، وعلى أنوثتها أقوى وأجلد... أردت أن ألقي بنفسي لأني لم أكن أتخيل أن في استطاعتي الحياة يوماً واحداً بعيداً عن أمي التي كان تعلقها بنا، وتعلقنا بها لا يشبه ما نرى من الأمهات والأبناء، وكان... آه وماذا تفيد كان، وقد كان ما كان.
تلك هي أمي، التي مر على (غيابها) عني سنوات طويلة، ولكني أحس كأن الحادثة كانت أمس، فتحز في نفسي ولا أطيق أن أكتب عنها حرفاً.
تلك هي أمي التي كانت لي أماً وأباً، بعد أبي رحمه الله، وكانت حبيبةً، وكانت أستاذةً، وكانت دنياي، وكانت آخرتي... وكانت أمي، تلك هي أمي التي فوجئت كما تفاجأ الشجرة الغضة الفينانة في ربيعها الزاهر، حين تعصف بها العاصفة فتدعها جذعاً مقطوعاً جافاً.
تلك هي أمي التي ما نسيتها - علم الله - أبداً، ولم أذكرها أبداً، إنها تملأ نفسي، ولكني لا أجري ذكرها على لساني، أراها في أحلامي حيةً فأشعر كأني عدت حياً، وأهم بعناقها وأفتح عيني فأجد على وجهي حر لطمة الدهر الساخرة، ولكني أحمل اللطمة، وأغضي على القذى (أسكت على الذل)، ولا أخبر أخوتي بشيء، لئلا أذكرهم ما هم ناسون، أو أجدد لهم بالمصيبة عهداً، فأهمل ذكرى أمي ويهملونها... ولعل كل واحد منهم يحس مثلما أحس ويكتم مثلما أكتم.
ذكرت ذلك ساعة الوداع، لأني كنت متألماً، وليس لآلامي كلها إلا معناً واحد هو أني أذكر وفات أمي، ذلك هو الألم عندي لا ألم سواه.
فلما صحوت نظرت في وجوه المودعين، فلمحت وجه أمي مرة ثانية ولكني لمحته حياً ماثلاً في وجوه إخوتي الأحباء، فودعته بدمعة من العين، وابتسامة على الفم، وإشارة بالكف، ثم سارت بنا السيارة تطوي الأرض، وتستقبل الصحراء.(/1)
رأي الطهطاوي في الحرية الشخصية
* سمير أبو حمدان
وإذا كانت فكرة المساواة، أو (التسوية) كما يعبر عنها الطهطاوي في كتاباته، قد شغلته كثيراً وحَبَّر لها العديد من الصفحات، فإن حرية الأشخاص، أو الحرية الفردية، هي المبدأ الآخر الذي شكّل، بالنسبة له، سبيلاً إلى تقدم المجتمعات وتحضّرها. أما الكتاب الذي نقع فيه على تفصيلٍ وافٍ حول قضية الحرية الشخصية ( = الفردية) فهو (المرشد الأمين للبنات والبنين).
ن الحرية عند رفاعة الطهطاوي، شأنها شأن المساواة، حق طبيعي لكل مواطن، وهو لا يُوهَب ولا يُعطى. إما إذا كان ثمة تقييد لبعض الحريات في الأنظمة الدستورية، فلا يمكن أن نعتبره قاعدة متبعة وثابتة، وإنما هو استثناء يجب التخلص منه. فالمرء يجب أن يتمتع بحريته تامةً، وعلى القانون أن يحدد الحالات، وهي حالات استثنائية، التي يمكن أن تصبح فيها مقيدة. وعلى هذا الأساس أصبح كل شيء مباحاً طالما أن القوانين لم تمنعه. ووفقاً لرأي الطهطاوي وعلى لغته، فان الحرية هي (رخصة العمل المباح من دون مانع غير مباح ولا معارض محظور). ويضيف: (كل عضو من أعضاء جمعية المملكة يرخّص له أن يتمتع بجميع مباحات المملكة. فالتضييق عليه فيما يجوز عليه فعله بدون وجه مرعيّ يعد حرماناً له من حقه. فَمَن مَنَعه من ذلك بدون وجه سَلَبَ منه حق تمتعه المباح، وبهذا كان متعدياً على حقوقه ومخالفاً لأحكام وطنه).
في كلام الطهطاوي نجد نوعاً من الربط بين كرامة الأفراد كرامة الوطن نفسه. فمن الطبيعي أن يكون المواطن متمتعاً بحقه في الحرية، ومن غير الطبيعي ألا يكون متمتعاً بهذا الحق. ففي الدساتير الحديثة ثمة نصوص قانونية تحدد الحالات والأوضاع التي تصبح فيها حرية الأفراد مقيدة. وأي تقييد لحرية الأفراد ـ خارج هذه الحالات ـ يعتبر انتهاكاً لحقهم في الحرية، وبل يعتبر انتهاكاً لقوانين الوطن وأحكامه. وعلى هذا الأساس فان ما يميز الدولة الحديثة هو احترامها حريات الأفراد وصون هذه الحريات. وقد لاحظ الطهطاوي أن هذا الصَون للحريات في البلدان المتمدنة، وخاصة في فرنسا التي قضى سنوات بين ربوعها، قد أفضى إلى نتيجة لا شيء يوازي أهميتها، وهي حب الأفراد لأوطانهم، والتعلق بها، والاستماتة في سبيلها في حال تعرضها للخطر. فالفرد الذي يشعر بأن ثمة سلطةً تحمي حقه في الحرية، إنما هو فرد مطمئن إلى راهنه ومستقبله. ومما يذكر أن حالة الاطمئنان والاستقرار أدت إلى مزيد من البذل والعطاء لدى هؤلاء الأفراد، الأمر الذي أدى، بدوره، إلى مزيد من التطور والتقدم في هذه البلدان.
لقد كانت الحرية بأشكالها المختلفة، الفردية والسياسية والدينية وحرية التعبير والتملك، مداراً أساسياً في مؤلفات الطهطاوي كافة من (تخليص الابريز) إلى (المرشد الأمين) إلى (مناهج الألباب). وكان أن أُعجب، وهو يقوم بترجمة بنود الدستور الفرنسي، بتلك القوانين التي محضت الفرنسيين الحريات التامة والناجزة. فبالنسبة للحرية الدينية يستشهد رفاعة بنص من الدستور الفرنسي يقول: (كل انسان موجود في بلاد الفرنسيس يتبع دينه كما يجب لا يشاركه أحد في ذلك (بل يُعان على ذلك) ويُمنع مَن يتعرض له في عبادته). وقد كانت هذه السياسة التي اتبعتها الدول المتمدنة (نافعة) لأهل البلاد والغرباء، (فلذلك كثر أهل هذه البلاد وعمرت بكثير من الغرباء) كما يقول الطهطاوي. فمن أولى موجبات العمران أن يتمتع المواطنون بحرية مطلقة في اختيار عقيدتهم الدينية. ليس هذا وحسب بل وأن يُقدَّم لهم العون على ايجاد المناخ الملائم لممارسة شعائرهم الدينية وطقوسهم.
لكن الحرية الدينية تفقد مبرر وجودها عندما يتعرض المواطن (لأصل الدين) حسب تعبير رفاعة. وفي هذا يقول: (الحرية الدينية هي حرية العقيدة والرأي والمذهب، بشرط أن لا يخرج عن أصل الدين، كآراء الأشاعرة والماتريدية في العقائد وآراء أرباب المذاهب المجتهدين في الفروع).
ومن أشكال الحرية التي أخذت بلب الطهطاوي وأعجب بها بما لا يُحَد حرية الرأي والتعبير. فلا يأملنّ أحدٌ بتقدم فكري وأدبي وعلمي بغير حرية الرأي. فالطاقات والمواهب والخامات الفكرية والأدبية والعلمية تتفتح في ظل هذا الشكل من الحرية.(/1)
وحرية الرأي والتعبير، وخاصة في الكازيطات والجورنالات والورقات (أي في الصحف والمجلات) تنطوي على أهمية بالغة لجهة تثقيف الرأي العام وتوعيته وترشيده. فهي تعرض، أي الكازيطات وغيرها، عدداً من (المسائل العلمية الجديدة التحقيق)، وتفتح أعين المواطنين على (تنبيهات مفيدة) و(نصائح نافعة). والأهم من ذلك أن حرية الرأي الممارَسة في الصحف تنطوي على وظيفة أخرى وهي رفع الضيم والظلم عن أولئك الذين ليس لديهم وسيلة للتعبير عن معاناتهم غير المنابر الإعلامية، فـ(إذا كان الانسان مظلوماً من إنسانٍ ما) كتب مظلمته في هذه الورقات (الجرائد) فيطلع عليها الخاص والعام، وتصل إلى محل الحكم (أي أصحاب الشأن) ويُحكم فيها بحسب القوانين المقررة).
وتحدث الطهطاوي عن شكل آخر من أشكال الحرية، وهو حرية التملك، حيث أن ما يمتلكه شخص ما يجب أن يكون محرّماً على شخص آخر، وأن يكون محميّاً من قبل السلطة. حتى أن السلطة نفسها ليس لها الحق في أن تتصرف بأملاك المواطنين إلا بناءً على (ضوابط قانونية). إذ أن ثمة حالات بعينها يجوز أن تُقدِم السلطةُ فيها على مصادرة عقارٍ لمواطنٍ فيما إذا كانت مثل هذه المصادرة تنطوي على (نفعٍ عام). ولكن مقابل ذلك على السلطة أن تدفع لصاحبه ثمنه كاملاً غير منقوص. يقول الطهطاوي: (للدولة دون غيرها أن تكرِه إنساناً على شراء عقاره لسبب (عام النفع) بشرط أن تدفع ثمن المثل قبل الاستيلاء).
وينطوي كلام رفاعة هنا على أهمية بالغة إذ أنه قيل في وقتٍ كان الشرق العربي- الاسلامي يشهد نكسةً كبيرة على صعيد مصادرة ممتلكات البعض من قبل السلطة الحاكمة بدون وجه حق. وبغياب أي قانون يحمي ممتلكات الأفراد والجماعات كان الولاة العثمانيون يصادرون ممتلكات خصومهم السياسيين لأجل كسر شوكتهم. أما الأملاك التي كانت تصادَر بهدف النفع العام فلم تكن تُدفع أثمانها.
ويُطلق رفاعة على (حق التملك) مصطلح (الحرية السياسية)، إذ أن السياسة، هنا، تعني الممارسة والسلوك والتصرف. فالحرية السياسية، على رأي الطهطاوي، هي (تأمين -حماية- الدولة لكل أحد من أهاليها على أملاكه الشرعية المرعية، وإجراء حريته الطبيعية بدون أن تتعدى عليه في شيء منها، فبهذا يُباح لكل فرد أن يتصرف (أي أن يسوس) فيما يملكه جميع التصرفات الشرعية، فكأن الحكومة بهذا قد ضمنت للانسان أن يسعد فيها ما دام مجتنباً لاضرار إخوانه).
* * *
يتهيأ لنا مما تقدّم أن رفاعة رافع الطهطاوي كان أول مَن رفع لواء التحديث في الشرق العربي- الاسلامي عامة وفي مصر على وجه الخصوص. وقد كان التحديث على النمط الأوروبي هو شغله الشاغل منذ كتابه (تخليص الابريز) 1834م، وحتى (مناهج الألباب) 1870م. ولعل أهمية ما قاله وما كتبه أنه أتى في زمنٍ لم تكن مصر أو أي بلدٍ عربي آخر قد سمع حديثاً عن الحريات الديمقراطية والحقوق المدنية، انطلاقاً من المبادئ التي نصت عليها الدساتير الأوروبية، وبخاصة الدستور الفرنسي العام 1830م. وعلى أساسٍ من هذا فإننا نسمح لأنفسنا بأن نعتبر رفاعة الطهطاوي الأب الشرعي للفكر التحديثي في مصر سواء على الصعيد السياسي، أو الاجتماعي أم على الصعيد العلمي.(/2)
رأي في الوحدة الإسلامية الطلابية أبو ذر محمد أحمد*
اجترار
فترات من الوقت تهدر وتنفق من أجل الوصول إلى صيغة مقبولة للوحدة بين التنظيمات الإسلامية في الجامعات ، والحق أن الوحدة الإسلامية في أيّ قطاع كانت وعلى أيّ مستوى تحققت، غاية منشودة ورغبة مرتجاة. غير أن الواقع العملي يقول بغير ما ترتجي هذه القلوب المخلصة والنفوس الطيبة، والجهود المبذولة في سبيل هذا المطلب الذي أصبح شأنه شأن كثير من القيم الضائعة: الشورى، حقوق الإنسان، احترام الآخر... وهلمّ جرّا.
الوحدة الإسلامية في أيّ قطاع كانت وعلى أيّ مستوى تحققت، غاية منشودة ورغبة مرتجاة. غير أن الواقع العملي يقول بغير ما ترتجي هذه القلوب المخلصة والنفوس الطيبة
دواعي الوحدة ومحصّلاتها:
بعد توقيع اتفاقية السلام وجدت الفصائل اليسارية (التجمع الديموقراطي)مندوحة في أن تجمّع أطرافها وتكرّس جهودها، خاصة وأنها قد صارت بِثِقل جديد وشكل جديد وهو الشراكة الأصلية في السلطة، وبالفعل تجمّعت واحتشدت وتسنّمت منبر الاتحاد في أكثر من جامعة، فكان موقف الإسلاميين أن رأوا ضرورة الوحدة التي كانوا ينشدونها من قبل اتفاقية السلام لشعورهم المتزايد بتراجع الكسب للفكرة الإسلامية ولضعف الصف الملتزم في حركة الإسلام على اختلاف تنظيماتها وأشكالها.
وكان المحك الصعب للإسلاميين ليس هو مقاومة المد العلماني وحده، وإنما إجراء نوع ولو إشارة أو رمز من مبدأ الشورى المؤسسة، حيث كان رهق غير خلاّق بين هذه الجماعات الإسلامية في:
- تشكيل الصف المتحد وتحديد درجات هرمه الإداري الذي يقود ويوجّه.
- الإعداد البرامجي المطمئن.
- البراءة من احتدامية النفوس مما يجر إلى عدم الاطمئنان الواثق بين هذه الأطراف ويعطل سريان العمل (وفي الصدر حَزّازٌ من الوَجْد حامِزُ)!!.
فكانت المحصلة النهائية في أكثر من موسم انتخابي الفشل الذريع حتى على مستوى تبادل الثقة التي هي العنصر الأساس في كل هذا الرهق.
وإذا تماشينا – ولا بد – مع من يقول إن طبيعة العمل السياسي هي هذا التجاذب وأنى لك بوحدة بين أطراف فرقت بينها صروف الليالي وأكسبت كل واحدة منها أسلوباً تعرفه ومنهاجاً تتبعه في الوصول إلى ما تريد، فإن النتيجة الحاسمة لأمر هذه الوحدة هي أيضاً استحالة التحقيق.
قراءة واقعية:
واحدة من العقبات التي تواجه مسيرة الوحدة الإسلامية أن تياراً عريضاً ظل خصماً على هذه الوحدة
واحدة من العقبات التي تواجه مسيرة الوحدة الإسلامية أن تياراً عريضاً ظل خصماً على هذه الوحدة وهو تيار الإصلاح، والإصلاح تيّار سلفي لم يكن له وجود حقيقي في الخريطة السياسية قبل سنوات التسعينات.
وقد قام أصلاً على ردّة فعل أحداث مسجد الجرافة وما بعده فاحتاج إلى مخاطبة الطلاب عن استهداف الدعوة السلفية فانجر شيئاً فشيئاً إلى ميدان السياسة ولذا السبب – في ظني - لم يكتسب إلى الآن المرونة الكافية التي تمكنه من حوار الفصائل الإسلامية الأخرى التي لا تبعد عنه عقيدة وهدفاً ورسالة.
- ثم إن هناك لافتات تصغر أو تكبر وهي متعددة داخل الجماعة الواحدة وكان سبب خروجها قضايا جوهرية لا تبعد كثيراً عن القضايا محل النقاش بين جماعات الوحدة، فقناعات أنصار السنة (المركز) غير قناعات أنصار السنة (الآخرين) وقناعات الأخوان المسلمين غير قناعات الأخوان المسلمين (الإصلاح) وذلك في عناصر جوهرية لا أجد داعياً لبسطها خشية الإطالة.
- هذه القناعات المتنافرة تصيب الوحدة الإسلامية في أكثر من مقتل وتعرضها للحبس في قيود أبي جندل بن أبي سهيل بن عمرو أو في محبس أبي وجزة الشاعر وكلاهما محبسان مقيدان، وهذا الوصف يدفع أيضاً إلى القول باستحالة الوحدة الإسلامية أو قل صعوبة في تقدمها في أكثر مما قدمته.
رصيد التجربة:
رصيد تجربة الوحدة الإسلامية بكافة مسمياتها غير مشجع ألبتة للسير قدما نحو تيار يحقق نجاحاً أو يصوب مسيرة.
بصراحة: وبعيداً عن إلصاق التهم أو الوصف باليائس المُثَبّط فإني أرى أن الوحدة الإسلامية في العمل الطلابي بالجامعات غير ممكنة، وأن كثيراً جداً من التفاصيل أصبحت نوعاًُ من الاجترار المُمِضّ والاستهلاك الذي لا يسمن ولا يغني من جوع.
اقتراح عملي:
أحب أن أطمئن الإخوة الأحبة في كل هذه التنظيمات مع وافر الاحترام وأطالبها بالافتراق بالحسنى، مع مراعاة ضوابط يلتزم بها كل تنظيم وكل جماعة في مسيرة عملها بمفردها في الجامعات:
- الإبقاء على الودّ المتبادل والحب في الله تعالى.
- انطلاق كل جماعة على حدة في عملها وكسبها من غير مساس بجماعة أخرى أو فتح ملفات الانشقاقات أو الانتصار للذات.(/1)
- التأكيد والإبقاء على ربانية العمل الإسلامي وأن تظل هذه السمة هي المحرك والحمى الذي تفيئ إليه وتحافظ عليه الجماعات العاملة فلا تزوّر انتخابات ولا تزرع جواسيس ولا تتبنّى عنفاً ولا يسيئ بعضها إلى بعض فإن كان همنا في وحدة تجمع الجميع ولم تتحقق فلا أقل من تقديم صورة طيبة للإسلاميين بين جمهور الطلاب، لأنهم في المقام الأول دعاة إلى الله سبحانه وأخوة في الإسلام.
أخيراً:
هذا رأي رأيته بعد تأمل وتجربة في التيار الإسلامي، فإن رأى الإخوة في الجماعات الإسلامية العاملة غيره فلا عليهم بالأخذ برأيي ، وليعملوا ما بدا لهم وليرموا لنا معهم بسهم وإنما الحق ما أردت.(/2)
رأي في تأجيل العوضين في عقد التوريد
عبد العزيز بن إبراهيم الشبل(*) 2/7/1425
18/08/2004
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فبعد بداية عصر الثورة الصناعية والتطور السريع للمنتجات الحديثة واتساع التجارة بين الدول ظهرت عقود أضحت من لوازم تلك التجارة، ومن تلك العقود عقود التوريد وعقود الإعاشة، أن الإشكال الذي يرد على عقود التوريد أنه في الغالب يكون اتفاق ملزم للطرفين (عقد) وهذا الاتفاق عند إبرامه لا يتضمن تسليم أحد العوضين أو كليهما، وبناء على ذلك رأى كثير من الفقهاء المعاصرين أنه من قبيل بيع الدين بالدين المنهي عنه شرعاً، وبذلك جاء قرار مجمع الفقه الإسلامي المنبثق من منظمة المؤتمر الإسلامي (107) (1/12)(1).
ولكن هل هذا الحكم مسلم؟ وهل هذا هو رأي جميع الفقهاء المتقدمين؟ ألا يوجد مسائل ذكرها الفقهاء المتقدمون يمكن تخريج عقد التوريد عليها؟
الحقيقة أن هناك بعض الصور التي ذكرها الفقهاء تنطبق على عقد التوريد ـ أو هي قريبة منه ـ وهذه الصور يجمعها أنها بيع تأخذ فيه السلع شيئاً فشيئاً.
وهذا البيع لم يتفق الفقهاء على اسم واحد له، بل له عدة أسماء، هي:
1. بيع الاستجرار:وهذه التسمية موجودة عند متأخري الحنفية(2) ، وعند الشافعية (3)، ولعل سبب هذه التسمية: أن أخذ المشتري السلعَ من البائع بين الفينة والأخرى فيه معنى الجرّ والجذب؛ لأن المشتري يأخذ السلع شيئاً فشيئاً فكأنه يجرّها من البائع.
أو لعل سبب التسمية: أن الغالب في الاستجرار أن يكون الثمن مؤخراً، والعرب تقول: أجررت له دينه أي أخرته له(4).
أو لأن البائع ينقاد للمشتري فيعطيه ما يطلب منه، والعرب تقول: استجررت له: أي أمكنته من نفسي فانقدت له.(5).
والاحتمال الأول أقرب، والله أعلم.
2. بيعة أهل المدينة:
وهذه التسمية مشهورة عند المالكية فإنهم يسمون بيع الاستجرار بيعة أهل المدينة؛ وذلك لاشتهارها بينهم(6).
3. مسألة السعر: وهذه التسمية يذكرها شيخ الإسلام وابن القيم،(7)
ويشيران بها إلى مسألة البيع بسعر السوق ويجعلانها والاستجرار شيئاً واحداً، ولعل سبب هذه التسمية أن شيخ الإسلام يرى أن البيع في بيع الاستجرار ينعقد بالقيمة (سعر السوق).
4. الوجيبة: وهي أن توجب البيع ثم تأخذه أولاً فأولاً، وقيل هي: على أن تأخذ منه بعضاً في كل يوم حتى تستوفي وجيبتك(8).
5. أما كثير من الفقهاء فإنهم لا يسمون بيع الاستجرار باسم بل يصفونه وصفاً، كأن يقولوا ما يأخذه المشتري من البياع، أو من البقال شيئاً فشيئاً، ونحو ذلك.(9).
الفرق بين الاستجرار والمعاطاة
البيع بالاستجرار قريب من البيع بالمعاطاة (التعاطي) ولهذا فإن بعض الفقهاء يذكره بعد الكلام عن البيع بالمعاطاة، ولكن هناك فروق بين الاستجرار والمعاطاة، هي:
1. من حيث صيغة العقد: بيع الاستجرار أعم من المعاطاة؛ لأن المعاطاة تكون بالفعل، بينما الاستجرار يكون بالقول (إيجاب وقبول) ويكون بالفعل (معاطاة).
2. من حيث الثمن: الغالب في الاستجرار تأجيل الثمن، أو عدم تحديده في صور أخرى، بينما الغالب في المعاطاة مناولة الثمن عند التعاطي(10).
3. من حيث طول العقد: الاستجرار عقد طويل يستمر أياماً وشهوراً، يتم فيه قبض المبيع على مراحل، ولهذا فهو في بعض صوره مجموعة من العقود، وأما المعاطاة فتتم مرة واحدة.
صور الاستجرار:
لبيع الاستجرار صور عديدة، وهذه الصور تذكرها بعض المذاهب دون بعض، فنجد عند الحنفية صوراً لا نجد لهذا ذكراً عند المالكية وهكذا، وجامع هذه الصور أن الثمن إما أن يكون مقدماً (نقداً) والمثمن (المبيع) مؤخراً، أو العكس، أو أن يكون العوضان مؤخرين، والصورة الأخيرة هي التي تعنينا.
حكم الصورة الثالثة من صور الاستجرار
وهي: أن يتفقا على أن يأخذ المشتري من البائع كل يوم كيس أرز بمائة ريال ـ مثلاًـ، ويتفرقان من دون قبض الثمن.
وقد اختلف الفقهاء ـ رحمهم الله ـ في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أن هذا البيع لا يجوز، وهو قول الحنفية(11) ، وقول للإمام مالك (12) ، وقول الشافعية (13)، والحنابلة(14) ، وهذا بناء على رأيهم في مسألة بيع الدين بالدين.
القول الثاني: أن هذا البيع مما يتساهل فيه، إذا كانت المعاملة من دائم العمل كالخباز واللحام، بشروط:
الشرط الأول: أن يشرع في أخذ ما أسلم فيه، على أنهم تسامحوا في ذلك إلى عشرة أيام، وبعضهم ذكر أنه يتسامح فيما دون نصف شهر.
الشرط الثاني: أن يكون أصل هذا المبيع عند البائع.
الشرط الثالث: أن يكون ما يأخذه المشتري مقدّراً، ويسمي ما يأخذ منه في كل مرة، فإن حدد مقدار ما يأخذه كل يوم وثمنه ولكنه لم يحدد مقدار جملة المبيع صح البيع ولكن العقد ينقلب إلى عقد جائز لا لازم.
الشرط الرابع: أن يكون الثمن إلى أجل معلوم.(/1)