وفي البخاري 5/2299 قال سعيد بن أبي الحسن للحسن : إن نساء العجم يكشفن صدورهن ورؤوسهن ؟ قال : اصرف بصرك يقول الله تعالى (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ) .
وكنتَ متى أرسلتَ طرفك رائدا***لقلبك يوما أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر****عليه ولا عن بعضه أنت صابر
وقال الجلال المحلي –رحمه الله تعالى- " ( وَلا يُبْدِينَ ) يظهرن ( زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ) وهو الوجه والكفان فيجوز نظره لأجنبي إن لم يخف فتنة في أحد وجهين . والثاني : يحرم لأنه مظنة الفتنة ورُجِّح حسماً للباب " ا.هـ تفسير الجلالين /462
وقال القرطبي –رحمه الله تعالى- في التفسير 12/223 : " وغضه واجب عن جميع المحرمات وكل ما يخشى الفتنة من أجله وقد قال -صلى الله عليه وسلم- (إياكم والجلوس على الطرقات ) فقالوا : يا رسول الله مالنا من مجالسنا بُد نتحدث فيها ؟ فقال : ( فإذا أبيتم إلا المجالس فأعطوا الطريق حقه ) قالوا : وما حق الطريق يا رسول الله ؟ قال : ( غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) رواه أبو سعيد الخدري خرجه البخاري(5875) ومسلم (2121) ) ا.هـ وهذا يقوله –صلى الله عليه وسلم- لمن هو في الطريق الذي لابد للناس من المرور والحديث فيه فكيف بمن هيأ الشر وحسَّنه وجمَّله ونشره بكل وسيلة بحيث يُرى في الطرقات وفي البيوت وغيرها قال الحافظ ابن حجر –رحمه الله تعالى- : " وقد اشتملت على معنى علة النهي عن الجلوس في الطرق من التعرض للفتن بحضور النساء الشواب وخوف ما يلحق من النظر إليهن من ذلك إذ لم يمنع النساء من المرور في الشوارع لحوائجهن "ا.هـ الفتح 11/12
كل الحوادث مبداها من النظر***ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها *** فتك السهام بلا قوس ولا وتر
والمرء ما دام ذا عين يقلبها *** في أعين الغيد موقوف على الخطر
يسر مقلته ما ضر مهجته *** لا مرحبا بسرور عاد بالضرر
( روضة المحبين /97 )
ونشر مثل هذه الصور لاشك أنه مخالف لأمر الشارع بغض البصر والأوامر في ذلك كثيرة كالآيات السابقة ومنها :
1/ قوله -صلى الله عليه وسلم - لعلي :( لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الثانية ) رواه أحمد 5/351 وأبو داود (2149) والترمذي (2777) من حديث بريدة -رضي الله عنه- وصححه الحاكم 2/212 وقال الترمذي " حديث حسن غريب " ا.هـ قال المباركفوري –رحمه الله تعالى- :" أي لا تعقبها إياها ولا تجعل أخرى بعد الأولى ( فإن لك الأولى ) أي النظرة الأولى -إذا كانت من غيرقصد- وليست لك الآخرة أي النظرة الآخرة لأنها باختيارك فتكون عليك " ا.هـ تحفة الأحوذي 8/50 وقال ابن القيم –رحمه الله تعالى -: " والنظر أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان فإن النظرة تولد خطرة ثم تولد الخطرة فكرة ثم تولد الفكرة شهوة ثم تولد الشهوة إرادة ثم تقوى فتصبح عزيمة جازمة فيقع الفعل ولا بد ما لم يمنع منه مانع وفي هذا قيل : الصبر على غض البصر أيسر من الصبر على ألم ما بعده " ا.هـ الجواب الكافي / 106
2/ في صحيح مسلم (2159) عن جرير بن عبد الله –رضي الله عنه- قال سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن نظرة الفجاءة ؟ فأمرني أن أصرف بصري . فهؤلاء الصحابة الكرام أطهر الأمة قلوبا وأنقاهم سريرة وأكملهم إيمانا ومع ذلك أمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بغض البصر فكيف بحال من هو دونهم بكثير وممن أظهر متابعة تلك المجلات ومشاهدة تلك القنوات ومع ذلك يُزكي نفسه بأن النظر للنساء لا يؤثر فيه شيئا، وهيهات هيهات له ذلك، فعن جابر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى امرأة فأتى امرأته زينب وهي تمعس منيئة لها فقضى حاجته ثم خرج إلى أصحابه فقال : ( إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله فإن ذلك يرد ما في نفسه ) رواه مسلم ( 1403) قال النووي –رحمه الله تعالى- : " قوله -صلى الله عليه وسلم- ( إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان ) قال العلماء : معناه الإشارة إلى الهوى والدعاء إلى الفتنة بها لما جعله الله تعالى في نفوس الرجال من الميل إلى النساء والالتذاذ بنظرهن وما يتعلق بهن في شبيهه بالشيطان في دعائه إلى الشر بوسوسته وتزيينه له، ويستنبط من هذا أنه ينبغي لها أن لا تخرج بين الرجال إلا لضرورة، وأنه ينبغي للرجل الغض عن ثيابها والإعراض عنها مطلقا " ا.هـ شرح مسلم 9/178(/2)
ولو سلمنا له أن ذلك لا يؤثر فيه فإنه لا يحل له النظر للنهي العام عن ذلك، ولكنها الشهوة الظاهرة والخفية . بل كان من هدي النبي –صلى الله عليه وسلم- بيان الحال عند الحاجة فعن علي بن الحسين قال : كان النبي -صلى الله عليه وسلم- في المسجد وعنده أزواجه فرُحْنَ فقال لصفية بنت حيي : ( لا تعجلي حتى أنصرف معك ) وكان بيتها في دار أسامة فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- معها فلقيه رجلان من الأنصار فنظرا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال لهما النبي -صلى الله عليه وسلم : ( تعاليا إنها صفية بنت حيي ) قالا : سبحان الله يا رسول الله . قال : ( إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم وإني خشيت أن يلقي في أنفسكما شيئا ) .رواه البخاري ( 1933) ومسلم ( 2175) قال الغزالي –رحمه الله تعالى- : " فانظر كيف أشفق على دينهما فحرسهما وكيف أشفق على أمته فعلمهم طريق التحرز من التهم حتى لا يتساهل العالم الورع المعروف بالدين في أحواله فيقول مثلي لا يظن به إلا خيرا إعجابا منه بنفسه فإن أورع الناس وأتقاهم وأعلمهم لا ينظر الناس كلهم إليه بعين واحدة بل بعين الرضا بعضهم وبعين السخط بعضهم فيجب التحرز عن تهمة الأشرار " ا.هـ فيض القدير 2/358
ومن الآثار السيئة لهذه المجلات الهابطة تهوين أمر الاختلاط بين الجنسين لكثرة ما تنشره من صور الاختلاط وقد دأب بعض الكتاب في مقالاتهم على إنكار خطورة الاختلاط زاعما أنه لا دليل على تحريمه، وما قال ذلك إلا بسبب جهله المركب وإلا فإن هذه المسألة مما لا ينكرها أحد من عامة الناس فضلا عن العلماء والأدلة على تحريم الاختلاط كثيرة أذكر منها :
أولا : عن أبي أسيد الأنصاري –رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول وهو خارج من المسجد فاختلط الرجال مع النساء في الطريق فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للنساء : ( استأخرن فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق عليكن بحافات الطريق ) فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به . رواه أبو داود (5272) والبيهقي في الشعب ( 7822) والطبراني في المعجم الكبير 19/261وابن عبد البر في التمهيد 23/399 وحسنه الألباني –رحمه الله تعالى – (صحيح سنن أبي داود 4392)
ثانيا : عن ابن عمر –رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى أن يمشي يعني الرجل بين المرأتين . رواه أبو داود (5273) والحاكم 4/312 والبيهقي في الشعب 5446) وصححه الحاكم .
ثالثا : عن أبي أسيد الساعدي –رضي الله عنه- قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ( ليس للنساء وسط الطريق ) رواه ابن حبان (5601) والبيهقي في الشعب (7823) من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه- وقال ابن حبان : " قوله ( ليس للنساء وسط الطريق ) لفظة إخبار مرادها الزجر عن شيء مضمر فيه، وهو مماسة النساء الرجال في المشي إذ وسط الطريق الغالب على الرجال سلوكه والواجب على النساء أن يتخللن الجوانب حذرا يتوقع من مماستهم إياهن " ا.هـ .
رابعا : عن ابن عمر –رضي الله عنه- قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ( لو تركنا هذا الباب للنساء ) قال نافع فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات . رواه أبو داود ( 462) وقال : " عبد الوارث قال عمر وهو أصح " ا.هـ والطبراني في الأوسط (1018) وابن عبد البر في التمهيد 23/397 وقال الألباني –رحمه الله تعالى – " صحيح على شرط الشيخين " .
خامسا : عن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت : كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا سلم-أي من صلاته- مكث قليلا كيما ينفذ النساء قبل الرجال . رواه أحمد 6/310 وعبد الرزاق 1/573 وأبو داود (1040) والبيهقي 2/183 وأصله في البخاري (812) .
سادسا : عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ( خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها ) رواه مسلم ( 440) قال النووي –رحمه الله تعالى - : " وإنما فضل آخر صفوف النساء الحاضرات مع الرجال لبعدهن من مخالطة الرجال ورؤيتهم وتعلق القلب بهم ثم رؤية حركاتهم وسماع كلامهم ونحو ذلك وذم أول صفوفهن لعكس ذلك والله أعلم " .ا.هـ شرح مسلم 4/159 وأنظر : الديباج للسيوطي 2/154 فيض القدير 3/487
ونلاحظ هنا أن هذه الأحاديث قالها النبي -صلى الله عليه وسلم- أو فعلها وهو في خير القرون ومع خير الناس أصحابه -رضي الله عنهم- وعند أداء الصلاة تربية للمؤمنين وسدا لباب الفساد الناتج عن الاختلاط .
سابعا : عن أم سلمة -رضي الله عنها- أنها قالت : شكوت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أني أشتكي فقال : ( طوفي من وراء الناس وأنت راكبة ) رواه البخاري (452) ومسلم ( 1276) .(/3)
وعن إبراهيم قال : نهى عمر -رضي الله عنه- أن يطوف الرجال مع النساء . قال : فرأى رجلا معهن فضربه بالدرة . رواه الفاكهي في أخبار مكة (484) وقال ابن جريج أخبرني عطاء حين منع ابن هشام النساء الطواف مع الرجال قال : فأخبرني فكيف يمنعهن من الطواف وقد طاف نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- مع الرجال قلت : أبعد الحجاب قال : إي لعمري قد أدركته بعد الحجاب . قلت : فكيف يخالطن الرجال ؟ قال : لم يكن ليفعلن قال : كانت عائشة -رضي الله عنها- تطوف حَجْرة من الرجال لا تخالطهم فقالت امرأة : انطلقي نستلم يا أم المؤمنين . قالت : عنك وأبت، وكن يخرجن متنكرات بالليل فيطفن مع الرجال، ولكنهن كن إذا دخلن البيت قمن حتى يدخلن وأُخرج الرجال . البخاري ( 1539 ) وأنظر :تغليق التعليق 3/73 ( وحَجْرة أي ناحية بعيدة ) مقدمة فتح الباري 1/ 102
ثامنا : عن عائشة -رضي الله عنها- قالت : لو أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى ما أحدث النساء لمنعهن المسجد كما منعت نساء بني إسرائيل . البخاري (381) ومسلم (445) واللفظ له . وهذا تقوله أم المؤمنين –رضي الله عنها – في زمنها فكيف لو رأت ما أحدثه الناس في زماننا هذا من تفنن في السفور مع قلِّ الديانة وضعف المراقبة والمجاهرة بالإفساد .
ومن الآثار السيئة : إشاعة الفاحشة وأسبابها : قال تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (النور:19) وباستقراء كثير من الجرائم المحرمة كالزنا واللواط وغيرها نجد أن الداعي الأول لها في هذا الزمان تلك المجلات الهابطة وذلك بإقرار كثير ممن واقع تلك الفواحش وقد قال تعالى : ( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً ) (الإسراء:32) قال ابن تيمية : " وأهل جمال الصورة يبتلون بالفاحشة كثيرا واسمها ضد الجمال فإن الله سماه فاحشة وسوءا وفسادا وخبيثا فقال تعالى ( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً ) (الإسراء:32) الاستقامة 1/357 وقد كثرت الأسئلة جدا ممن لم يواقع الفاحشة بأنه قد فعل العادة السرية بسبب مطالعته تلك المجلات والقنوات .
ومن الآثار السلبية لمطالعة هذه المجلات والصحف والقنوات الفضائية الابتلاء بداء العشق ونشر الفاحشة فكم من مطربة أو ممثلة تغنى بها الشباب والشيوخ وأكثروا من ذكرها وتبادل صورها وتمنوا لقاءها , وداء العشق مرض مزمن مفسد لدين المرء وخُلقه وعقله وبدنه كما قيل :
يا ناظرا ما أقلعت لحظاته حتى تشحط بينهن قتيلا
وقال ابن القيم :
يا راميا بسهام اللحظ مجتهدا *** أنت القتيل بما ترمي فلا تصب
وباعث الطرف يرتاد الشفاء له***احبس رسولك لا يأتيك بالعطب
( الجواب الكافي /107)
قال تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله تعالى - :" ومن عباد الصور مَن أمرضه العشق أو قتله أو جننه " ا.هـ الفتاوى 11/10 وقال : " فالمبتلى بالفاحشة والعشق إذا ذَكر ما به لغيره تحركت النفوس إلى جنس ذلك لأن النفوس مجبولة على حب الصور الجميلة فإذا تصورت جنس ذلك تحركت إلى المحبوب و لهذا نهى الله عن إشاعة الفاحشة " ا.هـ الفتاوى 14/211
وهذه جملة من أقوال شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم –رحمهما الله تعالى- عن العشق وخطره : قال ابن تيمية –رحمه الله تعالى -" وأما مرض الشهوة والعشق فهو حب النفس لما يضرها وقد يقترن به بغضها لما ينفعها والعشق مرض نفساني وإذا قوي أثر في البدن فصار مرضا في الجسم إما من أمراض الدماغ كالماليخوليا ولذلك قيل فيه هو مرض وسواسي شبيه بالماليخوليا " ا.هـ أمراض القلوب /23 وقال : " ولهذا يقول الأطباء : العشق مرض وسواسي شبيه بالماليخوليا فيجعلونه من الأمراض الدماغية التي تفسد التخيل كما يفسده الماليخوليا " ا.هـ قاعدة في المحبة /58(/4)
وقال –رحمه الله تعالى- : " إن لفظ العشق إنما يستعمل في العرف في محبة الإنسان لامرأة أو صبي لا يستعمل في محبة كمحبة الأهل والمال والجاه ومحبة الأنبياء والصالحين وهو مقرون كثيرا بالفعل المحرم إما بمحبة امرأة أجنبية أو صبي يقترن به النظر المحرم واللمس المحرم وغير ذلك من الأفعال المحرمة وأما محبة الرجل لامرأته أو سريته محبة تخرجه عن العدل بحيث يفعل لأجلها ما لا يحل ويترك ما يجب كما هو الواقع كثيرا حتى يظلم ابنه من امرأته العتيقة لمحبته الجديدة وحتى يفعل من مطالبها المذمومة ما يضره في دينه ودنياه مثل أن يخصها بميراث لا تستحقه أو يعطي أهلها من الولاية والمال ما يتعدى به حدود الله أو يسرف في الإنفاق عليها أو يمكنها من أمور محرمة تضره في دينه ودنياه وهذا في عشق من يباح له وطؤها فكيف عشق الأجنبية والذكران من العالمين ففيه من الفساد مالا يحصيه إلا رب العباد وهو من الأمراض التي تفسد دين صاحبها وعرضه ثم قد تفسد عقله ثم جسمه قال تعالى ( فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ )(الأحزاب : 32) ومن في قلبه مرض الشهوة وإرادة الصورة متى خضع المطلوب طمع المريض والطمع يقوي الإرادة والطلب يقوي المرض وذلك بخلاف ما إذا كان آيسا من المطلوب فإن اليأس يزيل الطمع فتضعف الإرادة فيضعف الحب فإن الإنسان لا يريد أن يطلب ما هو آيس منه فلا يكون مع الإرادة عمل أصلا بل يكون حديث نفس إلا أن يقترن بذلك كلام أو نظر ونحو ذلك فأما إذا ابتلى بالعشق وعف وصبر فإنه يثاب على تقواه لله وقد روي في الحديث أن ( من عشق فعف وكتم وصبر ثم مات كان شهيدا ) وهو معروف من رواية يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس مرفوعا وفيه نظر ولا يحتج بهذا، لكن من المعلوم بأدلة الشرع أنه إذا عف عن المحرمات نظرا وقولا وعملا وكتم ذلك فلم يتكلم به حتى لا يكون في ذلك كلام محرم إما شكوى إلى المخلوق وإما إظهار فاحشة وإما نوع طلب للمعشوق وصبر على طاعة الله وعن معصيته وعلى ما في قلبه من ألم العشق كما يصبر المصاب عن ألم المصيبة فإن هذا يكون ممن اتقى الله وصبر و( مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ )(يوسف:90) وهكذا مرض الحسد وغيره من أمراض النفوس وإذا كانت النفس تطلب ما يبغضه الله فينهاها خشية من الله كان ممن دخل في قوله ( وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى(40)فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعات:41) فالنفس إذا أحبت شيئا سعت في حصوله بما يمكن حتى تسعى في أمور كثيرة تكون كلها مقامات لتلك الغاية فمن أحب محبة مذمومة أو أبغض بغضا مذموما وفعل ذلك كان آثما " .ا.هـ أمراض القلوب /24-25 وقال -رحمه الله تعالى- : " والله سبحانه إنما ذكر هذا العشق في القرآن عن المشركين فإن العزيز وامرأته وأهل مصر كانوا مشركين كما قال لهم يوسف عليه الصلاة والسلام ( إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (40) وقال تعالى ( وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) (غافر:35) " ا.هـ قاعدة في المحبة / 76 وقال ابن القيم رحمه الله تعالى : " ولهذا كان العشق والشرك متلازمين وإنما حكى الله –سبحانه- العشق عن المشركين من قوم لوط وعن امرأة العزيز وكانت إذ ذاك مشركة فكلما قوي شرك العبد بلي بعشق الصور، وكلما قوي توحيده صرف ذلك عنه، والزنا واللواطة كمال لذتهما إنما يكون مع العشق ولا يخلو صاحبهما منه وإنما لتنقله من محل إلى محل لا يبقى عشقه مقصورا على محل واحد بل ينقسم على سهام كثيرة لكل محبوب نصيب من تألهه وتعبده " ا.هـ إغاثة اللهفان 1/64(/5)
وقال –رحمه الله تعالى - : " والمبتلون بالعشق لا يزال الشيطان يمثل لأحدهم صورة المعشوق أو يتصور بصورته فلا يزال يرى صورته مع مغيبه عنه بعد موته فإنما جلاه الشيطان على قبله ولهذا إذا ذكر العبد الله الذكر الذي يخنس منه الوسواس الخناس خنس هذا المثال الشيطاني وصورة المحبوب تستولي على المحب أحيانا حتى لا يرى غيرها ولا يسمع غير كلامها فتبقى نفسه مشتغلة بها " .اهـ الزهد والورع /32 وقال -رحمه الله تعالى- : " ولهذا يقال العشق حركة نفس فارغة " الفتاوى 5/571 وقال : " وأما المأخذ المعنوي فهو أن العشق هل هو فساد في الحب والإرادة أو فساد في الإدراك والمعرفة قيل : إن العشق هو الإفراط في الحب حتى يزيد على القصد الواجب فإذا أفرط كان مذموما فاسدا مفسدا للقلب والجسم كما قال تعالى ( فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ )(الأحزاب: 32) فمن صار مفرطا صار مريضا كالإفراط في الغضب والإفراط في الفرح وفي الحزن وهذا الإفراط قد يكون في محبة الإنسان لصورته وقد يكون في محبته لغير ذلك كالإفراط في حب الأهل والمال والإفراط في الأكل والشرب وسائر أحوال " ا.هـ قاعدة في المحبة /56
وقال : " إن الزنا من الكبائر وأما النظر والمباشرة فاللمم منها مغفور باجتناب الكبائر فإن أصر على النظر أو على المباشرة صار كبيرة وقد يكون الإصرار على ذلك أعظم من قليل الفواحش فإن دوام النظر بالشهوة وما يتصل به من العشق والمعاشرة والمباشرة قد يكون أعظم بكثير من فساد زنا لا إصرار عليه، ولهذا قال الفقهاء في الشاهد العدل : أن لا يأتي كبيرة ولا يصر على صغيرة وفى الحديث المرفوع : ( لا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع استغفار ) بل قد ينتهي النظر والمباشرة بالرجل إلى الشرك كما قال تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ )(البقرة:165) ولهذا لا يكون عشق الصور إلا من ضعف محبة الله وضعف الإيمان والله تعالى إنما ذكره في القرآن عن امرأة العزيز المشركة وعن قوم لوط المشركين والعاشق المتيم يصير عبدا لمعشوقه منقادا له أسير القلب له " ا.هـ 15/293
قال المناوي –رحمه الله تعالى- : " لا يسلم القلب إلا بكف الجوارح وأعظمها غض البصر عما حرم " .ا.هـ فتح القدير 2/372 فلا يحل للرجل أن ينظر إلى المرأة ولا المرأة إلى الرجل بشهوة فإن علاقتها به كعلاقته بها وقصدها منه كقصده منها .
العلاج
يظن البعض أن تكرار النظر علاج للعشق ولا يدري أن تكراره لا يزده إلا اشتعالا وتعلقا قال ابن القيم –رحمه الله تعالى- : " إن النظرة الأولى سهم مسموم من سهام إبليس ومعلوم أن الثانية أشد سما فكيف يتداوى من السم بالسم ... كذلك النظرة إذا أثرت في القلب فإن عجل الحازم وحسم المادة من أولها سهل علاجه وإن كرر النظر ونقب عن محاسن الصورة ونقلها إلى قلب فارغ فنقشها فيه تمكنت المحبة وكلما تواصلت النظرات كانت كالماء يسقي الشجرة فلا تزال شجرة الحب تنمو حتى يفسد القلب ويعرض عن الفكر فيما أمر به فيخرج بصاحبه إلى المحن ويوجب ارتكاب المحظورات والفتن ويلقي القلب في التلف، والسبب في هذا أن الناظر التذت عينه بأول نظرة فطلبت المعاودة كأكل الطعام اللذيذ إذا تناول منه لقمة ولو أنه غض أولا لاستراح قلبه وسلم وتأمل قول النبي -صلى الله عليه وسلم- : ( النظرة سهم مسموم من سهام إبليس ) فإن السهم شأنه أن يسري في القلب فيعمل فيه عمل السم الذي يسقاه المسموم فإن بادر استفرغه وإلا قتله ولا بد " ا.هـ روضة المحبين /94
سئل شيخ الإسلام أحمد بن تيمية -قدس الله روحه - عمن أصابه سهم من سهام إبليس المسمومة ؟ فأجاب : من أصابه جرح مسموم فعليه بما يخرج السم ويبرئ الجرح بالترياق والمرهم وذلك بأمور منها : أن يتزوج أو يتسرى فإن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال : ( إذا نظر أحدكم إلى محاسن امرأة فليأت أهله فإنما معها مثل ما معها ) وهذا مما ينقص الشهوة ويضعف العشق .
الثاني : أن يداوم على الصلوات الخمس والدعاء والتضرع وقت السحر وتكون صلاته بحضور قلب وخشوع وليكثر من الدعاء بقوله يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك يا مصرف القلوب صرف قلبي إلى طاعتك وطاعة رسولك فإنه متى أدمن الدعاء والتضرع لله صرف قلبه عن ذلك كما قال تعالى : ( كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ )(يوسف:24) .
الثالث : أن يبعد عن مسكن هذا الشخص والاجتماع بمن يجتمع به بحيث لا يسمع له خبر ولا يقع له على عين ولا أثر فإن البعد جفا ومتى قل الذكر ضعف الأثر في القلب فليفعل هذه الأمور وليطالع بما تجدد له من الأحوال والله أعلم ا.هـ الفتاوى 32/5(/6)
وقال – رحمه الله تعالى - : " قال تعالى في حق يوسف ( كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ )(يوسف:24) فالله يصرف عن عبده ما يسوءه من الميل إلى الصور والتعلق بها، ويصرف عنه الفحشاء بإخلاصه لله ولهذا يكون قبل أن يذوق حلاوة العبودية لله والإخلاص له تغلبه نفسه على اتباع هواها فإذا ذاق طعم الإخلاص وقوي في قلبه انقهر له هواه بلا علاج قال تعالى : ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ )(العنكبوت:45) فإن الصلاة فيها دفع للمكروه وهو الفحشاء والمنكر " ا.هـ الفتاوى الكبرى 2/383
وقال ابن القيم –رحمه الله تعالى- : " فصل في هديه في علاج العشق هذا مرض من أمراض القلب مخالف لسائر الأمراض في ذاته وأسبابه وعلاجه وإذا تمكن واستحكم عز على الأطباء دواؤه وأعيا العليل داؤه وإنما حكاه الله سبحانه في كتابه عن طائفتين من الناس من النساء وعشاق الصبيان المردان فحكاه عن امرأة العزيز في شأن يوسف وحكاه عن قوم لوط فقال تعالى إخبارا عنهم لما جاءت الملائكة لوطا ( وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) )قَالَ إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيفِي فَلا تَفْضَحُونِ ) (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) )قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ(71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) (الحجر:72) وأما ما زعمه بعض من لم يقدر رسول الله –صلى الله عليه وسلم- حق قدره أنه ابتلي به في شأن زينب بنت جحش وأنه رآها فقال : ( سبحان مقلب القلوب ) وأخذت بقلبه وجعل يقول لزيد بن حارثة : (أمسكها ) حتى أنزل الله عليه ( وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ )(الأحزاب:37) فظن هذا الزاعم أن ذلك في شأن العشق وصنف بعضهم كتابا في العشق وذكر فيه عشق الأنبياء وذكر هذه الواقعة وهذا من جهل هذا القائل بالقرآن وبالرسل وتحميله كلام الله ما لا يحتمله ونسبته رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ما برأه الله منه فعن زينب بنت جحش كانت تحت زيد بن الحارثة وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد تبناه وكان يدعى ابن محمد وكانت زينب فيها شمم وترفع عليه فشاور رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في طلاقها فقال له رسول الله –صلى الله عليه وسلم- : ( أمسك عليك زوجك واتق الله ) وأخفى في نفسه أن يتزوجها إن طلقها زيد وكان يخشى من قالة الناس إنه تزوج امرأة ابنه لأن زيدا كان يدعى ابنه فهذا هو الذي أخفاه في نفسه وهذه هي الخشية من الناس التي وقعت له، ولهذا ذكر الله سبحانه هذه الآية يعدد فيها نعمه عليه لا يعاتبه فيها، وأعلمه أنه لا ينبغي له أن يخشى الناس فيما أحل الله له وأن الله أحق أن يخشاه فلا يتحرج مما أحله له لأجل قول الناس ثم أخبره أنه سبحانه زوجه إياها بعد قضاء زيد وطره منها لتقتدي أمته به في ذلك ويتزوج الرجل امرأة ابنه بالتبني لا امرأة ابنه لصلبه ولهذا قال في آية التحريم ( وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ )(النساء:23) وقال في هذه السورة ( مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ )(الأحزاب:40) وقال في أولها ( وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ )(الأحزاب:4) فتأمل هذا الذب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودفع طعن الطاعنين عنه وبالله التوفيق نعم كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحب نساءه وكان أحبهن إليه عائشة -رضي الله عنها- ولم تكن تبلغ محبته لها ولا لأحد سوى ربه نهاية الحب بل صح عنه أنه قال : ( لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ) وفي لفظ ( وإن صاحبكم خليل الرحمن ) .
فصل : وعشق الصور إنما يبتلى به القلوب الفارغة من محبة الله تعالى والمعرضة عنه المتعوضة بغيره عنه فإذا امتلأ القلب من محبة الله والشوق إلى لقائه دفع ذلك عنه مرض عشق الصور ولهذا قال الله تعالى في حق يوسف ( كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ )(يوسف:24) فدل على أن الإخلاص سبب لدفع العشق وما يترتب عليه من السوء والفحشاء التي هي ثمرته ونتيجته فصرف المسبب صرف لسببه " ا.هـ زاد المعاد 4/265 وقال : " القسم الثالث : ما يكون وروده باختياره فإذا تمكن لم يكن له اختيار ولا حيلة في دفعه وهذا كالعشق أوله اختيار وآخره اضطرار " ا.هـ عدة الصابرين /54 .
وقال – رحمه الله تعالى - : " والناظر يرمي مَن نظره بسهام غرضها قلبه وهو لا يشعر فهو إنما يرمي قلبه ولي من أبيات :(/7)
يا راميا بسهام اللحظ مجتهدا*** أنت القتيل بما ترمي فلا تصب
وباعث الطرف يرتاد الشفاء له *** توقه إنه يأتيك بالعطب "
روضة المحبين /97
وقال –رحمه الله تعالى - : " وإنما شرف النفس وزكاتها وطهارتها وعلوها بأن تنفي عنها كل خطرة لا حقيقة لها ولا ترضى أن يخطرها بباله ويأنف لنفسه منها ثم الخطرات بعد أقسام تدور على أربعة أصول : خطرات يستجلب بها العبد منافع دنياه , وخطرات يستدفع بها مضار دنياه , وخطرات يستجلب بها مصالح آخرته , وخطرات يستدفع بها مضار آخرته فليحصر العبد خطراته وأفكاره وهمومه في هذه الأقسام الأربعة " ا.هـ الجواب الكافي / 108
وفي الختام أُذكِّر أصحاب المجلات والصحف والقنوات الفضائية والقائمين عليها والمسئولين في وزارات الإعلام بتقوى الله تعالى في أنفسهم وفي أبناء المسلمين فكل مطلع على تلك الصور فعليهم من الآثام والأوزار مثل أوزارهم فكم من مشاهد وكم من مطلع عليها فويل لمن كان هلاكه بذنوب غيره فقد قال النبي –صلى الله عليه وسلم- : ( ومَن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام مَن تبعه لا ينقص ذلك مِن آثامهم شيئا ) رواه مسلم (2674) من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه- ولا شك أن دخول وريع تلك المجلات والقنوات من الأموال المحرمة التي لا يحل أكلها عن أبي بكر الصديق – رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ( لا يدخل الجنة جسد غذي بحرام ) رواه أبو يعلى (83 ) والبزار ( 43 ) والطبراني في الأوسط ( 5961) وقال النبي -صلى الله عليه وسلم - ( إن الله أبى أن يدخل الجنة لحما نبت من سحت فالنار أولى به ) الحاكم 4/141 وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه . وروى الترمذي 614) نحوه من حديث كعب بن عجرة –رضي الله عنه – وحسنه . ورواه أحمد 3/321 والدارمي ( 2726) من حديث جابر رضي الله عنه- وما هذه إلا خطرات وإلا فالموضوع جد مهم والسكوت عنه له عواقب وخيمة وهو بحاجة إلى مشاركة الجميع من علماء الشرع والسلطان والاجتماع والنفس وغيرهم في علاجه وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(/8)
خطر العولمة الثقافية
( وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم ) .
إن الموقف المطلوب من المسلمين تجاه العولمة الثقافية والفكرية هو التفاعل الحضاري والتعامل الثقافي الحذر ، القادر على التمييز بين النافع والضار ، حفاظاً على عقيدة الأمة وهويتها من التضليل والعبث الفكري والثقافي .
@@@ الحمد لله الذي لا إله إلاّ هو ، لا شريك له في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته . والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء محمد وعلى آله وصحابته وبعد :
@@@ فإن الدعوة إلى العولمة الثقافية لا تخرج في حقيقتها عن محاولة لتذويب الثقافات والحضارات وإلغاء الخصوصيات الحضارية لصالح حضارة الغالب .. وعالم المسلمين يعد أول المستهدفين .. ذلك أن الثقافة الإسلامية التي تشكل هوية الأمة وقسمات شخصيتها الحضارية ، هي في ثوابتها من عطاء معرفة الوحي ، لذلك فالاستهداف يتركز حول عقيدة الأمة الإسلامية ؛ لأن الدين ليس أمراً مفصولاً عن الثقافة .
@@@ أعمدة الهيمنة الأربعة :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولقد أصبح من الواضح في تحليل السياسة العالمية بصورة عامة منذ تفرد الولايات المتحدة بكونها القوة الكبرى المهيمنة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي ، أن العولمة ما هي إلاّ أحد الأعمدة الأربعة التي أوثقت بها دول القلب ( الولايات المتحدة وأوروبا ، التي تشكل موقع صناعة القرار العالمي ، ما حولها من العالم تفي أسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية وأوروبا الشرقية - والتي غدت لا تعني سوى كونها سوقاً مربحة أو ساحة مصالح لدول القلب - أو ثقتها بهذه الأعمدة لتجبرها على البقاء تحت هيمنة دول القلب ، تجري في فلكها لتضمن تحقق السيطرة الكفيلة بضمان تفوق الغرب على الشرق والشمال على الجنوب ، وتدفق المصالح الاستراتيجية من الشرق إلى الغرب ومن الجنوب إلى الشمال.
@@@وأما الأعمدة الثلاثة الأخرى فهي :
@@@الشرعية الدولية :
ــــــــــــــــــــــــــــ
حيث تحتكر دول القلب هذه الشرعية المتمثلة في ( الأمم المتحدة ) وتستعملها لإسباغ الشرعية أو نزعها عن أي دولة تحاول التخلص من الوثاق ذي الأعمدة الأربعة التي أوثقت به دول القلب العالم ، ولم يعد يهم دول القلب أن تتعسف وتتناقض وتكيل بمكيالين في استعمال أداة (الشرعية الدولية) فتصدر قراراً من مجلس الأمن لعقاب من تريد ، لأنه أعلن رفضه لقانون الهيمنة الذي فرضته دول القلب على العالم ، بينما تكتفي بموقف المتفرج في حالات أشد خطورة وانتهاكاً لحقوق الإنسان وقيم الأمم المتحدة ، لسبب واضح وهو أن دول القلب لم تشعر بالحاجة إلى تحريك (الشرعية) هنا لضمان مصالح أو تأديب خارج على قانونها ، قانون الهيمنة والسيطرة .
@@@السلاح :
ـــــــــــــ
وبوسيلة هذا العمود تتحكم دول القلب بالحروب والتوترات العالمية ، وتأجج أو تخمد مناطق الصراع العالمية على وفق مصالحها .
@@@والخامات :
ـــــــــــــــــ
مثل النفط والقمح ، وبوسيلة هذا العمود تتحكم دول القلب بالتنمية والتطور والتكنولوجيا أيضاً في الدول الواقعة في أحزمة مصالح دول القلب ، وذلك وفق مصالحها وبما يضمن بقاء تفوقها وتدفق المصالح الاستراتيجية إليها.
@@@والعولمة تعتمد على محورين أساسين :
***المحور الأول :
ــــــــــــــــــــــــ
التجارة العالمية .
***المحور الثاني :
ــــــــــــــــــــــــ
الإعلام الذي يحمل الثقافة والفكر .
@@@والعولمة التجارية يقصد بها ضمان تدفق رؤوس الأموال الغريبة إلى أسواق العالم ، وضمان تدفق المصالح المادية نحو دول القلب ، كما تقدم .. والعولمة الإعلامية يقصد بها إخضاع العالم لقيم العالم الغربي .
@@@الموقف من العولمة الفكرية والثقافية:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
***يمكن تلخيص المواقف تجاه العولمة في أربعة :
***الأول :
ـــــــــــ
الموقف القابل للعولمة ، الذائب فيها ، المؤيد لها تأييداً مطلقاً .
***الثاني :
ــــــــــــ
الموقف الرافض لها جملة وتفصيلاً .
***الثالث :
ــــــــــــ
الموقف الملفق الذي يحاول التلفيق بين ما تحمله العولمة والإسلام.
***الرابع :
ــــــــــــ
الموقف المتفاعل معها على أساس الانتقائية المشوبة بالحذر .
@@@أما الموقف القابل بإطلاق فهو موقف تابع ، و قد جلب ، ولا يزال يجلب سلبيات الحضارة الغربية ، لأنه موقف قائم على الخلط بين مقومات الحضارة الإنسانية التي هي بناء فكري ينبثق منه منهج للتعامل مع الخالق والحياة والإنسان والكون ، وبين الآلات والتكنولوجيا التي هي منجزات علمية مشتركة بين الناس .. فالأول هي الحضارة وهي لا تستورد ولا تشتري ولا يمكن نقلها من أمة إلى أمة إلاّ بإحداث انقلاب جذري استئصالي .
@@@وأما الموقف الرافض ، فهو موقف خاسر غير واقعي ، وسيؤدي إلى الانكفاء والانعزال فالموت الحضاري .(/1)
@@@وأما الموقف الملفق وهو الموقف الذي يتزعمه بعض من يسمون أنفسهم الليبراليين في عالمنا العربي ، والذي يعتبرون أنفسهم معتدلين ، لأن المتطرفين منهم هم أصحاب الموقف المؤيد تأييداً مطلقاً للعولمة .. ويدندن حول هذا الموقف من يسمون أنفسهم (اليسار الإسلامي ) أيضاً .. وهاتان الفئتان تضيعان وقت الأمة بممارستهما عملية (قص ولزق ) وبتر لبعض قيم الأمة وعزلها من سياقها المتكامل لإخضاعها للفلسفات المعاصرة ، وما هذا الصنيع إلاّ تكريس لإلغاء الذات أو تشويهها لصالح الأجنبي.
@@@وأما الموقف الرابع القائم على التفاعل الحضاري الناقد والانتقائي الحذر ، الذي يقوم على الفحص والتدقيق وتقليب الشعارات والتنقيب عن المسميات ، فيكشف ما تحت بريق العولمة من الظلمات كالإباحية والمادية النفعية والميكافيلية الشريرة والاستغلال الرأسمالي للإنسان باسم التحرير ، وفلسفة اللذة والمتعة وعبادة الدنيا ، ثم يأخذ ما في العولمة من الصواب والخير بعد التمييز والتفتيش والنقد الموضوعي المنبثق من الثقة بالذات والاعتزاز بالهوية ، ويرفض ما في العولمة من الشر والضلال.
@@@الموقف الصواب من العولمة :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
@@@وهذا الموقف لا شك أنه هو الحق الذي يجب اتباعه ، وأصله في الشريعة الإسلامية قول النبيّ صلى الله عليه وسلم :((...حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)) رواه البخاري من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، وورد في بعض ألفاظه :((ولكن لا تصدقوهم .. ولا تكذبوهم)) أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .. ووجه الاستدلال به ، أنه إذن بالتفاعل الحضاري والتواصل الثقافي مع ما عند أهل الكتاب ، غير أنه صلى الله عليه وسلم أمر برفض ما يعارض القرآن وقبول ما يوافقه والحذر مما لا يعلم صدقه من كذبه .
@@@وحتى نبرهن على صحة هذا الموقف من العولمة ، نقف عند أهم أخطارها الثقافية والفكرية على أمتنا ، لتأخذ حذرها وتدرك كيفية التعامل مع وجهة العالم الجديد ، مما يمكنها من إبلاغ رسالتها وإلحاق الرحمة بالعالمين قياماً بدورها في الشهود الحضاري.
@@@ أهم أخطار العولمة :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
***تعرف العولمة مطلقاً بأنها :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ظاهرة الانتماء العالمي بمعناه العام ، وهي تعبير مختصر عن مفاهيم عدة ، فهي تشمل الخروج من الأطر المحدودة - الإقليمية والعنصرية والطائفية ، وغيرها - إلى الانتماء العالمي الأعم .. ففي جانبها الاقتصادي تشمل الانفتاح التجاري وإلغاء القيود التجارية ، وتوفير فرص للتبادل التجاري الواسع محكوماً بقواعد السوق فقط ، بدون وجود إجراءات حمائية حكومية .. وفي جانبها الفكري والثقافي هي الانفتاح الفكري على الآخر وعدم الانغلاق على الذات ، ورفض التعصب الفكري الذي يدعو لإلغاء (الآخر) ، لا لشيء سوى أنه مغاير للفكر .. وفي جانبها السياسي هي شيوع تطبيق القانون على الجميع ومراعاة الحقوق السياسية للإنسان ..فهي باختصار الشعور بالانتماء الكبير العالمي بدلاً من الاقتصار على الانتماء المحلي الإقليمي ( الديني ، العنصري ، الطائفي).
***لكن هذا العرض اللطيف الذي حاول تجميل وجه العولمة ، ليس سوى محاولة لإخفاء حقيقتها التي تنطوي عليها أهدافها .
@@@أهداف العولمة :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- محاولة سيطرة قيم وعادات وثقافات العالم الغربي على بقية دول العالم ، خاصة النامي منها ، وإذابة خصائصها .
2- تهميش تميز دين الإسلام ، وإزالة الحدود الفاصلة بينه وبين غيره من الأديان الباطلة ، تمهيداً لشن هجوم على مبادئه وتعاليمه وصد الناس عن الإيمان به .
3- فرض مفهوم نهاية التاريخ بانتظار قيم العالم الرأسمالي الغربي انتصاراً نهائياً ، والتسليم بلزوم تسليم القيادة البشرية إلى ثقافة الغرب إلى الأبد .
4- إبقاء حال الهيمنة الغربية - بأعمدتها المذكورة آنفاً - أطول فترة ممكنة تحت ستار مصطلح العولمة .
@@@هوية بلا هوية :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(/2)
وباختصار العولمة هي في الحقيقة (هوية بلا هوية ) وهدفها باختصار تفريغ ثقافة (الغير) من محتواها واستدراجها إلى الثقافة الغربية بحيلة وشعار مزيف يطلق عليه اسم (العولمة) ، لأنه لو قيل للعالم (الأمركة) لنفر كثير من الناس من هذه الدعوى ، فاستبدل باسم (العولمة) ، فكأنهم يقولون تعالوا لنصير جميعاً عالماً واحداً ، وننصهر في ثقافة واحدة ، ونحتكم إلى قوانين عالمية واحدة ، وتسيرنا ثقافة وعادات واحدة أو متقاربة حتى نتعايش ونتفاهم ولا تقع بيننا الحروب ...إلخ ، حتى إذا وقع المدعوون في هذا الفخ ، اكتشفوا أنهم في قفص الأمركة والعالم الغربي ، ثم وجدوا اللافتة التي تحمل اسم (العولمة) تساقطت حروفها واختفت كهيئة الحبر السري ، وظهر من تحتها اسم جديد وشعار جديد هو (التغريب) ، واكتشف المخدوعون أن حضاراتهم سلبت من حيث لا يشعرون ، وثقافتهم ذابت من حيث لا يعلمون ، وهويتهم طمست بالتدريج من حيث لا يدرون.
***إذن العولمة في النهاية هي نتيجة انهيار نظام عالمي كان يقوم على (القطبية الثنائية ) بانهيار أحد قطبيه - وهو الاتحاد السوفيتي - وسيطرة قطب واحد أخذ يهيمن بانتهاء الحرب الباردة على العالم سياسياً وعسكرياً .
*** هذا القطب الواحد - كما أشرنا في مطلع هذه المقالة - يستخدم آلات كثيرة خداعة للسيطرة الفكرية والثقافية على العالم تحت شعار كبير اسمه (العولمة).. وقد بدأت تظهر آثار سياسة هيمنة وسيطرة القطب الواحد (دول القلب) بملامح حملة تغريب الإنسان في أفكاره ومنهاج تعليمه ، وفي طراز حياته، وفي طعامه وشرابه ، حتى في صورته الظاهرية وشكله الخارجي ، التي أصبحت ظاهرة منتشرة في شباب اليوم الذي يحمل جراثيم التغريب ، باتت هذه القبعات الجديدة تذكرنا بالقبعة التي فرضها أتاتورك على الشعب التركي عندما أعلن أول خطوات الانهزام أمام التغريب عند بدء عصر الانحطاط أول هذا القرن .
@@@المخاوف من العولمة على العالم الإسلامي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
@@@أولاً : تهديد العولمة لأصل العقيدة الإسلامية :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لعل من أخطر ما تحمله العولمة هو تهديدها لأصل العقيدة الإسلامية ، وذلك لأن العولمة تشتمل على الدعوة إلى وحدة الأديان ، وهي دعوة تنقض عقيدة الإسلام من أساسها ، وتهدمها من أصلها، لأن دين الإسلام قائم على حقيقة أنه الرسالة الخاتمة من الله تعالى للبشرية ، الناسخة لكل الأديان السابقة التي نزلت من السماء ثم أصابها التحريف والتغيير ، ودخل على أتباعها الانحراف العقائدي.
والعولمة تحمل في طياتها اعتبار الأديان كلها سواء ، وأن الحق في هذه الدائرة نسبي بحسب اعتقاد كل أمة .. ولا يصحّ في العولمة الفكرية والثقافية اعتبار دين الإسلام هو الحق الذي ليس بعده إلاّ الضلال ، ولهذا تشجع العولمة ما يسمى (حوار الأديان) ، لا على أساس دعوة الأديان الأخرى إلى الإسلام ، بل على أساس إزالة التمييز بين الإسلام وغيره بالحوار الذي يتوقعون أنه سيحمل المسلمين على التنازل عن اعتزازهم بدينهم واعتقادهم ببطلان غيره ، وبذلك يزول التعصب وتتقارب الأديان .. وتتجلى خطورة هذه الدعوة في كونها تنقض عقد الإسلام من أصله ، فعقد الإسلام لا يستقيم إلاّ مع اعتقاد بطلان كل الأديان الأخرى ، والإيمان لا يعد صحيحاً إلاّ على أساس قوله تعالى: { قُل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون } (الكافرون :1-2) ، أي باعتقاد كفر كل من يعبد غير الله تعالى ، أو يزعم أنه يعبد الله تعالى بغير دين الإسلام وشريعة محمد صلى الله عليه وسلم ، كما قال تعالى:{ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} (آل عمران:85)، وقوله:{إن الدين عند الله الإسلام} (آل عمران : 19) .
كما يعبر عن هذه الحقيقة علماء الإسلام بأن من نواقض الإسلام ، من لم يكفر المشركين والكفار أو شك في كفرهم أو صحح دينهم .. والكفار هم أتباع كل دين غير دين الإسلام بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقولهم : إن من نواقض الإسلام أيضاً من اعتقد جواز الخروج عن شريعة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم .
@@@ ثانياً : تهديد العولمة للمفاهيم الأساسية في العقيدة الإسلامية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
@@@ كما أن العولمة تسعى لإعادة تشكيل المفاهيم الأساسية عن الكون والإنسان والحياة عند المسلمين ، والاستعاضة عنها بالمفاهيم التي يروج لها الغرب ثقافياً وفكرياً .(/3)
*** فالكون - في نظر العولمة الثقافية والفكرية - لم يخلق تسخيراً للإنسان ، ليكون ميدان امتحان للناس ولابتلائهم أيهم أحسن عملاً !! والإنسان لم يخلق لهدف عبادة الله تعالى!! والحياة ليست صراعاً ابتدأ منذ خلق الإنسان، بين الحق الذي يمثله الرسل والأنبياء وأتباعهم الذين يدعون إلى سبيل الله تعالى بالوحي ، وبين الباطل الذي يدعو إليه الشيطان .. والشيطان ليس هو الذي يقود - في الحقيقة - معركة الباطل ويجند لها جنوده من الرجال والنساء كما قال سبحانه وتعالى:{وأجلب عليهم بخيلك ورجلك}(الإسراء :64) .. وقال سبحانه وتعالى: {ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا } (مريم : 83) ، وقال الله تعالى : { الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقتلوا أولياء الشياطين إن كيد الشيطان كان ضعيفا} (النساء:76)، وقال سبحانه :{كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك} (الحشر:16) ...هذه المفاهيم الأساسية للعقيدة الإسلامية ، ليست في نظر العولمة الفكرية والثقافية سوى خرافة .
*** كما أن الموقف من أمم الأرض - في نظر العولمة الفكرية والثقافية - ليس على أساس المفهوم القرآني القائم على التقسيم العقائدي إلى :
أ- ((المسلمون تتكافأ دماؤهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم ، وهم يد على من سواهم))أخرجه احمد وأبو داود و غيرهما ، وأنه تجب موالاة المسلم لأخيه المسلم ونصرته ، وأن يكونوا أمة واحدة تجمعها العقيدة ولا تفرقها أي وشيجة أخرى .
ب- وإلى كفار تجري عليهم الأحكام الشرعية بحسب علاقتهم بالمسلمين .
@@@ هذه المفاهيم القرآنية الإسلامية الأساسية كلها تنقضها العولمة الفكرية والثقافية من أصلها ، وتهدمها من أساسها ، فالكون - في نظر العولمة - ما هو إلاّ ميدان تنافس على المصالح الدنيوية ، والإنسان حيوان دائب البحث عن ملذاته وشهواته ومنافعه ، وليست الحياة سوى فرصة قصيرة لا ينبغي أن تضيع في غير اللذة والشهرة والجنس والمال والثروة والجمال، وليس وراءها شيء آخر ، وما هي إلاّ سباق بين الناس في هذا الميدان لا ينقصه سوى تنظيم هذه اللعبة لئلا تفسد على الجميع ، ولا يصحّ التفريق بين الناس على أساس عقائدهم فهم أمة واحدة في الإنسانية تجري عليهم أحكام واحدة لا يجوز بحال أن تتفاوت هذه الأحكام بسبب الدين أو العقيدة .
@@@ إن خطورة العولمة الفكرية والثقافية تكمن في أنها تعمل على إعادة تشكيل المفاهيم الأساسية التي تشكل أصول عقيدة المسلم ، بل تنقضها ، وتستعيض عنها بمفاهيم غربية كافرة ملحدة لا تؤمن بوجوب عبادة الله واتباع الوحي والاستعداد للآخرة .
ثالثاً : تهديد العولمة لمبادئ الشريعة الإسلامية :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
@@@ كما أن العولمة تحمل في طياتها نقضاً لأحكام الشريعة الإسلامية ، بفرضها مبادئ تخالف الشريعة.
- تسويق العولمة لوهم المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة :
- ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
-
**** ومن الأمثلة الواضحة على هذا قضية فرض مفهوم المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة ، فهذا المفهوم منصوص عليه في الميثاق العالمي لحقوق الإنسان ، ومقتضاه إزالة جميع الفوارق في الأحكام والحقوق والواجبات بين الرجل والمرأة ، وهو الأمر الذي يتناقض مع الشريعة الإسلامية التي تقوم على أساس الفرق الفطري والخلقي بين الرجل والمرأة .. ذلك الفرق الذي يقتضي اختلافاً في بعض الأحكام والحقوق والواجبات بحسب اختلاف الاستعدادات الفطرية والمؤهلات التكوينية بينهما ، ولهذا نجد الشريعة الإسلامية تقرر أن مبدأ عدم المساواة المطلقة بين الرجال والنساء أمر قطعي الثبوت والدلالة ، ولا خلاف فيه ، ولا مجال فيه للاجتهاد .. ونفي المساواة المطلقة لا يقتضي نفي مطلق المساواة كما لا يخفي .
- الشريعة الإسلامية تقوم على أساس الفروق بين الجنسين :
- ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
-(/4)
*** على هذا قام الفقه الإسلامي ، ودلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة وإجماع العلماء .. وبدءاً من باب الطهارة إلى باب الشهادات ، آخر أبواب الفقه الإسلامي ، نجد المرأة والرجل يجتمعان في أحكام ويختلفان في أحكام أخرى .. ومن صور الاختلافات ما جاء في أحكام الحيض والنفاس ، وأحكام لباس المرأة في الصلاة ، وعدم وجوب الجمعة والجماعة عليها ، وكون صلاتها في بيتها أفضل، وأنها ممنوعة من الآذان بإجماع العلماء ، ومن إمامة الرجال في الصلاة وخطبة الجمعة لهم بإجماع العلماء ، وأنها تصفق لتنبيه الإمام إذا سهى ولا تسبح كالرجال ، وأن صفوف النساء في الصلاة وراء صفوف الرجال ، ولا يجوز تقدمهن ولا اختلاطهن بصفوف الرجال بإجماع الفقهاء ، و((خير صفوف النساء آخرها وشرها أولها)) أخرجه مسلم ، بعكس الرجال .
*** ومن الأمثلة أيضاً على الاختلاف ، إحرامها للحج والعمرة في بعض الأحكام، وفي عدم وجوب الجهاد عليها ، وفي اختلاف أحكام الميراث والنفقة وجعل الطلاق بيد الرجل في الأصل ، وتقديمها في الحضانة في الجملة ، وفي تحريم الخلوة بها ، وفي تحريم التبرج ، وعدم قبول شهادتها في الحدود والدماء.
*** وهذا كله على سبيل المثال ، وإلاّ فثمة أحكام كثيرة غير هذه قد أجمع العلماء على أن المرأة لا تتساوى فيها والرجل ، كما دل على ذلك صريح قوله سبحانه وتعالى : {وليس الذكر كالأنثى} (آل عمران:36).
***وأما العولمة فإنها كما ترفض التمييز بين الناس على أساس الإيمان والكفر ، ترفض أيضا التمييز بين الرجل والمرأة ، مناقضة لأحكام الشريعة الإسلامية التي بنيت على أساس التقسيم الوظيفي بين الرجل والمرأة في المجتمع ، وأن دور كل منهما مكمل لدور الآخر في النظام الاجتماعي الإسلامي ، بناء على أساس أن التكوين الخلقي للمرأة يختلف عن الرجل ، وأن مؤهلاتها واستعدادتها الفطرية تقتضي توليها دوراً ما في المجتمع يختلف عن دور الرجل ، وهو الدور الأسري .
*** إن الحقائق العلمية لتؤكد الفرق البيولوجي الأساس بين الجنسين ، ولا بأس أن أستشهد هنا بما أورده مؤلفا كتاب جنس الدماغ ( Brainsex ) الدكتور في علم الوراثة ((آن موير)) و ((ديفيد جيسيل ))، وهو في الحقيقة مؤلف اشترك فيه أكثر من (25) اختصاصي على رأسهم رائدة علم الفروق الدكتورة ((كوراين هت )) ، لأنهما نقلا نتيجة إجابات كل هؤلاء الأخصائيين في الكتاب.
****يقول مؤلفا الكتاب في المقدمة : (( تمت صياغة المادة الأساسية لهذا الكتاب من أبحاث قام بها علماء كثيرون من جميع أنحاء العالم)).. ثم قالا في وصف دقيق للحقيقة التي توصلا إليها بعد أبحاث مضنية :((الرجال مختلفون عن النساء ، وهم لا يتساوون إلاّ في عضويتهم المشتركة في الجنس البشري .. والادعاء بأنهم متماثلون في القدرات والمهارات والسلوك تعني بأننا نقوم ببناء مجتمع يرتكز على كذبة بيولوجية وعلمية ، فالجنسان مختلفان ، لأن أدمغتهم تختلف عن بعضهما ، فالدماغ وهو العضو الذي يضطلع بالمهام الإرادية والعاطفية في الحياة ، قد تم تركيبه بصورة مختلفة عند كل منهما ، والذي ينتج عنه في النهاية اختلاف في المفاهيم والأولويات والسلوك )).
*** وإنما أطلت في هذا المثال ، لأن حمى مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة أضحت موجة آخذة في الصعود في الخليج ، متساوقة مع تنامي الدعوة إلى العولمة الثقافية والفكرية ، ولأنها قضية بالغة الخطورة ، لأن الغرب يسعى من خلالها إلى إعادة تشكيل النظام الاجتماعي في المجتمعات الخليجية وفقاً للمفاهيم الغربية .
إنه مثال واضح لما تفرضه العولمة من مبادئ وتشريعات تناقض الشريعة الإسلامية ومبادئها .
@@@رابعاً: تهديد العولمة للأخلاق الإسلامية :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
**** كما أن العولمة تهدد النظام الأخلاقي الإسلامي ، فمن خلال العولمة يروج للشذوذ الجنسي ، ويحاول الغرب استصدار قوانين لحماية الشذوذ الجنسي في العالم .. ومن أحدث محاولات العولمة محاولة فرض مصطلح جديد يطلق عليه (Gender ) بدل كلمة ( sex ) ، يقول الدكتور محمد الركن في مجلة المستقبل الإسلامية : ((ومن المسائل الجديد المستحدثة التي تحاول بعض المنظمات والحكومات الغربية فرضها وإلزام شعوب العالم الأخرى بوجهة نظرهم فيها مسألة تعريف الجنس والأسرة ، ومما حداني للحديث حول هذا الموضوع ما شاهدته في المستندات الرسمية ، فقد تمت ترجمة الجنس الغربي إلى مصطلح (Gender ) باللغة الإنجليزية ، وهي تنم عن عدم إلمام بما يسعى إليه الغربيون في فرض ثقافتهم على الآخرين ، فلفظة الجندر لا تتطابق تماماً مع لفظة ( sex ) ، بل إن لها أبعاداً خطيرة قلما نتنبه إليها .(/5)
*** والموسوعة البريطانية تعرف الجندر بأنه : ((تقبل المرء لذاته ، وتعريفه لنفسه كشيء متميز عن جنسه البيولوجي الحقيقي )).. فهناك من الأشخاص من يرون أنه لا صلة بين الجنس والجندر ، إذ أن ملامح الإنسان البيولوجية الخارجية الجنسية مختلفة عن الاحساس الشخصي الداخلي لذاته أو للجندر.. بعبارة أخرى أكثر تبسيطاً ، فإن الجندر بعبارتهم تنصرف إلى غير الذكر والأنثى كجنسين فقط، ونحن لا نعرف ولا نقر في ديننا وثقافتنا إلاّ بهما ، فالجندر تشمل الشاذين جنسياً من سحاقيات ولواطيين ومتحولي الجنس ، إذ أنها ترتبط بتعريف المرء لذاته وهويته وليس بجنسه البيولوجي .. ومن هنا تأتي خطورة المسألة ، ولهذا نرى في المؤتمرات الدولية تسابقاً محموماً من المنظومات الغربية وبعض الحكومات الغربية ، وخصوصاً الأوربية لفرض لفظ ( Gender ) بدل لفظ ( sex ) التي تنصرف إلى الذكر والأنثى فقط ، وذلك عند الحديث عن حقوق الإنسان أو محاربة التمييز ضد الإنسان أو تجريم أفعال ترتكب ضد الإنسان )) .
@@@@خاتمة :
ــــــــــــــــــــــــــــ
وبعد هذا العرض لمخاطر العولمة ، لا يبقى مجال للشك أن الموقف الواجب تجاه العولمة الثقافية والفكرية هو التفاعل الحضاري والتعامل الثقافي الانتقائي بحذر، حفاظاً على عقيدة الأمة وهويتها وأخلاقها من عبث العولمة الفكرية والثقافية.. ولا يتم ذلك إلاّ بإحياء مشروع نهضوي ثقافي شامل يعيد للأمة ثقتها بثقافتها واعتزازها بتاريخها وفخرها بهويتها ، على أساس الالتفاف حول الإسلام النقي الخالص من شوائب الموروث المتخلف ، بفهم صحيح يضع الثوابت والمتغيرات في مواضعها الصحيحة ، ويوجه الاجتهاد الشرعي العصري توجيهاً سليماً جامعاً بين الأصالة والأسس السلفية ، والاستفادة من المعاصرة النافعة ، وسطاً بين الغلو والإجحاف .. ذلك أن الموقف الرافض المنكفئ العاجز عن التعامل مع حقبة العولمة ، يحمل من المخاطر على الأمة المسلمة وطمس هويتها وتوهين قيمها وعزلها عن الواقع العالمي الشيء الكثير ، لذلك لابد من التفكير بامتلاك الوسائل القادرة على حماية الأمة ، والإفادة من وسائل العولمة وطروحاتها لتقديم البديل الإسلامي على المستوى العالمي .
كما لابد من تفعيل كل جهود الوحدة التي تقرب الأمة ، حكومات وشعوباً، من بعضها ، وتقرب الحكام من الشعوب والشعوب من الحكام ، وتصلح بين السياسة والثقافة ، والحكام والعلماء، وتجمع بين الكتاب والميزان والحديد ، لتعود هذه الأمة إلى مجدها من جديد .. حيث تتمكن من حشد قواها التي تمكنها من استئناف دورها في إلحاق الرحمة بالعالمين .
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/6)
خطر اللسان
يتناول الدرس نعمة اللسان وما يمكن أن يجنيه صاحبه من خيرات إذا استقام، مع عرض لكنوز من السنة من أعمال اللسان، ثم تذكير الغافلين عن نعمة اللسان، ومن يستعملونه فيما فيه الخسران، ثم دعوة إلى تعود الخير وشكر نعمة اللسان .
الحمد لله رب العالمين، خلق فسوّى،وقدّر فهدى، لاإله إلا هو؛ له الحمد في الآخرة والأولى، أما بعد: فمن جملة النعم التي امتنّ الله تعالى بها على عباده: البيان والكلام، فامتنّ على عباده بآلة الكلام، وهي اللسان :{ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ[8]وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ[9]وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ[10]} [سورة البلد] وإنما امتنّ الله تعالى باللسان؛ لأنه آلة البيان والكلام، وهو الفارق بين الأعجم الحيوان وبين الإنسان، ولهذا قال تعالى:{ خَلَقَ الْإِنْسَانَ[3]عَلَّمَهُ الْبَيَانَ[4]} [سورة الرحمن] فالأعجم هوالذي لاينطق كالحيوان: سواء أكرمته، أو أهنته ليس له قدرة على الإبانة والكلام، وأما الإنسان، فهو ناطق متكلم، وبنطقه وكلامه يتبين إن كان عاقلاً رشيداً، أو كان ضد ذلك . حصاد اللسان إذا استقام:
هذا الكلام الذي امتن الله تعالى به على العبد يمكن أن يرتقي به الإنسان إلى أعلى الدرجات،ويمكن أن ينحط به إلى أسفل الدركات، فانظر كيف بيّن الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بعض وظائف اللسان المشروعة يقول الله عز وجل في كتابه الكريم:} وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا[53]{ [سورة الإسراء] فأمر بالكلام الطيب الذي هو أحسن، وقال تعالى:} وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا...[83]{ [سورة البقرة] أي: تكلموا مع الناس بالكلام الحسن الفاضل: من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، والإحسان إلى المحسن و الثناء عليه بإحسانه، ومن ذم المسيء بإساءته... وغير ذلك مما هو مشروع.
كنوز من السنة:
وَعَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:'كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ' رواه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه وأحمد . وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:' لَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلَامَ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ عَذْبَةُ الْمَاءِ وَأَنَّهَا قِيعَانٌ وَأَنَّ غِرَاسَهَا سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ 'رواه الترمذي . فبذلك تغرس ثمار الجنة وأشجارها . وفي حديث آخر: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:' الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآَنِ أَوْ تَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالصَّلَاةُ نُورٌ وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا'رواه مسلم والترمذي وابن ماجه والدارمي وأحمد . فذكر الله، وتسبيحه، وشكره، وقراءة القرآن، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي من الكلام الطيب الذي يؤجر به الإنسان، ومن نعمة الله تعالى أنه لا أسهل على الإنسان من الكلام المتعلق بالذكر، فهو كلام سهل المخرج، ليس على الإنسان مشقة فيه أبداً بل هذا من الدين الميسر كما قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:' إِنَّ هَذَا الدِّينَ يُسْرٌ ...' رواه البخاري والنسائي وأحمد .
ومن يسر الدين أن أعظم الدين وهي الشهادة؛ أسهل ما تكون على اللسان ينطقها العربي والعجمي، والصغير والكبير، والصحيح والمريض، سليم اللسان والألثغ، كلهم ينطقون بهذه الكلمة: 'لا إله إلا الله' وهذه الكلمة بها يعذب الله تعالى وبها يرحم، وبها يدخل الجنة وبها يدخل النار، فمن آمن بها ونطقها وعمل بمقتضاها رُحم وكان من أهل الجنة وعصم ماله ودمه في هذه الدار، ومن أبى أن ينطقها، أو يعترف بها، أو ناقضها: بقول، أو فعل، أو استكبر عنها؛ عُذب وشقي في الدنيا، وكان في الآخرة إلى نار جهنم وبئس المصير، مع سهولتها ويسرها .
نعمة الذكر:(/1)
ومن الأشياء التي امتن الله بها علينا أنه أذن لنا بذكره تعالى، ولهذا قال سبحانه:} فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ[36]{ [سورة النور] وكأن هذا إشارة إلى أن العبد قد لا يحتاج إلى أن يؤمر بالذكر بقدر ما يحتاج إلى أن يؤذن له، فإن الإنسان العاقل، سليم الفطرة إذا تذكر عظيم نعم الله عليه في أهله، وماله، ونفسه، وفي كل أموره؛ فإنه يلهج وينطلق بذكر الله تعالى والثناء عليه، فإذا أذن الله تعالى له بالذكر؛ فقد أذن له بشيء عظيم وجليل .
الغفلة عن نعمة اللسان:
كثير من الناس لا يعقلون، فيُسخّرون هذه النعمة العظيمة فيما لايرضيه سبحانه، وكثير من الناس اليوم بسبب الفراغ الذي يعيشونه قد سخروا نعمة اللسان التي بها يدخل الإنسان الجنة أو النار في غير طاعة الله، وقد قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:' إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإِنَّ الْأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ فَتَقُولُ اتَّقِ اللَّهَ فِينَا فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ فَإِنْ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا وَإِنْ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا' رواه الترمذي وأحمد . فالأعضاء والجوارح كلها إنما هي باللسان، فإذا وفق الله تعالى لسان العبد إلى النطق بالكلام الحسن؛ فإن الأعضاء كلها تكون حينئذ مستقيمة، بعيدة عن الانحراف. وإذا كان اللسان منشغلا فيما لا يرضي الله؛ فإن الأعضاء كلها والجوارح تنصرف إلى سخط الله وما لا يرضيه.
وكثير من الناس اليوم شغلوا ألسنتهم بما لايرضي الله عز وجل، فمنهم من يشغل لسانه بالفضول من القول، ومن يشغل لسانه بالكلام البذيء، الفاحش، الذي ليس منه خير ولا بر، بل قد يكون فيه إثم أو قطيعة رحم، أوسخرية من الخير وأهله، أو استهزاء بالناس، أو تنقص لهم، أو لعن، أو أمر بمنكر، أو نهي عن معروف، أو صد عن ذكر الله أو عن الصلاة ... و غير ذلك مما يورد الإنسان موارد الهلكة، والله سبحانه يقول:} مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ[18]{ [سورة ق] .
فرق عظيم:(/2)
وما أعظم الفرق والبون الشاسع بين إنسان يقول: لا إله إلا الله، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً، طيباً، مباركاً فيه، ملء الأرض، وملء السماء، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد؛ فلا يدري الملك كيف يكتب هذا الحال، فيصعد إلى ربه ويقول: يارب عبدك قال كلمة لا أدري كيف أكتبها، فيقول الله تعالى له: اكتبها كما قالها حتى يلقاني بها . - وذلك لأنها كلمة عظيمة- فرق بين إنسان يقول مثل هذه الكلمات السهلة، فيرفعه الله تعالى بها إلى أعلى المنازل في الجنة، وبين آخر يقول كلاماً بذيئاً: شتماً، أو سباً، أو تكلم في أعراض الناس، أو غيبة، أو نميمة، أو تدخل في شئون الآخرين، وكلام في قضاياهم الشخصية وأمورهم العائلية، والله عز وجل سوف يُذكّرك به يوم القيامة، فيقول: قلت يوم كذا وكذا من الكلام الذي ظننت أنه ينسى . والجوارح سوف تنطق، فَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:' اجْتَمَعَ عِنْدَ الْبَيْتِ ثَقَفِيَّانِ وَقُرَشِيٌّ أَوْ قُرَشِيَّانِ وَثَقَفِيٌّ كَثِيرَةٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ قَلِيلَةٌ فِقْهُ قُلُوبِهِمْ فَقَالَ أَحَدُهُمْ:أَتَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ مَا نَقُولُ قَالَ الْآخَرُ: يَسْمَعُ إِنْ جَهَرْنَا وَلَا يَسْمَعُ إِنْ أَخْفَيْنَا وَقَالَ الْآخَرُ: إِنْ كَانَ يَسْمَعُ إِذَا جَهَرْنَا فَإِنَّهُ يَسْمَعُ إِذَا أَخْفَيْنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:} وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ[22]وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ[23] { [سورة فصلت] ' رواه البخاري ومسلم والترمذي وأحمد .إذاً الجوارح سوف تنطق، ويتكلم اللسان بما قال، فاللسان نفسه كعضو سيتكلم كما تتكلم اليد كما تتكلم الرِّجل، وكما تتكلم الأذن، والعين ... الجوارح كلها تنطق . وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَحِكَ فَقَالَ:'هَلْ تَدْرُونَ مِمَّ أَضْحَك؟ُ' قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ:'مِنْ مُخَاطَبَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ يَقُولُ يَا رَبِّ أَلَمْ تُجِرْنِي مِنْ الظُّلْمِ؟ قَالَ: يَقُولُ بَلَى قَالَ: فَيَقُولُ فَإِنِّي لَا أُجِيزُ عَلَى نَفْسِي إِلَّا شَاهِدًا مِنِّي قَال:َ فَيَقُولُ: كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ شَهِيدًا وَبِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ شُهُودًا قَالَ: فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ فَيُقَالُ لِأَرْكَانِهِ: انْطِقِي قَالَ: فَتَنْطِقُ بِأَعْمَالِهِ قَالَ: ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلَامِ قَالَ: فَيَقُول:ُ بُعْدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أُنَاضِلُ ' رواه مسلم .
فكيف يغفل الإنسان عن أن الله تعالى مطلع على كل شيء؟ وكيف ينسى الملائكة الكرام، الكاتبين الذين يعلمون ما تفعلون؟ وكيف لا يذكر أن الصحائف لا تغادر كبيرة ولا صغيرة: }وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا[49] { [سورة الكهف] .
اللسان نعمة يجب أن يستخدم وفق الشروط التي وضعها خالقه:} وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ... [53]{ [سورة الإسراء] ومخرج الكلام واحد، والكلام الطيب أسهل مخرجاً، وأسلم عاقبة من غيره، كيف أصبحت، كيف أمسيت، جزاك الله خيراً، أحسنت، أمر بمعروف ،نهي عن منكر، تذكير بخير، نهي عن شر، ثناء على محسن، أو نهي لمسيء، شكراً لمن قدم لك شيئاً...إلخ هذا الكلام الطيب .
لنتعود الخير:
نجعل من عادتنا أن نتكلم في الخير، نعود ألسنتنا على أن لا ننطق إلا بخير:'مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ' رواه البخاري ومسلم وأحمد. إن أحسن لك إنسان، فقل له: جزاك الله خيراً، بارك الله فيك، شكر الله لك، أحسنت، أما إن أساء إليك، فقل له: غفر الله لك، وسامحك الله، وعفا الله عنا وعنك، وأسأل الله أن يوفقك لا تخطئ غير هذه المرة، فإن قلت: لا أستطيع، ولا أطيق، فنقول لك إذاً: ليس هناك أقل من الصمت، فأقل ما نقبله منك هو أن تسكت.(/3)
وهذه منازل عظيمة، وعالية إلا أنها يسيرة على من يسرها الله تبارك وتعالى عليه . جرب إزالة الخجل من نفسك، وقل كلمة الخير لوالدك، لأخيك، أو الزوجة لزوجها، أو الزوج لزوجته، أو الولد لأمه، أو الزميل لزميله، أو لرئيسه أولغير ذلك، جرب أن تقول هذه الكلمة، وتتغلب على مشاعر الخجل والحياء في نفسك ستجد أن المرة الثانية أسهل، والمرة الثالثة سهلة، والمرة الرابعة لذيذة على لسانك، والمرة الخامسة لو لم تقلها نسياناً؛ لشعرت بأنك تركت شيئاً مهماً، واستغرَبَ الناس منك أنك لم تقل هذه الكلمة، ولقالوا:لم يقل ما تعودنا عليه من الكلام الطيب، فهذا خير لك، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:'الْمُؤْمِنُونَ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ ' رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد . فإذا شهد الناس لك أنك صاحب لسان طيب، وصاحب كلام خير؛ كان هذا خيراً لك عند الله تعالى، وهذا هو حسن الخلق. وكما قال الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله:'حسن الخلق شيء هين وجه طلِق وكلا لَيّن' .
وليكن وجهك طلقا لإخوانك المسلمين وليكن لسانك ليّناً عليهم، وعوّد لسانك الكلام الطيب، وتجنب ما استطعت سبيلاً كل كلام تظن أنه عليك لا لك، وأسأل الله أن يجعلنا ممن استعملوا وسخروا جوارحهم فيما يرضيه، اللهم وفقنا إلى ما تحب وترضى من الأقوال، والأعمال يا ذا الجلال والإكرام، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من محاضرة: خطر اللسان للشيخ/سلمان العودة(/4)
خطر فتنة المنافقين وظهورهم
عندما يتمكن الكفار الصرحاء ويظهرون على المسلمين، فإنَّ في هذا فتنة ومصيبة ولا شك، ولكن أعظم منها فتنة عندما يتمكن المنافقون المبطنون للكفر والزندقة والمظهرون للإسلام والانتساب إليه، كما هو الحال في تمكن العلمانيين في أكثر بلدان المسلمين، أو تمكن دولة الرفض الخمينية التي تخدعُ الناس الجهلاء بحبِ آل البيت وحب الإسلام، وهي تبطن كره الإسلام الحق، وتبغض السنة وأهلها، وتتمنى ذلك اليوم الذي تظهر فيه على أهل الإسلام؛ فلا ترقب فيهم إلاً ولا ذمة، وأوضح مثال لذلك ما قصهُ التاريخ الموثق علينا عن دور الرافضة في دخول التتار إلى ديار المسلمين، والأفاعيل الشنيعة التي فُعلت بالمسلمين في بغداد وغيرها؛ وكان من أسباب ذلك ممالأة ابن العلقمي الرافضي وطائفته لرئيس التتار، وخيانته للخليفة العباسي الذي كان قد استوزره وقربه.
والسبب في كون فتنة المنافقين أشدُّ من الكفار، هو أنَّ الكافر يعرفه الناس ويأخذون الحذر منه، ويبقى في النفوس بغضه وترقب اليوم الذي يزول فيه. أما المنافق الخادع للناس باسم الإسلام فقد يحبُهُ أكثر الناس وينخدعون به، فلا يبقى في النفوس بغضه وتمني زواله، فينشأ من ذلك فتنة وفساد كبير.
ومن أخطر صور الفتنة بالمنافقين، صورة رئيسية واحدة، تنبثق منها كل أشكال الفتنة بالمنافقين ألا وهي:
فتنة الخداع والتلبيس [1]
وهي من أشد أنواع الفتن وبخاصة في عصرنا الحاضر، الذي تسلط فيه المنافقون على أكثر ديار المسلمين، وتمكنوا من وسائل التأثير والإعلام، التي تعمل ليل نهار في خداع الناس باسم الإسلام والاحتفالات بمناسباته، وهم الذين أقصوا الإسلام عن الحكم والتحاكم، وهم الذين يسعون لتشويهه وإظهاره للناس بأنَّه صلةً بين العبد وربه، ولا دخل له بعد ذلك في شئون الحياة الأخرى.
ومن صور فتنة الخداع والتلبيس ما يلي :
ا- تسويغهم عزل الإسلام عن الحياة الاقتصادية والسياسية وغيرها من شئون الحياة، بقولهم: إنَّ دين الإسلام دين الصدق والنظافة والتقوى،
وكل هذا لا يتفق مع ألاعيب السياسة، ومهاترات السياسيين وأكاذيبهم؛ فلهذا ينبغي أن يترفع بالإسلام عن دهاليز السياسة المتلوثة؛ كل ذلك بزعمهم حمايةً للإسلام ومحافظة عليه من هذه اللوثات، ومع ذلك فقد يوجد من ينخدع بمثل هذا الكلام الفارغ الفاجر، وبالتالي يسقط في فتنةِ التضليل والتلبيس.
2- ومن صور الخداع والتلبيس التي قد ينخدع بها بعض السذج من الناس ويسقطون في فتنتها: ما يرفعهُ المنافقون في أكثر بلدان المسلمين، في وجه أهل الخير والإصلاح من أنهم دعاة شرٍ وإرهاب وفساد، وما تجلبه وسائل الإعلام المختلفة، وتدندن به على وصفهم ورميهم بهذه الأوصاف الظالمة، حتى تأثرت بذلك بعض الأدمغة المخدوعة، فسقطت في فتنتهم، ورددت معهم هذا الظلم والخداع، وبالتالي تعرض أهل الخير للأذى والنكال، باسم المصلحة الشرعية ومكافحة الإرهاب والفساد؛ وذلك بعد أن تهيأت أذهان المخدوعين من المسلمين لهذا الخداع والتلبيس.
وصور التلبيس والتضليل من المنافقين كثيرة جداً؛ والمقصود الحذر من فتنتها والسقوط في شباكها، والتفطن إلى أنَّ المنافقين يستخدمون الإسلام دائماً ويتترسون به في تمرير ما يُريدون من أغراضهم الخبيثة؛ فهذا شأنهم دائماً: التحريف، والتلبيس، وإثارة الشبهات، مستخدمين وسائل الإعلام الرهيبة في خداع الناس وتضليلهم، ورضي الله عن عمر بن الخطاب حيث قال: ( لست بالخب ولا الخب يخدعني) ويعلق ابن القيم- رحمه الله تعالى- على هذه المقالة فيقول: (فكان عمر- رضي الله عنه- أورع من أن يخدع، وأعقل من أن يخدع) [2] .
3- اهتمام الحكومات العلمانية ببعض المناسبات الإسلامية، كالاحتفال بمولد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهجرته، أو ليلة النصف من شعبان، أو الإسراء والمعراج، إلى آخر هذه المناسبات التي لا أصل للاحتفال بها شرعاً، وإنَّما هي من البدع المحرمة؛ ومع ذلك ينخدع بهذا التلبيس كثيرٌ من دهماء المسلمين، وتتحسن صورة أولئك المنافقين الذين يُضللون الناس بهذا الخداع، ويبدون في أعين المخدُوعين أنَّهم يحبون الإسلام ويغارون عليه، وهم أبعد ما يكونون عن الإسلام وأهله، وهل يحب الإسلام ويعتز بالانتماء إليه من يرفض الحكم به والتحاكم إليه، ويبدل شرع الله المطهر بنحاتات الأفكار، وزبالات الأذهان الجاهلة الظالمة؟ لا، والله إنَّ مثل هذا يكذب في ادعائه حب دين الإسلام؛ قال تعالى: (( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) [آل عمران:31].
فهل يعي هذا المخدوعون المضللون؟(/1)
* ومما يدخل في هذه الصورة أيضاً من صور التلبيس، ما يقوم به بعض المنافقين المحادِّين لشرع الله عز وجل، من إقامةِ بعض المؤتمرات أو الندوات الإسلامية، ويدعون إليها بعض العلماءِ والدعاة، فيستجيب من يستجيب، ويرفض من يرفض، وكل هذا من ذر الرماد في العيون، وتخدير دعاة المسلمين بمثل هذه الصروح الخبيثة، التي هي أشبه ما تكون بمسجد الضرار، الذي بناه المنافقون في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وادعوا أنَّه للصلاة وإيواء المسافرين في الليلة الشاتية المطيرة، فأكذبهم الله- عز وجل- وفضح نياتهم بقرآن يتلى إلى قيام الساعة، نهي فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن دخوله والقيام فيه، بل أمر بتحريقه قال تعالى: (( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ . لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ)) [التوبة:107- 108]
فهل آن الأوان أن نعي مثل هذه الفتنة والخداع، فلا نستجيب لمثل هذه الدعوات، ولا نقوم في مثل هذه المؤتمرات أبداً؟ بل قد آن الأوان إلى أن تفضح مثل هذه اللافتات، ويحذر الناس من شرها والوقوع في فتنتها؛ ويبين لهم أنَّها ضربٌ من الخداع، وصورةً من صور النفاق الماكر الخبيث.
4- إظهارهم لفسادهم بمظهر الإصلاح وإرادة الخير بالأمة، كما قال الله عز وجل عنهم: (( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ)) [البقرة:11] .
يقول سيد قطب- رحمه الله تعالى- عن هذه الآية:
(إنَّهم لا يقفون عند حد الكذب والخداع، بل يضيفون إليهما السفه والادعاء : (( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ))
لم يكتفوا بأن ينفوا عن أنفسهم الإفساد، بل تجاوزوهُ إلى التبجح والتبرير: (( قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ )) .
والذين يفسدون أشنع الفساد، ويقولون: إنَّهم مصلحون، كثيرون جداً في كل زمان، يقولونها؛ لأنَّ الموازين مختلة في أيديهم؛ ومتى ا ختل ميزان الإخلاص والتجرد في النفس، اختلت سائر الموازين والقيم، والذين لا يُخلصون سريرتهم لله يتعذر أن يشعروا بفساد أعمالهم؛ لأنَّ ميزان الخير والشر والصلاح والفساد في نفوسهم يتأرجحُ مع الأهواءِ الذاتية، ولا يثوبُ إلى قاعدة ربانية) [3] ا. هـ.
* ومما يدخل في هذه الصورة من صور الخداع والتلبيس ما يستخدمه منافقو زماننا من تحريف لنصوص الشريعة، وتأويلات باطلة لها في تسويغ فسادهم ومواقفهم الجائرة؛ فهم مع جهلهم بأحوال الشريعة نراهم يخوضُون فيها بلا علم، إلا ما أشربوا من هواهم؛ فنراهم يسوغون الترخص بل التحلل من الشريعة بقواعد التيسير ورفع الحرج، وتغير الفتوى بتغير الحال والزمان، إلى آخر هذه القواعد التي هي حق في ذاتها، لكنهم خاضوا فيها بجهلٍ وهوى، فاستخدموها في غير محلها، فهي حقٌّ أريد بها باطل، ومع جهلهم بالشريعة وظهور القرائن التي تدل على خبث طويتهم، إلاَّ أنَّ هناك من ينخدع بهذه الشبه والتحريفات الباطلة، ومن عجيبِ أمر القوم أنَّهم يرفضون الحكم بما أنزل الله- عز وجل- والتحاكم إليه، ولا يذعنون له، ومع ذلك نراهم في أحيانٍ قليلة يرجعون إلى بعض الأدلة الشرعية ليمرروا ويبرروا من خلالها بعض فسادهم، أو مواقفهم الباطلة، فما حاجتهم إلى الشرع في هذه المرة وهم كانوا يكفرون به من قبل؟ إنَّهُ الهوى والخداع والتلبيس على الناس، قال تعالى في فضح هذا الصنف من الناس: (( وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ، وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ . أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)) [النور:48-50] .
فينبغي لكل مسلمٍ أن يحذرَ من شبه المنافقين وخداعهم، وأن يقول لهؤلاء الذين يسوغُون فسادهم بتحريف الأدلة الشرعية: ادخلوا في السلم كافة، وحكموا في الناس شرع الله- عز وجل- ورفضوا ما سواه؛ أما أن تنحوا شرع الله- عز وجل- عن الحكم، حتى إذا كان لكم هوى في تمرير فسادكم بشبهةِ دليل رجعتم إليه؛ فهذا الذي قال الله- عز وجل- عن أهله: (( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)) [البقرة: 85].(/2)
5- موالاة المنافقين للكفار، وبخاصةٍ اليهود والنصارى، والإعجاب بنظم الغرب وتقاليده، وفتح الباب لفسادهم وأفكارهم، وهذه من أعظم فتن المنافقين التي طمت وعمت في أكثر بلدان المسلمين، مستخدمين في ذلك الخداعَ والتلبيس على الناس في ذلك، بدعوى المداراة وتحقيق المصلحة ودرء المفاسد، إلى آخر هذه التأويلات التي يُخادعون بها الناس لتسويغ توليهم للكفار؛ وقد ذكر الله- عز وجل- في كتابه الكريم أنَّ هذه صفة لازمه للمنافقين، قال تعالى: (( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)) [الحشر:11].
وقال عز وجل: (( بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً.الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً)) [النساء:138-139] . فهل بقي بعد كلام الله- عز وجل- عذر لأحد في انخداعه بالمنافقين، الذين يتولون الذين كفروا من أهل الكتاب أو غيرهم؟ إنَّ خطر المنافقين على الأمة في القديم والحديث كبير، وفتنتهم شديدة؛ فما تمكن الكفار من بلدان المسلمين سواءً من الناحية العسكرية أو الفكرية إلا عن طريق المنافقين، الخادعين الخائنين لدينهم وأمتهم، فالواجب فضحهم والتحذير من شر فتنتهم.
6- خداعهم لبعض المتحمسين لشرع الله وتطبيقه؛ وذلك بدعوتهم إلى مشاركات وطنية، ومجالس نيابية، يتعاون الجميع فيها على ما فيه صالح الوطن والمواطن كما زعموا، فيستجيب بعض الدعاة لهذا، وتجمعهم مع المنافقين الرافضين لشرع الله عز وجل مظلةً واحدة، فيعرض الإسلاميون فيها مطالبهم كما يعرض العلمانيون والرافضة والشيوعيون مطالبهم الكفرية؛ ومعلومٌ ما في ذلك من مداهنة وتعاون على الإثم والعدوان، واستجابةً لداعي الخداع والتلبيس الذي يتولى كبرهُ المنافقون الذين يُريدون من استجابة الإسلاميين لهم إضفاءَ صفةٍ الشرعية على مجالسهم ونظمهم التي يحكمون بها؛ وبالتالي يتخدر الناس ويستنيم المطالبون بتحكيم شرع الله- عز وجل- ما دام أنَّ للمسلمين صوتاً في هذه المجالس النفاقية الماكرة، ويا ليت أنَّ هُناك مصلحةً قطعيةً يمكنُ تحقيقها للمسلمين، تربو على المفاسد التي تنشأ من المشاركة، إذن لهان الخطب؛ لكن الحاصل من هذه التجارب هو العكس؛ حيث إنَّ المستفيد الأول والأخير هم العلمانيون المنافقون، وقد لا يكونُ المشارك من المسلمين غافلاً عن هذا الخداع، ولكنهُ يدخلُ بغرض إقامة الحجة والدعوة إلى تطبيق الشريعة ومعارضة كل ما يخالفها، ولكن هل هذا ممكن؟ وهل يسمح أهل الكفر والنفاق بذلك؟! الذي يغلبُ على الظن أنَّ أعداء الشريعة لن يسمحوا إلا بالكلام فقط؛ وإذا تجاوز الإسلاميون ذلك إلى العمل، وتجاوزوا الخطوط الحمراء المرسومة لهم، جاء دور الحديد والنار، وما تجربةُ الجزائر وتركيا عنَّا ببعيدتين.
7- فتنة المنافقين داخل الصف الإسلامي:
وهذا شأنُ المنافقين في كل زمان؛ فعندما تخفقُ جهودهم في الوقوف في وجه أهل الخير والصلاح، وعندما ينشط الدعاة، ويظهر أثرهم في الأمة؛ فإنَّ المنافقين يلجئون إلى وسيلةٍ ماكرةٍ، وفتنةٍ شديدة، ألا وهي التظاهر بالحماس للدعوة، والدخول في أوساط الدعاة مُظهرين التنسك والغيرة على الدين، والحرص على العلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى ينخدع بكلامهم المعسول بعض الطيبين من الدعاة، فتحصل الثقة بهم، حتى إذا تمكنوا من مراكز التوجيه والدعوة بدءوا فتنتهم الكبرى على الدعوة وأهلها؛ مع استمرارهم في إظهار الخير والحماس لهذا الدين، وتسويغ ما يقومون به من الممارسات بالحرص على مصلحة الدعوة وتميزها وصلابتها.
ومن أخطر صور الفتن التي تنشأ من هذا الصنيع ما يلي:
أ- فتنة التفريق وإثارة العداوات بين دعاة الإسلام :
وهذه من أعظم فتن المنافقين داخل الصف الإسلامي، وفي أوساط الدعوة إلى الله- عز وجل- وقد فضح الله- عز وجل- المنافقين الذين بنوا مسجد الضرار، وأظهر أهدافهم الخبيثة بقوله سبحانه: (( وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْل)) [التوبة:107].
قال " المفسرون لهذه الآية:ا لأنَّهُم كانوا جميعأ يصلون في مسجد قباء؛ فبنوا مسجد الضرار ليُصلي فيه بعضهم، فيؤدى ذلك إلى الخلاف وافتراق الكلمة) [4] ا. هـ.(/3)
وهذا الضرب من الفتن لا يحتاج إلى تدليل، فالواقع المر شاهدٌ بذلك، ومع أنَّ للافتراق أسباباً كثيرة كالجهل والهوى... إلخ؛ إلاَّ أنَّ أثر المنافقين الذين يدخُلون في صفوف الدعاة لا يجوز إغفاله والتهوين من شأنه، وكون الفرقة تحصل بين أهل طريقتين مختلفتين في الأصول، فإنَّ هذا الأمر واضحٌ ومعقولٌ ومقبول، أما أن يفترق أهل الطريقة الواحدة- طريقة أهل السنة والجماعة، وطريقة سلف الأمة- فهذا أمرٌ لا يعقل ولا يقبل، ولا يكونُ، وهناك يد خبيثة خفية وراء هذا الافتراق؛ فينبغي على الدعاة الحذر من هذه الأيدي والتفتيش عنها، وفضحها، وتطهير الصف المسلم منها. (وسيأتي الكلام عن فتنة التفرق والاختلاف في بحثٍ قادم، وبشكلٍ مفصل- إن شاء الله تعالى-).
ب- فتنة التخذيل والتشكيك :
وهذه أيضاً من أعمال المنافقين المندسين في الصف المسلم، حيث يسعون إلى بث فتنة التخذيل وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وذلك بدعاوى وشبه شرعية خادعة، مؤداها توهينُ عزائم الدعاة وإضعاف هممهم، وبث الخوف في النفوس من الباطل وأهله، وتهويل قوة الأعداء وخططهم بصورةٍ تَبثُ اليأس في النفوس الضعيفة.
ج- فتنة الإيقاع بالدعوة والدعاة:
لا تقف مساعي المنافقين في إيصال الشر والأذى للدعوة وأهلها عند حد، فمن هذه المساعي الخبيثة التي يقُومُون بها داخل صفوف الدعاة بعد إظهار الحماس، وبعد كسب الثقة والسماع لأقوالهم كما قال تعالى: (( وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ)) [المنافقون:4] .
وتحت ستار الغيرةِ على الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله- عز وجل- فإنهم يبدءون في دفع بعض الدعاة إلى مواجهات مع الباطل وأهله، والزج بالدعوة في أعمالٍ خطيرةٍ تفتقد المستند الشرعي من جهة، وتؤدي بالدعوة وأهلها إلى الضمور والانكماش من جهةٍ أخرى، إن لم يقض عليها قضاءً مبرماً، وهذا هو ما يريده المنافقون الخادعون الذين قال الله- عز وجل- عن أمثالهم: (( لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)) [التوبة:47] .
يقول الإمام البغوي- رحمه الله تعالى- عند تفسير هذه الآية:
(( لَوْ خَرَجُوا)) يعني المنافقين ((فِيكُمْ)) أي معكم ((مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً)) ،أي: فساداً وشراً. ومعنى الفساد: إيقاع الجبن والفشل بين المؤمنين، بتهويل الأمر،((وَلَأَوْضَعُوا)) ، أسرعوا،((خِلالَكُمْ )) ، وسطكم بإيقاع العداوة والبغضاء بينكم بالنميمة، ونقل الحديث من البعض إلى البعض، وقيل: (( وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ )) أي: أسرعوا فيما يخل بكم . ((يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ)) , أي: يطلبون لكم ما تفتنون به، يقولون: لقد جمع لكم كذا وكذا، وإنَّكم مهزومون، وسيظهر عليكم عدُ وكم ونحو ذلك.
وقال الكلبي: يبغونكم الفتنة يعني: العيب و الشر. وقال الضحاك: الفتنة الشرك، ويقال: بغيته الشر والخير أبغيهِ بغاءً إذا التمسته له، يعني: بغيت له.
((وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ)).
قال مجاهد : معناه وفيكم مُحبُون لهم، يُؤدون إليهم ما يسمعون منكم، وهم الجواسيس. وقال قتادة: معناه وفيكم مطيعون لهم، أي: يسمعون كلامهم ويطيعونهم. ((وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)) [5]. ا. هـ.
______
[1] انظر لمزيد من الفائدة رسالة: (ولا تلبسوا الحق بالباطل) للمؤلف.
[2] الرو ح ص 244.
[3] في ظلال القرآن عند الآية (11) من سورة البقرة.
[4] تفسير البغوى 4/ 93 ط. دار طيبة.
[5] تفسير البغوى 4/ 56 ط. دار طيبة.(/4)
خطر مشاركة المرأة للرجل في ميدان عمله
عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
دار الوطن
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد:
فإن الدعوة إلى نزول المرأة للعمل في ميدان الرجل المؤدي إلى الاختلاط سواء كان ذلك على جهة التصريح أو التلويح بحجة أن ذلك من مقتضيات العصر ومتطلبات الحضارة أمر خطير جداً له تبعاته الخطيرة وثمراته المرة وعواقبه الوخيمة رغم مصادمته للنصوص الشرعية التي تأمر المرأة بالقرار في بيتها والقيام بالأعمال التي تخصها في بيتها ونحوه.
ومن أراد أن يعرف عن كثب ما جناه الاختلاط من المفاسد التي لا تحصى فلينظر إلى تلك المجتمعات التي وقعت في هذا البلاء العظيم اختياراً أو اضطراراً بإنصاف من نفسه وتجرد للحق عما عداه يجد التذمر - على المستوى الفردي والجماعي - والتحسر على انفلات المرأة من بيتها وتفكك الأسر. ونجد ذلك واضحاً على لسان الكثير من الكتاب، بل في جميع وسائل الإعلام، وما ذلك إلا لأن هذا هدم للمجتمع وتقويض لبنائه.
والأدلة الصحيحة الصريحة الدالة على تحريم الخلوة بالأجنبية وتحريم النظر إليها وتحريم الوسائل الموصلة إلى الوقوع فيما حرم الله أدلة كثيرة، قاضية بتحريم الاختلاط لأنه يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه.
وإخراج المرأة من بيتها الذي هو مملكتها ومنطلقها الحيوي في هذه، إخراج لها عما تقتضيه فطرتها وطبيعتها التي جبلها الله عليها. فالدعوة إلى نزول المرأة في الميادين التي تخص الرجال أمر خطير على المجتمع الإسلامي، ومن أعظم آثاره الاختلاط الذي يعتبر من أعظم وسائل الزنا الذي يفتك بالمجتمع ويهدم قيمه وأخلاقه.
ومعلوم أن الله تبارك وتعالى جعل للمرأة تركيباً خاصاً يختلف تماماً عن تركيب الرجل، هيأها به للقيام بالأعمال التي في داخل بيتها والأعمال التي بين بنات جنسها.
ومعنى هذا: أن إقحام المرأة لميدان الرجال الخاص بهم يعتبر إخراجاً لها عن تركيبها وطبيعتها وفي هذا جناية كبيرة على المرأة وقضاء على معنويتها وتحطيم، ويتعدى ذلك إلى أولاد الجيل من ذكور وإناث إذ إنهم يفقدون التربية والحنان والعطف. فالذي يقوم بهذا الدور وهو الأم قد فصلت منه وعزلت تماماً عن مملكتها التي لا يمكن أن تجد الراحة والاستقرار والطمأنينة إلا فيها وواقع المجتمعات التي تورطت في هذا أصدق شاهد على ما نقول. والإسلام جعل لكل من الزوجين واجبات خاصة على كل واحد منهما أن يقوم بدوره ليكتمل بذلك بناء المجتمع في داخل البيت وفي خارجه.
فالرجل يقوم بالنفقة والاكتساب، والمرأة تقوم بتربية الأولاد والعطف والحنان والرضاعة والحضانة والأعمال التي تناسبها لتعليم البنات وإدارة مدارسهن والتطبيب والتمريض لهن ونحو ذلك من الأعمال المختصة بالنساء. فترك واجبات البيت من قبل المرأة يعتبر ضياعاً للبيت بمن فيه، ويترتب عليه تفكك الأسرة حسياً ومعنوياً وعند ذلك يصبح المجتمع شكلاً وصورة لا حقيقة ومعنى. قال الله جل وعلا: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [النساء:34].
فسنة الله في خلقه أن القوامة للرجل على المرأة، وللرجل فضل عليها كما دلت الآية الكريمة على ذلك. وأمر الله سبحانه للمرأة بقرارها في بيتها ونهيها عن التبرج معناه النهي عن الاختلاط وهو: اجتماع الرجال بالنساء الأجنبيات في مكان واحد بحكم العمل أو البيع أو الشراء أو النزهة أو السفر أو نحو ذلك ؛ لأن اقتحام المرأة في هذا الميدان يؤدي بها إلى الوقوع في المنهي عنه وفي ذلك مخالفة لأمر الله وتضييع لحقوق الله المطلوب شرعاً من المسلمة أن تقوم بها.
والكتاب والسنة دلا على تحريم الاختلاط وتحريم جميع الوسائل المؤدية إليه قال الله عز وجل: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا [الأحزاب:33-34].
فأمر الله أمهات المؤمنين- وجميع المسلمات والمؤمنات داخلات في ذلك- بالقرار في البيوت لما في ذلك من صيانتهن وإبعادهن عن وسائل الفساد، لأن الخروج لغير حاجة قد يفضي إلى التبرج، كما قد يفضي إلى شرور أخرى، ثم أمرهن بالأعمال الصالحة التي تنهاهن عن الفحشاء والمنكر وذلك بإقامتهن الصلاة وإيتائهن الزكاة وطاعتهن لله ولرسوله ، ثم وجههن إلى ما يعود عليهن بالنفع في الدنيا والآخرة وذلك بأن يكن على اتصال دائم بالقرآن الكريم وبالسنة النبوية المطهرة اللذين فيهما ما يجلو صدأ القلوب ويطهرها من الأرجاس والأنجاس ويرشد إلى الحق والصواب.(/1)
وقال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب:59]. فأمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام وهو المبلغ عن ربه أن يقول لأزواجه وبناته وعامة نساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن وذلك يتضمن ستر باقي أجسامهن بالجلابيب وذلك إذا أردن الخروج لحاجة لئلا تحصل لهن الأذية من مرضى القلوب. فإذا كان الأمر بهذه المثابة فما بالك بنزولها إلى ميدان الرجال واختلاطها معهم وإبداء حاجتها إليهم بحكم الوظيفة والتنازل عن كثير من أنوثتها لتنزل في مستواهم، وذهاب كثير من حيائها ليحصل بذلك الانسجام بين الجنسين المختلفين معنى وصورة.
قال الله جل وعلا: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:30-31]. يأمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام أن يبلغ المؤمنين والمؤمنات أن يلتزموا بغض البصر وحفظ الفرج عن الزنا، ثم أوضح سبحانه أن هذا الأمر أزكى لهم. ومعلوم أن حفظ الفرج من الفاحشة إنما يكون باجتناب وسائلها، ولا شك أن إطلاق البصر واختلاط النساء بالرجال والرجال بالنساء في ميادين العمل وغيرها من أعظم وسائل وقوع الفاحشة، وهذان الأمران المطلوبان من المؤمن يستحيل تحققهما منه وهو يعمل مع المرأة الأجنبية كزميلة أو مشاركة له في العمل.
فاقتحامها هذا الميدان معه أو اقتحامه الميدان معها لا شك أنه من الأمور التي يستحيل معها غض البصر وإحصان الفرج والحصول على زكاة النفس وطهارتها.
وهكذا أمر الله المؤمنات بغض البصر وحفظ الفرج وعدم إبداء الزينة إلا ما ظهر منها، وأمرهن الله بإسدال الخمار على الجيوب المتضمن ستر رأسها ووجهها، لأن الجيب محل الرأس والوجه. فكيف يحصل غض البصر وحفظ الفرج، وعدم إبداء الزينة عند نزول المرأة ميدان الرجال واختلاطها معهم في الأعمال والاختلاط كفيل بالوقوع في هذه المحاذير. وكيف يحصل للمرأة المسلمة أن تغض بصرها وهي تسير مع الرجل الأجنبي جنباً إلى جنب بحجة أنها تشاركه في الأعمال أو تساويه في جميع ما يقوم به.
والإسلام حرّم جميع الوسائل والذرائع الموصلة إلى الأمور المحرمة. ولذلك حرم الإسلام على النساء خضوعهن بالقول للرجال لكونه يفضي إلى الطمع فيهن كما في قوله عز وجل: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا [الأحزاب:32]. يعني مرض الشهوة. فكيف يمكن التحفظ من ذلك مع الاختلاط.
ومن البديهي أنها إذا نزلت إلى ميدان الرجال لا بد أن تكلمهم وأن يكلموها ولا بد أن ترقق لهم الكلام وأن يرققوا لها الكلام والشيطان من وراء ذلك يزين ويحسن ويدعو إلى الفاحشة حتى يقعوا فريسة له، والله حكيم عليم حيث أمر المرأة بالحجاب، وما ذاك إلا لأن الناس فيهم البر والفاجر والطاهر والعاهر، فالحجاب يمنع بإذن الله من الفتنة ويحجز دواعيها وتحصل به طهارة قلوب الرجال والنساء، والبعد عن مظان التهمة قال الله عز وجل: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:53].
وخير حجاب للمرأة بعد حجاب وجهها وجسمها باللباس هو بيتها. وحرم عليها الإسلام مخالطة الرجال الأجانب لئلا تعرض نفسها للفتنة بطريق مباشر أو غير مباشر. وأمرها بالقرار في البيت وعدم الخروج منه إلا لحاجة مباحة مع لزوم الأدب الشرعي، وقد سمى الله مكث المرأة في بيتها قرارا، وهذا المعنى من أسمى المعاني الرفيعة ففيه استقرار لنفسها وراحة لقلبها وانشراح لصدرها. فخروجها عن هذا القرار يفضي إلى اضطراب نفسها، وقلق قلبها، وضيق صدرها، وتعريضها لما لا تحمد عقباه.
ونهى الإسلام عن الخلوة بالمرأة الأجنبية على الإطلاق إلا مع ذي محرم، وعن السفر إلا مع ذي محرم سدا لذريعة الفساد وإغلاقا لباب الإثم وحسما لأسباب الشر وحماية للنوعين من مكايد الشيطان، ولهذا صح عن رسول الله أنه قال: { ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء } [رواه البخاري ومسلم].
وصح عنه أنه قال: { اتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء } [رواه مسلم].(/2)
وقد يتعلق بعض دعاة الاختلاط ببعض ظواهر النصوص الشرعية التي لا يدرك مغزاها ومرماها إلا من نوّر الله قلبه، وتفقه في دين الله وضم الأدلة الشرعية بعضها إلى بعض، وكانت في تصوره وحدة لا يتجزأ بعضها عن بعض.
ومن ذلك خروج بعض النساء مع الرسول في بعض الغزوات، والجواب عن ذلك أن خروجهن كان مع محارمهن لمصالح كثيرة لا يترتب عليه ما يخشى عليهن من الفساد لإيمانهن وتقواهن وإشراف محارمهن عليهن وعنايتهم بالحجاب بعد نزول آيته بخلاف حال الكثير من نساء العصر، ومعلوم أن خروج المرأة من بيتها إلى العمل يختلف تماما عن الحالة التي خرجن بها مع الرسول في الغزو فقياس هذه على تلك يعتبر قياسا مع الفارق. وأيضا فما الذي فهمه السلف الصالح حول هذا؟ وهم لا شك أدرى بمعاني النصوص من غيرهم وأقرب إلى التطبيق العملي بكتاب الله وسنة رسوله فما هو الذي نقل عنهم على مدار الزمن؟ هل وسعوا الدائرة كما ينادي دعاة الاختلاط؟ فنقلوا ما ورد في ذلك إلى أن تعمل المرأة في كل ميدان من ميادين الحياة مع الرجال تزاحمهم ويزاحمونها وتختلط معهم ويختلطون معها. أم أنهم فهموا أن تلك قضايا معينة لا تتعداها إلى غيرها؟.
وإذا استعرضنا الفتوحات الإسلامية والغزوات على مدار التاريخ لم نجد هذه الظاهرة، أما ما يدعى في هذا العصر من إدخالها كجندي يحمل السلاح ويقاتل كالرجل فهو لا يتعدى أن يكون وسيلة لإفساد وتذويب أخلاق الجيوش باسم الترفيه عن الجنود لأن طبيعة الرجل إذا التقت مع طبيعة المرأة كان منهما عند الخلوة ما يكون بين كل رجل وامرأة من الميل والأنس والاستراحة إلى الحديث والكلام وبعض الشيء يجر إلى بعض وإغلاق باب الفتنة أحكم وأحزم وأبعد من الندامة في المستقبل.
فالإسلام حريص جدا على جلب المصالح ودرء المفاسد وغلق الأبواب المؤدية إليها، ولاختلاط المرأة مع الرجل في ميدان العمل تأثير كبير في انحطاط الأمة وفساد مجتمعها كما سبق. لأن المعروف تاريخيا عن الحضارات القديمة الرومانية واليونانية ونحوهما أن من أعظم أسباب الانحطاط والانهيار الواقع بها هو خروج المرأة من ميدانها الخاص إلى ميدان الرجال ومزاحمتهم، مما أدى إلى فساد أخلاق الرجال وتركهم لما يدفع بأمتهم إلى الرقي المادي والمعنوي وانشغال المرأة خارج البيت يؤدي إلى بطالة الرجل وخسران الأمة بانحلال الأسرة وانهيار صرحها وفساد أخلاق الأولاد، ويؤدي إلى الوقوع في مخالفة ما أخبر الله به في كتابه من قوامة الرجل على المرأة.
وقد حرص الإسلام أن يبعد المرأة عن جميع ما يخالف طبيعتها، فمنعها من تولي الولاية العامة كرئاسة الدولة والقضاء وجميع ما فيه مسئوليات عامة لقوله : { لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة } [رواه البخاري في صحيحه]. ففتح الباب لها بأن تنزل إلى ميدان الرجال يعتبر مخالفا لما يريده الإسلام من سعادتها واستقرارها. فالإسلام يمنع تجنيد المرأة في غير ميدانها الأصيل.
وقد ثبت من التجارب المختلفة وخاصة في المجتمع المختلط أن الرجل والمرأة لا يتساويان فطريا ولا طبيعيا فضلا عما ورد في الكتاب والسنة واضحا جليا في اختلاف الطبيعتين والواجبين، والذين ينادون بمساواة الجنس اللطيف - المنشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين - بالرجال يجهلون أو يتجاهلون الفوارق الأساسية بينهما.
لقد ذكرنا من الأدلة الشرعية والواقع الملموس ما يدل على تحريم الاختلاط واشتراك المرأة في أعمال الرجال مما فيه كفاية ومقنع لطالب الحق، ولكن نظرا إلى أن بعض الناس قد يستفيدون من كلمات رجال الغرب والشرق أكثر مما يستفيدون من كلام الله وكلام رسوله وكلام علماء المسلمين رأينا أن ننقل لهم ما يتضمن اعتراف رجال الغرب والشرق بمضار الاختلاط ومفاسده لعلهم يقتنعون بذلك، ويعلمون أن ما جاء به دينهم العظيم من منع الاختلاط هو عين الكرامة والصيانة للنساء وحمايتهن من وسائل الإضرار بهن والانتهاك لأعراضهن.
قالت الكاتبة الإنجليزية الليدي كوك: إن الاختلاط يألفه الرجال ولهذا طمعت المرأة بما يخالف فطرتها وعلى قدر كثرة الاختلاط تكون كثرة أولاد الزنا، وهاهنا البلاء العظيم على المرأة. إلى أن قالت: علِّموهن الابتعاد عن الرجال أخبروهن بعاقبة الكيد الكامن لهن بالمرصاد.
وقال شوبنهور الألماني: قل هو الخلل العظيم في ترتيب أحوالنا الذي دعا المرأة لمشاركة الرجل في علو مجده، وباذخ رفعته وسهل عليها التعالي في مطامعها الدنيئة حتى أفسدت المدنية الحديثة بقوى سلطانها ودنيء آرائها.
وقال اللورد بيرون: لو تفكرت أيها المطالع فيما كانت عليه المرأة في عهد قدماء اليونان لوجدتها في حالة مصطنعة مخالفة للطبيعة ولرأيت معي وجوب إشغال المرأة بالأعمال المنزلية مع تحسن غذائها وملبسها فيه، وضرورة حجبها عن الاختلاط بالغير. اهـ.(/3)
وقال سامويل سمايلس الإنجليزي: إن النظام الذي يقضي بتشغيل المرأة في المعامل مهما نشأ عنه من الثروة للبلاد، فإن نتيجته كانت هادمة لبناء الحياة المنزلية ؛ لأنه هاجم هيكل المنزل وقوَّض أركان الأسرة ومزّق الروابط الاجتماعية، فإنه يسلب الزوجة من زوجها والأولاد من أقاربهم صار بنوع خاص لا نتيجة له إلا تسفيل أخلاق المرأة، إن وظيفة المرأة الحقيقية هي القيام بالواجبات، مثل ترتيب مسكنها، وتربية أولادها والاقتصاد في وسائل معيشتها، مع القيام بالاحتياجات البيتية ولكن المعامل تسلخها من كل هذه الواجبات، بحيث أصبحت المنازل غير منازل، وأصبحت الأولاد تشب على عدم التربية وتلقى في زوايا الإهمال، وانطفأت المحبة الزوجية، وخرجت المرأة عن كونها الزوجة الظريفة، والقرينة المحبة للرجل وصارت زميلته في العمل والمشاق، وباتت معرضة للتأثيرات التي تمحو غالبا التواضع الفكري والأخلاقي الذي عليه مدار حفظ الفضيلة.
وقالت الدكتورة إيدايلين: إن سبب الأزمات العائلية في أمريكا وسر كثرة الجرائم في المجتمع هو أن الزوجة تركت بيتها لتضاعف دخل الأسرة فزاد الدخل وانخفض مستوى الأخلاق ثم قالت: إن التجارب أثبتت أن عودة المرأة إلى الحريم هو الطريق الوحيد لإنقاذ الجيل الجديد من التدهور الذي يسير فيه.
وقال أحد أعضاء الكونجرس الأمريكي: إن المرأة تستطيع أن تخدم الدولة حقا إذا بقيت في البيت الذي هو كيان الأسرة.
وقال عضو آخر: إن الله عندما منح المرأة ميزة إنجاب الأولاد لم يطلب منها أن تتركهم لتعمل في الخارج بل جعل مهمتها البقاء في المنزل لرعاية هؤلاء الأطفال.
وقال شوبنهور الألماني أيضا: اتركوا للمرأة حريتها المطلقة كاملة بدون رقيب ثم قابلوني بعد عام لتروا النتيجة ولا تنسوا أنكم سترثون معي الفضيلة والعفة والأدب. وإذا مت فقولوا: أخطأ أو أصاب كبد الحقيقة.
ذكر هذه النقول كلها الدكتور مصطفى حسني السباعي رحمه الله في كتابه (المرأة بين الفقه والقانون).
ولو أردنا أن نستقصي ما قاله منصفو الغرب في مضار الاختلاط الذي هو نتيجة نزول المرأة إلى ميدان أعمال الرجال لطال بنا المقال ولكن الإشارة المفيدة تكفي عن طول العبارة.
والخلاصة: أن استقرار المرأة في بيتها والقيام بما يجب عليها من تدبيره بعد القيام بأمور دينها هو الأمر الذي يناسب طبيعتها وفطرتها وكيانها، وفيه صلاحها وصلاح المجتمع وصلاح الناشئة فإن كان عندها فضل ففي الإمكان تشغيلها في الميادين النسائية كالتعليم للنساء، والتطبيب والتمريض لهن ونحو ذلك مما يكون من الأعمال النسائية في ميادين النساء كما سبقت الإشارة إلى ذلك. وفيها شغل لهن شاغل، وتعاون مع الرجال في أعمال المجتمع وأسباب رقيه كل في جهة اختصاصه، ولا ننسى هنا دور أمهات المؤمنين، رضي الله عنهن ومن سار في سبيلهن وما قمن به من تعليم للأمة وتوجيه وإرشاد وتبليغ عن الله سبحانه، وعن رسوله فجزاهن الله عن ذلك خيرا وأكثر في المسلمين اليوم أمثالهن مع الحجاب والصيانة والبعد عن مخالطة الرجال في ميدان أعمالهم.
والله المسئول أن يبصر الجميع بواجبهم، وأن يعينهم على أدائه على الوجه الذي يرضيه، وأن يقي الجميع وسائل الفتنة وعوامل الفساد ومكايد الشيطان إنه جواد كريم وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه.(/4)
خطوات عملية للإقلاع عن التدخين
أخي الحبيب …
لا بدّ أنّ طبيبك نصحك بالإقلاع عن التّدخين فبدأت تسأل نفسك لماذا تدخّن؟
إنّ التّّدخين عادة قبيحة تكلّف أموالاً باهظة وتوقع الضّرر في الجسم.كثيرون يدخّنون لمجرّد التّسلية فأصبحوا مدمنين ومعظم هؤلاء مرضى عصبيّاً.وكثيرون
يعتقدون أنّ التّدخين يرفع من قيمة الإنسان ويوصله إلى المجتمع الرّاقي.
أخي الحبيب …
أليس من المخجل أنّ بضع وريقات من التّبغ وكميّة صغيرة من النّيكوتين ملفوفة في ورقة رقيقة لها هذا التّأثير العظيم في حياتك .
أخي الحبيب …
سنقوم بمساعدتك للإقلاع عن التّدخين من خلال أربع خطوات:
الخطوة الأولى:
عليك أن تنقطع تماماً عن التدخين لأن التخفيف منه تدريجيّاً إلى حدّ الانقطاع ليس بالأمر السّهل .
في الأسابيع الأولى عليك أن تبتعد قدر الإمكان عن المدخّنين ، كي لا تعود إلى التّدخين لإرضاء صديق ولو بسيجارة واحدة.
الخطوة الثّانية:
عليك أن تهاجم التّدخين بكلّ أشكاله لأنّ ذلك يقوّي موقفك منه وكرهك له وقد يعتبر أصحابك المدخّنين أنّك أصبحت مزعجاً ولكن يتقبّلونك بعد حين.
الخطوة الثّالثة:
عليك أن تستحمّ مرة أو مرتين في البوم بالماء الحار ثمّ بالماء البارد المنعش فيساعدك ذلك على تقوية إرادتك وعندما تحنّ إلى السيجارة تناول الفاكهة أو علكة.
الخطوة الرّابعة:
عليك تنظيف رئتيك من رواسب التّدخين:
1- امشِ يوميّاً في الهواء الطّلق عدّة مرّات.
2- حاول أن تشرب كوب حليب طازج محلّى بالعسل يوميّاً فهذا يساعدك على تنظيف رئتيك.
3- أكثر من تناول الفاكهة والخضار الطّازجة لأنّها تساعد على التخلّص من سموم التّدخين وبالأخص المجفّف منها كالتّمر والزّبيب والتّين.
4- تناول خمس وجبات يوميّاً عوضاً عن ثلاث،فهذا يركّز مستوى السكّر في دمك إلى أن يعتاد جسمك تركيزه بنفسه دون النيكوتين.إيّاك أن تمارس الحمية خلال هذه
الفترة.
في النّهاية لا تتردّد لحظة واحدة في التّغلّب على هذه العادة السيّئة الّتي تهدم الجسد والنّفس،فالمكافأة على ذلك (حلقٌ سليم،لا سعال،لا خفقان مزعج في القلب،لا أعصاب منهارة،انتظام في النّبض،نفس غير كريه الرّائحة،أسنان بيضاء وجسمٌ مرتاح)عندها ترتاح وتصبح سيّد نفسك.(/1)
خطوات عملية للإنتصار لخير البشرية
الكاتب: الشيخ د.محمد بن موسى الشريف
إن الجريمة العظمى التي أقدم عليها رئيس وزراء الدانمرك وحكومته لا ينبغي أن تمر دون محاسبة.
وإنما قلت رئيس وزراء الدانمرك وحكومته لأنه هو المسؤول الأول عما يجري في بلاده ، ولأنه تهاون في هذه المسألة تهاوناً أدى به إلى رفض مقابلة وفد مسلمي الدانمرك ، ولأنه كاذب فيما يدعيه من حرية التعبير لأنه لو سُب المسيح عليه الصلاة والسلام هذا السب أو سُب البابا هذا السب لما قبل العالم كله منه هذا العذر المريض ، ولانتفض النصارى وغيرهم وحصل له ما لا يحمد عقباه لكن المسلمين لا بواكي لهم.
والذي ينبغي عمله في هذه النازلة الخطيرة عدة أمور ، منها :
1- عمل الحكومات الإسلامية :
أ - طرد السفير الدنمركي وإغلاق السفارة.
ب - قطع العلاقات السياسية مع الدنمرك.
ج- إيقاف استيراد البضائع الدنمركية ، والامتناع من تصدير أي سلعة إسلامية إليها.
وأنا أكتب هذا الكلام وأعلم أن غالب الدول الإسلامية سيقف موقف المتخاذل لأنها عودتنا على ذلك من قبل ، لكني أقول للحكومات محذراً ، إن الحكومة التي تتخاذل في نصرة خير البرية إنما تعرض نفسها لانتقام الله تعالى ، لأن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم هو خليل الرحمن ، والله تعالى يغار على انتهاك حرمته ولا شك، وأخشى أن الله تعالى سيصب غضبه على من تخاذل في نصرة حبيبه وخليله صلى الله عليه وسلم.
وبادرة المملكة في سحب سفيرها من الدنمرك خطوة أولى مهمة أرجو أن تتبعها خطوات أخرى.
2- عمل الشعوب والهيئات الشعبية :
إن من فضل الله تعالى على الشعوب أنها تستطيع عمل الكثير في مقاومة هذه الهجمة ، وعدد المسلمين مليار وثلث المليار ، وهذا عدد عظيم يستطيع لو اجتمع عشرة بالمائة منه على عمل شيء أن يغيروا عدداً من الموازين بإذن الله تعالى ، ومما يستطيع عموم المسلمين عمله هو الآتي :
أ - المقاطعة التامة لكل منتجات الدنمرك ، خاصة منتجات الحليب مثل زبدة لورباك ، وعدة أصناف من الحليب المجفف والسائل ، والجبن الدنمركي المنتشر في البلاد العربية ، وغير ذلك ، وقد صدرت عدة إعلانات من بعض الشركات في المملكة العربية السعودية أنها تقاطع المنتجات الدنمركية وأرسلت رسائل للسفارة ، وهذه بادرة جيدة.
والمقاطعة فعالة جداً ، وقد صدرت جملة من الفتاوى المحرمة للتعامل مع الأمريكان والبريطانيين ، وأحسب أن جرم الدنمرك الأخير لا يقل جرماً عن الأمريكان والبريطانيين. وليس للشعوب الإسلامية عذر في شراء المنتجات الدنمركية حيث يوجد لها بدائل كثيرة في الأسواق.
ب - إرسال رسائل الاستنكار الكثيرة إلى السفارات الدنمركية حول العالم الإسلامي وإلى الحكومة نفسها ، وهذه الرسائل إن بلغت حداً من الكثرة كبيراً فإنه يؤثر ، لأن الغرب يهتمون بهذه الرسائل التي تعبر عن الرأي العام.
ج- إقامة المحاضرات والدروس في نصرة خير البرية ، ولإعلام العوام بمنزلته الرفيعة عند الله وعند الناس.
د- مشاركة القنوات في الذب عن مقامه الرفيع صلى الله عليه وسلم ، وذلك عن طريق إقامة البرامج المخصوصة ، وتخصيص يوم كامل لاستقبال ملاحظات الناس ومناقشاتهم ، ومن أجل مشاركة العلماء والمشايخ في الرد.
هـ- إقامة حملة تبرعات كبيرة من خلال وسائل الإعلام وغيرها ، من أجل توفير مبلغ مالي كبير يخصص من أجل إقامة وقف عالمي كبير للدفاع عن خير البرية صلى الله عليه وسلم.
3- عمل المشايخ والعلماء :
وهؤلاء عليهم واجب كبير جداً في تحمل عبء هذه القضية ، وللأسف فإننا إلى الآن لم نجد ذلك الرد الجيد ، ومن أضعف الردود رد شيخ الأزهر الذي قال : إنه لا يصح الكلام في الأموات !!! وغضب عدد كبير من الناس من رده المتهافت هذا كتهافت أكثر كلامه وفتاواه ، ولم نسمع من مشايخ كثيرين ما ينبغي أن نسمعه في هذا الموقف الجليل.
لذا ينبغي أن يكون لهؤلاء المشايخ والعلماء وقفة كبيرة وصادقة عن طريق مشاركاتهم الفردية وعن طريق مؤسساتهم التي يشاركون فيها خاصة مؤسسات الإفتاء وكليات الشريعة وأصول الدين ، وهذا ينبغي إلا يُتردد فيه ولا يتوانى فيه.
4- عمل الدعاة :
وهؤلاء عليهم واجب عظيم في التعريف بمنزلته صلى الله عليه وسلم في العالم كافة، وعمل البرامج والخطب والمحاضرات في نصرته صلى الله عليه وسلم في وسائل الإعلام كافة ، وفي المساجد والمراكز.
5- عمل الأقليات المسلمة في الغرب :
وهؤلاء عليهم واجب كبير في البحث عن القوانين الغربية التي ترفض مثل هذه الإهانات ، وإن لم يوجد يسعى مفكرو وعلماء هذه الأقليات إلى تأسيس مثل هذه القوانين التي تحمي المسلمين وعلى رأسهم سيدهم صلى الله عليه وسلم من الإهانات المتكررة ، ومخاطبة الاتحاد الأوروبي وغيره بهذا حتى تصان حقوق المسلمين في المستقبل إن شاء الله تعالى.(/1)
وكذلك من واجب الأقليات المسلمة أن يقيموا سلسلة من البرامج والمحاضرات للتعريف بالإسلام وبنبي الإسلام عليه أفضل الصلوات والسلام ، وأن يجتهدوا في إيصال ذلك إلى الناس كافة في بلدانهم وبلغاتهم.
وختاماً أقول :
إننا إن لم نتحرك التحرك الكافي لمواجهة هذه الجريمة فسنهون على العالم أجمع ، وسيسهل على كل من يريد الهجوم على المسلمين بعد ذلك أن يقدم على ذلك بدون النظر في العواقب.
وأنا واثق من أننا إن قمنا بهذه الخطوات فسيخضع المغرورون في الدنمرك وغيرها ، وسيهرولون طلباً للاعتذار ، والله أعلم.
الله زاد محمداً تكريما*** وحباه فضلاً من لدنه عظيما
واصطفاه في المرسلين كريما*** ذا رأفة بالمؤمنين رحيما
صلوا عليه وسلموا تسليما
ما المطلوب من الدنمرك ؟
المطلوب من الدنمرك ما يلي :
أ - الاعتذار الواضح من قبل حكومة الدنمرك على هذه الإساءة.
ب - تقديم من قام بكبر الاستهزاء إلى المحكمة الدنمركية لتنظر في شأن العقوبة المناسبة الرادعة له ولأمثاله.
ج- وضع القوانين - الكفيلة بعدم تكرار ما حدث - في صلب القوانين الدنمركية.
فإن حدث هذا أو شيء يقاربه أو شيء بديل عنه فإنه ساعتئذ يراجع المسلمون شأن العلاقة مع الدنمرك وكيف تعود المياه إلى مجاريها.
هذا والله أعلم وأحكم ، وصلى اللهم وسلم على سيد الخلق محمد وآله وصحبه أجمعين ، والحمد لله رب العالمين.(/2)
خطوات عملية للرد على الإساءات للنبي
الدوحة- موقع القرضاوي/ 4-2-2006
اقترح الداعية الإسلامي الدكتور يوسف القرضاوي مجموعة خطوات عملية للمسلمين للرد على ما نشرته صحفية "جيلاندز بوستن" الدانماركية وصحف غربية أخرى من رسوم كاريكاتيرية مسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم، أبرزها قيام الحكومات العربية والإسلامية بالضغط على الهيئات الدولية لسن قوانين تحمي المقدسات والأنبياء ومقاطعة حكومات الدول التي تصدر بها تلك الصحف سياسيا واقتصاديا حيث كان رد فعل أغلبها سلبيا تجاه الأزمة.
وفي خطبة الجمعة بمسجد عمر بن الخطاب بالعاصمة القطرية الدوحة أمس، قال القرضاوي: نطالب "بسن قوانين تحمي المقدسات والأنبياء".
وتابع: "على حكومات الدول الإسلامية والعربية والشعوب الضغط على الهيئات الدولية لسن هذه القوانين، للحصول على اعتذار هذه الصحف، بل والسماح للمسلمين بالكتابة على صفحاتها لمدة شهر كامل للدفاع عن نبينا صلى الله عليه وسلم".
وأردف: "من واجبات الأمة حيال هذا الأمر أن يقوموا بمقاطعة بضائع كل من تجرأ على سب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن كل مال يذهب في هذه البضائع يذهب جزء منه إلى هؤلاء. وواجب الحكومات المقاطعة السياسية بسحب السفراء لدى الدانمارك، وإغلاق سفاراتها عندهم".
وأضاف أن "على الأمة الإسلامية أن تغضب وتغار لدينها ولرسولها وأن تظهر أنها لا تقبل ذلك بحال من الأحوال".
واعتبر أن "ذلك فرض عين على كل مسلم في أي مكان"، مستشهدا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من والده وولده والناس أجمعين".
وفي السياق نفسه حذر الشيخ القرضاوي الحكومات العربية من الانفصال عن شعوبها في هذا الموقف بقوله: "عليها أن تقف مع الشعوب في خندق واحد.. على المسلمين التكاتف والتماسك في وجه أعدائهم، وأن يثبتوا لهؤلاء أنهم من الممكن أن يردوا على الإساءة لنبيهم وكرامتهم".
أما بالنسبة للحكومات الغربية فقال: "إن عليهم أن يعرفوا أنهم بموقفهم المتخاذل أو المساند لهذا الجرائد أو حكوماتها إنما تصنع الإرهاب الذي تدعي أنها تحاربه، وإن لم تتحرك الحكومات فإن ذلك سيكون مدعاة للكثيرين بأن يقوموا بأنفسهم بالانتقام لنبيهم بأنفسهم، وهم بذلك يصنعون قاعدة جديدة للعنف".
كما دعا المسلمين "إلى عدم الخلط بين ما حدث وبين من يعيشون في بلادنا من النصارى".
واعتبر الدكتور يوسف القرضاوي أن ما قامت به الصحف الأوربية من نشر رسوم مسيئة "من أفظع الجرائم التي لا تخص شخصا بعينه بل تمس كرامة وشرف وهيبة أكثر من مليار مسلم، وأن على هؤلاء أن يردوا بما يتناسب مع قوتهم العددية".
ورفض القرضاوي تبريرات البعض أن ما نشرته الصحف من قبيل حرية الرأي والتعبير قائلا: "إن ذلك من قلة الأدب والذوق ولا يمكن أن نقبل لها أية تبريرات مهما كانت، وليس من الممكن أن يكون سب الناس بآبائهم وأمهاتهم من حرية الرأي ولا الديمقراطية".
وفيما يلي نص الخطبة:
كان المسلمون في الزمن الماضي لا يستطيع أحد أن يمس لهم طرفا، أو يؤذيهم بكلمة لأن الأمة كانت أمة، تستطيع أن تدافع عن نفسها، كانت تنصر بالرعب مسيرة شهر، واستشهد: بلغ عمر بن عبد العزيز أن أسيرا مسلما أهين في بلاد الروم، فكتب إلى ملك الروم يقول له بلغني أن مسلما أهين عندكم، فإذا بلغك كتابي هذا فخل سبيله وإلا غزوتكم بجنود أولها عندكم وآخرها عندي، ولم يملك ملك الروم إلا أن أطلق سراح الأسير المسلم، وذكر فضيلته قصة المرأة المشهورة التي لطمها رومي فقالت وهي في بلاد الروم: وامعتصماه ورد المعتصم حين بلغه صرختها: لبيك أختاه وجهز جيشا وكانت واقعة عمورية.
أمة لا وزن لها
وأضاف هكذا كنا، وأصبحنا الآن يستهان بحرماتنا، تداس كرامتنا، كأننا أمة لا وزن لها، أمة تبلغ مليارا وثلث مليار أو تزيد، تكاد تبلغ ربع العالم، لكنها أمة لا يهتم بها أحد، ولا يقيم أحد لها وزنا، تؤذي في مقدساتها، ومع ذلك كثيرا ما سكت، سدت أذنا من طين وأذنا من عجين، أهين القرآن وديس على المصحف وفُعل ما فعل، وسكتت الأمة إلى أن طفح الكيل وطغي الشيب وادلهم الليل وحاق الويل كل الويل، إلى أن أهين رسولنا محمد (صلى الله عليه وسلم) عيانا بيانا جهارا نهارا، كان ذلك في غرفات مغلقة؛ فالذين داسوا المصحف في جوانتانامو وغيرها لم يكن هناك أحد يراهم، أما أن يهان النبي محمد علنا وجهارا وفي الصحف، فهذا أمر لا يمكن أن تقبله الأمة بحال من الأحوال: هذه جريمة غير مسبوقة، لا نظير لها، جريمة كبرى، تقاس الجريمة وعظمها بمقدار المساء إليه والمعتدى عليه، فمن يسيء إلى المعلم غير من يسيء إلى التلميذ، ومن يسيء إلى الشيخ غير من يسيء إلى الشاب، فكيف بأعظم شخصية بشرية في الوجود، بسيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) الذي ختم الله به النبيين وختم برسالته الرسالات، وبعثه ليتمم مكارم الأخلاق وأرسله رحمة للعالمين وحجة على الناس أجمعين.(/1)
وتقاس الجريمة أيضا بمقدار من يتضرر بها، إنها ليست عائلة التي إذا أسيء لكبير العائلة أو إلى شيخ من شيوخ القبيلة تتضرر القبيلة.. هنا من المتضرر؟ إنها أمة محمد (صلى الله عليه وسلم) عربها وعجمها، سنتها وشيعتها، في مشارقها ومغاربها.
قال: ما الباعث على هذه الجريمة؟ وما الدافع إليها؟ إنها جريمة بلا مقدمات، بلا أسباب أراد رئيس تحرير الجريدة الدانماركية أن يستدعي الرسامين ليتخيلوا رسوما تخيلية لسيدنا محمد، تقاعس بعض الرسامين عن ذلك خشية أن يثير غضب المسلمين.
وما زالت الجريدة تحرض وتحرض حتى استجاب لها من استجاب، ونشرت اثني عشر رسما كلها في غاية الإسفاف، والتجريح لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، لا باعث ولا دافع، ولم يكن هناك سبب في الأجواء الدانماركية، كذلك فالمسلمون علاقاتهم طيبة بالحكومات وبالمجتمع الدانماركي.. ما الذي يدفع إلا الاستهانة بهذه الأمة، أمة من ورق، كأن أحدا لن يغضب من دوس هذه الحرمات بأقدامه...
غاية الإسفاف
ووصف الجريمة بأنها غير مبررة يقولون إنها حرية الرأي، وحرية التعبير عن الرأي هذا كذب، هذا افتراء: أي رأي هنا حتى نستطيع أن نناقشه ونحاجه بالرأي الآخر؟.
ليس هناك رأي، حين يقابلك ويقول: لعن الله أباك، هل هناك رأي تستطيع أن ترد عليه؟ هذا اعتداء علني.. إن هذه الجريمة لا يستطيع أن يدركها إلا من رأى هذه الرسوم.. كنت أظن أن الأمر هين حتى رأيت هذه الرسوم فُجن جنوني ونفد صبري وضاق صدري وثار غضبي.. إنها رسوم سيئة غاية في الإساءة، مسفة غاية الإسفاف.. لا يملك الحليم إلا أن يغضب إذا رأي هذه الرسوم، لا تبرير لهذا على الإطلاق.. هذا سباب علني، لذلك من الكذب الصراح والقبيح أن يقال إنها حرية الرأي، إذا كانت الحرية أن تقابل الناس في الطريق وتسبهم وتسب آباءهم وأمهاتهم وتقول هذا رأيي أعبر عنه، فهذا ليس من حرية الرأي في كثير ولا قليل، هذا سوء أدب، قلة أدب، من سوء السلوك ومن قيم التعامل مع الآخر المرفوضة من الأعراف والأخلاق والأديان، ويرفضها كل إنسان عنده أدب أو ذوق.
وأكد قائلا: رغم أنها جريمة غير مبررة، فقد قبل المسلمون في الدانمارك أن تعتذر الجريدة عن هذا الأمر، وأبت الجريدة أن تعتذر وقالت هذا من حريتنا، طلب واحد وعشرون سفيرا إسلاميا وعربيا في الدانمارك أن يقابلوا رئيس الوزراء فأبى أن يقابلهم، وقال هذا شأن دانماركي يتعلق بحرية الصحافة ولا شأن لنا به، لو أنهم في أول الأمر وقفوا في منتصف الطريق وقالوا: لا نقصد الإساءة ونحن نأسف لهذا وقبل لقاء السفراء لانتهى الأمر، لكنهم أصروا على الحنث العظيم.. وكانت النتيجة أنه بعد شهرين نشرت صحيفة نرويجية مرة أخرى، وبذلك اشتعلت النار من جديد...
وكان الناس قد نسوا قضية الدانمارك، فأعادتها هذه الصحيفة.. هنا رأى الإخوة في الدانمارك أن يعرضوا القضية على أمتهم كلها، الأمر ليس أمرهم، إن نبينا محمدا ليس ملكهم إن الإسلام ليس دينهم وحدهم، ولذلك أقول إنها جريمة كبرى.
وقال: ثم إن هذه الجريدة سنت سُنة سيئة عليها وزرها ووزر من عمل بها للصحف الأوربية، فأصبحت صحف أوربا تتنافس فيما بينها لإعادة نشر هذه الصور تضامنا مع الصحيفة الدانماركية، فنشرت صحيفة سويسرية وهولندية وإيطالية وألمانية وأسبانية وفرنسية، والـ بي بي سي في لندن، كل هذه نشرت الصور، حتى الفرنسية يملكها رجل قبطي مصري من رجال الأعمال، معروف رامي لكح، لكن الرجل قال لا أعلم بهذا وأقال رئيس تحرير الصحيفة وقال لا أقبل بهذا أبدا، وقيل لي إن وزارة الخارجية الفرنسية اعتذرت عما نشر في تلك الصحيفة.. فإن كان هذا صحيحا فنحن نبرئ فرنسا.. أما الدول الأوربية الأخرى فسيكون لنا موقف منها إذا لم تقف مثل موقف فرنسا، إذا لم تتبرأ من فعل صحفها.
الغضب فريضة
وتساءل د. القرضاوي: ما موقف أمتنا من هذه الجريمة؟ أن يعتدى على مقدساتها، على نبيها ورسولها وقد اعتدي من قبل على قرآنها؟ موقف الأمة يتحدد في هذه الأمور: أول شيء أن تغضب الأمة، أن تثور، لدينها، لربها، لقرآنها، لمحمدها، أن ترفض أن تقبل هذا بحال من الأحوال، الغضب هنا فضيلة، بل فريضة؛ فالصحابة ما كانوا يقبلون أي كلمة تمس رسول الله، يقولون: دعني يا رسول الله أضرب عنقه لأنه تطاول بكلمة على رسول الله، كان حب رسول الله جزءا من الإيمان ولا يزال، وجاء في الحديث: لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين.(/2)
وثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.. وحينما وقف بعض الصحابة على خشبة الصلب ليصلب في مكة قال له المشركون: أتحب أن يكون محمد في مكانك وأنت بين أهلك في مكة؟ قال والله لا أحب أن يكون رسول الله في مكاني تصيبه شوكة في قدمه، فقال أبو سفيان: ما رأيت أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا.. لا بد للأمة أن تغضب.. روي عن الإمام الشافعي أنه قال: من استغضب ولم يغضب فهو حمار، ونحن لسنا أمة من الحمير، لسنا حميرا تركب، بل نحن أسود تزأر، تغار على عرينها، تثأر لحرماتها.. أمة يجب أن تغضب لله ولرسوله ولكتابه، لا نقبل الهوان لديننا.. من أعطى الذلة من نفسه طائعا غير مكره فليس منا.
ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين، ولكن المنافقين لا يعلمون، لا بد أن نغضب ونرى العالم كيف تكون غضبتنا.. قَّبحَ الله من لا يغار.
وأشار إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا يدخل الجنة ديوث، قالوا من الديوث يا رسول الله قال: الذي يعلم القبيح على أهله ويسكت.. والنبي يقول: إن سعدا لغيور، وأنا أغير منه، والله أغير مني ولذلك حرم الفواحش، هناك دياثة في مجال الأسرة، وهناك دياييث في مجال الأمة، هناك دياييث يقبلون على أمتهم أن تهان، وعلى نبيهم أن يهان ولا يغارون ولا يغضبون! لسنا أمة من الدياييث، نحن أمة تغار على حرماتها وهذا يوم غضب لله ولرسوله ولكتابه ولكل أنبياء الله ورسله ولكل مقدسات الأديان.. فإذا فقدت الأمة الغضب فقدت حيويتها ومعناها ورجولتها.
والأمر الثاني الذي يجب علينا: أن نقاطع من استهان بحرماتنا وتعدى على نبينا عليه الصلاة والسلام: أن نقاطع منتجاته وبضائعه.. هذا أقل الواجب! فكيف أروج بضائع هؤلاء الذين يشتمونني ويهينون نبيي؟ وأعطي مالي لهم؟ إن كل ريال أو دينار أو جنيه أو فلس تدفعه إلى هؤلاء يتحول في محصلته إلى صحفهم وجرائدهم، يتحول إلى كلمات مؤذية أو رسوم مخزية، أو تعليقات مذرية تمس دينك ورسولك محمدا صلى الله عليه وسلم.. فهل تقبل هذا؟.
قبل ذلك رفضوا أن يعتذروا أو يقابلوا سفيرا، وحينما بدأنا بالمقاطعة بدءوا يلينون بالكلام ويعتذرون.. أين كان اعتذاركم في أول الأمر؟
ونحن حينما نطلب من الأمة أن تضغط على حكوماتها لتقف موقفا إيجابيا الأمر ليس هينا، إنه محمد عليه الصلاة والسلام، يجب أن تسحب الحكومات سفراءها من هذه الدول، يجب أن تشعرهم أننا نغضب لنبينا، نحن نحيي الحكومات: ليبيا والسعودية وسوريا، ومجلس النواب الكويتي الذي تبني علنا المقاطعة وأعلنها، نحيي مجلس الشعب المصري الذي أنكر هذا، نحيي غرفة الصناعة والتجارة في قطر، كما نحيي الجماهير الغاضبة في العالم العربي والإسلامي، لكننا نريد من الحكومات أن تستجيب لغضبة الجماهير وتقف موقفا إيجابيا حتى يعلم الجميع أن لحمنا ليس لحما سائغا، بل مسموما لا نستطيع أن نقبل الهوان في ديننا ولا لأمتنا بحال من الأحوال.
ودعا إلى أن تطلب الحكومات من الأمم المتحدة إصدار قرار أو قانون صريح يحرم بشكل قاطع إهانة الأنبياء، أنبياء الله ورسله وكتب الله المقدسة ومقدسات الأديان، بحيث لا يستطيع أحد مس هؤلاء بسوء، لقد أصدروا مثل هذا لحماية اليهود واليهودية، لا تستطيع أن تسخر من اليهود، فهم محميون بالقوانين التي تحمي السامية، لا يستطيع أحد أن يتحدث بكلمة في مناقشة أرقام المحرقة المزعومة الهولوكست، حتى لو كان يتحدث في رسالة ماجستير أو دكتوراة، ويناقش الأمر مناقشة علمية، لا يقبل منه هذا، جارودي حينما تحدث في هذا حكم عليه بالسجن بمقتضى القوانين: نحن نريد قوانين تحمي المقدسات والأنبياء، ونريد من الشعوب والجماهير أن تضغط على الحكومات لتقول للدانماركيين: يمكننا أن نتسامح معكم إذا اعترفتم بالدين الإسلامي وبالوجود الإسلامي عندكم وسمحتم للمسلمين بإقامة مساجدهم ومراكزهم أسوة بالبلاد الأوربية الأخرى، وسمحتم للمسلمين أن يردوا في هذه الجريدة عن عرض محمد صلى الله عليه وسلم وأن يسمح لهم عدة أشهر بالكتابة دفاعا عن هذا الرسول، وبيانا لفضائله ودعوته ورسالته إلى العالم.
لا تسبوا حتى الشيطان(/3)
وأضاف قائلا: نحن المسلمين لنا منهجنا المتميز الخاص: الإسلام يربي المسلم على عفة اللسان ونظافته، على الامتناع عن التعبير بالسباب لأي شخص لأي ظاهرة، حتى سب الأشياء، هكذا يقول النبي: لا تسبوا أصحابي، لا تسبن أحدا ولا تحقرنه، لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء، لا تسبوا الموتى فإنهم أفضوا إلى ما قدموا، لا تسبوا الحمى فإنها كفارة الخطايا، لا تسبوا الريح فإنها مأمورة، لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر، لا تسبوا الديك فإنه يوقظ للصلاة.. وأكثر من ذلك فالله تعالى يقول: "وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ"؛ فسب الأصنام يجرئهم على السب بسب مثله فيسبون الله عز وجل.. وأخطر من ذلك الحديث الشريف الذي يقول: لا تسبوا الشيطان وتعوذوا بالله من شره، تعويد المسلم الإيجابية وليس في القرآن: العنوا الشيطان أو سبوه، إنما فيه: استعذ بالله من الشيطان وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين.
وأشار إلى أن خلق المسلم ليس باللعان وأضاف: نحن لا نجرم سب محمد وحده، من سب نبيا من الأنبياء إبراهيم أو يعقوب أو موسى أو عيسى أو أي نبي من أنبياء بني إسرائيل فقد ارتكب جريمة من جرائم الردة إذا كان مسلما خرج من الإسلام نحن أول من يغار على من يسب عيسي عليه السلام أو أمه الصديقة عليها السلام، أما محمد (صلى الله عليه وسلم) فهذا له أمر آخر، فلا يسمح المسلمون بالتطاول عليه بحال من الأحوال لأنه رمز الأمة، من سب محمدا إن كان ذميا انتقض عهده وذمته، وأصبح مستباح الدم، وإن كان مسلما انتقض إسلامه وخرج من الملة وارتكب جريمة كبرى، حتى إن أكثر فقهاء المسلمين يقولون باستتابة المرتد، من ارتد عن الدين يجب أن تطلب توبته، تتاح له الفرصة ليتوب إلا من شتم الرسول، هذا لا تقبل منه توبة، لأنه ارتكب ما لا يُقبل الرجوع عنه، وألفوا في ذلك كتبا منها كتاب ابن تيمية الصارم المسلول على شاتم الرسول شتم الرسول كبرى الجرائم في الإسلام فكيف يسمح بسب الرسول علنا وفي الصحف وبصور غاية في الإفزاع والإيذاء؟ هذا أمر لا يقبل بحال من الأحوال.
تحذيرات مهمة
قال: أحب أن أوجه بعض التحذيرات: الأول إلى حكوماتنا المتخاذلة التي تتحسس موقف أمريكا: هي ترضى عنا إذا غضبنا هذه الغضبة قبل أن ترضى، يسترضون الناس قبل أن يسترضوا الله.. هذه الحكومات المتخاذلة نقول لها: في وقفة شجاعة اثبتي إنك مسلمة تغيرين على هذا الدين، فلا تنفصل عن شعوبها، فالجماهير في طول العالم الإسلامي وعرضه أثبتت موقفها وغضبها.
والتحذير الآخر أوجهه إلى الغربيين: إلى الأمريكان وإلى تبعهم من الأوربيين الذين يزعمون أنهم يقاومون العنف في العالم: أقول لهم: إنكم بسكوتكم على مثل هذه الجرائم التي تهين رسول الإسلام وتستهين بأمته الكبرى: إن هذا هو الذي يولد العنف، وهو الذي ينشئ الإرهاب، يجعل الإرهابيين يقولون إن حكوماتنا لا تفعل شيئا، فيجب أن نأخذ الثأر بأنفسنا، هذا ما يصنع الإرهاب ويولد العنف، لا بد أن تقفوا أيها الناس وقفة فيها إنصاف وشجاعة وقولة حق أمام هذه الإساءات والإهانات وإلا فأنتم قد اخترتم لأنفسكم أنتم تصنعون قاعدة جديدة، قواعد للعنف، حينما تستهينون بأمة الإسلام ومقدسات الإسلام وحرمات المسلمين.
وقال إن التحذير الثالث أوجهه لبعض المسلمين فبعض المسلمين ينتقمون من مثل هذه الأعمال بالذهاب إلى مواطنيهم من النصارى ليحرقوا كنائسهم أو يعتدوا على بعضهم، وهذا خطأ محض.. فهؤلاء الدانماركيون وأمثالهم لا هم نصارى ولا مسيحيون ولا أهل كتاب، معظمهم أناس لا دين لهم، دينهم اتباع الشهوات والفواحش ومنها فاحشة قوم لوط ويرون أن لهم الحرية في كل شيء، فهؤلاء ليسوا نصارى حتى ننتقم من النصارى عندنا، ثم إن النصارى عندنا يستنكفون هذه الأمور ويستنكرونها كما رأينا رامي لكح يستنكر هذا وقال أنا أحترم الأديان وأحترم الإسلام ولا أقبل الإهانة لأي دين فلا يجوز لنا أن نعتدي على مواطنينا ولا شعائرهم أو مقدساتهم فهذا هو العمل الخطأ.(/4)
وقال: إذا وقفت أوربا مع هؤلاء وأصرت على أن تتضامن معهم فنحن أيضا نتضامن لمقاطعة هؤلاء، والله تعالى يقول والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير إذا والى بعضهم بعضا وساند بعضهم بعضا ولكنكم إن لم تساندوا وتوالوا بعضكم بعضا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير، فلا بد أن تقف الأمة الإسلامية وقفة الرجولة، نقول لهؤلاء الأوربيين نحن نستطيع أن نستغني عنكم وأنتم لا تستطيعون أن تستغنوا عنا، نستغني عن بضائعهم ونشتري من اليابان وكوريا وهونج كونج من ماليزيا، ونقول ما قال الملك فيصل رحمه الله في 1973 نحن نستطيع أن نستغني عن البترول ونعود لحياتنا الأولى نكتفي باللبن والتمر، حينما هددت الكرامة العربية، فإذا هددنا في نبينا وديننا نقول: نكتفي بأقل القليل: نعيش على الكفاف.. وهذه هي أمة الإسلام، نحن مدافعون لا نعتدي على أحد، فهل يلام الإنسان إذا دافع عن نفسه؟.(/5)
خطيب العالم
الكاتب: الشيخ د.سلمان بن فهد العودة
في الصحيح عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)، صَعِدَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الصَّفَا؛ فَجَعَلَ يُنَادِي: يَا بَنِي فِهْرٍ, يَا بَنِي عَدِيٍّ, لِبُطُونِ قُرَيْشٍ حَتَّى اجْتَمَعُوا, فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولًا لِيَنْظُرَ مَا هُوَ, فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ, فَقَالَ: "أَرَأَيْتَكُمْ, لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟".
قَالُوا: نَعَمْ, مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقًا.
قَالَ: "فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ!".
فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ, أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ فَنَزَلَتْ (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ).
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذه الخطبة أيضاً : (يَا بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ, أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ, يَا بَنِي مُرَّةَ بنِ كَعْبٍ, أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ, يَا بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ, يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ, يَا بَنِي هَاشِمٍ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ, يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ, يَا فَاطِمَةُ، أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنْ النَّارِ؛ فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلَالِهَا). رواه مسلم.
هكذا كانت أشهر خطب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبها انتقلت الدعوة من السر إلى العلن، كانت تبليغاً وإنذاراً وتبشيراً بكلمات قلائل، ووقت يسير، ولم تأخذ هذه الخطبة وقتا ً طويلا ً ولاشرحا ً مملاً، ولا سجعاً متكلّفاً مما تنوء به بعض الخطب.
بهذه الخطبة أوجز النبي -صلى الله عليه وسلم كلامه-، وأُوتي في كل حديثه جوامع الكلم, واختصر له الكلام اختصاراً, ومع أهمية هذه الخطبة وتاريخيّتها ودورها في فجر هذا الدين الإسلامي؛ فإنها لم تتشعب في التفاصيل, ولم تسهب في الشرح؛ فهي خطبة عظيمة لعظم المعنى الذي تحمله، والألفاظ التي عبّرت عن هذا المعنى، وجزالة الحرف، وصدق اللهجة, وشرف الموقف.
ومثل ذلك كانت خطبه -صلى الله عليه وسلم-، ولقد تعجبت يوم اطلعت على كتب السنة المعروفة؛ كالصحيحين, والسنن وغيرها, فلم أجد تلك الخطب الطويلة، والأحاديث المسهبة، وما يمكن وصفه بالطول تجد أن له متعلقاً بقصة أو معركة، فخطبته -صلى الله عليه وسلم- كلمات معدودة، لكنها تمتاز بخصائص نموذجية عالية مثل (الشمولية) في المعالجة للموضوعات المختلفة في شتى شؤون الحياة والعلم والدعوة, والسياسة والفقه, والعسكرية والإيمان؛ فهي ليست وعظاً محضاً مجرّداً، بل يمتزج فيها الترغيب بالترهيب، والقصة بالعبرة، والحدث بالتحليل، والماضي بالحاضر بالمستقبل، وقضايا الإيمان واليقين بمسائل التشريع والتوجيه والتربية.
في لغة سهلة قريبة يفهمها الجميع، ولم تكن خطاباً خاصاً موجّهاً للنُّخبة أو العِلية، ولا لشريحة معينة؛ فالصغار والبسطاء والعامة مخاطبون بشكل مباشر, ولهم أهميتهم وقدرهم في خطاب لا تستهلكه الأحداث عن التوجيه والتربية العامة، كما لا يغيب عنها طرفة عين، كيف؟ و هو الصانع الرئيس لأهم الأحداث عليه السلام، والمشارك الأساس للناس في همومهم ومعايشة أدق التفاصيل في حياتهم.
ومن أعمق الملاحظات في وصف خطبه -صلى الله عليه وسلم- القول بأنها لغة (حواريّة)؛ ممتلئة بكل أشكال تفاعل الناس والتفاعل معهم، والكثير الكثير من خطبه تجد أن أحداً يقوم فيسأل, وآخر يقوم فيستشكل، وثالث يشكو, ورابع يحكي..
وفي الصحيحين -فقط - من ذلك شيء عجيب, مثل حديث أنس, حينما كان -صلى الله عليه وسلم- يخطب, فدخل رجل فقال: يا رسول الله، ألا تستسقي لنا؟!
فاستسقى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسقاهم الله, ثم في الجمعة القادمة دخل رجل؛ فقال: يا رسول الله! ادعُ الله أن يمسكه عنا (أي : المطر).
ففعل صلى الله عليه وسلم، فأمسكه الله.
وفي خطبة عيد الأضحى, قام أبو برزة فقال: يا رسول الله، إني ذبحت عناقاً.. الخ
وما أكثر الذين يقومون أو يدخلون من باب مسجده؛ فيسألونه وهو يخطب.(/1)
ومن ألطف هذا التفاعل نزوله صلى الله عليه وسلم من منبره وقد- أَقْبَلَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ - رضي الله عنهما - عَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَعْثُرَانِ وَيَقُومَانِ, فَنَزَلَ فَأَخَذَهُمَا, فَصَعِدَ بِهِمَا الْمِنْبَرَ ثُمَّ قَالَ: "صَدَقَ اللَّهُ (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ) رَأَيْتُ هَذَيْنِ فَلَمْ أَصْبِرْ". ثم أكمل خطبته .كما عند أهل السنن وأحمد.
وهو صلى الله عليه وسلم بدوره كان يسأل ويوجّه, ويقيّم الذين لم يؤدوا تحية المسجد، ليعلم الناس أن هذه الخطب النبوية الشريفة تعايش واقع الناس, وتفهمه, وتوجّهه إلى أرشد سبيل وأقوم نهج, بأسلوب علمي وعملي, دون أن تلحقه آفات التجريد والتنظير التي شُغل بها بعض المعاصرين، أو سيئات التحزّب والتصعيد التي فُتن بها آخرون, وطريق الاعتدال هو بين الغياب عن هموم الناس وأحداثهم وبين أن تستهلكه مجموعة من الأحداث التي تفقده توازنه وتماسكه.
وأذكر لمّا دخل النظام البعثي الكويت صلّيت الجمعة مع أحد الخطباء، وكان الناس ينتظرون توجيهه حول الحدث والتعليق عليه، لكن فوجئت وفوجئ المستمعون بأنه كان يتحدث عن عذاب القبر, ولا أحد يقلل من قيمة الحديث عن ذلك, ولكن الموقف كان يستدعي نوعاً من الكلام المختلف، يتطلب شيئاً من التوعية والإضاءة للناس، فلو تكلم عن الإيمان أو التوكل أو الصبر أو أي شيء قريب من ذلك يمكن ربطه بالحدث؛ لكان أقرب إلى عقول الناس وحديثهم.
إن على من يريد توجيه الناس وإصلاحهم وبث الوعي الإيجابي فيهم، ودعوتهم للإسلام أن يطالب نفسه باستخدام لهجة يفهمها الناس ويعرفونها، واستعمال أسلوب يتعاطى مع حسهم قبل أن يصف الناس بقلة الفهم وانحطاط الوعي والإدراك، وقبل أن يصفهم بالبعد عن الدين والعلم.
إن اللغة السهلة القريبة الرقيقة هي جسر التواصل بين الخطباء والناس؛ فتأهيل الخطيب بفقه عام لأحوال الناس ولغتهم بُنْيةٌ أساسية لتحقيق فهم الناس للخطبة أولاً، وتفاعلهم واستجابتهم لها ثانياً، وهذا التأهيل أو قريب منه هو الذي اعترف به قوم صالح لنبيهم صالح عليه السلام،حين قالوا عنه: (يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا).[سورة هود:62]، لقد كان (مَرْجُوًّا) لأنهم يعرفونه, وعاش معهم لحظات الوجود أولاً بأول، فكان خطابه محرجاً للجميع؛ لأنه جاء بالحق والدين والإيمان في واقع يعرفه جيداً, و لأناس هم قومه الذين عرفهم وعرفوه فكان (مَرْجُوًّا) فيهم.
ورسولنا -صلى الله عليه وسلم- خير من أثبت في خطبته معنى الاهتمام بمخاطبة الناس, حتى إنه كان يفرق صلى الله عليه وسلم بين فئات المجتمع, ويدرك الفروق، وفي الصحيحين قصة خطبته للنساء, ووعظه لهن, وتفاعل النساء وأسئلتهن له صلى الله عليه وسلم؛ فالنساء تقوم, فتسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتستفسر وتستوضح في جو من التفاهم بديع.
وحتى منبره صلى الله عليه وسلم كان أرفع من الناس قليلا ً, ليكون أقرب لشدّ انتباه الناس, واسترعاء اهتمامهم.
وكذا صوته صلى الله عليه وسلم فلم يكن على وتيرة واحدة، فالطريقة الواحدة تبعث الإنسانَ على الملل، فكان يرفع صوته ويخفضه، ولذا كانت خطبة الجمعة خطبتين, بينهما جلسة قصداً لتيسير فهم الخطبة, والاستجابة لها.
ويقول جابر : كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا خطب يرفع صوته ويخفضه, ويحمرّ وجهه, وتنتفخ أوداجه؛ كأنه منذر جيش يقول: صبَّحكم ومسَّاكم. رواه مسلم وابن ماجه وغيرهما.
وبالطبع فهذه ليست كل أحواله في خطبه، فهي تختلف في احتياجها لمثل هذا الشعور؛ فالموضوع والحدث يفرض أحياناً نوعاً من الاهتمام يختلف عن موضوع وحدث آخر.
لكن: بهذه الأوصاف جميعاً تدرك دقة المتابعة, ورقي الإحساس النبوي في الخطبة، وترى في الوقت ذاته غفلة بعض الخطباء عن هذه المعاني والأوصاف، وترى بُعدهم عن الهدي النبويّ, فتشاهد إما طولا ً مفرطاً, أو لغة رديئة، أو بعداً عن هموم الناس ومشاعرهم، أو ركاكة في التعبير، أو انفعالاً يبتعد عن سبيل الاعتدال الذي هو سمة هذه الأمة حين تُخاطب الناس, لتكون شهيدة عليهم, ومبلغة لرسالة الدين والحق, على خُطا نبيها محمد صلى الله عليه وسلم: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا).[سورة البقرة:143].(/2)
خفايا وأسرار
جريدة الوفاق الإلكترونية
لم يكن فقط يوحنا بولس الثاني، أصغر بابا يتولى هذا المنصب في تاريخ الفاتيكان، في القرن العشرين بل هو أول" بابا" غير إيطالي منذ 450 عاماً، لذلك ينظر على أنه " غريب" على المنصب، لأصله البولندي، ولكن الأخطر من كل ذلك " المخططات" الخطيرة التي تبناها الرجل، وحمل مسؤولية القيام بها وهي" تنصير القارة الأفريقية"، وإعلاناته المتكررة في التسعينات من القرن الماضي بأنه " لن يحل عام 2000 الميلادي إلا وتكون أفريقيا قارة نصرانية"، وهو الحلم الذي لم يحققه !!
ولكن البابا نجح في إعادة أوروبا الشرقية إلى نصرانيتها التي فقدتها خلال العقود الشيوعية، ولعل الجميع يذكرون زيارته الأولى لبولندا بعد سقوط الشيوعية، ولذلك يطلق عليه بأنه " رجل أفعال لا أقوال" وأكثر " بابا" في تاريخ الفاتيكان يقوم بجولات خارجية وكلها مكرسة للتنصير.
وإذا كان اللغط الآن يدور حول من سيخلفه في منصب البابوية بعد تدهور حالته الصحية ودخوله المستشفى و" الأسرار" التي يحاط بها مرضه، فإن الدفعة التي أعطاها البابا للفاتيكان عالميا وللكنائس الكاثوليكية سوف تستمر وبقوة، وسوف تستمر مخططات التنصير التي يقودها..
ومسيرة وتاريخ يوحنا مليء بالفجوات والمحطات بدأت منذ ولادة الطفل " كارول فويتيلا" في قرية فادوفيتش جنوب بولندا، والذي كان والده ضابط بالجيش، وأثرت عليه التربية الصارمة إلى أن أصبح أصغر بابا في تاريخ الفاتيكان، فقد تجرع الطفل اليتم والمعاناة بعد أن توفيت أمه وأخوه قبل أن يبلغ الـ 14 سنة..
وكشاب كان فويتيلا يعشق الرياضة، ومنها كرة القدم والتزحلق على الجليد، كما كان يحب التمثيل والمسرح وكان في سن المراهقة حينما اجتاحت الدبابات الألمانية بولندا عام 1939م.
وخلال الحرب العالمية الثانية والاحتلال النازي اشتغل فويتيلا كعامل بينما كان يدرس اللاهوت سرا.
وفي عام 1944م عقب حملة على التعليم الديني اضطر فويتيلا لاختباء، وأرسل الكثير من أصدقائه لمعسكرات الاعتقال وواصل فويتيلا دراسته بعد الحرب، ورسم قساً في عام 1946م، وبحلول عام 1964م وصل إلى منصب رئيس أساقفة كراكوف وأصبح كاردينالا بعد ذلك بثلاث سنوات واهتم الإعلام الغربي لمواقفه من الشيوعية.
لقد جاء اختيار كارول فويتيلا غير متوقع لتولى البابوية حينما انتخب للمنصب عام 1978م، ولم يكن قد تجاوز الثامنة والخمسين من عمره.
وكان فويتيلا هو أول بابا غير إيطالي منذ 450 عاما وكان ينظر إليه على انه غريب على المنصب، وقد تولى البابوية تحت أسم يوحنا بولس الثاني.
وبين أولى زياراته زيارة قام بها لمسقط رأسه بولندا- وكانت أول زيارة بابوية لبلد تحت حكم شيوعي، غير أن زيارته شجعت الناس وساعدت في زرع بزار الثورة التي قدر لها الميلاد بعد ذلك بعشر سنوات، وبعد اثنين ضعفاء في المنصب، نظر إلى يوحنا بولس الثاني على أنه رجل أفعال.
وأصبح يوحنا بولس الثاني أكثر بابا يقوم بجولات خارجية في التاريخ، وقد حذره مستشاروه من أن نفوذه المتنامي قد يجعله هدفاً للاغتيال، غير انه لم يقلل من ظهوره بشكل عام.
وفي 13 يوليو 1981م، تعرض لإطلاق النار وأصيب برصاص أطلقه عليه أحد الشباب ألأتراك في ساحة القديس بطرس بينما كان يميل لتحية الجماهير.
وبعد فترة طويلة من التعافي التقى البابا مع التركي محمد على أغا الذي أطلق عليه الرصاص، وأعلن له عن صفحه.
وفي مايو 2000م كشف الفاتيكان عن أن ثلاثة أطفال في البرتغال شاهدوا عام 1917م رؤية كانت بمثابة نبوءة بمحاولة الاغتيال.
وأطلق على ذلك السر الثالث من أسرار فاتيما- نسبة للبلدة بالبرتغال التي ينتمي إليها الأطفال الثلاثة- وهو الامر الذي أبقي طي الكتمان لعقود، وتم الكشف عنه تزامنا مع زيارة للبابا لضريح فاتيما.
وقد تم تشديد الأمن المحيط بالبابا منذ محاولة اغتياله عام 1981م، واشتهر البابا خلال جولاته الخارجية العديدة بالعربة البابوية التي تنقله، وأمكن للبابا الوقوف داخل العربة البابوية المحاطة بالزجاج المضاد للرصاص، حيث تشاهده الحشود التي يبادلها التحية، وقد شهد البابا الكثير من التغيرات السياسية في العالم بما فيها سقوط الشيوعية في شرق أوروبا ونهاية نظام الأبارتيد بجنوب أفريقيا.
وفي سبتمبر 1995م زار البابا جنوب أفريقيا ، وفي السنوات الأخيرة زادت المتاعب الصحية للبابا بسبب التهاب المفاصل وداء باركينسون ( الشلل الرعاش)، وقد أجريت له جراحة في الفخذ في أبريل 1994م، وقد سقط مغشياً عليه خلال رحلة لفرنسا عام 1996م ولكنه واصل رحلاته بشكل مكثف.
وفي يناير 1998م زار البابا كوبا وكان فيدل كاسترو في استقباله، وهو الزعيم الشيوعي للبلد الكاثوليكي تقليدياً.
وشملت زيارات البابا العديد من الدول الإسلامية منها مصر والأردن وموريتانيا والسؤال هل تنتهي مخططات البابا بانتهاء حياته أم تبدأ..؟!(/1)
خلاصة القول في بيان ليلة القدر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :
هذا ما يسره الله تعالى في جمع ما قيل في ليلة القدر من الفضائل والحث على تحريها ، وذكر الأحاديث التي جاءت في بيان وتحديد أي الليالي هي ، والجمع بين هذه الأحاديث ، ونسأل الله تعالى القبول ، وأن يجعلنا وإياكم من أهلها .
نوه الله تعالى بشأن ليلة القدر وسماها بليلة القدر قيل : لأنها تقد فيها الآجال والأرزاق وما يكون في السنة من التدابير الإلهية .
قال النووي : قال العلماء سميت ليلة القدر لما تكتب فيها الملائكة من الأقدار لقوله تعالى ((فيها يفرق كل أمر فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ )) [1]
وقيل سميت ليلة القدر من باب التعظيم لأنها ذات قيمة وقدر ومنزلة عند الله تعالى لنزول القرآن فيها كما قال تعالى ((إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ))[2] .
وقيل سميت بليلة القدر لما يقع فيها من تنزل الملائكة ، ولما ينزل فيها من البركة والرحمة والمغفرة ، وأن الذي يحييها يصير ذا قدر ، ولأن الأرض تضيق فيها عن الملائكة .
ولقد نوه الله تعالى بشأنها فقال سبحانه ((إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ، تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ، سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ))[3] .
أي أن العمل في هذه الليلة المباركة يعدل ثواب العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر ، وألف شهر ثلاثة وثمانون عامًا وزيادة ، فهذا مما يدل على فضل هذه الليلة العظيمة ، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحراها ويقول (( مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ))[4]
وأخبر سبحانه وتعالى أنها تنزل فيها الملائكة والروح ، وهذا مما يدل على عظم شأنها وأهميتها لأن نزول الملائكة لا يكون إلا لأمر عظيم ((تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ)) .
وصح الحديث بذكر هذه الكثرة فعن أَبِي هُرَيْرَةَ (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ إِنَّهَا لَيْلَةُ سَابِعَةٍ أَوْ تَاسِعَةٍ وَعِشْرِينَ ، إِنَّ الْمَلائِكَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فِي الأَرْضِ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ الْحَصَى ))[5]
ثم وصفها الله تعالى بأنها ((سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)) وهذا يدل على ما فيها من خير عميم وبركة عظيمة ، وفضل ليس له مثيل ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم (( أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ ، وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ ، لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ ))[6] وعند ابن ماجه (( دَخَلَ رَمَضَانُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ قَدْ حَضَرَكُمْ وَفِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ، مَنْ حُرِمَهَا فَقَدْ حُرِمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ ، وَلا يُحْرَمُ خَيْرَهَا إِلا مَحْرُومٌ ))[7] .
قال الإمام مالك رحمه الله : أَنَّهُ سَمِعَ مَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيَ أَعْمَارَ النَّاسِ قَبْلَهُ أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ فَكَأَنَّهُ تَقَاصَرَ أَعْمَارَ أُمَّتِهِ أَنْ لا يَبْلُغُوا مِنْ الْعَمَلِ مِثْلَ الَّذِي بَلَغَ غَيْرُهُمْ فِي طُولِ الْعُمْرِ فَأَعْطَاهُ اللَّهُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ .[8]
معنى إيمانًا واحتسابًا :
علق الله تعالى نيل المغفرة في ليلة القدر على هذين الشرطين (( الإيمان والاحتساب )) ومعنى ذلك :
إيماناً : تصديقاً بثواب اللّه أو أنه حق ، أي الإيمان بأنه من أمر الله ومن أمر رسوله صلى الله عليه وسلم ، والإيمان بحقيقة هذا الثواب .
واحتساباً : لأمر اللّه به طالباً الأجر من وراء هذا العمل ، أو إرادة وجه اللّه لا لنحو رياء فقد يفعل المكلف الشيء معتقداً أنه صادق لكنه لا يفعله مخلصاً بل لنحو خوف أو رياء .
ذكر الأحاديث التي جاءت في تحديد ليلة القدر :
الأحاديث التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحري ليلة القدر جاءت على ثلاثة أوجه نذكرها فيما يلي :
الوجه الأول : الحث على التماسها في الليالي الفردية من العشر الأواخر :(/1)
ـ (( عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الأَوَّلَ مِنْ رَمَضَانَ ، ثُمَّ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الأَوْسَطَ فِي قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ عَلَى سُدَّتِهَا حَصِيرٌ ، قَالَ : فَأَخَذَ الْحَصِيرَ بِيَدِهِ فَنَحَّاهَا فِي نَاحِيَةِ الْقُبَّةِ ثُمَّ أَطْلَعَ رَأْسَهُ فَكَلَّمَ النَّاسَ فَدَنَوْا مِنْهُ فَقَالَ : إِنِّي اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الأَوَّلَ أَلْتَمِسُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ، ثُمَّ اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الأَوْسَطَ ، ثُمَّ أُتِيتُ فَقِيلَ لِي إِنَّهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَعْتَكِفَ فَلْيَعْتَكِفْ فَاعْتَكَفَ النَّاسُ مَعَهُ ، قَالَ : وَإِنِّي أُريْتُهَا لَيْلَةَ وِتْرٍ وَإِنِّي أَسْجُدُ صَبِيحَتَهَا فِي طِينٍ وَمَاءٍ ، فَأَصْبَحَ مِنْ لَيْلَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَقَدْ قَامَ إِلَى الصُّبْحِ فَمَطَرَتْ السَّمَاءُ فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ ، فَأَبْصَرْتُ الطِّينَ وَالْمَاءَ فَخَرَجَ حِينَ فَرَغَ مِنْ صَلاةِ الصُّبْحِ وَجَبِينُهُ وَرَوْثَةُ أَنْفِهِ فِيهِمَا الطِّينُ وَالْمَاءُ ، وَإِذَا هِيَ لَيْلَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ مِنْ الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ ))[9]
ـ (( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا ، وَأَرَانِي صُبْحَهَا أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ ، قَالَ : فَمُطِرْنَا لَيْلَةَ ثَلاثٍ وَعِشْرِينَ ، فَصَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْصَرَفَ وَإِنَّ أَثَرَ الْمَاءِ وَالطِّينِ عَلَى جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ ؛ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ يَقُولُ ثَلاثٍ وَعِشْرِينَ ))[10]
ـ (( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمْ وَسَأَلُوهُ عَنْ لَيْلَةٍ يَتَرَاءَوْنَهَا فِي رَمَضَانَ قَالَ : لَيْلَةُ ثَلاثٍ وَعِشْرِينَ ))[11] ، وعند الطبراني (( تحروا ليلة القدر ليلة ثلاث و عشرين ))[12]
كما ورد أنها في ليلة الخامس والعشرين ، وذلك لأن القرآن الكريم نزل في هذه الليلة الكريمة كما صح بذلك الحديث ، وقد قال تعالى ((إنا أنزلناه في ليلة القدر)) .
ـ (( عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَع ِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : أُنْزِلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ ، وَأُنْزِلَتْ التَّوْرَاةُ لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ ، وَالإِنْجِيلُ لِثَلاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ ، وَأُنْزِلَ الْفُرْقَانُ لأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ ))[13] .
ـ (( عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ ؟ فَقَالَ : هِيَ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ أَوْ فِي الْخَامِسَةِ أَوْ فِي الثَّالِثَةِ ))[14] .
ـ (( عن معاوية رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : التمسوا ليلة القدر ليلة سبع وعشرين ))[15] .
ـ (( عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ قَالَ : لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ ))[16]
ـ (( عن عُبَادَة بْنُ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يُخْبِرُ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ فَتَلاحَى رَجُلانِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، فَقَالَ : إِنِّي خَرَجْتُ لأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ ، وَإِنَّهُ تَلاحَى فُلانٌ وَفُلانٌ فَرُفِعَتْ ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ ، الْتَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ وَالتِّسْعِ وَالْخَمْسِ ))[17]
ـ (( عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : قُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ ثَلاثٍ وَعِشْرِينَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ الأَوَّلِ ، ثُمَّ قَالَ : لا أَحْسَبُ مَا تَطْلُبُونَ إِلا وَرَاءَكُمْ ، ثُمَّ قُمْنَا مَعَهُ لَيْلَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ ، ثُمَّ قَالَ : لا أُحْسَبُ مَا تَطْلُبُونَ إِلا وَرَاءَكُمْ ، فَقُمْنَا مَعَهُ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ حَتَّى أَصْبَحَ وَسَكَتَ ))[18].
الفلاح : يعني السحور .(/2)
ـ (( عن زر بْنَ حُبَيْشٍ قال : سَأَلْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقُلْتُ : إِنَّ أَخَاكَ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ مَنْ يَقُمْ الْحَوْلَ يُصِبْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ؟ فَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَرَادَ أَنْ لا يَتَّكِلَ النَّاسُ ، أَمَا إِنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ وَأَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ ، وَأَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ ، ثُمَّ حَلَفَ لا يَسْتَثْنِي أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ ، فَقُلْتُ : بِأَيِّ شَيْءٍ تَقُولُ ذَلِكَ يَا أَبَا الْمُنْذِرِ ؟ قَالَ : بِالْعَلامَةِ أَوْ بِالآيَةِ الَّتِي أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا تَطْلُعُ يَوْمَئِذٍ لا شُعَاعَ لَهَا ))[19] .
ـ (( عن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : رَأَى رَجُلٌ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَرَى رُؤْيَاكُمْ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ فَاطْلُبُوهَا فِي الْوِتْرِ مِنْهَا ))[20] .
ـ (( عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُلْتَمِسًا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَلْيَلْتَمِسْهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ وِتْرًا ))[21]
الوجه الثاني من الأحاديث : هو تحري ليلة القدر في الليالي الزوجية :
ـ عن معاوية رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم : التمسوا ليلة القدر آخر ليلة من رمضان ))[22] .
وهذا يحتمل أن تكون هذه الليلة زوجية أو فردية .
ـ (( عن أبي نضرة عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَشْرَ الأَوْسَطَ مِنْ رَمَضَانَ يَلْتَمِسُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ قَبْلَ أَنْ تُبَانَ لَهُ ، فَلَمَّا انْقَضَيْنَ أَمَرَ بِالْبِنَاءِ فَقُوِّضَ ، ثُمَّ أُبِينَتْ لَهُ أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ فَأَمَرَ بِالْبِنَاءِ فَأُعِيدَ ، ثُمَّ خَرَجَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهَا كَانَتْ أُبِينَتْ لِي لَيْلَةُ الْقَدْرِ وَإِنِّي خَرَجْتُ لأُخْبِرَكُمْ بِهَا فَجَاءَ رَجُلانِ يَحْتَقَّانِ مَعَهُمَا الشَّيْطَانُ فَنُسِّيتُهَا ، فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ الْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ .
قَالَ قُلْتُ : يَا أَبَا سَعِيدٍ إِنَّكُمْ أَعْلَمُ بِالْعَدَدِ مِنَّا ، قَالَ : أَجَلْ نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْكُمْ ، قَالَ قُلْتُ : مَا التَّاسِعَةُ وَالسَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ ؟
قَالَ : إِذَا مَضَتْ وَاحِدَةٌ وَعِشْرُونَ فَالَّتِي تَلِيهَا ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَهِيَ التَّاسِعَةُ فَإِذَا مَضَتْ ثَلاثٌ وَعِشْرُونَ فَالَّتِي تَلِيهَا السَّابِعَةُ فَإِذَا مَضَى خَمْسٌ وَعِشْرُونَ فَالَّتِي تَلِيهَا الْخَامِسَةُ ))[23] .
فهذا تفسير أبي سعيد رضي الله عنه بأنها في الليالي الزوجية ، وهو الذي روى حديث ليلة الحادي والعشرين كما تقدم ، مما يدل على أن ليلة القدر قد تكون في الليالي الزوجية أيضًا .
ـ (( عن ابْن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ هِيَ فِي تِسْعٍ يَمْضِينَ أَوْ فِي سَبْعٍ يَبْقَيْنَ يَعْنِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ ؛ وَعَنْ خَالِدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : الْتَمِسُوا فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ ))[24]
وفي هذا الأثر قصة رواها عَبْد الرَّزَّاق عَنْ مَعْمَر عَنْ قَتَادَةَ وَعَاصِم أَنَّهُمَا سَمِعَا عِكْرِمَة يَقُول :
قَالَ اِبْن عَبَّاس : دَعَا عُمَر أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُمْ عَنْ لَيْلَة الْقَدْر , فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا الْعَشْر الأَوَاخِر , قَالَ اِبْن عَبَّاس : فَقُلْت لِعُمَر إِنِّي لأَعْلَمُ - أَوْ أَظُنُّ - أَيَّ لَيْلَةٍ هِيَ , قَالَ عُمَر : أَيُّ لَيْلَةٍ هِيَ ؟ فَقُلْت : سَابِعَةٌ تَمْضِي أَوْ سَابِعَة تَبْقَى مِنْ الْعَشْر الأَوَاخِر , فَقَالَ : مِنْ أَيْنَ عَلِمْت ذَلِكَ ؟ قُلْت خَلَقَ اللَّه سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَسَبْع أَرْضِينَ وَسَبْعَة أَيَّام وَالدَّهْر يَدُور فِي سَبْع وَالإِنْسَان خُلِقَ مِنْ سَبْع وَيَأْكُل مِنْ سَبْع وَيَسْجُدُ عَلَى سَبْع وَالطَّوَاف وَالْجِمَار وَأَشْيَاء ذَكَرَهَا , فَقَالَ عُمَر : لَقَدْ فَطِنْت لأَمْرٍ مَا فَطِنَّا لَهُ ))(/3)
وأخرج هذه القصة إِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَده وَالْحَاكِم وفيها : (( فَقَالَ عُمَر أَعْجَزْتُمْ أَنْ تَكُونُوا مِثْلَ هَذَا الْغُلامِ الَّذِي مَا اِسْتَوَتْ شُؤُونُ رَأْسِهِ )) .
ـ (( عَنْ بِلالٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ ))[25] .
ـ (( عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : صُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَضَانَ فَلَمْ يَقُمْ بِنَا شَيْئًا مِنْ الشَّهْرِ حَتَّى إِذَا كَانَ لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ قَامَ بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى كَادَ أَنْ يَذْهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ ، فَلَمَّا كَانَتْ اللَّيْلَةُ الَّتِي تَلِيهَا لَمْ يَقُمْ بِنَا فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ سِتٍّ وَعِشْرِينَ قَامَ بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى كَادَ أَنْ يَذْهَبَ شَطْرُ اللَّيْلِ ، قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ نَفَّلْتَنَا بَقِيَّةَ لَيْلَتِنَا هَذِهِ قَالَ لا إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَامَ مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ حُسِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ فَلَمَّا كَانَتْ اللَّيْلَةُ الَّتِي تَلِيهَا لَمْ يَقُمْ بِنَا ، فَلَمَّا أَنْ كَانَتْ لَيْلَةُ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَهُ وَاجْتَمَعَ لَهُ النَّاسُ فَصَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى كَادَ يَفُوتُنَا الْفَلاحُ ، قَالَ قُلْتُ وَمَا الْفَلاحُ قَالَ السُّحُورُ ثُمَّ لَمْ يَقُمْ بِنَا يَا ابْنَ أَخِي شَيْئًا مِنْ الشَّهْرِ ))[26] .
وعند النسائي (( صُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَضَانَ فَلَمْ يَقُمْ بِنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَقِيَ سَبْعٌ مِنْ الشَّهْرِ فَقَامَ بِنَا حَتَّى ذَهَبَ نَحْوٌ مِنْ ثُلُثِ اللَّيْلِ ، ثُمَّ كَانَتْ سَادِسَةٌ فَلَمْ يَقُمْ بِنَا ، فَلَمَّا كَانَتْ الْخَامِسَةُ قَامَ بِنَا حَتَّى ذَهَبَ نَحْوٌ مِنْ شَطْرِ اللَّيْلِ ، قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ نَفَلْتَنَا قِيَامَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ ، قَالَ : إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا صَلَّى مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ حُسِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ ، قَالَ ثُمَّ كَانَتْ الرَّابِعَةُ فَلَمْ يَقُمْ بِنَا ، فَلَمَّا بَقِيَ ثُلاثٌ مِنْ الشَّهْرِ أَرْسَلَ إِلَى بَنَاتِهِ وَنِسَائِهِ وَحَشَدَ النَّاسَ فَقَامَ بِنَا حَتَّى خَشِينَا أَنْ يَفُوتَنَا الْفَلاحُ ثُمَّ لَمْ يَقُمْ بِنَا شَيْئًا مِنْ الشَّهْرِ ))[27] .
الوجه الثالث من الأحاديث : فيه الجمع بين الأثنين وهو تحري ليلة القدر في جميع ليالي العشر الأواخر :
ـ (( عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنْ الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ ))[28] .
ـ (( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ثُمَّ أَيْقَظَنِي بَعْضُ أَهْلِي فَنُسِّيتُهَا فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْغَوَابِرِ ))[29]
ـ (( عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى ))[30] ولفظ أحمد (( الْتَمِسُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى أَوْ خَامِسَةٍ تَبْقَى أَوْ سَابِعَةٍ تَبْقَى )) .
وهذا يحتمل أن تكون ليلة القدر في الليالي الفردية أو الزوجية على السواء لأن الشهر قد يصل إلى ثلاثين أو ينقص إلى تسع وعشرين .
ـ (( عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ الصُّنَابِحِيِّ أَنَّهُ قَالَ لَهُ مَتَى هَاجَرْتَ قَالَ خَرَجْنَا مِنْ الْيَمَنِ مُهَاجِرِينَ فَقَدِمْنَا الْجُحْفَةَ فَأَقْبَلَ رَاكِبٌ فَقُلْتُ لَهُ الْخَبَرَ فَقَالَ : دَفَنَّا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ خَمْسٍ قُلْتُ هَلْ سَمِعْتَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ شَيْئًا قَالَ نَعَمْ أَخْبَرَنِي بِلالٌ مُؤَذِّنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ فِي السَّبْعِ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ ))[31](/4)
ـ (( عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رِجَالاً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْمَنَامِ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ ))[32].
ـ (( عن ابْن عُمَر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ يَعْنِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ ، فَإِنْ ضَعُفَ أَحَدُكُمْ أَوْ عَجَزَ فَلا يُغْلَبَنَّ عَلَى السَّبْعِ الْبَوَاقِي ))[33] .
ـ (( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : تَذَاكَرْنَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَيُّكُمْ يَذْكُرُ حِينَ طَلَعَ الْقَمَرُ وَهُوَ مِثْلُ شِقِّ جَفْنَةٍ ))[34]
قال النووي : قَالَ الْقَاضِي : فِيهِ إِشَارَة إِلَى أَنَّهَا إِنَّمَا تَكُون فِي أَوَاخِر الشَّهْر ; لأَنَّ الْقَمَر لا يَكُون كَذَلِكَ عِنْد طُلُوعه إِلا فِي أَوَاخِر الشَّهْر . وَاَللَّه أَعْلَم .
الخلاصة
يتبين بعد سرد الأحاديث المتنوعة في ذكر ليلة القدر أن ليلة القدر ليست بليلة ثابتة ، بل هي متنقلة بين الليالي العشر الأخيرة من شهر رمضان ، وقد تأتي في الليالي الفردية منها أو الزوجية على السواء ، فينبغي لمن أراد أن يرزق خيرها ولا يحرم منها أن يجتهد في طلبها طيلة الليالي العشر دون أن تفوته ليلة منها .
قال أبو قلابة : ليلة القدر تنتقل في العشر الأواخر .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ هَكَذَا صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : (هِيَ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ ) . وَتَكُونُ فِي الْوِتْرِ مِنْهَا .
لَكِنَّ الْوِتْرَ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ الْمَاضِي فَتُطْلَبُ لَيْلَةَ إحْدَى وَعِشْرِينَ وَلَيْلَةَ ثَلاثٍ وَعِشْرِينَ وَلَيْلَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَلَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَلَيْلَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ .
وَيَكُونُ بِاعْتِبَارِ مَا بَقِيَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : (لِتَاسِعَةٍ تَبْقَى ، لِسَابِعَةٍ تَبْقَى ، لِخَامِسَةٍ تَبْقَى ، لِثَالِثَةٍ تَبْقَى ) .
فَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ الشَّهْرُ ثَلاثِينَ يَكُونُ ذَلِكَ لَيَالِيَ الْأَشْفَاعِ . وَتَكُونُ الِاثْنَيْنِ وَالْعِشْرِينَ تَاسِعَةً تَبْقَى وَلَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ سَابِعَةً تَبْقَى . وَهَكَذَا فَسَّرَهُ أَبُو سَعِيدٍ الخدري فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ . وَهَكَذَا أَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الشَّهْرِ .
وَإِنْ كَانَ الشَّهْرُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ كَانَ التَّارِيخُ بِالْبَاقِي . كَالتَّارِيخِ الْمَاضِي .
وَإِذَا كَانَ الأَمْرُ هَكَذَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَحَرَّاهَا الْمُؤْمِنُ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ جَمِيعِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (تَحَرَّوْهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ) وَتَكُونُ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ أَكْثَرَ . وَأَكْثَرُ مَا تَكُونُ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ كَمَا كَانَ أبي بْنُ كَعْبٍ يَحْلِفُ أَنَّهَا لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ . فَقِيلَ لَهُ : بِأَيِّ شَيْءٍ عَلِمْت ذَلِكَ ؟ فَقَالَ بِالآيَةِ الَّتِي أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ ، أَخْبَرَنَا أَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ صُبْحَةَ صَبِيحَتِهَا كَالطَّشْتِ لا شُعَاعَ لَهَا) .
فَهَذِهِ الْعَلَامَةُ الَّتِي رَوَاهَا أبي بْنُ كَعْبٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَشْهَرِ الْعَلامَاتِ فِي الْحَدِيثِ وَقَدْ رُوِيَ فِي عَلامَاتِهَا (أَنَّهَا لَيْلَةٌ بلجة مُنِيرَةٌ) وَهِيَ سَاكِنَةٌ لا قَوِيَّةُ الْحَرِّ وَلا قَوِيَّةُ الْبَرْدِ وَقَدْ يَكْشِفُهَا اللَّهُ لِبَعْضِ النَّاسِ فِي الْمَنَامِ أَوْ الْيَقَظَةِ . فَيَرَى أَنْوَارَهَا أَوْ يَرَى مَنْ يَقُولُ لَهُ هَذِهِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ وَقَدْ يُفْتَحُ عَلَى قَلْبِهِ مِنْ الْمُشَاهَدَةِ مَا يَتَبَيَّنُ بِهِ الأَمْرُ . وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .[35]
رؤية ليلة القدر في المنام :
من الممكن أن يرى المؤمن في منامه من الرؤيا ما يدله على معرفة ليلة القدر ، وقد ثبت هذا بالأحاديث الصحيحة :(/5)
(( عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ رَأَيْتُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّ بِيَدِي قِطْعَةَ إِسْتَبْرَقٍ فَكَأَنِّي لا أُرِيدُ مَكَانًا مِنْ الْجَنَّةِ إِلا طَارَتْ إِلَيْهِ وَرَأَيْتُ كَأَنَّ اثْنَيْنِ أَتَيَانِي أَرَادَا أَنْ يَذْهَبَا بِي إِلَى النَّارِ فَتَلَقَّاهُمَا مَلَكٌ فَقَالَ لَمْ تُرَعْ خَلِّيَا عَنْهُ فَقَصَّتْ حَفْصَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِحْدَى رُؤْيَايَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ وَكَانُوا لا يَزَالُونَ يَقُصُّونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرُّؤْيَا أَنَّهَا فِي اللَّيْلَةِ السَّابِعَةِ مِنْ الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا فَلْيَتَحَرَّهَا مِنْ الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ))[36]
قال النووي في شرح مسلم : وَاعْلَمْ أَنَّ لَيْلَة الْقَدْر مَوْجُودَة كَمَا سَبَقَ بَيَانه فِي أَوَّل الْبَاب , فَإِنَّهَا تُرَى , وَيَتَحَقَّقهَا مَنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى مِنْ بَنِي آدَم كُلّ سَنَة فِي رَمَضَان كَمَا تَظَاهَرَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الأَحَادِيث السَّابِقَة فِي الْبَاب , وَإِخْبَار الصَّالِحِينَ بِهَا وَرُؤْيَتهمْ لَهَا أَكْثَر مِنْ أَنْ تُحْصَر , وَأَمَّا قَوْل الْقَاضِي عِيَاض : عَنْ الْمُهَلَّب بْن أَبِي صُفْرَة لا يُمْكِن رُؤْيَتهَا حَقِيقَة , فَغَلَط فَاحِش , نَبَّهْت عَلَيْهِ لِئَلا يُغْتَرّ بِهِ . وَاَللَّه أَعْلَم .
ومر بنا قول شيخ الإسلام : وَقَدْ يَكْشِفُهَا اللَّهُ لِبَعْضِ النَّاسِ فِي الْمَنَامِ أَوْ الْيَقَظَةِ . فَيَرَى أَنْوَارَهَا أَوْ يَرَى مَنْ يَقُولُ لَهُ هَذِهِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ وَقَدْ يُفْتَحُ عَلَى قَلْبِهِ مِنْ الْمُشَاهَدَةِ مَا يَتَبَيَّنُ بِهِ الأَمْرُ .
أفضل الدعاء في ليلة القدر :
ـ (( عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا ؟ قَالَ : قُولِي اللَّهُمَّ إِنَّكَ عُفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي ))[37]
علامات ليلة القدر :
ـ (( عَنْ أَبِي عَقْرَبٍ قَالَ غَدَوْتُ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ ذَاتَ غَدَاةٍ فِي رَمَضَانَ فَوَجَدْتُهُ فَوْقَ بَيْتِهِ جَالِسًا فَسَمِعْنَا صَوْتَهُ وَهُوَ يَقُولُ : صَدَقَ اللَّهُ وَبَلَّغَ رَسُولُهُ ، فَقُلْنَا سَمِعْنَاكَ تَقُولُ صَدَقَ اللَّهُ وَبَلَّغَ رَسُولُهُ ، فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي النِّصْفِ مِنْ السَّبْعِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ غَدَاتَئِذٍ صَافِيَةً لَيْسَ لَهَا شُعَاعٌ ، فَنَظَرْتُ إِلَيْهَا فَوَجَدْتُهَا كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ))[38](/6)
ـ (( عن زر بْنَ حُبَيْشٍ قال : سَأَلْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقُلْتُ : إِنَّ أَخَاكَ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ مَنْ يَقُمْ الْحَوْلَ يُصِبْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ؟ فَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَرَادَ أَنْ لا يَتَّكِلَ النَّاسُ ، أَمَا إِنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ وَأَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ ، وَأَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ ، ثُمَّ حَلَفَ لا يَسْتَثْنِي أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ ، فَقُلْتُ : بِأَيِّ شَيْءٍ تَقُولُ ذَلِكَ يَا أَبَا الْمُنْذِرِ ؟ قَالَ : بِالْعَلامَةِ أَوْ بِالآيَةِ الَّتِي أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا تَطْلُعُ يَوْمَئِذٍ لا شُعَاعَ لَهَا )) هذا لفظ مسلم .. وعند أبي داود (( تُصْبِحُ الشَّمْسُ صَبِيحَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ مِثْلَ الطَّسْتِ لَيْسَ لَهَا شُعَاعٌ حَتَّى تَرْتَفِعَ )) .. وعند أحمد (( عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ تَذَاكَرَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَقَالَ أُبَيٌّ أَنَا وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ أَعْلَمُ أَيُّ لَيْلَةٍ هِيَ هِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي أَخْبَرَنَا بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ تَمْضِي مِنْ رَمَضَانَ وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّ الشَّمْسَ تُصْبِحُ الْغَدَ مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ تَرَقْرَقُ لَيْسَ لَهَا شُعَاعٌ فَزَعَمَ سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ أَنَّ زِرًّا أَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَصَدَهَا ثَلَاثَ سِنِينَ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ يَدْخُلُ رَمَضَانُ إِلَى آخِرِهِ فَرَآهَا تَطْلُعُ صَبِيحَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ تَرَقْرَقُ لَيْسَ لَهَا شُعَاعٌ )) [39]
ـ (( عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْبَوَاقِي مَنْ قَامَهُنَّ ابْتِغَاءَ حِسْبَتِهِنَّ فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَغْفِرُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ ، وَهِيَ لَيْلَةُ وِتْرٍ تِسْعٍ أَوْ سَبْعٍ أَوْ خَامِسَةٍ أَوْ ثَالِثَةٍ أَوْ آخِرِ لَيْلَةٍ ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ أَمَارَةَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَنَّهَا صَافِيَةٌ بَلْجَةٌ كَأَنَّ فِيهَا قَمَرًا سَاطِعًا سَاكِنَةٌ سَاجِيَةٌ ، لا بَرْدَ فِيهَا وَلا حَرَّ ، وَلا يَحِلُّ لِكَوْكَبٍ أَنْ يُرْمَى بِهِ فِيهَا حَتَّى تُصْبِحَ ، وَإِنَّ أَمَارَتَهَا أَنَّ الشَّمْسَ صَبِيحَتَهَا تَخْرُجُ مُسْتَوِيَةً لَيْسَ لَهَا شُعَاعٌ مِثْلَ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ ، وَلا يَحِلُّ لِلشَّيْطَانِ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا يَوْمَئِذٍ ))[40] .
ـ (( عن ابن عباس قال صلى الله عليه وسلم : ليلة القدر ليلة سمحة طلقة لا حارة و لا باردة تصبح الشمس صبيحتها ضعيفة حمراء ))[41] .
ـ (( عن واثلة قال صلى الله عليه وسلم : ليلة القدر ليلة بلجة لا حارة و لا باردة ولا يرمى فيها بنجم ومن علامة يومها تطلع الشمس لا شعاع لها ))[42] .
ليلة القدر هل هي باقية أم رفعت ؟
ـ (( عن أبي مَرْثَد قَالَ : سَأَلْتُ أَبَا ذَرٍّ قُلْتُ كُنْتَ سَأَلْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ ؟ قَالَ : أَنَا كُنْتُ أَسْأَلَ النَّاسِ عَنْهَا ، قَالَ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَفِي رَمَضَانَ هِيَ أَوْ فِي غَيْرِهِ ؟ قَالَ : بَلْ هِيَ فِي رَمَضَانَ ، قَالَ قُلْتُ : تَكُونُ مَعَ الأَنْبِيَاءِ مَا كَانُوا فَإِذَا قُبِضُوا رُفِعَتْ أَمْ هِيَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ؟ قَالَ : بَلْ هِيَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، قَالَ قُلْتُ : فِي أَيِّ رَمَضَانَ هِيَ ؟ قَالَ : الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الأُوَلِ أَوْ الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ ، ثُمَّ حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَدَّثَ ثُمَّ اهْتَبَلْتُ وَغَفَلْتُهُ قُلْتُ فِي أَيِّ الْعِشْرِينَ هِيَ ؟ قَالَ : ابْتَغُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ لا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا ، ثُمَّ حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَدَّثَ ثُمَّ اهْتَبَلْتُ وَغَفَلْتُهُ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ بِحَقِّي عَلَيْكَ لَمَا أَخْبَرْتَنِي فِي أَيِّ الْعَشْرِ هِيَ ؟ قَالَ : فَغَضِبَ عَلَيَّ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ مِثْلَهُ مُنْذُ صَحِبْتُهُ أَوْ صَاحَبْتُهُ كَلِمَةً نَحْوَهَا قَالَ الْتَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ لا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا ))[43](/7)
ـ (( عَنْ عَبْد اللَّه بْن يَحْنَس قُلْت لأَبِي هُرَيْرَة : زَعَمُوا أَنَّ لَيْلَة الْقَدْر رُفِعَتْ , قَالَ : كَذَبَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ ))[44]
هذا والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلي اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الدخان (4) .
[2] الدخان (3) .
[3] سورة القدر .
[4] رواه البخاري في كتاب الإيمان باب قيام ليلة القدر من الإيمان (35) ، ومسلم في صلاة المسافرين (1268) ، والترمذي في الصوم (619) ، والنسائي في الصيام (2169) ، وأبو داود في الصلاة (1165) ، وأحمد (6873) ، والدارمي في الصوم (1711) .
[5] رواه أحمد (10316) ، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (5472) .
[6] رواه النسائي في الصيام عن أبي هريرة (2079) ، وأحمد (6851) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (55) .
[7] رواه ابن ماجه في الصيام باب ما جاء في فضل رمضان (1634) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2247) .
[8] الموطأ (1/207) .
[9] رواه البخاري في صلاة التراويح (2018) ، ومسلم في الصيام باب فضل ليلة القدر (1994) واللفظ له ، والنسائي في السهو (1339) ، وأبو داود في الصلاة (1174) ، وأحمد (10757) ، ومالك في الاعتكاف (611) .
[10] رواه مسلم في الصيام باب فضل ليلة القدر (1997) ، وأحمد (15467) .
[11] رواه أحمد (15466) وقال الزين في المسند (12/429) : إسناده صحيح .
[12] رواه الطبراني وصححه الألباني في صحيح الجامع (2923) .
[13] رواه أحمد (16370) ، ورواه الطبراني وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1497) .
[14] رواه أحمد (21032) وصححه الألباني في صحيح الجامع (5471) .
[15] رواه الطبراني وصححه الألباني في صحيح الجامع (1240) .
[16] رواه أبو داود في الصلاة باب من قال سبع وعشرون (1178) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (5474) .
[17] رواه البخاري في الإيمان باب خوف المؤمن أن يحبط عمله (49) ، ومالك في الاعتكاف (615) ، والدارمي في الصوم (1715) .
[18] رواه أحمد (20585) ، وقال الزين في المسند (16/24) : إسناده صحيح .
[19] رواه مسلم (1999) ، والترمذي في تفسير القرآن (3274) ، وأبو داود في الصلاة (1170) ، وأحمد (20247) .
[20] رواه مسلم في الصيام باب فضل ليلة القدر (1987) ، وأحمد (4442) .
[21] رواه أحمد (281) وقال أحمد شاكر في المسند (1/292) : إسناده صحيح .
[22] رواه محمد بن نصر في الصلاة وصححه الألباني في صحيح الجامع (1238) .
[23] رواه مسلم في الصيام باب فضل ليلة القدر (1996) ، وأحمد (10654) .
[24] رواه البخاري في صلاة التراويح باب تحري ليلة القدر (2022) ، وأبو داود في الصلاة (1173) ، وأحمد (1948) .
[25] رواه أحمد (2765) وقال الزين في المسند (17/163) : إسناده صحيح ، ورواه الطبراني في الكبير (1/360) ، وحسنه الهيثمي (3/176) .
[26] رواه أحمد (20450) ، وقال الزين في المسند (15/520) : إسناده صحيح ، وانظر التالي .
[27] رواه النسائي في السهو باب ثواب من صلى مع الإمام حتى ينصرف (1347) ، والترمذي في الصوم (734) ، وأبو داود في الصلاة (1167) ، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1317) ، والدارمي في الصوم (1713) ، وصححه الألباني في صحيح النسائي (1/439) .
[28] رواه البخاري في صلاة التراويح باب تحري ليلة القدر (2017) ، ومسلم في الصيام (1998) ، والترمذي في الصوم (722) ، وأحمد (23100) .
[29] رواه مسلم في الصيام باب فضل ليلة القدر (1992) ، وأحمد (7546) ، والدارمي في الصوم (1716) .
[30] رواه البخاري في صلاة التراويح باب تحري ليلة القدر (2021) ، وأبو داود في الصلاة (1173) ، وأحمد (1948) ،
[31] رواه البخاري في المغازي باب بعث النبي r أسامة (4470) .
[32] رواه البخاري في صلاة التراويح باب التماس ليلة القدر (2015) ، ومسلم في الصيام (1985) ، وأحمد (4270) .
[33] رواه مسلم في الصيام باب فضل ليلة القدر (1989) ، وانظر السابق .
[34] رواه مسلم في الصيام باب فضل ليلة القدر (2001) .
[35] مجموع الفتاوى (25/285) .
[36] رواه البخاري في كتاب الجمعة باب فضل من تعار من الليل فصلى (1158) .
[37] رواه الترمذي في الدعوات وقال حسن صحيح ، وابن ماجه في الدعاء (2840) ، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (3/170) .
[38] رواه أحمد (3664) ، وقال أحمد شاكر في المسند (4/232) : إسناده صحيح .
[39] رواه مسلم (1999) ، والترمذي في تفسير القرآن (3274) ، وأبو داود في الصلاة (1170) ، وأحمد (20247) .
[40] رواه أحمد في المسند (21702) وقال الزين في المسند (16/415) : إسناده صحيح .
[41] رواه الطيالسي وابن نصر وابن خزيمة وأبو نعيم وغيرهم ، وصححه الألباني في صحيح الجامع (5475) .
[42] رواه الطبراني وحسنه الألباني في صحيح الجامع (5472 ) .(/8)
[43] رواه أحمد (20523) ، وقال الزين في المسند (15/547) : إسناده صحيح .
[44] رواه عبدالرزاق في مصنفه .(/9)
خلاصة دروس في التكفير
الشيخ صالح بن محمد الأسمري
الحمدُ لله نَحْمَده، ونستعيْنه، ونستغفرُه، ونستهديه، ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنفسنا، وسيئاتِ أَعمالنا؛ مِنْ يهده اللهُ فلا مضلَ له، ومن يضللْ فلا هادي له، وأشهدُ ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أَنَّ محمداً عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم - تسليماً كثيراً إِلَى يوم الدين.
أما بعد.
فإن مسائل التكفير من المسائل العظيمة التي زلت فيها أقدام، وضلت فيها أفهام، وطاشت فيها أقلام، فأصبح كثير ممن ينتسب إلى أهل العلم وهم منهم براء لا يتورعون عن تكفير المخالف؛ لأدنى شبهه سواء كانت على المستوى الفردي، أم الجماعي..!!
ولذلك أحببت أن أجمع في هذه الورقات خلاصة دروس ألقيت حول (التكفير) تذكرة للمنتهي، وتبصرة للمبتدي.
وأصل هذه الدروس لشيخنا المفضال صاحب الأفضال / صالح بن محمد الأسمري التي ألقاها في جامع الملك عبد العزيز (بمكة المكرمة) تحت عنوان يوسم بدروس في التكفير . ومن أراد أن يتوسع في ذلك فليراجع (الأشرطة)، وقد سُجّلت هذه الدروس أيضاً من قبل إذاعة القرآن الكريم نفع الله بها.
** الأسس المنهجية حول بحثه للمسائل:
وقد سار شيخنا في هذه الدروس المباركة على أسس، وقوانين عظيمة لم يخرج فيها عمّا قرره أهل العلم.
وهذه الأسس مبنية على دعامتين:
* الدِعَامَة الأَوّلى: تَقْرِير مَسَائِل الاعْتِقَاد عَلَى وَفْق مَنْهَج أَهْل السُنَّة والجَمَاعَة.
* الدِعَامَة الثانية: تَقْرِير المَسَائِل العلمية، والفقهية الشَّرْعِيَّة عَلَى قانونها المتبع، فلا بدع، وذَلِك راجع إِلَى شيئين:
أَوَّلُهُمَا: ذكر الدليل المعتبر، والأدلة عند أَهْل الفقه والنظر مِنْ حيث الخِلاف والوفاق تأتي عَلَى جهتين:
الأَوّلى: فجهة اتفق عَلَى اعتبار أدلتها، وتصحيح دلائلها وجماعها أربع أدلة:
أَوَّلُهَا: كتاب الله.
ثَانِيْهَا: سنة النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -.
ثَالِثُهَا: الإجماع.
رابعها: القياس.
الثانية: فجهة مختلف فيها، وفيها أدلة كثيرة أشار ابن الصلاح - يرحمه الله - إِلَى أَنَّها تأتي إِلَى نحو ثلاثين دليلاً،
ومن ذَلِك قول الصحابي وفعله، ومن ذَلِك شرع مِنْ قبلنا؛ إِلَى أدلة اشْتُهِر ذكرها في كتب الأصول عند الأئمة الفحول؛ كالموَفْق ابن قدامة - يرحمه الله - في كتابه: [روضة الناظر وجنة المناظر].
وثانيهما: فهو أَنَّ تكون الصيرورة عند العمل والإفتاء إِلَى قولٍ، أو مذهبٍ مرتكزٍ عَلَى ركيزتين:
الركيزة الأَوّلى: فهو أن يكون محفوظاً، وضد المحفوظ الشاذ.
الركيزة الثانية: فهو أن يكون معمولاً به، وضد المعمول المهجور
فائدة:
أَنَّ المَسَائِل عند بحثها، والأحكام عند إثباتها؛ لا بد فيها مِنْ تحرير العبارة، وذكر الحكم مقيداً بقيوده، فلا يؤخذ الحكم عارياً مِنْ قيوده، والبيان خالياً مِنْ تبعاته التي تُذْكَر، فإنَّ الذي يأخذ الحكم بلا قيوده؛ كمثل الذي يأخذ الدين دون تفاصيله، كذا قال جماعة مِنْ الفقهاء في ذَلِك، ومنهم ابن الهمام - يرحمه الله -
** مباحث الدروس:
قال شيخنا (... وسيرتكز الحَدِيْث في مَسْأَلَة التَكْفِيْر بحثاً، وذكراً عَلَى محاور ثلاث:
المحور الأَوّل: في بيان حقيقة التَكْفِيْر وحكمه.
المحور الثاني: في بيان ضوابط التَكْفِيْر وقيوده.
المحور الثالث: في ذكر الشُبُهَات؛ تفنيداً لها، وبياناً لعوارها. )
فائدة:
ذَلِك أَنَّ الحكم مبني عَلَى صحة التصور، وأَنَّ الحكم لا بد أن يعقب بقيوده وضوابطه، فإذا درس المرء الحق بقيوده، فلابد مِنْ إزالة الشُبُهَات التي ربما خطفت ذهناً وأردت عقلاً، وهَذَا معروف عند الأئمة؛ ولِذَلِك قالوا: بحث المَسَائِل الاعْتِقَادية لا بد أن يكتمل مِنْ جميع الأَوْجُه، وذكروا مِنْ ذَلِك أَوْجُهاً أربعةً مشهورةً:
* أَوَّلُهَا: تصور المَسْأَلَة عَلَى وجهها.
* ثَانِيْهَا: معرفة قيودها مَع الحكم وما يتبعه.
* ثَالِثُهَا: معرفة ما يتعلق بلواحق المَسْأَلَة مِنْ فروع وما إليه.
* رابعها: معرفة الشُبُهَات مَع تفنيدها.
فإذا اجتمع للمرء في مَسْأَلَة اعتقادية تلك الأوجه الأربعة عَلَى حقيقتها المعتبرة، فإن المنفعة تحصل، والتأسيس يتحصل، وبه ينبت المرء ويكتمل، والله المستعان وعليه التكلان. )
المحور الأَوّل: في بيان حقيقة التَكْفِيْر وحكمه.
يتعلق الحَدِيْث عَنْ المحور الأَوّل مِنْ محاور مَسْأَلَة التَكْفِيْر بثلاث أساسات:
أَوَّلُهَا: خطورة التَكْفِيْر.
ثَانِيْهَا: حقيقة التَكْفِيْر.
ثَالِثُهَا: حكم التَكْفِيْر.
أما الأَوّل:
وهو خطورة التَكْفِيْر، فإن للتكفير خطراً وللنعت الآخرين أو الفعال والصفات في كلٍ أثراً، جماع ذَلِك ثلاثة أشياء:(/1)
الشيء الأَوّل: ما جاء مِنْ وعيدٍ وتهديدٍ مِنْ الشارع في التكفير، ومن ذَلِك ما جاء في الصحيحين أَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: [مِنْ قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما]، وقد تكلم جمع من أهل العلم حول فقه الحديث وبيّنوا عظم شأن تكفير المسلم؛ ومن ألئك الحافظ ابن حجر في (الفتح)، والشوكاني في (السيل الجرار).
الشيء الثاني: أَنَّ التَكْفِيْر مسألة شرعية لا بد من إلحاقها بمسائل الشرع، فلا يحكم على أحد سواءً كانوا جماعات أم أفراد بالكفر لقباً، ونعتاً، ووصماً إلا إذا حكم الشارع عليه بذلك، وقرر ذلك جماعات من أهل العلم؛ ومن أولئك: الإمام الغزالي في كتابه (فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة)، وكذا القاضي عياض في (الشفا)، وشيخ الإسلام في (درء تعارض العقل والنقل) وكذا في (الرد على البكري)
الشيء الثالث: آثَاره: فإنَّ الإنسان إذا حَكَمَ بالكفرِ عَلَى أحد ثبت بذَلِك أحكام وآثَار، والحكم عَلَى أحد بذَلِك -عَلَى ما سيأتي في ضوابط التَكْفِيْر إن شاء الله- يتنوع إِلَى نوعين:
النوع الأَوّل: فهو أن يحكم عليه أَنَّه كافر؛ فيعلق الحكم باسم الفاعل المعين، فهَذَا يتبعه أحكام المرتد بأحكام الردة المعروفة المقررة عند الفقهاء؛ فتطلق منه زوجته، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يصلي عليه؛ إِلَى غير ذَلِك مِنْ الأحكام المقررة عند الفقهاء في كتاب: (الردة) وما يتبعه.
النوع الثاني: فهو أن يحكم حكماً وصفياً، فيقال: مِنْ قال كذا فهو كافر، فيتحقق أن فلاناً مِنْ الناس قد قال هَذِه المقالة الكفرية، فإذا كان قد قالها معتقداً لها - وهو الأصل في إطلاقات العقلاء - اختياراً فإنَّه يتبع ذلك أحكام.
فمن ذَلِك أن لا يُصَلَّى وراءَ صاحبِ بدعةٍ كفريةٍ، ومن ذَلِك مِنْ يقول بأَنَّ القرآن مخلوق، ولكنه لا يكفر لتأول عنده، كما وقع مِنْ الإمام أحمد - رحمه الله - ورضي عنه- مَع المأمون ومن معه؛ وخرج أبو داود في: [مَسَائِله عَنْ الإمام أحمد - يرحمه الله -] أَنَّه قال عَنْ الجهمية: ’’أنا أعيد، ومتى ما صليت خلف أحد ممن يقول: القرآن مخلوق فأعيد لِذَلِك‘‘ وبنحو ذلك جاء عن الإمام البربهاري - يرحمه الله - في [شرح السُنَّة]: وأما الأساس الثاني: فيتعلق بحقيقة التَكْفِيْر، وللتكفير ثلاث حقائق معروفة: أَوَّلُهَا: الحقيقة اللغوية؛ حيث أرجع ابن فارس - يرحمه الله -في [مقاييس اللغة] الكفر مِنْ حيث الأصل إِلَى التغطية موز
وهَذَا المعنى متفق عليه، قرره ابن منظور في: [اللسان]، وقرره الفيروز أبادي في: [القاموس]، وقرره الزبيدي الحنفي في شرحه: [عَلَى القاموس] في آخرين، والشأن فيه مشهور، وأشعار العرب وما يتعلق بذَلِك في نثرهم كثير في ذَلِك.
ثَانِيْهَا: فهو معنى وحقيقة الكفر في الكتاب والسُنَّة، ومرد ذَلِك في النص الشرعي إِلَى خمسة معان، ذَلِك أَنَّ النصوص في الكتاب والسُنَّة جرت عَلَى هَذَا المجرى، وقد ذكر ذَلِك جماعة؛ ومن أولئك: ابن الجوزي - يرحمه الله -كما في كتابه: [نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر]، وذكر الخمسة عَنْ الفقهاء حكاية:
الأَوّل: إطلاق الكفر عَلَى أَنَّه المضاد للتوحيد، وهَذَا بينٌ مشهور)
الثاني: إطلاق الكفر عَلَى أَنَّه ضد النعمة، ويقال: كَفَرَ بالنعمة؛ أي أَنَّه ردها أو لم يقم شكرها عَلَى وجه الشكر الصحيح شرعاً، ولِذَلِك أمثلة يأتي بيانها قريباً إن شاء الله.
الثالث: التبري...
رابعها: ما يتعلق بمعنى الجحود...
خامسها: التغطية وهو المعنى الأصيل لـ(الكَفر والكُفر) في اللغة العربية.. )
ثالث الحقائق: ما يتعلق بالكفر الشرعي
وحقيقته مركبة من شيئين:
* الأول: أن التكفير إطلاق الكفر على الغير سواء أكان فعليا أم قوليا وقد بين حقيقة التكفير الإمام السبكي في (الفتاوي).
* ثانيهما: هو أنه متعلق بالكفر الأكبر، هَذَا هو المشهور عند الأئمة والفقهاء؛ حيث يقولون كفر فلان.
وحد الكفر الأكبر اختلفت عبارات الأئمة في ذَلِك؛ إلا أَنَّ مِنْ العبارات المستحسنة -التي تجمع قطر الكفر الأكبر وعمومه- قولة ابن حزم الظاهري - يرحمه الله - في كتابه: [الإحكام]، وكذا هي في [المحلَّى] له، وكذا في [الفصل في الملل والنحل]؛ حيث قال: ’’وهو -أي الكفر في الدين- صفة مِنْ جحد شيئاً مما افترض الله - تعالى -الإيمان به - بعد قيام الحجة عليه؛ ببلوغ الحق إليه- بقلبه دون لسانه أو بلسانه دون قلبه أو بهما معاً، أو عمل عملاً جاء النص أي الشرعي بأَنَّه مخرج له بذَلِك عَنْ اسم الإيمان‘‘
وعليه فقد علق المَسْأَلَة بشيئين:
الشيء الأَوّل: فهو وقوع الكفر الاعْتِقَادي أو القولي أو العملي مِنْ صاحبه.
الشيء الثاني: فهو حصول الضوابط المعتبرة شرعاً، وأشار إِلَى جملة في ذَلِك، ومن ذَلِك: قيام الحجة؛ بحيث تبين عَلَى المرء الحجة.
ويشار هنا إِلَى شيئين يتعلقان بذَلِك:(/2)
أَوَّلُهُمَا: أَنَّ ثمة كفراً دون الكفر الأكبر؛ وهو ما يسمى ب(الشرك الخفي أو الأصغر)
ثانيهما: وهو أن هناك فرقا بين الظاهر والباطن، فالمنافق يحكم بأنه مسلم في الظاهر وقت عدم إظهار ما يوجب إخراجه من الدين مع كونه في الباطن على الكفر وكذلك العكس.
ثالث الأساسات هو حكم التَكْفِيْر:
فالتَكْفِيْر له جانبان مِنْ حيث نزول الحكم عليه:
الجانب الأَوّل: فهو ما يتعلق بتكفير كافر ثبت كفره، أو ثبت أَنَّ عنده كفراً؛ فيحكم عَلَى الكفر أَنَّه كفر، ويحكم عَلَى الكافر أَنَّه كافر، فلا يجوز عدم تكفير الكافر، ومن لم يكفر معلوم الكفر فهو كافر حينئذ؛ أي مِنْ لم يحكم عَلَى مِنْ تيقن أَنَّه كافر بالكفر، ولكن حكم عليه بالإيمان فهو كافر؛ لأَنَّه تكذيب للشارع.
وهَذَا أمر قد قرره الفقهاء، مِنْ ذَلِك الرحيباني - يرحمه الله - في: [شرح غاية المنتهي]، ;`وكذا البهوتي في [كشاف القناع]- يرحمه الله -.
وبهَذَا قضى أصحاب المذاهب المتبوعة في باب الردة والأمر بذَلِك مشهور؛ ولِذَلِك قرر إمام الدعوة المجدد داعية التوحيد الإمام محمد بن عبد الوهاب - يرحمه الله - أَنَّ مِنْ أصول الكفر ونواقض الإسلام؛ هَذَا الأصل أي أَنَّ مِنْ لم يكفر الكافر معلوم الكفر أو صحح مذهبه فإنه يكون كافراً حينئذ.
الجانب الثاني: فهو ما يتعلق بتكفير مِنْ ثبت له أصل الإيمان بيقين،
فهَذَا فيه نظران:
النظر الأَوّل: أَنَّ التسرع فيه -دون تروي وتثبت مِنْ اكتمال موجبات، وقيود التَكْفِيْر- حرام لا يجوز،
النظر الثاني: فهو أَنَّ يكون التَكْفِيْر بموجباته، أو بعد تثبت فهَذَا صحيح بضوابطه وقيوده التي لا بد مِنْ التثبت فيها والتروي.
المحور الثاني: بيان ضوابط التَكْفِيْر وقيوده.
ضوابط التكفير وقيوده
فإنَّ الضوابط جماعها ثلاثةٌ:
أما الضابط الأَوّل / فهو أنه لا بد مِنْ التثبت مِنْ أَنَّ ما حُكِمَ أَنّه كفر -مِنْ اعتقاد أو قول أو عمل- أنه كذَلِك في الشريعة؛ أي أنه يخرج المرء مِنْ ملة الإسلام ويجعله كافراً كفراً أكبر، وقد قرر ذلك جماعات ومن ألئك شيخ الإسلام في (منهاجه)
، وجماع ما يتعلق بهَذَا الضابط شيئان:
الشيء الأَوّل: فهو أن يكون ما وقع مِنْ اعتقاد، أو عمل، أو قول يفقد صاحبه أصل الإيمان الواجب؛ إذ إنَّ أَهْل السُنَّة والجَمَاعَة يجعلون الإيمان عَلَى نوعين:
النوع الأَوّل: أصلٌ.
والنوع الثاني: فكمال، وهَذَا الكمال يأتي عَلَى مرتبتين في الحكم:
الأَوّلى: المرتبة الواجبة، ويدخل في ذَلِك الواجبات؛ سواءاً أكان واجب الفعل، أم واجب الترك.
الثانية: فهي المرتبة المستحبة المستحسنة شرعاً، ويدخل في ذَلِك المستحبات وترك المكروهات، وهَذَا كله يدخل فيه جملة الإيمان.
لأن الإيمان يطلق في الشرع عَلَى جهتين:
الجهة الأَوّلى: فإطلاقٌ عام؛ يدخل فيه جميع ما يتعلق بشعب الإسلام ويدل عَلَى ذَلِك الحَدِيْث المخرج في الصحيحين وفيه يقول النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: (الإيمان بضع وسبعون -أو قال وستون شعبة-، ثم ذكر أَنَّ أدناها: إماطة الأذى عَنْ الطريق).
ومعلوم مِنْ الدين بالضرورة أن إماطة الأذى عَنْ الطريق ليس مِنْ أصل الإيمان الواجب الذي لا بد أن يفعله أو يأتي به الإنسان عند إرادته الدخول في الدين؛ وكل عملٍ -في الشريعة- جاء الأمر بفعله أو الأمر بتركه هو داخل في هَذَا المعنى العام.
الجهة الثانية: فهو إيمانٌ خاصٌ استعمل عَلَى ما به يكون المعتقد صحيحاً، وأصله راجع إِلَى أصل الإيمان المنوه إليه في حديث جبرائيل الطويل؛ وفيه: (الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره)؛ والحَدِيْث مخرج في الصحيحين، هَذَا ما يتعلق بالإيمان أصلاً وكمالاً.
والمرء إذا انتقض أصل إيمانه خرج مِنْ الملة إجماعا، حكى الإجماع في ذَلِك عامة الأئمة وأَهْل الفقه والنظر؛ ومن أولئك: ابن بطة العكبري - يرحمه الله - كما في [الإبانة الصغرى](وكذا الموَفْق ابن قدامة المقدسي - يرحمه الله - في [المُغْنِي] في باب الردة، وكذلك قرره جماعات، والأمر فيه مشهور مستفيض.
الشيء الثاني: أن يحكم الشارع الحنيف عَلَى قول أو فعل أو اعتقاد أنه كفر أكبر أو شرك أعظم، فحينئذ يكفَّر مِنْ وقع فيه ويكون كفراً يخرج مِنْ دائرة الإسلام؛ ولِذَلِك عُنِيَ الفقهاء بتعداد ما حكم عليه مِنْ أعمال وأقوال وما إليهما في دواوين الفقه المعروفة وجعلوا ثمَّةَ باباً مستقلاً في ذَلِك سموه بباب: (الردة) وذكروا فيه ذَلِك كله.
تنبيه:
العمل داخل في حقيقة الإيمان وعلى ذلك أدلة.
الضابط الثاني: في ثبوت المكفر وقوعاً عمن يراد تكفيره سواء أكان مِنْ آحاد الناس، أو طائفة وجماعة، فلا بد مِنْ التثبت في ذَلِك
فائدة:
الأخذ باللوازم مطرح في باب القذف فمن باب أولى في باب التكفير ولذلك قال الفقهاء قالتهم المشهورة وهي (أن لازم المذهب ليس مذهبا ما لم يلتزمه صاحبه).(/3)
الضابط الثالث: ما يتعلق بالشروط التي لا بد مِنْ اعتبارها وادّكارها عند تَنْزِيْل حكم الكفر عَلَى إنسان بعينه، أو عَلَى طائفة بعينها.
فائدة:
إن مراعاة قواعد شروط وقيود التَكْفِيْر إنما تكون مَع مِنْ ثبت له عقد الإسلام بيقين، وهي قاعدة متفق عليها؛ ذكرها شيخ الإسلام، والحافظ ابن حجر - يرحمهما الله -، بل ذكرها بعض الفقهاء في باب الردة؛ إشارة مِنْ بعضهم إِلَى ذَلِك.
وعليه فمن لم يدخل في الإسلام أصلاً، أو لم يثبت دخوله في الدين مِنْ حيث الأصل فإن ذَلِك لا يراعى معه؛ لأن الأصل فيه استبقاء كفره خِلافاً لمن كان قد دخل في الإسلام بيقين، وبشيء واضح مبين، فإن ذَلِك لا يُخْرَج عَنْ الدين والإسلام، ويُسْتَبْقَى إسلامه وإيمانه عَلَى ما هو عليه.
وشروط التَكْفِيْر تعدادها خمسة؛ أجملها الأئمة والفقهاء:
الشرط الأَوّل: أن يكون الذي يراد تكفيره عاقلاً؛
الشرط الثاني: فهو البلوغ أي بلوغ سن الاحتلام، وهَذَا هو الذي عليه الجمهور والأكثرون؛ مِنْ أن الصبي المميز أو مِنْ راهق العاشرة مِنْ سني عمره وهو دون سن الاحتلام؛ فإنه لا يكون كافراً مرتداً؛ إذا قال قالة كفر أو فعل فعلاً يوجب خروجه مِنْ ملة الإسلام.
وهَذَا هو الذي عليه أكثر الفقهاء عَلَى ما حكاه جماعة، ومن أولئك الموَفْق ابن قدامة - يرحمه الله - في [المُغْنِي] في باب الردة، وهو مذهب المالكية عَلَى المُعْتَمَد والمشهور قرره عنهم جماعة؛ ومن أولئك الدسوقي في: [حاشيته](، وكذا هو مذهب الشافعية عَلَى المُعْتَمَد والمشهور؛ قرره عنهم جماعة؛ ومن أولئك: رملي الصغير في [نهاية المحتاج].
وكذلك هو المرجوع إليه في مذهب الإمام أبي حنيفة - يرحمه الله -، "واعتمده متأخرو أصحابه عَلَى ما قرره واعتمده جماعة؛ ومن أولئك: ابن عابدين - يرحمه الله - كما في حاشيته المشهورة، وهي رواية مُعْتَمَدة عَنْ الإمام أحمد - يرحمه الله - حكاها في: [الإنصاف] حكاية اعتماد. فهَذَا المذهب هو مذهب الجمهور والأكثر.
وأما الحنابلة فإنهم قد خالفوا في ذَلِك عَلَى المشهور المُعْتَمَد عنهم؛ حيث إن الصبي إذا مَيَّز ولم يناهز الاحتلام ووقعت منه الردة وحكم عليه بأنه مرتد، ثم إذا بلغ يستتاب ثلاثاً، فإن تاب كانت عودته صحيحة، وإلا فيقام عليه الحكم مِنْ قبل ولي أمر المسلمين أو مِنْ ينوّبه مِنْ نوّابه، قرر ذَلِك مذهباً للحنابلة جماعات، ومن أولئك: المرداوي - يرحمه الله - كما في: [الإنصاف]، وهَذَا هو المشهور عند الحنابلة.
إلا أن القول الأَوّل هو الأقرب والمشهور.
الشرط الثالث: أن يكون المحكوم بردته مختاراً وضده المكره.
وقد قرر اعتبار الاختيار عند تَنْزِيْل التَكْفِيْر عند آحاد الناس أو طوائف معينة وجماعات أَهْل السُنَّة والجَمَاعَة، وممن حكى ذَلِك عنهم وانتصر له شيخ الإسلام ابن تيمية -- يرحمه الله - وهو عنه مشهور، ومن المواضع التي ذكر فيها ذَلِك وقرره وانتصر له وحرره: [الاستقامة]، وكذا في [مجموع فتاويه].
أما وذَلِك كذَلِك فإن هُنَاك تنابيه لا بد أن تُعْرَف:
أَوَّلُهَا: أن الإكراه شرط، فليس كل وعيد وتهديد يقع به مسمى الإكراه، فللإكراه شرط وقد ذكره الفقهاء في بحث مَسْأَلَة الإكراه عَلَى الطلاق في كتاب الطلاق، وأتوا عَلَى ذَلِك، وقد لخص الموَفْق ابن قدامة - يرحمه الله - شرط الإكراه وأطنب كما في كتابه: [المُغْنِي]، حيث قال -وفي كلامه طول؛ إلا أنه لأهميته وحصره للشروط نذكره بنصه قال: ’’ومن شروط الإكراه ثلاثة أمور (في بعض النسخ وشرط الإكراه ثلاثة أمور):
أحدها: أن يكون مِنْ قادر أي عَلَى تنفيذ ما توعد المرء به وخُوُّف بشأنه- قادر لسلطان أو تغلب كاللص ونحوه.
ثَانِيْهَا: أن يغلب عَلَى ظنه نزول الوعيد به إن لم يجبه عَلَى ما طلبه، ‘‘؛ وفرق بين ظن يتأرجح بين الوقوع وعدمه، وبين آخر اطمأنت النفس إِلَى وقوعه وهو ما يسميه جمهور الفقهاء بغالب الظن، فكيف إذا تيقن المرء وقوعه وَفْق الأسباب المتاحة والمقايسات المحسوسة، فإن ذَلِك آكد وهو بالحكم أولى. ثم قال - يرحمه الله -:
الثالث: أن يكون مما يتضرر به ضرراً كثيراً، كالقتل والضرب الشديد والقيد والحبس الطويل، فأما الشتم والسب فليس بإكراه؛ رواية واحدة أي عَنْ الإمام أحمد-- يرحمه الله -، وكذَلِك أخذ المال يسير، فأما الضرب اليسير فإن كان مِنْ حق مِنْ لا يبالي به فليس بإكراه، وإن كان في بعض ذوي المروءات عَلَى وجه يكون إِخراقاً أي حمقاً وما إليه وغضاً له وشهرةً في حقه فهو كالضرب الكثير في حق غيره، وإن توعد بتعذيب ولده فقد قيل ليس بإكراه؛ لأن الضرر لاحق بغيره؛ والأَوّلى أن يكون إكراها؛ لأن ذَلِك عنده أعظم مِنْ أخذ ماله، والوعيد بذَلِك إكراه فكذَلِك هَذَا‘‘.(/4)
فتلك الشروط وإن كانت مذكورة في سياق شروط الإكراه في مَسْأَلَة الطلاق؛ إلا أن أصلها مُعْتَمَد في مَسْأَلَة الردة والتَكْفِيْر عَلَى ما ذكره الفقهاء، وقد قرره عَنْ الشافعية جماعة ومن أولئك: الرملي الصغير كما في [نهاية المحتاج]، وكذا قرره عَنْ الحنابلة جماعة؛ ومن أولئك الرحيباني في[شرحه عَلَى غاية المنتهى في الجمع بين الإقناع والمنتهى](وبمثله البهوتي في [كشاف القناع]. بل هو مشهور عند الأئمة وشرَّاح الأحاديث، وقد أتى عَلَى ذَلِك جماعة تعداد لتلك الشروط المذكورة، ومن أولئك الحافظ ابن حجر-- يرحمه الله - كما في[فتح الباري]).
الشرط الرابع: هو ما يتعلق بالتأويل: فإن المرء إذا كان متأولاً في إلقائه قالة كفر أو المجيء بفعل ردة؛ فإنه يعذر ولا يكفر، ويدل عَلَى الأخذ بشرط عدم كونه متأولاً دلالتان:
الدِلالَة الأَوّلى: فالعفو عَنْ الخطأ؛ إذ يدخل فيه التأول عند عامة الفقهاء، وقد تواترت الأدلة الشَّرْعِيَّة عَلَى العفو عَنْ الخطأ،
*الدِلالَة الثانية: فهي دِلالَة الوقائع زمن التشريع حيث إن هُنَاك وقائع -وقعت زمن التشريع- عذر أصحابها بتأولهم، ولم يُدْخل عليهم وصم التَكْفِيْر، أو يوقع عليهم.
ومن ذَلِك قصة حاطب ابن أبي بلتعة ? ورحمه
الدلالة الثالثة: ما عليه جماعات من أهل السنة من عدم تكفير المتأول ومن أولئك شيخ الإسلام كما في(منهاجه) وكذا الموفق في (المغني) والخطابي في (السنن الكبرى)
فائدة:
إذا تَبَيَّنَ ذَلِك، وأن التأويل لا بد مِنْ ثبوته - عند إنزال التَكْفِيْر -: أي مِنْ تحقق كون المرء متأولاً أم لا؟.
فإن للتأول السائغ ضابطاً فما كل تأول يعذر صاحبه فالتأويل السائغ له ضوابط وجماعها ضابطان:
* الأَوّل: فهو أن يكون سائغا في لسان العرب أي عَلَى ما قرره العرب - ومعرفة ذَلِك يرجع فيها إِلَى القواعد العربية، وفي ذَلِك قواعد متبعة وضوابط معروفة، فلا يصار إِلَى تقعيد جديد، فيبتدع شيء مِنْ الضوابط -يأتي به الإنسان-؛ تسويغاً لفلتة لسان أو لرأي وقع في الجنان، ولا ريب أن المعوّل عَلَى القواعد.
* وأما الثاني: فهو أن يكون له وجه في العلم، و(أل) هنا عهدية؛ أي العلم المعهود عَنْ العلماء في تَقْرِير مَسَائِل العلم، وتقنين مباحثه وإلى ذَلِك يرجع؛ لا أن المراد أن يحدث الإنسان لرأي أو النص الشرعي مطلقاً فهوماً محدثة، ثم يبني عليها أنه علم، فيأخذ رأي جهم بن صفوان الأفين، أو يأخذ رأي الجعد بن درهم أو غير ذَلِك، ثم يقول: تلك قالات قيلت ونبني عليها صحائح المَسَائِل.
وقد قرر ذلك جماعات ومن أولئك الحافظ ابن حجر كما في (الفتح)والإمام الأصفهاني كما في (الحجة في بيان المحجة).
الشرط الخامس: أن تقوم الحجة وتبين المحجة لمن يراد تَنْزِيْل التَكْفِيْر عليه لقالة قالها أو لفعل فعله يوجب الكفر في ذَلِك.
واعتبار الحجة وتبين المحجة في ذَلِك قرره الأئمة ومن ألئك الحافظ ابن حجر كما في الفتح ناقلا قول الامام الشافعي وكذا ابن قدامة في (المغني) وشيخ الاسلام في (الفتاوي).
فوائد وتنابيه:
أَوَّلُهَا: أن بلوغ الحجة وبيانها يختلف مِنْ شخص لآخر وبلد لآخر وحال الأخرى وزمن لتال له، وهَذَا أمر مقرر عند الأئمة ومن أولئك ابن القيم كما في [طريق الهجرتين]
ثانيها: أن محل العذر بالجهل إذا لم يفرط المرء أو يقصر في معرفته للحجة، وإلى ذَلِك أشار الفقهاء ومن أولئك ابن اللحام "- يرحمه الله -كما في [القواعد والفوائد الأصولية] الله"وقرر ذَلِك أيضا المقري المالك - يرحمه الله - "في كتابه [القواعد]
ثالثا: ضابط الجهل
بيّنه الإمام القرافي المالكي - يرحمه الله - كما في [الفروق] حيث قال: (وضابط ما يعفى عنه مِنْ الجهالات الجهل الذي يتعذر الاحتراز عنه عادة وما لا يتعذر الاحتراز عنه ولا يشك لم يعف عنه) كذا قال وأصل هَذَا الضابط أن يحمل عَلَى الفروع إذ إن الفروق عَلَى هَذِه الباذة وعَلَى تلك الجاذة، ولكن هو صالح للعموم والعقائد أصل ثابت في عدم عذر الإنسان بها أعني أصل الدين أصل الإيمان واجب الذي به يدخل الإسلام وبفقده يخرج منه
رابعاً: أن بلوغ الحجة دون فهما لا تكفي وقد دل على ذلك دل شيئان:
الشيء الأَوّل: فهو ما جاء في الأخبار مِنْ عذر غير العاقل.
الشيء الثاني: فما ذكره الأئمة مِنْ الصحابة فمن بعد في مراعاة عقول الناس عند مخاطبتها بالشريعة ومن ذَلِك ما خرجه البخاري معلقا أن سيدنا عليا ? ورحمه قال خاطبوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله...
خامساً: ما يتعلق بمَسْأَلَة ما هو مِنْ الدين بالضرورة علما وما هو منه عَلَى ذَلِك الحكم الموصوف معرفة، فإن إنكاره وجحده لا ريب أنه كفر أكبر يخرج مِنْ ملة الإسلام مِنْ حيث الأصل، وقد قرر الأئمة ذَلِك اتفاقا، وممن قرر ذَلِك: الإمام النووي - يرحمه الله - كما في شرحه عَلَى [مسلم]
إلا أنه لا بد أن يعلم في ذَلِك شيئان:(/5)
الشيء الأَوّل: أن حكم كون كذا قد علم مِنْ الدين ضرورة وانتشر واشتهر أمر يتفاوت الناس فيه في أحوال وأماكن وأزمنة أحيانا؛ وقد قرر ذلك جماعات ومن أولئك شيخ الإسلام في (الفتاوي)
الشيء الثاني: فهو أن الأصل هو الحكم عَلَى جاحد مبادئ الدين وضروراته المعروفة الحكم عليه بالكفر إن هو جحدها التمسك بالأصل شيء ومراعاة الاستثناءات الواردة نبه إليه سابقا، وقد قرر ذلك جماعات؛ ومن أولئك الموفق - يرحمه الله - في (المغني)
سادساً: أن الأخذ بالتَكْفِيْر بالمآل غلط و شطط وقد حكم عليه الأئمة بالغلط، والمراد بالتَكْفِيْر بالمآل هو ما شرحه الأئمة شرحا مبينا؛ ومن أولئك ابن رشد الحفيد - يرحمه الله -"في كتابه [بداية المجتهد ونهاية المقتصد] حيث قال: (والمعنى بالتَكْفِيْر بالمآل أنهم لا يصرحون بقول هو كفر ولكن يصرحون بأقوال يلزم عنها الكفر وهم لا يعتقدون ذَلِك اللزوم) وعليه فإن المآل للتَقْرِيرات شيء وما يقرر نصا شيء.
وحقيقة التَكْفِيْر بالمآل مركبة مِنْ شيئين:
الأَوّل: أن لا ينص عَلَى هَذَا المآل ممن يراد تكفيره به.
الثاني: فهو أن يكون مقتضيا للقول أو لوازمه وتبعاته.
ومن أمثلة ذَلِك: أن يأتي إنسان إِلَى دولة مسلمة ذات حاكم مسلم يحكم بشرع الله ثم يقول: إننا نرى البنوك الربوية قائمة وعليها حراس شداد وهَذَا يدل عَلَى الاستحلال، فأخذ باللازم والمقتضى وهَذِه مغالطة لما سبق؛ إذ إن التَكْفِيْر لا يكون بذَلِك؛ ولِذَلِك قال الأئمة ومن محاسن عباراتهم ما قاله ابن حزم - يرحمه الله -" في كتابه [الفصل في الملل والنحل] حيث قال: (وأما مِنْ كفر الناس بما تؤول إليه أقوالهم فخطأ؛ لأنه كذب عَلَى الخصم وتقويل له ما لم يقل به وإن لزمه فلم يحصل عَلَى غير التناقض فقط والتناقض ليس كفرا بل قد أحسن إذ قد فر مِنْ الكفر) وقرر ذلك الشاطبي في (الإعتصام)
سابعاً: أن يؤخذ بقاعدة المقاصد وهي قاعدة عامة في الشرع مبنية عَلَى إجماعات
ثامناً: أن الأصل عند أَهْل السُنَّة والأثر وعند الفقهاء جملة أنهم يرعون أن الحكم عَلَى الظواهر وأن البواطن توكل إِلَى الله.
تاسعاً: ما يتعلق بالمَسَائِل العلمية الفرعية التي تذكر عادة في الفروع فإن ذَلِك مما حكم الشارع بكفر صاحبه أو ذكر الأئمة أنه يكفر بتلك القالة أو ذَلِك الفعل وما إليه مرجعه أصالة إِلَى كتب الأئمة الثقات والفقهاء وقد بوب الفقهاء بابا سموه (باب الردة) جمعوا فيه ما به يحكم عَلَى المرء بالردة مِنْ أعمال وأقوال وما إليهما وقد ذكر جمع مِنْ الأئمة كالبهوتي - يرحمه الله -"في كشاف القناع
المحور الثالث:: شبهات وردود
شبهات التكفير كثيرة؛ إلا أن جماع ذَلِك عَلَى وجه اشتهار ثلاثة شبه:
الشبهة الأَوّلى:
أن كثيرين يتساهلون في تكفير الأفراد، أو الآحاد، أو الجماعات بناء عَلَى شبهة عندهم وهي أننا نسوّي بين الدخول في الإسلام والخروج منه، فنقبل مِنْ المرء الذي هو كافر أصلي أن يتشهد الشهادتين ونحكم حينئذ بعصمة دمه، وماله وما يتبعه، ونقول إنه مسلم عَلَى ما يتبعها مِنْ استكمال أصل الدين المعروف اشتهارا أو اظهارا، فكذَلِك هو العمل مَع مِنْ نريد أن نخرجه، يكفي أن نأخذ منه قالة أو نظفر منه بفعل يظهره أو نحو ذَلِك تسوية بين المدخل والمخرج، ولا ريب أن ذَلِك خطأ إذ إن الشارع منه تؤخذ الأحكام، ومضى تَقْرِير شيئين:
الشيء الأَوّل: فهو أن التَكْفِيْر مَسْأَلَة شرعية لا بد أن تؤخذ مِنْ الشارع لا مِنْ غيره، والشارع قد فرق بين المدخل والمخرج، في الإسلام، فهَذَا يقبل فيه بما يظهره والنطق بالشهادتين أوله.
* الشيء الثاني: فهو المخرج أي الخروج مِنْ الدين أو الردة، فهَذَا لا بد فيه مِنْ أحكام وتَنْزِيْل مِنْ ثبت له عقد الإسلام بيقين، فلا يخرج منه إلا بيقين، وهَذِه القاعدة سبق التدليل عليها وتثبيتها، فإذا كان ذَلِك كذَلِك فلا يصح أن يقال: المخرج كالمدخل ونكتفي بالظاهر ولا نبحث عَنْ تلك الضوابط أو الشروط التي تعبنا مِنْ ملاحقة فهمها ومعرفة قيودها ولا شك أن هَذِه مغالطة.(/6)
الشبهة الثانية: هو أن يتحجج المرء بالمطلقات، أو بالعمومات سواء أكان في نص الشارع، أم كان في نصوص الأئمة، فيأخذ بعض النصوصات الشَّرْعِيَّة في التَكْفِيْر مِنْ فعل كذا فهو كافر ونحوها، فينزلها منزلة التعليم، وكذَلِك يأخذ عَنْ الأئمة كالإمام أحمد مِنْ قال: إن القرآن مخلوق فهو كافر أو مِنْ قال بالقدر أي نفى العلم القديم فهو كافر وهكذا، فيأخذ بهَذِه المطلقات لينزلها عَلَى أربابها أو يقول: كفر الجهمية فكل مِنْ انتسب إليهم فهو عَلَى حكمهم وهكذا، وهَذِه مغالطة؛ إذ إن هُنَاك تفريقا ومضى تَقْرِير مَسْأَلَة أن فرق الأمة: أمة الإجابة المسماة بأَهْل القبلة لا تخرج مِنْ دائرة الإسلام بأعيانها؛ وإنما هي متوعدة بالنار، ومضى حديث النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - المخرج عند أحمد في [المسند] وعند أصحاب السنن الأربعة سوى النسائي وقال عنه الترمذي: حديث حسن صحيح وصححه الحاكم في آخرين وفيه يقول عليه الصلاة والسلم: [وستفترق أمتي عَلَى (73) فرقة كلها في النار إلا واحدة] يقول عَنْ ذَلِك شيخ الإسلام ابن تيمية - يرحمه الله -" في [مجموع فتياه] في ? [الإيمان] يقول: (ومن قال إن الثنتين والسبعين فرقة كل واحدة منهم تكفر تكفيرا ينقل عَنْ الملة فقد خالف الكتاب والسُنَّة وإجماع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين بل وإجماع الأئمة الأربعة وغير الأربعة، فليس فيهم مِنْ كفر كل واحدة مِنْ الثنتين والسبعين فرقة؛ وإنما يكفر بعضهم بعضا مِنْ تلك الفرق ببعض المقالات) كذا قال - يرحمه الله -"، ومن ثم يستبين أن التمسك بالمطلقات في نص الشارع أو نصوص الأئمة الثقات المتقدمين مَع ترك القيود والشروط والضوابط مغالطة، المغالطة اصطلاح منطقي عند أَهْل النظر يقصد به رد الحجة البينة بالصدر، وهَذَا هو ما يسمى بالمغالطة وعليه فإن تلك الشبهة تكون هاوية بما سبق.
ثالث الشبه: أن يقع تثبيت التلازم بين الظاهر والباطن، فيقول المرء: لا يقولنَّ امرؤ بكذا إلا وهو معتقد له، ولا يمكن أن يفعل كذا إلا وقد تبطَّن به، فيحكم عليه بالكفر الأكبر والردة ويخرجه مِنْ دائرة الإسلام؛ لهَذَا التلازم الذي ذكره، لا ريب أن هُنَاك تلازما مِنْ حيث الجملة والأصل في مَسْأَلَة الظاهر والباطن سبق طرف منها كالذي يدعي الإيمان وليس عنده شيء مِنْ جنس العمل، هَذَا ممتنع كما ذكره جمع ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية - يرحمه الله -، وسبق قريبا.
وأما الغلو في ذَلِك، فيجعل التلازم حتما في آحاد الأشياء ومع كل في جميع الحالات، فإن ذَلِك هو فعل الخوارج كما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في [مجموع فتياه) في موضعه السابق وكذا جماعة، وقد عرف الخوارج بشيئين مِنْ حيث العمل:
*الأَوّل: فعدم سعة العلم؛ إذ إن لهم فقها ضيق النطاق لا يأخذون إلا بالظواهر دون تعريج عَلَى ما يثبته الفقهاء والأئمة مِنْ الصحابة والسلف الصالح فمن بعد.
*الثاني: فهو أنهم يجعلون التلازم بين الظاهر والباطن تلازما لا محيز عنه، فكفروا أصحاب الكبائر ووقعوا موقعا معلوما اشتهارا؛ ولِذَلِك وقع منهم القتل لأصحاب النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أو لأبناء الصحابة وقتل لجماعات مِنْ الصدر الأَوّل.
وهنا ينبه إِلَى زلَّة يقع فيها بعض مِنْ الناس وهو ينافح عَنْ ذَلِك، ألا وهو أن يفرط في مَسْأَلَة التَكْفِيْر، فلا يعمل مَسْأَلَة التَكْفِيْر عملها بضوابطها وشروطها التي سبقت فيأخذ بالمذهب الإرجاء الباطن فيجعل أن الإنسان ما دام أنه عنده مجرد المعرفة أو أنه قال لا إله إلا الله كاف بذَلِك وقد اشتهر عَنْ الإمام المجدد داعية التوحيد محمد بن عبد الوهاب - يرحمه الله - وأئمة الدعوة في ذَلِك أنهم كانوا ينكرون هَذَا الإرجاء وهَذَا التفريط الذي وقع فيه كثير مِنْ الناس وقت إذ فترى أحدهم ينخدع بقول بعضهم لا إله إلا الله وعنده كفريات توجب خروجه مِنْ ملة الإسلام فلا إله إلا الله لا ينتفع بها قائلها إلا إذا كان قد نطق بها حقا وأتى بشروطها صدقا فإن ذَلِك وثيق الإيمان صحيح المجيء بأصل الدين مَع ما يعتبر في مَسْأَلَة أصل الديانة التي نوه إليها مرارا فبين الغلو والجفاء مسلكك يا صاحب السُنَّة بين الإفراط والتفريط لتكن كذَلِك في أمرك وشأنك هي الوسطية التي عرف بها خير البرية ومن سلك مسلكه مِنْ أصحاب السُنَّة والهدى تاركين البدعة والهوى تلك شبهات هي جماع ما اشتهر مِنْ شبهات عمن وقع في التَكْفِيْر مَع التذيل الأخيرة الذين فرطوا ولم يعملوا التَكْفِيْر عمله الصحيح.
وهَذَا والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك عَلَى سيدنا محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
http://www.saaid.net المصدر:(/7)
خلاف مفيد
أم البنين بنت محمد 26/7/1427
20/08/2006
لكي يكون الخلاف بين الزوجين مفيداً وجاداً ينبغي ألا يصبح مجرد فرصة للتفريج عن النفس وإفراز نواتج الضغط والتوتر لدى كل طرف على حساب الآخر، أو أن يصبح التنازع هادفاً لتحطيم معنويات الآخر وإهانته، أو وسيلة لإظهار سلطة أحدهما على الآخر، فمثل هذه الخلافات تؤدي إلى نتائج لا تحمد عقباها.
أما الخلافات الجادة والنافعة هي التي تتيح للطرفين فرصة للاتصال الفعال، والحوار الجاد، وتشكل مجالاً لإظهار الانفعالات الذاتية دون إلقاء اللوم على الطرف الآخر، ودون محاولة إلصاق أسبابها به.
لا لتجاوز الحدود: وهذا خطأ فادح يقع فيه الزوجان حين يختلفان، فينتقلون من قضية الخلاف إلى خلافات ثانوية أو وهمية مصطنعة، فأحياناً قد يبدأ الخلاف حول أمور منزلية كالنظافة والترتيب، ثم ينتهي إلى خلاف حول مصاريف الأسرة والزيارات وغير ذلك...
اعتد ألا تقول إلا خيراً: ومن الضروري أيضاً ضبط النفس ومراقبة اللسان، والتذكر بأن التراجع عن زلات اللسان وإهانة الآخرين بالكلام الجارح أمر لا ينسى ويبقى عالقاً في الذهن بحيث يصبح من الصعب إزالة آثاره.
قاوم حظوظ النفس واعتذر إن أخطأت: ليكن هدفك أثناء الخلاف، بيان الحق وإيضاحه.. اسأل نفسك دائماً ماذا تريد من وراء رفع الصوت والنقاش؟ وماذا تخفي وراء عدوانيتك وانفعالاتك؟. كم هو جميل أن يرجع الإنسان إلى ربه عندما يشعر أن وراء كل هذه الانفعالات حظاً للنفس، أو رغبة في البحث عن كبش فداء يحمله المسؤولية، ويتنصل هو منها، أو اتخاذ الخلاف ذريعة للتعبير عن الغضب والتوتر.
لا للشهود والجمهور!!: هناك من الأزواج من يحاول إقحام الآخرين في مشاكله الزوجية وخلافاته -ولو كانت بسيطة- من أجل تحويلهم إلى حلفاء ومساندين له. إن هذا السلوك يؤدي إلى نتائج تهدد العلاقة الزوجية برمتها، تكفي الحالة المؤسفة التي يراهما الآخرون عليها، بل قد يصبح هذا الطرف الثالث مصدر إزعاج للزوجين من خلال تضخيم الخلاف وتحويل الأمر إلى مشكل يصعب حله، ولا ننسى أن وجود شاهد على الخلاف أمر مربك ومخجل للزوجين غالباً، ولا سيما الزوجة.
لا تختصما أمام الأطفال: في حال نشوب الخلاف أمام الأبناء يجب ألا يقلل أي من الطرفين من احترامه للطرف الآخر، وأن يتم الحفاظ على الاحترام المتبادل، فكلما نشأ الأولاد وترعرعوا وهم ينظرون إلى الخلافات بين والديهم تتم بأسلوب متحضر؛ كلما شكل ذلك بالنسبة إليهم رسالة تربوية تعطي للطفل القدوة للتماسك والترابط مع الاحتفاظ بالاحترام المتبادل بالرغم من وجود الخلافات.
اشرح وجهة نظرك كتابة: قد تكون الخلافات عرفت لهجة حادة، والحالة خرجت نسبياً من مجال التحكم. بالرغم من ذلك فلا شيء يمنع بعد هدوء العاصفة من الرجوع إلى الموضوع بكل هدوء وتعقل لتوضيح وجهات النظر، وهناك من يفضل في هذه الحالة اللجوء إلى الورقة والقلم، فالكتابة تهدئ الأعصاب وتخفف التوتر، ومن يقرأ يحسب أنه غير مهاجم ويكون أكثر استعداداً للتأمل في وجهات النظر الأخرى.
لا لرفع الصوت أمام الأطفال الصغار: إذا كان لديكما أطفال صغار فإن رفع الصوت يفزعهم، ولذلك إذا تحاور الزوجان أمام الأطفال، فإن عليهما أن يعودا ليؤكدا أمامهم حب بعضهما بعضاً، لأن الابن يحتاج إلى الشعور بالأمن وأي خلاف بين أبويه يشكل بالنسبة إليه توتراً يؤثر على نموه العاطفي والنفسي.(/1)
خلفيات الجريمة
بقلم عبد الحق عباس
كان الجزائريون بعد قرابة القرن من الاحتلال لا يرون الإسلام إلا الطُرقية، وقد زاد ضلالهم ما كانوا يرون من الجامدين والمغرورين من المنتسبين للعلم من التمسك بها والتأييد لشيوخها(1). وآل وضع الأمة إلى تخلف حضاري عام وشامل، لم يسلم من ذلك عالم أفكار الأمة ودينها ومعتقدتها، وأصبح الجانب التعبدي في أشكاله ومظاهره دون جوهره ومضامينه، وأخذ تَدين المجتمع عامة طابع الوراثة والتقليد والجمود لا أكثر، وتكلفت الزوايا والكتاتيب والمساجد في صورتها الموروثة بتقديم صورة معينة للإسلام، وفق وضع شيخ الطريقة المعينة.
ولما كان الإمام بن باديس يربط دائمًا بين الدين والأخلاق والعقل، ويرى أن قدرة المسلمين إنما تكون بالجمع بين العقائد الواضحة والأخلاق الطيبة والعلم، فإنه لم يتحرج من أن يقاوم الطُرق الصوفية في الجزائر، فكانت الحملات في دُروس التفسير والخُطب وفي مقالات الصحافة الإصلاحية بالأخص في الشهاب متوالية على الخرافات والأباطيل، وعلى المبتدعة والمضللين، وأيده في حملته فحول العلماء والمفكرين في الجزائر وتونس والمغرب وكان من أشدها عنفا على الطريقة العلوية وشيخها المتهم بالحلول ووحدة الوجود "أحمد بن عليوة" شيخ الطريقة العلوية في مستغانم، لسوء أدبه مع النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى بعض شطحاته الحلولية المنافية للعقيدة الإسلامية.
أحمد بن عليوة وطريقته :
لقد انتشرت الطرق الصوفية، وتعددت وتنوعت، وصارت تتحكم بزمام أوضاع الأمة، فلم يكن أحد أيًا كان يتجرأ على مواجهة شيوخ الطرق ومريديهم، ورَفض قبول كلامهم والانصياع لمطالبهم، والإذعان لأحكامهم وأوامرهم، فتفطن الاستعمار لما للطرقية من قوة ونفوذ، وعمل على احتوائها واستيعابها لاستخدامها وسيلة لبسط نفوذه وإحكام سيطرته، بتنصيبه من يضطلع لتشويه الدين عن طريق ضعاف النفوس من أمثال "أحمد بن عليوة" الذي تحدث عنه وعن طريقته الشيخ المجاهد "أحمد توفيق المدني" بما يلي : »
قال لي الأخ محمد رضا الأكحل – وكنا في أواخر شهر تموز/يوليو (جويلية) 1925 م - : لنا اليوم سهرة حافلة بمقبرة سيدي محمد بن عبد الرحمن، فلنستعد لها مبكرين حتى نكون في الصفوف الأولى. لم أفهم إطلاقًا. سيدي محمد.. مقبرة كبيرة وشهيرة بعاصمة الجزائر تعادل في أهميتها وفي قيمتها وفي علو كعب من دفن بها مقبرة الزلاج التونسية، وهي ذات أقسام ثلاث : المسجد والضريح، وساحة الضريح الفسيحة، وقبورها مسواة مع الأرض، ثم القسم الخلفي وقبوره عالية بارزة، فكيف تكون حفلة ساهرة فوق الأجداث ؟ قال لي مؤكدًا أنها حفلة سنوية يقوم بها رجال الطريقة الرحمانية الذين يأتون في ركب عظيم من مدينة قسنطينة لزيارة شيخهم صاحب الطريقة. تقززت أولاً، هذه من أعظم البدع.. ويجب أن أرى ذلك رأي العين...
وجاء الليل وذهبنا جماعة إلى المقبرة، فإذا بالساحة الفسيحة الموجودة أمام الضريح وقد أصبحت أشبه شيء ببهو فخم لقصر ثري، وقد فرشت أرضها بالبسط الثمينة، والزرابي المبثوثة، والمنابذ الصوفية الفارهة. وجلسنا، واستمر توارد القوم من حي "بلكور" ومن العاصمة وما يحيط بها، حتى لم يبق من مكان تطأه رجل إنسان.
وبعد صلاة العشاء، التأمت حلقة الذكر، وأخذ "الفقراء" يترنمون بأصوات هي البشاعة أقرب منها إلى الرخامة. وطال ذلك نحو ساعة. فبعض تلك الأناشيد والأذكار كان مستقيم المعنى صحيح المبنى، فيه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه الموعظة والذكرى، أما بعضها الآخر ففيه إشارات واضحة إلى مذهب "وحدة الوجود" يترنم بها القوم ولا يفهمون لها معنى، وخرجت من هناك آسفا حزينًا وأنا أتساءل : كيف تمكن أحمد بن عليوة المستغانمي من إنشاء طريقة صوفية وهو شبه أمّي ؟..
زارني – أحمد بن عليوة – يومًا، وسألته : ما هي الأسس التي بنيت عليها هذه الطريقة الجديدة ؟ قال : سأبعث إليك بكتاب ألفته وطبعته... وما هي إلا ساعة حتى جاءني أحد "الفقراء" يحمل إلي كتابًا، اسمه "المنهج القدوسية في شرح متن ابن عاشر على الطريقة الصوفية". وأخذت في الحين أقرأ الكتاب، ويا لهول ما قرأت : كلام أهوج، وخرافات لا تنطلي حتى على الأبله، وأباطيل وضلالات ما أنزل الله بها من سلطان. ودعوة سافرة غير حكيمة، لمذهب "وحدة الوجود" المنافي لعقيدتنا الإسلامية القرآنية الطاهرة على خط مستقيم. فاستعذت بالله من رجل اتخذ في ذهني صورة الشيطان في جسم إنسان...«(2).(/1)
هذا ما جاء به "أحمد بن عليوة" (المتوفى سنة 1934 م) الذي كان يعمل حرازًا بمستغانم قبل أن آلت إليه مشيخة زاوية "درقاوة" بمستغانم بوصيّة من شيخه "محمّد بن الحبيب البوزيدي" (المتوفى عام 1909 م). ولكن الشيخ "ابن عليوة" كان طموحًا جدًّا فجدّد الطريقة وأدخل على نظامها وطقوسها ودعايتها تغييرًا شاملاً مِمّا جعلها تنتسب إليه بدلاً من نسبتها إلى "الدرقاوي" أو "الشاذلي"، وخرج بها من مستغانم لتنتشر في الآفاق، ونشطت على يده نشاطًا هائلاً، وامتدّت دعوتها باسمها الجديد: "الطريقة العليوية" في الوطن وخارج الوطن(3)... وهكذا انتحل مذهبه - الذي نادى به محيى الدين بن عربي الأندلسي في كتابه (شجرة الكون) وعالجه اليهوي الهلاندي اسبينوزا، وتعرض له عمر بن الفارض – وهو مذهب "وحدة الوجود" الذي اشتهر به أيضًا شيخ الصوفية جلال الدين الرومي، أبعد الطرق عن الإسلام التي تدعو إلى الحلول صراحة، وهذا يتنافى تمامًا مع تعاليم الدين الإسلامي، ويصل بصاحبه إلى الكفر والإلحاد.
حملات ابن باديس على العلويين والطرق الصوفية الأخرى
رُفع نص سؤال إلى الشيخ العلامة عبد الحميد بن باديس يقول : "ما قول ساداتنا العلماء - رضي الله تعالى عنهم، وأدام النفع بهم - في رجلٍ يزعم أنّه قطب الزمان الفرد، وأنّ الكلّ دونه، وأنّه العارف الْمُسَلّك... إلى غير ذلك من أعلى صفات العارفين، وأسمى درجات الكاملين، ثُمَّ يقول مخاطبًا للنبيّ صلى الله عليه وسلم بما نصّه :
إنْ مُتّ بالشَّوْق منكد
من هو بالملك موحّد ... ... إن تبق في هجري زائد
عبس بالقول تساعد
ما عذر ينجيك للمولى ندعيك
ينظر في أمريك ... ... ما نرجوه فيك
ولَمّا قيل له في هذه الأبيات، قال: أَلسُنُ الْمُحِبِّين أعجمية !
فهل يُعَدُّ خِطابُه هذا سُوء أدب ؟
وهل تجوز مخاطبة النبيّ صلى الله عليه وسلم بمثله ؟
وهل صدور مثله من شأن العارفين الكاملين !؟
وهل يُقبل منه ما اعتذر به من عُجمة ألسن الْمُحبّين ؟
أفيدونا مأجورين - إن شاء الله تعالى - من ربّ العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته".
فانبرى الشيخ ابن باديس للجواب بعد أن استخار الله تعالى، فألف رسالة نافعة في الذب عن النبي صلى الله عليه وسلم موسومة ب : "رسالة جواب سؤال عن سوء مقال". ردّا على أحمد بن عليوة المستغانمي صاحب الطريقة العليوية، الذي تَجَرَّأَ على مقام النبوة الكريم فَفَاهَ بِجُمَلٍ سَخِيفَةِ الْمَعْنَى في أبيات باللّسان العَامِّيِّ الوارد في السؤال التي نشرها في ديوانه المطبوع في تونس عام 1920 م، المشحون بالدعوة إلى مبدأ الحلول وحدة الوجود(4).
رسالة جواب عن سوء مقال، عبارة عن رسالة صغيرة لا يزيد عددها عن سبع عشرة صفحة، تحتوي على مقدّمة وأربعة فصول وخاتمة، حَشَدَ فيها ابن باديس خير الأدلة، من الكتاب الكريم والسنّة الصحيحة وآثار السلف، بأسلوب علمي متين ولسان عربي مبين، وفرغ من تحريرها صبيحة الثلاثاء السابع والعشرين من ذي الحجة الحرام عام 1340ه الموافق لعام 1922 م، أرسل بها إلى كبار مشايخه بتونس وإلى أفاضل العلماء والمفتين بالجزائر والمغرب ومصر، فاطّلعوا عليها وقرّظوها وأرسلوا إليه بتقاريظهم تباعا فطبعها ونشرها في الجزء الأخير من الرسالة بأسماء العلماء المقرظين مع بيان وظائفهم وبلدانهم. واعتبروها من العمل المبرور والصنيع المشكور، وضلّلوا من فاه بتلك الأبيات، لما حوته من ترّهات"!
إنّ الرسالة - على صغر حجمها وما فيها من علم دسم – ساهمة بالقدر الممكن في الردّ على تحرّك أدعياء التصوّف الزائف في تلك الأيام، وتحذير الأمة من إفكهم وباطلهم، وكشف مخازيهم على ما أدخَلُهُ في القلوب من فساد العقائد، وعلى العقول من باطل الأوهام، وعلى الإسلام من زور وتحريف وتشويه، إلى ما صرفت من الأمّة عن خالقها بما نصبت من أنصاب، وشتّتت بكلمتها بما اختلقت من ألقاب، وقتلت من عزّتها بما اصطنعت من إرهاب، حتّى حقّت للحقّ على باطلها الغلبة(5)، واهتداءً بجنود الإصلاح من إخوانه المشايخ في جمعية العلماء المسلمين - التي أسسها ابن باديس سنة 1931 م – من أبرزهم : الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، والعربي التبسي، ومبارك الميلي، والطيب العقبي (رَحِمَ اللهُ الجميع) الذين "شنّوا الغارة على قلعة الضلال، وحملوا عليها حملةً صادقةً شعارُهم : لا صوفية في الإسلام، حتّى يدكّوها دكًّا وينسفوها نسفًا ويذروها خاوية على عروشها"(6).(/2)
وأمام الصعاب التي واجهها ابن باديس ورجال الإصلاح خاصة أن الطرق المنحرفة كانت تتلقى الدعم من سلطات الاحتلال، استعان ابن باديس بالصحافة الإصلاحية لكشف حقيقة تلك الطرق المنحرفة متبنيا منهج إصلاح عقائد الناس وأعمالهم، إذ يقول : "قمنا بالدعوة إلى ما كان عليه السلف الصالح من التمسك بالقرآن الشريف والصحيح من السنة الشريفة وقد عرف القائمون بتلك الدعوة ما يلاقونه من مصاعب وقحم في طريقهم من وضع الذين شبّوا على ما وجدوا عليه آباءهم من خلق التساهل في الزيادات والذيول التي ألصقها بالدين المغرضون أو أعداء الإسلام الألداء والغافلون من أبناء الإسلام".
فكانت الحملات متوالية منذ أول جريدة أنشأها الإمام، هي المنتقد (في 3 جويلية سنة 1925 م) وكان شعارها "الحق فوق كل أحد والوطن قبل كل شيء"، وكما يدل عليها اسمها فقد كانت ثورة على كل المظاهر المنحرفة في المجتمع الجزائري بهدف تنبيه المجتمع إلى مواطن الخلل والتركيز على نقض الطرق الصوفية المنحرفة التي كانت تمثل الإسلام بصورة مشوهة وكانت توجه أتباعها من خلال المقولة الخطيرة "اعتقد ولا تنتقد" فكان عبد الحميد بن باديس يردد عبارة "انتقد ولا تعتقد".
ولكن "المنتقد" لم تعش طويلا، نظرا للهجتها الحارة، وجملتها الصادقة، ضد الخرافات والبدع، والتي أثارت حفيظة الطرقيين عليها، وساندهم في ذلك بعض رجال الدين الرسميين. فأخذوا في الوشاية لدى السلطات الفرنسية ضدها، حتى عطلتها بأمر حكومي، بعد أن دامت أربعة أشهر أصدرت خلالها ثمانية عشر عددًا. ويقول الإمام فاضحًا وكاشفًا سبب سعي السعاة لتعطيلها : "ولكن أثار الذين اعتادوا التملق صدقها. وكبر على الذين تعودوا النفاق صراحتها. وهال الذين اعتادوا الجبن من الرؤساء، أو اعتادوا الجمود من الأتباع صرامتنا. فأجمعت هذه الطرائف أمرها، وأخذوا يسعون في الوشاية ضدها، وحمل الحطب للمراجع العليا لحرقها، حتى عطلت".
على إثر تعطيلها مباشرة، أصدر ابن باديس جريدة "الشهاب" (في 12 نوفمبر 1925 م) التي يوحي عنوانها "بالطموح إلى إضرام النار في القديم البالي الميت، الذي يريد أن يتحكم في الأحياء، وفي المستقبل. وإلى إنارة الطريق للجيل الصاعد، نظرا لما للشهاب من معاني النار والضوء"(7). وخوفًا من الإمام على الجريدة من التعطيل، وحذرًا منه على ذلك، اصطنع وانتهج – مداراة وتمويهًا – في تحريرها رؤية جديدة تتسم بعدم الصدام مع سلطات الاحتلال، والصبغة الدينية الغالبة في موضوعاتها، فقام الشيخ بشرح التفسير والأحاديث على صفحاتها، مع ربط المسائل الدينية بالواقع الجزائري، فراح يهاجم الدجاجلة فيقول على صفحاتها : "أحذر من دجال يتاجر بالطلاسم، ويتخذ آيات القران وأسماء الرحمن هزواً يستعملها في التمويه والتضليل".
واتهم المتصوفة الذين أخذوا أنفسهم وأتباعهم بنسك الأعاجم (يعتبر أحمد بن عليوة أنه واحد منهم) بأنهم اخترعوا أعملا وأوضاعًا وعقائد من عند أنفسهم وظنوا أنهم يتقربون بها إلى الله على غرار ما فعل المشركون من عبادة الأوثان والذبح عليها، "وكما اخترع طوائف من المسلمين الرقص والزمر والطواف حول القبور والنذر لها والذبح عندها ونداء أصحابها وتقبيل أحجارها ونصب التوابيت عليها، وحرق البخور عندها، وصب العطور عليها" وهو يدمغ ذلك كله بأنه مخالف لسنة رسول الله وأصحابه. وهو يظهر عجبه من حال المسلمين الجزائريين وغيرهم إذ "تجد السواد الأعظم من عامتنا غارقًا في هذا الضلال. فتراهم يدعون من يعتقدون فيهم الصلاح من الأحياء والأموات، يسألونهم حوائجهم من دفع الضر، وجلب النفع وتيسير الرزق وإعطاء النسل، وإنزال الغيث ويذهبون إلى الأضرحة... ويدقون قبورهم وينذرون لهم... وتراهم هناك في ذل وخضوع وتوجه، قد لا يكون في صلاة من يصلي منهم"، إنهم يدعون غير الله، ومن دعا غير الله، فهو إلى الشرك أقرب.
وإلى جانب هذا الشرك الخفي أو الصريح، ما عسى أن يقول المتصوفة عن الأنبياء وعن سيد الخلق نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وهم أكثر الخلق خوفًا من الله ونفورًا من عذابه ؟ وهل يجهلون أن من دعاء القنوت الثابت المحفوظ "وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخاف عذابك الجد"...
هذا وقد صرف الطرقية في الجزائر الناس عن العمل، وحببوا إليهم التواكل، وأنكروا عليهم حرية الإرادة، وكادوا يجردونهم من قيمهم الإنسانية، وشاعت المنكرات في الوالد "والزردات والوعدات"، واستغل أرباب الطرق الصوفية سذاجة العامة فهناك "نوع موجود في غالب القطر الجزائري، ويكثر في بعض الجبال وهو أن بعض المأمورين من بعض شيوخ الطوائف يأتون بثلة من أتباعهم، فينزلون على المنتمين إليهم من ضعفاء الناس فتدبح لهم الذبائح، ويكنس لهم ما في البيت.. وشر ما في هذا الشر أنه يرتكب باسم الدين وينسبه الجهال أنه قربة لرب العالمين".(/3)
ويعترف الإمام بن باديس أن الناس قبل نجاح حركة الإصلاح كانوا يظنون أن الإسلام ليس إلا ما تصوره الطرق الصوفية. ومما زاد في ترويج هذه الفكرة الضالة ما رأوه من مسلك علماء الدين ضيقي الأفق الذين ساندوا الطرقية، وأيدوا شيوخها. لهذا عمد لكشف أسمائهم وطرقهم المنحرفة عبر عديد المقالات الحادة باسمه أشهرها مقال "جواب صريح" في ذكر المشتهر بصلاة الفاتح لما أغلق من الأذكار المنتشرة عند الطريقة التيجانية، ونشره "الخطبة العصماء في التحذير من البدع والموالد" للسلطان سليمان بن سيدي محمد بن عبد الله، أحد مفاخر ملوك المسلمين في القرن الثاني عشر في المغرب الأقصى، ويعلل ذلك "ونحن نرجو من خطباء الجزائر أن يخطبوا بها على الناس إن كانوا لهم ناصحين". وللإمام مقالات أخرى كان يمضيها باسم "بيضاوي" في أغلبها كانت شديدة النقد للطريقة العلوية، فحاول العلويون معرفة هذا الكاتب، ولكن إدارة الشهاب أبت الكشف عنه، وما تحركهم لمعرفة الكتاب إلا غيضا، كون الله وفق الجزائريين إلى معرفة حقيقة هذه الطرق وإلى كشف عن أهدافها من إشاعة العقائد الباطلة وتحريف الإسلام وتشويهه، وتحطيم القيم الأخلاقية الإسلامية، ومن مساندة دولة الباطل.
تحرك غيض العلويين :
بعد قرابة العام من صدور الصحافة الإصلاحية التي تزعمتها صحف الشيخ ابن باديس وصمودها، واشتداد الحمالات على الطرقية خاصة على الطريقة العلوية واتباعها، تحرك غيض العلويين، فقرروا الفتك بابن باديس، لأن بموته تختفي الصحف وينطفئ نجم جمعية العلماء المسلمين اللتان كشفتا أفعالهم المنحرفة، وينتقمون لشيخهم أحمد بن عليوة الذي فضح أمره في رسالة جواب سؤال عن سوء مقال، وتنطفئ الصحوة والنهضة القائمة كون ابن باديس زعيمها الروحي الذي أخمد نار زرداتهم، وخلص البلاد من حمى دراويشهم، وحرر عقل الأمة من أضاليلهم وأحلامهم الممتعة المسكرة، التي يشعيها شيوخهم ومريدوهم. فعقدوا اجتماعا في مستغانم واتفقوا فيه أن يغتالوا الشيخ المصلح، وأرسلوا من ينفذ هذه الخطة.
- صورة الحادثة :
في قسنطينة شرع هذا الشخص الموفد مع بعض مساعديه يترصدون الشيخ لمعرفة مسكنه وتحركاته وأوقاته، وفي يوم 9 جمادى الثانية 1341 هـ الموافق ليوم 14 ديسمبر 1926 م عندما كان ابن باديس عائد إلى بيته بعد منتصف الليل، كمن له الجاني في الطريق، وأقدم على تنفيذ محاولته الآثمة، ولما دنا منه هوى عليه بهراوة وأصابه بضربة على رأسه وصدعه، فشج رأسه وأدماه، لكن الشيخ أمسك به، وهو الضعيف النحيل، وصعد به في الدرج إلى الطريق العام، ويصيح مستغيثا فتبلغ صيحته جماعة كانت بمكان قريب منه، فيهرعون إليه ولما رأى المجرم إقبال الجماعة لاذ بالفرار، وإلى أين ؟ إلى منزل الإمام حيث وقف ببابه ولعله كان ينتظر الإجهاز عليه بطعنة خنجرا من نوع "البوسعادي" كان يحمله، ولكن خاب ظنه، وخذلته بركة الشيخ والزاوية، فعثرة عليه جماعة النجدة هناك، وانقضوا عليه، وكادوا يفتكون به، لو لا تدخل الإمام بن باديس قائلا : "كفوا عنه فليس الذنب ذنبه، فما هو إلى صخرة مسخرة".
شاع خبر محاولة الاغتيال في المدينة فأقبلت الجموع تستطلع الخبر، وتتأكد من حياة الإمام بن باديس برؤيته، ومن القلة الذين أذن لهم الشيخ بدخول عليه الشيخ محمد الصالح بن عتيق أحد أبرز طلبته رفقة بعض زملائه، يتحدث عن حالة الإمام : "ولما دخلنا عليه رأينا ويا هول ما رأينا شخصا نحيلا علاه الاصفرار يصارع الألم الذي أصابه بصبر وثبات فأصابنا حزن عميق وقد أدرك ما نحن عليه فابتسم وقال لنا أتذكرون درس الليلة في تفسير قول تعالى : "لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون"، قلنا نعم نذكره جيدا، والحمد لله على سلامتكم. وقبل أن ننصرف سألناه عن الحادثة وكيف جرت بينه وبين المجرم قال : "بينما كنت عائدا من إدارة الشهاب ليلا، وقد تلفعت ببرنوسي من شدة البرد أفكر في أعمال الغد، وأنا ذاهب إلى المنزل، وعندما كنت على السلم الواصل إليه، لم أشعر إلا بضربة شديدة تهوي على رأسي، ولو لا العمامة التي وقتني لنالت مني هذه الضربة أكثر مما نالت، فاشتبكت مع المجرم، واستطعت أن أحمله بين يدي هاتين، مشيرا بيديه، وأصعد به في الدرج وبلغت به الطريق العام، ثم سكت قليلا، ثم قال : أتدرون كيف تغلب عليه ؟ قلنا لا، والله الرجل بدوي يجهل السير على الدرج وخاصة الضيق منها، أما أننا فقد تعودت السير عليها، ولم أجد في ذلك حرجا". وأبي رحمة الله أن يجعلنا نعتقد أنها كرامة له من الله، وهي كذلك فمن عرف المكان الوعر والوحش الكاسر، وما معه من سلاح، ومن عرفه ما عليه الأستاذ من الضعف والهزال أيقن أن الله كان معه يدافع عنه"(10).(/4)
أما الجاني فقد أمسكت به جماعة النجدة وساقوه إلى الشرطة فأوقفته وفتشته فوجدت عنده سبحة وتذكرة ذهاب وإياب بتاريخ ذلك اليوم، (من مستغانم إلى قسنطينة) زيادة عن الخنجر والعصا، فأودعته السجن ثم قدمته للمحاكمة فنال جزاءه، وصدر في شأنه الحكم بخمس سنوات سجنا. رغم أن ابن باديس عفا عنه في المحكمة قائلا : "إن الرجل غرر به، لا يعرفني ولا أعرفه، فلا عداوة بيني وبينه.. أطلقوا سراحه"، ولكن الزبير بن باديس المحامي (شقيق الشيخ بن باديس) قام باسم العائلة يدافع عن شرفها، ويطالب بحقها في تنفيذ الحكم قائلا: "إن أخي بفعل الصدمة لم يعد يعي ما يقول إلى غير ذلك مما جرى في المحاكمة".
- صدى الحادث الأليم :
ما كاد خبر الحادثة يقع حتى انتشر الخبر في أنحاء البلاد وأرجاء الوطن العربي، فورد على مجلة الشهاب عشرات من القصائد والمقالات يستنكرون فيها محاولة اغتيال الإمام بن باديس من طرف دعاة البدعة بإيعاز الإدارة الاستعمارية، وانتقلت الطريقية العلوية واتباعها من مواقع الهجوم إلى مواقع الدفاع في محاولة للدفاع عن وجودها ومصالحها، غير مدركة في الحقيقة أين تكمن مصلحتها الحقيقة بعد أن فقدت شعبيتها وظهرت بمظهر الخيانة، ولم تعد ذات نفع للحكومة الفرنسية، بل غدت عبئاً عليها بسبب الحادث الأليم.
وفي هذه الحادثة فاضة المقالات بشعور الإعجاب بجهاد الإمام بن باديس وشجاعته، فمن ذلك القصيدة التي وردت من شاعر الشباب، وأمير شعراء الجزائر الشيخ محمد العيد آل خليفة الذي خاطب بها الشيخ بن باديس بعد الحادثة :
حَمتْك يَدُ المَوْلَى وكُنْتَ بِهَا أولَى
وأخطاك الموت الزؤام يقوده
وأهوى إلى نصل بكف لئمة
فأوسعها وهنا، وأوسعتها قوة
وكادت يد الجاني السخّر تعتلي
فَيَا لو ضِيع النّفْسِ كَيفَ تَطاولتْ
فَوَافَتكَ بالنَّصْر العَزِيزِ طَلائعٌ
وإنْ أنْسَ لا أنْسَى الذينَ تَظَافَرُوا ...
... فيَالكَ مِنْ شَيخَ حَمََتْهُ يَدُ المَوْلَى
إليك أمرؤ أملي له الغي ما أملي
تعود أن ينضي بها ذلك النصلا
وأجهدتها عقدا، وأجهدها حلا
يد الشيخ لولا الله أدركه لولا
بِهِ نَفْسُه حتَّى أسرّ لَكَ القَتلاَ
مُبَاركةٌ تَتْرى من الْملأ الأعْلَى
عَلى الفَتْكِ بالجَاني فقلتَ لَهُم مَهْلاَ(11)
وجاءت من الشاعر الكبير السعيد الزاهري قصيدة ينوه فيها بشخصية الإمام بن باديس، ويستنكر فعل خصومه الأنذال ومطلعها :
لا تبلغ العلياء دون ثبات
يا وقفة لك في سبيل الله لم
بعثوا إليك منوما يعدو على
قطع الطريق عليك في غسق ولم
نهضوا لحرب المصلحين لعلهم
أذوك حين دعوت من ضلوا الـ ...
... هيهات دون المجد كل أداة
نرهان لغيرك من ذوي الوقفات
ما فيك من جد ومن عزمات
تكن التّيوس لتقطع الطرقات
يقفون دون طريقة عشرات
ـدين النير بحكمة وعظات(12)
وجاء من الشاعر الوطني رمضان حمود قصيد مطلعه :
عِشْ سالما عبد الحميد من البلا
عش كالهلال سناؤه وعلوه ... ... قد خابت الأنذال وهي كتائب
والكل نحوك أنجم وكواكب(13)
وكتب الشيخ العربي التبسي – وهو طالب بالأزهر الشريف بمصر – مقالا موسوم "أريد حياته ويريد قتلي" قال فيه بعد أن اثنى عل مجلة الشهاب : "وما قبل اليوم كاهن، ولا عراف، ولا زاحر، يقر إليه (في أذنيه) يظن أن هناك مخلوقًا من إنس، أو جن، تحدثه نفسه بأن يحمل المعول والفؤوس ليهد علمًا يزاحم الكواكب بالمناكب، من أعلام الإسلام في سبيل الشيطان، ومرضاة الطاغوت، ولكن من سبقت عليه الشقاوة، وجرى عليه القضاء، اتبع هواه فركبها عشواء مظلمة !
من ذا الذي لا ينفلق كبده أسفًا وغمًا لما أتاه هذا الأفاك الأثيم العليوي مما يغضب الرحمان، ويثير الأشجان ؟
ألا فليعلم العليوي السفاك، ولي إبليس، أن فعلته التي فعل لم تكن مسددة إلى الأستاذ العظيم ابن باديس، وإنما رمى بسهمه نحر الإسلام، وأنه أراد هو وشيعته أن يأتوا بدين مزيج من معتقدات الآباء الكاثوليك، والرسل البروستانتيين، فليس له أن يرغم علماء الإسلام على قبول شنعه باسم دينهم وأن يكم أفواههم حذر أن يبينوا للناس ما أتيتم به مما ينقض الهيكل الإسلامي، ويحطمه لبنة لبنة، فدون وصولكم إلى غايتكم – والله – لمس السماء، ودك الشاخب (الجبال)"... (14)
واستمرت الرسائل والقصائد تهنئ ابن باديس وتنعي باللائمة على المعتدي وحزبه، فكانت هذه الحادثة رغم فضاعتها وبشاعتها مباركة على المصلحين وأنصارهم، فقد تأهبوا للدفاع عن الفكرة الإصلاحية ورعايتها بينما باء أهل الزيغ والضلال بالهزيمة وسوء السمعة فانكشف حالهم وحيطت أعملهم فكانوا من الخاسرين.
موقف ابن باديس من الحادث وكلمته الصريحة :(/5)
بعدما تبين أن للعلويين والطرقية المنحرفة يد في الحادث، بين الإمام بن باديس موقفه من الحادث، موجها كلمة صريحة للطرقية، يقول : "لا يهمنا اليوم أن نجهز على الجريح المثخن الذي لم يبق منه إلا ذماء، وإنما يهمنا أن نبين موقفنا مع البقية من شيوخنا ونسمعهم صريح كلمتنا. حاربنا الطرقية لما عرفنا فيها – علم الله – من بلاء على الأمة من الداخل ومن الخارج، فعملنا على كشفها وهدمها مهما تحملنا في ذلك من صعاب. وقد بلغنا غايتنا والحمد لله، وقد عزمنا على أن نترك أمرها للأمة، هي التي تتولى القضاء عليها، ثم نمد يدنا لمن كان على بقية من نسبته إليها لنعمل معًا في ميادين الحياة على شريطة واحدة : وهي أن لا يكون آلة مسخرة في يد نواح اعتادت تسخيرهم، فكل طرقي مستقل في نفسه عن التسخير فنحن نمد يدنا له للعمل في الصالح العام، وله عقليته لا يسمع منا فيها كلمة، وكل طرقي – أو غير طرقي – يكون أذنًا سماعة وآلة مسخرة، فلا هوادة بيننا وبينه حتى يتوب إلى الله. قد نبذنا إليكم على سواء.. إن الله لا يحب الخائنين"(15).
________________________________________
الهوامش :
1- الشهاب، ج11، م14، محرم 1357 – مارس 1938، ص : 204.
2- بسام العسلي : عبد الحميد بن باديس وبناء قاعدة الثورة الجزائرية، ط2، دار النفائس، بيروت، لبنان، 1403 هـ/1983 م، ص : 74 – 75 – 76.
3- أنظر محمد الصالح رمضان (وهو من تلاميذ ابن باديس) في مقدمته على الرسالة المحققة "رسالة جواب سؤال عن سوء مقال".
4- انظر الشواهد على ذلك في "صراع بين السنّة والبدعة" لأحمد حماني، ص : 201 - 223.
5- أنظر آثار الإمام ابن باديس، ج5، ط1، من مطبوعات وزارة الشؤون الدينية، الجزائر 1985 م، ص : 587.
6- أنظر سجل مؤتمر جمعية العلماء، ص 31.
9- محمد الميلي : ابن باديس وعروبة الجزائر، ابن باديس وعروبة الجزائر، ط2، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1973، ص 12.
10- محمد الصالح بن عتيق، أحداث ومواقف في مجال الدعوة الإصلاحية والحركة الوطنية بالجزائر، منشورات دحلب، ص : 60.
11- محمد العيد آل خليفة : ديوان محمد العيد، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، ص : 122.
12- محمد الصالح بن عتيق، نفس المرجع، ص : 62-63.
13- محمد الصالح بن عتيق، نفس المرجع، ص : 63.
14- محمد الصالح بن عتيق، نفس المرجع، ص : 64.
15- الشهاب، ج11، م14، محرم 1357 – مارس 1938، ص : 204.(/6)
خلقت لواحدٍ فلا تكن عبداً لكثير !! د. الحبر يوسف نور الدائم*
دعا القرآن الكريم إلى التوحيد ، واعلم أنه العقيدة التي بشر بها النبيون كلهم أجمعون ( ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) فالإشراك عمل حابط, وبطلان ظاهر وخسران مبين... ( والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءاً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفّاه حسابه والله سريع الحساب . أو كظلماتٍ في بحرٍ لجيّ يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور) وفي سورة إبراهيم (مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا علي شيء ذلك هو الضلال البعيد) وفي سورة البقرة نقرأ قوله سبحانه ( يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلداً لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين) والصفوان الحجر ، والوابل المطر العظيم القطر ويقال لضعيفه طل وفي القرآن ( فإن لم يصبها وابل فطل) والصلد الأملس و الظن بالتراب إذا أصابه الوابل أن يهتز ويربو وينبت ويمرع ، ولكن لما لابس العمل الرياء والكفر فقد كشط التراب وزال الأثر ومحقت البركة وبطل العمل ، وبقيت الصلادة التي لا تلين والقساوة التي لا تنبض.
فالإشراك بالله- أعاذني الله وإياك منه - مصيبة ما بعدها مصيبة, وذنب ما بعده ذنب. وما لمشرك من مطمع في مغفرة ولا جنة ولا رضوان ( من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة) وفي سورة الأعراف ( ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو ممّا رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين) إن الإيمان بالله وإفراده وتوحيده دين قيم وطريقة مستقيمة ومحجة بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك ، وإن الكفر بالله و الإشراك به دين فاسد وطريقة معوجة وضلال بعيد ( ومن يشرك بالله فكأنما خرّ من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق) .
ولما كان التوحيد بهذه المنزلة فقد حرص الأنبياء قاطبة على توكيده و تحقيقه ونشره وإذاعته ، بينوا بياناً فصيحاً وبلّغوا بلاغاً مبيناً لتكون على الناس الحجة. ومع البيان الفصيح و البلاغ المبين فلا حجة للناس على الله. لقد زال العذر وانقطع الشك وارتفع الإلتباس. لقد بلغ الرسل ما أنزل إليهم من ربهم فدعوا إلى عقيدة التوحيد بألسنة مفتوقة مفتوحة وكانوا صرحاء نصحاء فصحاء. صبروا و صابروا ، جدوا وجاهدوا ، قاتلوا وقتلوا ، وبذلوا أنفسهم و أموالهم في الله ولا غرو ، فمن الناس من يشري نفسة إبتغاء مرضاة الله . والرسل صفوة الناس بعد ، ما من رسول إلا بشّر و أنذر، وخوّف وحذّر ، ورغّب ورهّب ( إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم) ( ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة و النبيين أرباباً أيامركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون) ، (لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعاً . فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا اليماً ولا يجدون لهم من دون الله ولياً ولا نصيراً ) .
نعم ، التوحيد رسالة الأنبياء جميعا وهو عقيدتهم كلهم لا نستثني منهم أحداً , حتى إذا بعد العهد وطال الأمد وقست القلوب ، واندثرت معالم الحق وانطمست معالمه وانحرف بعض الناس عن الحق ومالوا عن الرشد ، واستحوذت عليهم شياطينهم فلعبت بهم الأهواء وتعلقوا بأباطيل صدتهم عن سواء الصراط . لقد مكث موسى عليه السلام في قومه يعلم ويهذب ، ويزكّي ويؤدّب حتى إذا غاب عنهم أياماً اتخذوا عجلاً له خوار زعموا أنه ربهم ورب موسى وهارون. فلما رجع موسى إلى قومه غضب لربه عز وجل فألقى بالألواح ، وأخذ برأس أخيه يجره إليه وقال للسامري في غضب وغيظ ( وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفاً لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفاً . إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما ) .(/1)
التوحيد عقيدة أولي الألباب من ذوي الفطرة السليمة, و القلب الصقيل ، أما من سقمت فطرته وأظلم قلبه فإنه لا يستطيع أن يرقى إلى الأفق التوحيدي السامي , ولهذا تراه مرتكساً في عين حمئة يلتمس النفع و الضر و الهداية و الرشد و الولاية و النصر ممن لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا هداية ولا رشداً ولا ولاية ولا نصراً . أولم يقل قوم موسى لموسى عليه السلام عندما جاوزوا البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم (إجعل لنا إلها كما لهم آلهة)؟! (قال إنكم قوم تجهلون . إن هؤلاء متبّر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون . قال أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضلكم علي العالمين ) أو لم يرو الرواة أن بعضهم طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم عندما رأى المشركين قد اتخذوا شجرة علقوا عليها الثياب والمتاع و السلاح أن يجعل لهم ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ؟! إن التوحيد الخالص لا يطيقه إلا ذوو النفوس الكبيرة ، والهمم العالية، والقلوب السليمة (ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلماً لرجل هل يستويان مثلاً) ؟! .
هاهو ذا عيسى عليه السلام يدعو قومه للتي هي أقوم ، يدعوهم لتوحيد الله وإفراده بالعبودية إذ مامن إله غيره فإذا هم يفتتنون به زاعمين أنه إبن الله !! يا سبحان الله... آلله الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولداً يتخذ من عبيده أبناءاً ؟! كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا.. لقد قال اليهود من قبل عزير ابن الله وهاهم أولاء النصارى يزعمون أن المسيح ابن الله وها هم هؤلاء وأولئك يزعمون أنهم أبناء الله وأحباؤه فماذا كانت الإجابة الصلبة من الرسول الكريم ؟ كانت الإجابة هذا القول الفخيم المفحم (فلم يعذّبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) ألا إن أنبياء الله بريئون من هذه الترّهات و الأباطيل ( وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق ) إنه ليس من حق الرسل أن يبشروا بدعوة أو أن ينشروا قولاً يناقض مبدأ التوحيد أدنى مناقضة ، إنهم في هذا الأمر سواء يدعون إلى كلمة سواء ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواءٍ بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً ارباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ) .
فإياك أن تتخذ من دون الله أولياء –أخي المسلم- وتأمل قوله سبحانه (مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون) إنك إن تفعل:-
ضربت عليك العنكبوت بنسجها ** وقضى عليك به الكتاب المنزل(/2)
خماسيات الأميري
هدية الأدب الإسلامي للأدب العالمي
بقلم: محمد الحسناوي
hisnawi@odabasham.org
لئن فخر الأدب الفارسي برباعيات عمر الخيام، إن الأدب العربي ليفخر أيضاً بخماسيات عمر بهاء الدين الأميري، ولئن بطلت نسبة الخمريات الرباعية إلى الخيام -وهي باطلة في تقديرنا- لتصطفنّ رباعيات الخيام مع خماسيات الأميري مع شعر إقبال وأمثالهم من شعراء الإسلام لتجعل من (الشعر الإلهي) الإسلامي ذروة الأدب العالمي والإنساني. هذه خلاصة البحث الذي نحن بصدده، وقد وصلنا إليها بعد الدرس والفحص والتحليل، كما سوف نرى.
الرباعيات: جمع رباعية، وهي مقطوعة شعرية مؤلفة من أربعة أشطر (بَيْتَيْ شعر في العروض العربي)، اعتمدها عدد من الشعراء الفرس في التعبير عن أحاسيسهم وخواطرهم. تطلق هذه اللفظة على مجموعة من المقطوعات الشعرية التي نظمها عمر الخيام، وتفوق فيها على كل من تقدمه بأسلوبه الموجز، وبعاطفته العميقة الرقيقة. وقد اختلف عدد هذه الرباعيات باختلاف النساخين(1).
أما الخماسيات: فهي جمع خُماسية، وهي مقطع أو قطعة شعرية تتألف من خمسة أبيات، ترتبط بمعان متقاربة، منطلقة من فكرة أساسية، لم يعدها النقاد القدامى قصيدة في عداد القصائد، لأن القصيدة في عرفهم لا تقل أبياتها عن سبعة أبيات أو تسعة(2). وسوف نلحظ أن إبداع الأميري أو عنايته بهذا النوع من الشعر سوف تزحزح العرف النقدي القديم، أو تحل الخماسية محلها اللائق بين القصائد.
أشار الأميري -رحمه الله- في مقدمة ديوانه "ألوان طيف" إلى ديوان له من عشرين ديواناً، سماه "الخماسيات". لم ينشر حتى الآن، ويبدو أنه -كما سوف نرى- قد وزّع أقساماً كبيرة منه في دواوينه المنشورة، فاستغنى عن نشره، وقد سكت عن الإشارة إليه في المخطوطات بعد ذلك، يقول: "من طريقتي في الصوم: أن أقلل من الطعام، وأن أستعمل العسل بدلاً من السكر، وأن يمتد سحوري إلى دقيقة الإمساك، وأن لا أنام بعد صلاة الفجر، حتى يزداد توهج الشمس، أقضي الوقت متمشياً متأملاً، ما وجدت إلى ذلك سبيلاً ، وكثيراً ما تنساب من نفسي خلال ذلك، مقطوعات من الشعر، بعضها قصائد طويلة، وأغلبها خماسيات، لعلها شكّلت جلّ ديواني المطبوع "مع الله". ومنها في ديوانيّ الإلهيين غير المطبوعين: "إشراق" و"قلب.. ورب" عدد كبير". (انظر ديوانه: صفحات ونفحات ص: 25) أما ديوانه "قلب ورب" فقد نشرته دار القلم والدار الشامية (1410 هـ: 1990)، والثاني لم ينشر بعد. ولدفع الالتباس نوضح أن "أشواق وإشراق" عنوان آخر لقصيدة تعدّ واحداً وعشرين بيتاً نشرت في ديوانه "نجاوى محمدية" ثم نشرت مستقلة بالعنوان نفسه مضافاً إليها (قصيدة المسلم وقصيدة رؤيا صدق)، وهي غير ديوان "إشراق" كما نقدر.
عدد خماسيات الأميري التي وصلتنا منشورة (94) أربع وتسعون خماسية، توزعت في دواوينه ومجموعاته الشعرية على الشكل التالي:
تاريخ نشرت الديوان ... المجموع ... غير الخماسيات ... عدد الخماسيات ... اسم الديوان
(ط2) 1971م ... 65 ... 14 ... 52 ... مع الله
1965م ... 50 ... 49 ... 1 ... ألوان طيف
1976 ... 10 ... 7 ... 1+2 نشرتا في غيره ... أب
1980 ... 34 ... 30 ... 3+1 نشرت في غيره ... أمي
1984 ... 40 ... 25 ... 3+12 نشرت في غيره ... صفحات ونفحات
1985 ... 37 ... 31 ... 4+1 نشرت في غيره ... أذان القرآن
1988 ... 50 ... 46 ... 3+1 نشرت في غيره ... نجاوى محمدية
1990 ... 54 ... 30 ... 24 ... قلب.. ورب
1992 ... 25 ... 24 ... 1 ... رياحين الجنة
... 17 ... 16 ... 1 ... سبحات ونفحات
1953 ... 1 ... 0 ... 1 ... (مجلة المسلمون)
مع العلم أن للشاعر قصائد طوالاً مثل"في قرنايل: في ديوان "مع الله" تعدّ (109) تسعة أبيات ومئة، وأن لديه أيضاً مقطوعات شعرية دون الخماسية وفوقها، مثل "مغزى": بيتان في ديوان: "مع الله"، أما في ديوان "قلب ورب" فنقع على "الحب والطب" ثم "المشيئة" ثنائيتين، و"نلوذ بالله" ثم "دروب وخطوب" سداسيتين، و "عزة التذلل" سباعية. على أن نسبة هذه المقطعات قليلة جداً.
من هذا الباب قصيدته "في العشر الأواخر: "مع الله" مؤلفة من خمسة عشر بيتاً، مقسمة إلى ثلاثة مقاطع، كل مقطع خمسة أبيات يبدأ كل منها بشطر مكرر:
حَذارِ يا شيطانَ جسمي حَذارْ (ص: 127)
ويمكن أن تعد كل مقطع خماسية، لما يتمتع به من استقلالية، حيث يختم كل منها ببيت خاتمة، تنطوي على قفزة محلّقة متألقة على شاكلة الخواتيم في كثير من الخماسيات.
من المفيد أن نذكر أن هذه الخماسيات تمتعت بسيرورة طاغية، فقد ترنم بعدد منها المغنون مثل: "صلة، عمرة، صلاة، دعاء" وغيرها مما أذيع مغنى في عدد من الإذاعات العربية، كما عارضها عدد من الشعراء المجيدين معجبين ومتأثرين على شكل خماسيات، منهم الشاعران اليمانيان أحمد محمد الشامي(3) ومحمد محمود الزبيري الذي يقول مخاطباً الأميري:
أنا طيرٌ محلّقٌ في سمائِكْ وصدىَ يستمدُّ من أصدائِكْ(/1)
بَهَرتْنيْ آفاقُكَ الطُهرُ فارتعْـ ـتُ وَخِفتُ الضَلالَ في أضوائِكْ
لستُ أدريْ، وقد قرأتُ قوافيْ ـكَ، وأمعنتُ في سَماعِ بُكائِكْ
أم نبيٌّ يَئنُّ في أحشائِكْ أشعوبٌ مقتولةٌ فيكِ تَبكيْ
ليتَني كنتُ دمعةً ضِمنَ عينيـ ـكَ أرى منهما مدى عَليائِكْ
ليتني زفرة بِقلبك أحيا طاهراً وسط شعلةٍ من دِمائِكْ
(مع الله: ط2 - 246)
كما أن إعجاب عدد من المستشرقين بديوان "مع الله" وترجمة بعض قصائده إنما يشمل الخماسيات التي تغطي ثلاثة أرباع الديوان(4).
تاريخ المقطعات في الشعر العربي
إن جودة الشعر لا تقاس بطول قصيده ولا بتعداد أبياته، بل في جوهره الذي يتجلى بقيمه التعبيرية والشعورية، وبما تحقق فيها من جمالية وبيان، وقد لحظ النقاد ومؤرخو الأدب "أن ظاهرة المقطعات الشعرية قديمة قدم الشعر، وأن هناك أسباباً كثيرة دعت إليها وإلى الإكثار منها، أو الاختصاص بها، وأن الشعراء عامة قد نظموا فيها، وكان بعضهم أكثر ميلاً إليها، وأقدر عليها من سواه"(5)، كما لحظوا "أن ما ورد في الشعر العباسي من هذه المقطعات يفوق كثيراً -كماً ونوعاً- ما ورد في شعر سواه من العصور الأدبية التي سبقته"(6). والحكم نفسه يندرج على شعرنا العربي الحديث، وممن أكثروا من هذه المقطعات الشعراء: إسماعيل صبري وحليم دموس وأحمد الصافي النجفي ومحمد سعيد العامودي صاحب مجموعة الرباعيات المشهورة (أي أربعة أبيات لا أربعة شطور كالخيام)(7).
المقطعات في الشعر الفارسي
سوف نرى أن الموضوع الإلهي هو الغالب على خماسيات الأميري، مما يذكرنا بشعر محمد إقبال وبشعراء الفرس.
وعلى الرغم من استمداد الشعر الفارسي عروضه (بحوراً وتفعيلات) من الشعر العربي، وموضوعاته من شعر الزهد والتصوف العربيين إلى حد كبير، وعلى الرغم من استقلال الأميري بخماسياته شكلاً ومضموناً، وإعجابه بالشاعر إقبال، فإن الأمانة تقتضينا الإشارة إلى شيوع المقطعات في الشعر الفارسي بأنواعه : (المثنوي المصرع - الترجيع بند الغنائي المؤلف من مقطعات - الرباعي المنظوم من أربعة أشطر - الدوبيت وهو نوع من الرباعيات، المندرج في بحر آخر أقرب ما يكون إلى الشعر المقطعي)(8).
مما يلفت النظر أن الصاوي علي شعلان ترجم قصيدتين للشاعر إقبال "شكوى" (24 مقطعاً) كل مقطع منها خمسة أبيات على بحر الكامل، و"جواب شكوى " (27 مقطعاً) كل مقطع كذلك خمسة أبيات(9) من بحر الوافر. أما ترجمة الصاوي لقصيدة إقبال الأخرى "في أسرار الشريعة" فكانت (16 مقطعاً) كل مقطع منها في أربعة أبيات من بحر الخفيف(10).
سبب اختيار الأميري للخماسيات
قال أحد الشعراء: إن القصيدة هي التي تفرغ مني، ولست أنا الذي أفرغ منها. مما يدل على أن علاقة الشاعر بشعره عميقة، أسهم علم النفس التحليلي في الكشف عن طبيعتها، وتفسير بعض أسرارها(11).
ترجح لدينا أن هناك في الأقل سببين نفسيين لاختيار الأميري نظام الخماسيات أو المقطعات، أحدهما ذو طابع ديني، والآخر ذو طابع فني. أما السبب الأول، فهو البعد الروحي لتجربته الشعرية، التي تمتح من معين (الموضوع الإلهي) أي التوجه إلى الله تعالى، والتماس رحمته والقرب منه، وطلب الصلة الروحية بمصدر الروح البشرية، بالتسامي والتأمل والمجاهدة وما شاكل ذلك من رياضات روحية. هذا النزوع البشري العلوي لا يتحقق باستمرار، إنما يتأتى موجات موجات، ولحظات التجلي أو الإشراق، تكاد تكون خاطفة عابرة أو نادرة. جاء في حديث شريف رواه الإمام مسلم في صحيحه أن الصحابي حنظلة قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوعظنا، وذكرنا النار. قال: ثم جئت إلى البيت، فضاحكت الصبيان، ولاعبت المرأة.قال : فخرجت، فلقيت أبا بكر، فذكرت ذلك له، فقال: وأنا قد فعلت مثل ما تذكر، فلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت : يا رسول الله نافق حنظلة، فقال: مَهْ، فحدثته بالحديث. قال أبو بكر: وأنا قد فعلت مثل ما فعل. فقال: يا حنظلة ساعة وساعة. ولو كانت تكون قلوبكم، كما تكون عند الذكر لصافحتكم الملائكة حتى تٌسلِّم عليكم في الطرقات" عبر عن ذلك شاعرنا الأميري بخماسية في ديوانه "قلب ورب":
أهواكَ.. وأغفلُ عن مُثُلٍ عليا لهواكَ.. وأهواكا
لانَكصاً في الدربِ، ونَقصاً في الحبِّ، ونقضاً لِرِضاكا
لكنْ شرداتُ العين وقد أعشاها إشراقُ سناكا
ويقينيْ أنكَ رحمانٌ بالرّأفةِ عمَّ الأفلاكا
وشعوريْ أنّي إنسان هلْ أُذنبُ لو كنتُ مَلاكا
(ص: 77 - 78)(/2)
السبب الثاني لاختياره الخماسيات هو طبيعة الإبداع الشعري القائمة على وثبة نفسية أو مجموعة وثبات، تُفرغ شحنة التوتر النفسي لدى الشاعر نتيجة التقاء التجربة الجديدة المثيرة بتجربة الشاعر القديمة المختزنة، وتنتظمان شيئاً فشيئاً، فيكون من انتظامهما القصيدة التي نتلقاها، مما يجعل الحركة كلها متجهة إلى إعادة تنظيم المجال. و"تمضي حركة الشاعر في شكل وثبات، تصل بينها لحظات كفاح. والصورة الخارجية للوثبة عدة أبيات، تكوِّن كلاً متكاملاً هو الوحدة الدينامية للقصيدة، بحيث يمكن أن يقال: إن القصيدة من حيث هي كل متكامل، تتألف من عدة وثبات لا من عدة أبيات"(12) يقول الأميري في "قلب ورب: كنه فذّ":
لستُ بالهمِّ أحترقْ بل أُجلّي وأنْبثِقْ
مُصعِداً في معارجٍ كلُُّ من أمَّها عَشِقْ
أنا كُنهٌ مميَّزٌ.. للجَدا والنَّدى خُلِقْ
أنا فذٌّ، فطِينَتيْ بِسنا الرُّوح تَأْتلِقْ
إنه رُوحُ خالقٍ وأنا مِنه أنطلِقْ
(ص: 262)
ولما كانت طبيعة الإنسان كالأميري ذات طاقة تتوهج لحظات أو وثبات روحية أو شعرية، وكانت الوثبة أو الموجة الواحدة تستوعب فكرة واحدة أو تجربة واحدة استراح الأميري لذلك، وهو امرؤ يترك النفس على سجيتها، وهو كذلك ذو مشاغل وأسفار متصلة في الوقت نفسه، لا يتسع وقته للتطويل.
بقي أن نشير إلى انصراف الناس في زماننا عن المطولات وعن الشعر نفسه، ورواج النصوص القصيرة الخفيفة مع رواج الصحافة وما سمي "بأدب الساندويتش". الخماسية قصيرة، لكنها ليست خفيفة الوزن.
الخماسيات.. إلهيات
أشار المرحوم الأميري إلى أربعة من دواوينه (الإلهية) : "مع الله" و "قلب ورب" و"إشراق" و"في هوى النور" وصلنا منها الأولان، والثالث تحت الطبع في دار القلم بالكويت، والرابع مخطوط، كما أشار إلى أن ديوانه النبوي الأثير لديه "نجاوى محمدية" هو إلهي أيضاً: "فهو وإن كان ديواناً نبوياً فهو إلهي في الوقت ذاته" (قلب ورب : 23)، ومعظم هذه الخماسيات جاء في ديوانه "مع الله" و"قلب ورب" وبعضها في "نجاوى محمدية" و "أذان القرآن"(13)، ونتوقع أن يرد كثير منها في ديوانيه الإلهيين اللذين لم يصدرا بعد، مع العلم أن الشاعر صرح بأن في ديوانه "في هوى النور" حجماً ليس بالقليل منها، وهي "قصائد من شعري في هذا الباب " (قلب ورب: 14 و 15).
ما الشعر الإلهي؟
أول ما يخطر على البال هو شعر الزهد أو التصوف، والحقيقة هو شعر يوازي شعر الزهد والتصوف وليس من مفرداتهما، كما سوف نرى، وهو أقرب ما يكون لمصطلح الذكر، ذكر الله تعالى: من تحميد وتسبيح واستغفار، كما أن الصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم نوع من أنواع الذكر أيضاً.
خماسيات الأميري الإلهية تختلف عن الزهد الذي ذكره صاحب "التعريفات - الجرجاني" الذي هو بغض الدنيا والإعراض عنها، كالاعتزال عن الناس والتقشف والخلاص الفردي. يقول في خماسية "دعاء":
أدعوكَ يا ربّ، من روحيْ ووجداني
أدعوكَ من قلبِ آلاميْ وأشجاني
أدعوكَ من غور إسلاميْ وإيماني
أدعوكَ يا ذا المَنِّ والشّانِ
مُستعِجلاً كشفَ ضرٍّ مسَّ "إخواني"
(مع الله: 120)
فهو جزء من إخوانه الذين يدعون إلى الله ويواجهون الضراء، يؤكد ذلك في خماسية أخرى تدعو إلى الإسلام القوي، وتندد بنزع السلاح أمام العدوان:
"نزعُ السِّلاح" .. وما الذي ُتجدي له الخُطبُ الجميلةْ
في ظلِّ "منتظمِ" التهاتُر والمتاهاتِ الطويلةْ
ما دامَ "إنسانُ الحضارةِ" لا سلامَ ولا فَضيلةْ
فالأمنُ في نزع الشُّرور من الصُدورِ، ولا وسيلة
إلاّ الرجوعُ إلى هدىً رسمَ الإلهُ لنا سبيلَهْ
(أذان القرآن: 121)
كما تختلف الخماسيات الإلهية عن التصوف الذي تحدث عنه الجرجاني في تعريفاته بأكثر من تعريف مثل: ترك الاختيار أو التفرغ عن الدنيا، أو مثل: الوقوف مع الآداب الشرعية ظاهراً فيرى حكمها من الظاهر في الباطن، وباطناً فيرى حكمها من الباطن في الظاهر، فيحصل للمتأدب بالحكمين كمال. يضاف إلى ذلك ما غلب على كثير من المتصوفة من مذاهب مبتدعة، كنظريات الحلول والفيض وغير ذلك، أما الأميري فلم يشطح عما في الكتاب والسنة من تصور لله تعالى وأسمائه الحسنى وعلاقة خلقه به، لا سيما الإنسان المستخلف الذي يهتدي إلى خالقه وجماله ورحمته وعظمته وصفاته من تأمل مخلوقاته وحكمه في خلقه. أسمعه يقول في خماسية:
كيفَ لا أُومنُ باللهِ، وهل لِذوي الألبابِ فيه مُلتَبَسْ
كيفَ لا أُبصرهُ في خلقهِ في الضُحى، في الفجر، في جُنح الغلسْ
كيف لا أحيا بهِ والروحُ من أمرهِ، في غورِ ذراتيْ انبَجَسْ
كيف لا تَسعَدُ نفسيْ بِسَنا نورِهِ في كل ترديدِ نفسْ
وأنا، في سرِّ كُنْهيْ من أنا؟ أنا من إبداعهِ الساميْ قَبَس!
(مع الله: 61)(/3)
وقد فطن إلى ذلك الدكتور محمد الصباغ في مقالة له نشرتها مجلة الحسنى المغربية حين قال:"إنه (مع الله) في كل لمسة من اللمسات، وخاطرة من الخواطر، ونفحة من النفحات، إنه اتحاد مع الكون، وكل ما في الكون، وما يحوم عليه، ويدور فيه، مبتعداً كل البعد عن مزالق "الحلولية" التي يقع فيها كثير من الشعراء الحالمين الذي يستهويهم جمال الطبيعة الخلاب."(14).
وإذا حاولنا تصنيف هذه الإلهيات في مفردات وجدنا معظمها في التجليات من إشراق وسمو (13 خماسية) أوفي أدعية (20)، وبعضها الآخر تأملات (8)، أو إيمان بالقضاء والقدر وتسليم وتوكل (7)، أو وعظ (6)، أو تربية وصقل للنفس (7)، أو تسبيح لله وتحميد (4)، أو استغراق في حب الله عز وجل(2)، أو حبٍّ فيه (1)، ومتفرقات أخرى في إعجاز النبوة والاستفتاح باسم الله أو الدعوة إلى الإسلام أو البذل في سبيل الله أو وسواس الشيطان وراحة القلب...
شرف الخماسيات
درج كثير من نقاد الأدب على إخراج الموضوع أو الغرض من دائرة التقويم الفني لنصوص الأدب والشعر، وذلك من باب احترام حرية الأديب أو الشاعر وعدم الحجر عليه، وفي تقديري أن حرية الأديب لا تتعارض مع تقدير الموضوعات التي يتناولها ومدى التفاوت بينها في تعبيرها عن حاجات البشر أو مدى صلاحيتها لفن من الفنون كالشعر. فإذا أضفنا إلى ذلك انتشار الظل المادي الحسي للمدنية الغربية، أو انتعاش الوثنيات القديمة أدركنا مدى انحسار الشعر أو الشعور الإلهي في الآداب الحديثة ، وبات تمجيد رباعيات الخيام لما فيها من معاقره للخمرة لا لما فيها من إشراقات روحية!
عباس محمود العقاد بحسّه الفني الرفيع وكعادته يخالف العرف النقدي الدارج، ويطري ديوان الأميري "مع الله" الذي هو أول دواوينه الإلهية يقول: "ديوانكم مع الله آيات من التنزيل والصلاة، يطالعها القارئ، فيسعد بسحر البيان، كما يسعد بصدق الإيمان. وقد قرأت طائفة صالحة من قصائده، وسأقرأ بقيتها، وأعيد قراءة ما قرأته، لأنه دعاء يتكرر ويتجدد ولا يتغير..." "مع الله : 241"
ولا نذهب بعيداً إذا قلنا: إن سبباً من أسباب اهتمام المستشرقين بشعر الأميري إن لم يكن السبب الأول هو الجانب الإلهي فيه، يقول مثلاً المستشرق الألماني ألبرت ديتريش عن ديوان "مع الله": "وتعجبت مما فيه من حسن الألفاظ ولطف المعاني، ودقة التفهم للإنسانية ومطالبها، وهمومها، وشدائدها، وسلواها.. " (مع الله: 351)
أما المستشرق الإيطالي "مورينو" فيقول بعد أن تعمق في الدراسة: "مع الله" ملحمة إلهية.". "مع الله: 355"
إذا رأى الشاعر المرهف منظراً طبيعياً جميلاً انفعل به، ولا يستقر انفعاله حتى يعبر عن تجربته، وإذا أحسن إليه صديق أو حبيب لم يجد بداً من شكره على جميله وإحسانه، فكيف يكون شأنه مع الله الذي خلق له جمال الطبيعة، وخلق الإنسان الذي أحسن إليه، كما خلق العواطف والمشاعر المرهفة التي تذوقت هذه الأفاويق؟ أليس جديراً به أن ينفعل بهذا الإحسان الذي لا حدود لأنواعه وأبعاده وأعماقه وأطايبه؟ وإذا عبر عن هذه المشاعر السامية أجمل تعبير وأبدعه، ألا يكون تعبيره أو شعره هذا من أعظم أنواع الشعر والتعبير؟!
لكَ الحمدُ طوعاً.. لك الحمدُ فَرضاً وثيقاً عميقاً.. سماءً وأرضا
لكَ الحمدُ صَمتاً.. لكَ الحمدُ ذِكراً لكَ الحمدُ خَفْقاً حثيثاً.. ونبضا
لكَ الحمدُ ملءَ خلايا جَنانيْ وكلّ كيانيْ.. رُنوُّاً وغَمضاً
إلهي وجاهيْ، إليكَ اتجاهيْ وطيداً مديداً.. لترضى فأرضى
فأنتَ قِوامي.. وأنتَ انسجامي مع الكونِ، والأمرُ لولاكَ فوضى
(قلب ورب: 197)
يتبع
الهوامش:
(1) المعجم الأدبي - جبور عبد النور - دار العلم للملايين - ط1 - ص: 552.
(2) المرجع السابق: تعريف المقطع ص: 261.
(3) ديوان قلب.. ورب - عمر بهاء الدين الأميري - دار القلم - الدار الشامية - ط1 - ص: 5.
(4) من المستشرقين: البرت ديتريش وفون دايتمان وكورالي نولينوس (ألمانيا)، ومحمد أسد (سويسرا)، ومارتينو ماريو مورينو (إيطاليا) - ديوان مع الله ط2 - ص: 351-357.
(5) ظاهرة المقطعات في الشعر العباسي - د. يونس السامرائي - مجلة آداب المستنصرية - العدد: 8 - 1404هـ: 1984م - ص: 337.
(6) المرجع السابق: 337.
(7) النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين - د. محمد رجب البيومي - دار القلم - الدار الشامية. ج2 - العامودي الشاعر - ص: 517 - 524.
(8) المعجم الأدبي - ص: 518.
(9) الأعلام الخمسة للشعر الإسلامي: ترجمة: محمد حسن الأعظمي- الصاوي علي شعلان- تحقيق: مصطفى غالب - مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر - بيروت: ط: 1402هـ: 1982 - ص: 112 - 117 و 124 - 130.
(10) في أسرار الشريعة - العلامة محمد إقبال - ترجمه نثراً: محمود أحمد غازي - شعراً: صاوي شعلان - دار الفكر - دمشق - ط: 1408هـ: 1988 - ص: 90 - 93.
(11) الأسس النفسية للإبداع الفني في الشعر خاصة - د. مصطفى سويف - دار المعارف بمصر - ط3 - ص: 305.(/4)
(12) المرجع السابق - ص: 305 - 308.
(13) عدد الخماسيات التي وصلتنا حتى الآن، كما ذكرنا (94) أربع وتسعون: ثلاث منها في الأمومة وواحدة في الأبوة وأخرى ذاتية واثنتان في الهم العام، وما تبقى أي (89) تسع وثمانون كلها في الشعر الإلهي.
(14) مجلة "الحسنى" 14 رمضان - الرباط وديوان مع الله ط2 - ص: 365.
خماسيات الأميري (2)
هدية الأدب الإسلامي للأدب العالمي
بقلم: محمد الحسناوي
hisnawi@odabasham.org
دلالة الزمان والمكان
الزمان في الخماسيات زمانان: الأول تاريخ الخماسية في الزمن العام لاسيما التوقيت الهجري وما يسمى الأشهر العربية (القمرية). الثاني تاريخ نظم الخماسية في حياة الشاعر نفسه.
لدى مراجعة تواريخ نظم الخماسيات -والشاعر معني بتأريخها والحديث عن مناسبات أشعاره على وجه العموم- نلحظ أن القسم الأكبر منها نظم في مطلع حياته الأدبية وفي أواخر حياته، ففي سنة (1369 هـ : 1951م) نظم خمس عشرة خماسية، وفي سنة (1371هـ: 1952م) نظم إحدى وعشرين، وفي سنة (1373هـ: 1954م) نظم سبعاً، حينها كان الشاعر في الثلاثينيات لأن مولده (1334هـ: 1916م)، ثم تتوارى الخماسيات أو تأتي على ندرة واحدة واحدة طوال ست وثلاثين سنة، حتى تستعيد عافيتها سنة (1409هـ: 1988م) فتظهر في سنة واحدة خمس وعشرون خماسية.
في موسم الخماسيات الأول كان الأميري في ميعة الصبا والتوهج العاطفي، فنظم الشعر الذي يصور مجاهدته للعواطف المشبوبة، ولأحابيل الجنس والغريزة، ومفاتن المرأة والشيطان، من ذلك قصيدته المشهورة "ضراعة ثائر - 1370هـ" وخماسية "صراع - 1369هـ":
يقينيَ باللهِ يسمو بروحيْ كأنّيْ معاذٌ أَوَ اْنّي أُوَيْسْ
ويرتدُّ بعد قليلٍ جَنانيْ جَموحاً شروداً كأَنِّيَ قَيسْ
يُجنُّ بقلبيْ الهوى كلّما تراءى له في ظلاميْ قُبيس
وأنّى رأى بارقاً مائساً تعلَّقَ منه بأطياف مَيْس
يُحرِّقُ قلبيَ هذا الصراعُ أليسَ لقلبيْ نجاةٌ أَليس؟
(مع الله: 67)
أما الموسم الثاني للخماسيات، وكان الشاعر في السبعينيات من عمره، حين بلغ نضجه العقلي أوجه فنلاحظ ظهور الخماسيات ذات الطابع التأملي (العقلي) أو التي يغلب فيها جانب العقل على العاطفة. يقول في خماسية (رمضان والعافية):
قالوا: سيُتبعكَ الصِيا مُ وأنتَ في السبعينَ مُضنى
فأجبتُ: بل سيشدُّ من عزميْ، ويَحبو القلبَ أمناً
ذِكراً.. وصَبراً.. وامتثا لاً للذي أغنى وأقنى
ويَمدُّني.. روحاً وجسماً بالقُوى.. معنىً ومَبْنى
"رمضانُ" عافيةٌ، فصُمْهُ تُقىً، لِتحيا مُطمئنّاً
(قلب ورب: 295)
أما موقع الخماسيات من التاريخ الهجري شهرياً فذو دلالة أوضح. ففي أيام رمضان نظم الشاعر مالا يقل عن /62/ خماسية، وفي شهرين من الأشهر الحرم (رجب والمحرم) نظم سبعاً. فشهر رمضان عند المسلم موسم الصيام والقيام والغفران، وذكرى نزول القرآن، والتماس ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر:
ذهبتْ راؤهُ.. ونونُ خِتامِهْ فانبرى في الحديثِ عن أيامِهْ
قالَ: شهريْ مضى.. ويا فوزَ عبدٍ لم يَنمْ عن صِيامهِ وقِيامِهْ..
هو قد برَّ نفسَه فتصدَّى للتجلّي، واشتدَّ في إِقدامِهْ
والرحيمُ الرحمانُ برَّ مُناه.. فتجلَّى له بِفيضِ سلامِهْ
أنا حيٌّ في قلبهِ وستبقى ليلةُ القدرِ في سنا أحلامِهْ
(قلب ورب: 311)
أما دلالة المكان في الخماسيات، فللشاعر مذهب يُعلي من شأن المشاعر والمعاني، والأزمنة، كما أشرنا وليس الأمكنة، يقول في خماسية "مكة":
رُبَّ ذي شوقٍ لِبيتِ الله.. قد أشرعَ فُلْكَهْ
هَجَرَ الأوطانَ والأهلَ بلا رأيٍ وحُنكَهْ
حَسِبَ القُربى من اللهِ بأنْ يَسكُنَ بَكَّةْ
كلُّ هذا الكونِ بيتُ اللهِ قد أبدعَ سَبْكَهْ
والذي في قلبِهِ الله فأنَّى عاشَ مكّةْ
(مع الله: 118)
لكن إذا اجتمع المكان المقدس والمشاعر المرهفة والأشواق المدنفة، فإن الأمر سوف يختلف، وهذا ما حمل الشاعر على إعادة النظر في موقفه القديم المذكور، وتفنيد بعض ما قاله قبل ستة وثلاثين عاماً وهو قوله: ".. فأنّى عاش مكة" مضيفاً قوله: "أجل، ولكنني اليوم في هذا الحضور الطهور تتأكد لي حقيقة أدركتها منذ سنوات، بصدق وعمق، وهي : أن للمكّتين: طيبة وأم القرى من الخصائص والمزايا -مكانة ومكاناً- ما ليس لسواهما من بقاع الأرض.. فمن كان فيهما، ثم أكرمه الله، فكان سبحانه ملء قلبه، إيماناً.. وإحساناً.. فنور على نور.. وإنها ولا شك ذروة السعد والمجد" (قلب ورب: 19)
لذلك صرح باسم المكان الخاص الذي نظمت فيه بعض الخماسيات، مثل "دعاء" الخماسية التي مرت بنا، ذكر أنها نظمت في "الملتزم : ركن من الكعبة"، وهي دعاء حار فائر العواطف والإيقاع. وكذلك خماسية "عُمرة" نظمها "بين الصفا والمروة"، وأثر المكان القدسي واضح فيها يقول:
عَبدُكَ – يا ربّاهُ - لبَّى واعْتَمَرْ
طوَّفَ بالبيتِ العتيقِ، وَذَكَرْ
دعاكَ في السَّعيِ وصلّى وشَكَرْ
عبدُكَ - يا ربَّاهُ - ذو الذنبِ عُمَرْ
فاغفرْ لهُ، إنَّك أولى مَنْ غَفَرْ
(مع الله: 118)(/5)
هيكل الخماسية
لم يشأ النقاد القدامى أن يخلعوا على القطعة الشعرية المؤلفة من ثمانية أبيات أو ستة أبيات فما دون ذلك اسم القصيدة استخفافاً، أما الشاعر الأميري فقد جعل من هذه القطعة الخماسية كائناً فنياً ذا موضوع واحد متماسك الأجزاء قوي البناء، لا يقل أهمية وشأناً عن طوال القصائد.
إن هيكل القصيدة هو أهم عناصرها وأكثرها تأثيراً فيها، لأن وظيفته الكبرى أن يوحد القصيدة، ويمنعها من الانتشار والانفلات، ويلمها داخل حاشية متميّزة(15). أدرك الأميري هذا السر بفطرته أو ثقافته، فجاءت أشعاره -لاسيما الخماسيات- وحدات فنية متقنة السبك الهندسي، المتساوق مع الفكرة أو الموقف العاطفي. كما أدرك أن القصيدة القصيرة بحجمها أو حجم تجربتها الشعورية هي قصيدة غنائية تصور موقفاً عاطفياً مفرداً يتحرك أو يتطور في اتجاه واحد، وهما السمتان المميزتان للبنية الداخلية للقصيدة المعاصرة: (وحدة العاطفة وتطور هذه العاطفة في اتجاه واحد)(16).
هذه المدركات الفنية تعامل معها الأميري من خلال أحاسيسه ومشاعره، أو حصلت له من خلال هذه الأحاسيس والمشاعر، فالشاعر عادة يعبر عن تجربته متدرجاً من منطقة المشاعر الضبابية خطوة خطوة، ثم يظل يتطور موقفه العاطفي في سبيل الوضوح شيئاً فشيئاً حتى ينتهي إلى إفراغ عاطفي ملموس. يقول في خماسيته "شعاع":
تأمّلتُ في كُنْهِ هذا الوجودْ وغُصتُ على كشفِ أسرارهِ
فَجُبتُ الوِهاد، وطُفتُ النُّجودْ وجُلتُ بأجواءِ أنوارهِ
وفكَّرتُ في نَحسهِ والسُّعودْ وفي خيِّرَيْهِ وأشرارهِ
وإذ كادَ يَعروْ شعوريْ الجُمود ويثنيهِ عن سَبْرِ أغوارهِ
تَلألأَ ليْ من خفايا الخلود شعاعٌ فصحتُ بِإكْبارِِهِ!
(مع الله: 57)
هذه الخماسية (الإشراقية) نموذج لطائفة كبيرة من الخماسيات التي تبدأ من نقطة انفعالية ضبابية، ثم تتدرج تدرّج الصاعد في سلم حتى يصل إلى القمة أو الختام بتدرج أو قفزة تتوج هذا التدرج أو الصعود، فالشاعر هنا قام بجولة تأملية أو شعورية بحثاً عن فهم لأسرار الكون، التي هي مستترة خلف مظاهر الأشياء القريبة المحسوسة من جبال وأودية وسماوات، ومن أفراح وأتراح، حتى كاد يرجع يائساً، فإذا هذا الطواف المستبصر يفوز بشعاع هادٍ من عالم الخلود، يشير إليه ويدل عليه. ولما كانت المشاعر والأحاسيس تتدرج في الصعود إلى القمة، فإن القمة تأتي في النهاية، لذلك جاء البيت الأخير كالقفل أو الثمرة أو الختام الشافي لتلك التمهيدات أو التلمسات. والملاحظ أن الجولة كانت تمشي عبر أفعال (ماضية) انتقالية في الأمكنة والمشاعر والقيم: تأملت، وغصتُ، وجبت، وطفت، وجلت، وفكرت. أما في خماسيات أخرى فالسياق يختلف. يقول في خماسية "بقاء":
رَأيتُكَ في ضَحِكيْ والبُكا نَهاراً وفي الليلِ مُحلولِكا
رأيتُكَ مثلَ الذي تبتَغي جَهاراً، ولكنْ بآلائكا
رأيتُكَ تُشرِقُ في خَلْقكا فيبتزُّ روحيْ سَنا وَجْهِكا
رأيتُكَ تحبو خلايا كِيانيْ عُيوناً تَراكَ وتعنوْ لكا
فأيقنتُ أنَّ الفنا بـ "الأنا" وأنَّ بقائيْ فنائيْ بِكا
(مع الله: 53)
هنا طاف ببصيرته مستعملاً فعل الرؤية (رأيتك) منطلقاً متتابعاً تتراكم فيه الأحاسيس والمشاعر، حتى جاءت القفزة الوجدانية أو الخاتمة الجامعة مبدوءة بفعل اليقين المقترن بحرف عطف العاقبة. كان الطواف في الخماسيتين السابقتين في جمل إخبارية على حين تجده، يعاود الطواف نفسه بجمل إنشائية تنضح بانفعال عاطفي أقوى، مما احتاج إلى خاتمة أشدّ وأقوى، يقول في "شهود":
خلّني أسْرَحُ في البون المَديدِ خلّني أُطلقُ روحي من حدودي
خلِّني أسريْ بأطواء الليالي خلّني أشتفُّ أضواءَ الوجودِ
خلّني أُفني هنائي وشقائيْ خلّني أُفضي إلى كونٍ جديدِ
خلِّني أجتازُ آفاقَ البرايا خلِّني أجتاحُ أبوابَ الخُلودِ
أشرقَ الدّيان في غورِ كياني خلّني هيمانَ في غيبِ شُهودي
(مع الله: 52)
في الحقيقة إن الشاعر عكس الطواف في هذه الخماسية، كما عكس التعبير عنه فقد جعل لحظة الإشراق وهي خاتمة الطواف السابق بداية لطواف جديد، كأننا سألناه لماذا تطالب في الأبيات الأربعة الأولى أن تطوف في الليالي والهناءة والشقاء، وآفاق البرايا وتجتاح أبواب الخلود، فأجابنا: لأنني أشرق الدّيان في غور كياني. إذن كان الإشراق سبباً وبداية للطواف ولم يكن نتيجة أو تتويجاً كما كان في الخماسيتين السابقتين "بقاء" و"شعاع" أي عادت النهاية إلى البداية، فالإشراق كان في نفس الشاعر منذ البيت الأول، لكنه لم يصرح به إلا في الخاتمة، وهذا النموذج المعماري له أمثلة كثيرة في الخماسيات.(/6)
من الملاحظ على هذا الهيكل أو البناء تماسك أجزائه من البداية إلى النهاية، كما نلاحظ أهمية الدور الذي تنهض به الخاتمة أو البيت الخامس، لدرجة حملت بعض النقاد على الظن بتفاوت أشعار الأميري، حين لاحظوا قوة الخواتيم وشدّة أسرها وهيمنتها على النص ثم على القارئ (المتلقي)، غافلين عن العلاقة الحيوية بين البداية والنهاية، أو بين أجزاء النص الواحد التي تتفاعل وتتكامل وتتقاسم الأدوار، وتقدم بعضها على بعض لإنجاح العرض.
الملاحظة الثانية: أن خماسية "بقاء" و "شعاع" صيغتا بالجمل الخبرية مع الابتداء بحروف العطف في الأولى وبتكرار فعل "رأيت" في الثانية حتى حرف فاء "العاقبة" في الثانية، أو تعلق ظرف الزمان "إذا" بفعل "تلألأ" إعرابياً وبالمعنى أيضاً في الأولى.. نلحظ أن الخماسية الثالثة "شهود" جاءت أبياتها الأربعة، بل شطورها الثمانية مفتتحة بجمل إنشائية مكررة "خلّني" حتى تشكل منها قطاع أو سيل إنشائي متدفق لا يقفه أو يوازيه إلا خاتمة إخبارية قاطعة مانعة "أشرق الديان في غور كيماني". فالتماسك البنيوي لم يكن تماسكاً في إفراغ الموقف العاطفي متدرجاً حتى النهاية أو كاملاً، بل جاء متساوقاً مع التعبير عنه أيضاً.
في خماسية "شكوى" نجد أسلوبي الخبر والإنشاء يتبادلان الأدوار، حيث تبنى الأبيات الأربعة الأولى على أسلوب الخبر، وتأتي الخاتمة أو البيت الخامس إنشائياً:
قلبي - وهمُّ الكون في خفقاتهِ - نادى وما في الكون من يسمعُ
والصدرُ ضجَّ الليلُ من لهثاتهِ وشَهيقُ صدريْ والزَّفيرُ تضرُّعُ
والروحُ -مَنْ للروح في أزماتهِ- أضناهُ أَنَّ العمرَ قفرٌ بلقَعُ
إنّي فتىً، الصبرُ من عاداتهِ لكنَّ صبريْ في الهوى لا ينفعُ
فاكشِفْ لمضنى القلبِ مُرَّ أذاتهِ يا مَنْ إليكَ المُشتكى والمَفزَعُ
(مع الله: 126)
ذلك لأن البنية الداخلية للتجربة الشعورية قائمة على عرض حال أو مشكلة في الأبيات الأربعة الأولى، احتاج الشاعر بعدها لرفع هذه الشكوى المشكلة إلى صاحب العلاقة إلى الله تعالى جلَّ جلاله، فكان البيت الأخير أو الخاتمة كما رأينا بطرح الحل "فاكشف لمضنى القلب مرّ إذاته" مشفوعاً بالتمجيد والثناء على الله تعالى الذي هو أهل لهما.
إن هذا البناء المتماسك ليس سبكاً قسرياً متكلفاً مضطرداً في الخماسيات كلها لاسيما التركيز على البيت الأخير أو الخاتمة، فهناك من الخواتيم ما يستهلك بيتين أخيرين معاً استجابة للحاجة الشعورية. يقول في خماسية: "معية":
أيا ربّ إنّيَ وجَّهتُ خَطْويْ بملءِ يَقينيَ كي أَتبَعَكْ
وأصغيتُ من غور قلبيْ وعَقليْ وسمعيْ وطَبعيَ كي أَسمَعَكْ
وإنّي وإنْ كنتُ جِرماً صغيراً لأدركَ يا ربّ ما أوسعكْ
فلا ترمِ بي بين شدقَيْ غَرورٍ عَقورٍ ودعْنيَ أجريْ مَعَكْ
أعيشُ بِحُبكِ في خَفْقِ قلبيْ وتهتِف عينايَ: ما أَنصَعَكْ!
كان بوسع الشاعر أن يقفل تجربته الشعورية عند قوله: "ودعني أجري معك" فقد انتهت المشكلة أو عرض الحال، وجاء الحل، لكن الشاعر استمتع بهذا الحل أو "المعية" فأحب أن يطيلها ليتلذذ ويتمزز، وحسناً فعل.
في نموذج آخر لا تأتي الخاتمة حلاً لمشكلة، أو تتويجاً لصعود متدرج، بل تأتي على شكل تفسير لمحمول الأبيات الأربعة الأولى، يقول في خماسية "رب":
إنَّ ربَّاً خلقَ الكَو نَ وما فيهِ جميعا
لا يُؤدَّى حقٍّهُ قطُّ سُجوداً ورُكوعا
وطوافاً واعتكافا وقضاءَ الوقتِ جُوعا
إنّما تلكَ رموزٌ من ذَوي الألباب تُوعى
حقَّقتْنا بالعُبوديَّـ ــةِ للهِ، خُضوعا
(مع الله: 109)
أو تأتي الخاتمة جواباً على سؤال أو مجموعة أسئلة، كالخماسية "سبحان ربي الأعلى":
أيُّ سرٍّ يودي بدُنيا حُدوديْ كلَّما هِمتُ في تجلّي سُجودي
كيفَ تذروْ "سبحانَ ربّيْ" قُيوديْ كيفَ تَجتازُ بيْ وراءَ السُّدودِ
كيفَ تسمو بِفطرتيْ ووجودي عن مفاهيم كونِيَ المَعْهودِ
كيفَ ترقى بِطينتِيْ وجُمودي في سماواتِ عالمٍ من خُلودِ
أتُراها رُوحاً مِنَ المَعْبودِ قد جَلَتْ ذاتَها لِعينِ شهودي!
(مع الله: 97)
وقد تأتي الخاتمة على شكل حكمة أو خلاصة أو الاثنين معاً كما في الخماسية "غاية"!:
رانَ على القلوبِ ما قد شانَها وعزَّ مَنْ يُشرقُ نورُ قلبهِ
زيّنتِ الدنيا لها بُهتانَها وإنّ حَتْفَ المرءِ زَيغُ لُبِّهِ
فعَمِهَتْ واتّبعتْ شيطانَها وتاهَ كلٌّ في ثنايا دَربِهِ
غيرَ نُفوسٍ فقهَتْ إيمانَها وجهَدتْ في صَونِهِ ورأبهِ
غايةُ عُشَّاقِ الدُنى ما زانَها وغايةُ المؤمنِ وَجهُ ربِّهِ
(مع الله: 95)
وقد تأتي الخاتمة كالكفة المقابلة لكفة الأبيات الأربعة وهي أثقل منها:
الكعبةُ الشمّاءُ في مَذهبيْ قيمتُها ليستْ بِأحجارِها
والقربُ من خالقها ليس في تَشَبُّثِ المرءِ بِأستارها
قُدسيّةُ الكعبةِ في جمعِها أمّتَنا من كلّ أقطارِِها
وأنها مِحوَرُ أمجادِها وأنَّها مصدَرُ أَنوارِها
وكعبةُ المؤمنِ في قلبهِ يَطوفُ أنّى كانَ في دارِها
(مع الله: 115)(/7)
جدير بالذكر أن كل هذه الأمثلة ليست حصراً للنماذج في هياكل الخماسيات بل هي أمثلة على التعدد والتنوع.
الملاحظة الأخيرة على هذه النماذج من الهياكل أنها تصنف في الهيكل ذي الدائرة المغلقة سواء جاء البناء متدرجاً من الضبابية في بداية الأبيات إلى الوضوح أو القمة في الخاتمة كما في خماسية "بقاء" وخماسية "شعاع"، أو عادت النهاية إلى البداية بشكل صريح أو غير صريح كما مرَّ معنا في الخماسيات الأخرى مثل خماسية "شهود"، ومن نماذج عودة النهاية صريحة إلى البداية خاتمة خماسية "حب":
في تناجي القلوبِ بالحبِّ رُوحٌ فيه للروحِ والحَشا خير قُوتِ
فيهِ صَفوٌ ونَشوةٌ وهَناءٌ وانطلاقٌ من الأسى المكبوتِ
حينَ تُصغي بعضُ القلوبِ لِبعضٍ في الحديثِ النَّقي أو في السكوتِ
يُشرقُ اللهُ بالصَّفاءِ عليها ويُنادي أعماقَها: هلْ رَضيتِ
في تناجي القلوبِ بالحبِّ سرٌّ يتسامى بها إلى الملكوتِ
(مع الله: 59)
إلى جوار الخماسية ذات الدائرة المغلقة هناك خماسية هيكلها كهيكل الخماسية ذات الدائرة المغلقة في كل شيء، لكنه يختلف عنه من حيث النهاية، فالشاعر في هذا الشكل لا يتم دورته الشعورية حتى يعود إلى حيث بدأ، وإنما هو ينتهي في القصيدة إلى نهاية "غير نهائية"، إنها نهاية ترتبط ارتباطاً عضوياً بالبداية، ولكنها ليس هي البداية، إنها نهاية مفتوحة إذا صحَّ التعبير، إن الشاعر هنا يتحرك في اتجاه شعوري ممتد في خط مستقيم يأخذ طابع الامتداد اللانهائي(17). يقول الأميري في خماسية "مضاء":
أَغْمضِ العَينينِ رَهواً وتنفّسْ صَعداءَكْ
أملاً زِدْ.. واستَعِدْ لا خيَّبَ اللهُ رجاءَك
سِرْ.. ولُذْ باللهِ فالإ مدادُ من ربِّكَ جاءَك
لا تقلْ: جاوزتُ سبعينيَ واستكمِلْ عَطاءَك
وامضِ باللهِ قويّاً.. سدَّد اللهُ مَضاءَكْ
(قلب ورب: 233)
إنه هيكل أو بناء بسيط يجري على منوال واحد يعطي انطباعاً شعورياً موحداً بدايته مثل نهايته، أو نهايته تترك المجال مفتوحاً لاستمرار الانطباع العام، وهو أصلح ما يكون للتجارب التأملية، أو الخماسيات التي يغلب فيها الجانب العقلي على الجانب العاطفي، وقد برز هذا اللون في الموسم الثاني من خماسيات الأميري أي ما نظمه بعد أن دخل عمر السبعين(18)، وفي ديوانه "قلب.. ورب" عدد وافر منها. في خماسية أخرى "حكمة الدهر" سوف نلحظ أسلوب الحكم العقلية السارية سريان القوانين الأبدية:
لا تُضعْ لمحةً من العمر هَدراً وارتفعْ عن كثافةِ الأرض قَدرا
وتقدّسْ بِحمْلِ همِّ البرايا واسألِ اللهَ فوقَ صبرِكَ صَبرا
وتفاهمْ والدَّهرَ فهوَ حكيمٌ لا تقلْ: جارَ! إنّه بكِ أدرى
رُبَّ عُسرٍ شكوتَ منهُ ملحّاً يُضمرُ الدَّهرُ في خفاياهُ يُسرا
فتشبَّثْ مسلِّماً لِقضاءِ اللهِ وادأبْ في السعي -يا عبدُ- حُرّاً
(قلب ورب: 284)
إن وحدة الخماسية النفسية وفرت لكل منها الوحدة العضوية التي وجدناها في تماسك الهيكل وقوة البناء، وبوسعنا أن نكشف عن عوامل أخرى أسهمت في قوة البناء، أو نشأت عن هذه الوحدة النفسية أو الشعورية، مثل الاعتماد على القافية الموحدة، وهو ما غلب على قوافي الخماسيات باضطراد إلا نماذج سوف نقف عندها في حينه، ومثل اعتماد صيغ نحوية تشدّ من ترابط التراكيب والعبارات بل الأبيات نفسها، أشرنا إلى أمثلة من الترابط النحوي في خماسيتي "بقاء" و "شعاع" ونضيف مثلاً آخر أوسع مساحة وأشد إحكاماً في خماسية "طمأنينة":
لو أخذَ الإنسانُ في يَومِه لِغَدهِ العبرةَ من أمسِهِ
وأنفذَ النَّظرةَ عبر النُهى تقرأُ سِرَّ الغيبَ في طِرسِهِ
وأرهفَ السمعَ وراءَ الحِجا يُصغي إلى المَقدورِ في جَرسِهِ
لاستشعرَ الرَّوعَ طُمأنينةً وشامَ وجهَ الأنسِ في بُؤسِهِ
وسلَّم الأمرَ إلى رَحمةٍ يكتُبها اللهُ على نفسِهِ
(مع الله: 101)
هذه الخماسية تنقسم إلى مقطعين اثنين من حيث الهيكل أو البناء، يشتمل المقطع الأول على الأبيات الثلاثة الأولى المبدوءة بحرف "لو"، حرف شرط وامتناع لامتناع، أما المقطع الثاني فيشتمل على البيتين الأخيرين المبدوء بحرف اللام الواقع في صدر جواب الشرط: "لاستشعر الروع.." إذ لا تتم الجملة الشرطية إلا بهذا الجواب، ولا يطَّرد المقطع الأول ما لم يلتحم مع المقطع الثاني نحوياً ومعنوياً فإن كل ما ورد من أفعال في المقطع الثاني ممتنعة الحصول لامتناع حصول الأفعال الواردة في المقطع الأول.(/8)
لعلك لاحظت في هذه الخماسية كما في غيرها من ألوان الترابط الداخلي توظيف "الإرصاد" أو ما يسمى "التوشيح" أو "المطمع" في القوافي حيث يدل أول الكلام على آخره، فتُعلمُ القافيةُ قبل ذكرها، مثل قافية البيت الثاني "طرسه" وقافية البيت الأخير "نفسه". ومما زاد في قوة الإرصاد وإشباع التوقع المتماسك في هذه القافية الأخيرة أنها جزء من آية قرآنية جاء بعض منها معها، وهو: "رحمة يكتبها الله على نفِسه" قال تعالى في سورة الأنعام: كتبَ على نفسِه الرحمةَ لَيجمعنّكم إلى يومِ القيامةِ لا ريبَ فيه.. (الأنعام: 12).
يتبع
ــــــــــــــــــ
(15) قضايا الشعر المعاصر - نازك الملائكة - دار العلم للملايين - بيروت - ط8 ص: 235.
(16) الشعر العربي المعاصر - د. عز الدين إسماعيل - المكتبة الأكاديمية - القاهرة - ط5 - ص: 21.
(17) من نماذج الهياكل الأخرى نموذج يبدأ بمطلع موجز ثم تفصله الأبيات الأخرى مثل الخماسيات في ديوان "مع الله ص: 57 و 59 و 299"، أو عرض ثم تعليل -في الديوان نفسه: 253 - ،125 أو خماسية جاءت كلها إنشائية في نموذج مفتوح ذي خط واحد "قلب ورب: 267" وهكذا..
(18) عثرنا على نماذج منها في بواكير خماسياته وهي الخماسيات الثلاث التي وردت في ديوانه "أمي" وهو في الثلاثين من عمره، وتجربته الفنية في بداياتها
خماسيات الأميري (3)
هدية الأدب الإسلامي للأدب العالمي
بقلم: محمد الحسناوي
hisnawi@odabasham.org
الموسيقى
إن الموسيقى في الآداب والفنون لاسيما الشعر قرينة التوهج العاطفي أو النفسي أو ثمرتهما، وقد يخطر على البال أن الشعر الإلهي لدى الأميري هو من باب التأملات، التي يغلب عليها الجانب العقلي، ويتوارى عنها الجانب العاطفي، والأمر ليس كذلك. إن الأميري يذكر الله تعالى كذكر الناس ذويهم وأحبابهم بل أشد ذكراً. قال تعالى: (فإذا قضيتم مناسِكَكم فاذكروا اللهَ كَذِكرِكم آباءكم أو أشدّ ذكراً، فمنَ الناسِ من يقولُ: ربّنا آتِنا في الدُنيا ومالَهُُ في الآخرةِ من خَلاق) (البقرة: 200) إن ذكر الله عند الأميري هيام وعشق وَوَلَهْ:
الحجرُ الأسودُ قبّلتُهُ بشفَتَيْ قلبيْ، وكُلّي وَلَهْ
لا لاعتِقادي أنّه نافعٌ بل لِهُيامي بالّذي قَبّلَهْ
محمدٌ أطهرُ أنفاسهِ كانت على صفْحاتهِ مُرسَلَةْ
قبّلتُه والنورُ من ثغرهِ يُشرقُ آياتِ هدىً مُنزَلَةْ
قبّلتُ ما قبّلهُ ثغرهُ النَّا طِقُ بالوَحيِ ابتِغاءَ الصِّلَةْ
(مع الله: 116)
فهو لِحبِه اللهَ تعالى حباً جعل كيانه كله وَلَهاً.. أحب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، ولحبه العميق لرسول الله أحب أنفاسه، ولحبه الجمِّ لأنفاس الرسول أحب الحجر الأسود فقبله:
أمرُّ على الديارِ ديارِ ليلى أقبّلُ ذا الجدار وذا الجدارا
وما حبُّ الديارِ شغفنَ قلبي ولكنْ حُبُّ من سكن الديارا
لذلك لم يقتصر الشاعر في التعبير عن مشاعره الجياشة بالتزام البحور الشعرية والقوافي، بل أسهمت في موسيقى خماسياته عوامل متعددة، كالتصريع في المطالع والتصريع في الشطور، وبعض الترصيع، وألوان من الجناس والطباق، وبالتكرار في بدايات الأبيات أو بعض التراكيب والكلمات، وحتى القافية اكتنزت بمعطيات علاقاتها بما قبلها وما بعدها، سواء بِردّ العجز على الصدر أو بالإرصاد وما شاكل ذلك.
إن الأميري عاصر ظهور شعر التفعيلة، وكتب مقدمات لقصائده بنثر فني يكاد يكون من شعر التفعيلة، ومع ذلك لم يلم في إنتاجه الخصب بشعر التفعيلة، إنه ملتزم بعروض الخليل بن أحمد الفراهيدي، بل لم يقف عند استخدام البحور الشعرية المألوفة حديثاً أو في العصر العباسي والأندلسي والشعر المهجري، إنه نظم على البحر الطويل مالا يقل عن اثنتي عشرة خماسية، وواحدة على بحر المنسرح، أما مجموع البحور التي تجول فيها فهي عشرة بحور هي: (الرمل 18خماسية - الطويل 12 - الخفيف 15 - المتقارب 14 - السريع 13 - الكامل 10 - البسيط 6 - الرجز 5 - المتدارك 1 - المنسرح 1).
إن بحور الخليل -في رأي نازك الملائكة- أغنى موسيقى من شعر التفعيلة لأن بحور الخليل فيها تعدد أو تنوع بالتفعيلات مثل: (فعُولن مفاعيلن، أو مستفعلن فاعلن)، أما عروض شعر التفعيلة فإنه قائم على تكرار التفعيلة، وموسيقاه بناء على ذلك تظل رتيبة أو متجانسة، هذا أمر، وأمر آخر إن تخلي شعر التفعيلة قليلاً أو كثيراً عن القافية، ثم الإكثار من القوافي المقيدة (بحرف الساكن) زاد من الضعف الموسيقي، وحرم هذا الشعر من سهولة الاستظهار فالحفظ فالاستمرار في الذاكرة أو التداول. وقد اعترف النقاد بهذا الفرق بين العروضين، لما اتهم بعضهم عروض الخليل بأن موسيقاه صاخبة لا تصلح للشعر المهموس.(/9)
إن دراسة "الفاصلة" في القرآن -وهي كلمة آخر الآية- تفيد في تقويم الدور الذي تنهض به التقفية في الأدب العربي (من فاصلة وقافية وسجع)، فآيات القرآن الكريم لم تتخل عن الفاصلة، لكن السور التي التزمت فاصلة موحدة هي إحدى عشرة سورة، وهي من قصار السور، على حين كانت السور ذوات الفواصل المتقاربة إحدى وأربعين، والسور ذوات الفواصل المنفردة إحدى وعشرين، والسور ذوات الفواصل المتنوعة إحدى وأربعين سورة، وهي بقية السور(19).
لذلك نبه نقاد الشعر الجديد على أهمية القافية، فرأوا أنها ألزم له منها للشعر القديم ذي الطول الثابت الذي يساعد السامع على التقاط النبرة الموسيقية، ويعطي إيقاعاً شديد الوضوح بحيث يخفف ذلك من الحاجة إلى القافية الصلدة الرنانة التي تُصوّت في آخر كل شطر فلا يغفل عنها إنسان(20).
على أن الأميري كانت له خصوصية في التعامل مع عروض الخليل، سواء ما يتعلق بالبحور أو بالقوافي.
بالنسبة إلى البحور استخدم مضاعفة التفعيلات أو الشطور في بعض الخماسيات، وهو غير مألوف في حدود علمي قديماً ولا حديثاً، كما استخدم التخفف من التفعيلات من خلال المجزوء (مجزوء الرمل مرتين) أو المشطور (مشطور الخفيف ومشطور الرجز أو الأرجوزة مرة لكل منهما) وهذا مألوف قديماً وحديثاً، فمجزوء الرمل الذي حذفت منه تفعيلة من الشطر الأول أي جزء وتفعيلة أخرى من الشطر الثاني، فأصبح مجموع تفعيلات البيت أربع تفعيلات، يعمد الشاعر الأميري إلى جعل البيت ثماني تفعيلات في خماسية "جذبة":
يا مَعانيْ اللهِ في نفسيْ وروحيْ وضميريْ حلّقي وارتقي فوقَ سماواتِ الأَثيرِ
أشرِقي وهّاجةً في غورِ قلبيْ ووجودي والبثي وضّاءةً في ليلِ عمريْ وأنَيري
وتجلَّي لِجبالِ الهمِّ يجثو فوقَ صدريْ فلقد أزهقَ صدريْ حملُ همٍّ مُستطِيرِ
فإذا ما جُعِلتْ دكّاً أعينيني بعزمٍ أنا لا أرغبُ أن أُصعَقَ في ساحِ القَديرِ
غايةُ القصدِ -ومَنْ أقصدهُ ربٌّ كبيرٌ- جَذْبةٌ تُنعمُني بالقربِ من ربٍّ كبيرِ
(مع الله: 78)
من الواضح أن الجزء الثاني من السطر متعلق بالجزء الأول تعلّق الشطر بالشطر، كما هو معهود في الشعر الخليلي، وواضح أيضاً أن بنية القطعة أو القصيدة تشبه بناء الخماسيات الأخرى: من وحدة موضوع ووحدة نفسية أو عضوية متماسكة تشد أوصال النص بعضها إلى بعض، وأن الخاتمة على شكل وثبة روحية بأسلوب خبري ينهي الدعاء المفصل الذي تضمنته الأبيات الأربعة الأولى بأسلوبها الإنشائي: "يا معاني.. حلّقي.. وارتقي.. أشرقي.. والبثي.. وتجلّي.. أعينيني"، وموضوعها هو الإشراق والتجلي الذي يغلب على الخماسيات كلها.
إن مضاعفة التفعيلات أو الشطور تجعل الخماسية تتحول حسابياً إلى عُشارية لاسيما الأرجوزة المبنية على مشطور الرجز المعروف قديماً منذ العهد الجاهلي، وله تاريخه الطويل في الشعر العربي قديمه وحديثه، لكن خصوصيات الأميري التي أشرنا إليها تخالف المألوف لتنسجم مع حاجات الشاعر الفنية، وحسناً فعل!.
أما خصوصيات الشاعر في القوافي فأقلها ازدياد نسبة القوافي المقيدة (الساكنة الروي: 38 خماسية) مقابل: (56: مطلقة أو متحركة الروي) قياساً لمألوف الشعر القديم، وهي نسبة تواكب ظواهر في الشعر الحديث لاسيما شعر التفعيلة وحتى فواصل القرآن الكريم الذي تغلبت الفواصل المقيدة فيه على الفواصل المطلقة خمسة أضعاف، وهذا مما يميل بموسيقى القوافي إلى الهمس بدل الضجيج، والإلهيات على حرارة عواطفها ليست "جماهيرية" أو خطابية فتحتاج للضجيج.
من خصوصيات قوافيه أنه كسر وحدة القافية أو الروي في بعض الخماسيات، وجاء بلونين أحدهما معروف لاسيما في شعر الموشحات والمهجريين والشعر الإبداعي (الرومانتيكي) حديثاً ألا وهو تنويع القافية مقطعاً مقطعاً، مثل خماسيته "قوافل النبوات" وهي الوحيدة بين الخماسيات:
.. وتتالى عُمُر الإنسانِ في الدهر المَديدْ
الهُدى والزيغُ والكبوةُ والعزمُ السديدْ
أنبياءٌ وملوكٌ ورسالات ودعوةْ
واهتداءٌ وارتدادٌ وهناءاتُ وشقوةْْ
وبدا في فلك الأقدار إشراقٌ وسُؤَددْ
لَفَتَ الناسَ إلى اللهِ فقد جاءَ مُحمّدْ
وإذا النورُ نورُ اللهِ في الأكوانِ هالَةْ
تصنعُ الإنسانَ بالقرآنِ فتحاً ورِسالَةْ
إنها معجزةُ الصحراءِ واللهُ له في العُرْب آيَةْ
تُنبِتُ الأمجادَ بالإسلام للدُنيا هِدايَةْ
(نجاوى محمدية: 85)
ألا يذكرنا هذا التلوين الموسيقي (القافية مقطعاً مقطعاً) بموسيقى قرآنية في بعض السور مثل سورة "العاديات" مع العلم أن كل مقطع يستقل بفكرة تتطلب هذا التقسيم الموسيقي:
والعادياتِ ضَبحا
فالمورياتِ قَدْحا
فالمُغيراتِ صُبْحا
* *
فأثرنَ به نَقْعا
فوسطنَ به جمْعا
* *
إنَّ الإنسانَ لِربِّهِ لِكَنود
وإنّه على ذلك لَشهيدْ
وإنّه لِحُبِّ الخيرِ لَشديدْ
أفلا يعلمُ إذا بُعثرَ ما في القُبورْ
وحُصِّلَ ما في الصُدورْ
إنَّ ربهم بِهم يؤمئذٍ لخبيرْ(/10)
والسؤال: هل أفاد الأميري من موسيقى القرآن مباشرة، أم عن طريق الذين تعاقبوا بالتأثر منذ الموشحات حتى يومنا هذا، أم هي التجربة الفنية التي استدعت ذلك، نترك ذلك الآن للنقاد والمتذوقين المعنيين على حد سواء، وتجربة الأميري مع القرآن واسعة عميقة.
الأطرف من ذلك أن يبني خماسية بل ثلاث خماسيات على قافيتين تتناوبان: الشطور الأولى على قافية، والشطور الثانية على قافية أخرى:
يا ربّ هذا الليلُ يجلو شُهبَهُ مثلَ ثُغورِ الحورِ في دياركا
يُحاورُ الولهانُ فيهِ حِِبَّهُ وإنني أُحييهِ في حِوارِكا
وخفقاتُ القلبِ يشكو خَطبهُ كأنّها الأصداءُ من أقدارِكا
تَصدَّعَ القلبُ فأحَسِنْ رأبَهُ يا ربّ واسقِ الروحَ من عُقارِكا
أَجِرْهُ إكراماً لينسى كَربَهُ فراحةُ المؤمن في جوارِكا
(مع الله: 96).
إنّ وقع موسيقى الشطرين متتاليين في المخيلة السمعية كوقع خفقات جناحين يطيران، فإذا أضفنا للشطرين قافيتين متناوبتين باستمرار، فربما يتأكد هذا الإيقاع الموسيقي، وتتضافر المعاني والمشاعر (القيم الشعورية) مع القوافي والموسيقى (القيم التعبيرية) للإيحاء بأجنحة التحليق، والموضوع إشراق وتجليات محلّقة.
إن القيم الموسيقية في الشعر عامة وفي شعر الأميري لا تتأتى من تفعيلات البحر العروضي وأصداء القافية وحسب! ففي النص السابق أنواع متفاوتة من الموسيقى الظاهرة والخفية بدءاً بالتراكيب والعبارات ومروراً بالكلمات وانتهاء بالحروف المتجانسة أو المؤتلفة أو المتقاربة، نشير مثلاً إلى ردّ العجز على الصدر في بيتين: "يحاور.. حوارك". و"أجِره.. جوارك". فبقدر ما في رد العجز على الصدر من تماسك بنيوي فيه أيضاً تصادٍ موسيقي. وانظر العلاقة الصوتية بين ثنائيات الكلمات: "ثغور.. الحور" "القلب.. خطب" "الأصداء.. الأقدار" فضلاً عن تكرار تركيب نديّ: "يا رب.. يا رب". لقد استخدم الأميري ببراعة صيغ "الإرصاد" وشقيقه رد العجز على الصدر ثماني عشرة مرة للأول، واثنتي عشرة مرة للثاني في الأقل، فإذا أضفت إلى ذلك استخدام التكرار الفني للكلمات أو التراكيب أو بدايات الأبيات أو عدداً من هذه الأساليب مرة واحدة.. عرفت مدى غنى الموسيقى داخلية وخارجية في خماسيات الأميري(21) تأمل معي هذه الخماسية "حتى ترضى":
لكَ الحمدُ طوعاً.. لكَ الحمدُ فرضاً وثيقاً عميقاً.. سماءً وأرضا
لكَ الحمدُ صمتاً.. لكَ الحمدُ ذِكراً لكَ الحمدُ خَفقاً حثيثاً.. ونبضا
لكَ الحمدُ مِلءَ خلايا جَناني وكلِّ كياني.. رُنوّاً وغَمضا
إلهيْ وجاهيْ إليكَ اتجاهيْ وطيداً مَديداً.. لِترضى فأرضى
فأنتَ قِواميْ.. وأنتَ انسِجاميْ مع الكونِ والأمرُ لولاكَ فَوضى
(قلب ورب: 197).
لعلك لاحظت تكرار البدايات "لكَ الحمدُ"، كما لاحظت الجناسات "وثيقاً عميقاً" "جناني كياني" "إلهي - جاهي - اتجاهي" "وطيداً مديداً" "لترضى فأرضى"، كما لاحظت تقسيم الشطور نحوياً وعروضياً أي موسيقياً: "لكَ الحمدُ طوعاً - لكَ الحمدُ فرضاً" "لكَ الحمدُ صمتاً - لكَ الحمدُ ذكراً - لكَ الحمدُ خفقاً"، بل تدرج التقسيم من مقابلة تفعيلتين مع تفعيلتين إلى تقابل تفعيلة مع تفعيلة: "إلهي - وجاهي" "وطيداً - مديداً" "لترضى فأرضى"، وهذا كله غير التناظر في صيغ التركيب وموسيقى الكلمات: "فأنت قوامي.. وأنت انسجامي" أي البدء بضمير مخاطب منفصل ثم بخبر مضاف إلى ياء المتكلم، مع جناس لفظي تام في المبتدئين وناقص في الخبرين وهكذا.. هذا أيضاً غير الطباق العفوي الناجح: "طوعاً - كرهاً" و "سماء - أرضاً" و "صمتاً - ذكراً" و "خفقا - نبضا" و "رنواً - غمضا" و"انسجام - فوضى" وأخيراً نشير إلى تصريع المطلع "فرضا - أرضا".
كنا أشرنا إلى دور الخواتيم في تماسك الخماسيات لما تحدثنا عن الهيكل أو البناء، وهي تستحق عناية أكبر، لاسيما علاقتها بالمطالع وبمجموع النص، ونكتفي هنا بالإشارة إلى أن أهمية المطالع لا تقل عن أهمية الخواتيم، وإن كان كل من المطلع والخاتمة جزءاً لا يتجزأ من جسد الخماسية.
المطلع هو المدخل الشعوري والتعبيري لكل خماسية، والناس إذا نسوا ما حفظوه من قصائد قلما ينسون المطالع القوية التي حفظوها، مثل مطلع الخماسية السابقة:
لكَ الحمدُ طوعاً.. لكَ الحمدُ فرضا وثيقاً عميقاً.. سماء وأرضا
ومن قوة المطالع اعتماد التصريع، وهو اتفاق قافية الشطرين بحرف الروي، وقد أفاد منه الأميري في (35) خمس وثلاثين خماسية، على حين تخلى عن التصريع في بقية الخماسيات أي (59) خماسية، وتعليل ذلك هو مدى التوهج العاطفي الذي تفتتح به الخماسية، فإن كان البناء متدرجاً، لم يكن هناك حرص على التصريع، وإن كان الافتتاح من نهاية التجربة الشعورية فالمرجح أن يبدأ الشاعر بالتصريع، وربما جاء التصريع داخل الخماسية أيضاً:
ولقد تَثقلُ الهمومُ على القلـ ـبِ.. وتُوحي إليه مُرَّ أساهُ
فإذا أشرقَ اليقينُ على المَرْ ءِ.. فنادى في الكربِ: يا أَللهُ(/11)
وبَدَتْ مِلءَ رُوحهِ وحِجاهُ وغَدَتْ في اللسانِ هِجِّيراهُ
أصبحَ الهمُّ قُربةً وسُكوناً ألرضى بالقضاءِ رَجعُ صَداه
وتجلّى الرحمانُ بالعَزم والتثبيـ ـتِ.. فالمرءُ صابرٌ أوّاهُ
(مع الله: 94)
إن القافية بذاتها تحتاج إلى دراسة، مثل الاتكاء هنا على حرف الراء المسبوقة بألف المد وهي بالضبط (آه..) في جو الهموم!
معجم الخماسيات الشعري
للشاعر الأميري معجمه الشعري الخاص، وربما كان حديثنا عن معجم الخماسيات لا يختلف كثيراً عن معجمه العام.
من معجم الخماسيات إيثار الشاعر لألفاظ أو كلمات بعينها، إما لحاجة فنية يتطلبها موضوع الخماسيات الإلهي، أو تتطلبها فرادة التجربة النفسية الشعورية لدى الشاعر نفسه.
من الألفاظ ذات العلاقة بالموضوع الإلهي الترنم بألفاظ الجلالة، فقد تردد لفظ الجلالة "الله" في الخماسيات (50) خمسين مرة صريحاً، فضلاً عن ألفاظ الضمائر العائدة إليه، ومثل ذلك لفظ "ربّ" تردد (48) ثماني وأربعين مرة، وهذا غير الضمائر التي تعود إليه، وغير أسماء الله الحسنى وبقية ألفاظ الجلالة: الرحمان.. الرحيم.. الديان. يتعلق بالموضوع الإلهي ولفظ الجلالة ألفاظ أخرى ومشتقاتها مثل: "الحمد: تردد 8 ثماني مرات - تقدّس: 5 - ذكر: 7 - فيض: 5 - غيب: 4 - تقوى: 7 - استغفر: 5 - عبد: 11 - خلق: 8 - حبل: 4 - آلاء: 4 - سر: 3 - الهدى: 5 - أقدار: 9 - البرايا: 5".
ومما يتعلق بالموضوع الإلهي التجربة الروحية التي يمر بها الشاعر من سمو وإشراق: "قلب: 40 - سمو: 13 - سنا: 15 - نور: 32 - كون: 23 - التجلي: 12 - حي: 8 - غفلة: 4 - الدنى: 13 - ذروة: 3 - همّ: 12 - غمض: 3 - سعي: 5 - عزم: 13 - عرج: 5 - ارتقى: 5 - صعد: 3 - ارتفع: 3 - إشراق: 18 - خفق: 8 - الحب: 5 - محص: 2 - طهر: 4 - سماء: 14 - الأرض: 10 - يشع: 4 - الدهر: 7 - هيام: 3 - يقين: 4 - حيرة: 5 - جو: 4 - كشف: 4 - خِلابة: 2 - شام: 3 - غيّان: 3 - وَلَهٌ: 6 - وضوء: 3 - سرى: 6 - رأى: 23 - البون: 2 - كون: 22 - ذنب: 12".
مما يتعلق بفرادة تجربته، ويخصه هو بالذات: "أنا: 15 - روح: 28 - نفس: 24 - الحر: 10 - عقل: 7 - جسم: 5 - إنسان: 5 - كيان: 5 - طين: 2 - بصائر: 2 - الأبصار: 4".
وما هو أشد خصوصية، ولا نكاد نراه عند غيره: "كنه: 5 - غور: 13 - خلايا: 7 - ذرات: 5 - وجائب ،1 جمع وجيبة وهي الوظيفة - دِبق: 1 - غلق: 1 - جرم: 1".
للتراث الإسلامي في خماسيات الأميري صدى عميق في الكلمات والعبارات والصور واللوحات وأسماء الأعلام وحتى الأحداث التاريخية أو القصص، وما من خماسية تخلو من واحدة من هذه المفردات، لكن الأميري من حيث التصنيف أولى أن يصنف في المدرسة الإيحائية التي تعيد إنتاج التراث، وتتمثله من جديد، فعلى الرغم من وفرة الألفاظ القرآنية تظل عناية الشاعر بالمعاني والآفاق أكثر، والموضوع الإلهي هو خير برهان على ذلك يقول في خماسية "فتنة":
ما فتئ الشيطانُ يُغريني ولم ينلْ منّيَ مأمولا
تَخذتُ كي أدرأَ تسويلهُ حَبلا إلى ربّيَ مَوصولا
غَلَلَتُهُ فيه، فلم يَنطلقْ إلا قليلاً دامَ معلولا
لكنني مازلتُ في خشيةٍ من فتنةِ تَعتوِرُ الجيلا
أخافُ إن لم يَحمِني ربّيْ من وسوساتِ الزلَّةِ الأولى
(مع الله: 87)
فالألفاظ المفردة: "شيطان - تسويل - حبل موصول - مغلول - وسوسات" يمكن إعادتها إلى نصوصها القرآنية بسهولة، ولها موحياتها المتفرقة، لكن الشاعر ألّف بينها في فلك واحد هو موضوع الفتنة، ووضعنا أمام تصور الإسلام للفتنة الشيطانية بدءاً من عهد آدم عليه السلام بالجنة، فهذه المفردات لم ترد لذاتها متفرقة، بل لدورها متجمعة متكاملة متضامنة، وهذا التوظيف الأفضل للتراث.
صور التجلّي والإشراق
ميزة الشاعر الأميري ليست في وفرة الصور أو التجديد والابتكار فيها، وهذا كله متحقق إلى حدّ بعيد، إن ميزته الأولى في خيال الشعر العربي قديماً وحديثاً هي نجاحه في تصوير اللحظات أو الوثبات الروحية في حضرة الله تعالى وتجلياته على عباده الصالحين.
من صوره البارعة المبتكرة: عين القلب - مسمع الروح - شفاه النجوم:
وتَراءَتْ لِعينِ قلبيْْ بَرايا من جمالٍ آنستُ فيها جَمالَكْ
وترامى لمِسمَعِ الرُوح هَمسٌ من شِفاهِ النجوم يتلو الثنالَكْ
(مع الله: 51)
ومنها تصويره الفجر معراجاً للألباب، والقلب يناجي، والصدر يسبّح:
الليلُ في ظُلمتهِ داجى والفجرُ في إشراقهِ أفصحْ
فكان للألباب مِعراجاً أسرى بها نحوَ السنا الأوضحْ
بدَّدَ شكاً عابراً هاجا وأصلحَ الرأيَ بِما أصلحْ
أشرقَ في الأبصارِ مِنهاجا فالنفسُ من إيمانها تنضحْ
والقلبُ في خَفقتهِ ناجى والصدرُ في أنفاسهِ سبّحْ
(مع الله: 88)(/12)
هذه الخماسية ليست نموذجاً للشعر الإلهي الذي غلب على خماسيات الأميري وحسب، بل إن صورها وأخيلتها هي نموذج أيضاً لمعظم شعر الأميري الذي غلبت عليه السبحات الروحية وتجليات الإشراق الرباني، حيث يغدو كيان الشاعر ذرة من ذرات هذا الكون العظيم التي تسبّح بحمد الله تعالى، أو حيث تسبّح كل خلية من خلايا الشاعر وهي مستغرقة في شعاع أو أشعة النور الإلهي:
ألا يا سَناً فاقَ كُنْهَ السَنا وعَمَّ السَماواتِ عَمَّ الدُّنى
تَخطّى مدانا ومحسوسَنا وزادَ وأعجزَ أفهامَنا
وأمعنَ في لا نهاياتهِ وأشرقَ.. أغدقَ.. فوقَ المُنى
إلى قبسٍ من شُعاعاتهِ شعرتُ بقلبيْ سَما وادّنى
وكنتُ أُصلّي فكانَ التجلّي وما عدتُ أدري أنا..ما أنا..؟!
(صفحات ونفحات: 25)
يبدو أن من الإنصاف أن نخصص دراسة مستقلة لصور التجلّي والإشراق في شعر الأميري، لأنها في تقديرنا أظهر ميزة في شعره، وأهم مسألة في حياة الإنسان.
انتهى
الهوامش:
(19) الفاصلة في القرآن - محمد الحسناوي - المكتب الإسلامي - دار عمار - ط2 ص: 297 - 298.
(20) قضايا الشعر المعاصر - نازك الملائكة - مكتبة النهضة - ط3 - ص: 164.
(21) أفاد من تكرار بدايات الأبيات في (21) إحدى وعشرين خماسية، ومن تكرار الكلمات في (47) سبع وأربعين خماسية.(/13)
خمسون قصة من قصص إخلاص السلف
الحديث عن أخبار السلف الصالح حديث شيّق يجذب النفوس .. وترق له القلوب .. وفيه عبرة لمن يعتبر ..
قد يتقاصر الإنسان أمام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ويقول : هؤلاء أيدهم الله بالوحي، لكنَّ هؤلاء ممن نذكر أخبارهم لم يكن الوحي ينزل عليهم، وعامة هؤلاء الذين اخترت لكم خبرهم لم يروا النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هم ممن جاءوا بعده ..
وقد صدق ابن القيم حيث قال: ( وقد جرت عادة الله التي لا تتبدل وسنته التي لا تتحول أن يُلبس المخلص من المهابة والنور والمحبة في قلوب الخلق وإقبال قلوبهم إليه ما هو بحسب إخلاصه ونيته ومعاملته لربه ويُلبس المرائي ثوبي الزور من المقت والمهانة والبغض وما هو اللائق به ...
1- كان عبد الرحمن بن أبي ليلى يصلي في بيته فإذا شَعَرَ بأحدٍ قطع صلاة النافلة ونام على فراشه – كأنه نائم – فيدخل عليه الداخل ويقول: هذا لا يفتر من النوم؟! غالب وقته على فراشه نائم؟! وما علموا أنه يصلي ويخفي ذلك عليهم .
2- وجاء رجل يقال له حمزة بن دهقان لبشر الحافي العابد الزاهد المعروف، فقال أحب أن أخلوا معك يوماً، فقال: لا بأس تُحدد يوماً لذلك، يقول فدخلت عليه يوماً دون أن يشعر فرأيته قد دخل قبة فصلى فيها أربع ركعات لا أحسن أن أصلي مثلها فسمعته يقول في سجوده " اللهم إنك تعلم فوق عرشك أن الذل – يقصد بالذل عدم الشهرة - أحب إلي من الشرف .. اللهم إنك تعلم فوق عرشك أن الفقر أحب إليَّ من الغنى .. اللهم إنك تعلم فوق عرشك أني لا أُوثر على حبك شيئاً " يقول فلما سمعته أخذني الشهيق والبكاء، فقال : " اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن هذا هنا لم أتكلم ".
3- قال الأعمش: كنت عند إبراهيم النخعي وهو يقرأ في المصحف، فاستأذن عليه رجل فغطّى المصحف وقال: لا يراني هذا أنِّي أقرأ فيه كل ساعة.
4- وللإمام الماوردي قصة في الإخلاص في تصنيف الكتب، فقد ألف المؤلفات في التفسير والفقه وغير ذلك ولم يظهر شيء في حياته, ولما دنت وفاته قال لشخص يثق به: الكتب التي في المكان الفلاني كلها تصنيفي وإنما إذا عاينت الموت ووقعت في النزع فاجعل يدك في يدي فإن قبضت عليها فاعلم أنه لم يقبل مني شيء فاعمد إليها وألقها في دجلة بالليل وإذا بسطت يدي فاعلم أنها قبلت مني وأني ظفرت بما أرجوه من النية الخالصة، فلما حضرته الوفاة بسط يده ، فأظهرت كتبه بعد ذلك.
5- وهذا عبد الواحد بن زيد يخبرنا بحديثٍ عجيبٍ حصل لأيوب وقد عاهده ألاَّ يخبر إلا أن يموت أيوب، قال عبدالواحد: كنت مع أيوب فعطشنا عطشاً شديداً حتى كدنا نهلك، فقال أيوب: تستر علي؟ قلت: نعم إلا أن تموت، قال: عبد الواحد فغمز أيوب برجله على حِراءٍ فتفجَّر منه الماء فشربت حتى رويت وحملت معي.
كانت بينهم وبين الله أسرار لو أقسم منهم على الله أحد لأبرَّه لإخلاصهم وصدقهم مع الله تبارك وتعالى.
6- وهذا أبو الحسن محمد بن أسلم الطوسي يقول عنه خادمه أبو عبد الله، كان محمد يدخل بيتاً ويُغلق بابه، ويدخل معه كوزاً من ماء، فلم أدر ما يصنع، حتى سمعتُ ابناً صغيراً له يبكي بكاءه، فَنهتهَ أمُهُ، فقلتُ لها: ما هذا البكاء؟ فقالت إن أبا الحسن يدخل هذا البيت، فيقرأ القرآن ويبكي، فيسمعه الصبي فيحكيه، فإذا أراد أن يخرج غسل وجهه؛ فلا يُرى عليه أثر البكاء.
7- ودخل عبد الله بن محيريز دكاناً يريد أن يشتري ثوباً، فقال رجل قد عَرَفَه لصاحب المحل: هذا ابن محيريز فأحسِن بيعه، فغضب ابن محيريز وطرح الثوب وقال " إنما نشتري بأموالنا، لسنا نشتري بديننا ".
8- وقال ابن عيينة: كان من دعاء المطرِّف بن عبد الله: " اللهم إني أستغفرك مما زعمت أني أريد به وجهك، فخالط قلبي منه ما قد علمت ".
9- وكان رحمه الله إذا حدَّث بحديث النبي صلى الله عليه وسلم يشتدُّ عليه البكاء وهو في حلقته، فكان يشدُّ العمامة على عينه ويقول: ما أشدَّ الزكام.. ما أشدَّ الزكام..
10- روى صاحب طبقات الحنابلة: أن عبد الغني المقدسي المحدث الشهير, كان مسجوناً في بيت المقدس في فلسطين, فقام من الليل صادقاً مع الله مخلصاً, فأخذ يصلي, ومعه في السجن قوم من اليهود والنصارى, فأخذ يبكي حتى الصباح, فلما أصبح الصباح ورأى أولئك النفر هذا الصادق العابد المخلص, ذهبوا إلى السجان, وقالوا: أطلقنا فإنا قد أسلمنا, ودخلنا في دين هذا الرجل, قال: ولِمَ؟ أدعاكم للإسلام؟ قالوا: ما دعانا للإسلام, ولكن بتنا معه في ليلة ذكرنا بيوم القيامة..!
11- رأى ابن عمر رجلاً يُصلي ويُتابع فقال له: ما هذا؟ قال: إني لم أصل البارحة، فقال ابن عمر: أتريد أن تخبرني الآن ! إنما هما ركعتان.(/1)
12- يقول الحسن البصري: " إن كان الرجل جمع القرآن وما يشعر به الناس .. وإن كان الرجل قد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس .. وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزوار وما يشعرون به .. ولقد أدركت أقواماً ما كانوا على عمل يقدرون أن يعملوه في السر فيكون علانية أبداً "
13- كان شريح القاضي يخلو في بيتٍ له يوم الجمعة لا يدري أحد من الناس ماذا يصنع فيه.
14- قيل لابن المبارك: إبراهيم بن أدهم ممن سمع ؟ وممن أخذ الحديث ؟ وممن أخذ العلم ؟
قال: " قد سمع من الناس وله فضل في نفسه .. صاحب سرائر ما رأيته يظهر تسبيحاً، ولا شيئاً من الخير، ولا أكل مع قوم قط إلا كان آخر من يرفع يده - يتظاهر أنه ليس من أهل الزهد وإنما يأكل كما يأكل عامة الناس فلا يقوم أولهم - ".
15- وهذا عبد الله بن المبارك حينما خرج في غزو بلاد الروم فالتقى المسلمون بالعدو ، وخرج عِلجٌ من العدو يطلب المبارزة ويجول بين الصفين، فخرج له رجل من المسلمين فقتله العلج، وخرج ثانٍ فقتله، وخرج الثالث فقتله، فبرز له رجل آخر، فصاوله ثم قَتَلَ العلجَ، فاجتمع الناس عليه ينظرون من هو؟ فجعل يغطي وجهه بكمه لئلا يعرفه أحد، فجاءه رجل يقال له أبو عمر فرفع كمه عن وجهه، فإذا هو عبد الله بن المبارك، فقال عبد الله بن المبارك : " وأنت يا أبا عمر ممن يُشنع علينا " ؟ – ماهذه الشناعة في نظر ابن المبارك رحمه الله ؟! الشناعة أنه أظهر أن هذا هو البطل الباسل الذي تمكن من قتل هذا العلج الذي قتل عدداً من المسلمين – كان يغطي وجهه بكمه يريد وجه الله تعالى - .
16- وهذا رجل مسلم وقع في حصار حاصره المسلمون للروم وطال هذا الحصار واشتد الانتظار على المسلمين ، وأحرقتهم سهام العدو، فعمد رجلٌ من المسلمين سراً إلى ناحية من الحصن، فحفر نفقاً ثم دخل منه، فهجم على الباب من الداخل وجعل يضرب في الأعداء حتى فتح الباب ودخل المسلمون، واختفى ذلك الرجل فلم يعرفه أحد، فصار قائد المسلمين – مَسلمَة – يقول ويستحلف الناس: سألتكم بالله أن يخرج إلي صاحب النفق، فلما كان الليل جاء رجل فاستأذن على حارس مسلمة، فقال الحارس من هذا ؟ قال: رجل يدلكم على صاحب النفق، فاذهب إلى صاحبك – يعني مسلمة – وأخبره وقل له يشترط عليك شرطاً، وهو ألا تبحث عنه بعد ذلك اليوم أبداً، ولا تطلب رؤيته بعده ولا الكلام معه أبداً، فقال مَسْلمَة: لهُ شَرطُه فأخبروني عنه من هو ؟ فدخل الرجل – نفسه – وقال أنا هو.. وليَ ما اشترطتُ، لا تسألني .. لا تبحث عني .. لا تَدْعُني إلى مجلسك .. فاختفى بين الجند .
فكان مسلمة بعد ذلك يقول : " اللهم احشرني مع صاحب النفق ".
17- كان علي بن الحسين زين العابدين يحمل الصدقات والطعام ليلاً على ظهره، ويوصل ذلك إلى بيوت الأرامل والفقراء في المدينة، ولا يعلمون من وضعها، وكان لا يستعين بخادم ولا عبد أو غيره .. لئلا يطلع عليه أحد .. وبقي كذلك سنوات طويلة، وما كان الفقراء والأرامل يعلمون كيف جاءهم هذا الطعام .. فلما مات وجدوا على ظهره آثاراً من السواد، فعلموا أن ذلك بسبب ما كان يحمله على ظهره ، فما انقطعت صدقة السر في المدينة حتى مات زين العابدين.
18- وهذا أيوب السخيتاني .. إمام كبير من أئمة التابعين .. وعابد من عبادهم .. ربما يحدث بالحديث فيرق، فيلتفت ويتمخط ويقول " ما أشد الزكام ".
19- يقول الحسن البصري: " إن الرجل ليجلس في المجلس فتجيئه عبرته، فإذا خشي أن تسبقه قام ".
20 - وهذا شقيق بن سلمة رحمه الله كان يصلي في بيته، وينشج نشيجا ً لو جعلت له الدنيا على أن يفعله وأحدٌ يراه ما فعل.
21- ووقف رجل يصلي في المسجد، فسجد وجعل يبكي بكاءً شديداً، فجاء إليه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه فقال: " أنت .. أنت .. لو كان هذا في بيتك ".
22- كان أيوب السخيتاني رحمه الله يقوم الليل كله فيُخفي ذلك، فإذا كان الصبح رفع صوته كأنما قام تلك الساعة.
23- صحب رجل محمد بن أسلم فقال: لا زمته أكثر من عشرين سنة لم أره يصلي – حيث أراه – ركعتين من التطوع في مكان يراه الناس إلا يوم الجمعة، وسمعته كذا وكذا مرة يحلف ويقول: " لو قدرت أن أتطوع حيث لا يراني ملكاي لفعلت خوفاً من الرياء ".
24- وهذا داوود بن أبي هند ذُكر في ترجمته أنه صام أربعين سنة لا يعلم به أهله، كان يخرج في مهنته، ويأخذ معه غداءه، فيتوهمون أنه مُفطِر، فيتصدق به في الطريق، فيرجع آخر النهار إلى أهله فيأكل معهم.(/2)
25- اجتمع الفضيل بن عياض وسفيان الثوري يوماً فجلسوا يتذاكرون شيئاً من الرقائق فَرق كل واحد منهم وبكى، فقال سفيان الثوري رحمه الله: " أرجوا أن يكون هذا ا لمجلس علينا رحمة وبركة ". فقال الفضيل بن العياض: " ولكني أخاف يا أبا عبد الله ألا يكون أضرَ علينا .. ألست تخلصتَ من أحسن حديثك وتخلصتُ أنا إلى أحسن حديثي .. فتزينتُ لك .. وتزينتَ لي .." فبكى سفيان الثوري رحمه الله وقال: " أحييتني أحياك الله ".
26- وهذا عون بن عبد الله يقول: " إذا أعطيت المسكين شيئاً, فقال: بارك الله فيك، فقل أنت: بارك الله فيك. حتى تَخلُصَ لك صدقتك ".
27- وكان محمد بن يوسف الأصبهاني لا يشتري خبزه من خبّاز واحد، يقول لعلهم يعرفوني ولكن إذا جئته لأول وهلة لا يعرفُ أني فلان الذي يسمع عنه فتقع لي المحاباة، فأكون ممن يعيش بدينه.
28 - يقول إبراهيم بن أدهم: " ما صدق الله عبدٌ أحبَّ الشهرة ".
29- وقال بشر بن الحارث: " لا يجد حلاوة الآخرة رجل يُحبُ أن يَعرفهُ الناس ".
30- وكان مورق العجلي يقول: " ما أحِبُ أن يعرفني بطاعَتِه غَيرهُ ".
31- ولما قدم عبد الله بن المبارك المصيصة سأل عن محمد بن يوسف الأصبهاني: فلم يعرفه أحد, فلما لقيه قال: " من فضلك يا محمد لا تُعرف؟ " – رأى أن ذلك منقبة وأنه مغمور لا يعرفه أهل البلد -.
32- كان سفيان الثوري يقول: " وجدت قلبي يصلح بمكة والمدينة مع قوم غرباء أصحاب بتوت وعناء – عليهم أكسية غليظة – غرباء لا يعرفونني فأعيش في وسطهم لا أُعرف كأنني رجل من فقراء المسلمين وعامتهم ".
33- كان الإمام أحمد يقول: " أحب أن أكون بشعبٍ في مكة حتى لا أُعرف، قد بُليتُ بالشهرة، إنني أتمنى الموت صباحاً ومساءً ".
34- يقول أيوب السخيتاني لأبي مسعود الجريري: " إني أخاف ألا تكون الشهرة قد أبقت لي عند الله حسنة .. إني لأمر بالمجلس .. فأسلم عليهم .. وما أرى أن فيهم أحداً يعرفني ، فيردون علي السلام بقوة ، ويسألونني مسألة كأن كلهم قد عرفني ، فأي خيرٍ مع هذا ".
35- ويقول حمَّاد بن زيد: " كنا إذا ممرنا بالمجلس ومعنا أيوب فسلّم؛ ردّوا رداً شديداً ، فكان يرى ذلك نقمة ويكتئب لذلك ".
36- وخرج أيوب السخيتاني مرة في سفر فتبعه أناس كثيرٌ، فقال: " لولا أني أعلم أن الله يعلم من قلبي أني لهذا كاره لخشيت المقت من الله عز وجل ".
37- قال الشافعي: " وددت أن الناس تعلموا هذا العلم على ألا ينسب إليَّ منهُ شيء ".
38- قال سهل بن عبدالله التستري: " ليس على النفس شيءٌ أشقُّ من الإخلاص لأنه ليس لها فيه نصيب ".
39- وقد كان محمد بن سيرين رحمه الله يضحك في النهار حتى تدمع عينه، فإذا جاء الليل قطّعه بالبكاء والصلاة..
ومن خير الناس ( بسَّام بالنهار بكَّاءٌ في الليل )
44- روي عن ابن الجوزي عن الحسن أنه قال: كنت مع ابن المبارك فأتينا على سقاية والناس يشربون منها، فدنا منها ليشرب ولم يعرفه الناس، فزحموه ودفعوه، فلما خرج قال لي: ما العيش إلا هكذا، يعني حيث لم نعرف ولم نوقر.
45- روي عن مطرف بن عبدالله الشخير أنه قال: لأن أبيت نائماً وأصبح نادماً أحب إلي من أن أبيت قائماً فأصبح معجباً.
46- روي عن النعمان بن قيس أنه قال: ما رأيت عبيدة رحمه الله متطوعاً في مسجد الحي.
47- يقول علي بن مكار البصري الزاهد: ( لأن ألقى الشيطان أحب إلي من أن ألقى فلاناً أخاف أن أتصنع له فأسقط من عين الله ).
48- قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: كان أبي إذا خرج في يوم الجمعة لا يدع أحداً يتبعه، وربما وقف حتى ينصرف الذي يتبعه.
49- يقول محمد بن أعين وكان صاحب ابن المبارك في أسفاره: كنا ذات ليلة ونحن في غزو الروم، فذهب عبدالله بن المبارك ليضع رأسه ليريني أنه ينام، يقول فوضعت رأسي على الرمح لأريه أني أنام كذلك، قال: فظن أني قد نمت، فقام فأخذ في صلاته، فلم يزل كذلك حتى طلع الفجر وأنا أرمُقُه، فلما طلع الفجر أيقظني وظن أني نائم، وقال: يا محمد، فقلتُ: إني لم أنم، فلما سمعها مني ما رأيته بعد ذلك يُكلمني ولا ينبسط إليّ في شيء من غزاته كلها، كأنه لم يعجبه ذلك مني لِمَا فطنت له من العمل، فلم أزل أعرفها فيه حتى مات، ولم أر رجلاً أسرَّ بالخير منه.
50 - قيل لسفيان الثوري: لو دخلت على السلاطين؟ قال: إني أخشى أن يسألني الله عن مقامي ما قلتُ فيه، قيل له: تقول وتتحفّظ، قال: تأمرونني أن أسبح في البحر ولا تبتل ثيابي ؟؟!!.(/3)
خواطر النفس البشرية محكومة بموازين :
الشريعة المنقولة.
والفطرة المعقولة.
والأعراف المقبولة.
فيؤخذ منها ويرد عليها ويتوقف فيه
الحمد لله رب العالمين، وسلام على العباد الصالحين، وبعد:
هذه... خطرات من الأعماق، ونظرات في الآفاق الحسية والنفسية.. فيها كثير من الحكم وجوامع الكلم، وعيون العلوم والفهوم..
وصياد الخواطر يغوص في البحر ليلتقط الثمين المكنون من الدر والجوهر.
مع العذر إن خوى بعض الصدف، أو حوى المدر والحجر..
وصيد البر كالبحر فيه ما فيه مما نفس ورخص، وفج ونضج، وكبر وصغر.
ومن غير المقصود ذاك القصور الموجود في ركاكة المبنى أو نكارة المعنى.
فأنا –كالنورسي من قبلي-: "أتصور كردياً ثم أتلكم عربياً".
كتاب "رجته الأكراد" ص5، لبديع الزمان النورسي، ترجمه المؤلف نفسه من الكردية إلى العربية.
يضاف السبب الآخر، وهو تفريغ الفكر في أوقات الحصر، وكانت ساعات متعددة في أوقات متباعدة، ولهذا وذاك أثر كبير على مستوى التفكير والتعبير.. فكان الهزيل والسمين، أو الحسن والأحسن.
وتركت خواطري منثورة ومتناثرة... حتى قيض لها من نظمها في عقود فبوّبها على الحروف، ورتبها وفهرس لها على الموضوعات.
والذي حمل المهمة أخي الأستاذ مصطفى شاهر خلوف، وفقه الله.
وقد خرجت على نهجه في الأول والآخر، فحافظت على البدء بالنية، والختم بالبيعة، وأخرجتهما من سلسلة الترقيم.
وشيء آخر تنتظره هذه الخواطر وتحتاج إليه ألا وهو الشرح والتعليق لتوضيح العبارة، وتحديد الإشارة، والتكميل والإتمام... وما استدركته بالهوامش قليل لا يفي، وبخاصة ما يتعلق منها بالمفاهيم العلمية.. يضاف لذلك الإحالة على بحوث لي لا تزال عندي مخطوطة غير مطبوعة.
والله أسأل العفو والعافية وحسن العاقبة.
النّيّة:
إنما الأعمال بالنية
والنية بالإخلاص
والإخلاص بالحب
والحب بالتحبيب والتزيين
كالكره يكون بالتكريه
والتقبيح
باب الهمزة
الأب والابن
-1-
ليس كل كبير أباً ولا كل صغير ابناً.
الابتسامة
-2-
الابتسامة مفتاح لشخصيتي ولشخصيتك.
-3-
ما رأيت سلاحاً أمضى من البسمة.
الأبوان
-4-
ليس كل زوج يصلح أن يكون أباً،
ولا كل زوجة تصلح أن تكون اماً.
-5-
لو كان الحق كله للنسب لأخرت الأم دوماً عن الأب.
معلوم في الدين أن حق الأم أعظم،
كما يشهد به حديث: من أحق الناس بحسن صحابتي؟
فكان الجواب: أمك ثلاثاً وكان الأب رابعاً.
أتاتورك
-6-
الحقيقة التي يجهلها كثير من الأتراك المسلمين وآخرون هي: أن أتاتورك، وهو أبو الأتراك المسلمين، لم يكن تركياً في نسبته ولا مسلماً في ديانته.
ومع ذلك نسمع من يقول: إنه خلص الوطن وأنقذ الملة... وقد تسمع مثل هذا من معهد من معاهد العلم، أو في خطبة جمعة تلقى في بيت من بيوت الله.
الاتجاه
-7-
أسراب السمك في الماء –كطيور السماء في الهواء- تسبح في نفس الاتجاه.
-8-
اتجه مع اليمين إلى القمة الأبدية.
الأحزان
-9-
الأحزان تضيق المكان وتطول الزمان.. أعاذنا الله من أحزان المكان والزمان في النفوس والأبدان.
الإحسان
-10-
خذ ميزان الإحسان من وحي النقل وحكمة العقل.
-11-
الإحسان شرط لصحة الدين كله في ظاهر الإسلام وباطن الإيمان معاً.
ويقابله على سبيل المخالفة الإساءة ظاهراً وباطناً.
بعضهم يجعل الإحسان مرتبة ثالثة من مراتب الدين تكمل الإيمان والإسلام. والصحيح أن للدين مرتبتين: ظاهرة بالإسلام، وباطنة بالإيمان.
أما الإحسان فشرط لصحة الباطن والظاهر جميعاً، فهو منهما وفيهما وليس مرتبة خارجة عنهما. وانظر الدين رقم 166،167.
الأحمق
-12-
تكفيك من الأحمق زيارة واحدة بلا إعادة ولا زيادة.
الاختلاف
-13-
ليس بالكلام وحده يتميز الإنسان عن الحيوان.
فالببغاء حيوان يتكلم.
-14-
المشكلة هي أنهم اختلفوا حتى في ترتيب الكليات الضرورية من دين وعقل وعرض ونفس ومال.
الخلل في واقع المسلمين ناجم في كثير من الأحيان عن عدم ترتيب هذه الأولويات، فقد تتقدم الأموال والنفوس على العقول والأعراض بل وعلى الدين، ومن راقب الحال عرف هول الخلل.
-15-
الدماء الحمراء مختلفة الفصائل.
-16-
الخلاف بين المؤمنين والكافرين في نهاية النهاية:
هل هي للموت أو للحياة الأبدية؟
المؤمنون ينتهون بالحياة الأبدية وهم يعتقدون ذلك ، بينما يعتقد الكافرون أن النهاية بالموت والفناء بلا بعث ولا جزاء. وانظر رقم 350.
-17-
كل الناس يتماثلون في الجوهر ويختلفون في الأثر والخبر.
-18-
أسأل من خالفني الرأي المودة في القربى،السببية والنسبية والإنسية، وأسألهم الأخوة المنسية.
قديماً أنكروا ظلم ذوي القربى، والقربى ثلاث من جهة النسب بالعصب، ومن جهة السبب بالمصاهرة، ومن جهة الأخوة الإنسانية بالانتماء لآدم أبي البشر عليه السلام. والقربى المنسية هي الأخوة الإسلامية في الدين.
أداة جارحة
-19-
الجزار والجراح كلاهما يحمل أداة جارحة.
آدم
-20-
بالمعصية خرج آدم من جنة الدنيا، وبالتوبة يدخل جنة الآخرة.
الارتفاع
-21-(/1)
بعض الناس كالجبل كلما ارتفع قلّ ماؤه ونباته وأحياؤه.
-22-
لو كان كل ما ارتفع سامياً، ما هان زبد الماء وخبث المعدن.
-23-
لعله يجهلها كثيرون ارتفع الأنف على الفم.
الأرض
-24-
أرضنا هذه حبة يابسة مع قطرة ماء في فقاعه هواء.
عناصر التكوين جامدة وسائلة وغازية.
الأسباب
-25-
الأسباب ثلاثة: ظاهرة ومستترة وقاهرة.
مثل هذا في الموت والحياة، حيث ينسب الفعل للعبد وهو سبب مباشر ظاهر، وينسب للملك الذي ينفخ الروح أو يقبضها وفعله خفي مستور،
أما السبب القاهر فهو الله بيده السنن الكونية والشرعية نفاذاً أو خرقاً ونسخاً.
الاستعاذة
-26-
أعوذ بالله ممن أصابني بنصب وعذاب، إناثاً وذكراناً، إنساناً وجاناً.
الاستعانة
-27-
استعن برب الناس يغنك عن الناس.
الاستقامة
-28-
المنحرفون لا يكتشفون بسهولة طريق الاستقامة.
الأسر
-29-
للأسر لا للسرور يزقزق في القفص العصفور.
الإسلام
-30-
لا لقاء بين الشرق والغرب في غياب الإسلام.
المستقبل للإسلام يكون المسلمون فيه خير أمة أخرجت للناس، يقومون بالإيمان ويقيمون العمران من مصانعهم ومناسجهم ومزارعيهم ومصايدهم ومتاجرهم ومساكنهم وأزيائهم ومخابرهم ومعاهدهم يتعلم الناس ويكتسون ويأكلون ويشربون ويدافعون ويدفعون ويتمتعون ويتداوون نفسياً وحسياً.
الأسماء
-31-
أسماء بعض الأصدقاء والأقرباء تجمع كثيراً من حروف الهجاء.
-32-
لكل من اسمه نصيب الموافقة والمفارقة، ومن حمل أسماء النساء لم يخل من أنوثة وخنوثة.
-33-
مطلبي الأسمى في الأسماء الحسنى.
وجدت رسالة نافعة في الأسماء للشيخ محمد بن صالح العثيمين، مأخوذة من الكتاب والسنة، إلا أنه حصرها في تسعة وتسعين.
الإصرار
-34-
الذين يصرون على الصغائر يصيرون إلى الكبائر.
الإصلاح
-35-
أصلح ما بينك وبين ربك يصلح ما بينك وبين غيرك، والله يتولانا وإياك وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير.
-36-
صلاح الدنيا بصلاح الدين.
الدين الصالح لإصلاح الدنيا هو القائم على ركيزتين:
أولاهما: التحديد.
وثانيهما: التجديد.
ويعني التحديد أن يكون الإطار العلمي محدد المعالم في ذاته، موحد التصور لدى أتباعه.. ولتفصيل هذا يراجع مشروع: المجمع العلمي الإسلامي.
ويعني التجديد احتواء الواقع المتغير بإصدار أحكام مناسبة على القضايا الجديدة.. وبمثل هذا فسرت حديث تجديد الدين على رأس كل مئة سنة.
وانظر التجديد رقم 92.
-37-
بعض الآلام كالملح، لا بد منه لإصلاح الأطعمة.
-38-
قد يقتضي الإصلاح طوفاناً يغرق أو ناراً تحرق أو ريحاً صرصراً في يوم نحس مستمر.
-39-
البتر والكي بالنار علاجان.
-40-
قبل أن تستوي سفينة نوح على جودي قاومت أمواج الطوفان.
الأصم
-41-
الأصم لا يسمع صوتك ولو كان على مقربة منك.
الاضطهاد
-42-
لا زلت ممنوعاً من حمل لقبي وإعلان نسبي.
الاضطهاد يدفع إلى التحدي، ولعله دفع بديع الزمان النورسي في مقدمة كتابه "رجته الأكراد" إلى أن يقول: "إن ما في –من الغرور فطرة، والفخرية ملية، وتحديث النعمة مسلكاً، وميل التفوق مشرباً، وميل التجلد قومية–تظهر للأحوال الناظر في آثاري فوق الحقيقة أنانية وتعززاً. نعم إن فيها أنانية إلا أنها ليست لي بل أنانية ملتي ونوعي، نعم فيها تعزز وتأمر ولكن ليس لي بل عزة صنفي...".
ثم يقول في أواخر الكتاب يخاطب قومه الأكراد:
"لكم الفضل بسبق بأصالة فطرتكم الجوادة، ولكم الشرف ملء خيامكم السوداء التي ستنقلب قصوراً بيضاء...".
الاعتدال
-43-
وصيتي لأخوتي: لا تتكبروا ولا تتصغروا.
الإعجاز
-44-
الإعجاز في الحقيقة لا في المجاز.
يراجع مفهوم الإعجاز القرآني.
-45-
الإعجاز العلمي في القرآن يعني بيان الحق والصدق
-46-
الاتجاه نحو الإعجاز البياني عطل البحث العلمي في القرآن.
الأغنياء
-47-
غلب الغباء أغلب الأغنياء
الإفراط والتفريط
-48-
الإفراط والتفريط طريقان لغواية الشيطان.
-49-
الصوفية إفراط في الخوف أولاً، وتفريط في الرجاء آخراً..
والجبرية يسوون بين العبودية والربوبية.
الإفساد
-50-
إفساد الفطرة والدين يمهد لقيام مملكة الشياطين.
-51-
بعض الأقلام السائلة يصلح للكتابة من الطرفين على الوجهين.
الله
-52-
الحضارة المعاصرة تنكر نظام السببية والنسبية في أعظم الدرجات بإنكارها الخالق ذاته.
-53-
يا رب: إن لم أخطئ في السر والعلن فكيف تكون غفار الذنوب ستار العيوب.
-54-
ليس هواي كردستان ولا سودان،
كل هواي رباني من القرآن،
إن هواء هو، أنا هواي هو، هو هواي هو.
-55-
الله خير صاحب وخير خليفة.
-56-
قالوا: السلف أعلم، قلت: بل السلف أفضل.. والله أعلم
-57-
إن فهم نسبية الزمن أصل لفهم الذات والصفات.
في القرآن دلالات على قبض الزمن ومده، من يوم معروف إلى ما يعادل ألف سنة أو خمسين ألف سنة...(/2)
وقد حاول أنشتاين –في بداية عصرنا- شرح نسبية الزمن فيما عرف بنظرية النسبية. وعلى أية حال فنحن لا نتمكن من تصور مكان بلا زمان، أو زمان مجرد من المكان، ولما كان الله فوق المكان والزمان لذا استحال تحديده بالحواس والعقول، فـ"لا تدركه الأبصار"، لأنه "ليس كمثله شيء".
راجع الإنسان رقم 75، والبعد المطلق رقم 91، والزمان والمكان رقم 182-187.
-58-
لا يعني الأول القدم ولا الآخر الحدوث، فإن القدم والحدوث داخلان في الزمان بينما الأول والآخر فوق الزمان أي ما قبله وبعده.
-59-
التفكير في الرب هو الطريق لتقويم العقل وتزكية النفس
-60-
مغفرته تعالى للعصاة ليست من خلف الوعيد، بل من الوفاء بالوعد.
فهو تعالى لا يخلف في الوعد ولا في الوعيد.
تدبر قوله تعالى: {إن الله لا يغفر ان يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (النساء:48)، فمغفرته لما دون الشرك من المعاصي داخل في الوفاء لا في الخلف.
وعلى هذا فلا وجه لمن يجيز خلف الوعيد على الله ويعد ذلك من باب الفضل الزائد على العدل.
الإمامة والإمامية
-61-
الإمامة والإمامية قديماً وحديثاً وراء قبول المجهول من النقول بلا تحقيق ولا توثيق.
الأمراض
-62-
الأمراض النفسية تنسج بخيوط الخوف والحزن.
الإمعة
-63-
هو الذي لا ينقص من سواد ولا يزيد في بياض،وضميره لا يظهر،وظاهره لا يؤثر.
الأمل
-64-
طول الأمل قد يفسد العمل.
-65-
خيبة الأمل تعجل الأجل.
الانتقام
-66-
شرقنا غارق في انتقام غربنا.
الإنسان
-67-
الإنسان فكره كبيرة في عبارة صغيرة.
-68-
الإنسان كأي مخلوق محكوم بالنسخ والنسيان.
-69-
كان الإنسان كالحيوان غير مذكور الجنس والنوع.
-70-
ما زال بعض البشر يحيا بلا ذكر حيناً من الدهر.
-71-
بعض الوجوه لا يوحي بشيء يذكر،
وبعضهم لا وجه له، أو له وجه آخر.
-72-
كثير من الناس كالحشرات التي تلسع ولا تنفع.
-73-
بعض الناس كالخفاش يتعلق من رجليه ويدلي برأسه فيرى الأشياء مقلوبة.
-74-
بعض الناس كالذئاب والذباب تعض بسبب وبغير سبب.
-75-
الإنسان مكان في زمان.
-76-
غرائز الإنسان حيوانية.
-77-
الإنسان –كأي مخلوق- جهاز يصلح لما خلق له، فهو ميسر لا مسير.
تدبر قوله صلى الله عليه وسلم:"اعملوا فكل ميسر لما خلق له".
وأصله آيات القدر، مثل: {سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى} (الأعلى: 1-3).
وانظر رقم 123-209، 265، 266، 268، 348.
-78-
الإنسان ابن النسيان ألهاه التكاثر وأعماه التفاخر.
-79-
الإنسان يحب الظهور، ومعنى الإنسان في اللغة الظهور.
-80-
النسيان آفة الإنسان، ورحمة في بعض الأحيان.
-81-
يتكون الإنسان من البدن المادي والروح المجهولة والنفس المكلفة المسئولة.
انظر رقم 357،363، والنفس ثلاثة أنواع المطمئنة واللوامة وأمارة بالسوء.
الأهل
-82-
المكان بأهله عامر أو دامر.
الأهم
-83-
لا يغني تاج الرأس عن حذاء الرجل.
-84-
قد تكون الساقية أكبر فائدة من النهر المديد والبحر المحيط
الأيام
-85-
الأيام تختلف في الأسماء وتتفق في المسمى.
الإيمان
-86-
الإيمان يحقق التوازن بين الخوف والرجاء.
-87-
الإيمان أمان، والإسلام سلام.
في اللغة الأمان من الأمن والسلامة، ولازم الإيمان التصديق، فاستعمل فيه وهو شطر الدين، ولازمة الشطر الآخر للدين وهو الإسلام الظاهر. فمن عرف الإيمان بأنه تصديق بالجنان وقول باللسان وعمل بالأركان، فقد أراد تعريفه بماهيته مع لازمه في مقام الرد على الخصوم الذين يقصرون الدين على مرتبة واحدة من ظاهر أو باطن ، وقد يقصرونه على عمل واحد،
وانظر رقم 166، 167.
باب الباء
الببغاء
-88-
الببغاء –كبعض الناس- ينطق بحروف الهجاء، ويستعمل الكلمات والعبارات.
البذر
-89-
من بذر في غير أرضه ما حصد محصوله.
البراءة
-90-
تبرأ نوح من الابن، وإبراهيم من الأب، وامرأة فرعون من الزوج –{والله بريء من المشركين ورسولُه والمرمنون}- فأعني اللهم على البراءة مما تكره منهم أجمعين.
البعد المطلق
-91-
هناك بعد غير الزمان والمكان، هو البعد المطلق.
البيعة
-92-
أبيعك يا رب نفسي وروحي وبدني...
انظر خاتمة الخواطر.
باب التّاء
التجديد
-93-
التجديد لا يعني إعادة القديم ولا إزالته أو تبديله، بل هو يعني الإتيان بجديد لم يكن من قبل موجوداً. والمجدد هو الذي يحكم على الواقع المتغير الجديد بحكم مناسب جديد، وذلك من خلال الشريعة والفطرة القديمتين.
التحقير والتعظيم
-94-
لا تحقرن شيئاً فقد يكون السبب صغر أذنك وبعد عينك.
وما تحقره اليوم قد تعظمه في الغد.
التعامل
-95-
تعامل بالفضل إن أحببت، وبالعدل إن كرهت.
التعاون
-96-
المسلّة الكبيرة لا تغني عن الإبرة الصغيرة.
التعريف
-97-
تعاريف العلوم الإسلامية تنتظر المنهجية الموضوعية لتدقيق الصياغة في التعبير، وتحديد الهوية أو الماهية بعيداً عن هوى الخلفيات والنزاعات.
-98-
قالوا عن القرآن: مخلوق وقديم...(/3)
قلت: ينبغي تعريف القرآن أولاً، ثم الحكم بإثبات الخلق أو القدم أو نفيهما معاً.
-99-
القرآن: آخر كتب الله المنزل على آخر الرسل بلسان العرب لهداية الناس.
القرآن لهداية الناس ابتداءً وتكاليفه وأحكامه متناسبة مع حياة الإنسان، ويدخل الجن تبعاً فيما يشتركون فيه مع الإنس من التوحيد والأحكام.
وقد نقلت في تفسير سورة الرعد التعريف المشهور الطويل وذكرت هنا التعريف المعتدل، والتعريف المختصر عندي هو: كلام الله المنزل على محمد.
علماً أن مضمون القرآن هو: معرفة الله، فيمكن بناء التعريف عليه.
-100-
الآية : جملة حروف قرآنية مختومة بفاصلة.
-101-
السورة : جملة آيات قرآنية مفصولة بالبسملة.
يخرج من التعريف سورة براءة التوبة حيث لم تبدأ بالبسملة والسبب على ما روي أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم توفي قبل بيان موضعها فألحقت بالأنفال، وعدت مع السبع الطوال.
التعمق
-102-
المواد الثقيلة تغوص في أعماق الأرض.
التغير والتغيير
-103-
الشمس التي تشرق على الأرض صباحاً تغرب عنها مساءً.
-104-
التغيير يبدأ وينتهي بالتفكير.
التفاضل
-105-
التفاضل بين البشر وغيرهم كالملائكة ليس في ذات الخلق وإنما في صفة التكليف من علم وتقوى...
وعلى هذا فلا وجه للقول بأفضلية البشر ولا الملائكة لا خصوصاً ولا عموماً ما دام ميزان التفاضل مجهولاً وهو التقوى عند الله، والعلم من عند الله.
-106-
قالوا: الملك أفضل أو البشر أفضل؟
قلت: لا هذا ولا ذاك، وإنما ابتلي الجميع بالعبادة وأفضلهم أتقاهم.
-107-
شعب إسرائيل يعتقد أن الله قد حباهم وحدهم، وسخر لهم سواهم، وكثير من الشعوب الأخرى يعتقد مثلهم وإن لم يعمل عملهم.
من هذه الشعوب الآريون، كالألمان في الغرب، والأكراد في الشرق.
راجع رقم
التفكير والفكر
-108-
حسن التدبير من ثمرات التفكير.
-109-
لا بد من عصر الفكر كعصر السحب كي تمطر.
-110-
التفكير الجماعي وراء الإبداع العلمي.
العمل الجماعي يتكامل بسبب خضوعه للرقابة الدائمة بخلاف الأعمال الفردية.
-111-
البحث عن الحقيقة بين ظاهر السلفية وباطن الخلفية.
-112-
الأفكار كالأمطار تنزل وابلاً وطلاً.
-113-
واقعنا مرآة فكرنا.
التمييز
-114-
يطول زمان التمييز بين الصديق الودود والعدو اللدود.
التنقية والتلوث
-115-
الهواء والدم في الرئتين، أحدهما ينقى والآخر يلوث.
التوحيد
-116-
قالوا: دعا المرسلون إلى توحيد الإلهية على الخصوص، قلت : دعوهم إلى توحيد الله على العموم.
-117-
توحيد الله معناه عبادة الله وحده بلا شريك-كما هو مفاد المصدر توحيد من الفعل وحد بالتشديد – بمعنى إفراده تعالى بلا تثنية كاليهود، أو تثليث كالنصارى، أو تعديد بلا حدود كالعرب في جعل الملائكة أولاداً لله.
-118-
التوحيد هو الدين كله باطناً وظاهراً، فيعم جميع العبادات، ويشمل العقيدة والفقه والأخلاق...
هذا ما حاولت تأصيله في رسالة: أصول التوحيد في القرآن الكريم.
-119-
التوحيد هو معرفة الله بأسمائه الذاتية وصفاته الفعلية، والاسم الجامع له هو الرب، والربوبية تشمل الأسماء والصفات على سبيل التداخل والاقتضاء.
-120-
يشرك اليهود والنصارى في توحيد الربوبية، ويدعون أنهم يوحدون الإلهية.
يدل على هذا قوله تعالى: {قل يا أهل الكتاب: تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله...} (الآية 64: آل عمران). ومن الشرك في التوحيد قول النصارى في صلاتهم: باسم الأب والابن والروح القدس إله واحد.
باب الثاء
الثقيل
-121-
ضاق فكري بثقيل من البشر، جمع السوادين في الصدر والظهر.
باب الجيم
الجار
-122-
بئس من لا يعرف جاره في غير مأتمه.
الجبرية
-123-
لولا مذهب الجبرية في القدر لكانت حضارة العصر إسلامية.
أخطر خلاف في هذه الأمة كان في شأن القدر، وقد ضاع كثير من الناس بين القدرية النفاة والجبرية الاثبات، وكانوا على طرفي نقيض..
وقد غلب مذهب الجبرية عصوراً بسبب سيطرة الصوفية الجبرية على مراكز العلم والسياسة، ثم حاول في العصر الحديث محمد عبده إعادة تيار المعتزلة، والحق وسط بلا إفراط ولا تفريط، أي: بلا قدرية ولا جبرية.
-124-
الجبرية لا يميزون بين الخير والشر في الشريعة، ولا بين النفع والضر في الفطرة.
الجد والمجد
-125-
الجَد والمجد بالجِد.
الجذور
-126-
تقليم الأشجار يعني البحث عن جذور جديدة.
الجماعة
-127-
هم على قلب شاعر في يد قاهر.
الجمال
-128-
الجمال لون من ألوان الجلال.
-129-
يقطفون أولاً أجمل الورود، ولست ممن يقطف الورود.
-130-
كل شيء جميل في موطنه، وموطن النخلة والناقة البادية.
الجهل
-131-
الجهل المركب مكون من الجهل بالتشخيص والجهل بالمعالجة.
باب الحاء
الحاسد
-132-
الحاسد يحترق بناره ويذرى بإعصاره.
-133-
استفدنا من نقد الحاسد، ونعوذ بالله من شره.
الحاقد
-134-
ملأه حقده حتى لم يعد الحق يدخل لبه، وغادر الحب قلبه.
الحب والكره
-135-(/4)
الحب الجامع بالله لله في الله من الله إلى الله.
-136-
أحببت الحب وكرهت الكره.
-137-
بالمحبة يحيا الإنسان، وبالكراهية يموت.
-138-
صوت الحب يُسمع من القلب.
الحذر
-139-
هل الحذر يدفع القدر؟
تدبر قوله تعالى: {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يخفظونه من أمر الله إن الله لا يغير ما يقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم...} (سورة الرعد: آية 11) وهو يعني أن : الحذر قد يدفع القدر.
الحساب
-140-
في الحساب اليسير تجاوز الكبائر، وفي الحساب العسير مناقشة الصغائر.
الحضارة
-141-
الشرق حضارته دينية، والغرب حضارته دنيوية، فمتى يتلاقيان وهما يتباعدان.
-142-
أبناء الحضارة يكيفون الهواء، ويعلبون الطعام والماء.
-143-
تلهث الحضارة المعاصرة تحت الأمراض الجنسية والنفسية.
الحق
-144-
الحق مطلق ونسبي، وهو موحد لا يتعدد.
-145-
الحق الواحد يراه بعض الناس متعدداً والباطل كذلك.
الحق واحد وكذا الصواب في مقابل الباطل والخطأ. ومعلوم أن المجتهد إذا أصاب الحق كان له أجران، وإن أخطأ كان له أجر واحد. وليس كل مجتهد مصيباً.
الحماقة
-146-
الأحمق لا يميز بين كبر النفس وعزتها.
الحوار
-147-
قالوا: خالفت الشيخ في دوران الأرض.
قلت: هل الشيخ معصوم؟
قالوا: لا .
قلت: أخطأ الشيخ.
الحواس
-148-
الحواس تقدم المواد الظاهرة لبناء الباطن.
الحية
-149-
الحية تمشي بكل بدنها.
باب الخاء
الخلق
-150-
عناصر الخلق كحروف الهجاء قليلة العدد.
الخلود والفناء
-151-
الذي يقابل الفناء المطلق هو الخلود المطلق.
-152-
من الفناء انفصال المكان عن الزمان.
الخوف والحزن
-153-
المشكلة المستعصية التي يحلها الدين وحده هي:
حزن الماضي وخوف المستقبل
-154-
الذي يخاف مرارة العلاج يتحمل الآلام المستمرة للمرض.
الخير والشر
-155-
الصراع الطويل ينتهي بانتصار الخير وانهزام الشر.
-156-
التفكير في الخير دواء للنفس.
-157-
لا ينقطع الشر بموت الأشرار كما لا ينقطع الخير بموت الأخيار، لأن الشر والخير باطنان في كل نفس ثم يظهران كل حين.
-158-
الأشرار يقولون: أولى الناس بالشر الأقربون.
-159-
رب بديل خير من أصيل.
باب الدال
دعاء
-160-
يا رب: أسألك تزكية النفس وصفاء الصدر وسلامة العقل وصحة البدن..
والاستقامة باطناً وظاهراً على الصراط المستقيم.
-161-
يا رب: اجعل فكري عبادة خالصة لك مقبولة عندك...
وتجاوز عني فيما غلبتني فيه نفسي فناصيتي بيدك...
وما أردت محادتك ولا إغضابك ولا التقدم بين يديك...
أنت أنيسي في وحدتي وصاحبي في مسيرتي وخليفتي...
وأنت حبيب دنياي وآخرتي...
أنا لك عبد وأنت لي سيد...
لا حول ولا قوة إلا بك، تولني وحدك ولا تكلني لغيرك.
الدنيا والآخرة
-162-
الدنيا مسير والآخرة مصير.
-163-
الآخرة تدعونا إلى حماية النفس بنور الإيمان.
-164-
الموتة أمدية والحياة أبدية.
تنتهي الموتة الثانية بالبعث للحياة الآخرة في الجنة والنار وهي أبدية خالدة . وانظر رقم 350.
الدهاء
-165-
بعض الدعاة في عصرنا دهاة يرون الحيلة وسيلة.
الدين
-166-
للدين مرتبتان هما: مرتبة الإسلام الظاهر بفعل اللسان والجوارح، ومرتبة الإيمان الباطن بفعل العقل والقلب.
-167-
الدين ظاهر وباطن، فما ظهر كان إسلاماً وما بطن كان إيماناً.
أما الإحسان فهو شرط صحة، وذروته: أن تعبد الله كأنك تراه.
الدين من حيث ظهوره واستتاره ينقسم إلى إسلام وإيمان، فهو مرتبتان. وبعضهم جعل الإحسان مرتبة ثالثة مع أنه شرط فيهما يدخل فيهما ولا يخرج عنهما. والتقسيم الثلاثي مبني على نظرة قاصرة في حديث جبريل المشهور، وقد أجيب فيه على الأسئلة الثلاثة: الإيمان والإسلام والإحسان، فتدبر الحديث..
باب الذال
الذاكرة
-168-
لا تستخدم ذاكرتك في استحضار ما يؤذيك.
-169-
السعادة والشقاوة تزيدان وتنقصان بمقدار وقوف الذاكرة عند المشاهد الشقية والسعيدة.
الذبائح
-170-
الحرام من الحيوان ما حرمه الله ورسوله بصريح القرآن وصحيح السنة، وهما الخنزير مطلقاً والحمار مقيداً.
راجع مفهوم الحيوان، والحمار المقيد هو الحمار الأهلي.
الذكر
-171-
بذكر الله نرتفع عن الأرض ونقترب من السماء فيطمئن القلب ويرضى الرب.
باب الراء
الرجل
-172-
بعض الرجال يتميزون عن النساء بحلق اللحى دونهن.
الرمزية
-173-
الفنون الرمزية بلغت في التجريد درجة الفراغ، على غرار التفاسير الإشارية للنصوص الدينية.
الرؤية
-174-
الصغير يرى الأشياء كبيرة.
-175-
كلما اقتربت وارتقيت رأيت وارتأيت.
-176-
بعض ما تراه العين سراب لا وجود له خارج العين.
-177-
عين القط تضيق في الضوء.
-178-
العين التي لا ترى كالأذن التي لا تسمع لا تقلع ولا تقطع.
-179-
الأعمى لا تنفعه النظارات المقربة والمكبرة.
-180-
ترى العين جهة واحدة وتسمع الأذن جميع الجهات.
الرياضة
-181-
بالرياضة الحركية يبقى البدن فتياً.
باب الزاي
الزمان والمكان
-182-
أتساءل عن الزمان يطول ويقصر، وعن المكان يمتد ويوسع.
-183-(/5)
الزمان والمكان يطوي أحدهما الآخر في الوجود والفناء.
-184-
الزمان كالمكان ذو حدد وأبعاد.
-185-
نتعجل الزمن ثم نندم على فوته.
-186-
امتداد الحاضر نهاية للماضي وبداية للمستقبل.
-187-
من ركب متن الزمان تخطى المكان واستوى له القرب والبعد مع الماضي والحاضر والمستقبل.
الزوج
-188-
يتنازل الزوج عن دوره لامرأته التي خلقت من أجله.
الزوجة
-189-
امرأة نوح قالت عن زوجها كما قال قومها: مجنون، وقريب من ذلك ما فعلته زوجة لوط.
-190-
الزوجة الصالحة مودة ورحمة وسيدة وخادمة...
والزوجة الأخرى أعاذنا الله منها في الدنيا والآخرة.
باب السين
سبع
-191-
شجاعة خائف، وصبر غاضب، وعفة مشته، وعفو مقتدر، وجود محتاج، ورجوع مخطئ، وتواضع مستغن.
سبعة
-192-
ليس كل باكٍ حزيناً، ولا كل ضاحك سعيداً، ولا كل مقبل محباً، ولا كل مدير
السعادة
-193-
السعادة في العبادة.
السكوت والكلام
-194-
الساكت مالك والمتكلم مملوك.
-195-
السكوت كالكلام يحتاج إلى حكمة وتوقيت.
-196-
لا للسكوت مع الجاهل المتحامل والعاقل المتغافل.
-197-
قد يكون السكوت من فضة والكلام من ذهب.
-198-
تخرج من الإنسان فضلات كثيرة من بينها الكلام.
-199-
قد يكون السكوت إقراراً لا استكباراً.
-200-
بعض الكلام كرسوم (بيكاسو) و(دالي)... يحتاج فهمها إلى الخيال أيضاً.
-201-
لا تفتح فمك وتطلق لسانك بغير مراقبة وحاجة ، فأنت لا تعلم دوماً ما يفعله اللسان خارج الفم.
-202-
إذا كان الساكت عن الحق شيطاناً أخرس،فأي شيطان يكون المتكلم بغير الحق؟
السلام والخصام
-203-
الله أعلن السلام والشيطان أعلن الخصام.
-204-
وجدت السلام في قلة الكلام وكثرة الابتسام.
-205-
مرت مخاوفي وأحزاني بسلام.
السلامة
-206-
يحسبون السلامة في المنامة.
السماء
-207-
مهما علت السماء فهي تقوم على الأرض.
المراد هنا سماء الأرض المكونة من الأغلفة المحيطة بها، التابعة لها، وليس المراد سماء الكون ، فذلك أعظم من الأرض ومن سمائها.
السمو
-208-
السمو بالدنو.
السنن
-209-
السنن الكونية والشرعية باقية لا تتخلف ولا تختلف، ولكن الذي ينزلها ويقدرها هو الذي يخرقها وينسخها.
تدبر آيات النسخ، ومنها:{يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب} (سورة الرعد: آية 39).
فيمحو منه ويثبت فهو تعالى فعال لما يريد.
السنة
-210-
السنة العامة تشريعية كالقرآن، والسنة الخاصة شخصية.
وخصوصياته صلى الله عليه وسلم غير ملزمة..
راجع الفرق السادس والثلاثين من فروق القرافي، ومقالة أحمد شاكر في كتاب في كتاب الأمة.
-211-
كتب الصحاح يحكم بصحتها من حيث الجملة لا أن كل حديث منها صحيح بعينه.
الفردية في العمل ، أو عمل الفرد لا يخلو من خلل وقصور بخلاف العمل الجماعي بسبب استمرار العمل فيه سلفاً وخلفاً، وكذلك خضوعه للمراقبة المتكاملة من مختلف الأنظار بينما الأعمال الفردية تقابل بالأخذ والرد مع إفراط وتفريط، ويصل الأمر إلى ادعاء نوع من العصمة لبعض الكتب، وقد احتجوا لتلك الكتب بأن المسلمين تلقوها بالقبول فكان إجماعاً، والإجماع عندهم سيد الأدلة! والذي نعلمه أن العصمة في ذاتها وفي قبول المسلمين كلهم لها لم تثبت لغير كتاب الله.
السودان
-212-
أبكاني قول السوداني: هل لوني عقاب رباني؟
ما أنساني أني في الهوى سوداني؟
السيد
-213-
بالأمس قال السيد: يا عبدي ، واليوم يقول : يا آبي. وغداً سيقول: يا سيدي.
آبي بالتركية تعني الأخ الأكبر.
السيرة
-214-
قال الأب: كنت أظنه من الملائكة.
قالت الأم: لم يخالف لي أمراً قط.
قال الأستاذ: سيصبح مشهوراً يشار إليك بالبنان.
قال الأخ: في الدنيا كلها أثق فيك وحدك.
قال الصديق: أنت أبو بكر الصديق.
قال رفيقه عنه: أفكاره ستحرر شعبه.
وقال صاحب جده له: أنت هو، كل الناس أحبوه.
وقال مجاهد فيه: هذا الذي يريد توحيد المسلمين.
وقال آخرون مثله وغيرهم غيره، أسأله تعالى المغفرة والستر لي وللأب والأم والأستاذ والأخ... وجميع الأصحاب...
• إن قيل له : من أنت؟
قال: أنا عبد ربي سيد نفسي.
وإن قيل: ما تريد؟
قال رضوان الله وجناته.
وإن قيل: فيم تعمل.
قال: في تحديد الدين وتجديده، وتجريده مما ليس فيه.
• سيقول المحبون لهذه السيرة مستبشرين: {وأما بنعمة ربك فحدث}.
وسيقول الآخرون مستهزئين: ماذا أراد بسيرته هذه مثلاً؟
باب الشين
الشخصية
-215-
من الجهل أن تحكم على شخصيتين بالتماثل بسبب عدم رؤية الفروق الدقيقة لكل فرد من كل جهة.
الشرق والغرب
-216-
يغلب على الغرب بياض الوجه وسواد القلب، وعكس الفرق في الشرق.
-217-
شر الغرب في الشرق، وخير الشرق في الغرب.
-218-
كل من الشرق والغرب لوث الآخر بالآخر.
-219-
منذ قرون والغرب يحاول أن يكون سيد الشرق.
الشعراء
-220-
غواة الشعراء يصبغون الكذب بألوان من بينها الأبيض.
الشعوب
-221-
أطعمة الشعوب وأزياؤها تعبر عن تفكيرها وأذواقها.
الشيبة
-222-
الشيبة هيبة وعيبة.
الشيطان
-223-(/6)
الشياطين من الأبالسة واليهود وراء إفساد الأديان السماوية والعقول البشرية.
انظر العصمة رقم 252، واليهود 379-383.
-224-
لا تدعوا الشيطان يملأ المكان ويحتل الزمان.
الشيوعية
-225-
الشيوعية بذرت بالغرب ونبتت بالشرق.
-226-
قال النورسي عن الدولة العثمانية:
هذا البلد حامل بالغرب وسيلد يوماً.
وقلت:
العالم الإسلامي حامل بالشيوعية وسيلد يوماً، وقد ولد ووئد.
انظر الطبقية، رقم 235.
-227-
كما تغير الحية جلدها تحاول الشيوعية بزعامة غورباتشوف، ويحاول آخرون بزعامة آخرين في بقية أقسام كردستان الإسلامية.
باب الصاد
الصبر
-228-
بين الحكيم والسفيه صبر لحظة.
الصلابة
-229-
لولا صلابة البذرة لأكلت مع الثمرة ولا تحولت إلى شجرة.
الصلاة
-230-
لا تقضى الصلاة المكتوبة المتروكة عمداً لأن الزمان لا يرجع إلى الوراء.
راجع مفهوم قضاء الصلاة المتروكة عمداً.
-231-
قيل: ترك الصلاة كفر.
قلت: كفر دن كفر.
الصوت
-232-
الصوت الذي يصدر من الرأس لا يحتاج لسماعه إلى أذنين.
الصيف
-233-
يضايقك الصيف ولكن حرارته تنضج لك الثمر.
باب الطاء
الطبقية
-234-
الطبقية الاجتماعية وراءها المترفون.
الطريق
-235-
قالوا: الرفيق قبل الطريق.
قلت: الطريق أولاً.
باب الظاء
الظاهر والباطن
-236-
ظاهرك شاهد على باطنك، ودنياك شاهدة على آخرتك.
-237-
طوبى لمن أصلح الظاهر بالباطن،
وويل لمن أفسد الباطن بالظاهر.
الظن
-238-
إساءة الظن تفسد الصلة بالناس وبرب الناس.
باب العين
العادة
-239-
إدمان العادة يقوي الاحتياج ويضعف العلاج.
-240-
أسير الشهوات عاجز عن الوصول إلى الحقائق الشرعية والكونية.
العالم
-241-
كبر العلماء كداء إبليس ليس له دواء.
-242-
ناقل العلم نسخة مسجلة على شريط أو من مخطوط أو في مطبوع، والعالم الحقيقي هو الذي يفكر ويعبر فيصحح القديم ويبدع الجديد.
العالم الإسلامي
-243-
في العالم الإسلامي ما يشيب له الإنسان قبل الأوان.
العبودية
-244-
دعاة الحرية الديمقراطية يدعون إلى العبودية لغير الله رب العالمين.
العدالة
-245-
الدرس الذي لا يفهمه الشرقيون هو العدالة، كالغربيين مع الحياء.
العرب
-246-
عاد العرب إلى جاهليتهم فاستخفهم الناس.
العزم
-247-
العزم تفاوت فيه حتى الأنبياء المرسلون.
العسل
-248-
أعظم دواء وغذاء هو العسل تصنعه أضعف حشرة هي النحل.
-249-
جمع العسل بين الغذاء والدواء.
العشق
-250-
العشق مرض نفسي أو نفساني.
العصمة
-251-
العصمة رداء قام بنسجه الباطنيون من اليهود وأمثالهم، ومن نسج على منوالهم من الفرق والطرق الشيعية والصوفية.
-252-
الأنبياء والأولياء غير معصومين , لأنهم كغيرهم من المخلوقين مكفلون.
-253-
كل الخلق مكلف ولا جمع بين عصمة و تكليف .
-254-
غير الله غير معصوم.
هذه أصل ,ويخرج من عصمه الله فيما عصمه كعصية التبليغ بلا زيادة ولا نقصان,وإليه الإشارة بقوله:{وما هو على الغيب بضنين}.(سورة التكوير:آية24).
وقوله :{ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين} سورة الحاقة:آية 44).
ويدخل في هذه العصمة الخاصة ما في قوله :{والله يعصمك من الناس}.(سورة المائدة: آية 67).
ولذلك صرف الرسول e حرسه.
وللبرقعي كلام حسن في الموضوع , والمذكور كان من أعلام الشيعة,وهو الآن من أعلام السنة .
العقل
-255-
افتح نوافذ العقل وأبواب القلب للحق والعدل والحب كما تفتح النوافذ والأبواب في البيوت ليدخل الدفء والهواء والضياء.
-256-
المعدة تصاب بسوء الهضم،
والعقل يصاب بسوء الفهم.
العلة
-257-
علة الممات مجهولة كعلة الحياة.
علتهما الروح من حيث دخولها البدن في الحياة وخروجها منه في الممات. وحقيقة الروح مجهولة كما قال تعالى: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً}. (سورة الإسراء:85).
العلم
-258-
العلوم الإسلامية بانتظار علماء المسلمين منذ قرون.
أشرت في خاطرة السيرة إلى تحديد الدين وتجديده، ويكون ذلك عن طريق مجمع علمي إسلامي مكون من علماء متخصصين للتعريف بحقائق الشريعة المنقولة المعصومة، وكذلك للتعريف بحقائق الفطرة المعقولة عند جمهور الناس، مع اعتبار الأعراف المقبولة التي لا تخالف شريعة ولا فطرة.
باب الغين
الغضب
-259-
لغير الرب لا تغضب ولا ترغب ولا ترهب.
الغيرة
-260-
غلبت الغيرة بعض العباد والعلماء من أشباه الرجال وأشباه النساء.
الغيرة شاغل السفهاء من النساء وأشباههن من الرجال.
وهي تفسد صلة الزوج والأخ والصديق والجار...
وتدفع إلى أسوأ الأخلاق من الحسد والحقد والكذب والافتراء.
باب الفاء
الفراغ
-261-
ما بين السماء والأرض فراغ مملوء.
-262-
الذين يقتلون الفراغ اليوم يندمون عليه في الغد.
الفرج
-263-
بعد تعكر الجو ينزل المطر.
الفطرة
-264-
الفطرة في اللغة العربية تعني: الخلق؛ فهل الفطرة هي الإسلام؟
-265-(/7)
الفطرة الإنسانية: برمجة أولية للعقل البشري مضافاً إليها برمجة تالية دينية حول الربوبية، ثم تكون البرمجة الكسبية شرعاً وعرفاً.
• تدبر قوله تعالى :{وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين} (سورة الأعراف: آية 72).
راجع قوله تعالى عن الفطرة في الآية 30 من سورة الروم، وأحاديث سنن الفطرة ، وتفسير ابن عباس كلمة "فطرة" بمعنى بدأ الخلق. وكلمة "البرمجة" مستعملة على تشبيه العقل بجهاز "الكومبيوتر".
باب القاف
القافلة
-266-
الكلاب النابحة تسير خلف القافلة وأمامها.
القدر
-267-
للقدر مفهومان:
أولهما في التعامل ويتعلق بالسنن الكونية والشرعية،
والثاني في التوكل ويتعلق بإحسان الظن بالله رب العالمين.
إحسان الظن يكون بتغليب الرضى والرجاء على الخوف والحزن، ودليله مضاعفة الحسنات دون السيئات وقوله في الحديث القدسي:غلبت رحمتي غضبي.
وراجع القدر في أصول التوحيد.
وخلاصة أمر الإنسان من القدر أنه: ليس بمجبر مسير وليس بحر مخير بل هو مكلف ميسر.
القديم والجديد
-268-
البعيد قديم وجديد.
البعيد يعد قديماً إذا تركته ولك عهد به، ويكون جديداً إذا أتيته وابتدأت بمعرفته.
القراء
-269-
على حملة القرآن اجتناب الغيرة والحسد.
القرآن
-270-
نعم الرفيق القرآن يضيء الطريق.
-271-
أنزل القرآن على الإنسان بكل لسان.
يشهد له تسمية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للزبور قرآن داود.
والوجه أن كتب الله تقرأ، والقرآن مصدر قرأ كالقراءة.
-272-
لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما بدأت بغير القرآن.
-273-
في كتاب مكنون:
يكتبون حرفاً غير مقروء. ويقرؤون آخر غير مكتوب.
مثل الأول: لا أذبحنه بدل لأذبحنه، وبأييد بدل بأيد، وسأوريكم بدل سأريكم...
ومثل الآخر: نجي بدل ننجي، وكثير من المدود تقرأ وهي محذوفة، وحروف تكتب ويقرأ غيرها كيبصط وبصطه تكتب بالصاد وتقرأ بالسين، وكالصلواة، الربوا، التورية، تكتب بالواو والياء وتقرأ بالألف.
-274-
لم تسمح تركيا بدخول مصحف المدينة النبوية لأنه:
ليس عثمانياً!
ليس المراد عثمان بن عفان الصحابي من أهل المدينة، بل عثمان بن أرطغرل بك التركي.. من بلاد المغول والتتار.
-275-
دعوى منع ترجمة القرآن تتضمن دعوى خصوصية الإسلام للعرب.
ولا زال كثير من أهل العلم يصر على منع الترجمة ، وضرورة الحفاظ على النطق العربي والحروف العربية ناسين خطورة ما أشرنا إليه من الخصوصية وعدم العمومية.
والعمومية هي الصفة البارزة لهذا الدين الذي هو خاتمة الأديان، فهو لعموم الناس، والناس لا يمكن أن يصبحوا عرباً يحملون العربية، ولا زال أكثر المسلمين بعد عشرات القرون يجهلون العربية.
-276-
الخط عرف كتابي قديم يحافظ عليه أو يعدل فيه أو يبدل منه حسب المصلحة.
الأصل هو التلاوة، والرسول ما كان كاتباً، والمصلحة هي رسم المصحف بما يحافظ على صحة التلاوة وعدم الوقوع في التحريف، وهذه الحجة ذهب إليها العز بن عبد السلام في منع الكتابة بالخط القديم.
راجع خط الكتابة في مدخل تفسير سورة فصلت.
-277-
لا نزال ننتظر التفسير الكبير الذي يقدم الحقيقة لمعالجة الواقع والسير نحو المستقبل.
راجع مفهوم التفسير المنتظر أو المقترح في خاتمة تفسير سورة فصلت.
-278-
التفسير يبدأ بالكتابة الموضوعية والقراءة التعليمية.
هذا يدخل في مفهوم هام وكبير، والذي عليه القراء في المصاحف هو الوقوف على الفاصلة حسب الوزن.
أما الكتابة فقد روعي فيها جانب الإخراج الفني في ملء الصفحة ، والتناسب بين الصفحات والآيات حتى إن كل صفحة تنتهي بنهاية الآية وتبدأ ببداية الآية الأخرى.
ومطلوبنا في الكتابة الموضوعية مراعاة الفقرة الموضوعية، والوقوف تبعاً للمعنى في الجملة التامة أو التابعة، ثم القراءة حسب ذلك.
-279-
إن إعطاء السيادة الفكرية للقرآن يعني إحياء العلوم وقيام خير أمة.
القربى
-280-
ابتعد عني واقترب منى حتى لم يعد يراني فعاداني وآذاني، وننتظر أن يعتدل فيعدل ويتعقل فيعقل.
القلب
-281-
لو سكن القلب ما جرى الدم في البدن.
-282-
الأظافر القاسية بعيدة عن مركز القلب.
-283-
الجنان في الجنان.
القناعة
-284-
اخرجوا من جحيم الكبر إلى جنة القناعة.
انظر الكبر والتواضع رقم 287-290.
-285-
أحب قدر القناعة أن يدخل هذا البيت ويستقر فيه ويستمر.
باب الكاف
الكبر والتواضع
-286-
آفة الإنسان كالجان في الكبر.
-287-
وإن تعجب فعجب قولهم: إن كبرياءنا من كبرياء الله.
ينسب هذا القول لبعض الصوفية. وهو متفق مع وجهتهم في الفناء والاتحاد والحلول ووحدة الوجود...
ومن قصصهم في الكبر ما روي عن شاه نقشبند –مؤسس الطريقة النقشبندية- الذي قال لمريده: لو أمرك الله وأمرتك فمن تطيع منا؟
قال المريد: سأطيع الله، فغضب الشيخ غضباً شديداً، ورد كل اعتذار وشفاعة، ولم يرض إلا برجوع المريد إلى قول:سأطيعك–يعني مع عصيان الله-!.(/8)
فالحمد لله الذي باعد بيننا وبين المتكبرين الذين يردون كل اعتذار وشفاعة.
والحمد لله الذي وفقنا لاختيار رضى الله ولو سخط أجناس من الناس.
وانظر رقم 308.
-288-
من تكبر وقع ومن تواضع ارتفع.
واستمع إلي أبي أخي بني: فإن كبرك يضرك وتواضعك يسرك، فلا تغلق بابك وتطفئ مصباحك.. وتذكر يوم يغلق باب قبرك على ظلام حالك.. وتذكر أيضاً أن الكبر جعل ملاكاً عظيماً شيطاناً رجيماً.
-289-
قال بعيد: أنا خير منك.
قلت: قد سبقك إليها إبليس.
قال قريب : ابتعد عني.
قلت: قد فعلتُ فهلا فعلتَ؟ وأنت قد جمعت بين الجهالة في العلم والجاهلية في العمل، فهلا استغفرت واعتذرت؟
الكتب
-290-
إذا كان غرض التنجيم التربية فإن الكتب كلها –والله أعلم بها- نزلت منجمة.
يراجع مفهوم تنجيم القرآن.
الكرد
-291-
الكرد قرون الحديد أولو البأس الشديد يستيقظون لدور جديد.
إشارة لما يراه بعض المفسرين في قوله تعالى :{ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد} (الفتح: 16) قالوا: هم الأكراد.
ويرى بعض المراقبين: أن هذا الشعب إذا استيقظ تطايرت الدول من حوله كما تتطاير قطع "الكرتون" في الهواء العاصف، ويرون أن الكرد من أجمل الناس خلقاً وخُلقاً، كما يرون بلاد الكرد هي العمود الفقري للشرق الأوسط.
-292-
أصحاب البيوت الزجاجية يرمون جبال الكرد بالحجارة.
-293-
يريد الشيعة واليهود أن يتعاقبوا على استخدام الكرد بعد العرب والترك.
-294-
البترول الكردي أصبح لعنة حلت بالمقتسمين بمقدار أنصبائهم.
-295-
كردستان تجمع الجهات الأصلية الأربعة وزيادة، فهي:
غرب إيران، وجنوب روسيا، وشرق تركيا، وشرق سوريا، وشمال سوريا، وشمال العراق..
-296-
حكماء اليهود وحكام النصارى وراء الانتقام الدولي المنظم من شعب الكرد.
-297-
اليهود يطالبون الكرد بالتكفير عن بختنصر،
والنصارى والشيعة يطالبونهم بصلاح الدين.
-298-
بالأمس كان أل زنكي مفتاحاً لقيام الأكراد على الشيعة والصليبيين واليوم يقوم الأفغان بدور المفتاح لقيام الأكراد من جديد.
-299-
زواج الكرد كزواج النصارى لا طلاق فيه ولا تعدد.
-300-
ما رأيت كالكرد صلابة في حق وفي باطل.
-301-
في حديقة الحيوان بكردستان:
دب روسي، وذئب تركي، وثور عراقي، وأسد من سوريا، وآخر من إيران.
-302-
مادة عرب: عرب رعب عبر برع ربع بعر...
وكذا مادة كل من ترك وفرس وتدور الدائرة على :كرد.
بعضهم يجعل "كرد" بمعنى "ترك"، ويدعي أن الشعب الكردي من الشعب التركي أو العربي –عكس ما يقوله بعض الفرس عن سلفهم الكرد- والحجة التركية نحوية صرفية...
بمجرد قلب لفظ ترك إلى كرت، والتاء والدال حرفان متقاربان، والترك يلفظون الدال المتطرفة تاء.
ويمثل هذا النحو الصرفي أصبح الشعب الكردي تركياً!! مع تجاهل علماء الأجناس والأنواع والتاريخ والجغرافية.. ومع تجاهلي لأنني كردي ولست تركياً.. والأمر يسري على ملايين الأكراد الثلاثين من أمثالي.
-303-
المسلمون ينتظرون سقوط المستكبرين وولاية المستضعفين كالكرد.
من العجيب صنيع مجلة "جودي" الإسلامية التي يصدرها الأكراد بأمريكا، حيث تختم المجلة –كما رأيت في أعداد كثيرة –بهذه الآية:
{ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين} (القصص: آية 5).
الكلاب والذئاب
-304-
الكلاب والذئاب فصيلة واحدة أحدهما يهاجم الإنسان والآخر يحميه.
الكلمة
-305-
الكلمة التي تسقط في الأذن تنبت يوماً في القلب.
الكمال
-306-
قيل: الإنسان الكامل.
قلت: الكامل هو الله .
الإنسان الكامل ودعوى الحقيقة المحمدية من أقاويل الصوفية وتمرر على غيرهم.
باب اللام
اللباس الخفي
-307-
بعض المتصوفين باطنيون يلبسون تحت الصوف حريراً ويخفون تحت التواضع كبراً.
راجع اللسان رقم 312.
اللذة
-308-
لذة المعصية فانية ، ولذة الطاعة باقية.
-309-
لذة المعاصي كأي لذة تنتهي في قبضة الموت.
اللسان
-310-
ميزان الإنسان تحت اللسان وفوق الجنان.
-311-
الباطنيون يتحدثون بالألسنة عن تقوى القلوب.
-312-
اللسان من أكثر أعضاء البدن جهداً وأقلها تعباً.
-313-
لسن المقال أبلغ من لسان الحال.
-314-
لسعة الأفعى كالإنسان من الفم.
اللغة
-315-
اللغة صوت المعنى وصورته.فلا تتكلم باللغة التي تفسد المعنى صوتاً أو صورة.
-316-
المعاني وراء تفاضل اللغات وليس الحروف والكلمات.
راجع مفهوم تفضيل لغة على لغة.
فلا يقال العبرية أفضل بسبب التوراة والانجيل ولا يقال الكردية أفضل بسبب ولا يقال العربية بسبب القرآن الكريم.
-317-
المحدود المعدود هو حروف الهجاء وليس الكلمات.
-318-
اللفظ وعاء المعنى ثوباً وكفناً.
-319-
مراجعة النحو في ظلال القرآن ييسر قواعده، ويحل مشكلة القول بالنقص والزيادة.
والحل العاجل في ضبط الكلمات المكتوبة بالشكل الكامل.
في الأول: جعل القرآن حكماً على اللغة وهو الحق الفيصل.(/9)
وفي الثاني: تقليل الحاجة لقواعد النحو المعقدة باتباع علامات الضبط، وهذا يؤدي إلى التعود على النطق الصحيح ليكون بالسليقة كحال العرب قبل النحو.
ولهذا أدعو إلى أن لا يطبع كتاب أو مجلة أو صحيفة وأن لا تكتب رسالة علمية إلا بالضبط الكامل لكل الحركات المعروفة من مدة وشدة وتنوين وفتحة وكسرة وضمة وسكون.. وكان الله في العون.
باب الميم
الماء
-320-
لو بقي الماء في السحاب عالياً ما تحركت الأرض بالحياة.
المادة
-321-
تتنوع المادة في جنسها ونوعها حسب طريقة انتظام ذرات عناصرها.
المجاز
-322-
المجاز يقبل متى علمت الحقيقة وعلم أن الحقيقة غير مرادة.
وعلى هذا فلا مجاز في أسماء الله وصفاته وأفعاله وكل ما جهلت حقيقته، أو جهل أن هذه الحقيقة غير مرادة، ويدخل في ذلك كافة الغيبيات.
المجاملة
-323-
المجاملة باطل في صورة الحق.
المراجعة
-324-
علمتني الحياة المراجعة، وها أنذا أرجع عن أخطائي فأطالب المرأة بالعمل في المنزل.
وأقول : إن المرأة التي لا تعمل فيه بالبناء تعمل فيه بالهدم.
-325-
يعاد النظر في: مفهوم الزهد، والذبائح، والموسيقى، والتصوير، والنجاسات، والشورى المعلمة، وتطويل المساجد، وإيجاب القياس، وتضييق الطلاق، وحد العورة، ومنع المتعة، وكثير من علوم القرآن؛ كالنسخ، وأصول الفقه، كالأحكام الملزمة، ومصطلح الحديث.
يراجع في هذا ما نشرته في أصول التوحيد والمفاهيم وما كتبته في التفسير وعلوم القرآن كالنسخ، وانظر النجس رقم 354.
وليس يعني هذا بالضرورة أنني أذهب للمخالفة، وإنما أدعو للدراسة والوصول للاطمئنان، فمثلاً هل الزهد في ذاته مما يدعو إليه الدين، وهل كان في تاريخه أفاد المسلمين أم كان مفتاحاً لرهبنة الصوفية؟ وهل فرغ مصطلح الحديث من تصحيح الحديث وتصنيفه؟ أو فرغ أصول الفقه من أحكام الفقه؟ وقل في الباقيات قولاً يفتح باب العلم والفهم مع التأكيد على انني لست من اهل المتعة والموسيقى والتصوير...
-326-
تراجعت عما قلت بالأمس:
الكبار لا يسمعوني والصغار لا يفهموني.
وأقول اليوم:
إن الكثير من هؤلاء وأولئك قد سمعوني وفهموني.
المرأة
-327-
ناقصات العقل والدين يكملن العقل والدين.
-328-
المرأة كنحلة العسل تصعه وتلسع معه.
-329-
المرأة الأولى كانت زوجة.
-330-
ظننت المرأة زهرة تحمل الندى، فوجدتها زهرة تحمل الشوك.
وقد عجزت عن التمييز بين المشبه والمشبه به من الزهرة والمرأة.
-331-
أجمل ما في أرضنا وأحلاه: المرأة.
-332-
المرأة سر في الإبداع ومقياس في الجمال.
-333-
من أعظم المصائب أن يجتمع في المرأة سوء خلقها مع نقصان عقلها ودينها، وهاتان اثنتان رمتاني باثنين كبا الأول ونبا الثاني.
-334-
تذكر التوراة علاقة قديمة بين الشيطان والحية والمرأة.
-335-
بعض النساء كالجحيم لا تريد غير المزيد.
-336-
دخول معركة شعواء أهون من مخالفة امرأة حسناء.
-337-
يدخل الشيطان المرأة كما تدخل المرأة الرجل.
أعاذنا الله من كيده الضعيف كيدها العظيم.
-338-
هذه المرأة لا تشم عطر زهرة ، ولا تسمع خفقة قلب لمحب، ولا تلمس قطرة ندى على ورقة خضراء، ولا ترى فراشة ربيع تطير تحت جناح قوس قزح بفرح.
المرجئة
-339-
المرجئة كالنصارى يرون الاعتراف يحقق الخلاص ولا قيمة للعمل.
المستقبل
-340-
المستقبل يحمل عصرين هما الضياء والظلام.
المشاعات
-341-
التراب والماء والحرية والهواء والضياء والعدالة والحياة والدين والرأي... مشاعات غير مملوكة.
المشروع
-342-
هذا الذي أقوله للناس هو:
نظرة إلى الماضي لبناء الحاضر من أجل المستقبل.
ارجع للتعليق على العلم رقم 214، 259.
المصاحبة
-343-
الغالب أن يصاحب طول اليد طول اللسان.
المعاملة
-344-
شذوذهم أن ذكرانهم كإناثهم يعدون العطف ضعفاً والعزم ظلماً.
المعية
-345-
قال: الله معنا بعلمه.
قلت: بل الله معنا بعلمه.
رد على من يحصر المعية في العلم، والأصل التعميم فتدخل القدرة مثلاً، ولذا يفوض في التخصيص.
المقياس
-346-
مقياس الحق عقلي، ومقياس الجمال أيضاً عقلي.
والمراد هنا الرد على من يفرق بين العقل والقلب أو الفكر والعاطفة.
المنع والتحريم
-347-
قد فرقت بين المنع الفطري والتحريم الشرعي، كما فرقت بين الروح المسيرة والنفس الميسرة.
المنع الفطري يكون بالاجتهاد العقلي في كل ما فيه ضرر وفساد على الكليات الإنسانية.
والتحريم الشرعي هو المنصوص عليه في الكتاب والسنة بدلالة التصريح أو التضمين.
والروح المسخرة هي المكلفة على سبيل التسخير.
أما النفس الميسرة، فيعني أن التكليف النفسي قائم على التخيير بعد هداية البيان.
تدبر قوله تعالى: {ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها}.
وقوله تعالى: {سبح باسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى}.
وقوله كذلك: وهديناه النجدين.
راجع ما يتعلق بهذا في مفاهيم في أصول الأحكام، وتركيب الإنسان.
المواجهة
-348-
بادر بالمواجهة قبل المفاجأة.
الموت والحياة
-349-(/10)
للموت الفناء وللحياة البقاء.
تدبر قوله تعالى: {ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين}.(سورة غافر:آية 11).
فالبداية بالموت ثم تبدأ رحلة الحياة الدنيا التي تنتهي بالموت الأخير، ونهاية النهاية بالحياة الأخرى.
-350-
اختلاف طرق الدفن لا يغير من حقيقة الموت.
-351-
الحياة مدرسة دروسها لا تُنسى وتُنسى.
الحمد لله رب العالمين والسلام على العباد الصالحين، وبعد:
فإن الخواطر كطير السماء تقع على الأرض وتنفر من الصائد فلا تقع في القيد إلا قليلاً، وعليه حصيلة الجزء الأول الذي صدر عام 1991م تحت عبارة إهداء نصها:
إلى حبيبتي كردستان الإسلامية
وقد تدخلت آنذاك سلطات محتلة -مع أن طبع الكتاب تم خارج حدودها- وقامت السلطات المذكورة بتمزيق صفحة الإهداء وما قبلها حتى الغلاف، بحجة أن عبارة الإهداء ستؤدي إلى مشكلة في المنطقة!.
وبعد عقد من الزمن ها يصدر الجزء الثاني من الخواطر، وهي أيضاً "خواطر كردية بثياب عربية".
ولئن فات التناسب بين الكردية والعربية حيناً.. فقد سبق لي أن اعتذرت بمعذرة النورسي من قبلي "بأني أفكر كردياً وأعبر عربياً"، والخاطرة فكرة في عبارة.
وأذكِّر بأن الخواطر وعاء من الأوعية الخمسة للمؤلفات العلمية، فإذا شرحت الخواطر فهي المفاهيم، وإذا وسعت المفاهيم فهي الرسائل، تليها الكتب ذات الفصول والأبواب الموضوعية، فإذا تعددت الموضوعات فهي المجموعات الموسوعية.
تقبل الله هذا الجمع ونفع به ومتّع، من قرأ ومن سمع...
الخواطر حسب الحروف:
الهمزة، الباء، التاء، الجيم، الحاء، الخاء، الدال، الذال، الزاي، السين، الشين، الصاد، الطاء، الظاء، العين، الغين، الفاء، القاف، الكاف، اللام، الميم، النون، الهاء.
باب الهمزة
1-الابتسام والسلام
الابتسام والسلام من فضائل الدنيا والدين.
2-إبراهيم
عرف إبراهيم الله بعد ما عرف الكوكب والقمر والشمس.
-----------------------------------
إشارة إلى قوله تعالى. فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي... الآيات
3-الاجتهاد
المجتهدون يصيبون ويخطئون، والذين لا يجتهدون لا يصيبون أبداً.
4-الإحسان
بعض الإحسان لا يكون إلا بالتمام.
5-الأخ
رب أخ لك لم تلده أمك ورب عدوٍّ لك ولدته أمك وأبوه أبوك.
6-الأرض
الماء والهواء من الأرض ومن السماء.
----------------------------
الأرض ما سفل والسماء ما علا وحدود الأرض سطحها اليابس وما عليها من إنسان وحيوان ونبات وجماد مع الاختلاف في الماء النازل والهواء المحيط الذي يغلف الأرض.
a
7-الاستثناء المنقطع
اكتشفوا نوعاً جديداً من الاستثناء سموه الاستثناء المنقطع ليخرجوا إبليس من جملة الملائكة، وهم بهذا عذروه بعدم السجود!
----------------------------------------
إشارة لقوله تعالى: "فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا ابليس".
والاستثناء إخراج فرد من جمع كنوع من جنس وهو متصل حيث يجب التناسب بين المستثنى والمستثنى منه وهذا الوجوب عقلي يقوم على الحكمة، ولو كان إبليس من غير الملائكة لما طلب منه ولا وجب عليه سجود ولا عقاب.. ولكونه من الجن "الملائكة" وقع منه الفسوق (كان من الجن ففسق) ولذا عوقب بالخروج من الرتبة الملكية.
8-الأسد
ملك الغابة الأسد منسوب لعائلة القطط.
9-إسرائيل وإسماعيل
بنو إسرائيل وبنو إسماعيل عبريون وعربيون والأولون أبناء سيدة والآخرون أبناء جارية وحرب أبناء الضرائر مستمرة.
10-أسماء الله
يقولون من أحصاها دخل الجنة، ولا يحصون الأسماء من الكتاب والسنة، وقد أحصيت والحمد لله في القرآن مائة وتسعة وستين اسماً.
11-الأشرار
القاتل أخو هابيل، والكافر أبو ابراهيم، والعاق ابن نوح، والخائنة زوجة لوط، والعم المستهتر أبو لهب.. وصحبة الأشرار بلاء عظيم وبخاصة مع أخوة وبنوة وزوجية.. وأية قرابة سببية أو نسبية.
12-الأصحاب
مات النبي المحمود صاحب المقام المحمود ودرعه مرهونةٌ بدين القوت عند اليهود!
13-الأعداء
على الرغم مما وقع بين الأخلاء من العداء فإنهم لا زالوا في عداء الأولياء.
14-الأعداد
الأعداد أوعية تجمع الأنداد والأضداد.
15-الله
ما زالوا يحتجون بالبعرة والبعير والخطوة والمسير.. على وجود اللطيف الخبير!
16-صفات الله أبدية أزلية والمخلوقات من آثارها، وصفة الخلق ذاتها غير مخلوقه لكن المخلوقات من آثارها، وقل مثل ذلك في صفة الكلام وخلق الكلمات..
17-إذا كنت له فما يضيرك أن تكون ذرة، وإذا كنت عليه فما يفيدك أن تكون مجرة ؟
18-كوننا تتشابه الأشياء فيه، والله وحده فوق الكون والأشياء بلا شبهة ولا شبيه.
19-الأم والأب
الأم مربية والأب قدوة.
20-أمريكا
أمريكا سيدة العالم، ورأيت سيدة الحرية مصنوعة من حجر وحديد، تحمل مشعلاً بلا نار ولا نور.
21-الأمل
بالأمل يحلو العمل.
22-الأمن والسلام
تمنيت أن يسود الأرض أمن وسلام، فلا أرى باكياً ولا أسمع شاكياً!
23-الإنسان والحيوان
تعريف الإنسان بأنه حيوان ناطق، يعني أن الحيوان إنسان غير ناطق.
24-الإيمان والإسلام(/11)
الإيمان هو الإسلام والإسلام هو الإيمان على حد سواء، والفرق هو في الخفاء والجلاء.
باب الباء
25-البخيل
يتعب البخيل مرات: مرة في جمع المال، ومرة في إنفاقه، ومرة في فراقه، ومرة في العقاب عليه.
26-
البخيل في ماله مسرف في مال غيره.
البراء والولاء -27
البراء من الشرق لا يعني الوقوع في ولاء الغرب.
28-البقاء
النبات والحيوان والإنسان.. صناعة عضوية تعيش عشرات السنين وتتناسل مئات القرون.
باب التاء
29-التأثير
كل وجه يعطي لناظرة قدراً مناسبًا من الإرسال والاستقبال، فيقع التفاوت والتفاضل.
التجويد :
التجويد إجادة الصوت في التغني بالقرآن ، والقراء أوجبوا له الأحكام .
30-التاريخ
التاريخ إن لم يتغير بقي واقعاً.
31-التدخين
التدخين ليس طعاماً ولا شراباً لا مدخلاً ولا مخرجاً.
32-الترادف والتضاد
إذا عدم الترادف لم يعدم التضاد.
33-التُرك
أقام التُرك في أرض الغير دولة دينية ثم علمانية حسب المصلحة الأنانية.
34-التسوية
أسنان الفم وأصابع اليد.. لا تستوي كأسنان المشط.
35-التسوية
المساواة بين الذكر والأنثى لا تعني المماثلة بينهما في كل شيء.
36-سوى الإسلام بين الخلائق في مقام العبودية للربوبية.
37-التشبه
بلغ من تشبهِه بالمرأة أن يزيل شاربيه وما على لحييه.
38-رأيت المصائب والمصاعب في الذين أصبحوا أوروبياناً وأريبياناً وأمريكياناً.. إلا قليلاً قليلاً.
39-نساء الخليج تحت أشعة الشمس الحارقة يرتدين اللون الأسود لئلا يتشبهن بالرجال.
40-التغيير
لا تغير النجوم مواقعها بسبب تلبد سمائنا بالغيوم، أو تعكر نفوسنا بالغموم.
41-التفاضل
التفاضل في الصفات لا في الذوات.
فلا يصح أن تكون الكردية أفضل لغة، ولا يصح أن يكون الكرد أفضل أمة..
وقل مثل ذلك في كل لغة وأمة كالعرب والعربية والفرس والفارسية والترك والتركية.
42-يتفاوت الناس بمقدار حبهم وكرههم لأنفسهم ولغيرهم.
43-التقليد
إن التقليد وراء توّقف عجلة التفكير وتخلف الحضارة الإسلامية عن المسير.
44-تقليد الغرب
صالون حلاقة وأزياء ثياب للقطط والكلاب..
45-التلوث
في الشرق يلوثون الأرض وفي الغرب يلوثون السماء.
46-التواضع والتكبر
المتواضع يزداد تواضعاً كلما ازداد علماً، والمتكبر يزداد تكبراً.
47-التيسير
ليس الإنسان مسيراً ولا مخيراً بل هو ميسر.
باب الجيم
48-الجبرية
إذا كان الإنسان مجبوراً على الفعل -كما يقول الجبرية- فكل الأفعال عبادة وكل العباد آلهة.
49-الجديد
لا قديم تحت الشمس، ولا يعيد التاريخ نفسه.
50-الجمع
عندما قال انه من أهل الجمع فهم الأول أنه يجمع الصلوات ظهراً وعصراً ومغرباً وعشاءً، وفهم الثاني أنه يجمع النساء مثنى وثلاث ورباع، وفي اللغة اتساع.
51-الجنة
كان آدم في جنة الدنيا فأكل من الشجرة المحرمة ولا حرام ولا تكليف في جنة الآخرة.
52-الجهل
على الرغم من طول الإقامة على الأرض فإن كثيرين من الناس يرحلون عنها قبل معرفتها.
53-جودي
جبل مبارك وشعب عريق ومجلة حكيمة وفتاة كريمة.
باب الحاء
54-الحب والكره
الكره كالحب علاج وقد يكونان مرضاً.
55-ما كل ما تخافه تكرهه، ولا كل ما تأمنه تحبه.
56-وتريد حبي وأجدك حيث أكره وأفتقدك حيث أحب.
57-يعدد المحبون أحلامهم البيضاء، ويعدد الكارهون كوابيسهم السوداء.
58-الحذر
الذي يأكل الصبار والسمك يحذر الشوك والحسك.
59-الحرب والسلام
الحرب طريق السلام.!
60-الحق والباطل
مقولة "الحق يتعدد" تبرير لتمرير الباطل.
61-للحق مرارة لا تعدل حلاوته، وللباطل حلاوة لا تعدل مرارته.
62-الحوار
كلّمهم باللسان وكلَموه بالأسنان
باب الخاء
63-الخشية
خشية العالم تتضاعف عندما يغوص في الداخل عمقاً أو ينطلق نحو الخارج أفقاً.
64-الخزائن
هذه الخزائن يملؤها الرب وتفرغونها.
65-الخلق
الخلق في الدنيا يتطور لا يتكرر.
66-ما فائدة الخَلْق إذا ضاع الخُلقُ؟
باب الدال
67-الداعية
زاد الداعية علم ومتابعة.
68-الدخيل
الباب المفتوح يخرج منه ويدخل اليه مع الهواء المرغوب الهباء المكروب.
69-دعاء
قال: أسأل الله أن يختم بالصالحات عملك وبالسعادة أجلك، وأن يبلغك فيما يرضاه أملك، وان يجعلنا وإياك من عباده الصالحين وحزبه المفلحين.
70-الدعوى
من الأسماء فتح الباري وفتح القدير وفتح المجيد والفتح الرباني والفتوحات الإلهية.. ونحو هذا من دعاوى الفتوح المنسوبة لله ولأسمائه الحسنى!
71-الدواء
لكل داء دواء وأول الدواء الدعاء.
72-الدواب
تتشابه الدواب في طول الآذان والأذناب لطرد الهوام والذباب.
73-الديمقراطية
نسي أنه شرقي عندما أبدى رأيه في الديمقراطية.
74-إسلاميون يقولون: لا للديمقراطية، والمفهوم: نعم للدكتاتورية!
باب الذال
75-الذباب
الفرق بين الذبابتين أن إحداهما تتعامل مع الزهرة، والأخرى تتعامل مع العذرة.
في اللغة الكردية يقال للنحلة: ذبابة العسل.
76-ذكر الله
ذكر الله يمنع خوف المستقبل ويدفع حزن الماضي.
باب الزاي
77-الزواج(/12)
الشركات بما في ذلك شركة الزواج تراجع فيها المغانم والمغارم مرات سنوياًّ وحتى شهرياًّ.
78-الزواج والطلاق
أعظم حريتين في الإسلام الزواج والطلاق.
باب السين
79-السر والجهر
مثل السر والجهر كمثل الماء الراكد والذي يجري.
80-السعودية
السعودية مشغولة بسعودة المواطن، ومصلحة الوطن بسعودة المقيم.
81-السماوات
ما فوق الأرض وما تحتها سماوات، وسماوات الأرض السبع غير سماوات الكون العظيم.
82-السنة
السنة مبينة للقرآن غير مباينة.
83-السيادة
السيد الذي يرى نفسه خادماً، غير الخادم الذي يرى نفسه سيداً!
84-السيرة
كثيرون من حولي مشغولون، وآخرون جاهلون أو مغرورون.
85-نصحني أحد العارفين أن لا استخدم المشغولين.
86-نصحني أبي أن لا أصاحب الأغنياء.
هذه النصيحة مبنية على كثرة الشر والضر وقلة النفع والخير في أكثر الأغنياء ويخرج من ذلك القليل من أهل الخير والنفع والصلاح.
87-قال عضو من هيئة كبار علماء السعودية في "أسماء الله في القرآن": أنت أعلم بهذا منا نحن انشغلنا أو أُشغلنا..
علمنا لا يتعدى ابن تيميه وابن القيم.
88-بعد محاولات التشجيع والمتابعة ادّعى أن عدد المفاهيم الثانية ثمانية لا أربعون ولا أربعين.
89-قال في مناقشة الدكتوراه: الرأي دين ولا إكراه في الدين، وقال للحكومة الاشتراكية: لا اشتراكية في الإسلام، وقال للباطنية: هدمتم الظاهر، وقال للظاهرية: هدمتم الباطن.
90-على الرغم من خوفي من المرتفعات لا أتوقف عن صعود الجبال.
91-قد يدركني النعاس في الغضب وقد عرفت السبب.
92-مما حفظت من أبي في حرمة الكتب أن ترفع كالرأس فوق الجسد.
93-أقمت مع الأحباب لله في أرضه: حزباً لمستضعفيه ومجمعاً لمستخلفيه.
94-كل نفس تستقر على زمان ومكان، واستقرت نفسي على العام الثامن عشر والوطن كردستان..
وقد جمعوا مالاً وعيالاً وجمعت بإذن الله ما هو أغلى من المال والعيال.
95-علم والدي أني لا أصلح للبيع والشراء، وعلمت أن من ولدي من لا يصلح لغير البيع والشراء.
96-راحتي في أن لي اتجاهاً واحداً، وتجود كلمتي في حدتي وحكمتي في وحدتي.
97-وصيتي لأسرتي وإخوتي: علم الرفعة، وخُلق السعادة، ودين النجاة.
98-أحبابي كتبوا على بابي: حفظك الله ورعاك يا أحسن دكتور في الكلية، ونادوني: يا وكيع الطالبين.
99-في صغري كانوا يقولون : في رأسك شعر نصارى فكنت أرجوهم أن يقلعوه.
100-في صغري كنت أعدِّدُ نجوم السماء وكنت أظن أني قد أحصيها.
101-في صغري كانت أمي تخاف عليّ فترسل في طلبي كلما غبت أو غابت.
102-قال: لقد وجدته أكثر شفقة على إخوانه من الوالد على ولدانه، ولقد أوتي أدباً في النقاش والحوار قلَّ أن يوجد في غيره، فهو يسمع لآراء المخالفين في الرأي ويحترم وجهاتهم ثم يورد الأدلة المخالفة لها بصورة متدرجة وبكل أدب وإذا بصاحب الرأي المخالف من أنصاره في الرأي. ولقد زادت صلتي به لأنه يكره النفاق ولا يعرف النفاق لقلبه سبيلاً.
إنه جوهرة مكنونة في البيت قد لا يعرفون قدرها إلا بعد فوات الأوان.
103-أنا مسلم مؤمن قرآنيٌّ من أتباع محمد ولست مذهبياً ولا فرقياً ولا طرقياً، وأنا كابوري والحمد لله كردي من ذرية آدم وأنا بريء من الطغاة والبغاة والكافرين والمشركين
باب الشين
104-الشر
قبل غواية الشيطان عرف الإنسان طريق الشر.
105-الشرق
تغرب الشمس عن الشرق أولاً.
106-لا حضارة مع الكذب والشرق غارق فيه.
107-عشعش الجور في الشرق وعشعش البغاء في الغرب.
108-في بلد شرقي منذ ثلث قرن وزيادة وكافة الأولاد والأحفاد أجانب –كأهل الذمه- مقيمون بعقود وعهود.
109-الشرق غرب على الطريقة الشرقية.
110-سلام الشرق في إسلام الغرب فلا زال الشرق أسير الغرب.
111-الشعوب
من مزايا الشعوب: أدب اليابان ومنطق اليونان وطب الصين وسحر الهند وشجاعة الأكراد ودهاء الإنجليز ودقة الألمان وطيبة الهولنديين وحلم العرب.
112-الشقاء
كثيراً ما شقي الناس بعلمهم كما شقوا بجهلهم.
113-الشيطان
يرى الشيطان أن الإنسان غير جدير بخلافة الأرض ولا وراثة السماء.
باب الصاد
114-الصاحب
حسبناك أبا بكر وأبا طالب فوجدناك أبا جهل وأبا لهب.
115-الصحة
على الأطباء والصيادلة أن يتكلموا ويكتبوا بما تعارف عليه الناس من كتابة وكلام حتى تبقى الصحة تاجاً على رؤوس الأصحاء.
116-الصوفية
منذ قرون غرق بعض الصوفية في الذات واللذات.
الصهر :
ما بال الشيخ الكبير سخر نبي الله موسى نحواً من عشر سنين مهراً لإحدى الابنتين فما باله حذفك ؟
117-الصيام
الصيام عن الغذاء وليس عن الدواء يا فقهاء.
باب الطاء
118-الطاعة
من نعم الله على عبده تلذذه بالطاعة وتأذيه بالمعصية.
119-الطريق
قالوا: الرفيق قبل الطريق.
قلت: متى عرفتم الطريق وجدتم الرفيق.
باب الظاء
120-الظاهرية والباطنية
ابتليت الأمة الإسلامية في وقت مبكر بغلاة الظاهرية وغلاة الباطنية، وهذه المتناقضات نشأت في عسكر علي بن أبي طالب وبين تلاميذ الحسن البصري!
باب العين
121-العادي(/13)
لا يمتدح العادي ولا يذم، ويمتدح الفوقاني ويذم التحتاني.
122-العالم
العالم طالب علم يكتشف جهله.
123-العالم والجاهل
إذا كان العالم مدرسة الجاهل فإن الجاهل مدرسة العالم.
124-العجائب
عجائب العالم القديم كانت سبعاً ولم تعد عجائب ولم تعد سبعاً.
125-العجز
مثل الفاروق عمر لعجز ابنه عن ولاية الحكم بأنه لا يحسن يطلق امرأته!
126-العدل
حتى تكون منصفاً في حكمك ضع نفسك مكانه وضعه مكانك.
127-العرب
عرب يقولون: قمنا معاً وقعدنا معاً حتى إذا قال أحدهم رمينا رموا ما بأيديهم كائناً ما كان.
128-بغير ما سبب ينسب العرب لغتهم لحرف الضاد من بين أحرف الهجاء.
129-لإقامة مظلة السلام يُضحى بالعرب ليدركوا الصلة بين عبر وعرب، ويذكروا الفرق بين ابن الست وابن الجارية.
130-أعراب من العرب هم أهل ظهور ونفور يرتقي شاعرهم وساجعهم، يتطاولون في البنيان ويتنافسون...
131-قبح العرب أسماء الرجال لدفع العفاريت والجان، وحسنوا أسماء العبدان والنسوان.
132-العرب الذين يرون المهنة من المهانة لا يرتقون.
133-العسل
حتى البصل شبهوه بالعسل.
ا
134-لعقل
العقل يصنع الكلام وليس العكس فلا يصنع العقلَ الكلامُ.
135-العلامة
طول شعر الرأس والوجه ليس العلامة الوحيدة للذكورة والأنوثة.
136-العلم
يستوي عند أعمى البصر والبصيرة البياض والسواد في الألوان والكفر والإيمان في الأديان.
137-العمل
لا يتردد النمل والنحل في العمل.
باب الغين
138-الغرب
يضرب الغرب باليسار ويساعد باليمين.
139-في الغرب قلما تضيع الحقوق وفي الشرق قلما لا تضيع.
140-الغلو
محمد سيد البشر بلا خلاف أفضل البشر، وفي الملائكة خلاف مشتهر، وفي الخلق غلو أكبر.
141-الغواية
ترى كم تجاوز الشاعرُ ابليسَ:
فكل ما قد خلق الله وما لم يخلق محتقرٌ في همتي كشعرة في مفرقي!؟
142-الغيرة
شرب الرسول عسلاً في بيت زوجة فتحدثت الضرائر عن رائحة المغافير.
باب الفاء
143-فرعون
ادعى فرعون الربوبية والإلاهية كما يدعي حكام وأغنياء وأقوياء ... وما أكثرهم في كل زمان.
144-الفواصل
أعضاء الإنسان كبقية الأشياء موصولة بالمفاصل وهي فواصل، وقد تكون الفاصلة واصلة.
باب القاف
145-القدر
تقام الحدود الإسلامية عند القدرية والجبرية على حد سواء.
146-الجبريون يعتمدون على أعدائهم القدريين.
147-إذا كان القدرية أخطأوا مرة في حق الآخرة فإن الجبرية أخطأوا مرتين في حق الدنيا والآخرة.
148-غلبت قدرتُه علمَه في القدر والقضاء، كما غلبت رحمتُه غضبَه في الحساب والجزاء.
149-القدرة
القدرة قدر نافذ.
150-القرآن
أحسنوا تقديم القرآن كتابة وقراءة ليدخل الناس في دين الله أفواجاً.
151-القرآن معك على عدل وفضل فبمقدار ما تأتيه يأتيك، وبمقدار ما تؤتيه يؤتيك ولديه مزيد.
152-القرآن كتاب الكون المفتوح للإنسان.
153-الجمع الرابع للقرآن مع القراءات الصحيحة، والكتابة حسب الإملاء المعهود، ووضع علامات الفصل والوصل المناسبة.
154-القرين
القرين رقيب عتيد ينفخ الروح في البدن ويشهد على الخير والشر.
155-القشور
لا لباب ولا بذور دون أبّ و قشور.
156-القمة
الفرق بين الجبل والوادي هو اتجاه القمة.
157-القوة
الحضارة التي تعتمد على القوة وحدها تدمر نفسها.
158-الصوت كالسوط لا يبلغ الغاية بغير القوة.
159-القيامة
بعضهم يرى القيامة في انقلاب القطبين أو طروء الاستنساخ.. وآخرون يرونها في تحريك بساط من الحصير يسد باب مسجد صغير بقرية في مجاهل أفريقيا السوداء.
160-قد أخذت الأرض زخرفها وأزينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها بالتحكم في برمجتها.
باب الكاف
161-الكبر
المتكبر لا سلام له ولا سلام عليه.
162-قال: ألا تعلم من أبي ومن أمي؟ قلت: أبوك طين مهين وأمك ضلع أعوج لا يستقيم.
163-الكبر من أكبر الكبائر لا يليه إلا الكذب.
164-بعض الصغار لا يكبرون.
165-عقد النقص وراء مرض الكبر.
166-المتكبر قد يكون من الصغر بحيث أنه لا يَرى ولا يُرى.
167-الكتابة العربية
الكتابة العربية أهملت الحركات والسكنات.
168-أسقط العرب من العربية أحرفاً مكتوبة هي: الفتحة والكسرة والضمة والشدة وكذا السكون فليست أحرف اللغة العربية ثمانية وعشرين كما ادعوا ولا يزالون يدعون.
169-الكرد
كردستان سميتها كرديا أو كردا وأسميها جوديا أو جودا.
170-وجدت الألمان كالأكراد في الذكاء والغباء.
171-أحب العرب والترك والفرس وأنا كردي لأني أحب الرب الذي خلقهم وجعلهم مثل الأكراد شعوباً وقبائل ليتعارفوا.
172-لا يرى الكردي أحداً غيره فوقه أو مثله إلا رجل الدين.
173-قالت جمهورية إيران الشيعية عن كردستان الإسلامية: إسرائيل الثانية!
وقال رئيس جمهورية الشيشان : إيران دولة لا تؤمن بالله.!
174-أحد المؤرخين ألف عشرات الكتب عن الشعوب الإسلامية تاريخياًّ وجغرافياًّ ليس بينها كتاب عن الشعب الكردي إلا كتاباً واحداًعن اليزيدية ضمن الشعوب البدائية.(/14)
175-مائة جامعة علمية ستقام بكردستان، وجامعة باسم النورسي بديع الزمان، وجائزة علمية عالمية كل عام لكل رساله نورية.
176-الكاتب الناعس أخطأ خمس أو ست مرات فكتب في الصفحة السوداء: سوريا العراق تركيا إيران وأرمينيا وأذربيجان ولم يكتب كردستان.
177-عراق أصغر عراق أقوى بلا أكراد وينطبق هذا المثل على إيران وتركيا وسوريا وأرمينيا وأذربيجان.
178-الغرب في طريق إقامة الدولة الكردية دون مشاركة الدول الإقليمية الأربع (أتعس).
179-حتى تكتشف الكردي ألبسه الشابك والشال وأسكنه قمم الجبال وأسأله ليجود بماله وفعاله وإياك أن تثيره فإن باسه شديد.
180-صلاح الدين الكردي عند الترك تركي، وعند العرب عربي، ولم يحكم بعدُ الآيات العظمى بتشييعه ثم تفريسه.
181-في الغرب يقولون: نحن ننشأ منذ الصغر على الخوف من الشعب الكردي.
182-الأكراد آباء العرب المستعربة وأجدادهم من جهة ولدهم إبراهيم وحفيدهم إسماعيل على ما قيل.
183-بارك الخليل إبراهيم جميع الشعوب كما يقول أهل الكتاب ولم يستثن شعبه الكردي.
184-قال كردي معاصر لجلاديه أتقدم للموت وتحت قدمي من لا يستحق الحياة.
185-متى قعد الرجال قام الأطفال والنسوان لتحرير الكرد وتوحيد كردستان.
186-أنتهت الحرب العراقية الأولى بهزيمة العراق وإيران _كما توقع كيسنجر_.
والهزيمة الثانية القادمة على تركيا وإبران.
187-يدعون أن النصيرية والموارنة والأشوريين في المشرق والبربر في المغرب والألمان في الغرب.. كلهم أكراد، وبلاد الشام أفرغها التتار وملأها الأكراد ، ويقولون علماء المسلمين بعد جيل الصحابة جلهم أكراد...
188-قال الدكتور فهمي الشناوي ما قاله الحزب الإسلامي الكردستاني: لا وحدة إسلامية إلا بوحدة كردية.
189-الدليل على ظلم أهل الأرض عدم وجود دولة كردية لأربعين مليون كردي!
190-يحتاج الكرد إلى مجلس حكماء الجودي.
191-ألوان علم كردستان الأحمر في الأعلى للحب والحرب، والأخضر في الأسفل للخصوبة والحضارة، وبينهما الأصفر نار ونور.
192-الكذب
ما رأيت كالكذب هادماً للثقة حالقاً للدين.
193-الكعبة
لو كان لي من الأمر ساعة: لرفعت الكعبة كأعلى بناء معمور، ولسويت الأرض في دائرة المواقيت من حول الحرم للحجاج والمعتمرين والزائرين لا يجاورهم أحد سوى الإيواء والغذاء والخلاء والدواء.
194-الكمبيوتر
لا زال الكمبيوتر تحت سيطرة الإنسان.
باب اللام
195-اللغات
لولا حرمة الكتاب والسنة، وكون اللغات من الفطرة لحرمت على الأكراد بعض اللغات.
196-اللغات من أسرار الشعوب.
197-اللغة الألمانية خشخشة وشخشخة خالية من حرفين خاصين بالخاء والشين.
198-اللغة العربية الجميلة أسيرة العقلية العربية في خلافات النحو الصرف ومبالغات البلاغة وطريقة الكتابة.
باب الميم
199-المجمع
المؤتمر العالمي للعلماء عنوانه لنا وتحدث فيه غيرنا.
200-المدللان
المدللان كلب في الغرب وحاكم في الشرق.
201-المرأة
كيف لا تكون الأرض جميلة وفيها المرأة والزهرة والفراشة وقوس السحاب..
202-المركز
ليست كل المراكز قوية، فقد تقوى العاصفة في الأطراف وتضعف في المركز.
203-المعادلة
كان الأشرار أكثر من الأخيار، ولا زالت المعادلة مائلة.
204-مصر
سمعت في مصر يتكلمون العربية دون فواصل ولا وقوف.
205-المعنى
لا يلتزم الشعراء بقاعدة المعنى قبل المبنى.
206-المفارِقة
المفارقة تأخذ في الغرب نصف الثروة ، وهي تأخذ عندنا ربع أو ثمن التركة.
207- المفاهيم
إن توحيد الأمم قائم على توحيد المفاهيم وبخاصة المفاهيم الدينية.
منافق -208-
-علم على رأسه نار بلا نور.
-يميل وينحني مع الرياح في جميع الجهات.
-يدخل ويخرج مع المكاسب متى كانت مضمونة مائة بالمائة.
-خوار مع الجبارين وجبار مع المساكين.
-قال في المجمع ما قاله سلفه في القرآن، قالوا: كله كفر وقال: تخريب.
الموت -209-
الموت عندنا بداية وعندهم نهاية.
الموسيقى -210-
النفحة والرنة والدقة والقرعة والنقرة والنبرة .. في خدمة الكلمة الطيبة.
باب النون
الناس -211-
يصنفون الحيوانات الانسية والوحشية وينسون الإنس.
-212-
الناس جنس واحد، وبعض الناس أجناس.
النبي والرسول -213-
كل نبي من الله رسول إلى الناس.
النحل -214-
يسبقنا النحل في عمل الشمع والعسل.
النساء -215-
قالت: أكثر أهل النار من النساء.
قلت: عدد النساء أكبر من عدد الرجال.
-216-
لولا غيرة النساء لحكمن الأرض.
-217-
كانوا يدعون لآبائهم واليوم يدعون لحكوماتهم.
النسيان -218-
نسيني كثيرون ونسيت كثيرين حتى رفيق الصبا إسماعيل.
النظافة -219-
النظافة من لب الإسلام وهو الإيمان.
النعمة -220-
أعجبني: وما بك من نعمة فمن حسن ستر الله عليك.
النفس -221-
شباب النفس لا يخضع لشيخوخة البدن.
-222-
الاكتشافات النفسية قد تكون أعظم من الاكتشافات الفلكية.
النوم -223-
لولا النوم لكانت كل الأعضاء إرادية.
باب الهاء
الهم -224-
كيف تحمل هذه النفس المثقلة كل ذلك الجسد الثقيل؟(/15)
مسك الختام من خيمة الأحباب:
قال أولهم عن حياة الداعية: إنه كالنحلة تأخذ الزهرة المعطرة وتعطي الغذاء والدواء في العسل.
وقال الثاني عن سياسة العرب: إنهم لم يتعظوا من تجربة اليهود مع ربهم ومع نبيهم ومع الناس.. ومن جرب المجرب حلت به الندامة.
وقال الثالث: مسك الختام وأحسن الكلام كلام الملك العلام: (ومن يتق الله يجعل له مخرجًا).
اللهم فارزقنا التقوى ، وأجعل لنا فرجًا ومخرجًا .. آمين.
التجويد
التجويد إجادة الصوت في التغني بالقرآن ، والقراء أوجبوا له الأحكام .
الصهر
ما بال الشيخ الكبير سخر نبي الله موسى نحواً من عشر سنين مهراً لإحدى الابنتين فما باله حذفك ؟
الزوجان والأبوان
الزوجة التي تسعى لإحراج زوجها أمام أولادها هي أم غير مربية وهو أب غير قدوة .
هاو ماو
يحكى أن القطة فقدت الذاكرة وحسبت نفسها كلبة فهوهوت وموموت وفقالت : ما أدري هاو؟ ما أدري ماو ؟
الذوات والصفات
لا حب ولا كره للذوات بل للصفات الحبيبة والكريهة .
اليوم والساعة
قسموا اليوم إلى 24 وقسموا الساعة فقط إلى 12.
أنت ومالك
أنت ومالك لأبيك "حديث" قلبوه إلى أنت ومالك لبنيك .
هم وهن
هم وهن قطعوا وقطعن الأرحام وربوا وربين الأولاد والأحفاد على الأحقاد وعلى العقوق والمروق وتضييع الحقوق والعياذ بالله من شرهم ومن شرهن .
القصر والقبر
يبحثون عن قبر في قصر ويبحث عن قصر في قبر .
الحشرة
لو كان أو كانت حشرة لكان أوكانت جراداً أو صرصاراً .
الكبر والتواضع
الفرق بين المتكبرين والمتواضعين محبة الناصحين .
السنة والشيعة
اتفق وافترق السنة والشيعة في كثير من الفروع وكثير من الأصول .
أسماء الله
قد جمعوا ما جمعوا من مال ومن عيال وقد جمعت ما شاء الله من الأسماء و من الصفات.
الشيطان
ليس الشيطان وحده من يستحق اللعن والرجم ..
آل سعود
لآل سعود حميدتان طباعة المصاحف وعمارة المساجد .
الحجة
لإقامة الحجة على عدوه قال ابراهيم : هذا ربي وقال لوط : هؤلاء بناتي وقال الخاتم : وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال.
الاسم والمسمى
ما فائدة الإسم إذا غاب المسمى وما فائدة الحياة إذا غاب الحياء .
الدواء والشفاء
الدواء في : الغذاء والماء والهواء مع الذكر و الدعاء بالأسماء .
والشفاء من كل داء بيد الله سبحانه وتعالى .
الولد والأب
- الولد الذي لا يصعد في سلم أبيه يتعب كثيراً في الوصول إلى القمة .
- الابن الذي لا يركب في مركب أبيه يصل إلى الساحل متأخراً وقد يغرق كما غرق ابن نوح فلن يصل أبداً .
العقوق
البر بأحد الأبوين على حساب الآخر عقوق كبير أو اكبر.
من الأصحاب من جمعهم العلم وفرقهم المال.
22
لاإله إلا هو- هو- ضمير الغائب جعلوه من أسماء الله الحسنى وطبعوه في المصحف باللون الأحمر و قالوا :هو الاسم الأعظم!
ولست أدري ما قولهم في ضمير المحاطب- أنت -في مثل قوله: لا إله إلا أنت وضمير المتكلم المفرد أو الجمع - أنا- و-نحن- في مثل قوله: إني أنا الله وقوله :نحن الخالقون ونحن الزارعون..
23
الكفاءة مطلوبة في أية صحبة أوقران وهي نسبية منسوبة لظرف الشخص وظرف المكان وظرف الزمان..
24
قلت ان كوننا صغير كحبة يابسة في قطرة ماء في فقاعة هواء.. وفوقها سماواتها السبع ينيرها القمر و تضيئها الشمس ..وبعدها الكون العظيم الأعظم بنجومه وأقماره وسدمه وثقوبه ومجراته (وإنا لموسعون).
25
أناعبدك القائم بك اللهم ربي: طهر ثوبي وزك نفسي وقدس روحي واشف بدني وأصلح بالي وطيب رزقي ووفق أهلي وصحبي
أسألك اللهم ربي لي ولهم حسنى الخاتمة.
26
بئس القرين مناناً ولو كان حنانا.
27
من ناصفك فقد أنصفك.
28
الخيانة الزوجية في كشف سر الزوجين نوح ولوط عليهما السلام.
29
البحث عن الرب الإله- إلى حد كأنك تراه- في الكتاب والسنة والأنفس والآفاق..
30
ما أعظم نبي الله موسى أشرك أخاه هارون في الرسالة و المغفرة.
31
هل أفادت القربى عماً تباً كأبي لهب أو عماً طيباً كأبي طالب.
32
يكذب بالجملة ويصدق بالتقسيط.
يكذب ما كان الكذب ممكناً فإذا تعذر الكذب صدق.
33
أسوأ صاحب و أسوأ صاحبة مغتاب مرتاب ومغتابة مرتابة.
34
اليوم يهاجم الغرب الشرق كما المغول من قبل دخلوا في الإسلام
35
قلت من قبل: إن إسلام الغرب أدنى من إصلاح الشرق.
36
الله أكبر القعيد -قعيد المسجد- سماني الشيبة - شيبة المسجد- ولله الحمد.
37
قلة الذوق غير محمودة في أنواع الحيوان وكذا الشأن في أجناس الناس
38
قد أراحني القرآن فيه "واقصد في مشيك واغضض من صوتك".
39
لأنهم كانوا سحرة فإنهم قد علموا أن موسى ليس بساحر. وقال الذين لا يعلمون يا أيها الساحر.
40
أوجبوا خط الكتابة بحجة أنه من عمل السلف وأنه توقيفي..
الأصل موافقة الكتابة للقراءة لا المغايرة .
من ذلك: الفواتح في سبع وعشرين سورة كتبوها حروفاً وهي أسماء. ومن ذلك: سأريكم كتبت سأوريكم بمعنى سأحرقكم أو أخفيكم
والقراءة بلا واو بمعنى الإراءة من الرؤية(/16)
وكذلك :لأذبحنه كتبت لا أذبحنه بلا النافية نفي ذبحه.
ننجي كتبت نجي بنون واحدة.
أيد كتبت أييد بياء زائدة.
وكتبت الصلاة والزكاة بالواو الصلوة والزكوة.
والمصيطر و الصراط كتبتا بالصاد وقرئتا بالسين..
ومثل هذا ونحوه كثير(/17)
خواطر بيولوجية من وحي القرآن الكريم ...
أما العنق فيحتوي على جسيمات دقيقة تسمى ( ميتوكندرات ) هي التي تولد الطاقة اللازمة لحركة الحيمن التي لا تهدأ منذ لحظة انفصاله عن الخصية وإلى أن ينجح في الالتحام مع البويضة أو يموت، أو يتم تجميده. وتحتوي كل قطرة من المني على عدة ملايين من الحيامن شوهدت تحت عدسات المجاهر وهي تسبح في السائل المنوي وتضربه بذيولها في عنف يتناسب مع حيوية صاحبها.
وفي السائل المنوي مواد تغذي الحيامن وتحميها من الميكروبات بحيث تحتفظ بحيويتها وقدرتها على الإخصاب لمدة ثلاثة أيام بعد انفصالها عن جسم صاحبها ( ما لم يتم تجميدها ).. ولكي ينجح الحيمن في هذه المهمة عليه أن يقطع رحلة طويلة من مكان القذف إلى قناة المبيض...وهي مسافة إذا قورنت بحجم الحيمن فإنها تعادل المسافة بين الأرض والقمر بالنسبة لرائد الفضاء الكوني.
والنص القرآني الثاني عن النطفة:
هو الآية الثالثة عشر من سورة المؤمنون:
)ثم جعلناه نطفة في قرار مكين (.
وخلافاً لما في آية سورة القيامة لا يوجد هنا ذكر لمصدر النطفة، وإنما يوجد وصف لمكانها بأنه قرار مكين، وهو وصف لا أراه يتفق كثيراً مع ما نعلمه عن النشاط الحركي للنطفة الذكرية أو الحيمن، ولا على مكان تكوينها في الخصية التي نعلم جميعاً موضعها الظاهر خارج الجسم... أما النطفة الأنثوية وهي البويضة فتتكون داخل حوصلة في أعماق نسيج المبيض الذي يقبع في مكان غائر بين الأحشاء يحيط به جدار البطن ذو الطبقات المتراكبة... وحتى عندما يكتمل تكوين البويضة وتنفجر الحوصلة فإن البويضة المتحررة لا تنفصل عن جسم المرأة بل ولا تغادر تجويف البطن.. وأقصى مكان تصل إليه بحركتها الزاحفة البطيئة هو فوهة قناة فالوب المؤدية إلى الرحم، ولا تتجاوز هذا المكان إلا إذا تم إخصابها ونشطت حركتها قليلاً، ولكن لتستقر في بطانة جدار الرحم وهذه هي نهاية المطاف بالنسبة لها.. وإذا كان هناك ما يستحق الإضافة فهو أن البويضة قبل انطلاقها من الحوصلة تحاط بغلاف من مادة لا تذوب إلا بفعل الأنزيمات الموجودة في قلنسوة الحيمن والتي يطلقها عند ملامسته للبويضة تمهيداً لإخصابها...
صورة لحيوانات منوية تلتف حول بويضة أنثوية تمهيداً لإخصابها
وفوق كل ذلك فإن البويضة ـ بمجرد أن يدخلها رأس الحيمن ـ تحاط بغلاف جديد لا يذوب حتى في نفس الأنزيمات التي أذابت غلافها الأول.. كل هذه الاستحكامات لضمان المحافظة على الكنز الموجود داخل نواة البويضة وهو المواد الوراثية للأم قبل الإخصاب مضافاً إليها المادة الوراثية للأب بعد الإخصاب، والتي بها تحولت النطفة الأنثوية إلى بذرة الإنسان الجديد المكنونة في هذا القرار المكين.
والنص القرآني الثالث الذي ذكرت فيه النطفة:
هو الآية الثانية من سورة الإنسان
)إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً (.
والأمشاج جمع مشيج، وهو: ـ لغوياً ـ ما ينتج عن عملية المشج ( وهو المزج المتقن المقنن).
وللمشيج أيضاً معنى علمي هو النطفة سواء أكانت ذكرية أم أنثوية لأنها في كلتا الحالتين خلية من جسم فرد نشأت جميع خلاياه ـ وهو جنين ـ من امتزاج المادة الوراثية للجد مع الجدة وهكذا في سلسلة متصلة ترجع أصولها إلى أول عملية تزاوج في تاريخ البشرية.
ومنذ ذلك الحين وكل فرد يتم خلقه بهذه الطريقة ـ وهي مشج المادة الوراثية في بذرته الجينية ثم استنساخها في جميع خلايا جسمه بحيث تحملها حيامنه ( إذا كان ذكراً ) أبو بويضاته ( إن كان أنثى ) إلى بذرة ذريته ثم ذرية ذريته جيلاً بعد جيل إلى أن تنتهي الحياة بأمر خالقها.
وعلى الرغم من انطباق صفة المشيج على الحيمن وعلى البويضة، إلا أن إطلاقها بصيغة الجمع ( أمشاج ) التي وردت في الآية الكريمة التي نتحدث عنها ـ هذا الوصف ينطبق بشكل أكثر دقة على ( الزيجوت ) أو البويضة المخصبة التي تستقر في بطانة الرحم إلى أن يخلق الله منها بشراً سوياً.
من نطفة إلى علقة:(/1)
عندما تصل النطفة الأمشاج إلى طور التويتية تنشق عنها بطانة الرحم كما تنشق التربة عن النبتة الصغيرة، فتبرز من جدار الرحم ولكنها تبقى معلقة فيه بما يشبه العنق الذي يوصل إليها المواد الغذائية المستخلصة من دم الأم المتدفق في شعيراتها الدموية المنتشرة في القرص المشيمي.. إن هذه الطريقة في الحصول على المادة الغذائية وفي الاتصال بمصدر الغذاء تشبه طريقة الديدان الطفيلية وأشهر أنواعها هي دودة العلق.. وهذه الحقائق متطابقة لفظاً ومعنى مع قوله تعالى في سورة العلق: )اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق (.وقوله سبحانه في سورة المؤمنون: )خلقنا النطفة علقة (.ولئن كان هناك إجماع بين اللغويين على أن العلقة هي الدم المتجمد فإن هذا لا يتناقض مع الحقيقة العلمية لأن الدم الوارد من جسم الأم لا يتجمد بالطريقة المألوفة وهي التبريد ولا بالتجلط.. وإنما يتحول الدم السائل المتدفق من عروق الأم إلى هذا الكيان المتماسك نتيجة لتحول عناصره إلى مادة البروتوبلازم التي هي مادة الخلايا الحية التي يتكون منها جسم الجنين.
المضغة المخلقة وغير المخلقة:
تواصل العلقة النمو عن طريق انقسام الخلايا وتكاثرها الذي سبق أن ذكرنا أنه بعد طور التويتية تختلف معدلاته واتجاهاته في أجزائها المختلفة مما يؤدي إلى شكل المضغة. والمضغة طور تحولي خطير في رحلة التكوين الجنيني حيث يبدأ النشاط التخليقي في اتخاذ معدلات متنامية سرعان ما تؤدي إلى التخليق أي: تكوين بداءات أو ( بواكير الأعضاء organ rudiments)،وأولى خطوات التخليق هي تميز الجسم إلى مناطق في كل منها مجموعة خلايا متخصصة هي التي ستتكون منها أعضاء جديدة، أي: أنها في هذه المرحلة قد تقرر مصيرها.
وقد تمكن علماء الأجنة من عمل خرائط لأجنة حيوانات التجارب في هذه المرحلة تسمى (خرائط المصير fate maps)...وبعد هذا التميز بين الخلايا شكلاً وحجماً وتوزيعاً يكون الاختلاف في معدلات انقسامها واتجاهاته... وهذا ما يسمى عملياً بالتمايز (differentiation).وهو أول علامات التخليق ( ولا أقول التخلق )... وتقدم لنا الآية الرابعة عشرة من سورة المؤمنون عرضاً سريعاً للتخليق الجنيني المبكر إذا يقول الخالق سبحانه: )ثم جعلناه نطفة في قرار مكين. ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً (... والمضغة الوارد ذكرها هنا كيان محدد هو محل التخليق إلى الطور التالي المؤدي إلى تكوين الأعضاء الجنينية.
ولكن المضغة قد ورد ذكرها في نص قرآني آخر بصفة مزدوجة، وذلك في صدر الآية الخامسة من سورة الحج إذ يقول سبحانه وتعالى:
)ثم من علقةٍ ثم من مضغةٍ مخلقة وغير مخلقة (.
في هذه الآية وصف لشيء واحد بصفتين متناقضتين.. وكلام الله منزه عن شبهة التناقض.. ولو كان المقصود مضغتين مختلفتين إذن لكان التعبير الصحيح: ( ثم من مضغة مخلقة وأخرى غير مخلقة ) أسوة بقوله تعالى في سورة يوسف: )وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات (... ولكننا هنا أمام نص شديد الوضوح في وصف المضغة الواحدة بأنها مخلقة وغير مخلقة في نفس الوقت.. ولا تفسير لذلك إلا أن تكون هذه المضغة مخلقة في بعض أجزائها وغير مخلقة في أجزاء أخرى.. هذا هو التأويل الوحيد الذي يتفق مع حقيقة علمية هي: أن المضغة بمجرد تكوينها سرعان ما تتميز إلى منطقتين: الداخلية المتاخمة لجدار الرحم والمتصلة به مباشرة هي التي سوف تتكون منها أعضاء الجنين المؤقتة.. والمنطقة الخارجية وهي المعلقة في تجويف الرحم هي التي سوف يخلق منها الأعضاء الدائمة وتنمو معه ما دام حياً.. وقد سبق ذكر هذه الأعضاء وتلك الأعضاء في مستهل حديثنا... وبدا لي أن هذا التأويل كافٍ لإزالة أي تناقض بين التعبير القرآني والحقائق العلمية... ( ولو تحقق ذلك لأرحت واسترحت )... ولكني بعد تأمل طويل مصحوب بالنقد الذاتي اكتشفت مطعناً علمياً في هذا التفسير.. فالأعضاء المساعدة أو المؤقتة التي تتكون من المنطقة الداخلية للمضغة والتي اعتبرناها غير مخلقة.. هذه الأعضاء إنما تتكون أيضاً بطريقة توالي الانقسام الخلوي وترتيب الخلايا الناتجة لتشكل العضو الناتج عن هذه العمليات.. وهذا هو أيضاً تخليق، وإن كان يتم بصورة أقل تطوراً مما يحدث في المنطقة الخارجية للمضغة والذي تنتج عنه بواكير الأعضاء الدائمة.. إذن فالمضغة مخلقة في كل أجزائها طبقاً لهذه الحقيقة... هنا شعرت بشيء من خيبة الأمل... لم أتغلب عليها إلا بعد أن استعذت بالله من الشيطان الرجيم ورحت أعيد تلاوة الآية الخامسة من سورة الحج إلى ما بعد الكلمتين اللتين أوقعتاني في هذه الحيرة ـ هكذا:
( ثم من مضغة مخلقة، وغير مخلقة لنبين لكم... ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلاً )... عند هذا الموضع من الآية استقر في وجداني مفهوم آخر ارتحت إليه كثيراً... وعثرت فيه على التوافق المنشود بين التعبير القرآني والحقيقة العلمية.(/2)
تخليق المضغة ليس موضعياً... وقد يكون جزئياً أو مرحلياً:
في الأحوال العادية يبدأ تخليق المضغة شاملاً كل أجزائها ليتكون من كل جزء ما خصص له من أعضاء ( مرحلية كانت أو دائمة ). وإذا سارت الأمور على ما يرام وبلغ الحمل غايته خرج المولود سوىّ الخلقة متناسق الأعضاء.. وهذه هي الأحوال الشائعة التي ألفها الناس فلم يعودوا يتوقعون غيرها.. ولكن في بعض الأحوال يضطرب سير التكوين الجنيني نتيجة علّة تصيب الأم وينتقل أثرها إلى الجنين، فتختل عملية تخليق الأعضاء في هذا الجزء أو ذاك من جسم الجنين وبذلك يتكون عضو غير سويّ. وتخف درجة التشوه كلما كانت العلة طفيفة أو كلما تأخر بدء حدوثها إلى وقت تزداد فيه قوة الجنين وقدرته على المقاومة.. وفي جميع هذه الحالات يكون خروج المولود ( مبتسراً ) لفتاً لأنظار الآباء والأمهات الذين ألفوا نعمة الذرية السوية فلم يعودوا يشكرون الله عليها، وبخاصة منهم من يبالغون في الاهتمام بالجمال الشكلي دون التفات لكمال الأداء الوظيفي.. وهي حالات نادرة بحمد الله.
وفي حالات أخرى أكثر ندرة يكون الاضطراب في عملية التخليق جسيماً، نتيجة لعدم التوافق البيولوجي بين جسم الأم وجسم الجنين أو بتأثير عوامل وراثية.. وهنا قد يتوقف تخليق الجنين في مرحلة مبكرة ويحدث الإجهاض طوعاً أو كرهاً وتكون ثمرة الحمل مسخاً شائها أو مضغة لم تتخلق إلى الحد الذي تشكل فيه الأعضاء ويظهر معالم الكيان البشري.. هذه الحالات هي صرخة إنذار للغافلين عن قدرة الله أو الجاحدين نعمته.. انظروا.. هكذا كنتم في بطون أمهاتكم.. فاعتبروا.. واحمدوا خالقكم الذي عافاكم من هذا... وما زال قديراً على أن يبتليكم به في ذريتكم.
وبهذا اطمأن قلبي فرحت أعيد تلاوة قوله تعالى: )ثم من مضغة مخلقة، وغير مخلقة لنبين لكم... ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى... (وسبحان من هذا كلامه وسبحان من هذه صنعته وتبارك الله أحسن الخالقين.. والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
[1] – الأستاذ المتفرغ بكلية العلوم جامعة المنصورة ـ والخبير البيولوجي بمجمع اللغة العربية بالقاهرة.(/3)
خواطر حول فضائل الأعمال في ذي الحجة
نبيلة الخطيب
يحسن أن نقف في الأيام المباركات "العشر الأول من ذي الحجة" مع الحديث الشريف الخاص بها، لما تضمنه من معان جليلة.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله عز وجل من هذه الأيام، قالوا، يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لا يرجع من ذلك بشيء" رواه البخاري وغيره.
إن أول ما يلفت الانتباه في هذا الحديث الشريف قول الصحابة: "ولا الجهاد في سبيل الله؟!" بصيغة الاستفهام التعجبي، حيث إن الجهاد عند المسلمين لا يعدله شيء فهو ذروة سنام الإسلام، به الدين يحفظ والأرض تحرس والعرض يصان، فهو الحصن والسياج وبه تنال إحدى الحسنيين: الأجر والمغنم، ويتخذ الله به من عباده الشهداء حيث الرتبة التي لا تسابقها سوى رتبة النبوة... وبه يرهب جانب الأمة من أعدائها وأعداء الله وآخرين من دونهم يعلمهم الله، إلى آخر ما هنالك من معان أدركها الصحابة وكذلك المسلمون في كل زمان فحق لهم أن يسألوا متعجبين هذا السؤال.
ونحن بدورنا نحاول أن نعمل عقولنا في فهم الحديث، وهذه مزية انفرد بها الإسلام أنه دين الفهم العميق والفقه الدقيق، لا يحجر على العقول، ولا يعطلها بل يأمرها بالتفكر والتدبر والتفهم.. وهذا سر عظمة الإسلام وتجدده وخلوده.
ونعود إلى حديثنا ونسأل بدورنا: كيف يكون العمل الصالح الوارد في رواية أخرى "فأكثروا فيهن من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير" أحبَّ إلى الله تعالى من الجهاد؟ فنقول:
أولاً- إن الحديث قيد الحكم وحدده "في هذه الأيام".
ثانياً- إن الله يخلق ما يشاء ويختار لحكم ندركها ولا ندركها، وفي هذا نسلم تسليماً، فالله تعالى خلق الكون واختار الأرض مسكن خليفته الإنسان، وكرم هذا الإنسان وأسجد له ملائكته، واختار من الإنسان سيد ولد آدم محمداً صلى الله عليه وسلم، واختار من الزمان شهر رمضان، ومن رمضان لياليه ومن لياليه ليلة القدر، ومن الليالي والأيام للعمل الصالح اختار سبحانه العشر الأوائل من ذي الحجة، ومنها يوم عرفة، وختامها عيد الأضحى وما يتقرب فيه العبد من هدي "لا ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم"، جعل الله سبحانه العمل الصالح أحبَّ الأعمال إليه، وأقسم بلياليها العشر، وحسبها تشريفاً وتعظيماً وتميزاً" والفجر وليال عشر" وهذه نماذج من الاختيارات الإلهية نكتفي بها.
ثالثاً- إن هذه الأعمال الصالحة – مع تحديدها في هذه الأيام وليس على إطلاقها – مقدمة على الجهاد في حالين: أولاهما حال السعة والتمكين والقوة والغلبة للمسلمين، وأخراهما إذا كان المسلمون مبادئين أعداءهم بالغزو والفتوح، وبيان ذلك أمر النبي عليه السلام لرجل جاءه ليأذن له في الخروج للغزو مع المجاهدين أن يرجع إلى والديه ليجاهد فيهما.
أما إذا غزي المسلمون واعتدي على أوطانهم ودينهم فعندها يتعين الجهاد، فيخرج الابن بغير إذن أبيه والمرأة بغير إذن زوجها والعبد بغير إذن سيده...، فأي عمل بعدئذ يقدم على الجهاد؟! يصبح الجهاد أفضل الأعمال حتى في هذه الأيام العشرة.
يقول تعالى:
)يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصدٌّ عن سبيل الله وكفرٌ به والمسجد الحرام وإخراجُ أهله منه أكبرُ عند الله والفتنة أكبر من القتل(.
فيحرم القتال في المسجد الحرام والأشهر الحرم ولكن الصد عن دين الله وفتنة الناس عن دينهم ورد العدوان أكبر.. )اقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين(.
وقد أمر النبي عليه السلام بقتل نفر من المشركين ولو تعلقوا بأستار الكعبة لشناعة جرمهم!!
إن هذا الاستطراد في هذه المسألة نراه ضرورياً حتى لا نمر على النصوص مرور الكرام من غير وقوف وفهم وخاصة في زماننا هذا الذي نحن أحوج ما نكون فيه إلى فهم وفقه نصوصه.
رابعاً: إن ما سبق من بيان لا ينقص أبداً من قيمة العبادة أو يهمشها –كيف والحديث يجعل العمل الصالح في هذه الأيام أحب إلى الله من كل عمل- فالمطلوب من المسلم أن يتزود في أيام مخصوصة معينة ويجتهد فيها أكثر من غيرها لما لذلك من أثر على مجمل حياته وعمله منها الجهاد والدعوة والمعاملة.(/1)
فالمسلم في مسيرته بحاجة إلى زاد أو جرعات منشطة أكثر من اعتيادية، ولنضرب لذلك مثلاً: إن الإنسان يمكن أن يعيش بأي طعام وغذاء ولكنه لا يلبث أن يهزل وتخور قواه إذا لم يراع في غذائه المكونات الأساسية لبناء الجسم والذي له تأثير أكيد في البناء العقلي والنفسي والعاطفي،وهذه قضية لا ينبغي أن يغفلها المربون إذا أرادوا جيلاً متكاملاً في وعيه وعقله ونفسه وسلوكه وصحته، وقد ثبت أن للغذاء المتوازن للمرأة حاملاً ومرضعاً أكبر النتائج في صحة تكوين الأبناء وصحتها هي.
ونعود لنقول: إن الأمة المجاهدة والناهضة والبانية أحوج إلى زاد متواصل يدفع بها إلى الأمام وينهض بها إلى معارج الفلاح.. ونحن أمة تحمل على عاتقها أعظم رسالة وأرقى حضارة إلى "العالمين" لتخرج البشر بها من الظلمات إلى النور ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.. إنه زاد التقوى والعمل الصالح ودوام الصلة بالله تعالى، فالذي يعجز عن قيام ليلة في صلاة ودعاء مثلاً لهو أعجز عن أن يقوم ليلاً مرابطاً في سبيل الله، والذي يعجز عن صيام يوم لن يقوى على ملاقاة العدو والصبر على مجالدته..
وهذا ملمح وفهم نستفيده من هذا الحديث الشريف وقد ورد ما يشبهه عندما سئل الحبيب عليه السلام عن أحب الأعمال إلى الله تعالى: فقال: الصلاة على وقتها.. ثم بر الوالدين.. ثم الجهاد في سبيل الله، فمن كانت بالله صلته مقطوعة وبوالديه مبتوتة هل يرجى منه خير في جهاد أو غيره؟ إنه البناء والتربية التي تبدأ بالنفس وتنتهي بالأمة رحمة للعالمين.
خامساً- يقول الحديث "العمل الصالح" وإن أي عمل لا يكون صالحاً إلا بأمرين: أولهما الموافقة للشرع "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد".
وثانيهما الإخلاص "إنما الأعمال بالنيات" وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين".
وعندما ذكر الحديث العمل لم يشترط إلا الصلاح، أما العمل فهو باب مفتوح على مصراعيه صغر العمل أم كبر، وهذا يدخلنا إلى موضوع مهم جدير بالوقوف عليه والاعتناء به حتى يتجلى للكثيرين، ألا وهو مفهوم العبادة ونحن نعيش أجواءها في الأيام المباركات، فالعبادة باختصار هي كل عمل صالح يعود نفعه وأثره الإيجابي على النفس والأسرة والمجتمع والأمة والكون، فكل عمل صالح عبادة في كل الأيام وعلى الأخص في الأيام العشرة المباركة لورود النص فيها، حتى يعرف المسلم أن كل حركة وسكنة مع التوجه إلى الله عمل صالح "عبادة"، فلا ينصرف الذهن عن سماع كلمة عبادة إلى العبادات المخصوصة التي يعرفها الجميع من صلاة وصيام وزكاة وحج.. فقط
والآية المحكمة الجامعة في هذا الشأن ولم تستثن نفساًَ أو نبضة أو ثانية من الزمان إلا ودخل فيها مفهوم العبادة العام.
)قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين(.
فالصلاة والنسك بالمعنى الخاص والحياة والممات بالمعنى الأعم الأشمل الأوسع.. الحياة بحركتها والموت بسكونه، والنوم من معاني الموت.
وقد ذكر النبي الكريم أمثلة على سبيل البيان والتمثيل لا الحصر:" في كل تسبيحة صدقة.. وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة.. وفي بضع أحدكم صدقة.. واللقمة تضعها في في زوجك لك بها أجر.. وإماطة الأذى عن الطريق صدقة.. والحياء من الإيمان.. ودخل رجل الجنة بكلب سقاه.. ودخلت النار امرأة في هرة حبستها حتى ماتت.. وتبسمك في وجه أخيك صدقة.. "والمسلم يتوجه بالدعاء إذا دخل منزله وإذا خرج منه وعند النوم وفي الأرق وعند القيام من نومه وعند دخول المسجد والخروج منه وعند دخول الحمام والخروج منه وإذا لبس أو أكل أو شرب أو دخل السوق.. إلخ
وهكذا نرى أن العبادة والعمل الصالح هي حياة المسلم بكل تفاصيلها )أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها( )استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم( هذا ما جال في الخاطر سريعاً وقت قراءة الحديث الشريف وبالله التوفيق.(/2)
خواطر رمضانية 5
ليلة القدر
د.محمد إياد العكاري
alakkaridc@hotmail.com
مضت العشرة الأولى من رمضان بعد أن هبَّ نسيمُها علينا بأعطرِ النَّفحات وأغدق المولى سبحانه فيها على عباده بأندى الرَّحمات فما ألطفها وأنداها0
وتبعتها العشرُة الوسطى من هذا الشهر الفضيل حيث أشرقَ نورُها بالعفو والمغفرة ويا لها من فضلٍ ومنةٍ منه سبحانه يمنحها للمؤمنين الصَّادقين والصَّائمين القانتين والمستغفرين التَّائبين فما أعظمها وأكرمها0
وهاهي العشر الأخيرة تطلُّ علينا بإشراقاتها البهيَّةِ، وأنوارها السَّنيََّّةِ لتملأ دنيانا لألاءً، وضياءً، وتغمرَ قلوبَنا صفاءً فهاهي تُرسل إلينا الدَّعَوَاتِ الخالصات للسَّهَرَات الرمضانية والعطايا الرَّبَّانية التي يفيضُ فيها الله سبحانه وتعالى بالسَّلام والرِّضا على من يشاء من عباده ليمنَّ عليهم بالرِّضا والقبول ويمنحهم السَّلام والوصول أجل الوصول إلى رضوانُ الله ودرجاته العلى يا سعد من نالها وحظي بنوالها وهاهي الليالي الأخيرة من هذا الشَّهر الكريم تنثر لألاءها وتنشرخيرها وفضلها مع تباشيرها لترسل بلطيف دعواتها لنا وخالص سرورهابحضورنا وأسمى تمنياتها وأسناها لمن يُقبلُ عليها بقلبه وقالبه، وكيانه وإحساسه مخلصاً لربِّه، متبعاً هداه، ممجِّداً مولاه وهاهم وفودُها من الملأ الأعلى متهيئين للاستقبال مبتهجين بالإقبال فمن مِنَّا يلبِّي ؟ومن منا يُقْبِل ؟؟ ومن منَّا يتجاوب مع هذه الدَّعوَةِ الكريمة؟؟
الخيرُ كلُّه بلياليها، والنُّور ملءُ محيَّاها، والسَّلام رسالةُ رضاها ، فيها ليلةٌ خيرٌ من حياة الإنسان وعمرُهُ كلِّه بل وخيرٌ من ألف شهر ومن منَّا يحييها.يستطيع أن.يصل إليها ويدركَ ثواب الألوف من الشُّهور بقيام الليالي العشر الأخيرة من رمضان وتحرِّي ليلة القدر فيها وفي أوتارها بالخاصة أجل نستطيع أن نُدركَ ثواباً عظيماً في تلك الليالي فسبحانك يا الله ما أعظمك يا واسعَ المنِّ والعطاء يا عظيم الفضلِ والجود يا مضاعف الأجر والثَّواب لمن يشاء في تلك الليلة العظيمة الفضل كبيرة القدر عالية الشرف والمقام قال تعالى ((إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهرتنزَّل الملائكة والرُّوحُ فيها بإذن ربِّهم من كل أمرٍ سلامٌ هي حتى مطلع الفجر))
في تلكَ اللَّيلة الغرَّاء العظيمةِ المقام نزل القرآن الكريم كلامُ الله سبحانَه من اللَّوح المحفوظ إلى السَّماء الدُّنيا وبيتِ العِزَّةِ فيها لينزل بعدها مفصَّلاً على مدار ثلاث وعشرين عاماً كما قال ابن عباس :
أنزل الله القرآن جملةً واحدةً من اللوح المحفوظ إلى بيتِ العزَّة من السماء الدنيا ثم نزل مفصلاً بحسب الوقائِعَ في ثلاثٍ وعشرين سنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى ((وقرآناً فرقناه لتقرَأَهُ على النَّاسِ على مكثٍ ونزَّلناهُ تنزيلا قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إنَّ الذين أوتوا العِلمَ من قبلهِ إذا يتلى عليهم يخرُّونَ للأذقانِ سُجَّداً ويقولون سبحان ربِّنا إن كان وعدُ ربِّنا مفعولا ويخرُّون للأذقانِ يبكون ويزيدَهم خُشوعا)) الإسراء(106-108)
هذا هو القرآن الكريم الذي نزل في ليلةِ القدر فأعلى قد رها وشرفها بنزوله فيها وهذا هو حالُ القرآن الكريم مع المؤمنين الصَّادقين والعُلماءِ العاملين يعلي قدرهم ويعلِّمُهم ويهديهم سبُلَ السَّلام ، ينوِّر بصيرتهم وتشرق صدورهم فيجعل قلوبهم خاشعة، ونفوسهم قانعة، وعيونهم لامعة ،ومشاعرهم دامعة، ليأخُذَ بأيديهم إلى دار السَّعادةِ والخُلود فما أعظم هذه اللَّيلة وما أجلَّها وأشرف قد رها وهاهو جبريل عليه السلام يتنزل مع ملائكة الرحمن في تلك اللَّيلة البهيَّة الطلعة ليحتفي بالمؤمنين الصَّادقين والصَّائمين القائمين والمستغفرين التائبين ليبشِّرَهُم بالرَّحمة والغُفْران والرِّضا والسَّلام من ربهم أجل هذه هي ليلةُ السَّلام من المؤمن السَّلام تنشرُ السَّكينة والسَّلام وترسل التَّحايا والسَّلام وتمنح الرِّضا والسَّلام ((سلامٌ هي حتى مطلع الفجر)) القدر(5)
من أحياها ظفر ومن قام وتهجَّد فيها سبح في ملكوت القدُّوس السَّلام ذي الجلال والإكرام الذي يفيضُ على عبادِهِ بالأنسِ والسَّلام والرِّضا والقبول في تلك اللَّيلة العظيمة فهنيئاً لمن تحرَّاها في العشر الأخير وسعى إليها جاهداً فعمر أيَّامها بالصَّالحات وأغناها بالبرِّ والصَّدقات وتقرَّب إلى الله فيها بجميع أنواع البر والقُربات تجاوب مع أيَّامها بالصِّيام والتَّعبد وقَبِلَ الدَّعوةَ في لياليها فأحياها بالقيامِ والتَّهجُّد فَسَبحَ بالبرِّ ليسبح بالرِّضا وعمرها بالخير ليفوز بالرِّضوان وقامَ لياليها ليمنحَ السَّلام وأطفأ شهوات نفسه ونزوات شيطانه ليرتقي صعداً لأعلى الدَّرجات فيفوز بالجِنان ويُعْتَقَ من النِّيران فمن منَّا يحييها ويقبلُ عليها ليفوزَ بالسَّعد والسَّعادة وينال السَّلامَ والرِّضوان ؟؟(/1)
اللهم يا من رحمته وسعت كل شيء يامن يغفر الذنوب جميعاً يا باسطاً يده بالليل ليتوب مسيء النهار وباسطاً يده بالنهار ليتوب مسيء الليل يا من قلت ادعوني استجب لكم هانحن ندعوك بأكف الضراعة ودموع الندم وعزيمة التوبة النصوح \"
اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا \"
اللهم اجعلنا ممن تنالهم حظوة القبول في تلك اللَّيلة الغرَّاء اللهم آمين
والحمد لله رب العالمين(/2)
خواطر في الضيافة
محمد بن إبراهيم الحمد – جامعة القصيم
</TD
إكرام الضيف عادة عربية, وشعبة إيمانية, وخصلة حميدة.
قال النبي-صلى الله عليه وسلم-: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه".
وبعض الناس يظن أن إكرام الضيف يقتصر على إطعامه الطعام فحسب.
ولا ريب أن ذلك من أعظم حقوق الضيف.
ولكن مفهوم الضيافة أشمل, ومعاني الإكرام أوسع؛ إذ يدخل في إكرام الضيف ملاطفته وإيناسه, وحسن استقباله, والإقبال إليه بالوجه إذا تحدث, والحذر من الإشاحة عنه, أو السخرية بحديثه.
والعرب تجعل الحديث, والبسط, والتأنيس, والتلقي بالبشر - من حقوق القِرى, ومن تمام الإكرام.
وقالوا: من تمام الضيافة الطلاقة عند أول وهلة, وإطالة الحديث عند المؤاكلة.
قال حاتم الطائي:
سلي الجائع الغرثان يا أم منذر * إذا ما أتاني بين ناري ومجزري
هَلَ ابسط وجهي إنه أول القِرى * وأبذل معروفي له دون منكري
وقال مسكين الدارمي:
لحافي لحاف الضيف والبيت بيته * ولم يلهني عنه غزالٌ مْقَنَّعُ
أحدثه إن الحديث من القِرى * وتعلم نَفسي أنه سوف يهجع
ويعني بالغزال المقنع: الزوجة.
وقال آخر:
وإني لَطلْقُ الوَجْهِ للمبتغي القِِرى * وإن فنائي للقِرى لخصيب
أضاحك ضيفي قبلَ إنزال رَحله * فيخصب عَندي والمكان جديب
وما الخِصب للأضياف أن يكثر القِرى * ولكنما وجهُ الكريم خصيب
وقيل للأوزاعي-رحمه الله-: ما إكرام الضيف؟
"قال: طلاقة الوجه, وطيب الكلام".
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أَعزُّ الناسِ عليَّ جليسي, الذي يتخطى الناس إلىَّ, أما والله إن الذباب يقع عليه فيشق عليَّ!".
"وعن ابن عباس أنه سئل: من أكرم الناس عليك؟.
قال: جليسي حتى يفارقني".
وقال معاوية-رضي الله عنه-لعرابةَ الأوسيِّ: بِمَ استحققت أن يقول فيك الشماخ:
رأيت عُرَابَةَ الأوسيَّ يسمو * إلى الخيرات مُنْقَطِعَ القرينِ
إذا ما رايةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ * تَلَقَّاها عُرابةُ باليمينِ
فقال عرابةُ: هذا من غيري أولى بك يا أميرَ المؤمنين.
فقال: عزمت عليك لتخبرني.
فقال: بإكرامي جليسي, ومحاماتي على صديقي.
فقال: إذاً استحققت".
وقال الأحنف: "لو جلست إلى مائة لأحببت أن ألتمس رضى كلِّ واحدٍ منهم".
وكان القعقاع بن شور إذا جالسه رجل, فعرفه بالقصد إليه - جعل له نصيباً من ماله, وأعانه على عدوه, وشفع له في حاجته, وغدا إليه بعد المجالسة شاكراً.
ولقد كان رسول الله-صلى الله عليه وسلم- أكرم الناس لجلسائه, فقد كان يعطي كل واحد من جلسائه نصيبه, ولا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه.
ومن إكرام الضيف أن يقوم المضيف على خدمته, وأن يتجنب تكليفه بأدنى عمل ولو قل؛ فبعض الناس إذا زاره أحد فجلس إليه - أخذ يأمره, وينهاه, ويكلفه ببعض الأعمال.
وهذا الصنيع ليس من المروءة في شيء؛ إذ المروءة تقتضي القيام بخدمة الزائر, والمبالغة في إكرامه.
قال المقنع الكندي:
وإني لعبد الضيف ما دام نازلاً * وما شيمة لي غيرها تشبه العبدا
وقال ابن حبان: "ومن إكرام الضيف طيب الكلام, وطلاقة الوجه, والخدمة بالنفس؛ فإنه لا يذل من خدم أضيافه, كما لا يعز من استخدمهم, أو طلب لِقِراه أجر".
ومن الاحتفاظ بالمروءة أن يتجنب الرجل تكليف زائريه ولو بعمل خفيف, كأن يكون بالقرب من الزائر كتاب، فيطلب منه مناولته إياه, أو أن يكون بجانبه الزر الكهربائي, فيشير إليه بالضغط عليه؛ لإِنارة المنزل.
أو أن يأمره بإدارة أقداح الشاي على الضيوف, أو نحو ذلك.
قال عبدالله بن عمر بن عبدالعزيز: "قال لي رجاء بن حيوة: ما رأيت رجلاً أكمل أدباً, ولا أجمل عشرةً من أبيك؛ وذلك أني سهرت معه ليلة, فبينما نحن نتحدث إذ غشي المصباح, وقد نام الغلام, فقلت له: يا أمير المؤمنين, قد غشي المصباح, أفنوقظ الغلام؛ ليصلح المصباح؟.
فقال : لا تفعل.
فقلت: أفتأذن لي أن أصلحه؟.
فقال: لا؛ لأنه ليس من المروءة أن يستخدم الإنسان ضيفه, ثم قام هو بنفسه, وحط رداءه عن منكبيه, وأتى إلى المصباح, فأصلحه, وجعل فيه الزيت, وأشخص الفتيل, ثم رجع وأخذ رداءه, وجلس, ثم قال: قمت وأنا عمر بن عبدالعزيز, وجلست وأنا عمر بن عبدالعزيز".
أما إذا قام الزائر, وتكرّم بخدمة مزوره فلا بأس في ذلك, خصوصاً إذا كان المزور له حق, أو كان من أهل الفضل والعلم والتقى، أو كان الزائر ممن تُلغى الكلفة بينه وبين المَزُور.
ويدخل في إكرام الضيف بسط العذر له إذا تأخر, فقد يحبسه حابس, فيتأخر قليلاً أو كثيراً؛ فإذا أخذت بالعدل كان لك أن تعاتبه على تأخره, وإذا أخذت بالإحسان والتكرم بسطت له العذر, ولقيته بوجه وضاح, وجبين طلق؛ فيكون ذلك إكراماً آخر, خصوصاً إذا كان كريم الطبع, أم ممن ليس من عادته التأخر.
وهب أنك أفرطت في عتابه, ثم أعطاك ظهره, وعاد أدراجه, ما مصيرك أنت؟
لا شك أنك ستندم, ولات ساعة مندم.
ومن حق الضيف تحمُّل بعض ما يصدر منه من جفاء, أو كثرة أوامر.(/1)
ومن تمام حقه إكرام صحبته, وملاطفتهم, واستعلامهم عن أسمائهم, والحذر من احتقار أي واحد منهم.
ومن إكرامه - كما تقول العرب - إكرام دابته, والدابة في هذا الوقت سيارته, وذلك بوضعها في مكان ملائم, وظل ظليل.
ومن لطائف الضيافة ألا ينسيك قيامُك في حق أكابر الضيوف أحداً من الأضياف الآخرين؛ فيحصل كثيراً أن يشتغل المُضيف بالضيف الكبير عن غيره, فربما سلَّم عليه أحد من القادمين, فأشاح عنه, أو لم يقضه حق التحية والإكرام, فيكون ذلك سبباً في القطيعة وإساءة الظن, فحري بالمضيف ألا يغيب عنه ذلك المعنى, وجدير به أن يعتذر إن بدر منه جفاء أو تقصير في هذا الصدد, وحقيق على من وقعت له تلك الحال من الضيوف أن يعذر المُضِيفَ, وألا يؤاخذه في مثل تلك الحالات التي يذهل فيها الإنسان.
ومن تمام الإكرام شكر الضيف على الزيارة, والدعاء له, وطلب زيادة مكثه.
ومن تمام الإكرام تقريب الطعام له, وترغيبه فيه, على ألا يصل ذلك إلى حد الحرج, والإملال, والإثقال؛ وهذا راجع إلى ذوق المضيف, ولطفه, وألمعيته.
ومنها أن يحرص على تهيئة مكان لراحة الضيف, ونومه, وهدوء باله.
وفي المقابل فإنه يحسن بالزائرِ الجائي الضيفِ أن يراعي بعض الآداب، ومنها أن يأتي في الوقت المحدد, وألا يحبس الناس في انتظاره, وأن يبادر إلى الاعتذار إذا تأخر.
ومن أداب الضيف الزائر أن يدعو للمضيف, وأن يَنْزِل على حكمه, وأن يراعي عاداته ما لم تخالف الشرع.
ومنها أن يشكر المضَيف, ويبادله عبارات الإكرام, وأن يحذر من انتقاد طعامه؛ فما عاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طعاماً قط.(/2)
خواطر قرآنية الجزء الأول ...
بقلم الشيخ علي جاسم محمد
1. قال تعالى :{وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها}.. الأعراف ( 137).. لماذا ذكر الحق سبحانه مشارق الأرض ومغاربها ولم يذكر شمالها وجنوبها باعتبار اتجاهات الأرض الأربعة .. ؟؟؟
لم يذكر الحق سبحانه شمال الأرض وجنوبها لأنهما عبارة عن قطبين متجمدين لا تصلح فيهما حياة الإنسان .. فذكر تعالى المشارق والمغارب باعتبار خيرات الأرض وصلاحها للعيش إذ فيهما اعتدال الجو وخصوبة الأرض وتنوع الثمر وكثرة الزروع …الخ .
2 . قال تعالى :{ ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين } .. الأعراف ( 17) لماذا لم يذكر في من فوقهم ومن تحتهم .. ؟؟؟
الفوقانية والتحتانية هما مجالي _ إن جوزنا أن نسميهما مجالي _ رحمة الله وعذابه إذ يقول تعالى في الرحمة { ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون } .. المائدة (66) وقال تعالى في العذاب { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض } .. الأنعام (65)
3 . قال تعالى :{ واشتعل الرأس شيبا } .. مريم (4).. ما الحكمة من لفظ (اشتعل ) في الآية .. ؟؟؟
الاشتعال هو عملية تحول المادة المشتعلة من حالة إلى حالة أخرى مع استحالة رجوعها للحالة الأولى أي حالة ما قبل الاشتعال .. وهذا التصور والوصف ينطبق على السواد الشعر وبياضه أي أن البياض محال أن يعود سوادا .. وهنا لطيفة أخرى في الآية .. وهي أن هنالك جدلا فلسفيا ذكر في _ تهافت الفلاسفة _ للغزالي ..حول هل البياض عرض أم جوهر أم هل السواد عرض أم جوهر وإذا حل البياض فأين ذهب السواد وأين كان البياض قبل المشيب ..الخ ؟؟؟ ويبدو أن القرآن قل حل المشكلة وببساطة إذ أن لفظة الشيب جاءت نكرة وما كان نكرة لم يكن أصلا للشيء أي لم يكن من جوهر الشيء .. وعليه فالمشيب عرض ككل الأعراض التي تبدو عندما يكون هنالك ما يفضي لها ..
4 . قال تعالى :{ وداعياً إلى الله بإذنه وسراجا منيرا } .. الأحزاب .. السراج لا يكون إلا مضيئاً فلم قال تعالى هنا سراجا منيرا .. ؟؟؟
مما هو معلوم أن الضوء هو امتزاج الحرارة بالنور لقوله تعالى في الشمس { هو الذي جعل الشمس ضياء} والنور هو تجريد الضوء من الحرارة لقوله تعالى في القمر { والقمر نورا ً} ، والحرارة سلب والنور إيجاب لذلك جاء تعالى بلفظ (منيرا ) لاشتمال مضيئاً على جانب سلبي وهو النار وهذا لا يليق بالنبي صلى الله عليه وسلم ..
5 . قال تعالى :{ وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الضالين } لماذا جاء الفعل _ صرفت _بصيغة المبني للمجهول فكأنها قد صرفت دون إرادتهم .. ؟؟؟
قبل هذه الآية قال تعالى :{ ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون } وهذا القول تم بإرادتهم إذ رؤية النعيم نعيم .. أما بالنسبة للنظر لأصحاب النار فهو عن غير إرادة وغير اختيار منهم إذ النظر إلى العذاب عذاب فالذي صرفها لرؤية أصحاب النار هو الله تعالى بإرادته واختياره ..
6 . قال تعالى :{ وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم …. الآية } ثم قال تعالى { وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين }. الزمر ( 72-73) ما الحكمة من دخول ( الواو ) { وفتحت } في أصحاب الجنة وعدم دخولها { فتحت } في أصحاب النار …؟؟؟
عملت ( الواو )هنا عملا بالغ الضرورة إذ أن أصحاب النار قد سيقوا إلى جهنم وهي بعد لم تفتح حتى إذا وقفوا على أبوابها فتحت عن جملة عذابها فكان هذا عذابا ضعفا عليهم .. أما أصحاب الجنة فقد سيقوا إلى الجنة وأبوابها قد فتحت لهم قبل مجيئهم أي أن تقدير الآية { حتى إذا جاءوها وقد فتحت أبوابها …} وهذا من زيادة الترحيب بأهل الجنة وتعجيل البشارة لهم .. وبالتالي فقد أشارت هذه (الواو )إلى عذاب أهل النار المضاعف .. ونعيم أهل الجنة المضاعف ..
7 . قال تعالى:{ قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا } .. نوح (5-6) لماذا قدم نوح دعوة الليل على دعوة النهار .. ؟؟؟(/1)
يقال " عند الليل يعود الملحد نصف مؤمن بالله " إذ النفس في الليل أقرب لله تعالى منها في النهار باعتباره محل السكون ومبعث التأمل والتفكر في النفس وفي ملكوت السماوات والأرض وباعتبار النهار محل العمل والحركة والاضطراب الشاغل عن التفكر.. فكانت دعوة الليل أقرب لبلوغ القلوب من دعوة النهار وهذا أمر واضح بيّن حتى عند من يدعون الناس لله إذ من الكياسة والدراية أن يتحينوا أوقات سكون النفس وليس هنالك كالليل سكون للجسد ويقظة للروح
8 . قال تعالى في ابني آدم :{ فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين } المائدة ..ثم قال بعد ذلك { من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعا } .. المائدة .. الفترة الزمنية بين ابني آدم وبني إسرائيل طويلة جدا .. فلماذا اختص القرآن بني إسرائيل هنا بهذا الحكم .. علما أنه حكم قائم في كل أمة من الأمم الكتابية .. ؟؟؟ ذلك لأن بني إسرائيل أمة قد اتصفت بالقتل وسفك الدماء حتى كأنهم قد جبلوا على هذا الأمر أو كأن القتل صار سجية من سجاياهم وميزة امتازوا بها ليس في القرون الخالية وحسب بل على امتداد تاريخهم وحتى في الوقت الحاضر .. فقد امتدت أيديهم قديما حتى على أنبيائهم فقال تعالى:{ ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق } آل عمران وعليها أخذ الله ميثاقهم :{ وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دمائكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون }البقرة .. ثم قال تعالى فيهم :{ ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان }البقرة .. لذلك جاء هذا الحكم الحق ليدمغ بطلان النفس وفجورها عند بني إسرائيل ..
9. قال تعالى في الأعراف :{ قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار } وقال فيها أيضا :{ولقد ذرانا لجهنم كثيرا من الجن والإنس } وقال تعالى في سور الرحمن { يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا } وقال تعالى في الإسراء:{قل لأن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا}.. يلاحظ في الآيات التي سبقت آية الإسراء أنه تعالى قد ذكر الجن مقدم على الإنس بينما أخرها على الإنس في الإسراء } لماذا .؟؟؟
إذا علمنا أن الجن مخلوقون قبل الإنس عرفنا لماذا قدم الحق سبحانه الجن على الإنس عندما تكلم عن { أمم قد خلت من قبل}أي عندما أشار تعالى لفترة زمنية قدم أسبقهما زمنا في سورتي الأحقاف والأعراف ..أما الآية الثانية من الأعراف{ ولقد ذرانا …الآية } فلأن الجن من سلالة إبليس .. والإنس من سلالة آدم وإبليس أول من لعنهم الله ووعدهم جهنم{قال اخرج منها مذؤما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين}.. والأمر الثاني أن الشيطان هو من يورد الإنسان موارد النار والهلاك وليس العكس .. والأمر الثالث أن آدم أبو الإنس كان يمثل صفة الإنابة إلى الله والرجوع إلى الله والإقرار بالذنب وهذه كلها مجلبة للرحمة الإلهية مبعدة عن النار مقربة لرضوان الله فقدم تعالى الجن على الإنس في أهل النار .. أما في سورة الرحمن:{يا معشر الجن والإنس ….. الآية}فلأن الجن سبقت الإنس في بلوغ أقطار السماء لقوله تعالى{وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع}..وثانيا لأن التركيبة التكوينية للجن أقرب وأسهل للنفاذ من التركيبة التكوينية للإنس فالأول من نار والنار حرارة وصفة الحرارة النفوذ عبر الحواجز .. أما تركيبة الإنسان الترابية فصفتها التثاقل والسكون واستحالة النفوذ عبر الحواجز .. وهي بذلك أحوج من الجن لاستكمال نقصها المترتب عليها من تركيبتها التكوينية .. أما في سور الإسراء{قل لإن اجتمعت الإنس والجن على …الآية}فلأن الإنس هم المقصودين بالتحدي القرآني بالدرجة الأولى باعتبارهم قد اتخذوا القرآن هزوا والله يقول فيهم{وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين}بينما قال تعالى في الجن:{ قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا}.. فقدم سبحانه الإنس على الجن هنا ..
10 . قال تعالى:{ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون}.. الأحقاف .. لماذا قال تعالى (يعرض ) ولماذا لم تكن النار هي التي تعرض لا هم .. ؟؟؟(/2)
ج . فلنضرب لهذه الآية مثلا نتقرب به من فكر العرض " هب أن مجرما حكم عليه أن يلقى طعاما للأسد .. فحين يعرض الأسد على هذا المحكوم من وراء ستار ستلقي رؤية الأسد في القلب رهبة وفزعا والأسد بعد جاثم ساكن لم ير المحكوم .. لكن لو عرض المحكوم على الأسد وبدأ الأسد يكاد ينشق من الغيظ والغضب وبدا كأنه يريد أن يثب عليه لولا القيود ولولا عدم انقضاء أمد الحكم .. لكان هذا الموقف أشد فزعا في النفس وأشد رهبة وخوفا في القلب على هذا المحكوم إذ حينها ستكون الرهبة مع رؤية ثورة هذا الوحش الكاسر .. وهذه الحالة كحالة أصحاب جهنم إذ حكم عليهم أنهم من أصحاب النار .. لكن لما كان عذاب الله مضاعفا كما كانت رحمته وكرمه لأصحاب الجنة مضاعفة :{ قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون } جعل الكفار يرون النار فانخلعت القلوب من الهول .. وجعل النار تراهم فتزداد استعارا برؤيتهم وهو القائل :{ إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا } فتحترق حينئذ أفئدتهم من هول المشهد وهم بعد لم يلقوا فيها لذلك قال تعالى :{ النار يعرضون عليها غدوا وعشيا } أي أنها دائمة الاستعار والثوران والغيظ لكونها ترى الكفار غدوا وعشيا .. وهذا هو أسلوب الله تعالى في العذاب وهو القائل :{ فيومئذ لا يعذب عذابه أحد } ..
11 . قال تعالى :{ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير }الإسراء.. هنالك سور استهلها القرآن بالحمد كالفاتحة والأنعام وفاطر وسور أخر قد استهلها الله بالتبريك كالملك والفرقان وسورة الإسراء ككل السور التي استهلها القرآن بصيغة تضاف لبقية الصيغ القرآنية فما الحكمة من ( سبحان )في مستهل الإسراء .. ؟؟؟
على الرغم من أن المسألة تكاد تكون بديهية فهي مع ذلك تستلزم شيئا من الإيضاح ..إذ أن (سبحان) تعني التنزيه .. أي نزه الذي أسرى بعبده .. لماذا .. لأن الحق تعالى سينتقل بعد كلمة (سبحان ) لقضية قد يختلج بها الفكر ويضطرب لها القلب إذ فيها من الخروج عن المألوف الإنساني والخروج عن حدود المعقول ما قد يبتعث في النفس البواعث ويقدح في السريرة الهواجس فجاءت ( سبحان ) هنا لترفع الإنسان من غيابة هذا الجب .. وليستقبل الفكر والقلب هذه القضية وهو منزه الله تعالى عن هذه القياسات العقلية الضيقة وهذه الدخائل ..
12 . قال تعالى :{ وكذلك سولت لي نفسي } ..طه ..96 وقال تعالى { فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين } .. المائدة 30 .. سولت .. وطوعت .. هل يستوي المعنى إن وضعنا سولت بدل طوعت أو العكس علما أن كليهما مما يختلج في النفس .. ؟؟؟
بالتأكيد لا يستوي المعنى إذ (سولت ) تعني زيّنت ، وزينت لا تكون إلا في أمر قد يحبه الإنسان فزينته النفس أي ( سولته ) .. أما طوعت فتعني سهلت ، وسهلت لا تكون إلا في أمر قد استصعبته النفس ولو كان سهلا ما سهلته .. فسولت فيما قد يحبب للنفس وطوعت فيما لا يمكن أن يحبب للنفس كما طوعت له قتل أخيه وقتل الأخ مما لا يكون محببا للنفس أبدا .. وقد يقال فهذا القول يتناقض مع قوله تعالى في سورة يوسف " قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا "وهم قد ألقوا أخاهم في غيابت الجب فكيف ذلك .. قلنا الأمر الذي زينته النفس ( سولته) هنا ليس ما فعلوه بيوسف بل بالذي بعدها أي " يخل لهم وجه أبيهم ويكونوا من بعده قوما صالحين "
13 . قال تعالى:{ختم الله على سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم}..البقرة.. 7.. وقال تعالى{قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير اله يأتيكم به أنظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون}..الأنعام46..في الأولى كان الختم على القلب أول شيء .. وفي الثانية كان الختم على القلب آخر شيء .. لماذا ..؟؟؟
في الأولى وصف للكافرين الذين لا يرتجى هدايتهم لقوله تعالى :{ إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون }البقرة .. فقدم الحق سبحانه ختم القلب باعتباره فصل الخطاب في مثل هذه الحالة .. أما في الثانية فخطاب لمن قد تأخذ الموعظة مأخذها في نفوسهم وتبلغ الهدابة قلوبهم فجاء تعالى بتدرج مراحل الضلال الذي قد يفضي لختم القلب في نهاية الأمر فقدم أخذ السمع باعتباره وسيلة إدراك لها مساحتها في الهداية ومن ثم البصر وهو كذلك أيضا وانتهى بختم القلب فيما لو لم يستدرك السمع والبصر هذا القلب ..
14 .قال تعالى:{وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى}.طه 7 وهل هنالك أخفى من السر .. ؟؟؟
نعم .. هنالك ما هو أخفى من السر ذلك لأن السر قد يشترك به الاثنان والثلاثة .. أما ما هو أخفى منه فهو ما كان مستترا في غياهب النفس فلا يطّلع عليه إلا صاحبه فهذا أخفى من السر .(/3)
15 . قال تعالى:{يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا}.المزمل 14 مما هو معلوم بالبديهة " أن ما يقع على الكل فهو واقع على بعضه " والأرض كل..والجبال بعض من هذا الكل فما يجري على الأرض هو جار على الجبال بدعوى البديهة فلم قال تعالى ترجف الأرض والجبال .. ولو قال تعالى ترجف الأرض لما شك أحد أن الجبال لا ترجف فلماذا ذكر الجبال .. ؟؟؟
أليست أوتاد الخيمة هي بعض من الخيمة ؟؟ لكن هل ارتجاج الخيمة يعني بالضرورة ارتجاج الأوتاد ؟؟ قطعا لا..أليست الجبال هي أوتاد الأرض لقوله تعالى{والجبال أوتادا}النبأ 7 فهل ارتجاج الأرض يعني بالضرورة ارتجاج أوتادها..بل من المنطق أن الوتد ثابت لا يرتج..لكن في هذا المشهد ذكر الحق سبحانه الجبال وكذلك في مشاهد أخرى كي يشعر بهول وشدة ذلك اليوم وقوة ارتجاج الأرض حتى ارتجت أوتادها ..
16 . قال تعالى:{أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأرت أن أعيبها وكان ورائهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا}وقال تعالى:{وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما}وقال تعالى{وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك}الكهف .. 79 –80 –81-82.. لماذا تغير لفظ الإرادة في كل حالة من الحالات الثلاث ( السفينة والغلام والجدار ) .. ؟؟؟
العبد الصالح أخذ بعين الاعتبار في هذه المراحل جانب الحيثية الزمانية المتعلقة بالحدث .. فالمرء يملك أي ( مريد ) لفعله في الوقت الحاضر لكنه لا يملك –استحالة الإرادة –فعله في المستقبل والماضي ، إذ الإرادة متأخرة على الزمن في الماضي .. وهي أي (الإرادة )متقدمة على الزمن في المستقبل ، وشرطها الأساس هو اتفاق الحدث مع زمن الحدوث ، والله يقول { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله}..فخرق السفينة حدث مناط بغاية حاضرة وهي أن الملك يأخذ كل سفينة غصبا في الوقت الحاضر .. وهذا أمر مما يملك الإنسان الإرادة به لاتفاق الفعل مع زمن إرادته وبالتالي هو مما يستدرك في وقته فنسب الإرادة إليه فقال { أردت } .. أما قتل الغلام ففيه حيثيتين زمنيتين هما الحاضر والمستقبل .. الحاضر المتمثل ( بقتل الغلام )والمستقبل المتمثل بقوله { فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما } فكانت الإرادة بالاشتراك بين حاضر ومستقبل فقال { أردنا } .. أما إقامة الجدار ففيها ثلاث حيثيات الحاضر والمتمثل بإقامة الجدار ، والمستقبل المتمثل باستخراج المساكين لكنزهم ، والماضي المتمثل بصلاح الأب فكأنه قد أقام الجدار في الحاضر ليستخرجا كنزهما في المستقبل إكراما لأبيهما الصالح في الماضي فقال { فأراد ربك } باعتبار خروج الحيثيات الثلاث عن حدود الإرادة الإنسانية للإرادة الإلهية المطلقة –زمنا ومكانا وكيفا - ..
17 . قال تعالى { أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن }.. تبارك 19 .. لماذا تقدمت لفظة (صافات ) على ( يقبضن ) .. ؟؟؟
للطير حالتان .. الأولى وهو على الأرض وهذه تناسب قبض الجناح وليس البسط .. والثانية في جو السماء وهذه تناسب بسط الجناح وليس القبض .. فقدم سبحانه لفظة (صافات) على يقبضن لتناسب سياق الآية وهي تتكلم عن الطير وهو في السماء وليس على الأرض ..
18 . قال تعالى :{ إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم } .. النمل 23 .. لماذا قال الهدهد امرأة تملكهم ولم يقل ملكة تملكهم .. وهي ملكة حقا ..؟؟؟
كأن الهدهد قد استقبح من قوم –رجال-أنهم قد ملكوا أمرهم امرأة فجاء باللفظ الذي يضع المرأة من الحياة موضعها الذي تقتضيه فطرة الخلق بل قوامة الخلق وهو أن الرجال قوامون على النساء وليس النساء قائمات بأمر الرجال .. وزاد هذا الهدهد بهذا المعنى أن عظّم عرشها وهو من ملكها ولم يعظمها وهي المالكة فقال { ولها عرش عظيم } ..
19 . قال تعالى :{ والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه من الكاذبين ويدرؤ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين } .. النور 6-7-8-9 لماذا قال تعالى في الرجل الكاذب لعنة الله عليه وقال في المرأة الكاذبة غضب الله عليها .. ؟؟؟(/4)
اللعنة أشد وأكبر من الغضب لأن اللعنة طرد من رحمة الله لذلك قال تعالى في إبليس { وأن عليك اللعنة إلى يوم الدين } وقدم سبحانه اللعنة على الغضب فقال { من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت } .. أما في شهادة الرجل ونقض المرأة .. فلأن المترتب على كذب الرجل أي –صدق المرأة –أكبر وأشد من المترتب على صدقه أي –كذب المرأة –لأن الإسلام يميل إلى التحفظ والتستر عن عورات الناس ويتجنب إذاعة الفاحشة بينهم ويميل أيضا إلى حفظ الآصرة الأسرية لا تقويضها ونقضها ، ففي صدق الرجل مدعاة لإحقاق حق من حيث أنها مدعاة للسوء وفي كذبه كل الشر والسوء . وفي صدق المرأة كل الخير وفي كذبها مدعاة للشر من حيث أن فيها شعبة من شعب الخير ..
20 . قال تعالى: { مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا } الجمعة 5 .. من المعلوم أن الإبل تحمل أسفارا كما تحملها الحمير فلم لم يقل الحق كمثل الإبل تحمل أسفارا .. ؟؟؟
ذلك لأن الإبل في موضع من القرآن كانت آية من آيات الله تعالى لقوله { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت } الغاشية 17..فلا يناسب أن تكون مثل سوء ، وقال تعالى فيها أيضا { والبدن جعلناها من شعائر الله } الحج 36 وقال { لكم فيها خير } فأهل الضلال لا يشبهون بما فيه خير ، من جانب آخر كان الحمار مثل سوء في القرآن فقال تعالى أهل الكفر { كأنهم حمر مستنفرة } المدثر 50..وقال تعالى في صوت الحمار { إن أنكر الأصوات لصوت الحمير } لقمان 19، لا بل إن الله تعالى قد أخّر الحمير حتى على البغال فقال { والخيل والبغال والخمير لتركبوها } النحل 8..، فكان هذا التشبيه إشعارا بكبر مقت الله لهم ..
21 . قال تعالى :{ إن يشأ يسكن الريح فيضللن رواكد على ظهره } الشورى32.. لماذا قال تعالى الريح ولم يقل الرياح .. ؟؟؟
الريح هي التي تأتي من جهة واحدة معلومة قال تعالى { فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم }الأحقاف 24 .. أما الرياح فهي التي تأتي من اتجاهات متعددة قال تعالى: { وأرسلنا الرياح لواقح } الحجر 22.. من هذا كانت الريح هي ما يناسب جريان السفن وليس الرياح . وهنا لا بد من الإشارة إلى أمر .. وهو أن الريح تأتي بالعذاب والرياح تأتي بالرحمة . لكن اقتصار العذاب على الريح لا يعني اقتصار الريح على العذاب . كما أن اقتصار الإحراق على النار لا يعني اقتصار النار على الإحراق إذ منها النور ومنها الدفء وما إلى ذلك .. إذن فالريح تأتي بالعذاب وتأتي بالرحمة أيضا .. لقوله تعالى { وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها } يونس 22..وقال تعالى { فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب } ص 36.. وقال تعالى { ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر } سبأ 12..
22 . قال تعالى :{ ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم } الأنعام 151.. وقال {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم } الإسراء 31 .. لماذا هذا التقديم والتأخير بين نرزقكم وإياهم ونرزقهم وإياكم .. ؟؟؟
في الأولى قال تعالى { من إملاق }أي أن الإملاق ( الفقر ) واقع أصلا قبل أن يولد المولود ..فولادة المولود هنا زادت في الفقر وليس أتت بالفقر _ على حد ضنهم _ فقال تعالى {نرزقكم } لأنكم الأصل في الفقر وأن الفقر موجود فيكم قبل أن يولد لكم وليس المولود .. أما الثانية فقال تعالى :{ خشية إملاق } أي أن الفقر هنا لم يكن موجودا لكن خيف الفقر مع ولادة المولود فكان المولود هو من جاء بالشعور بوقوع الفقر هذا الشعور لم يكن موجودا قبله فقال تعالى { نرزقهم } باعتبارهم هم من ولّد فكرة الفقر في النفوس .. فجاءت { نرزقكم } { ونرزقهم } لمناسبة كل حالة ..
23 . قال تعالى :{ هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى ثم أنتم تمترون } الأنعام 2 .. لماذا قال تعالى هنا { من طين } بينما ذكر في مواضع أخر { من تراب } و{ من ماء } أي ما الحكمة من لفظة { الطين } بالذات وفي هذا الموضع .. ؟؟
ذكر تعالى هنا الطين لأن مطلع السورة يقول { الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } فناسب لفظ الطين هنا سياق الكلام .. أي أن الطين مزيج من السماء والأرض .. من ماء وهو من السماء ومن تراب وهو من الأرض .. والطين أيضا مزيج من نور وظلمة .. نور السماء ( المتمثل بالماء ) وظلمة الأرض المتمثلة بالتراب فكأن الطين قد جمع بين السماء والأرض والظلمة والنور ..(/5)
24 . قال تعالى :{ وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين }يوسف 42 .. وقال تعالى :{ ارجع إلى ربك فاسئله ما بال النسوة الاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم } يوسف 50 ..في الأولى كانت { ربك } من يوسف لحظة نسيان شيطانية لبث بسببها في السجن بضع سنين ، فلماذا لم يعنف الله عليه الثانية لما قال { ارجع إلى ربك } واللفظين واحد.. ؟؟؟
الربوبية الأولى كانت ربوبية استغاثة { اذكرني عند ربك } ولا مغيث إلا الله قال تعالى { إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم } فعاقبه الله تعالى لأنه التمس من غير الله ما لا يطلب إلا من الله فضلا عن كونه نبي ، أما في الثاني { ارجع إلى ربك }فالمراد منها استفهام استنكاري عن تقطيع النسوة أيديهن .. ليس إلا .. ولا حرج في ذلك ..
25 . قال تعالى: { وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب } ثم قال تعالى :{ ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون } الزخرف 77 .. لماذا تغير طلب أصحاب النار في الآيتين .. ؟؟؟
الطلب في الأولى لخزنة جهنم وفي الثانية لخازن النار ، والفرق هو أن خازن النار أي ( مالك ) هو أقرب عند الله من خزنة جهنم لأنهم أعوانه يعملون بأمرته وكلهم محكوم لأمر اله ،فكان طلب أصحاب النار من مالك أشد رحم لهم من طلبهم من خزنة جهنم باعتبار قرب مالك من الله فقالوا { ليقض علينا ربك } وهذه رحمة بأصحاب النار أن يموتوا فيسلموا من العذاب ، بينما كان طلبهم من الخزنة فيه رحمة محدودة قياسا لطلبهم من مالك فقالوا { يوما } ولم يقولوا يرفع عنا العذاب يوما بل { يخفف } أي أن العذاب موجود حتى بعد التخفيف .. فناسب طلبهم من مالك منزلته من الله وناسب طلبهم من الخزنة منزلتهم من الله أيضا ..
26 . قال تعالى :{ والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا } الكهف 46 وقال تعالى { والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا } مريم 76 .. هنا {مردا }وفي الأولى {أملا } فلماذا هذا التغيير .. ؟؟؟
من تتبع سياق الآيات التي تسبق يلاحظ أن الأولى كانت { المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا } ومن المعلوم أن المال والبنين مما يحرك في النفس بواعث الأمل في الحياة قال تعالى في صاحب الجنتين { ما أظن أن تبيد هذه أبدا }الكهف ثم قال { ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا } الكهف .. فجاءت { أملا} لمناسبة معنى الآية والإقرار أن الباقيات الصالحات هي ما يؤمل به عند الله تعالى وليس المال والبنون ، أما مردا فلأن السياق القرآني كان يتكلم عن يوم القيامة ومشاهدها .. قال تعالى في الآيات التي تسبق هذه الآية { ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا } مريم ..ثم قال تعالى { ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا } مريم ..ثم قال { وإن منكم إلا واردها } مريم .. ثم قال { ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الضالمين فيها جثيا } مريم..إذن فالآيات تتكلم عن مرد الناس لله يوم القيامة { وأن مردنا إلى الله } غافر .. فجاء تعالى بلفظ { مردا } لمناسبة سياق الآيات ..
بقلم : علي جاسم محمد من العراق
===============
خواطر قرآنية الجزء الثالث ...
...
بقلم الشيخ علي جاسم محمد
1 . قال تعالى:{ اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون } [المائدة:3 ] وقال تعالى:{ ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق } [البقرة :109].
ثم قال تعالى { ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم } [آل عمران :69] وقال تعالى {ولا يزالون يقاتلوكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا } [البقرة: 217] في الأولى أخبر تعالى أنهم يئسوا من دينكم ثم أخبر بعد ذلك أنهم يودوا لو يردونكم من بعد إيمانكم ..وقال بعد ذلك أنهم لا زالوا يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم .. وكونهم يودوا إضلالنا ولا زالوا يقاتلوننا يتنافى مع معنى اليأس لأن اليأس يوقف العمل والسعي كما قال تعالى على لسان يعقوب { يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيئسوا من روح الله } ولو يئسوا ما بحثوا، فكذلك الكفار وهم كما أخبر تعالى لا يزالون .. فكيف ذلك ؟؟؟
ج . في الأولى أنهم قد يئسوا من أن يمسوا المنهج بتحريف، بينما في التاليتان هم ما يئسوا من المتمنهج .. أي أنهم قد يئسوا من تحريف الإسلام كمنهج وما يئسوا من إضلال المسلم كمتمنهج ..ذلك لأن منهجية الإسلام تكفل الله تعالى بحفظها بقوله :{ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر]..أما المسلم فالابتلاء والتعرض لمزالق أهل الضلال والكفر من ضروريات إيمانه ليختبر الله تعالى ثباته على الإيمان { أحسب الذين آمنوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون } [العنكبوت] فلا تناقض بين الحالتين ..(/6)
2 . قال تعالى:{ لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم } [البقرة:256] وقال تعالى:{فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما } [البقرة :233] .. ما الفرق بين (فصل وفصم ) أو انفصال وانفصام .. ؟؟؟
ج . الفصال هو الفصل بين شيئين ومنها { فصل الخطاب } أي الفيصل بين الحق والباطل، أما الفصام فهو الكسر .. لكن أي كسر ؟؟ هو الكسر الغير بائن
ولنا أن نسأل لماذا جاء تعالى بهذا اللفظ الموحي بلباب الشيء وأعني به " الكسر الغير بائن " ذلك لأن العروة الوثقى كما يقول ابن عباس هي " لا إله إلا الله " وهذه هي لباب الدين وقاعدته التي يقوم عليها منهج الله تعالى وهذه العروة لا انفصام لها لأنها دين الوجود قبل أن تكون منهج الرسل والله يقول :{ وله أسلم من في السماوات والأرض} وقال تعالى{كل له قانتون}وقال أيضاً{ولله يسجد ما في السماوات والأرض} وهي العهد الذي أخذه الله على بني آدم قبل أن يخلقوا :{ ألست بربكم قالوا بلى} لذلك قال تعالى في هذه العروة أن لا انفصام لها لأن لبابها " لا إله إلا الله " ومن لطائف القرآن أن الحق سبحانه وصف الإيمان بأنه{العروة}والعروة في اللغة هو النبات الذي ينموا في الصحارى والقفار مما تتغذى عليه الإبل المرتحلة وهي إشارة إلى أن لهذا النبات جذورا متصلة بالأرض بكيفية تختلف عن غيره فبقيت حية تقاوم هجير الصحاري وهذا التشبيه ينطبق على جذور الإيمان في القلب بالفطرة التي فطره الله عليها حتى قبل الرسل وفي الأثر ((كل مولود يولد على الفطرة )).
3 . قال تعالى:{ فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا } [مريم :49] ما الحكمة من أن الله تعالى قد وهب له بعد أن اعتزلهم أو إلى ماذا تشير { فلما اعتزلهم } .. ؟؟؟
ج . كما أن الشر قد يصيب أهل الصلاح بصحبة الأشرار ومعاشرتهم فكذلك الخير فقد يرزق الله تعالى المؤمن لما يعتزل أهل الكفر..وبالتالي فقد يرزق المرء بالصحبة المؤمنة كما قد يسخط الله عليه بالصحبة الكافرة..وقد يكون اعتزال ملة الكفر فاتحة خير على المؤمن ..قال تعالى على لسان يوسف { إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله }[يوسف: 37] .
4 . قال تعالى:{واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم } [الأعراف:161] لماذا قال تعالى واسترهبوهم ولم يقل وأرهوبهم .. ؟؟؟
ج . ذلك لأن الرهبة شيء والاسترهاب شيء آخر ، الرهبة لا تكون إلا مما كان مشتملا على جوانب الرهبة في ذاته لذلك قال تعالى عن نفسه { وإياي فارهبون } أما استرهب فهي استجلاب للرهبة أو تصنع لها، ولما كانت حبال السحرة والعصي ليست في حقيقتها سوى حبال وعصي لكن يخيل للناس أنهى أفاع تسعى فقد خرجت عن حقيقة ما يرهب فانتفت على هذا الأساس حقيقة الرهبة فكانت استرهابا لا رهبة ..
5 . قال تعالى:{ لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون }[ يس :40] ماذا يعني لفظ { ولا الليل سابق النهار } في الآية .. ؟؟؟
ج . لو قلنا أن طلوع الشمس يأتي بالنهار..فقولنا صواب لا مماراة فيه .. لكن لو قلنا أن أفول الشمس يأتي بالليل سيكون قولنا خطأ..لماذا..ذلك لأن الليل موجود في النهار وفي الليل وهو عند غياب الشمس أبين وعند ظهورها أقل بيانا لذلك قال تعالى { وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون}[يس: 37] . فهو لا يسبق النهار لأنه موجود أصلا في النهار..
6 . قال تعالى:{ والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم } [محمد: 12] لماذا قال تعالى { كما تأكل الأنعام } فقط ولم يذكر التمتع كما قال في الكفار {يتمتعون ويأكلون }والمقابلة تقتضي كمال الوصف .. ؟؟؟
ج . ذلك لأن الأكل حالة تتعلق بضرورة جسدية بحتة لا يختلف فيها كائن عن كائن وهو بذلك سنة من سنن الحياة التي لا تقبل المغايرة بين مخلوق ومخلوق ، أما مسألة التمتع فهي تقتضي ذوقا وحسا أرقى مما عند الحيوان وهذا لا يوجد إلا عند الإنسان فاقتصر في الحيوان على ذكر الأكل بينما تعداها للتمتع عندما ذكر الإنسان ، على أن هنالك فرق بين اللعب والتمتع فكثيرا ما نرى حيوانات تقفز وتلعب لكن اللعب فيض حياتي والمتعة فيض شعوري ..
7 . قال تعالى:{ وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين }[ الأنبياء: 87] هل من الممكن أن تلقي هذه الآية في خيال قارئها أن هذا كان ظن ذا النون بالله تعالى أي " لن يقدر الله عليه " .. ؟؟؟(/7)
ج . الآية لا تحمل على هذا المحمل ولا تفهم بهذه الصيغة إذ لا يجوز أن نتصور أن نبي يظن أن لن يقدر الله عليه ، أما كلمة { نقدر } تحتمل عدة معان ومن معانيها ( نقّدر ) بالتشديد ومن معانيها ( نضيق ) والله يقول { وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن } [الفجر: 16] فتقدير الآية أنه ظن أن لن نقدّر عليه هذا القدر المتمثل بالتقام الحوت له، وتحتمل أيضا " أن لن نضيق عليه لما حبسناه في بطن الحوت " ..
8 . قال تعالى:{ ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم } [التوبة:46] وقال تعالى { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل } [الأنفال: 60 ]في الأولى ينكر عليهم إعداد العدة وفي الثانية يحرض عليها فهل هذا تناقض .. ؟؟؟
ج . الأولى وصف للمنافقين ،وفي القرآن كل حق يصدر من المنافقين فهو باطل وكذب { إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } كذّبهم الله وهم قالوا حقا، وفي الثانية خطاب للمؤمنين بإعداد العدة عند الحرب .. فلا تناقض .
9 . قال تعالى { وورث سليمان داوود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين }[النمل: 16] قال سليمان علمنا منطق الطير بينما الحدث الذي ستعرضه الآيات التالية متعلق بالنمل وما بعد ذلك الطير ..فلماذا لم يقل سليمان علمنا منطق النمل وهو قد سمع من النملة كما سمع من الهدهد .. ؟؟؟
ج . المسألة تتعلق بقضية خصوص وقضية عموم..كيف..حادثة سليمان مع النملة حادثة خصوص متعلقة بسليمان فقط..أما قضية الهدهد فهي قضية عموم كونها متعلقة بأمة ضالة سيهديها الله تعالى على يد سليمان بوساطة الهدهد..أمر آخر هو كون هذه القضية تتعلق بمنهجية النبي وهي الدعوة لله .. فكان ذكر تعليم الله له منطق الطير لاعتبار مساحة القضية المتعلقة بالطير..
10 . قال تعالى:{الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما} الكهف 1 يقول أهل المنطق أن نفي الاعوجاج هو إثبات للقوامة فلماذا ذكر تعالى لفظة{قيما}من حيث أن{لم يجعل له عوجا}متضمنة لهذا المعنى .. ؟؟؟
ج . أولا هنالك فرق بين النقيضية والضدية..أي الأضداد والنقائض..فالنقيضية هي التي لا يكون بين طرفيها حدا وسطا كالموت والحياة إذ لا وجود لمرحلة وسطية بين الموت والحياة وكذلك الوجود واللاوجود إذ لا وسط بينهما..بينما الضدية فهي التي يكون بين طرفيها حدا وسطا مثل السواد والبياض فبينهما الداكن –الرمادي –وعلى هذا الأساس صار نفي صفة ما في النقيضية يعني إثبات الصفة المقابلة بينما نفي صفة ما في الأضداد لا يعني بالضرورة إثبات صفة مقابلة للضد..ولنرجع للآية ..فهل القوامة نقيض الاعوجاج أم ضده ..القوامة هي نقيض الاعوجاج إذ لا وجود لما يسمى بالوسطية بينهما..وهما نقائض فيما لو كانا مجردين ، لكنهما ليسا كذلك فيما لو أضيفا لشيء وهنا هما مضافان لقضيتين..الأولى إثبات عدم اعوجاجه لأهل الكفر ليزيدهم الله يأسا من مسه بسوء والثانية إثبات قوامته لأهل الإيمان ليزدادوا إيمانا فاقتضى إثبات القوامة لاتصاله بحيثية، مع نفي الاعوجاج لاتصاله بحيثية مغايرة ..
11 . قال تعالى:{تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين}ما وجه الكفران بهذين اللفظين .. ؟؟؟
ج . هذان اللفضان قد اشتملا على كل أنواع المفاسد..لماذا..لأنهما قد مستا الذات الإلهية وقد مستا حركة الحياة الإنسانية..فالعلي هو الذي لا رتبة فوق رتبته وكل شيء منحط عنه .. فهي صفة إلهية خالصة .. أما الفساد .. فهو متعلق بتعطيل حركة حياة الإنسان على الأرض قال تعالى { وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد } [البقرة] ..فكان هذين اللفظين شاملين لكل أنواع الكفر والفساد فجعلهما الله تعالى أسباب هلاك يوم القيامة كما صار تركهما سبب النجاة ..
12 . قال تعالى:{ وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لو لا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين } كيف قال تعالى عن فؤاد أم موسى أنه فارغ وهو ممتلئ بحب موسى حتى كادت أن تبدي به .. ؟؟؟
ج . وهذا هو عين فراغه .. أي أنه قد امتلأ بحب موسى ففرغ منه حب الله والله يقول :{ ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه} الأحزاب، ورسول الله يقول " حبك للشيء يعمي ويصم "..لذلك قال تعالى{ربطنا}لأن القلب إذا أحب غير الله تقلب عن الإيمان وإذا فرغ قلب من الإيمان فقد فرغ بمعنى الكلمة حتى ولو امتلأ بأي شيء كان..ثم قال{لتكون من المؤمنين}وهذا ما ربط الله قلبها عليه فقد أفقدها حب موسى حسن صلتها بالله..(/8)
13 . قال تعالى:{وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون }[الأنبياء 33] لماذا تقدم الليل على النهار في الأولى ليتأخر القمر على الشمس في الثانية .. ولو أجرينا الآية مجرى المقابلة لكانت " خلق الليل والنهار والقمر والشمس باعتبار القمر تابع لليل والشمس للنهار .. ؟؟؟
ج . الحق سبحانه قال{خلق}وكلمة خلق تتشعب هنا لعدة شعب فمنها متعلق بالغاية ..أي غاية الخلق ..والله يقول{وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}فلما كانت غاية الخلق هي العبادة تقدم الليل على النهار باعتبار قرب العبد من الله عند الليل ويقابلها انشغال العبد بالنهار..أما تقديم الشمس على القمر فكلمة{خلق}تحمل معنى ضرورة الخلق إذ أن ضرورة الشمس للحياة أكثر من ضرورة القمر..فتقدم الليل لمناسبة الغاية وتقدمت الشمس لمناسبة الضرورة..
14 . قال تعالى:{وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم} [الذاريات:41] لماذا ذكرها الله تعالى بالعقيم .. ؟؟
ج . الحق سبحانه إذا ما ذكر قضية ما في القرآن فهو يأتي بكل وجوهها الممكنة لها فهنا ذكر العقيم لأنه سبحانه قد ذكر في الحجر اللواقح فقال{وأرسلنا الرياح لواقح }فقابل اللقاح العقم ..
15 . قال تعالى:{الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أوليائهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}[البقرة :258]..لكن متى كان الذي آمنوا في ظلمة ومتى كان الذين كفروا في نور..؟؟؟
ج . الآية تحتمل أحد الصيغتين .. أولا أراد الحق سبحانه بالظلمات التي يخرج المؤمنين منها هي سبل الظلال ومزالق الكفران التي ينجي الله المؤمن منها بما وقر في صدورهم من إيمان لذلك قال تعالى{إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم} يونس ..بينما كان النور الذي يخرج الطاغوت أهل الكفر منه هو السبل المفضية للهداية كصحبة المؤمنين والاستماع للقرآن وهي نور من حيث أنها قد توصل للهداية لذلك كان أهل الكفر يقولون{لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه}آل عمران .. والصيغة الثانية التي تحتملها الآية هي أن المراتب الإنسانية ثلاث فصلها قوله تعالى {ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها}فنفس مجبولة على الفجور شيطانية ،ونفس مؤمنة ملائكية ، ونفس فطرية سوية بين هذا وذاك إذن {سواها} هذه نفس وهي النفس السوية بالفطرة و{فجورها}هذه نفس و{تقواها}هذه أيضا نفس والإيمان هو الارتفاع عن المرتبتين السابقتين والفجور انحدار عن هاتين المرتبتين .. فصارت النفس الفطرية بالنسبة للنفس التقوية ظلمة باعتبارها أدنى منها منزلة وصارت بالنسبة للفجور نور باعتبارها خير منها..فالله يخرج الذين آمنوا من ظلمة النفس الفطرية لنور النفس الملائكية والطاغوت يخرج الذين كفروا من نور النفس الفطرية لظلمة النفس الفاجرة..
16 قال تعالى:{ ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } إن كانوا في نعمة أصلا فما الذي يدفعهم لمغالبة أنفسهم على التغيير لينعم الله عليهم وهم بعد في نعمة كما ذكر تعالى ..؟؟
ج . هذا يعتمد على مفهوم المسلم للنعمة..فهل النعمة هي كل ما يرتضيه المسلم ويراه مناسبا وموافقا لرغبته..فإن قلنا أن هذه هي النعمة فقد صارت النعمة هي كل زيادة من الله للإنسان في ماله وأملاكه وأولاده وحرثه..لكن ألم يقل الله تعالى:{نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون}المؤمنون..وألم يقل الله{نمدهم في طغيانهم يعمهون} وألم يقل الله {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون}وهل كنوز قارون نعمة أم استدراج وملك فرعون نعمة أم استدراج..لا بل هل مرض أيوب نقمة أم تكريم وهل إلقاء إبراهيم في النار نقمة أم رفعة..إذن فالنعمة بمفهومها الصحيح هي كل ما ينيب ويرجع العبد لله فقد يرجع العبد إلى الله حين الكرب والشدة كما قد يرجع إلى الله حين الرخاء والميسرة وهنا صارت الآية تتكلم عن ابتلاء قد أنعم الله به على عباده ليرجعوا إليه حتى إذا تغيرت نفوسهم بعد ما زكتها محنة الابتلاء أنعم الله عليهم بما يرتضيه الله لهم وبما ترتضيه نفوسهم..
17 قال تعالى{فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم}[الشعراء :63 ].. وقال تعالى في سورة طه{ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى}[سورة طه :77] لماذا تغيرت الصيغة بين الآيتين .. ؟؟؟
ج . الأولى قد جاءت بعمومية القضية أي أن الله نجّا موسى من فرعون أي أعز المؤمنين وأخزى أهل الشرك..أما في الثانية فقد اقتضت هذا الوصف لدخول جزئية جديدة على سياق القصة وهي معيّة الله{قال كلا إن معي ربي سيهدين..فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر ……. الآية}فجاء التصوير القرآني ليناسب بين عظمة الوصف وثقل هذه الجزية أي معية الله تعالى ..(/9)
18 قال تعالى { وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون }[البقرة:51]..وقال تعالى { وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة } [الأعراف: 142] لماذا جاءت الأربعين ليلة مجمل في الأولى لتأتي مفصلة في الثانية .. ؟؟؟
ج . هنالك فرق بين الكمال والتمام، إذ الكمال مرحلة تقبل الزيادة ولا تقبل النقصان ، بينما التمام مرحلة تقبل النقصان ولا تقبل الزيادة وقيل قديما( ما أتم الله شيئا إلا نقص ) لا بل إن طريان النقص على التام شرط تمامه فكأنما قد تم بنقصانه ولو لا النقصان لما قيل فيه تمام..ولنرجع للآية..فالأصل في هذه العدة هو الثلاثون ، ففي البقرة تعرّض الحق سبحانه لقضية لا تتصل بإيمان موسى فقد عرض سبحانه ضلال وكفران قومه { وإذ قال موسى لقومه يا قومي إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل } أما في الأعراف فقد انتقل الحق سبحانه لقضية تمس إيمان موسى مباشرة ألا وهي مسألة رؤية الله{قال رب أرني أنظر إليك}فاقتضى السياق هنا تفصيل المرحلة الإيمانية التي سبقت هذه الإرهاصات الموسوية فجاء ذكر العشرة ليال التي أتم بها الله لموسى ميقاته لتتسع مساحة الإيمان الموسوية بما يحتمل فيض التجلي الإلهي أمام موسى { فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا} .. انتهى(/10)
خواطر متفرقة
التاريخ : 18/07/2006
الكاتب : أبو مهند القمري ... الزوار : 1014
< tr>
• إذا افتقدت الطريق الذي تشعر معه بدفء القرب من الله فهذا يعني أنك على حافة هاويةٍ من الضياع، فتوقف على الفور ولا تواصل السير في دروب الضياع حتى لا تنزلق قدمك في تلك الهاوية السحيقة، واستجمع قوى التوبة والإنابة إلى الله في قلبك لعلك تفلح في التماس الطريق نحو الله والجنة مجدداً، حيث به تكون النجاة ولا نجاة لك إلا به.
• سبحان الله . . ما أعجب تلك النفس البشرية، قد وضُعت لها كافة اللوحات الإرشاد المؤدية بها إلى طريق السلامة دون لبسٍ إو إيهامٍ، وانهمرت عليها الآيات والأحاديث مبيّنة ما فيه خير الأنام، إلا أن النفس البشرية بما فيها من جهالة تأبى إلا أن تعاين بنفسها ما تم تحذيرها منه، فكانت العاقبة هي الضياع والشعور بتخلي العناية الربانية عنها، إذ كيف يلتمس لها العذر بعدما عاينت ببصرها النور فأبت إلا المضي في الظلام، فاللهم عفواً منك ثم عذراً فقد تمت المفاصلة في نفسي بين طرق النجاة والهلاك، فعاملني اللهم بما أنت أهله ولا تعاملني بما أنا أهله، إنك أهل التقوى وأهل المغفرة واغفرلي برحمتك يا أرحم الراحمين.
• مزيد من التعمق في الدنيا يعني المزيد من البعد عن الله والدار الآخرة، فاستدر بنفسك عن هذه الطريق الموحلة التي لن يصيبك من وحلها إلا هوان القلب وعداوة الخلق وحيرة البال وضياع العمر ثم يأتيك الموت على حين غرة وأنت منغمس في كل هذه الألوان من البلايا، فهل تُرى يمكنك الخلاص من هذا التردي في لحظة خاطفة لكي تدرك بنفسك حسن الخاتمة؟! هيهات هيهات حين مناص!! فإن القلب الذي يُثقل بهموم الدنيا لا تجد هموم الآخرة له سبيلاً، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
• للخوف سبب واحد وللأمن سبيل واحد، أما الخوف فإن سببه في المقام الأول عدم سكينة القلب بالله تعالى، إذ أن العبد الذي يسكن قلبه بالأنس بمولاه لا تؤثر فيه حوادث الدنيا مهما عظمت إذ كفى بالله لقلبه مؤنساً، وهل يُفزع القلب المستأنس بربه شيئاً من أمور هذه الدنيا الحقيرة؟! أما سبيل الأمن الأوحد فهو بذل الغالي والنفيس للفوز بالدار الباقية بصدق النية وصواب العمل، إذ أن استشعار رجاء عمار الآخرة يلقي بظلالٍ من الأمن والطمأنينة على نفس العبد خلال أيام عمره القصيرة في هذه الدنيا سريعة الزوال، وهل يعادل النجاة من أهوال يوم القيامة أي نوع من الأمان؟ فاللهم قنا عذابك يوم تبعث عبادك، ونجنا برحمتك من فتن الدنيا وعذاب الآخرة، إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير وأنت سبحانك نعم المولى ونعم النصير.
• إرغام النفس على طاعة الله ومراقبته في السر والعلن تحتاج لعزيمة صادقة وإخلاص قلبٍ لا يتوانى ولا يتيح مجالاً للتردد في هذا الإرغام، ولعل المرء يعاني شيئاً من المشقة في بداية الطريق، إلا أنه بعد تجاوز صعوبة هذه المرحلة سوف يشعر بلذة لا تعدلها لذة، إنها لذة حلاوة الإيمان والأنس بالله تعالى، فإنه حين يلمس دفئهما في قلبه لا يمكنه التفريط فيهما بحال ولو أنّ له الدنيا وما عليها، فاعقد العزم على مواصلة رحلة إذعان النفس وإرغامها على طاعة الله تعالى، ولا تتردد فإن النهاية محفوفة بسعادة لا تعدلها سعادة أبداً.
• من المستحيلات استيعاب أماني طول الأمل خلال ما قسمه الله لنا من قصر العمر، فاجمح زمام نفسك عن مواصلة السير وراء الأوهام، واحرص على ما ينفعك من عملٍ صالحٍ تنجو به يوم القيامة من هول يوم المحشر، واستعن بالله ولا تعجز، فإنما الأمر صبر ساعةٍ يعقبها نعيم لا يحزن المرء بعده أبداً.
• إذا منَّ الله عليك بالبصيرة التي تفرق لك بين أحوال أهل الدنيا الغافلين وأهل الآخرة الناجين، وما ينبغي عليك فعله لتجنب طريق الهالكين والفوز بطريق الفالحين، فخرّ ساجداً لله والهث بحمده أن اصطفاك بهذه البصيرة قبلما تباغتك الخاتمة بسوئها؛ فتهلك مع الهالكين نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
• حياة القلب بطاعة الله نبع من الحياة لكل من يحيط بصاحب هذا القلب من حوله، فهي حياة لنفسه وحياة لأهله وحياة لأصحابه وحياة لمجتمعه الذي يعيش فيه؛ لأنه لو لم يكن يملك قلباً حيّاً ما دلّهم على خيرٍ ينجيهم، ولا حذّرهم من شرٍ قد لا تتجلى لهم عواقبه الوخيمة إلا يوم تبلى السرائر فما لهم من قوة ولا ناصر، فليحمد الله كل من رزقه الله صحبة عبدٍ صالحٍ يملك مثل ذلك القلب الحي.
• من صاحبك لدنياك فكن على حذرٍ فوريٍ منه، فإنه صلاحية صحبته تنتهي فور انقضاء حاجته الدنيوية منك، بل لعله ينقلب عليك عدوّاً وحاسداً لما رآه عليك من نعم الله تعالى، أما من صاحبك لدينك ولم يرغب في دنياك، فاعضض على صحبته بالنواجذ لأن بركتها تمتد إلى قيام الساعة، بل يظلك الله بصحبته في ظلّهِ يوم لا ظلَّ إلا ظلّه.(/1)
• يا ترى هل ما نحياه في هذه الدنيا هو الحقيقة أم أنه الحلم والخيال الذي يسرق أيام عمرنا دون أن نشعر لنواجه على حين غرّة الحقيقة المفزعة التي سوف نستيقظ عليها يوم الفزع الأكبر حين البعث والنشور؟! أكاد أصرخ في كل ما حولي من ديكورات وخلفيات هذا الحلم الذي نعيشه أن انكشفي فما وراءك من أهوال أشد بكثير من إغراءاتك السفيهة _ سريعة الزوال _ والتي لا تورث صاحبها إلا خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
• السم الزعاف الذي يدسه الشيطان في أيام حياتنا هو الغفلة التي تحجب العقل عن التفكر في العواقب والقلب عن استشعار مراقبة الخالق؛ وبالتالي تنساق كافة أعضاء الجسد تباعاً لمؤثرات الشهوة في ظل التأثير على يقظة العقل والقلب، فالعين بالنظر والأذن بالسمع واللسان بالنطق والفرج يصدق ذلك أو يكذبه، فإذا كان يوم القيامة وجد العبد حصاد عمره جبالاً من الأوزار ينأى عن حملها كانت الغفلة وحدها السبب فيها، فتحت تأثيرها وقعت منه المعصية !! وتحت تأثيرها نسي ما كان منه من فعل تلك المعصية !! وتحت تأثيرها غفل عن أن الله يحصي عليه كل معصية!! حتى تراكمت منه وصارت كالجبال!! فانتزع زمام نفسك من رحى الدوران في تلك الغفلة، حتى تسعد بنجاة لا يعرف لها طريقاً أحد من هؤلاء الغافلين، واعلم أنه ما أنت إلا عدد وكل يوم يمر عليك ينقص من هذا العدد، حتى تجد نفسك في نهاية المطاف بين يدي من لا تخفى عليه خافية.
• اللذة العاجلة مطب للنفس البشرية، والسعيد من استطاع تطويع هذه الرغبة حسبما يرضي الله تعالى، حتى يصل بها إلى مرتبة استشعار حلاة الإيمان وزينته في قلبه، وبغض الكفر والفسوق والعصيان، وحيينها فقط يمكنه بلوغ مرتبة الراشدين.
• إذا أردت النجاة بصدق فتعامل في جميع شؤون حياتك من منطلق الضعف مع الله والمذلة له وتسليم جميع الأمور إليه سبحانه، والجأ من حولك إلى حوله ومن قوتك إلى قوته، ومن ضعفك وعجزك إلى سلطانه وقدرته؛ فإنك حيينها سوف تستشعر دفء القرب من الله وقوة الصلة به، وحلاة الشوق والحنين إليه، وإياك ثم إياك أن تغتر بنفسك وتظن فيها القدرة على فعل أي شيء دونما عونه ومشيئته، فإنك بذلك تؤذن بهلاك نفسك وإلقائها في وادٍ سحيقٍ من المذلة والمهانة يصعب معه استشعار أنك حتى ولو ذبابة أو أن لك قيمة أحقر الذباب!!
• عجيبة تلك النفس التي لا حدود لتمردها، فتراها حين تستشعر العجز والحرمان جزعة خائفة تلتمس النجاة في أي اتجاه، وتراها حين تستشعر الغنى والمنعة متمردة طاغية تستحقر كل ما حولها ولا تذعن لموعود الله، وهي بين الحالتين مدَّاً وجزراً، ولا سبيل لإنماء خيّرها وتقليل شرِّها سوى بإرغامها على الإذعان لصوت الحق الذي يحدو بها إلى رحاب الله تعالى، ففي ظلال رحابه سوف يتطاير شرها ويتكاثر خيرها حتى لا يكاد يعرف الشيطان لها سبيلاً، وحيينها فقط سوف تسعد بها ولها الحياة، وسوف يزداد شوقها جنَّات الله.
• الله أرحم الراحمين، فعطاؤه رحمة ومنعه رحمة وإمهاله رحمة وابتلاؤه رحمة، فكم أعطانا ليهب لنا الأمل، وكم منعنا لينجينا من الزلل، وكم أمهلنا لعلنا نسترجع، ولم يبتلينا إلا لكي نتوب ونرجع، فكل أمره مع عباده رحمة، وكل شأنه في تدبير أمورنا رحمة فوق رحمة، فما أقسى هذه القلوب التي ابتعدت عن الالتصاق بمنبع هذه الرحمة!! وما أشد جرم هذه النفوس التي أبت الاستجابة لداعي هذه الرحمة، وذلك حينما فتح أمامها أبواب التوبة ليرحمها من لهيب ذنوبها ومعاصيها، فرحماك ربي ثم عوداً إذ كيف نتجافى عن رحمتك ونحن أحوج ما نكون إليها؟! وكيف نعرض عنك وقد فتحت أمامنا أبوابها وأنت الغني عنَّا، فاغفر اللهم زلتنا واغسل حوبتنا واسلل سخائم قلوبنا وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة وهب لنا من رحمتك ما ينجينا من شر نفوسنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
• بين الدنيا والآخرة مأساة تتكرر وفجيعة تتوالى، فتجد الدنيا في إدبارٍ دائمٍ وعلى الرغم من ذلك تجد الخلق يهرولون وراءها ويبذلون مهجتهم في سبيل تحصيلها، في حين أن الآخرة في إقبالٍ آزفٍ غير أنهم لا يكترثون بها!! وبين دفتي رحيل الدنيا وإقبال الآخرة طامة كبرى وآزفة تجعل القلوب لدى الحناجر كاظمين، فهل من مبصر لهذه الحقيقة قبل فوات الأوان؟! وهل من منتزع لنفسه من براثن الغفلة قبلما يحل البلاء الهوان ؟! فإن كل مبررات الغفلة ليس لها يوم القيامة أي حظ أو نصيب، وإنما تحل محلها فقط الحسرة والندامة!! فهل من مسترجع؟!(/2)
• بداية طريق الزلل خطوة تتغافل فيها عن تقوى الله، وتهون الأمر على نفسك مبرراً لها التجاوز بأي وجه من الوجوه، ومن ثم يعرف الشيطان كيف ينتقل بك من خطوة إلى أخرى حتى تجد نفسك في نهاية المطاف قد وقعت في هاوية سحيقة من الانزلاق!! فاجمح زمام نفسك عن غيها بكثرة ذكر الموت وما يتلوه من ظلمة القبر وفوات فرصة الحياة كلها واستحالة عودة أي لحظة منها لتدارك التوبة!! واعلم أن صبر ساعة الدنيا يهيئك برحمة الله للفوز بنعيم الآخرة الذي لا ينقضي، فاستجمع قوى نفسك واعزمبها على تقوى الله تكن من المفلحين.
• أياً كانت عوامل الإغراء متدنية فيما حرّم الله من معاصي؛ فإن الشيطان كفيل بأن يزينها لك ويجعلها في عينك من أعظم اللذات التي يمكنك الحصول عليها إذا أنت أتحت له فرصة الدخول إلى قلبك على حين غفلة من تقوى الله تعالى مكَّنته من الوسوسة إلى نفسك، كما أن الشيطان كفيل أيضاً بأن يجعل لذَّة الشهوة الحلال حقيرة وضيعة في عينك مهما بلغت مغرياتها فقط لأنها حلال، وهو لا يريد لك إلا الهلاك بالحرام ومزيد من الزهد في الحلال، حتى يسهل عليه تدميرك بمعصية الله، فكن يقظاً لخواطر نفسك ولا تنأى بها عن مراقبة الله عز وجل حتى تكون من الناجين.
• وقود النفس على طريق مواصلة تقوى الله تعالى يتمثل في أهمية المراقبة، وتجديد التوبة وكثرة الاستغفار ودوام ذكر الله تعالى على كل حال ومخالطة الصالحين من عباد الله تعالى، والبعد عن مواطن الشهوات والشبهات، وأخيراً كثرة ذكر الموت والبلى.
• من استأنس بالله كفاه، ومن أعرض عنه ابتلاه، وأقل لون من ألوان هذا الابتلاء هو استشعار الوحشة وإصابة القلب بالضيق والقلق والشعور بالخوف والهلع وعدم الطمأنينة بحال.
• ما وجدت أكثر من حب المال فتكاً بالنفوس وتدميراً للعلاقات ولو كانت بين متحابين، حيث أن سحر تأثيره على النفوس لاسيما الضعيفة منها أقوى بكثير من وقع السحر على المسحورين!! فرحماك ربي . . اجعل الدنيا في أيدينا ولا تجعلها في قلوبنا حتى لا نهلك مع الهالكين.
• التقييد عن فعل الخيرات علامة عدم التوفيق من الله، أما سألت نفسك لم ذاك ؟!
• لابد من وضع خارطةٍ لنفسك، توضح لك معالم الطريق نحو النجاة بها إلى رضوان الله تعالى، إذ ستقف من خلال هذه الخارطة على مواطن الضعف والخلل في نفسك فتجتنب أسبابهما، وستستشعر مواطن الخير فيها فتنمي مصادرها، وبذا تكون النجاة بعد توفيق الله تعالى وبحمده. ...(/3)
خواطر محب
أحمد بن سليمان ـ بنغازي ـ الشبكة
إلى أخي في الله
أخي : نصرة الدين تبدأ من عندك .
أخي : اعتقد بيقين جازم لا يداخله شك بان لا اله إلا الله واعلم أن هذا حق الله عليك .
أخي : إياك واظلم الظلم وهو أن تجعل لله ندا .
أخي : اقلع عن الذنب واعلم بان بني إسرائيل منعوا القطر بسبب ذنب رجل في سبعين ألف رجل .
أخي : اتبع سنة نبيك صلي الله عليه وسلم واعلم أن المسلمين في معركة احد لم ينتصروا بسبب مخالفة لأمر رسولنا صلى الله عليه وسلم.
أخي : تعلم فان العلم مفتاح السعادة .
أخي : كن مخلصا صادقا في أقوالك وأفعالك وحركاتك وسكناتك .
أخي : تخلق بالخلق الحسن فإن الخلق الحسن أساس ثبات الأمم على وجه الأرض.
أخي : إياك والقنوط فإن القنوط من شيم الضالين ( ومن يقنط من رحمة الله إلا القوم الضالون)
أخي : أدعو إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة واعلم أن الدعوة سائرة بك أو بدونك فسأل الله أن يشرفك بالدعوة لدينه .
أخي : كن أنت الداعي لا المدعو أنت المنادي لا المنادى أنت الذي تحترق لكي تنير للآخرين لا العكس.
أخي : اصرف تفكيرك واهتمامك لهذا الدين .
أخي : اجعل كل حركة كل سكنة كل أكلة كل شربة كل نومة كل عمل في دينك ودنياك لله كي تحصد الأجر في كل وقت وحين .
أخي : اذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار ( أصلح الله حالك حافظ على أذكار الصباح والمساء والنوم وغيرها ) يقول رسولنا صلي الله عليه وسلم (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه أو عالم ومتعلم ) لا أريد أن اسرد عليك فوائد الذكر وروحانية الذاكرين فكتب السنة مليئة بهذا ولا يسعني المجال لذكرها .
أخي : استغل مواسم الطاعات والنفحات الربانية وتزود من الأجر ما استطعت وبما أوتيت من قوة.
أخي : تعلم العلم التطبيقي واجتهد فيه وكن فيه مميزا كي تصنع لنا مجدا ولكي تشارك في عزة هذا الدين ورقيه واعلم أننا امة اقرأ .
أخي : يقول الدكتور عائض القرني في كتابه الدرة (لا تحزن) : ( الذكي الأريب يحول الخسائر إلي أرباح والتافه الرعديد يجعل من المصيبة مصيبتين ) المعني حول كل مشكلة كل معضلة كل محنة واستفد منها في تنمية مواهبك وصقل نفسك ولا تسمح لهذه المنح بتعكير صفوك ، واعلم أخي أن رسولنا صلي الله عليه وسلم يقول : (عجبا لأمر المؤمن فإن أمره كله له خير إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له وما ذالك إلا للمؤمن ) أو كما قال . فعجبا لك بعد هذا الحديث أن تسمح بالمنغصات أن تعكر صفوك .
أخي : عش واقعك وعش يومك ولا تلتفت للخلف فإن النظر إلى الخلف يشعرك بالندم ولن تقدم شيئا.
أخي : الله الله في والديك وبرهما فهما سر نجاحك و هما اللذان من أجلهما تكرم من الله أسال الله لهما الجنة وكل خير في الدنيا والآخرة واعلم ان هذا من اقل حقوقهم عليك .
أخي : لا تستعجل بقطف الثمرة قبل اكتمال نضوجها كي لا تأكلها مرة
أخي : ضع منهجية لكل ما تقدم عليه من علم او عمل وكن منظما ولا تكن عشوائيا ارتجاليا في ما تقدم عليه .
أخي : أخي لا تأكل كثيرا , فتنام كثيرا , فتخسر كثيرا ويفوتك خير كثير وتحصد هما كثيرا .
أخي : لا تستمع لكلام المثبطين المحبطين الذين لا يفيدون ولا يستفيدون ودوا لو تكون مثلهم فتكونون في إضاعة الوقت سواء.
أخي : تخير الصاحب الذي يعينك علي الخير ويدلك عليه الصاحب الذي إذا ذكرت الله أعانك وإذا نسيت ذكرك الصاحب الذي يذكرك بعيوبك لأجل اصلاحها لا ليعيرك بها الصاحب الذي إذا رآك أقدمت على أمر فيه مصلحة للبلاد والعباد أعانك عليه وشجعك ولو بالكلمة الطيبة ولو بالدعوة الصالحة في ظهر الغيب.
أخي : لا تصحب التافه الذي لا يعمل ولا يدع من يعمل التافه الذي يقاس عليه قول القائل (ودت الزانية أن النساء كلهن زواني) الصاحب الذي لا يعين علي الخير
الصاحب الذي لا يريدك أن تبدع ولا تنفع ولا تشفع ولا تقدم لا بل علي العكس تماما يريدك صفرا كي يستريح يريدك أن تكون في الحضيض معه لأن الثرى والثريا لا يلتقيان من الإجحاف أن نقول هذا أو نفكر فيه.
أخي : أخي إياك أن تصحب الحاسد .
أخي : افعل الخير وان لم تستطع دل عليه فان الدال علي الخير كفاعله .
أخي : لا تطلق لسانك بالذم في اخوانك واحمل أفعالهم على المحمل الحسن والتمس لأخيك سبعين عذرا واعلم أن هذا حق من حقوقه عليك .
أخي : الق باللائمة علي نفسك في التصرفات التي تراها مشينة من اخوانك وقل إن هذا بسبب ذنوبي كي لا تحمل علي اخوانك واجعل نصب عينيك قول القائل : (ما أذنبت ذنبا إلا وجدت ذالك في خلق دابتي وزوجتي ).
أخي : انتزع الأنانية من نفسك فإن لم تستطع فجاهد نفسك وهذبها وعودها علي الحب والبذل ونكران الذات واعلم أن هذا لا يتأتى بين يوم وليلة ولكن مع المصابرة والمكابدة والمجاهدة كل شيء يلين بإذن الله(/1)
أخي : (اللين ما كان في شيء إلا زانه وما انتزع من شيء إلا شانه ) المعني أن تكون لين الجانب طيب المعشر هينا سمحا في تعاملاتك مع اخوانك ومع الناس اللين في الخطاب والبسمة علي المحيا هما مفتاح قلوب الناس .
أخي : وزع ابتسامتك العريضة الرائعة علي الخلق واعلم أن المستفيدين من هذا هو أنت تجد ذالك في نفسك حينما وذالك تيمنا بقول رسولنا صلي الله عليه سلم : (خير الأعمال إدخال سرور علي قلب مسلم ) و( تبسمك في وجه أخيك صدقة ) واعلم انك لو قمت بذالك لوجدت السرور في نفسك وهذا من أعظم نعم الله عليك.
أخي : لا تنتصر لنفسك واجعل همك تزكيتها وتربيتها فقد افلح من زكاها وقد خاب من دساها واجعله من دعائك ربنا آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها.
أخي : لا تستسلم للعقبات التي تواجهك في دراستك , في عملك , في دعوتك واعلم ان هذه ابتلاءات لابد منها وكل يبتلا حسب إيمانه .
أخي : اعمل بالقرآن الذي بين جنبيك وأدعو الله أن يجعله حجة لك لا عليك .
أخي : هذه هدية مني إليك اقبلها من أخ لك محب مشفق يريد لك الجنان بلا حساب إذا أعطيت فاشكر وإذا منعت فاصبر وإذا ابتليت استغفر وجعلك الله من الذين قال فيهم في كتابه العزيز( إنما يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب ) .
أخي : تعال ضع يدك في يدي وبنا ننطلق ونخدم هذا الدين فالمرء قليل بنفسه كثير بإخوانه دعنا نتكاثف ونكثر السواد في خدمة الدين بإخلاص ونجعلها نصب أعيننا كي نحقق كل ما نصبو إليه .
أخي : غض الطرف عن عيبي وان شئت فأصلحه ولا تجعله عائقا بيني وبينك وبنا فلنرتقي ونسمو ونرتفع ولندع سفاسف الأمور .
أخي : هذه بعض الخواطر التي وددت أن تلقي النظر عليها اسأل الله أن تجد صداها عندك وأسأل الله القبول وما كان من صواب فمن الله ، وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه براء .
إن أصبت فذاك دين في عنقي ** وإن أخطأت فأنتم أهل أعذار
وصلى الله وسلم علي سيدنا محمد وعلي اله وصخبه ومن تبعه واقتفى إثره إلي يوم الدين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .(/2)
خواطر والأفكار مبدأ كل علم نظري(قاعدة جليلة) / ابن القيم
مبدأ كل علم نظري وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار ، فإنها توجب التصورات ، والتصورات تدعو إلى الإرادات ، والإرادات تقتضي وقوع الفعل وكثرة تكراره تعطي العادة ، فصلاح الخواطر بأن تكون مراقبة لوليها وإلهها صاعدة إليه دائرة على مرضاته ومحابه ، فإنه سبحانه به كل صلاح ، ومن عنده كل هدي ، ومن توفيقه كل رشد
ومن توليه لعبده كل حفظ ، ومن توليه وإعراضه عنه كل ضلال وشقاء ، فيظفر العبد بكل خير وهدي بقدر إثبات عين فكرته في آلائه ونعمه وتوحيده وطرق معرفته وطرق عبوديته وإنزاله إياه حاضراً معه مشاهداً له ناظراً إليه رقيباً عليه ، مطلعاً على خواطره وإرادته وهمته ، فحينئذ يستحيي منه ويجله أن يطلعه منه على عورة يكره أن يطلع عليه مخلوق مثله ، أو يرى في نفسه خاطراً يمقته عليه .
فمتى أنزله ربه هذه المنزلة منه ورفعه وقربه منه ، وأكرمه واجتباه ووالاه وبقدر ذلك يبعد عنه الأوساخ والدناءات ، والخواطر الرديئة والأفكار الدنيئة ، كما أنه كلما بعد منه وأعرض عنه قرب من الأوساخ والدناءات والأقذار ، ويقطع عنه جميع الكمالات ويتصل بجميع النقائض ، فالإنسان خير المخلوقات إذا تقرب من بارئه والتزم أوامره ونواهيه وعمل بمرضاته وآثره على هواه ، وشر المخلوقات إذا تباعد عنه ولم يتحرك قلبه لقربه وطاعته وابتغاء مرضاته ، فمتى اختار التقرب إليه وآثره على نفسه وهواه فقد حكم قلبه وعقله وإيمانه على نفسه وشيطانه ، وحكم رشده على غيه وهداه على هواه ، ومتى اختار التباعد منه فقد حكم نفسه وهواه وشيطانه على عقله وقلبه ورشده .
واعلم أن الخطرات والوساوس تؤدي متعلقاتها إلى الفكر فيأخذها الفكر فيؤديها إلى التذكر ، فيأخذها الذكر فيؤديها إلى الإرادة ، فتأخذها الإرادة فتؤديها إلى الجوارح والعمل ، فتستحكم فتصير عادة ، فردها من مبادئها أسهل من قطعها بعد قوتها وتمامها ، ومعلوم أنه لم يعط الإنسان إماتة الخواطر ولا القوة على قطعها ، فإنها تهجم عليه هجوم النفس ، إلا أن قوة الإيمان والعقل تعينه على قبول أحسنها ورضاه به ومساكنته له ، وعلى رفع أقبحها وكراهته له ونفرته منه كما قال الصحابة: (( يا رسول الله إن أحدنا يجد في نفسه ما لئن يحترق حتى يصير حممة أحب إليه أن يتكلم به ، فقال : أوقد وجدتموه ؟ قالوا : نعم ، قال : ذاك صريح الإيمان )) .
وفي لفظ : (( الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة )) .
وفيه قولان : أحدهما أن رده وكراهته صريح الإيمان .
والثاني : أن وجوده وإلقاء الشيطان له في النفس صريح الإيمان .
فإنه إنما ألقاه في النفس طلباً لمعارضة الإيمان وإزالته به ، وقد خلق الله النفس شبيهة بالرحى الدائرة التي لا تسكن ولا بد لها من شيء تطحنه ، فإن وضع فيها حب طحنته ، وإن وضع فيها تراب أو حصي طحنته .
فالأفكار والخواطر التي تجول في النفس هي بمنزلة الحب الذي يوضع في الرحى ولا تبقى تلك الرحى معطلة قط ، بل لا بد لها من شيء يوضع فيها ، فمن الناس من تطحن رحاه حباً يخرج دقيقاً ينفع به نفسه وغيره ، وأكثرهم يطحن رملاً وحصياً وتبناً ونحو ذلك ، فإذا جاء وقت العجن والخبز تبين له حقيقة طحينه .
فإذا دفعت الخاطر الوارد عليك اندفع عنك ما بعده ، وإن قبلته صار فكراً جوالاً ، فاستخدم الإرادة فتساعد هي والفكر على استخدام الجوارح ، فإن تعذر استخدامها رجعا إلى القلب بالمني والشهوة ، وتوجهه إلى جهة المراد .
ومن المعلوم أن إصلاح الخواطر أسهل من إصلاح الأفكار ، وإصلاح الأفكار أسهل من إصلاح الإرادات ، وإصلاح الإرادات أسهل من تدارك فساد العمل ، وتداركه أسهل من قطع العوائد ، فأنفع الدواء أن تشغل نفسك بالفكر فيما يعنيك دون ما لا يعنيك ، فالفكر فيما لا يعني باب كل شر .
ومن فكر فيما لا يعنيه فاته ما يعنيه واشتغل عن أنفع الأشياء له بما لا منفعة له فيه ، فالفكر والخواطر والإرادة والهمة أحق شيء بإصلاحه من نفسك ، فإن هذه خاصتك وحقيقتك التي تبتعد بها أو تقرب من إلهك ومعبودك الذي لا سعادة لك إلا في قربه منك ورضاه عنك ، وكل الشقاء في بعدك عنه وسخطه عليك .
ومن كان في خواطره ومجالات فكره دنيئاً خسيساً لم يكن في سائر أمره إلا كذلك .
وإياك أن تمكن الشيطان من بيت أفكارك وإرادتك فإنه يفسدها عليك فساداً يصعب تداركه ، ويلقي إليك أنواع الوساوس والأفكار المضرة ، ويحول بينك وبين الفكر فيما ينفعك ، وأنت الذي أعنته على نفسك بتمكينه من قلبك وخواطرك فملكها عليك ، فمثالك معه مثال صاحب رحى يطحن فيها جيد الحبوب فأتاه شخص معه حمل تراب وبعر وفحم وغثاء ليطحنه في طاحونته ، فإن طرده ولم يمكنه من إلقاء ما معه في الطاحون استمر على طحن ما ينفعه ، وإن مكنه في إلقاء ذلك في الطاحون أفسد ما فيها من الحب وخرج الطحين كله فاسداً .(/1)
والذي يلقيه الشيطان في النفس لا يخرج فيما كان ودخل في الوجود لو كان على خلاف ذلك وفيما لم يكن لو كان كيف كان يكون ، أو فيما يملك الفكر فيه من أنواع الفواحش والحرام ، أو في خيالات وهمية لا حقيقة لها ، وإما في باطن أو فيما لا سبيل إلى إدراكه من أنواع ما طوي عنه علمه فيلقيه في تلك الخواطر التي لا يبلغ منها غاية ولا يقف منها على نهاية ، فيجعل ذلك مجال فكره ومسرح وهمه .
وجماع إصلاح ذلك أن تشغل فكرك في باب العلوم والتصورات بمعرفة ما يلزمك من التوحيد وحقوقه وفي الموت وما بعده إلى دخول الجنة والنار ، وفي آفات الأعمال وطرق التحرز منها ، وفي باب الإرادات والعزوم أن تشغل نفسك بإرادة ما ينفعك إرادته وطرح إرادة ما يضرك إرادته ، وعند العارفين أن تمني الخيانة و إشغال الفكر والقلب بها أضر على القلب من نفس الخيانة ، ولا سيما إذا فرغ قلبه منها بعد مباشرتها ، فإن تمنيها يشغل القلب بها ويملؤه منها ويجعلها همه ومراده .
وأنت تجد في الشاهد أن الملك من البشر إذا كان في بعض حاشيته وخدمه من هو متمن لخيانته مشغول القلب والفكر بها ممتلئ منها ، وهو مع ذلك في خدمته وقضاء أشغاله ، فإذا اطلع على سره وقصده مقته غاية المقت وأبغضه وقابله بما يستحقه ، وكان أبغض إليه من رجل بعيد عنه جنى بعض الجنايات ، وقلبه وسره مع الملك ، غير منطو على تمني الخيانة ومحبتها والحرص عليها ، فالأول يتركها عجزاً واشتغالاً بما هو فيه ، وقلبه ممتلئ بها ، والثاني يفعلها وقلبه كاره لها ليس فيه إضمار الخيانة ولا الإصرار عليها ، فهذا أحسن حالاً وأسلم عاقبة من الأول .
وبالجملة فالقلب لا يخلو قط من الفكر إما في واجب آخرته ومصالحها ، وإما في مصالح دنياه ومعاشه ، وإما في الوساوس والأماني الباطلة والمقدرات المفروضة .
وقد تقدم أن النفس مثلها كمثل رحى تدور بما يلقي فيها ، فإن ألقيت فيها حباً دارت به ، وإن ألقيت فيها زجاجا وحصى و بعراً دارت به ، والله سبحانه هو قيم تلك الرحى ومالكها ومصرفها وقد أقام لها ملكاً يلقي فيها ما ينفعها فتدور به ، وشيطانياً يلقي فيها ما يضرها فتدور به ، فالملك يلم بها مرة ، والشيطان يلم بها مرة ، فالحب الذي يلقيه الملك إبعاد بالخير وتصديق بالوعد ، والحب الذي يلقيه الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالوعد ، والطحين على قدر الحب ، وصاحب الحب المضر لا يتمكن من إلقائه إلا إذا وجد الرحى فارغة من الحب النافع ، وقيمها قد أهملها وأعرض عنها ، فحينئذ يبادر إلى إلقاء ما معه فيها .
وبالجملة فقيم الرحى إذا تخلى عنها وعن إصلاحها وإلقاء الحب النافع فيها وجد العدو السبيل إلى إفسادها وإدارتها بما معه ، وأصل صلاح هذه الرحى بالاشتغال بما يعنيك ، وفسادها كله في الاشتغال بما لا يعنيك ، وما أحسن ما قال بعض العقلاء : (( لما وجدت أنواع الذخائر منصوبة غرضاً للمتالف ، ورأيت الزوال حاكماً عليها مدركا لها انصرفت عن جميعها إلى ما لا ينازع فيه ذو الحجى أنه أنفع الذخائر وأفضل المكاسب وأربح المتاجر - والله المستعان )) .
قال شقيق بن إبراهيم : (( أغلق باب التوفيق عن الخلق من ستة أشياء : اشتغالهم بالنعمة عن شكرها ، ورغبتهم في العلم وتركهم العمل ، والمسارعة إلى الذنب وتأخير التوبة ، والاغترار بصحبة الصالحين وترك الاقتداء بفعالهم ، وإدبار الدنيا عنهم وهم يتبعونها ، وإقبال الآخرة عليهم وهم معرضون عنها )) .
قلت : وأصل ذلك عدم الرغبة والرهبة ، وأصله ضعف اليقين ، وأصله ضعف البصيرة ، وأصله مهانة النفس ودناءتها واستبدال الذي هو أدني بالذي هو خير ، وإلا فلو كانت النفس شريفة كبيرة لم ترض بالدون ، فأصل الخير كله بتوفيق الله ومشيئته وشرف النفس ونبلها وكبرها .
وأصل الشر خستها ودناءتها وصغرها قال تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } أي : أفلح من كبرها وكثرها ونماها بطاعة الله ، وخاب من صغرها وحقرها بمعاصي الله
فالنفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء إلا بأعلاها وأفضلها وأحمدها عاقبة ، والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات وتقع عليها كما يقع الذباب على الأقذار ، فالنفس الشريفة العلية لا ترضى بالظلم ولا بالفواحش ولا بالسرقة والخيانة لأنها أكبر من ذلك وأجل ، والنفس المهينة الحقيرة الخسيسة بالضد من ذلك فكل نفس تميل إلى ما يناسبها ويشاكلها
وهذا معنى قوله تعالى : { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ } أي : على ما يشاكله ويناسبه ، فهو يعمل على طريقته التي تناسب أخلاقه وطبيعته .
وكل إنسان يجري على طريقته ومذهبه وعادته التي ألفها وجبل عليها ، فالفاجر يعمل بما يشبه طريقته من مقابلة النعم بالمعاصي ، والإعراض عن المنعم . والمؤمن يعمل بما يشاكله من شكر المنعم ومحبته والثناء عليه والتودد إليه والحياء منه والمراقبة له وتعظيمه وإجلاله .
الفوائد ص224-230(/2)
خواطرُ المطر
د. محمد عمر دولة*
ما أجْمَلَ زَخاتِ المطر.. حين تسقي الأرضَ العطشى.. وتملأ المزارعَ والمساربَ والدُّروبَ.. بِخَيرِها وبَرَكتِها!
إنَّ الماءَ نعمةٌ عظيمةٌ.. من نِعَمِ الله علينا، فهو أساسُ الحياةِ، كما قال الله عزَّ وجلَّ: (وجَعَلْنا من الماءِ كلَّ شيءٍ حي).[1] وقد امتنَّ الله بالماءِ على عبادِه، فقال جلَّ جلاله: (أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزنِ أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أُجاجاً فلولا تشكرون).[2] وقال تعالى: (قل أرأيتم إنْ أصبحَ ماؤكم غَوْراً فمن يأتيكم بماءٍ مَعِين).[3] وقد سَمَّى القرآنُ الغيثَ رحمةً، قال ابنُ كثير رحمه الله: "يذكر تعالى نِعَمَه على خلقِه في إرسالِه الرياحَ مُبشِّراتٍ بين يدي رَحْمته بمجيء الغيث عَقِبَها؛ ولهذا قال تعالى: (ولِيُذِيقَكم مِن رَحْمَتِه): أي المطر الذي ينزله؛ فيحيي به العِبادَ والبلاد".[4]
تذكَّرتُ قولَ الله عزَّ وجل: (وترى الأرضَ هامِدةً فإذا أنزلْنا عليها الماءَ اهتزَّتْ ورَبَتْ وأنبَتَتْ من كلِّ زَوجٍ بَهِيج)[5].. وقَطراتُ المطرِ تنهملُ من السماء؛ لِتَنشرَ البَهجةَ والسعادةَ والفرحَ والسُّرورَ.
وما أحسنَ وقعَ الآياتِ على القلوب.. حين تُبصِرُ تَمثُّلَ القرآنِ في الآفاقِ والأنفُس.. فهي أشْبَهُ في آثارِها وثِمارِها.. بتدفُّقِ الأمطارِ على الأشجارِ والبساتين والأزهار.
إنَّ قُلُوبَنا بدون ماءِ الوحي.. أشْبَهُ بالأرضِ المجدِبة.. والصحراءِ القاحلة.. حتى إذا سُقِيَت بالقُرآنِ والسُّنة؛ أيْنَعَتْ وأزْهَرَت وأثْمَرَت! وصارت مثلَ الحدائقِ الغَنَّاء، والبَساتين الفَيْحاء!
فالقُلوبُ.. مثل الأرضِ.. حين تَهمُد وتَيبَسُ وتَموت.. ثم تهتزُّ برحمةِ الله وتربو وتُنبِتُ، قال القرطبي رحمه الله: "(هامدة) يابسة لا تنبت شيئا، قاله ابن جريج، وقيل: دارسة، والهمود: الدروس… وقال شمر: همودُ الأرض ألا يكون فيها حياةٌ ولا نبتٌ ولا عُودٌ ولم يُصِبْها مَطر… (فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت): أي تحركت، والاهتزازُ: شدة الحركة، يقال: هززتُ الشيءَ فاهتزَّ: أي حَرَّكْتُه فتحرَّك، وهزَّ الحادي الإبلَ هزيزاً فاهتزَّتْ هي: إذا تحرَّكَت في سَيرِها بحدائه… فالأرضُ تَهتَزُّ بالنبات؛ لأنَّ النباتَ لا يخرجُ منها حتى يُزِيلَ بعضَها من بَعضٍ إزالةً خفيفةً... (وربَت) أي: ارتفَعت وزادت... (وأنبَتت): أي أخرَجَت (من كلِّ زوجٍ) أي لونٍ (بَهِيجٍ): أي حسن، عن قتادة: أي يبهج من يراه، والبهجة: الحسن، يقال: رجل ذو بهجة، وقد بَهُج بالضم بَهاجة وبهجة: فهو بَهِيجٌ، وأبْهَجَنِي: أعجَبنِي بِحُسنِه".[6]
وقد ضَربَ القرآنُ المثلَ بالمطرِ.. على بعثِ الحياةِ في الأرضِ الهامدة والبلدة الميتة، فقال عزَّ وجل: (إنَّ في خَلقِ السموات والأرضِ واختلافِ الليلِ والنهارِ والفُلكِ التي تجري في البحرِ بِما يَنفَعُ الناسَ وما أنزلَ الله من السماءِ من ماءٍ فأحيا به الأرضَ بعد موتِها وبثَّ فيها من كلِّ دابةٍ وتصريفِ الرياحِ والسحابِ المسخَّر بين السماءِ والأرضِ لآياتٍ لقوم يعقلون).[7] وقال جلَّ جلالُه: (والله أنزلَ من السماءِ ماءً فأحيا به الأرضَ بعد مَوتِها إنَّ في ذلك لآيةً لقومٍ يسمعون).[8] وقال تعالى: (ولئن سألتَهم مَن نَزَّلَ من السماءِ ماءً فأحيا به الأرضَ من بعد موتِها ليقولُنَّ الله قل الحمدُ لله بل أكثرُهم لا يعقلون).[9] وقال سبحانه: (وآيةٌ لهم الأرضُ الميتةُ أحيَيْناها وأخرَجْنا منه حَباًّ فمنه يأكلون).[10]
وقد جعلَ الله عزَّ وجلَّ انبعاثَ النباتِ من الأرض المواتِ عند المطر دليلا على بَعثِ الناسِ بعد الموت، كما قال تعالى: (ونَزَّلْنا مِن السماءِ ماءً مُبارَكاً فأنبَتْنا به جناتٍ وحَبَّ الحصيد والنخلَ باسقاتٍ لها طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقاً للعِباد وأحْيَيْنا به بَلدَةً مَيْتاً كذلك الخروج).[11] وقال جلَّ جلالُه: (والله الذي أرسلَ الرياحَ فتثيرُ سَحاباً فسُقناه إلى بلدٍ مَيتٍ فأحيَينا به الأرضَ بعد موتِها كذلك النشور).[12] وقال تعالى: (يُخرِجُ الحيَّ من الميتِ ويُخرِجُ الميتَ من الحيِّ ويُحيِي الأرضَ بعد مَوتِها وكذلك تُخرَجون).[13](/1)
وسبحان الله.. أيحتاج الناسُ إلى دليلٍ.. على انبِعاثِ الحياةِ.. بعد المماتِ.. وهم يرونَ ما في هذا المطرِ المتدفِّق من السماءِ.. من بالخيرِ والنماء؟! فهذا أمرٌ مُشاهَدٌ في الآفاقِ والأنفُسِ على السواء. قال ابنُ كثير رحمه الله: "وقوله: (وترى الأرضَ هامِدةً) هذا دليلٌ آخر على قُدرتِه تعالى على إحياءِ الموتى كما يحيي الأرضَ الميتة الهامدة: وهي المقحلة التي لا ينبت فيها شيء، وقال قتادة: غبراء متهشمة، وقال السدي: ميتة (فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج): أي فإذا أنزل الله عليها المطر (اهتزت) أي تحركت بالنبات وحَيِيَت بعد موتها، (ورَبت): أي ارتفعت لما سكن فيها الثرى؛ ثم أنبتت ما فيها من الألوان والفُنونِ مِن ثِمارٍ وزُرُوعٍ وأشتاتِ النباتات في اختلافِ ألوانِها وطُعُومِها وروائحِها وأشكالِها ومَنافعِها؛ ولهذا قال تعالى: (وأنبتَتْ مِن كلِّ زَوجٍ بَهِيج): أي حسن المنظر طيِّب الريح. وقوله: (ذلك بأنَّ الله هو الحقُّ): أي الخالقُ المدبِّرُ الفعَّال لِما يشاء (وأنه يحيى الموتى) أي كما أحيا الأرض الميتة وأنبت منها هذه الأنواع؛ (إنَّ الذي أحياها لَمُحْيِي الموتى إنه على كلِّ شيءٍ قدير".[14]
فعَجباً.. لِعَبدٍ لا يُذكِّرُه نزولُ المطرِ.. برحمةِ الله البالغةِ في بعثِ الحياة.. من الماءِ! ولا يدفعُه ذلك إلى اليقين بالبعث بعد الموت (وإنْ تَعجَبْ فعَجَبٌ قولُهم أئذا كنَّا تُراباً أئنا لَفِي خَلْقٍ جديد).[15] قال ابن الجوزي رحمه الله: "إنَّ الله تعالى دلَّهم على إحيائه الموتى بإحيائه الأرض؛ فقال تعالى: (وترى الأرضَ هامدة)".[16] وقال ابنُ القيم رحمه الله: "جعلَ الله سُبحانه إحياءَ الأرضِ بعد موتِها نظيرَ إحياءِ الأمواتِ، وإخراجَ النباتِ منها نظيرَ إخراجِهم من القُبور، ودلَّ بالنظيرِ على نَظيرِه، وجعلَ ذلك آية".[17]
وقال ابن كثير رحمه الله: "قوله (ومن آياته): أي على قُدرتِه على إعادةِ الموتى (أنك ترى الأرضَ خاشِعةً): أي هامدة لا نبات فيها؛ بل هي ميتة (فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت): أي أخرجَت من جميعِ ألوانِ الزروعِ والثمار (إنَّ الذي أحياها لَمُحيِي الموتى إنه على كلِّ شيءٍ قَدير)".[18]
وقد مثَّلَ النبي صلى الله عليه وسلم استجابةَََ الناسِ لهديه صلى الله عليه وسلم باستجابةِ الأرضِ للماء، فقال صلى الله عليه وسلم: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثلِ الغيثِ الكثير أصاب أرضاً؛ فكان منها نقيّةٌ قَبِلَت الماء؛ فأنبَتَت الكلأ والعُشبَ الكثير، وكانت منها أجادِبُ أمْسَكَت الماء؛ فنَفعَ الله بها الناس: فشربوا وسقَوا وزرعوا، وأصاب منها طائفةً أخرى إنما هي قِيعانٌ لا تُمسِك ماءً ولا تُنبت كَلأً. فذلك مَثلُ مَن فقُهَ في دِينِ الله ونَفعَه ما بَعَثَنِي الله به؛ فعَلِم وعَلَّم، ومَثلُ مَن لم يَرفَعْ بذلك رأساً؛ ولم يَقبَلْ هُدى الله الذي أُرسِلْتُ به).[19]
فالمطرُ حياةٌ.. للأرضِ والنباتِ.. والعقولِ والقلوبِ المتفكِّرة في خلقِ السموات والأرضِ والمتأملة في نعمة المطر! وتأمل ذلك في سنوات الجفاف والقحط.. حين ييبس النبات.. وتموت الأشجار.. ويهلك الحيوان.. ويظمأ الإنسان.. ويُهرَعُ الناس إلى صلوات الاستسقاء.. يدعون ربَّهم خوفاً وطمعاً.. ويرفعون أيديَهم يرجون رحمتَه ويخافون عذابَه.. يسألون الله أن يرسل عليهم الغيث، ولا يجعلهم من الآيسين القانطين!
ولله دَرُّ الشاعر حيث قال:
وقد كان المطر حاضراً في قاموس المديح للحاكم الصالح، كما قيل:
وفي أدبِ الواعظين المصلِحِين، كما قيل:
وقد شَبَّهَ الشعراءُ في مَدائحِهم المحسِنين المتصدِّقين بالغيث النافع، ومِن مَحاسنِ ذلك قولُ صفي الدين الحلي:
ومِن نِعمةِ الله على الناسِ.. أنْ يُرسِلَ الرياحَ مُبشراتٍ بالمطر، وأن يُبشِّرَهم في حياتِهم كذلك.. بحصولِ آمالِهم وبلوغِ أمانيهم وتحقيقِ أحلامِهم واستجابة دُعائهم.. كما قال عز وجلَّ: (وادعوه خوفاً وطمعاً إنَّ رحمةَ الله قريبٌ من المحسنين وهو الذي يُرْسِلُ الرياحَ بُشرى بين يَدَيْ رَحْمَتِه حتى إذا أقلَّت سحاباً ثِقالا سُقناه لبلدٍ ميتٍ فأنزلنا به الماءَ فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكَّرون والبلدُ الطيبُ يخرج نباتُه بإذنِ ربِّه والذي خبث لا يخرج إلا نكداً كذلك نُصَرِّفُ الآياتِ لقومٍ يشكرون).[20]
ومن نظرَ إلى آثارِ رحمةِ الله.. وَجدَها في إحياءِ الأرضِ والنبات.. وفي إحياءِ القلوب.. ببشائر الخير وشآبيبِ الرحمة؛ وقد قال أبو منصور الثعالبي:(/2)
وقد أمرَ الله عز وجل بالنظر والتذكر في هذا المقام؛ فإنه مقامُ رحمةٍ بالغةٍ ونعمةٍ سابغة، فقال جلَّ جلالُه: (الله الذي يُرسِلُ الرياحَ فتُثيرُ سَحاباً فيَبسطُه في السماء كيف يشاء ويجعلُه كِسَفاً فترى الوَدْقَ يخرج من خلالِه فإذا أصاب به من يشاء من عبادِه إذا هم يستبشرون وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبلِه لمبلسين فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرضَ بعد موتِها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير).[21] وقال تعالى: (وهو الذي أرْسَلَ الرِّياحَ بُشْرَى بين يَدَيْ رَحْمَتِه وأنزَلْنا من السماءِ ماءً طَهُوراً لِنُحْيِيَ به بَلْدةً مَيتاً ونُسْقِيَه مما خلَقنا أنْعاماً وأناسِيَّ كثيراً ولقد صَرَّفْناه بينَهم ليذَّكَّروا فأبى أكثرُ الناسِ إلا كُفُوراً).[22]
فما ينبغي للعبد.. أن يقنط.. وهو يرى آثارَ رحمة الله.. بل الواجب أن يفرحَ ويستبشرَ، قال ابن كثير: "قوله (بين يدي رحمته): أي بين يدي المطر، كما قال (وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد".[23] وقال القرطبي رحمه الله: "(ومِن آياتِه أن يُرسِلَ الرياحَ مُبَشِّراتٍ): أي ومن أعلام كمال قدرته إرسال الرياح مبشرات: أي بالمطر لأنها تتقدمه... (وليذيقكم من رحمته) يعني الغيث والخصب".[24]
فلا تقنط أيها العبدُ المؤمنُ.. مِن رحمةِ الله.. فإنَّ رياحَ الرحمةِ قد هبَّت.. تحملُ الغيثَ النافع، فارفعْ رأسَك إلى السماء؛ وادْعُ ربَّك الذي (يرسلُ الرياحَ مُبشِّرات) قال ابن كثير: "أي بمجيءِ السحابِ بعدها، والرياح أنواعٌ في صفاتٍ كثيرةٍ من التسخير: فمنها ما يُثِيرُ السحابَ، ومنها: ما يحمله، ومنها: ما يسوقه، ومنها: ما يكون بين يدي السحاب مُبشِّرا، ومنها ما يكون قبل ذلك يقم الأرض، ومنها: ما يلقح السحاب ليمطر".[25]
ولكِنْ.. كُنْ من المحسِنين المتمَسِّكين بالكتابِ والسُّنة؛ (إنَّ رحمةَ الله قريبٌ من المحسنين).[26] فالخيرُ كلُّه في الإقبالِ عليهما، والحرمانُ كلُّه في الإعراضِ عنهما، ورَحِمَ الله ابنَ القيم ما أحْسَنَ قولَه: "سُبحانَ الله! ما حُرِمَ الْمُعرِضُون عن نُصوصِ الوحيِ، واقتباسِ العِلمِ من مِشْكاتِه مِن كُنُوزِ الذخائر؟! وماذا فاتَهم مِن حياةِ القُلُوبِ واستِنارةِ البَصائر؟!"[27]
----------
[1] الأنبياء 30.
[2] الواقعة 68-70.
[3] الملك 30.
[4] تفسير القرآن العظيم 3/437.
[5] الحج 5.
[6] الجامع لأحكام القرآن 12/13-14.
[7] البقرة 164. وفي الجاثية 5: (وما أنزلَ الله من السماء من رزقٍ فأحيا به الأرضَ بعد موتِها).
[8] النحل 65.
[9] العنكبوت 63.
[10] يس 33.
[11] ق 9-11.
[12] فاطر 9.
[13] الروم 19.
[14] تفسير القرآن العظيم 3/209.
[15] الرعد 5.
[16] زاد المسير 5/408.
[17] إعلام الموقعين لابن القيم 1/144.
[18] تفسير القرآن العظيم 4/103.
[19] رواه البخاري في كتاب العلم. فتح الباري 1/236.
[20] الأعراف 56-58.
[21] الروم 48-50.
[22] الفرقان 48-50.
[23] تفسير القرآن العظيم 2/223.
[24] الجامع لأحكام القرآن 14/43.
[25] تفسير القرآن العظيم 3/321.
[26] الأعراف 56.
[27] مدارج السالكين 1/5.(/3)
خير أيام الدنيا ماذا يشرع فيها ... ... ...
من رحمة الله (تبارك وتعالى) أن فاضل بين الأزمنة، فاصطفى واجتبى منها ما شاء بحكمته، قال (عز وجل): ((وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ..)) [القصص: 68] وذلك التفضيل من فضله وإحسانه؛ ليكون عوناً للمسلم على تجديد النشاط، وزيادة الأجر، والقرب من الله (تعالى). ونظرة في واقع الكثير تنبئك عن جهل كبير بفضائل الأوقات، ومن أكبر الأدلة على ذلك: الغفلة عن اغتنامها، مما يؤدي إلى الحرمان من الأجر.
والأمر الذي يحتاج إلى وقفة تأمل: التباين الكبير بين كون عشر ذي الحجة أفضل أيام الدنيا، والعمل الصالح فيها أحب إلى الله من العمل فيما سواها، وبين واقع الناس وحالهم في تلك العشر، فالكثير لا يحرك ساكناً، والأكثر لم يقم الأمر عنده ولم يقعد، ومن مظاهر ذلك مثلاً هجر سُنّة التكبير المطلق وهي من شعائر تلك الأيام.
وعلى الرغم من أن هذه الأيام أعظم من أيام رمضان، والعمل فيها أفضل، إلا أنه لا يحصل فيها ولو شيء مما يحصل في رمضان؛ من النشاط في عمل الآخرة، ولا غرو، فالفارق بين الزمنين واضح، فقد اختص رمضان بما لم تختص به العشر، ومن ذلك:
وقوع فريضة الصوم فيه، وهي (فريضة العام) على كل مسلم، مع ما يكون فيها من تربية للمسلم، وزيادة لإيمانه، بخلاف الحج فهو فريضة العمر.
ارتباط رمضان بنزول القرآن فيه مما جعله شهر القرآن، وذلك له أثر كبير في إقبال الناس فيه على كتاب الله الكريم.
الترغيب الخاص بقيام لياليه، وهدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في قيام العشر، وتحري ليلة القدر.
وهذه الأمور الثلاثة جعلت لرمضان جوّاً خاصًّا متميزاً تنقلب حياة النّاس فيه، وتتغير أيًّا كان نوع ذلك التغير.
ما يحصل في رمضان من تصفيد الشياطين، وفتح أبواب الجنة، وإغلاق أبواب النيران، مما يكون له أعظم الأثر في انبعاث الناس للعبادة وحماسهم لها. فيكون ذلك حافزاً للعلماء والدعاة والأئمة والخطباء ليخاطبوا قلوب الناس، ما دامت مقبلة على الخير.
كل ذلك وغيره يجعل هذه العشر ابتلاءً وامتحاناً للناس، فلا يحصل فيها من المعونة على الخير كما يحصل في رمضان، والموفق من وفقه الله، فشمر وجد واجتهد.
فضل عشر ذي الحجة:
قد دل على فضلها أمور (1):
الأول: قال (تعالى): ((وَالْفَجْر وَلَيَالٍ عَشْرٍ)) [الفجر: 1، 2] قال غير واحد: إنها عشر ذي الحجة، وهو الصحيح(2). ولم يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- شيء في تعيينها.
الثاني: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- شهد أنها أعظم أيام الدنيا، وجاء ذلك في أحاديث كثيرة منها: قوله (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر، فقالوا: يارسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء)(3).
وقوله : (ما من أيام أعظم عند الله، ولا أحب إليه من العمل فيهن، من هذه العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد)(4)، والمراد في الحديثين: (أن كل يوم من أيام العشر أفضل من غيره من أيام السنة، سواء أكان يوم الجمعة أم لا، ويوم الجمعة فيه أفضل من الجمعة في غيره؛ لاجتماع الفضلين فيه)(5).
الثالث: أنه حث على العمل الصالح فيها، وأمر بكثرة التهليل والتكبير.
الرابع: أن فيها يوم عرفة ويوم النحر.
الخامس: أنها مكان لاجتماع أمهات العبادة فيها، وهي: الصلاة، والصيام، والصدقة، والحج، ولا يتأتى ذلك في غيرها(6).
أنواع العمل الصالح في أيام العشر:
وحيث ثبتت فضيلة الزمان ثبتت فضيلة العمل فيه، وأيضاً فقد جاء النص على محبة الله للعمل في العشر، فيكون أفضل، فتثبت فضيلة العمل من وجهين.
وأنواع العمل فيها ما يلي:
الأول: التوبة النصوح:
وهي الرجوع إلى الله (تعالى)، مما يكرهه ظاهراً وباطناً إلى ما يحبه ظاهراً وباطناً، ندماً على ما مضى، وتركاً في الحال، وعزماً على ألا يعود. وما يتاب منه يشمل: ترك الواجبات، وفعل المحرمات. وهي واجبة على المسلم حين يقع في معصية، في أي وقت كان؛ لأنه لا يدري في أي لحظة يموت، ثم إن السيئات يجر بعضها بعضاً، والمعاصي تكون غليظة ويزداد عقابها بقدر فضيلة الزمان والمكان؛ قال (تعالى): ((يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً)) [التحريم: 8]، وقد ذكر ابن القيم (رحمه الله تعالى): أن النّصْح في التوبة يتضمن ثلاثة أشياء:
استغراق جميع الذنوب، و إجماع العزم والصدق، و تخليصها من الشوائب والعلل، وهي أكمل ما يكون من التوبة(7).
الثاني: أداء الحج والعمرة:
وهما واقعان في العشر، باعتبار وقوع معظم مناسك الحج فيها، ولقد رغب النبي -صلى الله عليه وسلم- في هاتين العبادتين العظيمتين، وحث عليهما؛ لأن في ذلك تطهيراً للنفس من آثار الذنوب ودنس المعاصي، ليصبح أهلاً لكرامة الله (تعالى) في الآخرة.(/1)
الثالث: المحافظة على الواجبات:
والمقصود: أداؤها في أوقاتها وإحسانها بإتمامها على الصفة الشرعية الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، ومراعاة سننها وآدابها. وهي أول ما ينشغل به العبد في حياته كلها؛ روى البخاري عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله قال: من عادى لي وليّاً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت، وأنا أكره مساءته)(8).
قال الحافظ: (وفي الإتيان بالفرائض على الوجه المأمور به: امتثال الأمر، واحترام الآمر، وتعظيمه بالانقياد إليه، وإظهار عظمة الربوبية، وذل العبودية، فكان التقرب بذلك أعظم العمل)(9). والمحافظة على الواجبات صفة من الصفات التي امتدح الله بها عباده المؤمنين، قال (عز وجل): ((وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ)) [المعارج: 34]، وتتأكد هذه المحافظة في هذه الأيام، لمحبة الله للعمل فيها، ومضاعفة الأجر.
الرابع: الإكثار من الأعمال الصالحة:
إن العمل الصالح محبوب لله (تعالى) في كل زمان ومكان، ويتأكد في هذه الأيام المباركة، وهذا يعني فضل العمل فيها، وعظم ثوابه، فمن لم يمكنه الحج فعليه أن يعمر وقته في هذه العشر بطاعة الله (تعالى)، من: الصلاة، وقراءة القرآن، والذكر، والدعاء، والصدقة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. وغير ذلك من طرق الخير، وهذا من أعظم الأسباب لجلب محبة الله (تعالى).
الخامس: الذكر:
وله مزية على غيره من الأعمال؛ للنص عليه في قوله (تعالى): ((وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ)) [الحج: 28] قال ابن عباس: أيام العشر(10)، أي: يحمدونه ويشكرونه على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، ويدخل فيه: التكبير والتسمية على الأضحية والهدي(11)، ولقوله: (فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد).
السادس: التكبير:
يسن إظهار التكبير في المساجد والمنازل والطرقات والأسواق، وغيرها، يجهر به الرجال، وتسر به المرأة، إعلاناً بتعظيم الله (تعالى).
وأما صيغة التكبير فلم يثبت فيها شيء مرفوع، وأصح ما ورد فيه: قول سلمان: (كبروا الله: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيراً). وهناك صيغ وصفات أخرى واردة عن الصحابة والتابعين(12).
والتكبير صار عند بعض الناس من السنن المهجورة، وهي فرصة لكسب الأجر بإحياء هذه السنة، قال : (من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي، فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً)(13). وقد ثبت أن ابن عمر وأبا هريرة كانا يخرجان إلى السوق أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما(14). والمراد: يتذكر الناس التكبير، فيكبرون بسبب تكبيرهما، والله أعلم.
والتكبير الجماعي بصوت واحد متوافق، أو تكبير شخص ترد خلفه مجموعة: من البدع التي ينبغي على المسلم الحريص على اتباع سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- اجتنابها والبعد عنها، أما الجاهل بصفة التكبير فيجوز تلقينه حتى يتعلم، فإن قيل: إن التكبير الجماعي سبب لإحياء هذه السنة، فإنه يجاب عليه: بأن الجهر بالتكبير إحياء للسنة، دون أن يكون جماعيًّا، ومن أراد فعل السنة، فإنه لا ينتظر فعل الناس لها، بل يكون أول الناس مبادرة إليها، ليقتدي به غيره.
السابع: الصيام:
عن حفصة (رضي الله عنها) قالت: (أربع لم يكن يدعهن النبي -صلى الله عليه وسلم-: صيام عاشوراء، والعشر، وثلاثة أيام من كل شهر، والركعتين قبل الغداة)(15). والمقصود: صيام التسع أو بعضها؛ لأن العيد لا يصام، وأما ما اشتهر عند العوام ولا سيما النساء من صيام ثلاث الحجة، يقصدون بها اليوم السابع والثامن والتاسع، فهذا التخصيص لا أصل له.
الثامن: الأضحية:
وهي سنة مؤكدة في حق الموسر، وقال بعضهم كابن تيمية بوجوبها(16)، وقد أمر الله بها نبيه -صلى الله عليه وسلم-، فقال: ((فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ)) [الكوثر: 2] فيدخل في الآية صلاة العيد، ونحر الأضاحي، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحافظ عليها، قال ابن عمر (رضي الله عنهما): أقام النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة عشر سنين يضحي(17).
التاسع: صلاة العيد:
وهي متأكدة جدًّا، والقول بوجوبها قوي(18) فينبغي حضورها، وسماع الخطبة، وتدبر الحكمة من شرعية هذا العيد، وأنه يوم شكر وعمل صالح.
يوم عرفة:
وقد زاد هذا اليوم فضلاً ومزية على غيره، فاستحق أن يخص بحديث مستقل يكشف عن أوجه تفضيله وتشريفه، ومن تلك الأوجه ما يلي:
أولاً: أنه يوم إكمال الدين وإتمام النعمة:(/2)
روى البخاري(19): قالت اليهود لعمر: إنكم تقرؤون آية، لو نزلت فينا لاتخذناها عيداً، فقال عمر: إني لأعلم حيث أنزلت، وأين أنزلت، وأين كان رسول الله حين أنزلت: يوم عرفة، إنا والله بعرفة، قال سفيان: وأشك كان يوم الجمعة أم لا: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً)) [المائدة: 3]. وإكمال الدين في ذلك اليوم حصل؛ لأن المسلمين لم يكونوا حجوا حجة الإسلام من قبل، فكمل بذلك دينهم لاستكمالهم عمل أركان الإسلام كلها، ولأن الله أعاد الحج على قواعد إبراهيم (عليه السلام)، ونفى الشرك وأهله، فلم يختلط بالمسلمين في ذلك الموقف منهم أحد. وأما إتمام النعمة فإنما حصل بالمغفرة، فلا تتم النعمة بدونها، كما قال الله لنبيه: ((لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ))[الفتح: 2](20).
ثانياً: أنه يوم عيد:
عن أبي أمامة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب)(21).
ثالثاً: أن صيامه يكفر سنتين:
قال عن صيامه: (يكفر السنة الماضية والباقية)(22).
رابعاً: أنه يوم مغفرة الذنوب، والعتق من النار:
عن عائشة (رضي الله عنها) أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟)(23) قال ابن عبد البر: (وهو يدل على أنهم مغفور لهم؛ لأنه لا يباهي بأهل الخطايا والذنوب، إلا بعد التوبة والغفران، والله أعلم)(24).
الأعمال المشروعة فيه:
أولاً: صيام ذلك اليوم:
ففي صحيح مسلم قال: (...صيام يوم عرفة أَحْتَسِبُ على الله أن يكفر السنة التي قبله، والسنة التي بعده...)(25). وصومه إنما شرع لغير الحاج، أما الحاج فلا يجوز له ذلك. ويتأكد حفظ الجوارح عن المحرمات في ذلك اليوم، كما في حديث ابن عباس، وفيه: (إن هذا اليوم من مَلَك فيه سمعه وبصره ولسانه: غُفر له)(26). ولا يخفى أن حفظ الجوارح فيه حفظ لصيام الصائم، وحج الحاج، فاجتمعت عدة أسباب معينة على الطاعة وترك المعصية.
ثانياً: الإكثار من الذكر والدعاء:
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-:(خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)(27)، قال ابن عبد البر: (وفي الحديث دليل على أن دعاء يوم عرفة مجاب في الأغلب، وأن أفضل الذكر: لا إله إلا الله)(28). قال الخطابي: (معناه: أكثر ما أفتتح به دعائي وأقدمه أمامه من ثنائي على الله (عز وجل)، وذلك أن الداعي يفتتح دعاءه بالثناء على الله (سبحانه وتعالى)، ويقدمه أمام مسألته، فسمي الثناء دعاء...)(29).
ثالثاً: التكبير:
سبق في بيان وظائف العشر أن التكبير فيها مستحب كل وقت، في كل مكان يجوز فيه ذكر الله (تعالى). وكلام العلماء فيه يدل على أن التكبير نوعان:
الأول: التكبير المطلق: وهو المشروع في كل وقت من ليل أو نهار، ويبدأ بدخول شهر ذي الحجة، ويستمر إلى آخر أيام التشريق.
الثاني: التكبير المقيد: وهو الذي يكون عقب الصلوات، والمختار: أنه عقب كل صلاة، أيًّا كانت، وأنه يبدأ من صبح عرفة إلى آخر أيام التشريق(30).
وخلاصة القول: أن التكبير يوم عرفة والعيد، وأيام التشريق يشرع في كل وقت وهو المطلق، ويشرع عقب كل صلاة وهو المقيد.
يوم النحر:
لهذا اليوم فضائل عديدة: فهو يوم الحج الأكبر(31). وهو أفضل أيام العام؛ لحديث: (إن أعظم الأيام عند الله (تبارك وتعالى): يوم النحر، ثم يوم القرّ)(32) وهو بذلك أفضل من عيد الفطر، ولكونه يجتمع فيه الصلاة والنحر، وهما أفضل من الصلاة والصدقة(33).
وقد اعتبرت الأعياد في الشعوب والأمم أيام لذة وانطلاق، وتحلل وإسراف، ولكن الإسلام صبغ العيدين بصبغة العبادة والخشوع إلى جانب الفسحة واللهو المباح(34). وقد شرع في يوم النحر من الأعمال العظيمة كالصلاة، والتكبير، ونحر الهدي، والأضاحي، وبعض من مناسك الحج ما يجعله موسماً مباركاً للتقرب إلى الله (تعالى)، وطلب مرضاته، لا كما هو حال الكثير ممن جعله يوم لهو ولعب فحسب، إن لم يجعله يوم أشر وبطر، والعياذ بالله.
أيام التشريق:(/3)
وهي الأيام الثلاثة التالية ليوم النحر(35)، وهي التي عناها الله (تعالى) بقوله: ((وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ))[البقرة: 203]، كما جاء عن ابن عباس(36)، وذكر القرطبي أنه لا خلاف في كونها أيام التشريق(37). وهي أيام عيد للمسلمين؛ لحديث: (يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام منى: عيدنا أهل الإسلام)(38). وقد نهي عن صيامها، وهي واقعة بعد العشر الفاضلة، فتشرف بالمجاورة أيضاً، وتشترك معها بوقوع بعض أعمال الحج فيها، ويدخل فيها يوم النحر، فيعظم شرفها وفضلها بذلك كله(39). كما أن ثانيها وهو يوم القر، وهو الحادي عشر أفضل الأيام بعد يوم النحر، وهذه الأيام الأربعة هي أيام نحر الهدي والأضاحي على الراجح من أقوال أهل العلم؛ تعظيماً لله (تعالى)، وهذا مما يزيدها فضلاً، وهذه الأيام من أيام العبادة والذكر والفرح، قال فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- : (أيام التشريق أيام أكل وشرب، وذكر لله)(40)، فهي أيام إظهار الفرح والسرور بنعم الله العظيمة، وفي الحديث إشارة إلى الاستعانة بالأكل والشرب على ذكر الله، وهذا من شكر النعم(41). وذكر الله المأمور به في الحديث أنواع متعددة منها:
-1 التكبير فيها: عقب الصلوات، وفي كل وقت، مطلقاً ومقيداً، كما هو ظاهر الآية، وبه يتحقق كونها أيام ذكر لله(42).
-2 ذكر الله (تعالى) بالتسمية والتكبير عند نحر الهدي والأضاحي.
-3 ذكره عند الأكل والشرب، وكذا أذكار الأحوال الأخرى.
-4 التكبير عند رمي الجمار.
-5 ذكر الله (تعالى) المطلق(43).
هذه ذكرى، أسأل الله أن ينفع بها، وأعوذ بالله من أن يكون أهل البدع أجلد في بدعهم، وأنشط في باطلهم، من أهل الحق في فعل الخير والاستقامة على السنة.
============
الهوامش :
(1 انظر: (مجالس عشر ذي الحجة) للشيخ / عبد الله بن صالح الفوزان.
(2 تفسير ابن كثير، جـ4 ص505.
(3 أخرجه البخاري، ح/969، و الترمذي، ح/757، واللفظ له.
(4 أخرجه أحمد، جـ2ص75، 132، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح.
(5 فتح الباري، جـ2ص534.
(6 انظر: المصدر السابق.
(7 انظر: مدارج السالكين، جـ1 ص316، 317.
(8 أخرجه البخاري، ح/6502.
(9 فتح الباري، جـ11 ص351.
(10 صحيح البخاري، كتاب العيدين، باب فضل العمل في أيام التشريق.
(11 انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية، جـ24 ص225.
(12 فتح الباري، جـ2 ص536، وقال الحافظ: (وقد أحدث في هذا الزمان زيادة لا أصل لها).
(13 أخرجه ابن ماجة، ح/209، وانظر: صحيح سنن ابن ماجة، ح/173.
(14 البخاري، كتاب العيدين، باب العمل في أيام التشريق.
(15 انظر: المسند، جـ6 ص287.
(16 انظر: مجموع الفتاوى، جـ23 ص162، 164.
(17 المسند، جـ2 ص38، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح، والترمذي، ح/1559، وضعفه الألباني في ضعيف سنن الترمذي، ح/261.
(18 انظر: الفتاوى، جـ23 ص161.
(19 ح/4606.
(20 انظر: لطائف المعارف، ص486،487.
(21 رواه أبو داود، ح/2419، وانظر صحيح سنن أبي داود، ح/2144.
(22 أخرجه مسلم، ح/1163.
(23 أخرجه مسلم، ح/1348.
(24 انظر: التمهيد لابن عبد البر، ج1ص120.
(25 مسلم، ح/1162.
(26 المسند، ج1ص329، وصحح أحمد شاكر إسناده، ح/3042.
(27 الترمذي، ح/2837، ومالك، ج1ص422، ح/246، وصححه الألباني.
(28 التمهيد،ج6ص41.
(29 مجالس عشر ذي الحجة، لعبد الله الفوزان، ص970.
(30 انظر: الفتح، ج2ص535، والفتاوى ج24ص220.
(31 سن أبي داود، ح/1945، وانظر: صحيح سنن أبي داود، ح/1714، والبخاري، ح/4657 تعليقا.
(32 سنن أبي داود، ح/1765، وانظر: صحيح سنن أبي داود، ح/1552، ويوم القر هو: اليوم الذي يلي يوم النحر ، سمي بذلك لأن الناس يقرون فيه بمنى.
(33 لطائف المعارف، ص482، 483.
(34 انظر: الأركان الأربعة، ص60.
(35 وسميت أيام التشريق؛ لأن الناس يشرقون فيها لحوم الهدي والأضاحي، أي: يقددونها وينشرونها في الشمس.
(36 البخاري تعليقا، وله إسناد صحيح ، الفتح ج2ص530.
(37 تفسير القرطبي، ج3ص3.
(38 أخرجه أبو داود، ح/2419، وانظر صحيح سنن أبي داود، ح/2114.
(39 انظر: فتح الباري، ج2ص532، 533.
(40 أخرجه مسلم، ح/1141.
(41 انظر: لطائف المعارف، ص504.
(42 انظر: نيل الأوطار، ج3ص389.
(43 انظر: لطائف المعارف، ص501، 502.
كاتب المقال: عبد الحكيم بن محمد بلال
المصدر: مجلة البيان
...(/4)
خير الأعمال في رمضان
أولاً : الصوم
...
سادساًً : الاعتكاف
ثانياً : القيام
...
سابعاً : العمرة في رمضان
ثالثاً : الصدقة
...
ثامناً : تحري ليلة القدر
رابعاً : قراءة القرآن
...
تاسعاً : الإكثار من الذكر والدعاء والاستغفار
خامساً : الجلوس في المسجد حتى تطلع الشمس
...
عاشراً: صلة الرحم
أولاً : الصوم
قال صلى الله عليه وسلم : ( كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف . يقول الله عز وجل : إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به ، ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي ، للصائم فرحتان ؛ فرحة عند فطره ، وفرحة عند لقاء ربه، و لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ) [أخرجه البخاري ومسلم] .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( من صام رمضان إيماناً و احتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ) [أخرجه البخاري ومسلم] .
لا شك أن هذا الثواب الجزيل لا يكون لمن امتنع عن الطعام والشراب فقط ، وإنما كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من لم يدع قول الزور والعمل به ، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ) [أخرجه البخاري] .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( الصوم جنة ، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق ولا يجهل ، فإن سابه أحد فليقل إني امرؤ صائم ) [أخرجه البخاري ومسلم] .
فإذا صمت ـ يا عبد الله ـ فليصم سمعك وبصرك ولسانك وجميع جوارحك ، ولا يكن صومك ويوم فطرك سواء .
ثانياً : القيام
قال صلى الله عليه وسلم : ( من قام رمضان إيماناً واحتساباً ، غفر له ما تقدم من ذنبه ) [أخرجه البخاري ومسلم] .
وقال تعالى : ( وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً . والذين يبيتون لربهم سجداً وقياما ) [الفرقان 63 ـ 64] .
وقد كان قيام الليل دأب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه . قالت عائشة : رضي الله عنها : ( لا تدع قيام الليل ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يدعه ، وكان إذا مرض أو كسل صلى قاعداً .
وكان عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يصلي من الليل ما شاء حتى إذا كان نصف الليل أيقظ أهله للصلاة ثم يقول لهم : الصلاة ، الصلاة .. ويتلو هذه الآية : ( وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى ) [طه الآية 132] .
وكان ابن عمر يقرأ هذه الآية : ( أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ) [الزمر الآية 9]
قال : ذاك عثمان بن عفان رضي الله عنه ، قال ابن حاتم : وإنما قال ابن عمر ذلك لكثرة صلاة أمير المؤمنين عثمان بالليل وقراءته حتى أنه ربما قرأ القرآن في ركعة .
وعن علقمة بن قيس قال : بت مع عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ ليلة فقام أول الليل ثم قام يصلي فكان يقرأ قراءة الإمام في المسجد يرتل ولا يرجع يسمع من حوله ولا يرجع صوته ، حتى لم يبق من الغلس إلا كما بين المغرب إلى الانصراف منها ثم أوتر .
وفي حديث السائب بن زيد قال : كان القارئ يقرأ بالمئين ـ يعني بمئات الآيات ـ حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام قال : وما كانوا ينصرفون إلا عند الفجر .
تنبيه : ينبغي لك أخي المسلم أن تكمل التراويح مع الإمام حتى تكتب في القائمين ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : ( من قام مع إمامه حتى ينصرف كتب له قيام ليلة ) [رواه أهل السنن] .
ثالثاً : الصدقة
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس ، وكان أجود ما يكون في رمضان ، كان أجود بالخير من الريح المرسلة .. وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( أفضل الصدقة صدقة في رمضان ) [أخرجه الترمذي عن أنس] .
روى زيد بن أسلم عن أبيه ، قال سمعت عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يقول : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق ووافق ذلك مالاً عندي ، فقلت : اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما ، قال فجئت بنصف مالي ـ قال : فقال لي رسول الله : ( ما أبقيت لأهلك ) . قال : فقلت مثله ، وأتى أبو بكر بكل ما عنده فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما أبقيت لأهلك ) قال أبقيت لهم الله ورسوله ، قلت : لا أسابقك إلى شيء أبداً .
فيا أخي :
للصدقة في رمضان مزية وخصوصية فبادر إليها واحرص على أدائها بحسب حالك ولها صور كثيرة منها :
أ ـ إطعام الطعام :
قال الله تعالى : ( ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً . إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرةً وسروراً وجزاهم بما صبروا جنةً وحريراً ) [الإنسان 8 ـ 12] .
فقد كان السلف الصالح يحرصون على إطعام الطعام ويقدمونه على كثير من العبادات . سواءً كان ذلك بإشباع جائع أو إطعام أخ صالح ، فلا يشترط في المطعم الفقر ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أيما مؤمن أطعم مؤمناً على جوع أطعمه الله من ثمار الجنة ومن سقى مؤمناً على ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم ) [رواه الترمذي بسند حسن] .(/1)
وقد قال بعض السلف : لأن أدعو عشرة من أصحابي فأطعمهم طعاماً يشتهونه أحب إلي من أن أعتق عشرة من ولد إسماعيل !!
وكان كثير من السلف يؤثر بفطوره وهو صائم ، منهم عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ وداود الطائي ومالك بن دينار ، وأحمد بن حنبل ، وكان ابن عمر لا يفطر إلا مع اليتامى والمساكين .
وكان من السلف من يطعم إخوانه الطعام وهو صائم ويجلس يخدمهم ويروحهم .. منهم الحسن وابن المبارك .
قال أبو السوار العدوي : كان رجال من بني عدي يصلون في هذا المسجد ما أفطر أحد منهم على طعام قط وحده ، إن وجد من يأكل معه أكل وإلا أخرج طعامه إلى المسجد فأكله مع الناس وأكل الناس معه .
وعبادة إطعام الطعام ، ينشأ عنها عبادات كثيرة منها التودد والتحبب إلى إخوانك الذين أطعمتهم فيكون ذلك سبباً في دخول الجنة : ( لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولن تؤمنوا حتى تحابوا ) كما ينشأ عنها مجالسة الصالحين واحتساب الأجر في معونتهم على الطاعات التي تقووا عليها بطعامك .
ب ـ تفطير الصائمين :
قال صلى الله عليه وسلم : ( من فطر صائماً كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء ) أخرجه أحمد والنسائي وصححه الألباني . وفي حديث سلمان : ( ومن فطر فيه صائماً كان مغفرةً لذنوبه وعتق رقبته من النار ، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء قالوا : يا رسول الله ليس كلنا يجد ما يفطر به الصائم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يعطي الله هذا الثواب لمن فطر صائماً على مذقة لبن أو تمرة أو شربة ماء ومن سقى صائماً سقاه الله من حوضي شربةً لا يظمأ بعدها ، حتى يدخل الجنة ) .
رابعاً : قراءة القرآن
سأذكرك يا أخي هنا بأمرين عن حال السلف الصالح :
كثرة قراءة القران
شهر رمضان هو شهر القرآن فينبغي أن يكثر العبد المسلم من قراءته ، وقد كان حال السلف العناية بكتاب الله ، فكان جبريل يدارس النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في رمضان ، وكان عثمان بن عفان - رضي الله عنه - يختم القرآن كل يوم مرة ، وكان بعض السلف يختم في قيام رمضان في كل ثلاث ليال ، وبعضهم في كل سبع ، وبعضهم في كل عشر ، فكانوا يقرءون القرآن في الصلاة وفي غيرها ، فكان للشافعي في رمضان ستون ختمه ، يقرؤها في غير الصلاة ، وكان الأسود يقرأ القرآن كل ليلتين في رمضان ، وكان الزهري إذا دخل رمضان يفر من الحديث ومجالسة أهل العلم ويقبل على تلاوة القرآن من المصحف ، وكان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على قراءة القرآن .
قال ابن رجب : إنما ورد النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث على المداومة على ذلك ، فأما في الأوقات المفضلة كشهر رمضان خصوصاً الليالي التي يطلب فيها ليلة القدر ، أو في الأماكن المفضلة كمكة لمن دخلها من غير أهلها فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن اغتناماً لفضيلة الزمان والمكان .
البكاء عند تلاوة القرآن أو سماعة
لم يكن هدي السلف هذ القرآن هذ الشعر دون تدبر وفهم ، وإنما كانوا يتأثرون بكلام الله عز وجل ويحركون به القلوب .
ففي البخاري عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اقرأ علي . فقلت : أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ فقال إني أحب أن أسمعه من غيري قال : فقرأت سورة النساء حتى إذا بلغت ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً ) قال : حسبك ، فالتفت فإذا عيناه تذرفان ) .
وأخرج البيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : لما نزلت ( أفمن هذا الحديث تعجبون . وتضحكون ولا تبكون ) بكى أهل الصفة حتى جرت دموعهم على خدودهم فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حسهم بكى معهم فبكينا ببكائه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يلج النار من بكى من خشية الله ) .
خامساً : الجلوس في المسجد حتى تطلع الشمس
كان النبي ، صلى الله عليه وسلم ، إذا صلى الغداة ـ أي الفجر ـ جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس .. [أخرجه مسلم] .
وأخرج الترمذي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : ( من صلى الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة ) [ صححه الألباني] . هذا في كل الأيام فكيف بأيام رمضان ؟
فيا أخي .. رعاك الله استعن على تحصيل هذا الثواب الجزيل بنوم الليل والإقتداء بالصالحين ، ومجاهدة النفس في ذات الله وعلو الهمة لبلوغ الذروة من منازل الجنة .
سادساًً : الاعتكاف
كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام ، فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوماً .. [أخرجه البخاري] .
فالاعتكاف من العبادات التي تجمع كثيراً من الطاعات ؛ من التلاوة ، والصلاة ، والذكر ، والدعاء ، وغيرها . وقد يتصور من لم يجربه صعوبته ومشقته ، وهو يسير على من يسره الله عليه ، فمن تسلح بالنية الصالحة ، والعزيمة الصادقة ، أعانه الله .(/2)
وآكد الاعتكاف في العشر الأواخر تحرياً لليلة القدر ، وهو الخلوة الشرعية ، فالمعتكف قد حبس نفسه على طاعة الله وذكره ، وقطع عن نفسه كل شاغل يشغله عنه ، وعكف بقلبه وقالبه على ربه وما يقربه منه ، فما بقي له هم سوى الله و ما يرضيه عنه .
ونظراً لأن الكثير من الناس اليوم يجهل أحكام الاعتكاف فإنني أقدم هذه المعلومات المبسطة عن الاعتكاف .
تعريف الاعتكاف :
في اللغة : لزوم الشيء وحبس النفس عليه .
وفي الشرع : لزوم المسجد والإقامة فيه من شخص مخصوص بنية التقرب إلى الله تعالى .
حكمة التشريع في الاعتكاف :
قال ابن القيم رحمه اله مبيناً بعض الحكم من الاعتكاف ما نصه ( لما كان صلاح القلب واستقامته على طريق سيره إلى الله تعالى ، متوقفاً على جمعيته على الله ، ولم شعثه بإقباله بالكلية على الله تعالى ؛ فإن شعث القلب لا يلمه إلا الإقبال على الله تعالى ، وكان فضول الطعام والشراب ، وفضول مخالطة الأنام ، وفضول الكلام ، وفضول المنام ؛ مما يزيده شعثاً ويشتته في كل واد ، ويقطعه عن سيره إلى الله تعالى أو يضعفه ، اقتضت رحمة العزيز الرحيم بعباده أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول الطعام والشراب و يستفرغ من القلب أخلاط الشهوات المعوقة عن سيره إلى الله ، وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصودة وروحه عكوف القلب على الله تعالى ، والخلوة به ، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق ، والاشتغال به وحده ، بحيث يصير ذكره وحبه والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطرا ته فيستولي عليه بدلها ... ) .
حكم الاعتكاف :
الاعتكاف قربة وطاعة وفعله سنة ، وهو في رمضان آكد و آكده في العشر الأخيرة منه لكنه يجب بالنذر . ودليل ذلك ما يلي :
1ـ قوله تعالى : ( وطهر بيتي للطائفين والعاكفين )
2ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوماً ) [رواه البخاري] .
3ـ عن عائشة رضي الله عنها قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم : يعتكف في كل رمضان فإذا صلى الغداة دخل مكانه الذي اعتكف فيه ... ) [متفق عليه] .
4ـ وعنها رضي الله عنها : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل ثم اعتكف أزواجه من بعده ) [متفق عليه] .
5ـ أما وجوبه بالنذر فلقوله صلى الله عليه وسلم : ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ) متفق عليه
ولهما عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال : كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام . قال : ( أوف بنذرك ) .
شروط الاعتكاف :
1 ـ 2 ـ 3 ـ الإسلام والعقل والتميز . 4 ـ النية . 5 ـ المسجد . 6ـ الطهارة من الجنابة والحيض والنفاس .
ما يستحب للمعتكف :
1ـ الإكثار من الطاعات كالصلاة وتلاوة القرآن .
2ـ اجتناب ما لا يعنيه من الأقوال فيجتنب الجدال والمراء والسباب ونحو ذلك .
3ـ أن يلزم مكاناً من المسجد لما ثبت في صحيح مسلم عن نافع قال : ( وقد أراني عبد الله ـ يعني ابن عمر ـ المكان الذي كان يعتكف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد ) .
ما يباح للمعتكف :
1ـ الخروج لحاجه التي لابد منها ك لما ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : ( السنة على المعتكف أن لا يعود مريضاً و لا يشهد جنازة و لا يمس امرأة و لا يباشرها و لا يخرج لحاجة إلا لما لا بد له منه ) [رواه أبو داود وقال الحافظ : ولا بأس برجاله] .
2ـ وله أن يأكل ويشرب في المسجد وينام فيه مع المحافظة على نظافته وصيانته .
3ـ الكلام المباح لحاجته أو محادثة غيره .
4ـ ترجيل شعره وتقليم أظافره وتنظيف بدنه ولبس احسن الثياب والتطيب بالطيب ، فعن عائشة رضي عنها قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون معتكفا في المسجد فيناولني رأسه من خلل الحجرة فأغسل رأسه ) وفي رواية ( فأرجله ) [متفق عليه] .
5ـ خروجه من معتكفه لتوديع أهله لحديث صفية أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك .
ما يكره للمعتكف :
1ـ البيع والشراء 2ـ الكلام بما فيه إثم 3ـ الصمت عن الكلام مطلقاً إن اعتقده عباده .
مبطلات الاعتكاف :
1ـ الخروج من المسجد لغير حاجة عمدا ولو قل . 2ـ الجماع . 3ـ ذهاب العقل بجنون أو سكر . 4ـ الردة أعاذنا الله منها . 5ـ الحيض والنفاس بالنسبة للمرأة لفوات شرط الطهارة .
وقت دخول المعتكف المسجد والخروج منه :
متى دخل المعتكف المسجد ونوى التقرب إلى الله بالمكث فيه صار معتكفاً حتى يخرج ، فإن نوى اعتكاف العشر الأواخر من رمضان فإنه يدخل معتكفه قبل غروب الشمس ويخرج بعد غروب الشمس آخر يوم من الشهر .
تنبيهات :
1ـ من شرع في الاعتكاف متطوعاً ثم قطعه استحب له قضاؤه ؛ لفعله صلى الله عليه وسلم حيث قضاه في شوال . أما من نذر أن يعتكف ثم شرع فيه وأفسده وجب عليه قضاؤه .(/3)
2ـ للمرأة الاعتكاف في المسجد إن أمنت الفتنة و بشرط أذن زوجها فإن اعتكفت بغير إذنه فله إخراجها ؛ والأحكام المتعلقة بالاعتكاف بالنسبة للمرأة كالرجل إلا إذا حاضت بطل اعتكافها فإن طهرت عادت فأكملته . ويسن استتار المعتكفة بخباء في مكان لا يصلي فيه الرجال .
3ـ من نذر الاعتكاف في المسجد الحرام لم يجز له الاعتكاف في غيره . وإن نذره في المسجد النبوي وجب عليه الاعتكاف فيه أو في المسجد الحرام . وإن نذره في المسجد الأقصى وجب عليه الاعتكاف في أحد هذه المساجد الثلاثة .
وأخيراً :
أخي المسلم ... بادر بإحياء هذه السنة ونشرها بين أهلك وأقاربك وبين إخوانك وزملائك وفي مجتمعك ، لعل الله أن يكتب لك أجرها وأجر من عمل بها .
فقد أخرج الترمذي وحسنه من حديث كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال بن الحارث : اعلم ، قال : ما أعلم يا رسول الله ؟ قال : إنه من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي كان له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ) .
إضافة إلى ما في سنة الاعتكاف من الفوائد في تربية النفس وترويضها على طاعة الله عز وجل ، فما أحوج المسلمين عامة والدعاة منهم خاصة إلى القيام بهذه السنة .
سابعاً : العمرة في رمضان
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( عمرة في رمضان تعدل حجة ) [أخرجه البخاري و مسلم] .
وفي رواية : ( حجة معي ) . فهنيئا لك ـ يا أخي ـ بحجة مع النبي صلى الله عليه وسلم .
ثامناً : تحري ليلة القدر
قال الله تعالى : ( إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر ) [القدر الآيات 1ـ3] .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( من قام ليلة القدر إيماناً واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ) [أخرجه البخاري ومسلم] .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى ليلة القدر ويأمر أصحابه بتحريها ، وكان يوقظ أهله في ليالي العشر رجاء أن يدركوا ليلة القدر . وفي المسند عن عبادة مرفوعا : ( من قامها ابتغاءها ثم وقعت له غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ) .
وورد عن بعض السلف من الصحابة والتابعين الاغتسال والتطيب في ليالي العشر تحرياً لليلة القدر التي شرفها الله ورفع قدرها .
فيا من أضاع عمره في لا شيء ، استدرك ما فاتك في ليلة القدر ، فإنها تحسب من العمر ، والعمل فيها خير من العمل في ألف شهر سواها ، من حرم خيرها فقد حرم .
وهي في العشر الأواخر من رمضان ، وهي في الوتر من لياليه أحرى ، وأرجى الليالي ليلة سبع وعشرين ، لما روى مسلم عن أبي بن كعب رضي الله عنه : ( والله إني لأعلم أي ليلة هي ، هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها ، وهي ليلة سبع وعشرين ) ..
وكان أبي يحلف على ذلك ويقول : ( بالآية والعلامة التي اخبرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن الشمس تطلع صبيحتها لا شعاع لها . وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت : يا رسول الله إن وافقت ليلة القدر ما أقول ؟ قال :قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني ) .
تاسعاً : الإكثار من الذكر والدعاء والاستغفار
أخي الكريم .. أيام وليالي رمضان أزمنة فاضلة فاغتنمها بالإكثار من الدعاء وبخاصة في أوقات الإجابة ومنها :
1ـ عند الإفطار ، فللصائم عند فطره دعوة لا ترد .
2ـ ثلث الليل الآخر . حين ينزل ربنا تبارك وتعالى ويقول : ( هل من سائل فأعطيه هل من مستغفر فأغفر له ) .
3ـ الاستغفار بالأسحار : قال تعالى : ( وبالأسحار هم يستغفرون ) .
4ـ تحري ساعة الإجابة يوم الجمعة وأحراها آخر ساعة من نهار يوم الجمعة .
عاشراً : صلة الرحم
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( من سره أن يبسط في رزقه وينسأ في أجله فليصل رحمه ) ومعنى ينسأ أي يؤخر [رواه البخاري] .
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( صلة الرحم تزيد في العمر ) حسنه المناوي في فيض القدير وصححه الألباني في صحيح الجامع .
إن صلة الرحم من محاسن الأخلاق التي حث عليها الإسلام ودعا إليها وحذر من قطيعتها . فقد دعا الله عز وجل عباده بصلة أرحامهم في تسع عشرة آية من كتابه الكريم ، وأنذر من قطع رحمه باللعن والعذاب في ثلاث آيات . ولهذا دأب الصالحون من سلف الأمة على صلة أرحامهم رغم صعوبة وسائل الاتصال في عصرهم . أما في وقتنا المعاصر فرغم توفر مختلف وسائل النقل والاتصال إلا أنه لا يزال هناك تقصير في صلة الرحم ، إن أدنى الصلة أن تصل أرحامك ولو بالسلام . روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( بلوا أرحامكم ولو بالسلام ) [حسنه الألباني في صحيح الجامع] . فحري بك أخي المسلم في هذا الشهر الكريم أن تصل رحمك فإن من وصلها وصله الله ومن قطعها قطعه الله .
المصادر/كتاب : كيف نعيش رمضان للمؤلف: عبد الله الصالح(/4)
وكتاب/ كيف تطيل عمرك للمؤلف: محمد ابراهيم النعيم(/5)
خير الخلق أم أول الخلق
إبراهيم الأزرق*
مقدمة:
الحمد لله خص هذه الأمة وميزها عن سائر الأمم بالإسناد، فليس لأحد من الأمم كلها إسناد موصول إلى رسول، وإنما هي صحف ورقاع، اختلط فيها ما نزل من السماء، بما خطته الأهواء، فلا تمييز لما جاءت به الأنبياء عما أقحمته الأدعياء، لم تتميز إلاّ هذه الأمة المرحومة المعصومة، وصلى الله وسلم على البشير النذير والسراج المنير القائل: (من حدث بحديث يُرَى أنه كذب فهو أحد الكاذِبِين)[1] (ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)[2]، وبعد:
سأقتصر في هذه الأوراق على الآثار التي سُئل عنها، وكنت أعزم قبل البدء على ذكر فصل يحسن إدخاله وفيه بيان فضل نبينا صلى الله عليه وسلم، من القرآن الكريم، والسنة الثابتة، ولكني خشيت أن يطول المقام ولم أوف، فآثرت الاكتفاء بما خطه علماؤنا الأجلاء في الخصائص والشمائل والسير، ثم حداني العجز إلى الترنم بقول القائل:
وهل يطلب مسلم بيان الدليل على فضل الشفيع الجليل؟ ألم يسمع بالمقام المحمود ألم يذكر له الحوض المورود! ثم ماذا أقول؟ أأقول أن محمداً -صلى الله عليه وسلم- أفضل الخلق؟
إن الواحد نصف الإثنين، والمعروف لا يعرف، وما يدرك بالحس أو بالشم أو بالذوق أو باللمس أو بالإبصار لايستدل عليه، وماعلم من الدين بالضرورة لا يفتقر إلى دليله مسلم، وهكذا فضل نبينا صلى الله عليه وسلم- معلوم بالاضطرار، تضافرت عليه أدلة الكتاب الصريحة، والسنة الصحيحة، علمها العامي مع أهل التحقيق فلسنا بحاجة إلى بنيات الطريق.
أخا الإسلام، إن الحق أبلج، فاسلك يدك بغرزه، وانفض يدك وترجل عن كل قول ليس له خطام أو زمام، فإن نبينا –صلى الله عليه وسلم- في غنية عنه.
وقبل أن أشرع في بيان الأحاديث، أنبه على مسألتين:
الأولى: ليس هنا مزية لكون الشيء سابقاً لغيره في الزمان، بل قد يأتي الفاضل بعد المفضول، فأمة محمد –صلى الله عليه وسلم- هي خير الأمم، وجاءت في الختام، وإبليس سبق خلقه أبا البشر آدم عليه السلام، وأبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام خير من أنبياء وقبائل وشعوب بادت قبل مولده.
فعلام يحتدم الجدل، ولماذا تضيع الأوقات ولا طائل!
الثانية: على طلبة العلم أن يشغلوا أنفسهم بما ينفع، مما يثمر عملاً صالحاً، وأن يتركوا المراء والجدل، فإنه لايأتي بخير، وقد قيل: إذا أراد الله بقوم سوءاً أعطاهم الجدل، ومنعهم العمل:
أما الحديث الأول: (أنا أول النبيين خلقاً وآخرهم بعثاً). فهو نفس الحديث الثاني: (إن الله خلقني قبل النبيين وبعثني بعدهم فبدأ بي قبلهم)، ذكره بعض أهل العلم بمعنى قريب منه (انظر تفسير القرآن العظيم للحافظ ابن كثير 3/470) فالكلام فيهما واحد.
فالمرفوع منه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ضعيف، والأشبه أنه مرسل من قتادة رحمه الله[3]، ومع ذلك فلأهل العلم في بيان معناه كلام معروف لا إشكال معه.
وهذه الألفاظ جاءت في رواية الإمام أبي جعفر ابن جرير الطبري، في تفسير سورة سبحان، من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه- في بعض روايات أحاديث الإسراء وهي مطولة جداً، قال ابن كثير –رحمه الله-: "وفيها غرابة" (تفسير القرآن العظيم 3/18)، وقد ساقها ابن جرير في تفسيره (15/6) من حديث:
علي بن سهل، حدثنا حجاج، حدثنا أبوجعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية الرياحي، عن أبي هريرة أو غيره. وقد ساق الأثر أيضاً في تهذيب الآثار من نفس الطريق برقم (727) 1/422.
وقد روى هذا الأثر أيضاً ابن عدي في الكامل في ضعفاء الرجال (3/373) من طريق جعفر بن أحمد بن عاصم ثنا هشام بن عمار ثنا بقية حدثني سعيد بن بشير حدثني قتادة عن الحسن عن أبي هريرة، ثم قال ابن عدي: "وهذا يرويه عن قتادة سعيد بن بشير وخليد بن دعلج، وقد ذكر رواية خليد بن دعلج له في الكامل من طريق البزار (3/49) عندما ذكر خليداً بلفظ (كنت أول الناس). ولكنه في سياق تفسير قول الله تعالى: (وإذ أخذ الله من النبيين ميثاقهم) الآية.
قال ابن كثير (التفسير 3/470): "قال ابن أبي حاتم, حدثنا أبو زرعة الدمشقي, حدثنا محمد بن بكار, حدثنا سعيد بن بشير, حدثني قتادة, عن الحسن, عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله تعالى: ( وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح) الآية. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ( كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث فبدأ بي قبلهم). سعيد بن بشير فيه ضعف؛ وقد رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة مرسلاً وهو أشبه، ورواه بعضهم عن قتادة موقوفاً والله أعلم".
وذكروا أن ابن أبي حاتم رواه في تفسيره كما ذكر السيوطي في الدر المنثور في الأحاديث المشتهرة، ولم أجده عنده في تفسير الآية، فليحقق.
وفي هذين السياقين ذكر أهل العلم الحديث فرواه أبوالقاسم الطبراني في مسند الشاميين (4/34) من حديث سعيد بن بشير، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي هريرة مرفوعاً.(/1)
ورواه تمام بن يحيى الرازي في فوائده (2/15) من طريق سعيد بن بشير، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي هريرة.
وراه الخلال في كتاب السنة (1/187) من طريق أبي جعفر الرازي.
ورواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (1/149) قال: أخبرنا عبدالوهاب بن عطاء [4],عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، قال وأخبرنا عمر بن عاصم الكلابي, أخبرنا أبو هلال, عن قتادة قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر نحوه (كنت أول الناس) هكذا مرسلاً، وكذلك ابن أبي شيبة روى نحوه (بدأ بي في الخير وكنت آخرهم في البعث) مرسلاً عن قتادة (المصنف 6/322).
وهكذا رواه أبو نعيم في الدلائل ص6 مرسل عن قتادة وانظر البداية والنهاية 2/298.
أما الموقوف على قتادة فقد رواه ابن جرير في تفسير الآية 21/126:
فقال: حدثنا محمد بن بشار، قال ثنا سليمان، قال ثنا أبوهلال، قال: كان قتادة... وهذا إسناد جيد كالمرسل ولاتعارض بينهما، فقد كان قتادة رحمه الله من أئمة التفسير، فربما فسر الآية مراراً لمن حضره، وربما أرسل أحياناً.
ورواه غيرهم، وكلهم من أحد الطريقين السابقين.
وبهذا يتبين أن موضع الشاهد جاء مرفوعاً من طريقين:
الأول طريق أبي جعفر عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في زياداته على حديث الإسراء الطويل، وقد روى أبو جعفر الرازي عن الربيع مناكير، قال في مشاهير علماء الأمصار (1/126): "الربيع بن أنس بن زياد البكري سكن مرو، سمع أنس بن مالك، وكان راوية لأبى العالية، وكل ما في أخباره من المناكير إنما هي من جهة أبى جعفر الرازي".
قال الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب (3/207): "ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: الناس يتقون من حديثه ما كان من رواية أبي جعفر عنه، لأن في أحاديثه عنه اضطراباً كثيراً" وكلام ابن حبان –الذي أشار إليه الحافظ- في الثقات (4/228).
أما أبوجعفر وهو عيسى بن ماهان الرازي، فقد اختلف كلام أئمة الشأن فيه، بين مصحح ومضعف، والذي يظهر –والله أعلم- أن أحسن أحواله أن يكون كما قال الحافظ ابن حجر وهو أنه: "صدوق سيء الحفظ"[5] (التقريب 629)، هذا في الجملة، ولكنه ضعيف في من أثرت له مناكير عنهم كأبي العالية، وقد قال ابن حبان: "كان ممن يتفرد بالمناكير عن المشاهير" (السير 7/348).
وهذا الحديث لم يروه عن الربيع بن أنس غيره، فلا يقبل تفرده به، فلربما أخطأ سيء الحفظ فأدخل طرفاً من حديث رجل في حديث آخر، فلهذا لايقبل تفرده، بل لابد أن يروي الأثر عن من رواه عنه آخر أقل أحواله أنه يكتب عنه، كيف وقد نص الحفاظ بأن كل رواية لأبي العالية منكرة فإنها من طريقه! ومن هنا يتبين وجه قول ابن كثير عن الأثر: "وفيه غرابة".
أما الطريق الأخرى المرفوعة فهي في معرض تفسير الآية: (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم..) الآية، وهي أيضاً ضعيفة كما ذكر الحافظ ابن كثير، ولا تصلح شاهداً للأخرى، فهي من رواية خليد بن دعلج، وسعيد بن بشير عن قتادة، عن الحسن، عن أبي هريرة، وهي طريق مليئة بالعلل القادحة، وإليك بعضها:
خليد بن دعلج ضعيف، ولاسيما إذا حدث عن قتادة فقد أثرت عنه مناكير (انظر الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 3/384)، وقد ضعفه أحمد ويحيى بن معين, وقال الدارقطني متروك، وقال ابن حبان كثير الخطأ، ورجح ابن حجر ضعفه, وكذلك الذهبي وغيرهم فمثله لايتابع على حديثه.
أما سعيد بن بشير, فالقول ما ذهب إليه الحافظ ابن حجر. قال في التقريب 234: "لعل الأرجح فيه أنه ضعيف في روايته عن قتادة, ليس بالقوي، يكتب حديثه عن غيره" وقد قال ابن نمير (الجرح والتعديل 4/6) : "سعيد بن بشير منكر الحديث، وليس بشيء، ليس بقوي الحديث، يروى عن قتادة المنكرات"، وبهذا علم ضعف الأثر المرفوع من طريق قتادة، فسعيد ليس بشيء فيه، فلا ينجبر برواية غيره عنه، فكيف إذا كان الراوي الآخر عنه منكر حديثه عنه مع ضعفه.
ومن العلل في هذه الطريق أيضاً مخالفة خليد وسعيد لمن رووا هذا الأثر عن قتادة ممن هم أوثق منهما، كأبي هلال وسعيد بن أبي عروبة ، فخالف هؤلاء الثقات فرفعوه وبهذا تتحقق نكارة ماذكرا.
ومن علل هذا الحديث -التي يضعف بها ولو صح عن قتادة، وهو بعيد عند أهل الصناعة- أنه من رواية الحسن عن أبي هريرة، وقد نص الحفاظ على أنه لم يسمع منه (انظر سير أعلام النبلاء 4/566)، قال أبو زرعة الرازي -كما في المراسيل ص36: "لم يسمع الحسن من أبي هريرة ولم يره. فقيل له: فمن قال حدثنا أبو هريرة؟ قال: يخطىء.(/2)
وقال الإمام أحمد بن حنبل ( العلل ومعرفة الرجال ص144): "ثنا عفان، ثنا وهيب، قال: قال أيوب: لم يسمع الحسن من أبي هريرة" وقد ذكر غيرهم أنه سمع حديثاً واحداً فقط، وأما ما يذكر من تصريحه بالتحديث عمن قرر الأئمة عدم سماعه منهم، كأبي هريرة وأبي سعيد وغيرهم، فبعض المحققين من الأئمة على أنه خطأ منه أو من غيره، وبعض أئمة الشأن ذكر أنه كان يتأول التحديث عن أصحابه، وليس هذا موضع بسط الكلام في هذا، الشاهد لايدرى من أسقط الحسن بينه وبين أبي هريرة هنا ليقال يتقوى بغيره، فضلاً عن أنه لم يرد غيره مما يصلح للتقوي به، والله أعلم.
فالذي يظهر للمتأمل –والله أعلم بالصواب- أن الحديث بهذه الألفاظ ضعيف بل هو منكر، وقد ضعفه الألباني –رحمه الله- في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة2/115رقم(661).
ويظهر أنه مرسل من قتادة كما رواى الثقات عنه، وصح أيضاً عنه موقوفاً، وهو من تفسيره للقرآن، وقد كان قتادة من أئمة التفسير.
أما معنى الأثر:
أما معناه فقد قال أهل العلم فيه أقوالاً من أظهرها وأرجحها:
أن المراد بالخلق التقدير لا الإيجاد، وهو من معاني الخلق اللغوية المعروفة (انظر مختار الصحاح ص78 خ ل ق: يقال خلق الأديم إذا قدره قبل القطع، بل الأصل في معنى خلق قدر واستعمل في الإبداع[انظر التعريفات 1/324]). وهو الذي اختاره الغزالي قال المناوي (فيض القدير5/53): " وأما قول الحجة: المراد بالخلق التقدير لا الايجاد فإنه قبل ولادته لم يكن موجودا"، وهو قول جمع ممن يأتي بيانهم عند الكلام على الأحاديث التالية، وقد تعقبه السبكي –رحمه الله- (انظر فيض القدير للمناوي 5/53 و كشف الخفاء للعجلوني 2/170) فقال: "إن كان كذلك لم يختص". وهذا التعقب ليس بشيء, فلئن كان في السبق بالإيجاد العيني مزية واختصاص فالتقدير مثله، ولئن لم تكن له مزية سقط الاعتراض بالاختصاص، كما أن الاختصاص هنا له وجهه, فإنه مع التقدير والكتابة رفع ذكره-صلى الله عليه وسلم- وأظهر اسمه للملأ في ذلك الوقت كما سيأتي في كلام أهل العلم، وهذا وجه تشريف.
وقد زعم السبكي بعد أن أشار إلى رد القول بوجود النبي -صلى الله عليه وسلم- بجسمه في ذلك الوقت، أشار إلى أن المراد روحه، لما جاء أن الأرواح خلقت قبل الأجساد، وهذا غير مسلم به، يحتاج إلى إثبات[6]، وقد علمه أبوحامد الغزالي, وقرر غيره ورده، هذا وقد اعترف بعضهم بأنه لاسبيل لإثبات أن الروح سبقت الجسم بالأدلة العقلية[7]، فعلم بذلك أنه لاسبيل لتقرير هذا الزعم، بالشرع ولابالعقل، فالشرع أتى بخلافه، فإن الذي ثبت في حديث الصادق المصدوق, أن الروح تنفخ بعد أن يجمع الخلق ويستتم أربعين ثم أربعين ثم أربعين[8]. كما أن الإنسان قبل خلقه ليس بشيء, والروح شيء، كما قال تعالى (وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً).فالصواب ما ذكره أبوحامد الغزالي –رحمه الله- في معنى هذا الحديث, وسيأتي بإذن الله مزيد بيان لهذا الوجه عند ذكر الأحاديث الأخرى.
وأبعد من هذا, قول ابن عربي محي الدين, صاحب الفصوص والفتوحات المكية، وقد ساقه المناوي في فيض القدير (5/53), والتمس له تأويلاً بما يشبه القول الثاني الآتي, والذي ذكره أهل العلم في مثل هذا الأثر، وتأويل المناوي لكلام ابن عربي وجه غير الذي أراده ابن عربي، ومعنى غير الذي قرره في فصوصه وفتوحاته، والذي بناه على اعتقاد وحدة الحقيقة الوجودية، ولعله تأتي الإشارة إليه عند ذكر آخر حديث.
القول الآخر في معنى هذا الحديث، ذكره الخلال بعد أن ساق الأثر, وهو قول الإمام أحمد قال: "أول النبيين يعني خلقاً (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح) فبدأ به" (السنة للخلال 1/188) قال مجاهد: "هذا في ظهر آدم عليه الصلاة والسلام" (تفسير القرطبي 14/127)، ذكره القرطبي بعد أن ذكر قول قتادة، وقد جاء في بعض طرق حديث (كنت نبياً وآدم بين الروح والجسد) الآتي، قوله صلى الله عليه وسلم: "حين أخذ مني الميثاق" (انظر طبقات ابن سعد 1/148 وقد أشار إليه في كشف الخفاء وفيض القدير والدر المنثور وغيرهم).
ولم يقل أحد من أهل العلم المعتبرين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مخلوقاً بجسده وروحه, موجوداً قبل ولادته فضلاً عن خلق الخلائق، ولو قاله لرد ولعازه الدليل الصحيح، بل الأدلة على خلاف هذا، وليس في ذلك نقص من مقامه-صلى الله عليه وسلم- كما أنه ليس لمن خلق أولاً فضل على من بعده لمجرد هذا.
أما الحديث الثالث: (إني عند ربي لخاتم النبيين وإن آدم لمجندل في طينته)، فصوابه لمنجدل.(/3)
وهو حديث العرباض بن سارية السلمي، وهو حديث مختلف في ثبوته بين الأئمة، قال ابن حجر في تعجيل المنفعة في ترجمة سعيد بن سويد الكلبي من رواة هذا الحديث 1/152: "وقال البخاري لم يصح حديثه يعني الذي رواه معاوية عنه مرفوعا(ً إني عبد الله وخاتم النبيين في أم الكتاب وآدم منجدل في طينته) وخالفه ابن حبان والحاكم فصححاه". وقد قال الذهبي في تاريخ الإسلام: "وقد روينا بإسناد حسن- إن شاء الله- ثم ذكر الحديث"[9] وقال شيخه ابن تيمية (الفتاوى 10/728): "وكذلك في حديث العرباض بن سارية الذي رواه أحمد وهو حديث حسن عن النبى -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:( إني عند الله لخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته) الحديث".
أما تأويله فواضح بيّن يأتي بعد بيان حكمه بإذن الله.
والذي يظهر للباحث المتأمل من طرق الحديث وألفاظه وما جاء في معناه أن فيه ضعفاً، ولكن موضع الشاهد بمعناه حسن، فقد جاء من حديث الترمذي وغيره (كنت نبياً وآدم بين الروح والجسد)، وهو غير الحديث الآخر الباطل الذي فيه( وآدم بين الماء والطين) أو( ولا ماء ولا طين) فهو من وضع بعض الجهال، ويأتي بيانه بإذن الله.
تنبيه:
أما الجزء الأخير من الحديث الذي جاءت فيه هذه الألفاظ وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: (وسأنبئكم بأول ذلك دعوة أبي إبراهيم..) فهو صحيح جاء بأسانيد جيدة، بغير الزيادة التي جاءت في بعض الروايات: (وهكذا أمهات الأنبياء يرين).
وقد روى هذا الحديث جمع من أهل العلم بألفاظ متقاربة منهم:
الإمام أحمد في المسند (4/127 و 128) قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, حدثنا معاوية يعني ابن صالح, عن سعيد بن سويد الكلبي, عن عبد الله بن هلال السلمي, عن عرباض بن سارية قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:( إني عبد الله لخاتم النبيين وإن آدم عليه السلام لمنجدل في طينته. وسأنبئكم بأول ذلك. دعوة أبي إبراهيم, وبشارة عيسى بي, ورؤيا أمي التي رأت, وكذلك أمهات النبيين ترين) حدثنا أبو العلاء وهو الحسن بن سوار قال: حدثنا ليث, عن معاوية, عن سعيد بن سويد, عن عبد الأعلى بن هلال السلمي, عن عرباض بن سارية قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول:( إني عبد الله وخاتم النبيين) فذكر مثله, وزاد فيه أن أم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رأت حين وضعته نورا أضاءت منه قصور الشام. وقد جاءت روايات أخرى (عند الله لخاتم النبيين...)، والأكثرون يروونه (إني عبدالله)، وهو الأقرب، وكأن (عبد) تصحفت إلى (عند) عند بعضهم.
وقد رواه أيضاً الحاكم في مستدركه 2/656، وابن حبان في صحيحه 14/313، وذكره الهيثمي في موارد الظمآن 1/512، والطبراني في الكبير 18/252 وفي مسند الشاميين 2/340، ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره 1/236، والطبري في تفسيره 1/556 كذلك 28/87، والبيهقي في الشعب 2/134، ورواه ابن أبي عاصم في السنة 1/179، وقد رواه البخاري في التاريخ الكبير 6/68 والصغير 1/13والأوسط، وأبونعيم في الحلية 6/90، وابن سعد في الطبقات الكبرى 1/190، ورواه النميري في أخبار المدينة 1/335، والفسوي في المعرفة والتاريخ 2/201، ورواه أبوالقاسم في تاريخ مدينة دمشق 1/168 و 21/99، ورواه البزار، وابن مردويه، وهو عند جمع غير هؤلاء، كلهم من إحدى طريقي أحمد أعني سعيد بن سويد عن عبدالله أو عبدالأعلى، أو من طريق سعيد بن سويد عن العرباض بغير واسطة، ورواه ابن شاهين في دلائل النبوة عن الأوزاعي مرسلاً، وكذلك روى أبو نعيم بسند منكر أنه جواب لسؤال عمر، بنحو الحديث التالي، ولكن لفظه (وآدم منجدل في طينته). وقد ذكر الأخيرين ابن كثير في البداية والنهاية.
أما طريق سعيد بن سويد عن عبدالأعلى فهو في روايات معاوية بن صالح عنه (وقد رواه عنه الليث بن سعد، وعبدالرحمن بن مهدي، وعبدالله بن وهب وعبدالله بن صالح)، وجاءت كذلك في رواية عمرو بن مرة عن سعيد بن سويد، وهي غريبة ذكرها في تاريخ مدينة دمشق والتفرد في هذا الطريق في كل الطبقات، وعامة الرواة يذكرونها عن معاوية بن صالح أو ابن أبي مريم، وفي جميع الطرق عن معاوية بن صالح جاء بلفظ (إني عبد الله) إلاّ في طريق عبدالله ابن وهب عند الطبري (28/87)، وابن حبان في الصحيح (14/312)، والذي يظهر أن هذا تصحيف، فقد ذكره ابن حبان في الثقات (5/128) بلفظ (عبدالله) في ترجمة عبدالأعلى، كما أن حرملة بن يحيى وإبراهيم بن المنذر روياه عن ابن وهب بلفظ (عبدالله) كما في تاريخ مدينة دمشق (21/99) و أخبار المدينة للنميري (1/335).
وهو في تفسير القرآن العظيم للحافظ ابن كثير (1/185، 3/495، 4/361) بلفظ (عند الله) معزواً لمسند أحمد من الطريق التي ذُكرت في المسند (4/127)، ولعل هذا تصحيف آخر من النساخ فما في اليمنية المثبت المطبوع هو (عبدالله)، كما أن الإمام أحمد رواه في موضعين آخرين بلفظ (عبدالله). والخلاف يسير فالمعنى قريب إن شاء الله.(/4)
أما أبوبكر بن أبي مريم فأسقط في روايته عبدالأعلى، فكل من روى الحديث من طريقه لم يذكره فدل ذلك على ابن أبي مريم هو من أسقط عبدالأعلى.والأصح رواية معاوية بن صالح وهو ابن حيدر بن سعيد بن سعد بن فهر الحضرمي الشامي الحمصي، فهو من الثقات بخلاف بكير بن عبدالله بن أبي مريم فهو ضعيف (انظر الجرح والتعديل 2/404).
وأما عبدالله أو عبدالأعلى بن هلال السلمي، وهو الصواب في اسمه كما قاله عبدالله بن الإمام أحمد (المسند 4/128) وكذا قال ابن حجر في إتحاف المهرة (11/145).
فقد ذكره ابن حبان في الثقات (5/128) برقم 4186، ولم أجد من وثقه، بل وجدت الحسيني يذكر أنه مجهول (الإكمال للحسيني 1/251).
ومعروفٌ ابن حبان بتفرده عن الجمهور بتوثيق من لم يعرف فيه جرح، وهو المجهول أو مستور الحال عند الجمهور، ولكن الذي يخفف من وطأة هذا هو أن الراوي إذا روى عنه ثقتان فالأظهر انتفاء الجهالة عنه أو كانت جهالته يسيرة كما قرر جمع من الحفاظ وقد نص على ذلك ابن القيم في زاد المعاد 5/38، وذكره الإمام الدار قطني في سننه3/174 وغيرهم جمع من المتقدمين والمتأخرين كالمزي والذهبي، ورجح ابن حجر أنه إذا روى عنه ثقتان ولم يوثق فمستور الحال، وهذه مسألة شائكة؛ أعني من روى عنه الثقات ولم يؤثر فيه كلام بجرح أو تعديل ولم يأت بما يستنكر ويخالف هل يكون مستور الحال كما قال ابن حجر (النزهة 53) وعليه جل المتأخرين، أو ترتفع عنه الجهالة مطلقاً كما نص عليه جمع من الأئمة والنقاد، وبغض النظر عن الراجح في مثل هذا؛ أعجبتني كلمة للشريف حاتم العوني، قال في (المرسل الخفي 1/375-377): " وإذا لم نجد في شيوخ التابعين أو المخضرمين توثيقا، ولا تجريحا، منصوصا عليه فإن لهذه الطبقة العليا، والصدر الأول من التابعين، ميزة على غيرهم، لعدم فشو الكذب فيهم، ولجلالة طبقتهم ، إلى قول ابن الصلاح: "يشبه أن يكون العمل على هذا الرأي ، في كثير من كتب الحديث المشهورة ، في غير واحد من الرواة الذين تقادم العهد بهم ، وتعذرت الخبرة الباطنة بهم".
ثم قال: "ولا يشك من لاحظ سياق ابن الصلاح ، أن (العمل) الذي جاء في كلامه ، أو كما قال: (العمل على هذا الرأي) هو رأي من احتج برواية المستور. حيث ذكر ابن الصلاح قبل كلامه السابق كلاما لسليم بن أيوب الرازي (ت 447هـ) في الاستدلال لمن احتج بحديث المستور.
لذلك أقول: إن من فهم كلام ابن الصلاح على غير الذي ذكرناه، وفسر (العمل) الوارد بغير الاحتجاج فإنه واهم! ((انظر رواة الحديث الذين سكت عليهم أئمة الجرح والتعديل بين التوثيق والتجهيل لعداب محمود الحمش 222)).
وهذا الفهم لكلام ابن الصلاح سبق إليه الحافظ المحقق عماد الدين ابن كثير في (اختصار علوم الحديث) وكفى به.
وسيأتي كلام ابن كثير بعد أسطر.
ونعود إلى مسألة الاحتجاج بكبار التابعين فهذا الإمام الذهبي يقول في آخر كتابه (ديوان الضعفاء): "وأما المجهولون من الرواة: فإن كان الرجل من كبار التابعين أو أواسطهم ، احتمل حديثه ، وتلقي حديثه بحسن الظن ، إذا سلم من مخالفة الأصول وركاكة الألفاظ. وإن كان الرجل منهم من صغار التابعين ، فيتأنى في رواية خبره ، ويختلف ذلك باختلاف جلالة الراوي عنه، وتحريه، وعدم ذلك. وإن كان المجهول من أتباع التابعين، فمن بعدهم فهو أضعف لخبره سيما إذا انفرد به".
فهذا كلام في معاملة المجاهيل ، وطبقاتهم في الاحتجاج يكتب بماء الذهب ويفرح به الحديثي فرحاً جماً!
وقال الحافظ ابن كثير أيضا في (اختصار علوم الحديث): "فأما المبهم الذي لم يسم, أو من سمي ولا تعرف عينه, فهذا ممن لا يقبل روايته أحد علمناه ، ولكنه إذا كان في عصر التابعين ، والقرون المشهود لهم بالخير فإنه يستأنس بروايته ، ويستضاء بها في مواطن".
قلت: وتنبه -أخي- أنه يتكلم عن (مجهول العين) ومع ذلك جعله ممن يستأنس بروايته ، فإذا كان من مجهولي الحال ومن التابعين, فلا شك أنه سيرتفع عند ابن كثير عن مجرد الاستئناس.
والمسألة لم تزل في حاجة إلى دراسة تستجلي بقية جوانبها ، وتضع لنا قاعدة واضحة في حكم الجهالة في طبقة كبار التابعين.
وكل ما أستطيع الجزم به هنا, هو أن لهذه الطبقة –من كبار التابعين- ميزة لا يصح معها أن يلحق الرواي عنهم لوم أو عيب في أقل تقدير!!"أهـ عن المرسل الخفي 1/375-377.
فمثل هذا مما يستأنس به هنا وبخاصة أن عبدالأعلى من الطبقة الوسطى من التابعين وهؤلاء يشملهم كلام الذهبي السابق وابن كثير.(/5)
ولكن إذا تجاوز الباحث –بشق الأنفس كما ترى- ما قرره المتأخرون في مثل عبدالأعلى، فإنه مضطر للوقوف أمام البخاري وابن عدي، لما قرراه في سعيد بن سويد الكلبي، قال ابن حجر (لسان الميزان 3/33): " سعيد بن سويد روى عنه عمرو بن مرة، ذكره بن عدى مختصراً وقال البخاري لا يتابع في حديثه انتهى، وذكره بن حبان في الثقات وقال يروى عنه معاوية قلت قال بن أبي حاتم روى عن عمر بن عبد العزيز وعبد الأعلى بن هلال وعنه معاوية بن صالح وأبو بكر بن أبي مريم" (وانظر ميزان الاعتدال للذهبي 3/212) وقد ذكر قول البخاري ابن عدي في الكامل في الضعفاء (3/408)، بالإضافة لكونه روى ما لايتابع عليه كما قال البخاري في حديث صلى بنا معاوية الجمعة بضحى (انظر التاريخ الكبير رقم (1594) 3/477).
فالذي يظهر أن الأقرب فيه ما ذكره البخاري رحمه الله.
أما معنى الحديث:
(لمنجدل في طينته): منجدل: أي ملقى على الجدالة, وهي الأرض (انظر غريب الحديث لابن الجوزي 1/144). ولذلك قال الخطابي:( أي مطروح على وجه الأرض, صورة من طين) (انظر غريب الحديث للخطابي 2/156).
ولا يفهم من قوله (عبدالله لخاتم النبيين) أو (عند الله لخاتم) أنه مخلوق، فلم يقل النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه: (مخلوق عند الله)، ولم يفهم هذا المعنى أحد من أهل العلم ولا قالوا به، ولو كان هو المراد لما كان لقوله:( خاتم النبيين معنى) ولأصبح المعنى (أنا مخلوق عندالله خاتم النبيين) فيه حشو وركاكة بذكر ختام النبوة ظاهر، وكيف يكون المراد أنه -صلى الله عليه وسلم- موجود نبياً مرسلاً، وخليل الرحمن إبراهيم- عليه السلام- يجهل هذا ويدعو: (ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم)!
ولكن المعنى أن نبينا -صلى الله عليه وسلم- عند الله عزوجل مقدر ومكتوب أنه نبي, بل خاتم النبيين وآدم في تلك الحال, ومنذ ذلك الوقت أعلن اسمه ورفع ذكره، وبهذا جاء النص الذي لامحيد عنه: (عند الله مكتوب) كما في لفظ هذا الحديث عند ابن حبان, والطبري الذي ساقه في التفسير. وجاء أيضاً عنده (عندالله في أم الكتاب) وهو كذلك في حلية الأولياء لأبي نعيم وكذلك في السنة وغيرها، وفي المستدرك (عند الله في أول الكتاب). الشاهد أن هذه التقييدات للنص تحكم بأن قوله (عند الله) أو (عبدالله لخاتم النبيين) إنما هو في التقدير والكتابة في أم الكتاب لنبوته- صلى الله عليه وسلم-. وهذا ضرب من وجود الأعيان في الصحف كتابة, وهو غير وجودها في الخارج، ومثاله كتابة رزق المولود يوم أن يستتم جمعه في بطن أمه، ومثاله أيضاً قوله تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، فلم يقل عاقل أنه كان موجوداً بعينه في الخارج يوم أنزلت التوراة، وبهذا يزول الإشكال وهو الذي جاء به النص، فإن قيل أن الله قدر محمداً –صلى الله عليه وسلم- نبياً قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، كما جاء في الصحيح: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء)، فكيف يقال قدر ثانية! فيجاب على ذلك بأنه قد تقرر أن التقدير منه ما هو عمري ومنه ماهو سنوي ومنه ما هو يومي[10]، ومنه أنواع أخرى ثم إن هذا التقدير لحكمة، قال شيخ الإسلام (الفتاوى 12/387): "والتقدير والكتابة تكون تفصيلاً بعد جملة فالله تعالى لما قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة،لم يظهر ذلك التقدير للملائكة، ولما خلق آدم قبل أن ينفخ فيه الروح أظهر لهم ما قدره، كما يظهر لهم ذلك من كل مولود كما في الصحيح عن ابن مسعود عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الله إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات؛ بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقى أو سعيد) وفي .. وفى رواية (ثم يبعث إليه الملك، فيؤمر بأربع كلمات؛ فيقال اكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح) فأخبر في هذا الحديث الصحيح أن الملك يؤمر بكتابة رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد بعد خلق جسد بن آدم وقبل نفخ الروح فيه فكان ما كتبه الله من نبوة محمد الذي هو سيد ولد آدم، بعد خلق جسد آدم، وقبل نفخ الروح فيه من هذا الجنس، كما في الحديث الآخر الذي في المسند وغيره عن العرباض بن سارية عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إني عند الله مكتوب خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته)".(/6)
وإليك طرفاً من كلام أهل العلم في هذا:
قال ابن كثير- رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: (ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم) الآية، (التفسير 1/185): " وقد وافقت هذه الدعوة المستجابة قدر الله السابق في تعيين محمد -صلوات الله وسلامه عليه- رسولا في الأميين, إليهم وإلى سائر الأعجميين من الإنس والجن, كما قال الإمام أحمد" ثم ذكر الحديث الآنف. وذكر كذلك في البداية والنهاية في كتاب مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما في الملأ الأعلى ، فقد كان أمره مشهورا مذكورا معلوما من قبل خلق آدم عليه الصلاة والسلام كما قال الإمام أحمد" وذكر الحديث.
قال ابن حبان في صحيحه 14/312 عند ذكر هذا الحديث: باب كتابة الله عنده محمداً -صلى الله عليه وسلم- خاتم النبيين.
وفي شعب الإيمان للبيهقي 2/134: " قال البيهقي- رحمه الله- ورواه أبو بكر بن أبي مريم, عن سويد بن سعيد, عن العرباض, عن النبي- صلى الله عليه وسلم-:( إني عند الله في أم الكتاب لخاتم النبيين) وإنما أراد- والله أعلم- أنه كذلك في قضاء الله وتقديره قبل أن يكون آدم عليه السلام".
قال ابن القيم في الجواب الصحيح 3/381-382: " ومراده أن الله كتب نبوته وأظهرها وذكر اسمه, ولهذا جعل ذلك في ذلك الوقت بعد خلق جسد آدم, وقبل نفخ الروح فيه,كما يكتب رزق المولود وأجله وعمله وشقي هو أو سعيد بعد خلق جسده, وقبل نفخ الروح فيه". وانظر هداية الحيارى لابن القيم 1/66.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية 2/149: " ومحمد سيد ولد آدم, فهو أعظم الذرية قدرا,وأرفعهم ذكرا, فأخبر أنه كتب نبيا حينئذ, وكتابة نبوته هو معنى كون نبوته، فإنه كون في التقدير الكتابي، ليس كوناً في الوجود العيني، إذ نبوته لم يكن وجودها حتى نبأه الله تعالى على رأس أربعين سنة من عمره، كما قال تعالى له: (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان)، وقال: (ألم يجدك يتيما فآوى * ووجدك ضالاً فهدى)، وقال: (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين)، ولذلك جاء هذا المعنى مفسراً فى حديث العرباض بن سارية" ثم ذكره وذكر طرقه، وقال أيضاً في الفتاوى(10/728) معلقاً على الحديث: " فكتب الله وقدر في ذلك الوقت وفى تلك الحال أمر إمام الذرية, كما كتب حال المولود من ذرية آدم بين خلق جسده ونفخ الروح فيه, كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث ابن مسعود".
ونصوص أهل العلم في هذا المعنى كثيرة وفيما ذكر كفاية.
ومما يزيد الأمر جلاءً الحديث الآخر: (كنت نبياً وآدم بين الروح والجسد)، وهو حديث صحيح[11]، بخلاف الحديث الآخر: (كنت نبياً وآدم بين الماء والطين)، والآخر (كنت نبياً ولا ماء ولاطين)، أو (كنت نبياً وآدم منحل في طينته) فإنها لاأصل لها.
الشاهد قوله- صلى الله عليه وسلم-:( كنت نبياً وآدم بين الروح والجسد) جاء جواباً لسؤال توضحه رواية الترمذي للأثر. قال:( عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قالوا يا رسول الله! متى وجبت لك النبوة؟ قال: (وآدم بين الروح والجسد).
ومعنى الحديث:
كالذي قبله، قال عبدالله الصديق الغماري في رسالته مرشد الحائر معلقاً على هذا الحديث: "وهو يفيد أن معنى كونه نبيًّا: إظهار ذلك في العالم العلوي قبل نفخ الروح في آدم عليه السلام.
وقد بيَّن الحديث أيضًا سر إعلان نبوته في ذلك العهد وانه يرجع إلى أمرين اختص بهما:
أحدهما: أنه سيد ولد آدم.
والآخر: أنه خاتم الأنبياء، وأيَّد ذلك بما ذكره من بشارة إبراهيم وعيسى به عليهم الصلاة والسلام.
والأنبياء جميعًا نبوتهم ثابتة في تقدير الله وقضائه، لكن لم يَرد في خبر أن الله تعالى أظهر نبوة أحد منهم بالتعيين قبل خلق ءادم، فلم يكن ذلك إلاّ لنبيّنا صلى الله عليه وسلم وهذا سر قوله: "كنت نبيًّا وءادم بين الروح والجسد" أي أن حملة العرش والملائكة عرفوا اسمه ونبوته قبل خلق آدم عليه السلام، وهم لم يعرفوا آدم إلاّ بعد خلقه.
وقال المباركفوري في تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي 10/56: " قوله متى وجبت لك النبوة أي: ثبتت، قال:( وآدم بين الروح والجسد)، أي وجبت لي النبوة, والحال أن آدم مطروح على الأرض صورة بلا روح، والمعنى أنه قبل تعلق روحه بجسده. قال الطيبي: هو جواب لقولهم متى وجبت؟ أي وجبت في هذه الحالة. فعامل الحال وصاحبها محذوفان".
وهذا الإيجاب بما كتب في القدر. فقد جاء الحديث في بعض طرقه بلفظ (متى كتبت نبياً) كما عند الطبراني، ومسند الروياني، وغيرها.(/7)
قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (18/369) :" وقوله: (كنت نبياً وآدم بين الروح والجسد)، وفى لفظ (كتبت نبياً) كقوله: (إني عند الله لمكتوب خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته)، فإن الله بعد خلق جسد آدم، وقبل نفخ الروح فيه، كتب وأظهر ما سيكون من ذريته، فكتب نبوة محمد وأظهرها، كما ثبت في الصحيحين عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: (يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه ملكا فيؤمر بأربع كلمات؛ فيقال أكتب رزقه, وأجله, وعمله, وشقى أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح)، فقد أخبر أنه بعد أن يخلق بدن الجنين في بطن أمه، وقبل نفخ الروح فيه، يكتب رزقه, وأجله, وعمله, وشقى أو سعيد. فهكذا كتب خبر سيد ولد آدم، وآدم منجدل في طينته قبل أن ينفخ الروح".
تنبيه:
روى هذا الحديث هدبة بن خالد فقال: نا حماد بن سلمة, نا خالد الحذاء, عن عبدالله بن شقيق, عن رجل بلفظ: (متى بعثت نبياً) قال: (وآدم بين الروح والجسد). [انظر الآحاد والمثاني 5/347 و السنة 1/179].
والذي يظهر للباحث المتأمل أن هذه اللفظة (بعثت) خطأ شذ به هدبة بن خالد -رحمه الله- لم يتابعه فيه أحد، فهدبة, وإن كان ثقة لم يضعفه غير النسائي, وتضعيف النسائي له غريب، فقد خالفه الجماعة ممن رووا هذا الحديث عن حماد بن سلمة، منهم سريج بن النعمان كما في المسند 4/66 و 5/379، وعفان بن مسلم, وعمرو بن عاصم كما طبقات ابن سعد الكبرى 1/148، فهؤلاء ثلاثتهم خالفوا هدبة في روايتهم عن حماد,فرواه سريج بلفظ (متى جعلت نبياً) ، ورواه الآخران بلفظ (متى كنت نبياً) وهكذا رواه جمع من غير طريق حماد بن سلمة، وحديث سريج بمعناه، والله أعلم.
ولو صح أن لفظ (بعثت) محفوظ فلا إشكال في معناه. فالمعنى: متى أبرز اسمك, وأعلنت نبوتك؟ فأجاب- صلى الله عليه وسلم-: (وآدم بين الروح والجسد). أي كنت نبياً مقدراً ومكتوباً أعلن ذلك وأذيع، وآدم في تلك الحال. كما صحت بذلك الروايات الأخرى. فتكون مبينة لهذه، والله أعلم.
أما الحديث الآخر الذي يروونه بلفظ: (كنت نبياً وآدم بين الماء والطين)، ومثله (كنت نبياً ولا آدم ولا ماء ولاطين) فحديث باطل موضوع لا أصل له, ولايستقيم مع عقل.
وقد زعم العلقمي في شرح الجامع الصغير أنه صحيح. ولعله اختلط عليه مع حديث (وآدم بين الروح والجسد)، كما اختلط على المناوي في فيض القدير, فظن أن معناهما واحد, فصححه به. والصحيح أن حديث (وآدم بين الماء والطين) أو (ولا آدم ولا ماء ولا طين) ليس له سند, ولم يخرجه من أهل العلم أحد.
وهذا بعض كلام أهل العلم فيه:
قال السخاوي في المقاصد الحسنة: "وأما الذي على الألسنة بلفظ: (كنت نبياً وآدم بين الماء والطين) فلم نقف عليه بهذا اللفظ، فضلاً عن زيادة: (كنت نبياً ولا آدم ولا ماء ولا طين)".
قال المباركفوري بعد أن نقل كلام السخاوي في التحفة عن المرقاة 10/56: "وقال الزركشي: لا أصل له بهذا اللفظ" وكلام الزركشي نقله أيضاً علي القاري في المصنوع في معرفة الحديث الموضوع ص142، ثم ذكر صاحب التحفة كلام السيوطي, وهو في الدر المنثور في الأحاديث المشتهرة قائلاً: "قال السيوطي: وزاد العوام (ولا آدم, ولا ماء, ولا طين) ولا أصل له أيضاً"[12].
مما قيل في بطلان معناه:
قال شيخ الإسلام (الفتاوى 2/147): " وأما ما يرويه هؤلاء الجهال كابن عربى فى الفصوص، وغيره من جهال العامة (كنت نبيا وآدم بين الماء والطين)، (كنت نبيا ولا آدم, ولا ماء, ولا طين)، فهذا لا أصل له، ولم يروه أحد من أهل العلم الصادقين، ولا هو في شيء من كتب العلم المعتمدة بهذا اللفظ، بل هو باطل. فإن آدم لم يكن بين الماء والطين قط، فإن الله خلقه من تراب، وخلط التراب بالماء حتى صار طيناً، وأيبس الطين حتى صار صلصالاً كالفخار، فلم يكن له حال بين الماء والطين مركب من الماء والطين، ولو قيل بين الماء والتراب لكان أبعد عن المحال، مع أن هذه الحال لا اختصاص لها وإنما قال: (بين الروح والجسد)، وقال: (وإن آدم لمنجدل في طينته) لأن جسد آدم بقى أربعين سنة قبل نفخ الروح فيه، كما قال تعالى: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً)، وقال تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من صلصال من حمإ مسنون فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين)، وقال تعالى: (الذى أحسن كل شئ خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين * ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين * ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون)..."
قال عبدالله الغماري في مرشد الحائر بعد أن نبه على أن هذا الحديث لا أصل له:(/8)
"وما يوجد في كتب المولد النبويّ من أحاديث لا خطام لها ولا زمام، هي من الغلو الذي نهى الله ورسوله عنه، فتحرم قراءة تلك الكتب، ولا يقبل الاعتذار عنها بأنّها في الفضائل لأن الفضائل يتساهل فيها برواية الضعيف، أمّا الحديث المكذوب فلا يقبل في الفضائل إجماعًا، بل تحرم روايته إلا مع بيان أنه موضوع.
والنبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: (من حدّث عني بحديث يُرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين)
يرى بضم الياء: معناه يظن.
ويقول: (من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار)
وفضل النبي صلى الله عليه وسلم ثابت في القرءان الكريم، والأحاديث الصحيحة، وهو في غنى عما يقال فيه من الكذب والغلو، وقال صلى الله عليه وسلم: (لاتطروني كما أطرت النصارى عيسى فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله)." أهـ كلام الغماري.
أما الحديث الأخير: (وأول ما خلق الله نور نبيك يا جابر)، والمنسوب لمصنف عبدالرزاق كذباً وزوراً، فهو حديث موضوع، نبه على ذلك جمع وكتبوا فيه.
مع العلم أن في هؤلاء المؤلفين السلفي والأشعري ومن فيه تجهم! وكلهم على وضعه، ولم يقل به إلاّ دعاة وحدة الوجود، والاتحادية، ومن قلدهم من الجهال، وممن نبه على وضعه:
عبدالله الصديق الغماري، في رسالة بعنوان: "مرشد الحائر لبيان وضع حديث جابر".
وحسن السقاف، وله إرشاد العاثر لوضع حديث أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر.
وكذلك هناك رسالة لأبي عمر محمد العطايا، حول هذا الحديث، وقد استفدت منها في النقل هنا.
ومحمد أحمد عبدالقادر الشنقيطي، في تنبيه الحذاق على بطلان ما شاع بين الأنام من حديث النور المنسوب لمصنف عبد الرزاق.
وكذلك رسالة (النور المحمدي) لعداب الحمش.
وهناك من تعرض له في معرض حديثه كالصادق محمد إبراهيم في رسالته " خصائص المصطفى بين الغلو والجفا".
أما نص الحديث فهو: عن جابر-رضي الله عنه-قال : سألت رسول الله-صلى الله عليه وسلم- عن أول شئ خلقه الله تعالى؟ فقال: ((هو نور نبيك يا جابر؛ خلقه الله ثم خلق فيه كل خير وخلق بعده كل شئ ، وحين خلقه أقامه قدامه من مقام القرب اثني عشر ألف سنة، ثم جعله أربعة أقسام: فخلق العرش من قسم، والكرسي من قسم، وحملة العرش وخزنة الكرسي من قسم .
وأقام القسم الرابع في مقام الحب اثني عشر ألف سنة ، ثم جعله أربعة أقسام: فخلق القلم من قسم ، واللوح من قسم ، والجنة من قسم ، وأقام القسم الرابع في مقام الخوف اثني عشر ألف سنة ، ثم جعله أربعة أجزاء : فخلق الملائكة من جزء ، والشمس من جزء ، القمر والكواكب من جزء .
وأقام الجزء الرابع في مقام الرجاء اثني عشر ألف سنة ، ثم جعله أربعة أجزاء : فخلق العقل من جزء ، والعلم والحكمة من جزء ، والعصمة والتوفيق من جزء .
وأقام الجزء الرابع في مقام الحياء اثني عشر ألف سنة ، ثم نظر الله -عز وجل- إليه، فترشح النور عرقاً ، فقطر منه مائة ألف أربعة وعشرون ألف قطرة من النور ، فخلق الله من كل قطرة روح نبي أو روح رسول ، ثم تنفست أرواح الأنبياء ، فخلق الله من أنفاسهم الأولياء والشهداء والسعداء والمطيعين إلى يوم القيامة ، فالعرش والكرسي من نوري ، والكروبيون من نوري ، والروحانيون والملائكة من نوري ، والجنة وما فيها من النعيم من نوري ، وملائكة السموات السبع من نوري ، والشمس والقمر والكواكب من نوري ، والعقل والتوفيق من نوري ، وأرواح الرسل والأنبياء من نوري ، والشهداء والسعداء والصالحون من نتاج نوري .
ثم خلق الله اثني عشر ألف حجاب فأقام الله نوري، وهو الجزء الرابع في كل حجاب ألف سنة ، وهي مقامات العبودية والسكينة والصبر والصدق واليقين ، فغمس الله ذلك النور في كل حجاب ألف سنة ، فلما أخرج الله النور من الحجب ركبه الله في الأرض ، فكان يضيء منها ما بين المشرق والمغرب كالسراج في الليل المظلم .
ثم خلق الله آدم من الأرض فركب فيه النور في جبينه ، ثم انتقل منه إلى شيث ، وكان ينتقل من طاهر إلى طيب ، ومن طيب إلى طاهر إلى أن أوصله الله صلب عبد الله بن عبد المطلب ، ومنه إلى رحم أمي آمنة بنت وهب ، ثم أخرجني إلى الدنيا فجعلني سيد المرسلين, وخاتم النبيين ، ورحمة للعلمين ، وقائد الغر المحجلين.
هكذا كان بدء خلق نبيك يا جابر)) .
قال عبدالله الغماري: وقد ذكره بتمامه ابن العربي الحاتمي في كتاب "تلقيح الأذهان ومفتاح معرفة الإنسان"، والديار بكري في كتاب "الخميس في تاريخ أنفس نفيس". وعزْوه إلى رواية عبد الرزاق خطأ، لأنه لا يوجد في مصنفه ولا جامعه ولا تفسيره. وقال الحافظ السيوطي في الحاوي:"ليس له إسناد يعتمد عليه" أ.هـ.، وهو حديث موضوع جزمًا، وفيه اصطلاحات المتصوفة، وبعض الشناقطة المعاصرين ركّب له إسنادًا فذكر أن عبد الرزاق رواه من طريق ابن المنكدر عن جابر وهذا كذب يأثم عليه.
قلت: وممن أخطأ فعزاه لعبدالرزاق العجلوني في كشف الخفاء، وقد اعتمد على إحالة صاحب المواهب[13].(/9)
وقال أبو عمر –في بحثه المشار إليه- : " وعزاه لـ(مصنف عبد الرزاق) : السيوطيُّ في الخصائص الكبرى والقسطلاني[14] وابن عربي الصوفي[15] وأحمد رضا البريلوي[16] ومحمد عثمان عبده البرهاني[17] وجماعة آخرون من المتصوفة ، وذكره الديار بكري في "الخميس في سيرة أنفس نفيس"[18] .
ولم أقف عليه في شيء من كتب الحديث حتى كتب الموضوعات بل مصنف عبد الرزاق فالعزو إليه إما وَهم، وإما خلط بحديث آخر يأتي ذكره –إن شاء الله تعالى- في موضوع مستقل ، وإما محض كذب وافتراء . والله أعلم".
قال السيوطي في الحاوي (1/223-225): والحديث المذكور في السؤال ليس له إسناد يعتمد عليه.
وعقب على هذا الكلام عبدالله الغماري (في ملحق قصيدة البردة ص75) قائلاً: " وهو تساهل قبيح بل الحديث ظاهر الوضع ، واضح النكارة … "إلى أن قال: "والعجب أن السيوطي عزاه إلى عبد الرزاق مع أنه لا يوجد في مصنفه ولا تفسيره ولاجامعه وأعجب من هذا أن بعض الشناقطة صدق هذا العزو المخطيء فركب له إسناداً من عبد الرزاق إلى جابر، ويعلم الله أن هذا كله لا أصل له فجابر -رضي الله عنه- بريء من رواية هذا الحديث وعبد الرزاق لم يسمع به"، وذكر في الحاشية أن المنصوص عن عبدالرزاق في تفسيره أن أول الأشياء[19] وجوداً الماء.
وقال أحمد بن الصديق الغماري: مستدركاً على السيوطي-أيضاً-: (وهو حديث موضوع لو ذكره بتمامه لما شك الواقف عليه في وضعه ، وبقيته تقع في ورقتين من القطع الكبير ؛ مشتملة على ألفاظ ركيكة ، ومعان منكرة)[20].
ووافقه على وضعه الأستاذ عبد الله الهرري بعد أن أورد عبارة أحمد الغماري في كتابه الدليل القويم ص/180 وقال عقبه: "وهو جدير بكونه موضوعًا".
وبعض الدجاجلة ينسبه لمسند أحمد، ولا أخاله من الألف ألف حديث التي اختار منها المسند، وبعضهم يزعم أنه حصل عليه من طريق الكشف، وقد علق الغماري على ذلك بقوله: "وقد ادعى بعضهم أيضًا أن هذا الحديث أي حديث جابر المفتعل صحّ كشفًا. فهذا كلام لا معنى له لأن الكشف الذي يخالف حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا عبرة به". وقد بين مخالفته للقرآن والسنة بقوله:"أقول: هذا الحديث مخالف لقوله تعالى: (قل إنما أنا بشر مثلكم)، ومخالف للحديث الذي رواه البخاري والبيهقي وابن الجارود عن عمران بن حصين أن أهل اليمن أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله جئناك لنتفقّه =في الدين ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان، قال: "كان الله ولم يكن شىء غيره، وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شىء، ثم خلق السموات والأرض"، وللحديث الذي رواه ابن ماجه وابن حبّان أن أبا هريرة قال: يا رسول الله إني إذا رأيتك طابت نفسي وقرَّت عيني فأنبئني عن كل شىء قال: "إن الله تعالى خلق كل شىء من الماء"، وللحديث الذي رواه السُّدّي الكبير عن ابن عبّاس موقوفًا: "ما خلق الله تعالى شيئًا مما خلق قبل الماء".
الشاهد أن هذا الحديث لاسند له إلاّ سند مركب محدث، لاوجود له في كتب أهل العلم المسندة، لا صحيح ولا ضعيف..
ولم يقل بما فيه أحد من أهل العلم سلفيهم، وأشعريهم، بل ومن فيهم شيء من التجهم والاعتزال.
ما قال به إلاّ أهل وحدة الوجود ومن قلدهم من جهال المتصوفة أو نقل عنهم، وهو(/10)
خير جليس
المحتويات
مقدمة
لماذا نقرأ؟
وقفات مع القراء
لمن نقرأ ؟
معوقات القراءة
كيف نقرأ؟
القراءة السريعة
أدبيات في القراءة والكتب
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهديه الله فلا مضل له ومن يضل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله ، وبعد:
هذا العنوان جزء من شطر بيت من أبيات الشعر.. وخير جليس في الزمان كتاب، وذلك أننا نرى المسلمين -ونحن بالأخص منهم - قد أعلنا مقاطعة تامة مع القراءة، ومع حرصنا على الاستفادة من أوقاتنا -وإن كان حرصاً محدوداً - ومع استفادتنا أيضاً من جزء كبير من أوقاتنا، إلا أن نصيب القراءة عند كثير منا لا يزال ضئيلاً، ولو طُرح عليك سؤال عن آخر كتاب قرأته، ومتى انتهيت منه؟ ومتى بدأته؟ فستجد الإجابة خير دليل على هذه الدعوى.
فما أحوجنا إلى أن نعيد النظر مرة أخرى في هذه المقاطعة الظالمة الجائرة مع القراءة.
لماذا نقرأ؟
سؤال نطرحه بين يدي هذا الموضوع، ما الدوافع التي تدعونا للقراءة وإلى دفع ثمن باهظ لتحصيلها؟ وهو ثمن مالي من خلال توفير الكتاب واشترائه، وإلى أن ندفع ما هو أثمن منه وهو الوقت فنصرف جزءاً من أوقاتنا في القراءة فلماذا نقرأ؟
ولعل الإجابة معروفة لدينا سلفاً لكنها وقفات عاجلة حول فوائد أو دواعي القراءة:
أولها: وهو أهمها وأساسها: أن القراءة وسيلة لتحصيل العلم الشرعي، من خلال تلاوة كتاب الله عز وجل، والقراءة في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والقراءة فيما دونه أهل العلم تفسيراً لكلام الله سبحانه و تعالى، وسياقاً لحديث النبي صلى الله عليه وسلم وشرحاً وتعليقاً على جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم. أو حديثاً في مسائل الفقه، أوفي أبواب الاعتقاد، أو في علوم الوسائل من مصطلح وأصول وقواعد عربية وغيرها، أو من كتب الزهد والورع والرقائق وغيرها.
إن القراءة تعد وسيلة مهمة لتحصيل العلم الشرعي وإدراكه؛ ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، ومن خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع. إن هذه النصوص وغيرها والتي تدعو إلى طلب العلم وتحث عليه، وتُفضِّلُ أهل العلم على غيرهم، وتُفضِّلُ الانشغال بالعلم على ما سواه، تدل هي أيضاً على فضل القراءة وأهميتها والحث عليها؛ حين يكون الدافع والمقصد لها تحصيل العلم الشرعي.
ثانياً: القراءة وسيلة لتوسيع المدارك والقدرات؛ لأن المرء حين يقرأ، يقرأ في اللغة وفي الأدب والتفسير والفقه والعقيدة، ويقرأ في علوم المقاصد وعلوم الوسائل، ويقرأ في ما ألف قديماً وألف حديثاً؛ وذلك مدعاة لتوسيع مداركه وإثراء عقليته، ولعل هذا يفسر لنا التخلف الذريع الذي نعاني منه بين صفوف كثيرٍ من شبابنا، والمسافة غير المتوازنة بين قدراتهم العقلية ابتداءً، وبين ما هم عليه من تفكير وقدرات، ويبدو ذلك حين تطرح مشكلة على بساط البحث أو النقاش، أو حين يتساءل أحدهم أو حين يقف متحدثاً؛ فتلمس من خلال ذلك ضحالة التفكير، وضعف المعالجة وسطحيتها، في حين أن ذكاءه يؤهله لمنزلة أعلى من تلك التي هو عليها.
ثالثاً: القراءة وسيلة لاستثمار الوقت، والمرء محاسب على وقته ومسؤول عنه، وسيسأل يوم القيامة عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، ولا يزال الكثير من الشباب يتساءل كثيراً فيم يقضي وقته، ولا يزال الفراغ يمثل هاجساً أمام الشباب يبحثون فيه عما يقضون به أوقاتهم، فالشباب الذين لا هم لهم إلا السير يمنة ويسرة والتجول في الأسواق والطرقات ولقاء فلان وفلان الدافع لذلك كله هو الفراغ وقضاء الوقت.
ولا نبرئ أنفسنا معشر الشباب الصالحين، فإننا أيضاً نلمس من أنفسنا المعاناة من الفراغ ولا نجيد استثماره واغتنامه، وحين يجد بعض الشباب وقتاً من الفراغ يتناول سماعة الهاتف فيتصل على فلان والآخر والثالث ليصحبهم إلى هدف غير معلوم ومحدود، اللهم إلا قضاء الوقت أو يجلس وإياه ليلة يتبادلان الحديث، وتراه يعيش مهموماً حين يفتقد صاحبه ذاك الذي اعتاد أن يقف بسيارته أمام منزله بعد صلاة العصر ويودعه في المنزل مصحوباً بحفظ الله بعد صلاة العشاء، حين يفتقد صاحبه يوماً من الأيام كأنه يعيش مأساة، وأمامه ساعات لا يدري بم يقضيها، لكن لو كان هذا الشاب قد اعتاد على القراءة وصارت دأباً وديدناً له لم يعد يشكو من هذا الفراغ، بل كان يبحث عن الفراغ ويفرح به ليستثمره ويغتنمه.
رابعاً: القراءة وسيلة للتعويد على البحث، إننا حينما تواجهنا مشكلة أو يطرق بالنا سؤال حول تفسير آية من كلام الله أو حول حديث أيصح أم لا؟ أو البحث عن كلمة غامضة، أو رأي فقهي أو غير ذلك من المسائل، لا يسوغ أن يكون دائماً طريقنا الأول هو السؤال لا غير، فلابد أن يكون لنا وسيلة للبحث والقراءة.(/1)
إنك لو أبقيت شاباً من الشباب في مكتبة عامرة بالكتب، وطلبت منه أن يعطيك تفسيراً لآية من كلام الله عز وجل، أو يدلك على حديث من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيأتي به بلفظه مصاحباً لذلك بعزوه إلى من رواه، ومعقباً عليه ببيان كلام أهل العلم فيه صحة وضعفاً، أو سألناه عن معنى كلمة غريبة، أو قائلِ بيت من الشعر، أو عَلَمٍ من الأعلام، فسيبقى فيها دهراً طويلاً دون أن أن يعثر على ما يبحث عنه، ولو كان معتاداً على القراءة وعلى قضاء قدر من الوقت في المكتبة، لاستطاع الوصول إلى ذلك بسهولة.
والذي لايقرأ لو أراد أن يعد خطبة أو حديثاً يلقيه، فيحتاج أن يجمع طائفة من الأحاديث وأقوال السلف وبعض أقوال من كتب حول هذا قديماً وحديثاً، فإنه قد لا يجد وسيلة لجمع ذلك كله، اللهم إلا أن يجد كتيباً يحمل عنوان كلمته؛ فيسطو عليه ملخصاً وناقلاً.
خامساً: القراءة وسيلة للإفادة من تجارب الآخرين، إنك حين تقرأ وتعتاد القراءة تعطي لفكرك امتداداً واسعاً على مدى الزمن لا ينتهي إلا حيث بدأ التدوين والكتابة؛ فأنت تقرأ لأولئك الذين تراهم وتعرفهم، وتقرأ لجمع ممن عاصرتهم ولم تتح لك فرصة اللقاء بهم والسماع منهم، وتقرأ لأولئك الذين سبقوك فماتوا قبلك، وتقرأ في سير أهل القرون الأولى من سلف الأمة ورعيلها الأول؛ فالقراءة تعطيك رصيداً هائلاً عمره بالقرون، وتمدك بتجارب أولئك الذين مضوا من أزمنة كثيرة وأمكنة شتى وثقافات مختلفة ومناهج متباينة، بل يستطيع القارئ الناقد أن يستفيد حتى من تجارب الأعداء ومما كتبوه والحق ضالة المؤمن.
سادساً: القراءة وسيلة تربوية؛ فأنت حين تعاني ضعفاً في الهمة في طلب العلم فما عليك إلا أن تقرأ كتاباً جمع سير وأخبار القوم كيف علت همتهم في التحصيل والطلب، وحين ترى من نفسك جرأة وإقداماً على المعصية فما عليك إلا أن تعود إلى من كتب في ذلك فتقرأ فيه؛ فتجد فيه ما يزجرك ويهزك هزًّا عنيفاً، وحين تشكو من هذه المشكلة أو تلك، تفزع إلى كتابك وتقرأ فيه ما يكون بإذن الله مجيباً على تساؤلك، وما يكون معيناً لك في أن تعالج بعض ما تعني منه.
وقفات مع القراء
وهي وقفات عاجلة نشير فيها إلى بعض ما نُقل عن سلف الأمة، وعن بعض المعاصرين منهم في عنايتهم بالقراءة وجمع الكتب والعناية بها.
أولاً: في جمع الكتب والاعتناء بها: فقد كان أحدهم وهو ابن عقدة تعدل كتبه حمل ستمائة جمل، وابن القيم رحمه الله كان مغرماً بجمع الكتب، يقول عنه الحافظ ابن حجر: وكان مغرماً بجمع الكتب فحصل منها مالا يحصى حتى كان أولاده يبيعون منها دهراً طويلاً سوى ما اصطفوه لأنفسهم، ويحيى بن معين خلف مائة قمطر وأربعة عشر قمطراً، والقاضي عبدالرحيم بن علي بلغنا أن كتبه التي ملكها بلغت مائة ألف مجلد وكان يحصلها من سائر البلاد، ومحمد بن عبدالله السلمي قرأ وجمع من الكتب النفيسة ومهما فتح عليه صرفه في ثمن الكتب.
ثانياً : في كثرة القراءة: وممن نقل عنه ذلك الإمام بن شهاب الزهري رحمه الله، فقد كان يجلس في مكتبته ويقرأ وقتاً طويلاً حتى إن زوجته قالت والله لهذه أشد علي من ثلاث ضرائر، وعبدالله بن عبدالله بن عبدالعزيز، قال: لقد غبرت علي أربعون عاماً ما قمت ولا نمت إلا والكتاب على صدري، والحافظ ابن حجر قرأ في حال إقامته في دمشق -وكانت شهرين وثلث تقريباً- قرأ قريباً من مائة مجلد مع ما يعلقه ويقضيه من أشغال.
وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول عن نفسه: لقد طالعت التفاسير المنقولة عن الصحابة، ووقفت من ذلك على ما شاء الله تعالى من الكتب الصغار والكبار أكثر من مائة تفسير، فلم أجد إلى ساعتي هذه عند أحد من الصحابة أنه أوّل شيئاً من آيات الصفات. فقد حكى عن نفسه أنه قرأ أكثر من مائة تفسير فما بالكم بما قرأه من كتب الحديث والفقه والعربية وعلوم الحديث والعقيدة وغيرها من أبواب العلم.
أما ابن الجوزي يقول محدثاً عن نفسه: وإني أخبر عن حالي ما أشبع من مطالعة الكتب، وإذا رأيت كتاباً لم أره فكأني وقعت على كنز، ولقد نظرت في ثبت الكتب الموقوفة في المدرسة النظامية فإذا به يحتوي على نحو ستة آلاف مجلد، وفي ثبت كتب أبي حنيفة وكتب الحميدي وكتب شيخنا عبدالوهاب بن ناصر وكتب أبي محمد بن الخشاب وكانت أحمالاً، وغير ذلك من كل كتاب أقدر عليه، ولو قلت إني طالعت عشرين ألف مجلد كان أكثر وأنا بعد في الطلب.
ثالثاً مع المعاصرين: ممن كان كثير القراءة الأديب المشهور الأستاذ/ علي الطنطاوي، فيقول عن نفسه: لو أحصيت معدل الساعات التي كنت أطالع فيها لزادت على عشر في اليوم.(/2)
والمحدث العلامة الشيخ محمد بن ناصر الدين الألباني رحمه الله كان يعمل في اليوم ثلاث ساعات في إصلاح الساعات ويصرف ما بقي في القراءة، وكان يدخل المكتبة الظاهرية ويبقى فيها أحياناً اثنتي عشرة ساعة، وقد خصَّصَت له فيها غرفة خاصة؛ فكان يأتي قبل الموظفين في الصباح وكان من عادة الموظفين الانصراف ظهراً، فكان لا ينصرف ويتناول غداءه في المكتبة.
رابعاً: من غرائب أحوالهم في القراءة: للخطيب البغدادي رحمه الله كتاب نفيس أسماه تقييد العلم، ذكر في آخره فصولاً عن الكتب منها الفصل الرابع ذكر من وظف على نفسه السبل في مطالعة الكتاب ودرسه، وروى فيه عن أبي العباس المبرد قال: ما رأيت أحرص على العلم من ثلاثة الجاحظ والفتح بن خاقان وإسماعيل بن إسحاق القاضي، فأما الجاحظ فإنه كان إذا وقع في يده كتاب قرأه من أوله إلى آخره أي كتاب كان، وأما الفتح بن خاقان فكان يحمل الكتاب في كمه فإذا قام من بين يدي ليبول أو ليصلي أخرج الكتاب فنظر فيه وهو يمشي حتى يبلغ الموضع الذي يريد ثم يصنع ذلك في رجوعه إلى أن يبلغ مجلسه، وأما إسماعيل بن إسحاق فإني ما دخلت عليه قط إلا وفي يده كتاب ينظر فيه أو يقلب الكتب بطلب كتاب ينظر فيه.
الإمام أبو داود السجستاني صاحب السنن كان حين يفصل ثيابه يجعل كماً واسعاً وكماً ضيقاً فقيل له في ذلك، فقال: الكم الواسع للكتب، والضيق لا حاجة له. لقد كانت قضية القراءة واصطحاب الكتاب قضية تشغل باله فلا ينسى ذلك وهو يفصل ثيابه رحمه الله، وأبو العباس الشيباني قيل في سبب موته أنه خرج من الجامع وفي يده كتاب ينظر فيه وكان قد أصابه صمم شديد، فصدمته فرس فأُلقي في هوةٍ فاضطربت دماغه فمات في اليوم الثاني رحمه الله.
وأبو بكر الخياط النحوي كان يدرس جميع أوقاته حتى في الطريق، وكان ربما سقط في جرف أو خبطته دابة، والجاحظ وقد مر شيء من خبره قبل قليل كان يكتري الدكاكين من الوراقين ويبيت فيها للنظر في الكتب فيبيت فيها في الليل حيث لا يكون أصحابها فيها، وقال سليم بن أيوب الرازي -حاكياً عن أبي الفرج الاسفراييني-: أنه نزل يوماً إلى داره فقال: قد قرأت جزءاً في طريقي -وهم يسمون الكتاب الصغير جزءاً-.
ويحكي عبدالرحمن بن أبي زرعة عن والده الإمام أبو زرعة فيقول: ربما كان يأكل وأقرأ عليه، ويمشي وأقرأ عليه، ويدخل الخلاء في الطريق وأقرأ عليه، ويدخل البيت في طلب شيء وأقرأ عليه.
وكان الألباني يستعير الكتب من صاحب مكتبة تجارية في دمشق، حتى يأتي من يبحث عن الكتاب ليشتريه؛ فيبعث له صاحب المكتبة ويرده عليه.
هذه بعض الأخبار في عناية من سلف في القراءة والتحصيل، وحين نسوق خبر ذاك الذي يقرأ في الطريق أو الذي يُقرأ عليه وهو يأكل الطعام، أو من سقط في جرف أو خبطته دابة وهو يقرأ، فإنها ليست دعوة إلى أن نسلك هذا السلوك؛ فذاك مسلك من استثمروا أوقاتهم وعمروها بالقراءة والعلم والتحصيل حتى لم يجدوا إلا هذه الأوقات، أما نحن فنملك رصيداً هائلاً من الأوقات التي نستطيع أن نقرأ فيها ونحن ساكنين مطمئنين دون أن نصاب بجرح أو نخبط في طريق أو دابة.
لمن نقرأ ؟
يدعو البعض إلى القراءة لكل شخص ويقول: اقرأ كل ما وقع في يدك، وقد يكون هذا المنطق مناسباً لفئة معينة من القراء، أما نحن في هذه المرحلة فأرى أن نختار ما نقرأ وأن نعتني به، وألا نقرأ لأي كاتب أو أي عنوان لأمور عدة:
أولها: أن المرء حين يقرأ بعض ما كتبه أولئك الذين قد دونوا بعض زلاتهم وشطحاتهم قد يقع فيها من حيث لا يشعر، ويوصي بذلك العلامة ابن القيم رحمه الله حين تحدث عن الخوارج في قصيدته الكافية الشافية وضلالهم ،قال:
يامن يظن بأننا حفنا عليهم*** كتبهم تنبيك عن ذا الشان
فانظر ترى لكن نرى لك تركها*** حذراً عليك مصائب الشيطان
فشباكها والله لم يعلق بها*** من ذي جناح قاصر الطيران
إلا رأيت الطير في قفص الردى*** يبكي له نوحٌ على الأغصان
ويظل يخبط طالباً لخلاصه*** فتضيق عنه فرجة العيدان
والذنب ذنب الطير خلا أطيب الثـ*** مرات في عا من الأفنان
وأتى إلى تلك المزابل يبتغي الـ*** فضلات كالحشرات والديدان
ياقوم والله العظيم نصيحة*** من مشفق وأخ لك معوان
جربت هذا كله ووقعت في *** تلك الشباك وكنت ذا طيران
حتى أتاح لي الإله بفضله ***من ليس تجزيه يدي ولساني
فالله يجزيه الذي هو أهله ***من جنة المأوى مع الرضوان
أخذت يداه يدي وسار فلم يرم*** حتى أراني مطلع الإيمان
ورأيت أعلام المدينة حولها ***نزل الهدى وعساكر القرآن(/3)
إنه يشبِّه حال هذا الذي يقرأ هذه الكتب بذاك الطير الذي يترك الثمرات العالية، ويأتي إلى أسفل الشجر؛ فقد يدخل في شباك فيحاول أن يخرج فيخفق، والطائر حين يدخل في الشباك ويخفق تزيد الشبكة التواءً عليه حتى لا يستطيع الطيران. فهذا حال من يقع في الشبه، فهو يقع في شبهة من الشبه ثم يبحث لها عن حل، ثم يقع في شُبهة أخرى ويبحث لها عن حل، حتى يصبح غارقاً في الشبه، فلا يكاد يقرأ إلا وعرضت له شبهة، ولا يكاد يسأل إلا مورداً لشبهة.
ثانياً: إننا حين نقرأ تراجم أهل العلم نرى أن هناك من أهل العلم من بلغ منزلة عالية في العلم والتحصيل، ومع ذلك وقع في بعض البدع ووافق أهل البدع في بعض ما دعوا إليه، وحين يقع أولئك في بعض هذه البدع فهذا يدل على أننا - نحن الذين أقل منهم حظاً وتحصيلاً - عرضة أيضاً لأن نقع فيما وقعوا فيه، بل أكثر منهم.
ثالثاً: كتب أهل السنة وأهل المعتقد السليم فيها الغنية والكفاية والبركة، وبخاصة حالنا مع القراءة، فلو أننا قرأنا الكثير مما كتبه أهل السنة، وبعد ذلك لم نجد ما نقرأه، حينها قد يسوغ لنا أن ننتقل إلى المرحلة الأخرى، ولا أظن أبداً أننا قد قرأنا أكثر ما نحتاج إليه فلم يتبق لنا إلا هذا النوع من القراءة.
رابعاً: لقد كان السلف ينهون عن ذلك، وكانوا يوصون بحرق كتب أهل البدع والضلال، ولعل فيما أوردناه من كلام الحافظ ابن القيم رحمه الله خير شاهد ودليل على ذلك.
معوقات القراءة
هناك معوقات قد تعيقنا عن القراءة يمكن أن نذكر منها:
أولاً: عدم إدراك أهميتها؛ فعدم إدراكنا لأهمية القراءة وحاجتنا إليها، بل وضرورتها لنا، ولو أنا أدركنا أن القراءة لنا كالماء للسمك، والهواء للطير لاجتزنا كثيراً من العقبات.
ثانياً: الكسل ودنو الهمة؛ فالقراءة تحتاج من المرء أن يفرغ جزءاً وقته، وأن يمسك كتابا ً ولا يفارقه، ويجمع فكره حوله وهذا أمر قد لا تعيننا أنفسنا الضعيفة عليه.
ثالثاً: والشريط الإسلامي يعتبر معوقاً من معوقات القراءة، كيف ذلك؟ الإنسان يشعر بالحاجة إلى نوع من التحصيل، ويشعر بأن هناك قضايا يحتاج إلى أن يتفاعل معها، فحين يسمع الشريط يلبي هذا الشريط فراغاً في نفسه، ويشعر أنه يسمع الجديد ويرى شيئاً جديداً، ويحصل كل يوم ما يستفيد منه، ولهذا يقل عنده الدافع والداعي للقراءة، وهو وسيلة سهلة؛ فالإنسان يستطيع أن يستمع إلى الشريط وهو مضطجع أو قاعد أو قائم أو على جنبه، وهو يعمل، وهو في سيارته وفي أي حال من الأحوال، وهو لا يكلف المرء عبئاً؛ ولذلك تجد الكثيرين يسمعون الشريط لكن الذين يقرأون قلة.
رابعاً: الكتيبات الصغيرة، فمع نشاط حركة التعليم، وكثرة المطابع والتي تبحث عما تروج به سوقها، كثرت الإصدارات صغيرة الحجم التي يستطيع القارئ أن يأتي عليها في دقائق، فهي بحجم صغير، وورقات قليلة، وهوامش واسعة؛ فتستطيع بدقائق عاجلة أن تقرأ مثل هذه الكتب، فقراءتها لاتكلف عبئاً ولا جهداً.
ولو سألت طائفة من الشباب عن آخر كتاب قرأه، فستجد أن الكثير من الإجابات تدور حول تلك الكتيبات الصغيرة التي يمكن أن يحملها المرء في جيبه.
وأظن أن الكتيب - على ما فيه من فوائد وجوانب مهمة - ليس لطلاب العلم ، وحين لا تكون قراءتنا إلا هذه الكتيبات العاجلة، أو ما يمكن أن يسمى بالوجبات السريعة - التي إن ساغت في الطعام والأكل فإنها لا تسوغ في التحصيل العلمي- حين يكون هذا زادنا فهذا خير دليل على فقر زادنا وتحصيلنا.
خامساً: الصحف، هناك صحف إسلامية لا بأس بها قد صدرت في هذا العصر، ومنها مجلات تحوي مقالات فكرية ومقالات علمية مطولة، وتلقى هذه المجلات رواجاً وقراءة، ويسهل على القارئ قراءة مقال في صحيفة لا يتجاوز أسطراً وربما صفحات معدودة ويسيرة، لكن أن يقرأ كتاباً فهذا الأمر صعب.
بل حتى في دائرة قراء المجلات لا تجد المجلات الفكرية، والمجلات العلمية رواجاً ونصيباً من القراءة، كما تجده المجلة الإخبارية المزينة بالصور والرسومات والأشكال وغيرها.
ومما ينبغي التنبيه عليه أننا حين نعد هذه الوسائل الثلاث (الشريط، والمجلة، والكتيب) مما يعوق عن القراءة، فليس ذلك دعوة إلى إهمالها، بل ينبغي الاستفادة منها، لكن اعتراضنا على أن تكون بديلاً عن القراءة المركزة العميقة.
سادساً: عدم العناية بالوقت، ولهذا لا نجد وقتاً نقرأ فيه، وليس السبب في الحقيقة هو ضيق الوقت، بل عدم اعتنائنا به، ولعل خير وسيلة تعيننا على ذلك هي أن نخصص وقتاً كل يوم نقرأ فيه -أيًّا كان هذا الوقت ومتى كان - ونعتبره واجباً يوميًّا علينا ينبغي ألا تغيب شمس اليوم إلا وقد أدينا هذا الواجب وقضيناه.
كيف نقرأ؟
ولعلي أشير إليها إشارات عاجلة هي وصايا سريعة حول بعض الطرق الصحيحة في القراءة منها:
·الاختيار في القراءة، من خلال اختيار المؤلف والكتاب المناسبين.(/4)
·التدرج في القراءة: فالمبتدئ في القراءة لا ينبغي أن ينشغل بالمجلدات والكتب الكبار، فينبغي أن تتدرج من الأسهل إلى الأصعب، وإذا أدركت أنك تفهم ما في الكتاب وتستوعبه فاقرأه، ثم انتقل إلى ما هو أعلى منه، وحين تسلك هذا المسلك وتتدرج في القراءة فإنك قد لا تجد تلك الصعوبة التي يجدها البعض حين يقرأ ما لا يناسبه؛ فيصاب بصدمات عنيفة قد تكون عائقاً له عن القراءة.
·التنويع في القراءة فلا يسوغ أن تقتصر قراءتنا على فن معين أو كاتب معين أو موضوع محدد؛ فتقرأ في التفسير والحديث والفقه والعقيدة وعلوم الحديث واللغة والأدب والتراجم والقصص وغيرها من الكتابات.
·الجلسة الصحيحة تعين على القراءة؛ لأن الجلسة أحياناً قد تكون سبباً للنوم وقد تكون سببًا لتشتيت الذهن.
·التركيز والبعد عن الشواغل والصوارف.
·التسجيل والتلخيص؛ فقد تأتيك فوائد قد تستوعبها وتحفظها لكن حين لا تسجلها قد تنساها.
·اختيار الوقت المناسب للقراءة حيث يكون الإنسان حاضر الذهن، مرتاح البال.
·القراءة النقدية والاعتدال فيها، وألا تكون مجرد حاطب ليل، فالذي يحطب في الليل لا يرى فقد يجمع حشيشاً وحطباً، وقد يحمل حيةً فتلدغه، فالذي يقرأ ويتلقى كل ما يقرأ بالتسليم والقبول حاله كحال حاطب الليل، فحين نقرأ ونسمع يجب أن نفكر كثيراً فيما نقرأ، ولا يجوز أن نعطل عقولنا، إذ تعطيل العقول من التشبه بالأنعام وقد نهانا الشارع الحكيم عن التشبه ببهيمة الأنعام؛ فينبغي أن نتحرى في تفكيرنا وعقولنا وأن نقرأ قراءة ناقدة، وفي المقابل يجب أن تكون القراءة الناقدة باعتدال ولايكون هم القارئ أن يقف عند كل كلمة وسطر ويبحث فيه عن خطأ حتى يقرر أنه استطاع أن يكتشف هذا الخطأ على فلان أو فلان من الناس.
القراءة السريعة
إن مما يؤسف له أن يكون فن القراءة السريعة مما ابتكره الأعداء وألفوا فيه، بل لهم معاهد متخصصة.
وأحدهم وهو روبرت زورن له معهد في التدريب على فن القراءة السريعة، وممن التحق بهذا المعهد جون كيندي وزاد معدل قراءته من مائتين وأربع وثمانين كلمة قبل أن يدرس في هذا المعهد إلى ألف ومائتين كلمة، وهذا يعطيك دلالة على أنك يمكن من خلال التدريب والممارسة أن تجيد فن القراءة السريعة، وقد ألف زورن كتاباً عنوانه القراءة السريعة ذكر فيه بعض القواعد، يمكن أن نشير إليها باختصار حتى تغنيكم عن الرجوع إلى هذا الكتاب وحتى توفروا الوقت الذي قد تصرفونه لقراءة هذا الكتاب في قراءة كتاب أنتم أحوج إليه من القواعد:
القاعدة الأولى: إلغاء الارتداد، فأنت عندما تقرأ تعود مرة ثانية بنظرك فتقرأ الكلمة التي قرأت قبل قليل، وهذا يأخذ عليك وقتاً طويلاً قد لا تتصوره؛ فالقارئ الذي يقرأ مدة ساعتين ويرتد ارتداداً واحداً في الدقيقة سيخسر نصف ساعة تماماً؛ بحيث تكون قراءته لا تساوي إلا ساعة ونصف، وإذا لم تفهم كلمة فلا تعد لقراءتها من جديد وستفهمها من خلال السياق.
القاعدة الثانية: القراءة المقطعية وهي تعني توسيع مجال العين، فأنت الآن تنظر إلى أربع كلمات –على سبيل المثال- فحاول أن توسع مجال العين بحيث تنظر إلى ست كلمات أو ثمان، وهكذا.
القاعدة الثالثة: حركة العودة السريعة للعين، أنت الآن حين تنتهي من السطر الأول تنتقل إلى السطر الثاني نقلة بطيئة، وقد تظن أن هذا يستغرق وقتا يسيراً، لكن حين تقرأ كتاباً يحوي مائة وخمسين صفحة ، والصفحة فيها عشرون سطراً، فحين توفر عليك الحركة السريعة للانتقال ثانية واحدة، فهذا يعني أنك ستوفر (50) دقيقة في قراءة هذا الكتاب.
القاعدة الرابعة: التدريب اليومي، خصص لك وقتاً تتدرب فيه على القراءة السريعة، ويكون هدفك هو العناية بالسرعة أكثر من الفهم، وستجد بعد فترة أنك تتطور كثيراً،حتى تصل إلى الجمع بين السرعة والفهم، وخير مثال على ذلك الكتابة على الآلة الكاتبة أو الحاسب الآلي، فأمهر الناس فيها كان في البداية ربما يكتب حرفاً واحداً خلال دقيقة ثم حرفين في الدقيقة وثلاثة أحرف حتى يصل إلى أربعين كلمة في الدقيقة، ويصل إلى ما هو أسرع من ذلك، حتى أن بعض المكفوفين يجيد الكتابة على الآلة الكاتبة بطريقة بديعة وأخطاء نادرة جدًّا.
هذه بعض القواعد في القراءة السريعة تستطيع مع الممارسة أن تتقنها، لكن هذا النوع من القراءة ليس هو النوع الذي تحتاجه في قراءتك العلمية؛ لأن القراءة العلمية ينبغي أن تكون مركزة وهادئة، فإذا أردت التعود على القراءة السريعة فاجعل لك في اليوم وقتاً تقرأ فيه قراءة سريعة، من خلال قصة من كتب الأدب أو التاريخ التي لا تحتاج إلى تركيز، ويكون هدفك التعود على سرعة القراءة.
أدبيات في القراءة والكتب(/5)
بعث أحمد بن محمد بن سجار غلامه إلى أبي عبدالله الأعرابي صاحب الغريب يسأله المجيء إليه، فقال :عنده قوم من الأعراب فإذا قضى أربهم معهم أتى، ولم ير الغلام عنده أحداً إلا أن بين يديه كتباً ينظر فيها ثم جاء، فقال له أبو أيوب: سبحان الله العظيم تخلفت عنا وحرمتنا الأنس بك وقد قال لي الغلام: إنه ما رأى عندك أحداً، وقلت أنت: معك قوم من الأعراب فإذا قضيت أربي معهم أتيت فقال له الأعرابي:
لنا جلساء ما نمل حديثهم *** ألباء مأمومون غيباً ومشهداً
يفيدوننا من علمهم علم ما مضى *** وعقلاً وتأديباً ورأياً مسدداً
فلا فتنة تخشى ولاسوء عشرة *** ولا نتقي منهم لساناً ولا يداً
فإن قلت أموات فما أنت كاذب *** وإن قلت أحياء فلست مفنداً
وقال الآخر :
لمحبرة تجالسني نهاري *** أحب إلي من أنس الصديق
ورزمة كاغد في البيت عندي *** أحب إلي من عطر الدقيق
ولطمة عالم في الخد مني *** ألذ لدي من شرب الرحيق
وقال آخر:
نعم المؤانس والجليس كتاب *** تخلو به إن خانك الأصحاب
لا مفشياً سراً ولا متكدراً *** وتفاد منه حكمة وصواب
ويقول أحدهم في وصف أسده على كتب العلم:
أجلّ مصائب الرجل العليم *** مصائبه بأسفار العلوم
إذا فقُد الكتاب فذاك خطب *** عظيم قد يجل عن العميم
وكم قد مات من أسف عليها *** أناس في الحديث وفي القديم
وقال عمرو بن العلاء: ما دخلت قط على رجل ولا مررت بداره، فرأيته في بابه فرأيته ينظر في دفتر وجليسه فارغ إلا حكمت عليه أنه أفضل منه عقلاً، وقيل لرجل ما يؤنسك؟ فضرب على كتبه وقال: هذه، قيل فمن الناس، قال: الذين فيها.
وقيل لبعضهم أما تستوحش؟ قال: يستوحش من معه الأنس كله؟ قيل وما الأنس؟ قال: الكتب.
وقيل لأبي الوليد إنك ربما حملت الكتاب وأنت رجل تجد في نفسك، قال: إن حمل الدفاتر من المروءة.
وقال ابن المبارك: من أحب أن يستفيد فلينظر في كتبه.
ولهم وصايا في العناية بالكتاب والحفاظ عليه منها: أن أحدهم رأى شخصاً قد جلس على كتابه، فقال: أثيابك أغلى عليك من كتابك؟ لأنه جلس على كتابه حتى يقيه الغبار.
وكانوا يقولون لا تجعل كتابك بوقاً ولا صندوقاً، ذلك أن بعض الناس يلف الكتاب حتى يصبح قريباً من شكل البوق، والصندوق أنه يضع فيه بعض الناس الأوراق والأقلام ونحوها فيتمزق.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(/6)
خير يوم طلعت فيه الشمس
طارق حميدة
tariq_hamida@hotmail.com
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة: فيه خُلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أُخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا يوم الجمعة) رواه مسلم.
هذا الحديث الشريف يتحدث عن مزايا يوم الجمعة مبينا في البداية أنه يوم ( طلعت فيه الشمس )، بمعنى أن ظرف الزمان لهذه الأحداث، ما وقع منها وما سيقع، هو يوم تطلع فيه الشمس على الأرض، أي أنه نهار يوم من أيام الأرض التي نحيا عليها، ما يعني أن خلق آدم، ودخوله الجنة، وخروجه منها، قد تمت أو ابتدأ حدوثها على الأرض، وكذلك الأمر بالنسبة ليوم القيامة.
وهذا قد يصلح دليلاً لمن يرى أن الجنة التي أُسكنها آدم وزوجه في الأرض، أو ربما يكون هذا اليوم مرتبطاً بطلوع الشمس على أحد كواكب المجموعة الشمسية سوى الأرض، وهذا ينفي أنها جنة الخلد، ويساعد في فهم دلالة الأمر ب"الإهباط" من الجنة.
ثم يأتي تفصيل مزايا هذا اليوم بذكر الأحداث العظيمة التي وقعت فيه. فهو أولا: اليوم الذي خلق فيه آدم؛ اليوم الذي أوجد الله فيه مخلوقا مكرما ومفضلا على كثير من العالمين، إنها نعمة الوجود بالنسبة للبشرية جمعاء، ولا أعظم ولا أكبر من نعمة الوجود .. لأنها أساس كل النعم، وما عداها تابع لها بل لا يكون بدونها .. إن يوم الجمعة هو عيد ميلاد البشرية بتعبيرنا المعاصر.
ويوم الجمعة هو اليوم الذي أدخل فيه آدم عليه السلام الجنة.. وذاك أيضا حدث عظيم لما فيه من الكرامة في الجنة وإعداد آدم للخلافة.
وفيه تقوم الساعة، ويجمع الله تعالى الناس ليحكم بينهم بالعدل، ويجزي المحسنين بالحسنى.. وماذا أعظم من إقامة العدل وإجزال المثوبة ؟.
كل ذلك واضح ومفهوم ومفسر لخيرية يوم الجمعة على سائر الأيام، لكن الذي قد يلتبس على الكثيرين هو كيف يكون يوم الإخراج من الجنة والإهباط إلى الأرض يوم فرح وسعادة وخيرية؟ كيف يكون الخروج من دار الكرامة عيدا..في حين أن الطرد من الديار والأوطان من أكبر النكبات وأعظم المصائب؟!
الخطأ الكبير في هذا الفهم ناشئ من الظن بأن نزول آدم وزوجه على الأرض كان عقوبة من الله تعالى لهما على الأكل من الشجرة .. بينما يبرز القرآن، من الآيات الأولى في سورة البقرة، إعلان الله تعالى للملائكة (إني جاعل في الأرض خليفة)، أي أن الإنسان قد خلق منذ البداية لهذه المهمة الجليلة والوظيفة العظيمة، والتي هي إعمار الأرض بمنهج الله تعالى، واستلام زمام الأمور فيها. وعليه فإن خروج آدم وزوجه من الجنة تخريج وتتويج، تخريج من دورة تعليمية تدريبية، تعرف فيها على الدين والمهمة وجبهة الأعداء والأصدقاء، وتتويج له على عرش خلافة الأرض، وهو أشبه ما يكون بعيد الجلوس على العرش.. إنها مكانة عظيمة اغتاظ لأجلها إبليس، وحسد آدم عليها، وتشوفت لها حتى نفوس الملائكة وألمحوا إلى أنهم أجدر بها من الإنسان ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ..).
يؤكد الرسول عليه السلام في بعض أحاديثه الشريفة بأن الأمة الإسلامية قد اهتدت إلى يوم الجمعة، فيما ضل عنه أهل الكتاب. إن الاهتداء إلى هذا اليوم هو اهتداء إلى أمانة الخلافة وقيام بحقها.. والضلال عنه إنما هو ضلال عن هذه الوظيفة وتضييع لتلك الأمانة.
ثم تأتي سورة الجمعة لتؤكد ذات المعنى، فالله تعالى يستبدل أمة بأمة، وجماعة بجماعة، ورسالة برسالة، وكتاباً بكتاب.. حيث يبعث في الأميين رسولاً منهم، ليقوموا بواجب الخلافة، بعدما رفض أهل الكتاب حمل الأمانة وألقوا عنهم التوراة التي حُمّلوها فكان مثلهم مثل الحمار يحمل أسفارا.. ثم يكون اللافت للنظر أن آخر ذكر في القرآن للتوراة هو في سورة الجمعة. وفي الوقت الذي يُخاطَب فيه (الذين آمنوا) مُباشرة في السورة فإن ( الذين هادوا ) يُخاطَبون بوساطة الرسول محمد عليه السلام، وهو ما يتضح في الآيات الكريمة: ( قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم..)، (قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم..)، ( يا أيها الذين آمنوا إذا نودي..).
وفي ختام السورة تُبين الآيات أحكام الجمعة ( يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون، فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون).. إنها تمثل فكرة الخلافة أصدق تمثيل.. فالذين يطلب إليهم القرآن أن يسعوا إلى ذكر الله كانوا قبل قليل يمارسون البيع والأعمال الدنيوية الأخرى، ثم هم بعد انقضاء الصلاة مأمورون مرة أخرى بالانتشار في الأرض والابتغاء من فضل الله، دون أن ينسوا وهم ينتشرون في الأرض، أن يكثروا من ذكر الله تعالى.(/1)
إن الخلافة التي هي أمر ديني ليست شعائر تعبدية فحسب، وليس في الإسلام فصل بين ما هو ديني وما هو دنيوي، فالتعبدي يمتد خيره إلى الدنيوي المادي، وكذلك فإن الدنيوي هو في الحقيقة استجابة لأمر الله تعالى، وبالتالي فإن الفرق واضح بين الجمعة والسبت، كرمزين لأمتين ودينين: الجمعة بما هي اجتماع بشري وجمع للديني والدنيوى وتذاكُر بالمهمة المشتركة، والسبت الذي هو توقف وانقطاع عن ممارسة الحياة، وفصل للديني عن الدنيوي.
وتأتي الآية الأخيرة في سورة الجمعة محذرة من إيثار الأعراض المادية على أمر الله تعالى، وذلك بالانفضاض إلى اللهو والتجارة وترك الإمام قائماً، ما يُعد انتكاساً عن القيام بالخلافة وجهلاً بحقيقة أن ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة ( وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائما، قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين ).(/2)
خيط رفيع على وشك الانقطاع _ خطورة الطلاق
مفكرة الإسلام : هناك وراء كل الأبواب المغلقة توجد هموم بين الرجل والمرأة، تصل هذه الهموم في بعض الأحيان إلى النقاش الحاد الذي يؤدي إلى مشاجرة أو مشاحنة، ويضطر أحد الطرفين في بعض الأحيان إلى فقدان أعصابه ويتفوه بكلمات لا يقصدها لأنه في ساعة غضب، وفي ساعة الغضب تعمى البصيرة ويفقد العقل اتزانه، وفي هذه اللحظة على الطرف الثاني أن يكون متزنًا مستقيمًا لأن تلك اللحظة خيط رفيع، إذا شد من طرفيه انقطع، وربما يصل الأمر إلى الطلاق.
وهنا نقف ونتساءل لماذا لم ينزل القرآن الكريم بسورة تحمل اسم ' سورة الزواج ' وإنما جاء بسورة تحمل اسم ' سورة الطلاق ' ؟
لقد سهل الله طريق الزواج لأنه طريق الفطرة السوية، ووضع لنا الشرع الكثير من الضوابط لإتمامه، أما الطلاق فإن الله قد وضع العراقيل في طريق إتمامه... لماذا؟
لعل من أسباب ذلك أن الزواج يترتب عليه الجمع والألفة، أما الطلاق فإنه يترتب عليه الفرقة والنفور وفي ظل هذا الفهم يتضح لنا كيف أن القرآن الكريم جاء بسورة ' الطلاق ' كعلامة حمراء تشير إلى الخطر، وكإشارة تحذير من المرور بهذه ' المنطقة الحمراء ' إذ الاقتراب منها يمثل موت هذه العلاقة وتلاشيها، فإذا كان لابد للأزواج من المرور بها، فليمروا وبين أيديهم هدي القرآن والسنة المطهرة التي حملتها ' سورة الطلاق ' و' سورة البقرة ' كضمان المرور بسلام دون الوقوع في هاوية سحيقة من غضب المولى عز وجل.
إن الطلاق حكم من أحكام شرع الله، لا يجوز التلاعب به أو استخدامه لغير هدف شرعي أو اجتماعي، وقد جعله خطوة أو حل يلجأ إليه الزوجان المتخاصمان عندما تفلس كل الحلول وتنعدم كل الحيل في استمرار الحياة الزوجية، وحين يظل الشقاء شعار البيت.
ولقد صور الإسلام الطلاق بأنه تبغيض وحث المسلمين على اتقائه ما استطاعوا حتى روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ' أبغض الحلال إلى الله الطلاق '.
ولأن عقد الزواج وصفه القرآن بأنه ميثاق غليظ فقال تعالى:{وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} [النساء:21] فلا يصح الطلاق لأسباب يمكن علاجها أو لأمور تتغير في المستقبل.
وحتى الأمور التي تتعلق بعاطفة الزوج نحو زوجته أو بكراهيته لبعض أحوالها لا يعدها الإسلام من مبررات الطلاق، لأن هذه العواطف متقلبة متغيرة ولا يصح أن تبنى عليها أمور خطيرة تتعلق بكيان الأسرة، وبغيض الإنسان اليوم قد يصبح حبيبه يومًا ما.
والزوج إن كره من امرأته خلقًا فقد يكون فيها خلق آخر يرضيه وفي هذا يقول الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19] ويقول صلى الله عليه وسلم: 'لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقًا رضي منها آخر' [رواه مسلم] ويفرك: أي يكره، والمعنى أنه لا ينبغي للمؤمن أن يكره زوجته لخلق واحد لا يعجبه منها ويتغاضى عما بها من أخلاق أخرى فاضلة تعجبه.
وانظر إلى هذا الحوار العجيب بين عمر بن الخطاب ورجل جاء يستشيره في طلاق امرأته فقال عمر له: لا تفعل فقال: ولكني لا أحبها: فقال له عمر: ويحك ألم تبن البيوت إلا على الحب؟ فأين الرعاية؟ وأين التذمم؟
ماذا يقصد عمر بذلك؟
يقصد عمر رضي الله عنه أن البيوت إذا عز عليها أن تبنى على الحب فهي خليقة أن تبقى على ركنين آخرين شديدين هما:
1ـ الرعاية: التي ثبت التراحم في جوانبها ويتكافل بها أهل البيت في معرفة ما لهم وما عليهم من الحقوق والواجبات.
2ـ التذمم: وهو التحرج من أن يصبح الرجل مصدرًا لتفريق الشمل وتقويض البيت وشقوة الأولاد وما قد يأتي من وراء هذه السيئات من نكد العيش وسوء المصير.
وإذا لم يكفك هذا الموقف فتأمل معي أخي القارئ أبا الدرداء وهو يقول زوجته: ' إذا رأيتني غضبتُ فرضيني، وإذا رأيتك غضبتي رضيتك وإلا لم نصطحب ' ويحمل هذا المعنى إحساس إرغام النفس على هذا العمل وبذل الجهد السعي في سبيل إرضاء كل واحد الآخر.
وهذا يدفعنا عزيزي القارئ إلى سؤال: وهل توجد حياة زوجية بلا مشاكل؟
إن الحياة الزوجية السعيدة هي تلك التي لا تخلو من الخلافات الزوجية، والتي هي مع مد الأيام والليالي تزكي الحب بين الزوجية وتقوى الرابطة الزوجية، فالزواج رابطة بين اثنين مختلفين، ومن آيات الله سبحانه وتعالى أنه لم يخلق اثنين متشابهين تمامًا في الصفات والأخلاق، فالاختلافات والتباين في الصفات والأخلاق هي ما يسبب تلك الخلافات.(/1)
إن حدوث الاختلاف بين الزوجية أمر مقبول، ولكن الاختلاف المستمر والتشاجر التباغض والصراع حول التافه والجليل هو ما نرفضه في الحياة الزوجية ومن واجب الزوجين أن يجعلا الخلاف بينهما أداة بناء لا معول هدم، فيتعرف كل على خلق صاحبه وعلى طباعه وخصائصه محاولاً الوصول إلى الانسجام معه والتوافق النفسي وبالتالي على الزوجين التنازل عن النظرة المثالية التي لا مكان لها على أرض الواقع، وعلى الزوجين أن يعلما أن الزواج أخذ وعطاء، وحقوق وواجبات، وتعاون وتفاهم ومودة ورحمة قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21].
إن أكثر ما يحتاج إليه في الحياة الزوجية هو:
المودة: وتعني الحب والود والتآلف والتآزر والرحمة: وتعني التعاون والتفاهم والتنازل عن بعض الحقوق، والرفق واللين والصبر والحنو والدنو والإيثار وكل ما تحمله هاتان الكلمتان من ظلال ومعاني.
وإذا علمت الزوجة وإذا علم الزوج أن من أعظم أعمال إبليس والتي تفرغ لأجلها وجمع أعوانه لها هي التحريش بين المؤمنين وللإيقاع بين الرجل وزوجته، ليس ألفًا بل آلاف المرات قبل الطلاق.
فقد أخبرنا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ' إن إبليس ينصب عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه من الناس فأقربهم منه منزلة أعظمهم فتنة، فيأتي أحدهم فيقول: ما زلتُ به حتى زنى، فيقول إبليس: ما فعلت شيئًا سيتوب، ويقول آخر: ما زلتُ به حتى فرقت بينه وبين أهله، فيهنئه ويلتزمه ويقول نعم أنت، نعم أنت'. [رواه مسلم] ويلتزمه: يعني يحتضنه ويقربه.
عزيزتي الزوجة المسلمة:
أقول الزوجة لأن الأمر حقيقة بيد المرأة إن رغبت أرادت وإن سخطت أطاحت، فإليك بعض الأمور التي قد تجنبك الطلاق والوقوع في الكارثة:
1ـ تقوى الله ، احفظي الله يحفظك، وابحثي عن رضا الله واتخذي من طاعة زوجك في المعروف طريقًا لرضا ربك قال تعالى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ} [النساء:34] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'إن المرأة إذا صلت خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها وأطاعت زوجها دخلت الجنة'. [رواه أحمد].
وفي الحديث 'ألا أخبركم بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة، إن نظر إليها سرته وإن أمرها أطاعته وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله' [رواه أبو داود والنسائي].
2ـ لمن القوامة في البيت ؟ إذا علمت أن الزوج في الأسرة هو القائد الموجه وهو القوام وهو ربان السفينة أراحت واستراحت قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34].
وهذا لا ينفي دورك وعملك في الأسرة فأنت مسؤولة عما استرعاك الله ' فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها ' وإذا فهمت ذلك تكون العلاقة بين الزوجين علاقة تكاملية كل يكلم الآخر وليست صراعًا وتفاضلاً.
3ـ سرك في دمك، فلا تطلعي أحدًا على أسرارك ولا تشتكي واتركي الصورة المثالية للحياة الزوجية لتتعاملي مع الواقع الحقيقي.
4ـ التحمل والصبر والتغاضي عن الأخطاء والتفاهات.
5ـ حسن معاملة أهل الزوج من حسن عشرتك لزوجتك 'والبر لا يبلى'.
6ـ مصطلحات الكبرياء والعناد والتحدي مهلكة لصاحبتها وربما تكون من أهم أسباب الطلاق.
7ـ الحوار الهادئ والمصارحة حول الأمور التي تسبب الخلاف.
8ـ صغائر الأمور قد تفسد الحياة الزوجية[1]:
* هيئ لبيتك مناخًا عاطفيًا إيجابيًا.
* تذكر تقديرك لشريك حياتك يعينك على متاعب الحياة.
* تقبل شجار الأولاد.
* اجعل من المرح ملاذًا من الغضب وقد قال رسولنا الكريم 'إياك والغضب'.
* أخبر من حولك بحبك لهم.
* لا بأس من الانسجام السلمي.
* لا تجعل أمر المال يحزنك.
* قدر أصهارك.
* توقف عن الشكوى من عبء العمل الذي تتحمله.
* تكلم برقة وهدوء.
* عامل أفراد أسرتك كما لو كنت تراهم لآخر مرة فكيف تكون مشاعرك تجاه من تحب وكيف يكون حالك ومعاملتك لهم ؟ أترك الإجابة لك عزيزي القارئ.
وأخيرًا أطلب منك عزيزتي الزوجة واجب عملي وهو أن تحفظي وصية الأم الأعرابية لابنتها فهي كنز من الكنوز وسأتركك تبحثين عنها وتذاكريها وحاولي جاهدة جعلها مجسدة في شخصيتك وفي واقعك الحياتي اليومي فالسعادة الزوجية أشبه بقرص من العسل تبنيه نحلتان وكلما زاد الجهد فيه زادت حلاوة الشهد فيه والحياة الزوجية فن والتعامل مع الخلافات الزوجية فن وعليك تعلم هذه الفنون وأعلمي أن الزوج رزقٌ، وكذلك بالنسبة للرجل فالزوجة رزق وعلى كليهما أن يحافظ على رزقه.
عزيزي القارئ الزوج والزوجة:(/2)
أما إذا حدث الشقاق ووصل الحال إلى حد تتعذر فيه الحياة الزوجية فلا بد أن تكون هناك وسيلة لانفكاك الزوجين، ولا يجوز أن يرغما على بقاء هذه الرابطة على كره منها أو من أحدهما، فماذا يفعل الزوجان؟
انتظرونا في
آخر الدواء الكي [الطلاق].
-------------
[1] مستفاد من كتاب 'لا تهتم بصغائر الأمور مع أسرتك' د/ ريتشارد كارلسو(/3)
خَديجَة بِنتُ خُوَيلِد رَضِيَ الله عنها
نسبها ونشأتها:
هي خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى قصي بن كلاب القرشية الأسدية ، ولدت سنة
68 قبل الهجرة (556 م). تربت وترعرعت في بيت مجد ورياسة، نشأت على الصفات والأخلاق
الحميدة، عرفت بالعفة والعقل والحزم حتى دعاها قومها في الجاهلية بالطاهرة ، وكانت
السيدة خديجة تاجرة، ذات مال، تستأجر الرجال وتدفع المال مضاربة، وقد بلغها عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أنه كان صادق أمين، كريم الأخلاق، فبعثت إليه وطلبت منه أن يخرج في تجارة
لها إلى الشام مع غلام لها يقال له ميسرة. وقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
وربحت تجارتها ضعف ما كانت تربح. أخبر الغلام ميسرة السيدة خديجة عن أخلاق رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، فدست له من عرض عليه الزواج منها، فقبل الرسول صلى الله عليه وسلم ،
فأرسلت السيدة خديجة إلى عمها عمرو بن أسعد بن عبد العزى، فحضر وتزوجها رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وكان لها من العمر أربعين سنة ولرسول الله صلى الله عليه وسلم خمس وعشرون سنة.
السيدة خديجة - رضي الله عنها - كانت أول امرأة تزوجها الرسول ، صلى الله عليه
وسلم، وكانت أحب زوجاته إليه، ومن كرامتها أنها لم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت [.
أنجبت له ولدين وأربع بنات وهم: القاسم (وكان يكنى به)، وعبد الله ، ورقية وزينب
وأم كلثوم وفاطمة .
إسلامها:
عندما بعث الله – سبحانه وتعالى – النبي صلى الله عليه وسلم كانت السيدة خديجة – رضي الله عنها- هي
أول من آمن بالله ورسوله، وأول من أسلم من النساء والرجال، وكان رسول الله صلى الله
عليه وسلم والسيدة خديجة يصليان سراً إلى أن ظهرت الدعوة. تلقى رسو الله صلى الله عليه وسلم كثيراً
من التعذيب والتكذيب من قومه، فكانت السيدة خديجة t تخفف عنه وتهون عليه ما يلقى من
أكاذيب المشركين من قريش. وعندما انزل الله – سبحانه وتعالى – الوحي على الرسول -
صلى الله عليه وسلم -قال له ( اقرأ بسم ربك الذي خلق ( فرجع مسرعاً إلى السيدة
خديجة وقد كان ترجف بوادره، فقال : \" زملوني \" ، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال
: \" مالي يا خديجة؟ \" وأخبرها الخبر وقال: \" قد خشيت على نفسي \" ، فقالت له :
كلا، أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل،
وتعين على نوائب الحق. وانطلقت به إلى ابن خمها ورقة بن نوفل بن أسد، وهو تنصر في
الجاهلية، وكان يفك الخط العربي، وكتب بالعربية بالإنجيل ما شاء الله أن يكتب، وكان
شيخا قد عمى، فقالت : امع من ابن أخيك ما يقول، فقال: يا ابن أخي ما ترى؟، فأخبره،
فقال: هذا الناموس الذي أنزل على موسى .
منزلتها عند رسول الله :
كانت السيدة خديجة امرأة عاقلة، جليلة، دينة، مصونة، كريمة، من أهل الجنة، فقد أمر
الله – تعالى – رسوله أن يبشرها في الجنة ببيت من قصب لا صخب فيه ولا نصب.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفضلها على سائر زوجاته، وكان يكثر من ذكرها بحيث أن عائشة كانت تقول : ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة وما رأيتها، ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من ذكرها وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة فربما قلت له كأنه لم يكن في الدنيا إلا خديجة، فيقول إنها كانت وكان لي منها ولد.
وقالت عائشة رضي الله عنها : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكاد يخرج من
البيت حتى يذكر خديجة فيحسن الثناء عليها، فذكر خديجة يوما من الأيام فأدركتني
الغيرة فقلت هل كانت إلا عجوزاً فأبدلك الله خيراً منها، فغضب حتى اهتز مقدم شعره
من الغضب ثم قال: لا والله ما أبدلني الله خيراً منها، آمن بي إذ كفر الناس،
وصدقتني إذ كذبني الناس، ورزقني الله منها أولاداً إذ حرمني النساء، قالت عائشة:
فقلت في نفسي لا أذكرها بسيئة أبدا ً.
وفاتها:
توفيت السيدة خديجة ساعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الأيمن في بث دعوة الإسلام قبل هجرته إلى المدينة المنورة بثلاثة سنوات، ولها من العمر خمس وستون سنة، وأنزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه في حفرتها وأدخلها القبر بيده، وكانت وفاتها مصيبة كبيرة بالنسبة للرسول -
صلى الله عليه وسلم- تحملها بصبر وجأش راضياً بحكم الله – سبحانه وتعالى(/1)
خُذُوهُ فغُلّوه ثم فى الخَنْكَةِ أَوْدِعوه!
(تقاليع مخبولة فى دراسة السيرة النبوية)
د.إبراهيم عوض
ibrahim_awad9@yahoo.com
عندى فى قائمة المفضَّلة موقعٌ عثرتُ عليه فى المشباك منذ شهور يضم بين الكتب التى يضعها تحت تصرف القارئ أكثر من خمسين سيرة نبوية باللغة الفرنسية: بعضها قائم برأسه، وبعضها فصلٌ من كتاب. وبعضها بأقلامٍ مسلمةٍ، والبعض الآخر من تأليف المستشرقين. وبعضها معروض كاملاً بقضّه وقضيضه، والقليل جِدًّا منها قد اكتُفِىَ بعرض خطوطه العامة مع بضعة نصوص قليلة منه، ومن هذا الصنف الأخير كتاب الطبيب النفسانى الفرنسى برنار راكان المسمَّى: "Un Juif nommé Mahomet: يهودىٌّ اسمه محمد". وقد اعتمدتُ فى كتابة هذه الدراسة التى بين يَدَىِ القارئ على تلخيص الكاتب لأفكاره المودعة فى كتابه، فضلا عن تعليقات بعض القراء على تلك الأفكار وردوده عليها. ونبدأ بما كتبه أحد قراء الكتاب المذكور تعقيبا على ما أثاره المؤلف من تشكيكات جامحة ترى فى الإسلام وكِتَابه ونبيّه ووقائع تاريخه اختراعات كاذبة ملفقة تمت فى وقت متأخر كثيرا عن التواريخ المعروفة للناس جميعا على ما سوف يتضح فى هذه الدراسة. ويوجه القارئ المذكور الخطاب لراكان قائلا إن كتابه قد أقنعه تمام الإقناع، وبخاصة ما جاء فيه عن الخندق مما يمثل المسمار الأخير فى نعشِ ما يعدّه خرافة لا صلة لها بالواقع، إذ إن هذا الخندق (الذى تقول كتب السيرة والحديث والتاريخ إن المسلمين فى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم قد حفروه لحماية المدينة من هجوم الأحزاب عليها) هو فى رأيه أمر لا وجود له فى الواقع. ذلك أنه ليس ثمة دليل على أنه قد تم حفره فعلاً، ومن ثم فكل ما يقال عن الرسول ووجوده التاريخى هو محض هراء. ولا ينقص إثبات ذلك إلا شىء واحد، هو أن يتم التحقق، عن طريق الحفر أو التصوير الجوى، من أنه لم يكن هناك خندق بالمرة، وعندئذ يتبين للمسلمين أنهم كانوا يعيشون طوال هاتيك القرون على وهم كبير، ومن ثم يتركون الإسلام نهائيا.
والملاحظ أن المنطق المستخدم فى كلام المعلق والمؤلف جميعا هو منطق متهافت تمام التهافت كما سيتبين للقارئ عندما نأتى إلى تحليل هذه الأفكار التى لا يمكن أن تدور إلا فى عقلٍ مضطربٍ أو عقلٍ قصد صاحبه قصدًا منذ البداية التشكيكَ فى كل شىء دون أدنى دليل: التشكيك لمجرد التشكيك رغم كل الطنطنات المدوية التى تكاد أن تتفجر منها رؤوسنا! قال القارئ المذكور الذى لم يكتب اسمه إنه قد اشترك فى البحث عن بقايا بعض الفِلَل الغاليّة الرومانيّة فى موقع يعود عهده إلى عصرٍ أقدمَ من عصر الخندق المزعوم بالمدينة، بَيْدَ أنه لم يعثر على أكثر من كسور بعض الزَّهْريات، وإنه قد استطاع أن يرى من الطائرة بقايا منازلَ تعود إلى عصر الرومان، وإن من الممكن جدا، بمجرد الحفر على عمق متر أو مترين أو أكثر من ذلك قليلا، العثور على آثار ترجع إلى أزمنةٍ جِدِّ سحيقةٍ مما لا يُعَدّ معها الزمن الذى يقال إن الخندق قد تم حفره فيه شيئًا مذكورًا، وبخاصة بالنسبة لخندق يقال إنه قد حُفِرَ بعمقٍ يستحيل معه على جندى المشاة عبوره، وبعَرْضٍ لا يتيح للفارس القفز فوقه بسهولة. وعلى هذا فمن الواضح تماما أن خندق المدينة، إذا كان قد حُفِرَ فعلا، لا بد أن يكون الآن موجودا رغم أنه قد أُعِيد ردمه بطبيعة الحال، إذ من المعروف أنه قد تم حفره فى الصخر، والصخر لن يعيد نفسه بنفسه إلى ما كان عليه قبل الحفر، ومع ذلك فـ"الله أكبر"! وواضح أن الجملة الأخيرة هى سخرية من الكاتب! ومن المعروف، كما يقول، أن الخندق كان يحيط تماما بالمدينة، التى كانت أصغر كثيرا مما هى الآن، ومن ثم فلو حفرنا من أى نقطة حول المسجد باتجاه الخارج فلا بد أن يتقاطع الحفر مع الخندق القديم بعد قليل من الزمن:(/1)
Je vais vous dire l'argument qui m'a définitivement convaincu, genre le dernier coup de marteau qui enfonce le clou déjà solidement planté : le fossé de Médine. J'ai participé à des fouilles de villas gallo-romaines, dans un site PLUS ANCIEN que le site potentiel de Médine. Je n'ai rien trouvé de plus que des bouts de poteries dont le plus grand lot formait au mieux un fond de vase. En avion, j'ai vu des vestiges de maisons pouvant remonter jusqu'aux Romains. Je sais qu'il suffit de gratter sous un à deux mètres de terre, parfois plus mais pas tant que ça, pour retrouver des traces remontant à des époques faramineusement lointaines. 2000 ans ce n'est rien. 1400 ans encore moins, surtout pour un personnage qui aurait creusé un fossé suffisamment profond pour être infranchissable à des fantassins, et suffisamment large pour être difficilement franchissable à un cheval. Or, il est TOTALEMENT évident, que ce fameux fossé de la bataille de Médine devrait toujours exister ! Comblé, certes, mais toujours là. Il est censé avoir été creusé dans la roche par endroits : la roche n'a pas pu se reformer (quoique, Allah est grand...) Et le fossé ne pouvait qu'encercler la ville, plus petite qu'actuellement. Sinon il suffisait de passer par l'endroit où il n'y avait pas de fossé ! Donc on creuse une tranchée depuis l'extérieur de la mosquée vers n'importe quelle direction et, mathématiquement, on coupe le fossé à un moment ou à un autre.
كذلك حين يحفر الإنسان خندقا فلا بد، حسب كلامه، أن تكون هناك سواتر، أو على الأقل أكوام من التراب، ناتجة عن الحفر، إلا أن الروايات لا تتحدث أبدا عن شىء من ذلك. ثم يضيف قائلا إنه كانت هناك، فيما يَذْكُر، مبارزة بين أحد الصحابة وفارس من فرسان الأعداء استطاع عبور الخندق قفزًا بالحصان، وأن المتحارِبَيْن كانا ظاهرَيْن لكل من الطرفين على جانبى الخندق. وهذا أمر فى نظره عجيب، فما دام واحد قد استطاع القفز فوق الخندق، لقد كان الجميع يستطيعونه هم أيضا، فما الذى منعهم من ذلك؟ ثم ما دام الموجودون على جانبى الخندق يستطيعون رؤية المتبارِزَيْن، فلِمَ لَمْ يصوّبوا عليهما السهام؟ لكن أحدا من الطرفين لم يتحرك، ومعنى ذلك أنه كانت هناك مبارزة تدور بمرْأًى ومسمعٍ من جيشين سلبيين تماما، وهو ما لا يقبله العقل. أما بالنسبة لهؤلاء الذين تربَّوْا على نمط التعليم الإسلامى فإنهم لن يُعَنّوا أنفسهم بالتفكير فى تلك الرواية غير المنطقية أبدا. وعلى هذا فإنه ينتهى إلى تأكيد ما قاله المؤلف من أن شهرين فقط من التنقيب فى ذلك المكان كفيلان بالقضاء على تلك الخرافة، وعندها يكون المسلمون قد تخلصوا من دينهم!:
En plus, quand on fait un fossé, on fait un rempart, au minimum un remblai, avec les déblais : or le récit ne parle pas de rempart ni de remblai. Si je me rappelle bien, il y a un duel entre un adepte de Mahomet et un cavalier qui réussit à sauter le fossé, et les combattants sont visibles des deux côtés du fossé, encouragés par leurs armées respectives. Le terrain est donc à découvert des deux côtés du fossé. N'importe quoi. J'avais trouvé le détail bizarre : si un cavalier passe, tous passent ; si on peut voir le duel, on peut tirer des flèches sur les duellistes, or personne ne bouge. Les duels qui se déroulent devant deux armées passives, ça n'existe pas. Dès que l'on se met à réfléchir, ça saute aux yeux, oui mais voilà le "merveilleux" du récit berce l'intelligence qui s'endort, et la grosse couleuvre s'avale comme une cuillère de confiture même quand on n'est pas musulman. Alors ceux qui sont passés par les écoles coraniques, ils ne risquent pas de réfléchir. C'est évident, comme vous l'écrivez : deux à trois mois de fouilles, et c'est fini, les musulmans sont débarrassés de l'islam.(/2)
ومن الغريب، كما يقول، أن أحدا لم يفكر فى هذا الأمر بتاتا على ما فيه من مخالفة للمنطق تبعث على الدهشة، وهو ما يبين لنا إلى أى مدى استطاع الإسلام التلاعب بالعقول عن طريق التقنيات الخاصة بذلك جميعها دون استثناء: بدءًا مما يسمَّى بغسل المخ، ومرورًا بالتزام مبدإ السمع والطاعة والخضوع لتأثير العواطف الجمعية وتجنب مسائل بعينها لا ينبغى الخوض فيها واستغلال الجنس، وانتهاءً بتعطيل عمل العقل...إلخ. ويقول أيضا إنه، رغم حرصه على أن يظل مفتوح العينين حتى لا يخدعه خادع، قد انطلى عليه ما يُسَمَّى: "البُرْهَان السُّلْطَوِىّ"، إذ ظن أنه ما دامت هناك كتب تتحدث عن محمد فمعنى هذا أن محمدا كان موجودا حقيقة، مع أن هناك كتبا كثيرة عن تنتان، ومع ذلك فإن تنتان لم يكن له فى يوم من الأيام وجود!:
C'est ahurissant comme c'est simple, et encore plus ahurissant que l'on n'y pense pas. Voilà qui montre à quel point cette manipulation de l'islam est psychologiquement bien conçue. En fait TOUTES les techniques de la manipulation sont utilisées dans l'islam, absolument toutes : le lavage de cerveau par mantras, la démonstration publique de soumission, la pression du groupe, les non-dits, l'intrumentalisation de la sexualité, la paralysie de l'intelligence par la double contrainte etc... Moi qui me targue d'être du genre "on ne me la fait pas !" hé bien je me suis fait "couillonné" par l' "argument d'autorité" : il existe des livres qui racontent les aventures de Mahomet, donc Mahomet a existé. Ben non : il existe aussi les aventures de Tintin, et il n'a jamais existé !
وحسب قوله فإن علم الآثار يفسر لنا السرّ فى حظر الذَّهاب إلى مكة والمدينة على غير المسلمين، إذ لا بد أن يكون زوار تَيْنِك المدينتين عميانا لا يبصرون ولا يفكرون، أَىْ مسلمين مقتنعين بما يقال لهم، وألا يكون عندهم وقت للتفكير إذا ذهبوا إلى هناك. ومن ثم كان لا بد من أن تُفْرَض عليهم شعائر معقدة يؤدونها ثم يعودون على الفور من حيث أَتَوْا دون أن تكون لديهم فرصة لإعمال العقل أو لزيارة الأماكن المحيطة، وهو ما نشاهده فى نفس الظروف عند الأمم الأخرى:
L'archéologie explique de surcroît cette interdiction faite aux non-musulmans d'aller dans les villes de La Mecque et de Médine. Il faut absolument que les gens allant dans ces endroits soient aveugles, psychologiquement parlant, donc musulmans convaincus, et ils ne doivent pas avoir le temps de réfléchir quand ils viennent. Donc on leur impose des rituels compliqués, il font ça, et ils repartent. Point. Pas de réflexion, pas de visite des alentours. Surtout pas ! On retrouve un peu la même chose dans le pèlerinage au volcan de Lassolas pour l'histoire de Raël. Et le pèlerinage à Arès, pour la révélation d'Arès du frère Michel Potay.
وهو يتساءل: أمن المستطاع أن تزيح لنا بعض الصور البسيطة التى يمكن التقاطها عن طريق الأقمار الصناعية الستار عن سر اختقاء ذلك الخندق، من خلال المقارنة بينها وبين صور المواقع الأخرى التى فيها خنادق يعود تاريخها إلى نفس الفترة الزمنية وتمَّ ردمها، ومع ذلك يمكن رؤيتها من خلال التصوير الجوى، على حين أنه لا يوجد شىء من هذا فى حالة المدينة؟:
Je me demande si de simples photos par satellite ne pourraient pas révéler l'absence de ce fameux fossé, en comparant avec des photos de sites similaires connus pour avoir eu des fossés avérés, datant de la même époque, maintenant comblés mais toujours visibles sur des vues aériennes. Alors qu'a Médine, rien.(/3)
هذا ما قاله المعلق على كتاب راكان: "يهودى اسمه محمد"، وواضح من كلامه أنه يريد من السلطات السعودية أن تنكت المدينة المنورة كلها: بيوتها ومحلاتها ومؤسساتها وفنادقها ومطاعمها ومدارسها وجامعتها وشوارعها وطرقاتها وحدائقها، وإخلاء السكان طبعا قبل هذا (أما أين يذهبون، فلهم ربٌّ اسمه الكريم)، وذلك كله من أجل التحقق من وجود الخندق أو عدمه! ياه! أيّة سادية تدميرية ودموية هذه؟ الواقع أننا لم نسمع بشىء من هذا فى الأولين، ولا أظننا سنسمعه فى الآخرين! وهل تراه سيؤمن لو وجدنا آثار الخندق بعد أن تكون المدينة المنورة قد تم تدميرها وتحويلها إلى أنقاض وخرائب ينعق فيها البوم والغربان؟ أبدا لن يؤمن، وهل تؤمن الشياطين؟ ألم يقل المؤلف (وتابَعَه المعلّق فيما قال) إن محمدا لم يكن له وجود، وإنه قد تم اختراعه بعد ذلك بزمن طويل؟ يعنى أنه حتى لو دمرنا المدينة المنورة كى نرضى هذا الرجل فلن يؤمن هو وأمثاله! يا سيدى، الله الغنى عنك وعن إيمانك، إن أمكن تسمية هذا الإجرام إيمانا أو سبيلا إلى الإيمان! خَلِّك فيما أنت فيه، ودعنا نحن فى غَيِّنا سادرين، وعلى عمانا مُصِرِّين! وهل هناك عاقل يُقْدِم على هذا يا إلهى، اللهم إن كان من فصيلة نيرون المأفون؟ ولو أن كل أصحاب دين استجابوا لما يدعو إليه هذا الكائن وأشباهه ما بقى شبر واحد فى الأرض معمورا، ولتحولت البسيطة كلها خرابًا وبُورًا. اللهم اقصم ظهور المخربين الإرهاببين، المتسترين تحت راية البحث عن اليقين، من كل نافر من الدين، حاقد على عبادك المؤمنين! ولقد كان أمثال الكاتب والمعلِّق ينكرون وجود عاد مثلاً إنكارًا شديدًا، ويَصِمُون ما قاله القرآن عنهم وعن حضارتهم وأبنيتهم التى لم يُخْلَق مثلها فى البلاد بأنه كلام أساطير لا يستحق أن يصغى له العلماء الباحثون المدققون، ثم ثبت وجود تلك المبانى المهولة الضخمة فى الأماكن التى حددها القرآن مساكن لقوم عاد، عن طريق التصوير الجوى الذى قام به الغربيون أنفسهم فى صحراء الجزيرة العربية، فهل رجعوا عن تكذيبهم للقرآن؟ وهل أعلنوا إيمانهم بما قاله كتاب الله المجيد؟ لا لم يفعلوا شيئا من ذلك! ولماذا نذهب بعيدا؟ أترى الأمريكان والبريطان بعد أن ثبت كذبهم المجرم فى موضوع أسلحة الدمار الشامل بالعراق قد تراجعوا عما فعلوه فى العراق واعتذروا، وأعادوا موتاه الذين يُعَدّون بمئات الألوف إلى الحياة، وأرجعوا ما نهبوه ودمروه من عمارة العراق وثروة العراق؟ يا أخى، إننا نتعامل هنا مع قوم بلغوا من العُتُوّ فى الإجرام والشيطنة حدا لا يعرفه أحد آخر من البشر. هؤلاء وحوش، وإن تلفَّعوا بلفاع الحضارة، فالحضارة ليست تقدما فى الصناعة والسلاح والعمارة والعلوم ووسائل الاتصال وما إلى ذلك وحسب، بل الحضارة سلوك إنسانى نبيل رحيم قبل كل شىء، وهو ما لا يعرفه الرجل الغربى بوجه عام مع غيره من الأمم والشعوب الأخرى. إنه لا يعرف إلا لغة القوة والقضاء على الآخرين، لأن لسان حاله ومنطقه الشيطانى هو: إما قاتل، وإما مقتول! وهو بالطبع لا يريد أن يكون إلا قاتلا حتى يرضى شهوة الدم المتأصلة فى أعماقه المظلمة السوداء!
وهذا كله لو أننا لا نعرف حقيقة الخندق معرفة تمنعنا من التهور والإقدام على هذا الإجرام التدميرى الذى يزينه لنا الشيطانان الرجيمان، فقد كتب الواقدى فى"مغازيه" عن حفر الخندق ما يلى: "حدثني أبو بكر بن أبي سبرة قال حدثني أبو بكر بن عبد الله بن جهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب فرسا له ومعه نفر من أصحابه من المهاجرين والأنصار، فارتاد موضعا ينزله فكان أعجب المنازل إليه أن يجعل سَلْعًا خلف ظهره ويخندق من المذاد إلى ذباب إلى راتج. فعمل يومئذ في الخندق، وندب الناس فخبرهم بدنو عدوهم وعسكرهم إلى سفح سلع، وجعل المسلمون يعملون مستعجلين يبادرون قدوم العدو عليهم وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل معهم في الخندق لينشط المسلمين وعملوا ، واستعاروا من بني قريظة آلة كثيرة من مساحي وكرازين ومكاتل يحفرون به الخندق، وهم يومئذ سلم للنبي صلى الله عليه وسلم يكرهون قدوم قريش. ووكل رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل جانب من الخندق قوما يحفرونه فكان المهاجرون يحفرون من جانب راتج إلى ذباب، وكانت الأنصار تحفر من ذباب إلى جبل بني عبيد، وكان سائر المدينة مشبَّكا بالبنيان.
فحدثني محمد بن يحيى بن سهل عن أبيه عن جده قال كنت أنظر إلى المسلمين والشباب ينقلون التراب والخندق بسطة أو نحوها، وكان المهاجرون والأنصار ينقلون على رءوسهم في المكاتل وكانوا إذا رجعوا بالمكاتل جعلوا فيها الحجارة يأتون بها من جبل سلع، وكانوا يجعلون التراب مما يلي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وكان يسطرون الحجارة مما يليهم كأنها حبال التمر، وكانت الحجارة من أعظم سلاحهم يرمونهم بها.(/4)
فحدثني ابن أبي سبرة عن مروان بن أبي سعيد قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ يحمل التراب في المكاتل ويطرحه والقوم يرتجزون ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
هذا الجمال لا جمال خيبر هذا أبرُّ ربَّنا وأَطْهَر
وجعل المسلمون يومئذ إذا رأوا من الرجل فتورا ضحكوا منه. وتنافس الناس يومئذ في سلمان الفارسي، فقال المهاجرون: سلمان منا وكان قويا عارفا بحفر الخنادق. وقالت الأنصار: هو منا ونحن أحق به فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قولهم فقال سلمان رجل منا أهل البيت. ولقد كان يومئذ يعمل عمل عشرة رجال حتى عانه يومئذ قيس بن أبي صعصعة، فلبط به فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال مروه فليتوضأ له وليغتسل به ويكفئ الإناء خلفه. ففعل فكأنما حُلَّ من عقال .
فحدثني ابن أبي سبرة عن الفضيل بن مبشر قال سمعت جابر بن عبد الله يقول لقد كنت أرى سلمان يومئذ وقد جعلوا له خمسة أذرع طولا وخمسا في الأرض فما تحينته حتى فرغ وحده وهو يقول:
اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة
وحدثني أيوب بن النعمان عن أبيه عن جده عن كعب بن مالك قال جعلنا يوم الخندق نرتجز ونحفر وكنا، بني سلمة، ناحيةً فعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم علي ألا أقول شيئا ، فقلت : هل عزم على غيري؟ قالوا: حسان بن ثابت. قال فعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما نهانا لوجدنا له وقلته على غيرنا، فما تكلمت بحرف حتى فرغنا من الخندق. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ لا يغضب أحد مما قال صاحبه لا يريد بذلك سوءا، إلا ما قال كعب وحسان فإنهما يجدان ذلك.
وحدثني يحيى بن عبد العزيز عن عاصم بن عمر بن قتادة، قال كان جُعَيْل بن سُرَاقة رجلا صالحا ، وكان ذميما قبيحا، وكان يعمل مع المسلمين يومئذ في الخندق، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غير اسمه يومئذ فسماه عَمْرًا، فجعل المسلمون يرتجزون ويقولون:
سماه من بعد جُعَيْلٍ عَمْرا وكان للبائس يوما ظَهْرا
قال فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقول من ذلك شيئا إلا أن يقول "عَمْرا".
فبينا المسلمون يحفرون وكان زيد بن ثابت فيمن ينقل التراب مع المسلمين فنظر إليه سعد بن معاذ وهو جالس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الحمد لله يا رسول الله الذي أبقاني حتى آمنت بك، إني عانقت أبا هذا يوم بعاث، ثابت بن الضحاك، فكانت اللبجة به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما إنه نعم الغلام وكان زيد بن ثابت قد رقد في الخندق، غلبته عيناه حتى أخذ سلاحه وهو لا يشعر وهو في قر شديد: ترسه وقوسه وسيفه، وهو على شفير الخندق مع المسلمين فانكشف المسلمون يريدون يطيفون بالخندق ويحرسونه وتركوا زيدا نائما، ولا يشعرون به حتى جاءه عمارة بن حزم فأخذ سلاحه ولا يشعر حتى فزع بعد فقد سلاحه حتى بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا زيدا فقال يا أبا رقاد نمت حتى ذهب سلاحك ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من له علم بسلاح هذا الغلام ؟ فقال عمارة بن حزم : أنا يا رسول الله وهو عندي. فقال فرده عليه. ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يروع المسلم أو يؤخذ متاعه لاعبا جادا. حدثني علي بن عيسى ، عن أبيه قال ما كان في المسلمين يومئذ أحد إلا يحفر في الخندق أو ينقل التراب ولقد رئي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر (وكان أبو بكر وعمر لا يتفرقان في عمل ولا مسير ولا منزل) ينقلان التراب في ثيابهما يومئذ من العجلة إذ لم يجدا مكاتل لعجلة المسلمين.
وكان البراء بن عازب يقول ما رأيت أحدا أحسن في حلة حمراء من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان أبيض شديد البياض، كثير الشعر يضرب الشعر منكبيه. ولقد رأيته يومئذ يحمل التراب على ظهره حتى حال الغبار بيني وبينه وإني لأنظر إلى بياض بطنه.
وقال أبو سعيد الخدري: لكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحفر في الخندق مع المسلمين والتراب على صدره وبين عُكَنه وإنه ليقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدَّقْنا ولا صلَّيْنا(/5)
ومما نقلناه عن الواقدى يتبين لكل من يفهم ولا يعاظل معاظلة الكفر والضلال أن الأمر يتعلق بحفر أتربة لا بتكسير حجارة كما يزعم الكاتب والمعلق، فالأرض إذن كانت ترابية دَمْثة لا صخرية صُلْبة، وهذا واضح من قول مؤرخنا المسلم: "فحدثني محمد بن يحيى بن سهل عن أبيه عن جده قال: كنت أنظر إلى المسلمين والشباب ينقلون التراب والخندق بسطة أو نحوها، وكان المهاجرون والأنصار ينقلون على رءوسهم في المكاتل. وكانوا إذا رجعوا بالمكاتل جعلوا فيها الحجارة يأتون بها من جبل سلع، وكانوا يجعلون التراب مما يلي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وكانوا يسطرون الحجارة مما يليهم كأنها حبال التمر. وكانت الحجارة من أعظم سلاحهم يرمونهم بها". ففى النص، كما هو واضح، أنهم كانوا ينقلون التراب الذى يتم استخراجه من الخندق بعيدا عنه، ويحضرون الحجارة من خارجه فى طريق عودتهم. أى أن حركة الحجارة كانت حركة عكسية، فقد كانت تُجْلَب من خارجه إليه ولا تؤخَذ منه إلى الخارج، كما أنها حجارة لا صخور، وهى حجارة للرمى مما يدل على أنها كانت حجارةً صغيرةَ الحجم لا كتلاً كبيرة. ويؤكد هذا الآلاتُ التى كان المسلمون يستعملونها فى عملية الحفر، وهى المكاتل والمساحى والفؤوس، وهى (كما نرى) آلاتٌ لحفر الأتربة وتسويتها ونقلها، ولو كانوا يكسّرون صخورا لكانت الآلات المستعملة آلات تكسير وتحطيم، ولكانت وسائل النقل عربات تستطيع أن تحمل الصخور بعيدا عن ميدان العمل. ويؤكده أيضا أن المدة التى كان عليهم حفر الخندق فيها كانت مدةً جِدّ قصيرةٍ لا يمكن أبدا تكسير الصخور لصنع خندق كبير مثل هذا ونقلها خلالها، إذ كان المدة ستة أيام لا غير كما جاء فى "مغازى" الواقدى. كما كانت الإمكانات الإسلامية فى ذلك الوقت أعجز من أن تنجز مثل هذا العمل الشديد الصعوبة. ولْنلاحظ أنهم قد استعاروا حتى هذه الأدوات البسيطة البدائية من يهود، وهذا يعطينا فكرة عن مدى التخلف التقنى عندهم، هذا التخلف الذى لم يمنعهم مع ذلك من الانتصار فى معاركهم مع قوى الكفر والشرك والطغيان المحلية والعالمية وتحطيمها تحطيما لم تقم لها قائمة بعدها، على حين أننا نحن العرب والمسلمين فى هذا العصر النكد نمتلك من الإمكانات ما لم يحلم أجدادنا هؤلاء بواحد على المليار منه، ومع ذلك يسيطر علينا العجز وتنتشر فينا روح الخوف والهزيمة المسبقة فلا نكاد نحسن شيئا فى عالم الانتصارات، اللهم إلا على أيدى رجال المقاومة الإسلامية الذين يمرغون أنوف الأمريكان وأذنابهم فى الطين، مما لا يعجب العملاء الخونة فينهالون عليهم شتمًا وتخذيلاً وتلطيخًا! وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشترك يومئذ فى العمل، شأنه شأن أى واحد من المسلمين لا يتميز عنهم بشىء، فكان يحمل التراب في المكاتل ويطرحه حسبما جاء فى النص السابق وحسبما ذكر الواقدى فى نصوص أخرى على لسان بعض الصحابة: "وكان المسلمون يومئذ ثلاثة آلاف، فلقد كنت أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه ليضرب مرة بالمِعْوَل، ومرة يغرف بالمِسْحَاة التراب، ومرة يحمل التراب في المِكْتَل"، "ولقد رأيته يومئذ يحمل التراب على ظهره حتى حال الغبار بيني وبينه وإني لأنظر إلى بياض بطنه"، "لكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحفر في الخندق مع المسلمين والتراب على صدره وبين عُكَنه". ولْنلاحظ هنا أيضا ذِكْر التراب لا الصخور مما يؤكد أن المسألة كانت حفرا لا تكسيرا، وهو الأمر الذى تكررت الإشارة إليه عند الكلام عن اشتراك زيد بن ثابت فى الحَفْر، إذ نقرأ فى النص قول الراوى: "وكان زيد بن ثابت فيمن ينقل التراب مع المسلمين". كما يؤكد ذلك أن بعض الصحابة كأبى بكر وعمر كانوا يستخدمون ثيابهم فى حمل ناتج الحفر بعيدا عن الخندق لقلة المكاتل (وهى تقابل الغُلْقان والقُفَف عندنا فى مصر)، والإنسان لا يستخدم ثيابه فى نقل الصخور بل التراب. وفى "صحيح البخارى" أيضا يطالعنا هذا الحديث لأنس بن مالك: "جعل المهاجرون والأنصار يحفرون الخندق حول المدينة، وينقلون التراب على متونهم، وهم يقولون :
نحن الذين بايعوا محمدا على الإسلام ما بقينا أبدا
قال : يقول النبي صلى الله عليه وسلم، هو يجيبهم: اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة. فبارك في الأنصار والمهاجرة". كما نقرأ فيه كذلك قول البراء بن عازب: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق ينقل معنا التراب، وهو يقول :
والله لولا الله ما اهتدينا ولا صمنا ولا صلينا
فأَنْزِلَنْ سَكِينَةً علينا وثبِّت الأقدام إن لاقينا
والمشركون قد بَغَوْا علينا إذا أرادوا فتنة أبينا"(/6)
ويؤكذ هذا كذلك أن الروايات لم تتحدث إلا عن صخرتين اثنتين قابلتا المسلمين أثناء عملية الحفر وسبَّبَتا لهم عناءً فاق طاقتهم وخبرتهم مما اضطرهم إلى اللجوء إلى رسول الله، الذى قام بنفسه بتحطيمهما كما رأينا، وهذا هو الاستثناء الذى يؤكد القاعدة. وقد تكرر هذا الكلام فى المصادر الأخرى، إذ نقرأ فى سيرة ابن هشام مثلا: "قال ابن إسحاق: وكان في حفر الخندق أحاديث بلغتني فيها من الله تعالى عبرة في تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحقيق نبوته عاين ذلك المسلمون. فكان مما بلغني أن جابر بن عبد الله كان يحدّث أنه اشتدت عليهم في بعض الخندق كُدْية فشكَوْها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بإناء من ماء فتَفَل فيه ثم دعا بما شاء الله أن يدعو به ثم نضح ذلك الماء على تلك الكُدْية فيقول من حضرها: فوالذي بعثه بالحق نبيا، لانهالت حتى عادت كالكثيب لا ترد فأسا ولا مسحاة... وحدثت عن سلمان الفارسي أنه قال ضربت في ناحية من الخندق، فغلظتْ عليَّ صخرة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قريب مني، فلما رآني أضرب ورأى شدة المكان علي نزل فأخذ المعول من يدي، فضرب به ضربة لمعت تحت المعول برقة قال ثم ضرب به ضربة أخرى ، فلمعت تحته برقة أخرى. قال ثم ضرب به الثالثة فلمعت تحته برقة أخرى. قال قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما هذا الذي رأيتُ لمََعَ تحت المعول وأنت تضرب؟ قال أَوَقَدْ رأيت ذلك يا سلمان؟ قال قلت: نعم قال أما الأولى فإن الله فتح علي بها اليمن، وأما الثانية فإن الله فتح عليَّ بها الشام والمغرب، وأما الثالثة فإن الله فتح علي بها المشرق". ومن هذا كله نرى رؤية اليقين أنه لن يكون ثمة وجود للخندق حتى لو بَقَرْنا الأرض كلها أو صورناها من الجو (أو حتى من البحر أو من البر، وإن كنت لا أدرى كيف يكون هذا. إنما هو كلام أقوله للتنفيس عن غيظى من هذا الجهل الأوربى المتدثر بدثار العلم الزائف، لا بل بدثار الحقد المستعر)، ذلك أن حَفْر التراب بعد أن يتم ردمه كرة أخرى لا يَبِين له أثر، فما قول الشياطين المخربين المدمرين أعداء الحياة والحضارة والثقافة فى هذا؟ وقد تحدث المستشرق الفرنسى إميل درمنجم (فى صفحتى 263- 264 من كتابه: "La Vie de Mahomet" Librairie Plon, 1929 Paris,، وفى صفحتى 266- 267 من الترجمة العربية للكتاب التى قام بها عادل زعيتر/ ط2/ عيسى البابى الحلبى/ 1949م) عن الخندق فذَكَر التراب والغبار الذى كان يغطى جسد الرسول عليه السلام أثناء عمله فى الحفر ونقل الأتربة، وإن كنتُ وجدتُ رصيفه سافارى (M. Savary)، الذى كان يعيش فى القرن الثامن عشر الميلادى والذى ترجم القرآن إلى الفرنسية وكتب له مقدمة طويلة بمثابة كتاب كامل خصَّصها لسيرة سيد المرسلين عنوانها: "Abrégé de la vie de Mahomet"، يقول فى هذه المقدمة عند حديثه عن غزوة الخندق (ولا أدرى على أى أساس قال ما قال، ولا من أى مصدر استقاه) إن الأرض كانت صخرية صعبة الحفر، وإن المسلمين كانوا يستعملون القواديم فى كسرها. كما أشار إلى الصخرة التى استعصت على المسلمين واستطاع الرسول عليه السلام أن يفتّتها، وإن فسَّر ذلك تفسيرا طبيعيا نافيا عنه جانبه الإعجازى:
"On n'entendait de toutes parts que le bruit des marteaux, les cris des travailleurs. Le sol était pierreux et difficile à creuser. Une roche fort dure résistait aux attaques des pionniers et rebutait leur constance. Mahomet, s'apercevant de leur découragement, prit de l'eau dans sa bouche et en répandit sur la pierre ; elle s'amollit, et céda aux coups redoublés des marteaux. Les Musulmans crièrent miracle et attribuèrent à la vertu de cette eau merveilleuse un succès qu'ils devaient à leurs nouveaux efforts. Tel Annibal, se frayant une route à travers les Alpes, ranima le courage de ses soldats, en faisant répandre du vinaigre sur le rocher qu'il voulait percer. Partout le grand homme est le même ; partout il aplanit les obstacles sous ses pas et fait céder la nature à ses efforts. Le charme invincible qu'il emploie pour produire des prodiges est l'assurance du succès dont il enivre les curs des mortels".
وهذا كلام ليس له مرجع يَحُور إليه، بل اعتمد فيه الكاتب على تخيلاته وأوهامه للأسف الشديد، وليس هذا مما يرتضيه العلم ولا البحث المنهجى!(/7)
أما بالنسبة لكلامه هو وقارئه عن سلبية الجيشين: المسلم والكافر فهأنذا أسوق ما كتبه الواقدى كى يتبين القراء مدى الغشم الذى يندفع إليه الغربيون بوجه عام عندما تأتى سيرة الإسلام فيَنْسَوْن كل ما يلوكونه عن المنهج العلمى ووجوب تثبت الباحث من كل ما يقوله أو يكتبه بحيث لا يخط حرفا إلا بعد الرجوع إلى المصادر والمراجع التى تتناول الموضوع. المهم: تعالَوْا إلى ما قاله الواقدى لنرى إلى أى مدى كان الكاتب والمعلق الفرنسيان مخلصَيْن للمنهج (أو بلغة العقاد فى تهكمه على الأستاذ أمين الخولى: "المنهش") العلمى: "قال الواقدي: حدثني عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم قال قالت أم سلمة كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق فلم أفارقه مقامه كله وكان يحرس بنفسه في الخندق، وكنا في قر شديد فإني لأنظر إليه قام فصلى ما شاء الله أن يصلي في قبته ثم خرج فنظر ساعة فأسمعه يقول هذه خيل المشركين تطيف بالخندق من لهم؟ ثم نادى: يا عباد بن بشر. فقال عباد لبيك قال أمعك أحد؟ قال نعم أنا في نفر من أصحابي كنا حول قبتك.
قال فانطلق في أصحابك فأطف بالخندق فهذه خيل من خيلهم تطيف بكم يطمعون أن يصيبوا منكم غرة. اللهم ادفع عنا شرهم وانصرنا عليهم واغلبهم لا يغلبهم غيرك فخرج عباد بن بشر في أصحابه فإذا بأبي سفيان في خيل من المشركين يطيفون بمضيق الخندق. وقد نذر بهم المسلمون فرَمَوْهم بالحجارة والنَّبْل. فوقفنا معهم فرميناهم حتى أذلقناهم بالرمي فانكشفوا راجعين إلى منزلهم. ورجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجده يصلي فأخبرته. قالت أم سلمة فنام حتى سمعت غطيطه فما تحرك حتى سمعت بلالا يؤذن بالصبح وبياض الفجر فخرج فصلى بالمسلمين. فكانت تقول يرحم الله عباد بن بشر فإنه كان ألزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لقبة رسول الله يحرسها أبدا.
فحدثني أيوب بن النعمان عن أبيه قال كان أسيد بن حضير يحرس الخندق في أصحابه فانتهوا إلى مكان من الخندق تطفره الخيل فإذا طليعة من المشركين مائة فارس أو نحوها عليهم عمرو بن العاص يريدون أن يغيروا إلى المسلمين فقام أسيد بن حضير عليها بأصحابه فرموهم بالحجارة والنبل حتى أجهضوا عنا ووَلَّوْا. وكان في المسلمين تلك الليلة سلمان الفارسي، فقال لأسيد إن هذا مكان من الخندق متقارب ونحن نخاف تطفره خيلهم، وكان الناس عجلوا في حفره. وبادروا فباتوا يوسعونه حتى صار كهيئة الخندق وأمنوا أن تطفره خيلهم. وكان المسلمون يتناوبون الحراسة وكانوا في قُرٍّ شديدٍ وجوعٍ.
فحدثني خارجة بن الحارث عن أبي عتيق السلمي عن جابر بن عبد الله قال لقد رأيتني أحرس الخندق، وخيل المشركين تطيف بالخندق وتطلب غرة ومضيقا من الخندق فتقتحم فيه وكان عمرو بن العاص وخالد بن الوليد هما اللذان يفعلان ذلك يطلبان الغفلة من المسلمين. فلقينا خالد بن الوليد في مائة فارس، قد جال بخيله يريد مضيقا من الخندق يريد أن يعبر فرسانه فنضحناهم بالنبل حتى انصرف. فحدثني إبراهيم بن جعفر عن أبيه قال قال محمد بن مسلمة أقبل خالد بن الوليد تلك الليلة في مائة فارس، فأقبلوا من العقيق حتى وقفوا بالمذاد وجاه قبة النبي صلى الله عليه وسلم. فنذرت بالقوم فقلت لعباد بن بشر وكان على حرس قبة النبي صلى الله عليه وسلم وكان قائما يصلي، فقلت: أتيت فركع ثم سجد وأقبل خالد في ثلاثة نفر هو رابعهم فأسمعهم يقولون هذه قبة محمد ارموا فرموا ، فناهضناهم حتى وقفنا على شفير الخندق ، وهم بشفير الخندق من الجانب الآخر فترامينا، وثاب إلينا أصحابنا، وثاب إليهم أصحابهم وكثرت الجراحة بيننا وبينهم. ثم اتبعوا الخندق على حافتيه وتبعناهم والمسلمون على محارسهم فكلما نمر بمحرس نهض معنا طائفة وثبت طائفة حتى انتهينا إلى راتج فوقفوا وقفة طويلة وهم ينتظرون قريظة يريدون أن يغيروا على بيضة المدينة، فما شعرنا إلا بخيل سلمة بن أسلم بن حريش يحرس فيأتون من خلف راتج، فلاقَوْا خالد بن الوليد فاقتتلوا واختلطوا، فما كان إلا حلْب شاة حتى نظرتُ إلى خيل خالد مولية وتبعه سلمة بن أسلم حتى رده من حيث جاء. فأصبح خالد وقريش وغطفان تزري عليه وتقول ما صنعت شيئا فيمن في الخندق ولا فيمن أصحر لك. فقال خالد أنا أقعد الليلة وابعثوا خيلا حتى أنظر أيّ شيء تصنع".(/8)
ولنقرأ أيضا فى الواقدى: "حدثني ابن أبي سبرة عن عبد الواحد بن أبي عون عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت والله إني لفي جوف الليل في قبة النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم إلى أن سمعت الهيعة وقائل يقول يا خيل الله وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل شعار المهاجرين "يا خيل الله" ففزع رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوته فخرج من القبة فإذا نفر من الصحابة عند قبته يحرسونها، منهم عباد بن بشر فقال ما بال الناس؟ قال عباد يا رسول الله هذا صوت عمر بن الخطاب، الليلة نوبته، ينادي: "يا خيل الله" والناس يثوبون إليه وهو من ناحية حسيكة ما بين ذباب ومسجد الفتح. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعباد بن بشر اذهب فانظر ثم ارجع إلي إن شاء الله فأخبرني قالت أم سلمة فقمت على باب القبة أسمع كل ما يتكلمان به.
قالت فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما حتى جاءه عباد بن بشر فقال يا رسول الله هذا عمرو بن عبد في خيل المشركين معه مسعود بن رخية بن نويرة بن طريف بن سحمة بن عبد الله بن هلال بن خلاوة بن أشجع بن ريث بن غطفان في خيل غطفان، والمسلمون يرامونهم بالنَّبْل والحجارة.
قالت فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبس درعه ومِغْفَره وركب فرسه وخرج معه أصحابه حتى أتى تلك الثغرة فلم يلبث أن رجع وهو مسرور فقال: صرفهم الله. وقد كثرت فيهم الجراحة. قالت فنام حتى سمعت غطيطه وسمعت هائعة أخرى، ففزع فوثب فصاح يا عباد بن بشر قال لبيك قال انظر ما هذا. فذهب ثم رجع فقال هذا ضرار بن الخطاب في خيل من المشركين معه عيينة بن حصن في خيل غطفان عند جبل بني عبيد، والمسلمون يرامونهم بالحجارة والنبل.
فعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبس درعه وركب فرسه ثم خرج معه أصحابه إلى تلك الثغرة فلم يأتنا حتى كان السحر فرجع وهو يقول رجعوا مفلولين قد كثرت فيهم الجراحة. ثم صلى بأصحابه الصبح وجلس. فكانت أم سلمة تقول قد شهدت معه مشاهد فيها قتال وخوف: المريسيع وخيبر، وكنا بالحديبية.
وفي الفتح وحنين لم يكن من ذلك شيء أتعب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أخوف عندنا من الخندق. وذلك أن المسلمين كانوا في مثل الحرجة وأن قريظة لا نأمنها على الذراري والمدينة تحرس حتى الصباح يسمع تكبير المسلمين فيها حتى يصبحوا خوفا ، حتى ردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرا [وكفى الله المؤمنين القتال] .
حدثني إبراهيم بن جعفر عن أبيه عن محمد بن مسلمة قال كنا حول قبة رسول الله صلى الله عليه وسلم نحرسه ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائم نسمع غطيطه إذ وافت أفراس على سلع، فبصر بهم عباد بن بشر فأخبرنا بهم قال فأمضى إلى الخيل وقام عباد على باب قبة النبي صلى الله عليه وسلم آخذا بقائم السيف ينظرني، فرجعت فقلت: خيل المسلمين أشرفت عليها سلمة بن أسلم بن حريش فرجعت إلى موضعنا. ثم يقول محمد بن مسلمة كان ليلنا بالخندق نهارا حتى فرجه الله".
ولنستمر فى القراءة للمرة الثالثة حتى يتبين الرُّشْد العلمىّ المسلم من الغَىّ الفرنسى المتحذلق الغشيم: "حدثني خارجة بن الحارث عن أبي عتيق عن جابر وحدثني الضحاك بن عثمان، عن عبيد الله بن مقسم، عن جابر بن عبد الله، قال كان خوفنا على الذراري بالمدينة من بني قريظة أشد من خوفنا من قريش حتى فرج الله ذلك.
قالوا: فكان المشركون يتناوبون بينهم فيغدو أبو سفيان بن حرب في أصحابه يوما، ويغدو هبيرة بن أبي وهب يوما، ويغدو عكرمة بن أبي جهل يوما، وضرار بن الخطاب يوما، فلا يزالون يجيلون خيلهم ما بين المذاد إلى راتج، وهم في نشر من أصحابهم يتفرقون مرة ويجتمعون أخرى، حتى عظم البلاء وخاف الناس خوفا شديدا.
ويقدمون رماتهم، وكان معهم رماة حبان بن العرقة وأبو أسامة الجشمي وغيرهم من أفناء العرب، فعمدوا يوما من ذلك فتناوشوا بالنبل ساعة وهم جميعا في وجه واحد وجاه قبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم عليه الدرع والمغفر ويقال على فرسه.
فيرمي حبان بن العرقة سعد بن معاذ بسهم فأصاب أكحله فقال خذها وأنا ابن العرقة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عرق الله وجهك في النار. ويقال أبو أسامة الجشمي رماه وكان دارعا.
فكانت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول كنا في أُطُم بني حارثة قبل الحجاب ومعنا أم سعد بن معاذ، فمر سعد بن معاذ يومئذ عليه ردع خلوق ما رأيت أحدا في الخلوق مثله وعليه درع له مشمرة عن ذراعيه والله إني لأخاف عليه يومئذ من تشميرة درعه ما أصابه فمر يرفل في يده الحربة وهو يقول:
لبث قليلا يدرك الهيجا حَمَل ما أحسن الموت إذا حان الأجل
وأمه تقول الحق برسول الله يا بني، وقد والله تأخرت، فقلت: والله يا أم سعد لوددت أن درع سعد أسبغ على بنانه .(/9)
قالت أم سعد يقضي الله ما هو قاض فقضى له أن أصيب يومئذ ولقد جاء الخبر بأنه قد رمي تقول أمه وا جبلاه ثم إن رؤساءهم أجمعوا أن يغدوا جميعا، فغدا أبو سفيان بن حرب، وعكرمة بن أبي جهل، وضرار بن الخطاب، وخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وهبيرة بن أبي وهب، ونوفل بن عبد الله المخزومي، وعمرو بن عبد، ونوفل بن معاوية الديلي في عدة فجعلوا يطيفون بالخندق ومعه رؤساء غطفان: عيينة بن حصن ومسعود بن رخيلة والحارث بن عوف، ومن سليم رؤساؤهم ومن بني أسد طليحة بن خويلد.
وتركوا الرجال منهم خُلُوفًا، يطلبون مضيقا يريدون يقتحمون خيلهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فانتهوا إلى مكان قد أغفله المسلمون فجعلوا يكرهون خيلهم ويقولون هذه المكيدة ما كانت العرب تصنعها ولا تكيدها.
قالوا: إن معه رجلا فارسيا، فهو الذي أشار عليهم بهذا.
قالوا: فمن هناك إذا؟ فعبر عكرمة بن أبي جهل، ونوفل بن عبد الله، وضرار بن الخطاب، وهبيرة بن أبي وهب، وعمرو بن عبد، وقام سائر المشركين من وراء الخندق لا يعبرون وقيل لأبي سفيان ألا تعبر؟ قال قد عبرتم فإن احتجتم إلينا عبرنا.
فجعل عمرو بن عبد يدعو إلى البِرَاز ويقول:
ولقد بححت من الندا ء لجمعكم: هل من مبارز؟
وعمرو يومئذ ثائر قد شهد بدرا فارتث جريحا فلم يشهد أحدا، وحرم الدهن حتى يثأر من محمد وأصحابه وهو يومئذ كبير. يقال بلغ تسعين سنة .
فلما دعا إلى البراز قال علي عليه السلام: أنا أبارزه يا رسول الله، ثلاث مرات.
وإن المسلمين يومئذ كأن على رءوسهم الطير لمكان عمرو وشجاعته. فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه، وعمّمه وقال اللهم أعنه عليه.
قال وأقبل عمرو يومئذ وهو فارس وعلي راجل فقال له علي عليه السلام "إنك كنت تقول في الجاهلية لا يدعوني أحد إلى واحدة من ثلاث إلا قبلتها" قال: "أجل".
قال علي: "فإني أدعوك أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتسلم لله رب العالمين". قال يا ابن أخي، أخِّر هذا عني. قال: فأُخْرَى، ترجع إلى بلادك، فإن يكن محمد صادقا كنت أسعد [الناس] به وإن غير ذلك كان الذي تريد. قال هذا ما لا تتحدث به نساء قريش أبدا، وقد نذرت ما نذرت وحرمت الدهن .
قال فالثالثة؟ قال البِرَاز. قال فضحك عمرو ثم قال إن هذه الخصلة ما كنت أظن أن أحدا من العرب يرومني عليها إني لأكره أن أقتل مثلك، وكان أبوك لي نديما، فارجع فأنت غلام حدث إنما أردت شيخي قريش أبا بكر وعمر.
قال فقال علي عليه السلام فإني أدعوك إلى المبارزة فأنا أحب أن أقتلك.
فأسف عمرو ونزل وعقل فرسه.
فكان جابر يحدث يقول فدنا أحدهما من صاحبه وثارت بينهما غبرة فما نراهما، فسمعنا التكبير تحتها فعرفنا أن عليا قتله. فانكشف أصحابه الذين في الخندق هاربين وطفرت بهم خيلهم إلا أن نوفل بن عبد الله وقع به فرسه في الخندق، فرمي بالحجارة حتى قتل. ورجعوا هاربين وخرج في أثرهم الزبير بن العوام وعمر بن الخطاب، فناوشوهم ساعة. وحمل ضرار بن الخطاب على عمر بن الخطاب بالرمح حتى إذا وجد عمر مس الرمح رفعه عنه وقال هذه نعمة مشكورة فاحفظها يا ابن الخطاب إني قد كنت حلفت لا تمكنني يداي من رجل من قريش أبدا. فانصرف ضرار راجعا إلى أبي سفيان وأصحابه وهم قيام عند جبل بني عبيد.
ويقال حمل الزبير على نوفل بن عبد الله بن المغيرة بالسيف حتى شقه باثنين وقطع أندوج سرجه.
والأندوج اللبد الذي يكون تحت السرج، ويقال: إلى كاهل الفرس. فقيل يا أبا عبد الله ما رأينا سيفا مثل سيفك فيقول والله ما هو بالسيف ولكنها الساعد. وهرب عكرمة وهبيرة فلحقا بأبي سفيان وحمل الزبير على هبيرة فضرب ثفر فرسه فقطع ثفر فرسه وسقطت درع كان محقبها الفرس، فأخذ الزبير الدرع وفر عكرمة وألقى رمحه. فلما رجعوا إلى أبي سفيان قال هذا يوم لم يكن لنا فيه شيء ارجعوا فنفرت قريش فرجعت إلى العقيق، ورجعت غطفان إلى منازلها، واتَّعَدوا يَغْدُون جميعا ولا يتخلف منهم أحد. فباتت قريش يعبئون أصحابهم وباتت غطفان يعبئون أصحابهم ووافَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق قبل طلوع الشمس.
وعبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وحضهم على القتال ووعدهم النصر إن صبروا، والمشركون قد جعلوا المسلمين في مثل الحصن من كتائبهم فأخذوا بكل وجه من الخندق.
فحدثني الضحاك بن عثمان، عن عبيد الله بن مقسم، عن جابر بن عبد الله قال قاتلونا يومهم وفرقوا كتائبهم ونحوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتيبة غليظة فيها خالد بن الوليد، فقاتلهم يومه ذلك إلى هوي من الليل ما يقدر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من المسلمين أن يزولوا من مواضعهم وما يقدر رسول الله صلى الله عليه وسلم على صلاة الظهر ولا العصر ولا المغرب ولا العشاء فجعل أصحابه يقولون يا رسول الله ما صلينا فيقول ولا أنا والله ما صليت حتى كشفهم الله تعالى فرجعوا متفرقين.(/10)
فرجعت قريش إلى منزلها، ورجعت غطفان إلى منزلها، وانصرف المسلمون إلى قبة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأقام أسيد بن حضير على الخندق في مائتين من المسلمين فهم على شفير الخندق إذ كرت خيل من المشركين يطلبون غرة، عليهم خالد بن الوليد، فناوشهم ساعة ومع المشركين وحشي، فزَرَقَ الطفيل بن النعمان من بني سلمة بمزراقه فقتله فكان يقول أكرم الله تعالى حمزة والطفيل بحربتي ولم يهني بأيديهما.
فلما صار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى موضع قبته أمر بلالا فأذَّن. وكان عبد الله بن مسعود يقول أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن وأقام للظهر وأقام بعد لكل صلاة إقامة إقامة".
ونمضى فنقرأ فى الواقدى: "وأرسلت بنو مخزوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلبون جيفة نوفل بن عبد الله يشترونها بالدية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هي جيفة حمار. وكره ثمنه. فلما انصرف المشركون تلك الليلة لم يكن لهم قتال جميعا حتى انصرفوا، إلا أنهم لا يدعون يبعثون الطلائع بالليل يطمعون في الغارة. وخرجت بعد ذلك طليعتان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليلا، فالتقيا ولا يشعر بعضهم ببعض ولا يظنون إلا أنهم العدو، فكانت بينهم جراحة وقتل ولسنا نعرف من قتل ولم يسم لنا. ثم نادوا بشعار الإسلام وكف بعضهم عن بعض وكان شعارهم حم لا ينصرون. فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جراحكم في سبيل الله، ومن قتل منكم فإنه شهيد. فكانوا بعد ذلك إذا دنا المسلمون بعضهم من بعض نادوا بشعارهم لأن يكف بعضهم عن بعض فلا يرمون بنَبْل ولا بحجر.
كانوا يطيفون بالخندق بالليل حتى الصباح يتناوبون وكذلك يفعل المشركون أيضا، يطيفون بالخندق حتى يصبحوا. قال فكان رجال من أهل العوالي يطلعون إلى أهليهم فيقول لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أخاف عليكم بني قريظة. فإذا ألحوا في كثرة ما يستأذنونه يقول من ذهب منكم فليأخذ سلاحه فإني لا آمن بني قريظة هم على طريقكم. وكان كل من يذهب منهم إنما يسلكون على سلع حتى يدخلوا المدينة، ثم يذهبون إلى العالية".(/11)
فهذه هى الحقائق لا الذى يقوله البكّاشان الفرنسيان اللذان سيفضحهما الله عز وجل بحوله وطوله يوم القيامة كما فضحهما على يد العبد لله الذى لا حول له ولا طول، لكن أراد المولى أن يمنّ عليه بهذا الشرف رغم تقصيره وقلة حيلته وعدم تميزه بذكاء أو لَوْذَعِيّة، وهو لا شك فضل كبير من أفضال الله! وخلاصة ما قرأناه معا أنه كان هناك أكثر من محاولة للعبور لا محاولة واحدة كما زعم الفرنسيان المتحذلقان بجهل، وبعض هذه المحاولات نجح إلى حين، وإن كان انتهى بمقتل أصحابها، وبعضها ارتد على عقبه على الفور. ولا ينبغى أن يغيب عن البال فى هذا السياق أن عبور الخندق كان أمرا جديدا على العرب لم يتعودوه لا هم ولا خيولهم، كما أن نقاط العبور الضيقة التى تغرى بالمحاولة كانت محصورة فى موضع واحد تقريبا سَبَبُه العَجَلة التى كان فيها المسلمون أثناء حفر الخندق نظرا لضيق الوقت وبدائية الأدوات والأساليب، فضلا عن أن المجازفين بحياتهم وسلاحهم هم بطبيعة الحال قلة فى كل العصور، ولا يُعْقَل من ثم أن نتوقع محاولة الجميع العبور، فضلا عن أن يتم هذا العبور فعلا. إن هذا ليُدَابِر منطق الحياة والواقع أشد المدابرة، وبخاصة إذا كان المسلمون بالمرصاد لكل من يعبر فيُجْهِزون عليه، أو يرمونه بالسهام أو يضربونه بالسيوف حتى يردوه على عقبيه مخذولا مدحورا. أما أثناء المبارزة فكيف فات الأخطلَيْن الفرنسيَّيْن أنه من غير الممكن تفكير أى من الفريقين فى رمى الفارس المعادى بالسهام خوفا أن يصيب السهم فارسهم هم بدلا من فارس الأعداء، إذ إن المبارزة لا تتم فى سكون وتخشب، بل يتدافع المبارزان أثناءها ويتنقلان من موضع إلى موضع فى كل لحظة، بل كثيرا ما يتبادلان موقعيهما فى مثل لمح البصر؟ ولم يكن العرب بارعين فى استعمال السهم براعة الكاوبوى فى استعمال المسدس حتى ليصيب به من يريد أيًّا كان وضع خصمه أثناء التنشين، وأيا كانت سرعة حركته، وأيا كانت عبقريته فى الرمى والتصويب، وذلك بعد أن يُدَوِّره فى الهواء حول يده دورتين، ثم يَلْقَفه ويضرب به على الفور فى الملآن وكأنه مبرمج ألكترونيا. يا سلام على العبقرية الكاوبويية! ببساطة لأن العرب لم يكونوا يعرفون بكش رامبو وحركاته السينمائية النصف كُمّ التى انكشفت فى أفغانستان والعراق، وستنتهى بمشيئته تعالى بالهزيمة الداحرة الفاقرة! أما السواتر التى ظن الأفاكان الفرنسيان أنهما سيُسْكِتان بها المسلمين إلى الأبد فها هو ذا ما قاله الواقدى بشأنها على لسان راوى القصة: "وكانوا يجعلون التراب مما يلي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وكانوا يسطرون الحجارة مما يليهم كأنها حبال التمر، وكانت الحجارة من أعظم سلاحهم يرمونهم بها". أى أنهم كانوا حريصين على أن يُبْقُوا الأتربة فى جهتهم كى يتترَّس وراءها النبى وأصحابه عند اللزوم، فيما كانوا يرمون المشركين بالحجارة التى كانوا يحضرونها من جبل سلع وراءهم، والتى يصفها الراوى بأنها كانت أعظم أسلحتهم، وأضيف أنا أنها كانت المثال الذى نسج على منواله أبطال الانتفاضة الحجرية فى أرض فلسطين المباركة، أولئك الأبطال الذين لم يتحججوا كما يتحجج دائما خوالف الرؤساء والزعماء والقوادين المسلمين بقلة الإمكانات أو عدم ملاءمة الظروف للذَّوْد عن الديار رغم المليارات التى تنفق سنويا على السلاح والخبراء وتفاخُرهم بذلك، بينما الحقيقة المخزية أنه لا أحد فى الجيش فى كثير من الدول العربية يمكنه استخدام شىء من هذا السلاح. وبالمناسبة فقد كانت أم سلمة فى هذه الغزوة (وفى عدة غزوات أخرى أيضا) فى معيّة الرسول صلى الله عليه وسلم كما لاحظنا من النصوص السابقة، على حين كانت عائشة فى أحد الحصون مع سائر النساء والصغار كما جاء هنا وكما ورد فى سيرة ابن هشام مثلا: "قال ابن إسحاق: وحدثني أبو ليلى عبد الله بن سهل بن عبد الرحمن بن سهل الأنصاري، أخو بني حارثة : أن عائشة أم المؤمنين كانت في حصن بني حارثة يوم الخندق ، وكان من أحرز حصون المدينة "، وهو ما يكذّب أحمد صبحى منصور فى نفيه اصطحاب رسول الله أيًّا من زوجاته الأخريات معه أثناء الغزو، إذ كان منطقه المتهافت أن الشيعة هم الذين اخترعوا قصة اصطحاب النبى لعائشة كى يرتبوا عليها اتهامهم لها فى عِرْضها. فها هى ذى أم سلمة، التى لا تِرَاتِ للشيعة عندها، تصحب الرسول فى هذه الغزوة، وأى غزوة؟ غزوةٌ وَصَفَ القرآنُ المسلمين أثناءها بأن أبصارهم قد زاغت، وبلغت القلوب منهم الحناجر، وأنهم قد ظنوا بالله الظنون، وأنهم قد ابْتُلُوا وزُلْزِلُوا زلزالا شديدا، وهو ما يرد أبلغ رد على قول كويتبنا إنه لا يُعْقَل أن يصطحب الرسول إحدى زوجاته معه أثناء الغزو معرضا إياها للأخطار فى الوقت الذى تبقى فيه زوجات المسلمين فى المدينة آمنات مطمئنات، إذ من له المصلحة هذه المرة فى الزعم بأن الرسول قد اصطحب أم سلمة معه فى غزوة الخندق؟ وهذا لو جارينا الكويتب فى أن الشيعة قد(/12)
أرادوا أن يلوِّثوا عِرْض عائشة فى رواية الإفك، وهو ما أثبتنا فى مقالنا عن كتابه التافه المريب: "القرآن، وكفى" أنه لا صحة له على الإطلاق، إذ هم يَسْمُون بالنبوة والرسالة أن تنالها أية شائبة من ناحية الأعراض، فهم لهذا لا يتهمون عائشة أو غيرها من زوجات النبى فى شرفها لأن هذا الاتهام سيمَسّ الرسول بالضرورة.
ومن يشأْ الاطلاعَ على الدراسات المكتوبة بالإنجليزية والفرنسية يمكنْه أن يراجع وصف معركة الخندق فى الفصل السابع عشر من كتاب وليام موير: "Life of Mohammad" (طبعة John Grant, Edinburgh, 1912، بدءًا من صفحة 306 فصاعدًا)، وكذلك الفصل الستين من كتاب أبو بكر سراج الدين (مارتن لنجز سابقا): "MUHAMMAD- His Life Based on the Earliest Sources"، إلى جانب كتاب "The Life of Muhammad" لمؤلفه A. H. Siddiqui (طبعة Millat Book Centre, New Delhi, 1993) بدءًا من صفحة 215 فصاعدًا، وفيه تفصيل للأمر كله حفرًا وتشوينًا للتراب والحجارة وحراسةً وتجسّسًا وعبورًا ومبارزةً...إلخ فى أسلوب عصرى. ومثله فى هذا التفصيل الدقيق الفصلُ التاسع والعشرون من كتاب Salim Ibn-i-Muhammad Raffi: "Muhammad the Beloved of Allah" (طبعة Kazi Publications, Lahore, 1998) بدءًا من صفحة 293 فصاعدًا. ولا أذكر أننى قد قابلت تشكيكا أى تشكيك فى واقعة الخندق وحَفْره عند أى من المستشرقين على تباين أديانهم واتجاهاتهم الفكرية والسياسية واختلاف أهوائهم وجنسياتهم وعلى طول ما قرأت لهم، وكثير منهم مشككون مداورون من الطراز الأول لا يتورعون عن محاولة إثارة ريبتك حتى فى حقيقة وجودك نفسه وأنت واقف أمامهم. بقيت كلمة حُشْتُها كل تلك المدة لم أعلن عنها، ولا أستطيع المضى فى كتمانها أطول من ذلك، ألا وهى أن مؤلف الكتاب الذى بين يدينا هو طبيب نفسى، والمظنون بالأطباء النفسانيين عند العامة أنهم غير أسوياء، والمسؤول عن هذا أفلامنا العربية التى تجتهد عادة فى تصويرهم مرضى يحتاجون، قبل المترددين عليهم، إلى العلاج مما يعانونه من انحرافات وعقد. ولعل آخر ممثل مصرى شاهدتُه يقوم بهذا الدور هو الأستاذ فؤاد خليل، الذى أضحكنى وأمتعنى كثيرا بأدائه المميز لهذا الدور، وإن كنت لا أستسيغ تمثيله أحيانا لما يكون فيه من افتعال ومبالغة. أريد أن أقول إن كلام الطبيب الفرنسى قد أثبت أن ما تقوله أفلامنا عن هذه الطائفة من الأطباء ليس خيالا ولا ادعاء كله، وأن هناك فعلا أطباء نفسانيين بحاجة إلى رعاية عقلية ونفسية، وصاحبنا مؤلف الكتاب المذكور واحد منهم، بل هو زعيمهم بكل تأكيد، إذ إن ما يقوله وما يقترحه إنما هو الجنون (الجنون الأزلى) بعينه، لا شفاه الله منه حتى يكون عبرة للمتوسِّمين!(/13)
أما قول المعلق إنه لغريب حقا أن أحدا لم يفكر فى أمر الخندق بتاتا على ما فيه من مخالفة للمنطق تبعث على الدهشة، وإن هذا يبين لنا إلى أى مدًى استطاع الإسلام التلاعب بالعقول عن طريق التقنيات الخاصة بذلك جميعها دون استثناء: بدءًا مما يسمَّى بغسل المخ، ومرورًا بالتزام مبدإ السمع والطاعة والخضوع لتأثير العواطف الجمعية وتجنب مسائل بعينها لا ينبغى الخوض فيها واستغلال الجنس، وانتهاءً بتعطيل عمل العقل...إلخ، وإنه، رغم حرصه على أن يظل مفتوح العينين حتى لا يخدعه خادع، قد انطلى عليه ما يُسَمَّى: "برهان السلطة"، إذ ظن أنه ما دامت هناك كتب تتحدث عن محمد فمعنى هذا أن محمدا كان موجودا حقيقة، مع أن هناك كتبا كثيرة عن تنتان، ومع ذلك فإن تنتان لم يكن له فى يوم من الأيام وجود. والواقع أنه لا يسعنى إلا الاتفاق معه فى أن وجود كتب أو حكايات عن فلان أو علاّن أو ترتان لا يعنى بالضرورة أن هذا الفلان موجود أو كان موجودا، إلا أن هذا لا يعنى أيضا أن نشك فى وجود فلان ذاك شكًّا آليًّا رغم وجود كتب ودراسات تتحدث عنه، وبخاصة إذا لم تكن هناك بواعث للشكوك غير مجرد العناد والرغبة فى المخالفة، فما بالنا لو توفرت الدواعى على القول بأن ما ترويه تلك الكتب والدراسات قد وقع فعلا؟ إذ ما الداعى لأن يخترع المسلمون قصة الخندق؟ إنها لتدل على أنهم كانوا مضطربين خائفين يتوقعون الشر من كل اتجاه، وغير قادرين على مواجهة المشركين، ومن ثم فقد احتمَوْا خلف ذلك الخندق، واستحقوا سخرية الكفار واستخفافهم بهم! كما أن الرواية تعزو التفكير فى هذه الوسيلة إلى رجل فارسى (الفارسى الوحيد بينهم) لا إلى رجل عربى، وهو ما يضيف على كاهلهم عبئا نفسيا مؤلما إلى العبء السابق. لقد كان بإمكانهم، ما دام الأمر أمر اختراع وتزييف، أن يقولوا إن الملائكة قد حاربت فى صف المسلمين وإنها... وإنها...، لكنهم لم يلجأوا إلى مثل هذا على قربه من منطق الاختراع والتزييف واتساقه معه! أما تصوير المسلمين فى عصر النبى ومن بعده إلى يومنا هذا بصورة من لا يفكر ولا يعقل ولا يستخدم حاسته النقدية فهو يدل على خَطَلٍ فى تفكير المعلق والمؤلف وغباء غليظ وجهل مدقع لديهما، لماذا؟ لأن المسلمين لم يتركوا شاردة ولا واردة فى دينهم سواء تعلق بالعقائد أو بالتشريع أو بالتاريخ إلا ومحّصوه ووضعوه على مائدة البحث والجدال فى حرية تامة. ومن له أى اتصال بالفكر الإسلامى يعرف مصداق ما أقول، فمن الواضح إذن أن الرجلين جاهلان جهلا عجيبا لا يليق بمن يتصدى لمناقشة مثل هذه الموضوعات. ولقد كان الصحابة يناقشون الرسول فى كل أمرتقريبا، وكان هو من ناحيته يشجعهم على ذلك ويطلب منهم المشورة فى أحيان كثيرة مؤكدا لهم أن المجتهد مأجور حتى لو أخطأ، كما كان يُفْهِمهم أنه فى نهاية المطاف ليس أكثر من بشر لا يعرف الغيب ولا يدرى ما الله فاعل به ولا بهم، وأنه ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد بمكة! أفبعد كل هذا يقال إن الإسلام قد مارس على المسلمين طوال العصور تقنية غسل المخ وما أشبه؟ الواقع أن هذا هو ما فعلته النصرانية خلال تاريخها الطويل، إلى أن جاء العصر الحديث وطفق الأوربيون يفكرون ويستخدمون عقولهم الزَّنِخَة التى كانت قد أَسِنَتْ بفعل ضغوط الكنيسة وما تمارسه من إرهاب عقلى عليهم، فكانت العاقبة أنهم تركوا النصرانية لمناهضتها أحكام العقل والمنطق والعلم، فظن كاتبنا ومعلّقه أن بمستطاعهما رمى الإسلام والمسلمين بداء النصرانية والنصارى ثم الانسلال عقب هذا دون أن يصيبهما أى تبعة! ألا إن هذا لوهم كبير! ذلك أن دخول "الخَمّام"، يا "خَبِيبى" أنت وهو (بالخاء على طريقة الخواجات)، ليس كخروجه!(/14)
ويتبقى زعمه أن علم الآثار يفسر لنا السرّ فى حظر الذهاب على غير المسلمين إلى مكة والمدينة، إذ لا بد أن يكون زوار تينك المدينتين، حسبما يَدَّعِى، عميانا لا يبصرون ولا يفكرون، أَىْ مسلمين مقتنعين بما يقال لهم، وألا يكون عندهم وقت للتفكير إذا ذهبوا إلى هناك، ومن ثم كان لا بد من أن تُفْرَض عليهم شعائر معقدة يؤدونها ثم يعودون على الفور من حيث أَتَوْا دون أن تكون لديهم فرصة لإعمال العقل أو لزيارة الأماكن المحيطة، وهو ما نشاهده فى نفس الظروف عند الأمم الأخرى. وهذا الكلام يؤكد فعلا أن حالة الرجل هى حالة ميؤوسة، لأن معنى كلامه أن المسلمين لو كانوا يعرفون أن بإمكانهم البقاء فى مكة والمدينة بعد أداء الشعائر الحِجّيّة لكانوا قد استعدوا للأمر بإحضار الفؤوس والمكاتل، وهات يا فَحْت عقب انتهاء الشعائر بحثا عن سر شويبس الذى دوّخ المرحوم حسن عابدين (H. A.. هل تذكرونه؟). يا أخى القارئ، هؤلاء ناس تافهون، (أو كما نقول فى العامية: "ناس هايفة") مثل كولين باول، الذى كان يقف فى المؤتمرات الدولية أيام الإعداد لضرب العراق واحتلاله، وهو يتراقص ولا يستقر على قدميه بسبب طوله الذى يجعله كالنخلة المتمايلة، ويظل يردد سخافات وتنطعات لا يضارعها فى السخف والتنطع إلا شخصيته السخيفه المتنطعة هو ورئيسه بوش دون أن يشعر بالخجل، فكنت والله أشعر أنا بالخجل نيابة عنه وأتذكر قول الرسول فى عُيَيْنَة بن حِصْن، إذ وصفه بـ"الأحمق المطاع"، وأهتف فى داخلى: أين أنت يا رسول الله وأين أصحابك لتؤدبوا هؤلاء الأوباش كما أدبتم هرقل وكسرى؟ فإن أمتنا، حكاما ومحكومين، قد أَضْحَتْ كما كشف الله عن عينك الحجاب فقلت إنها ستكون غثاء كغثاء السيل، وإن الأمم (حتى هندوراس ورواندا والصومال وبنجلاديش (الصومال وبنجلاديش المسلمتين؟ إى والله الصومال وبنجلاديش المسلمتين!) وغيرها من الدول سواقط القيد التى لا يعرف أحد أنها موجودة على الخريطة) سوف تتكأكأ عليها فى حرب الخليج فتنهش لحمها وتمصمص عظامها وهى ميتة الشعور فاقدة الكرامة، وكأنها لا حس ولا خبر، فباءت بلعنة التاريخ والمؤرخين أجمعين! وطائفة كبيرة من بناتها كُلّ هَمّهنّ أن يكنّ مغنيات فى التلفاز والفيديو كليب يتراقصن ملتصقات بالجدران يحككن أردافهن فيها ويُعَرّين سُرَرَهن ويتلوَّيْنَ كالقطط الشبقة، هؤلاء البنات اللاتى أظل أنا وأمثالى نعلمهن فى الجامعة شيئا نافعا فلا نصل معهن إلى حل وكأنهن، كما أقول لهن دائما، قد ركَّبْن فى جبهاتهن صدّادات فولاذية لمنع العلم من الدخول إلى أمخاخهن، أما هنا فى هذا العهر القارح (وهذا ما يَفْرِسنى ويحرق أعصابى، وهنّ ولا كأنهن هنا) فكلهن يا أخى ذكاء وعبقرية وإبداع! خيبة والله العظيم! ثم يظن المصلحون الطيبون أن الشعب سيقف معهم يناصرهم على ما يَدْعُون إليه! فى المشمش يا حبيبى أنت وهو ("حبيبى" هذه المرة بالحاء لا بالخاء لأنى لا أكلّم خواجات)!(/15)
وهذا كله لو كان المسلمون جميعا يرجعون دائما إلى بلادهم عقب الحج، إذ الواقع أن كثيرا من المسلمين كانوا يتحركون بطول العالم الإسلامى وعرضه خلال تاريخهم الطويل، ولم يكونوا يعرفون الحدود المصطنعة ولا جوازات السفر التى نعرفها الآن، ولم يكن هناك بترول يجعل أهله يخافون أن يشاركهم فيه غيرهم من فقراء المسلمين (بينى وبينكم: معهم حق!)، وكان كثير منهم يذهب لبلاد الحرمين ويستقر هناك فترة قد تطول، وقد تقصر، وقد تستمر إلى الأبد، وهذا معروف للجميع، فدَعُونا من الجاهلَيْن الفرنسيَّيْن وما يسوِّله لهما جهلهما من خزعبلات سوف يشويهما الله بسببها يوم القيامة ويسوِّيهما على الجنبين حتى ينضجا، وأنتم تعرفون ماذا سيحدث لهما بعد ذلك! ولنترك هذا كله ونأتى إلى الحاضر، أليست السعودية فيها أكبر جالية عربية وإسلامية الآن من الأيدى العاملة والعقول الخبيرة بسبب كِبَر مساحتها وكثرة سكانها؟ أتراهم يعصبون عيون هؤلاء العمال والخبراء كلما مروا بالكعبة ومسجد النبى والمناطق المحيطة؟ أتراهم يأخذون عليهم فى عقود العمل شرطا بألا يحضروا معهم معاول وجواريف وقُفَفًا وغُلْقَانًا حتى لا يُسَهّوهم بالليل وهم نائمون وينكتوا طرقات المدينة لكشف سر شويبس الذى أرهق حسن عابدين أيما إرهاق ثم مات دون أن يصل من ورائه إلى طائل؟ رحمة الله عليك يا حسن يا عابدين! الآن فقط عرفت لماذا كان يمثل دور رجل سعودى فى إعلانات شويبس ويلفظ حرف "الظاء" فى كلمة "عظيم" كما يفعل السعوديون فيفخّمه ويخرج لسانه، ولا أدرى يخرجه لمن! لقد لمح الرجل بعبقريته ما قاله صاحبانا الفرنسيان بعده بعدّة عقود. هكذا ينبغى أن يكون الاستبصار والشفافية الروحية، وإلا فلا! مَرّة من نفسنا نتفوق فيها على الأوربيين فى مسألة عقلية كهذه! فالحمد لله، الذى أحيانى حتى رأيت هذا اليوم وشاهدت بعينى تفوقنا عليهم! وأستطيع الآن من ثم أن أموت وأنا قرير العين. عن إذنكم إذن أموت وأَخْلُص! لا لا، لا تأخذوا الكلام حرفيا! ليس الآن بالضبط، بل بعد أن أنتهى من هذا الكلام الفارغ الذى أكتبه هنا والذى لا معنى له ولا تأثير من ورائه فى أى أحد، اللهم إلا الناس الطيبين الذين لا يتجاوزون عدد أصابع اليدين والذين يراسلوننى من هنا وهناك مباركين ما أقول، فأردد فيما بينى وبين نفسى كلما وصلتنى منهم رسالة على المشباك: مساكين مثلى، كان الله فى عونهم وعونى! وطبعا بعد أن أكون قد انتهيت من هذا الكلام الفارغ ستكونون قد نسيتم استئذانى إياكم أن أموت، ولن تكون هناك مشكلة! ألا يقولون فى الأمثال: "كلام، وابن عَمّه حديث"؟ فهذا من هذا!(/16)
والآن بعد أن نسيتم بكل تأكيد حكاية استئذانى إياكم أن أموت وأنا قرير العين، على عادتنا فى بلاد العرب والمسلمين، التى يُنْسَى فيها كل شىء بعد حين ولا ينتظر حتى ينتهى مثلى من مثل هذا الكلام الفارغ، نرجع مَرْجِعَنا إلى...إلى من؟ إلى الطبيب الفرنسى طبعا الذى يذكّرنى بالممثل فؤاد خليل فى دوره الممتع، وهل هناك غيره؟ فماذا قال فى رده على القارئ المجهول؟ قال، لا بارك الله له فى عقله "التَّرَلَّلَِى"، إن المدينة كانت تقع فى قلب الصحراء فى مكان ليس فيه ماء ولا زرع، وإن سكانها العشرين ألفًا (حسبما أحصاهم) لم يكن باستطاعتهم أن يحفروا خندقا يحيط بالبلد كله. ولا أدرى من أين له بأن المدينة المنورة ليس فيها زرع ولا ماء. لقد كانت حرفة سكانها الأساسية هى الزراعة لأنها تقع فى واد خصيب يتوفر له الماء، ولم تكن هى المدينة الوحيدة التى تتمتع بهذه الميزة فى جزيرة العرب، وإلا فكيف ننسى واحاتها الكثيرة، وهى تقع فى قلب الصحراء، ومع هذا كانت عامرة بالماء والزرع؟ بل كيف كان يعيش المكيون، الذين لم تكن مدينتهم فى واد خصيب كالمدينة؟ أتراهم كانوا لا يشربون ولا يغتسلون ولا يطبخون؟ إن الماء موجود، بقدرة الله، فى كل مكان على وجه العموم: سواء من الأنهار أو السيول أو الآبار أو العيون، ولولا هو ما قامت حياة، والجزيرة العربية رغم كل شىء كانت مسكونة بالأحياء والبشر، أم للمؤلف رأى آخر؟ أما العدد أفلم يأته قولنا فى مصر: "العدد فى الليمون"؟ إن المسلمين الآن مليار ونصف تقريبا، وعندهم من الإمكانات والثروات ما لم يكن أجدادهم الأوائل فى بلاد يَعْرُب يحلمون به ولا فى الخيال، لكنهم مع ذلك أعجز من العجز نفسه، حتى لتُضْرَب بهم الأمثال على المذلة والبلادة والتجرد من الإحساس والكرامة، فها هى ذى بلادهم تُغْزَى، ونساؤهم يٌغْتَصَبْن، ورجالهم الأحرار، وهم قلة شاذة بينهم، يساقون إلى السجون وأعواد المشانق، وهُمْ ولا هُمْ هنا، بل كأن الدنيا قد دانت لهم، فهم فى طبل وزمر ولهو (جاءهم لَهْوٌ يُلْهِيهم أكثر مما هم مَلْهِيّون!)، فيما كان هؤلاء الأجداد، رغم هُزَال عَدَدهم وبدائيتهم وتخلف ثقافتهم وفقرهم، ورغم أن أحدا لم يكن فى ذلك الوقت يسمع بهم أو يضعهم فى حساب، كانوا يفتحون البلاد المتناوحة، ويهدمون الإمبراطوريات النَّخِرة، ويؤسسون الحضارات المشرقة بأنوار العقل والإيمان، وكانوا يقولون الكلمة من هنا فتنصت الدنيا لهم فى الحال من هنا ولا تخالف عن أمرهم فى هَسّة، ولم يكن لهم من شىء يعتمدون عليه فى كل هذا الإنجاز المعجز إلا أنهم اتبعوا محمدا وآمنوا بالله وبالقرآن، وكانوا يثقون بربهم سبحانه وتعالى وبأنفسهم ثقة مطلقة، فانطلقوا على بركة الله وصنعوا كل هذا. ثم سواء بعد ذلك أكان لمحمد وجود تاريخى فعلا كما هو الواقع التاريخى الذى لا يمارى فيه إلا الجاهلون، ونزل عليه القرآن من السماء كما نؤمن نحن المسلمين، أم كان هو وقرآنه من صنع العرب فيما بعد كما يقول هذا المهووس بإحداث الزيطات والزمبليطات العِيَالِيّة! كم كان عدد العرب كلهم فى ذلك الحين رجالا وأولادا ونساء وبنات وشيوخا وعجائز لا المحاربين منهم فحسب؟ وماذا كانت أسلحتهم؟ ومن أين لهم بالموارد والإمكانات والخطط والقادة المتخرجين من الأكاديميات العسكرية والسياسية؟ يا أيها الطبيب النفسى ذا العقل الهَلَبُلِّى، أجبنى كيف استطاع هؤلاء المتخلفون القليلو العِدّة والعُدّة، بل الشَّحِيحوها، أن يبلغوا تلك الغايات الخرافية، وفى وقت قياسى لم يسبقهم إليه سابق ولم يلحقهم فيه لاحق، وأنا أقول لك عندها كيف استطاعوا حفر خندق بدائى يناسب ظروفهم وإمكاناتهم ليحميهم من جيش المشركين.(/17)
ولا تنس أيها القارئ الكريم أن الخندق لم يكن يحيط بالمدينة كلها كما يتوهم الطبيب الفرنسى، بل تم حفره فقط فى المواضع التى لم يكن فيها جبال ولا حصون ولا بيوت متشابكة ولا حَرّات (والحرات هى أودية الصخور البركانية المتصلة) حسبما قالت الروايات كلها التى وصلتنا، لأن الجبال والحصون والحرات والبيوت المتشابكة تقوم تلقائيا بدور الخندق فى العزل والصدّ. ومن الواضح أن الطبيب الفرنسى المتفكك العقل لا يعرف عن هذه الروايات شيئا، ثم هو رغم ذلك يجد عند نفسه الجرأة لاقتحام الكلام برعونة وغشم وجهل، غير عابئ بشىء ولا مالئ أحد عينيه! ماذا يمكن أن نقول لمثل هذا الصنف من البشر؟ إنه يظن أوربيته كافية لتأهيله للخوض فى كل حديث ولطرق كل موضوع دون أن يعقِّب عليه حسيب ولا رقيب! ويا هناه يا سعده الذى يراه وهو جالس إلى الحاسوب وقد وضع على أذنيه سماعتين، ونزل عليه من السقف لا أدرى ماذا من الآلات، وأحاط به من أمام ومن وراء ومن يمين ومن شمال كذا وكذا من الأشياء التى لم أحققها، وأخذ يتلفت تلفتات سينمائية ثقيلة الظل مثل ثقل ظل أحمد صبحى منصور بالضبط كحَذْوِكَ النَّعْل بالنَّعْل، فذكّرنى بالشاب الهولندى (الظريف لا الثقيل الظل) الذى رأيته فى سوق المشاة وسط البلد بأمستردام ذات يوم ربيعى جميل فى آخر سبعينات القرن الماضى، وكان يضرب على عدد من الآلات الموسيقية فى وقت واحد: فآلة فوق ظهره، وأخرى على بطنه، وثالثة فى قدمه، ورابعة فى فمه، وخامسة مربوطة فى الثالثة، وسادسة لا أذكر الآن أين كان يضعها، وسابعة لا أظنكم من الظلم بحيث تسألوننى بعد كل هاتيك السنين أين كان يضعها ولا كيف كان يعزف عليها، أما الثامنة والتاسعة والعاشرة فأرجوكم أن تتركونى ألتقط أنفاسى أوّلاً حتى أستطيع أن أقول لكم: إننى ما دمت لا أذكر السابعة، فمن الطبيعى ألا أعرف عما بعدها شيئا. ما كل هذه الزِّيطة والزَّمْبَلِيطة يا عم راكان؟ طيب: الولد الأمستردامى، وفَهِمْنا أنه كان يطلب لقمة عيشه من خلال ما يجود به عليه المارة من الجِلْدَرات الفَكّة، ولكنْ أنت ماذا تبغى من كل تلك "الهَلُمّة" التى تزحم بها أستوديوك؟ أما أنا فتفسيرى أنه يريد أن يقنع نفسه بأنه رجل مهم. ولكن هيهات هيهات! ولا تنسَوْا أن تَدْعُوا للأستاذ فؤاد خليل، فلولا الدور المبدع الذى مثّله ما استطعت أن أصل إلى هذا التفسير! بالمناسبة: طبيبنا المتفكك العقل ينكر أن تكون هناك مدينةٌ منوَّرةٌ فى ذلك الوقت، ويؤكد تبعا لمستشرق أحمق آخر (ويبدو أن اليوم هو يوم الحمقى والحماقة! نعوذ بالله من الحمق وأهله!) أن معركة الخندق قد دارت رحاها فى الشام بعد ذلك التاريخ بعدة عقود. لكنْ علىَّ أوّلاً (قبل أن أنسى كعادتى) أن أسوق للقارئ الكريم نص كلام الطبيب فى أصله الفرنسى:
"L'islamologue Alfred-Louis de Prémare (Les fondations de l'islam, Editions du Seuil) établit qu'une bataille s'est déroulée en 683 en Syrie, et non à Médine, ville qui n'existait pas au septième siècle, soit cinquante ans après la mort officielle de "Mahomet".
D'après les légendes islamiques, j'ai calculé que Médine aurait compté vingt mille habitants, soit autant que Paris à la même époque... en plein désert, sans eau et sans agriculture. Creuser un fossé autour relève de la fantaisie".
لكن ما حكاية المدينة المنورة هذه؟ الواقع أن المدينة المنورة ليست هى وحدها التى يشكِّك فيها هذا المجنون، بل مكة والرسول ذاته والمعارك التى خاضتها القوات المسلمة فى ذلك العصر والمواقع التى دارت رحاها فيها أيضا، ولنستمع أولا إلى ما يقوله عن وفاة الرسول عليه السلام وتولى أبى بكر رضى الله عنه الخلافة من بعده:
"Mahomet a été déclaré mort en 632 suite à une tractation entre Abou Bakr et le calife Omar, sans concertation avec Ali, floué alors qu'il dirigeait une armée de la région qui est aujourd'hui l'Irak. Pourtant "Mahomet" donne des ordres en 634, 640, 651, 660, 683, 688, 725, 785, 830, 855".(/18)
فحسب أوهام طبيبنا كان قد تمّ اتفاق بين أبى بكر وعمر، عند وفاة الرسول عليه السلام، على تولى الأول حكم المسلمين، على حين كان على بن أبى طالب، طبقا لعلم صاحبنا اللَّدُنّىّ، يقود الجيوش وقتها بعيدا فى العراق فلم يتم التنسيق معه بل تم خداعه. كما يسخر طبيبنا المتهوس من أن الرسول، رغم وفاته فى 632م، كان لا يزال يصدر الأوامر بعد ذلك لوقت طويل فى الأعوام 640،651، 660، 683، 688، 725، 785، 830، 855م! ترى من أين لكاتبنا كل هذه العبقرية التى لا مثيل لها؟ ما كنت أعرف أن ما يقوله بعض الناس من أن الفرق بين العبقرية والجنون شعرة هو رأى صحيح، حتى قرأتُ هذا الكلام فرأيتُ كيف أن عيار العبقرية قد يزيد حبتين فينقلب جنونا خالصا لا أمل فى الشفاء منه ولو أحضروا لصاحبه خيرة النطاسيين والمعالجين النفسانيين ومحضّرى العفاريت وكاتبى الأحجبة والمعزِّمين! بالله متى كان علىٌّ يقود الجيوش فى العراق عند وفاة النبى؟ وبأية أمارة كان هذا يا ترى؟ لقد كان، رضى الله عنه وكرَّم وجهه، آنذاك فى المدينة مشغولا بتغسيل النبى وتكفينه ودفنه مع غيره من أهله صلى الله عليه وسلم، ولم تكن هناك جيوش إسلامية فى أى مكان فى ذلك الحين، اللهم إلا جيش أسامة بن زيد، الذى كان قد تم تجهيزه للذهاب إلى حدود الشام، إلا أن موت النبى عليه الصلاة والسلام قد أوقفه إلى حين. وبالنسبة للعراق بالذات لم يحدث أن وطئه أى جيش مسلم، بل لم يحدث أى تفكير فى إرسال قوات إلى حدوده المشتركة مع جزيرة العرب فى عهد النبى قط. أما أنه عليه السلام كان يصدر أوامره إلى المسلمين إلى ما بعد وفاته بعد عقود فليقل لى القراء الكرام: كيف كان هذا؟ ومن يا ترى قاله سوى هذا المخبول؟ يقينا إن قائل هذا الكلام ليس له مكان يصلح له إلا الخانكة أو العباسية خَبْطَ لَزْقَ دون إبطاء أو تأخير، لا للمسارعة بتدارك حالته، فهى كما قلنا حالة ميؤوس منها، بل لحماية الناس من خطره، فلربما أقدم على عمل متهور يعرِّض الأمن العام للخطر (أو بتعبير الخفراء عندنا فى القرية: "الإِمْن" بكسر الهمزة، كَسَّر الله ضلوعه كلها ضلعا ضلعا حتى يهمد ويريحنا من هذه الدوشة الكذابة التى يزعجنا بها مثلما تزعجنا دوشة نباح الكلاب بالليل حين تكون فَاضِيَةً لا عمل لها!) فيعضّ طفلا من رجله أو يهارش كلبا ويدميه فينشب فيه الكلب الآخر مخالبه وتصير معركة كلابية حامية وتصبح مشكلة ونقول ساعتها: يا ليت الذى جرى ما كان! إننا هنا أمام سيرة شعبية خرافية كسيرة عنترة، التى تصوره وهو يحارب فارس والحبشة واليمن، ويقود الجيوش الإسلامية، ويقطع الفيافى والقفار إلى الممالك المختلفة متحدّيًا جبابرتها فى وجههم، ولسنا أمام كلام تاريخى متزن يخاطب العقل، وصاحبه من بجاسته وثخانة وجهه يريدنا أن نحفر طرقات المدينة كلها ونجعل عاليها واطئها حتى ينشرح صدره، ثم يتعطف علينا فى نهاية المطاف بالكفر المبين رغم ذلك كله، وبعد خراب بصرة والكوفة وبغداد والموصل والنجف وغيرها كما هو حادث الآن فى العراق على يد قوات "التحرير والإعمار" الأمريكية والبريطانية ومن والاها من أشاوسة حكام العرب والمسلمين الذين لن يكسّبهم ربنا أبدا لا هم ولا شعوبهم البليدة الذليلة التى تستزيد بل تستعذب إهاناتهم لها واستبدادهم بها وسجنهم وقتلهم إياها!
وهذا الرجل يترك حقائق التاريخ ويذهب فيفترض أشياء لا يمكن أن تكون صحيحة أبدا ثم يبنى فوقها ما يريد الوصول إليه من نتائج يرى أن من شأنها التشكيك فى تلك الحقائق التاريخية. فعلى سبيل المثال فمكة عنده كانت، فيما يبدو ("فيما يبدو": لا حظ!) حيًّا من أحياء دمشق، لكن لماذا؟ الجواب، حسبما يقول، هو أن كلمة "مكة" تعنى بالآرامية: "مدينة منخفضة". ثم يمضى مؤكدا "أننا الآن قد أصبحنا نعرف أن المسلمين الأوائل، شأنهم شأن القَرَائين الأوائل (جمع "قرآن")، تم اختراعهم فى الشام، وليس فى جزيرة العرب"!:
" Le mot la mecque est araméen syrien, et signifie ville basse, désignant probablement un quartier de Damas. On sait maintenant que les premiers musulmans, comme les premiers corans, et la vie de Mahomet, furent inventés en Syrie, et non en Arabie...La Mecque n'existait pas, car on n'a jamais vu des milliers d'habitants s'installer dans un désert aride sans eau ni cultures".(/19)
خلاص: لقد أبرم سيادته التاريخ إبراما وأصدر فرماناته بأن مكة ليست من مدن جزيرة العرب بل من مدن الشام! ولا يستطيع المتضرر أن يلجأ إلى أى قضاء بعد هذا القضاء المبرم الذى قضاه صاحبنا! فانظر بالله عليك أيها القارئ كيف يُكْتَب التاريخ، وكيف يريد بعض الناس أن يحكّموا أهواءهم المجنونة فى تغيير حقائقه، وكيف يريدوننا أن نتابعهم على هذا التنطع، وإلا كنا متخلفين! ناشدتكم الله يا قرائى الكرام، لو كانت مكة حيًّا من أحياء دمشق، فأين ذهب ذلك الحى؟ ولماذا سكت الدمشقيون عن هذا التزييف الجلف الذى لم يحدث مثله فى التاريخ، وبخاصة أنه يسلبهم الشرف المتمثل فى أن بلادهم هى مركز الإسلام ومصدره؟ وكيف صمت أحفاد القرشيين، والأمويون منهم بالذات، على ما قالته أقلام المؤرخين وكتب السيرة المزيفة عن أجدادهم وعن معاداتهم للدعوة الجديدة مما يشهّر بهم ويفضحهم فى كل أرجاء العالم؟ وأين ذهب الرومان الذين كانوا يحتلون بلاد الشام فلم ينبّهوا العالم إلى هذا التزييف الوقح الذى مارسه العرب والمسلمون، على الأقل من باب الانتقام والحرب المعنوية والدعائية بعد أن خسروا الحرب العسكرية والسياسية؟ ومعروف أن الشوام لم يسلموا كلهم، بل بقى منهم حتى الآن كثير من النصارى واليهود، فكيف يسكتون على مثل تلك الفعلة العجيبة، وهى فرصة لفضح القوم الذين فتحوا بلادهم وأَتَوْهم بدينٍ غير الدين الذى يعتنقونه، ولسان غير السان الذى كانوا يتكلمونه؟ ولماذا لم يتكلم ويصدع بالحقيقة واحد مثل ثيوفان الكاتب البيزنطى الذى أتى بعد عصر الرسول ببضعة عقود ليس إلا وأخذ على عاتقه محاربة الإسلام بدلا من نسبة الأكاذيب إلى الرسول الكريم وأصحابه على عادة المبشرين؟ ترى هل من الممكن أن يتم تزييف شىء مثل هذا ثم تسكت الدنيا كلها عنه فلا تتكلم ولا تعترض أو لا تبدى على الأقل شكًّا، إلى أن هلّ علينا الطبيب الفرنسى المأفون بعد أربعة عشر قرنا من الزمان فعدل الوضع المائل، اعتمادا على ماذا؟ اعتمادا على أوهام ما أنزل الله بها من سلطان! ثم ما دخل المعنى الذى يدعيه، صوابًا أو خطأً، لكلمة "مكة" فى الآرامية فى أن تكون تلك المدينة حيًّا فى دمشق لا مدينةً فى جزيرة العرب؟ إن كلامه يوحى بأن كلمة "مكة" ليست عربية، وهو سخف آخر من سخافات الرجل الذى من الواضح أنه لا يفقه شيئا بالمرة فى موضوعنا، بل ينقل من كتب بعض المستشرقين ما يوافق هواه دون عقل أو فهم! فالآرامية والسريانية والكلدانية والأشورية والعبرية والحبشية...كل هذه اللغات، مَثَلها مَثَل العربية، لغاتٌ ساميّة، بالضبط مثلما نقول إن الفرنسية والطليانية والإسبانية والبرتغالية هى لغات لاتينية، أىْ لغات تفرعت من اللغة الأم واستقلت بنفسها. وعلى هذا فالقول بأن هذه الكلمة الموجودة فى لساننا العربى أو تلك ليست عربية بل سريانية مثلا أو آرامية هو فى الواقع كلام يُقْصَد به التلبيس على القارئ العادىّ الذى لا يعرف شيئا عن الموضوع، إذ ليس هناك أى دليل على أن ذلك صحيح، فضلاً عن أنْ ليس هناك من معنًى لأن تُخْتَصّ العربية دون أخواتها الساميات بالأخذ عنهن بدلا من القول المنطقى العاقل بأنها تشتمل على هذه الألفاظ كما تشتمل عليها أخواتها. والغريب أن المستشرقين عادةً لا يفعلون العكس، فتراهم لا يقولون باستعارة اللغات السامية الأخرى شيئا من العربية. والسبب فى هذا وذاك هو الرغبة فى التحامل على العرب والمسلمين لا غير، وبخاصة إذا وضعنا فى الاعتبار أن بعض علماء الساميات يَرَوْن فى اللغةِ العربيةِ اللغةَ الساميّةَ الأُمَّ التى تفرعت منها الأكادية والحبشية والعبرية...إلخ! ومرة أخرى نقول: ترى ما دخل المعنى الذى يدّعيه، صوابًا أو خطأً، طبيبنا المضطرب الفكر لكلمة "مكة" فى الآرامية فى أن تكون تلك المدينة حيًّا فى دمشق لا مدينة من مدن جزيرة العرب؟ والعجيب أنه يرجع إنكاره وجود مكة إلى أنها تقع فى وادٍ جديب غير ذى ماء ولا زرع. أفنكذّب إذن أقاربنا ومعارفنا وكل المصريين والعرب والمسلمين وكل الكتّاب والرحالة من مسلمين وغير مسلمين ممن زاروا مكة قبل توظيف شطر من أموال النفط فى تحلية ماء البحر الأحمر لسكانها ولسائر أهل السعودية والخليج كله عموما، ونقول لهم: وإِنِنْ! مهما قلتم لنا عن مكة فليس لمكة وجود! لقد نسى المجنون أن زمزم كانت ولا تزال هناك طول الوقت يشرب الناس ويستمدون حاجاتهم الأخرى من مائها فتكفيهم هم وضيوف الرحمن بحمد الله. وهذا أمر قد شهد به المستشرقون الذين استطاعوا الاندساس بين الحجيج والتظاهر بأنهم مسلمون وكتبوا عن البلد الأمين. وحتى بعد أن توفر لها ماء البحر المحلَّى فلا تزال المنطقة المحيطة بها واديا غير ذى زرع. وما زال الناس كذلك يقطنونها ويحبون العيش فيها حتى الآن رغم شدة حرارتها، وسيظلون يفعلون ذلك إلى ما شاء الله. وعلى أى حال فليس العيش فيها بالصعوبة التى عليها الحياة فى مناطق الإسكيمو ولا بواحد على المليون(/20)
منها، ومع ذلك فتلك المناطق تعجّ بالسكان ويحبها أهلها كما يحب أهل كل بلد بلدهم! إننى أشعر، وأنا أوضّح سخف فكر هذا الرجل ورقاعته، وكأننى أمام "عَبْعَاطِى البيروقراطى" يطالبنى بإثبات أننى أنا إبراهيم عوض الواقف حياله بشحمى ولحمى وعظمى وكظمى لا أزال حيا أُرْزَق ولم أمت! شىء يبدو فى منتهى السهولة، غير أنه مع "عَبْعَاطِى أفندى" صعبٌ مُرّ الصعوبة! لقد فات ذلك المخبول أن الأصل فى الأخبار عموما أنها صادقة ما لم يقم دليل على عكس ذلك أو يَحُكْ فى النفس شىء مما سمعتْه، فعندئذ يشك الإنسان فيما بلغه، وحقّ له أن يشك. فما الذى فى الخندق أو فى وجود مكة أو المدينة مما يبعث على الريبة؟ لقد كان أحرى بهذا المجنون أن يذهب فيقرأ أولا قبل أن يتهور كل هذا التهور ويقترح تلك الاقتراحات النيرونية المسعورة. ألم يبلغه ما قاله الشيخ الصوفى فاخر بن فاخر، رضى الله عنه وأرضاه، فى فلم "اللص والكلاب" لسعيد مهران: "توضَّأْ واقرأ"؟ يقصد قراءة المصحف. لكننا لا نطلب منه أن يتوضأ، وكذلك لا نطلب منه أن يقرأ المصحف، فمثله لن يطهر أبدا حتى لو اغتسل بكل ما فى البحر والنهر من ماء، ومن ثم لا يجوز له أن يمسك بالكتاب المجيد، إنما نطلب منه أن يقرأ التاريخ وألا يعتمد على تشويشات مخه، فما هكذا يؤخذ العلم يا سليل الحضارة الغربية والتنوير الفرنسى الذى يصدّعنا به الأفاكون الأفاقون من أبناء جلدتنا، خيَّبهم الله!
ولكنْ فلنترك هذا كله ونسأل: ما الذى يريد منا هذا الرجل أن نفعل بمكة (مكة التى فى جزيرة العرب، وليست مكة الشامية التى لا وجود لها إلا فى ذهنه المتفكك)؟ أننكتها هى أيضا، لا للبحث هذه المرة عن خندق، بل لنمحوها مَحْوًا كى يتسق الوضع الموجود على أرض الواقع مع أوهام طبيبنا المضطرب الفكر والعقل؟ ذلك أنه لا يصح أن يقع كلام أحد الأوربيين الأرض! لكنْ، يا أخى الكريم، نحن نعرف أن عبد الفتاح القصرى (سِى حَنَفِى) حين نظرت إليه زوجته الفارعة الضخمة شَزْرًا فى فلم نورماندى تُو وقالت له بصوتها الحيّانى المهدّد وقد كشفت ذراعيها المكتنزتين: "حَنَفِى؟" قد تراجع فى الحال عن عنترياته وقال لها وهو يطامن من انتفاشته، ويخفض صوته، ويطأطئ رأسه، وعيناه المتخاصمتان الظريفتان تنظر كل منهما فى اتجاه: "خلاص! هذه المرة فقط تنزل كلمتى الأرض!"، أفيكون إذن كلام الطبيب الفرنسى أعزّ علينا وعلى التاريخ وحقائق التاريخ من كلام سِى حَنَفِى المصرى؟ فلينزل إذن كلام مسيو خَنَفِى الأرض، بل ليُمْسَحْ به (وبصاحبه معه) الأرض، ولْيشرب هو ومن يتشدد له من البحر، بل من البحرين: الأبيض والأحمر على رأى عبد الناصر، ولكن دون نكسة ناصرية بمشيئة الله ("نكسة" لا هزيمة: خذوا بالكم!).(/21)
هل يمكن أن يتصور عاقل أنه لم تكن هناك فى بلاد العرب قبل الإسلام مدينة اسمها مكة، ثم نبتت هكذا نبتا عفاريتيا بعده، ثم لم يبد أحد دهشته (وبخاصة من سكانها الجدد الذين لم يكن لهم قبل ذلك وجود) من هذا التراث الغزير الهائل الذى يدور حولها شعرًا ونثرًا وتاريخًا ودينًا وأنسابًا والقائل بأنها طول عمرها كانت موجودة فى جزيرة العرب؟ أترى الذين أنشأوا تلك المدينة وأَتَوْا بالناس ووضعوهم فيها كما توضع البلاليص فى أماكنها دون أن يؤخذ لهم رأى قد ألزقوا لاصقًا على أفواههم إلى أن انطمست ذاكرتهم ولم يعودوا يعرفون شيئا عن أصلهم أو فصلهم ولا عن أصل مدينتهم أو فصلها، فعند ذلك رفعوا اللاصق وسمحوا لهم بالكلام؟ وهل فعلوا مثل ذلك مع سكان الأرض جميعا بما فيهم النصارى واليهود الذين كانوا يعيشون فى جزيرة العرب قبل الإسلام ثم تم إجلاؤهم عنها بعده؟ لماذا لم يفتح أحد من هؤلاء فمه فيفضح المستور ويكشف الزيف والتزييف؟ وماذا نقول فى بطليموس الجغرافى اليونانى القديم الذى تكلم عنها وسماها "مَكُرَبا: Macoraba" (كتاب وليم موير عن سيرة الرسول الذى سلف ذكره/ صxc، ومادة "Mecca" فى الطبعة الأولى من "The Encyclopaedia of Islam")؟ وماذا نصنع مع ما قاله هيرودوت عن اللات، إحدى الآلهة الوثنية التى كان لها صنم فى كعبة مكة قبل الإسلام (وليم موير/ صcii- ciii)؟ كذلك ما العمل إزاء ما ذكره الرحالة الأوربى بروس (Bruce)، الذى زار بلاد الحبشة فى القرن الثامن عشر الميلادى من أن الأحباش يروون فى تواريخهم أن أبرهة قصد مكة ثم ارتد عنها لما أصاب حيشه من المرض الذى يصفونه بالجدرى (عباس محمود العقاد/ مطلع النور/ كتاب الهلال ديسمبر 1968م/ العدد 213/ 75)؟ وفضلا عن ذلك فثمة بحث لكرزويل الآثارى المشهور يرد فيه على كايتانى المستشرق الإيطالى وما يذهب إليه من إنكار بناء قريش للكعبة، ويؤكد أن ما وصلنا فى كتب التاريخ عن هذا الأمر صحيح لا شك فيه (العقاد/ مطلع النور/ 76). وهناك أيضا كتاب للمستشرق الهولندى دوزى يحاول أن يثبت فيه وجود بنى إسرائيل فى مكة (التى نعرفها) خلال عصورها الجاهلية عنوانه: "Die Israeliten zu Mekka"، كما كتب فى نفس الموضوع المستشرق البلجيكى لامنس كتابا عنوانه: "Les Juives a la Mecque"، وهو ما يدل على أن وجود مكة هناك فى ذلك الحين لا يواجه أى شك فى نفس ذينك المستشرقين. بل إننا لم نسمع بأحد سواهما من المستشرقين أو غير المستشرقين ممن يؤبه بكلامهم أو لا يؤبه يقول إن مكة لم يكن لها فى إقليم الحجاز أثناء الجاهلية وجود! ثم لماذا يفعل العرب بعد الإسلام هذا كله؟ وهل يُتَصَوَّر أن يفكر الحكام العرب بعد الإسلام، وبعد أن أَضْحَوْا يسبحون فى بحور الغنى والترف، فى إنشاء مدينة مثل مكة فى قلب الجبال والصحراء حيث يشحّ الماء (على أساس أن زمزم غير موجودة بناء على فرضيته الرذيلة مثله) وحيث تنعدم الزراعة والصناعة؟ ثم كيف يَرْضَوْن بعد ذلك كله، وهم المسلمون، أن يُنْسَب لآبائهم زورا وبهتانا أنهم كانوا مشركين يعبدون الأصنام والأوثان وأنهم حاربوا القرآن والرسول الذى أتاهم به وحاولوا القضاء عليه وعلى دعوته، بل وصل الأمر بهم أن فكروا يوما فى قتله والتخلص منه غدرا وغيلة؟ ومن المجنون الذى سولت له نفسه بالانتقال إلى مثل تلك المدينة دون أن يكون هناك جاذب من أى نوع يَهْوِى بفؤاده إليها حتى ولا ذكريات الطفولة والصبا فيها وكونها موطن الأجداد؟ باختصار لا يوجد سبب واحد، كما رأينا، يجعلنا نصدق هذا الهراء الجنونى، فى الوقت الذى تتضافر كل الدواعى لرفضه والسخرية من عقل صاحبه. ومع هذا فلا يستغربنّ القراء، فالغربيون أصحاب باع طويل فى لَىّ الحقائق وإنكار ضوء الشمس فى عِزّ الظهر الأحمر، وما فِرْية الأسلحة النووية العراقية عنا ببعيدة، فقد دمروا بلدا كاملا وأبادوا من سكانه مئات الألوف بناءً على هذه الكذبة المجرمة دون أن يطرف لهم جفن، وما زالوا ماضين فى عملهم "التحريرى الإعمارى" بمساعدة الأراذل من حكام المسلمين وشعوبهم البليدة النتنة مثلهم على رأى المثل العربى: "وافَقَ شَنٌّ طَبَقَةَ". فماذا تكون كذبة مسيو خَنَفِى عن مكة بالقياس إلى ما فعله الأمريكان والبريطان فى العراق؟(/22)
وبالمناسبة فقد وقعتُ على الفقرة التالية فى مادة "مكة" بالـ"ويكيبيديا: الموسوعة الحرة" الموجودة على المشباك، وهى إذا صحت (ولا أظن إلا أنها صحيحة، وإلا لم يسمح بنشرها المشرفون على هذه الموسوعة العالمية) كانت كفيلة وحدها بنسف كل هذه الرقاعات، إذ لا يمكن أن تكون المواصفات الجغرافية التى يؤكد الكاتب أنه قد اكتشفها فى موقع تلك المدينة المكرمة على الخريطة قد أتت عن طريق المصادفة حين طَقّ فى أدمغة حكام المسلمين أن يبنوها بالمخالفة لكل الذرائع والأسباب حسبما وضّحنا، بل لا بد أن يكون ذلك من تدبير الخالق العليم منذ بدايتها الموغلة فى التاريخ. تقول الفقرة المذكورة: "الاكتشاف العلمي الجديد الذي كان يشغل العلماء والذي أعلن في يناير 1977 يقول: إن مكة المكرمة هي مركز اليابسة في العالم، وهذه الحقيقة الجديدة استغرقت سنوات عديدة من البحث العلمي للوصول إليها، واعتمدت على مجموعة من الجداول الرياضية المعقدة استعان فيها العلماء بالحاسب الآلي. ويروي العالم المصري الدكتور حسين كمال الدين قصة الاكتشاف الغريب فيذكر أنه بدأ البحث وكان هدفه مختلفا تماما، حيث كان يجري بحثا ليعد وسيلة تساعد كل شخص في أي مكان من العالم على معرفة وتحديد مكان القبلة، لأنه شعر في رحلاته العديدة للخارج أن هذه هي مشكلة كل مسلم عندما يكون في مكان ليست فيه مساجد تحدد مكان القبلة، أو يكون في بلاد غريبة، كما يحدث لمئات الآلاف من طلاب البعثات في الخارج، لذلك فكر الدكتور حسين كمال الدين في عمل خريطة جديدة للكرة الأرضية لتحديد اتجاهات القبلة عليها وبعد أن وضع الخطوط الأولى في البحث التمهيدي لإعداد هذه الخريطة ورسم عليها القارات الخمس، ظهر له فجأة هذا الاكتشاف الذي أثار دهشته. فقد وجد العالم المصري أن موقع مكة المكرمة في وسط العالم. وأمسك بيده برجلا وضع طرفه على مدينة مكة، ومر بالطرف الآخر على أطراف جميع القارات فتأكد له أن اليابسة على سطح الكرة الأرضية موزعة حول مكة توزيعا منتظما. ووجد مكة في هذه الحالة هي مركز الأرض اليابسة. وأعد خريطة العالم القديم قبل اكتشاف أمريكا وأستراليا وكرر المحاولة، فإذا به يكتشف أن مكة هي أيضا مركز الأرض اليابسة، حتى بالنسبة للعالم القديم يوم بدأت الدعوة للإسلام. ويضيف العالم الدكتور حسين كمال الدين: لقد بدأت بحثي برسم خريطة تحسب أبعاد كل الأماكن على الأرض، عن مدينة مكة، ثم وصلت بين خطوط الطول المتساوية لأعرف كيف يكون إسقاط خطوط الطول وخطوط العرض بالنسبة لمدينة مكة، وبعد ذلك رسمت حدود القارات وباقي التفاصيل على هذه الشبكة من الخطوط، واحتاج الأمر إلى إجراء عدد من المحاولات والعمليات الرياضية المعقدة بالاستعانة بالحاسب الآلي لتحديد المسافات والانحرافات المطلوبة، وكذلك احتاج الأمر إلى برنامج للحاسب الآلي لرسم خطوط الطول وخطوط العرض لهذا لإسقاط الجديد. وبالصدفة وحدها اكتشفت أنني أستطيع أن أرسم دائرة يكون مركزها مدينة مكة وحدودها خارج القارات الأرضية الست، ويكون محيط هذه الدائرة يدور مع حدود القارات الخارجية. مكة إذن، بتقدير الله، هي قلب الأرض، وهي بعض ما عبر عنه العلم في اكتشاف العلماء بأنه مركز التجمع الإشعاعي للتجاذب المغناطيسي". وقد سبق أن قال القرطبى، عند تفسيره لقوله تعالى: "وكذلك جعلناكم أمة وسطا"، إن "الكعبة" تقع "وسط الأرض"، فعلّقت أنا على ذلك بأنه لا يوجد مكان على سطح الكرة الأرضية يمكن أن يقع فى وسطها لأن الأرض كرة، فوسطها إذن لا يكون إلا فى داخلها. ولو كانت الأرض دائرة أو مستطيلا أو مربعا مثلا لصحَّ فى هذه الحالة أن تحتل إحدى البنايات وسطها، أمّا وأنها كرة فمركزها لا يمكن أن يقع على سطحها بل فى بطنها (انظر كتابى: "من الطبرى إلى سيد قطب- دراسات فى مناهج التفسير ومذاهبه"/ دار الفكر العربى/ 1421هـ- 2000م/ 216). لكن يُفْهَم من كلام الدكتور حسين كمال الدين أن كلمة "الوسط" (أو كما قال هو: "القلب") لا ينبغى أن تُؤْخَذ على حَرْفِيّتها، وعلى هذا فإنى أتراجع عن اعتراضى على ما جاء فى تفسير القرطبى عن هذه القضية إذا صح ما قاله الدكتور المذكور.(/23)
ونفس الشىء الذى قاله مخبولنا عن مكة نجده فى كلامه التالى عن يثرب، إذ يقول: " Le mot medina (s'écrivant mdn) est un mot araméen syrien, et signifie district, dans la région de Madian (s'écrivant aussi mdn) en Syrie. ". وكما قضى قضاءه المبرم فى أمر مكة فحكم عليها أن تكون شامية لا عربية، ومُحْدَثة النشأة بعد الإسلام لا عريقة الجذور قبله، نراه هنا كذلك يصدر حكمه الذى لا يُصَدّ ولا يُرَدّ بأن المدينة هى أيضا ذات أصل شامى، وأن اسمها آرامى! ونفس الردود التى أوردناها عليه فى تخريفاته الرقيعة عن مكة تكفى فى الرد على تخريفاته هنا التى لا تقل عنها رقاعة! ونزيد على ذلك أن بطليموس وإسطفانوس البيزنطى قد كتبا عن المدينة وسمياها: "يثربَا:Yathrippa "، كما تشير إليها النقوش المعينية باسم "يثرب" (مادة" Al- Madina " فى "Encyclopaedia of Islam The"). وبالإضافة إلى هذا فإن ثمة كتابات يهودية شامية من القرن الثالث قبل الميلاد تتحدث عن وجود يهود فى منطقة خيبر وما حولها، وإن أنكرت عليهم طريقة ممارستهم لدينهم (إسرائيل ولفنسون/ تاريخ اليهود فى بلاد العرب فى الجاهلية وصدر الإسلام/ لجنة التأليف والترجمة والنشر/ 1927م/ 13)، وهو ما يتسق مع ما يقوله المسلمون عن وجود يهود قبل الإسلام فى تلك المناطق بما فيها يثرب، هؤلاء اليهود الذين لم يعد لهم أثر هناك بعد مجىء الدين الجديد، فما الذى يدفع المسلمين يا ترى إلى القول بأنه كان هناك قبل الإسلام وجود لليهود فى يثرب إذا لم يكن لهذه المدينة وجود فعلى حسبما تزعم تخريفات الطبيب الفرنسى؟ وثمة كتاب للعالم الغربى لِسْزِينْسِكى يتناول وجود اليهود فى المدينة قبل الدعوة المحمدية اسمه: "Die Juden zu Medina". كما يتحدث إسرائيل ولفنسون الباحث اليهودى فى كتابه السالف الذكر عن وجود اليهود فى يثرب وما حولها حديث الموقن تمام الإيقان، مُورِدًا أقوال المستشرقين فى ذلك، ومستدلاًّ من بعض أسماء القبائل والشخصيات والأماكن والحصون والآبار اليهودية على سبيل المثال على أن ما يقوله العرب عن هذا الموضوع صحيح (ص16- 17، 61- 62، 81...)، فضلا عن أنه لا ينكر شيئا البتة مما تقوله المصادر الإسلامية عن الحوادث التى جرت هناك بين النبى عليه الصلاة والسلام وبين بنى إسرائيل عليهم اللعنة. وما هذا، رغم ذلك كله، إلا غَيْضٌ من فَيْض!
ولا يقف جنون الرجل الباذنجان عند هذا الحد، بل ينطلق كالثور الهائج ناطحا بقرنيه الأعميين، أو دائسا بأظلافه الغبية، كل إناء زجاجى أو خزفى ثمين: فعقيدتنا فى الله، كما يزعم علينا كذبًا ومَيْنًا، عقيدةٌ شِرْكِيّة، إذ نحن (حسب كلامه) نؤمن بالله، وهذا (بناءً على مفترياته) إله القمر، ونؤمن معه بالرحمن، وهو (طبقا لما يقول) إله الصواعق ، كما نؤمن بإبليس، وإبليس (فى زعمه الكاذب علينا) إله الجحيم، الجحيم الذى سيقذفه الله فيه بمشيئته تعالى. وعندنا، فضلا عن هذا، كثير من الخرافات كالجن والملائكة والشياطين والعفاريت وغير ذلك من الأوهام، علاوة على الكعبة و"العذراء السوداء" (يقصد الحجر الأسود، ربنا يسوّد عيشته ويجعلها عيشة قطران!)، ثم هناك الأحجار التى نستخدمها، كما يقول، فى المسجد وفى الطهارة، وكذلك الصلوات التى نتقرب بها إلى الشمس قبل الشروق وبعده، وفوق ذلك القرآنُ، الذى يُسْتَخْدَم كرُقًى وتعاويذَ للحماية من الشرور. ثم ينبغى ألا ننسى بوجهٍ خاصٍّ محمدًا، ذلك الإله الجديد الذى اخترعه الإسلام وجعله شريكا لله، والذى ينظر إليه الإسلاميون على أنه "الإنسان الكامل" الذى ينبغى احتذاؤه، وبخاصة فى مجال الجرائم الدينية والعنف الذى يمارسونه ضد النساء وضد من يفوقونهم تطورا بين البشر! وطبعا المقصود بالناس الذين يفوقون المسلمين تطورا هو وأمثاله كما لا يخفى على حضرات القراء! ترى هل يحتاج السادة القراء إلى تعقيب من جانبى على هذا التخلف المُزْمِن؟ أومثل هذا المفكوكة صواميل عقله أكثر تطورا من أحد؟ إن الحمير ذاتها، وهى مضرب المثل فى الغباء، لترفض أن تقارَن بهذا المتخلف، ومعها كل الحق! اللطف يا صاحب اللطف!(/24)
Une part du succès de l'islam, en dehors de la violence qui hébète les méchants, vient du polythéisme islamique et des superstitions coraniques: Allah le dieu de la lune, Al Rahman le dieu de la foudre, Satan le dieu des enfers, Iblis le diable, les trois filles d'Allah (divinités d'origine sumérienne puis syrienne), les djinns, les ogres, les anges, les démons, les ifrits, les malaks et autres fantasmes, la Kaaba (Cybèle), la Vierge Noire (météorite) et le culte des cailloux utilisés dans les mosquées ou aux toilettes. Et bien sûr le culte solaire, avec la prière qu'on doit faire avant ou après le lever du soleil, pour ne pas avouer le paganisme de cette pratique qui vient des rédacteurs zoroastriens du Coran. Et le Coran, qui sert de fétiche et de talisman dans les niaiseries populaires. Sans oublier le seul dieu iventé par l'islam : Mahomet, le nouvel Associé d'Allah. Les islamistes le considèrent comme un homme "parfait", et veulent donc l'imiter... surtout dans les crimes rituels, les violences faites aux femmes et aux gens plus évolués qu'eux.
أما القرآن، فما أدراك ما القرآن حسب ما يهرف به هذا الرجل الإسْتِنْجِلاّ؟ القرآن عنده هو توراة يهود السامرة والناصرة، مضافا إليها عدد من القصص الخرافية والأخطاء التاريخية من هنا ومن ههنا على مدى بضعة قرون، وكان فى بداية أمره مكتوبا بعدد من اللغات الأجنبية كالآرامية والحبشية والعبرية والسريانية واللاتينية والسلافية واليونانية والجريجورية ولغة الصابئة، كتبه العشرات من اليهود المارقين والنصارى الآريوسيين، ثم لحق بهم الزرادشتيون، ثم دخل العرب على الخط فى آخر المطاف بعد القرن التاسع الميلادى فترجموه إلى العربية، التى كانت قد اختُرِعَتْ فى ذلك القرن ولم يكن لها وجود قبله! أية عبقرية هذه يا ربى؟ إن قائل هذا الكلام هو رجل قد فقد عقله تماما ولم يعد هناك أى أمل فى استرجاعه! إنه مجنون رسمى! وكلامه عبارة عن "سمك، لبن، تمر هندى"! وعلى ذكر التمر الهندى أريد أن أنادى "بعزم ما بى" ( كما تقول الست بدارة الإسكندرانية فى أغنيتها: "من فوق شواشى الذرة"): يا من يحضر لى الآن (لترويق البال الذى عكره أخونا المخبول) كوبا من عصير التمر الهندى الذى لم يكن ينقطع فى بيتى ثم تركْنا صنعه مع أشياء أخرى حلوة تحاشيا للإصابة بالسكرى؟ كما قلَّلْنا الأكل وحَرَمْنا أنفسنا من أطايب كثيرة، ليجىء هذا الرجل ويزيد الطين بلة بكلامه الذى يمغص، أمغص الله بطنه، وأرّق نومه، وسلَّط عليه مخبولا مثله يزيده خبالا على خبال! يا عم راكان، ابعد عن السيرة النبوية، وخلِّك فى حالك، "الله يسوءك"!(/25)
Le Coran n'était au début que le Pentateuque des Juifs samaritains et nazaréens de Syrie, puis on y a ajouté des légendes et des erreurs historiques pendant encore cinq ou six siècles, la plupart du temps issues de romans populaires antérieurs au cinquième siècle. Dès le cinquième siècle, des guerriers arabes de Syrie se convertirent au judaïsme samaritain et deviennent les Ismaélites, qui donneront plus tard "islam" (qui ne veut pas dire soumission, mais ismaélite, car c'est ainsi qu'ils étaient appelés par les chroniqueurs contemporains). Ce n'étaient pas des Bédoins, mais des soldats professionnels de Syrie, au service des grandes puissances : Rome, Constantinople et la Perse. Les rédacteurs des premiers corans ont été plusieurs dizaines, d'abord des hérétiques juifs en Syrie (cinquième siècle), puis des chrétiens arianistes à Damas (septième siècle), puis des scribes zoroastriens à Bagdad et en Perse (huitième siècle), et ensuite des Arabes, après le neuvième siècle, lors de la traduction du Coran en arabe. En dehors des groupes des langues anciennes qui ont servi à rédiger les légendes coraniques (akkadien, sumérien, phénicien, moabite, ugaritique, égyptien, nabatéen, chaldéen) les textes des corans originels au cinquième et sixième siècle sont en sabéen, abyssin, araméen, syriaque, hébreu, slavon, latin, grec, géorgien... Le Coran, s'appuyant sur des mythes juifs sans fondements, est entièrement faux historiquement et scientifiquement... On sait maintenant que le Coran a été rédigé avec des textes datant d'avant le cinquième siècle, quand des rabbins convertirent les soldats de Syrie à l'ismaléisme, une hérésie judaïque qui deviendra l'islam après le neuvième siècle. Ce n'est que bien plus tard que le Coran fut traduit en arabe, langue inventée au neuvième siècle, ce qui en explique les incroyables falsifications et absurdités. La lecture du Coran ne fut (partiellement) unifiée qu'après 935. Heureusement, beaucoup de croyants sont capables d'interpréter le texte selon des conceptions modernes du Dieu, en écoutant leur coeur.(/26)
والرجل المسكين يأبى إلا أن يَمَسّ طائفٌ من سخفه الأئمةَ والخطباءَ المسلمين، فهو يتهمهم بالضحك على جماهير المسلمين والحُؤُول بينهم وبين التفكير وإعمال العقل حتى يظلوا منبعا لا يغيض لملء جيوبهم... إلى آخر هذا الهراء الذى يُضْحِك الثكلى، فالأئمة الغَلاَبَى مظلومون ظلم الحسن والحسين، إذ هم ليسوا إلا موظفين حكوميين مطحونين. وهم، شأن أى موظف حكومى (فى مصر وأمثالها من الدول الإسلامية الفقيرة على الأقل)، لا يحتكمون بعد الخمسة أيام الأولى من الشهر إلا على الستر، إذ تصبح جيوبهم التى يفترى عليها الأخطل أنظف من الصينى بعد غسله! ولا ينقصهم إلا أن يقفوا على النواصى يمدون أيديهم لسؤال اللئام من أمثال صاحبنا حتى يستطيعوا أن يعيشوا، ومن هنا فإن كثيرا منهم لا يتورع عن الاشتغال بأية صنعة بعد الظهر كى يمكنه الحياة: فترى هذا سبّاكا، وذاك نجّارا، وذلك نقّاشا كالإمام جارنا فى القرية الذى اشتغل فى نقاشة بيتى هناك، ومعه إمام آخر كان يعمل معه بمثابة صبى له رغم أنهما فى عمر واحد، ثم جاء منذ أربعة أشهر ولدٌ لصٌّ من متعاطى البانجو، فحطم الأبواب وخلع الكوالين ووسّخ الجدران وأفسد فى هزيع من الليل ما أنفق فيه إمامانا المسكينان الأيام والليالى والأسابيع. و"للأسف" لم يستطع أن يسرق شيئا، بل أمسكت به الشرطة وهو بالداخل. وعلى كل حال لم يكن فى البيت شىء يُسْرَق، وإلا فلماذا أنشئت المصارف إذا كان كل من معه قرشان يحيِّرانه سوف يحتفظ بهما فى البيت للُّصُوص والسُّطَاة؟ وبالمناسبة فهذا الولد اللص هو شاب أزهرى يمكن أن يكون إماما وخطيبا فى يوم من الأيام، ولعله لهذا قد استبق الحوادث فمد يده مبكرا للسؤال (ولكن على طريقته) كى يثبت لصاحبنا الأخطل أنه لا يفهم شيئا! ولو كانت الأقدار قد كتبت علىّ أنا أيضا أن أشتغل إماما وخطيبا لكنت اشتغلت نقّاشا مثل ذينك الإمامين، ولكنت الآن عاكفا على صنفرة أحد الجدران فى بيت من بيوت القرية أو سحب سكينة معجون فوقه أو إعطائه وجها ثالثا من الطلاء، أو من يدرى فلربما كنت الليلة أقتحم إحدى الشقق فى غيبة أصحابها و"أنفّضها" و"أجعلها على البلاطة" انتقاما أوّلاً مما فعله ببيتى الولد اللص، وثانيا كى أفرفش أنا وأولادى ونعيش، ونأكل قراقيش، بدلا من جلوسى أمام الحاسوب لكتابة هذا السخف الذى لا فائدة من ورائه ولا عائدة سوى أنه يوهمنى بأهميتى ويُرْضِى زوجتى التى كانت تتطلع إلى الاقتران بأحد المؤلفين، وأنا رجل رهيف القلب لا أريد أن أبدد أوهامها! إلهى، وأنت جاهى، أسألك باسمك الأعظم أن تُشْقِىَ مسيو راكان وتكتب عليه أن يعمل فى وظيفة إمام وخطيب لدى وزارة الأوقاف المصرية حتى يعرف قرصة الجوع بعد "خمسة منه"، ويدرك أن الله حق، ويكفّ عن الافتراء على خلق الله وعن توليف سخافاته التى تثير الاشمئزاز، ولكن بشرط ألا يدخل الإسلام، وإلا نجَّس الإسلام!
وأعتقد، بعد أن اطَّلَعْنا على عينة من هلوسات الرجل الهارب من وراء أسوار الخانكة ويلزم إرجاعه إلى حيث كان، أننا لسنا بحاجة إلى الرد على هلوساته الأخرى التالية، فهو يقول مثلا إن محمدا قد تم اختراعه فى نفس الوقت التى اختُرِعت فيه الأحاديث فى القرن التاسع الميلادى، أما القرآن فاختُرِع (حسب هُرَائه) بعد ذلك فى القرن الحادى عشر، وهو ما يفسر لنا، كما يقول، الإضافات والكشوط التى كان الكتبة يقومون بها فى مخطوطات ذلك الكتاب طبقا لأهواء المحاربين التى كانت تملى عليهم ما يكتبون أو يشطبون! ثم يستمر فى اضطراباته العقلية مؤكدا أن محمدا قد صار الآن شريكا لله فى ألوهيته، بل إن هناك اتجاها عند المسلمين لإحلاله محله كما حدث فى الأديان الأخرى. لقد تمّ، بناءً على مزاعمه، تأليه محمد وعلىّ كما هى العادة، واستُبْدِل النبى بالله بعد أن أصبح يتكلم باسمه! وبطبيعة الحال فلا أظن أن ثمة حاجة للرد على هذا الغثاء الذى لا يمكن أحدا أن يأخذه مأخذ الجِدّ. وهأنذا أخلِّى بين القراء وما قاله الرجل فى الأصل الفرنسى لكلامه:
La vie de "Mahomet" fut inventée au neuvième siècle, en même temps que les hadits. La mise en forme du Coran s'étant achevée bien après le onzième siècle. Ce qui explique pourquoi les rédacteurs effaçaient et réécrivaient directement sur les manuscrits, selon les exigences des guerriers qui leur dictaient les sourates à inclure ou à effacer. Quant à l'idée coranique qu'Allah efface ses propos pour les remplacer par d'autres, elle paraît, aux yeux de beaucoup, éminemment profanatoire... Aujourd'hui, Mahomet est devenu l'Associé d'Allah, et a, comme dans d'autres religions, tendance à le remplacer. Mahomet et Ali, comme c'est la coutume, sont divinisés : le prophète, parlant au nom de Dieu, s'y substitue.(/27)
ومما لسنا أيضا بحاجة إلى الرد عليه لوضوح سخفه قوله إن قبر الإمام علىّ لم يُكْتَشَف إلا بعد مقتله بخمسين عاما عندما لوحظ أن الكلاب تتجنب مكان دفنه احتراما لجثته كما تقول الأسطورة حسبما قال، وإن علىّ بن الحسين ابن الإمام على (يقصد الحسين بن على سبط النبى عليه رضوان الله) قد ذُبِح وهو طفل رضيع، والسبب فى مقتله أنه كان هاجريًّا، أى من سلالة هاجر (الأَمَة التى تزوج بها إبراهيم عليه السلام)، وإن كلمة "هاجرىّ" كانت مستعملة على نطاق واسع للدلالة على المسلمين حتى القرن العاشر الميلادى، ثم تحولت فى الترجمة إلى "الهِجْرة"، أى انتقال النبى عليه السلام من مكة إلى المدينة، مثلما كانت كلمة "إسماعيلى" هى المستخدمة فى البداية قبل أن تفسح المجال لكلمة "مسلم"، وإنه لو كانت جثة الحسين الموجودة فى مسجده بالقاهرة تخصّ النصارى لكانوا أخذوا عينة من الحَمْض النووى والكربون 14 الخاص بها ولحلّلوها كى يتثبَّتوا أنها ليست له، وبذلك تنتهى خرافته!
أرايتم المدى الذى يمكن أن يصل إليه انفلات المخ واضطراب العقل وتشوش التفكير؟ فالحسين يصبح علىّ بن الحسين، وقد مات فى عمر الرضاع، والمسلمون كانوا يُسَمَّوْن إلى القرن الذى لا أدرى كم بـ"الإسماعيليين" و"الهاجريين"! ما هذا الخبل العقلى؟ ثم فليكن رأس الحسين فعلا فى المسجد المسمّى باسمه فى القاهرة أو لا يكن، فماذا فى ذلك؟ إن الرجل الفارغ يثير عراكا فى غير معترك، فرأس الحسين، رضى الله عنه، أو رأس أى شخص آخر حتى لو كان نبيا من الأنبياء، ليست من شعائر الدين فى قليل أو كثير، بل إن الإسلام ("الإسلام" لا المسلمين من عوامّ ومتصوفة) لا يعترف بالأضرحة ولا يستريح للصلاة فى مساجد يوجد فيها ما يُعْرَف بـ"مقامات الأولياء"، والوهابية مثلا تتشدد فى هذا تشددًا لا يعرف الهوادة! وهكذا نرى أن سيادته يشنّ زوبعة فى فنجان! ومع ذلك فيا ليت الدولة تعمل على تخليص المساجد من هذه المشاهد بحيث تكون خالصة لوجه الله لا تشوبها أية شائبة من تعظيم البشر تعظيما يتنافى مع الإيمان بالله. وينبغى ألا نتحجج بمراعاة مشاعر العامة واعتقاداتهم، فما جاءت الأديان إلا للارتفاع بفكر العوامّ وتطهيره من هذه الأدران. وقد نجح فريق من الشباب فى قريتى فى ثمانينات القرن البائد فى نقل رفات من يُطْلَق عليهم: "الأولياء" من كل مساجد القرية إلى الجبانة العامة دون أن تحدث أية مشاكل أو تثور أية اعتراضات، على عكس ما قدّر واحد مثلى، إذ خشيت أن يهيج أهل القرية، فأَثْبَتَ هؤلاء الشبان أنهم أبعد نظرا منى وأصلب عزيمة ومضاء! على أية حال هذا نص ما قاله الرجل بالفرنسية، أسوقه دون تعليق كما وعدت:
Concernant les objets ayant appartenu à Mahomet, c'est la même chose que le tombeau d'Ali découvert cent cinquante ans après sa mort, parce que des chiens évitaient respectueusement un monticule de terre : de la légende. De même dans une mosquée en Egypte, on trouve la tête d'Ali Hussein, fils d'Ali, égorgé bébé uniquement parce qu'il était agarène, c'est-à-dire descendant d'Agar, prétendue esclave d'Abraham. Cette tête fut retrouvée cinq siècles après sa mort. Des tests ADN et au carbone 14 anéantiraient ce culte imité des chrétiens, mais l'islam ne peut se passer dixième siècle. Le mot ismaélite (descendant d'Ismaël, fils d'Agar) fut traduit en arabe par musulman (soumis), le mot agarène (descendant d'Agar) étant traduit par hégire, en inventant la fiction de la fuite à Médine.(/28)
وما قلناه عن رأس الحسين نسوقه تعليقا على ما يقوله بعض المسلمين عن مخلفات أثرية يقولون إنها للنبى عليه السلام مما يجادل فيه صاحبنا ويحاول أن يجعل من حبته قبة ترتفع فى أجواز الفضاء وتملأ الآفاق، فمثل هذه الأشياء لا تقدِّم فى ميزان الدين ولا تؤخِّر قيد أنملة، فالمهم أن النبى صلى الله عليه وسلم قد ترك لنا ميراثا روحيا عظيما لا يقدَّر بأثمان، هو القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة والسيرة العطرة التى ترينا كيف يكون الرجال رجالا بحقٍّ، وكيف يثق الإنسان فى مولاه وفى القدرات التى منحه إياه فينجز جلائل الأعمال ويَدْفَع بأحداث التاريخ فى الاتجاه الذى يريده ربه سبحانه ولا يقعد كَلاًّ عاجزا تحت رحمة الأعداء يسومونه الخسف والهوان ويدمرون بلاده ويقتلون أهله ويغتصبون نساءه وينهبون ثرواته وهو مكتفٍ بوضع يديه على خدّيه كالوَلاَيَا، وأقصى ما يشغله هو الجدل الشيطانى حول ما ينهض به أبطال المقاومة: أهو انتحار يدخل صاحبه بسببه النار، أم استشهاد يضمن به الشهيد مقعد صدق عند مليك مقتدر؟ لينطّ له حينئذٍ شياطين الفتاوى الإجرامية مثل فرافيرو العجيب، لعنهم الله لعنا كبيرا، فيحاولوا أن يثبطوا عزائم المقاومين حتى يتركوا السَّاح خاليًا أمام الصهاينة ورعاة البقر الملاعين ليفعلوا بنا وببناتنا ودُورنا وأموالنا ومؤسساتنا وبنا نحن أنفسنا ما يشاؤون! يا أخى، دَعْكَ من هؤلاء المُفْتِين المُهَزَّئين واسأل نفسك وأَصْغِ لصوت ضميرك: أهذا الذى يفعله هؤلاء المغاوير من دفاع عن الوطن والدين والعِرْض والمال والحاضر والمستقبل والأهل والذرية وعنى وعنك، وعن كل الناس من حولنا ممن لا يشاركونهم بطولاتهم، بل حتى عن هؤلاء المفتين أنفسهم وأولادهم ونسائهم (هذا إن كانت عندهم غيرة على أعراضهم، ولا إخال)، هل هذا مما يمكن أن يجلب على أبطال الوطنية والإسلام والكرامة والنبل والفداء غضب الله وسخطه؟ فما الذى يمكن أن يُرْضِىَ اللهَ إذن عنّا؟ الانبطاح أمام هؤلاء المغول المتوحشين وتعرية السوءات، ثم أنت تعرف الباقى الذى يريده منا الأمريكان والصهاينة؟ لقد كانوا يظنون أن نساء المسلمين فى العراق سوف يخرجن لاستقبالهم ببدل الرقص الشرقى! وطبعا لن تَعْدَم أن تجد مفتيا مجرمًا مدلّسًا يقول إن الرقص الشرقى فى هذه الحالة أهون شرًّا من إزهاق الروح التى يهتز لها عرش الرحمن: روح الأمريكى بطبيعة الحال! أما أرواح المسلمين التى أُزْهِقَتْ بمئات الآلاف فلا تهتز لها ولا حتى أرداف أولئك المدلّسين! يا أخى، هؤلاء رجالٌ هُزُء، بل هؤلاء أشباه رجال، بل إنهم ليسوا برجالٍ على الإطلاق! والله لو كان هؤلاء الأبطال كفارا لما كان لهم عندنا غير الإعجاب بهم وبرجولتهم. يا أخى، إن الرجولة والبطولة من شأنها أن تثير الاحترام أيًّا كان صاحبها، فما بالنا إذا كان هؤلاء الأبطال الرجال ممن يقول: أشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله (وهذا الجزء الأخير من الشهادة، بل فى الحقيقة: الجزء الأول والأخير معا، يجنّن أمثال رشاد خليفة رسول الميثاق الأفاق، وأحمد صبحى منصور، المفكر النحرور (بدلا من "النحرير" نزولا على حكم السجعة)! يقول الأمريكان والصهاينة والمُفْتُون المدلِّسون: المدنيين! المدنيين! ونحن نقول أيضا: المدنيين! فاتركوا يا أمريكانُ ويا صهاينةُ بلادَنا كلها ومدنيّينا يترك أبطالنا مدنيّيكم! أما بلادكم فنحن لم نحتلّها ولم نفكر فى الاعتداء عليها، بل أنتم الذين أتيتم إلينا وروّعتمونا ودمرتم أوطاننا وقتلتم مئات الألوف منا وعثتم فسادا فى ديارنا بعدما سبقكم إلى هذا الإجرام أشباهكم من إنجليز وفرنسيين وطليان وإسبان وفعلوا بنا الأفاعيل على مدى عشرات السنين حتى مرَّروا حياتنا وجعلوها غمًّا متصلاً رغم الضحك الذى نضحكه من خارج قلوبنا، كما أفقدونا ثقتنا فى أنفسنا وفى ديننا وفى قدراتنا وشوّهوا أرواحنا فصارت أرواحَ عَبِيد، وأتيتم أنتم بسلامتكم لتكملوا المهمة، وكأنها ناقصة أمثالكم، لعنة الله عليكم وعلى يومٍ رأينا فيه وجوهكم، وجوه الشياطين وعتاة المجرمين! نكرر الكلام مرة أخرى: إنهم يقولون: المدنيين! المدنيين! ونحن أيضا نقول: المدنيين! فاتركوا يا أمريكانُ ويا صهاينةُ بلادَنا ومدنيينا يترك أبطالنا مدنييكم! هكذا ببساطة متناهية، ودون حذلقاتٍ ماسخةٍ وفتاوَى مأبونةٍ عاهرة!(/29)
وعودةً إلى ما قاله الطبيب الفرنسى عن مخلَّفات النبى عليه الصلاة والسلام، حقيقيةً كانت هذه المخلَّفات أو مدَّعاةً، نؤكد أن مثل هذه الأشياء لا علاقة لها بالدين، الذى هو فى الحقيقة عقيدة وأخلاق وسلوك مستقيم كريم وعقل يسعى وراء المعرفة فى نهم ونشوة وعزيمة جبارة تذلّل العِقَاب وتحقّق أصعب الرِّغَاب. وعلى هذا فإننا لا نأخذ مأخذ الجِدّ ما يقول جنابه العالى (أو الواطى بالأحرى) إنهم قد طالبوا السلطات التركية به من فحص ما عندها من أشياء يقال صدقا أو كذبا إنها تخص النبى عليه السلام. ذلك أن الأمر لا يستحق كل هذا الضجيج، لأنه حتى لو تبيَّن أن هذه الأشياء لا تخص النبى فلن تؤثر فى إيمان المؤمن بشَرْوَى نَقِيرٍ أو قِطْمِير. أما الأحاديث التى يزعم أنها إنما اختُرِعَتْ للاستعانة بها على بسط النفوذ والسيطرة على الجماهير، فمن الواضح أنه لا يفقه شيئا عن طبيعة تلك الأحاديث، إذ هى تدعو إلى الإيمان بالله وتوحيده واليقين بأن هناك ثوابا وعقابا على ما يجترحه البشر أو يهملون أداءه من أعمال، مثلما تنادى بمكارم الأخلاق والتمسك بالعزة والشرف والرفق فى كل الأمور والحنوّ على الضعفاء والمسحوقين والتعاون مع الآخرين والبشاشة فى وجوههم والمحافظة على صلة الأرحام والاحتفاظ دائما بباب الأمل مفتوحا واتخاذ العمل وإتقانه مبدأ أساسيا فى الحياة، وإلى تسهيل شؤون الزواج والستر على الضعف الإنسانى ما أمكن إلا إذا أدى إلى ضياع الحقوق، كما تحض على الشورى والعلم والتفكير والاجتهاد فى سبيل بلوغ الحق حتى لو كان مُرًّا وحتى لو أخطأ المجتهد الطريق ما دام لم يدخر فى اجتهاده وسعا أو إخلاصا، ومن ناحية أخرى نراها تحذر من النفاق والتفريط فى الكرامة والانسياق وراء الجموع دون تفكير والسكوت على الباطل والرضا بالدنيّة، وتأبى على المسلم أن يستنيم لظلم الحاكم ما كان فى مستطاعه أن يقاومه ويغير ظلمه، أو أن يفرط فى استقلال وطنه، بل توجب عليه أن يهب للدفاع عن عِرْضه ورزقه وداره وأن يحيل حياة المعتدين إلى جحيم عاجل فى الدنيا قبل أن يذوقوا جحيم الآخرة الآتى فى نهاية المطاف... وبالمناسبة فمن حق العلماء المؤهَّلين أن ينظروا فى الأحاديث ويمحصوها بغية الاستزادة من الاستيثاق والتعمق فى الفهم، وليس مطلوبا منهم أن يخرّوا عليها صُمًّا وعُمْيًا وبُكْمًا دون بحث أو تدقيق. فأى شىء فى هذا يمكن أن يُوصَم بأنه إنما اخْتُرِع للضحك على أذقان الجماهير؟
Concernant les reliques de Mahomet, comme les hadiths, elles ont été inventées pour se donner du pouvoir et du prestige, et en imposer aux foules. Les marchands vendent ce qu'on leur demande, et quoi de plus rentable que de fournir des objets ayant appartenu à un soi-disant prophète ? On peut émettre l'hypothèse que les "objets ayant appartenu à Mahomet, sa dent et des cheveux" ne datent pas du septième siècle, quand le calife Omar inventa le personnage de Mahomet, mais probablement du huitième ou neuvième siècle, quand sa légende fut fabriquée à partir de nombreux textes de provenances diverses. Mais on peut parier que la Turquie, surtout avec la régression islamiste actuelle, refuserait de faire expertiser, par un collège international d'archéologues spécialisés, avec diffusion 24/24 par webcam sur internet, ces reliques, sous prétexte qu'elles sont "sacrées", comme le tombeau du "prophète" et le tombeau d'Ali.(/30)
وأخيرا لا بد من كلمة توضيحية: فالرجل، كما هو ظاهر من كلامه، ثائر على الأديان كلها، إلا أننى ركزت ردى على ما يخص الإسلام فى ذلك الكلام. وقبل أن أترك القلم (آسف: قبل أن أترك لوحة أصابع الحاسوب) أحب أن أقول كلمة فيما ادّعاه من أن الأديان إنما تقوم على الصراع: الصراع بين الإله والإنسان، والصراع بين الرجل والمرأة، والصراع بين البشر والحيوان، والصراع بين الأب والابن، والصراع بين شعب من الشعوب وسائر الشعوب الأخرى: "Le mécanisme psychologique du prophétisme est le conflit: Dieu contre l'humanité, l'homme contre la femme, les humains contre les animaux, le père contre son fils, et un peuple contre tous les autres peuples ". وبالطبع سوف أركِّز ردّى هنا أيضا على ما فى الإسلام من قيم ومبادئ تناقض ما قاله على خط مستقيم: فالله هو الخالق الرازق الرحيم الكريم الودود الغفار التواب الذى يَجْزِى على الحسنة بعشر أمثالها إلى مائة ضعف فسبعمائة، على حين لا يجازِى على السيئة، إن جازَى، إلا بمثلها، وكثيرا ما يغفرها بل يغفر الذنوب جميعا، وليس فى عقيدتنا صراع بينه وبين عباده على أى نحو، ومن الواضح أن الغبى قد خلط هنا بين توحيد المسلمين ووثنية الإغريق. وقد كان للملائكة موقف رافض من خلق الإنسان، إلا أن الله قد بيَّن لهم أن باستطاعة آدم أن يتعلم الجديد دائما فتزداد معرفته باستمرار، بخلافهم هم، إذ لا يمكنهم تعلم أى شىء آخر غير ما خُلِقوا له منذ البداية، فهل فى شىء من هذا ما يمكن اتخاذه ذريعة للزعم بأن هناك صراعًا بين الله والإنسان فى الإسلام؟ أما بالنسبة للرجل والمرأة فقد خُلِقا، كما يقول القرآن، من نَفْسٍ واحدة، فالنساء شقائق الرجال حسبما جاء فى كلام النبى محمد عليه السلام، والله سبحانه قد خلق الرجال والنساء من نفس واحدة ليسكنوا إليهن وجعل بينهم وبينهن مودة ورحمة طبقا لما جاء فى الآية الحادية والعشرين من سورة "الروم". ونصل إلى العلاقة التى ينبغى أن تسود فى الإسلام بين الأب والابن: فالأب مأمور أن يكون عطوفا وشفوقا على ابنه وأن يحسن تربيته وتعليمه، والابن مأمور باحترام والده والقيام بحاجاته إذا كان مُعْوِزا وأن يخفض له جناح الذل من الرحمة وأن يحفظ له الجميل وأن يدعو له بالمغفرة. أما الحيوانات فالرفق بها فى الإسلام واجب دينى، وقد دخلت امرأة النار فى هرة حبستها حتى ماتت، فلم تطعمها ولم تطلقها تبحث عن رزقها بنفسها فى أرض الله الواسعة، ودخلت مومسٌ الجنة لأنها عطفت على كلب وملأت خُفّها ماءً من البئر وسقته من الظمإ الذى كان يعذبه. وتبقى العلاقة بين الشعوب كما يريدها الإسلام، ويكفى فى تصويرها أن نسوق الآية 13 من "الحجرات" التى يقول فيها مولانا سبحانه وتعالى: "يا أيها الناس، إنّا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى، وجعلناكم شعوبًا وقبائلَ لِتَعَارفوا. إن أكرمكم عند الله أتقاكم". إن ما فى القرآن شىء، وما فى الكتاب المقدس عن هذه الموضوعات شىء آخر، وكان ينبغى على الأحمق ألا يخلط بين هذا وذاك ولا يتوهم أن القرآن يمكن أن يقول شيئا يشبه ما كتبه مؤلف سفر "التكوين" مثلا عن شجرة الحياة التى نهى الله سبحانه آدم وحواء عن الأكل منها حتى لا يصيرا عارفَيْن بالخير والشر كمعرفة الله لهما، لكن الحيَّة استطاعت أن تُغْوِىَ أبوينا بعصيان النهى الإلهى، فأكلا من الشجرة مثيرَيْن بذلك حقده سبحانه عليهما وخشيته من أن ينازعاه ألوهيته: "قالت الحية للمرأة: لن تموتا، بل الله عالم أنه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفَيْن الخير والشر* فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل وأنها بهجة للعيون وأن الشجرة شهية للنظر، فأخذت من ثمرها وأكلت وأعطت رجلها أيضا معها فأكل*...* وقال (أى الرب) للمرأة: تكثيرًا أُكَثِّر أتعاب حبلك. بالوجه تلدين أولادا، وإلى رَجُلِكِ يكون اشتياقكِ، وهو يَسُود عليكِ*...* وقال الرب: هو ذا الإنسان قد صار كواحدٍ منا عارفا الخير والشر. والآن لعله يمد يده ويأخذ من ثمرة الحياة أيضا ويأكل ويحيا إلى الأبد* فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليعمل الأرض التى أُخِذ منها" (الإصحاح 3 كله)، أو هذا الكلام الذى ينبئ عن نقمة الله وخوفه من بنى آدم حين رآهم قد بَنَوْا مدينة وبرجا فقال: "هو ذا شعب واحد، ولسان واحد لجميعهم، وهذا ابتداؤهم بالعمل. والآن لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه* هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض" (10/ 1- 9). وبهذا نصل إلى نهاية الطريق، فأترككم أيها القراء الكرام فى رعاية الله وحفظه!(/31)
خُذْهُ ومثلَهُ حزناً
محمد بن إبراهيم الحمد 7/8/1427
31/08/2006
عنوان هذا المقال مأخوذ من كلمة للإمام سفيان الثوري ت 161 -رحمه الله-.
والكلمة بتمامها: "ما أعطي رجلٌ من الدنيا شيئاً إلا قيل له: خذْه ومثله حزناً".
فهذه الكلمة -على وجازتها- من هذا الإمام الكبير المتبوع تحمل في طياتها حكمةً بالغة، ولو تدبرها الإنسان لوجد مصداقها لائحاً في واقع الحياة؛ فما الذي يتمناه الناس كلهم؟ إنهم يتمنون السعادة؛ فالعالم بأسره مؤمنه وكافره، بره وفاجره يبتغي السعادة، ويروم طرد الهم والقلق.
وما السعادة عند أكثر من في الأرض؟ إنها سعادة المال، والجاه، والشهرة؛ فلا سعادة عندهم إلا سعادة المشاهير من أهل الفن، والمال، والرياضة، والوجاهة، والرياسة وغير ذلك من الأمور التي تأخذ بالألباب.
ولا يعرفون السعادة إلا بإطلاق الشهوات، والتمتع بسائر الملذات، وإذا فاتهم ذلك قالوا: على الدنيا العفاء.
فهل تلك النظرة صائبة؟ وهل أهل الفن، والمال، والرياضة، والوجاهة، والرياسة سعداء حقاً؟ وهل المجتمعات التي أطلقت لنفسها الشهوات، وتمتعت بسائر الملذات سعيدة حقاً؟ إنك لو تدبرت أحوال أولئك، واستمعت إلى أقوالهم لأدركت صحة قول سفيان –رحمه الله-.
وإليك نبذة عن أحوال وأقوال أولئك الذين يُظن أنهم أسعد الناس:
ها هو الملك حسين بن طلال الذي تربّع على عرش الأردن مدة تزيد عن خمس وأربعين سنة، قضى معظمها في ريعان شبابه؛ إذ تولى الملك وعمره ست عشرة سنة، وتوفي في الثالثة والستين من عمره بعد صراع مرير مع مرض السرطان، ها هو يقول في الفصل الأخير من كتابه "مهنتي كملك" الذي روى فيه ذكرياته، والأحداث التي مرت به في حياته حتى مرحلة السبعينيات الميلادية:
"إنني أعتقد بأن من العسير جداً إدراك السعادة في هذه الدنيا سواء كان المرء ملكاً أم إنساناً عادياً؛ ما هي السعادة بالنسبة للأغلبية العظمى من الناس؟ إنها الحصول على عمل مغرٍ ممتع، وعلى راتب جيد، وأسرة لطيفة تستعذبها النفس، والقيام بالرحلات من وقت إلى آخر، وأن يكون للمرء بعض الأصدقاء، وأن يساعد الناس، ويساعدوه.
لقد نلت كل ذلك، وما زال كل ذلك في متناول يدي، ولكن هل يعني هذا حقاً أنني سعيد؟
لا أعتقد ذلك، نعم لقد كانت حياتي خصبة مليئة-كما قلت-ولربما لم يعرف مثلها إلا القليل من الناس، لقد عرفت السراء والضراء، ولعل الضراء رجحت على السراء، وعانيت لحظات في غاية الشدة، ومرت بي فترات في أقصى درجات الضيق، ومرّت بي أوقات كنت أشعر فيها بأنني في منتهى العزلة، وعرفت الحداد والأحزان، والنادر من الفرح، والقليل من السعادة، لقد عرفت كل ما يمكن أن يعرفه كائن بشري: الجوع، والعطش، والإذلال، والهزيمة، والنادر من اليسار والبحبوحة، والقليل من السلام والراحة والابتهاج".
إلى أن قال: "إن حياتي الخاصة والعائلية غير منظمة؛ فأعباء الدولة تحول بيني وبين أن أكون لهذه الكائنات الإنسانية العزيزة الغالية بالقدر الذي أرغب وأتوق إليه، وطالما اضطررت أن أخيب آمالهم في الوقت الذي ينتظرونني فيه؛ لتناول طعام الغداء معي، فأحتبس نفسي مع زائر أجنبي، أو سياسي أردني، ثم في حوالي الساعة الرابعة أو الخامسة بعد الظهر أطلب إحضار بعض الشطائر لآكلها وأنا منهمك في عملي.
أما في المساء فإنني أغادر مائدة العمل في الساعة الثامنة أو التاسعة، ويكون أولادي عندها قد استسلموا إلى الرقاد، وتبقى في انتظاري زوجتي وأولادي ليمنحوني الحرارة التي افتقدتها، والتي أشعر بأنني في مسيس الحاجة إليها".
ثم إن نجوم الرياضة -وخصوصاً كرة القدم- لهم القِدْحُ المُعلّى من الشهرة وبُعْد الصيت في هذا العصر.
وكثير من الناس يظن أن نجوم الرياضة أسعد الناس؛ لما ينعمون به من الشهرة، وحب الجماهير، وربما طغيان الغنى.
والحقيقة المُبْصَرَةُ تقول غير هذا؛ فلو كشفت عن سالفة هؤلاء، وتبينت حقيقة أمرهم - لعلمت أنهم في وادٍ والسعادة الحقة في واد؛ ولأدركت أن ما هم فيه من إظهار للسرور والبهجة أنها سعادة عابرة مؤقتة تخفي وراءها الآلام، والمتاعب والأتراح؛ ذلك أن اللاعب ينتقل من معسكر إلى معسكر، ومن استعداد لمباراة إلى استعداد لأخرى، ومن سفر إلى بلد إلى سفر آخر.
وهذه إصابة تقض مضجعه وتؤرق جفنه، وتلك صحافة تقذع في نقده، وتبالغ في سبّه، أو التعريض به، وهذه اضطرابات تصيبه قبل كل مباراة، وتلك كآبة تخيم عليه عند كل هزيمة، وذلك جمهور لا يرحمه إذا لم يقم بدوره كما ينبغي، وهؤلاء حسَدَة يكيدون له، ويتربّصون به الدوائر، وذاك خوف وقلق من فقدان مكانته.
ثم ما حال ذلك النجم اللامع إذا انخفض مستواه، وما حاله إذا اعتزل أو اضطر إلى ذلك؟
إنه يلاقي كل كنود وجحود حتى من أقرب الأقربين إليه.
ثم كم يُحرم من الأنس بأهله؟ وكم يُحرم أهله منه؟
إذاً فليست السعادة عند هؤلاء، وإن تظاهروا بها، وظن بعض الناس أنهم أحقُّ الناس وأهلُها، وإن كانوا -أيضاً- متفاوتين في الشقاء وقلة السعادة.(/1)
وها هي مارلين مونرو ممثلة الإغراء الأمريكية التي تُعدّ أشهر ممثلة في تاريخ هوليود، والتي يقولون عنها: إنها "أسطورة هوليود التي لا يخبو نورها، ولا ينطفئ وهجها، ولا ينقطع الحديث عنها".
هذه المرأة تركت الدنيا في الخامس من أغسطس عام 1962م في ظروف غامضة؛ فماذا كانت حياة تلك المشهورة التي ملأت الدنيا، وشغلت الناس في حياتها وبعد وفاتها، والتي تركت الدنيا في أوج شهرتها، وعزِّ بريقها، وشرخ شبابها، والتي لا يزال الحديث مستمراً عنها؟
هل كانت سعيدة في حياتها؟ وهل أغنت عنها شهرتها؟
لعل حديثها عن نفسها يكون أبلغ وأوقع، تقول عن نفسها: "إنها نشأت في جو يخيم عليه الحزن، وتحاصره الكآبة، فلم تعرف لها أباً، ولم تجد لها أماً حنوناً، ولم يُرَبِّتْ أحد على كتفها ليقول لها-كما يقال للصغار-: أنت طفلة جميلة.
وتعترف بأن الرجل الذي كتب اسمه في شهادة ميلادها على أنه أبوها- هو أحد عشاق أمِّها الذي ربما اختارته بطريقة عشوائية كأب للمولودة الجديدة".
وتؤكد مارلين أن أسوأ شيء في حياتها هو محاولة الكثيرين استغلالها، حتى أقرب الأقربين.
الجدير بالذكر أن حياة تلك المرأة كانت سلسلة من الفضائح التي كانت مسؤولة عن بعضها، ولا يد لها في بعضها الآخر.
وأشهر ما كان من ذلك علاقتها بالرئيس الأمريكي جون كنيدي، ثم تخليه عنها لمّا تولى الرئاسة، ثم علاقتها بأخيه روبرت كنيدي.
ولقد سببت لها تلك العلاقات متاعب كثيرة، بل لقد قيل: إن لآل كنيدي يداً في موتها.
وأخيراً كيف كانت نهاية تلك المرأة؟
لقد وجدوها جثة هامدة في منزلها، واكتشف المحقق الذي تناول قضيتها أنها ماتت منتحرة، ووجد رسالة محفوظة في صندوق الأمانات في مانهاتن في نيويورك، وهذه الرسالة ألقت بعض الضوء على انتحار مارلين مونرو؛ إذ وجد على غلافها كلمة تطلب عدم فتح الرسالة قبل وفاتها.
ولما فتح المحقق الرسالة، وجدها مكتوبة بخط مارلين مونرو بالذات، وهي موجهة إلى فتاة تطلب نصيحة مارلين عن الطريق إلى التمثيل.
قالت مارلين في رسالتها إلى الفتاة، وإلى كل من ترغب العمل في السينما: "احذري المجد، احذري كل من يخدعك بالأضواء؛ إني أتعس امرأة على هذه الأرض؛ لم أستطع أن أكون أماً، إني أفَضِّل البيت، والحياة العائلية الشريفةَ على كل شيء، إن سعادة المرأة الحقيقية في الحياة العائلية الشريفة الطاهرة، بل إن هذه الحياة العائلية لهي رمز سعادة المرأة، بل الإنسانية.
وتقول في النهاية: لقد ظلمني الناس، وإن العمل في السينما يجعل المرأة سلعة رخيصة تافهة مهما نالت من المجد والشهرة الزائفة.
إني أنصح الفتيات بعدم العمل في السينما وفي التمثيل؛ إن نهايتهن إذا كن عاقلات كنهايتي".
هذه هي حال تلك المرأة، وهذه نصائحها المجانية تقدمها في نهاية مطافها؛ فما أكثر العبر، وما أقل المعتبر؛ فهل من مدّكر؟
وهذه الأميرة الليدي ديانا سبنسر تلك المرأة الإنجليزية التي نالت من الشهرة ما لم تنله امرأة في القرن العشرين؛ إذ تزوجت بولي عهد بريطانيا الأمير تشارلز عام 1980م-1400هـ، وأُقيم حفل الزواج الكبير في قصر بكنجهام، وشاهد العالم ذلك الحفل عبر شاشات التلفاز.
ومنذ ذلك الحين والإعلام العالمي بكافة وسائله لا يفتأ يذكر اسمها، ويتابع أخبارها، وينشر صورها.
وظل الناس يتابعون كل دقيقة وجليلة من أمرها، حتى أصبح كثير من نساء العالم يقلدنها في شتى أحوالها، حتى في مشيتها، وتسريحة شعرها، وطريقة ابتسامتها، ونوع ملبوسها، ونحو ذلك من شؤونها.
وعلى مدى سنوات طويلة كان لدى الشعب البريطاني، وسائر شعوب العالم اعتقاد بأن ديانا وتشارلز هما أسعد زوجين على وجه الأرض، كيف لا وقد امتلكا جميع مباهج الحياة -في نظر الأكثرين-؟
فالشهرة، والمجد، والثراء، والنفوذ، والمستقبل الذي ينتظر الذرية كل هذه الأمور نُصب أعين الزوجين.
ولكن هذا الاعتقاد لم يكن صائباً، وكل القصص والحكايات الوردية التي صنعها خيال الناس لم يكن لها أي نصيب من الواقع؛ فلقد استيقظ العالم ذات صباح من شهر مايو 1992م على فضيحة مدوية عصفت بتلك الخيالات، وطوحت بها مكاناً قصياً؛ فقد ظهر كتاب جديد في بريطانيا تحت عنوان (ديانا القصة الحقيقية).
وهذا الكتاب يروي قصة إخفاق ذلك الزواج التاريخي، ويكشف تعاسة ديانا وشقاءها، ومحاولتها الانتحار في عام 1989م بعد أن يئست من حياتها.
ويذكر الكتاب أحد المواقف التي زلزلت كيان الأميرة، وجعلتها تحيا أسوأ أيامها؛ فعندما رآها تشارلز تبكي لوفاة والدها، وعدم وجوده بجانبها عنَّفها، ووبخها، وقال لها بمنتهى القسوة: اخرجي من أحزانك بسرعة؛ فلا وقت لدينا لهذه الأحاسيس.(/2)
ولم يكن هذا الموقف هو الأخير؛ فقد توالت عبارات الأمير تشارلز، وإهاناته البالغة لديانا، حتى قررت التخلص من حياتها، خاصة بعد الأنباء التي أشارت إلى وجود علاقة غرامية بين الأمير وبين سيدة أخرى تُدعى كاميلا فلورز، ومن ثم ابتلعت ديانا كل ما لديها من حبوب مهدئة؛ رغبة في التخلص من حياتها، إلا أن قدرها لم يحن بعد، فنجت من الموت.
ولم يكن صدور ذلك الكتاب نهاية المطاف؛ فقد بدأت الصحف تكشف جوانب أخرى، وأسراراً جديدة تعكس إخفاق الزوجين في تجاوز خلافاتهما، واستعادة ما كان بينهما من صفاء في بداية حياتهما الزوجية.
وكشفت صحيفة (صنداي إكسبرس) النقاب عن أن الأميرة ديانا تعاني من كوابيس مرعبة، وأحلام مخيفة تداهمها ليلاً في نومها؛ لتحيل حياتها إلى عذاب لا يتوقّف، وشقاء لا ينقطع.
وأضافت الصحيفة أن ديانا تتلقى العلاج؛ للتخلص من هذه الكوابيس والأحلام المزعجة التي يرى الطبيب المعالج أنها تعكس مدى ما تعانيه الأميرة في حياتها من مصاعب، وما تعجز عن تحقيقه من رغبات مكبوتة.
وقالت: إن الأميرة التعسة بلغت درجة من الشقاء والضيق الشديد اضطرت معها إلى اللجوء إلى طبيب نفسي كي يعالجها.
وأكدت الصحيفة أن الأميرة أسرعت عقب تدهور صحتها؛ بسبب الكوابيس والأحلام المزعجة إلى الطبيب النفساني الشهير (آلان ماكجلاشان).
وتقول الصحيفة: إن ديانا ترى في نومها وحوشاً غريبة تثير الرعب والهلع، وترى مشاهد بحرية مخيفة تزلزل كيانها، وترتعد لها فرائصها.
وأكدت بأن الأمير تشارلز نفسه بدأ يشعر بالقلق إزاء ما يجري لزوجته التي أصبحت تقطع نومها؛ لتنهض مذعورة لما تراه.
وبعد ذلك زادت المشكلات بينها وبين زوجها، وحاولت والدة تشارلز الملكة إليزابيث تهدئة الأمر، وحث الزوجين على تجاوز خلافاتهما، والتوقف عند هذا الحد.
وعلى رغم من ذلك فقد اتفق الطرفان على أن حياتهما على هذا النمط أصبحت مستحيلة، ولكن الطلاق ثقيل، خصوصاً على نفس تشارلز؛ لأنه سيؤدي إلى فقدانه وفقدان أبنائه من بعده حق الجلوس على العرش؛ إذ لا يجوز دستورياً أن يكون الملك مطلقاً.
ولأن الأمير عَيْنُه على العرش، وليس لديه أي فكرة للتنازل عنه-فقد قرر ألاّ يُطلّق.
أما الأميرة التعيسة فلم يعد لديها سوى ولديها هاري وويليام يملآن الفراغ والوحدة التي تقاسيها، ولا تريد أن تُطَلَّق؛ حتى لا يفقدا حق الجلوس على عرش بريطانيا في المستقبل، ومن أجل هذا قررا الانفصال دون طلاق؛ ليبدأ كل منهما حياته بالطريقة التي يحبها.
وبعد هذا اعترف الزوجان بالخيانة الزوجية، وأصبحت ديانا تترامى من أحضان عشيق إلى عشيق، إلى أن آل بها الأمر إلى آخر واحد منهم وهو عماد الفايد.
وآخر فصل من فصول حياة تلك المرأة هو تلك النهاية المؤلمة التي أودت بحياتها عندما كانت في فرنسا بصحبة عشيقها عماد الفايد؛ إذ ركبا في السيارة التي خرجت بهما من الفندق الذي كانا يقيمان فيه، فلما خرجا إذا عدسات المصورين تضيّق عليهما الطريق، فأسرع السائق هروباً من المصورين، فوقع الحادث الذي أودى بحياة ديانا وعماد الفايد.
فماذا أغنى الثراء؟ وماذا أغنت الشهرة؟ وماذا أغنى الجاه؟
ولا تزال الصحافة تأتيك بالأخبار، وتوافيك بالجديد من تعاسة المشاهير.
ومن آخر ذلك ما جاء في صحيفة الرياض 7 ربيع الآخر 1427هـ، الموافق: 5 مايو 2006م عدد13829 تحت عنوان: (أغنى رجلٍ في العالم يتمنى لو كان فقيراً).
وتحت هذا العنوان كتبت: "الثروة لا تكفي لجلب السعادة، وقد تكون وبالاً على صاحبها". هذا ما يقوله بيل غيتس الذي يوصف بأنه أغنى أغنياء العالم.
ونسب راديو (سوا) إلى غيتس قوله: إنه يدعو على نفسه بالفقر، ويتمنى لو لم يكن أغنى بني البشر.
وأضاف أنه لا يشعر بأن ثروته الطائلة التي تقدر بالبلايين تحقق له ما يريد.
ويقول بيل غيتس: إنه يكره كونه من المشاهير، كما أنه لا يحب إثارة انتباه الآخرين، ويعتبر نفسه في محنةٍ؛ بسبب ثروته، وأنه يعيش وحيداً".
ولو استرسل الكاتب في ذكر مثل تلك الأخبار، والأحوال لطال به المقام، وإذا أردت مزيداً من ذلك - فارجع إلى كتاب ( التوبة وظيفة العمر) لكاتب هذه السطور.
وأخيراً تذكَّر كلمة سفيان الثوري: "ما أُعطيَ رجلٌ من الدنيا شيئاً إلا قيل له: خُذْه ومثلَه حزناً".(/3)
داء الملوك والسّوقة
سلمان العنزي 8/7/1427
02/08/2006
الخوف داء الملوك والسوقة، ومرض الكبار والصغار، وبلاء النساء والرجال، ومحنة الأحرار والعبدان، وصيقل الشجعان، وحتف الجبناء.. لم ينجُ من وخزته ناجٍ، ولم يسلم من عركته إنسان، ولئن ذهبت تبحث وتلج في البحث عن أسباب كثير من التخلف في أساليب الحكم أو الإدارة أو الاقتصاد أو التعليم لوجدت أن الخوف هو السبب الحقيقي في إفراز ذلك الفساد الكبير المتراكم على القلوب والعقول.
لماذا تكثر السجون في العالم وخاصة السياسية منها، وتستجد أدوات التعذيب وتُبتكر لتصل إلى مرحلة لا يمكن وصفها، ولا الإحاطة بقدرتها على تحقيق أهدافها، ويُستجلب أساتذة القسوة من بقاع الأرض ليفرضوا معاني الظلام على النفوس المضيئة، وتُفتح لهم المدارس والأكاديميات ليفرغوا فيها تجارب عمرهم البئيس، ويملؤوا رؤوس المتعلمين بحثالة أفكارهم الوحشية، ليبدؤوا من نقظة لا يأتي بعدها إلا ما يذهل النفس، ويربك العقل، ويقف بالتفكير جانباً ليسمح للخيال بإكمال الوصف! والحق يُقال لم تلامس الفجاءة قلبي عندما قرأت ما كُتب في التعذيب من كتب، وما صدر من موسوعات؛ لأنني كنت أدرك معنى الخوف، وأعرف أبعاده، وأرى آثاره في الواقع المعاصر قبل أن أقرأ تاريخه فيما غبر من قرون!
ولماذا تكثر الدراسات الباردة لقضية إدارية لو سُلك بها سبيل الحق لكانت من مسائل الأطفال التي تنشط بها أذهانهم؟ ولماذا تكثر الاجتماعات لدراسة مشاريع قُتلت بحثاً، وأُتي بها من مكان بعيد بعد أن صُرف عليها مبالغ طائلة لتكون نبراساً لواقعنا، وحلاً لمشاكلنا، وسبيلاً للخلاص ننفذ من خلاله إلى الجهة الأخرى حيث العالم الآخر المتحضر؟
ولماذا لا يُسلك سبيل الله في عالم الاقتصاد مكان الكم الهائل من النظريات المخترعة وفق ظروف زمنية ومكانية لا تتناسب وحياتنا وزماننا؟
ولماذا لا نعمل على إعمال سنة الله في المال على الأرض بعد أن تشرّبتها أنفسنا وعلمنا علماً لا يخالطه شك أنها الأصلح للأفراد والجماعات، وأكّد هذا العلم دراسات جادّة قامت بها بعض المعاهد الغربية؟
ولماذا يزيف الحكام خطاباتهم، ويلبسونها حلي الشفقة والرحمة والعطف، ليتسوّروا محاريب القلوب الضعيفة المتهافتة على معسول الكلام، والعاجزة عن إداراك المعاني خلف ظلال الكلمات؟ ولماذا يرضى الشعب بهذه الكلمات، ويحوّلها إلى قوانين تنحت في قلوبهم، وتنطق بها ألسنتهم دون وعي، وهم يرون خلاف ما يسمعون؟
ولماذا هذا التلاعب الكبير بالحقائق عند مقارعة الدول بعضها بعضاً، وعند اشتداد حمى التنابز والاتهامات مع رؤية مصارع الآخرين؟
ولماذا التنازل الكبير عن التراث الفكري والعقائدي والأخلاقي في مقابل الوعود المعسولة بالسلامة؟
أسئلة كثيرة جداً ولا جواب عليها يلمّ شملها، ويجلّي حقيقتها، ويظهر عجائبها غير هذه الكلمة بكل ما تحمله من مضامين خطيرة يدرك كنهها العارفون بها والقارئون التاريخ في أطواره كلها، إنها كلمة (الخوف).
لقد قال المنفلوطي – عليه رحمة الله – في مقال له بأن الكذب هو أسّ الشرور وقاعدتها، ولو أنه أجال النظر وطوّح به في مسارح الحياة، ودقق الفهم وسبر التاريخ لعلم أن الخوف هو أسّ الشرور وقاعدتها، ويكفي أن نعلم أن صفة (الكذب) على ما فيها من فساد ماحق ليست إلا مجرد عرض لداء الخوف، وطيف من أطيافه المتفاوتة!
لولا الخوف من الموت ما رضي الإنسان بالدنية في دينه، والرزية في عقله، والخطل في رأيه، وما رضي بكفة الميزان الجائرة، والتقصير دون الغاية، والرضى بالقليل! ولولا الخوف من ذهاب الدنيا في صورة ملك أو مال أو جاه، ما كثرت الدسائس، وخربت الضمائر، وحُدّدت الأنياب، وحُشدت الأفكار الخبيثة، وامتلأت السجون! ولولا الخوف من عقابيل الحق ما زُوّقت الافتراءات وزُيّنت المنكرات!
ولا سبيل إلى الفكاك من هذا الوحش الفاتك إلا بالتعرّف على الله، وتطهير القلب من أوضار الدنيا وبهرجها الزائف؛ حتى تكون الحقائق هي الفيصل في كل قول أو فعل ...!
وكم هو جميل عندما نقرأ القرآن فنجد أن الله -عز وجل- يرشد عباده إلى أن يتعرفوا عليه، ويرتبطوا به، ولا يلتفتوا إلى أحد سواه كائناً ما كان (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)، ومن كان مع الله ولامست قلبه أنوار العزّة استحق كفاية الله (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ).(/1)
وإنك لتعجب أشد العجب وأنت تسمع حوار موسى مع ربنا -عز وجل- في أول أمره، وقد أمره بأن يذهب إلى فرعون برسالته هادياً وبشيراً وسراجاً منيراً فيقول: (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ). (قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ). (قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى) فيأتيه الجواب أكمل ما يكون، وأنقى ما يكون، فيلامس القلب الواجف فيسكن، والنفس القلقة فتأوي إلى ركن عظيم (قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى). وبعد هذا الحوار والمضي مع موسى وقصته في رحلة عجيبة مليئة بالعناية الربانية حتى وقف به الطريق أمام البحر وفرعون وجنوده من ورائه يحثون المسير، وبنو إسرائيل تتخاوص عيونهم، وتشرئب أعناقهم، وتضطرب أفئدتهم، وتقول ألسنتهم (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ)، وإذا هو ينطق بكل ثقة بعد أن امتلأ قلبه بالإيمان، وتعرّف على الله، ورأى آثار أسمائه العظيمة في كل أطوار محاورته مع فرعون وقومه (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) أين ذهب ذلك الخوف، وأين سلك؟ لم يعد له وجود في القلب الواثق المطمئن العارف بربه، ولم يبق منه ما يملأ قلب بعوضة مضروب بها الأمثا(/2)
دار البقاء - لزين العابدين
قال في قصيدة تكتب بماء الذهب، روعة في الالفاظ ،عذبة في المعاني، تدل التائهين إلى ما خلقوا له وتيقظ النائمين:
اعمل لدار البقاء رضوان خازنها ** الجار احمد والرحمن بانيها
ارض لها ذهب والمسك طينتها **والزعفران حشيش نابت فيها انهارها
لبن محض ومن عسل** والخمر يجري رحيقا في مجاريها
والطير تجري على الاغصان** عاكفة تسبح الله جهرا في مغانيه
ا من يشتري الدار بالفردوس يعمرها **بركعة في ظلام الليل يخفيه
او سد جوعة مسكين بشبعته **في يوم مسغبة عم الغلا فيها
النفس تطمع في الدنيا وقد **علمت ان السلامة منها ترك ما فيها
اموالنا لذوي الميراث نجمعها** ودارنا لخراب البوم نبنيها
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها **الا التي كان قبل الموت يبنيها
فمن بناها بخير طاب مسكنه** ومن بناها بشر خاب بانيها
والناس كالحب والدنيا رحى** نصبت للعالمين وكف الموت يلهيها
فلا الاقامة تنجي النفس من** تلف ولا الفرار من الاحداث ينجيها
تلك المنازل في الافاق خاوية **اضحت خرابا وذاق الموت بانيها
اين الملوك التي عن حظها غفلت* حتى سقاها بكاس الموت ساقيها
افنى القرون وافنى كل ذي **عمر كذلك الموت يفني كل ما فيها
نلهو ونامل امالا نسر بها **شريعة الموت تطوينا وتطويها
فاغرس اصول التقى ما دمت مقتدرا **واعلم بانك بعد الموت لاقيها
تجني الثمار غدا في دار مكرمة **لا من فيها ولا التكدير ياتيها
الاذن والعين لم تسمع ولم تره **ولم يجر في قلوب الخلق ما فيها
فيالها من كرامات اذا حصلت **وياله من نفوس سوف تحويها(/1)
دخلت النت داعية فخرجت عاشقة
تحكي "س.م" قصتها مع غرفة المحادثة فقالت: أنا فتاة جامعية عمري 30 عامًا, كنت أدخل المنتديات الشرعية بهدف الدعوة إلى الله, وكانت لديّ الرغبة أن أشارك في حوارات كنت أعتقد أنها تناقش قضايا مهمة وحساسة، تهمني في المقام الأول، وتهم الدعوة، مثل الفضائيات واستغلالها في الدعوة, ومشروعية الزواج عبر الإنترنت.
وكان من بين المشاركين شاب متفتح ذكي، شعرت بأنه أكثر ودًا نحوي من الآخرين, ومع أن المواضيع عامة إلا أن مشاركته كان لدي إحساس أنها موجهة لي وحدي! ولا أدري كيف سحرتني كلماته؟ فتظل عيناي تتخطف أسطره النابضة بالإبداع والبيان الساحر ـ بينما يتفجر في داخلي سيل عارم من الزهو والإعجاب، يحطم قلبي الجليدي في دعة وسلام, ومع دفء كلماته ورهافة مشاعره وحنانه أسبح في أحلام وردية وخيالات محلقة في سماء الوجود.
ذات مرة ذكر لرواد الساحة أنه متخصص في الشؤون النفسية، ساعتها شعرت أنني محتاجة إليه بشدة، وبغريزة الأنثى، أريد أن يعالجني وحدي, فسوّلت لي نفسي أن أفكر في الانفراد به وإلى الأبد. وبدون أن أشعر طلبت منه -بشيء من الحياء- أن أضيفه على قائمة الحوار المباشر معي, وهكذا استدرجته إلى عالمي الخاص. وأنا في قمة الاضطراب كالضفدعة أرتعش، وحبات العرق تنهال على وجهي بغزارة ماء الحياء, وهو لأول مرة ينسكب.. ولعلها الأخيرة.
بدأت أعد نفسي بدهاء صاحبات يوسف؛ فما أن أشكو له من علة إلا أفكر في أخرى. وهو كالعادة لا يضن عليّ بكلمات الثناء والحب والحنان والتشجيع وبث روح الأمل والسعادة, إنه وإن لم يكن طبيبًا نفسيًا إلا أنه موهوب ذكي لمّاح يعرف ما تريده الأنثى.
الدقائق أصبحت تمتد لساعات, في كل مرة كلماته كانت بمثابة البلسم الذي يشفي الجراح, فأشعر بمنتهى الراحة وأنا أجد من يشاركني همومي وآلامي ويمنحني الأمل والتفاؤل, دائمًا يحدثني بحنان وشفقة ويتوجع ويتأوه لمعاناتي، ما أعطاني شعور أمان من خلاله أبوح له بإعجابي الذي لا يوصف, ولا أجد حرجًا في مغازلته وممازحته بغلاف من التمنع والدلال الذي يتفجر في الأنثى وهي تستعرض فتنتها وموهبتها.
انقطعت خدمة الإنترنت ليومين لأسباب فنية, فجن جنوني.. وثارت ثائرتي.. أظلمت الدنيا في عيني..
وعندما عادت الخدمة عادت لي الفرحة.. أسرعت إليه وقد وصلت علاقتي معه ما وصلت إليه.. حاولت أن أتجلّد وأن أعطيه انطباعاً زائفاً أن علاقتنا هذه يجب أن تقف في حدود معينة، وأنا في نفسي أحاول أن أختبر مدى تعلّقه بي.. قال لي: لا أنا ولا أنت يستطيع أن ينكر احتياج كل منا
إلى الآخر، وبدأ يسألني أسئلة حارة أشعرتني بوده وإخلاص نيته.
ودون أن أدري طلبت رقم هاتفه حتى إذا تعثرت الخدمة لا سمح الله أجد طريقًا للتواصل معه.. كيف لا وهو طبيبي الذي يشفي لوعتي وهيامي!! وما هي إلا ساعة والسماعة المحرمة بين يدي أكاد ألثم مفاتيح اللوحة الجامدة.. لقد تلاشى من داخلي كل وازع!
وتهشم كل التزام كنت أدّعيه وأدعو إليه. بدأت نفسي الأمّارة بالسوء تزيّن لي أفعالي وتدفعني إلى الضلال بحجة أنني أسعى لزواج من أحب بسنة الله ورسوله.
وتوالت الاتصالات عبر الهاتف.. أما آخر اتصال معه فقد امتد لساعات قلت له: هل يمكن لعلاقتنا هذه أن تتوج بزواج؟ فأنت أكثر إنسان أنا أحس معه بالأمان؟! ضحك وقال لي بتهكم: أنا لا أشعر بالأمان.. ولا أخفيك أنني سأتزوج من فتاة أعرفها قبلك. أما أنت فصديقة، وتصلحين أن تكوني عشيقة، عندها جن جنوني وشعرت أنه يحتقرني فقلت له: أنت سافل..
قال: ربما, ولكن العين لا تعلو على الحاجب.. شعرت أنه يذلني أكثر قلت له: أنا أشرف منك ومن... قال لي: أنتِ آخر من يتكلم عن الشرف!! لحظتها وقعت منهارة مغشى عليّ.. وقعت نفسيًا عليها.
وجدت نفسي في المستشفى, وعندما أفقت، أفقت على حقيقة مُرَّة, فقد دخلت الإنترنت داعية, وتركته وأنا لا أصلح إلا عشيقة!!
ماذا جرى؟! لقد اتبعت فقه إبليس اللعين الذي باسم الدعوة أدخلني غرف الضلال, فأهملت تلاوة القرآن وأضعت الصلاة، وأهملت دروسي، وتدنى تحصيلي, وكم كنت واهمة ومخدوعة بالسعادة التي أنالها من حب النت..
إن غرفة المحادثة فتنة.. احذرن منها أخواتي فلا خير يأتي منها مالم تضعي لنفسك حواجز إيمانية تمنعك من الانجراف وراء الملذات(/1)
دخول الخدم غير المسلمين إلى مكة
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ كتاب الحج والعمرة/مسائل متفرقة
التاريخ ... 21/06/1426هـ
السؤال
أرغب في اصطحاب العائلة لأداء العمرة، وبرفقتنا خادمة من أهل الكتاب، فهل يجوز دخول الخادمة، وبقاؤها داخل الفندق لرعاية الأولاد؟
الجواب
دخول الكافر للمسجد الحرام بمكة اختلف فيه العلماء على قولين: الأول: المنع، والثاني: الجواز، أخذًا من عموم نصوص القرآن والسنة، كقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم"[التوبة:28].
فبعد اتفاق العلماء على أن الكافر نجس نجاسة حكمية (معنوية) والنهي عن قربانه المسجد الحرام أبلغ، فالنهي عن الدخول من باب أولى.
فذهب إلى الجواز أبو حنيفة وأصحابه، وذهب إلى المنع فقهاء أهل المدينة كمالك وأصحابه، وهي رواية للإمام أحمد، وهو قول عطاء من التابعين، وذهب الإمام الشافعي إلى الجواز إن دعت الحاجة إلى ذلك، وهي الرواية الثانية عن أحمد، وهو قول قتادة من التابعين.
ومنشأ الخلاف بين العلماء في هذه المسألة: ما المراد بالمسجد الحرام في الآية، فالأحناف مع اتفاقهم أن المشركين وأهل الكتاب سواء في الحكم. فمن ذهب إلى جواز الدخول كالأحناف قال: المراد بالنهي عن قربان (المسجد) يعني الحج والعمرة وعامة المناسك، عبر بالمكان وأراد الحال، ومن أراد المنع فسر المسجد بمكان السجود، وهو المسجد الذي في جوفه الكعبة أو هو الحرم كله، أي الذي يحرم فيه الصيد وقطع الشجر، فيدخل في المسجد الحرام حينئذ عامة مساكن مكة وحتى مزدلفة.
ومن أجاز دخول الكافر الحرم للحاجة نظر إلى نصوص أخرى تفسر الآية؛ فقد أخرج الإمام عبد الرزاق الصنعاني في تفسيره (1/272،271) عن جابر بن عبد الله في قوله تعالى: "إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا" قال:(إلا أن يكون عبداً أو أحداً من أهل الذمة) ورواه ابن جرير (10/108) وابن أبي حاتم (6/1775).
وأخرج أحمد (15221) عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل مسجدنا هذا بعد عامنا هذا مشرك إلا أهل العهد وخدمهم". قال ابن كثير في التفسير: وقف هذا الحديث أولى من رفعه.
والخلاصة: يجوز لكم أخذ خادمتكم النصرانية معكم إلى العمرة ما دمتم بحاجة إليها للخدمة ورعاية الأطفال، على ألا تدخل معكم إلى المسجد الحرام، بل تبقى في الفندق أو الشقة. وفق الله الجميع إلى كل خير.(/1)
درء المشقة في الشريعة الإسلامية
د. القرشي عبد الرحيم البشير*
مقدمة:
الحمد لله نجاهد أنفسنا حتى نستقيم على أمره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا، والصلوات الطيبات والتسليمات الزاكيات على عبده ورسوله وصفي خلقه وخليله وعلى آل بيته الأطهار وصحابته الأبرار.. اللهم ارزقنا محبتك ومحبته، واجعلنا من خاصته، وادخلنا في شفاعته، واسقنا من حوضه، واجعلنا في الجنة في رفقته، سبحانك لا علم لنا إلاّ ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
أما بعد:
إن الموضوع الذي وقع عليه اختياري في هذا البحث؛ يتعلق بمقصد من مقاصد الشريعة البديعة، جرى على ألسِنَة فقهاء الشريعة حتى أصبح من القواعد الكلية، والضوابط الفقهية المعتبرة المرعية التي كشفت عن آفاق يسر الشريعة وسماحتها بتصوير بارع، وتنوير رائع، في إطار نظرية جامعة، جمعت ما تحتها من جزئيات فرعية على اختلاف موضوعاتها وأبوابها.
وقد جعلت عنوان هذا البحث: (درء المشقة في الشريعة الإسلامية) وقد قدمته في ندوة علمية بقسم الفقه والأصول بكلية الشريعة بجامعة قطر، فأُثرِيَ بالنقاش العلمي القيم.. فإلى مقاصد هذا البحث، والذي كان الأول منها في تعريف المشقة:
المقصد الأول: تعريف المشقة
المشقة لغة: الصعوبة والشدة والحرج: قال صاحب القاموس المحيط[1]: (شق عليه الأمر شقًا ومشقة صَعُب) وفي تاج العروس[2]: (المشقة الشدة والحرج وجمعه مشاق ومشقات)، والشق هو الاسم من المشقة كما جاء في لسان العرب[3].هذه المعاني إذا أخذت مطلقة من غير نظر إلى الوضع العربي فإنها تقتضي ثلاث أوجه اصطلاحية:
الوجه الأول: شموله لغير المقدور عليه من التكليف بما لا يطاق، فإنه يسمى مشقة من حيث إيقاع من تطلب حمله في عناء وتعب لا يجدي – كالمقعد إذا تكلف القيام، والإنسان إذا تكلف الطيران، ونحو ذلك – وهذا النوع ليس محطًا للبحث فيما نحن بصدده وقد منع وقوعه أكثر العلماء من أصحاب المذاهب المعتبرة كما هو مقرر في مظانه من كتب الأصول[4]وغيرها.
وقد حرر ابن تيمية[5]وتلميذه ابن القيم[6]– رحمهما الله – هذه المسألة بما يحقق الإجماع على عدم وقوع التكليف بما لا يطاق، مع اختلاف العلماء في جواز الأمر به[7]، وحصرا الخلاف في دخول الفعل المختلف فيه فيما لا يطاق أو عدم وصفه بذلك، فيكون الخلاف في تحقق هذا الوصف – مالا يطاق – في ذلك الفعل. ومثلا لذلك باختلافهم فيما تعلق علم الله تعالى بعدم وقوعه مما هو ممكن في ذاته عقلاً وعادة، كإيمان من بلغته الدعوة ومات كافرًا، فهذا لا نزاع في التكليف به، لكن هذ يطلق عليه أنّه مما لا يطاق؛ باعتبار أنه غير مقدور للمكلف بالنظر إلى تعلق المشيئة بعدم وقوعه، أم هو مقدور للمكلف القدرة المصححة التي هي مناط التكليف وشرط فيه، فلا يكون داخلا فيما يطاق.
قال ابن القيم – رحمه الله – في سياق حديثه عن أنواع الفعل بالنسبة إلى التكليف وفي النوع الثاني مما لا يطاق ".. اتفق الناس على أنه لا يطاق، وتنازعوا في جواز الأمر به، ولم يتنازعوا في عدم وقوعه، ولم يثبت بحمد الله أمر اتفق المسلمون على أنه لا يطاق، وقالوا: إنّه يكلف به العبد ولا اتفق المسلمون على فعل كلف به العبد وأطلقوا القول عليه بأنّه لا يطاق[8].
الوجه الثاني: إطلاق المشقة على المقدور عليه وفيه مشقة معتادة، لا تخرجه عن المعتاد في الأعمال العادية، فهذه مشقة عادية يستطيع الإنسان تحملها دون إلحاق الضرر به، وإنما يكون وصفه بالمشقة باعتبار أنه نفس التكليف به زيادة على ما جرت به العادات قبل التكليف فيكون شاقًا على النفس بهذا الاعتبار، ولهذا أطلق عليه لفظ "التكليف" وهو في اللغة يقتضي المشقة، إذ تقول العرب: كلفته تكليفًا، إذا حمّلته أمر يشق عليه وأمرته به[9] قال الشاطبي[10]: ".. فمثل هذا يسمى مشقة بهذا الاعتبار؛ لأنه إلقاء بالمقاليد، ودخول في أعمال زائدة على ما اقتضته الحياة الدنيا".
وهذا الوجه ليس محلاً لهذا البحث أيضًا، لأن هذا النوع من المشاق لم يدرأه الشارع، ولا تنفك عنه العبادة غالبًا، والتكليف بالمطالب الشرعية مع وجود هذا الوجه واقع فعلاً، فلا يكون له أثر في التخفيف وإسقاط التكاليف الشرعية.
يقول العز بن عبد السلام [11]ن هذا الوجه: (هذه المشاق كلها لا أثر لها في إسقاط العبادات والطاعات، ولا في تخفيفها، لأنها لو أثرت لفاتت مصالح العبادات والطاعات في جميع الأوقات، أو في غالب الأوقات، ولفات ما رتب عليها من المثوبات والباقيات". وقال ابن القيم[12]: "إن كانت المشقة مشقة تعب، فمصالح الدنيا والآخرة منوطة بالتعب، ولا راحة لمن لا تعب له، بل على قدر التعب تكون الراحة".(/1)
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ هذه المشقة المعتادة تختلف باختلاف الأعمال فليس المشقة في الصلاة – مثلاً – كالمشقة في الصيام أو الحج أو الجهاد، ولكن كما قرر الإمام الشاطبي في الموافقات[13] أنّ "كل عمل في نفسه له مشقة معتادة فيه توازي مشقة مثله من الأعمال العادية، فلم تخرج عن المعتاد إلى الجملة".
وكما تختلف المشاق العادية باختلاف الأعمال؛ فإنها تختلف بالأزمان والأمكنة والأحوال، فإسباغ الوضوء في السبرات[14] غيره في الزمان الحار، وليس القيام إلى الصلاة من النوم مع قصر الليل أو لشدة البرد، كالقيام لها في غير هذين الحالين[15]"
ومحل الفائدة من هذه الإشارة: تحقيق أنّ المشقة نسبية يحتاج فهمها إلى دقة نظر بالنسبة لكل عمر في ذاته، وإلاّ اختلطت على الناظر أنواع المشاق، فتختلط الأحكام المترتبة عليها، وهو أمر في غاية الأهمية يقول الشاطبي في الموافقات[16]: "المشقة قد تبلغ في الأعمال المعتادة ما يظن أنّه غير معتاد، ولكنه في الحقيقة معتاد، ومشقته في مثلها مما يعتاد.. وإذا لم تخرج عن المعتاد لم يكن للشارع قصد في رفعها".
الوجه الثالث: إطلاق المشقة على المقدور عليه الخارج عن المضاد في الأعمال العادية بحيث يشوش على النفوس في تصرفها لما فيه من مشقة وهذا هو محط البحث.
والمشقة الحاصلة في هذا النوع قسمان:
قسم يتعلق بأعيان الأفعال المكلف بها، بحيث إذا وقت مرة واحدة وجدت فيها المشقة غير المعتادة. وهذا النوع الذي شرعت له الرخص كالصوم في المرض والسفر.
والقسم الثاني لا يختص بأعيان الأفعال، ولكن تلحق المشقة العامل بتلك الأعمال بالمداومة عليها، ويحصل له من المشقة ما يحصل في القسم الأول، وهذا القسم شرع فيه الرفق، والأخذ من العمل بما لا يحصل مللاً، وترك مالا تطيقه النفس، مما يدخل في التنطع والتكلف.
وإذا كان هذا النوع بقسمه هو محل البحث، فما هو تعريف هذا النوع من المشقة التي يراد درؤها في الاصطلاح؟ لم أجد تعريفًا للمشقة منصوصًا عليه – حسب اطلاعي – والسبب في ذلك – في نظري – اختلاف مراتب العبادات والمعاملات في نظر الشرع مما يتبعه الاختلاف في ضبط المشاق الجالبة للتيسير، يقول العز بن عبد السلام في قواعده[17]: "وتختلف المشاق باختلاف العبادات في اهتمام الشرع، فما اشتد اهتمامه به شرط في تخفيفه المشاق الشديدة العامة، وما لم يهتم به خففه بالمشاق الخفيفة، وقد تخفف مشاقه مع شرفه وعلو مرتبته لتكرر مشاقه كيلا يؤدي إلى المشاق العامة الكثيرة الوقوع". ثم قال: "ومن المشكل ضبط المشقة المقتضية للتخفيف كالمرض في الصوم، فأنه إن ضبط بالمشقة فالمشقة نفسها غير مضبوطة، وإن ضبط بما يساوي مشقة الأسفار فذلك غير محدود "قال" ومن ضبط ذلك بأقل ما ينطبق عليه الاسم كأهل الظاهر خلص من هذا الإشكال" ومع ما ذكرته فإن مجمل ما ذكره الإمام الشاطبي في الموافقات[18] في مواضع مختلفة منه يمكن أن نستخلص منه تعريفًا للمشقة التي تقتضي التخفيف بما يقرب معناها فهي: "العسر المتعلق بأعيان الأفعال المكلف بها أو بالمداومة عليها والتي يكشف العرف أو الفحص لإلحاقه بنظائره أنه خارج عن المعتاد".
وقد قيدت التعلق بأعيان الأفعال أو المداومة عليها، ليشمل التعريف ما سبق ذكره من قسمي المشقة غير المعتادة، فأوهنا للتنويع في الموضعين من التعريف، فلا تكون مفسدة له.
ووصف الأعيان بأنها مكلف بها ليخرج الوجه الأول من المشاق الداخلية فيما لا يطاق إذا لم يقع التكليف بها كما سبق بيانه.
وكون الكشف عن خروج العسر عن المعتاد يكون بالعرف أو بالفحص للإلحاق بنظائره، فذلك يشمل وجهتي نظر العلماء في ضابط المشقة غير المعتادة، لأنه ما يفهم من كلام الشاطبي [19]ي الموافقات أن العرف كاف في ضبط هذه المشاق فقد ذكر في المسألة الحادية عشر – في سياق الحديث عن المشقة الجالبة للتيسير".. حيث تكون المشقة الواقعة على المكلف خارجة عن معتاد المشقات في الأعمال العادية حتى يحصل بها فساد ديني أو دنيوي مقصود الشارع فيها الرفع على الجملة" فالقياس إذن معتاد المشقات في الأعمال العادية، وضابط ذلك إنما يكون العادة والعرف.
وما يفهم من أستشكال ابن عبد السلام السابق الذكر[20]، وكلام القرافي في فروقه[21] وفي الذخيرة[22] وما قرره الزركشي[23]: يفهم مما ذكره هؤلاء أن العرف لا يصلح ضابطًا للمشقة، واستحسنوا أن يعرف الضابط عن طريق فحص الفقيه عن أدنى مشاق الفعل المعين المحقق بنص أو إجماع أو استدلال، ثم ما ورد عليه مشاق لم يرد الشرع بتحديدها بتعين تقريبها بما يساويها أو كان أعلى منها مما يثبت بدليل شرعي، وما كان أدنى مما اعتبره الدليل لا يكون جالبًا للتيسير.
فالضابط هنا إنما يتضح عن طريق الفحص لا بواسطة العرف. وقيد (خارج عن المعتاد) أي فيما يكون زائدًا عن تحمل الإنسان عادة، ومقيدًا على النفوس تصرفاتها، معطلاً للأعمال غالبًا عند تداخلها.. وبهذا القيد يخرج الوجه الثاني من المشقة المعتادة.(/2)
المقصد الثاني: أدلة رفع المشقة غير المعتادة
بعد تحديد المشقة التي قصد الشارع إلى رفعها – وهي المشقة غير المعتادة – وبيان تعريفها والإشارة إلى وجهة نظر العلماء في ضابطها – نورد الأدلة على رفعها من الكتاب، والسنة، والأصول العامة المقطوع بها، والمبادئ الأساسية للشريعة الإسلامية التي أقرت اليسر والتسهيل حتى أصبح ذلك خاصية من خصائص الشريعة الإسلامية.
أولاً: الأدلة من القرآن الكريم:
ونقتصر منها على ما يلي:
أ. بيان أن اليسر من مقاصد التشريع:
وذلك في قوله تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) البقرة (185) وذلك في سياق الكلام عن الترخيص للصائم بالفطر مريضًا كان أو مسافرًا.
ب. نفي التكليف بما خرج عن الوسع:
ومنه قوله تعالى: (لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها) البقرة (286) إلى قوله تعالى: (ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا) وتمام الدليل في إجابة هذا الدعاء الوارد في الآية بما رواه مسلم في صحيحه [24]فيه (قال الله تعالى: قد فعلت).
ج. التخفيف مراعاة لضعف المكلف من مقاصد التشريع:
ومن أدلة ذلك قوله تعالى: (يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفًا) النساء (28) وقوله تعالى: (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج) المائدة (6) وذلك في سياق بيان رخصة التيمم عند فقدان الماء أو المرض سواء في الوضوء أو الغسل، بل جعل ذلك من تمام النعمة على العباد المستحقة للشكر (.. وليتم نعمته عليكم ولعلكم تشكرون) المائدة (6).
ثانيًا: الاستدلال بالسنة على دفع المشقة:
تسمية الدين بالحنيفية السمحة، قال الشاطبي[25]: "وقد سُمي هذا الدين بالحنيفية لما فيها من التسهيل والتيسير"، من ذلك ما رواه الإمام أحمد [26]فيه: (.. إني أرسلت بحنيفية سمحة).
منهج النبي صلى الله عليه وسلم في اختيار الأيسر ما لم يكن إثمًا. ودليل ذلك ما رواه البخاري [27]ن حديث عائشة – رضي الله عنها – (ما خُير بين أمرين إلاّ اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا) وقولها: (ما لم يكن إثمًا فإن كان إثمًا كان أبعد الناس عنه) "ينادي بأن المخير له غير الله من المخلوقين، إذ لا يصح أن يقع من الله تخيير بين اثم وغيره[28]. وإذا ثبت أن التخيير من غير الله كان المراد به التخيير بين أمرين من أمور الدنيا.
والحديث ظاهر في إرادة التيسير، أما ترك ما فيه إثم فلا مشقة فيه من حيثية كونه تركًا، قال الشاطبي[29]"ولو كان قاصدًا للمشقة لما كان مريدًا لليسر ولا للتخفيف، ولكان مريدًا للحرج والعسر وذلك باطل".
ترغيب النبي صلى الله عليه وسلم في إتيان الرخص المشروعة وذلك في ما رواه الإمام أحمد في مسنده[30]، (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما تؤتى عزائمه).
وصف النبي صلى الله عليه وسلم للدين باليسر وأمره بالإيغال فيه برفق، ودليل ذلك ما رواه البخاري في صحيحه[31]من قوله صلى الله عليه وسلم (إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحدٌ إلاّ غلبه، فسددوا[32] وقاربوا[33]) وهذا دليل على طلب اليسر وعدم الغلو وهو شامل للدين كله من عبادات، ومعاملات وفتوى، ودعوة لله تعالى، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وليس أدل على ذلك أن طلب اليسر كان وصيته صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري – رضي الله عنهما – حين بعثهما إلى اليمن فقال لهما: "يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا[34].
وقال صلى الله عليه وسلم للصحابة في حادثة الأعرابي الذي بال في المسجد – وهو أمر متعلق بتغيير المنكر – "إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين".[35]
ثالثًا: الدليل الثالث الإجماع:
فالأمة مجمعة على عدم وقوع المشقة غير المألوفة في التكاليف الشرعية. قال الشاطبي[36]– بعد حكايته للإجماع – "وهو يدل على عدم قصد الشارع إليه".
رابعًا: الدليل الرابع الاستقراء:
وهو دليل اعتمده الإمام الشاطبي[37]، وزبدة كلامة، أن تتبع الأحكام الشرعية دل على درء المشاق غير المعتادة في عدة جزئيات متفرقة في جمع أبواب الفقه، من ثبوت مشروعية الرخص قطعًا، وتناول المحرمات في الاضطرار، والنطق بكلمة الكفر عند مشقة الإكراه مع اطمئنان القلب، والعفو في الصيام عما يشق الاحتراز من المفطرات كغبار الدقيق، إلى جزئيات كثيرة يحصل من مجموعها القطع بأن من مقاصد التشريع درء المشاق غير المعتادة.
وللإمام الشاطبي نظرة ثاقبة حين عد هذا النوع من الاستقراء بمثابة التواتر المعنوي قال رحمه الله عند كلامه عن العموم "فإنا نحكم بمطلق رفع الحرج في الأبواب كلها عملاً بالاستقراء، فلأنه عموم لفظي، فإذا ثبت اعتبار التواتر المعنوي ثبت في ضمنه ما نحن فيه" [38](/3)
والذي يظهر لي: أنه إنّما قال: "ثبت في ضمنه" ولم يقل: ثبت بالتواتر المعنوي، لأنه ليس تواترًا معنويًا بالاصطلاح المعروف – كجود حاتم مثلاً – لأن ذلك وصف جزئي وهو كرم حاتم، فكل جزئية من أفعال كرمه تعود على هذا الوصف مباشرة بالإثبات، وهذا بخلاف إثبات الكلي باستقراء الجزئيات فإنها تتضمن المعنى العام الكلي من جزئيات مختلفة في مواضع مختلفة.
خامسًا: الدليل الخامس الدليل العقلي على درء المشاق في التشريع الإسلامي:
الدليل العقلي بما قرره العز بن عبد السلام[39]من أن العبد إنما يقوم بالأعمال تقربًا لله تعالى وتعظيمًا له جل وعلا، وليس في طلب عين المشاق توقيرًا ولا تعظيمًا، فلا تكون مطلوبة، يقول – رحمه الله – لا يصح التقرب بالمشاق، لأن القرب كلها تعظيم للرب سبحانه وتعالى، وليس في عين المشاق تعيظمًا ولا توقيرًا". وإذا لم تكون المشقة مقصودة فإن درأها يكون مقصودًا في التشريع إذا أخلت بأداء التكليف لخروجها عن المعتاد إذ لا يبقى حينها إلا ذات المشقة وهي غير مرادة.
ما قرره الشاطبي في الموافقات إذ بيّن أن وقوع المشقة غير المعتاد في التكليف يلزم منه التناقض في الشريعة وذلك منفي عنها، قال – رحمه الله – ".. فإنه إذا كان وضع الشريعة على قصد الإعنات والمشقة، وقد ثبت أنها موضوعة على قصد الرفق والتسير، كان الجمع بينهما تناقضًا واختلافًا، فهي منزعة عن ذلك.
ونخلص مما قرره العز بن عبد السلام والإمام الشاطبي أنّ الدليل الفعلي لدرء المشقة يتلخص في أمرين:
(1) إن الأعمال يقصد طلبًا للقربة، وطلب المشقة لذاتها لا قربة فيه.
(2) إن القول بوقوع المشقة غير المعتادة في التكليف يلزم منه التناقض والشريعة منزهة عنه.
المقصد الثالث: حكمة درء المشاق غير العادية
تتلخص حكمة درء المشاق غير العادية فيما يلي:
1/ مراعاة ضعف المُكَلَّفْ وتحبيب العبادة إليه:
لما كان التشريع من عند الله تعالى وهو الخبير بخلقه، اقتضت حكمته سبحانه وتعالى أن يتناسب التشريع مع صفات ذلك المخلوق الضعيف رحمة به، حتى تتجلى حكمته في تحبيب الطاعة في قلب المؤمن (حبّب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم) الحجرات (7) وتلك طبيعة الرسالة الخاتمة الشاملة.
وللإمام الشاطبي – رحمه الله – عبارة رشيقة جاءت عند كلامه عن الأوامر والنواهي[40] نسوق بعضها فنقرأ قوله: "لما كان المكلف ضعيفًا في نفسه، ضعيفًا في عزمه، ضعيفًا في صبره، عزره ربه الذي علمه كذلك وخلقه عليه، فجعل له من جهة ضعفه رفقًا يستند إليه في الدخول في الأعمال، وأدخل في قلبه حب الطاعة قواه عليها.. فإذا دخل العبد في حب الخير انفتح له يسر المشقة وصار الثقيل عليه ضعيفًا، فتوخى مطلق الأمر بالعبادة بقوله (وتبتل إليه تبتيلاً) المزمل (8) و(وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون) الذاريات (56).
ويؤكد هذا المعنى قول ابن القيم[41]– رحمه الله – في سياق كلامه عن سماحة الشريعة: "ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده ورحمته لخلقه".
2/ خوف الانقطاع عن التكليف أو بغضه:
وذلك أن المشقة غير المعتادة إذا أدخلت الفساد على جسم الإنسان أو عقله أو ماله أو حاله؛ فإنها تؤدي إلى انقطاعه عن التكاليف أو عدم تجويد أدائه، وربما أدت إلى بغضه إذا ضعفت النفس وتغلب الهوى نتيجة الابتلاء بمصاحبة التكليف للمشاق غير العادية، يقول الشاطبي[42]: "ويدخل هذا الخوف – أي من انقطاع التكليف – من إدخال الفساد على المكلف في جسمه أو عقله أو ماله أو حاله".
3/ الخوف من التقصير عند مزاحمة التكاليف المتعلقة بالمكلف:
إذا وجدت المشاق غير العادية وتزاحمت التكاليف على المكلف كقيامه على أهله مع تكاليف أخرى تتسم بالمشقة غير العادية فإن ذلك ربما قطعه عن بعض التكاليف الأخرى، ويسوقه ذلك إلى التقصير في بعض التكاليف على حساب بعضها فيستق اللوم، بأنه مطالب بالقيام بجميع التكاليف وتجويدها لا أداء بعضها دون البعض، أو تجويد أداء بعضها على حساب البعض الآخر.[43]
المقصد الرابع: درأ المشقة بين مقاصد التشريع والقواعد الفقهية
نعني بهذا المقصد الإجابة على سؤال مهم يتلخص فيما يلي:
إذا ثبت بالأدلة أن درء المشاق غير العادية مقصد من مقاصد التشريع، وبانت حكمته، فثمة مسألة تعرض في هذا لمقام وهي: أن هذا المقصد قاعدة فقهية يعبر عنها بقولهم (المشقة تجلب التيسير) والقواعد الفقهية لا تصلح أن تكون دليلاً فكيف نوفق بين كونها مقصدًا شرعيًا، وبين كونها قاعدة فقهية لا تصلح أن تكون دليلاً.
وهو مقام يحتاج لتحرير القول فيه لما ورد من كلام العلماء من عدم الاحتجاج بالقواعد الفقهية، وما نحن بصدده قاعدة فقهية بجانب كونه مقصدًا شرعيًا.(/4)
وفي التقرير الذي صدرت به مجلة الأحكام العدلية[44] قال العلماء المحررين لها: "فحكام الشرع لم يقفوا على نقل صريح لا يحكمون بمجرد الاستناد إلى واحدة من هذه القواعد إلا أن لها فائدة كلية في ضبط المسائل...".
وقال بن نجيم[45]– رحمه الله – "لا تجوز الفتوى بما تقتضيه الضوابط لأنها ليست كلية بل أغلبية، خصوصًا وهي لم تثبت على الإمام بل استخرجها المشايخ من كلامه".
أكد هذا المعنى الأستاذ الزرقا في المدخل العام[46]إذ يقول: "القاعدة لا تكون مطردة إذ تصور الفكرة الفقهية التي تعبر عن المنهاج القياسي العام في حلول القضايا وترتيب أحكامها والقياس كثيرًا ما ينحزم ويعدل عنه في بعض المسائل إلى حلول استثنائية استحسانية لمقتضيات خاصة بتلك المسائل، تجعل الحكم الاستثنائي أحسن وأقرب إلى مقاصد الشريعة في تحقيق العدالة..". ولهذا لم تسوغ المجلة أن يقتصر القضاة في أحكامهم على الاستثناء إلى شيء من هذه القواعد الكلية فقط دون نص آخر خاص أو عام يشمل بعمومه الحادثة المقضي فيها.. فالقواعد الفقهية على ما لها من قيمة واعتبار هي كثيرة المستثنيات فهي دساتير للتفقيه لا قوانين للقضاء"
فهذه النقول وأمثالها تفيد – أنه لا يسوغ اعتبار القواعد الفقهية أدلة شرعية لاستنباط الأحكام لسببين:
الأول:
إن هذه القواعد ثمرة للفروع المختلفة وجامع ورابط لها، وليس من المعقول أن تجعل ما هو ثمرة وجامع دليلاً لاستنباط أحكام الفروع لاتي هي أصله.
الثاني:
أن معظم هذه القواعد لا يخلو من المستثنيات، فقد تكون المسألة المبحوث عن حكمها من المسائل والفروع المستثناة، ولهذا لا يجوز بناء الحكم على أساس هذه القواعد، ولكنها تعتبر شواهد مصاحبة ليستأنس بها في تخريج الأحكام للقواعد الجديدة قياسًا على المسائل الفقهية المدونة.
والذي يظهر لي من استقراء القواعد الفقهية أنّ اللائق بقولهم عدم حمله على إطلاقه من عدم الاستدلال بالقواعد الفقهية، لأنّ هذه القواعد تختلف من حيث أصولها ومصادرها أولاً، ثم من حيث وجود الدليل على حكم المسألة المبحوث عنها ثانيًا.
فمن حيث أصول القواعد ومصادرها، فمن القواعد ما كان أصله من كتاب أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وليست مستخرجة من الفروع الفقهية فحسب، أو تكون القاعدة نفسها نصًا من السنة، فهي قبل أن تكون قاعدة جرت على ألسنة الفقهاء دليل شرعي، وكونها أصبحت قاعدة فقهية لا يخرجها عن كونها دليلاً شرعيًا، فنحو (لا ضرر ولا ضرار)[47] وقاعدة (البينة على من ادّعى واليمين على من أنكر)[48] ونحوهما فهذه القواعد أدلة شرعية قبل أن تكون قواعد مرعية.
ونخلص من هنا أن القواعد ثلاثة أنواع:
( أ) ما يستخرج من الفروع الفقهية ويكون ثمرة لها.
( ب) ما يستند على أدلة شرعية واضحة وينبني عليها، كقاعدة (المشقة تجلب التيسير).
( ج) ما يكون دليلاً شرعيًا في نفسه نحو (لا ضرر ولا ضرار) فالنوع الثالث دليل بنفسه وهو ظاهر، والنوع الثاني يشبه الأدلة في قوتها لقوة الأدلة التي أنبنى عليها. ولهذا فإنّ كلامهم عن عدم اعتبار القواعد أدلة إنّما يُنَزّل على النوع الأول وهو يمثل أغلب القواعد الفقهية.
ونخلص من هذا المقصد بأن القول بعدم اعتبار القواعد أدلة شرعية لا يضر فيما نحن بصدده من تقرير أن درء المشقة مقصد شرعي اصيل يتوجب على المجتهد مراعاته واصطحابه عند كل فتوى أو حكم شرعي.
المقصد الخامس: درجات المشقة وضوابطها
(1) درجات المشقة:
اتفقت عبارات الفقهاء الذي ألفوا في قواعد الفقه – كالعز بن عبد السلام[49]، والقرافي[50]، والزركشي[51]، والسيوطي[52]، وابن نجيم[53]، على أن التكليف تصاحبه غالبًا أنواع ثلاثة من المشاق:
الأول:
مشقة عظيمة فادحة – كمشقة الخوف على النفس أو الأعضاء أو منافعها – قال القرافي[54]: "فيعفى عنها إجماعًا" فهي توجب التخفيف والترخيص للنّاس قطعًا، لأن المحافظة على النفوس والأعضاء للقيام بمصالح الدجنيا والآخرة أولى من تعريضها للضرر، فإذا قمنا بهذه العبادة مع وجود تلك المشقة لأجل ثوابها، لأدى ذلك لفوات غيرها، فإذا لم يكن للحج طريق إلا البحر وكان حينئذ الغالب فيه عدم سلامة الوصول فلا يجب الحج.
الثاني:
مشقة ضعيفة – كالوجع البسيط المحتمل في الأصبع، أو الصداع الخفيف في الرأس – فهذه المشقة لا تأثير لها ولا التفات إليها، لأنّ تحصيل مصالح العبادة أولى من دفع مثلها مما لا يؤبه له عادة لأهمية هذه العبادة وشرفها، وخفة هذه المشقة ويسرها.
الثالث:(/5)
مشقة متوسطة بين المرتبتين: وضابطها أنّها إن اقتربت من النوع الأول أوجبت التخفيف، وإن اقتربت من النوع الثاني كوجع الأصبع اليسير لم توجب التخفيف، وهذا التخفيف الذي يراعى وفقًا فهذه الدرجات قد يكون إسقاطًا كإسقاط الجمعة والحج بأعذار سقوطها، وقد يكون تنقيصًا كالقصر أو إبدالاً كالتيمم عند تحقيق شروطه، أو تقديمًا أو تأخيرًا كما في جمع الصلوات المشتركة في الوقت بشروطها، وقد يكون ترخيصًا كأكل الميتة للمضطر، وقد تكون تغييرًا كصلاة الخوف.
(2) ضوابط المشقة وشروط اعتبارها:
سبقت الإشارة عند تعريف المشقة الجالبة لليسر لوجهتي نظر العلماء في ضابط المشقة:
فالفريق الأول:
اعتمد العادة ضابطًا في تحديد المشقة الجالبة للتيسير وهو ما يفهم من كلام الشاطبي في الموافقات[55].
والرأي الثاني:
استشكل اعتماد العرف ضابطًا للمشقة كالعز بن عبد السلام[56]، والقرافي،[57]الزركشي[58]، وذلك لأمرين:
الأول:
اختلاف المشقة باختلاف أعذارها: كمشقة الصوم غير مشقة الصلاة قال الزركشي[59]: ".. ففي التيمم يعدل عن الماء إذا خاف إتلاف منفعة عضو أو بطء البرء أو شيئًا فاحشًا في عضو ظاهر، وفي القيام إلى الصلاة لا يشترط فيه الضرورة ولا يكفي مجرد الاسم، والمعتبر ألم يلهي عن الخشوع في العبادة، ومشقة الصوم لا يشترط فيها الهلاك والضابط أن يتضرر في الصوم تضررًا يمنعه من التصرف في المآرب".
الثاني:
اختلاف المشقة باختلاف رتب العباداتك فقد بين العز بن عبد السلام[60]أن المشاق تختلف باختلاف رتب العبادات ".. فما كان في نظر الشرع أهم اشترط في إسقاطه أهم المشاق وأعمها، فإن العموم بكثرته يقوم مقام العظم، كما سقط التطهر من الخبث في الصلاة التي هي أفضل العبادات بسبب التكرار، وما لم تعظم رتبته في نظر الشرع تؤثر فيه المشاق الخفيفة" وفي المعاملات اكتفى الشرع بمجرد الاسم كشروط السلم في سائر الأوصاف، وأنواع الحرف يقتصر على مسماه دون مرتبة معينة منها.
وقد عدلوا عن العرف إلى تقرير ضبط المشقة بتقريبها بقواعد الشرع، قال القرافي[61]: معللاً لاعتبار التقريب بقواعد الشرع ضابطًا للمشقة ".. لأن التقريب خير من التعطيل لما اعتبره الشارع، فنقول على الفقيه أن يفحص عن أدنى مشاق تلك العبادة المعينة فيحققه بنص أو إجماع أو استدلال، ثم ما ورد عليه بعد ذلك من المشاق مثل تلك المشقة أو أعلى جعله مسقطًا، وإن كان أدنى لم يجعله" ومَثَّل لذلك بقوله: "مثاله التأذي بالقمل في الحج مبيح للحلق بحديث كعب[62]فأي مرض أذى مثله أو أعلى منه أباح وإلاّ فلا، والسفر مبيح للفطر بالنص، فيعتبر به غيره من المشاق".
فهذا هو منهجهم وهو التقريب بقواعد الشرع.
والذي يظهر لي – والله أعلم – أن هذا الضابط الذي ارتضوه ليس أقوى من اعتماد العرف – الذي ارتضاه الإمام الشاطبي – في كل الحالات لا سيما وأن برر الاستشكال في عدم اعتبار العرف من اختلاف رتب العبادات، واختلاف الأعذار، فتختلف المشقة تبعًا لاختلافهما، لا يتحقق في بعض الحالات في كثير من المعاملات وقد سبق النقل عن القرافي وعن العز بن عبد السلام بأن المعاملات اكتفى فيها الشرع بمجرد الاسم، وفي الحرف يقتصر على مسماها دون مرتبة معينة.
فعلى القول باعتبار التقريب بقواعد الشرع ضابطًا، لا ينبغي رد العرف فيما تعتبر فيه العادة لا سيما في المعاملات والحرف ونحو ذلك، فرد العرف مطلقًا فيه نظر لأننا إذا رددناه لعدم ضبطه، فمثل ذلك يجري على التقريب بضوابط الشرع فما الذي يضبط المشقة الحاصلة من السفر، فهي مضطربة مختلفة باختلاف المكلفين وأحوالهم، وما ضابط الأذى الموجب للحلق، فيما يجري على العرف يجري على ما ارتضوه ضابطًا، وإذا كان الأمر يرجع إلى المجتهد في تقرير الفحص بقواعد الشرع وضبطه باجتهاده، فلم لا يرجع ضبط العرف إلى اجتهاد المجتهد وضبطه بالنظر والاجتهاد لتقرير المسألة محل البحث؟.
وقد أوضح القرافي[63] بعد أستشكاله للعرف فقال: "إن الفقهاء يحيلون على العرف عند سؤالهم مع أنّهم من أهل العرف، فلو كان هناك عرف قائم لوجوده معلومًا لهم أو معروفًا ولا تصح الإحالة على غير الفقهاء؛ لأنه ليس بعد الفقهاء من أهل العرف إلاّ العوام، وهم مما لا يصح تقليدهم في الدين".
وهذا الكلام لا يخلو من نظر، وقد تعقبه الشخ محمد رشيد رضا في تفسيره المنار[64] بما يكفي فقال: "وما استشكله من نوط ما لم يرد في الشرع بالعرف نظر ظاهر، فإن العلماء الذي ناطوا بعض المسائل بالعرف إنّما ذلك وقع منهم أفذاذًا أثناء البحث أو التصنيف، ويجوز أن يجهل كل فرد منهم العرف العام في كثير من المسائل، وما اجتمع علماء مصر أو قطر للبحث عن عرف الناس في أمر ومحاولة ضبطه وتحديده ثم عجزوا عن معرفته وأحالوا ذلك على العامة. فالرجوع إلى العرف فيما يشق على الناس، وما لا يشق عليهم لا بد منه، وهو لا يعرف إلاّ بمباشرة الناس وتعرّف شؤونهم وأحوالهم".(/6)
وخلاصة القول، أن كلا الضابطين صالح في مجاله لتحديد المشقة الجالبة للتيسير فما سهل سبيله منهما ضابطًا للمشقة في نظر المجتهد في المسألة المعينة بالبحث، وقوى مدركة منهما قدم على غيره، والله أعلم.
(3) عدم تلازم المشقة والتكليف:
إذا اعتبرنا التقريب بقواعد الشرع والعرف ضابطين – على ما سبق ترجيحه – فإن الضابط الثالث هو عدم تلازم المشقة والتكليف، وذلك لأنّ المشقة إذا كانت ملازمة للتكليف ولا تنفك عنه كالصوم في النهار الأطول أو الحار، والمخاطرة بالنفوس في الجهاد، ونحو ذلك، فهذه المشاق لا توجب تخفيفًا في العبادة، لأنها قررت معها، وهذه المشقة وإن خرجت عن المعتاد بالنظر لغيرها من مشاق العبادات، فهي معتادة في مثلها من الأعمال العادية التي يقوم الناس بها وتقتضي التضحية بنفوسهم فهي بهذا الاعتبار ليست خارجة عن الاعتياد، كما أنها غير مقصودة للشارع بذاتها بل من جهة ما في ذلك من المصالح العائدة للمكلف، لأن في اعتبارها ترك للعبادة – كالجهاد مثلاً – ينجم عنه من الضرر ما يفوق الضرر الحاصل من تلك المشقة المصاحبة للجهاد، ولهذا لم تعتبر[65].
(4) أن تكون المشقة في نازلة عامة في الناس:
هذا الضابط اعتبره بعض العلماء، وهو محل نزاع، قال ابن العربي[66]: "إذا كان الحرج في نازلة عامة في الناس فإنه يسقط وإذا كان خاصًا لم يعتبر عندنا، وفي بعض أصول الشافعي اعتباره.."
وقد تعقبه الشاطبي في الموافقات[67]بما حاصله:
أن الخاص إن أريد به أعلى مراتب المعتاد فلا يعتبر، ولا ينبغي أن يختلف فيه، إذ المعتاد لا إسقاط فيه، وإن وقع خلاف فإنما هو في تحقيق كونه من المعتاد أم لا.
ومن ناحية أخرى: فإن الخاص بكل اعتبار عام غير خاص، إذ لا يكون مختصًا ببعض المكلفين على التعيين دون بعض.
ومن ناحية ثالثة فإن من المشاق ما هو خاص وشرع فيه التخفيف، فالمرض ليس بعام بمعنى أنه لا يسوغ التخفيف في كل مرض، وهو يخص كل واحد من المكلفين في نفسه، ولكن يمكن أن يعتبر عامًا عند تقييده بما يحصل فيه الحرج غير المعتاد فيرجع إلى القسم العام، وكذلك القول في أمثاله، وبذلك يصعب تمثيل الخاص.
وأما رابعًا:
فإن التشريع لا يكون لشخص بعينه أو لقوم مخصوصين فهذا غير متصور في الشريعة، إلاّ اختص به النبي صلى الله عليه وسلم أو خصّ به أحدًا من أصحابه كشهادة خزيمة، وهذا يكون مختصًا بزماان النبوة.
وأطال الشاطبي في تقرير ذلك وما ذُكِر فيه الكفاية لرد هذا الضابط والله أعلم.
(5) عدم تعارض اعتبار المشقة مع النصوص الشرعية:
المشقة إنما تدرأ في موضع لا نص فيه، وأما مع معارضة النص فلا تدرأ، وقد مثل ابن عابدين[68] لذلك بقول أبي حنيفة ومحمد – رحمهما الله – بحرمة رعي حشيش الحرم المكي أو قطعه سوى الإذخر، وذلك لورود النص فيه فمثل ذلك وإن كان فيه مشقة وعمت به البلوى، فلا يعفى عنه، ولا تجلب مشقته التيسير.
ومن أمثلة ذلك في عصرنا – ما سُمي في الغرب بموت الرحمة – وهو طلب المريض قتله لما يصيبه من مشقة غير معتادة لمرض مزمن يعجز الطب عن علاجه، فمثل هذه المشقة لا تدرأ بقتل المريض لمخالفة ذلك النصوص والقواعد الشرعية الداعية لحفظ النفس واعتبارها من الكليات الأساسية وتحريم قتلها بغير حق الثابت بالأدلة القاطعة.
(6) ألاّ يكون وقوع المشقة نادرًا:
فالمشقة التي يراعى فيها الا تكون نادرة الوقوع فإن كانت كذلك فإنها لا تراعي قال الزركشي[69]".. إذا كانت المشقة وقوعًا عامًا فلو كان نادرًا لم تراع المشقة فيه". قال: "ولهذا تتوضأ المستحاضة لكل فريضة لوقوعها نادرًا، ولو نسي أربع صلوات من صلوات أربع أيام فلم يعلم أنها متفقة أو مختلفة، فإنه يحتاج لصلاة عشرين صلاة ليسقط الفرض بيقين وإن كان في ذلك مشقة عليه". وذلك لأن وقوع مثل هذه المسألة نادر الحدوث.
(7) ألاّ تكون المشقة غير المعتادة في فعل يعسر اجتنابه[70]:
فإن كان المشقة العظيمة في فعل لا يعسر اجتنابه، فهذا لا تدرأ مشقته وإن عظمت؛ لأن اجتنابه ميسور، ومثّل له العز بن عبد السلام ببيع الأعيان الغائبة، فهذا لا يعفى عنه.
أما كان مما يعسر اجتنابه ولأن من تحمله كبيع البيض في قشره والرمان والبطيخ، والنظر إلى أساس الدار، فهذا ونحوه لا يشترط درأه لما يصاحبه من مشقة غير معتادة.. وبالجملة فإن معرفة ضوابط المشاق وشروط درئها يرجع إلى اجتهاد الفقيه، وهو لا يكاد يصيب الحقيقة إلاّ أن ينظر إلى مقام الفعل المكلف به وأهميته في نفسه، ثم إلى مقدار العسر والضرر الذي يلحق المكلف من الدخول فيه والنظر فيما إذا كان الدوام عليه يؤدي إلى انقطاعه عنه، أو عن بعضه، أو وقوع خلل في صاحبه أو في حاله أو حال من أحواله مستصحبًا للشروط والضوابط المذكورة تجنبًا للزلل في الحكم للإضراب الحاصل في حقيقة المشقة.
المقصد السادس: المشاق المصاحبة للتكليف لا تقصر لذاتها
هذا المقصد وهو الأخير في البحث تكملة لموضوع البحث وصلته به أنّ المشاق:(/7)
- منها ما يدرأ، وهو المشقة غير المعتادة.
- ومنها ما لا يدرأ، وهو ما كان ملازمًا للعبادة بحيث لا ينفك عنها كالمخاطرة بالنفوس في الجهاد، أو كانت مشقته معتادة.
والقسمان الأخيران مما لا تدرأ مشقته لا يقصد لذاته بل من جهة ما في ذلك من المصالح العائدة على المكلف.
وحصيلة المقاصد السابقة أن المشقة غير العادية تدرأ في التشريع الإسلامي، ومحصلة هذا المقصد أن ما لا يدرأ من المشاق لا يكون مقصودًا لذاته وبالأولى ما كان حقه أن يدرأ منها، وقد أورد الشاطبي[71]، والعز بن عبد السلام[72]أدلة عدم قصد المشقة في التشريع الإسلامي، وأورد الاعتراضات الواردة عليها وأجابا عنها، وصفوة ما حرراه:
(1) إن موارد الشرع ومصادره ناطقة بأن مطلوب الشرع إنما هو مصلحة العباد، وليست المشقة مصلحة، ولا تلازم بين قصد المشقة وقصد التكليف من جهة كونه مصلحة للمكلف عاجلاً أو آجلاً، بل هو بمثابة أمر الطبيب باستعمال الدواء المر، وليس غرضه إلا الشفاء، وقطعه لليد المتآكلة وليس مقصده إلا حفظ مهجته فلا يشكل على هذا استلزام التكليف للمشقة.
(2) إن حصول الثواب على المشقة لا يستلزم قصدها؛ لأن الثواب حاصل من حيث كانت المشقة لابد من وقوعها، وبها حصل العمل المكلف به، فرتب الشارع عليها أجرًا زائدًا على أجر إيقاع المكلف به، ولهذا يحصل الثواب بسبب المشاق وإن لم تتسبب عن العمل المطلوب كما يكفر عن السيئات بسبب لحوق المصائب والمشاق بدليل حديث عائشة رضي الله عنها[73]: (ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله به من سيئاته).
وقد قرر العز بن عبد السلام[74]أن الثواب على الصبر والرضا على المصائب وليس عليها لذاتها فقال: " ظن بعض الجهلة أن المصاب مأجور وهو خطأ صريح؛ فإن الثواب والعقاب إنما هو بالكسب، والمصائب ليست منها، بل الأجر على الصبر والرضا".
وتعقبه ابن حجر في فتح الباري[75]بأن الأحاديث الصحيحة صريحة في ثبوت الأجر بمجرد حصول المصيبة، أما الصبر والرضا فقدر زائد يمكن أن يثاب عليه زيادة على ثواب المصيبة، وتوسط القرافي[76]ففرق بين التكفير، والثواب الجزاء، فبيّن أن التكفير يمكن أن يكون من غير مقابلة عمل من المكلف بل لمجرد المصيبة، أما الأجر والثواب فمغزى الآيات القرآنية متعلق بالصبر والرضا والتسليم.
وكلام القرافي هذا لا ينافي كلام العز بن عبد السلام وفقًا لظاهره لأن ظاهر كلام العز لا ينفي التكفير، إذ كلامه جاء صريحًا في الأجر والثواب، ولعل ما ذهب إليه القرافي أوجه والله أعلم.
ومهما يكن فإنه على تقرير القرافي والعز بن عبد السلام يثبت الدليل أن المشاق غير مقصودة لذاتها.
(3) من الأدلة على عدم قصد المشقة لذاتها، أن قليل العمل البدني قد يكون أفضل من كثيره، وخفيفه أفضل من ثقيله، كتفضيل القصر على الإتمام قال العز بن عبد السلام في قواعده[77]: "ولو كان الثواب على قدر النصب لما فضلت ركعة الوتر على ركعتي الفجر، ولما فضلت ركعتا الفجر على مثلها من الرواتب".
بل قليل المشقة يكون أفضل من كثيرها لمصلحة راجحة، فالمشي إلى الجمعات في شدة الحر مع تحقق المبادرة إلى الصلاة، قدم عليه الإبراد بالظهر لتحقيق الخشوع الذي قد يشوش عليه شدة الحر فقدم الخشوع الذي هو أفضل أوصاف الصلاة على المبادرة التي لا تدانيه في الرتبة ولم يلتفت للمشقة لأنها غير مقصودة لذاتها"[78]
ويترتب على هذا المقصد وهو عدم قصد المشقة لذاتها أمران:
الأمر الأول:
ليس للمكلف أن يقصد المشقة لذاتها لعظم أجرها ولكن له أن يقصد العمل الذي يعظم أجره لعظم مشقته من حيث هو عمل قال الشاطبي[79]: ".. وذلك هو قصد الشارع بوضع التكليف به وما جاء على موافقة قصد الشارع هو المطلوب، فإذا كان قصد المكلف إيقاع المشقة، فقد خالف قصد الشارع من حيث إن الشارع لا يقصد بالتكليف نفس المشقة، وكل قصد يخالف قصد الشارع باطل".
ويشكل على هذا التقرير:
أولاً:
ما دلت عليه ظواهر بعض النصوص من أن قصد المكلف إلى التشديد على نفسه في العبادة وسائر التكاليف صحيح مثاب عليه ومن ذلك حديث جابر[80]– رضي الله عنه – قال: خلت البقاع حول المسجد، فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا إلى قرب المسجد، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: (إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد) قالوا: نعم يا رسول الله أردنا ذلك. فقال صلى الله عليه وسلم: (بنو سلمة دياركم تكتب آثاركم، دياركم تكتب آثاركم) وفي رواية لمسلم: (إن لكم بكل خطوة درجة).
ثانيًا:
أحوال أصحاب الأحوال، فإنهم ركبوا في التعبد إلى ربهم أعلى ما بلغته طاقتهم، وقد ثبت نظير ذلك عن بعض الصحابة رضي الله عنهم ومن ذلك ما رواه ابن المبارك[81]أن أبي موسى الأشعري كان يتتبع اليوم المعمعاني الشديد الحر فيصومه.
وقد أجاب الشاطبي[82]وابن القيم[83]بما حاصله:(/8)
أنالأحاديث ليس فيها دليل على قصد المشقة لذاتها، فحديث بني سلمة جاء في رواية البخاري ما يفسره في أنّه زاد فيه (وكره أن تعرى المدينة قبل ذلك، لئلا تخلو ناحيتهم من حراستها) ومعنى ذلك أن ديارهم أصبحت موضع رباط يثاب المرء على قصد وجوده فيه من هذه الحيثية.
وأما فعل أبي موسى رضي الله عنه فإنه حجة من عمل الصحابي، ولكن فيه الإخبار بأن عظمة الأجر ثابت لمن عظمت مشقة العبادة عليه، وليس فيه قصد التشديد على النفس، وإنما قصد الدخول في عبادة عظم أجرها لعظم مشقتها. وأما شأن أرباب الأحوال فمقاصدهم القيام بحق المعبود مع طرح حظوظ النفس، وليس قصدهم التشديد على النفوس لذاته. وبناء على ما تقدم من عدم قصد المكلف المشقة لذاتها، فإن المشقة إذا كانت حاصلة بسبب المكلف مع عدم اقتضاء ذلك العمل بأصله، فأدخلها المكلف على نفسهباختياره، فإن فعله يكون منهيًا عنه ولا يصح التعبد به.
ويدل على ذلك حديث ابن عباس[84]– رضي الله عنه – قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذ هو برجل قائم في الشمس، فسأل عنه فقالوا: هذا أبو إسرائيل، نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم.. قال صلى الله عليه وسلم: (مره فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه) قال الإمام مالك[85]– رضي الله عنه – "أمره أن يتم ما كان لله طاعة، نهاه عن ما كان لله معصية" من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم (هلك المتنطعون)،[86]ورده صلى الله عليه وسلم التبتل على عثمان بن مظعون، ونهى الذين أرادوا التشديد – بالتبتل – على أنفسهم وقال: (من رغب عن سنتي فليس مني).[87]
قال الشاطبي[88]: "ونهيه عن التشديد شهير في الشريعة بحيث صار أصلاً فيها قطعيًا، فإذا لم يكن من قصد الشارع التشديد على النفس، كان قصد المكلف إليه مضادًا لما قصد الشارع من التخفيف المعلوم المقطوع به، فإذا خالف قصده قصد الشارع بطل ولم يصح..".
ولهذا فإن المكلف متى علم أو ظن أنه يدخل على نفسه أو جسمه أو عقله حالة فساد، أويكره بسبب تلك المشقة – غير الملازمة للعمل – أو تدخل عليه الملل، أو لم يعلم ولم يظن ولكنه وجد ذلك للدخول في العمل، ليس له فعل ذلك العمل: وفي مثل ذلك قال صلى الله عليه وسلم (ليس من البر الصوم في السفر)[89] وترجمة البخاري تدل على سبب ورود الحديث الدال على منع الدخول في المشقة غير المعتادة التي تدخل على النفس العسر والعنت، وذلك بقوله "باب قول النبي لمن ظلل عليه واشتد الحر".
غير أن هذه المشاق غير المعتادة، قد تكون معتادة بالنسبة لبعض المكلفين المنقطعين لله تعالى المعانين على بذلك المجهود في التكاليف، وفي قوله تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلاّ على الخاشعين) البقرة (45) فجعلها كبيرة على المكلف، واستثنى الخاشعين، الذين إمامهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو الذي كانت قرة عينه في الصلاة كما ثبت ذلك في مسند الإمام أحمد[90]، فمن خص بوراثته في هذا النحو، نال من بركة هذه الخاصية، فأقبل على العبادة بيقين ساطع، لما وجد فيها من راحة ولذة، فليس العابد، ببصيرة وضاءة في ضائقة من حرج النفس واقتحام المكاره – كما يحسب أسارى الأهواء – بل هو لذة لا تنقص – عند من ذاقها – عن لذة إدراك المعارف السامية، والحكمة الغامضة.
وليس ذلك خاص بأرباب الأحوال، بل هو شأن الصحابة والتابعين ممن اشتهر بالعلم وحمل الحديث والاقتداء بعد الاجتهاد – في استقامة وتوازن تام بين التكاليف الشرعية، ومن ذلك ما صح عن عثمان بن عفان – رضي الله عنه أنه كان إذا صلى العشاء أوتر بركعة يقرأ فيها القرآن كله.[91]يكفي في ذلك شهادة القرآن لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم (كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون) الذاريات (17، 18) وقوله تعالى: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفًا وطمعًا) السجدة (16)، فهؤلاء هيأهم الله لتلك الأعمال وهيأهم لها، ولم يكونوا مخالفين بذلك للسنة، بل كانوا معدودين من السابقين، وذلك لأن العلة التي نهي لأجلها عن العمل الشاق مفقودة في حقهم، وقد صور الشاطبي[92]حالهم ةيسر هذه المشاق في حقهم فقال: ".. حاله حال من يعمل بحكم غلبة الخوف أو الرجاء أو المحبة، فالخوف سوط سائق، والرجاء حادٍ قائد، والمحبة تيار حامل، .. غير أن الخوف من ما هو أشق يحمل على الصبر على ما هو أهون وإن كان شاقًا.. والرجاء في تمام الراحة يحمل على الصبر على تمام التعب، والمحب يعمل ببذل المجهود شوقًا إلى المحبوب فيسهل عليه الصعب، ويقرب عليه البعد".
الأمر الثاني:
أداء الفعل مع المشقة غير المعتادة:
سبق الكلام عن تقرير كون المشقة غير مقصودة للشارع وأن المكلف لا يقصدها لذاتها وهو الأمر الأول وأداء الفعل مع المشقة غير المعتاد هو الأمر الثاني، مع العلم بأن بعض المخلصين قد تكون هذه المشقة غير المعتادة معتادة في حقهم كما سبق بيان ذلك.(/9)
ولبيان حكم أداء الفعل مع مشقة غير معتادة فإن العمل الحاصل مع مشقة غير معتادة لا يخلو من حالتين[93]:
الأولى:
من خفت عليه المشقة فتكلف وفعل، ولم يخش الهلاك أو الضرر العظيم، كالمريض يتحمل المشقة في حضور الجمعة، فهذا يصح منه ويسقط عنه الفرض.
الثانية:
أن يتكلف الفعل مع خشية الهلاك أو الضرر العظيم، قال الزركشي[94]في حق من يصوم في مثل هذه الحالة: "فيجب عليه الفطر إذا كان صائمًا في رمضان، فإن صام عصى" قال الشاطبي[95]"وقد نقل منع الصوم إذا خاف التلف به عن مالك والشافعي، لا يجزئه إن فعل، ونقل المنع عن الطهارة عند خوف التلف والانتقال إلى التيمم".
إلا أن الغزالي ذكر في المستصفى في المريض يريد الصوم في مثل هذه الحالة أنّه يجب عليه الفطر فإن صام عصى ثم قال: "ويحتمل أن يقال إنما عصى لجنايته على الروح التي هي حق الله تعالى ويكون كالمصلي في الدار المغصوبة يعصي لتناوله حق الغير وكذلك هذا لم يعص من حيث أنه صائم بل من حيث سعيه في الهلاك".
والذي يظهر لي – والله أعلم – أن هذا الاحتمال الذي ذكره الإمام الغزالي والذي مقتضاه صحة الصيام مع الإثم للسعي في الهلاك لا يخلو من نظر؛ وذلك؛ لأن أداء المكلف للعبادة مع خوف الهلاك، وإن شابهت الصلاة في الأرض المغصوبة من جهة العصيان بفعل ما نهي عنه إلاّ أنها تخالفها في أمرين:
الأول:
إن الصلاة في الدار المغصوبة لا يترتب عليها من المفسدة ما يترتب على أداء الفعل المكلف به مع خشية الهلاك، وتباين المفسدة في المحلين يجعل القياس مع الفارق.
الثاني:
أن الوصف في مسألة الصلاة في الدار المغصوبة وصف مجاور منفك عن المنهي عنه وهو – على ري جمهور الأصوليين – يصحح الصلاة لعدم تعلق النهي بها.
أما في أداء الصوم مع المشقة الفادحة، فإنها في خصوص ذلك المكلف فإن المشقة تلازم الفعل المكلف به ولا تنفك عنه بحال ما دام السبب المدخل للمشقة قائمًا، والجمهور على أن الوصف الملازم للمنهي عنه يعود عليه بالبطلان، وهذا فارق آخر يضعف هذا القياس بل يسقطه.
وتجدر الإشارة – هنا – إلى أن المشقة الداخلية على المكلف بدون تسببه، كالمشقة الحاصلة بسبب المرض، وألم البرد، فهذه المشقة ليس للشارع فيها قصد، غير أن الله جعلها للعباد ابتلاء فسلطها عليهم كيف يشاء، والأدلة دالة على الإذن في دفعها والتحرر منها عند توقعها، وبناء عليه أذن المكلف دفع ألم الجوع والعطش والبرد، وبالتداوي عند وقوع الأمراض، والتوقي من كل مؤذٍ وإعداد العدة لدفعه فإذا أتى المكلف بالأسباب، وامتنع دفع المشقة اعتبرت جهة الابتلاء، فيتحتم الصبر والرضا بالقضاء.
وبعد:
فهذا جهد بذلته لجمع مسائل هذا المقصد الشرعي العظيم، قصدت إليه كمقصد من مقاصد التشريع الإسلامي يؤلف نظامًا موضوعيًا في التشريع، وهو بحاجة إلى استكماله بالجانب التطبيقي مما اجتهد فيه العلماء ودرءوا فيه المشاق غير المعتادة، لأن ما ورد به النص من درأ المشاق محدود معلوم، والنظر في مسالك العلماء في درأ المشاق، الوقوف على الجزئيات الثابتة باجتهادهم تعين على إضاءة آفاق جديدة تساهم في بيان مسالكه، ومعرفة ضوابطه، وتقرب الجانب النظري إذ يكون فيها – له – تصويرًا بارعًا وتنويرًا رائعًا..
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
----------
[1] للفيروز أبادي 3/258 مادة شق.
[2] للزيدي 6/399 مادة شق.
[3] لابن منظور 11/96 مادة شق.
[4] انظر: نهاية السؤال للأسنوي 1/149، شرح تنقيح الفصول للقرافي 143، تيسير التحرير
[5] مجموع الفتاوي 4/175، 8/469.
[6] بدائع الفوائد 4/175.
[7] انظر التفصيل في: البرهان لإمام الحرمين 1/104، المستصفى: للغزالي 1/86، المعتمد: للبصري 1/177. التفسير الكبير: للرازي 2/42-48، كشف الأسرار: للبخاري 1/191، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب 2/9-11.
[8] البدائع 4/176.
[9] لسان العرب مادة (كلف).
[10] الموافقات 2/269.
[11] قواعد الأحكام 2/7.
[12] أعلام الموقعين 2/112.
[13] 2/269.
[14] السبرة: الغداة الباردة.
[15] انظر تقرير ذلك وأمثلته في: قواعد الأحكام لابن عبد السلام 1/173، المنشور في القواعد للزركشي 3/172، القرافي في الفروق 1/121، الذخيرة 1/340
[16] 1/271.
[17] انظر: 1/39.
[18] انظر: 1/484، 2/269، 3/49.
[19] 2/268.
[20] انظر: ص 4 من البحث.
[21] 1/120.
[22] 1/341.
[23] في المنصور من القواعد 3/172.
[24] كتاب الإيمان، باب بيان أنه سبحانه لم يكلف إلا ما يطاق 1/116 حديث رقم (126)، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[25] الموافقات 3/250.
[26] وفي مسنده 6/116، 233 وحسنه ابن حجر في تغليق التعليق 1/43، وهو بخلاف رواية (بعثت بالحنيفية السمحة) فقد ضعف العراقي سندها في تخريج أحاديث الإحياء 4/149، ولكنها حسنة بغيرها كما قال العلائي في فتح القدير 2/121 حيث قال: "لكنّ له طرق ليس ببعيد ألا ينزل سندها عن درجة الحسن".(/10)
[27] متفق عليه رواه البخاري في المناقب باب صفة النبي، وفي الأدب والحدود ومسلم في الفضائل باب مباعدته للآثام واللفظ للبخاري.
[28] فتح الباري 7/42.
[29] الموافقات 2/212.
[30] 4/227 من حديث ابن عمر.
[31] عن أبي هريرة 1/23 رقم 39.
[32] سددوا: أي اطلبوا بأعمالكم السداد والاستقامة وهو القصد في الأمر والعدل فيه النهاية في غريب الحديث مادة (سدد).
[33] قارب أي عمل به شيئًا لا يعاب عليه النهاية في غريب الحديث مادة (سدد).
[34] صحيح البخاري 3/110 رقم 2873 وصحيح مسلم 3/1359 رقم 11549.
[35] صحيح البخاري عن أبي هريرة 1/89 رقم 217.
[36] في الموافقات 2/212.
[37] في الموافقات 4/451.
[38] المصدر السابق نفسه.
[39] قواعد الأحكام 1/36.
[40] في الموافقات 3/421.
[41] في أعلام الموقعين 3/14.
[42] الموافقات 3/122.
[43] انظر: المصدر السابق نفسه.
[44] ص 15.
[45] نقله عنه الحموي في عمز عيون البصائر 1/37.
[46] 2/934.
[47] رواه الإمام مالك في الموطأ 2/745 رقم 1429 عن عمر بن يحيى المازني عن أبيه، والإمام أحمد في مسنده عن ابن عباس 1/313 برقم 2867 والحاكم في المستدرك عن أبي سعيد الخدري وقال صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجه وأقره الشعبي واللفظ للحاكم.
[48] رواه البخاري بلفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن اليمين على المدعى عليه في صحيحه 2/888 برقم 2380 والإمام أحمد في مسنده 1/253 برقم 2380 وبلفظه رواه الدارقطني في سننه 3/111، 99، و4/217 – 218 حديث رقم 51، 52، عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده، ورواه بلفظه أيضًا البيهقي في سننه 8/123 برقم 162221.
[49] قواعد الاحكام 1/37.
[50] الفروق 1/119 والذخيرة 1/191.
[51] المنثور من القواعد 3/173.
[52] الأشباه والنظائر 73.
[53] المصدر السابق نفسه 1/116.
[54] الفروق 8/119.
[55] 1/484، 2/269، 3/49.
[56] في قواعد الأحكام 1/37.
[57] في الفروق 1/120.
[58] المنثور من القواعد 3/172.
[59] المصدر السابق نفسه.
[60] قواعد الأحكام 2/9.
[61] في الذخيرة 1/341، وفي الفروق 1/120.
[62] رواه البخاري في حجج المحصر باب قول الله (أو صدقة) عن كعب بن عجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (أتؤذيك هوام رأسك؟ قال نعم، قال أحلق وأنسك بشاة، أو صم ثلاثة أيامأو أطعم ..) الحديث.
[63] في الفروق 1/119 – 120.
[64] 6/276.
[65] انظر: قواعد الأحكام لابن عبد السلام 2/11، 1/37، الفروق للقرافي 1/121. المنشور من القواعد للزركشي 3/171. الموافقات للشاطبي 2/214.
[66] في أحكام القرآن 3/306.
[67] 2/273 فما بعدها.
[68] في رسائله 2/120، وانظر الأشباه والنظائر لابن نجيم 1/171.
[69] المنثور من القواعد 3/171.
[70] انظر هذا الضابط وتفصيله ومزيدًا من الأمثلة في قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 2/30 فما بعدها.
[71] في الموافقات 2/214.
[72] في قواعد الأحكام 1/37 فما بعدها.
[73] رواه البخاري في صحيحه في كتاب المرض، باب ما جاء في كفارة المرض رقم 5640. ومسلم في البر والصلة باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك.
[74] في قواعد الأحكام 1/29.
[75] 10/105.
[76] في الفروق 1/122.
[77] 1/38.
[78] المصدر السابق، ومجموع الفتاوي لابن تيمية 10/62.
[79] في الموافقات 2/22.
[80] رواه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل كثرة الخطا إلى المساجد 1/462 حديث رقم 665 عن جابر رضي الله عنه ورواه البخاري عن أنس واللفظ لمسلم.
[81] في الزهد حديث رقم 1309 وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب حديث رقم 975.
[82] في الموافقات 2/225.
[83] في الموافقات 2/225.
[84] رواه البخاري في صحيحه في الإيمان والنذور، باب النذر فيما لا يملك وفي المعصية رقم 6704.
[85] في الموطأ 2/476.
[86] رواه مسلم في العلم باب هلك المتنطعون 4/2055 رقم 2670.
[87] متفق عليه رواه البخاري في صحيحه في النكاح باب ما يكره من التبتل والخصاء رقم 5073، ومسلم في صحيحه في النكاح باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤونة.
[88] في الموافقات 2/229.
[89] رواه البخاري في صحيحه في الصوم باب قول النبي لمن ظلل عليه واشتد الحر، ومسلم في صحيحه في الصيام باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر 2/786 رقم 115 عن جابر رضي الله عنه.
[90] 3/128، 199، 285.
[91] رواه ابن أبي شبية في مصنفه 1/367، وسعيد بن منصور في سننه 2/469، وابن المبارك في الزهد رقم 1275، وعبد الرازق في المصنف 3/124، وابن سعد في الطبقات 3/75، وأبو عبيد في فضائل القرآن رقم 277، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/294، والطبراني في الكبير 1/87، والبيهقي في السنن الكبرى 3/24، وفي الشعب 5/145.
[92] في الموافقات 2/245.
[93] راجع الحالتين وأمثلتهما في المنثور من القواعد للزركشي 3/173، الفروق للقرافي 2/23، وقواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 2/38.
[94] في المنثور من القواعد 3/174.(/11)
[95] 2/106.
* أستاذ أصول الفقه المشارك بجامعة قطر [معار].(/12)
دراسة السيرة النبوية وأهميتها في المنهج الإسلامي
علاء سعد حسن 11/3/1426
20/04/2005
النبي الخاتم والرسول الأمين محمد بن عبد الله أمرنا الله تبارك وتعالى بالتأسي به وجعله قدوتنا في الحياة يقول تعالى : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ) الأحزاب21 ، كما أمرنا الله تعالى بمحبته ( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين ) التوبة24 .. فكيف يتحقق هذا الاقتداء ويتصل القلب بهذه المحبة دون دراسة سيرته العطرة صلى الله عليه وسلم ؟!
إن بعض المناهج والمدارس الإسلامية تغفل دراسة السيرة النبوية إما عن غفلة عن أهميتها ومكانتها في المنهج الإسلامي ودورها في بناء الفهم الإسلامي المستقيم ، وإما عن توجس مما قد يكون اعتراها مما يعتري كتب التاريخ عادة من بعض الأخطاء ، كما تعمد بعض الدراسات إلى استنطاق مواقف السيرة أحكاما ودلالات تخدم توجها مذهبيا أو حزبيا معينا بصرف النظر عن احتمال هذه المواقف تلك التأويلات والنتائج من عدمه ..
والواقع أن المنهج الإسلامي في حاجة إلى دراسات تعيد للسيرة النبوية المطهرة مكانتها وترد إليها اعتبارها بوصفها واحدة من أهم مصادر الفهم الإسلامي الصحيح ، وكذا تنقيها وتنقحها من كل تأويل خاطئ أو فهم مغلوط قد لحق بها أو اختلط بمنهجها ، عسى أن تساهم هذه السطور في التمهيد لتلك الدراسات المرجوة لإعادة السيرة النبوية إلى مكانتها الطبيعية اللائقة ..
أولا أهمية دراسة السيرة النبوية :
1 – المذكرة التفسيرية للقرآن الكريم .. أو هي التطبيق العملي للقرآن ، أو التفسير العملي للقرآن ، فلا شك أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو أول وأعظم من فهم القرآن الكريم ، فهو مبلغ الرسالة عن ربه عز وجل ، وهو أعظم من فسر هذا الكتاب الخالد ، كما أنه صلى الله عليه وسلم لم يقدم تفسيره للقرآن في أقوال منطوقة - أحاديث نبوية - فحسب ، ولا قدم تفسيره هذا بين دفتي كتاب يقرأ ، ولكنه قدم هذا التفسير وذلك الفهم من خلال حياته العملية والدعوية كلها ، فكانت حياته كلها ترجمة فعلية حية للقرآن الكريم ، فقد كان صلى الله عليه وسلم كما قالت عنه السيدة عائشة رضي الله عنها : (خلقه القرآن أو كان قرآنا يمشي على الأرض ) ، كما تعد مواقف السيرة النبوية كلها أرضا خصبة للمفسرين بما توفره من معرفة أسباب نزول الآيات والمواقف التي نزلت فيها ، وكيفية تطبيق الجيل الأول من المسلمين لها ، حتى يكاد يستعصي علينا فهم بعض معاني القرآن الكريم في معزل عن الحياة والبيئة التي تنزل فيها ، وهي ما تعرف بالسيرة النبوية المطهرة ..(/1)
2 – ضمان عدم الغلو أو التعسف في فهم النصوص وضبط ذلك بتطبيق النبي صلى الله عليه وسلم .. ولا توفر السيرة النبوية - وهي التي تجمع مواقفه صلى الله عليه وسلم كلها – تفسيرا دقيقا للقرآن الكريم بالمعنى اللغوي فحسب ، ولكنها تعطينا أهم عنصر من عناصر ضبط الفهم الإسلامي بعيدا عن الغلو أو الخطأ أو التعسف ، لأننا حين نجمع النصوص إلى طريقة تطبيق النبي صلى الله عليه وسلم لهذه النصوص ، مع إيماننا المطلق بأن النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو أعلم أهل الأرض بمراد الله تعالى من قوله ، وأنه أوتي القرآن ومثله معه وهو الحكمة (1) ( كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون )البقرة151 ، ( واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا ) الأحزاب34 ، ندرك أنه ليس في إمكاننا فهم النصوص قرآنا وسنة فهما لغويا مجردا في معزل عن طريقة تطبيق النبي لها ، ونحن مأمورون في كتاب الله بطاعته وإتباعه ( من يطع الرسول فقد أطاع الله )النساء80 ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله )آل عمران31 ، وهو القائل : "خذوا عني مناسككم" (2) .. ومثال على ذلك قوله تعالى: ( يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم ) التوبة 73 ، [التحريم:9]، ورغم أن حدود اللغة تقطع بأن جهاد الكفار والمنافقين على حد سواء ، وأن المنافقين معطوفة على الكفار ، غير أن تطبيق النبي صلى الله عليه وسلم للنص ، وامتناعه من قتل عبد الله بن أبي ابن سلول رأس النفاق وزعيم المنافقين ، ونهيه ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي من ذلك " بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا"(3) ، وكذا نهيه عمر بن الخطاب عن ذلك وحمايته من القتل وقوله لعمر : " حتى لا تحدث العرب أن محمدا يقتل أصحابه"(4) .. وكذا حمايته لدماء المنافقين بعدم إفشاء سرهم للصحابة واستئمان حذيفة بن اليمان وحده على ذلك ، كل ذلك يضعنا أمام فهم مغاير تماما للمعنى اللغوي للآية الكريمة ، ويقدم لنا تفسيرا عمليا يتعدى حدود اللغة المجردة إلى فهم أعمق وأشمل ، ونجد أنفسنا في النهاية مسلمين بطريقة تطبيق النبي صلى الله عليه وسلم عبادة وطاعة وإتباعا ، وعلى ذلك نستطيع أن نحكم على فهم من يطالب بقتل المنافقين والعملاء مستشهدا بالآية الكريمة في معزل عن تطبيق النبي لها ، بأنه فهم مغلوط لا يتفق وطبيعة المنهج الإسلامي ، وهذا هو تفسير المفسرين للآية فكيف فسروها هكذا إلا في ضوء تطبيق النبي صلى الله عليه وسلم لها ؟ : وقال ابن عباس أمره الله تعالى بجهاد الكفار بالسيف والمنافقين باللسان وأذهب الرفق عنهم وقال الضحاك جاهد الكفار بالسيف وأغلظ على المنافقين بالكلام وهو مجاهدتهم وعن مقاتل والربيع مثله وقال الحسن وقتادة ومجاهد ومجاهدتهم إقامة الحدود عليهم وقد يقال إنه لا منافاة بين هذه الأقوال لأنه تارة يؤاخذهم بهذا وتارة بهذا بحسب الأحوال والله أعلم(5) .. ومثل ذلك ينطبق على كثير من النصوص قرآنا وسنة ..
3 – ربط القلوب بصاحب السيرة العطرة محمد صلى الله عليه وسلم ، فمن دواعي وأسباب تحقيق محبته دراسة سيرته ومواقفه وحياته كلها .. فتحقيق محبة الرسول صلى الله عليه وسلم من أهم واجبات المسلم في الحياة لتحقيق الإيمان يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين "(6) ، وقوله صلى الله عليه وسلم من حديث عمر بن الخطاب في البخاري : "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه "(7) والسيرة النبوية هي من أهم وسائل تحقيق هذه المحبة واستقرارها في القلوب ..
4 – تقديم قدوة عملية خالدة للأجيال المسلمة على مر العصور من خلال حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته كقصة حياة كاملة .. يقول الله تبارك وتعالى ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) ، ويقول تعالى (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) ، ولما بسط الله تعالى بعض قصص الأنبياء في سورة الأنعام عقب على ذلك بقوله : ( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده )الأنعام90 .. فالمطالبة بالاقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم تستوجب دراسة مسيرة حياته بكل دقائقها وتفاصيلها للتأسي بها في كل موقف من مواقف الحياة المعاصرة ..
5 – المضي على منهج القرآن الكريم الذي قص علينا سير الأنبياء السابقين مثل ( آدم - نوح - إبراهيم– يوسف - موسى – عيسى وأمه مريم .. عليهم جميعا السلام ) بصورة شبه كاملة تقريبا .. فأصبح لزاما علينا أن نجمع سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كذلك ، لتحقيق الأهداف التي من أجلها بسط الله تعالى سير الأنبياء عموما ..(/2)
6 – السيرة النبوية مع الحديث الشريف يمثلان معا السنة النبوية وهي المصدر الثاني بعد القرآن الكريم من مصادر التشريع الإسلامي ، لأن السنة النبوية تشمل الأقوال والأفعال والتقرير ، وإذا كان علم الحديث يقوم في المقام الأول على الأقوال فإن المواقف والأفعال والمواقف التقريرية تعتبر عماد السيرة النبوية ، وإذا كانت كتب السنة والصحاح قد حوت كل ذلك دون تفرقة بين الحديث المنطوق وبين المواقف المختلفة ، إلا أنه جاز جمع ما يمثل سيرته صلى الله عليه وسلم جمعا مستقلا لتحقيق الأهداف المرجوة من دراسة السيرة النبوية .. يقول الدكتور البوطي عن كتب الحديث : وإن كانت عناية هذه الكتب الأولى تنصرف إلى أقوال رسول الله وأفعاله من حيث أنها مصدر تشريع لا من حيث هي تاريخ يدون. (8)
7 – حث الإسلام على ذلك .. يقول بعض الصحابة : " كنا نعلم أبناءنا الغزوة من غزوات النبي كما نعلمهم السورة من القرآن " ، وانظر إلى أحاديث جابر بن عبد الله الأنصاري الطوال وهو يروي عن بعض غزوات النبي صلى الله عليه وسلم ، مثل ما رواه عنه في غزوة الأحزاب وغيرها ، وحديث كعب بن مالك عن المخلفين عن غزوة تبوك وهو حديث طويل دخل ولا شك في باب القصص التاريخي في المقام الأول ، حتى إن أول من جمع المغازي كانوا أبناء الصحابة من أمثال عروة بن الزبير وأبان بن عثمان بن عفان(9) ، وسمح أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لتميم الداري بالجلوس مرة واحدة في الأسبوع في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ليقص سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصصه وأخبار الأمم السابقة (10)..
8 – السيرة النبوية قصص ، وهي أسهل المواد دراسة واستيعابا ، لطبيعة القصص من التشويق والتأثير وسهولة الفهم والثبات في النفس والذهن ، ولذلك ركز القرآن الكريم على القصص:( نحن نقص عليك أحسن القصص) [يوسف:3]، ومن خلال قصص السيرة يتم إحاطة الدارس بكثير من علوم الإسلام ويتشرب معانيه دون كثير جهد وعناء ..
9 – تحقيق شدة التعلق بالرسالة نفسها وهي دين الإسلام الذي بذلت في سبيله هذه التضحيات الجسام التي تذخر بها سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته أجمعين .. إن دراسة هذه السلسلة المتصلة من العطاء الدائم الذي لا ينقطع والتضحيات الضخمة والجهاد المرير يلقي في قلوب الدارسين قيمة الكنز الذي بين أيديهم فيتمسكون به ..
10 – دراسة السيرة جزء من دراسة التاريخ ، وتكمن أهمية دراسة التاريخ في أن :
أ – التاريخ يعيد نفسه ، ومشكلات الإنسان تكاد تكون متكررة لا تتغير على وجه الحقيقة ، ويجب حلها في ضوء ما تم حلها به سابقا .. ( لا يصلح أمر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها)
ب – التاريخ ذاكرة الشعوب ومن يفقد ذاكرته فلا حاضر ولا مستقبل له..
ج - تعميق هوية وأصالة الأمة والشعوب والحفاظ على التراث ..
د – يعتبر للتاريخ أهمية خاصة في الأمم صاحبة الرسالة المستمرة المتصلة ، لأنه يعينها على فهم طبيعة الرسالة ، والثقة في إمكانية تحقيقها على أرض الواقع كما تحققت في عهود سابقة .. والإسلام على وجه الخصوص والتحديد قد ردم الفجوة بين النظرية والتطبيق ، فما ظهرت نظرية من النظريات على وجه الأرض إلا وحدث بينها وبين التطبيق الواقعي فجوة طبيعية لاستحالة تطبيق النصوص تطبيقا كاملا على أرض الواقع ، إلا دين الإسلام ونصوصه لأنه من لدن حكيم خبير يعلم من خلق ، وليس هناك شاهدا على إمكانية تطبيق النصوص تطبيقا واقعيا كاملا خير من السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي في عصور الالتزام بالمنهج ..
هـ – اهتمام القرآن الكريم اهتماما بالغا بتاريخ الأمم والشعوب السابقة وتركيزه على معنى الوحدة البشرية منذ بدء خلق الإنسان .. ومطالبته لنا بأخذ الدروس والعبر من التاريخ ( أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) [الروم:9].
و – تقديم تعريف واقعي للمسلم المعاصر في عالم اليوم على أنه إنسان له تاريخ .. إنك لا تستطيع أن تتقدم إلى مؤسسة أو شركة محترمة لشغل وظيفة مرموقة دون تقديم شهادات الخبرة السابقة والسيرة الذاتية ، والمسلم اليوم إذا أراد تقديم نفسه للعالم فلابد أن يقدم نفسه على اعتبار أنه إنسان له تاريخ حضاري مجيد يعينه على استشراف دوره في حاضر العالم ومستقبله ..
ثانيا: ضوابط دراسة السيرة النبوية:
غير أن دراسة السيرة النبوية المطهرة على أهميتها القصوى يجب أن تنضبط بضوابط منهجية حتى لا تتحول إلى نوع من اللهو أو العبث أو التسلية دون تحقيق الأهداف المنهجية المرجوة من دراستها ، وأهم هذه الضوابط :(/3)
1- ضابط التوثيق على المنهج الإسلامي في حفظ وتوثيق الحديث الشريف ، ويعتبر أهم هذه الضوابط ويتعلق بالكتب والدراسات القديمة – على وجه الخصوص - لتنقية هذه الكتب من الخرافات والإسرائيليات والوضعيات .. وهذا يتحقق بالتنقيح في ضوء منهج علوم الحديث ، ولعل هذا الضابط قد توفر تماما في الدراسات الحديثة للسيرة النبوية ..
2 - تجرد الدارس والباحث والكاتب في السيرة النبوية من كل الأهواء و الميول الشخصية ، وعدم الخضوع عند تفسير حوادث السيرة واستخراج الدروس للأحكام المسبقة والميول المذهبية والحزبية والفكرية ، وهو أهم ضابط يتعلق بالدراسات والكتب الحديثة والمعاصرة.. وهكذا تبقى السيرة نبعا صافيا ينهل منه كل دارس على مر العصور فهي بكر متجددة للاهتداء بها في كل موقف وحدث وكل عصر ومصر ..
3 – استبعاد كتب ودراسات المستشرقين والمتأثرين بهم تماما ككتاب معتمدين للسيرة النبوية .. لما تمثله مدرستهم من تشكيك في وقائع السيرة من ناحية ، ومن تفسير وفهم خاطئ للمواقف من ناحية أخرى ، وكذا عدم اعتمادهم في الأعم الأغلب على منهج التوثيق الإسلامي الدقيق مع عدم إلمامهم بعلوم الرجال والجرح والتعديل وغير ذلك من علوم الحديث التي توثق وقائع السيرة النبوية ، بالإضافة إلى موقفهم الخاص من قضية الخوارق والمعجزات(11) ..
ثالثا: تطور دراسة السيرة النبوية عبر العصور.. والذي يهمنا في هذا المقام إبراز أهم المراحل التي تمثل منعطفات أو ركائز أساسية في دراسة ورواية السيرة النبوية ونستطيع تلخيص هذه المراحل في(12):
1 – مرحلة الرواية .. إن معظم دراسات السيرة تركز على مرحلة التجميع باعتبارها المرحلة الأولى من مراحل دراسة السيرة النبوية ، غير أنني ألفت النظر أن التجميع إنما قام ويقوم على الرواية في المقام الأول ، ولذا فإن المرحلة الأولى من مراحل دراسة السيرة النبوية كانت مرحلة رواية الأحداث والتي بدأها الصحابة رضوان الله عليهم من رواة الأحاديث النبوية وهي الأحاديث التي تتناول المواقف والأحداث وهي التي تبدأ عادة بمثل قولهم : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ويلحق بذلك تميم الداري الذي أجلسه عمر بن الخطاب في مسجد رسول الله يقص على الناس يوما في الأسبوع فلما كانت خلافة عثمان بن عفان سمح له بيومين .. وكان ذلك بلا شك في العشرين سنة التالية لوفاة النبي صلى الله عليه وسلم ..
2 – مرحلة التجميع وهي التي قام عليها عروة بن الزبير وابان بن عثمان بن عفان ووهب بن منبه وشرحبيل بن سعد وبن شهاب الزهري
3 – مرحلة التدوين ومثلها محمد بن اسحاق المتوفي عام 152 هـ
4 – مرحلة التوثيق والتنقيح والتهذيب ومثلها بن هشام الذي هذب كتاب بن إسحاق وأخرجه لنا في واحد من أهم المصادر القديمة للسيرة النبوية على الإطلاق (سيرة بن هشام)
5 – مرحلة المستشرقين وتلاميذهم ، وهي منعطف خطير في تناول السيرة النبوية بدأ من النصف الثاني من القرن التاسع عشر ميلاديا لخطورة فهم هؤلاء وخطورة منهجهم الذي اعتمد ما يعرف بالمنهج الذاتي في تناول التاريخ وهو منهج يقدم ذاتية الكاتب عن وثائقية الوقائع ، بل يكاد يهمل علوم التوثيق جملة وتفصيلا وهي المرحلة التي أخرجت لنا مفهوم العبقرية المحمدية ، وبثت شكوكا حول العلاقات الأخوية المتميزة بين الصحابة رضوان الله عليهم ، والتي شككت كذلك في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم الحسية المختلفة الثابتة بطرق الثبوت الإسلامية المختلفة ..
6 – مرحلة الصحوة ، وهي المرحلة التي تعد انقلابا على مرحلة المستشرقين والتي أعادت للسيرة النبوية بهاءها باعتماد المنهج العلمي ، ثم تابعت في هذا المضمار إضافة المنهج التحليلي والاستنباطي لاستخراج الدروس والأحكام ، وهي المرحلة التي يطمئن الدارس والباحث لإنتاجها في مجموعه ، ويمثل هذه المرحلة – على سبيل المثال – مصطفى السباعي ( دروس وعبر )– الشيخ الخضري – البوطي( فقه السيرة ) – المباركفوري ( الرحيق المختوم )– عماد الدين خليل( دراسات في السيرة ) – محمد أحمد باشميل ( معارك الإسلام الفاصلة )– محمد الغزالي ( فقه السيرة ) ، وغيرهم.
رابعا : منهج مقترح لتناول السيرة النبوية في ضوء ضوابط تجعل دراستها والاهتداء بها ملزمة للمسلمين مثلها مثل فروع الإسلام من تفسير وحديث وفقه وعقيدة:(/4)
1 – جمع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن الكريم أولا .. فلقد تعددت المواضع التي تناولت حياة النبي صلى الله عليه وسلم وتلقي الضوء على صفاته والأحداث التي عاصرته ، فنحن نعلم العام الذي ولد فيه النبي من حادثة الفيل التي سجلها القرآن في سورة الفيل - ونحن نعلم أشياء عن البيئة التي نشأ فيها من وأد البنات وشرب الخمر ولعب الميسر وعبادة الأوثان من آيات القرآن – ونعلم أنه يتيم من قوله تعالى : ( ألم يجدك يتيما فآوى )الضحى6 – ونعلم أنه أمي لا يقرأ ولا يكتب من قوله تعالى : ( وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون )العنكبوت29 ، ( الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة ) الأعراف 157 – ونعرف بحوادث ووقائع كثيرة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن الكريم مثل : الإسراء والمعراج – الهجرة – بناء مسجد قباء – غزوة بدر – غزوة أحد – يهود بني النضير – الأحزاب – صلح الحديبية – فتح مكة – غزوة حنين – غزوة تبوك – حادثة الإفك – مواقف المنافقين من النبي – كفالته لزيد بن حارثة – زواجه من زينب بنت جحش – شغب زوجاته عليه في سورة التحريم – استماع الجن للقرآن والرسالة .. )
2 – جمع السيرة ثانيا من الأحاديث الشريفة مع تحقيقها ، وفقا لمنهج الكتب الصحاح، وهو أمر حادث في بعض الدراسات الحديثة للسيرة النبوية مثل فقه السيرة للشيخ محمد الغزالي تحقيق الشيخ الألباني ..
3 – ملء الفراغات واستكمال الصورة من روايات الصحابة والتابعين الموثقة ومن أقوال المفسرين في تفسير الآيات وأسباب نزولها ..
4 – ربط دراسة السيرة بعلم أصول الفقه .. بمعنى استخراج الأحكام والعبر والعظات والدروس من السيرة باعتبارها من أصول التشريع كفرع من السنة النبوية مع الحديث الشريف وعدم تركها لأهواء الكتاب والدارسين .. حماية للفهم الإسلامي من الشذوذ أو الغلو أو الخطأ ، وحماية للسيرة من التأويل الخاطئ ، أو لي أعناق الوقائع والأحداث إلى أحكام أبعد ما تكون عن مقاصدها الحقيقية ، ومثال على ذلك ما يؤكده الدكتور البوطي عن منهجه في كتابة فقه السيرة فيقول : ولقد استنبطت من أحداث السيرة النبوية طبقا لهذه القواعد أحكام كثيرة منها ما يتعلق بالاعتقاد واليقين ، ومنها ما يتعلق بالتشريع والسلوك ، والمهم في هذا الصدد أن نعلم أنها جاءت منفصلة عن التأريخ وتدوينه ، بعيدة عن معناه ومضمونه ، وإنما كانت نتيجة معاناة علمية أخرى نهضت في حد وجودها على البنيان التاريخي الذي قام بدوره على القواعد العلمية التي ذكرناها "
href="#1">(13) .. وليؤمن الدارسون والباحثون
أن لتفسير أحداث السيرة النبوية قدسية مثل تفسير القرآن الكريم ، فهي داخلة في الحكمة التي قرنها الله تعالى في أكثر من موضع مع الكتاب الذي أنزله على رسوله ، وقد قال المفسرون على أن الحكمة في الآيات هي السنة النبوية(14) لقوله صلى الله عليه وسلم : إني
أوتيت القرآن ومثله معه(15) ..
(*) باحث إسلامي.
(1) أجمع المفسرون على أن الحكمة هي السنة أو فهم القرآن أو الفقه في الدين ويعلق
القرطبي على ذلك بقوله : لا تعارض
(2) رواه عروة بن الزبير عن جابر رضي الله عنه – القرطبي ج1 ص 39
(3) فقه السيرة للبوطي ص 216
(4) صحيح البخاري – الرحيق المختوم للمباركفوري ص 330
(5) ابن كثير 2\372 $ الآيات ( التوبه 73 : 74 )
(6) صحيح البخاري 15 / 44 بن كثير ج2 ص334
(7) البخاري 6632
(8) فقه السيرة للبوطي ص 21
(9) البوطي ص 20
(10) حول القصة الإسلامية للدكتور نجيب الكيلاني ص 29
(11) للدكتور البوطي تفصيل وافي في بحثه الرائع السيرة النبوية كيف تطورت دراستها
وكيف يجب فهمها اليوم .. الذي جعله تمهيدا لكتابه ( فقه السيرة ) الطبعة السابعة
(12) ما أقدمه هنا هو خلاصة لدراسة عدة كتب تناولت هذا الموضوع من أمثال
البوطي ، والقصة الإسلامية للكيلاني ، والرواية العربية عصر التجميع لفاروق خورشيد
(13) فقه السيرة ص 23
(14) قاله قتاده وغير واحد ( بن كثير ج3ص487) – قال أهل العلم بالتأويل :
الكتاب القرآن ، والحكمة السنة ( تفسير القرطبي ج14 ص 183
(15) تفسير بن كثير ج1 ص 4 ويقول بن كثير تعقيبا على هذا الحديث : ذلك أن
السنة تتنزل عليه كما ينزل القرآن غير أنها لا تتلى(/5)
دراسة الفتاة للطب في جامعة مختلطة
السؤال :
ما حكم الشرع في المرأة تدرس الطب في جامعة مختلطة ( كجامعة دمشق التي أدرس في معهد التعويضات السنّيّة فيها ) ، إذا لم يكن في بلادها جامعة جامعات خاصّة بالفتيات مع أني أبذل وسعي في عدم الاختلاط و عدم محادثة الشباب ؟ و إذا أردت التوقّف عن الدراسة للتخلّص من المفاسد المرافقة لها ، عارَض والدي فكيف أفعل ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
المعروف من كلام أهل العلم القُدامى و المُعاصرين أنّ تحصيل العلوم الدنيويّة يدور بين الإباحة و الاستحباب و فرضِ الكفاية ، أي أنّه إذا قامَ به البعض سقَط الإثم عن الباقين ، و إن لم يقوموا به أثموا جميعاً .
و مثال فرض الكفاية ما يحتاجه المسلمون من آلة الحرب و وسائله ، التي تحمي ديار الإسلام ، و تصون دماء المسلمين و أموالهم و أعراضهم ، و تردّ المعتدين و تدفع الصائلين ، فإذا بلغَ الأمر حدّ الكفاية بقيام من يقدر عليه ، سقط التكليف بطَلبه عن باقي المسلمين .
و يسقط الإثم عن الأمّة إذا حصلت على المطلوب و لو بطريق الشراء أو الإجارة و نحوهما ، إذ إن التاريخ حافلٌ بالأخبار الدالّة على استعمال المسلمين أدوات الحرب المصنّعة بأيدي غير المسلمين كالسيوف الهنديّة ( الشهيرة ) و غيرها .
و فيما يتعلّق بمهنّة الطب و ما يُلحق بها من علوم الصيدلة و التمريض و المخابر ، تتعدّد الأحكام الشرعيّة بحسب حاجة المسلمين إلى هذه العلوم :
فقد تكون دراستها مباحةً كالطب النفسي الذي لا يُعارضُ كتاباً و لا سنّة .
و قد تكونُ فَرضاً على الكفاية على النساء دون الرجال كالاختصاص في مراض النساء و الولادة و ما إلى ذلك ، إذ إنّ في عَدَم وجود الطبيبة المسلمة الثقة في دينها و خُلُقها ، المتمكنة من مهنتها و اختصاصها ، مفاسد كثيرة ، منها اضطرار المسلمات لكشف ما لا يحلّ كشفه من أجسامهنّ أمام غير المسلمين من الأطباء رجالاً و نساءً ، و لا أمام الطبيب المسلم غير المحرَم .
و إذا عُذرت المريضة المسلمة في طلب العلاج على يد هؤلاء بحكم الاضطرار ، فإنّ هذا لا يَعذُُُر القادرات على سدّ هذا الثغر لقعودهنّ عنه من غير عُذر .
و قد تكون مندوبةً يثاب عليها من طلبها احتساباً كفروع عِلمِ الطب الذي لا مفسدة في أن يلتمس المريض فيها علاجاً عند طبيبٍ غير مسلم إذا كان المريض رجلاً ، و طبيبة غير مسلمة للأنثى و أمثلته كثيرةٌ منها طبُّ الأنف و الأذن و الحنجرة و ما إليها .
و عليه فما احتاجه المسلمون من علوم الطب ، لا بأس أن تُقدِم المرأة على دراسته ، إذا صلُحَت فيه النيّة ، بل قد يتعيّن عليها ذلك إذا لم يقم من بنات جِنسِها من يسد الحاجة و يؤدي الواجب الكِفائي .
و إن كان في ذلك بعض المفاسد قوبلت بما يترتّب عليه من المصالح ، و روعي الأرجح ، عملاً بالقاعدة الفقهيّة ( يُتَحمّل الضرر الخاص لدَفع ضرر عام ) ، فإذا اقتَصرت مفسدة الدراسة في الجامعة على خلع القفّازَين ( مع الحفاظ على غطاء الوجه عند من يذهب إلى وُجوبه ) ، و إمكانيّة اجتناب الجلوس في مقاعد مشتركة تجمع الذكور و الإناث جنباً إلى جنب ، و عدم الخلوة بين الجنسين ، بل و ما ذَكرته السائلة من عدم محادثة الطالبات للطلاّب أصلاً أو العكس ، مع قيامها بالدعوة إلى الله تعالى بين الطالبات ؛ فإن المفسدة المترتّبة على دراستها أقلّ بكثير من المفسدة المترتّبة على قصد مئات الآلاف من المسلمات عيادات الأطبّاء غير المحارم ، أو الطبيبات غير المسلمات أو مخابر تصنيع الأسنان و العلاج الفيزيائي ( و منه التدليك ) طلباً للعلاج .
و من دلائل النبوّة الواضحة الجليّة أنه في بَلَد السائلة – رغم ما شاع من صنوف الفتن و فنون الفساد – يحقّ للطالبة في الجامعات الالتزام بالزيّ الشرعيّ كاملاً بما فيه غطاء الوجه و الكفّين ، و قد دَرَستُ و درَّستُ في دمشق و لا تزال في ذاكرتي صور عشرات الفتيات يجلسن في قاعات الدراسة منزويات في الصفوف المتأخّرة بعيداً عن الذكور ، متلفّعاتٍ بالسواد ، لا تُرى منهنّ الوجوه و لا الكفوف ، و أرجو أن يكون الحال على ما كان عليه ، أو خيرٍ منه في يومنا هذا .
و لم يكن هذا في كلّية الشريعة خاصّةً ، بل فيها و في غَيرها ، فقد درَسَتْ إحدى أخوَاتي و تخرّجت في كليّة الطب بجامعة حَلَب ، و لم تُُُضطَرّ قطّ إلى خَلعِ نقابها ، أو الاختلاط المحرّم بغير بنات جنسها خلال ستِّ سنواتٍ كاملةٍ متتاليةٍ ، و هذا من توفيق الله و تثبيته لمن يشاء من عباده .
روى أحمد و الترمذي بإسناد قال عنه : ( حسن صحيح ) عَنْ قُرَّةَ المزني رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : « إِذَا فَسَدَ أَهْلُ الشَّامِ فَلاَ خَيْرَ فِيكُمْ » .(/1)
فإذا أمكنكِ تحاشي الوقوع في المحظورات الشرعيّة في الدراسة فأطيعي والدك و أتمّي دراستك ، أمّا إن تعذّر عليك الالتزام بالشرع الحنيف ، و لم تكن دراستك متعيّنة عليكِ ( بحسب الاختصاص و الحاجة إليه كما تقدّم ) ، فاعتذري لأبيك بالتي هي أحسن ، و تذرّعي إليه بالأدب و البرّ و الإحسان ، علّ الله يشرح صدرَه ؛ فيدعك و شأنك ، و يأذن لك في تغيير الاختصاص أو الانصراف عن الدراسة إلى ما هو خيرٌ منها .
و الله وليّ التوفيق .(/2)
دراسة المرأة في المعاهد الأمريكية
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ فقه الأسرة/ قضايا المرأة /تعليم المرأة
التاريخ ... 25/6/1424هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هل تجوز لي الدراسة في المعاهد الأمريكية لتعلم اللغة؟ لأنني أعيش فيها حاليا وأمنيتي أن أدعو للإسلام، لكن لغتي لا تساعدني، خاصة وأنني ولله الحمد متنقبة، فهل يمكنني ذلك؟ علما أن من يقوم بالتدريس امرأة، والرجال عموماً لا يقبلون كثيراً على مثل تلك المعاهد، أي أن الأغلبية نساء، والله تعالى يحفظكم.
الجواب
تعلُّم اللغة الأجنبية من الأمور المباحة في الشرع، لا سيما والهدف من تعلمها استخدامها في الدعوة إلى الله، ونشر دينه وتبليغه للناس، ولا بأس في الدراسة في هذا المعهد، الذي يعلم اللغة الإنجليزية ما دام أغلب الدارسين نساء، والمدرسة امرأة كما تقولين، وعليك أن تلتزمي بالحجاب الشرعي، وأن تغضي الطرف من النظر إلى الرجال الأجانب، والتزمي بالحشمة ومكارم الأخلاق في المظهر، والمخبر، ولا سيما وأنت في هذه البلاد التي لا تعرف معروفاً ولا تنكر منكراً، وفقك الله وحماك من كل سوء، آمين.(/1)
دراسة المراكز المالية لبعض الشركات المساهمة في السوق السعودي[1/2]
خالد بن إبراهيم الدعيجي 11/6/1425
28/07/2004
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فقد جاء في التقرير السنوي لنشاط سوق الأسهم السعودية ما نصه:
" بلغت القيمة السوقية للأسهم المصدرة في نهاية عام 2003م (589.93) مليار ريال، وذلك بارتفاع نسبته (110.14%) مقارنة مع ما كانت عليه في نهاية العام السابق 2002م عندما بلغت (280.73) مليار ريال.
أما القيمة الإجمالية للأسهم المتداولة خلال عام 2003م فقد بلغت نحو (596.5) مليار ريال، مقابل (134) مليار ريال لنفس الفترة من العام السابق 2002م، محققة بذلك نسبة ارتفاع بلغت (346%).
أما إجمالي عدد الأسهم المتداولة خلال عام 2003م فقد بلغت نحو (5.6) مليار سهم مقابل (1.7) مليار سهم لنفس الفترة من العام السابق 2002م، محققة بذلك نسبة ارتفاع (221%).
أما إجمالي عدد الصفقات المنفذة خلال عام 2003م، فقد بلغ نحو (3.76) مليون صفقة مقابل (1.03) مليون صفقة لنفس الفترة من عام 2002م محققة بذلك نسبة ارتفاع مقدارها (246%) "(1).
تأمل معي أخي القارئ هذه الأرقام الخيالية، والقفزات الهائلة في نسب القيم السوقية وعدد الأسهم المتداولة والصفقات المبرمة، إنها لتدل على أن سوقنا المالية مقبلة على مزيد من الاستثمار في الأوراق المالية، وما زلنا في بداية الطريق ومن المتوقع أن يتم افتتاح سوق "بورصة" سعودية يتم فيها إجراء عدد من العقود المالية المتنوعة، كما هو الحال في الأسواق العالمية.
إن هذه الأرقام الناطقة في التقرير السابق تدعونا لقراءة قوائم المراكز المالية لهذه الشركات المتداولة أسهمها في السوق، لمعرفة هل هذه الشركات قائمة على معاملات مباحة خالصة من المحرم، أما أنها تزاول المحرم في معاملاتها؟
وإن كانت الثانية فهل نسبة المحرم كثيرة أم قليلة؟، وما هو المحرم الذي تمارسه؟ هل هو الإيداع بفوائد أم أنها تقترض بفوائد أم أنها تستثمر جزءاً من أموالها بشركات محرمة؟
ومما يدعونا أيضاً لقراءة قوائم هذه الشركات، الأسئلة الكثيرة التي ترد إلى طلبة العلم، من المساهمين مثل:
ما هي الشركات التي يباح المساهمة فيها؟
كيف يمكن أن أتخلص من المحرم إذا كانت الشركة تتعامل بالمحرم؟
أنا لا أستثمر بل أتاجر فكيف أتخلص من المحرم؟
فهذه الأسئلة وغيرها كثير تدل دلالة واضحة على أن نسبة عظمى ممن يساهم في هذه الشركات يتوق إلى الحلال، ولا يريد أن يطعم من يعول الحرام.
وهذه الورقات سوف تتناول هذه القضية النازلة من خلال: دراسة المراكز المالية لعدد من الشركات.
هذا وأسأل الله أن يهدينا رشدنا، وأن يفتح علينا من أبواب رحمته، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
دراسة المراكز المالية لعدد من الشركات
قام الباحث باختيار عدد (16) شركة كعينة عشوائية تمثل جميع القطاعات في السوق، وتخصصت هذه الدراسة بثلاثة أمور لدى كل شركة مساهمة وهي:
الأول: الاستثمارات المحرمة، ونسبتها لموجودات الشركة.
الثاني: القروض المحرمة، ونسبتها لموجودات الشركة.
الثالث: الإيرادات المحرمة، ونسبتها لصافي إيرادات الشركة.
مع العلم أن الباحث لم يذكر في هذه الدراسة إلا ما هو مصرح به من قبل الشركة في قوائمها، أما ما لم تصرح به لم يذكره الباحث ولم يستفصل عنه.
فإليك هذه الدراسة في المطالب الآتية:
المطلب الأول: دراسة لقوائم بعض الشركات من القطاع الصناعي
الشركة الأولى: شركة سابك
من خلال قراءة المركز المالي للشركة، كما في (31 ديسمبر 2003م)(2)، يتضح ما يلي:
أ. إجمالي الموجودات: (109,300,109,000) ريال سعودي.
ب. الاستثمارات:
تستثمر الشركة جزءاً من رأس مالها في شركات زميلة، وأوراق مالية متنوعة، وقد تم الإفصاح عن هذه الأوراق، وذكرت أنها استثمرت مبلغاً قدره: (200,000,000) ريال سعودي في سندات التنمية الحكومية، وهذه كما لا يخفى محرمة بالإجماع.
فنسبة الاستثمار بالسندات إلى إجمالي الموجودات: 1.8%.
ج. القروض:أفصحت الشركة عن نوعين من القروض:
النوع الأول: تسهيلات بنكية قصيرة الأجل.
وتحمل فائدة وفقاً للأسعار التجارية السائدة، بمبلغ قدره (459,260,000) ريال سعودي.
النوع الثاني:قروض طويلة الأجل، وهي كالتالي:
أولاً: قرض مقدم من صندوق الاستثمارات العامة، بمبلغ قدره: (5,704,918,000) ريال سعودي، بنسبة فائدة (6 %).
ثانياً: قرض مقدم من صندوق التنمية الصناعية السعودي بمبلغ وقدرة (1,238,034,000) ريال سعودي، ولم تذكر الشركة هل هذا القرض بفوائد أم لا؟
ثالثاً: قروض تجارية متنوعة بمبلغ قدره (29,473,305,000) ريال سعودي، ونسبة الفائدة وفق الأسعار التجارية السائدة.
فمما سبق يتضح أن إجمالي القروض الربوية لدى الشركة يساوي:
(35,637,483,000) ريال سعودي.(/1)
فنسبة هذه القروض المحرمة إلى إجمالي الموجودات: (32.6%)
د. قائمة الدخل:
أفصحت الشركة عن صافي إيرادات السنة بمبلغ قدره (6,696,156,000) ريال سعودي.
ومن ضمن قائمة الدخل إيرادات عن ودائع وفوائد بنكية بمبلغ قدره:
(271,358,000) ريال سعودي.
فتكون نسبة هذه الفوائد الربوية لأرباح الشركة:( 4.04 %)
الشركة الثانية: شركة الغاز والتصنيع الأهلية
من خلال قراءة المركز المالي للشركة، كما في (31 ديسمبر 2003م)(3)، يتضح ما يلي:
أ. إجمالي الموجودات: (1,425,085,613) ريال سعودي.
ب. الاستثمارات:
أفصحت الشركة عن استثمارها جزء من أموالها في سندات حكومية طويلة الأجل بمبلغ قدره (750,000,000) ريال سعودي.
فتكون نسبة هذا الاستثمار المحرم لإجمالي موجودات الشركة: (52.62 %).
ج. القروض:
أفصحت الشركة عن تقديمها قرضاً طويل الأجل لشركةٍ زميلة بمبلغ قدره (2,625,000) ريال سعودي.
فتكون نسبة هذا القرض لإجمالي موجوداتها: (0.18 %).
وكذلك قامت الشركة بالاقتراض من صندوق التنمية الصناعي بمبلغ قدره (10,329,000) ريال سعودي، ولم تذكر هل هذا القرض بفوائد أم لا؟
د. الإيرادات:أفصحت الشركة عن صافي إيراداتها لهذا العام بمبلغ قدره (115,017,549) ريال سعودي.
ومن ضمن هذه الإيرادات:إيرادات ودائع لدى البنوك وسندات حكومية قصيرة الأجل بمبلغ قدره (2,961,223) ريال سعودي، فتكون نسبة هذا الإيراد لصافي الربح (2.5 %).
ومما يلاحظ على الشركة: أنها لم تفصح عن إيراداتها من سندات الحكومة طويلة الأجل السابق ذكرها، والذي يمثل نصف موجوداتها، إلا أنها ذكرت ضمن بند إيرادات من استثمارات طويلة الأجل مبلغاً قدره (41,307,871) ريال سعودي وهذا الإيراد يحتمل أن يكون جزءاً كبيراً منه من السندات الحكومية طويلة الأجل.
الشركة الثالثة: الشركة السعودية للصناعات الدوائية
من خلال قراءة المركز المالي للشركة، كما في (31 ديسمبر 2003م)(4)، يتضح ما يلي:
أ. إجمالي الموجودات: (1,584,830,000) ريال سعودي.
ب. الاستثمارات:
أفصحت الشركة عن استثماراتها في سندات التنمية الحكومية السعودية بمبلغ قدره:
(294,305,000) ريال سعودي.
فتكون نسبة هذه الاستثمارات المحرمة لإجمالي الموجودات:(18.57%).ج. القروض:
لم يرد في القوائم المالية أن الشركة قامت بالاقتراض. د. الإيرادات:
أفصحت الشركة عن صافي إيراداتها لهذا العام بمبلغ قدره (40,105,000)ريال سعودي. ومن ضمن الإيرادات: إيرادات سندات التنمية الحكومية السعودية بمبلغ قدره (7,415,000) ريال سعودي.
فتكون نسبة هذا الإيراد المحرم لإجمالي الربح: (18.48 %). وهناك إيرادات أخرى لم يفصح عنها، ذكرت تحت بند إيرادات أخرى، بمبلغ قدره (1,238,000) ريال.
الشركة الرابعة: شركة الجبس الأهلية
من خلال قراءة المركز المالي للشركة، كما في (31 ديسمبر 2003م)(5)، يتضح ما يلي:
أ. إجمالي الموجودات: (407,819,345) ريال سعودي.
ب. الاستثمارات:
لم تستثمر الشركة أموالها في استثمارات محرمة قطعاً كالسندات وأسهم البنوك الربوية، بل كانت استثماراتها في شركات زميلة.
ج. القروض:
أفصحت الشركة عن قرض واحد طويل الأجل من صندوق التنمية الصناعي، بمبلغ قدره (13,375,000) ريال سعودي، ولم تذكر هل هذا القرض بفوائد أم لا؟
د. الإيرادات:
بلغت صافي إيرادات الشركة: (78,543,712) ريال سعودي.
ومن ضمن الإيرادات: إيرادات الاستثمارات والودائع بمبلغ قدره (2,539,607) ريال سعودي.
ويلاحظ هنا أن الشركة دمجت بين إيرادين أحدهما مباح في الغالب هو الإيراد الخاص بالاستثمارات(6)، وإيراد محرم قطعاً وهو إيراد الودائع، وهذا مما يؤخذ على الشركة، وكان من الواجب عليها الإفصاح عن إيراد الودائع بشكل مستقل.
وذكرت إيرادات أخرى بمبلغ قدره (274,415) ريال سعودي، ولكن لم يتم الإفصاح عن طبيعتها.
الشركة الخامسة: شركة التصنيع الوطنية
من خلال قراءة المركز المالي للشركة، كما في (31 ديسمبر 2003م)(7)، يتضح ما يلي:
أ. إجمالي موجودات الشركة: (2,226,784,000) ريال سعودي.
ب. الاستثمارات:
أفصحت الشركة عن نوعين من الاستثمارات المحرمة:
الأول: استثمارات في سندات التنمية الحكومية بمبلغ قدره (114,500,000) ريال سعودي.
والثاني: قروض ممنوحة لشركات زميلة بمبلغ قدره (6,856,000) ريال سعودي.
فتكون نسبة هذه الاستثمارات لصافي موجوداتها: (5.4 %).
وذكرت الشركة أنها استثمرت مبلغاً قدره (63,000) ريال سعودي في أوراق مالية متاحة للبيع لكنها لم تفصح عن نوع هذه الأوراق.
ج. القروض:
أفصحت الشركة عن نوعين من القروض:
الأول: تحت بند تسهيلات قصيرة الأجل، بمبلغ قدره (6,975,000) ريال سعودي.
الثاني: قروض طويلة الأجل وهي من طرفين:
الطرف الأول: صندوق التنمية الصناعي، بمبلغ قدره (526,850,000) ريال سعودي.
وقد صرحت الشركة أن هذا القرض بفوائد دفعت مقدماً، وسميت بنفقات التمويل.(/2)
الطرف الثاني: بنوك محلية تجارية بمبلغ قدره (125,417,000) ريال سعودي.
فمما سبق يكون إجمالي القروض المحرمة: (659,242,000) ريال سعودي.
وبالتالي تكون نسبة هذه القروض لموجودات الشركة: (29.6 %)
د. الإيرادات:
أفصحت الشركة عن صافي إيراداتها بمبلغ قدره: (54,252,000) ريال سعودي.
وكذلك أفصحت عن نوعين من الإيرادات المحرمة هما:
الأول: إيرادات السندات الحكومية بمبلغ قدره (1,723,000) ريال سعودي.
الثاني: إيرادات الودائع البنكية بمبلغ قدره (3,135,000) ريال سعودي.
فيكون مجموع الإيرادات المحرمة:(4,858,000) ريال سعودي.
وبالتالي تكون نسبة الإيراد المحرم لمجموع الإيرادات: (8.95 %).
________________________________________
(1) ملحق في مجلة تداول، العدد السابع - شتاء عام 2003م، وكذلك تجده في موقع تداول: www.tadawul.com.sa>
(2) صحيفة الجزيرة (السبت 6/2/1425هـ العدد 11503).
(3) صحيفة الجزيرة (السبت 22/1/1425هـ العدد 11489).
(4) صحيفة الجزيرة (الخميس 6/2/1425هـ العدد 11473).
(5) صحيفة الجزيرة (الاثنين 4/12/1424هـ العدد 11442).
(6) ليست على إطلاقها، بل يقصد الباحث في هذه الشركة التي استثمرت في شركة زميلة. وإلا فالأصل - للأسف - أن الاستثمارات عملية ربوية في الغالب.
(7) ينظر : موقع الشركة على الشبكة العالمية بعنوان http://www.nic.com.sa
دراسة المراكز المالية لبعض الشركات المساهمة في السوق السعودي[2/2]
خالد بن إبراهيم الدعيجي 25/6/1425
11/08/2004
المطلب الثاني: دراسة لقوائم بعض الشركات من قطاع الخدمات
الشركة الأولى: الشركة السعودية للنقل الجماعي
من خلال قراءة المركز المالي للشركة، كما في (31 ديسمبر 2003م)(10) يتضح ما يلي:
أ. إجمالي موجودات الشركة: (1,563,107,000) ريال سعودي.
ب. الاستثمارات:
لم يرد في قوائم الشركة أنها تستثمر جزءاً من أموالها في معاملات محرمة.
ج. القروض:
لم يرد في قوائم الشركة أنها اقترضت قرضاً محرماً.
والذي يظهر للباحث أن الشركة تمول احتياجاتها عن طريق المرابحات الشرعية؛ لأنه ورد في قائمة المركز المالي ضمن المطلوبات " أقساط عقود مرابحة"، وإن كان ورد في قائمة المطلوبات أنها مدينة لبعض البنوك، لكنها لم تفصح عن حقيقة الدين هل هو شرعي أم ربوي.
د. الإيرادات:
أفصحت الشركة عن صافي إيراداتها بمبلغ قدره: (53,623,000) ريال سعودي.
وأظهرت القوائم أن جميع إيراداتها مباحة إلا أنها لم تفصح عن طبيعة الإيرادات المتنوعة والتي بمبلغ قدره (3,445,000) ريال سعودي.
فالذي يظهر للباحث أن هذه الشركة أعمالها جميعها مباحة، بشرط أن تكون إيراداتها المتنوعة السابق ذكرها مباحة.
االشركة الثانية: شركة جرير للتسويق
من خلال قراءة المركز المالي للشركة، كما في (31 ديسمبر 2003م) (9) يتضح ما يلي:
أ. إجمالي موجودات الشركة: (587,694,514) ريال سعودي.
ب. الاستثمارات:
لم يرد في قوائم الشركة أنها تستثمر جزءاً من أموالها في معاملات محرمة.
ج. القروض:
أفصحت الشركة عن تسهيلات مصرفية بمبلغ قدره (90,833,348) ريال سعودي، على شكل قروض لتمويل اعتمادات مستندية ومتطلبات لرأس المال العامل، وأن هذه التسهيلات خاضعة للفائدة طبقاً لأسعار الفائدة السائدة في السوق.
فتكون نسبة هذه القروض المحرمة لإجمالي الموجودات: (15.45 %).
د. الإيرادات:
أفصحت الشركة عن صافي إيراداتها بمبلغ قدره: (108,807,185) ريال سعودي.
وذكرت من ضمن الإيرادات " إيرادات أجار وأخرى " ولكنها لم تفصح عنها، وهذا مما يؤخذ على الشركة.
الشركة الثالثة: شركة الرياض للتعمير
من خلال قراءة المركز المالي للشركة، كما في (31 ديسمبر 2003م) (8) يتضح ما يلي:
أ. إجمالي موجودات الشركة: (1,432,273,547) ريال سعودي.
ب. الاستثمارات:
لم يرد في قوائم الشركة أنها تستثمر جزءاً من أموالها في معاملات محرمة قطعاً، لكنها ذكرت أنها تستثمر أموالها في ثلاثة أنواع من الاستثمارات:
الأول: في الصناديق الاستثمارية، بمبلغ قدره (96,742,687) ريال سعودي، ولم تفصح عن نوعية هذه الصناديق، لكن ذكرت الشركة في تقريرها " أنها تستثمر الفائض من أموال الشركة مع البنوك في المضاربات الإسلامية وفق عقود تم إقرارها شرعاً".
الثاني: في الأوراق المالية بمبلغ قدره (600,000) ريال سعودي، ولم تفصح عن نوعية هذه الأوراق هل هي سندات أو أسهم؟ وإن كانت أسهماً هل هي مباحة أو محرمة؟ لكن ذكرت الشركة أنها استثمرت بنفس المبلغ المذكور في شركة إسمنت تبوك، فلعل المبلغ المذكور يكون في شركة إسمنت تبوك.
الثالث: في مساهمات الأراضي بمبلغ قدره (100,638,449) ريال سعودي، وهذه الأصل فيها الإباحة.
ج. القروض:
لم يرد في قوائم الشركة أنها اقترضت قرضاً محرماً.
د. الإيرادات
أفصحت الشركة عن صافي إيراداتها بمبلغ قدره: (113,497,349) ريال سعودي.(/3)
لكن ذكرت تحت بند إيرادات أخرى مبلغاً قدره (48,067) ريال سعودي، ولم تفصح عن نوعية هذا الإيراد، وهذا مما يؤخذ على الشركة.
فالذي يظهر للباحث أن هذه الشركة جميع أعمالها مباحة بشرطين:
الأول: أن تكون الإيرادات الأخرى التي لم توضحها الشركة كلها مباحة.
الثاني: أن تكون شركة إسمنت تبوك من الشركات التي جميع معاملاتها مباحة؛ لأن شركة الرياض للتعمير استثمرت في شركة أسمنت تبوك (600,000) ريال سعودي.
الشركة الرابعة: شركة العقارية السعودية
من خلال قراءة المركز المالي للشركة، كما في (31 ديسمبر 2003م) (7) يتضح ما يلي:
أ. إجمالي موجودات الشركة: (1,456,225,577) ريال سعودي.
ب. الاستثمارات:
ذكرت الشركة أنها استثمرت جزءاً من رأس مالها في السندات الحكومية بمبلغ قدره (123,026,979) ريال سعودي.
وبالتالي تكون نسبة هذا الاستثمار المحرم لإجمالي الموجودات: (8.44 %)
كما أنها ذكرت أنها استثمرت جزءاً من رأس مالها في مشروع الأمانة مع البنك السعودي البريطاني بمبلغ قدره (16,891,523) ريال سعودي، ومشروع الأمانة مجاز من الهيئة الشرعية لدى البنك.
ج. القروض:
لم يرد في قوائم الشركة أنها اقترضت قرضاً محرماً، إلا أنها ذكرت أنها مدينة لعدد من البنوك، ولم تفصح عن طبيعة الدين.
د. الإيرادات:
أفصحت الشركة عن صافي إيراداتها بمبلغ قدره: (121,706,880) ريال سعودي.
ومن ضمنها إيرادات من السندات والأسهم بمبلغ قدره (1,642,203) ريال سعودي.
ويؤخذ على الشركة أنها لم تفصل بين إيرادات السندات والأسهم حتى يعرف المساهم الإيراد المحرم ليتخلص منه.
وذكرت كذلك إيرادات أخرى بمبلغ قدره (2,814,479) ريال سعودي، ولم تفصح عن نوعيتها.
المطلب الثالث: دراسة لقوائم شركة قطاع الاتصالات
وبما أنه لا يوجد في هذا القطاع إلا شركة واحدة وهي شركة الاتصالات السعودية ستكون هي مجال الدراسة فقط.
شركة الاتصالات السعودية
من خلال قراءة المركز المالي للشركة، كما في (31 ديسمبر 2003م)(6) يتضح ما يلي:
أ. إجمالي موجودات الشركة: (41,772,210,000) ريال سعودي.
ب. الاستثمارات:
استثمرت الشركة مبلغاً قدره (2,107,000,000) ريال سعودي، وذلك في حسابات ودائع قصيرة الأجل لدى البنوك، بمعدل فائدة (2.3 %) وبلغ إجمالي الفوائد المستحقة من هذا الإيداع (6.2 مليون ريال سعودي)
وبالتالي يكون نسبة هذا الاستثمار لإجمالي موجوداتها: (5.04 %).
وكانت الشركة تستثمر جزءاً من أموالها في السندات الحكومية لعام 2002م، لكنها في عام 2003م لم تستثمر أموالها في هذه السندات، وهذا يكتب لصالح الشركة.
ج. القروض:
أفصحت الشركة أنها لم تقم بالاقتراض للعام الميلادي 2003م وهذا مما يكتب لصالح الشركة.
مع العلم أن الشركة انتهت من تسديد قرض طويل الأجل مستحق من عام 2001م، بقيمة (2500 مليون ريال).
لكن لدى الشركة اتفاقيات تسهيلات ائتمانية قصيرة الأجل غير مستخدمة، قابلة للتجديد مع ثلاث بنوك محلية بقيمة (1500 مليون ريال).
د. الإيرادات:
أفصحت الشركة عن صافي إيراداتها بمبلغ قدره: (8,525,262,000) ريال سعودي.
لكن من ضمن هذه الإيرادات إيرادات محرمة هي:
أولاً: إيرادات من ودائع لدى البنوك بمبلغ (32.8 مليون ريال).
ثانياً: إيرادات من حسابات جارية (4.2 مليون ريال).
ثالثاً: إيرادات من استثمارات قصيرة الأجل (6.2 مليون ريال)
فيكون مجموع هذه الإيرادات (43,200,000) ريال سعودي أي (43.2 مليون سعودي).
فتكون نسبة الإيراد المحرم لإجمالي الربح: (0.5 %).
المطلب الرابع: دراسة لقوائم بعض الشركات من قطاع الإسمنت.
الشركة الأولى: شركة إسمنت اليمامة
من خلال قراءة المركز المالي للشركة، كما في (31 ديسمبر 2003م) (5) يتضح ما يلي:
أ. إجمالي موجودات الشركة: (1,488,773,560) ريال سعودي.
ب. الاستثمارات:
أفصحت الشركة عن استثمارها في سندات الحكومة بمبلغ قدره (250,000,000) ريال سعودي.
كما أنها أودعت لدى البنوك – إيداعاً لأجل – مبلغاً قدره (356,250,000) ريال سعودي.
فيكون مجموع الاستثمار المحرم (615,250,000) ريال سعودي.
وبالتالي تكون نسبة هذا الاستثمار لإجمالي الموجودات: (41.32 %).
ج. القروض:
لم يرد في قوائم الشركة أنها اقترضت قرضاً محرماً، ولذي يظهر للباحث أن الشركة ليست بحاجة إلى قروض، والسيولة النقدية لديها عالية جداً ولهذا استثمرت حوالي 40% من موجوداتها بمعاملات محرمة.
د. الإيرادات:
أفصحت الشركة عن صافي إيراداتها بمبلغ قدره: (388,596,210) ريال سعودي.
وبلغ إيرادات استثمارها من سندات الحكومة (8,726,469) ريال سعودي.
فتكون نسبة هذا الإيراد لصافي الإيرادات: (2.24 %).
ولم تفصح الشركة عن نوعية الإيرادات المتنوعة والتي تبلغ (8,843,441) ريال سعودي.
وكذلك لم تفصح الشركة عن إيرادها من ودائعها لدى البنوك، ويحتمل أن يكون هو الإيراد المتنوع.
الشركة الثانية: شركة إسمنت المنطقة الشرقية(/4)
من خلال قراءة المركز المالي للشركة، كما في (31 ديسمبر 2003م) (4) يتضح ما يلي:
أ. إجمالي موجودات الشركة: (1,403,290,000) ريال سعودي.
ب. الاستثمارات:
أفصحت الشركة عن استثمارها في سندات التنمية الحكومية بملغ قدره (446,000,000) ريال سعودي.
وبالتالي تكون نسبة الاستثمار المحرم لإجمالي الموجودات: (31.78 %).
ج. القروض:
لم يرد في قوائم الشركة أنها اقترضت قرضاً محرماً، ولذي يظهر للباحث أن الشركة ليست بحاجة إلى قروض، والسيولة النقدية لديها عالية جداً ولهذا استثمرت حوالي 30% من موجوداتها بمعاملات محرمة.
د. الإيرادات:
أفصحت الشركة عن صافي إيراداتها بمبلغ قدره: (250,757,000) ريال سعودي.
ولكنها لم تفصح عن إيراداتها من السندات الحكومية، بل ذكرت هذا مجملاً تحت بند: إيرادات استثمارات بمبلغ قدره (19,775,000) ريال سعودي، والشركة تستثمر جزءاً من أموالها في الأسهم، فهذا الإيراد هو مجموع من استثمارها في السندات والأسهم، وهذا مما يؤخذ على الشركة أنها لم تفصل في ذلك.
وكذلك ذكرت الشركة تحت بند إيرادات أخرى مبلغاً قدره (4,695,000) ريال سعودي، ولم تفصح عن نوعية هذا الإيراد.
المطلب الخامس: دراسة لقوائم بعض الشركات من قطاع الزراعة.
الشركة الأولى: شركة تبوك للتنمية الزراعية (تادكو)
من خلال قراءة المركز المالي للشركة، كما في (31 ديسمبر 2003م) (3) يتضح ما يلي:
أ. إجمالي موجودات الشركة: (354,268,048) ريال سعودي.
ب. الاستثمارات:
أفصحت الشركة عن استثمارها في الصناديق الاستثمارية بمبلغ قدره (14,000,000) ريال سعودي. وأكدت الشركة أن استثمارها في الصناديق وفق الشريعة الإسلامية، وهذا مما يسجل في صالح الشركة.
ج. القروض:
أفصحت الشركة عن قرض بمبلغ (7,500,000) ريال سعودي، وهذا القرض من وزارة المالية والاقتصاد الوطني " الإدارة العامة للقروض والإعانات "، ولم يظهر في الإيضاح هل هذا القرض ربوي أو لا؟
د. الإيرادات:
أفصحت الشركة عن صافي إيراداتها بمبلغ قدره: (15,756,582) ريال سعودي.
وأفصحت عن مجموعة من الإيرادات كلها مباحة، لكن ذكرت تحت بند إيرادات متنوعة مبلغاً قدره (1,445,265) ريال سعودي، ولم توضح نوعية هذا الإيراد.
فالذي يظهر للباحث أن هذه الشركة جميع معاملاتها مباحة بشرطين:
الأول: أن يكون القرض الذي حصلت عليه من وزارة المالية قرضاً غير ربوي.
الثاني: أن تكون الإيرادات المتنوعة السابق ذكرها جميعها مباحة.
الشركة الثانية: الشركة الوطنية للتنمية الزراعية (نادك).
من خلال قراءة المركز المالي للشركة، كما في (31 ديسمبر 2003م) (2) يتضح ما يلي:
أ. إجمالي موجودات الشركة: (1,066,131,961) ريال سعودي.
ب. الاستثمارات:
أفصحت الشركة عن نوعين من استثماراتها:
الأول: استثمارات مرابحة بمبلغ قدره (10,000,000) ريال سعودي.
الثاني: استثمارات في صناديق استثمارية في بنك الرياض بمبلغ قدره (52,000,000) ريال سعودي.
فإذا كانت الصناديق وفق الشريعة الإسلامية فإن جميع استثمارات الشركة مباحة.
ج. القروض:
أفصحت الشركة عن سدادها لآخر قسط من قرض صندوق التنمية الصناعي بمبلغ قدره (9,830,000) ريال سعودي، ولم تفصح الشركة عن طبيعة القرض هل هو ربوي أو لا.
د. الإيرادات:
أفصحت الشركة عن صافي إيراداتها بمبلغ قدره: (27,544,722) ريال سعودي.
وأفصحت الشركة عن مجموعة من الإيرادات كلها مباحة، لكن ذكرت تحت بند إيرادات أخرى مبلغاً قدره (1,040,005) ريال سعودي، ولم توضح نوعية هذا الإيراد.
فالذي يظهر للباحث أن هذه الشركة جميع معاملاتها مباحة بثلاثة شروط:
الأول: أن يكون القرض الذي حصلت عليه من صندوق التنمية الصناعي قرضاً غير ربوي.
الثاني: أن تكون الإيرادات المتنوعة السابق ذكرها جميعها مباحة.
الثالث: أن يكون استثمارها في صناديق بنك الرياض الاستثمارية وفق الشريعة الإسلامية.
المطلب السادس: دراسة لقوائم بعض الشركات من قطاع البنوك.
وبما أنه لا يوجد بنك إسلامي في السوق السعودية – فيما يعلم الباحث - خالٍ من جميع المعاملات المحرمة إلا شركة الراجحي المصرفية، لهذا ستكون هي مجال الدراسة.
شركة الراجحي المصرفية للاستثمار
من خلال قراءة المركز المالي للشركة، كما في (31 ديسمبر 2003م) (1)، يتضح ما يلي:
أ. إجمالي الموجودات: (64,678,324,000) ريال سعودي.
ب. الاستثمارات:
أفصحت الشركة عن صافي استثماراتها بمبلغ قدره (45,365,318,000) ريال سعودي.
فتكون نسبة هذه الاستثمارات لإجمالي الموجودات: (70.13 %).
وجميع هذه الاستثمارات مباحة ومجازة من هيئتها الشرعية وهي خمسة أنواع:
النوع الأول: المتاجرة بمبلغ قدره (33,708,378) ريال سعودي.
ونسبته لإجمالي الموجودات: (52.21 %).
النوع الثاني: بيع التقسيط بمبلغ قدره (14,982,015,000) ريال سعودي.
ونسبته لإجمالي الموجودات: (23.16 %).
النوع الثالث: عقود الاستصناع بمبلغ قدره (3,420,237,000) ريال سعودي.(/5)
ونسبته لإجمالي الموجودات (5.28 %).
النوع الرابع: عقود مرابحة بمبلغ قدره (2,063,050,000) ريال سعودي.
ونسبته لإجمالي الموجودات (3.18 %)
النوع الخامس: استثمارات متنوعة بمبلغ قدره (191.638,000) ريال سعودي.
ونسبته لإجمالي الموجودات (0.29 %).
ج. القروض
غير متصور أن تقوم الشركة بالاقتراض، لكن بما أنها مؤسسة مالية يودع فيها أموال الناس فهذه الودائع هل هي على اسمها وديعة أم نرجع إلى حقيقتها وهي أنها قرض؟ اختلف فيها العلماء المعاصرون على قولين، والقول الصحيح المتعين أنها قروض، وبالتالي جميع الودائع التي لدى البنك تعتبر قروضا عليه، لكن مما يميز شركة الراجحي عن غيرها أنها لا تعطي فوائد على الودائع سواء كانت لأجل أو تحت الطلب.
ومن خلال قراءة قوائمها أفصحت الشركة عن حسابات عملائها الجارية بمبلغ قدره (47,200,904,000) ريال سعودي.
ونسبة هذه القروض لإجمالي الموجودات (72.97 %).
وذكرت أيضاً حسابات أخرى عبارة عن تأمينات واعتمادات وشيكات مقبولة وحوالات بمبلغ قدره (2,067,988,000) ريال سعودي.
ونسبة هذه الحسابات لإجمالي الموجودات (3.19 %).
وذكرت الشركة أنها مطلوبة لبنوك خارجية بمبلغ قدره (638,850,000) ريال سعودي، ونسبة هذه المطلوبات لإجمالي الموجودات (1.05 %)، ولم تفصح الشركة عن طبيعة هذه الديون.
د. الإيرادات:
أفصحت الشركة عن صافي إيراداتها بمبلغ قدره: (2,038,120,000) ريال سعودي.
كل الإيرادات التي ذكرتها الشركة إيرادات مباحة، وكغيرها من الشركات السابقة فهي ذكرت تحت بند " دخل العمليات الأخرى " مبلغاً قدره (63,024,000) ريال سعودي، ولم تفصح عن نوعية هذا الدخل.
تنبيه:
مما سبق ذكره عن نشاط شركة الراجحي يظهر للعيان أن الشركة جميع أنشطتها مباحة، وهي من المؤسسات المالية القلائل التي أكدت جديتها في شرعية معاملاتها.
لكن مما يلاحظ على الشركة، وغيرها من البنوك الإسلامية، أن أغلب موجوداتها من الديون، فالاستثمارات التي سبق ذكرها هي في الحقيقة ديون للشركة على الغير.
والسهم كما هو معلوم " جزء مشاع من موجودات الشركة " فالذي يبيع السهم إنما يبيع هذا الجزء المشاع، فإذا كان أغلب موجودات الشركة ديوناً فإن المتاجر إنما يبيع ديناً، فتكييف البيع يكون: (بيع الدين لغير من هو عليه) وجمهور العلماء على تحريمه.
إلا أنه قد يناقش هذا الاعتراض فيقال: إن الموجودات التي ذكرت في قوائم الشركة خالية من قيمة الشركة المعنوية، فلم يذكر في القوائم القيمة المعنوية للشركة وهي كما هو معلوم عالية جداً، ويكفي أن سهم الراجحي هو أغلى سهم في السوق السعودي حيث وصل في بعض أيام التداول " 1250" ريال سعودي.
فلو ذكرت القيمة المعنوية للشركة لأصبحت طاغية على هذه الديون، ومن المتقرر عند العلماء المعاصرين أن القيمة المعنوية هي عرض من العروض يباع ويشترى، وبالتالي تأخذ موجودات الراجحي حكم العروض، وهذه الديون تكون تبعاً، ويجوز تبعاً ما لا يجوز استقلالاً، والمسألة تحتاج إلى بسط وتحرير ليس هذا محله.
المطلب السابع: دراسة لقوائم بعض الشركات من قطاع الكهرباء.
وبما أنه لا يوجد إلا شركة واحدة وهي الشركة السعودية للكهرباء، فستكون هي مجال الدراسة.
الشركة السعودية للكهرباء
من خلال قراءة المركز المالي للشركة، كما في (31 ديسمبر 2003م) (11)، يتضح ما يلي:
أ. إجمالي الموجودات: (101,376,854,000) ريال سعودي.
ب. الاستثمارات:
أفصحت الشركة عن استثمارها عن طريق الودائع قصيرة الأجل في البنوك بمبلغ قدره (1,040,232,000) ريال سعودي.
فتكون نسبة هذا الاستثمار لإجمالي موجوداتها (1.02) %.
كما أن الشركة كانت تستثمر أموالها في سندات الحكومة في عام 2002 م لكنها في عام 2003م أنهت هذا الاستثمار، فهذا يكتب لصالح الشركة.
ج. القروض:
أفصحت الشركة عن قروض طويلة الأجل من بنوك تجارية بمبلغ قدره (4,034,974,000) ريال سعودي.
فتكون نسبة هذا القرض المحرم لموجودات الشركة: (3.98 %).
د. الإيرادات:
أفصحت الشركة عن صافي إيراداتها بمبلغ قدره (1,408,443,000) ريال سعودي.
وكغيرها من الشركات لم تفصح عن بعض الإيرادات التي جعلتها تحت مسمى " صافي إيرادات ومصروفات أخرى " وهي بمبلغ قدره (135,143,000) ريال سعودي.
مع أنها ذكرت أن هذه الإيرادات غير تشغيلية، أي ليست داخلة في صميم عملها.
خلاصة الدراسة
من خلال ما سبق بيانه يتضح ما يلي:
أن الشركات المساهمة تنقسم من حيث طبيعة عملها: هل هو مباح أو حرام؟ إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما كان عملها مباحاً بالكامل، أي لا تزاول أي عمل محرم، وهذا مثل البنوك الإسلامية الجادة في أسلمة معاملاتها، كشركة الراجحي المصرفية، وكذلك مثل شركة النقل الجماعي، وشركة الرياض للتعمير، وشركة تبوك الزراعية وكذلك شركة نادك الزراعية إذا توفرت الشروط السابق ذكرها أثناء دراسة قوائم هذه الشركات.(/6)
القسم الثاني: ما كان عملها محرماً بالكامل أو بالأغلب، وهذه مثل البنوك الربوية.
القسم الثالث: ما كان عملها في الأصل مباحا ولكنها تتعامل بالمحرم من إيداع بفوائد أو تقترض و تقرض بفوائد أو تستثمر أموالها بمعاملات محرمة قطعاً كالسندات. وهذه مثل شركة سابك والدوائية والاتصالات والكهرباء، وهذه الشركات تتفاوت فيما بينها ما بين مقل ومكثر في تعاملها بالمحرم.
فما حكم هذه الأنواع الثلاثة من الشركات؟
أما النوع الأول فلا إشكال في إباحته.
و النوع الثاني كذلك لا إشكال في حرمته.
وأما النوع الثالث فقد اختلف فيه العلماء المعاصرون على أربعة أقوال:
القول الأول: الجواز بشروط، وهو مما أفتت به هيئة الراجحي الشرعية.
القول الثاني: الجواز في شركات القطاع العام والتحريم في غيرها، وهو قول الدكتور مصطفى الزرقا رحمه الله.
القول الثالث: أن ذلك يرجع إلى حسب نية المساهم فإن كان بقصد المتاجرة فإنه يجوز مطلقاً وإن كان بقصد الاستثمار فيحرم. وهذا قول الشيح السلامي .
القول الرابع: التحريم مطلقاً، وهو قول جماهير أهل العلم ومما أفتى به سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، واللجنة الدائمة للإفتاء ، وصدر به قرار المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، وكذلك المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي، وما قال به عدد من الهيئات الشرعية مثل بيت التمويل الكويتي، وكذلك الهيئات الشرعية التابعة للبنوك الإسلامية في السودان (12).
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
________________________________________
(1) صحيفة الجزيرة (الأربعاء 10/2 /1425هـ العدد 11507).
(2) صحيفة الرياض (الأربعاء 6/12 /1424هـ العدد 13001).
(3) صحيفة الجزيرة (الأربعاء 26/1 /1425هـ العدد 11493).
(4) صحيفة الجزيرة (الاثنين 24/1 /1425هـ العدد 11491).
(5) صحيفة الجزيرة (السبت 23/12 /1424هـ العدد 11461).
(6) صحيفة الجزيرة (الأربعاء 3/2 /1425هـ العدد 11500).
(7) صحيفة الجزيرة (الأربعاء 27/12 /1424هـ العدد 11465).
(8) صحيفة الجزيرة (الأربعاء 5/1 /1425هـ العدد 11472).
(9) صحيفة الجزيرة (الأربعاء 5/1 /1425هـ العدد 11472).
(10) صحيفة الجزيرة (الأربعاء 6/12/1424هـ العدد 11444).
(11) صحيفة الجزيرة (الأحد 30/1 /1425هـ العدد 11497).
(12) وسوف تنشر مجلة البيان بحثاً للباحث في هذه المسألة بذكر الأدلة والمناقشة بالتفصيل بإذن الله تعالى.(/7)
دراسة حديث الجهنميين
عبد الرحيم بن صمايل السلمي 26/12/1423
27/02/2003
المقدمة :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :
فإنَّ حديث الشفاعة الطويل من الأحاديث المهمة في العقيدة ؛ لأنه يشتمل على مسائل كثيرة في باب الرؤية والشفاعة وصفة الجنة والنار والإيمان واليوم الآخر والصفات والوعد والوعيد وغيرها من المسائل .
ويوجد في هذا الحديث الطويل روايات مشكلة اختلفت فيها الآراء وتعددت فيها الأقوال.
وحديث الجهنميين هو جزء من حديث الشفاعة الطويل وهو الفقرة التي ذُكر فيها خروج عصاة الموحدين من النار فهم آخر هؤلاء العصاة الخارجين من النار وقد ورد في وصفهم مجموعة روايات تصفهم بأنهم يقولون لا إله إلا الله ويتركون الشرك ويعرفون بأثر السجود يعني من أهل الصلاة ووردت رواية صارت موضوع إشكال عند العلماء واختلفوا في المراد بها وهي قوله " لم يعملوا خيراً قط " فإن الظاهر الصرف من هذه الرواية وحدها يقتضي أنهم ليسوا من المسلمين مما يدل على مناقضة الروايات التي تصفهم بما تقدم .
ولهذا تعددت التصورات في حقيقة هؤلاء : هل هم لم يعملوا أي عملٍ من أعمال الإسلام أبداً ؟ أم عملوا عملاً قليلاً ناقصاً أمكن وصفهم بأنهم لم يعملوا عملاً كاملاً قط؟
وقبل ذلك : ما هو حال هذه الرواية من حيث الصحة والضعف ؟ ولأن هذه المسألة تتعلق بأصل الإيمان المنجي وحده الأدنى كان لابد من معرفة القول الحق في هذه الرواية المشكلة في الحديث . فالمعني بالدراسة في هذا البحث هو حديث الجهنميين من حيث تخريجه ومعانيه اللغوية وتوجيه الرواية المشكلة فيه .
وقسمتُ هذا البحث إلى ثلاث مباحث :
المبحث الأول : تخريج حديث الجهنميين .
المبحث الثاني : المعاني اللغوية في الحديث .
المبحث الثالث : بيان معنى قوله " لم يعملوا خيراً قط " والرد على المرجئة .
أسأل الله تعالى التوفيق والسداد والإخلاص في العلم والعمل
المبحث الأول : تخريج حديث الجهنميين
المطلب الأول : التخريج العام لحديث الجهنميين :
روى مسلم في صحيحه بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه :
أن ناساً قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ! هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( هل تُضارُّون في رؤية القمر ليلة البدر ؟ قالوا : لا يا رسول الله قال : هل تُضارُّون في الشمس ليس دونها سحاب ؟ قالوا : لا يا رسول الله قال : " فإنكم ترونه كذلك ..." ثم ساق حديثاً طويلاً وفيه ذكر الجهنميين في قوله صلى الله عليه وسلم : " حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار " أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئاً ممن أراد الله أن يرحمه ممن يقول لا إله إلا الله فيعرفونهم في النار يعرفونهم بأثر السجود . تأكل النار من ابن آدم إلاَّ أثر السجود حرَّم الله على النار أن تأكل أثر السجود. فيُخرجون من النار وقد امتحشوا . فيُصبّ عليهم ماء الحياة فينبتون منه كما تنبت الحبَّة في حميل السيل . " الحديث
وقد جاء الحديث بألفاظ متقاربة وروي مطولاً ومختصراً .
وقد روى حديث الجهنميين عدد من الصحابة رضي الله عنهم وجاءت أحاديثهم على النحو التالي :
1-حديث أبي هريرة – رضي الله عنه - .
رواه البخاري في صحيحه في – كتاب صفة الصلاة – باب صفة السجود –برقم(773)وفي – كتاب الرقاق – باب صفة الجنة والنار وفي - كتاب التوحيد – باب قوله تعالى : " وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة " – برقم (7437) .
من حديث سعيد بن المسيب وعطاء بن يزيد الليثي عنه .
ورواه مسلم في صحيحه – كتاب الإيمان – باب معرفة طريق الرؤية – برقم (299) ورواه أحمد (2/ 400) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 384) : " وفيه صالح مولى التوأمة وهو ضعيف " وفيه قوله " ليتمجدن الله يوم القيامة على أُناس لم يعملوا خيراً قط ... " .
2- حديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه .
رواه البخاري في صحيحه في – كتاب التوحيد – باب قوله تعالى : وجوه يومئذٍ ناظرة إلى ربها ناظرة " – برقم (7439) ومسلم في صحيحه في – كتاب الإيمان – باب معرفة الرؤية – برقم (302) وأحمد (3/ 94) عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عنه .
ورواه البخاري في صحيحه في – كتاب الإيمان – باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال – برقم (22) وفي – كتاب الرقاق – باب صفة الجنة والنار – برقم (6560) ومسلم في صحيحه في – كتاب الإيمان – باب معرفة الرؤية – عن يحيى بن عمارة عن أبي سعيد .
كما رواه مسلم في صحيحه من وجه آخر في – كتاب الإيمان – باب معرفة الرؤية– برقم (306) و (307) عن أبي نضرة عنه .
ورواه ابن حبان في صحيحه كما في موارد الظمأن (ص 646) عن صالح بن أبي طريف عنه .
3-حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - .(/1)
رواه أحمد (3/ 326) وابن حبان (الاحسان 1/ 203) برقم( 183)،والطبراني في الأوسط كما في مجمع الزوائد (10/ 379) وقال الهيثمي : ورجاله رجال الصحيح غير بسام الصيرفي وهو ثقة .
4-حديث المغيرة بن شعبة – رضي الله عنه - .
رواه محمد بن نصر المروزي في تعظيم قدر الصلاة (1 / 277 279) برقم(268 269) . وابن ماجه – كتاب الزهد – باب ذكر الشفاعة – برقم( 4315 )،والطبراني في الأوسط كما في مجمع الزوائد (10/ 379) وقال الهيثمي : "فيه عبد الرحمن ابن اسحاق وهو ضعيف" .
5-حديث أنس بن مالك – رضي الله عنه - .
رواه البخاري – كتاب الرقاق – باب صفة الجنة والنار – برقم 6559 والطبراني في الأوسط كما في مجمع الزوائد (10/ 380) وقال الهيثمي:"وفيه من لم أعرفهم" رواه أحمد (3 / 125 126 134 144 183 208 255 260 ) .
وأبو يعلى في مسنده ( 5/ 267 344 391 475 ) برقم (2886 2978 305 3206 ) .
6-حديث عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه - .
رواه أحمد (1/ 454) عن عطاء بن السائب عن عمرو بن ميمون عنه .
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10 / 383) : " رواه أحمد وأبو يعلى ورجالهما رجال الصحيح غير عطاء بن السائب وهو ثقة ولكنه اختلط " .
7-حديث عمران بن حصين – رضي الله عنه .
رواه البخاري – كتاب للرقاق – باب صفة الجنة والنار – برقم 6566 ورواه أحمد (4/ 434) وأبو داود في سنته – كتاب السنة – باب في الشفاعة – برقم (4740) والترمذي – كتاب صفة جهنم – برقم (2600) .
8-حديث حذيفة بن اليمان – رضي الله عنه .
رواه أحمد (5/ 391 402) وابن أبي عاصم في السنة ص / 835 وابن خزيمة في التوحيد 2/ 664 والآجري في الشريعة ص / 346 عنه .
المطلب الثاني : تخريج رواية " لم يعملوا خيراً قط " .
سبق أن بينتُ أن حديث الجهنميين رواه ثمانية من الصحابة الكرام رواية مختصر ومطولة .
ولم يرد في رواية الثمانية جميعاً هذه الزيادة " لم يعملوا خيراً قط " إلاّ في حديث عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عند مسلم (1). وقد رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري من غير طريق عطاء بن يسار وليس فيه هذه الزيادة فقد رواه عن يحيى بن عمارة (2) وأبي نضرة (3) ورواه ابن حبان عن صالح بن أبي طريف عنه دون الزيادة . وقد روى مسلم هذا الحديث في آخر الباب بعد سياقه لحديث أبي هريرة رضي الله عنه ولم يذكر في حديثه عنده الرواية السابقة .
قد يقول قائل : هذه الرواية يشهد لها روايتان في الحديث :
الأولى : ما رواه أحمد في حديث أبي هريرة ولفظه : " ليتمجدن الله يوم القيامة على أُناس لم يعملوا خيراً قط ... " الحديث (4).
الثانية : ما رواه البخاري عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري وفيه " فيقول أهل الجنة هؤلاء عتقاء الرحمن أدخلهم الله الجنة بغير عملٍ عملوه ولا خير قدموه " (5). وأرى أن هاتين الروايتين لا تصلحان في الشواهد لما يلي :
أولاً : أن حديث أبي هريرة ضعيف فيه صالح مولى التوأمة (6).
ثانياً : أن رواية البخاري من نفس الطريق المروي به الزيادة عند مسلم فهما حديث واحد وقد يكون روى بالمعنى .
ثالثاً : أن رواية مسلم منسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأما رواية البخاري فمنسوبة إلى أهل الجنة فاختلفت جهة النسبة فلا يصح أحدهما شاهدا للآخر .
وهل تعتبر هذه الزيادة من زيادة الثقة فتكون مقبولة ؟
يشترط في زيادة الثقة عدم المخالفة لمن هو أوثق منه وظاهر رواية عطاء بن يسار عن أبي سعيد رضي الله عنه مخالف لبقية الرواة عن أبي سعيد ومخالف لبقية من روى حديث الجهنميين الذين وصفوا في الأحاديث الأخرى بأنهم " يشهدون أن لا إله إلا الله ويعبدون الله ولا يشركون به شيئاً ومن أهل الصلاة " . بينما في الزيادة أنهم لم يعملوا خيراً قط .
والظاهر أن هذه الزيادة شاذة إذا أُخذت على ظاهرها أو صحيحة إذا أمكن الجمع بينها وبين بقية الروايات بجمع صحيح .
المبحث الثاني : المعاني اللغوية في الحديث(/2)
سبق أن بينتُ أن حديث الجهنميين جزء من حديث الشفاعة الطويل وسأذكر جملة من ألفاظ الحديث التي تحتاج إلى بيان معانيها اللغوية "سَفْع" أي : سواد فيه زرقة أو صفرة يقال : سفعته النار إذا لفحته فغيّرت لون بشرته (7). "امتحشَوا" أي : احترقوا يقال : امتحش الخبز أي : احترق . ويقال : محشته النار وأمحشته والمعروف : أمحشَه (8). "الحِبّة" : قال ابن شميل : "الحبة (بكسر الحاء) اسم جامع لحبوب البقول التي تنتشر إذا هاجت ثم إذا مطرت قابل نبتت" . وقال أبو عمرو : "الحِبّة نبت ينبت في الحشيش الصغار" . وقال ابن دريد في الجمهرة : "كل ما كان من بَزْر العشب فهو حبّة". والجمع حِبب (9).·"حميل" : قال أبو سعيد الضرير : "حميل السيل ما جاء به من طين أو غثاء فإذا اتفق فيه الحِبّة واستقرت على شط مجرى السيل فإنها تنبت في يوم وليلة وهي أسرع نابتة نباتاً" . قال المازري : "وإنما أخبر صلى الله عليه وسلم من سرعة نباتهم" (10). ·"قشبني" قال الجوهري : "قشبني يقشبني أي أذابني كأنه قال : سمّني ريحه .. والقشيب : السم والجمع أقشاب" (11) قال القرطبي : (قوله : "قشبني ريحها" أي غيّر جلدي وصورتي وسَوّدني – وأحرقني قاله الحربي ) (12). ·"حمماً" : الحُمَم : الفحم واحده حممة (13). "ضبائر" : قال الهروي : "ضبائر جمع ضِبارة ( بكسر الضاد ) مثل عمارة وعمائر والضبائر : جماعات الناس يقال : رأيتهم ضبائر أي جماعة في تفرقة" (14). "قَطّ" : بفتح القاف وتشديد الطاء ظرف لاستغراق الزمن الماضي ويشترط أن يسبقها نفي .
ومنه قول الفرزدق :
ما قال لا قط إلاَّ في تشهده ... ...
لولا التشهد كانت لاؤَه نعمُ(15)
المبحث الثالث : بيان معنى قوله " لم يعملوا خيراً قط " والرد على المرجئة
ورد في وصف الجهنميين في الأحاديث بالأوصاف التالية :
1-لا يشركون بالله شيئاً (16).
2-يقولون لا إله إلا الله (17).
3-يعرفون بأثر السجود (18).
وهذه الأوصاف مأخوذة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه : " حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد , وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار , أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئاً , ممن أراد الله تعالى أن يرحمه ممن يقول لا إله إلا الله , فيعرفونهم في النار . يعرفونهم بأثر السجود . تأكل النار من ابن آدم إلا أثر السجود . حرّم الله على النار أن تأكل أثر السجود , فيُخْرَجون من النار وقد امتحشوا ... " الحديث . وظاهر رواية " لم يعملوا خيراً قط " معارضة لوصف الجهنميين بهذه الأوصاف , ولهذا كانت هذه الرواية فيها إشكال يحتاج إلى بيان وتوضيح .
وقد احتج بهذا الحديث طائفتان :
إحداهما : من يرى أن الإيمان هو تصديق القلب فقط , ولا يدخل في حقيقته قول اللسان وعمل القلب والجوارح , وهم مرجئة المتكلمين من الأشاعرة و الماتريدية .
والثانية : من يرى أن الإيمان تصديق القلب وقول اللسان وعمل القلب ويستدل بهذا الحديث على أن ترك جميع أعمال الجوارح إلا الشهادتين لا يخرج من الإيمان .
والحق أنه ليس لهما دليل في هذه الرواية على ما ذهبوا إليه .
أولاً : الرد على مرجئة المتكلمين ( غلاة المرجئة ) :
أخذ الغزالي في إحياء علوم الدين من هذا الحديث أن العمل ليس ركناً في الإيمان , إذ الركن لا يحتمل السقوط إلا بانتفاء الحقيقة , وقد أخرج الله تعالى من النار قوماً جاءوا بالتصديق المجرد (19).
" وقد استدل الغزالي بقوله " من كان في قلبه " على نجاة من أيقن بذلك وحال بينه وبين النطق به الموت , وقال في حق من قدر على ذلك فأخَّر فمات : يحتمل أن يكون امتناعه عن النطق بمنزلة امتناعه عن الصلاة فيكون غير مخلد في النار " (20).
والرد على المرجئة من وجوه :
أولاً : أن هذا الحديث ليس عمدة المرجئة في تقرير حقيقة الإيمان , لأنه من أحاديث الآحاد الظنيّة التي لا تقبل في العقيدة كما زعموا , وكذلك دلالته ظنيّة إذ الدلالات اللفظيّة ظنيّة عندهم لاحتمال المجاز والاشتراك والمعارض العقلي وغيرها .
والاستدلال بحديث ليس عمدة ولا يستقيم الاستدلال به على أصولهم لا يصح ولا يوصل لدلالته على قواعدهم .
ثانياً : أن هذا الحديث فيه الرد عليهم في مسألة زيادة الإيمان ونقصانه(21) وقد بوب عليه البخاري باباً بعنوان : " باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال " . والاستدلال به في موضع وإهماله في موضع آخر تناقض واتباع للهوى .
ثالثاً : أن هذه الرواية لم ترد إلاّ عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مع كثرة من رواه من الصحابة , وقد رواه عن أبي سعيد غير عطاء ولم يذكرها . بل إن رواية عطاء بن يسار مضطربة ففي صحيح مسلم رويت هذه العبارة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم , وفي البخاري عن أهل الجنة مع أنه حديث واحد ومخرجه واحد .(/3)
رابعاً : أن الروايات التي لم تُذكر فيها الزيادة أرجح ورواتها أكثر من تلك , وهي موافقة للأصول القطعية من أنه لن يدخل الجنة إلا مؤمن , وأن الإيمان قول وعمل (22).
خامساً : أن ظاهر الرواية يدل على عدم التصديق , لأنه "خير" وهم لم يعملوا خيراً قط , فاستثناء التصديق ليس عليه دليل , وإذا جاز استثناؤه فيصح استثناء قول اللسان وعمل القلب والجوارح من حيث جنسها لا نوعها .
سادساً : أن يحمل النفي في قوله " لم يعملوا خيراً قط " على نفي الكمال الواجب لورود ما يدل على أنهم عملوا خيراً في الروايات الأخرى .
ثانياً : الرد على مرجئة الفقهاء ومن وافقهم .
استدل بهذا الحديث من يرى عدم اشتراط العمل الظاهر في حقيقة الإيمان , وزعموا أن الإيمان المنجي هو تصديق القلب وعمله وقول اللسان .
والرد عليهم من وجوه :
أولاً : أن الروايات التي ليس فيها هذه الزيادة أرجح , وقد تقدم بيان ذلك , وقد ثبت فيها أن الجهنميين من أهل الصلاة .
ثانياً :
أن رواية الزيادة لم ترد في طرق الحديث إلا عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مما يدل على أنها غير محفوظة , وقد تقدم بيان ذلك .
ثالثاً :أن يجمع بين الروايات فيحمل النفي في الزيادة على نفي الكمال الواجب كما قال ابن خزيمة : " هذه اللفظة : ( لم يعملوا خيراً قط ) من الجنس الذي تقول العرب بنفي الاسم عن الشيء لنقصه من الكمال والتمام , فمعنى هذه اللفظة على هذا الأصل لم يعملوا خيراً قط على التمام والكمال , لا على ما أوجب عليه وأمر به " (23).
ويشهد لهذا القول حديث " ارجع فصل فإنك لم تصل " , وقاتل المائة جاء عنه " أنه لم يعمل خيراً قط " مع كونه تائباً وشرع في الهجرة إلى الأرض الصالحة .
وهذا أمر سائغ في لغة العرب يقولون : أنت لست بولدي ولا يريد نفي البنوة عنه بالمرة بل يريد لست بولدي الطائع لأن من صفات الولد الطاعة لأبيه .
ومراتب النفي هي : نفي الوجود أو الصحة أو الكمال , وحمله على الأول والثاني يلزم منه نفي قول اللسان وعمل القلب لأنها تدخل في عموم "العمل" و "الخير" , وإذا استثنوا قول اللسان وعمل القلب بنصوص خارج الحديث فإن روايات الحديث يمكن أن يستثنى بها عمل الجوارح ويحمل النفي على الكمال .
ومن زعم أن العمل في الزيادة يراد به عمل الجوارح دون عمل القلب فهذا زعم لا دليل عليه .
وقد أخرجوا عمل القلب من عموم الزيادة بالروايات الدالة على خروج من كان في قلبه مثقال خردلة من إيمان
وهذا صحيح ينضاف إلى عمل الجوارح الخارج بكونهم من أهل السجود والصلاة .
وزعم بعض الشراح(24) أن المراد بالسجود الوجه , وهذا إذا اقتضى نفي كونهم من أهل الصلاة ففاسد , ولهذا رواه البخاري في كتاب صفة الصلاة في باب فضل السجود مما يدل أنه فهم من السجود سجود الصلاة
رابعاً : أن يقال : إن الرواية تدل على حالة غيبيّة مخصوصة لا تعارض الأصل الثابت.فهؤلاء لقلة عملهم و خفائه لا يستطيع أهل الجنة معرفتهم عندما يأذن لهم الله تعالى في إخراج أهل الذنوب ممن دخل النار .
فقد ورد في لفظ مسلم : " يقولون ربنا كانوا يصلون معنا ويصومون معنا , ويعملون معنا " ثم يقولون بعد إخراجهم من عرفوا : " ربنا لم نذر فيها خيراً " , وهذا القول هو حسب معرفتهم(25) ثم يخرج الله تعالى أقواماً آخرين , فقد ورد في رواية في المسند " أنا الآن أخرج بعلمي ورحمتي , قال : فيخرج أضعاف ما أخرجه " (26) فيمكن القول بأن هذه حالة خاصة لا ندركها في الدنيا ولا في الآخرة وهي لا يُردّ بها الأصل العام في مفهوم الإيمان وحقيقته .
ويشبه هؤلاء ما ورد في حديث حذيفة في آخر الزمان وفيه : " يدرس الإسلام – كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدري ما صيام ولا صدقة ولا نسك , ويسري على كتاب الله في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية ويبقى طوائف من الناس : الشيخ الكبير , والعجوز يقولون : أدركنا آباءنا على هذه الكلمة : لا إله إلا الله فنحن نقولها . قال صلة بن زفر لحذيفة : فما تغني عنهم لا إله إلا الله وهم لا يدرون ما صيام ولا صدقة ولا نسك ؟ فأعرض عنه حذيفة, فرددها عليه ثلاثاً, كل ذلك يعرض عنه حذيفة , ثم أقبل عليه في الثالثة فقال : يا صلة تنجيهم من النار " (27).
(1) - في كتاب الإيمان – باب معرفة الرؤية – برقم (302) .
(2)- في كتاب الإيمان - باب إثبات الشفاعة وإخراج الموحدين من النار – برقم (304 , 305) .
(3)- في الكتاب والباب السابق برقم (306 , 307) .
(4)- رواه أحمد في مسنده 2 / 400 .
(5)- صحيح البخاري – كتاب التوحيد – باب قول الله تعالى ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) برقم (7439) .
(6)- صالح بن نبهان مولى التوأمة وهي : التوأمة بنت أمية بن خلف ابن وهب وهي التي نسب صالح إليها ( انظر : الثقات - لابن حبان – 3 / 42 ) اختلط في آخر عمره قال الأصمعي : كان شعبة لا يحدث عنه , وقال بشر بن عمر : سألت مالكاً عنه فقال ليس بثقة . انظر : تهذيب التهذيب 4 / 405 .(/4)
(7)-فتح الباري ( 11 / 429 ) .
(8)- المفهم ( 1 / 421 – 422 ) , والمعلم ( 1 / 266 ) ووردت بصيغة المبني للمعلوم والمجهول وخطّأ القرطبي الثانية وصوّب الأولى , والحق أن كليهما مروي في الصحيح ولا يتضمن معنى باطل .
(9) - المعلم ( 1 / 226 ) , وانظر المفهم ( 1 / 422 ) .
(10)- المعلم ( 1 / 226 ) , وانظر المفهم ( 1 / 422 ) .
(11)- الصحاح مادة ( قشب ) .
(12)- المفهم ( 1 / 422 ) , وانظر : المعلم ( 1 / 226 ) .
(13) - المفهم ( 1 / 422 ) , والمعلم ( 1 / 229 ) .
(14) - المعلم ( 1 / 229 ) , والمفهم ( 1 / 451 ) .
(15) - انظر : قاموس الأعراب ( ص / 70 ) , المنهاج في القواعد والأعراب ( ص / 231 ) .
(16) - انظر : صحيح البخاري برقم 773 , وصحيح مسلم برقم 299 .
(17)- المصدر السابق .
(18)- المصدر السابق .
(19) وقد تابعه الزبيدي على ذلك انظر الاحياء وشرحه ( 5 / 243 ) .
(20)- فتح الباري ( 11 / 430 ) .
(21) - انظر : ظاهر الإرجاء في الفكر الإسلامي ص / 748 .
(22)- انظر : المصدر السابق ص / 749 .
(23) - التوحيد ص / 309 ( ط القديمة ) .
(24)- شرح الأبي على صحيح مسلم .
(25) - ورد في حديث أبي سعيد الخدري في صحيح مسلم برقم 303 : " فيقال لهم : أخرجوا من عرفتم " .
(26) - المسند 3 / 325 .
(27)- رواه الحاكم ( 4 / 473 ) وقال صحيح على شرط مسلم , وسكت عنه الذهبي , وصححه الألباني انظر السلسلة الصحيحة برقم 87.(/5)
دراسة علمية حول إشكالية ترجمة معاني القرآن الكريم
أكدت دراسة علمية حول ترجمة معاني القرآن وإشكالياتها للدكتورة ليلى عبد الرازق عثمان رئيس قسم اللغة الإنجليزية والترجمة الفورية بجامعة الأزهر استحالة ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغات الأخرى بنفس الدقة التي تحققت في اللغة العربية التي نزل بها كتاب الله - عز وجل -، مشيرة إلى أن القرآن قد تترجم كلماته حرفياً لكن من الصعب ترجمة ما تحمله هذه الكلمات بباطنها من مدلولات ومعان تمثل روح القرآن وسره المنيع.
وأشارت الدراسة إلى أن أسلوب القرآن عالي السمو ومميز البيان والإعجاز، وهذا يظهر في الفخامة البلاغية والفصاحة البالغة والنثر الإيقاعي والحبكة القصصية والتنسيق البارع بين المعاني وموسيقى الكلمات مما يصعب فهمه حتى على متحدثي اللغة العربية أنفسهم.
وقالت الباحثة إن آيات القرآن الكريم تنفرد بإيقاع وقافية ونظم وفواصل تظهر بوضوح في تلاوة القرآن، وكل ذلك لا تستطيع الترجمة أن تنقله، لذا توجد صعوبات كثيرة تواجه الذين يتصدون لترجمة معاني القرآن في مقدمتها صعوبة نقل الخصائص البلاغية للقرآن سواء كانت تتمثل في علم المعاني ويندرج تحته الاطناب والحذف والتقديم والتأخير والاستفهام أو علم البيان أي التشبيه والاستعارة والكناية أو علم البديع أي الطباق والمبالغة والنظم والفواصل والتكرار.
وأكدت الدراسة أن كثيرين ممن ترجموا معاني القرآن من غير الناطقين باللغة العربية مسلمين كانوا أو غير مسلمين اعترفوا بصعوبة ترجمة القرآن والعجز عن مضاهاة اللغات الأخرى باللغة العربية، ومن هؤلاء على سبيل المثال أ. ج. اربري الذي كان من أشد المعجبين بلغة القرآن لكنه قال: بدون شك لغة القرآن العربية تتحدى أية ترجمة مناسبة لان البيان المعجز يتلاشى حتى في أكثر الترجمات دقة.
وأوضحت الباحثة أن هذه الصعوبات دفعت مترجمي القرآن إلى اللغة الإنجليزية إلى ابتكار ما يمكن تسميته بلغة إسلامية إنجليزية Islamic inglish حيث قاموا بالتعبير عن الأسماء الإسلامية بمعانيها دون تحريف وبذلك ظهرت مفردات دينية بديلة تغلغلت في اللغة الإنجليزية مثل كلمة Haj بدلا من Pilgrimage وZakat وSadakah بدلا من Charity وAlmsgiving وPoor-due مشيرة إلى أن انتشار المفردات الإسلامية ودخولها إلى اللغة الإنجليزية يؤدي دوراً مهماً في توحيد المسلمين في العالم على اختلاف لغاتهم.
وأكدت الدراسة انه لكي ينقل المترجم معاني القرآن على أفضل وجه فإنه يجب أن يفهم البيئة التي نزل فيها القرآن وأسباب النزول وان يفهم الخصائص البلاغية للغة الأصلية وينقلها بدقة متناهية، وان يلتزم بالنص الأصلي فلا يضيف أو يحذف شيئاً حتى لا يغير المعنى أو يضلل القارئ، موضحة أن هناك بعض المترجمين حاولوا نقل معنى كل كلمة وأضافوا هوامش لشرح الصور البلاغية مثل يوسف علي لكن هناك مترجمين آخرين لم يعتنوا بالخصائص البلاغية واهتموا فقط بتبسيط معاني القرآن حتى يفهمها العامة.
وأضافت الباحثة أن العطف هو صعوبة أخرى كبيرة تواجه المترجم لان العطف هو أحد تراكيب التماسك اللازمة لتكوين وحدات أكبر في الخطاب وهو يختلف ليس فقط في نسبة تواتره من لغة إلى أخرى ولكن أيضا من حيث تراكيبه ووظائفه واستخدامه، مشيرة إلى أن تكرار أداة العطف من أكثر الأخطاء الشائعة التي يقع فيها المترجمون فأداة العطف and على سبيل المثال يستخدمها المترجمون كلما وجدوا حرف «الواو» في النص الأصلي وهذا يؤدي إلى الزيادة والحشو في الإنجليزية. وأشارت إلى أن من أهم الأخطاء الشائعة أيضاً تغيير صيغة الجملة المعطوفة من مبني للمجهول إلى مبني للمعلوم بجانب الأخطاء الوظائفية والتوصيلية مثل الاختيار الخاطئ لأدوات العطف أو استبدال أداة عطف بأخرى.
30/04/2001
http://www.islamweb.net المصدر:(/1)
دراسة لقوائم شركة الورق
خالد بن إبراهيم الدعيجي 25/3/1427
23/04/2006
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فهذه دراسة مختصرة لقوائم شركة "الورق"، علماً أن نشرة الإصدار ذكرت فيها القوائم المالية المدققة المنتهية في 31 ديسمبر 2005م. وهناك بعض الاستفسارات على القوائم تم إرسالها إلى الشركة، وجاء الرد منهم بخطاب واضح جلي أجاب على الاستفسارات بكل شفافية، فتشكر الشركة على تعاونها.
أولاً: دراسة قوائم الشركة المنتهية في 31 ديسمبر 2005م
1. إجمالي الموجودات: (456.163.151) ريال سعودي.
2. الودائع البنكية:
إجمالي الودائع: (18.942.580) ريال سعودي.
ونسبتها لإجمالي الموجودات 4.15 %. وتتكون من :
أ - حساب جاري لدى البنوك بمبلغ (18.837.172) ريال سعودي. وليس مربوطاً بأي فوائد ربوية مطلقاً حسب خطاب الشركة.
ب - نقد لدى خزينة الشركة بمبلغ (105.408) ريال سعودي.
3. إيرادات الودائع.
لم يظهر في قوائم الشركة إيرادات للودائع البنكية.
4. الاستثمارات:
إجمالي استثمارات الشركة: (3.994.580) ريال سعودي. ونسبتها للموجودات 0.87%. وتتألف من:
أ- استثمار في شركة غاز الشرق المحدودة، وهي شركة تحت التأسيس، بمبلغ (3.900.000) ريال سعودي.
ب- استثمار في الشركة المتحدة للتركيبات بمبلغ (94.679) ريال سعودي.
5. إجمالي المطلوبات: 456.163.151 ريال سعودي.
6. القروض:
إجمالي القروض : (182.477.290) ريال سعودي. ونسبتها لإجمالي المطلوبات 40%. وتتكون هذه القروض من :
أ - قروض صندوق التنمية الصناعية السعودي بمبلغ : (36.000.000) ريال سعودي. ونسبتها لإجمالي المطلوبات (7.9%). ولا تعد هذه القروض ربوية عند المختصين.
ب - قروض مرابحة قصيرة الأجل بمبلغ (102.283.089) ريال سعودي. ونسبتها لإجمالي المطلوبات (22.42%) . وهي تمويل إسلامي متوافق مع ضوابط الهيئات الشرعية.
ج- قروض مرابحة طويلة الأجل بمبلغ (19.263.150) ريال سعودي. ونسبتها لإجمالي المطلوبات (4.2%). وهي تمويل إسلامي متوافق مع ضوابط الهيئات الشرعية.
جاء في خطاب الشركة:" أما المرابحات التي تم ذكرها كقروض قصيرة وطويلة الأجل، فهي مرابحات شرعية تم تصنيفها حسب تواريخ استحقاق سدادها حسب شروط اللجان الشرعية لدى هذه البنوك، وتتم المرابحة بإبلاغنا للبنك بالرغبة في شراء مواد ذات مواصفات معينة من عدة موردين تم استلام عروض أسعارهم، فيقوم البنك بالاتصال بهم وفتح اعتمادات لصالحهم باسم البنك، وعند وصول المستندات يتم توقيع عقد المرابحة بيننا وبين البنك لشراء تلك المواد ويتم تحديد تاريخ السداد" أهـ.
د- قروض لأطراف ذات علاقة بمبلغ (24.262.551) ريال سعودي. ونسبتها لإجمالي المطلوبات (5.3%) .
جاء في خطاب الشركة في طبيعة القروض:" وهي مبالغ مستحقة للشركاء على الشركة وليس عليها أي عائد أو فوائد"
وعند طلب الإيضاح أكثر تبين أن رئيس مجلس الإدارة ونائبه قاما بإقراض الشركة هذه المبالغ بدون فوائد.
هـ- بنوك دائنة بمبلغ (662.500) ريال سعودي. ونسبتها لإجمالي المطلوبات (0.14%) .
وجاء في خطاب الشركة " تتمثل هذه المديونية في خطابات ضمان صادرة من البنوك للشركة لجهات حكومية وتجارية، من أجل توريد مخلفات ورقية ولا تحمل أي فوائد مرتبطة بها. بيانها كالتالي:
* خطاب ضمان لصالح وزارة التربية بمبلغ (500.000) ريال سعودي.
* خطاب ضمان لصالح الدار العربية للطباعة والنشر بمبلغ (100.000) ريال سعودي.
* خطاب ضمان لمؤسسة الجزيرة بمبلغ (60.000) ريال سعودي.
* خطاب ضمان لوزارة الصحة بمبلغ (2.500) ريال سعودي.
7. جاء في ختام الخطاب " ونفيد فضيلتكم بأن الشركة ومنذ بداية تأسيسها حرصت كل الحرص على أن تكون جميع تعاملاتها المالية وغيرها وفقاً للشريعة السمحاء، ونحن على استعداد لإطلاعكم في أي وقت على أي مستندات ترغبون الإطلاع عليها متعلقة بأية مواضيع مالية لدى الشركة"
8. حكم الاكتتاب فيها:
من خلال ما سبق الذي يظهر لي جواز الاكتتاب فيها، لأنه لم يظهر في قوائمها ما يمنع ذلك.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/1)
درة مصونة و جوهرة مكنونة
لقد جاء الإسلام و المرأة مهضومة الحقوق مهيضة الجناح مسلوبة الكرامة مهانة مزدراة محل التشاؤم و سوء المعاملة معدودة من سقط المتاع و أبخس السلع تباع و تشترى توهب و تكترى لا تملك ولا تورث بل تقتل و توأد بلا ذنب و لا جريمة فلما جاء الإسلام بحكمه و عدله ورفع مكانتها و أعلى شأنها و أعاد لها كرامتها و أنصفها فمنحها حقوقها و الغى مسالك الجاهلية نحوها واعتبرها شريكة للرجل شقيقة له في الحياة .
وقد ذكرها الله في كتابه الكريم مع الرجل في أكثر من موضع يقول سبحانه ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى )
و أوصى بها النبي خيرا ففي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ( استوصوا بالنساء خيرا ) و قال رسول الله : ( اكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وخياركم خياركم لنسائهم ) كما ضمن لها الإسلام الكرامة الإنسانية و الحرية الشرعية و الأعمال الإسلامية التي تتفق مع طبيعتها و انوثتها فيما لا يخالف نصا من كتاب أو سنة ولا يعارض قاعدة و مقصدا من مقاصد الشريعة في محيط نسائي مصون كما ساوى بينها وبين الرجل في عدد من النواحي إلا أن هذه المساواة قائمة على ميزان الشرع ومقياس النقل الصحيح و العقل السليم فقد جعل الله لكل من الرجل و المرأة خصائص ومزايا ومقومات ليست للآخر وأهل كلا منهم لما سيقوم به من من مهام في هذه الحياة فأعطى الرجل قوة في جسده ليسعى ويكدح ومنح المرأة العطف و الحنان لترية الأبناء وتنشئة الأجيال وبناء الأسر المسلمة .
أمة الإسلام :
أي شيء تريده المرأة بعد هذا التكريم
و أي شيء تنشده بنات حواء بعد هذه الحصانة و الرعاية ؟
أيستبدلن الذي هو أدنى بالذي هو خير ؟
أيؤثرن حياة التبرج و السفور و التهتك و الإختلاط على حياة الطهر و العفاف و الحشمة ؟؟
ايضربن بنصوص الكتاب و السنة الآمرة بالحجاب والعفة عرض الحائط ؟ ويخدعن بالأبواق الماكرة و الأصوات الناعقة و الدعايات المضللة والكلمات المعسولة الخادعة التي تطالعنا بين الفينة و الأخرى وتثار بين حين وآخر ؟
أيتركن التأسي بأمهات المؤمنين الطاهرات كعائشة و خديجة وفاطمة وسمية و نسيبة و يقلدن الماجنات ويتشبهن بالفاجرات عياذا بالله ؟
أختي المسلمة :
إنك لن تبلغي كمالك المنشود وتعيدي مجدك المفقود وتحققي مكانتك السامية إلا باتباع تعاليم الإسلام والوقوف عند حدود الشريعة وذلك وحده هو الكفيل بأن يطبع في قلبك محبة الفضائل و التنزه عن الرذائل فمكانك والله تحمدي و بيتك تسعدي و حجابك تصلحي و عفافك تريحي وتستريحي قال تعالى : ( وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهية الأولى )
فأنت في الإسلام درة مصونة وجوهرة مكنونة وبغيره دمية في يد كل فاجر و ألعوبة وسلعة رخيصة يتاجر فيها بل يلعب ذئاب البشر فيهدرون عفتها وكرامتها ثم يلفظونها لفظ النواة فمتى خالفت المرأة آداب الإسلام و تساهلت بالحجاب وبرزت للرجال مزاحمة متعطرة غاض ماؤها وقل حياؤها وذهب بهاؤها فعظمت بها الفتنة .
أنهم يهدفون إلى تحرر المرأة من أخلاقها وآدابها وانسلاخها من مثلها وقيمها ومبادئها وايقاعها في الشرر و الفساد .(/1)
درجات التوبة ومقومات نجاحها
* مهدي الفتلاوي
للتوبة درجات عديدة ترتبط بمدى قوة إرادة التائبين، وبحسب تصميمهم على ترك الذنوب وبمستوى التزامهم بشروط التوبة ومقومات نجاحها، وهذه الدرجات هي أربع:
الدرجة الأولى: أن يتوب الانسان من ذنوبه ويستمر على الاستقامة فترة من الزمن، ثم يعود إلى مقارفة المعاصي وارتكاب الذنوب، من غير أن يحدث نفسه بالتوبة، ومن غير أن يتأسف على فعله هذا، بل ينهمك انهماك الغافل في اتباع الشهوات، فهذا يعتبر من جملة المصرين على ارتكاب المعاصي وتسمي نفسه (النفس الأمارة بالسوء) التي أشار إليها القرآن الكريم، وهذا يخشى عليه من سوء الخاتمة.
الدرجة الثانية: وهي أرقى من الأولى، وخلاصتها: أن يتوب المذنب ويستمر على الاستقامة مدة من الزمن، ثم تغلبه الشهوة في بعض الذنوب، فيقدم عليها لضعف إرادته ولعجزه من قهر شهوته، لا أنه مع ذلك مواظب على الطاعات وتارك لجملة من المحرمات، وكلما فرغ من ارتكاب الذنب يندم على فعله، ويقول: يا ليتني لم أفعله، وسأتوب عنه وأجاهد نفسي حتى أقهرها، لكن نفسه دائماً تسوّل له عكس ذلك وتدعوه إلى ارتكاب المعاصي، ثم إلى التوبة، وهكذا يتوب ويخرق توبته مرة بعد أخرى، وتسمى نفس هذا المذنب بالنفس المسوّلة، وصاحبها من الذين قال الله سبحانه فيهم: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً) التوبة/ 102.
وأمر هذا (التائب المذنب) من حيث مواظبته على الطاعات وكراهيته لما يتعاطاه من المعاصي مرجو، فعسى الله أن يتوب عليه، ولكن عاقبته في خطر من حيث تسويفه في التوبة وتأخيره في الإقدام على المغفرة، فلربما يختطف قبل أن يتوب.
الدرجة الثالثة: وهي درجة التائب الذي سلط طريق الاستقامة في أمهات الطاعات، وترك كبائر الذنوب والمعاصي كلها إلا أنه ليس ينفك عن بعض المعاصي التي تعتريه بين فترة وأخرى، ولكن لا عن عمد بل يبتلى بها في مجاري أحواله من غير أن يعزم إعزاماً قوياً للاحتراز من أسبابها التي تقوده لها، ونفس هذا التائب تسمى بالنفس اللوامة، وهي كذلك مذكورة في القرآن الكريم.
الدرجة الرابعة: أن يتوب العاصي ويستقيم على التوبة إلى آخر عمره، ويتدارك ما فرط في أمره، ولا يحدّث نفسه بالعودة إلى ذنوبه إلا الزلات التي لا ينفك عنها البشر إلا مَن عصم، فهذا هو الذي استقام على التوبة (النصوح) وهي أعلى درجات التوبة من حيث الالتزام، واسم نفس صاحبها (النفس المطمئنة)، وهي التي قال الله سبحانه عنها: (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية) الفجر/ 27.
وأصحاب هذه الدرجة إلى قسمين:
أ ) منهم مَن تاب وسكنت شهواته تحت قهر المعرفة الإيمانية والحب الخالص لله سبحانه، والإيمان الثقيل الذي لا يتحمله إلا صاحبه، ولم ينشغل بصراع نفسه في سلوك طريق الإيمان الكامل..
ب ) ومنهم مَن تاب بقوة إرادته وخوفه الشديد من الله تعالى، وهذا دائماً يصارع شهواته لأنها تلح وتضغط عليه وتطلب منه الاستجابة إلى مطالبها المحرمة، ولكنه قوي بمجاهدتها وكسر جماحها وردها..
والمستفاد من الروايات إن الثاني له فضل وثواب أعظم من الأول، والله سبحانه أعلم بذلك.(/1)
درس الإصلاح... في عاشوراء
عبد الله بن عبد الرحمن العبد الله 10/1/1427
09/02/2006
اتفق أهل العلم على أنَّ صيام يوم عاشوراء سنة، واختلفوا في حكمه أول الإسلام فمن قائلٍ بالوجوب، وآخرون بسنية صيامه، وقد ورد في فضل صيامه جملة من الأحاديث في الصحيحين وغيرهما. . . وليسَ هذا هو محلُّ كلامنا، وإنما هو مدخلٌ يتبين مِنْ خلاله شأن هذا اليوم.
ذلك اليوم الذي نجّى الله كليمه موسى ـ عليه السلام ـ وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرًا لله، وصامه نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصمناه من بعده لأمرهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بصيامه، وقال: "نحن أحق بموسى منكم" (1).
فهذا نص واضح أن صيام يوم عاشوراء شرع فرحًا بنصر الله للمصلحين (موسى وقومه) ودحره للظلمة المفسدين ( فرعون وقومه) وهذه هي علته.
وبتجاوز التفصيل في فضائله، والخلاف في حكم صيامه، وحالات صيامه، والأعمال المشروعة فيه. . . فإنَّ في صيام هذا اليوم بالإضافة إلى الامتثال والتقوى وغيرها من مقاصد الصيام إجمالاً. . هناك معانٍ ومعالم جديرٌ بالمصلحينَ أن يتنبهوا لها، وأن ينبهوا عليها، وأن يرجعوا إلى أحداث ذلك اليوم كي يستفيدوا مِنهُ بعض المعالم والمعاني الإصلاحية؛ لأنَّ ربط المعاني السامية المطلوبة بما يُمارس أوقع في نفسِ المُصلَحينَ.
وهنا ملحظ جميل يبين أهمية تدبر معاني عاشوراء: فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عبّرَ عن ولائهِ لموسى ـ عليه السلام ـ بصيام يوم نجاته من فرعون، ورتّب عليه أجرًا عظيمًا وفضلاً كبيرًا، ولم يأمرنا أن نعبّر عن ولائنا لنبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالاحتفال بيوم مولده، أو يوم هجرته ونجاته من قريش، ففي هذا لفتٌ وإشارة إلى مكانة الدور الذي قامَ به موسى ـ عليه السلام ـ وأنَّ الصيامَ شُرعَ ليتأملَ المصلح كل فصلٍ من فصول قصة دعوته ليجني منها ثمارًا تفيده في دعوته) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ...)[الأنعام: من الآية90].
ومِنْ جملةِ المعالم البارزة والمعاني المستفادة من حياة موسى ـ عليه السلام ـ الإصلاحية، وأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لنا بصيام ذلك اليوم. . أنَّ على المصلحِ أن يربي على الاستقلالية الفكرية، وحرية الاختيار متى ما وجد البيئة مهيأة لذلك، والوقت مناسبًا لذلك، ويتمثل هذا الجانب في صورتين ذات نسقين مختلفين:
- فنبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمرنا بالصيام، ولكنه ـ أيضًا ـ وفي ذاتِ الأمر، وفي أوامر أخرى أمرنا أن نخالِفَ اليهود بصيامِ يوم قبله أو يوم بعده (2)، (فتدبر هذا! يوم عاشوراء يوم فاضل، يكفر صيامه سنة ماضية صامه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأمر بصيامه ورغّب فيه، ثم لما قيل له قبيل وفاته: إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى أمر بمخالفتهم بضم يوم آخر إليه وعزم على فعل ذلك) (3)(/1)
- وموسى ـ عليه السلام ـ أمره ربه (فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى) [طه:47] وقالَ للناس: (...مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً)[طه: من الآية59]، فأخذ منهم موعدًا ليبينَ لهم ما عنده حتّى يدخلوا في مطلوب موسى ـ عليه السلام ـ عن قناعة، وليسَ عن ضغط سلطوي: (...يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي...)[القصص: من الآية38]، وتهديده (قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) [الشعراء:29]. وكانت النتيجة كالفلق، )فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى) [طه:70]. وإذا تأملتَ الأجواء التي كانت تغيمُ على حياةِ موسى ـ عليهِ السلام ـ منذ مولده إلى نبوته وجَدتها أجواءً ملبدة بغيومٍ سوداء مظلمة، فهو وُلد في وقتٍ كان فرعون فيهِ عاليًا في الأرض (... وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ)[القصص: من الآية4]، ثمَّ بعد وضعه: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ...)[القصص: من الآية7] ليصل إلى (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً)، وكاد يقتل لولا أنَّ امرأة فرعونَ قالت: (...قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً...)[القصص: من الآية9] ، وفي هذهِ الأيام العصيبة التي ينتظر فيها التسلية والسلوى، يحرّم ربنا بحكمة بليغة المراضعَ على الطفل موسى، ولمّا استوى بلغ أشده، واستوى كان فصل جديد من المعاناة ينتظره (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ) فتلبسَ بجريمةِ قتل كان من نتاجها (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ)، ثمَّ إذا بالذي نصره موسى بالأمس يفضح أمره بين الناس (قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمُصْلِحِينَ)، وما إنْ قالَ كلمته حتّى (جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ) لتُفرضَ عليهِ غربةٌ إثرَ غربةٍ، فيخرج من فورِهِ دونَ متاعٍ ولا زادٍ، بل (خَائِفاً يَتَرَقَّبُ) لتأتيه البشارة أخيرًا: (فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).
إنَّ حقيقة يقين المصلح تتبين في مرحلة ضعفه؛ إذ ليس بمصلحٍ مَنْ كانَ يقينه ضعيفًا، وليس بصاحب يقينٍ مَنْ تنفرج أساريره وتبتهج نفسه وينشرح صدره ويتهلل وجهه حينَ يرى قوة الإسلام وعزة أهله، ما لم تصحبه هذه المشاعر في حلك الظلم، واشتداد الضيق، واجتماع الكروب، وتكالب الأمم، لأن أمله بالله كبير، ويقينه بأن العاقبة للمصلحين المتقين، وأن المستقبل ينتظره ـ بنصِ كتاب الله ـ: (إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) قال ابن القيم: "واليقين قلب الإيمان ولبّه، وكل علم وعمل لا يزيد الإيمان واليقين قوة فمدخول" (4)، وقال: "سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية ـ قدس الله روحه ـ يقول : بالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين، ثمّ تلا قوله ـ تعالى ـ: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) (5).
بلّ إن الإيمان واليقين لمّا قرّا في نفسِ السحرة، وهم الذين أسلموا قريبًا كانَ موقفهم: (...فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (طه:72-73).(/2)
فمما يجدر بالمصلح أن يتنبه إليه، بل يجعله عقيدة يدين الله بها، ويجعله مِنْ صميم ما يربي عليه من حوله: أنَّ الله يريد من عباده أن يكونوا واثقين بنصره، كما وثقت أم موسى ـ عليه السلام ـ بوعد الله، حين قال لها: (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ)، مع خطورة اليمّ، وحنانِ الأم، وبطش فرعون، إلا أنها امتثلت لأن الله وعدها، (وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).
إنها عقيدة المصلح إيمان بالقدر، مع يقين بالظفر، مع فعل السبب في حدود الطاقة البشرية المتاحة، ثمَّ يكل النتائج لله علام الغيوب، فتأتيه بالنصر أو الأجر، وفي الحديث قال قدوتهُ إمام المصلحين ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "عجبًا لأمر المؤمن! إن أمره كله خير ـ وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن ـ؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له " (6).
كذلك من المعاني التي يتذكرها المصلح في يومِ عاشوراء، أنَّ المصلحَ الحقيقي تدفعه النعم ولا ترده، وأنّهُ يسلكَ الطريق بحلوهِ ومرّهِ، فلن تبسمُ له الورود حتى تجرحه الأشواك، وأنَّ المصلحَ يجب عليه أن يخاطِبَ الناسَ بخطابٍ شمولي، وأنْ تكونَ رسالته للملك ـ وإن كان طاغية ـ، وللفسقة وأصحاب المعاصي ـ وإن كانت كفرًا ـ، وللناسِ عمومًا ـ وإن كانوا مستضعفينَ في الأرض ـ، وعلى المصلح أن يوقف نفسَهُ للهِ، فلا يطلبُ مِنْ الناسِ شيئًا، ولا يستجدي من المخلوقات عوضًا، بلْ (..لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) لتكونَ النتيجة: (فَوَقَاهُمْ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً * مُتَّكِئِينَ فِيهَا...).
ويتصور هذا المعنى في مشروعيةِ صيام يوم عاشوراء، فإن الله يقول: "كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به".
ويتجلى هذا المعنى السامي في قصة موسى ـ عليه السلام ـ مرتين: في المرة التي عِندما اقتص للمظلوم من القبطي الظالم. وفي قصته عندما سقى (لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ) ولم يبث إليها شكوى، ولم يقص لهما ما جرى، بل التجأ لمن يعلم السر وأخفى (فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)، على الرغمَّ من أنهُ محتاجٌ للمال في ذلك الظرف العصيب، والكرب الصعب، إلا أنه تذكر معنيين جميلين:
الأول: نعمة الله عليه بنجاته من مغبة قتل القبطي، ووصوله لهذه البلاد.
الثاني: حاجته وافتقاره إلى الله، وتعلق أمره بنصر ربه.
ولم يلتفت إلى الدنيا أثناء عمله هذا، فكان جزاؤه أن جاءته (إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا)، ثمّ قال له: (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّالِحِينَ). وهكذا جميع المصلحين فإنهم يعملون لله، لا لدنيا يصيبونها ولا امرأة ينكحونها، فإن حصل شيء عرضًا لا قصدًا فإنه من "عاجل بشرى المؤمن" (7).
ومن المعالم الإصلاحية العظيمة في قصة موسى ـ عليه السلام ـ أنّهُ جعل كل نقطة يمكن المرور بها، ولم يمتنع عَنْ عملٍ شريف لأنه يسعى إلى مقصد عظيم بل رعى الغنم عند والد الفتاتين على أن يأجره ثماني حجج، فأتمّ عشرًا، وكذلك نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ رعى الغنمَ، وكل أنبياء الله مثله ـ كما في الموطأ ـ. فهو كسائر المصلحين يعلم متى تأتيه الفرصة المناسبة المواتية ليبث برنامجه الإصلاحي.
كذلك من الإشارات في طريق المصلح: أنّه لا ينتقم لنفسه، بل يدع الانتقام والانتصار يأتيهِ من ربه، فالله ـ عزّ وجل ـ يؤكد على هذا المعنى بقوله: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ)، وموسى ـ عليه السلام ـ ما اعتبر ما جرى من فرعون من مطاردة ومحاربة أنّهُ أمر شخصي ينتقم مِنهُ لأجله، بل جعله أمرًا عامًا؛ لأن مقصده الإصلاح وتأدية رسالته، بدلالة أنّهُ قَدِمَ إلى فرعون بنفسِهِ مصلحًا وداعيًا، ولو كانَ منتقمًا لنفسِهِ ما سلكَ هذا السبيل، وما اقترب من هذا الطريق.
ومن نهج المصلحين: أنّهم لا يملكون أعزّ من رسالتهم التي يريدون إيصالها، فينافحون عنها بشجاعة، ويقاتلون لأجلها بجرأة، ويقدمون لطرحها بوضوح، وشجاعة المصلح مكتسبة من أمور ثلاثة:
الأول: قوة يقينه برسالته.
الثاني: قوة يقينه بمعية الله ونصره؛ لصحة رسالته (فأمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً)
الثالث: فطرة تجعله مقدامًا سبّاقًا، وبإمكانه أن يكتسبها بالمران، ومن كان عِندَهُ يقينٌ كانَ عنده من الشجاعة بقدره.(/3)
وشيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ يرى أنَّ الشجاعة والكرم هي أساس صلاح الناس في دينهم ودنياهم (8).
والشجاعة تتبدى في كل فصلٍ من فصول رحلة موسى ـ عليه السلام ـ من الميلاد إلى النبوة، فقد ألهم الله أمه عند الحمل وعند الوضع ما جعلها لا تخشى مِنْ علم فرعون بالمولود، وكذلك عندما ألقته في اليمِّ، وسيرة موسى ـ عليه السلام ـ كلها شجاعة في شجاعة، وبالمقابل تجد من مواقف الطاغية فرعون ما يدل على جبنه؛ لأنه لا يملك رسالة ولا يملك معية من الله رسوله.
ولئن كانَ أصحاب المروءة من أبناء الجاهلية يتعايرون بالجبن، ويتفاخرون بالشجاعة، فإنَّه حريٌ بالمصلحين أن يكونوا كلهم شجعان مقدامين، ولو أدّى ذلِكَ إلى موتهم بله سجنهم وإيذائهم، ومما يؤيد هذا ما قاله إمام المصلحين ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمن سأله عن أي الجهاد أفضل؟: "كلمة حق عند سلطان جائر" (9).
كذلك فإن على المصلِحِ أن يتذكرَ في عاشوراء أنّه ارتضى لنفسه طريقًا أولها صعبة وعرة، وآخرها حلوة خضرة، وأنه لن ينال آخرها حتّى يتمسك ويصبرَ في أولها، فهذا موسى ـ عليه السلام ـ عاش مطاردًا في بطن أمه، ثم مطارَدًا لمقتله القبطي، ثم مطارَدًا لنبوته ولصدعه بكلمة الحق التي ذكرها عند فرعون، فصبر في الطريق. . ثمَّ انقلبت الآية إليه، والمكانة عنده، أُغرق فرعون ونجا، آمن فرعون فما انتفع، وخلّص الناس من طاغية كانَ يسومهم سوء العذاب.
ومِن المقاصد التي يتبناها المصلح ـ بعد رضا الله عزَّ وجل ـ أن يكون محبوبًا مرغوبًا مِمن حوله، متخلقًا بما يأسر قلوبهم، ويجذب أرواحهم، لمصلحةِ من حوله أولاً ولمصلحة دعوته ثانيًا، بل هناك معنى أوسع من هذا، فقد ورد في الصحيحين: لما كان يوم حنين آثر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ناساً في القسمة فأعطى الأقرع بن حابس مئة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى أناساً من أشراف العرب وآثرهم يومئذ في القسمة، فقال رجل: والله إن هذه لقسمة ما عدل فيها، وما أريد فيها وجه الله. قال الراوي: فقلت والله لأخبرن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال فأتيته فأخبرته بما قال. قال فتغيّر وجهه حتى كان كالصرف، ثم قال: "فمن يعدل إن لم يعدل الله ورسوله "؟ قال ثم قال: " يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر" (10).
أيضًا مما يجدر بالمصلح أن يكونَ متفطنًا له: أنَّ أعداء الإصلاح يسلكون سبلاً معوجة في رد الحق، فهذا فرعون يستهتر ويتهكم بموسى ـ عليه السلام ـ عندما أعلمه أنَّ رب العالمين هو: (رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا)، فكان الجواب من فرعونَ بعدَ أن شنفَ آذان أتباعه بقوله (أَلا تَسْتَمِعُونَ)، (إِنَّ رَسُولَكُمْ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ)، لذلكَ فعلى المصلح أن يتسلحَ بسلاح الخلق الحسن الذي يفوق كثيرًا من الأسلحة المادية، وهذا الحدث شاهد لهذا.
يجدر بالمصلح أن يبين للمُصلحين ما العاقبة: (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)، وأن يكونَ حكيمًا مع أتباعه: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، وأن يبعث المصلح في نفسه الهمة العالية ويزرعها في أتباعه: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ)، وأن يأخذ هو وأتباعه القضية بحزم (فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا) حتّى يتبين الصادق من الكاذب، وأن يبثَّ في الأتباع روح الأخوة والتكافل.
وبالجملة فإنه يجدر بالمصلح أن يتأمل قصةَ موسى ـ عليه السلام ـ الذي شرع الله الصيام لأجل نجاته يومَ عاشوراء، وأن يهتدي بهدي أنبياء الله وبرسله، وأن يتمعنَ ما فيها من المعاني السامية على طريق الإصلاح والمصلحين.
(1) البخاري (2004)، مسلم (11330)
(2) أحمد (2047(
(3) ابن تيمية ـ اقتضاء الصراط المستقيم (87 (ط. الفقي.
(4) الفوائد (86) ط. الكتب العلمية ( 1393هـ.(
(5) مدارج السالكين (2/154) ط. الفقي.
(6) مسلم ( 5318.(
(7) البخاري (4780 (ونصه: عن أبي ذر قال: قيل لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه؟ قال: "تلك عاجل بشرى المؤمن".
(8) البخاري (2917)، ومسلم (1759.(
(9) انظر: الفتاوى ( 28/157 (
(10) أحمد (18076.)(/4)
درس في الحساب
طارق حميدة
tariq_hamida@hotmail.com
هاجمت سرية بعثها النبي صلى الله عليه وسلم عيراً لقريش فقتلت وأسرت وغنمت، وكان أصحاب النبي يظنون الشهر الحرام لم يدخل، إذ كانوا يحسبون أنهم في اليوم الأخير من جُمادى الآخرة ولمّا يدخل بعد شهر رجب.
وكانت فرصة اهتبلها المشركون ليشنعوا على الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين أنهم ينتهكون حرمة الشهر الحرام فيقتلون ويأسرون، وقد تأثر المسلمون كثيراً بهذه الدعاية، وتوقف الرسول صلى الله عليه وسلم في أمر الأسرى والغنائم، فأنزل الله تعالى آيات بينات، تلجم المشركين، وتدفع باطل حججهم (يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة:217)
والسائلون هم المشركون يفعلون ذلك استنكاراً ودعاية مغرضة، ويتبعهم في ذلك أهل الكتاب والمنافقون في المدينة، وقد يكون السائلون أيضاً أصحاب النبي عليه السلام تأثراً بما يروجه المشركون، وخوفاً من الله مما فعله رجال السرية من انتهاك الشهر الحرام.
وهنا يأتي الرد الإلهي واضحاً وحاسماً وواضعاً للأمور في نصابها .. (يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ...) قل وأعلن يا محمد، أن القتال في الشهر الحرام معصية كبيرة ، ومحرم لا توافق عليه، ولكن هذا الأمر ليس كل الحقيقة، فالصورة لم تكتمل بعد، فالصد عن سبيل الله ـ مَن آمن، أو أراد الإيمان أو حتى التعرف على الحق ـ والكفرُ بالله وبالمسجد الحرام، وإخراجُ محمد وأصحابه من مكة البلد الحرام، أكبر عند الله، فلئن ارتكب أصحاب محمد أمراً كبيراً خطأ ودون تعمد، فلقد ارتكبت قريش ولا تزال عدداً من الكبائر والخطايا والجرائم والتي هي بمجموعها أكبر وأعظم بميزان الله وهو الميزان الحق الذي لا يخطئ ولا يحابي، (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ..) .
وإذا كان المشركون يستنكرون ويستكبرون وقوع القتل من المسلمين في تلك السرية.. فإن الله تعالى يقرر أن فتنة الناس عن دينهم وتعذيبهم حتى يرتدوا عنه أكبر من القتل، إن القتل إنهاء للحياة، ولكن الفتنة وحرف الناس عن الحق وإكراههم على ما لا يحبون أكبر وأخطر من القتل، إن الله تعالى وهو رب الناس لم يشأ أن يكرههم على دينه وهو الحق الذي فيه مصلحتهم وسعادتهم، وحرّم على المسلمين أن يكرهوا أحداً على الدين، فكيف بمن يكرهون الناس على الكفر ويعذبونهم ليرتدوا عن الإيمان ؟!
إنه درس في الحساب يتعلمه الصغار في رياض الأطفال قبل الصف الأول، ذلكم هو مفهوم، أكبر وأصغر،... ولا يظنّنّ أحد أنه بالضجيج وعلو الصوت يغير الحقائق ويقلب المفاهيم على طريقة [خذوهم بالصوت لا يغلبوكم] .
يصلح هذا الدرس في سياق العداء الفلسطيني الصهيوني كلما تشدق الغاصبون في إدانة النشاطات الجهادية والنضالية، إذ كيف يشير إلى القذى في عين غيره،من كان في عينه جذع شجرة؟! وأين النضال لدحر العدوان من الظلم والاغتصاب والتهجير ؟!
ونفس المنطق ينبغي أن يوجه إلى الأمريكان وهم يصرخون مستنكرين "للإرهاب" الذي مرّغ أنوفهم في التراب، لأن آخر من يحق له الحديث عن الإرهاب والإجرام هم الأمريكان، إنهم هم الذين أبادوا الهنود الحمر، وهم الذين استعبدوا الأفارقة، وهم أبطال هيروشيما وناغازاكي وآثارهم في فيتنام والعراق وغيرهما لم تُمح بعد، وهم الذين يمارسون الفتنة والإكراه السياسي بتنصيب الزعامات التي تسير في فلكهم على الشعوب المستضعفة، وردع الديمقراطية وحرية اختيار القيادات، وأمريكا الآن تمارس "الاجتياح" الفكري والاقتصادي والأخلاقي، إضافة إلى الضغوط السياسية والعسكرية في كل الأرض، فيما يسمى اليوم بالعولمة، وأما وقوف الأمريكان داعمين للصهاينة الغاصبين في فلسطين فهو أوضح وأشهر من أن يذكر، إنها الفتنة إذن " والفتنة أشد من القتل " ، ومن أصدق من الله حديثاً !؟ .(/1)
درس في النّصرة من سلمة بن الأكوع
د. عبدالوهاب بن ناصر الطريري 10/3/1427
08/04/2006
أُوتي سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه- بسْطة في الجسم؛ فكان أيّدًا شديدًا، ربما أغار على الجيش فهزمه وحده، وكان عدّاء لا يُسبق شدًا؛ فهو متوافر القوة، متناسق الجسم واسع الخطو.
وكان له خبر عاجبٌ يوم الحديبية حينما كانت الرسل تختلف بين رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وأهل مكة تهيّئ للصلح الذي أزمع النبي –صلى الله عليه وسلم- أن يعقده معهم، فلما كانت قائلة النهار ذهب سلمة إلى شجرة يستظلّ بظلها، فكسح شوكها، والتقط ما تناثر منها، وهيأ لنفسه مقيلاً اضطجع فيه عند أصلها، فجاء أربعة من المشركين من أهل مكة فعلّقوا سلاحهم على الشجرة، وجلسوا يتحدثون، ويقعون في رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، ولقد كان أهون على سلمة أن يسمع سبّ أبيه وأمه من أن يسمعهم يقعون في رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فآذاه ذلك غاية الأذى؛ فترك الشجرة لهم، وتحوّل إلى شجرة أخرى ليبعد مسامعه عن وقيعة أولئك المشركين في رسول الله –صلى الله عليه وسلم-. فبينا هو كذلك؛ إذ سمع صارخًا ينادي يا للمهاجرين.. قُتل ابنُ زنيم، فظن سلمة أن المشركين نقضوا مسعى الصلح فاخترط سيفه، ثم شدّ على أولئك الأربعة، وهم رقود، فأخذ أسلحتهم، فجمعها في يده، ثم قال لهم: والذي أكرم وجه محمدٍ لا يرفع أحدٌ منكم رأسه إلا ضربته بالسيف، ثم جاء بهم يسوقهم إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، ثم جاء عمه عامر بتسعين من المشركين حاولوا مناوشة المسلمين يسوقهم إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، فنظر إليهم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ثم قال: "دعوهم يكون لهم بدء الفجور وثناه" أي: يكون لهم أول الغدر وآخره.. ثم عفا عنهم رسول الله –صلى ا لله عليه وسلم- وصرفهم. صحيح مسلم (1807).
إن في هذه القصة دلالات مهمة منها:
1- لا نعلم أحدًا أشد حبًا لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- من أصحابه الذين آمنوا به، واستنارت أعينهم برؤية محيّاه، وتعطّرت أسماعهم بسماع حديثه، وصحبوه في أحوال حياته وتقلّبات أموره، فاستكنّ حبّه شغاف قلوبهم وخالط لحمهم ودمهم وعصبهم، فيالله لسلمة –رضي الله عنه- وهو يسمع مسبّة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- من رهطٍ من المشركين يشاركونه ظل الشجرة التي يقيل تحتها، فكم قاسى حينئذٍ من الألم النفسيّ، وكم تدفّقت في دمائه زخّات الحنق والغضب ممّا سمع!! ولكنه كظم غيظه، وسيطر على عواطفه، ولم يفرط منه أي تصرّفٍ انفعاليّ، مع أنه كان في عنفوان شبابه، وفي العشرين من عمره، لقد ترك لهم الظلّ الذي هيّأه لنفسه، وتنحّى عنهم بعيدًا؛ ليكون بمنأى عن هذا الإيذاء الذي لا يستطيع احتماله، ولم يمنعه أن يُنفذ غضبه، ويشفي غيظ قلبه ضعف ولا عجز؛ فقد كان الشجاعَ قلبًا، القويّ بدنًا، السريع عَدْوًا، ولكنه تعامل مع مشاعره بانضباطٍ كامل، بعيدًا عن أي تصرفٍ يمكن أن يتداعى إلى تطوّراتٍ غير محسوبة، وتحمّل الألم النفسيّ باصطبارٍ جميل وبصيرة نافذة، وحتى عندما سمع الصارخ ينادي بما يدل على غدرٍ أو مقتلة لم يُبادر إلى قتل هؤلاء، مع أن الفرصة كانت له مواتية، فقد علّقوا أسلحتهم فهم عُزّل، ورقدوا بغير تهيُّؤ أو احتراز، ولكنه اكتفى بسوقهم إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- ليكون التصرف من المرجعية العامة للمسلمين.
إن سلمة يُقدّم للأمة من خلال هذا الموقف درسًا بليغًا في الانضباط وقيادة العواطف والسيطرة على مشاعر الانفعال. وعدم الاندفاع لردة فعلٍ غير محسوبة أو تصرف غير رشيد، على الرغم من قوة المؤثر وشدة الاستثارة.
2- كما يلفتنا التعالي الأخلاقي الذي تعامل به النبي –صلى الله عليه وسلم- مع هؤلاء الذين وقعوا فيه بالمسبة والتنقّص، ومع التسعين الذين جيء بهم إليه، وهم يحاولون مناوشة المسلمين، ومع ذلك عفا عن الجميع، وتركهم يبوؤون بأول الغدر وآخره، وكان عفوًا نبويًا كريمًا؛ إذ لم يصدر منه –صلى الله عليه وسلم- لهؤلاء توبيخٌ أو ملاومة، وإنما هو الخلق العظيم والصفح الجميل.
لقد كان أمام النبي –صلى الله عليه وسلم- هدفٌ كبير واضح، وهو أن يتم الصلح بينه وبين أهل مكة، ولذلك لم يسمح لهذه الاستفزازات المتكررة من رعاع المشركين أن تعرقل مساعيه، أو تحرف وجهته عن هدفه، فكان أقوى من هذه الاستثارة، فحجّمها بحجمها الطبيعي ضمن الحدث الذي يعايشه، والهدف الذي يصمد إليه، ولذا انتهى الأمر إلى ما أراد رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، فتمّ الصلح، وكُتبت الصحيفة، وحصل بذلك الفتح المبين، وعاد –صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة وآيات الله تتنزّل عليه (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) [الفتح:1].
إن عدم وضوح الأهداف، وفقدان الخطة للعمل يجعل الأمة مرتهنة بردّات الفعل المتذبذبة. وإن الاستجابات الفردية غير المدروسة يمكن أن تعرقل مسيرة منطلقة، وتهدر فرصًا ضخمة، وتجهض أهدافًا كبيرة.(/1)
فصلوات الله وسلامه على من أنزل الله عليه الكتاب، وآتاه الحكمة (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً).[البقرة: من الآية269].(/2)
درس نبوي في التوحيد
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله المتوحد بالجلال بكمال الجمال تعظيماً وتكبيراً، المتفرد بتصريف الأحوال على التفصيل والإجمال تقديراً وتدبيراً، لا إله بحق إلاه نزل الفرقان بذلك ليكون للعالمين نذيراً.
وصلى الله وسلم على خير الموحدين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد: فإن دروس الأنبياء في التوحيد كثيرة، فما من رسول إلاّ وقد دعا إلى التوحيد وحذر من الشرك، كما قال الله _تعالى_: "وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ" [النحل:36].
والوقوف مع بعض دروس أولئك يحتاج إلى سفر عظيم، فالكلام فيه يطول، والحاجة إلى بحثه والكتابة فيه مطولةً ماسة، ولعل ما لايدرك جله لايترك كله، ولهذا أقف هنا مع درس واحد ألقاه الكريم بن الكريم بن الكريم في أحد السجون –التي غصت في الماضي ولا تزال في دول البغي والعدوان تغص بالموحدين- إنه درس يوسف عليه السلام لصاحبي السجن، ولطوله الظاهر -عند أهل التأمل والتدبر- أشرع فيه عرضاً من منتصفه، وأقف مع قوله: "وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ" [يوسف:38]، وفي هذه الآية يبدو أن يوسف –عليه السلام- ذكر آباءه لفائدة، إذ ربما يعرف السجينان طرفاً من أخبارهما؛ لأن إبراهيم _عليه السلام_ أشهر من علم على رأسه نار، وقد كانت له مواقف مذكورة مع حاكم مصر، ويبدو أن القوم كانوا يزعمون أنهم على شيء من دين إبراهيم ودلائل هذا في سورة يوسف كثيرة.
والشاهد أنه ذكر لهم أن أئمة الهدى الذين سماهم ما كان لأحد منهم أن يشرك بالله من شيء، وقوله: (ما كان لنا) صيغة جحود تقتضي مبالغة انتفاء الوصف عن الموصوف، فأصل الكلام أن يقال ما كنا نشرك بالله، فلما أراد المبالغة في نفي الشرك نفى المصدر (أن نشرك) أي ما كان لنا الإشراك، وعبر بالمصدر لدلالته على الجنس مجرداً عن زمن بخلاف الفعل، ثم التعبير بالمصدر اقتضى إدخال لام الاستحقاق على متعلقه، فأدخل لام الاستحقاق ونفى الجنس عنهم بنفي الاستحقاق، وهذا من بديع الكلام البليغ، فالمعنى ما كان من حقنا الإشراك، فترك ما ليس بحق ألزم من ترك أمر قد يكون من حق التارك، فلو قال قائل ما كنت أفعل كذا، قد يقال: ليس ذلك لعدم استحقاقه الفعل لكن لكرم أخلاقه أو غير ذلك، أما إن قال ما كان لي أن أفعل كذا، فهذا يقضي بأنه ليس من حقه أن يفعل كذا، فلا يحق لهم فعله.
ثم مع هذا التأكيد قال: (من شيء) فأدخل من على المفعول ليحقق العموم، فكأنه يقول ما كان لنا أن نشرك بالله نبياً مرسلاً، ولا ملكاً مقرباً، ولا كوكباً معظماً، ولانجماً متوهجاً، ولا كل ما يصح عليه إطلاق لفظ الشيء غير الله، وكل ذلك جار على عادة الأنبياء في تعظيم الأمر بالتوحيد، والنهي عن الشرك، بخلاف من تنكب سبيلهم، فتراه ثاني عطفه يظن أنه قد حقق التوحيد، فإذا أمر آمر به أو نهى عن ضده، فلا يظن أبداً أن الكلام متوجه إليه، أو أنه مقصود مخاطب به، بل ربما رأى الدعوة إليه والتذكير به من الفضول إذ الناس مسلمون، وإذا حسن حاله ظن أن المخاطبين به إنما هم أناس في بلد غير بلده، أو أن الكلام قصر على الذين يدعون الموتى ويطوفون بالقبور وينذرون لها ويحجون، فأعيذك أيها القارئ وأعوذ بالله أن تكون تلك حالي أو حالك، أو هذا ظني وظنك، بل أنت أنت المراد، أنت أنت المخاطب بتحقيق التوحيد واجتناب الشرك، ولي في ما أقول لنفسي العظة والعبرة.(/1)
فلتكن لنا في الأنبياء والمرسلين قدوة، فهذا يوسف يقول ما يقول، معظماً أمر التوحيد عنده وعند آبائه، ولنقف مع أحدهم بل سيدهم إبراهيم –عليه السلام- لنفهم ما بال يوسف يعظم أمر التوحيد عندهم، ولنر هل تجاوز في ذلك الصِّديقُ؟ قال أبوه عليه السلام كما أخبر الله _تعالى_ عنه: "...وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ" [إبراهيم:35]، فيا سبحان الله! إمام الموحدين، وقدوة المحققين، مجادل الصابئين الفلاسفة، مبطل مذاهبهم الزائفة، بالحجج البينة الدامغة، ناصب أدلة التوحيد ورافع أعلامها، وخافض رايات الشرك الجازم ببواتر الحجج هامها، من برأه الله فقال مؤكداً: "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" [النحل:120]، وفي غير آية وما كان من المشركين، المبرأ من الشرك على ألسنة النبيين، هذا الإمام _صلى الله عليه وسلم_ مع كل ذلك يقول: "... وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ..."[إبراهيم:36].
تأمل هذا المشهد، ترى نبي الله يقف على مشارف مكة يشير إليها إشارة القريب "رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام"، ترك لتوه بنيه بواد غير ذي زرع(1)، ولك أن تتوهم حاله وما يعتمل في قلبه، أي تعلق بالله قام فيه، وأي إشفاق على بنيه يختلج في نفسه، أتُرى الداعي في ذلك المقام يدعو بغير ألزم الدعاء وأحراه به، لنفسه ولمن خلف؟ ثم تأمل بم دعا عليه السلام ولمن دعا! دعا الله أن يجنبه عبادة الأصنام وبنيه –أتدري من هم بنوه! قال الله _تعالى_: "وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ..." [العنكبوت:27]، فليت شعري ماذا يقول أولئك الذين إذا ذكر الله وحده نفروا، وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون، ماذا يقولون لو أن واعظاً وعظهم بما دعا به إبراهيم _عليه السلام_.
فاللهم رحماك وإياك نسأل أن ترزقنا تحقيق التوحيد، والخوف من الشرك والحذر، وأن تجنبنا وبنيننا أن نعبد الأصنام، ربنا إنهن أضللن كثيراً من أصحاب العقول، في الهند والسند، والشرق والغرب، بل وفي بعض ديار المسلمين، فلك الحمد على الهداية، ونسألك الثبات حتى نلقاك على التوحيد -أرجى ما به نلقاك.
_______________
(1) يدل على ذلك سياق الآيات بعدُ إذ قال: "رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ" [إبراهيم: 36-37]، أما قوله: "عند بيتك المحرم" فيعني موضعه أو أثره المندرس وقد بناه آدم _عليه السلام_ أولا(/2)
درسان حيويان مقتبسان من قادة النبي صلى الله عليه وسلم
لحاضر المسلمين ومستقبلهم
بقلم اللواء الركن
محمود شيث خطاب
________________________________________
(1) الغزوات والسرايا
التفرغ للعلم نعمة عظيمة من نعم الله، يقصر الحمد والشكر عن الوفاء بحقها لله، وعلى المر ء الذي يقدر مثل هذه النعمة العظيمة أن يحمد الله عز وجل عليها بالأعمال لا بالأقوال.
وشغلت نفسي في تفرغي الكامل بدراسة (قادة النبي صلى الله عليه وسلم) الذين قادوا السرايا في حياته المباركة، فاكتشفتُ درسين حيويين من مصائر أولئك القادة، لم أكن أعرفهما من قبل، ولم أقرأ عنهما شيئاً، فأحببت أن أشارك القراء نشوة هذا الاكتشاف.
كان النبي صلى الله عليه وسلم هو قائد المسلمين في الغزوات، وهي ثماني وعشرون غزوة، نشب القتال في تسع غزوات منها، وحققت تسع عشرة غزوة من غزواته عليه الصلاة والسلام أهدافها دون قتال.
واستغرق جهاد النبي صلى الله عليه وسلم في غزواته كافة سبع سنين بعد الهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، فقد خرج إلى غزوة ودّان وهي أول غزوة قادها النبي صلى الله عليه وسلم في شهر صفر من السنة الثانية للهجرة، وكانت غزوة تبوك وهي آخر غزواته عليه الصلاة والسلام في رجب من السنة التاسعة الهجرية.
ولكن جهاد النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتصر على الغزوات فحسب، بل شمل الغزوات والسرايا أيضاً، والفرق بين الغزوة والسرية، أن الغزوة تكون بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم، أما السرية فتكون بقيادة أحد الصحابة عليهم جميعاً رضوان الله.
وكان عدد سرايا النبي صلى الله عليه وسلم سبعاً وأربعين سرية، وفي رواية أنه بعث عدداً أكثر من السرايا، والأول أصح.
وقد استغرق بعث هذه السرايا تسع سنين، ابتداءً من سرية حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه التي بعثها إلى (العيص) في شهر رمضان من السنة الأولى الهجرية، وانتهاء بسرية علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي الله عنه التي بعثها إلى بلاد (مذحج) في اليمن في شهر رمضان من السنة العاشرة الهجرية.
وكان من ثمرات جهاد سبع سنوات في الغزوات، وتسع سنوات في السرايا، توحيد شبه الجزيرة العربية لأول مرة في التاريخ تحت لواء الإسلام، بقيادة أبنائها من العرب المسلمين، وتطهيرها من الأجنبي الدخيل، وتحطيم الأصنام والأوثان في أرجائها، وهي آلهة العرب قبل الإسلام، بعد أن أصبح العرب يعبدون إلهاً واحداً لا شريك له، بفضل الإسلام دين التوحيد والوحدة، ودين الله الذي ارتضاه للناس كافة.
وكان عدد قادة سرايا النبي صلى الله عليه وسلم سبعاً وثلاثين قائداً، بإضافة عبد الله بن جبير الأوسي الأنصاري الذي كان قائد الرماة في غزوة (أحد) إلى قادة سرايا النبي صلى الله عليه وسلم، إكباراً لمزاياه القيادية، وتقديراً لسجاياه البطولية، وليكن أسوة حسنة لكل قائد وجندي من قادة العرب والمسلمين وجنودهم في مزاياه وسجاياه، فيصبح تعداد القادة ثمانية وثلاثين قائداً.
وليس عبد الله بن جبير رضي الله عنه من قادة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكنه ليس أقل منهم كفاية واقتداراً، وقدراً وجلالاً.
لقد كانت ثمرات الجهاد في الغزوات والسرايا ثمرات يانعة حقاً، وكانت لقيادة النبي صلى الله عليه وسلم الفذة آثار حاسمة في نتائج غزواته وسراياه: بصورة مباشرة في غزواته لأنها بقيادته المباشرة، وبصورة غير مباشرة في سراياه لأنها بقيادة مَن أحسن اختيارهم.
واختيار النبي صلى الله عليه وسلم لقادة سراياه: في أسلوب اختياره الذي يضع الرجل المناسب بالمكان المناسب، وفي حرصه على الالتزام بشروط القيادة المتميزة في الاختيار لفائدة الإسلام والمسلمين، درس ينبغي أن نتعلمه حكاماً ومحكومين، إذا أردنا أن ننتصر في الحرب ونتفوق في السلام، فقد عزّ النصر على العرب والمسلمين وعزّ النجاح، وأصبحوا أهل الهزائم والإخفاق.
وربما نعود إلى تفصيل هذا الدرس الحيوي في موعد قريب بإذن الله، فهو الدرس الحيوي الذي ينبغي أن نتعلمه من النبي صلى الله عليه وسلم: درس اختيار القادة. أما اليوم، فسأقتصر على درسين حيويين نتعلمهما من قادته عليهم رضوان الله.
مصائر قادة النبي صلى الله عليه وسلم..
والدليل القاطع على تمتع قادة النبي صلى الله عليه وسلم بالكفاية القيادية العالية، هو ما أحرزوه من انتصارات باهرة على أعداء الإسلام والمسلمين، المتفوقين عليهم عدداً وعُدداً في كل معركة خاضوها دون استثناء.
الشجاعة..
والشجاعة الفائقة هي إحدى مزايا الواجب توفرها في الكفاية القيادية، وكانت الشجاعة الفائقة هي القاسم المشترك بين مزايا قادة النبي صلى الله عليه وسلم كافة.
والدليل القاطع على الشجاعة الفائقة لقادة النبي صلى الله عليه وسلم، أن اثنين وعشرين قائداً منهم قضى شهيداً، وخمسة عشر قائداً منهم مات على فراشه، أي أن ستين بالمائة من القادة استشهدوا، وأربعين بالمائة منهم ماتوا خارج ميدان القتال.(/1)
ولا أعرف نسبة عالية من الشهداء في القادة كنسبة الشهداء في قادة النبي صلى الله عليه وسلم في تاريخ الحروب القديمة والحديثة، فالخسائر في القادة (اعتيادياً) أقل بكثير من الخسائر في غير القادة من الجنود وضباط الصف والضباط، وقد لا تكوّن واحداً بالمائة في أحسن الأحوال وفي أعلى تقدير.
والقول بأن هذه النسبة العالية في الشهداء بين قادة النبي صلى الله عليه وسلم سببها شجاعتهم الفائقة والإيمان العميق، وليس كالإيمان العميق حافز من حوافز الإقدام والاستقتال في طلب الشهادة، تخلصاً من الحياة المؤقتة للأحياء إلى الحياة الدائمة للشهداء..
ونسبة الشهداء من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم قادة وجنوداً، ثمانون بالمائة كما فصلنا ذلك في بحث »الإسلام والحرب الإجماعية«، فقد استشهد أربعة من الصحابة من كل حمسة عليهم رضوان الله، لأن إيمانهم العميق الذي كان أعلى نسبة ممن جاء بعدهم، هو الذي حقق لهم أمنياتهم في الاستشهاد، إذ كان كل واحد منهم يتمنى أن يستشهد قبل أخيه.
والمبدأ الذي جاء به الإسلام في اختصاص الشهداء بالحياة الباقية مبدأ لا مثيل له في تعاليم القتال التي جاءت بها الأديان السماوية الأخرى وتعاليم القتال في المذاهب الوضعية البائدة والسائدة: (ولا تحسبنّ الذين قتِلوا في سبيلِ اللهِ أمواتاً بل أحياء عندَ ربّهم يرزَقون) [آل عمران: 169].
ولا تجد مثل هذا المبدأ القتالي: مبدأ الحياة الباقية للشهيد، في أية عقيدة قتالية قديمة أو حديثة، إلا في العقيدة العسكرية الإسلامية، ولكن ياليت قومي يعلمون.
كما أن ارتفاع نسبة الشهداء في قادة النبي صلى الله عليه وسلم، يدل على طلبهم للشهادة وحرصهم على الاستشهاد، فكانت الشهادة من أغلى أماني المجاهدين الصادقين، وقادة النبي صلى الله عليه وسلم منهم بدون شك.
القيادة من الأمام..
وارتفاع نسبة الشهداء في قادة النبي صلى الله عليه وسلم، يدل على أنهم كانوا يقودون رجالهم من الأمام، يقولون لهم: اتبعونا! ويضربون لرجالهم أروع الأمثال في الشجاعة والبسالة، وأنهم كانوا يستأثرون دون رجالهم بمواطن الخطر، ويؤثرونهم بمواطن الأمن، وهكذا يكون القادة الذين يحوزون على ثقة رجالهم عن جدارة واستحقاق.
وارتفاع نسبة الشهداء في قادة النبي صلى الله عليه وسلم، يدل على أن أولئك القادة لا يقودون رجالهم من الخلف، يقولون لرجالهم: تقدموا! ثم يبقون قابعين في مواقع أمينة في الخلف، كما يفعل القادة الذين يؤثرون مصالحهم الذاتية على مصالح رجالهم ومصلحة أمتهم العليا.
لقد كان شعارهم في الجهاد: (قل: هل تربصونَ بها إلا إحدى الحُسنيين) [التوبة: 52] النصر أو الشهادة.
ذلك هو الدرس الأول الذي يبرز من دراسة السير التفصيلية لقادة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو:
أن نسبة الشهداء منهم كانت ستين بالمائة، وهي أعلى نسبة لاستشهاد القادة في تاريخ الحرب القديم والحديث وفي تاريخ البشرية من مختلف الأمم والألوان والأجناس في مختلف الحروب قديماً وحديثاً، وهذا برهان ساطع على صدق حديث النبي صلى الله عليه وسلم: »خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم.. « الحديث الشريف [رواه البخاري ومسلم والترمذي وأحمد..]، وهو برهان من الناحية العسكرية خاصة، وبإمكان كل مختص في علم من العلوم أن يدلل حسب اختصاصه على صدق هذا الحديث الشريف.
فلا يسأل متسائل: كيف انتصر النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه القليلين على أعدائه الكثيرين؟ وكيف استطاع أن يوحّد شبه الجزيرة العربية لأول مرة في التاريخ تحت ظل التوحيد خلال تسع سنين؟
ولكن الدرس الثاني الذي نتعلمه من قادة النبي صلى الله عليه وسلم هو أعجب من الدرس الأول وأغرب، وهو أن قادة النبي صلى الله عليه وسلم المتميزين بالشجاعة الفائقة استُشهدوا بآجالهم في ساحات الجهاد، والقادة المتميزين بالشجاعة النادرة منهم ماتوا بآجالهم في بيوتهم على فراشهم!
وبتعبير آخر، إن القادة الشجعان استشهدوا، والقادة الذين هم أكثر شجاعة ماتوا على فراشهم، وتفصيل هذا الدرس في الحديث الآتي بإذن الله.
ومن حقي ومن حق كل مسلم أن يسأل المبهورين بالعسكرية الغربية الحديثة أو بالعسكرية الشرقية الحديثة، أو بالعسكرية الغرابية التي هي مزيج من العسكرية الشرقية والعسكرية الغربية: ما نسبة الذين قتِلوا من القادة الغربيين أو الشرقيين في الحرب العالمية الثانية (1939-1945م) وما بعدهما من حروب موضعية؟
أعلى نسبة من قتلى القادة لم تبلغ واحد بالمائة في العسكرية الغربية والعسكرية الشرقية والعسكرية الغرابية!
فلماذا نستبدل العسكرية الشرقية أو الغربية أو الغرابية بالعسكرية الإسلامية؟ ولمصلحة مَن ينبهر بها العرب والمسلمون؟ ولماذا نستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؟
لقد قادت العقيدة العسكرية الإسلامية النبيَّ صلى الله عليه وسلم وصحبه إلى النصر، وإلى توحيد الجزيرة العربية تحت لواء الإسلام خلال تسع سنين فقط من عمر الزمان.(/2)
وقادت الخلفاء الراشدين الهادين المهديين من بعده على عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه، والصدر الأول من عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقادت قادة الفتح الإسلامي وجنوده إلى فتح العراق وبلاد الشام ومصر وليبيا وبلاد فارس وخراسان، وتوحيد هذه البلاد الشاسعة تحت لواء الإسلام خلال أقل من عشرين سنة.
فلمّا تخلى العرب والمسلون عن العقيدة الإسلامية، وطبقوا العسكرية الغربية أو الشرقية أو الغرابية، قادتهم هذه العقائد الدخيلة إلى الهزائم المنكرة، وخسروا حتى بلادهم، وقادتهم تلك العقائد العسكرية الأجنبية إلى الذل والهوان.
ولعل ما حدث في بيروت من قِبل العدو الصهيوني، هو قمة ما بلغه العرب والمسلمون من ذل وهوان، دون أن تقودهم العقائد العسكرية الدخيلة إلى الوحدة أو إلى النصر.
فمتى تعرف هذه الحقائق الناصعة، ومتى نعود إلى الإسلام من جديد، فقد انتصرنا بالإسلام، ولن ننتصر بغيره على أعدائنا، وواقعنا المرير أوضح دليل؟
مصائر قادة النبي صلى الله عليه وسلم
تاريخ استشهاده
هجري/ميلادي ... مكان استشهاده ... مصرعه ... قدمه في الإسلام ... القائد
624 ... 3 ... أحد ... شهيد ... قديم الإسلام – بدري ... حمزة بن عبد المطلب
623 ... 2 ... بدر ... شهيد ... قديم الإسلام – بدري ... عبيد بن الحارث بن عبد المطلب
624 ... 3 ... أحد ... شهيد ... قديم الإسلام – بدري ... عبد الله بن جحش الأسدي
624 ... 3 ... أحد ... شهيد ... قديم الإسلام ... عمير بن عدي الخطمي الأوسي
على عهد معاوية ... المدينة ... مات على فراشه ... قديم الإسلام – بدري ... سالم بن عمير الأوسي
663 ... 43 ... المدينة ... مات على فراشه ... قديم الإسلام – بدري ... محمد بن مسلمة الأوسي الأنصاري
675 ... 55 ... المدينة ... مات على فراشه ... قديم الإسلام – بدري ... سعد بن أبي وقاص
629 ... 8 ... مؤتة ... شهيد ... قديم الإسلام – بدري ... زيد بن حارثة الكلبي
673 ... 54 ... غزة ... مات على فراشه ... قديم الإسلام ... عبد الله بن أنيس الجهني
624 ... 3 ... المدينة ... شهيد ... قديم الإسلام – بدري ... أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي
625 ... 4 ... بدر معونة ... شهيد ... قديم الإسلام – بدري ... المنذر بن عمرو الساعدي الخزرجي
625 ... 4 ... الرجيع ... شهيد ... قديم الإسلام – بدري ... مرثد بن أبي مرثد الغنوي
632 ... 11 ... بزاخة ... شهيد ... قديم الإسلام – بدري ... عكاشة بن محصن الأسدي
439 ... 18 ... عمواس ... مات على فراشه بالطاعون فهو شهيد ... قديم الإسلام – بدري ... أبو عبيدة بن الجراح
652 ... 32 ... المدينة ... مات على فراشه ... قديم الإسلام – بدري ... عبد الرحمن بن عوف
660 ... 40 ... الكوفة ... شهيد ... قديم الإسلام – بدري ... علي بن أبي طالب
632 ... 11 ... اليمامة ... شهيد ... قديم الإسلام ... عبد الله بن عتيك الخزرجي
629 ... 8 ... مؤتة ... شهيد ... قديم الإسلام – بدري ... عبد الله بن رواحة الخزرجي
629 ... 8 ... مكة ... شهيد ... أسلم بعد الهجرة ... كرز بن جابر الفهري
على عهد معاوية ... المدينة ... مات على فراشه ... أسلم بعد غزوة أحد ... عمرو بن أمية الضمري
643 ... 23 ... المدينة ... شهيد ... قديم الإسلام – بدري ... عمر بن الخطاب
634 ... 13 ... المدينة ... مات على فراشه ... قديم الإسلام – بدري ... أبو بكر الصديق
633 ... 12 ... عين التمر ... شهيد ... قديم الإسلام – بدري ... بشير بن سعد الخزرجي
- ... - ... - ... مات على فراشه ... قديم الإسلام ... غالب بن عبد الله الليثي
628 ... 7 ... ديار بني سليم ... شهيد ... أسلم قبل فتح مكة ... ابن أبي العوجاء السلمي
632 ... 11 ... اليمامة ... شهيد ... قديم الإسلام – بدري ... شجاع بن وهب الأسدي
629 ... 8 ... ذات أطلاح ... شهيد ... قديم الإسلام ... كعب بن عمير الغفاري
629 ... 8 ... مؤتة ... شهيد ... قديم الإسلام ... جعفر بن أبي طالب
673 ... 54 ... المدينة ... مات على فراشه ... قديم الإسلام ... أبو قتادة بن ربعي الأنصاري
641 ... 21 ... حمص ... مات على فراشه ... أسلم قبل فتح مكة ... خالد بن الوليد
664 ... 43 ... الفسطاط ... مات على فراشه ... أسلم قبل فتح مكة ... عمرو بن العاص
- ... - ... - ... مات على فراشه ... قديم الإسلام – بدري ... سعد بن زيد الأوسي
632 ... 11 ... اليمامة ... شهيد ... قديم الإسلام ... الطفيل بن عمرو الدوسي
على عهد عثمان ... المدينة ... مات على فراشه ... أسلم قبل فتح مكة ... عيينة بن حصن الفزاري
على عهد عثمان ... المدينة ... مات على فراشه ... قديم الإسلام – بدري ... قطبة بن عامر الخزرجي
632 ... 11 ... بلاد بني سليم ... شهيد ... قديم الإسلام ... الضحاك بن سفيان الكلابي
640 ... 20 ... بلاد الحبشة ... شهيد ... أسلم قبل فتح مكة ... علقمة بن مجزر المدلجي(/3)
... ... ... ... ... ...
*قادة السرايا سبعة وثلاثون قائداً، ومع عبد الله بن جبير قائد الرماة في غزوة أحد، أصبح مجموعهم ثمانية وثلاثين قائداً.
________________________________________
مجلة الأمة، العدد 37، محرم 1404 هـ(/4)
دروب الجهاد
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
تَلّفَّتُّ ! أَيْنَ دُروبُ الجِهادِ ... ... وأيْنَ سَبيلُ النّجا والأمَانْ
دُرُوبُ الجِهادِ هُنا فَانْهَضي ... ... لَهَا أُمَّتي وثِبي للجِنانْ
جِنانُ الخُلُودِ ! هُنَاكَ الحَياةُ ... ... ونُورٌ يَمُوجُ وحُورٌ حِسَانْ
مَنَائِرُهَا للشّهيدِ ! فَهُبّي ... ... إلَيْها وخُوضِي غِمارَ الطّعانْ
وشُقِّي الصّخُورَ على الدّرْبِ جُودِي ... ... بَمَالٍ ورُوحٍ وأَغْلى أَمانْ
فَدونَكِ جَنّاتُ عَدْنٍ تُمُوجُ ... ... ودونَكِ مِنْها قُطُوفٌ دَوانْ
* * ... * ... * *
فيا أُمّتي ! أُمّةَ الحقِّ هذي ... ... سَبيلُ النّجاةِ ودَرْبُ الأَمانْ
هُو العُمْرُ ، مَهْمَا يَطُلْ ، لَحْظةٌ ... ... تمُرُّ ، وكُلُّ الذي عزّ فانْ
ودُنْيَاكِ ، مهما غَلَتْ ، زينةٌ ... ... وزُخْرُفُها عَرَضٌ وافتتانْ
ودَارُ ابْتِلاءٍ تُمَحَّصُ فِيها ... ... فإمّا شَديدٌ وإما جَبَانْ
وأِمّا تَقِيُّ عَلَى عِزَّةٍ ... ... وإِمّا شَقِيُّ وذُلُّ الهَوَانْ
* * ... * ... * *
ويا أُمَّتي اسْتكْبَرَ المَجْرِمون ... ... وفي يدِهِمْ أصْبَحَ الصّولَجَانْ
وجَاوَزَ ظُلْمُهُمُ المَشْرقينِ ... ... عَلَى فِتَنٍ من لظَىً أَوْ دُخَانْ
فَمَنْ لَهُمُ غَيْرُ عَزْمِ الأبيِّ ... ... وعَزْمِ التّقِيِّ وحَدِّ اليَمَانْ
تَضُمُّهُمُ أُمّةٌ أسَلَمَتْ ... ... إلى الله صَفّاً شِديدَ الكِيانْ
فُهُبّي إِلْيْهِمْ عَلى جَوْلةٍ ... ... وأَعْلِي النّداءَ وأَعْلي الأذانْ
* * ... * ... * *
فلسْطِينُ مَاجَتْ عَلَيْها الأَمَاني ... ... وضَيَّعَها مُجْرِمٌ أَو جَبَانْ
ولاهٍ يَغيبُ بأوْهَامُهِ ... ... على خدرٍ من هَوىً أَو هَوَانْ
وغافٍ يتيْهُ بأحْلامهِ ... ... أَفَاق على خطرٍ فاسْتكانْ
سَتنزلُ ساحَتَها أُمّةٌ ... ... ليُشْرقَ منْ نُورها الفَرْقَدانْ
تُزَلزِلْ كِبْرَ اليَهَودِ وتُلْقي ... ... بِصِهْيَوْن نَهْباً لإنْسٍ وجانْ
وتَعْصفُ بالمُجْرمين السُّكارى ... ... عَبّيدِ النَّهُودِ عَبيدِ القِيانْ
* * ... * ... * *
و " كشميرُ " يلتطم المَوتُ فيها ... ... وتَعْلُو مَلاحِمُ حَرْبٍ عَوانْ
ويَعْلُو بِها الفارسُ العَبقَريُّ ... ... شديدُ المِراسِ أبيُّ العِنانْ
تَهُبُّ النّسَائِمُ مِنْ سَاحِهَا ... ... وتَرْوِي الدّماءُ غنيّ الجِنَانْ
وتنشُرْ مِنْ عَبَقٍ طاهِرٍ ... ... غَنيٍّ ومن آيَةٍ أو بَيَانْ
ويَمْضي الجهَادُ بآياتِهِ ... ... لِيَغْرسَ في الأرْضِ صِدْقَ المعانْ
* * ... * ... * *
حَنَانَيْكِ " بُسْنا " عَرَفتِ الطريقَ ... ... وعَزمُكِ في وَقْدَةِ العُنْفُوانٍْ
نَهَضتِ وحَولَكِ حَشدُ الغُفاةِ ... ... وذلُّ النّيامِ وشَاكٍ ووَان
فَهَبَّتْ عَمَالِقَةٌ مِنْ رُبَاكِ ... ... تَقولُ هُناَ دَرْبُنا لِلجنَانْ
أيُنْتَهَكُ العِرْضُ ، تُسْبَى النِّسَاء ... ... ويُذْبَحُ شَيْخُ وتَذْوي مَغَانْ
ويَبْقى إذاً مُسُّلِمٌ لاهِياً ... ... فَكَيْفَ بِرَبّكَ عَهْدٌ يُصَانْ
* * ... * ... * *
أَطِلِّي " سراييفُ " نُوراً يَموج ... ... أَطِلّي " كُسُوفا " حديثَ الزمانْ
وَ " كَشمِيرُ " نورٌ تدَفّق يَجْلُو ... ... على الساح حقَّ الهُدَى والسِّنانْ
أَتُهْدَمُ ، ويحِي ، المساجدُ أَيْنَ الـ ... ... مصلّوَن ؟ أَيْنَ دَويُّ الأذانْ
وأَيْنَ التِّلاوةُ ؟ ! أيْنَ الإمَامُ ... ... وَموْعِظَةٌ وخُشُوعُ الجَنَانْ
تناثَرَ أشْلاؤُهم في الفضاءِ ... ... فَتَهْوي وتَمْلأُ رَحْبَ المكانْ
ويَحْنُو عَلَيْهِمْ سُكُونُ الليالي ... ... لَقَدْ جَلَّ مِنْهَا الهَوى والحَنانْ
وتِلْكَ الجَماجِمُ أَكْوامُهَا ... ... جِبالٌ ! وأَشْلاؤُها ، و اليدانْ
كَأنّهُمَا مُدَّتَا تَسْتَغِيثا ... ... نَ ! لمْ يُصْغِ قَلْبٌ ولاَهَبَّ حانْ
وعَينان أَغْمضَتا مِنْ أسىً ... ... ومِنْ خَجَلٍ لِبَعيدٍ ودَانْ
وظلْمِ البَعيدِ وهَجْرِ القَريب ... ... وقَصْرِ اليَدَيْنِ وطُولِ اللّسانْ
* * ... * ... * *
فهَذِي رُبَى المُسْلِمينَ اسْتَحَالَتْ ... ... مِنْ الدَّم قانِيةً كالدِّهانْ
فَكَمْ طفلةٍ مزَّقَ المُجْرِمونَ ... ... فَتُخْفى الجريمةُ ، تُخْفَى اليدانْ
فهذا يُجَاهِرُ ! وَيْحِى ! فَيُحْمى ... ... وهذا خَفيُّ فكيفَ يُدَانْ ؟ !
وَهَذِي بَقايا الأُمومَةِ مَالتْ ... ... لِتَسْكُبَ مِنْهَا بَقايَا الحَنانْ
وَهَذِي بَقَايا جِدَارٍ ! فأَيْنَ الْـ ... ... ـعَمائِرُ ؟ ! أَيْنَ طَوَتْ كلَّ بانْ
عَجبْتُ ! فَمِنْ كُلَّ شيءٍ رَأَيْتُ ... ... بَقَايا تُرَجِّعُ ذِكْرَى وشَانْ
فَأَيْنَ بَقَايا الرِّجال ؟ ! تَوَارتْ ... ... وأَيْنَ بَقَايا القَنا والسِّنانْ
سَتَطْلُعُ مَنْ أُمَّةٍ كَالبناءِ ... ... يَشُدُّ عُراها الهُدى والطِّعانْ
* * ... * ... * *
الرياض
الخميس 3 رجب 1414هـ
16/12/1993م ... ... ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· ديوان عبر وعبرات .(/1)
دروس 11 سبتمبر بأقلام محللين عالميين
(الشبكة الإسلامية)
يساهم في هذا الكتاب أربعة عشر باحثًا ، وتوزعت أبحاثه بين قسمين رئيسيين : يخص الأول منهما " المنظومة الدولية أمام الامتحان " ، ويحمل الثاني عنوان " منظورات إعادة التشكيلات الإقليمية ".
لا شك بأن العالم كله عامة ، والولايات المتحدة الأمريكية خاصة ، عاشوا لحظة استثنائية يوم الحادي عشر من شهر سبتمبر الماضي . وتتفق جميع التحليلات تقريبًا على القول بأن العلاقات الدولية بعد هذا التاريخ لا بد وأن تتأثر ، إلى هذه الدرجة أو تلك ، بما ستتركه هذه الاعتداءات في الذاكرة الجماعية للأمريكيين وقياداتهم ، ذلك أن الطريقة التي عاشت فيها أمريكا هذه " الأحداث / المأساة " بأبعادها الرمزية والعاطفية ، وأيضا السياسية ، لا سابق لها ، وبالتالي سيكون لها وزنها في تحديد توجهات المستقبل .
إن الآراء المطروحة في هذا الكتاب تتراوح بين التأكيد على عمق تأثير الاعتداءات على مسار العلاقات الدولية كله ، وبين التركيز على القول بأن الإرهاب قد بلغ " مستوى أعلى " من الإرهاب عبر وصوله إلى القوة الأعظم على صعيد الفعل والفاعلية . ولكن، وفيما هو أبعد من هذا الرأي أو ذاك ، لا شك بأن أسئلة جوهرية تنطرح أمام واشنطن بعد أن " اكتشفت مدى هشاشة دفاعاتها ضد الإرهاب .. وهي أسئلة تخص قدرتها على إيجاد الردود المناسبة على التحديات المطروحة عليها.
" دروس 11 سبتمبر " كتاب يدرس المساهمون فيه الرهانات التي يمكن أن تترتب على الاعتداءات الإرهابية التي تعرضت لها نيويورك وواشنطن على المدى القصير ، كما على المدى الطويل .. ويحاولون الإجابة على بعض التساؤلات المطروحة على الجميع مثل " ما هي ردود الفعل المحتملة بالنسبة للقوى الدولية المختلفة الأخرى ؟ " و" ماذا ستكون آثار اعتداءات 11 سبتمبر على صعيد الإشكاليات الاقليمية ، خاصة في بعض المناطق الحساسة ، مثل الشرق الأوسط وآسيا وروسيا ؟ وأسئلة أخرى حول وسائل النضال الجديدة ضد الإرهاب ، وحول السياسة الخارجية الأمريكية والرهانات الاقتصادية ومستقبل القانون الدولي والأشكال الجديدة للنزاعات المحتملة ؟ وماذا أيضا عن النظام الدولي الجديد والتوازنات ( أو أشكال اختلال التوازن ) الراهنة ؟
الملاحظة الأولى التي يتفق عليها المساهمون في هذا الكتاب تتمثل في التأكيد على " الشحنة الانفعالية " الكبيرة التي أثارتها اعتداءات 11 سبتمبر لأنها استهدفت " القوة الأمريكية العظمى في الصميم " ولأن العالم كله عاش مسلسلها لحظة بلحظة على شاشات التلفزة . وإذا كان " باسكال بونيفاس " يؤكد على " استثنائية " هذه اللحظة وأنها ذات أهمية كبيرة على صعيد العلاقات الدولية ، فإنه يقف في صف أولئك الذين يعتبرون أنه " من التسرع الكبير أن يتم النظر لها على أنها مؤشر لقيام حرب عالمية ثالثة ، أو حتى لبداية حقبة جديدة في العلاقات الدولية " .
أما الدروس الأساسية التي يرى بها " باسكال بونيفاس " أهم ما ينبغي التركيز عليه و" قراءة " الواقع على أساسه في فترة ما بعد 11 سبتمبر 2001 ، فيتمثل أولها في التأكيد على أن ما جرى في نيويورك وواشنطن " لا يشكل قطيعة تاريخية " مثل تلك التي أحدثها مثلاً سقوط جدار برلين عام 1989 والذي كان قد أدى بالفعل إلى قيام عالم مختلف إلى حد كبير ، بل جذريًا ، عما كان سائدًا في السابق . ذلك أنه أنهى حقبة الاستقطاب الثنائي الدولي الذي كان يشكل حجر الأساس في العلاقات الدولية طيلة أكثر من سبعة عقود من الزمن .
بالمقابل لا شك أن الكشف عن " نقطة ضعف القوة الأمريكية العظمى " يشكل عاملاً جديدًا وأساسيًا. مع ذلك لم تتأرجح موازين القوى العالمية بين القوى الكبرى إلا بمقدار ضئيل جدًا ، ولم يتغير كثيرًا وزن الصين أو أوروبا أو روسيا أو اليابان على " رقعة الشطرنج " الدولية .. وبالتالي لا تزال الولايات المتحدة هي القوة المهيمنة عالميًا . كما أن المشاكل الأساسية المطروحة على السياسة الدولية مثل مسيرة السلام في الشرق الأوسط ، أو النضال ضد عدم المساواة الاقتصادية أو حماية البيئة أو الحروب الأهلية في أفريقيا ... ، لم تزل قائمة " بانتظار الحلول " . وبالتالي قد يبدو من " المبالغة " اعتبار تاريخ 11 سبتمبر 2001 بمثابة تاريخ / منعطف نحو حقبة مختلفة تمامًا عما سبقها.
والدرس الثاني هو أن اعتداءات 11 سبتمبر 2001 لا تعني ولوج العالم السبيل المؤدية إلى حرب عالمية ثالثة ، أو إلى حرب بين الحضارات ، مما يتناقض مع أطروحات المفكر السياسي الأمريكي صموئيل هنتنجتون في كتابه " تصادم الحضارات " المنشور عام 1993. وهذا ما يمكن الاستدلال عليه من خلال موقف القادة الغربيين ، وقادة العالم العربي الإسلامي الرافض لمثل هذه المقولة الخاصة بـ " صراع الحضارات " ، ذلك باستثناء بعض المتطرفين من الجانبين.(/1)
ودرس ثالث هو أن الولايات المتحدة الأمريكية ليست مستعصية على أن يطاولها أحد . صحيح أن هذه هي المرة الأولى - منذ عام 1812 من تاريخ تدخل المملكة المتحدة ( بريطانيا ) في واشنطن - التي يتم فيها ضرب الولايات المتحدة ، وعلى أراضيها من قبل عدو خارجي . وقد كانت خسائرها في يوم واحد ثلاثة أضعاف ما عرفته أثناء هجوم اليابانيين أثناء الحرب العالمية الثانية على قاعدة " بيرل هاربور " في المحيط الهادئ وثمن (1/8) إجمالي الخسائر الأمريكية في الأرواح طيلة الحرب الفيتنامية .
إن الولايات المتحدة قد أدركت بأنها ، رغم أن إنفاقها على الميزانية العسكرية يساوي 40% من إجمالي الإنفاق العالمي في هذا الميدان ، ليست بمنأى عن التعرض لـ " الإصابة ". كما ينبغي تذكر أنه منذ أن امتلك السوفييت (سابقًا) الصواريخ العابرة للقارات عام 1957 كانت أمريكا معرضة للضرب وحيث ساد آنذاك " سلام الرعب : في ظل التدمير المتبادل المؤكد " .
ودرس رابع يكمن في القول بأن اكتشاف الولايات المتحدة الأمريكية لنقاط ضعفها وإمكانيات تعرضها للإصابة سوف يكون له آثار كبيرة على سياساتها ، فإذا كان للعولمة نتائج " استراتيجية " مهمة ، فإن لها أيضا نتائج " مأساوية " ، بما في ذلك عليها هي أيضا . حيال هذا الواقع ، تتباين التحليلات بين موقفين : فإما أن " تستنتج " الولايات المتحدة بأن العالم أكثر خطورة مما كان الأمريكيون يعتقدون من قبل ، وبالتالي سوف يبحثون عن قدر أكبر من الحماية عن تطوير " منظومة الدفاع الاستراتيجي" وتعزيز النزعة العسكرية.
الاحتمال الآخر هو، على العكس ، يدرك الأمريكيون هشاشتهم مما يدفعهم إلى أن يأخذوا باعتبارهم " ما ينتظره الآخرون منهم " ويستجيبوا لتطلعاتهم . ذلك " أن بلدًا يعاني من نقاط ضعف يمكنه أن يغدو أكثر تعقلا من قوة تعتقد بأن عليها ألا تخشى شيئًا ". هذا يعني أن ما حدث في 11 سبتمبر 2001 يمكن أن يكون دافعًا لجعل السياسة الأمريكية أكثر حساسية .
ويرى باسكال بونيفاس أن الولايات المتحدة الامريكية قد تصرفت بقدر كبير من الذكاء السياسي " حتى الآن على الأقل " وأخذت باعتبارها " التعقيد الاستراتيجي " الكبير للسياق الدولي ، وأدركت بأنها لا تستطيع ، اعتمادًا على قوتها فقط ، فرض حلولها على بقية العالم . باختصار وضعت جانبًا طريقتها السابقة في التصرف ، والمتمثلة في سلوكية " الفيل داخل مخزن من الفخار". إن ترجمة مثل هذا التوجه قد يسمح بالقول : إن العالم قد دخل فعلاً "عصرًا جديدًا " . وهنا يتساءل باسكال بونيفاس : "وإذا كان نزاع الشرق الأوسط هو باستمرار المصدر الأكبر لإحساس العرب بالكبت والظلم ، ألم يحن إذن وقت ممارسة بعض الضغط على إسرائيل ؟ " .
ودرس خامس هو أنه لا يمكن الوصول إلى سلام وأمن عالميين في ظل منظومة العولمة السائدة ، والتي تتسم بازدياد الهوة بين الأكثر غنى والأكثر فقرًا في عالم اليوم . كما أن الازدهار مستحيل في محيط من البؤس والعنف . هكذا يمكن لما يجري في أفغانستان أن يحظى بردود فعل داخل المجتمع الأمريكي ذاته ، فالمواجهة غير متكافئة بين " الأكثر غنى وقوة " والأكثر " بؤسا وهشاشة " . ذلك " أن جدار المال والتكنولوجيات يسمح باجتيازه أكثر من الستار الحديدي ـ الذي كان سائدًا بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي أثناء فترة الحرب الباردة " .
ودرس سادس يكمن في اكتشاف أن " القوة يمكن أن تصبح عامل ضعف إذا تم تصورها بنوع من المبالغة في القوة " . إن القوة تولد الحقوق كما تولد الواجبات أيضًا ، والعالم الخارجي يغدو أكثر تطلبًا من قوة كبرى مما هو من قوة أقل قدرة .. وإذا كانت أحداث 11 سبتمبر 2001 قد استهدفت الولايات المتحدة وليس أوروبا فإن هذا يعود إلى أن الحقد الموجه حيال أمريكا هو أكبر مما هو حيال القارة القديمة . والأكثر عداء للنظام الدولي الجديد يوجهون سخطهم للولايات المتحدة وليس لأوروبا التي تبدو أقل قوة وأكثر حساسية حيال تطلعات الأمم الأخرى . هذا لا يعني أن أوروبا " محصنة " ضد الإرهاب ، وإنما عمليات 11 سبتمبر 2001 كانت " من حيث اتساعها والرسالة المقصودة منها تستهدف بشكل مدروس الولايات المتحدة " .(/2)
ودرس سابع هو أن الجميع " لا يتصرفون بنفس الطريقة في القرية الكونية " . وإذا كان الانفعال " الإدانة عما كان في العالم المتقدم حيال اعتداءات 11 سبتمبر 2001، فإن بعض الأصوات قد ارتفعت لتشير بأن مآسي أخرى في العالم أدت إلى خسائر بشرية أكبر بمئات المرات ، لكنها لم تثر نفس القدر من الاستهجان والاهتمام الدوليين . وشأن رواندة بليغ في هذا الصدد ، إذ إن حوالي مليون شخص لقوا مصرعهم خلال حوالي شهرين من الزمن خلال ربيع عام 1994.. وكان الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون نفسه قد وصف المجازر الرواندية بأنها " أزمة إنسانية " . والصفة نفسها تم إطلاقها على المذابح في يوغسلافيا السابقة . بالتأكيد لم يكن هناك من خطر له أن يصف ما أصاب " برجي مركز التجارة الخارجية " في نيويورك بأنه " أزمة إنسانية " . وبالطبع لاقت أمريكا دعمًا وتضامنًا دوليين لم تحلم رواندة بأجزاء يسيرة من مثلهما .
التفسير الذي يتم تقديمه على مثل هذا " التمايز " يكمن في القول بأن مواطني البلدان المتقدمة " تماهوا " بشكل سريع وكامل مع الأمريكيين . ويتم ضمن هذا الإطار القول ببعض التباين في التعاطف مع المأساة الأمريكية بين سكان ضواحي المدن وبين أبناء وسطها الأكثر غنى وثروة بشكل عام . والنخب هي التي أبدت استعدادًا للقول : " كلنا أمريكيون " مما كان لدى عامة الناس . وضمن المقاييس نفسها كانت حساسية بلدان الجنوب ، حيث يعاني السكان من مشاكل كبيرة لم تحرك ساكنًا لدى الشمال الغني ، أقل هيجانًا من بلدان العالم المتقدم .
وإذا كان العراق هو البلد العربي والإسلامي الوحيد الذي لم يعلن إدانته لاعتداءات 11 سبتمبر 2001 فإن " سكان البلدان الإسلامية لم يكونوا مفرطي الحساسية حيال المأساة الأمريكية " . لكن يتم التأكيد هنا على " ضرورة فهم بواعث مثل هذه المواقف " . وعلى أسئلة مثل : " كيف يمكن تفسير إحساس العرب بالغبن ؟ " ، ولماذا توجه أغلبية السكان الاتهامات للعالم الغربي ، وخاصة للولايات المتحدة الأمريكية بالنفاق وتبني سياسة المعيارين ؟ و" هل نحن دائمًا على مستوى الصورة التي نمتلكها عن أنفسنا ؟ " و" هل اتهامات الغطرسة الموجهة لنا هي دائما دون أساس ؟ " ، على هذه الأسئلة كلها يرد " باسكال بونيفاس " بالقول : إن " الانفعال والتضامن ينبغي ألا يمنعا التفكير والتأمل " . المطلوب هو فهم الاحداث . و"فهم" لا يعني أبدًا " الصفح " أو " القبول بأية أسباب مخففة لما قام به المجرمون " الذين ينبغي أن ينالوا العقاب الذي يستحقونه . إن " الفهم " يعني " إدراك آليات العمل " ، و" الانفعال " مهما كانت درجة مشروعيته ، لا ينبغي أن يكون الرد الوحيد على الاعتداءات " . ثم إن " الإرهاب ليس عفويا أبدًا " وإنما هو " الثمرة المرة " لظواهر ومسارات سياسية . " والمرء لا يُخلق ارهابيًا، كما يريد البعض أن يدفعوا الآخرين على الاعتقاد . إنه " يصبح إرهابيًا " ثم " إنه من الخطأ أيضًا القول : إنه لا علاقة للنزاع العربي ـ الإسرائيلي بالاعتداءات ، أو إن تسوية هذا النزاع ستؤدي إلى نهاية الإرهاب . إن وضع الفلسطينيين هو أحد الأسباب ـ ليس السبب الوحيد ـ الذي يغذي الإرهاب " ، على حد تعبير باسكال يونيفاس ، ويؤكد مثل المساهمين الآخرين في الكتاب على أن المطلوب هو " عمل سياسي على المدى الطويل " .
ودرس آخر لأحداث 11 سبتمبر 2001، هو أن ما جرى وما ترتب عليه ينبغي أن يؤدي إلى إعطاء السياسة المكانة التي تستحقها من جديد . وذلك من خلال النظر إليها في إطار خطة عامة ، وليس تبعًا لأهداف خاصة لا رابطة بينها . ثم إن " عدو عدوي ليس صديقي دائمًا " ، أو ربما إنه " قد لا يبقى صديقي لمدة طويلة " . ألم تلعب أمريكا ورقة " طالبان " من أجل تأمين مرور نفط آسيا الوسطى إلى باكستان ؟! وكانت قبل ذلك قد لعبت ورقة المجاهدين الأفغان ضد الاتحاد السوفييتي السابق .
ودرس آخر هو أن أوروبا قد أظهرت تضامنها بالمعنى المزدوج للكلمة . تضامن مع الولايات المتحدة أولاً ، وتضامن أيضًا ضمن إطار بلدان الاتحاد الأوروبي الخمس عشرة ، إذ أظهر القادة الأوروبيون التحليل نفسه واستنبطوا النتائج نفسها حيال عمليات 11 سبتمبر 2001 الإرهابية ، هذا باستثناء " محزن وسخيف " واحد تمثل في موقف سيلفيو بيرلسكوني رئيس وزراء إيطاليا ، عندما تحدث عن " تفوق الحضارة الغربية " بالمقارنة مع " الحضارة الإسلامية ".
يشار إلى أن باسكال بونيفاس هو المشرف على إنجاز هذا العمل ، وهو مدير المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية والاستراتيجية. سبق له أن نشر العديد من الكتب في ميدان العلاقات الدولية والاستراتيجيات ، من بينها كتاب " جيوستراتيجية كرة القدم " الذي قدمه " بيان الكتب " في أحد أعداده السابقة .(/3)
كما أشرف مؤخرًا على إصدار عدد من الكتب الجماعية ضمن إطار سلسلة " الرهانات الاستراتيجية " التي يتولى إدارتها ، ومن هذه الكتب " الأخلاق والعلاقات الدولية " ، و" المعرفة والعلاقات الدولية " و" أوروبا والرياضة " .
بيان الكتب 7/1/02(/4)
دروس الهجرة النبوية
المفتي
د . حامد بن عبد الله العلي
رقم الفتوى
14162
تاريخ الفتوى
7/1/1427 هـ -- 2006-02-05
تصنيف الفتوى
السؤال
ما أهم الدروس المستفادة من الهجرة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام ؟ .
الإجابة
روى البخاري حديث الهجرة الطويل من حديث عائشة رضي الله عنها :
وفيه تجهّز أبو بكر قبل المدينة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي فقال أبو بكر وهل ترجو ذلك بأبي أنت قال نعم فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر وهو الخبط أربعة أشهر .
قال ابن شهاب قال عروة قالت عائشة فبينما نحن يوما جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قال قائل لأبي بكر هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها فقال أبو بكر فداء له أبي وأمي والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر قالت فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن فأذن له فدخل فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر أخرج من عندك .
فقال أبو بكر إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله قال فإني قد أذن لي في الخروج فقال أبو بكر الصحابة بأبي أنت يا رسول الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم قال أبو بكر فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثمن .
قالت عائشة فجهزناهما أحث الجهاز وصنعنا لهما سفرة في جراب فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب فبذلك سميت ذات النطاقين قالت ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور فكمنا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف لقن فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت فلا يسمع أمرا يكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء فيبيتان في رسل وهو لبن منحتهما ورضيفهما حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس .
يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الديل وهو من بني عبد بن عدي هاديا خريتا والخريت الماهر بالهداية قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السهمي وهو على دين كفار قريش فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل فأخذ بهم طريق السواحل .
أما الدروس والعبر من الهجرة النبوية فهي كثيرة ومنها :
1ـ درس في الصبر والإصرار على الحق .
2ـ درس في البذل والتضحية .
3ـ درس في تقديم محبة الله ومراده على محبة المال والوطن والعشيرة .
4ـ درس في أن الولاء لله تعالى والانتصار لدينه يجب أن يُقدّم على كلّ ولاء ، بل كلّ ولاء يزاحم الولاء لله والانتصار لدينه ، هو نقض للإيمان .
5ـ درس في أنّ التوحيد هو الوشيجة التي يجب أن يترابط بها المجتمع المسلم لاغيره ، وتُقدم على كلّ الوشائج الأخرى ، فالصحابة جمعت بينهم رابطة التوحيد ففارقوا به ، ولها ، كلّ شيء آخر .
6ـ درس في التوكل على الله تعالى وحده ( لاتحزن إن الله معنا ).
7ـ درس في أن الأخذ بالأسباب ، لا يعارض التوكل ، بل هو أمر مأمور به شرعا ، وذلك بيّن في تخطيط النبي صلى الله عليه وسلم للاختباء في غار ثور إلى آخر ما فعل من التدابير لتنجح خطة الهجرة .
8 ـ درس في أن التخطيط مطلوب ، ويدخل في هذا توزيع المهام ، ولهذا وزّع النبي صلى الله عليه وسلم مهام ، مشروع الهجرة فجعل التموين لأسماء رضي الله عنه ، وفيه مشروعيّة أن يكون للمرأة دور أيضا ، وللاستخبارات : عبد الله ، وللتغطية وتعمية العدو : عامر بن فهيرة ، ودليل الطريق هو : عبد الله بن أريقط.
9ـ درس في أن السريةّ في موضعها من حسن التدبير ، في أمره صلى الله عليه وسلم الصديق بكتم السر.
10ـ درس في حسن اختيار الصحبة في المهام الكبيرة وذلك ظاهر في اختيار الصديق رضي الله عنه .
11ـ درس في عظم فضل الصحابة لأنهم فارقوا الأولاد ،والأموال، والعشيرة ، والأوطان ، لله تعالى .
12ـ درس في أن الدعوة تستلزم أحيانا تغيير البيئة لاستكمال مسيرتها نحو أهدافها العليا .
13ـ درس في أن مكر أعداء الدين مهما عظم ، لن يبلغ إطفاء نور هذا الدين .
14ـ درس في أنه يجب السعي للتمكين في الأرض ،بإقامة الدولة المجاهدة الحاكمة بالشريعة ، ولو لم يمكن ذلك إلا بالهجرة وجبت .
15ـ درس في أن هذا التمكين لا يحصل إلا بالابتلاء .
16ـ درس في أنّ من صدق في نصر دين الله تعالى فسيؤيدّه الله بالآيات .
17ـ درس في أنّ الدعوة تأخذ في مراحل قبل أن تصل منتهاها.(/1)
18ـ درس في أنّ الصراع بين الحق وبالباطل ، يمر بمراحل أولها بعث الدعوة إلى الحق ، ثم الانتشار وكسب الأنصار ، ثم المواجهة الحتمية مع الباطل بالحجة والبيان ، ثم مواجهته بالقوة والسنان ، ثم التمكين لأهل الحق ، ولابد من الابتلاء و الامتحان في مرحلتي المواجهة قبل التمكين .
19ـ درس في أن تسلط الكفار وعلوهم في بعض مراحل الصراع بين الحق والباطل ، سنة ماضية، لا تضر أهل الحق ، ولاتدل على هوانهم على الله تعالى .
20 ـ درس في أن الحقّ ، إنما يُنصر بأنصاره من الرجال ، ولهذا هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنصاره ، قال تعالى ( هو الذين يؤيدك بنصره وبالمؤمنين ) ، ولهذا لابد من حسن اختيار الأنصار لدعوة الحق ، فإن وجدوا في بيئة أخرى ، فليهاجر الداعي إليهم .
21 ـ درس في أن الله يجعل لمن يهاجر في سبيله مراغما في الأرض وسعة ، ويفتح له أبواب الخير ، ما ينصر به دعوته ، مما لم يكن في حسبانه .
والله أعلم(/2)
دروس في الدجل السياسي جمال سلطان*
محاولة بعض القادة الغربيين الدفاع عن الرسوم البذيئة - بوضعها في إطار حرية الرأي والتعبير؛ التي هي من قيم المجتمع الغربي؛ التي يحرص عليها - هي نوع من الدجل السياسي..
والوزير (ساراكوزي الدموي) - وزير داخلية فرنسا الذي صرح بدفاعه الشاعري عن حرية التعبير مهما كان النقد الذي تحمله - هو نفسه الذي حرض قبل عدة أشهر على إغلاق قناة (المنار) الفضائية في فرنسا، وحرمانها من البث عبر الأراضي الفرنسية؛ بدعوى أنها تهين السامية، وتحرض على الكراهية، ولم يذكر الوزير (ساراكوزي) يومها كلمة حرية الرأي والتعبير مرة واحدة.
ولذلك عندما يدافع عن التحريض على الكراهية الموجهة للمسلمين؛ متشحا برداء المدافع المجيد عن حرية الرأي والتعبير فلا يسعنا إلا أن نصف ذلك بالدجل السياسي؛ وليذهب إلى غيرنا ليبيع له هذه الأكاذيب..
أنت أول من حرض على حرية الرأي والتعبير، وأول من كمم أفواه الصحفيين والإعلاميين في أوربا..
ليس هذا فقط؛ بل هو نفسه الوزير الذي قرر طرد أربعمائة إمام مسجد في فرنسا؛ لأن رأيهم وتعبيرهم لم يعجبه، واعتبره تحريضا على الكراهية..
فرنسا ليست وحدها التي فعلت ذلك؛ وإنما عواصم أوربية عديدة؛ فلا معنى لإعطائنا دروسا في الأكاذيب..
الصحفي الذي أهان السيد المسيح برسم كاريكاتيري حكم عليه بالسجن في اليونان وليس في أفغانستان..
وسفراء الاتحاد الأوربي هم الذين أهاجوا الدنيا في القاهرة عندما نشرت صحيفة حزبية مصرية مقالا فيه نقد لرواية (الهولوكوست)، والنفوذ اليهودي في أوربا، ولم تهدأ ثورتهم إلا بعد طرد رئيس التحرير، ونشر الصحيفة المصرية اعتذارا في الصفحة الأولى.
ولم يقم السادة الشرفاء في منظمة (مراسلون بلا حدود) بأي تضامن مع الصحفي المصري المسكين باسم الدفاع عن حرية الرأي والتعبير - كما فعلوا مع البذيء الدينماركي -؛ وإنما باركوا بِصمتهم ذبح صحفي؛ لأنه جرح المشاعر اليهودية، ولم يجرح المشاعر المسلمة..
لستم مؤهلين أخلاقيا لكي تعطونا دروسا في الحرية أيها السادة.. وفي هذه المسألة تحديدا لا يوجد في أي مجتمع شيء اسمه مطلق الحرية؛ وإنما هناك موازنة الحرية والمسؤولية.
كما أن احتقار دين أو عرق هو عمل ضد الإنسانية..
ومنع ذلك إنما هو جزء من دستور البشرية اليوم قبل أي قانون لأي دولة..
إننا جميعا ندافع عن الحرية، ونقاتل دونها؛ بل نحن أكثر من غيرنا اشتياقا إليها، وسعيا لها..
ولكن هذا الذي يحدث لا صلة له بالحرية أبدا؛ وإنما هو محض استفزاز، وتعمد لإهانة الدين الإسلامي..
والصحف التي تعاقبت على نشر الصور أرسلت رسالة واضحة: (هل أنتم تتوجعون من هذه الصور؟؛ إذن سنزيدكم إيلاما!)!!..
هذا تحريض سافر على الكراهية، والعنف، والتطرف؛ فالعنف ليس فقط ممّن يحمل السلاح؛ وإنما ممّن يوفر له الأرضية، والأسباب، والمبررات، والمهيجات.
ولذلك أنا أحترم جدا البيان الذي أصدره (جاك سترو) - وزير الخارجية البريطاني - عندما أدان مثل هذا العمل، واعتبر أنه لا يخدم الإنسانية، والتفاهم بين الشعوب، ولا يخدم قضية حرية التعبير ذاتها..
كما أعلن احترامي الكامل للصحافة البريطانية - المدرسة الأولى للصحافة في العالم - التي أبى عليها كبرياؤها المهني أن تهبط إلى مثل هذا الإسفاف، أو تكون محرضة على العنف..
وأذكر في هذا السياق أن أحد المخرجين البريطانيين كان قد أنتج فيلما مهينا عن السيد (المسيح)؛ اعترضت عليه الكنيسة الإنجيلية، وتم عرض الفيلم على إحدى اللجان؛ فأكدت أنه مهين للسيد (المسيح) عليه السلام؛ فما كان من الحكومة البريطانية إلا أن أصدرت قرارا بمنع توزيع الفيلم.. والقصة شهيرة.. وقد رفع المنتج قضيته إلى المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان؛ فانتهت المحكمة إلى تأييد موقف الحكومة البريطانية.. ولم يتحفز أحد وقتها للحديث عن حرية الرأي والتعبير!!.
إن الصحيفة الألمانية غير المحترمة التي أعادت في صفحتها الأولى نشر الصور البذيئة، وكتبت تحتها: (لا أحد فوق النقد، والسخرية في أوربا) أتحداها أن تنشر رسما مماثلا فيه صورة يهودي، أو أي رمز مقدس لدى اليهود، أو أن تسخر من الرواية اليهودية (للهولوكست)، أوتكذبها!!..
من أجل هذه الحقائق كلها لا أحد في العالم الإسلامي اليوم مستعد لكي يتفهم دجل الميديا الأوربية، أو الكولونيل (ساراكوزي)، أو رئيس الوزراء الدنماركي في التمسح بحرية الرأي والتعبير.(/1)
دروس في سورة يوسف
21/3/1425
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
ذكرت في مقال سابق أن من أسباب اختيار سورة يوسف: الدروس والعبر التي اشتملت عليها، وبخاصة مما تشتد حاجة الناس إليه في هذه الأوقات، ولهذا قال الله _سبحانه وتعالى_ في أولها: "لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ" (يوسف:7)، ثم ختم في آخرها بقوله: "لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى" (يوسف: من الآية111)، وأشير فيما يلي إلى بعض تلك الدروس والعبر التي احتوتها السورة، إشارات عابرة، وأسأل الله أن ييسر بسطها في مقالات لاحقة، فمن تلك الدروس ما يلي:
1- هذه السورة المكية ترسم المنهج الحق للداعية في الدعوة إلى الله _تعالى_، كما قال الله _تعالى_: "قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ" (يوسف:108)، والأمة اليوم قد بعدت عن عهد النبوة، فشاع في بعض جوانبها بعد عن المنهج النبوي في كثير من المجتمعات الإسلامية، ولهذا الخلل المنهجي تأخر الانتصار وضعفت النتائج، وفي هذه السورة بيان واقعي عملي للمنهج النبوي الذي إن أخذنا به لن نضل بعده أبداً، مصداقاً لقوله _صلى الله عليه وسلم_: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبدا كتاب الله وسنتي"(1)، ومن هذه الدروس التي تبين هذه الحقيقة أن النجاة والسلامة والسعادة بمقدار الالتزام بالكتاب والسنة، والرجوع إليهما.
2- ومن الدروس في هذه السورة التفاؤل العجيب الذي يبعث الجد والأمل في نفوس الأنبياء، يوسف _عليه السلام_ في كل مراحل حياته لم يفارقه التفاؤل، وأبوه يعقوب _عليه السلام_ في أحلك وأشد ظروفه لم يفارقه التفاؤل، حتى أنك تجده -عليه السلام- يخاطب بنيه في مدة حرجة، وذلك عندما جاؤوا بنبأ حجز أخيهم في مصر، فيقول: "بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ" (يوسف:83، 84)، ومع أنه في تلك الحالة، ومع حرج الموقف، ومع تلك الظروف، ومع قول بنيه: "تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ" (يوسف: من الآية85). يقول لهم: "يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ" (يوسف:87).
أمتنا تعيش هذه الآونة ظروفاً حرجة شديدة، فما أحوجها للتفاؤل، الذي يدفعها للعمل من أجل تحقيق موعود الله لها، فإن المهزوم من هزمته نفسه قبل أن يهزمه عدوه، وإذا دخل اليأس والقنوط على القلوب فشلت وخارت واستسلمت لعدوها.
فلتأخذ من يعقوب درساً، فيعقوب _عليه السلام_ لم يفارقه التفاؤل أبداً، وكذلك كان يوسف _عليه السلام_ ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم.
3- ومن الدروس في هذه السورة العظيمة نبذ ثلاثة أمور مهلكة، نادت السورة بمجموعها إلى قول: لا في وجهها، هذه اللاءات الثلاثة التي نادت السورة، هي: لا تنازل، لا استعجال، لا يأس.
فيوسف ووالده _عليهما السلام_ لم يصاحبهم الاستعجال ولا اليأس ولا التنازل.
وهذه الثلاثة إذا دخلت على الفرد أو الأمة أهلكتها.
فالاستعجال عاقبته وخيمة، ومن المقرر أن من استعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه.. قضاءً.. وواقعاً.
أما التنازل، فهو الداء الذي وقع فيه كثير من الناس، بل كثير من الجماعات الإسلامية في عصرنا الحاضر مع الظالمين، فكان من الطبيعي ألا يتحقق النجاح المأمول.
وأما اليأس والتشاؤم فإذا دخل على النفوس أحبطها وأتعبها وأثقلها، ومن كانت نفسه مضعضعة مهزوزة فكيف ينتصر على عدوه! إن خذلان النفس لصاحبها من أول أسباب انتصار عدوها، وقد تمنع أقوام في حصون ودساكر "فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ" (الحشر: من الآية2).(/1)
4- إن من أعظم أسباب عدم استجابة الناس، التذبذب والاضطراب والتغير في حياة الداعية، ومن دروس هذه السورة اضطراد منهج يوسف –عليه السلام- وعدم تذبذبه، من أول حياته، وحتى آخر لحظات عمره، فهو مضطرد مستمر في منهج معتدل في سرائه وضرائه؛ في البئر، في السجن، في الملك، وهو يرفع أبويه على العرش ويخروا له سجداً، في كل أحواله التي قصتها الصورة تلحظ اطراداً عجباً، والدعاة وطلاب العلم، بل الأمة كل الأمة تحتاج إلى الاستقامة والاطراد على المنهج الصحيح، وبخاصة في هذه الظروف التي تقلب فيها رياح الفتن أوجه القلوب وتصرفها.
5- نجد أيضاً في هذه السورة أهمية القصة وأثرها على حياة الداعي والمدعو، وقد اشتملت سور القرآن على عدد من القصص كما بين الله في هذه السورة "لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ" (يوسف: من الآية111)، وقال: "نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ" (يوسف: من الآية3)، فالحاجة ماسة باستخدام هذا الأسلوب القرآني من قبل الدعاة وطلاب العلم، وبعضهم يقلل من أهمية هذا الأسلوب من حيث لا يشعر، مع أن القرآن أعطاه أهمية كبرى، فالقرآن مليء بقصص الأولين وأخبار الماضين.
6- أيضاً في هذه السورة دروس سلوكية وأخلاقية وتربوية ونفسية مهمة، وخذ في هذه العجالة على سبيل المثال نموذجاً إلى أن يأتي موضع التفصيل؛ تأمل في هذه السورة الدعوة إلى عفة اللسان.. تجد يوسف _عليه السلام_ قد قام داعية وأستاذاً يلقي المحاضرات العملية في هذه القضية في كل السورة، تأمل على سبيل المثال يوم أن جاء الرسول يأمر بإخراجه من السجن، فأجابه: "ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ" (يوسف: من الآية50) فلم يشر إلى امرأة العزيز، ولم يقل: التي راودتني، وإنما اكتفى بإشارة اقتضتها الحاجة إلى تبرئة مقامه.
وعندما اتهم بالتهمة الباطلة، في قول إخوته كما حكى الله عنهم: "إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ" (يوسف: من الآية77)، لم يتول رداً أو إساءة بل كتم جوابه، وكظم غيظه وقال في نفسه ماحكاها الله بقوله: "أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً" (يوسف: من الآية77).
ومن عفة لسانه أيضاً عندما قالوا له: "إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ" (يوسف: من الآية78). قال: "مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ" (يوسف: من الآية79). فلم يقل لن نأخذ إلا السارق ؛ لأنه يعلم أن أخاه لم يسرق، ولذلك جاء بعبارة دقيقة، فقال: " إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ" فلم يصفه بما هو منه بريء.
7- كذلك نجد في السورة قواعد وأصول في سياسة الشرعية التي نحن في أمس الحاجة إليها في هذا العصر، نجد قواعد وأصول في الشورى، في التخطيط، في بعد النظر، في العدل... وغيرها.
8- نجد في السورة أيضاً قواعد وأصول في معالجة الأزمات، على مستوى الفرد وعلى مستوى الأمة، وأمتنا تمر بأزمات متنوعة، ومن أقوى الأزمات التي ورد ذكرها في السورة السبع الشداد والسبع التي فيها الخصب، وفي أسلوب إدارته - عليه السلام -للأزمة التي مرت بمصر فوائد ينبغي أن نقف معها.
9- نجد أيضاً في السورة منهاجاً في الحكم على الرؤى، وبيان لبعض شأنها فالسورة ذكرت الرؤيا في ثلاث مواضع مبسوطة من جملة ستة في القرآن، وقد قال _صلى الله عليه وسلم_: "أيها الناس لم يبق من مبشرات النبوة إلاّ الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو ترى له"(2) ، غير أنه وقع فيها –عند الناس- من الخلل والخطأ ما ينبغي التنبيه عليه، فهناك من أنكر الرؤيا وقلل من شأنها وقال كما قال أصحاب الملك: أضغاث أحلام، وهناك من جعل الرؤيا تشريعاً _بكل أسف_ وآخرون وسط بين ذلك.
10- نجد في السورة كذلك عاقبة المكر، وأنه يرجع على صاحبه، فإخوة يوسف مكروا به "وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ" (يوسف: من الآية102) من أجل إبعاده، فكيف كانت العاقبة؟ امرأة العزيز كادت ومكرت، غلقت الأبواب، وأعتدت للنساء متكأً، وادعت، فلمن كانت العاقبة؟ إن المكر يحاك الآن على مستوى الأمم وعلى مستوى الأفراد، وسورة يوسف تقول لكل ماكر: إياك إياك.. "وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ" (الأنفال: من الآية30)، "وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ" (فاطر: من الآية43).. وفي ذلك طمأنة للأمة وبيان لها بأن مكر أعدائها سيبور ويرتد عليهم.
11- كذلك نجد في سورة يوسف قصص التائبين المستغفرين، وأثر التوبة والاستغفار في الحياة، وقد تتبعت الدعوة إلى التوبة والاستغفار في القرآن فوجدت أنه ما من نبي إلا أمر قومه بهما.(/2)
وجدت أن في الاستغفار سهولة على اللسان، مع أنه من أخص الدعاء والدعاء هو العبادة كما في الحديث، وقال الله _تعالى_: "ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ" (غافر: من الآية60)، فالتوبة والاستغفار من السمات الظاهرة في سورة يوسف _عليه السلام_.
12- نجد في هذه السورة استثمار الفرص، وخاصة من قبل يوسف _عليه السلام_ في السجن، قبل السجن، بعد السجن، وهو عزيز مصر، والأمة بحاجة إلى أن تستثمر الفرص استثماراً حقيقياً في موضعه.
13- نجد أيضاً الصبر وعاقبته، وبياناً لبعض أنواعه "فَصَبْرٌ جَمِيلٌ" (يوسف: من الآية18)، كما صبر يعقوب _عليه السلام_، وكما صبر يوسف. "إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ" (يوسف: من الآية90).
14- وأخيراً نجد الإحسان في سورة يوسف، والإحسان أشمل مما يفهمه كثير من الناس، بل كثير من الناس يفسر الإحسان بمعنى قاصر، وهو إعطاء المحتاج، أو التصدق على المحتاج. غير أن الإحسان في سورة يوسف، ورد في قرابة خمسة مواضع، في كل مراحل حياته، فكان سبباً من أسباب السؤدد والقوة والتمكين.
هذه بعض الدروس التي اشتملت عليها السورة، ولعله يأتي بسطها تباعاً، فإن فيها بيان سبيل نجاة للأمة، فحتى تخرج أمتنا من البلاء الذي هي فيه، ومن أجل أن يرتفع مستواها لكي تحقق النصر على أعدائها، لابد أن تأخذ بالأصول والمنطلقات التي أخذ بها يوسف _عليه السلام_ فحقق هذا النصر العظيم، وأقول ختاماً: ما من فرد أو مجموعة أو أمة أخذت بأسباب الانتصار التي أخذ بها يوسف _عليه السلام_ إلا كانت عاقبتها حميدة، وتحقق له الانتصار العظيم في حياته الدنيا، وفي والآخرة، والناس يتساءلون متى وكيف نحقق النصر؟ فأقول: اقرؤوا هذه السورة وتأملوا هذه السورة، فإن فيها جواباً يأتي بسطه _إن شاء الله_ أسأل الله أن ينفعنا بما علمنا، وأن يرزقنا منه العبرة والعظة، وأن يتحول ما نعلمه إلى واقع عملي في حياة الأمة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
____________
(1) رواه الحاكم في مستدركه 1/172 برقم (319)، والبيهقي في (الكبرى 10/114)، والدراقطني في (السنن 4/245)، وغيرهم.
(2) صحيح مسلم 1/348.(/3)
دروس من أرض الإسراء
من أجواء المحنة والحصار، من ظروف الشدة
والاحتلال، من بين صور الظلم والعدوان، من جوف المحنة تخرج المنحة، من شدة الظلمة تشتعل أضواء الأمل، عندما نرجع بذاكرتنا إلى سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ونقف مع الحدث الذي منذ انطلاقه ووقعه أصبحت صلتنا بهذه الأرض صلة عقيدة وإيمان، وارتباطنا بها ارتباط دين وإسلام، وعمقنا معها عمق تاريخ وحضارة، كيف جاءت تلكم الحادثة في السيرة النبوية العطرة، لقد كانت فرجاً من بعد كرب، وكانت فرحاً من بعد حزن، وكانت إكراماً من بعد إجرام، وكانت قوة من بعد ضعف، وكانت نصرة من السماء بعد خذلان الأرض، لقد جاءت حادثة الإسراء في سيرة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، بعد أن اشتد به أذى قريش إثر وفاة عمه أبي طالب، وزاد الحزن عظمة واشتدادا بعد وفاة نصيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وزوجه المخلصة أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، وبعد أن تكالبت قوى الشر وتعاظمت صور الأذى والعداء، جاءت هذه الرحلة إسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ومعراجا من الأرض إلى السماء، لتبين أمورا كثيرة وهو أنه يأتي من بعد كل شدة فرج، ومن بعد كل عسر يسر، مادام القلب موصلا بالله، والنهج ثابتا على صراط الله، ومادام اليقين راسخا بأن كل قوى الأرض مهما بلغت عظمتها لن تنال من المؤمن والمؤمنين مبلغة إلا بما يقدر الله عز وجل، يوم صدت وأوصدت في وجه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أبواب الأرض فتحت له أبواب السماء، ويوم كانت النذالة والخسة والدناءة من كفار قريش ومجرميها جاء العز والإكرام والاحتفاء والتعظيم من ملائكة السماء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن بقعة صغيرة في مكة المكرمة إلى آفاق واسعة امتدت عبر تلك المسافة في لمح البصر لتخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الأمر سوف يتسع وأن الحصار سوف ينتهي وأن القيود سوف تكسر وأن النصر سوف تتيسر أسبابه، وأن أولئك الأقزام إما أن يسيروا مع تيار النصر والإيمان وإما أن يهزموا ويذلوا في الدنيا ويعاقبوا ويعذبوا في الآخرة، وكان الأمر كما كان وامتدت دولة الإسلام في غضون سنوات قليلة بشر بها النبي صلى الله عليه وسلم بعد إسراءه ومعراجه وبعد هجرته وجهاده، وقال في حديثه الصحيح: ( اعدد ستا بعد موتي ... - وذكر أولها :- فتح بيت المقدس)
وفتحها الفاروق ودانت للإسلام وازدانت بالإسلام وعظمت بالإيمان وكانت أنموذجا من نماذج التحرير الإسلامي الحق الذي حرر الشعوب من ربقة ظالميها وقاهريها { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير } .
وظلت تلك البركة، وظل مثل هذا الأمل مرتبطا ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس، دائما متصلا إلى آخر الزمان، لتبقى البركة وليبقى الفتح والعز والنصر وطيد الصلة بتلك البقاع ( لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ) قيل : أين هم يا رسول الله ؟ قال : ( في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس )
كما ورد في رواية أحمد في مسنده.
وفي حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم في الصحيح : ( لا تقوم الساعة حتى تقاتلون اليهود حتى يقول الشجر والحجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي وراءي تعال فاقتله، إلا شجر الغرقد فإنه من شجر اليهود ) .
أفي شك أنتم من وعد وحديث الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، ألسنا نعرف أنها أي بلاد الشام أرض المحشر والمنشر، من تلك الهجرة من تلك الرحلة وإلى قيام الساعة يبقى الارتباط وثيقا بالإيمان واليقين والإسلام من منبعه الذي بدأ في مكة المكرمة، ومن قيام دولته التي كانت في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي ثالث تلك البقاع في رحلة الإسراء ليبقى هذا كله سياقا واحدا تحدثنا عنه غير مرة .
ولعلي أنقلكم، يا معاشر المسلمين المتحررين الذين لستم واقعين تحت الاحتلال، يا معاشر المؤمنين المترفهين المتنعمين الذين لا تذوقون مرارة الحصار، يا معاشر المسلمين الذين عندكم من الوقت والفراغ سعة للهو والعبث ومتابعة المباريات ومشاهدة المسلسلات من تلك الأرض بكل قسوتها وشدتها أنقل لكم الدروس والعبر تعلموا في مدرسة أرض الإسراء كما تعلمت الأمة وتتعلم من رحلة الإسراء ومن صاحب الإسراء والمعراج عليه الصلاة والسلام.(/1)
مشاهد فيها دروس قد تكون محزنة ومؤلمة لكنها تكشف عن تلك الصور المشرقة الوضيئة، محزنة لنا ومؤلمة لنا لأنها تكشف ضعفنا وتعري صورا من خذلاننا وتقصيرنا، لأن قوة الحق تكشف الباطل، ولأن نور الإيمان يعري ظلمة الكفر، ولأن مواقف العزة تفضح صور الذلة، مشهد محزن مؤلم لامرأة فلسطينية شابة لم تتجاوز العشرينات من عمرها، أين هي ؟ وهي تعطينا الدرس من بيتها ؟ من أسرتها ؟ كلا! بل من سجنها، تؤخذ مغلولة في أصفادها من سجنها إلى المشفى، لماذا ؟ لأنها آن وحان موعد ولادتها، واليهود أصحاب الديمقراطية والحضارة المزعومة لم يفكوا عنها قيودها وهي داخلة إلى عملية الولادة لم يسمحوا إلى بعد وساطات ومتابعات من مؤسسة مانديلا الإنسانية حتى سمحوا لأمها بعد أيام من ولادتها أن تراها وتقابلها، وأين هي اليوم؟ إنها وطفلها الرضيع داخل سجون اليهود الصهاينة الغاصبين، وأين زوجها؟ سبقها بأكثر من عام إلى السجن وهو إلى يوم الناس هذا فيه، وتأتي تلك المؤسسة وتعطينا الأخبار أنها استطاعت الحصول على إذن بأن يزور السجين زوجته السجينة ليرى ابنه السجين، ولو رأيتموها وهي تتحدث في حديث واحد لوسائل الإعلام لطأطأتم جميعا رؤوسكم خجلا وهي تلبس جلبابها وتحافظ على حجابها وتتحدث بلسان اليقين والإيمان، وببرد الرضا بقضاء الله وقدره، والصبر على بلاءه وتقديره سبحانه وتعالى، لننقل هذا لا إلى نسائنا بل إلى رجالنا قبل نسائنا، أين مثل هذا ؟ الإيمان الثبات الرضا بقضاء الله وقدره، الاحتساب على الابتلاء رفع الرأس رغم كل هذه الصور من العدوان والإذلال، هل سمعتم بهذه الحادثة أحسب أن أكثركم لم يسمع بها، هل رأيتم وسائل الإعلام تكررها علينا كما تكرر الإعلانات وتكرر المشاهد وتكرر غير ذلك؟ هل رأيتم مقالات كثيرة تحدثت عن الحادثة؟ هل رأيتم قصائد شعرية سجلتها، هل رأيتم شيئا من ذلك؟ بالنسبة لي لم أرى شيئا مذكورا وكأننا قد عقدت ألسنتنا لأننا عاجزون أن نقول كلاما، حتى الكلام نعجز عنه فضلا عن الأفعال القوية المشرفة، وأبقى بكم معاشر الرجال في دوائر النساء، لنتعلم من النساء الصامدات المؤمنات المرابطات الصابرات في داخل هذا الحصار، عجبا نرى وصورا يغطيها الإعلام الماجن الداعر، الذي يظهر لنا في أكثر الأوقات هز البطون وعري الأفخاذ وغير ذلك مما تعلمون، ولم تنقل لنا صور المشاهد التي ذهبت فيها جماهير من نساء فلسطين إلى مقر السلطة الوطنية ليقلن نحن مع الحكومة في ثباتها على مبدأها وليخرجن ذهبهن متبرعات لمقاومة الحصار، وأستحضر حينئذ درساً عظيماً تلقيناه من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، في الحديث المشهور يوم خرج النبي صلى الله عليه وسلم بعد صلاة العيد فتوجه إلى مصلى النساء وحثهن على الصدقة وأمر بلالا أن يأخذ منهن الصدقات، فجعلت المرأة تلقي بقرطها والأخرى تلقي بحليها تثبيتا لهذا الدين والإيمان والإسلام، جددت نساء فلسطين فعل نساء الصحابة رضوان الله عليهن أجمعين.
ورأينا صورا تسجلها بعض الجهات اليسيرة لتثبت الوقائع الحقيقية، مشاركة النساء في اللجان الشعبية لكسر حصار فلسطين والتبرع بالذهب والحلي، وأنقلكم من مشهد تفاعلي في أرض الإسراء لنرى كيف ينتقل الدرس ويتعلمه آخرون ويطبقونه في حملة في أرض مصر الكنانة لتبرع عام لأهل فلسطين جاءت امرأة مازالت عروسا لم تنهي شهرها الأول الذي يسمونه شهر العسل وتبرعت بكل ذهبها وحليها الذي قدم لها مهرا وهدية في زواجها، فأين نساءنا وأين رجالنا من مثل هذا؟ يا أهل الإسلام الذين تسكنون إلى جوار الحرمين الشريفين ؟
ولعلي أواصل بكم المسير لأعلمكم وأعلم نفسي ماذا تصنع نساء فلسطين، إنهن يتلقين دورات فيما يسمى في التسويق الاقتصادي ليقمن بعمل منزلي اقتصادي ويبعن المنتجات اليدوية ليكفين أسرهن وليثبتن أبناء شعبهن في هذه المواجهة الجائرة التي اجتمعت فيها قوى البغي والكفر والطغيان والظلم والقهر لتركع لا أقول أبناء فلسطين، ولكن كما قلت لتركع الأمة الإسلامية في صور المرابطين في أرض الإسراء .
وأسير بكم لأن الأمر ما زال مستمرا، ولأن الصور والدروس كثيرة يضيق المقام عن ذكرها وحصرها، لأنه كما جاء في هذا التقرير عن المرأة المسلمة في فلسطين أن دورها يشكل الأرضية لصمود المجتمع الفلسطيني في وجه محاولات التركيع والإذلال التي يشنها الأعداء على مختلف مسمياتهم .(/2)
وأنقلكم إلى صفحة نسائية ثالثة، وقد تعمدت ذلك لنرى القمة الشامخة السابقة في أرض الرباط والجهاد، امرأة تعلمت هنا عندنا في مكة المكرمة وحصلت على شهادة الدكتوراه العالية في علوم الشريعة الإسلامية وهي اليوم وزيرة لشئون المرأة، ماذا تقول: لو أنكم قرأتم مقالها وجوابها للأسئلة التي وجهت إليها لرأينا ما يسر الخاطر ويشرح الصدر ولكنه كذلك كما قلت يجعلنا في مواجهة أمام أنفسنا وهي تقول: "إنها تشكر البلد الذي تعلمت فيه ولم تكن تعده بلد مهجر بل بلدها لأنه بلد الإسلام كله، وكذلكم بلاد المسلمين"
ثم عندما تسأل عن الحكومة والمنصب وغيرها فتقول: " نحن لم نأتي للمناصب لنتشرف بها، فهي أمانة ثقيلة ومسئولية عظيمة أشعر بها وكأن جبالا فوق ظهري، لأن من يريد أن يعمل يشعر بعظم الأمانة " .
كأننا ننظر إلى هذا ونعرف حقيقة ما نعلمه من ديننا عندما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم لأبي ذر يحذره بطبعه وبما عرف عنه من سمته وشخصيته بالتحذير من الولاية والأمارة، قال: ( فإنها خزي وندامة يوم القيامة إلا من قام بحقها ) .
وهكذا تأتينا الصور تترى وأنقلكم إلى صور أعظم، وربما هي بالنسبة لنا أكثر إحراجاً، صوراً رأيتها وعلمت أننا نحتاج إلى إحياء من موت، رأيت حملة بديعة رائعة لم أرى مثلها، إنها حملة مسيرة أطفال فلسطين لكسر الحصار، الصغار كل معه هذه الحصالة التي يضع فيها قروشا قليلة والجميل أن الذي يتلقى منهم ذلك وهم مصطفون في طوابير طويلة، رجل طاعن في السن ليس في شعر لحيته ورأسه شعرة سوداء، لننظر إلى هؤلاء الأطفال ما الذي أخرجهم، وراءهم أمهات مربيات وآباء أبطال علموهم كيف يكونون مع دينهم وإسلامهم وهم صغار.
أين نحن من مصاريف أبناءنا التي يشترون بها ما تعلمون، ويشترون بها من الألعاب والحلويات وغيرها ما هم في غنى عنه بل ما يتلفونه في يومه وليلته، وأين نحن من هذا كله، نحن الرجال ننحن أصحاب الأعمال نحن أصحاب الأموال نحن أصحاب كذا وكذا من نعم الله عز وجل التي لا تعد ولا تحصى .
وأنقلكم إلى صورة أوسع وأشمل استطلاع للرأي قامت به مؤسسة متخصصة تريد أن ترى رأي الجمهور من الشعب الفلسطيني في ظل هذه الظروف العصيبة والحصار الجائر والظلم القاهر والتجويع ألا إنساني، وإليكم هذه النتائج قليل من كثير 84.6% كان جوابهم لا للرضوخ ولا للركوع لهذه الهجمة الضارية الجائرة، 74.2% قالوا لا للاستجابة للمطالب الدولية مقابل إنهاء المقاطعة والحصار الاقتصادي، أنتم هنا أسمع منكم وتسمعون من الناس تقولون ليتهم يلينون ليتهم يغيرون عقولهم المتصلبة حتى لا يموتوا جوعا، وهم هناك في جوف الحصار يقولون لا لأنهم يعرفون وعرفوا حقيقة المعركة التي ربما لم نعرفها ولم نستشعرها حتى يومنا هذا وإلا لكانت لنا مواقف غير مواقف ما نحن عليها، على مستوى كل فرد وعلى مستوى كل امرأة وعلى مستوى كل طفل وعلى مستوى كل أسرة وعلى مستوى كل دولة وحكومة ومؤسسة ومجتمع في كل أنحاء البلاد الإسلامية بل في كل أرض يعيش فيها مسلم أو أقليات وجاليات إسلامية.
وأمضي بكم كذلك لتروا نسبة 59.6% قالوا إنهم مع صمود حكومتهم وثباتها على مبادئها وعدم تخليها عن خياراتها في مقاومة عدوها، هل ترون هذه الإحصاءات في دراسة ميدانية وفي شرائح عجيبة وجميلة ومؤثرة ومعبرة ومحركة ومغيرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
وكأن لسان حالهم يعبر امتثال أمر ربهم : { يا أيها الذين أمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون } .
هم صابرون مصابرون ومرابطون وفي ثغور المواجهة صامدون وفي الصف الأول من مواجهة الأمة كلها مع عدوها واقفون فأين نحن على أقل تقدير من الوقوف معهم ولو بكلمة ولو بمال ولو بحديث نقوله في كل مجلس ونصدع به في كل مكان ونبين هذه الحقائق التي تخفيها وسائل الإعلام التي نسأل الله عز وجل لكل من كان فيها ويهدف إلى تعمية هذه الأخبار أن يجازيه بما يستحق، لم لا ننقل هذه الصور، أين هذه المعلومات؟ أين هي على صفحات الصحف؟ أين هي على الشاشات التي كما قلت لا تنقل لنا إلا هذا وذاك مما تعلمون.
ولعلي أقول لكم أيضا إن الأمر أوسع من هذا وإننا إن كنا أمام مسئوليتنا الحقيقة وأمام واجباتنا الشرعية فإننا سنجد أنفسنا محاصرين بهذه الواجبات، خذوا ما شئتم من الأحكام لفقهية والشرعية، فإنكم واجدون أنها توجب عليكم وجبا شرعيا الوقوف بكل صور الإمكان ليس أقلها أن نقول إن الزكاة في أصنافها الثمانية: فقراء هم فقراء، مساكين هم مساكين، في الرقاب الذين يعتقون الأسرى أو يفدون الأسرى هم كذلك، في سبيل الله هم مجاهدون، ابن السبيل منهم الآلاف منقطعون، فأين أنتم لا أقول من نصرتهم بل من أداء واجبكم، وذلك ما ينبغي أن ننتبه له .(/3)
وهنا أستحضر موقفا جميلا في السيرة ورواه الترمذي في سننه وحسنه من حديث مرثد بن أبي مرثد، رجل عرف بهذا الاسم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أتعرفون ماذا كان يعمل، لم يكن مشهورا بإسلامه، كان يدخل إلى مكة ومهمته الأساسية أن يصل إلى المستضعفين من المسلمين المؤمنين المقيدين المأسورين، فيسعى إلى فكاكهم ويحملها على ظهره، ويخرج بهم من مكة سرّاً وليلاً حتى يطلقهم فيهاجروا إلى المدينة.
لم ينتظر حتى يدفع مالاً لم ينتظر حتى تأتي هيئة الأمم المتحدة أو الصليب الأحمر، لقد قام بدوره مباشرة وسجلت قصته في سياق آخر في سنن الترمذي كما ذكرت ؟
فأين من يصنع شيئاً من ذلك ولو بأسلوب غير مباشر لا يعرض فيه نفسه للخطر الذي يخافه أو يجبن عن التقدم لأجله .
وروى البخاري كذلك من حديث النبي صلى الله عليه وسلم : أن النساء جئن إليه فقلن يا رسول الله غلبن عليك الرجال فلو جعلت لنا يوما نأتيك، فجعل لهن يوما فلقيهن ووعظهن عليه الصلاة والسلام وأمرهن ونهاهن وكان فيما قال لهن: ( ما منكم امرأة تقدم ثلاثة من ولدها إلا كان لها حجابا من النار ) فقالت امرأة: واثنين يا رسول الله قال: ( واثنين )
هذه المرأة المسلمة المتربية في مدرسة النبوة إنما تلد الأبناء ليكونوا فداء للإسلام والإيمان والدين، ليكونوا جنودا في جيش العزة والكرامة لا ليكونوا شباباً يصيعون في الشوارع أو يلعبون في النوادي فحسب، إن الأمر أعظم من أن نجد له شيئاً عجيباً وفريداً في هذه المواقف .
ولعلي أيضا أقف مع حديث رواه البخاري ليقص لنا صورا من حياة النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم عندما حث النبي النساء حتى الفتاة في خدرها أن يخرجن ويشهدن العيد والفرح مع الناس وأن يعتزل الحيض منهن المسجد فقالت امرأة يا رسول الله إحدانا ليس لها جلباب، - ليس لها لباس يسترها حتى تخرج إلى هذا المشهد بحجابها الشرعي - فقال: ( لتلبسها أختها من جلبابها ) .
ولعلنا نقول لنسائنا ولأنفسنا ذلك ونحن نرى هذه الصور المشرقة المضيئة من تلك الأرض المباركة، فلعل بعض هذه الدروس أن تقع من نفوسنا موقعها ولا أريد مرة ثانية وثالثة وعاشرة أن يقول قائل: ماذا نعمل لأنني قلت وكررت مرارا إن هذا السؤال يحمل في طياته كثيرا في كثير من الأحيان صورا من العجز والتماس العذر و المهرب لأن من أراد أن يعمل فسيعمل وسيجد الطريق ليعمل وسيبحث ماذا يعلم وسيجتهد في كيفية تحقيق أثر عمله إن كان صادقاً مخلصاً.
وإن من تقوى الله عز وجل نصرة دينه ووعده متحققاً { إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم } ، وإن من تقوى الله تحقيق أخوة الإيمان { إنما المؤمنون أخوة } .
وإن أردت أن أسترسل معكم في دروس أرض الإسراء، فإنه حديث لن ينتهي؛ ولعلي أقف وقفات مختصرة لنعود إليها من بعد في حديث آخر، صور مهمة أكثر ربما أهمية مما ذكرت، المخلصون المجاهدون والشرفاء الأطهار من أهل فلسطين والفصائل الفلسطينية قالوا كلمة عظيمة أعلنوها واضحة جلية مدوية في وسائل الإعلام: " إننا جميعاً في خندق واحد مع خيار شعبنا ومع حكومتنا وسلطتنا ؛ لنكون صفا واحدا في وجه العدو، لا لاختلاف ولا لصراع داخلي " وما تسمعونه وترونه أو يقع من الأحداث، إنما هو من الأذناب الذين هم أيضا أعلى مرتبة في دروس الخيانة والعمالة والذلة لأعداء الإسلام والمسلمين، فإن الذين يحركون هذه الأعمال التي تثير الحزازات أو الفتن والشقاق إنما هم يعملون لصالح الأعداء من الصهاينة المحتلين ومن وراءهم من الغربيين، وهم معرفون عند أهل فلسطين ومعرفون أنهم يقبضون أجورهم ورواتبهم والرشا التي تدفع لهم من الأعداء هؤلاء سقطوا من أعين الناس وهم بهذا، ساقطون من عين الله عز وجل، واقعون في دائرة عظيمة من الخطر الدنيوي والعذاب الأخروي إلا أن يتغمدهم الله برحمة منه فيتوبوا ويؤوبوا ويرجعوا إلى دينهم أولا ثم إلى أهلهم وإخوانهم ونسائهم وأبناءهم فإنهم يزايدون على كل ذلك ويبيعونه بثمن بخس من عرض الدنيا المغموس بالذل والمهانة والعمالة والخيانة.
وصورة أخرى ربما شهدتموها في ملتقى علماء المسلمين في نصرة فلسطين، صورة من تجديد التوحد بين أهل العلم وأهل الرباط لتقول الأمة إنهم جميعا كما قال الله عز وجل { أمة واحدة }
ولعلنا نذكر في هذا قول الحق عز وجل { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم } .
تلك طائفة العلم وثمة طائفة الجهاد والرباط، وقد ذكر أهل العلم كالخطابي وغيره أن هاتان الفئتان تقومان بحماية الأمة تلك من عدوها المادي العسكري وأولئك من عدوها الفكري والعقدي الذي يسعى إلى النخر في عقيدتها والانحلال في سلوكها.(/4)
ورأينا كذلك من وراء ذلك صورا من المساندة التي تعلنها مثل هذه الأعمال وكان لسان الحال الذي ينبغي أن نحققه نحن أن نقول لأهل فلسطين لستم وحدكم، وراءكم أمة إسلامية كاملة لأنكم لا تدافعون عن أرض وتراب بل تدافعون عن عقيدة وإيمان، لأنكم لا تواجهون محتلا غاصبا يريد أراضا بل تواجهون صاحب عقيدة يريد للإسلام وأهله إذلالا وقهرا، فنحن معكم ولتقول الأمة كذلك إن علماءها وإن أبرارها وإن أشرافها مجتهدون وعاملون وكأننا بهذه الصور من الصمود تجدد لنا أملا في أن تكون هذه المعركة وهذا التحدي الكبير وهذا الحصائر الجائر هو أحد أعظم الأسباب في النهضة من بعد الضعف وفي الذكرى من بعد الغفلة، وفي النشاط من بعد الكسل، وفي إدراك المسئولية من بعد التفاهة والانشغال بسفساف الأمور.
وها نحن نسمع من يقول مؤكدا هذا المعنى مستمدا من الله عز وجل لأن محمدا صلى الله عليه وسلم يوم مات عمه ويوم ماتت زوجه ويوم تكالب أعداءه وقبل ذلك كان قادما من الطائف لم يلجأ لشيء من أسباب الدنيا ولا لأحد من أهل الأرض ولكنه قال في نداءه الخاشع لربه : ( اللهم أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ولكن عافيتك أوسع لي ) .
فنزل ملك الجبال ليقول لسيد الخلق صلى الله عليه وسلم : ( إن الله أمرني أن ائتمر بأمرك فإن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين -على أهل مكة- فلا يبقى منهم أحد لفعلت، فيقول سيد الرحماء صلى الله عليه وسلم: لا لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يوحد الله ويؤمن برسوله صلى الله عليه وسلم ) .
هكذا نجد صورة المحنة تتنزل بها قوة أعظم وهي قوة الالتجاء إلى الله والاستمداد منه سبحانه وتعالى
لم يزل مفتاح بيتي في يدي *** لم أزل أحضن ذكرى بلدي
ما عرفت اليأس يا جلاد يوما *** هذه آلاتك اشحذها وهذا جلدي
لم تزل روحي تحيى أملا *** وسياط القهر تشوي جسدي
منذ عرفت الله لم أضعف لمخلوق *** ولا أرتي من غير ربي مددي
أيها القاتل يومي بؤ به *** أنت لا تقوى على قتل غدي
غدٌ لنا والغد لأمة الإسلام والنصر قادم من سعى فيه نال بركته وأجره ومن تخلف عنه فهو المحروم فلا تتخلفوا عن نصر دين الله، ولا تتخلفوا عن إعزاز دين الله ولا تتخلفوا عن الوقوف أمام المجاهدين والمرابطين في وجه أعداء الله ولا تتخلوا عن أمتكم وعزتكم وكرامتكم وتاريخ أمتكم العريق.
أسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباده المؤمنين ، وأن يكتبنا في جنده المجاهدين، وأن يجعلنا من ورثة جنة النعيم، وأن يجعلنا من المثبتين الناصرين، لإخواننا المؤمنين المرابطين في أرض فلسطين وفي كل مكان من بلاد الدنيا يا رب العالمين.(/5)
دروس من الأحداث ..حرب الخليج
فإن من الأصول المستقرة في باب الإيمان بالله عز وجل : الإيمان بقضاء الله وقدره ، وأن شيئاً لا يحدث في هذا الكون صغيراً أو كبيراً إلا بعلم الله عز وجل وإرادته وخلقه له قال تعالى : { إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } [القمر 49] وقال جل شأنه: { وكُلُّ صَغِيرٍ وكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ } [القمر 53] . كما أن الإيمان بالله سبحانه وقضائه وقدره وأسمائه وصفاته ، لا يحصل إلا بأن يجزم المسلم أن ما يكتبه الله عز وجل ويقدره في هذا الكون فمن ورائه حكمة بالغة ولو ظهر للناظر أنه شر ومكروه . فالإنسان بإدراكه المحدود في الزمان والمكان ، ولأن من طبيعته الجهل والظلم ، فإنه لا يمكن أن يدرك مآلات الأمور وعواقبها ، ولا يعلم بذلك إلا العليم الحكيم خالق الأشياء ومقدرها وعالم الغيب
والشهادة ، قال تعالى: { قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ الغَيْبَ إلاَّ اللَّهُ ومَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } [النمل 25] ، وقال تعالى : { أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ } [الملك 14] ، وقال تعالى : { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ ولا فِي أَنفُسِكُمْ إلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } [الحديد 22] . إذ الأمر كذلك فلا شك ولا ريب أن ما حصل من أحداث وشرور في أحداث الخليج ، إثر الاجتياح العراقي للكويت ، لابد وأن نخضعها للأصول الآنفة الذكر ، وأن من حاد عن هذا المنهج فقد خسر إيمانه بالله عز وجل أصلاً ، وانحاز إلى معسكر الكفر والإلحاد الذين لا يؤمنون بشيء من هذه الحقائق ، وإنما يفسرون أحداث التاريخ تفسيراً مادياً معزولاً عن علم الله عز وجل وتقديره وحكمته البالغة فيما يخلق ، وعلى ضوء ما سبق فإن الواجب على المسلم إزاء هذه الأحداث أن يؤمن إيمانا جازماً أن ما قدره ، الله عز وجل في أحداث الخليج - وإن كانت موجعة ومؤلمة - فإن من ورائها حكمة بالغة اقتضتها حكمة أحكم الحاكمين ، والمرتبطة باسمه (الحكيم ) سبحانه وتعالى . ولقد ظهرت بعض الدروس والحكم جلية من
خلال هذه الأحداث المؤلمة ، مع أن ما خفي علينا في غيب الله عز وجل من الحكم والمصالح أكثر ومن هذه الدروس التي ظهرت ما يلي : الدرس الأول : التعرف على سنة الله عز وجل في التغيير ، وهي التفسير الإسلامى للأحداث . إن ما حصل من أحداث في دولة الكويت وما ترتب على هذا الحدث من أمور ومستجدات قد فتح أعيناً عمياً وأذاناً صماً على حقيقة مهمة ، وسنة ثابتة لا تتغير ألا وهي : { إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ } [ الرعد11 ] . وأصبحنا والحمد لله نجد هذه الحقيقة على ألسن كثير من الناس الذين منّ الله عليهم باليقظة بعد الغفلة ، رجالاً ونساءً وعوام ومثقفين . وهذا بحد ذاته نعمة ومنحة ورحمة من الله عز وجل لم تكن لتحصل لولا قدر الله عز وجل لهذا الحدث . لقد كنا نعترف ونؤمن بهذه الحقيقة قبل ذلك ولكنه إيمان ضعيف أما الآن فقد تحول هذا الإيمان إلى صورة واقعية عملية ، صار الخبر فيها عياناً ، ولا شك أن(/1)
الإيمان بهذه السنة الثابتة وأثرها على النفوس سيكون أبلغ وأقوى من الإيمان بها قبل وقوعها ، وكما هو معروف أن الطرق على الحديد وهو ساخن أقوى بكثير في تليينه وتأثره من الطرق عليه وهو بارد . كما أن رحمة الله عز وجل وحكمته البالغة قد تجلت في هذا الحادث بأنه لم يترك الناس ينحدرون وبعجلة سريعة إلى الفساد وهم غافلون عما ينتظرهم من الهوة السحيقة التي هم قادمون عليها لو استمر انحدارهم ولم يأت ما يوقفهم ويحد من انحدارهم ، ولذا فإن من رحمة الله عز وجل أنه يوقف الناس عن فسادهم بالوسائل الشرعية للإصلاح ، فيقدر عليهم أحداثاً مؤلمة تشدهم عن المزيد من الانحدار ، وتقف أمام تهالكهم على الفساد لعلهم يرجعون ويتوبون ويستيقظون من غفلتهم ، قال تعالى : { ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [الروم : 14] ، وهذه والله هي عين النعمة والرحمة وإن كان ظاهرها التشريد والقتل وفقد الأموال ، فإن كل هذه المصائب تهون وتصغر عند فقد الدين وما يترتب عن ذلك من مفاسد كبيرة فيما لو استمرت عجلة الفساد في انحدارها الشديد ولم يأت للناس ما يوقفهم ويهز رؤوسهم ليستيقظوا ويتداركوا انفسهم من السقوط في هوة سحيقة هم يتجهون إليها ، لو لم يوقفهم الله عز وجل بما يقدره من أحداث . وإن هذا الدرس العظيم لا يدركه ولا يستفيد منه إلا المؤمن الذي يجعل من مثل هذه الأحداث باباً إلى التوبة ومحاسبة النفس والرجوع إلى الله عز وجل ، وتغيير الأحوال . أما المنافق والمادي والعلماني وغيرهم من أهل الإلحاد والزندقة ، فلا تراهم إلا ساخرين ومستهزئين من هذه المعاني العظيمة ، والأصول الإيمانية الثابتة ، ولا تزيدهم هذه الأمور إلا كبراً ما هم ببالغيه ، ولن يزيدهم هذا إلا رجساً إلى رجسهم كما قال تعالى : { وإذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيمَاناً فَأَمَّا الَذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَاناً وهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وأَمَّا الَذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلَى رِجْسِهِمْ ومَاتُوا وهُمْ كَافِرُونَ * أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ ولا هُمْ يَذَّكَّرُونَ } [التوبة 124 -126] ، وقال تعالى : { فَلَوْلا إذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا ولَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الأنعام 43] .
الدرس الثاني : تمييز الخبيث من الطيب : يقول الله تعالى : { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ومَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغَيْبِ } [آل عمران 179] ، إن من رحمة الله تعالى وحكمته البالغة أن يقدر أحداثاً مؤلمة تتميز من خلالها الصفوف ، وتتعرى فيها النفوس ، فتظهر على حقيقتها للناس ، وهذا هو الذي ظهر من خلال هذه الأحداث ، حيث ظهرت حقائق مهمة ساهمت في توعية الناس والدعاة منهم بصفة خاصة ، وذلك بحقيقة أعدائهم ، وتهافت راياتهم ، وانكشاف مخططاتهم ، وادعاءاتهم الكاذبة التي كانوا يخدعون بها الناس ، وتعرت بذلك دول وأفكار ودعوات ، بل إن الإنسان نفسه قد تعرى أمام نفسه ، وكشف من خلال هذه الأحداث حقائق من حوله ومن نفسه ما كانت لتعرف لو لم يقدر الله عز وجل مثل هذه الأحداث ، وإن هذه الثمرة الكبيرة من توعية المسلمين بحقيقة أعدائهم وبحقيقة
الأفكار والنحل التي تتلاطم من حولهم ما كانوا ليعرفوا عنها شيئاً ، وبهذا الكم الهائل من المعلومات لولا تقدير الله سبحانه وتعالى لهذا الحدث . وقد حقق الله عز وجل هذه الثمرة في أسابيع عدة ما كانت الدعوة الإسلامية لتحصل عليها في عدة سنوات ، والأيام حبلى بدروس وعبر جديدة ، أليس هذا من رحمة الله وفضله ؟ بلى والله ، ولا يعني هذا أننا نتمنى المصائب والفتن ، معاذ الله ، فإن المسلم لا يدري ما تكون حاله حينئذ وقد نهانا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك بقوله : » ولا تتمنوا لقاء العدو وإذا لقيتموه فاصبروا « متفق عليه . ولكن أردت الإشارة هنا إلى ربط الأحداث بعلم الله عز وجل وحكمته البالغة ، وأن شيئاً في هذا الكون لا يكون إلا بعلم الله عز وجل وحكمته البالغة ، ويريد الله عز وجل منه الخير للمسلمين في الحال أو المآل .(/2)
الدرس الثالث : أهمية التوحيد والتربية عليه : لقد ظهر من خلال هذه الأحداث الأهمية البالغة لتربية النفوس على عقيدة التوحيد الخالص ، ولقد بدا من خلال الأحداث أن هناك ضعفاً شديداً في هذا الجانب المهم في حياة المسلم ، كما ظهر من خلال الأحداث أن هذا الأصل المهم من أصول الإيمان لم يأخذ حقه من التربية العلمية والعملية ، ولعل من أهم دروس هذا الحدث أن يشعر المسلمون وأرباب التوجيه بضعف هذا الجانب ، وما كان ليعرف هذا الخلل لولا تقدير الله سبحانه وتعالى لهذه الأحداث .ومن مظاهر هذا الضعف ما حصل من الارتباك الشديد في بعض المفاهيم
العقدية ، والتي تعتبر من الثوابت والأصول التي لا تتزعزع ولا تهتز ولا تتغير مهما تغيرت الأحوال والأزمان والأمكنة ، ومن أهم هذه الأصول التي اعتراها الاهتزاز : مفهوم الولاء والبراء ، الولاء لله عز وجل ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- وللمؤمنين ، والبراءة والعداوة للكافرين والمشركين والمنافقين بشتى مللهم وأفكارهم . أما أن يصبح العدو صديقاً والصديق عدواً ، وأما أن تبذل المحبة للكافر والعداوة للمسلم ، ويكون الميزان في الحب والعداوة موازين الأرض وموازين المصالح الشخصية ، فهذا كله مما ترفضه عقيدة التوحيد الثابتة ، والتي تقوم الموالاة والمعاداة على أساسها ، وهذا هو أصل لا إله إلا الله الكلمة الطيبة التي وصفها الله عز وجل بقوله : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإذْنِ رَبِّهَ } [إبراهيم24-25] . وهي الكلمة التي من أجلها أرسل الرسل ، وأنزلت الكتب ، وجاهد من أجلها أنبياء الله عز وجل ودعاته الصادقين ، كما قال تعالى : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ والَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ ومِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وبَدَا بَيْنَنَا وبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ والْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وحْدَهُ } [الممتحنة 4] ، أما ما سواها من المصالح الشخصية والموازين الأرضية عدم الثبات والروغان ، فالذي يحب وبعادي من أجل المصالح الدنيوية يدور مع هذه المصالح حيث دارت ، فقد يعادي في الصباح من أحبه في المساء وقد يوالي في المساء من عاداه في الصباح ، وصدق الله العظيم : { ومَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ * يُثَبِّتُ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وفِي الآخِرَةِ ويُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ويَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ } [إبراهيم 26-27] ،
اللهم ثبتنا بقولك الثابت ولا تضلنا مع الظالمين . ومما يؤيد الاهتمام الشديد بالتربية على التوحيد ، ما ظهر من النقص والضعف في توحيد التوكل والاستعانة والاستغاثة وغيرها ، مما نتج عن هذا الضعف من الركون إلى غير الله عز وجل من أعداء هذا الدين والثقة بما عندهم أكثر من الثقة فيما عند الله عز وجل .(/3)
ولأجل كل ما سبق ظهر أن الحاجة ماسة جداً إلى مزيد من التربية على العقيدة علماً وعملاً ، بأن نتعلم أركان التوحيد وما يضاده من الشرك القديم والجديد ، وأن لا يستخفنا الذين لا يوقنون من أرباب السياسة والمصالح الأرضية فيستهوننا معهم ويُركبوننا في ركابهم ، بل يجب علينا الحذر الشديد منهم ومن مكرهم ، وأن نقبل على ديننا نتعلمه ونعمل به وندعو إلى الله ونصبر على الأذى فيه ، وأن لا نستطيل الطريق أو الوقت الذي نمضيه في تعلم التوحيد بكل متعلقاته كما يجب علينا أن نعي واقعنا ، وأن نربط ما تعلمناه من دين الإسلام بقضايا عصرنا ومستجداته من الأفكار والنحل التي لم تكن موجودة عند أسلافنا ، وأن يكون للتربية الشاملة على التوحيد دورها في مواجهة الشرك المعاصر والتي تشن فيه العلمانية معارك طاحنة ضد المسلمين بوسائل شتى أي أننا نربد منهجاً دعوياً يقوم على (سلفية المنهج وعصرية المواجهة) ، ونقصد بالسلفية : العودة بأصول الفهم والاستدلال إلى الكتاب والسنة وقواعد الفهم المعتبرة لدى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ومن تبعهم بإحسان ، وذلك لنتمكن من خلال هذا المنهج من المواجهة السلفية المعاصرة لمشكلات عصرنا المتجددة ، حيث لا نقصد بالسلفية : الوقوف فحسب عند القضايا العقدية التي واجه بها سلفنا الصالح انحرافات عصرهم ، وكانت فريضة الوقت يومئذ ، ثم نتخلى عن المعارك الطاحنة التي تديرها الجاهلية في المجتمعات المعاصرة حيث ضاعت إسلامية الراية وإسلامية النظم . إن السلفية الحقة لا تقبل أن تستهدف الدعوة في بض المواقع تحرير العقائد من شرك الأموات والتمائم ، وتضرب صفحاً عن شرك الأحياء والأوضاع والنظم والتي لا تقل خطراً عن شرك الأصنام ، وكلا الشركين خطير ، كما لا تقبل السلفية الحقة أن تحارب التشبيه والتعطيل في صفات الله عز وجل وتقف عند ذلك ولا تعلن الحرب على تعطيل الشريعة وتحكيم القوانين الوضعية وفصل الدين عن الدولة . وإننا بهذا المنهج الشامل والسلفية المعاصرة نسلم وتسلم عقيدتنا الثابتة من أي خلط أو اهتزاز كما هو الحاصل في هذه الأيام ولكنها الفتن نعوذ بالله منها ما ظهر وما بطن . وما أحسن ما كتبه الأستاذ محمد قطب في كتابه القيم (واقعنا المعاصر) حول أهمية التربية والرد على من يستطيل طريقها ويريد قطف الثمرة قبل استكمالها فيقول ص486 : (أما الذين يسألون إلى متى نظل نربي دون أن (نعمل) ؟ فلا نستطيع أن نعطيهم موعداً محدداً فنقول لهم : عشر سنوات من الآن أو عشرين سنة من الآن ! فهذا رجم بالغيب لا يعتمد على دليل واضح ، إنما نستطيع أن نقول لهم نظل نربي حتى تتكون القاعدة المطلوبة بالحجم المعقول .. ) ثم يستمر وفقه الله حول هذا الموضوع إلى أن يقول : ( .. ونكتفي بثلاثة أبعاد ننتقيها من بين أبعاد كثيرة ومجالات عديدة لأنها ذات أهمية خاصة وذلك بالنسبة لبناء القاعدة المطلوبة : يقول سبحانه وتعالى : { إنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ } ، ولو أنك سألت أي إنسان في الطريق من الذي يرزقك لقال لك على البديهة : الله ولكن انظر إلى هذا الإنسان إذا ضيق عليه في الرزق يقول : فلان يريد قطع رزقي ! فما دلالة هذه الكلمة ؟ دلالتها أن تلك البديهة التي نطق بها لم تكن » يقينا « قلبيا إنما كانت بديهة ذهنية فحسب وبديهة تستقر في وقت السلم والأمن ، ولكنها تهتز إذا تعرضت للشدة ، لأنها ليست عميقة الجذور . فلا يصلح لتلك الأعباء إلا شخص قد استقر في قلبه إلى درجة اليقين أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ، وأن الله هو المحي والمميت ، وأن الله هو الضار والنافع ، وأن الله هو الذي المعطي والمانع وأن الله هو المسير ، وأن الله هو الذي بيده كل شيء .. ترى كم جلسة ، كم درسا ، كم موعظة ، كم توجيها يحتاج إليها الإنسان ليرسخ في قلبه إلى درجة اليقين إن الله هو الذي يدبر وأن هذه المخلوقات البشرية التي يخالطها في حياته إن هي إلا أدوات لقدر الله ، وانها حين تضره فهي بشيء قد كتبه الله له ، فلا يتوجه إلا إلى الله في سرائه وضرائه سواء ويعلم - يقينا - أن الخلق كلهم لا يملكون له ولا لأنفسهم ضراً ولا نفعاً) . الدرس الرابع : صحة الفهم وحسن القصد ودورهما في درء الفتن : في أيام الفتن تضطرب الأفهام وتحتار العقول أمام الشبهات كما أن القلوب تضعف أمام الشهوات ولا يعصم منها إلا من عصمه الله تعالى بعلم صحيح وفهم دقيق يدرأ بهما الشبهات ، وبدين وتقوى وصبر يدرا بها الشهوات ولا يسلم من الفتن ورياحها إلا من تحلى بهاتين الصفتين : الفهم الصحيح ، والقصد الصحيح ومن فقد أحداً من هاتين الصفتين فقد عرض نفسه للفتن ولقد اتضح مظاهر فقد هذين الأمرين أو أحدهما في هذه الأيام أيام الأحداث والفتن فسقط في هذه الفتن من سقط وهلك فيها من هلك ولا يتعدى أسباب السقوط هذين الأمرين الآنفي الذكر فبضعف اليقين والبصيرة تسيطر الشبهات وبضعف التقوى وفساد المقصد تسيطر(/4)
الشهوات . وصحة اليقين والفهم يتمان بأمرين اثنين : بالعلم بدين الله عز وجل وأحكامه وشرعه ، وبالعلم بالواقع والفقه فيه وأبعاده ، فمن فرط في أي من هذين العلمين والفهمين فسد فهمه وعرض نفسه للشبهات وأخذ الباطل يحسبه حقاً . أما من تحلى بالفهم بأحكام الله والفهم بالواقع ثم وقع الأول على الثاني فقد تمت له البصيرة ووصل إلى الحق . ولكن معرفة الحق لا تكفي في النجاة من الفتن حتى ينضم إليها التقوى والصبر وحسن القصد فينقاد إلى الحق الذي ظهر ويذعن له ، وإلا لو كان
الصبر ضعيفاً أو القصد فاسداً فإن المسلم يتعرض للفتن من باب الشهوات فلا يصبر على الحق والثبات عليه أمام المغريات والشهوات . ولقد ساق الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- هذه المعاني بأوضح عبارة وأدقها وأبلغها حيث قال -رحمه الله- في كتابه القيم (أعلام الموقعين) في معرض شرحه لخطاب عمر رضي الله عنه- إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه- في القضاء فقال في شرحه لقول عمر : (فافهم إذا أدلى إليك) : صحة الفهم وحسن القصد من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عبده ، بل ما أعطي عبد عطاءً بعد الإسلام أفضل ولا أجل منهما ، بل هما ساقا الإسلام وقيامه عليهما ، وبهما يأمن ، العبد طريق المغضوب عليهم الذين فسد قصدهم ، وطريق الضالين الذين فسدت فهومهم ، ويصير من المنعم عليهم الذين حسنت فهومهم وقصودهم . وهم أهل الصراط المستقيم الذين أمرنا أن نسأل الله أن يهدينا صراطهم في كل صلاة . وصحة الفهم نور يقذفه الله في قلب العبد يميز به الصحيح والفاسد ، والحق والباطل ، والهدى والضلال ، والغي والرشاد ، ويمده حسن القصد وتحري الحق وتقوى الرب في السر والعلانية ، ويقطع مادته اتباع الهوى وإيثار الدنيا ، وطلب محمدة الخلق وترك التقوى . ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم : أحدهما : فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقةما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات ، حتى يحيط به علماً . النوع الثاني : فهم الواجب في الواقع ، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- في هذا الواقع ثم يطبق أحدهما على الآخر ، فمن بذل جهده واستفراغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجراً ؛ فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله . وبعد هذا الكلام المفيد من كلام الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- ، وبعد النظر الدقيق للمواقف المضطربة إزاء الأحداث والفتن هذه الأيام ، وبعد خوض من خاض وهلاك من هلك فيها إما بقلبه أو لسانه أو يده ، يتبين لنا أن هناك خللاً في منهاج الدعوة عند بعض الدعاة ، ونقصاً في التربية ، لعل من دروس هذه الأحداث اكتشافنا لهذا الخلل حتى نتفاداه ، ويمكن مما سبق تلخيص هذا الخلل في النقاط
التالية :
1- عدم التربية على طلب العلم الشرعي من مصادره الصحيحة وأصوله المنضبطة .
2-عدم التربية على طلب العلم والفقه بالواقع والوعي الصحيح بسبيل المؤمنين فيه وبسبيل المجرمين .
3- هناك خلل في القلوب وفساد في القصود لابد من تداركه والاهتمام بتزكية القلوب وتربيتها على الإخلاص لله عز وجل وإنشاء همّ الآخرة والزهد في الدنيا وعدم طلب محمدة الناس والتربية على الصبر والثبات أمام الشهوات والمغريات . وعندما يتم التغلب على هذه الأنواع من الخلل ويربى الناس عليها وعلى طلبها ، فإنه بإذن الله تتم العصمة من الفتن وأخطارها ، فبالعلم بدين الله والعلم بالواقع نتقي الشبهات ونحسن القصد والإخلاص لله عز وجل ، والصبر أمام المغريات نتقي الشهوات والله أعلم وبعد : فإن الدروس والحكم كثيرة وكثيرة ، وليس مقصود البحث هذا هو التفصيل فيها ، ولكن ذكرت بعض هذه العبر والحكم والمصالح من هذا الحادث المحيط بنا هذه الأيام ؛ لنتذكر من خلاله أن لأسماء الله عز وجل وصفاته لوازم ومقتضيات لا يتم الإيمان إلا بها ، ومن هذه الأسماء الكريمة اسم الله (الحكيم) ، والذي هو موضوع بحثنا في تفصيل لوازم هذا الاسم الجليل والتعرف على العبوديات التي يضمنها ، والآثار التي يتركها في القلب والجوارح ، وما يلزم عليه من لوازم ومقتضيات ، ومنها ما تم استعراضه من الدروس الماضية لحدث واحد مما يقضيه الله عز وجل ويقدره من بين أحداث وأحداث كثيرة تصغر في حجمها وتكبر ولكنها كلها لا تخرج عن علم الله عز وجل وتقديره ، ولا تخرج عن حكمته البالغة وتيسيره .
مجلة البيان : العدد : 37 التاريخ : رمضان/1411هـ .(/5)
دروس من الحج
الحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ?يا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجَالاً كَثِيراً وَنِساءً، واتَّقُوا اللَّهَ الذي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً?[ النساء:1]. ?يا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وأَنْتُمْ مُسْلِمُون? [آل عمران:102]. ? يا أيُّهَا الَّذين آمَنوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمالَكُمْ، ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً? [الأحزاب:71].
من أعظم الأعمال الصالحة التي يقوم بها المسلمون في عشر ذي الحجة أداء مناسك الحج . إن مناسك الحج مشهد عظيم من مشاهد العبودية التي يؤدي فيها المؤمنون عبوديتهم لربهم وخالقهم حيث جاؤوا من كل فج عميق يرضون ربهم ، يرجون رحمته، ويخافون عذابه.
تلك الجموع التي تلتقي في مكة وما حولها تهتف فيها بالتوحيد والتكبير والتسبيح والتلبية والتهليل (لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك).
الهتاف ليس لبشر ولا لشجر ولا لحجر، إنما الهتاف فيها لرب الأرض والسماء ? ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ?[الحج:30-32].
تتجلى في فريضة الحج أنواع من العبودية القلبية والبدنية والمالية وتتجلى في فريضة الحج حكم وأسرار على المسلمين أن يدرسوها ويفقهوها جيداً وهي كثيرة جداً، ومن ذلك الطواف حول الكعبة البيت الحرام وهو أول بيت وضع للناس متعبداً لهم ، لم يبن قبله بيت للعبادة أقيم هذا البيت العتيق ليكون قلعة للتوحيد ، ومثابة للموحدين ، وملتقى للمؤمنين المخلصين.
لقد شرف الله هذا البيت وحددت معالمه ووضعت دعائمه وعرفت حدوده وأركانه، منذ قام إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بالبناء ومنذ ذلك التاريخ والبيت الحرام زاده الله تشريفاً وتكريماً يقصده الحجاج والزوار من كل أفق ومن كل فج، يطيرون إليه كما تطير الحمائم إلى أوكارها، في أفئدتهم حنين وفي قلوبهم مشاعر فياضة من الحب والرغبة لزيارة بيت الله العتيق.
أوجب الله على المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها وشمالها وجنوبها أن يولوا وجوههم شطر هذا المسجد الحرام في كل صلاة تقام في القارات كلها وقد ثبت علمياً أن مكة شرفها الله تقع في وسط الأرض المعمورة، وكأن أم القرى أم حقيقية وكأن المصلين حول الكعبة دائرة محدودة لكن هذه الدائرة تتسع لتشمل الأرض كلها وهي تتجه في صلواتها لله رب العالمين تجمعها قبلة واحدة. وليست المسألة كما يقول أعداء الإسلام بأن المسلمين يعبدون الحجارة كلا؛ فإن الحجر في الكعبة لا يضر ولا ينفع .. ولكن هذا تنظيم فرضه الله على عباده؛ ليوحد بين الوجوه والقلوب والصفوف. وحقيقة البر إنما هو في امتثال أمره تعالى واجتناب نهيه والوفاء بعهده ووعده كما قال تعالى: ? لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ?[البقرة:177].
إن هذه الأمة الإسلامية مرتبطة بالأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام الذين وضعوا حجر الأساس في هذا البيت العتيق ونهضوا به وأعلوا دعائمه وتضرعوا إلى الله أن يجعلهم وذريتهم مسلمين له طائعين.(/1)
? وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ?[البقرة:127-129].
لقد جعل الله قيادة البشرية للأمة الإسلامية ، وفي هذا من التكريم والتشريف للمسلمين عامة وللعرب على وجه الخصوص ما فيه؛ لأنهم حملة الرسالة الخاتمة التي جاء بها محمد رسول الله صاحب الإمامة العامة للناس جميعاً وصاحب الرسالة الخاتمة التي أكرم الله بها البشرية. ولقد امتن الله تعالى علينا بهذه النعمة حيث قال سبحانه:? كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ ?[البقرة:151] وهو تشريف وأي تشريف، فكما أن الله وجه الناس إلى قبلتكم تشريفاً لكم، فقد شرفكم الله بابتعاث النبي الخاتم عليه الصلاة والسلام منكم.
وأمام هذا التشريف فإن الواجب أن نحقق ما أراده الله منا من كثرة ذكره وشكره كما قال في نهاية الآية ? فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ ?[البقرة:152] فهل ذكر العرب دينهم الذي شرفهم الله به، وهل ذكروا الكتاب العزيز الذي أنزله الله بلسانهم ، فنفذوا أحكامه وتوجيهاته هل أحلوا حلاله وحرموا حرامه وهل شكروا الله على هذه النعمة هل أطاعوا رسول الله أم بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار؟
إن الكعبة هي قبلة الأرض يتوجهون إليها بصلواتهم ويطوفون حولها في حجهم وعمرتهم. والبيت المعمور هو قبلة أهل السماء وهو موازٍ للكعبة بل هو فوقها فيلتقي أهل السماء وأهل الأرض على عبادة الله رب العالمين وقد خاب وخسر من استكبر عن عبادة الله.
ومن الدروس التي يستفيدها المسلم من فريضة الحج ما يقوم به الحاج من السعي بين الصفا والمروة، يتذكر وهو يهرول بين الصفا والمروة قصة هاجر أم إسماعيل وكيف كان يقينها وتوكلها على الله، فإن الناس غالباً ما يبنون أمورهم على ماديات، فهم يثقون بما في أيديهم، أما ما في يد الله فإنه لا يؤمن به إلا الأقلون ، الرزق غيب ولا يؤمن برزق الله إلا أصحاب الإيمان الراسخ. والنصر غيب، ولا يؤمن بنصر الله إلا أصحاب الإيمان الصادق واليقين الراسخ. هذا النوع من الإيمان واليقين قلما يوجد لكنه عدة المصلحين، وذخيرة المؤمنين ، كلما اشتدت المحن وأظلم عليهم الليل، ولم يجدوا بصيصاً من نور اطمأنوا إلى أن فجراً سيجيء فهم ينتظرون بزوغه وشروقه بكل ثقة ويقين. تلمح هذه المعاني والدروس حين نجد نبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام ينفذ أمر الله بأن يسكن هاجر وابنها الرضيع إسماعيل قريباً من البيت العتيق بوادٍ غير ذي زرعٍ، تركها إبراهيم هناك وانطلق مسلماً الأمر لله فقالت له هاجر حين رأته مغادراً في صمت: آلله أمرك بهذا ، قال: نعم، قالت: إذاً لا يضيعنا الله!! وذهب إبراهيم، وبقيت الأم برضيعها. نفد الزاد والماء، ولا شيء هناك سوى السماء والرمال والجبال الصم. وهنا يختبر الإيمان ويمحص إلى آخر لحظة، بدأ الرضيع يتلون من العطش، وبدأت الأم تحس بأن المستقبل يظلم أماها، وبدأت تجري يميناً وشمالاً ذلك الوادي بين جبلي الصفا والمروة، ثم جاءها الفرج حيث جاء الملك وغمز بجناحه الأرض فتفجرت زمزم وشرب الرضيع، وشربت الأم وبدأ الخير.
هل كانت هاجر أم إسماعيل مع رضيعها تدرك أن ابنها سيكون نبياً وأن الله سيجعل من ذريته نبياً خاتماً هو محمد صلى الله عليه وسلم وأنه سيكون من ذريته شعب كبير وسيكون من أثره رحمة وهداية وعلماً وحضارة تظلل الأرض برحمتها وسناها. ما كانت الأم تدري شيئاً عن هذا.
ومن هنا يجيء الاختبار والابتلاء وتقع المصائب والمحن ليستيقظ في نفوسنا وفي حياتنا معاني التوكل على الله والثقة به واللجوء إلى كنفه، فمهما اشتدت الخطوب وادلهمت المصائب والكروب، فإن نصر الله لعباده متحقق ومضمون. ولكن أكثر الناس لا يعلمون. فعلينا أن نثق بربنا وأن نعتصم بديننا وأن نتوكل عليه وعلى الله فليتوكل المتوكلون.
من الأعمال الفاضلة التي يشترك فيها الحجاج والمعتمرون مشروعية الأضاحي، التي يتقربون بها إلى الله تعالى فإن هذه الأضاحي سنة أبيكم إبراهيم ، ونبيكم محمد صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى: ? فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ?[الكوثر:2 ] ، وفي الحديث الذي أخرجه ابن ماجه والترمذي والحاكم:(/2)
(ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله من إراقة دم، وإنه لتأتي يوم القيامة بأظلافها وقرونها وأشعارها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض فطيبوا بها أنفسكم) .
والأضحية تكون من بهيمة الأنعام. إما من الإبل أو البقر أو الضأن أو المعز على اختلاف أصنافها. وللأضحية شروط ثلاثة:
الأول: أن تبلغ السن المعتبر شرعاً، وهو خمس سنين في الإبل وسنتان في البقر وسنة كاملة في المعز ونصف سنة في الضأن.
والثاني: أن تكون سليمة من العيوب وهي العرجاء والمريضة ، والعوراء، والهزيلة التي لا مخ فيها، فهذه لا يصح الأضحية بها.
والشرط الثالث: من شروط الأضحية أن تقع في الوقت المحدد للأضحية : وهو من بعد صلاة العيد وحتى نهاية اليوم الثالث بعد العيد، فأيام الذبح أربعة يوم العيد وثلاثة أيام بعده.
ويجوز أن يشترك سبعة مضحون ببدنة أو بقرة فيكون لكل واحد منهم أضحية ويقسمون لحمها أسباعاً. والسنة أن يأكل الإنسان من هديه أو أضحيته ويهدي ويتصدق على الفقراء والمساكين ، قال تعالى: ? لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ?[الحج:28].
فاجعلوا هذه الأيام مناسبة لشكر الله تعالى وتكبيره وتعظيمه والإحسان إلى خلقه بصلة الأرحام ومساعدة الفقراء والمساكين وإشاعة روح الأخوة والتسامح والتعاون على البر والتقوى وتعظيم شعائر الله.
راجعه: عبد الحميد أحمد مرشد.
سنن ابن ماجة: كتاب الأضاحيّ: باب ثواب الأضحية: الحديث رقم:(3126) عَنْ عَائِشَة رضي الله تعالى عنه(/3)
دروس من العدوان اليهودي على لبنان ...
12/7/1427هـ ـ 8/8/2006م
الدرس الأول: يجب على كل دولة إسلامية وبخاصة العربية منها - لوجود خطر العدو اليهودي في قلبها - أن تعد القوة التي تحمي شعبها من عدوها الخارجي، إعدادا عقديا لرجالها و إعدادا عسكريا قتاليا بتدريبهم على كل أنواع السلاح الذي يجب توفير ما يرهب المعتدين، وتتحمل هذه الدول مسئوليتها في ذلك حتى لا تسوغ لبعض رعاياها التصرفات العائدة على وطنها بالضرر بسبب تقصيرها في حفظ أمن شعبها.
الدرس الثاني: أكد عدوان اليهود على الشعب اللبناني، حقدهم ورغبتهم عندما تتاح لهم الفرصة – التي قد يفتعلونها لأي دولة - في تدمير أي بلد عربي وكل مرافقه التي بنيت بجهود أهله وعرق جبينهم، وقتل شعبه قتلا جماعيا، بدون تفريق بين عسكريين ومدنيين بكل فئاتهم [وفي حادثتي: قانة الثانية وقاع البقاع برهان]
الدرس الثالث: أن هذه الحرب أثبتت للعالم كله، أن القوة العسكرية اليهودية التي أَنزَلت الرعب في قلوب حكومات الشعوب الإسلامية وبخاصة الدول العربية، وما كان يقال عن جيش هذه الدولة البغيضة: إنه القوة التي لا تقهر، أثبتت هذه الحرب التي طرفها الوحيد حزب صغير في بلد عربي صغير، أن تلك الحكومات مصابة بمرض الهزيمة النفسية التي من أهم أسبابها فقد العقيدة العسكرية المقدامة، وفقد الإرادة القتالية الدفاعية، فضلا عن إرادة القتال الهجومي على اليهود لطردهم من الأرض المباركة المحتلة.
الدرس الرابع: أظهرت الحرب أن الشعوب الإسلامية، وبخاصة العربية منها لا يمكن أن تقبل وجود السرطان اليهودي على أرضها، وأن هذه الشعوب لا بد يوما من الأيام أن تستأصل الشجرة اليهودية الخبيثة من جذورها وتحرقها وتسفي رمادها في أمواج البحر، مهما اعترفت بهذه الدولة اليهودية الحكومات العربية وعقدت معها المعاهدات ورفعت فوق أرض هذه الأمة الأعلام اليهودية، فإن ذلك كله لا يعبر إلا عن شلة تلك الحكومات ولا يعبر عن الشعوب الإسلامية، بدليل أن السفراء اليهود لا يشعرون بالاطمئنان ولا يهنئون بالنوم إلا بحماية كتائب من الجيوش العربية مدججة بالسلاح في عواصمها وراء حواجز خرسانية وأكياس ترابية.
فجميع فئات الأمة أعربت عن غضبها على هؤلاء اليهود المحتلين: علماء ومفكرين وإعلاميين وسياسيين وأدباء وفنانين، وطالبوا الحكومات العربية التي اعترفت باليهود أن يطردوا سفراءهم ويقطعوا العلاقات معهم.
الدرس الخامس: أن الفئة القليلة التي تهتم بجودة التخطيط وقوة الإرادة واتخاذ الأسباب الممكنة لمقاومة العدو، وإعداد العدة الشاملة: إعدادا لرجالها وإيمانا بمبدئها – أيًّا كان ذلك المبدأ – ودفاعا عنه وحماية له ولأهله ولأرضه، وإعداد ما تستطيع من أنواع السلاح المناسب للعصر، وتدريبا لجنودها عليه تدريبا قتاليا متقنا، إن التخطيط وقوة الإرادة واتخاذ الأسباب وإعداد العدة، كل ذلك كفيل بنيل تلك الفئة نصيبها من النصر والغلبة على عدوها، ومفاجأته مهما كانت قوته بما لم يكن في حسبانه.
فإذا فَقَدتْ أي فئة – ولو كانت عشرين دولة! - جودة التخطيط، وقوة الإرادة واتخاذ الأسباب لمقاومة العدو، والعدة الشاملة، كانت جديرة بتحطيم عدوها لكل مقومات حياتها وحياة شعبها، ونالت من الإذلال والإهانة ما يجعلها تفقد كرامتها وعزها ويجعلها من سقط المتاع، يعتدي عدوها على ضرورات حياتها وحياة شعبها، من دين ونفس وعقل ومال ونسل وعرض.
الدرس السادس: سبق أن رعب الدول العربية من العدو اليهودي، سببه الهزيمة النفسية، وقد ينسبون ما أصيب به اليهود من خسائر من حزب صغير إلى كونه حارب اليهود حرب عصابات، وليس حرب جيش نظامي، وفَرْقٌ بين الحربين.
وأقول: لا عذر لهم في كون حرب هذا الحزب حرب عصابات، ففي إمكان كل دولة عربية أن تنشئ بجانب جيشها النظامي عصابات أقوى من حزب الله، لما تملك من إمكانات، وفي إمكان كل الدول العربية مجتمعة أن تنشئ عصابات أقوى من تكوين كل دولة على حدة، لما تملك الدول مجتمعة من إمكانات، فما الذي يمنعها من الجمع بين القسمين: حرب الفدائيين [العصابات] والحرب النظامية.
الدرس السابع: لا ينبغي لجماعة أو حزب حيازة سلاح ثقيل مستقل عن الدولة التي توجد بها تلك الجماعة أو ذلك الحزب، ولا الإقدام على إعلان حرب على عدو خارجي بعيدا عن تلك الدولة، لما في ذلك من إحداث فوضى وخطر على عامة الشعب، هذا مع اعترافنا بأن ما حصل في هذه الحرب من النكاية بعدونا اليهودي وكسر شوكته ومفاجأته بما لم يكن في حسبانه قد سرنا وأثلج صدورنا، لأنه بذلك أقام حجتين:
الحجة الأولى: إظهار أكذوبة "جيش العدو التي لا يقهر"
الحجة الثانية: الهزيمة النفسية التي أصابت الحكومات العربية بالرعب الوهمي من "الجيش الذي لا يقهر"!
الدرس الثامن: للمقارنة بين حرب 1967م بين اليهود والدول العربية المحيطة بهم، وحرب اليهود الحالية مع حزب صغير في بلد صغير، نرى الفرق البعيد بين الحربين من عدة وجوه:(/1)
الوجه الأول: عدم تكافؤ الفئتين المتحاربتين في العَدَد والعُدّة.
الوجه الثاني: في الزمن، فلم تدم حرب 67 أكثر من ستة أيام بل أقل، والحرب الحالية استمرت ما يقارب الشهر إلى اليوم: 12/7/1427هـ ـ 8/8/2006م.
الوجه الثالث: قلة خسائر حزب الله مقارنة بخسائر الدول العربية سنة 67 وقلة خسائر الحزب مقارنة بخسائر دولة اليهود التي أرعبت كل الدول العربية.
الوجه الرابع: المساحات الشاسعة التي احتلها اليهود في حرب 67 من أراضي الدول الثلاث، ولا زال كثير منها محتلا إلى الآن، والأراضي التي أعيدت لأهلها أعيدت تحت شروط يهودية مذلة، أما في الحرب الحالية فلم يستطع اليهود السيطرة الكاملة على قرية صغيرة برغم ما عندهم من جيش وسلاح جوي وبري وبحري.
الوجه الخامس: أن الدول العربية في حرب 67 لم يصلوا في إيذاء اليهود إلى العمق الذي وصل إليه سلاح حزب الله في الحرب الحالية.
الدرس التاسع: أن الأعداء من اليهود والصليبيين جميعا، لا قدرة لهم على الاستمرار في احتلال الشعوب الإسلامية، وبخاصة العربية إذا ما وضعوا أقدامهم على الأرض والتقت صفوف جيوشهم بصفوف المجاهدين في هذه الشعوب وجها لوجه، مهما عظمت قوة الأعداء وقلت قوة المجاهدين، وفي كل من فلسطين و أفغانستان والعراق ولبنان برهان وفلسطين ساطع على ما نقول.
ولهذا كان غالب وسائل المعتدين في العدوان على المسلمين يأتي من القصف الجوي والبحري والبري البعيد المدى، مع محاولة عدم اللقاء المباشر للمجاهدين، إلا في حالات نادرة أظهرت لهم أنهم ليسوا أهلا للقاء صف المجاهدين.
فيجب على المسلمين من الذين تطأ أقدام عدوهم أي بلد من بلدانهم أن يغتنموا فرصة وجود هذا العدو في الأرض وأن يصبروا ويصابروا ويدفعوا عن بلدهم وأنفسهم وأعراضهم ومقدساتهم ويطلبوا الشهادة في سبيل الله ويطردوهم من أرضهم فالعدو يكره الموت وهم يجبونه ليفوزوا بالشهادة ويحيوا حياة الشهداء.
ويجب ذلك أيضا على غير المسلمين دفاعا عن وتصديا لدحر الظالمين عن أوطانهم، فأهل البلد الواحد يجب أن يلتحموا في دفع العدو عن بلادهم، لأنهم مظلومون والعدو ظالم.
الدرس العاشر: أن العدو الأكبر المظاهر لليهود على المسلمين وبخاصة الشعوب العربية، هي إدارة الدولة الأمريكية الصليبية، لأنها مصرة على تقوية الدولة اليهودية المحتلة بكل الوسائل: السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية، وتثبيت أقدامها في قلب الأمة الإسلامية وتمكينها من السيطرة الكاملة على هذه الأمة، بعد زيادة تمزيق هذه الدول وإضعافها، بل وتغيير خارطتها تغييرا يجعلها خاضعة خضوعا كاملا للبيت الأبيض وتل أبيب.
الدرس الحادي عشر: العلم التام أن المنطقة لا يمكن أن تستقر ويستظل أهلها بالأمن، ما دام لليهود دولة في قلب الوطن الإسلامي، وأن المسلمين مهما قدموا لهذا العدو من تنازلات فإنها لا تقنعه، بل يطلب المزيد من التنازلات والمزيد من الإهانات والإذلال للشعوب ودولها، وكلما مر الوقت ازداد العدو ضراوة وازدادت المنطقة اضطرابا ودمارا وسفكَ دماء، فملاقاة العدو اليوم مهما عظمت ستكون أقل خسائر من ملاقاته غدا، يؤيد ذلك ما مضى من الوقت وتاريخ الاحتلال اليهودي، وبخاصة أن دعم الأمريكان وغيرهم من الدول الغربية يزداد.
الدرس الثاني عشر: أن الدولة اليهودية في هذه الحرب حاولت التحرش بسوريا، لتجرها إلى الحرب، من أجل أن توسع دائرة قصفها وتدميرها للشعب السوري وسفك دمائه، لتدخل المزيد من الرعب في قلوب الحكام العرب وشعوبهم، والهدف من ذلك إجبار بقية الدول العربية على الاعتراف الرسمي بدولة الاحتلال بشروطها التي تريد إملاءها على العرب، ورفع علمها في سماء كل عاصمة عربية.
الدرس الثالث عشر: أن أعمال اليهود العسكرية الحاقدة تشرح شرحا عمليا ما وصفهم الله تعالى به في القرآن، وما ثبت في السيرة النبوية والتاريخ العام من تأصل الفساد والإفساد في الأرض في نفوس اليهود ومواقفهم من منهج الله ورسله الذين أرسلهم الله بالدعوة إليه فكذبوا من كذبوا منهم وقتلوا من قتلوا.
ولهذا يجب على الشعوب الإسلامية، أن يبينوا لأطفالهم وشبابهم وأسرهم عداوة اليهود لهم معتمدين على تدريسهم كتاب الله والسيرة النبوية والتاريخ العام، وبخاصة أن غالب الحكومات في هذه الشعوب قد تقاعست عن هذا البيان خضوعا للضغط الأمريكي اليهودي، بل غيرت مناهجها وحذفت ما يدعو إلى جهاد المعتدين وتاريخ فلسطين وخريطته، وفساد اليهود الذي اشتملت على بيانه تلك المناهج، لتنشأ أجيال المسلمين جاهلة بكل ذلك. .(/2)
الدرس الرابع عشر: أن ركون الدول العربية إلى بعض الدول الغربية، بسب ما تصدره من تصريحات في مشروعات ظاهرها فيه الرحمة وباطنها من قبله العذاب، هذا الركون لا قيمة له ولا ينبغي أن يكون له أي اعتبار، لأن بعض الألفاظ التي يطرب لها الحكام في تلك التصريحات وتبرزها بعض وسائل الإعلام العربية على أنها مناصرة للعرب، سرعان ما تختفي تلك الألفاظ ويعتمد بدلا منها ما اعتمدته الدولتان: اليهودية والأمريكية، مشروع ما سيقدم على مجلس ما يسمى بالأمن اليوم برهان على ما نقول.
وننبه على أن المشروعات التي تقدمها دول الفيتو غير الأمريكية تكون نهايتها التسليم للمشروعات الأمريكية بتعديلات توافقية خبيثة ماكرة، وأما المشروعات الأمريكية، فإنها تبقى على حالها، ولو اقتضى الأمر الخروج على قرار الأغلبية في مجلس الأمن والانفراد بتنفيذ المشروع الأمريكي، كما هو الحال في الحرب العراقية.
الدرس الخامس عشر: أن الدول العربية والدول الغربية، ستسارع – باسم الدول المانحة – بتعمير ما خربه العدوان اليهودي على لبنان، وهذا أمر مطلوب ولا بد منه، ولكن اليهود يمكن أن يعودوا لتدمير وتهديم ما عُمِّر بعد فترة قصيرة أو طويلة، والذي يحفظ العمران والمرافق هو إعداد العدة التي أمر الله بها فلا يحمي البلدان ومرافقها إلا ذلك: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60)} [الأنفال]
الدرس السادس عشر: أن الشعوب الإسلامية أصيبت بالإحباط من كبح جماح اليهود المحتلين المعتدين، وأصبحت تلك الشعوب يائسة من وقوف أي قوة في المنطقة ضد الدولة المحتلة أو حمايتها من عدوانها، ولو كانت أكثر من عشرين دولة، فلما ظهر لها أن هذه الدولة العاتية قد وقف أمامها حزب صغير في دولة صغيرة ما يقارب الشهر، انتعشت آمالها وجاشت عواطفها وهتفت لقادة هذا الحزب، غير عابئة بعقيدته أو مذهبه، لأن العمل الإيجابي الذي يظهر لعامة الناس هو الذي يؤثر فيها ويقنعها، وليست العقائد والمبادئ الكامنة في قلوب أهلها.
ونحن لا نريد إثارة الخلاف بين السنة والشيعة في هذا الوقت وفي هذه الحرب، بل ندعو إلى اجتماع كل الطوائف اللبنانية مسلمين وغير مسلمين، سنة وشيعة، أن يكونوا يدا واحدة ضد العدوان اليهودي، إلا أننا نلفت نظر عامة المسلمين مع تأييدهم للمقاومة اللبنانية، ألا ينساقوا مع العواطف التي قد تدعوهم إلى التشيع على جهل بما فيه، فبين أهل السنة والشيعة خلافات شديدة في العقائد والأصول، وليست في الفروع فقط كما يحاول إظهار ذلك بعض علماء السنة والشيعة معا مع أن بعض علماء السنة على علم تام بخطر عقيدة الشيعة، وليس المقام مقام الخوض فيها الآن.
الدرس السابع عشر: إثبات الشعب اللبناني بكل طوائفه وأحزابه على أنه شعب شجاع مقدام، لاتزعزعه العواصف ولا تنسيه المصائب والأحداث العظام وقوفه صفا واحدا في وقت الأزمات، وإنا لنأمل أن يستمر على هذه الثبات وهذه الوحدة بعد انتهاء الحرب، فلا بأس أن يحاسب حزب آخر، وجماعة أخرى للوصول إلى ما يفيد الشعب مستقبلا في تماسكه والانضواء تحت علم واحد لدولة واحدة قوية، هي التي تقرر ما فيه مصلحة لجميع طوائف الشعب وأحزابه، سلما وحربا.
ولكن يجب أن يجتنبوا بعد انتهاء الحرب النزاع المؤدي إلى الفرقة والتناحر الشقاق، فإن ذلك يحقق أهم أهداف العدو، وما قوي العدو في المنطقة إلا باختلاف الدول العربية واختلاف أحزابها في الموقف منه، ولو قويت دولة عربية واحدة وتماسك شعبها وحكومتها، لهزمت هذه الدولة الأجنبية عن المنطقة.
الدرس الثامن عشر: إنه ليسرنا ما أظهره المسلمون في الشعوب الإسلامية وغيرها من تعاطف وحماس ضد العدو اليهودي، وأنا أكرر كلمة "العدو اليهودي" خلافا لنظرية بعض الكتاب السياسيين الذين يعتبرون الكلمة غير مناسبة، لأنا قد نصبح له أصدقاء كما حصل لبعض الدول العربية، أكرر ذلك معتمدا على قول الله الذي لا قيمة لقول مخلوق معه: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ...}[(82)] والشعوب الإسلامية ترفض صداقة اليهود، وإن صادقتهم بعض حكوماتها.
أقول: إنه ليسرنا ما أظهره المسلمون في البلدان الإسلامية وغيرها من جاكرتا شرقا إلى المغرب وكيبتاون ولندن ونيويورك غربا، ولكن الذي يصدق تلك العواطف وذلك التعاطف هو العون المادي بجانب العون المعنوي، والمقصود بالعون المادي هو جمع المال باستمرار وإمداد المجاهدين لفلسطينيين به، لا ليبنوا ما هدمه اليهود من مساكنهم ومرافقهم فقط، فذلك تقوم بكثير منه بعض الدول العربية، وكلما بنت شيئا منه عاد إليه اليهود فهدموه.(/3)
ولكن لتوفير السلاح الذي لا يجدي غيره في المقاومة وإعانتها، وما وقفت المقاومة في لبنان هذه المدة ضد الترسانة اليهودية إلا أنها وجدت من يمدها بالسلاح، ولو وجد المجاهدون في فلسطين ما يوفر لهم عشر ما توفر للمقاومة اللبنانية لرأينا العجب العجاب في العدو اليهودي المحتل، لأن المجاهدين في فلسطين يلتحمون وجها لوجه مع اليهود.
ولا تعتذروا أيها المسلمون بعدم وسيلة إيصال المال والسلاح إلى المجاهدين الفلسطينيين، ويكفي أن تتصلوا بهم لتسألوهم: كيف هي تلك السبيل؟ وعليكم إن كنتم صادقين في نصرتهم على اليهود أن تُكَوِّنوا لجانا لجمع المال والبذل الصادق الذي يدعمهم، فليس ما نبذله للمجاهدين تبرعا بل هو فرض، ينوب عن وقوفنا مباشرة في صفهم لقتال عدوهم.
الدرس التاسع عشر: إننا نشكر الشعوب غير الإسلامية التي أظهرت تعاطفها مع المظلومين في فلسطين ولبنان، ضد حكوماتها الظالمة في كل من بريطانيا وأمريكا وفرنسا وفنزويلا وجنوب أفريقيا، ونأمل في المزيد من التأييد للمظلومين والتنديد بالظالمين ومطالبة الحكومات المؤيدة لليهود بالكف عن ذلك أو الاستقالة، لأنها أصبحت لا تستحق القيام بمسئولياتها في شعوبها.
كما نشكر رئيس فنزويلا الذي سحب سفير بلاده من الأرض المحتلة احتجاجا على العدوان اليهودي، ففعله ذلك يعتبر صفعة لدول عربية لم تفعل فعله، مع أنها أولى بفعل أكثر من ذلك.
الدرس العشرون: نكرر دعوتنا للشباب المتحمس الذي يغيظه ما يفعله اليهود والنصارى الصليبيون في أوطان الأمة الإسلامية، نكرر دعوتنا لكم ألا يحملكم تحمسكم للقيام بقتل المسلمين في بلدانكم بالتفجيرات أو غيرها، سواء كانوا مدنيين أو عسكريين، ونقول لكم: إن ذلك ليس جهادا وقتلكم لهم أو لأنفسكم محرم، وميدان الشهادة ليس هنا، وإنما هناك:
http://www.al-rawdah.net/r.php?sub0=allbooks&sub1=a5_hadath&p=90
ندعو كافة المسلمين في الأرض أن يكثروا الدعاء ليرفع الله عن عباده المؤمنين والمظلومين والفتن والمحن، وأن يطمس الله على أموال المعتدين من اليهود والنصارى ومن والاهم، ويشد على قلوبهم لأنهم مع كفرهم استغلوا نعم الله وفضله عليهم في العدوان على عباده المؤمنين، فكَرِّروا دعاء موسى عليه السلام على فرعون الطاغي اللعين: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ (88)} [يونس}
والله المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل، وسبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب عليك.(/4)
دروس من الهجرة
الحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ?يا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجَالاً كَثِيراً وَنِساءً، واتَّقُوا اللَّهَ الذي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً?[ النساء:1]. ?يا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وأَنْتُمْ مُسْلِمُون? [آل عمران:102]. ? يا أيُّهَا الَّذين آمَنوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمالَكُمْ، ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً? [الأحزاب:71].
أيها المؤمنون في توديع عام واستقبال عام تتزاحم الذكريات والعبر، وتتجلى في النفس اللوامة الحقائق والصور، حين تنظر إلى الماضي وتستشرف المستقبل.
أيها الناس: اتقوا الله تعالى وانظروا وتدبروا في هذه الأيام والليالي، فإنها مراحل تقطعونها إلى الدار الآخرة، وكل يوم يمر بكم، فإنه يبعدكم من الدنيا ويقربكم من الآخرة، فطوبى لعبد اغتنم فرصة العمر الذي يقربه من ربه وخالقه في فعل الطاعات والقربات واجتناب المعاصي والآثام.
طوبى لعبد اتعظ بما في الأيام والليالي من تقلبات الأمور والأحوال، طوبى لعبد استدل بتقلبها على أيام لله فيها من الحكم البالغة والأسرار واستدل بتلك الأحداث والأحوال على محدثها ومقلبها ومصرفها ? يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ?[النور:44].
أيها المسلمون: ألم تروا إلى هذه الشمس كيف تطلع كل يوم من مشرقها وتغيب في مغربها. وفي ذلك أعظم العظمة والاعتبار، فإن طلوعها ثم غيابها إيذان بأن هذه الدنيا ليست دار قرار ، وإنما هي ظهور ثم اختفاء وزوال ، ألم تروا إلى الشهور كيف تهل علينا يبدوا فيها الهلال صغيراً ثم ينموا رويداً رويداً، حتى إذا تكامل نموه، أخذ بالنقص والاضمحلال ، وهكذا عمر الإنسان سواء ، فاعتبروا يا أولي الأبصار: إذا تم شيء بدا نقصه .. ترقب زوالاً إذا قيل تم .
ألم تروا إلى هذه السنين والأعوام كيف تنتهي وتتجدد فإذا دخل عام جديد نظر الإنسان إلى آخره نظر البعيد، ثم تمر به الأيام سراعاً فينصرم العام كلمح البصر، فإذا هو في آخر العام، وهكذا عمر الإنسان يتطلع إلى آخره تطلع البعيد وينظر إلى الموت نظر الشاك المريب يؤمل الإنسان بطول العمر، ويتسلى بالأماني، فإذا بحبل الأمل قد انصرم وإذا بالموت قد هجم عليه ونزل وتحقق ما أخبر الله به ? وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ?[ق:19].
أيها المسلمون لقد ودعنا عاماً مضى وارتحل عنا بما فيه واستقبلنا عاماً جديداً فليحاسب كل منا نفسه ماذا قدم في العام الماضي؟ وبماذا سيستقبل العام الجديد؟ لنتدارك ما فات من الزلل والتقصير بالتوبة والاستغفار ولنعزم في بقية أعمارنا على الإيمان الصادق والعمل الصالح والإنابة إلى الله فإننا في زمن الإمكان، وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً بقوله: "اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك"()
أيها المؤمنون يحتفل بعض الناس في بداية العام الهجري الجديد ويقيمون الخطب والمناسبات واكتفوا من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم بالخفيف من المظاهر والرسوم ولا شك أن سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بكل ما فيها من مواقف ووقائع جديرة بكل تدبر وتأمل يزيد في الإيمان ويزكي الخلق ويقوم السلوك.
إن الحب الصادق للرسول الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم يستدعي عزماً صادقاً في الاستمساك بالأصول والحقائق التي جاء بها من عند الله والعض عليها بالنواجذ. إن الحب رخيصاً حين يكون زعماً وكلاماً ولكنه غال حين يكون عملاً وجهاداً وإقداماً ? قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ?[آل عمران:31 ].
أيها المؤمنون إن هجرة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم معلم بارز في سيرته المباركة المليئة بالعظات والدروس والعبر.(/1)
وإن من الدروس العظيمة التي ينبغي أن يعيها المسلمون وهم يمرون بأخطر هجمة يهودية صليبية حيث يجندون العالم كله لاستئصال الإسلام والقضاء على المسلمين ومطاردتهم في كل أرض. هذا الدرس هو أن هذا الدين الذي أكرمنا الله به ورضيه لنا ديناً هو السياج الحامي لكل حق في الأنفس والأموال والأرض والحرية والكرامة، إذا حفظ الدين حفظت النفس وحفظ المال والثروات ، بصدق العقيدة تحفظ الأرض ويحفظ الأهل.
أيها المؤمنون: تهجر الأوطان ويضحى بالنفوس والمهج والثروات من أجل الحفاظ على الإيمان بالله ورسوله. إن درس الهجرة ليؤكد لنا بكل وضوح وجلاء أن التفريط في العقيدة مآله هلاك النفوس وخراب الديار. إذا فقد الدين فلن يغني من بعده وطن، ولا مال، ولا أرض. وإن من سنن الله الثابتة أن القوى المعنوية هي الحافظة للقوى المادية. العقيدة والأخلاق والتربية القويمة هي الوسائل الصحيحة للحصول على المكاسب العليا والحفاظ عليها. إن الهجرة في غايتها فرار بالدين وتلمس لطرق النصر وأمل في حصول الفرج وسعي إليه. إن ترك الديار والأوطان وهجرها والخروج منها فيه مشقة على النفس، إن ترك الدُّور والإخراج منها قريبة من القتل كما قال تعالى:
? وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ?[النساء: 66].
ولكن الله تعالى وعد المجاهدين في ذاته والمهاجرين في سبيله بالنصر والظفر في الدنيا والفوز والفلاح في الآخرة كما قال تعالى: ? وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ?[النساء: 100].
وقال عن المرتد عن دينه الذين الذي لا يصمدون أمام المحن والفتن. ? لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ ?[النحل: 109] وأثنى سبحانه وتعالى على الثابتين على دينهم والقابضين عليه على الرغم من كل أجواء الفتن والمحن فقال: ? ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ?[النحل:110] وقال: ? وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ?[العنكبوت:69 ].
الخطبة الثانية:
وإن من دروس هذه الهجرة المباركة كذلك التي ينبغي أن يعيها المسلمون جيداً هو أن الظلم والطغيان مهما اشتد وتناهى فإنه إلى انتهاء واندحار ، فلا يحل لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يستسلم للباطل أو أن يدب اليأس والقنوط إلى نفسه. وإنما عليه أن يصبر ويصابر وأن يأخذ بالأسباب المتاحة أمامه معتمداً في ذلك كله على ربه وخالقه لاجئاً إليه متوكلاً عليه مفوضاً الأمور كلها إليه جل وعلا. فإن من توكل على الله كفاه، ومن لاذ به حماه، ومن استنصر به نصره ووقاه وإن خذله أهل الأرض أو كادوا به وفي هذه المعاني يقول الله عز وجل منوهاً بهجرة نبيه صلى الله عليه وسلم وبصاحبه وخليله أبو بكر: ? إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ?[التوبة:40 ].
أيها الناس : بادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا، فإن فتناً كقطع الليل المظلم تدع الحليم حيراناً، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً ، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا ، لقد رأينا والله في زمننا من يبيع دينه وعرضه ووطنه وبلاده لليهود والنصارى بثمن بخس حقير قليل.
فعلى المسلم أن يتقي الله وأن يصبر ويثبت على دينه حتى يلقى الله.. واعلموا أن أمامكم أياماً فاضلة كان نبيكم صلى الله عليه وسلم يخصها بصيام ويحث على صيامها ، إنها عاشوراء ويوم قبله أو يوم بعده مخالفة لليهود، وفي هذا اليوم الأغر العاشر من محرم أهلك الله فيه طاغية من أعظم الطواغيت الذين ظهروا على مسرح الحياة إنه فرعون وجنده وأنجى الله بني إسرائيل من العذاب المهين الذي عاشوه ردحاً من الزمن ، وفي القرآن الكريم بسط لقصة موسى عليه السلام مع فرعون وملئه.. ثم كانت النهاية التي تنتظر كل جبار عنيد يستعلي في الأرض ويضطهد المستضعفين.(/2)
وحين أراد الله أن يهلك الطغاة الجبابرة من فرعون وقومه أمر نبيه موسى أن يخرج ببني إسرائيل ليلاً كما قال سبحانه: ? وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ?[الشعراء:52-68] إنه يوم مشهود صامه نبي الله موسى ومن معه شكراً لله تعالى على هذه النعمة العظيمة نعمة إهلاك المجرمين ونصر المستضعفين، وصامه محمد صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه شكراً لله فصوموه أيها المؤمنون. وأنيبوا إلى ربكم وسلوه أن يهلك فراعنة العصر من اليهود والصليبيين والمنافقين المندسين في صفوف المسلمين الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، وكونوا أنتم مؤهلين للنصر والاستجابة بالاستقامة على أمر الله واجتناب الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
واعلموا أن الأبواب كلها موصدة ولا نجاة للمسلمين اليوم إلا بالرجوع إلى الله وطرق بابه وصدق اللجوء إليه والضراعة والإخلاص هذا هو طريق الخلاص لا طريق غيره أبداً.
راجعه/ عبد الحميد أحمد مرشد.
( المسندرك 4/ 341، حديث رقم: 7846، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقال الذهبي في التلخيص: على شرط البخاري ومسلم.(/3)
دروس من سورة الفاتحة
الحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ?يا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجَالاً كَثِيراً وَنِساءً، واتَّقُوا اللَّهَ الذي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً?[ النساء:1]. ?يا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وأَنْتُمْ مُسْلِمُون? [آل عمران:102]. ? يا أيُّهَا الَّذين آمَنوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمالَكُمْ، ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً? [الأحزاب:71].
أما بعد، فيا أيها المؤمنون لقد عشنا مع سورة الفاتحة نستلهم منها ما فتح الله به من معاني ودروس نلمح إليها إلماحاً خفيفاً ونشير إليها إشارات مقتضبة. وحسبنا أن ندرك ونتدبر كلام الله عز وجل ونحن نتوجه إليه بالصلوات ، فإن ذلك أدعى للخشوع وأنفع للقلوب.
وإن للصلاة معان نفسية يحس بها الذين هم في صلاتهم خاشعون، إذ يحس أحدهم أن نعم الله تغمره من فوقه ومن تحته ومن أمامه وخلفه وعن يمينه وعن شماله فمن حقه عز وجل علينا أن نهتف من قلوبنا ونردد في صلواتنا : ?الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ?[الفاتحة:2]، ومن حقه تعالى علينا، إذ يمهلنا نخطئ ونسرف ثم لا يعجل علينا العقوبة والحساب، من حقه عز وجل أن نعرفه بأسمائه وصفاته ونتذكر ذلك حين نقول: ? الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ?[الفاتحة:3]، وإن ما يجب إن نتذكره ولا ننساه أن نعلم يقيناً أننا عائدون إليه وموقوفون بين يديه مجزيون بأعمالنا ?مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ?[الفاتحة:4] ثم بعد ذلك نعاهده على أن نكون عبيداً له وحده مستعينين به وحده، متوجهين إليه لا شريك له حيث نعترف بذلك حين نقرأ ?إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ?[الفاتحة:5].
ثم إنك أيها الإنسان مهما أوتيت من فطنة وذكاء، فإنك أفقر الخلق إلى هداية الله لك وتوفيقه وإعانته لك.
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده
إذاً فاضرع أيها المسلم إلى الله أن يهديك ويوفقك ويهب لك الخير ويثبتك على طريقه القويم وصراطه المستقيم، وأن يجعلك مع المنعم عليهم ممن وفقهم وهداهم، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، وأن يجنبك طريق المغضوب عليهم والضالين ممن تنكبوا الصراط وانحرفوا عن الجادة، كل ذلك مطلوب ومرغوب، وهو موجود في قوله تعالى وأن تدعوه قائلاً: ?اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ?[الفاتحة:6-7].
لقد قسم الله الخلق في هذه الآية إلى ثلاث فرق : قسم عرف الحق واتبعه وعمل به وهؤلاء هم الذين أنعم الله عليهم بالهداية والتوفيق والرشاد والتسديد، وهم الذين زكوا أنفسهم بالعلم النافع والعمل الصالح فهم أهل الاستقامة على الصراط المستقيم.
وقسم عرفوا الحق ولكنهم لم يعملوا به ولم يتبعوه بل خالفوه واتبعوا أهواءهم وشهواتهم وهؤلاء هم المغضوب عليهم من اليهود ومن سار على طريقهم وسلك مسالكهم في مخالفة الحق ومعاداته بعد معرفته ووضوحه.
هذا النوع من البشر ممن غضب الله عليهم وفي مقدمتهم اليهود يسلكون دائماً مسالك وعرة وطرقاً شاقة في مخالفة الحق والصدود عنه، يُعقدون الأمور ويختلقون الأزمات، ويتجلى هذا الفكر التأزيمي للأمور في خلق اليهود أخزاهم الله ، أنظر إليهم وقد أمرهم الله بقوله: ? وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ ?[البقرة:58-59]. فقد أمرهم بالدخول إلى بيت المقدس متواضعين خاضعين لله على هيئة معينة من الركوع وأمرهم أن يقولوا كلمة حتى يحط الله عنهم ذنوبهم وخطاياهم ولكن الفكر التأزيمي أبى إلا أن يخالف ما أمر به ، لقد بدلوا ، فدخلوا الباب يزحفون على أوراكهم وغيروا القول الذي أمروا به وحرفوه فبدل أن يقولوا حطة قالوا حبة في شعرة أو شعرة والحاصل أنهم خالفوا ما أمروا به من الفعل والقول.(/1)
وانظر إلى هؤلاء المجرمين وقد أمرهم نبيهم موسى عليه السلام بذبح بقرة كيف أزموا المسألة وعقدوها.. ? وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ?[البقرة:67-71].
أرأيت هذا التعنت والتكلف والتأزيم في أوامر الله إنهم لو تركوا ذلك التعقيد وذبحوا بقرة من أي نوع لأجزأتهم وقاموا بالواجب ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم. إذ لم يجدوا هذه البقرة إلا عند رجل رفض أن يبيعها إلا بوزنها ذهباً فذبحوها وما كادوا يفعلون. إن هذا الفكر التأزيمي والتعقيدي للأمور فكر بقري، وقد نهانا الله عز وجل أن نسلك هذا المسلك الشائن الذي لا يريده الله ولا يرضاه لا في أمور ديننا أو دنيانا. إن دين الله عز وجل سهل ميسر واضح جلي يقوم على العلم بالحق ومعرفته واتباعه ، إن مظاهر الفكر التأزيمي البقري الذي نراه في حياتنا يتمثل في هذه الأزمات التي نعيشها شعباً ودولة ، إن الدولة والشعب الجميع يعلمون حق العلم مظاهر المشكلات وجذورها ويعلمون الحل السليم لها ولكنهم لا يعملون بشيء من ذلك ، كلنا نتفق أن الفساد المالي والإداري قد نخر أمتنا عقوداً من السنين ونعلم المفسدين والفاسدين ولكن ماذا عملنا لهم، إننا نؤزم الأمور ونتخبط في التيه ونحن نعلم الطريق. أليس هذا طريق من طرق المغضوب عليهم ونحن نسأل الله عز وجل في كل ركعة أن يجنبنا طرائقهم ومسالكهم.
أما القسم الثالث فهم الضالون وهم الذين يجهلون الحق وبالتالي لا يستطيعون السير عليه وإنما يسيرون في الغواية والضلال وهؤلاء هم النصارى ومن شابههم ممن يعبدون الله بغير معرفة ولا دليل ولا برهان وإنما يتخبطون خبط عشواء يقلدون الآباء والأجداد ويتبعون التقاليد والعادات. فيكبرون الصغائر ويهونون العظائم من العبادات والأمور ولذا نجد أن الله عز وجل وصف النصارى بالضلال في قوله: ? قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ ?[ المائدة:77].
وفي الترمذي وصحيح ابن حبان من حديث عدي بن حاتم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضلال".
عليك أيها المسلم بالعلم والعمل والبحث عن الحق والتمسك به كما علمنا الله عز وجل في هذه السورة العظيمة. حيث نثني عليه ونضرع إليه ونسأله أن يهدينا الصراط المستقيم، وأن يجنبنا طرق المغضوب عليهم والضالين في قولنا ودعائنا : ? اهدِنا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ?[البقرة:6-7]. ويسن لمن يقرأ فاتحة الكتاب في الصلاة أن يقول بعدها آمين ومعناه: اللهم استجب ، ففي الحديث المتفق على صحته عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا أمن الإمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه".
ولمسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:" إذا قال أحدكم في الصلاة آمين والملائكة في السماء آمين فوافقت أحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه".
وفي الترمذي وأبي داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قال الإمام ? ... عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ? فقولوا: آمين".
وأخرج الإمام أحمد وابن ماجه والبيهقي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين". فأحبوا يا عباد الله هذه السورة الشافية الكافية وتدبروا معانيها وأمنوا في آخرها ورحم الله من قال آمين.
ولكبد مقروحة من يبيعنيها كبداً ليست بذات قروح
إياها على الناس لا يشترونها ومن يشتري ذا علة بصحيح
الخطبة الثانية:(/2)
نعم أيها المؤمنون إن قلوبنا وأكبادنا لتتقرح وتتفطر مما نرى ونسمع عن أحوال مجتمعنا في جانبه السلوكي والأخلاقي. هذا الجانب الذي طالما فاخرنا به الآخرين فمجتمعنا مجتمع محافظ على دينه وأخلاقه وقيمه ومبادئه. غير أننا نلحظ زحفاً أخلاقياً وظلاماً قادماً من الغرب الصليبي، يزاحم أخلاقنا ويمحوها محواً، ألا ترون أيها الناس بأن أخلاقنا الرفيعة كالعدل والصدق والأمانة والعفة ، والتكافل والتعاون على البر والتقوى، والأمر بالمعروف والنهي عن المكر ، تنزوي وتتوارى من واقعنا لتحل محلها أخلاق الظلم والكذب والخيانة والغدر والعهر والفجور.
لقد تبلدت المشاعر وماتت الغيرة والشهامة عند كثير من الناس .. هذا الذي يسمح لابنته أو أخته ومحارمه أن تغيب عن البيت ساعات وربما ليالي وأياماً في أنشطة مشبوهة دون حرج ولا خجل ماذا نقول عنه؟ هذه العروض لفتياتنا وبناتنا إلى ماذا تهدف وما الغرض من ذلك؟ومما يحز في النفس ويملأها كمداً أن تتحول بعض أماكن التربية والتعليم إلى أوكار للفساد واقتناص للرذائل وترويج للانحلال.
أيها المؤمنون: لا يخفى عليكم بأننا نعيش في زمن يتسم بالتنظيم والتخطيط، فالذين لا يريدون الخير لهذه البلاد يقننون للجريمة وينظمونها ، إن الجرائم ليست عقوبة ولكنها جرائم منظمة في شكل عصابات ومافيات تروج الخمور والمخدرات وتتاجر بالأعراض وترتكب جرائم بشعة من الخطف والاغتصاب وارتكاب الزنا واللواط ، وحدثني أحد الغيورين على دينه وأمته بأن عصابات تستغل ظروف الفقر والحاجة لبعض الأسر الفقيرة والجاهلة فيأخذون منهم بناتهم باسم العمل ثم يمارسون ألواناً من الفجور في الداخل والخارج.
ومعظم هذه الانحرافات تتم من وراء الكواليس إذ أن الأمة بشكل عام لا يزال الخير كامن فيها ، فإذا ما ظهر لها الفساد ومن يقف وراءه فإنها تغضب وتثور وتنتصر لدينها وكرامتها .
فتحية إكبار واعتزاز نقدمها للذين يغضبون لحرمات الله ويحافظون ويصونون كرامة الأمة. وإننا نطالب المسئولين في كافة المواقع أن يسارعوا في حسم مادة الفساد والمفسدين، فإن التستر على الجرائم أو التهاون في تنفيذ الأحكام أمر له عواقب وخيمة قد لا يصيب الذين ظلموا فقط ولكنها ستكون مدمرة وشاملة والعياذ بالله.
وأنتم أيها المؤمنون:
• احرصوا على أبنائكم وبناتكم وتعهدوهم بالتربية والتوجيه وحذار حذار من الإهمال والتقصير وترك الحبل على غاربه، فإنها مسئولية وأمانة في أعناقكم.
• مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر وتعقبوا المجرمين وتعاونوا على مطاردتهم ومحاربتهم بالوسائل الرسمية والشعبية.
• اهجروا الدعة والكسل واللامبالاة وكأن الأمر لا يعنيكم ، بل كونوا إيجابيين متحركين متفاعلين مع دينكم وأخلاقكم وأمتكم ، تحبون لله وتغضبون لله إذا انتهكت حرماته ، فلا ينجيكم من عقاب الله إلا ذلك. إن تنصروا الله ينصركم وإن تطيعوه تهتدوا، وليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم.
راجعه/ عبد الحميد أحمد مرشد
(1)ـ سنن الترمذي 5/ 204، 2954، وصححه الألباني.
(2)ـ البخاري 1/270، حديث رقم 747 ، ومسلم 1/307، حديث رقم: 410.
(3)ـ مسلم1/307، حديث رقم: 410.
(4)ـ مسلم 1/310، حديث رقم: 415.
(5)ـ سنن ابن ماجة 1/ 278، حديث رقم: 856، وصححه الألباني(/3)
دروس من غزوة أحد (1/2)
إعداد :- علي البغدادي 7/7/1424
04/09/2003
أولا: اتخاذ القرار
بعد الهزيمة النكراء التي منيت بها قريش في بدر, أخذت روح الثأر تحركهم للانتقام من المسلمين .. فقرروا أن ينفقوا ربح التجارة من القافلة التي أفلتت من المسلمين في تجهيز جيش يوجه لغزو المدينة ودعوا الأحابيش وقبائل كنانة وتهامة للمشاركة في القتال .. فتجمع لهم ثلاثة آلاف مقاتل .. عزموا على الإطباق على المدينة على حين غرة من أهلها.
علم العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم – وكان يقيم بمكة ويكتم إسلامه ويرسل للنبي صلى الله عليه وسلم أخبار ما يدور في مكة- بأمر الجيش, فأرسل رسالة عاجلة بالأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع رجل واشترط عليه أن يصل إلى المدينة في ثلاثة أيام, فأدرك الرجل النبي صلى الله عليه وسلم وهو بقباء, فأعطاه الرسالة وقرأها له أبي بن كعب, وطلب صلى الله عليه وسلم من أبي أن لا يخبر أحدا .. وأرسل رجلين من أصحابه لرصد تحركات قريش ومعرفة المكان الذي وصلوا إليه.
ورأى رسول الله رؤيا فقال لأصحابه ( إني قد رأيت والله خيرا, رأيت بقرا لي تذبح, ورأيت في ذباب سيفي ثلما, ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة, وأني مردف كبشا) وأوّل النبي صلى الله عليه وسلم الرؤيا بأن البقر ناس من الصحابة يقتلون والثلم في ذباب السيف فهو رجل من أهل بيته يقتل, وأما الكبش فإنه يقتل كبش القوم, والدرع الحصينة هي المدينة.
واجتمع النبي صلى الله عليه وسلم بالصحابة ليتشاوروا بالأمر وينظروا ماذا يصنعون .. وقد أرادها النبي صلى الله عليه وسلم حرب شوارع فكان يرى ألا يخرج المسلمون من المدينة ويتحصنوا بها فإن أقام المشركون في معسكرهم أقاموا بشر مقام وإن دخلوا المدينة قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة, والنساء والأطفال يرمونهم بالحجارة من فوق البيوت .. فالمشركون كما علم النبي صلى الله عليه وسلم من عيونه يفوقون المسلمين عددا وعدة وقد جاءوا والشر يتطاير من عيونهم تحركهم نوازع الثأر والانتقام فالأجدر هو التحصن بالمدينة التي يعرفونها جيدا وإقامة الكمائن ومشاركة الجميع في القتال بما في ذلك النساء والأطفال والشيوخ .. فيتشتت جيش العدو في المدينة ويفقد ميزة التفوق العددي, ووافقه على ذلك جمع من كبار الصحابة كما كان هذا رأي عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين الذي استشاره الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كنا نقاتل في الجاهلية فيها, ونجعل النساء والذراري في الصياصي ونجعل معهم الحجارة, والله لربما مكث الولدان شهرا ينقلون الحجارة إعدادا لعدونا, ونشبك المدينة بالبنيان لتكون كالحصن من كل ناحية, وترمي المرأة والصبي من فوق الصياصي والآطام ونقاتل بأسيافنا في السكك, يا رسول الله إن مدينتنا عذراء ما فضت علينا قط وما خرجنا إلى عدو قط إلا أصاب منا وما دخل علينا قط إلا أصبناه, فدعهم يا رسول الله فإنهم إن أقاموا أقاموا بشر محبس وإن رجعوا رجعوا خائبين مغلوبين لم ينالوا خيرا, يا رسول الله أطعني في هذا الأمر واعلم أني ورثت هذا الرأي من أكابر قومي وأهل الرأي منهم فهم كانوا أهل الحرب والتجربة.
وكان هناك رأي آخر تولاه شباب المدينة من كبار الصحابة وخاصة الذين فاتهم القتال في بدر, قالوا (إنا نخشى يا رسول الله أن يظن عدونا أنا كرهنا الخروج جبنا عن لقائهم فيكون هذا جرأة منهم علينا وقد كنت يوم بدر في ثلاث مائة رجل فظفرك الله عليهم ونحن اليوم بشر كثير وقد كنا نتمنى هذا اليوم وندعو الله به فقد ساقه الله إلينا في ساحتنا).
وقال مالك بن سنان: يا رسول الله نحن والله بين إحدى الحسنيين إما أن يظفرنا بهم أو يرزقنا الشهادة.
وقال حمزة: والذي أنزل عليك الكتاب لا أطعم اليوم طعاما حتى أجالدهم بسيفي هذا خارجا من المدينة.
وقال إياس بن أوس: يا رسول الله نحن بنو عبد الأشهل نرجو أن نذبح ويذبح فينا فنصير إلى الجنة ويصيرون إلى النار مع أني يا رسول الله لا أحب أن ترجع قريش فيقولون حصرنا محمدا في صياصي يثرب وآطامها فيكون هذا جرأة لقريش.
وقال النعمان بن مالك: يا رسول الله لم تحرمنا الجنة؟ فوالذي لا إله إلا الله لأدخلنها, فسأله الرسول صلى الله عليه وسلم: بم؟ قال: إني أحب الله ورسوله ولا أفر يوم الزحف, فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: صدقت.
وقال عبد الله بن جحش: اللهم إني أسألك أن ألقى العدو غدا, فيقتلوني, ثم يبقروا بطني ويجدعوا أنفي وأذني وتسألني فيم ذلك فأقول فيك.
وكان هذا رأي الأغلبية الذي عارض رأي الرسول صلى الله عليه وسلم بكل حرية.. ونزل الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الرأي ولبس درعه وحمل سلاحه .. فشعر المسلمون الذين ألحوا بالخروج بالندم وقالوا: استكرهنا رسول الله, وعرضوا عليه العودة إلى رأيه الأول .. فأبى وقال: ( ما ينبغي لنبي إذا لبس لامة الحرب أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه).(/1)
تعتبر عملية اتخاذ القرار من أصعب العمليات التي تواجه القيادة في مسيرها .. بل إن عملية اتخاذ القرار في حقيقتها هي لب القيادة .. فالقائد الناجح هو الذي ينجح في اتخاذ القرار المناسب من بين البدائل المطروحة, ونحن هنا أمام عملية متفردة في كيفية اتخاذ القرار .. لقد كان أمام المسلمين خياران .. البقاء بالمدينة والتحصن بها ولهذا الخيار حيثياته ودوافعه .. وخيار الخروج لملاقاة العدو ولهذا الخيار أيضا حيثياته ودوافعه .. وكان على النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ قراره في هذا الموقف العصيب.
والرسول صلى الله عليه وسلم يعطينا في هذه الحادثة درسا عظيما في كيفية اتخاذ القرار, لقد اعتمد في اتخاذه لهذا القرار على جمع الحقائق واستخدمها بتفكير منطقي واستشار أصحابه ثم جاء العزم بلا تردد والتنفيذ بلا تراجع ..
وهذه هي آلية اتخاذ القرار عند الرسول صلى الله عليه وسلم:
1)جمع الحقائق
وهي المادة الخام لاتخاذ القرار .. ويتوقف نجاح القرار على وفرة الحقائق ودقة المعلومات .. فكلما توفرت معلومات دقيقة كان القرار أقرب إلى الرشد والصحة.
وقد رأينا حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على جمع المعلومات وتحقيقها عن طريق الرسالة التي بعث بها عمه العباس, كما تبين ذلك من إرساله لبعض أصحابه لاستكشاف جيش المشركين ومعرفة مدى التقدم الذي وصلوا إليه في مسيرهم.
ومن بين الحقائق التي توفرت لديه الرؤيا التي رآها وأولها ورؤياه صلى الله عليه وسلم حق.
2)التفكير المنطقي
وهي عملية تذكر الحقائق والحوادث ومعرفة مدى ارتباطها ببعض, وحتى يكون التفكير منطقيا يجب أن يكون دقيقا وواضحا ويخلو من التناقض والتداعي.
وكان للرأيين في مسألة خروج الجيش من المدينة أو البقاء فيها منطقهما فالرأي الأول كان منطقه أن المسلمين أقل عددا وأن البقاء في المدينة به ميزة تشتيت جيش المشركين في أزقة المدينة, وإمكانية مشاركة كل الطاقات بما فيها النساء والشيوخ والأطفال في القتال, كما أن المسلمين أكثر معرفة بطرق المدينة وأزقتها.
وكان منطق الرأي الآخر هو أن المسلمين قد انتصروا في بدر وهم الآن أكثر عددا, وأن المسلمين سيفقدون هيبتهم بين العرب إذا قال المشركون أنهم حصروا المسلمين في المدينة.
ولكلا الرأيين منطقه حسب الحقائق التي يؤمن بها .. ويربط بينها, والطريقة التي يفكر بها, والقابلية العقلية التي يتمتع بها, ولابد من أمر يحسم الخلاف.
3)الشورى
وهي مبدأ أساسي من مبادئ الإسلام .. وقد رأينا كيف عبر كل فريق من المسلمين بل والمنافقين عن آرائهم بكل حرية وشفافية .. وقد أقر الرسول صلى الله عليه وسلم رأي الأغلبية مع أنه كان يدرك أنه رأي خاطئ .. وفي هذا إقرار لمبدأ الشورى وتربية عملية للأمة على هذا المبدأ الذي كان يراه الرسول صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم أهم من الانتصار في معركة, فلا نبذ لمبدأ الشورى أبدا, حتى بوجود قيادة راشدة, وحتى لو كانت الأمة ناشئة, وحتى لو كانت في ظروف المعركة, وحتى لو استغلها الطابور الخامس.
وهذا يضع الأمة أمام مسئولياتها ويجعلها تتحمل نتائج قراراتها ولا ينبغي للقائد أن يستبد برأيه لأن النتيجة عندها سيتحملها هو وحده أما إذا كان القرار للأمة فهي عندئذ ستتحمل النتائج سواء كانت محزنة أم مفرحة, فمن يملك القرار يتحمل النتائج.
ولا شيء يحفظ للأمة وحدتها وللقائد هيبته أكثر من الشورى, وقد انسحب عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الجيش فيما بعد والجيش في طريقه للمعركة .. وقال أطاعهم وعصاني .. هذا مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمضى رأي الأغلبية فكيف كان الأمر لو أنه أصر على رأيه؟
وماذا كان سيحدث لو أصر الرسول صلى الله عليه وسلم على رأيه وهزم المسلمون؟
صحيح أن هذه أسئلة افتراضية ولكن القائد عليه أن يقلب الأمور من جميع الجوانب وهو يتخذ قراره.
ومع أن الشورى أدت إلى نتيجة سلبية وهي الهزيمة في أحد إلا أن الله سبحانه وتعالى أنزل بعد المعركة الآية الكريمة ( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين) ( آل عمران :159 )
4)العزم
إن للمشورة والمناقشة وطرح الآراء أوقاتها, وللتنفيذ والمضي والعمل أوقاتها, وقد أخذ النقاش في المسألة الوقت اللازم واستقر الرأي على الخروج .. فلا ينبغي بعد ذلك العودة للنقاش مرة أخرى والتردد في اتخاذ القرار طالما لم يجد جديد, وإلا تميعت الأمور وتبلبلت الآراء.
لقد علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن الاستمرار في الرأي المتفق عليه هو الأولى حتى وإن كان يعتقد بخطئه وهذا أفضل من التردد في القرار المعتقد بصوابه.
فتخيل حجم الفوضى والبلبلة التي كانت ستحدث لو أن الرسول صلى الله عليه وسلم عاد وخلع لامته وقرر البقاء في المدينة !
ماذا سيكون أثر ذلك على وحدة الصف؟(/2)
وكيف سيستغل المنافقون والمرجفون هذه الواقعة؟ وكيف ستكون هيبة القائد؟
لقد قرر المسلمون الخروج .. فعليهم أن يخرجوا ويتحملوا النتيجة, أما التردد .. نخرج أو لا نخرج فهذا خطره عظيم ولا يليق بالرجال.
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة فإن فساد الرأي أن تترددا
ولكن هل كان الرسول صلى الله عليه وسلم مخطئا إذ لم يصر على رأيه وهو يتوقع النتيجة؟
لقد كان القرار الصحيح ولا شك هو رأي الرسول صلى الله عليه وسلم بالبقاء في المدينة والتحصن بها .. وهذا هو الدرس الذي استفاد منه المسلمون فيما بعد في غزوة الخندق, ولكن القرار الرشيد أو السديد هو الخروج لملاقاة العدو.
وهنا نشير إلى الفرق بين القرار الرشيد والقرار الصحيح, فليس بالضرورة أن يكون القرار الرشيد صحيحا لا يحتمل الخطأ .. ولكن القرار الرشيد هو أحسن قرار في ظل الظروف القائمة بما يحقق الأهداف المرجوة.
وهذا ما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم فاختار القرار المناسب ووضع الأمة أمام مسئولياتها ولا شك في أن النتائج النهائية وما تعلمه المسلمون أهم من الانتصار في معركة.
وما أحوجنا نحن المسلمين في هذا العصر إلى أن نتعلم كيف نتخذ قراراتنا ونتحمل مسئولياتنا..فكم منيت الأمة بخسائر وويلات بسبب قرارات طائشة أو متعجلة لم تأخذ حقها من الدراسة في ظل غياب الشورى وحرية الرأي..ومتى يأتي اليوم الذي تملك فيه الأمة قرارها كما كانت تملكه في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم؟
ثانيا: المعركة (1)
1.مسرح العمليات
منطقة صحراوية مستوية تبرز بها سلسلة جبال الحجاز كما يبرز بها جبلان أحدهما جبل سَلع وهو قليل الارتفاع, والثاني جبل أحد الذي نشب القتال بالقرب منه, وهو يشرف على الأرض التي اصطفت فيها قوات الطرفين وهو جبل كثير المسالك والشعاب تقطعه عدة وديان وبه بعض الفجوات التي تصلح لاختفاء القناصة, كما تحيط بالمنطقة صخور بركانية يصعب القتال فيها.
إذن فأرض المعركة سهل مستو, وهو بهذا الوصف يصلح للقتال وجها لوجه, وهو بذلك يفرض نوعية معينة من الجند, ذلك أن القتال في الأرض المكشوفة يتطلب شجاعة وقوة وقدرة ورغبة في الجهاد أو الاستشهاد, وهذه الصفات كانت من علامات المسلمين المقاتلين.
وأرض المعركة يسيطر عليها جبل أحد, ذلك أنه منطقة مرتفعة تكشف السهل أمامها, ومن هنا فإن الجانب الذي يسيطر على هذا الجبل يملك السيطرة على أرض المعركة, ويكون موقفه أرجح وأقوى من الجانب الآخر, وهذا هو الدافع الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يهتم بالجبل اهتماما بالغا فجعله تحت سيطرته وفي يد رجاله.
وقد لعب جبل أحد دورا خطيرا في هذه المعركة التي سميت باسمه, فقد كانت كفة المعركة تميل إلى الجانب الإسلامي, والجبل تحت سيطرة المسلمين, فلما فقدوا سيطرتهم عليه وانتقلت إلى قوى قريش رجحت كفة هؤلاء وصار النصر للمغلوب دون الغالب(2).
وقد وصل المشركون قبل المسلمين إلى المكان وعسكروا بجانب أحد, ومع ذلك لم يستفيدوا شيئا من هذا ولم يختاروا الموقع الإستراتيجي الذي يلائمهم .. وقد يعود هذا إلى ضيق أفقهم العسكري فعرب الجاهلية لم يخوضوا حروبا منظمة..
أما الرسول صلى الله عليه وسلم فكان يدرك الأمر جيدا لذلك سعى للوصول إلى جبل أحد, وكان جيش المشركين يحول بينه وبين الجبل فسأل عن طريق يؤدي بالجيش إلى هناك ويجتاز به تجمع المشركين, فدله أبو خيثمة على طريق مختصر يمر في حرة بني حارثة, ولما مر الجيش في طريقه بحائط لمربع الحارثي وكان رجلا منافقا ضرير البصر, قام يحثي في وجوههم التراب ويمنعهم من عبور الحائط ويتطاول على النبي صلى الله عليه وسلم, فهم به بعض الصحابة ليقتلوه, فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : لا تقتلوه فهذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر.
وقد استفاد المسلمون من عبورهم لهذا الطريق, فوصلوا بسرعة دون تعب, ولم تر قريش عدد قواتهم, كما أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم زمام المبادرة وفرض أرض المعركة التي تناسب جيشه.
2.التعبئة
استعد المشركون بجيش كبير بلغ ثلاثة آلاف مقاتل معهم مائتا فرس وثلاثة آلاف بعير, وجعلوا القيادة لأبي سفيان, وعلى الميمنة خالد بن الوليد وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل, وكان اللواء عند طلحة بن أبي طلحة من بني عبد الدار, وعبأ المشركون جيشهم بأسلوب الصفوف الذي تعلموه من الرسول صلى الله عليه وسلم في بدر.
أما في الجانب الإسلامي فقد استعد المسلمون وخرجوا للقتال بجيش قوامه ألف مقاتل, وعندما وصل جيش المسلمين الشوط بين أحد والمدينة - بحيث يرى الجيشان بعضهما- انشق ابن سلول بثلث الجيش .. وقال: أطاعهم وعصاني, وما ندري علام نقتل أنفسنا أيها الناس .. فتبعه عبد الله بن عمرو بن حرام وطلب منه الرجوع فقال: لو نعلم أن هناك قتالا لاتبعناكم .. وأبى أن يرجع فقال عبد الله: أبعدكم الله أعداء الله فسيغني الله نبيكم عنكم.(/3)
فبقي من الجيش سبعمائة مقاتل واصل بهم الرسول صلى الله عليه وسلم المسير حتى وصل إلى شعب أحد فعبأ الجيش صفوفا, وجعل على الميمنة علي بن أبي طالب وعلى الميسرة المقداد بن عمرو, وفي القلب حمزة بن عبد المطلب, ولبس الرسول صلى الله عليه وسلم درعين ظاهر بينهما وأعطى اللواء لمصعب بن عمير من بني عبد الدار وكان العرف أنهم حملة اللواء.
3.تكتيك المعركة
1.خطة أبي سفيان :
المفاجأة
فقد كان يرغب بمفاجأة المسلمين في المدينة ويأخذهم على حين غرة دون أن يعرفوا بتحركهم وبخروجهم ودون أن يستعدوا, ولكن يقظة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حالت دون الأمر ففشل هذا المخطط بعد أن علم المسلمون بخبر التحرك بوسائل عدة منها رسالة العباس وجماعات الاستطلاع التي أرسلها النبي صلى الله عليه وسلم تستطلع خبر قريش (3) وقد اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم موقفا مضادا لا تتحقق به المفاجأة فقد أمر عليه السلام بتشكيل قوة حراسة من خمسين رجلا قويا وكلفها بحراسة المدينة وحمايتها حتى لا تباغت.
ولقد أدرك أبو سفيان أن أمر الجيش قد عرف, وأن الأثر الذي كان ينشده من المفاجأة قد زال, فالمسلمون قد عرفوا بمسيرهم وعددهم واتخذوا لأنفسهم الحيطة ومن هنا فقد فقد الأمل في إصابتهم الإصابة التي كان يرجوها عند خروجهم ولابد من تغيير الخطة, فقال لقومه: (احلف بالله إنهم جاءوا محمدا فخبروه مسيرنا, وحذروه واخبروه بعددنا فهم الآن يلزمون صياصيهم فما إن نصب منهم شيئا في وجهنا).
وفكر القوم ماذا يعملون؟ وكيف يتصرفون؟
وتأتي الإجابة على لسان صفوان بن أمية: (إن لم يصحروا لنا (4) عمدنا إلى نخل الأوس والخزرج فقطعناه, فتركناهم ولا أموال لهم فلا يجتبرونها أبدا وإن صحروا إلينا فعددنا أكثر من عددهم وسلاحنا أكثر من سلاحهم ولنا خيل ولا خيل معهم ونحن نقاتل على وتر (ثأر) ولا وتر لهم عندنا).
شحذ الهمم والتذكير بالثأر
قال أبو سفيان لأصحاب اللواء من بني عبد الدار تحريضا لهم: (يا بني عبد الدار إنكم قد وليتم لواءنا يوم بدر فأصابنا ما قد رأيتم, وإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم, إذا زالت زالوا, فإما أن تكفونا لواءنا, وإما أن تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه) فهموا به وتواعدوه, وقالوا: نحن نسلم إليك لواءنا ؟! ستعلم غدا إذا التقينا كيف نصنع. وهذا ما أراده أبو سفيان, وقد استبسل بنو عبد الدار في حماية اللواء حتى أبيدوا.
واستصحب المشركون معهم النساء زيادة في التحميس للقتال, وقد أدت هند زوج أبي سفيان ومعها النساء دورا مهما في التحريض ضد المسلمين.
الاعتماد على التخذيل والتفريق
أراد أبو سفيان أن يثير القلاقل بين صفوف المسلمين عند اللقاء بقصد تشتيت تجمعهم وبعثرة جهودهم وتفرقة قواتهم وبث الوهن بين صفوفهم فيضعف شأنهم ويسهل بالتالي ضربهم.
ولقد فشل هذا التخطيط فعندما التقى الجمعان عرض أبو سفيان على الأوس والخزرج أن يتخلوا عن رسول الله وعن المهاجرين حتى ينصرف هو ورجاله عنهم, فقال لهم: يا معشر الأوس والخزرج خلوا بيننا وبين بني عمنا وننصرف عنكم, ولكن الأنصار رفضوا دعوته وأبوا أن يتخلوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المهاجرين فهم مسلمون أولا ورابطة الإسلام هي الأولى, كما أنهم أصحاب بيعة العقبة.
ثم قام أبو عامر الفاسق وهو الاسم الذي أطلقه عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وكان قبل ذلك يسمى الراهب ونادى قومه من الأوس - وكان قبل الهجرة كبيرا في قومه- فقال: يا معشر الأوس أنا أبو عامر, وكان يأمل في أن يخرجوا من صفوف المسلمين وينضموا إليه حين يعرفون أنه في صفوف قريش, فقالوا له: ولا أنعم الله بك عينا يا فاسق, فلما سمع قولهم قال: لقد أصاب قومي بعدي شر.
تصفية القيادة
وقد تعاقد أربعة من قريش على قتل الرسول صلى الله عليه وسلم وهم عبد الله بن شهاب وعتبة بن أبي وقاص وعمرو بن قمئة وأبي بن خلف, وقد استطاعوا الوصول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإصابته إصابات بليغة, ولكن قريشا فشلت في خطتها هذه فرغم إصابة الرسول صلى الله عليه وسلم ظل يؤدي دوره كقائد للمعركة وكمحارب مع جيشه.
ولقد نجح وحشي في قتل حمزة, وفي ذلك يقول وحشي إني لأنظر إلى حمزة يهد الناس بسيفه هدا, ما يقوم له شيء فوالله إني لأتهيأ له أريده وأتستر منه بشجرة أو بحجر ليدنو مني, إذ تقدمني إليه سباع بن عبد العزى, فلما رآه حمزة ضربه ضربة كأنما اختطف رأسه, فهززت حربتي حتى إذا رضيت عنها دفعتها عليه, فوقعت في ثنته(5) حتى خرجت من بين رجليه, فأقبل نحوي, فغلب فوقع, فأمهلته حتى إذا مات, جئته فأخذت حربتي, ثم تنحيت إلى المعسكر ولم يكن لي في شيء حاجة غيره, فقد ذهب وحشي للاغتيال لا للقتال(6).
2.خطة الرسول صلى الله عليه وسلم:(/4)
طبق الرسول صلى الله عليه وسلم في أحد مبدأ عسكريا وهو الاقتصاد في القوة وهو يقوم على أساس استحالة الضرب بنفس القوة في كل مكان, وعلى أساس عدم توريط جميع الجيش أو معظمه في الدفاع, بل إمساك الجبهات الثانوية بقوات للتغطية يجري تعيين مقاديرها بالحد الأدنى الضروري, ولا يبالغ في تقدير أعدادها على حساب قوات الالتحام التي تركز هجومها على محاور معينة.
فاختار الرسول صلى الله عليه وسلم خمسين من الرماة ووضعهم على تل مقابل لجبل أحد وولى أمرهم عبد الله بن جبير, وكان معلما يومها بثياب بيض, وأمرهم أن يحتلوا الموقع ويحموا ظهور المسلمين, وألا يمكنوا العدو من اقتحام الموقع, وأن يرموا الخيل بالنبل وألا يبرحوا مكانهم في حالة النصر أو الهزيمة إلا بتعليمات صريحة من القائد, وقال لهم وكأنه يتوقع ما سيحدث: إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا من مكانكم هذا حتى أرسل لكم, وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم وهم قتلى فلا تبرحوا مكانكم.
كما طلب صلى الله عليه وسلم من الزبير أن يراقب خالدا وأن يبقى بإزائه, وطلب من جماعة أن يبقوا بإزاء خيل المشركين.
ولأن المعضلة الأساسية التي كانت تواجه المسلمين هي قلة عددهم قياسا إلى عدد المشركين, جعل صلى الله عليه وسلم أبطال الصحابة والصناديد في القوة الضاربة في مقدمة الجيش وذلك للتغلب على الكثرة العددية لجيش العدو.
وتفاصيل خطته صلى الله عليه وسلم كالتالي:
السيطرة على جبل أحد
لقد أدرك الرسول صلى الله عليه وسلم أهمية هذا الجبل الإستراتيجية, فجعل ظهور أصحابه إليه بحيث يحميهم من خلفهم وجعل وجوههم إلى المدينة يستقبلون الوادي ووضع الرماة على ميسرته حتى لا يتمكن المشركون من السيطرة على الجبل, ولم يترك للمشركين أي ثغرة ينفذون منها.
القوة الهجومية الضاربة
نظم رسول الله صلى الله عليه وسلم الجيش في وضع القتال على هيئة صفوف وجعل في مقدمة هذه الصفوف الأشداء أصحاب البأس من جند المؤمنين الذين أبلوا بلاء حسنا في بدر, الذين يدكون صفوف المشركين ويهدون رجالاتهم ويفتحون الطريق لمن وراءهم, ويزيلون الرهبة من لقاء المشركين.
القيادة المركزية
أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه وحده الذي يعطي أمر القتال ويحدد ساعة الصفر, وقد حاول المشركون استفزاز المسلمين, عندنا سرحوا الظهر والكراع لترعى في زروع في أرض المسلمين, فأراد رجل أن يخرج لمنعها ويقاتل, فمنعه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: لا يقاتلن أحد منكم حتى نأمره بالقتال, وأعلن الرسول صلى الله عليه وسلم أن كلمة التعارف بين المسلمين وهي كلمة السر في حروب اليوم أمت أمت.
كما أنه هو الذي يحدد الوقت المناسب لنزول الرماة من مواقعهم.
تحريض المسلمين على القتال
خطب الرسول صلى الله عليه وسلم خطبة حث فيها المسلمين على الصبر عند اللقاء .. كما أخرج سيفه ونادى من يأخذ هذا السيف بحقه .. وذلك تشجيعا للمسلمين على القتال وليبث فيهم التنافس الشريف.
ضمان الولاء
رغم قلة عدد الجيش الإسلامي واحتياجه إلى الرجال إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفض ما عرضه عليه بعض الأنصار من الاستعانة بحلفائهم من اليهود, فقال: لا حاجة لنا فيهم, وذلك مع أن المسلمين كانت بينهم وبين اليهود معاهدة على النصرة, كما رد رسول الله مفرزة حسنة التسلح عندما سأل عنها فعرف أنها من اليهود فقال: إنا لا ننتصر بأهل الكفر على أهل الشرك.
4.سير القتال
1)الصفحة الأولى
قامت مفرزة يقودها أبو عامر الفاسق - كما ذكرنا سابقا- ومعه خمسة عشر رجلا من مشركي الأوس وعبيد مكة ببدء القتال وكان أبو عامر كبيرا في قومه وكان يظن أن قومه سينضمون إليه حين يرونه ولكنهم صدوه فقاتلهم قتالا عنيفا وراضخهم بالحجارة.
حاول أبو عامر وعكرمة بن أبي جهل أن يلتفا على أجنحة المسلمين .. ولكنهما فشلا في ذلك لاستناد المسلمين إلى جبل أحد وقام المسلمون برشقهم بالحجارة حتى ردوهم.
تقدم رجل من المشركين راكبا جملا يدعو للمبارزة .. وكان رجلا شديدا شجاعا فأحجم عنه الناس حتى تقدم الزبير الذي وثب على الجمل واقتحم به الأرض وقتله .. فكبر المسلمون.
أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم - قائد الجيش- الأمر بالهجوم الشامل, فهتف حمزة في الجيش بكلمة التعارف أمت أمت واندفع إلى قلب جيش المشركين يقاتل قتال الليوث المهتاجة ومعه أبطال المسلمين في مقدمة الجيش يهدون صفوف المشركين هدا.
المعركة حول اللواء(/5)
ركز المسلمون هجومهم على لواء المشركين الذي كان يحمله طلحة بن أبي طلحة فقتله علي, فأخذ اللواء أخو طلحة عثمان فحمل عليه حمزة فقطع يده وكتفه, فأخذ اللواء أخوهما أبو سعيد فرماه سعد فأصاب حنجرته, فحمله مسافع بن طلحة الذي قتله علي فرماه عاصم بن ثابت فقتله, ثم حمل اللواء أخو مسافع وهو الحرث بن طلحة فرماه عاصم فقتله, فحمل اللواء أخوهما وهو كلاب فقتله الزبير أو قزمان, فحمله أخوهم الجلاس فقتله طلحة بن عبيد الله, ثم حمل اللواء أرطأة بن شرحبيل فقتله علي أو حمزة, فحمله شريح فقتله قزمان، ثم حمله أبو زيد بن عمرو فقتله قزمان أيضا, ولم يبق أحد من بني عبد الدار فحمل اللواء صؤاب غلامهم وكان حبشيا فقاتل قتالا يفوق قتال أسياده حتى قطعت يده فبرك على اللواء يمسكه بعنقه حتى قتل عليه قتله قزمان أو علي أو سعد, وبمقتل صؤاب سقط لواء المشركين ولم يجرؤ أحد على حمله وتفرق شمل العدو.
وقتل في تلك الأثناء أسد الله حمزة إلا أن المسلمين بقوا مسيطرين على الموقف.
تصدع قوات المشركين
بسقوط اللواء وبفعل الضربات الموجعة التي تلقاها المشركون تصدعت قواتهم وبدءوا بالفرار وأخذ المسلمون يطاردونهم حتى أبعدوهم عن معسكرهم, يقول الزبير: والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند بنت عتبة وصواحبها مشمرات هوارب ما دون أخذهن قليل أو كثير.
وهنا ارتكب الرماة الغلطة الفظيعة فخالفوا أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوامر قائدهم عبد الله بن جبير - الذي أمرهم بالثبات في مواقعهم- فتركوا مواقعهم ليجمعوا الغنائم.
2)الصفحة الثانية
المباغتة
أدرك خالد بعبقريته العسكرية خلو جبل الرماة من الرماة وكان قد حاول مرارا الالتفاف ففشل فانتهز الفرصة وقام بالالتفاف والانقضاض على من بقي من الرماة وأبادهم .. وكر على مؤخرة المسلمين الذين اضطربت صفوفهم من هول المباغتة, فبينما المسلمون قد شغلوا بالنهب والأسر إذ دخلت خيول المشركين تنادي فرسانها بشعارها يا للعزى يا لهبل, ووضعوا السيوف في المسلمين وهم آمنون, وتفرق المسلمون في كل وجه, وتركوا ما غنموا وخلّوا من أسروا واختلط المسلمون وصار يضرب بعضهم بعضا من غير شعار أي دون أن يأتوا بما كانوا ينادون به في الحرب ليتعارفوا به في ظلمة الليل وعند الاختلاط وهو أمت أمت مما أصابهم من الدهشة والحيرة, ورأى المشركون الفارون ما حدث ولم يزل لواؤهم ملقى حتى أخذته امرأة ورفعته لهم فاجتمعوا عنده وعادوا للقتال وأصبح الجيش الإسلامي مطوقا بين فكي كماشة.
إشاعة مقتل النبي
وفي هذه الأجواء أشيع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل ذلك أن ابن قمئة قتل مصعبا وهو يظن أنه النبي صلى الله عليه وسلم وصاح قتلت محمدا .. وأثر هذا الأمر على كثير من المسلمين الذين كانوا يعتبرون الرسول صلى الله عليه وسلم هو كل شيء بالنسبة لهم فمنهم من انسحب إلى المدينة وهم قلة, ومنهم من أخذ يقاتل على غير هدى يذب عن نفسه ومنهم من جلس يندب حظه ويقول قتل رسول الله, وقام البعض يحث المسلمين على الموت على ما مات عليه الرسول صلى الله عليه وسلم فرجع كثير من المسلمين ممن جلسوا يندبون حظهم.
صمود النبي والمعركة حوله
وفي هذه المعمعة أفرد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع تسعة نفر من أصحابه اثنين من المهاجرين وسبعة من الأنصار في مقر قيادته في مؤخرة الجيش, وكان يراقب ما يحدث وأخذ ينادي إليّ عباد الله وكان يريد بذلك أن ينقذ جيشه المطوق .. واحتدم القتال حول الرسول صلى الله عليه وسلم حتى قتل الأنصار السبعة بين يديه واحدا واحدا, وبقي الرسول صلى الله عليه وسلم مع القرشيين فقط وهما طلحة وسعد وقال لهما: ما أنصفنا أصحابنا, يقصد الذين لم يستجيبوا لندائه, وكانت أحرج لحظات واجهت الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته, واستبسل طلحة وسعد في الدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم كما سيأتي فيما بعد.
وركز المشركون حملتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدون قتله حتى خلصوا إليه فرماه عتبة بن أبي وقاص بالحجارة حتى وقع لشقه فأصيبت رباعيته وهي السن التي تلي الناب وكلمت شفته السفلى, وضربه عبد الله بن شهاب فشجه في جبهته فجعل الدم يسيل على وجهه الشريف فأخذ يمسح الدم وهو يقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم, وأصاب ابن قمئة وجنته فدخلت حلقتان من حلق المغفر فيها, وضرب رسول الله على عاتقه فحماه الدرع ولكنه وقع من شدة الضربة في حفرة من الحفر التي عملها أبو عامر ليقع فيها المسلمون وهم لا يعلمون فأصيبت ركبتاه.(/6)
حدث هذا كله في لحظات ثم أخذ المسلمون يفيئون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ على بن أبي طالب بيد رسول الله ورفعه طلحة بن عبيد الله حتى استوى قائما, ومص مالك بن سنان الدم عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ازدرده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من مس دمي دمه لم تصبه النار, ونزع أبو عبيدة بن الجراح إحدى الحلقتين من وجه رسول الله فسقطت ثنيته ثم نزع الأخرى فسقطت ثنيته الأخرى فكان ساقط الثنيتين.
واستطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه أن يشق الطريق إلى جيشه المطوق.
الانسحاب إلى أحد والتحصن فيه
وصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى جيشه المطوق وتجمع حوله ثلاثون من أصحابه كلهم يقول نفسي لنفسك الفداء ووجهي لوجهك الوقاء وعليك السلام غير مودع, وشكل الرسول صلى الله عليه وسلم بهؤلاء قوة استطاعت أن تكسر الطوق وتفتح طريقا إلى أحد وأخذ الجيش الإسلامي بالانسحاب المنظم إلى جبل أحد واشتد المشركون في هجومهم واستبسل المسلمون في حماية انسحاب الجيش حتى وصل إلى شعب أحد, وهناك هجم أبي بن خلف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول يا كذاب أين تفر فضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم بحربة في عنقه.
المحاولة الأخيرة
حاول المشركون القيام بهجوم أخير على المسلمين وهم في الشعب وحاولوا صعود الجبل إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال إنهم لا ينبغي لهم أن يعلونا, فقاتل عمر بن الخطاب في مفرزة ورشقوهم بالحجارة حتى اضطروهم إلى النزول من الجبل, وكان هذا هو الهجوم الأخير الذي قام به المشركون ثم أدركهم التعب وأصبحوا غير قادرين على المواصلة فرضوا بما حققوه وانسحبوا.
التثبت من انسحاب العدو
وكإجراء احترازي بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وقال له: اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون وما يريدون, فإن كانوا قد جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة, وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة, والذي نفسي بيده لإن أرادوها لأسيرنّ إليهم فيها ثم لأناجزنّهم.
قال علي فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل واتجهوا إلى مكة(7).
3)حمراء الأسد
وبعد عودة المسلمين إلى المدينة قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم التالي بمناورة عسكرية لاستعادة الهيبة فأمر كل من شارك في أحد بالخروج ثانية, وحتى يعيد لهم ثقتهم بأنفسهم أمر أن لا يخرج معهم أحد لم يشارك, وذلك بعد أن علم الرسول صلى الله عليه وسلم أن قريشا قد ندمت على عدم مواصلة القتال حتى القضاء عليه شخصيا .. فلملم المسلمون جراحهم وخرجوا حتى وصلوا إلى حمراء الأسد فعسكروا هناك, وأمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحدثوا أصواتا وأن يوقدا نارا حتى يشاهدوا من بعيد فأوقدوا خمسمائة نار, وقد أراد الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك أن يحقق نصرا سياسيا بعد نكسة أحد ويشعر العالم بأن المسلمين لا يزالون قوة ضاربة وأن معنويات المسلمين لا تزال مرتفعة ولكن هذه المناورة لم تكن مغامرة غير محسوبة العواقب, فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم ما تعاني منه قواته من تعب وألم وجراح .. لذلك قام بحركة سياسية محسوبة .. فدفع رجلا من خزاعة هو أبو معبد الخزاعي وكان مشركا - وكانت خزاعة قلوبها مع الرسول صلى الله عليه وسلم بمسلمها ومشركها- للقيام بمهمة وهي تخذيل المشركين وثنيهم عن مهاجمة المسلمين, فخرج معبد حتى لقي أبا سفيان وجيشه وقد أجمعوا على استئصال شأفة المسلمين, فقال لهم معبد: محمد خرج في أصحابه في جمع لم أر مثله يتحرقون عليكم تحرقا, وقد اجتمع له من تخلف عنه في يومكم, ثم أنشد شعرا يصف فيه حال جيش المسلمين وقوتهم, فثنى ذلك أبا سفيان وجيشه عن عزمه وعادوا إلى مكة, ولكن أبا سفيان قبل أن يرحل أوعز إلى إحدى القوافل التجارية المتجهة إلى المدينة أن تشيع أن جيش قريش يجمع جموعه ليهاجم المسلمين, ففعلوا, ولما وصل الخبر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قال: حسبنا الله ونعم الوكيل, وقبل المسلمون التحدي .. وبقي الجيش الإسلامي معسكرا في حمراء الأسد ثلاثة أيام, يسمع بهم العرب ويرون نيرانهم حتى اطمأن الرسول إلى زوال الخطر ثم رجع إلى المدينة.
5.جرائم الحرب
قام المشركون – بدافع الحقد- بارتكاب أعمال وحشية في جثث المسلمين يتنزه عنها الإنسان السوي فمثلوا بالجثث وشوهوها وبقروا البطون وضربوا الوجوه, وحتى النسوة أخذن يجدعن الأنوف والآذان ويصنعن منها القلائد والخلاخيل, وقد أثارت هذه الأعمال اشمئزاز بعض من كانوا معهم فاستنكروا عليهم الأمر, وهذا ما دفع أبو سفيان في النهاية إلى أن يعلن عدم مسئوليته عن هذه الأعمال رغم مشاركته شخصيا بذلك.(/7)
وكان منظر الجثث مريعا اغتاظ منه النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون وقال الرسول صلى الله عليه وسلم لما وقف أمام جثة حمزة: ما وقفت موقفا أغيظ إلي من هذا, لن أصاب بمثلك أبدا. وقال المسلمون: والله لئن أظفرنا الله بهم يوما لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب. فنزل قوله تعالى (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به, ولئن صبرتم فهو خير للصابرين) (النحل الآية : 126 ) فعفا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصبر ونهى عن المثلة.
6.الرسول صلى الله عليه وسلم يقود المعركة
تجلت قيادة الرسول صلى الله عليه وسلم في أحد .. أولا بمعرفته لما يدبر له عدوه واتخاذه الخطط المضادة, ثم بفرضه ميدان المعركة الذي يناسبه, ثم بتوزيعه لقواته بشكل لا يترك للعدو ثغرة .. وبإعطائه تعليمات واضحة ومباشرة, وعندما حلت الهزيمة كان رابط الجأش واثقا من نفسه واستطاع بصموده أن ينقذ الجيش من هلاك محقق وأن يحسن اتخاذ القرار وينسحب انسحابا منظما إلى بطن الجبل.. ورغم حدوث المباغتة والفوضى في جيش المسلمين إلا أن نسبة الخسائر لم تتجاوز 10% وهذا يعتبر معجزة في العرف العسكري بالنسبة لجيش مطوق لا أسهل من إبادته, ففاقت عبقريته صلى الله عليه وسلم العسكرية عبقرية خالد .. الذي يبدو أنه تأثر بطريقة الرسول صلى الله عليه وسلم في انسحابه المنظم فألهمه ذلك انسحابه الرائع في مؤتة.
ولم يفكر الرسول صلى الله عليه وسلم بالفرار والنجاة بنفسه بل صمد وقاوم وقاتل بنفسه مع جيشه, ورمى عن قوسه حتى أصبحت شظايا, وتحمل ما تحمله جنوده وأصيب كما أصيبوا .. وكان هو المحرك لهم والنور الذي يضيء طريقهم .. ولولا وجوده معهم لانهار الجيش تماما ولكانت الخسائر فادحة والهزيمة ساحقة.
ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم بمناورته في حمراء الأسد استعاد هيبة المسلمين ورفع الروح المعنوية لجنوده وأثبت أن المسلمين لا يزالون موجودين وقادرين على الدفاع عن أنفسهم, واستخدم في ذلك الأسلوب الدعائي والسياسي دون إنهاك الجيش ودون أي خسارة, يقول اللواء الركن مصطفى طلاس: إن عدد القادة في التاريخ الذين استطاعوا أن يسيطروا على جيوشهم بعد الهزيمة يعد على أصابع اليد, لذلك فإن كبار القادة العسكريين يحنون هاماتهم لعمل الرسول العربي في المناورة العسكرية البارعة لحملة حمراء الأسد(8).(1) الخرائط المنشورة منقولة من كتاب غزوة أحد لشوقي أبي خليل.
(2) اللواء محمد فرج, العبقرية العسكرية لغزوات الرسول ص 350
(3) وهنا نشير إلى اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بالاستخبارات وجمع المعلومات وتحليلها وما يعرف اليوم بالإنذار المبكر.
(4) يخرجوا إلينا في الصحراء
(5) تحت السرة
(6) اللواء محمد فرج, العبقرية العسكرية لغزوات الرسول ص (351-354)
(7) لمعرفة تفاصيل المعركة ينصح بالرجوع إلى الرحيق المختوم.
(8) الرسول العربي وفن الحرب ص 173
دروس من غزوة أحد (2/2)
إعداد :- علي البغدادي 14/7/1424
11/09/2003
ثالثا: صناعة الموت..هكذا أتقنها المسلمون
أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفا مكتوبا في إحدى صفحتيه:
في الجبن عار وفي الإقبال مكرمة ... ...
والمرء بالجبن لا ينجو من القدر
وقال صلى الله عليه وسلم من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فقام إليه رجال, فأمسكه عنهم, ومن جملتهم علي رضي الله عنه قام ليأخذه, فقال: اجلس, وعمر رضي الله عنه, فأعرض عنه, والزبير رضي الله عنه, طلبه ثلاث مرات, ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عنه, حتى قام إليه أبو دجانة سِماك بن خَرَشة فقال: وما حقه يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: أن تضرب به العدو حتى ينحني. فقال أبو دجانة: أنا آخذه يا رسول الله بحقه, فأعطاه إياه. وكان أبو دجانة رجلا شجاعا يختال عند الحرب, وكان إذا أراد القتال, يخرج عصابة حمراء, يعلم بها عند الحرب يعتصب بها, فلما أخذ السيف من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرج عصابته تلك فاعتصب بها, ثم جعل يتبختر بين الصفين, فقال صلى الله عليه وسلم حين رأى أبا دجانة يتبختر: إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن, فجعل لا يلقى أحدا من المشركين إلا قتله, ولم يزل يضرب العدو بالسيف حتى انحنى وصار كأنه منجل.
وكان أحد المشركين قد شغل نفسه بالإجهاز على جرحى المسلمين في المعركة, قال كعب بن مالك: وإذا رجل من المسلمين ينتظره وعليه لامته فمضيت حتى كنت وراءه ثم قمت أقدر الكافر والمسلم ببصري فإذا الكافر أفضلهما عدة وهيئة, فلم أزل أنتظرهما حتى التقيا فضرب المسلم الكافر على حبل عاتقه ضربة بالسيف فبلغت وركه وتفرق فرقتين ثم كشف المسلم عن وجهه وقال كيف ترى يا كعب؟ أنا أبو دجانة.
#
وقاتل مصعب بن عمير دون رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل, وكان الذي قتله ابن قمئة الليثي, قتله وهو يظن أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع إلى قريش فقال: قتلت محمدا.(/8)
ولم يترك مصعب رضي الله عنه إلا بردة من صوف, يقول عبد الرحمن بن عوف: إذا غطينا بها رجله خرج رأسه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: غطوا بها رأسه واجعلوا على رجليه الإذخر. وكان مصعب قبل الإسلام فتى مكة الأول جمالا وشبابا ولباسا وعطرا.
#
ولم يشهد أنس بن النضر بدرا, فشق عليه ذلك, فلما كان يوم أحد قال: يا رسول الله, إني غبت عن أول قتال وقع قاتلت فيه المشركين, والله لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع, فلما رأى تراجع المسلمين قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء, وأبرأ إليك مما فعل هؤلاء, ولما سمع قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم, مر برجال من المهاجرين والأنصار وقد ألقوا بأيديهم, فقال ما يجلسكم؟ قالوا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فماذا تصنعون بالحياة بعده ؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استقبل المشركين, وقال لسعد بن معاذ: يا أبا عمرو أين؟ واها لريح الجنة, ورب الكعبة أجد ريحها دون أحد, وقاتل رضي الله عنه حتى قتل, فوجد فيه بضع وثمانون جراحة, من بين ضربة بسيف, أو طعنة برمح, أو رمية بسهم, ومثل به المشركون فما عرفته أخته الربيع إلا ببنانه.
#
وقال ثابت بن الدحداح: يا معشر الأنصار إن كان محمد قد قتل فإن الله حي لا يموت قاتلوا على دينكم فإن الله مظفركم وناصركم, فنهض إليه نفر من الأنصار فحمل بهم على كتيبة فيها خالد وعمرو وعكرمة وضرار بن الخطاب, فحمل عليه خالد بالرمح فقتله, وقتل من كان معه من الأنصار.
#
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين غشيه القوم من رجل يشري لنا نفسه؟ فقام زياد بن السكن في نفر سبعة من الأنصار, فقاتلوا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا ثم رجلا يقتلون دونه, حتى كان آخرهم زياد بن السكن, فقاتل حتى أثبت, ثم فاءت منه فئة من المسلمين, فقاتلوا عنه حتى أجهضوا عنه العدو, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أدنوه مني, فأدنوه منه, فوسده قدمه, فمات وخده على قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
#
وترس دون رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو دجانة بنفسه, يقع النبل في ظهره وهو منحن عليه لا يتحرك, حتى كثر فيه النبل.
#
وقيل لسعد: يا سعد, هذا رسول الله يدعوك, فقال سعد: وأين هو؟ فأشير إليه صلى الله عليه وسلم, يقول سعد بن أبي وقاص: فقمت وكأنه لم يصبن شيء من الأذى, وأجلسني أمامه, فجعلت أرمي وأقول: اللهم سهمك فارم به عدوك, ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم استجب لسعد, اللهم سدد رميته, وأجب دعوته, فكان سعد مجاب الدعوة, حتى إذا فرغ النبل من كنانتي, نثر صلى الله عليه وسلم لي ما في كنانته, وانكشف الناس عنه صلى الله عليه وسلم, قال سعد: لقد رأيتني والنبي صلى الله عليه وسلم يناولني النبل ويقول: ارم فداك أبي وأمي, حتى إنه ليناولني السهم ما له نصل, فيقول: ارم به. وجاء أن سعدا رضي الله عنه رمى يوم أحد ألف سهم ما منها سهم إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ارم فداك أبي وأمي, ففداه ذلك اليوم ألف مرة.
#
ورمى أبو طلحة الأنصاري, وكان رجلا راميا شديد الرمي, فنثر كنانته بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم, وصار يقول: نفسي لنفسك الفداء, ووجهي لوجهك الوقاء, فلم يزل يرمي بها, وكان الرجل يمر بالجعبة من النبل فيقول صلى الله عليه وسلم : انثرها لأبي طلحة, وكسر ذلك اليوم قوسين أو ثلاثة, وصار رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرف ليرى مواضع النبل, فيقول له أبو طلحة: يا نبي الله بأبي أنت وأمي, لا تشرف يصبك سهم من سهام القوم, نحري دون نحرك, ويتطاول أبو طلحة بصدره ليقي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
#
وقاتل علي بن أبي طالب قتالا شديدا, وحمل الراية بعد مصعب, وشد على تجمعات الكفار ففرق شملهم, وسمع يوم أحد مناد في السماء يقول: لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي.
#
وأصيب عبد الرحمن بن عوف في فيه يومئذ فكسرت ثنيته, وجرح عشرين جراحة أو أكثر, إصابة بعضها في رجله فعرج.
#
وقاتل طلحة بن عبيد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قتالا شديدا وأصابه سهم شل إصبعه حتى إن سعد بن أبي وقاص قال عنه: يرحمه الله إنه كان أعظمنا غناء عن رسول الله يوم أحد لزم النبي صلى الله عليه وسلم وكنا نتفرق ونئوب إليه لقد رأيته يدور حول النبي صلى الله عليه وسلم يترس بنفسه, وقال عنه صلى الله عليه وسلم: من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى طلحة. وقد تلقى وهو يقاتل المشركين ضربة قاسية على رأسه من أحد المشركين, فنزف منه وأغمي عليه فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: عليك بابن عمك فجاءه وراح ينضح الماء على وجهه, ولما أفاق سأل ما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ أجابه أبو بكر: خيرا, هو أرسلني فرد طلحة الحمد لله كل مصيبة بعده جلل.(/9)
وجرح تسعا وثلاثين جرحا وقطعت أصابعه, وعن قيس بن أبي حازم قال: رأيت يد طلحة الشلاء, وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد. وكان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد يقول: ذلك اليوم كله لطلحة.
#
قال حاطب بن أبي بلتعة لما رأيت ما فعل عتبة بن أبي وقاص برسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أين توجه عتبة فأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى حيث توجه فمضيت حتى ظفرت به فضربته بالسيف فطرحت رأسه فنزلت وأخذت فرسه وسيفه وجئت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: رضي الله عنك رضي الله عنك مرتين. وقد كان سعد يتمنى أن يلقى أخاه فيقتله لكن حاطبا ظفر به قبله.
#
واستأذن حنظلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل أبيه - أبي عامر الفاسق- فنهاه عن قتله, وخلال المعركة التقى حنظلة وأبو سفيان, فلما استعلاه حنظلة, رآه شداد بن الأسود فضرب حنظلة فقتله, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن صاحبكم لتغسله الملائكة في صحاف الفضة بماء المزن بين السماء والأرض) فسألوا أهله بعد المعركة ما شأنه ؟ فقالت زوجه جميلة بنت أبي بن سلول أخت عبد الله بن أبي بن سلول - وكان ابتنى بها تلك الليلة- فرأت في النوم تلك الليلة كأن بابا في السماء فتح له فدخله, ثم أغلق دونه, فعلمت أنه ميت من غده, فدعت رجالا من قومها حين أصبحت فأشهدتهم على الدخول بها خشية أن يكون في ذلك نزاع, وقالت زوجه: خرج وهو جنب سمع منادي الجهاد, فعجل عن الغسل إجابة للداعي, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لذلك غسلته الملائكة), والتمس في القتلى, فوجدوه يقطر رأسه ماء, وليس بقربه ماء تصديقا لما قاله صلى الله عليه وسلم.
#
وذكر سعد بن أبي وقاص أنه هو وعبد الله بن جحش دعيا بدعوة فاستجيب لهما, فدعا سعد أن يلقى فارسا من المشركين شديدا بأسه, شديدا حرده, فيقتله ويأخذ سلبه فقال عبد الله: آمين.
ثم استقبل عبد الله القبلة ورفع يديه إلى السماء وقال: اللهم لقني اليوم فارسا شديدا بأسه, شديدا حرده, يقتلني ويجدع أنفي وأذني فإذا لقيتك غدا تقول لي: يا عبدي فيم جُدع أنفك وأذناك؟ فأقول فيك يا رب وفي رسولك فتقول لي: صدقت, قل يا سعد آمين, قال سعد: فقلت آمين, ثم مررت به آخر النهار قتيلا مجدوع الأنف والأذنين, ولقيت أنا فارسا من المشركين فقتلته, وأخذت سلبه. وسمي عبد الله المجدّع في الله.
#
ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد, رفع اليمان بن جابر وثابت بن وقش في الآطام مع النساء والصبيان, فقال أحدهما لصاحبه, وهما شيخان كبيران: ما أبالك, ما تنتظر؟ فوالله ما بقي لواحد منا من عمره إلا ظمء حمار, إنما نحن هامة اليوم أو غدا, أفلا نأخذ أسيافنا, ثم نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم لعل الله يرزقنا شهادة مع رسول الله ؟ فأخذا أسيافهما ثم خرجا, حتى دخلا في الناس ولم يعلم بهما. فأما ثابت فقتله المشركون, وأما اليمان فاختلفت عليه أسياف المسلمين, فقتلوه وهم لا يعرفونه: فقال حذيفة: أبي, فقالوا: والله إن عرفناه, فقال حذيفة: يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين, فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يديه, فتصدق حذيفة بديته على المسلمين, فزاده ذلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا.
#
وقال خيثمة – وكان ابنه قد استشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم – يوم بدر : لقد أخطأتني وقعة بدر, وكنت والله عليها حريصا, حتى ساهمت ابني في الخروج, فخرج سهمه فرزق الشهادة, وقد رأيت البارحة ابني في النوم في أحسن صورة يسرح في ثمار الجنة وأنهارها يقول: الحق بنا ترافقنا في الجنة, فقد وجدت ما وعدني ربي حقا. وقد والله يا رسول الله أصبحت مشتاقا إلى مرافقته في الجنة, وقد كبرت سني ورق عظمي وأحببت لقاء ربي, فادع الله يا رسول الله أن يرزقني الشهادة, ومرافقة سعد في الجنة. فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقتل بأحد شهيدا.
#
وكان ممن قتل يوم أحد مخيريق, قال لما كان يوم أحد: يا معشر يهود, والله لقد علمتم إن نصر محمد عليكم لحق, قالوا: إن اليوم يوم سبت, قال: لا سبت لكم, فأخذ سيفه وعدته وقال: إن أصبت فمالي لمحمد يصنع فيه ما شاء, ثم غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقاتل معه حتى قتل, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مخيريق خير يهود. وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أموال مخيريق - وكانت سبع حوائط - أوقافا بالمدينة لله, فكانت أول وقف في الإسلام.
#(/10)
وكان الأصيرم رجل يأبى الإسلام على قومه, فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد, شرح الله صدره للإسلام فأسلم, ثم أخذ سيفه ورمحه ولأمته فغدا حتى دخل في عرض الناس, فقاتل حتى أثبتته الجراحة, فبينما رجال من بني عبد الأشهل يلتمسون قتلاهم في المعركة إذ هم به, فقالوا: والله إن هذا للأصيرم, ما جاء به؟ لقد تركناه وإنه لمنكر لهذا الحديث, فسألوه: ما جاء بك يا أبا عمرو؟ أحدب على قومك؟ أم رغبة في الإسلام؟ قال: بل رغبة في الإسلام, آمنت بالله ورسوله, وأسلمت, ثم أخذت سيفي فغدوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم قاتلت حتى أصابني ما أصابني, ثم لم يلبث أن مات في أيديهم, فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: إنه لمن أهل الجنة. ولم يكن قد صلى قط.
#
وكان قزمان رجلا ذا بأس وقوة, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر يقول: إنه لمن أهل النار. فلما كان يوم أحد قاتل قزمان قتالا شديدا, وكان يرمي النبال كأنها الرمال, ثم فعل بالسيف الأفاعيل, ولما أخبر صلى الله عليه وسلم بذلك قال: إنه من أهل النار, فأعظم الناس ذلك, وأثبتته الجراحة, فجعل رجال من المسلمين يقولون: والله لقد ابتليت اليوم يا قزمان فأبشر, فيقول: بماذا أبشر, فوالله ما قاتلت إلا على أحساب قومي, ولولا ذلك ما قاتلت. فلما اشتدت عليه الجراحة, أخذ سهما من كنانته فقتل به نفسه. وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر.
#
وكان عمرو بن الجموح رجلا أعرج شديد العرج, وكان له بنون أربعة مثل الأسد, يشهدون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد كلها, فلما كان يوم أحد أرادوا حبسه, وقالوا له: إن الله عز وجل قد عذرك, فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن بني يريدون أن يحبسوني عن الخروج معك, فوالله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة. فقال صلى الله عليه وسلم: أما أنت فقد عذرك الله, فلا جهاد عليك, وقال لبنيه: ما عليكم أن لا تمنعوه, لعل الله يرزقه الشهادة, فخرج معه وقد أخذ سلاحه وأقبل على القبلة وقال: اللهم ارزقني الشهادة ولا تردني خائبا على أهلي, وقال: يا رسول الله, أرأيت إن قاتلت في سبيل الله حتى أقتل, أمشي برجلي هذه صحيحة في الجنة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كأني أنظر إليك تمشي برجلك هذه صحيحة في الجنة. واستشهد رضي الله عنه.
#
وقبل خروج الجيش من المدينة طلب عبد الله بن أم مكتوم الأعمى من المسلمين أن يعطوه اللواء وقال: (أنا رجل أعمى، فسلموا لي اللواء، فإنه إذا انهزم حامل اللواء انهزم الجيش، وأنا ما أدري من يقصدني بسيفه فما أبرح) وهذا يدل على حرقته وحرصه على دينه واستشعاره لمسئوليته فهو يريد أن يطمئن إلى ثبات لواء المسلمين في المعركة وليضمن ذلك يريد أن يقوم بالمهمة بنفسه.
#
وفي الطريق إلى أحد استعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشه فوجد جمعا من الفتيان لم يتجاوزوا الرابعة عشرة من عمرهم خرجوا للجهاد معه فردهم منهم عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وأسامة بن زيد والبراء بن عازب وزيد بن أرقم وأسيد بن ظهير وأبو سعيد الخدري ورافع بن خديج وسمرة بن جندب, ثم أجاز رافعا لما قيل له إنه يجيد الرمي, وأصيب رافع في ذلك اليوم بسهم فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: أنا أشهد له يوم القيامة, وعندما أجازه قال سمرة لزوج أمه: أجاز رافعا وردني وأنا أصرعه, فتصارعا أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصرع سمرة رافعا فأجازه.
#
وخرجت أم عمارة نسيبة بنت كعب أول النهار وهي تنظر ما يصنع الناس, ومعها سقاء فيه ماء, فانتهت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهو في أصحابه والدولة والريح للمسلمين, فلما انهزم المسلمون, انحازت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقامت تباشر القتال, وتذب عنه بالسيف, وترمي عن القوس, حتى خلصت الجراح إليها, ورئي على عاتقها جرح أجوف له غور, فقيل من أصابك بهذا؟ قالت: ابن قمئة أقمأه الله, لما ولى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل يقول: دلوني على محمد, فلا نجوت إن نجا, فاعترضت له أنا ومصعب بن عمير, وأناس ممن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, فضربني هذه الضربة, ولكن فلقد ضربته على ذلك ضربات, ولكن عدو الله كان عليه درعان.(/11)
وكانت قد خرجت هي وزوجها زيد بن عاصم وابناها خبيب وعبد الله, ولما جرح أحد ابنيها, وراح الدم ينزف منه بغزارة, سعت أمه إليه وربطت جرحه بعصابة كانت قد أعدتها لمداواة الجرحى ثم قالت: انهض يا بني فضارب القوم, والرسول صلى الله عليه وسلم يناديها ومن يطيق ما تطيقين يا أم عمارة؟ وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رحمكم الله أهل البيت, بارك الله فيكم أهل البيت) فقالت له أم عمارة: ادع الله أن نرافقك في الجنة. فقال صلى الله عليه وسلم : (اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة) وعند ذلك قالت: ما أبالي ما أصابني من أمر الدنيا. وقال صلى الله عليه وسلم في حقها: ( ما التفت يمينا ولا شمالا يوم أحد إلا ورأيتها تقاتل دوني )
#
وشاركت أم المؤمنين عائشة وأم سليم يوم أحد, يقول أنس بن مالك (رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم (أم أنس) وإنهما لمشمرتان أرى خدم سوقهما تنقزان (تحملان) القرب على متونهما تفرغانه في أفواه القوم, ثم ترجعان فتملآنها ثم تجيئان.
#
ومر صلى الله عليه وسلم بامرأة من بني دينار, وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها - وفي رواية وابنها- مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد, فلما نعوا لها قالت: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا خيرا, هو بحمد الله كما تحبين, قالت: أرونيه حتى أنظر إليه, فلما رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل.
#
ولما انهزم المسلمون, انهزمت طائفة من المسلمين حتى دخلت المدينة فلقيتهم أم أيمن فجعلت تحثو التراب في وجوههم, وتقول لبعضهم هاك المغزل فاغزل به, وهلم سيفك أي اعطني سيفك.
#
وفرغ الناس لقتلاهم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رجل ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع؟ في الأحياء هو أو في الأموات؟ فقال رجل من الأنصار: أنا أنظر لك يا رسول الله ما فعل سعد. فنادى في القتلى: يا سعد بن الربيع مرة بعد مرة, فلم يجب أحد, قال يا سعد إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أنظر ما صنعت, فأجابه حينئذ بصوت ضعيف, فنظر فوجده جريحا في القتلى وبه رمق, فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أنظر في الأحياء أنت أم في الأموات؟ قال سعد: أنا في الأموات, فأبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عني السلام, وقل له: إن سعد بن الربيع يقول لك: جزاك الله عنا خير ما جزى نبيا عن أمته, وأبلغ قومك عني السلام, وقل لهم: إن سعد بن الربيع يقول لكم: إنه لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى نبيكم ومنكم عين تطرف, الله الله وما عاهدتم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة, فوالله ما لكم عند الله عذر. فقال صلى الله عليه وسلم : رحمه الله, نصح لله ولرسوله حيا وميتا.
هذه النماذج من البطولة والفداء هي التي أحبت الإسلام فدافعت عنه بدمائها وأرواحها حتى انتصر الإسلام ووصل إلينا كما وصل ولولا تلكم النماذج الربانية لما انتشر الإسلام ولما كنا مسلمين.
لقد أتقن المؤمنون صناعة الموت, ومن يتقن صناعة الموت توهب له الحياة, وما ابتلي المؤمنون بشيء مثل الابتلاء بحب الدنيا وكراهية الموت, لقد رأينا كيف شاركت الأمة كلها في الجهاد .. برجالها ونسائها .. وشيوخها وفتيانها .. وأصحائها ومعاقيها .. وحتى غير المسلمين ممن انضوى تحت راية الدولة الإسلامية, لقد كانت الأمة كلها مجاهدة, ولسنا بحاجة إلى التعليق على تلك النماذج البطولية الخالدة إلا بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم يوشك أن تتداعي عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها قالوا أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعنّ الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفنّ في قلوبكم الوهن. قالوا وما الوهن؟ - أي ما سببه فإن معنى الوهن معروف وهو الضعف- قال: حب الدنيا وكراهية الموت.
رابعا: التربية القرآنية
لم تكن الهزيمة في أحد سببها خطأ فني ميداني بانصراف الرماة عن مواقعهم فحسب ولكن كان السبب تربويا بالدرجة الأولى متعلقا بمخالفة أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم طمعا في عرض زائل من الدنيا وبانصراف المسلمين من المعركة وهي في أشدها, وبالوهن الذي أصابهم عندما أشيع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل, والمسلمون مطالبون بمجاهدة النفس البشرية وأطماعها وشهواتها, ومطالبون بتصحيح مفاهيمهم وتصوراتهم حول الكون والحياة, المسلمون مطالبون بالانتصار في معركة الضمير قبل الانتصار في معركة الميدان, والقرآن الكريم نزل ليعالج هذه المسائل التربوية, ويعلق على الأحداث وهي ساخنة.(/12)
فقد كانت آيات القرآن الكريم تتنزل مفرقة إثر كل حدث يمارسه المسلمون, وعقب كل تجربة يخوضونها, تتنزل لكي تمتزج مع حيوية التجربة المعاشة وواقعيتها وثقلها, حتى تغدو هذه الآيات جزءا من كيان المسلم متمثلا في لحمه ودمه وعصبه ووجدانه, إنه الارتباط الشرطي الذي أشار إليه علم النفس .. أن القيم والتعاليم إذا ارتبطت بحدث خطير له في النفس وقع كبير سرعان ما تستقر في أعماق النفوس والقلوب والعقول,(1)وقد أعطانا القرآن هنا نموذجا فذا للتربية بالأحداث والتربية بالتعقيب على الأحداث.
أنزل الله سبحانه وتعالى في غزوة أحد ستين آية في سورة آل عمران ابتداء من الآية 121, وقد سئل عبد الرحمن بن عوف عن قصة يوم أحد فقال: اقرأ العشرين ومائة من آل عمران تجدها: (وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال).
وهذه الآيات تحوي العديد من التوجيهات والدروس المهمة التي يجب أن يأخذ المسلمون منها العبرة, ويربوا أنفسهم وفقا لتعاليمها, وينظموا صفوفهم على أساسها, هذه الدروس التي تعلمها المسلمون في أحد كانوا بحاجة إلى أن يتعلموها وهم في بداية مسيرتهم الحضارية وهي أهم بكثير من الانتصار في معركة, وليبقى للأمة الرصيد الذي لا يقدر بثمن.
ونحن سنعلق على بعض الآيات الواردة في أحد مسترشدين بما كتبه الشهيد سيد قطب حول هذه الآيات(2).
وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم, إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المتوكلون ( آل عمران 121 ، 122 )
يبدأ القرآن الكريم بعرض القصة من أولها, ويذكر المسلمين بتوزيع الرسول صلى الله عليه وسلم لهم على الأماكن, وفي هذا إشارة إلى سبب الهزيمة, ويذكر بحركة الضعف والفشل التي راودت قلوب المسلمين وذلك أن ابن سلول لما انسحب بثلث الجيش, همت طائفتان بالفشل وهما بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس وذلك عن ضعف ووهن لا عن شك في دينهما, وقالوا بعد ذلك: ما نحب أنا لم نهم بما هممنا به لتولي الله إيانا في ذلك.
ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون (آل عمران 123)
ويذكرهم القرآن ببدر للمقارنة وتأمل الأسباب والنتائج, ومعرفة أسباب النصر والهزيمة, فلقد كانوا في بدر أقل عددا وأقل عدة وانتصروا رغم ذلك, والقرآن يعيدهم بذلك للحقيقة وهي أن النصر من عند الله وحده.
لقد أيد الله المسلمين ببدر بالملائكة, كما أيدهم في غزوة الخندق بريح عاتية وجهها سبحانه على الأحزاب حتى انسحبوا, أما في أحد فلم ينزل أي مدد من السماء وذلك لأن سنة الله تقتضي أن يبذل المسلم جهده, ويأخذ بالأسباب حسب طاقته, ولا يترك شيئا للصدفة, فإذا فعل ذلك نزل تأييد الله له, أما إذا لم يفعل فنصر الله لا يتنزل إلا بعد إعداد العدة حتى لو قتل المسلم نفسه عبادة وصلاة ودعاء ..
قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين, هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين, إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين,وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين(آل عمران:137-141)
لقد ظن المسلمون أنهم سينتصرون دائما لأنهم مسلمون وحسب, واستغربوا كيف تجري معهم الأمور على هذا النحو وهم المسلمون؟ وتساءلوا كيف نهزم ونحن حملة الإسلام؟ فيردهم القرآن إلى سنن الله في الأرض .. ويدعوهم إلى فهم هذه السنن والنواميس التي لا تتخلف, فهذه السنن هي التي تحكم الحياة .. فكما وقعت في السابق فستقع دائما.. وهي:
(1) النصر من عند الله (2) لا نصر لمن يعصي الله ورسوله (3) مداولة الأيام بين الناس (4) الابتلاء لتمحيص السرائر(5) امتحان قوة الصبر على الشدائد (6) هلاك الأمم الظالمة على مدار التاريخ (7) المؤمنون هم المنتصرون في النهاية (8) كل شيء بسبب.
ومن خلال استعراض السنن, تشجع الآيات على الاحتمال والمواساة في الشدة والتأسية على القرح .. الذي لم يصبهم وحدهم إنما أصاب أعداءهم كذلك, وهم الأعلى .. عقيدة وهدفا, والأهدى .. طريقة ومنهجا, والعاقبة في النهاية لهم.
والله يربي بالابتلاء بالشدة, بعد التربية بالابتلاء بالرخاء, لنتعلم أسباب النصر والهزيمة ولنزيد طاعة لله وتوكلا عليه, يقول ابن القيم رحمه الله: (إن النفوس تكتسب من العافية الدائمة والنصر والغنى طغيانا وركونا إلى العاجلة يعوقها عن جدها في سيرها إلى الله والآخرة وذلك مرض، فإذا أراد الله بها الرحمة والكرامة قيض لها من الابتلاء ما فيه دواء وشفاء لذلك المرض).
وعندما قابل أبو سفيان هرقل فيما بعد سأله هرقل عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل قاتلتموه؟ قال: نعم, قال: كيف الحرب بينكم؟ قال: سجال يدال علينا مرة وندال عليه أخرى, قال: كذلك الرسل تبتلى ثم تكون العاقبة لهم.(/13)
وهذا بيان للناس كافة فهو نقلة بشرية بعيدة .. تجعل العرب أهل البداوة ينظرون إلى التاريخ وعبره ويخططون للمستقبل وآفاقه .. ويربطون الماضي بالحاضر والحاضر بالمستقبل.
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين ( آل عمران : 144 )
حين أشيع في المسلمين أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد قتل, انكفأ المسلمون وانقلبوا صاعدين إلى الجبل أو عائدين إلى المدينة أو جالسين مذهولين, لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم بالنسبة لهم هو كل شيء فلما سرت الإشاعة أصيبوا بالذهول من هول هذا الأمر, إلا فئة قليلة ثبتت واختارت الموت على ما مات عليه الرسول صلى الله عليه وسلم.
والمسلمون الذين يحبون نبيهم حبا لم تعرف البشرية له نظيرا .. ويفدونه بحياتهم أن تشوكه شوكة- وقد رأينا كيف دافع المسلمون عن نبيهم- ومازال المسلمون في كل مكان وزمان يحبون نبيهم بكل مشاعرهم وكيانهم, مطلوب منهم أن يفرقوا بين شخص محمد صلى الله عليه وسلم والعقيدة التي يبلغها للناس.
إن البشر إلى فناء والعقيدة إلى بقاء ومنهج الله مستقل عن الذين يحملونه من الرسل والدعاة .. والدعاة يجيئون ويذهبون وتبقى الدعوة على مر الأجيال والقرون.
ولقد أصيب المسلمون بمرض التجسيد (أو التشخيص) في أطوار كثيرة من تاريخهم, وليس المرض خاصا بالمسلمين, فكل أمة معرضة لأن يتوقف نموها الفكري عند مرحلة معينة, فالإنسان يتطور وينمو فكريا وفق مراحل ثلاث – كما يقول مالك بن نبي رحمه الله – مرحلة الأشياء (الارتباط بالحاجات المادية) ثم مرحلة الأشخاص (الأبوين وعالم الأشخاص المألوف لديه), ثم مرحلة الأفكار (حين يرتبط بالمبادئ والقوانين).
وهذا المرض خطير على فكر الأمة ونموها .. إذ إنه يكبل الفكر بالأغلال فلا يتقدم, والأعظم من ذلك أنه يعطي الفرصة للخصم للقضاء على العقائد والأفكار عن طريق تصفية (الأب الروحي) أو إلصاق التهم به أو فضح نقائضه .. فتتحطم الأمة(3).
والله سبحانه وتعالى هنا يعد المسلمين نفسيا وفكريا للنظر إلى ما بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقد كان لوجوده معهم في هذه المعركة وصموده أثر كبير في حماية الجيش من الإبادة, ولولا وجوده لانهار الجيش تماما, فهذا النبي القائد المعلم الذي لا مثيل له ليس بمخلد معكم وسيغادركم يوما .. فماذا ستفعلون من غيره؟
يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين, بل الله مولاكم وهو خير الناصرين ( آل عمران : 150 )
انتهز الكفار والمنافقون واليهود الفرصة وأخذوا يشيعون الإحباط والتشاؤم والفرقة في صفوف المؤمنين وقالوا لو كان نبيا لنصره الله, وجو الهزيمة هو الجو المناسب للدس والتشكيك والهمز واللمز, فيحذر الله من طاعة هؤلاء, ويحذر من الهزيمة الروحية بالركون إلى أهل الكفر والاستماع إلى وساوسهم, وهذا الأمر سيؤدي في النهاية إلى الكفر بعد الإيمان والضلال بعد الهدى, والمؤمن يجد في عقيدته وفي قيادته غناء عن مشورة أعداء دينه, والله وحده هو الجهة التي يطلب المؤمنون منها النصرة والولاية, ومن كان الله مولاه فلا حاجة له بأحد.
سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين ( آل عمران : 151 )
والوعد من الله الجليل القادر بإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا كفيل وحده بنهاية المعركة, وهو وعد قائم في كل معركة يلتقي فيها الكفر بالإيمان ولكن المهم أن توجد حقيقة الإيمان في قلوب المؤمنين.
وكم من مرة وقف فيها الباطل مدججا بالسلاح أمام الحق الأعزل, ومع ذلك كان الباطل يحتشد احتشاد المرعوب ويرتجف من كل حركة وصوت, فأما إذا أقدم الحق وهاجم فهو الذعر والفزع والشتات والاضطراب.
ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين ( آل عمران : 152 )
تذكير من الله سبحانه وتعالى بالنصر الذي تحقق في بداية المعركة, ثم تقرير لحال الرماة عندما ضعف فريق منهم أمام إغراء الغنيمة ووقع التنازع بينهم وبين من يريدون الطاعة المطلقة للرسول صلى الله عليه وسلم .. فريق يريد الدنيا وفريق يريد الآخرة .. ولا انتصار في معركة الميدان دون الانتصار في معركة الضمير, إنها معركة الله ولا ينصر الله فيها إلا من خلصت نفوسهم له, وهذا درس تعلمه المسلمون بعد أن ذاقوا حلاوة النصر, وذاقوا مرارة عصيان الرسول صلى الله عليه وسلم ليصبحوا بعد ذلك أشد حذرا ويقظة من أسباب الشيطان.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ما كنت أرى أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى نزل فينا يوم أحد :(منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة).(/14)
وعفا عنكم لأنكم تخطئون وتضعفون لكن في دائرة الإيمان بالله والاستسلام له.
وقد أخذ القرآن هنا في اعتباره - وهو يربي المسلمين- أن الهزيمة وحدها كافية لتكون درسا لهم, فترفق بهم وقال )منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة) أما في بدر فقال (تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم, ولولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) (الأنفال : 67 ، 68) فحساب المنتصر يختلف عن حساب المنكسر (4) وهذه لفتة تربوية مهمة.
إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون (آل عمران : 153)
ويصعد المسلمون إلى الجبل هربا في اضطراب .. لا يلتفت أحد منهم إلى أحد, والرسول صلى الله عليه وسلم يدعوهم إليه فلا يجيبون, وهنا يعمق القرآن وقع الحادثة في نفوسهم ويثير الخجل والحياء من الفعل وأسبابه, فأثابهم غما على الغم الذي تركوه في نفس الرسول صلى الله عليه وسلم.
يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير (آل عمران 156)
إن صاحب العقيدة مدرك للسنن ولقدر الله الذي يصيبه, وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه, ومجال التدبير والتقدير والرأي والمشورة هو قبل الإقدام والحركة, أما إذا تحرك – بعد التدبير- فهو راض بما يقع من نتائج ولا يتحسر على أنه لم يفعل كذا ليتقي كذا .. أما الفارغ من العقيدة فهو أبدا في قلق بين لو ولولا ويا ليت وواأسفاه !
وليس براجع ما فات مني ... ...
بـ (لهف) ولا بـ (ليت)ولا(لو اني)
فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين (آل عمران 156)
تحمس القوم للخروج ثم اضطربت صفوفهم, فرجع ثلث الجيش قبل المعركة, وخالفوا بعد ذلك أمره, وضعفوا أمام الغنيمة, ووهنوا أمام إشاعة مقتله, وانقلبوا على أعقابهم مهزومين, وأفردوه في النفر القليل, وتركوه يثخن بالجراح وهو صامد يدعوهم في أخراهم وهم لا يلوون على أحد, فيتوجه الله إليه صلى الله عليه وسلم يطيب قلبه ويذكره ويذكرهم بالنعمة التي هم فيها المتمثلة في خلقه الكريم, ويستجيش كوامن الرحمة في قلبه لتغلب على ما أثاره تصرفهم فيه, ثم يدعوه أن يعفوا عنهم ويستغفر لهم وأن يشاورهم في الأمر كما كان يشاورهم قبل المعركة, رغم ما أحدثته الشورى من انقسام في الصفوف في أحرج الظروف.
إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون(آل عمران 160)
على المسلم أن ينهض بالتكاليف ويبذل الجهد, ويتوكل بعد هذا كله على الله ولا يلتمس شيئا من عند غير الله فلا قوة إلا قوة الله ولا قدرة إلا قدرته, وليس للمسلم إلا أن يتوكل على الله وحده.
أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير (آل عمران 165)
لقد كتب الله على نفسه نصر أوليائه وأصحاب عقيدته وهذا بشرط كمال الإيمان في قلوبهم وسلوكهم وسنة الله لا تحابي أحدا.
وقد تساءل المسلمون كيف يغلبون وهم يجاهدون في سبيل الله, وأعداؤهم هم المشركون أعداء الله, فيذكرهم الله أنكم قد انتصرتم في بدر وأصبتم مثلي ما أصابوا منكم الآن, وذلك حينما كنتم مستقيمين على أمر الله ورسوله آخذين بأسباب النصر, صابرين صامدين, ولكن أنفسكم هي التي ضعفت واستكانت لأمر الدنيا وركنت إلى أن النصر قادم دون تعب, فراجعوا أنفسكم وصححوا مسيرتكم.
وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين, وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون (آل عمران 167)
عندما انسحب ابن سلول بثلث الجيش لحقهم عبد الله بن حرام وهو يقول تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا فاحتجوا بأن القتال لن يقع, والله يفضح هنا المنافقين ويعريهم على حقيقتهم, وقد كان من نتيجة المعركة التمييز لأول مرة بين المؤمنين الصادقين والمنافقين الذين دخلوا في الإسلام ظاهرا بعد انتصار المسلمين ببدر.(/15)
وكانت عادة عبد الله بن أبي بن سلول إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة على المنبر قام فقال: أيها الناس هذا رسول الله بين أظهركم أكرمكم الله تعالى به وأعزكم, فانصروه وعزروه واسمعوا له وأطيعوا, ثم يجلس فبعد أحد أراد أن يفعل كذلك, فلما قام أخذ المسلمون بثوبه من نواحيه وقالوا له: اجلس عدو الله, والله لست لذلك بأهل وقد صنعت ما صنعت, فخرج وهو يتخطى رقاب الناس, وهو يقول: كأني إنما قلت بجرا (سوءا), وقال له بعض الأنصار: ارجع يستغفر لك رسول الله, فقال: والله ما أبتغي أن يستغفر لي.
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون, يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين (آل عمران 169 – 171)
إن هؤلاء الذين قتلوا في سبيل الله وبعدوا عن أعينكم ليسوا بأموات بل أحياء لهم كل خصائص الأحياء, فهم يرزقون, وهم فرحون بما حصلوا عليه, مشغولون بما وراءهم من إخوانهم, مستبشرون لهم لما علموه من أجر وفضل .. فهم لم ينفصلوا عن إخوانهم, فما الذي بقي من خصائص الحياة غير متحقق, فلا تتحسروا على فراقهم, بل افرحوا لما أصابهم, وهذا تصحيح وتعديل كامل لمفهوم الموت والحياة لتسير عليه خطى المجاهدين إلى يوم القيامة.
وقد وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على شهداء أحد وقال: أنا شهيد على هؤلاء, إنه ما من جريح يجرح في الله إلا ويبعثه الله يوم القيامة, يدمى جرحه, اللون لون دم, والريح ريح مسك.
الذين استجابوا لله من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم, الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل, فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم (آل عمران 173- 174)
لم يشأ الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون آخر شعور للمسلمين هو الشعور بالهزيمة, فاستنهضهم لمتابعة قريش ليشعرهم بأنهم مازالوا أقوياء وأن خسارة معركة ليست نهاية المطاف وليستخرج الطاقات المكنونة عند هؤلاء المجهدين, فتحركوا ونفضوا عنهم الضعف والفشل, وأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يشعر المسلمين وأن يشعر الدنيا كلها أن هناك حقيقة جديدة وجدت على الأرض وهي أن هناك عقيدة هي كل شيء في نفوس أصحابها, وهي أكبر من الآلام والجراح, وأن المسلمين المتوكلين على الله لا يرهبهم أن يحشد الكفر حشوده ما دام الله معهم, بل إن ذلك يزيدهم إيمانا وتصديقا.
خامسا: هل تهزم الأمة المؤمنة؟
عندما أراد أبو سفيان الانصراف بعد الانتهاء من غزوة أحد وقف منتشيا مفتخرا, مزهوا بنصره، وأخذ يسأل: هل فيكم محمد؟ هل فيكم أبو بكر؟ هل فيكم عمر؟ إدراكا منه أن هؤلاء الثلاثة هم الرموز الأساسية للأمة, فسكتوا عنه حتى أجاب عمر بأنهم لا زالوا أحياء, فقال بأعلى صوته للفرقة المؤمنة ليكسر من عزيمتهم:
أنعمت فعال، الحرب سجال، يوم بيوم بدر, يوم نساء ويوم نسر.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا تجيبونه؟
قالوا: يا رسول الله ما نقول؟
قال: قولوا: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار.
والرسول صلى الله عليه وسلم يريد بذلك أن يشحذ من عزيمة المسلمين ويقوي إرادتهم..
وهنا أراد أبو سفيان أن يحول الانتصار العسكري المادي إلى انتصار عقدي حضاري..
فهتف : اعل هبل, اعل هبل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا تجيبونه؟
قالوا: يا رسول الله ما نقول؟
قال صلى الله عليه وسلم: قولوا: الله أعلى وأجل.
فقال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تجيبونه؟ قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم.
وتحدى أبو سفيان المسلمين وقال: موعدنا العام القادم.
فقالوا: هو بيننا وبينك موعد.
حدث هذا الحوار في وقت كان يفترض أن يكون فيه المسلمون في انكسار وهوان وذلة, لكن خسارة تلك الجولة في سلسلة الصراع بين الحق والباطل لا يمكن أن تنال من عزتهم ومن شموخهم بدينهم، ومن ثباتهم على مبادئهم بل وفي وقوفهم وردهم على عدوهم ردا يوضح موقفهم وفكرهم..
فعجبا لهذا الضعيف المهزوم كيف يقف مستعليا بإيمانه, مفتخرا بمنهجه, منتصرا بفكره !
لقد حاز المشركون من النصر على صورته لا حقيقته, لأن النصر الحقيقي هو الانتصار على نفس المهزوم وعقله وقلبه, كما أن الهزيمة الحقيقية هي أن لا يقوم المهزوم بواجبه في حال الهزيمة وأن يستسلم لمصيره, ويضعف أمام خصمه, ويستعظم شأنه, ويرضى بالهوان, فيسيطر الخصم على قلبه وفكره, ويقوده بكل سهولة, وهذا أخطر ما في الهزيمة.(/16)
لقد تعلم المسلمون الدرس ومضوا في طريقهم نحو غايتهم بعد أن صقلتهم تجربة أحد وقومت مسيرهم وصححت مفاهيمهم وزكت نفوسهم فقاموا يبلغون دينهم وهم أصلب عودا وأشد قوة .. فإن الضربة التي لا تقصم ظهرك تقويك, وقد بث رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجاله روح التفاؤل والثقة والبشر فقال لهم: (لن ينالوا مثلها بعد اليوم حتى يفتح الله علينا).
وتعرض المسلمون بعد أحد لمأساة ثانية في ذات الرجيع وفقدوا غدرا ستة من خيار الصحابة الدعاة المعلمين الذين أرسلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن تظاهر الغادرون أنهم يريدون منه أن يرسل معهم من يعلم قومهم الإسلام, وفي نفس الشهر الذي حدثت فيه تلك المأساة جاءهم من يطلب ذات الطلب ولنفس السبب فلم يحجم المسلمون ولم تمنعهم قساوة التجربة ومرارتها من تكرار المحاولة والتفكير بإيجابية نحو العمل البناء, فالمقام مقام التضحية والفداء لا مقام الحيطة والحذر, فأرسلوا أربعين صحابيا هذه المرة بعد أن اتخذوا احتياطهم ودخلوا في جوار رجل له هيبة بين العرب, ولكن حدثت مأساة أخرى أكبر إذ فقدوا في هذه المرة الصحابة الأربعين غدرا أيضا في بئر معونة. وبعد ذلك تعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم لمحاولة اغتيال من قبل يهود بني النضير.
ولم تمنع هذه المآسي المسلمين من تبليغ رسالة ربهم ونشر دعوتهم وتحطيم العوائق التي تعترضهم رغم أنهم كانوا وحدهم في الميدان يواجهون الدنيا كلها وقد تجرأ عليهم الأعراب والمنافقون واليهود والنصارى, فوجه المسلمون ضربة قاصمة لبني النضير، وأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم السرايا لتردع المتربصين وتؤدب الغادرين, ووصلت يد المسلمين الطويلة إلى شمال الجزيرة في دومة الجندل لتوجه ضربتها, فاستعادوا هيبتهم وانتقلوا من الهزيمة إلى النصر.
وفقه المسلمون الآيات الكريمات التي نزلت في أحد جيدا حتى امتزجت بدمائهم فنفذوا تعليماتها بحذافيرها وتلافوا جميع أخطائهم السابقة كما ظهر أثر ذلك في غزوة الخندق.
ونحن المسلمين علينا أن ندرس أسباب الهزيمة في أحد جيدا..
نقارن بينها وبين ما نعايشه الآن ..
وننظر كيف هزم المسلمون ؟
وهل أسباب الهزيمة هي نفسها دائما ؟
وكيف تجاوز المسلمون المحنة ؟
وما الذي فعله المسلمون كي ينتقلوا من الهزيمة إلى النصر؟
ولنتعلم من أحد:
# 1)أن القرارات المصيرية يجب أن تكون بيد الأمة .. هي التي تملكها وهي التي تتحمل نتيجتها .. ويقتضي ذلك أن يسود جو من حرية الرأي وتبادل الأفكار والنقد البناء للوصول إلى القرارات الرشيدة .. ويستدعي ذلك
قيام الدولة على أساس شوري في كل نواحي الحياة.
#
قيام مؤسسات للأبحاث والدراسات تبحث عن الحقائق وتبينها لمتخذي القرار.
#
الاستماع إلى أهل العلم والخبرة مهما كانت اتجاهاتهم.
2)اليقظة لمخططات أعداء الأمة وما يكيدون لنا, ولإن كان هذا الأمر صعبا في السابق .. فإنه لم يعد كذلك إذ إن الأعداء لا يتورعون عن نشر أهدافهم ووسائلهم والإعلان عنها .. وما علينا هو قراءة ما يكتبون والاستماع لما يقولون.
3)العمل على أن تمتلك الأمة أسباب القوة المادية الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية .. لتكون رادعا يمنع الكائدين والحاقدين من تحقيق شرورهم.
4)الاستعانة بالكفار ووجودهم بعتادهم وقواعدهم في بلادنا .. هو أمر محرم وعار في جبين أمة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة وأن هؤلاء القوم حاقدون لا يؤمن غدرهم.
5)أن تسود الربانية وينتشر التدين في الأمة بنفس الروح التي سادت في زمن الصحابة صلة قوية بالله, وتضحية من أجل الإسلام, وإحياء لنفسية الجهاد, وحشدا لطاقات الأمة, وأن تعتبرالدنيا وسيلة إلى الآخرة لا غاية بحد ذاتها.
6)أن نبث روح الثقة في النفس والتفاؤل في المستقبل .. فتلك النكسات التي تتعرض لها الأمة يجب أن لا تفت في عضدها وهي ليست نهاية المطاف فالعاقبة للمتقين.
7)لا ننتظر نصرا ولا تمكينا إلا لمن استقام على أمر الله .. فإن الله سبحانه لا يولي عهده الظالمين ولا يهدي كيد الخائنين ولا يصلح عمل المفسدين .. ولا نضفي شرعية على أي نظام لا يحتكم إلى الإسلام عقيدة وشريعة ومنهج حياة.
8)لا يغير الله سننه في الكون من أجل المسلمين .. بل على المسلمين أن يفقهوا تلك السنن جيدا .. ويغيروا ما بأنفسهم وفقا لها حتى يحوزوا على نصر الله.
9)لا تنازل عن المبادئ ولا عن الدور الحضاري للأمة وأن نتمثل تلك الشعارات التي رفعها المسلمون بعد المعركة .. الله أعلى وأجل .. الله مولانا ولا مولى لهم .. قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار.
10)الدعاء .. وقد وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أحد وقال لأصحابه: استووا حتى اثني على ربي عز وجل, ثم دعا بدعاء جمع المعاني السابقة كلها فقال:(/17)
اللهم لك الحمد كله, اللهم لا قابض لما بسطت ولا باسط لما قبضت, ولا هادي لمن أضللت ولا مضل لمن هديت, ولا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت, ولا مقرب لما باعدت ولما مبعد لما قربت اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك.
اللهم إني أسلك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول, اللهم إني أسألك النعيم يوم العَيَلة والأمن يوم الخوف.
اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعتنا.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في نفوسنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين والحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين.
اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك واجعل عليهم رجزك وعذابك.
اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب .. إله الحق.
ولندع أخيرا بدعاء العز بن عبد السلام:
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد .. يعز فيه أهل طاعتك .. ويذل فيه أهل معصيتك .. ويحكم فيه بشريعتك.
المراجع:
1.أصول الإدارة /د.جميل أبو العينين
2.الجامع لأحكام القرآن /محمد بن أحمد القرطبي
3.الحرب /العقيد محمد صفا
4.دراسة تحليلية لشخصية محمد صلى الله عليه وسلم/ د. محمد رواس قلعه جي
5.دراسة في السيرة /د. عماد الدين خليل
6.الرحيق المختوم/ صفي الرحمن المباركفوري
7.الرسول العربي وفن الحرب/العماد مصطفى طلاس
8.الرسول القائد/ اللواء محمود شيت خطاب
9.زاد المعاد /ابن القيم
10.السنن الإلهية /د. عبد الكريم زيدان
11.السيرة الحلبية/ علي بن برهان الدين الحلبي
12.السيرة النبوية/ ابن هشام
13.العبقرية العسكرية لغزوات الرسول صلى الله عليه وسلم /اللواء محمد فرج
14.غزوة أحد/ د. شوقي أبو خليل
15.فقه السيرة / الشيخ محمد الغزالي
16.في ظلال القرآن /سيد قطب
17.هدي السيرة النبوية في التغيير الاجتماعي/حنان اللحام
(1) عماد الدين خليل, دراسة في السيرة ص 167
(2) ينصح بقراءة ما كتبه سيد قطب في الظلال حول هذه الآيات ففيها فائدة عظيمة.
(3) حنان اللحام, هدي السيرة النبوية في التغيير الاجتماعي ص 249
(4) الغزالي, فقه السيرة 265(/18)
دروس وعبر في تحويل القبلة
محمد مسعد ياقوت- باحث تربوي
بلطيم كفر الشيخ
M_yakout2003@yahoo.com
http://www.ebdaaty.com/yakout
في شهر شعبان ـ من كل عام ـ نتذكر ذلك الحدث المجيد الذي محص الله فيه الجيل الأول من أتباع الإسلام ، في العام الثاني من الهجرة .. وفي هذا الحدث من الدروس والعبر الكثير والكثير .. والأمة الإسلامية في هذا العصر ؛ في أشد الحاجة إلى تتنسم رحيق هذا الحدث الكبير ، ولتأخذ منه فاصلاً من الدروس والعبر والحلول؛ ما يعالج مشكلاتها وما يدواي جراحها..
الدرس الأول : في التربص اليهودي بالإسلام :
لقد شكك اليهود في صدق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والدولة الإسلامية في طور الإنشاء والتأسيس ـ فقالوا :".. (مَا وَلاّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا) [البقرة - 142] ، لقد اشتاق الرجل إلى مولده ! ما لهؤلاء تارة يستقبلون كذا وتارة يستقبلون كذا ، ما صرفهم عن قبلتهم التى كانوا عليها .. إن كانت القبلة الأولى حقا فقد تركها ،وإن كانت الثانية هي الحق فقد كان على باطل .." وهنا ندرك أصالة العدوان اليهود للإسلام والمسلمين .. فقد شنوا حرباً إعلامية ضارية في أعقاب حدث تحويل القبلة . ولقد فُتن ضعاف الإيمان كما فُتن إخوانهم في حادث الإسراء والمعراج .. وإن المتأمل لآيات تحويل القبلة؛ وهي ترد شبهات اليهود؛ يتبين له مدى ضراوة الحرب الإعلامية والفكرية التي شنها اليهود ..
قال تعالى: (سَيَقُولُ السّفَهَآءُ مِنَ النّاسِ مَا وَلاّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل للّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ) [سورة: البقرة - الأية: 142] .. حتى إنهم شككوا في صلاة المسلمين القديمة نحو بيت المقدس ، ومن ثم أعلنوا أن المسلمين الذين ماتوا قبل تحويل القبلة دخلوا النار؛ لأنهم صلوا إلى القبلة الفاسدة ! فيرد الله قائلاً : ( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنّ اللّهَ بِالنّاسِ لَرَءُوفٌ رّحِيمٌ) [: البقرة -143] .
وهكذا خاب وخسر من جرى يلهث في عصرنا خلف اليهود . وخاب وخسر من تمسح باليهود في تطبيع ، أو ظن أن الحدائة تتصدق بكتاكيت !
الدرس الثاني : في وسطية الأمة :
لقد أصل ورسخ هذا الحدث مبدأ وسطية هذه الأمة ، فقد جمعت بين قبلتين عظيمتين ، قبلة إبراهيم وأتباعه ، وقبله موسى وإخوانه .. فأمة الإسلام وسط في الشكل وفي المضمون، لا سيما في الشعائر ، ومن ثم قال الله معللاً ذلك الحدث : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطاً) [سورة: البقرة - الأية: 143].
نعم ، أمة وسطاً : مجانبة للغلو والتقصير ، لم تغل غلو النصارى في أنبيائهم ولا قصروا تقصير اليهود في أنبيائهم ، وقد رُي عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ :" خير الأمور أوسطها"، وقال علي ـ رضي الله عنه ـ : "عليكم بالنمط الأوسط فإليه ينزل العالي، وإليه يرتفع النازل" .. ووسطية الأمة الإسلامية وسطية شاملة .. فهي و سط في الاعتقاد والتصور، وسط في العلاقات والارتباطات ، وسط في أنظمتها ونظمها وتشريعاتها ..
وحري بالمسلمين أن يعودا إلى وسطيتهم التي شرفهم الله بها من أول يوم ..
حري بمن استوردوا التشريعات والقوانين الوضعية العفنة أن يعودوا إلى وسطية الإسلام . وحري بمن كفّروا المسلمين وفسّقوا المصلحين أن ينهلوا من وسطية الإسلام .
الدرس الثالث : في أستاذية الأمة الإسلامية :
قال تعالى: (لّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النّاسِ) [البقرة - 143]
قال سيد قطب ـ رحمه الله : " إنها الأمة الوسط التي تشهد على الناس جميعا , فتقيم بينهم العدل والقسط ; وتضع لهم الموازين والقيم ; وتبدي فيهم رأيها فيكون هو الرأي المعتمد ; وتزن قيمهم وتصوراتهم وتقاليدهم وشعاراتهم فتفصل في أمرها , وتقول:هذا حق منها وهذا باطل"
إن أمة الإسلام ما بعثها الله إلا لتقود ولتسوس البشرية إلى الحق .. ولذا استخلفها الله ومنحها الخيرية: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ) . وكانت هذه المنحة الربانية مقابل تأدية الأمة لوظيفتها ومزاولتها لمهنتها .. ووظيفتها ومهنتها هي سياسة الحضارات وقيادة الأمم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله : ( تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ) [: آل عمران - 110] .
وواضح جلي من بنود هذا العقد ومن شروط تلك المنحة ؛ أن الأمة إذا تخلت عن وظيفتها سلبها الله منحة الخيرية .. وأصيبت بالضعف والخور وتوالت عليها الهزائم ، وأكلها الشرق والغرب .. فأحرى بنا أن نسترد أستاذيتنا المسلوبة ومكانتنا الغائبة . وأحرى بالعامل في المصنع يشارك في استرداد أستاذية الإمة، وأحرى بالتاجر والموظف والكاتب والواعظ أن يتحدوا في إعادة مجد الإسلام .
الدرس الرابع : في حتمية الابتلاء :(/1)
(وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاّ لِنَعْلَمَ مَن يَتّبِعُ الرّسُولَ مِمّن يَنقَلِبُ عَلَىَ عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاّ عَلَى الّذِينَ هَدَى اللّهُ ) [البقرة - 143] . إذ المؤمن ـ لاسيما وهو يمارس وظيفته في الدعوة إلى الله ـ لابد أن يبتلى ، ولابد أن يُمتحن (أَحَسِبَ النّاسُ أَن يُتْرَكُوَاْ أَن يَقُولُوَاْ آمَنّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ) [العنكبوت - 2] .. ولقد ابتلي المسلمون الأوائل بهذا الحدث أيما ابتلاء . فثبتوا ـ رضي الله عنهم ـ ما ضرتهم حرب اليهود الإعلامية .. ليضرب الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ القدوة والأسوة في مواجهة الابتلاء ، ولقد علمونا ـ رضي الله عنهم ـ الصبر على ألوان ومجالات الابتلاء ، بديةً بابتلاء السجن والحصار والتعذيب في رمضاء مكة ، وحتى الصبر على الترسانة الإعلامية اليهودية ..
ولعل دعاة اليوم أن يتأملوا بعين طالب العلم إلى تراث الصحابة ، ولنستلهم من صبر الصحابة الزاد على طريق الدعوة إلى الله ؛ لاسيما في ظل نار حكام الجور وجحيم أعداء الإسلام .
الدرس الخامس : في سرعة الاستجابة :
كم كان هؤلاء الصحابة ـ رضي الله عنه ـ في قمة التشريف لهذه الدعوة ؛ عندما جاءهم خبر تحويل القبلة ..انظر في صحيح البخاري عن البراء : " أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا ـ أو سبعة عشر شهرا ـ ، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وإنه صلى أول صلاة صلاها العصر، وصلى معه قوم فخرج رجل ممن كان صلى مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فمر على أهل المسجد وهم راكعون ، فقال أشهد بالله، لقد صليت مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل مكة ، فداروا كما هم قبل البيت" لقد تحولوا وهو في هيئة الركوع من قبلة بيت المقدس إلى اتجاه البيت الحرام .. لقد علمونا ـ رضي الله عنهم ـ كيف نستقبل أوامر وتعاليم الإسلام ..
بهذه الثقة في النهج وبهذه الثقة في القائد قادوا وسادوا وساسوا الدنيا ..
يا قوم فما بالنا نحينا أوامر الإسلام وتعاليم القرآن، وشككنا في أحكام الشريعة .. وتنسمنا فساء الغرب ، ونقبنا في مزابل العولمة .. !
إلى متى هذه الجفوة والفجوة بين المسلمين ومنهجهم ؟ وإلى متى نستجيب إلى كل أشباه الحلول ، ونرفض الحل الإسلامي ؟ وإلى متى نستجيب إلى كل فكر إلى الفكر الإسلامي ؟
فالنتحول كما تحول الصحابة في حادث تحويل القبلة . نتحول بكل قوة وثقة ورشاقة إلى منهج الإسلام بكلياته وجزئياته ، كما تحول الغر الميامين وهم ركوع(/2)
دروس وعبر من قصة موسى وفرعون
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ?[ آل عمران : 102] ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًاً?[النساء : 1] والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف الأنبياء والمرسلين ، الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته . وبعد :
? أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ?[الفجر:6-14]
لقد رأينا كيف فعل الله عز وجل بعاد وثمود حين كفروا واستكبروا وظلموا وطغوا وأفسدوا، وكيف كانت نهايتهم حيث دمرهم الله وأهلكهم وأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
أما فرعون الذي غدا اسمه علماً على الطغيان والاستبداد والتسلط والاستكبار ، فقد بسط القرآن الحديث عنه وبين سياسته وبرامجه وخططه الإجرامية الخاطئة في قهر الشعوب واستذلالها. وما أحوجنا اليوم إلى التدبر والتأمل في هذه السياسات الإجرامية الظالمة المتكررة في تاريخ البشرية، ولكي نتعرف على طريق النجاة والخلاص من الذل والاستبداد والتسلط الذي أصاب أمتنا من قبل أنفسها وذاتها وأعدائها.
إن قراءة القرآن ودراسته وتدبره والعمل به هو بداية الطريق للخلاص من الذل ، إننا حين ننظر في قصة فرعون وجبروته وبطشه وتنكيله وتقنينه للفساد والإجرام وفرض ذلك على الناس .. ثم موقف الشعب من ذلك ثم كيف تكون النهايات إذا تأملنا ذلك بتدبر ووعي، سندرك جيداً فعل الله عز وجل وتقديره في دك الظلم والطغيان وتدمير البغي والعدوان وهو في كمال قوته وجبروته، وكيف ينصر الله المستضعفين الذين لا حول لهم ولا قوة، وكيف يمكن للمضطهدين والمعذبين.
وقبل أن يبعث الله نبيه موسى عليه السلام رسولاً إلى فرعون وقومه يخبرنا تعالى في كتابه الكريم عن الجو الذي كان سائداً والذي كانت تدور فيه الأحداث والسياسات والظروف العصيبة التي كان يعيشها بنوا إسرائيل.
يقول الله عز وجل في سورة القصص: ? طسم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ?[القصص:1-6].
هذه السورة من السور المكية، نزلت والمسلمون في مكة قلة مستضعفة والمشركون هم أصحاب الحول والطول والجاه والسلطان.
نزلت هذه السورة الكريمة لتقرر للمؤمنين أن المتصرف في هذا الكون والمدبر لأمره والمتصرف في شئون العباد إنما هو الله وحده لا شريك له ، الملك القدوس، وأن من آمن بربه وخالقه وتوكل عليه وعبده وحده لا شريك له، فله الخير كله، والنصر والعاقبة له في الدنيا والآخرة، ولو كان مجرداً من كل مظاهر القوة. وأن من تجرد من الإيمان، وكفر بالله، وحارب أنبيائه ورسله، فلا أمن له ولا طمأنينة، ولو ساندته جميع القوى. هذه الحقائق لا يعيها ولا يستفيد منها إلا المؤمنون، ولهذا قال تعالى في هذه السورة: ? نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ?[ القصص:3]، ثم أخبر تعالى عن فرعون فقال: ? إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ?[ القصص:4].
لقد كان فرعون مثلاً من أمثلة الاستبداد وعنواناً للظلم واستعباد الناس، وقدوة سيئة في الشر ولذلك قال الله في وصفه وأعوانه: ? وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ... ?[ القصص:41].(/1)
إن أول شيء أخبر الله به عن فرعون : أنه علا في الأرض وتجاوز فيها الحد وطغى وبغى.
وثانيها: أنه جعل أهلها شيعاً وأحزاباً يستعين ببعضهم على بعض، ويذل بكل حزب ما عداه من الأحزاب ويذلهم جميعهم بعضهم ببعض، ويأمنهم جميعاً بواسطة ذلك التحزب، الذي غرسه فيهم، حتى إذا تحرك حزب لمناوأته قام حزب آخر ليدافع عنه، وعلى هذه السياسة الفرعونية سار المستعمرون الذين احتلوا البلاد الإسلامية، جعلوا أهلها شيعاً وأحزاباً سياسية، فشغلوا الأمم عنهم ببعضهم ووجهوا دفة الجهاد والقتال إلى ناحية غير الناحية التي تريدها الأمة وكما هو مشاهد اليوم في واقع الأمة الإسلامية.
ومن عجيب أمرهم أنهم يخلقون هذه الأحزاب، ويغذون فيها الحزبية بأساليب شيطانية، ثم مع ذلك يطالبونهم بالوحدة. إن الوحدة لا تتم مادامت الأمة واقعة تحت هيمنة أعدائها الذين يحرصون على تفتيت قوتها وتمزيق صفوفها واختلاف كلمتها.
وكأ، فرعون كان إماماً للمستعمرين الغاصبين للبلاد الإسلامية ، يسيرون على منواله يترسمون خطواته. وستكون نهايتهم كنهاية إمامهم فرعون الذي أخذه الله تعالى نكال الآخرة والأولى. هؤلاء الكفار الذين نالوا من الأمم المستضعفة والفقيرة قروناً، ستدور عليهم الدوائر ، وسيسقيهم الله الكأس الذي تجرعه من قبلهم ? فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذّنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِِهِِِم فَلا يَسْتَعْجِِلُون ?[ الذاريات:59]
والأمر الثالث: في سياسة فرعون وأخلاقه أنه استضعف طائفة منهم، وهي الطائفة التي استمرأت الذل والهوان وفقدت مناعتها الخلقية من الشجاعة والإباء، وكما نلاحظ من التعبير القرآني أنه قال: ? يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُم ?[ القصص:4]ولم يقل يستضعفهم، لنعلم أن الذل والهوان إذا حل بقوم لم يعمهم جميعاً، بل سيحل بطائفة منهم، وهكذا يفعل اليهود والنصارى المستعمرون وأذنابهم .. يستضعفون طائفة من الأمة – ولا تخلوا الأمة من ضعفاء فيغرونها بالمال تارة، وبالمنصب تارة أخرى، ليضموها إليهم، حتى إذا هبت الأمة تطالب بحقها وتثأر لدينها وكرامتها وتذود عن حياضها وحرماتها، قامت لها تلك الطائفة فوقفت في سبيلها، وحالت بينها وبين ما تريد.
وهل بلاء المسلمين بالأمس واليوم في أنحاء المعمورة إلا على يد طائفة منهم، تناصر أعداء الإسلام وتتعاون معهم، وتقوم بدور الشرطي الحارس للمستعمرين، وتنفذ خططهم الرامية إلى تعطيل شعائر الإسلام، وتخريب دور العلم ونهب ثروات الأمة والعمل على تكريس التخلف والفقر حتى لا تنهض الأمة، كل ذلك يتم عن طريق طائفة من أبناء جلدتنا يتكلمون بألسنتنا استضعفها الأعداء .. ومن ضعفها وهوانها أنها قنعت بالسلطان الزائف. والحكم المستعار ورضيت أن تعيش كما تعيش الأنعام بملء بطونها لا إرادة لها ولا كرامة ولا اختيار. فعلى الأمة أن تتفطن لتلك الطائفة، وأن تأخذ على أيدي الظلمة وأن تقف في وجه الاستبداد حتى لا يتسرب الضعف إلى فئات وطوائف أخرى، فيصبح الداء عضالاً، والعلاج مستعصياً. وإن من صور الفساد والإفساد في سياسة فرعون أنه جعل أهل مصر شيعاً وطوائف وأحزاباً، ووقع أشد الاضطهاد والبغي على بني إسرائيل فقد كانوا يدينون بدين جدهم إبراهيم وأبيهم يعقوب ومهما يكن قد وقع في عقيدتهم من انحراف وفساد فقد بقي لهم أصل الاعتقاد بإله واحد، وإنكار ألوهية فرعون، والوثنية التي كان عليها المصريون.
ولقد أحس الطاغية أن هناك خطراً على عرشه وملكه من وجود هذه الطائفة في مملكته، ولم يكن يستطع أن يطردهم منها وهم جماعة كبيرة تعد بمئات الألوف ، وإن فعل ذلك وأخرجهم فقد يكونون عليه مع الدول المعادية له، فابتكر طريقة جهنمية خبيثة للقضاء على الخطر الذي يتوقعه من هذه الطائفة، تتلخص في تسخيرهم في الأعمال الشاقة والخطرة، واستذلالهم وتعذيبهم بشتى أنواع التعذيب. ثم أتبع ذلك كله بتذبيح الذكور من أطفالهم عند ولادتهم، واستبقاء الإناث كي لا يتكاثر عدد الرجال فيهم. وبذلك يضعف قوتهم بنقص عدد الذكور وزيادة الإناث ، فوق ما يصبه عليهم من نكال وأذى.
وهكذا فعل الفراعنة المستعمرون في القرن الماضي مع المسلمين حيث كانوا يستخدمون وسائل عديدة من التهجير والتعقيم الإجباري للمسلمين والتطهير العرقي حتى لا يكثر عددهم في البلدان التي يهيمن فيها الفراعنة في العصر الحديث .
وقد روي أن فرعون وكَّلَ بالحوامل من بني إسرائيل قوابل مولدات يخبرنه بمواليد بني إسرائيل، ليبادر بذبح الذكور فور ولادتهم حسب خطته الجهنمية الخبيثة التي لا تستشعر رحمة بأطفال أبرياء لا ذنب لهم ولا خطيئة.(/2)
وقد روي أن كاهناً من كهان فرعون قال له: يولد في بني إسرائيل مولود يذهب ملكك على يده، فاتخذ هذه السياسة الجائرة ، وذلك يبين لنا رِجْسِيَّة وغاية حمقه إذ لو صدق الكاهن من أن ملكه سيذهب فما فائدة القتل وإن كان كاذباً فما الفائدة من القتل أيضاً؟ لكنه الفساد والطغيان، كما قال تعالى: ? إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ?[ القصص:4] وسترى قدرة الله ولطفه بالمستضعفين وانتقامه من المكذبين المجرمين، وفي كل تلك السياسات الجهنمية والقبضة الحديدية مدة، فقد انتهى فرعون وذهب إلى غير رجعة.
الخطبة الثانية:
أما بعد.. فما أوتي المسلمون إلا من قبل أنفسهم حين ركنوا إلى أعدائهم ومالوا إليهم كل الميل مخدوعين بمعسول كلامهم،ومواعيدهم الخلابة البراقة ، بالمخادعة زرعوا اليهود في فلسطين وبالمخادعة والمكر مزقوا دول المسلمين، وبمعسول القول والمواعيد الكاذبة أضاعوا حقوق المسلمين تارة باسم السلام ونبذ العنف وتارة بمحاربة الإرهاب والقضاء على التطرف. وزعماء المسلمين يتابعونهم ويصدقونهم وينفذون لهم ما يريدون، ناسين توجيهات الله لهم ، إننا حين نراجع القرآن الكريم نجده يرسم للمسلمين استراتيجية المعركة مع أعدائهم في آيات كثيرة منها قول الله عز وجل: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعاً ?[ النساء:71]. ?... وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ... ?[ النساء:102]
إنها وصية الله لعباده أن يكونوا حذرين متيقظين من أعدائهم أجمعين فكأن الآية تقول تيقظوا واحترزوا من عدوكم ولا تمكنوه من أنفسكم. ولو أن المسلمين ولا سيما قادتهم وزعماؤهم أخذوا بهذا التوجيه الرباني لما تمكن منهم عدوهم. إن الله عز وجل يخبرنا عن أعدائنا ويبين لنا حقيقة حقدهم وكرههم لنا في آيات كثيرة، ويوضح مرادهم منا وغايتهم.
أن بعض العلمانيين من أبناء جلدتنا ينظرون إلى القرآن على أنه كتاب تراث قديم لا صلة له بالواقع السياسي، ولا دخل له في صراع الحضارات ـ زعموا وبئس ما زعموا ـ .
إننا أيها المؤمنون ونحن نرى هذه الحملة المسعورة من قبل اليهود والنصارى والوثنيين ، نسأل أنفسنا سؤالاً ماذا يريد هؤلاء الكفار من المسلمين؟ أتدرون ماذا يريدون أيها المسلمون؟
إنهم يريدون إخراج المسلمين من دينهم ، يستخدمون في سبيل ذلك كل إمكاناتهم المادية والمعنوية، قال تعالى: ? وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً ...?[ البقرة:109] وقال سبحانه:? وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ?[ البقرة:120] وقال: ?... وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ?[ البقرة:217]، وقال: ? إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ?[ الممتحنة:2].
إنهم يريدون تعطيل الإسلام ، وما هذه الحرب المعلنة على أفغانستان إلا لأنها خارجة عن فلكهم وسيطرتهم، فهي في حاجة إلى الإسلام بمفهوم صليبي يهودي حتى يرضى عنهم الكفار.
إن اليهود والنصارى يريدون إلغاء التعليم الديني وتجفيف منابع الإسلام من المدارس والمعاهد والجامعات.
إنهم يريدون إلغاء فريضة الجهاد والقتال ، هذه الفريضة المحكمة الباقية والماضية إلى يوم القيامة .. إنهم في غاية الخوف والذعر من قيام المسلمين بهذه الفريضة العظيمة التي هي ذروة سنام الإسلام وهي التي تكسر شوكة الظالمين الطغاة وتردع المتكبرين.
إنهم يريدون منا أن نستبيح المحرمات مثل الزنا واللواط ، والربا والخمور والقمار، وسائر ما حرمه الله ورسوله.
إنهم يريدون إفساد الأخلاق وتدمير المجتمعات وإشاعة الفوضى والانحلال.
إنهم يريدون الاستيلاء على ثرواتنا ونهب اقتصادنا وخيراتنا.
إنهم يعملون ليل نهار لإضعافنا والحيلولة دون نهوضنا وقيامنا ، يريدون أن نكون عالة عليهم في كل شيء، لا يسمحون لنا بالإنتاج والتصنيع الحربي المتطور، إنهم يتحكمون حتى في غذائنا وزراعتنا وتأمين أقواتنا.(/3)
إنهم يريدون أن نكون متفرقين مختلفين متناحرين ، إن أعداء الله يرصدون الأموال الضخمة ويقيمون التحالفات ويضعون الخطط لتنفيذ إرادتهم الخبيثة في محاولة يائسة للقضاء على الإسلام وتدمير المسلمين وإطفاء نور الله، إنهم يحاولون منذ ألف وأربعمائة وثلاثين سنة ولكنهم يفشلون لأنهم يريدون ويأبى الله.. والنتيجة محسومة سلفاً ولكنه الابتلاء والاختبار للبشر في هذه الحياة ، أيها المسلمون تمسكوا بدينكم، وتعرفوا على خطط أعدائكم، وكونوا على يقظة وحذر تام ..، واستعينوا بالله واصبروا.
تابع دروس وعبر من قصة موسى وفرعون
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ?[ آل عمران:102] ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ً?[ النساء:1] والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف الأنبياء والمرسلين ، الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته . وبعد :
? إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ(4) وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ(5)وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ?[القصص:4-6].
لقد كانت سياسة القبضة الحديدية التي كان يمارسها فرعون ورجال دولته ضد الشعب المقهور المغلوب ، كافية في تقديرهم للقضاء على الضعفاء من بني إسرائيل وأنه لن تقوم لهم قائمة ، فقد أهان فرعون الشعب الإسرائيلي وأذله، وأخذ يذبح الأبناء ويستحيي النساء، ونسى ربه وخالقه وادعى إنه الرب الأعلى، إنها الغاية في الطغيان والجبروت .. كانت هذه سياسة فرعون وإرادته. غير أن الله جل وعلا أراد شيئاً آخر أراد جل وعلا أن يمن على أولئك المستضعفين، الذين يتصرف فيهم الطاغية بما يشاء وبما يمليه عليه هواه وطغيانه يذبح أبناءهم ويستحيي نسائهم، ويسومهم سوء العذاب والنكال. وهو مع ذلك يحذرهم ويخافهم على نفسه وملكه، فيبعث العيون والأرصاد ، ويتعقب نسلهم من الذكور ليسلمهم إلى الجزارين لذبحهم واستئصالهم كما تذبح الخرفان.
وما أشبه الليلة بالبارحة فها هم فراعنة العصر يستخدمون السياسات ذاتها مع الأمة الإسلامية، إنهم يتخذون التدابير الوقائية لإجهاض كل بارقة أمل يرون أن الأمة من خلالها يمكن أن تستيقظ أو تنهض من رقدتها وسباتها. لقد وضعوا لها كل المصائد والشباك ومكروا مكرهم وعند الله مكرهم ولكن الله جل جلاله إذا أراد شيئاً فلن يكون إلا ما أراد.
وفي قصة فرعون وموسى يتجلى امتنان الله على عباده المستضعفين على الرغم من كل ذلك الاستكبار والطغيان الذي كان يستهدفهم فقال تعالى: ? وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ?[القصص:5-6].
ويريد الله أن يمن عليهم بهباته وعطاياه من غير تحديد، وأن يجعلهم أئمة وقادة لا عبيداً ولا تابعين، وأن يمكن لهم في الأرض، بأن يجعلهم أئمة وولاة ويكون لهم السلطة والنفوذ ويجعلهم الوارثين لملك فرعون، وأن يملكهم من ذلك كله فلا يستطيع أحد أن يخرجهم، وليرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ويخافون من ذهاب ملكهم وسلطانهم، وهلاكهم على يد مولود منهم هو موسى عليه السلام، وانظروا إلى تدبير الله ولطفه ، لقد ولد موسى عليه السلام في ظل تلك الأوضاع القاسية والسياسات الجائرة ، ولد والخطر محدق به، والموت محيط به والسكاكين والشفار تنتظره لتحتز رأسه.(/4)
وها هي أمه تقف حائرة فيه، خائفة عليه، تخشى أن يصل خبره إلى الطغاة فيذبحونه، إنها عاجزة عن حمايته، عاجزة عن إخفائه في مكان ما ، إذ الجواسيس والعيون في كل مكان، إنها تقف في وسط تلك المخاوف ضعيفة عاجزة مسكينة، وفي ظل كل تلك الأجواء يأتيها الفرج من الله وينقذها من المخاوف ويلهمها أن تتصرف التصرف الذي قدره الله كما قال تعالى: ?وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ?[القصص: 7].
إذا خفت عليه وهو في حضنك ورعايتك فألقيه في اليم!! ولا تخافي ولا تحزني. لأنه في رعاية الله وجواره .. إنه سبحانه إذا أراد يجعل النار برداً وسلاماً ويجعل البحر ملجأً ومناماً، ولا يجرؤ فرعون الطاغية الجبار ولا طواغيت الأرض وجبابرتها جميعاً أن يمسوا من أراد الله له النجاة بسوء أو مكروه.
وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالمخاوف كلهن أمان
لقد كانت أم موسى خائفة عليه من فرعون وملئه وآله إلا أن القدر دفع به إليهم ، قال تعالى: ?فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً?[القصص: 8]. إنها قدرة الله عز وجل وإرادته وتدبيره تتحدى الطغيان والجبابرة، إنهم يتتبعون الذكور من مواليد قوم موسى خوفاً على ملكهم وذواتهم .. ويبثون الجواسيس والعيون على قوم موسى كيلا يفلت منهم طفل ذكر .. وإذا بتدبير الله وقدره يلقي إليهم بلا بحث ولا كد بطفل ذكر، وأي طفل ، إنه الطفل الذي سيكون على يديه هلاكهم أجمعين، وعند فتح آل فرعون الصندوق الذي كان فيه موسى عليه السلام وقعت عين امرأة فرعون على الطفل موسى، وألقى الله محبته على قلبها، وأدركت أن زوجها سيقتله كما قتل جميع أولاد بني إسرائيل، فقالت له: هذا الولد سيكون قرة عين لي ولك، لا تقتله عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً، فوافقها فرعون على ذلك واستبقاه لها، وهكذا نجى موسى من الهلاك المحقق.
أما أمه فبعد أن ألقته في نهر النيل، أرسلت أخته تقتفي أثره فرأت أنه أخذ وأدخل دار فرعون فأخبرت أمها بذلك، فطار عقلها لهذا النبأ من الخوف والجزع وصار قلبها خالياً من كل شيء إلا من ذكر موسى، وكادت للهفتها أن تكشف سرها، وتظهر أمرها ، لولا أن ثبت الله فؤادها وجعلها من المؤمنين المطمئنين ، إلى وعده تعالى بإرجاعه إليها. ثم إن آل فرعون جاؤوا لموسى بالمراضع ولكنه عافهن جميعاً، فتقدمت أخته وعرضت عليهم أن تأتي لهم بامرأة ترضعه، فقبلوا ذلك وبعثوها في طلب المرضعة، فجاءت بأمه فاستأنس بها الوليد والتقم ثديها دون سائر المرضعات، وهكذا أيقنت أم موسى أن وعد الله حق، حيث أرجع إليها وليدها لترضعه، وأجرى عليها رزقاً فرجعت به إلى بيتها قريرة العين مطمئنة الفؤاد.
وبعد الانتهاء من فترة الرضاع أتت به إلى بيت فرعون وتولى البلاط الفرعوني تربيته وتنشئته في النعمة والرفاهية .. استمعوا إلى هذه الآيات الكريمات التي تتحدث عن قصة موسى عليه السلام ورعاية الله له منذ ولادته قال تعالى: ?وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ?[القصص:7-13].
إن فيما قصه الله علينا من نبأ موسى وفرعون تحدٍ صارخ للعقل المادي الذي ينظر إلى الأسباب والحوادث كقوانين أبدية جامدة طبيعية لا سلطان لأحد عليها . إن فيها دعوة إلى الإيمان بالله عز وجل وأنه تعالى الذي خلق الأسباب وهو مالكها والمتصرف فيها كيف يشاء. وإن معجزات النصر وعجائب القدرة الإلهية تتكرر.(/5)