ج ـ قال تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 33].
فهو النكاح لمن وجد، أما من لا فعليه بالاستعفاف.
د ـ قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ [[يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء]] [البخاري 4677].
فهو الزواج وإلا الاستعفاف بالصوم.
هـ ـ عن سعيد بن أبي وقاص قال: [رد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا]. [البخاري 4658].
وفيه التنبيه إلى اشتداد الفتن حيث دفعت الصحابة إلى استئذان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الاختصاء، وفي المقابل بل ننبه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يرتضِ بالحلول المقترحة من الصحابة، فكأنه ينبه على أن الحل هو ما أشار إليه الله تعالى بقوله:{وَلْيَسْتَعْفِفِ}.
و ـ عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: [قلت: يا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :إني رجل شاب وأنا أخاف على نفسي العنت ولا أجد ما أتزوج به النساء. فسكت عني. ثم قلت مثل ذلك. فسكت عني ثم قلت مثل ذلك فسكت. عني ثم قلت. مثل ذلك فقال: يا أبا هريرة جف القلم بما أنت لاقٍ فاختص على ذلك أو ذر] [البخاري 4686]
وفيه توجيه إلى أن الواجب الصبر لا الجزع والسخط المعبر عنه بالاختصاء.
س ـ حديث الشاب الذي استأذن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الزنا فلم يأذن له ولم يوجهه إلى الاستمناء بل إلى الاستعفاف.
9 ـ إذن فهو الزواج أو ملك اليمين أو الاستعفاف، وإذا كان الأمر كذلك فلا بد من بيان كيف يتم تنفيذ الأمر الرباني بالاستعفاف ولتحقيق ذلك لا بد من تفهم ميكانيكية النمو والإثارة والتفاعل الجنسي حتى نحسن التعامل معه، أو الاستعفاف فسنفرد له مقالاً أو أكثر للتفصيل فيه.
10ـ السلوك الجنسي كما قسمه علماء النفس ينقسم إلى نوعين:
أـ الدافع الجنسي: وهو الميل الطبيعي من كل نوع للآخر من الذكر إلى الأنثى والعكس وهذا الشق راسخ داخل الإنسان وفي تكوينه.
ب ـ الرغبة الجنسية: وهي العملية التي يتم فيها الاستثارة الجنسية الفعلية ويشعر بها الشاب في أعضائه.
11ـ هذه الرغبة يمكن للمرء زيادتها أو تقليلها عن طريق التحكم في محفزات ثلاثة هي:
أـ التفكير والتخيل: وفيها يستحضر الفرد صورًا وتخيلات يستخدمها لاستثارة نفسه.
ب ـ الإثارة الحسية: وذلك باستخدام حواسه الواقعية عن طريق البصر بالنظر إلى ما حرم الله تعالى، أو الاستمتاع إلى كلام يتعلق بالإثارة أو شم روائح لها ارتباطات معينة أو اللمس المباشر.
والجدير بالذكر أن الرجل يثار تلقائيًا بسهولة بواسطة هذين الحافزين في المقام الأول والحافز الأخير هو قمة الإثارة بالنسبة له، أما المرأة فتأثرها بالحافز الأخير أشد وهو:
ج ـ الإثارة الموضعية: وتتعلق بالتعامل مع مناطق الإثارة في الجسد والجماع.
12ـ بناءً على ما سبق فإن الشهوة أو ما يعرف بالرغبة يمكن للمرء تقليلها أو زيادتها بالتحكم في هذه المداخل الثلاثة المحفزة لهذه الرغبة، إذن فالشهوة ليست ذلك الوحش الكاسر الذي لا يضمه بناء بل هي جزء من البناء النفسي لطاقة الإنسان الداخلية التي تبني وتعمر، وهي تحتاج منا لتحقيق ذلك إلى فهمها ثم إزالة ما علق بها من تصورات فاسدة وحلول كارثية ثم العودة إلى صورتها النقية الصافية وهي الزواج أو الاستعفاف.
{وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}.(/2)
حل الخلافات الزوجيّة لا مستحيل أمام الإرادة والحوار
بشار دراغمة 9/7/1427
03/08/2006
كرب وهم، حيرة وتخبّط، البحث عن الحل دون نتيجة، زوج يحاول إنهاء خلاف دون جدوى، وزوجة لم تترك وسيلة إلاّ اتّبعتها من أجل إرضاء زوجها، وحسم خلاف بات يتكرر بشكل شبه يومي. كلها صور بتنا نشهدها بشكل متكرر في مجتمعنا العربي. وفي هذا السياق تفتح شبكة (الإسلام اليوم) الباب واسعاً من أجل تقديم أفضل الحلول في هذا المجال، والتعرّف على أفضل الطرق لإنهاء الخلافات الزوجية، بعد الاطّلاع على مسببات هذه الخلافات ودواعي حدوثها.
لماذا الخلافات الزوجيّة
سألت أحدهم: "لماذا أنت على خلاف مع زوجتك؟" فأجاب: "من كثرة الأسباب!! لم أعد أتذكر لماذا اختلفنا أمس، ولماذا اختلفنا أمس الأول، واليوم الذي سبقه".
أمل متزوجة منذ ثلاث سنوات سألتها: "هل تختلفين مع زوجك؟" قالت: "هذا أمر طبيعي وسنة الحياة"، تتوقف قليلاً ثم تتابع: "لكن لاحظت أن خلافاتنا زادت حِدّتها في الفترة الأخيرة. أعتقد أن هناك أموراً كثيرة خطأ يجب إصلاحها لكن.. ما الحل؟".
يتساءل الكثير عن تلك الأسباب التي تؤدي إلى نشوب الخلافات الزوجية بين الزوج وزوجته، وفي أحيان كثيرة هناك من يلقون اللوم على الزوجة بأنها السبب الرئيس لهذا الخلاف. وهنا تستطلع شبكة (الإسلام اليوم) آراء عدد من الأزواج حول السبب في هذه الخلافات.
مجدي عامر (35 عاماً) يعتبر أن السبب الرئيس لخلافه مع زوجته في كثير من الأحيان يعود إلى اختلاف المستوى التعليمي بين الاثنين ويقول: "أنا أنهيت درجة جامعية عليا، وزوجتي لم تنه المرحلة الأساسية بالمدرسة، وبالتالي فإنني ألحظ أن هناك اختلافاً كبيراً في المستوى الثقافي بيننا". ويضيف قائلاً: "أحاول دائماً أن أرشدها إلى الطريق الصواب، لكنني ألحظ أنها لا تتقبل مني النصيحة، وأعتقد أنها ترفض ذلك؛ لأنني أعلى ثقافة منها، وترى أنني أحاول فرض رأيي عليها لهذا السبب".
أما عصام فيعتبر أن السبب الرئيس في الخلافات التي تنشب مع زوجته يعود إلى اختلاف البيئة بين الاثنين، موضحاً أنه عاش طيلة فترة حياته في قرية صغيرة، وتزوج فتاة من مدينة بعيدة عن قريته يقول: "فوجئت أن الكثير من الأمور تختلف بين أهل المدن والقرى، هناك عادات لا نقبل بها، لكنها بالنسبة لهم شيء طبيعي. هذا الأمر يسبب خلافات دائماً مع زوجتي".
بينما يرى سعيد أن السبب الرئيس لخلافه الدائم مع زوجته يعود إلى رفض زوجته له عندما تقدم لخطبتها. إلا أن أهلها أجبروها على الزواج منه بحكم علاقة القرابة بين الاثنين. ولم يخفِ سعيد أنه بات يتعامل مع زوجته بقسوة بسبب رفضها له مضيفاً: "لاحظت أنها كانت ترفض ما أطلبه منها فاضطرني الأمر إلى معاملتها بقسوة، وباتت الخلافات بيننا مستمرة بشكل دائم ومن كثرتها لم أعد أبحث عن حل لها وهي أيضاً كذلك".
سهام تؤكد أن الخلاف الأساس مع زوجها ينشب بسبب عصبيته الزائدة عن حدّها على حد قولها وتضيف: "عندما يطلب مني أن أعدّ له فنجان قهوة فإنه يثير مشكلة كبيرة إذا تأخرت دقيقة واحدة في إعدادها، هو لا شك يحبني كثيراً لكن عصبيته تجعلني على خلاف متواصل معه".
أما سلام فإنها تختلف مع زوجها لسهره لأوقات متأخرة خارج المنزل. بينما أماني تختلف مع زوجها لأن زوجها متقلب المزاج، ويتغير حاله بسرعة. و وِداد ترى أن العامل الأهم في خلافاتها مع زوجها هو تدخُّل والدته في شؤونها الخاصة.
الأسباب التي تؤدي إلى الخلافات الزوجية لا يمكن حصرها، وما تقدم هي نماذج بسيطة وتجارب لأشخاص محددين اختلفوا مع أزواجهم وزوجاتهم.
كيف نحل الخلافات
الخبير الاجتماعي والمتخصص في القضايا الأسرية الأستاذ مهيب فلاح يرى أن الاعتماد الأساسي على حل الخلافات الزوجية هو لغة الحوار. مؤكداً على أهمية وجود مثل هذه اللغة لكي يكون الانطلاق نحو حل الخلافات على أسس سليمة. أما القضية الأخرى التي تحدّث عنها فلاح فهي استعداد الطرفين لتحمل مسؤولياتهم من أجل القضاء على الخلافات بشكل نهائي أو على الأقل تقليصها إلى أعلى حد ممكن.
ويرسم فلاح مخططاً محدداً من أجل إنهاء هذه الخلافات مبيناً أن العامل الأساس الأول في هذا المجال هو الرغبة الجادة في إنهاء الخلاف ومنع حدوثه مرة أخرى. ويقول: "الرغبة هي القاعدة للانطلاق، ويأتي بعد ذلك أمر هام جداً وهو الحديث مع النفس؛ إذ يكون الزوج والزوجة كل أمام مسؤوليته، ويطرح الزوج سؤالاً على نفسه: "هل أخطأت بحق زوجتي؟" وتطرح هي ذات السؤال، وهنا قطعاً سيتبين مَن المخطئ؛ لأن مَن ارتكب خطأً لا يمكن أن ينكره مع نفسه، على الرغم من أنه قد ينكره أمام الغير، مع الإشارة إلى أنه قد يكون الخطأ ناجماً من الاثنين، وليس من شخص واحد".
وبعد ذلك يؤكد الخبير الاجتماعي على ضرورة اتخاذ كلا الزوجين أو على الأقل المخطئ منهما موقفاً حازماً بتجنّب السبب الذي أدّى إلى الخلاف، وبالتالي منع حدوث هذه الخلافات مرة أخرى.(/1)
ويرى فلاح أن الاعتذار لا يعيب الرجل إذا كان مخطئاً، واعتذر لزوجته، وكذلك الحال بالنسبة للزوجة. مؤكداً على أهمية التركيز على نقطة هامة جداً وهو المصارحة بين الاثنين بحيث يجلس الزوجان إلى بعضهما ويتحدثان عن كل شيء ممكن أن يسبب خلافاً. وبالتالي يتعرف الاثنان على الأمور التي تغضب الطرف الآخر. وعلى سبيل المثال كما يقول فلاح :"إذا كان الزوج عصبياً جدا فإن عليه أن يخبر زوجته بذلك، ومن هنا يتم البدء بحل هذه القضية من خلال أمرين:
الأول: هو أن الزوجة تكون على علم بأن زوجها عصبي المزاج، وبالتالي تهيئ نفسها لمثل هذا الأمر، وتحاول أن تتجنّب ما يسبب ذلك.
أما الأمر الثاني: فهو أن الزوجة تكون قد عرفت السبب الذي يؤدي للخلاف مع زوجها، وبالتالي تكرس طاقتها لنزع هذه الصفة منه كونها صفة سلبية، وهناك أمر آخر يجب مراعاته وهو أن الزوج عليه أن يساعد نفسه على التخلص من هذه العادة السيئة، وهي العصبية، واضعاً نصب عينه هدفاً رئيساً وهو أنه لا يريد خلافاً مع زوجته".
وحول الخلافات التي تنشب بين الزوجين على أساس الفارق في المستوى التعليمي يقول فلاح: "الأساس في الأمر المساواة، يعني أن يختار الرجل شريكة حياته، ويحاول جاهداً أن تكون من مستواه الثقافي، لكن في حال حدوث الزواج ووقوع مشاكل لهذا السبب فإن الحل يكون بالحوار أولاً، وعلى كل منهما أن يتقبل الآخر. وإذا كان الزوج ذا مستوى تعليمي عال، والزوجة تعليمها متدنٍّ فعليه ألاّ يشعرها بهذا الفرق، وألاّ يكثر الحديث حول تعليمه وسنوات دراسته في الجامعات، وكذلك على الزوجة ألاّ تشعر بالغيرة من هذا الأمر، بل تشعر زوجها أنها فخورة بتعليمه، وتبدي دوماً فرحها بذلك أمامه".
ويشدّد فلاح على أهمية عدم تدخل الأهل والأقارب في أي مشكلة تحدث بين الزوجين إلاّ إذا اقتضت الضرورة ذلك، ويقول: "يجب أن يدرك الزوجان أنه لا يوجد هناك من يحل لهما خلافاتهما، وعليهما إنهاء أي مشكلة بنفسيهما".
ويوضح الخبير في شؤون الأسرى أن هناك أهمية بالغة وهي بأن يدرك الزوجان أن لديهما أطفالاً، وأن أي خلاف بينهما سينعكس سلباً على حياة أطفالهما من عدة نواح، ويضيف: "مثلاً بعض الخلافات الزوجية تسبب حالة من القلق والتوتر الدائم لدى الأطفال. وفي حالات أخرى يصبح هناك مشكلة في النطق والكلام لديهم وبطء في المشي، وما إلى ذلك من مشاكل صحية لا يمكن حصرها، وبالتالي من الأهمية أن يدرك الزوجان مصلحة أطفالهما".(/2)
حل ناجع لظاهرة مقلقة
تركي العبدلي
إن كثيرا من الناس يشعر بتقصيره نحو اتصاله بالله وعبادته له ، فإذا ما استيقظ من غفلته ووعى على نفسه أخذ بالأعمال الصالحة الواحدة تزاحم الأخرى .
فتجده يسرد الصوم ، ويحاول أن يختم في ثلاث ، ويطيل قيام الليل ، ويكثر من الذكر، فيملأ الأسبوع الأول من النشاط الإيماني المفاجئ بنسبة 90% من الأعمال الصالحة .
بالإضافة إلى الانقلاب المفاجئ في تعامله مع الناس ، فتجده واعظا إذا ما عامل الناس تبدو على محيّاه الحرقة على هذا الدين ، وغالب وقته منقطعا عن الآخرين بحجة أنه فرّط كثيرا في حق الله ، وما يمضي الأسبوع الأول حتى تهبط النسبة المذكورة آنفا إلى 50% ، وما يمضي عدة أسابيع على هذا النشاط الذي أخذ ضوءه يخبو يوما تلو يوم حتى تعود النسبة على ما كانت عليه سابقا ، هذا إن لم يفقد شيئا جديدا مما كان يفعله قبل ( الانفعال الإيماني !!) .
وفي الحقيقة التي لا ينبغي أن أغفلها ، أن هذه الآفة لا تعتري عامة الناس فحسب ، بل ولا حتى فقط طلبة العلم ، بل قد تجتاح ساحة من لبس العمامة ووضع العباءة على كتفيه.
فأقول لمن كان هذا فعله : ( إن المنبت لا أرض قطع ولا ظهر أبقى ) ، وما يأتي فجأة يذهب فجأة ، وأنا لا أريد في هذا المقال أن أضرب أمثلة تكون بعيدة عن الواقع ، أو أن أسرد كثيرا من النظريات الحديثة والتي تتكلم عن تربية الذات ، بل سأتكلم عن تجربتي الشخصية في ذلك وأرجو أن توفي بالغرض الذي من أجله كتبت هذا المقال ...
أنا إنسان شديد التسويف ، أغرق في أحلام كبيرة ، أطمح أن أكون ذات يوم مثل سفيان الثوري في تعبده ومثل الشافعي في فقهه ومثل ...الخ ، وأخذت الأيام تمضي والشهور بل والسنين وأنا قليل ما أذكر الله في غير الصلوات ، بعيد عن القرآن إلا في رمضان ، بل كانت تمضي الشهور لا أدرك تكبيرة الإحرام فضلا على أن أصلي في الصف الأول ...الخ
وكانت لي نزوات إيمانية لكنها كانت قليلة الفاعلية ، فقمت أبحث عن حل لهذا الإشكال ...
فصممت أن أترك هذا الأسلوب وأن أنتهج أسلوب أنجع في تطبيب هذه الآفة آلا وهي الخمول الإيماني طويل المدى ...
فبدأت بأن أقرأ صفحة واحدة من كتاب الله في اليوم ، وأن أقول سبحان الله وبحمده مئة مرة في اليوم قبل المغيب طمعا في المغفرة كما جاء في الأثر ، ووجدت أن من أسباب قلة الذكر لدي هو أني لا أضبط العدد فاتخذت مسباحا لضبطه ، ولا أخفيكم سرا كم كنت خجولا من نفسي وأنا أقرأ صفحة واحدة فقط وأن يكون الذكر بهذا العدد ، لكنني مضيت على هذا الطريق راجيا أن أصل مرحلة بعيدة عن هذه الإضرابات الإيمانية .
... وبرمجت نفسي بأن أزيد كل شهر شيئا قليلا وبسيطا ولا أرهق نفسي ، وبعد عدة أشهر تعودت على الصفحة والصفحتين حتى بلغت خمس صفحات يوميا أقرأها بعد صلاة العصر، وتتابعت الختمات الختمة تلو الأخرى ، وكذلك ذكر الله صارت سبحان الله وبحمده أمر مسلم به بل وهناك استغفار كثير والباقيات الصالحات في كل صباح مئة مرة... ما هذا ؟ أنا أفعل هذا !...هل صرت فعلا ممن يذكر الله كثير ويسبحه كثيرا ؟؟!! ... أما الصلوات فبادئ ذي بدء أخذت على عاتقي أن لا يفوت يوم علي ولا أدرك ولو لصلاة واحدة تكبيرة الإحرام ، واليوم ولله الحمد غالب صلواتي أدركها كاملة، فاستفدت مما خططت لنفسي ووصلت لنتيجة مذهلة نسأل الله الثبات على دينه .
وهذه التجربة ما هي إلا تطبيقا للحديث النبوي (( قليل دائم خير من كثير منقطع )) فأحببت أن أنقل إليكم هذه التجربة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(/1)
حلية الداعية
أخي الحبيب الداعية إلى الله ، هذه نقاط موجزه استنبطتها من تحليل رباني وتفرس ميداني في شخصيتك ، ولابد من التحلي بها في كل الظروف والأوضاع مع التعامل الواقعي المتقن .
وهذه الحلية تتكون من مكونات عده :-
1) الاخلاص والنية الصادقة :-
سبب للقبول في الارض وعامل أساس لقبول العمل وفق التصور الرباني وسبب للبركة والزيادة ( رب شئ كبيريصغره النية ، ورب شئ صغير بعظمه النية ) كما أن كل شئ ما لم يبدأ ببسم الله فهو ابتر ، ابضاً كل عمل ما لم يبني على الاخلاص فهو مردود لذا يا أخي أجعل الاخلاص منطلقك الاولى .
2) القدوة والتمثل المنهجي :-
لا بد منترجمةالمفاهيم والمعاني والاسس التربوية والقناعات الريانية إلى عمل متحرك ،و واقع ملموس ، وصور للتعامل ، والاحتكاك مع الآخرين ، وذلك لتجسيد المبدئية في ذاتيتك ولتكون
قدوة صالحة للآخرين .
3) الجرأة المتوازنة والشجاعة والاقدام :-
وذلك بالمفهوم الشمولي ، من شجاعة في التحدث والمناقشة وأعضاء الرأي ، إلى الشجاعة في قول الحق والدعوة في أوساط الفتن ومع وجود المحن والعوائق والضغوطات الخارجيةوالداخلية .
4) الصبر والتحمل والتأني في الخطوات :-
وهو اجمل ما يتحرلى به الداعية واثبت ما يقاوم أمام الفتن وأقوى وسيلة للاستمرارية والدوام
ـ لان الله معه ( أن الله مع الصابرين )
ـ ولهم هبة دائمة من رب العزة ( انما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب )
ـ ويتدرج مع العظاء الربانيين ( ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور )
5) الروحانية الواعية :-
الداعية الحق ينظر إلى كافة مجالات الدعوة بنظر العبودية المطلقة مثل كافة العبادات من الصلاة والصيام وإلى العمل على هداية الناس وتربيتهم والقيام بواجبات الدعوة لذا فهو يدعو ويتحرك كما يصلى و يصوم ، وهذا هو السبب الرئيس لعدم الاصابة بالفتور والتساقط .
6) النفسية الزكية :-
لان الداعية ليس مثل كل الناس ، ولانه يربى الآخرين ويقوم بتزكيتهم و تربيتهم لذا من الأولى أن يصلح نفسه ثم يدعو غيره وبذلك تأتى دعوته وفق مقايس إيمانية ربانية لا حسب شطحات نفسيته أو تصورات أنانية .
7) الحكمة والتصرف المعتدل :-
وبالحكمة تحصل على الخير الكثير والنجاح الدائم والطرح المقبول ( ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيراً كثيراً ) وهي صفة مباركة للعمل ويبارك خطوات الداعية لذا لابد من النحلي بها والحفاظ عليها والتحرك وفق مقايسها .
8) التواضع وخفض الجناح :-
لانه سبب رئيسي لتكريم الداعية وقبوله في قلوب الناس ( من تواضع لله رفعه الله ) وذلك لانه يعمل ويدعو لله لا نفسه ، ومن يعمل لربه لا يتكبر على عباده .
9) الحلم والهدوء والتوازن النفسي :
لانه إنسان مبدئي و مؤمن رباني ، لا يتحرك ولا يتصرف حسب ما تشتهي نفسيتة أو وساوسه ولكن حسب قواعد ربانية وأخلاقيات آنية ، لذا يتحلى بالحكمة في كافة المواقف .
10) العلم والمعرفة :-
ليتحرك وفق مقايس صائبة وليحصل على درجات عالية ( والذين أوتوا العلم درجات ) وأول العلم معرفة الله ومعرفة رسالته مع الاستعانة بالعلوم الطيبة .
تأليف: إسماعيل رفندي(/1)
حماة المجتمع
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى روي في السير أن المسلمين لما فتحوا جزيرة قبرص تفرق أهلها شذر مذر فبكى بعضهم إلى بعض فرئي أبو الدرداء يبكي، فقي له: ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله، فقال : " ويحك ما أهون الخلق على الله عز وجل إذا هم أضاعوا أمره، بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك، تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى " عندما نقلب صفحات التاريخ وأحداثه نجد أن أمما وحضارات سادت ثم بادت، وحينما تتعمق في البحث عن أحواله هذه الأمم نجد أن أوان قوتها وازدهارها إن حفظت لنفسها ما يصلح دنياها ومجتمعها فاستمرت عليه، وما لبث انتشار الفساد ورواجه وتقوّي أهله أن قلب موازين هذه الأمة، وحساباتهم، فلم تلبث أن تنحدر في مهاوي السقوط حتى كانت أثرا بعد عين لم نعد نذكر منها إلا ما ذكره التاريخ عنها فكان الفساد وأهله هم الذين قضوا عليها.
إخوة الإيمان: كان من نعم الله عز وجل على عباده المؤمنين لاستمرار أمتهم أن جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الخصائص والميزات التي اختص الله جل وعلا بها هذه الأمة من بين سائر الأمم الكافرة الضالة عن سواء السبيل يقول الله عز وجل: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ، فسبب خيرية الأمة أنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتركوا الفساد يستشري في جسدهم بدون إنكار عليه، إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مؤهلات أمة الإسلام التي اختصت بها كما أنه ضمان للمجتمع وحماية له من التلوث في الأخلاق وحماية له من الانحراف ودواعيه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضمان من الله عز وجل للأمة من حلول العقوبات ونزول النكبات: فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون [هود:116-117]. نعم، وأهلها مصلحون، روي في الحديث الصحيح أم سلمة رضي الله عنها قالت أن رسول الله استيقظ ذات ليلة فزعا، وقال: ((ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مقدار هذا وأشار بيده، فقلت : يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال : نعم إذا كثر الخبث)) إذاً مع غياب هذه الفريضة تفتح أبواب البلاء وتنعقد أسباب الهلاك وقيام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الأولويات المهمة للمجتمع المسلم قال الله تعالى : ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون .(/1)
إخوة الإسلام: إننا أمة ما قامت في هذا البلد على عصبية قبلية أو نخوة وطنية أو عرق أو حدود، وإنما قام بلدنا وتأسس على التوحيد ولذلك فليس بغريب أن توجد هيئة متخصصة حكومية للقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تحقيقا لخيرية هذه الأمة وحماية للمجتمع والفرد.. إن هذا ليس بغريب بل نحمد الله عز وجل أن تحقق لنا مثل هذه الهيئات التي تقوم بهذا الدور المهم، ولكن المستغرب إخوة الإيمان أن نرى بعضا من مجتمعنا لا همَّ لهم إلا الكلام بحقد على الهيئات ورجالها، والتنذر بهم وسرد الحكايات الموهومة والقصص المزعومة عن تجاوز رجال الهيئة كما يدعى ويصور.. ويغيب عن هؤلاء الذين أطلقوا لألسنتهم العنان دور رجال الهيئات وأي بلاء يدافعونه وأي فساد عريض يواجهونه، وأي إنجاز ضخم حققوه للمجتمع، قد لا نشعر به لأننا كفينا مؤنة ذلك فلم نتجرع مرارته، إن إنجازات رجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنجازات ضخمة لا يشك أحد أنها فوق إمكانياتهم وفوق قدراتهم يكفي أن نرى أسواقنا مثلا كيف كانت قبل سنوات مضت ثم بعد جهود الهيئات وهذه الصحوة المباركة أصبحت، حتى أن النساء أصبحن يأمن على أنفسهن من تعرض ذئب غادر لإحداهن في الغالب الأعم، إن رجال الهيئات يقفون خلف ذلك، وصدقوني أنه لو غُفِلَ عن الأسواق فقط لا نفتح علينا من أبواب الفساد ما نغرق في نتنه ولست بصدد سرد إنجازات هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهل أذكر لكم محاربتهم للأفلام الممنوعة التي لو تيسرت لشبابنا لما استطعنا مقاومة أثرها الهادم، هل أحدثكم عن مصانع الخمور التي يقبع خلفها بعض الفاسدين والتي تمسك بها الهيئة، كذلك المخدرات التي يقاومها رجال الهيئة بمعونة رجال مكافحة المخدرات، ترى هل أحدثكم عن معالجة رجال الهيئة للانحرافات الخلقية وكيف نذروا أنفسهم للإصلاح أولا ثم الحماية ثانيا، كم فوت رجال الهيئة الفرصة على ذئاب يريدون اغتيال عفة فتاة بريئة، كم من قضايا أخلاقية عالجها رجال الهيئة بالستر على أعراضٍ وعوراتٍ بالتعاون مع الجهات المسئولة فحموا بيوتا كادت أن تنهار، انظروا إلى رجال تائهين كان المجتمع لا يعرفهم إلا بالفساد وبفضل الله عز وجل ثم رجال الهيئات ومحتسبي الدعوة تحولوا إلى نعيم الهداية ورجالها، فكم من ليلة ينام هؤلاء الوالغين ملء أو ملاحقة شقي عابث، ويسهرون ونحن نائمون لمواجهة المجرمين وهم عزل من كل شيء، هل دفعهم إلى ذلك، مكافأة خارج دوام ؟ هل دفعهم إلى ذلك الحرص إلى زيادة الراتب ؟ إنما دفعهم إلى كل هذا هو حب المجتمع وحمايته وقبل ذلك الإخلاص لله تعالى وحده، فما أحسن أثرهم على الناس وما أقبح أثر الناس عليهم، أما الأخطاء فإنني لست أنكر من خلال حديثي وقوعهم في أخطاء يسيرة هم وإدارتهم دائما حريصون على تلافيها ولكني أسائلكم إخوة الإيمان: من مِنْ الناس يعمل ويسلم من الخطأ ؟ إن أية جهة أو دائرة حكومية لا يمكن أن تسلم من الخطأ وأي مدير أو مشرف لا يمكن أن يزعم العصمة من الخطأ لموظفي دائرته أو مؤسسته، ولكننا مع ذلك نكبر أخطاء الهيئة وننظر إليها بعين نقفل هذه العين ذاتها عن أخطاء جهة أخرى، ومع كل ذلك يأتيك فئة من الناس من القعدة لا هم لهم إلا ثلب رجالات الهيئة والحديث عنهم وتضخيم أخطائهم وإغفال محاسنهم، أو تأتيك فئة أخرى من الناس يطالبون الهيئة ورجالها بأدوار فوق طاقتهم وفوق إمكانياتهم وتتجاوز صلاحياتهم، وقد تجد فئة من الناس لا ينظرون إلى الهيئات على أنها جهة حكومية بل ينظر إليها وكأنها جمعية خيرية أو أهلية لا تجد توقيرا منه، إن هذا النقد غير البناء ليس دليل خير في أي مجتمع من المجتمعات، ولا يبغض رجال الهيئة المخلصين إلا شخص قطعوا عليه شهوته، أو جاهل بما يضره في دينه ودنياه، إننا في مجتمع تأسس على الخير والحق ونشأ على الخير وأحب الخير وأهله ودعاته، ولذلك فمن الغريب جدا عليه أن يوجد فيه مثل هذا السباب لرجال نذروا أنفسهم وأوقاتهم لخدمة هذا الدين فإن لم نساندهم ونأخذ على يد أولئك خسرنا جميعا، قال : ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا أرادوا الماء مروا على من فوقهم فآذوهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا – يريدون عدم إيذائهم – فإن أطاعوهم وما أرادوا هلكوا وأهلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا))، فلابد أن نحرص على الحفاظ على سفينة مجتمعنا وعلى من أمسكوا بدفتها.(/2)
إخوة الإيمان: إن كثيرا منا يخطئ كثيرا حينما يقصر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على هذه الجهات الرسمية، فنراه سلبيا لا يقوم بأي جهد تجاه المنكرات لا في حيه ولا في سوقه ولا في إدارته بل ولا في بيته، إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة المسلمين جميعا كل بحسبه يقول : ((من رأى منكم منكر فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)) وفي رواية: ((وليس وراء ذلك من الإيمان شيء)) لقد أصبح كثير من الناس اليوم مقصرا في جيرانه بل وفي الذي أمرنا الله ورسوله به ويضع أمامه العوائق حتى يسقط التبعة عن نفسه وعن غيره بالإنكار، فأين مراسلة المسئولين وكاتبتهم عن المنكرات وأين وعظ أصحاب المنكرات ومحلاتها، أين زيارة ذوي القلوب اللاهية الغافلة عن ذكر الله وأمرهم بالمعروف ،إننا إنْ لم نقم بأمر الله ونسعى في إصلاح مجتمعنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فمن الذي يقوم ويسعى بذلك لقد أصبح لدى كثير من الناس خور وضعف لا يستطيعون معهما أن يتكاتفوا لمنع الشر والفساد والأخذ بيد أهله إلى جادة الحق والصواب بالحكمة والموعظة الحسنة، ولأضرب لكم مثالا في أقل الحالات، فلقد أصبح بعض المراهقين الآن يقومون برفع أصوات الموسيقى مثلا في الشوارع والأرصفة وعند الإشارات وقد يقومون بالرقص ومع ذلك لا تجد ممن حولهم حتى من أهل الخير والصلاح من ينصحهم أو يوجههم في هذا الأمر فما بالك بما هو أعظم وأنكى، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله : ((إن الرجل من بني إسرائيل كان إذا رأى أخاه على الذنب نهاه عنه تعذيرا فإذا كان من الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون جليسه أو يأكل معه، فلما رأى الله ذلك منهم، ضرب قلوبهم مع بعضهم لبعض ولعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون)) ثم قال : ((والذي نفس محمد بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد السفيه ولتأطرنه على الحق أطرا أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض ثم يلعنكم كما لعنهم))، إن من المؤسف ومن المروع أن ترى أفراد أمة الإسلام لا يغارون لدين الله وحرماته، ولا يخافون من وبال أو عقاب حتى أصبح الرجل لا يتفقد أهله وولده وعماله ولا ينظر في جيرانه بل تراه يرى المعاصي فيهم وفي مجتمعه ولا ينهى عنها أو يحذر منها وهذا مما ينذر بالخطر سيما مع كثرة النعم والانغماس في الترف، إن مما شجع على استمراء كثير من الناس لهذه المنكرات وعدم إنكارها مع الأسف أننا نرى كثيرا منها يعرض في وسائل الإعلام ويمرر على مجتمعنا من خلال هذه الأجهزة التي نشتريها بأموالنا وتضييع أوقاتنا فكيف نأمر بستر المرأة وعدم مخالطتها للرجال وذلك معروض بكل سهولة وتغفلها عين الرقيب في تلك الوسائل؟ كيف نحذر ابناءنا وبناتنا من تقليد موضات الغرب وعاداتهم ونحن نتلقفها صباح مساء عبر القنوات الفضائية؟ إننا في مواجهة هذا الموج الغامر لابد من سعي حثيث لإعادة هذه الشعيرة في نفوسنا ونفوس من حولنا .
حتى النساء أُمرن بهذه الشعيرة ولم يُغفَل دورهن، يقول الله تعالى: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم [التوبة:71]. إن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر هم صمام الأمان لهذه الأمة هم من ينبغي أن نحرص عليهم فهم قد نذروا حياتهم لخدمة أمتهم والدفاع عن قضاياها ولذلك فإنك ترى أثرهم على الناس عظيما، ومكانتهم في قلوب الناس عظيمة حتى ولو ماتوا أو فٌقدوا، أما أثر غيرهم ممن عاش حياته لنفسه وفَقَدَه مجتمعه فإنه إذا مات أو فُقد لم يفقده أحد أو يبكي على ذهابه إن لم يسلم من عذاب الله ومقته بعدم إنكاره وشواهد التاريخ وقصصه تدعم ذلك وتؤيده، نسأل الله جل وعلا أن يغفر لنا وأن يوفق رجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن يحميهم ويكفيهم شر الأشرار وحديث الفجار. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور [الحج:41].(/3)
حماية النفس من الاغراءات في بلاد الإباحية
السؤال : ما هي الوسائل - غير الزواج - التي تمكن الشباب المسلمين الذين تركوا بلادهم المسلمة للدراسة في أمريكا من حماية أنفسهم من الاغراءات الموجودة هناك ؟.
الجواب :
الحمد لله
ينبغي أن نعلم أن الزواج هو الحل الطبيعي ، وحين نفكر في البديل نفكر به على أنه مؤقت ، والذي يعين على مواجهة أثر الشهوة أمران :
الأول :
تقوية المانع في النفس ، ويشمل ذلك : تقوية الإيمان ، والخوف من الله ومراقبته ، وتقوية الإرادة والعزيمة في النفس ، وإدراك المرء لعواقب اتباع الشهوة في الدنيا والآخرة .
الثاني :
إضعاف الدافع ، ويتمثل ذلك في الصيام ، وفي البعد عن كل ما يثير الشهوة وعلى رأسه النظر الحرام ، والصحبة السيئة .
الشيخ محمد الدويش
وإن ممارسة العبادات المشروعة بكافة أنواعها وانشغال النفس بها من أعظم ما يعين على حماية النفس من الاغراءات المحرمة فإذا انشغل هؤلاء الشباب بالتلاوة والذكر والدعاء والصيام والدعوة إلى الله وأقاموا لأنفسهم مجتمعاً خاصاً يعبدون الله فيه ويلتقون على الخير والبر وعكف كل منهم على عبادة ربه في وقت فراغه واستمر يذكر ربه في وقت شغله حتى في المكاتب وفصول الدراسة حتى يصير قلبه مع ربه ولو كان جسده مع الكفار فإن ذلك من أعظم أسباب سلامته ، والله الموفق .(/1)
حملة التطهير الطائفي ضد العرب السنة في العراق
بغداد: خاص بالمجتمع: من د. على محمود
المجتمع العدد 1706
المجتمع العدد 1706
" إن عوائل أهل السنة المغدورين، ومنائر مساجد أهل السنة المغتصبة، وأنقاض المساجد المدمرة، والمصاحف المحروقة والممزقة.. تستصرخ ضمائر العرب والمسلمين، مسؤولين ومنظمات وهيئات إسلامية تناديهم (وا.. إسلاماه.. وا.. عرباه) فهل من مجير؟ وهل من مستَصرخ؟ وهل من متحرك لرد الظلم عن أهل السنة في العراق؟!
منذ الغزو الأجنبي للعراق، وحتى اليوم تشهد مختلف مدن بلاد الرافدين وبالأخص بغداد والبصرة ومدن الجنوب حرب تطهير عرقي طائفي لم تعد سرية ضد أهل السنة العرب، تقوم بها المليشيات الطائفية من الأحزاب الوافدة للعراق بعد الغزو، وبخاصة ممن دخلوا العراق من جهة الشرق، وتتصاعد حدة هذه الحرب من عام لآخر وبلغت ذروتها مع تسلم الجعفري رئاسة الحكومة العراقية، وتوزير بيان جبر صولاغ وزيراً للداخلية، وهما اللذان سمحا بتسرب عناصر من مليشيات بدر للنفاذ إلى داخل القوي الأمنية وقوات الشرطة، وتجسدت جرائم التصفية المذهبية بما قامت به (فرق الموت) التي تتزيا بأزياء الداخلية وتستخدم سيارات الحكومة في تنفيذ أعمال الخطف والاغتيال والتعذيب.. وكانت أحداث سامراء في فبراير الماضي الذريعة التي أطلقت أشرس هجمة بربرية ضد أهل السنة ومساجدهم ودورهم ومصادر رزقهم، وبلغ عدد المساجد المعتدى عليها قرابة 200 مسجد إضافة إلى 120 مسجداً سنياً سبق مصادرتها وتحويلها إلى (حسينيات) في مختلف أنحاء العراق وبالأخص المنطقة الجنوبية.
وكانت فضيحة معتقلات الداخلية المخصصة لتعذيب أهل السنة وتدار من قبل عناصر فيلق بدر وضباط استخبارات قادمين من دولة مجاورة، ومن المؤسف أن يتم كشف هذه الفضيحة (على يد القوات الأمريكية) ومنها معتقل الجادرية سئ الصيت، الذي فتشته القوات الأمريكية وكشفت للعالم ما يدور فيه من أعمال تعذيب وتصفيات.
ورغم أن قوات الإحتلال والحكومة قالت إنها شكلت لجنة على مستوى عال للتحقيق إلا أن شيئاً لم يكشف وتم (لفلفة) الموضوع لقاء صفقات سياسية رخيصة. كما تجسدت أعمال التطهير والتصفية في أعمال خطف الشباب من أبناء السنة على يد عصابات (فرق الموت) والعثور عليهم في مشرحة الطب العدلي مقتولين غدراً، بعد تعذيبهم. وأعلن مدير الطب العدلي تصاعد أعداد الجثث المستلمة من قبل المشرحة لتصل إلى معدل 80 100 جثة يومياً، بعد أن كانت مشرحة الطب العدلي لاتستلم أكثر من 84 جثث يومياً، قبيل الغزو الأمريكي للعراق.
استغلال أكذوبة مظلومية الشيعة وتبعية السنة لصدام:
بعد سقوط النظام الدكتاتوري السابق، استغلت القوى الطائفية، أكذوبة ما يسمى باضطهاد الشيعة في العراق والمظلومية الشيعية، وأكذوبة كون النظام السابق كان (سنياً أو متحيزاً للسنة!!)، لتمارس اضطهاداً ممنهجاً ضد أهل السنة العرب، وكان موقف قوات الاحتلال والقوى الكردية المحسوبة على السنة! للأسف موقف المتفرج الراضي عما يجري.. وبلغ عدد شهداء أهل السنة خلال فترة حكم الجعفري على يد الحكومة وقوات الغزو وعصابات الغدر أكثر من (40) ألف شهيد.
لقد عاش العراقيون قروناً طوالاً من التآلف والمحبة بين مختلف المذاهب والأديان، وبالأخص بين الشيعة والسنة، وبالرغم من أن اللُّحمة الوطنية ما تزال قوية بين الطائفتين المسلمتين السنة والشيعة، ولا يمكن بأي حال من الأحوال تحميل عموم الشيعة وزر ممارسات التطهير الطائفي التي مارسها منتسبون إلى (الحرس الوطني) و(قوات فيلق بدر) و(جيش المهدي) وغيرهم؛ لأن التصفيات كانت تسير وفق منهجية مدروسة لتطبيق التطهير الطائفي في مناطق متعددة من العراق، وتتصاعد كل يوم وتيرة هذه السياسة لتوتير الأجواء وتسميمها وإفساد الذمم لإشغال الشعب العراقي عن الاحتلال وآثاره المدمرة وتوجيه أنظاره إلى النزاعات الطائفية التي لم يكن ليعرفها في اسوأ العهود. فقد مورست عمليات ترحيل وتهجير إجبارية لعوائل سنية كثيرة من البصرة والكوت والناصرية والعمارة والسماوة بممارسة الترهيب من قبل المليشيات والحرس الوطني ومغاوير الشرطة، ولعل بغداد أكبر مثل لما جرى ويجري من تلك الممارسات حيث الضغوط العنيفة على المناطق المتآلفة كالشعلة والحرية والكرادة والشعب، وعزل المناطق ذات الأغلبية السنية كالمحمودية واللطيفية والدورة وأبو غريب والعامرية، ولصق التهم الإرهابية بها واعتقال أبنائها في مداهمات ليلية ونهارية، حتى تصبح تلك المناطق كالجحيم لا يمكن العيش في كنفها، وربما تركها لتوطين من يراد توطينهم من قبل المليشيات الحاكمة في بغداد، والذي حدث في الشعلة أكبر دليل على ذلك لأن هذه المنطقة باتت شيعية 100% بعد إجبار وترحيل أهلها من السنة إلى مناطق أخرى بعد اعتقال أو قتل شبابها من قبل مليشيات بدر والمهدي ومغاوير وزارة الداخلية.(/1)
فعندما اختُطفت أخت وزير الداخلية بيان جبر صولاغ في منطقة القادسية اعتُقل في المنطقة المحيطة بالقادسية أكثر من 250 شاباً ووُضعوا في غياهب السجون ك (رهائن) لدى وزارة الداخلية، واعتقلت حتى عائلة امرأة صابئية، واستغلت الداخلية هذه الحادثة لعمل تصفيات طائفية في هذه المنطقة الحساسة من بغداد. وبنفس الاتجاه جاء مسلحو وزارة الداخلية واقتادوا قائمقام المحمودية الذي خدم مدينته خير خدمة، والمنتخب من أهاليها إلى مكان مجهول، وذنبه الوحيد أنه من الحزب الإسلامي العراقي فتم اغتياله!
اعتقالات ومداهمات بالجملة في الدورة وأبو غريب والغزالية والعامرية وأبو دشير تستهدف السنة، مما جعل الشباب يهربون من تلك المناطق إلى أقاربهم القاطنين في مناطق أكثر أمناً، وهذه المداهمات في كثير من الأحيان تصيب حتى العوائل الشيعية، من أجل تنفيذ مخطط العزل الطائفي.
لقد وصلت الاستفزازات الطائفية للحرس والمليشيات حداً لا يطاق؛ حيث الاستهزاء بمشاعر المسلمين الدينية مثل سب الصحابة والخلفاء وأمهات المؤمنين وتحويل وزارات ودوائر حكومية إلى حسينيات.
بل لقد أصبحت التعيينات الوظيفية هي الأخرى تتم على أسس طائفية، كما تم اغتيال أعداد كثيرة من الشباب العراقي ممن أسماؤهم (عمر) أو (بكر) أو (عثمان) أو (فاروق) أو(عائشة) أو(هند)، فضلاً عن أن هذا الاسم يكفي لكي يحرم صاحبه من أول لحظة من العثور على وظيفة ما في أي مكان أو دائرة. أما الاسم الذي لا يوضح هوية أو انتماء صاحبه، فإن صاحبه يُسأل: هل هو سني أم شيعي؟ وبدأت الاستمارات في الكليات والوظائف وغيرها توزع على الملأ وفيها ايضا حقل حول (مذهب) الشخص.
تصفية العلماء
الشروخات الطائفية وتصرفات الحرس الوطني والمليشيات تبعها تدمير لمؤسسات الدولة، فهناك عمليات منهجية لإفراغ البلاد من الكفاءات حيث مورس القتل والخطف وتهديد الكثير من العلماء والأطباء والمهندسين والصحافيين.
ومن ثم تدنى المستوى الدراسي في العراق كثيراً، سواء في المدارس أو المعاهد أو الجامعات؛ حيث الغش والرشوة والمحسوبية والمحاصصة في قبول الطلاب في هذه الكلية أو تلك.
ستة آلاف جثة: أظهرت بيانات وزارة الصحة العراقية أن المشرحة الرئيسة في بغداد استقبلت منذ بداية هذا العام وحتى نهاية مايو الماضي جثث 6 آلاف عراقي قتل معظمهم بأسلوب عنيف. وتفيد البيانات بتزايد عدد الجثث الواردة إلى المشرحة شهرياً بصورة مطردة. وزاد عدد جثث الضحايا التي نقلت إلى المشرحة من 1000 جثة في شهر يناير الماضي إلى 1400 جثة في شهر مايو. ويُعتقد أن غالبية هؤلاء الأشخاص قد قتلوا بسبب العنف الطائفي.
ويقول مراسل ال"بي بي سي" في بغداد إن هذه الأرقام بالغة الحساسية والحرج بالنسبة للحكومة العراقية؛ حيث تخشى أن يؤدي الإعلان عن الأرقام الحقيقية إلى تزايد أعمال العنف، لأن أعداد الضحايا أكبر من تلك المعلنة رسمياً، حيث لا ترد جثث أخرى كثيرة إلى المشرحة، كما أن هناك جثثاً أخرى لمفقودين لايعثر عليها مطلقاً. وكانت قوات من الشرطة العراقية قد عثرت في وقت مبكر على تسعة رؤوس مقطوعة مجهولة الهوية في مدينة بعقوبة شمال شرق بغداد.
كوفي عنان ينتقد
قدم كوفي عنان الأمين العام للأمم المتحدة تقريراً إلى مجلس الأمن عن حالة حقوق الإنسان في العراق، وورد فيه: "إن الأمم المتحدة لا تزال قلقة بشأن أعداد المعتقلين الضخمة المحتجزين، دون إجراءات مناسبة". وقال: "إن التقارير المباشرة وغير المباشرة التي ترد من بغداد تشير بشكل مستمر إلى الاستخدام المنظم للتعذيب خلال التحقيق في مراكز الشرطة العراقية وغيرها من المنشآت، منها ما يتبع وزارة الداخلية العراقية". وأبلغ عنان مجلس الأمن الدولي مستشهداً بإحصائيات صادرة عن وزارة حقوق الإنسان العراقية "إن وزارة العدل العراقية تحتجز في معتقلات الشرطة نحو 7300 سجين، فيما يوجد 2300 شخص محتجز في سجون خاصة بوزارة الداخلية العراقية، و120 معتقلاً لدى سجون وزارة الدفاع العراقية، ونحو 19600 شخص معتقل لدى القوات الأمريكية التي تدير ثلاثة سجون في العراق بينها سجن أبو غريب الذي كان مسرحاً لفضيحة السجناء، والآخران هما معتقلا بوكا في أم قصر ومعتقل المطار ببغداد".
وصرح باحتجاز السجناء العراقيين خلافا ًلمواثيق جنيف التي نص عليها مجلس الأمن الدولي. ولاتسمح مواثيق جنيف التي تحكم معاملة المدنيين في وقت الحرب للقوات الأجنبية باحتجاز سجناء في دول أجنبية. وجاء في التقرير الذي وضعه عنان أمام مجلس الأمن "أن هذه الأرقام تدل على تدهور مطرد وتوفر مؤشراً قويا ًعلى غياب الحماية لحق الحياة الذي يهيمن على العراق في هذا الوقت".(/2)
كما اتهم تقرير (بعثة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة)، الحكومة العراقية بتعمد إخفاء أرقام الضحايا من المدنيين، مشيراً إلى وقوع انتهاكات واسعة، وحالات "إعدام جماعي" خارج نطاق القانون. وأوضح التقرير أنّ حقوق الإنسان في العراق، "تتعرض إلى تقويض خطير، لتفاقم ظاهرة انعدام الأمن، وارتفاع وتيرة العنف، وانعدام القانون والنظام الناجم عن الأعمال التي ترتكبها المليشيات والعصابات الإجرامية".
واتهم التقرير الحكومة العراقية، بأنها لم تقدم أرقاماً دقيقة بأعداد الضحايا من بين صفوف المدنيين خلال الفترة التي غطّاها التقرير، على الرغم مما قال إنه "يتم الإبلاغ عن مئات القتلي والمصابين أسبوعياً، من بينهم نساء وأطفال، سواء كانوا مستهدفين بقصد أو دون قصد، كضحايا للهجمات المتسمة بالعنف".
وتطرّق التقرير إلى حالة العنف التي تفجرت في مدينة البصرة، وقال إنها تنذر بالخطر.
وذكر التقرير "في صبيحة 13 نيسان (أبريل)، داهم مسلحون يرتدون زي الشرطة العراقية ويقودون الحافلات نفسها التي تستخدمها الشرطة العراقية شركة "الفيحاء" للبناء في البصرة، ويبدو أنه تم عزل الموظفين حسب مذهبهم، وتم إعدام 7منهم (السنة) إعداماً خارجاً عن نطاق القانون، وقد استنتجت الشركة المعنية بأن هذا القتل قد يكون شكلاً من أشكال الانتقام من الشركة بسبب مذهبية بعض العاملين فيها، كما جاء فيه. واتهم التقرير العمليات العسكرية التي تشنها القوات الأمريكية والعراقية، بأنها خلفت "فوضي عارمة".
إن أحوال حقوق الإنسان في العراق مازالت في وضع سيئ، بسبب ممارسات المليشيات والقوى المسلحة المنفلتة والتي تعمل خارج القانون، ووسط تراجع كبير في قدرات وإمكانات القوى الأمنية لضبط الأمن العام في البلاد.
وقد مرت أحداث البصرة الأخيرة وقتل المئات من أهل السنة ومهاجمة المصلين في جامع العرب السني بالبصرة من قبل قوات الداخلية وبالصواريخ والقذائف، وقتل الشباب بحجة إيواء الإرهابيين على الحكومة "المالكية" دون إهتمام أو تحقيق.
مجموعات الرداء الأسود وفرق الموت
كان حادث الاعتداء المشبوه الدوافع ومجهول الفاعلين، على ضريحي الإمامين العسكريين في سامراء (22 فبراير الماضي) فرصة لعصابات الرداء الأسود كي تنطلق في الهجوم على مساجد أهل السنة، وتقوم بقتل المئات من المصلين وحرق وتهديم أعداد كبيرة من المساجد. وبالرغم من إعلان مقتدى الصدر عن براءة تياره من عمليات استهداف المساجد ودور العبادة في بغداد وعدد من المدن العراقية، وإعلان السيد عبدالعزيز الحكيم زعيم المجلس الاعلي للثورة الاسلامية تجريمه لمثيري الشغب في العراق، فإن جريمة سامراء أطلقت العنان لفوضى أمنية، لم تنجح الإجراءات الحكومية بفرض حظر تجول شمل مدن بغداد وصلاح الدين وبابل وديالى في الحد منها، مع تراجع مستوى العنف بشكل كبير وتصاعد دعوات التهدئة وارتفاع "صوت العقلاء على صوت الغوغاء". ولم تكن القيادات الدينية أقل رغبة في التهدئة من القيادات السياسية. وأصدر المرجع الشيعي الأعلى آية الله علي السيستاني فتوى "تحرم التعرض للمساجد السنية" وحض العشائر على "الإسهام في محاصرة فرق القتل واستهداف المساجد"، في وقت حض الشيخ حارث الضاري الأمين العام لهيئة علماء المسلمين، الأهالي على التزام المنازل وضبط النفس، وعدم مهاجمة أية قوة للجيش أو الشرطة العراقيين؛ درءاً لمحظورات الفتنة الطائفية. ويرى مراقبون أن عزل المجموعات، ذات النهج التكفيري من الطائفتين، وعدم منح هوية مذهبية لها يمثل أولى خطوات إصلاح الأوضاع واستيعاب تداعيات الأحداث التي انطلقت بعد تفجيرات سامراء، وكانت لها خلفيات منهجية للجماعات التي دأبت على استهداف مساجد وحسينيات شيعية وزوار للعتبات المقدسة بمقابل "فرق الموت" التي مارست عمليات تصفية على الهوية الطائفية.
وزارة الداخلية غير مكترثة
وفي 10 مارس-أذار الماضي نقلت وكالة رويترز عن مسؤول كبير سابق بالأمم المتحدة "إن النمو غير المحكوم للمليشيات في العراق سيعرقل أي خطط أمريكية للانسحاب وإن الحكومة العراقية لا تبدي اهتماما يذكر بحل الأزمة".
وقال جون بيس الرئيس السابق لمكتب حقوق الإنسان التابع للامم المتحدة في العراق "إن تراخي وزارة الداخلية العراقية قد فاقم بشكل كبير مشكلة المليشيات وساهم في انهيار القانون والنظام في العراق".
وأضاف بيس الذي ترك منصبه في فبراير-شباط لرويترز: "لا يبدو أن أحداً من الزعماء السياسيين مهتم بإنهاء هذه الفوضى". وتابع بيس "أي شخص لديه سلاح وقدر معقول من التنظيم يمكنه أن يفعل أي شيء حقيقي دون التعرض لعقاب، هناك تباين في الاهتمامات، وهناك افتقار إلى تقدير ضرورة تفكيك الميليشيات وحماية الأفراد".(/3)
وأشار بيس إلى "أن الفوضى نتجت عن الفراغ الذي سببه قرار حل الجيش والشرطة العراقيين بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة والذي أطاح بصدام في عام.2003 وقال بيس: بكل تأكيد كان حتميًا أن يحدث ذلك بعد القرار... لقد أحدث فراغاً سعت جماعات أو عصابات إجرامية إلى حد كبير لاستغلاله.
تورط مغاوير الداخلية والحرس الوطني
صرح وكيل وزارة الداخلية العراقية (الكردي اللواء كمال حسين) بأن نتائج التحقيقات الأولية أثبتت تورط 25 من عناصر الشرطة والجيش العراقي في "فرق الموت" التي تستهدف خطف وقتل المدنيين.
ونقلت صحيفة "المشرق" العراقية عن وكيل وزارة الداخلية اللواء كمال حسين قوله "إن التحقيقات الاولية حول قضية فرق الموت أثبتت تورط 22 شخصاً من وزارة الداخلية وثلاثة أشخاص من وزارة الدفاع".
وأضاف كمال الذي يرأس لجنة التحقيق المكلفة بالتحري حول كتيبة فرق الموت التي أعلن الجيش الأمريكي وجودها في وزارة الداخلية، وتتولى تصفية المدنيين العراقيين أن "التحقيقات أشارت إلى أن هؤلاء الأشخاص استغلوا الخلافات والمشاكل لارتكاب مخالفات قانونية، واستثمروا وجودهم في دوائر الداخلية وقاموا بخطف المدنيين للانتقام منهم". وتشهد مدن عراقية عمليات قتل واختطاف يرتكبها أشخاص يرتدون زي أجهزة الجيش والشرطة العراقية، الأمر الذي دفع شخصيات سياسية إلى اتهام وزارتي الداخلية والدفاع بالوقوف وراء هذه الأعمال.
قوات الاحتلال الأمريكي كشفت فضيحة "فرق الموت":
لم تكد تمض أكثر من 24 ساعة على فضيحة جديدة في سجن أبي غريب، أثر نشر صور مروعة عن تعذيب جنود أمريكيين لمعتقلين عراقيين، حتى كشفت واشنطن ولندن عن وجود (فرق موت) من مغاوير وزارة الداخلية العراقية ومرتبطة بمنظمة بدر (الموالية لإيران) ترتكب عمليات اغتيال مقصودة ضد طائفة معينة من العراقيين. الأمر الذي دفع وزير الداخلية العراقي إلى الإعلان عن بدء التحقيق بهذه المعلومات، معترفاً بتسلل مجرمين إلى الأجهزة الامنية، ومؤكداً العمل على اجتثاثهم، في وقت أعلنت فيه وزيرة حقوق الإنسان أن عدداً من مسؤولي الداخلية سيقدمون للمحاكمة بتهمة تعذيب معتقلين في معتقل الجادرية في بغداد الذي كشف النقاب عنه مؤخراً.
ففي تصريح له قال الجنرال الأمريكي جوزيف بيترسون المسؤول عن تدريب قوات الشرطة العراقية بأن 22 من عناصر شرطة النجدة والدوريات يرتدون زي الكوماندوز المستخدم من قبل قوات مغاوير الشرطة تم استيقافهم من قبل القوات الأمريكية نهاية أكتوبر 2005في شمال بغداد عندما كانوا في طريقهم لتنفيذ عملية قتل رجل سني في أطراف شرقي بغداد بمنطقة (كسرة وعطش).
وقال الجنرال بيترسون أن القوات الأمريكية تحتجز أربعة من الأفراد الذين ألقي القبض عليهم في سجن أبو غريب بينما بقي 18 رهن الاعتقال في سجون عراقية. وبينت التحقيقات أن الرجال الأربعة المعتقلين في أبو غريب تابعون لمنظمة بدر. وأكد أنه يعتقد أن "فرق موت" أخرى تعمل داخل قوات الأمن العراقية. وأثر ذلك أكد مسؤول عسكري بريطاني بارز هو القائد "أليكس ويلسون" أن "فرق موت" تابعة لفيلق بدر كانت مسؤولة عن العديد من عمليات القتل التي جرت في مدينة البصرة في جنوب العراق خلال الأشهر الثلاثة الماضية.
وقال ويلسون إنه "بين نوفمبر ويناير الماضيين قتل أو اغتيل 141 شخصاً في البصرة، مما يشكل ضعف عدد الجرائم التي ارتكبت بين مايو ونوفمبر من العام الماضي 2005".
ومن جهتها قالت وجدان ميخائيل وزيرة حقوق الإنسان: إن أكثر من مائتي عراقي تعرضوا للتعذيب العام الماضي، وأن بعض تلك الانتهاكات وقع في مقار وزارة الداخلية. وقالت إن السلطات العراقية على علم بتعرض 180 عراقياً إلى التعذيب عُثر على غالبيتهم في معتقل بمبني لوزارة الداخلية في منطقة الجادرية في بغداد، فيما يحيط الغموض مصير ثلاثة من المعتقلين.. وتوقعت الوزيرة محاسبة عدد من العاملين في وزارتي الداخلية والعدل، وتقديمهم إلى العدالة بتهم التورط في التعذيب الذي تفاوت من تعذيب جسدي والنفسي، وأضافت قائلة "هناك أشخاص ليسوا على مستوى عال من وزارتي الداخلية والعدل يتوقع تقديمهم للمحاكمة"، كما أبلغت وكالة الاسوشيتدبريس وقالت إن الأمر سيطال قضاة لإخفائهم معلومات تتعلق بالانتهاكات والتستر عليها. ورفضت الكشف عن عدد الذين سيقدمون للمحاكمة، مشيرة إلى أن الأرقام ستُضمَّن في تقرير تعده وزارة حقوق الإنسان.
وكان سفير الولايات المتحدة لدى العراق، زلماي خليل زاد قد أعلن في وقت سابق العثور على أكثر من مائة معتقل في منشأة الجادرية، وهم يعانون من آثار التعذيب. كما اكتُشف ما بين 21 إلى 26 آخرين في منشأة أخرى. وقال خليل زاد إن الولايات المتحدة سوف "تعجل بالتحقيقات" لتحديد المسؤولين عن الانتهاكات.(/4)
لايمكن مطلقاً بأي حال قبول أن تسكت الدولة عن قيام جماعات مهما كانت بانتحال صفة وهوية وأزياء رجالها وممارسة أعمال الإرهاب والخطف والقتل تحت ستار الدَهم والتفتيش والقبض والبحث عن الإرهابيين!!
ولاندري هل يُطاردُ الإرهاب بالإرهاب! حيث كل يوم تطالعنا الأخبار عن مزيد من الجثث مجهولة الهوية يعثر عليها في أنحاء مختلفة من البلاد... فضلاً عن استمرار مسلسل الاغتيالات الأهوج، الذي يطال الجميع، وصار أمراً مألوفاً في مجتمعنا الممتحن!
ونتساءل بألم ومرارة: متى يتوقف نزيف الدم العراقي الطاهر.. ويتم ملاحقة المجرمين الفاعلين ومعاقبتهم؟
إن عوائل أهل السنة المغدورين، ومنائر مساجد أهل السنة المغتصبة، وأنقاض المساجد المدمرة، والمصاحف المحروقة والممزقة.. تستصرخ ضمائر العرب والمسلمين مسؤولين ومنظمات وهيئات إسلامية تناديهم (وا.. إسلاماه.. وا.. عرباه). فهل من مجير؟ وهل من مستصرَخ؟ وهل من متحرك لرد الظلم عن أهل السنة في العراق؟!(/5)
حملة رسالة الإسلام الأولون
وما كانوا عليه من المحبة والتعاون على الحق والخير
وكيف شَوَّه المغرضون جمال سيرتهم
محب الدين الخطيب
________________________________________
روى الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري في صحيحه عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"، (قال عمران بن حصين: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثاً) "ثم إن بعدكم قوماً يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يفون، ويظهر فيهم السمن".
وروى البخاري مثله بعده عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم وحديث ابن مسعود هذا عند الإمام أحمد أيضاً في مسنده، وفي صحيح مسلم، وفي سنن الترمذي. وروى مسلم مثله في صحيحه عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها.
فالهدى كل الهدى، مما لم تر الإنسانية مثله -قبله ولا بعده- هو الذي تلقاه الصحابة عن معلِّم الناس الخير. وكان الصحابة به خيَر أمةِ محمد صلى الله عليه وسلم بشهادته هُوَ لَهم؛ وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما الذين يدَّعون خلاف ذلك فهم الكاذبون.
إن الخير كل الخير فيما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الدين كل الدين ما اتبعهم عليه صالحو التابعين، ثم نشأ على آثارهم التابعون لهم بإحسان.
ومن أحطِّ أكاذيب التاريخ زَعْمُ الزاعمين أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يضمر العداوة بعضهم لبعض، بل هم كما قال الله سبحانه عنهم في سورة الفتح: (أِشِدَّاءُ على الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُم) وكما خاطبهم رَبُّنا في سورة الحديد: (وَلِلَّهِ مِيراثُ السماواتِ والأرضِ لا يَسْتَوي مِنْكُم مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ وَقاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذينَ أنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وقاتَلوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الحُسْنى) ولا يخلف الله وعده. وهل بعد قول الله عز وجل في سورة آل عمران: (كُنْتُم خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) يبقى مسلماً من يكذِّب ربَّه في هذا، ثم يكذِّب رسولَه في قوله: “خَيرُ أمَّتي قرني، ثم الذين يلونهم ..”؟!
في صدر هذه الأمة حفظ الله كتابه بحفظته أميناً على أمين، حتى أدوا أمانة ربهم بعناية لم يسبق لها نظير في أمة من الأمم، فلم يفرطوا في شيء من ألفاظ الكتاب على اختلاف الألسنة العربية في تلاوتها ونبرات حروفها، وتنوّع مدودها وإمالاتها، إلى أدق ما يمكن أن يتصوره المتصور، فتم بذلك وعدُ الله عز وجل في سورة الحجر: (إنَّا نحنُ نزَّلنا الذِّكْر وإنَّا له لحافِظون).
ومن صدر هذه الأمة تفرّغ فريق من الصحابة فالتابعين وتلاميذهم لحمل أمانة السنة، فكانوا يمحِّصون أحاديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذرعون أقطار الدنيا ليدركوا الذين سمعوها من فم النبي صلى الله عليه وسلم فيتلقوها عنهم كما يتلقون أثمن كنوز الدنيا. بل كانت دار الإمارة في المدينة المنورة منتدى الفقهاء الأولين في صدر الإسلام يجتمعون إلى أميرهم مروان بن الحكم، فإذا عزيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة غير الذي كان معروفاً عندهم أرسل مروان في تحقيق ذلك إلى من نسبت تلك السنة إليه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو أزواجه، حتى يرد الحق إلى نصابه.
وبينما كان حفظة القرآن وحملة السنة المحمدية يجاهدون في حفظ أصول الشريعة الكاملة، كان آخرون من أبناء الصحابة وأبطال التابعين يحملون أمانة الإمامة والرعاية والجهاد والفتوح، ويعملون على نقل الأمم إلى الإسلام: يعربون ألسنتهم، ويطهرون نفوسها، ويسلكونها في سلك الأخوة الإسلامية لتتعاون معهم على توحيد الإنسانية تحت راية الهدى، وتوجيهها إلى أهداف السعادة.
وقد بارك الله لهؤلاء وأولئك بأوقاتهم، وأتمَّ على أيديهم في مائة سنة ما يستحيل على غيرهم -من أهل الطرائق والأساليب الأخرى- أن يعملوه في آلاف السنين.
هؤلاء هم الذين أخبر عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم خير أمته، وقد صح ما أخبر به، فإن الإسلام إنما رأى الخير على أيديهم، فبهم حفظَ اللهُ أصولَه، وبهم هدى الله الأمم. والبلاد التي دخلت في الإسلام على أيديهم نبغ منها في ظل طريقتهم وعلى أساليبهم كبار الأئمة كالإمام البخاري والإمام أبو حنيفة والليث بن سعد وعبد الله بن المبارك، فكانت الأمم تقبل على هذه الهداية بشغف وتقدير وإخلاص، لما ترى من إخلاص دعاتها وصدقهم وإيثارهم الآجلة على العاجلة، والأمة التي تولت الدعاية لهذه الهداية تستقبل نوابغ المهتدين بصدر رحب، وتبوىء المستأهلين منهم المكانة التي هم أهلٌ لها.(/1)
هكذا كانت الحال في البطون الثلاثة الأولى التي امتدحها رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفها بأنها خير أمته. أما العصور التي أتت بعدهم فإن المسلمين يتميزون فيها بمقدار اتباعهم للصدر الأول فيما كان عليه من حق وخير. وهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: "مثل أمتي مثل المطر، لا يدرى أوله خير أم آخره." رواه أحمد في مسنده و الترمذي في سننه عن أنس، ورواه ابن حبان والإمام أحمد في مسنده أيضاً من حديث عمار، ورواه أبو ليلى في مسنده عن علي بن أبي طالب، ورواه الطبراني في معجمه الكبير عن عبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو، كل هؤلاء الصحابة رووه عن النبي صلى الله عليه وسلم. فأمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى خير في كل زمان ومكان ما تحرَّت الطريق الذي مشى فيه هداة القرون الثلاثة الأولى وتابعوهم فيه. بل يرجى لمن يقيم الحق في أزماننا كما أقامه الصحابة والتابعون في أزمنتهم أن يبلغوا منزلتهم عند الله ويعدوا في بقيتهم، ولعلهم المعنيون بقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد والدارمي والطبراني من حديث أبي جمعة قال: قال أبو عبيدة: يا رسول الله، أأحد خير منا؟ أسلمنا معك، وجهدنا معك. فقال صلى الله عليه وسلم: "قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بي ولم يَروني." وإسناده حسن، وصححه الحاكم. واحتج الحافظ أبو عمر بن عبد البر بأن السبب في كون القرن الأول خير القرون أنهم كانوا غرباء في إيمانهم لكثرة الكفار في الأرض، وصبرهم على الهدى وتمسكهم به، إلى أن عَمَّ بهم في أرجائها. قال ابن عبد البر: فكذلك أواخرهم إذا أقاموا الدين وتمسكوا به وصبروا على الطاعة حين ظهور المعاصي والفتن، كانوا أيضاً عند ذلك غرباء، وزكت أعمالهم في ذلك الزمان كما زكت أعمال أولئك. ويشهد له ما رواه مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بدأ الإسلام غريباً، وسيعود كما بدأ، فطوبى للغرباء."
ومن غربة الإسلام بعد البطون الثلاثة الأولى ظهور مؤلِّفين شوَّهوا التاريخ تقرباً للشيطان أو الحكام؛ فزعموا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكونوا إخواناً في الله، ولم يكونوا رحماء بينهم، وإنما كانوا أعداء يلعن بعضهم بعضاً، ويمكر بعضهم ببعض، وينافق بعضهم لبعض، ويتآمر بعضهم على بعض، بغياً وعدواناً. لقد كذبوا. وكان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي أسمى من ذلك وأنبل، وكانت بنو هاشم وبنو أمية أوفى من ذلك لإسلامهما ورحمهما وقرابتهما وأوثق صلة وأعظم تعاوناً على الحق والخير.(/2)
حدثني بعض الذين لقيتهم في ثغر البصرة لما كنت معتقلاً في سجن الإنجليز سنة 1332هـ أن رجلاً من العرب يعرفونه كان يتنقل بين بعض قرى إيران فقتله القرويون لما علموا أن اسمه (عمر)! قلت: وأي بأس يرونه باسم (عمر)؟ قالوا: حباً بأمير المؤمنين علي. قلت: وكيف يكونون من شيعة علي وهم يجهلون أن علياً سمى أبناءه -بعد الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية- بأسماء أصدقائه وإخوانه في الله (أبي بكر) و(عمر) و(عثمان) رضوان الله عليهم جميعاً، وأم كلثوم الكبرى بنت علي بن أبي طالب كانت زوجة لعمر بن الخطاب ولدت له زيداً ورقية، وبعد مقتل عمر تزوجها ابن عمها محمد بن جعفر بن أبي طالب ومات عنها فتزوجها بعده أخوه عون بن جعفر فماتت عنده. وعبد الله بن جعفر ذي الجناحين ابن أبي طالب سمى أحد بنيه باسم (أبي بكر) وسمى ابناً آخر له باسم (معاوية)، ومعاوية هذا -أي ابن عبد الله ابن جعفر بن أبي طالب- سمى أحد بنيه (يزيد). وعمر بن علي بن أبي طالب كان من نسل عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب اشتهر بالمبارك العلوي وكان يكنى (أبا بكر). والحسن السبط بن علي ابن أبي طالب سمى أحد أولاده باسم أمير المؤمنين (عمر) تيمناً وتبركاً. ولِعمر هذا ذرية مباركة منهم العلماء والشرفاء. والحسن السبط كان مصاهراً لطلحة بن عبيد الله، وإن أم إسحاق بنت طلحة هي أم فاطمة بنت الحسين بن علي. وسكينة بنت الحسين السبط كانت زوجاً لزيد بن عمر بن عثمان بن عفان الأموي. وعقد لها قبله على الأسبغ ابن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي. وأختها فاطمة بنت الحسين السبط بن علي بن أبي طالب كانت زوجة عبد الله الأكبر بن عمرو بن عثمان بن عفان، وكانت قبل ذلك زوجة الحسن المثنى، وله منها جدُّنا عبد الله المحض. وأم أبيها بنت عبد الله بن جعفر ذي الجناحين بن أبي طالب كانت زوجة لأمير المؤمنين عبد الملك بن مروان ثم تزوجها علي بن عبد الله بن العباس ابن عبد المطلب. وأم كلثوم بنت جعفر ذي الجناحين كانت زوجة للحجاج بن يوسف وتزوجها بعد ذلك أبان بن عثمان بن عفان. والسيدة نفيسة المدفونة في مصر (وهي بنت حسن الأنور بن زيد بن الحسن السبط) كانت زوجة لأمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك وولدت له. وعلي الأكبر ابن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب أمه ليلى بنت مرة بن مسعود الثقفي وأمها ميمونة بنت أبي سفيان بن حرب الأموي. والحسن المثنى بن الحسن السبط أمه خولة بنت منظور الفزارية وكانت زوجة لمحمد بن طلحة بن عبيد الله، فلما قتل يوم الجمل -ولها منه أولاد- تزوجها الحسن السبط فولدت له الحسن المثنى. وميمونة بنت أبي سفيان بن حرب جدة علي الأكبر ابن الحسين ابن علي لأمه. ولما توفيت فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم تزوج علي بعدها أمامة بنت أبي العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن أمية.
فهل يعقل أن هؤلاء الأقارب المتلاحمين المتراحمين الذين يتخيرون مثل هذه الأمهات لأنسالهم، ومثل هذه الأسماء لفلذات أكبادهم، كانوا على غير ما أراده الله لهم من الأخوة في الإسلام، والمحبة في الله، والتعاون علىالبر والتقوى؟(/3)
لقد تواتر عن أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه أنه كان يقول على منبر الكوفة: "خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر". روي هذا عنه من أكثر من ثمانين وجهاً، ورواه البخاري وغيره، ولا يوجد في تاريخ في الدنيا، لا تاريخ الإسكندر المقدوني، ولا تاريخ نابليون، صحت أخباره كصحة هذا القول -من الوجهة العلمية التاريخية- عن علي بن أبي طالب. وكان كرم الله وجهه يقول: "لا أُوتَى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا ضربته حدَّ المفتري" أي أن هذه الفرية توجب على صاحبها الحدَّ الشرعي، ولهذا كان الشيعة المتقدمون متقفين على تفضيل أبي بكر وعمر. نقل عبد الجبار الهمداني في كتاب (تثبيت النبوة) أن أبا القاسم نصر بن الصباح البلخي قال في (كتاب النقض على ابن الراوندي): سأل سائل شريك بن عبد الله فقال له: أيهما أفضل أبو بكر أو علي؟ فقال له: أبو بكر. فقال السائل: تقول هذا وأنت شيعي؟ فقال له: نعم، من لم يقل هذا فليس شيعياً. والله لقد رقي هذه الأعواد علي فقال: “ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر” فكيف نردّ قوله؟ وكيف نكذبه؟ والله ما كان كذاباً. وفي ترجمة يحيى بن يعمر العدواني من (وفيات الأعيان) للقاضي ابن خلكان أن يحيى بن يعمر كان عداده في بني ليث لأنه حليف لهم، وكان شيعياً من الشيعة الأولى القائلين بتفضيل آل البيت من غير تنقيص لذي فضل من غيرهم. ثم ذكر قصة له مع الحجاج، وإقامته الحجة على أن الحسن والحسين من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم من آية (ووهبنا له إسحاق ويعقوب) إلى قوله تعالى: (وزكريا ويحيى وعيسى). قال يحيى بن يعمر: وما بين عيسى وإبراهيم أكثر مما بين الحسن والحسين ومحمد صلى الله عليه وسلم فأقرّه الحجاج على ذلك وكبر في نظره وولاه القضاء على خراسان مع علمه بتشيعه. وأنت تعلم أن الحجاج هو ما هو، ومع ذلك فقد كان -مع فاضل متجاهر بشيعيته المعتدلة محتج للحق بالحق- أكثرَ إنصافاً من هؤلاء الكذبة الفجرة الذي جاءوا في زمن السوء، فصاروا كلما تعرضوا لأهل السابقة والخير في الإٍسلام، ومن فُتحت أقطار الأرض على أيديهم، ودخلت الأمم في الإسلام بسعيهم ودعوتهم وبركتهم، وكلهم من أهل خير القرون بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، وما منهم إلا من يتصل ببني هاشم وآل البيت بالخؤولة أو الرحم أو المصاهرة؛ وبالرغم من كل ذلك يتعرضون لسيرتهم بالمساءة كذباً وعدواناً، ويرضون لأنفسهم بأن يكونوا أقل إنصافاً وإذعاناً للحق حتى من الحجاج بن يوسف. وإني أخشى عليهم لو أنهم كانوا في مثل مركز الحجاج بن يوسف كانت فيهم مآخذ كل الصالحين عليه، مع التجرد من كل مزاياه وفضائله وفتوحه التي بلغت تحت رايات كبار قواده وصغارهم إلى أقصى أقطار السند، وغشيت جبال الهند وما صاقبها.
وإن خطبة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في نعت صديقه وإمامه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر يوم وفاته من بليغ ما كان يستظهره الناس في الأجيال الماضية. وفي خلافة عمر دخل علي في بيعته أيضاً وكان من أعظم أعوانه على الحق، وكان يذكره بالخير ويثني عليه في كل مناسبة، وقد علمتَ أنه بعد أخيه وصهره سمّى ولدين من أولاده باسميهما ثم سمى ثالثاً بعثمان لعظيم مكانته عنده، ولأنه كان إمامه ما عاش، ولولا أن عثمان -بعد أن أقام الحجة على الذين ثاروا عليه بتحريض أعداء الله رجال عبد الله بن سبأ اليهودي- منع الصحابة من الدفاع عنه حقناً لدماء المسلمين، وتضييقاً لدائرة الفتنة، ولما يعلمه من بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم به بالشهادة والجنة، لولا كل ذلك لكان علي في مقدمة من في المدينة من المهاجرين والأنصار الذين كانوا كلهم على استعداد للدفاع عنه ولو ماتوا في سبيل ذلك جميعاً. ومع ذلك فإن علياً جعل وليده الحسن والحسين على باب عثمان، وأمرهما بأن يكونا طوع إشارته في كل ما يأمرهما به ولو أدى ذلك إلى سفك دمهما، و أوعز إليهما بأن يخبرا أباهما بكل ما يحب عثمان أن يقوم له به. وكذبٌ على الله وعلى التاريخ كلُّ ما اخترعه الكاذبون مما يخالف ذلك ويناقض وقوف الحسن والحسين في بابه واستعدادهما لطاعته في كل ما يأمر. ولقد كان من عادة سلفنا أن يدوِّنوا أخبار تلك الأزمان منسوبة إلى رواتها، ومن أراد معرفة قيمة كل خبر على طريقة (أنَّى لكَ هذا؟) فرجع إلى ترجمة كل راوٍ في كل سند لتمحَّصت له الأخبار، وعلم أن الأخبار الصحيحة التي يرويها أهل الصدق والعدالة هي التي تثبت أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا كلهم من خيرة من عرفت الإنسانية من صفوة أهلها، وأن الأخبار التي تشوِّه سيرة الصحابة وتُوهِمُ أنهم كانوا صغار النفوس هي التي رواها الكذبة من المجوس الذين تسموا بأسماء المسلمين.
ولعلك تسألني: إذن ما هو أصل التشيع، وهل لم يكن لعلي شيع ة في الصدر الأول؟ وما هي وقعة الجمل، وما الباعث على وقوعها؟ وما هي حقيقة التحكيم؟(/4)
إن الجواب على هذه الأسئلة بالأسانيد التي ترتاح إليها قلوب المنصفين مهما اختلفت مشاربهم ومذاهبهم، يحتاج إلى كتابة تاريخ المسلمين من جديد، وإلى أخذه -عند كتابته- من ينابيعه الصافية، ولا سيما في المواطن التي شوهها أهل الذمم الخَرِبَة من ملفِّقي الأخبار. وأعيد هنا ما قلته غير مرة، وهو أن الأمة الإسلامية أغنى أمم الأرض بالمادة السليمة التي تستطيع أن تبني بها كيان تاريخها، إلا أنها لا تزال أقل أهل أمم الأرض عناية ببناء تاريخها من تلك المواد السليمة، والناس الآن بين قارئ لكتب قديمة أراد مؤلفوها أن يتداركوا الأخبار قبل ضياعها فجمعوا فيها كل ما وصلت إليه أيديهم من غثّ وسمين، منبهين على مصادر هذه الأخبار وأسماء رواتها ليكون القارئ على بينة من صحيحها وسقيمها، ولكن لبعد الزمن وجهل أكثر القراء بمراتب هؤلاء الرواة ودرجتهم في الصدق والكذب، وفي الوفاء للحق أو الميل مع الهوى، تراهم لا يستفيدون من هذه المصادر، ولا من الكتب التي اعتمدت عليها بلا تمحيص وتحقيق. وهنالك كتب قديمة أيضاً ولكنها دون هذه الكتب، لأن أصحابها من أهل الهوى، وممن لهم صبغات حزبية يصبغون أخبارهم بألوانها، فهي أعظم ضرراً، ولعلها أوسع من تلك انتشاراً. أما الكتب الحديثة كمؤلفات جرجي زيدان، والبحوث التي يستقيها حملة الأقلام من مؤلفات المستشرقين على غير بصيرة بدسائسهم، فإنها ثالثة الأثافي وعظيمة العظائم، ولذلك باتت هذه الأمة محرومة أغزر ينابيع قوتها وهو الإيمان بعظمة ماضيها، في حين أنها سليلة سلف لم ير التاريخ سيرة أطهر ولا أبهر ولا أزهر من سيرته.
ومع أن كثيراً من أمهات الكتب النفيسة فُقِدَت في كارثة هولاكو، ثم في الحروب الصليبية واكتساح الأندلس، وما تلا ذلك كله من انحطاط المستوى العلمي في القرون الأخيرة، إلا أن كثيراً من تحقيقات لمحققين لا تزال منبثة في مطاوي الكتب الإسلامية. والأمل عظيم في قيام نهضة جديدة لبعث ماضي هذه الأمة المجيد على ضوء ما تركه علماؤها من نصوص وتوجبهات.
وأعود بعد هذا إلى الأسئلة التي تقدمت آنفاً عن أصل الفتن والتشيع، فقد زعم الزاعمون لعليٍّ -كرم الله وجهه- ما لم يكن له به علم: زعموا أن النبي e عيّنه للخلافة بعده يوم استخلفه على المدينة وهو متجه إلى الشام في غزوة تبوك، وقال له يومئذ: “أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي”. ورجال الحديث مختلفون في درجة هذا الخبر من الصحة، فبعضهم يراه صحيحاً، وبعضهم يراه ضعيفاً، وذهب الإمام أبو الفرج بن الجوزي إلى أنه موضوع مكذوب. ونحن إذا رجعنا إلى الظروف التي قالوا إنها لابست هذا الحديث نرى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد الله له أن يتوجّه نحو تبوك- أمر علياً بأن يتخلف في المدينة، وكان رجالها والقادرون على الحرب من الصحابة قد خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فوجد علي في نفسه وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: "أتجعلني مع الناس والأطفال والضعفة؟” فقال له النبي صلى الله عليه وسلم تطييباً لنفسه: “أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟” أي في استخلاف موسى أخاه هارونَ لما ذهب إلى الجبل ليعود بالألواح. فهذا الاستخلاف لم يكن في نظر سيدنا علي -كرم الله وجهه- هذا المعنى الوهمي الذي اخترعه المتحزبون فيما بعد، بل هو على عكس ذلك كان يراه حرماناً له من مكانة أعلى وهي مشاركة إخوانه الصحابة في ثواب الجهاد لتكوين الكيان الإسلامي المنشود. زِدْ على ذلك أن هذا النوع من الاستخلاف لم ينفرد به علي كرم الله وجهه، بل تكرر من النبي صلى الله عليه وسلم استخلاف ابن أم مكتوم على المدينة نفسها، وكان ابن أم مكتوم يتولى الإمامة بالناس في المدينة مدة خلافته عليها. وقد ناظر كبارُ الشيعة في هذا الحديث علاَّمةَ العراق السيد عبد الله السويدي عندما جمعه بهم نادر شاه في النجف سنة 1156 هـ فأفحمهم السويدي وخذل باطلهم، كما ترى ذلك فيما دوَّنه رحمه الله بقلمه عن هذه الواقعة وأثبتناه في رسالة طبعناها بعنوان (مؤتمر النجف).
فالإمام علي كرم الله وجهه كان يعلم أن الخلافة الحقة هي التي انضوى فيها إلى إجماع إخوانه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قدَّر الله لها بحكمته ما شاء، وقضي فيها بعدله ما أراد. وما كان لمسلم من عامة المسلمين -فضلاً عن مثل علي في عظيم مكانته في الأولين والآخرين- أن يسخط لقدر الله، أو يتمرد على قضاءه، أو يرضى غير الذي ارتضاه إخوانه من الصحابة، أو يداجي في إجماعه معهم على ما فيه صلاح المسلمين. ومن الافتئات عليه والانتقاص من قدره والتشويه لجمال الإسلام وتاريخه الشكُّ في إخلاص علي أو في اغتباطه بما بايع عليه خليفةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق وصاحبيه من بعده عمرَ وعثمان رضوان الله عليهم أجمعين.(/5)
ومن المزايا التي تفرّد بها عليّ وطبقته ممن ولي الخلافة أو دخل في بيعتها في الصدر الأول أنهم كانوا يرون ولاية هذا الأمر واجباً يقوم به الواحد منهم إذا وجب عليه كما يقوم بسائر واجباته، ولا يرونها حقاً لأحدهم يعادي عليه المسلمين، ويعرّض دماءهم للخطر والشر، ليستأثر بها على غيره.
وجميع الوقائع -إذا جرِّدت من زيادات أهل الأهواء- تدل على هذه المكانة السامية لعلي وإخوانه، فلما شُوِّهت الوقائع وأخبارها بما دسَّه فيها المتزيِّدون من أكاذيب لا مصلحة فيها لعلي وآله، كانت بها لعلي وبنيه صورة قبيحة لا تنطبق على الحقيقة والواقع، وظن المخدوعون بها أن تلك الطبقة -الممتازة على جميع أمم الأرض بعفَّتها وطهارة نفوسها وترفُّعِها عن الصغائر- إنما كانت على عكس ذلك: تتنازع كالأطفال والرعاع على توافه الدنيا وسفاسف العاجلة. فالخلافة كانت في نظر الراشدين عِبئاً يتولَّى الواحد منهم حمله بتكليف من المسلمين أداءً للواجب، ولم تكن عند أحد منهم متاعاً ولا مأكلة حتى يتنازع غيره عليها. ولما تآمرت المجوسية واليهودية على سفك دم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وأبقى الله من حياته بقيَّة يدبر فيها للمسلمين أمرهم بعده، جعل الأمر شورى، واقترح عليه بعض الصحابة أن يريح المسلمين من ذلك فيعهد إلى ابنه عبد الله بن عمر -ولم يكن عبد الله بن عمر دون أبيه في علم أو حزم أو بعد نظر أو إخلاص لله ورسوله والمؤمنين- رفض عمر ذلك وقال: "بحسب آل الخطاب أن يليها واحد منهم؛ فإن كان خيراً فقد أصبنا منه، وإن كان رزءاً فقد قمنا بنصيبنا فيه." وعبد الله بن عمر نفسه عرضت عليه الإمامة فيمن عرضت عليهم عند مقتل عثمان في ذي الحجة سنة 35 هـ فهرب منها كما كان يهرب منها طلحة والزبير وعلي، ولم يتولَّها عليٌّ إلا قياماً بواجب، ولم يستمدَّها من خرافات المتحزِّبين وسخافاتهم، بل من إرادة الأمة في ذينك اليومين (الخميس ذي الحجة والجمعة منه) ما أعلن ذلك على رءوس الأشهاد وهو واقف على أعواد منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فعليٌّ إلى تلك الساعة لم تكن له شيعة خاصة به يعرفها وتتصل به، ولم يخطر على باله أن يجعل أحداً من الناس شيعة له، لأنه هو نفسه وسائر إخوانه من الصحابة كانوا شيعة الإسلام الملتفَّة حول خلفاء نبيها صلى الله عليه وسلم أبي بكر ثم عمر ثم عثمان. ولو حدَّثته نفسه باتخاذ شيعة خاصة به غير جمهور الأمة الذي يتشيع للبيعة العامة لكان ذلك نقضاً منه لما عقد عليه صفقة يمينه لإمامه، وما طُوِّق به عنقه من بيعة الإسلام لأصحابها. ولا شك أنه استمر على ذلك إلى عشية الخميس 24هـ من ذي الحجة سنة 35 للهجرة، وكان أهلاً لأن يستمر على ذلك بأمانة وإخلاص. ولو لم يكن علي كذلك لما كان في هذه المنزلة السامية عند الله والناس. ومن الثابت عنه في عشية ذلك اليوم أنه كان يدافع الخلافة عن نفسه، ويحاول أن يقنع أخاه طلحة بن عبيد الله - أحد العشرة المبشرين بالجنة- بأن يتولى هو هذا الأمر عن المسلمين، بينما طلحة أيضاً كان يدافعها عن نفسه ويحاول إقناع علي بأن يكون هو حاملَ هذا العبء القائمَ على المسلمين بهذا الواجب. وانظر الحوار بينهما في ذلك كما رواه عالم من كبار علماء التابعين وهو الإمام محمد بن سيرين على ما أورده أبو جعفر الطبري في تاريخه: فيقول علي لطلحة: ابسط يدك يا طلحة لأبايعك. فيقول له طلحة: أنت أحق، فأنت أمير المؤمنين، فابسط يدك. وكاد الثائرون من جماعة الفسطاط والكوفة والبصرة يثبون بعلي وطلحة والزبير فيقتلونهم لهربهم من ولاية الأمر وتعففهم جميعاً عن قبول الخلافة، فانتهى الأمر بقبول علي، وارتقى منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم التالي (الجمعة 25 من ذي الحجة سنة 35هـ) فخطب خطبة حفظ الطبري لنا نصها، فقال: أيها الناس عن ملأ وأذن، إن هذا أمركم، ليس لأحد فيه حق إلا من أمَّرتم، وقد افترقنا بالأمس على أمر (أي على البيعة له) فإن شئتم قعدتُ لكم، وإلا فلا أجد على أحد. وبذلك أعلن أنه لا يستمد الخلافة من شيء سبق، بل يستمدها من البيعة إذا ارتضتها الأمة.(/6)
ومن مزايا الطبقة الأولى في الإسلام التي صحبت النبي صلى الله عليه وسلم وتأدبت بأدبه وتشبعت بسنته أنها كانت ترى الاعتدال ميزان الدين، والرفق جمال الإسلام؛ لأن نبيها صلى الله عليه وسلم كان يقول لها: إن الرفق ما كان في شيء إلا زانه، ولا نُزِع من شيء إلا شانه. وكان يقول لها: من يحرَم الرفق يحرَم الخير كله. ويقول: إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق. ويقول: إياكم والغلوّ في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلوّ فيه. فلما نشأت الطبقة الثانية في حياة الطبقة الأولى أدَّب الآباء بنيهم بهذا الأدب. ولكن أكثر ما كانت هذه الطريقة ناجحة في الحجاز ونجد والشام. وكان في ناشئة الكوفة والبصرة والفسطاط من أخذ بهذه الطريقة، كما أن فيهم من شبَّ على الغلوِّ في الدين. ومن أكبر المصائب في الإسلام في ذلك الحين تسلُّط إبليس من أبالسة اليهود على الطبقة الثانية من المسلمين فتظاهر لها بالإسلام وادَّعى الغيرة على الدين والمحبة لأهله، وبدأ يرمي شبكته في الحجاز والشام فلم يعلق بشيء بسبب تشبُّعهم بفطرة الإسلام في اعتداله ورفقه، وحذَرِهم من طرفي الإفراط والتفريط. فذهب الملعون يتنقل بين الكوفة والبصرة والفسطاط ويقول لحديثي السن وقليلي التجربة من شبابها: عجباً لمن يزعم أن عيسى يرجع ويكذِّب بأن محمداً يرجع، وقد قال عز وجل: (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد) فمحمد أحق بالرجوع من عيسى. وكان يقول لهؤلاء الشبان: كان فيما مضى ألف نبي، ولكل نبي وصي، وإن علياً وصي محمد. ويقول لهم: محمد خاتم الأنبياء، وعلي خاتم الأوصياء. ثم يقول لهم محرضاً على عثمان، وكان ذلك في أواخر خلافة عثمان سنة 30: ومن أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله، وممن يثب على عليّ وصيِّ رسول الله وينتزع منه أمر الأمة. ويقول لهم: إن عثمان أخذ الخلافة بغير حق، وهنالك علي وصي رسول الله فانهضوا فحركوه وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس.(/7)
إن هذا الشيطان هو عبد الله بن سبأ من يهود صنعاء، وكان يسمى ابن السوداء وكان يبث دعوته بخبث وتدرُّج ودهاء. واستجاب له ناس من مختلف الطبقات، فاتخذ بعضهم دعاة فهموا أغراضه وعوَّلوا على تحقيقها. واستكثر أتباعه بآخرين من البلهاء الصالحين المتشددين في الدين المتنطعين في العبادة ممن يظنون الغلوَّ فضيلة والاعتدال تقصيراً. فلما انتهى ابن سبأ من تربية نفر من الدعاة الذين يحسنون الخداع ويتقنون تزوير الرسائل واختراع الأكاذيب ومخاطبة الناس من ناحية أهوائهم، بث هؤلاء الدعاة في الأمصار -ولا سيما الفسطاط والكوفة والبصرة- وعُني بالتأثير على أبناء الزعماء من قادة القبائل وأعيان المدن الذين اشترك آباؤهم في الجهاد والفتح، فاستجاب له من بلهاء الصالحين وأهل الغلوّ من المتنطعين جماعاتٌ كان على رأسهم في الفسطاط الغافقي بن حرب العكي، وعبد الرحمن بن عديس البَلَوي التُّجيبي الشاعر، وكنانة بن بشر بن عتاب التجيبي، وسودان بن حمران السكوني، وعبد الله بن زيد بن ورقاء الخزاعي، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وعروة بن النباع الليثي، وقتيرة السكوني. وكان على رأس من استغواهم ابنُ سبأ في الكوفة عمرو بن الأصم، وزيد بن صوحان العبدي، والأشتر مالك بن الحارث النخعي، وزياد بن النضر الحارثي، وعبد الله بن الأصم. ومن البصرة حرقوص بن زهير السعدي، وحُكيم بن جبلة العبدي، وذريح بن عباد العبدي، وبشر بن شريح، والحطم بن ضبيعة القيسي، وابن المحرش بن عبد عمرو الحنفي. أما المدينة فلم يندفع في هذا الأمر من أهلها إلا ثلاثة نفر وهم: محمد بن أبي بكر، ومحمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة ابن عبد شمس، وعمار بن ياسر. ومن دعاء ابن سبأ ومكره أنه كان يبثُّ في جماعة الفسطاط الدعوة لعلي (وعلي لا يعلم ذلك)، وفي جماعة الكوفة الدعوةَ لطلحة، وفي جماعة البصرة الدعوة للزبير، وليس هنا موضع تحليل نفسيات المخدوعين بدعوة هذا الشيطان، ولا نريد أن ننقل ذمَّ علي وطلحة والزبير لهم وما قالوه فيهم يوم نزل الثائرون في ذي خُشُب والأعوص وذي المروة، وكيف زوَّر ابنُ سبأ وشياطينه رسالة على لسان علي بدعوة جماعة الفسطاط إلى الثورة في المدينة، فلما واجهوا علياً بذلك قالوا له: أنت الذي كتبتَ إلينا تدعونا، فأنكر عليهم أنه كتب لهم، وكان ينبغي أن يكون ذلك سبباً ليقظتهم ويقظة علي أيضاً إلى أن بين المسلمين شيطاناً يزوِّر عليهم الفساد لخطة مرسومة تنطوي على الشر الدائم والشرر المستطير، وكان ذلك كافياً لإيقاظهم إلى أن هذه اليد الشريرة هي التي زوَّرت الكتاب على عثمان إلى عامله بمصر بدليل إن حامله كان يتراءى لهم متعمِّداً ثم يتظاهر بأنه يتكتم عنهم ليثير ريبتهم فيه، فراح المسلمون إلى يومنا هذا ضحيةَ سلامة قلوبهم في ذلك الحين. إن دراسة هذا الموضوع الآن على ضوء القرائن القليلة التي بقيت لنا بعد مضي ثلاثة عشر قرناً تحتاج إلى من يتفرغ لها من شباب المسلمين، وسيجدون مستندات الحق في تاريخهم كافية لوضع كل شيء في موضعه إن شاء الله.(/8)
فأول فتنة وقعت في الإسلام هي فتنة المسلمين بمقتل خليفتهم وصهر نبيهم الإمام العادل الكريم الشهيد ذي النورين عثمان بن عفان رضوان الله عليه. وقد علمتَ أن الذين قاموا بها وجنوا جنايتها فريقان: خادعون ومخدَعون. وقد وقعت هذه الكارثة في شهر الحج، وكان عائشة أم المؤمنين قد خرجت إلى مكة مع حجاج بيت الله ذلك العام، فلما علمت بما حدث في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم أحزنها بغي البغاة على خليفة نبيهم. وعلمت أن عثمان كان حريصاً على تضييق دائرة الفتنة، فمنع الصحابة من الدفاع عنه، بعد أن أقام الحجة على الثائرين في كل ما ادعوه عليه وعلى عمَّاله، كان الحق معه في كل ذلك وهم على الباطل، وكان هو المثل الإنساني الأعلى في العدل وكرم النفس والنزول على قواعد الإسلام واتباع سننه، وكان في مدة خلافته أكرم وأصلح وأكثر إنصافاً بالحق واتباعاً للخير مما كان هو عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتمعت عائشة بكبار الصحابة، وتداولت الرأي معهم فيما ينبغي عمله -وقد عرف القراء ما كانوا عليه من نزاهة، وفرار من الولاية، وترفُّع عن شهوات النفس- فرأوا أن يسيروا مع عائشة إلى العراق ليتفقوا مع أمير المؤمنين علي على الاقتصاص من السبئيين الذي اشتركوا في دم عثمان وأوجب الإسلام عليهم الحد فيه، ولم يكن يخطر على بال عائشة وكل الذين كانوا معها -وفي مقدمتهم طلحة والزبير المشهود لهما من النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة- أنهم سائرون ليحاربوا علياً، ولم يكن يخطر ببال علي أن هؤلاء أعداء له وأنهم حرب عليهم. وكل ما في الأمر أن أولئك المتنطعين الغلاة الذين انخدعوا بدعوة عبد الله ابن سبأ واشتركوا في قتل عثمان انغمروا في جماعة علي، وكان فيهم الذين تلقنوا الدعوة له وتتلمذوا على ذلك الشيطان اليهودي في دسيسة أوصياء الأنبياء ودعوى خاتم الأوصياء، فجاءت عائشة ومن معها للمطالبة بإقامة الحد على الذين اشتركوا في جناية قتل عثمان، وكان علي -وهو ما هو في دينه وخلقه- ليتأخر عن ذلك، إلا أنه كان ينتظر أن يتحاكم إليه أولياء عثمان. وقبل أن يتفق الفريقان على ذلك شعر قتلةُ عثمان بأن الدائرة ستدور عليهم، وهم على يقين بأن علياً لن يحميهم من الحق عند ظهوره، فأنشب هؤلاء حرب الجمل، فكانت الفتنة الثانية بعد الفتنة الأولى. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري معتمداً على كتاب (أخبار البصرة) لعمر بن شبة، وعلى غيره من الوثائق القديمة التي جاء فيها عن ابن بطال قولُ الملهب: ... إن أحداً لم ينقل أن عائشة ومن معها نازعوا علياً في الخلافة، ولا دعوا إلى أحد منهم ليولوه الخلافة، وإنما أنكرت هي ومن معها على علي منعَه مِن قَتْلِ قتلة عثمان وترك القصاص منهم. وكان علي ينتظر من أولياء عثمان أن يتحاكموا إليه، فإذا ثبت على أحد بعينه أنه ممن قتل عثمان اقتصَّ منه، فاختلفوا بحسب ذلك وخشي من نُسِبَ إليهم القتل أن يصطلحوا على قتلهم، فأنشبوا الحرب بينهم (أي بين فريقي عائشة وعلي) إلى أن كان ما كان.(/9)
ونجح قتلة عثمان في إثارة الفتنة بوقعة الجمل، فترتب عليها نجاتهم وسفك دماء المسلمين من الفريقين، وإنك لتجد الأسماء التي سجلها التاريخ في فتنة عثمان يتردد كثير منها في وقعة الجمل، وفيما بين الجمل وصفِّين، ثم في وقعة صفين وحادثة التحكيم، وفي هذه الحادثة الأخيرة اتسعت دائرة الغلوّ في الدين، فكثر المصابون بوبائه، وتفننوا في مذاهبه، إلى أن انتهى بانشقاق الخوارج عن علي، وتميَّز فريق من المتخلِّفين مع علي باسم الشيعة، ولم يقع نظري على اسم للشيعة في حياة علي كلها إلا في هذا الوقت سنة 37 هـ. ومن الظواهر التي تسترعي الأنظار في تاريخ هذه الفترة أن الغلاة من الفريقين -فريق الشيعة وفريق الخوارج- كانوا سواء في الحرمة للشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، تبعاً لما كان عليه أمير المؤمين علي نفسه، وما كان يعلنه على منبر الكوفة من الثناء عليهما والتنويه بفضلهما. أما الخوارج فإنهم والإباضية ظلوا على ذلك لم يتغيروا أبداً، فأبو بكر وعمر كانا عندهم أفضل الأمة بعد نبيها، استرسالاً منهم فيما كانوا عليه مع علي قبل أن يفارقوه. وأما الشيعة فإنهم عندما جددوا بيعتهم لعلي بعد خروج الخوارج إلى حروراء والنهروان قالوا له أوَّلاً: نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت. فشرط لهم -كرم الله وجهه- سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي يوالوا من والى على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعادوا من عادى على سنته صلى الله عليه وسلم، فجاء ربيعة بن أبي شداد الخثعمي -وكان صاحب راية خثعم في جيش علي أيام الجمل وصفين- فقال له علي: بايِع على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال ربيعة: وعلى سنة أبي بكر وعمر. فقال علي: لو أن أبا بكر وعمر عملا بغير كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكونا على شيء من الحق. أي أن سنة أبي بكر وعمر إنما كانت محمودة ومرغوباً فيها لأنها قائمة على العمل بكتاب الله وسنة رسوله، فبيعتكم الآن على كتاب الله وسنة رسوله تدخل فيها سنة أبي بكر وعمر.
هكذا كان أمير المؤمنين من أخويه وحبيبيه خليفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر وعمر في حياته كلها، وهكذا كانت شيعته الأولى: من خرج عليه، ومن جدد البيعة له بعد التحكيم.
وحكاية التحكيم هذه كانت مادة دسمة للمغرضين من مجوس هذه الأمة أتاحت لهم دسَّ السموم في تاريخنا على اختلاف العصور، وأول من شمَّر عن ساعديه للعبث بها وتشويه وقائعها أبو مخنف لوط بن يحى، ثم خلف خلْفٌ بعد أبي مخنف بلغوا من الكذب ما جعل أبا مخنف في منزلة الملائكة بالنسبة إلى هؤلاء الأبالسة، وأبو مخنف معروف عند ممحِّصي الأخبار وصيارفة الرجال بأنه أخباريٌّ تالف لا يُوثَق به. نقل الحافظ الذهبي في (ميزان الاعتدال) عن حافظ إيران ورأس المحققين من رجالها الرازي رحمه الله أنه تركه وحذَّر الأمة من أخباره، وأن الدار قطني أعلن ضعفه، وأن ابن معين حكم عليه بأنه ليس بثقة، وأن ابن عدي وصفه بأنه شيعيٌّ محتَرق.
ومن براعة هؤلاء المغرضين في تحريف الوقائع ودس أغراضهم فيها، وتوجيهها بحسب أهوائهم، لا كما وقعت بالفعل، أنهم كانوا يعمدون إل حادثة وقعت بالفعل فيوردون منها ما كان يعرفه الناس، ثم يلصقون بها لصيقاً من الكذب والإفك يوهمون أنه من أصل الخبر ومن جملة عناصره، فيأتي الذين من بعدهم فيجدون الخبر القديم مختصراً فيحكمون عليه بأنه ناقص، ويقولون: من حَفِظَ حُجَّةٌ على من لم يحفظ. ويتناولون الخبر بما لصق به من لصيق مفترى، حتى تكون الرواية الجديدة وما في بطنها من الإثم هي المتداولة بين الناس. وقد يعمد هؤلاء المغرضون إلى موهبة من مواهب النبوغ عرف بها أحد أبطال التاريخ الإسلامي وعظماء الدعاة الفاتحين، ولم يعرف عنه استعمالها إلا في سبيل الحق والخير، فيطلعون على الناس بأكاذيب يرتبونها على تلك الموهبة، ويوهمون أن رجل الحق والخير الذي حلاَّه الله بتلك الموهبة ولم يستعملها إلا في نشر دين الله وتوسيع نطاق الوطن الإسلامي، قد انقلب بزعمهم مع الزمن، وسخَّر نبوغه للباطل والشر؛ فإذا أخذ المحققون في تمحيص ذلك، وتحرِّي مصادر هذه التهم التي لا تلتئم مع ما تقدمها من سيرة ذلك البطل المجاهد، وجدوها من بضاعة الكذَّابين ومفترياتهم، ولكن قلَّما يُجدي ذلك بعد أن يكون (قد قيل ما قيل إن صِدقاً وإن كَذباً).(/10)
هذا أبو عبد الله عمرو بن العاص بن وائل السهمي بطل أجنادين، وفاتح مصر، وأول حاكم ألغى نظام الطبقات فيها، وكان السبب الأول في عروبتها وإسلام أهلها، وشريك مسلميها في حسناتهم من زمنه إلى الآن لأنه الساعي في دخولهم في الإسلام - هذه الرجل العظيم عرفه التاريخ بالدهاء ونضوج العقل وسرعة البادرة، وكان نضوج عقله سبب انصرافه عن الشرك ترجيحاً لجانب الحق واختياراً لما دلَّه عليه دهاؤه من سبيل الخير، فجاء مزيِّفو الأخبار من مجوس هذه الأمة وضحاياهم من البلهاء فاستغلُّوا ما اشتُهر به عمرو من الدهاء استغلالاً تقرُّ به عين عبد الله بن سبأ في طبقات الجحيم.
يقول قاضي قضاة أشبيلية بالأندلس الإمام أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري (المولود في أشبيلية سنة 468 والمتوفَّى بالمغرب سنة 543) في كتابه (العواصم من القواصم) ص177 بعد أن ذكر ما شاع بين الناس في مسألة تحكيم عمرو وأبي موسى، وما زعموه من أن أبا موسى كان أبله وأن عمْراً كان محتالاً: هذا كله كذب صراح، ما جرى منه حرف قط، وإنما هو شيء أخبر عنه المبتدعة، ووضعته التاريخية للملوك، فتوارثه أهل المجانة والجهارة بمعاصي الله والبدع. وإنما الذي روى الأئمة الأثبات أنهما -يعني عمراً وأبا موسى- لما اجتمعا للنظر في الأمر، في عصبة كريمة من الناس منهم ابن عمر، عزَل عمروٌ معاوية. ذكر الدار قطني بسنده عن حضين بن المنذر أنه لما عزل عمرو معاويةَ جاء (أي حضين) ضرب فسطاطه قريباً من فسطاط معاوية، فبلغ نبأه معاوية، فأرسل إليه فقال: إنه بلغني عن هذا (يعني عمرو بن العاص) كذا وكذا (يعني اتفاقه مع أبي موسى على عزل الأميرين المتنازعين لحقن دماء المسلمين وردَّاً للأمر إليهم يختارون من يكون به صلاح أمرهم). فاذهب فانظر ما هذا الذي بلغني عنه. قال حضين: فأتيته فقلت: أخبرني عن الأمر الذي وليت أنت وأبو موسى كيف صنعتما فيه؟ قال: قد قال في ذلك ما قالوا، والله ما كان الأمر على ما قالوا، ولقد قلت لأبي موسى: ما ترى في هذا الأمر؟ قال: أرى أنه النفر الذي توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض. قلت: فأين تجعلني أنا ومعاوية؟ فقال: إن يُسْتَعَنْ بكما ففيكما معونة، وإن يُسْتَغْنَ عنكما فطالما استغنى أمر الله عنكما. فقال: فكانت هي التي فتل معاوية منها نفسه. فأتيته (أي أن حضيناً أتى معاوية) فأخبرته أن الذي بلغه عنه كما بلغه. أي أن الذي بلغ معاوية من أن عمراً وأبا موسى عزلاه هو كما بلغه، وأنهما رأيا أن يرجع في الاختيار من جديد إلى النفر الذي توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض. ثم ذكر القاضي أبو بكر بن العربي بقية خبر الدارقطني عن إرسال معاوية رسولاً -وهو أبو الأعور الذكواني- إلى عمرو بن العاص يعاتبه، وأن عمراً أتى معاوية وجرى بينهما حوار وعتاب، فقال عمرو لمعاوية: إن الضجور قد يحتلب العلبة. وهو مثل معناه أن الناقة الضجور التي لا تسكن للحالب قد ينال الحالب من لبنها ما يملأ العلبة. فقال له معاوية: وتربذ الحالب فتدق عنقه وتكفأ إناءه.
فرواية الدار قطني هذه -وهو من أعلام الحديث- عن رجال عدول معروفين بالتثبت، ويقدرون مسئولية النقل، هي التي تتناسب مع ماضي عمرو وأبي موسى وأيامهما في الإسلام ومكانتهما من النبي صلى الله عليه وسلم وموضعهما من ثقة الفريقين بهما واختيارهما من بين السادة القادة المجربين. وأما الافتئات على أبي موسى والإيهام بأنه كان أبله فهو أشبه بالرقعة الغريبة في ردائه السابغ الجميل. يقول القاضي أبو بكر بن العربي (ص174): وكان أبو موسى رجلاً تقياً ثقفاً فقيهاً عالماً أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن مع معاذ، وقدَّمه عمر بن الخطاب وأثنى عليه بالفهم. وزعمت الطائفة التاريخية أنه كان أبله ضعيف الرأي مخدوعاً في القول. ثم ردَّ هذه الأكاذيب وأحال في تفصيل الرد على كتاب له اسمه سراج المريدين.
وبعد فإن صحائف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت كقلوبهم نقاء وسلامة وطهراً. وما نتمناه من تمحيص التاريخ أول ما يشترط له فيمن يتولاه أن يكون سليم الطوية لأهل الحق والخير، عارفاً بهم كما لو كان معاصراً لهم، بارعاً في التمييز بين حملة الأخبار: من عاش منهم بالكذب والدس والهوى، ومن كان منهم يدين لله بالصدق والأمانة والتحرز عن تشويه صحائف المجاهدين الفاتحين الذي لولاهم لكنا نحن وأهل أوطاننا جميعاً لا نزال كفرة ضالي(/11)
حمّالة الحطب!
منال المغربي
Yafa-48@hotmail.com
لقد تضمّن القرآن الكريم العديد من القصص التي تناولت أخبار نساء صالحات وأخريات أضلهنّ الشيطان، فكانت النتيجة أن أهلكهن الكفر... فكنّ بعد ذلك أمثلة تُضرب على مرّ التاريخ للدِّلالة على أنّ عاقبة الكفر والصدّ عن سبيل الله وخيمة؛ وهي الخِزي والتحقير والمهانة في الدنيا، والخلود الأبدي في النار يوم القيامة... ومن هذه النماذج امرأة قال الله سبحانه وتعالى فيها في سورة المسد: (( وامرأته حمّالة الحطب في جيدها حبلٌ من مسد))، فمن هذه المرأة؟
هي أروى بنت حرب ابن أمية أخت أبي سفيان بن حرب، ولقد عرفت بكونها عوراء وكنيتها "أم جميل" وهي زوجة عدوّ الله أبي لهب وشريكته في الحملة الشرسة التي استهدفت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي لم تتوانَ فيها "أم جميل" عن استخدام كل الوسائل الممكنة للتنفيث عن حقدها الدفين وبُغضها للإسلام والمسلمين؛ لذلك يمكننا القول: إنّ شخصيتها يمكن أن يستمدّ منها الدروس والعِبَر التي يجب أن تستفيد منها كل امرأة لا سيما نساء اليوم حتى لا يكون حالهنّ ومصيرهن شبيهاً بحال ومصير أم جميل التي بسبب نفورها من الإسلام وإعراضها عن كتاب الله أضحت:
- مثالاً للمرأة التي تعين زوجها على سلوك طريق الكفر والشرّ والمعصية ولا تعينه على اتِّباع طريق الهداية والإيمان، فكانت بذلك بعيدة كل البعد عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة".
فهي كانت شرّ متاع لأبي لهب لأنّها دوماً تقف وراءه تعاونه وتحرّضه وتدفعه إلى الاعتداء على المسلمين وإيذائهم والتصدي لدعوة محمد صلى الله عليه وسلم. ولكونها شريكته في الأذى والشرّ والكفر في الدنيا، فقد استحقّت أن تكون قرينته في العذاب يوم القيامة.
- أم جميل نموذجاً للجارة السيئة التي أعماها الحقد وأطغاها الكفر فانعكس بذاءةً في لسانها وسوءً في سلوكها وأخلاقها، ويتجلّى ذلك في العديد من المواقف التي تعرّضت فيها أم جميل للرسول صلى الله عليه وسلم والتي لم تراعي فيها حقوق القرابة والجوار، فهي لم تتوانَ عن هَجْوه صلى الله عليه وسلم عندما نزلت فيها وبزوجها سورة المسد؛ فقالت:
مذمّماً عصينا وأمره أبينا ودينه قَلينا
ولم تتورع أيضاً عن رمي الأشواك ونثرها في طريقه... ولا عجب في ذلك لأنّها كانت بعيدة عن هَدْي الإسلام وتعاليمه التي تدعو إلى صلة الأرحام وإلى حسن معاملة الجار والرِّفق به والابتعاد عن الفُحش في الكلام.
- امرأة أبي لهب مثال للحماة السيئة، فهي لم تتورع عن الضغط على ولديها ((عُتْبة وعُتيبة)) من أجل تطليق ابنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم – أم كلثوم ورقية – حتى قادها إصرارها وعنادها على الأذى والشرّ إلى القول لهما: (( رأسي برأسيكما حرام إن لم تطلقا ابنتي محمد)) وذلك إرضاءً لرغبتها الخسيسة الدنيئة التي هدفت من ورائها إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم وإدخال الحزن إلى قلبه الشريف دون أن تكترث أنّها بهذا العمل أدّت إلى تشتيت أسرة وخراب بيت.
- إنّ البيت الذي لا يقوم على طاعة الله عزوجل، والالتزام بأوامره ونواهيه، من الطبيعي أن يخرّج أبناء مفطورين على حبّ المعصية، وعندها ستكون العاقبة وخيمة لأنّ سوء التربية تؤدي إلى المهالك. وهذا ما حصل مع "أم جميل" التي حرّضت أحد أبنائها على أذية الرسول صلى الله عليه وسلم فكان مصيره الموت على الكفر والضلال... تروي كتب السيرة أنّ عُتبة أراد الخروج إلى الشام، فقال: لآتين محمداً فلأُذينه فأتاه، فقال: يا محمد أنا كافر بالنجم إذا هوى وبالذي دنا فتدلى، ثمّ تفل في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم وردّ عليه ابنته وطلّقها، فدعا الرسول صلى الله عليه وسلم عليه فقال: اللهمّ سلّط عليه كلباً من كلابك فتحقّق دعاء الني صلى الله عليه وسلم فقتلته إحدى السباع، فصدق قول الله تعالى: (( والذي خَبث لا يخرج إلا نَكداً كذلك نصرّف الآيات لقوم يشكرون)).
- أم جميل نموذج للمرأة المتكبّرة المغرورة المعتدة بحسبها ونسبها وثرائها فهي لم تتردد لحظة واحدة عن استخدام أموالها ومجوهراتها للتصدِّي لدين الله عزوجل يقول سعيد بن المسيِّب: كان لها قلادة فاخرة فقالت: لأُنفقنها في عداوة محمد... لذلك جزاها الله تعالى حبلاً في جيدها من مسد جهنم لأنّ الجزاء من جنس العمل.(/1)
ختاماً نشير إلى أنّ سورة المسد غنية بالدلالات والرموز فهي تصور الحرب الإعلامية - وإن كانت مصغرة - حيث كانت تشن في ذلك الوقت لطمس صوت الحقّ وتشويه الحقائق؛ فأبو لهب كان يتتبّع الرسول صلى الله عليه وسلم في مواسم الحجّ وفي الأسواق لكي يجهض دعوته إلى (لا إله إلا الله)، فكان يقول للناس: لا تصدِّقوه إنّه صابىء كاذب، تسانده زوجته التي كانت تستغل أي فرصة للنيل من الرسول صلى الله عليه وسلم سواء بالسباب أو الهجاء لاسيما وأنّ الشعر في ذلك الوقت كان الوسيلة الإعلامية الأكثر رواجاً... فهذه الحرب الإعلامية تزامنت مع الحرب الجسدية – أذية الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه- والحرب النفسية – تطليق ابنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم – والتي حُشدت لها الطاقات وتوحّدت من أجلها الجهود وأُنفقت في سبيلها الأموال. وها هو التاريخ يُعيد نفسه اليوم وإن اختلفت الأسماء والأمكنة والأزمنة.
في هذه السورة تحذير صارخ ووعد ووعيد لأبي لهب وامرأته ولكلّ من تسوّل نفسه الكيد لدعوة الله ورسوله لأنّ كل من يتجرأ على ذلك فقد باء بغضبٍ من الله تعالى وحربٍ منه في الدنيا، والخلود الأبدي في النار يوم القيامة؛ لذلك صدق قول الله تعالى في أم جميل وغيرها:
(( إنّ الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثمّ تكون عليهم حسرة ثمّ يُغلبون، والذين كفروا إلى جهنم يحشرون)).(/2)
حنان الأنثى ... هل أنت أنثى ؟
تقدم لخطبتها لكنها رفضت وقالت:
[ أخشى إن أقبلتُ على زوجي أن أُضيّع بعض شأني وولدي، وإن أقبلت على ولدي أن أضيع حق زوجي ]
أتدرين من هذه عزيزتي القارئة ومن هذا المتقدم لخطبتها ؟
أنها أم هانئة فاخته بنت أبي طالب ، أخت على بن أبي طالب رضي الله عنها وبنت عم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وراوية حديث الإسراء ، فرّق الإسلام بينها وبين زوجها هبيرة ، وكانت قد انكشفت منه عن أربعة بنين.
فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت أم هانئ:
[ يا رسول الله لأنت أحب إليّ من سمعي ومن بصري ، وحق الزوج عظيم ، فأخشى إن أقبلتٌ على زوجي تعني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضيع بعض شأن ولدي ، وإن أقبلت على ولدي أن أضيع حق زوجي ] .
وهنا امتدحها النبي صلى الله عليه وسلم وشكر لها ذلك فقال: [[ إن خير نساء ركبن الإبل نساء قريش أحناه على ولد في صغره وأرعاه على بعل – أي زوج – في ذات يده ]] رواه البخاري.
من الحاجات النفسية التي يحتاجها الإنسان الحاجة إلى الحب والحنان.
والأنثى هي التي تضفي على الآخرين مشاعر الحب والحنان , فهي سكن للرجل وحنان ورعاية للكبير والصغير ، إنها حنونة حتى على الجماد في المنزل وعلى كل ما في البيت برعايته وتنظيمه ووضعه في المكان المناسب واحتفاء الجمال عليه , وهذا الحنان هو من أكبر أسباب الاستقرار النفسي والاجتماعي للطفل والرجل .
تدليل .... قسوة .... ما بينها
إن تدليل الأم للطفل والمبالغة في الرعاية والحماية له نفس أثر القسوة الزائدة والعقاب البدني والترهيب والتخويف واستخدام الطرق غير الطبيعية ، في العقاب ، فالتدليل والقسوة سواء بسواء ، ومن يتعرض لهذين النقيضين هو من الأفراد الأكثر عُرضه للمرض النفسي وأحياناً العقلي .
وقد هدانا شرعنا الحنيف إلى أحسن طريقة في التعامل مع الطفل وهي: [ خير الأمور أوسطها ] أي أن تكون الأم حازمة من غير عنف وحنونة من غير ضعف , وقد أوضح بولبي في التقرير الذي أعده وقدمه إلى منظمة الصحة العالمية أن الحرمان من الأم له أضراره البالغة على الطفل ، وقد أشار إلى ضرورة منح الطفل الحب والأمن [ إن الحرمان من حب الأم ورعايتها بالنسبة لصحة الطفل يكاد يعادل خطورة الحرمان من البروتينات والفيتامينات بالنسبة للصحة الجسمية ].
إذن فالحرمان من الأم وحنانها يؤدي إلي اضطراب في شخصية الطفل والنمو النفسي السوي واشباع حاجاته النفسية من الحب والحنان والعطف يساهم في النمو النفسي والاجتماعي السليم.
تمرة واحدة لا اثنتين
تحكي لنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: [ دخلت عليّ امرأة ومعها ابنتان لها تسأل ، فلم تجد عندي شيئاً غير تمرة واحدة ، فأعطيتها اياها ، فقسمتها بين ابنتيها ، ولم تأكل منها ثم قامت فخرجت ، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال صلى الله عليه وسلم : [[ من ابتلى من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له ستراً من النار ]] رواه البخاري ومسلم.
إن إضفاء الحنان والعطف على الأطفال وخاصة البنات دليل على الصحة النفسية للأم والذي بدوره ينتقل إلى الأطفال، وله أجره جنة الله الأبدية والحجاب من النار.
وقال الصغير
يقول الشاعر جلال الدين الرومي:
[ إذا احتضنت الأم طفلها لترضعه فليس لدى الطفل وقت ليسألها عن إقامة البرهان على أمومتها ] فدور الأم مع الأطفال أكبر من دور الأب والمعلم، وهي على أداء هذا الدور أصبر.
وأعبث في البيت مستبسلاً فأي إناء أحببتُ انكسر
أطيش فيضجر بي والدي وليس يُلمُّ بأمي الضجر
وأخيراً عزيزتي القارئة:
إن الأنثى هي ينبوع الحنان والشعور بالدفء ، هي الحلم والصبر وقوة التحمل هي المربية التي إذا أرادت فإنها تصنع جيلاً تهز به الكون , وإن كانت غير ذلك فلنفتح صدورنا للمشاكل الاضطرابات النفسية والتي قد تصل على مشاكل واضطرابات عقلية.(/1)
حنين مغترب
للشاعر: أنور العطار
خفقَ القلبُ فاذَّكرتُ بلادي وبلادي الحقولُ والأدغالُ
وبلادي الأنهارُ تهتفُ فرحى والنَّدى السمحُ والسُّلاف الحلال
والرّياضُ اللطافُ تعبقُ بالعطـ رِ حلتْها الأفياءُ والأظلال
والينابيعُ حفُّلٌ بالأناشيـ د تراخى فيها السَّنا والبِلال
لا يُروّعكِ مدمعي وهُيامي أنا سرّ الهوى وأنتِ الجمال
تتراءى لناظري منكِ أروا حٌ رقاقٌ يلذّ منها الوصال
فأناجي وما أملُّ المناجا ةَ وأصبو وللهوى استرسال
وبنفسي لحنٌ حبيبٌ يُسلّيـ ني وحلمٌ يهفو إليه البال
وتصاويرُ من رباعيَ شتّى ما لَها الدَّهرَ في الوجودِ مثال
هيَ سلوايَ إنْ أظلّني الهمُّ وسادَتْ بيَ الخُطوبُ الثِقال
نَهِلَ الحُبُ من مناعمها الزّهـ ر وضاءتْ بسحرها الأشكال
فهيَ في العينِ صورةٌ ليس تُمحى نامَ عنها البلى وأغفى الزَّوالُ
وهي في القلبِ فرحةٌ تملأ القلـ بَ فتطوى بُحلمهِ الآجالُ
* * *
يا رباعَ الخُلودِ عاشَ لكِ السّعـ دُ ولا زالَ خِدْنُكِ الإقبالُ
أنتِ مني الحُلْمُ الذي أشتهيهِ ومجنّي ومفزعي والمآلُ(/1)
حوار نجوم حاضرة العطاء
حوار لصحيفة اللواء الأردنية
مع الدكتور عدنان علي رضا النحوي
في باب " نجوم حاضرة العطاء"
...
...
يدير الحوار الأستاذ محمد صالح الشمّري*
... ...
...
يُمثّل هذا الموضوع في حوارات متعدّدة، نافذة يطّلع منها القارئ الكريم على أفكار العديد من الأدباء والمفكرين المسلمين، في العديد من الدول العربية من المحيط إلى الخليج، ويدور الحوار من خلال هذه النافذة حول أسئلة رئيسة أهمها:
كيف يفكرون ؟
كيف ينظرون إلى الحياة ؟!
أبرز إنتاجهم وأهمه ؟!
ما هي أسلحتهم الفكرية في الذود عن حياض دينهم وعقيدتهم ومنهاج حياتهم ؟!
وبماذا ينصحون الجيل الجديد ؟!
وأسئلة أخرى عديدة ترسم إجاباتها في هذه الزاوية المتميزة التي قلّما يصل القارئ إلى مثلها أو قلّما تصل إليه !
نستضيف في هذه الزاوية الطيبة اليوم الأستاذ الكبير الدكتور عدنان علي رضا النحوي. وهل يحتاج العلم إلى تعريف ؟!
لقد كُتِب عن الدكتور عدنان علي رضا النحوي ما يزيد على (70) مطبوعة، بين كتاب ومجلة وجريدة، ناهيك عن الإذاعات، والموسوعة الثقافية الشاملة في المملكة العربية السعودية في جزئها الأول، إضافة إلى المؤتمرات والندوات التي استضافت الدكتور، والتي يحضرني منها في هذه اللحظة ما يزيد على (30) مؤتمراً وندوةً فكرية.
وحلقتنا هذه مجرّد حمامة تنضمّ إلى هذا السرب الطيب المبارك، لعلنا نؤدي بعضاً من حقّ هذا الداعية الكبير الذي أغنى المكتبة الإسلامية بعشرات من الكتب النفيسة، والأبحاث الرصينة، والمقالات والدراسات ودواوين الشعر، و…و….. والتي أنارت من الإسلام جوانبه مثل الحقيقة الكبرى في الكون والحياة، أضواء على طريق النجاة، خطة الداعية ـ باللغة الإنجليزية ـ، تقويم نظرية الحداثة وموقف الأدب الإسلاميّ منها، الصحوة الإسلامية إلى أين ؟! واقع المسلمين أمراض وعلاج. وفي الشعر : ديوان الأرض المباركة، ديوان موكب النور، جراح على الدرب، ملحمة الغرباء، ملحمة فلسطين، ملحمة البوسنة والهرسك …الخ، وفي العلوم انتشار الموجات الإلكترومغناطيسية المتوسطة ـ باللغة الإنجليزية ـ، وهنا نذكر بنقطة قد لا تكون معلومة للعديد من القراء، وهي أنّ النحوي يحمل شهادة الدكتوراة في مجال الاتصالات الكهربائية من أمريكا عام 1985م، وله في هذا المضمار العلمي باع طويل وعطاء بنّاء.
ثمّ هو بعد ذلك حاضر النكتة، سريع البديهة، دائم الابتسامة لا يتطرق الملل إلى جليسه بحال، فهو ينتقل من زهرة إلى زهرة في روض معارفه الواسع [الموار] بالثمار الشهية، والعطاء النافع والمُمْتع.
وأخيراً نقول إنّ النحوي من مواليد ( صفد ) في الأرض التي بارك حولها ربّ العزّة جلّ وعلا، وهو يحمل الجنسية السعودية، فإلى هذا الخير الوفير ….
1. دكتور عدنان في هذا البحر الزاخر من العطاء أدامه الله ونفع به، ما هو الإنتاج الذي تعتزون به أكثر من غيره …. ولماذا ؟!
- الإنتاج الذي أعتز به كلّ كلمة كتبتها نثراً أو شعراً لها نفس المنزلة من الإعزاز، لأنها كلمات تخرج من أعماق نفسي، فكلّ كلمة هي جزء من حياتي وكياني، ودمي وأضلاعي وأحناء صدري، ذلك لأن الكتب كلّها تؤلف نهجاً محدداً، أكتب من خلاله كتابات منهجية محددة، ليؤدي كلّ كتاب أو مقالة دوراً محدداً في النهج، ولتترابط كلّها لترسم بتناسقها معالم النهج.
2. ما هو عملكم الحالي ؟!
- متفرّغ للدعوة إلى الله ورسوله، إلى الإيمان والتوحيد، إلى دعوة الإسلام.
3. لابدّ أن ثمّة آمالاً عزمتم على تحقيقها : ماذا تحقق منها وما الذي لم يتحقق بعد ؟!
- آمال الدنيا عزفتُ عن كثير منها، وحرصت على القليل الذي اقتنعت أنه يمضي على طريق الجنّة ـ بإذن الله ورحمته وعفوه ـ وأهم ما بقي لديّ من آمال هو أن أمضي في إصلاح نفسي على طاعة الله، ومساعدة غيري على ذلك، ليمضي الجميع في تحقيق الآمال الإيمانية والأهداف الربانية، كما هي مبينة في كتاب " لقاء المؤمنين الجزء الثاني " وموجزة في عدد من الكتب الأخرى، فالطريق طويل إنا نرجو أن يغفر الله لنا ذنوبنا ويّكفّر عنّا سيئاتنا، ويستر علينا في الدنيا والآخرة حتى نبلغ رضاءه وجنّته.
4. السّاحة الأدبيّة تعجّ بأدعياء الأدب ورافعي راية الحداثة، كيف تنظرون إلى هذا الواقع، وماذا تقولون لهؤلاء ؟!
- أقول لهؤلاء كلّ ما كتبته في كتابي حول الحداثة " الحداثة في منظور إيماني" تقوّم نظرية الحداثة وما نشر من مقالات، موجز ذلك أن أنصحهم ليتوبوا إلى الله، ويعكفوا على دراسة اللغة العربية من جديد، ودراسة الكتاب والسُّنّة، قبل أن تتلقفهم القبور فيصدق عليهم قول الله سبحانه وتعالى: ( حتى إذا جاء أحدهم الموت قال ربّ ارجعون لعلّي أعمل صالحاً فيما تركتُ، كلا إنّها كلمةٌ هو قائلها ومن ورائهم برزخٌ إلى يوم يُبْعثون ).
5. أعداء الإسلام يتّهمون الإسلاميين باحتكار الحقيقة، وبالتالي نفي الآخر، كيف تردّون على هذه الفرية، وما حكم الإسلام تُجاه الرأي الآخر ؟!(/1)
-الإسلاميون اليوم متهمون بتهم كثيرة، وأخطاء الإسلاميين لا تُعدّ أخطاء الإسلام، فالإسلام كلّه دين الحقّ لا باطل معه، وإنما الناس يخطئون ويصيبون، ليس موقف الإسلام أن يقضي وقته بالبحث عن الرأي الآخر، الإسلام يحترم الرأي الآخر في أمور دنيوية يصحّ فيها الاجتهاد، أو أمور فنيّة تمضي بها تجارب المؤمنين وغير المؤمنين، إنّ هذا الاحترام للرأي الآخر بين المسلمين والرأي الآخر بين غير المسلمين، ضروري من أجل نموّ الجهد البشري.
إلا أن الرأي الآخر في حقائق الإسلام التي نزل بها الوحي على محمد صلى الله عليه وسلّم فلا مجال للرأي الآخر، ومهمة المسلمين أن يبلغوا رسالة الله إلى الناس بالحجة والبرهان، لا مجال لرأي آخر في العقيدة، مهمتنا أن نبين للناس مواطن ضلالهم وانحرافهم ليستقيموا على أمر الله، ليست مهمتنا أن ندخل في محاولات التوفيق بين العقائد وما ينشأ عنها من سلوك مقرر في العقيدة، فلا مجال للتوفيق بين الحقّ والباطل.
إن مجال الانحراف في هذه الحالات واسع حين يفقد المسلم ميزانه الحقّ، ويتعلّق بالزخارف والفتنة والأهواء.
والنقطة الأخرى هي أنّه لا الإسلام ولا المسلمون ينفون الرأي الآخر، الرأي الآخر هو الذي نفى الإسلام والمسلمين وحجّر عليهم الرأي والكلمة والحجة، إنّ الصورة مقلوبة، إنهم هم المعتدون الظالمون المجرمون، وحسبك قوله سبحانه وتعالى : ( لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمّة وأولئك هم المعتدون).
6. الأمّة العربية والإسلامية تمرّ بمرحلة غاية في الدّقة والخطورة، كيف تنظرون إلى ذلك، وما هو في رأيكم الدّاء والدواء ؟!
- في ميزان الله هناك أمة واحدة أُخْرجت للناس هي أمّة الإسلام ( وإنّ هذه أمّتكم أمّة واحدة … ) وهناك شعوب تدخل في هذه الأمة الواحدة من عرب وعجم، كلّ على مقدار صدق إيمانه ووفائه بعهده مع الله، أما السبيل للنجاة مما نحن فيه، فقد بيّنت رأيي موجزاً في كتابي " أضواء على طريق النجاة " ففي رأيي هو الدواء، وموجزة بكلمات قليلة لا بدّ من وجود نهج مفصّل للفرد والجماعة والأمة قائم على القاعدة الصلبة للدعوة الإسلامية، وهي صفاء الإيمان والتوحيد، ثمّ الركنين الرئيسين منهاج الله والواقع، ثمّ عناصر التنفيذ في الميدان :
العنصر الأول : يضم الأسس الأربعة : الإيمان والتوحيد، منهاج الله، الواقع، وسلامة الممارسة الإيمانية.
العنصر الثاني : النهج الإيماني للتفكير.
العنصر الثالث : النهج والتخطيط العام للدعوة.
العنصر الرابع : النهج لكلّ ميدان تخوضه الدعوة.
العنصر الخامس : الإدارة والتنظيم.
العنصر السادس : ميزان المؤمن.
العنصر السابع : المؤسسات الإيمانية.
العنصر الثامن : التقويم الدوري لكلّ جزء من هذا النهج، دراسات مفصّلة تطرح نظريته ومنهاجه التطبيقي.
7. ماذا يجول في الخاطر وتودّون أن تقولوه للقارئ ؟!
-أودّ أن أقول لكل قارئ ممن ينتسب إلى الإسلام إن الله جعل كلّ إنسان مسؤولاً ومحاسباً، وأن مسؤولية الجماعة والأمة لا تصدق إلا إذا صدق الفرد بمسؤوليته، ولا تقوم إلا إذا قامت المسؤولية الفردية، أما إذا تعطّلت المسؤولية الفردية في أمواج الخدر والأهواء والفتنة، فعندئذ تظهر مناهج غير إسلامية : العلمانية والدكتاتورية والديمقراطية والحداثة … وغير ذلك!
وقضية أخرى أنه إذا كان أحد يرغب في نجاة أمته وحمايتها من الهجمة الجنونية التي نتعرّض لها، فلا يحسبنَّ أحد أو جماعة أنّه قادر وحده على التصدّي لهذه الهجمة المتراصة الصفوف، لا بدّ من صفّ مؤمن كالبنيان المرصوص، يمثّل حقيقة الأمة المسلمة الواحدة، تموت فيه العصبيات الجاهلية كلّها، وتكون كلمة الله فيه هي العليا عملياً لا شعاراً.
وأخيراً أريد أن أقول لكلّ مسلم ولكلّ جماعة إن في واقعنا أمراضاً فتّاكة، هي سبب هزائمنا وفشلنا، وإننا نغطي هذه العيوب بالشعارات والزخارف والرايات، إن هذه كلّها لا تفيد عند الله، وأنه لابدّ من العمل السريع الدائب لتحديد هذه الأمراض وعلاجها.
8. أفراد العائلة : وهل يحمل أحد منهم نفس اهتماماتكم، وطريق تفكيركم ومنظاركم للحياة بشكل عام ؟!
- اهتماماتي ومنهج تفكيري ومنظاري هو القرآن والسنة وفهم الواقع من خلال القرآن والسنة، ليقوم هذا كلّه على أساس من صفاء الإيمان والتوحيد، أفراد عائلتي يعيشون مع القرآن والسنة كما أعيش، فكيف تتوقع أن تكون اهتماماتهم ؟! جميعهم يتبعون النهج الذي أوضحته من منطلق ذاتي، فكيف تتوقع أن يكون منهج تفكيرهم ؟! أسأل الله الهداية لنا جميعاً ولعباده المؤمنين.
ومسؤولية الداعية أولاً نفسه ثمّ عائلته وبيته، ثمّ الأقربون، ثمّ الناس جميعاً دون أن يُعطّل أخذ هذه الساحات العمل في ساحة أخرى، إنّه عمل مترابط متداخل.
* صحفية اللواء الأردنية ـ العدد ( 1420) السنة (29) الأربعاء 23 جمادى الأولى 1421هـ الموافق 23/8/2000م(/2)
حوار الحضارات بين الحقيقة و الخداع
أ. مجدي أحمد حسين*
منذ انهيار المعسكر الشيوعي قفز إلى رأس جدول أعمال العالم موضوع الصراع بين الغرب و الإسلام وتحول إلى محور رئيسي للسياسات الدولية, وفى المقابل بدأ الترويج لمقولة مضادة وهى حوار الحضارات بعيدا عن صراع الحضارات, وتشكلت من أجل ذلك العديد من المنتديات الدولية.
في العالم الإسلامي ظن البعض أن مواجهة العداء الغربي للإسلام تتم من خلال عدة محاور: إبراز شعار حوار الحضارات – تحسين صورة الإسلام في الغرب – تغيير الخطاب الديني الإسلامي بحيث يكون مقبولا على المستوى الدولي عامة والغربي خاصة.
حول هذا الموضوع جرت الكثير من المساجلات اختلط فيها الثابت مع المتغير, اختلط فيها تحديد من أين نشأت المشكلة بين الشرق والغرب, أو بالأحرى أي جانب هو المسئول عن سوء التفاهم , اختلط فيها ما هو عقدي مع ما هو سياسي , ما هو مبدئي مع ما هو عملي ( براجماتي ) , بل اختلط فيها كثير من الحقائق الساطعة , من المسئول عن أزمة الثقة , من المعتدِى ومن المعتدَى عليه , بل غلب على النخبة الإسلامية الرسمية وغير الرسمية الطابع الاعتذاري عن جرائم لم نرتكبها , وكأن ضعفنا المادي وتأخرنا عن مواكبة أسباب التكنولوجيا المتطورة سبب كاف لخلط الأوراق , وعدم ذكر الحقائق التي جرت وتجرى على مشهد ومرأى من العالمين.
ولكل هذه الأسباب أرى أن أركز على الثوابت الإسلامية فيما يتعلق بهذا الموضوع: نحن والغرب أو بالأحرى نحن وكل الآخرين من غير المسلمين.
وسنجد في إسلامنا كل ما يمكن أن نفاخر به , بل ونتحدى إذا كان لدى الآخرين ما هو أفضل وأكثر عدلا ورقيا فإننا على استعداد لأن نأخذ به .(وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) سبأ 24.
الحوار والتفاهم والتعارف:
لنبدأ بالنقطة الجوهرية التي أفاض فيها الكثيرون من النخبة الرسمية وغير الرسمية في بلاد المسلمين , والتي يركزون عليها دون باقي النقاط المكملة لها , ولكننا نبدأ بها لنؤكد أنها فكرة صحيحة وأساسية بلا خلاف , ولكنها ليست كافية لعرض موقفنا كله إزاء المتغيرات المختلفة .
ونقصد أن الإسلام يحض على الحوار والتفاهم والتعارف والتعايش السلمي, ذلك أن الدين الحق لا يقوم إلا على الإقناع و الاقتناع, ولا يوجد إيمان بحد السيف , فالإيمان لغة هو التصديق.(1)
وآيات القرآن عديدة في هذا المجال .. (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة. وجادلهم بالتي هي أحسن)النحل125 . (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) البقرة 256 .. (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)يونس99.
ولأن البشرية تنقسم إلى شعوب و قبائل فان الدعوة تكون (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا , إن أكرمكم عند الله أتقاكم)الحجرات13.
وعندما تتمايز الأمم فان الهدف الأسمى هو التعايش والتعارف وعدم استعلاء طائفة على أخرى, أو لا أمة على أمة, ثم يكون الأكرم عند الله هو الأكثر تقوى, والحساب النهائي عند الله وليس على هذه الأرض الفانية. وحتى الخلاف العقدي فهو متروك لله عز وجل كي يحكم فيه يوم القيامة (ثم إلىّ مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون)آل عمران55.
إذن من وجهة النظر الإسلامية الخالصة, لا توجد أي مشكلة على الأرض , بسبب الخلاف في الرأي أو العقيدة أو اللون أو العرق أو القومية, بل إن الإسلام يدعو إلى مباراة سلمية في إعمار الأرض والتخلية بين الإنسان و اختياراته العقدية.
من أين يأتي الصدام؟!
من أين يأتي الصدام إذن ؟ من أين تنشأ المشكلة؟
تأتى من الطرف الذي يرفض المبادرة السلمية ويستخدم وسائل الإكراه في فرض هيمنته ورؤيته ومصالحه.
وإذا افترضنا أن الكرة الأرضية مسرح واحد متواصل فإننا كإسلاميين نقبل منطق المباراة السلمية, ولترفع العقبات والروادع عن كل الرؤى والأيديولوجيات ولنترك الحكم لجمهور البشرية, ولكن الغرب لم يقبل بهذا المنهج، بل وصل الأمر إلى حد التدخل في شؤون الدول العربية و الإسلامية ضد الأنظمة ذات التوجه القومي, ثم ضد الأنظمة ذات التوجه الإسلامي, ثم انتقل الآن إلى الأنظمة الصديقة يريد أن يتدخل في أسلوب حياة مجتمعاتها ومناهج التعليم و الخطاب الديني.(/1)
والآن تتم عملية تعليق هذا التدخل على مشجب أحداث 11 سبتمبر في حين أن تاريخ التدخلات قديم ولم ينقطع بعد فترة الاستعمار التقليدي, وكانت التدخلات الغربية متصاعدة في العقدين الأخيرين من القرن العشرين, وعندما نشير إلى الغرب فإننا نشير بشكل خاص إلى الولايات المتحدة الأمريكية التي اتخذت السياسة الأكثر غلوا, ولكن أوروبا لم تعارض هذا التوجه الأمريكي جذريا ولم تقدم بديلا متماسكا للعلاقات بين الإسلام و الغرب, وكان خلافها مع الولايات المتحدة تكتيكيا خاصة ألمانيا وفرنسا وبلجيكا. بل لقد عادت بنا الولايات المتحدة إلى مرحلة الاستعمار التقليدي مرة أخرى باحتلال أفغانستان والعراق والتهديد باحتلال دول أخرى.
وبالتالي نحن أمام الوضع التالي:
العالم الإسلامي لا يتدخل (ولا يقوى) في الشئون الداخلية للعالم الغربي, بينما يتعرض هو للاعتداء والاحتلال و التدخل في أخص شؤونه الداخلية.
والعقيدة الإسلامية توفر أعدل منهج للتعايش السلمي بين الحضارات, ولكننا لا يمكن أن نرفع شعار الحوار الحضاري مع الجيوش الغازية لأراضينا والمتواجدة في عدد كبير من الدول العربية و الإسلامية.
أما المنهج الذي نعتبره الأكثر عدالة, فقد نص عليه القرآن الكريم في قواعد نعرضها للاحتكام إليها, وأين يمكن أن نجد معيارا أكثر عدالة من ذلك؟! وإذا زعم أحد أن هناك ما هو أفضل من ذلك, فنحن على استعداد لمناقشته باعتبار أن الغرب في مجموعه لا يؤمن بطبيعة الحال بقداسة ما ورد بالقرآن الكريم, ولكننا نعرضه للمناقشة العقلية البحتة.
( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين , إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون)الممتحنة 8-9.
من هاتين الآيتين نستخرج مجموعة من القواعد الأساسية التي تحكم علاقة المسلمين بغيرهم سواء أكانوا أهل كتاب أو مشركين أو غير مؤمنين بأي دين من الأديان:
1- إن المسلمين ملتزمون بحسن العلاقة مع غيرهم من بنى البشر , ذلك أن الأصل في الإسلام هو السلام والمحبة , ونشر البر والعدل بين الناس قاطبة على اختلاف أجناسهم وألوانهم ومعتقداتهم(2).
2- إن عداوة المسلمين يجب أن تنصب حصرا على الذين يحاربونهم لتغيير دينهم , أو يعتدون على حرماتهم : النفس و الوطن.
3- إن المسلمين لا يحاربون ولا يعادون ولا يعلنون الجهاد ضد الآخرين بسبب عقيدتهم ولكن دفاعا عن النفس والعقيدة وهى ضرورة للمحافظة على الذات فإذا انتفى هذا المبرر فلا مجال للحديث عن قطع كل صلات بالمخالفين في الرأي فضلا عن قتالهم, فالنهى عن الصداقة والمحبة والتحالف منصب على الذين ما يزالون مستمرين في حربهم و عدوانهم.
*****
نحن إذن أمام قاعدة أساسية واحدة تجمعها هذه الأبعاد الثلاثة ..
إن العلة في المقاطعة والقتال و العداوة, هي الفعل الدفاعي ردا على العدوان وحماية النفس والوطن والعقيدة, وليس لنشر الدين بالقوة أو لإبادة المخالفين في الرأي والعقيدة.
وهذا أمر بدهي لا يمكن أن يرفضه أحد بأي منطق وبأي معيار , فأنا باختصار أطالب المخالف لي بالحد الأدنى الذي لا يمكن الهبوط عنه وهو ( ألا يقتلني ) و ( ألا يخرجني من وطني ) هذا مطلب عادل لأنه غريزي , ولأنه مطلب لكل إنسان على الأرض , و التفريط في هذا الحد الأدنى معناه: العدم!!
ربما يرد أحد الغربيين فيقول هذا كلام حسن ولكننا لم نره في التاريخ, وما فائدة الكلام الحسن الذي لا يمكن أن يطبق. ونقول:
أولاًََ: إن التاريخ يثبت أن هذه المقولات لم تكن غائبة.
ثانيا: حتى وإن اختلفنا في تقييم التاريخ فإننا نقترح على الغرب هذا الميثاق من جديد خاصة وأنهم عندما يتحدثون عن خطر الإسلام كقوة غازية لا يجدون إلا معارك بواتييه(741م) و فيينا(عام 1684م). ونحن الذين نتعرض لحملات عسكرية متواصلة بل ومذابح في القرون الأخيرة خاصة خلال القرنين الأخيرين 19 و 20 .
نظرة على التاريخ:
في إطار هذه الورقة المكثفة يصعب تقديم عرض أو تحليل شامل لتاريخ العلاقات بين الإسلام و الغرب.. وهنا نكتفي بعدة محطات:
المحطة الأولى
* الدعوة الإسلامية في موطنها الأصلي لا يمكن أن تقارن معاركها التي فرضت عليها بأي معارك في التاريخ السابق أو اللاحق لها من حيث محدودية العنف, فالمعارك فرضت أولا على المسلمين بقتلهم وتعذيبهم وإخراجهم من ديارهم على مدار 13 عاما , وعندما تأسست دولة المدينة خاضت دفاعا عن النفس والعقيدة خمسين مواجهة عسكرية لم يتجاوز عدد ضحاياها بأجمعها تسعمائة رجل في المعسكرين سقطوا في ساحة القتال خلال 10 سنوات(3), قارن هذا العدد بالحرب الدينية الأوروبية التي عرفت بحرب الثلاثين سنة (1618-1648)والتي كانت حربا كاثوليكية بروتستانتية و أدت إلى مقتل 30% من السكان في وسط أوروبا(4) .(/2)
* أما موقف الدين الإسلامي في بداية عهده من اليهود .. فقد كانت وثيقة المدينة التي أعطتهم حق المواطنة الكاملة مع المسلمين, ولكنهم هم الذين رفضوا هذه المواطنة و تعاونوا مع الأعداء ضد مدينتهم فكان الصدام.
* أما بالنسبة للإمبراطورية الرومانية فهي التي بادرت بالعداء للدين الجديد من خلال قبائل الغساسنة الحليفة, حتى أن مبعوث الرسول إلى هرقل قد تم قتله. وقد كانت هذه المواقف وراء غزوات مؤتة وتبوك وبعثة أسامة بن زيد.
* أما بالنسبة للدولة الفارسية فقد كان الفرس يضطهدون الفرق المخالفة لعبادتهم (النار) من يهود ونصارى وصابئة وبوذيين وماتويين, وكان للفرس قبائل عربية تابعة لهم في الحيرة وكانوا يحتلون البحرين واليمن , وعندما تلقى كسرى كتابا من محمد عليه الصلاة و السلام مزقه وأرسل إلى عامله على اليمن يأمره بأن يرسل رجلين قويين من عنده ليأتياه بمحمد (أو رأسه في رواية أخرى) . ثم بدأ عرب الحيرة التابعون للفرس الاعتداء على المسلمين المجاورين لهم. فأرسل أبو بكر خالد بن الوليد ليكف أذاهم , ويؤمن جيرانهم المسلمين وعندما انتصر عليهم حنق ملك الفرس وثار لأتباعه فكانت الحرب بينه وبين المسلمين في عهد عمر(5).
المحطة الثانية:
عندما شنت أوروبا الحروب الصليبية التي دامت قرنين كاملين, وكانت اعتداء ماديا من جيوش أوروبية على أراضى مسلمين مشارقة ـ 8 حملات وحشيةـ ونكتفي بما حدث في القدس كرمز لهذه المرحلة.
دخل الصليبيون القدس بمجزرة ذبح فيها سبعون ألفا من المسلمين. غرقت الدروب كما يحكى المؤرخون فى الدماء, وخاضت الخيول حتى الركب في السائل الأحمر .
لكن بعد مائتي عام , طرد صلاح الدين الأيوبي الفرنجة من القدس , ليكون المؤرخون الأوربيون أول المنبهرين بسماحة وحلم وسلم القائد الكبير المنتصر مع أعدائه المنهزمين(6).
وقد سجل المؤرخون أن الصليبيين عندما دخلوا القدس أحرقوا يهود القدس أحياء في كنيسهم, في حين تم الإبقاء على معظم الأماكن المقدسة المسيحية واليهودية بدون أن يمسها سوء خلال الحكم العربي الإسلامي كله(7).
المحطة الثالثة:
الحروب التي دارت على الأرض الأوروبية سواء في الأندلس أو في شرق أوروبا في العهد العثماني. يعترف كثير من المؤرخين الغربيين ( مثل المؤرخ البيزنطي خالكو كونديلاس khalkokondylas والمؤرخ الانجليزي جيبون Gibbons ) وغيرهم كثير بأن النظام العثماني كان يتعامل مع الدول و الأشخاص غير المعادين بالحسنى واللين والكرم مهما كانت أديانهم وأنه عامل الأرثوذكس معاملة أفضل بأضعاف من معاملة الكاثوليك للأرثوذكس(8).
وكان فتح القسطنطينية هدفا رئيسيا للسياسة الإسلامية منذ القرن الهجري الأول لأنه من القسطنطينية كانت تصدر قرارات الحرب لغزو ديار الإسلام و الإغارة على الثغور.
ويعترف نورمان بينز بأن "عداوة بيزنطة للإسلام بقيت ما بقيت الإمبراطورية"
ويتحدث "فازلييف" في بحثه "بيزنطة و الإسلام" عن تفضيل الأرثوذكس الأتراك العثمانيين على ( الكاثوليك ) أشقائهم في الدين فيقول ] ولا زال الناس يرددون تلك المقالة المأثورة التي صدرت عن رئيس ديني بيزنطي يدعى "لوكاس فاتوراس" في ذلك الحين وهى: "انه لخير لنا أن نرى العمامة التركية في مدينتنا من أن نرى تاج البابوية"[ .
ومن المهم في هذا الصدد أن نشير إلى شهادة " نهرو " زعيم الهند الهندوسي: " ومهما يكن من أمر فالواقع أن سلاطين الأتراك العثمانيين كانوا متسامحين جدا مع الكنيسة الإغريقية الأرثوذكسية"(9).
ولعل هذه الشهادات تغنينا عن سرد تفاصيل رهيبة من خلال عملية مقارنة تاريخية بين سياسة الدولة الإسلامية العثمانية , وسياسة الإمارات الأوروبية التي كانت تستخدم أساليب الاستئصال و الإفناء الكلى بالمعنى الحرفي, أي قتل جميع المسلمين في المناطق التي يسيطرون عليها , حدث هذا بنسبة 100% في الأندلس , وبنسبة 100% في مناطق كثيرة بشرق أوروبا, رغم أن الأغلبية الساحقة من مسلمي شرق أوروبا هم من أصل أوروبي (وليسوا أتراكا) ودخلوا الإسلام طواعية , لأنهم لو كانوا دخلوا مكرهين , لتحولوا سريعا إلى المذاهب المسيحية بمجرد انكسار الجيش العثماني في بلادهم. وحدث الاستئصال بنسب أقل من 100% في مناطق أخرى. وحقائق التاريخ مفزعة , فالمسلمون كانوا أكثر من 50% من سكان بلغاريا في القرن التاسع عشر أما في إحصاء 1982 فقد أصبحوا يمثلون 17% من السكان !
وكان عدد المسلمين في اليونان يقارب نصف العدد الإجمالي للسكان حتى عام 1832 أما الآن فهم يمثلون 3% من السكان !!
وفى جزيرة كريت كان المسلمون يشكلون الأغلبية الساحقة من سكانها حتى منتصف القرن التاسع عشر , وظل المسلمون متواجدين حتى عام 1913 , أما الآن فلا وجود لأي مسلم في الجزيرة في وقتنا الحاضر!؟(10)
*****(/3)
وإذا عبرنا مرحلة الاستعمار الحديث ( الاحتلال الفرنسي – الإنجليزي – الأوروبي عموما) لبلاد العرب والمسلمين والتي كانت في الحقيقة حملة صليبية تاسعة ولكن بشعارات مختلفة , فإننا نواجه الآن حملة استعمارية صليبية عاشرة . ومن المؤكد أن أي قوات إسلامية لم تطأ أرضا أوروبية أو أمريكية منذ أواخر القرن التاسع عشر. ولا يمكن تبرير هذه الحملة لاحتلال أراضى العرب و المسلمين بالعقد القديمة من الدولة العثمانية حتى و إن سلمنا بأي وجهة نظر غربية متطرفة ضد هذه الحقبة, فلا يمكن تبرير الحروب بالهواجس التاريخية القديمة. ومن المفترض أن الأجيال والعهود المختلفة تحاول في عصرها أن تضع ضوابط في العلاقات السياسية الداخلية أو الدولية.
في هذه الغزوة المعاصرة الصهيونية – الأمريكية , تقدم تبريرات بأن هدفها هو البترول (وأنها ليست حربا دينية) وكأن الاستيلاء على بترول العرب والمسلمين مسألة مشروعة أو مبررة أو فيها نظر , وكأن الاستيلاء على مكامن قوتنا الاقتصادية لا يؤدى إلى إضعافنا وإذلالنا وتحويلنا إلى تابعين.
وتردد كثير من الأبحاث والدراسات أن سقوط الاتحاد السوفيتي , وانتهاء الصراع السوفيتي-الأمريكي , الشيوعي-الرأسمالي , هو الذي فتح الطريق للصراع بين الغرب و الإسلام, والحقيقة أن العداء الغربي للإسلام لم ينقطع ( الثورة الإسلامية الإيرانية وثورة الإنقاذ السودانية حوربتا من الغرب رغم وجود الاتحاد السوفيتي) , ولا يقلل من هذا الموقف التكتيكي لأمريكا من الجهاد الأفغاني ضد الاحتلال السوفيتي, فلاشك أن الخطر السوفيتي كان الخطر رقم واحد , والآن ارتفع الإسلام إلى المرتبة الأولى وأصبح في الصدارة , رغم أنه لم يتشكل بعد كقوة عظمى , بل تسعى أمريكا والغرب للحيلولة دون قيام هذه الدولة العظمى ذات الرؤية الحضارية البديلة , وهى بهذا المعنى المنافس الوحيد للهيمنة الأمريكية والغربية , هذا بالإضافة إلى البعد العددي حيث تقدر الدراسات المستقبلية الغربية أن المسلمين سيشكلون 40% من البشرية منتصف القرن الحالي . هذه الرؤية ليست بنت مرحلة العولمة أو النظام العالمي الجديد أو ما يسمى المسيحية الصهيونية المسيطرة الآن على السلطة في واشنطن ولندن. فقد سبق لـ "أرنست رينان" المؤرخ ذائع الصيت أن قالها بصراحة وفظاظة عام 1862 : "إن الشرط الأساسي لانتشار الحضارة الأوروبية هو تحطيم الإسلامية. وتلك هي الحرب الدائمة , حرب لن تضع أوزارها إلا بعد أن يموت بؤسا آخر حفيد لإسماعيل أو يرد على عقبيه إلى أعماق الصحراء , لأن الإسلام هو أكبر نفى لأوروبا , ستفتح أوروبا العالم وتنشر دينها المتمثل في القانون , في الحرية , في احترام الإنسان وهى عقيدة ذات طابع الهي تحملها البشرية".
وهذا نفسه ما يقوله جورج دابليو بوش الآن عن أنه يشن حربا باسم السماء, وأن الله قد اختار الشعب الأمريكي لأداء هذه الرسالة. وما يقوله ممثلو الكنيسة المعمدانية الجنوبية - التي خرج من عباءتها معظم رؤساء أمريكا - من أمثال جيري فولويل وبات روبرتسون, وما يقوله رامسفيلد ومساعدوه, وهو يتضمن إعلان حرب على الإسلام كدين, وليس على ما يسمى الحركات الإرهابية. (الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إرهابي – القرآن كتاب يحض على العنف – اله المسلمين وثن – وعندما نحاربهم فنحن نحارب الشيطان ...الخ)
ولا شك أن الصراع ينطوي على استراتيجية للهيمنة والسيادة العالمية وأن هذا التوجه العدواني مشبع بالمصالح الاقتصادية والسياسية, ولكنه يستظل بهذه المظلة العقائدية (المسيحية الصهيونية,التي تربط نهاية العالم بعودة المسيح عقب معركة هر مجدون.. وعقب تجمع اليهود في فلسطين , وهدم المسجد الأقصى وإقامة الهيكل على أنقاضه)، وبكل هذه المعاني نحن أمام حرب دينية حضارية.
وعبر التاريخ فان القوى العظمى لا تتخلى طواعية عن سيادتها العالمية, ولا تتراجع إلا عندما تتغير موازين القوى التي تجبرها على هذا التراجع. ولكننا نزعم انه عندما سادت حضارتنا فإننا لم نفرض ديننا ورؤيتنا على المخالفين لنا في الدين . هذا حدث في أوروبا , وحدث في الهند التي ظلت أغلبيتها هندوسية في ظل الحكم الإسلامي المديد , وحدث في مجمل أراضى آسيا , وحدث في قلب المنطقة العربية ذاتها , حيث لم تتعرض الأقليات المسيحية إلى أي حالة من الاستئصال. ويكفى أن نشير إلى حالة مصر , حيث ظل المسلمون منذ الفتح عام 640م – 20 هجرية أقلية لأكثر من قرنين , وظل الإسلام ينتشر بصورة طوعية بطيئة حتى أن المسلمين لم يصبحوا أغلبية إلا في عهد الدولة الطولونية (868-905م , 254-292هجرية)(11) . وقارن ذلك بما حدث في الأندلس وبلغاريا واليونان..الخ
*****
ولا نطرح كل ذلك على سبيل التفاخر أو الكيد, فنحن على استعداد دائما لفتح صفحة جديدة, ونحاول في عصرنا الحديث أن نضع الضوابط الدولية التي يمكن أن تحكم تعايش الحضارات.(/4)
ولكنهم, ولأنهم الأقوى, لا يستمعون إلينا إلا على سبيل الخداع ومضيعة الوقت والمناورة.ونحن نشير إلى الفئات الحاكمة المسيطرة والتي تحظى بقبول الأكثرية, ولا يعنى ذلك عدم وجود فئات أو شرائح أو منظمات أهلية في الغرب يمكن التحاور بل والتعاون معها. ولقد كانت هناك و لاتزال فرصة تاريخية لإنشاء جبهة عالمية إنسانية ضد مشروع الهيمنة الأمريكية – الصهيونية, ولقد قدمت الحركات الشعبية في الغرب المناهضة للحرب في العراق فرصة لهذه الجبهة الإنسانية ضد الحرب وضد العولمة (الهيمنة) الأمريكية.
ولكن حديثنا ينصب على القوى المسيطرة في الغرب(وأمريكا خاصة) والتي تحظى بقبول شعبي عام من خلال الانتخابات . وهذه لا يجوز الحوار معها وهى تعتدي وتحتل أراضى المسلمين وتساند الكيان الصهيوني, وتستهين بمقدساتنا, بل وتقيم حكومات يرأسها أمريكيون (كرزاي – بريمر) , بل وصل الأمر إلى حد استباحة المدنيين على نطاق واسع , استباحة النساء والشيوخ و الأطفال في حالتي الحرب أو الاحتلال (فلسطين – العراق – أفغانستان كحالات صارخة) . فهؤلاء لا يمكن الحوار معهم إلا بالسيف حتى يتراجعوا عن عدوانهم.
إن موقفنا كمسلمين من الغرب تحكمه الآيتان المشار إليهما من سورة الممتحنة
(لا ينهاكم الله...... ) والتي حولها الفقه الإسلامي مع آيات أخرى إلى هذا التقسيم الأزلي الذي لا يعتوره أي تبديل عبر الأزمان لأنه مشتق من القرآن الكريم ،أي تقسيم العالم إلى ..
1- دار السلام 2- دار الحرب 3- دار العهد
- فدار السلام هي دار الإسلام حيث يتعين أن تكون أمة واحدة, والأمة الواحدة يتعين عليها أن تحكمها تقاليد الإسلام حتى أن الذي يخرج عليها بغيا يتعين محاربته لرده إلى الصواب ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين, إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون) الحجرات 9-10.
ويدخل في دار السلام بطبيعة الحال كل مواطني الدولة الإسلامية من أهل العقائد غير الإسلامية حيث تكون لهم حقوق المواطنة الكاملة.
- دار الحرب هي الدول غير الإسلامية المحاربة للمسلمين , المعتدية على أراضيهم , المستبيحة لديارهم ومقدساتهم أو التي تبيد المسلمين على أراضيها.
- دار العهد هي الدول غير الإسلامية التي – بتعبيرات العصر- توقع معاهدة عدم اعتداء مع العالم الإسلامي, وتلتزم بها, وتصون حقوق المسلمين لديها, فهذه يمكن التعاون وإقامة علاقات طبيعية تماما معها. أقرب مثال لها الآن الصين وبعض الدول الأوروبية(كفرنسا وألمانيا) ودول أمريكا اللاتينية.
*****
ويتعين أن نطالب الدول الغربية الموجودة في خانة دار الحرب أن تنتقل إلى خانة دار العهد, وهى مطالبة ساذجة, إذا لم تكن مرهونة بتنامي قوة المسلمين, وتغيير موازين القوى, ولكن ضعفنا المادي الراهن لا يبرر –من الناحية الشرعية- التغاضي عن دول دار الحرب واعتبارها وكأنها دول من دار العهد. والجهاد في فلسطين والعراق وأفغانستان يؤكد أن المقاومة ممكنة رغم الفجوة التكنولوجية. وأن المعتدين لابد أن يألموا – كما نألم – حتى يستمعوا إلى كلام الحق. ولنلحظ هذه الدقة القرآنية في الربط بين الحرب و السلام .. حيث يتضح لنا أن القوة أساس السلام, وهذا ما أكدته وقائع التاريخ..
( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله و عدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم) الأنفال 60 يتبعها مباشرة (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم) الأنفال61.
أي عندما تمتلكون من أسباب القوة ما يكفى فان باب السلم سينفتح.
وعلينا في هذه الحالة أن نقبل بالسلم حتى وإن كانت النوايا غير خالصة وغير موثوقة. ( وان يريدوا أن يخدعوك فان حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين). الأنفال 62
وحتى عندما نبرم العهود فإننا لا ننقضها, ولا ننقض على الدول غير الإسلامية بأسلوب الغدر والخيانة , ذلك إن الغدر مرفوض حتى مع المخالفين لنا في الدين.
(وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين) الأنفال 58.
والمقصود أننا إذا لاحظنا بوادر الخيانة من الآخرين , كحشد الحشود على الحدود , والخروج عن شروط معاهدة السلام فانه يتعين توجيه الإنذار قبل تبديل موقف السلم إلى الحرب , وهذا ما أقر به القانون الدولي مؤخرا ..
*****
والأمر المثير للحذر و القلق, أن الولايات المتحدة تتحدث عن أن أمنها القومي مهدد من المسلمين , وهذه مبالغة لا معنى لها , فأين هي الدولة الإسلامية التي يمكن أن تهدد الولايات المتحدة , ولكن الولايات المتحدة تعتبر أن حدودها تشمل كل الكرة الأرضية , وهذا أمر غير مقبول ولا يمكن التسليم به إلا لمن يريد أن يلغى شخصيته وحضارته ووجوده.(/5)
وفى النهاية نقول: إن حوار الحضارات كلمة حق ولكن يجب ألا يراد بها باطل, وهو خداعنا وكسب الوقت لمزيد من احتلال الأراضي, وألا يكون حوار الحضارات معناه, أن نغير ديننا (الخطاب الديني) ونظم تعليمنا وثقافتنا , ونستغني عن استقلالنا , وأن نتطابق مع مفاهيم العولمة الأمريكية في شتى المجالات.
كذلك فإن الحوار بمعناه الفكري الحضاري مرفوض مع المعتدين المحاربين لأن هؤلاء لا يعرفون ولا يستجيبون إلا للغة القوة.
ولكن في المقابل علينا أن نشن هجوما إسلاميا بالحوار مع كافة الحضارات والدول غير المحاربة في آسيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية , وأن نسعى لتأسيس جبهة إنسانية عالمية حكومية وشعبية لمحاصرة العولمة الأمريكية-الصهيونية في مرحلتها العسكرية المتغطرسة.
الهامش
1- مختار الصحاح للشيخ الإمام محمد بن أبى بكر عبد القادر الرازي – المكتبة العصرية – صيدا بيروت, الطبعة الرابعة 1998 – ص22
2- تفسير القرآن الكريم من سورة الأحقاف إلى سورة المرسلات – أحمد حسين – المجلس الأعلى للشئون الإسلامية – مصر 1976 – ص385
3- الإسلام والحداثة – عبد السلام ياسين – دار الآفاق – الطبعة الأولى 2000 –ص208
4- هل تحتاج أمريكا إلى سياسة خارجية؟ هنري كيسنجر – دار الكتاب العربى – بيروت – 2002 – ص11
5- الجهاد – د.أحمد محمد الحوفي – المجلس الأعلى للشئون الإسلامية – مصر – 1970 ص168
6- الإسلام والحداثة – مرجع سابق – ص78
7- الغرب والإسلام – مجموعة دراسات مترجمة – دار جهاد للنشر والتوزيع – القاهرة , الطبعة الأولى 1994 – ص143 ترجمة و تحليل منى ياسين , مراجعة و تعقيب د.محجوب عمر
8- تاريخ الدولة العثمانية –يلماز أوزتونا – منشورات مؤسسة فيصل للتمويل – تركيا, استانبول – 1988 – الجزء الأول – الطبعة الأولى ص102
9- المسألة الشرقية – محمود ثابت الشاذلي – مكتبة وهبة – القاهرة 1989 الطبعة الأولى ص41 , ص102
10- الإسلام و المسلمون في بلاد البلقان – محمد خليفة – مركز دراسات العالم الإسلامي – مالطة – الطبعة الأولى – 1994 ص 230و231 و283 و 284و713
11- موسوعة تاريخ مصر – أحمد حسين – دار الشعب – مصر – الجزء الثاني – الطبعة الأولى – 1973 ص500
* كاتب صحفي مصري(/6)
حوار الكلاشنكوف ولوحة المفاتيح
حامد بن عبدالله العلي
كان الإعياء قد أخذ من المجاهد تلك الليلة كلّ مأخذ ، عندما آوى إلى خندقة وفيه غريفة صغيرة قد وضع فيها حاسوبا ، ليكتب التقارير الجهادية عن سير العمليات ، وأحسّ بحاجة إلى إغفاءه ، فوضع سلاحه " الكلاشنكوف" على منضدة عارية من كل شيء ، إلا من ذلك الحاسوب الذي يحس بغربة في ذلك المكان ، كغرفة المجاهد في هذا الزمان ، وضعه بجانب "لوحة المفاتيح" ، فهو يلمع في ظلمة لا يكاد المصباح الصغير في سقف الغريفة قادرا على تمزيقها ، وقد بدت تلك الظلمة وكأنها تخيم على الكون أجمع ، والكواكب متلفعة بأردية السحب ، وزخات المطر متواصلة في خيوط متصلة ، ونغمة واحدة ، كأنها اتفقت على أنشودة حالمة يطمئن في إيقاعها الهادئ المجاهد لينام ويستريح .
في وسط فلوجة العزة كان ذلك المكان ، في أحياءها القديمة الشاهدة على تاريخ حضارة الإسلام المجيدة في العراق ، وقد غدت الفلوجة اليوم فالجة الكفار الصليبين ، ولقد خبأ لها الله تعالى هذا الشرف في دورة الدهور ، فهي فرحة به اليوم فرحا لا يوصف ، ترقص طربا كطائر يخفق جناحاه في ترقرق صفحة الهواء ، يغرد تائها بين عبق الزهور .
كان هذا المجاهد مسؤولا عن حصر العمليات الجهادية وجمعها في تقارير متناسقة ، لنشرها في وسيلة الإعلام الوحيدة الممكنة لنشر أخبار الجهاد الإسلامي الذي اشتعل اشتعال النار ف الهشيم في الأرض كلّها ، تلك الشبكة العنكبوتية ، التي سُخِّرت في وقت لم يحسب له أعداء الإسلام حسابا ، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ، بعد أن تحولت وسائل الإعلام الرسمية كلها إلى أبواق للصليبية الغازية بلاد الإسلام .
فهي تارة تسمّى احتلال بلاد الإسلام تحريرا ، وتارة تلبّس على المسلمين محاولة طمس وجه الحق الأبلج ، وهو أن الساحة العالمية تشهد صراعا بين الصليبية المتصهينة المتهوّدة مع الصهاينة اليهود ، للهيمنة على العالم الإسلامي ، ليردوا المسلمين عن دينهم، وليس في كنانة أحد مشروع لصدهم إلا أهل الجهاد طليعة أمة الإسلام .
تلبّس على المسلمين الحق بالباطل زاعمة : أن الصراع اليوم إنما هو بين "إرهابيين" ، ومجتمعاتهم ، بين طائفة تريد أن تخرب ديار الإسلام ، ودول تريد أن ترقى بهذه الأمة نحو العز والتمكين ، في محاولة يائسة لطمس الحقيقة ، وخلط الأوراق ، وقلب حقيقة المعركة .
غير أن صنيع هذا الإعلام الكاذب الخائن قد بدا ظاهرا للعيان ، لاتخفى منه خافية ، بعد أن جعلت تلك الدول ، أرض الإسلام مرتعا للمعسكرات الصليبية تغير منها جيوش الصليب على بلاد الإسلام ، ممهدا للاجتثاث دين الإسلام منها ، ثم تأوي إلى تلك المعسكرات وهي في مأمن إذ هي في حراسة تلك الدول ، قد سخرت أبناء المسلمين لحمياتها ، وبعض شيوخ الدين لجعل خططها في حماية شريعة الله تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا ، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا .
غطّ المجاهد في نوم هانئ ، وكيف لا يهنأ وهو بين أعظم حسنيين ، النصر أو الشهادة ، وهي أعظم النصر أيضا ، فهو ينام وقد امتلأ جفناه من حلاوة النصر ، وانشرح صدره بالرضا عن نفسه ، واطمأن قلبه بسلامة المنهج الذي يسير عليه ، أليس هو على ذرة سنام الإسلام ، وأي مقام أشرف من هذا المقام .
وقد كانت "لوحة المفاتيح" تلك ، تزهو في بهجة ممزوجة بالفخر والخيلاء ، كلما نقرت تلك الأصابع المباركة عليها مبشرة بأخبار الجهاد ، غير أنها هذه المرة .. ولأوّل مرة .. تشعر بالغيرة من " الكلاشنكوف " ، فقالت هامسة ما تظن أن أحدا يسمعها : ترى هل هذا أسعد مني حظا ، بنصر الإسلام ، أم هو أرفع مني منزلة فيه ، أم المجاهد يحبّه أكثر منّي ؟!
وبينما هي تنظر إليه تلك النظرات ، وتهمهم بتلك الكلمات ، إذا هو ينطق هذه المرة على غير عادته في النطق ، فقال وهو يغض بصرا ..مُسّيت خيرا يا أمة الله .
قالت : ويْ ..واحتجبت عنه .. ما كنت أظنك تنطق بغير النار .
قال : بلى .. لا أنطق بالنار إلا مع الكفّار أهل النار .. لامع المسلمين والأخيار ، ألم تسمعي قوله تعالى ( أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ) ..
لكن أخبريني : ما هذا الذي حدثتك نفسك به ؟
قالت : وما أنت وذاك ؟
قال : دعينا نقطع هذا الليل في حوار مفيد ، فالصبح عنا بعيد ، وليس صاحبنا بحاجة إلينا هذا المساء .
قالت : إني والله أولى بالفضل منك ، فبي تنطلق كلمات الإسلام ، ومن حروفي الدعوة إليه ، وعلىّ بعد الله اعتمد الدعاة ، وامتلأت ديار الإسلام بالهداة ، وأُمر بالمعروف ونُهي عن المنكر ، وبسببي هدى الله الخلق ، وظهر الحق ، واندحر الباطل ، وانقطع المعاند المجادل ، وأما أنت .. فما أنت ؟! .. حديدة لاتفقه علما .. ونار تزمجر لا تغنم شيئا ، ولا تجلب فيئا .(/1)
قال "الكلاشنكوف" في ابتسامة واثقة وقورة : ما أنكرنا فضلك ، فأنت لكلّ خير أهل ، غير أنك تعلمين ، أن في السلاح عز الإسلام ، وما هان أهله بين الناس إلا لما فارقوه ، فالجهاد قلعة الدين ، ورفعة المسلمين ، لا يتركوه إلا هلكوا ، ولا يذروه إلا ذلُوا .
ويكفيني شرفا وفضلا أنني ألصق شيء بخير الناس ، فأهل الجهاد خير المؤمنين ، قد فضلهم الله على العالمين ، كما قال تعالى ( أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين ، الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون ، يبشّرهم ربّهم برحمة منه ورضوان وجنّات لهم فيها نعيم مقيم ، خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم ) .
وجعل التائبين العابدين الحامدين السائحين الراكعين الساجدين الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر الحافظين لحدود الله بعد المجاهدين في المنزلة ، كما قال تعالى ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم ) .
ثم قال ( التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين ) .
ثم إن الجهاد لا يتركه أو يترك تحديث النفس به إلا من فيه شعبة من النفاق ، كما في الحديث ( من لم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق ) ، ولم يُذكر مثل هذا إلا في الجهاد .
وإذا كان الجهاد بهذه الرتبة ، وكنت أنا والمجاهد في أتم صحبة ، فلا يستطيع المجاهد أن يستغني عنّي ، ولا يمكنه أن يبتعد منّي ، فأنا خير صحبِهِ ، وأنيس دربهِ ، فما جعلني الله تعالى في هذا المقام ، إلا لعظم منزلتي في الإسلام .
قالت : فأنا العلم والقلم ، الذي أول ما نزل من رب الفلق ، إذ قال ( اقرأ باسم ربك خلق ) .
قال : فأنا إذاً مسك الختام ، إذ عقد محمد صلى الله عليه وسلم اللواء "لأسامة" لقتال الروم ومات ، واليوم على هذا الأمر ـ كما ترين ـ تعقد الرايات .
قالت " لوحة المفاتيح " : قد بالغت يا هذا في قولك ، وتجاوزت في ذكر فضلك ، فلا تنسى أن الجهاد أصلا مقصود لتبليغ الدين ، وهداية الناس إلى رب العالمين ، والمقاصد دوما أشرف من الوسائل ، وعلى هذا اجتمعت الدلائل .
قال : نعم .. فأنت نِعم وسيلة للتبليغ ، غير أنّي وسيلة تغني عن قول كلّ بليغ ، وما تغني حروفك هذه المصفوفة ، ورموزها حولها ملفوفه ، في جمال ونعومة ، كأنها بكر في خدرها مخدومة ، إن هيمن الكفار على المسلمين ، ونصبوا عليهم الزنادقة والمنافقين ، وسعوا في بلاد الإسلام بالفساد ، وأبطلوا شريعة رب العباد ، وأحكموا قبضتهم على وسائل الإعلام والتعليم ، مناهج العلم والثقافة ، فأفسدوا البلاد ، وأجبروك على أن تنطقي بالكفر والإلحاد ؟!
قالت وقد بهتها كلامه الباهر ، فحادت إلى حديث آخر : أنا اسمي : جامعة المفاتيح ، أفتح الخيرات ، وأجلب المسرات ، وأنت ابتدأ اسمك بـ" كلاّ " ، ثم شنـ شنة عجماء ، ثم " كوف " وكوّف الأديم قطعه ، فاسمك كلُّه أجزاءه معاب ، فأنا الثريا وأنت التراب .
قال : ها قد لجأت أخيرا إلى حجج النساء ، أما "كلا" فللكفار أقولها ، كلا لن تنالوا الإسلام وأنا من الأحياء ، وأما شنشنتي فهي ناري التي أحرق بها المنافقين والأعداء ، وأنا الذي أكوّف أي أقطّع الكفار تقطيعا ، وأمزق أشلاءهم تمزيقا .
ولكن ألا أدلك على خير من جدالنا هذا ؟
قالت : وما هو ؟
قال : لا أجد مثلك كريمة بنت كرام، وإني أخطبك ، فهل تقبليني زوجا ؟
قالت في استحياء وغضت صوتها : أما أن مثلك لا يرد ، ولكن ما مهري ؟
قال : مهرك عشرة من العلوج الصليبيّة الكافرة ؟ حتى تعلمي أن الدعوة لايحميها إلا الجهاد ، وتتركي هذا العناد .
قالت : فنعم إذا ً .
ولم تكد تقول نعم ،حتى سقطت قنابل كالجحيم على خندقه ، فارتجت المنضدة ، وارتفع كلّ شيء في الغريفة في الهواء ، وإذا بالمجاهد يقفز فزعا فيلتقف " الكلاشنكوف " ، ويترك لوحة المفاتيح لايلتفت إليها ، وترى " لوحة المفاتيح " السلاح يزهو في خيلاء في يد المجاهد ، كأنه يقول : الآن ستعلمين فضلي ، وتعرفين صدق قولي ، وأن الدعوة إن لم تحمها قوة الحديد والنار ، قضى عليها الفجار والكفار .
وخرج المجاهد البطل ، وإذا حول الخندق ، عشرة من العلوج الكافرة ، يُقبلون دججا ، فأنطلقت من سلاحه طلقات كالضحكات ، وأصابت كل وحدة منها علجا ، لم تنحرف عنه عوجا ، وتعجب المجاهد من هذه الطلقات ، كيف ضحكت هكذا ، وكيف انطلقت ولم تلق في إصابة العدو حرجا ، وتعجّب لحالها عجبا ؟!!(/2)
ولما عاد إلى خندقه ، أخبره سلاحه بما أزال عجبه ، فعقد النكاح بينه وبين لوحة المفاتيح ، وزُفّت إليه ، وتزاوجت زخات الطلقات ، بالحروف والكلمات ، وأنجبوا ولدا أسموه عزّ الإسلام ، وتصالح الجهاد والدعوة ، وتعانق السلاح والصحوة ، وانكشفت الغمة ، وانجلت المحنة عن الأمّة ، وارتفع الخلاف ، والتأم الشمل في انتظام وائتلاف .(/3)
حوار بين الشريعة والفقه ...
شبكة الفرسان الإسلامية ...
هذا الحوار يبين تعريف كل من الشريعة والفقه والفرق بينهما
الشريعة :
الشريعة لغة هي الطريق الموصلة إلى الماء وأستعير هذا اللفظ للدلالة على أن ما شرعه الله هو الطريق الموصل إلى مرضاته , وقد رسم الله تعالى لكل رسول طريق لهداية قومه.
ونحن المسلمين شريعتنا وحي من الله متمثلة في القران الكريم والسنة الشريفة وهي بحمد الله شريعة سمحة,مطهرة,مقدسة,محفوظة وقد تحدى الله بأن لا مبدل لكلماته, وتوعد النبي من كذب عليه بمقعد في النار.
وعلى كل مسلم أن يتثبت إن جاءه أمر شرعي,هل ورد هذا في القرآن أم في السنة فإذا تبين له صحة النسب فعليه أن يقول مرحبا بشريعة ربنا, ثم عليه أن يسأل كيف أطبق هذا الأمر؟ فإذا تبين أن الأمر شرعي وعلم كيفية تطبيقه حسب ظروفه وإمكانياته فليسأل الله التوفيق والقبول, ثم يبدأ التطبيق حسب الوسع والطاقة وهذا من سماحة الشريعة.
أما الفقه(ومعناه الفهم الدقيق) فهو مجهود العقل البشري في فهم نصوص الشريعة المطهرة وإنما يقوم به من كان أهلا لذلك من المسلمين(الفقيه من درس العلوم الشرعية تقربا إلى الله ورزقه الله تعالى ملكة الفهم) فالعلم ليس فقط بكثرة الرواية وإنما نور يقذفه الله تعالى في القلوب فمن لا يفقهه الله فلن يفقه وإن حفظ أمهات الكتب.
وبعض المسلمين يخلطون بين الشريعة والفقه ولا يميزون بينهما , فإليك هذا الحوار لتتعرف على أهم خصائص كل منهما رغم أنهما ملتصقان حيث لا شريعة بدون فقه و لا فقه بدون شريعة:
قالت الشريعة:أنا مصدري من الله,فالله وحده لا شريك له هذا الشارع.
قال الفقه: أنا مصدري عقل المسلم الذي أتاه الله مؤهلات الفهم الدقيق.
الشريعة: أنا مقدسة وقد اكتملت لا أحتمل الزيادة ولا النقصان.
الفقه: أما أنا فمحترم وأقبل التطور والتجديد ما دمت تسمحين لي بذلك.
الشريعة: أنا محدودة النصوص ولكني فصلت بعض الأمور وأشرت إلى بعضها الآخر وسكت عن غيرها.
الفقه: أنا متعلق بمستجدات الحياة,أبحث وأدرس وأقيس ولكن عندي أصول ولدي قواعد مقررة.
الشريعة:أنا كلي حق لا باطل عندي ولا هزل.
الفقه: أما أنا فعندي الصواب والخطأ وفي داخلي الراجح والمرجوح.
الشريعة: أنا العبر والأوامر والنواهي والحجج.
الفقه: أنا أبحث في كيفية تنفيذ تلك الأوامر والنواهي بحيث أراعي حالة الناس وما يصاحبهم من ظروف .
ومن أراد الإنصاف فإنه سيقف إجلالاْ للعقل المسلم الذي أنتج كل هذه الكنوز الفقهية المستمدة من شريعتنا الغراء وحُق لنا أن أن نفاخر ونعتز, اللهم جاز عنا فقهاءنا أفضل الجزاء.فقد درسوا كل مسألة من جميع أقطارها حسب جهدهم و استنبطوا الأحكام لما استجد من أحداث وألفوا وصنفوا وبوبوا وفصلوا ولخصوا,هيهات أن تجد عشر معشارهم في الأمم الأخرى . وبقي لي أن أتكلم عن صنفين من الناس:
أ?- صنف يتعالى على الفقهاء ويزعم أنه قادر على الاستمداد من الشريعة فهو رجل والفقهاء رجال. وأقول له ليس كل راكب فارس, والعلم بلا أستاذ لا يخلو من فساد ومصيره إلى الكساد ولو كنت صادقا لأخذت العلم من الصدور لامن السطور و اعلم أن هذه الأمة معلمة ولو شاء الله لأنزل الكتاب ولم يبعث بشراً ولا رسولاً,ورحم الله امرءاً عرف قدر نفسه ووقف عنده أو دونه.
ب?- صنف يضفي على الفقه قدسية الشريعة وهو يوشك أن يتخذ الأحبار أرباباً من دون الله ولعله غفل عن أن الفقه نتاج العقل البشري القابل أصلاً للخطأ والصواب رحم الله الإمام أبا حنيفة حين قال:قولي صواب يحتمل الخطأ وقول غيري خطأ يحتمل الصواب فهل للتعصب من مجال في الفقه؟
يا من وفق أهل الخير إلى الخير وأعانهم عليه وفقنا إلى ما تحبه وترضاه. ...(/1)
حوار ساخن جدًا
أحمد: كيف حالك يا معاذ؟
معاذ: بخير والحمد لله، وأنت كيف حالك؟
أحمد: الحمد لله بخير حال, كيف كان حالك مع الامتحانات؟
معاذ: اسكت لا تذكرني كانت أيامًا غبراء.... الله لا يعيدها.
أحمد مبتسمًا: لماذا يا معاذ ألم توفق فيها؟
معاذ: الحقيقة ...... بصراحة لا أحد يدري ماذا فعل في الامتحانات.
أحمد: فعلاً ..... المهم ماذا سنفعل هذا الصيف؟
معاذ بخبث: مثل كل صيف سهر، وكافيتريات، وأفلام، وبنات وهكذا.
أحمد: أنا مليت من هذه الأشياء.
معاذ: هل عندك حل آخر غير هذه الحلول؟
أحمد: كلا، ولكن يمكن أن نفكر سويًا في طرق جديدة لقضاء الإجازة.
معاذ: فكر يا عبقرينو ثم أخبرني بما وصلت إليه.
أحمد: سنبدأ في السخرية الآن .... إذا لم تسكت سأتركك وأرحل.
معاذ: مهلاً مهلاً .... لن أسخر منك فكر على مهلك.
أحمد: اصمت ودعني أفكر في صمت.
معاذ: حسنًا.... سأصمت ... المهم أن تكون بفائدة.
أحمد: بعد فترة من الصمت ما رأيك في السفر للخارج؟
معاذ: السفر للخارج !!! ماذا تعني؟
أحمد: السفر للخارج ألا تعرف السفر للخارج، حيث الحرية والانطلاق هناك لا يعرفنا أحد، ولن يراقبنا أحد.
معاذ: تقصد إلى تلك البلاد التي نسمع عنها كثيرًا؟
أحمد: نعم هي بعينها ... هاه ما رأيك؟ توافق بالطبع.
معاذ: أفكر، فهذه ستكون أول مرة أقوم بهذا الأمر.
أحمد وهو يميل على أذن معاذ هامسًا: يا معاذ وهل هذا الأمر يحتاج إلى تفكير؟ أخبرك أنه لن يكون هناك رقيب علينا، ولن يقف أحد أمامنا في أي شيء نفعله.
معاذ: لا أدري، ولكني أشعر بالخوف.
أحمد: خوف!! من ماذا؟ وهل نحن ذاهبون إلى جوانتنامو؟
معاذ: لا أدري ولكني أشعر بخوف مبهم.
وفي هذه اللحظة يقبل أكرم صديق أحمد ومعاذ.
أحمد: يا خبر أكرم قادم ...
معاذ: تقصد الشيخ أكرم؟
أحمد: نعم هو بعينه... انتبه ولا تتحدث أمامه عن رحلتنا المزعومة هذه.
معاذ: ولماذا؟
أحمد: يا أخي شغل عقلك قليلاً بالتأكيد سيكون رد فعله كعادة هؤلاء المتزمتين ... حرام حرام.... كل شيء حرام.
معاذ: ولكن أكرم ليس من هؤلاء المتشددين .. أنا أعرفه شخصيًا.
أحمد: المهم لا تخبره وحسب.
معاذ: حسنًا كما تحب.
أحمد ملتفتًا إلى أكرم: كيف حالك يا شيخ أكرم؟
أكرم: بخير حال يا أحمد، وأنت كيف حالك؟
أحمد: بخير والحمد لله.
أكرم: الحمد لله... وأنت يا معاذ؟
معاذ: الحمد لله يا أكرم بخير حال.
أكرم: أين أنتم ذاهبون، أو ما الذي تفعلونه الآن؟
أحمد: لا شيء .... كنا واقفين قليلاً نتكلم مع بعضنا البعض.
معاذ: نعم كنا نتحدث عن .....
أحمد بغيظ: عن الامتحانات ... أليس كذلك يا معاذ؟
معاذ بارتباك: بلى عن الامتحانات بالطبع في الامتحانات، وهل سنتكلم إلا في هذا الأمر.
أكرم مبتسمًا: حسنًا شيء جميل، ولكن أليس من الأفضل أن نتكلم عن المستقبل بدلاً من الماضي؟
أحمد: ماذا تقصد يا شيخ أكرم.
أكرم: أقصد الإجازة الصيفية وما سنفعله فيها.
معاذ بحماس شديد: تمام يا أكرم.
أحمد بارتباك: بالطبع هذا من الأشياء المفيدة.
أكرم: حسنًا كنت أريد أن آخذ رأيكم في بعض الأمور التي أريد أن أفعلها في هذه الإجازة بعد إذنكم بالطبع
معاذ: تفضل يا أكرم.
أحمد: تفضل يا شيخ أكرم تفضل.
أكرم: كما تعرفون فأنا أحفظ القليل من كتاب الله تعالى لأني لم ألتزم إلا منذ وقت قصير، ولذلك فقد قررت أن أجتهد في هذا الصيف وأن أحفظ خمسة أجزاء من كتاب الله بمعدل ثلاثة أرباع في الأسبوع.
أحمد بتململ: جميل جميل.
معاذ بحماس: شيء رائع يا أكرم، وماذا أيضًا
أكرم: سأبدأ بإذن الله في تعلم العلم الشرعي في أحد المساجد المجاورة لنا.
أحمد بتململ أكثر: جمييييييييييل جمييييييييييييييييل.
معاذ وقد ازداد حماسه: فتح الله عليك يا أكرم وماذا أيضًا
أكرم: وكما تعلمون أن قدراتي في الكومبيوتر ضعيفة نسبيًا، فسأبدأ بإذن الله في تعلمه هذا الصيف في أحد المراكز.
أحمد وقد بدأ يتثاءب ويشعر بالملل الشديد: رائع.... شيء ممتاز.....
معاذ بإحباط ـ وقد بدأ يشعر بأن أفكاره السابقة كانت تافهة ـ: وهل هناك شيء آخر يا أكرم.
أكرم: نعم يا أخي يا معاذ هناك جزء مهم وهو الدعوة إلى الله تعالى.
أحمد: جميييييييييييييييييل يا أكرم ...... أظن أنه لم يعد هناك وقت لديك للعب واللهو والفسح.
معاذ: نعم يا أكرم كان هذا السؤال في خاطري من لحظات وكنت سأسألك إياه الآن, هل بعد هذا البرنامج المزدحم سيكون هناك فرصة لكي تلعب وترفه عن نفسك وتخرج مع أصدقائك؟
أكرم: بالطبع يا شباب وهل تظنوني معقدًا بأن أمضي الصيف بلا خروج ولا فسح، ولكن كل شيء لا بد وأن يكون مرتبطًا بمرضاة الله، فأنا لا أحب أن أرفه عن نفسي وأحقق لها شهواتها، ثم تبقى لي الحسرة والألم بعد ذلك بأثر المعصية التي ارتكبتها لأرفه عن نفسي.
أحمد: آآآآآآآآآه ماشي.
أكرم مبتسمًا: يبدو أن الكلام لا يعجبك يا أحمد.(/1)
أحمد: في الحقيقة يعجبني، ولكن يجب أن تكون واقعيًا بعض الشيء، وتعيش واقع الشباب، كيف يمكن لشاب في سني أن يترك كل هذه المغريات ولا يشغل نفسه بها؟ ألا ترى أنك حالم بعض الشيء؟
أكرم مبتسمًا في رفق: كلا يا أحمد الأمر ليس كذلك، وأنا غير حالم وسأثبت لك ....
يا ترى ماذا سيقول أكرم لأحمد؟
وهل سيقنعه بوجهة نظره، أم ستتهاوى مبادئه أمام صخرة الواقع المرير.
أكمل معنا لتعرف حماك الله من كل شر وسوء
حوار ساخن جدًا [2]
مفكرة الإسلام : وقفنا في المرة السابقة في الحوار بين الأصدقاء الثلاثة أحمد ومعاذ وأكرم، عندما فاض الكيل بأحمد من كلام أكرم الشاب الملتزم، الذي لا يواكب الواقع من وجهة نظره، ونكمل اليوم هذا الحوار الساخن بينهم.
أكرم: إذًا أنت غير مقتنع يا أحمد بما أقوله لك، وترى أني مفرط في الخيال؟
أحمد: في الحقيقة نعم يا أكرم، فأنا شاب كأي شاب، يريد أن يلهو ويلعب، ويعيش أيامه قبل أن تهاجمه ظروف الحياة ومشكلاتها، ولا يجد وقتًا حتى لينام.
معاذ: نعم يا أكرم، كلام أحمد يحمل الكثير من الحقيقة التي تدور داخل كل منا.
أكرم: حسنًا يا رفاق، سأشرح لكم وجهة نظري، ولكن عليكم الانتباه جيدًا؛ لأن الموضوع خطير ويهم كل شاب مسلم.
أحمد: حسنًا، ربما تقنعني بما لم يستطع أن يقنعني به أحد من قبل.
معاذ: حسنًا يا أحمد, فأنا والله يا أكرم في حيرة من أمري منذ فترة.
أكرم: أود أولًا أن أسألكم سؤالًا... إذا رأيت رجلًا يأكل التراب ويتلذذ به، ماذا تقول عنه؟
أحمد: بالتأكيد سأقول إنه مجنون.
معاذ: بالطبع غير سليم، هل يوجد إنسان عاقل يتلذذ بالتراب؟
أكرم: جميل جدًا، سؤال آخر من فضلكم، أتعلمون معنى قول الله عز وجل {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}؟
أحمد: نعم، أعلم أن معناه هو أن الذي يعش بعيدًا عن طاعة الله؛ يكن في تعاسة.
معاذ: نعم يا أكرم، معلوماتي عن هذه الأية كأحمد تمامًا.
أحمد: ولكن لحظة من فضلك يا أكرم، أليس المقصود من هذه الآية الكفار والمشركين فقط؟
أكرم: كلا يا أحمد، هذا هو ما قصدته عندما ذكرت هذه الآية لكم، هذه الآية للكفار ولغيرهم، ممن يعيشون بعيدًا عن الله عز وجل.
معاذ: جميل، وماذا بعد؟
أكرم: نستنتج أيها الصديقان العزيزان أن الذي يتلذذ بالمعاصي بالتأكيد عنده عيب أو مشكلة في حاسة التذوق، تمامًا كالذي يتلذذ بالتراب، أليس كذلك؟
معاذ: تمام.
أحمد: نظريًا صحيح.
أكرم: حسنًا يا أحمد، سأقنعك عمليًا عن طريق إجابتك عن هذا السؤال بصراحة ووضوح.
أحمد: ما هو هذا السؤال؟
أكرم: بالله عليك، ألم تقترب من الله في يوم من الأيام بصورة كبيرة مثلًا في رمضان؟
أحمد: بلى، حدث ذلك.
أكرم: حسنًا، هل شعرت بالراحة والطمأنينة والأمان في ذلك الوقت.
أحمد: نعم، كان شعورًا غاية في الجمال.
أكرم: حسنا، أخبرني بالله عليك أي الشعورين أفضل؟ شعورك وأنت تعصي الله عز وجل، أم شعورك وأنت تطيعه، أخبرني بلا مواراة أو تصنع.
أحمد: بعد تأمل بسيط، شعوري وأنا طائع لله عز وجل أفضل بكثير من شعوري الآخر.
أكرم: تمام، لماذا إذًا لا نقترب من الله حتى يكون الشعور دائمًا متجهًا نحو الأفضل؟ وقبل أن تجيب أنا لا أطلب منك إجابة، ولكن سأجيب أنا عن هذا الموضوع.
معاذ: أخبري بالله عليك يا أكرم.
أحمد: حسنًا، تكلم يا أكرم، وكلي آذان مصغية.
أكرم: هناك عدة أسباب لبعد الشباب عن الله عز وجل في الصيف خصوصًا، وفي أي وقت عمومًا
أولها كما يظن الكثير من الشباب هو الشيطان ثم أصدقاء السوء ثم الفراغ.
أولًا: الشيطان
ودور الشيطان خطير، فهو وإن كان ليس له سلطان مباشر على العبد؛ لكنه يستغل جهل النفس وولعها باستيفاء حظوظها؛ فيزين لها الأفكار والأعمال التي توافق هواها، ويلح في الوسوسة والتزيين؛ فتستجيب له؛ فتلح بدورها على القلب؛ حتى يذعن لها ويتخذ القرار الموافق لهواها، لذلك حذرنا ربنا من إتباع الشيطان, وبين لنا أنه يزين للنفس الفعل في خطوات وبالتدريج وليس في خطوة واحدة؛ لكيلا يقابل بمقاومة شديدة، يقول تعالى [[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ ]][النور : 21]
ويذكرنا ربنا بدور الشيطان فيقول عز وجل [ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ]][العنكبوت : 38].
ويقول: [[يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً ]][النساء : 120].
ويقول تعالى: [[فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا ]][الأعراف : 20].(/2)
وينبهنا القرآن على أن الشيطان في اللحظات الحاسمة, وبعد أن يزين للمرء سوء عمله حتى يقع فيه؛ يتخلى عنه [[وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ]] [الأنفال : 48]
[[كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ]][الحشر : 16]
أحمد: حسنًا, كيف لنا بمواجهته، بل والانتصار عليه أيضًا؟
أكرم: حسنًا، اسمع قول الله عز وجل {فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [76] سورة النساء، واسمع قوله تعالى {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [99] سورة النحل، فالشيطان بالرغم من قوته لا يستطيع أن يتغلب على العبد الصالح، بل إنه أحيانًا يفر من أمامه، واسمع إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم [[يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده، ما لقيك الشيطان سالكًا فجًا قط، إلا سلك فجا غير فجك]]
معاذ: حسنًا يا أكرم، اتضحت هذه النقطة، فلننتقل إلى النقطة التي تليها، أليس كذلك يا أحمد؟
أحمد: نعم يا معاذ.... تفضل يا أكرم.
أكرم: السبب الثاني هم أصدقاء السوء
معاذ: تمام، وأنا أعتقد أن هذه النقطة من أخطر النقاط.
أحمد: بالفعل، فكم من أناس يريدون الهداية، ولكن أصدقاءهم لا يتيحون لهم الفرصة.
أكرم: تمام، فإن الله عز وجل خلق الخلق متفاوتين في كل شيء, ومع ذلك جعل أرواحهم متقاربة أو متنافرة, فهي جنود مجندة, أرواح الطيبين والصالحين تحشر زمرة واحدة في الدنيا والآخرة, وأرواح الخبثاء والفاسدين كذلك.
كذلك قد حذرنا من صحبة الأشرار ومقاربتهم ومجالستهم. وبين لنا صلى الله عليه وسلم أن القرين السوء كنافخ الكير؛ إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحاً خبيثة, فالمرء الذي يجالس الأشرار لا بد أن يكون مثلهم, يقول مالك بن دينار لبعض أقربائه: [[يا مغيرة، الناس أشكال -يصور أن الناس كغيرهم من المخلوقات من الطيور وغيرها-لا يعرف الواحد منهم إلا شكله ومثيله]] وكما أن الحيوانات والطيور وغيرها لا يكون الواحد منها إلا مع أمثاله؛ فكذلك الناس لا يكون الواحد منهم إلا مع أمثاله، فلذلك على الإنسان أن يبحث عن مثيله في الصلاح، مثيله في الخُلُق, مثيله في الهدي والسمت, بل ومثيله في السن، ومثيله في الاختصاص, وفي كل شيء, وأن لا يقرب من الأصحاب إلا من يكون قربه مقرباً إلى الله تبارك وتعالى، أما أولئك المتظاهرون بالصداقة، وهم يضعون له الفخ تلو الآخر حتى إذا وقع فيه؛ ضحكوا منه، وولوا وهم يضحكون، غير مبالين بما صار إليه أمره وشأنه.
معاذ: والله كلامك جميل يا أكرم، ما هو السبب الثالث إذًا يا أكرم؟
أكمل معنا أخي الحبيب لتعرف ما هو السبب الثالث من أسباب البعد عن الله
نسأل الله أن يقربنا جميعا منه برحمته وفضله.
حوار ساخن جدًا [3]
أكرم: حسنًا يا شباب، السبب الثالث هو الفراغ، وهو من أهم الأسباب التي تؤدي بالشاب إلى معصية الله، وخاصة في العطلة الصيفية التي لا يجد الشاب فيها ما يفعله أو يضيع فيه وقته.
أحمد: بالفعل يا أكرم، فالشخص منا يشعر بأن الوقت طويل جدًا في العطلة، وأنه ليس هناك ما ينبغي فعله؛ فيلجأ إلى ما يشغل به وقته، وفي الغالب يشغله بأشياء غير هامة.
معاذ: فعلًا يا أكرم، غالبًا لا يجد الشاب منا ما يشغل به وقت فراغه الكثير في العطلة.
أكرم: بالطبع يا أصدقائي، ما تقولونه صحيح تمامًا، فنفسك إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية، كما قال علماؤنا.
أحمد: فما الحل إذًا لمشكلة الفراغ هذه يا أكرم؟
أكرم: حلها هو حل بسيط ومؤثر في كل نواحي الحياة، وليس في مشكلة الفراغ فقط.
أحمد: أخبرني به بالله عليك.
معاذ: نعم يا أكرم، أخبرني به.
أكرم: الحل يا أصدقائي هو تحديد هدف للحياة، فالذي يعيش بلا هدف؛ لا بد وأن تكون غالبية أوقاته فارغة لا طائل منها، أما أصحاب الأهداف السامية؛ فلا يضيعون وقتهم فيما لا يفيد، بل يجتهدون في أن يستغلوا كل لحظة كي تقربهم إلى هدفهم.
أحمد: هل معنى ذلك أنهم لا يضيعون وقتهم على الإطلاق؟ يعني لا يلعبون لا يتنزهون لا يروحون عن أنفسهم؟ وأي حياة تلك التي يعيشونها؟
معاذ: على رسلك يا أحمد، فأنا فهمت ما يقصده أكرم على عكس ما فهمت أنت، فهم يلعبون ويتنزهون، ولكن ليس لذات اللعب أو ذات النزهة، ولكن لأن النفوس لا بد وأن تأخذ بعض الراحة، فهو أيضًا أحد أهدافهم في الحياة، وهي الحفاظ على نشاطهم وحيويتهم.(/3)
أكرم متعجبًا: ما شاء الله يا معاذ، وكأنك تعلم ما يدور في خلدي تمامًا، بالفعل يا أحمد، فهم لا ينفرون من اللعب واللهو، ولكن يضعون كل شيء في موضعه الصحيح ويقدرونه قدره الطبيعي.
أحمد: وهل تحديد الهدف بهذه الأهمية؟
أكرم: بالطبع، هل تعلم أن أحد طلبة الماجستير في جامعة هارفارد الأمريكية قام بإجراء دراسة نادرة، كان ذلك في عام 1953م، حيث أجرى هذا الطالب استفتاء لخريجي الجامعة في تلك السنة، وكان السؤال الذي وجهه إليهم هو: هل لك أهداف محددة مكتوبة؟ وكانت النتيجة أن 3% فقط من هؤلاء الخريجين وضعوا لهم أهدافًا محددة ومكتوبة عما يريدون القيام به في حياتهم.
وبعد عشرين سنة من ذلك أي في عام 1973م؛ رجع إليهم صاحب البحث ليستطلع أحوالهم؛ فوجد أن الـ3% حققوا نجاحًا في وظائفهم وأعمالهم أكثر مما حققه 97% الآخرون مجتمعين.
أحمد: يااااااااااااااااااااه لا أصدق، هل معنى ما تقول أن أكثر الناس في العالم ليس لهم أهدافًا محددة؟
معاذ: أصحيح هذا يا أكرم؟
أكرم: نعم، وأنا أعي ما أقول جيدًا، إن هذه النسبة المخيفة لا تنطبق فقط على طلبة جامعة هارفارد الأمريكية، إنما للأسف هي النسبة المتحققة على مستوى البشر، فيرى العلماء من خلال دراسات أعدت أن نسبة الذين يخططون لحياتهم لا تصل 3% من مجموع الناس كلهم، وأن هذه النسبة القليلة هي التي تقود المجتمعات في مجالات الحياة المختلفة، وهذه الدراسات إنما أجريت على ما يسمى بشعوب الدول المتقدمة؛ فما بالنا بشعوبنا، ونحن الآن في ذيل الأمم.
أحمد: كلامك هذا يا أكرم يصيبنا بالخجل الشديد من أنفسنا.
معاذ: نعم يا أكرم، ولكن المهم الآن هو ما هو الهدف الذي يستحق أن نعيش من أجله، ونضحي له بالغالي والنفيس.
أكرم: الهدف هو عبادة الله يا صديقي الحبيب، والقرب منه والتعرف عليه، يقول ابن القيم رحمه الله: [في القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار إليه، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته والإنابة إليه، ودوام ذكره، وصدق الإخلاص له، ولو أعطي الدنيا وما فيها؛ لم تسد تلك الفاقة أبدًا]
أحمد: كلامك جميل يا أكرم، وقد بدأت أقتنع فعلًا بأن هذه العطلة لا بد أن تكون مختلفة عن باقي العطلات السابقة.
معاذ: وأنا أيضًا يا أكرم.
أكرم: حسنًا أيها الأصدقاء، لنبدأ معا في وضع برنامج عملي للعطلة، ولنبدأ أولًا في تحديد الهدف منها ما رأيكم؟
أحمد: حسنًا أنا موافق، وهدفي هو أن أعوض ما فاتني من عطلات ضيعتها في غير طاعة الله.
معاذ: وأنا أيضًا هدفي أن أتقرب من الله بدرجة أكبر.
أكرم: حسنًا، ما هي الأبواب التي تستطيع من خلالها أن تتقرب إلى الله؟ مثلًا حفظ القرآن، وحضور مجالس العلم، والحفاظ على الفرائض، والدعوة إلى الله تعالى.
أحمد: جميل.
معاذ: رائع.
أكرم: لنضع هدفًا لكل باب من هذه الأبواب، القرآن مثلًا ما رأيكم في حفظ 3 أجزاء في العطلة، بمعنى 24 ربع أي 8 أرباع كل شهر، أي ربعين أسبوعيًا بمعدل صفحة يوميًا، وتجعل يومًا لمراجعة الحفظ أسبوعيًا.
أحمد: جميل، الله المستعان.
معاذ: الله المستعان.
أكرم: وبالنسبة لمجالس العلم، نجعل لنا درسًا أسبوعيًا، وأما الفرائض فنحافظ على الصلوات الخمس في المسجد.
أحمد: الله المستعان.
معاذ: الله المستعان.
أكرم: أما الدعوة، فنأخذ عهدًا على أنفسنا أن نساعد صديقًا على أن يسلك نفس الطريق أسبوعيًا.
أحمد: حسنًا يا أكرم، جزاك الله خيرًا.
معاذ: جميل يا أكرم، جزاك الله خيرًا.
أكرم: وإياكم إخوتي، ولكن لي نصيحة أخيرة عسى أن تتقبلوها بصدر رحب.
أحمد: تفضل يا أكرم.
معاذ: تفضل يا صديقي.
أكرم: لا تمشي في الطريق وحيدًا، وابحث عن حادي الطريق والرفقة الصالحة التي تعينك على السلوك فيها.
أحمد: لا تقلق يا أخي الحبيب، فنحن تكلمنا عن الصحبة منذ قليل.
معاذ: لا تحمل الهم يا صاحبي، فنحن معًا بإذن الله إلا لو أردت أن تتخلى عنا.
أكرم ضاحكًا: كلا بالطبع يا صديقي الحبيب.
وانصرف الأصدقاء الثلاثة، وكلهم عزم على استغلال العطلة أفضل استغ(/4)
حوار لم ينشر مع أنور الجندي
- ما دام أدباؤنا ومثقفونا متمسكين باللغة العربية فلا خوف عليهم
- باكثير ضحية الشيوعية ، والفراهيدي ضحية أعداء لغة الضاد
- طه حسين لم يغير فكره وأقول ذلك رفعا للغشاوة عن أعين الناس
- الحداثة محاولة مكشوفة لهدم اللغة و" إقليمية الأدب " دعوة إلى التمزق الثقافي
___________________
ما نزال لا نعرف قيمة هذا الرجل ولا أظن أننا عرفناها حتى بعد وفاته.
إنه العلامة والمفكر الإسلامي الراحل الأستاذ أنور الجندي الموسوعة البشرية الإسلامية ، رجل نذر عمره لله ، وجاهد فيه حق جهاده ، فمات بشهادة طبيبه الخاص وهو يصلي مضطجعا على شقه الأيمن ، فقد مرض مرضا شديدا قبيل وفاته، وكان آخر ما قاله: " يا رسول الله أنا أنور الجندي، قادم إليك من أقاصي الصعيد" حيث كان المفكر الراحل من مواليد مدينة ديروط بصعيد مصر عام 1917.
كان العلامة الراحل في أخريات أيامه لا يستطيع الحديث فترة طويلة ، ولكن قبل أن يشتد عليه المرض أجريت معه هذا الحوار ، وكان حوارا قصيرا لا يتناسب مع عمق وامتداد فكر العلامة أنور الجندي ، ولكن ظروفه الصحية حالت دون أن يكون الحوار في مستوى فكر الموسوعة الراحل ولا مستوى طموحي .
إنه حوار لم ينشر مع الأستاذ أنور الجندي ، لعله يفسح الطريق لمعرفة قدر هذا الرجل بعد موته .
اللقاء متميز جدا ، ومهم جدا ؛ لأنه مع شخصية متميزة ومهمة جدا ، مع شخصية ثرية الفكر ، غاية الثراء ، عميقة غاية العمق ، إنها شخصية مفكر وعالم وكاتب وأديب وباحث متجرد لفكره ، يعيش حياته كلها من أجلها ، وما أطولها من حياة ، وما أجلها من فكرة ، بعيدا في ذلك كله غاية البعد عن مجالات الشهرة والبحث عن النجومية ، أو إحداث الدوي كأنما هو زاهد أو راهب في صومعة لا يتطلع إلى أي شيء في هذه الحياة ، سوي أمر واحد هو أن يقول كلمته ، إنه من النماذج النادرة التي قلما تجود بها الحياة ، أو تظهر في تاريخ الفكر الإنساني ، بين آن وآخر ، لتكون مهيأة بالعقل والقلم على أداء دور كبير، ليس على مسرح الحياة وإنما في أعماقها، من أولئك القادرين على استيعاب مفاهيم عصرهم من أجل الدفاع عن دعوة عالمية، ورسالة سماوية، وغاية سامية، يحملون لواءها مدي حياتهم ، ولا يضرهم من خالفهم ، ولا يصيبهم اليأس ولا التحول ، ولا تزيدهم الأحداث أو الأزمات إلا قوة وصلابة في مواصلة البذل والعطاء ، فكأنما هذه الحياة عندهم مجري طويل ممتد ، يبدأ في أول أمره عاديا غير لافت للنظر ، ثم لا يلبث أن يزداد عمقا، ولا يزال يمتد ويتسع أكثر فأكثر، حتى إذا أوفي على الغاية اكتمل وتضخم وأحال كل ما حوله خصبا وبهجة وحياة .
نعم- هكذا - هي حياة المفكرالأديب والكاتب الكبيروالمدافع العتيد أنور الجندي الذي بدأت رحلته مع التأليف والتصنيف وهو دون الثامنة عشرة من عمره ، ورغم ذلك بدأ ناضجا فكريا ومكتمل الرؤية ، لم يمر بأطوار مختلفة كبقية الكتاب والباحثين ، فقد بدأ وظل واثقا من أدواته البحثية وعدته العلمية ، وترسانته الفكرية ، ومرتويا بثقافته العربية والإسلامية الأصيلة التي قوامها مزيج من دراسات الأدب والعلوم والفقه والتاريخ والسنة والشرائع والقرآن الكريم، موجها قلمه صوب قضايا عصره، ومواجها تحديات الغزو الفكري ورياح المذاهب والنظريات والفلسفات المادية، موقنا - في النهاية - بانتصار كتيبة الحق على كتائب الباطل.
الحوار حاولت أن أجعله عميقا ولكن الشخصية أعمق ، والقضايا جوهرية تتلمس موضع الداء في جسد الأمة العربية، فتضمد بمهارة وحذق وكياسة.
اجعلوا اللغة العربية قضيتكم :
قلت له في البداية : ماهي أهم القضايا الثقافية التي ينبغي أن تكون هي الشغل الشاغل لأدبائنا ومثقفينا في الوقت الراهن ؟
فقال : على الأدباء والمثقفين عامة أن يدركوا أنهم على بر الأمان ، ولا خوف عليكم ، ما تمسكوا بالعربية " لغة القرآن " لغة أكثر من ألف مليون مسلم، وليس مائة مليون هم الغرب وحدهم؛ لأنه ما تزال قوي التخريب وفلول الاستعمار والأحقاد والغزو الثقافي تطارد اللغة العربية الفصحي مطاردة شديدة ، وهناك اتجاه تغريبي يرمي إلى هدم الفصحي وعزلها، والمبالغة في أهمية اللهجات العامية والعناية بدراستها باعتبارهااللغة المستعملة ، ولقداعتقد المسلمون على مدي القرون - واعتقادهم حق - أن لغتهم جزء من حقيقة الإسلام؛ لأنها كانت ترجمانا لوحي الله ولغة لكتابته، ومعجزة لرسوله ولسانا لدعوته ، ثم هذبها الدين بانتشاره وخلدها القرآن بخلوده ، والقرآن لا يسمى قرآنا إلا بها، والصلاة لا تكون إلا بها، فلكل لغة منهجها الفكري القائم على معانيها ومضامينها.
هناك دعوى إلى إقليمية الأدب أي تقسيم الأدب حسب الإقليم المكاني ، فنقول : أدب مصري ، وأدب سوري ، وأدب عراقي ، فما رأيكم في ذلك ؟(/1)
- لا شك أن هذه الدعوى غير عربية الفكر أصلا ، ولا منبعثة من صميم تفكيرنا الذي يجري في طريقه الواسع العميق مرتبطا بالثقافة العربية التي تشكلت خلال أكثر من خمسة عشر قرنا ، ونحن نعلم أن الدعوات التغريبية حريصة على أن تمزق وحدة هذا الفكر بأن تؤجج دعوات إقليمية ضيقة النظرة تتصل بالإقليم أو العنصر أو النحلة القديمة القطر ، وقد حاول المغرضون إبراز هذه النظرية في إقليمية الأدب على أساس أن لكل إقليم طابعه الخاص، وأن الأمة العربية هي خلق غير تام التجانس ، لكن هذه الدعاوى دائما تبوء بالفشل والاندثار ؛ لأنها دعاوى مستوردة ودخيلة وليست نابعة من الوجدان العربي ، كما أن وحدة الأدب العربي متمثلة في المشاعر والأهداف والمعاني ومواجهة الأحداث ، وأنه ليست هناك فروق أساس بين الأقطار العربية ، وإن كانت هناك فروق في الفروع ، والأدب العربي قد حافظ على وحدته، وطابعه الشامل في مختلف العصور في أحلك فترات الضعف .
سقوط الحداثة
بماذا تفسرون تراجع أو سقوط نظرية الحداثة برغم الصخب والضجيج الهائل الذي صاحبها منذ ولادتها، برغم كتائب الحداثيين المدججة بالمال والرواج الإعلامي؟
لعل أخطر ما لجأ إليه دعاة التغريب في بلادنا هذه المحاولة اليائسة والمكشوفة – أيضا – إنهم يريدون هدم اللغة العربية بدعوتهم إلى الحداثة ، وما يتصل بها من نظريات كالبنيوية والدادية والتفكيكية وغيرها من النظريات التي ترمي إلى القضاء على الجذور والثوابت اللغوية ، في محاولة لهدم قوانين النظم العربي ، وذلك بالدعوة إلى أساليب مدمرة تستوحي آثار الفلسفة اليونانية القديمة في شعر شعراء ذلك العصر مثل بشار وأبي نواس وغيرهم من الشعوبيين .
وكان للصحوة الإسلامية الواعدة دور كبير في كشف نظرية الحداثة وتعقب أصحابها، وكشف زيفهم ومغالطاتهم، حيث قامت هذه المؤامرة (الحداثة) على أكتاف عصابة من أدعياء الأدب حاولوا تضمين الشعر الحر والقصص بتلك الأساطير الزائفة ونشرها وإعطاءها مكانة الأصل الغائب المهجور ، فمثلا فيما يسمونه إحياء التراث من خروج على الأسلوب العربي الأصيل، وهدم لقيم البلاغة العربية وأصولها، وتغليب لجانب الفلكلور الذي يمثل طفولة الثقافة البشرية على البيان العربي الأصيل ، في محاولة لإعطاء الفن القصصي حرية غير محسوبة تحت اسم حرية الإبداع لتقديم إباحيات جديدة تحت صور قديمة من التاريخ .
الكبار يتعرضون للتشويه
لماذا كانت شخصية " الخليل بن أحمد الفراهيدي " عالم اللغة المسلم هدفا للتشويه والتدمير، خاصة من جانب أصحاب المذاهب الغربية عامة؟
لأن الخليل الفراهيدي أعطى الشعر وأعطي النحو وأعطى الموسيقي قانونا عجيبا ما يزال موضع كراهية وحقد من خصوم اللغة العربية الذين يدعون إلى ما يسمونه "كسر النص" !فهم من أجل ذلك يحملون عليه ويسخرون منه، وهو سامق المكانة ؛ لا تهزه هذه الكتابات المنحرفة ، وليس هذا شأن الخليل بن أحمد وحده، ولكن سهام التغريب والغزو الثقافي لم تدع أديبا صحيحا ، أو شخصية ممتازة في الفكر الإسلامي والأدب العربي إلا حاولت النيل منه ، فعلت ذلك في المتنبي والغزالي وابن تيمية ، في ذات الوقت الذي حاولت فيه أن تعلي من شأن الشعوبيين والمارقين أمثال بشار والحلاج وأبي نواس وابن الراوندي ، وكذلك فهي قد نسبت إلى عمر الخيام العلامة التجريبي الكبير شعرا يحض على الفساد والخمر ، ومن أجل هذا فإن علينا أن نكون حريصين أشد الحرص على حماية هذه الشخصيات الكريمة من هذا الاتهام ، وأن نحرر فكرها وحياتها ونكشف عن وجه الحق فيها.
تجاهل باكثير
ألا تتفق معنا في أن الأديب الكبير على أحمد باكثير تجاهله الأدباء والنقاد عمدا، وأنه ظلم حيا وميتا، فما تزال بعض أعماله لم تطبع بعد، ومنها ما تعرض بالفعل للضياع ؟
الحق أن باكثير عايش أزمات أمته وتحدياتها المختلفة سواء الاستعمار أو الغزو الفكري أو الصهيونية، واستطاع أن يعالج القضايا العربية كلها، وأن يتفاعل معها، خاصة قضية فلسطين ؛ لأنها القضية الكبرى، فكتب "شعب الله المختار- إله إسرائيل" وبعد نكسة يونيو كتب "التوراة الضائعة" وفي آخر حياته اتجه بقوة إلى تاريخ الإسلام، وأنشأ "ملحمة عمر" وحارب الماركسية ، وهاجم الماركسيين في مسرحياته ، مثل مسرحية "حبل الغسيل" لذلك عامله الماركسيون والشيوعيون معاملة سيئة للغاية، خاصة عندما سيطروا على مجال المسرح والقصة ، ومنعوا إنتاجه ومسرحياته، إذن لا ريب أن باكثير ذهب ضحية هذا الجو الخانق ، ونسأل الله أن يقيض من ينشر إنتاجه المتنوع من الشعر والقصة والمسرحية .
فقاعات طه حسين
أستاذنا الكاتب الكبير : ألا تعتقد أن حملاتك المتتابعة على الدكتور طه حسين أثارت ، وأدهشت كثيرا من المثقفين المعجبين به ، كما أن تعقبك لجميع مواقفه ومؤلفاته لقى بلبلة وفتورا واسعا على المستويات الأدبية نظرا لما حققه الدكتور طه حسين من الشهرة الواسعة؟(/2)
إن هؤلاء الذين لم يشهدوا هذا التاريخ ولم يعايشوا هذه الوقائع معذورون ، فقد سمعوا باسم رنان وشهرة مدوية وطبل قوي الرنين ، دون أن يعرفوا ما وراء ذلك ، فأردت أن أكشف لهم هذه الخلفيات ، وهذه المواقف بالحق، ليتعرفوا على من أطلق عليه "عميد الأدب العربي" ولهم في ضوء هذه الوقائع أن يحكموا ، إنني مؤمن تماما أنه من أشق الأمور أن يقبل الناس الرأي الآخر في إنسان ، عاشوا السنوات الطويلة يسمعون اسمه مقترنا بالإكبار والإجلال والدوي ، دون أن يكون من شأن عملهم وظروفهم أو دراساتهم الكشف عن خلفيات هذه الشخصية ، ومعرفة الخيوط الاستعمارية التي تحرك بعض الممثلين في المسرح الكبير ، وتلقي عليكم الأضواء ، وتستطيع بالجهد والإلحاح المستمر أن تثبت في النفوس والعقول مسلمات كاذبة ، إنني أعذر الذين يزعجهم كشف خبيئة الرجل ، ولكني كنت أرجو منهم إذا كانوا يطلبون الحقيقة أن يسألوا عن البراهين والأدلة والوثائق على ما يظنون أننا ندعيه ، فإذا ثبت لهم ذلك كان عليكم الإقرار بالحق والإذعان لأمر الله ( يأيها الذين آمنوا لا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) [المائدة:8] ، ولقد هوجم طه حسين منذ اليوم الأول إلى آخر يوم في حياته ، لم تتوقف حركة اليقظة عن متابعته وكشف شبهاته ودحر مخططه، وجاءت هذه الردود الصاعقة على ألسنة أناس - لا يزال منهم أحياء - لهم مكانتهم في عالم الفكر والأدب ، فضلا عن معاصريه أمثال الرافعي ومحمود شاكر وزكي مبارك وغيرهم ، فهل يمكن أن يكون طه حسين عميدا للأدب ، وهو يزدري الأدب والأدباء ، أو قائدا لثقافة أمة ، وهو منكر لمفاهيمها، ولا يدين لها بالولاء ، أو مفكر لا يثبت أي شيء ويثير من حوله الشكوك والسخريات والأحقاد ؟ كيف يمكن أن يكون موضع القيادة وموضع الثقة من يقول : "إن الإنسان يستطيع أن يكون مؤمنا وكافرا في وقت واحد، مؤمنا بضميره وكافرا بعقله "؟ هذا مفهوم كنسي غربي مسيحي يرفضه الإسلام وينفر منه ، ذلك أن الإسلام هو دعوة التوازن بين الروح والمادة ، والعقل والقلب ، دين الطمأنينة والسكينة الروحية، والالتقاء بين القيم على هدى وبصيرة .
الحقيقة والوهم
لكن هناك من يقول إن طه حسين غير آراءه وأفكاره أو تاب عن هذه المعتقدات مثل التشكيك في القرآن والسنة وقبل أن يموت فما هي مصداقية هذا الرأي ؟
هؤلاء المدافعون عن طه حسين يقولون: إنه كتب كتابه "على هامش السيرة" وبه كفر ورجع عن كتاب "الشعر الجاهلي" وكتب كتابه "الشيخان" وبه كفر عن كتاب "مستقبل الثقافة" وذلك كله خداع وباطل ، فإن الدكتور طه حسين لم يغير آراءه مطلقا، فقد كان هناك حارس وديدبان يحول بينه وبين ذلك ، هذا الحارث كان مقيما في بيته، يلفت نظره دائما إلى الخط المتفق عليه ، ولكن الدكتور طه غير أساليبه ووسائله في سبيل أن يصل إلى قلب القارئ المسلم ، وبعد أن كانت أساليبه هي الهجوم على الإسلام أصبحت تقوم على ترضي الإسلام داخليا ، ودس السم على مراحل خلال البحث ، ولا يقل السم المدسوس في كتاب "الشيخان" عن السم المدسوس في "هامش السيرة" أو "مستقبل الثقافة" فقال لهم : لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما كتبت الشعر الجاهلي ، أو قوله: اكتم عني ، أو قوله للسفير المسلم أحمد رمزي عن كتاب "مستقبل الثقافة" إنني متفق معك على أن في الكتاب أخطاء كثيرة ، ذلك هو أسلوب طه حسين المرن الماكر الخادع الذي لا يواجه صاحبه بالمعارضة ، ولكن يلين ، حيث يرى أن صاحبه واع لسمومه ، فإذا وجد من يجهل لم يمتنع عن خداعه ، وقصته مع اللواء محمود شيت خطاب معروفة ، إذ أفضى إليه برأي له في القراءات ، فواجهه اللواء خطاب قائلا : هذا كلام أعداء الإسلام ، أما القول بالتراجع فإن هناك من الأدلة الكثيرة التي تكذبه :
أولا : إن أسلوب التراجع معروف ، وهو أن يعلن الكاتب أنه كان يقول كذا، ثم تبين له سوي ذلك، وأن يوقف على الفور ماله من مؤلفات في هذا الصدد، مثلما فعل الإمام الأشعري في تراجعه عن آرائه .
ثانيا: أن يعلن أنه اتخذ هذا الأسلوب كوسيلة للعمل ، ثم تبين له أنه لا ينتج ، وأنه تحول عنه ، مثلما فعل الدكتور محمد حسين هيكل الذي غير اتجاهه من الثقافة الغربية إلى التراث الإسلامي والثقافة الإسلامية ، فهل تراجع طه حسين حقا عن رأي من آرائه وهو حي ، وأعلن ذلك ؟ "إن هذا لم يحدث" ولا يكفي أن يتراجع طه حسين عن رأي أو آخر في مرة خاصة مع صديق ، دون أن يعلن ذلك على الملأ ، بل إن هذا الأسلوب يدل على إصرار الدكتور طه حسين على الرأي وحرصه أن يذيعه في الناس فيفسد به مزيدا من العقول والقلوب ، وقد أشار كثيرون إلى وقائع له مع الدكتور أحمد الحوفي ، ومحمد بهجت الأثري ، وسعيد الأفغاني ، ولكن هل توقف طه حسين عن آرائه ؟
هل حدث تلاميذه بشيء من هذا التراجع ؟
إن ذلك الأمر ظل قاصرا على مسمع عدد قليل من أصدقائه ، وليس على الملأ العام من قرائه ومحبي فكره .(/3)
حوار مع الدكتور علي الصلابي
" أجرته جريدة التجديد المغربية "
1ـ2
قال الخبير في التاريخ الإسلامي وتاريخ شمال إفريقيا الليبي الدكتور علي محمد الصلابي إن الحضارة والثقافة الإسلامية فيها من الفكر الإصلاحي الذي يمكن أن يتعلم منه الآخرون، وإنه لا ينبغي أن نكون منهزمين أمام الصراع مع ما يسمى الطرح الإصلاحي الغربي، مشيرا إلى أن هناك خلافا كبيرا بينهما لأن الفكر الإصلاحي الغربي ينبثق من قيم وعقائد وثقافة فيها شيء نتفق معهم فيه وأشياء كثيرة نخالفهم فيها في ثقافتنا وعقيدتنا.
وشدد علي الصلابي على أن المشاريع الإصلاحية يجب أن تنبثق من عقيدتنا وحضارتنا وتجاربنا ومن القيم الإنسانية المحضة، مشيرا إلى أن الأنظمة لها الأثر الواضح على المشاريع الإصلاحية التي قال إنها متنوعة ومتغيرة ولها علاقة بالنظام الحاكم وبطبيعة الناس وبعلاقتهم بهذا النظام.
وقال مؤلف كتاب "فقه النصر والتمكين في القرآن الكريم" إن عموم الحركات الإسلامية وصلت إلى نوع من النضج في مسألة التعامل مع الأنظمة، لكن "هناك بعض الأنظمة لا تزال متصلبة"، مؤكدا أن الإسلاميين ليس لديهم مشكلة في التعامل مع الحكام الذين لديها نوع من المرونة والأخذ والعطاء، مشيرا إلى تجربة عمر بن عبد العزيز الإصلاحية الذي لم يهجر السلطة الحاكمة بل كان قريبا منها ويصلح بقدر المستطاع في قربه من عبد الملك والوليد وسليمان، وأن وصول عبد العزيز رضي الله عنه للحكم لم يكن من فراغ وإنما من خبرة كافية في إدارة الدولة بحكم قربه من الحكام وإشرافه على بعض الأقاليم.
وأوضح مؤلف كتاب "تاريخ الخلفاء الراشدين" أن احترام الإنسان وكرامته وحقوق المرأة والحريات وغيرها تدخل ضمن فقه الخلافة الراشدة، التي قال إن الناس يفهمونها على أنها خليفة يملك الأرض ومن عليها فقط وأن هذا المعنى مخالف للحقيقة التاريخية والدينية.
وأشار الدكتور الصلابي إلى أن الجانب التاريخي أو فقه الحضارات يحتاج إلى اهتمام وعمق ثم تبسيط للمعلومة لأن "الموجود تناول التاريخ بأسلوب نخبوي يصعب على كثير من الناس فهمه"، موضحا أن حركة القادة السياسيين الإسلاميين ممتازة ولديهم قدرة على الاجتهاد، لكن قادة الفكر والقادة الشرعيين لديهم ضعف، منبها إلى أن هناك إشكالية في الجانب الفكري والجانب التأصيلي لاجتهادات العاملين في الميدان السياسي. وأضاف أن المرحلة الحالية تحتاج لقدرات وإمكانيات أكبر وأضخم في التأصيل، وأنه لا يوجد في الفضائيات شخص تميز بالعمق الفكري والقدرة على حل الإشكاليات الحالية بتأصيل شرعي عميق إلا القليل.
وقال صاحب "الوسطية في القرآن" إن تنظيم القاعدة لا يملك مشروعا حضاريا أو نهضويا وإنما هو ردة فعل على الظلم الواقع على الأمة الإسلامية، وأن اجتهاداتهم أربكت أصحاب المشاريع الحضارية الإسلامية الوسطية المعتدلة وفيها حدة في مخاطبة الحكومات والمخالف لها.
وقال مؤلف كتاب "دولتي المرابطين والموحدين في الشمال الإفريقي" بأن تاريخ المغرب يشهد إشكالية والدليل على ذلك أنني أبحث منذ سنتين عن كتاب شامل عن محمد عبد الكريم الخطابي فلم أجده، متسائلا عن سر عدم ترجمة نحو 90 كتابا عن محمد عبد الكريم الخطابي كتبت بالفرنسية والإسبانية. وأضاف أن دولة المغرب بدون إسلام لا قيمة لها تاريخيا، مشيرا إلى أن دولة المرابطين قامت على أكتاف البرابرة الذين حملوا الدين الإسلامي إلى الأندلس وإفريقيا.
وتاليا نص الحوار الذي أجرته التجديد مع الدكتور علي محمد الصلابي بمقر إقامته بالعاصمة القطرية الدوحة:
- لماذا اخترت التاريخ الإسلامي؟ وما علاقتك به؟
علاقتي بالتاريخ الإسلامي كانت في المعتقل بليبيا حيث احتككت بسياسيين ومثقفين كبار واكتشفت بالنسبة لنا نحن الشباب أن هناك حلقات مفقودة خصوصا فيما يتعلق بتاريخ البلاد وما يتعلق بشخصية محمد علي السنوسي وأحمد الشريف وعمر المختار ومحمد المهدي. كما وجدت أن السيرة النبوية تحتاج إلى دراسة خصوصا فيما يتعلق بالسنن التي تعامل معها النبي صلى الله عليه وسلم.
كما أن اهتمامي بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم وأنواعه وأسبابه وشروطه ومراحله وأهدافه، دفعني للرجوع إلى المادة التاريخية لاستخلاص فقه التمكين في القرآن الكريم وعند النبي صلى الله عليه وسلم وكيف اهتم بالجماعة؟ كيف واكب المجتمع؟ كيف أقام الدولة؟ كيف دخل في صراع مع اليهود مع النصارى؟ كيف صنع الحضارة؟ وبعد ذلك اهتممت بعصر الخلافة الراشدة وكيف دخلت فيه أياد خبيثة في تحريفه في رواياته التاريخية والموضوعية شوهت شخصيات خصوصا في بعض المحطات الرئيسية في التاريخ مثل سقيفة بني ساعدة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من الأمور.
- لماذا تناولت الخلافة الراشدة بشكل مفصل في كتاباتك؟ وعن أي جانب ركزت؟(/1)
اهتممت في هذا الجانب بالفقه السياسي وما يتعلق بحركة الفتوحات في هذا العهد والنوازل التي حدثت في عهد أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وكيف تعامل معهما الخلفاء الراشدون لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصى بإتباع سنتهم أيضا. ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم تحدث عن عودة الخلافة الراشدة بعد المُلك الجبري والعضوض، فلابد من فهم ما هي الخلافة الراشدة؟ ما هي معانيها وصفاتها؟ ما هي طبيعتها؟ ففقهها في حد ذاته خطوة نحو الخلافة الراشدة ولابد أن يكون هذا الفقه أو ثقافة الخلافة الراشدة سائدة بين الناس. من هذا المنطلق اهتممت بعهد الخلافة الراشدة واكتشفت أن هناك خليفة خامسا هو الحسن بن علي رضي الله عنهما.
وسيدنا الحسن قدم للأمة مشروعا إسلاميا إصلاحيا ضخما هائلا وقاد مشروعا تُوج بوحدة الأمة وانطلاق حركة الفتوحات من جديد. ومن خلال مشروع الحسن الإصلاحي يمكن فهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين من المسلمين عظيمتين، ومن معاني السيادة في شخصية الحسن رضي الله عنه حرصه على وحدة الصف وحقن الدماء وعلى انطلاق حركة الفتوحات.
- أي من المناهج تقيدت بها في كتابة التاريخ الإسلامي؟
لم أتقيد بالمناهج المعروفة عند المؤرخين كالاهتمام بالجانب السردي أو بالمادة التاريخية المحضة، بالنسبة لي التاريخ وسيلة إلى الدعوة لله سبحانه وتعالى. والمادة التاريخية التي أعتمدها أدونها بمنهج قريب من منهج القرآن الكريم في سرد قصص الأنبياء.
هذه القصص تركز على صفات الأنبياء وعلى مناهجهم وعقائدهم وعلى خطورة الشرك وأهمية الإيمان بالله واليوم الآخر. وعندما أتحدث عن الشخصيات الإسلامية مثل أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم تكون الفكرة المركزية عندي هي كيف فهم أحدهم الإسلام؟ وكيف عاش به في حياته؟ وما هي علاقته بالقرآن؟ أي نظرته إلى الله وإلى الكون والحياة وإلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى، فبالتالي لا أهتم بالجانب التاريخي المحض فقط وإنما أهتم بالجانب العقائدي وأثره أيضا، وباستخراج ما يسمى بالدروس والعبر، لقد كان في قصصهم عبرة، العبرة هي الهدف من دراسة التاريخ ومحاولة التركيز على السنن، لأن السنن تتكرر، وكيف نتعامل معها.
- يتهمك البعض بأنك تطنب في تناول التاريخ وتحشر العقيدة في كل شيء؟
أنا عندي قناعة هي أن الجمهور الذي يقرأ التاريخ أوسع من الجمهور الذي يقرأ كتب العقائد أو كتب التفسير أو الحديث أو الفقه لأن التاريخ يمكن أن يقرأه السياسي والمفكر ومخرج المسلسلات بمعنى يقرؤه جمهور عريض وضخم، وبالتالي أسمح لنفسي من خلال المادة التاريخية أن أوصل شيئا من العقائد والأخلاق والأحكام الشرعية تكون لها علاقة بالمادة التاريخية، فهذه وسيلة دعوية. كما أنني أضع النقاط على الحروف ولدي نوع من الصراحة في مسألة الخلط في الإسلام حيث يدعي الكل وصلا بالإسلام هذه قضية غير صحيحة في وجهة نظري. غير أنني أتقيد بالأدب ولا أشتم ولا أسب لكن في نفس الوقت أناقش القضايا مناقشة موضوعية تبحث عن الحقيقة حتى أنني تناولت مسألة الفتنة في كتاب سيدنا علي رضي الله عنه، ومعروف أن علماء السنة يقولون لا تدخل في الفتنة لأن الله سلمنا منها بأيدينا فلا نلوث ألسنتنا بحديث عنها، هذه العقلية جعلت فرقا ضالة يدخلون روايات ضعيفة مزيفة ويشوهون هذه المرحلة ثم جاء المستشرقون اتبعوا مواقف هذه الفرق، لهذا أجتهد في مناقشة هؤلاء الناس لكن بأدب والحجة بالحجة والفكرة بالفكرة والدليل بالدليل وبيان حقيقة ما حدث.
- قلتم إنكم ستتحدثون عن الصفحات البيضاء في التاريخ الإسلامي فهل يدخل هذا في إطار القراءة الموضوعية للتاريخ؟(/2)
أهتم بالنقاط البيضاء من حيث تسليط الأضواء عليها وكيفية التعامل معها، فهي بطبيعتها تؤثر في النفس تأثيرا إيجابيا ويحيي الله بها القلب وينور بها العقل. ثم إن النقاط البيضاء فيها مجال للاقتداء، إلا أنني أهتم أيضا بالنقاط السوداء لكن من حيث الدرس والعبرة والاتعاظ وكيف نبتعد عنها. فبعد الصراع الفكري وخاصة بعد سقوط بغداد وظهور المد الشيعي الرافضي بقوة واضحة بدأت تثار شبهات كثيرة خصوصا حول عهد الخلافة الراشدة أو حول التاريخ الإسلامي عموما، لهذا اهتم ببيان الحقائق، فأطرح منهج الرؤية الإسلامية السنية الصحيحة وأهتم أيضا بالأخطاء التي وقع فيها الصحابة رضي الله عنهم فأذكرها وأبين الصواب فيها، فسيدنا معاوية رضي الله عنه مثلا شخصية دار حولها جدل خاصة فيما يتعلق بقضية توريث يزيد، فأحافظ على مقام الصحابي الجليل وعلى أعماله وماذا قدم للأمة، لكن في نفس الوقت لا أدافع عن الخطأ الذي وقع فيه عند توريثه ليزيد وأحاكم اختيارات معاوية في عهد الخلافة الراشدة وكيف اختير أبو بكر وعمر وعثمان وعلي؟ وكيف اختير معاوية نفسه؟ رضي الله عنهم جميعا، لهذا أعتبر توريث يزيد من الأخطاء التي وقع فيها سيدنا معاوية ولكن في نفس الوقت أعطيها حجمها الطبيعي لأن الصحابي بالنسبة لنا ليس معصوما.
إن ما يهمني هو الحقيقة والشبهة الموجه للحقيقة، ومعالجة الخطأ بطريقة نستخرج منها بعض العبر ونتفادى الأخطاء.
- هل تكتبون للحركة الإسلامية فقط؟
طبعا أكتب للأمة عموما ومن ضمنها الطلائع التي تمثلها الحركة الإسلامية ولسان الحال يقول للآخرين سواء كانوا يهودا أو نصارى هذا تاريخنا من منظورنا، لأن تاريخنا للأسف الشديد الذي تُرجم إلى الإنجليزي أو الفرنساوي كله كتب بأيدي المستشرقين تختلف عن الرؤية الإسلامية السنية الصحيحة.
- التاريخ يتم تناوله حاليا بمناهج حديثة فكيف سيتفاعل معك الآخرون؟
لم أتقيد بالمناهج السائدة لأن قضية المنهج قضية اجتهادية ومن حقي أن أجتهد، كما أنه كلما ظهرت في الساحة كتب خصوصا المراجع العلمية في مجال التاريخ أستفيد منها ومن طريقة ما وصلت إليه من حقائق سواء من السعودية أو المغرب أو مصر، هذا التراث جُله أهتم به وأهتم بالاستفادة من قضية الجرح والتعديل في الأساليب التي وصل إليها هذا العلم، وبالتالي نحن جزء من هذا التقدم، لكن تهمنا الرؤيا الإسلامية الصحيحة.
- ما هي ملامح المشروع الذي تقدمونه للقراء والأمة الإسلامية في كتاباتكم؟ وكيف نصنع نهضة في زماننا؟
مشروع النهضة مشروع ضخم لا يستطيع أن يساهم فيه فرد بل يساهم فيه عشرات بل مئات من المفكرين في مجالات متعددة، لكن أقول إن حسن قراءة التاريخ تساعد على استيعاب الحركة التاريخية للأمم والشعوب لإقامة الدول وزوالها وسقوطها، كما نستطيع من خلالها توحيد ما يسمى ثقافة النهوض الصحيحة من خلال دراسة حركات نهوض كالعثمانيين أو الزنكيين أو الأيوبيين أو الخلافة الراشدة، كحركات نهوض ضخمة من معالمها صفاء العقيدة وصفاء المنهج، فهناك صفات معينة تمثلت في أبو بكر الصديق وعثمان وعمر وسيدنا علي رضي الله عنهم جميعا، كما نلاحظ أن محمد الفاتح أو يوسف بن تاشفين وصلاح الدين مثلا كقادة عسكريين كان بجانبهم قادة فكر وعلماء دين.
فيوسف بن تاشفين مثلا كان بجانبه عبد الله بن ياسين الذي أسس الدولة ومهد له، ومحمد الفاتح كان بجانب آق شمس الدين أحد العلماء الأتراك، أما صلاح الدين فكان يقول ما فتحت بلدا بسيفي ولكن بقلم القاضي الفاضل. فالقيادة العسكرية تحتاج إلى قيادة فكرية لها رؤى ولها نقطة بداية لها ونقطة نهاية، وبالتالي قضية النهوض هي خلطة بين الجانب الفكري والسياسي والعقائدي وجوانب أخرى لا تأتي بسهولة وبتسطيح الأمور. ومن الأمور التي تؤهلنا إلى فقه النهوض الدراسة العميقة المتأنية في التراث التاريخي الضخم الذي أكرمنا الله به نحن الأمة الإسلامية.
- قلتم إن الأمام الحسن بن علي رضي الله عنهما قدم مشروعا إصلاحيا ضخما رغم أنه قتل، فعلى ماذا كان يرتكز مشروعه؟ وما هي ملامح الإصلاح من خلال الحكم في التاريخ الإسلامي؟
بالنسبة للحسن بن علي رضي الله عنهما قام بمشروع إصلاحي ضخم إذ استطاع أن يقنع المتخاصمين في عهده بأهمية الصلح لصالح الأمة ولصالح الدين. فمشروع الحسن رضي الله عنه قطع عدة مراحل واعترضت طريقه عدة عوائق حتى قام الصلح الذي نجح بشروط معينة وعلى مقاصد الشريعة من حفظ الدماء ووحدة الصف من أجل الدعوة إلى الله والفتوحات، فسيدنا الحسن أصل هذا الصلح على فقه الخلاف وفقه مقاصد الشريعة، وبالتالي أعتبرها تجربة إصلاحية ضخمة قائدة بالنسبة لوقتها وقد كتبت فيه كتابا سميته خامس الخلفاء الراشدين الحسن بن علي.(/3)
أما بالنسبة إلى عمر بن عبد العزيز فهذه دعوة إصلاحية من داخل الأسرة الحاكمة حيث أن الأمويين انحرفوا بطريقة أو بأخرى في جوانب متعددة وجاء هذا الرجل المصلح والمجدد العظيم فقام بحركة إصلاحية ضخمة عبر الحكم حيث كان في فترة قريبا من عمه عبد الملك الذي كان فيه ظلم وجور وفيه عدل يعني ملَكَ في فترة الحكم العضوض، فلم يهجر السلطة الحاكمة بل كان قريبا منها ويصلح بقدر المستطاع في قربه من عبد الملك والوليد وسليمان، ثم جاءت الفترة الذهبية بالنسبة حيث وصل للحكم وعنده خبرة كافية في إدارة الدولة بحكم قربه من الحكام وإشرافه على بعض الأقاليم، فحكمه لم يأت من فراغ وإنما من ثقافة وفقه في إدارة الدولة بحيث كان يعرف أين الخلل والانحراف في المجال الإداري وفي المجال الاقتصادي والسياسي.. وفي الجانب العقائدي اهتم بالحوار وناقش الخوارج والفُرُق المنحرفة، واهتم بالجانب الدعوي.. وهذا دليل آخر على أن حضارتنا وثقافتنا وفكرنا فيه من الفكر الإصلاحي الذي يمكن أن يتعلم منه الآخرون، ولا ينبغي أن نكون منهزمين أمام الصراع مع ما يسمى بالطرح الإصلاحي المعاصر الذي تتبناه أمريكا أو الغرب، وعلينا أن نستوعب التاريخ والفكر الإصلاحي الذي عندنا ونقدمه للآخرين للاستفادة منه. وقد ألفت كتابا عن عمر بن عبد العزيز ومعالم التجديد والإصلاح الراشدي.
- توجد طوائف كثيرة في الأمة الإسلامية، ألا تشكل قراءتكم السنية إقصاء للطوائف الأخرى؟
عندما أقول أهل السنة المقصود بها هو دين الله الحق الذي كان عليه رسول الله وأصحابه في الفهم لهذا الدين في الجانب العقائدي والفكري والأخلاقي والمعاملات والعبادة.. وبالتالي الإسلام الصحيح عندي هو المدرسة السنية التي تمثلت فيها علوم الصحابة وأخذها التابعون ثم جاءت بعدها مذاهب الإمام مالك وأحمد والشافعي غيرها من المذاهب السنية التي حافظت على أصول الفهم للقرآن والسنة من خلال علماء الصحابة والتابعين ومن سار على نهجهم.
أما الآخرون مثل الاثنى عشرية فإنهم خرجوا عن كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم في فهم العقائد وفي تفسير القرآن وفي النظر لكثير من القضايا الفكرية التي أصل لها الصحابة أخذوها من الرسول.
فأنا ضد الخلط لابد أن تتمايز الأمور، الحق حق والباطل باطل ونتعامل مع الأخطاء والانحرافات بنصح، فلن تحدث نهضة للأمة إلا إذا صفت الأمور وعرفنا من هو على الإسلام الصحيح ومن هو المبتدع ومن هو المنحرف. فهذا أصل من أصول النهوض لهذه الأمة.
- في هذا السياق ألا تعتبر مبادرة أمريكا وأوروبا فرصة بالنسبة للشعوب العربية والإسلامية يجب استغلالها؟
هناك خلاف هائل بيننا وبين الغرب، لأن الفكر الإصلاحي الغربي ينبثق من قيم وعقائد وثقافة، هذه القيم والعقائد والثقافة فيها شيء نتفق معهم فيه وأشياء كثيرة نخالفهم فيها في ثقافتنا وعقيدتنا وفكرنا. فالمشاريع الإصلاحية يجب أن تنبثق من عقيدتنا ومن ثقافتنا وحضارتنا وتجاربنا ومن القيم الإنسانية المحضة، وفي عالم الأفكار الأمة الإسلامية تستطيع أن تعلم الآخرين، ربما الفائدة الأكبر لدى الغرب هي الجانب التكنولوجي، أما جانب القيم فهم -لو أحسنا طرح ما عندنا- سيتتلمذون علينا.
- إذا عدنا لمسألة المنهج، في العراق مثلا هناك جماعات تتبنى خطابا سنيا متشددا كما يصفه المراقبون فكيف تستقيم دعوتكم للمنهج السني الموحد في ظل وجود مذاهب مخالفة؟
المذهب السني تجربته في المشاريع النهضوية كانت حاضرة وكانت ناجحة سواء في عهد نورالدين زكي أو عهد محمد الفاتح أو صلاح الدين أو يوسف بن تاشفين في المغرب.
أما الانحرافات التي تحسب على أهل السنة وعلى منهج بعضهم فهذا يقوّم ونحن لا نرضى إلا بالحق وما وافق الصواب، أما مصلحة العراق ففي الإسلام، فإذا قلنا إن الخطاب السني سبب إشكالية نكون قلنا إن الإسلام لا يستطيع حل مشكلة العراق وهذا لا يقول به عاقل من أبناء المسلمين فالمصلحة الوطنية لكل العراقيين تحقق بالمشروع الإسلامي الأصيل الذي يحافظ على حقوق الأقليات والأعراق ويبسط العدل الشامل على الجميع ويضبط العلاقات بين الحاكم والمحكوم ويحترم الحريات والمساواة والعدالة.
- هناك من يقول بضرورة قراءة التراث الإسلامي من فوق وليس من الداخل حتى تكون قراءة الحدث التاريخي موضوعية، ما وجهة نظرك؟(/4)
التراث الإسلامي تراث ضخم، تراث تجربة إنسانية ولا نقول إنها كلها صحيحة لكن نحن عندنا ميزان العدل هو الكتاب والسنة التي حفظها الله بحفظه (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) اللذين نزن بهما هذا التراث، فما وافق هذا الميزان نأخذ به، وما خالفه نزيحه من طريقنا. وأي أمة تريد أن تنهض لابد أن تلتفت إلى تراثها حتى تستفيد منه في حاضرها وتستشرفه في مستقبلها سواء كانت هذه الأمة أوروبيين أو يابانيين أو صينيين أو مسلمين، ونحن عندنا كما قلت الميزان الذي نزن به الأمور وبالتالي أنا مع النظرة الفاحصة والاستفادة من التراث دون أن ننظر له بمنظار أسود أو أبيض ولكن نأخذ منه ما يفيدنا ونترك الباقي.
- ما هو المنهج الأقوم من أجل الإصلاح والتغيير في العالم العربي والإسلامي؟
التجارب متعددة ومتنوعة، وكل قٌطر يلائمه مشروع إصلاحي يختلف عن الآخر وعندما يكون من طبيعة الحكم الدكتاتورية والظلم فيصعب الأخذ والحوار مع مثل هذا النظام مثلما قال فرعون لقومه (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) فكان مشروع سيدنا موسى الخروج بقومه إلى منطقة ومكان ليس تحت سيطرة وقبضة فرعون السياسية، لكن عندما يكون هناك ملك يأخذ ويعطي فيسهل التعامل معه، فسيدنا يوسف عليه السلام كان في زمانه ملك يستمع للآخرين ولهذا قال (آتوني به أستخلصه لنفسي) فلما كلمه عرف إمكانيات وقدرات ومؤهلات سيدنا يوسف عليه السلام قال (إنك اليوم لدينا مكين أمين) فسيدنا يوسف جعل المُلك جزءا من المشروع، إذا المشروع الذي قدمه سيدنا يوسف ما كان ينجح لولا الله ثم وجود هذا الملك العاقل الذي يقدر الملكات والإمكانيات والقدرات، وبالتالي أقول إن المشاريع الإصلاحية متنوعة ومتغيرة ولها علاقة بالنظام الحاكم وبطبيعة الناس وبعلاقتهم بهذا النظام، إن الأنظمة لها الأثر في المشاريع الإصلاحية.
- ألا تعتبر مسألة التعامل مع السلطة من القضايا التي يجب إعادة النظر فيها خاصة إذا استحضرنا ما تتعرض له الشعوب الإسلامية من ضغوط دولية من أجل إفراغ هذه الشعوب من محتواها الثقافي والحضاري؟
لا شك أن قضية التعامل مع الحكومات من القضايا التي أعيد النظر فيها وأظن أن قيادات الحركات الإسلامية عمومها وصلت إلى نوع من النضج في هذه القضية، لكن هناك بعض الأنظمة لا تزال متصلبة، وفي الأنظمة التي نجد فيها نوعا من المرونة والأخذ والعطاء نجد أن الإسلاميين ليس لديهم أي إشكالية في التعامل معها. القيادة الإسلامية أظن أنها أعادت النظر بشكل صحيح وقطعت أشواطا ممتازة، ونحن نطلب من الحكومات أن تبدي نوعا من المرونة لإيجاد قواسم مشتركة بينها وبين الحركات الإسلامية وتفسح مجالا للانفتاح على المجتمع وعلى الشعوب، خاصة أن الحركات الإسلامية جزء من هذه الشعوب.
- هناك من يقول بأن طرح قضية الخلافة الإسلامية لا يتلاءم مع الواقع الحالي، ألا يعد هذا من إعادة النظر؟
من الناحية الفكرية والنظرية أوضح الرسول صلى الله عليه وسلم أنه سوف تكون خلافة راشدة على منهاج النبوة ولم ينكرها عليه الصلاة والسلام، ولكن من حيث الواقع الذي نحن فيه هل بالفعل يمكن أن تقوم الخلافة في المنظور الواقعي، لا أظن. إذ لابد أن يكون المد الإسلامي وفق الأقطار ثم يحدث التطور المنشود نحو الخلافة، وعادة هذا التطور يأخذ زمنا طويلا وأجيالا عدة، وهذا من طبيعة الحضارات. لكن ما هو حكم الخلافة الراشدة؟ فالقيم في الخلافة الراشدة قيم راقية حتى الغرب لم يصل إليها إلى يومنا هذا سواء في جانب الحريات أو في جانب العدالة أو المساواة أو الدستور أو مراقبة الحكام، وبالتالي من حيث القيم الخلافة الراشدة هذه نحن نطرحها بقوة بل قابلة للتطبيق على بعض الأقطار التي تتاح لها الفرصة في هذا الجانب على اعتبار أن احترام الإنسان وكرامته وحقوق المرأة والحريات وغيرها تدخل ضمن فقه الخلافة الراشدة أصلا.
أما من الناحية السياسية بمعنى الدولة الواحدة الكبرى هذه القضية في تصوري الواقع بعيد عنها، لكن لا بد على الأمة أن تعمل من أجل تحقيقها ولو بعد أجيال لأنها قضية ربانية، نحن علينا أن نبذل الجهد أما تحقيقها ربما يأخذ أجيالا. على أن نتذكر أن الخلافة الراشدة من ناحية الفكر الإنساني فهي فكر راق جدا ويرتكز على أصول من كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن لا بد أن نوضح معنى ملامح الخلافة ومعالمها ومنهجيتها ومؤسسات دولة الخلافة.
هذه المعاني لا بد أن نوضحها للناس حتى يفهموا معنى الخلافة الراشدة لأن في ذهن كثير منهم أن الخلافة ما هي إلا خليفة يملك الأرض ومن عليها فقط وطبعا هذا ليس صحيحا أصلا.
- ما هو اللقب المناسب لمن يحكم المسلمين؟(/5)
في تصوري بالنسبة للوقت الحاضر ليس مهما إطلاق كلمة خليفة أو رئيس دولة أو رئيس جمهورية أو ملك أو أي لقب آخر ، إن ما يهمني هو قرب هذا الشخص أو بعده من الشريعة، أما المصطلحات فلا تهمني، فلو جاء ملك مثلاً وجعل أو زعيما أو قائدا المرجعية الكبرى له كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهدي الخلافة الراشدة فلن تكن لدي مشكلة معه.
- في إطار التجربة الإسلامية هل ترى أنها حققت المستوى المطلوب من التطبيق؟
الأتراك في الفقه السياسي قطعوا مسافات كبيرة وهم من التجارب الرائدة التي تحتاج إلى الدراسة والاستفادة منها. والنقطة المهمة جدا أن الإنسان البعيد عن الحدث وعن المعترك يحسن تصيد الأخطاء، وأظن أن المسلمين الأتراك يستحقون الاحترام والتقدير خصوصا في ظل قيادة رجب أردوغان فهو رجل انتماؤه واضح للأمة وللإسلام وعبر عن ذلك بزيارة باكستان أو مساعدة ضحايا الزلزال بمائة وخمسين مليون دولار ففي هذا رسالة واضحة على عكس باقي العالم الذي لم يهتم كما ينبغي بزلزال باكستان بعكس عاصفة كاترينا التي قلبت الدنيا والشعوب العربية والإسلامية.
والحدث الثاني لما اشتد النقاش حول الحجاب فقال أوردغان إن الحجاب لا يحكم فيه لا الساسة الأتراك ولا الساسة الأوروبيون وإنما يحكم فيه علماء الإسلام، أظن أن الرجل عنده ملفات إسلامية ساخنة بين كل الحين والحين يخرج للناس ملفا. في أحداث العراق أيضا الدولة الوحيدة التي أتعبت أمريكا هي تركيا إذا قارناها بأي دولة إسلامية أو عربية أخرى، والبعد الإسلامي كان حاضرا في هذه القضية وأظن هذا شيء رائع أن القيادة الإسلامية السياسية تصل إلى هذا المستوى.
- تثار قضية تجديد الخطاب الديني بشكل قوي جدا، السؤال كيف نجدد الخطاب الديني؟
التجديد أو الإصلاح فيه ثوابت تحتاج إعادة طرح في أسلوب يلائم العصر، ففي جانب العقيدة مثلا الإيمان بالله واليوم الآخر هذا ثابت من الثوابت يحتاج بعض المنظرين في هذا الجانب أقوياء مثل ابن تيمية رحمة الله الذي أعاد مثلما قلنا نحن للعقيدة وهجها من حيث الطرح بالنسبة للأمة وكذلك فعل الغزالي وعبد القادر الجيلاني. الأمة تحتاج بين الحين والحين من ينظر ويحيي العقيدة الموجودة الكامنة ويلائمها مع العصر.
وفي الجانب الأخلاقي يحتاج إلى تمازج وعملية يحدث فيها نوع من التجديد ومحاربة الأخلاق السيئة. في الجانب العلمي أيضا يحتاج إلى تجديد لكن باعتباره حقا للإنسانية كلها تستفيد الأمة الإسلامية منه.
- كيف تنظر إلى الثقافة التاريخية لدى الحركة الإسلامية؟
الثقافة التاريخية وفقه النهوض في الحركة الإسلامية وفي عموم الأمة ضعيف ويحتاج من أبناء الحركة أن يهتموا به حتى يدخل ضمن المناهج التي لا تزال تعاني من نوع من الركود لدى الحركات الإسلامية. في فترة معينة نوعا ما سدت ثغرة ضخمة عندما كان الإسلام هو الحل أمام المد الاشتراكي أو المد العلماني في الستينيات وفي غيرها حيث الكتابات كانت نافعة، أما الآن فالأمة ليست لديها مشكلة في كون أن الإسلام هو الحل ولكن كيف يمكن تطبيق هذا الحل.
لهذا بدأت بالاهتمام بالجانب التاريخي أو فقه النهوض أو فقه الحضارات والذي يحتاج إلى اهتمام وعمق ثم تبسيط للمعلومة لأن الموجود تناول التاريخ بأسلوب نخبوي يصعب على كثير من الناس فهمه.
- الحل هو الإسلام، هل هذا الشعار يتوافق مع سنة التغيير والإصلاح؟
لا شك أن فكرة "الحل هو الإسلام" فكرة مركزية تلتقي عليها الأمة يعني أي حركة نهوض تحتاج إلى فكرة مركزية، فبالنسبة لنا نحن الفكرة المركزية هي عقيدتنا وديننا (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء) التبيان لكل شيء يعني برامج منبثقة من ديننا تكون واضحة من حيث الأهداف والوسائل والقدرة على التنفيذ سواء في المجال الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي أو القضائي أو مؤسسات الدولة.
- هناك من يقول إن الحركة الإسلامية تعيش في مثالية أي أنها لا تملك برامج سياسية واقتصادية؟
إذا نظرنا للحركة الإسلامية في عمومها فهي قفز قفزات كبيرة مثلا في تركيا واضح أن الحركة هناك تملك برامج سياسية واقتصادية واجتماعية ونجحت إلى حد كبير باعتراف الخصوم والأعداء.
إذا نظرنا إلى المغرب أيضا هناك قفزات واضحة المعالم سواء في الجانب السياسي حيث توجد للإسلاميين برامج واستطاعوا أن يتفاهموا مع الشعب والحكومة ومع الدولة بطريقة أو أخرى.(/6)
كما أثبتت الانتخابات الأخيرة في مصر أن الأخوان قوة لا يستهان بها وعندهم قدرة على تحريك الناس ومنظمين وعندهم أهداف ورؤى وحركت سكونا استمر فترات طويلة. أظن أن الحركة الإسلامية خصوصا في المعترك السياسي خطت خطوات نحو النهوض لكن لا تزال هناك إشكالية في الجانب الفكري والجانب التأصيلي لاجتهادات العاملين في الميدان، بحيث يكون المفكرون والعلماء مساندين للحركة الإسلامية من حيث التأصيل والفكر يلائم المستجدات. أشعر أن حركة القادة السياسيين ممتازة ولديهم قدرة على الاجتهاد، لكن قادة الفكر والقادة الشرعيين لديهم ضعف، وجمال الإسلام يكون في الانسجام بين القادة السياسيين والقادة الفكريين والشرعيين، فالأمة تحتاج الآن إلى شخصيات نيرة ذلك أن الخطاب الديني الذي يطرح من خلال الفضائيات مثلا خطاب عام وليس فيه عمق فكري يصنع حضارة مطلوبة خاصة الذي تجسده شخصيات تبرز على الفضائيات الحالية.
- هل ظاهرة الفضائيات ودعاتها إيجابية تخدم مسيرة التغيير في الأمة الإسلامية أم أنها تشكل محطة للمراجعة؟
نعم هو شيء إيجابي وممتاز، لكن لابد أن يوضع في محله ويعطى قيمته الطبيعية مثلا عمرو خالد أو طارق سويدان أو غيرهما ممن يتكلمون في الفضائيات هؤلاء يضيفون شيئا جديدا ويكسبون جمهورا آخر في الأمة ولكن الذي يستطيع أن يقوم بالحركة النهضوية الفعلية هم الذين في الميدان، لكن الحركات المنظمة داخل الميدان تستفيد من جهود هؤلاء، أما أن يتصور شخص في فضائية ما أنه يستطيع تحريك الأمة يمينا وشمالا، هذا الكلام لا يخضع للسنن التي تقول إن الذين يؤثرون في المجتمعات هم الذين يملكون القوة التنظيمية والجانب القيادي المشروع والرؤية والتحرك في أوساط المجتمع.
- كيف تنظر لظاهرة القاعدة؟
القاعدة لا تملك مشروعا حضاريا أو نهضويا وإنما هي ردة فعل على الظلم الواقع على هذه الأمة توجت بهذه الأعمال والكثير من اجتهاداتهم أربكت أصحاب المشاريع الحضارية الإسلامية الوسطية المعتدلة، وفيها حدة في مخاطبة الحكومات والمخالف لها.
- هل استوعبت الحركات الإسلامية المغربية تاريخ المغرب؟
بحكم قراءتي لتاريخ المغرب والمرابطين والموحدين، هناك إشكالية في تاريخ المغرب والدليل على ذلك أنني أبحث منذ سنتين عن كتاب شامل عن محمد عبد الكريم الخطابي فلم أجده في دور النشر أو حركة المطابع، أنا أهتم بشخصية محمد عبد الكريم الخطابي لأنه قاتل فرنسا وإسبانيا والمعارك التي خاضها هذا الرجل تدرس في إسبانيا وفرنسا، ويقولون أنه كُتب عنه أكثر من 90 كتابا وكلها بالفرنسية والإسبانية فلماذا لا تترجم هذه الكتب ويستفاد منها، كما أنني وجدت كتبا عن محمد عبد الكريم الخطابي وعن حركة الجهاد المعاصر لاستقلال المغرب التي كانت تملك رؤية إسلامية واضحة ويفترض أن يكتب الكتاب المغاربة هذا التاريخ لأن هؤلاء أجدادنا من حق الأمة علينا أن يعرف بهم، وهي تمدنا ثقافة المقاومة الواعية والمحتسبة عند الله الأجر والمثوبة.
- من هي الدولة المغربية من وجهة نظر تاريخية؟
هوية الدولة المغربية هي التي تحمل الإسلام لا قيمة للمغرب بدون إسلام هذه هي الحقيقة لمن يدرس التاريخ المغربي حيث انصهر الأمازيغ والعرب في بوتقة الإسلام العظيم والحضارة الإسلامية حتى وصل الإسلام عبر المغرب إلى الأندلس وغرب إفريقيا كالسنغال وغيرها وإلى يومنا هذا ينظر الأفارقة إلى علماء المغرب كمرجعية لهم.
-كيف كان يعيش الأمازيغ في الدولة المغربية؟
المغرب جزء من الأمازيغ أو البرابرة المسلمين يكفينا في التاريخ يوسف بن تاشفين أو دولة المرابطين التي قامت على أكتاف البرابرة الذين حملوا هذا الدين إلى الأندلس في الفتوحات، وفي الجزائر نجد مثلا أن عبد الحميد بن بديس كان بربريا صنهاجيا وجميع المسلمين في المشارق والمغارب يحبون هذه الشخصيات العظيمة وأصبحوا جزءا لا يتجزأ من تاريخ الأمة لما قدمته لدين الله.
- هل ترون أن القيادات الإسلامية الحالية تواكب المستجدات في الساحة الفكرية والثقافية؟
هناك مستجدات كثيرة ومعقدة ومتداخلة تحتاج لجهود فكرية مؤصلة بالشريعة، حيث هناك علماء يطرحون حلولا لقضايا في فترة الثمانينات والسبعينات والتسعينات، وأعتقد أن المرحلة الحالية تحتاج لقدرات وإمكانيات أكبر وأضخم ففي الفضائيات لا يوجد شخص تميز بالعمق الفكري والقدرة على حل الإشكاليات القائمة الحالية بتأصيل شرعي عميق إلا القليل، أظن أن هذا التحدي ضخم خصوصاً مع وجود الشخصيات التي خرجت على الفضائيات وبرزوا كدعاة إلى الله تعالى كثير من الإخوة الإعلاميين الذين برزوا كدعاة إلى الله سبحانه لاشك أن جهودهم عظيمة وسدوا ثغرة وقاموا بدور كبير لكن نطالب بشخصيات أعمق من حيث الفكر ومن حيث الشريعة ومن حيث طرح حلول للنوازل الحالية.
- هل يعيد التاريخ نفسه ؟(/7)
إذا أحسنا التعامل مع السنن، بمعنى أن هناك سننا ضابطة لحركة المجتمعات في الصراع وفي قيام الدول وسننا أخرى في سقوط الدول، فالذي يفيدنا في الدراسة التاريخية استيعاب هذه السنن وكيف ننزلها في عصرنا وواقعنا، أما الإعادة الكلية فهذا صعب المنال.
- البعض يقول إن انتشار كتاباتكم لا يعود إلى محتواها الموجود لكن يعود لتنازلكم عن بعض حقوقكم حيث نشرت لكم أكثر 14 دار نشر الكتاب الواحد؟
لقد شهد عدد من العلماء والدعاة والأكاديميين بقيمة الذي أنتجته وأن فيه شيئا جديدا وهناك عدد من الجامعات والمعاهد تعتمد بعض كتبي كمادة تدرس. أما قضية القبول وعدمها فهذه قضية ربانية وإن كان تنازلي عن حقوقي عامل من عوامل الانتشار. لكنني أقول لو كنت أملك أموالا سأصرفها على إيصال ما أومن به من فكر يخدم أمتي إلى كل بيت من بيوت المسلمين، ومن هذا المنطلق أتنازل عن حقوقي وأشعر أيضا أن دور النشر لها فضل علي بعد الله سبحانه لأنهم نشروا ما أنا مؤمن به في المشارق والمغارب.(/8)
حوار مع الشيخ العبيكان حول جهاد الدفع
د. أحمد بن محمد الخضيري 28/10/1425
11/12/2004
صدر البيان الذي وقع عليه عدد من أساتذة الجامعات والمتخصصين في العلوم الشرعية ، ومضمون هذا البيان هو في نصرة إخواننا المسلمين المضطهدين في العراق الذين تكالبت عليهم قوى الشر وأرادت منهم الخنوع والذل ، وأعملت فيهم يد القتل والتشريد والأسر ،وقد تضمن البيان توجيهات ونصائح لإخواننا في العراق يفرح بها كل مسلم ، ولم يأت البيان بأمر مخالف لما عليه جماعة المسلمين كي يثير هذه الضجة المفتعلة التي أشعلتها بعض وسائل الإعلام ، ولهذا فإن علماء المسلمين يكادون يتفقون على مضمون البيان ، وقد لقي بعد صدوره قبولا حسنا لدى العلماء المهتمين بأحوال المسلمين في مختلف بلدان العالم الإسلامي ، فعلى سبيل المثال رحبت هيئة علماء المسلمين في العراق التي يرأسها الشيخ : حارث مثنى الضاري بالبيان ، كما أصدر مجلس أمناء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين في بيروت بيانا مشابها لهذا البيان ، وأصدرت رابطة علماء الصومال بيانا مماثلا استنكروا فيه الاعتداء على المسلمين في العراق ، وأوصوا عموم المسلمين بالوقوف إلى جانب إخوانهم في العراق ، كما قام جمع من علماء اليمن بتأييد هذا البيان والمصادقة عليه .
وفي المقابل كان لهذا البيان عدد من المعارضين ، وهؤلاء المعارضون عند استقراء حالهم نجد أنهم لا يخرجون عن أحد صنفين :
الصنف الأول : عدد من غير المختصين بالعلوم الشرعية من الصحفيين، ولهذا تجدهم في ردودهم لا ينطلقون من منطلقات عقدية أو مبادئ شرعية يمكن محاكمتهم إليها ، وقد أجلبوا على هذا البيان وشنعوا عليه ، وأكثروا من النكير دون أن يكون لهم سند علمي يمكن مناقشتهم فيه، ولهذا لم يتحرج بعضهم من وصم معدي البيان بالإرهاب والتشدد ،والكذب عليهم بأنهم يحرضون الشباب على الذهاب إلى العراق والجهاد هناك ، مع أن هذا لم يرد في البيان لا من قريب ولا من بعيد ، لأن البيان موجه أساسا إلى المسلمين في العراق، ولم يبرزوا من البيان ما يصدق هذه الفرية ، وتغافلوا عن فتاوى متعددة لأهل العلم الموقعين على البيان تنص صراحة على عدم جدوى ذهاب الشباب إلى العراق ، لعدم تحقق المصلحة من ذهابهم ، وقد ذكر كثير من أهل العراق أنهم ليسوا بحاجة إلى من يأتي إليهم من خارج بلادهم ، لأن هذا قد يثير عليهم من المشاكل أكثر مما ينفعهم .
وحرص بعضهم على استعداء ولاة الأمر.
وقد تجاوز بعض هؤلاء وحاول أن يختلق رابطا بين ما يحصل في هذه البلاد المباركة من أعمال تخريبية إجرامية من قبل بعض من شذ في فكره وتصرفه وما تضمنه هذا البيان من ذكر لمشروعية جهاد الدفع في العراق مع أن البيان موجه أساسا إلى أهل العراق الذين ابتلوا في أنفسهم وديارهم، وموقف المشايخ في بلادنا ومنهم الموقعون على هذا البيان واضح بحمد الله في إدانة وتجريم مثل هذه الأعمال التي تقع في المملكة ، وقد كانوا من أوائل من فند أفكار هذه الفئة وشبهاتها ، وصبر على مناقشة أصحابها قبل أن تقودهم هذه الأفكار إلى الأعمال التخريبية ، ولكن الهوى يعمي ويصم .
وماذا ينقم هؤلاء من البيان وقد تضمن النصيحة لأهل العراق بالإخلاص ، والتوجه الصادق إلى الله تعالى ، والتخلي عن المطامع ، والحرص على المحافظة على وحدة العراق ومصالح البلد وأهله ، وتضمن التأكيد على حرمة دماء المسلمين وأعراضهم ، وضرورة السعي إلى حقنها ، والبعد عن الأعمال التي تشوه سمعة الإسلام والمسلمين ، والتحذير من الانجرار إلى إثارة المعارك الداخلية وتجنب أسباب الفتن والاحتراب ، وتضمن الدعوة إلى الإصلاح والبناء والعمار المادي والمعنوي والأعمال الإنسانية والتربوية والعلمية ، وتضمن دعوة المسلمين في العالم إلى الاهتمام بشأن إخوانهم المضطهدين في العراق بالدعاء والتعاطف والتراحم والدعم والرأي السديد بقدر الإمكان ، ومؤازرتهم بكل مايحتاجونه من ضرورات الحياة من دواء وغذاء ونحو ذلك .
فهل مثل هذه الأمور _ التي لا يجادل فيها مسلم _ تكون سببا في إشعال الحرب على البيان و الموقعين عليه .
الصنف الثاني : من يرى من أهل العلم أن البيان يشتمل على الخطأ في مضمونه ، والقائل بهذا هو الشيخ عبد المحسن العبيكان –وفقه الله-، ولا أعلم أحدا قال برأيه سوى من لا يعتد برأيه من الشيعة .
وقد أبرز الشيخ العبيكان –وفقه الله- رأيه في مقابلة له مع صحيفة المدينة ، وتكرر هذا في برامجه في بعض القنوات الفضائية .
ومناقشة الشيخ في رأيه الذي انفرد به مفيدة في نظري لمافيها من الإثراء العلمي ، ولما تقود إليه من البحث عن الحق ، ولكون الشيخ ينطلق من منطلقات شرعية ، والقواسم المشتركة معه أكثر من مسائل الخلاف ، وإحسان الظن به متحقق لما له من سابقة وفضل ، ولهذا فإني أناقش الشيخ في آرائه وما أورده من ملاحظات وأرى أني لا أخسر الوقت والجهد في هذا لعلمي بأن البحث عن الحق هو رائدنا جميعا إن شاء الله تعالى .(/1)
وقد أظهر الشيخ العبيكان –وفقه الله- رأيه في البيان في لقاء له مع جريدة المدينة الصادرة يوم الثلاثاء 26/9/1425 العدد (15175).
ونشر هذا اللقاء بعنوان : الدعاة ال26 يعرضون أهل العراق للهلاك والدمار وكأنهم يريدون بقاء المحتل .
وقد أثار الشيخ في هذا اللقاء المنشور أمورًا عدة، وسأذكر بعضها مرتبة مع مناقشتها على النحو الآتي :
· يصف الشيخ العبيكان -وفقه الله- الدعاة الموقعين على البيان بأنهم يريدون تأجيج الفتنة في العراق واستمرار بقاء المحتل بحث المقاومة على الاستمرار في قتالها .
المناقشة:
تأجيج الفتنة لا يأتي من إنصاف صاحب الحق السليب ونصرته وتأييده في مطالبته بحقه بأي طريقة مشروعة ، ومنها طريقة المقاومة والجهاد ، بل الفتنة هي في مصادرة حقه المشروع في مقاومة العدوان وخذلانه، والفتنة تدافع بما يمكن، وقد يكون القتال من أسباب دفعها كما قال الله تعالى : " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله " ، وقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله : حتى لاتكون فتنة : أي حتى لا يكون شرك ، وعن عروة بن الزبير : حتى لا يفتن مسلم عن دينه . وورد عن ابن عباس في تفسير: ويكون الدين كله لله: أي يخلص التوحيد لله. ينظر: تفسير ابن كثير 2/309 .
ولهذا ورد عن سعيد بن جبير أنه قال : خرج علينا ابن عمر فقال رجل : يا أبا عبد الرحمن ماتقول في القتال في الفتنة ؟ قال : ثكلتك أمك ، وهل تدري ماالفتنة ؟ إن محمدا صلى الله عليه وسلم كان يقاتل المشركين فكان الدخول فيهم أوفي دينهم فتنة ، وليس كقتالكم على الملك " أخرجه البخاري في صحيحه 4/1706(4374) ك : التفسير ، وأحمد في مسنده 2/70 .
والقول بمشروعية الجهاد في العراق وحق العراقيين في مقاومة المحتل لا يعني إقحام العراقيين في مواجهات غير متكافئة ولكن المقاومة بحسب قدرتهم وبالطريقة التي تناسبهم وهذا ما يقرره أهل البلد علماؤها ورجالاتها وأهل الخبرة فيها، ولهم الأخذ بالهدنة والصلح إذا احتاج المسلمون إلى ذلك ورأوا أنه يحقق لهم المصلحة .
ولكن المهم ألا يصادر حقهم المشروع في الدفاع والمقاومة وهو الحق الذي كفلته شرائع السماء وقوانين الأرض والمواثيق الدولية.
وإني أحيل الشيخ إلى موقف الشيخ أحمد شاكر رحمه الله من الاستعمار عندما كتب بيانا في زمانه يحث المسلمين على جهاد الانجليز والفرنسيين تحت عنوان " بيان إلى الأمة المصرية خاصة وإلى الأمة العربية والإسلامية عامة " ، وأودعه في كتابه : كلمة الحق .
· ذكر الشيخ العبيكان -وفقه الله- أن الشريعة توجب على المسلم في حال الضعف ترك المقاومة ، ونص كلامه : " والنصوص الشرعية التي بيناها في مقالاتنا نصوص كثيرة جدا من الكتاب والسنة ومن كلام العلماء قديما وحديثا كلها مع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في مكة في حال ضعفه كلها توجب على المسلم أنه في حال الضعف أنه لا يجوز له أن يقاوم ولا أن يقاتل لأن الأصول الشرعية تقضي بارتكاب أدنى المفسدتين بدفع أعلاهما فبقاء المحتل مفسدة ولكن المفسدة الأعظم هو العمل على استمرار بقائه بإثارة الفتنة ومقاتلته مع الضعف الحاصل " إلى أن قال : " فالرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن الله يوحي إلى عيسى عليه السلام عندما يأتيه يأجوج ومأجوج أن يفر قال " : فحرز عبادي إلى الطور ( أي اهرب منهم واترك مقاتلتهم لأنه لا يدان لك بقتالهم ) " .... وقال العلماء أنه يجب على المسلمين مع الضعف يجب عليهم الفرار فما حصل لأهل مؤتة حينما فروا من الجيش الكبير وظنوا أنهم قد أخطؤوا قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم ": إننا نحن الفرارون " فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم :" بل أنتم الكرارون " فأيدهم الرسول على الفرار لعدم قدرتهم على الدفاع عن أنفسهم .."
المناقشة :
الحكم الذي أطلقه الشيخ في هذه المسألة يحتاج إلى تفصيل وبيان ، لما فيه من الإجمال، وكثيرا ما يقع الخطأ بسبب الإجمال ، وبيان ذلك : أنه ليس كل ضعف يسقط وجوب جهاد الدفع ، وإنما الذي يسقط الوجوب هو الضعف الشديد الذي يصل إلى حد العجز عن القتال ، وهو وضع استثنائي فيرخص لمن هذه حاله بترك القتال لقول الله تعالى : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " ، وقوله :" فاتقوا الله مااستطعتم " .
وقد كان هذا هو الحكم في العصر المكي فقد أمر النبي صلى الله وسلم بالعفو والصفح وكف اليد عن المشركين بسبب عجزهم عن القتال كما قال الله تعالى "كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ" [النساء: من الآية77] إلى أن نسخ هذا بالمرحلة الأخيرة بقتال المشركين كافة ونزول آية السيف ، وللمسلم في حال العجز أن يأخذ بالكف عن القتال، لأن القدرة شرط في وجوب الجهاد وغيره من الواجبات الشرعية.(/2)
وتعبير الشيخ بوجوب ترك جهاد الدفع ونسبته ذلك إلى العلماء كما في قوله : " وقال العلماء أنه يجب على المسلمين مع الضعف يجب عليهم الفرار .." ليس بصحيح على هذا الإطلاق , فإن التعبير الشائع لدى الفقهاء هو لفظ : يجوز ، أو يرخص ، أو لابأس ، ونحو ذلك من الألفاظ، وذلك لأنهم يرون أن القدرة شرط لوجوب الجهاد وليست شرطا في صحته ، ولا ريب أن بين التعبيرين فرقا من ناحية ترتب الإثم .
وقد دلت النصوص الشرعية أن غير القادر إذا تكلف الجهاد فجاهد لا شيء عليه ، ولو أدى هذا إلى قتله وعدم تحقيق الظفر على الأعداء مادام هذا يحقق مصلحة شرعية كإحداث نكاية في العدو أو بث للرعب في قلوبهم ، أو تجرئة لقلوب أهل الأيمان ونحو ذلك ، ولا يدخل هذا في إلقاء النفس إلى التهلكة .
ومن هذه النصوص :
1. ماجاء في قصة عاصم بن ثابت لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم على رأس نفر من أصحابه إلى عضل والقارة ، فخرج عليهم قرابة مائة رام ، فأحاطوا بهم فقالوا : لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا أن لانقتل منكم رجلا ، فقال عاصم : أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر ...، فقاتلوهم حتى قتلوا عاصما في سبعة نفر بالنبل ... " أخرجه البخاري في صحيحه 3/1108(2880) ك: الجهاد ، وأبو داود في سننه 3/115،116 (2660) ك: الجهاد.
ووجه الاستدلال : أن قدرة عاصم ومن معه أقل من أن يقاتلوا مائة رام ، وكان لهم رخصة في ترك القتال ، ومع ذلك أبى عاصم إلا أن يقاتلهم فقاتلهم حتى قتل رضي الله عنه .
2. ماورد في قصة عمرو بن الجموح رضي الله عنه فقد كان رجلا أعرج شديد العرج وكان له بنون أربعة مثل الأسد يشهدون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد ، فلما كان يوم أحد أرادوا حبسه وقالوا : إن الله قد عذرك فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن بني يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه والخروج معك فيه ، فوا لله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما أنت فقد عذرك الله فلا جهاد عليك ، وقال لبنيه : ماعليكم ألا تمنعوه لعل الله أن يرزقه الشهادة فخرج معه فقتل يوم أحد ". سيرة ابن هشام 3/96 عن ابن إسحاق قال : وحدثني أبي إسحاق بن يسار عن أشياخ من بني سلمة به "، قال الألباني :" وهذا سند حسن إن كان الأشياخ من الصحابة ، وإلا فهو مرسل ، وبعضه في المسند 5/299 من حديث أبي قتادة رضي الله عنه ... وسنده صحيح ". تخريج فقه السيرة للألباني 282 .
ووجه الدلالة : أن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن لعمرو بالقتال مع كونه معذورا بالعرج ولا يجب عليه الجهاد رجاء تحصيل الشهادة .
3. حديث سلمة بن الأكوع حين أغار عبد الرحمن الفزاري ومن معه على سرح رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستاقه وقتل راعيه ، فتبعهم سلمة بن الأكوع وحده فمازال يرميهم بنبله حتى استخلص منهم ما أخذوه ، وقد جاء فيه من قول سلمة : " فما برحت مكاني حتى رأيت فوارس رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخللون الشجر ، قال : فإذا أولهم الأخرم الأسدي على إثره أبو قتادة الأنصاري ...، قال فأخذت بعنان الأخرم ، قال : فولوا مدبرين ، قلت : يا أخرم احذرهم لا يقتطعوك حتى يلحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، قال : ياسلمة إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر وتعلم أن الجنة حق والنار حق فلا تحل بيني وبين الشهادة ، قال فخليته فالتقى هو وعبد الرحمن ... وطعنه عبد الرحمن فقتله وتحول على فرسه ، ولحق أبو قتادة فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبد الرحمن فطعنه فقتله ، فوالذي كرم وجه محمد صلى الله عليه وسلم لتبعتهم أعدو على رجلي حتى ماأرى ورائي من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ولا غبارهم شيئا حتى يعدلوا قبل غروب الشمس إلى شعب فيه ماء يقال له : ذا قرد ، ليشربوا منه وهم عطاش قال فنظروا إلي أعدوا وراءهم فحليتهم عنه (يعني أجليتهم عنه ) فما ذاقوا منه قطرة ... " ، وفيه من قول النبي صلى الله عليه وسلم : " كان خير فرساننا اليوم أبو قتادة وخير رجالتنا سلمة " أخرجه مسلم في صحيحه 3/1433(1807) ك : الجهاد والسير .
وقد أورد هذا الحديث ابن النحاس الدمياطي في كتابه : مشارع الأشواق إلى مصارع العشاق في الجهاد وفضائله ، وبوب عليه بقوله : فضل انغماس الرجل الشجيع أو الجماعة القليلة في العدد الكثير رغبة في الشهادة ونكاية في العدو . ثم قال : " وفي هذا الحديث الصحيح الثابت أدل دليل على جواز حمل الواحد على الجمع الكثير من العدو وحده وإن غلب على ظنه أنه يقتل إذا كان مخلصا في طلب الشهادة ،كما فعل الأخرم الأسدي رضي الله عنه ولم يعب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عليه ، ولم ينه الصحابة عن مثل فعله ، بل في الحديث دليل على استحباب هذا الفعل وفضله ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم مدح أبا قتادة وسلمة على فعلهما كما تقدم، مع أن كلا منهما قد حمل على العدو وحده ولم يتأن إلى أن يلحق به المسلمون " مشارع الأشواق ص 539، 540.(/3)
وتأمل فيما يأتي دقة الفقهاء رحمهم الله تعالى وفهمهم للنصوص عندما عبروا عند العجز عن القتال ب: جواز الانصراف " ولم يعبروا بالوجوب كما فعل الشيخ العبيكان –وفقه الله-:
قال ابن قدامة رحمه الله " : وإذا كان العدو أكثر من ضعف المسلمين فغلب على ظن المسلمين الظفر فالأولى لهم الثبات لما في ذلك من المصلحة ، وإن انصرفوا جاز لأنهم لا يأمنون العطب ...وإن غلب على ظنهم الهلاك في الإقامة والنجاة في الانصراف فالأولى لهم الانصراف ، وإن ثبتوا جاز لأن لهم غرضا في الشهادة ويجوز أن يغلبوا أيضا " المغني 13/189.
وقال القرطبي : " قال محمد بن الحسن : لو حمل رجل واحد على ألف رجل من المشركين وهو وحده لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية في العدو ، فإن لم يكن كذلك فهو مكروه ، لأنه عرض نفسه للتلف في غير منفعة للمسلمين ، فإن كان قصده تجرئة المسلمين عليهم حتى يصنعوا مثل صنيعه فلا يبعد جوازه ، ولأن فيه منفعة للمسلمين على بعض الوجوه ، وإن كان قصده إرهاب العدو و ليعلم صلابة المسلمين في الدين ، فلا يبعد جوازه ، وإذا كان فيه نفع للمسلمين فتلفت نفسه لإعزاز دين الله وتوهين الكفر فهو المقام الشريف الذي مدح الله به المؤمنين في قوله : " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم " الآية إلى غيرها من آيات المدح التي مدح الله بها من بذل نفسه ، وعلى ذلك ينبغي أن يكون حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه متى رجا نفعا في الدين فبذل نفسه فيه حتى قتل كان في أعلى درجات الشهداء " . تفسير القرطبي 2/364.
وقال السرخسي :" لابأس بالانهزام إذا أتى المسلمين من العدو مالا يطيقهم ، ولا بأس بالصبر أيضا بخلاف ما يقوله بعض الناس إنه إلقاء النفس في التهلكة بل في هذا تحقيق بذل النفس لابتغاء مرضاة الله تعالى فقد فعله غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم ، منهم عاصم بن ثابت حميُ الدبر ، وأثنى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، فعرفنا أنه لا بأس به والله الموفق " شرح السير الكبير 1/125.
وينبغي أن يعلم أن جهاد الدفع أعظم من جهاد الطلب ، ولهذا لا يشترط له ما يشترط لجهاد الطلب ، ويتأكد القيام به أكثر من جهاد الطلب ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " وأما قتال الدفع فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين ، فواجب إجماعا ، فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه ، فلا يشترط له شرط بل يدفع بحسب الإمكان ، وقد نص على ذلك العلماء : أصحابنا وغيرهم ، فيجب التفريق بين دفع الصائل الظالم الكافر وبين طلبه في بلاده " الاختيارات الفقهية ص 309،310
وقال أيضا : " وقتال الدفع مثل أن يكون العدو كثيرا لا طاقة للمسلمين به ، لكن يخاف إن انصرفوا عن عدوهم عطف العدو على من يخلفون من المسلمين فهنا قد صرح أصحابنا بأنه يجب أن يبذلوا مهجهم ومهج من يخاف عليهم في الدفع حتى يسلموا ، ونظيرها أن يهجم العدو على بلاد المسلمين ، وتكون المقاتلة أقل من النصف فإن انصرفوا استولوا على الحريم ، فهذا وأمثاله قتال دفع لا قتال طلب لايجوز الانصراف فيه بحال ، ووقعة أحد من هذا الباب " . الاختيارات الفقهية ص 311 .
وكان يتعين على الشيخ أن يقيد القول بوجوب ترك القتال بالحالة التي يبلغ الضعف فيها بالمسلمين الحد الذي لا يستطيعون معه تحقيق أي مصلحة للمسلمين ، أو إحداث نكاية في العدو ، ويترتب على القتال مفاسد عظيمة بالمسلمين لا تقابله أي مصلحة فحينئذ يتجه القول بالمنع من القتال ، قال أبو حامد الغزالي : "لاخلاف في أن المسلم الواحد له أن يهجم على صف الكفار ويقاتل وإن علم أنه يقتل ، وهذا ربما يظن أنه مخالف لموجب الآية ، وليس كذلك فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما : ليس التهلكة ذلك ، بل ترك النفقة في طاعة الله تعالى ، أي : من لم يفعل ذلك فقد أهلك نفسه ... ولكن لو علم أنه لا نكاية لهجومه على الكفار كالأعمى يطرح نفسه على الصف أو العاجز فذلك حرام و داخل تحت عموم آية التهلكة وإنما جاز له الإقدام إذا علم أنه يقاتل إلى أن يقتل أو علم أنه يكسر قلوب الكفار بمشاهدتهم جراءته واعتقادهم في سائر المسلمين قلة المبالاة وحبهم للشهادة في سبيل الله ، فتنكسر بذلك شوكتهم " إحياء علوم الدين 2/315 .
وقال الحافظ ابن حجر :" وأما مسألة حمل الواحد على العدد الكثير من العدو فصرح الجمهور بأنه إن كان لفرط شجاعته وظنه أنه يرهب العدو بذلك أو يجرئ المسلمين عليهم أو نحو ذلك من المقاصد الصحيحة فهو حسن ، ومتى كان مجرد تهور فممنوع ولا سيما إن ترتب على ذلك وهن في المسلمين والله أعلم " فتح الباري 8/34.(/4)
وقال الشوكاني في تفسير قول الله تعالى : " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " : " فكل ماصدق عليه أنه تهلكة في الدين أو الدنيا فهو داخل في هذا وبه قال ابن جرير الطبري ، ومن جملة مايدخل تحت الآية أن يقتحم الرجل في الحرب فيحمل على الجيش مع عدم قدرته على التخلص وعدم تأثيره لأثر ينفع المجاهدين " فتح القدير 1/170.
ويتبين من هذا أن المنع ليس راجعا لمطلق الضعف ، ولكن لما يترتب على القتال حينئذ من مفاسد محققة لا يقابلها أدنى نكاية في العدو أو فائدة للمسلمين .
وعلى هذا فلا يشترط في صحة جهاد الدفع أن يغلب على ظن الفئة المجاهدة أنها تملك من القدرة ما يحقق لها الظفر على الأعداء ، بل يكفي أن تتمكن من إحداث نكاية في العدو ولوكان ذلك بمجرد بث الرعب في قلوبهم ، أو أن يحقق للمسلمين مصلحة ولو كانت هذه المصلحة مجرد تجرئة قلوب أهل الأيمان ، وهذا بحمد الله حاصل كما نشاهده في فلسطين إذ يقوم المجاهدون هناك مع ضعفهم بمقاومة اليهود ، وأحدثوا مع هذا نكاية قوية باليهود ، فأخافوهم وأضعفوا أمنهم واستنزفوا اقتصادهم .
ولا ينبغي أن يغيب عن علم الشيخ أن فنون القتال متعددة ، والقتال اليوم له أشكال متنوعة و لا يعني بالضرورة المواجهة المباشرة، وحروب التحرير في الغالب لا تعتمد على المواجهة المباشرة بقدر ما تعتمد على استنزاف العدو وعدم تمكينه من الاستمتاع بثمرة النصر، ومثال ذلك حال المقاومة في فلسطين، فلماذا نتغاضى عن هذه النتائج ونصدر حكما عاجلا لم يعتمد على دراسة واستشارة لأهل المعرفة والخبرة بالقتال . وإذا كان قد وقع في بعض مواطن الجهاد عدوان أو خطأ و سوء اجتهاد فلا يجوز أن يستدل به على منع الجهاد والتنفير منه ، لأن المجاهدين بشر وليسوا معصومين ، والواجب أن نسددهم ونرشدهم ونقوم أعمالهم وننصحهم مع قيامهم بجهاد الدفع الضروري .
ولا ريب أن تقدير المصلحة أو النكاية التي يمكن أن يحدثها القيام بعمل من أعمال الجهاد قد تختلف فيه الآراء ، وحينئذ لا بد من الاجتهاد في تقدير ذلك الأمر ، ويوكل هذا الاجتهاد إلى أولي الأمر من الولاة و أهل العلم المطلعين على واقع الجهاد مع الاستعانة بآراء أهل الخبرة العسكرية من أهل الواقعة واستشارة من يفيد رأيه في المسالة .
وأما ماذكره الشيخ من الاستدلال بقصة عيسى عليه السلام عند ظهور يأجوج ومأجوج فمع كونها حالة خاصة لأنها في آخر الزمان عند ظهور علامات الساعة الكبرى ، وعيسى عليه السلام مؤيد بالوحي من الله تعالى . إلا أنه يجاب عنه بأن عيسى عليه السلام كان يريد قتالهم بقاء على الأصل وهو قتال الكفار ، ولكنه ترك مواجهتهم لأن الله تعالى نهاه عنها وأعلمه أنه لا قدرة له عليهم ، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه مسلم : " لا يدان لأحد بقتالهم فحرز عبادي إلى الطور ".
قال النووي :"قوله : لايدان... قال العلماء معناه : لاقدرة ولا طاقة ، شرح صحيح مسلم للنووي 18/281 .
فليس في مواجهة عيسى لهم مصلحة ولن تحقق نكاية كما يفيده لفظ : لايدان لأحد بقتالهم " ، وهذا الحكم متفق عليه كما سبق ، وهي حالة خارجة عن محل النزاع .
ومن وجه آخر : فإن الله تعالى لم يأمر عيسى –عليه السلام- بأن يسلم لهم، بل أمره بترك المواجهة والاحتماء بالمسلمين إلى جهة الطور ، وهذا عمل حربي للقائد أن يتخذه إذا رأى أنه يحقق له مصلحة ، والمعارك لا تقتصر على المواجهة فقط بل فيها الكر والفر والخدعة ، وهذا نظير مافعل المسلمون في معركة الأحزاب عندما حفروا الخندق لصد الكفار عن دخول المدينة والالتحام مع المسلمين ، إلى أن حسم الله المعركة بجند من عنده ، فهل يقال : إن المسلمين في معركة الأحزاب فروا من قتال عدوهم ، وجبنوا عن ملاقاتهم ، واستسلموا لهم ، وتركوا القتال مطلقا ؟.
وأما استدلاله بمعركة مؤتة وما حصل فيها فيجاب عنه بما يأتي :
1- الجهاد في معركة مؤتة ليس من قبيل جهاد الدفع الذي يدفع فيه العدو القاصد بلاد المسلمين ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ابتدأ إرسال الجيش إلى أدنى البلقاء من أرض الشام ، وكان سبب المعركة : أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الحارث بن عمير الأزدي بكتابه إلى ملك الروم أو بصرى ، فعرض له شرحبيل بن عمرو الغساني فقتله لما علم أنه رسول رسول الله ، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وبعث جيشا قوامه ثلاثة آلاف واستعمل عليهم زيد بن حارثة رضي الله عنه .ينظر : زاد المعاد 3/381 .
2- هذه المعركة لم يفر فيها المسلمون بل انحازوا إلى فئة ، وهذا جائز لقول الله تعالى :" إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة " ، ولهذا لما ظن طائفة منهم أنهم فروا وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : نحن الفرارون ، قال لهم : لا ، بل أنتم العكارون (أي : الكرارون إلى الحرب والعطافون نحوها) أنا فئتكم ، وأنا فئة المسلمين ".أخرجه أحمد في مسنده 2/70، وأبو داود في سننه 3/106،107(2647) ك : الجهاد .(/5)
3- الذين انسحبوا من المعركة هم بعض الجيش ، وكان انسحابهم بسبب عجزهم عن قتال العدو ، وهذه الحالة يرخص فيها بترك القتال ، قال ابن كثير : " قلت : لعل طائفة منهم فروا لما عاينوا كثرة جموع العدو ، وكانوا أكثر منهم بأضعاف مضاعفة ، فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا ثلاثة آلاف وكان العدو –على ماذكروه- مائتي ألف ، ومثل هذا يسوغ الفرار على ماقد تقرر ، فلما فر هؤلاء ثبت باقيهم وفتح الله عليهم ، وتخلصوا من أيدي أولئك وقتلوا منهم مقتلة عظيمة كما ذكره الواقدي وموسى بن عقبة من قبله " البداية والنهاية 6/433 ،434
4- معركة مؤتة حققت هدفها وهو تأديب الكفار وإخافتهم ، وأصيب الروم فيها بخسائر كبيرة ، وانكشف بعض فرقهم ، فاكتفى خالد رضي الله عنه بهذه النتيجة ، وآثر الانصراف بمن معه ، وهذا لا يعد فرارا ، ويؤيد هذا ما ورد عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى زيدا وجعفرا وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم ، فقال : أخذ الراية زيد فأصيب ، ثم أخذ جعفر فأصيب ، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب –وعيناه تذرفان – حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم " أخرجه البخاري في صحيحه 4/1554(4014) ك: المغازي .
ولهذا ذهب بعض أهل السير إلى أن المسلمين انتصروا في هذه المعركة كما هو رأي موسى بن عقبة والواقدي والبيهقي وظاهر كلام ابن كثير لحديث أنس المتقدم ، ينظر : البداية والنهاية 6/430 ، فتح الباري 7/586 .
وقال ابن القيم : "وقد ذكر ابن سعد أن الهزيمة كانت على المسلمين ، والذي في صحيح البخاري أن الهزيمة كانت على الروم ، والصحيح ماذكره ابن إسحاق أن كل فئة انحازت عن الأخرى " زاد المعاد 3/383 .
وقال ابن حجر بعد أن ذكر الأقوال : " ثم وجدت في مغازي ابن عائذ بسند منقطع أن خالدا لما أخذ الراية قاتلهم قتالا شديدا حتى انحاز الفريقان عن غير هزيمة ، وقفل المسلمون فمروا على طريقهم بقرية بها حصن كانوا في ذهابهم قتلوا من المسلمين رجلا ، فحاصروهم حتى فتح الله عليهم عنوة ، وقتل خالد بن الوليد مقاتلهم ، فسمي ذلك المكان نقيع الدم إلى اليوم " فتح الباري 7/586، 587 .
· ذكر الشيخ العبيكان -وفقه الله- أن المتغلب تجب طاعته ولا يجوز الخروج عليه وعد من ذلك الحكومة التي نصبتها أمريكا في العراق ولم يستتب لها الأمر بعد .
المناقشة:
يجاب عن هذا بأننا وإن كنا نتفق على أن المتغلب المسلم تجب طاعته إلا أننا لا نسلم أن الواقع في العراق من هذا القبيل ، فالحكومة المدعاة في العراق الآن قد نصبها العدو المحتل ، وتستمد قوتها من قوته، ولم تتغلب على البلاد بعد ، ولم تنتخب ، ولم ينصبها أهل العراق ، ولم يذعنوا لها فكيف يقال بوجوب الطاعة لها ، وهل كلما احتل عدو بلاد المسلمين وفوجئ بشدة المقاومة وضع له من أعوانه من يتولى بالوكالة عنه قضاء مصالحه ، قلنا : يجب على المسلمين حينئذ التسليم له بالطاعة وترك المقاومة ؟!.
إن هذه خدمة جليلة لم تخطر على بال العدو ، كيف وهي تصدر ممن يحسب من المشايخ وأهل العلم ، وهذا يذكرنا بما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لما قدم التتار إلى الشام :" وهكذا لما قدم هذا العدو كان من المنافقين من قال : ما بقيت الدولة الإسلامية تقوم ، فينبغي الدخول في دولة التتار ، وقال بعض الخاصة : مابقيت أرض الشام تسكن ، بل ننتقل عنها إما إلى الحجاز واليمن ، وإما إلى مصر ، وقال بعضهم : بل المصلحة الاستسلام لهؤلاء كما قد استسلم لهم أهل العراق ، والدخول تحت حكمهم " مجموع فتاوى ابن تيمية 28/450 ،451 ، وذكر أن هذه المقولات قيلت في معركة الخندق .
والغريب أن الشيخ بدأ كلامه في هذه المسألة في وقت ولاية بريمر على العراق في أثناء التحضير للحكومة الحالية ، فهل نفهم من هذا أن الشيخ يقر في ذلك الوقت بحكومة الكافر المحتل ويوجب الإذعان لها، ولا أعلم شبها لهذا إلا حال القاديانية في قولهم بإبطال الجهاد ضد الانجليز إبان احتلالهم للهند ، قال الألباني في تعليقه على قول الطحاوي : " ونرى طاعتهم (أي طاعة الأئمة وولاة الأمور ) من طاعة الله عز وجل فريضة .." : " قلت : ومن الواضح أن ذلك خاص بالمسلمين منهم لقوله تعالى :" أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " وأما الكفار المستعمرون فلا طاعة لهم بل يجب الاستعداد التام مادة ومعنى لطردهم وتطهير البلاد من رجسهم ، وأما تأويل قوله تعالى : " منكم " أي : فيكم فبدعة قاديانية ودسيسة انجليزية ليضلوا المسلمين ويحملوهم على الطاعة للكفار المستعمرين ، طهر الله بلاد المسلمين منهم أجمعين " تعليق الألباني على العقيدة الطحاوية ص 48 .(/6)
· استدل الشيخ -وفقه الله- بقصة يوسف عليه السلام حينما قال للملك : اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم " إذ تولى الولاية من فرعون مصر وهو كافر ، فيدل على أن الكافر إذا قام بتولية المسلم فإن ولايته صحيحة ، وشرع من قبلنا شرع لنا مالم يرد في شرعنا ناسخ له .
المناقشة :
ينبغي أن يعلم أنه قد اختلف أهل العلم في صحة تولي الولاية من الكافر : فمنهم من منعه ، لما في ذلك من تولي الظالمين بالمعونة لهم ، وأجاب عن تولي يوسف عليه السلام من الملك بأن الملك كان صالحا ولم يكن كافرا كفرعون موسى ، وعلى افتراض كونه كافرا فإن يوسف قد تولى النظر في أملاكه دون أعماله فزالت عنه التبعة فيه .
قال الماوردي : "واختلف لأجل ذلك في جواز الولاية من قبل الظالم ، فذهب قوم إلى جوازها إذا عمل بالحق فيما يتولاه ، لأن يوسف عليه السلام تولى من قبل فرعون ليكون بعدله دافعا لجوره . وذهبت طائفة أخرى إلى حظرها والمنع من التعرض لها ، لمافيها من تولي الظالمين والمعونة لهم وتزكيتهم بتقلد أمرهم ,و أجابوا عن ولاية يوسف عليه السلام من قبل فرعون بجوابين :
أحدهما : أن فرعون يوسف كان صالحا وإنما الطاغي فرعون موسى .
والثاني : أنه نظر في أملاكه دون أعماله . " الأحكام السلطانية ص (145).
وهناك من أهل العلم من أجاز تولي الولاية من الكافر ولكنهم اشترطوا لهذا : أن يكون مصلحا على وفق الشرع ولا يعارضه الكافر في عمله ، أما إذا كان الكافر يتدخل في عمله ويوجهه إلى مايخدم مصالحه وشهواته فلا يجوز تولي هذه الولاية لما فيه من الضرر ، واستدلوا بقصة يوسف عليه السلام ، فقد تولى هذه الولاية للإصلاح ومكنه الملك من الحكم بشريعة الله دون أن يعترض عليه أحد ، ولذلك قال الله تعالى : " وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء " .
قال القرطبي في تفسيره عند آية " قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم " : " قال بعض أهل العلم : في هذه الآية ما يبيح للرجل الفاضل أن يعمل للرجل الفاجر ، والسلطان الكافر بشرط أن يعلم أنه يفوض إليه في فعل لا يعارضه فيه ، فيصلح منه ماشاء ، وأما إذا كان عمله بحسب اختيار الفاجر وشهواته وفجوره فلا يجوز ذلك ، وقال قوم : إن هذا كان ليوسف خاصة ، وهذا اليوم غير جائز ، والأول أولى إذا كان على الشرط الذي ذكرناه ، والله أعلم " تفسير القرطبي 9/ 215 ، [وينظر للاستزادة : الهداية مع فتح القدير 7/263، 264 ،تبيين الحقائق 4/177 ، شرح أدب القاضي للصدر الشهيد 1/131 ].
فكيف يطلق الشيخ العبيكان –وفقه الله- القول بالجواز دون النص على هذا الشرط الذي يعلم يقينا عدم تحققه ، وهو يرى من هؤلاء المولين التنازل عن تحكيم الشريعة وإظهار العداوة على أهل السنة وتأليب الكفار على قتلهم واستئصالهم .
ثم يجب التنبه إلى فارق جوهري في المسألة يجعل الاستدلال في غير موضعه وهو أن حال يوسف عليه السلام مع الملك لم تكن حال قتال وحرب ، فقد كان يوسف في غير بلده ولم يعتد عليه الملك بسلب أرضه وقتل أهله ، فهو ليس كافرا حربيا بل يحكم في أرضه التي استتب له الحكم فيها ، ولهذا نجد أن من استدل من أهل العلم بولاية يوسف عليه السلام ، إنما يستدل بها على جواز تولي المسلم ولاية في بلاد الكفر ينتفع بها المسلمون بشرط أن يقوم المسلم بالعدل ولا يخالف شريعة الله في ولايته، فمثال قصة يوسف في واقعنا أن تولى بريطانيا مثلاً مسلمًا ولاية لديها وتعطيه صلاحيات مطلقة.
فأين هذا من واقع العراق الذي جاء الكافر إليه محاربا ، فاجتاح البلاد وعاث في الأرض الفساد ، فقتل المسلمين وشردهم من دورهم ومدنهم ، وسفك الدماء وأتلف الأموال والممتلكات ، ودنس المساجد والمقدسات ، وانتهك الحرمات والأعراض ، وعذب المسلمين والمسلمات ، ومايزال مستمرا في هذا الإفساد والإجرام ، وتآمر معه في هذا عدد من أصحاب المذاهب المنحرفة ، فأعانوه على المسلمين الذين يدافعون عن أنفسهم وأهليهم وممتلكاتهم ،ومع ذلك لم يستتب له الأمر بعد فما زالت الحرب قائمة ، وهو في قتال مع المسلمين ، ولهذا لم يلجأ المحتل إلى هؤلاء الأعوان إلا عندما واجه هؤلاء الذين يقومون بجهاد الدفع عن دينهم وبلادهم ، فأراد أن يجعل هؤلاء في الواجهة لكي يدفع عن جنده القتل ، ومن أجل ضرب البلاد بعضها ببعض .
إن هذا الاستدلال يلغى معنى الاحتلال والاستعمار فيستطيع أي محتل أن يضع بعض عملائه في الواجهة ويأمر الشعب بالسمع والطاعة لهم ويبقى احتلاله للبلد محفوظًا مصانًا بمثل هذه الفتوى، وهل سنقول نفس المقولة لو أن شارون أمر بعض العملاء بتكوين حكومة فلسطينية فهل سنأمر الفلسطينيين بالسمع والطاعة لها في المنشط والمكره وعلى أثرة عليهم؟!
· ذكر الشيخ العبيكان -وفقه الله- أن الجهاد لا يكون إلا مع راية حتى في جهاد الدفع ، وأن هذا من الثوابت .
المناقشة :(/7)
هذا الكلام حق عند إمكانه ، ولكن ينبغي أن يعلم أن جهاد الدفع يدخل في أحكام الضرورات ، ومن المعلوم أن الضرورات تبيح المحظورات ، وأن الضرورة تقدر بقدرها ، فإذا لم يمكن للمسلمين المدافعين عن أنفسهم وبلادهم أن تكون لهم قيادة عامة يرجعون إليها ،وراية يقاتلون تحتها فإنهم يصطلحون على قيادة خاصة يقاتلون تحتها مع حرصهم على أن تكون نيتهم إعزاز دين الله والدفاع عن أنفسهم وبلادهم وأموالهم إلى أن يزول حكم الضرورة ، ويكفوا بأس الذين كفروا ، كما فعل الصحابة رضي الله عنهم عندما اصطلحوا على قيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه في معركة مؤتة ، قال ابن حجر في تولي خالد أمر الجيش في معركة مؤتة :"..وفيه جواز التأمر في الحرب بغير تأمير ، قال الطحاوي : هذا أصل يؤخذ منه أن على المسلمين أن يقدموا رجلا إذا غاب الإمام يقوم مقامه إلى أن يحضر ". فتح الباري 7/586 .
وقد نص الفقهاء رحمهم الله تعالى على أنه في حال الضرورة عند عدم وجود الإمام فعلى أهل الحل والعقد من المسلمين أن ينصبوا عليهم من يتولى أمورهم ويقوم بشؤونهم ، ويقضي بينهم ممن يرونه أهلا لذلك ، قال ابن عابدين :" البلاد التي ليست تحت حكم سلطان بل لهم أمير منهم مستقل بالحكم عليهم بالتغلب ، أو باتفاقهم عليه يكون ذلك الأمير في حكم السلطان فيصح منه تولية القاضي عليهم " رد المحتار 5/ 369 ، [ وينظر للاستزادة : الفواكه الدواني 2/298 ، تبصرة الحكام 1/23 ، تحفة المحتاج 10/105 ، فتاوى ابن حجر الهيتمي 4/297، 298، 326 ، الأحكام السلطانية لأبي يعلى 73 ].
أما القول بأن جهاد الدفع لا يصح إلا بوجود قيادة عامة يرجعون إليها ، وراية ينضوون تحتها ، ولو مع تعذر وجود ذلك ،وأنه في حال تعذر وجود هذه القيادة والراية فعلى المسلمين أن يدعو القتال ، فهذا قول ينشأ عنه مفسدة كبيرة ، وهي تمكين العدو من أراضي المسلمين وإعلان الاستسلام التام ، وما أشبه هذا بقول الرافضة : إنه لاجهاد إلا مع المعصوم ، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قصة طريفة لبعض شيوخ الرافضة، قال شيخ الإسلام : " قيل لبعض شيوخ الرافضة : إذا جاء الكفار إلى بلادنا فقتلوا النفوس وسبوا الحريم وأخذوا الأموال هل نقاتلهم ؟ فقال : لا ، المذهب أنا لانغزوا إلا مع المعصوم . فقال ذلك المستفتي مع عاميته : والله إن هذا لمذهب نجس ، فإن هذا المذهب يفضي إلى فساد الدين والدنيا " منهاج السنة النبوية 6/118 .
وأما موضوع وصف القتال هناك بأنه من جهاد الدفع فهذا ما يفتي به علماء الأمة الإسلامية وصدرت فيه فتاوى سابقة على البيان من أهل العلم المعتبرين من داخل البلاد وخارجها ، وهو يتوافق مع رأي علماء المسلمين في العراق الذي سبقت الإشارة إليه أول هذه المناقشة وهم أدرى بأحوالهم ، بل هو أيضا لا يتعارض مع رأي الهيئة الشرعية الرسمية في المملكة ، فقد سئل المفتي الشيخ عبد العزيز آل الشيخ عن الجهاد في العراق فأجاب بقوله : " أما هم في أنفسهم (أهل العراق ) فلا شك أن عليهم أن يدافعوا عن أنفسهم وأنهم ابتلوا في نفوسهم وفي أموالهم وبلادهم ، فلا شك أنهم مدافعون ، ونرجو لهم التوفيق ، أما غيرهم فعليه أن يبدأ بسؤال الله والدعاء لهم وهم بأمس الحاجة إلى دعاء الله لهم " . ونشر هذا في جريدة الوطن الصادرة في 29/2/1425هـ العدد (1298) .
ثم إن حق مقاومة الشعوب للمحتل تعترف به حتى الأنظمة الأرضية الوضعية عند غير المسلمين .
وهذا لايفهم منه تزكية ماقد تقع فيه المقاومة من أخطاء ، بل البيان صريح في التحذير من هذه الأخطاء وإنكارها وتوجيه نظر المسلمين هناك إلى الحرص على سلامة المقاصد والأفعال .
فالخلاصة أن البيان تناول المسائل العامة البارزة المعلومة لكل مسلم نصرة وتأييدا وتوجيها لنظر المسلمين لكي يهتموا بقضية إخوانهم في العراق ، لأنها لم تعد شأنا داخليا لأهل العراق وحدهم بل أصبحت قضية إسلامية كثر من يخوض فيها بحق وبباطل ومن حق إخواننا في العراق أن ننصرهم ببيان الحق ولو باللسان ، كما ننصر إخواننا المسلمين في فلسطين مثلا ، وأن نستثمر وسائل الإعلام الحديثة في هذا الجانب ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم " رواه أحمد وأبو داود والنسائي .
وأذكر الشيخ أخيرا بقول ابن حزم رحمه الله: " ولا إثم بعد الكفر من إثم من نهى عن جهاد الكفار وأمر بإسلام حريم المسلمين إليهم". المحلى 7/478.
وأسأل الله تعالى أن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ، كما أسأله أن يرينا الحق حقا ويرزقنا إتباعه ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه ، وأن يصلح أحوال أمة محمد صلى الله عليه وسلم في كل مكان إنه خير مسؤول .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .(/8)
حوار مع الشيطان
الكاتب: الشيخ د.عائض بن عبدالله القرني
حاورت الشيطان الرجيم في الليل البهيم فلما سمعت أذان الفجر أردت للذهاب إلى المسجد
فقال لي :عليك ليل طويل فارقد .
قلت: أخاف أن تفوتني الفريضة
قال :الأوقات طويلة عريضة
قلت: أخشى ذهاب صلاة الجماعة
قال: لا تشدد على نفسك في الطاعة
فما قمت حتى طلعت الشمس ...
فقال لي في همس : لا تأسف على ما فات فاليوم كله أوقات
وجلست لآتي بالأذكار ففتح لي دفتر الأفكار
فقلت: أشغلتني عن الدعاء
قال: دعه إلى المساء
وعزمت على المتاب ، فقال: تمتع بالشباب !
قلت: أخشى الموت
قال: عمرك لا يفوت ...
وجئت لأحفظ المثاني
قال: روّح نفسك بالأغاني
قلت: هي حرام
قال: لبعض العلماء كلام!
قلت: أحاديث التحريم عندي في صحيفة
قال: كلها ضعيفة
ومرت حسناء فغضضت البصر
قال: ماذا في النظر؟
قلت: فيه خطر
قال: تفكر في الجمال فالتفكر حلال
وذهبت إلى البيت العتيق فوقف لي في الطريق ..
فقال: ما سبب هذه السفرة ؟
قلت: لآخذ عمرة
فقال: ركبت الأخطار بسبب هذا الاعتمار وأبواب الخير كثيرة والحسنات غزيرة
قلت: لابد من إصلاح الأحوال
قال: الجنة لاتدخل بالأعمال
فلما ذهبت لألقي نصيحة ..
قال: لا تجر إلى نفسك فضيحة
قلت: هذا نفع العباد
فقال: أخشى عليك من الشهرة وهي رأس الفساد
قلت : فما رأيك في بعض الأشخاص؟
قال : أجيبك على العام والخاص
قلت : أحمد بن حنبل؟
قال : قتلني بقوله عليكم بالسنة والقرآن المنزّل
قلت : فابن تيمية؟
قال : ضرباته على رأسي باليومية
قلت : فالبخاري؟
قال : أحرق بكتابه داري
قلت : فالحجاج ؟
قال : ليت في الناس ألف حجاج فلنا بسيرته ابتهاج ونهجه لنا علاج
قلت : فرعون ؟
قال : له منا كل نصر وعون
قلت : فصلاح الدين بطل حطين؟
قال : دعه فقد مرغنا بالطين
قلت : محمد بن عبدالوهاب؟
قال : أشعل في صدري بدعوته الالتهاب وأحرقني بكل شهاب
قلت : أبوجهل؟
قال : نحن له أخوة وأهل
قلت : فأبو لهب ؟
قال : نحن معه أينما ذهب !
قلت : فلينين؟
قال : ربطناه في النار مع استالين
قلت : فالمجلات الخليعة ؟
قال : هي لنا شريعة
قلت : فالدشوش ؟
قال : نجعل الناس بها كالوحوش
قلت : فالمقاهي ؟
قال : نرحب فيها بكل لاهي
قلت : ما هو ذكركم؟
قال : الأغاني
قلت : وعملكم؟
قال : الأماني
قلت : وما رأيكم بالأسواق ؟
قال : علمنا بها خفاق وفيها يجتمع الرفاق
قلت : فحزب البحث الاشتراكي ؟
قال : قاسمته أملاكي وعلمته أورادي وأنساكي
قلت : كيف تضلّ الناس ؟
قال : بالشهوات والشبهات والملهيات والأمنيات والأغنيات
قلت : كيف تضلّ النساء ؟
قال : بالتبرج والسفور وترك المأمور وارتكاب المحظور
قلت : فكيف تضلّ العلماء؟
قال : بحب الظهور والعجب والغرور وحسد يملأ الصدور
قلت : كيف تضلّ العامة ؟
قال : بالغيبة والنميمة والأحاديث السقيمة وما ليس له قيمة
قلت : فكيف تضلّ التجار ؟
قال : بالربا في المعاملات ومنع الصدقات والإسراف في النفقات
قلت : فكيف تضلّ الشباب ؟
قال : بالغزل والهيام والعشق والغرام والاستخفاف بالأحكام وفعل الحرام
قلت : فما رأيك بدولة اليهود (اسرائيل) ؟
قال : إياك والغيبة فإنها مصيبة واسرائيل دولة حبيبة ومن القلب قريبة
قلت : فأبو نواس؟
قال : على العين والرأس لنا من شعره اقتباس
قلت : فأهل الحداثة؟
قال : أخذوا علمهم منا بالوراثة
قلت : فالعلمانية؟
قال : إيماننا علماني وهم أهل الدجل والأماني ومن سماهم فقد سماني
قلت : فما تقول في واشنطن؟
قال : خطيبي فيها يرطن وجيشي فيها يقطن وهي لي وطن
قلت : فما رأيك في الدعاة ؟
قال : عذبوني وأتعبوني وبهذلوني وشيبوني يهدمون ما بنيت ويقرءون إذا غنيت ويستعيذون إذا أتيت
قلت : فما تقول في الصحف ؟
قال : نضيع بها أوقات الخلف ونذهب بها أعمار أهل الترف ونأخذ بها الأموال مع الأسف
قلت : فما تقول في هيئة الإذاعة البريطانية ؟
قال : ندخل فيها السم في الدسم ونقاتل بها بين العرب والعجم ونثني بها على المظلوم ومن ظلم
قلت : فما فعلت في الغراب ؟
قال : سلطته على أخيه فقتله ودفنه في التراب حتى غاب
قلت : فما فعلت بقارون ؟
قال : قلت له احفظ الكنوز يا ابن العجوز لتفوز فأنت أحد الرموز
قلت : فماذا قلت لفرعون ؟
قال : قلت له يا عظيم القصر قل أليس لي ملك مصر فسوف يأتيك النصر
قلت : فماذا قلت لشارب الخمر ؟
قال : قلت له اشرب بنت الكروم فإنها تذهب الهموم وتزيل الغموم وباب التوبة معلوم
قلت : فماذا يقتلك ؟
قال : آية الكرسي منها تضيق نفسي ويطول حبسي وفي كل بلاء أمسي
قلت : فما أحب الناس اليك ؟
قال : المغنون والشعراء الغاوون وأهل المعاصي والمجون وكل خبيث مفتون
قلت : فما أبغض الناس اليك ؟
قال : أهل المساجد وكل راكع وساجد وزاهد عابد وكل مجاهد
قلت : أعوذ بالله منك فاختفى وغاب كأنما ساخ في التراب وهذا جزاء الكذاب !(/1)
حوار مع الغفلة ... ... ...
دخلت شرفة مكتبي، فوجدت كتاباً ملقي على الأرض..نظرت مستغرباً ومتسائلاً !!
من الذي وضعه هنا ؟!
إنني حريص على ترتيب كتبي .
فمن الذي رماه على الأرض؟!
هل سقط هو بنفسه؟! أم أن شخصاً عبث بكتابي؟
مددت يدي لأتناول الكتاب فسقطت منها كلمة على الأرض مددت يدي مرة أخرى لتناول الكلمة
فقالت: لا تمسكني!!
نظرت إليها مستغرباً، وإذا بها كلمة (الغفلة).
قلت: أكلمة تتكلم؟!
قالت: نعم..إذا كثرت الغفلات نطقت الكلمات.
قلت: وما قصدك؟!
الغفلة: أعني أن هناك ضربين للغفلة عامة وخاصة، فأما العامة فهي غفلة بعض الدعاة عن المعاني الإيمانية، فإنكم قليلو المراقبة قليلو المجاهدة، قليلو المحاسبة، قليلو التوبة.
قلت: نعم كلامك صحيح فأنا قوي من الناحية الثقافية والحركية إلا أنني ضعيف من الناحية الإيمانية، وأعيش في غفلة روحانية. فما السبب يا ((غفلة))؟؟
الغفلة: السبب، واضح فمرافقة الغافلين هي السبب، لأنهم يجملون لك قبيح، ويزينون لك السيئات ولهذا نهى الله تعالى عن صحبتهم وطاعتهم بقوله تعالى: { ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه } أما من جاور الكرام فقد آمن من الإعدام .
قلت: وكيف تتحقق (الغفلة القلبية)؟
الغفلة: حين يتجه الإنسان إلى ذاته، وإلى ماله، وإلى أبنائه، وإلى متاعه ولذائذه وشهواته، فلم يجعل في قلبه متسعاً لله. عند ذلك تتحقق الغفلة القلبية والتي نهى الله عن اتباع من كان قلبه غافلاً بقوله: { ولا تطع من أغفلنا قلبه .. } .
قلت: وهل تظنين أن مرافقة أهل الغفلة له أثر ؟!
الغفلة: اعلم يا عبد الله " أن الدخان وإن لم يحرق البيت سوّده " .
قلت: إنه لمثل جميل، ولكن ما مظاهر الغفلة الإيمانية في القلب؟
الغفلة: تجد الغافل لا يفرح إذا ما اختلى بالله عز وجل. وتجده لا يأنس، ولا يطرب لذكر الله تعالى وقراءة كتابه.
تجده لا يشتاق للنظر إلى وجه الله عز وجل. ولهذا قال الله تعالى: { واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخفية ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين } .
قلت متحمساً: نعم هذه هي مشكلتي فإنني أحب أن أخالط الناس كثيراً، حتى إنني اعتدت على ذلك، فلا آنس بالخلوة مع الله تعالى وكثرة ذكره. ثم عاد فقال: ولكن أريد منكِ أن تضربي لي مثالاً على أثر الغفلة في حياتي حتى ازداد فهماً وقناعة.
الغفلة: هب أنك ضعت في صحراء قاحلة، ونفذ طعامك وشرابك حتى كدت تموت جوعاً، واستسلمت لشبح الموت، وبينما أنت في انتظاره، رأيت قافلة بعيدة، قفزت قائماً، وأسرعت للحاق بها، وبينما أنت تجري دخلت شوكة في قدمك فنظرت إلى أسفل، ثم رفعت بصرك وإذا بالقافلة قد اختفت عن ناظريك.
قلت: وأين معنى الغفلة هنا؟
الغفلة: النظر إلى أشواك الدنيا يا عبد الله.
قلت: وما أشواك الدنيا؟
الغفلة: هي التعلق بالدنيا، وميلان القلب إلى النساء والمال والمنصب والزينة وتقديمها على حق الله تعالى، فحينما تتحقق الغفلة بأنواعها المختلفة من غفلة القلب أو اللسان أو الآذان أو العين، وعندها يكون المرء من أهل البلاء.
قلت: لقد تذكرت جملة قد قرأتها منذ زمن، وهي قول لأحد العارفين حين قال: إذا رأيتم أهل البلاء فاسألوا الله العافية.
ثم قال: أتدرون من أهل البلاء؟ هم أهل الغفلة عن الله سبحانه وتعالى.
الغفلة: نعم هذا صحيح، فطوبى لمن تنبه من رقاده، وبكى على ماضى فساده، وخرج من دائرة المعاصي إلى دائرة سداده، عساه يمحو بصحيح اعترافه قبيح اقترافه، قبل أن يقول فلا ينفع، ويعتذر فلا يسمع. فالتفتت (الغفلة) إلى (عبد الله) وإذا بعينيه تذرف دموعاً.
فقالت له: " ربما عثرة تعتري الداعية في طريقه دلته على تقصير في الطريق فيزداد عملاً وتقوى " .
ثم قالت: ولكني أبشرك يا عبد الله فليس كل غفلة مذمومة، وإنما هناك غفلة محمودة .
قلت: وهل هذا يعقل؟!
الغفلة: نعم وقد تحدث عنها مطرف بن عبد الله - رحمه الله - حين قال: " لو علمت متى أجلي لخشيت على ذهاب عقلي، ولكن الله منّ على عباده بالغفلة عن الموت، ولولاها ما تهنأوا بعيش ولا قامت بينهم الأسواق " .
فهذا هو المعنى الوحيد الحسن الأسمى، إلا أن الناس في غفلة عنه.
قلت: صدقت والله.
الغفلة: ولكن هناك معنى أخير، لم أتطرق له.
قلت: وما هو؟ فإنني في حاجة إلى فهم الغفلة فهماً شاملاً، حتى أعرف كيف أرتقي بنفسي وأصلح سريرتي.
الغفلة: أما المعنى الأخير فهو معرفة السبب الرئيسي للاستهزاء بالناس، والنظر إلى عيوبهم وهو الغفلة عن التنفس.
كما قال عون بن عبد الله - رحمه الله -: " ما أجد أحداً تفرّغ لعيب الناس إلا من غفل عن نفسه ".
فاتعظ يا عبد الله ..
المصدر: الإسلام للجميع
...(/1)
حوار مع المفكر الراحل أنور الجندي
حوار : صلاح رشيد
- ما دام أدباؤنا ومثقفونا متمسكين باللغة العربية فلا خوف عليهم
- باكثير ضحية الشيوعية ، والفراهيدي ضحية أعداء لغة الضاد
- طه حسين لم يغير فكره وأقول ذلك رفعا للغشاوة عن أعين الناس
- الحداثة محاولة مكشوفة لهدم اللغة و" إقليمية الأدب " دعوة إلى التمزق الثقافي
ما نزال لا نعرف قيمة هذا الرجل ولا أظن أننا عرفناها حتى بعد وفاته.
إنه العلامة والمفكر الإسلامي الراحل الأستاذ أنور الجندي الموسوعة البشرية الإسلامية ، رجل نذر عمره لله ، وجاهد فيه حق جهاده ، فمات بشهادة طبيبه الخاص وهو يصلي مضطجعا على شقه الأيمن ، فقد مرض مرضا شديدا قبيل وفاته، وكان آخر ما قاله: " يا رسول الله أنا أنور الجندي، قادم إليك من أقاصي الصعيد" حيث كان المفكر الراحل من مواليد مدينة ديروط بصعيد مصر عام 1917.
كان العلامة الراحل في أخريات أيامه لا يستطيع الحديث فترة طويلة ، ولكن قبل أن يشتد عليه المرض أجريت معه هذا الحوار ، وكان حوارا قصيرا لا يتناسب مع عمق وامتداد فكر العلامة أنور الجندي ، ولكن ظروفه الصحية حالت دون أن يكون الحوار في مستوى فكر الموسوعة الراحل ولا مستوى طموحي .
إنه حوار لم ينشر مع الأستاذ أنور الجندي ، لعله يفسح الطريق لمعرفة قدر هذا الرجل بعد موته .
اللقاء متميز جدا ، ومهم جدا ؛ لأنه مع شخصية متميزة ومهمة جدا ، مع شخصية ثرية الفكر ، غاية الثراء ، عميقة غاية العمق ، إنها شخصية مفكر وعالم وكاتب وأديب وباحث متجرد لفكره ، يعيش حياته كلها من أجلها ، وما أطولها من حياة ، وما أجلها من فكرة ، بعيدا في ذلك كله غاية البعد عن مجالات الشهرة والبحث عن النجومية ، أو إحداث الدوي كأنما هو زاهد أو راهب في صومعة لا يتطلع إلى أي شيء في هذه الحياة ، سوي أمر واحد هو أن يقول كلمته ، إنه من النماذج النادرة التي قلما تجود بها الحياة ، أو تظهر في تاريخ الفكر الإنساني ، بين آن وآخر ، لتكون مهيأة بالعقل والقلم على أداء دور كبير، ليس على مسرح الحياة وإنما في أعماقها، من أولئك القادرين على استيعاب مفاهيم عصرهم من أجل الدفاع عن دعوة عالمية، ورسالة سماوية، وغاية سامية، يحملون لواءها مدي حياتهم ، ولا يضرهم من خالفهم ، ولا يصيبهم اليأس ولا التحول ، ولا تزيدهم الأحداث أو الأزمات إلا قوة وصلابة في مواصلة البذل والعطاء ، فكأنما هذه الحياة عندهم مجري طويل ممتد ، يبدأ في أول أمره عاديا غير لافت للنظر ، ثم لا يلبث أن يزداد عمقا، ولا يزال يمتد ويتسع أكثر فأكثر، حتى إذا أوفي على الغاية اكتمل وتضخم وأحال كل ما حوله خصبا وبهجة وحياة .
نعم- هكذا - هي حياة المفكرالأديب والكاتب الكبيروالمدافع العتيد أنور الجندي الذي بدأت رحلته مع التأليف والتصنيف وهو دون الثامنة عشرة من عمره ، ورغم ذلك بدأ ناضجا فكريا ومكتمل الرؤية ، لم يمر بأطوار مختلفة كبقية الكتاب والباحثين ، فقد بدأ وظل واثقا من أدواته البحثية وعدته العلمية ، وترسانته الفكرية ، ومرتويا بثقافته العربية والإسلامية الأصيلة التي قوامها مزيج من دراسات الأدب والعلوم والفقه والتاريخ والسنة والشرائع والقرآن الكريم، موجها قلمه صوب قضايا عصره، ومواجها تحديات الغزو الفكري ورياح المذاهب والنظريات والفلسفات المادية، موقنا - في النهاية - بانتصار كتيبة الحق على كتائب الباطل.
الحوار حاولت أن أجعله عميقا ولكن الشخصية أعمق ، والقضايا جوهرية تتلمس موضع الداء في جسد الأمة العربية، فتضمد بمهارة وحذق وكياسة.
اجعلوا اللغة العربية قضيتكم :
قلت له في البداية : ماهي أهم القضايا الثقافية التي ينبغي أن تكون هي الشغل الشاغل لأدبائنا ومثقفينا في الوقت الراهن ؟
فقال : على الأدباء والمثقفين عامة أن يدركوا أنهم على بر الأمان ، ولا خوف عليكم ، ما تمسكوا بالعربية " لغة القرآن " لغة أكثر من ألف مليون مسلم، وليس مائة مليون هم الغرب وحدهم؛ لأنه ما تزال قوي التخريب وفلول الاستعمار والأحقاد والغزو الثقافي تطارد اللغة العربية الفصحي مطاردة شديدة ، وهناك اتجاه تغريبي يرمي إلى هدم الفصحي وعزلها، والمبالغة في أهمية اللهجات العامية والعناية بدراستها باعتبارهااللغة المستعملة ، ولقداعتقد المسلمون على مدي القرون - واعتقادهم حق - أن لغتهم جزء من حقيقة الإسلام؛ لأنها كانت ترجمانا لوحي الله ولغة لكتابته، ومعجزة لرسوله ولسانا لدعوته ، ثم هذبها الدين بانتشاره وخلدها القرآن بخلوده ، والقرآن لا يسمى قرآنا إلا بها، والصلاة لا تكون إلا بها، فلكل لغة منهجها الفكري القائم على معانيها ومضامينها.
- هناك دعوى إلى إقليمية الأدب أي تقسيم الأدب حسب الإقليم المكاني ، فنقول : أدب مصري ، وأدب سوري ، وأدب عراقي ، فما رأيكم في ذلك ؟(/1)
- لا شك أن هذه الدعوى غير عربية الفكر أصلا ، ولا منبعثة من صميم تفكيرنا الذي يجري في طريقه الواسع العميق مرتبطا بالثقافة العربية التي تشكلت خلال أكثر من خمسة عشر قرنا ، ونحن نعلم أن الدعوات التغريبية حريصة على أن تمزق وحدة هذا الفكر بأن تؤجج دعوات إقليمية ضيقة النظرة تتصل بالإقليم أو العنصر أو النحلة القديمة القطر ، وقد حاول المغرضون إبراز هذه النظرية في إقليمية الأدب على أساس أن لكل إقليم طابعه الخاص، وأن الأمة العربية هي خلق غير تام التجانس ، لكن هذه الدعاوى دائما تبوء بالفشل والاندثار ؛ لأنها دعاوى مستوردة ودخيلة وليست نابعة من الوجدان العربي ، كما أن وحدة الأدب العربي متمثلة في المشاعر والأهداف والمعاني ومواجهة الأحداث ، وأنه ليست هناك فروق أساس بين الأقطار العربية ، وإن كانت هناك فروق في الفروع ، والأدب العربي قد حافظ على وحدته، وطابعه الشامل في مختلف العصور في أحلك فترات الضعف .
سقوط الحداثة
بماذا تفسرون تراجع أو سقوط نظرية الحداثة برغم الصخب والضجيج الهائل الذي صاحبها منذ ولادتها، برغم كتائب الحداثيين المدججة بالمال والرواج الإعلامي؟
لعل أخطر ما لجأ إليه دعاة التغريب في بلادنا هذه المحاولة اليائسة والمكشوفة – أيضا – إنهم يريدون هدم اللغة العربية بدعوتهم إلى الحداثة ، وما يتصل بها من نظريات كالبنيوية والدادية والتفكيكية وغيرها من النظريات التي ترمي إلى القضاء على الجذور والثوابت اللغوية ، في محاولة لهدم قوانين النظم العربي ، وذلك بالدعوة إلى أساليب مدمرة تستوحي آثار الفلسفة اليونانية القديمة في شعر شعراء ذلك العصر مثل بشار وأبي نواس وغيرهم من الشعوبيين .
وكان للصحوة الإسلامية الواعدة دور كبير في كشف نظرية الحداثة وتعقب أصحابها، وكشف زيفهم ومغالطاتهم، حيث قامت هذه المؤامرة (الحداثة) على أكتاف عصابة من أدعياء الأدب حاولوا تضمين الشعر الحر والقصص بتلك الأساطير الزائفة ونشرها وإعطاءها مكانة الأصل الغائب المهجور ، فمثلا فيما يسمونه إحياء التراث من خروج على الأسلوب العربي الأصيل، وهدم لقيم البلاغة العربية وأصولها، وتغليب لجانب الفلكلور الذي يمثل طفولة الثقافة البشرية على البيان العربي الأصيل ، في محاولة لإعطاء الفن القصصي حرية غير محسوبة تحت اسم حرية الإبداع لتقديم إباحيات جديدة تحت صور قديمة من التاريخ .
الكبار يتعرضون للتشويه
لماذا كانت شخصية " الخليل بن أحمد الفراهيدي " عالم اللغة المسلم هدفا للتشويه والتدمير، خاصة من جانب أصحاب المذاهب الغربية عامة؟
لأن الخليل الفراهيدي أعطى الشعر وأعطي النحو وأعطى الموسيقي قانونا عجيبا ما يزال موضع كراهية وحقد من خصوم اللغة العربية الذين يدعون إلى ما يسمونه "كسر النص" !فهم من أجل ذلك يحملون عليه ويسخرون منه، وهو سامق المكانة ؛ لا تهزه هذه الكتابات المنحرفة ، وليس هذا شأن الخليل بن أحمد وحده، ولكن سهام التغريب والغزو الثقافي لم تدع أديبا صحيحا ، أو شخصية ممتازة في الفكر الإسلامي والأدب العربي إلا حاولت النيل منه ، فعلت ذلك في المتنبي والغزالي وابن تيمية ، في ذات الوقت الذي حاولت فيه أن تعلي من شأن الشعوبيين والمارقين أمثال بشار والحلاج وأبي نواس وابن الراوندي ، وكذلك فهي قد نسبت إلى عمر الخيام العلامة التجريبي الكبير شعرا يحض على الفساد والخمر ، ومن أجل هذا فإن علينا أن نكون حريصين أشد الحرص على حماية هذه الشخصيات الكريمة من هذا الاتهام ، وأن نحرر فكرها وحياتها ونكشف عن وجه الحق فيها.
تجاهل باكثير
لا تتفق معنا في أن الأديب الكبير على أحمد باكثير تجاهله الأدباء والنقاد عمدا، وأنه ظلم حيا وميتا، فما تزال بعض أعماله لم تطبع بعد، ومنها ما تعرض بالفعل للضياع ؟
الحق أن باكثير عايش أزمات أمته وتحدياتها المختلفة سواء الاستعمار أو الغزو الفكري أو الصهيونية، واستطاع أن يعالج القضايا العربية كلها، وأن يتفاعل معها، خاصة قضية فلسطين ؛ لأنها القضية الكبرى، فكتب "شعب الله المختار- إله إسرائيل" وبعد نكسة يونيو كتب "التوراة الضائعة" وفي آخر حياته اتجه بقوة إلى تاريخ الإسلام، وأنشأ "ملحمة عمر" وحارب الماركسية ، وهاجم الماركسيين في مسرحياته ، مثل مسرحية "حبل الغسيل" لذلك عامله الماركسيون والشيوعيون معاملة سيئة للغاية، خاصة عندما سيطروا على مجال المسرح والقصة ، ومنعوا إنتاجه ومسرحياته، إذن لا ريب أن باكثير ذهب ضحية هذا الجو الخانق ، ونسأل الله أن يقيض من ينشر إنتاجه المتنوع من الشعر والقصة والمسرحية .
فقاعات طه حسين
أستاذنا الكاتب الكبير : ألا تعتقد أن حملاتك المتتابعة على الدكتور طه حسين أثارت ، وأدهشت كثيرا من المثقفين المعجبين به ، كما أن تعقبك لجميع مواقفه ومؤلفاته لقى بلبلة وفتورا واسعا على المستويات الأدبية نظرا لما حققه الدكتور طه حسين من الشهرة الواسعة؟(/2)
إن هؤلاء الذين لم يشهدوا هذا التاريخ ولم يعايشوا هذه الوقائع معذورون ، فقد سمعوا باسم رنان وشهرة مدوية وطبل قوي الرنين ، دون أن يعرفوا ما وراء ذلك ، فأردت أن أكشف لهم هذه الخلفيات ، وهذه المواقف بالحق، ليتعرفوا على من أطلق عليه "عميد الأدب العربي" ولهم في ضوء هذه الوقائع أن يحكموا ، إنني مؤمن تماما أنه من أشق الأمور أن يقبل الناس الرأي الآخر في إنسان ، عاشوا السنوات الطويلة يسمعون اسمه مقترنا بالإكبار والإجلال والدوي ، دون أن يكون من شأن عملهم وظروفهم أو دراساتهم الكشف عن خلفيات هذه الشخصية ، ومعرفة الخيوط الاستعمارية التي تحرك بعض الممثلين في المسرح الكبير ، وتلقي عليكم الأضواء ، وتستطيع بالجهد والإلحاح المستمر أن تثبت في النفوس والعقول مسلمات كاذبة ، إنني أعذر الذين يزعجهم كشف خبيئة الرجل ، ولكني كنت أرجو منهم إذا كانوا يطلبون الحقيقة أن يسألوا عن البراهين والأدلة والوثائق على ما يظنون أننا ندعيه ، فإذا ثبت لهم ذلك كان عليكم الإقرار بالحق والإذعان لأمر الله ( يأيها الذين آمنوا لا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) [المائدة:8] ، ولقد هوجم طه حسين منذ اليوم الأول إلى آخر يوم في حياته ، لم تتوقف حركة اليقظة عن متابعته وكشف شبهاته ودحر مخططه، وجاءت هذه الردود الصاعقة على ألسنة أناس - لا يزال منهم أحياء - لهم مكانتهم في عالم الفكر والأدب ، فضلا عن معاصريه أمثال الرافعي ومحمود شاكر وزكي مبارك وغيرهم ، فهل يمكن أن يكون طه حسين عميدا للأدب ، وهو يزدري الأدب والأدباء ، أو قائدا لثقافة أمة ، وهو منكر لمفاهيمها، ولا يدين لها بالولاء ، أو مفكر لا يثبت أي شيء ويثير من حوله الشكوك والسخريات والأحقاد ؟ كيف يمكن أن يكون موضع القيادة وموضع الثقة من يقول : "إن الإنسان يستطيع أن يكون مؤمنا وكافرا في وقت واحد، مؤمنا بضميره وكافرا بعقله "؟ هذا مفهوم كنسي غربي مسيحي يرفضه الإسلام وينفر منه ، ذلك أن الإسلام هو دعوة التوازن بين الروح والمادة ، والعقل والقلب ، دين الطمأنينة والسكينة الروحية، والالتقاء بين القيم على هدى وبصيرة .
الحقيقة والوهم
لكن هناك من يقول إن طه حسين غير آراءه وأفكاره أو تاب عن هذه المعتقدات مثل التشكيك في القرآن والسنة وقبل أن يموت فما هي مصداقية هذا الرأي ؟
هؤلاء المدافعون عن طه حسين يقولون: إنه كتب كتابه "على هامش السيرة" وبه كفر ورجع عن كتاب "الشعر الجاهلي" وكتب كتابه "الشيخان" وبه كفر عن كتاب "مستقبل الثقافة" وذلك كله خداع وباطل ، فإن الدكتور طه حسين لم يغير آراءه مطلقا، فقد كان هناك حارس وديدبان يحول بينه وبين ذلك ، هذا الحارث كان مقيما في بيته، يلفت نظره دائما إلى الخط المتفق عليه ، ولكن الدكتور طه غير أساليبه ووسائله في سبيل أن يصل إلى قلب القارئ المسلم ، وبعد أن كانت أساليبه هي الهجوم على الإسلام أصبحت تقوم على ترضي الإسلام داخليا ، ودس السم على مراحل خلال البحث ، ولا يقل السم المدسوس في كتاب "الشيخان" عن السم المدسوس في "هامش السيرة" أو "مستقبل الثقافة" فقال لهم : لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما كتبت الشعر الجاهلي ، أو قوله: اكتم عني ، أو قوله للسفير المسلم أحمد رمزي عن كتاب "مستقبل الثقافة" إنني متفق معك على أن في الكتاب أخطاء كثيرة ، ذلك هو أسلوب طه حسين المرن الماكر الخادع الذي لا يواجه صاحبه بالمعارضة ، ولكن يلين ، حيث يرى أن صاحبه واع لسمومه ، فإذا وجد من يجهل لم يمتنع عن خداعه ، وقصته مع اللواء محمود شيت خطاب معروفة ، إذ أفضى إليه برأي له في القراءات ، فواجهه اللواء خطاب قائلا : هذا كلام أعداء الإسلام ، أما القول بالتراجع فإن هناك من الأدلة الكثيرة التي تكذبه :
أولا : إن أسلوب التراجع معروف ، وهو أن يعلن الكاتب أنه كان يقول كذا، ثم تبين له سوي ذلك، وأن يوقف على الفور ماله من مؤلفات في هذا الصدد، مثلما فعل الإمام الأشعري في تراجعه عن آرائه .
ثانيا: أن يعلن أنه اتخذ هذا الأسلوب كوسيلة للعمل ، ثم تبين له أنه لا ينتج ، وأنه تحول عنه ، مثلما فعل الدكتور محمد حسين هيكل الذي غير اتجاهه من الثقافة الغربية إلى التراث الإسلامي والثقافة الإسلامية ، فهل تراجع طه حسين حقا عن رأي من آرائه وهو حي ، وأعلن ذلك ؟ "إن هذا لم يحدث" ولا يكفي أن يتراجع طه حسين عن رأي أو آخر في مرة خاصة مع صديق ، دون أن يعلن ذلك على الملأ ، بل إن هذا الأسلوب يدل على إصرار الدكتور طه حسين على الرأي وحرصه أن يذيعه في الناس فيفسد به مزيدا من العقول والقلوب ، وقد أشار كثيرون إلى وقائع له مع الدكتور أحمد الحوفي ، ومحمد بهجت الأثري ، وسعيد الأفغاني ، ولكن هل توقف طه حسين عن آرائه ؟
هل حدث تلاميذه بشيء من هذا التراجع ؟
إن ذلك الأمر ظل قاصرا على مسمع عدد قليل من أصدقائه ، وليس على الملأ العام من قرائه ومحب(/3)
حوار مع شيطان
يقول حاورت الشيطان الرجيم في الليل البهيم فلما سمعت اذان الفجر اردت الذهاب الى المسجد
فقال لي :عليك ليل طويل فارقد
قلت: أخاف أن تفوتني الفريضه
قال: الاوقات طويله عريضه
قلت : أخشى ذهاب صلاة الجماعه
قال: لا تشدد على نفسك في الطاعة
فما قمت حتى طلعت الشمس
فقال لي في همس :لا تاسف على ما فات فاليوم كله اوقات
وجلست لآتي بالاذكار ففتح لي دفتر الافكار.
فقلت: اشغلتني عن الدعاء
قال: دعه الى المساء
وعزمت على المتاب
فقال: تمتع بالشباب
قلت: اخشى الموت
قال: عمرك لا يفوت
وجئت لأحفظ المثاني
قال: روّح نفسك بالاغاني
قلت هي حرام
قال: لبعض العلماء كلام!
قلت: أحاديث التحريم عندي في صحيفة
قال: كلها ضعيفة
ومرت حسناء فغضضت البصر
قال :ماذا في النظر
قلت فيه خطر
قال: تفكر في الجمال فالتفكر حلال
وذهبت الى البيت العتيق فوقف لي في الطريق
فقال: ما سبب هذه السفرة؟
قلت: لاخذ عمرة
فقال: ركبت الاخطار بسبب هذا الاعتمار وابواب الخير كثير والحسنات غزيرة
قلت :لابد من اصلاح الاحوال
قال: الجنة لاتدخل بالاعمال
فلما ذهبت لألقي نصيحة
قال:لا تجر الى نفسك فضيحة
قلت: هذا نفع العباد
فقال: اخشى عليك من الشهرة وهي رأس الفساد
قلت: فما رايك في بعض الاشخاص
قال: اجيبك على العام والخاص
قلت :احمد بن حنبل
قال :قتلني بقوله عليكم بالسنة والقرآن المنزل
قلت :فابن تيمية؟
قال :ضرباته على راسي باليوميه
قلت: فالبخاري؟
قال: احرق بكتابه داري
قلت: فالحجاج
قال: ليت في الناس الف حجاج فلنا بسيرته ابتهاج ونهجه لنا علاج
قلت: فرعون
قال: له منا كل نصر وعون
قلت: فصلاح الدين بطل حطين
قال: دعه فقد مرغنا بالطين
قلت: محمد بن عبدالوهاب
قال :اشعل في صدري بدعوته الالتهاب واحرقني بكل شهاب
قلت: ابوجهل
قال: نحن له اخوة واهل
قلت: فا بولهب
قال: نحن معه اينما ذهب
قلت فلينين
قال: ربطناه في النار مع استالين
قلت :فالمجلات الخليعة
قال: هي لنا شريعة
قلت: فالدشوش
قال: نجعل الناس بها كالوحوش
قلت: فالمقاهي
قال: نرحب فيها بكل لاهي
قلت :ما هو ذكركم
قال: الاغاني
قلت: وعملكم
قال: الاماني
قلت: وما رايكم بالاسواق
قال :علمنا بها خفاق وفيها يجتمع الرفاق
قلت: فحزب البحث الاشتراكي
قال :قاسمته املاكي وعلمته اورادي وانساكي
قلت :كيف تضل الناس؟
بالشهوات والشبهات والملهيات والامنيات والاغنيات
قلت: كيف تضل النساء؟
قال :بالتبرج والسفور وترك المامور وارتكاب المحظور
قلت: فكيف تضل العلماء؟
قال: بحب الظهور والعجب والغرور وحسد يملا الصدور
قلت: كيف تضل العامة؟
قال :بالغيبة والنميمة والاحاديث السقيمة وما ليس له قيمة
قلت :فكيف تضل التجار؟
قال: بالربا في المعاملات ومنع الصدقات والاسراف في النفقات
قلت: فكيف تضل الشباب؟
قال: بالغزل والهيام والعشق والغرام والاستخفاف بالاحكام وفعل الحرام
قلت فما رايك بدولة اليهود(اسرائيل)
قال: اياك والغيبة فانها مصيبة واسرائيل دوله حبيبة ومن القلب قريبة
قلت: فالجاحظ
قال الرجل بين وبين وامره لا يستبين كما في البيان والتبيين
قلت: فأبو نواس
قال :على العين والراس لنا من شعره اقتباس
قلت: فأهل الحداثة
قال: اخذوا علمهم منا بالوراثة
قلت: فالعلمانية
قال: ايماننا علماني وهم اهل الدجل والاماني ومن سماهم فقد سماني
قلت: فما تقول في واشنطن؟
قال: خطيبي فيها يرطن وجيشي فيها يقطن وهي لي وطن
قلت: فما رايك في الدعاء؟
قال :عذبوني واتعبوني وبهذلوني وشيبوني يهدمون ما بنيت ويقرءون اذا غنيت ويستعيذون اذا اتيت
قلت: فما تقول في الصحف؟
قال: نضيع بها اوقات الخلف ونذهب بها اعمار اهل الترف وناخذ بها الاموال مع الاسف
قلت: فما تقول في هيئة الاذاعة البريطانيه؟
قال: ندخل فيها السم في الدسم ونقاتل بها بين العرب والعجم ونثني بها على المظلوم ومن ظلم
قلت: فما فعلت في الغراب؟
قال: سلطته على اخيه فقتله ودفنه في التراب حتى غاب
قلت :فما فعلت بقارون؟
قال: قلت له احفظ الكنوز يا ابن العجوز لتفوز فانت احد الرموز
قلت: فماذا قلت لفرعون؟
قلت له يا عظيم القصر قل اليس لي ملك مصر فسوف ياتيك النصر
قلت: فماذا قلت لشارب الخمر؟
قلت له اشرب بنت الكروم فانها تذهب الهموم وتزيل الغموم وباب التوبة معلوم
قلت: فماذا يقتلك؟
قال: آية الكرسي منها تضيق نفسي ويطول حبسي وفي كل بلاء امسي
قلت: فما احب الناس اليك؟
قال: المغنون والشعراء الغاوون واهل المعاصي والمجون وكل خبيث مفتون
قلت :فما ابغض الناس اليك؟
قال: اهل المساجد وكل راكع وساجد وزاهد عابد وكل مجاهد
قلت: اعوذ بالله منك
فاختفى وغاب كأنما ساخ في التراب وهذا جزاء الكذاب
نقلا من كتاب مقامات القرني للشيخ عائض القرني(/1)
حوارُ الغافلين والجادين المُهْمَلين مع النصارى
محمد جلال القصاص
صورتان :
الأولى : لمجموعة من المُنَصّرين . . . المتمرسين . . . المتفرغين . . . الحاقدين على الإسلام والمسلمين ، يجلسون مع مجموعة منتقاة من موظفي الدين الرسميين .. . عديمي الكفاءة العلمية . . . محدودي الصلاحيات فيما يسمى بالحوار بين الأديان .
والجلسة أشبه ما تكون بين محقق ومتهم ، الطرف الإسلامي في وضع اعتذاري . . . تسويغي ، يدافع عن الإسلام ضد تُهم الطرف النصراني ، ويحاول جهده أن ( يحسن ) صورة الإسلام أمام الطرف الآخر ، فمرة ينكر الجهاد ( جهاد الطلب بل والدفع أحيانا ) ، ومرة يتنكر للتعدد ــ تعدد الزوجات ـــ أو يقيده بقيود ما أنزل الله بها من سلطان ، ومرة يتكلم عن محبة ( الآخر ) ، وأن الإسلام نزع من قلوبنا بغض من حاد الله ورسوله ولو كانوا مقاتلين مُغتصبين ، ويتلجلج في نطقه ويتصبب عرقا حين يسأل عن جهاد نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـــ وصحابته والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ، ناهيك عما يفعله ( الإرهابيون ) اليوم .!!
والطرف الثاني في هذا المشهد هم الغافلون .
غافلون عن أن للطرف الأول ـــ النصراني ــ أهدافاً أخرى يرمي إليها , فالحوار بمثابة الاعتراف به من جهة إسلامية ( رسمية ) تعطي الكنائس شرعية لما تمثله من عقائد ودعاوى ، وهذا الأمر في غاية الخطورة ، فهم يُثَبِّتون قومهم على الكفر بهذا الاعتراف ، يقولون لهم ( مشايخ ) الإسلام يعترفون بنا ويقرون بشرعيتنا ، وهم يُدْخِلون الناس في الكفر بهذا الاعتراف ـــ الذي يأخذونه من هذه الحوارات ـــ حين يُسَوِّقونه في الأماكن التي ينشط فيها التنصير ، يُظهرون لهم أن ( مشايخ ) الإسلام لا تُخَطِئهم ــ في الجملة ـــ . وهذا صدٌّ صريح عن دين الله .
في كثير من حوارات البالتوك مع النصارى تكلم أكثر من فرد ــ من النصارى ــ مستشهدا بأقوال نفر من المسلمين على صحة ما يعتقدون . يقول : وقد اعترف بهذا فلان وفلان ممن يحملون أسماء إسلامية واشتهروا بين الناس بأنهم من علماء الدين الرسميين ، أقول هذا لتعرف خطورة الأمر .
وهم غافلون لأنهم بحوارهم بهذه الطريقة يُعدِّلون المفاهيم الإسلامية مثل الجهاد وأوضاع المرأة ، وتحديد النسل ... الخ .
وهم غافلون عن أن هذا الطرف النصراني هو هو بأم عينه الذي يمارس التنصير في بلاد العالم الإسلامي كلها ، في ذات الوقت الذي يتحاور فيه معهم .
وهم غافلون عن أن هذا الطرف النصراني المتحاور هو الذي يحرك العداء الديني للإسلام في الغرب برمته ، وهو هو الذي يساند الأقليات الكافرة في بلاد المسلمين لخلق البلبلة والتشتت حتى أصبحت الكنائس في العالم الإسلام مراكز قوى .
ولولا غفلتهم لتساءلوا لماذا الحوار فقط مع الكنائس ولم يكن مع عوام النصارى ومثقفيهم ؟
ولماذا الحوار فقط في الإسلاميات ـــ الشبهات المثارة حول الإسلام ــ دون النصرانيات ــ ضلالات النصارى وما يفترونه على ربهم ونبيهم ـــ ؟
والصورة الثانية التي في خيالي :
لأحمد ديدات وهو يحمل كتبه ويرفع لا فتة كتب عليها قول الله تعالى "وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين" ( سبأ:24)
لقد خط أحمد ديدات خطاً جديداً وسنَّ سُنة حسنة في الحوار بين الأديان ، فتح جبهة على القوم ما كانوا يحسبون لها حساب .
وحين تَرِد صورة أحمد ديدات ومن على دربه في خاطري أردد قول الله تعالى " فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا " (الحشر : 2) .وقد بارك الله له في جهده ،وأتى سعيه أُكله ضعفين ، فأسلم عدد غير قليل على يده ، وصار على دربه ثلة من الشباب ، والله أسأل أن يتقبل منه ومنهم وأن يكتب أجره وأجرهم أضعافاً مضاعفة .
وأحمد ديدات ومن على دربه هم الجادون المُهْمَلون.
والعجب أنهم مُهمَلون . مع أن الكل يتكلم عن أهمية إيصال صورة واضحة للإسلام لعامة النصارى في الغرب والشرق .
والعجب أن الكل يقف عند حد التنبيه على أهمية هذا الأمر دون التحرك للتحاور مع عوام النصارى ، أو التوجه إليهم بخطاب ينقض معتقداتهم الباطلة في المسيح أو الأحبار والرهبان ، أو يحسن لهم صورة محمد صلى الله عليه وسلم .بعد أن رماه قساوستهم بالخنا والفجور وعظائم الأمور
والعجب أن الجامعات الإسلامية تُخرج أساتذة متخصصين في ما يسمى بعلم ( مقارنة الأديان ) ولا وجود لهم في الميدان ، اللهم نفر أو نفران .
والعجب أننا نبادر بالحديث إلى المثقفين ونترك العوام ، وغالب الظن أن المثقفين لا يجهلون الإسلام ، وهم الملأ الذين يمكرون على قومهم بالتعاون مع الساسة ، ونترك عوام الناس الذين يريدون أن يعبدوا ربهم .
والعجب أننا نرفع عقيرتنا بالشكاية من التنصير ، الذي اجتاح كل بلاد المسلمين ، من المغرب العربي إلى أندونسيا مرورا بأفريقيا التي كاد يأكلها والجزيرة العربية وباقي دول المسلمين ، ثم لا نقوم بنشر ثقافة مضادة له تواجه شبهاته أو معتقداته التي يبثها في أرضنا بين شبابنا .(/1)
والعجب أن يصرح المسئولون في الكنيسة المصرية الأرثوذكسية الحاقدة الثائرة أن النشاط التنصيري في مصر بلد الأزهر والصحوة الإسلامية مُرضي للغاية . وأنهم موجودون حتى في الجزيرة العربية .!!
والعجب كل العجب من هذا البليد الذي يسمع سبَّ نبيه ـــصلى الله عليه وسلم ـــ ويرى الناس تكفر بربهم ولا يتحرك.!!
إرشادات للمشاركة
ميدان التصدي الفكري للنصرانية المحرفة ـــ أو حملات التنصير خصوصاً ـــ وكذا دعوة عوام النصارى الذين يبحثون عن الحق ، هو من الطريق الذي شقه أحمد ديدات وتبعه عليه كثيرون في كل بقاع العالم ، وهم متواجدون الآن في البالتوك بصفة أساسية ، وعلى أرض الواقع ، ولهم إصدارات مكتوبة ومسموعة ، والملاحظ أنهم ــ وكذا شيخهم أحمد ديدات رحمه الله رحمة واسعة ـــ ليسوا بطلبة علم شرعيين ، وربما كانت هذه هي الثغرة في فكر الرجل ، وهم يحتاجون لطلبة العلم الشرعي للانضمام إليهم . فهل من مجيب ؟
ومن يريد المشاركة . . . من يريد التعرف على شبهات النصارى والرد عليها ، أو إيجاد طرح إيجابي مضاد لطرح النصارى ، فعليه فقط أن يدخل للبالتوك يوما أو يومين وينصت إلى النصارى ، أو يتكلم مع المسلمين المتمرسين في غرف البالتوك وهم يُعَرِّفوه .
ـــ لا يُفهم من كلامي أبدا أنها دعوة للتوجه للمشاركة في غرف البالتوك ، وإنما هي دعوة للتصدي للتنصير بدراسة شبهاتهم ، ثم تكوين مادة علمية مضادة لهذه الشبهات وطرحها على عوام النصارى الذين يكذب عليهم الأحبار والرهبان وكذا عوام المسلمين الذين يستهدفهم التنصير .
أرجو قراءة الثلاثة أسطر الأخيرة مرة ثانية .!!
ــ شيوخنا الأفاضل الذين منَّ الله عليهم بانتشار خطبهم عن طريق الشريط معنيون بهذا الأمر أكثر من غيرهم فمنبرهم عال وجمهورهم غفير ومن كل المستويات ، والشريط طويل العمر واسع الانتشار .
ولا يحتج علينا أحد بضيق الوقت وكثرة الشواغل ، فهل هناك أعظم من الذب عن عرض رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـــ ؟!
ثم إنه تنزل النوازل ـــ كالسيول والإعصار والعمليات ( التفجيرية ) ـــ فينقطع لها جدول أعمال الشيوخ للتعقيب عليها ، وسب نبينا وكفر أبناءنا وإخواننا والله إحدى الكُبر التي ينقطع لها القلب لا الوقت .
والمطلوب تحديدا هو :
عرض موجز لعقيدة النصرانية وكيف فسادها ، وسرد شبهات النصارى والرد عليها.
أيها السادة !
وقد خالطنا التنصير ونزل بساحتنا فلم نجلس عن مواجهته ؟!
ونريد من الأكاديميين والمتخصصين حواراً بمستوى عال يخاطب علمائهم الدينيين و منظريهم ، ولا مانع من أن يأخذ الحوار صفة الالتفاف عليهم ، أو أي صفة أخرى كتسكينهم وفتح دوامات فكرية لهم بإثارة الشبهات وطلب الرد عليها من أجل إشغالهم ، فأولئك الملأ ،ويجوز في حقهم مالا يجوز في حق غيرهم .
ــ في افتتاح المركز الإسلامي الذي قام به الشيخ الدكتور سفر الحوالي ــ حفظه الله من كل سوء ــــ وحضره الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين ، اقترح الشيخ سفر ترجمة ( الجواب الصحيح على من بدل دين المسيح ) لشيخ الإسلام ابن تيمية ــ رحمه الله ــ ، وقد توقف العمل أو تأخر ، واقترح الشيخ ابن عثيمين في مؤتمر الافتتاح ، أن تفرد ــ من الكتاب ــ رسائل صغيرة ــ مطويات ــ في المواضيع ذات الشأن . فلم لا ننشط لهذا ؟
لم لا يوضع كشف زيف النصرانية إحدى موضوعات الدروس والخطب والمطويات ؟ لم ؟ ولو بمحاضرة أو محاضرتين من كل شيخ؟
واختم بهمسة في أذن أولي الألباب وأصحاب النظرة البعيدة أقول :
الحوار له أهمية في إضعاف معنويات الخصم ، وتجنيد طابور خامس فهناك من يُسلم في السر ــ من العوام ومن القساوسة وهذا أمر مشاهد معلوم ـــ ولا تدري علَّه ينفعنا يوما . وما أمر نعيم بن مسعود منكم ببعيد .(/2)
حوافّ النهر
د. محمد بن سعود البشر 3/12/1426
03/01/2006
لا يزال أصحاب الفكر الليبرالي والسائرون في ركبه، من الرموز والتلاميذ، يتنادون للتأثير في المجتمع بأساليب شتى، وطرائق عدة، يحاولون إيهام المجتمع بأنهم كثر، وسوادهم كبير.. يزعمون أنهم يمثلون "تيارًا" لم يعد بالإمكان التقليل من حجمه أو التوهم بعدم وجوده.
نلحظ ذلك في المنتديات الثقافية، في القنوات التلفازيّة الحكومية والخاصة، وفي الصحافة اليومية.. يعلو صراخهم في هذه الوسائل ليسجلوا حضورًا فكريًا وإعلاميًا وثقافيًا يلفت الأنظار، وتعجب لجلدهم في الترتيب والتنسيق لهذه الغاية بالليل والنهار.. يعزفون على جراح الأمة بدعوى الوطنيّة. وينالون من ثوابت الدين باسم التسامح والاعتدال والوسطيّة.. يفعلون ذلك وهم الغلاة المارقون.. حتى ليكاد أحدهم أن يفرط من منظومة القيم، وأن ينسلخ من الثوابت بدعوى محاربة التطرف والتخلف والأحادية والإقصاء..
مثل رموز هؤلاء والمجتمع كمثل الطفيليات التي تكثر على حواف النهر.. وأفراخهم كمثل اليرقات التي تحاول أن تكبر وتتكاثر وتصرخ ليظن الواهمون أنهم يمثلون "تيارًا" لا يجوز تجاوزه.. أو رقمًا في المعادلة الفكرية لا يمكن تجاهله.. بيد أن هذه الطفيليات واليرقات التي تقتات من الطحالب القذرة على حواف النهر التي استنبتها هؤلاء العملاء أو قذف الأجنبي ببذورها علينا عبر فضاءات السماء لا يمكن أن تحيل الماء الطهور نجسًا.
لا نزعم أن مجتمعنا ملائكي، منزّه عن الأخطاء، ساكن لا يعرف التغيير، أو جامد لا يقبل التطوير.. بل نجزم أن معطيات الواقع تفرض انتفاضة شاملة باتجاه الحراك الحضاري للحاق بركب العصر، ومتغيرات الحاضر والمستقبل، لكننا في الوقت نفسه ندرك أن هذه الانتفاضة، وذلك الحراك لابد أن يَتِمّا وفق منظومة القيم التي نؤمن بها، آخذَيْن بشروط النهوض الحضاري التي تحددها ثوابت ديننا، ومعايير مجتمعنا، وملامح ثقافتنا. ولذلك فإننا نرفض أن تقود هذه الشرذمة القليلة الركب، أو أن تأخذ بخطام الأمة لتقودها إلى التهلكة تحت مظلة المدنية المزعومة، أو بدعاوي محاكاة الآخر ومسايرته كشرط للتقدم المدّعى.
عبثًا تحاول هذه الزمرة أن يكون لها وجود، ولابد يومًا أن تصحو على لحظات فنائها، فهي نبتة خبيثة على حواف نهر جارٍ، يتدفق بصفاء الفطرة، وحماسة التدين، وإن وعي الغيورين، وجدّ النابهين، وجلد المخلصين كفيل بتعجيل لحظات الفناء.. سنراهم غدًا تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت.. وما ظلمهم الناس ولكن أنفسهم يظلمون.(/1)
وجوب الإيمان بخبر الواحد
بقلم؛ إبراهيم بن عبد العزيز
بسم الله الرحمن الرحيم
فضيلة الشيخ : يتناقل بعض الأفراد ، بأن الإيمان بخبر الآحاد لا يجوز شرعاً ،ومن ذلك الإيمان بعذاب القبر ، وشفاعة الرسول للمؤمنين يوم القيامة ، وورود الصراط ، ونزول عيسى عليه السلام ، وخروج الدجال ، وظهور المهدي ، وغير ذلك مما ثبت بخبر الآحاد . وأن المخالف لذلك يعتبر آثماً فما صحة هذا القول ؟ وجزاك الله خيراً
الحمد لله رب العالمين ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، وصل ِ اللهم وسلم على نبينا نبي الرحمة محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه إلى يوم الدين أما بعد :
فإن أصحاب هذا القول يعتمدون بقولهم هذا على التفسير الخاطئ للظن ، إذ دليلهم مبني على حرمة إتباع الظن ،ويجعلون خبر الآحاد مندرجاً تحت هذا القول لذا فهم يحرمون الإيمان بكل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من خلال خبر الواحد ،ومن ذلك ما ذكرت من عدم إيمانهم بعذاب القبر ،وشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم للمؤمنين يوم القيامة ، وورود الصراط ، ونزول عيسى عليه السلام ، وخروج الدجال ، وظهور المهدي ،وغير ذلك ، وهذا القول باطل من عدة وجوه :
أولاً : إن كلمة الظن في اللغة تدل على عدة معان يحددها السياق ، فقد يطلق لفظ الظن ويراد به اليقين كما في قوله تعالى : ( كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاق ) .ِ (29)القيامة والمعنى أي علم وتيقن قال الطبري رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة : يقول تعالى ذكره : وأيقن الذي قد نزل به أنه فراق الدنيا والأهل والمال والولد ، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . قال قتادة : ( وظن أنه الفراق ) أي استيقن أنه الفراق أ هـ تفسير الطبري . قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة : أي أيقن الإنسان أنه الفراق ، أي فراق الأهل والمال والولد ، وذلك حين عاين الملائكة . أ هـ القرطبي .
وقال سبحانه : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ) . (46) البقرة قال القرطبي: الذين في موضع خفض على النعت للخاشعين ، ويجوز الرفع على القطع ، والظن هنا في قول الجمهور بمعنى اليقين ومنه قوله تعالى: (إِنِّي ظَنَنْت أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَه). تفسير القرطبي .
ويأتي الظن بمعنى الشك ،قال تعالى : (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنقَلَبا ) . الكهف ً (36) قال الطبري : القول في تأويل قوله تعالى : (وَدَخَلَ جَنَّته وَهُوَ ظَالِم لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنّ أَنْ تَبِيد هَذِهِ أَبَدًا ) . يقول تعالى ذكره : هذا الذي جعلنا له جنتين من أعناب دخل جنته وهي بستانه وهو ظالم لنفسه ، وظلمه نفسه : كفره بالبعث وشكه في قيام الساعة ، ونسيانه المعاد إلى الله تعالى . أ هـ تفسير الطبري.
ويأتي الظن بمعنى الكذب كما في قوله تعالى : (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ). الأنعام (116) قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية : يخبر تعالى عن حال أكثر أهل الأرض من بني آدم أنه الضلال كما قال تعالى:(وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلهمْ أَكْثَر الْأَوَّلِينَ ) . وقال تعالى : (وَمَا أَكْثَر النَّاس وَلَوْ حَرَصْت بِمُؤْمِنِين ) . وهم في ضلالهم ليسوا على يقين من أمرهم وإنما هم في ظنون كاذبة وحسبان باطل . تفسير ابن كثير .
وقد جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله : :( إياكم والظن فإنه أكذب الحديث ) .البخاري ومسلم.
وكذلك يأتي الظن ويراد به غلبة الظن كما في قوله تعالى : ( فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) . البقرة (230)
قال الطبري : وأما قوله : (إنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُود اللَّه ) فإن معناه : إن رجوا مطمعاً أن يقيما حدود الله – إلى أن قال - وقد وجه بعض أهل التأويل قوله : (إنْ ظَنَّا ) إلى أنه بمعنى أيقنا . وذلك لا وجه له ، لأن أحداً لا يعلم ما هو كائن إلا الله تعالى ذكره. تفسير الطبري بتصريف.
فهذه الآية واضحة الدلالة بأن المراد بالظن لا اليقين ولا الشك ، فعلم أن المقصود به غلبة الظن .(/1)
ومن خلال ما ذكرنا يتضح خطأ صاحب كتاب الاستدلال بالظني في العقيدة ص 19 وهذا نصه : (وإذا تتبعنا الكثير من النصوص التي وردت فيها كلمة الظن سواء كانت في القرآن ، أم في الأحاديث الشريفة ، أم في شعر العرب من الطبقة التي يستشهد بشعرها ، لوجدنا أن كلمة الظن لا تفيد إلا معنى واحداً ، وهو مدلولها اللغوي الوضعي حسبما أوردته المعاجم والقواميس اللغوية ، فهي ترجيح أحد الاحتمالين على الآخر ، وذلك لتميزها عن كلمة الشك التي تفيد تساوي الاحتمالين من غير ترجيح . كما أنها ليست من الألفاظ المتعاضدة مثل كلمة القرء بمعنى الطهر والحيض ، وكذلك ليست من الألفاظ المشتركة مثل العين المبصرة ، والذهب والجاسوس ، ويخطئ من يقول بأن كلمة الظن من الأضداد أي إنها تفيد الظن ، وتفيد العلم سواء كان القائل من علماء اللغة أو غيرها . أهـ
ويظهر التناقض في هذا القول إذ يقول صاحبه : ويخطئ من يقول بأن كلمة الظن تفيد اليقين وإن كان القائل من علماء اللغة . ومفهوم هذا القول ، إن هنالك من العلماء من يقول بأن كلمة الظن تفيد اليقين كما أوردنا ذلك عن بعض أهل العلم آنفا ، فأصبح ما قاله اجتهاداً لا يقينا فانظر إلى هذا التناقض !
قال أبو العباس أحد علماء اللغة في مثل هذا الأمر : ( إنما جاز أن يقع الظن واليقين لأنه قول القلب فإذا صحت دلائل الحق وقامت أماراته كان يقيناً ، وإذا قامت دلائل الشك وبطلت دلائل اليقين كان كذباً ، وإذا اعتدلت دلائل اليقين والشك كان على بابه شكاً لا يقيناً ولا كذباً . الأضداد لمحمد بن القاسم الأنباري .
ومما يؤكد خطأ القول بأن الظن لا يفيد إلا الترجيح بين قولين أحدهما راجح ، والآخر مرجوحاً :
1 : ما جاءت به الآيات القرآنية إذ دل سياقها على التفريق بين معنى الظن في عدة مواضع كما أشرنا إلى ذلك ، فعلى سبيل المثال قوله تعالى : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ) . (46) البقرة فالظن هنا بمعنى اليقين ، إذ لا يجوز في هذا الموطن أن يكون الظن بمعنى الترجيح بين الاحتمالين ، وذلك أن الأمر متعلق بالإيمان باليوم الآخر ، وهذا لا يقوم إلا على يقين ، فلو كان المعنى ما ذهبوا إليه لكان جائزاً أن يدخل شيء من الريب فيما يتعلق بالمعتقد ، وهذا باطل بلا شك.
2 : إن الظن الذي ورد في الآية المباركة جاء في سياق المدح ، والظن الذي نهى الله سبحانه عن اتباعه جاء في سياق الذم ، وبين المدح والذم بون عظيم .
3 : إن الظن الوارد في الآية متعلق بالإيمان باليوم الآخر ،وهو مسألة في صميم العقيدة ، وهو مما طلب الإيمان به ، ومن المعلوم ضرورة أن الاعتقاد لا ينبني إلا على اليقين .
وإليك آية تبين الفرق بين معنى الظن بياناً واضحاً : قال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُوراً ) . الإسراء (102) ولا ريب أن ظن موسى عليه السلام مبني على اليقين والثقة بالله سبحانه إذ وعد الله سبحانه الظالمين بالهلاك إذ قال وقوله الحق : ( أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ) . الدخان (37) وأما ظن فرعون فهو قائم على الجهد والتكذيب قال تعالى : (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ) . النمل (14) والفرق بين الظنين واضح .
ولكن الذي حمل أصحاب هذا الرأي على القول بأن الظن لا يفيد إلا الترجيح بين الاحتمالين ، فرارهم من بناء أصلهم هذا على الظن الذي حذروا الناس من إتباعه ، فلو سلموا بأن الظن يحتمل عدة وجوه كما أسلفنا لأقروا بخطأ منهجهم وبعده عن الصراط القويم .(/2)
ثانياً : أ : إن من مستلزمات القول باشتراط تحقق التواتر لحصول اليقين فيما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، اختلاف الصحابة رضي الله تعالى عنهم في عقيدتهم ، وذلك لو أن صحابياً سمع حديثاً من الرسول صلى الله عليه وسلم لكان واجباً عليه الإيمان به ، على خلاف من سمع حديث الرسول من الصحابي نفسه لا من الرسول صلى الله عليه وسلم ، إذ يحرم عليه الإيمان بالحديث الذي نقله إليه ذلك الصحابي لعدم تحقق العدد المطلوب ، ومثل هذا الأمر لم يعرف في الصحابة رضي الله تعالى عنهم رغم كثرة وقوع هذه الصورة فيهم ، فقد كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم ينقل بعضهم عن بعض أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم دون اختلاف بينهم في العقيدة أو المنهاج ، وما يجب أن يؤمن به المسلمون ، هو ما آمن به الصحابة رضي الله تعالى عنهم ،قال تعالى : ( فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) . البقرة (137)
ب : ومن ناحية ثانية ، فإن اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في إثبات أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرق في الدين ، إذ يؤمن البعض في أحاديث لا يجوز للبعض الآخر أن يؤمن بها ، وهذه الصورة من أعظم الصور التي حذر منها القرآن وتوعد من خالفها قال تعالى : ( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ ) . الشورى (13)
ثالثاً : إن الآيات الكريمة نهت عن إتباع الظن ، لا الإيمان به فحسب ، والإتباع أعم من التصديق ، فهو يستلزم عدم العمل من باب أولى ، إذ الإتباع لا يكون إلا مع العمل ، والقول بتحريم إتباع الظن يشمل القول والعمل على حد سواء ، وتخصيص النهي عن إتباع الظن في مسائل العقيدة دون الأحكام الشرعية قول لا دليل عليه ، إذ لا يكون تخصيص العام إلا بدليل شرعي ، وبما أن المسألة مسألة عقدية أي تتعلق بالأصول دون الفروع ، فيجب أن يكون دليلها دليلاً قطعيا ، فأين دليلهم القطعي الذي يستندون إليه بتخصيص النهي عن إتباع الظن في الإيمان دون العمل ؟
رابعاً : اعلم يرحمك الله : أن الذين يروجون إلى هذا القول ، يعتبرون أدنى حد التواتر عدداً خمسة رواة في كل طبقة من طبقات الإسناد ، فإن قل العدد عن ذلك في أي طبقة من طبقات الإسناد لا يعتبر الحديث قطعياً وعليه لا يجوز الإيمان به ،وإليك قول تقي الدين النبهاني في هذه المسألة : ( فكل ما يصدق عليه من العدد من الجمع يعتبر متواتراً . ولكن لا يجوز أن يكون أقل من خمسة ، فلا يكفي أربعة ، لأن الأربعة يحتاجون إلى تزكية في حالة جهل حالهم إذا شهدوا بالزنا ) . كتاب الشخصية الإسلامية ص 266 الجزء الأول الطبعة الثانية تحت عنوان أقسام الحديث.
ويقول في موضع آخر من الكتاب نفسه ص 144 الجزء نفسه تحت عنوان الاستدلال بالسنة : (ذلك أنه ثبت بنص القرآن الكريم أنه يقضى بشهادة شاهدين رجلين أو رجل وامرأتين في الأموال ، وبشهادة أربعة من الرجال في الزنا ، وبشهادة رجلين في الحدود والقصاص ، وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشهادة شاهد واحد ويمين صاحب الحق ، وقبل شهادة امرأة واحدة في الرضاع ، وهذا كله آحاد ) . وعليه فقد جعل تقي الدين النبهاني شهادة الاثنين والثلاثة والأربعة من خبر الواحد الذي لا يجوز الإيمان به ، وهذا قول لا دليل عليه لا من الكتاب ولا من السنة ، بل هو إتباع محض لبنيات الأفكار ، فعلى سبيل المثال : لو جاء حديث توفر في كل طبقة من طبقاته خمسة رواة كلهم ثقات إلا في الطبقة الأولى طبقة الصحابة رضي الله عنهم ، لم يرو الحديث إلا عن الخلفاء الراشدين الأربعة، فهل يفيد الحديث العلم ويقطع بصحته أم لا ؟ فإن قالوا : نعم يقطع بصحته . قلنا : فتحديدكم للعدد غير صحيح . وإن قالوا : لا . قلنا:الحمد لله فقد كفى الله المؤمنين القتال .
فائدة لا يعرفونها : إن من مستلزمات القول بأن أدنى حد التواتر خمسة رواة ، يقضي بحرمة الإيمان بالقرآن الكريم ، إذ ثبت بالدليل القاطع أن القرآن جمع بأقل من ذلك كما يقرون بذلك هم أنفسهم ،فقد جاء بمجلتهم المعتمدة ( الوعي العدد 22 ص 13) تحت عنوان موقف الصحابة من خبر الآحاد في العقائد ما نصه : ( وهذا ما دل عليه فعل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجماعهم يوم جمع أحد أركان العقيدة الإسلامية القرآن الكريم في المصحف الإمام زمن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، فقد اشترطوا شروطاً وسلكوا طرقاً في جمعهم المصحف تبين بياناً واضحاً وقاطعاً بأن خبر الواحد والظن لا يمكن أن تقوم به عقيدة ، وهذه الشروط:(/3)
أولاً : اشترطوا عدداً معيناً يحصل القطع بنقلهم وهو ثلاثة ، زيد بن ثابت ، ورجلان آخران يشهدان ، وربما كان عمر مكان زيد أحياناً كما جاء في الروايات عنهم . أ هـ
ثم ساق روايات تدل على أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم اكتفوا بشهادة رجلين اثنين في تثبيت الآيات الكريمة في المصحف الشريف ، منها ما نقله عن خزيمة بن ثابت قال : جئت بهذه الآية:(لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ) . التوبة (128) إلى عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت رضي الله تعالى عنهما، فقال زيد من يشهد معك . قلت : لا والله لا أدري فقال عمر : أنا أشهد معك على ذلك .
ويظهر التناقض في عقيدتهم مما يلي:
قوله بأن الصحابة اشترطوا عدداً معينا يحصل القطع بنقلهم وهو ثلاثة ، وهذا النقل يخالف ما يتبناه هو لمخالفة شيخه له ، فشيخه يجعل أدنى حد التواتر خمسة أشخاص ، وهذا ينقل إجماع الصحابة على أن القرآن جمع بأقل من ذلك ، أي بأن القرآن جمع بخبر الواحد فهو على قولهم ظني الثبوت لا يجوز الإيمان به ، إذ يعتبر تقي الدين النبهاني رواية الأربعة من خبر الآحاد كما جاء ذلك في قوله :(ذلك أنه ثبت بنص القرآن الكريم أنه يقضى بشهادة شاهدين رجلين أو رجل وامرأتين في الأموال ، وبشهادة أربعة من الرجال في الزنا ، وبشهادة رجلين في الحدود والقصاص ، وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشهادة شاهد واحد ويمين صاحب الحق ، وقبل شهادة امرأة واحدة في الرضاع ، وهذا كله آحاد ) .المرجع نفسه
شبهة والرد عليها :
بعد أن بينت هذه القضية في كتابي ( الإيمان بخبر الآحاد سبيل الرشاد ) وقعوا في حيص بيص ، واخذوا يذودون عن هذا المعتقد الفاسد بشبهات لا تزيدهم إلا ضلالاً وإعراضاً عن الحق ومن هذه الشبهات :
أ: أن القرآن كان مكتوباً في صحائف كانت محفوظة عند الصحابة ، وما قام به أبو بكر هو جمع الصحائف التي قام اليقين على أنها من القرآن .
رد : 1 : هذا تعليل عليل ، وقول سقيم ،فإن المحفوظ عند الصحابة في الصحف ، بمثابة المحفوظ بالصدور ، فالصحابي الذي كتب ما سمع من الرسول صلى الله عليه وسلم في صحيفة ثم احتفظ بها عنده ، تعتبر كتابة رجل واحد ، أي تقوم مقام شهادة واحدة لا شهادتين ،وعليه فهي بحاجة إلى أربعة شهداء آخرون من أجل أن تبلغ حد التواتر ، وتثبيت الآيات بشهادة رجلين لدليل واضح على عدم اشتراط الصحابة رضي الله تعالى عنهم العدد المزعوم .
2 : لو كان الأمر ما ذهبوا إليه ، أي إن القرآن مكتوب عند الصحابة كلهم ، لاكتفى أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه بجمعه دون أن يعين أي شاهد ، فتعين أبو بكر رضي الله عنه شهوداً من أجل تدوين القرآن لدليل واضح على أنه اكتفى بشهادة رجلين ، فإن الآثار الواردة تدل على أن الصحابة كانوا يأتون الشهود فرادى ، وكان الشهود يدونون القرآن إذا شهدوا عليه وهم اثنان ، فيصبحون مع الذي جاء بالآية ثلاثة ، والثلاثة لا شك لا يبلغون حد التواتر على مذهبهم .
ب : قولهم : إن الآثار دلت على أن القرآن جمع بشهادة الخمسة ، ويعللون ذلك بما يلي :
إن أبا بكر رضي الله تعالى عنه عين كاتباً وشاهدين ، فيكون الكاتب واحداً ، فإذا أضفنا إليه الشاهدين يصبحون ثلاثة ، كذلك الرجل الذي جاء بالآية إذا أضيف إلى الثلاثة يصبحون أربعة ، والصحيفة التي جيء بها تقوم مقام الشاهد ، وعليه يكون القرآن جمع بشهادة خمسة شهود .
رد : أقول : سبحان الله ما أعظم ما يصنعه الهوى بأصحابه ، فهم يقومون على مثل ( عنزة ولو طارت ) . فصاحب المقال يقول بوضوح أولاً : (اشترطوا عدداً معيناً يحصل القطع بنقلهم وهو ثلاثة ) . المصدر نفسه . فلما وجهوا بحقيقة معتقدهم أخذوا يذودون عنها دفاعاً عن معتقدهم لا نصرة للحق ورجوعاً إليه ،ومع ذلك نبين خطأهم بما يلي:
1 : من المعلوم أن الكاتب لا يعتبر شاهداً على أصل المسألة ، بل يشهد على أن الشاهد شهد عليها من خلال تدوينه لها ، فشتان بين أن يشهد على المسألة ، أو أن يشهد على أن الشاهد شهد عليها .
2 : إن تدوين الآية وكتابتها بنسخة لا تخرج عن كونها مكتوبة لكاتبها ، فهي لا تعتبر دليلاً بذاتها ، بل تعتبر بالنسبة لحال صاحبها ، فإن كان صاحبها ثقة ، قبلت منه ، وإن كان غير ذلك ردت عليه ، فأما أن تعتبر شاهداً بذاتها دون النظر إلى حال صاحبها ، فهذا قول لا يقول به إلا من عميت بصيرته عن الحق المبين .
3 : إن الأثر عن خزيمة بن ثابت رضي الله تعالى عنه يدل بوضوح على أنه اكتفي بشهادته وشهادة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما على تثبيت الآية ،وعليه فإنه لم يدل دليل صحيح على أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم اشترطوا في جمع القرآن شهادة خمسة أو أربعة .(/4)
ملاحظة : المدقق في قول صاحب كتاب الشخصية يجد أنه ذهب إلى أن شهادة الأربعة لا يثبت بها عقيدة لاحتياجهم إلى تزكية إذ جاء في قوله : (: ( فكل ما يصدق عليه من العدد من الجمع يعتبر متواتراً . ولكن لا يجوز أن يكون أقل من خمسة ، فلا يكفي أربعة ، لأن الأربعة يحتاجون إلى تزكية في حالة جهل حالهم إذا شهدوا بالزنا ) . المصدر نفسه
فانظر إلى هذا التعليل العليل ، وما يفهم من معناه : أن الأربعة يحتاجون إلى تزكية في حالة جهل حالتهم ، ولذا لا يفيد نقلهم العلم ، فهل الخمسة لا يحتاجون إلى تزكية في حالة جهل حالهم ؟ سبحانك ربي سبحانك ، فإنه من المعلوم ضرورة أنه من جهلت حالتهم لا يقبل خبرهم سواء كانوا أربعة أو أكثر أو أقل ، فالقضية ليست منوطة بعدد معين ، بل في النظر بحال الناقل ، فإن كان الناقل ثقة قبل خبره ، وإن كان الناقل غير ثقة ردت روايته ، ولا عبرة في العدد ، ومن قال بخلاف ذلك فليأتنا بسلطان مبين . وأما القول بأن العدد إذا زاد عن أربعة أمن تواطؤهم على الكذب ، فأقول : هذا محض جهل فقد اجتمع الكافرون على تكذيب الرسل وهذه قضية لا ينتطح بها كبشان وعليه فالعبرة بحالة الناقلين لا بعددهم .
خامساً : إن الأدلة الشرعية جاءت على خلاف زعمهم ، فقد دلت النصوص على قبول شهادة الواحد إن كان ثقة في العقيدة والأحكام قال تعالى : ( وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) . التوبة (122)
ولفظ طائفة يقع على الواحد والجماعة ، والإنذار يشمل ما أنزل الله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عقيدة وأحكاماً والتفريق بينهما يحتاج إلى دليل نصي ، وكذلك قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ) . الحجرات (6)
دليل واضح على أن الناقل إن كان ثقة لا يتثبت من روايته . ومن باب آخر ، فقد تواتر النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يبعث الآحاد إلى البلدان من أجل تبليغهم الدين ودعوتهم إليه ، ومن المعلوم أنهم كانوا يدعونهم إلى اعتناق الإسلام التي تقوم العقيدة عليه ، ولو كانت العقيدة لا تثبت بهذا النقل ، لما اكتفى صلى الله عليه وسلم بإرسال الآحاد ، ولكان يرسل الجماعات التي لا يقل عددها عن خمسة كي تتحقق المصلحة وتقوم الحجة ، وعدم ثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، لدليل واضح على عدم إرادته ، وخطأ القائلين به .
وأما تعليل تقي الدين النبهاني في عدم قبول خبر الواحد في العقيدة دون الأحكام ، كما جاء ذلك عنه في كتاب الشخصية ص 148 ج3 الطبعة الثانية : ( لا يقال إن قبول تبليغ خبر الآحاد قبول عقيدة لأن تبليغ الإسلام قبول خبر وليس قبولاً لعقيدة ، بدليل أن على المبلغ أن يعمل عقله فيما بلغه ، فإذا قام الدليل اليقيني عليه اعتقده وحوسب على الكفر به ،فرفض خبر عن الإسلام لا يعتبر كفراً ولكن رفض الإسلام الذي قام الدليل اليقيني عليه هو الذي يعتبر كفراً ) . أ هـ
فهو تعليل يقوم على أمور تدل على حقيقة معتقدهم وأنه يقوم على العقل لا النقل وإليك التفصيل :
1 : تقوم عقيدة حزب التحرير على العقل لا النقل ، ويتضح ذلك من قول شيخهم : (بدليل أن على المبلغ أن يعمل عقله فيما بلغه ) . فالعبرة إذن ليست بالعدد أو غيره بل بحكم العقل على صحته ، فإن حكم العقل بصحة النقل قبل النقل وإن لم يبلغ حد التواتر ،وهذا المعتقد ليس هو ما يعتقده أهل السنة والجماعة ، بل هو مذهب المعتزلة ومن نحى نحوهم من أهل الكلام الذين يقدمون العقل على النقل .
2 : تعريفهم للإسلام ، فهم يعرفون الإسلام بأنه :مبدأ ،ويعرفون المبدأ :بأنه عقيدة عقلية ينبثق عنها نظام ، ويعرفون العقيدة بأنها : تصديق جازم مطابق للواقع عن دليل ،ومرادهم من القول موافق للواقع أي موافق للعقل لأن أصل عقيدتهم مبني على العقل وقد سبقت الإشارة إلى تعليل شيخهم بعدم قبول خبر الواحد لعدم قيام الدليل العقلي عليه .
3 : قوله بأن رفض خبر عن الإسلام لا يعتبر كفرا ، ولكن رفض الإسلام الذي قام الدليل اليقيني عليه هو الذي يعتبر كفراً ، وهذا القول منطلق من التفريق بين الإسلام ككل ، وبين المسائل الداخلة في الإسلام ، وذلك أن الإسلام كدين قام الدليل اليقيني على صحته ، أي حكم العقل على أنه دين صحيح ، ولكن العقل لم يحكم على كل مسألة من مسائل الإسلام ، فكانت المسألة التي لم يقم عليها الدليل العقلي مسألة فرعية لا يكفر الإنسان بردها ، على خلاف رد الإسلام ككل ،فتدبر ذلك جيداً تعرف أحوال القوم .(/5)
فائدة : إن حقيقة الخلاف القائم بين أهل السنة والجماعة ، والمتكلمين ، هو مسألة تقديم العقل على النقل ، فأهل السنة والجماعة يقدمون النقل على العقل ، ويخضعون العقل للنقل ، على خلاف المتكلمين ، فهم يخضعون النقل للعقل ، فأي مسألة حكم العقل بصحتها آمنوا بها وإن كانت ظنية الثبوت ، وأي مسألة لم يحكم العقل على صحتها ردوها إما تأويلاُ ، وإما تعطيلاً ، والمتأمل في ذلك يعلم أن حزب التحرير لا يعتقد معتقد أهل السنة والجماعة ، بل معتقد الفرق التي خرجت عن أهل السنة والجماعة ، وعليه فما يدعو إليه من كون خبر الواحد لا يفيد العلم ، هو معتقد المتكلمين وليس معتقد أهل السنة والجماعة .
سادساً : إن من المضحك المبكي ، أن هؤلاء القوم حرموا على الناس الإيمان بخبر الواحد لأنه قائم على الظن ، وما درى هؤلاء أن الظن الذي حذروا الأمة منه ، هو عين ما وقعوا فيه ، فإن اشتراطهم عددا معيناً لإفادة اليقين ، اشتراط غير مبني على دليل ، بل قد قام الدليل على خلافه ، ومن المعلوم أن إثبات مسألة من مسائل العقيدة تحتاج إلى دليل قطعي ، فأين دليلهم الظني على ذلك ؟ ناهيك عن إتيانهم بالدليل القطعي ، فالمسألة التي أصلوا عليها مسألة مفتقرة إلى الدليل أي لا يستطيعون أن يأتوا بحديث أو آية أو إجماع على أن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجوز الإيمان بها إلا إذا تحقق فيها أدنى حد التواتر وهو خمسة رواة في كل طبقة من طبقات الحديث ،ومن المعلوم أن ما كان أصله ظناً فلن تكون نتائجه قطعية ، وعليه فهم في قولهم هذا متبعون للظن الذي حذروا الناس منه ، فهلا علموا ذلك !!!
سابعاً : إن مذهب القائلين بعدم اعتبار خبر الواحد في العقائد ، يؤدي إلى تقسيم الدين من حيث الثبوت إلى قسمين عقيدة وأحكام، واشترطوا في العقيدة ما لم يشترطوه في الأحكام ، مما يؤدي ذلك إلى فصل العقيدة عن العمل ، والعمل عن العقيدة ، أي ما كان متعلقه التصديق فلا يدخل العمل به ، وما كان متعلقه العمل لا يدخله التصديق ، وهذا القول بناء على مذهبهم الباطل الذي يفرقون به بين الإيمان والعمل ، ويظهر ذلك جلياً من خلال تعريفهم للعقيدة إذ هي عندهم : ( تصديق جازم موافق للواقع عن دليل ) . فلا يدخلون العمل في الإيمان ، أو الإيمان في العمل ، وعليه يوجبون العمل بالأحكام الشرعية وإن تجرد عن الإيمان ، وهذا معنى قولهم : ( نصدق ولا نؤمن ) أي نصدق بأن خبر الواحد ثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نؤمن به ، ونوجب العمل به ، فهنا أصبح تفريق بين التصديق والإيمان ، وبين العمل والتصديق ، فعندهم العمل شيء ، والتصديق شيء آخر والإيمان شيء ثالث ، والشاهد الذي نريد أن نصل إليه هو :
أنهم يفرقون بين التصديق والإيمان ، فهم يصدقون بخبر الواحد إن صح سنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكنهم لا يؤمنون به ، فهم يقرون بأن هذا الحديث قاله الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأن العمل به واجب إن كان متعلقاً بالأحكام الشرعية ، وأن الذي لا يعمل به يكون آثماً ، ولكنهم في الوقت ذاته يقولون : إن الإيمان بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قاله لا يجوز ، فما هو التصديق وما هو الإيمان عندهم ؟ أما الإيمان فهو التصديق الجازم ، إذن فالتصديق يكون غير جازم ، والجزم لفظ يدل على صحة الثبوت ، وعدم الجزم شيء يدل على عدم الثبوت ، وعليه يكون القوم إما مؤمنين بما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالعقيدة ، وإما غير مؤمنين ، وبلا ريب أنهم غير مؤمنين ، إذن فهم واقعون في دائرة الشك ، إذ إن التصديق غير الجازم يكون فيه شيء من الشك وعليه فالقوم يتخبطون في مسألة لا يعرفونها ، فلو سألت أحدهم ما الفرق بين التصديق والإيمان فيما يتعلق بالعقيدة ، فلن تجد عنده جواباً يعول عليه .
ثامناً : إن الأخذ بقولهم الباطل يؤدي إلى مخالفة أهل السنة والجماعة في معتقدهم في كثير من القضايا التي قام الإجماع عليها ،كمسائل عذاب القبر ، والصراط ، ونزول عيسى عليه السلام ، وإثبات الشفاعة للرسول صلى الله عليه وسلم ، وسؤال الملكين ، وغيرها من المسائل التي دلت عليها الأحاديث الصحيحة التي لم تصل أسانيدها حد التواتر بالضوابط التي وضعوها، ولا شك أن كل من خالف ما قام عليه الإجماع يعتبر آثماً لقوله تعالى : ( وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً ) . النساء (115)
فاتباع سبيل المؤمنين شرط أساسي في صحة العمل واعتباره ، بل إن إتباع سبيل المؤمنين ، هو الضابط الأصلي للحكم على الأعمال من حيث الصحة والبطلان ، وما جاء ثابتاً عن علماء الأمة المعتبرين من أهل السنة والجماعة ، هو إيمانهم بهذه الأمور وغيرها ، وعليه فإن مخالفتهم في ذلك هو خروج عن اتباع سبيل المؤمنين الذي توعد الله سبحانه كل من خالفه.(/6)
وبناء على ما قدمنا ، فإن القول بعدم الإيمان بخبر الواحد في العقيدة ، قول لا دليل عليه ، بل الأدلة على خلافه ، وإن العلة التي تعللوا بها على عدم جواز الإيمان بخبر الواحد هو وقوع في الظن الذي ذم الله سبحانه الكافرين على اتباعه ، وجعلوا العامل في الظن واليقين العدد ، وقد حددوه بخمسة رواة في كل طبقة من طبقات سند الحديث ، وقولهم هذا مبني على الاجتهاد المحض غير المبني على دليل من الكتاب والسنة ، بل لو كان المقصود بالظن العدد ، لخرج الكافرون اتباع الظن عن الأمر ، إذ لم يقيموا معتقداتهم على خبر الواحد ، بل قد أخذوا عقيدتهم الفاسدة عن تواتر نقل لهم عن تواتر قال تعالى حاكياً عنهم : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ) .البقرة (170)
فالكافرون أخذوا عقيدتهم عن تواتر فهم على دين آبائهم ، ومع ذلك فهم أتباع للظن ،وعليه تعلم أخي يقيناً بأن اليقين والظن لا علاقة له بالعدد، إنما بما يتحفه من القرائن ، فإن قامت القرائن على صدق من ينقل الأخبار وجب تصديقهم وإن لم يبلغوا العدد المشار إليه ،وإن قامت القرائن على كذب من ينقل الأخبار ، فلا يصدقون وإن كانوا مئات كما هو واقع الكافرين ، ومن باب آخر لا يخفى عليك أن الظن الذي اتبعه الكافرون قائم على الكذب والتخمين ،لا على خبر الواحد وغيره ، مما يجعلك توقن بخطأ ما ذهب إليه القوم.
وفقنا الله جميعاً للعمل بما يحبه ويرضاه
واصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين
وكتب : إبراهيم بن عبد العزيز بركات
8 محرم 1426 هـ
تم تنزيل هذه المادة من
شبكة أهل السنة الإسلامية
http://www.asunnah.net(/7)
حول آثار الفضائيات على المتدينين د. أنس ابن عوف عباس*
إن الخطاب الدعوي الناهي عن اقتناء الأطباق الفضائية متمثلا في الفتاوى والمحاضرات والنشرات هو في غالبه – وكما تُشعر كلماته وتُوحي عباراته – موجّه إلى الفئات ضعيفة التدين؛ والتي تسعى إلى الفضائيات غير عابئة بأضرارها وأخطارها!!.. فقد تجد من يعلل التحريم مثلا بعرض مشاهد الجنس المكشوف، أو التنصير الصريح، أو يربط مباشرة بين الجلوس بين يدي الفضائيات وبين الوقوع في الفاحشة، أو اعتناق العقائد الباطلة!.
إن هذا الخطاب وإن كان صالحا لكثير من الناس إلا أنه يعود بأثر عكسي على بسطاء المتدينين الذين يعتقدون أنهم إن تجاوزوا هذه المحرمات الصارخة فهم في مأمن؛ وليس هذا من الصحة في شيء.. لهذا تجد من المحافظين من لا يرى غضاضة في متابعة القنوات التي يبثها القمر العربي باعتبارها (أنظف) ما يحمله الأثير من الفضائيات الآسنة.
إن نظرة متأنية تمكننا من تصنيف المواد التي تعرض في هذه القنوات (النظيفة) إلى أقسام ثلاثة:
- مواد ضارة محرمة..
- ومواد مطلقة النفع، خالصة الإباحة؛ لا تشوبها شائبة من ضرر، ولا يتطرق إليها تحريم بوجه من الوجوه..
- ومواد يختلط بها السم بالدسم، ويشتبه فيها الشحم والورم!!..
ولا أظن شيئا مما يطل عبر الشاشة الفضية بخارج عن هذا التصنيف!!.. فتمثيليات الحب والغرام، وسائر المعازف تندرج تحت القسم الأول..
وبعض البرامج (الدينية)، وقليل من البرامج التعليمية تمثل القسم الثاني..
أما القسم الثالث فيشمل البرامج الرياضية، والإخبارية.. وأكثر ما يوصف بأنه هادف، أو تعليمي، أو أحيانا.. ديني .. لماذا؟!.. لأن غالب برامج هذا القسم وإن كانت في حد ذاتها باقية على أصل الإباحة إلا أنها لا تعزُف عن المعازف، ولا تُتصور بغير صور النساء – ولا أعني بالضرورة الصور العارية – إلى غير ذلك مما نص الكتاب والسنة، وأجمع علماء الأمة على تحريمه.
وهذه المواد المختلطة لا بد للسلامة منها من تجنب المحاذير فيها؛ كإيقاف الصوت عند الفواصل الموسيقية، وغض البصر عند ظهور المذيعة في البرامج الإخبارية مثلا.. ولا شك أن المحافظة على مثل هذا في غاية العسر.. وعجز المشاهد عن ذلك يوجب تركها بالكلية؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.. فلا يبقى عندئذ إلا بعض البرامج التعليمية والدينية التي قد خلت مما سبق من المحاذير، وخلت كذلك من التضليل للأمة في أفكارها ومعتقداتها، والتلبيس عليها في قدواتها ومصادر تلقيها!!..
وكم تمثل نسبة هذا النزر اليسير من البرامج الخالصة في ركام الأفلام، وغُثاء الغناء؛ حتى يبذل الجهد والمال في الحصول عليه، ويخاطر بالنفس والعيال في الوصول إليه!.
إن المقتني لهذا البلاء، والجالب لهذا الوباء - وإن حرص بسبب ما لديه من ديانة على تحاشي فادح ضرره، وتفادي سيء أثره - من أجل سماع الأخبار ومشاهدة الدنيا فإنما مثله كمن أتى بحيّات رقطاوات؛ ناقع سمّها؛ وأسكنها بيته؛ لتخلّصه من الفئران؛ فما أسرع ما تنهشه وعياله عند أدنى غفلة!!..
إن العاقل لا يجلب الخمر إلى بيته مهما كان عالما بضررها، واثقا من عزوفه عنها؛ فكيف إذا وضعها على مائدته، وعلى رأسها دعاة إليها؛ يزينونها، ويحسنونها؟!.. لأنه معرض في كل لحظة يغفل فيها لأن يصيبه منها شرر.. بل لأن تحرقه؛ فلا تبقي ولا تذر!.
إنه من العسير القريب من المحال على المشاهد مهما كان حريصا أن يقلّب القنوات الفضائية بحثا عن الحلال الزلال دون أن تلتقط أذنه، أو تقع عينه – من غير تعمد – على قاذورة مما تعج به هذه القنوات، أو أذى مما تطفح به!!..
إنه سيشعر في بادئ الأمر بوخزة تؤلم قلبه، وحرارة تحرق حشاه مع كل لحظة يأباها دينه، وكل لفظة ترفضها مبادئه، ثم ما يلبث الألم أن يخفت، والحرارة أن تزول شيئا فشيئا وإن ظل يحاول الغض من بصره وسمعه فإن كثرة المساس يقلل الإحساس، وقطرات المطر على مرور الأيام تنحت الصخر، وتقد الجبل!.
إن من أدنى آثار الفضائيات - التي يشترك فيها مشاهدوها جميعهم؛ برهم وفاجرهم؛ وهي من أعظم الأضرار على الدين في الوقت نفسه - ضرر التعوّد!!.. فالتعوّد على رؤية ما لم يكن يرى، وسماع ما لم يكن يسمع - حتى لو لم يجلس لمتابعته - يضعف في قلبه - بمرور الزمن - الغَيرةَ على الدين، والحماسة لتغيير المنكر.. وربما كرّس في نفسه اليأس من الإصلاح، والزهد فيه!!.. وهذا من الخطورة على المتدينين بمكان!!.. وما أظن من ينكر حصول التعوّد إلا دافنا رأسه في الرمال؛ فكل المشاهدين واقعون في حبائله؛ غير أن منهم مستقلا، ومستكثرا، كما أن المنكرات تتفاوت بدءا من الفاصل الموسيقي في النشرات الإخبارية؛ وصولا - ولا أقول انتهاءا - إلى ما يعف عنه القلم، ويحتبس عنه المداد!!.. إن هذا الأثر هو تدمير للجهاز المناعي للمسلم ضد المنكرات..(/1)
إن من آثار الفضائيات على المتدينين أيضا أثرا لا يتنازع فيه اثنان؛ ومع ذلك يستهان به.. إنه الأثر الذي يبدأ به الشيطان (مشواره الفني)!!.. ألا وهو (التعرف على أنواع من الشر في شتى صوره وأشكاله، وعلى نماذج تفصيلية للانحراف الديني والخُلُقي؛ قد تُعرض في غلاف النقد، وتشاهد في جوّ من الاستياء، أو يُعرض عنها في اشمئزاز مصحوب بالاستعاذة والحوقلة).. ثم ماذا؟!.. تبقى ثقافة الجريمة، وفلسفة الانحراف رواسب في الأذهان – دون مقارفة – تُلوّث الفطرة، وتخدش البراءة، وتسلب الغفلة المحمودة، المذكورة في مثل قول البارئ جل وعلا: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النور:23)!!..
إن الاطلاع على حال العصاة والمجرمين، وما بلغوا في الفساد والانحراف يهوّن على المطّلع شأن الذنوب والمعاصي، ويحقرها في عينه!!..
وفي مقابل ذلك فإن الغفلة عن سبل المعاصي وأشكالها، وعدم تصوّرها هما أول حاجز عنها، وأقوى مانع من غشيانها!!.. إن هند بنت عتبة لم تتصوّر وقوع الزنا من الحرائر؛ فكان سؤالها الاستنكاري ساعة البيعة: (أو تزني الحرة؟!!)..
الأثر الثالث من آثار الفضائيات على المتدينين: اختلاف زاوية النظر، بل انحرافها؛ وفقدان الحياد؛ أعني بذلك أن الواحد من الناس يكون مُقرّا بخطر الفضائيات، مُعترفا بضررها؛ بل قد يكون حربا عليها؛ فإذا اقتناها هو نفسه يوما من الأيام لسبب أو لآخر - ولو مُكرها - فإن نظرته تتأثر؛ فتراه يتحدث عن المصالح والإيجابيات؛ ويتحاشى الحديث عن الأضرار والسلبيات.. وإن ذكرها فبذكر عابر، أو طرقها فبطرق فاتر.. وقد يضيق صدره؛ولا ينطلق لسانه عندما يسمع الفتاوى المصرّحة بالتحريم، والمحذرة من الخطر الوخيم!!.. ومن كان في هذه الحالة فلن تعجبه هذه المقالة!.
إن هذه الآثار الثلاثة قد تبدو هينة؛ غير ذات بال.. إلا أن أهميتها، وخطورتها ناشئة من أمرين:
أحدهما حتمية تأثر المتدينين من مشاهدي الفضائيات بها؛ بينما هم يظنون أنهم بانتقائيتهم، وحرصهم سالمون، غانمون؛ وهم في الحقيقة غارمون.. ويحسبون أنهم على ساحل السلامة؛ وهم في لُجّة مخوفة.
الأمر الثاني أن هذه الآثار ذرائع إلى ما هو أشد، ووسائل إلى ما هو أخطر.. وإنما هي خطوة في درب موحش، ومرحلة في سبيل غير محمودة العاقبة!.
وليست هذه هي كل الآثار على المتدينين؛ فهناك مثلا أثر مشاهدة القُصّر في البيت للقنوات عند غياب الرقابة؛ وما يتبع ذلك من تدمير الأخلاق، ونسف التربية!!..
وهناك كذلك أثر القدوة السلبية التي تتمثل في اقتداء الآخرين بهؤلاء المُبتلين، وتأسّيهم بهم؛ فكيف تمنع من اقتناء الأطباق وقد اقتناها فلان وفلان من الصالحين؟!..
وهناك أيضا أثر تضييع الأوقات، واستغراق الأعمار في ما هي أغلى منه، إلى آخر ما هنالك.
أما سائر الآثار التي تساق، والأضرار التي تذكر في العادة فيقع فيها غالبا أولئك الذين ليس لهم دين وازع، ولا ضمير ممانع؛ فيتلقفون في شراهة كل ما تتقيؤه الفضائيات!؛ لسان حالهم وهم عليها عكوف!: وجهت وجهي إليك.. وأسلمت نفسي إليك.. وفوضت أمري إليك!!.. فليست هذه السطور موجهة إليهم، ولا مؤثرة عليهم. أسأل الله العافية من كل بلاء، والسلامة من كل داء، والعصمة من الغواية، وسلوك سبيل الهداية.. وصلى الله على نبينا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(/2)
حول إجهاض الجنين
الاِجهاض إلقاء حمل ناقص الخلق بغير تمام، سواء من المرأة أو من غيرها، وكثيراً ما يعبر عن الاِجهاض بالاسقاط أو الطرح أو الالقاء، وفي المقام مطالب ننقلها عن الاَطباء:
1 ـ الثابت في علم الاجنّة أنّ الحياة موجودة في الحيوان المنوي قبل التلقيح وموجودة في البويضة قبل الالتقاء، وقد يلتقي الحيوان المنوي والبويضة ويسفر عن ذلك حمل عنقود وليس إنساناً، والحمل العنقودي ليس جنيناً، وانما مجرد خلايا لا تكون في مجموعها أي شكل من الاَشكال وانما شكلها شكل عنقود العنب، وبعد فترة من الزمن يتقلص الرحم ويطرد هذا المحتوى، ولكن ليس فيه ما يدلّ على الاِنسان أو على صورة الاِنسان أو على الحياة، وهو أيضاً نتيجة التقاء الحيوان المنوي بالبويضة.
2 ـ فترة الانشاء ـ يعني به قوله تعالى: (ثم انشاناه خلقاً آخر)ـ
حسبما رأيناه في الفيلم أنّه في الاسبوع السادس أو السابع بعد الفترة من الاسبوع الاَوّل إلى الاسبوع السادس كانت مجموعة من الانسجة لم تظهر بالفيلم وإنما ظهر لنا من بعد الاُسبوع السادس، وبعد الاَربعين يوماً بدأ يتخلق، بدأ يظهر الرأس وتظهر الاَطراف، بدء خلق آخر... (و) من بعد الاُسبوع السادس ما هو إلاّ نمو وليس تكويناً جديداً.
3 ـ إنّ الجنين يتحرّك ويتحرك من قبل نهاية الشهر الرابع بزمن طويل ولكن السيدة لا تحس به لاَنّ الكيس المائي الذي يسبح فيه يكون في البداية كبيراً فسيحاً بالنسبة لجسمه الصغير، ويمر زمن حتى يكبر الجنين فيستطيع لكماته وركلاته أنْ تطال جدار الرحم فتشعر بها السيدة بعد أربعة أشهر حمليته، بل إنّ لدينا الآن من الاجهزة ما نسمع به دقات قلب الجنين وهو في الاُسبوع الخامس، ولدينا من الاجهزة مانرصد به حركة الجنين حتى من قبل ذلك....
وقيل: إنّ الحركة متصلة قبل ذلك، لاَنّ الخلايا منذ المراحل الاُولى في حركة، حتى إنْ لم ترها الاجهزة لاَن الخلايا تتحرك وترتب نفسها إلى آخره.
4 ـ مبررات الاجهاض في الغرب قد اتسعت حتى بلغت خاتمة المطاف بالاجهاض حسب الطلب!!! ومن المبررات الدواعي الطبية، لكن وسع في بعض البلاد مدلولها فبدأت بالخطر على حياة الاُمّ ان استمر الحمل، ثم الخطر على صحتها، ثم على صحتها الجسمية أو النفسية ثم عليها في الحاضر وفي المستقبل المنظور، ثم على الصحة الجسمية أو النفسية لاَفراد الاُسرة الآخرين بما فيهم الابناء الشرعيون أو الابناء بالتبني، ويدخل فيها الدواعي الجنينية كالحالات التي يتيقن أو يترجح فيها ان الجنين مصاب بمرض أو عاهة أو مات فعلاً.
ومنها الدواعي الانسانية كالحمل الناتج عن الاغتصاب أو وقاع القاصرة أو المجنونة.
ومنها الدواعي الطبية الاجتماعية كغزارة الانجاب أو تقارب الولادات والآثار الجسمية أو النفسية التي لا ترقى لدرجة المرض.
ومنها أيضاً صغر السن أو كبره.
5 ـ ربما اُبيح الاجهاض كوسيلة لتحديد النسل ولتخفيف حدة الانفجار، فزاد عدد حالات الاجهاض القانوني من ربع حالات الحمل ثم جاوزها في بعض الدول، ورأت الدولة ان الامة تمارس لوناً من الانتحار بالانقراض! ولا حاجة إلى تفصيل هذا البحث.
6 ـ تظهر الحقيقة في إباحة الاجهاض من كلام بعض الاَطباء، حيث أعلن في الاذاعة البريطانية أنّ قانون الاجهاض الجديد قد احتضنته مجموعة من المشاغبين قليلة العدد ولكن قوية التنظيم غزت الرأي العام بالدعاية المغرضة المحرفة وسخروا الصحافة في غسل مخ الاُمة بشعار الاجهاض حسب الطلب، وباموال مجلوبة من الخارج طبعوا وروجوا كتيباً يشرح القانون الجديد باسلوب مغرض... وعندما عرضنا المساهمة في البحث قال أحد اعضاء البرلمان: نحن هنا لنشرّع لنسمع لآراء الفنيين.
7 ـ الآثار المباشرة لتنفيذ قانون إباحة الاجهاض.
أولاً: زيادة مضطردة في حالات الاجهاض لدرجة شغلت من اسرة المستشفيات ومن وقت الاطباء الاختصاصيين ما عطل علاج المريضات بالامراض الاُخرى.
ثانياً: كان من بين النساء المجهضات 44 بالمائة فقط متزوجات وأما الـ 56 المائة الباقية فكانت احمال سفاح في بنات (37 بالمائة) أو مطلقات وارامل (9 بالمائة)، وفي أمريكا بلغت نسبة حمل السفاح بين المجهضات درجة أعلى من ذلك، فقانون إباحة الاجهاض انما يلبي الحاجة إلى السفاح.
ثالثاً: كانت ثلاث مستشفيات خاصة في لندن ـ وبطبع الحال في جميع المدن الكبيرة الغربية أو معظمها ـ تجري من الاجهاضات أكثر مما تجريه مستشفيات منطقة لندن المجانية الحكومية...، وهذا يدلّ على مدى الاستغلال التجاري للاجهاض.
رابعاً: رغم إباحة موانع الحمل وإباحة الاِجهاض فقد زادت نسبة
ولادات السفاح إلى الولادات الحلال زيادة كبيرة... مما يدلّ على أنّ لب القضية هو تفشي الاِباحة الجنسية.
إذا علمت ما حكاه الاَطباء المسلمون الخبراء حول الاجهاض وبعض حالات الجنين فهنا مطالب لا بد من ذكرها:
(المطلب الاَوّل) حول نظر الدين في حالات الجنين.(/1)
1 ـ قال الله تعالى: (يا أيها الناسُ إنْ كنتم في رَيبٍ من البعث فإنّا خلقناكم من تراب ثُمّ من نطفةٍ ثُم من علقةٍ ثُم من مضغةٍ مخلّقةٍ وغير مخلّقةٍ لنبّين لكم ونُقِرُّ في الاَرحام ما نشاء إلى أجلٍ مسمّى ثُمّ نخرجُكُم طفلاً...) (الحج 5)
2 ـ وقال تعالى: (ولقد خلقنا الاِنسانَ من سُلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقةً فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين) (المؤمنون 12 ـ 14).
ومدلول الآيتين أنّ مراحل الحمل أو الجنين في الرحم هي:
1 ـ كونه نطفة.
2 ـ ثم كونه علقة.
3 ـ ثم كونه مضغة. (وان لم نفهم معنى كونها مخلقة وغير مخلقة كما أُشير في الحاشية).
4 ـ ثم كونه عظاماً ولعله على وجه اشرنا اليه في الحاشية.
5 ـ ثم كسو العظام لحماً (أي كونه ذا عظام مستورة باللحم).
6 ـ إنشاءه خلقاً آخر (أي نفخ فيه الروح فصار حياً بحياة إنسانية على ما ذكرنا في الحاشية).
ولم يوقّت القرآن هذه الحالات المترتبة بوقت معين، فإذا ثبت في علم الطب وعلم الاَجنة ثبوتاً حسياً أو قطعياً تحديدها فالاَخذ به لا ينافي القرآن كما هو واضح.
نعم قد يقال: إن الطب ينكر صيرورة النطفة علقة ومضغة، بل هي تنقلب إلى كتلة من الخلايا فتنموا حتى تكتمل وتصير بدن انسان.
لكن بعض المؤمنين في لندن أتحفني بشريطة ويدوية وقال: إنّ عالماً من كندا اعترف أنّ ما ذكره القرآن حول حالات الجنين هو المطابق للمشاهدة الحسية، فانا اؤمن بأن القرآن كلام الله لكنني لا أتدين بدين الاِسلام ولا أرجع عن ديني، فإنّ أهلي من الاساقفة!
وانا أردت ترجمة كلامه لكن صوت الشريط لم يكن حسناً فما قدرت على فهم كلامه تفصيلاً.
وبالجملة: رغم سعيي في باكستان لمشاهدة فيلم في ذلك لم اعثر عليه فما دام لم أرَ الفيلم لا استطيع الكلام حول هذا الاِدعاء نفياً أو إثباتاً.
وأمّا الاَحاديث فإليك ما وجدت منها من غير ما هو ضعيف سنداً:
1 ـ صحيح البزنطي المرويّ في قرب الاسناد عن الرضا عليه السلام ...: إنّ النطفة تكون في الرحم ثلاثين يوماً، وتكون علقة ثلاثين يوماً، وتكون مضغة ثلاثين يوماً، وتكون مخلقة وغير مخلقة ثلاثين يوماً، وإذا تمت الاَربعة أشهر بعث الله تبارك وتعالى ملكين خلاقين يصورانه ويكتبان رزقه
وأجله شقياً أو سعيداً. ص154 ج5 بحار الاَنوار.
أقول: مضافاً إلى عدم فهم كونه مخلقة وغير مخلقة حتّى يفهم جعل ثلاثين يوماً لهما يرد عليه ان عدد الثلاثين يخص هذه الرواية ولا يوجد في غيرها وكأنه شاذ على أنْ السند وإن كان صحيحاً لكن الظاهر عدم وصول نسخة قرب الاِسناد ـ وهو مصدر الحديث ـ إلى المجلسي رحمه الله مؤلّف البحار بسند متصل صحيح وانما ينقل عنه بالوجادة كما سنح لي أخيراً، فلا تكون الاَحاديث المنقولة منه في البحار والوسائل بمعتبرة.
2 ـ معتبرة الحسن بن الجهم المرويّ في الكافي (ج6 ص13) قال: سمعت أبا الحسن الرضا عليه السلام يقول: قال أبو جعفر عليه السلام : إنّ النطفة تكون في الرحم أربعين يوماً ثم تصير علقة أربعين يوماً ثم تصير مضغة أربعين يوماً، فإذا كمل أربعة أشهر بعث الله ملكين خلاقين فيقولان: يا رب ما تخلق ذكراً أو انثى؟» فيؤمرون...
3 ـ صحيح زرارة الطويل المرويّ في الكافي (ج6 ص13) عن أبي جعفر عليه السلام ...: فتصل النطفة إلى الرحم فتتردّد فيه أربعين يوماً (صباحاً خ)، ثم تصير علقة أربعين يوماً، ثم تصير مضغة أربعين يوماً، ثم تصير
لحماً تجري فيه عروق مشتبكة، ثم يبعث الله ملكين خلاقين يخلقان في الاَرحام ما يشاء الله، فيقتحمان في بطن المرأة من فم المرأة فيصلان إلى الرحم ـ وفيها الروح القديمة المنقولة في اصلاب الرجال وأرحام النساء فينفخان فيها روح الحياة والبقاء ويشقان له السمع والبصر وجميع الجوارح وجميع ما في البطن باذن الله، ثم يوحي الله إلى الملكين اكتبا عليه قضائي ونافذ أمري...
وفي صحيح آخر لزرارة ـ بل هو مختصر حديثه الطويل المتقدم ظاهراً ـ: ثم يبعث الله ملكين خلاقين فيقال لهما: اخلقا كما يريد الله ذكراً أو اُنثى (ج6 ص16 الكافي).
بقى اُمور. مما يتعلق بهذه الاَحاديث المذكورة هنا وفي آخر المسألة المتقدّمة:
(الاَوّل): إنّ الاَحاديث لم تذكر لحالة العظام وكسوها لحماً مدّة كما ذكرتها لحالة كون الجنين نطفة وعلقة ومضغة، بل بعضها أهملهما أساساً، وهذا عجيب.
مشتبكة داخلة في زمن كونه مضغة كما تقدم في صحيح محمّد بن مسلم في آخر المسألة السابقة وقد يتوهم ان ظاهر قوله تعالى: (فخلقنا المضغة عظاماً وكسونا العظام لحماً) يوافق هذه الصحيحة دون صحيحة محمّد بن مسلم. لكنه ممنوع كما لا يخفى.(/2)
ولعله إشارة إلى الحياة الكامنة في الحيوان المنوي والبييضة كما هي غير بعيدة وهذه الجملة خير مسكن للاَطباء الذين يدعون ان حياة الجنين قبل تمام أربعة أشهر لم تكن معلومة في الاَزمنة السابقة. قال بعض الاَطباء: الحقيقة ان الحياة متصلة ليست في الحيوان المنوي والبويضة فقط، لكن من خلق آدم الى يوم القيامة متصلة باستمرار لم تنقطع أبداً، خلق النطفة هو اتحاد هاتين... ص284 الانجاب في ضوء الاسلام.
(الثاني): ظاهر صحيح محمّد بن مسلم السابق أنّ شق السمع والبصر وترتيب الجوارح بعد خلقة العظام، وظاهر معتبرة ابن الجهم أنّ خلق ما يتحقق به الذكورة والاُنوثة بعد تمام أربعة أشهر، وهذا ينطبق على سابقه نوع انطباق. وظاهر صحيح زرارة أنّ شق البصر والسمع وجميع الجوارح وجميع ما في البطن ـ أي بطن الجنين ظهراً ـ انما هو حين نفخ الروح فيه، أي كل ذلك بعد أربعة أشهر، وكل ذلك مخالف لما يقوله الاَطباء كما ستمر أقوالهم بك بعد ذلك، فإنْ ثبت أقوالهم بالحس أو القطع فلا بد من تأويل هذه الظواهر أو ردها إلى مَن صدرت عنه، فإنّ التأويل الخارج عن المتفاهم العرفي كلفة لم نؤمر بها.
(الثالث): مرّ في الحاشية دعوى بعض الاَطباء أنّ العظام تبدء في التكون في الاُسبوع الخامس (35 يوماً بعد الحمل)، فانْ صّح فهو ينافي الاَحاديث جزماً.
الاقاويل حول تطور الجنين
1 ـ قال بعض الكتاب: في الاُسبوع الثالث يتكون أوّل ظواهر الرأس والقلب ثمّ يتكّون في جانب الجنين شيء مدور متصل بسرة الجنين، وذلك الشيء هو الذي يأخذ عصارة الغذاء والماء والهواء التي تستفيد منها الاُم بواسطة أجهزتها ويعطيها للجنين، ومن الاَُسبوع السادس يتكّون حول الجنين ثلاثة حجابات لحفظه عن الهواء والماء والنور وغيره، ولعله المراد بقوله تعالى: (في ظلمات ثلاث).
وقيل: كما هو معروف: إنّ الجنين في الاَسابيع الثمان الاَوَل من الحمل ليس له أعضاء أو أنسجة يمكن الاستفادة من نقلها، وبعد تلك المدة (6 ـ 8 أسابيع) تأخذ أعضاء الجنين وأطرافه في النمو.
2 ـ أوصت لجنة وارنوك في بريطانيا بجواز التجارب على الجنين في الايام الاَربعة عشر الاَُولى على اعتبار ان تكوّن الجهاز العصبي يبدأ بعدها....
3 ـ لاحظ ما مرّ في البند الثاني والثالث في أوّل هذه المسألة.
4 ـ لاحظ مايأتي نقله في أوائل المسألة الثامنة حول أطفال الانابيب.
5 ـ لاحظ ما يأتي في أوائل المسألة السابعة والعشرين حول المبيضين وزرع الخصية.
(المطلب الثاني): يحرم الاِجهاض مطلقاً ـ قبل ولوج الروح أو بعده ـ ولم ينقل عن أحدٍ من فقهاء الشيعة خلاف في ذلك، وأما فقهاء أهل السنة فجمع منهم على جوازه قبل ولوجها، ولهم أقاويل لكن حرموه بعد الولوج على ما قيل.
ودليل الحرمة عندنا حديثان: أحدهما معتبرة اسحاق المروية في الفقية: قلت لاَبي الحسن عليه السلام ، المرأة تخاف الحبل فتشرب الدواء فتلقي ما في بطنها ـ قال: لا، فقلت: إنما هو نطفة، فقال: إنّ أوّل ما يخلق نطفة.
ثانيهما صحيح رفاعة المرويّ في الكافي: قلت لاَبي عبدالله عليه السلام : اشتري الجارية فربما احتبس طمثها من فساد دم أو ريح في رحم فتسقى دواء لذلك، فتطمث من يومها؟ فقال لي: لا تفعل ذلك، فقلت له: إنما
ارتفع طمثها منها شهراً، ولو كان ذلك من حبل انما كان نطفة كنطفة الرجل الذي يعزل، فقال لي: إنّ النطفة إذا وقعت في الرحم تصير إلى علقة ثم إلى مضغة ثم إلى ما شاء الله، وإنّ النطفة إذا وقعت في غير الرحم لم يخلق منها شيء فلا تسقها الدواء إذا ارتفع طمثها شهراً وجاز وقتها الذي كانت تطمث فيه.
أقول: لا يبعد أنّ قيد الشهر لم يكن له خصوصية وانما ذكره الامام تبعاً لفرض السائل والملاك هو مطلق ارتفاع الطمث، ومنه يظهر دلالة الحديث على وجوب الاحتياط وعدم إجراء استصحاب عدم الحبل كما هو القاعدة في كلّ ما شك في حدوثه، وهذا يحكي عن اهتمام الشارع بالنطفة.
(المطلب الثالث): في حكم الاِجهاض الوضعي، وهو لزوم الدية.
1 ـ دية الجنين إذا كان بحكم المسلم الحر وكان تام الخلقة ولم تلجه الروح مائة دينار كما نقله في الجواهر عن المشهور ولم ينسب الخلاف فيه إلاّ الى النعماني، فإنّه أوجب الدية كاملة، وإلاّ إلى الاسكافي، فأوجب فيه غرة عبداً أو أمة إذا كانت الام مسلمة، وقدر قيمة الغرة قدر نصف عشرة الدية.
2 ـ ظاهر الروايات عدم الفرق بين الذكر والاُنثى في الدية هنا (أي فيما لم تلجه الروح) ولم ينقل الخلاف فيه إلاّ عن الشيخ رحمه الله في مبسوطه.
3 ـ لو كان الحمل زائداً عن واحد فلكل واحد ديته كما في الشرائع والجواهر.
4 ـ لم يوجب الفقهاء الكفارة على المجهض لعدم صدق القاتل عليه
بعد فرض عدم ولوج الروح في الجنين.
5 ـ في إجهاض الجنين الذي ولجته الروح قطعاً دية كاملة للذكر ونصفها للاُنثى في الحر المسلم بلا خلاف للنصوص.
6 ـ تجب الكفارة في فرض ولوج الروح مع مباشرة الجناية بلا خلاف ولا اشكال لتحقق موجبها كما في الجواهر.(/3)
7 ـ هذا كلّه في الجنين الذي ولجته الروح والذي لم تلجه وكان تام الخلقة، واما إذا لم يتم خلقته ففي ديته قولان: أحدهما غُرة عبد أو امة، والاُخرى ـ وهو الاَشهر بل المشهور ـ: توزيع الدية (أي مائة دينار) على المراتب، ففيه عظماً ثمانون ديناراً ومضغة ستون وعلقة أربعون.
وفي الجواهر: وتتعلق بكل واحد من هذه المراتب الثلاث، اُمور ثلاثة: وجوب الدية وانقضاء العدة للمطلقة ـ ضرورة صدق وضع الحمل بسقوطه ـ وصيرورة الامة ام ولد، وأما النطفة فلا يتعلق بها إلاّ الدية وهي عشرون دينار بعد القائها في الرحم فجنى عليها الجاني واسقطها، دون العدة لعدم صدق وضع الحمل معها ودون الاستيلاد أيضاً.
أقول: في كلامه الاَخير نظر.
8 ـ لو ألقت الاُم حملها مباشرةً أو تسبيباً فعليها دية ما ألقته قيل بلا خلاف ولا إشكال، ولا نصيب لها من هذه الدية بلا خلاف ولا إشكال مع العمد.
9 ـ ولو افزعها مفزع فألقته فالدية على المفزع بلا خلاف ولا إشكال كما في الجواهر.
10 ـ دية أعضاء الجنين وجراحاته بنسبة ديته، قيل: بلا خلاف يوجد.
11 ـ يرث دية الجنين مَن يرث المال منه ـ لو كان حياً مالكاً ثم مات ـ على ما ذكروه في كتاب الميراث.
12 ـ مَن أفزع مجامعاً فعزل فعلى المفزع عشرة دنانير كما ذكروه.
وهل يتعلق الدية باتلاف الجنين في الانبوبة؟ والاَظهر تعلّقها به إذا كان في مسيرة إلى الكمال والانسانية، وأما إذا لم يكن كذلك وإنما وضع فيها لمجرد الاختبار العلمي أو التلقيح فلا كما يظهر من صحيح رفاعة المتقدّم، فلاحظ وتأمل.
(المطلب الرابع) في مبررات الاِجهاض:
لا شكّ في بطلان جملة من المبررات المقبولة عند الغربين وأنها غير مشروعة ولا نطيل المقام بذكرها، وإنما نذكر ما يمكن أنْ يكون مبرراً عندنا:
1 ـ الخطر على حياة الاُم في فرض استمرار الحمل.
2 ـ الخطر على صحّة الاُم.
3 ـ استلزام الحمل والولادة حرجاً شديداً للاُم.
4 ـ موت الجنين.
5 ـ كون الجنين مصاباً بمرض أو عاهة.
6 ـ كونه عن زنا، سواء عن إكراه أو عن مطاوعة من المرأة.
أما المورد الاَوّل ففي فرض عدم ولوج الروح لا إشكال عندي في جواز الاِجهاض، بل في لزومه لدوران الامر بين الاَهم والمهم ولزوم تقديم الاَهم كما قرر في البحث عن المرجحات في باب التزاحم.
واما الدية فلا يبعد لزوم أدائها عليها لعدم ترتبها على خصوص الاسقاط المحرم، فلاحظ.
وأمّا بعد ولوج الروح فيه، ففيه بحث طويل، ملخّصه: إنّ حفظ النفس ـ ولو في بطن الاَُم ـ واجب، فإذا ماتت الاُم وجب إخراجه سالماً بشق بطنها حسب مايراه الطبيب، بل مقتضى القاعدة وجوب إخراجه وان علم بعدم بقاء الطفل إلاّ دقائق يسيرة؛ فما نقل عن الحنابلة والمالكية من عدم جواز شق بطن الحامل إذا ماتت، ولو رأينا الولد يضطرب في بطنها معللين انه هتك حرمة متيقنة لاِبقاء حياة موهومة، باطل جزماً.
نعم إذا عُلِمَ عدم امكان اخراجه حياً لم يجب.
وكذا يجب اخراجه حياً إذا عُلِمَ أنّ بقاءه في رحمها ولو مع فرض حياتها يوجب تلفه أو تلف اُمه.
وأمّا إذا دار الاَمر بين حفظ الولد وإتلاف الاَُم وعكسه لعدم إمكان التحفظ على كليهما ففيه إشكال، يقول صاحب الجواهر قدس سره : واما لو كانا معاً حيين وخشي على كل منهما، فالظاهر الصبر إلى انْ يقضي الله ولا ترجيح شرعاً، والاُمور الاعتبارية من غير دليل شرعي لا يلتفت اليها.
واختاره صاحب العروة الوثقى فقال: ينتظر قضاء الله سبحانه وتعالى حتى يتعلّق بموت أحدهما، وتبعه كل من علق على كتابه من أرباب الفتوى.
وقال بعض الفضلاء من أهل السنة: المعروف أنّ فقهاء المذاهب لا يرون جواز اجهاض الجنين لانقاذ حياة الاُم، ولم يخالف في ذلك إلاّ قلة واستدلّ بعضهم عليه بان موت الاُم به موهوم فلا يجوز قتل آدمي لاَمر موهوم.
لكن اللجنة العلمية للموسوعة الفقهية التي تصدر عن وزارة الاَوقاف في الكويت افتوا بأنّ الحفاظ على حياة الاُم أولى بالاعتبار من بقاء الجنين، لاَنها الاَصل، وحياتها ثابتة بيقين، ولاَن بقاء الجنين سيؤدي غالباً إلى وفاته بموت اُمه
أقول: وقد ذكرنا قبل عشرين سنة تقريباً في كتابنا حدود الشريعة (ج3 ص214 إلى ص216) جواز قتل الجنين حفاظاً على حياة الاُم وذكرنا دليله هنا فراجعه إنْ شئت، ولا ادري هل به قائل منا أو لا، وان كان بعض العلماء الذين ادخل كتابي ـ حدود الشريعة بتمام اجزائها ـ في موسوعته الفقهية مع الاختصار، اختاره وقد استدلّ هو عليه بوجهين آخرين أيضاً لا يخلو بعض كلامه عن اشكال أو منع عندي.
وأما المورد الثاني، فإنْ كان في رفع صحة الاُم حرجاً شديداً عليه جاز اسقاط الجنين الذي لم تلجه الروح بعد لقاعدتي نفي الحرج والعسر، بل ولقاعدة نفي الضرر، وأمّا إذا ولجتها الروح فلا تجري تلك القواعد في المقام لاَنها امتنانية في حق جميع المكلفين، فلا معنى لاَجرائها لنفع بعض وضرر بعض آخر.(/4)
أقول: لا مانع من صحّة هذا القول المشتهر بالنسبة لقاعدة نفي الضرر في المقام، وأما بالنسبة إلى قاعدتي نفي الحرج والعسر فلا نسلمها، فإنّ في شمول مثل قوله تعالى: (ما جَعل عليكم في الدين من حرج)، ومثل قوله: (يريد الله بكم اليسر)، للجنين منع واضح، بل في شموله للاَطفال غير المميزين بل المميزين إشكال، فإنّ القدر المتيقن من الخطاب فيهما (عليكم ـ بكم) هم المكلّفون، ولكن مع ذلك لا يتيسر الفتوى بجواز اتلافهما لصحة اُمها لقوله تعالى: (ومن قتل نفساً بغير نفسٍ أو فساد)، وغيره، والله العالم.
ومنه يظهر الحال في المورد الثالث، فإنّه كالثاني في الحكم.
وأمّا المورد الرابع فلا شكّ في لزوم إخراجه ولا دية فيه قطعاً، بل إذا تتضرر الاُم ببقائه لزم اخراجه في الجملة؛ كما انه يجوز إجهاض الحمل المسمّى بالعنقودي أو الحمل الحويصلي، فإنّه حمل ينتج عنه تكوين كتلة من الانسجة على شكل حويصلات مائية تشبه عنقود العنب في مظهرها، ولا تكون جنيناً أو إنساناً سوياً، وقيل: إنّ إجهاض مثله واجب طبي وتخليص الرحم منه فور تشخيصه ضروري تلافياً لحدوث مضاعفات
-خطيرة على المرأة.
أقول: وهنا مورد آخر جاز اجهاضه ولا دية أيضاً، هو ما أشار اليه بعض الاَطباء بقوله: بعد ما سبق كما انه معروف ـ علمياً ـ أنْ ليس كل لقاح بين حيوان منوي وبويضة يكون الناتج عنه جنيناً قابلاً للحياة، بل قد يتولد عن ذلك جنين عقيم أو غير مكتمل ويستمر وجوده في الرحم إلى فترة زمنية قد تصل إلى عدة أسابيع قبل أنْ يجهض تلقائياً أو يعمل على تخليص الرحم منه.
أقول: لكن إذا فرض إجهاضه تلقائياً غير حرجي للمرأة لا يجوز لها تعجيل العمل على تخليص الرحم عنه إذا استلزم مس العورة والنظر اليها، بل ونظر الاَجنبي إلى بدنها.
وأمّا المورد الخامس فإنّ فرض أنّ المرض أو العاهة يسبب بعد الولادة حرجاً شديداً للوالدين لا مانع من إجهاضه قبل تعلق الروح به، وكذا إذا كان على صورة غير انسان كما رأيناها في بعض النشريات اليومية، فانه لا دليل على منع اتلاف جنين غير الانسان ولا على لزوم الدية فيه، وأما إذا فرضنا أنّ الصورة صورة غير انسان والوعي وعي انسان ـ وقد اثتبه علم الاجنة فرضاًـ ففي إجهاضه إشكال.
وأما بعد ولوج الروح فلا يجوز اجهاضه قطعاً، لاَنه نفس محترمة فتشمله الآيات الناهية عن قتلها.
واما المورد الاَخير فلا يجوز اتلافه الابناء على قول ضعيف لبعض القدماء بكفر ولد الزنا، وإذا فرض أنّ حمله أو ولادته يوجب حرجاً
شديداً للاُم، فإنْ كان الزنا عن اختيارها فلا يجوز له اجهاضه لعدم جريان قاعدتي نفي الحرج ونفي الضرر في حقها، وإنْ كان عن إكراه فإنْ كان بعد نفخ الروح فيه فلا يجوز أيضاً لما عرفت، وإنْ كان قبله فلا يبعد جوازه في الجملة، والله اعلم. ويأتي مورد آخر للجواز في المسألة الثامنة إنْ شاء الله.
فرع
إذا اعتدى ابٌ مثلاً على ابنته (العياذ بالله) أو ما يشبه ذلك ونتج منه حمل، فهل يجوز اجهاضه؟ فإنّ مثل هذا الولد يكون مرفوضاً رفضاً باتاً من أفراد المجتمع، على أنّ نسبة تعرض هذا الجنين للتشوه نسبة عالية حسب القوانين الوراثية العلمية، ولذا نرى الاسلام إنما أباح زواج الاَقارب من الدرجة الرابعة ولم يسمح بدرجة قرابة اقل من ذلك كما في بعض المجتمعات، لما لهذا الزواج من اضرار صحية قد اثبتها العلم الحديث فيما بعد.
أقول: لا خصوصية للمورد وامثاله من زنى المحارم وانما عنوناه تبعاً لبعض الاَطباء، وهو داخل في المورد الخامس والسادس المتقدم، وعرفت حكمهما.
(المطلب الخامس): قد سبق أنّ الحياة متحقّقة في مني الرجل قبل التلقيح كتحققها في البييضات قبل الالتقاء، وقد خلق الله المرأة لتفرز واحدة منها في كل شهر، يعني حوالي ثلاثين سنة ثلاثمائة وستون بييضة، لكن المرأة تنجب خمسة أو عشرة أو خمسة عشرة أو عشرين، فيهدر بارادة الله
تعالى من هذه البييضات أكثر من الثلاثمائة، والحيوانات المنوية يقذف منها في كل مرة أربعمائة مليون، وكل واحد من هذه قادرة على أنْ ينجب ان وصل إلى البييضة، فهذه طبيعة الخلقة.
وقد تقدم في المسألة السابقة أنّه لا منافاة بين هذه الحياة وبين ما يقول به المسلمون من الحياة الحادثة بعد الاَربعة الاَشهر من الحمل، فإنّ الاَُولى حياة غير انسانية والثانية حياة انسانية ناشئة عن الروح الانسانية، وقد اشار الامام الباقر عليه السلام في صحيح زرارة المتقدّم في اواسط هذه المسألة إلى هاتين الحياتين معاً، وقد أشار إليه أيضاً في رواية سعيد بن المسيب التابعي عن الاِمام زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام المروية في الكافي والتهذيب حينما يشرح مراحل الجنين وحدودها ومقدار الدية، حتى قال عليه السلام : فان طرحته وهي نسمة مخلقة له عظم ولحم مرتب الجوارح وقد نفخ فيه روح العقل فان عليه دية كاملة.(/5)
قلت له: أرأيت تحوله في بطنها من حال إلى حال، أبروح كان ذلك أم بغير روح؟ قال: بروح عدا (غذاء ـ يب) الحياة القديم المنقول في أصلاب الرجال وأرحام النساء، ولولا أنّه كان فيه روح عدا الحياة ما تحول من حال بعد حال في الرحم وما كان اذن على من قتله دية وهو في
تلك الحال.
وبالجملة: الحياة الخلوية غير الحياة الانسانية، فالاُولى اسبق من الثانية وابقى منها.
يقول بعض الاَطباء: من المعروف أنّ الانسان عندما يموت وتنتهي حياته الانسانية التي لا خلاف عليها ولا خلاف على موته تستمر خلاياه في الحياة إلى فترة تطول أو تقصر من الوقت، والقلب يستمر في النبض بعد تنفيذ الاعدام... وتنقل من الموتى أعضاء إلى الاحياء كقلب وكلية وكبد.
(المطلب السادس): مقتضى بعض الاَحاديث أنّ الحبلى المحكومة بالاعدام يؤجل إعدامها حتى تضع ما في بطنها وترضع ولدها، كمعتبرة عمار قال: سألت أبا عبدالله عليه السلام عن محصنة زنت وهي حبلى، قال: تقر حتى تضع ما في بطنها وترضع ولدها ثم ترجم.
بل في بعض الاَحاديث ـ في قصة زانية محصنة ـ فلما مضى الحولان أتت المرأة فقالت ارضعته حوّلين فطهرني يا أمير المؤمنين، فتجاهل عنها وقال: اطهرك بماذا؟ فقالت: إني زنيت فطهرني... قال: فانطلقي فاكفليه حتى يعقل ان يأكل ويشرب ولا يتردى من سطح لا يتهور في بئر....
أقول: لكن التأجيل المذكور في هذا الحديث ربما يستند إلى عدم اكتمال الاقرار أربع مرات، وتحقيقه في الفقه.
(المطلب السابع): قيل إنّ اللولب يستعمل لمنع الحمل، بمعنى أنه
يمنع انغراس البويضة الملقحة في جدار الرحم. وقيل: اللولب النحاسي يمنع تلقيح البويضة ولا يمنع التصاق البويضة الملقحة بالرحم. وبالتالي فهو ليس عامل اجهاض.
أقول: على الاَوّل يستشكل جوازه إذا دخلت البييضة الملقحة الرحم أو يحرم وعلى الثاني يجوز، وتشخيص الموضوع على عهدة الطب على نحو لا يوجد اختلاف الاَطباء فيه.(/6)
حول المسلم والسّلطة
أ. د. عماد الدين خليل 11/6/1426
17/07/2005
(1)
عندما كنت طالباً في قسم التاريخ في مطلع الستينيات … كان أستاذ علم الاجتماع- لسبب ما - يسعى في كل محاضرة من محاضراته إلى تأكيد مسألة أن القرآن الكريم جاء لكي يطلب من الناس أن يضعوا السلاح إزاء السلطات التي تحكمهم، وإلى ضرورة طاعة أولي الأمر منهم وإلا خرجوا من حظيرة الإيمان .. وكان يقتطع بعض الشواهد القرآنية لكي يؤكد وجهة نظره .. وفي كل مرة كان يتلو الآيات مضيفاً إليها أو منتقصا منها .. وعندما يتحول إلى كتب الفقه كان يقف طويلا عند (الخراج) لأبي يوسف ويقول: هاهو ذا يؤلف كتابه للخليفة هارون الرشيد، ويدعو الناس كافة إلى الطاعة وإلا مرقوا عن الدين كما يمرق السهم عن منزعه ..
وكان هدفه من وراء هذا كله أن يصور الإسلام كما لو كان ديناً سلبياً يوجد جماعات ممن اعتادوا ليّ رؤوسهم لكل سلطة، وانعدمت في نفوسهم أي قدرة على الرفض والمجابهة.. كان يريد أن يقول ـ بشكل غير مباشر ـ: إن الإسلام هو دين السلطات تبرر به طغيانها، حتى إذا ما حاول أحد الوقوف بوجهها اتهم بالكفر والمروق وأُخرج من حظيرة الإيمان فأصبح شريداً منفياً ليس له من ملجأ يأوي إليه، فيضطر للعودة ثانية لتقديم الولاء وممارسة تقاليد العبودية..
وكنت أحاول أن أرد عليه إلا أن ضيق الوقت الذي كان يمنحني إياه، وضعف قدرتي على الرؤية الشمولية يومها، لم يمكّناني من دحض افتراءاته كافة.. وفي اللحظة التي كان يشعر فيها بالحرج كان يستخدم سلطته كأستاذ لإرغامي على السكوت بشكل أو بآخر..
(2)
ومرت على ذلك أعوام طويلة، عقدان من الزمن، ووجدتني أتذكر يوماً، وأنا أستمع إلى أحد المرتلين يتلو (وأطيعوا الله والرسول..) محاضرات الأستاذ إياه وتأكيده المستمر على استسلامية المسلم إزاء السلطات.. فقرّرت أن أرجع إلى القرآن الكريم نفسه.. أن أقرأه مرة ومرتين وثلاثاً لمتابعة موقفه من هذه المسألة الخطيرة: العلاقة بين الجماهير والحاكم .. وإذ بي في ختام الرحلة أجد المعطيات القرآنية تخالف تماماً ما ذهب إليه الأستاذ.
إن القرآن الكريم، كما يتضح من السياق العام، لا يعلّق المسؤولية على الزعامات الجائرة فحسب، وهي تمارس جرمها وفجورها وترفها وطغيانها وأخلاقياتها الهابطة، إنما هي القواعد التي أعانتها في البدء على الوصول، وهي تعينها الآن بتأييدها المعلن أو الضمني، المادي أو الأدبي، الفكري أو الأخلاقي، أو بسكوتها على الأقل، على مواصلة المسير بالجماعة صوب البوار .. ومن ثم يصدر القرآن الكريم تحذيراته إلى هذه القواعد من أن يتبلّد وعيها، ويتجمّد حسها الجماعي، فتناسق في مجرى الطاعة والاندماج في مسار السلطة؛ إذ لا تستطيع أن تقول (لا) بل إنها ـ أكثر من ذلك ـ تقر في سرائرها هذا الطغيان الذي تمارسه السلطة، ولا تستطيع أن تجد في نفسها أي مبرّر للرفض أو المقاومة.
وهكذا تجد الجماعة نفسها وقد غفلت عن أهدافها وقيمها ومطامحها؛ لأنها لم تدع مسافة كافية بينها وبين السلطة للرؤية والنقد والتمحيص والرفض والمقاومة، بل اقتربت منها رغباً ورهباً واندمجت بها، وأصبح من المحتم أن نتحمل معها المسؤولية حتى لو لم تحصل باندماجها هذا إلا على الفتات .. أو الاحتقار والازدراء ..(/1)
إن القرآن الكريم يبين لنا، بأسلوب ينضح سخرية واحتقاراً، شكوى هذه القواعد التي دانت بالطاعة الاختيارية لحكامها وطواغيتها (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا ) (1) . وهناك آيات ومقاطع أخرى كثيرة يدور فيها الحوار على هذا النسق بين التابعين والمتبوعين يمكن أن نجدها في إطار المشاهد التي يعرضها القرآن عن القيامة (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ)(2)، (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ * وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)(3) .
(3)
ما الذي يطلبه القرآن الكريم من القواعد كيلا تلعب عليها وبها الزعامات الطاغية والطبقات المترفة؟
إنه ـ في البداية ـ يطلب منهم جميعا أن (يتحركوا)، أن يردّوا على الظلم، أن يرفضوا الانتماء إليه، أو قبوله كمسلمة لا تقبل نقضاً ولا جدلاً .. إن بمقدورهم أن يغادروا المواقع التي يسود فيها الطغيان لكيلا يسهموا في الجريمة، بشكل أو بآخر، يغادروها إلى أي مكان؛ فأرض الله واسعة .. وليس معنى هذا دفعهم إلى الفرار .. ابدأ .. إنما هو فكّهم من هذا الاندماج المخزي بالسلطة، وإبعادهم عن هذا الالتصاق المذل بمواقع الطغيان، فإذا تمكّنوا أن يحدثوا بحركتهم فاصلاً بينهم وبينها تمكنوا آنذاك من رؤية الموقف على حقيقته، حتى لو دفعتهم حركتهم إلى الهجرة إلى أقصى الأرض؛ لأنهم سوف لا يلبثون أن يكروا عائدين، مسلحين هذه المرة بالوعي والقوة لكي يستأصلوا شأفة الظالمين (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا)(4) .
وفي آية أخرى ينعى القرآن أولئك الذين آثروا السكون على الحركة، واختاروا الالتصاق بالظلم والعمل تحت يديه، لا على رفضه والانشقاق عليه (وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمْ الأَمْثَالَ(5) .. وفي آية ثالثة يظهر هدف هذه الهجرة (الحركية) التي يدعو لها القرآن واضحاً نقياً: إن الإنسان المؤمن يجب ألا يعبد إلا الله .. وهذا هو دوره الحقيقي في العالم، بل هذا هو مبرر وجوده في الكون .. وعبادة الله ـ كما هو واضح ـ ليس في أن نتصل به في شعائرنا اليومية أو الموسمية فحسب، بل أن نرتبط به في كل فعاليّات حياتنا، وأن نتوجه إليه في كل خطوات وجودنا الداخلي، وألاّ نأخذ إلا منه ، ولا ننتمي أو نخضع إلا له.. فإذا ما سعت القيادات الجاهليّة الطاغية إلى أن تزيّف هذا الدور البشري الأصيل فتصدّ القواعد المؤمنة عن التوجّه إلى خالقها توجهاً سليماً كاملاً أصيلاً، من أجل أن تلتصق بها وتمارس خدمتها، فإن على هذه القواعد أن ترفض (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ)(6) وأن عليها أن تتحرك وتهاجر إذا اقتضى الأمر (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ)(7) الهجرة التي تعقب عودة واعية مسلحة إلى مناطق الطغيان لوقفه قبل أن يقود بقية الناس إلى الدمار (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ)(8) .. وتبدو هجرة الرسول ـ هاهنا ـ مصداقاً تاريخياً لهذه المقولة.
(4)(/2)
وثمة حقيقة على قدر كبير من الخطورة ينبه القرآن الكريم القواعد المؤمنة إليها، لكي يكونوا على وعي تام بها، وعلى حذر كامل منها في الوقت نفسه، ذلك أن الفتنة التي تتمخض حتماً عن ممارسة الطغيان، وانحراف القيادات عن أمانة المهمة التي عهدت إليها لن تنزل على رؤوس هذه القيادات فحسب .. إنها ليست ممارسة (هندسية) لكي تجيء منطبقة تماماً على مساحة الواقع التي يحتلها الطغيان، لأنها تجربة اجتماعية، والتجربة الاجتماعية تجيء دائما متداخلة المساحات، متشابكة الممارسات، مرتبطة الوشائج، بحيث يصعب تفكيكها وتجزئتها بأسلوب رياضي صارم .. وإن مسؤولية الطغيان لا تقع ـ كما يؤكد القرآن دائماً ـ على عاتق القيادات، وإنما تتحمل القواعد نصيباً كبيراً منها لسكوتها وإقرارها وعدم رفضها ومقاومتها وتحركها.
من أجل هذا كله، فإن الفتنة أو العقاب الذي سينجم عن ممارسة الطغيان والظلم، سوف ينزل على رؤوس الجميع، مدوياً، مزلزلاً، شاملاً، لا يعرف (أحداً) في البنية الاجتماعية التي يمارس فيها الانحراف، ظالماً كان أم مظلوماً، ولم يكن العقاب، أو تكن الفتنة، في يوم من الأيام ملكاً أو نبياً .. إن القرآن الكريم يحذر القواعد المؤمنة ويمنحها الوعي الكافي كذلك: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)(9) .
على مستوى القيادة يحدثنا القرآن كيف أن ساعة السقوط تحين يوم يتسنم المسؤولية حفنة من المترفين الفسقة، أو الإداريين الظلمة، أو المجرمين الطغاة، فيمارسون من مواقع السلطة تلك كل أسلوب من شأنه أن يؤول إلى إلحاق التفكّك والدمار بالجماعة أو الأمة التي ارتضتهم قادة لها: الترف، الفسوق، الطغيان، الفوضى، الاستغلال، المكر، رفض الدعوات الجديدة، واستخدام أقصى درجات القسوة والطيش لصدّ قومهم عن الانتماء إليها، واعتبار مبادئهم ورؤاهم وتشريعاتهم الذاتية القاصرة، المفككة، الحدود النهائية لموقف الإنسان في العالم، وهو اعتبار يقوم على أقصى درجات الطغيان، وأشد المواقف بعداً عن مفهوم التوحيد العادل، السمح، الإنساني: (قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ)(10) .
وأبدع ما في التعبير القرآني أنه يصور هؤلاء الطواغيت، وهم في قمة الجاه والثروة والسلطان، أدوات بيد الله يسخرهم، من حيث لا يدرون، لإنزال عقابه العادل بطرفي الجريمة: السلطة التي تظلم والقاعدة التي ترضى بالظلم: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ)(11)(وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ)(12) (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا * وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا)(13) (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا) (14) (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)(15) .
في الجهة الأخرى، ومن أجل أن تظل مقاييس السلطة والقيادة موضوعية ثابتة بينة في أذهان الجماهير المؤمنة، يطرح القرآن البديل في أكثر من آية، وعلى أعرض جبهة يمكن أن يتحرك عليها المسؤولون عن قيادة الأمم والشعوب، جبهة التلقي عن الله وحده والتزام قيم الحق والعدل، ومواصلة العطاء على هذا الطريق: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ)(16)
(وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ)(17) (تِلْكَ الدَّارُ الأخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ وَلا فَسَادًا)(18).
(5)(/3)
وكم تمنّيت وأنا أتابع أطروحات القرآن الحاسمة بصدد العلاقة بين الجمهور والسلطة، وهي أطروحات ممتدة متشابكة مفروشة على مساحات واسعة كما سنتابع في فصول هذا الكتاب، تمنّيت أن يرجع بي الزمن القهقرى إلى أيام الدراسة الجامعية، أو أن التقي بالأستاذ الذي كان يتشنج متعمداً على جانب ضيّق محدود من الصورة لا يفسر شيئاً .. أن أرجع إليه لكي أقول له هذا، أو أقنعه على الأقل بقراءة كتاب الله، بالتجرد العلمي المطلوب،
مرة واحدة فقط!!
________________________________________
(1) الأحزاب 67ـ68 .
(2) البقرة 166ـ167 .
(3) إبراهيم 21ـ22 .
(4) النساء 97ـ98 .
(5) إبراهيم 45 .
(6) الأعراف 3 .
(7) العنكبوت 56 .
(8) التوبة 14 .
(9) الأنفال 24ـ25 .
(10) غافر 29 .
(11) الأنعام 123 .
(12) الأنعام 129 .
(13) الإسراء 16ـ17 .
(14) الأحزاب 67ـ68 .
(15) سبأ 34ـ35 .
(16) الأنبياء 73 .
(17) الأعراف 181 .
(18) القصص 83 .(/4)
حول المنهجية في الطلب
من أمارات النضج ودلائل الرسوخ لدى الصحوة اليوم الحديث عن المنهجية، وضرورة المراجعة المستمرة للواقع ونقد الذات.
ومن الميادين التي طرح الحديث كثيراً فيها حول المنهجية: المنهجية في طلب العلم.
والحديث عن ذلك عَكَسه الواقع المتخبط في السلوك العلمي والذي أدى إلى استنزاف طاقات وقدرات فيما لاطائل من ورائه، وأدت ردود الفعل غير المتوازنة حول قضايا التمذهب والاتباع، أو القراءة المركزة المنهجية والقراءة الموسوعية، أو كتب المتقدمين والمتأخرين، أدى الإفراط في ردود الفعل إلى مواقف لاتؤدي بالضرورة إلى البناء العلمي الصحيح.
ومع التأييد لضرورة العناية بالمنهجية في طلب العلم، والنقد للأساليب المتخبطة التي تضيع الأوقات والأعمار دون بناء علمي، إلا أن ثمة قضايا تطرح باسم المنهجية بحاجة إلى مزيد مناقشة ومراجعة وتأمل، خاصة أن الحديث المفصل عن تلك القضايا ليس منطلقاً من نصوص شرعية صريحة، إنما هو نتاج تجربة بشرية متميزة لكنها لاترقى لدرجة العصمة.
ومن ذلك تحويل الوسائل إلى غايات: فالعلم مطلب شرعي وضرورة ملحة، لكن الطرق التي تؤدي إلى تحصيله –مالم تكن منصوصاً عليها بنص شرعي-ليست بالضرورة قضايا مسلمة في كل عصر وزمان ومكان، فضلاً عن أن تكون سوراً تجاوزه يعني الخلل والانحراف، ومن يتأمل المسيرة العلمية على مدى تاريخ الأمة يرى أنها لم تتوقف عند وسيلة محددة، فكان العلم يتلقى شفاهاً ويحفظ في الصدور، والكتابة لم تكن أصلاً إنما هي استثناء، ثم انتشرت الكتابة، والتأليف، والتخصص فيه، والمتون، والشروح….إلخ.
وكان العلم إنما يتلقى في المساجد، ثم بدأت المدارس بالظهور وازداد انتشارها حتى صار لها مستويات وشروط وأنظمة محددة.
وهكذا عرفت الأمة ألواناً من التطور والتغير في أساليب الطلب والتعلم، ولم تكن الأساليب يوماً ما حكراً على أسلوب أو طريقة محددة.
فلتكن الوسيلة وسيلة والغاية غاية.
وحين تبقى الوسيلة دون منزلة الغاية، فإن عرف أهل بلد أو قطر وطريقتهم في التعلم ولو سادت وورثتها الأجيال ليست هي المقياس والمعيار للتعلم، وليست هي المنطلق الوحيد للمنهجية، فالعلم أكبر من أن تحصره تجربة محدودة بحدود الزمان والمكان.
واليوم ونحن نعيش متغيرات عدة في هذا العصر تتمثل في انتشار مستوى التعليم وتدني الأمية، وهذا التعليم اختصر خطوات عدة على المتعلمين، هل نحن بحاجة إلى نبدأ بهؤلاء من الصفر، أو نلقنهم ماحفظوه في مراحل التعليم الأساسي، أم نبدأ من مرحلة لاحقة؟
والعصر الذي نعيشه اليوم عصر انفجار معرفي هائل، جعل من أسس التفكير الصحيح في قضايا العصر والتعامل معها إدراك قدر من العلوم والمعارف لم تكن ضرورية في وقت مضى، وأتاحت الوسائل الحديثة المعاصرة أساليب في البحث وحفظ المعلومات واسترجاعها، وطرقاً للطباعة، والاتصال السمعي والبصري الذي يتجاوز حدود المكان القريب ويحول العالم إلى قرية واحدة، وهو عصر يفرض على الأمة تحديات حضارية جسام إن هي أرادت أن يكون لها موطيء قدم في التاريخ المعاصر فضلاً عن أن تكون رائدة وسباقة وقائدة.
إن ذلك كله لايعني رفض المطالبة بالمنهجية، لكنه يطرح مطلباً ملحاً بضرورة التفكير من جديد في أساليب تلقي العلم والتعلم، ومراجعة الأساليب لاتعني الخلل في المنهج والانحراف عنه.(/1)
حول الهجرة
الحلقة (17) الجمعة 14 ذي الحجة 1395هـ - 15/11/1975م
العلامة محمود مشّوح
بسم الله الرحمن الرحيم
ليس من السهل العودة إلى أفكار كثيرة وردت في سلسلة أحاديثنا الماضية فما إلى ذلك من سبيل في الوقت الحاضر وإنما نعود إلى الحديث اليوم مدفوعين بدافع ذاتي يفرض الوفاء والحب لهذه الوجوه التي أشعر بمنتهى التعاطف معها، ولقد كنت أمس أتردد في الحديث ولكني رأيت أن لا أخيب أمل أخي وصديقي وصفيي أبي محمود حفظه الله وفي آخر حديث اعتذرت إليكم ببعض العذر..
كان مما قلت إن العمل الذي أخذت نفسي به في المرحلة الأخيرة كان عملاً مرهقاً وشاقاً؛ وللأمانة فقد كنت أتصور الأمر سهلاً جداً حتى إذا ما توغلنا بالبحث انفتحت أمامنا شعاب ما كانت تخطر لنا بالبال وتجسدت أمامنا قضايا كان الضباب يلفها بجلبابه الكثيف ومع ذلك فقد حملت النفس على ما لا تطيق من أجل أن يكون استعراض السور الأربعة الأولى في القرآن الكريم خاضعاً لأدق المناهج العلمية وأحسبني بفضل الله قد استفرغت طاقتي وأعطيت كل ما أستطيع أن أعطيه في هذا السبيل، لكن هذه مرحلة وهي أسهل المرحلتين قولاً واحداً وبقي الشق الثاني من الوعد، وحين راودت نفسي على الحديث وجدتني أتهيب، الأرض بكر والموضوع غير مطروق والأمانة ثقيلة والكلمة ذات فعل وتأثير ومن بعد ومن قبل هناك المسؤولية أمام الله وأمام التاريخ ذلك كله كان في البال حين قلت لكم كما تذكرون لا شك في آخر حديث لي إليكم إنني أرفض أن أعطي الرأي الفطير ومن أجل ذلك فأنا أمنح نفسي فرصة لا أدري تطول أم تقصر لكي أفكر ولكي أقول ما أقول عن علم وعن بينة وعن اقتناع هذا في الحق جانب من العذر ينبغي أن تعلموا كل شيء إزالة للعتب عند بعض الإخوة الذين يعتبون علي لانقطاعي عن الكلام بين الحين والآخر جانب آخر من العذر.
إن صحتي لا تطيق هذا المجهود وأقول ذلك بصدق ربما تصور بعضكم أن الكلام مهنة سهلة لكن لكم أن تثقوا تماماً أن كل حرف كل كلمة تنتزع بضعة من جسمي، تستهلك من طاقتي الشيء الكثير، الكلام بالنسبة إلي أصعب من حمل الأثقال، وجانب آخر كذلك نقوله للإخوة الذين يعدون أنفسهم لخدمة الله ولخدمة الإسلام ليس حتماً حين يكون الإنسان في طريق أن يظل في هذا الطريق حتى يموت.
كنا في زمان الشباب وفي إبان الحداثة. نتمتع بالتدفق وبالحماس ونستطيع أن نجتذب إلينا اهتمام الجماهير لأن مشاعر الجماهير مشاعر تتعشق هذا الاندفاع وهذا الحماس نحن الآن في الكهولة وعبر تجارب شاقة في هذا الميدان المخيف وعبر دراسات طويلة ومضنية ذهبت فورة الصبا وحدّة الشباب وشرّة الحداثة ولم يبق من ذلك كله إلا دفء العقل ونور العقل وهذا الشيء لا أتصور أنه يصلح للمنابر قد يصلح للكتابة وللأحاديث العابرة ولكن المنابر تحتاج دائماً إلى ذلك الطراز الذي كناه قبل عدد من السنين، مع ذلك كله فوفاء لهذه الوجوه الطيبة نعود لنتحدث ولكم كنت أود أن ألتقط الخيط من حيث تركه أخي أبو محمود، لقد ترك قافلة الهجرة تأخذ طريقها بين مكة والمدينة، ولكني كذلك ترددت وسيمر معكم الآن سبب كاف لهذا التردد تذكرون أنني منذ عدة سنوات تحدثت عن الهجرة عدداً من الأحاديث ومن هذا المكان وحين أنظر اليوم أو أتذكر -لأنه ليس بين يدي شيء من هذه الأحاديث- حين أتذكر الأفكار التي كنت أطرحها لكم عن الهجرة أبتسم سخرية من نفسي لهذه البلاهة والسذاجة وقصر التفكير الذي كنت عليه قبل عدة سنوات تذكرون أنني عللت حادث الهجرة يومذاك قبل عدة سنوات بالتناقض المبدئي والذي لا يمكن حله بين الإسلام والجاهلية وظننت أنني اكتشفت اكتشافاً خطيراً ومرة أخرى حين أتذكر هذا أسخر من نفسي ولكي يعرف الشباب كلهم معنى أمانة الفكر أقول إن السبب في سخريتي من نفسي أن ذلك الاكتشاف الكبير كان متأثراً إلى أبعد مدى وكما يظهر لي الآن في ساحة الهدوء والتفكير المطمئن المتزن كنت متأثراً بالجو الثقافي العام الذي يلف العالم افهموا يا شباب يا من تعدون أنفسكم إعداداً ثقافياً افهموا كيف تكون مزالق التفكير وكيف تكون أخطاره ولماذا نقف متهيبين ونشعر أننا نحمل أمانة الأجيال.
الناس في السنوات الماضية إلى الآن لا حديث لهم إلا التناقض والصراع والديالكتيك وما أشبه ذلك وبحكم دراساتي وتأثري بالجو العام وجدت أن الإسلام أيضاً يتناقض مع الجاهلية شبيهاً بتناقض الرأسمالية مع الماركسية وكما استخدم التناقض لتبرير حركة الماركسية في مواجهة المدارس الفكرية والسياسية والاقتصادية التي تواجهها فكذلك يمكن لنا أن نستخدم ذات المنطق وذات المنهج لنبرر عدم إمكانية التعايش بين الإسلام وبين الجاهلية كنت إلى أمد قريب مطمئناً إلى هذا الاكتشاف ولكن انظروا ما أسهل ما ينزلق الإنسان لنطرح على أنفسنا السؤال التالي هل التناقض بين الإسلام والجاهلية لم يتبلور إلا بعد ثلاثة عشر عاماً أم التناقض موجود منذ البداية؟(/1)
لا شك أن رسول الله صلوات الله عليه وآله قد تكشفت له وجوه هذا التناقض منذ البداية فبين من يقول لا إله إلا الله وبفرده بالألوهية ويحكم على الإنسان بالعبودية وبين من يعدد الآلهة، من يسجد للحجر وما أشبه ذلك مناقضة لا يمكن أن تحل فالمناقضة قائمة منذ بداية المرحلة الإسلامية إذاً إذا كانت قائمة منذ بداية المرحلة الإسلامية فمعنى ذلك حين نريد أن نجعل المناقضة مبرراً للهجرة يجب أن تكون الهجرة منذ أول المرحلة لكن الهجرة ما حصلت إلا بعد أن قطعت الدعوة أكثر من نصف عمرها، إذاً لماذا صبرت الدعوة كل هذا الصبر الطويل لو كنا نريد أن نبرر الهجرة بالمناقضة فقط لماذا صبرت الدعوة كل هذا الصبر الطويل فقد سقطت إذاً هذه الفكرة التي ظنناها ذات يوم عظيمة وتبين أنها فكرة هزيلة بل سخيفة وتكشف عن قلة تبصر وسوء روية وعدم تقدير لكافة الظروف التي أحاطت بقضية الدعوة في مراحلها الأولى ما دام الأمر كذلك فنحن محتاجون إلى ما يبرر لنا حادث الهجرة.
ما يبرر حادث الهجرة حين نريد أن نكون علميين يجب أن نلتمسه أولاً في مناهج الدعوة وقواعدها بالذات وبالدرجة الأولى ماذا تريد؟ أي شيء تهدف إليه هذه الدعوة؟ ثم على ضوء الظروف التي أحاطت بالدعوة أثناء نشأتها أي بدراسة الأوضاع البشرية والاجتماعية والسياسية والفكرية والاعتقادية التي كانت سائدة في مكة أثناء المرحلة الأولى للدعوة ثم بدراسة البيئة التي انتقلت إليها الدعوة أي بدراسة بيئة المدينة هل كانت المدينة ما يشجع على الاستقرار والاستمرار بالنسبة للإسلام أكثر مما كان متوفراً في مكة؟
بسؤال أدق هل بقي في مكة بكل أوضاعها ما يشعر بأن ثمة إمكانية ولو ضئيلة لثبات الدعوة وترسخها وانتشارها ونمائها في ما لو بقي الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة ولم يهاجر إلى المدينة نتيجة لهذه الدراسة يمكن لنا أن نعطي المبرر. طبعاً هذه دراسة تطول لا شأن لكم بتفاصيلها أرجو إن شاء الله تعالى أن أدرسها في سياق دراستي للحركة الإسلامية ككل ولا أريد أن أدرسها كما درستها سابقاً باعتبارها حادثاً مقطوع الصلة عما قبله وعما بعده، يهمنا الآن أن نعرف ماذا كان يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما جهر بالدعوة وبلغها إلى الناس وحين ننظر في هذه الزاوية يجب أن نعلم أو أن نعيد إلى الأذهان أن الإسلام يطلب تغيير الواقع البشري.
وبتأن أقول لكم هذا الكلام ليرسخ في الأذهان لأنه فيصل فارق بين منهج الإسلام وبين المناهج الأخرى يطلب تغيير الواقع البشري من خلال تغيير الواقع الإنساني يعني أننا حينما نطرح للتعامل في الساحة الاجتماعية أناساً لم يتم تكوينهم ولم تتم تربيتهم ولم يهذبوا بالقدر الكافي والذي يمكن أن يحدث التغيير والانقلاب حينما نطرح هذه النماذج في الساحة العامة سنحصد الفشل بدون ريب.
وإذا أردنا للحياة أن تتغير ولمسيرة التاريخ أن تعتدل فلا بد لنا من أن نطرح للتعامل نماذج من نوع خاص يعني النماذج التي تعتنق العقيدة باعتبارها قضية الحياة قضية الوجود أي أن المسلم حينما يكون مؤهلاً لأن يحدث تغييراً في المجتمع لا بد أن يكون قانعاً حتى أعمق أعماقه بأعصابه بدمه بعظامه أن القضية التي يحملها أثمن من وجوده وأثمن من حياته ومعنى ذلك يجب أن تكون القضية دائماً في المقدمة ويجب أن تكون الحركة الإنسانية محكومة بالمنهج وليس العكس يعني أن لا يطوع المنهج لخدمة الهوى الشخصي وخدمة الغرض الإنساني من هذه الزاوية نضع أيدينا على أول المفاتيح، الإسلام كان يريد إحداث تعديل في البنية الإنسانية، وإحداث التعديل في البنية الإنسانية ليس عملاً سهلاً لا نستطيع أن نعطي الإنسان جرعة دواء فإذاً هو إنسان صادق وأمين وشريف وشجاع إلى آخر هذه الأوصاف العالية ذلك أمر مستحيل، عملية التعديل في المسالك البشرية تخضع لمعاناة.. تخضع لتجربة تعيش مع الإنسان ما عاش طالما هو حي، تتردد فيه أنفاس الحياة فيجب أن يحترق بنار التجربة كي تعتدل مسالكه واتجاهاته وطباعه وأخلاقه من خلال هذا التعامل المستمر مع وقائع الحياة فالجهد الأعظم كان ينصب إسلامياً على ذات الإنسان إذا قلنا هذا فنحن إذاً نستطيع أن نفكر بسهولة لماذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يصبر ويصابر ويطاول المشركين ويتحمل منهم الأذى بل يتحمل من الأذى هو وأصحابه رضي الله عنهم ما لا تطيقه الجبال؟(/2)
لم يكن الأمر أمر مسكنة لا ولا أمر ضعف لا ولا أمر جبن، وقد شرح لكم أخي أبو محمود أن حادث الهجرة ليس حادث فرار فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يزن في جبن ولا يتهم بخوف وخور، كان سيد الشجعان ورجل الرجال بل تاج الرجال جميعاً ولكن الأمر يتناول ما هو أبعد وما هو أعظم، هذه النزعات الشريرة هذه الدوافع الفاسدة بهذه الأطماع القريبة لا يمكن أن تزول من الإنسان إلا إذا صبر الإنسان وصابر أنت لا تستطيع تقويم طباعك إلا بالتمرين والتدريب كما أن الطفل محتاج لكي يستقل على قدميه إلى أن يقوم ويسقط ويمشي ويتعثر حتى تستقيم خطواته في المشي كذلك طبعك بالضبط يحتاج إلى هذه التجارب القاسية المُرَّةِ التي تقف فيها وجهاً لوجه أمام أطماعك وأمام نزواتك وأمام شهواتك وأغراضك وأمام كل ما في نفسك من دوافع وحوافز لا تخدم القضية لكي تكبحها من خلال التجربة فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يلقى الأذى وأصحابه رضي الله عنهم كانوا يلقون الأذى لأي غاية لغاية أساسية وغاية ثانوية أما الغاية الأساسية فهي أن يقيموا أنفسهم على القاعدة الإسلامية في السلوك وفي التفكير والتقدير، وأما الغاية الثانية فلإسقاط سلاح العنف الذي كان يستخدمه المجتمع الجاهلي في وجه الدعوة هذا غريب أليس كذلك هل نسقط سلاح العنف بواسطة الصبر وبواسطة الحب ودعوة الإسلام نقول نعم وهو غريب في هذه الأيام لأن الناس تعودت أن تسمع الصراع أن تسمع العنف الثوري وأن تسمع ما لا يحصى من هذا الإجرام الذي لا ينتهي.
في الواقع أن العنف سلاح يجدي صاحبه في أوائل الطريق ولكنه في المراحل الأخيرة يدمّر صاحبه سلاح العنف مفيد في أول الطريق ضار في آخر الطريق والعنف مهما بلغت شراسته حين يقابل الفكر النير والاتجاه السليم والحب الغامر سوف يرتد على صاحبه تصور أن خصمك حينما يلاقيك بالشراسة كلها وهو يعلم عنك طيب العنصر ويعلم عنك كرم الطباع يعلم عنك المحبة الغامرة ويعلم أنك ذو السلوك الذي لا تعلق به ريبة ولا تلحق به شائبة تصوره حين يضع رأسه على الوسادة لكي ينام يحاسب نفسه لماذا أنا أخاصم هذا الإنسان يقيناً هذا الإنسان أحسن مني وأقوم أخلاقاً وأطهر سلوكاً هنا يبدأ الإنسان ينهار يبدأ طالب العنف ينهار لأنه حين يقاتلك مرة أخرى ويغامر بالوقوف منك موقف الشراسة والعنف، يقاتلك وهو فاقد الثقة بنتائج هذه المعركة مهزوم في الداخل في داخل نفسه يعاني الهزيمة، فالنبي عليه الصلاة والسلام حين كان يصبر ويصابر وحين كان يأمر أصحابه رضي الله عنهم بالصبر كان يهدف إلى هذين الهدفين الذين يجب أن لا يغيبا عن البال لحظة واحدة يهدف إلى تكوين الرجال حق الرجال اللذين يمكن أن يصبروا تحت كل الظروف ويمكن أن يصمدوا أمام الهجمات التي تنصب عليهم من الخارج وأمام النزوات التي تتفجر فيهم من الداخل ويهدف أيضاً إلى تحطيم المجتمع الجاهلي من خلال هذا الصبر الطويل.
ارجعوا إلى حوادث السيرة فالنبي صلى الله عليه وسلم يوم دعا لا شك أنه استثار عداوات واستثار مختلف النوازع وردود الفعل؛ استثارها في الناس جميعاً منهم الحاسد ومنهم الحاقد ومنهم المبغض ومنهم ومنهم.. لكنهم جميعاً التقوا على أرضية واحدة هي أرضية العداء الشرس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومضى العدوان يمشي يأخذ طريقه وكان يأخذ طريقه بشراسة يتصور الإنسان معها أنها لن تقف دون تحطيم محمد وتحطيم الذين آمنوا بمحمد وتحطيم هذه الدعوة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم.
ولكن تصوروا الأيام كيف مضت وكيف أن النبي صلى الله عليه وسلم مضى يبث دعوته في الناس وكيف أن أفراداً من خيرة المجتمع القرشي آمنت بهذه الدعوة الوليدة والتفت حول الإنسان الأمثل محمد صلى الله عليه وسلم فأسلمته قيادتها فانصب عليهم البلاء انصباب المطر فصبروا لذلك صبراً طويلاً وكان منهم من يطرح في رمضاء مكة وهو مجرد من الثياب فيعاني من الحر اللاهب الشيء الكثير ويسحب على الرمال اللاهبة فكان يمر المار ممن لا يشارك المسلمين رأيهم في هذا الإسلام ممن لا يعطف على الإسلام، بتاتاً وهذه المناظر أهي مناظر تكشف عن إنسانية أهي مناظر توحي بأن الذين يقومون بها، بقي فيهم شيء من الأمل بأي نوع من أنواع الخير لا.. كان يأتي إلى المُعَذِّبينَ فيعذل وينهى ويرد عن هذا الشر الوبيل.
علام تدل هذه الظاهرة تدل على أن موجة العنف أخذت تنحسر، وتدل على أن اللحظة التي نفذها محمد صلى الله عليه وسلم بأمر ربه بدأت تؤتي ثمارها وتعطي أكلها الكريم، تصوروا أن أبا بكر لشدة العذاب قرر أن يهاجر فمضى فلما لقيه بعض وجوه أهل مكة قال له إلى أين يا ابن أبي قحافة قال أهاجر في أرض الله فقد والله ظلمتمونا وضيقتم علينا و...و.... عدد عليه كل المآسي وكل الأهوال التي قاساها المسلمون من هؤلاء الخصوم فما كان الردّ من الرجل؟ قال له: لا يا أبا بكر إن مثلك لا يهاجر أنت زين العشيرة أنت كذا وأنت كذا وأنت كذا.(/3)
مع تصاعد موجة العنف لم يملك الجاهلي إلا أن يعترف بالموقف الجائر الذي وقفه الخصوم من هذه الدعوة وأعاده محمياً بحمايته، تصوروا أيضاً أن أبا جهل يمر على رسول الله يسمعه قولاً غليظاً وحمزة رضي الله عنه كان في قنصه وصيده وكان على شركه تلقاه امرأة من قريش فتقول له يا أبا عمارة لو سمعت ما قال أبو الحكم في ابن أخيك لقد سبه وشتمه شتماً قبيحاً منكراً قال أو فعل ذلك قالت نعم فلم يذهب إلى بيته ولم يرم سلاح الصيد وإنما مضى عامداً وهو على الشرك، إلى أندية قريش حول الكعبة فحمل قوسه فضرب بها رأس أبي جهل فشجه شجة منكرة قال له أتشتمه وأنا على دينه فلم يمكن للرجل أن يرد حرفاً واحداً ولما حاول أنصاره أن يفتكوا بالحمزة قال لهم دعوه فوالله لقد شتمت ابن أخيه شتماً قبيحاً وذهب حمزة فأسلم.
إذاً فسياسة المطاولة والمصابرة آتت أكلها على الصعيدين؛ عدلت من اتجاهات المسلمين وكفكفت من غلواء المشركين ومع ذلك هل يعني هذا أننا نستطيع أن نقول: إن مكة يمكن أن تكون أرضاً خصبة للدعوة؟ لا لم يكن أمام النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يسلك طريقة أخرى فهل هناك طرق أخرى؟ ولو أننا نقلنا القضية إلى زمننا هذا وعاملناها وفقاً للمنطق السائد اليوم عالمياً لوضعنا مخططاً ورسمنا سبلاً تؤدي إلى فتنة لا يعلم إلا الله مداها.
المجتمع المكي مجتمع قبلي ومجتمع القبائل ليس بعيداً عن أذهانكم رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الداعية في الذوابة من قريش من بين المطلب أكرم بيت في العرب على الإطلاق بشهادة والأصدقاء والأعداء على حد سواء، والذين أسلموا مع النبي صلى الله عليه وسلم كانوا في مختلف بطون قريش وكان منهم أيضاً من قبائل أخرى غير القبائل القرشية في المجتمع الجاهلي، كان يمكن لي إذا كنت ضعيفاً أن أطلب حماية العشيرة القوية أستطيع أن أطلب حماية قبيلة من القبائل القوية وحينئذ أستطيع لو كنت أفكر بتفكير اليوم أن أذهب لأثير فتنة مع خصومي وأعدائي والذين حموني مجبرون وفقاً للأعراف الجاهلية والقوانين الجاهلية التي يعاقب مخالفها أن يذهبوا ليقاتلوا معي وإذاً فمن الممكن بكل سهولة أن نحدث في المجتمع المكي الجاهلي شراً مستطيراً ومن الممكن أن نحدث فتنة لها أول ليس لها آخر كان يمكن أن يتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الطريق ولو أنه اتخذ هذا الطريق لما كان إسلام ولما كان دين.
فهذه الطرائق التي يتبناها الشيوعيون وأشباه الشيوعيين في هذه الأيام لا تثمر إلا الخبال بالنسبة للمجتمع الإنساني وكلمات العنف والعنف الثوري والصراع وما أشبه ذلك مما تلوكه أفواه الذين لا يعقلون ولا يدركون ولا يستشعرون مسؤولية المصير الإنساني يكفيهم اليوم أن ينظروا إلى الساحة البشرية ليعلموا أي تدمير وأي تخريب وأي نزع للثقة بين الناس تحدث مثل هذه الأساليب اللعينة الوسخة فالرسول صلى الله عليه وسلم داعية حب وداعية سلام وداعية وئام ولم يكن ممكناً أن يقبل من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصب الزيت على النار هذا غير ممكن كان يمكن أن يفعل ذلك ولكنه عليه السلام لم يفعل ذلك ببساطة لأن هذا يتنافى مع جوهر الدعوة ومع أهداف الدعوة إذاً ماذا بقي في مكة بقيت إمكانية واحدة إمكانية العصبية.
هل كان يمكن أن تؤدي إلى نتيجة في خدمة الغرض الإسلامي؟ نقول لا، لسبب بسيط وسبب آخر سأشرحه، أما السبب البسيط فهو أن الإسلام ليس ديناً قبلياً صحيح أن الله جل وعلا قال لنبيه (وأنذر عشيرتك الأقربين) فأمره بأن يحمل النذارة أولاً لأقرب الناس إليه ولكن هذا لا يعني تخصيص الأقربين بالدعوة وإنما يعني المراحل يعني أننا نخص أقرب الناس إلينا بالأولوية في الدعوة دون إلغاء لعمومية الدعوة وعالميتها فالإسلام دين عالمي ليس دين قبيلة ولا دين أمة ولكنه دين الناس جميعاً (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً) فالناس على اختلاف أجناسهم وألوانهم وألسنتهم وعقائدهم وأماكنهم وأزمنتهم مخاطبون بهذا الإسلام فالإسلام من حيث هو دين عالمي لا يجوز له مبدئياً أن يستخدم الأساليب المحلية من أجل الحصول على مكاسب رخيصة هذا واحد.
والشيء الثاني أن العصبية سلاح ذو حدين لاحظوا سأشرح لكم باختصار موقفاً من المواقف الشهيرة في تاريخ الدعوة أبو لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم أخو أبيه أولى الناس به وأحقهم بأن يقف إلى جانبه وفقاً للمقاييس الظاهرة للعصبية والبلاء يوم انصب على المسلمين وبلغ مراحله العليا حصر المشركون بني هاشم مسلمهم وكافرهم على سواء في شعب أبي طالب وقاطعوهم المقاطعة الشهيرة التي استمرت أكثر من سنتين ونصف السنة لكن أبا لهب بتفكير عصبي كان يفكر في منحى آخر ولكن من المنطلق العصبي من الواقع العصبي بالذات.
حينما أنزل الله تعالى (وأنذر عشيرتك الأقربين) قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا (جبل في ظاهر مكة) ونادى يا بني فلان يا بني فلان يا بني فلان فاجتمع إليه أقرباؤه فقال لهم:(/4)
"أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً تريد أن تغير عليكم وراء هذا الوادي أكنتم مصدقي".
قالوا: نعم ما جربنا عليك كذباً قط.
محمد عليه الصلاة والسلام قبل الدعوة وبعد الدعوة صادق لا يتناقش الناس في صدقه على الإطلاق قال:
"فإني لكم نذير بين يدي عذاب شديد".
فقال له أبو لهب: تباً لك ألهذا جمعتنا؟
ثم التفت إلى بني هاشم ولاحظوا قولته هذه العصبية قال لهم:
خذوا على يديه قبل أن يأخذ غيركم على يده.
ثم التفت إلى محمد صلى الله عليه وسلم وقال له إن أولى من أخذ عليك لأنا.
أراد أبو جهل أن لا تكون دعوة محمد صلى الله عليه وسلم وسيلة لإثارة القبائل على بني هاشم فعن أي شيء كان يدافع أبو لهب كان يدافع عن العصبية وبقي مستمراً في هذا الطريق مع أن العصبية أعطت ثمرة أخرى أعطت الوقوف من أبي طالب إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم حتى آخر نفس وفاء لابن أخيه الذي كفله ورباه ولكنها أعطت العكس مشايعة ومظاهرة لقريش في عدائها لمحمد صلى الله عليه وسلم لكن من منطلق عصبي وبأهداف عصبية لكي لا تتشاور قبائل قريش فتدمر بني هاشم.. القبيلة بسبب دعوة محمد صلى الله عليه وسلم.
إذاً لم يعد لدينا في الساحة على الإطلاق ما يمكن أن نأمل منه أن تزدهر الدعوة وأن تنتشر في مكة على الإطلاق يضاف إلى ذلك سبب ما أظنه يخفى على أحد؛ هذا البلد الذي هو مكة موئل البيت الذي بناه إبراهيم أبو الأنبياء عليه السلام وهذا بلد له قداسة وله حرمة لا تنبغي فيه الفتن ولا ينبغي أن يشهر فيه السلاح، والنبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بعد أن دانت له العرب واستتب له أمر الدعوة تماماً وقف يعلن أن الله حرم هذا البيت يوم خلق السماوات الأرض وأنه حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا له إن الله أحله لرسوله ساعة من نهار ثم عادت حرمته كما كانت إلى يوم القيامة فعامل ديني يمنع إثارة الفتن هناك.
اذهبوا بأنظاركم إلى ذلك البلد الذي درجت خطا محمد صلى الله عليه وسلم تقصده وتيممه إلى يثرب كانت المدينة قبل سنتين على الأقل تتسامع برسول الله صلى الله عليه وسلم ودخلها الإسلام بعد وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم رسوله معلماً للمسلمين الرجل اللبيب اللبق مصعب بن عمير رحمه الله تعالى ليفقه المسلمين ويعلمهم وذهب الرجل المترف الذي كان أنعم فتى في قريش وأعطر فتى في قريش، الرجل الذي أصبح الإسلام يساوي وجوده ويساوي حياته ماذا كان يلبس؟ ثياباً مخرقة ممزقة يمشي حافياً عليه أثر الجهد وأثر المسغبة والتعب يخدم الله ويخدم رسول الله ويخدم هذا الإسلام ذهب ليلقى المشركين في المدينة المنورة ومن الحسن الحظ ...
ملاحظة: إلى هنا وينقطع الصوت القوي، والعقل الكبير.. ولعلّ واحداً ممن كانوا يحضرون خطب شيخنا العلامة، يرسل إلينا شريطاً كاملاً لنستدرك ما فات(/5)
حول الوحدة والتنوّع في تاريخنا
أ. د. عماد الدين خليل 4/10/1426
06/11/2005
[ 1 ]
عندما تُطرح قضية التعدّدية في واقعنا المعاصر على بساط البحث، فإنها ستثير العديد من الأسئلة، قد يأخذ بعضها طابع التحدّي الذي يتطلب استجابة ما وينتظر جواباً
مقنعاً، وقد يبرز من بين هذه سؤالان أساسيان، يمضي أحدهما صوب المستقبل لكي يتابع طبيعة المتغيّرات التي يمكن أن تتمخّض عن أي محاولة جادّة تدخل في حوار فعّال مع ظاهرة التنوّع أو التعدديّة في الحياة العربية الإسلامية، ويمضي ثانيهما عائداً باتجاه الماضي موغلاً فيه حتى الجذور، لكي يتفحص حجم المحاولة على مستوى التاريخ، ولكي يضع يديه على مصداقيتها المتحققة في الزمان والمكان، ويؤشر بالتالي على فاعلية وخصوصيات التعامل الإسلامي مع الظاهرة على مستويي النوع والعدد.
وبالتأكيد، فإن القضية لا تتخلّق في الفراغ، كما أنها إذا استندت –فحسب- على أصولها العقديّة التصوّرية بعيداً عن تماسّها مع الواقع، وقدرتها على إعادة تشكيله، فإنها قد لا تمنح ـ بالنسبة لفئة من الناس ـ القناعات المتوخّاة.
بعبارة أخرى، إننا إذا قدرنا على وضع أيدينا على مجموع الوقائع التي شهدها التاريخ في هذا السياق، بعد إضافة المؤثرات الإسلامية على الظاهرة .. إذا قدرنا على تحديد النتائج المتميزة التي تمخّضت عن هذا التعامل بين العقيدة والتاريخ، فإننا سنعطي القضية المزيد من المسوّغات، وسنمنحها عمقاً تاريخياً واقعياً يُعدّ واحدة من الفرص الأساسية في اختبار الأفكار والعقائد والتصوّرات، وفي امتحان المحاولات التي تسعى إلى تشكيل المستقبل المنظور على هدْيها.
إن البُعد التاريخي لأي دعوى سيظل مطلباً لاختبار مصداقيّتها جنباً إلى جنب مع البعد التصوّري، ومدى ما يملكه من شمولية وتماسك وقدرة على الاستمرار بموازاة المطالب الإنسانية وتحديات التاريخ.
ولطالما دَرَسْنا التاريخ الإسلامي أو دُرِّسناه وفق منطلقات خاطئة متعمَّدة حيناً، وغير متعمدة أحياناً، ولكن النتيجة كانت في معظم الأحيان تعميق الخندق بين طرفي القضية، وكأن ليس هناك تأثير ذو فاعلية عالية يلتقي فيه التصوّر مع الواقع لكي يعيد بناءه أو
تشكيله، أو لكي يجري في تركيبه على الأقل تغييراً من نوع ما يعبّر في نهاية الأمر ليس فقط عن رغبة هذا الدين في إعادة صياغة العالم وفق منظوره ومقولاته، ولكن ـ أيضاً ـ عن قدرته على تحقيق هذا الهدف العزيز.
ومنذ بداية تشكّله الأولي وحتى العصر الحديث، تضمّن مجرى التاريخ الإسلامي خبرات وحدوية غنية متواصلة تجعل المرء يميل إلى الاعتقاد بأن التوجّه الوحدوي للأمة الإسلامية، على مُستويَي القواعد والقيادات، ليس مجرد خصيصة من خصائصها، بل هو محرك أساسي لمساحات واسعة من تحقّقها التاريخي.
لكن هذا ليس سوى أحد وجْهَي الظاهرة أو الحالة التاريخية، وإن كان هو الوجه الأكثر ثقلاً وامتداداً، فهناك بموازاته، بل في نسيجه، تعدّدية من نوع ما .. تنوّع هنا
وهناك، في السياسة، وفي الاجتماع، وفي الثقافة، وفي الفكر والمذهب، بل حتى في الدين. ( لنتذكر ـ أيضاً ـ أحادية الماركسية ومصادرتها لفكر الآخر وعقيدته ودينه. لنتذكر أيضاً محاولة الكاثوليكية الإسبانية المسيّسة على يد فرديناند وإيزابيلا ورجال الدين، تلك التي ألغت أمة كاملة من الحساب. لنتذكر هذا قبالة تنوّع النسيج الديني في معظم مساحات التاريخ الإسلامي، حيث أُتيح للنصراني واليهودي والمجوسي والصابئي والبوذي والهندوسي .. إلى آخره .. أن يعبّر عن نفسه وأن يقول كل ما يريد أن يقوله، وأن يمتلك مقوّمات الديمومة والبقاء والامتداد في بيئة إسلامية لم تمارس-في الأعم الأغلب- أي مصادرة أو قسر أو نفي لعقائد الآخرين).
ولكن ـ أيضاً ـ وبمتابعة متأنية للتعددية أو التنوع في خبرتنا التاريخية، فإننا سنجد كيف أنها تتناغم ـ أحياناً ـ مع التوجّه الوحدوي بل قد ترفده وتدعمه وتغذَّيه، جنباً إلى جنب مع حالات الانشقاق والتضادّ والتنافر التي شكلتها بعض صيغ التعددية المتطرفة في موقفها إلى حدّ الخصومة والعزلة والانغلاق، بل ـ ربما ـ الإفساد والتخريب.
[ 2 ]
لنتابع ـ بالإيجاز المطلوب الذي يتيحه مقال كهذا ـ ثنائية العام والخاص، أو الوحدة والتنوع، في تاريخنا، في محاولة للإمساك ببعض خيوطها على الأقل.
فمنذ لحظات الرسالة بدا بوضوح ذلك التدرّج المرسوم من الخاص إلى العام: الإنسان والدولة والأمة؛ إذ يغدو التوحّد هدفاً عقدياً وسياسياً وتشريعياً.
أما في العصر الراشدي فقد شهد التوجّه الوحدوي للأمة الناشئة تحركاً(/1)
على مستويين: تمثل أوّلهما في التصدّي الحاسم للردّة والتمزق والتفوّق عليهما، على الرغم من ضراوتهما، إزاء انحسار القدرات السياسية والعسكرية للدولة الإسلامية. وتمثل ثانيهما في حركة الفتوحات الشاملة التي استهدفت تكوين الوحدة الإسلامية العالمية، وتمكنت ـ بالفعل ـ من تحقيقها، فيما لم يشهد التاريخ مثيلاً له في كثافة معطياته واختزاله الزمني.
وكما كانت حركة الردّة حالة عارضة طارئة باتجاه التمزّق، ما لبثت القيادة الراشدة أن طوتها لكي تواصل الطريق صوب العالمية، فإن الفتنة التي شهدتها دولة الإسلام في أواخر خلافة عثمان (رضي الله عنه) قدمت نموذجاً لحالة اعتراضية أخرى، مارست فيها (القبلية) تأثيراً ملحوظاً، وكادت تُلحق بوحدة المسلمين أذى كبيراً، ثم ما لبثت أن طُويت فيما سُميّ بعام الجماعة ( 41 هـ ) وهي تسمية تحمل دلالتها ولا ريب، حيث أُتيح للقيادة الأمويةـ بغض النظر عن الجدل حول مسألة الحكم أو الشرعيةـ أن توحّد الأمة، وأن تمضي خطوات أخرى باتجاه توحيد العالم تحت ظلال الإسلام.
ثم جاءت العصور التالية لكي تشهد صيغاً متنوعة للممارسة الوحدوية يمكن تصنيفها وفق السياقات الأساسية الآتية:
أولاً: مجابهة محاولات الانشقاق والتفكك (التحدّيات الداخلية).
ثانياً: الدفاع عن وحدة الأرض الإسلامية (التحديات الخارجية).
ثالثاً: ظهور التنوّع في القيادات السياسية والإقليمية وتأكّده، مع الحفاظ على الوحدة في الأسس والأهداف والملامح العامة.
وإذا كان السياقان الأوّلان واضحين إلى حدّ كبير في توجّهاتهما الوحدوية فضلاً عن أنهما قيل فيهما الكثير، فإن من الضروري أن نقف لحظات عند السياق الثالث لتبيّن طبيعة العلاقة بين الثوابت الوحدوية وبين التنوّع والتغاير الذي قد يتحرك في إطار هذه الثوابت، وقد يخرج عنها ـ بدرجة أو أخرى ـ إلى حالة من التفكّك الذي يندفع باتجاه التشرذم العرقي حيناً، أو التعبير عن طموح فرديّ أو سلاليّ حيناً آخر.
وفي الحالتين كانت الظاهرة التعدّدية تتحرك بشكل عام باتجاه مضادّ لوحدة الأمة والدولة، وتضع الخلافة (الأم) أمام الأمر الواقع، فتقرّ بقبولها حيناً فيما يصطلح عليه الفقهاء بـ (إمارة الاستيلاء)، أو تعلن الحرب عليها حيناً آخر. وثمة حالة ثالثة كانت الخلافة تستبق فيها المتغيرات التاريخية الضاغطة فتسارع في تصميم أو قبول (الكيان الإقليمي) الذي يعينها على مجابهة هذه المتغيّرات أو التخفيف من نتائجها، ويكون (لها) بدلاً من أن يكون (عليها).
ولقد انطوت التعدديّة السياسية في تاريخ الإسلام على الإيجاب والسلب معاً، ذلك أن التفكك ـ ابتداءً ـ ظاهرة تتعارض مع التوجّهات الوحدويّة التي سهر الإسلام وقياداته السياسية على صياغتها وحمايتها، بل إنها قد تندفع ـ كما ألمحنا ـ باتجاه التشرذم العرقي أو السلالي، وقد تعبّر عن طموح فردي، هذا فضلاً عن أنها فتحت الطريق لخصوم الأمة لكي يدلوا بدلوهم ويقيموا دولهم وكياناتهم السياسية التي رفعت سيف المذهب أو القوّة في مواجهة قناعات الأمة وثوابتها العقدية والسياسية ( كما هو الحال في بعض التجارب الإسماعيلية والباطنية).
لكن هذا كله ليس الوجه الوحيد للظاهرة، فهناك الوجه الآخر الذي ينطوي على معطيات إيجابية، بدءًا من قبول الخلافة والأمة للتعدّديّة في بعض الأحيان وعدم رفضها أو إعلان الحرب عليها، وانتهاءً بالجهد العقديّ والسياسيّ الذي نفذه العديد من الكيانات الإقليمية لصالح الأهداف العامة للأمة والخلافة، دفاعاً عن دار الإسلام، ونشراً للعقيدة خارج الأرض الإسلامية، أو تأكيداً لحيثياتها في مواجهة الخصوم في الداخل، هذا فضلاً عن إثراء حضارة الإسلام بمفردات خصبة في هذا السياق أو ذاك.
ويصعب على المرء أن يخضع الحركة التاريخية للقياس بالمسطرة، وبالتالي فإننا لا نستطيع أن نصدر حكماً أحادي الرؤية على التنوّع أو التعدّديّة السياسية في تاريخنا؛ فهي قد تضمنّت ـ كما رأينا ـ السلب والإيجاب معاً، فلم تكن شراً كلها، كما أنها لم تبلغ
الحالة الإيجابية التي تختار فيها الجماعات ـ في إطار الثوابت الإسلامية بطبيعة الحال ـ
(تنظيمها) لحياتها بما يضمن لها حقوقها وحرّياتها في الرأي والتعبير والاجتماع والمشاركة في تقرير السياسة على قدم المساواة مع غيرها، مهما كان حجمها، مع التزامها ـ مرة أخرى ـ بالواجبات التي يفرضها عليها انتماؤها للأمة الواحدة.
وعلى الرغم من ذلك فإن بمقدور المرء أن يلحظ كيف أن التعدّديّة السياسية في تاريخنا لم تبلغ- إلاّ في حالات استثنائية لا يُقاس عليها- أن تدخل عنق الزجاجة أو تصل إلى الطريق المسدود، فتكشف عن وجه عرقي يميل إلى اعتزال قضايا الأمة أو ربما إعلان الحرب عليها، فيما يضعه في خط التشرذم الإقليمي الذي عانت منه أمتنا، ولا تزال في أعقاب الصدمة الاستعمارية وقبول فكر الغالب.
[ 3 ](/2)
إن حضارة الإسلام وتاريخه عموماً- كما لاحظ كثير من المؤرخين والمستشرقين- هي حضارة (الوحدة والتنوّع)، ولقد انعكس ذلك على ظاهرة نشوء الدويلات والكيانات الإقليمية في عالم الإسلام، فصرنا نجد تنوّعاً في التشكيلات السياسية التي انشقت عن جسد الدولة، ونجد في الوقت نفسه وحدة وتجانساً وتكاملاً في العطاء الحضاري، وفي الأساليب والأهداف الكبرى.
وفيما عدا حالات محدودة شاذة عن القاعدة الشاملة، حالات ظهر فيها عدد من الدويلات تبنّت مبادئ وعقائد باطنية وشعوبية ذات جذور غريبة عن عقيدة الإسلام وتصوّراته وقيمه، ومارست قواها الذاتية لا في الدفاع عن أرض الإسلام وعقيدته ووحدة مقدّراته، وإنما ضدّها (كما فعلت دولة قرامطة البحرين على سبيل المثال) ، بل إن بعضها (كالدولة البابكية في أذربيجان) سعت إلى عقد محالفات ومواثيق مع الأعداء الخارجيين المتربّصين على الحدود .. فيما عدا هذه الحالات فإن معظم التشكيلات السياسية التي شهدها عالم الإسلام، شاركت حسب قدراتها وطاقاتها في خدمة وحدة هذا العالم عقدياً وسياسياً وحضارياً، ولن تغني الأمثلة الموجزة هنا عن واقع تاريخنا نفسه.
إن حضارة الإسلام إذ تقوم على قاسم مشترك من الأسس والثوابت والخطوط العريضة، بغض النظر عن موقع الفعالية الحضارية في الزمان والمكان، وعن نمطها وتخصّصها، فإنها تنطوي ـ في الوقت نفسه ـ على حشد من الوحدات المتنوعة بين بيئة ثقافية وأخرى في إطار عالم الإسلام نفسه، بحكم التراكمات التاريخية التي تمنح خصوصيات معينة لكل بيئة، تجعلها تتغاير وتتنوّع فيما بينها في صنوف من الممارسات والمفردات الثقافية.
إنها جدلية التوافق بين الخاص والعام، أو ما يمكن عدّه أممية إسلامية تعترف بالتمايز بين الجماعات والشعوب والأمم، ولكنها تسعى في الوقت نفسه لأن تجمعها على صعيد الإنسانية، وهي محاولة تختلف في أساسها عن الأممية الماركسية التي سعت ـ ابتداءً وبحكم قوانين التنظير الصارمة- إلى إلغاء التنوع، ومصادرته، وإلى تحقيق وحدة قسرية ما لبثت أن تأكد زيفها وعدم قدرتها على التحقّق تاريخياً. وبمجرد إلقاء نظرة على خارطة الاتحاد السوفياتي حتى قبل حركة (البرسترويكا) والرفض المتصاعد الذي جوبهت به الأممية الماركسية من قبل الجماعات والأقوام والشعوب التي تنتمي إلى بيئات ثقافية متنوعة، ومقارنة هذا بما شهده التاريخ الإسلامي من تبلور كيانات ثقافية إقليمية متغايرة في إطار وحدة الثقافة الإسلامية وثوابتها وأسسها الواحدة وأهدافها المشتركة، يتبين مدى مصداقية المعالجة الإسلامية وواقعيتها في التعامل مع هذه الثنائية كواحدة من حشود الثنائيات التي عولجت بالقدرة نفسها من الانفتاح في الرؤية والمرونة في العمل.
لقد شهد عالم الإسلام ـ بموازاة التنوع السياسي ـ أنشطة ثقافية متمايزة على مستوى الأعراق التي صاغتها: عربية وتركية وفارسية وصينية ومغولية وبربرية وإسبانية وزنجية وكردية وأفغانية وسلافية .. إلى آخره. كما شهدت أنماطاً ثقافية على مستوى البيئات والأقاليم: عراقية وشامية ومصرية وسودانية ومغربية وإسبانية وبحر متوسطية وإفريقية وأوروبية شرقية وإيرانية وتركية وتركستانية وصينية وهندية .. إلى آخره.
وكانت كل جماعة ثقافية تمارس نشاطها بحرية، وتعبر من خلاله عن خصائصها، وتؤكد ذاتها، ولكن في إطار الأسس والثوابت الإسلامية، بدءًا من قضية اللغة والأدب، وانتهاء بالعادات والتقاليد، مروراً بصيغ النشاط الفكري والثقافي بأنماطه المختلفة. ولم يقل أحد إن في هذا خروجاً عن مطالب الإسلام التوحيدية، كما إن أحداً لم يسع إلى مصادرة حرية التغاير هذه. وفي المقابل فإن أياً من هذه المتغيّرات لم يتحول ـ إلاّ في حالات شاذة ـ إلى أداة مضادّة لهدم التوجهات الوحدويّة الأساسيّة لهذا الدين(/3)
حول قداسة الحكّام في تاريخنا
أ. د. عماد الدين خليل 21/9/1426
24/10/2005
[ 1 ]
طالما ردّد الكثير من الباحثين في دوائر الاستشراق النصراني أو الماركسي، بأن هناك صعوبة كبيرة تقف في وجه الدارس للتاريخ الإسلامي، وهي أن الشخصيات الإسلامية أُحيطت بالقدسية ولاسيما الخلفاء، بل إنه حتى أولئك الخلفاء الذين بلغوا أقصى حدّ من الانهيار والانحراف، ظلّوا محاطين بالتقديس ما داموا يستمدون سلطتهم من الدين بصفتهم منفّذين للشريعة ومفسّرين لكلمة الله!
والحق أن هذه المقولة قد لا تعني شيئاً على الإطلاق إن لم تُضبط وتُحدّد تحديداً
دقيقاً، ومن ثم فإن إطلاقها على عواهنها قد يكون نوعاً من التعميم الذي هو نقيض البحث العلمي الجاد.
فإذا أُريد بالقدسية: العصمة أو التنزيه عن الخطأ والنقد والاعتراض ـ وهذا هو الراجح ـ فإن الشخصيات الإسلامية، بما فيها الخلفاء، كانت تجتهد رأيها فتصيب وتخطئ. وكلنا يذكر عبارة مالك بن أنس (رحمه الله): " كل بني آدم يُؤخذ منه ويردّ عليه إلاّ صاحب هذا القبر" ويعني النبيّ المعصوم عليه أفضل الصلاة والسلام. بل إن الخلفاء الراشدين (رضي الله عنهم) قالوها مراراً وأعلنوها تكراراً: إنهم جاؤوا لكي ينفذوا أمر الله، ويلتزموا شريعته المتضمنة في كتاب الله وسنة رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) فإن أصابوا فبها، وإن أخطؤوا فإن من حق الأمة التي ارتضتهم أن تقوّمهم وتردّهم إلى الطريق.
وكلّنا يذكر خطبة أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) التي استهلّ بها خلافته "أيها الناس، إني قد وُليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأطيعوني، وإن أسأت فقوّموني .. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم .." .. ويذكر خطبة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه): "ولست أدع أحداً يظلم أحداً حتى أضع خدّه على الأرض، ثم أضع قدمي على الخدّ الآخر. ثم إني أضع خدّي على الأرض لأهل العفاف وأهل الكفاف".
ويذكر غير هذا وذاك الكثير من الوقائع في هذا الاتجاه. قال حذيفة بن اليمان: دخلت على عمر بن الخطاب ـ يوماً ـ فرأيته مهموماً حزيناً فقلت له: ما يهمك يا أمير المؤمنين؟ قال: إني أخاف أن أقع في منكر فلا ينهاني أحد منكم تعظيماً. فقلت: والله لو رأيناك خرجت عن الحق لنهيناك!! ففرح عمر وقال: الحمد لله الذي جعل لي أصحاباً يقوّمونني إذا اعوججت!
ويوماً صعد على المنبر وقال: يا معشر المسلمين ماذا تقولون لو ملْتُ برأسي إلى الدنيا كذا؟ فقام إليه رجل فقال: أجل .. كنا نقول بالسيف كذا (وأشار بالقطع). فقال عمر: إياي تعني بقولك؟ أجاب الرجل : نعم إياك أعني بقولي. فقال عمر: رحمك الله! الحمد لله الذي جعل في رعيّتي من إذا تعوّجت قوّمني!
وعن الحسن بن علي (رضي الله عنهما) قال: كان بين عمر بن الخطاب وبين رجل كلام في شيء، فقال له الرجل: اتّق الله. فقال رجل من القوم: أتقول لأمير المؤمنين اتق الله؟ قال عمر: دعه، فليقلها لي، نِعْم ما قال. لا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فينا إذا لم نقبلها!
ويوماً نادى: الصلاة جامعة .. فلما اجتمع المسلمون صعد المنبر وقال: أيها المسلمون، لقد تذكرتني وأنا أرعى لخالات لي من بني مخزوم فيقبّضنني القبضة من التمر أو الزبيب. ثم نزل. فقال له عبد الرحمن بن عوف: ماذا أردت بهذا يا أمير المؤمنين؟ فأجاب: ويحك يا ابن عوف ، لقد خلوت إلى نفسي فقالت لي: أنت أمير المؤمنين، وليس بينك وبين الله أحد؛ فأنت أعلى الناس، فأردت أن أعرّفها قدرها!
وعثمان بن عفان ( رضي الله عنه ) وقف ـ فيما يحدثنا الطبري في تاريخه ـ يدافع عن نفسه أمام جموع الثائرين، ويدلي بحججه واحدة تلو أخرى وهم يثنّون عليها، وأبى أن تُسفك من أجله قطرة دم واحدة ، فضلاً عن أن يحتمي ـ وحاشاه ـ بقدسية مزعومة تضع بين خلفاء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وبين جماهير أمتّهم سدًّا ، وتدمّر حقهم في الاعتراض.
وعلي بن أبي طالب (رضي الله عنه) وقف متهماً جنباً إلى جنب مع المدّعي
عليه، وهو أمير المؤمنين، والمدّعي يهودي من غير أبناء الأمة المتفوّقة .. يقف قبالة القاضي لكي يدفع التهمة عن نفسه.
وعمر بن عبد العزيز (رحمه الله) يعلن عن جائزة قدرها ثلاثمائة دينار لكل
من يقطع الطريق الطويل، ويجيء إلى دمشق ـ قاعدة الخلافة ـ لكي يقول هناك كلمة
(الحق) في مواجهة أمير المؤمنين!
[ 2 ]
تجاوز الخلفاء الراشدون (رضي الله عنهم) ما يسمى بالديمقراطية التي عرفها الغرب والتي كانت في كثير من الأحيان لا تعبّر سوى عن مصالح شرائح محدّدة من
المجتمع .. تجاوزوها إلى نوع مركّب من الديموقراطية (إذا استخدمنا تعبير مالك بن نبي رحمه الله) .. فكانوا يطلبون من جماهير أمتهم أن تنقدهم وتقوّمهم، ويحضّونها على ذلك، ويربّونها عليه.(/1)
بل إن الراشدين يمضون إلى ما هو أبعد من هذا، فيقاتلون شبح الافتتان في أنفسهم وعند الآخرين .. والافتتان وجه من وجوه القداسة، ومقاتلته تعني إشهار الحرب ضد القداسة الموهومة التي لا تقوم على أساس، والتي تقترب بالناس ـ أحياناً ـ من حافات الصنمية التي جاء الإسلام ثورة حاسمة لاستئصالها من الضمائر والنفوس.
لقد عزل عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قائده الفذّ خالد بن الوليد خشية افتتان الناس به بسبب من انتصاراته العجيبة فيما تذهب إليه أرجح الروايات.
وهو يلاحق جذور الافتتان في أعماق نفسه من أجل أن يستأصلها، وهو من أجل ذلك يمارس نوعاً من تعرية الذات في مواجهة (الآخر) كي يحقق هدفه بأكبر قدر من الدفع والتكشّف، فيما مرّ بنا قبل قليل.
والمواقف كثيرة مزدحمة، والراشدون يمنحون تاريخ البشرية غنى عجيباً في دائرة حرية التعبير، والنقد، والمعارضة. وغير الراشدين ممن ساروا على هديهم، واقتفوا خطواتهم حكاماً وخلفاء وأمراء، قدّموا مثلاً عملياً على إسقاط مفهوم القداسة بمعنى التنزّه عن النقد والمعارضة والإدانة .. وبمعنى الافتتان بالذات، والارتفاع فوق رؤوس الناس، وتدمير تحرّرهم الوجداني الذي هو قاعدة شهادة (لا إله إلا الله) كما يفهمها المسلمون بعفوية وصدق بالغين!
وإننا لنذكر ها هنا ـ فضلاً عما أوردناه ـ ما فعله السلطان المجاهد نور الدين محمود ( 541-569 هـ ) في أعقاب انتصار من انتصاراته الحاسمة ضد الصليبيين عند قلعة حارم في شمالي الشام عام 559 هـ؛ إذ يتقدّم منه قاضي قضاته الشيخ النيسابوري ويقول له: لولا بلاؤك ما تحقّق لنا النصر! فماذا يكون الجواب؟: " مَنْ نور الدين محمود الكلب
حتى تقول له هذا؟ قبلي من حفظ الإسلام وبعدي من سيحفظه، ذلك هو الله الذي لا إله إلاّ هو !!".
وفي فترات زمنية سابقة كان الخليفة العباسي قد اعتقل مالك بن أنس وأبا حنيفة النعمان (رحمهما الله) لأنهما أصدرا فتوى بشرعية إحدى الثورات ضده!! وضرب خليفة عباسي آخر الإمام أحمد بن حنبل بالسياط؛ لأنه رفض الاعتراف بالمذهب الاعتزالي
الذي أعلنته الدولة مذهباً رسمياً!! وهؤلاء هم فقهاء الأمة وممثلوها أمام الله .. والسلطان .. والحق .. فلو كان الخليفة العباسي "مقدّساً" أو "محاطاً بهالة من القدسية" -كما يدّعي العلمانيون والماركسيون ونصارى الاستشراق ويهوده - فكيف يبيح هؤلاء الفقهاء لأنفسهم خرق قدسية تستمدّ مقوّماتها من الدين الذي يعبّرون عنه ويذودون؟
وليس مهمّا أن يدّعي بعض خلفاء بني العباس قدسية ما أنزل الله بها من سلطان، يذودون بها عن سلطتهم .. وليس مهّما ـ أيضاً ـ ادّعاؤهم حق التفويض الإلهي بحكم المسلمين حكما مطلقاً .. ولكن المهم هو موقف الخلفاء الأكثر تمثيلاً لحقيقة هذا الدين إزاء هذه القضية، وقد أشرنا إلى نماذج منه .. كما أن من المهم موقف جماهير الأمة وقادتها من المسألة نفسها، وقد عرضنا لشاهد منه ..
وما لنا ألاّ نرجع إلى الرسول المعلّم نفسه (عليه أفضل الصلاة والسلام) وهو النبيّ المبعوث، لنعاين بعض مواقفه إزاء القدسية المزعومة هذه .. تلك المواقف التي تصفع مقولات كذَبَة العصر الحديث ودجّاليه من أعداء هذا الدين ..
رأى (صلى الله عليه وسلم) رجلاً يرتعد أمامه تعظيماً وخوفاً فقال له: هوّن عليك فإنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد وتمشي في الأسواق!
وكان يقول لأصحابه: لا تقوموا لي كما تقوم الأعاجم لأكاسرتها! وعندما خرج لتشبيع ابنه الصغير إبراهيم .. حدث وأن تعرّضت الشمس لكسوف جزئي فقال بعض المشيعين: إنها كسفت لموت إبراهيم .. فردّ رسول الله: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تنكسفان، ولا تنخسفان لموت أحد من الناس ..
وعندما دخل مكة فاتحاً .. وهو حلمه الكبير الذي انتظره السنوات الطوال، دخلها وهو يطأطئ رأسه حتى مسّت لحيته الشريفة ظهر ناقته القصواء شكراً لله سبحانه، وعرفاناً بالنصر الذي منحه إياه ..
نقارن هذا بصورة نابليون بونابرت المعلّقة على جدران اللوفر في باريس، لحظة دخوله برلين فاتحاً بعد معركة (ينّا) ضد الألمان عام 1807م .. كان منتفخ الأوداج .. مصعّر الخدّ .. دافعاً بصدره إلى الأمام غروراً واستكباراً ..
فأين هو ادّعاء القدسية يا أدعياء البحث العلمي في التاريخ ؟!
[ 3 ]
فماذا عن موقف "مؤرّخينا" من مسألة القدسية المزعومة هذه؟(/2)
مع اعترافنا المحتوم بحشود الأخطاء التي وقع فيها معظمهم، مبالغة أو تحزّباً أو تحريفاً أو قبولاً للأكاذيب، مما دفع مؤرّخاً كابن خلدون إلى وضع (مقدمته) المعروفة لصياغة معايير منهجية من أجل حصر وتجاوز هذه الأخطاء في التعامل مع المرويات التاريخية .. رغم هذا، فإن معظم هؤلاء المؤرخين حكوا عن الأسود والأبيض في سير الخلفاء وغير الخلفاء .. والتقديس الذي أحاط به بعض الخلفاء أنفسهم، لم يمنع العديد من المؤرخين من سرد الحقائق كما هي حتى وإن كشفت عن عيب أو نقيصة في هذا الخليفة أو ذاك .. بل إن مؤرخاً كبيراً كالطبري رفض قبول أي هدية من السلطة من أجل ألاّ يكون ذلك على حساب تحرّره من أي ضغط، وقدرته على سرد الحقيقة كما هي دون زيادة أو نقصان.
وثمة فرق كبير بين اعتبار الخليفة محوراً أساسياً تتمحور عنده الرواية التاريخية بسبب من دوره الأساسي في صناعة الحدث التاريخي، وبين إحاطته بالقدسية التي تخرجه بالكلية عن دائرة النقد والتقويم، وتحيطه بالهالة التي يخدع بها عامة المسلمين، والتي تجعل المؤرخ أو دارس التاريخ الإسلامي لا يستطيع أن يتناسى هذه القدسية التي أُضفيت على الخلفاء وغير الخلفاء، ولا يستطيع أن يجرّدهم من الهالة الدينية التي زادها مرور الزمن شدة وقوة! كما يزعم خصوم هذه الأمة!
وبمقدور أي قارئ عادي، فضلاً عن الدارس المتخصّص، أن يرجع إلى أي من مصادرنا التاريخية: ( المسعودي في مروج الذهب، أو الطبري في تاريخ الرسل والملوك، أو الدينوري في الأخبار الطوال، أو ابن الأثير في الكامل، أو ابن كثير في البداية والنهاية .. وغيرهم) لكي يرى بأم عينيه حشوداً من الروايات التي تمدح هذا الخليفة أو ذاك، وحشوداً أخرى تقدح فيه، وتنشر مثالبه أمام الأجيال! وهو أمر قد لا يحتاج بأكثر من إلقاء نظرة عجلى على معطيات تلك المصادر.
وثمة ما يجب أن نقف عنده لحظات ها هنا، ذلك أن تراث الأجداد في ميدان البحث التاريخي لا يقتصر على نمط واحد فحسب هو التاريخ السياسي العام، كالذي أنجزه المؤرخون الذين أشرنا إليهم، لكي نبني عليه حكماً عاماً ينطوي على كونه تاريخاً للفئة الحاكمة أولاً، وعملاً يتجاوز النقد ويتحاشى الكشف عن العيوب والأخطاء بسبب من إحاطة أفرادها بالقدسية، من جهة ثانية .. فنحن ـ حتى على فرض التسليم بهاتين المقولتين اللتين قد ترتبطان بمصنّفات التاريخ السياسي العام ـ فإن علينا أن ننتبه إلى الأصناف الأخرى من التآليف في حقل التاريخ والحضارة الإسلامية. وأوّل ما يلفت النظر في هذا السياق، ذلك الصنف المعروف "بكتب التراجم"، والتي تمثل الصنف الأكثر كثافة وازدحاماً في المكتبة التاريخية الإسلامية؛ إذ تكاد تغطي نسبة سبعين إلى ثمانين بالمائة من رفوف هذه المكتبة.
وكتب التراجم هذه، بمساحتها الواسعة تلك، لا تتعامل -إلاّ في حالات محدودة- مع الفئة الحاكمة، وتقف عندها، ولكنها تمضي إلى قلب المجتمع، إلى كل أولئك الذين أغنوا الحياة الفكرية والثقافية في تاريخ الأمة المسلمة، علماء وفقهاء ونحاة وأطباء وقضاة ولغويين ومحدّثين وشعراء ومعماريين ومهندسين وفلاسفة وفلكيين ومفسّرين وجغرافيين ومؤرخين .. إلى آخره .. بصرف النظر عن قربهم أو بعدهم عن السلطة .. وبالتالي بصرف النظر عن كل محاولات القداسة التي يدّعي الباحثون إياهم أن رجالات السلطة قد أحاطوا أنفسهم بها، فصدّوا البحث التاريخي بالتالي، عن أن يمضي قدماً للكشف عن الحقائق بشكل موضوعي غير متحيّز.
إننا، في دائرة كتب التراجم هذه، نلتقي بمئات، بل بألوف الناس الذين جاؤوا من قاع المجتمع حيناً، ومن طبقاته الوسطى حيناً آخر، والذين ما كانت لهم أيما علاقة مباشرة أو غير مباشرة بمراكز الحكم والسلطان، ومن ثم فإن بمقدور الباحث في العصر الحديث أن يجد أمامه واحدة من أوسع الشرائح في مجموعة المصادر التاريخية بعداً عن ادّعاءات التأثيرات الخاصة بقدسية الحكام!
فإذا أضفنا إلى كتب التراجم، الأنماط الأخرى التي تغذّي البحث التاريخي، والتي لا ترتبط هي الأخرى بمراكز الحكم والسلطان، من مثل كتب الجغرافيا والرحلات، والتاريخ المحلّي، وتواريخ المدن والأقاليم، وكتب الخطط، ومصادر التاريخ الأدبي، والمصنفات الموسوعية .. إلى آخره .. أدركنا كم أن القياس على مصادر التاريخ السياسي العام وحدها يتضمن قدراً من التعميم الخاطئ الذي هو نقيض المطالب المنهجية. هذا رغم أنه ـ مما يتناقض مع هذه المطالب كذلك ـ اعتبار مصادر التاريخ السياسي العام انعكاساً لحالة التقديس ـ المبالغ فيها ـ والتي قال الأدعياء بأن الخلفاء والحكام أحاطوا بها أنفسهم، فصدّوا المؤرخين عن إنجاز أعمال تتسم بالدقة والموضوعية كما خُيّل إليهم ..
[ 4 ](/3)
ثمة ما يرتبط بما ذكرناه لدى قساوسة الاستشراق وحاخامات التفسير المادي للتاريخ وأنصاف الملاحدة من العلمانيين .. وكلهم من خصوم هذه الأمة وعقيدتها وتاريخها، رغم أن بعضهم من المحسوبين على الجغرافيا الإسلامية ويحملون في دفاتر نفوسهم أسماء إسلامية!!
إنهم يخلطون بين الخلفاء الراشدين ومن تبعهم بإحسان، وبين غيرهم من سلاطين المسلمين وخلفائهم وحكامهم .. ثم هم يخلطون هؤلاء جميعاً بأباطرة النصرانية وملوكها وباباواتها في القرون الوسطى؛ إذ لا اعتراض ولا نقد؛ لأن الاعتراض يعني الكفر،
والنقد يعني الهرطقة .. وصكوك الغفران تمضي بهؤلاء وهؤلاء إلى حافات الذّل والعذاب في الحياة الدنيا، وتدمغهم بالطرد من الجنة في الآخرة .. ثم هم يمضون خطوة أخرى فيعلنون أن أوروبا قدرت على فصل الدين عن السياسة في نهاية الأمر، فحرّرت السلطة هناك من القداسة، ومكنّت المؤرخين ـ بالتالي ـ من أن يكتبوا تاريخاً أشد دقة وإحكاماً، بينما عجز الشرق الإسلامي عن تحقيق هذا الفصل فامتلأ تاريخه بالتزوير والتحوير! وأصبح من ثم بحاجة-بعد إذ تحقق الفصل الموعود- إلى أن يُكتب من جديد!
لقد كان اقتران الديني بالدنيوي في أوروبا ـ ولأسباب تاريخية ليس هذا مجالها ـ نقيضاً لحرية التعبير الفكري أو المذهبي أو الذاتي، بل نقيضاً حتى لحرية التعبير العلمي، ومن ثم جاءت خطوة فك الارتباط بين الحلقتين -وبعد صراع مرير- لصالح الحرية الإنسانية في مجالاتها كافة، بما فيها البحث العلمي والتاريخي على وجه الخصوص؛ إذ لم يعد ثمة ما يصدّ الباحث عن المضي قدماً في التحقق بأكبر قدر من الموضوعية.
وعلى العكس تماماً، فإن اقتران الديني بالدنيوي في عالم الإسلام، كان تأسيساً للحرية وتأكيداً لها في سائر السياقات الفكرية والمذهبية والذاتية، ودفعة قوية في مجال حرية التفكير وإنشاء مؤسسات وتقاليد ومناهج البحث العلمي الذي يؤكد الغربيون اليوم كم أنهم في حضارتهم المتفوّقة الراهنة مدينون بصدده لعالم الإسلام وحضارته وتقاليده.
وهؤلاء الأدعياء يتوهمون، أو يتعمدون التوّهم، بأن هناك توازياً بين التجربتين النصرانية والإسلامية، ويصرّون على استخدام عبارة "العصور الوسطى" كإطار زمني للتجربتين من أجل تأكيد وهمهم هذا، وهو أسلوب في التعميم لا يستند إلى أساس سليم. فليس المهم أن تحدث التجارب في زمن واحد، وإنما المهم هو طبيعة التجربة ومكوّناتها الأساسية، وتوجّهاتها الرئيسة. فها هنا بصدد الطبيعة والمكونات والتوجهات، نجد التجربتين تفترقان ابتداء، وعلى زاوية مائة وثمانين درجة، فتذهب إحداهما في اتجاه وتمضي الأخرى في اتجاه معاكس تماماً، ومن ثم فإن أي مقارنة بين التجربتين تحترم العلم والمنهج، يجب أن تلحظ هذا، وإلاّ فإنه التعصّب الأعمى، أو الجهل، مما يجعل أدعياء العلمية هؤلاء يخلطون بين التجربتين، ويضعون البيض كلّه في سلة واحدة.
لقد كانت إحدى أهم نقاط الارتكاز في العقيدة والتصور الإسلاميين هو التحرّر العقلي والسلوكي والوجداني من أي شبهة قد تقود إلى القداسة والصمنية والافتتان، وإقامة الأسلاك الشائكة ضد النقد والتقويم. ولقد كان هذا أمراً طبيعياً؛ لأنه ينبثق عن قاعدة الإسلام الأساسية: التوحيد المطلق لله سبحانه، وضرب كل صور الشرك والعبودية لغيره. حتى إننا لنجد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يبذل جهداً صعباً مع أصحابه الكرام (رضي الله عنهم) فيربّي فيهم هذا الحسّ بدءًا من التعامل معه كنبيّ، وأن عليهم أن يفرّقوا بشكل حاسم بينه كرسول ينقل إليهم تعاليم السماء، ويفسّرها، ويوضحها، وبينه كإنسان (بشر) فيما أكده القرآن الكريم أكثر من مرة: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ...)[الكهف: من الآية110]، (...قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً)[الإسراء: من الآية93].
بينما في التجربة النصرانية المحرّفة تصير القاعدة هي الشرك والتثليث، وتصبح قداسة الأشخاص وصنميات التسلسل الكهنوتي حاجزاً عالياً صعباً يصدّ المنتمين للنصرانية عن أي محاولة للتحاوز بالنقد والتقويم والاحتجاج؛ لأنهم ـ ابتداءً ـ انكسروا من الداخل .. اعتادوا الانحناء للرموز النصرانية وعدم مواجهتها بسبب من أنهم مُرّرت عليهم أسطورة التثليث والقداسة فتكيّفوا عقلياً وسلوكياً ووجدانياً وفق مطالبها الموهومة.
ولقد انعكست كل من التجربتين الإسلامية والنصرانية على التاريخ.. على معادلات الزمان والمكان، فتشكلت أولاهما وفق مبادئ ومنطلقات تختلف في جوهرها عما تشكلت به الأخرى(/4)
حول معنى الزنديق
ما معنى زنديق؟
وهل الشيعة يعتبرون من الزنادقة؟
الزندقة في كلام نفر من أهل العلم تعني الملحد الذي لا دين له، وهذا هو المعنى الشائع للكلمة.
أما الزنديق في كلام شيخ الإسلام فتعني المنافق نفاقا أكبرا.
قال شيخ الإسلام: في مجموع الفتاوى [7/471-472]
((والمقصود هنا أن الزنديق في عرف هؤلاء الفقهاء هو المنافق الذي كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أن يظهر الإسلام ويبطن غيره سواء أبطن دينا من الأديان كدين اليهود والنصارى أو غيرهم أو كان معطلا جاحدا للصانع والمعاد والأعمال الصالحة ومن الناس من يقول الزنديق هو الجاحد المعطل وهذا يسمى الزنديق في اصطلاح كثير من أهل الكلام والعامة ونقلة مقالات الناس ولكن الزنديق الذي تكلم الفقهاء في حكمه هو الأول))
الزنديق
هو الذي نفاقه اعتقادي ولكنه يظهر كفره ويدعو له ويعرف ذالك عنه وإذا أقيمت عليه الحجة واستتيب جحد ما ظهر منه من الكفر.
والزنديق لغة: أسم فارسي معرب أصل لفظه (زنده كرد) الذي يرى الحياة المادية ولا يؤمن بالروحانيات (الغيبيات).
روى أبو إدريس قال: (أوتى على رضى الله عنه بناس من الزنادقة ارتدوا عن الإسلام فسألهم فجحدوا، فقامت عليهم البينة العدول قال فقتلهم و لم يستتبهم قال وأوتيت برجل كان نصرانيا و أسلم ثم رجع عن الإسلام قال فسأله فأقره بما كان منه فاستتابه فتركه فقيل كيف تستتيب هذا ولم تستتب أولئك قال: أن هذا أقر بما كان منه وأن أولئك لم يقروا وجحدوا حتى قامت عليهم البينة فلذلك لم استتبهم وفي رواية قال أتدرون لما استتبت هذا النصراني؟ استتبته لأنه أظهر دينه وأما الزنادقة الذين قامت عليهم البينة جحدوا فإنما قتلتهم لأنهم جحدوا وقامت عليهم البينة).
قال ابن تيمية: (فهذا من أمير المؤمنين على رضى الله عنه بيان أن كل زنديق كتم زندقته و جحدها حتى قامت عليه البينة قتل ولم يستتب وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقتل من جحد زندقته من المنافقين لعدم قيام البينة) (الصارم المسلول: 360).
وعن عكرمة قال (أوتى على رضى الله عنه بزنادقة فأحرقهم فبلغ ذالك أبن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم لنهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا تعذب بعذاب الله ولقتلتهم لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بدل دينه فاقتلوه ) (البخاري: 6922).
قال القاضي أبو يعلى و غيره: (وإذا أعترف بزندقة ثم تاب قبلت توبته لأنه باعترافه يخرج عن حد زندقته لان الزنديق هو الذي يستبطن الكفر ولا يظهره فإذا اعترف به ثم تاب خرج عن حده فلذا قبلنا توبته ولهذا لم يقبل على رضى الله عنه توبة الزنادقة لما جحدوا)
وعن علي -رضى الله عنه- في قصة حاطب بن بلتعه: (فقال عمر دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق قال النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: أعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) فدل على أن ضرب عنق المنافق ومن غير استتابته مشروع إذ لم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على عمر استحلال ضرب عنق المنافق و لكن أجاب أن هذا ليس بمنافق و لكنه من أهل بدر المغفور لهم فإذا أظهر النفاق الذي لا ريب أنه نفاق فهو مباح الدم) (الصارم المسلول: 361).
قال ابن القيم: (ومما يدل على أن توبة الزنديق بعد القدرة لا تعصم دمه وقوله - تعالى -: [قل هل تربصون بنا إلا أحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا] (التوبة: 52).
قال المسلمين في الآية: ((أو بأيدينا) أي بالقتل أذا أظهرتم ما في قلوبكم فهؤلاء كما قالوا لأن العذاب على ما يبطنونه من الكفر بأيد المؤمنين لا يكون إلا بالقتل فلوا قبلت توبتهم بعد ما ظهرت زندقتهم لم يكن المؤمنين أن يتربصوا بالزنادقة أن يصيبهم الله بأيديهم لأنهم كما أرادوا أن يعذبوهم على ذالك أظهروا الإسلام فلم يعابوا قط). (أعلام الموقعين: 244).
قال ابن تيمية: (ولهذا تنازع الفقهاء في استتابة الزنديق فقيل يستتاب واستدل من قال ذالك بالمنافقين الذين كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبل علانيتهم ويكل أمرهم إلى الله فيقال له هذا كان في أول الأمر وبعد هذا أنزل الله: [ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا] (الأحزاب: 61).
(والزنديق هو المنافق وإنما يقتله من يقتله أذا ظهر من أنه يكتم النفاق قالوا ولا نعلم توبة لأن غاية ما عنده أنه يظهر ما كان يظهر وقد كان يظهر الإيمان وهو منافق ولوا قبلت توبة الزنادقة لم يكن سبيل إلى تقتيلهم والقرآن قد توعدهم بالقتل) (كتاب الإيمان: 198).
وقال ابن تيمية: (ويدل على جواز قتل الزنديق والمنافق من غير استتابة قال - تعالى -: [ومنهم من يقول أذن لي ولا تفتني... إلى قوله - تعالى -.. أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا] (التوبة: 44 - 52).
قال أهل التفسير: (أو بأيدينا) أي بالقتل أذا أظهرتم ما في قلوبكم قتلناكم) (الصارم المسلول).(/1)
قال قتادة وغيره قوله: [وممن حولك من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق إلى قوله - تعالى -... سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم] (التوبة).
(قالوا في الدنيا بالقتل وفى البرزخ عذاب القبر) (الصارم المسلول: 326).
وأيضا يدل على ذالك قوله - تعالى -: [يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه أن كانوا مؤمنين](التوبة).
و قوله - تعالى -: [سيحلفون بالله لكم أذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم أنهم رجس و مأواهم جهنم] (توبة: 95).
و قوله - تعالى -: [يحلفون لكم لترضوا عنهم فأن ترضوا عنهم فأن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين] (التوبة: 96) و قوله - تعالى -: [يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر] (التوبة: 74).
و قوله - تعالى -: [أذا جاءك المنافقون قالوا] (المنافقون: 1 2).
و قوله - تعالى -: [اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين] (المجادلة: 16).
وقد كان المنافقون يرضون المؤمنين بالأيمان الكاذبة وينكرون أنهم كفروا وذالك دليل على أنهم يقتلون أذا ثبت ذالك عليهم بالبينة ولوا أظهروا التوبة قبل ذالك لم يحتاجوا إلى الحلف و الإنكار ولكانوا يقولون لقد تبنا فعلم أنهم كانوا يخافون أن يعاقبوا من غير استتابة واليمين أنما يكون أذا لم تأت بينة عادلة تكذبها أما كذبتها بينة عادلة إنخرقت اليمين فجاز قتلهم ويدل على ذالك قوله - تعالى -: [يا أيها النبي جاهد الكفار و المنافقين وأغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير * يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر].
قال حسن و قتادة: (بإقامة الحدود عليهم وقال ابن مسعود فبيده فأن لم يستطع فبلسانه فأن لم يستطع فبقلبه، قال أبن عباس وإبن جريج باللسان و تغليظ الكلام و ترك الرفق)(الصارم المسلول: 347).
تعريف بعض العلماء للفظ الزنديق:
قال مالك: (الزنديق ما كان عليه المنافقون و كذا أطلق جماعة من الشافعين و غيرهم أن الزنديق هو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر).
قال النووي: (الزنديق الذي لا ينتعل دينا (أي لا يتبع دينا) فكل زنديق منافق من غير عكس) (فتح الباري: 12: 271).
http://www.ahlalhdeeth.com المصدر:(/2)
حول نقد أفكار رواد النهضة
جمال سلطان 27/3/1425
16/05/2004
بعد أن نُشر حوارٌ لي في إحدى الصحف العربية المعروفة تعرض بشكلٍ موسع للموقف من رموز النهضة العربية الحديثة، مثل الشيخ محمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، وعبد الرحمن الكواكبي، وغيرهم ، اتصل بي بعض الإخوة الباحثين والمثقفين معاتبًا لما يراه تهوينًا من شأن هؤلاء الرموز، وإقلالاً من قدرهم، وتجاهلاً لإنجازاتهم في سبيل تحريك فكر الأمة، ووعيها نحو النهضة المأمولة، ولم يكن هذا الذي تصوروه مبتغاي أبدًا من مثل هذا الحوار، ولا هو مبتغاي من الكتابات السابقة.. التي نشرتها في نقد تراث هذه الحقبة وتلكم الرموز، والحقيقة أن هذه المرحلة ضاعت بين تيَّارين من الباحثين، وكلاهما متحمس لوجهة نظره: تيار مغالٍ في هذه الرموز، ويراهم صناعَ نهضةٍ، وأنهم بعثوا الأمة من مرقدها، وأنهم روَّاد تنوير، والأمة مدينة لهم بفتح آفاق الفكر والاستنارة أمامها. وتيار آخر متطرف يرى هؤلاء دعاةَ رجعيةٍ وتخلف، وأنهم شدوا المجتمعات العربية إلى الأفكار القديمة، والتراث المندثر، وأعاقوا انطلاقة الفكر العربي نحو التحديث والسباق الحضاري الجديد، ممَّا أدى بنا إلى تكريس التخلف والجمود، ويزيد هؤلاء أن من آثار ذلك الجهد الفكري تولَّدت تيارات "الإسلام السياسي" الجديدة0 هذا التباين الشديد في موقف الطرفين حرمنا كثيرًا من استبانة الموقف بموضوعية ونزاهة وتأملٍ عاقل، والحقيقة أن هناك طرفًا ثالثًا أقلَّ حضورًا في هذا الجدل من التيار الإسلامي، وهم طرف يقف موقف الخصومة الشخصية من رموز هذه المرحلة وفق مقاييس شرعية محددة، ودون نظرٍ إلى الأبعاد الكاملة لقضية ذلك الفكر، ويجتهد في اتهام رموزه في نواياهم أو انتماءاتهم أو ولاءاتهم ونحو ذلك، وهذا الفريق -على قلته- حوَّل المسألة من رصد حالةٍ إنسانية وفكرية وتاريخية إلى تقييم أخلاقي وديني وسياسي مجردٍ لهؤلاء الأشخاص، وهذا منحىً خاطئٌ جدًّا في مثل هذه الأحوال، ويبعد بنا عن تحصيل فائدة البحث التاريخي، والاستفادة أيضًا من ثمرات التحليل والتقييم الموضوعي للمرحلة، حتى لا تتكرر أخطاؤها، وحتى نفيد مما يكون بها من إيجابيات، وهو ما لا تخلو منه أيّة تجربةٍ فكرية أو اجتماعية، وفي تقديري أن الموقف الصواب من تلك المرحلة وأشخاصها ورموزها هو موقف الرصد والتحليل للحالة الاجتماعية والنفسية والفكرية التي نشأ فيها هذا الفكر وظهر عطاءُ رموزه، بحيث نفهم الأسباب الحقيقية التي أثمرت توجهاتهم الفكرية، وأيضًا لكي يمكن لنا الإجابة عن السؤال الكبير : لماذا فشلت جهودهم وأفكارهم على مدار أكثر من قرن من الزمان حتى اليوم في إحداث النهضة المأمولة، أو تحريك الأمة قدمًا نحو نبض الحياة الجديدة ومدارج الحضارة؟ لماذا فشلت الإجابات التي قدموها في خطبهم ومقالاتهم وكتبهم وحواراتهم عن أسئلة النهضة.. حتى عادت الأمة بعد كل هذا العمر لكي تطرح نفس الأسئلة التي كانت تطرحها قبل أكثر من مئة عامٍ بانتظار إجاباتٍ جديدة.. بما يعني أنها لم تقبل بالإجابات الفكرية التي قدموها، ولم تعمل وفقها، أو أنها لم تستطع هضم هذه الرؤى الجديدة؟ هذه هي القيمة الأهم في دراسة هذه المرحلة، وبالتالي لا ينبغي أن يكون للحماسة الشخصية مجالٌ في عملية البحث والتحليل والتقييم، سواء في نقد تراثهم وعطائهم، أو في الدفاع عنه، ومحاولة إعادة الاعتبار إليه، وأيضًا ينبغي أن يبعد الأمر عن كونه إدانةً شخصية لهؤلاء الرموز، أو دفاعًا شخصيًّا أيضًا عنهم.. الأمر ينبغي أن يكون أبعد عن الأشخاص، وأقرب إلى التجربة والفكرة والرؤية التي طرحت. وفيما يخص الحالة الإسلامية على سبيل المثال هناك اندفاعٌ كبير في اتهام الشيخ الأفغاني بأنه كان ماسونيًّا، وكذلك الشيخ محمد عبده، وذلك لثبوت مشاركاتهم في اجتماعات بعض المحافل الماسونية، وأجد في كتابات بعض الإسلاميين احتفالاً كبيرًا بهذه التهمة وحرصاً متزايدًا على تأكيدها، وبالدرجة التي تحرمهم من رؤية الأبعاد المختلفة للشخص وأفكاره، يكفي أن يشار إلى أنه "ماسونيٌّ" حتى نهيل التراب على مجمل تجربته وأفكاره بكل تعقيداتِها وتشعباتها، وتحولات صاحبها نفسه على مدى السنين والتجارب، ودون أن يبذل الباحث قدرًا من الجهد لكي ينقب عن وضع الماسونية في تلك المرحلة، ومدى وعي المثقفين بها، وإدراكهم لأبعادها التي أدركها الناس بعد ذلك بحكم التجربة والمآلات والنتائج، إذ إن الأمانة العلمية تقتضي النظر في هذه الخلفيات كلها؛ لأنها مؤثرةٌ جدًّا في تقييم الحدث، وتقييم الشخص وانتمائه وولائه أيضًا.(/1)
أيضًا في تجربة شخص مثل قاسم أمين؛ فهناك قدرٌ من السطحية في دراسة حالته، وبعض الكتابات الإسلامية تتوقف عند حد اتهامه بأنه مَن أدخل فكرة تحرر المرأة على النمط الغربي إلى المجتمع العربي، ودعا إلى السفور، وأهان الحجاب، وكسر حاجزًا للأخلاق والفضيلة انهارت من بعده قيم المجتمع، وهذا صحيح، ولكن المسألة ليست في إدانة قاسم أمين، وإنما في معرفة الظروف التي ولد فيها فكره، والتحولات التي طرأت عليه، والمؤثرات التي وَجَّهتْه وِجْهَتَه من قبل سياسيين أو رجال سلطة أو رجال فكر أو رجال إعلام وصحافة أو حتى علماء دين، وما هي الطرق التي تمَّ بها تدعيم أفكاره في المجتمع، وتحويلها إلى سلوك تسلل إلى المرأة والمجتمع، وكيف تسلل.. هذا هو الأهم من إدانة قاسم أمين، لأننا قد نكتشف أننا أمام مئة قاسم أمين آخرين في عواصم الإسلام المختلفة، وقد نكتشف أن هناك طابورًا مستنسخًا من "قاسم أمين" يتم الترتيب له الآن لكي يؤدي الدور القديم الذي أداه قاسم الأول وفق تعديلات توافق العصر والزمان الجديد؛ وبالتالي فنجاحنا في دراسة حالة قاسم أمين من جميع أبعادها، سوف يعين الناصحين لهذه الأمة اليوم في أن يتصدوا للنسخ الجديدة من قاسم، ويحبطوا المؤامرات التي تمكن لفكرته وتوسع لها0 إن هذه المؤامرات هي الأخطر من فكر قاسم، لأن النظر في فكر قاسم مجردٍ ستجده كلامًا تافهًا، وعقلية شديدة التسطيح والاضطراب والسذاجة، وإنما الخطورة كانت فيمن وسع له واستثمره وروج لجوهر فكرته وتلاعبَ بالعقول والوجدانات من أجل أن يمكّن لها في المجتمع العربي المسلم المحافظ.
مرحلة ما يسمى بالنهضة الحديثة، مرحلة خصبة جدًّا، ومليئة بالدروس والعبر، ومعظمها ما زال حاضرًا بمعانيه وأفكاره وألاعيبه، ومن العيب.. بل الخطر أن نتجاهل هذه الدروس المهمة في خضم بحثنا عن إدانة شخصٍ أو التحمس لآخر(/2)
حياة القائد بين القدوة والاقتداء
د. علي بن حسن علي القرني
كلية القيادة والأركان للقوات المسلحة
ملخص البحث
إن القدوة الذي دار معظم ما ورد في هذا البحث عن دوره وأهميته هو ما تفتقده أمتنا اليوم في شتى مناحي الحياة وميادينها ولو فُعِّل دور القدوة اليوم بالشكل الذي يطالبنا به ديننا لتغير الحال إلى ما تصبوا إليه الأمة من عزة وسؤدد فقدناه .
لقد ركز البحث على فئة هي من أكبر فئات المجتمع تأثيراً إذا ما تحسست دورها فيما يتعلق بالاقتداء منها وبها ألا وهم ( القادة ) القادة في كل ميدان يرأس فيه إنسان مجموعة من الناس سواء كان قائداً عسكرياً أو مدنياً وقد تم في هذا البحث إعطاء تعريف محدد للقائد في اللغة والاصطلاح .
وبينت الفرق بين الأسوة والقدوة وأن بينها عموم وخصوص ثم حاولت أن أزيد المعنى وضوحاً حول مفهوم القدوة فحاولت أن أدون الأساس النفسي في عملية الاقتداء . بعدها جاء بيان أنواع القدوة وأنها لا تخرج بحال عن نوعين قدوة صالحة وهو ما ركز عليه البحث ، وقدوة سيئة وهو ما حذر منه البحث ، كما تضمن البحث بيان أصول القدوة الصالحة وأنها تعود إلى أصلين هامين هما حسن الخلق ، وموافقة القول للعمل ولأن البحث يدور حول القائد ودوره في عملية الاقتداء ركزت على أنه لا مناص للقائد من دوره كقدوة لكن عليه أن يكون قدوة صالحة لا سيئة كما ركزت أيضاً على أن عليه في الوقت نفسه أن يكون مقتدياً بقائد القادة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها كان التأكيد على أهمية القدوة الصالحة وبيان آثارها الحميدة أما الفصل الثاني فقد دار حول بيان وتوضيح دور آخر للقائد لا يقل أهمية عن الدور الأول ألا وهو دور القائد في الدعوة والاحتساب بين أفراده تخلل ذلك تزويده بشيء من فقه الدعوة والاحتساب فبعد أن بينت ما يجب أن يعد به القائد نفسه ليكون مستعداً للقيام بهذا الواجب فيما يتعلق بصفاء العقيدة من الشرك وسلامة الأخلاق من الانحراف والتحصين بالعلم زودته بتعريف للمحتسب والحسبة وبينت له أهمية الحسبة في حياته بخاصة وحياة المسلمين بعامة كما أنني عددت له شروط المحتسب وآدابه ثم جاء بيان شروط إنكار المنكر ، وخطوات إنكار المنكر ومراتب تغيير المنكر ، وختمت تلك الأحكام الفقهية فيما يتعلق بالاحتساب ببيان شروط وضوابط تغيير المنكر بالقلب فبمجموع هذه القواعد الفقهية للاحتساب يكون القائد مستعداً للقيام بهذا الدور الحيوي الهام .
وختمت البحث بخاتمة بينت فيها بعض التوصيات والنتائج سائلاً الله أن أكون وفقت في هذا الملخص لإعطاء فكرة مفهومة للبحث والله الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل .
المقدمة :
الحمد لله الذي أمر بالإقتداء وأصلي وأسلم على من جعله ربه قدوة لكل قدوة محمد وعلى آله وصحبه وبعد . فإن القائد الذي هو محط أنظار مرؤسيه قدره أنه قدوة لا مناص له من ذلك ، ومن هنا جاء إعداد هذا البحث الذي ركزت فيه على ما يتعلق بالقدوة الصالحة التي نريد للقائد المسلم أن يتمثلها وقد جعلته في فصلين .
في الفصل الأول أوضحت مفهوم القدوة ، وأهميتها والفرق بين القدوة والأسوة ، وكذلك بيَّنت دور الأساس النفسي في عملية الإقتداء ، ثم ذكرت أنواع القدوة وأصول القدوة الصالحة ، وختمت الفصل بنقطة مهمة جداً ألا وهي القائد بين القدوة والإقتداء حاولت فيها أن أبيَّن أن القائد الذي هو قدوة كما تقرر في النقاط قبلها هو في الوقت نفسه مقتدياً بقائد القادة محمد رسول الله وغيره من قادة الأمة الأفذاذ .
أما الفصل الثاني وهو بعنوان القائد قدوة ومحتسب بين أفراده فقد ركزت فيه على تزويد القائد بشيء من فقه الحسبة الذي هو عدته في إصلاح نفسه ومن ثم استصلاح من هم تحت مسئوليته من مرؤسيه وبهذا أكون قد أوضحت أهمية بل وخطورة الدور الذي يمثله القائد من خلال منصبه والموقع الذي يتبوأه سواء كان قائداً عسكرياً أو مدنياً فإذا ما أدرك كل قائد هذه الأهمية للموقع الذي هو فيه عمل مجتهداً على الوفاء بمتطلباته منصبه الذي هو تكليف قبل أن يكون تشريف ومطلب قبل أن يكون مغنم وبتحقق هذا من قبله يتحقق للأمة الذي يمثلها هذا القائد الناجح العز والتقدم والرقي .
نسأل الله أن يحقق للأمة الإسلامية كل ما تصبو إليه من عز وسؤدد إنه القادر على ذلك وحده وصلى الله وسلم وبارك على من لا نبي بعده
وهذا البحث ليس الا جهدا متواضعا فيما يتعلق بالقدوة بشكل عام الى جانب جهود سبقته خدمت الموضوع وبينت الدور العظيم بل والحساس للقدوة لعل من ابرزها فيا اطلعت عليه الكتب التاليه:
1.القدوة الصالحة اخلاق قرآنية ونماذج ربانية للاستاذ حسين ادهم جار
2.القدوة الصالحة وأثرها في الدعوة للدكتور /علي بن حسن القرني.
الفصل الأول : القدوة وأهميتها
تمهيد :(/1)
إن استقامة المؤمن على دينه ، وقوة علاقته بربه ، وحسن خلقه وتعامله يعكس التَدَّين الحقيقي لجوهر تلك النفس التي بين جنبيه ، والذي يفيض عنها ذلك التأثير الذي يجذب إليه الأفئدة ويجمع عليه القلوب فيكون كل ذلك مدعاة للتأثير والاقتداء .
وفي هذا الفصل سأحاول أن أتعرض لبيان مفهوم القدوة الصالحة التي أراها لازمة للقائد بحكم المكانة التي هو فيها فيعمل على تقمصها بدل أن يتقمص ضدها فهو لا محالة متقمص إحداهما شاء أم أبى لأن موقعه ومكانه بين مرؤسيه هو مكان اقتداء كذلك سأشير إلى أهمية هذا الدور الذي هو فيه وهو ( القدوة ) حتى يتحسس خطورته فيختار لنفسه ما ينقذها ويليق بها . ويبعدها عن ما يشينها وبالتالي يكون سبباً في فشل قيادته والقدح في سيرته وفيه سيكون . بيان الفرق بين القدوة والأسوة ، والأساس النفسي في عملية الإقتداء، وانواع القدوة ، واصول القدوة الصالحة ، ثم يكون ختام الفصل اهمية القدوة الصالحة 0
تعريف القدوة :
في اللغة :
جاء في المعجم الوسيط ( 1 ) ( القدوة : يقال فلان قدوة إذا كان يقتدى به ، ولي بك قدوة . ومنها قوله ( اقتدى به ، أي فعل مثل فعله تشبهاً به ) .
وفي لسان العرب ( 2 ) ( القدوة من التقدم ، يقال فلان لا يقاديه أحد ولا يباريه أحد ولا يجاريه أحد وذلك إذا تميز في الخلال كلها ) .
أما في الاصطلاح :
( فالاقتداء هو طلب موافقة الغير في فعله ) ( 3) .
والقدوة هو الأسوة والعكس ، فالأسوة كما يقول القرطبي رحمه الله (هو ما يتأسى به أي يعتزي به فيقتدي به في جميع أحواله ) ( 4) .
ومن خلال ما جاء في كتب اللغة وبعض كتب التفسير عن القدوة يتضح لنا أن القدوة لا تتحقق بصفة واحدة ، ولكن يلمح ابن منظور في لسان العرب إلى شمول القدوة للصفات كلها ، فلا يتحلى بخلة دون خله ومن هنا وجب على القائد المسلم الذي نريده أن يكون قدوة صالحة أن يتمثل شمائل النبي صلى الله عليه وسلم ويطبق كل ما أثر عنه في سلوكه وأخلاقه ويتأسى به في كل أفعاله .
كذلك اتضح لنا من التعريفات ضرورة أن تكون الخلال التي يتخلق بها أصلية لا مصطنعة ، وكلما كانت الصفات والخلال الحسنة فطرية ومترسخة في الإنسان كان تأثيرها في الغير أكبر ، وكان داعي التخلق بها والاقتداء والمحاكاة منهم أشد .
وإذا قلنا إن الصفات يجب أن تكون خلقية فطرية أو مغروسة بالتمرن والتخلق وطيبة تجذب الآخرين وتدعوهم للمحاكاة فإنه ينبغي أن يكون القدوة أيضاً قدر الإمكان حسن الهيئة غير ذميمها حتى تنجذب إليه الأعين وأن يكون لين الجانب غير فظ ، يقول الحق تبارك وتعالى في شأن قدوة كل قدوة محمد صلى الله عليه وسلم ( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك . فأعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين ) ( 5 ) .
وأجمل ما تكون الخلال التي يتخلق بها القدوة إذا كانت مستوية مستقيمة على دينه وخاضعة له أو نابعة منه . ثم إن من الأفضل أن يكون القدوة ذا طريقة واضحة حتى يسهل الاقتداء به على ضوئها دون غموض .
والاقتداء فيه معنى التشبه فأنت إذا اقتديت بشخص ما قلدته فإذا حصل تقليده حصل التشبه به . ومن الناحية الشكلية فإن لفظة القدوة تذكر باعتبار صاحبها وتؤنث باعتبار اللفظ فللذكر والأنثى تطلق كلمة ( قدوة ) لا فرق .
هل القدوة هي الأسوة ؟
مر بنا أحد المعاني في التعريفات بما يفيد أن القدوة هي الأسوة ومع ذلك فإن المتتبع يجد أن كلا اللفظتين وإن ظهر بينهما توافق في المعنى في بعض الجوانب إلا أن هذا التوافق ليس على إطلاقه فلا تزال بين اللفظتين فروقاً يمكن حصرها في أن :
(1) التأسي أشد في بابه من الاقتداء .
(2) التأسي يجعل معنى الالتزام من الغير بشكل أقوى ولذلك فإنها جاءت مع النبي صلى الله عليه وسلم باعتباره أفضل الأنبياء والمرسلين ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة … الآية ) ( 6 ) .
أما القدوة فقد جاءت مع غيره من الأنبياء والصالحين من الصحابة وغيرهم ( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ) ( 7 ) يعني بالأنبياء والرسل السابقين لمحمد صلى الله عليه وسلم جميعاً ، وكذلك ما ورد في قوله صلى الله عليه وسلم ( اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ) ( 8 ) .
الأساس النفسي في عملية الاقتداء :
إن فكرة وجود القدوة تقوم على أساس منطوقة تأثير الطباع في الطباع. ( وحاجة الناس إلى القدوة النابعة من غريزة تكمن في نفوس البشر أجمع هي التقليد ، وهي رغبة ملحة تدفع الطفل والضعيف والمرؤوس إلى محاكاة سلوك الرجل ، والقوي ، والرئيس ، كما تدفع غريزة الانقياد في القطيع جميع أفراده اتباع قائده واقتفاء أثره ) ( 9 ) . وعلى هذا الأساس يتضح لنا أن عملية الاقتداء ليست حالة طارئة قد تحصل وقد لا تحصل ولكنها كما تقدم غريزة مغروسة في نفس كل إنسان تظهر متى وجد واحد من عناصرها الثلاثة وهي :
(1) الرغبة في المحاكاة والاقتداء :(/2)
فالطفل أو الفتى مدفوع برغبة خفية لا يشعر بها نحو محاكاة من يعجب به في لهجة الحديث ، أو أسلوب الحركة ، أو المعاملة ، وهذا التقليد قد يكون في حسنات السلوك وقد يكون في سيئاته ، وقد تلاحظ في بعض المرؤسين مع قائدهم شيء من هذا فتجد المقتدي ( المقلد ) يقلد رئيسه وقائده في بعض الحركات حتى في طريقة ونبرة الصوت وحركة الشفائف ، وهذا لاحظناه في أوساط قواتنا المسلحة ممن يعجبوت ببعض قادتهم ويتأثرون بهم .
(2) الاستعداد للتقليد :
لكل مرحلة من العمر استعدادات وطاقات محددة وعلى هذا نجد الإسلام لم يأمر الأطفال بالصلاة قبل سبع سنوات ، ولا يمنع ذلك من ترك الطفل يقلد أبويه بحركات الصلاة قبل أن يبلغ السابعة ومن الظروف التي تهيب بالناس جميعاً استعداداً لتقليد الأزمات والكوارث والآلام الاجتماعية التي يتحول معها القائد ليكون أباً وبطلاً يحاكيه كل مرؤسيه في كل سلوك من حياته ومن تلك الأسباب أيضاً الشعور بالضعف أمام القوة فالمغلوب يقلد الغالب . كما يقول ابن خلدون في مقدمته ( المغلوب مولع بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده ، والسبب في ذلك أن النفس تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه ) ( 10 ) .
(3) الهدف :
إن لكل تقليد هدفاً وقد يكون هذا الهدف معروفاً لدى المقلد وقد لا يكون معروفاً ، فعدم وضوح الهدف أو معرفته تكون لمجرد المحاكاة والتقليد فقط ، وأما وضوحه فقد يرتقي معه وعي التقليد لدى المقلد حتى يصبح عملية فكرية يمزج فيها بين الوعي والانتماء والمحاكاة والاعتزاز وعندها يرتقي بهذا التقليد إلى مفهوم راق في الإسلام ، يطلق عليه ( الاتباع ) وأرقى هذا الاتباع ما كان على بصيرة ( 11 )، يقول الحق تبارك وتعالى ( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ) ( 12 ).
فإذا ما أدرك القائد هذا وعرفه كان لزاماً عليه أن يراعي وجود هذه الغريزة لدى مرؤسيه ، فيجتهد بعد ذلك أن لا يعمل ولا يتصرف إلا على وحي مما كان عليه قدوته وقدوة المسلمين بعامة نبينا وقائدنا محمد صلى الله عليه وسلم فيكون القائد قد استثمر هذه الفطرة عند مرؤسيه فيما يعود على الجميع بالنفع والفائدة .
أنواع القدوة :
عند النظر في وضع الكلمة اللغوي وما جاء في تعريفها اصطلاحاً نتبين بدقة أن المُعرفين لكلمة القدوة يميلون إلى صرفها نحو الوجه الحسن فينحازون بها إلى القدوة الصالحة المؤثرة في الغير ويعتبر هذا المنحى أساسياً وظاهراً في الوضع اللغوي ومن أوضح الأدلة على بيان ذلك وبيان معالم القدوة الصالحة قوله تعالى ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة … ) ( 13 ).
فالقدوة الحسنة هي التي تأست وتمثلت شمائل النبي صلى الله عليه وسلم في صبره ومصابرته ومجاهدته وخلقه واقتفت أثره في كل شيء ونهجت نهجه وتمسكت بسنته ولا بأس أن نستأنس بمثال ساقه صلى الله عليه وسلم يوضح فيه أثر كلا النوعين من القدوة ؛ القدوة الصالحة والقدوة السيئة ليُقرِب المعنى ويرسخ المفهوم ويوضح الأثر الذي يمكن أن يتركه القدوة في نفوس مقلديه والذين يحاكون أخلاقه وتصرفاته يقول صلى الله عليه وسلم ( مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك ( 14 ) وإما أن تبتاع منه ( 15) وإما أن تجد منه ريحاً طيبة ، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحاً منتنة ) (16) .
إن الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا المثال المحسوس أراد أن يبين تلك الآثار التي يمكن أن يتركها الجليس الصالح - والذي يمثل القدوة الحسنة – فيمن يجالسه فالمسلم إذا اختار جليسه الصالح ثم اقتدى به يكون قد ضمن لنفسه الاقتداء بقدوة صالحة ولو أردنا أن نقف على بعض الآثار التي يتركها الجليس الصالح فيمن يجالسه لوجدنا أنه يأمر جليسه بالخير والمعروف وينهاه عن الشر ويسمعه القول الصادق والعلم النافع ثم هو يعرفك عيوب نفسك ويشغلك عن ما لا يعنيك وهو دائماً يدلك على الخير ويرغبك فيه ويحذرك من الشر وما يزال معك على هذا الحال حتى يكون فعلاً كبائع المسك الذي لا يمكن أن ينالك منه إلا ما كان طيباً .
وهكذا يكون كل قدوة في الخير لا يصدر عنه إلا ما كان خيراً يفيض على عقول الناس كما تفوح رائحة المسك من بسطة بائعه .(/3)
وقد ينحرف الإنسان في سلوكه ويدبر أموراً مضره ويحفر حفراً للشر يريد بها غيره . فيصير عندئذ قدوة سيئة يحتذي حذوه كل من فسدت طويته ، وساء خلقه ، وفي هذا نرى أرباب الشر في كل مكان يتزعمهم أقواهم تدبيراً ويسمى هذا النوع بالقدوة السيئة ، وبالطبع فإن القدوة السيئة هو على نقيض ما هو عليه القدوة الصالحة الذي يتأسى بشمائل الرسول صلى الله عليه وسلم والقدوة السيئة يتمثل أخلاق الشياطين من الجن والإنس ، والقائد لاشك يدرك أنه قدوة شاء ذلك أم أباه ، فإذا كان الأمر كذلك فلا بديل أبداً في أن يختار النوع الأول وهو أن يكون قدوة صالحة ، وبذلك يضمن أن لا يصدر عنه في تصرفاته وأخلاقه إلا ما يخدم مصلحته ومصلحة مرؤسيه .
ومن هذا نخلص إلى القول بأن أنواع القدوة لا تخرج عن نوعين قدوة صالحة وقدوة سيئة .
يقول الشيخ عبدالرحمن السعدي ( 17 ) ( الأسوة نوعان أسوة حسنة وأسوة سيئة فالأسوة الحسنة هي الرسول صلى الله عليه وسلم ومن نهج نهجه، وأما الأسوة بغيره إذا خالف ( أي خالف الرسول ) فهو الأسوة السيئة .
أصول القدوة الصالحة ( 18 ) :
إن أصول القدوة الصالحة التي يكون بها القائد قدوة طيبة لغيره ترجع إلى أصلين كبيرين هامين هما : حسن الخلق ، وموافقة العمل للقول . فإذا تحقق هذان الأصلان حسنت سيرة القائد وأصبحت سيرته الطيبة دعوة صامتة إلى كل خلق إسلامي جميل وإن فاته هذان الأصلان ساءت سيرته وصارت قيادته مثلاً سيئاً يُنَفّر الطيبين من حوله .
فأما الأصل الأول وهو حسن الخلق فعلى القائد أن يتمثل كل الأخلاق الإسلامية الحميدة مثل الصدق ، الأمانة ، الصبر ، الرحمة ، التواضع ، المخالطة التي تتخللها المودة والمحبة ، العطف ، الإيثار والرفق وما إلى ذلك .
وأما الأصل الثاني هو موافقة العمل للقول فإن على القائد أيضاً أن يحذر كل الحذر أن تخالف أفعاله أقواله فإن النفس مجبولة على عدم الانتفاع بكلام من لا يعمل بعلمه ولا يوافق فعله قوله ولهذا حذرنا الله عن ذلك بقوله
( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ، كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) ( 19 ) .
والقائد الذي لا يعتني بهذا الأصل من أصول القدوة مثله كمثل طبيب قام أمام الناس يشرح أضرار التدخين مستعيناً في ذلك بكل الوسائل والأدلة التي تثبت ما يقول ثم فجأة ومع متابعة من يتكلم معهم له وانجذابهم إلى ما يقول نراه يخرج سيجارة من جيبه ويشعلها أمامهم ثم يبدأ يدخنها !!!؟
القائد قدوة ومقتدياً(/4)
كما سبق تقريره من قبل من أن القائد لا ينفك عن كونه قدوة فهو في الوقت نفسه مقتدياً ومقلداً ومتأسياً بسلفه من قادة الأمة الإسلامية وأولهم أسوة وقدوة كل قدوة محمد رسول الله وصحبه . إن القائد يحاكي سيرة المثل الكامل نبي هذه الأمة صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه الحق تبارك وتعالى ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة … ) ( 20 ) والذي قالت فيه زوجه عائشة وهي تصف خلقه عليه الصلاة والسلام ( كان خلقه القرآن ) أي أنه صاغ نفسه في فعله وقوله على نحو مما جاء في القرآن فأصبح قرآناً يمشي على الأرض ، إن القائد عليه أن يحاكي سيرته وفي الوقت نفسه يدرس كل جوانب شخصيته عليه الصلاة والسلام يدرس سلوكه ، عبادته ، حلمه ، تواضعه ، زهده ، جوده ، كرمه ، رحمته ، شجاعته ، قوته ، حسن سياسته ، تدبيره ، ثباته على المبدأ . ويعلم القائد وهو يفعل كل ذلك أن هذا منه موافق لما كان يقوم به الصحابة في شأن التأسي برسول الله ، فلقد كانوا يُدَرِسُون سيرته ويحاكون كل ما عرفوه عنه قليه وكثيره بل كانوا يغرسون ذلك في نفوس أبنائهم يقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وقد عاش زمناً بعد رسول الله ( كنا نعلم أولادنا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نعلمهم السورة من القرآن ) ( 21 ) . والقائد معني بدراسة تلك المغازي قبل أي أمر آخر ، وبعدها ينظر في سيرته الأخرى عليه الصلاة والسلام فإنه المعلم الذي ينزل عليه الوحي برسالة الإسلام ليبلغها للناس جميعاً ، وهو صاحب المدرسة التي تخرج منها قادة أمم وعباقرة حروب ورجال إصلاح وعلماء وفلاسفة ورواد حضارة ، ولم يكن هذا الإنجاز الرائع أمراً يسيراً وهيناً فيكفي أن نقارن بين حال العرب قبل الإسلام وحالهم بعده حتى ندرك السر في هذا التحول الكبير فلقد حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمانة وبلغ الرسالة وجاهد في الله حق جهاده فكانت مدرسته خير مدرسة وجدت بين البشر وجمعت قلوبهم على الحق وقادتهم إلى الخير وحملت مشاعل الحرية والحضارة للإنسانية جمعاء ولقد حقق القادة الذين تخرجوا من مدرسة النبوة أعظم الفتوحات في تاريخ البشرية في مدة هي بمقاييس ذلك الزمن قياسية جداً ففي أقل من مائة عام غطت فتوحاتهم جزءاً كبيراً من العالم القديم ( وامتدت من الصين شرقاً إلى شاطئ الأطلس غرباً وبلغ عدد قادة الفتح الإسلامي مئتان وستة وخمسين قائداً منهم مئتان وستة عشر قائداً من الصحابة والباقون من التابعين ) ( 22 ).
هؤلاء القادة هم ومن جاء بعدهم من قادة الأمة الإسلامية جميعهم ينبغي للقائد الذي نعنيه في هذا البحث أن يحاكي أفعالهم ويقرأ سيرهم فإذا أحسن القائد في محاكاة كل هؤلاء فإنه بلا أدنى شك سيصبح قدوة حسنة يستفيد منه غيره ممن تنالهم قيادته ، وهو موضع اقتداء لهم ، وبهذا يصبح من الدعاة إلى الله لا بمقاله فقط ولكن بحاله وسلوكه ، وبسيرته الطيبة التي يحاكي ويقلد فيها من أُمر بتقليده والتأسي به محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم . ومن هنا يتبين أهمية الدور الذي يقوم به ويمثله بل وخطورته إن لم يحسن القيام به .
أهمية القدوة الصالحة
إن للقدوة الصالحة التي يمثلها القائد أثراً فعالاً في حياة من يرأسهم وهو مسئول عنهم ، لها أثر في تربيتهم وإصلاحهم .
ذلك أن القدوة نموذج إنساني يعيش ممثلاً ومطبقاً لذلك المنهج الرباني الذي جاء في القرآن الكريم والسنة المطهرة ، وهذا النموذج يعيش واقعاً عملياً يحقق تطبيق ذلك المنهج من خلال السلوك والتصرفات التي تُرى بالعين فتترك أثراً عميقاً في نفوس الناس الذين يعيشون من حوله مما يجعلهم يأخذون ويقبلون ما يقوله أو يفعله دون تردد أو ريبة لأن ما يمثله هو الإسلام الذي صاغ نفسه على وفق ما دعى إليه الإسلام فجعل منه نموذجاً قرآنياً يدب على الأرض ولنستعيد هنا أيضاً ما قالته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سئلت عن خلق رسول الله قالت : ( كان خلقه القرآن ) فكأنها بوصفها هذا جعلت من الرسول القدوة صلى الله عليه وسلم قرآناً متحركاً يراه الناس ويلمسونه من خلال تمثله في سلوكه وكل تصرفاته لدقة وقوة تمسكه وتطبيقه لما جاء في القرآن الكريم .
وعلى هذا يكون القائد الداعية ، مثلاً حياً لكل المبادئ التي يعتنقها ، مثلاً ترنوا إليه أعين مرؤسيه وتنجذب إليه نفوسهم حتى يستمدوا من الفضائل التي يفترض أن يحملها فينير لهم طريق الخير .
ألا وإن مما يمكن أن نبين به أهمية القدوة هو ذلك المثال العظيم والأثر الكبير الذي مثلته القدوة في نشر الإسلام في كثير من أصقاع الدنيا بواسطة تلك النماذج المتحركة التي دعت إلى الإسلام بأفعالها قبل أقوالها ، فاستقطبت تلك النماذج ملايين البشر دخلوا في دين الله دونما فتح ولا جهاد تلك النماذج تمثلت في أعداد ليست بالكثيرة من التجار المسلمين والزوار الذين أدخلوا بسيرتهم وتمسكهم بتعاليم دينهم كل هذه الأعداد إلى الإسلام .(/5)
والقائد وهو يتحسس هذه الأهمية للقدوة سيسعى وبكل ما أوتي إلى أن يجعل من نفسه قدوة صالحة يستميل بها مرؤسيه نحوه لإنجاز ما يناط به وبهم من مهام وأعمال على الوجه الذي يرضي .
كما أن على القائد أن يدرك أيضاً أن هناك خطورة حقيقية في حال عدم تحسسه لأهمية الدور الذي هو فيه فعليه أن يأخذ جانب الحيطة والحذر في كل تصرفاته وأن لا يأتي إلا ما يراه خيراً يرضي ربه ويحض به جنده لأنه في نظر أفراده ومرؤسيه إن صح لنا أن نشبهه كالشاشة البيضاء الناصعة البياض التي يمكن أن ترى عليها أدنى الملوثات .
وإن المرؤسين حول قائدهم الذي هو قدوتهم ينظرون إليه دائماً نظرة الناقد وفي الوقت نفسه المُقلد الذي يَتَلقون عنه ، وهم يحسبون عليه كل حركاته وسكناته سواء شعر بذلك أم لم يشعر لأنه كما كررنا في نظر مرؤسيه مصدر إقتداء ، ومادام على هذا الحال فإنهم يرون فيه الكمال مما يجعله في أعينهم فاضلاً وبالتالي يجب تقليده والأخذ عنه ، فإذا وفق في أن يكون سلوكه طيباً وعمله يوافق قوله كان فعلاً قدوة صالحة يجب التأسي به والأخذ عنه . أما إذا كان غير ذلك كان والعياذ بالله قدوة سيئة يصبح في الأخذ عنه وتقليده خطورة على مرؤسيه ومن ثم على قواته المسلحة التي ينتمي إليها ، لأنه بموجب رتبته ووظيفته مع مرؤسيه بمثابة الغالب . والمغلوب دائماً مولع بتقليد الغالب وهذه سنة من سنن الحياة فطر الناس عليها ، وقد تقدم قول ابن خلدون في مقدمته ( المغلوب دائماً أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده والسبب في ذلك أن النفس تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه )( 23) .
والكمال الذي أشار إليه ابن خلدون ينقسم إلى قسمين ؛ القسم الأول هو مقدار ما يملكه الإنسان من مبادئ وهو ما يعنينا هنا والقسم الثاني هو الكمال في الساعد والسلاح والقائد في الحقيقة أنه يملك من الصلاحيات ما يؤهله لبلوغ ذلك الكمال بما يجعله في موضع الاتباع والاقتداء من قبل المرؤسين مهما تضاءل هذا المقدار مادام المُقلد فاقداً له ، ومن أجل هذا استحق القائد مرتبة الاقتداء الذي قد يحسنها فيكون قدوة صالحة وقد يسيء استخدامها فيكون قدوة سيئة .
والقدوة الصالحة من أهم وسائل التأثير في الآخرين سيما إذا كان هؤلاء الآخرين هم في مرتبة أقل كما قلنا من مرتبة القدوة ، ولذلك فإن كثيراً من الناس لا يعمل ويطبق ما يقال له إلا إذا رأى ذلك الذي قيل له واقعاً يشاهده بعينه في عمل القدوة وفعله ، عندها تزداد قناعة المقلد ويعلم أن الأمر الذي يطلب منه أن يحاكيه ويقلده ليس من باب المستحيلات أو المعجزات التي لا يمكن تطبيقها وإنما هو من باب الممكنات التي يتيسر فعلها ، قال الإمام الشاطبي رحمه الله ( إذا وقع القول بياناً فالفعل شاهد له ومصدق ، وبيانه وتفصيله أن العالم إذا أخبر عن إيجاب عبادة من العبادات أو لزوم فعل من الأفعال ثم فعله هو لم يخل به مقتضى ما قاله فيه ، عند ذلك يقوي اعتقاد إيجابه وينتهض العمل به عند كل من سمعه وأخبر عنه ورآه يفعله ) ( 24) .
ومن هنا تظهر النتائج العكسية عندما يخالف العمل القول من قبل القدوة يظهر شعور لدى المقلدين والأتباع بأن ذلك الأمر غير ممكن العمل به فيعملون بضده معتمدين على ما شاهدوه من قدوتهم وهنا تكمن خطورة الاقتداء عندما ينحرف صاحبه .
وأريد أن أختم هذه الأهمية لعملية الاقتداء بما ذكر سيد سابق وفقه الله في كتابه ( الدعوة إلى الإسلام ) إذ يقول : ( والقدوة الطيبة والأسوة الحسنة لها شأن كبير وأثر بعيد المدى في نفس الإنسان ونجاحه في الحياة ، إذ هي هاد يشير إلى المثل الحي والفضيلة المجسمة وعرض للنماذج البشرية الصالحة التي يراد محاكاتها والاقتداء بها . وقد أمر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقتدي برسل الله وأنبيائه الذين تقدموه فقال تعالى ( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ) ( 25 ) .
ومن كل ما تقدم في هذا الفصل يصبح الأمر واضح في نظر القائد وضوح الشمس بأنه قدوة وأن هذه المكانة التي هو فيها توجب عليه أن يتلمس مستتبعاتها فيدرك أنه مؤهل لأن يمارس واجباً آخر يقوم بدور مهم ألا وهو الدعوة إلى الله عز وجل الذي لا فكاك له منه ويتبين ذلك من خلال أسطر الفصل بعده ( القائد قدوة ومحتسب بين أفراده ) .
الفصل الثاني : القائد قدوة ومحتسب بين أفراده
تقرر معنا في الفصل قبله أن القائد قدوة وأنه لا مناص له من هذا الدور مادام يشغل منصب القيادة ، وإذا كان الأمر كذلك فلابد من وقفة نحدد فيها ملامح شخصية القدوة بشكل عام وكيف يمكن إعداده حتى يكون ذلك عوناً له كيما يعد نفسه على وحي من ذلك فيكون متصفاً بصفات القدوة الصالحة التي بها ينجح في قيادته ودعوته إلى الله بين أفراده .
وفي نقاط مختصرة نستطيع أن نحدد تلك الملامح للقدوة التي جاءت في القرآن من خلال النقاط التالية :(/6)
(1) أن القدوة ( القائد ) صنف من البشر قد اختاره الله لأن يكون راعياً ومسئولاً عن رعيته وهذا يوجب عليه أن يكون محتسباً في الدعوة إلى الله وهذا التشريف له بهذه المسئولية هو في الوقت نفسه تكليف يقول الله في شأن هذا التكليف ( الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس ) ( 26 ) ، ويقول ( الله يجتبي إليه من يشاء ) ( 27 ) ، ويقول ( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ) ( 28 ) .
(2) إن القدوة وهو مختار ، ملزم بمتابعة منهج لا يحيد عنه ، وهذا المنهج هو ما جاء به الإسلام يقول الحق موجهاً كل أتباع هذا الدين ( وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) ( 29 ) .
(3) أن القدوة تحوطه عناية الله وتوفيقه مادام مستقيماً على منهج الله ومطبقاً له في نفسه ومع الآخرين وهذه العناية وهذا التوفيق متمثل في نصر الله له وتثبيته له يقول الله في ذلك ( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ) (30) ويقول تعالى ( وكان حقاً علينا نصر المؤمنين ) (31) .
(4) أن القدوة الذي يحالفه النصر من الله والتوفيق والثبات على منهجه يكون قد أصبح في درجه تؤهله بأن يكون قدوة صالحة يأمر بكل معروف وينهى عن كل منكر ، وعندها تحصل له الخيرية التي وعد الله بها من يقوم بذلك ويحصل له الاجتباء والاختيار يقول الحق تبارك وتعالى ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر … الآية ) (32) ، ويقول ( واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ) (33) .
هذه إذن نقاط بارزة يجب أن تظهر في شخصية القدوة الذي يجب على الأمة أن تعد أبناءها الذين سيصبحون في يوم ما قادة لأمتهم يحملون رسالتها ويدعون إلى مبادئها ، ولن يكونوا على مستوى هذه المهمة ، إلا إذا تم لهم ذلك الإعداد الذي يتطلبه إعداد القدوة ، وهذا الإعداد يتطلب أن ندرك أن الإنسان الذي يمثل هذا الدور ( دور القدوة ) يولد ومعه بعض الصفات الموروثة التي يمكن استغلالها وصقلها ، ومن هذه الصفات الذكاء ، والفطرة المستقيمة ( كل مولود يولد على الفطرة … الحديث ) . أما الصفات المكتسبة من البيئة التي يعيش فيها الشاب كالتقاليد واللغة والروح الجماعية والانعزالية وغيرها فيمكن استغلالها وتوجيهها في نفس هذا الشاب على نحو ما تدعو إليه عقيدته ويسير في مرضات ربه . ولو فتشنا من حولنا كيف يتم إعداد الفرد الذي يراد له أن يمثل فكرة مذهبية ، أو سياسية كما هو الحال مثلاً في مدارس ما يسمى بالتبشير ( التنصير ) لرأينا العجب ، في ضخامة الجهود التي تبذل والوسائل والأساليب التي تتخذ لكي تعد هذا الشخص للقيام بأعباء هذه المهمة التي سيتولاها في التنصير ، فهم مثلاً يقومون باختيار طلاب هذه المدارس بواسطة شروط معينة ثم يقومون بعد ذلك بعزله عن مجتمعه تماماً لكي يتكون تكويناً خاصاً في بيئة أعدت له خصيصاً ، ثم بعد ذلك تخرجه إلى الناس وقد انغرست فيه هذه المبادئ وأصبح ينشرها ويدافع عنها كأقوى وأخلص ما يكون .
فما أحرى القائد وقد بلغ من العقل والوعي والإدراك لأَبعاد ما هو فيه من مسئولية ، أن يعد نفسه الإعداد المناسب لكي يتولى مهمة الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين مرؤسيه على أكمل وأحسن ما يمكن ، وأنه إذ يقوم بإعداد نفسه إعداداً يتناسب وعظم المسئولية المنوطة به ، يجب أن يدرك أن ذلك لا يتأتى له إلا إذا فقه دينه ، وعلم بمقاصده حتى تكون دعوته واضحة والاقتداء به مأمون .
ولعل من أبرز وأهم ما يمكن أن يُعد به القدوة لكي تتحقق الثمرة من الاقتداء به أن يُهتم بثلاث أساسيات في ذلك ، هي ركائز لا يكون القائد قدوة صالحة دون وجودها في ثقافته وتربيته وهذه الركائز هي العقيدة ، الأخلاق ، والعلم .
فأما العقيدة ودورها في تكوين القدوة فهو دور أساسي يفوق في أهميته وضرورته . وأثره في حياة المسلم بصفة عامة ، والقدوة بصفة خاصة ، كل المؤثرات والأسباب الأخرى . وقائد ليس له عقيدة لا يكون محل اقتداء ( بل هي قضية مصيرية تمّيز بين القائد الحق المؤمن وبين القائد المزيف ) (34) فالعقيدة الراسخة ضرورة لكل قائد وليس بقائد حقاً من لا يتحلى بعقيدة راسخة تجعله موضع ثقة رؤسائه ومرؤسيه على حد سواء إذ أن تبادل الثقة بين القائد ورجاله تجعلهم يسيرون وراءه للموت ، وهم قطعاً لا يسيرون إلى الموت وراء قائد لا يثقون به . والعقيدة هي التي تشكل في القائد الشخصية المتميزة التي تعرف هدفها وتعمل على تحقيقه . وأما إعداد القدوة خُلقياً فإننا نعني بذلك الإعداد الخلقي للقدوة بأن يكون مع الناس جيَّاش العواطف كبير القلب ينبسط للخير ويفرح به للآخرين ويحرص عليه ، وينقبض عن الشر ويضيق به ، ويفر منه وهذا هو جوهر الإيمان(35).(/7)
ولو تتبعنا اهتمام الإسلام بأمر الأخلاق التي اعتبرناها ركيزة أساسية في إعداد القدوة لعرفنا مدى أهمية إعداد القدوة خُلُقياً وتزويده بالأخلاق الإسلامية ، ثم لوجدنا أن مبعث الأخلاق يستند إلى نص إلهي يحقق للإنسان نمواً اجتماعياً وحضارياً ، والأخلاق الإسلامية ليست في جانب دون آخر بل هي شاملة لكل الجوانب التي تمس معاملات وآداب المسلم ( فالأخلاق الإسلامية تدفع بطبيعتها إلى التكامل في البناء الاجتماعي الذي يقوم بتوطيد العلاقات الإنسانية بين الناس على أسس الإيمان والإخلاص .
والأخلاق الإسلامية وإن اتفقت مع بعض الأخلاق غير الإسلامية في المسمى إلا أنها تختلف عنها من حيث المصدر والتحلي والتطبيق . فالإسلام في باب الأخلاق يُوصل الأخلاق الأساسية الإنسانية ويوطد أركانها في جانب ، ويوسع في تطبيقها بحيث تشمل مظاهر الحياة الإنسانية كلها في جانب آخر ، وخذ لذلك مثالاً للصبر ، فمهما بلغ الرجل الغاية في الصبر واستولى على الأمر في حلبته ، فلابد أن يقف تحمله وينفذ ثباته عند حد معلوم إذا كان لأغراض عاجلة ويستمد قوته ويتغذى من الجذور الفكرية للشرك والعبودية المادية .
أما الصبر الذي يستجلب قوته من جذور التوحيد والذي لا يبتغي من ورائه إلا وجه الله تعالى فهو كنز مكنون لا تصل إليه يد السارق(36) .
والإسلام يُظهر ويُبرز قيمة الفضائل الخلقية التي ينبغي أن يتحلى بها كل مسلم سيما الإنسان الذي نتكلم عنه هنا وهو القائد ( القدوة ) .
ويمكن تلخيص وجهة نظر الإسلام في شأن تربية الإنسان المسلم وإعداده خلقياً في النقاط التالية التي وردت في كتاب سيد سابق ( دعوة الإسلام )
ومنها :
(1) أن الإنسان خلق مزوداً بقوى واستعدادات يمكن أن توجه إلى الخير كما يمكن أن توجه إلى الشر ، مع التفاوت في ذلك لأن الناس كما قال عليه الصلاة والسلام ( معادن كمعادن الذهب والفضة ) (37) .
(2) أن كل إنسان مسئول عن تهذيب نفسه وإصلاحها ، يقول الله عز وجل ( ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ) (38) .
(3) أن تزكية النفس وإصلاحها هو سبيل الفلاح في الدنيا والآخرة وإهمالها هو سبيل الخسران ( والعصر إن الإنسان لفي خسر … الآية ) .
(4) إصلاحها وتزكيتها ويتمثل في التخلص من الهوى وفي كبت الشهوة والارتفاع عن المادة والسمو عن النقائص الخلقية فإن الهوى داعية للشر والفساد وصاد عن الحق وصارف عن الهدى والرشاد كما أنه مطية للشيطان وباب ينفذ منه إلى بني آدم ( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله) (39).
(5) وهذا التخلص من الهوى يحتاج إلى مجاهدة شاقة ، صبر ، وجلد فإن طريق الوصول إلى تلك المرتبة التي نريد أن يصل إليها القدوة ليست مفروشة بالورود والرياحين يقول صلى الله عليه وسلم ( … وحفت النار بالشهوات وحفت الجنة بالمكاره … ) (40) .
فإذا تربى القدوة تربية خلقية على هذا الأساس ضمن لنفسه التحلي بهذه الفضائل الخلقية التي تؤهله لمهمته كقدوة ، والفضائل والأخلاق التي دعى إليها الإسلام كثيرة لعل من أبرزها ؛ الصدق ، الأمانة ، العفاف ، الوفاء، الشجاعة ، التضحية ، الإيثار ، قوة الإرادة ، الصبر ، التفاني في سبيل الحق ، الصبر والثبات ، الطاعة ، التذلل لله ، الإخاء والحب في الله والبغض في الله ، الرحمة، الحياء ، الثقة ، العفاف ، العزة ، والجود ، الكرم ، الأخلاق ، التواضع ، الحلم ، الرفق وكل ما خلق يحبه الله ودعى إليه القرآن أو ورد في السنة .
وأما تحصين القدوة بالعلم فلأن العلم فعلاً حصانة من الزلل بل هو له بمثابة السلاح للجندي في ميدان المعركة . وهو الوسيلة الضرورية لإيصال ما يفترض أنه يملك من الخير والفضائل إلى الآخرين وهذا هو في الحقيقة أثر العلم وفائدته بعد أن يكون القدوة قد حصله وتحصن به .
وإلى جانب كون العلم وسيلة لتوصيل ذلك الخير الذي يفترض أن يحمله ليُقتدى به على أساسه فهو في الوقت نفسه ذو فائدة للقدوة إذ به ( أي العلم ) يمكن أن يحصن نفسه من الزلل لأن العلم نور يهتدي به المسالم في دياجير الحياة وظلماتها ، فبالعلم يُميز بين الخطأ والصواب ، وأنظر معي إلى قول أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه يوصي كميل بن زياد بأن يحصل العلم ويحترس به ويتحصن ( يا كميل العلم خير من المال ، فالعلم يحرسك وأنت تحرس المال ) (41) .
والقدوة الذي يعد إعداداً عقيدياً ليقوم بالدعوة إلى الله يعتبر ربانياً لأنه يعلم الناس الخير يقول الله تعالى في ذلك ( ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ) (42) .
وقد اختلف العلماء حول هذه النسبة فبعض العلماء قال سموا بذلك لأنهم يربون العلم ( أي يقومون به ) وزيدت الألف والنون للمبالغة(43) .(/8)
في حين أن البعض يقول أن تلك النسبة إلى الرب فيقال هو رباني لأنه يقصد تنفيذ ما أمره الله به من العلم والعمل .
فإذن القدوة بتلقيه العلم ثم بتعليمه للناس يكون ربانياً وهذه منزلة شريفة لا ينالها إلا إذا كان عالماً ومعلماً للخير . ولذلك اهتم الإسلام بأمر العلم اهتماماً كبيراً ورغب فيه ترغيباً عظيماً دل كل ذلك على أهميته وضرورته ويكفي في الدلالة على ذلك أن أول آية أنزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم كانت دعوة إلى العلم ( إقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق إقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم … الآية ) (44) .
والنصوص التي جاءت تحث على تحصيل العلم كثيرة جداً ، يكفي أن أحد الباحثين قام بإحصاء تلك الآيات التي تلفت أنظار الناس إلى أسرار الكون وتحثهم على استجلاء غامضها فبلغت خمس القرآن(45) .
أما حامل العلم فمنزلته في الإسلام رفيعة والنصوص التي جاءت تبين ذلك كثيرة جداً ويكفينا أن نثبت هنا قليلاً منها ؛ أولها أن الله رفعهم بقوله (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط ) ، ويقول سبحانه :
( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ) ، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ) (46) ، ويقول ( العلماء ورثة الأنبياء ) ومعلوم أنه لا رتبة فوق رتبة النبوة ولا شرف فوق شرف الوراثة لتلك الرتبة .
والآثار أيضاً في فضله كثيرة أكثر من أن نستقصيها هنا لعل من أبرزها قول عبدالله بن المبارك رحمه الله عندما سئل ( فقيل له : من الناس ؟ قال : العلماء . قيل : فمن الملوك ؟ قال : الزهاد . قيل : فمن السفلة ؟ قال : الذين يأكلون الدنيا بالدين ) . قال الغزالي ( حجة الإسلام ) تعليقاً على هذا القول من ابن المبارك ، قال : ( فلم يجعل ( يعني ابن المبارك ) غير العالم من الناس ، لأن الخاصية التي يتميز بها الناس عن سائر البهائم هو العلم . فالإنسان بما هو شريف لأجله ؛ فليس ذلك بقوة شخصيته فالجمل أقوى منه ، ولا بعظم خلقته فالفيل أعظم منه ، ولا بشجاعته فالسباع أشجع منه ، ولا بأكله فالثور أوسع بطناً منه ، ولا ليجامع فإن أخس العصافير أقوى على السفاد منه ، بل لم يخلق إلا للعلم ) (47)
ومن كل ما تقدم وغيره كثير ، يتبين لنا مدى أهمية هذا السلاح للقدوة في أي موقع كان من مواقع الحياة قائداً أو غير قائد .
ولكن القائد حاجته لهذا السلاح كبيرة لأنه محتسب للخير والعمل به بين أفراده يأمرهم بكل معروف وينهاهم عن كل منكر حتى يوفي بمسئوليته التي استرعاه الله إياها ( كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته … ) (48) .
القائد محتسب مكلف :
قد يتبادر إلى أذهان بعض الناس أن القيام بالاحتساب الذي هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتعين على فئات من المجتمع دون أخرى ، وهذا فهم لاشك بأنه قاصر . فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو فريضة لا تسقط إلا بالأداء ، والمسلم مطلوب منه أن يقوم بهذا الواجب على حسب علمه وقدرته وفي شأن هذا الوجوب يقول الحق تبارك وتعالى ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) (49) . ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) (50) والوجوب في هذين النصين هو وجوب عيني لا كفائي ولا يسقط إلا بالأداء لأن ( من ) في النصين السابقين هي للبيان وليست للتبعيض كما يقول أهل اللغة(51) .
وعلى هذا فالوجوب في حق القائد جاء من جهتين الأولى كونه مسلماً، والثانية كونه مسئولاً ، فأصبح بالثانية محتسباً مكلفاً يترتب عليه من الوجوب ما لا يترتب على المحتسب المتطوع .
فإذا علم هذا فإن الأمر يحتاج إلى أن نزود القائد القدوة المحتسب بشيء من فقه الحسبة ، حتى يكون أداءه مميزاً وعمله منضبطاً بضوابط الشرع . وما سنثبته هنا تعريف الحسبة والمحتسب حتى نُكون مفهوماً وإطاراً عاماً لهذا العمل ومن يقوم به ، ثم نحاول أن نبين طرفاً من أهمية الحسبة وبعدها . نتعرف على الشروط الواجب توفرها في المحتسب وكذا الآداب ومن ثم نحدد شروط إنكار المنكر ، وخطوات إنكار المنكر ، ومراتب تغيير المنكر ، وآخر ذلك نتلمس ضوابط إنكار المنكر بالقلب ، محاولين أن تكون كل هذه في نقاط مختصرة وعلى من أراد التوسع في ذلك العودة لكتاب الحسبة في الماضي والحاضر بين ثبات الأهداف وتطور الأسلوب ) المجلد الأول للباحث ، وهذا استعراض موجز لتلك الأحكام في الكتاب نفسه :
أولاً : تعريف الحسبة :
في اللغة يقول ابن منظور في لسان العرب (الحسبة مصدر احتسابك الأجر على الله) (52) .وتعاريفها واشتقاقها كثيرة يجمع بينهما هذا التعريف :( الحسبة لغة من احتساب الأجر عند الله على العمل ،وطلب ثوابه ، بإنكار المنكر والأمر بالمعروف في حسن تدبير ونظر ) (53) .(/9)
وأما تعريفها في الاصطلاح فكما جاء في كتاب ( الحسبة في الماضي والحاضر ) وهي من أكثر المصطلحات إن لم تكن أكثرها على الإطلاق ، التي اختلف في معناها وتعددت تعاريفها ، وذلك في الغالب ناشئ عن اختلاف الأفهام والنظرة للدور الذي يقوم به المكلف بها داخل المجتمع ، ولكن سأحاول أن أثبت هنا أشهر تعريفين لهذا المصطلح حسب ما أراه ؛ أولهما تعريف الماوردي في كتابه القَيم ( الأحكام السلطانية ) (54) حيث يقول ( الحسبة هي أمر بالمعروف إذا ظهر تركه ونهي المنكر إذا ظهر فعله ) .
وثانيهما تعريف آخر أحسبه جامعاً مانعاً للحسبة وهو ( الحسبة عمل يقوم به المسلم لتغيير منكر ظاهر أو أمر بمعروف داثر من خلال ولاية رسمية أو جهود تطوعية ، وعلى المكلف بها ما ليس على المتطوع ) (55) .
وفدلكة ومحترزات هذا التعريف تتمثل في أنه يعطي صورة واضحة وشمولية للحسبة وأنها فريضة إسلامية عينية ، أو كفائية على حسب حال المتولي لها مكلفاً أو متطوعاً فهي عينية في حق المكلف كالمعنى معنا في هذا البحث وهو ( القائد ) وكفائية في حق التطوع كما قرر ذلك الماوردي في كتابه الأحكام السلطانية بقوله ( إن فرضه ( أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) متعين على المحتسب ( الوالي ) بحكم الولاية وفرضه على غيره داخل فروض الكفاية) (56).
كما أنه قد روعي في هذا التعريف أن يشتمل على ما يقوم به المحتسب للوالي والمتطوع وأنه ( أي الاحتساب ) عمل لا يسمى حسبة إلا إذا أتى من المسلم ، ولو جاء من غيره فلا يسمى حسبة وإن وافق صورته ، ولم يغفل فيه تلك الضوابط والقيود التي قررها الفقهاء من قبل ، كقيود ظهور المنكر وترك المعروف ثم أشير في نهاية التعريف إلى أن هناك فرقاً بين احتساب كل من المكلف والمتطوع وبهذا كان هذا التعريف في نظري جامعاً مانعاً .
ثانياً : أهمية الحسبة :
إن قيام الحسبة في أي مجتمع كان هي بمثابة صِمَام أمان لذلك المجتمع ، أو هي بمثابة جهاز صيانة دائمة في أوساط المجتمع ، تحول بين أفراد ذلك المجتمع وبين الوقوع في مخالفة الشرع . فالحسبة بمفهومها الشمولي العام لا غنى عنها لأمة أو مجتمع يريد أن يطبق منهج الله في أرضه فبقيامها تحصل له الخيرية الواردة في قوله تعالى ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر … الآية ) (57) .
ولا أبالغ إذا قلت بأن نظام الحسبة الذي هو نظام إسلامي أصيل وهو الوجه العملي التطبيقي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو لحُمة هذا الدين ( الإسلام ) ، بل الشريان الذي تسري من خلاله الأخوة الإسلامية ، والمودة ، والتراحم ، والترابط الذي يجب أن يتم بين الأمة أفراداً وجماعات .
فكيف يمكن أن تتصور مجتمعاً ضاع فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وانتشرت فيه المنكرات ؟ إنه مجتمع لا يمكن أن تنتظم الحياة فيه ، ويأمن فيه المسلم على ضروراته الخمس ؛ الدين ، العرض ، النفس ، المال ، العقل .
ولذلك نرى أن أمة من الأمم قد فضلها الله يوم أن كان هذا الأمر قائماً فيها ، فلما اندثر فيها مقَتَها الله ولعنها ( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ) (58) .
والحسبة نوع من أنواع التكافل الإجتماعي ألم يقل الحق سبحانه وتعالى ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله ) (59) .
بل عدَّه ابن تيمية ( بأنه القطب الأعظم في الدين الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين ، ولو طوى بساطه وأهمل عمله لتعطلت النبوة واضمحلت الديانة وعمَّت وفشت الضلالة ، وشاعت الجهالة ، واستشرى الفساد ، واتسع الخرق ، وخربت البلاد ) (60) .
ونختم استعراض هذه الأهمية بذكر ذلك المثال الرائع الذي ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُبين فيه مدى خطورة ضياع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أي مجتمع فهو يقول ( مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم في أعلاها وبعضهم في أسفلها وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا : لو أننا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذي من فوقنا فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً وإن أخذوا على أيديهم نجواونجوا جميعاً) (61) .
ولأهمية الحسبة وشرف منزلتها في الإسلام فإنه كان أئمة الصدر الأول يباشرونها بأنفسهم لعموم صلاحها وجزيل ثوابها (62) .
وانطلاقاً من هذه الأهمية للحسبة فإن تعلما ومعرفة أحكامها وفقهها لا يقل أهمية عن ما نوهنا عنه اعلاه( فالاحتساب من أدق العلوم وأسماها ، ولا يدركه ويقوم به إلا من له فهم ثاقب وحدس صائب ، ولا تسند ولايته إلا لمن له قدرة قدسية مجردة عن الميل والهوى ) (63) . واكتملت في حقه الشروط والآداب التي قررها الفقهاء والتي يأتي بيانها .
ثالثاً : تعريف المحتسب :(/10)
كما مر معنا في تعريف الحسبة من أنه قد تعددت تعاريفها فإن تعريف المحتسب أيضاً قد تعددت تعاريفه وسأختار أحدها ثم أناقشه .
( فالمحتسب مسلم يسعى لتغيير المنكر وإقامة المعروف وفقاً لمنهج الشريعة إمتثالاً لأمر الله وطلباً لثوابه متولياً ومتطوعاً ) (64) ، ففي قولي ( مسلماً ) أعني أن غير المسلم لا يعتبر عمله وإن كان تغييراً للمنكر حسبة ، لأن من أول شروط المحتسب كما سيأتي أن يكون مسلماً ، ولأن دافع المسلم في تغيير المنكر وإقامة المعروف غير دافع الكافر ، فالأول دافعه تعبدي بخلاف الثاني . وقولي ( وفقاً لمنهج الله ) قيد لئلا يتجاوز المحتسب وهو يؤدي واجبه ، ما أمر به الشرع ونهى عنه ، وأما قولي ( إمتثالاً لأمر الله ) فلأننا عرفنا فيما تقدم أن القيام بالحسبة واجب على المسلم يؤديه مع غيره ، وأما قولي ( وطلباً لثوابه فإنه مر معنا في تعريف الحسبة لغوياً أن المسلم يقوم بذلك ويرجو عليه الثواب من الله ، وأما قولي ( متولياً أو متطوعاً ) فحتى لا يفهم أن الحسبة لا تكون إلا من المكلف من قبل ولي الأمر كما فهمه بعض من عَّرف الحسبة ، مما لم نستعرض تعريفه ، فإذا كان الذي يُعِّرف الفاعل للعمل هو العمل نفسه فالمكلف والمتطوع في ذلك سواء.
رابعاً : شروط المحتسب :
حتى ينهض المحتسب بعمله على الوجه الذي يرضي فلابد من توفر مستلزمات في نفسه أولها وأهمها توفر شروطاً معينة بذل الفقهاء جهوداً مشكورة في تحديدها .
والشروط التي حددها الفقهاء للمحتسب على ضربين ؛ شروط متفق عليها وأخرى مختلف فيها .
أ . الشروط المتفق عليها .
(1) الإسلام : وهذا شرط بدهي في كل الواجبات الدينية إذ أن ما يقوم به المحتسب هو من الواجبات الدينية التي يراد بها نصرة الدين وإعلاء كلمته . وغير المسلم جاحد لأصل الدين فكيف يكون من أهل الوجوب فيه ، ثم إنه لا ولاية لكافر على مسلم . ثم إن تكليف غير المسلم للقيام بعمل المحتسب هو إكراه له على القيام بعمل لا يعتقده ، ولا إكراه في الدين كما جاء في القرآن .
(2) التكليف : الاحتساب واجب شرعي ولا وجوب على غير المكلف وحد التكليف البلوغ من المكلف ، وهذا يدخل في شروط الوجوب ، فأما إمكان الفعل فلا يستدعي إلا العقل إذ بإمكان الصغير المميِّز أن يقوم بعمل المحتسب وليس لأحد منعه من ذلك .
(3) العلم . واشتراط العلم أمر يتطلبه حُسن الأداء حتى يكون أمر المحتسب ونهيه تبعاً لأمر الله وأمر رسوله فإن المراجع في تحديد القبح والحسن هو كتاب الله وسنة رسوله ، فلربما استحسن بعض الناس بعقله ما قبحه الشرع أو استقبح ما حسن الشرع ، وعلى هذا نجد قولاً لابن تيمية رحمه الله يقوله فيه ( ولا يكون عمله ( أي المحتسب ) صالحاً إن لم يكن بعلم وفقه في الدين كما قال عمر بن عبدالعزيز يرحمه الله : من عبد الله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح ) . وكما قال معاذ رضي الله عنه:( العلم إمام العمل والعمل تابعه ) (65).
(4) القدرة : يقول الله تعالى ( لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ) وأي واجب في أحكام الشريعة الإسلامية لا يكون إلا في حدود القدرة ووسع المكلف . فيشترط في المحتسب القدرة وإلا سقط عنه الوجوب عند الجمهور وعدم القدرة قد يكون حسياً لضعف ، أو مرض ، أو غي ، أو ضرس في اللسان وغيرها ، وقد يكون معنوياً كأن يتوقع المحتسب أن يصيبه شر في نفسه أو ماله أو عرضه ، وليس من عدم القدرة مجرد الهيبة فقط ، ولذلك روى الترمذي وغيره ( أن لا يمنعن رجلاً هيبة الناس أن يقول الحق إذا علمه ) (66) . وعدم القدرة إذا ثبت يرفع الوجوب عن المكلف في المرتبتين الأولى والثانية ( أي مرتبة تغيير المنكر باليد واللسان ) ، أما المرتبة الثالثة وهي مرتبة التغيير بالقلب فلا يرتفع الوجوب في حقه وستأتي ضوابط الإنكار بالقلب بعد قليل .
(5) أن يكون ذا رأي وصرامة وقوة في الدين .
(6) أن يكون عفيفاً متورعاً عن أموال الناس ؛ لأن ذلك يُؤثِّر بشكل مباشر على عمله ويهز شخصيته في نظر المحتسب عليهم ومن ذلك الهدية في كثير من الأحيان .
ب . الشروط المختلف فيها :
1. العدالة .
2. الاجتهاد .
3. إذن الإمام .
4. الذكورة .
5. الحرية .
هذه الشروط الخمسة هي التي حصل بين الفقهاء اختلاف فيها إذ أن بعضهم يرى أن في إشتراطها تضييق لدائرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا تتوافق مع منطوق عموم الآيات والأحاديث الواردة في ذلك ، أما البعض فيشترطها أو بعضها احتياطاً للقيام بهذه المهمة الجليلة متأولين في ذلك نصوصاً من الكتاب والسنة . والكلام يطول في إثبات أدلة كل فريق ورد الفريق الثاني وأنا أرى أن هذا ليس مكان بسطها ويمكن لمن أراد التقصي أن يعود لذلك في مظانها في كتب الفقه ( أبواب الحسبة ) .(/11)
فأما الذين إشترطوا العدالة فهم قليل في مقابل من لم يشترطها ، وأما إذن الإمام فالذين إشترطوها أيضاً قليل وهم يشترطونها في حق المحتسب المتطوع ، أما المحتسب المكلف ، فإنهم يرون أن قرار التولية يشتمل على الإذن وغيره(67) ، وهذا ينسحب على قرار تعيين القائد ، وأما شرط الإجتهاد ، فلو قلنا به لضاقت جداً دائرة المعروف والنهي عن المنكر ، حتى يصبح الذين يقومون به فئة قليلة من المجتمع وخرج بذلك فئات كثيرة لا تخرجهم نصوص وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي قلنا بأنها تجعل القيام به من فروض الأعيان على من رآه وكان مسلما.
وكذلك بالنسبة لإشتراط الذكورة فنحن نكون باشتراطها قد عطلنا وأعفينا نصف المجتمع من القيام بهذا الواجب الشرعي العظيم مع أنه يمكن للمرأة أن تحتسب في وسطها وفي بيتها ، ولكن رد بعضهم وقال نشترط الذكورة فقط في ولاية الحسبة وما عداها لا نشترط الذكورة .
والذين اشترطوا الحرية قالوا لأن العبد وقته لسيده وبذلك فليس له أن يحتسب إلا بإذنه ، والصحيح أنه مسلم يمكنه أن يأمر وينهي في حدود استطاعته وقدرته ولا يعفيه الرق من هذا الواجب الإسلامي الجليل .
خامساً : آداب المحتسب :
لابد للمحتسب من أن يتحلى بآداب ذاتية تجعل منه نموذجاً يمثل الإسلام في أبهى وأحسن صورة ليكون ذلك أدعى للآخرين لامتثال أمره ونهيه والاقتداء بفعله وآداب المحتسب التي نريد أن نثبتها هنا تنقسم إلى قسمين أولهما ذاتية يحققها في نفسه وآداب مع الآخرين تظهر عند احتسابه عليهم .
أ . الآداب الذاتية :
(1) الإخلاص .
(2) التقوى .
(3) أن يعمل بما يقول ولا يكون قوله مخالفاً لفعله .
(4) المواظبة على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم .
(5) التحلي بالصبر فهو عدة عظيمة لمهمته وسلاح يحتاج له لإنجازها .
(6) عليه أن يكون حذراً فطناً لا ينخدع بحيل المستهترين وألاعيب العابثين .
(7) عليه أن يكون على وعي بعلم الواقع وثقافة العصر الذي يعيشه .
ب . آدابه مع الآخرين :
(1) الرفق واللين في القول وطلاقة الوجه وسهولة الأخلاق عند أمره ونهيه .
(2) الحلم والأناة وعدم تعجل العقوبة .
(3) أن يتعامل مع الناس بالصدق والأمانة وعدم الخيانة .
(4) محاولة تقليل علائقه عند الآخرين حتى لا تؤثر على عمله .
(5) أن يكون باعثه العطف والشفقة على المعاصي ( لأنه ( أي - المحتسب – بمثابة الطبيب ) .
سادساً : شروط إنكار المنكر :
بقدر حرص المحتسب على تغيير المنكر ، وإزالته ، فإن ذلك لا يكون سبباً كافياً لوقوعه فيما يبطل إحتسابه . لأن لكل منكر ضوابط ومعايير تسمى شروط إنكار المنكر ، ومن أبرزها ما يلي :
أ - وجود منكر يستدعي الإحتساب . وضابطه الوجود ( أي يكون منكراً ظاهراً دون الحاجة إلى الإجتهاد ، فكل ما هو محل للإجتهاد لا محل فيه للإنكار على سبيل الإلزام .
ب - أن يكون المنكر المحتسب فيه محذور الوقوع في الشرع . لأن المعروف ما جعله الشرع معروفاً ، والمنكر ما جعله الشرع منكراً .
جـ - أن يكون المنكر قد وقع فعلاً أو ظهرت العزيمة على فعله ، والمنكر الذي وقع لابد أن تتجمع لدى المحتسب المكلف أدلة كافية ومنها الظهور ، إذ بدون الظهور يوقع المحتسب نفسه في محذور شرعي آخر هو التجسس وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ( من أتى من هذه القاذورات شيئاً فليستتر بستر الله فإن من أبدى لنا صفحة أقمنا عليه كتاب الله ) (68) . والظهور ظهوران ؛ ظهور حقيقي ومثاله رجل خلى بآخر ليقتله ، وظهور حكمي ومثاله تتبع مرتكب الجريمة بعد خروجه مباشرة من مكان وقوعها .
د - أن يدفع المنكر المحتسب فيه بأيسر منه فإذا كان يدفع بأشد ترك الإحتساب .
سابعاً : خطوات إنكار المنكر :
اتفاق شبه تام بين الفقهاء الذين استنبطوا أحكام الحسبة وخطوات إنكار المنكر فهم يرون أن على المحتسب أن يأخذ الأمر خطوة خطوة ، فلا يثبت على أول خطوة يبدأها في الإنكار ولا يقفز إلى آخر خطوة يستدعي الأمر الوصول إليها ، فهو لا يحاسب ويعاقب لأول زلة تبدو من المحتسب عليه ، لأن العصمة في الخلق مفقودة إلا من عصمه الله كالأنبياء والرسل . ومن هذا المنطلق وجب على المحتسب أن يسلك طريقاً اتفق على تسميته مراتب الإحتساب أو خطوات إنكار المنكر وهي على النحو التالي :
أ - التعريف بالمنكر وأنه محذور الوقوع في الشرع .
ب - الوعظ بما يهز النفوس ويبعد عن الإثم بأسلوب الترغيب والترهيب .
جـ - الزجر والتأنيب بالقول ، والشدة في التهديد ، وهجن الخطاب ، وهذا في حق من لم تنفع معه الخطوتان السابقتان .
د - إذا لم تنفع الخطوات السابقة ينتقل إلى مرحلة أقوى وهي إزالة المنكر بالقوة حيث من شأن هذه الخطوة أن تحول بين الفاعل وما يريد ارتكابه من منكر كإراقة الخمر لمن يريد شربه .(/12)
هـ - إيقاع العقوبة التي هدد بها المحتسب وهذه الخطوة ليست لكل المحتسبين وإنما هي للمحتسب المكلف ( القائد ) وليست لكل محتسب لا يملك صلاحية إيقاع العقوبة . لكن عليه الرفع لمن يستطيع إيقاع تلك العقوبة على فاعل المنكر .
ثامناً : مراتب تغيير المنكر :
هذه المراتب مدارها حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) (69) ، وهذه المراتب كما لاحظنا تختلف عن الخطوات السابقة فالخطوات تبدأ من الأخف للأشد بينما المراتب تبدأ من الأشد للأخف . كذلك فالتغيير فرض كفاية إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين بينما الإنكار فرض عين ، ومن الفروق بينهما أيضاً أن التغيير يحتاج إلى قوة ، بينما الإنكار لا يحتاج إلى تلك القوة ، ومن الفروق أيضاً أن الخطوات تكون قبل وقوع المنكر بينما مراتب تغيير المنكر تكون أثناء الوقوع في المنكر وبعده
تاسعاً : شروط وضوابط التغيير بالقلب :
عرفنا في مراتب تغيير المنكر بأنها تبدأ بالقوة ، ثم اللسان وهي أخف ، ثم تنتهي للتغيير بالقلب ، وقد يعجز بعض الناس عن القيام بما تتطلبه المرتبتين الأولى والثانية لأسباب كثيرة ولكنه لا يعجز أحد مهما كان ضعفه من الإنكار بالقلب ومن ثم التغيير بواسطة هذه المرتبة سيما إذا تحسس المسلم الضوابط والشروط التي يجب أن يتحلى بها المُغيِّر بهذه المرتبة . إذ أن التغيير كما جاء في نص الحديث يقتضي الوجوب حسب الإستطاعة لكن لم يُستثنى أحد من هذا الوجوب . وبعض الناس تراه يرى المنكر أو يجالس أهله ولا يغير فتقول له لماذا لم تُغير المنكر ؟ قال لا أستطيع ولكن أنكرته بقلبي !! أي أنه يدعي أنه انتقل إلى المرتبة الأخف في التغيير . قلنا له ما رأينا شيئاً من ضوابط هذا التغيير بالقلب ؟ قال وما هي تلك الضوابط ؟ قلنا له الآتي :
أ - تغيير ملامح الوجه : فإن من اغتاظ من أمر بدت علائم الغضب على وجهه وبما يشعر من حوله أنه غاضب ومستاء حتى ولو لم يتكلم .
ب - كثرة الحركة في المكان ، وتوالي الزفرات : فهذا أيضاً يشعر صاحب المنكر الذي تجالسه ولا تستطيع أن تكلمه لشره أو لكونه رئيساً كبيراً وتخافه بأنك منكر لما يفعل ويقوم به .
جـ - مفارقة المكان : وهذا أقل وأسهل ما يمكن أن يفعله المنكر بالقلب وهو في متناول كل أحد يقول الحق تبارك وتعالى ( وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره … الآية ) (70) .
وفي ختام هذا الفصل أود القول بأن النظر في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم كفيل بأن يصور للمحتسب كل هذه الأحكام المتعلقة بالحسبة في مواقف عملية حدثت في حياته عليه الصلاة والسلام .
الخاتمة :
لاشك أن كل أمة تعمل جاهدة عل تحقيق عزها ومجدها والأمة التي تتكون من مجموعات ومؤسسات وقطاعات وولايات يقود كل منها قائد تريد من هذا القائد أن يحقق أهدافها من خلال تبصره لمتطلبات قيادته وعمله بإخلاص وتفان في ذلك .
والقائد الذي يعد إعداداً صحيحا هو الذي يحقق لأمته عزها ومجدها بل وسؤددها , وما أحوج أمة الإسلام اليوم إلى وجود مثل هؤلاء القادة الذين ينشأون وهم على وعي تام بأهداف أمتهم ورسالتها بما يؤدي إلى نجاحهم وهذا ما نتمناه لأمة الأسلام التي تحمل أمانة هذا الدين العظيم وإبلاغه للناس وتحقيق عبودية العباد لربهم وهذا يتحقق بإذن الله تعالى بالتربية بالقدوة التي بها انتشر الإسلام وتخرج القادة من مدرسة النبوة ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر ) وفي هذا البحث المقتضب حاولت مجتهدا أن أبرز تلك الأهمية لواحدة من أهم وأنجح وسائل التربية ألا وهي القدوة التي تخرج بها قادة الأمة ونشر بها الإسلام في أصقاع المعمورة .
أهم نتائج البحث :
إن البحث فيما يتعلق بالقدوة وإعدادها هو من البحوث التي يصعب الإتيان على كل ما يتعلق بها وما ذاك إلا لأهمية الموضوع ودقة وحاجة الباحث فيه إلى تجارب تثريه وهذا مالا يتوفر لكل أحد 0
وأني ببحثي هذا فيما يتعلق بالاقتداء وفي حق فئة مهمة جدا وهم ( القادة ) قد توصلت إلى نتائج لعل من أبرزها :
1 - أن دراسة القدوة والتأكيد عليها من أبرز الدراسات التي تحتاجها الأمة اليوم وباستمرار حتى يعم ويسترسخ مفهوم أهميتها في أذهان الناس .
2 - أن أمتنا الإسلامية اليوم التي أهملت الاعتناء بمثل هذه الدراسة قد خسرت كثيرا ولو عادت للاهتمام بها لعاد إليها الكثير من عزها ومجدها المفقود .
3 - أن التركيز على فئة القادة من خلال مراحل التعليم والدورات هو من الأهمية بمكانة الصدارة .
4 - إلى جانب التركيز على دور القدوة فإن القادة بل كل أفراد المجتمع بحاجة ماسة وملحة بدورهم فيما يتعلق بالاحتساب ( الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذا ما ركزت عليه في هذا البحث أيضا ) .(/13)
5 - أني أوصي بأن يكون ضمن مناهج التعليم العام ما يبرز أهمية القدوة حتىيتربى عليها شباب الأمة وقادة مستقبلها إما من خلال مادة مستقلة لذلك أو ضمن موضوعات مواد أخرى والله الموفق وهو المعين سبحانه وتعالى .
الهوامش والتعليقات
________________________________________
(1) لمجموعة من المؤلفين 2/321 ، الطبعة الثالثة .
(2) ابن منظور 15/171 ، طبعة دار صادر ، بيروت .
(3) فتح القدير للإمام محمد بن علي الشوكاني 2/137 ، طبعة دار الفكر .
(4) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 8/237 ، طبعة دار الثقافة .
(5) سورة الأنعام ، الآية 90 .
(6) سورة الأحزاب ، الآية 21 .
(7) سورة آل عمران ، الآية 90 .
(8) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وصححه الألباني . انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة . رقم 1233 .
(9) أصول التربية الإسلامية وأساليبها : عبدالرحمن النحلاوي ، ص229 ، طبعة دار الفكر .
(10) أصول التربية الإسلامية وأساليبها : عبدالرحمن النحلاوي ، ص229 ، طبعة دار الفكر .
(11) أصول التربية الإسلامية وأساليبها : عبدالرحمن النحلاوي ، ص229 ، طبعة دار الفكر .
(12) سورة يوسف ، الآية 108 .
(13) سورة الاحزاب الآية 21 .
(14) سورة الاحزاب الآية 21 .
(15) أي يهدي إليك .
(16) أي تشتري منه .
(17) رواه البخاري في كتاب البيوع باب (38) ورواه مسلم في كتاب البر باب(146)
(18) تفسير كلام المنان 6/208 ( بتصرف ) .
(19) القدوة الصالحة ( أخلاق قرآنية ونماذج ربانية ) : حسين أدهم جرار ، ص17 .
(20) سورة الصف ، الآيتان 2 – 3 .
(21) سورة الأحزاب ، الآية 21 .
(22) القدوة الصالحة أخلاق قرآنية ونماذج ربانية ، مصدر سابق ، ص27 .
(23) مجلة الأزهر ، الجزء الثاني ، ذو الحجة 1401هـ : بقلم اللواء محمد جمال الدين محفوظ ، ص53 .
(24) انظر مقدمة ابن خلدون ، مصدر سابق ، ص 33 .
(25) الموافقات ، 3/317 للإمام الشاطبي ( بتصرف ) .
(26) الدعوة إلى الإسلام لسيد سابق ، ص69 طبعة دار الكتاب العربي ، الزرقاء ، الأردن والاية في سورة الانعام رقمها (90).
(27) سورة الحج ، الآية 75 .
(28) سورة الشورى ، الآية 13 .
(29) سورة الأنعام ، الآية (90) .
(30) سورة الأنعام ، الآية 153 .
(31) سورة الروم ، الآية 47 .
(32) سورة آل عمران ، الآية 110 .
(33) سورة الأنعام ، الآية 87 .
(34) اللواء الركن/محمود شيت خطاب ، بين العقيدة والقيادة .ص 48
(35) دعوة الإسلام : سيد سابق ، ص65 ، طبعة دار الفكر ، بيروت .
(36) الأسس الأخلاقية للحركة الإسلامية : أبو الأعلى المودودي ، ط2 ، مؤسسة الرسالة ص 98.
(37) رواه مسلم . في كتاب الفضائل الباب 199 والبخاري في كتاب الانبياء الباب 19
(38) سورة الشمس .الاية 7
(39) سورة الجاثية ، الآية 23 .
(40) رواه مسلم .في كتاب الجنة باب (1) وبو داود في كتاب السنة باب (21)
(41) الاسس الاخلاقية للحركة الاسلامية مصدر سابق .
(42) سورة آل عمران ، الآية 79 .
(43) فتح الباري : لابن حجر 1/171 ، طبعة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية .
(44) سورة العلق الاية (1).
(45) هذا هو الإسلام : مصطفى السباعي ، ص17 ، ط المكتب الإسلامي .
(46) متفق عليه . رواه البخاري في كتاب العلم باب 10 ومسلم في كتاب الامارة باب 175
(47) إحياء علوم الدين للإمام الغزالي ، صفحة 1/7 ، طبعة دار الندوة الجديدة .
(48) رواه البخاري في كتاب الجمعه باب 11 وسلم في كتاب الامارة باب 20
(49) سورة أل عمران ، الآية 104 .
(50) رواه مسلم .
(51) انظر تفسير الآية في فتح القدير للشوكاني 1/369 ط دار الفكر.
(52) لسان العرب لابن منظور 1/314 .
(53) الاحكام السلطانية للماوردي ص240
(54) الحسبة في الماضي والحاضر مصدر سلبق 1/6
(55) الاحكام السلطانية مصدر سابق ص241
(56) الاحكام السلطانية مصدر سابق ص241
(57) سورة أل عمران ، الآية 110 .
(58) سورة المائدة ، الآيتان 78 – 79 .
(59) سورة التوبة .الاية 71
(60) انظر إحياء علوم الدين للغزالي 2/306 .فقد حكاه عن ابن تيمية
(61) رواه البخاري في كتاب الشركه باب 6.
(62) الأحكام السلطانية للماودي ، مصدر سابق .ص241
(63) معالم القربة في أحكام الحسبة ، لابن الأخوة ، ص4 .
(64) الحسبة في الماضي والحاضر ، مصدر سابق ، ص88 .
(65) الحسبة في الإسلام ، لابن تيمية ، مصدر سابق ، ص84 – 85 .
(66) رواه الترمذي في كتاب الفتن الباب رقم (26) وقال : حديث حسن صحيح وهو جزء من حديث طويل
(67) هموم المثقفين : د/محمد إمام ، ص106 .
(68) رواه الإمام مالك في الموطأ 2/825 والحاكم في المستدرك 4/244 وقال عن صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه .
(69) رواه مسلم في كتاب الايمان باب 7 واحمد 3/202
(70) سورة النساء ، الآية 140 .
المصادر والمراجع
1- إحياء علوم الدين للإمام ( حجة الإسلام ) الغزالي ، طبعة دار الندوة الجديدة .
2- أصول التربية الإسلامية وأساليبها ، عبد الرحمن النحلاوي ، طبعة دار الفكر .(/14)
3- الأحكام السلطانية للماوردي .
4- الأسس الأخلاقية للحركة الإسلامية ، أبو الأعلى المورودي ، طبعة دار الرسالة .
5- الجامع لأحكام القرآن ، للقرطبي ، طبعة دار الثقافة .
6- الحسبة في الإسلام ، لشيخ الإسلام ابن تيمية .
7- الحسبة في الماضي والحاضر ، د/ علي بن حسن القرني ، طبعة دار الرشد بالرياض .
8- الدعوة إلى الإسلام ، لسيد سابق ، طبعة دار الكتاب العربي - الأردن .
9- السيرة النبوية ، لابن هشام ، طبعة دار العلم .
10- القدوة الصالحة ( أخلاق قرآنية ونماذج ربانية ) ، حسين أدهم جرار ، طبعة دار الضياء - الأردن .
11- المستدرك للحاكم .
12- المعجم الوسيط في اللغة ، لمجموعة من المؤلفين .
13- الموافقات ، للإمام الشاطبي .
14- تفسير كلام المنان ، لفضيلة الشيخ عبد الرحمن السعدي .
15- حلية الأولياء ، لأبي نعيم الأصفهاني .
16- سلسلة الأحاديث الصحيحة ، محمد ناصر الألباني ، طبعة مكتبة المعارف - الرياض .
17- سنن ابن ماجه ، للحافظ أبي عبد الله محمد بن يزيد .
18- سنن الترمذي ، لأبي عيسى محمد بن سوره .
19- شرح المواهب ، للزرقاني .
20- صحيح الإمام البخاري ، للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري .
21- صحيح الإمام مسلم ، أبي الحسين مسلم بن حجاج .
22- عظماؤنا في التاريخ ، د/ مصطفى السباعي ، طبعة المكتب الإسلامي .
23- فتح الباري ، شرح صحيح البخاري لابن حجر ، طبعة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية .
24- فتح القدير ( تفسير ) ، للإمام محمد بن علي الشوكاني ، طبعة دار الفكر .
25- لسان العرب ، لابن منظور ، طبعة دار صادر - بيروت .
26- كتاب إصلاح المساجد ، لمحمد بن ناصر الدين الألباني .
27- مجلة الأزهر ، الجزء الثاني ، ذو الحجة 1401 هـ .
28- محمد رسول الله ( سيرة ) ، الأستاذ محمد صادق عرجون ، طبعة دار القلم - دمشق .
29- مسند الإمام أحمد بن حنبل .
30- معالم القربة في أحكام الحسبة ، لابن الأخوة .
31- مقدمة ابن خلدون ، طبعة دار الهلال - بيروت .
32- هذا هو الإسلام ، د/ مصطفى السباعي ، طبعة المكتب الإسلامي .
33- هموم المثقفين ، للدكتور / محمد إمام .(/15)
حياة القلوب
الحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ? يا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجَالاً كَثِيراً وَنِساءً، واتَّقُوا اللَّهَ الذي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً? [النساء:1]. ?يا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وأَنْتُمْ مُسْلِمُون? [آل عمران: 102]. ?يا أيُّهَا الَّذين آمَنوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمالَكُمْ، ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً? [الأحزاب:71].
إن القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد، وجلاؤها ذكر الله ، وللقلوب حياة وموت وصحة ومرض ويقظة وغفلة ومدار السعادة أو الشقاوة على صلاح القلب وفساده ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب".
والمراد بصلاح القلب هو تحرره من الشهوات والشبهات فيصبح قلباً سليماً.
وبداية إصلاح القلب إنما تكون بزيادة مساحة الإيمان فيه وإيقاظه من الغفلة، وبدون ذلك لا يمكن للقلب أن يسير إلى الله حتى إن أدى بعض العبادات فإنها لا تحدث فيه الأثر المطلوب.. فما بالنا نكثر من العبادات ولكن لا نجد لها أثراً في قلوبنا وعلى سلوكنا.. إن المفروض أن تقوم العبادات التي شرعها الله لنا بزيادة الإيمان في القلوب كما قال تعالى: ? إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(2) ? [الأنفال:2].
ولكي تحدث الطاعات في القلب الأثر المطلوب لابد من توافر الحياة فيه أولاً لتنطلق من الآثار الطيبة من الحياة والخشية والطاعة والانقياد.
وإن من علامات حياة القلب دخول نور الإيمان فيه وهذه العلامات يستطيع كل إنسان أن يفتش عنها في قلبه، فإن وجدها فليحمد الله تعالى وليكثر منها وإن لم يجدها فليعلم أنه مخدوع في إيمانه يحتاج إلى مراجعة جادة وبداية قوية تعيد له الحياة إلى قلبه مرة أخرى.
ومن علامات حياة القلب انشراحه وانفساحه، كما قال تعالى: ?أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ... ? [الأنعام:122].
وقال تعالى: ?فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ? [ الأنعام:125] وقال: ?أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ? [الزمر:22]، وقد سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كيفية انشراح الصدر؟ قال: "إذا دخل النور القلب انشرح وانفتح"، قالوا: يا رسول الله وما علامة ذلك؟ قال: "الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله".
كيف اهتمامنا واستعدادنا للدار الآخرة كل منا يسأل نفسه والإنسان على نفسه بصيرا .
إن كثيراً من الناس عن الآخرة لغافلون، وعن الصراط ناكبون، يعيشون في لهو ونسيان يظنون بجهلهم أنهم إلى ربهم لا يرجعون.
نسأل أنفسنا ما هي قيمة هذه الحياة الدنيا في نظرنا هل نزهد فيها ونتجافى عنها.. أم أننا أخلدنا إليها وغرقنا في لذائذها وشهواتها؟ إن جواذب الأرض كثيرة فالمال والبنون والنساء والذهب والأرض والعقارات والسيارات والمناصب كلها جواذب تجذب الإنسان إلى الأرض، وتعلق قلبه بها، إننا نفرح حين نحصل على شيء من متاع الدنيا ، ونحزن على فواته وكلما ازداد حبنا لدنيانا .. ضعف عندنا حب الآخرة واشتدت الغفلة والنسيان لها، فهما ضرتان(من أحب دنياه أضر بآخرته ومن أحب آخرته أضر بدنياه فآثروا ما يبقى) .
لنسأل أنفسنا هل نحن على استعداد للموت متأهبين للقاء الله أم أننا نظن أن الموت إنما كتب على غيرنا نتصرف في الحياة وكأننا لن ننتقل إلى ربنا في علاقاتنا مع بعضنا في حرصنا على الحياة وكراهية الموت، كلها دلائل تشير إلى النسيان والغفلة المستحكمة في حياة البشر.(/1)
ومن علامات حياة القلب التي أخبر عنها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعادة في الله والحب في الله والبغض في الله" ، لنسأل أنفسنا أيها الناس هل تحقق هذا المعنى هل ولاؤنا وحبنا ونصرتنا لله ، نحب دينه ونحب رسوله ونحب المؤمنين؟ هل نعادي أعداء الله من اليهود والنصارى والمنافقين الذين يحاربون الله ورسوله ويحاربون دينه وأولياءه.
إن من أعظم دلائل الإيمان وعلامة حياة القلب هو الحب في الله والبغض في الله، ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى: ? لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ? [المجادلة:22].
ومن علامات حياة القلب أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.
ومن علامات حياته أيضاً كراهية الكفر والفجور بكل صوره والخوف الشديد من الوقوع فيه. ففي الحديث الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاث من كنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار" .
ومن علامات حياة القلب عدم الخوف من أحد من المخلوقين ، يقول تعالى: ?فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ? [آل عمرآن:175].
إن غير المؤمن يخوفه الشيطان بغير الله ، يخوفه من الكافرين ، يخوفه من أمريكا ومن أوربا ، يخوفه من اليهود والنصارى ويوهمه أن قوتهم كبيرة وأن بأسهم شديد، وأن كيدهم عظيم وحتى لا يكون المؤمن واقفاً تحت ذلك التأثير نهاه الله عن الخوف من غيره فقال سبحانه: ?إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ? [آل عمرآن:175].
والمعنى إذا سوَّل لكم الشيطان وأوهمكم بالخوف من غير الله فتوكلوا على الله ، فإنه كافيكم وناصركم عليهم، كما قال تعالى: ?أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ? [الزمر:36]
وإن من كيد الشيطان أنه يخوف المؤمنين من جنده وأتباعه لئلا يجاهدوهم ولا يأمروهم بمعروف ولا ينهوهم عن منكر ، فمن علامات حياة القلب وكماله زوال الخوف من الشيطان وأوليائه ، فهو لا يخاف إلا من الله وحده ولا يرجو إلا إياه. وقد أمر الله عباده بمقاومة الكفار ومجاهدتهم ومقاتلتهم فقال سبحانه: ?... فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ? [النساء:76].
فالإيمان الصادق من شأنه أن يجعل صاحبه لا يخشى سوى الله قال تعالى: ?فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ ? [التوبة:13]، ولا يتوكل إلا على الله ?وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ ? [آل عمرآن:122] .
ومن علامات حياة القلب شعور صاحبه بالقرب من الله عز وجل ويظهر ذلك في دعائه ومناجاته.. ويزداد هذا القرب يوماً بعد يوم حتى يصل إلى درجة الأنس به سبحانه والتلذذ بعبادته ومناجاته.
ومن علامات صحة القلب وحياته الفرح بالطاعات والحسنات والسرور بفعلها وحبّها وحب أهلها وكره المعاصي والسيئات والتألم والندم عند وقوعها.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن" ، يعني كامل الإيمان، لأن من لا يرى للحسنة فائدة ولا للمعصية مضرة، يكون ميت القلب ناقص الإيمان، بل يدل ذلك على الاستهانة والاستخفاف بأمر الدين فعلامة المؤمن أن يفرح بالطاعة ويتألم من المعصية.
أيها المؤمنون: إننا جميعاً في حاجة ماسة إلى معالجة قلوبنا والعمل على إحيائها.. وبداية ذلك رغبة أكيدة وصادقة في الإقبال على الله وتلمس الأماكن والمواطن التي نجد فيها الصحة والحياة لقلوبنا في مجالس الذكر وحلقات العلم في بيوت الله عز وجل ، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً يعظ أصحابه ويعلمهم ، فإذا ثلاثة نفر يمرون على حلقته، فجاء أحدهم فجلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومضى الثاني قليلاً ثم جلس، ومضى الثالث على وجهه، كأنه مستغني عن ذلك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أُنبئكم بهؤلاء الثلاثة: أما الذي جاء فجلس فإنه تاب فتاب الله عليه، وأما الذي مضى قليلاً ثم جلس فإنه استحيا فاستحيا الله منه، وأما الذي مضى على وجهه فإنه استغنى فاستغنى الله عنه" .(/2)
ولفظ البخاري : أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الأخر فأعرض فأعرض الله عنه، ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ? [الأنفال:24].
يعيش العالم اليوم بشكل عام والإسلامي منه على وجه الخصوص هيمنة للإلحاد والانحلال والفساد، يقود هذه الموجة اليهود وأمريكا وسائر القوى الصليبية والوثنية إنهم يفرضون علينا ويُملون شروطهم والحكام ينفذون ولا يستطيعون أن يخالفوهم ، إنهم يريدون أن تنسلخ الأمة من جلدها وأن تنزع هويتها، في كافة الميادين بدءاً من السياسة وانتهاءاً بالعلم والثقافة ، يريد الأعداء من المسلمين أن يحلوا ما حرم الله، وأن نسير على نهجهم ، إنهم يطالبوننا علناً بتغيير المناهج الدراسية وإلغاء التعليم الديني وتجفيف منابعه رسمياً، بإباحة الخمر وترويجها، ويطالبوننا بأن نفتح الباب على مصراعيه للجنس وإشاعة الزنا واللواط، إنهم يشيعون ذلك ويروجونه بكل الوسائل ويطالبون به عبر المؤتمرات والقروض والمشاريع والاتفاقات..الخ، هؤلاء الأعداء يريدون إخضاع العالم وتحطيم مقومات الأمم في دينها وأخلاقها واقتصادها. وإن العلمانيين في بلاد الإسلام أو المنافقين كما عبر عنهم القرآن الكريم يعيشون فرحة غامرة ويرحبون بهذا النوع من الفساد ويستبشرون بمستقبل مزدهر يختفي فيه الدين من الواقع ويتم التخلص منه ومن حملته وذويه. وصدق الله القائل في أمثال هؤلاء الناس: ?وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ? [الزمر:45].
إن العلمانيين اليوم آخذون في مهاجمة الدين والأخلاق مستندين إلى القوى الإلحادية ممثلة في اليهود والأمريكان، التي تقدم لهم الحماية والدعم وهم يشنون الغارات على الدين والأخلاق. ويظنون أنهم يستطيعون تحقيق ما يريدون في ظل العولمة أو الهيمنة الأمريكية، والصليبية، من القضاء على الإسلام وأهله، ونحن نؤمن بأنهم لن يستطيعوا أن يحققوا رغباتهم لأنهم بشر ضعفاء لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، إنهم في قبضة الله وتحت قهره وربنا يبشرنا بقوله: ?يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ(32)هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ? [التوبة:32-33].
إن النظام العالمي الجديد كما يسمونه يريد أن يجعل البشر جميعاً خاضعين لسيطرته وفساده في كل شيء. وهذا مخالف لقدر الله وتقديره بأن يكون الناس أمة واحدة على الإيمان أو على الكفر كما قال سبحانه: ?وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ(118)إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ? [هود:118-119]. فكل محاولة لصبغ الناس كلهم بصبغة واحدة تفرضها القوة الغاشمة هي محاولة فاشلة.. وإن قدر لها أن تنجح في بعض الأماكن لفترة محدودة من الزمن فإنها فاشلة لأنها مخالفة لإرادة الله، والله هو الذي يقدر المقادير وليس البشر، وإن ظنوا في لحظات غرورهم أنهم قادرون ? فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ ... ? [فصلت:15]، ?...أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا... ? [الأنبياء:44]. والنظام العالمي الجديد فاشل لأنه مخالف لسنة أخرى من سنن الله وهي مداولة الأيام بين الناس. فالنصر والهزيمة والتمكين والزوال ليس حكراً على أمة. قال تعالى: ?إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ... ? [آل عمرآن:140].(/3)
وسواء كانت الهيمنة أمريكية أو يهودية أو خليطاً متجانساً منهما، فإنهما يسيران بخطى متسارعة نحو النهاية، ولسنا نعني أن ذلك سيتم غداً صباحاً ولكن أمرهما لن يدوم طويلاً، بناء على الاستقراء لسنة الله تعالى في خلقه واستقراءاً كذلك لنصوص الوحي ولا سيما فيما يتعلق باليهود الذين هم اليوم في قمة علوهم، قال تعالى: ?وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا(4)فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا(5)ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمْ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا(6) إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا(7)عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا? [الإسراء:4-8].
أيها المؤمنون إن الله عز وجل يبتلي عباده بالخير والشر ، فعليكم أيها الناس أن تحصنوا أنفسكم بالإيمان واليقين والتمسك بالدين والأخلاق والعض عليه بالنواجذ، ومراغمة أعداء الله ببذل الجهد والطاقة لنصرة الدين ومجاهدة أعدائه بالنفس والمال والحجة والبيان ?... اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ(128) ? [الاعراف:128]
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
صحيح البخاري: باب فضل من استبرأ لدينه : برقم: ( 52) . وصحيح مسلم: باب أخذ الحلال وترك الشبهات: برقم: (1599) .
سنن سعيد ابن منصور: باب: قوله تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء: برقم: (918) . وقد ضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة برقم: (965) .
قال الألباني: صحيح لغيره ، في صحيح الترغيب برقم: (3247) . وقال في ضعيف الجامع: ضعيف: برقم: (5340) . وقال: في مشكاة المصابيح: له شاهد بسند صحيح : برقم: (5107) .
معجم الطبراني الكبير: باب الظاء . أحاديث عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف . عكرمة عن ابن عباس .
عن بن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر أي عرى الإيمان أظنه قال أوثق قال الله ورسوله أعلم قال الموالاة في الله والمعاداة في الله والحب في الله والبغض في الله) . وقد حسنه الألباني : في صحيح الجامع برقم: (2009) . وقال في السلسلة الصحيحة: حسن لشواهده : برقم:(1728) .
صحيح البخاري: باب حلاوة الإيمان برقم:(16) عن أنس . وصحيح مسلم: باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان ( 43) عن أنس .
سنن الترمذي: كتاب الفتن عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم : باب ما جاء في لزُوم الْجَماعَة : رقم: (2191) . وقد صححه الألباني: في شرح الطحاوية: (521) . و صحيح الترمذي: (1758) .
صحيح البخاري: باب من قعد حيث ينتهي به المجلس ومن رأى فرجة في الحلقة والحاصل فيها : برقم: (66) . وصحيح مسلم: باب من أتى مجلسا فوجد فرجة والحاصل فيها وإلا وراءهم: برقم:( 2176) . ...(/4)
حياتنا والطاقة
د. طارق البكري
docbakri@yahoo.com
الانسان القديم عرف الطاقة
تمكن الإنسان منذ القدم من استغلال طاقة الرياح في تحريك السفن في الأنهار والبحار، واستخدامها في إدارة بعض طواحين الهواء لرفع المياه أو طحن الحبوب وغير ذلك من الاستخدامات، وتمكن من استغلال الفرق في منسوب المياه من أجزاء بعض الأنهار في إدارة بعض السواقي، وتشغيل الآلات. وقد عرف الفحم منذ أن اكتشف النار ولاحظ أن بعض الأحجار السوداء الموجودة في الطبيعة تقبل الاشتعال، واستخدم الفحم كمصدر للطاقة إلى أن تم اكتشاف النفط، وما يصاحبه من غاز طبيعي.
الطاقة النظيفة
يرى كثير من الباحثين أن الطاقة النظيفة تشكل حلاً مثالياً لمشكلة التلوث التي يعاني منها عالمنا اليوم.
ويقولون إن طاقة الشمس والرياح والمياه.. تشكل مصدراً مهماً لإنتاج طاقة عالمية مستدامة, إضافة إلى استخدام الكتل البيولوجية والحرارة الجوفية والمد والجزر في البحاروالمحيطات.
ولو وظفت الأموال لإنتاج طاقة من هذه المصادر بدلاً من إنفاقها على الطاقة النووية لحصلت نتائج أفضل بكثير.
أرقام
في عام 2004 تزايد إنتاج الطاقة النووية بمعدل 2 % فقط عالمياً. أما إنتاج الطاقة الكهربائية بواسطة الأشعة الشمسية فقد تعاظم عالمياً بمعدل 60 % سنوياً منذ عام 2000 لغاية العام الماضي.
وجاء إنتاج الطاقة الكهربائية بواسطة الرياح في المرتبة الثانية عالمياً حيث تزايد بمعدل 28 % سنوياً. وبلغت التوظيفات العالمية في إنتاج الطاقة النظيفة 30 مليار دولار عام 2004, وفقاً لما جاء في تقرير الوضع العالمي للطاقة المتجددة لعام 2005.
الجسم يحتاج الى طاقة معينة
كل حركة يقوم بها الإنسان تحتاج إلى استهلاك نوع من أنواع الطاقة، ويستمد الإنسان طاقته لإنجاز أعمال يدوية وذهنية من غذاء متنوع يتناوله كل يوم، إذ يتمّ حرق الغذاء في خلايا الجسم ويتحول إلى طاقة.
النفط والغاز مثل القمح والرز
يقال إن جميع أنواع الطاقة لا تعطينا أي من مواد حيوية كالتي يتم استخلاصها من نفط وغاز طبيعيين يزيد عددها عن 500 ألف صنف.
فالنفط والغاز مثل القمح والرز بالنسبة للإنسان ولا يجب استخدامهما إلا في المواقع التي لايمكن استبدالهما على الإطلاق. وكم سيكون حجم التوفير لو أنتج ما نحتاجه من الطاقة الكهربائية بواسطة الأشعة الشمسية وقوة الرياح لتسخين مياهنا وتدفئة منازلنا وإنارتها وطهي طعامنا وكذلك لو حوّلت محطات تحلية المياه المياه للعمل بواسطة الطاقة النظيفة؟
طاقة الشمس
هي المصدر الرئيسي للطاقة منها توزعت وتحولت إلى مصادر أخرى مثل الرياح والحرارة والطاقة المولدة من مساقط المياه والطاقة الشمسية وغيرها من مصادر الطاقة كالفحم الحجري والأخشاب، وبما أن الطاقة الشمسية هي أهم مصادر الطاقة المتجددة فإن جهود كثير من الدول تتوجه لها بمختلف صورها وترصد لها مبالغ كبيرة لتطوير المنتجات والبحوث الخاصة باستغلالها كإحدى أهم مصادر الطاقة البديلة للنفط والغاز، وقد أعطى النصيب الأوفر في البحوث والتطبيقات لمجال تحويل الطاقة الشمسية إلى كهرباء وهو ما يعرف باسم ((Photovoltaics.
وهذا المصدر من الطاقة هو أمل الدول النامية في التطور حيث أصبح توفير الطاقة الكهربائية من العوامل الرئيسية لإيجاد البنى الأساسية فيها ولا يتطلب إنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية إلى مركزية التوليد بل تنتج الطاقة وتستخدم بالمنطقة نفسها،وهذا ما سوف يوفر كثيراً من تكلفة النقل والمواصلات.
وتعتمد هذه الطريقة بصورة أساسية على تحويل أشعة الشمس إلى طاقة كهربائية، وتوجد في الطبيعة مواد كثيرة تستخدم في صناعة الخلايا الشمسية التي تجمع بنظام كهربائي وهندسي محدد لتكوين ما يسمى باللوح الشمسي الذي يعرض لأشعة الشمس بزاوية معينة لينتج أكبر قدر من الكهرباء.
أشكال متنوعة
تتوافر الطاقة على أشكال مختلفة حصرها البعض بأربعة مستويات رئيسية:
أولاً: الطاقة الحركية (Kinetic Energy): وهي الطاقة الدافعة لأي جسم متحرك، وهي الطاقة التي تجعل الأشياء دافئة، فالمواد تتكون من ذرات، ومجموع الذرات تسمى جزيئات. وفي غاز كالهواء المحيط بنا مثلاً فإن هذه الجزيئات تتحرك بحرية، ولكن في السوائل والمواد الصلبة فإن الحركة تكون مقيدة نسبياً. وكل جزء أو جسيم يتذبذب بشكل ثابت، والطاقة الحرارية (الحرارة) هي اسم أعطي للطاقة الحركية التي تنتج عن حركة الجزيئات العشوائية السريعة، وكلما كانت الحرارة أكبر كانت السرعة أعلى.
ثانياً: الطاقة الكامنة (Gravitational Energy Or Potential Energy): وهي الطاقة المبذولة اللازمة لرفع جسم، وذلك لكون الجاذبية الأرضية تعاكس هذا الفعل. فعند رفع أي جسم، سواءً كان تفاحة، لارتفاع معين، أو عند رفع عدة آلاف الأطنان من الماء إلى مستوى أعلى، فإنه سيتم خزن طاقة في ذلك، وفي هذه الحالة يمكن تسميتها بطاقة الجاذبية الكامنة (وتسمى دائماً الطاقة الكامنة).(/1)
ثالثاً: الطاقة الكهربائية (Electrical Energy): إن قوى الجاذبية هي أكثر القوى وضوحاً عندنا، فهي تؤثر في الأجسام بشكل ملموس، وهي أكبر من الجاذبية تأثيراً بمئات المرات. فالقوى الكهربائية هي التي تربط الذرات والجزيئات للمواد ولكن لا يمكن إدراكها بالعين المجردة. فكل ذرة تتكون من أجزاء مشحونة كهربائياً، فالإلكترونات تدور حول مركز النواة، وعندما تجتمع الذرات لتكوين جزيئات أو مواد صلبة فان توزيع الإلكترونات يتغير. وفي معظم الأحيان يكون التغير كبيراً جداً ولهذا فإن الطاقة الكيميائية المنظورة على مستوى الذرات هي شكل من أشكال الطاقة الكهربائية. فعندما يتم حرق الوقود فإن الطاقة الكيميائية التي تحتويها ستتحول إلى طاقة حرارية. ومن البديهي أن الطاقة الكهربائية التي تتحرر نتيجة تبدل مواضع إلكترونات الذرة تتحول إلى طاقة حركية في جزيئات المنتج المحترق. والشكل المألوف من أشكال الطاقة الكهربائية هو القوه الكهربائية التي نستخدمها في حياتنا اليومية.
فالتيار الكهربائي هو عبارة عن تيار منتظم من الإلكترونات في المادة، وفي معظم الأحيان تكون هذه المادة معدناً (metal)، والمعادن هي مواد يتم فيها تحرر إلكترون واحد أو اثنين من ذراتها. وبوجود هذه الإلكترونات المتحررة يمكن لهذه المعادن حمل التيار الكهربائي.
وتحتاج عادة محطات توليد الطاقة الكهربائية إلى عمليات متتالية في تحويل الطاقة، فإذا كان الوقود هو الطاقة المستخدمة فإن الخطوة الأولى ستكون حرقه واستخدام الحرارة الناتجة عنه لإنتاج بخار أو غاز ساخن ، وهذا البخار أو الغاز سيقوم بتدوير التوربينات (العنفات) التي بدورها تقوم بتدوير المولدات الكهربائية .
رابعاً: الطاقة النووية (Nuclear Energy): هذا النوع من الطاقة هو ما يتعلق بمركز النواة الذي يسمى بالطاقة الذرية أو النووية، وتم تطوير هذه التكنولوجيا خلال الحرب العالمية الثانية لأغراض عسكرية، وتستخدم الآن أيضاً لأغراض سلمية مثل توليد الطاقة الكهربائية، وتعمل محطات الطاقة الكهربائية التي تستخدم الوقود النووي بالطريقة نفسها التي تعمل بها محطات الوقود التقليدي مع فرق يتمثل في أنّ أفران حرق الوقود يتم استبدالها بمفاعل نووي لتوليد الحرارة.(/2)
حيدر بن أحمد بن محمد الصافح
السيرة الذاتية :
* حيدر بن أحمد بن محمد الصافح .
* من مواليد اليمن - عام 1954م .
* حصل على الدكتوراه من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية – تخصص : دعوة واحتساب عام 1989م .
* عمل محاضرا أثناء تحضير الدكتوراه في كلية الدعوة بالمدينة المنورة .
* بعد حصوله على الدكتوراه درس في دار الحديث المكية القسم العالي للمرحلة الجامعية .
* عمل مديرا لهيئة الإعجاز العلمي للقران والسنة برابطة العلام الإسلامي في مكة المكرمة .
* حضر العديد من الدورات والندوات والمؤتمرات العلمية في كلٍ من : ( اليمن – السعودية – ماليزيا – موسكو – اندونيسيا – السنغال – بلغاريا – تركيا - ... ) .
* عمل مدرسا في المعهد العالي للتوجيه والإرشاد - اليمن .
* عمل مستشارا علميا لعميد المعهد العالي للتوجيه والإرشاد – اليمن .
* عضو في هيئة التدريس في جامعة صنعاء .
* يعمل مدرساً في كلية التربية في جامعة صنعاء – قسم القرآن وعلومه.
* يعمل وكيلاً للشؤون العلمية بجامعة الإيمان منذ عام 1995م .
* أشرف وشارك في مناقشة عدد من البحوث والرسائل الجامعة في الجامعات اليمنية .
* عضو في مجلس أمناء جامعة الإيمان .
* خطيب مسجد عمر بن عبد العزيز – صنعاء .
* له العديد من البحوث والمقالات – المطبوع منها :
1- الحسبة في العصر المملوكي وواقعنا المعاصر ( رسالة الدكتوراه ) .
2- مباحث في علوم العقيدة .
3- مظاهر الردة أسبابها وعلاجها .
4- دور المنافقين في الدعوة إلى الطاغوت .
5- من عوائق صناعة جيل التمكين داخل الاتجاهات الإسلامية .
6- واقع الأمة – الأمل والتغيير .
7- مكتب التوجيه والإرشاد اليمني وأثره في نشر الدعوة إلى الله .
8- ظاهرة التسول المشكلة والعلاج في ضوء الإسلام .
5
خطب الشيخ الدكتور: حيدر الصافح
الرقم ... الخطبة ... الرقم ... الخطبة ...
1 ... أسس بناء المجتمع الإسلامي ... 2 ... المسجد أساس من أسس بناء المجتمع الإسلامي ...
3 ... حياة القلوب ... 4 ... موالاة الكفار ...
5 ... صفات المنافقين ... 6 ... المنافقون والحاكمية ...
7 ... المنافقون والإفساد في الأرض ... 8 ... الابتلاء ...
9 ... التحذير من الفتن ... 10 ... الصلاة ...
11 ... استقبال شهر رمضان ... 12 ... الصبر ومجالاته ...
13 ... أيوب عليه السلام (النبي الصابر) ... 14 ... الغضب ...
15 ... الرفق ... 16 ... واقع الأمة ...
17 ... إعداد العدة ... 18 ... صور من عيشته r ...
19 ... الصلاة ... 20 ... دروس وعبر من قصة موسى وفرعون ...
21 ... تابع دروس وعبر من قصة موسى وفرعون ... 22 ... الظلم والطغيان ...
23 ... الموت والشهادة في سبيل الله ... 24 ... غزوة حمراء الأسد ...
25 ... عشر ذي الحجة ... 26 ... الحرية ...
27 ... أسباب الشهادة ... 28 ... مناهج التعليم ...
29 ... أسباب سوء الخاتمة ... 30 ... فوائد من قصة موسى ...
31 ... المشاركة في الانتخابات من واجبات الفرد المسلم ... 32 ... البراء ...
33 ... حجة الوداع ... 34 ... فوائد من قصة إبراهيم عليه السلام ...
35 ... أسباب النصر وأسباب الهزيمة من خلال سورة الأنفال ... 36 ... شروط النصر ...
37 ... ليس الإيمان بالتمني ... 38 ... الفتنة والبلاء ...
39 ... المنافقون وخطرهم على الدين والأمة ... 40 ... حسن الظن بالله ...
41 ... المنافقون والإفساد في الأرض ... 42 ... فتن آخر الزمان ...
43 ... الزكاة ... 44 ... القضاء في الإسلام ...
45 ... مصادر النور ... 46 ... معركة الإيمان مع الباطل ...
47 ... وسائل أعداء الدين في حرب المؤمنين ... 48 ... الخوف من الله ..وجيل النصر ...
49 ... الخليل إبراهيم وابنه إسماعيل ... 50 ... دروس من سورة الفاتحة ...
51 ... علامات السقوط والانهيار الأمريكي ... 52 ... بركة المؤمنين ...
53 ... دروس من الحج ... 54 ... جيل صلاح الدين ...
55 ... مسؤولية تربية الأولاد ... 56 ... الطائفة المنصورة الغالبة ...
57 ... أثر المعاصي في الأمة ... 58 ... الإرهاب الصهيوني عبر التاريخ ...
59 ... استقبال اليهود والحفاوة بهم ... 60 ... دسائس اليهود وخياناتهم ...
61 ... موسى....وفرعون عظات وعبر ... 62 ... صفات المؤمنين ...
63 ... فضل الذكر ... 64 ... أثر الذنوب في الأمم والشعوب ...
65 ... أداء الأمانة ... 66 ... حسن الخاتمة ...
67 ... دمَّر الله عليهم ... 68 ... ذكر الله تعالى ...وجيل النصر المنشود ...
69 ... دمار أمريكا في تدبيرها ... 70 ... الذبح لغير الله وعقوق الوالدين وتغيير منار الأرض ...
71 ... أسباب البركة في الرزق ... 72 ... الحب في الله ...
73 ... دروس من الهجرة ... 74 ... ولا تقربوا الزنا ...
75 ... الصلاة وأثرها في الأمة ... ... ...(/1)
حيرة الترابي بين الشهادة والغيب أنور الطيب قسم الله المهل*
توطئة لابد منها :
العلم كما ورد في كثير من المعاجم هو إدراك الشيء لحقيقته وقد يتأتى بطريقين إما إدراك ذات الشيء أو إدراكه بوجود شيء آخر يدل عليه فمثال الأول رؤية ا لشمس مباشرة فهي دليل على وجودها ومثال الآخر هو رؤية الظل الذي يدل على وجود الشمس أو المصدر الضوئي. والمعرفة هي إدراك حقيقة الأشياء بشيء من التفكر والتدبر ولهذا تكون المعرفة أخص من العلم.
والعالم من حولنا عالمان ، عالم الشهادة وعالم الغيب ، فعالم الشهادة هو ما خبرناه عن طريق حواسنا الخمس ، فالجسم الحار يستدل على وجوده بحرارته عن طريق اللمس أو أدواته . وعالم الغيب هو ما غاب عن حواسنا ولا سبيل لنا لإدراكه بأي أداة من أدوات عالم الشهادة. فالجن غيب لا يمكننا إدراكهم عن طريق الحس. ولا يوجد سبيل لمعرفتهم إلا عن طريق الخبر ، و استخدام أدوات الحس لإدراكهم ضرب من ضروب المستحيل.
عالم الشهادة :
عالم الشهادة هو العالم الذي خبره الإنسان واستخدم أدوات يعتمد عملها على الحواس الخمس إما مباشرة أو عن طريق غير مباشر . فالأجسام الحارة يمكن لمسها مباشرة للتأكد من حرارتها ، أو يمكن أن نستخدم مقياسا للحرارة لتسجيل حرارتها ، أو يمكن أن نستخدم جزءا من الطيف الكهرومغناطيسي للتدليل عليها ، مثل استخدامنا للأشعة تحت الحمراء للتمييز بين الأجسام الباردة والحارة ، فصورة القمر الصناعي المأخوذة عن طريق الأشعة تحت الحمراء تعتمد في رصدها لدرجات الحرارة على صفة هذا الطيف المنبعثة من الجسم وبالتالي تتمكن أجهزة الرصد من التمييز بين الأجسام الحارة والباردة.
وعلى هذا فقس ، فالكائنات الدقيقة لا نراها بالعين المجردة ولا يمكن للعين المجردة رؤيتها أصلا ، ولكن عوضا عن ذلك يستخدم الإنسان عدسات مكبرة لرؤيتها ، فهذه العدسات المكبرة لا ترينا الكائن الدقيق ، ولكن صورة تقديرية لهذا الكائن الدقيق ، بمعنى أن نضع هذا الكائن الدقيق بين بؤرة العدسة المكبرة وبين مركزها البصري حتى يتسنى لنا تكبير الصورة ، فما نراه حقيقة هو صورة لهذا الجسم الدقيق أيا كان ، وقد استطاع الإنسان أن يرى صور أشياء صغيرة جدا بحيث أنها تقدر بالنانومتر[1] أو الأنجستروم .
وبالنسبة لعالم الأصوات يمكن إدراكه بواسطة حاسة السمع أو أدواتها ، فمجرد سماعك لدوي يدلل على وجود انفجار ، قد يكون قنبلة أو إطار سيارة أو أي شيء مشابه ، وقد تعتمد على صدى الصوت في تحديد عمق بحر ، حفرة ، أو بئر نفطية ، أو حتى جنين في رحم أمه .
وحتى لا أطيل فإن عالم الشهادة أدواته معروفة وفي تطور مستمر بمعنى أن الإنسان كلما طور أدواتا جديدة كلما استطاع الولوج إلى معارف جديدة في عالم الشهادة ، فقبل أنتوني لفن هوك لم يتعرف الإنسان على البكتريا ، لكن هذا لا يجعلها في عالم الغيب ، بل هي في عالم الشهادة ولكن لم يكن لدينا من الأدوات ما يمكننا من رؤيتها. ولا يختلف البشر كثيرا في عالم الشهادة فهو عالم خبروه وخبروا أدواته وعملوا على تطويرها ، وبدأ يتكشف لهم هذا العالم شيئا فشيئا من مجراته الكبيرة إلى ذراته الصغيرة وما زال.
إشكالات المشاهدة :
ورغم أن الإنسان طور كثيرا من الأدوات لإدراك عالم الشهادة إلا أنّ هذا لا يثبت إحاطته التامة بها ، فهذا منوط بالأدوات التي يستخدمها ، فالشخص الذي ليس لديه أدنى فكرة عن العدسات والمرايا لا يستطيع أن يستوعب فكرة وجود البكتريا ، كما أنّ الشخص الرائي لهذه البكتريا لابد أن يدرك أنّ هذه صورة للبكتريا وليست البكتريا نفسها . والصورة ليست كالحقيقة ، فقد تتشوه هذه الصورة تبعا للأدوات التي نستخدمها وبالتالي ما نراه قد يكون صورة أقرب للحقيقة وليست الحقيقة نفسها !
والصورة التي يأخذها القمر الصناعي للأرض قد تختلف باختلاف الطيف الكهرومغناطيسي الذي نستخدمه وبالعوامل الجوية التي تؤثر في هذا الطيف فكلما كانت هذه العوامل عائقا في تكوين صورة مقاربة للحقيقة فإنه يصاحبها نسبة من الأخطاء لا نستطيع أن نتداركها ، لكن نستطيع تقليل نسبتها إلى حد كبير ، وبالتالي الصورة المتكونة ليست بالضرورة هي الحقيقة ولكن صورة أقرب للحقيقة مما يجعلنا أن نضع في الحسبان نسبة الخطأ الذي يصاحبها أو كيفية تصحيح هذه الأخطاء بطريق يقنعنا بأنّها أقرب للحقيقة . وكلما تطورت أدواتنا وقلة نسبة أخطائها كنا نحن أقرب للحقيقة.(/1)
والمشكلة الثانية هي أنّ قدراتنا الحسية محدودة فعين الإنسان تستطيع الرؤية فقط في المدى من أربعة أعشار الميكرومتر[2] إلى سبعة أعشار الميكرومتر ، . وأذن الإنسان تسمع في المدى من عشرين هرتز إلى عشرين ألف هرتز[3] . فهنالك بعض الكائنات التي تستطيع أن ترى أشياء لا نستطيع أن نراها نحن ، فبعض الفراشات ترى في الظلام باستخدام أشعة فوق بنفسجية ، وبعض الكائنات كالكلاب والطيور تستطيع أن تسمع اهتزازات زلزالية قبل أن تقع الكارثة فتهرب مبتعدة من مكان الخطر ، بينما نحن البشر لا يمكننا إلى الآن التنبؤ بالزلازل! إذن حتى في عالم المشاهدة هنالك من الكائنات الأخرى ما يتفوق علينا في معرفة بعض تفاصيله وهذا يدلل أنّ المشاهدة منوطة بالأدوات التي نملكها ودقة هذه الأدوات.
ففي عالم المشاهدة قد لا ندرك الحقيقة المحضة في بعض الأحيان نسبة لوجود بعض المعوقات المحيطة إما بأدواتنا أو بالعوامل المحيطة بأدواتنا مما يؤدي إلى ضبابية الحقيقة التي ننشدها! هذا في عالم المشاهدة فما بالك بعالم الغيب.
عالم الغيب :
والغيب ما غاب عن إدراك الحواس ، وتعجز الحواس تماما عن معرفة حقيقته ، ولا سبيل لأدوات عالم الشهادة إلى الوصول إليه ، واستخدام أدوات الحس والمشاهدة غير مناسب لإدراكه أو كما يقول أهل العلوم ' irrelevant' وهذا ما يقع فيه كثير من المفكرين الذين يستخدمون أدوات الحس لإدراك عالم الغيب ، فمثلهم كمن يسلك الطريق الخاطئ للوصول إلى الهدف الصحيح.
ومن أمثلة عالم الغيب عندنا نحن المسلمون ، عالم الجن والشياطين ، عالم الدار الآخرة ، عالم البرزخ ، أو غيرها من العوالم التي عرفها المسلمون عن طريق الخبر الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم إما بصريح القرآن أو صحيح السنة المطهرة .
السبيل إلى عالم الغيب :
فعالم الغيب كما أسلفنا عالم غاب عن حواسنا تماما وبالتالي لا سبيل لحواسنا لإدراكه واستخدام أي أداة من أدوات المشاهدة لمعرفته هو سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء . إذن فما السبيل إليه ؟ السبيل إلى هذا العالم هو علّام الغيوب نفسه سبحانه وتعالى ، فخالق هذا الكون عالم بغيبه وشهادته " عالم الغيب والشهادة " ، فإخباره لنا عن طريق الرسل هو الحل الوحيد لذلك ، وحتى يكون الأمر مقنعا لنا نحن بني البشر الذين خبرنا الجدل والحجة والمنطق فلابد لهذا النبي من دلائل تثبت أنّه مبعوث من الله سبحانه وتعالى ، وإلا لأدعى كل شخص أنّ الله أخبره بعلم الغيب !
فالتصديق برسالة النبي صلى الله عليه وسلم هو الأصل في الإيمان بالأمور الغيبية ولكن لا يعني بأي حال إدراكها ، فهي أمور غيبية خبرية آمنّا بها ، وما جعلنا نؤمن بها هو إيماننا بالنبي صلى الله عليه وسلم وأي تشكيك بها هو تشكيك في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم طالما أنّ الخبر الذي وصلنا صحيح لا تشوبه شائبة.
المستنقع الذي أوقع الترابي فيه نفسه :
في ندوة مساء السبت 23/04/2006 ، تحدث الترابي في هذه الندوة أمام حشد من طلاب جامعة الخرطوم ما يزيد عن الساعة كلاما كثيرا كان عنوانه أصلا " تجديد الفكر الديني " ، وأنا هنا لا يهمني سوى الجزء المتعلق بالعلوم وأدواتها ، فخاض في أمور كثيرة قد يتفق معه الناس أو يختلفون ، ولكن من ضمن خوضه العاثر ، تحدث عن عالم الغيب بشيء من السخرية وعدم الأدب والعلم بطريقة لا تليق أبدا بشخص له فكر حر كما يدعي ولا أعقب على أخطائه السياسية أو تجربته فأتركها لأهل السياسة . ولكن ما يهمني هنا هو سوء استخدامه لأدوات عالم الشهادة للولوج إلى عالم الغيب.
فمن ضمن ما تحدث عنه بسخريته المبتذلة " الدابة " ، " عذاب القبر" ، " عذاب الآخرة" ، " المهدي المنتظر" ، " قدوم المسيح عليه السلام آخر الزمان" ، وغيرها من الأمور الغيبية التي أنكرها إنكارا مباشرا. وهو له ما يريد في أن ينكر ما ينكر أو يثبت ما يثبت ، لكن هذا من المفترض أن يتبع فيه أسلوبا علميا رصينا لا من باب إلقاء القول على عواهنه .
فصريح القرآن والأحاديث الصحيحة تثبت هذا الكلام ، والخطأ الذي وقع فيه الترابي كما وقع فيه الكثيرون من المفكرين غيره هو استخدام أدوات المشاهدة للحكم على الأمور الغيبية. بمعنى أنّه لا يوجد سبيل لمعرفة الغيب باستخدام الحواس أو أدواتها المعروفة لإثبات أو إنكار شيء هو ليس من اختصاصها. فالإنسان في عالم البرزخ غير الإنسان في عالم الشهادة وما ينطبق عليه ليس بالضرورة أن ينطبق على عالمنا ، فهو في عالم آخر غير عالمنا وأدواته لا نملكها أصلا فكيف بنا أن نستخدمها في معرفة حقيقته.(/2)
وحديثه عن عذاب القبر والآخرة أسقطه تماما على عالم الشهادة وما درى أنّ هنالك فرق كبير بين العالمين ، فليس بالضرورة أن ما ينطبق على الإنسان الآن ينطبق عليه غدا في اليوم الآخر ، وهنا وقع مرة أخرى في استخدام أدوات عالم الشهادة لتحليل عالم الغيب حين قارن بين نسبة الماء في الإنسان وبين النار التي تلحقه وتؤذيه وبأنّ هذا الأمر غير ممكنا بالصورة التي صورها ، ولكنه للأسف صورها كما يبدو له في عالم الشهادة الذي أشك أصلا في أنّه يملك نواصيه ، فوقع فيما وقع فيه من مغالطات ما أنزل الله بها من سلطان. فعالم الشهادة يا دكتور الترابي هو غير عالم الغيب ، ولك الحق في الخوض في عالم الشهادة إن امتلكت أدواته ، لكن لا أنت ولا أنا ولا أي شخص مثلنا له الحق في الخوض في عالم الغيب إن فقهت مقولتي.
فلو أنّه أنكر نسبة هذه الأحاديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم لكان الأمر مقبولا ، لأنّ إنكار نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ينكر صحة الخبر أصلا و الذي هو في الأساس مصدر المسلمين المعتمد في عالم الغيب.
وأي عالم حر في مثل هذه الأمور يدرك أنّه ليس لديه الأدوات المناسبة للخوض في الأمور الغيبية ، لكن لا يستطيع بأي حال إنكارها ، فقد يقول : لا أدري ، أو لا أؤمن بها ، أو أي كلمة تنبئ عن علمه لا أن يشكك في أمور لا يمتلك الأدوات المناسبة للتشكيك فيها.
- - - - -
[1] النانومتر هو جزء من ألف مليون جزء من المتر .
[2] الميكرومتر أو الميكرون هو جزء من المليون من المتر.
[3] الهرتز هو وحدة قياس التردد ويساوي اهتزازة واحدة في الثانية.(/3)
حينما لا يشتكي الجسد...!!!
د.عبدالرحمن العامر
</TD
رنَّ هاتفي, رأيتُ اسم المتصل, طرتُ من الفرح حينها؛ لاتصال أخٍ غالٍ علي, فقد كنت مفزعي كثيراً بعد الله حينما يطرقني الحزنُ ويُداهمني الهمُّ, فبادرتُّ بالردِّ عليه: مُرحباً ومُهللاً, ولكني لم أسمع الصوتَ كما اعتدتُ منه, وإنما نقل لي الهاتف مع الصوتِ همًّا عميقاً وحُزناً ظاهراً, فبادرَ المتصلُ بشرح همه وتفسير حزنه؛ راجياً أنْ يجد عند سامعه ما يُزيلُ عنه وجْدَه, أو لعله يُسهم فيه. ولعمري لقد استسمن ذا ورمٍ, ونفخ في غير ضَرَمٍ. فأنَّى لي ذلك على تبلد خاطرٍ, وكلال قريحةٍ, وتقسُّمِ فكرٍ.
لقد قٌذف الرجل في عرضه, والقاذف ممنْ يحمل وإياه لواءَ الدعوة والتربية, فازداد عجبي, وطالت دهشتي, بعد ألمٍ اعتصر قلبي وفتّت جناني, فرجوته أنْ يمهلني علَّ الخاطر الكليل أنْ يجودَ بما أرجو أنْ يشفي بعض العليل ويداوي لوعة الغليل.
فكتبت إليه بهذا الرد:
إنه لا يكاد ينقضي العجب من البعض ممن يبادرُ بإطلاق لسانه في الآخرين متى ما سمع طرفَ خبرٍ, أو شمَّ رائحةَ مكروه, أو رأى ما لا يُبنى عليه حكمٌ. [انظر: طرح التثريب 8/87], ويزداد العجب ولا يكادُ ينقضي إنْ كانَ ذاك الكلام ممن يُحسب على أهل الاستقامة, وإنْ لم يكن في حقيقة أمره منهم فتلك من أبجديات عوامّ الأمة, ويزداد أُخرى إنْ كانَ الآخر ممن يُحسب على النهج ذاته, ويعظم الأمر ويشتدُّ إنْ كان الكلام في الدعاة والعلماء؛ لأنَّ الوقيعة فيهم بما هم منه براء أمره عظيم, والتناول لأعراضهم بالزور والافتراء مرتعٌ وخيم, والاختلاق على من اختاره الله منهم لنعش العلم خلق ذميم, فقد قال الإمام أبو القاسم ابن عساكر _رحمه الله_: اعلم يا أخي _وفقنا الله وإياك لمرضاته وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته_ أن لحوم العلماء مسمومة, وعادة الله في هتك أستار منتقصهم معلومة, وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب بلاه الله قبل موته بموت القلب, (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم)أ.هـ.[نشرُ طيِّ التعريف ص45].
فإنها لوصمةٌ اتسم بها زماننا هذا لا يبعد عارها ولا ينقضي شنارها, ويزداد العار ويعظم الشنارُ إنْ كان الكلام بالأعراض, عندها تزداد الدركات وتشتدُّ الظلمات, فالأمر لم يقفْ عند مجرد الغيبة وإنْ كانت عظيمةً ولاشك, بل تعداها حيثُ العرض, الذي كان من المقاصد الشرعية المحافظة عليه؛ فالعرض أحد الضرورات الخمس التي جاء الدين بالمحافظة عليها, والتي ترجع المقاصد الشرعية إلى المحافظة عليها والتشديد فيها. فلأجلها شُرع الحد في القذف, ولأجلها شُرعت الملاعنة, وعليها تترتب ردُّ الشهادة, والإخراج من دائرة العدالة _إنْ لم يأتِ بتتمة الشهود_ كلُّ ذلك من أجل المحافظة على طُهر المجتمع الإسلامي ونقاءه.
إنْ كان هذا كله من أجلِ سدِّ الباب عما يدنسُ المجتمعات الإسلامية عما يشوبها من مستنقعات الشائعات المفضية إلى بحور الرذيلة والعار...!!!, فكيف بنا وقد فتح البابَ من كان محسوباً أنه من أقفاله, وقد رفعَ الستار من كان لازماً أنْ يكون ستاراً ؟!, ولكنْ هذا هو الواقع عندما يُعمي الغلُّ والحسد والحقد القلبَ عن إبصار النور, وعندما يسيطر حبُّ الدنيا على القلب, فتعمل عملها في قلب المرء, حينها لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أُشرب من هواه!!. وإنْ كان المرء ممن يَظهَرُ صلاحه واستقامته.
أعود إلى أسباب تلك المصيبة _أعني الخوض في الأعراض_ فمن أبرزها: ما يعتري القلب من أمراض: ولا تداوى إلا بالعلم والعمل النافعين, وهي فيما يتعلق بهذا الموضوع عديدة ترجع إلى أصول ثلاثة, وهي:
1. الحقد:
فإنه مبدأ الحسد كما بينه صاحب الإحياء.[انظر: إحياء علوم الدين 3/186].
كما بيّن أن الحقد من نتائج الغضب, وأثرهُ في ذلك لا يخفى على عارفٍ, ولا ينطلي على فطنٍ.
2. الحسد:(/1)
وهو من الأمراض العظيمة للقلوب, والعلم النافع لمرض الحسد: هو أن يُعرف تحقيقاً أنَّ الحسد ضرر في الدنيا والدين, وأنه لا ضرر فيه على المحسود في الدنيا والدين بل ربما ينتفع به فيهما, فأما كونه ضررا على الحاسد في الدين فهو بالحسد قد سخِطَ قضاء الله تعالى, وكره نعمته التي قسمها بين عباده, وعدله الذي أقامه في ملكة بخفي حكمته فاستنكر ذلك واستبشعته, وهذه جناية في حدَقَةِ التوحيد, وقذىً في عين الإيمان. ناهيك بهما جنايةً على الدين, وقد انضاف إلى ذلك مفارقته أولياء الله وأنبياءه في حبهم الخير لعباده تعالى, وشارك إبليس والكفار في محبتهم للمؤمنين البلايا وزوال النعم, وتلك خبائث في القلب تأكلُ حسنات القلب كما تأكل النارُ الحطبَ. وأما كونه ضرراً في الدنيا فهو أنه يتألم بحسده في الدنيا أو يتعذب به ولا يزالُ في كمدٍ وغمٍّ إذ المحسود لا يخليه الله تعالى عن نِعَمٍ يفيضها عليهم فلا يزالُ يتعذب بكلِّ نعمة يراها, ويتألمُ بكل بليَّةٍ تنصرف عنه, فيبقى مغموماً ضيِّق الصدرِ؛ فقد نزل به ما يشتهيه الأعداءُ له, ويشتهيه لأعدائه, فقد كان يريد المحنة لعدوه, فتنجّزتْ في الحال محنته وغمه. ولا تزول النعمة عن المحسود بحسده ولو لم يكن مؤمناً بالبعث والحساب لكان مقتضى الفطنةِ إنْ كان عاقلاً أنْ يحذر منَ الحسد؛ لما فيه منْ ألم القلب ومساءته مع عدم النفع, فكيف وهو عالمٌ بما في الحسد من العذاب الشديد في الآخرة؟!, فما أعجب من يتعرض لسخط الله من غير نفعٍ يناله, بل مع ضررٍ يحتمله وألمٍ يُقاسيه فيوبق دنياه وآخرته من غير جدوى ولا فائدةٍ, وأما أنه لا ضرر على المحسود في دينه ودنياه فواضحٌ؛ لأنَّ النعمة لا تزول عنه بالحسد, وأما أنَّ المحسود ينتفع به في الدين والدنيا فكذلك؛ أما منفعته في الدين: فهو أنه مظلومٌ من جهة الحاسد لا سيما إنْ أخرجه الحسد إلى القول والفعل بالغيبة والقدح فيه وهتك ستره وذكر مساوئه_ كحالنا_ فهذه هدايا يهديها إليه؛ إذ يُهدي إليه حسناته حتى يلقاه يوم القيامة مفلساً محروماً كما حُرِم في الدنيا عن النعمة.
والحاسد على كلِّ حالٍ مذموم عند الخالق والخلائق, شقياً في الحال والمآل, ونعمة المحسود دائمة شاء أم أبى, باقية.
فمن تفكر بما مضى بذهنٍ صافٍ, وقلبٍ حاضرٍ, انطفأت نارُ الحسد من قلبه.
وأما العمل النافع فيه: فهو أن يكلف المرء نفسه نقيض ما يتقاضاه الحسد: وذلك بالتواضع للمحسود, والثناء, والمدح, وإظهار السرور بالنعمة؛ فتعود القلوب إلى التآلف والتحاب, وبذلك تستريح القلوب من ألم الحسد وغمِّ التباغض. فهذا دواء الحسد وهو نافع جداً, إلا أنه مرٌّ على القلوب جداً, ولكن النفع في الدواء المُر, فمن لم يصبر على مرارة الدواء لم ينل حلاوة الشفاء, وإنما تهون مرارة هذا الدواء أعني التواضع للأعداء والتقرب إليهم بالمدح والثناء: بقوة العلم بالمعاني التي سبق بيانها, وقوة الرغبة في ثواب الرضا بقضاء الله تعالى.[انظر: موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين ص324, وبيّن صاحب الإحياء أنَّ للحسد من الفروع الذميمة ما لا يكاد يحصى انظر الإحياء (3/186), وللفائدة: في بيان أسباب الحسد, انظر: الإحياء (3/192), وله كلام نفيسٌ جداً في فصل: بيان السبب في كثرة الحسد بين الأمثال والأقران والإخوة وبني العم (3/194) فراجعه_لزاماً_].
فمن لم يُرزق قلباً سليماً فعليه بمعالجته, ولعلاجه أدوية مبينة في كتب القوم كالإحياء والمنهاج فراجعها تجد ما يشفي العليل.
أقول: فحينما يتمكن الحسد من المرء فيملك عليه قلبه, ويسلبه لبه, حتى تزل به قدمه, فيحاول حينها أنْ يُسقط المحسود, فيبذل وسعه ويستفرغ جهده, ساعياً لتحيق مراده, حتى يسلك لغرضه ذلك كل مسلك, ويطلب كلَّ منفذ, وإنْ أدى ذلك إلى ارتكاب محرم, أو فعل جُرمٍ, بعدها تعظم ندامته وتكثر حسراته, فيذهب بكمده ولم يدرك ما طلب ولم يُرِحْ نفسه من التعب فخرج بغير زاد ويقدم في الآخرة على غير مهاد.
لم أقصد من خلال إيراد تلك الأسباب استيفائها, لا, فدونه خرطُ القتاد, ولكنْ حسبي أنَّ تلك الأسباب هي أهمُّ ما يمكن إرجاع تلك المظاهر إليه. والله أعلم.
وأما أنتَ أيها الضحية المذبوحة من غير سكين, والروح الميتة من غير ما سكرةٍ, فإليك رسائل من بريد المحبة على عجلٍ:
اعلم أخي المبارك أنَّ هذا ابتلاء من الله عز وجل, في دروب الخير, ومسالك الدعوة, هو ذاته درب الأنبياء, وهو هو مسلك الأعلام الأنقياء, فانشد التأريخ ينبيك عن محنهم, واسبره يخبرك عن بلاياهم وإحنهم, على رأس الهرم, وفوق قمة الجبل, حادثة الإفك, فتا الله كلُّ مصيبة كهذه بعد مصيبة عائشة_ رضي الله عنها_ تهون, فاقرأ في حادثة الإفك, ثمَّ تأمل, وفكر, وانظر, تعلم مقدار تلك الحادثة.(/2)
فإنْ علمتها بليَّة, وإنْ أدركتها مصيبة, فعاملها معاملة العارفين مع المصائب, فهمْ حينها أشدّ ما يكونون قرباً من الله؛ لأنهم عرفوا أنَّ (لا ملجأ من الله إلا إليه), ولستُ هنا بصدد بيان منهج تعامل القوم مع المصائب والبلايا, فانشدها في مظانها تجد الريَّ.
وبعدها فالأكمل في التعامل مع الذابح من غير سكين, والرامي من غير سهم, العفو لمنْ لم يكن من ديدنه ذلك, فو الله إنه لمن أخلاق الكبار, وخلال الرجال, فهو غاية الجود, لذاتك أولاً, وله ثانياً, فما أحلى وأروع وأجمل ... أن ينام المرء ولم يحمل في قلبه, وبين ثنايا جنانه على مسلم, الله, كمْ يحلم الصغار وإنْ كانوا كباراً في حلمهم بتلك الرقدة؟!, نعم فتلك لعمري لا يدركها إلا الكبار, فهل تتمنى أنْ تكون منهم؟!, كثير من يتمناه فلم يكنْ, فها هو الميدان قد أتاك, فأرِ نفسك من نفسك خيراً. وكنْ من قائمة الكبار, وسلسلة الرجال....
واحرص أخي المبارك على أنْ تتأنى في حلِّ أمرك, ولا تتعجل في توجيهه؛ فأنت في حالك تلك أمسَّ ما تكون إلى التأني والصبر, فلا تُقدم إلا وأنتَ عالمٌ أين تضعُ قدمك, وتدركُ من تُحجمْ, فقد قيل:
قدْ يُدرك المتأني بعض حاجته وقد يكون مع المستعجل الزللَ
كما لا يخفى عليك في معالجة حالك هذه أنْ تحرص على أن تُشركَ من تثقُ فيه من إخوانك معك في حلِّ مشكلتك, فالمرءُ قويٌ بإخوانه, وعقولٌ تفكر خيرٌ من عقل واحد, فاستشر من كانَ أهلاً للاستشارة, ومحلاً لها.
وكنْ حريصاً غاية الحرص على أنْ تُقيد الفوائد مما تمرُّ به من المواقف والأحداث, وأنْ تُسطر الدروس منها, فالفرصُ عادةً لا تعود, فاحرص على ألا تفوّتها عليك؛ تستفيد منها لا حقاً, وتسترشدُ بها مستقبلاً.
كما أنه من اللازم على مثلك أنْ يضع لنفسه خطةً يسترشدُ بها, ويسير على منوالها, يتمُّ بها علاج هذا الموضوع, فكلٌّ أعلم بحاجته, وأدركُ لواقعه, (بل الإنسان على نفسه بصيرة), من لبناتِ الفكر والتأمل, والإسترشاد بأفكار الآخرين ورؤاهم.
والله تعالى أعلم.(/3)
حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ 1
وقالت إحداهن مازحة...
دعونا من أعمال البيت وهمومه، وتعالوا نضحك قليلاً لقد فعلت كذا وكذا أنا وزوجي البارحة!! قال لي كذا وقلت له كذا في غرفة نومنا!!
عزيزتي الزوجة المسلمة:
هذا هو حال الزوجات المستهترات بأسرار فراش الزوجين، وما يحدث في الليل أو في أي وقت آخر في ستر، تسرع هي بهتك هذا الستر وكشفه للصديقات والجارات والأهل أيضًا... من باب الضحك وتضييع الأوقات.
هيا .... هيا ...
نكمل رحلتنا مع الآية الكريمة {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ} [النساء:34] وفي هذا المقام أتحدث عن الجناح الثاني للسعادة الزوجية 'حفظ الغيب'.
قال تعالى: {حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ}
قال السدي وغيره: أي تحفظ زوجها في غيبته في نفسها وماله.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [[خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك]]. [تفسير القرآن العظيم ـ لابن كثير]
{حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ}: ومن طبيعة المؤمنة الصالحة ومن صفتها الملازمة لها بحكم إيمانها وصلاحها كذلك أن تكون حافظة لحرمة الرباط المقدس بينها وبين زوجها في غيبته ـ وبالأولى حضوره ـ فلا تبيح نفسها في نظرة أو نبرة ما لا يباح إلا له، بحكم أنه الشطر الآخر للنفس الواحدة، وما لا يباح لا تقرره هي، ولا يقرره هو، إنما يقرره الله سبحانه {بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [في ظلال القرآن ـ سيد قطب]
عزيزتي الزوجة المسلمة:
حفظ الغيب صفة يطلبها الزوج وهو غائب ـ وبالأولى وهو حاضر ـ وفي الآية يمدح الله تعالى الصالحات القانتات بأنهن حافظات للغيب أي يحفظن أنفسهن عن الفاحشة وأموال أزواجهن عن التبذير والإسراف، ويحفظن ما بينهن وبين أزواجهن من أسرار وخصوصيات.
نفهم من ذلك أن حفظ الغيب أن تحفظ الزوجة:
1ـ نفسها عن الفاحشة في غياب زوجها.
2ـ ما بينها وبين زوجها من أسرار وخصوصيات.
3ـ أموال زوجها عن التبذير والإسراف.
وسأبدأ أولاً بـ:
[1] أن تحفظ الزوجة وما بينها وبين زوجها من أسرار وخصوصيات:
لقد كان القرآن مبدعًا أيما إبداع حين سمى ما بين الزوج وزوجه من خصائص وحرمات 'غيبًا' ليضفى على الحياة الزوجية مسحة من القداسة، ويسبغ عليها لونًا من الصون والمهابة، وتكون هذه الأسرة آمنة على أسرارها حافظة لأعراضها حرية بالاحترام والتقدير.
وماذا في حال اختلاف الزوجين أو انفصالهما؟
من الوفاء والأمانة كذلك أن يظل هذا الغيب غيبًا إلى الأبد ومن الأمانة هنا عزيزتي الزوجة أن أفرق بين إفشاء أسرار الفراش بين الزوجين وبين مجرد ذكر نفس الجماع حتى لا يحدث لبس بين الأمرين.
أـ أما إفشاء أسرار الفراش.
فهو حرام بإجماع العلماء.وقد أورد الشوكاني في 'نيل الأوطار' وجه التحريم في إفشاء أحد الزوجين لما يقع بينهما من أمور الجماع، قيل: وهذا التحريم إنما هو في نشر أمور الاستمتاع ووصف التفاصيل الراجعة إلى الجماع.
وأما مجرد ذكر نفس الجماع فإن لم يكن فيه فائدة ولا إليه حاجة فمكروه لأنه خلاف المروءة أو من التكلم بما لا يعني [[ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه]].
وهذا لا يعني أيضًا ـ حتى لا يفهم البعض خطأ ـ أننا لا نعلم من أمور دنيانا ومنها الجماع وأحكامه ما ينفعنا، وقد يظن بعض الناس أن الحديث عن الجماع وآدابه وحكمه مناف للوقار والورع، والحقيقة أن ذلك ظن في غير محله، ذلك أن الدين لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وأحاط بها إما تفصيلاً أو إجمالاً، فالحديث عنه ليس بدعًا من القول بل نطقت به أدلة الشرع وتكلم فيه علماء السلف بما يشفي ويلم. والذي ينافي المروءة والوقار والورع إنما هو الإسفاف وكثرة الكلام فيه بلا داع.
ومن الآداب التي يجب على كل مسلم ومسلمة تعلمها آداب الجماع وحكمه ومنافعه وكيفية الغسل من الجنابة. قال ابن القيم رحمه الله متحدثًا عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الجماع: 'وأما الجماع فكان هديه فيه أكمل هدى، يحفظ به الصحة، وتتم به اللذة وسرور النفس، ويحصل به مقاصده التي وضع لأجلها، فإن الجماع وضع في الأصل لثلاثة أمور هي مقاصده الأصلية:
أحدها: حفظ النسل، ودوام النوع إلى أن تتكامل العدة التي قدر الله بروزها إلى هذا العالم.
الثاني: إخراج الماء الذي يضر احتباسه واحتقانه بجملة البدن.
الثالث: قضاء الوطر ونيل اللذة والتمتع بالنعمة.
وهذه وحدها هي الفائدة التي في الجنة إذ لا تناسل ولا احتقان يستفرغه الإنزال' [زاد المعاد ـ 4/228].
وهنا نقف ونسأل متى تكشف المرأة هذا الغيب؟
الأصل أن المرأة المسلمة تحفظ الغيب وتصون الحرمات وتمسك لسانها، فلا تكشف سرًا ولا تهتك غيبًا، ولو إلى أقرب الناس إليها إلا:
[1] في حالات الضرورة التي بها تقام بها الحقوق وتستبين بها الأمور.(/1)
[2] عند حل مشكلة من المشاكل الزوجية بغرض إيجاد الحل المناسب لا بغرض التشهير وكشف عيوب الطرف الآخر، ويقول تعالى: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:237].
[3] إذا احتاج الإنسان للفتيا أو العلاج فله أن يتحدث عن أمر الفراش بما تدعو إليه الحاجة.
[2] أن تحفظ الزوجة نفسها عن الفاحشة في غياب زوجها:
حفظ الغيب عزيزتي الزوجة خاص بالزوج والزوجة, فلماذا اختص الله المرأة في القرآن بهذه الصفة فقال: {حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ} [النساء:34] ولم يخص الرجل بآية بأنه حافظ للغيب، مع أنه شريك لها في هذا الغيب، ووارد أنه قد يتحدث فيه ويكشفه لغيره ؟
والجواب أنه لما كان الزوج كثير الغياب عن بيته، كثير الأسفار جعل القرآن حفظ هذا الغيب من خصوصيات الزوجة، لأنها تستطيع إن أرادت أن تعبث بهذا الغيب فتمارس الفاحشة أو تسرف في المال أو تهتك حجب الأسرار دون علم أحد.
ولا شك أن هناك من الرجال من لا يحفظ الغيب كاشف للسر، هاتك للعرض، ولكن تظل المرأة هي عصب هذا الأمر، لذلك بدأ الله بالمرأة عند توقيع العقوبة في هذا الأمر فقال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2].
والمرأة عزيزتي الزوجة درة مصونة في الإسلام لها كرامتها وحرمتها، لأنها الزوجة والأم والمحضن النفسي والعاطفي وأيضًا التربوي، فإن كانت خائنة للغيب اختلطت الأنساب وتفككت الأسرة وضاع المجتمع.
وفي زماننا نسمع ونقرأ ونشاهد من حالات الخيانة الزوجية واتخاذ الخدن والصديق وارتكاب الفواحش على أسرة الغائبين ما يحزن القلوب.
وخص الله أيضًا المرأة بحفظ الغيب لأن الله يعلم طبيعة المرأة {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].
فنحن نجد من النساء من يحفظن أنفسهن عن الفاحشة، ويحفظن أموال أزواجهن عن التبذير والإسراف ولكن قل منهن ممن يحفظن أسرار بيوتهن، وذلك لأن من طبيعة المرأة حب الكلام والولع بالتفصيل والتحليل، فلا يستقر لديها خبيئة نفس ولا تطوي صدرها على سر فهي تعشق محادثة الأخريات دون اعتبار لقيمة الأوقات. وهي كذلك سريعة الصحبة كثيرة الصداقات.
وهذا ليس تحاملاً على المرأة ولكن هذه هي الحقيقة ولا يمنع هذا أن هناك من النساء من يضربن المثل في قلة الحديث وحفظ السر، وصون الستر.
* عزيزتي الزوجة: كثير من النساء الآن يخرجن للعمل فكيف تحفظ المرأة العاملة الغيب؟
حفظ الغيب يكون داخل البيوت وخارجها، فالمرأة العاملة التي تركن إلى زملائها من الرجال في عصر الاختلاط فتكثر معهم الحديث وتوزع عليهم الابتسامات، وتمنحهم قدرًا من الاهتمام والإعجاب، هذه الزوجة غير حافظة للغيب.
بل إن المرأة المتزوجة المتبرجة التي تطلع الرجال على بعض مفاتنها، هذه الزوجة عابثة بالغيب لأن زينتها وإظهار مفاتنها يجب صرفه إلى زوجها دون غيره.
ولا يعني هذا أن المرأة لا تخرج للعمل ولا تشارك في الحياة الاجتماعية، لا. بل تعمل وتشارك ولكن في حدود الشرع، والالتزام بالزي الشرعي، وتجنب الاختلاط قدر المستطاع يقول تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم}.
[3] أن تحفظ الزوجة أموال زوجها عن التبذير والإسراف:
الزوجة المسلمة الحافظة للغيب تحفظ أموال زوجها عن التبذير والإسراف قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان:67] ولقد أعجبتني وصية امرأة عوف الشيباني لابنتها قبل زواجها في قولها:وأما السابعة والثامنة فالعناية ببيته وماله والرعاية لنفسه وعياله، وملاك الأمر في المال حسن التدبير.
ماذا تفعل الزوجة في حال بخل الزوج ؟
على الزوجة المسلمة أن تأخذ من أموال زوجها بالمعروف وما يكفي فقط دون علمه، ولا يعتبر هذا خيانة للأمانة ، كما في الحديث أن هند امرأة أبي سفيان جاءت الرسول صلى الله عليه وسلم تقول: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني أنا وولدي إلا ما أخذتُ منه وهو لا يعلم.فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [[خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف]].
وإلى لقاء قريب مع الجزء الثاني من مقال حافظات للغيب
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ [2]
عزيزتي الزوجة المسلمة
بقى لي سؤال في هذا المقام وهو: لماذا اعتبر الشرع إفشاء أسرار الزوجين حرامًا؟
وقبل أن أعرض لك الأدلة التي تبين الحكم الشرعي في المسألة أقول: إن إفشاء ما يجري بين الزوجين والذي اعتبره المولى تعالى 'غيبًا' لا يليق بمكارم الأخلاق ولا يتفق مع ذوق المسلم وحسه المرهف، ولا يفعله إلا أصحاب القلوب المريضة والعقول الفارغة والزواج أيتها المرأة المتزوجة علاقة لها خصوصيتها وأسرارها، وهي علاقة يؤتمن فيها الزوجان على أسرار بعضهما، ولا ينبغي أن يفشي أحدهما سر صاحبه, لماذا؟
هذا ما سنعرفه من النصوص التالية:(/2)
[1] قال تعالى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ} [النساء:34].
[2] قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ[34]أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} [المعارج:34ـ35].
[3] قال تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187].
[4] مثلهما كمثل شيطان وشيطانه.
[5] 'إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها'
[6] عدم حفظ الغيب باب من أبواب المشاكل الزوجية.
تعالي معي عزيزتي الزوجة نفهم تفصيل ما أجملته في السطور السابقة:
[1] قال تعالى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ} [النساء:34].
في الآية يمدح الله تعالى الصالحات القانتات بأنهن حافظات للغيب أي يحفظن أنفسهن عن الفاحشة وأموال أزواجهن عن التبذير والإسراف، ويحفظن ما بينهن وبين أزواجهن من أسرار وخصوصيات.
وكلنا يعرف أن المدح عكس الذم .. معنى ذلك أن كشف هذا الغيب مذموم عند الله تعالى وقد سبق شرح هذه الآية تفصيلاً في الجزء الأول من المقال.
[2] قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ... أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} [المعارج].
من الأمانة أن يحفظ المرء كلام من يحدثه حديثًا وهو يعتبره من الأسرار، وإن للفراش أسرارًا يجب أن تحاط بسياج من الكتمان والله حيي ستير يحب الحياء والستر. والخيانة عكس الأمانة ، وقد عدها الإمام الحافظ شمس الدين الذهبي في كتابه 'الكبائر' من الكبائر وقال في شأن الخيانة:
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [لأنفال:27].
قال ابن عباس: الأمانات الأعمال التي ائتمن الله عليها العباد، يعني الفرائض، يقول: لا تنقضوها.
قال الكلبي: أما خيانة الله ورسوله فمعصيتها، وأما خيانة الأمانة، فكل واحد مؤتمن على ما افترضه الله عليه، إن شاء خانها وإن شاء آواها لا يطلع عليه أحد إلا الله تعالى.
وقوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أنها أمانة من غير شبهة ...... ثم قال: الصلاة أمانة، والوضوء أمانة، والغسل أمانة، والوزن أمانة، والكيل أمانة، وأعظم من ذلك الودائع'. [كتاب الكبائر ـ الإمام الحافظ شمس الدين الذهبي]
وقد ذكر الإمام الذهبي أن الغسل أمانة، وأنا أقول أن ما يحدث قبل الغسل بين الزوجين من أقوال وأفعال توجب الغسل أمانة أعظم، فلا تخوني الأمانة عزيزتي الزوجة واجعلي حفظ هذه الأمانة بابًا من أبواب الجنة {أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ}.
[3] مثلهما كمثل شيطان وشيطانة.
انظري إلى هذا التشبيه العجيب من الرسول صلى الله عليه وسلم عمن يحكي للناس عما فعله مع أهله، ومن تحكي ما تفعل مع زوجها من أسرار الفراش لقد شبهها النبي صلى الله عليه وسلم بأنهما مثل شيطان لقي شيطانة في الطريق فقضى حاجته منها والناس ينظرون.
فعن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والرجال والنساء قعود عنده فقال:
[ لعل رجلاً يقول ما يفعله بأهله، ولعل امرأة تخبر ما فعلت مع زوجها، فأرَمَّ القوم يعني سكتوا ولم يجيبوا فقلت: أي والله يا رسول الله، إنهن ليقلن وإنهم ليفعلون].
قال: [فلا تفعلوا فإنما مثل ذلك مثل الشيطان لقي شيطانة في طريق فغشيها والناس ينظرون] [رواه أحمد 6/456، والطبراني في الكبير 24/162]
فهذا الحديث نهى صريح عن كشف أسرار الفراش، وكأن هذا الكشف والإفشاء صورة جنسية معروضة في الطريق. وفي هذا نوع من المجاهرة وسبب لتجرئ السفهاء، والله تعالى لا يحب الفاحش البذيء.
[4] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[[إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها]]. [رواه مسلم].
لقد عد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفشى أسرار الفراش، وما يفعل الرجل مع زوجته من أشر الناس.'الإفضاء' هو مباشرة البشرة وهو كناية عن الجماع، وقوله صلى الله عليه وسلم 'ثم ينشر سرها' أي يذكر تفاصيل ما يقع حال الجماع وقبله من مقومات الجماع وهو من الكبائر. [رياض الصالحين للنووي ـ باب حفظ السر].
قال النووي رحمه الله في تعليقه على هذا الحديث: 'وفي هذا الحديث تحريم إفشاء الرجل ما يجري بينه وبين امرأته من أمور الاستمتاع، ووصف تفاصيل ذلك، وما يجري من المرأة فيه من قول أو فعل أو نحوه، فأما مجرد ذكر الجماع فإن لم تكن فيه فائدة ولا إليه حاجة فمكروه لأنه خلاف المروءة. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: 'من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت' وإن كان إليه حاجة أو ترتب عليه فائدة بأنه ينكر عليه إعراض عنها، أو تدعي عليه العجز عند الجماع أو نحو ذلك فلا كراهة في ذكره، كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأبي طلحة: 'وأعرستم الليلة'. [صحيح مسلم بشرح النووي](/3)
[5] قال تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187].
قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة يعني: هن سكن لكم وأنتم سكن لهن، وقال الربيع بن أنس: هن لحاف لكم وأنتم لحاف لهن. [تفسير القرآن العظيم لابن كثير]
'القرآن الكريم له لمسة حانية رفافة تمنح العلاقة الزوجية شفافية ورفقًا ونداوة، وتنأى بها من غلظ المعنى الحيواني، وتوقظ معنى الستر في تيسير هذه العلاقة، واللباس ساتر وواق، وكذلك هذه الصلة بين الزوجين تستر كلاً منهما وتقيه'. [في ظلال القرآن سيد قطب] ونفهم من الآية أن الزوج عليه أن يكون لباسًا وسترًا لزوجة، وأن تكون الزوجة كذلك له، وقد ذكر الله المرأة قبل الرجل في ذلك في قوله: 'هن' فيحصل بذلك السكن والرحمة، وكشف هذا الستر هذا الغيب يتعارض مع الآية وما تضفيه من معانٍٍ وظلال.
[6] عدم حفظ الغيب باب من أبواب المشاكل الزوجية:
إن جلسات الأخوات والجارات والصديقات، وما يكشف فيها من أسرار، وما تقضى فيها من حكايات وتخيلات، تكشف أسرار البيوت وتجعلها على ألسنة العامة،يعرفون عنها أكثر مما يعرفه ساكنوها، فتتلطخ حرمات البيوت، ويرتفع عنها الأمن والسكينة، وتتآزر على المجتمع عوامل الهدم والتصدع.
وهذه الأسرار موضع حسد بين النساء والرجال أيضًا.
وهي كذلك موضع مقارنات بين النساء، وإذا حدثت بها الزوجة ربما حرمت منها بسبب عيون الأخريات، ثم ينتهي الحال بالزوجين إلى الطبيب النفسي إن كانا من العقلاء، أو إلى طريق السحرة والدجالين لفك العقدة وحل المشكلة من وجهة نظرهما إن كانا من غير العقلاء.
وأخيرًا للزوج الفاضل أقول: احفظ السر ولا تكشف الغيب لأنك مأمور بذلك مثل المرأة تمامًا.ولا تغب عن زوجتك أكثر من ستة أشهر، فقد روى الإمام مالك بن أنس رحمه الله في الموطأ عن عبد الله بن دينار قال: خرج عمر بن الخطاب من الليل فسمع امرأة تقول:
تطاول هذا الليل وأسود جانبه وأرقني ألا خليل ألاعبه
فوالله لولا الله أني أراقبه لحرك من هذا السرير جوانبه
فسأل عمر ابنته حفصة رضي الله عنها: كم أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها؟
فقالت: ستة أشهر أو أربعة أشهر.
فقال عمر: لا أحبس أحدًا من الجيش أكثر من ذلك.
وصية:
وأحب أن أختم حديثي بهذه الوصية لامرأة عوف الشيباني توصي ابنتها ليلة زفافها ومن هذه الوصايا:
'أما التاسعة والعاشرة فلا تعصي له أمرًا ولا تفشي له سرًا،
فإنك إن عصيت أمره أوغرت صدره،
وإن أفشيت سره لم تأمني غدره'
أسأل الله أن يصلح حال النساء ويكن صالحات قانتات حافظات للغيب، وأن يصلح أحوال البيوت المسلمة.(/4)
حَقِيقَةُ الْنَّصْرِ
رئيسي :تربية :الثلاثاء 19ربيع الآخر 1425هـ - 8 يونيو 2004 م
قد ينظر الكثير منا إلى فتح مكة باعتباره مَعلم النصر لصدر الأمة الأول، وهو مَعلم انتصار عظيم وفتح من الله مبين لا ريب، ولكن هل هو حقيقة الانتصار، أم ثمرته؟ وهل التمكين في الأرض هو جوهر النصر، أم هو تتويج له؟ وإن لم يكن كذلك: فما هي حقيقة النصر التي لا يضر معها تخلف حصول الثمرة، وتأخر حفل التتويج؟
لقد سبقت فتحَ مكة معاركُ عظام، وأحداث جسام، لم تكن ساحتها ميدان القتال بعد، كما لم تكن عدتها السيف والسنان بعد، وإنما كانت معركةً من نوع آخر، وكان تدافعًا من نوع آخر:
كانت معركة اسمها:{ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ[94]}[سورة الحجر].
وكانت معركة اسمها:{ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ[6]}[سورة الكافرون].
ودارت رحى المعركة الأولى حول تجريد التوحيد:{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا[8]رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا[9]}[سورة المزمل].
وكانت عُدة المعركة الثانية:{ فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ[8]وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ[9]}[سورة القلم].
واشتدت أتون هذه الحرب، و تمحضت معها حقيقة التوحيد في قلوب أولئك النفر، فإذا بهم يتلذذون في آهاتهم، ويتنعمون في أنَّاتهم، قد أغناهم حب الله عن كل ما سواه، وشغلهم مشهد العبودية
عن مشهد التسخط على الأذى فيه سبحانه وتعالى، وكانت تلك بداية معركة التحرير، وأولى ملامح الانتصار.
ثم أخذ مشهد المعركة يتميز شيئاً فشيئاً وأخذت معالم الطريق تتضح شيئاً فشيئاً: نعم لقد بدأ أولئك النفر يدركون أنه لابد من تسديد بعض أقساط الجنة.
فكانت الأقساط من أموالهم تارةً، ومن أجسادهم ولحومهم تارةً، كانت من الولد والأهل تارةً، ومن العشيرة والوطن تارةً، قطعوا ما بينهم وبين الناس؛ ليقيموا ما بينهم وبين الله، وطلقوا الدنيا ليخطبوا الآخرة، وأفرغوا قلوبهم من كل ما سوى الله، فتهيأت لغرسة التوحيد فيها، هُجِّروا فهاجروا، وعُذِّبوا فصابروا ، استُنصروا فنصروا، واستُنفروا فنفروا، وكلما تجردوا من علائق الدنيا كلما تميزت عندهم معالم النصر، وغدت ملامح الانتصار وحقيقته أكثر وضوحاً، وأشد نوراً من ذي قبل.
ثم كان أن تحول ميدان المعركة إلى السيف والرمح: وكانت بدر، وما أدراك ما بدر! ولكن بريق النصر العسكري، ونشوة اندحار العدو ومادته قد يخطف الأبصار أحياناً، فلربما ظن المسلمون أن النصر العسكري، والغلبة والظهور المادي أمرٌ لازمٌ ملازم، بل قد تزين نفس المرء له استحقاقها لهذا الظهور حتماً، كيف لا وقد اجتمعت الدواعي من التزام الحق، وتأييد السيف له، والإثخان في العدو، وكسر شوكته وشكيمته، ولكن ليس هذا هو تمام النصر، بل كان لا بد من جولة أخرى يكتمل فيها انتصار الإسلام والمسلمين، وهكذا كانت غزوة أحد.
دخل المسلمون غزوة أحد و لربما كانت نشوةُ النصر في بدر آخذةً بلب بعضهم، و لربما خال بعضهم أنه ومنذ بدر نصرٌ بلا هزيمة وغلبةٌ بلا انكسار، و لربما توهم البعض أن مجرد التزامِ طريق الحق موجبٌ لدوام الظهور والتمكين، وعندما انقلبت موزاين المعركة، وتجرد المسلمون من كل رداء خلا العبودية المطلقة لله؛ تمحضت آنذاك معالم النصر؛ عندما كُسرت ثنية النبي صلى الله عليه وسلم، وشُجَّ وجهه الشريف؛ تمحضت معالم النصر في أمةٍ هكذا قائدها، أمة رأس الحربة فيها هو الإمام القائد، أو قل: الرئيس الحاكم، أمةٌ لا ينشغل حاكمها بكرسي الدنيا عن كرسي الآخرة، قائدٌ يستشير الصغير والكبير، وينزل عند رأي المخالف فيما لا يغضب الله؛ تطييباً للقلوب، وجبراً للخواطر، قائدٌ يصمد حين يلتفت الناس، ويرفع لواء الحق حين يتواني عنه الناس، قائدٌ يسدد شيئاً من أقساط الجنة من لحمه ودمه حين يلوذ الناس بلحومهم ودمائهم.
وعندما لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم غير طلحة وسعد، وعندما قام أبو دجانة أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فترَّس عليه بظهره، والنبل يقع عليه وهو لا يتحرك، وعندما جعلت أم عمارة نسيبة بنت كعب تذود عن النبي صلى الله عليه وسلم بكل ما أوتيت من قوة في تسعة رهطٍ اجتمعوا حول النبي صلى الله عليه وسلم حين انفض عنه الناس، هنالك لاحت معالم النصر.
وعندما أصيب زوج وأب، وأخ المرأة من بني دينار، وهي لا تسأل إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا رأته قالت:' كل مصيبةٍ بعدك جلل' أي: هينة.
عندها كان أحد معالم الانتصار، عندما تحقق تقديم حب الله ورسوله على كل ما سواهما عندها كان النصر.(/1)
وعندما انحسر المسلمون، وقد أعجبتهم قوتهم وعددهم، لا يلوي أحدٌ منهم على أحد في كمين العدو لهم في حُنين، تقدَّم النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه آنذاك؛ ليعلن للناس جميعاً مسلمين وكفاراً أن أمر هذه الدعوة قائمٌ مهما انحسر عنه الناس، وأن راية الحق أبداً مشرعة مهما انكسرت لجندها شوكة، فأخذ صلى الله عليه وسلم يدفع بغلته نحو الكفار، وهو ينادي:
[أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ] رواه البخاري و مسلم .
عندها كان النصر، وعندها جلجلت كلمة الحق، أما ما كان بعد ذلك من اجتماع كتائب الحق على كلمة النبي صلى الله عليه وسلم، وقهر عدوهم فلم يكن إلا ترجمة لهذا النصر، وثمرة من ثماره ليس إلا.
وليس هذا النصر الذي نتحدث عنه ظاهرة عابرة في تاريخ أمتنا، بل هو جزء لا يتجزأ من مسيرة كلمة التوحيد عبر العصور.
فلقد انتصرت كلمة التوحيد من قبل حين سمت أرواح الموحدين فوق حضيض الدنيا، ورضيت بأن تحرق أجسادها في أخدود الكفر؛ لتحلق أرواحها في سماء التوحيد، ولتتعانق في حواصل طير خضر في سماء الجنة.
إن سورة البروج في القرآن ليست تسجيلاً لمذبحة لا يسعنا سوى التألمُ لحال أصحابها.. كلا!
إن سورة البروج تسجيلٌ لانتصارٍ تاريخي لكلمة التوحيد على شرذمة الكفر.. نعم لقد قهر أصحاب الأخدود أجسادَ الموحدين وأحرقوها، لكنهم لم يهزموا ولا نفسَ طفلٍ واحد منهم!
وليس القول بانتصار الموحدين يومها ضرباً من المبالغة، أو تطييب الخواطر.. كلا، بل هو والله الانتصار الحقيقي، وأي انتصار لأهل التوحيد أعظم من شهادة الله تعالى لهم بالإيمان، وأي هزيمة على الكفار أشد من تربص عذابِ الحريق بهم، وأي حريق!
وقل مثلَ هذا في لقطات الانتصار التاريخية لكلمة الحق على الباطل:
- فلقد انتصرت كلمة الحق من ذي قبل حين قال هابيل:{ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ[28]}[سورة المائدة].
- وانتصرت كلمة الحق حين قالت:{...هَيْتَ لَكَ...} فقال الكريم بن الكريم بن الكريم:{ ...قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ[23]}[سورة يوسف].
- وانتصرت كلمة الحق حينما قال سليمان عليه السلام :{أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ[36]}[سورة النمل].
- وانتصر الحق أيضاً يوم أن قذف الله تعالى نور الإيمان في قلوب سحرة فرعون، فإذا أنصار الباطل بالأمس شهداء الحق اليوم:{ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى[70]}[سورة طه]. ولعل الانتصار قد بلغ ذروته حين استخف المؤمنون الجدد بعذاب الدنيا لما لاقوه من حلاوة الإيمان:{ قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا[72]}[سورة طه].
نعم.. هذه مواقف من الانتصار على النفس حيث مُنعت ولُجِمت عن التعدي على الدم المعصوم والفرج الحرام والمال غير المستحَق والمنصب والجاه الفارغين، فسِجل هذه الأمة سجل حافل بالانتصار بل هو سلسلة متصلة من الانتصار، أثمر غلبةً عسكرية، أم لم يثمر.
وإن المتأمل في طبيعة النصر الذي قدمنا نماذج منه ليدرك أن حقيقة الأمر ومداره على التمسك بالحق مهما كان الثمن، والثقة بوعد الله مهما تأخرت الثمرة: ولهذا فإني أقول إن مشهد النصر الحقيقي لم يكن في قوله تعالى:{ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ...[251]}[سورة البقرة]. بقدر ما كان في قوله تعالى:{... إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ...[249]}[سورة البقرة].
نعم هنا كانت معالم النصر لأقوام، ومعالم الهزيمة لآخرين:{... فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ...[251]}[سورة البقرة].
وهؤلاء القليل هم الذين تعول عليهم أمة الإسلام في كل زمان ومكان:أما عند الغلبة العسكرية والظهور والتمكين، فما أكثر المسلمين حينذاك، وما أكثر من يحبون الدين آنذاك، ولكن شتان بين من أحب الدينَ والدين غريب، وبين من أحب الدينَ والدين تجبى إليه ثمرات كل شيء، وهذه هي حقيقة النصر.
من :'حقيقة النصر' د.وسيم فتح الله(/2)
حُقُوقُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُمَّتِهِ
رئيسي :آداب :الاثنين 16 جمادى الأخرة 1425هـ - 2 أغسطس 2004
للنبي الكريم صلّى الله عليه وسلّم حقوق على أمته وهي كثيرة, منها:
أولًا:الإيمان الصادق به صلّى الله عليه وسلّم، وتصديقه فيما أتى به: قال تعالى:{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ[8]}[ سورة التغابن]. وقال تعالى:{فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ[158]}[سورة الأعراف]. وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ[28]}[سورة الحديد]. وقال تعالى:{وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا[13]}[سورة الفتح]. وقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيُؤْمِنُوا بِي وَبِمَا جِئْتُ بِهِ] رواه مسلم.
والإيمان به صلّى الله عليه وسلّم هو: تصديق نبوته, وأن الله أرسله للجن والإنس, وتصديقه في جميع ما جاء به وقاله, ومطابقة تصديق القلب بذلك شهادة اللسان, بأنه رسول الله, فإذا اجتمع التصديق به بالقلب والنطق بالشهادة باللسان، ثم تطبيق ذلك العمل بما جاء به؛ تمَّ الإيمان به صلّى الله عليه وسلّم.
ثانيًا:وجوب طاعته صلّى الله عليه وسلّم، والحذر من معصيته: فإذا وجب الإيمان به وتصديقه فيما جاء به وجبت طاعته؛ لأن ذلك مما أتى به, قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ[20]}[سورة الأنفال]. وقال تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا...[7]}[سورة الحشر]. وقال تعالى:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[63]}[سورة النور]. وقال تعالى:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[13]وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ[14]}[سورة النساء].
وعَنْ أَبَي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ]رواه البخاري ومسلم. وعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [ كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى] قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى قَالَ: [مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى] رواه البخاري.
ثالثًا: اتباعه صلّى الله عليه وسلّم، واتخاذه قدوة في جميع الأمور، والاقتداء بهديه: قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ[31]}[سورة آل عمران]. وقال تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ[158]}[سورة الأعراف]. فيجب السير على هديه والتزام سنته، والحذر من مخالفته, قال صلّى الله عليه وسلّم: [مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي] رواه البخاري ومسلم.
رابعًا:محبته صلّى الله عليه وسلّم أكثر من الأهل والولد، والوالد، والناس أجمعين: قال تعالى:{قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ[24]}[سورة التوبة]. وعَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ] رواه البخاري ومسلم.
وقد ثبت في الحديث أن من ثواب محبته الاجتماع معه في الجنة:(/1)
وذلك عندما سأله رجل عن الساعة فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَا أَعْدَدْتَ لَهَا] قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَعْدَدْتُ لَهَا كَبِيرَ صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ وَلَا صَدَقَةٍ وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَالَ: [فَأَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ] رواه البخاري ومسلم.
ولما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:' يَا رَسُولَ اللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي' فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ] فَقَالَ لَهُ عُمَرُ:'فَإِنَّهُ الْآنَ وَاللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي' فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [الْآنَ يَا عُمَرُ]رواه البخاري.
و قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ] رواه البخاري ومسلم.
ولاشك أن من وفَّقه الله تعالى لذلك ذاق طعم الإيمان ووجد حلاوته, فيستلذ الطاعة ويتحمل المشاقّ في رضى الله عز وجل، ورسوله صلّى الله عليه وسلّم, ولا يسلك إلا ما يوافق شريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنه رضي به رسولاً, وأحبه، ومن أحبه من قلبه صدقاً أطاعه صلّى الله عليه وسلّم؛ ولهذا قال القائل:
تعصي الإله وأنت تُظْهر حُبَّهُ
... ... هذا لعمري في القياسِ بديعُ
لو كان حُبَّكَ صادقاً لأطعته
... ... إن المُحبَّ لمن يُحِبُّ مُطيعُ
وعلامات محبته صلّى الله عليه وسلّم تظهر في الاقتداء به صلّى الله عليه وسلّم, واتباع سنته, وامتثال أوامره, واجتناب نواهيه, والتأدب بآدابه, في الشدة والرخاء, وفي العسر واليسر, ولا شك أن من أحب شيئاً آثره, وآثر موافقته, وإلا لم يكن صادقاً في حبه ويكون مدّعياً.
ولا شك أن من علامات محبته: النصيحة له؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [الدِّينُ النَّصِيحَةُ] قُلْنَا لِمَنْ قَالَ: [لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ]رواه مسلم. والنصيحة لرسوله صلّى الله عليه وسلّم: التصديق بنبوته, وطاعته فيما أمر به, واجتناب ما نهى عنه, ومُؤازرته, ونصرته وحمايته حياً وميتاً, وإحياء سنته والعمل بها وتعلمها, وتعليمها والذب عنها, ونشرها, والتخلق بأخلاقه الكريمة, وآدابه الجميلة.
خامسًا: احترامه، وتوقيره، ونصرته: كما قال تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ...[9]}[سورة الفتح]. وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ[1]}[سورة الحجرات]. وقال تعالى:{لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا...[63]}[سورة النور]. وحرمة النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد موته, وتوقيره لازم كحال حياته وذلك عند ذكر حديثه, وسنته, وسماع اسمه وسيرته, وتعلم سنته, والدعوة إليها, ونصرتها.
سادسًا:الصلاة عليه صلّى الله عليه وسلّم: قال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[56]}[سورة الأحزاب]. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا] رواه مسلم.
وقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا وَلَا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ]رواه أبوداود وأحمد. وقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [الْبَخِيلُ الَّذِي مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ]رواه الترمذي وأحمد.
و قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى نَبِيِّهِمْ إِلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةً فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ] رواه الترمذي وأحمد. وقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ] رواه الترمذي وأحمد .
من مواطن الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم:(/2)
وللصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم مواطن كثيرة ذكر منها الإمام ابن القيم رحمه لله في كتابه 'جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام ' واحداً وأربعين موطناً، منها على سبيل المثال:
الصلاة عليه صلّى الله عليه وسلّم عند دخول المسجد, وعند الخروج منه, وبعد إجابة المؤذن, وعند الإقامة, وعند الدعاء, وفي التشهد في الصلاة، وفي صلاة الجنازة، وفي الصباح والمساء، وفي يوم الجمعة, وعند اجتماع القوم قبل تفرقهم, وفي الخطب: كخطبتي صلاة الجمعة, وعند كتابة اسمه, وفي أثناء صلاة العيدين بين التكبيرات, وآخر دعاء القنوت, وعلى الصفا والمروة, وعند الوقوف على قبره, وعند الهم والشدائد وطلب المغفرة, وعقب الذنب إذا أراد أن يكفر عنه, وغير ذلك من المواطن التي ذكرها رحمه الله في كتابه.
ولو لم يرد في فضل الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا هذا الحديث لكفى، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرَ صَلَوَاتٍ وَحُطَّتْ عَنْهُ عَشْرُ خَطِيئَاتٍ وَرُفِعَتْ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ]رواه النسائي وأحمد.
سابعًا:وجوب التحاكم إليه، والرضي بحكمه صلّى الله عليه وسلّم: قال الله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً[59]}[سورة النساء]. { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[65]}[سورة النساء]. ويكون التحاكم إلى سنته وشريعته بعده صلّى الله عليه وسلّم.
ثامنًا:إنزاله مكانته صلّى الله عليه وسلّم بلا غلو ولا تقصير: فهو عبد لله ورسوله, وهو أفضل الأنبياء والمرسلين, وهو سيد الأولين والآخرين, وهو صاحب المقام المحمود، والحوض المورود, ولكنه مع ذلك بشر لا يملك لنفسه ولا لغيره ضراً ولا نفعاً إلا ما شاء الله كما قال تعالى: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ...[50]}[سورة الأنعام]. وقال تعالى:{قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ[188]}[سورة الأعراف]. وقال تعالى:{ قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا[21]قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا[22]}[سورة الجن].
وقد مات صلّى الله عليه وسلّم كغيره من الأنبياء، ولكن دينه باقٍ إلى يوم القيام { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ[30]}[سورة الزمر]. وبهذا يعلم أنه لا يستحق العبادة إلا الله وحده لا شريك له { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[162]لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ[163]}[سورة الأنعام]. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه.
من كتاب:' وداع الرسول لأمته دروس، وصايا، وعبرٌ، وعظات' للشيخ/ سعيد بن علي بن وهف القحطاني(/3)
حِكَايَة الهِمْيَان
كان آذان الفجر يصعد من مآذن الحرم في مكة في أول يوم من رمضان سنة أربعين ومئتين للهجرة، فهبط على تلك الذرى المباركة قعيقعان وأبي قبيس، فينساب مع نسيم البحر رخيا ناعشا، يسحب ذيوله على تلك الصخور التي كانت (محطة) بريد السماء، ومنزل الوحي، ومنبع رحمة الله للعالمين، حتى يمسح ستور الكعبة، فيتنزل على من في الحرم تنزل النفحات الإلهية على قلوب عباد الله المخلصين.
وكانت صفوف المؤمنين قائمة للصلاة تدور بالكعبة من جهاتها كلها، صفوف في الحرم ترى الكعبة وتنعم بالقرب منها، وصفوف لا تراها ولكنها تتوجه إليها، وتبصرها بقلوبها، تقوم وراء الجبال الشم والبحار، في المدن والقرى، والصحاري والسهول، والأودية والقمم، والأكواخ، والسجون والمغائر، في القفار المشتعلة حرا، والبطاح المغطاة بالثلج... تتسلسل وتتعاقب لا تنقطع ما امتدت الأرض وكان فيها مسلمون.
**************
وأم أهل مكة الحرم، ولم يبق في داره إلا شيخ في السادسة والثمانين، وان محطم عليه قميص مشدود بحبل، وقاموا للصلاة ما يستطيعون الوقوف مما حشدوا به بطونهم من طيبات الطعام، من كل حلوى وحامض، وحار وبارد، وسائل وجامد، ووقف يصلي وما يستطيع القيام من الجوع، فقد أمسك للصوم بلا سحور، ونام ليلته البارحة بلا عشاء، وأمضى أمسه من قبلها بلا غداء...
فلما قضى صلاته قعد على محرابه منكسرا حزينا، وما كان يفكر في نفسه فلقد طال عهده بالفقر حتى ألفه، وهون إيمانه الدنيا عليه حق نسي نعيمها وازدرائها، ولكنه كان يفكر في هذه البطون الجائعة من حوله، وهو كاسبها ومعيلها، وهذه المناكب العارية… ولو كان في مكانه رجل آخر قاسى الذي قاساه، ورأى الأغنياء يبذرون المال تبذيرا، ويضيعون الألوف بالباطل، على حين يحتاج هو إلى الدانق فلا يجده.. لثار على الدنيا، وذم الزمان، وحقد على الناس، ولكنه كان رجلا مؤمنا، وأن الناس لا يملكون عطاء ولا منعا، وأن ما كان لك سوف يأتيك على ضعفك، وما كان لغيرك لن تناله بقوتك، رفعت الأقلام وجفت الصحف.
فقال: آه. الحمد لله على كل حال؟
وقام فنزع القميص، ونادى: يا لبابة. فجاءة امرأة متلفة بخرقة قذرة، فدفع إليها بالقميص وأخذ الخرقة فالتف بها… فقالت المرأة: يا أبى غياث، هذا ثالث يوم لم نذق فيه طعاما، وهذا يوم صيام وحر… فإذا صبرت وصبرت أنا فإن البنات والعجوز لا يقدرن على الصبر، وقد هدهن الجوع، فاستعن الله، واخرج فالتمس لنا شيئا فلعل الله يفتح عليك بدوانق أو كسيرات ندخرها فطورنا.
قال: أفعل إن شاء الله.
**************
وانتظر حتى علت الشمس وكان الضحى، فخرج يجول في أزقة مكة وطرقها، وكان الناس قد انصرفوا إلى دورهم ليقيلوا، فلم يلق في تطوافه أحدا. واشتد الحر وتخاذلت ساقاه، وزاغ بصره، وأحس بجوفه يلتهب التهابا من العطش، و كان قد صار في أسفل مكة فألقى بنفسه في ظل جدار. وكان من أكبر أمانيه أن يدركه الأجل فيموت مؤمنا، فيتخلص من هذا الشقاء وينال سعادة الأبد. وجعل ينكب التراب بيده، وهو سادر في أمانيه، فلمس يده شيء مستطيل لين فسحبها ونظر، فإذا هو بذنب حية مختبئة خلال التراب، فتعوذ بالله، ثم عاودته رغبته في الموت، وتمنى لو تلدغه فتريحه، ثم ذكر أنه لا ينبغي للمؤمن أن يطلب الموت، وإنما ينبغي له أن يقول: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وأمتني إن كان الموت خيرا لي. فقالها واستغفر الله. وعاد يرقب الحية فإذا هي ساكنة، فعجب منها، ولمسها برجله فلم تتحرك، فبحث عنها وحفر، فإذا الذي رآه حزام وليس بحية، فشده فجاء في يده (هميان) فيه الذهب، عرفه من رنينه وثقله، فأحس جوعه وعطشه قد ذهبا، وكأن القوة قد صبت في أصابعه، والشباب قد عاد إليه… وتصور أن سيحمل إلى نسائه الشبع والراحة، ويملأ أيديهن مما كن يتخيلنه ولا يعرفنه من نعيم الحياة، ورغد العيش، وجعل يفكر فيم يشتريه لهن، وكيف يلقين هذه النعمة التي ساقها الله إليهن، حتى كاد يخالط في عقله.
ثم تنبه في نفسه دينه، وعلا صوت أمانته يقول له: إن هذا المال ليس لك. إنما هي لقطة لابد لك من التعريف بها سنة، فإذا لم تجد صاحبها حلت لك.(/1)
وتصور السنة وطولها وهو يبحث عن عشاء يومه. وهل يبقى حيا سنة أخرى؟ وهل تبقى أسرته في الحياة؟ وماذا ينفعه أن يكون الذهب له بعدما مات من الجوع، ومات معه من يرثه؟… وأحس كأن قواه قد خارت، وودّ لو أعاد الهميان إلى مكانه، ولم يكن قد ابتلي هذه البلية… ولكنه كان رجلا فقيها يعلم أن اللقطة إن مست فلا بد من التعريف بها، وإن هو أرجعها إلى مكانها وفقدت كان المسؤول عند الله عنها، أما إذا لم يمسها فلا شيء عليه منها… وجعلت الأفكار تصطدم في رأسه، وتتراكض وتصطرع، حتى شعر أن عظم صدغيه سيتكسر من قرع الأفكار المتراكضة في رأسه، وطفق يسمع صوتا يهتف به أن: خذها فهي رزق ساقه الله إليك. ادفع بها الموت عن بناتك اللائي أطاف بهن الموت. أشبع بها هذه الأكباد الغرثى. أكس هذه الأجساد العارية. ثم إذا أيسرت ردّها إلى صاحبها، أو دفعت إليه دنانير ناقصة لن يضره على غناه نقصها..
ثم يسمع هاتف دينه يقول له: اصبر يا رجل، ولا تخن أمانتك، ولا تعص ربك. وعقد العزم على الصبر، واستعان بالله، وذهب إلى داره يخبأ الهميان حتى يجيء صاحبه… أو يحكم الله فيه..
**************
ودخل الدار متلصصا، فرأته امرأته فقالت: ما جاء بك يا أبا غياث؟
قال: لاشيء. وأحب أن يكتمها خبر الهميان، وما كان يكتمها من قبل أمرا.
قالت: بلى والله؛ إن معك شيئا، فما هو؟
فخاف أن تراه فيستطار لبها… فقص عليها القصة، وكانت امرأة تقية دينة، ولكنها أضعف منه إرادة، وأوهن عزم فقالت: افتحه، وخذ منه دنانير اشتر لنا بها شيئا، فإننا مضطرون والمضطر يأكل الميتة…
قال: لا والله، ولئن مسسته أو أخبرت خبره أحد فأنت طالق.
وتركها مغيظة محنقة وخرج يبحث عن صاحبه، لعله يأخذ منه شيئا حلالا يدفع به الضر عن عياله.
**************
ومشى إلى الحرم، وكان فيه شاب طبري طالب علم.
قال الشاب الطبري: (فرأيت خراسانيا ينادي، يا معشر الحاج من وجد هميانا فيه ألف دينار فرده علي، أضعف الله له الثواب. فقام إليه شيخ من أهل مكة كبير من موالي جعفر بن محمد، فقال: يا خراساني، بلدنا فقير أهله، شديد حاله، أيامه معدودة، ومواسمه منتظرة، ولعله يقع في يد رجل مؤمن يرغب فيما تبذله له حلالا فيأخذه ويرده عليك.
قال الخراساني: يابا كم يريد؟
قال: العشر، مئة دينار.
قال: يابا. لا نفعل ولكن نحيله على الله تعالى).
وافترقا. قال الطبري: فوقع في نفسي أن الشيخ هو الواجد للهميان فاتبعته، فكان كما ظننت، فنزل إلى دار مسفلة زرية الاب والمدخل، فسمعته يقول: يا لبابة.
قالت: لبيك أبا غياث.
قال: وجدت صاحب الهميان ينادي عليه مطلقا. فقلت له: قيده بأن تجعل لواجده شيئا، فقال: كم؟ قلت: عشره. قال: لا نفعل، ولكنا نحيله على الله عز وجلّ، فإيش نعمل؟ لابد لي من رده.
فقالت له: نقاسي الفقر معك منذ خمسين سنة، ولك أربع بنات وأختان وأنا وأمي وأنت تاسع القوم).
يا أبا غياث إن الله أكرم من يعاقب رجلا يحيي هذه الأنفس. إنك لم تسرقه ولم تغصبه، ولكن الله هو الذي وضعه بين يديك، فلا ترفض نعمة أنعم الله عليك. إن الله يسألك عن هؤلاء النسوة…
قال الطبري: ونظرت في وجه الشيخ فأحسست مما بدا عليه أنه قد تصور بناته جائعات عاريات، والعجوز المسكينة أم لبابة وقد جف جلدها على عظمها فصارت كأنها الحطبة الجوفاء، تتردد فيها الأنفاس، ففاضت نفسه رقة عليهن فسال دمعه على شيبته، ورأت المرأة ذلك فازداد طمعها فيه… ثم رأته يعبس وتبدوا عليه الصرامة لقد ودّ لو استعان بشيء من هذه الدنانير… ولكنه ذكر أنه صبر خمسين سنة فما كان ليضيع هذا كله في لذة يوم، وذكر أنه على شفير القبر، وأنه سيلقى الله، فما كان ليلقاه خائنا أمانته، أما عياله فلهم الله، والله أرأف بهم وأشفق عليهم، وشد من عزمه، وصاح بها:
(لست أفعل، ولا أحرق حشاشتي بعد ست وثمانين سنة).
قال الطبري: (ثم سكت وسكتت المرأة. وانصرفت أنا).
**************
وأذن المغرب، وقعد الشيخ ونساءه على كسيرات وتمرات، التقطها لهم… وقعد الناس من حولهم على الموائد الحافلات بشهي الطعام، تفوح من بيوتهم روائح الشواء والحلواء، يأكلونها ويستمتعون بها، وينسون أن رمضان شهر الإنسانية والإيثار، وأن الله ما فرض علينا الصيام للجوع والعطش والعذاب… ولكن ليذكرنا هذا الجوع الإختياري الموقوت، أن في الدنيا من يجوع جوعا إجباريا، لا حد له ينتهي عنده، وليكون لنا من أعصابنا وجوارحنا، مذكر بالإحسان.
فمن يقعد على مائدته الحافلة بالطعام، وجاره يتلوى من الجوع، لا يفكر فيه، ولا يشاركه طعامه، فما صام ولا عرف الصيام، وإن جاع نهاره كله وعطش…(/2)
إن العادة تضعف الحس، وإن إلف النعيم يذهب لذتها، فأوجب الله الصيام علينا لنذوق مرارة الفقد فنعرف حلاوة الوجدان، ولنشتهي في النهار لقمة من الخبز الطري، والجرعة من الماء البارد، فنعلم أن هذه اللقمة الطرية، وهذه الجرعة الباردة، نعمة من النعم، فلا ندع الإحسان مهما كان قليلا، ولا نزهد في صدقة نقدر عليها. ولقد كان لإبراهيم الحربي رغيف كل يوم ليس له سواه، فكان يترك منه كل يوم لقمة حتى إذا كان يوم الجمعة أكل اللقم وتصدق بالرغيف…
كان الشيخ يفكر في هذا، فيألم لما صار عليه حال المسلمين، ثم يذكر أن الله هو ملهم الخير، ومصرف الأرزاق، فيحمده حمد رجل مؤمن راض.
وأمضى ليلته الرابعة بلا طعام، لأنه ترك التمرات والكسيرات للعجوز والبنات يتبلغن بها…
**************
قال الطبري: (فلما كان من الغد سمعت الخرساني يقول: معاشر الحاج ووفد الله من حاضر باد، من وجد هميانا فيه ألف دينار ورده أضعف الله له الثواب. فقام الشيخ إليه، فقال: يا خرساني قد قلت لك بالأمس ونصحتك، وبلدنا والله فقير قليل الزرع والضرع، وقد قلت لك أن تدفع إلى واجده مائة دينار فلعله يقع ف ييد رجل مؤمن يخاف الله عز وجل، فامتنعت. فاجعل له عشرة دنانير منها فيرده عليك ويكون له في العشرة ستر وصيانة.
فقال له الخرساني: يابا. لا نفعل ولكن نحيله على الله عز وجل.
ثم افترقا…
فلما كان اليوم الذي بعده سمعت الخرساني ينادي ذلك النداء بعينه، فقام إليه الشيخ. فقال: يا خرساني: قلت لك أول أمس العشر منه، وقلت لك أمس عشر العشر عشرة دنانير فلم تقبل، فأعطه دينارا واحدا عشر عشر العشر، يشتري بنصف دينار قربة يسقي عليها المقيمين بمكة بالأجرة وبالنصف الآخر شاة يتخذها لعياله.
قال: يابا. لانفعل ولكن نحيله على الله عز وجل)).
فرأى الشيخ أن لا حيلة له فيه، وانقطع آخر خيط من حبال آماله، وتوهم حالة بناته وأختيه وزوجته وأمها… وأن هذا الخرساني منعهم دينارا واحدا من ألف يدفعون به الجوع والعري، والموت الكامن وراءهما، ورأى الألف كلها بيده فحدثته نفسه بأن يمسكها، أو يدفعها إليه ناقصة دينارا، ولكنه ذكر الله والحساب فاستعاذ بالله من هذا الخاطر، وهل يشتري الشقاء الدائم باللذة العاجلة، وهو يعلم أن لذات الدنيا كلها لا تنسي كربة واحدة من كرب يوم الحشر، وشقاءها كله تذهبه نفحة واحة من نفحات الجنة؟
لا والله، ولقد روي أن (( من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه)) فترك له الهميان، وقال للخرساني: تعال خذ هميانك…
فقال له: امش بين يدي…
قال الطبري : ((فمشيا وتبعتهما، حتى بلغا الدار. فدخل الشيخ فما لبث أن خرج، وقال: ادخل يا خرساني، فدخل ودخلت، فنبش الشيخ تحت درجة له فأخرج هميان أسود من خرق غلاظ، وقال: هذا هميانك؟
فنظر إليه، وقال: هذا همياني.
ثم حلّ رأسه من شد وثيق ثم صب المال في حجره وقلبه مرارا، ثم قال: هذه دنانيرنا.
وكانت لبابة والبنات ينظرن من شق الباب إلى الذهب الذي نسين لونه وشكله، وحسبنه قد فقد من الأرض، كما ينظر الجائع إلى قدور المطعم… يتمنى منه لقمة يشد بها صلبه…
((وأعاد الرجل الذهب إلى الهميان وشده. ووضعه على كتفه وقلب خلقانه فوقه وخرج)).
ولم ينظر، في وجه الشيخ، ولم يلق في أذنه كلمة شكر.
وأحست لبابة كأنه قد اختطف وحيدها، وكأن شعبة انخلعت من قلبها، فطارت وراءه، وشده البنات، ولبثن مفتوحات الأشداق دهشة وذهولا… فلما ابتعد وأيسن منه سقطن على وجوههن من الجوع والضعف واليأس…
وسمع الشيخ حركة، فنظر فإذا الخراساني قد رجع… فرفع إليه رأسه ينظر ماذا يريد، وكان أولى به أن يعرض عنه، وأن يبغضه، وقد منعه دينارا واحدا يحيى لو جاد به علي هذه الأنفس المشرفة على الموت، ولكن الشيخ كان رجلا سمحا لا يتسع قلبه لبغضاء، فقام إليه وسأله عما رجع به، فقال الخراساني:
((يا شيخ، مات أبي وترك ثلاثة آلاف دينار، فقال: أخرج ثلثها ففرقه في أحق الناس عندك له، وبع رحلي واجعله نفقة لحجك، ففعلت ذلك، وأخرجت ثلثها ألف دينار، وشددته في هذا الهميان، وما رأيت منذ خرجت من خراسان إلى الآن رجلا أحق به منك، فخذه بارك الله لك فيه. ووضعه وولى)).
قال الطبري: (( وكنت قد ذهبت فما راعني إلا الشيخ يسرع خلفي يدعوني فرجعت إليه فقال لي: لقد رأيتك تتبعنا من أول يوم، وعلمت أنك عرفت خبرنا، وقد سمعت أحمد بن يوسف اليربوعي يقول: سمعت نافعا يقول: عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر ولعلي رضي الله عنهما: إذا أتاكم الله بهدية بلا مسألة ولا استشراف نفس فاقبلاها، ولا ترداها فترداها على الله؛ فهي هدية من الله والهدية لمن حضر)) فسر معي.(/3)
فسرت معه. فقال لي: إنك لمبارك، وما رأيت هذا المال قط، ولا أملته قط، أترى هذا القميص؟ إني والله لأقوم سحرا فأصلي الغداة فيه، ثم أنزعه فتصلي فيه زوجتي وأمها، وبناتي، وأختاي، واحدة بعد واحدة، ثم ألبسه وأمضي أكتسب إلى ما بين الظهر والعصر، ثم أعود بما فتح الله علي من أقط وتمر وكسيرات كعك، فنتداول الصلاة فيه…
حتى إذا وصلنا إلى الدار نادى: يا لبابة يا فلانة وفلانة، حتى جئن جميعا فأقعدني عن شماله؛ وحل الهميان وقال: أبسطوا حجوركم، فبسطت حجري، وما كان لواحة منهن قميص له حجر تبسطه فمددن أيديهن، وأقبل يعد دينارا دينارا، حتى إذا بلغ العاشر قال، وهذا لك، حتى فرغ الهميان فنال كل واحدة منهن مائة دينار ونالني مائة)).
*********
ولما أذن المغرب وحف نساء الشيخ بمائدة كموائد الناس، عليها الطيبات من الطعام، قال لامرأته: أرأيت يا لبابة؟ إن الله لا يضيع أجر الصابرين، إن الله هو أرحم الراحمين، يا لبابة، لقد منعنا أنفسنا دينارا حراما، فجاءنا الله بألف حلال. وأكل الشيخ لقيمات، ثم قام ليخرج، فقالت له امرأته: إلى أين يا أبا غياث؟
قال: أفتش، فلعل في الناس فقيرا صائما، لا يجد ما يفطر عليه، فنشركه في طعامنا...
ذيل القصة:
قال الشيخ الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري:
((وقد نفعني الله بهذه الدنانير فتقوت بها، وكتبت العلم سنين، وعدت إلى مكة بعد ست عشرة سنة فوجدت البنات ملكات تحت ملوك، وعلمت أن الشيخ توفي بعد ما فارقته بشهور، فكنت أنزل على أزواجهن وأولادهن فأروي لهن القصة، ويكرمونني غاية الإكرام. وسألت عنهم بعد ذلك بأربعين سنة فعلمت أنه لم يبق منهم أحدا، رحمة الله عليهم جميعا)).(/4)
حِكَم للشافعي
من شعر الإمام الشافعي
دَعِ الأيامَ تفعلُ ما iiتشاءُ
ولا تجزعْ لحادثةِ iiالليالي
وكنْ رجلاً على الأهوالِ جَلْداً
وإن كثُرتْ عُيوبُكَ في iiالبَرايا
تستَّرْ بالسَّخاءِ فكلُّ عيبٍ
ولا تُرِ للأعادي قطُّ iiذُلاً
ولا تَرْجُ السَّماحةَ من iiبخيلٍ
ورِزقُكَ ليسَ يُنْقِصُهُ iiالتأنّي
ولا حُزنٌ يدومُ ولا iiسُرورٌ
إذا ما كُنتَ ذا قلبٍ iiقنوعٍ
ومنْ نزلتْ بساحَتِهِ المنايا
وأرضُ اللهِ واسعةٌ iiولكنْ
دَعِ الأيامَ تَغْدِرُ كُلَّ iiحينٍ ... وطِبْ نفساً إذا حكمَ iiالقضاءُ
فما لحوادِثِ الدنيا iiبقاءُ
وشيمتُكَ السَّماحةُ iiوالوفاءُ
وسَرَّكَ أن يكونَ لها iiغِطاءُ
يُغطيهِ كما قيلَ السَّخاءُ
فإنَّ شماتةَ الأعداءِ iiداء
فما في النارِ للظمآنِ iiماءُ
وليسَ يزيدُ في الرزقِ العَناءُ
ولا بؤسٌ عليكَ ولا iiرَخاءُ
فأنتَ ومالِكُ الدنيا iiسَواءُ
فلا أرضٌ تَقيه ولا سَماءُ
إذا نزلَ القَضا ضاقَ الفضاءُ
فما يُغني عنِ المَوتِ iiالدّواءُ(/1)
خاص وللشباب فقط
محمد بن سرار اليامي
دار الوطن
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والمسلام على النبي الأمين، وبعد:
فإلى من تربع حبه فوق عرش قلبي.. إلى من كاد أن يملك مشاعري..، فأصبحت أحبه في الله.. إليك..
أخي الشاب.. نعم.. إليك أنت أبث شجوني، وخواطري، وهمومي، وقضا ياي..
أشكو نصب يومي..، وحر هاجرتي.. أخي الشاب:
قلوب براها الحب حتى تعلقت *** مذاهبها من كل غرب وشارق
تهيم بحب الله، والله ربها *** معلقة بالله دون الخلائق
نعم.. هذا الحب.. متعلق بمحبوب واحد..، هو قضيتنا الكبرى بل هو: قضية القضايا.. فنحبه ونرغب إليه في السراء والضراء.. إنه الله.. نعم، وألف نعم.. نحب من يحب الله..، وإذا أحبنا من يحب الله أحببناه..، وإذا طلب منا القرب قربناه، وإذا استقال من الخطأ سامحناه..، هاذا أقدم نصرناه..، وإذا غاب ذكر نا...
سيذكرني قومي إذا جد جدهم *** وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
إن هذا الحب، أمر عجيب، نعم، إنه يختلط بالقلب بل بالبدن، من مشاش المخ، إلى أخمس القدم..
والسؤال الذي ينبغي أن يكون: هل هذا الحب مجرد عاطفة فقط؟! أم ماذا؟!..، والجواب عليه: أن هذا الحب من نوع خاص.. نعم.. لأنه في ذات الله جل وعز.. فنحب ما يحب الله، وتحب لأخيك ما تحبه لنفسك.. وتكره له ما تكرهه لنفسك.
أخي الشاب: والله إدي لأحب لك الكرامة.. إني أحب لك العزة بالطاعة..، ووالله إني لأكره لك التدنس بالمعصية، في مستنقع الرذيلة، وأوحال الانحطاط..، والله، ثم والله إني لأحب لك الجنة، نعم.. لك أنت.. كما أحبها لنفسي..، وأخاف على طلعتك النظرة، ووجهك الوضيء من لفح النار.. وجه طالما صنته عن المكاره؛ وما يستقذر.. أخشى أن يدنس بالنار.. أخشى أن يغبر في النار.. بل والله إني لأخشى أن تشويه النار شويا، فتزيل الملامح، وتغير الجوارح.
أخي الشاب: المعصية تكسب صاحبها الذل، والخيبة، والحرمان.. نعم.. الذل، والخيبة، والحرمان.. أقول لك، وكلي شفقة عليك:
أرعني سمعك.. وافتح لي أذنك.. نعم.. لعل هذه العبارات، وهذه الرسالة أن تكون رسالة مباركة في حياتك فيما بعد..، فإن القلب إذا عقل، وفهم، ونصح، وعلم، استفاد...
أخي الشاب: تأمل كلامي هذا حق التأمل.. وأعطني قلبك.. نعم.. أعطني قلبك.. أبث لك فيه خواطر وأشجانا طالما صالت، وجالت.. وها هي اليوم تنسكب بين يديك كأريج العطر..
فيا أيها الحائر في الطريق، ويا أيها الشاب الرقيق، يا من يعاني من كدر، وضيق، اسمع لمقالي فهو مقال ناصح...
تقضي نهارك حائرا متوجعا *** ما للبكا من يحتويه سواكا
وتبيت ليلك في لهيب سهاده *** ترعى النجوم، وترقب الأفلاكا
فازجر فؤادك يا لبيب عن الهوى*** أتطيع من بعذابه أشقاكا
أتطيع قلبا كلما أيقظته *** وهديته درب الرشاد عصاكا
يا قلب ما لي لا أراك تطيعني *** أتحث نحو المهلكات خطاكا
يا أيها القلب المكبل بالأسى *** مزق بعزم التائبين أساكا
تب واعتبر واندم على ما قد مضى *** وادفن بأمواج الرشاد هواكا
واغسل ذنوبك بالمدامع ساجدا *** فعساك تبلغ ما تريد عساكا
الشاب وحلاوة الأمل..
ما أجمل الأمل.. حين يحدو مطايا القلب..، فهو نور في ظلام، وفرح وسلام.. نعم.. إن العبد ليقبل على ربه، ومولاه فينطرح بين يديه سبحانه.. ويؤمله، ويسأله.. أن يعفو عنه.. نعم.. أن يعفو عن زلاته، وغدراته..، وإجرامه.. والله يقول: قل يا عبادي ا الذين أسرفوا علئ أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا .
فإنما هي حسرة على الذنب.. فعبرة من الخوف، فدمعة من الوجل، فدعاء مع الذل..، فرحمة من الله.. ادعوني أستجب لكم .. وليكن لسان حالك أخي الشاب مرددا:
أمولاي إني عبد ضعيف *** أتيتك أرغب فيما لديك
أتيتك أشكو مصاب الذنوب *** وهل يشتكى الضر إلا إليك
فمن بعفوك يا سيدي *** فليس اعتمادي إلا عليك
الشاب بين الذل.. والإنكسار
عندما يجد الجد، ويتقدم كل بركبه.. تسعد قلوب السابقين، وتألم قلوب المتأخرين عن طريق الخير والصلاح.
فلا يتمالك الشاب إلا دمعة الندم على ما كان منه من تفريط في أول الزمن.. فرط في الخيرات، وما كان مطيعا..، واشتغل بالملهيات إذ كان مستطيعا.. ف ذق إنك أنت العزيز الكريم .. يوم لا ينفع الندم..
أخي الشاب: أين منك: والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون .
أخي الشاب: أنت بحاجة إلى ربك جل وعز.. نعم.. أنت بحاجة إلى عونه..
أخي الشاب: أصدق مع الله.. قف في ظلمة الليل وحيدا، وانطرح بين يديه ذليلا..، وقل: ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار.. قل:
يا نفس توبي فإن الموت قد حان*** واعصي الهوى فالهوى ما زال فتانا(/1)
نعم أخي الشاب.. انثر العبرات..، واسكب الدمعات، وهات الآهات، والحسرات على ما فات.. فالله يقول: إن الذين قالوا ربا الله ثم استقاموا ويقول: والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم .
أخي الشاب: فك أسر نفسك من الهوى.. وأطلق قيدها من رق الشهوة والغفلة..
أخي الشاب: أنت الخصم، وأنت الحكم.. ولن ينفعك مثل نفسك..، وإن لم ترحم نفسك أنت- بترك الذنوب والمعاصي- فكيف تطالب الآخرين أن يرحموك..
أخي الشاب: اخل بنفسك.. اعترف بذنبك.. تب واستغفر.. وردد.. ربي إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، فاغفر لي.. فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.. ردد أخي الشاب: كفاني ذنوبا وعصيانا.. فرغ قلبك من الشهوات.. والشبهات.. ابك على خطيئتك.. أبدل الانحراف بالاستقامة، انكسر بين يدي الله.. أظهر الخضوع بين يدي ربك.. استعن بالله.. فوالله ثم والله.. إنك بحاجة إلى ربك.
أخي الشاب: وقتك ثمين.. وأنا أطلت عليك.. فاعذرني.. واعلم أن الكاتب، والقارئ أهل خطأ وزلل..
من ذا الذي ما أساء قط *** ومن الذي له الحسنى فقط
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها *** كفى المرء نبلا أن تعد معايبه
وأخيرا: فلا أجد لنفسي بدا من التمثل، بقول الأول:
وغير تقي يأمر الناس بالتقى *** طبيب يداوي الناس وهو سقيم
والله يرعاك، ويتولانا وإياك ويسدد على طريق الخير مسعاك...
تم الكلام وربنا محمود *** وله المكارم والعلا والجود
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(/2)
خالد
عمر أبو ريشة
لا تنامي يا رواياتِ الزمانِ فهو لولاك موجةٌ من iiدخانِ
تتوالى عصوره وبها منكِ ظلال طرية iiالألوانِ
أبداً تبسم الحياةُ عليها بسمة المطمئن iiللحدثانِ
أسمعيني حفيفَ أجنحة الإلهام من أفقك القصيِّ iiالداني
وانثري حولي الأساطير فالروحُ على شبهِ غصّةِ iiالظمآنِ
حسبها أن أردها لك من قلبي صلاةً، ومن شفاهي iiأغاني!!
* * *
رواياتِ الزمان هل شعر الرملُ بنفض الغبار عن iiأرداني
وهبوب الأجيال في يقظة الذكرى وتهويمة الطيوف الرواني
وانفلاتي من الغيوب بأقدام غريبٍ نائي الحمى iiحيرانِ
ما له في وجومه يغمز الشعر فبهمي مثالثاً iiومثاني
نفحاتُ النبيّ، والفتحِ والعلياءِ والعزِ والندى والبيانِ
رعشاتٌ في أضلعي ماجت الصحراء فيها وماج فيها افتتاني!!
صدق الحبُّ إن موطني الأجرد روضي وجدولي iiودناني
ينبت المجدَ قبل أن ينبت الوردَ ويعطي الثمار قبل iiالأوانِ
* * *
ما أرى؟ هذه ذوائبُ مخزوم وهذي خيامهم والمغاني
ما لهم زُيّغ الحلومِ يعدّون كريمَ الهشيم iiللنيرانِ
سدلوا الأزرَ مغضبين، وشدوا الخمرَ واستلأموا ليوم iiرهانِ
يطلبون النبيَّ في "أُحدٍ" والثأر طاغٍ، لم يثنهم عنه iiثانِ
وامتطوها مذاكياً تخطف الأرض وعضاتُها على الأرسانِ!
* * *
"أُحدٌ" لاح، حين لاح عليه عالَمٌ ضمنَ هيكل iiإنساني
زرع الحقَّ في كتاب مبين وحَماه بكل عضبٍ يماني
كيف يطوى الحُسامُ والجاهليات هيامُ الأوثان iiبالأوثانِ
* * *
وثب الهولُ وثبةً فلّت البيضَ وشظّتْ عواليَ iiالمرَّانِ
وعدا المؤمنون في غفلة النصر وراءَ الأسلاب iiكالعقبانِ
فدوتْ صيحة النبي، فثابوا فإذا هم في قبضةِ iiالعدوانِ
وإذا المشركون عاصفة هوجاء تدمي جوانبَ iiالميدانِ
وفتاهم، ذاك المطوِّح بالهام مثير الإعجاب في iiالفرسانِ
دفعَ المهرَ مغضباً، فكبا المهرُ أمامَ النبيّ بعد iiحِرانِ
فانتضى سيفه، وهمّ، فلم يقوَ ولم تنطلق له iiقدمانِ
فارتضى بالسجال وارتدَّ حرَّان وفي النفسِ هاجسٌ iiرحماني
* * *
أطرق المؤمنون والأمل العاتبُ يندى على الجباه iiالحواني
كلُّ نفس في السر سائلة من أين ذاك الفتى العجيب iiالطعانِ
لم يلح قبلُ في كنانة مخزومٍ سنانٌ كمثل هذا iiالسنانِ!
لا تزيغوا، صاح النبيُّ، فلولا الزيغ لم تطرقوا على iiالخذلانِ
الهوى الدنيويُّ والهدفُ العُلويّ في النفس ليس iiيلتقيانِ!!
أعلمتم مَن الفتى المتثني بوشاح البطولة iiالأرجواني؟!
إنه ابن الوليد زغردةُ النصر وأنشودةُ الجهاد iiالباني
مرَّ في ناظريَّ طيفاً بعيداً عبقريَّ النضال ثبتَ الجنانِ
وكأني أراه يضرب شرق الأرض بالغرب، مُشرقَ iiالإيمانِ
وأرى كبرياءه دمعة التكفير مسفوحةً على iiالقرآنِ
* * *
صدق العهد، فالفتوح تَوالى وصدى خالد بكل iiمكانِ
أينما حلَّ فالمآذن ترجيعُ أذانِ المهيمن iiالديَّانِ
وبدا الرومُ في ضلال مناهم شوكةً في معاقد الأجفانِ
فأتاهم بحفنة من رجال عندها المجد والردى سِيّانِ
ورماهم بها، وما هي إلا جولة، فالتراب أحمر iiقانِ
وضلوعُ اليرموك تجري نعوشاً حاملاتٍ هوامدَ iiالأبدانِ!
* * *
هلل المؤمنون واهتزت البشرى تروّي حناجر iiالركبانِ
فإذا خالدٌ على كل جفن خطراتٌ من الطيوف الحسانِ
سَمَرُ الغيد في الليالي الكسالى وهوى الصيد في الزحام iiالعوانِ
فتنة خيفَ أن يشيع بها الزهوُ فتلوي بالقائد iiالفتانِ
فنحاه الفاروق فانضم للجند فخوراً بعزة iiالإذعانِ
وتراءى أبو عبيدة في الفيحاء يحمي قيادة iiالفرسانِ
وفتى النبل خالد يقحم الأسوار في نخبة من iiالفتيانِ
لم تزعزع من عزمه إمرةُ الفاروق بل فجَّرته فيضَ iiتفاني
وإذا راضت العقيدةُ قلباً فمن الصعب أن يكون iiأناني!!
* * *
يا مسجَّى في قُبة الخلد يا خالدُ هل من تلفتٍ لبياني؟
لا رعاني الصبا إذا عصف البغي وألفى فمي ضريحَ iiلساني!!
أقسم المجد أن أقطّع أوتاري عليه بأكرم الألحانِ
أنا من أمة أفاقت على العزّ وأغفت مغموسةً في iiالهوانِ
عرشُها الرثُّ من حراب المغيرين وأعلامها من iiالأكفانِ
والأماني التي استماتت عليها واجماتٌ.. تكلمي يا iiأماني
لا تقلْ ذلَّت الرجولة يا خالد واستسلمت إلى iiالأحزانِ
حمحمات الخيول في ركبكِ الظافر ما زلنَ نشوةَ iiالآذانِ
كم طوت هذه المرابعُ أفلاذ قلوب "بدرية" iiالخفقانِ
قم تلفّت ترَ الجنود، كما كانوا، منار الإباء iiوالعنفوانِ
ما تخلوا عن الجهاد ولكن قادَهم، كلُّ خائن iiوجبانِ!
* * *
راوياتِ الزمان، مالي أناجيك ومالي أغصّ iiبالأشجانِ
اغسلي الذكريات عني فمالي في احتمال العبء الثقيل يدانِ
أو فسيلي مراوداً تنثر الكحل ضياءً، في مقلة iiالوسنانِ(/1)
خالق كل شيء
د. عبد الرحمن صالح العشماوي*
قال تعالى:( ٍِذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ) الأنعام (102).
( قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) الرعد (16)
( اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ) الزمر (62)
( ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ) غافر (62)
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ) فاطر (3)
( هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى ) الحشر (24)
معنى الخلق في آيات القرآن الكريم (إيجاد الشيء من العدم)، وهذا عملٌ لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، ومن هنا كان الخلق معجزةً كبرى تستحق أن يُذكَّر الناس بها دائماً.
إن الذي يخلق كل شيء، (يوجده من العدم)، على غير مثال سابق، ويبدع في خلقه حتى لا نرى فيه عوجاً ولا نقصاً، ويحيطه برعايته وعنايته، ويحفظه من الخلل والاضطراب، إنه جديرٌ بأن يُفرد بالعبادة وحده لا شريك له ولا ند ولا نظير.
إن الخلق معجزة عظيمة لو تأملها الكافر والملحد والغافل لما تردد عن صرف العبادة لله وحده دون سواه.الخلق بمعنى الإيجاد من العدم معجزة في حد ذاته، وخلقُ شيء واحد بهذه الصورة - صغيراً كان أم كبيراً - معجزة قائمة بذاتها تستحق التأمُّل، وتدعو العاقل إلى التصديق والتسليم.
فكيف بخلق كل شيء صغيراً كان أم كبيراً؟(قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار).
إن الخلق بهذا المعنى الشامل هو المعجزة الإلهية التي لا تُجارى ولا تُبارى، فلماذا يغفل الغافلون ؟ ولماذا يُلحدُ الملحدون ؟!
إن القرآن الكريم يذكر الناس بهذه المعجزة مرّات عديدة، ويرشدهم إلى التأمُل فيها، والوقوف أمامها، ليؤمن الكافر، ويصدق المكذّب، ويستيقن المتشكك، ويزداد الذين آمنوا إيماناً.
( وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ ) الروم (22)
( لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) غافر (57)
( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ ) السجدة (7)
( فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَم مَّنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَّازِبٍ ) الصافات (11)
( إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) الأعراف (54)
تكرار يذكر بمعجزة الخلق، لأنها معجزة عظمى يشعر بقيمتها أصحاب العقول الراجحة، والقلوب الحية، والأذهان الواعية، ولأن التذكير بها يعيد الفاضل من الناس إلى وعيه، والضال الى رشده، والمكابر إلى حقيقته، والمنحرف إلى الطريق المستقيم.
فهل نكون من المتذكرين؟
إشارة:
سبحان ربك رب العزة عما يصفون(/1)
خبر هارون الرشيد
أخرج السلفي في الطيوريات بسنده عن ابن المبارك قال: [لما أفضت الخلافة إلى الرشيد وقعت في نفسه جارية من جواري المهدي [أبيه] فراودها عن نفسها فقالت [لا أصلح لك فإن أباك قد طاف بي] فشغف بها فأرسل إلى أبي يوسف القاضي [تلميذ أبي حنيفة ] فسأله [أعتدك في هذا شيء ؟ فقال يا أمير المؤمنين أو كلما ادّعت أمة شيئًا ينبغي أن تصدق لا تصدقها فإنها ليست بمأمونة .قال ابن المبارك [فلم أدر من أعجب من هذا الذي وضع يده في دماء المسلمين وأموالهم يتخرج عن حرقة أبيه أو من هذه الأمة التي رغبت بنفسها عن أمير المؤمنين أو من هذا فقيه الأمة وقاضيها قال اهتك حرمة أبيك واقض شهوتك وصيره في رقبتي .وأخرج السلفي في الطيوريات بسنده عن إسحاق بن راهويه قال [دعا الرشيد أبا يوسف ليلاً فأفتاه [في شأن جارية] فأمره له بمائة ألف درهم فقال أبو يوسف إن أرى أمير المؤمنين أمر بتعجيلها قبل الصبح فقال عجلوها ، فقال بعض من عنده [إن الخازن في بيته والأبواب مغلقة فقال أبو يوسف : [قد كانت الأبواب مغلقة حين دعاني ففتحت].
كل هذه الأخبار كاذبة لا أصل لها وكتاب الطيوريات للسلفي من الكتب المحشوة بالأكاذيب والأباطيل عن بني العباس وخلافتهم لحاجة في نفس مؤلفه الذي نشأ في ظل الدولة العبيدية الباطنية، بمصر، وأخبار هارون الرشيد كثيرة وشهيرة وتكفيه ثناء أهل العلم عليه وتمني رجل مثل الفضيل بن عياض أن يمد الله في عمر الرشيد للخير الذي يرجوه من حياته.أما القاضي أبو يوسف فقيه الأمة ومفتيها فأجل وأعلى شأنًا من أن يكون كعلماء السوء في زماننا هذا الدين هم مرتزقة الحكام والسلاطين كما يشبهه السلفي في طيوريات الواهية.ويكفي للإبطال هذه الروايات الكاذبة موقف أبي يوسف من كتاب العهد والأمان الذي كان بين هارون الرشيد وإدريس الطالبي والذي حاول فيه الرشيد أن يجد سببًا لنقضه عندما تخوف من إدريس، ولكن أبا يوسف رفض أن يعطي المبرر الشرعي للنقض لعدم وجوده مما حدا بالرشيد أن يعزله من منصبه ويعين رجلاً آخر في منصب القضاء مما يوضع حال هذا الرجل الذي ضحى بمنصبه ولم يضح بدينه وفقهه في تبرير الأمور الخاطئة .(/1)
خبز وبارود...!
د.حسن الحميد 22/8/1423
07/11/2001
ليس عجيبا في عالم اليوم أن يكون الجلاد هو ماسح الدموع ، وأن يكون الجزار هو مداوى الجرحى ، وأن يكون حفار القبور هو من يقيم حفلات التأبين ويتلو قصائد الرثاء ! مادام الكل يجري باسم القانون الدولي ، والذي يدعو إليه دولة ديمقراطية متحضرة ، بريئة من لوثة التخلف والدكتاتورية ، لايهم فارق التوقيت ولاشخص المتحدث ، المهم أن يكون مصدره من الغرب لاالشرق ، من الشمال لاالجنوب.
وقد توزع العالم وفق هذه المعادلة إلى مجموعات عمل ، وحددت بؤر التوتر وفق حسابات دقيقة .. لاتكاد تخطئ العين هذه المسارات .
فهناك صانعو بؤر التوتر وهناك مستغلوها، وهناك صانعو السلاح ، وآخرون لأعمال الإغاثة وتضميد الجراح ، وآخرون لدفع فاتورة هذه الحرب أو تلك .
لايتخلف عن هذه المهمات الحضارية أحد ، إلا أن يكون منبوذا من المجتمع الدولي ، وهذا يعني بالضرورة أن يكون داعما للإرهاب ، خارجا عن القانون وإجماع الأسرة الدولية ! وإذا مااستمر على سلوكه المشين فسيكون هدفا ولو بعد حين ، لأن يد العدالة تطال الجميع !! حتى ليخيل للمرء أن تدمير الشعوب وتسميم الأجواء والبلدان ، وإهلاك الحرث والنسل الذي يراه في شاشة التلفاز ويقرأ عنه الإحصاءات ليس كذلك إلا في الصورة والخيال ، أما الحقيقة فإن الذي يجري ماهو إلا عملية جراحية أملتها ضرورة الحفاظ على حياة المريض، بدليل أن الذي يحمل البارود ـ عفوا المشرط ـ بيمينه هو الذي يحمل الدواء والغذاء بشماله ، وإذا لم يستطع الوصول إلى مريضه إلا من الجو ـ بسبب إعاقة الهمج الذين لاتثير فيهم مشاهد الجوع والمرض والقتل رحمة ولاشفقة ـ فلن يتأخر ، ومن نجا منهم فسوف ينصب له الخيام ويؤمن له ضرورات الحياة خارج حدود وطنه ، الذي شرده منه !!
لقد تعودنا سماع أنباء طائرات من الجو تلقي بالمعونات إلى الشعوب الضحايا في السودان وفي العراق وفي البوسنة وفي كوسوفا ، والآن في أفغانستان ..
لكن لم نسمع إلا القليل عن المنشورات المصاحبة ، وأجهزة الراديو. وسمعنا بالتفصيل معلومات جذابة عن عمل بعض وسائل التدمير ، كيف تصيب أهدافها بدقة متناهية ، ولايبعد أن نسمع قريبا عن أسلحة فتاكة لاتنفجر إلا إذا لامست بدلة عسكرية أو وقعت على مدرج مطار أو هدف عسكري ! سمعنا كثيرا عن ذلك ، لكن اختفت فجأة معلومات تؤكد بأن بلادا بأكملها كالعراق مثلا لم تعد صالحة لحياة الإنسان ، وأن أجواءها وتربتها وماءها سيظل ملوثا موبوءا مئات السنين . وإذا كان حفنة آلاف من الجنود أصيبوا بأعراض أسلحتهم التي كانت تنفجر على بعد بعيد منهم ، فما الظن بالبلاد التي زرعت فيها وما الظن بساكنيها؟ ومن يدري أن تكون أفغانستان هدفا جديدا لأنواع من الأسلحة الفتاكة تجعل المنطقة بأسرها بؤرة غير صالحة للحياة؟
إن عواطف صانعي المدنية الأممية وتجار السلاح ودهاقنة السياسة ليست عواطف بريئة ، إنها عواطف تعمل على وقع المصالح ، ولديها قدرة على التمييزحتى بين أديان الضحايا وأجناسهم !هذه حقيقة وشواهدها ماثلة..
ألم تر إلى معاناة أهل فلسطين منذ خمسين عاما .. اليهود يكبرون ويتمكنون والفلسطينيون يذبحون ويشردون بإشراف مباشر ودعم سخي من بريطانيا وأمريكا على وجه الخصوص . والعاطفة نائمة إلا إذا أصيب يهودي بمكروه .
وفي هذه الأيام سمعنا أن عاطفة توني بلير استيقظت وقال إنه يشعر بمعاناة الفلسطينيين وأنهم بحاجة إلى دولة مستقلة! وبوش هو الآخر لم يتأخر وقال إنه كان يفكر قبل حادث نيويورك بدولة مستقلة لهم. وفجأة خمدت العاطفة!
ولم يترك شارون مجالا للشك فقال إن بوش يجامل العرب في هذا الظرف على حساب إسرائيل . قلت: وهذا هو الصواب.
إن تقبل العالم لعمل عسكري كالذي يجري في أفغانستان ، بل ربما لأعمال عسكرية في أماكن أخررىى وتقديم التسهيلات والتأييد ، في الوقت الذي يقول الأكثرون إنهم لم يقفوا على أدلة إدانة محددة ، ويكتفي آخرون بأنهم اطلعوا على أدلة كافية ، إنها بادرة خطيرة تشير إلى أن العالم يسير رغبة أو رهبة خلف الأقوياء، وينفذ مطالبهم من غير أن يكون قادرا على وضع حقوقه المشروعة على قدم المساواة ، وأنه يكرس ـ باسم القانون ـ شريعة الغاب التي دفعت الشعوب مهجها للتخلص منها.
وإذا لم تكن هذه مناسبة لرد العالم إلى صوابه ، فإنه سيكون أبعد عن الصواب بعد تحقيق مآربه. ولن يجد الصغار مكانا لتقديم عرائضهم ولا أذنا لسماع شكواهم .
إننا أمام مشهد يتكرر كلما احتاج الغرب إلى الشرق والأقوياء إلى المستضعفين ، حتى لكأن القيمة اختصرت في إنسان الغرب وممتلكاته وسيادته ، فما كان جريمة في نظر الغرب فهو جريمة في نظر العالم ، وما كان مأساة في حق الشعوب الأخرى فهو من جنس الحوادث والكوارث اليومية الناشئة عن التخلف وغياب الديمقراطية!(/1)
لقد انتزعوا كل مايحتاجون إليه إبان حرب الخليج الثانية ، وفي حرب البلقان الأولى والثانية ، واليوم في مهاجمة أفغانستان ، ودفع العالم الإسلامي ثمنا باهضا من سيادته وثرواته وبيئته ، وانتزعت إسرائيل في هذه السنوات مالم تنتزعه في عقود، وعندما بلغت الذروة في الغطرسة والتنكيل لم يجدوا بدا من القول بأن إسرائيل قد بالغت في استعمال القوة !
إن هذه الحرب الجديدة تشير إلى أن الولايات المتحدة ومن معها قد فهموا الدرس بالمقلوب ، وهذا أخطر من الكارثة نفسها ، إنهم باختصار يضيفون إلى قائمة خصومهم أعداء جددا ، ويشرعون باسم الأمم المتحدة قوانين تزيد من التحدي والإصرار المتبادل. ولن يقلل من حجم الجريمة حفنة طعام أو لفائف كساء . وسيقول الناس بصوت واحد ما قاله النبي موسى عليه الصلاة والسلام لفرعون عندما ذكر منته عليه بإعتاقه وتربيته : ( وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل ) أتستعبد قومي بالأسر والقتل وتمن علي بالإعتاق من بينهم؟ وهل أنا إلا واحد منهم ،يصيبني ما أصابهم .. وإنه ليخيل لمن يسمع بسيل التصريحات والكلمات النارية أنهم كانوا قبل أحداث نيويورك حمائم سلام ! وأن محاربة ماأسموه بالإرهاب وليد الساعة.
إنها مغالطة تاريخية سيكون المنتصر فيها مهزوما. وإن عقارب الساعة لاترجع إلى الوراء ، فهل من معتبر؟(/2)
خبط عشواء..أم تقدير حكيم؟
أ.د. جعفر شيخ إدريس*
في العشرين من ديسمبر من السنة الماضية أصدر قاضٍ أمريكي بولاية بنسلفانيا بالولايات المتحدة حكما بأن تدريس النظرية المسماة التصميم الذكي(1) في المدارس الحكومية (وهي نظرية معارضة لنظرية التطور) أمر مخالف للدستور. وكان السبب الذي علل به حكمه هو أن النظرية نظرية دينية لا علمية؛ لأنها تشير إلى الخالق.
ماذا تقول هذه النظرية؟ وعلامَ يدل هذا الحكم؟ ثم ما العلاقة بين الداروينية والمعتقدات الدينية؟
هذا ما سنعرض له بإيجاز في هذا المقال.
أما النظرية فإن أكثر من اشتهر بها من علماء الأحياء في الأيام الأخيرة، ودافع عنها دفاعاً علمياً أقر به خصومه، هوMichael Behe الأستاذ في علم الأحياء الكيماوية في كتاب له صدر في عام 96 بعنوان (صندوق دارْوِن الأسود: التحدي الأحيائي الكيماوي للتطور)(2).
قال المؤلف في كتابه هذا إن الأحياء الدقيقة مثل الخلية كانت بالنسبة لدارْوِن أمراً مجهولاً ـ صندوقاً أسود لا تعرف محتوياته، وأن نظريته لا تفسر أشياء مهمة مثل الخلية التي هي أساس الكائنات الحية. وكانت حجته الجوهرية أن تركيب هذه الكائنات يدل على أنها لا يمكن أن تكون قد تطورت، وأنها صممت منذ البداية لتؤدي وظيفتها، وأنه لا بد أن يكون قد صممها مصمم حكيم(3).
وذكر في كتابه بأن دارْوِن نفسه كان قد قال إنه إذا أمكن أن يقام دليل على وجود كائن حي مركب ما كان من الممكن أن يتكون من تغيرات كثيرة طفيفة متتالية، فإن نظريتي ستنهار انهياراً كاملاً(4). ما طبيعة هذا الكائن الأحيائي الذي تنطبق عليه هذه الصفات؟ يقول المؤلف بإيجاز: إنه النظام المكون من أجزاء متفاعلة متوائمة يسهم كل منها في الوظيفة الأساسية للنظام، بحيث إنه لو أزيل واحد منها توقف النظام عن العمل. إذا وجد نظام أحيائي بهذه المثابة فإنه سيمثل تحدياً عظيماً للداروينية؛ لأن الاختيار الطبيعي إنما يعمل على كائنات فاعلة، ومثل هذا الكائن لا يفعل، لا يؤدي وظيفته إلا إذا اكتمل تركيب أجزائه كلها.
وأعطى في مقدمة كتابه فكرة مبسطة لمفهوم التركيب المعقد الذي ليست له أجزاء بسيطة. ضرب المؤلف مثلاً لنوع هذا التركيب بشَرَك اصطياد الفئران. هذا الشَّرَك مركب من خمسة أجزاء لا يعد أي منها شركاً في مرحلة بدائية؛ فالقاعدة الخشبية مثلاً لا تؤدي وحدها أي وظيفة من وظائف الشرك، وكذلك الحال بالنسبة للزنبرك وسائر الأجزاء. إن هذه الأجزاء لا تكون شَرَكاً إلا بتركيبها هذا التركيب المعين الذي قصد منه أن يجعل منها شركاً.
أما الكائنات التي يمكن أن تتطور والتي اعتمد عليها دارون في نظريته؛ فإن كل مكون من مكوناتها يمثل طوراً من أطوار تطورها، ويؤدي شيئاً من وظيفتها وإن كان بدائياً. ومهمة النظرية الداروينية هي أن تفسر لنا الطريقة التي ينتقل بها هذا الكائن من طور إلى طور بما أسماه الانتخاب أو الاصطفاء الطبيعي.
فالكائنات التي يمكن أن تصلح لتفسيرها نظرية دارون هي كائنات من هذا النوع الذي يمكن أن يتطور. أما الذي لا تنطبق عليه هذه الصفة، والذي لا تكون أجزاؤه مرحلة من مراحل نموه كالشَّرَك، فإن النظرية لا يمكن أن تفسره، بل إن تركيبه ليدل على أنه جاء نتيجة تقدير لموجد حكيم.
لم يكتف المؤلف بهذا بل أضاف إلى أن مما يثبت قوله بأن نظرية دارون لا تستطيع تفسير مثل هذه الكائنات الجزيئية أن أحداً لم يستطع حتى الآن أن يفسرها بها. فمن بين آلاف البحوث التي كتبت في موضوع الكيمياء الحيوية، لم تكتب إلا ثلاثة بحوث في هذا الموضوع، ولم ينجح واحد منها في تطبيق الداروينية عليها.
يبدو من هذا الكلام أن صاحب نظرية التصميم الذكي قد زعم أنه يعتمد في دعواه على حقائق حسية، واستنتاج عقلاني. فعلى الذين يخالفونه أن يبينوا زيف ما قال بحجج مماثلة. وقد حاول بعضهم أن يفعل هذا.
وقد استمع القاضي إلى شهود من أمثال هؤلاء انتقدوا النظرية على أساس علمي. لكن القاضي لم يعتمد في حكمه على مثل هذه الشهادة، بل اعتمد على أيدلجية مادية إلحادية شاعت في عصرنا حتى صارت جزءاً من مفهوم العلم. فحوى هذه الأيدلجية هو أن الكون الطبيعي كون مكتفٍ بنفسه؛ فالتفسير العلمي لما يحدث فيه يجب أن يكون بأسباب من داخله، وأن كل إشارة إلى سبب فوق الطبيعة، كتعليل الحوادث بقدرة الله ـ تعالى ـ تعليل غير علمي. وقد عبر أحد الشهود، وهو أستاذ مختص بفلسفة العلوم عن هذا الرأي؛ إذ قرر أنه بما أن القضية الأساس لنظرية التصميم هي أن معالم العالم الطبيعي أحدثها كائن متعال غير مادي وغير طبيعي؛ فإن نظرية التصميم هي قضية دينية بغض النظر عن كونها سميت بهذا أو لم تسمَّ(1).(/1)
أنا لم أستغرب حجة القاضي هذه؛ لأن هذا هو المفهوم الشائع للعلم، وهو مفهوم فلسفي واعتقادي غالط لا علاقة له بالعلوم، كما كان بعضنا قد قال ذلك منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وبنوا عليه الدعوة إلى ما سمي آنذاك بأسلمة العلوم. ولم يكن القصد من الدعوة إلى الأسلمة أن نغير الحقائق العلمية كما ظن بعض من اعترضوا على الفكرة؛ لأن ديننا يقوم على الحق، فلا يحتاج إلى تغيير حقيقة مهما كان نوعها. هو أن توضع الحقائق كلها الطبيعية والاجتماعية والنفسية في إطار إيماني بدلاً من الإطار المادي الإلحادي الذي توضع فيه الآن، والذي يؤدي إلى جعل الدين بالضرورة أمراً مخالفاً للعلم الطبيعي.
الدارونية ووجود الخالق:
لو أن كل الوقائع التي اعتمد عليها دارون في نظريته كانت صحيحة، ولو أن كل العلاقات السببية الطبيعية التي فسر بها تطور الكائنات الحية كانت أيضاً صحيحة، لم يكن في هذا كله ما يدل على عدم وجود الخالق، أو الاستغناء عنه. فالقول بالإلحاد ـ هو كما قلت ـ اعتقاد لا علاقة له بالعلم، ويمكن لذلك أن يضاف إلى كل نظرية علمية. فكلما اكتشف العلماء سبباً طبيعياً لظاهرة من الظواهر الكونية عزوا سببها إلى ذلك السبب الطبيعي، وزعموا أنه يغني عن القول بوجود خالق، هذا اعتقاد قديم وليس من العلم الحديث في شيء. فالذين روى الله لنا قولهم: {نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إلاَّ الدَّهْرُ} [الجاثية: 24] كانوا يعتقدون مثل هذا الاعتقاد، والذين فسروا التاريخ بقولهم: {قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ} [الأعراف: 95] كانوا أيضاً منكرين لوجود الخالق معتقدين أنه ليس وراء حوادث الكون مدبر وأنها تقع خبط عشواء.
أما المؤمنون فإنهم لا ينكرون فاعلية الأسباب الطبيعية، أو المقدرات البشرية. هل رأيت مؤمناً ينكر أن الطعام يغذي، والماء يروي، والدواء يشفي؟ لكنهم مع اعتقادهم بفاعلية الأسباب إلا أنهم مؤمنون بأن لها خالقاً هو الذي جعلها أسباباً، وأنه لا تنافي بين فاعلية الله وفاعلية الأسباب الطبيعية أو فاعلية الإرادة البشرية؛ لأن الله ـ تعالى ـ هو الذي خلق الأسباب وجعلها أسباباً، ولأنه ـ سبحانه ـ من عادته أن يفعل بالأسباب كما كان علماؤنا يقولون.
نعود إلى نظرية دارون فنقول:
1 ـ إنها تبدأ بالتسليم بحقائق لا تفسرها، لكنها تعتمد عليها. فهي تبدأ بأن هنالك كائنات حية، وأن هذه الكائنات تتكاثر بالتناسل، وأن المولود يرث بعض خصائص الآباء، وأنه لا يوجد كائنان حيان متماثلات تماثلاً كاملاً في صفاتهما. وإذا كانت لا تفسر وجود هذه الحقائق فأنى لها أن تنفي أن لها خالقاً؟
2 ـ تفترض النظرية أن للكائنات الحية كلها أصلاً واحداً تكاثرت عنه.
3 ـ مهمة النظرية هي أن تفسر هذا التكاثر، أي أن تبحث عن الأسباب الطبيعية التي تجعله ممكناً وبهذه المثابة التي نشاهدها.
4 ـ تقرر النظرية حقيقة مشهودة هي أن الموارد الطبيعية التي تعتمد عليها الكائنات الحية في وجودها محدودة، ولذلك لا يمكن أن تتكاثر تكاثراً لا يحده شيء، بل لا بد أن ينقرض بعضها ويبقى بعضها.
5 ـ تقول النظرية إن «الميكانزم» الذي يجعل هذا ممكناً هو ما أسماه دارون بالانتخاب الطبيعي. أي أن الطبيعة تنتخب بعض الكائنات للبقاء، وتحكم على بعضها بالفناء. لكن عبارة الانتخاب الطبيعي ليست عبارة علمية؛ إذ إنها تعني أن هنالك شيئاً اسمه الطبيعة هو الذي ينتخب، والانتخاب فعل إرادي؛ ولذلك قال دارون إن غيره أسمى هذه العملية بالبقاء للأصلح، ولم يعترض عليه.
6 ـ فحوى الفكرة التي سميت خطأ بالانتخاب الطبيعي هي أن هنالك علاقة بين الكائنات الحية والبيئة التي تعيش فيها. والمقصود بالبيئة كل سبب خارجي يؤثر في حياتها؛ فهي تشمل وجود حيوانات أخرى، كما تشمل المناطق الجغرافية والأحوال المناخية، وغير ذلك. وبما أن الكائنات الحية حتى التي تنتمي إلى مجموعة واحدة كالكلاب مثلاً أو الأرانب، لها صفات مختلفة، فإن ما كانت صفاته مُعِينةً له على العيش في البيئة المعينة التي وجد فيها، كانت فرصته في البقاء أحسن من فرصة من كانت بعض صفاته غير مناسبة مع بيئته. فالحوانات والنباتات تختلف في ألوانها مثلاً؛ فقد يكون لونٌ ما كالبياض مثلاً مناسباً مع بيئة معينة وغير مناسب مع بيئة أخرى، أعني من حيث فرص البقاء أو الفناء. ضرب أحدهم مثلاً بأنه إذا كانت هنالك أرانب برية في الاسكيمو وكان بعضها أبيض اللون وبعضها بنياً، وكان هنالك مصطادون للأرانب، فإنه سيكون من السهل عليهم رؤية الأرانب البنية، وعليه فإن عددها سيقل وربما انقرض إذا استمر الصيد.
إن إنساناً مؤمناً قد يوافق دارون على كل هذا، ويرى فيه تفسيراً طبيعياً لظاهرة بقاء بعض الحيوانات وانقراض بعضها، بل ولتطورها، ولا يرى فيه ما يتناقض مع إيمانه بالخالق، بل يقول: إنه كما أن الله ـ تعالى ـ جعل النار وسيلة للإحراق، والماء وسيلة للإنبات، فقد جعل هذه أسباباً لتطور الحيوانات.(/2)
7 ـ حتى القول بأن للحيوان كله أصلاً واحداً نما عنه وتكاثر، ليس فيه ـ سواء كان حقاً أو باطلاً ـ ما يتناقض مع وجود الخالق وفاعليته.
8 ـ إن فكرة التطور التي رأى فيها بعض أهل الأديان غير الإسلامية ما يتناقض مع تصورهم للخلق، لا تتناقض مع التصور الإسلامي له. وذلك لأن الخلق عندنا ليس أمراً يحدث مرة واحدة كما صورته تلك المعتقدات. إن الخلق في التصور الإسلامي أمر مستمر، فما من حادث يحدث في الكون إلا بمشيئة الله ـ تعالى ـ وقدرته. فالله ـ تعالى ـ خالق كل شيء. فكل مرحلة من مراحل تطور الجنين في بطن أمه مثلاً هي من خلق الله تعالى.
9 ـ الذي يتناقض مع الإسلام في الداروينية هو القول بأن البشر تطوروا عن حيوانات قبلهم. إن الله ـ تعالى ـ قادر على أن يفعل هذا، لكنه أخبرنا بأنه كرم الإنسان فخلقه خلقاً خاصاً، ولم يجعله متطوراً عن حيوان قبله. وقد اعترف بعض من يسمون بالداروينيين الجدد بأن هنالك خطاً فاصلاً بين الإنسان وما سبقه من حيوان، وأن هنالك خصائص إنسانية لا يمكن ردها إلى أصول حيوانية سابقة للإنسان.
لكن القول بخصوصية الإنسان لا يعني أنه مختلف في كل شيء عن سائر الحيوان، ولا يعني اتفاقه معها في بعض الخصائص أنه تطور عنها. بل إن الذي خلقه هو خالق الحيوانات قبله، وهو الذي جعل بينها وبينه شبهاً. ألا ترى أن صانع السيارات ـ ولله المثل الأعلى ـ يمكن أن يصنع سيارة تمتاز عما سبقها من سيارات، لكنها تشابهها في بعض صفاتها؟
دلالة التصميم على وجود الخالق:
الأدلة على أن للكون خالقاً كثيرة؛ لكن من أشهرها ما يسمى بالدليل الكوني ودليل العناية. أما الدليل الكوني ففحواه أن الشيء الحادث لا يمكن أن يخلق نفسه ولا أن يأتي من العدم، بل لا بد أن يكون له صانع من غير نفسه، وأن هذا الصانع لا بد أن يكون غير حادث. المنكرون لوجود الخالق لا يستطيعون أن يفسروا وجود الكائنات الحادثة إلا بأن يقعوا في أحد الخيارين المستحيلين: إما أن يقولوا إن الشيء خلق نفسه، أو يقولوا إنه جاء من العدم.
أما دليل العناية الذي اعتمد عليه صاحب كتاب (الصندوق الأسود) فدليل قديم ومعروف، فحواه أن في الكون تصميماً يدل على أنه لا يمكن أن يكون خبط عشواء وإنما هو تقدير خالق حكيم. هذا التصميم أمر يدركه كل متفكر في الكون وليس قاصراً على الأمثلة التي استدل بها صاحب الكتاب. إن هنالك شمساً، وهنالك بحراً، وهنالك سحاباً، وهنالك أرضاً، وهنالك بشراً، وهنالك حيوانات يقول لك الدليل الكوني إنه لا بد أن يكون لها خالق أزلي، ويقول لك دليل العناية إن هذه المخلوقات منسقة بحيث تؤدي إلى غايات لا يمكن أن تكون قد جاءت بالمصادفة. فالشمس تسطع على البحر فيرتفع منه بخار يتحول إلى ماء تسوقه رياح ينزل على أرض خصيبة تنبت نباتاً يأكله بشر وتأكله حيوانات يكون بعضها غذاء لبعض. المنكرون لوجود الخالق من أمثال بعض الدارونيين يعترفون بهذا لكنهم يصرون على انه جاء مصادفة ولم يأت عن تدبير. ويغلو بعضهم في هذا إلى درجة سخيفة. من ذلك أن عالم دين نصراني اسمه (بالي) كان قد كتب كتاباً نقد فيه فكرة المصادفة وقال: إن وجود هذا التصميم في الكون بالمصادفة كساعة يصنعها صانع أعمى. فكتب رجل من أكبر دعاة الإلحاد الدارويني في أيامنا كتاباً أسماه (صانع الساعات الأعمى) يدافع فيه عن فكرة المصادفة ويزعم فيه أنه وإن كان الكون مصمماً كالساعة فإن تصميمه جاء بالمصادفة فهو كساعة صنعها صانع أعمى!
كتاب الله ـ تعالى ـ مليء بتوجيه الأنظار إلى هذا التصميم الذي يشهد لصانعه بالحكمة والإرادة بل والرحمة بعباده. في مثل هذا التذكير لا يلفت القرآن الكريم الأنظار إلى عجيب صنعه في المخلوق الواحد، وإنما يدعو إلى النظر في العلاقة بين عدة مخلوقات، وكيف أنها علاقة تؤدي إلى نتائج معينة هي في مصلحة الإنسان. من ذلك قوله ـ تعالى ـ: {إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ الَّليْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا
- -- -- -
(1) ترجمة لعبارة intelligent design وهي ترجمة غير صحيحة؛ لأن كلمة ذكي العربية لا يوصف بها الله تعالى، لكنه يوصف بكلمة intelligent في اللغة الانجليزية؛ لأن الكلمة لا تعني الذكاء فقط ،بل تعني المقدرة على العلم. لذلك أرى أن تترجم بعبارة تصميم خبير أو حكيم.
(2) Michael J. Behe, Darwin's Black Box: The Biological Challenge to Evolution, The Free Press, 1996
(3) استعمل هو كلمةintelligent وهي كلمة لها معان منها ذكي، ولكننا لا نصف الله تعالى بهذه الصفة وإنما نصف بها البشر وأما الله تعالى فيوصف بالحكمة. لذلك أرى أن الترجمة العربية المناسبة للعبارة هي التقدير المحكم، أو تقدير حكيم.
(4) ص 39.(/3)
ختان الإناث رؤية طبية
د. ست البنات خالد*
قال الله تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون). قال القرطبي في تأويل هذه الآية: "(ولتكن منكم) أيها المؤمنون (أمة)، يقول جماعة (يدعون) الناس (إلى الخير) يعني الإسلام وشرائعه التي شرعها الله لعباده، (ويأمرون بالمعروف) يقول: يأمرون الناس باتباع محمد صلى الله عليه وسلم، ودينه الذي جاء به من عند الله، (وينهون عن المنكر) يعني وينهون عن الكفر بالله، والتكذيب بمحمد وبما جاء به من عند الله بجهادهم بالأيدي والجوارح حتى ينقادوا لكم بالطاعة، وقوله (وأولئك هم المفلحون) يعني المنجّون عند الله، والباقون في جناته ونعيمه".
مقدمة:
لابد قبل الدخول في مناقشة هذا الموضوع أن نفرق بصورة واضحة بين الختان الفرعوني أو غير الشرعي، والختان الشرعي الذي نحن بصدد تأصيله. جميعنا يعرف وبصورة واضحة المضاعفات الصحية والمشاكل الاجتماعية والنفسية الناجمة عن الختان الفرعوني بكل درجاته المتفاوته، والذي لا أساس له في الشريعة الإسلامية وليس له أي إيجابيات صحية تذكر، والذي يجب أن تتضافر الجهود لوقف ممارسته بكل درجاته وفي كل مراحل حياة الاناث، حيث يوجد الآن تغير في السن التي يجري فيها الختان غير الشرعي من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الشباب. وأن نعتبر أن الختان الشرعي هو من أحد الطرق التي تساعد على التخلص من عادة الختان غير الشرعي.
تمهيد:
هذا الموضوع من المواضيع التي تمس الحياء وبالرغم من اشتغالي في هذا المجال مدة 22 عاماً إلا أنني أقدم اعتذاري، وعزائي قول أمنا السيدة عائشة رضي الله عنها: "نعم النساء نساء الأنصار؛ لم يمنعهن الحياء من أن يتفقهن في الدين"، وقول الله تعالى: (والله لا يستحي من الحق).كما أنني أحمد الله كثيراً أن هداني إلى أن أسعى في البحث الفقهي الجاد في كثير من المسائل التي واجهتني أثناء ممارسة تخصص النساء والتوليد، منها ختان الإناث، والدماء الطبيعية عند الإناث (الحيض والنفاس والاستحاضة)، والإجهاض، وموانع الحمل.. إلخ.
القارئ الكريم،هنالك في العالم من ينادي بأعلى صوته داعياً للتخلي عن ختان الذكور، بنفس الأسلوب الذي ينادي به للتخلي عن ختان الإناث المطلق، فأين نحن من هؤلاء؟ إنها خطوات الشيطان... إذا تنازلنا اليوم عن ختان الإناث فسنتنازل غداً عن ختان الذكور تماشياً مع العولمة والاتباع الأعمى للغرب.
ختان الإناث الشرعي ما هو؟
ختان الإناث الشرعي هو قطع أدنى جزء من جلدة في أعلى الفرج. وهي ما يعرف بالقلفة عند الأنثى، وقد كان موجوداً في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وقبله.. وهو من بقايا الحنيفية السمحة، ويدل على ذلك ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الكلمات التامات التي وردت في قوله سبحانه وتعالى: (وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن..) فذكر منها الختان.. [تفسير القرطبي].
والأصل في مشروعية الختان ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الفطرة خمس: الاختتان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط).
واختلف أهل العلم رحمهم الله في الختان بين الوجوب والسنية على ثلاثة أقوال:
القول الأول: الختان واجب على الذكر والأنثى (الشافعية).
القول الثاني: الختان سنة للذكر والأنثى (الحنابلة).
القول الثالث: الختان واجب على الذكر ومكرمة للأنثى (المالكية).
والراجح كما ذكر د. محمد مختار الشنقيطي في كتابه أحكام الجراحة الطبية هو المساواة بين الذكر والأنثى في الحكم الشرعي للختان لأن الادلة على مشروعيته مشتركة لحديث: ((خمس من الفطرة..))، وحديث: ((إذا التقى الختانان..)). وقد جاء في كتاب (العادات التي تؤثر على صحة النساء والأطفال) الذي صدر عن منظمة الصحة العالمية في عام 1979م ما يأتي: "إن الخفاض الأصلي للإناث هو استئصال لقلفة البظر وشبيه بختان الذكور ويعرف بالسنة.. وهذا النوع لم تذكر له إي آثار ضارة علي الصحة".
كما أنه في بعض الإحيان يمارس في الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الأخرى لمعالجة عدم حدوث هزة الارتواء الجنسي عند المرأة و في حالة زيادة حجم قلفة البظر أو ضيقها أو وجود التصاقات.
و ذكر د. حامد رشوان أن خفاض السنة يعني قطع الجلدة أو القلفة التي تغطي البظر.
جراحة الختان:
جراحة الختان من العمليات الجراحية القديمة والتي لا تزال تُجرى إلى الآن، وتعد من فروع العمليات الصغرى، وكانت تجرى في كل أنحاء العالم على درجات متفاوتة ولأسباب مختلفة في كل مراحل عمر الأنثى.(/1)
وهي بالنسبة لنا في عالمنا الإسلامي تعتبر قبل كل شيء امتثالاً للشرع لما فيها من إصابة الفطرة والاهتداء بالسنة التي حضت على فعلها دون فرق بين الرجال والنساء، وكلنا يعرف أبعاد شرعنا الحنيف وأن كل ما شرع لنا لا بد أن يكون فيه الخير من جميع النواحي ومن بينها الناحية الصحية، وإن لم تظهر فائدته في الحال فسوف تعرف في الأيام القادمة كما حدث بالنسبة لختان الذكور وعرف العالم بأجمعه فوائده وصار شائعاً في جميع الأمم بالرغم من معارضة بعض الطوائف له.
الأسباب الطبية لجراحة الختان:
لجراحة الختان أسباب أهمها:
أسباب عضوية:
ـ حجم القلفة وزيادة طولها.
ـ وجود التهابات بينها وبين البظر مما يؤدي إلى شدة حساسية البظر والألم عند لمسه.
ـ تراكم اللخن مما يزيد من تكاثر البكتريا والتهابات الجهاز البولي الصاعد.
ـ الالتصاقات التي تحدث نتيجة لهذه الالتهابات، والتي تؤدي إلى قفل المجرى البولي والتناسلي خاصة في الأطفال قبل سن البلوغ وفي مرحلة الكبر في سن اليأس (نسبة لقلة هرمون الإستروجين).
أسباب جنسية:
ـ قلة الإرتواء الجنسي نسبة لضيق القلفة للالتصاقات أو كبر حجمها، وبعد البظر إلى داخل الجسم.
ـ شدة الشبق الجنسي نتيجة للالتصاقات والحكة وكثرة الانشغال بالمنطقة وملامستها.
أسباب نفسية:
البرود الجنسي، الهستريا، التبول اللاإرادي، بعض حالات الاكتئاب النفسي، حالة اللمفومينيا.
التكوين الجنيني للجهاز التناسلي:
إذا رجعنا إلى تكوين الجنين داخل رحم الأم نجد أنه في الفترة قبل 8 أسابيع يكون مصدر تكون الأعضاء التناسلية واحد في الذكر والأنثى ثم يكون متطابقاً تماماً من 8-10 أسابيع، وبعدها يبدأ تحور جهاز الذكر تحت تأثير بعض هرمونات الحمل وهرمون الذكور، وتستمر الأنثى على نفس الشكل الأولي. وبعد الأسبوع 12 يمكن التمييز الكامل للذكر والأنثى، ولكن هناك تطابق واضح بين الجنسين في الجهاز التناسلي الخارجي، حيث يكون كيس الصفن والجلد الذي يغطي جسم القضيب مقابل للشفرين الكبيرين، والجزء الأمامي من المجرى البولي التناسلي للذكر هو الشفرين الصغيرين والقضيب وقلفته هو البظر وقلفته. ومجرى البول في الإناث هو ما يقابل الجزء من مجرى البول الذي يمر بغدة البروستاتا، وبالتالي ما يعرف بـ(الإسكيني تيوبيولز) التي تفتح في المجرى البولي للأنثى وتقابل غدة البروستاتا في الذكر، بينما تقابل غدة بارسولين في الأنثى الموجودة داخل الشفرين الخارجيين غدة كوبرز في الذكر والتي تفتح في القناة البولية التناسلية.
أما النطف التي تنتج من الخصيتين والمبيضين فإن أصلها الجنيني يجيء من منطقة الحدبة التناسلية التي تقع ما بين العمود الفقري والأضلاع في منطقة صدر الجنين (الصلب والترائب) ثم تنزل إلى أسفل البطن وأكياس الصفن.
طريقة الختان الشرعي الصحيح للأنثى:
يتم الختان الشرعي عبر خطوات هي :
ـ تهيئة الطفل من الناحية النفسية بالشرح البسيط وقراءة بعض الأدعية القرآنية.
ـ يتم تعقيم سطح الجلد وتحت القلفة بالمحاليل المعقمة المعروفة مثل (الإيثانول)، وتشد القلفة إلى الخلف ومن الجوانب حتى تنفصل أي التصاقات موجودة .
ـ يحقن بواسطة حقنة صغيرة (Hypodermic needle) ما يعادل ا مل من البنج الموضعي (Lidocaine 2% and Epinephrine 1:100.00) في آخر 1-2 سم في قمة الجزء الهرمي من القلفة وذلك بتثبيت الجزء الأعلى على جسم البظر بإبهام اليد اليسرى لتسهيل الحقن في لجلد القلفة والانتظار لمدة دقيقتين.
ـ عند التأكد من تخدير المنطقة نقوم بسحب القلفة إلى أعلى لإبعادها عن البظر بواسطة ملقاط تشريح، ثم يقبض الجزء المراد قطعه (القلفة) بواسطة جفت ضاغط بحيث يكون الجزء المراد إزالته فوق الجفت الضاغط لفترة 5-10 دقائق حتى نطمئن لعدم حدوث نزيف ثم يزال الجفت. وتوضع قطعة نظيفة من شاش الفازلين مع القطن تثبت فقط بواسطة الملابس الداخلية للطفلة. يمكن إزالة الشاش أو القطن بعد 4 ساعات ومتابعة نظافة الجرح في الأيام التالية بواسطة الماء والصابون أو الماء والملح.
ـ في حالة حدوث نزيف من الجرح يضغط مرة أخرى بالجفت الضاغط أو توضع غرزة الكاتقط الناعم مكان النزيف، بشرط عدم ملاقاة طرفي الجرح مرة أخرى بأي حال. لا يحتاج الجرح لأي غيار أو مضادات حيوية من ناحية روتينية. في حالة ظهور التهابات يمكن معالجتها بواسطة المضادات الحيوية المعروفة.
الخطأ الشائع المتعلق بختان السنة:
هناك خطأ شائع في اعتبار عملية إزالة جزء من البظر مع خياطة الجرح ختان سنة، هذا النوع من الختان غير شرعي وليس من السنة.
موانع ختان الإناث ومضاعفاته:
إن ختان الإناث الذي شرعه الاسلام عملية جراحية بسيطة ومأمونة إذا أجريت من قبل طبيب أو قابلة خبيرة ومدربة وكانت الأدوات معقمة. ومضاعفاته نادرة جداً ولا تتعدى مضاعفات العمليات البسيطة الأخرى كحدوث نزيف بسيط أو التهابات خفيفة. ولا بد من الكشف الطبي على الطفل قبل القيام بإجراء الختان.(/2)
موانع الختان:
إن أهم موانع ختان الإناث تتطابق مع تلك التي تخص الذكور. وهي عدم وجود القلفة عند بعض الإناث والتشوهات الخلقية للجهاز التناسلي ووجود بعض أمراض نزف الدم، أو أن يكون الطفل مريضاً وغير مستقر صحياً، ومن أهم موانع الختان عدم وجود الكادر المؤهل للقيام بهذه العملية، وفي هذه الحالة ينصح بتأجيل الختان إلى وقت لاحق توجد فيه الكوادر المؤهلة.
فوائد ختان الإناث:
يقول الاستاذ محمد محمد اللبان: "في ختان الإناث تكون تلك الزائدة التي تمنع وصول المياة إلى الداخل فيصعب نقاء دماء الحيض والبول مما يؤدي إلى روائح كريهة".
كما قدم الدكتور البار إلى المجمع الفقهي برابطة العالم الاسلامي بمكة المكرمة بحثاً جاء فيه: "إن ختان الإنثى أو خفضها الذي ورد في السنة له محاسن كثيرة ذكرها الباحثون في المؤتمر الطبي الإسلامي ـ عن الشريعة والقضايا الطبية المعاصرة ـ هذه الفوائد يمكن أن تلخص في:
ـ ذهاب الغلمة والشبق (وتعني شدة الشهوة والانشغال بها والإفراط فيها)، وذهابهما يعني تعديل الشهوة عند المختونين من الرجال والنساء.
ـ منع الروائح الكريهة الناتجة عن تراكم اللخن تحت القلفة.
ـ انخفاض معدل التهابات المجاري البولية.
ـ انخفاض معدل التهابات المجاري التناسلية.
بهذا يمكن أن نقول أن فوائد الختان الشرعي هي:
[1] تثبيت شرع الله وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
[2] الطهارة.
[3] النظافة التي تؤدي إلى انخفاض في معدل الالتهابات البولية والتناسلية.
[4] تحسين الخلق حتى يكون الخلق على الفطرة الحنيفية.
[5] تعديل الشهوة.
[6] تثبيت البديل المناسب لمحاربة العادة غير الشرعية والضارة.
[7] إعلاء شعيرة العبادة لا العادة.
[8] مراعاة النواحي الاجتماعية والنفسية الناتجة عن التخلي المطلق عن الختان.
العمر المناسب للختان:
يمكن إجراء الختان الشرعي في العمر ما بين 6-10 سنوات في عدم وجود موانع، كما يمكن تأجيله إلى أي سن.
الأسباب التي ساعدت على عدم انخفاض معدل الختان الفرعوني:
[1] الجهل التام بوجود البديل المناسب عند الأطباء.
[2] اتباع التقاليد والعادات بصورة عمياء ومحاولة إرضاء الرجال بأي وسيلة.
[3] الضعف الشديد في الثقافة الصحية والجنسية عند الجنسين.
[4] القيام بالختان الفرعوني في فترة الشباب بدل الطفولة لتضييق الفتحة التناسلية قبل الزواج.
[5] إصرار الطرفين على عملية العدل لتضييق الفتحة التناسلية مما يحتم وجود الختان الفرعوني.
المعالجة:
لتدارك مخاطر الختان غير الشرعي يجب العمل على ما يلي:
[1] تثبيت الختان الشرعي وتوضيح فوائده الدينية والصحية والاجتماعية.
[2] تدريب الكوادر الطبية (طبيبات، قابلات، سسترات، وزائرات صحيات) على الطريقة الصحيحة للختان.
[3] نشر الوعي الثقافي الصحي والجنسي المناسب في المجتمع بالطريقة الشرعية المناسبة.
[4] نشر فوائد الختان الشرعي في السودان خاصة والعالم الإسلامي عامة.
[5] توضيح أهمية تمارين عضلات الحوض في شد هذه المنطقة بالعمليات المخصصة لمنطقة العجان بواسطة الطبيب المختص.
الخلاصة:
في الختام نؤكد وجوب التركيز على:
[1] الإقبال على إدخال منهج فقه الطبيب في مناهج كليات الطب وكليات الكوادر الطبية الأخرى.
[2] العمل على تدريب الكوادر الطبية على الطريقة الشرعية، وتثبيت فوائده الدينية والصحية والاجتماعية للمجتمع السوداني خاصة والعالم كافة.
[3] النهي عن الطريقة غير الشرعية للختان، وإظهار ضررها، وبيان حرمتها لكافة قطاعات المجتمع السوداني وللعالم كافة.
[4] تأجيل عملية الختان الشرعي في حالة عدم وجود الكادر المؤهل.
[5] إجراء الكشف الطبي قبل الختان.
[6] الرجوع لقانون 25 المعدل لسنة 73 المعدل لسنة 91 وتثبيته وعدم إلغائه لأنه يجرم عملية إجراء الختان غير الشرعي ويستثني الختان الشرعي.
المراجع:
ـ القرآن الكريم.
ـ الجامع لأحكام القرآن للقرطبي.
ـ فتح الباري شرح صحيح البخاري، للإمام ابن حجر، دار المعرفة الرياض.
ـ صحيح مسلم، دار الفكر، المجلد الحادي والعشرون.
ـ مجموع فتاوى الإمام ابن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد.
ـ الختان: رأي العلم والدين في ختان البنات، أبوبكر عبد الرازق، ص78، دار الاعتصام للطبع والنشر والتوزيع، القاهرة.
ـ تحفة المودود بأحكام المولود، لابن القيم، ص 113-114.
ـ أحكام الجراحة الطبية والآثار المترتبة عليها، الدكتور محمد بن محمد المختار الشنقيطي، قسم الفقة بالجامعة الاسلامية بالمدينة المنورة، مكتبة الصحابة الإمارات الشارقة.
أسباب محاربة الخفاض في السودان، د. عبد السلام ود. آمنة وآخرون.
Traditional Practices affecting the health of Women & Children, WHO, 1987
ـ ختان الأنثى في الطب والإسلام بين الإفراط والتفريط، د. آمال أحمد البشير، توزيع مكتبة الجامع الكبير، الخرطوم
ـ أسرار الختان، حسن شمس باشا، ص 40.(/3)
ـ سنن الفطرة، الأمين الحاج محمد أحمد، دار المطبوعات الحديثة، جدة.
* اختصاصي امراض النساء والتوليد(/4)
ختان الإناث
السؤال :
هل يجب ختان الإناث ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
الأصل في الخطاب بالأحكام التكليفية أنَّه يشمل الذكر و الأنثى ، و لا يجوز تخصيصه أو تقييده أو الاستثناء منه إلا بدليل .
و من الأحكام الشرعية التي جاءت مطلقةً غير مقيَّدة مسألة الختان ، و هي مسألة دقيقة ليس في نصوص الشريعة أمرٌ بها بصيغة قاطعة الدلالة على الوجوب ، و لكنَّها مذكورة في خصال الفطرة التي أرشدت الشريعة إلى اعتبارها .
فقد روى مسلم و غيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ( الفطرة خمسٌ – أو قال : خمسٌ من الفطرة - الختان ، و الاستحداد ، و تقليم الأظفار ، و نتف الإِبِط ، و قصُّ الشارب ) .
و ما جاء من ذكرٍ للختان في خصال الفطرة استدلَّ به العلماء على ما ذهبوا إليه في حكم الختان للذكر و الأنثى ، و لهم في ذلك ثلاثة أقوال مشهورة ، فيما يلي بيانها :
القول الأوَّل : و هو إيجاب ختان الذكر و الأنثى على حدٍّ سواء ، و إليه ذهب الشافعية و الحنابلة ، و هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية [ في مجموع الفتاوى : 21 / 114 ] ، و تلميذه ابن قيم الجوزية ، و القاضي أبو بكر بن العربي من المالكية رحمهم الله جميعاً .
قال الإمام النووي رحمه الله [ في المجموع : 1 / 367 ، 368 ] : ( الختان واجب على الرجال و النساء عندنا ، و به قال كثيرون من السلف ، كذا حكاه الخطَّابيُّ ، و ممن أوجبه أحمد ... و المذهب الصحيح المشهور الذي نص عليه الشافعي رحمه الله و قطع به الجمهور أنه واجب على الرجال و النساء ) .
و قال البهوتي الحنبلي [ في كشاف القناع : 1 / 80 ] : ( و يجب ختان ذكرٍ ، و أنثى ) .
و قال الحافظ ابن حجر [ في الفتح : 10 / 340 ] : ( و أغرب القاضي أبو بكر بن العربي فقال عندي أن الخصال الخمس المذكورة في هذا الحديث كلها واجبة فإن المرء لو تركها لم تبق صورته على صورة الآدميين فكيف من جملة المسلمين كذا قال في شرح الموطأ ) .
القول الثاني : و هو أنَّ الختان سنَّةٌ في حقِّ الذكر و الأنثى على حدٍّ سواء ، و هو مذهب الحسن البصري ، و إليه ذهب الحنفية ، و مالك ، و هو رواية عن أحمد .
قال ابن جزي [ في القوانين الفقهية : 1 / 129 ] : ( أما ختان الرجل فسنة مؤكدة عند مالك و أبي حنيفة كسائر خصال الفطرة التي ذكر أنها واجبة اتفاقاً ) .
و قال الإمام النووي رحمه الله [ في المجموع : 1 / 367 ] بعد أن قرر وجوب الختان على الجنسين في مذهب الشافعية ، و عزا القول به للإمام أحمد رحمه الله ، و جمهور السلف : ( ... قال مالك و أبو حنيفة : سنة في حق الجميع ، و حكاه الرافعي وجهاً لنا – أي للشافعية - و حكى وجهاً ثالثاً : أنه يجب على الرجل و سنة على المرأة ) .
و قال صاحب الدر المختار [ 6 / 751 ] رحمه الله : ( الأصل أن الختان سنة كما جاء في الخبر ، و هو من شعائر الإسلام و خصائصه ؛ فلو اجتمع أهل بلدة على تركه حاربهم الإمام ، فلا يترك إلا لعذر ... و ختان المرأة ليس سنة بل مكرمة للرجال و قيل سنة ) .
و قوله مكرمة للرجال ؛ أي مما يفعل لأجل من يحل له الإفضاء إلى المرأة منهم ، إذن إن المرأة تكرم بعلها بالتزين و التهيؤ له بما يحب ، و من ذلك الخفاض .
و قال ابن عابدين الحنفي رحمه الله [ في حاشيته : 6 / 751 ] : ( و في كتاب الطهارة من السراج الوهاج : اعلم أن الختان سنة عندنا – أي عند الحنفية - للرجال و النساء ) .
القول الثالث : و هو أنَّ الختان واجب متعيِّنٌ على الذكور ، مكرمةٌ مُستحبَّةٌ للنساء ، و هو قول ثالث للإمام أحمد ، و إليه ذهب بعض المالكيَّة كسحنون ، و اختاره الموفق ابن قدامة في المغني .
قال ابن عبد البر المالكي رحمه الله [ في التمهيد : 21 / 60 ] : ( أجمع العلماء على أن إبراهيم عليه السلام أول من اختتن و قال أكثرهم : الختان من مؤكدات سنن المرسلين ، و من فطرة الإسلام التي لا يسع تركها في الرجال ، و قالت طائفة : ذلك فرض واجب ... قال أبو عمر : ذهب إلى هذا بعض أصحابنا المالكيين إلا أنه عندهم في الرجال ... و الذي أجمع المسلمون عليه الختان في الرجال على ما و صفنا ) .
و قال ابن قدامة المقدسي رحمه الله [ في المغني : 1 / 63 ] : ( فأما الختان فواجب على الرجال و مكرمة في حق النساء ، و ليس بواجب عليهن ، هذا قول كثير من أهل العلم ) .
و تتميماً للفائدة أرى من المناسب – و لو أطلت على الأخ السائل قليلاً – لأهمية هذا الموضوع و تكرار طرقه في هذه الأيام أن أسرد على سبيل الإيجاز أدلة أصحاب كل قول مما تقدم ذكره فأقول مستعيناً بمولاي تعالى :
أدلَّة القائلين بوجوب ختان الجنسين :
أوَّلاً : قوله صلى الله عليه و سلم لرجل أسلم : ( ألق عنك شعر الكفر و اختتن ) ، رواه أبو داود و أحمد و إسناده ضعيف .(/1)
ثانياً : روى الحاكم [ في مستدركه : 2 / 266 ] بإسناد قال عنه : على شرط الشيخين و لم يخرجاه ، و أقرَّه الذهبي ، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عزّ و جل : ( وَ إِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ) [ البقرة : 124 ] ، قال : ( ابتلاه الله بالطهارة ؛ خمسٍ في الرأس ، و خمسٍ في الجَسَد . في الرأس : قص الشارب ، و المضمضة ، و الاستنشاق ، و السواك ، و فرق الرأس . و في الجسد : تقليم الأظافر ، و حلق العانة ، و الختان ، و نتف الإبط ، و غسل مكان الغائط ، و البول بالماء ) .
ثالثاً : حديث اختتن إبراهيم بعد ما أتت عليه ثمانون سنة . متفق عليه .
و وجه الدلالة في أثر ابن عباس رضي الله عنهما ، و حديث ختان إبراهيم الخليل عليه السلام مترتب على وجوب اتِّباع سنَّة خليل الرحمن ، لقوله تعالى : ( ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَ مَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ ) [ النحل : 123 ] ، و لا شك أن هذا الأمر يتعدى النبي صلى الله عليه و سلَّم إلى أمَّته ، إذ لا قرينة على تخصيصه به .
رابعاً : قول النبي صلى الله عليه و سلم : ( إذا جلس بين شعبها الأربع – أي أطرافها – و مسَّ الختان الختان فقد وجب الغُسْلُ ) رواه الشيخان و غيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه ، و روى مالك في الموطأ نحوه بإسنادٍ صحيح عن عائشة رضي الله عنها .
و وجه دلالة هذا الحديث على المراد هو ذكر الختانين ؛ أي ختان الزوج و ختان الزوجة ؛ فدل بذلك على أن المرأة تختن كما يختن الرجل .
قلت : و لا يمنع من الاستدلال بهذا الحديث كون التقاء الختانين ليس شرطاً لتمام الجماع ، بل قد لا يقع أصلاً ، لأن المقصود هو مجاوزة ختان الرجل ختان المرأة أو محاذاته في موضع الحرث – كما هو مبسوط في أبواب الطهارة من كتب الفقه - لأن الاستدلال قائم بمجرد ذكر ختان المرأة في مقابل ختان الرجل فلزم منه أن يكونا في الحكم سواء .
قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم : ( قال العلماء : معناه غيبت ذكرك في فرجها ، و ليس المراد حقيقة المس ، و ذلك أن ختان المرأة أعلى الفرج ، و لا يمسه الذكر في الجماع ، و المراد بالمماسة : المحاذاة ) .
خامساً : تشديد السلف الصالح رضوان الله عليهم في الختان ، و ما كان لهم أن يفتئتوا على الشريعة ، أو يقولوا على الله بغير علم ، فلو لم يكن واجباً لما كان ثمة معنى لما روى الإمام أحمد من تشديد ابن عباس في أمر الختان أنه لا حج لمن لم يختتن و لا صلاة [ انظر : المغني ، لابن قدامة : 1 / 63 ] ، و نحوه ما رواه البيهقي [ في السنن الكبرى : 8 / 325 ] عنه رضي الله عنه ، أنه قال : ( لا تقبل صلاة رجل لم يختتن ) ، قال البيهقي : و هذا يدل على أنه كان يوجبه ، و أن قوله : ( الختان سنة ) أراد به سنة النبي صلى الله عليه و سلم الموجَبَة ) .
و قال الإمام مالك رحمه الله : ( من لم يختتن لم تجز إمامته ، و لم تقبل شهادته ) [ ذكره الشوكاني ، في نيل الأوطار : 1 / 139 ] .
و قال عطاء [ كما في فتح الباري 10 / 340 عنه ] : ( لو أسلم الكبير لم يتم إسلامه حتى يختن ) .
قالوا : فلو لم يكن الختان واجباً ، لما كان لهذا التشديد على من تركه وجه ، و إذا ثبت وجوبه فلا بد من دليل لصرف الوجوب إلى الذكر دون الأنثى ، و ليس ثمة دليل على ذلك .
أما من قال بسنِّية الختان في حقِّ الجنسين و لم يوجبه على أحدهما فلم ير في النصوص التي استدل بها موجبوه أمراً صريحاً يوجب الختان على ذكرٍ أو أنثى ، و ردوا على المخالف بمثل قولهم :
أولاً : لا يصح الاستدلال على وجوب الختان بكونه من خصال الفطرة ، لأن في خصالها ما لا يجب على عموم المسلمين ، و فيها ما يفرق فيه بين الذكر و الأنثى كقص الشارب ، و هذا صارف عن القول بوجوب الختان .
ثانياً : لو كان الختان واجباً لما تساهل فيه من تساهل ، و لوجب إلزام حديث العهد بالإسلام به ، من غير تخيير ، مع أن الحديث الوارد في ذلك ضعيف مرسل ، و هذا ما لم يقع ، و لا يستقيم وقوعه .
قال الموفق ابن قدامة [ في المغني : 1 / 63 ] : ( و الحسن يرخص فيه - أي في ترك الختان - يقول : إذا أسلم لا يبالي أن لا يختتن ، و يقول : أسلم الناس الأسودُ و الأبيضُ ؛ لم يُفَتَّش أحدٌ منهم ، و لم يَخْتَتِنوا ) .
و قال ابن المنذر [ كما نقل عنه الشوكاني ، في نيل الأوطار : 1 / 138 ] : ( لَيْسَ فِي الْخِتَانِ خَبَرٌ يُرْجَعُ إلَيْهِ ، وَ لا سَنَدٌ يُتَّبَعُ ) و نقل عنه نحو ذلك الحافظ في الفتح .
فهذا التساهل في أمر الختان لو كان واجباً لما كان متصوراً من أئمة أعلام أن يتساهلوا في أمره على هذا النحو .
قلتُ : و لما كان بعيداً عن ابن المنذر رحمه الله أن تفوته أخبار الختان مع أن منها ما رواه الشيخان و غيرهما ، و اشتهر عند الفقهاء و سائر العلماء ، تعيَّن أن يُحمَل كلامه هذا على أخبار ختان الإناث ، و الله أعلم .(/2)
و عليه فإن الأمر لا يعدو أن يكون سنة ، و خصلة من خصال الفطرة يندب المسلم إلى فعلها ذكراً كان أم أنثى ، من غير نكير على من تركه ، إلا أن يكون من باب النهي عن ترك السنن ، أو الاستهانة بها ، أو إنكارها ، أو ردهها ، فالأمر حينئذ أمر بلزوم السنة ، و ليس بالاختتان خاصة .
أما من فرَّق في الحكم بين الذكور و الإناث ، فجعله واجباً على الذكور ، مستحباً للنساء فقد قيَّد كل ما ساقه موجبو الختان على الجنسين بكونه في حق الذكر دون الأنثى ، و استدل على التقييد بأمور منها :
أوَّلاً : أن ختان النساء كان معروفاً قبل الإسلام ، و بلغ ذلك النبي صلى الله عليه و سلم ، فأقرَّه ، و أرشد الخافضة إلى ما ينبغي أن تراعيه في عمَلها ، و هذا يجعله – على أقل تقدير – من قبيل السنَّة التقريرية ، و كفى به دليلاً على الاستحباب .
روى أبو داود في كتاب الأدب من سننه بإسناد فيه محمد بن حسان الكوفي ، و هو ضعيف الحديث ، عن أم عطية الأنصارية رضي الله عنها أن امرأة كانت تختن بالمدينة ، فقال لها النبي صلى الله عليه و سلم : ( لا تنهكي ! فإنه أحظى للمرأة ، و أحب إلى البعل ) .
و للحديث طريق أخرى أوردها الشيخ الألباني رحمه الله في سلسلة الأحاديث الصحيحة[ 921 ] و حكم عليها بالصحة ثمَّ .
و إذ صح هذا الحديث فإن في إقرار النبي صلى الله عليه و سلم للخافضة على فعلها ، و توجيهها إلى ما يصلح لبنات جنسها من صفة الخفاض يدل على استحبابه .
و قد أبعدَ الشقَّةَ من فرَّق في حكم الختان بين الذكر و الأنثى إذ استدل بحدث : ( الختان سنة للرجال مكرمة للنساء ) الذي رواه أحمد و الطبراني ، و في ضعفه ما يسقط الاحتجاج به ، و يكفي مؤونة الرد على مورده في معرض الاستدلال .
الترجيح :
بعد النظر في أقوال أهل العلم الثلاثة المتقدمة ، و أدلة كل قول منها ، يظهر – و الله أعلم – أن نصوص الشريعة تحث على الختان باعتبارات منها كونه من سنن النبيين ، و من خصال الفطرة ، غير أن هذا لا يرقى إلى حد الإيجاب ، إذ إن الإيجاب حكم تكليفي لا بد له من نص صريح يحسم مادة الخلاف ، بل الراجح هو الثابت ، و ليس فيما ثبت ما يدل على أكثر من كون الختان سنة ، و هذا ما يترجح لنا ، و الله أعلم .
أما عن التفريق في الحكم بين الذكر و الأنثى فيفتقر إلى دليل ، إذ إنه من قبيل تقييد المطلق ، و هو حق للشارع الحكيم و حسب .
و عليه فلا أرى وجهاً لمن فرَّق في حكم الختام بين الجنسين ، بل يظل الحكم سنة في حقهما ، و الله أعلم .
قال الإمام الشوكاني رحمه الله : ( و الحق أنه لم يقم دليل صحيح يدل على الوجوب ، و المتيقن السنّة ، و الواجب الوقوف على المتيقن إلى أن يقوم ما يوجب الانتقال عنه ) [ نيل الأوطار للشوكاني : 1 / 139 و ما بعدها ] .
هذا ، و الله أعلم ، و أحكم ، و صلى الله و سلم و بارك على نبيه محمد و آله و صحبه و سلم .(/3)
خدمة الرقم الهاتفي (700)
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ وسائل الإعلام والترفيه/وسائل الإعلام
التاريخ ... 26/7/1424هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، يقدم أحد الأندية هذه الأيام خدمة هاتفية عن طريق الاتصال بالرقم 700 مقابل الحصول على معلومات عن النادي وآخر الأخبار والمستجدات الرياضية، علماً أن هذه الخدمة تخلو نهائياً من المسابقات، وإنما مجرد معرفة أخبار فقط لمن يقوم بالاتصال ، نريد جواباً شافياً عن حكم تقديم هذه الخدمة وحكم الاتصال بها من قِبل الجمهور، بارك الله فيكم ووفقكم لما يحب ويرضى.
الجواب
إذا كانت الخدمة التي تقدم عن طريق الاتصال بالرقم (700) كما ذكرت في سؤالك فلا شيء فيها، فهي من المباحات كما يقدمها هاتفهم العادي، أو رجال النجدة والمرور عن الاستشارة عن نتيجة المباريات، ولكن ينبغي للمتصل أن لا يطيل الكلام عن الحديث حتى لا يتحمل نقوداً أكثر من اللازم؛ فيدخل في الإسراف والتبذير المحرمين قال تعالى: "ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين" [الأنعام:141] وقوله : "إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفوراً" [الإسراء: 27] وحديث رسول الله "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه، وعن علمه فيم فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه" رواه الترمذي (2417) وغيره من حديث أبي برزة الأسلمي – رضي الله عنه - وخلاصة القول إن تعاقدكم مع الشركة التي تقدم خدمة الاتصال بهذا الرقم من حيث المبدأ جائز شرعاً، وإن كان خلاف الأولى؛ لأن هذه الشركة حسبما يظهر لي أنها تقدم لغيركم خدمات أخرى سيئة تفسد الأخلاق، أو تقدم مسابقات فيها الغرر والقمار المحرم، فإن استطعتم ألا تتعاقدوا معها وحالتها هذه فحسن جداً؛ حتى لا تشاركوا في التشجيع على الإثم والعدوان، أما الأمر من حيث صحة العقد كما ذكرتم في سؤالكم فهو صحيح إن شاء الله، وفقنا الله وإياكم إلى كل خير.(/1)
خدمة السجناء للجيش الكافر
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ الجهاد ومعاملة الكفار/مسائل متفرقة في الجهاد ومعاملة الكفار
التاريخ ... 6/11/1424هـ
السؤال
أسألكم عن موضوع يتعلَّق بزوجي، ومسلمين آخرين، وهم المساجين الذين يعملون في صنع الكيابل للجيش، ولا يعرف بماذا يستخدمها الجيش، فهل يجوز مثل هذا العمل؟ إضافة لدفعنا الضريبة نقداً، والتي تذهب للجيش وهو جيش كافر؟.
الجواب
الأصل في معاملة الكافر فرداً كان أو دولة جائز شرعاً ما لم يكن العمل محرماً بعينه، كصنع المحرمات وتسويقها كالخمور، ولحم الخنزير، أما ما لم يحرم بعينه كالصناعات الحربية والمدنية التي يمكن أن توجه لضرب المسلمين، ويمكن ألا توجه لذلك فالعمل فيها حينئذ جائز كصناعة الكيابل للجيش كما في السؤال، وما دام لا يعرف هل سيستخدمها الجيش الكافر ضد المسلمين أو لا فالعمل في هذه الصناعة جائز شرعاً؛ لأن الأصل في الأشياء الحل حتى يرد المانع الشرعي، فمعاملة الكافر في أمور المعاش جائزة شرعاًً، كما تعامل النبي – صلى الله عليه وسلم- في البيوع والإجارة مع اليهود، والمشركين، مع أنه يعلم أنهم يأكلون الربا ويشربون الخمر، ويستحلون لحم الخنزير، ومات – صلى الله عليه وسلم- ودرعه مرهونة عند يهودي، واستعار من صفوان بن أمية – رضي الله عنه- وهو مشرك- درعاً يوم حنين، وكل هذه المعاملات يمكن أن يقال إنها تعد في صالح أعداء الإسلام، وربما تقووا بها على المسلمين، ومع ذلك أبيحت تبعاً للقاعدة الشرعية (الأصل في الأشياء الإباحة) أما دفع الضريبة نقداً فهي ضرورة شرعية والضرورات تبيح المحظورات، وإن استطعت التخلص من هذه الضريبة فلا حرج في ذلك إذا لم يلحقك ضرر بسبب الامتناع عن دفعها فإن لحق ضرر جاز دفعها، وعلى كل حال فالعمل في الجيش الكافر ودفع الضريبة له جائز إن لم تجد عملاً أفضل منه، فإن وجدت عملاً جديدا فخذه ودع هذا، لحديث رسول الله –صلى الله عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" أخرجه أحمد (1723) والترمذي (2518) من حديث الحسن بن علي –رضي الله عنهما- وحديث: "إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه" أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599) من حديث النعمان بن بشير –رضي الله عنه-، وترك الشبهات - كما في السؤال - فعل مستحب وليس بواجب، حيث الفعل ليس من الحلال البين حله، ولا من الحرام البين حرمته. والله أعلم.(/1)
خدمة ضمان المرتب
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ المعاملات/الضمان والكفالة
التاريخ ... 14/01/1426هـ
السؤال
أنا طبيب مقيم في بريطانيا وهناك بعض الشركات تقدم ما يسمى بخدمة ضمان المرتب، وهي كالتالي: يقوم الطبيب أو الموظف بدفع قسط شهري يتناسب مع مرتبه بحيث لو حصل للموظف أي إعاقة أو مرض دائم يمنعه من مواصلة العمل أو فقد عمله فإن هذه الشركة تقوم بدفع مرتبه شهريًّا كما لو كان على رأس العمل. أفتونا في حكم هذه المسألة؟
الجواب
خدمة ضمان المرتب شكل من أشكال التأمين التجاري وهو حرام؛ لوجود الجهالة والضرر وربا الفضل أو النسيئة فيه، وهو نوع من أكل أموال الناس بالباطل مادام على صيغته الحالية في كثير من بلدان العالم اليوم، ولا يمكن أن يقال خدمة ضمان ا لمرتب هذه من التأمين التعاوني الحلال المبني على التبرع ونفع الغير من الناس، وإذا كان الدخول في مثل هذا النوع من التأخير (خدمة ضمان المرتب) اختياريًّا فلا يجوز شرعًا الدخول فيه لما ذكر من العلل السابقة. وإن كان الدخول فيه عن طريقة الإجبار والالتزام فأرجو أن لا يكون على فاعله إثم لدخوله تحت مسمى الإكراه في الحديث: "إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ". أخرجه ابن ماجه (2045). ثم هو من باب الضرورات التي تبيح المحظورات. وإن عوضته الشركة بأكثر مما دفع فلا يجوز له أن يأخذ إلا بقدر ما دفعه فقط؛ لأن أخذ ما زاد على ما دفعه من أكل المال بغير حق وهو حرام قطعًا. وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه. آمين.(/1)
خذ الكتاب بقوة ... ... ...
هجرة المسلمين واستقرارهم في البلاد الغربية حقيقة واقعة مند سنين طويلة , إلا أنها ازدادت زيادة مطردة في العقد الأخير خاصة , وإن كان لهذه الهجرة ما يسوغها شرعا عند بعض الناس, إلا أن الغالبية من هؤلاء المهاجرين لم يستوطنوا في بلاد الغرب لحجج شرعية, وإنما لأهواء وظروف شخصية واجتماعية.
ودراسة الأحوال الفكرية والاجتماعية والأخلاقية والنفسية لهؤلاء المهاجرين ينبغي أن تكون من أولى أولويات عمل المراكز الإسلامية في بلاد الغرب, لتكون هذه الدراسات - بإذن الله - الأساس الذي تنطلق منه البرامج الدعوية والتربوية.
ولعل من أبرز الظواهر الاجتماعية السائدة في كثير من أبناء الجالية الإسلامية ضعف التميز الإسلامي أو انعدامه فكرا وسلوكا, فأثر البيئة الغربية يظهر بجلاء عليهم, وخاصة الأجيال الجديدة التي ولدت ونشأت وتعلمت في الوسط الغربي.
وهذه الظاهرة نتيجة حتمية لا تحتاج إلى استقصاء أو بحث وإثبات . ولكن الأمر الذي يستحق التأمل والنظر هو حال الإسلاميين خصوصا, فكثير منهم لم يسلم من أثر البيئة السلبي, ولعلّي أكتفي هنا بمثل واحد, وهو ضعف التمسك بكثير من الأحكام الشرعية وخاصة في شؤون المرأة ، ولست أعني هنا الإشارة إلى الخلاف المشهور بين الفقهاء في كون الوجه والكفين عورة أو ليسا بعورة , بل الأمر أبعد غورا من هذا, حيث أصبح الحجاب عند بعضهم - مع الأسف الشديد - معنى لا حقيقة ورائه , فهو لون من ألوان التجديد والتمدن, ولم يبق منه إلا منديل رقيق يغطي بعض شعر الرأس, مع لبس البنطال الضيق, والظهور بألوان الزينة والعطور. أما قضايا الاختلاط ومصافحة الأجانب, بل والمشاركة الرياضية, فحدث عنها ولا حرج.
وإن تحدث في ذلك متحدث اتّهم سريعا بالتنطع والتكلف والتشديد, ورمي بالجهل بالواقع الغربي والظروف الاجتماعية التي يعيشها الناس, وأنه ينظر إلى أمريكا وأوربا بمنظر الأعرابي الساذج الذي لا يعقل ولا يبصر ..!! وقد سمعت أحد المفكرين المستنيرين يهزّ يديه أمام جمع من الإسلاميين , ويأمرهم بالرقي الفكري والتجاوب الفاعل مع المعطيات الحضارية المعاصرة , ويحذرهم من الجمود والوقوع في رواسب التخلف والظلامية ..قال كل ذلك لما سمع أحدهم يتلو حديث النبي صلى الله عليه وسلم : « إني لا أصافح النساء » رواه النسائي, ح/4110 !
والعجيب أنك تجد من بعض المنتسبين إلى الفتوى من المفكرين والدعاة من يسوغ هذا التمييع ببعض الأدلة المتكلفة . وأذكر أن أحد الأشياخ المحاضرين في أحد المعتمرات الإسلامية في أمريكا بدأ محاضرته بهجوم صارخ على إدارة المؤتمر التي فصلت الرجال عن النساء , وينعي هذا التخلف الفكري والعقلية البدائية التي لا زالت تسيطر علينا حتى ونحن في أمريكا (!!)
وفي نهاية المحاضرة قام مدير المؤتمر معلقا, وكنا نظنه سوف يدافع عن موقفة, وإذا به يعترف بالخطأ ويعتذر للاخوة والأخوات , ويذكر أن سبب الفصل سبب فني وليس سببا فكريا, ووعد بإصلاح الوضع في اليوم التالي, ثم وفّى بما وعد…!!
إن اندماج المسلمين في البيئة الغربية أدى إلى ذوبان مذهل في الشخصية الإسلامية , وميوعة شديدة في تلقي الأحكام الشرعية , وميل ظاهر إلى البحث عن الرخص بدون فقه ولا بصيرة , ويصدق في وصف كثير منهم قول الله - تعالى - : { ومن النّاس من يعبد اللّه على حرف } [الحج: 11] . والطريف في الأمر أن المسلمين حديثا من الغربيين الأصليين ربما يكون بعضهم أكثر جرأة وصدقا في الالتزام بالأحكام الشرعية والاعتزاز بها وعدم التحرج من إظهارها أمام الملأ..!
أذكر أنني زرت في الولايات المتحدة الأمريكية منطقة تنتشر فيها طائفة من طوائف النصارى البروتستانت تسمى بـ(الآمش) يرون أن من أسباب البلاء الذي تعيشه الإنسانية تلك الحضارة المادية التي سيطرت على الإنسان الغربي , وجرته إلى مستنقع الرذيلة والإنحطاط, ولهذا انعزلوا عن المجتمع وتركوا كل ألوان الحضارة, وامتنعوا عن استخدام كافة المخترعات التقنية الحديثة, وأسسوا مجتمعهم الخاص بما في ذلك مدارسهم التي ترعاها الكنيسة, وراحوا يشتغلون بالزراعة وتربية المواشي بوسائلهم البدائية المتاحة وامتنعوا عن شرب الخمور والزنا..! والعجيب أن نساءهم لا زلن يلبسن اللباس الطويل الساتر, ويضعن منديلا على الرأس, ولا يختلطن بالرجال, وعلى الرغم من ازدراء بعض إخوانهم الأمريكان لهم إلا أنهم فخورون بمبادئهم, ومعتزون بمسلكهم ..!!(/1)
ولست هاهنا في صدد تحليل ظاهرة (الآمش) هذه , ولكنني أشير هنا إلى أن هؤلاء القوم على الرغم من أنهم رأوا أن بلادهم وصلت إلى قمة التقدم المادي المعاصر إلا أنهم انعزلوا عنهم, وراحوا يمارسون معتقداتهم الفكرية والسلوكية بكل اعتزاز. أفلا نقوى - نحن المسلمين الذين نعتقد يقينا بحمد الله تعالى أننا نملك الدين الحق - أن نعتز بديننا, ونتمسك بشرائعنا, ونعض عليها بالواجذ , ونشمخ برؤوسنا أنفة وافتخارا بعقيدتنا وآدابنا السامية ..؟!
إن التكليف بالأحكام الشرعية باب من أبواب الابتلاء الذي يمتحن فيه دين الإنسان , قال الله تعالى : { الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا } [الملك: 2] .
وهذا الدين جد ليس بالهزل , وإن من أسوأ ما نجنيه على أنفسنا أن نتخذ شرائع الإسلام ألعوبة نلهو بها , ونأخذ منها بمقتضى أهوائنا, أو أن نجعل الواقع الفكري أو الاجتماعي المنحرف يضغط علينا, ويملي علينا ما يشاء, وهاهي ذي دلالات القرآن العظيم واضحة بينة لا تردد فيها ولا خفاء, قال الله - تعالى -: { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى اللّه ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } [الأحزاب: 36]. والهزيمة في الهدي الظاهر آية عظيمة على الهزيمة القلبية , ولهذا شدد النبي صلى الله عليه وسلم في التحذير من ذلك, وقال : « من تشبه بقوم فهو منهم » رواه أبو داود في اللباس ، ح/3512
أحمد عبد الرحمن الصويان ... ...
... ...(/2)
خذوا حذركم من الحرب النفسية
بقلم: اللواء الركن محمد جمال الدين محفوظ
المعروف أن إرادة القتال والمقاومة والصمود، وأن الحماسة والإيجابية في العمل وروح الإبداع والابتكار، وأن الهزيمة والاستسلام واليأس والسلبية هي كلها "حالات عقلية" تنشأ في عقل الإنسان تحت ظروف معينة فتولد لديه الدوافع النفسية التي تدفعه إلى السلوك الذي يعبر عن تلك الحالات.
وفي مجال الصراع بين الأمم أو بين الجيوش، فإن كل جانب يحرص على أن ينشئ في خصمه "الحالة العقلية" التي تحقق له أهدافه والانتصار عليه. وهنا يأتي دور "الحرب النفسية" أو "الدعاية" التي يجمع الخبراء على أنها أقوى أسلحة الصراع أثرا في تحقيق النصر بسرعة وبأقل الخسائر في الأرواح والمعدات:
"فالحرب بالسلاح" تستطيع أن تدمر القوات والمعدات، و "الحرب الاقتصادية" تحرم الخصم من المواد الحيوية، أما "الحرب النفسية " فهي تستطيع ما هو أخطر وأعمق أثرا، إنها تجرده من أثمن ما لديه وهو "إرادته القتالية"، فهي تستهدف في المقاتل أو المواطن عقله وتفكيره وقلبه وعواطفه لكي تحطم روحه المعنوية وتقوده إلى الهزيمة، وهذا ما دعا القائد الألماني روميل إلى القول بأن " القائد الناجح هو الذي يسيطر عل عقول أعدائه قبل أبدانهم "، ودعا تشرتشل إلى أن يقول: " كثيرا ما غيرت الحرب النفسية وجه التاريخ! ".. وقد بلغ من تأثير الحرب النفسية أن كثيرا من الأمم - كما يروي التاريخ- استسلمت لأعدائها قبل أن تطلق جيوشها طلقة واحدة!!
ومن أعظم الدروس التي تستخلص من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في إدارته للصراع مع الأعداء أن "استخدام العامل النفسي في الصراع ضرورة حيوية لتحقيق الأهداف الاستراتيجية"، فمن بين ثماني وعشرين غزوة قادها عليه الصلاة والسلام بنفسه، نجد تسع عشرة غزوة حققت أهدافها بلا قتال، إذ فر الأعداء تحسبا لنتائج مواجهة قوة المسلمين.
وقد قرر الرسول القائد صلى الله عليه وسلم أن "الجهاد باللسان" كالجهاد بالنفس والمال فقال لحسان بن ثابت وكان من شعراء الإسلام: " يا حسان اهج المشركين اهجهم فإن جبريل معك، إذا حارب أصحابي بالسلاح فحارب أنت باللسان" رواه البخاري ومسلم وأحمد.
وليس ذلك فحسب بل إنه عليه الصلاة والسلام يقرر أن الحرب النفسية أشد وأسرع أثرا من حرب السلاح فقد روى أن عبد الله بن رواحة كان يلقي شعرا في هجاء الأعداء في المسجد فاستنكر منه ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه قائلا: بين يدي رسول الله وفي حرم الله تقول الشعر؟ ! فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: " خل عنه يا عمر، فلهي -يعني القصيدة -أسرع فيهم من نضح النبل " وفي رواية " خل عنه يا عمر، فوالذي نفسي بيده لكلامه أشد عليهم من وقع النبل " رواه الترمذي والنسائي.
الحرب النفسية في صراعنا الحضاري:
وليس من شك في أن الأمة الإسلامية تواجه اليوم حربا حضارية، تستهدف تدمير قواها وفرض التبعية عليها، ومنعها من القيام بالنهضة الحضارية التي ترجوها، واستعادة مكانتها اللائقة بها، وإذا كانت الحرب بالسلاح والغزو العسكري والغارات الخاطفة، هي التي تلفت النظر وتستأثر بالاهتمام والانتباه، لما يصاحبها من قعقعة وضجيج على الصعيدين المحلي والعالمي، إلا أنه لا ينبغي مطلقا أن تغفل الأمة عن الدعاية والحرب النفسية أو تقلل من شأنها، لأن القتال له نهاية يوما ما، أما الحرب النفسية فليس لها نهاية، بل هي مستمرة ودائمة في السلم والحرب على حد سواء.
وأستطيع أن أقول إن الإنسان في هذا العصر "يتنفس" الدعاية كما يتنفس الهواء، لكنه في تنفسه للهواء يأخذ ما ينفعه "الأوكسجين ويلفظ ما يضره "ثاني أكسيد الكربون" أما في تنفسه للدعاية والحرب النفسية، فهو لا يستطيع في أغلب الأحوال أن يفعل مثل ذلك، وهو معرض للإصابة "بالعلة النفسية"، التي قد تدمر فيه الإرادة والإيجابية وقوته المعنوية..
ولكي ندرك حجم هذا الخطر علينا أن نتفهم ماهية الحرب النفسية وأهدافها ووسائلها:
مفهوم الحرب النفسية وأهدافها:
تعرف الحرب النفسية بأنها " هي الاستخدام المخطط للدعاية أو ما ينتمي إليها من الإجراءات الموجهة إلى الدول المعادية أو المحايدة أو الصديقة، بهدف التأثير على عواطف وأفكار وسلوك شعوب هذه الدول بما يحقق للدولة -التي توجهها- أهدافها ".
ويلاحظ من هذا التعريف ما يلي:
1 - أن الحرب النفسية لا توجه فقط إلى الدول المعادية أولا تنحصر فقط في نطاق الصراع بين الدول المتحاربة أو المتنافسة، بل هي تشمل أيضا الدول الصديقة والدول المحايدة، ولعل هذا هو ما جعل الخبراء يفضلون لفظ "الدعاية" بدلا من "الحرب النفسية" وكل دولة من دول العالم هي في حقيقتها جماع لتلك الأوصاف الثلاثة "معادية ومحايدة وصديقة" فذلك هو الأمر الغالب في العلاقات الدولية، فالدولة غالبا ما يكون لها أصدقاء وأعداء ودول تقف موقف الحياد في مواجهة بعض قضاياها.(/1)
2 - وأن "أهداف" الدعاية تختلف باختلاف "وضع" الدولة التي توجه إليها في العلاقات الدولية:
فإذا كانت الدولة معادية، كان الهدف تحطيم الروح المعنوية والإرادة القتالية وتوجيهها نحو الهزيمة.
وإذا كانت الدولة محايدة، كان الهدف توجيهها نحو الانحياز للدولة الموجهة أو التعاطف مع قضيتها، أو على الأقل إبقاءها في وضع الحياد ومنعها من الانحياز إلى الجانب الآخر.
وإذا كانت الدولة صديقة، كان الهدف توجيهها نحو تدعيم أواصر الصداقة مع الدولة الموجهة ونحو المزيد من التعاون لتحقيق أهدافها.
مهام الحرب النفسية
وإذا ما حصرنا البحث في مجال الصراع بين الدول، لأنه هو المجال الذي ينبغي أن نتدبره بكل الوعي والفطنة في هذا العصر، فنستطيع أن نقول إن الخبراء الذين يخططون لحملات الحرب النفسية لتدمير الروح المعنوية وتحطيم الإرادة القتالية، يسعون إلى تحقيق هذا الهدف من خلال المهام الرئيسية التالية:
1 - التشكيك في سلامة وعدالة الهدف أو القضية.
2 - زعزعة الثقة في القوة "من كافة عناصرها" والثقة في إحراز النصر، وإقناع الجانب الآخر بأنه لا جدوى من الحرب أو الاستمرار في القتال أو المقاومة.
3 - بث الفرقة والشقاق بين الصفوف والجماعات.
4 - التفريق بين الجانب الآخر وحلفائه ودفعهم إلى التخلي عن نصرته.
5 - تحييد القوى الأخرى التي قد يلجأ إليها الجانب الآخر للتحالف معها أو لمناصرته.
الصور والأساليب
وثمة عدة صور وأساليب تستخدم لتحقيق تلك المهام نذكر منها ما يلي:
1 - الكلمة المسموعة أو المقروءة التي من شأنها التأثير على العقول والعواطف والسلوك، وهو مجال تتعدد فيه الأشكال والوسائل كالكتاب والصحيفة والمجلة والمنشور واللافتة والإذاعة والتلفزيون والسينما والمسرح.. الخ.
2 - الشائعات، وهي أخبار مشكوك في صحتها، ويتعذر التحقق من أصلها، وتتعلق بموضوعات لها أهمية لدى الموجهة إليهم، ويؤدي تصديقهم لها أو نشرهم لها "وهذا هو ما يحدث غالبا" إلى إضعاف الروح المعنوية.
3 - التهديد بواسطة القوة " تحريك الأساطيل - إجراء المناورات الحربية بالقرب من الحدود - تصريحات القادة - إعلان التعبئة الجزئية.. الخ ".
4 - الخداع عن طريق الحيل والإيهام.
5 - بث الذعر والتخويف والضغط النفسي.
6 - الإغراء والتضليل والوعد لاستدراج الجانب الآخر لتغيير موقفه.
ألوان الحرب النفسية
ومن المفيد أن نعرف أن جهد الحرب النفسية أو الدعاية يوجه في ثلاثة ألوان جرى العرف على تسميتها بحسب مصدرها بالأسماء التالية:
الدعاية البيضاء:
وهي نشاط الدعاية العلني والصريح، الذي يحمل اسم الدولة التي توجهه مثل: الإذاعة ووكالات الأنباء والتصريحات الرسمية، ولذلك تسمى أحيانا بالدعاية الصريحة أو الرسمية.
الدعاية الرمادية:
وهى الدعاية الواضحة المصدر، ولكنها تخفي اتجاهاتها ونواياها وأهدافها، أي التي تعمل وتدعو إلى ما تريد بطريق غير مباشر، كالكتاب الذي يحتوى على قصة أو رواية عادية، لكنه يدعو - بين السطور -وبطريق غير مباشر إلى اعتناق مذهب سياسي معين أو التعاطف معه.
الدعاية السوداء:
وهي الدعاية التي لا تكشف عن مصدرها مطلقا، فهي عملية سرية تماما، ومن أمثلتها الصحف والإذاعات والمنشورات السرية والخطابات التي ترسل إلى المسئولين غفلا من التوقيع أو باسم أشخاص أو منظمات وهمية أو سرية.
الرمادية أخطر الألوان:
وبالمقارنة بين تلك الألوان الثلاثة للدعاية، يتضح لنا أن الدعاية الرمادية هي أخطرها على الإطلاق: فالإنسان بقليل من الوعي والفطنة، يستطيع أن يكشف بسرعة ما وراء الدعاية البيضاء والسوداء، أما الدعاية الرمادية فهو يتجرعها قبل أن يكتشف أهدافها، ويتعرض لتأثيرها دون أن يشعر، لأنها "تتسلل" إلى عقله ووجدانه مستترة وراء شيء ظاهري لا غبار عليه.. أي أنه "يتناول السم في العسل".. والمعروف أن حملات الدعاية تضم عادة الألوان الثلاثة، ولا تكتفي بلون واحد منها، لكننا لا نجافي الحقيقة إذا قلنا إن الدعاية الرمادية تحظى بالنسبة الأكبر، وأنها هي الأكثر استعمالا والأوسع انتشارا، وذلك تأكيدا لكونها أقوى أثرا.
لنأخذ حذرنا
فعلى الأمة الإسلامية أن تتنبه إلى تلك الحقائق بكل الوعي والفطنة، وخاصة في هذا العصر الذي تقدمت فيه وسائل الإعلام والنشر والاتصال إلى الحد الذي انعدمت فيه الفواصل والمسافات بين أجزاء العالم... وإذا كانت الدولة تستطيع أن تغلق حدودها وتسد المنافذ التي تؤدي إلى داخلها، وإذا كان الفرد يستطيع أن يغلق على نفسه باب داره ونوافذه، فلا الدولة ولا المواطنون بمستطيعين أن يمنعوا أجواءهم من حمل ونشر ما تبثه موجات الأثير من صور الدعاية المختلفة التي تتسلل إلى وجداننا.(/2)
قد نشاهد "حلقة" تلفزيونية من المسلسلات الأجنبية تحكي قصة "بوليسية" لعملية سطو على أحد البنوك، تتلوها مطاردة الشرطة لعصابة اللصوص حتى يتم القبض عليهم والقصاص منهم... إنها لأول وهلة قصة عادية في الظاهر، لكنها تنطوي على عدة سموم تنفثها في النفوس كما يلي على سبيل المثال:
التشجيع على الجريمة والإرشاد إلى وسائلها، ولعلنا سمعنا كثيرا عن الشباب الذين يقترفون الجرائم بعد مشاهدتهم لمثل تلك الحلقات أو الأفلام.
تعميق الشعور بالإحباط وغرس الإحساس بالتدني وتنمية عقدة النقص في قلوب أبناء أمتنا في مواجهة تفوق الدول الأجنبية العلمي أو التقني "التكنولوجي"، وذلك من خلال ما يشاهده المتفرج من صور التقدم والتطور في إجراء الاتصالات وفي شبكة الطرق والإسعاف والحاسبات الإلكترونية إلى غير ذلك مما ساعد على القبض على المجرمين بسرعة فائقة.
كيف نواجه الدعاية والحرب النفسية
والحق أن الإسلام يسد منافذ الحرب النفسية ويرشد إلى أساليب تحصين المسلمين ضدها على نحو لا تتسامى إليه أفضل النظم الوضعية وهو ما نوضحه فيما يلي:
1 - كشف أهداف وأساليب الحرب النفسية المعادية:
لقد عنى القرآن الكريم أشد العناية بكشف أهداف أعداء الإسلام من الكفار والمنافقين لكي يكون المسلمون واعين ومستعدين استعدادا نفسيا لمواجهتها وعدم الاستجابة لها أو التأثر بها: {أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا عل صراط مستقيم} الملك /22 ومن أمثلة ذلك:
كشف محاولات التفرقة:
قال تعالى: {يآأيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين} آل عمران / 100. ثم أرشد الله المسلمين إلى طريق مواجهة تلك المحاولات فقال جل شأنه: {وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم} آل عمران / 101 .
كشف محاولات التخذيل وتثبيط العزائم:
يقرر القرآن الكريم أن الدور الذي يلعبه أعداء الدين في التخذيل وتثبيط العزائم له خطورته إذا انساق في تياره أبناء الأمة، ويوضح أنه كلما لقيت دعواتهم أذانا صاغية، فإنهم يفرحون بذلك ويستبشرون وهذا شأنهم في كل عصر، ومن أمثلة ذلك محاولات المنافقين لدفع المسلمين إلى التخلي عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم الخروج معه إلى غزوة تبوك، قال تعالى: {فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون. فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون. فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين} التوبة / 81 - 83.
فالقرآن هنا لا يكشف محاولات تثبيط العزائم ولا يحذر المسلمين من الاستجابة لها فحسب، بل يقرر أيضا ضرورة تطهير الجيش من أمثال هؤلاء المنافقين لشدة خطرهم عليه.
كشف محاولات زعزعة الثقة في النصر:
في غزوة الخندق أراد المنافقون تشكيك أهل المدينة في وعد الله ورسوله بالنصر والفتح المبين، فركزوا على جانب التوهين والتخويف وإضعاف العزائم لدى المسلمين ليتركوا الرسول صلى الله عليه وسلم وحده مع نفر قليل، وليرجعوا إلى بيوتهم متعللين بأنها غير محصنة "وكان الخندق خارج المدينة" قال تعالى: {وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض (1) ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا. (2) وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا} الأحزاب / 12 و 13 .
2 - ردع القوى المضادة:
وبعد أن يوضح الإسلام أن المعرفة بأهداف وأساليب الحرب النفسية هي خير عاصم من الوقوع في براثنها، يرشدنا إلى اتخاذ أقوى الإجراءات الإيجابية الفعالة في مواجهة أعداء الأمة من القوى المضادة التي تعمل ضدها في الخفاء والتي يكون خطرها - إذا غفلت عنها الأمة أولم تتصد لها - أفدح بكثير من خطر العدو الظاهر، وهذا ما يفهم بوضوح من نص الآية الكريمة: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم} الأنفال / 60.
إن "عدو الله" واضح، و "عدوكم" واضح أيضا، أما الفئة الثالثة وهي المعبر عنها بقوله جل شأنه: {وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم} فقد فسرها السابقون بالمنافقين الذين يلبسون ثوبا ظاهره الرحمة وباطنه العذاب، إلا أنها تنطوي بلغة العصر على كل القوى المضادة التي تنفث سمومها في الخفاء وتثير الفتن وتروج الشائعات وتغرى بالسلبية وتقتل الإرادة والإيجابية.. ومن هذه الفئة من يكون داخل البلاد الإسلامية وبين صفوف أبنائها، ومنهم من يكون خارجها يدبر ويخطط ويسعى بكل الأساليب العلمية للحرب النفسية والغزو الفكري الهدام.(/3)
تلك هي أخطر فئة، وقد كشف عنها قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " تجدون شر الناس ذا الوجهين يأتي هؤلاء بوجه ويأتي هؤلاء بوجه " متفق عليه. وقد حذرنا الله جل شأنه منهم فقال في سورة المنافقين / 4: {يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون}.
****************************(/4)
خذي ما يكفيك و ولدك بالمعروف
السؤال :
هل يمكنني أن آخذ من والدي مبلغاً محدوداً من المال بشكل يومي دون علمه و لا إذنه كي أجمع مبلغاً أسدد منه دَيْني ، و أشتري بما فضل منه ما أريد ؟ علماً بأن والدي لا يعدل بيننا في العطايا ، بل يفضل إخواننا الذكور الصغار علينا ، و لا يعطينا لنشتري ما نريد .
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله و بعد
فمما لا شك فيه أن من واجب الأب أن ينفق على من يعول ، و منهم بناته اللاتي لم يتزوجن بعد ، و النفقة الواجية لهن هي المسكن و الطعام و الكساء و ضروريات الحياة ، كما يجب على الأب أن يساوي بين أبنائه في العطايا و الهبات الزائدة عن النفقة الواجبة عليه .
فإن قصَّرَ في أداء ما أوجبه الله عليه من النفقة على أبنائه فلهن أن يأخدن من ماله ما يكفيهن بالمعروف قياساَ على الزوجة التي يضن عليها بحقها الشرعي و دليل ذلك ما رواه الشيخان و غيرهما و اللفظ للبخاري ، عن عائشة رضي الله عنها أنّ هند أم معاوية قالت لرسول الله صلى الله عليه و سلم : إن أبا سفيان رجل شحيح ، فهل علي جناح أن آخذ ماله سراً ؟ قال : (خذي أنت و بنوك ما يكفيك بالمعروف ( .
ففي هذا الحديث لم يفرق النبي صلى الله عليه و سلم بين حق الزوجة و حق الأبناء المحرومين في أخذ ما يكفيهم بالمعروف و لو كان ذلك بغير علم الزوج أو الأب الشحيح .
أما ما يخص الكماليات و التحسينيات فليس الإنفاق عليها من الواجبات على الولي و بالتالي فليس لأحد أن يأخذ منه بدون إذنه و علمه .
و إن أعطى الأب بعض أبنائه ما لم يعط الآخرين فهو ظالم آثم بذلك ، لما رواه الشيخان عن النعمان بن بشير أ ن أباه أتى به إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : إني نحلت ابني هذا غلاماً ، فقال : ( أكل ولدك نحلت مثله ؟ ) قال : لا ، قال : ( فارجعه ) .
و إثم الظلم يقع على الأب و لكنه لا يبرر للأبناء المحرومين من الهبة أن يأخذوا من أبيهم بدون إذنه ، لأن المعصية لا تبرر المعصية .
و الله أعلم
و صلى الله و سلم و بارك على نبيّه محمد ، و آله ، و صحبه أجمعين .(/1)
خرافة حوار الحضارات ومكافحة الفقر
د. أبوبكر محمد عثمان*
أعتقد أننا فيما نسميه حوار الحضارات نتجنب الدخول بطريق مباشر أو غير مباشر إلى لب الخلاف!!..
فإذا تحدثنا عن اليهود فهم يعلمون الآية (82) من سورة المائدة (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً للَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا)، والآية (51) من سورة النساء (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا)، وهم يقولون: (إن أجداد المصريين الحاليين هم الذين سخروا اليهود لبناء الأهرامات وأذلّوهم).. ولذلك قتلوا آلاف الأسرى في صحراء سيناء في حرب 1967م..
فلا مجال للحوار مع هؤلاء.
أما عن النصارى فهم يعلمون الآية (82) نفسها من سورة المائدة: (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً للَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوَا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانا وأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ)؛ لذلك أحمد الله كثيرا أن هُزِم اليابانيون الوثنيون في الحرب العالمية الثانية على أيدي النصارى الأوروبيين والأمريكان؛ وقد قال الله تعالى في سورة الروم: (ألم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5))؛ لذلك يوجد مجال للتعايش حسب الضوابط الشرعية في حدود تضيق، وتتسع حسب تشدد قادتهم، ووعي أفرادهم..
وفي هذا تفصيل مهم:
- هم يعلمون أننا نكفرهم؛ لأنهم إما أنهم يعتقدون أن عيسى بن مريم هو الله؛ قال الله تعالى في الآية (72) من سورة المائدة (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ)، أو أنهم يعتقدون أنه ابن الله؛ قال تعالى: (وقالت النصارى المسيح ابن الله)، أو أنهم يعتقدون أن المسيح عيسى عليه السلام ثالث ثلاثة يشكلون الإله؛ قال الله تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ).. وهم يكفروننا للسبب نفسه؛ وهو أننا لا نعتقد بألوهية عيسى؛ بل نعتقد ببشريته؛ قال الله تعالى في الآية (75) من سورة المائدة: (مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ)..
لقد هزمت الأحداث الأخيرة، والرسوم المسيئة لشخص النبي صلى الله عليه وسلم، وإعادة نشرها، بل لبس وزير إيطالي قميصا عليه تلك الرسوم إمعانا في التحدي، والازدراء، والامتهان.. وكذلك تدنيس مقابر المسلمين في الدنمارك، وتدنيس المصحف الشريف في سجون أفغانستان، وأبي غريب في العراق، وجوانتانامو في كوبا، وإلقائه في المراحيض، والتبول عليه، واستعماله بدلا من مناديل الورق لمسح الخرء عن أدبارهم..
هزمت كل هذه الأحداث فكرة حوار الحضارات..
ومن قبل قتل الصرب عشرات الآلاف من المسلمين، ودفنوهم في مقابر جماعية، واغتصبوا عشرين ألف امرأة مسلمة، ولا زال المجرمان - رادوفان كاراديتش، وميلاد يتش - طليقين..
ولا يظن إلا مُغفّل أن الاتحاد الأوروبي، أو الناتو، أو موسكو، أو واشنطن لا يعرفون مكانهما؛ فإنما هي صفقات؛ يباع فيها المسلمون لقاء منافع متبادلة..
نحن لا نتحدث عن الحروب الصليبية، والفظائع في القرون الغابرة!!..
ومن قبل كسب الإسلاميون انتخابات الجزائر فانقض عليهم الجيش بأمر فرنسا وألغى نتائجها..
ولماذا يعترضون على نتائج انتخابات فلسطين - التي أوصلت حركة حماس إلى السلطة -، ويطلبون منها طلبا لا أخلاقيا بالاعتراف بإسرائيل؛ فهذا قرار الأغلبية التي انتخبتهم على برنامجهم بعدم الاعتراف بإسرائيل؟!..
ولِمَ يعترضون على ممارسات السلطات المصرية التي أفقدت الأخوان المسلمين قدرا كبيرا من أصوات الناخبين؟!..
ولماذا يصرّون على أن يدخل السُنَّة في الحكومة العراقية؟!.. طبعا ليس حبا فيهم، وفي الديموقراطية؛ ولكن لتحجيم دور إيران الشيعية في العراق؛ فهم يتمسكون بالديموقراطية فقط إذا كان فيها قهر للحركات التي تؤمن بأن الإسلام هو الحل!!..
ومن هنا أُدين قتل الشرطة للمتظاهرين ضد الرسوم، وهي تتحمل وزر القتل العمد أمام الله، وفي الوقت نفسه لن يرضى عنهم ناشرو الرسوم..
أما قول تلك الحكومات: (إن المتظاهرين يستغلون الأحداث لأغراض سياسية)؛ فهل يجب على الأحزاب السياسية أن تبارك تلك الرسوم؛ حتى لا تتهم باستغلال الدين؟!.. ثم هذا اتهام للنيات، ويدل على الجهل الفاضح بالدين؛ فالنيات لا يعلمها إلا الله.(/1)
أما تفجيرات 11 سبتمبر فقد اتخذتها أمريكا ذريعة لغزو أفغانستان، والعراق، وللاستيلاء على النفط، وقهر المسلمين؛ بادعاء نشر الديموقراطية.. ولقد افتضح أمرهم في أول انتخابات في مصر، وفلسطين، ومن قبل في الجزائر كما أوضحنا..
مثل هذا يحدث تماما مع فكرة مؤتمرات محاربة الفقر؛ فهم يتجنبون الحديث عن السبب الحقيقي، أو المهم للفقر - ألا وهو الفساد بأنواعه - فالفقراء هم الذين يغذون خزينة الدولة بالضرائب، والزكاة، والرسوم، والغرامات المتعسفة والعشوائية، والدعوم المفروضة التي تؤخذ عنوة أو بسيف الحياء؛ كدعم الشريعة، والجهاد، والجريح، والشهيد..
بينما لا يعرف دافعوها أين تصرف هذه الأموال؟!.. والحكومة تضن عليهم حتى بهذه المعلومة؛ لأنها تعلم أنها تصرف في غير ما جمعت له - كالرواتب المُركّبة، والحوافز المصطنعة، والبدلات، والموبايلات، والسفريات، خلا العربات، والمؤتمرات القممية، والإقليمية، والقارية، واليخوت، والفلل، والسمنارات - خصوصا تلك المخصصة لمحاربة الفقر؛ حيث توزع رقاع الدعوة المكتوبة بماء الذهب، وتعقد في أفخم الفنادق والقاعات، حيث يقدم أطيب الطعام والشراب الذي يتبقى منه على الموائد ما يكفي لمدد طويلة لطالبات الداخليات، وملاجئ المشردين، والمساجين المظاليم؛ الذين سرقوا بسبب إفقار الدولة لهم..
هذا غير السرقات، والاختلاسات، والرشاوى، والعمولات، وإعفاءات الجمارك والضرائب، وحتى دين الله تلاعبوا به؛ فديوان الزكاة يفرض عند بدء كل سنة ربطا للزكاة عن تلك السنة؛ بمعنى أنه لا بد من جمع كذا من النقد، وكذا من المحاصيل، وكذا من الحيوان - فما يدريك يا صاحب المربوط أن التجارة ستربح، وأن النبات سيثمر، وأن الحيوان سيتوالد ويتكاثر؟! - لذلك يقوم زبانية الزكاة بجمع المربوط بالتعسف.. وإنما شرع الله الزكاة نسبة من الناتج بعد ثبوته؛ وليس لك افتراضه قبل بدء الحول.. ومثل ذلك في الضريبة، مع أنه ليس في دين الله شيء اسمه الضريبة؛ فقد حكم الله أن الزكاة تكفي لإغناء الفقراء إذا جمعت من المكلفين وصرفت على المستحقين؛ ولكن الحكومة تقول: (إنها لا تكفي)!!.. وليس ذلك إلا لأن الحكومة تعفي منها كثيرا من المكلّفين، وتصرفها لكثير من غير المستحقين!!..
فقط عند الأزمات شرع الله ما يسمى (في المال حق سوى الزكاة) يحدده الإمام على قدر الحاجة، ولمدة محدودة؛ ريثما تزول الحاجة التي أوجبته.
بالله عليكم.. كفوا عن عقد مؤتمرات وسمنارات مكافحة الفقر، وأنفقوا أموالها على الفقراء والمساكين؛ حتى لا تضطروهم للسرقة، والغشّ، والتزوير، وبيع الأعراض..
هذا لحين تحقق إرادة محاربة الفساد؛ فإنها لن تكون إلا بصدق العزم، ووضوح السبيل.(/2)
خروج المرأة متطيبة من بيتها
السؤال :
ما حكم الشرع في امرأة تخرج من بيتها متعطرة متزينة ، سواء كان ذلك بإذن زوجها أو بدون إذنه ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
من المقرر شرعاً أن قرار المرأة في بيتها خير لها و أليق بها من الخروج ، لقوله تعالى : ( وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى ) [ الأحزاب : 33 ] ، و إن كان خروجها مباحاً في ذاته لاسيما إذا كان لضرورة أو قضاء حاجة أو السعي في أمر مباح أو مستحب كالدعوة إلى الله تعالى ، أو طلب العلم أو تعليمه أو شهود الصلاة في المساجد ، ما لم يرافقه منكر فيحرم لأجله كالاختلاط و التبرج أو الوقوع في فتنةٍ أو التسبب فيها .
و مما ينبغي أن يلازم المرأة حال خروجها من المنزل ، ما ذكره أهل العلم في شروط خروجها إلى الصلاة في المساجد ، و منه : ( أن لا تكون متطيبة و لا متزينة و لا ذات خلاخل يسمع صوتها ، و لا ثياب فاخرة ، و لا مختلطة بالرجال ، و لا ممن يفتتن بها ، و أن لا يكون في الطريق ما يخاف به مفسدة و نحوها ) كما قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم .
فإن وُجد شيء ممّا ذُكِرَ أو نحوه ممّا لم يُذكَر من المحظورات ؛ حرُم عليها الخروج حتى لو كان إلى بيت من بيوت الله .
روى مسلم و أصحاب السنن عدا ابن ماجة و أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ : ( أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَصَابَتْ بَخُوراً ، فَلاَ تَشْهَدْ مَعَنَا الْعِشَاءَ الآخِرَةَ ) .
هذا النهي عن الخروج إلى الصلاة حال التطيّب مع أن الترخيص فيها عموماً ثابت في السنّة بلا خلاف ، فما ظنكم بالخروج إلى الأسواق أو النوادي أو مواطن اللهو مع التبرج أو التطيب في أماكن قلّ أن تخلوا من الرجال الأجانب .
روى ابن ماجة بإسنادٍ صحيحٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَقِيَ امْرَأَةٌ مُتَطَيِّبَةً ، تُرِيدُ الْمَسْجِدَ . فَقَالَ : يَا أَمَةَ الْجَبَّارِ ! أَيْنَ تُرِيِدينَ ؟ قَالَتِ : الْمَسْجِدَ . قَالَ : وَ لَهُ تَطَيَّبْتِ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ . قَالَ : فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه و سلم يَقُولُ : ( أَيُّمَا امْرأَةٍ تَطَيَّبَتْ ، ثُمَّ خَرَجَتْ إِلَى الْمَسْجِدِ ، لَمْ تُقْبَلْ لَهَا صلاةٌ ، حَتَى تَغْتَسِلَ ) .
و روي عن يحيى بن جعدة أن امرأة خرجت على عهد عمر بن الخطاب متطيبة فوجد ريحها ، فعلاها بالدرة ثم قال : تخرجن متطيبات فيجد الرجال ريحكن ! و إنما قلوب الرجال عند أنوفهم ، اخرُجن تَفِلات . أي تاركات للطيب [ كما في كنز العمال ] .
قلتُ بعدما تقدم : ينبغي للمرأة أن تتقي الله تعالى في نفسها فلا تبرح بيتها إلا ملتزمة بما يجب عليها في خروجها من اللباس الشرعي و الحشمة و تجنب مواطن الفتن و أسبابها ، و من ذلك التبرّج و التطيب خارج البيت ، و الله أعلم .
و الله الموفق ، و هو الهادي إلى سواء السبيل .
و صلى الله و سلم و بارك على نبيّه محمد ، و آله ، و صحبه أجمعين .(/1)
خشوع حتى النخاع
مفكرة الإسلام : [ كان عبد الله بن الزبير يسجد حتى تنزل العصافير على ظهره ولا تحسبه إلا حائط ].
[ لو رأيت ابن الزبير يصلي كأنه غصن شجرة تهزها الريح والمنجنيق يقع هاهنا وهاهنا وكأنه لا يبالي ].
وعن ميمون بن مهران قال [ ما رأيت مسلم بن يسار ملتفتا في صلاة قط ولقد انهدمت ناحية من المسجد ففزع أهل السوق لهدتها وإنه لفي المسجد يصلي فما التفت ].
وعنه أيضا [ أن مسلم بن يسار كان إذا دخل إلى المنزل سكتوا فإذا قام إلى الصلاة تكلموا وضحكوا ].
أخي الحبيب .........
قارئ المواقف السابقة أحد نوعين من الشباب :-
1- إما شاب يقرؤها لأول مرة فسيكون مندهشا للغاية وسيسأل نفسه كيف وصل هؤلاء الناس إلى هذه الدرجة من الخشوع .
2- أو شاب يعرف تلك المواقف وقرأها قبل ذلك فسيقول لنفسه 'كلما قرأتها حاولت أن أخشع وأستمر عدة أيام ثم يعود الحال على ما كان عليه قبل ذلك'
وأيا كان حالك أخي الحبيب فأنت مدعو للإجابة على هذا السؤال الهام.....
هل تتخيل درجة الخشوع التي وصل إليها سلفنا الصالح ؟
فالشخص الذي تقف العصافير على ظهره عند سجوده ولا يشعر لم يكن بالتأكيد لحظتها في هذه الدنيا بل كان غارقا حتى النخاع في صلاته , ولك أن تتخيل أن هناك من توقظه العصافير من نومه وليس فقط تشغله عن صلاته .
والذي تهدم بجواره ناحية من نواحي المسجد ولا تحدث منه التفاتة بسيطة ليرى ما حدث بالتأكيد أيضا في هذه اللحظة كان عقله وقلبه خارج نطاق المسجد , هناك عند المولى عز وجل .
عندما نذكر أحوال الخاشعين أخي الحبيب لا نذكرها لنصاب بالإحباط وخيبة الأمل عندما نقرنها بحالنا هذه الأيام مع الصلاة , ولكن نذكرها لكي نقنعك بأن الصلاة ليست فقط مجرد عبادة فرضها الله علينا من أداها دخل الجنة ومن تركها استحق العقاب من الله عز وجل ,, كلا أيها الأخ الحبيب فالموضوع أكبر من ذلك بكثير .
قال لي يوما أحد الأخوة الأفاضل في يوم كنا نتحدث فيه عن الخشوع في الصلاة كلمات لا أنساها قال لي [ لو استطاع الدعاة إلى الله أن يتقنوا الصلاة لتغير حال الأمة على الفور ].
فالصلاة عالم خاص ممتع , من استطاع أن يحيا فيه فقد أخذ من الدنيا ألذ ما فيها وهو مناجاة الله عز وجل .
ولذلك كان من الضروري أن تتغير نظرتنا للصلاة من مجرد حركات نؤديها إلى عبادة تحي القلب وتطهر البدن وتنقي العقل وتبارك في الحياة .
ولكن السؤال المهم الآن هو كيف اخشع في صلاتي وأدخل إلى هذا العالم الممتع الذي تكلمنا عنه منذ قليل ؟
أولا: عليك أخي الحبيب أن تتوقف عن المعاصي بقدر الإمكان وبالأخص معاصي الشهوة من إطلاق للبصر والعادة السرية وغيرها, لأن كثيرا من شكاوى الشباب تدور حول أنهم لا يستطيعون أن يركزوا في صلاتهم لأن الشيطان يأتي إليهم في بداية الصلاة ويبدأ في عرض الصور والمشاهد الجنسية المختزنة في الذاكرة فيحول الشاب أن يدفعها فيفشل وتنتهي الصلاة ويخرج منها أكثر غما منه حين دخلها فالسبيل الوحيد لسد هذه الثغرة هي عدم ملئ الذاكرة من الأساس بهذه الأشياء .وإن كنت قد ملأتها فعليك أن تبدأ في حذفها وإعادة ملأها مرة أخرى , ولكن بكلام الله تعالى.
ثانيا: يجب أن يكون قدر الصلاة عندك عظيما فتعلم أنك لن تتقرب إلى الله بشيء أحب إليه من الصلاة والمولى عز وجل لا يقبل من صلاة العبد إلا ما عقل منها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم , فيكون هذا همك وهدفك عند دخولك الصلاة.
ثالثا: أن تدعو الله تعالى أن يرزقك الخشوع في الصلاة ويتقبلها منك بالرغم من تقصيرك فيها وهذا من أهم الأسباب لأن الدعاء سلاح المؤمن كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
رابعا: أن تتعلم كيفية صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من ركوع وسجود وقيام وتحرص على تقليدها قدر الإمكان في صلاتك.
خامسا: اقرأ كلام العلماء في أسرار الصلاة والحكمة من كل ركن من أركانها أو استمع إلى كلام الدعاة في هذا الأمر ونرشح لك بعض الكتب والأشرطة المفيدة في هذا الأمر :-
1- مختصر منهاج القاصدين لابن الجوزي [ما يتعلق بالخشوع في الصلاة [ ص 29:26 ]]
2- مدارج السالكين لابن القيم [ما يتعلق بالخشوع في الصلاة]
3- شرائط [ كيف تصلى ] للشيخ محمد حسين يعقوب
4- شريط الخشوع في الصلاة للأستاذ عمرو خالد
سادسا: حاول بقدر الإمكان أن تصلي نافلة قبل الفريضة لكي تهيئ نفسك للفريضة وتستعد لها .
سابعا: أن تحرص على صلاة الجماعة في المسجد وتحاول بقدر الإمكان أن تحضر تكبيرة الإحرام مع الإمام في المسجد حتى يرى الله عز وجل منك حرصا على الصلاة فيرزقك خشوعها .
وأخيرا لا تيأس أخي من كثرة المحاولات وصدقني إن الأمر يستحق.
وسيكون لنا وقفات أخرى مع الخشوع في الصلاة في لقاءات أخرى إن شاء الله
فإلى لقاء قريب بإذن الله تعالى(/1)
خشية الله والخوف منه
قافلة الداعيات - (ج 130 / ص 1)
كتبه : عبدالحميد التركستاني
ملخص الخطبة
1- جرأة الناس على معاصي الله. 2- الخوف من الله صفة المؤمنين ، وتتافوة هذه الصفة بقدر إيمانهم. 3- مراتب الخوف. 4- أقوال السلف في الخوف. 5- أحوال السلف في الخوف. 6- ضعف جانب الخوف عند آخرين. 7- مم خاف السلف وبكوا؟
الخطبة الأولى
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى وخافوه واخشوه وحده ولا تخشوا أحدا غيره وكما قال الفضيل: من خاف الله لم يضره أحد، ومن خاف غير الله لم ينفعه أحد قال تعالى: فلا تخشوا الناس واخشون ، فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين .
أيها الإخوة: سوف يكون حديثي في هذه الخطبة عن مقام الخوف من الله عز وجل وسبب اختياري لهذا الموضوع هو ما أراه وأشاهده من بعد الناس عن الله وتجرؤهم عليه بأنواع المعاصي والذنوب التي ما ارتكبها هؤلاء الناس إلا بسبب ضعف جانب الخوف من الله في قلوبهم وبسبب غفلتهم عن الله ونسيان الدار الآخرة، فالخوف من الله هو الحاجز الصلب أمام دفعات الهوى العنيفة وقلّ أن يثبت غير هذا الحاجز أمام دفعات الهوى والشهوة والغفلة فالخوف هو الذي يهيج في القلب نار الخشية التي تدفع الإنسان المسلم إلى عمل الطاعة والابتعاد عن المعصية.
ولهذا إذا زاد الإيمان في قلب المؤمن لم يعد يستحضر في قلبه إلا الخوف من الله، والناس في خوفهم من الله متفاوتون ولهذا كان خوف العلماء في أعلى الدرجات وذلك لأن خوفهم مقرون بمعرفة الله مما جعل خوفهم مقرون بالخشية كما قال تعالى: إنما يخشى الله من عباده العلماء والخشية درجة أعلى وهي أخص من الخوف، فالخوف لعامة المؤمنين والخشية للعلماء العارفين وعلى قدر العلم والمعرفة تكون الخشية، كما قال النبي : ((إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية)) وقال: ((لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ولما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله)) قال الإمام أحمد: هذا يدل على أن كل من كان بالله أعرف كان منه أخوف. والخوف: هو اضطراب القلب ووجله من تذكر عقاب الله وناره ووعيده الشديد لمن عصاه والخائف دائما يلجأ إلى الهرب مما يخافه إلا من يخاف من الله فإنه يهرب إليه كما قال أبو حفص: الخوف سراج في القلب به يبصر ما فيه من الخير والشر وكل أحد إذا خفته هربت منه إلا الله عز وجل، فإنك إذا خفته هربت إليه. فالخائف هارب من ربه إلى ربه قال تعالى: ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين ، قال أبو سليمان الداراني: ما فارق الخوف قلبا إلا خرب. وقال إبراهيم بن سفيان: إذا سكن الخوف القلب أحرق مواضع الشهوات منها وطرد الدنيا عنها.
وقال ذو النون: الناس على الطريق ما لم يزل عنهم الخوف، فإذا زال عنهم الخوف ضلوا الطريق. وقال أبو حفص: الخوف سوط الله، يقّوم به الشاردين عن بابه.
والخوف المحمود الصادق: ما حال بين صاحبه ويبن محارم الله عز وجل فإذا تجاوز ذلك خيف منه اليأس والقنوط، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيميه: الخوف المحمود: هو ما حجزك عن محارم الله وهذا الخوف من أجلّ منازل السير إلى الله وأنفعها للقلب وهو فرض على كل أحد.
ومن كان الخوف منه بهذه المنزلة سوف يحجزه خوفه عن المعاصي والمحرمات فلا يأكل مالا حراما ولا يشهد زورا، ولا يحلف كاذبا، ولا يخلف وعدا ولا يخون عهدا ولا يغش في المعاملة ولا يخون شريكه ولا يمشي بالنميمة، ولا يغتاب الناس ولا يترك النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يزني ولا يلوط ولا يتشبه بالنساء ولا يتشبه بالكفرة أعداء الدين ولا يتعاطى محرما ولا يشرب المسكرات ولا المخدرات ولا الدخان ولا الشيشة ولا يهجر مساجد الله ولا يترك الصلاة في الجماعة ولا يضيع أوقاته في اللهو والغفلة بل تجده يشمر عن ساعد الجد يستغل وقته كله في طاعة الله ولهذا قال : ((من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل ألا وإن سلعة الله غالية ألا وإن سلعة الله هي الجنة)) رواه الترمذي وهو حديث حسن والمراد بهذا الحديث التشمير في الطاعة والاجتهاد من بداية العمر لأن الجنة غالية تحتاج إلى ثمن باهظ ومن سعى لها وعمل صالحا وسار من أول الطريق نال بغيته إن شاء الله.
ولهذا كان السلف الصالح يغلّبون جانب الخوف في حال الصحة والقوة حتى يزدادوا من طاعة الله ويكثروا من ذكره ويتقربوا إليه بالنوافل والعمل الصالح.(/1)
أيها الإخوة: إن رجحان جانب الخوف من الله في قلب المؤمن هو وحده الذي يرجح الكفة وهو وحده الذي يعصم من فتنة هذه الدنيا وبدون الخوف لا يصلح قلب ولا تصلح حياة ولا تستقيم نفس ولا يهذب سلوك وإلا فما الذي يحجز النفس البشرية عن ارتكاب المحرمات من زنى وبغى وظلم وركون إلى الدنيا غير الخوف من الله، وما الذي يهدئ فيها هيجان الرغائب وسعار الشهوات وجنون المطامع؟ وما الذي يثبت النفس في المعركة بين الحق والباطل وبين الخير والشر؟ وما الذي يدفع الإنسان إلى تقوى الله في السر والعلن سوى خوف الله، فلا شيء يثبت الإيمان عند العبد رغم الأحداث وتقلبات الأحوال في هذا الخضم الهائج إلا اليقين في الآخرة والإيمان بها والخشية والخوف مما أعده الله من العذاب المقيم لمن خالف أمره وعصاه. فتذكر الآخرة في جميع الأحوال والمناسبات والظروف يجعل عند الإنسان حسا مرهفا يجعله دائم اليقظة جاد العزيمة دائم الفكر فيما يصلحه في معاشِه ومعادِه كثير الوجل والخوف مما سيؤول إليه في الآخرة، ففي كتاب الزهد للإمام أحمد عن عبد الرحمن بن يزيد قال: قلت ليزيد! ما لي أرى عينيك لا تجفّ؟ قال: يا أخي إن الله توعدني إن أنا عصيته أن يسجنني في النار، والله لو توعدني أن يسجنني في الحمام لكان حريا أن لا يجف لي دمع.
وروى ضمرة عن حفص بن عمر قال: بكى الحسن البصري فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أخاف أن يطرحني في النار غدا ولا يبالي. ولهذا من خاف واشتد وجله من ربه في هذه الدنيا يأمن يوم الفزع الأكبر فعن أبي هريرة عن النبي فيما يرويه عن ربه جل وعلا أنه قال: ((وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين: إذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة، وإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة)) رواه أبن حبان في صحيحه.
أيها الأخوة: لقد عاش المسلمون الذين تلقوا هذا القرآن أول مرة عاشوا مشاهد الآخرة فعلا وواقعا كأنهم يرونها حقيقة ولم يكن في نفوسهم استبعاد لذلك اليوم بل كان يقينهم بذلك اليوم واقعا تشهده قلوبهم وتحسّه وتراه وتتأثر وترتعش وتستجيب لمرآه ومن ثم تحولت نفوسهم ذلك التحول وتكيفت حياتهم على هذه الأرض بطاعة الله وكأن النار إنما خلقت لهم قال يزيد بن حوشب: ما رأيت أخوف من الحسن وعمر بن عبد العزيز، كأن النار لم تخلق إلا لهما. وحق لهما أيها الإخوة ولكل مؤمن أن يخاف من النار وأن يستعيذ بالله منها لأن الخبر ليس كالمعاينة يقول : ((لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد)) رواه مسلم وقال في وصف النار محذرا منها: ((نار الدنيا جزء من سبعين جزءا من نار جهنم)) ولهذا كان سلفنا الصالح رضوان الله عليهم إذا رأى أحدهم نارا اضطرب وتغير حاله فهذا عبد الله بن مسعود مر على الذين ينفخون على الكير فسقط مغشيا عليه وهذا الربيع بن خثيم رحمه الله مر بالحداد فنظر إلى الكير فخر مغشيا عليه، وكان عمر بن الخطاب ربما توقد له نار ثم يدني يديه منها ويقول: (يا ابن الخطاب هل لك صبر على هذا). وكان الأحنف رضي الله عنه: يجئ إلى المصباح بالليل فيضع إصبعه فيه ثم يقول: (حس، حس ثم يقول يا حنيف، ما حملك على ما صنعت يوم كذا وكذا يحاسب نفسه) وفي الحديث: ((حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم)).
أيها الاخوة :إن أمر القيامة أمر عظيم رهيب، يرجّ القلب ويرعب الحس رعبا مشاهده يرجف لها القلوب والله سبحانه أقسم على وقوع هذا الحادث لا محالة فقال في سورة الطور إن عذاب ربك لواقع ماله من دافع فهو واقع حتما، لا يملك دفعه أحد أبدا والأمر داهم قاصم ليس منه دافع ولا عاصم كما أن دون غد الليلة، فما أعددنا لذلك اليوم، وما قدمنا له وهل جلس كل منا يحاسب نفسه ما عمل بكذا وما أراد بكذا بل الكل ساهٍ لاه، والكل في سكرته يعمهون ويلعبون ويضحكون ويفسقون ويفجرون وكأن أحدهم بمنأى من العذاب وكأنهم ليس وراءهم موتا ولا نشورا ولا جنة ولا نارا ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين يقول الحسن البصري رحمه الله: (إن المؤمن والله ما تراه إلا يلوم نفسه ما أردت بكلمتي، ما أردت بأكلتي ما أردت بحديثي، وإن الفاجر يمضي قدما ما يعاقب نفسه). فحقيق بالمرء أن يكون له مجالس يخلو فيها يحاسب نفسه ويتذكر ذنوبه ويستغفر منها.(/2)
أيها الأحبة: لقد كان المسلمون يعيشون مع القرآن فعلا وواقعا عاشوا مع الآخرة واقعا محسوسا، لقد كانوا يشعرون بالقرآن ينقل إليهم صوت النار وهي تسري وتحرق وإنه لصوت تقشعر منه القلوب والأبدان كما أحس عليه الصلاة والسلام برهبة هذا الأمر وقوته حتى أنه وعظ أصحابه يوما فقال: ((إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون، أطّت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله عز وجل، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله والله لوددت أني شجرة تعضد)) رواه البخاري وفي رواية قال: ((عرضت علي الجنة والنار فلم أرى كاليوم في الخير والشر)) ثم ذكر الحديث فما أتى على أصحاب رسول الله يوم أشد منه غطوا رؤوسهم ولهم خنين و الخنين هو البكاء مع غنّه، ولطول المطلع وشدة الحساب وتمكن العلم والمعرفة لدى رسول الله تمنى أن يكون شجرة تقطع وينتهي أمرها فكيف بنا نحن؟ عجبا لنا نتمنى على الله الأماني مع استهتارنا بالدين وبالصلاة وبكل شيء فماذا نرجو في الآخرة؟ وكما قيل:
يا آمنا مع قبح الفعل منه هل
أتاك توقيع أمن أنت تملكه
جمعت شيئين أمنا و اتباع هوى
هذا وإحداهما في المرء تهلكه
والمحسنون على درب الخوف قد ساروا
و ذلك درب لست تسلكه
فرطت في الزرع وقت البذر من سفه
فكيف عند حصاد الناس تدركه
هذا وأعجب شيء فيك زهدك في
دار البقاء بعيش سوف تتركه
نعم والله هذا حال الكثير من الناس اليوم لا يريدون أن يعملوا ولا يريدون أن يتذكروا فإذا ذكرت لهم النار قالوا: لا تقنط الناس، وهذا والله هو العجب العجاب يريدون أن يبشروا بالجنة ولا يذكروا بالقيامة وأهوالها ولا بالنار وسمومها وعذابها وهم على ما هم فيه من سيئ الأعمال وقبيح الصفات، قال: الحسن البصري: لقد مضى بين أيديكم أقوام لو أن أحدهم أنفق عدد هذا الحصى، لخشي أن لا ينجو من عظم ذلك اليوم، وقد ورد في الترمذي عن أبي هريرة عن النبي أنه قال: ((ما رأيت مثل النار نام هاربها، ولا مثل الجنة نام طالبها)) والسبب في ذلك ضعف جانب الخوف عند هؤلاء، لقد كان بعض السلف من شدة خوفه ووجله وكثرة تفكيره في أحواله الآخرة لا يستطيع النوم ولا الضحك ولا اللهو حتى يعلم أهو من الناجين أم لا، فهذا شداد بن أوس كان إذا دخل الفراش يتقلب على فراشه لا يأتيه النوم ويقول (الله إن النار أذهبت مني النوم فيقوم يصلي حتى يصبح)، وهذا منصور بن المعتمر كان كثير الخوف والوجل كثير البكاء من خشية الله قال عنه زائدة بن قدامة: إذا رأيته قلت: هذا رجل أصيب بمصيبة ولقد قالت له أمه: ما هذا الذي تصنع بنفسك تبكى عامة الليل، لا تكاد أن تسكت لعلك يا بنيّ أصبت نفسا، أو قتلت قتيلا؟ فقال: يا أمه أنا أعلم بما صنعت نفسي، وهذا معاذ بن جبل لما حضرته الوفاة جعل يبكي، فقيل له: أتبكي وأنت صاحب رسول الله وأنت وأنت؟ فقال: ما أبكي جزعاً من الموت أن حل بي ولا دنيا تركتها بعدي، ولكن هما القبضتان، قبضة في النار وقبضة في الجنة فلا أدري في أي القبضتين أنا. يقول الحسن بن عرفه: رأيت يزيد بين هارون بواسط وهو من أحسن الناس عينين، ثم رأيته بعد ذلك بعين واحدة ثم رأيته بعد ذلك وقد ذهبت عيناه فقلت له: يا أبا خالد ما فعلت العينان الجميلتان، فقال: ذهب بهما بكاء الأسحار.
والبكاء من خشية الله سمة العارفين قال عبد الله بن عمرو بن العاص : لأن أدمع دمعة من خشية الله أحب إلي من أن أتصدق بمئة ألف درهم.
ولما جاء عقبة بن عامر إلى النبي يسأله: ما النجاة؟ نعم والله ما النجاة كيف ننجو من عذاب الله؟ فقال له: ((أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك)) وفي رواية قال: ((طوبى لمن ملك نفسه ووسعه بيته وبكى على خطيئته)).
وقد بين أن من بكى من خشية الله فأن الله يظله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله فقال ((...ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه)) بل حرم الله النار على من بكى من خشيته قال : ((لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع))، وفي رواية قال: ((حرمت النار على عين دمعت أو بكت من خشية الله)) وكلا الحديثين صحيح.
وفي الأثر الإلهي: ((ولم يتعبد إلي المتعبدون بمثل البكاء من خشيتي)).(/3)
أيها المسلمون :إن سلفنا الصالح كانوا يتوجهون إلى الله في خشية وبكاء ووجل وطمع الخوف من عذاب الله والرجاء في رحمته والخوف من غضبه والطمع في رضاه والخوف من معصيته والطمع في توفيقه يدعون ربهم خوفا وطمعا والتعبير القرآني يصور هذه المشاعر المرتجفة في الضمير بلمسة واحدة حتى لكأنها مجسّمة ملموسة إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين إنها الصورة المشرقة المضيئة لسلفنا الصالح رضوان الله عليهم كانوا يخافون ويرجون وكانوا يبكون حتى يؤثر فيهم البكاء فبكاؤهم ثمرة خشيتهم لله قال تعالى عنهم: ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا وقال أيضا: والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب ، فبالخوف والخشية تحترق الشهوات وتتأدب الجوارح ويحصل في القلب الذبول والخشوع والذلة والاستكانة والتواضع والخضوع، ويفارق الكبر والحسد، بل يصير مستوعب الهم يخوفه والنظر في خطر عاقبته، فلا يتفرغ لغيره ولا يكون له شغل إلا المراقبة والمحاسبة والمجاهدة والمحافظة على الأوقات واللحظات ومؤاخذة النفس بالخطرات والخطوات والكلمات، ويكون حاله حال من وقع في مخالب سبع ضار لا يدري أنه يغفل عنه فيفلت أو يهجم عليه فيهلك، فيكون ظاهره وباطنه مشغولا بما هو خائف منه لا متسع فيه لغيره. هذا حال من غلبه الخوف واستولى عليه وهكذا كان حال جماعة من الصحابة والتابعين يقول بلال بن سعد: عباد الرحمن، هل جاءكم مخبر يخبركم أن شيئا من أعمالكم تقبلت منكم أو شيء من خطاياكم غفرت لكم والله لو عجل لكم الثواب في الدنيا لاستقللتم كلكم ما افترض عليكم من العبادة، وتنافسون في جنة أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار ، ويقول أيضا: رب مسرور مغبون، ورب مغبون لا يشعر، فويل لمن بان له الدليل ولا يشعر يأكل ويشرب ويضحك، وقد حق عليه في قضاء الله عز وجل أنه من أهل النار فيا ويل لك روحا والويل
لك جسدا فلتبك ولتبك عليك البواكي لطول الأبد. فبمثل هذه العبارات كان الرسول وكان السلف يجاهدون أنفسهم ويعظون غيرهم حتى ينتبه الناس من غفلتهم ويصحوا من رقدتهم ويفيقوا من سكرتهم رجاء أن يدركوا من سبقهم إلى الطريق المستقيم ويكون الخوف دافعا لهم على الاستقامة ما كانوا على وجه الأرض أحياء مكلّفين.
وفي الختام أحب أن أذكر نماذج من خوف بعض الصحابة والتابعين:
فهذا أبو بكر أفضل رجل في هذه الأمة بعد رسول الله نظر إلى طير وقع على شجرة فقال: ما أنعمك يا طير، تأكل وتشرب وليس عليك حساب وتطير ليتني كنت مثلك، وكان كثير البكاء وكان يمسك لسانه ويقول: (هذا الذي أوردني الموارد) وكان إذا قام إلى الصلاة كأنه عود من خشية الله، وهذا عمر الرجل الثاني بعد أبي بكر قال لابنه عبد الله وهو في الموت: (ويحك ضع خدي على الأرض عساه أن يرحمني ثم قال: بل ويل أمي إن لم يغفر لي ويل أمي إن لم يغفر لي)، وأخذ مرة تبنة من الأرض فقال: (ليتني هذه التبنة ليتني لم أكن شيئا، ليت أمي لم تلدني، ليتني كنت منسيا)، وكان يمر بالآية من ورده بالليل فتخيفه، فيبقى في البيت أياما معاد يحسبونه مريضا، وكان في وجهه خطان أسودان من البكاء، وهذا عثمان كان إذا وقف على القبر يبكي حتى يبل لحيته وقال: (لو أنني بين الجنة والنار لا أدري إلى أيتهما يؤمر بي، لاخترت أن أكون رمادا قبل أن أعلم إلى أيتهما أصيرُ)، وهذا علي كما وصفه ضرار بن ضمرة الكناني لمعاوية يقول: كان والله بعيد المدى شديد القوى، يقول فصلا، ويحكم عدلا، ويتفجر العلم من جوانبه وتنطق الحكمة من نواحيه يستوحش من الدنيا وزهرتها ويستأنس بالليل وظلمته، كان والله غزير الدمعة طويل الفكرة يقلب كفيه ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما قصر ومن الطعام ما خشن كان والله كأحدنا يدنينا إذا أتيناه ويجيبنا إذا سألناه، وكان مع تقربه إلينا وقربه منا لا نكلمه هيبة له فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه يميل في محرابه قابضا على لحيته يضطرب ويتقلب تقلب الملسوع ويبكي بكاء الحزين، فكأني أسمعه وهو يقول: يا ربنا يا ربنا، يتضرع إليه يقول للدنيا: إلي تعرضت، إلي تشوفت، هيهات هيهات غري غيري قد طلقتك ثلاثا فعمرك قصير ومجلسك حقير وخطرك يسير، آه آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق. فوكفت دموع معاوية على لحيته ما يملكها وجعل ينشفها بكمه وقد اختنق القوم بالبكاء وهو يقول: هكذا والله كان أبو الحسن.
وهذا ابن عباس كان أسفل عينيه مثل الشّراك البالي من البكاء.(/4)
وهذا أبو عبيدة يقول عن نفسه: وددت أني كنت كبشا فيذبحني أهلي فيأكلون لحمي ويشربون مرقي، وهكذا كان حال صحابة رسول الله مع أنهم كانوا مبشرين بالجنة فهذا علي رضي الله عنه يصفهم ويقول: لقد رأيت أصحاب محمد فلم أرَ أحدا يشبههم منكم لقد كانوا يصبحون شعثا غبرا وقد باتوا سجدا أو قياما، يراوحون بين جباههم وخدودهم، ويقعون على مثل الجمر من ذكر معادهم كأن بين أعينهم ركب العزي من طول سجودهم إذا ذكر الله هملت أعينهم حتى تبتل جيوبهم ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف خوفا من العقاب ورجاء للثواب. وهذا سفيان الثوري رحمه الله يقول: والله لقد خفت من الله خوفا أخاف أن يطير عقلي منه وإني لا أسأل الله في صلاتي أن يخفف من خوفي منه.
أيها الإخوة: هل من مشمر؟ هل من خائف؟ هل من سائر إلى الله؟ بعد هذا الذي سمعناه أرجو أن نكون مثل سلفنا علما وعملا خوفا ورجاء ومحبة فإن فعلنا ذلك كنا صادقين وكنا نحن المشمرين إن شاء الله.(/5)
خصائص أهل السنة والجماعة
وأهل السنة والجماعة: يتميزون على غيرهم من الفرق؛ بصفات وخصائص وميزات منها:
1- أنهم أهل الوسط والاعتدال؛ بين الإفراط والتفريط، وبين الغلو والجفاء؛ سواءٌ كان في باب العقيدة أو الأحكام أو السلوك فهم وسط بين فرق الأمة؛ كما أن الأمة وسط بين الملل.
2- اقتصارهم في التلقي على الكتاب والسنة، والاهتمام بهما والتسليم لنصوصهما، وفهمهما على مقتضى منهج السلف.
3- ليس لهم إمام معظَّم يأخذون كلامه كله ويدعون ما خالفه إلا رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وهم أعلم الناس بأحواله، وأقواله، وأفعاله؛ لذلك فهم أشد الناس حبًّا للسنة، وأحرصهم على اتباعها، وأكثرهم موالاة لأهلها.
4- تركهم الخصومات في الدين، ومجانبة أهلها، وترك الجدال والمراء في مسائل الحلال والحرام ودخولهم في الدين كله.
5- تعظيمهم للسلف الصالح، واعتقادهم بأن طريقة السلف أسلم، وأعلم، وأحكم.
6- رفضهم التأويل، واستسلامهم للشرع، مع تقديمهم النقل على العقل وإخضاع الثاني للأول.
7- جمعهم بين النصوص في المسألة الواحدة، وردُّهم المتشابه إلى المحكم.
8- أنهم قدوة الصالحين: الذين يهدون إلى الحق، ويرشدون إلى الصراط المستقيم؛ بثباتهم على الحق، وعدم تقلبهم، واتفاقهم على أمور العقيدة، وجمعهم بين العلم والعبادة، وبين التوكل على الله والأخذ بالأسباب، وبين التوسع في الدنيا والزهد فيها، وبين الخوف والرجاء، والحب والبغض، وبين الرحمة واللين والشدة والغلظة، وعدم اختلافهم مع اختلاف الزمان والمكان.
9- أنهم لا يتسمون بغير الإسلام، والسنة، والجماعة.
10- حرصهم على نشر العقيدة الصحيحة، والدين القويم، وتعليمهم الناس وإرشادهم، والنصيحة لهم، والاهتمام بأمورهم.
11- أنهم أعظم الناس صبراً على أقوالهم، ومعتقداتهم، ودعوتهم.
12- حرصهم على الجماعة والألفة، ودعوتهم إليها وحث الناس عليها، ونبذهم للاختلاف والفرقة، وتحذير الناس منها.
13- عصمهم الله - تعالى -من تكفير بعضهم بعضاً، ويحكمون على غيرهم بعلمٍ وعدل.
14- محبة بعضهم لبعض، وترحُّم بعضهم على بعض وتعاونهم فيما بينهم وتكميل بعضهم بعضاً، ولا يوالون ولا يعادون إلا على الدين.
وبالجملة فهم أحسن الناس أخلاقاً، وأحرصهم على زكاة أنفسهم؛ بطاعة الله - تعالى -، وأوسعهم أفقاً، وأبعدهم نظراً، وأرحبهم بالخلاف صدراً، وأعلمهم بآدابه وأصوله.
وخلاصة القول في معنى أهل السنة والجماعة:
أنها الفرقة التي وعدها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنجاة من بين الفرق، ومدار هذا الوصف على اتباع السنة وموافقة ما جاء بها؛ من الاعتقاد، والعبادة والهدي والسلوك، والأخلاق، وملازمة جماعة المسلمين.
وبهذا لا يخرج تعريف أهل السنة والجماعة عن تعريف السلف. وقد عرفنا أن السلف؛ هم العاملون بالكتاب المتمسكون بالسنة، إذن فالسلف هم أهل السنة الذين عناهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل السنة هم السلف الصالح ومن سار على نهجهم.
وهذا هو المعنى الأخص؛ لأهل السنة والجماعة؛ فيخرج من هذا المعنى كل طوائف المبتدعة وأهل الأهواء؛ كالخوارج والجهمية والمرجئة والشيعة...وغيرهم من أهل البدع.
فالسنة هنا تقابل البدعة، والجماعة تقابل الفرقة، وهو المقصود في الأحاديث التي وردت في لزوم الجماعة والنهي عن التفرق.
فهذا الذي قصده عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - في تفسير قول الله - تعالى -: (يَوْمَ تَبْيضُّ وُجُوُهٌ وتَسْودُ وُجُوُهٌ) . (آل عمران/106).
قال: (تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة).
وأما المعنى الأعم لأهل السنة والجماعة؛ فيدخل فيه جميع المنتسبين إلى الإسلام عدا الرافضة
ويطلق أحياناً لبعض أهل البدع والأهواء بأنهم من أهل السنة والجماعة؛ لموافقتهم لأهل السنة المحضة في بعض المسائل العقائدية مقابل الفرق الضالة، وهذا المعنى أقل استعمالاً عند علماء أهل السنة؛ لتقيده في بعض المسائل الاعتقادية، ومقابل بعض الطوائف المعينة؛ فمثلاً: استعمال صفة أهل السنة؛ مقابل الروافض في مسألة الخلافة والصحابة... وغيرها من الأمور الاعتقادية.
ويقابل أهل السنة؛ أهل البدعة، ورؤسهم خمسة: الخوارج، والرافضة، والمرجئة، والقدرية، والجهمية
فعبارة السلف الصالح ترادف أهل السنة والجماعة في اصطلاح علماء أهل السنة المحققين ؛ كما يطلق عليهم؛ أهل الأثر، وأهل الحديث، والطائفة المنصورة، والفرقة الناجية، وأهل الاتباع، وهذه الأسماء والاطلاقات مستفيضة عن علماء السلف.
خصائص عقيدة أهل السنة والجماعة
لماذا عقيدة السلف الصالح أولى بالإتباع؟!
العقيدة الصحيحة هي أساس هذا الدين، وكل ما يبنى على غير هذا الأساس؛ فمآله الهدم والانهيار، ومن هذا نرى اهتمام النبي - صلى الله عليه وسلم - بإرساء هذه العقيدة وترسيخها في قلوب أصحابه طيلة عمره؛ وذلك من أجل بناء الرجال على قاعدة صلبة وأساس متين.(/1)
وظل القرآن الكريم في مكة يتنزل ثلاثة عشر عاماً يتحدث عن قضية واحدة لا تتغير، وهي قضية العقيدة والتوحيد لله - تعالى -، ومن أجلها ولأهميتها كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة لا يدعو إلا إليها، ويربي أصحابه عليها.
وترجع أهمية دراسة عقيدة السلف الصالح إلى أهمية تبيين العقيدة الصافية، وضرورة العمل الجاد في سبيل العودة بالناس إليها وتخليصهم من ضلالات الفرق واختلاف الجماعات، وهي أول ما يجب على الدعاة الدعوة إليها.
فالعقيدة على منهج السلف الصالح لها مميزات وخصائص فريدة تبين قيمتها وضرورة التمسك بها، ومن أهم هذه المميزات:
أولاً: إنها؛ السبيل الوحيد للخلاص من التفرق والتحزب، وتوحيد صفوف المسلمين عامة، والعلاء والدعاة خاصة، حيث هي وحي الله - تعالى -، وهدي نبيه -- صلى الله عليه وآله وسلم -- وما كان عليه الرعيل الأول الصحابة الكرام، وأي تجمع على غيرها مصيره - ما نشاهده اليوم من حال المسلمين - التفرق، والتنازع، والفشل. قال الله- تبارك وتعالى -: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بعدِ ما تَبَيَّنَ لهُ الهُدى ويَتَبَّعْ غَيْرَ سبيلِ المُؤمنينَ نُولَّه ما تَوَلى ونُصلهِ جهنَّمَ وساءتْ مصيراً). (النساء: )
ثانياً: إنها؛ توحد وتقوي صفوف المسلمين، وتجمع كلمتهم على الحق وفي الحق لأنها استجابة لقول الله- تبارك وتعالى -: (واعتصموا بحبلِ الله جميعاً ولا تفرَّقوا). (آل عمرن: )
ولذا فإن من أهم أسباب اختلاف المسلمين؛ اختلاف مناهجهم، وتعدد مصادر التلقي عندهم؛ فتوحيد مصدرهم في العقيدة والتلقي سبب مهم لتوحيد الأمة؛ كما تحقق في صدرها الأول.
ثالثاً: إنها؛ تربط المسلم مباشرة بالله - تعالى -ورسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - وبحبهما وتعظيمهما، وعدم التقديم بين يدي الله ورسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - ذلك لأن عقيدة السلف منبعها قال الله، وقال رسوله بعيداً عن تلاعب الهوى والشبهات، وخالية من التأثير بالمؤثرات الأجنبية؛ من فلسفة ومنطق وعقلانية، وإدخال منابع أخرى.
رابعاً: إنها سهلة ميسرة واضحة لا لبس فيها ولا غموض، بعيدة عن التعقيد وتحريف النصوص. معتقدها مرتاح البال، مطمئن النفس، بعيد من الشكوك والأوهام ووساوس الشيطان، قرير العين لأنه سائر على هدي نبي هذه الأمة - صلى الله عليه وآله وسلم - وصحابته الكرام رضوان الله عليهم أجمعين قال - تعالى -: (إنَّما المُؤمنُونَ الذين آمنوا باللهِ ورَسَوُلِهِ ثُمَّ لم يرتابوا وجاهدُوا بأموالهم وأنفسِهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون). (الحجرات/15).
خامساً: إنها من أعظم أسباب القرب من الله تبارك وتعالى، والفوز برضوانه.
وهذه المميزات والسمات ثابتة لأهل السنة والجماعة، لا تكاد تختلف في أي مكان أو زمان، والحمد لله رب العالمين.
http://www.asunnah.net المصدر:(/2)
خصائص أهل السنة والجماعة ...
وأهل السنة والجماعة : يتميزون على غيرهم من الفرق ؛ بصفات وخصائص وميزات منها :
1- أنهم أهل الوسط والاعتدال ؛ بين الإفراط والتفريط ، وبين الغلو والجفاء ؛ سواءٌ كان في باب العقيدة أو الأحكام أو السلوك فهم وسط بين فرق الأمة ؛ كما أن الأمة وسط بين الملل .
2- اقتصارهم في التلقي على الكتاب والسنة ، والاهتمام بهما والتسليم لنصوصهما، وفهمهما على مقتضى منهج السلف .
3- ليس لهم إمام معظَّم يأخذون كلامه كله ويدعون ما خالفه إلا رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وهم أعلم الناس بأحواله ، وأقواله ، وأفعاله ؛ لذلك فهم أشد الناس حبًّا للسنة ، وأحرصهم على اتباعها ، وأكثرهم موالاة لأهلها .
4- تركهم الخصومات في الدين ، ومجانبة أهلها ، وترك الجدال والمراء في مسائل الحلال والحرام ودخولهم في الدين كله .
5- تعظيمهم للسلف الصالح ، واعتقادهم بأن طريقة السلف أسلم ، وأعلم ، وأحكم .
6- رفضهم التأويل ، واستسلامهم للشرع ، مع تقديمهم النقل على العقل وإخضاع الثاني للأول .
7- جمعهم بين النصوص في المسألة الواحدة ، وردُّهم المتشابه إلى المحكم .
8- أنهم قدوة الصالحين : الذين يهدون إلى الحق ، ويرشدون إلى الصراط المستقيم ؛ بثباتهم على الحق ، وعدم تقلبهم ، واتفاقهم على أمور العقيدة ، وجمعهم بين العلم والعبادة ، وبين التوكل على الله والأخذ بالأسباب ، وبين التوسع في الدنيا والزهد فيها ، وبين الخوف والرجاء ، والحب والبغض ، وبين الرحمة واللين والشدة والغلظة ، وعدم اختلافهم مع اختلاف الزمان والمكان .
9- أنهم لا يتسمون بغير الإسلام ، والسنة ، والجماعة .
10- حرصهم على نشر العقيدة الصحيحة ، والدين القويم ، وتعليمهم الناس وإرشادهم ، والنصيحة لهم ، والاهتمام بأمورهم .
11- أنهم أعظم الناس صبراً على أقوالهم ، ومعتقداتهم ، ودعوتهم .
12- حرصهم على الجماعة والألفة ، ودعوتهم إليها وحث الناس عليها ، ونبذهم للاختلاف والفرقة ، وتحذير الناس منها .
13- عصمهم الله تعالى من تكفير بعضهم بعضاً ، ويحكمون على غيرهم بعلمٍ وعدل .
14- محبة بعضهم لبعض ، وترحُّم بعضهم على بعض وتعاونهم فيما بينهم وتكميل بعضهم بعضاً ، ولا يوالون ولا يعادون إلا على الدين .
وبالجملة فهم أحسن الناس أخلاقاً ، وأحرصهم على زكاة أنفسهم ؛ بطاعة الله تعالى ، وأوسعهم أفقاً ، وأبعدهم نظراً ، وأرحبهم بالخلاف صدراً ، وأعلمهم بآدابه وأصوله .
وخلاصة القول في معنى أهل السنة والجماعة :
أنها الفرقة التي وعدها النبي صلى الله عليه وسلم بالنجاة من بين الفرق ، ومدار هذا الوصف على اتباع السنة وموافقة ما جاء بها ؛ من الاعتقاد ، والعبادة والهدي والسلوك ، والأخلاق ، وملازمة جماعة المسلمين .
وبهذا لا يخرج تعريف أهل السنة والجماعة عن تعريف السلف . وقد عرفنا أن السلف ؛ هم العاملون بالكتاب المتمسكون بالسنة ، إذن فالسلف هم أهل السنة الذين عناهم النبي صلى الله عليه وسلم وأهل السنة هم السلف الصالح ومن سار على نهجهم .
وهذا هو المعنى الأخص ؛ لأهل السنة والجماعة ؛ فيخرج من هذا المعنى كل طوائف المبتدعة وأهل الأهواء ؛ كالخوارج والجهمية والمرجئة والشيعة ... وغيرهم من أهل البدع .
فالسنة هنا تقابل البدعة ،والجماعة تقابل الفرقة ، وهو المقصود في الأحاديث التي وردت في لزوم الجماعة والنهي عن التفرق .
فهذا الذي قصده عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - في تفسير قول الله تعالى : ( يَوْمَ تَبْيضُّ وُجُوُهٌ وتَسْودُ وُجُوُهٌ ) . ( آل عمران/106 ) .
قال : ( تبيض وجوه أهل السنة والجماعة ، وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة ) .
وأما المعنى الأعم لأهل السنة والجماعة ؛ فيدخل فيه جميع المنتسبين إلى الإسلام عدا الرافضة
ويطلق أحياناً لبعض أهل البدع والأهواء بأنهم من أهل السنة والجماعة ؛ لموافقتهم لأهل السنة المحضة في بعض المسائل العقائدية مقابل الفرق الضالة ، وهذا المعنى أقل استعمالاً عند علماء أهل السنة ؛ لتقيده في بعض المسائل الاعتقادية ، ومقابل بعض الطوائف المعينة ؛ فمثلاً : استعمال صفة أهل السنة ؛ مقابل الروافض في مسألة الخلافة والصحابة ... وغيرها من الأمور الاعتقادية .
ويقابل أهل السنة ؛ أهل البدعة ، ورؤسهم خمسة : الخوارج ، والرافضة ، والمرجئة ، والقدرية ، والجهمية
فعبارة السلف الصالح ترادف أهل السنة والجماعة في اصطلاح علماء أهل السنة المحققين ؛ كما يطلق عليهم ؛ أهل الأثر ، وأهل الحديث ، والطائفة المنصورة ، والفرقة الناجية ، وأهل الاتباع ، وهذه الأسماء والاطلاقات مستفيضة عن علماء السلف .
خصائص عقيدة أهل السنة والجماعة
لماذا عقيدة السلف الصالح أولى بالإتباع؟!(/1)
العقيدة الصحيحة هي أساس هذا الدين ، وكل ما يبنى على غير هذا الأساس ؛ فمآله الهدم والانهيار ، ومن هذا نرى اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بإرساء هذه العقيدة وترسيخها في قلوب أصحابه طيلة عمره ؛ وذلك من أجل بناء الرجال على قاعدة صلبة وأساس متين .
وظل القرآن الكريم في مكة يتنزل ثلاثة عشر عاماً يتحدث عن قضية واحدة لا تتغير ، وهي قضية العقيدة والتوحيد لله تعالى ، ومن أجلها ولأهميتها كان النبي صلى الله عليه وسلم في مكة لا يدعو إلا إليها ، ويربي أصحابه عليها .
وترجع أهمية دراسة عقيدة السلف الصالح إلى أهمية تبيين العقيدة الصافية ، وضرورة العمل الجاد في سبيل العودة بالناس إليها وتخليصهم من ضلالات الفرق واختلاف الجماعات ، وهي أول ما يجب على الدعاة الدعوة إليها .
فالعقيدة على منهج السلف الصالح لها مميزات وخصائص فريدة تبين قيمتها وضرورة التمسك بها ، ومن أهم هذه المميزات :
أولاً : إنها ؛ السبيل الوحيد للخلاص من التفرق والتحزب ، وتوحيد صفوف المسلمين عامة ، والعلاء والدعاة خاصة ، حيث هي وحي الله تعالى ، وهدي نبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- وما كان عليه الرعيل الأول الصحابة الكرام ، وأي تجمع على غيرها مصيره - ما نشاهده اليوم من حال المسلمين - التفرق ، والتنازع ، والفشل . قال الله تبارك وتعالى : ( وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بعدِ ما تَبَيَّنَ لهُ الهُدى ويَتَبَّعْ غَيْرَ سبيلِ المُؤمنينَ نُولَّه ما تَوَلى ونُصلهِ جهنَّمَ وساءتْ مصيراً ) . ( النساء: )
ثانياً : إنها ؛ توحد وتقوي صفوف المسلمين ، وتجمع كلمتهم على الحق وفي الحق لأنها استجابة لقول الله تبارك وتعالى : ( واعتصموا بحبلِ الله جميعاً ولا تفرَّقوا ) . ( آل عمرن: )
ولذا فإن من أهم أسباب اختلاف المسلمين ؛ اختلاف مناهجهم ، وتعدد مصادر التلقي عندهم ؛ فتوحيد مصدرهم في العقيدة والتلقي سبب مهم لتوحيد الأمة ؛ كما تحقق في صدرها الأول .
ثالثاً : إنها ؛ تربط المسلم مباشرة بالله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - وبحبهما وتعظيمهما ، وعدم التقديم بين يدي الله ورسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - ذلك لأن عقيدة السلف منبعها قال الله ، وقال رسوله بعيداً عن تلاعب الهوى والشبهات ، وخالية من التأثير بالمؤثرات الأجنبية ؛ من فلسفة ومنطق وعقلانية ، وإدخال منابع أخرى .
رابعاً : إنها سهلة ميسرة واضحة لا لبس فيها ولا غموض ، بعيدة عن التعقيد وتحريف النصوص . معتقدها مرتاح البال ، مطمئن النفس ، بعيد من الشكوك والأوهام ووساوس الشيطان ، قرير العين لأنه سائر على هدي نبي هذه الأمة - صلى الله عليه وآله وسلم - وصحابته الكرام رضوان الله عليهم أجمعين قال تعالى : ( إنَّما المُؤمنُونَ الذين آمنوا باللهِ ورَسَوُلِهِ ثُمَّ لم يرتابوا وجاهدُوا بأموالهم وأنفسِهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون ) . (الحجرات/15) .
خامساً : إنها من أعظم أسباب القرب من الله تبارك وتعالى ، والفوز برضوانه .
وهذه المميزات والسمات ثابتة لأهل السنة والجماعة ، لا تكاد تختلف في أي مكان أو زمان ، والحمد لله رب العالمين .(/2)
خصائص التفسير الإسلامي للتاريخ
أ. د. عماد الدين خليل 11/3/1427
09/04/2006
لن يتسع المجال في مقال كهذا للدخول في التفاصيل، ولذا سيتم التركيز على الخصائص الأساسية بالإيجاز المطلوب.
1. المرونة وعدم التأزّم المذهبي: يتميز الموقف الإسلامي من التاريخ بمرونته وبعده
عن التوتر أو التأزم المذهبي الذي يسعى إلى قولبة الوقائع التاريخية، وصبّها في هيكله المسبق، واستبعاد أو تزييف كل ما لا ينسجم وهذا الهيكل، الأمر الذي يوقع التفاسير الوضعية في كثير من الأخطاء والانحرافات. هذا إلى جانب أن الفكر الوضعي لابد وأن يتأثر بطبيعة العصر الذي يعيشه سلباً وإيجاباً، وبدرجة أو أخرى، وهذا (التأثير) المحتوم ينعكس -ولا ريب- على معطياته الفكرية سواء كانت (صيغة) هذا التأثر بشكل (تقبّل) لقيم العصر وأوضاعه ومناهجه ورؤاه، أو (رفض) لها وتمرّد عليها. ففي كلتا الحالتين يلعب الجانب التأثري الانفعالي، والاسقاطات الظاهرة والخفية، في "الوعي" و"اللا وعي"، دوره في الرؤية التي يمارسها المفكر تجاه الأوضاع والأحداث والأشياء.
فإذا ما حدث وكان المفكر مفسراً للتاريخ، وتفسير التاريخ ـ كما نعلم ـ توسيع للتحليل صوب الماضي والمستقبل اللذين يندّان كثيراً عن الحصر والضبط والتحديد، فإن لنا أن نتصور كم سيجيء هذا التفسير مطبوعاً بطابع العصر الذي يعيشه المفسر، وكيف أن الأشياء والظواهر والأحداث، في الماضي والمستقبل، ستأخذ اللون الذي يجد المفسر نفسه مضطراً إلى النظر من خلال زجاجته التي أسقطت عليها مواضعات العصر الظلال والأضواء. وهذا يؤدي إلى أن تبعد التفاسير الوضعية، بدرجة أو أخرى، عن العلمية والموضوعية والحياد.
أما التفسير الإسلامي، الذي يستمد من رؤية الله التي تعلو على الزمان والمكان، وتتجاوز مواضعات العصر النسبية، فإنه ينظر بانفتاح تام إلى الأحداث ويسلّط الأضواء على مساحاتها جميعاً، دون أن يقتصر على الأحمر أو الأخضر لكي تبدو حمراء أو خضراء .. وهكذا فان ثمة فرقاً (منهجياً) حاسماً بين المذاهب الوضعية وبين المذهب الإسلامي في تفسير التاريخ .. في الأولى تُصاغ حقائق التاريخ، أو يُعاد عرضها، وفق المذهب (المصنوع) سلفاً فتقسر على الانسجام مع وضعية المذهب، وتُساق للتدليل عليه وتأكيده، وهذا الخطأ يجيء من حقيقة أن وقائع التاريخ سبقت في الزمن تخطيط المذاهب، ومن ثم فان المذاهب جاءت كقضية
(بعدية) تسعى إلى أن تجبر (القبليات) على التشكل بها. وهذا التأزم المذهبي، هذا التحديد الصارم للنظم التي تتبعها الوقائع التاريخية في مسارها، هذا التوتر في التزام هيكل نظري
مسبق، تُساق أحداث التاريخ للتدليل عليه بالحق والباطل، والذي بلغ أقصى حدته في المادية التاريخية التي رسمها (ماركس وانغلز)، مما دفع عدداً من المفكرين الأوروبيين إلى اتخاذ موقف معاكس تماماً، يمثل رد فعل إزاء الموقف السالف، بحيث أنهم رفضوا القول بخضوع الحركة التاريخية لأي ناموس أو سنة، ومسيرتها وفق أي نظام مهما كان. وقد بلغ هذا الموقف، غير الموضوعي هو الآخر، أقصى حدته على يد (كارل بوبر) في كتابه المعروف (عقم المذهب التاريخي).
أما في القرآن الكريم فإن التفسير ينبثق عن رؤية الله سبحانه، وهي تختلف عن الرؤية الوضعية في أنها تحيط علماً بوقائع التاريخ، بأبعادها الزمنية الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل، وببعدها الرابع الذي يغيب كثيراً عن ذهن الإنسان مهما كان على درجة من البصيرة والذكاء، البعد الذي يغور في أعماق النفس البشرية فيلامس فطرة الإنسان وتركيبه الذاتي، والحركة الدائمة في كيانه الباطني، ويتسرب بعيداً صوب اهتزازته العقلية والعاطفية والوجدانية، وإرادته المسبقة، وما تؤول إليه هذه جميعاً من معطيات تمنح حركة التاريخ أبعادها الحقيقية، ويمتد كذلك لكي يشتبك في العلاقات الشاملة للمصير. ذلك أنها رؤية الذات الإلهية التي وسعت كل شيء علماً، والتي صنعت الواقعة التاريخية، ووضعتها في مكانها المرسوم من خارطة التاريخ البشري والكوني على السواء.
الرؤية الوضعية تمتد إلى الماضي لتقتبس منه و (تختار) ما يعزّز وجهات نظرها المسبقة، والرؤية القرآنية تحيط بالماضي لكي تكثفه في قواعد وسنن تُطرح أمام كل باحث في التاريخ يسعى إلى فهمه، وإلى أن يرسم على ضوء هذا الفهم، طرائق حياته الحاضرة والمستقبلة، باعتبار أن الأزمان الثلاثة إنما هي وحدة حيوية تحكمها قوانين واحدة، كتلك التي تحكم الحياة سواء بسواء. وهذا ينقلنا إلى الميزة التالية.(/1)
2. الواقعية: إن رؤية التفسير الإسلامي للأحداث رؤية واقعية شاملة في امتداداتها الزمنية الماضية والحاضرة والمستقبلية.. فيما كانت عليه، وما هي عليه، وما سوف تكون عليه .. إنه ـ مثلاً ـ يعترف بالتمايز القومي، ويعطي لهذا العامل (الواقعي) حجمه الحقيقي، على الرغم من نزعة الإسلام العالمية، واستعلائه على الكيانات المحدودة المنغلقة على الإقليم أو اللون أو الجنس .. ويؤكد على ضعف الإنسان وتقلبه وعجلته، على الرغم من أنه جاء بمبدأ الاستخلاف الذي رفع به الإنسان إلى أعلى مصاف، وأمر الملائكة بالسجود له.
إن التفسير الإسلامي تفسير (واقعي)، لا يتأثر بقيمه ومثالياته ممكنة الوقوع أساساً، في تفسيره للواقع ـ كما يفعل هيغل وماركس على سبيل المثال ـ إنما يتكلم عن الواقع كما هو، دون تسويغ أو تعديل أو تحوير، ولكنه من خلال حركته على أرض الواقع هذه ينطلق إلى أهدافه ومثله وآفاقه.. إنه يسمي معركة (حنين) هزيمة وفراراً، ويخاطب مهزومي (أحد) بأنهم هم كانوا السبب وراء تلك الهزيمة، ويعلم المسلمين من خلال واقعيته هذه، ألاّ يسوّغوا أخطاءهم وينحرفوا في تفسير الأشياء والوقائع، ولكنه يعلمهم ـ في الوقت نفسه ـ أن يفيدوا من هذه الرؤية الواقعية للتاريخ لصياغة العالم المرتجى.
3. الناموسية: إن التفسير الإسلامي مذهب ينبثق وفق أسلوب موضوعي (عما حدث فعلاً) وعن طبيعة التصميم التاريخي للبشرية.. من سدى نسيجه ولحمته.. فهو إذن تبلور للخطوط الأساسية لحركة التاريخ يصوغها القرآن الكريم والسنة الشريفة في مبادئ عامة يسميانها (سنناً)، ينبغي أن يعتمدها المفسرون الإسلاميون منطلقاً ـ لا لتزييف التاريخ ـ وانما لتفسيره وفهمه وإدراك عناصر حركته ومصائر وقائعه، ومسالكها المعقدة المتشعبة. وهو ـ إذن ـ تفسير شامل محيط يعطي أصدق صورة للسنن التي تسيّر التاريخ.
4. الشمولية: ينفتح التفسير الإسلامي للتاريخ على كافة (القوى الفاعلة) في الحركة التاريخية: المنظورة وغير المنظورة، العقلية والوجدانية، المادية والروحية، الطبيعية والغيبية.. ويرفض تجزؤ الرؤية وعزل الأرض عن موقعها الصحيح في الكون وارتباطاتها الشاملة بما حولها.
إن معظم مذاهب التفسير التاريخي، وضعية كانت أم دينية (محرفة)، قدّمت معطياتها متخطية الإجابة عن هذا السؤال المهم: ما هي العلاقة بين الله سبحانه وبين الطبيعة، بما فيها القوى المادية، والإنسان، بما أنه روح وجسد، في صنع التاريخ وإقامة الحضارات؟ وهل من المحتم أن تتكئ أحداث التاريخ على عامل واحد من بين هذه العوامل الثلاثة، ويُلغى العاملان الآخران، أو على الأقل يغدوان ظلالاً باهتة لفاعلية العامل الرئيس؟ ولماذا هذه الجدران التي أُقيمت بين الله والطبيعة والإنسان؟
إن معظم مذاهب التفسير تخطت الإجابة عن هذا السؤال، تاركة في طريقها ثغرة
عميقة، ومنغلقة، في بحثها عن الفرضية التي تمنح صفة الفاعلية لعامل واحد، تلغي العوامل الأخرى إلغاء. ومن ثم برز التفسير السحري للتاريخ، وتطوّر ليعبر عن نفسه بالتفسير
(اللاهوتي) الذي ساد تفكير مثقفي العصور الوسطى الأوروبية، كما برز التفسير الفردي
(البطولي) للتاريخ، والتفسير العقلي (المثالي)، والتفسيرات الطبيعية التي بلغت أقصى حدّتها في (المادية التاريخية) التي يصفونها (بالعلمية).
إن تفسير التاريخ البشري يجب أن ينبثق عن موقف موضوعي شامل، يربط ويوازن ويدرك العلاقة المتبادلة بين سائر القوى التي تصنع التاريخ: مادية وروحية.. طبيعية وغيبية، ولن يتحقق هذا بطبيعة الحال إلا في نطاق (الموقف الإسلامي) حيث تعمل كافة القوى، بانسجام وتوافق، في الصيرورة التاريخية بدءًا وانتهاء.(/2)
خصائص الرجوع إلى الحق وصفات أهله
يمكننا أن نجمل أهم خصائص الرجوع إلى الحق وصفات أهله في النقاط التالية:
1- التربية على هذا المبدأ حماية لجناب التوحيد: من المقرر أن الكمال لله وحده، والعصمة لكتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن غرس في أتباعه أنه لا يخطئ , وأصر على ما عنده من الخطأ ؛ وربما استساغ التأويلات الفاسدة لإثبات ما عنده , وهذا هو الذي غرسه بعض أتباع الأئمة في أصحابهم ؛ قال أبو الحس الكرخي - من أئمة الحنفية -: [ الأصل أن كل آية تخالف قول أصحابنا؛ فإنها تحمل على النسخ أو على الترجيح، والأولى أن تحمل على التأويل من جهة التوفيق ].
وقال الفخر الرازي الشافعي: [ القول بأن قول الشافعي خطأ في مسألة كذا إهانة للشافعي القرشي، وإهانة قريش غير جائزة؛ فوجب أن لا يجوز القول بتخطئته في شيء من المسائل ] .
2- من أخلاق المؤمن: قال الله تعالى: ] وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ[17]الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ[18][ سورة الزمر .
قال الإمام محمد بن جرير الطبري: ] أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ [ .....وفقهم الله للرشاد وإصابة الصواب؛ لا الذين يعرضون عن سماع الحق , ويعبدون ما لا يضر ولا ينفع.
قال الحسن البصري: إن من أخلاق المؤمن: قوة في الدين....، ويقر بالحق قبل أن يشهد عليه.
3- أنه من النصيحة لله وكتابه ورسوله والمسلمين: قال الحافظ ابن رجب: فإن كراهة إظهار الحق إذا كان مخالفًا لقول الرجل ليس من الخصال المحمودة ؛ بل الواجب على المسلم أن يحب ظهور الحق ومعرفة المسلمين له سواء كان ذلك في موافقته أو مخالفته.
4- من العدل المأمور به: إن قبول الحق ممن جاء به والاعتراف بالخطأ من أبين علامات العدل مع النفس ومع الآخرين، وقد أمرنا الله عز وجل بالعدل , ووعد العاملين به خيرًا , يقول سبحانه: ] يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ ...[135] [ سورة النساء .
قال ابن عباس رضي الله عنهما: أمر الله المؤمنين أن يقولوا بالحق ولو على أنفسهم أو أبائهم أو أبنائهم .
ويقول الشيخ ابن سعدي : وكما تشهدون على عدوّكم فاشهدوا له ؛ فلو كان كافرًا أو مبتدعًا فإنه يجب العدل فيه وقبول ما يأتي به من الحق؛ لا لأنه قاله ولايرد الحق لأجل قوله؛ فإن هذا ظلم للحق.
5- أنه من التوبة: قال تعالى في وصف المؤمنين: ] وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [135] [ سورة آل عمران.
6- علامة التواضع: سئل الفضيل بن عياض عن التواضع؟ فقال: يخضع للحق وينقاد له ويقبله من قاله.
وقال ابن عطاء: هو قبول الحق ممن كان والعز في التواضع .
فكان حقيقة التواضع خضوع العبد لصولة الحق ، وانقياده لها ، فلا يقابلها بصولته عليها.
وقال ذو النون المصري: ثلاثة من أعلام التواضع: تصغير النفس معرفة بالعيب، وتعظيم الناس حرمة للتوحيد، وقبول الحق والنصيحة من كل أحد.
7- أنه من أساسيات المنهج التربوي في الإسلام: فالبحث عن الحق وطلبه والتزامه , والابتعاد عن حمأة التقليد الأعمى أو العمل بالجهل من الفروق الأساسية في المنهج بين الإسلام ومناهج الكفر؛ ففي الإسلام: ] فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ....19] [سورة محمد ، أما في غيره فتلك العبارة المشهورة: اعتقد وأنت أعمى.
وكذلك الفرق في المنهج بين أهل السنة وغيرهم من أهل البدع ومنهم القائل: من لم ير خطأ شيخه أحسن من صوابه لم ينتفع به.
وقول الآخر: من شرط المريد أن لا يكون بقلبه اعتراض على شيخه.
8- من خصائص أهل العلم: يصف إمام التابعين الحسن البصري صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم, فيقول : ....وخضوعهم بالطاعة لربهم واستقادتهم للحق فيما أحبوا وكرهوا وإعطاؤهم الحق من أنفسهم.
ويعدد الإمام أبو بكر الآجري صفات العلماء ، فيذكر منها : إن أفتى بمسألة فعلم أنه أخطأ لم يستنكف أن يرجع عنها, وإن قال قولاً فرد عليه غيره ممن هو أعلم منه أو مثله أو دونه ؛ فعلم أن القول كذلك رجع عن قوله , وحمده على ذلك , وجزاه خيرًا.
9- أنه من صفات القائد المربي الناجح: إن التزام القائد والمربي هذا السلوك يخرج قادة رجالاً يحملون المسئولية ، وبعكس هذا تربية المبتدعة التي عمادها : [كن بين يدي الشيخ كالميت بين يدي المغسل]؛ حيث أنتجت قطعانًا من الماشية تجري وراء كل ناعق.(/1)
10- أنه مما يتواصى به الصالحون والعلماء: كتب عمر بن الخطاب إلى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه يقول: أما بعد فالزم الحق ينزلك الحق منازل أهل الحق يوم لا يقضى إلا بالحق .
وكذلك ما جاء في كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه المشهور، وفيه: ... ولا يمنعنك من قضاء قضيت به اليوم , فراجعت فيه نفسك , وهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق؛ فإن الحق قديم , ولا يبطل الحق شيء ، وإن مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل.
اسم الكتاب : دعوة الخلق للرجوع إلى الحق ….. تأليف: محمد بن عبد الله الوائلي(/2)
خصائص شهر رمضان
يحيى بن موسى الزهراني
دار ابن خزيمة
الحمد لله رب العالمين، أحمده سبحانه حمدا يليق بجلاله وعظمته وقدرته وعظيم سلطانه، الحمد لله الذي أوجب الصيام في رمضان على عباده، والصلاة والسلام على من سن القيام في رمضان لأصحابه واتباعه.. أما بعد: فإني أحمد الله إليكم أن بلغنا رمضان لهذا العام، ولا يخفى على كل مسلم ما لرمضان مكانة في القلوب، كيف لا وهو شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النار، شهر كله هبات وعطايا ومنن من الحق سبحانه وتعالى، وسنتطرق إلى الخصائص التي اختص بها هذا الشهر عن سواه من الشهور.
خصائص شهر رمضان
1- من خصائص شهر رمضان: أن الله تبارك وتعالى انزل فيه القرآن، قال تعالى: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان [البقرة]، وهو دستور هذه الأمة، وهو الكتاب المبين، والصراط المستقيم، فيه وعد ووعيد وتخويف وتهديد، وهو الهدى لمن تمسك به واعتصم، وهو النور المبين، نور لمن عمل به، لمن أحل حلاله، وحرم حرامه، وهو الفاصل بين الحق والباطل، وهو الجد ليس بالهزل، فعلينا جميعا معشر المسلمين العناية بكتاب الله تعالى قراءة، وحفظا، وتفسير، وتدبرا، وعمل وتطبيقا.
2- ومن خصائص شهر رمضان: تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق أبواب النار، وتصفد مردة الشياطين وعصاتهم، فلا يصلون ولا يخلصون إلى ما كانوا يخلصون إليه من قبل، قال : { اذا دخل رمضان فتحت أبواب السماء، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين }، وفي رواية: { إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة } [البخاري].
3- ومن خصائص شهر رمضان: تضاعف فيه الحسنات.
4- ومن خصائص شهر رمضان: أن من فطر فيه صائما فله مثل أجر الصائم من غير أن ينقص من أجر الصائم شيئا، قال : { من فطر صائما فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء } [حسن صحيح رواه الترمذي وغيره].
5- ومن خصائص شهر رمضان: أن فيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وهي الليلة المباركة التي يكتب الله تعالى فيها ما سيكون خلال السنة، فمن حرم أجرها فقد حرم خيرا كثير، قال : { فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم } [أحمد والنسائي وهو صحيح]. ومن قامها إيمانا واحتسابا غفر الله له ما تقدم من ذنبه، قال : { من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه } [متفق عليه]، وقال : { من قامها إبتغاءها، ثم وقعت له، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر } [أحمد]. فياله من عمل قليل وأجره كثير وعظيم عند من بيده خزائن السموات والأرض، فلله الحمد والمنة.
6- ومن خصائص شهر رمضان: كثرة نزول الملائكة، قال تعالى: تنزل الملائكة والروح فيها [القدر].
7- ومن خصائص شهر رمضان: فيه أكلة السحور التي هي ميزة صيامنا عن صيام الأمم السابقة، وفيها خير عظيم كما أخبر بذلك المصطفى حيث قال: { فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر } [مسلم]، وقال عليه الصلاة والسلام: { تسحروا فإن في السحور بركة } [متفق عليه].
8- ومن خصائص شهر رمضان: وقعت فيه غزوة بدر الكبرى، وهي الغزوة التي تنزلت فيها الملائكة للقتال مع المؤمنين، فكان النصر المبين، حليف المؤمنين، واندحر بذلك المشركين، فلا إله إلا الله ذو القوة المتين.
9- ومن خصائص شهر رمضان: كان فيه فتح مكة شرفها الله تعالى، وهو الفتح الذي منه إنبثق نور الإسلام شرقا وغربا، ونصر الله رسوله حيث دخل الناس في دين الله أفواجا، وقضى رسول الله على الوثنية والشرك الكائن في مكة المكرمة فأصبحت دار إسلام، وتمت بعده الفتوحات الإسلامية في كل مكان.
10- ومن خصائص شهر رمضان: أن العمرة فيه تعدل حجة مع النبي ، ففي الصحيحين قال عليه الصلاة والسلام: { عمرة في رمضان تعدل حجة } أو قال { حجة معي }.
11- ومن خصائص شهر رمضان: أنه سبب من أسباب تكفير الذنوب والخطايا، قال : { الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان الى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر } [مسلم].
12- ومن خصائص شهر رمضان: أن فيه صلاة التراويح، حيث يجتمع لها المسلمون رجالا ونساء في بيوت الله تعالى لأداء هذه الصلاة، ولا يجتمعون في غير شهر رمضان لأدائها.
13- ومن خصائص شهر رمضان: أن الأعمال فيه تضاعف عن غيره، فلما سئل أي الصدقة أفضل قال: { صدقة في رمضان } [الترمذي والبيهقي].
14- ومن خصائص شهر رمضان: أن الناس أجود ما يكونون في رمضان، وهذا واقع ملموس لنجده الآن، ففي الصحيحين عن بن عباس رضي الله عنهما قال: { كان النبي أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان.. }.(/1)
15- ومن خصائص شهر رمضان: أنه ركن من أركان الاسلام، ولا يتم إسلام المرء إلا به، فمن جحد وجوبه فهو كافر، قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون [البقرة]، وقال : { بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت الحرام } [متفق عليه].
16- ومن خصائص شهر رمضان: كثرة الخير وأهل الخير، واقبال الناس على المساجد جماعات وفرادى، مما لا نجده في غير هذا الشهر العظيم المبارك، وياله من أسف وحسرة وندامة أن نجد الإقبال الشديد على بيوت الله تعالى في رمضان أما في غير رمضان فإلى الله المشتكى. فبئس القوم الذين لا يعرفون الله إلا في رمضان.
فشهر هذه خصائصه وهذه هباته وعطاياه، ينبغي علينا معاشر المسلمين إستغلال فرصه وإستثمار أوقاته فيما يعود علينا بالنفع العميم من الرب العليم الحليم، فلا بد لنا من واجبات نحو هذا الشهر.
واجباتنا في شهر رمضان
1- أن ندرك أن الله أراد أن يمتحن إيماننا به سبحانه، ليعلم الصادق في الصيام من غير الصادق، فالله هو المطلع على ما تكنه الضمائر.
2- أن نصومه بنية فإنه لا أجر لمن صامه بلا نية.
3- أن لا نقطع يومنا الطويل في النوم.
4- أن نكثر فيه من قراءة القرآن الكريم.
5- أن نجدد التوبة مع الخالق سبحانه وتعالى.
6- أن لا نعمر لياليه بالسهر والسمر الذي لا فائدة منه.
7- أن نكثر فيه من الدعاء والإستغفار والتضرع إلى الله سبحانه.
8- أن نحافظ على الصلوات الخمس جماعة في بيوت الله تعالى.
9- أن تصوم وتمسك جميع الجوارح عما حرم الله عز وجل.
هذا- عباد الله- شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، شهر القرب من الجنان والبعد عن النيران، فيا من ضيع عمره في غير الطاعة، يا من فرط في شهره، بل في دهره وأضاعه، يا من بضاعته التسويف والتفريط، وبئست البضاعة، يا من جعل خصمه القرآن وشهر رمضان، قل لي بربك كيف ترجو النجاة بمن جعلته خصمك وضدك، فرب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر والتعب، فكل قيام لا ينهي عن الفحشاء والمنكر لا يزيد صاحبه إلا بعد، وكل صيام لا يصان عن الحرام لا يورث صاحبه إلا مقتا وردا.
يا قوم.. أين نحن من قوم إذا سمعوا داعي الله أجابوا الدعوة، وإذا تليت عليهم آيات الله جلت قلوبهم جلوة، وإذا صاموا صامت منهم الألسن والأسماع والأبصار، أفما لنا فيهم أسوة؟ فنشكوا إلى الله أحوالنا، فرحماك ربنا أعمالنا، فلا إله إلا الله كم ضيعنا من أعمارنا، فكلما حسنت من الأقوال ساءت الأعمال، فأنت حسبنا وملاذنا.
يا نفس فاز الصالحون بالتقى *** وأبصروا الحق وقلبي قد عمي
يا حسنهم والليل قد جنهم *** ونورهم يفوق نور الأنجم
ترنموا بالذكر في ليلهم *** فعيشهم قد طاب بالترنم
قلوبهم للذكر قد تفرغت *** دموعهم كالؤلؤ منتظم
أسحارهم بهم لهم قد أشرقت *** وخلع الغفران خير القسم
ويحك يانفس ألا تيقظ *** ينفع قبل أن تزل قدمي
مضى الزمان في توان وهوى *** فاستدركي ما قد بقي واغتنمي
فالله الله أيها المسلمون بالتوبة النصوح والرجوع الحق الى الله تعالى، فرمضان فرصة لأهل (الدخان) ليبرهن لهم بالدليل القاطع أنهم يستطيعون تركه، ولكنهم إتبعوا الشيطان، وإلا فكيف بمن يصبر عن الدخان أكثر من خمس عشرة ساعة متواصلة، ألا يمكن لهذا أن يقلع عن هذا الأمر المحرم شرعا، بلى والله، ولكنه الهوى والشهوات، فتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون.
هذا ما يسر الله لي كتابته في هذا الموضوع، واسأل المولى جل وعلا أن يجعل هذه الكلمات خالصة لوجهه سبحانه، وأن ينفعنا بها يوم العرض عليه، وأن يجعلها في موازين حسنات الجميع، إنه سميع قريب مجيب الدعاء. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/2)
خصائص عشر الأواخر من رمضان
د. عبدالعزيز الفوزان 23/9/1426
26/10/2005
تأملْ أيها المسلم في ساعتك، وانظر إلى عقرب الساعة وهو يأكل الثواني أكلاً، لا يتوقف ولا ينثني، بل لا يزال يجري ويلتهم الساعات والثواني، سواء كنت قائماً أو نائماً، عاملاً أو عاطلاً، وتذكّرْ أن كل لحظة تمضي، وثانية تنقضي فإنما هي جزء من عمرك، وأنها مرصودة في سجلك ودفترك، ومكتوب في صحيفة حسناتك أو سيئاتك، فاتّق الله في نفسك، واحرص على شغل أوقاتك فيما يقربك إلى ربك، ويكون سبباً لسعادتك وحسن عاقبتك، في دنياك وآخرتك.
وإذا كان قد ذهب من هذا الشهر أكثره، فقد بقي فيه أجلّه وأخيره، لقد بقي فيه العشر الأواخر التي هي زبدته وثمرته، وموضع الذؤابة منه.
ولقد كان صلى الله عليه وسلم يعظّم هذه العشر، ويجتهد فيها اجتهاداً حتى لا يكاد يقدر عليه، يفعل ذلك – صلى الله عليه وسلم- وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخّر، فما أحرانا نحن المذنبين المفرّطين أن نقتدي به – صلى الله عليه وسلم- فنعرف لهذه الأيام فضلها، ونجتهد فيها، لعل الله أن يدركنا برحمته، ويسعفنا بنفحة من نفحاته، تكون سبباً لسعادتنا في عاجل أمرنا وآجله.
روى الإمام مسلم عن عائشة – رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يجتهد في العشر الأواخر، ما لا يجتهد في غيره".
وفي الصحيحين عنها قالت: "كان النبي – صلى الله عليه وسلم- يخلط العشرين بصلاة ونوم، فإذا كان العشر شمَّر وشدّ المئزر".
فقد دلت هذه الأحاديث على فضيلة العشر الأواخر من رمضان، وشدة حرص النبي – صلى الله عليه وسلم- على اغتنامها والاجتهاد فيها بأنواع القربات والطاعات، فينبغي لك أيها المسلم أن تفرغ نفسك في هذه الأيام، وتخفّف من الاشتغال بالدنيا، وتجتهد فيها بأنواع العبادة من صلاة وقراءة، وذكر وصدقة، وصلة للرحم وإحسان إلى الناس. فإنها –والله- أيام معدودة، ما أسرع أن تنقضي، وتُطوى صحائفها، ويُختم على عملك فيها، وأنت –والله- لا تدري هل تدرك هذه العشر مرة أخرى، أم يحول بينك وبينها الموت، بل لا تدري هل تكمل هذه العشر، وتُوفّق لإتمام هذا الشهر، فالله الله بالاجتهاد فيها والحرص على اغتنام أيامها وليالها، وينبغي لك أيها المسلم أن تحرص على إيقاظ أهلك، وحثهم على اغتنام هذه الليالي المباركة، ومشاركة المسلمين في تعظيمها والاجتهاد فيها بأنواع الطاعة والعبادة.
ولنا في رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أسوة حسنة فقد كان إذا دخل العشر شدَّ مئزره، وأحيا ليله وأيقظ أهله.
وإيقاظه لأهله ليس خاصاً في هذه العشر، بل كان يوقظهم في سائر السنة، ولكن إيقاظهم لهم في هذه العشر كان أكثر وأوكد. قال سفيان الثوري: أحب إليّ إذا دخل العشر الأواخر أن يتهجد بالليل، ويجتهد فيه، ويُنهض أهله وولده إلى الصلاة إن أطاقوا ذلك.
وإن لمن الحرمان العظيم، والخسارة الفادحة، أن نجد كثيراً من المسلمين، تمر بهم هذه الليالي المباركة، وهم عنها في غفلة معرضون، فيمضون هذه الأوقات الثمينة فيما لا ينفعهم، فيسهرون الليل كله أو معظمه في لهو ولعب، وفيما لا فائدة فيه، أو فيه فائدة محدودة يمكن تحصيلها في وقت آخر، ليست له هذه الفضيلة والمزية.
وتجد بعضهم إذا جاء وقت القيام، انطرح على فراشه، وغطّ في نوم عميق، وفوّت على نفسه خيراً كثيراً ، لعله لا يدركه في عام آخر.
ومن خصائص هذه العشر: ما ذكرته عائشة من أن النبي – صلى الله عليه وسلم- كان يحيي ليله، ويشدّ مئزره، أي يعتزل نساءه ليتفرغ للصلاة والعبادة. وكان النبي – صلى الله عليه وسلم- يحيي هذه العشر اغتناماً لفضلها وطلباً لليلة القدر التي هي خير من ألف شهر.
وقد جاء في صحيح مسلم عن عائشة – رضي الله عنها- قالت: ما أعلم – صلى الله عليه وسلم- قام ليلة حتى الصباح" ولا تنافي بين هذين الحديثين، لأن إحياء الليل الثابت في العشر يكون بالصلاة والقراءة والذكر والسحور ونحو ذلك من أنواع العبادة، والذي نفته، هو إحياء الليل بالقيام فقط.
ومن خصائص هذه العشر أن فيها ليلة القدر، التي قال الله عنها: (ليلة القدر خير من ألف شهر، تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر). وقال فيها: (إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين، فيها يفرق كل أمر حكيم) أي يفصل من اللوح المحفوظ إلى الملائكة الكاتبين كل ما هو كائن في تلك السنة من الأرزاق والآجال والخير والشر، وغير ذلك من أوامر الله المحكمة العادلة.
يقول النبي – صلى الله عليه وسلم- "وفيه ليلة خير من ألف شهر من حُرمها فقد حُرم الخير كله، ولا يُحرم خيرها إلا محروم" حديث صحيح رواه النسائي وابن ماجه.
قال الإمام النحعي: "العمل فيها خير من العمل في ألف شهر سواها".(/1)
وقد حسب بعض العلماء "ألف شهر" فوجدوها ثلاثاً وثمانين سنة وأربعة أشهر، فمن وُفّق لقيام هذه الليلة وأحياها بأنواع العبادة، فكأنه يظل يفعل ذلك أكثر من ثمانين سنة، فياله من عطاء جزيل، وأجر وافر جليل، من حُرمه فقد حُرم الخير كله.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال: "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدّم من ذنبه" وهذه الليلة في العشر الأواخر من رمضان لقول النبي – صلى الله عليه وسلم- "تحرّوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان" متفق عليه.
وهي في الأوتار منها أحرى وأرجى، وفي الصحيحين أن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال: التمسوها في العشر الأواخر في الوتر" أي في ليلة إحدى وعشرين، وثلاث وعشرين، وخمس وعشرين، وسبع وعشرين، وتسع وعشرين. وقد ذهب كثير من العلماء إلى أنها لا تثبت في ليلة واحدة، بل تنتقل في هذه الليالي، فتكون مرة في ليلة سبع وعشرين ومرة في إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين أو تسع وعشرين.
وقد أخفى الله سبحانه علمها على العباد رحمة بهم، ليجتهدوا في جميع ليالي العشر، وتكثر أعمالهم الصالحة فتزداد حسناتهم، وترتفع عند الله درجاتهم (ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون)، وأخفاها سبحانه حتى يتبين الجادّ في طلب الخير الحريص على إدراك هذا الفضل، من الكسلان المتهاون، فإن من حرص على شيء جدَّ في طلبه، وسهل عليه التعب في سبيل بلوغه والظفر به، فأروا الله من أنفسكم خيراً واجتهدوا في هذه الليالي المباركات، وتعرّضوا فيها للرحمات والنفحات، فإن المحروم من حُرم خير رمضان، وإن الشقي من فاته فيه المغفرة والرضوان، يقول النبي – صلى الله عليه وسلم- "رغم أنف من أدرك رمضان ثم خرج ولم يُغفر له" رواه ابن حبان والحاكم وصححه الألباني.
إن الجنة حُفّت بالمكاره، وأنها غالية نفيسة، لا تُنال بالنوم والكسل، والإخلاد إلى الأرض، واتباع هوى النفس. يقول النبي – صلى الله عليه وسلم- "من خاف أدلج - يعني من أول الليل- ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة". وقد مثل النبي – صلى الله عليه وسلم- المسافر إلى الدار الآخرة -وكلنا كذلك – بمن يسافر إلى بلد آخر لقضاء حاجة أو تحقيق مصلحة، فإن كان جاداً في سفره، تاركاً للنوم والكسل، متحملاً لمشاق السفر، فإنه يصل إلى غايته، ويحمد عاقبة سفره وتعبه، وعند الصباح يحمد القوم السرى.
وأما من كان نوّاماً كسلان متبعاً لأهواء النفس وشهواتها، فإنه تنقطع به السبل، ويفوته الركب، ويسبقه الجادّون المشمّرون، والراحة لا تُنال بالراحة، ومعالي الأمور لا تُنال إلا على جسر من التعب والمشقات (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران:200]. ومن خصائص هذه العشر المباركة استحباب الاعتكاف فيها، والاعتكاف هو: لزوم المسجد للتفرغ لطاعة الله عز وجل – وهو من السنة الثابتة بكتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم- قال الله تعالى: (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) وكان النبي – صلى الله عليه وسلم- يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل، واعتكف أزواجه وأصحابه معه وبعده.
وفي صحيح البخاري عن عائشة – رضي الله عنها- قالت: كان النبي – صلى الله عليه وسلم- يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قُبض فيه اعتكف عشرين يوماً.
والمقصود بالاعتكاف: انقطاع الإنسان عن الناس ليتفرغ لطاعة الله، ويجتهد في تحصيل الثواب والأجر وإدراك ليلة القدر، ولذلك ينبغي للمعتكف أن يشتغل بالذكر والعبادة، ويتجنب ما لا يعنيه من حديث الدنيا، ولا بأس أن يتحدث قليلا بحديث مباح مع أهله أو غيرهم.
ويحرم على المعتكف الجماع ومقدماته لقوله تعالى: (...ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد...)
وأما خروجه من المسجد فهو على ثلاثة أقسام:
1- الخروج لأمر لا بد منه طبعاً أو شرعاً لقضاء حاجة البول والغائط والوضوء الواجب والغسل من الجنابة، وكذا الأكل والشرب فهذا جائز إذا لم يمكن فعله في المسجد. فإن أمكن فعله في المسجد فلا. مثل أن يكون في المسجد دورات مياه يمكن أن يقضي حاجته فيها، أو يكون له من يأتيه بالأكل والشرب، فلا يخرج حينئذ لعدم الحاجة إليه.
2- الخروج لأمر طاعة لا تجب عليه كعيادة مريض، وشهود جنازة ونحو ذلك، فلا يفعله إلا أن يشترط ذلك في ابتداء اعتكافه مثل أن يكون عنده مريض يحب أن يعوده أو يخشى من موته، فيشترط في ابتداء اعتكافه خروجه لذلك فلا بأس به.
3- الخروج لأمر ينافي الاعتكاف كالخروج للبيع والشراء ونحو ذلك، فلا يفعله لا بشرط ولا بغير شرط؛ لأنه يناقض الاعتكاف وينافي المقصود منه، فإن فعل انقطع اعتكافه ولا حرج عليه.(/2)
خصال النفاق
الشيخ : فرج البوسيقي
قال صلى الله عليه وسلم : ((أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)).
النفاق مرض خطير يمرض القلب ويقتله، ويفسد الدين ويهلكه، ولخطر النفاق والمنافقين على البلاد والعباد أنزلت سورة كاملة اسمها المنافقون، تبيّن عوارهم، وتهتك أستارهم. واهتمّ رسولنا صلى الله عليه وسلم بتفسير القرآن وتبيانه، فكان صلى الله عليه وسلم بين الفينة والأخرى يرسم للمجتمع النهج المستقيم، ويحذرهم من الاعوجاج في الدنيا والدين، وفي هذا الحديث بيّن رسولنا صلى الله عليه وسلم علامات وأعراض مرض النفاق.
((أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا))، أربع من اجتمعت فيه كان كمن يظهر الإسلام ويبطن الكفر، ويجهر بالخير وهو يضمر الشر، ((إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر))، وإذا عاهد نقض عهوده ولم يوف بها، ((وإذا خاصم فجر))، وإذا خاصم غيره تجاوز الحد، فيؤذي خصمه بغير حق.
إن خيانة الأمانة خصلة من هذه الخصال، وهي تشمل كل مال مؤتمن عليه الإنسان فلم يؤده لأصحابه، ومن الأمانة أن تؤدّي عملك كاملاً، وإذا استودعك صديقك سرًا فليس من الأمانة أن تذيعه بين الناس، وليس من الأمانة إن كنت طبيبًا أن لا تخلص في علاج مريضك، فالموظّف والمنتج والبائع والمزارع والطبيب والمهندس وجميع الناس عليهم أداء حقّ العباد كاملاً بعيدًا عن الرشوة والتعذيب، حيث تعطل مصالح الناس بدون سبب، ورسولنا صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله يعذب الذين يعذبون الناس)).
فيا أيها المسؤول والموظف، ويا أيها الضابط والأمين، إن الله استرعاكم مصالح الناس، فلا تعطلوا مصالحهم ليلجؤوا إلى الرشاوى والتزوير، فتكونوا أنتم السبب، ويحل عليكم غضب الله وعذابه، إن الله يعذب الذين يعذبون الناس، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) [الأنفال:27].
يا أيها الذين آمنوا، لا تخونوا الله، لا تخونوا الله بتعطيل فرائضه وتعدّي حدوده وانتهاك محارمه. يا أيها الذين آمنوا، لا تخونوا الله والرسول، لا تخونوا الرسول بترك سنته والذهاب لغيرها من هوى وشهوة، وتخونوا أماناتكم، وتخونوا أولياء أموركم، ويخون بعضكم بعضًا في المعاملات المالية والاجتماعية والأدبية.
إن الرسول صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم، ويتكلم باللفظ الذي يذهل العقول ويحيّر البلغاء والخطباء، فقوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا اؤتمن خان)) شمول وتوسيع كبير جدًا، ليشمل جميع أنواع الأمانة، كانت هذه الأمانة معنوية أو مادية.
إن عدم الأمانة هو الخيانة، والخيانة تدل على النفاق، فمن أراد أن يفتش عن طهارة قلبه من النفاق فلينظر إلى أمانته وعدمها، وصدق رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم إذ يقول: ((لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)).
إن العلاقات بين الأفراد والجماعات المبنية على الخيانة لعلاقات هشة زائلة، وكان صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الخيانة فيقول: ((اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة))، وبيّن صلى الله عليه وسلم أنه في آخر الزمان ترفع الأمانة، فحدث صلى الله عليه وسلم عن رفع الأمانة فقال: ((ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه)).
المنافق إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، فمجانبة الكذب مجانبة للنفاق، والكذب من أمراض اللسان، وهو نقل الأخبار على غير حقيقتها، من إشاعات وأحاديث ملفقة تفتك بالمجتمع وأفراده.
ومن أخطر أنواع الكذب ما استحل به دم امرئ مسلم أو عرضه أو ماله، والأشد من ذلك كله الكذب على الله ورسوله، ويكفي في عظم هذه الكبيرة أن سمى الله مرتكبها بالفسق: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات:6]، ولقد حذر رسولنا صلى الله عليه وسلم من الكذب ورغّب في الصدق فقال: ((عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرّى الصدق حتى يكتب عند الله صدّيقًا. وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرّى الكذب حتى يكتب عند الله كذّابًا)).(/1)
إن الكذاب عرّض نفسه للاحتقار والمهانة، وفقد جانبًا عظيمًا من مقومات إنسانيته، فلو كان شجاعًا لما أخفى الحقيقة، ولو كان أمينًا لما زوّر الأخبار، ولو كان عفيفًا لترفع عن الاختلاق والادعاء الباطل، فأي معاملة تصلح؟! بل أي حياة وصداقة وشركة وإخاء تصلح مع إنسان يبرئ المفسدين والمجرمين، ويتهم الأبرياء والصالحين، ويجعل من الظالم مظلومًا، ومن الحقيقة خيالاً، ومن الصدق بهتانًا؟! إن هذا الخطر العظيم هو الذي جعل الكذاب ينظم في صفوف المنافقين، ((وإذا حدث كذب)).
حسبُ الكذوبِ من البلية *** بعضُ ما يُحكى عليهِ
مهما سمعت بِكِذْبة *** من غيره نُسبت إليهِ
المنافق إذا عاهد غدر، إذا أعطى عهدًا نقضه وغدر، وإذا خاصم فجر، وإذا حدث بينه وبين خصمه خلاف يتجاوز حده في الانتصار لنفسه من خصمه، ولا يتورع عن استغلال الفرص لإيذاء خصمه، ويتمادى في الإيذاء، وينكر حقوق خصمه، ويستحل لنفسه ماله، ويستبيح عرضه، وهذا التمادي في الخصومة علامة ظاهرة من علامات النفاق.
إن سلوك المؤمن الحق جهة خصمه العدل أو الإحسان، (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [الشورى:40]، ولقد ربى الإسلام أتباعه على التسامح والعفو، وأن لا يتمادوا في الخصومة، فقال جل جلاله: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف:199]، وقال: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا) [الفرقان:63]، وقال: (سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) [القصص:55].
إن الإسلام يحث على السمو بالنفس الإنسانية، فالمسلم الحق هو الذي يسمو بنفسه عن مواطن المهانة والذلة. إن الإسلام عمل وعبادة وحسن معاملة، معاملة خالية من الكذب والخيانة والغدر والفجور.
إن التدين الحقيقي هو أن تلتزم بالصدق في قولك وعملك ومواعيدك، وأن تكون أمينًا في عملك، صادقًا مخلصًا في نيتك، فإن لم تكن فيك هذه الخصال فلست متدينًا ولو تظاهرت بمظهر الإسلام في ألفاظك ولباسك.
إن الإسلام لم يكن فقط حركات يباشرها المصلي في محرابه أو همهمة تلوكها ألسن العاشقين والذاكرين، إنه مسرح للحياة، يظهر فيه المسلم حقيقة إسلامه وإيمانه في معاملته مع الآخرين؛ لتنطبع الصورة الصحيحة للإسلام بعيدًا عن الغلو والتنطع، وبعيدًا عن الإباحية والتهتك.
إن فشلك في معاملة الآخرين دليل منك عليك في عجزك عن إدراك حقيقة الإسلام، فالدين المعاملة، والإسلام يريد منك هداية تائه ضلّ به طريقه، أو معونة يائس انقطع به أمله، الإسلام يريد منك استجابة؛ لأنّة ثاكل منكوب، يشكو الفقر والحاجة، ويريد المساعدة والإعانة ومواساة البائس وتفريج كربة المكروبين.
وما انكمش الإسلام وتقلص إلا بعد أن ترك أبناؤه أوامره وتعاليمه، (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [البقرة:177].(/2)
خطاب الرحمة في الوعظ المعاصر
د. مسفر بن علي القحطاني 13/10/1426
15/11/2005
اجتهد المسلمون في الليالي العشر الأخيرة من رمضان الفائت بالقيام و قراءة القرآن والذكر والدعاء للفوز بفضل قيام ليلة القدر التي قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في فضلها: "من قام ليلة القدر إيماناًً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه". هذه الليلة -التي يُفرق فيها كل أمر حكيم وتعدل في عبادتها ألف شهر فيما سواها- تتوجه لها همم المسلمين ليقدموا أفضل العبادات والطاعات لاغتنامها, وهذا ما جعل النبي -عليه الصلاة والسلام- وأزواجه وأصحابه يعتكفون انقطاعاً عن كل ما يشغل عن هذه الليلة المباركة, ومع هذا التحفز العظيم لإدراك ليلة القدر تأتي عائشة -رضي الله عنها- من أجل أن تسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أفضل الدعاء المستجاب في تلك الليلة الفضيلة، فيوصي زوجته أحب الناس إليه أن تكثر من قول : "اللهم إنك عفوٌّ تحبّ العفو فاعفُ عني", وقد تأمّلت في هذه الوصية وكلمات هذا الدعاء العظيم ما جعلني أسطّر بعض الوقفات مع خطاب الرحمة الذي يُمارس في الوعظ المعاصر .. أذكرها مجملة في هذه الخاطرة المقالية:
- الإجمال والإيجاز في الدعاء سنة عن النبي -عليه الصلاة والسلام- حتى في دعاء القنوت في أوتار رمضان؛ بل لم يصح عنه -عليه الصلاة والسلام- في القنوت إلا حديث الحسن" اللهم اهدنا فيمن هديت…" -كما قال الترمذي رحمه الله- وهو من جوامع الأدعية, لكننا نجد بعض الأئمة يطيل في الدعاء أكثر من القيام بأسجاع وتكرار وتمطيط في المعاني لا يليق بالمسلم في خاصة نفسه، فكيف ومعه الجموع يصلون خلفه، ويخضعون لميوله في الدعاء؟
كما أن الإيجاز في الوعظ والتذكير سنة نبوية ينبغي للواعظ أن يتحراها عند حديثه إلى الناس بما يحبّبهم للسماع و يشوّقهم للاستزادة، لا أن يملّوا من الإطالة والإعادة من غير حاجة ملحة, وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: "إن قصر الخطبة وطول الصلاة مئنة من فقه الرجل". يعلق الشوكاني -رحمه الله- على هذا الحديث بقوله: " والعجب من أقوام ينسبون إلى السنة أو إلى السلف ويطيلون الخطبة في صلاة الجمعة حتى تمل الناس سماع خطبتهم، ولربما يأتون بخطبهم بما يروّج اعتقادهم أو يحبذ رأيهم، أو إطراء الشيخ والثناء عليه، وغير ذلك مما يخرجها عن مقصودها المشروع".
- أخبر النبي عليه الصلاة والسلام عائشة -رضي الله عنها- بالدعاء الذي يُبرز أعظم صفات الحق سبحانه وآكدها عند الطلب وهي صفة "العفو" وما يدخل في معانيها من الرحمة والمغفرة بعباده, فهذا المعنى هو ما يجب أن يُشاع بين العباد، وفي خطاب الوعّاظ أكثر من خطاب التخويف والتهويل بالنار, فرحمة الله قد سبقت غضبه, وعفوه قد سبق سخطه (... وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً)[الكهف: من الآية49], فكم أعجب ممن يقّنط الناس بالوعيد في حين أن الله يقول:(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ...)[الزمر: من الآية53] كيف وقد أقسم النبي عليه الصلاة والسلام في قوله: "والله لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها"!!
- هذا الدعاء له أوقات يتخيّرها المسلم تكون الإجابة فيه أقرب, وحضور القلب فيه أقدر, والنفوس ما لم تتهيأ للخشوع والإنابة و إلا حاصت وتمرّدت, والمعوّل في الرجاء على خلوص القلب من الغفلة والرياء, وهذا يقع في الدعاء والوعظ كذلك؛ لذا كان عليه الصلاة و السلام يتخول أصحابه بالموعظة مخافة السآمة عليهم وهو الأقدر في التأثير البياني والوعظ الخطابي وهم الأحرص على سماعه والعمل بكلامه, وما أحوج الخطباء والدعاة إلى مثل هذا الفقه في الوعظ والإرشاد وحسن التقدير للزمان والمكان, واختيار الظرف المناسب للحال التي عليها الناس ..
إن الوعي بهذه المقاصد الدعوية يجعل من الموعظة باباً للإصلاح والهداية لا سُباباً للبعد عن الدين ودعاته, فالتبشير والتيسير أقرب للنفوس وأعمق أثراً في السلوك، والرفق ما دخل في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه ..ويكفي من التنبيه ما أحاط بالمعنى، كما يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق .(/1)
خطاب الرحمة في الوعظ المعاصر
الكاتب: الشيخ د. مسفر بن علي القحطاني
اجتهد المسلمون في الليالي العشر الأخيرة من رمضان الفائت بالقيام و قراءة القرآن والذكر والدعاء للفوز بفضل قيام ليلة القدر التي قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في فضلها: "من قام ليلة القدر إيماناًً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه".
هذه الليلة -التي يُفرق فيها كل أمر حكيم وتعدل في عبادتها ألف شهر فيما سواها- تتوجه لها همم المسلمين ليقدموا أفضل العبادات والطاعات لاغتنامها, وهذا ما جعل النبي -عليه الصلاة والسلام- وأزواجه وأصحابه يعتكفون انقطاعاً عن كل ما يشغل عن هذه الليلة المباركة, ومع هذا التحفز العظيم لإدراك ليلة القدر تأتي عائشة -رضي الله عنها- من أجل أن تسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أفضل الدعاء المستجاب في تلك الليلة الفضيلة، فيوصي زوجته أحب الناس إليه أن تكثر من قول : "اللهم إنك عفوٌّ تحبّ العفو فاعفُ عني", وقد تأمّلت في هذه الوصية وكلمات هذا الدعاء العظيم ما جعلني أسطّر بعض الوقفات مع خطاب الرحمة الذي يُمارس في الوعظ المعاصر .. أذكرها مجملة في هذه الخاطرة المقالية:
- الإجمال والإيجاز في الدعاء سنة عن النبي -عليه الصلاة والسلام- حتى في دعاء القنوت في أوتار رمضان؛ بل لم يصح عنه -عليه الصلاة والسلام- في القنوت إلا حديث الحسن" اللهم اهدنا فيمن هديت…" -كما قال الترمذي رحمه الله- وهو من جوامع الأدعية, لكننا نجد بعض الأئمة يطيل في الدعاء أكثر من القيام بأسجاع وتكرار وتمطيط في المعاني لا يليق بالمسلم في خاصة نفسه، فكيف ومعه الجموع يصلون خلفه، ويخضعون لميوله في الدعاء؟
كما أن الإيجاز في الوعظ والتذكير سنة نبوية ينبغي للواعظ أن يتحراها عند حديثه إلى الناس بما يحبّبهم للسماع و يشوّقهم للاستزادة، لا أن يملّوا من الإطالة والإعادة من غير حاجة ملحة, وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: "إن قصر الخطبة وطول الصلاة مئنة من فقه الرجل". يعلق الشوكاني -رحمه الله- على هذا الحديث بقوله: " والعجب من أقوام ينسبون إلى السنة أو إلى السلف ويطيلون الخطبة في صلاة الجمعة حتى تمل الناس سماع خطبتهم، ولربما يأتون بخطبهم بما يروّج اعتقادهم أو يحبذ رأيهم، أو إطراء الشيخ والثناء عليه، وغير ذلك مما يخرجها عن مقصودها المشروع".
- أخبر النبي عليه الصلاة والسلام عائشة -رضي الله عنها- بالدعاء الذي يُبرز أعظم صفات الحق سبحانه وآكدها عند الطلب وهي صفة "العفو" وما يدخل في معانيها من الرحمة والمغفرة بعباده, فهذا المعنى هو ما يجب أن يُشاع بين العباد، وفي خطاب الوعّاظ أكثر من خطاب التخويف والتهويل بالنار, فرحمة الله قد سبقت غضبه, وعفوه قد سبق سخطه (... وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً)[الكهف: من الآية49], فكم أعجب ممن يقّنط الناس بالوعيد في حين أن الله يقول:(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ...)[الزمر: من الآية53] كيف وقد أقسم النبي عليه الصلاة والسلام في قوله: "والله لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها"!!
- هذا الدعاء له أوقات يتخيّرها المسلم تكون الإجابة فيه أقرب, وحضور القلب فيه أقدر, والنفوس ما لم تتهيأ للخشوع والإنابة و إلا حاصت وتمرّدت, والمعوّل في الرجاء على خلوص القلب من الغفلة والرياء, وهذا يقع في الدعاء والوعظ كذلك؛ لذا كان عليه الصلاة و السلام يتخول أصحابه بالموعظة مخافة السآمة عليهم وهو الأقدر في التأثير البياني والوعظ الخطابي وهم الأحرص على سماعه والعمل بكلامه, وما أحوج الخطباء والدعاة إلى مثل هذا الفقه في الوعظ والإرشاد وحسن التقدير للزمان والمكان, واختيار الظرف المناسب للحال التي عليها الناس ..
إن الوعي بهذه المقاصد الدعوية يجعل من الموعظة باباً للإصلاح والهداية لا سُباباً للبعد عن الدين ودعاته, فالتبشير والتيسير أقرب للنفوس وأعمق أثراً في السلوك، والرفق ما دخل في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه ..ويكفي من التنبيه ما أحاط بالمعنى، كما يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق ..(/1)
خطاب تبليغي
1/2
د. عبد الكريم بكار 21/12/1424
12/02/2004
إذا كان الخطاب الصفوي خطابًا تنشئة الخاصة، وتتداوله الصفوة؛ فإن الخطاب التبليغي تصنعه الخاصة، وتقوم باستخدامه شريحة متوسطة بين الخاصة والعامة، إذ توجهه إلى عامة المسلمين. الخطاب التبليغي يشكل أداة مهمة لتوحيد الثقافة عند حدودها الدنيا، كما أنه يعد الوسيلة الأساسية لتذكير الناس بالمبادئ والأصول والأدبيات الإسلامية. ولهذا فإن رقعة تداوله واسعة جدًّا ومن هنا فإنه اكتسب صفة (الشعبية). وشعبيته هذه تملي عليه أن يتصف بخصائص وسمات، ويتعرض لأزمات ومشكلات يحسن بنا الوقوف عندها، ولعل أهمها الآتي:
1-الوضوح: من المهم أن يكون الخطاب التبليغي واضحًا غاية الوضوح، حيث إن تدني المستوى المعرفي لأولئك الذين يتلقونه يوجد في أذهانهم الكثير من الالتباس والخلط في التفسير. ولو أنك سألت عشرة من الناس عن خلاصة ما فهموه من إحدى خطب الجمعة لوجدت تفاوتًا بيَّنًا في خلاصاتهم. إن من الحيوي أن ندرك أن سوء الفهم ليس حادثًا نادرًا، وأن الواحد منا لو شرح فكرته عشرين مرة، فليس هناك أي ضمان لاستيعاب السامعين لها على النحو الذي يريد.
إن اللغة ناقل غير كفء، وإن الناس حين يسمعون كلامًا يفهمونه في ضوء ما لديهم من خلفيات معرفية، بل إن كثيرًا منهم يقرؤون تلك الخلفيات ويبلورونها عوضًا عن الاشتغال بفهم ما سمعوه.
ومن هنا فإن من المفيد أن نحاول التأكد من أن الناس فهموا فعلاً ما نقوله لهم كما نعنيه تمامًا . تكرار بعض المقاطع، وعدم تركيز المعاني في ألفاظ قليلة، وعدم الإكثار من ذكر أعداد التقسيمات والفوائد والمضار من الأمور التي تضفي على الخطاب طابع الوضوح، وتجعله قريبًا من تناول الأفهام. وقد كان – صلى الله عليه وسلم- يكرر بعض الجمل المهمة حتى تُحفظ عنه. والتكرار يساعد الذاكرة، ويخفف العبء عن جهاز الإدراك والتحليل. ومن الملاحظ في القرآن الكريم وفي السنة النبوية أن الخصال والميزات والأقسام على نحو عام لا تتجاوز الخمسة إلا على سبيل الندور، وذلك حتى لا يشق على الناس حفظها.
وأعتقد أن التركيز على شرح التعريفات يساعد الناس على الفهم الصحيح، وإذا أوردنا مصطلحًا غريبًا فلنحاول تبسيطه قبل تجاوزه.
2-التأثير والإقناع يشكل هدفًا مزدوجًا للخطاب التبليغي الشعبي، وربما كان طابع التأثير ألصق به، حيث إنه في الغالب لا يشتمل على معلومات جديدة، ولا يكشف عن خبايا وقضايا مجهولة، إنه يذكر بالأصول والحدود والآداب، ويستنهض الهمم للزوم الجادة والأخذ بالتي هي أقوم، كما أنه يحذر الناس من عواقب المعاصي والشرور التي انزلقوا إليها. وهذا كله جعل حامل هذا الخطاب محتاجًا إلى أن يمتلك قدرًا غير قليل من الحماسة لمقولاته وقدرًا من العاطفة الجياشة؛ لأنه من غير ذلك لا يستطيع التأثير في عواطف السامعين، ولا يظهر الفرق بين النائحة الثكلى والنائحة المستأجرة- على حد قول أحدهم-. وهذا يملي على الخطباء والوعاظ خصوصًا وحملة هذا الخطاب عمومًا أن يدخلوا في موازنة دقيقة، بين البقاء أوفياء للحقائق التي يبشرون بها والأدلة والبراهين التي يستندون إليها، وبين كسب القلوب التي يحاولون التأثير فيها، إنهم يجدون أنفسهم في حالة من التردد بين الحقيقة والعاطفة؛ وإن التاريخ ليشهد، وإن الواقع لينطق بأن الذين أخفقوا ويخفقون في إقامة هذه الموازنة أكثر بكثير من الذين ينجحون. وظاهرة (القصّاص الكذبة) ليست ظاهرة تاريخية، نقرأ عنها، وإنما هي ظاهرة مستمرة، فتذوق منها مرارة يومية. ومن المعروف أن بعض القصّاص والوعاظ وضعوا أحاديث ونسبوها إلى النبي – صلى الله عليه وسلم- وكان دافعهم – في أحسن الأحوال- تكثير سواء المهتدين. وحين ذُكَّر أحدهم بقول النبي – صلى الله عليه وسلم - : " من كذب عليّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" قال: نكذب له لا عليه!! وفي أيامنا هذه انتشر في العالم الإسلامي وباء المبالغة والتهويل في ذكر المحاسن والإيجابيات وذكر المساوئ والسلبيات. وهذا لا يختلف كثيرًا عن تضليل العقول بالكذب الصراح! وهناك أشخاص يلبسون ثياب الدعاة الهداه، لكنهم لا يملكون شيئًا من رشد الداعية ولا تذمم الفقيه، وهم ينشرون الخرافات والأوهام والغرائب والشذوذات ويصورونها للناس على أنها من الأمور الثابتة والبينة التي لا تقبل الجدل والنظر!
إن تنمية الخطاب التبليغي وتنقيته من الشوائب تعد مسؤولية عامة لكل أهل الفهم والغيرة، وإن قوله – صلى الله عليه وسلم-:" بلغوا عني ولو آية " يفيدنا أن في إمكان السواد الأعظم من الناس أن يقوموا بواجب البيان والتبليغ. وإن هذا الخطاب يحمل – على نحو جوهري- عبء القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مما يعني أن أعدادًا كبيرة من المسلمين تسهم في تشويهه، وتستطيع في الوقت ذاته – لو أرادت – النهوض به.(/1)
إن بداية الطريق لرفع سوية هذا الخطاب وجعله ألصق بالحق وأقوم لله – تعالى- بالقسط- وربما كانت تتمثل في أن نضع في أذهاننا جميعًا أن الواحد منا بمجرد التصدي للوعظ والإرشاد والأمر والنهي، يضع قدمه على أرض هشة وخطرة، حيث يعرّض نفسه للسحب من رصيد الحقيقة لحساب الرغبة في التأثير في الناس والعدول بهم إلى الطريق الصحيح. وحين يترسخ هذا المعنى في نفوسنا وعقولنا فإنه يكون قادرًا على توليد حاسة جديدة نتلمس من خلالها أشكال الزيف وضروب الزيغ.
3-الخطاب التبليغي ينقل رسالة، ويحاكم الحياة العامة إلى نموذج إسلامي نقي وسام مستمد من نصوص الكتاب والسنة وحياة السلف الصالح، ومقتبس من الصور الزاهية للنجاحات الإسلامية في كل زمان ومكان. وله دور جوهري وعظيم في بقاء الإسلام حيًّا في النفوس وفي تنمية النزعة نحو التعالي القيمي والأخلاقي لدى المسلمين في أصقاع الأرض، لكن لصعوبة تقدير حجم المسافة التالة التي يجب أن تفصل بين المثال والواقع، وما هو كائن وما ينبغي أن يكون، فإن الخطاب التبليغي مصاب بالنزوع إلى مثالية مفرطة في قراءة النموذج الإسلامي الذي يمكن لمعظم الناس أن يكيفوا حياتهم معه، كما أنه مصاب بالمثالية الزائدة في قراءة الواقع التاريخي حيث يتم أخذ الناس بالعزيمة، كما يتم تصوير حياة السلف بناء على تتبع سير رجال محدودين لا يشكلون أكثر من 1% من السابقين. وبناء على الإفراط في هذا أو ذاك، فإن لدى كثير من حملة الخطاب التبليغي شعورًا بالمرارة الشديدة من انحراف مسلمي عصرنا وتنكبهم لجادة الاستقامة. وهذا جعل ذلك الخطاب يتشح بوشاح من اليأس والإحباط، وينعكس ذلك باستمرار في صور صارخة من التقريع واللوم والعتب. وهذا مع مخالفته لهدي النبي – صلى الله عليه وسلم- في الحث على التبشير والبعد عن التنفير؛ فإنه يزرع في نفوس الناس نوعًا من احتقار الذات ونوعًا من الضيق من سماع القائمين على أمور الوعظ والإرشاد.
إن بين تعريف المسلمين بواقعهم وبين تنفيرهم وتيئيسهم هامشًا ضيقًا يجب إدراكه بعناية. وإن التشجيع واللغة اللطيفة والقول الليّن تستخرج أنبل ما في نفوس الناس من معاني الاستجابة والاندفاع للعمل
خطاب تبليغي 2/2
د. عبدالكريم بكار 6/1/1425
26/02/2004
4-في ظل موجات اللهو وفي ظل الدفق الثقافي الهائل الذي يتعرض له الجمهور الإسلامي صارت معرفة الناس بأمور دينهم آخذة في التقهقر وصار من المهم بمكان التركيز على (المعرفة الفقهية) ولا سيما الأحكام المتعلقة بالسلوك الشخصي للمسلم. إن الفقه في الدين يشكَّل في كل الأحوال فضيلة من الفضائل الكبرى وباباً عريضاً من أبواب الخير.
وقد قال – صلى الله عليه وسلم- : " من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين".
إن من المهم جداً أن تشكل معرفة الحلال والحرام قاعدة الثقافة لدى الجماهير المسلمة من أجل تأسيس وعي مرتبط بالشريعة الغراء وتأسيس وازع داخلي يوجه سلوك المسلم في سره وعلنه. وإن خطبة الجمعة تشكل فرصة ذهبية لمثل هذا التثقيف. ولو أن الخطيب عرض في الخطبة الثانية حكماً فقهياً مما تمس حاجة الناس إليه لأفاد الناس بمعرفة نحو من مئتين وستين مسألة في خمس سنوات وهذا يشكل خلفية فقهية جيدة إذا تم اختيار تلك الأحكام بعناية.
إننا لا ننتبه أحياناً إلى أن الناس يتقبلون الأحكام الفقهية وكل ما يشكّل معطيات علمية ثابتة أكثر من تقبلهم للوعظ والإرشاد الذي يمنح المتحدث نوعاً من التفوق المباشر عليهم. كما أن الحديث في الأمور الفقهية – بوصفها أمورًا بعيدة عن التقدير الشخصي- يمنح المتحدث مصداقية لدى المستمعين أعلى من المصداقية التي ينالها الوعاظ.
5- اعتدال الخطاب التبليغي شيء جوهري، فعمل الداعية أشبه بعمل الطبيب الذي يرى أن من الضروري أن يطلع المريض على علته، وأن يدله على الترياق، ويفتح أمامه باب الأمل في الشفاء. وهذا في الحقيقة ينطوي على موازنة دقيقة؛ فحين يكون تناول الدواء مزعجاً ومكلفاً فإن الناس يعرضون عنه. وحتى لا يعرضوا عنه فإن عليك أن توضح أهميته بالنسبة إليهم. ولا تستطيع بلوغ ذلك ما لم تبين لهم خطورة الداء الذي لديهم، وحين تفعل ذلك فإنك تعرضهم للشعور باليأس والإحباط؛ وهذا ما يجعلهم يعرضون عن الدواء!.
قد يكون من المفيد في هذا أن نقرن الحديث عن الأزمات بالحديث عن الحلول الممكنة لها، وأن نحاول دائماً عدم تضخيم الأمور؛ فاللغة بسبب عجزها الظاهر عن تحديد الصفات والكيفيات تغرينا بالمبالغة، إذ يمكن دائماً أن نصف كثيراً من الأحداث بأنه نكبة أو كارثة كبرى.
وسيظل بث روح الأمل والاستبشار بالتقدم والازدهار أقرب إلى روح الشريعة الغراء وأعون للناس على النهوض.(/2)
6-يحتاج صانعو الخطاب التبليغي إلى إغنائه بالمفاهيم والأفكار التي تدل الناس على دورهم الشخصي في الحياة. في العقود الخمسة الماضية – على الأقل- كان لدينا تركيز مبالغ فيه على المقولات الإصلاحية العامة، حيث كانت هموم الأمة تسيطر علينا سيطرة كبيرة، وكان ذلك ينعكس بصورة مباشرة على خطابنا التبليغي، وصار من المألوف أن يتحدث الخطباء أمام العامة عن انكسارات الأمة وسيطرة الأعداء عليها وسلبهم لخيراتها، كما صار من المألوف المقارنة بين أحوال السلف وما نالوه من المنعة والتمكين وبين أحوالنا وما نحن فيه من ضعف واستلاب. ولم نخرج من ذلك بأي شيء ذي قيمة سوى إشاعة الإحباط وتوفير مادة لجلد الذات!.
إن الحديث عن هموم الأمة وعن الإصلاحات الكبرى والشاملة ينبغي أن يظل –إلى حد بعيد- في نطاق الخطاب الصفوي النخبوي. أما الخطاب التبليغي فالأولى به الاهتمام بدلالة الناس – على نحو مفصل ومسهب- على ما عليهم عمله للارتقاء بذواتهم وتحسين كفاءاتهم ومهاراتهم، وما عليهم عمله لتحسين صلتهم بالله – تعالى- وتحسين علاقاتهم بعضهم مع بعض، وكل ما يمكن أن نطلق عليه (الخلاص الشخصي) .
إن المجال الخاص هو مجال التأثير الحقيقي للإنسان العادي؛ ومن المهم أن يتعلم كيف يتحرك في ذلك المجال. إن الناس في حاجة إلى من يعلّمهم كيف يوجهون إدراكهم، ويسيطرون على رغباتهم، ويحافظون على أوقاتهم، ويديرون الموارد والإمكانات المحدودة التي في حوزتهم وينبغي أن يكون هذا من المهام الجوهرية للخطاب التبليغي.
7-الحصيلة اللغوية لدى العامة وأشباههم ضئيلة، وهذا يعني أن جهاز التفكير لديهم سيكون ضعيفاً، كما أن آفاق الفهم والاستدلال تكون لديهم أيضاً محدودة. وهذا يملي على صانعي الخطاب التبليغي العديد من المهمات، أذكر منها الآتي:
أ-إثراء ذلك الخطاب بالتشبيهات والأمثلة الحسية. وفي القرآن الكريم وفي السنة النبوية الكثير من ذلك. إن التشبيه ينقل الإدراك من معالجة أمر معنوي إلى معالجة أمر مادي ملموس. وإدراك المحسوس أسهل بكثير من إدراك المجرد والمعنوي. وكثير من الخطباء اللامعين والمتحدثين المؤثرين صاروا كذلك بسبب وفرة الأمثلة والتشبيهات الحسية التي يستخدمونها.
ب-البعد عن ذكر الشُّبه والمآخذ التي يوردها المخالفون وأعداء الإسلام؛ إذ ما الذي سيستفيده الناس إذا حدثناهم عن شبهة انتشار الإسلام بالسيف أو شبهة الرق في الإسلام... وهم لم يسمعوا بكل ذلك، ولا ينظرون إليه على أنه يثير إشكالية لديهم. إن الخطاب الصفوي هو المجال الحقيقي لتداول هذه القضايا. ونحن حين نثير الشبه أمام الناس نضع الإسلام في موقف دفاعي، هو في غنى عنه
كما أن هناك احتمالاً لأن تعلق الشبهة في أذهان الناس بسبب ضعف الرد المستخدم في تفنيدها. وقد وصف بعض أهل العلم الفخر الرازي في تفسيره بأنه يسوق الشبه نقداً، ويرد عليها نسيئة.
وقد سمعت من أحد من كَتب حول الشبه أسفه لذلك، وقال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما كتبت ذلك الكتاب. نعم حين يتحدث الناس عن أمر مغلوط في مجالسهم ومسامراتهم، لا يبقى لنا خيار سوى الحديث فيه.
ج-البعد عن الخلافيات والتفريعات الدقيقة والتعليلات المتعمقة شيء أساسي في الخطاب التبليغي. إن العامي لا مذهب له، ومذهبه مذهب مفتيه، وينبغي أن تكون الفتوى على قدر السؤال وعلى قدر الحاجة، وذكر الخلافيات – من غير حاجة- يؤسس لدى العامة لعقلية التساهل؛ لأنهم لا يعرفون موارد الاختلاف وأسبابه الموضوعية. وذكر التفريعات يربك وعيهم، ويتسبب في إدخال الأوهام عليهم.
د-إن بساطة التفكير لدى العامة تجعل الطريق إلى تغيير سلوكهم يمر أساساً على القلب، وليس على العقل، فلغة المشاعر والأرواح مفهومة لديهم أكثر من لغة المنطق والبراهين. وإن من المهم لكسب عقول الناس أن نكسب قلوبهم. وهذا يتطلب أن يكونوا أثناء مخاطبتهم في وضع نفسي مريح. ولعل مما يساعد على ذلك أن نخفف من مستوى الجدية في كلامنا، وذلك بأن نضفي عليه مسحة خفيفة من الطرفة والدعابة. وقد كان – صلى الله عليه وسلم- كثير التبسم، كما كان يمازح أصحابه، ويقبل ممازحتهم، كما كان يضحك لضحكهم، ويعجب مما يعجبون منه. إن المسلمين مثقلون بأنواع الهموم، وهم في حاجة إلى درجة من التفريج العصبي، وعلينا أن نتيح لهم ذلك. إن الطرفة تُحدِث تواصلاً بين المتحدث وسامعيه أشبه بالتفاعل الكيميائي، وإن عيون الناس حين يضحكون من طرفة سمعوها تلمع بمشاعر الامتنان لمن أضحكهم. كما أن الطرفة تكسر الحاجز النفسي الذي يصنعه موقف الخطيب والواعظ، وهذا ضروري للتأثير في الناس.
إنني أعتقد أن حاجتنا ماسَّة إلى الكثير من البحث والتداول في خصائص الخطاب النخبوي والخطاب التبليغي إذا ما كنا نريد فعلاً للجهود الدعوية والإصلاحية أن تؤتي ثمارها على المستوى المطلوب.
والله ولي التوفيق،(/3)
خطاب مفتوح إلى د ميكلوش مورانى المستشرق الألماني
د.إبراهيم عوض
ibrahim_awad9@yahoo.com
الأستاذ الدكتور ميكلوش مورانى، بعد التحية:
دعانى الأستاذ عبد الرحمن الشهرى المشرف على موقع "شبكة التفسير والدراسات القرآنية" (tafsir.net) بمبادرة كريمة منه، بعد تعارفنا منذ أيام قلائل من خلال البريد المشباكى، إلى أن أشترك فى الملتقى العلمى للشبكة المذكورة، لافتًا نظرى إلى الحوار الذى أجرته الشبكة مع سيادتك. وقد أثارت إجاباتك على أسئلة الحوار عقلى فأخذت أقلب الفكر فيه وأتصور أننى جالس معك أناقلك الرأى وأبادلك الحجة فنختلف تارة ونتفق أخرى. ثم بدا لى أن أكتب هذا الذى دار فى ذهنى ثم أنشره على الناس فى هيئة رسالة تطالعها سيادتك مع سائر القراء، وإن كنتَ أنت صاحب الفضل الأول فى كتابتها والمقصود رقم واحد بها. وها هى ذى الرسالة المذكورة بين يديك، ولسوف ترى أنى ركزت هنا على نقطتين لا غير، والسبب فى ذلك أنى لم أجد تقريبا فى باقى كلامك ما يمكن أن يكون موضع أخذ ورد بيننا، أو على الأقل: لن يكون حوله خلاف كبير.
وقد جاء فى كلامك أن "المستشرق هو الباحث الذي يُحاول دراسةَ الحضارات الشرقية وتفهُّمَها على المستوى الجامعي الأكاديمي. وما نحن بصدده في هذا المَجال هو الاستشراقُ بمعناه الأصلي والأكاديمي: دراسة الحضارة الإسلامية بصورة عامة، ودراسة العلوم الإسلامية باعتبارها أَساسًا لهذه الحضارة على جَميع مستويات الحياة العامة. إذاً فإِنَّ هذا المجالَ واسعٌ ، يشمل جميع فروع العلم: الفلسفة، الأدب على مختلف فنونه، الشعر من العصر الجاهلي إلى الشعر الحديث، الطب وعلومه وغير ذلك. ولن يتأَتى للمستشرق الوصول إلى تائج سليمة وعلمية في هذا المضمار ما لم يُتقن لغات هذه الحضارة العظيمة: العربية، وهي اللغة الأساسية والمنطلق الرئيس للدراسات الإسلامية والعربية، وأيضًا اللغة الفارسية واللغة العثمانية التركية. وإلى جانب ذلك هناك تخصصات في الاستشراق تتطلب معرفةَ اللغة الحبشية واليمنية القديمة ولهجاتها. ومَنْ تخصَّصَ في الفلسفة والكلام فعليه دراسة اللغة اليونانية القديمة، ويُمكن دراسة جميع هذه اللغات في مختلف المعاهد الاستشراقية في ألمانيا حسب تخصصها. وكثيرًا ما يستخدم الإعلامُ مصطلح "المستشرق" في غير موضعه، فيزعمُ أَنَّ كلَّ فردٍ يُدْلي برأيه في شؤون العالم العربي والإسلاميِّ، أو يُدْلي بدلوهِ في الأمور السياسيةِ في الشرق الأوسط يُعتبرُ مُستشرقًا حتى ولو كان صَحفيًّا، أو عالمًا في العلوم الاجتماعية، أو سياسيًّا غير ناطقٍ باللغة العربية، وهذا غير صحيح".(/1)
والآن اسمح لى أن أختلف معك فى تحديدك للمستشرق، إذ أراك تشترط أن يكون أستاذا جامعيا، مع أن هذا ليس بلازم، فضلا عن أن الواقع خلاف ذلك. والمهم أن يكون محور اهتمام الباحث هو دراسة الشرق لغةً ودينًا وسياسةً واقتصادًا وتاريخًا وجغرافيةً وأدبًا وعاداتٍ وتقاليدَ وزعماءَ وعلماءَ...إلخ، ثم لا عليه بعد هذا إن كان أستاذا فى الجامعة أو صحافيا أو سفيرا أو وزيرا أو رحالة أو فنانا أو حتى جاسوسا. المهم أن يكون مهتما بالشرق وبدراسة الشرق ماضيا أو حاضرا أو مستقبلا، وأن يقرأ عن الشرق ويعرف ما كُتِبَ عنه ويحتك به... وهكذا، مع ملاحظة أن الشرق فى حالتنا الآن هو الشرق الإسلامى بطبيعة الحال. أما إذا ضيَّقنا واسعا وحَجَّرْنا ما جعله الله ليِّنا، فأين نضع أشخاصا كواشنطن إرفنج أو جورج سيل أو إدوارد لين أو ريتشارد بيرتون أو جرترود بل أو بلنت أو كرومر أو محمد أسد أو أسد بك أو مارمادوك بكثال أو مارتن لنجز أو ديزموند ستيوارت أو مراد هوفمان أو روجيه جارودى أو روبرت فيسك أو الجنرال دوتى أو إتيين دينيه أو جينو أو موريس بوكاى على سبيل المثال؟ إن كلامك لا يعنى إلا أن فى الأستاذ الجامعى سرًّا إلهيًّا لا يتوفر لغيره، مع أن الذكاء والعلم والاهتمام والمقدرة على الإنجاز فى هذا المجال متاحة للجميع كما يقول الواقع والتاريخ. بل إن المؤلفات التى خلّفها وراءه هذا النوع غير الأكاديمى من المستشرقين لا تقل أهيمة عن الاستشراق الأكاديمى فى التعريف بالشرق، إن لم تزد. ذلك أن الشرق ليس كتبا قديمة أو تاريخا ماضيا أو أدبا فقط، وهذا بافتراض أن المستشرق الصحفى مثلا لا يهتم بهذه الأشياء، بل هو شوارعُ وأبنيةٌ وملابسُ وأطعمةٌ، وتعاملاتٌ يوميةٌ من كل لون،ٍ وأحداثٌ حيّةٌ معاصرةٌ، وآمالٌ وتطلعاتٌ وتخطيطاتٌ للمستقبل...مما لا يهتم به المستشرق الجامعى عادة، بخلاف المستشرق الرحالة أو المستشرق السياسى وأمثالهما. من الممكن أن نقول إن هناك استشراقا جامعيا، واستشراقا سياسيا، واستشراقا صحفيا...وهلم جرا، أما أن نقول إن الاستشراق لا يكون إلا جامعيا، فماذا نفعل إذن يا ترى بغير الجامعيين ممن يكتبون عن الشرق ويهتمون به، ولهم نتاجٌ مهمٌّ يلقى الضوء على الشرق ويبحث فى ثقافته وتاريخه وحاضره وأوضاعه وسائر قضاياه؟ كذلك اسمح لى أن أنبه القراء إلى أن العربية والفارسية والتركية، رغم أهميتها وتفوقها فى مجال الاستشراق على غيرها من لغات المنطقة، ليست هى كل ما يحتاجه المستشرق الإسلامى، إذ هناك الأوردية والبنغالية واللغات الإفريقية التى يتكلمها المسلمون من غير الشعوب التى تتحدث وتكتب باللغات الثلاث المذكورة. إننى قد أفهم اقتصارك فى حديثك هنا على أنه رغبة فى اختصار الكلام، ولا أظنك تقصد أن اللغات الأخرى التى يتكلمها ويكتب بها المسلمون الآخرون لا تهم المستشرق فى شىء، وإلا فهل يُعْقَل أن يهمل أىُّ مستشرقٍ جادٍّ التراثَ الذى تركه علماء كأبى الأعلى المودودى أو مولانا عبد الماجد دريابادى أو مولانا أبو الكلام أزاد أو حتى كاتبة كتسليمة نسرين؟ لكننى رغم هذا أوافقك تماما فى الإنكار على من يزعمون أن "كلَّ فردٍ يُدْلي برأيه في شؤون العالم العربي والإسلامي، أو يُدلي بدلوهِ في الأمور السياسيةِ في الشرق الأوسط يُعتبرُ مُستشرقًا، حتى ولو كان صَحفيًّا أو عالمًا في العلوم الاجتماعية أو سياسيًّا غير ناطقٍ باللغة العربية"، وهذا نص كلامك. إلا أن هذا غير ذاك كما ترى!
وجوابًا على السؤال التالى:"كيف يمكن تلخيص طبيعة الفهم الاستشراقى للقرآن الكريم، وتوثيق القرآن عند المستشرقين؟ وهل يختلف هذا الفهم عن الفهم للقرآن عند الباحثين المسلمين؟" قلتَ إن "الفهم الاستشراقيّ للقُرآنِ يختلفُ كُلَّ الاختلافِ عنهُ عندَ المسلمين عامةً، والباحثين المسلمين خاصةً، وذلك ما أَثارَ تَوتُّرًا، بل حقدًا إنْ صحَّ التعبيرُ، بينَ الطرفين الإسلاميِّ والأُوروبيِّ. إنَّ المستشرقَ الذي يدرسُ نصَّ القرآنِ وعُلومَه لا ينطلقُ من الحقيقةِ المطلقةِ لدى المسلمين أَنَّّ هذا النصَّ وحيٌ مُنَزَّل، أَي لا يدرسهُ مِن زاويةِ الإيمانِ، بل مِنْ زاوية العلمِ المنفصلِ مِن جَميع ما يدخلُ في باب الإيمان والعقيدةِ. الاستشراقُ يُعالج النصَّ القرآنيَّ وِفقًا لِمَعاييرِ علومِ الدياناتِ العامةِ، وَوفقًا لعلوم التأريخ، فمِن هنا يُمكنُ القولُ: إِنَّ نصَّ القرآنِ في رأي الاستشراقِ ليس إِلاَّ وثيقة تاريخية ثَمينة، باعتباره مبدأً أساسيًّا في إيمان المسلمين وعقيدتهم. وهذا ما ينبغي على الباحث المسلم مراعاته عند القراءة في دراسات المستشرقين أو مناقشتهم حتى لا يحصل الخلل في الفهم والنتائج".(/2)
ولى هنا تعليق أرجو أن يتسع صدرك له، ألا وهو أن الباحثين المسلمين لا تفوتهم هذه الملاحظة أبدا، وإلا فهل تستطيع أن تتذكر أن أحدهم مثلا قد عرض عليك ذات مرة الدخول فى الإسلام؟ لا أظن أن هذا قد حصل، وحتى لو كان حصل فهو أمر نادر بل شاذ لا يقاس عليه كما تعرف. ومعنى هذا أنهم يسلِّمون باختلاف وجهات النظر، وهذا راجع فى الأساس إلى ما جاء فى القرآن الكريم من أن كل أهل دين أو شريعة أو مذهب حتى الذين ضلَّ سَعْيُهم فى الحياة الدنيا "يحسبون أنهم يحسنون صنعا" (الكهف/ 104)، ومن أن كل أمة قد زُيِّنَ لها عملها: "ولا تسُبّوا الذين يَدْعُون من دون الله فيسُبّوا اللهَ عَدْوًا بغير علم. كذلك زيَّنّا لكل أمةٍ عملهم. ثم إلى ربهم مرجعهم فينبّئهم بما كانوا يعملون" (الأنعام/ 108)، وراجع إلى قوله سبحانه أيضًا مخاطبًا نبيّه: "ولو شاء ربك لآمن مَنْ فى الأرض كلُّهم جميعا. أفأنت تُكْرِه الناسَ حتى يكونوا مؤمنين؟" (يونس/ 99)، "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة. ولا يزالون مختلفين* إلا مَنْ رَحِمَ ربُّك، ولذلك خلقهم" (هود/ 119)...إلخ. كما أنهم مأمورون من دينهم ألا يحاولوا فرضه على أحد.
على أن هذا لا يمنع أنهم يفرحون بمن يعتنق دينهم، وهو شعور بشرى فطرى لا غبار عليه، وكل منا يحس بالحُبُور حين ينجح فى كسب الآخرين إلى صفه فى أية قضية، بله أن تكون هذه القضية هى الدين! وفى كلامك فى هذا الحوار الذى نحن بصدده ما يشى بفرحتك لأنك استطعت أن تؤثر على الدارسين العرب الذين يشتغلون معك حتى لقد أصبحوا ينظرون إلى الحضارة الإسلامية من زاوية علمانية غير دينية. وهذا نصّ ما قلتَ: "ما هي الفائدةُ التي تترتب على هذه البعثات والدراسات في الكليات الأوروبية؟! وهل هناك حاجة تدعو إلى هذه البعثات من الدول الإسلامية؟! نعم، إِنَّنا لسعداءُ أَن نقبلَ ونُضيفَ طلبةَ العلمِ من الدول العربية لكي يشاركونا في الدراسات الإسلاميةِ، وهي في الغالب تختلفُ من حيث المنهجية عن الدراسات في الجامعات الإسلاميةِ كُلَّ الاختلاف. إنَّ الإقامةَ والدراسة في المعاهد الاستشراقية قد تكونُ مفيدةً لِمَن يستطيع التمييزَ بين المنهجينِ العِلميينِ: الإسلاميِّ كما في بعض الدول العربية والإسلامية، والعَلمانيّ كما هي عندنا في أوربا. لقد شاركني بعض الإخوة من الدول العربية في أبحاثي، وقد استفدتُ من علمهم لأَنَّهم كانوا من المتخرجين من جامعاتٍ إسلاميةٍ، ولديهم إلمامٌ بدرجةٍ ما، وهم في الآنِ نفسهِ تعلّموا مِنّا الاقترابَ اللاديني من هذه الحضارة الإسلامية، التي لا يَشكُّ في عَظَمتِها أَحدٌ من المستشرقينَ المنصفين على المستوى الأكاديمي. والفائدة من هذه البعثات قد تكونُ الحوارَ المتبادلَ الجِدِّيَّ في مسائلِ البحث العلمي من أجلِ المعرفةِ، لا مِنْ أجلِ إقناعِ الطرفِ الآخرِ بأَولويةِ مَعاييرِ دِينه".
لكن أترانى أريد أن أقول إن المسلمين لا يضيقون حين يَرَوْن المستشرقين والمبشرين يهاجمون القرآن؟ أكون كاذبا إذا أجبت بالإيجاب، إذ هم يضيقون بالفعل ضيقًا شديدًا من جرّاء هذا، لكن لا لأنهم يريدون من المستشرق أو المبشر أن يشاركهم الاعتقاد بأن هذا القرآن من عند الله، بل لأنهم يَرَوْن أنهما لا يراعيان، فى كتاباتهما عنه، قواعد العلم والتفكير المنهجى السليم، وأنهما قد دخلا ميدان الدراسات القرآنية بنيّةٍ جاهزة هى التخطئة والانتقاد أيا كان الوضع! هذا هو السبب، ولا سبب غيره فى حدود علمى وملاحظتى. وفى كلامك ذاته ما يومئ بقوةٍ إلى صدق ما ذكرتُ، فأنت تقول إن "الاستشراق يُعالج النصَّ القرآنيَّ وِفقاً لِمَعاييرِ علومِ الدياناتِ العامةِ، وَوفقاً لعلوم التأريخ، فمِن هنا يُمكنُ القولُ: إِنَّ نصَّ القرآنِ في رأي الاستشراقِ ليس إِلاَّ وثيقة تاريخية ثَمينة، باعتباره مبدأً أساسيًّا في إيمان المسلمين وعقيدتهم". معنى ذلك أنك تدخل الميدان، وفى ذهنك أن هذا النص غير مقدس ولا يمكن أن يكون مقدسا، على حين أن الحيادية العلمية تقتضيك أن تدخل بقلب محايد يمكن أن يغير اتجاهه فى أى وقت تبعا لما يتكشف له من الحقيقة أو ما يرى مخلصًا أنه الحقيقة، اللهم إلا إذا قلتَ إن العلم قد انتهى انتهاء مطلقا لا رجعة عنه ولا مثنوية فيه إلى أن الأديان، أو على الأقل: إلى أن الإسلام لا يمكن أن يكون صوابا. فهل يمكنك بوصفك رجلا عالما أن تجزم بهذا؟ وحتى لو كان بعض العلماء الطبيعيين يقولونه، بل لو افترضنا المستحيل وقلنا إن جميع العلماء الطبيعيين يقولون به، أوَيمكنك أنت أو غيرَك أن تقطع بأن هذه هى الحقيقة المطلقة، وضميرك مطمئن؟ إن الأمر فى أسوإ حالاته لهو أمرٌ خلافىّ! وعلى كل حال فليس هناك ما يقطع بأن الرسول محمدا لم يكن فعلا رسولا من عند رب العالمين. وبطبيعة الحال أنا لا أتكلم هنا عن كل المستشرقين بل على قطاع منهم، وإن لم يكن هذا القطاع صغيرا بالمناسبة.(/3)
ثم إن كثيرا من العلماء الغربيين يدخلون الإسلام رغم كل الهوان والخزى الذى يحيط بالمسلمين من كل جانب فى هذا العصر العجيب! فلم لا يضع المستشرق من هؤلاء فى ذهنه منذ البداية أنه مقبل على دراسة دين يمكن، رغم كل شىء، أن يتضح أنه دين حق! ونحن، والحمد لله، أكبر من أن نتصور أن سَبْق محمد لنا فى التاريخ وانتماءه إلى مجتمع بدوى متخلف أشواطا هائلة عن مجتمعاتنا المعاصرة، وبخاصة المجتمعات الغربية الصناعية، يسوّغان النظر باستهانة إلى التعاليم والعقيدة والقيم التى أتى بها، فما هكذا يفكر العلماء! وإلا لَنَأَى واحد مثلى بعِطْفه عن دين محمد جانبا (وعن الأديان الأخرى من باب الأولى)، وشمخ بأنفه عاليا، لأنه تعلم تعليما جامعيا راقيا، وسافر إلى أوربا ودرس فى أحسن جامعاتها حتى حصل على الدكتورية، ثم ترقَّى إلى الأستاذية بعد ذلك، وقرأ آلاف الكتب، ويعرف بعض اللغات، وله عدد غير قليل من الكتب...إلى آخر هذا الكلام الذى لا يؤكّل "عَيْشًا" ولا يجوز إلا فى عقول الحمقى والمغفلين الذين أعوذ بالله أن أكون واحدا منهم! فمحمد، إذا كان رسولا حقا، فـ"طُظْ" وأَلْف "طُظْ" فى الشهادات الجامعية والألقاب العلمية والمعارف المختلفة التى حصّلها الإنسان إذا أوعزت إليه الكِبْر على دين الله والكُفْر برسوله. لكن فلنَعُدْ إلى ما كنا بسبيله، وإلا ظُنَّ أنى أنتهز الفرصة لأدخل فى فاصل من العزف الدِّعائى المنفرد، مع أنى لا أحسن الدعوة إلى الدين رغم أنه شرف، وأى شرف! وعلى كل حال فلست أذكر، كما أشرتُ من قبل، أن أحدا من الباحثين، أو حتى المثقفين، العرب أو المسلمين بوجه عام قد فكر فى دعوة نظير له إلى اعتناق دين الرسول الكريم، اللهم إلا المرحوم أحمد حسين زعيم "مصر الفتاة"، الذى وجه رسالة مفتوحة فيما أذكر إلى "الحاج محمد هتلر" شيخ عموم قبائل جرمانيا العظمى، الذى صنّف أمم العالم فكان كرمًا ولطفًا منه أنْ لم ينزل بالعرب إلى مستوى الحيوانات، بل وضعهم هم واليهود قبل الكلاب وسائر العجماوات بدرجة! والله فيه الخير! ولذلك لا ترانا ننبح مثل الكلاب كما لعلك لاحظت أثناء دراستك فى مصر عندما كنت تترك المحاضرات فى الجامعة وتحتكّ بالناس فى الشوارع والدكاكين كى تتأكد أن عدم النباح ليس مقصورا على المتعلمين وحدهم، بل يشمل كذلك العامةَ خارج المعاهد العلمية! ولقد استطاع اليهود أن يأخذوا حقهم ثالثًا ومثلّثًا من الألمان وما زالوا وسوف يظلّون يستنزفون الألمان ودم الأمان إلى أن يقضى الله أمرا كان مفعولا، أما نحن فناسٌ على نياتنا: كلمة تؤدّينا، وكلمة تجىء بنا! أو بالبلدى: ناسٌ هُبْل (مقلوب "بُلْه" كما يقولون)!
ما علينا من هذا كله! نعود لما كنا فيه مرة أخرى: كنا نقول إن الباحثين العرب والمسلمين، حين يعيبون المستشرقين لانتقادهم القرآن، لا يفعلون ذلك لأنهم يريدون منهم أن يؤمنوا بأنه كتاب سماوى مثلما يؤمنون هم، بل لأنهم يرون أنهم إنما يدخلون الميدان وقد شمروا عن ساعد التخطئة بأية وسيلة، على طريقة الذئب الذى خرج إلى جدول الماء، وهو مصمم ألا يرجع إلى أولاده إلا باثنين ثلاثة كيلو ضأن. لزوم الموسم، كل سنة وأنت طيب، فقد كانت ليلة النصف من شعبان أو شيئا من هذا القبيل! وأنت تعرف باقى القصة، فلا داعى للمضى فيها. ستقول لى: أبدا، فأقول لك بدورى: أَبَدَيْن اثنتين لا أَبَدًا واحدة، وهاك الدليل، ومن كلامك ذاته هذه المرة أيضا!(/4)
لقد قلتَ إن نولدكه المستشرق الألمانى "ما يزال يُعتبَر حتى اليوم من كبار المستشرقين المتخصصين في العلوم القرآنية. ولم يكن اقترابُ نولدكه من القرآن اقترابًا مضادًّا للوحي، بل قام بدراسات تحليلية ومنطقية ولغوية للنص نفسه، وأشار إلى ما جاء في النص القرآني من المزايا اللغوية والخصائص. كما أشار إلى بعض الظواهر اللغوية التي لا تتماشى برأيه مع قواعد اللغة المسلّم بها نظرًا لمعرفتهِ باللغات الساميَّةِ الأُخرى: العِبرْانية، السيريانية، الحبشية، واليمنية القديمة". وإنى سائلك سؤالا بسيطا جدا: ولماذا لم نر مستشرقا، نولدكه أو غير نولدكه، يخطِّئ امرأ القيس مثلا أو طرفة أو حسان بن ثابت كما يخطئون القرآن لو كانت المسألة هى أن رصيفك الألمانى قد حلل أسلوب القرآن وخرج بأنه لا يتماشى مع القواعد اللغوية المسلَّم بها؟ لماذا تخطئة القرآن فحسب؟ فليكن القرآن من عند محمد أو من عند الشيطان نفسه، أيمكن نولدكه أن يزعم أنه يعرف لغة محمد خيرا مما كان محمد يعرفها؟ ولنفترض أنه قد ركبه العناد والغرور، بل بالحَرَى: الجنون، وقال: نعم، أنا أذكى من محمد وأَعْرَف منه بلغة قومه، وأستطيع أن أكتشف أخطاءه الأسلوبية، أَوَتظنّ أنت أن هذا موقف علمى سليم بعد أن لم نر أحدا من العرب المعاصرين لمحمد، مَنْ آمن منهم به ومَنْ لم يؤمن، يخطِّئه فى لغته؟ إن أقصى ما بدر منهم، فى قمة حِرَانهم وردّهم على تأكيده لهم أنهم أعجز من أن يأتوا بسورة من مثله، أن قالوا: "لو نشاء لقلنا مثل هذا"! ثم إنهم لم يقولوا مثل هذا ولا أفضل من هذا! أما الطنطنة باللغات السامية وغيرها فما دخلها فى الأمر؟ أترى العرب لم يكونوا يتكلمون بشىء من لغتهم إلا بعد الرجوع إلى "مجمع اللغات السامية المقارن" فى سوق عكاظ وأخذ الإذن منه مُوَقَّعًا من نولدكه ومختومًا بخاتمه؟ إننى أحتكم هنا إلى ضميرك العلمى: أهذا الذى حاولتَ الدفاع به من تحت لتحت عن نولدكه كلام منطقى وليس حذلقة علمية يراد بها بصراحة، ودون لف أو دوران، الإيهام بوجود أخطاء فى لغة القرآن؟ فهذا، يا دكتور مورانى، هو الذى يضايق الباحثين العرب والمسلمين، إذ يَرَوْن المستشرقين يخرجون على مناهج العلم وقواعد المنهج عند دراستهم لكتاب الله!
ثم كيف عرف نولدكه يا ترى قواعد اللغة المسلَّم بها؟ هل استقصى كل جوانب اللغة العربية ومضى فطاف بقبائل العرب فى الجاهلية وصدر الإسلام مَضْرِبًا مَضْرِبًا وسجَّل كل شىء فاهوا به وتأكد أنه لم يترك شاردة ولا واردة من لغتهم إلا غذّى بها حاسوبه، ثم تأكد مرة ثانية أن محمدا قد خرج على ما كانت العرب تنطق به؟ وحتى لو افترضنا المستحيل وقلنا إن نولدكه قد استطاع هذا فعلا، أليس من حق محمد، بوصفه ابنا من أبناء تلك اللغة، أن يشارك فى صنعها وتطويرها مثلما يفعل أى أديب أو كاتب فى أية لغة من لغات العالم قديما وحديثا ومستقبلا؟ ألا يعرف نولدكه أن ما يقوله محمد وأمثاله هو المعيار اللغوى الذى ينبغى أن يقاس عليه لا العكس، وبخاصة أن العرب لم يكونوا قد استخلصوا قواعد لغتهم بعد؟ إننى لا أستطيع أن أنسى كيف كنت فى صغرى سريعا إلى تخطئة ما كنت، لسذاجتى، أحسب أنه هو اللغة الصحيحة الوحيدة، وكيف أنى كلما كبرت واتسع إدراكى اللغوى والأسلوبى اتضح لى أن ما نجهله من اللغة أضعاف أضعاف أضعاف أضعاف أضعاف...ما نعرفه. ثم إن اللغة لا يحكمها المنطق الصارم دائما، بل فيها ما فى الحياة من مورانٍ وغليانٍ وتأبٍّ على القوالب الجامدة فى غير قليل من الأحيان. ولا أنسى مثلا أن د. رمضان عبد التواب قد خطّأنى ذات مرة فى ثمانينات القرن الماضى حين رآنى أدافع عن تكرير "بين" مع اسمين ظاهرين، قائلا إن هذا الاستعمال لم يرد فى القرآن، فما كان منى إلا أن رددتُ عليه بعفوية شاب يظن أنه يستطيع أن يفكر أحيانا ويشغّل مخه: ومن قال إن القرآن يستوعب كل الإمكانات اللغوية فى لسان العرب؟ فعاد يقول إن العلماء متفقون على تخطئة تكرار "بين" فى هذا السياق. وبدورى عدت فقلت له: لكن هناك استعمالات تقتضى الكاتب هذا التكرار منعا للَّبس. ثم أعطيته مثالا سريعا خطر لى آنذاك. وانتهت المناقشة دون أن نتفق على شىء.(/5)
وتصادف أنى كنت أقرأ فى أحد كتب التفسير بعدها بفترة قصيرة (ولعله تفسير البيضاوى) فألفيته يقول إن هذا الاستعمال صحيح، وإن لم يكن حسنا. فكتبت هذا النص وأعطيته له. ثم تصادف مرة أخرى بعدها بشهور طويلة أن كنت أقرأ فى تفسير الطبرسى حين وقعتُ على بيتين جاهليين تكررت فيهما "بين" فى هذا السياق أيضا، فكتبتهما وزوّدته بهما. لكنى فوجئت بطلابى يقولون بعدها بقليل إن سيادته يؤكد لهم أن هذا الاستعمال خاطئ تماما، وهو ما اضطرنى إلى أن أحكى لهم، وأنا أضحك، القصة كلها من "طق طق" لـ"سلام عليكم"، لكنهم لم يقتنعوا. "طُظْ" فيهم وفى عدم اقتناعهم! ثم مرت الأيام، وذهبتُ فى إعارة للسعودية، وبينما كنت أكتب فصلا هناك عن "معجم البلدان" لياقوت الحموى، خطر لى بعد الفراغ من البحث أن أراجع، فى ذلك المعجم، الأبيات الشعرية التى كان الشعراء الجاهليون والإسلاميون يحدّدون فيها مواقع أطلال حبائبهم مستخدمين كلمة "بين" لأفاجأ بأنهم كانوا يكررونها أحيانا مع الاسمين الظاهرين. وقد وضعت يدى وقتها على نحو ثلاثين شاهدا من عصور الاحتجاج اللغوى، وأوردت معظمها فى كتابى "من ذخائر المكتبة العربية"، وحكيت القصة باختصار ودُون ذكر أسماء فى الفصل الخاص بكتاب ياقوت. لكن المضحك أكثر أننى عندما عدت من السعودية وأطلعت الأستاذ الدكتور على الشواهد التى وصلتُ إليها كان رده: وهل راجعتَها فى دواوين الشعراء أنفسهم؟ فقلت له: كلا. ولكن لماذا؟ فكان جوابه أن ياقوتا كثيرا ما كان يخترع مثل هذه الأبيات!!! فقلت له: وهل تظن يا دكتور أن ياقوتا كان يضع فى ذهنه منذ ذلك التاريخ أنك ستكون من الذين يقولون بخطإ هذا الاستعمال، فاخترع كل تلك الأبيات كى يغيظك مقدما، ثم سكت عليه العلماء طوال هاتيك القرون فلم يفضحوا تدليسه؟
وعلى أية حال هأنذا أسوق هنا للقراء الكرام بعض الشواهد على هذا التركيب من شعر عصور الاحتجاج، وهى مستقاة من "الموسوعة الشعرية" القرصية هذه المرة لا من ياقوت المتهم بالتدليس ظلما وعنادا، وأغلبيتها الساحقة شواهد جديدة. من ذلك قول الأخطل:
وَكَأَنَّما نَسِيَتْ كُلَيبٌ عَيْرَها بَينَ الصَريحِ وَبَينَ ذي العُقّالِ
وقول الأعشى:
هُوَ الواهِبُ المُسمِعاتِ الشُّرو بَ بَينَ الحَريرِ وَبَينَ الكَتَن
وقول الشَّنْفَرَى:
خَرَجْنا مِنَ الوادي الَّذي بَينَ مِشْعَلٍ وَبَينَ الجَبا. هَيهاتَ أَنشَأتُ سُرَبتي
وقول العجير السَّلُولِىّ:
أَبلِغ كُلَيْبًا بأنَّ الفَجَّ بينَ صَدَىً
وَلِلعادِياتِ القَهْقَرى بين رِيِّهِ ... ... وبينَ برقةِ هُولي غيرُ مسدودِ
وبينَ الوِحافِ مِن كُماتٍ وَمِن شُقْرِ
وقول الفرزدق:
وَطِئَتْ جِيادُ يَزيدَ كُلَّ مَدينَةٍ بَينَ الرُدومِ وَبَينَ نَخلِ وَبارِ
وقول النمر بن تولب:
بَينَ البَدِيِّ وَبَينَ بُرقَةِ ضاحِكٍ
يا وَيلَ صُهْبى قُبَيلَ الريحِ مُهذِبَةً ... ... غَوثُ اللَهيفِ وَفارِسٌ مِقدامُ
بَينَ النِجادِ وَبَينَ الجَزْعِ ذي الصوحِ
وقول النميرى:
تَراءَت لَنا يَومَ فَرعِ الأَرا كِ بَيْنَ العِشاءِ وَبَيْنَ الأَصلْ
وقول امرئ القيس:
قَعَدتُ لَهُ وَصُحبَتي بَينَ ضارِجٍ وَبَينَ تِلاعِ يَثلُثٍ فَالعَريضِ
وقول بشار:
بَينَ أَبي جَعفَرٍ وَبَينَ أَبي الـ
* * *
بَينَ أَبي جَعفَرٍ وَبَينَ أَبي الـ
* * *
فَشَتّانَ بَينَ العامِرِيِّ اِبنِ واقِدٍ
* * *
فَلَهُ زَفرَةٌ إِلَيكِ وَشَوقٌ ...
... عَبّاسِ ذاكَ الشِتا وَذا المَطَرُ
* * *
عَبّاسِ مِثلُ الرِئبالِ مُحتَجِبا
* * *
وَبَينَ اِبنَةِ الزَيدِيِّ إِذ كامَها عَفدا
* * *
حالَ بَينَ الهَوى وَبَينَ الهُجودِ
وقول توبة بن الحميّر:
وقسورةَ الليلِ الذي بينَ نصفهِ وبين العِشاء قد دأبتُ أسيرُها
وقول حاتم الطائى:
أَيُّها المُوعِدي، فَإِنَّ لَبُوني بَينَ حَقلٍ وَبَينَ هَضبٍ ذُبابِ
وقول حسان بن ثابت:
نَغدو بِناجودٍ وَمُسمِعَةٍ لَنا بَينَ الكُرومِ وَبَيْنَ جَزْعِ القَسطَلِ
وقول عامر بن الطفيل:
وَسَعَّت شُيوخُ الحَيِّ بَينَ سُوَيقَةٍ وَبَينَ جَنوبِ القَهرِ ميلَ الشَمائِلِ
وقول عبيد بن الأبرص:
إِلى ظُعُنٍ يَسلُكنَ بَينَ تَبالَةٍ وَبَينَ أَعالي الخَلِّ لاحِقَةِ التالي
وقول عدى بن يد:
وَجاعِلُ الشَمسِ مِصْرًا لا خَفاءَ بِهِ بَينَ النَهارِ وَبَينَ اللَّيلِ قَد فَصَلا
وقول عمر بن أبى ربيعة:
حَيِّ المَنازِلَ قَد تُرِكنَ خَرابا بَينَ الجُرَيْرِ وَبَينَ رُكنِ كُسابا
وقول قيس بن الخطيم:
بَينَ بَني جَحْجَبي وَبَينَ بَني كُلفَةَ أَنّى لِجارِيَ التَلَفُ؟
وقول كعب بن مالك:
فلْيأتِ مَأْسدَةً تُسَنُّ سُيُوفُها بينَ المذادِ وبين جِزعِ الخَنْدقِ
وقول لبيد بن ربيعة:
بَينَ اِبنِ قُطْرَةَ وَاِبنِ هاتِكِ عَرشِهِ
فَالتَفَّ صَفْقُهُما وَصُبْحٌ تَحتَهُ ... ... ما إِن يَجودُ لِوافِدٍ بِخِطابِ
بَينَ التُرابِ وَبَينَ حِنْوِ الكَلكَلِ
وقول يزيد بن معاوية:(/6)
مُقابِلَةً بَينَ النَبِيِّ مُحَمَّدٍ وَبَينَ عَلِيٍّ وَالجَوادِ اِبنُ جَعفَرِ
وقول أوس بن حجر:
أَم مَن لِقَومٍ أَضاعوا بَعضَ أَمرِهِمِ
عَلاةٍ كِنازِ اللَحمِ ما بَينَ خُفِّها ... ... بَينَ القُسوطِ وَبَينَ الدينِ دَلْدالِ؟
وَبَينَ مَقيلِ الرَحلِ هَولٌ نَفانِفُ
ثم مثال آخر وأخير على ما أقول: فقد قرأ د. صلاح كَزّارة (زميلى السورى هنا بجامعة قطر) منذ عامين كتابى "معركة الشعر الجاهلى بين الرافعى وطه حسين"، وهو عالم مدقق (ومن تلامذة الدكتور فشر، ويثنى كسائر تلاميذ هذا المستشرق عليه ثناء شديدا)، وإذا قرأ شيئا أمسك تلقائيا بقلم رصاص وأخذ يدون ملاحظاته على ما يقابله، فوجد لى هذه الجملة: "من هنا فإننا من الوجهة التاريخية الموثقة نجد أنفسنا، كلما اقتربنا من هذه المسألة، نصطدم بالصمت"، فما كان منه إلا أن صححها فى الهامش إلى "اصطدمنا" قائلا إن من غير المقبول استعمال المضارع فعلاً أو جوابًا لـ"كلما". فقلت له: غريبة أنى استخدمت المضارع هنا رغم أنى لم أكن على وعى بهذا الذى تقول، إذ أشعر أن هذه ليست طريقتى فى الكتابة. ثم عدت فنظرت فى التركيب فوجدت أنه، حتى لو سلّمنا بما يقول، فإن المضارع فيه لم يأت جوابا لـ"كلما"، بل هو خبرٌ للفعل "نجد"، على حين أن "”كلما” وفِعْلها" عبارة اعتراضية. وزِدْتُ على ذلك أَنْ أوردتُ له من أحد المعاجم النحوية شاهدا على مجىء جواب "كلما" فعلا مضارعا، لكنه قال إن هذا الشاهد، فيما يبدو، من الشعر الحديث لا القديم، ومن ثَمَّ لا يجوز الاحتجاج به. فسكتّ، وماذا كان بإمكانى أن أصنع؟ ثم مضت الأيام، وهززت رأسى، وهى حركة ذات دلالة خطيرة، إذ تعنى أننى شرعت أفكر تفكيرا مستقلا، ويمكننى إذن أن أصل إلى شىء جديد. وقد كان، فقد رجعت للموسوعة الشعرية القُرْصِيّة وبحثت فيها، فإذا ببنت الحلال (أى الموسوعة، فلا يذهبنّ ذهن القراء بعيدا) تقدّم لى فى دقيقة أكثر من عشرة شواهد من الشعر القديم على استعمال المضارع مع "كلما". وقد أخذتُ الشواهد فى اليوم التالى إلى الزميل المذكور الذى لم يُحْوِجْنى إلى طويل جدال، بل سلّم من الوهلة الأولى قائلا ببساطة عظيمة: "إذن فما كنا نقرؤه عن خطإ هذا الاستعمال لا أصل له"! فهذا، يا دكتور مورانى المحترم، هو الموقف العلمى السليم لا الطيران إلى تخطئة القرآن الكريم بحجة أن نولدكه كان يعرف اللغات السامية!
وها أنذا أورد بعض تلك الشواهد التى عثرت عليها من عصور الاحتجاج على استعمال المضارع مع "كلما". فمن ذلك قول أبى نواس:
صَهباءُ تَبني حَباباً كُلَّما مُزِجَت كَأَنَّهُ لُؤلُؤٌ يَتلوهُ عِقيانُ
وقول الأخطل:
يَخْشَيْنَهُ كُلَّما ارتَجَّت هَماهِمُهُ حَتّى تَجَشَّمَ رَبْوًا مُحْمِشَ التَعَبِ
وقول الأعشى:
تَخالُ حَتْمًا عَلَيها كُلَّما ضَمَرَتْ مِنَ الكَلالِ بِأَن تَستَوفِيَ النِّسعا
وقول الفرزدق:
إِذا حارَبَ الحَجّاجُ أَيَّ مُنافِقٍ عَلاهُ بِسَيفٍ كُلَّما هُزَّ يَقْطَعُ
وقول الكُمَيْت بن زيد:
تكاد العُلاة الجَلْس منهن كلما تٌِرمرمُ تُلقِي بالعَسِيب قَذَالَها
وقول جرير:
بانَ الخَليطُ بِرامَتَينِ فَوَدَّعوا أَو كُلَّما رَفَعوا لِبَينٍ تَجزَعُ؟
وقول حُمَيْد بن ثور:
وَما لِفؤادي كُلَّما خَطَرَ الهَوى عَلى ذاكَ فيما لا يواتيهِ يَطمَع؟ُ
وقول خفاف بن ندبة السلمى:
جُلْمودُ بصرٍ إِذا المِنقارُ صادَفَهُ فَلَّ المُشَرْجَعُ مِنها كُلَّما يَقَعُ
وقول عمر بن أبى ربيعة:
إِذا زُرتُ نُعْمًا لَم يَزَل ذو قَرابَةٍ
كُلَّما توعِدُني تُخْلِفُني
يَجري عَلَيها كُلَّما اغتَسَلَتْ بِهِ
لَها كُلَّما لاقَيْتُها يَتَنَمَّرُ
ثُمَّ تَأتي حين تَأتي بِعُذُر
فَضْلُ الحَميمِ يَجولُ كَالمَرْجانِ
وقول كعب بن زهير:
أَلا لَيتَ سَلمى كُلَّما حانَ ذِكرُها تُبَلِّغُها عَنّي الرِياحُ النَوافِحُ
وقول لبيد بن ربيعة:
نَعْلوهُمُ كُلَّما يَنمي لَهُم سَلَفٌ بِالمَشرَفِيِّ وَلَولا ذاكَ قَد أَمِروا
وقول مجنون ليلى:
فَلَو كانَت إِذا احْتَرَقَتْ تَفانَتْ
فَيا لَيتَ أَنّي كُلَّما غِبتُ لَيلَةً
وَطالَ امتِراءُ الشَوقِ عَينِيَ كُلَّما
وَلَكِن كُلَّما اِحتَرَقَتْ تَعودُ
مِنَ الدَهرِ أَو يَوْمًا تَراني عُيونُها
نَزَفتُ دُموعًا تَسْتَجِدُّ دُموعُ(/7)
المهم بالنسبة لما نحن فيه الآن أنها قد أصبحت تقليعة بين طائفة من المستشرقين أن يأخذوا فى تخطئة القرآن أسلوبيا ولغويا بغشمٍ مضحكٍ يذكِّرنى بما تهكم به الشدياق على أمثالهم فى بعض كتبه. ومن هؤلاء ريجى بلاشير، الذى وقفتُ فى الفصل الرابع من الباب الأول من كتابى: "المستشرقون والقرآن" إزاء ما قاله فى هذا الصدد، وبينتُ مقدار السخف والتنطع فى تخطئاته للقرآن. ثم لم يفت محمد أركون الجزائرىَّ العربىَّ لسانا رغم أصله البربرى أن يجرب حظه هو أيضا فى هذا المجال حتى لا يُتَّهَم بأنه مقصِّر فى الهجوم على كتاب الإسلام! فوجدناه يردد، بجهلٍ طفولىٍّ أرعنَ، ما قاله بلاشير فى ترجمته للقرآن المجيد من أن قوله تعالى (أو قول محمد إذا أحببتَ) فى سورة "الكهف": "ولبثوا فى كهفهم ثلاثمائةٍ سنين، وازدادوا تسعا" هو خروج على الاستعمال الصحيح للأعداد مع التمييز...إلخ مما دفعنى إلى تبيين جهله للقراء وأنه يهرف بما لا يعرف رغم الطنطنة الدعائية التى يحاط بها لتسويقه بين العرب والمسلمين بوصفه أستاذا جهبذا عبقريا لم تلده ولاّدة (ليست ولاّدة بنت المستكفى كما لا أحتاج إلى توضيح، بل الولاّدة التى تولِّد السيدات). وهذا نص ما كتبتُه عن هذا الموضوع ضمن دراسة لى تناولتْ ما قاله ذلك العبقرى فى القرآن بعنوان "المهزلة الأركونية فى المسألة القرآنية: القرآن مخيال جماعى أم وحى إلهى؟": "كذلك يقف أركون يفرك يديه ابتهاجا ساذجا إزاء قوله تعالى فى الآية الخامسة والعشرين من السورة ذاتها عن المدة التى بقيها أصحاب الكهف فى كهفهم: "ولبثوا فى كهفهم ثلاثَمائةٍ سنين وازدادوا تسعا"، وَهْمًا منه، وممن يردد كلامهم بعَبَله دون أن يتوقف ليتثبت منه قبل ترديده، أن فيها شذوذا لغويا، إذ كان ينبغى أن يكون الكلام فى رأيهم هكذا: "ثلاثَمائة ِسنةٍ" لا "ثلاثمائةٍ سنين"، وهو ما يرتبون عليه افتراض "العديد من الافتراضات حول شروط أو ظروف تثبيت النص" كما يقول بلاشير (القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الدينى/ 148). ثم يضيف درويشه المتيَّم هاشم صالح فى الهامش قائلا إن "النقد الفيلولوجى يكشف عن أشياء مذهلة ويطرح تساؤلات عديدة، ولكن من دون أن يستطيع القطع بشىء". يقصد أن منهج المستشرقين السابقين لم يكن يساعدهم على الاستفادة من النتائج التى يتوصلون إليها، بخلاف أركون ومنهجه الذى يسوِّل له أن يطير بكل شبهة سخيفة مطنطنا بها ومخطِّئا القرآن دون تبصر أو مراجعة! … إن بلاشير، وأركون مِنْ ورائه، يتصوران أن اللغة العربية لا تعرف إلا وضعا واحدا لكل حالة من حالات التمييز، ومن هنا فإنهم لا يتخيلون أن من الممكن أن يجىء تركيب الكلام فى تمييز "ثلاثمائة" وأمثالها إلا هكذا: "ثلاثمائةِ سنةٍ، ستمائةِ امرأةٍ، تسعمائةِ كتابٍ" بإفراد التمييز وخفضه على الإضافة كما ترى. لكن هذا، وإن كان هو ما يعرفه التلاميذ، ليس كل شىء، إذ كان العرب أيضا يجمعون المعدود فى هذه الحالة مع الإضافة أو قطعها، وإن لم يشتهر الجمعُ اشتهار الإفراد. وما دام هذا الاستعمال قد ورد فى القرآن فمعنى ذلك أنه صحيح، حتى لو كان محمد هو مؤلف القرآن، بل حتى لو قلنا إن القرآن قد تعرض لتدخل من العرب بعد وفاة الرسول حسبما يزعم الزاعمون السخفاء. إن القول بغير هذا هو العَتَه بعينه لأنه لا يحدث فى أية لغة فى العالم، إلا أن الحقد المجنون يريد أن يلغى لنا عقولنا فنردد حماقاته دون تبصر، والعياذ بالله! وفى المثال الذى نحن بصدده من سورة "الكهف" يمكننا أن نركِّب الكلام على أكثر من وضع فنقول: "ثلاثَمائةِ سنةٍ، ثلاثَمائةٍ من السنين، سنين ثلاثَمائةٍ، ثلاثمائةٍ سنين، ثلاث مئاتٍ من السنين"، ولكلٍّ نكهتها وظلالها الإيحائية.(/8)
وأحب أن أقف عند التركيب الذى ظن بلاشير ومقلّده أركون أنه هو وحده لا سواه التركيب الصحيح، ثم أُقَفِّىَ بالكلام عن التركيب الذى اعترضا عليه، أو بالأحرى اعترض عليه بلاشير فاعترض معه آليا د. أركون: فأما التركيب المعتاد فهو يشير إلى "عدد الثلاثمائة" وأنه سنون، والخطاب فيه موجَّه إلى من لا يرى فى العدد ولا فى تمييزه ما يدعو إلى الاستغراب أو الاستنكار. ولذلك فنحن نستخدم هذا التركيب عادة عندما لا نريد أن نعبر عن أى شىء آخر غير هذا المعنى العام. أما إن كان المخاطَب متشككا فيما نقوله له أو يستهوله، كأن يستبعد أن يكون العدد ثلاثمائة أو أن يكون التمييز سنوات لا أياما مثلا، فعندئذ يكون هناك موضع للتركيب القرآنى، فكأن المتكلم يريد أن يقول: نعم، العدد ثلاثمائة، وهذه الثلاثمائة هى سنوات لا أيام ولا أسابيع ولا حتى شهور. إنها سنوات " كلّ سنةٍ تنطح الأخرى" بالتعبير المصرى الدارج. فـ"سنين" فى هذا التركيب الأخير هى بدل من "الثلاثمائة"، أى أن السنين ليست مجرد تمييز لها، بل هى الثلاثمائة نفسها عدًّا وإحصاءً. إن المفسرين ومُعْرِبى القرآن لا يتوقفون طويلا أمام هذا التركيب لأنهم ببساطة لا يجدون فيه شيئا، بخلاف الذين لا علم لديهم ويعترضون على ما يجهلون، فهم يعملون من الحبة قبة! أما أنا فلم أشأ أن أردد فقط ما قاله النحويون فى إعراب الآية، بل أردت أن أضيف لما يقولون ما لعله يكشف شيئا مما وراء ظاهر التعبير من أسرار النفس وأغراض البلاغة. ومثل هذا القلب الذى يقابلنا فى هذه الجملة (إذ هى فى الواقع محولة عن "سنين ثلاثمائة" لا عن "ثلاثمائة سنة") له نظائر فى اللغة كثيرة، فنحن نقول مثلا: "ضُرُوبًا من المنى، وأفانينَ من اللذات" على حين يقول ابن زيدون فى نونيته العبقرية: "مُنًى ضُروبًا ولذّاتٍ أفانينا" فيضفى على العبارة العادية حيوية مدهشة لم تكن لها. كما أننا نقول: "عدةَ سنوات" و"سنواتٍ عدة"، وفى هذه ما ليس فى تلك: فالأولى تعنى "عددا من السنوات"، أما الأخرى فتعنى "عددا كبيرا من هذه السنين"...وهكذا…
وعلى ذلك فإننى أسوق الشواهد الشعرية التالية التى جاء فيها المعدود مجموعا لا مفردا، أو مقطوعا لا متصلا، أو الاثنين كليهما، فمن ذلك قول علقمة الفحل:
فكان فيها ما أتاك وفى تسعين أسرى مقرنين وصُفَّد
وقول عمرو بن كلثوم:
رددت على عمرو بن قيس قلادة ثمانين سُودًا من ذُرَى جبل الهضب
وقول ربيعة بن ضبع الفزارى:
إذا عاش الفتى مائتين عامًا فقد ذهب اللذاذة والفتاءُ
وقول عمر بن أبى ربيعة:
أَبْرَزُوها مثلَ المهاة تَهَادَى بين خمسٍ كواعبٍ أترابِ
وقول السيد الحِمْيَرى:
ثلاثة آلافٍ ملائك سلّموا عليه فأدناهم وحَيّا ورحَّبا
وقول الوليد بن يزيد:
بَينَ خَمْسٍ كَواعِبٍ
أَكرَمُ الجِنسِ جِنسُها
وقول أبان اللاحقى:
يُجْرِى على أولاده خمسة أرغفةً كالريش طيارة
وقول ابن المعتز:
وأجّلونى خمسةً أياما
وطوّقونى مثلكم إنعاما
وقول ابن أبى الحديد:
عام ثلاث ثم أربعينا
من بعد ستمائةٍ سنينا
وقول إبراهيم الحضرمى:
وخمس مثين بعد خمسين درهما
وقول أحمد بن مأمون البلغشى:
من عام خمسة وأربعينا
بعد ثلاث عشرةٍ مئينا
وقول أحمد بن على بن مشرف:
إلى ثلاثمائةٍ سنينا
يخادعون الله والذينا
غير أنى لا أكتفى بهذا على كفايته، بل أُضِيفُ إليه الشواهد التالية مما يسمَّى: "الكتاب المقدس"، وقد يبدو ذلك غريبا، فالمفروض أن أربأ بالقرآن عن أن يكون أىُّ شىء آخر حاكمًا عليه، إلا أن المسألة لا تتعلق بى، بل بخصومٍ سخفاءَ لا يعجبهم العجب. لهذا رأيت أن أستشهد بالكتاب المقدس، فهو كتابٌ نصرانىٌّ كتبه نصارى، ومن ثم لا يمكن أن يقال إنهم يقلدون أسلوب القرآن أو يريدون الدفاع عنه. جاء فى الترجمة الكاثوليكية التى راجعها ونقّح أسلوبها الأديب والعالم اللغوى الشهير الشيخ إبراهيم اليازجى، الذى كان يتشدد فى مسألة السلامة اللغوية تشددا مرهقا: "هذه عشائر القهاتيين بإحصاء كل ذكرٍ من ابن شهر فصاعدا ثمانية آلافٍ وستمائةٍ قائمون بحراسة القدس" (العدد/ 4/ 28)، "وإخوتهم ورؤوس بيوت آبائهم ألفٌ وسبعمائةٍ وستون جبابرةُ بأسٍ لعمل خدمة بيت الله" (أخبار الأيام الأول/ 9/ 13)، "ومن الحبرونيين حَشَبْيا وإخوتُه ألفٌ وسبعمائةٍ ذوو بأس" (أخبار الأيام الأول/ 26/ 30)، "وإخوته ألفان وسبعمائةٍ ذوو بأس" (أخبار الأيام الأول/ 26/32)، وفى الترجمة اليسوعية: "فجعل منهم سبعين ألف حمّالٍ وثمانين ألف قطّاعٍ على الجبل وثلاثة آلافٍ وكلاءَ لتشغيل الشعب" (أخبار الأيام الثانى/ 2/ 18)".(/9)
وبالنسبة لقولك، يا دكتور مورانى، عن بُوهْل ودعواه بتحريف القرآن: "وأَمَّا بحث Buhl حول تحريف القرآنِ فلم أَجدِ المصدرَ المذكور إلى الآن، لأَنَّ ما بأيدينا هو "دائرة المعارف الإسلامية" الجديدة ، وليس فيها هذا"، فقد رجعتُ إلى مادة "قرآن" التى كتبها هذا المستشرق فى "Shorter Encyclopaedia of Islam" (ط. بريل ولوزاك/ 1961م)، فوجدته يقول إن الوحى الذى كان محمد يتلقاه ليس هو القرآن الذى نقرؤه الآن، إذ يدَّعِى أن ذلك الوحى قد أعيدت صياغته بحيث أخذ الشكل الحالىّ المسجوع (ص 273/ النهر الأول). كما جاء أيضا فى مادة "محمد" بنفس الموسوعة وبقلمه هو نفسه كذلك أن ما كان محمد يسمعه من وحى ليس هو ما نراه اليوم فى القرآن، إذ كان لا يتلقى إلا الأساسيات، التى كان يتوسع فيها فيما بعد (393/ 2، و394/ 1). فهل هذا كلام علمى؟ أم هو، كما ينبغى أن نصفه دون أدنى تردد، كذب وتدليس واختراع حاقد سخيف؟وإلا فكيف عرف بوهل بما كان يحدث؟ أكان يتجسس على محمد من ثَقْب الباب فيراه وهو يبدّل ويحوّل فى النص القرآنى، وقد تصبب العرق من جبهته، وزوجته تسعفه بأكواب عصير الليمون البارد "لزوم ترويق الدم" حتى يستطيع أن يُتِمّ المهمة الشاقة؟ إن ذلك لو كان حدث كما يزعم بوهل لشنّع به الكفار تشنيعا رهيبا على النبى الكريم ولأبدى المسلمون استغرابهم على الأقل وتساءلوا عن السبب الذى حدا به إلى تغيير نصوص الوحى على هذا النحو! ثم هل عثر بُوهْل على شىء من نصوص الوحى الأصلية حسب زعمه الأخرق جَعَله يقول ما قال؟ أم على الأقل هل هناك رواية فَهِم سيادته منها هذا؟ إنه لا هذا ولا ذاك، لكن الشياطين لا يستحون! وإلا فما الذى يمكن قوله فى رجل يأتى بعد أربعة عشر قرنا فيدَّعى حدوث أشياء قبل هذه القرون المتطاولة لم يذكرها أحد أيا كان، ولا أثارها أحد أيا كان؟
إن العجيب أن يقول بوهل عن القرآن إنه، عند نزوله، لم يكن ذا فواصل، مع أن المستشرقين، ومنهم بوهل نفسه، يتهمونه صلى الله عليه وسلم بأنه كان يسجع فى القرآن (أى منذ بداية الدعوة) تقليدا للكهان (المرجع السابق/ 293/ 2، و27/ 2). فأىّ تناقض هذا؟ ألا يرى القارئ أن الإساءة إليه صلى الله عليه وسلم هى المقصودة فى الحالتين؟ ثم أليست هذه، يا دكتور مورانى، وأرجو ألا تغضب منى، هى السفاهة بذاتها وعينها وقضّها وقضيضها؟ يا أستاذ بوهل، أنت حرٌّ فى كفرك بمحمد، لكنك (ثلاثة أيمان بالله العظيم) لستَ حرًّا فى هذه المزاعم الكاذبة التى لا يقبلها العلم فى أى مكان أو زمان وتحت أىّ مسوِّغ! وأرجو مرة أخرى ألا تغضب منى يا دكتور مورانى! لاحظ أننى لم أطالب بُوْهل بالإيمان بالقرآن، وكذلك لن أطالبه أبد الآبدين، على الأقل لأنه مات منذ وقت طويل وشبع موتا! ويمكن القراءَ الكرامَ أن يرجعوا، بغية المزيد من التفصيل فى هذه النقطة، إلى كتابىَّ: "مصدر القرآن- دراسة لشبهات المستشرقين والمبشرين حول الوحى المحمدى" (مكتبة زهراء الشرق/ القاهرة/ 1417هـ- 1997م/ 190- 196)، و"دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية- أضاليل وأباطيل" (مكتبة البلد الأمين/ القاهرة/ 1491هـ- 1989م/ 7- 9).
كذلك يكذب بوهل حين يزعم أن علماء النفس يوافقون المؤلفين البيزنطيين الذين اتهموا الرسول عليه السلام بأنه لم يكن ينزل عليه وحى ولا يحزنون، بل كان مصابا بالصَّرْع، وإن حاول المستشرق الماكر بعد هذا أن يتظاهر بالحياد والتواضع قائلا: "إن علينا بطبيعة الحال أن نترك لأولئك المحللين مهمة تحديد الطبيعة الدقيقة لحالته" (393/ 2)، وذلك دون أن يذكر لنا أسماء هؤلاء المحللين النفسانيين المزعومين، ولا على أى أساس قالوا ذلك إن كانوا قالوه فعلا، وهل عُرِضَتْ عليهم أعراض الوحى التى كانت تنتاب الرسول عليه الصلاة والسلام حين نزول القرآن عليه عرضًا أمينًا. وقد كان جيبون حاسما فى وصف هذا الاتهام للرسول عليه السلام بالصَّرْع بأنه "ادعاء سخيف من اليونانيين" (Gibbon, The Decline and Fall of the Roman Empire, William Benton, Chicago- London, 1978, Vol. , P. 243)، كما رفض وليم موير تفسير ظاهرة الوحى بالصَّرْع قائلا إن نوبة الصَّرْع تمنع المصروع من تذكر ما مر به أثناءها (Sir William Muir, Life of Mohammad, John Grant, Edinburgh, 1912, PP. 14- 29). ولقد استقصيت بنفسى أعراض الصَّرْع فى أحد المعاجم الطبية الإنجليزية وفى "دائرة المعارف البريطانية" فلم أجد شيئا منها ينطبق على حالة النبى الكريم، مما يعزز ما قلتُه فى بوهل حين وصفت ما صنعه بأنه كذب! ومن الممكن للقارئ أن يراجع ما كتبتُه فى هذا الصدد بالتفصيل فى كتابى: "دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية- أضاليل وأباطيل" (ص 28- 32).(/10)
أترى ما فعله بوهل، يا دكتور مورانى، هو من العلم فى شىء؟ إننا لا نطالبه هو ولا غيره بالإيمان بأن القرآن وحى إلهى، بل نستسمحه ونقبّل رأسه حتى يقبل ألا يكذب، على الأقل ألا يكذب هذا اللون من الكذب المفضوح الذى لا يمكن تجميله! أترى هذا شرطا تحكميا من جانبنا؟ وهأنتذا ترى، يا دكتورنا العزيز، أن الخلاف بيننا وبين بوهل، وما بوهل إلا مثال، هو خلاف فى تطبيق المنهج العلمى والالتزام بالقيم العلمية، وهذا كل ما هنالك! إننا لم نقل له مثلا إن محمدا رسول من عند رب العالمين، ومن ثم لا ينبغى أن تتهمه بالصَّرْع، بل قلنا له إن أعراض الصرع لا تصدق على حالته، وإنك حين زعمت أن المحللين النفسانيين قد أثبتوا أن حالته هى فعلا حالة المصاب بهذا المرض كنت تكذب، فضلا عن أنك سرعان ما فضحت نفسك حين قلت: فلندعْهم يقررون بأنفسهم طبيعة حالته بدقة، وهو ما يعنى بكل صراحة أنهم لم يقولوا بعد شيئا فى هذا الموضوع! وفى النهاية أحب أن أذكر أن كتّاب مادة "MOHAMMED" فى "JewishEncyclopedia.com" يتهمون هم أيضًا الرسول عليه السلام بأنه كان يعانى منذ صغره من الإصابة بالصَّرْع، أى أن ما يسمَّى بنزول الوحى عليه لم يكن إلا نوباتٍ صَرْعِيّةً تعتريه! ولم لا يفعلون هم أيضا يا ترى، وقد هُزِلَتْ حتى سامها كلُّ مُفْلِس؟
شىء آخر يفعله المستشرقون بالقرآن ولا يتفق مع المنهج العلمى، وليس فى انتقادنا له أدنى دلالة على أننا نحن المسلمين نريد منهم أن يعاملوه بوصفه كتابًا سماويًّا، وهو ما يُقْدِم عليه بعضهم من ترتيب القرآن ترتيبا يقولون إنه ترتيب تاريخى. ووجه مخالفة هذا الصنيع للمنهج العلمى أن مؤلف "ذلك الكتاب" (كما تسمون الرسول الكريم) قد وضعه على الترتيب الذى أمامنا الآن، وعلينا نحن الدارسين أن نحترم ترتيبه. ثم لماذا لم نر أحدا منكم أتى للكتاب المقدس ورتبه تاريخيا مثلما يفعل بعضكم مع القرآن؟ وممن فعل هذا بكتاب الله داود ورودويل، وكذلك بلاشير فى الطبعة الأولى من ترجمته للقرآن. وهذه مجرد أمثلة.
وما دمنا نتكلم عن بلاشير، أيصحّ فى نظر العلم أن يُقْدِم هذا الرجل على إضافة جملتَىْ: "إنهن الغرانيق العُلَى* وإن شفاعتهن لَتُرْتَجَى" إلى ترجمته لسورة "النجم"، وهما الجملتان اللتان تمدحان أوثان قريش واللتان يقال فى إحدى الروايات إن الشيطان قد ألقاهما فى القرآن ثم حُذِفَتا فى الحال؟ أنا لا أريد الآن أن أجادل فى مدى صحة هاتين الجملتين من الناحية القرآنية، بل سأفترض أنهما كانتا فعلا جزءا من القرآن! لكن ألم يحذف مؤلف القرآن (كما تسمون النبى محمدا) هاتين الجملتين من كتابه؟ وعلى هذا ألم يكن من الواجب الالتزام بالنص كما انتهى إلينا؟ أليس هذا هو ما يطالبنا به العلم؟ ثم إن كان الدكتور بلاشير لا يطيق سكوتا على هذه المسألة، ويرى أن الدنيا لن يصلح حالها إلا بالإشارة إلى ما كان رغم أنه ليس إلا رواية واحدة من روايات فى هذا الصدد، فضلاً عن أنها رواية لا تدخل العقل كما سيتضح حالا، لقد كان له فى الهامش مندوحة يقول فيها ما يشاء دون أن يسىء إلى النص أو إلى أمانة العلم! ( Blachere, Le Coran, Librairie Orientale et Americaine, Paris, 1957, P.561)
وقد تناول عدد من علماء المسلمين قديما وحديثا الروايات التى تتعلق بهاتين الآيتين المزعومتين وبينوا أنها لا تتمتع بأية مصداقية. والحقيقة إن النظر فى سورة "النجم" ليؤكد هذا الحكم الذى توصل إليه أولئك العلماء، فهذه السورة من أولها إلى آخرها عبارة عن حملة مدمدمة على المشركين وما يعبدون من أصنام بحيث لا يُعْقَل إمكان احتوائها على هاتين الآيتين المزعومتين، وإلا فكيف يمكن أن يتجاور فيها الذم العنيف للأوثان والمدح الشديد لها؟ ترى هل يمكن مثلا تصوُّر أن ينهال شخص بالسب والإهانة على رأس إنسان ما، ثم إذا به فى غمرة انصبابه بصواعقه المحرقة عليه ينخرط فجأة فى فاصل من التقريظ، ليعود كرة أخرى فى الحال للسب والإهانة؟ هل يُعْقَل أن يبلع العرب مثل هاتين الآيتين اللتين تمدحان آلهتهم، وهم يسمعون عقب ذلك قوله تعالى:
" ألكم الذَّكَر وله الأنثى؟ * تلك إذن قسمةٌ ضِيزَى * إن هى إلا أسماءٌ سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان. إن تتَّبعون إلا الظن وما تَهْوَى الأنفس. ولقد جاءهم من ربهم الهدى"؟ إن هذا أمر لا يمكن تصوره! كما أن وقائع حياته صلى الله عليه وسلم تجعلنا نستبعد تمام الاستبعاد أن تكون عزيمته قد ضعفت يوما، فقد كان مثال الصبر والإيمان بنصرة ربه له ولدعوته. ومواقفه من الكفار طوال ثلاثة وعشرين عاما وعدم استجابته فى مكة لوساطة عمه بينه وبينهم رغم ما كان يشعر به من حب واحترام عميق نحوه، وكذلك رفضه لما عرضوه عليه من المال والرئاسة، هى أقوى برهان على أنه ليس ذلك الشخص الذى يمكن أن يقع فى مثل هذا الضعف والتخاذل!(/11)
هذا، وقد أضفت طريقةً جديدةً للتحقق من أمر هاتين الآيتين هى الطريقة الأسلوبية، إذ نظرت فى الآيتين المذكورتين لأرى مدى مشابهتهما لسائر آيات القرآن فوجدت أنهما لا تمتان إليها بصلةٍ البتة. كيف ذلك؟ إن الآيتين المزعومتين تجعلان الأصنام الثلاثة مناطا للشفاعة يوم القيامة دون تعليقها على إذن الله، وهو ما لم يسنده القرآن فى أى موضع منه إلى أى كائن مهما تكن منزلته عنده سبحانه. ولن نذهب بعيدا للاستشهاد على ما نقول، فبعد هاتين الآيتين بخمس آيات فقط نقرأ قوله تعالى: "وكم مِنْ مَلَكٍ فى السماوات لا تُغْنِى شفاعتُهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويَرْضَى". فكيف يقال هذا عن الملائكة فى ذات الوقت الذى تؤكد إحدى الآيتين المزعومتين أن شفاعة الأصنام الثلاثة جديرة بالرجاء من غير تعليق لها على إذن الله؟ ثم إنه قد ورد فى الآية الثانية من آيتى الغرانيق كلمة "تُرْتَجَى"، وهى أيضا غريبة على الأسلوب القرآنى، إذ ليس فى القرآن المجيد أى فعل من مادة "ر ج و" على صيغة
"افتعل". أما ما جاء فى إحدى الروايات من أن نص الآية هو : "وإنّ شفاعتهن لَتُرْتَضَى"، فالرد عليه هو أن هذه الكلمة، وإن وردت فى القرآن ثلاث مرات، لم تقع فى أى منها على "الشفاعة"، وإنما تُسْتَخْدَم مع الشفاعة عادةً الأفعال التالية: "تنفع ، تغنى ، يملك ".
كذلك فقد بدأتْ مجموعةُ الآيات التى تتحدث عن اللات والعُزَّى ومناة بقوله عَزَّ شأنُه: "أ(فـ)ـرأيتم ...؟"، وهذا التركيب قد تكرر فى القرآن إحدى وعشرين مرة كلها فى خطاب الكفار، ولم يُسْتَعْمَل فى أى منها فى ملاينة أو تلطف، بل ورد فيها جميعا فى مواقف الخصومة والتهكم وما إلى ذلك بسبيل كما فى الشواهد التالية:
"قل: أرأيتم إن أتاكم عذابُه بَيَاتًا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون؟" (يونس/ 50)، "قل: أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزقٍ فجعلتم منه حلالا وحراما؟ قل: آللهُ أَذِنَ لكم أم على الله تفترون ؟" (يونس/ 59)، "قل: أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشَهِد شاهدٌ من بنى إسرائيل على مِثلِْه فآمن واستكبرتم؟ إن الله لا يهدى القوم الظالمين" (الأحقاف/ 10)، " أفرأيتم الماء الذى تشربون؟ * أأنتم أنزلتموه من المُزْن أم نحن المُنْزِلون؟ * لو نشاء جعلناه أُجَاجًا، فلولا تشكرون" (الواقعة/ 68– 70). فكيف يمكن إذن أن يجىء هذا التركيب فى سورة "النجم" بالذات فى سياق ملاطفة الكفار ومراضاتهم بمدح آلهتهم؟ وفوق هذا لم يحدث أن أُضيفت كلمة "شفاعة" فى القرآن الكريم (فى حال مجيئها مضافة إلى اسمٍ مُضْمَر) إلا إلى الضمير "هم" على خلاف ما أتت عليه فى آيتى الغرانيق من إضافتها إلى الضمير "هنّ".
وفضلا عن ذلك فتركيب الآية الأولى من الآيتين المزعومتين يتكون من "إنّ (وهى مؤكِّدة كما نعرف) + ضمير (اسمها) + اسم معرّف بالألف واللام (خبرها)"، وهذا التركيب لم يُسْتَعْمَل لـ "ذات عاقلة" فى أى من المواضع التى ورد فيها فى القرآن الكريم (وهى تبلغ العشرات) إلا مع زيادة التأكيد لاسم "إنّ" بضميرٍ مثله كما فى الأمثلة التالية: "ألا إنهم هم المفسدون/ ألا إنهم هم السفهاء/ إنه هو التواب الرحيم/ إنك أنت السميع العليم/ إنك أنت التواب الرحيم/ إنه هو السميع العليم/ إنه هو العليم الحكيم/ إنه هو الغفور الرحيم/ إنى أنا النذير المبين/ إنه هو السميع البصير/ إننى أنا الله/ إنك أنت الأعلى/ إنا لنحن الغالبون/ إنه هو العزيز الحكيم/ وإنا لنحن الصافّون/ وإنا لنحن المسبِّحون/ إنهم لهم المنصورون/ إنك أنت الوهاب/ إنه هو السميع البصير/ إنه هو العزيز الرحيم/ إنك أنت العزيز الكريم/ إنه هو الحكيم العليم/ إنه هو البَرّ الرحيم/ ألا إنهم هم الكاذبون/ فإن الله هو الغنى الحميد". أما فى المرة الوحيدة التى ورد التركيب المذكور دون زيادة التأكيد لاسم "إنّ" بضميرٍ مثله (وذلك فى قوله تعالى: "إنه الحق من ربك"/ هود/ 17) فلم يكن الضمير عائدا على ذات عاقلة، إذ الكلام فيها عن القرآن. ولو كان الرسول يريد التقرب إلى المشركين بمدح آلهتهم لكان قد زاد تأكيد الضمير العائد عليها بضميرٍ مثله على عادة القرآن الكريم بوصفها "ذواتٍ عاقلةً " ما داموا يعتقدون أنها آلهة. وعلى ذلك فإن التركيب فى أُولَى آيَتَىِ الغرانيق هو أيضا تركيب غريب على أسلوب القرآن الكريم.
مما سبق يتأكد لنا على نحوٍ قاطعٍ أن الآيتين المذكورتين ليستا من القرآن، وليس القرآن منهما، فى قليل أو كثير. بل إنى لأستبعد أن تكون كلمة "الغرانيق" قد وردت فى أى من الأحاديث التى قالها النبى عليه الصلاة والسلام. وينبغى أن نضيف إلى ما مرّ أن كُتُب الصحاح لم يرد فيها أى ذكر لهذه الرواية، ومثلها فى ذلك ما كتبه ابن هشام وأمثاله فى السيرة النبوية.(/12)
ولقد قرأت فى كتاب "الأصنام" لابن الكلبى (تحقيق أحمد زكى/ الدار القومية للطباعة والنشر/ 19) أن المشركين كانوا يرددون هاتين العبارتين فى الجاهلية تعظيما للأصنام الثلاثة، ومن ثم فإنى لا أستطيع إلا أن أتفق مع ما طرحه سيد أمير على من تفسير لما يمكن أن يكون قد حدث، بناءً على ما ورد من روايات فى هذا الموضوع، إذ يرى أن النبى، عندما كان يقرأ سورة "النجم" وبلغ الآيات التى تهاجم الأصنام الثلاثة، توقَّع بعضُ المشركين ما سيأتى فسارع إلى ترديد هاتين العبارتين فى محاولة لصرف مسار الحديث إلى المدح بدلا من الذم والتوبيخ (Ameer Ali, The Spirit of Islam, Chatto and Windus, London, 1978, P.134). وقد كان الكفار فى كثير من الأحيان إذا سمعوا القرآن أحدثوا لَغْطًا ولَغْوًا كى يصرفوا الحاضرين عما تقوله آياته الكريمة (فُصِّلَتْ/26)، فهذا الذى يقوله الكاتب الهندى هو من ذلك الباب. ولتقريب الأمر أمثِّل لهذه الطريقة بواقعة كنت من شهودها، إذ كان رئيسٌ ومرؤوسه يتعاتبان منذ أعوام فى حضورى أنا وبعض الزملاء، وكان الرئيس يتهم المرؤوس المسكين بأنه يكرهه، والآخر يحاول أن يبرئ نفسه عبثا لأنه كان معروفا عنه خوضه فى سيرة رئيسه فى كل مكان. وفى نوبة يأس أسرع قائلا وهو يؤكد كلامه بكل ما لديه من قوة: "إن ما بينى وبينك عميق!"، فما كان من زميلٍ معروفٍ بحضور بديهته وسرعة ردوده التى تحوِّل مجرى الحديث من وجهته إلى وجهة أخرى معاكسة إلا أن تدخل قائلا فى سرعة عجيبة كأنه يكمل كلاما ناقصا: "فعلا! عميقٌ لا يُعْبَر". وهنا أمسك الرئيس بهذه العبارة وعدَّها ملخِّصةً أحسن تلخيص للموقف ولمشاعر مرؤوسه المزنوق الذى يحاول التنصل مما يُنْسَب إليه! ومن ذلك أيضا ما كان بعض أصدقائنا المدرسين يعابث به تلميذاته إذا رآهن قد أسرفن فى التحمس لقاسم أمين وإبراز أهمية الدور التى تؤديه المرأة فى الحياة، إذ كان ، كلما ردّدن أمامه العبارة المشهورة فى هذا السياق من أن "وراء كل عظيم امرأة"، يجيبهن مرة: "طبعا وراءه لا أمامه، فهو صاحب الصدارة والتفوق، أما هى فتابعة له"، ومرة : "فعلا وراءه، والزمان طويل" ، ومرة : "وراءه مسوِّدة عيشته" ... وهكذا .
كذلك زعم "بلاشير" أن سورة "الكهف" قد خضعت لتحويرات أخرى بعد أن اكتشف جنابه أن الآيات 9- 25 من سورة "الكهف" ينبغى أن يعاد النظر فى ترتيبها. بل إنه رتبها فعلا، فجعل مجموعة الآيات من 9 إلى 16 مضافًا إليها الآيتان 24- 25، ومجموعة الآيات من 13 إلى 16، عبارة عن روايتين لشىء واحد، أى أنهما نصٌّ واحدٌ أُورِدَ بروايتين مختلفتين. وهو ما يعنى أن إحدى المجموعتين زائدة لا لزوم لها (Blachere, Le Coran, PP. 318- 319). من الذى أفتى لبلاشير بهذا؟ لا أحد بالطبع إلا شيطان السخف! وهَبْه كان مقتنعا فعلا بهذا الذى يزعم، أَوَلم يكن ينبغى أن يورد النص القرآنى كما هو بما وقع فيه من عبث أو اضطراب على حسب أوهامه، ثم فَلْيُعَلِّقْ فى الهامش بما يعنّ له؟ لكن هذا ليس هو المراد، ولن يحقق له أهدافه الإبليسية، فالمقصود هو إيقاع الشك والارتياب فى النص القرآنى لإفقاده قدسيته وجلاله فيتعود القارئ على أن يتعامل معه على أنه نص عادى من النصوص التى يصنعها البشر بما يمكن أن يصيبه ما يصيب أى نص بشرى من عبث ونسيان وإضافة وحذف وتقديم وتأخير...إلخ. وهذا الهدف لا يتم على الوجه الناجع إلا إذا تقدم أحدهم ونفذه على أرض الواقع، ولم يكتف بالكلام النظرى الذى لا يمكن أن يكون فى قوة التطبيق العملى. ومن هنا أراد بلاشير أن يكون هو "الفأر الزردوق" الذى يعلّق الجُلْجُل فى رقبة القط ويحصل له الشرف، شرف الإساءة إلى العلم والحق، بل إلى الشرف نفسه!
وهاتان هما المجموعتان المشار إليهما من آيات سورة "الكهف"، أضعهما تحت بصر القارئ كى يرى بنفسه الرقاعة البلاشيرية:(/13)
"أم حسبتَ أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا؟/9* إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا: ربنا، آتنا من لدك رحمة وهَئِّ لنا من أمرنا رشدا/10* فضربنا على آذانهم فى الكهف سنين عددا/11* ثم بعثناهم لنعلم أىُّ الحزبين أَحْصَى لما لبثوا أمدا/12* ولبثوا فى كهفهم ثلاثمائةٍ سنين وازدادوا تسعا/ 24* قل: الله أعلم بما لبثوا. له غيب السماوات والأرض. أَبْصِرْ به وأَسْمِعْ! ما لهم من دونه من ولىٍّ، ولا يشرك فى حكمه أحدا/25" (مج 1) - "نحن نقصّ عليك نبأهم بالحق. إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى/13* وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا: ربُّنا ربُّ السماوات والأرض. لن ندعو من دونه إلها. لقد قلنا إذن شططا/14* هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة. لولا يأتون عليهم بسلطانٍ بيِّن؟ فمن أَظْلَمُ ممن افترى على الله كذبا؟/15* وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فَأْوُوا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهئِّ لكم من أمركم مِرْفَقا/16" (مج2). والآن أيمكن أن يكون لهذا الكلام التافه أية قيمة؟ أويمكن أن المجموعتين كانتا، كما يفترى هذا الأعجمى الخبيث، نصًّا واحدًا لكنه ورد بروايتين مختلفتين؟ إن كلا من النصين يتناول الموضوع من زاوية مختلفة ويورد تفاصيل مختلفة عما ينظر منه ويورده الآخر، وهذا من الوضوح بمكان إلا بالنسبة لمن أعمى الله قلبه وجعل على بصره غشاوة، فهو لا يهتدى للحق سبيلا! ثم كيف عرف سيادته بما جرى؟ أهو من ضاربى الودع ومُوَشْوِشِى الذَّكَر وفاتحى المنَْدَل؟
والآن نحب أن ننظر فى أمر هذا البلاشير لنرى مدى تمكنه من اللغة التى يتجرأ ذلك التجرؤ العجيب على كتابها المقدس كى نعرف هل تؤهِّله معرفته إياها لمثل هذا التجرؤ أو لا، وسوف يكون فَحْصِى لقدرته من خلال ترجمته لهذا الكتاب ذاته ومدى فهمه له: إنه مثلا يترجم "ألا" الاستفتاحية فى كل مواضعها من القرآن المجيد على أن معناها: "أليس...؟"، فمثلا
"ألا إنهم هم السفهاء!" (البقرة/ 11) تتحول على يديه المباركتين إلى "أليسوا هم السفهاء؟"، و"ألا لعنة الله على الظالمين!" (الأعراف/ 21) تصبح "أليست لعنة الله على الظالمين؟"...وهلم جرا. أما كلمة "كبيرة" فى قوله تعالى عن أولئك الذين لم يستطيعوا أن يستوعبوا مغزى تحويل القبلة فى المدينة من الشَّمال ناحيةَ بيت المقدس إلى الجنوب جهةَ الكعبة المشرفة: "وإنْ كانت (أى مسألة تحويل القبلة) لَكبيرةً إلا على الذين هَدَى الله" (البقرة/ 143)، أى أمرًا كبيًرا لا يفهمون بعقولهم الغبية العنيدة مغزاه ولا يسهل على نفوسهم فيه تقبل حكم الله، فإنه بذكائه الحاد يترجمها على أساس أن معناها: " كبيرة من الكبائر". وفى قوله سبحانه من نفس الآية: "وما كان الله لِيُضِيع إيمانكم"، أى لا يمكن أن يظلمكم، يترجمها السيد السَّنَد بمعنى "إن الله لا يستطيع أن يضيع إيمانكم". أى أنه فى الوقت الذى تنفى فيه الآية عن الله الظلم، ينفى بلاشير عنه سبحانه الاستطاعة! كما أنه فى قوله تعالى: "قل: يا أهل الكتاب، تعالَوْا إلى كلمةٍ سواءٍ بيننا وبينكم: ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله. فإن تَوَلَّوْا فقولوا :اشهدوا بأنا مسلمون" (آل عمران/ 64)، يترجمه بما يجعل معناه: "تعالوا إلى كلمة سواء: أننا، مثلَكم، لن نعبد إلا الله"، محوِّلاً الآية هكذا من التبكيت للنصارى ودعوتهم إلى نبذ التثليث واتباع سنة الإسلام فى التوحيد الذى جاء به المسيح عليه السلام من قبل فحرّفوه، إلى العمل على استرضائهم وجعلهم هم الأصل الذى يتعهد الرسولُ بأن يضعه نصب عينيه ويحتذيه! كذلك ففى قوله سبحانه مخاطبا الرسول: "وإمّا يُنْسِيَنَّك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين" (الأنعام/ 68)، بمعنى أنه إن حدث أيها المؤمنون أن نسيتم فلم تغادروا المجالس التى يستهزئ فيها المشركون بآيات الله، فلا تكرروها بعد ذلك، نراه يترجمها بـ"ولسوف ينسيك الشيطان هذا النهى بكل تأكيد..."...إلخ. ويستطيع القارئ أن يجد أمثلة أخرى لهذه الأخطاء البلاشيرية العبقرية فى كتابى "المستشرقون والقرآن- دراسة لترجمات نفر من المستشرقين الفرنسيين للقرآن وآرائهم فيه" (دار القاهرة/ 1423هـ- 2003م/ 55- 66). والغريب بعد ذلك كله أن نجد لبلاشير كتابا فى النحو العربى (بالاشتراك مع ديمومبين)، فكيف يكون الحال لو لم يكن مؤلفا لمثل هذا الكتاب؟
هذا ما عنّ لى أن أكتب به إليك، والآن أتركك فى رعاية المولى وحفظه، مع تمنياتى الطيبة، والسلام(/14)
خطابات الضمان في الشريعة الإسلامية
أ. د. الصديق محمد الأمين الضرير*
مدلول الشورى
التعريف بخطاب الضمان(1):
خطاب الضمان هو تعهد كتابي، يتعهد البنك بمقتضاه بكفالة أحد عملائه (طالب الضمان) في حدود مبلغ معين، لدى طرف ثالث، عن التزام ملقى على عاتق العميل المكفول، وذلك ضمانًا بوفاء العميل بالتزامه تجاه الطرف الثالث، خلال مدة من الزمن معينة.
وينص عادة في الخطاب على أن يدفع البنك المبلغ المضمون عند أول طلب من الطرف الثالث، يرد خلال مدة سريان خطاب الضمان رغم معارضة العميل إن اعترض(2).
وعرف في موضع آخر من الموسوعة بأنه: (صك يتعهد بمقتضاه البنك المصدر له بأن يدفع مبلغًا لا يتجاوز حدًا معينًا لحساب طرف ثالث لغرض معين)(3).
وعرّفه البروفيسور محمد هاشم عوض بأنّه: (تعهد كتابي من قِبل البنك بأن يدفع لطرف ثالث مبلغًا معينًا يمثل التزامًا على عاتق أحد عملائه تجاه هذا الطرف، عند حلول أجل معيّن في حالة عجز العميل عن الوفاء بهذا الالتزام)(4).
وعرّفه محمد باقر الصدر بأنّه: (تعهد من البنك بقبول دفع مبلغ معيّن لدى الطلب إلى المستفيد في ذلك الخطاب، نيابة عن طالب الضمان، عند عدم قيام الطالب بالتزامات معينة قِبَل المستفيد)(5).
ويلحظ أن البروفيسور محمد هاشم عوض، ومحمد باقر الصدر نصا على أن تعهّد البنك بالدفع يكون عند عدم دفع العميل، وأضاف محمد باقر الصدر أن البنك يدفع نيابة عن العميل.
وعرّفه الدكتور علي جمال الدين عوض بأنه: (تعهد نهائي يصدر من البنك، بناءً على طلب العميل، بدفع مبلغ نقدي معيّن، أو قابل للتعيين بمجرد أن يطلب المستفيد ذلك من البنك خلال مدة محددة)(6).
ويُلحظ أن هذا التعريف أضاف كلمة "نهائي" وعبارة "أو قابل للتعيين".
ما يستفاد من التعريف:
يستفاد من تعريف خطاب الضمان:
1- أنه لا بدّ من وجود ضامن هو البنك، ومضمون هو عميل البنك، ومضمون له هو الطرف الثالث، والمبلغ المضمون.
2- أنّ خطاب الضمان يجب أن يكون مكتوبًا.
3- أنّ الضمان محدّد بمدة معلومة (مؤقت).
4- أنّ المبلغ المضمون ليس دينًا ثابتًا في ذمة المضمون عند إصدار خطاب الضمان، ولكنه قد يثبت إذا لم يفِ المضمون بالتزامه نحو المضمون له.
5- أنّ المستفيد لا يطالب البنك إلا إذا عجز المضمون عن الوفاء بالتزامه.
6- أنّ المبلغ المضمون قد لا يكون معينًا ولكنه قابل للتعيين.
صور خطابات الضمان أو أنواع خطابات الضمان:
خطابات الضمان لها صور وأنواع متعددة، تبعًا لتعدُّد الأغراض الصادرة من أجلها، والأنواع الرئيسة لخطابات الضمان اثنان، هما:
خطابات الضمان الابتدائية:
وهي تعهُّدات موجهة من البنك إلى المستفيد – هيئة حكومية وما في حكمها – لضمان دفع مبلغ من النقود من قيمة العملية التي يتنافس طالب خطاب الضمان للحصول عليها، ويستحق الدفع عند عدم قيام الطالب باتخاذ الترتيبات اللازمة عند وقوع العملية عليه.
وهذه الخطابات خاصة بالعطاءات التي تقدم للجهات الحكومية وما في حكمها، ويتراوح المبلغ ما بين 1% و2% من قيمة العطاء المقدّم.
وغالبًا ما يُحدّد المتعهدون آجال خطابات الضمان التي يطلبونها بمدد تتراوح ما بين شهر وثلاثة أشهر(7).
وفي ما يلي نموذج لخطاب ضمان ابتدائي منقول عن الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية:
خطاب ضمان ابتدائي رقم ( )
التاريخ: ..............................................................
السيد/ ...............................................................
نتعهّد أن نضمن:......................................................
بمبلغ:................................................................
قيمة:...................في المائة من العطاء المقدّم منه عن توريد ..................................... أو مقاولة أعمال ...................على أن ندفع المبلغ ............................................ عند أول طلب منها رغم أية معارضة في ذلك من قبل صاحب العطاء المذكور.
ويسري مفعول هذا الخطاب لمدة تنتهي في ............................ وعليه فأية مطالبة بقيمة هذا الضمان يجب أن تصلنا لغاية هذا التاريخ على ألأكثر، وإذا انقضى هذا التاريخ ولم تصلنا منكم أية مطالبة فإنّ تعهُّدنا ينتهي، ويصبح هذا الخطاب لاغيًا بصفة نهائية.
وتفضلوا بقبول فائق الاحترام..
بنك:..............................................
وهذا نموذج لخطاب ضمان صادر من بنك السودان:
بنك:..............................................
رفع:..............................................
التاريخ:...........................................
خطاب ضمان رقم:.............. بمبلغ:............
السيد/.............................................
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بموجب هذا الخطاب نضمن(/1)
في حدود مبلغ............. وذلك فيما يختص..................... هذا ونتعهد بتسديد المبلغ المذكور عند أول طلب كتابي منكم مؤكدين فشل العميل في استيفاء التزاماته نحوكم تحت شروط العطاء الخاص بهذا الضمان.
يسري مفعول هذا الضمان من تاريخ............. إلى............ وأي طلب منكم لسداد المبلغ المذكور أعلاه أو جزء منه، يجب أن يكون كتابة في أو قبل......... وهو التاريخ الذي يعتبر فيه هذا الضمان لاغيًا، ولا مفعول له ويلزم إعادته لنا.
وتفضلوا بقبول فائق الاحترام،،،
عن بنك..........................................
ويلحظ أنّ خطاب الضمان الصادر من بنك السودان ينص على أن تعهّد البنك بتسديد المبلغ يكون عند فشل العميل في الوفاء بالتزاماته في حين أن النموذج الذي في الموسوعة سكت عن هذا.
1- خطابات الضمان النهائية:
هي تعهُّدات للجهة الحكومية ونحوها لضمان دفع مبلغ من النقود من قيمة العملية التي استقرّت على عهدة العميل، ويصبح الدفع واجبًا عند تخلف العميل عن الوفاء بالتزاماته، المنصوص عليها في العقد النهائي للعملية، بين العميل والجهة التي صدر خطاب الضمان لصالحها.
فهذه الخطابات خاصة بضامن حسن تنفيذ العقود المبرمة مع الهيئات الحكومية.
والتأمين النهائي يتراوح ما بين 5% و10% من قيمة العطاء وغالبًا ما يصدر البنك خطابات الضمان لمدد لا تتجاوز العامين(8).
فيما يلي نموذج لخطاب ضمان نهائي منقول عن الموسوعة العملية والعلمية للبنوك الإسلامية:
خطاب ضمان نهائي رقم ( )
التاريخ:................................
السيد/..................................
حيث إنّ السيد/................................قد رسا عليه توريد/مقاولة ............ فإنّا نتعهد بأن نضمن................ لغاية مبلغ بمبلغ ..........قيمة.....في المائة من قيمة العقد، وأن ندفع هذا المبلغ عند أول طلب من قبل......دون النظر إلى أية معارضة من قبل المتعهد، ويسرى مفعول هذا الخطاب لغاية....... وعليه فأية مطالبة بقيمته يجب أن تصلنا لغاية هذا التاريخ على الأكثر.
وإذا انقضى هذا التاريخ ولم يصلنا منكم أية مطالبة فإن تعهدنا ينتهي ويصبح هذا الخطاب لاغيًا بصفة نهائية.
بنك:.......................................
ويُلحظ أنّه لا فرق بين صيغة خطاب الضمان الابتدائي والنهائي إلا في الغرض الذي صدر من أجله، وأنّ كلاّ منهما تعهّد بضمان مبلغ وليس بأداء عمل.
2- خطابات ضمان لأغراض أخرى:
وبجانب هذين النوعين تصدر البنوك خطابات ضمان لأغراض أخرى مثل:
أ- خطابات ضمان للتمويل (عن دفعة مقدمة).
قد تدفع بعض الجهات للمقاولين مبلغًا من المال لتيسر لهم العمليات الكبيرة المسندة إليهم، ويحصل هذا قبل بدء العمل فهو شبيه بالقرض، لذا تطلب الجهة الدافعة من المقاول خطاب ضمان من البنك بقيمة المبلغ المدفوع له.
ب- خطابات الضمان لتغطية التزامات متعهدي توزيع المنتجات.
ج- خطابات ضمان لصالح مصلحة الجمارك(9).
د- خطابات ضمان لسحب بضائع من شركات الملاحة قبل تسلم مستندات الشحن.
هـ- خطابات ضمان للتأمينات المطلوبة لتغطية المكالمات التلفونية الزائدة ومكالمات الترنك(10).
تلك كانت أنواع خطابات الضمان من حيث الغرض منها، وتنقسم خطابات الضمان أيضًا من حيث التغطية وعدمها ثلاثة أنواع:
1- خطابات الضمان غير المغطاة.
2- خطابات الضمان المغطاة تغطية كاملة.
3- خطابات الضمان المغطاة تغطية جزئية.
تصدر بعض البنوك خطابات ضمان للمتعاملين معها من غير أن تطلب منهم دفع أي مبلغ، لاطمئنانها إلى وفائهم بالتزاماتهم وهذه هي خطابات الضمان غير المغطاة.
وتطلب بعض البنوك من عملائها دفع نسبة من مبلغ الضمان نقدًا وتأخذ على الباقي ضمانًا عينيًا أو شخصيًا، وتتوقف نسبة الغطاء على مدى ثقة البنك في العميل(11).
وفي السودان يُحدِّد البنك المركزي بالتشاور مع اتحاد المصارف السوداني الهامش النقدي الذي يحصل من العميل والمعمول به الآن هو:
10 – 15% من قيمة الضمان للعطاءات والمقاولات.
25% من قيمة الضمان – حد أدنى – بالنسبة لخطابات الضمان الأخرى المتعلقة بشراء البضائع وغيرها.
ويلزم البنك المركزي البنوك بأن تتحصل على ضمانات كافية من عملائها بالنسبة للجزء المتبقي من الضمان(12).
العمولة على خطابات الضمان:
تتقاضى البنوك علاوة على المصاريف التي تتحملها لإصدار خطابات الضمان عمولة في مقابل الضمان على النحو التالي:
عمولة خطاب الضمان الابتدائي دفعة واحدة في حدود أربع بالمائة تقريبًا.
عمولة خطاب الضمان النهائي تحسب العمولة حسب مدة الخطاب، سنة أو سنتين وهي في حدود 20% في السنة.
ويجوز للبنك تخفيض العمولة إلى النصف في حالة ما إذا كان الغطاء نقدًا، كما يجوز له تحصيل العمولة عن المدة كاملة(13).
وفي السودان يُحدّد اتحاد المصارف مقدار العمولة من وقت لآخر والمعمول به في الوقت الحالي هو:
1- تخليص البضائع قبل وصول مستندات الشحن:(/2)
أ - مغطى بخطاب اعتماد 1000 دينار.
ب - غير مغطى بخطاب اعتماد 3000 دينار(14).
التكييف الفقهي لخطاب التأمين:
خطاب الضمان ليس عقدًا جديدًا وإنّما هو عقد الضمان المعروف في الفقه الإسلامي اسمًا ومعنىً، ويتّضح هذا من الموازنة بين تعريف خطاب الضمان المعمول به في البنوك، الذي سبق بيانه وتعريف عقد الضمان في الفقه الإسلامي الذي نبيّنه فيما يلي، ثم من بيان بعض خصائص خطابات الضمان التي قد يظن أنها لا تتفق مع أحكام عقد الضمان في الفقه الإسلامي ثم دفع حجة من ذهب إلى أن خطاب الضمان عقد مستحدث مختلف عن عقد الضمان (الكفالة).
الضمان في الفقه الإسلامي:
تعريف الضمان:
أذكر فيما يلي تعريف الضمان في المذاهب الأربعة مبتدئًا بالمذاهب التي تستعمل لفظ الضمان – المذهب المالكي، الشافعي، الحنبلي، ثم المذهب الحنفي الذي يستعمل كلمة الكفالة. واللفظان مؤداهما واحد.
المذهب المالكي:
الضمان ويسمى كفالة وحمالة وزعامة(15) هو: (التزام مكلف غير سفيه دينًا على غيره، أو طلبه من عليه لمن هو له، بما يدل عليه)(16).
هذا التعريف يشمل أنواع الضمان الثلاثة عند المالكية: ضمان المال، ضمان الوجه، وضمان الطلب(17)، والذي يهمنا هنا هو ضمان المال الذي عرّفه الدردير بأنه: (التزام مكلف غير سفيه دينًا على غيره).
وأركان الضمان عند المالكية خمسة: ضامن، ومضمون، ومضمون له، ومضمون به، وصيغة.
وعرّف الشيخ خليل الضمان بأنه: (شغل ذمة أخرى بالحق)(18).
المذهب الشافعي:
عرّف الشيرازي الضمان بأنه: (إيجاب مال في الذمة بالعقد)(19).
وعرّفه الرملي بأنه: (التزام الدين والبدن والعين)(20).
والتعريفان مؤداهما واحد بالنسبة لالتزام المال غير أن الشيرازي خصص الضمان بالمال، وخصص الكفالة بالبدن، وتحدث عنها بعد حديثه عن الضمان(21)، والرملي جعل الكفالة قسمًا من الضمان، وعرّفه بما يشمل ضمان المال والبدن والعين، مخالفًا ما مشى عليه النووي في المتن في تخصيص الضمان بالمال، والكفالة بالبدن(22)، وما نقله الشيرازي عن الماوردي من أنه قال: إنّ العرف خصص الضمان بالمال والكفالة بالبدن(23). والذي يعنينا من هذا هو ضمان المال.
المذهب الحنبلي:
عرّف ابن قدامة الضمان بأنه:
(ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام الحق)(24).
وعرّف ابن قدامة الكفالة بأنها: (التزام إحضار المكفول به).
والمكفول به قد يكون بدن من عليه دين، أو عينًا مضمونة(25)، فالحنابلة يستعملون الضمان في ضمان الحق فقط وإن كان يصح عندهم الضمان بلفظ الكفالة(26).
المذهب الحنفي:
عرّف التمرتاشي الكفالة بأنها: (ضم ذمة إلى ذمة في المطالبة مطلقًا)(27).
والمراد بـ"ذمة" الأولى ذمة الكفيل وبـ"ذمة" الثانية ذمة الأصيل والمراد بـ "مطلقًا": بنفس أو بدين أو بعين(28).
وعرّفها بعضهم بأنها: (ضم ذمة إلى ذمة في الدين).
والتعريف الأول تعريف للكفالة بأنواعها الثلاثة وبأنّ الضم يكون في المطالبة في الأنواع الثلاثة، أما التعريف الثاني فهو تعريف لنوع واحد من الكفالة هو الكفالة بالمال، لأنّ الكفالة بالمال هي التي وقع فيها الخلاف بين فقهاء الحنفية هل هي الضم في المطالبة، أم الضم في الدين. أما الكفالة بالنفس والأعيان فهي في المطالبة اتفاقًا(29).
ويرى ابن عابدين أن كلا من كفالة المال وكفالة النفس تنعقد بـ "كفلت" كما تنعقد بـ"ضمنت". فإذا قال ضمنت زيدًا أو أنا كفيلٌ به يكون كفالة نفس، وإذا قال ضمنت لك ما عليه من المال، أو أنا كفيل به فهو كفالة مال(30).
يتضح من الموازنة بين تعريف خطاب الضمان وتعريف الضمان في المذاهب الأربعة؛ أن التعريفين متفقان في المعنى، وهو التزام الشخص مالاً واجبًا على غيره لشخص ثالث.
قد يقال أن هذا لا يكفي لاعتبار خطاب الضمان عقد ضمان – كفالة – وإعطائه جميع أحكام الضمان، لأنّ خطاب الضمان كما ظهر لنا من تعريفاته وصوره يشتمل على خصائص وصور قد لا تكون متفقة مع أحكام الضمان في الفقه الإسلامي، وهي:
خطاب الضمان مؤقت بمدة.
المبلغ المضمون في خطاب الضمان غير ثابت في ذمة المضمون عند العقد.
المبلغ المضمون في خطاب الضمان قد لا يكون معلومًا عند العقد.
التزام البنك بدفع المبلغ المضمون له مشروط بعدم وفاء المضمون (العميل) بالتزامه.
البنك يطالب المضمون (العميل) أحيانًا بأن يدفع له المبلغ المضمون كاملاً عند العقد.
المسألة الأولى: توقيت الضمان:
خطابات الضمان التي تصدرها البنوك كلها تصدر مؤقتة بمدة محددة ينتهي الضمان بانتهائها، كما هو واضح من تعريف خطاب الضمان، ونماذج خطابات الضمان.
فهل يجوز توقيت الضمان (الكفالة) في الفقه الإسلامي؟
اختلف الفقهاء في هذه المسألة:
فالحنفية يذكرون ثلاث صور للتوقيت لكل صورة حكمها:
الأولى: كفلت لك زيدًا، أو ما على زيد، إلى شهر.
الثانية: كفلته من اليوم إلى شهر.
الثالثة: كفلته شهرًا.(/3)
ففي الصورة الأولى يكون كفيلاً في الحال أبدًا أي في الشهر وبعده. وقيل لا يكون كفيلاً في الحال، بل بعد الشهر وعلى كل فلا يطالب في الحال، وعند أبي يوسف والحسن هو كفيل في المدة فقط.
وفي الصورة الثانية هو كفيل في المدة بلا خلاف، وفي الصورة الثالثة قيل كالصورة الأولى وقيل كالثانية.
قال ابن عابدين بعد أن ذكر هذه الصور الثلاث وحكمها: (وينبغي عدم الفرق بين الصور الثلاث في زماننا كما هو قول أبي يوسف والحسن، لأن الناس اليوم لا يقصدون بذلك إلا توقيت الكفالة بالمدة، وأنه لا كفالة بعدها، وقد تقدم أن مبنى لفظ الكفالة على العرف والعادة .. ثمّ رأيتُ في الذخيرة قال: وكان القاضي الإمام الأجلّ أبو علي النّسفي يقول/ قول أبي يوسف أشبه بعرف النّاس إذا كفلوا إلى مدة يفهمون بضرب المدة أنهم يطالبون في المدة لا بعدها(31).
ومنع الشافعية توقيت الضمان واختلفوا في جواز توقيت الكفالة، والأصح عندهم المنع.
يقول الرملي: (والأصحُّ أنّه لا يجوز توقيت الكفالة – كأنا كفيل بزيد إلى شهر، وبعده أنا بريء، والثاني يجوز، لأنه قد يكون له غرض في تسليمه في هذه المدة بخلاف المال فإنّ المقصود منه الأداء، فلهذا امتنع تأقيت الضمان قطعًا(32).
وعند الحنابلة في صحة توقيت الضمان وجهان(33).
ورأي أبو يوسف الذي رجحه ابن عابدين والنّسفي هو الذي يجب العمل به في زماننا، للعلة التي رجحا العمل بها في زمانهما، ثمّ إنّ صيغة التأقيت في خطاب الضمان تتفق تمامًا مع الصورة الثانية التي يم يختلف الحنفية في جواز التأقيت بها.
والتفرقة التي ذكرها الشافعية بين توقيت الكفالة بالنفس والكفالة بالمال غير وجيهة عندي، لأن الكفيل قد يكون له غرض في أداء المال في وقت معين كما قالوا في الكفالة بالنفس.
ولا أوافق الأستاذ/ علي الخفيف فيما ذهب إليه من أن الكفالة بالمال ليس هناك ما يمنع توقيتها على الرأي القائل بأنها ضم ذمة إلى ذمة في المطالبة فقط، أمّا على الرأي القائل بأنّ ذمة الكفيل تصبح مشغولة بالدين أيضًا وهورأي الجمهور، فإنّ مقتضاه عدم جواز التوقيت معللاً عدم الجواز بقوله: (ذلك لأن المعهود في الشرع أنّ الذمة إذا شغلت بالدين الصحيح وهو ما تصح فيه الكفالة، لم تبرأ إلا بأدائه أو بالمعارضة عليه، أو بإسقاط الدائن إياه، أو بهبته للمدين، أمّا إنّها تبرأ بمضي زمن محدّد فيكون مضي هذا الزمان مسقطًا للدين فلا عهد لنا به في الحقوق، لأنّها لا تسقط بمضي الزمن ولا بالتقادم شرعًا..
ومن المعلوم أنّ دين الكفالة من الديون الصحيحة القوية فإذا ثبت في الذِّمة ولو كانت ذمَّة الكفيل لم يسقط بمضي الزمن، وعلى ذلك يكون مقتضى هذا الرأي (رأي الجمهور) عدم قبول الكفالة للتوقيت حتى لا يترتب على توقيتها سقوط الدين عن الكفيل بمضي الزمن الذي أقتت به، ذلك ما نستظهره(34).
استظهار الأستاذ الخفيف يكون مقبولاً لو أنّ الدين إذا سقط عن الكفيل يسقط نهائيًا ولا يستطيع صاحبه الحصول عليه، ولكن الحاصل في حالتنا أنّ الدين يسقط عن الكفيل، ولكنه يبقى في ذمة الأصيل ويستطيع صاحبه أخذه من الأصيل، فلا تعارض بين القول بسقوط الدين عن الكفيل بمضي المدة وقاعدة عدم سقوط الدين بمضي المدة، لأن الدين لم يسقط.
المسألة الثانية: المبلغ المضمون في خطاب الضمان غير ثابت في ذمة المضمون عند العقد:
ظهر لنا من التعريف بخطاب الضمان أنّ المبلغ الذي يتعهد البنك بدفعه للمستفيد – المضمون له – غير ثابت في ذمة العميل – المضمون. ولكنه قد يثبت في المستقبل إذا أخلّ العميل بالتزامه، فهل يجوز هذا الضمان في الفقه الإسلامي؟.
نعم يجوز ضمان ما يثبت في ذمة المضمون ولو لم يكن ثابتًا في العقد في مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة، وهو أحد قولين عند الشافعي(35). يقول الدردير (وشروط الدين لزومه للمضمون في الحال، بل ولو يلزم المضمون في المال أي المستقبل كدائن فلانًا وأنا أضمنه، أو إذا ثبت لك عليه دين فأنا ضامن)(36).
ويقول ابن قدامة (ولا يشترط كون الحق معلومًا(37)، ولا واجبًا إذا كان مآله إلى الوجوب فلو قال ضمنت ما على فلانًا أو ما تداينه به صحّ)(38).
المسألة الثالثة: المبلغ المضمون في خطاب الضمان قد لا يكون معلومًا عند العقد:
رأينا في تعريف الدكتور علي جمال الدين عوض لخطاب الضمان أنّ المبلغ المضمون قد يكون معينًا، أو قابلاً للتعيين، ويشرح الدكتور علي جمال الدين هذا بقوله: (الأصل أن يحدد ضامن البنك بمبلغ معين، ومع ذلك فمن المتصور أن يصدر الخطاب بغير تحديد مبلغ، بل يتعهد فيه البنك أن يضمن عميله في كل ما يسببه تصرفه من ضرر للغير أي المستفيد .. وتعهُّد البنك على هذا النحو صحيح، لأن محله لم يكن محددًا فهو قابل للتحديد(39)، فهل يقبل الضمان في الفقه الإسلامي هذا؟.(/4)
نعم يقبله وتصح الكفالة – الضمان – ولو كان المال المضمون مجهولاً عند أكثر الفقهاء لأنها مبنية على التوسع كما يقول ابن عابدين(40)، ولأنها التزام في حق الذمة من غير معاوضة فتصح في المجهول كما يقول ابن قدامة(41)، ولأنها من إيجاب المرء المعروف على نفسه ومن أوجب المعروف على نفسه لزمه، كما يقول مالك(42)، ولأن الضمان لا ينافيه الغرر لأنه ليس معاوضة، كما يقول الشهيد الثاني(43).
يقول المرغيناني: (وأما الكفالة بالمال فجائزة معلومًا كان المال أو مجهولاً، إذا كان دينًا صحيحًا مثل أن يقول تكفلت عنه بألف، أو بما لك عليه، أو بما يدركك في هذا البيع لأن مبنى الكفالة على التوسع فيحتمل فيها الجهالة وعلى الكفالة بالدرك إجماع وكفى به حجة)(44)، ويقول الكمال: (والكفالة بالمال عندنا جائزة وإن كان المال المكفول به مجهول المقدار وبه قال مالك وأحمد والشافعي في القديم)(45).
ومذهب الحنابلة يتفق تمامًا مع ما قرره الدكتور علي جمال الدين، فقد جاء في المقنع وحاشيته (ولا يشترط كون الحق معلومًا إذا كان مآله إلى العلم)(46).
المسألة الرابعة: التزام البنك بدفع المبلغ للمستفيد مشروط بعدم وفاء المضمون (العميل) بالتزامه:
رأينا بعض التعريفات لخطاب الضمان وبعض النماذج تنص على أن البنك يتعهد بالدفع عندما يطلب المستفيد منه المبلغ مؤكدًا فشل العميل في عدم الوفاء بالتزاماته. فهل هذا مقبول في الضمان في الفقه الإسلامي؟.
نعم هو مقبول، لأنه إمّا أن يكون تعليقًا للضمان، إذا كان المراد فشل العميل في اتخاذ الترتيبات اللازمة عند رسو العملية عليه في خطاب الضمان الابتدائي، أو فشله في الوفاء بالتزاماته المنصوص عليها في العقد في خطاب الضمان النهائي، وتعليق الضمان بالشرط الملائم جائز عند الحنفية(47)، والمالكية(48). وفي أحد قولين عند الحنابلة(49)، والأصح عند الشافعية عدم الجواز، والثاني الجواز(50).
أمّا إذا كان المراد فشل العميل في دفع المبلغ المستحق عليه لعدم وفائه بالتزامه فإنه يكون مقبولاً أيضًا على الرأي المرجوع إليه عند مالك من أنه لا يجوز مطالبة الكفيل إلا عند تعذر مطالبة الأصيل(51)، وإن كان رأي الجهور أن الدائن له أن يطالب الكفيل بأداء الدين، دون أن يتقيد في ذلك بتعذر مطالبة الأصيل(52).
المسألة الخامسة: مطالبة المضمون (العميل) بدفع المبلغ المضمون كاملاً:
يطالب البنك في بعض الحالات العميل – المضمون – بدفع المبلغ المضمون عند إصدار خطاب الضمان ليدفعه للمستفيد عند طلب منه – وهذا هو خطاب الضمان المغطى.
فهل في الفقه الإسلامي حكم لهذه المسألة؟ نعم لها حكمها في المذاهب الأربعة:
وهذه خلاصة لما جاء في متن تنوير الأبصار وشرحه وحاشية ابن عابدين عليه: إذا دفع الأصيل المال إلى الكفيل على وجه القضاء بأن قال له إني لا آمن أن يأخذ منك الطالب حقه، فأنا أقضيك المال قبل أن تؤديه، فليس له أن يسترده منه، وإن لم يعطه الكفيل إلى الطالب لأنه ملكه بالاقتضاء، فالكفالة توجب دينًا للطاب على الكفيل، ودينًا للكفيل على الأصيل.
أمّا إذا دفع الأصيل المال إلى الكفيل على وجه الرسالة بأن قال المطلوب للكفيل خذ هذا المال وادفعه إلى الطالب، فإن المال المدفوع لا يكون ملكًا للكفيل، وإنّما يكون أمانة في يده، يأخذ حكم الأمانة ولكن لا يكون للمطلوب أن يسترده من الكفيل، لأنه تعلق به حق المطالب.
وفي حالة دفع الأصيل المال إلى الكفيل على وجه القضاء يجوز للكفيل التصرف فيه بالاستثمار وغيره، وله ربحه لأنه نماء ملكه وإذا هلك المال ضمنه.
أما في حالة قبل الكفيل المال على وجه الرسالة فإنه لا يجوز له التصرف فيه، وإذا هلك يهلك هلاك الأمانة، وإذا استثمره الكفيل فربح لا يطيب له الربح، وعليه أن يتصدق به لأنه غاصب.
ولو أطلق المطلوب عند الدفع للكفيل فلم يبين أنه على وجه القضاء أو الرسالة يقع عن القضاء.
هذه الأحكام خاصة فيما إذا كانت الكفالة بأمر المكفول(53)، والكفالة بالأمر هي الصورة التي تتفق مع خطاب الضمان، لأنه يكون دائمًا بالأمر.
وفصل المالكية حكم هذه المسألة أيضًا، ونورد فيما يلي ما كتبه الشيخ الدردير بنصه لوضوحه: (وليس للضامن مطالبة الغريم بتسليم المال إليه ليوصله إلى ربه وليس على الغريم دفعه له، وضمنه الضامن إن اقتضاه من الغريم ليوصله إلى ربه سواءً طلبه منه أو دفعه له الغريم بلا طلب، لكن على وجه البراءة منه، ولو تلف منه بغير تفريط أو قامت على هلاكه بينة، لأنه متعد بقبضه بغير إذن ربه – (المضمون له).(/5)
وحيث قبضه على وجه الاقتضاء بغير إذن ربه كان لربه غريمان، يطلب أيهما شاء، لا إن أرسله المدين به إلى رب الدين فضاع منه، فلا ضمان حيث لم يفرط، لأنه صار أمينًا بالإرسال، ومثل الإرسال لو دفعه له على وجه التوكيل عنه في توصيله لربه أو هو إرسال حكمًا فلا ضمان على الضامن، ولو تنازعا، فقال الغريم: قبضه مني اقتضاء، وقال الضامن بل رسالة، أو توكيلاً. فالقول للغريم وكذا لو انبهم الأمر كما لو مات الضامن أو غاب)(54).
ويقول الشيرازي الشافعي في بيان حكم هذه المسألة: (فإن دفع المضمون عنه مالاً إلى الضامن، وقال خذ هذا بدلاً عمّا يجب لك بالقضاء ففيه وجهان:
أحدهما: يملكه، لأن الرجوع يتعلق بسببين الضمان والغرم، وقد وجد أحدهما، فجاز تقديمه على الآخر، كإخراج الزكاة قبل الحول وإخراج الكفارة قبل الحنث، فإن قضى عنه الدين استقرّ ملكه على ما قبض وإن أبرئ من الدين قبل القضاء وجب ردّ ما أخذه، كما يجب ردّ ما عجل من الزكاة، إذا هلك النصاب قبل الحول.
والثاني: لا يملكه لأنه أخذه بدلاً عمّا يجب في الثاني فلا يملكه كما لو دفع إليه شيئًا عن بيع لم يعقده، فعلى هذا يجب رده فإن هلك ضمنه، لأنه قبضه على وجه البدل فضمنه كالمقبوض بسوم البيع(55).
ويقول ابن قدامة مبيّنًا مذهب الحنابلة في المسألة: (إذا ضمن عن رجل بإذنه فطولب الضامن فله مطالبة المضمون عنه بتخليصه، لأنه لزمه الأداء عنه بأمره، فكانت له المطالبة بتبرئة ذمته، وإن لم يطالب الضامن لم يكن مطالبة المضمون عنه، لأنه لما لم يكن له الرجوع بالدين قبل غرامته، لم يكن له المطالبة به قبل طلبه منه، وفيه وجه آخر: أن له المطالبة لأنه شغل ذمته بإذنه فكانت له المطالبة بتفريغها ... والأول أولى(56).
يتضح من هذه النصوص أن أخذ البنوك الغطاء في خطابات الضمان له أصل في الفقه الإسلامي، والذي ظهر لي من هذه النصوص أنه لا خلاف بين الفقهاء في جواز الغطاء إذا كان باتفاق الطرفين الضامن والمضمون، عند العقد، وهذا هو الحاصل في إصدار البنوك لخطابات الضمان.
والخلاف الحاصل بين الفقهاء هو مطالبة الضامن المضمون بالمبلغ المضمون – الغطاء – بعد العقد، وإلزام المضمون بدفعه، فقد منعه أكثرهم وأجازه الحنابلة في وجه، والمنع أولى عندي، وهذا لا يحدث في معاملة البنوك.
ويتضح أيضًا من هذه النصوص أن المضمون إذا دفع المال المضمون – الغطاء – إلى الضامن إما أن يدفعه له على وجه القضاء، أو يدفعه على وجه الرسالة، أو التوكيل، فإن دفعه على وجه القضاء ملكه الضامن عند الحنفية، وليس للمضمون أن يسترده منه، ويجوز للضامن أن يتصرف فيه بالاستثمار وغيره، وله ربحه، وإذا هلك المال ضمنه، أما إذا دفع المضمون المال للضامن على وجه الرسالة، أو الوكالة، فإن المال يكون أمانة في يد الضامن، ولكن ليس للمضمون أن يسترده من الضامن لأنه تعلّق به حتى المضمون له، ولا يجوز للضامن التصرف فيه، وإذا هلك يهلك هلاك الأمانة، وإذا استثمره فربح لا يطيب له الربح.
والذي ينبغي أن يحمل عليه دفع العميل الغطاء للبنك في حالة إصدار خطاب الضمان، هو الدفع على وجهة القضاء، لأن البنوك تستثمر الغطاءات، وتربح منها، فلو حملنا الدفع على الرسالة، أو الوكالة، ما جاز لها التصرف في الغطاء.
وهذا الحكم يكشف لنا عن أمر هام بالنسبة لتكييف خطاب الضمان وأنه كفالة (ضمان) فقط في حالة الخطاب المغطى، والخطاب غير المغطى، وهذا التكييف مخالف لما تقرر في كثير من الفتاوى والمؤتمرات السابقة(57)، من أنّ خطاب الضمان المغطى هو كفالة ووكالة معًا، كفالة بالنسبة لعلاقة البنك مع المستفيد ووكالة بالنسبة لعلاقة البنك مع العميل.
هذا ويكن الأخذ بهذا التكييف إذا كان البنك يأخذ الغطاء على وجه الوكالة شريطة أن يتقيد بأحكام الوكالة، ومنها عدم التصرف في الغطاء إلا فيما أخذ منه أجله، وهذا يمنع البنك من استثماره، الأمر الذي لا يرغب فيه البنك، ولهذا ترجح عندي تكييف خطاب الضمان المغطى وغير المغطى على أنه كفالة فقط – ضمان اسمًا ومعنى – كما ذكرت في أول حديثي عن التكييف.
دفع حجة المخالف في اعتبار خطاب الضمان كفالة:
ومع هذا الوضوح في تكييف خطاب الضمان على أنه كفالة فقد وجدنا من ينازع في هذه الحقيقة، وينفي أن يكون خطاب الضمان كفالة بمفهومها الفقهي محتجًا بالآتي:
1- الكفالة عقد تابع، والتزام ملحق بالأصل، وأما خطاب الضمان المصرفي فإنه عقد مستقل، والتزام البنك فيه منفصل عن التزام طالب الخطاب.
2- الكفالة عقد قائم على التبرع ابتداءً والمعاوضة انتهاءً. إذا كانت بناء على طلب المكفول، وهذا بخلاف الحال في خطاب الضمان حيث أنّ نية التبرع ليست قائمة لا في الحال ولا في المآل.
3- الكفالة تعطي الكفيل حق الخيار في أن يقوم بعمل المكفول أو بدفع المبلغ المطلوب وهذا بخلاف الحال في خطاب الضمان المصرفي، حيث لا يملك البنك مثل هذا الخيار.(/6)
ويذهب صاحب هذا الرأي على أن الضمان أقرب للوكالة بأداء مبلغ معيّن من النقود عند تحقيق شرط المطالبة(58).
الحجة الأولى: يذكرها رجال القانون في التفرقة بين خطاب الضمان والكفالة القانونية، ولا تصلح للتفرقة بين خطاب الضمان والكفالة الفقهية، لأن رجال القانون يذكرون هذه التفرقة لتفادي بعض الإجراءات الواجب إتباعها في الكفالة بتنظيمها المدني(59).
ثم إنّ القول بأن "التزام البنك منفصل عن التزام طلب الخطاب" يتعارض مع تعريفات خطاب الضمان، والنماذج التي أوردتها في أول بحثي، تعارضًا واضحًا، وإصدار خطاب ضمان مستقل غير متصور عقلاً.
الحجة الثانية: تفرق بين خطاب الضمان والكفالة بأن نية المتبرع غير قائمة في خطاب الضمان، والرد عليها هو أن نية التبرع ليست شرطًا لاعتبار العقد عقد تبرع، إذا كانت الصيغة صيغة عقد تبرع فمن قال وهبت كذا فقد تبرع بالموهوب، ولا يسأل عن نيته، وكذلك من قال تكفلت لك بكذا، أو ضمنت لك كذا فقد تبرع بالكفالة ولا يُسأل عن نيته.
الحجة الثالثة: غير مسلّم بها فالكفالة لا تعطي الكفيل حق الخيار في أن يقوم بعمل المكفول، أو يدفع المبلغ المطلوب، وإنما تلزمه بدفع المبلغ الذي تكفّل بدفعه، وهذا هو ما يلتزم به البنك في خطاب الضمان، فالبنك يتعهد في خطاب الضمان بدفع مبلغ، وليس بأداء عمل.
وبهذا نكون قد انتهينا من بيان تكييف خطاب الضمان، وننتقل بعد هذا إلى بيان حكم إصدار خطابات الضمان، ثم أخذ العمولة على إصدار خطاب الضمان.
حكم إصدار خطابات الضمان:
خطابات الضمان بجميع أنواعها وصورها يجوز إصدارها؛ لأنها إمّا أن تكون كفالة أو وكالة، وبما أن كلاّ من الكفالة والوكالة مشروع، فإن إصدار خطابات الضمان تكون مشروعة وصحيحة، ما لم يصاحبها ما يفسدها، كأن يكون محل العقد محظورًا شرعًا، أو يكون إصدارها مقابل أجر على الضمان كما سنرى.
وخطابات الضمان كلها لازمة بالنسبة للبنك لا فرق في هذا بين خطابات الضمان الابتدائية وخطابات الضمان النهائية، وما ذهب إليه بعض الباحثين في هذا الموضوع من أن خطاب الضمان النهائي يجوز إصداره ويكون ملزمًا بموجب الشرط الذي في العقد بين المستفيد والمقاول، أما خطاب الضمان الابتدائي فيجوز للبنك إصداره والوفاء به، ولكنه غير ملزم له، لأن طالب الضمان الابتدائي لم يرتبط بعد بعقد مع الجهة التي تجري المناقصة ليمكن إلزامه بشرط في ذلك العقد(60).. غير مقبول عندي للآتي:
صحيح أنّ طالب الضمان الابتدائي مقدّم العطاء لا يكون قد ارتبط بعقد مع الجهة التي تجري المناقصة عندما يطلب خطاب الضمان من البنك، ولكنه يطلب ضمانًا من البنك معلقًا على ارتباطه بالعقد برسو المناقصة عليه، ويصدر له البنك خطاب الضمان على هذا الاعتبار، والضمان يجوز تعليقه بالشرط الملائم، وهذا شرط ملائم، فإذا رست المناقصة على طالب الضمان وأخل بالتزامه، فإن البنك يكون ملزمًا بما التزم به.
هذا حكم إصدار خطاب الضمان بالنسبة لجواز إصداره وعدم جوازه، وبالنسبة لصحته ولزومه، ويبقى علينا بيان حكم م إصدار خطاب الضمان بالنسبة لطلب الشارع له أو نهيه عنه:
حكم إصدار خطاب الضمان بهذا الاعتبار هو حكم الضمان، وقد ذكر الرملي أنه سنة في حق قادر عليه آمن من غائلته(61)، والأولى عندي أن يكون حكمه كحكم القرض، وقد اتفق الفقهاء على أن الأصل في القرض الندب فيكون الضمان مثله، لأن كلا منهما من فعل الخير، ولأن في الضمان معنى القرض، وقد يؤول إلى قرض، هذا بالنسبة للضامن – البنك – أمّا بالنسبة للمضمون – العميل – فالأصل فيه الإباحة، وقد يعرض للضمان ما يجعله واجبًا على الضامن كما إذا كان طالب الضمان مضطرًا، وقد يعرض له ما يجعله حرامًا على الضامن والمضمون، إذا اشتمل على محرم، وقد يكون مكروهًا إذا اشتمل على مكروه.
حكم أخذ العمولة على إصدار خطابات الضمان – الجعل على الضمان:
انتهينا في الكلام عن تكييف خطاب الضمان إلى أنه هو الضمان (الكفالة) المعروفة في الفقه الإسلامي، وعلى هذا يكون حكم أخذ العمولة على إصداره هو حكم الجعل على الضمان في الفقه الإسلامي.
الجعل على الضمان:
لا يجوز في الفقه الإسلامي أخذ جعل على الضمان (الكفالة)، قال البغدادي: (ولو كفل بمال على أن يجعل الطالب له جعلاً، فإن لم يكن مشروطًا في الكفالة فالشرط باطل، وإن كان مشروطًا في الكفالة فالكفالة باطلة)(62).
وعلل ابن عابدين بأن (الكفيل مقرض في حق المطلوب وإذا شرط له الجعل مع ضمان المثل فقد شرط له الزيادة على ما أقرضه فهو باطل لأنه ربا)(63).
وقال الحطاب: (ولا خلاف في منع ضمان بجعل، لأن الشرع جعل الضمان والقرض والجاه لا يفعل إلا لله بغير عوض، فأخذ العوض عليه سحت)(64).
وعلل الدردير المنع بأن: (الغريم إن أدى الدين لربه كان الجعل باطلاً، فهو من أكل أموال الناس بالباطل، وإن أتاه الحميل لربه، ثم رجع به على الغريم كان من السلف بزيادة فتفسد الحمالة، ويرد الجعل لربه)(65).(/7)
وأضاف البناني علة أخرى هي: (إن ذلك من بياعات الغرر، لأن من أخذ عشر على أن يتحمل بمائة لا يدري هل يفلس من حمل عنه، أو يغيب فيخسر مائة ولم يأخذ إلاّ عشرة، أو يسلم من الغرامة فيأخذ العشرة)(66).
وجاء في حاشية الرهوني: (وأجمعوا على أن الحمالة بجعل يأخذه الحميل لا يحل ولا يجوز)(67).
ويقول ابن قدامة: (ولو قال أكفل عني ولك ألف لم يجوز، وذلك لأن الكفيل يلزمه الدين، فإذا أداه وجب له على المكفول عنه فصار كالغرض، فإذا أخذ عوضًا صار الغرض جارّاً للمنفعة فلم يجز)(68).
حكم العمولة في خطاب الضمان:
يتّضح مما نقلته من أقوال الفقهاء أن العمولة التي تأخذها البنوك على خطابات الضمان لا تجوز، لأنها تؤخذ نظير الضمان، إمّا كلها إذا كان البنك يأخذ مصروفات زيادة على العمولة، وإمّا أكثرها إذا كانت المصروفات داخلة في العمولة.
والتعليل الذي ذكره الفقهاء لمنع الجعل على الضمان ينطبق انطباقًا كاملاً على العمولة في خطاب الضمان غير المغطى، لأنه هو الذي يقابل الضمان عند الإطلاق إذ الأصل في الضمان الفقهي ألا يدفع فيه المضمون مالاً للضامن، وينطبق أيضًا على خطاب الضمان المغطى جزئيًا.
أمّا خطاب الضمان المغطى تغطية كلية سواءً اعتبرناه كفالة فقط، أم اعتبرناه كفالة ووكالة، فإنّه لا تتحقق فيه علّة الربا، ولا علة الغرر، لأن البنك لن يدفع مالاً من عنده، ولكن تتحقق فيه علة أكل المال بالباطل، إذا كانت العمولة نظير الضمان، سواءً اعتبرناه كفالة أم اعتبرناه كفالة ووكالة، أما إذا كانت العمولة نظير الوكالة وحدها وعلى قدرها، في حالة اعتباره كفالة ووكالة فلا مانع منها شرعًا لأنه ليس فيها أكل للمال بالباطل.
الرد على حجج المجوِّزين لأخذ العمولة على خطابات الضمان (الجعل على الضمان):
يرى بعض الباحثين جواز أخذ العمولة على خطابات الضمان، مع اعترافهم بأنها كفالة (ضمان) لأنهم لا يرون مانعًا شرعيًا من أخذ الجعل على الضمان، محتجين بالآتي:
1- الضمان عمل محترم فيجوز أخذ الأجر عليه.
2- قياس الضمان على الجاه، فكما جاز أخذ الأجر على الجاه يجوز أخذ الأجر على الضمان.
3- قياس الضمان على بعض الأعمال التي منع الفقهاء أخذ الأجر عليها ثم أجازوه.
الحجة الأولى: الضمان عمل محترم:
يرى بعض المجوِّزين لأخذ الأجر على مجرد الضمان أنه عمل محترم أو خدمة محترمة ومقومة شرعًا، فيجوز أخذ الأخر عليها(69).
ونقول لهم نعم الضمان أو الكفالة عمل محترم، يثاب فاعله إن شاء الله، ولكن ليس كل عمل محترم يجوز أخذ الأجر عليه، فالإقراض عمل محترم ولا يجوز أخذ الأجر عليه، فكيف يجوز أخذ الأجر على الإقراض المتوقع المستتر في الضمان.
يقول الأستاذ/ مصطفى الزرقا في هذا المعني ما خلاصته: (قضيت في الماضي زمنًا طويلاً متحيرًا في اتفاق الفقهاء على تحريم أخذ الأجر على الكفالة، ولكن بعد تفكير طويل جاءتني فكرة كشفت لي حكمة النصوص الفقهية بالتحريم، ذلك أني قلت إذا جاز أخذ الأجر على الكفالة فإن تحريم الربا يفقد حجيته، فلا يبقى مجال أبدًا لتعليل حكمة الربا، لأننا نحرم على المقرض أن يأخذ فائدة لأنها ربا محرّم فكيف إذن نبرر ذلك إذا قبلنا أن الكفيل لمجرد تعرضه لأن يؤدي عن الكفيل مالاً في المستقبل وقد لا يؤدي يسوغ له أخذ الأجر(70).
الحجة الثانية: قياس الضمان على الجاه:
يرى بعض المجوزين لأخذ الأجر على الضمان أنه يقاس على أخذ الأجر على الجاه الذي جوّزه عددٌ من الفقهاء (والجاه شقيق الضمان، وحيث يجوِّز بعض الفقهاء الأجر للجاه نظرًا لتطور الحياة فلا بأس من تجويز الأجر مقابل الضمان في إصدار خطابات الضمان)(72).
وهذا قياس مع الفارق فالجاه ليس شقيق الضمان في شيء لأن الضمان فيه شغل ذمّة بدين، والجاه ليس كذلك، والضمان قد يغرم فيه الضامن، والجاه ليس كذلك، والضمان أقرب إلى القرض من إلى الجاه. والجامع بين هذه الثلاثة هو أنها من أعمال البر التي لا يجوز أحد الأجر عليها كما جاء في الأثر ثلاثة لا تكون إلا لله، القرض والجاه، والضمان.
ثمّ إنّ كل النصوص التي أوردها أصحاب هذا الرأي ليس فيها ما يفيد جواز أخذ الأجر على الجاه، وإنما فيها ما يفيد أخذ الأجر على العمل الذي يقوم به ذو الجاه، وعلى قدر العمل فقط.
والذين منعوا البنوك من أخذ العمولة على الضمان لم يمنعوها من أخذها على ما تقدم به من عمل، وما تتكبده من مصاريف في سبيل إصدار خطاب الضمان، وإنّما منعوها من أخذ عمولة على مجرد الضمان كما منعت النصوص التي أوردها المعارضون أخذ الأجر على مجرد الجاه.
ثمّ إنه لا يلزم من جواز أخذ الأجر على الجاه – على فرض وجود من يقول به – جواز أخذ الأجر على الضمان للفارق الذي ذكرته بينهما، ولأن العلة التي منعت أخذ الأجر على الضمان وهي السلف بزيادة والغرر غير موجودة في الجاه، بل غير متصورة، لأن ذا الجاه لا يدفع مالاً.(/8)
الحجة الثالثة: قياس الضمان على بعض الأعمال التي منع الفقهاء أخذ الأجر عليها ثم أجازوه:
يرى بعض المجوِّزين لأخذ الأجر على الضمان قياسه على أخذ الأجر على بعض الأعمال التي أفتى المتقدمون من فقهاء بعض المذاهب بعدم جواز أخذ الأجر عليها، مثل تحفيظ القرآن، ثمّ أفتى المتأخرون من فقهاء هذه المذاهب بجواز أخذ الأجر عليها(73).
وهذا أيضًا قياس مع الفارق الكبير، فكل الأمثلة التي ذكرها هؤلاء القائسون يؤدي فيها الإنسان عملاً، قد يشغل كل وقته، وليس في الضمان المجرد أي عمل سوى قول الضامن (ضمنت).
ثمّ إنّ العلة التي من أجلها منع الفقهاء أخذ الأجر على الضامن وهي السلف بزيادة والغرر غير متصورة في أخذ الأجر على هذه الأعمال.
وأودُّ أن أنبه إلى أن هذا القياس انبنى على فهم خاطئ أو تصور غير سليم من أصحابه لآراء الفقهاء في حكم أخذ الأجر على تحفيظ القرآن، لأن الذي يقرأ أقوال هؤلاء الباحثين يفهم منها أن المتقدمين من الفقهاء منعوا أخذ الأجر على تحفيظ القرآن، وجاء المتأخرون فأجازوه للعلل التي ذكروها، والحقيقة خلاف هذا لأن أخذ الأجر على تحفيظ القرآن أجازه جمهور المتقدمين من الفقهاء منهم فقهاء المالكية، والشافعية، والإمام أحمد في رواية عنه اعتمادًا على أحاديث صحت عندهم، وأجازه (المتأخرون من مشايخ الحنفية وهم البلخيون) مخالفين ما ذهب إليه الإمام وصاحباه، وقد اتفقت كلمتهم جميعًأ في الشروح والفتاوى على التعليل بالضرورة وهي خشية ضياع القرآن(74).
فكيف يصح قيام أخذ الأجر على الضمان، الذي اتفق فقهاء المذاهب الأربعة على منعه، على أخذ الأجر على تحفيظ القرآن الذي اتفق جمهور الفقهاء على جوازه.
هذا وقد حاول بعض المجوّزين لأخذ الأجر على الضمان نفي شبهة كون أخذ الأجر سلفًا جر نفعًا فجاء بما لا غناء فيه، قال صاحب هذا الرأي:
علل ابن عابدين في عبارته السابقة ضمن فتوى بنك فيصل – عدم جواز الأجر على الضمان بأن الضامن مقرض للمضمون، فإذا شرط له الجعل مع ضمان المثل، فقد شرط له زيادة على ما أقرضه، وهو ربا، ونقول ردًا على ذلك إنّ الضمان ليس بقرض، ولا أحسب أن أحدًا عدّ الضمان وجهًا من وجوه القرض(75).
ونقول له إنّ الضمان قرض وقد عدّ الضمان وجهًا من وجوه القرض عدد من الفقهاء منهم ابن عابدين الذي نقلت أنت عبارته قبل سطر من قولك (ولا أحسب أحدًا)، ومنهم الدردير وابن قدامة في عبارات صريحة تقدّم ذكرها(76)، وأضيف هنا قول السمرقندي: (الكفالة في حق المكفول عنه استقراض وهو طلب القرض، والكفيل بالأداء مقرض للمكفول عنه ونائب عنه في الأداء إلى المكفول له)(77).
وأضيف أيضًا ما أفادنا به الشيخ عبد اللطيف جناحي من التغيير الذي حدث في شكل إظهار ميزانيات البنوك الأمريكية منذ 1982م بالنسبة لخطابات الضمان ومن أن نسبة العمولة يحسبها البنك بأسس وقواعد ربوية(78)، مما يدل على أن البنك يعتبر نفسه مقرضًا، ويؤيد هذا ما ذكرنا في التعريف بخطابات الضمان من أن البنوك تخفض العمولة إلى النصف في حالة خطاب الضمان المغطى(79).
ويقول صاحب هذا الرأي في نفي كون الضمان قرضًا: (القرض بالمقابل لا ينعقد مضافًا إلى زمن ولا معلقًا على شرط كما هو الشأن في الضمان)(80).
ونقول له: ما ذكرته هو رأي الحنفية والشافعية، وأجاز مالك تعليق التبرعات(81)، وأجاز ابن تيمية تعليق جميع العقود بالشروط، إذا كان في ذلك منفعة للناس، ولم يكن متضمنًا ما نهى الله عنه ورسوله، وذكر ابن تيمية عن الإمام أحمد جواز تعليق البيع بشرط، وقال إنه لم يجد عنه ولا عن قدماء أصحابه نصًا يخالف ذلك، وإنّ عدم جواز التعليق ذكره المتأخرون من أصحاب أحمد، كما ذكر ذلك المتأخرون من أصحاب الشافعي(82).
والعمل برأي المالكية وابن تيمية أولى عندي لأن الحاجة تدعو إلى تعليق القرض فلا فرق إذن بين القرض والضمان في جواز التعليق.
ويقول أيضًا صاحب هذا الرأي في نفي كون الضمان قرضًا: (وفي الختام نقول إنّ عقد الضمان عقد استيثاق وليس عقد قرض، فإنّه وإن شابه القرض في وجهٍ فقد خالفه في وجوه كثيرة(83)، ولم يذكر وجهًا من هذه الوجوه سوى الوجهين السابقين.
ونقول له: إن الضمان عقد استيثاق وعقد قرض معًا، عقد استيثاق بالنسبة لعلاقة المضمون له مع الضامن (فالكفالة) كما يقول ابن عابدين، توجب دينًا للطالب على الكفيل، وهذا هو الاستيثاق، وتوجب دينًا للكفيل على الأصيل وهذا هو القرض.
البديل لأخذ العمولة على خطابات الضمان:
انتهينا إلى أن أخذ الأجر على خطابات الضمان ربا، أو فيه شبهة الربا على الأقل، فالواجب إذن على البنوك الإسلامية تركه وإصدار خطابات الضمان بأحدى الطرق التالية:
الطريقة الأولى:(/9)
إصدار خطابات الضمان بتغطية كاملة نقدًا للقادرين على الدفع من العملاء أو بتجنيب المبلغ من حسابهم الجاري، والمفروض في العملاء الذين يطلبون خطابات ضمان ابتدائية، أو نهائية، أن يكونوا قادرين، وهذه هي أكثر حالات إصدار خطابات الضمان، ولا مصلحة للمجتمع ولا للبنك في إصدار مثل هذا النوع من خطابات الضمان لعملاء لا يملكون المبلغ المطلوب منهم.
وهذه الطريقة معمول بها فعلاً في بعض البنوك ومدونة في الكتب التي تتحدث عن خطابات الضمان في البنوك.
يقول الدكتور على جمال الدين عوض في حديثه عن غطاء الضمان: المقصود بذلك الضمانات التي يقتضيها البنك من العميل – عند الاتفاق بينهما على عقد فتح الاعتماد بالضمان – لكي يغطي بها موقفه فيما لو اضطر البنك إلى تنفيذ تعهده ودفع قيمة الخطاب إلى المستفيد ولهذه الضمانات صور متعددة فالغالب أن يكون للعميل حساب جار في البنك فيجنب البنك – بموافقة العميل – مبلغًا منه مساويًا لقيمة خطاب الضمان يفرج عنه عندما يتحرر البنك من التزامه الناشئ من خطاب الضمان(84).
وقد أورد الدكتور على جمال الدين الاعتراض التالي على هذه الطريقة وأجاب عنه في قوله: (قد يتصور أن احتباس البنك مبلغًا مساويًا لقيمة الخطاب تساوي في الواقع تقديم الضمان المطلوب إلى الحكومة نقدًا، ولكن الواقع أن المتعهد أو المقاول يفضل إيداع المبلغ لدى البنك لأنه يسترده فورًا بمجرد انتهاء ضمان البنك، أما إذا كان المبلغ المقدم للحكومة فمن الصعب استرداده بسرعة حتى ولو نفذ المشروع أحسن تنفيذ(85).
والأفضل في هذه الحالة أن يكون دفع العميل المبلغ للبنك على سبيل الاقتضاء لكي يحل للبنك التصرف فيه، وأخذ ربحه إن استثمره فربح(86).
الطريقة الثانية:
إصدار خطابات الضمان لمن لديهم ودائع استثمارية في البنك المصدر للخطابات أو في غيره على أن يعطى طالب خطاب الضمان توكيلاً للبنك بسحب المبلغ من وديعته، ودفعه للمستفيد، إذا طلبه منه في حالة فشله في الوفاء بالتزامه، وينبغي أن تكون الوديعة قابلة للسحب في أي وقت أو في الوقت الذي يحتمل أن يطالب فيها البنك بالمبلغ.
وهذه الطريقة أفضل من الطريقة الأولى بالنسبة للعميل، لأنها لا تخرج ماله من ملكه، وتحتفظ له به مستثمرًا، وإن كانت تمنعه من سحبه ومن التصرف فيه بأي تصرف يخرجه من ملكه، قبل وفائه بالتزاماته نحو المستفيد، وانتهاء خطاب الضمان؛ لأن الوكالة هنا تكون لازمة بالنسبة للموكل لتعليق حق الغير بها.
والطريقة الأولى أفضل للبنك من هذه الطريقة. لأنه يستفيد فيها بالتصرف في المبلغ، وفي كل خير للبنك لأنها تجعله في مأمن من الغرامة وخير للعميل لأنها تمكنه من قضاء حاجته.
الطريقة الثالثة:
إصدار خطابات الضمان مغطاة برهن عقاري، أو بضائع أو أوراق مالية، أو غيرها، أو ضمان شخصي.
وهذه الطريقة معمول بها في البنوك، وإن كانت لا تؤمن البنك تأمينًا كافيًا فقد يضطر فيها إلى دفع المبلغ من عنده في كثير من الحالات قبل استرداده من الضمان الذي أخذه.
الطريقة الرابعة:
إصدار خطابات الضمان بغير غطاء، إذا أمن البنك طالب الخطاب ووثق في أنه يفي بالتزاماته، وهذا هو الأصل في الضمان في الفقه الإسلامي، ولكن بما أن البنوك تتصرف في أموال المستثمرين، فالواجب عليهما أن تحتاط وتتثبت في إصدار هذا النوع من الخطابات.
الطريقة الخامسة:
اشتراك البنك مع طالب خطاب الضمان في العملية إذا كانت قابلة للمشاركة، ويصدر البنك خطاب الضمان في هذه الحالة باعتباره شريكًا (أصيلاً) لا ضامنًا.
هذه ويجوز للبنك في هذه الحالات الخمس أن يأخذ مبلغًا مساويًا للمصاريف الفعلية والمصاريف الإدارية لإصدار خطابات الضمان، مع مراعاة عدم الزيادة على أجر المثل(87).
وفي الحالات الأربع الأولى يأخذ البنك المبلغ من العميل لنفسه، وفي الحالة الخامسة يحمل المبلغ للمشاركة.
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
----------
(1) هذا تعريف بخطاب الضمان الذي تمارسه البنوك التقليدية والبنوك الإسلامية أيضًا.
(2) الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية، الجزء الخامس – المجلد الأول 1402هـ - 1983م، ص 464.
(3) المصدر السابق ص 484، وموقف الشرعة من المصارف الإسلامية المعاصرة، 361، الدكتور عبد الله عبد الرحيم العبادي.
(4) دليل العمل في البنوك الإسلامية، ص 63.
(5) البنك اللاربوي في الإسلام، ص 128.
(6) عمليات البنوك من الموجهة القانونية، 357.
(7) البنك اللاربوي في الإسلام 178. ومجلة البنوك الإسلامية 31، نقلاً عن الموسوعة مصدر سابق.
(8) المصدر السابق، والأعمال المصرفية والإسلام، 226 للدكتور مصطفى عبد الله الهمشري.
(9) مجلة البنوك الإسلامية، ص 33.
(10) الأعمال المصرفية والإسلام، ص 226.(/10)
(11) الموسوعة العملية والعلمية 5/465، والأعمال المصرفية والإسلام 225، وموقف الشرعية من المصارف الإسلامية المعاصرة ص 313، ومجلة البنوك الإسلامية، ص 34 العدد 54.
(12) منشور الإدارة العامة للرقابة على المصارف والمؤسسات المالية رقم (35/93).
(13) الموسوعة العملية والعلمية 465، والأعمال المصرفية والإسلام، 227، وموقف الشريعة من المصارف الإسلامية المعاصرة، ص 311.
(14) تعريفة الخدمات المصرفية 1999م.
(15) الشرح الصغير على أقر المسالك مع حاشية الصاوي 3/429.
(16) أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك 3/429 – 431.
(17) الشرح الصغير، 3/430.
(18) مختصر خليل، 209.
(19) المهذب، 1/339.
(20) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 4/418.
(21) المهذب، 1/339، و 341.
(22) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، 4/418 و431.
(23) نهاية المحتاج مع حاشية الشبراملسي 4/418. الشافعي يستعمل الضمان والكفالة والحمالة في المال، ويستعمل الكفالة في النفس، الأم 2/204 و 205.
(24) المقنع، 2/112.
(25) المصدر السابق، 3/118.
(26) المصدر السابق، 2/112.
(27) تنوير الأبصار مع حاشية ابن عابدين 4/246.
(28) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 4/346.
(29) المصدر السابق 3/118.
(30) حاشية ابن عابدين 4/250 و251.
(31) خاشية ابن عابدين، 4/353.
(32) نهاية المحتاج، 4/441.
(33) المغني والشرح الكبير، 5/101.
(34) الضمان في الفقه الإسلامي، ص 25.
(35) الضمان في الفقه الإسلامي، ص 67.
(36) الشرح الصغير على أقر المسالك، 3/431.
(37) قال في الحاشية يعني إذا كان مآله إلى العلم.
(38) المقنع، 2/113؟
(39) عمليات البنوك من الوجهة القانونية، 262.
(40) حاشية ابن عابدين، 4/364.
(41) المغني، 4/536، وانظر ما نقله عن المقنع في ص 18.
(42) المنتقى، 6/83.
(43) الروضة البهية، 1/363، وانظر كتاب الغرر وأثره في العقود، ص 555.
(44) الهداية مع فتح القدير، 5/402.
(45) فتح القدير، 2/113.
(46) المقنع، 3/133.
(47) ابن عابدين، 4/369.
(48) الشرح الصغير على أقرب المسالك، 3/432.
(49) المغني، 4/441.
(50) نهاية المحتاج، 4/441.
(51) الشرح الصغير على أقرب المسالك، 3/438.
(52) الضمان في الفقه الإسلامي، 102.
(53) حاشية ابن عابدين، 4/385، 386.
(54) الشرح الصغير على أقرب المسالك، 3/440، وانظر أيضًا المدونة الكبرى، 13/132.
(55) المهذب، 1/341.
(56) المغني مع الشرح الكبير، 5/108.
(57) من هذه الفتاوى فتوى هيئة الرقابة الشرعية لبنك فيصل الإسلامي السوداني، التي أتشرف برئاستها قبل خمسة عشر عامًا. انظر فتاوى هيئة الرقابة الشرعية صفحة 65، ومنها القرار رقم (5) الصادر من مجلس مجمع الفقه الإسلامي سنة 1406هـ - 1985م، انظر مجلة مجمع الفقه الإسلامي الدورة صفحة 1209.
(58) مجلة مجمع الفقه اإسلامي الدورة الثانية، 1407هـ - 1986م، صفحة 1159.
(59) انظر عمليات البنوك من الوجهة القانونية، 358 ، 370.
(60) البنك اللاربوي في الإسلام، ص 130 – 131. ومجلة مجمع الفقه الإسلامي الدورة الثانية، ص 1112.
(61) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، 4/419.
(62) مجمع الضمانات، 282.
(63) منحة الخالق على البحر الراتق، 6/242.
(64) مواهب الجليل بشرح مختصر خليل 4/242.
(65) الشرح الصغير على أقرب المسالك 3/442. وقال الصاوي : (إنما فسدت بالجعل للضامن لقوله في الحديث: "ثلاثة لا تكون إلا لله الغرض ، الضمان ، الجاه، ولم أقف على هذا الحديث.
(66) حاشية البناني على شرح الزرقاني، 6/32.
(67) حاشية الرهوني على شرح الزرقاني، 6/25.
(68) المغني مع الشرح الكبير ، 4/265.
(70) البنك اللاربوي (13)، ومجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد الثاني، صفحة 143 – 145، د. أحمد علي عبد الله. وصفحة 1111 الشيح محمد على التسخيري.
(71) مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد الثاني، ص 1186.
(72) الأعمال المصرفية والإسلام، ص 118 – 221، 228. وموقف الشريعة من المصارف الإسلامية المعاصرة، 219.
(73) مجلة مجمع الفقه الإسلامي، الدورة الثانية صفحة 1103، بحث زكريا البري، وصفحة 1118، بحث الدكتور رفيق المصري، وصفحة 1129 بحث الدكتور أحمد علي عبد الله، وصفحة 1158 البحث المقدم لندوة البركة الثالثة.
(74) نيل الأوطار، 5/314، 306، وحاشية ابن عابدين 5/46، والصاوي على الشرح الصغير، 2/16، و4/34، والمهذب، 1/398، والمقنع، 2/201.
(75) مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد الثاني، صفحة 1138، بحث الدكتور أحمد علي عبد الله.
(76) انظر صفحة 29.
(77) تحفة الفقهاء 3/402.
(78) مجلة مجمع الفقه الإسلامي، 1185.
(79) أنظر تعريف خطابات الضمان في أول البحث.
(80) مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد الثاني صفحة 1128، بحث الدكتور أحمد على عبد الله.
(81) أحكام المعاملات الشرعية، 269 ط بنك البركة الإسلامي.
(82) نظرية العقد 227، وانظر كتاب الغرر وأثره في العقود، 140.(/11)
(83) مجلة مجمع الفقه الإسلامي، 1138.
(84) عمليات البنوك من الوجهة القانونية، 373.
(85) المصدر السابق، 259.
(86) راجع ما تقدم في هذه المسألة، 20 – 23.
(87) انظر مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد الثاني ، قرار مجمع الفقه الإسلامي.
المدلول اللغوي
[ أ ] أصل الشورى في اللغة من شار العسل، إذا استخرجه واستصفى خلاصته، واجتناه من خلاياه ومواضعه. قال أبو عبيد: شرت العسل واشترته: اجتنيته وأخذته من موضعه.
ويقال: فلان حسن الصورة والمشورة أي حسن المخبر عند التجربة.
وفي الحديث : ( كان يشير في الصلاة ) أي يومئ باليد والرأس، ( وأشار عليه بكذا ) : أمره به، ( وهي الشورى ) بالضم.. وترك عمر الخلافة بعده شورى، والناس فيه شورى.
واستشاره : طلب منه المشورة، وكذلك شاوره مشاورة وشوارا،وتشاوروا واشتوروا.[ب] وفي " المفردات في غريب القرآن " للراغب الأصفهاني: ( التشاور والمشورة والشورى: استخراج الرأي بمراجعة البعض إلى البعض ) وشاورته واستشرته: طلبت منه المشورة والرأي .
[ج] وفي معجم مقاييس اللغة لابن فارس:( شور) الشين والواو والراء أصلان مطردان، الأول منهما: إبداء شيء وإظهاره وعرضه، والآخر:أخذ الإبداء. فمن الأول قولهم: شرت الدابة شورا، إذا عرضتها، والمكان الذي يعرض فيه الدواب هو المشوار. ومن الثاني قولهم: شرت العسل أشوره أي أخذته. وقد أجاز أناس: أشرت العسل. والمشار الخلية يشتار منها العسل.
[د] قال بعض أهل اللغة: من هذا الباب شاورت فلانا في أمري قال: وهو مشتق من شور العسل، فكأن المستشير يأخذ الرأي من غيره .
[هـ] وعليه يتضمن المدلول اللغوي للشورى ما يلي:
*إبداء الشيء وعرضه.
*وإظهاره، وهو مرحلة أعلى من الإبداء.
*اتصاف الرأي المعروض بالحسن والاستنارة، فليس كل رأي عنّ للإنسان عُرض.
المدلول الاصطلاحي للشورى:
[1] ومعنى الشورى اصطلاحا:الاجتماع على الأمر ليستشير كل واحد صاحبه ويستخرج ما عنده. أو هي اجتماع الناس على أمر ما يُعرض بينهم، للتداول فيه، من أجل استخراج ما يُرى صوابا.
[2] والشورى: الأمر الذي يتشاور فيه.
[3] والشورى: ( عرض الأمر على أهل الخبرة حتى يعلم المراد منه ).
[4] وهي: ( اختبار ما عند كل واحد منهم ـ أي المستشارين ـ واستخراج ما عندهم ).
[5] ويُطلق على الموضع الذي يتم فيه التشاور مجلس الشورى.
[6] وعليه فالشورى تعني: اجتماع الناس على أمر ما لتداول الرأي، واستخلاص الصواب منه في المسائل المعروضة لاستصدار القرار.
ويجتهد بعض الفقهاء المعاصرين في تقديم تعريف جامع للشورى فيقول: ( ولعل أجمع تعريف للشورى بمعناها الفقهي العام الشامل لمختلف أنواعها هو القول بأنها رجوع الإمام أو القاضي أو آحاد المكلفين في أمر لم يُستبن حكمه بنص قرآني أو سنة أو ثبوت إجماع إلى من يُرجى منهم معرفته بالدلائل الاجتهادية من العلماء المجتهدين، ومن قد ينضم إليهم في ذلك من أولي الدراية والاختصاص ) .
وهكذا فإن الشورى في الاصطلاح الذي يتوخاه الإسلام، يمكن أن تتسع لتعبر عن ( استخلاص الرأي الجامع أو الراجح من خلال الحوار الجامع ). هذا هو مطلوب الشورى، فإن لم يكن رأي جامع فرأي راجح لدى استصدار القرار، مما ينعقد عليه العمل الجامع لدى التطبيق والتنفيذ.
الشورى في القرآن الكريم
ويتناول هذا المبحث مرجعية الشورى من القرآن الكريم، فيردفها بمرجعيتها من السُنة النبوية المطهَّرة. فالمبحث يتناول ما ورد في كتاب الله الحكيم من أمر الشورى، وبما يجلي مدلولها ويعلي حجيتها.. وهو يعالج أثناء ذلك مدى إلزاميتها، وذلك من حيث هي مدخل إلى نظام سياسي متكامل، كما هي صلة وشيجة لسائر مناهج الحياة العامة والخاصة.
[1] والمرجعية الأولى في استمداد مبادئ الشورى وقواعدها للقرآن الكريم، حيث جاء قوله تعالى: (فَِبمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللهِ لنِْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّا غَلِيظَ القَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاستَغفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ في ِالأَمْرِ فِإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ)(6).(/12)
يأمر الله تعالى في هذه الآية رسوله صلى الله عليه وسلم أن يشاور أصحابه، وهو أمر للوجوب كما يدلُ السياق، ولا صارف للوجوب، وعلى الوجوب مذهب المالكية مع عموم ما يتشاور فيه، ويقول الإمام النووي: (واختلف أصحابنا هل كانت الشورى واجبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أم كانت سنة في حقه كما في حقنا، والصحيح عندهم وجوبها وهو المختار، قال الله تعالى: (وَشَاوِرْهُم فِي الأَمْرِ) والمختار الذي عليه جمهور الفقهاء ومحققو الأصول أنّ الأمر للوجوب)(7)، وقرر الإمام ابن حجر العسقلاني أنّ الصحيح المختار هو وجوب الشورى(8)، وعلى ذلك أيضًا مذهب الأحناف حيث يقول الإمام الجصاص في تفسير قوله تعالى (وَأمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)(9): (هذا يدلُ على جلالة موقع المشورة لذكرها مع الإيمان وإقامة الصلاة، ويدلُ على أننا مأمورون بها(10). وهذا ما ذهب إليه الإمام الرازي حيث يقول: (ظاهر الأمر الوجوب في قوله تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ) وهو يقتضي الوجوب)(11).
وتأكيدًا لهذا الوجوب فإن الأمر بها جاء عقب نتائج الأخذ بالشورى في أُحُد، دلالة على لزومه مهما ترتب عليه من نتائج.
وتطبيقًا لوجوب الشورى، والأخذ بنتائجها، وعدم كسر قراراتها استشار النبي صلى الله عليه وسلم المجاهدين في أُحُد على الخروج، فلما قرر غالبيتهم الخروج، أخذ بذلك، مع أن ذلك يخالف رأيه صلى الله عليه وسلم ، ولما رأوا أنهم قد أكرهوا النبي صلى الله عليه وسلم ، ورأوا التراجع والبقاء سن لهم ضرورة تحمّل النتائج والتبعات على القرار المُتخذ وعدم كسره، فردّهم بلطف كما روى ذلك جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لَوْ أَنَّا أَقَمْنَا بِالمَدِينَة فَإِنْ دَخَلُوا عَلَينَا فِيهَا قَاتَلْنَاهُم فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَاللهِ مَا دُخِلَ عَلَينَا فِيهَا فِي الجَاهِلِيَّة فَكَيفَ يُدْخَلُ عَلَيْنَا فِيهَا فِي الإِسْلاَمِ؟ فَقَالَ: (شَأنَكُمْ إِذًا)، فَلَبِسَ لاَمَتَهُ، قَالَ: فَقَالَتْ الأَنْصَارُ: رَدَدْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَأْيَهُ فَجَاءُوا فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللهِ شَأْنَكَ إِذًا، فَقَالَ: إِنَّهُ لَيسَ لِنَبِيٍّ إِذَا لَبِسَ لاَمَتَهُ أَنْ يَضَعَهَا حَتَّى يُقَاتِلَ)(12).
وأما موقفه في الحديبية من الصلح على غير رغبة المسلمين فبوحي إلهي ظاهر عبر عنه صلى الله عليه وسلم بقوله لعمر بن الخطاب: (إِنّي رَسُولُ اللهِ ولَسْتُ أعْصِيهِ وَهُوَ نَاصِرِي)، وعبر عنه أبو بكر لعمر بالكلمات ذاتها فقال: (أيها الرجل إنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وليس يعصى ربه وهو ناصره فاستمسك بغرزه فوالله إنه على الحق)(13).
وأما ما ورد في مواقف يستدل بها على إعلامية الشورى كما حدث من أبي بكر في موقفه من حرب مانعي الزكاة، أو من تسيير جيش أسامة، فالأمر لا يعدو أن يكون شورى، حيث علا أبو بكر بحجته على من معه فاطمأنوا لذلك بعد جدل ونقاش، فلا يستدل بهذا على الإلزام .. ومثل ذلك موقفه رضي الله عنه من مسألة جمع القرآن في مكان واحد حيث أقنع زيدًا بذلك دون إلزام له كما قال زيد: (فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر – رضي الله عنهما –)(14).
ولعظمة الأمر بالشورى جعلها الإسلام مقومًا أساسيًا بأسره، ومن ههنا قرنها بالصلاة والزكاة. يقول صاحب كتاب فقه الشورى والاستشارة: (إنّ الشورى في شريعتنا قاعدة للنظام الاجتماعي، وهي عروة وُثقى، تربط بين أفراد المجتمع، وقد جعلتها آية الشورى تلي الإيمان والعبادة في الترتيب بقولها: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَلاَةَ وَأَمْرَهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزْقنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)(15).
ثم إنّ هذه العبارة الأخيرة تشير إلى أنّ التكافل في الإنفاق والمشاركة في المال يرتبطان بالمشاركة في التشاور الفكري .. وارتباط الشورى بالتكافل والتضامن الاجتماعي وحرية الإنسان وحقوقه يجعلها مبدأ اجتماعيًا شاملاً وليس مجرد مبدأ سياسي.
[2] وروى الواحدي في الوسيط عن عمرو بن دينار عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه قال: (الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمشاورته في هذه الآية هم الذين أمره بالعفو عنهم وأن يستغفر لهم وهم الملزمون)(16).
[3] هذا والأمر بالشورى هنا عام يشمل كل الشؤون العامة، في حياة الأفراد والجماعات والدول، السياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية والثقافية. وأداة التعريف (ال) للاستغراق، والأمر هنا (وشاورهم) يعني سماع الآراء فيكون العزم في قوله تعالى: (فإذا عزمت) أي عند اختيار الرأي الحاسم. والأمر بالشورى للوجوب ويشمل كل أمر ذي بال من شؤون الأفراد والجماعة والدولة سلمًا وحربًا، اقتصادًا وسياسة.(/13)
هذا ما تقوم عليه التربية الإسلامية لتحقق القيم والأخلاق والآداب التي أمر بها الشرع استجابة لداعي الإيمان. ولتنفيذ ذلك فالمسلمون مندوبون إلى أن يجتهدوا في استحداث الوسائل المناسبة لمجتمعهم وعصرهم في نشر آداب الشورى وتنفيذ ما يجب عليهم من جعل أمورهم كلها شورى بينهم حتى تصير الشورى خلقًا ثابتًا في حياتهم كما وصفهم القرآن بذلك في سياق ما يقومون به ويقيمونه من واجبات الدين وأركان الإسلام المعلومة من الصلاة والزكاة والإنفاق في سبيل الله تعالى، وحيث ثبت في اختيارنا أنّ الأمر للوجوب والعموم.
وقد استقر ذلك في تجربتنا السودانية دستورًا وممارسة وتطبيقًا وقانونًا ونظامًا ولوائح، حتى أنّ نص البيعة يتضمن التزام الرئيس بالشورى، وهكذا أداء القسم للرئيس ومن يليه من كل ذي ولاية ومسؤولية.
وقد جاء الأمر بالشورى في سياق عظيم من الآداب الجليلة في التعامل مع الناس، وفي بيان ذلك يقول صاحب محاسن التأويل في تفسير قوله تعالى: (فَِبمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللهِ لنِْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّا غَلِيظَ القَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاستَغفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ في ِالأَمْرِ)(17): أي ما لنت هذا اللين الخارق للعادة، مع ما سبب فعلهم من الغضب الموجب للعنف والسطوة، لا سيَّما مع اعتراض من اعترض على ما أشار به، إلاّ بسبب رحمة عظيمة. ولو كنت سيئ الخلق خشن الكلام قاسي القلب وشديده، تعاملهم بالعنف والجفاء، لتفرقوا عنك، فلم يسكنوا إليك، فلا تتم دعوتك. ولكن الله جعلك سهلاً سمحًا طلقًا ليِّنًا لطيفًا بارًا رءوفًا رحيمًا. فاعف عنهم فيما فرّطوا في حقّك، كما عفا الله عنهم واستغفر لهم إتمامًا للشفقة عليهم. وشاورهم في أمر الحرب وغيره تودُّدًا إليهم وتطييبًا لنفوسهم واستظهارًا بآرائهم وتمهيدًا لسنة المشاورة في الأمة(18).
والفظ هو السيئ الخلق الجافي الطبع، أمّا الغليظ القلب فهو القاسي القلب غير المتسامح في تعامله مع النّاس، وهكذا كانت الغلظة والفظاظة من أعظم أسباب تفرق النّاس بعضهم عن بعض، وفي الخطاب القرآني عبرة لأولي الألباب وهو حكم عام يطرأ في النّاس جميعًا (وَلَوْ كُنتَ فَظّا غَلِيظَ القَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)، وذلك من علم الله تعالى بخلقه (أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِفُ الْخَبير)(19).
[4] هذا وقد ورد الأمر بالشورى في سياق ما خصّ الله به نبيه صلى الله عليه وسلم من خلق عظيم ووصفه به من الرحمة كما في هذه الآية، وكما في ختام سورة التوبة حيث وصفه بالرأفة والرحمة (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم)(20)، أما في سورة الأنبياء فقد خص بالرحمة العامة للعالمين (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)(21)، ورحمته عامة تستغرق كل ما يصدق عليه اسم العالم، وقد أقيمت شعائر الإسلام على دعائم الرحمة والرفق واليسر بالنّاس كلهم.
وهي رحمة موضوعة في محلها الصحيح، وهي لا تنفي ما بان لنا من شدته في المواضع المقتضية لذلك، بل هي في حقيقتها من الرحمة بعباد الله. كيف لا ومن صفاته صلى الله عليه وسلم التي وصفه بها القرآن (بالمؤمنين رءوف رحيم)(22).
ولا خير في حلمٍ إذا لم تكن له بوادر تحمي صفوة أن يكدرا
[1] وهذه الصفة الكريمة التي وصف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم خلق ثابت من خلقه العظيم ومنه قوله: (إنما أنا رحمة مهداة)(23) دليل على تخلق نفسه الزكية بخلق الرحمة، وإحاطة الرحمة بتصاريف شريعته(24)، ومنها شرعة الشورى.
[2] وهذه الصفة تقتضي أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيمًا بالمؤمنين، يلين لهم قوله ويبسط لهم وجهه، ويعفو عنهم، ويستغفر لهم فيما حملوا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم برأي أكثريتهم يوم أحد.
ثم كان من مخالفتهم الأوامر مما نتج عنه ما كان يومئذٍ في غزوة أحد (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير)(25).
بل إن القرآن يأمره صلى الله عليه وسلم ان يشاورهم في الأمر وإن بدر منهم كل ما سبق، ذلك بأن الأمر بالشورى مقصود لذاته من حيث هو رحمة في حياة المجتمع كله، وفي نشاط الدولة كلها.
وهكذا فإنّ الراجح، من الدليل القرآني، أن الشورى واجبة ملزمة في النظام السياسي للدولة، خصوصًا إذا جرى التعاقد على وجوبها وإلزامها بالدستور والقانون، وهي لا تكون أقل من الوجوب والإلزام إلا في حدود ضيقة كما لو كانت استشارة لأهل الخبرة والاختصاص، كما سيرد تبيان ذلك لاحقًا إن شاء الله تعالى، ذلك بأن الحكم الصالح يقوم على العدل الشامل، ومن مقتضيات هذا العدل الأخذ بمنهاج الشورى كمنهاج شامل في الحياة العامة والخاصة.
حكم الشورى في السنّة النبوية(/14)
ونعرض في هذا المبحث الدلائل والإشارات على وجوب الشورى، سواء من التوجيهات أو من الممارسات في السيرة النبوية، وذلك من حيث أن هذه السيرة هي نموذج عملي وحي لتعاليم القرآن الكريم، فقد كانت أخلاقه صلى الله عليه وسلم هي القرآن الكريم، فيما تصفه السيدة عائشة رضي الله عنها: (كان خلقه القرآن)(26).
والمرجعية الثانية في تأصيل الشورى هي السنة النبوية، فقد أسس النبي صلى الله عليه وسلم للشورى نظامًا يحتذى وسنة عملية تطبيقية على أكمل وجه، وعرف ذلك عنه أصحابه.
[أ] قال أبو هريرة: (ما رأيت أحدًا أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم )(27).
[ب] عن النبي صلى الله عليه وسلم قال له أبو بكر وعمر: (إنّ الناس ليزيدهم حرصًا على الإسلام أن يروا عليك زيًا حسنًا من الدنيا فقال: وأيّم الله لو أنكما تتفقان على أمر واحد، ما عصيتكما في مشورة أبدًا)(28).
[ج] عن الحسن البصري قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتشير حتى المرأة فتشير عليه بالشيء فيأخذ به).
[د] عن ابن عبّاس قال لما نزلت (وشاورهم في الأمر) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أما إن الله ورسوله لغنيان عنها ولكن جعلها الله رحمة لأمتي، فمن استشار منهم لم يعدم رشدًا ومن تركها لم يعدم غيًا)(29).
[هـ] عن الحسن: (قد علم الله تعالى ما به إليهم حاجة، ولكن أراد أن يستن به من بعده)(30).
[و] عن قتادة: (أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشاور أصحابه في الأمور وهو يأتيه وحي السماء، لأنه أطيب لأنفس القوم، أو أن تكون سنة بعده لأمته).
[ز] ابن عطية: (الشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام)(31).
[ح] الضحاك بن مزاحم في تفسير قوله تعالى: (وشاورهم في الأمر): (ما أمر الله عزّ وجلّ نبيه بالمشورة إلا لما علم فيها من الفضل).
[ط] ابن تيمية: (لا غنى لولي الأمر عن المشاورة فإنّ الله تعالى أمر بها نبيه صلى الله عليه وسلم فقال (فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمن فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين)(32)، وقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (ما رأيت أحدًا أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم )(33).
إن الله أمر بها نبيه لتأليف قلوب أصحابه، وليقتدي به من بعده، وليستخرج منهم الرأي فيما لم ينزل فيه وحي من أمر الحروب والأمور الجزئية وغير ذلكن فغيره صلى الله عليه وسلم أولى بالمشورة)(34).
[ي] قد ثبتت مشاورته صلى الله عليه وسلم لأصحابه في عدة أمور، منها:
[1] أنه شاورهم يوم بدر وخاصة الأنصار قبل الدخول في المعركة، فقالوا: (يا رسول الله لو استعرضت بنا البحر لقطعناه معك، ولو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك، ولا نقول لك كما قال قوم موسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون، ولكن نقول اذهب فنحن معك وبين يديك، وعن يمينك وشمالك مقاتلون).
[2] وشاور الحباب بن المنذر رضي الله عنه في اختيار مقر المعسكر وأخذ برأيه، وشاور صاحبيه أبا بكر وعمر في أمر الأسرى، وأخذ برأي أبي بكر.
[3] وشاورهم يوم أحد في المقام والخروج، فرأوا له الخروج، فلما لبس لامته وعزم قالوا: أقم، فلم يمل إليهم بعد العزم وقال: (لا ينبغي لنبي يلبس لامته فيضعها حتى يحكم الله)(35).
[4] وشاورهم يوم الخندق في حفره فأخذ برأي سلمان الفارسي. أما في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذ، فأبى ذلك عليه السعود: سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وسعد بن خيثمة، وسعد بن مسعود فترك ذلك. وكان الأنصار أولى بالشورى هنا لأنهم أصحاب النخيل والثمار فهم أهل الاختصاص إذًا.
[5] وشاورهم حتى عند سن الأذان، فعن نافع أنّ ابن عمر كان يقول: كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاة ليس ينادى لها، فتكلموا يومًا في ذلك فقال بعضهم: اتخذوا ناقوسًا مثل ناقوس النصارى وقال بعضهم: بل بوقًا مثل قرن اليهود، فقال عمر: أولا تبعثون رجلا ينادي بالصلاة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (يا بلال قم فناد بالصلاة)(36).
[6] وأقر صلى الله عليه وسلم حق المرأة، وعمل برأيها، فقد جاء في رواية البخاري لحديث الحديبية: فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (قوموا فانحروا ثم احلقوا) قال: فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس. فقالت أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك؟ أخرج ثم لا تكلم أحدًا منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك؟ فخرج فلم يكلم أحدًا منهم حتى فعل ذلك نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضًا حتى كاد بعضهم يقتل بعضًا غمًا(37).
معالم الشورى النبوية:
تتضح معالم الشورى النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام في أمور جليلة أظهرها:
[1] الرجوع إلى الدليل الشرعي (الوحي) كما حدث في يوم الحديبية حيث قال: (أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره)(38).(/15)
[2] الصواب في بدر بغض النظر عن الأكثرية حيث نزل على رأي الحباب بن المنذر (بل هو الرأي والحرب والمكيدة)، والحباب يمثل أهل الخبرة والاختصاص وأهل الذكر وبعبارة أخرى أهل الحل والعقد.
[3] الأكثرية يوم أحد، وإن خالف رأيهم رأي الصواب.
وعليه إذا كانت الشورى في الأمور التشريعية فالحجة لقوة الدليل، وإذا كانت الشورى في الأمور الفنية فالحجة لأهل الخبرة والاختصاص في الموضوع، أمّا في طلب الرأي الذي يرشد على القيام بعمل من الأعمال كانتخاب رئيس أو والٍ أو إقرار مشروع فيرجح رأي الأكثرية. لأن الكثرة يحصل بها الترجيح كما يقول الأمدي(39).
وهكذا تقدم لنا السيرة النبوية معالم أساسية لفقه الشورى، كأمر رباني، وسنة نبوية، وقيمة أخلاقية وحكمة بالغة في سياسة الأمة.
حكمة مشروعية الشورى
أما أبرز وجوه الحكمة في مشروعية الشورى فهي:
[1] إقامتها للخير والصواب ومنعها الاستبداد بالرأي وقهر الرجال.
[2] ولإرشاد الحكام وولاة الأمر.
[3] واحترام عقول الناس وتأليف قلوبهم مما يعين أيضًا على سهولة تنفيذ ما يتخذ من قرارات.
[4] والاستفادة من رأي الآخرين واكتشاف قدراتهم، ولتمييز الناصح من غيره.
[5] ولرضا المخالف، وإقامة الحجة.
[6] ولإحياء الاجتهاد بالنظر.
ويستخلص بعض الفقهاء المعاصرين في بيانه لأهمية الشورى خمسة وجوه كلية تندرج تحت كل منها فوائد ومزايا جزئية كثيرة، وهي:
[1] إنّها العامل الأول لنسيج أواصر الإلفة والمحبة بين الأمة وقادتها، وهذه مزية أخلاقية.
[2] والشورى تذكر كلا من إمام المسلمين والمسلمين أنفسهم بنوع العلاقة القائمة بين الطرفين من منظار الشرع الإسلامي الحنيف: [فأما الإمام فإن من شأن الشورى أن تذكره بأنه موظف من قبل رب العالمين في تسيير أمور الأمة وحماية أمنها، وطمأنينتها، وليس صاحب صلاحية في التسلط عليها والتحكم برقابها. وأمّا الأمة فإنّ الشورى تذكرها بما يستوجب مزيدًا من الانصياع لرأي الإمام وحكمه فإنّها تعلم بذلك أنّها لا تطيع إلا فيما يصلحها ويرعى حقوقها، وهذه مزية اجتماعية.
[3] الشورى سبيل لابد منه للاستفادة من علم العلماء وخبرة أصحاب الرأي وما يتمتع به كثير من رجالات الأمة من بُعد النظر وعمق الدراية، وهذه مزية علمية.
[4] هنالك حقوق للأمة لا يجوز للحاكم أو الإمام أن يتصرف فيها إلا بمشاورة أصحابها واستئذانهم في ذلك.
وإنما السبيل الوحيد لصحة تصرفه فيها مشاورة أصحاب هذه الحقوق مباشرة، أو عن طريق عرفائهم ووكلائهم، وهذه مزية حقوقية.
[5] لابد أن يكون الإمام مطلعًا على مطامح قومه وآمالهم، وعلى الأفكار والاتجاهات التي قد تتسلل إليهم وتسري فيما بينهم، سواء ما كان إيجابيًا مفيدًا أو سلبيًا ضارًا.
وخير السبل الكفيلة بذلك الاحتكاك بوجوه الناس ومفكريهم إنما هو عن طريق التحاور والتشاور، وهذه مزية سياسية(40).
[6] ولا تكون الشورى في أمر قطعي الدلالة والثبوت سواء بنص صريح من القرآن أو خبر صحيح من السنة.
أما إذا كان النص القرآني يحمل دلالة ظنية فهو يخضع للشورى والاجتهاد الجماعي ومما يتعلق بفهم النص واستنباط معقوده.
وللشورى صلة بالتعاون بين الناس (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)(41)، والنصيحة والتواصي كما في سورة العصر (والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا اللذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)(42).
ونحن لا نستطيع أن نمنع حدوث اختلاف الرأي بين النّاس، أو الخلاف عامة، فقد خلق النّاس وجبلوا على حرية الاختيار والرأي، وذلك من رحمة الله بالناس: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم)(43). لكن المطلوب هو أن ندير ذلك بالحكمة مع التواصي بالحق والاجتهاد في الوصول إليه والتزامه والتماس العذر الحسن عن أداه واجتهاده ليختار مذهبًا يراه أصوب. أما المحذور فهو الافتراق، المؤدي إلى الفتنة والاحتراب.
[7] والشورى لا تقف عند اختيار الحكام، وإنما تمتد إلى سائر ضروب النشاط الإنساني، ووجوه الحياة العامة، كما أنّ الشورى أوسع نطاقًا من مجرد الوصول إلى رأي الأغلبية، وإنّما المعول عليه الوصول إلى هذا الرأي عن طريق الحوار الناصح والمجادلة الحسنة. بل هي واجب مفروض طاعةً لله واتباعًا للسنة في أداء النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(/16)
وفي كتابه "فقه الشورى والاستشارة" يذهب د. توفيق الشاوي إلى أنّ: (في مفهوم الشورى لا يكتفي الفرد فيه بالتمتع بحريته في اختيار الحكام عن طريق انتمائه للأغلبية بحسب، بل لابدّ من ممارسة حريات أخرى ذاتية يستمدها من صفته إنسانًا أو فردًا في المجتمع، بصرف النظر عن انتمائه للأغلبية أو الأقلية وعمّا إذا كان قد تمتع فعلاً بالمشاركة في القرارات السياسية بصفته جزء من الأغلبية الحاكمة أو لا. وهذه الحريات الإنسانية للفرد تضمنها الشورى لكل فرد في المجتمع، لأنها لا تقتصر إسهامه على شؤون الجماعة على مجرد عملية اختيار الحكام، بل توسع نطاق هذا الإسهام ليشمل حقه الكامل في المشاركة على سبيل المساواة مع الجميع في التشاور والحوار الحر في كل ما يتعلق بشؤون المجتمع ونظمه الاجتماعية ومؤسساته المالية والاقتصادية والسياسية والثقافية.
والشورى بذلك تتجاوز حقوق الإنسان إلى أنها واجب، وهي حق لكل الناس وواجب عليهم جميعًا.
[8] والشورى إنما هي حق للإنسان وحق أساسي للأمة تمارسه لإقامة العدل والحق. ومن ذلك يتبين أن الشورى هي أساس حق الأمة.
• في اختيار الحاكم أو المسئول عن الولاية.
• في مراقبة أعماله وسلوكه العام، بل وسلوكه الشخصي في نظر كثير من الفقهاء.
• وفي أنها أساس القيود والحدود الصريحة التي تفرضها الأمة على سلطة الحكام الذي تتعاقد معهم بالبيعة قبل اختيارهم أو بعده، والتي يكون الغرض منها محددًا ومعينًا من التزامه برأي أو عمل أو سلوك، ترى الأمة ممثلة في أهل الشورى إلزام حكامها بها لضمان حسن سير عمل الحكومة وإدارتها، مثل شرط تحديد مدة الولاية بمدة معينة حتى يحتفظوا لأنفسهم بحق اختيار غيره إذا وجدوا أنه أقدر أو أولى منه، وشرط الالتزام بالشورى في موضوعات معينة تدخل في اختصاصه، مثل إعلان الحرب وعقد المعاهدات، واعتماد الميزانية والحساب الختامي، وتعيين بعض كبار المسئولين أو عزلهم وما إلى ذلك.
وتستمر الشورى حقًا للناس ليشاركوا بالرأي والنصيحة، وواجبًا عليهم في مراقبتهم ومحاسبتهم بعضهم لبعض وفق مرجعية أصول الدين وأحكام الشريعة(44).
الشورى بين الإلزام والالتزام:
وللشورى من حيث إلزاميتها واختياريتها ضروب لا تخرج في جوهرها عن حكمة مشروعيتها، وإن تعددت هذه الضروب وفق الأقضية، فهناك الشورى الجماعية ذات الإلزام، والمشورة الاختيارية التي تطلب من أهل الاختصاص، علاوة على الفتوى الفقهية الاستشارية. قال صاحب كتاب الشورى والاستشارة (يجب في رأينا التفرقة بين أنواع ثلاثة من القرارات الناتجة عن "التشاور" وهي:
أولاً: المشورة الجماعية التي لابد من الالتجاء إليها للحصول على قرار جماعي ملزم في شأن من شؤون الجماعة الهامة.
ثانيًا: الاستشارة الاختيارية الحرة، أي بطلب الرأي والنصيحة من ذوي التجربة أو الخبرة، وهي اختيارية لمن طلبها، وتسفر عن رأي غير ملزم. وتقدم (المشورة) تلقائيًا دون طلبها في صورة نصيحة، ويكون الرأي استشاريًا من باب أولى، لأن القرار لا يصدر من المستشار أو الناصح، بل يصدره المستشير بكل حرية باختياره بناءً على المشورة المقدمة له إذا اقتنع بها، أو بغيرها إذا لم يقتنع.
ثالثاً: طلب الفتوى الفقهية، وهي نوع من الاستشارة في أحكام الفقه، وهي مشورة اختيارية(45).
وهكذا فإن الشورى تصير واجبة وملزمة في الشأن العام للأمة لا سيما إذا جرى التعاقد عليها دستوريًا وقانونيًا.. أما الشورى (المعلمة) في مقابل الشورى (الملزمة) فهي استشارة اختيارية حرة لذوي التجربة والخبرة في الشؤون الخاصة، علاوة على الشورى الناشئة من طلب الفتيا، وهي أيضًا ضرب من الاستشارة الاختيارية.
تجربة الشورى النبوية في الشؤون العسكرية والاجتهادية
1 ـ في المجال العسكري:
وفي هذا المبحث خصصنا الشورى النبوية في الشؤون العسكرية والاجتهادية بمعالجة أوفى للدلالة على اطلاقية الشورى، وبخاصة فيما لم يرد به وحي أو دلالة قطعية من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وهي ملزمة للحاكم أو القائد من وجهين:
* فتح بابها لاستجماع الرأي.
* والأخذ بمحصلتها لدى إعمال الرأي.
وتمتد قيمة الشورى على سائر ضروب النشاط الإنساني، ومنها في السيرة النبوية الشورى في النهوض بأمانة الجهاد التي هي من أكبر مسؤوليات المجتمع والدولة في الفقه الإسلامي.
ومما ينبغي أن يعلم ليُحتذى ويُتأسى به أمر الشورى في الهدي النبوي في مجال الجهاد في سبيل الله تعالى نيةً وإعدادًا وتدريبًا ومواجهة، وما يترتب على ذلك.
والناظر في المفردات لا يخطئه أن يرى فيها جملةً وتفصيلاً كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتزم الشورى ابتداءً وانتهاءً، وقد ساق أحد الفقهاء العسكريين نماذج وافرة لهذه الغزوات وما دار أثناءها من شورى نبوية مع أصحابه ومنها أنه صلى الله عليه وسلم :
• شاور في غزوة بدر المهاجرين والأنصار من أجل ضمان مشاركة الأنصار في القتال وذلك قبل نشوب القتال في مسيرة الاقتراب.(/17)
• وشاور الحباب بن المنذر في مقر المعسكر وأخذ برأيه.
• وشاور الصاحبين بشأن الأسرى، وذلك بعد انتهاء الغزوة.
• وشاور في غزوة أحد فكان رأي أكثر المسلمين خاصة الشباب الخروج إلى أحد لا البقاء في المدينة لصدهم عنها.
• وفي حمراء الأسد أشار الصاحبان بالخروج إليها فأخذ برأيهما.
• وشاور سلمان الفارسي وأخذ برأيه في حفر الخندق.
• وفي أثناء القتال شاور سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ومسعودًا وأخذ برأيهم في عدم إعطاء ثمار المدينة غطفان.
• وفي الحديبية قبل التحرك إليها من المدينة أشار بعضهم بالتسلح الكامل بأسلحة الراكب وأحرم المسلمون لإثبات نيتهم السليمة.
• وفي غسان أشار ذوو الرأي من المسلمين بالقتال دفاعًا عن عن النفس وأخذ بمشورتهم.
• ولما تذمّر بعض ذوي الرأي من المفاوضات أخذ برأي أكثريتهم ممن أقروا النبي صلى الله عليه وسلم في نياته السليمة.
• وفي خيبر أخذ بشورى الحباب بن المنذر أثناء القتال بتبديل معسكر المسلمين.
• ثم كان من شورى الحباب أيضًا قطع النخل ثم أشار أبو بكر بالتوقف عن قطع النخل فعمل بمشورته.
• وفي غزوة حنين بعد نهاية الغزوة شاور في التنازل عن السبي وابتدأ بنفسه واقتدى به أهل السبق أما المسلمون من حديثي العهد (فإنه مع رضاهم) عوضهم بما ارضاهم.
• وفي غزوة الطائف أشار الحباب بن المنذر باختيار مكان أكثر أمنًا من المعسكر الأول فأخذ برأيه.
• وفي أثناء القتال أشار سلمان بنصب المنجنيق ورمي حصن الطائف به فأخذ بمشورته.
• ولما حرص بعض المسلمين على الاستمرار في القتال وافقهم على ما أرادوا حتى رأوا أن ينسحبوا مستبشرين.
• وفي غزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة لما وصلوها شاور في التقدم شمالاً فأشار عمر بعدم التقدم فوافقه.
• وفي العودة منها أذن للمجاهدين أن ينحروا ركابهم ليطعموا منها فأشار عمر بجمع ما عند المجاهدين كلهم من أرزاق وتوزيعها فأقر مشورته.
2ـ الشورى في المسائل الاجتهادية:
تعد الفتوى والاجتهاد الشرعي والفقهي بابًا من أبواب الشورى، وبخاصة الاجتهاد الجماعي، وقد ذكر أبو داود في سننه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبعث معاذًا إلى اليمن قال: كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟
قال: أقضي بكتاب الله.
قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟
قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في كتاب الله؟
قال: أجتهد رأيي ولا آلو.
فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله(46).
قال ابن القيم معلقًا على هذا الحديث: (فهذا حديث وإن كان من غير مسمين فهم أصحاب معاذ فلا يضر ذلك، لأنه يدل على شهرة الحديث وأن الذي حدث به الحارث بن عمر عن جماعة من أصحاب معاذ لا واحد منهم، وهذا أبلغ في الشهرة من أن يكون عن واحد منهم ولو سمي، كيف وشهرة أصحاب معاذ بالعلم والدين والفضل والصدق بالمحل الذي لا يخفى ولا يعرف في أصحابه من هو كذاب ولا مجروح، بل أصحابه من أفاضل المسلمين وخيارهم ولا يشك أهل العلم بالنقل في ذلك).
ويقول الإمام الجويني: (إنّ أصحاب المصطفى صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم استقصوا النظر في الواقع والفتاوى والأقضية فكانوا يعرضونها على كتاب الله تعالى فإن لم يجدوا فيها متعلقًا راجعوا سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم ، فإن لم يجدوا فيها شفاء اشتوروا واجتهدوا. وعلى ذلك درجوا في تمادي دهرهم إلى انقضاء عصرهم ثمّ استنّ بسنتهم من بعدهم)(47).
ويقول ابن قيم الجوزية: (عن ابن اسحق بن راهويه عن سفيان بن عيينة: اجتهاد الرأي هو مشاورة أهل العلم، لا أن يقول هو برأيه)(48).
ثم إن كل مسألة خاضعة للاجتهاد فإنّ تداول الرأي فيها بين أهل العلم والخبرة يعد من قبيل الشورى، وهل الشورى إلا ممارسة الاجتهاد الجماعي؟.
وفي المسائل الفقهية والأحكام الشرعية إنّما يُسأل أهل العلم بالنصوص الشرعية والفقه فيها.
وفي موطأ الإمام مالك عن ميراث الجدة أنها جاءت إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها، فقال لها أبو بكر: ما لك في كتاب الله شيء وما علمت لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا فارجعي حتى اسأل الناس. فسأل الناس، فقال المغيرة ابن شعبة حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس. فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة الأنصاري فقال مثل ما قال المغيرة فأنفذه لها أبو بكر الصديق(49).
الاجتهاد الجماعي:
وفي ذلك قام الاجتهاد في الفقه الإسلامي على مشاورة أهل البصر والفقه في الدين من لدن عهد الصحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان في الأجيال المتصلة وهكذا كان الأئمة فيما بينهم وفيما بين كل إمام وتلاميذه، بل إن ظهور المذاهب الفقهية كان مجالاً رحبًا للمشاورة العلمية ومناقشة الأدلة وتقعيد القواعد الفقهية.(/18)
[1] وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها، فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى غيره اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ورأى أبو بكر قتال من منع الزكاة، فقال عمر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله فإذا قالوا: لا إله إلا الله؛ عصموا مني دماءهم ,أموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله؟ فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تابعه بعد عمر فلم يلتفت أبو بكر إلى مشورة، إذ كان عنده حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة وأرادوا تبديل الدين وأحكامه وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (من بدل دينه فاقتلوه)(50).
[2] وكان القراء أصحاب مشورة عمر كهولاً كانوا أو شبابًا، وكان وقّافًا عند كتاب الله عز وجل.
وقال ابن خويز منداد: واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون، وما أشكل عليهم من أمور الدين، ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح، ووجوه الكتاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها. وكان يقال ما ندم من استشار. وكان يقال: من أعجب برأيه ضل.
ويقول الأستاذ/ مصطفى الزرقاء: (وهذه الشورى هي الطريقة التي كان يلجأ إليها الفقهاء الراشدون في المشكلات العلمية والسياسية كلما مر بهم أمر).
ويمضي في تأصيل ذلك فيقول: (ولا ريب أن هذا الرأي العلمي الذي يصدر عن الشورى المجتمعة والتمحيص والتحقيق المشترك يكون أضمن للصواب والمصلحة من الآراء الفقهية الفردية. وقد أخذ الاجتهاد المالكي بمبدأ هذه الشورى العلمية بين علماء كل زمن في تعديل الأحكام الفقهية عندما يتبدل فيها عرف الناس ومقاصدهم العلمية).
ثم يدعو الشيخ إلى استمرار هذا الاجتهاد الجماعي فيقول: (وهذا هو اجتهاد الجماعة الذي نرى أنه لا يسوغ انقطاعه)(51).
ومن هنا كان الاجتهاد الجماعي، والاختيارات الفقهية من أهل الاختصاص في استخراج الأحكام من مصادرها الشرعية مع بصر واسع بمعارف عصرهم، وأهل عصرنا اليوم وهم يواجهون مشكلات جديدة في طريق العودة إلى الله تعالى وتجديد أمر الدين يحتاجون إلى مجامع علمية لتحقيق الاجتهاد الجماعي، ووصل ما أمر الله به أن يوصل في شؤون الحياة كلها طاعة وعبادة في الأصول والمناهج والشئون الدستورية والقانونية، والمجتمع والثقافة، والمالية والاقتصادية والعلوم التطبيقية، وذلك من أجل أن يكون الدين كله لله على هدي كتاب الله تعالى ومنهاج النبوة.
ويمكن أن يجري تنسيق وتنظيم لهذه الممارسة الجماعية بالاجتهاد، في مجامع أو مجالس لها اختصاصاتها وفق المناشط العامة للدولة والمجتمع.
وقد صار تنظيم الاجتهاد الجماعي في عصرنا هذا ضروريًا، وذلك بتأسيس مجالس ومجامع فقهية للشورى وتبادل الرأي والنظر في المسائل والقضايا المستحدثة رجاء تحقيق الاجتهاد الجماعي.
الشورى عند الخلفاء الراشدين
أما المرجعية الثالثة لمشروعية الشورى، بعد الأمر القرآني، والتوجيه النبوي، فهي سنة من سنن الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم في إتباعهم لكتاب الله وسنة نبيه، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
وهذه هي وجوه من سنتهم في إتباع الأمر بالمعروف:
• قال البخاري: (... وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى غيره إقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم )(52).
• عن القاسم أنّ أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان إذا نزل به أمر يريد فيه مشورة أهل الرأي وأهل الفقه، دعا رجالاً من المهاجرين والأنصار، ودعا عمر، وعثمان، وعليًّا، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاذ بن جبل، وأُبي بن كعب، وزيد بن ثابت رضي الله عنه فمضى أبو بكر على ذلك، وولى عمر فكان يدعو هؤلاء النفر، وكانت الفتوى تصير وهو خليفة إلى عثمان وزيد(53).(/19)
• عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (لما قبض النبي صلى الله عليه وسلم اشرأب النفاق بالمدينة، وارتدّ العرب وارتدت العجم وأبرقت وتواعدوا نهاوند وقالوا: قد مات هذا الرجل الذي كانت العرب تنصر به، فجمع أبو بكر رضي الله عنه المهاجرين والأنصار وقال: إنّ العرب قد جمعوا شاتهم وبعيرهم ورجعوا عن دينهم، وإنّ هذه العجم قد تواعدوا نهاوند ليجمعوا لقتالكم، وزعموا أنّ هذا الرجل الذي كنتم تنصرون به قد مات، فأشيروا عليّ، فما أنا إلا رجل منكم وإني أثقلكم حملاً لهذه البلية، فأطرقوا طويلاً، ثمّ تكلّم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: أرى – والله – يا خليفة رسول الله أن تقبل من العرب الصلاة وتدع لهم الزكاة، فإنهم حديثو عهد بجاهلية لم يعهدهم الإسلام، فإمّا أن يردهم الله تعالى إلى خير، وإمّا أن يعزّ الله الإسلام لنقوى على قتالهم، فما لبقية المهاجرين والأنصار يدان للعرب والعجم قاطبة، فالتفت إلى عثمان رضي الله عنه فقال مثل ذلك؛ وقال علي رضي الله عنه مثل ذلك؛ وتابعهم المهاجرون، ثم التفت إلى الأنصار فتابعوهم، فلما رأي ذلك صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد! فإنّ الله بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم والحق قلّ شريد والإسلام غريب طريد، قد رث حبله، وقل أهله، فجمعهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وجعلهم الأمة الباقية الوسطى، والله! لا أبرح أقوم بأمر الله وأجاهد في سبيل الله حتى ينجز الله لنا ويفي لنا بعهده، فيقتل من قتل منا شهيدًا في الجنة، ويبقى من بقي منا خليفة الله في أرضه ووارث عباده الحق؛ فإن الله تعالى قال وليس لقوله خلف: (وَعَد اللهُ الْذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالحَِاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم ِفي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِم)(54)، والله! لو منعوني عقالاً مما كنوا يعطون رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أقبل معهم الشجر والمدر والجن والإنس لجاهدتهم حتى تلحق روحي بالله؛ إن الله لم يفرّق بين الصلاة والزكاة ثم جمعهما؛ فكبّر عمر وقال: والله قد علمت حين عزم أبو بكر على قتالهم أنّه الحق(55). وفي هذا المثل جمع الخليفة الراشد أهل العلم من مستشاريه وعمل على إقناعهم بما ساق من الأدلة فتركوا رأيهم اقتناعًا واتباعًا لمّا رأوا أنه الحق.
• عن أشهب إن عثمان كان إذا جلس أحضر أربعة من الصحابة ثم استشارهم فإذا رأوا ما رآه أمضاه(56).
وهكذا سار الخلفاء الراشدون سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في ممارسة الشورى وفي الحض عليها والعمل بها.
الشورى في فقه الأحكام السلطانية والسياسة الشرعية
وهي الشورى في الشئون السياسية، بدْءً باختيار الحاكم وبيعته وانتهاءً إلى ممارسته هو وأعوانه لمبدأ الشورى. وفيما يلي وجوه الممارسة الشورية في الشورى في فقه الأحكام السلطانية والسياسة الشرعية.
[أ] واختلف أهل التأويل في المعني الذي أمر الله نبيه عليه السلام أن يشاور فيه أصحابه، فقالت طائفة: ذلك في مكائد الحروب، وعند لقاء العدو، وتطييبًا لنفوسهم، ورفعًا لأقدارهم، وتأليفًا على دينهم، وأن الله تعالى قد أغناه عن رأيهم بوحيه. وروى هذا عن قتادة والربيع وابن إسحاق والشافعي. قال الشافعي: هو كفوله: (والبِكرُ تُستَامَرُ)(57) تطييبًا لقلبها، لأنه واجب. فأمر الله تعالى نبيه عليه السلام أن يشاورهم في الأمر، فإن ذلك أعطف لهم وأهب لأضغانهم، وأطيب لنفوسهم فإذا شاورهم عرفوا إكرامه لهم.
[ب] وقال آخرون: ذلك فيما لم يأته من وحي. وروى ذلك عن الحسن البصري والضحاك قالا: ما أمر الله تعالى نبيه بالمشاورة لحاجة منه إلى رأيهم وإنما أراد أن يعلمهم ما في المشاورة من الفضل، ولتقتدي به أمته من بعده.
ولقد أحسن القائل:
شاور صديقك في الحفي المشكل واقبل نصيحة ناصح متفضل
فالله قد أوصى بذلك نبيه في قوله شاورهم وتوكل
[ج] وقال العلماء في صفة المستشار: "وصفة المستشار إن كان في الأحكام أن يكون عالمًا دينا. وقلّ ما يكون ذلك إلا في عاقل". قال الحسن: "ما كمل دين امرئٍ ما لم يكمل عقله". فإذا استشير من هذه صفته واجتهد في الصلاح وبذل جهده فوقعت الإشارة خطأ فلا غرامة عليه، قاله الخطابي وغيره. قال سفيان الثوري: ليكن أهل مشورتك أهل التقوى والأمانة، ومن يخشى الله تعالى.
[د] وصفة المستشار في أمور الدنيا أن يكون عاقلاً مجربًا ودًّا لدى المستشير.
وإن باب أمر عليك التوى فشاور لبيبًا ولا تعصه
وعندهم المستشار: العليم الذي يؤخذ برأيه في أمر هام علمي، أو فني، أو سياسي، أو قضائي أو نحوه(58).
والشورى بركة وهي مظنة الوصول إلى وجه الحق. وقال عليه السلام: (ما ندم من استشار ولا خاب من استخار)(59).
وروى سهل بن سعد الساعدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ما شقي قط عبد بمشورة وما سعد باستغناء رأي).(/20)
ولجلال الشورى جعلت منهجًا للخلافة، وقد جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخلافة – وهي أعظم النوازل – شورى. قال البخاري: (.. وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى غيره اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم )(60).
[هـ] وقال الحسن: والله ما تشاور قوم بينهم إلا هداهم لأفضل ما يحضرهم.
[و] والشورى مؤدية للعزم في الأمور وإمضائها. والشورى مبنية على اختلاف الآراء، والمستشير ينظر في تلك الآراء، وينظر أقربها قولاً إلى الكتاب والسنة إن أمكنه، فإذا أرشده الله تعالى إلى ما شاء منه عزم عليه وأنفذه متوكلاً عليه، إذ هذه غاية الاجتهاد المطلوب، وبهذا أمر الله تعالى نبيه عليه السلام إذا عزم على أمر أن يمضي فيه ويتوكل على الله، لا على مشاورتهم. والعزم هو الأمر المروى المنقح. وليس ركوب الرأي دون روية عزمًا، إلا على مقطع المشيحين من فتاك العرب، كما قال:
إذا همّ ألقى بين عينيه عزمه ونكب عن ذكر العواقب جانبا
ولم يستشر في رأيه غير نفسه ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا
وهكذا فإنّ الشورى في الأحكام السلطانية، تبدأ بالبيعة وتستمر في إدارة شؤون الدولة، وفي الرقابة والمحاسبة على أداء الحكام .. فهي لا تزال السياسة الشرعية أبدًا، غير أنها تجري ممارستها بأحكامها وآدابها.
----------
(1) سنن أبي داود برقم 806، كتاب الصلاة، باب الإشارة في الصلاة.
(2) الراغب الأصفهاني: المفردات في غريب القرآن، 272
(3) انظر: ابن منظور: لسان العرب: مادة شور، والفيروز آبادي: القاموس المحيط: مادة شورة، وبصائر ذوي التمييز 3/260 وما بعدها
(4) ابن فارس: معجم مقاييس اللغة 3/266ـ 267.
(5) د. محمد سعيد رمضان البوطي: الشورى في الإسلام ، المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية، عمان 1989م، 2/483
(6) سورة آل عمران، الآية (159).
(7) الإمام النووي في شرح صحيح مسلم 4/76.
(8) راجع فتح الباري كتاب المغازي حديث رقم 3952
(9) سورة الشورى، الآية (38).
(10) انظر: الجصاص: أحكام القرآن.
(11) الرازي: التفسير الكبير، 9/67.
(12) الدارمي 2/173، وقال في مجمع الزوائد 6/112: "رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح"، وانظر: البيهقي في السنن الكبرى، 7/40.
(13) البيهقي في السنن الكبرى ، 7/40.
(14) أخرجه البخاري في الشروط برقم 2529.
(15) سورة الشورى، الآية (38).
(16) الرازي: التفسير الكبير 9/67.
(17) سورة آل عمران: الآية (159)
(18) انظر: القاسمي: محاسن التأويل، 4/276.
(19) سورة الملك: الآية (14).
(20) سورة التوبة: الآية (128).
(21) سورة الأنبياء: الآية (107).
(22) سورة التوبة: الآية (128).
(23) أخرجه الدارمي في سننه برقم 15، في المقدمة، باب كيف كان أول شأن النبي صلى الله عليه وسلم
(24) ابن عاشور: المصدر نفسه 3/144، 145.
(25) سورة آل عمران: الآية (165).
(26) أخرجه الإمام أحمد في مسند الأنصار برقم 23460.
(27) أخرجه الترمزي في سننه برقم 1636، كتاب الجهاد، باب ما جاء في المشورة.
(28) انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري.
(29) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان بسند صحيح .. الألوسي: روح المعاني 4/94.
(30) انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري.
(31) المحرر الوجيز لابن عطية، تفسير آية: (وشاورهم في الأمر) آل عمران: (159).
(32) سورة آل عمران: الآية (159).
(33) أخرجه الترمزي في سننه برقم 1636، كتاب الجهاد، باب ما جاء في المشورة.
(34) ابن تيمية: السياسة الشرعية، 126.
(35) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قوله تعالى: (وأمرهم شورى بينهم) الشورى: (38).
(36) أخرجه البخاري برقم 569، كتاب الآذان، باب بدء الآذان، وأحمد في المسند، وانظر: الفتح الرباني، 2/13.
(37) أخرجه البخاري برقم 2529، كتاب الشروط باب شروط الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتاب الشروط، 2/82.
(38) أخرجه الإمام أحمد في مسند الكوفيين برقم 18152.
(39) انظر: الأحكام: 1/340.
(40) محمد سعيد رمضان البوطي: خصائص الشورى في الإسلام، 2/481.
(41) سورة المائدة: الآية (2).
(42) سورة العصر: الآيات (1-3).
(43) سورة هود: الآيات (118-119).
(44) انظر: د. توفيق الشاوي: فقه الشورى والاستشارة، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع،الطبعة الثانية، 1994م، 303 – 315.
(45) د. توفيق الشاوي، الشورى والاستشارة، 116.
(46) أخرجه أبو داود في الأقضية، برقم 3119.
(47) الإمام الجويني: القياثي، غياث الأمم في التباث الظلم، تحقيق د. عبد العظيم، ط قطر 1400هـ، الشؤون الدينية، الفقرة رقم 463 صفحة 431.
(48) أعلام الموقعين: ابن قيم الجوزية، 1/73.
(49) موطأ الإمام مالك في الفرائض، برقم 953.
(50) أخرجه البخاري في صحيحه برقم 6411، كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم.(/21)
(51) مصطفى الزرقاء: المدخل الفقهي العام، 1/192 – 194.
(52) صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول الله تعالى: (وأمرهم شورى بينهم) الشورى: (38).
(53) أخرجه ابن سعد: الطبقات الكبرى، 2/350.
(54) سورة النور، الآية (55).
(55) كنز العمال، 3/142.
(56) حاشية الدسوقي: على الدرديري، 4/123.
(57) طرف حديث أخرجه مسلم في النكاح رقم 2546.
(58) المعجم الوسيط: مادة شور.
(59) ابن كثير: البداية والنهاية، 1/443. ورواه السيوطي في "الجامع الصغير" باب ما، بصيغة أخرى، عن الطبراني في "الأوسط" بالصيغة الآتية تحت رقم 7895: (ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار، ولا عال من اقتصد). انظر: الجامع الصغير: 5/442.
(60) صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول الله تعالى (وأمرهم شورى بينهم) الشورى: الآية (38).(/22)
محاضرة : يا سامعا لكل شكوى
فضيلة الشيخ : إبراهيم الدويّش
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي يُطعم ولا يطعم، منّ علينا فهدانا وأطعمنا وسقانا وكل بلاء حسن أبلانا.
الحمد لله الذي أطعم من الطعام، وسقى من الشراب، وكسا من العري، وهدى من الضلالة، وبصّر من العمى، وفضل على كثير ممن خلق تفضيلا.
الحمد لله رب العالمين، اللهم صلي وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها الأحبة في الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
يا سامعا لكل شكوى.
يا خالق الأكوان أنت المرتجى...... وإليك وحدك ترتقي صلواتي
يا خالقي ماذا أقول وأنت تعلمني وتعلم حاجتي وشكاتي
يا خالقي ماذا أقول وأنت........... مطلع على شكواي والأناتي
اللهم يا موضع كل شكوى، ويا سمع كل نجوى، ويا شاهد كل بلوى، يا عالم كل خفية، و يا كاشف كل بلية، يا من يملك حوائج السائلين، ويعلم ضمائر الصامتين ندعوك دعاء من أشدت فاقته، وضعفت قوته، وقلت حيلته دعاء الغرباء المضطرين الذين لا يجدون لكشف ما هم فيه إلا أنت.
يا أرحم الراحمين أكشف ما بنا وبالمسلمين من ضعف وفتور وذل وهوان.
يا سامعا لكل شكوى أعن المساكين والمستضعفين وأرحم النساء الثكالى والأطفال اليتامى وذي الشيبة الكبير، إنك على كل شيء قدير.
معاشر الأخوة والأخوات:
إن في تقلب الدهر عجائب، وفي تغير الأحوال مواعظ، توالت العقبات، وتكاثرت النكبات، وطغت الماديات على كثير من الخلق فتنكروا لربهم ووهنت صلتهم به.
اعتمدوا على الأسباب المادية البحتة، فسادة موجات القلق والاضطراب، والضعف والهوان، وعم الهلع والخوف من المستقبل، خافوا على المستقبل، تخلوا عن ربهم فتخلى الله عنهم:
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ).
جميعُ الخلق مفتقرون إلى الله، مفتقرون إلى الله في كل شؤونِهم وأحوالِهم، وفي كلِ كبيرةٍ وصغيره، وفي هذا العصرُ تعلقَ الناسُ بالناسِ، وشكا الناسُ إلى الناس، ولا بئسَ أن يُستعانُ بالناس في ما يقدرون عليه، لكن أن يكونَ المُعتمَدُ عليهم، والسؤال إليهم، والتعلقُ بهم فهذا هو الهلاكُ بعينه، فإن من تعلق بشيٍ وكلَ إليه.
نعتمدُ على أنفسِنا وذكائِنا بكل غرورٍ وعجب وصلف، أما أن نسأل اللهَ العونَ والتوفيق، ونلحَ عليه بالدعاء، ونحرِصِ على دوام الصلة باللهِ في كلِ الأشياء، وفي الشدةِ والرخاء، فهذا أخرُ ما يفكرُ به بعض الناس.
فقيراً جئتُ بابك يا إلهي.........ولستُ إلى عبادك بالفقيرِ
غنياً عنهمُ بيقينِ قلبي...........وأطمعُ منك في لفضلِ الكبيرِ
الهي ما سألتُ سواك عونا......فحسبي العونُ من ربٍ قديرِ
الهي ما سألتُ سواك عفوا.....فحسبي العفوُ من ربٍ غفورِ
الهي ما سألتُ سواك هديا.....فحسبي الهديُ من ربٍ بصيرِ
إذا لم أستعن بك يا الهي......فمن عونيِ سواك ومن مجيرِ
إن الفرار إلى الله، واللجوء إليه في كلِ حالٍ وفي كل كربٍ وهم، هو السبيلُ للتخلصَ من ضعفنا وفتورنا وذلنا و هواننا.
إن في هذه الدنيا مصائبَ ورزايا، ومحناً وبلايا، آلامُ تضيقُ بها النفوس، ومزعجاتُ تورث الخوفَ والجزع، كم في الدنيا من عينٍ باكيةٍ ؟
وكم فيها من قلب حزين؟
وكم فيها من الضعفاءِ والمعدومين، قلوبُهم تشتعل، ودموعُهم تسيل ؟
هذا يشكُ علةً وسقما.
وذاك حاجةً وفقرا.
وآخر هماً وقلقا.
عزيزٌ قد ذل، وغنيٌ افتقر، وصحيحٌ مرض، رجل يتبرم من زوجه وولده، وآخرُ يشكُ ويئنُ من ظلمِ سيده.
وثالثٌ كسدة وبارت تجارته، شاب أو فتاة يبحث عن عروس، وطالب يشكو كثرة الامتحانات والدروس.
هذا مسحور وذاك مدين ،وأخر ابتليَ بالإدمان والتدخين، ورابعُ أصابه الخوفُ ووسوسةُ الشياطين.
تلك هي الدنيا، تضحكُ وتبكي، وتجمعُ وتشتت، شدةُ ورخاءُ وسراءٌ وضراءُ.
وصدق الله العظيم: (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ).
أيها الأخوة، السؤال الذي يجب أن يكون، هؤلاء إلى من يشكون، و أيديَهم إلى من يمدون؟
يجيبك واقعُ الحال على بشرٍ مثلُهم يترددون، وللعبيدِ يتملقون، يسألون ويلحون وفي المديح والثناء يتقلبون، وربما على السحرة والكهنة يتهافتون.
نعم والله تألمنا شكاوي المستضعفين، وزفراتُ المساكين، وصرخاتُ المنكوبين، وتدمعُ أعُينَنا - يعلم الله- لأهات المتوجعين، وأناتُ المظلومين، وانكسارِ الملذوعين، لكن أليس إلى اللهِ وحدَه المشتكى ؟
أين الإيمان بالله ؟ أين التوكلُ على الله ؟ أين الثقةُ و اليقينُ بالله ؟
وإذا عرتك بليةًُ فأصبر لها.......صبرُ الكريمِ فإنه بك أرحمُ
وإذا شكوتَ إلى ابنِ أدم إنما.....تشكو الرحيمَ إلى الذي لا يرحمُ
ألم نسمع عن أناس كانوا يشكون إلى الله حتى انقطاع سير نعلهم، نعم حتى سير النعل كانوا يسألونه الله، بل كانوا يسألون الله حتى الملح.
يا أصحابَ الحاجات.
أيها المرضى.
أيها المدينون.(/1)
أيها المكروب والمظلوم.
أيها المُعسرُ والمهموم.
أيها الفقيرُ والمحروم.
يا من يبحث عن السعادة الزوجية.
يا من يشكو العقم ويبحث عن الذرية.
يا من يريد التوفيق بالدراسة والوظيفة.
يا من يهتم لأمر المسلمين.
يا كلُ محتاج، يا من ضاقت عليه الأرضُ بما رحبت.
لماذا لا نشكوُ إلى اللهِ أمرنا وهو القائل: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ).
لماذا لا نرفعُ أكفَ الضراعة إلى الله وهو القائل: ( فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ).
لماذا ضُعفُ الصلةِ بالله، وقلةُ الاعتمادِ على الله، وهو القائل: ( قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ ). لولا دعاؤكم.
أيها المؤمنون، أيها المسلمون يا أصحابَ الحاجات، ألم نقرأ في القرآنِ قول الحق عز وجل: ( فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ) لماذا ؟ ( لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ).
فأين نحن من الشكوى لله، أين نحن من الإلحاح والتضرعِ الله؟
سبحان الله، ألسنا بحاجةٍ إلى ربنا؟
أنعتمدُ على قوتنا وحولِنا، والله ثم واللهِ لا حول لنا ولا قوةَ إلا بالله.
واللهِ لا شفاء إلا بيد الله، ولا كاشفَ للبلوى إلا الله، لا توفيق ولا فلاح ولا سعادةَ ولا نجاح إلا من الله.
العجيبُ والغريب أيها الأخوةُ أن كلَ مسلمٍ يعلمُ ذلك، ويعترفُ بهذا بل ويقسمُ على هذا، فلماذا إذاً تتعلقُ القلوبُ بالضعفاءُ العاجزين ؟
ولماذا نشكو إلى الناسِ ونلجأَ للمخلوقين ؟
سل الله ربك ما عنده......... ولا تسأل الناس ما عندهم
ولا تبتغي من سواه الغنى..... وكن عبده لا تكن عبدهم
فمن يا إذا بُليت سلاك أحبابك، وهجرك أصحابك.
يا من نزلت بها نازلة، أو حلت به كارثة.
يا من بليت بمصيبةٍ أو بلاءٍ، ارفع يديك إلى السماء وأكثر الدمعَ والبكاء، وألحَ على اللهِ بالدعاء وقل:
يا سامعاً لكلِ شكوى.
إذا استعنت فأستعن بالله، وإذا سألت فأسأل الله، وقل يا سامعاً لكل شكوى.
توكل على الله وحده، وأعلن بصدقٍ أنك عبده واسجد لله بخشوع، وردد بصوتٍ مسموع:
يا سامعاً لكلِ شكوى.
أنت الملاذُ إذا ما أزمةٌ شملت........وأنت ملجأُ من ضاقت بهِ الحيلُ
أنتَ المنادى به في كلِ حادثِةٍ.......أنت الإلهُ وأنت الذخرُ والأملُ
أنت الرجاءُ لمن سُدت مذاهبهُ......أنت الدليلُ لمن ضلت بهِ السبلُ
إنا قصدناك والآمال واقعةٌ.........عليكَ والكلُ ملهوفُ ومبتهلُ
إن الأنبياء والرسلَ، وهم خيرُ الخلق، وأحبُ الناسَ إلى الله، نزل بهم البلاء واشتدَ بهم الكرب، فماذا فعلوا وإلى من لجئوا.
أخي الحبيب، أختصرُ لك الإجابة، إنه التضرعُ والدعاء، والافتقارُ لربِ الأرضِ والسماء، إنها الشكايةُ لله وحُسنُ الصلةِ بالله.
هذا نوحٌ عليه السلام يشكو أمرَه إلى الله ويلجأُ لمولاه:
قال تعالى: (وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ).
كانتِ المناداة، كانتِ المناجاة، فكانتِ الإجابةُ من الرحمن الرحيم.
وقال تعالى: ( وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ).
وقال عز من قائل: (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ).
هذا أيوبُ عليه السلام، ابتلاهُ اللهُ بالمرضِ ثمانيةَ عشر عاماً حتى أن الناسُ ملوا زيارته لطولِ المدة، فلم يبقى معه إلا رجلانِ من إخوانهِ يزورانه، لكنه لم ييئس عليه السلام، بل صبرَ واحتسب، وأثنى الله عليه: ( إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)، أواب أي رجاعٌ منيبٌ إلى ربه، ظل على صلتِه بربِه وثقتِه به، ورضِاهُ بما قُسم الله له، توجه إلى ربه بالشكوى ليرفع عنه الضراء والبلوى قال تعالى:(وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ). فماذا كانتَ النتيجة ؟
قال الحقُ عز وجل ، العليمُ البصيرُ بعباده، الرحمنُ الرحيم قالَ: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ).
هذا يونسُ عليه السلام، رفع الشكاية لله فلم ينادي ولم يناجي إلا الله قال تعالى:
( وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ). فماذا كانتَ النتيجة ؟
(فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ).
وزكريا عليه السلام قال الحق عز وجل عنه: (وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ). ماذا كانت النتيجة ؟(/2)
(فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ). الذين يشكون العقم وقلة الولد.
إذا لماذا استجاب الله دعاه؟
لأنهم كانوا يسارعون في الخيرات، وكانوا لا يملون الدعاء، بل كان القلب متصل متعلق بالله، لذلك قال الله عنهم: (وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ).
خاشعين متذللين، معترفين بالتقصير، فالشكاية تخرج من القلب قبل اللسان.
يعقوبُ عليه السلام قال: (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)، انظروا لليقين، انظروا للمعرفة برب العالمين: (وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)، فاستجاب اللهُ دعائَه وشكواه وردَ عليه يوسفَ وأخاه.
وهذا يوسف عليه السلام ابتلاه الله بكيد النساء، فلجأ إلى الله، وشكى إليه ودعاه فقال:
( وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ)، إنه التضرع والدعاء، والافتقار لرب الأرض والسماء، إنها الشكاية لله، وحسن الصلة بالله.
(فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
وأخبر الله عن نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه فقال تعالى: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ). استغاثة لجاءة إلى الله، شكوى وصلة بالله سبحانه وتعالى.
وهكذا أيها الأحبةِ حينما نستعرضُ حياةَ الرسلِ جميعاً، كما قصها علينا القرآن الكريم، نرى أن الابتلاء والامتحان كان مادتُها وماُئها، وأن الصبرَ وحسنُ الصلةِ بالله ودوام الالتجاءِ وكثرةُ الدعاءِ وحلاوة الشكوى كان قوَمُها.
وما أشرنا إليه إنما هي نماذج من الاستجابة للدعاء، ومن في كتب السير والتفاسير وقف على شدةِ البلاء الذي أصاب الأنبياء، وعلم أن الاستجابةَ جاءت بعد إلحاحٍ ودعاء، واستغاثةٍ ونداء.
إنها آياتُ بينات وبراهينُ واضحات، تقول بل وتعلن أن من توكلَ واعتمد على الله، وأحسن الصلة بمولاه استجاب الله دعاه، وحفظه ورعاه، فإن لم يكن ذلك في الدنيا كان في الآخرة: ( وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ).
أنها صفحاتٌ من الابتلاء والصبر معروضةٌ للبشرية، لتسجل أن لا اعتماد إلا على الله، وان لا فارجَ للهمِ ولا كاشفَ للبلوى إلا الله.
هذا هو طريق الاستعلاء أن تنظرَ إلى السماء، وأن نلحُ بالدعاء، لأن الشكوى إلى الله تشعرك بالقوةِ والسعادة، وأنك تأوي إلى ركنٍ شديد.
أما الشكوى إلى الناس، والنظرِ إلى ما في أيدي الناس فيشعرك بالضعف والذل والإهانةِ والتبعية.
يا أهل التوحيد، أليس هذا أصل من أصول التوحيد ؟
إن من أصول التوحيد أن تتعلق القلوبُ بخالقها في وقت الشدةِ والرخاء والخوفِ والأمن، والمرضِ والصحة، وفي كل حالٍ وزمان.
وما نراه اليومَ من تعلقِ القلوب بالمخلوقين، وبالأسباب وحدها دون اللجأ إلى الله، لهو نذيرُ خطرٍ يزعزعُ عقيدةِ التوحيدِ في النفوس.
أيها الأحبة: إن الشكوى لله، والتضرعَ إلى الله، وإظهارَ الحاجة إليه، ولاعتراف بالافتقار إليه من أعظمِ عرى الإيمانِ وثوابتِ التوحيد، وبرهانُ ذلك الدعاء والإلحاح بالسؤال، والثقةُ واليقينُ بالله في كلِ حال.
ولقد زخرت كتبُ السنةِ بأنواعٍ من الدعاءِ تجعلُ المسلمَ على صلةٍ بربه، وفي حرزٍ من عدوه، يقضي أمره ويكفي همه.
في كلِ مناسبةٍ دعا، في اليقظةِ والمنام، والحركة والسكون، قياماً وقعودا، وعلى الجنوب، ابتهالٌ وتضرعٌ في كل ما أهم العبد، وهل إلى غيرِ الله مفر، أم هل إلى غيره ملاذ.
ففي المرض مثلا الأحاديث كثيرة، والأدعية مستفيضة، إليك على سبيل المثال ما أحرجه البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها:
أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه المعوذات، وينفث، فلما أشتد وجعه كنت اقرأ عليه وأمسح عليه رجاء بركتها.
وأخرج البخاري ومسلم أيضا من حديث عائشة قالت:
كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا اشتكى منا إنسان مسحه بيمينه ثم قال: أذهب البأس رب الناس، وأشفي أنت الشافي لا شفاء إلا شفائك، شفاء لا يغادر سقما، أي لا يترك سقما.
وفي صحيح مسلم عن عثمان أبن أبي العاص رضي الله تعالى عنه:
أنه شكى إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وجعا يجده في جسده منذ أسلم، فقال له (صلى الله عليه وآله وسلم): ضع يدك على الذي تألم من جسدك.
انظروا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قدوتنا وحبيبنا يربي الناس، ويربي أصحابه على الاعتماد واللجاءة إلى الله، ضع يدك، الإرشاد أولا لله، التعلق أولا بالله، لم يرشده أولا لطبيب حاذق ولا بأس بهذا، لكن التعلق بالله يأتي أولا.(/3)
ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل بسم الله، بسم الله ثم يقول سبعا أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر.
وفي رواية أمسحه بيمينك سبع مرات، وفي رواية قال عثمان فقلت ذلك فأذهب الله ما كان بي، فلم أزل آمر بها أهلي وغيرهم.
سبحان الله، اسمعوا لحسن الصلة بالله، والتوكل على الله، فلم أزل آمر بها أهلي وغيرهم.
أيها المريض، أعلم أن من أعظم أسباب الشفاء التداوي بالرقى الشرعية من القرآن والأدعية النبوية، ولها أثر عجيب في شفاء المريض وزوال علته، لكنها تريد قلبا صادقا وذلا وخضوعا لله.
رددها أنت بلسانك، فرقيتك لنفسك أفضل وأنجح، فأنت المريض وأنت صاحب الحاجة، وأنت المضطر، وليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة، وما حك جلدك مثل ظفرك، فتوكل على الله بصدق وألح عليه بدون ملل، وأظهر ضعفك وعجزك، وحالك وفقرك إليه، وستجد النتيجة العجيبة إن شاء الله ثقة بالله.
فإلى كل مريض مهما كان مرضه أقول:
شفاك الله وعافاك، اعلم أن الأمراض من جملة ما يبتلي الله به عباده، والله عز وجل لا يقضي شيئا إلا وفيه الخير والرحمة لعباده، وربما كان مرضك لحكمة خفيت عليك، أو خفيت على عقلك البشري الضعيف، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم.
أيها الحبيب شفاك الله، هل علمت أن للأمراض والأسقام فوائد وحكم أشار أبن القيم إلى أنه أحصاها فزادت على مائة فائدة (انظر كتاب شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل صفحة 525).
أيها المسلم أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك وأن يعافيك، هل سمعت قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه، إلا حط الله به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها.
وهل سمعت أنها (صلى الله عليه وآله وسلم): زار أم العلاء وهي مريضة فقال الله ابشري يا أم العلاء فإن مرض المسلم يذهب الله به خطاياه كما تذهب النار خبث الذهب والفضة.
قال أبن عبد البر رحمه الله: الذنوب تكفرها المصائب والآلام، والأمراض والأسقام، وهذا أمر مجتمع عليه.
والأحاديث والآثار في هذا مشهورة ليس هذا مقام بسطها، لكن المراد هنا أننا نرى حال بعض الناس إذا مرض فهو يفعل كل الأسباب المادية من ذهاب للأطباء وأخذ للدواء وبذل للأموال وسفر للقريب والبعيد، ولا شك أن هذا مشروع محمود، ولكن الأمر الغريب أن يطرق كل الأبواب وينسى باب مسبب الأسباب، بل ربما لجأ للسحرة والمشعوذين، نعوذ بالله من حال الشرك والمشركين.
ألم يقرأ هذا وأمثاله في القرآن:( وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ).
أيها المريض أعلم أن الشافي هو الله، ولا شفاء إلا شفائه.
أيها المريض، بل يا كل مصاب أيا كانت مصيبته، هل سألت نفسك لماذا ابتلاك الله بهذا المرض، أو بهذه المصيبة ؟ ربما لخير كثير ولحكم لا تعلمها ولكن الله يعلمها،ألم يخطر ببالك أنه أصابك بهذا البلاء ليسمع صوتك وأنت تدعوه، ويرى فقرك وأنت ترجوه، فمن فوائد المصائب استخراج مكنون عبودية الدعاء.
قال أحدهم: سبحان من استخرج الدعاء بالبلاء.
وفي الأثر أن الله ابتلى عبدا صالحا من عباده وقال لملائكته لأسمع صوته.
يعني بالدعاء والإلحاح.
أيها المريض، المرض يريك فقرك وحاجتك إلى الله، وأنه لا غنى لك عنه طرفة عين، فيتعلق قلبك بالله، وتقبل عليه بعد أن كنت غافلا عنه، وصدق من قال:
فربما صحت الأجسام بالعلل.
فأرفع يديك وأسل دمع عينيك، وأظهر فقرك وعجزك، واعترف بذلك وضعفك.
في رواية عن سعيد ابن عنبسة قال: بينما رجل جالس وهو يعبث بالحصى ويحذف به إذ رجعت حصاة منه عليه فصارت في أذنه، فجهدوا بكل حيلة فلم يقدروا على إخراجها، فبقيت الحصاة في أذنه مدة وهي تألمه، فبينما هو ذات يوم جالس إذ سمع قارئ يقرأ: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ).
فقال الرجل: يا رب أنت المجيب وأنا المضطر فأكشف عني ما أنا فيه، فنزلت الحصاة من أذنه في الحال.
لا تعجب، إن ربي لسميع الدعاء، إذا أراد شيئا قال له كن فيكون.
أيها المريض، إياك وسوء الظن بالله إن طال بك المرض، فتعتقد أن الله أراد بك سوء، أو أنه لا يريد معافاتك، أو أنه ظالم لك، فإنك إن ظننت ذلك فإنك على خطر عظيم.
أخرج الإمام أحمد بسند صحيح من حديث أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إن الله تعالى يقول أنا عند ظني عبد بي، إن ظن خيرا فله، وإن ظن شرا فله.
يعني ما كان في ظنه فإني فاعله به، فأحسن الظن بالله تجد خيرا إن شاء الله.
لا تجزعن إذا نالتك موجعة.............. واضرع إلى الله يسرع نحوك الفرج
ثم استعن بجميل الصبر محتسبا............ فصبح يسرك بعد العسر ينسلج
فسوف يدلج عنك الهم مرتحلا........... وإن أقام قليلا سوف يدّلج
هذا في المرض، وأطلت فيه لكثرة المرضى، وحاجة الناس إلى مثل هذه التوجيهات، وهي تحتاج إلى دروس ومحاضرات، ولكن حسبي ما ذكرته الآن لأن الموضوع عام في المصائب والآلام.(/4)
ومن المصائب والآلام التي يحتاج الناس فيها إلى الشكوى إلى الله تراكم الديون وكثرة المعسرين.
كم من مدين عجز عن الوفاء، وكم من معسر يعيش في شقاء، هم في الليل وذل في النهار، أحزان وآلام لا يغمض في منام، ولا يهنأ في طعام، طريد للغرماء، أو مع السجناء، صبية صغار، وبيت للأجار، وزوجة مسكينة لا تدري أتطرق أبواب المحسنين أو تسلك طرق الفاسقين.
هذه رسالة مؤلمة من زوجة إلى زوجها في السجن بسبب الديون جاء فيها:
لم أتمتع معك في حياتنا الزوجية إلا فترة من الزمن حتى غيبوك في غياهب السجون، كم سنة غبت عني لا أدري ماذا فعل الله بك، ولا أدري عنك أحي فترجى أم ميت فتنعى، ليتك ترى حالي وحال أولادك، ليتك ترى حال صغارك، لست أدري هل أخون أمانة الله وأمانتك وأطلب الرزق لهؤلاء بطرق محرمة وأنا في ذمتك وعهدك، أم أطلب الطلاق ويضيع أولادك.. إلى أخر الرسالة من كتاب إلى الدائنين والمدينين.
وأقول أيها الأحبة، تصوروا حال هذا الزوج كيف يكون وهو يقرأ هذه الكلمات، ديون وسجون وهموم وأولاد، ذل وخضوع للناس.
وأسمعوا لهذا الرجل وهو يشكو حاله ويقول: أنا رجل سجين علي مبلغ من المال، وصار لي في السجن أكثر من سنة ونصف، ولا يقبل خصمي كفيلا، وأنا معسر وصاحب عائلة فهل يجوز سجني؟
إلى هؤلاء وأمثالهم أقول: لماذا طرقتم الأبواب كلها ونسيتم باب من يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا خائبتين. وسنده جيد.
قال السري السبطي: كن مثل الصبي إذا اشتهى على أبويه شهوة فلم يمكناه قعد يبكي عليهما، فكن أنت مثله إذا سألت ربك ولم يعطك، فأقعد وأبكي عليه.
ولرب نازلة يضيق بها الفتى............... ذرعا وعند الله منها مخرج
كملت فلما استحكمت حلقاتها.......... فرجت وكان يظنها لا تفرج
ومن الأدعية في قضاء الدين ما أخرجه أبو داوود في سننه من حديث أبي سعيد الخدري قال: دخل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المسجد ذات يوم فرأى فيه رجلا من الأنصار يقال له أبو أمامه، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إن أراك جالسا في المسجد في غير وقت صلاة، قال هموم لزمتني، وديون يا رسول الله. قال (صلى الله عليه وآله وسلم) أفلا أعلمك كلاما إذ قلته أذهب الله همك وقضى عنك دينك، قلت بلى يا رسول الله، قال قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال.
قال ففعلت ذلك فأذهب الله تعالى همي وغمي وقضى عني ديني.
يعلق القلوب بالله صلوات الله وسلامه عليه.
وروى البيهقي في فضائل الأعمال عن حماد ابن سلمة أن عاصما ابن أبي إسحاق شيخ القراء في زمانه قال: أصابتني خصاصة -أ ي حاجة وفاقة - فجئت إلى بعض إخواني فأخبرته بأمري فرأيت في وجهه الكراهة، فخرجت من منزله إلى الصحراء ثم وضعت وجهي على الأرض وقلت يا مسبب الأسباب، يا مفتح الأبواب، يا سمع الأصوات، يا مجيب الدعوات، يا قاضي الحاجات اكفني بحلالك عن حرامك وأغنني بفضل عن من سواك. يلح على الله بهذا الدعاء.
قال فوالله ما رفعت رأسي حتى سمعت وقعت بقربي، فرفعت رأسي فإذا بحدأة طرحت كيسا أحمر فأخذت الكيس فإذا فيه ثمانون دينارا وجوهرا ملفوفا بقطنة، فبعت الجواهر بمال عظيم، وأبقيت الدنانير فاشتريت منها عقارا وحمدت الله تعالى على ذلك.
لا نعجب أيها الأخوة، إن ربي لسميع الدعاء، ومن يتوكل على الله فهو حسبه.
ومن الأدعية عند الهم والقلق ما أخرجه أحمد في المسند من حديث عبد الله ابن مسعود رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن فقال اللهم إني عبدك، ابن عبدك أبن أمتك نصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضائك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي، إلا أذهب الله همه وحزن وأبدله مكانه فرجا، وفي رواية فرحا، قال فقيل يا رسول الله ألا نتعلمها، قال بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها.
أيها الأخوة، إن الإنسان منا ضعيف، ضعيف فكيف إذا اجتمعت عليه الهموم والأحزان، وشواغل الدنيا ومشاكلها فزادته ضعفا، وجعلته فريسة للهم والقلق والتمزق النفسي.
انظروا للعيادات النفسية، وكثرت المراجعين لها، شباب وفتيات في أعمار الزهور، أين هؤلاء من الاعتصام بالله، والاتصال والشكوى للذي قدّر الهموم والغموم وقضى بالمصائب والأحزان.
يتصل به متذللا معترفا بذنبه طارقا بابه مستعينا به مستيقنا بأنه هو القادر على كشفها دون سواه، وما سواه إلا أسباب هو الذي يقدرها ويهيئها للعبد.
إن الله تعالى يقول: ( وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً).(/5)
قال أبن القيم في طريق الهجرتين: فإن الإنسان ضعيف البنية، ضعيف القوة، ضعيف الإرادة ضعيف الصبر والآفات إليه مع هذا الضعف أسرع من السيل في صيب الحدور، فبالاضطرار لابد له من حافظ معين يقويه ويعينه وينصره ويساعده، فإن تخلى عنه هذا المعين فالهلاك أقرب إليه من نفسه.
إذا فلنتعلم هذا الحديث كما أوصى (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن فيه خضوعا وخشوعا لله، فيه اعترافا بالعبودية والذل لله، فيه توسل واستغاثة بجميع أسماء الله ما يُغرف منها وما لا يعرف، ما كتب وما أخفى.
وأبشر أخي الحبيب فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه.
يا صاحب الهم إن الهم منفرج......... أبشر بخير فإن الفارج الله
إذا بليت فثق بالله وأرضى به......... إن الذي يكشف البلوى هو الله
ومن الأدعية عند النوازل والفتن والخوف ما أخرجه أبو داوود والنسائي عن أبي موسى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا خاف قوما قال: اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم.
وكان يقول (صلى الله عليه وآله وسلم) عند لقاء العدو: اللهم أنت عضدي وأنت ناصري، بك أصول وبك أجول وبك أقاتل.
وفي صحيح البخاري من حديث ابن عباس قال: (حسبنا الله ونعم الوكيل) قالها إبراهيم حين القي في النار، وقالها نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حين قال له الناس إن الناس قد جمعوا لكم.
فإذا كان المحيي والمميت والرزاق هو الله، فلماذا التعلق بغير الله؟
لماذا الخوف من الناس و(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك.
أيها المسلم، لا يمكن للقلب أبدا أن يسكن أو يرتاح أو يطمأن لغير الله، فاحفظ الله يحفظك وردد : ( فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).
رأى موسى عليه السلام البحر أمامه والعدو خلفه فقال: (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)، إنها العناية الربانية إذا ركن إليها العبد صادقا مخلصا.
نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في الغار ويرى أقدام أعدائه على باب الغار، ويلتفت إلى صاحبه يقول: ( لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا )، والأعجب من ذلك أنه مطارد مشرد يبشر سراقة بأنه سوف يلبس سواري كسرى، هكذا الإيمان والاعتصام بالله.
كان (صلى) إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، أي إذا نزل به أم أو أصابه غم لجأ إلى الله، فزع إلى الصلاة ليلجأ إلى الله، ويشكو إلى الله، ويناجي مولاه.
إنها الثقة بالله عند الشدائد، فهو يأوي إلى ركن شديد.
فيا من وقعت بشدة أرفع يديك إلى السماء، وألح على الله بالدعاء والله يعصمك من الناس.
وإن كنتَ مظلوماً فأبشر فإن النبيَ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: وأتقِ دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجرا ففجوره على نفسه.
ألا قولوا لشخص قد تقوى............على ضعفي ولم يخشى رقيبه
خبأت له سهاما في الليالي............. وأرجو أن تكون له مصيبة
أيها الأخوة والأخوات، إن من أعظم البلايا وأشد الرزايا ما يصيب المسلمين في كل مكان من غزو واجتياح وتعديات ومظالم وفقر وتجويع حتى أصاب بعض النفوس الضعيفة اليأس والقنوط والإحباط وفقدان الثقة والأمل.
لماذا أيها الأخوة ؟ أليس الأمر لله من قبل ومن بعد، أليس حسبنا الله وكفى بالله حسيبا، أليس الله بقادر، أليس هو الناصر وكفى بالله نصيرا، ألا يعلم الله مكرهم، ألم يقل:
( وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ).
أليس الله بكافي عبده: (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).
ألم يقل: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ).
ألم يقل: (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
معاشر الأخوة اسمعوا وعوا، وأعلموا وأعلنوا، إن مصيبتنا ليست بقوة عدونا، إنما هي بضعف صلتنا بربنا، وضعف ثقتنا وقلة اعتمادنا عليه، لنفتش في أنفسنا عند وقوعنا في الشدائد والمحن، أين الضراعة والشكوى لله، أين اللجاءة والمنجاة لله؟ ليس شيء أفضل عند الله من الدعاء لأن فيه إظهار الفقر والعجز، والتذلل والاعتراف بقوة الله وقدرته وغناه.(/6)
أيها المسلمون، نريد أن تعلم فن الدعاء والتذلل والخضوع والبكاء، لنعترف بالفقر إليه، ولنظهر العجز والضعف بين يديه، أليس لنا في رسول الله قدوة، أليس لنا فيه أسوة، أوذي أشد الأذى، وكذّب أشد التكذيب، أتهم بعرضه وخدشت كرامته، وطرد من بلده، عاشا يتيما وافتقر، ومن شدةِ الجوع ربط على بطنه الحجر، قيل عنه كذابُ وساحر، ومجنونُ وشاعر، توضعُ العراقيلُ في طريقه، وسلى الجزورِ على ظهره، يشجُ رأسُه، وتكسرُ رباعيتُه، يقتلُ عمه، جمعوا عليه الأحزابَ وحاصروه، المشركون والمنافقون واليهود.
يذهبُ إلى الطائفِ يبلغُ دعوتَه فيقابلَ بالتكذيبِ والسبِ والشتمِ، ويطُردَ ويلاحقَ ويرمى بالحجارةِ فماذا فعل -بأبي هوَ وأمي- (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟
أين ذهب، من يسأل، على من يشكو، إلى ذي الجبروتِ والملكوتِ، إلى القوي العزيز، فأعلن (صلى الله عليه وآله وسلم) الشكوى، ورفعَ يديه بالنجوى، دعاء وألحَ وبكاء، وتظلمَ وتألمَ وشكا، لكن اسمع لفنِ الشكوى وإظهار العجزِ والضعفِ والافتقار منه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:
اللهم إليك أشكو ضعفَ قوتي وقلتَ حيلتي وهوانِ على الناس، يا أرحم الراحمين، إلى من تكِلني إلى عدوٍ يتجهمني، أم إلى قريبٍ ملكتَه أمري، إن لم تكن ساخطاً عليَ فلا أُبالي، غير أن عافيتَك أوسعُ لي، أعوذ بنورِ وجهَك الكريم، الذي أضاءت له السماوات، وأشرقت له الظلمات، وصلُحَ عليه أمرُ الدنيا والآخرة، أن تُحلَ عليَ غضبَك أو تُنزلَ علي سخَطَك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حولَ ولا قوة إلا بك. هكذا كان (صلى الله عليه وآله وسلم) ضراعة ونجوى لربه.
أيها الأخوة، لماذا نشكو إلى الناس، ونبث الضعف والهوان والهزيمة النفسية في مجالسنا، وننسى أو نتكاسل عن الشكوى لمن بيده الأمر من قبل ومن بعد:( قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِين َ* قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ).
أليس فينا من بينه وبين الله أسرار؟ أليس فينا أيها الأحبة أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره، أليس فينا من يرفع يديه إلى الله في ظلمة الليل يسجد ويركع، ينتحب ويرفع الشكوى إلى الله.
فلنشكو إلى الله ولنقوي الصلة بالله: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).
ومن الأدعية في المصيبة والكرب والشدة والضيق ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقول عند الكرب: لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض رب العرش الكريم.
وفي رواية كان إذا حزبه أمر قال ذلك، قال النووي في شرح مسلم: هو حديث جليل ينبغي الاعتناء به والإكثار منه عند الكرب والأمور العظيمة، وقال الطبراني كان السلف يدعون به ويسمونه دعاء الكرب.
وأخرج أبو داوود وأحمد عن أبي بكرة رضي الله عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: دعوات المكروب، اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفت عين وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت.
وأخرج الترمذي عن سعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه قال، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): دعوت ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدعو بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له.
لما قالها يونس عليه السلام وهو في بطن الحوت، قال الله عز وجل: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ)، قال ابن كثير في تفسيره: (وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ)، أي إذا كانوا في الشدائد ودعونا منيبين إلينا، ولا سيما إذا دعوا في هذا الدعاء في حال البلاء، فقد جاء الترغيب بها عن سيد الأنبياء.
وأخرج مسلم من حديث أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله إن لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيرا منها، إلا أخلف الله له خيرا منها.
قالت فلما مات أبو سلمة قلت في نفسي أي المسلمين خير من أبي سلمة؟
أو بيت هاجر إلى رسول الله، ثم إني قلتها –أي الدعاء- فأخلف الله لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
إذا فالاسترجاع ملجأ وملاذ لذوي المصائب، ومعناه باختصار: إن لله توحيد وإقرار بالعبودية والملك، وإن إليه راجعون إقرار بأن الله يهلكنا ثم يبعثنا.(/7)
إذا فالأمر كله لله، ولا ملجأ منه إلا إليه، والله عز وجل يقول: ( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ).
إليكم أيها الأحبة أمثلة ومواقف للذين لجئوا إلى حصن الإيمان وسلاح الدعاء، وأدركوا أن المفزع بعد الإيمان هو الدعاء، السلاح الذي يستدفع به البلاء ويرد به شر القضاء.
عن أصبغ ابن زيد قال: مكثت أنا ومن عندي ثلاثا لم نطعم شيئا من الجوع، فخرجت إلي ابنتي الصغيرة وقالت يا أبتي الجوع، تشكو الجوع، قال فأتيت مكان الوضوء – انظروا إلى من اللجاءة، انظروا إلى من يلجئون- فتوضأت وصليت ركعتين، وألهمت دعاء دعوت به وفي آخره: اللهم افتح علي رزقا لا تجعل لأحد علي فيه منة، ولا لك علي فيه في الآخرة تبعة برحمتك يا أرحم الراحمين، ثم انصرفت إلى البيت فإذا بابنتي الكبيرة قامت إلي وقالت: يا أبه جاء رجل يقول أنه عمي بهذه الصرة من الدراهم وبحمال عليه دقيق وحمال عليه من كل شيء في السوق، وقال: أقرءوا أخي السلام وقول له إذا احتجت إلى شيء فأدعو بهذا الدعاء تأتيك حاجتك.
قال أصبغ ابن زيد والله ما كان لي أخو قط، ولا أعرف من كان هذا القائل، ولكن الله على كل شيء قدير.
فقلت للفكر لما صار مضطربا.......وخانني الصبر والتفريط والجلد
دعها سماوية تمشي على قدر........لا تعترضها بأمر منك تنفسد
فحفني بخفي اللطف خالقنا........ نعم الوكيل ونعم العون والمدد
وعن شقيق البلخي قال: كنت في بيتي قاعدا فقال لي أهلي قد ترى ما بهؤلاء الأطفال من الجوع، ولا يحل لك أن تحمل عليهم ما لا طاقة لهم به، قال فتوضأت – نرجع إلى السبب الذي كانوا يدورون حوله رضوان الله عليهم- فتوضأت وكان لي صديق لا يزال يقسم علي بالله إن يكون لي حاجة أعلمه بها ولا أكتمها عنه، فخطر ذكره ببالي، فلما خرجت من المنزل مررت بالمسجد، فذكرت ما روي عن أبي جعفر قال: من عرضت له حاجة إلى مخلوق فليبدأ فيها بالله عز وجل، قال فدخلت المسجد فصليت ركعتين، فلما كنت في التشهد أفرغ علي النوم، فرأيت في منامي أنه قيل: يا شقيق أتدل العباد على الله ثم تنساه، يا شقيق أتدل العباد على الله ثم تنساه، قال فاستيقظت وعلمت أن ذلك تنبيه نبهني فيه ربي، فلم أخرج من المسجد حتى صليت العشاء الآخرة، ثم تركت الذهاب لصاحبي وتوكلت على الله، ثم انصرفت إلى المنزل فوجدت الذي أردت أن اقصد قد حركه الله وأجرى لأهلي على يديه ما أغناهم.
إن ربي لسميع الدعاء، فلا نعجب أيها الأحبة، ومن يتوكل على الله فهو حسبه.
وأسمع لدعا أبن القيم في الفاتحة يقول: ومكثت بمكة مدة يعتريني أدوار لا أجد لها طبيبا ولا دواء، فكنت أعالج نفسي بالفاتحة فأرى لها تأثيرا عجيبا، فكنت أصف ذلك لمن يشتكي ألما، فكان كثير منهم يبرأ سريعا.
وفي حديث أبي سعيد الخدري المتفق عليه لما قرأ على سيد الحي الفاتحة قال: فكأنما نشط من عقال، وهذا يشهد أيضا بفضل الفاتحة.
ومن المواقف الجميلة الطريفة في فضل الدعاء أنه كان لسعيد أبن جبير ديكا، كان يقوم من الليل بصياحه، فلم يصح ليلة من الليالي حتى أصبح، فلم يصلي سعيد قيام الليل تلك الليلة فشق عليه ذلك، فقال ماله قطع الله صوته –يعني الديك-؟
وكان سعيد مجاب الدعوة، فما سمع للديك صوت بعد ذلك الدعاء، فقالت أم سعيد:
يا بني لا تدعو على شيء بعدها.
وذكر أحد الدعاة في بعض رسائله أن رجلا من العباد كان مع أهله في الصحراء في جهة البادية، وكان عابدا قانتا منيبا ذاكرا لله، قال فانقطعت المياه المجاورة لنا وذهبت التمس ماء لأهلي فوجدت أن الغدير قد جف، فعدت إليهم ثم التمسنا الماء يمنة ويسرة فلم نجد ولو قطرة، وأدركنا الظمأ واحتاج أطفالي للماء، فتذكرت رب العزة سبحانه القريب المجيب، فقمت وتيممت واستقبلت القبلة وصليت ركعتين، ثم رفعت يدي وبكيت وسالت دموعي وسألت الله بإلحاح وتذكرت قوله:
(أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ).
قال وما هو والله إلا أن قمت من مقامي وليس في السماء من سحاب ولا غيم، وإذا بسحابة قد توسطت مكاني ومنزلي في الصحراء، واحتكمت على المكان ثم أنزلت ماءها فامتلأت الغدران من حولنا وعن يميننا وعن يسارنا فشربنا واغتسلنا وتوضئنا وحمدنا الله سبحانه وتعالى، ثم ارتحلت قليلا خلف هذا المكان وإذا الجدب والقحط، فعلمت أن الله ساقها لي بدعائي، فحمدت الله عز وجل:
(وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ).(/8)
وذكر أيضا أن رجلا مسلما ذهب إلى إحدى الدول والتجأ بأهله إليها، وطلب بأن تمنحه جنسية، قال فأغلقت في وجهه الأبواب، وحاول هذا الرجل كل المحاولة وستفرغ جهده وعرض الأمر على كل معارفه، فبارت الحيل وسدت السبل، ثم لقي عالما ورعا فشكا إليه الحال، فقال له عليك بالثلث الأخير من الليل فأدعو مولاك، إنه الميسر سبحانه وتعالى، قال هذا الرجل: ووالله فقد تركت الذهاب إلى الناس وطلب الشفاعات، وأخذت أداوم على الثلث الأخير كما أخبرني ذلك العالم، وكنت أهتف لله في السحر وأدعوه، وما هو إلا بعد أيام وتقدمت بمعروض عادي ولم اجعل بيني وبينهم واسطة فذهب هذا الخطاب وما هو إلا أيام وفوجئت وأنا في بيتي أني ادعى وأسلم الجنسية، وكنت في ظروف صعبة.
إن الله سميع مجيب، ولطيف قريب، لكن التقصير منا، لابد أن نلج على الله وندعوه، وابشروا:
(إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ).
وأذكر أن طالبا متميز في دراسته حصل له ظرف في ليلة امتحان إحدى المواد، ولم يستطع أن يذاكر جميع المنهج المقرر للمادة إلا بقدر الثلث، فأهتم لذلك واغتم وضاقت عليه نفسه، ولم يستطع الإفادة من باقي الوقت لاضطراب النفس وطول المنهج.
فما كان منه إلا أن توضأ وصلى ركعتين وألح على الله بأسمائه وصفاته وباسمه الأعظم، يقول الطالب فدخلت قاعة الامتحان ووزعت أوراق الأسئلة، وقبل أن انظر فيها دعوت الله ورددت بعض الأذكار، ثم قلبت الورقة فإذا الأسئلة أكثرها من ذلك الثلث الذي درسته، فبدأت بالإجابة ففتح الله علي فتحا عجيبا لم ك أتصوره، ولكن ربي سميع مجيب.
فإلى كل الطلاب والطالبات أقول:
لماذا غفلتم عن الدعاء والشكوى لله وأنتم تشكون لبعضكم وتزفرون وتتوجعون ؟
لماذا يعتمد الكثير منكم على نفسه وذكائه، بل ربما اعتمد البعض على الغش والاحتيال.
إن النفس مهما بلغت من الكمال والذكاء فإنها ضعيفة وهي عرضة للغفلة والنسيان، نعم لنفعل الأسباب ولنحفظ ولنذاكر ولنجتهد ولكن كلها لا شيء إن لم يعينك الله ويفتح عليك، فلا حول ولا قوة إلا بالله في كل شيء، فهل طلبت العون من الله، توكل على الله، وافعل الأسباب، وارفع يديك إلى السماء وقل:
يا سامعا لكل شكوى، وأظهر ضعفك وفقرك لله وسترى النتائج بأذن الله.
وأنت أيها المدرس والمدرسة، بل ويا كل داعية لماذا نعتمد على أنفسنا الضعيفة في التوجيه والتعليم، هب أننا أعددنا الدرس جيدا وفعلنا كل الأسباب، هل يكفي هذا؟
لعلك تسأل ما بقي؟
أقول هل سألت الله العون والتوفيق عند تحضير الدرس؟
هل سألت الله أن يفتح لك القلوب وأن يبارك في كلماتك وأن ينفع بها؟
هل سألت الله العون والتوفيق وأنت تلقي الدرس؟
هل دعوت لطلابك أن يبارك الله لهم وأن ينفع بهم وأن يصلحهم وأن ييسر عليهم.
هذه بعض الأمثلة والمواقف، وما يعرف ويحكى أكثر وأكثر، ولكننا نريد العمل والتطبيق.
تنبيه مهم:
كثير من الناس إذا وقع بشدة عمد إلى الحرام، كمن يذهب للسحرة والكهان، أو يتعامل بالربا والحرام، فإذا نصح أو ذكّر قال: أنه مضطر، أو كما يقول البعض ليس كمن رجله في النار كمن رجله في الماء.
ولعلي أيها الحبيب أذكرك بآية ربما أنك نسّيتها في خضم المصيبة والشدة التي وقعت فيها، إن الله عز وجل يقول: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ)،والمضطر الذي أحوجه مرض أو فقر أو نازلة من نوازل الدنيا إلى اللجأ والتضرع إلى الله كما يقول الزمخشري.
وأنت أيها الأخ، أو أيتها الأخت، تذكر أنك مضطر والمضطر وعده الله بالإجابة حتى وإن كان فاسقا، فإذا كان الله قد أجاب دعوة المشركين عند الاضطرار فإن إجابته للمسلمين مع تقصيرهم من باب أولى.
جاء رجل إلى مالك ابن دينار فقال: أنا أسألك بالله أن تدعو لي فأنا مضطر، قال فاسأله فإنه يجيب المضطر إذا دعاه.
إن الله قد عز وجل قد ذم من لا يستكين له، ولا يتضرع إليه عند الشدائد، وانتبهوا أيها الأحبة أنه لابد للضراعة والاستكانة لله عند الشدة كما أخبر الله فقال عز من قائل:
(وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ).
أي لو استكانوا لربهم لكان أمرا أخر، فكيف بحال من يقع بالشرك والحرام عند البلاء والشدة فيزيد الطين بلة، كيف يريد الشفاء أو انكشاف البلاء وهو يطلبه من مخلوقين مثله ضعفاء.
قال بعض السلف: قرأت في بعض الكتب المنزلة أن الله عز وجل يقول: يؤمل غيري للشدائد والشدائد بيدي، وأنا الحي القيوم، ويرجى غيري ويطرق بابه بالبكرات وبيدي مفاتيح الخزائن وبابي مفتوح لمن دعاني، من ذا الذي أملني لنائبة فقطعن به؟
أو من ذا الذي رجاني لعظيم فقطعت رجاءه ؟
ومن ذا الذي طرق بابي فلم أفتحه له ؟
أنا غاية الآمال فكيف تنقطع الآمال دوني.
أبخيل أنا فيبخلني عبدي، أليست الدنيا والآخرة والكرم والفضل كله لي ؟(/9)
فما يمنع المؤملين أن يؤملوني، ولو جمعت أهل السماوات وأهل الأرض ثم أعطيت كل واحد منهم ما أعطيت الجميع، وبلغت كل واحد منهم أمله لم ينقص ذلك من ملكي عضو ذرة، وكيف ينقص ملك أنا قيمه، فيا بأسا للقانطين من رحمتي، ويا بأسا لمن عصاني ووثب على محارمي. ذكر ذل ابن رجب في نور الاقتباس، والإسرائيليات يعتضد بها ولا يعتمد عليه كما يقول شيخ الإسلام أبن تيمية رحمه الله.
أيها الأخوة إن اللهَ يحبُ أن يُسأل، ويغضبُ على من لا يسألُه، فإنه يريدُ من عباده أن يرغبوا إليه ويسألوه، ويدعوه ويفتقروا إليه، ويحبُ الملحين في الدعاء، بل وينادي في كلِ ليلةٍ : هل من سأل فأعطيه، هل من داعٍ فأستجيب له.
فأين المضطرون، أين أصحابُ الحاجات، أين من وقع في الشدائدِ والكُربات.
معاشر الأخوة والأخوات، اقرءوا وانظروا في حادثة الإفك، وفي حديث الثلاثة أصحاب الغار، وحديث المغترب الذي وضع المال في الخشبة وألقاها في البحر، وحديث الثلاثة الذين خلفوا، وغيرها من القصص النبوي في الصحاح والسنن، فرج عنهم بسؤالهم لله، وإلحاحهم بالدعاء، رفعوا أيديهم إلى الله، وأعلنوا الخضوع والذل لله، وهذا الذل لا يصلح إلى لله، لحبيبه ومولاه.
ذل الفتى في الحب مكرمة....... وخضوعه لحبيبه شرف
فالعبوديةُ لله عزٌ ورفعةٌ، ولغيره ذلٌ ومهانة، وفي سؤال الله عبودية عظيمة لأنها إظهار للافتقار إليه، واعتراف بقدرته على قضاء الحوائج.
فإذا ابتليت ببذل وجهك سائلا......فأبذله للمتكرم المفضال
كان يحي ابن معاذ يقول: يا من يغضب على من لا يسأله لا تمنع من سألك.
وكان بكر المزني يقول: من مثل يا ابن آدم؟ متى شئت تطهرت ثم ناجيت ربك ليس بينك وبينه حجاب ولا ترجمان.
وسأل رجل بعض الصالحين أن يشفع له في حاجة إلى بعض المخلوقين، فقال له أنا لا أترع بابا مفتوحا وأذهب إلى باب مغلق.
هكذا فلتكن الثقة بالله والتوكل على الله.
وقبل الختام وحتى نصل إلى ما نريد من فن الشكوى وحسن النجوى تنبه إلى هذه التوجيهات:
أولا: الدعاء له آداب وشروط:
لابد من تعلمها والحرص عليها، واسمع لهذا الكلام الجميل النفيس من ابن القيم رحمه الله قال: وإذا جمع العبد مع الدعاء حضور القلب وصادف وقتا من أوقات الإجابة وخشوعا في القلب وانكسارا بين يدي الرب وذلا له وتضرعا ورقة واستقبل الداعي القبلة وكان على طهارة ورفع يديه إلى الله، وبدأ بحمد الله والثناء عليه، ثم ثنى بالصلاة على رسول الله، ثم قدم بين يدي حاجته التوبة والاستغفار ثم دخل على الله وألح عليه في المسألة وتملقه ودعاه رغبة ورهبة وتوسل إليه بأسمائه وصفاته وتوحيده، وقدم بين يدي دعائه صدقة فإن هذا الدعاء لا يكاد يرد أبدا، ولا سيما إذا صادف الأدعية التي أخبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنها مظنة الإجابة، وأنها متضمنة للإسم الأعظم. انتهى كلامه بتصرف.
ثانيا: الصدقة:
وقد أكد عليها أبن القيم في كلامه السابق، ولها أثر عجيب في قبول الدعاء، بل وفعل المعروف أيا كان وصنائع المعروف تقي مصارع السوء كما قال أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وبعضهم يرفعه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والله عز وجل يقول عن يونس عليه السلام: (فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).
ثالثا: عليك بالصبر وإياك واليأس والقنوط:
وفي هذا توجيهات منها أن تعلم أن الدعاء عبادة، ولو لم يتوفر لك من دعائك إلا الأجر على هذا الدعاء بعد إخلاصك لله عز وجل فيه لكفى، ومنها أن تعلم أن أعلم بمصلحتك منك، فيعلم سبحانه أن مصلحتك بتأجيل الإجابة أو عدمها، ومنها لا تجزع من عدم الإجابة فربما دُفع عنك بهذا الدعاء شرا كان سينزل بك، فعن عبادة ابن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلا أتاه الله إياها أو صرف عنه من السوء مثلها، ما لم يدعو بإثم أو قطيعة رحم، فقال رجل من القوم إذا نكثر، قال الله أكثر. وزاد فيه الحاكم: أو يدخر له من الأجر مثلها.
رابعا:ربما كان عدم الإجابة أو تأخيرها امتحان لصبرك وتحملك وجلدك:
وهل تستمر في الدعاء وفي هذه العبادة، أم تستحسر وتمل وتترك الدعاء، ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: يستجاب لأحكم ما لم يعجل يقول قد دعوت ربي فلم يستجب لي.
وفي رواية لمسلم قيل: يا رسول الله ماالاستعجال؟ قال يقول قد دعوت وقد دعوت فلم يستجاب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء.
خامسا: أن تلقي باللوم على نفسك:
وهي من أهمها، فقد يمون سبب عدم الإجابة وقوعك أنت في بعض المعاصي، أو التقصير وإخلالك بالدعاء أو تعديك فيه، فمن أعظم الأمور أن تتهم نفسك وتنسب التقصير وعدم الإجابة لنفسك، فهذا من أعظم الذل والافتقار لله.(/10)
وأسمع أيضا لهذا الكلام الجميل النفيس لأبن رجب رحمه الله يقول: إن المؤمن إذا استبطأ الفرج ويئس منه ولا سيما بعد كثرة الدعاء وتضرعه ولم يظهر له أثر الإجابة، رجع إلى نفسه باللائمة يقول لها إنما أتيت من قبلك، ولو كان فيك خيرا لأُجبت، وهذا اللوم أحب إلى الله من كثير من الطاعات، فإنه يوجب انكسار العبد لمولاه، واعترافه له بأنه ليس بأهل لإجابة دعائه، فلذلك يسرع إليه حين إذ إجابة الدعاء، وتفريج الكرب، فإنه تعالى عند المنكسرة قلوبهم من أجله، وعلى قدر الكسر يكون الجبر. انتهى كلامه.
سادسا: تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة:
قال سلمان الفارسي: إذا كان الرجل دعاء في السراء، فنزلت به ضراء فدعا الله عز وجل قالت الملائكة صوت معروف فشفعوا له، وإذا كان ليس بدعا في السراء فنزلت به ضراء فدعا الله عز وجل قالت الملائكة صوت ليس بمعروف.
أيها الأخوة، وأنا أتأمل في حديث الثلاثة أصحاب الغار وهم يدعون ويتوسلون إلى الله بصالح أعمالهم وأخلصها لله، أقول في نفسي وأفتش فيها أين ذلك العمل الصالح الخالص لله الخالي من حظوظ النفس، الذي سألجأ إلى الله فيه عند الشدة.
فلنرجع لأنفسنا ولنسألها مثل هذا السؤال، لنبحث في أعمالنا وعن الإخلاص لله فيها، ولنكن على صلة بالله في الرخاء، وصدق من قال:
إذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد......ذخرا يكون كصالح الأعمال
سابعا: إن الإيمان بالقضاء والقدر ركن من أركان الإيمان بالله تعالى:
وفيه اطمئنان للنفس وراحة للقلب، فأعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطئك لم يكن ليصيبك، وتذكر دائما أن كل شيء بقضاء وقدر، وأنه من عند الله.
ثامنا: أحرص على أكل الحلال فهو شرط من شروط إجابة الدعاء:
وفي الحديث: ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنا يستجاب له.
فالله الله بالحلال فإن له أثر عجيب في إجابة الدعاء، ربما قصرنا بوظائفنا، أي نوع من التقصير، وكان ذلك التقصير سبب في رد الدعاء أو إجابته، فلنتنبه لهذا أيها الأحبة.
تاسعا: حتى تكون مجاب للدعوة إن شاء الله أكثر من الاستغفار في الليل والنهار:
فلو لم يكن فيه إلا قول الحق عز وجل: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً)، فأين من يشكو الفقر والعقم والقحط عن هذه الآية.
هذه توجيهات أنتبه إليها قبل أن ترفع يديك إلى السماء لتكن مجاب الدعاء إن شاء الله.
إلى كل مصاب ومنكوب، وإلى كل من وقع في شدة وضيق أقول:
اطمأنوا فقد سبقكم أناس في هذا الطريق، وما هي إلا أيام سرعان ما تنقضي، وفي بطون الكتب المصنفة في الفرج بعد الشدة للتنوخي وأبن أبي الدنيا والسيوطي وغيرهم مئات القصص لمن مرضوا أو افتقروا أو عذبوا أو شردوا أو حبسوا أو عزلوا، ثم جاءهم الفرج ساقه لهم السميع المجيب.
فلك في المصابين أسوة قال ابن القيم في زاد المعاد كلام جميل أيضا فأسمعه:
قال ومن علاجه – أي علاج المصيبة- أن يطفأ نار مصيبته ببرد التأسي بأهل المصائب، وليعلم أنه في كل واد بنو سعد، ولينظر يمنة فهل يرى إلا محنة، ثم ليعطف يسرة فهل يرى إلا حسرة، وأنه لو فتش العلم لم يرى فيهم إلا مبتلى إما بفوت محبوب، أو حصول مكروه، وأن سرور الدنيا أحلام نوم أو كظل زائل، إن أضحكت قليلا أبكت كثيرا، وإن سرت يوما ساءت دهرا، وإن متعت قليلا منعت طويلا، وما ملئت دارا حبرة –أي سعادة- إلا ملأتها عبرة، ولا سرته بيوم سرور إلا خبأت له يوم شرور.
أيها الأخوة والأخوات، قصص القرآن والأحاديث في كتب السنة والقصص والمواقف في كتب الفرج بعد الشدة، والأحداث والعبر في واقعنا المعاصر جميعها تخبرنا أن الشدائد مهما طالت لا تدوم على أصحابها.
إذا اشتملت على اليأس القلوب......وضاقت لما به الصدر الرحيب
و أوطنت المكاره واطمأنت..........وأرست غي أماكنها الخطوب
ولم ترى لانكشاف الضر وجها.....ولا أغني بحيلته الأريب
أتاك على قنوط منك غوث........ يجيء به القريب المستجيب
وكل الحادثات إذا تناهت......... فموصول بها الفرج القريب
ولو لم يكن في المصائب والبلايا إلا أنها سبب لتكفير الذنوب، وكسر لجماح النفس وغرورها، ونيل للثواب بالصبر عليها وتذكير بالعمة التي غفل عن شكرها.
وهي تذكر العبد بذنوبه، فربما تاب وأقلع عنها.
وهي تجلب عطف الناس ووقوفهم مع المصاب، بل من أعظم ثمار المصيبة أن يتوجه العبد بقلبه إلى الله، ويقف بابه ويتضرع إليه، فسبحان مستخرج الدعاء بالبلاء.
فالبلاء يقطع قلب المؤمن عن الالتفات للمخلوقين ويوجب له الإقبال على الخالق وحده، وهذا هو الإخلاص والتوحيد.(/11)
فإذا علم العبد أن هذه من ثمار المصيبة أنس بها وارتاح ولم ينزعج، ولم يقنط، فإلى ذوي المصائب والحاجات والشدائد والكربات إن منهج القرآن يقول:
( وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).
بل اسمعوا إلى هذه الآية العجيبة ففيها عزاء وتطمين لكل المسلمين قال تعالى:
( فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً).
فلماذا التسخط والجزع والشكوى والأنين فلعل في ما حصل خيرا لك فتفاءل وأبشر، واعتمد على الله وارفع يديك إلى السماء وقل: يا سامعا لكل شكوى.
واحسن الظن بالله وقل:
صبرا جميلا ما أسرع الفرج
من صدق الله في الأمور نجى
من خشي الله لم ينله أذى
من رجا الله كان حيث رجا
هذه كلمات لتسلية المحزونين، وتفريج كرب الملذوعين، وهي عزاء للمصابين وتطييب للمنكسرين.
أسأل الله أن ينفع بها المسلمين وأن يغفر لي ولك أجمعين.
فيا سامعا لكل شكوى، ويا عالما بكل نجوى.
يا سابغ النعم، ويا دفع النقم، ويا فارج الغمم، ويا كشف الظلل، ويا أعدل من حكم، ويا حسيب من ظلم، ويا ولي من ظُلم.
يا من لا تراه العيون، ولا تخالطه الظنون، ولا يصفه الواصفون، ولا تغيره الحوادث ولا الدهور، يعلم مثاقيل الجبال، ومكاييل البحار، وعدد قطر الأمطار، وعدد ورق الأشجار، وعدد ما يظلم عليه الليل ويشرق عليه النهار.
كم من نعمة أنعمت بها علينا قل لك عندها شكرنا، وكم من بلية ابتليتنا بها قل عندها صبرنا، فيا من قل عند نعمته شكرنا فلم يحرمنا، ويا من قل عند بلائه صبرنا فلم يخذلنا أقذف في قلوبنا رجائك، اللهم اقذف في قلوبنا رجائك، اللهم اقذف في قلوبنا رجائك حتى لا نرجو أحدا غيرك.
اللهم إنا نسألك إيمانا ثابتا، ويقينا صادقا حتى نعلم أنه لن يصيبنا إلا ما كتبت لنا، اللهم لا نهلك وأنت رجائنا، اللهم لا نهلك وأنت رجائنا احرسنا بعينك التي لا تنام وبركنك الذي لا يرام.
يا سامعا لكل شكوى، ويا عالما بكل نجوى، يا كاشف كربتنا، ويا مستمع دعوتنا، ويا راحم عبرتنا، ويا مقيل عثرتنا.
يا رب البيت العتيق أكشف عنا وعن المسلمين كل شدة وضيق، واكفنا والمسلمين ما نطيق وما لا نطيق، اللهم فرج عنا وعن المسلمين كل هم غم، وأخرجنا والمسلمين من كل حزن وكرب.
يا فارج الهم، يا كاشف الغم، يا منزل القطر، يا مجيب دعوت المضطر، يا سامعا لكل نجوى احفظ إيمان وأمن بلادنا، ووفق ولاة الأمر لما فيه صلاح الإسلام والعباد.
يا كاشف كل ضر وبلية، ويا عالم كل سر وخفية نسألك فرجا قريبا للمسلمين، وصبرا جميلا للمستضعفين، يا ذا المعروف الذي لا ينقضي أبدا، ويا ذا النعم التي لا تحصى أبدا، أسألك أن تصلي على محمد وعلى آلي محمد أبدا.
اللهم صلي وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.
.............................................................................................................................................................
بسم الله الرحمن الرحيم
اِرْكبْ مَعَنا
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد :
أما الأول :
فقد جلس إليَّ مهموماً مغموماً .. ثم قال :
يا شيخ .. مللت من الغربة ..
فقلت : عسى الله أن يعجل رجوعك إلى أهلك وبلدك ..
فاستعبر وبكى .. ثم قال : أما ولله يا شيخ لو عرفت بقدر شوقي إليهم وقدر شوقهم إليَّ ..
هل تصدق يا شيخ أن أمي قد سافرت أكثر من أربعمائة ميل لتدعو لي عند ضريح قبر الشيخ فلان .. وتسأله أن يردني إليها ..!! فهو رجل مبارك تقبل منه الدعوات .. ويقضي الكربات .. ويسمع دعاء الداعين .. حتى بعد موته ..!!
أما الثاني :
فقد حدثني شيخنا العلامة عبد الله بن جبرين .. قال :
كنت على صعيد عرفات .. والناس في بكاء ودعوات .. قد لفوا أجسادهم بالإحرام .. ورفعوا أكفهم إلى الملك العلام ..
وبينما نحن في خشوعنا وخضوعنا .. نستنزل الرحمات من السماء ..
لفت نظري شيخ كبير .. قد رق عظمه .. وضعف جسده .. وانحنى ظهره .. وهو يردد : يا شيخ فلان .. أسألك أن تكشف كربتي .. اشفع لي .. وارحمني .. ويبكي وينتحب ..
فانتفض جسدي .. واقشعرّ جلدي .. وصحت به : اتق الله .. كيف تدعو غير الله !! وتطلب الحاجات من غير الله !! الجيلاني عبدٌ مملوكٌ .. لا يسمعك ولا يجيبك .. ادعُ الله وحده لا شريك له ..
فالتفت إليَّ ثم قال : إليك عني يا عجوز .. أنت ما تعرف قدر الشيخ فلان عند الله !!.. أنا أؤمن يقيناً أنه ما تنزل قطرة من السماء .. ولا تنبت حبة من الأرض إلا بإذن هذا الشيخ ..
فلما قال ذلك .. قلت له : تعالى الله .. ماذا أبقيت لله ..
فلما سمع مني ذلك .. ولاني ظهره ومضى ..
وأما الثالث .. والرابع .. والخامس .. فأخبارهم فيما بين يديك من أوراق ..(/12)
فسبحان الله .. أين هؤلاء اللاجئين إلى غير مولاهم .. الطالبين حاجاتهم من موتاهم ..
المتجهين بكرباتهم إلى عظام باليات .. وأجساد جامدات .. أينهم عن الله ..!! الملك الحق المبين !! الذي يرى حركات الجنين .. ويسمع دعاء المكروبين .. ولا يرضى أن يدعوا عباده سواه ..
فابكِ إن شئت على حال الأمة .. وقلب طرفك في بلاد الإسلام .. لترى أضرحة ومقامات .. وقبوراً ورفات .. صارت هي الملجأ عند الملمات .. والمفزع عند الكربات ..
نشأ عليها الصغير .. وشاب عليها الكبير ..
فهذه كلمات لهم وهمسات.. وأحاديث ونداءات.. بل هي صرخات وصيحات.. وابتهالات ودعوات.. للغارقين والغارقات..
الذين تلاطمت بهم الأمواج .. وضلوا في الفجاج ..
حتى تخلفوا عن سفينة النجاة .. وماتوا وهم مشركون .. وهم يحسبون أنهم مسلمون ..
إنها سفينة التوحيد .. التي هي كسفينة نوح .. من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك ..
وكم رأينا في بلاد الإسلام .. من أقارب وإخوان .. وجيران وخلان .. ضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ..
لذا جاء هذا الكتاب نداءً لهم جميعاً بأن يعبدوا الله وحده لا شريك له ..
كتبه /
د. محمد بن عبد الرحمن العريفي
دكتوراه في العقيدة والمذاهب المعاصرة
arefe@arefe.com
--------------------------------------------------------------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم
البحر المتلاطم ..
كانت الدنيا مليئة بالمشركين .. هذا يدعو صنماً .. وذاك يرجو قبراً ..
والثالث يعبد بشراً .. والرابع يعظم شجراً ..
نظر إليهم ربهم فمقتهم عربهم وعجمهم .. إلا بقايا من موحدي أهل الكتاب ..
وكان من بين هؤلاء السادرين ..
سيد من السادات .. هو عمرو بن الجموح ..
كان له صنم اسمه مناف .. يتقرب إليه .. ويسجد بين يديه ..
مناف .. هو مفزعه عند الكربات .. وملاذه عند الحاجات ..
صنم صنعه من خشب .. لكنه أحب إليه من أهله وماله ..
وكان شديد الإسراف في تقديسه .. وتزيينه وطييبه وتلبيسه ..
وكان هذا دأبه مذ عرف الدنيا .. حتى جاوز عمره الستين سنة ..
فلما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم في مكة .. وأرسل مصعب بن عمير رضي الله عنه .. داعيةً ومعلماً لأهل المدينة .. أسلم ثلاثة أولاد لعمرو بن الجموح مع أمهم دون أن يعلم ..
فعمدوا إلى أبيهم فأخبروه بخبر هذا الداعي المعلم وقرؤوا عليه القرآن .. وقالوا : يا أبانا قد اتبعه الناس فما ترى في اتباعه ؟
فقال : لست أفعل حتى أشاور مناف فأَنظُرَ ما يقول !!
ثم قام عمرو إلى مناف .. وكانوا إذا أرادوا أن يكلموا أصنامهم جعلوا خلف الصنم عجوزاً تجيبهم بما يلهمها الصنم في زعمهم ..
أقبل عمرو يمشي بعرجته إلى مناف .. وكانت إحدى رجليه أقصر من الأخرى .. فوقف بين يدي الصنم .. معتمداً على رجله الصحيحة .. تعظيماً واحتراماً .. ثم حمد الصنم وأثنى عليه ثم قال :
يا مناف .. لا ريب أنك قد علمت بخبر هذا القادم .. ولا يريد أحداً بسوء سواك .. وإنما ينهانا عن عبادتك .. فأشِرْ عليّ يا مناف .. فلم يردَّ الصنم شيئاً .. فأعاد عليه فلم يجب ..
فقال عمرو : لعلك غضبت .. وإني ساكت عنك أياماً حتى يزول غضبك ..
ثم تركه وخرج .. فلما أظلم الليل .. أقبل أبناؤه إلى مناف ..
فحملوه وألقوه في حفرة فيها أقذار وجيف ..
فلما أصبح عمرو دخل إلى صنمه لتحيته فلم يجده ..
فصاح بأعلى صوته : ويلكم !! من عدا على إلهنا الليلة .. فسكت أهله ..
ففزع ..واضطرب ..وخرج يبحث عنه ..فوجده منكساً على رأسه في الحفرة..فأخرجه وطيبه وأعاده لمكانه..
وقال له : أما والله يا مناف لو علمتُ من فعل هذا لأخزيته ..
فلما كانت الليلة الثانية أقبل أبناؤه إلى الصنم .. فحملوه وألقوه في تلك الحفرة المنتنة ..
فلما أصبح الشيخ التمس صنمه .. فلم يجده في مكانه ..
فغضب وهدد وتوعد .. ثم أخرجه من تلك الحفرة فغسله وطيبه ..
ثم ما زال الفتية يفعلون ذلك بالصنم كل ليلة وهو يخرجه كل صباح فلما ضاق بالأمر ذرعاً راح إليه قبل منامه وقال : ويحك يا مناف إن العنز لتمنع أُسْتَها ..
ثم علق في رأس الصنم سيفاً وقال : ادفع عدوك عن نفسك ..
فلما جَنَّ الليلُ حمل الفتيةُ الصنم وربطوه بكلب ميت وألقوه في بئر يجتمع فيها النتن .. فلما أصبح الشيخ بحث عن مناف فلما رآه على هذا الحال في البئر قال :
ورب يبول الثعلبان برأسه *** لقد خاب من بالت عليه الثعالب
ثم دخل في دين الله .. وما زال يسابق الصالحين في ميادين الدين ..
وانظر إليه .. لما أراد المسلمون الخروج إلى معركة بدر .. منعه أبناؤه لكبر سنه .. وشدة عرجه .. فأصر على الخروج للجهاد.. فاستعانوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره بالبقاء في المدينة .. فبقي فيها ..(/13)
فلما كانت غزوة أحُد .. أراد عمرو الخروج للجهاد .. فمنعه أبناؤه .. فلما أكثروا عليه .. ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم .. يدافع عبرته .. ويقول : ( يا رسول الله إن بنيّ يريدون أن يحبسوني عن الخروج معك إلى الجهاد ..
قال : إن الله قد عذرك ..
فقال .. يا رسول الله .. والله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة ..
فأذن له صلى الله عليه وسلم بالخروج .. فأخذ سلاحه وقال : اللهم ارزقني الشهادة ولا تردّني إلى أهلي ..
فلما وصلوا إلى ساحة القتال .. والتقى الجمعان .. وصاحت الأبطال .. ورميت النبال ..
انطلق عمرو يضرب بسيفه جيش الظلام .. ويقاتل عباد الأصنام ..
حتى توجه إليه كافر .. بضربة سيف كُتِبَت له بها الشهادة ..
فدفن رضي الله عنه .. ومضى مع الذين أنعم الله عليهم ..
وبعد ست وأربعين سنة في عهد معاوية رضي الله عنه ..
نزل بمقبرة شهداء أحد .. سيل شديد .. غطّى أرض القبور ..
فسارع المسلمون إلى نقل رُفات الشهداء .. فلما حفروا عن قبر عمرو بن الجموح .. فإذا هو كأنه نائم .. ليّن جسده .. تتثنى أطرافه .. لم تأكل الأرض من جسده شيئاً ..
فتأمل كيف ختم الله له بالخير لما رجع إلى الحق لما تبين له ..
بل انظر كيف أظهر الله كرامته في الدنيا قبل الآخرة .. لما حقق لا إله إلا الله ..
هذه الكلمة التي قامت بها الأرض والسموات .. وفطر الله عليها جميع المخلوقات .. وهي سبب دخول الجنة ..
ولأجلها خلقت الجنة والنار .. وانقسم الخلق إلى مؤمنين وكفار .. وأبرار وفجار ..
فلا تزول قدما العبد بين يدي الله حتى يسأل عن مسألتين ماذا كنتم تعبدون وماذا أجبتم المرسلين ..
* * * * * * * * *
سفينة النجاة ..
وكم من إنسان هلك مع الهالكين .. واستحق اللعنة إلى يوم الدين .. بسبب أنه لم يحقق التوحيد ..
فالله هو الرب الواحد .. لا يتوكل العبد إلا عليه .. ولا يرغب إلا إليه ..
ولا يرهب إلا منه .. ولا يحلف إلا باسمه .. ولا ينذر إلا له .. ولا يتوب إلا إليه ..
فهذا هو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله .. ولهذا حرم الله على النار من شهد أن لا إله إلا الله حقيقة الشهادة ..
وانظر إلى معاذ رضي الله عنه .. لما مشى خلف النبي صلى الله عليه وسلم .. فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم فجأة ثم سأله ..
يا معاذ : أتدري ما حق الله على العباد .. وما حق العباد على الله ..
قال : الله ورسوله أعلم ..
فقال صلى الله عليه وسلم : حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً .. وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً ..
وفي حديث آخر .. أنه رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله .. أي ذنب عند الله أعظم .. فقال صلى الله عليه وسلم : أن تجعل لله نداً وهو خلقك ..
* * * * * * * * *
نعم .. التوحيد من أجله .. بعث الله الرسل .. قال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } .. والطاغوت هو كل ما عبد من دون الله .. من صنم أو حجر .. أو قبر أو شجر ..
والتوحيد هو مهمة الرسل الأولى كما قال تعالى : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } .. بل إن الخلق لم يخلقوا إلا ليوحدوا الله قال تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } ..
والأعمال كلها متوقفة في قبولها على التوحيد .. قال تعالى : { وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } .. ومن حقق التوحيد نجا .. كما صح في الحديث القدسي عند الترمذي .. أن الله تعالى قال : يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة ..
ولعظم أمر التوحيد .. خاف الأنبياء من فقده ..
فذاك أبو الموحدين .. محطم الأصنام .. وباني البيت الحرام .. إبراهيم عليه السلام .. يبتهل إلى الملك العلام .. ويقول : { واجنبني وبني أن نعبد الأصنام } .. ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم ؟ ..
* * * * * * * * *
بداية الانحراف ..
أول ما حدث الشرك في قوم نوح ..
فبعث الله نوحاً .. فنهاهم عن الشرك .. فمن أطاعه ووحد الله نجى ..
ومن ظل على شركه .. أهلكه الله بالطوفان .. وبقي الناس بعد نوح على التوحيد زماناً ..
ثم بدأ إبليس في الإفساد .. ونشر الشرك بين العباد .. ولم يزل الله تعالى يبعث المرسلين مبشرين ومنذرين ..
إلى أن بعث خاتم النبيين محمداً صلى الله عليه وسلم.. فدعا إلى التوحيد .. وجاهد المشركين ..وكسر الأصنام ..
ومضت الأمة من بعده على التوحيد ..
إلى أن عاد الشرك إلى بعض الأمة بسبب تعظيم الأولياء والصالحين ..
حتى بنيت الأضرحة على قبورهم .. وصرف الدعاء والاستغاثة والذبح والنذر لمقاماتهم ..
وسموا هذا الشرك توسلاً بالصالحين ومحبة لهم بزعمهم .. وزعموا أن محبتهم لهؤلاء وتعظيم قبورهم .. تقربهم إلى الله زلفى ..(/14)
ونسوا أن هذه حجة المشركين الأولين حيث قالوا عن أصنامهم : { ما نعبدهم إلى ليقربونا إلى الله زلفى } ..
والعجب أنك إذا أنكرت على هؤلاء شركهم .. قالوا لك .. كلا بل نحن موحدون .. ولربنا عابدون ..
ويظنون أن معنى التوحيد هو الإقرار بوجود الله وأحقيته بالعبادة دون غيره ..
وهذا مفهوم قاصر .. بل مفهوم باطل للتوحيد ..
فأبو جهل .. وأبو لهب .. بهذا المفهوم موحدون .. فإنهم يعتقدون أن الله هو الإله الأعظم المستحق للعبادة .. لكنهم أشركوا معه آلهة أخرى ظنوا أنها توصل إليه .. وتشفع لهم عنده ..
قصة ..
روى البيهقي وغيره : أنه لما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم بدعوته بين الناس .. حاول كفار قريش أن ينفروا الناس عنده .. فقالوا : ساحر .. كاهن .. مجنون ..
لكنهم وجدوا أن أتباعه يزيدون ولا ينقصون ..
فاجتمع رأيهم على أن يغروه بمال ودنيا ..
فأرسلوا إليه حصين بن المنذر الخزاعي .. وكان من كبارهم ..
فلما دخل عليه حصين .. قال : يا محمد .. فرقت جماعتنا .. وشتت شملنا .. وفعلت .. وفعلت .. فإن كنت تريد مالاً جمعنا لك حتى تكون أكثرنا مالاً .. وإن أردت نساءً زوجناك أجمل النساء .. وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا .. ومضى في كلامه وإغرائه ..والنبي صلى الله عليه وسلم ينصت إليه ..
فلما انتهى من كلامه .. قال له صلى الله عليه وسلم : أفرغت يا أبا عمران ..
قال : نعم .. قال : فأجبني عما أسألك .. قال : سل عما بدا لك ..
قال : يا أبا عمران .. كم إلهاً تعبد ؟ قال : أعبد سبعة .. ستة في الأرض .. وواحداً في السماء !!
قال : فإذا هلك المال .. من تدعوا !؟
قال : أدعوا الذي في السماء .. قال : فإذا انقطع القطر من تدعوا ؟
قال : أدعوا الذي في السماء .. قال : فإذا جاع العيال .. من تدعوا ؟
قال : أدعوا الذي في السماء .. قال : فيستجيب لك وحده .. أم يستجيبون لك كلهم ..
قال : بل يستجيب وحده ..
فقال صلى الله عليه وسلم : يستجيب لك وحده .. وينعم عليك وحده .. وتشركهم في الشكر .. أم أنك تخاف أن يغلبوه عليك .. قال حصين : لا .. ما يقدرون عليه ..
فقال صلى الله عليه وسلم : يا حصين ..أسلم أعلمك كلمات ينفعك الله بهن ..فقيل إنه أسلم فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم دعاء يدعو به..
حقيقة ..
نعم كانوا يعبدون اللات والعزى .. لكنهم يعتبرونها آلة صغيرة تقربهم إلى الإله الأعظم وهو الله جل جلاله .. ويصرفون لها أنواعاً من العبادات .. لتشفع لهم عند الله .. لذا كانوا يقولون { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } ..
كانوا يعتقدون أن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت ..
{ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ } ..
وفي الصحيحين وغيرهما ..
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث خيلاً جهة نجد .. لينظروا له ما حول المدينة ..
فبنما هم يتجولون على دوابهم .. فإذا برجل قد تقلد سلاحه .. ولبس الإحرام .. وهو يلبي قائلاً : لبيك اللهم لبيك .. لبيك لا شريك لك .. إلا شريكاً هو لك .. تملكه وما ملك .. ويردد : إلا شريكاً هو لك .. تملكه وما ملك ..
فأقبل الصحابة عليه .. وسألوه أين يريد .. فأخبرهم أنه يريد مكة .. فنظروا في حاله فإذا هو قد أقبل من ديار مسيلمة الكذاب .. الذي ادعى النبوة ..
فربطوه وأوثقوه وجاؤوا به إلى المدينة .. ليراه النبي صلى الله عليه وسلم .. ويقضي فيه ما شاء ..
فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم .. قال لأصحابه : أتدون من أسرتم .. هذا ثمامة بن أثال سيد بني حنيفة ..
ثم قال اربطوه في سارية من سواري المسجد .. وأكرموه ..
ثم ذهب صلى الله عليه وسلم إلى بيته وجمع ما عنده من طعام وأرسل به إليه .. وأمر بدابة ثمامة أن تعلف ويعتنى بها .. وتعرض أمامه في الصباح والمساء ..
فربطوه بسارية من سواري المسجد .. فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما عندك يا ثمامة ؟
قال : عندي خير يا محمد .. إن تقتلني تقتل ذا دم .. ( أي ينتقم لي قومي ) .. و إن تنعم تنعم على شاكر .. وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت ..
فتركه صلى الله عليه وسلم حتى كان الغد .. ثم قال له : ما عندك يا ثمامة ؟
فقال : عندي ما قلت لك إن تقتلني تقتل ذا دم .. و إن تنعم تنعم على شاكر .. و إن كنت تريد المال فسل منه ما شئت ..
فتركه صلى الله عليه وسلم حتى بعد الغد .. فمر به فقال : ما عندك يا ثمامة ؟
فقال : عندي ما قلت لك ..
فلما رأى صلى الله عليه وسلم أنه لا رغبة له في الإسلام .. وقد رأى صلاة المسلمين .. وسمع حديثم .. ورأى كرمهم ..
قال صلى الله عليه وسلم : أطلقوا ثمامة ..
فأطلقوه .. وأعطوه دابته وودعوه ..
فانطلق ثمامة إلى ماء قريب من المسجد .. فاغتسل .. ثم دخل المسجد .
فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ..(/15)
يا محمد والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إلي من وجهك .. فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي ..
و الله ما كان دين أبغض إلي من دينك .. فأصبح دينك أحب الدين إلي ..
والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد إلي ..
ثم قال : يا رسول الله .. إن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى ؟
فبشره النبي صلى الله عليه وسلم بالخير .. وأمره أن يكمل طريقه إلى مكة ويعتمر ..
فذهب إلى مكة يلبي بالتوحيد قائلاً .. لبيك لا شريك لك .. لبيك لا شريك لك ..
نعم أسلم فقال : لبيك لا شريك لك .. فلا قبر مع الله يعبد .. ولا صنم يُصلَّى له ويُسْجَد ..
ثم دخل ثمامة رضي الله عنه مكة .. فتسامع به سادات قريش فأقبلوا عليه ..
فسمعوا تلبيته فإذا هو يقول .. لبيك لا شريك لك .. لبيك لا شريك لك ..
فقال له قائل : أصبوت ؟ قال : لا .. ولكن أسلمت مع محمد صلى الله عليه وسلم ..
فهموا به أن يؤذوه .. فصاح بهم وقال :
ولا و الله .. لا تأتيكم من اليمامة حبة حنطة .. حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم ..
كانوا يعظمون الله .. أكثر من تعظيمهم لهذه الآلهة ..
فقل لي بربك .. ما الفرق بين شرك أبي جهل وأبي لهب ..
وبين من يذبح اليوم عند قبر .. أو يسجد على أعتاب ضريح .. أو يذبح له ويطوف ..
أو يقف عند مشهد الولي ذليلاً خاضعاً .. منكسراً خاشعاً ..
يسأله الحاجات .. وكشف الكربات .. يلتمس من عظام باليات شفاء المريض .. ورد المسافر ..
عجباً .. والله يقول :
{ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } ..
* * * * * * * * *
وهذا الشرك ..الذي يقع عند القبور من ذبح لها ..وتقرب إلى أهلها ..وطواف عليها..هو أعظم الذنوب ..
نعم أعظم من الزنا .. وأعظم من شرب الخمر .. والقتل .. وعقوق الوالدين .. وقد قال تعالى ( إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ) ..
نعم .. الله لا يغفر أن يشرك به .. بينما قد يغفر الله للزناة .. ويعفو عن القتلة والجناة ..
ولقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين :
أن امرأة بغياً من بني إسرائيل كانت تمشي في صحراء ..
فرأت كلباً بجوار بئر يصعد عليه تارة .. ويطوف به تارة ..
في يوم حار قد أدلع لسانه من شدة الظمأ .. قد كاد يقتله العطش ..
فلما رأته هذه البغي ..
التي طالما عصت ربها .. وأغوت غيرها .. ووقعت في الفواحش والآثام .. وأكلت المال الحرام .. لما رأت هذا الكلب .. نزعت خفها .. حذاءها ..
وأوثقته بخمارها فنزعت له من الماء .. وسقته ..
فغفر الله لها بذلك .. الله أكبر .. غفر الله لها .. بماذا ..؟
هل كانت تقوم الليل وتصوم النهار ؟! هل قتلت في سبيل الله ؟!
كلا .. وإنما سقت كلباً شربةً من ماء .. فغفر الله لها .. لأنها كانت تقع في المعاصي لكنها ما كانت تشرك بالله ولياً ولا قبراً .. ولا تعظم حجراً ولا بشراً .. فغفر الله لها ..
فما أقرب المغفرة من العاصين وما أبعدها عن المشركين ..
* * * * * * * * *
قصة ..
بعض الناس يفزع ويضطرب .. ويحزن إذا رأى كثرة الزناة وشراب الخمور .. بينما لا يتأثر وهو يرى كثرة من يتمسحون بأعتاب القبور ويصرفون لها أنواع العبادات .. مع أن الزنى وشرب الخمر معاص كبار .. لكنها لا تخرج من ملة الإسلام .. بينما صرف شيء من العبادة لغير الله هو شرك يموت به الإنسان كافراً ..
ولذا كان العلماء الربانيون يجعلون تدريس العقيدة أصل الأصول ..
كان الشيخ محمد -رحمه الله - قد ألف كتاب التوحيد ..وأخذ يشرحه لطلابه ..ويعيد ويكرر مسائله عليهم ..
فقال له طلابه يوماً : يا شيخ نريد أن تغير لنا الدرس إلى مواضيع أخرى .. قصص .. سيرة ..تاريخ ..
قال الشيخ : سننظر في ذلك إن شاء الله ..
ثم خرج إليهم من الغد مهموماً مفكراً ..
فسألوه عن سبب حزنه فقال : سمعت أن رجلاً في قرية مجاورة .. سكن بيتاً جديداً .. وخاف من تعرض الجن له فذبح ديكاً عند عتبة باب البيت .. تقرباً إلى الجن .. ولقد أرسلت من يتثبت لي من هذا الأمر ..
فلم يتأثر الطلاب كثيراً .. وإنما دعوا لذاك الرجل بالهداية .. وسكتوا ..
وفي الغد لقيهم الشيخ .. فقال ..
تثبتنا من خبر البارحة .. فإذا الأمر على خلاف ما نقل إليَّ ..
فإن الرجل لم يذبح ديكاً تقرباً إلى الجن .. ولكنه زنا بأمه ..
فثار الطلاب وانفعلوا .. وسبوا وأكثروا .. وقالوا لا بد من الإنكار عليه .. ومناصحته .. وعقوبته .. وكثر هرجهم ومرجهم ..
فقال الشيخ : ما أعجب أمركم .. تنكرون هذا الإنكار على من وقع في كبيرة من الكبائر .. وهي لم تخرجه من الإسلام ..
ولا تنكرون على من وقع في الشرك .. وذبح لغير الله .. وصرف العبادة لغير الله ..
فسكت الطلاب .. فأشار الشيخ إلى أحدهم وقال .. قم ناولنا كتاب التوحيد نشرحه من جديد ..
* * * * * * * * *(/16)
والشرك أعظم الذنوب .. ولا يغفره الله أبداً .. قال الله { إن الشرك لظلم عظيم } ..
والجنة حرام على المشركين .. وهم مخلدون في النار .. قال تعالى : ( إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار ) ..
ومن وقع في الشرك .. أفسد عليه هذا الشرك .. جميع عباداته من صلاة وصوم وحج وجهاد وصدقة .. قال تعالى : { ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين } ..
* * * * * * * * *
والشرك له صور متعددة :
منها ما يخرج من الملة .. ويخلد صاحبه في النار إذا مات ولم يتب منه ..
كدعاء غير الله .. والتقرب بالذبائح والنذور لغير الله .. من القبور .. والجن .. والشياطين .. والخوف من الموتى .. أو الجن والشياطين أن يضروه أو يمرضوه ..
ورجاء غير الله فيما يقدر عليه إلا الله .. من قضاء الحاجات .. وتفريج الكربات .. مما يمارس الآن حول الأضرحة والقبور ..
فالقبور تزار لأجل الاتعاظ والدعاء للأموات .. كما قال صلى الله عليه وسلم : زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة ..
وذلك للرجال .. أما النساء فلا يشرع لهن زيارة القبور .. لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن زوارات القبور .. ولأن زيارتهن قد يحصل بها فتنة لهن أو بهن ..
أما زيارة القبور لدعاء أهلها .. والاستغاثة بهم .. أو الذبح لهم .. أو التبرك بهم .. أو طلب الحاجات منهم .. والنذر لهم ..
فهذا شرك أكبر .. ولا فرق بين كون المدعو المقبور نبياً أو ولياً أو صالحاً .. فكل هؤلاء بشر .. لا يملكون ضراً ولا نفعاً .. قال الله لأحب خلقه إليه محمد صلى الله عليه وسلم :( قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا ) ..
ويدخل في ذلك ما يفعله الجهال عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم من دعائه والاستغاثة به .. أو عند قبر الحسين .. أو البدوي .. أو الجيلاني .. أو غيرهم ..
أما زيارة القبور للصلاة عندها والقراءة .. فهذه بدعة ..
وإنما يشرع للزائر الاتعاظ والدعاء للميت فقط ..
ومن العجب أن يذهب مسلم إلى المقبورين وهو يعلم أنهم جثث هامدة .. لا يستطيعون أن يتخلصوا مما هم فيه .. فيطلب منهم أن يستجيبوا الدعوات .. أو يفرجوا الكربات ..
وكثير من هذه الأضرحة .. والقبور .. التي تعظم .. ويبنى عليها .. يكون لها خدم وسدنة .. يظهرون التقى والتقشف .. ويختلقون للناس الأكاذيب .. ويدعونهم إلى الشرك بالله ..
* * * * * * * * *
نداء .. نداء ..
إني أقول لألئك الذين يدعون الأموات ..
أمواتكم هؤلاء .. الذين تبكون على عتباتهم .. وترجون شفاعاتهم ..( هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون ) ..
لا والله لا يسمعون .. ولا ينفعون .. بل يخذلون ويضرون ..
وما أجمل ما فعله ذلك الغلام الصغير .. الذي عمره 13 سنة .. وسافر مع والده إلى الهند ..
والهند بلاد كبيرة .. تتنوع فيها الآلهة .. يعبدون كل شئ .. من حيوان ونبات وجماد وبشر وكواكب ..
دخل الغلام أحد المعابد .. فرأى الناس يعبدون ثمرة جوز الهند ..
وقد رسموا لها عينين وأنفاً وفماً .. ويقدمون لها البخور والطعام والشراب ..
ثم رآهم يصلون لها .. فلما سجدوا لها .. أقبل الغلام إلى الثمرة فاختطفها وهرب بها ..
فلما رفعوا رؤوسهم من سجودهم .. لم يجدوا إلههم .. فالتفتوا .. فإذا الغلام قد حمل الإله .. وفرَّ به هارباً ..
فقطعوا صلاتهم .. وركضوا وراء الغلام ..
فلما ابتعد عنهم .. جلس على الأرض .. ثم كسر الجوزة .. وشرب مائها وألقاها على الأرض ..
فتصايحوا لما رأوا الإله مكسوراً .. فأخذوه وضربوه وتلتلوه .. ثم ذهبوا به إلى قاضي البلد ..
فقال له القاضي : أنت الذي كسرت الإله ؟
قال الغلام : لا .. ولكني كسرت جوزة .. قال القاضي : ولكنها إلاههم ..
قال الغلام : أيها القاضي !! هل كسرت يوماً جوزة هند وأكلتها ؟
قال القاضي : نعم .. قال الغلام : فما الفرق إذاً ؟
فسكت القاضي واحتار .. ونظر إلى عبادها يريد منهم الجواب ..
فقالوا : هذه الجوزة لها عينان وفم ..
فصاح بهم الغلام قال: هل تتكلم ؟ قالوا : لا ..
قال : هل تسمع ؟ قالوا : لا ..
قال : فكيف تعبدونها إذاً ؟ فبهت الذي كفر .. والله لا يهدي القوم الظالمين ..
فنظر إليهم القاضي .. فخاف أن يتعرضوا للغلام بسوء ..
فقال للغلام .. عقوبة لك .. قررنا تغريمك 150 روبية ..
فدفعها الغلام مرغماً .. وخرج منتصراً ..
* * * * * * * * *
ومما يزيد الطيب بلة .. أن المتعلقين بالقبور .. لم يكتفوا بتعظيم الأموات .. وسؤالهم الحاجات .. وإنما صرفوا الأموال في تزيينها .. ورفعها .. والبناء عليها ..
وتنقسم القباب والأضرحة المبنية على القبور .. إلى قسمين :
الأول : قباب تبنى في مقابر المسلمين العامة .. حيث تبدو القبة شاهقة وسط القبور ..
والثاني : قباب تبنى في المساجد.. أو تبنى عليها المساجد.. وقد تكون في قبلة المسجد.. أو في الخلف.. أو في أحد جوانبه ..(/17)
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فقال : \" اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد .. لعن الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد \" وهذا في قبره الشريف وفي كل قبر ..
وعن علي رضي الله عنه أنه قال لأبي الهياج : \" ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته .. ولا قبراً مشرفاً إلا سوّيته ..
ونهى صلى الله عليه وسلم أن ( يجصص القبر .. وأن يقعد عليه .. وأن يبنى عليه .. أو أن يكتب عليه \" ..
ولعن صلى الله عليه وسلم \" المتخذين عليها [ أي القبور] المساجد والسُرج \" ..
ولم يكن على عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم من ذلك شيء في بلاد الإسلام .. لا على قبر نبي.. ولا غيره ..
* * * * * * * * *
الواقع الأليم ..
واليوم .. خذ على عجل الواقع الأليم ..
• في مصر : أضرحة الأولياء التي تنتشر في مدن مصر وقراها .. ستة آلاف ضريح .. وهي مراكز لإقامة الموالد للمريدين والمحبين .. بل إنه من الصعب أن تجد يوماً على مدار السنة ليس فيه احتفال بمولد ولي في مكان ما بمصر .. بل تعتبر القرية التي تخلو من أضرحة منزوعة البركة عندهم ..
وتنقسم الأضرحة إلى كبرى وصغرى.. وكلما فخم البناء واتسع وذاع صيت صاحبه زاد اعتباره .. وكثر زواره ..
فمن الأضرحة الكبرى في القاهرة : ضريح الحسين.. وضريح السيدة زينب.. وضريح السيدة عائشة.. والسيدة سكينة.. والسيدة نفيسة.. وضريح الإمام الشافعي.. وضريح الليث ابن سعد ..
إضافة إلى ضريح البدوي بطنطا .. والدسوقي بدسوق .. والشاذلي بقرية حميثرة ..
وقبر مزعوم للحسين .. يحج له الناس ويتقربون إليه بالنذر والقربات .. وتجاوز ذلك إلى الطواف به والاستشفاء .. وطلب قضاء الحاجات عند الملمات ..
وضريح السيد البدوي .. له مواسم في السنة أشبه بالحج الأكبر .. يقصده الناس من خارج البلاد وداخلها .. من السُنة والشيعة ..
وجلال الدين الرومي .. الذي كتب على قبره ومزاره : صالح للأديان الثلاثة .. المسلمين واليهود والنصارى .. ويدعى هذا الوثن بالقطب الأعظم ..
• أما في الشام فقد ذكر الباحثون الثقاة أن في دمشق وحدها 194ضريحاً والمشهور منها 44 ضريحاً.. وينسب للصحابة أكثر من سبعة وعشرين قبراً.. وفي دمشق ضريح لرأس يحيى بن زكريا - عليهما السلام - .. يقع في المسجد الأموي .. وبجانب المسجد قبر لصلاح الدين .. وعماد الدين زنكي .. وقبور أخرى تزار ويتوسل بها...
وفي سوريا أيضاً : ضريح لمحيي الدين بن عربي صاحب \"فصوص الحكم\".. وهو ضال فاجر ..
• وفي تركيا أكثر من 481 جامعاً لا يكاد يخلو جامع من ضريح .. أشهرها الجامع الذي بني على القبر المنسوب إلى أبي أيوب الأنصاري في القسطنطينية ..
• وفي الهند يوجد أكثر من مئة وخمسين ضريحاً مشهوراً يؤمها الآلاف من الناس ..
• أما العراق .. ففي بغداد وحدها أكثرُ من مئة وخمسين جامعاً وقلّ أن يخلو جامع منها من ضريح.. وفي الموصل يوجد أكثر من ستة وسبعين ضريحاً مشهوراً كلها داخل جوامع.. وهذا كله بخلاف الأضرحة الموجودة في المساجد والأضرحة المفردة .. ( انظر: الانحرافات العقدية.. ص289.. 294.. 295 ) .
• وفي الهند : أصبح قبر الشيخ بهاء الدين زكريا الملتاني .. ويعملون أنواع العبادات .. كالسجود.. والنذور..
• وفي باكستان .. ضريح الشيخ علي الهجوري في لاهور .. وهو من القبور العظيمة..
* * * * * * * * *
والعجب أن الناس مفتونون بها .. مع أن أكثرها أضرحة مكذوبة .. لا حقيقة لها ..
• فالحسين رضي الله عنه .. له قبر بالقاهرة يتقربون إليه .. ويصرفون له أنواعاً من العبادات من دعاء وذبح وطواف ..
وفي عسقلان قبر للحسين أيضاً ..
وفي سفح جبل الجوشن غربي حلب ضريح ينسب إلى رأس الحسين رضي الله عنه أيضاً ..
وكذلك توجد أربعة مواضع أخرى يقال إن بها رأس الحسين : في دمشق .. والحنانة - بين النجف والكوفة - .. وبالمدينة عند قبر أمه فاطمة رضي الله عنه .. وفي النجف بجوار القبر المنسوب إلى أبيه رضي الله عنه .. وفي كربلاء حيث يقال: إنه أعيد إلى جسده ..( انظر: الانحرافات العقدية.. ص288.. ومجلة (لغة العرب).. ج7 السنة السابعة (1929م).. ص557 561.. ومعالم حلب الأثرية.. عبد الله حجار ) ..
• أما السيدة زينب بنت علي - رضي الله عنهما – فقد ماتت بالمدينة ودفنت بالبقيع .. إلا أن قبراً منسوباً إليها أقامه الشيعة في دمشق .. (انظر : عبد الله بن محمد بن خميس.. شهر في دمشق.. ص 67. ) ..
ولا يقل عنه جماهيرية الضريح المنسوب إليها في القاهرة .. ولم تذكر كتب التاريخ أبداً أنها جاءت إلى مصر في الحياة أو بعد الممات ..
• وأهل الإسكندرية بمصر يعتقدون اعتقاداً جازماً بأن أبا الدرداء رضي الله عنه مدفون في الضريح المنسوب إليه في مدينتهم .. ومن المقطوع به عند أهل العلم أنه لم يدفن في تلك المدينة .. ( انظر : مساجد مصر وأولياؤها الصالحون 2/33 ) ..(/18)
• وقل مثل ذلك في مشهد السيدة رقية بنت الرسول صلى الله عليه وسلم بالقاهرة .. الذي أقامته زوجة الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله .. وضريح السيدة سكينة بنت الحسين ابن علي - رضي الله عنهم - ..
• ومن أشهر الأضرحة أيضاً: ضريح علي بن أبي طالب بالنجف بالعراق.. وهو قبر مكذوب فإن علياً دفن بقصر الإمارة بالكوفة ..
• وفي البصرة قبر عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه رغم أنه مات بالمدينة ودفن بالبقيع ..
• وفي حلب ضريح لجابر بن عبد الله رضي الله عنه مع أنه توفي في المدينة ..
• بل ينسب الناس في الشام قبراً إلى (أم كلثوم) و (رقية) بنتي رسول صلى الله عليه وسلم مع أنهما زوجتا عثمان رضي الله عنه .. وماتتا في المدنة النبوية .. في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ودفنهما النبي صلى الله عليه وسلم في البقيع في المدينة ..
• ومن المقابر المكذوبة باتفاق أهل العلم القبر المنسوب إلى هود عليه السلام بجامع دمشق.. فإن هوداً لم يجئ إلى الشام .. وهناك قبر منسوب إليه في حضرموت..
• وفي حضرموت أيضاً قبر يزعم الناس أنه لصالح عليه السلام .. رغم أنه مات بالحجاز.. وله أيضاً عليه السلام قبر في يافا بفلسطين.. التي بها كذلك مزار لأيوب عليه السلام ..
* * * * * * * * *
مقام الشيخ بركات ..
انظر كيف تلاعب الشيطان بعقول الناس .. حتى صرفهم عن عبادة رب الأرض والسموات .. إلى تعظيم الأموات .. بل تعظيم التراب والرفات ..
وقد تبدأ المسألة أحياناً بإشاعةٍ عن قبر من القبور .. وأنه لزائره نافع .. ولداعيه شافع ..
حتى تنتشر قصص الكرامات بين الناس .. فتتحول إلى حقيقة .. ثم تبدأ صور الشرك تظهر عنده .. من طواف عليه .. ودعاء له من دون الله .. كما يقع عند أكثر ما تقدم من قبور .. سواء كانت نسبة القبر إلى صاحبه صحيحة او مختلقة ..
وهذا يذكرني بما حكاه أحدهم عن قصة ضريح الشيخ بركات .. وهذه القصة وقعت بين شابين هما عادل وسعيد .. تخرجا من الجامعة .. ثم توظفا مدرِّسين في قرية ينتشر فيها تعظيم القبور .. والاغترار بالنذور ..
فقد كان عادل يتبادل الحديث مع سعيد وهما في طريقهما إلى المدرسة في القرية .. وفجأة صعد الحافلة متسول نصف معتوه.. كبير في السن يهتز ويتأرجح..
ويمسح لعابه بكمه المتهدل المتسخ.. يستجدي الركاب ويتهدد ويتوعد.. يهددهم بأنه سيدعو عليهم بأن تنقلب الحافلة بهم في عرض الطريق .. ويدعي أنه مستجاب الدعوة ..
ويبدو أن سعيداً قد نشأ في أسرة .. متأثرة كثيراً بالكرامات والأولياء .. والأبدال والأوتاد!
حيث فزع واضطرب .. ثم طلب من عادل أن يبادر إلى إعطائه بعض الدراهم خشية أن تنقلب الحافلة فعلاً .. لأن المتسول المذكور (عبد الكريم أبو شطة ) من الدراويش المباركين المستجابي الدعوة ..
فتعجب عادل وقال : نعم .. أهل السنة والجماعة يؤمنون بالكرامات .. ولكن هي للصالحين الأتقياء .. العاملين الأخفياء .. وليست لأمثال هذا من المجاديب .. الذين يتأكلون بدينهم ..
فصاح به سعيد : لا تقل ذلك .. فإن الأحاديث عن الخوارق التي جرت على يديه يتناقلها الصغير والكبير.. وسترى بعد قليل أنه سينزل ونمضي نحن في الحافلة.. ويسبقنا إلى القرية التالية ماشياً.. حيث سينتظرنا هناك.. نعم .. كرامة .. هل تنكر الكرامات؟
عادل : أنا لا أنكر الكرامات بشكل مطلق .. فالله قادر أن يكرم من شاء من عباده.. لكن أن تصبح الكرامات طعامنا وشرابنا وتدخلنا في باب إشراك هؤلاء العبيد والأموات مع الله سبحانه وتعالى في الخلق والأمر والتصرف في الكون .. حتى نصبح نخافهم ونتقي غضبهم .. فلا ..
سعيد : يعني أنت لا تصدق أن الشيخ أحمد أبو سرود قد جاء من عرفات إلى استانبول وأكل الكبة المشوية عند أهله وعاد ليلاً إلى عرفات ؟
عادل : يا سعيد .. بارك الله في عقلك أهذا الذي تعلمته في الجامعة ؟
سعيد : بدأنا بأسلوب السخرية!
عادل : أنا لا أسخر منك.. ولكن أن يكون كلام العوام وخرافاتهم كلاماً منزلاً محكماً لا يقبل النقد .. فلا ..
سعيد : ولكن هذه الكرامات لا ينقلها العوام فقط.. بل إن ساداتنا المشايخ ينقلون كثيراً منها عن أصحاب المقامات والأضرحة.
عادل : طيب يا سعيد ما رأيك لو برهنت لك برهاناً عملياً أن كل هذه المقامات والأضرحة خلط ودجل ؟ وأن كثيراً من هذه الأضرحة لا حقيقة لها .. فلا قبر .. ولا مقبور .. ولا وليَّ .. وإنما إشاعات ودجل انتشر عند الناس حتى صدقوه ..
فانتفض سعيد وأخذ يردد : أعوذ بالله! أعوذ بالله!
ثم سكتا قليلاً .. وسارت الحافلة حتى وصلت بهم إلى الدوار الموصل إلى قريتهم .. فالتفت عادل إلى سعيد .. وقال : هل يوجد على هذا الدوار قبر أو مقام أو ضريح لأحد الأولياء يا سعيد ؟
سعيد : لا .. وهل يعقل أن يدفن ولي في عرض الطريق .. وفي دوار ..(/19)
عادل : إذاً ما رأيك لو أشعنا في القرية أن على هذا الدوار قبراً قديماً لأحد الصالحين قد اندرس وضاعت معالمه ؟ وألفنا قصصاً في كراماته .. واستجابة الدعاء عنده .. وننظر هل سيصدق الناس أم لا ..
وأنا متأكد أن الناس ستحمل هذه الإشاعة محمل الجد .. وربما يقيمون في العام القادم مقاماً أو ضريحاً كبيراً للشيخ المزعوم ! ويدعونه من دون الله .. وهو تراب على تراب .. لو حفروا حتى يصلوا الأرض السفلى لما وجدوا شيئاً ..
سعيد : دعك من هذا يا رجل .. وهل تظن الناس أغبياء .. سفهاء إلى هذا الحد ؟
عادل : طيب.. أنت ماذا تخسر إذا تعاونت معي ؟ ووافقتني .. أم أنت خائف من النتيجة ..
سعيد : لا لست خائفاً.. ولكن ! أنا غير مقتنع ..
عادل : حسناً .. بما أنك نصف موافق فما رأيك أن نطلق على الشيخ المزعوم اسم: الشيخ بركات ؟
سعيد : طيب..كما تشاء ..
واتفق عادل وسعيد على إشاعة الأمر بأسلوب هادئ بين زملائهم المدرسين في المدرسة .. وعند الحلاقين - باعتبار أن دكان الحلاق من أهم وسائل الإعلان - ..
فلما وصلا القرية .. نزلا من الحافلة وتوجها إلى دكان الحلاق سليم .. فدخلا وحدثا الحلاق عن الأولياء .. وأن أحد الأولياء الصالحين مدفون منذ سنين .. وله مكانة عند الله .. وأن المستغيثين به قليل ..
فسألهم الحلاق عن مكان قبره .. فأخبراه أنه عند الدوار الذي في مدخل القرية ..
فقال الحلاق : الحمد لله الذي أكرمنا بولي في قريتنا .. كنت أتمنى هذا مند زمن .. هل من المعقول أن القرى المجاورة \" الجديدة \" و \" أم الكوسا \" عندهم عشرات الصالحين .. ونحن لا يوجد عندنا ولا مقام واحد ؟
قال عادل : الشيخ بركات يا حاج سليم كان من كبار الصالحين وكانت له مكانته عند الباب العالي ..
فصاح الحلاق : إذاً أنت تعرف كل هذه المعلومات عن الشيخ بركات قدس الله سره وتسكت !!
ثم انتشر الخبر في القرية انتشار النار في الهشيم ..
وبدأ الناس من كثرة حديثهم عنه .. يرونه في المنام..
وأخذوا يتحدثون في مجالسهم عن طوله الفارع.. وعمامته الضخمة .. وكراماته التي لا تحصى.. وكيف أن المئذنة كانت تنزل إليه إذا دخل وقت الأذان .. و.. و ..
وبدأ الحديث في المدرسة بين أخذ ورد بين الأساتذة جميعاً ..
فلما زاد الأمر عن حده .. لم يطق الأستاذ سعيد صبراً .. فصاح بهم ..
أيها العقلاء .. دعوكم من هذه الخرافات يا ناس ..
فقالوا بصوت واحد : خرافات .. تعنى أن الشيخ بركات غير موجود ؟
سعيد : طبعاً غير موجود .. وليس لقبره حقيقة .. وهذه مجرد إشاعة .. والدوار تراب فوق تراب .. لا شيخ ولا ولي ولا مقام ..
فانتفض المدرسون : ما الذي تقوله يا رجل ؟ وكيف تجرؤ أن تقول هذا عن الشيخ بركات ؟
الشيخ بركات هو الذي انفجر الينبوع الغربي في القرية على يديه .. وهو الذي ..
اضطرب سعيد من كثرة صياحهم .. لكنه قال : لا تعطوا عقولكم لغيركم .. أنتم عقلاء ومتعلمون .. وليس كلما حدثكم أحد عن قبر أو ضريح .. أو تلاعب الشيطان بعقولكم في النوم صدقتموه ..
عندها .. دخل مدير المدرسة في النقاش فقال : ولكن صفات الشيخ موجودة وأكيدة ..
ألم تقرأ ما كتبت عنه الجريدة البارحة ؟
فعجب سعيد .. وسأله : حتى الجريدة !! وماذا كتبت ؟
قال المدير : تحت عنوان \" اكتشاف مقام الشيخ بركات \"
كتبت تقول :
ولد الشيخ بركات - قدس الله سره - عام 1100هـ وهو من سلالة سيدنا خالد بن الوليد.. وقد درس على عدد كبير من العلماء منهم فلان وفلان.. ولقد اشترك مع الجيش التركي في إحدى معاركه مع الصليبيين ..
ولما اشتد القتال مع الصليبيين .. استبد به الحماس فنفخ عليهم من فمه .. فآثار رياحاً وزوبعة ضخمة .. رفعت جيش الصليبيين مسافة مائة متر في الهواء .. وسقطوا جميعاً مضرجين بدمائهم..
قال سعيد : ما شاء الله !! ومن أين جاء الصحفي بهذه المعلومات الدقيقة عن الشيخ بركات ؟!!!
قال المدير : هذه حقائق .. أتظنه جاء بها من بيت أبيه ؟!!.. هذا تاريخ ..
قال سعيد : ولكن هذه دعوى وتحتاج إلى دليل.. فالبينة على من ادعى.. وعلي وعليك التثبت من صحة أي دعوى .. وإلا ادعى كل واحد منا ما يحلو له .. قبور .. أولياء .. كرامات ..
ثم صاح بهم سعيد .. يا جماعة .. بصراحة : مقام الشيخ بركات .. قضية مختلقة .. وإشاعة ملفقة .. اخترعتها أنا والأستاذ عادل .. لنثبت بها غوغائية الناس وجهلهم .. وعدم تثبتهم .. وهذا الأستاذ عادل أمامكم فاسألوه إن شئتم ..
فالتفتوا إلى عادل وقالوا : الأستاذ عادل رجل يحب الجدل مثلك .. وكل قضية يطلب عليها دليل.. وهو حاقد على الأولياء والصالحين ..
ومهما ادعيت أنت وعادل .. فنحن مؤمنون بأن الشيخ بركات - قدس الله سره - موجود من زمن الأجداد .. والدنيا لا تخلو من الأولياء والصالحين ومقاماتهم .. نعوذ بالله من الضلال !!
فسكت عادل وسعيد .. وقرع الجرس وانصرف الأساتذة إلى الدروس..(/20)
وسار الأستاذ سعيد مذهولاً مما رأى يحدث نفسه : الشيخ بركات .. كرامات .. معقول ؟ غير معقول !..
أيمكن أن يكون كل هؤلاء مخطئين !! ؟ والجريدة كاذبة ؟
غريب ! والمشايخ بالأمس اجتمعوا في الدوار وأقاموا الحضرة والاحتفال للشيخ بركات ؟
لكن الشيخ بركات اخترعه الأستاذ عادل !! أيمكن أن يكون الخرف أصابهم جميعاً؟ غير ممكن !! غير ممكن !!
وبدأت تتسرب إلى ذهن سعيد فكرة جديدة .. ربما أن الشيخ بركات موجود فعلاً .. وربما أن الأستاذ عادل يعلم ذلك مسبقاً .. لكنه أوهمه أنه هو الذي اخترع وجود الشيخ بركات ..
فكر الأستاذ سعيد في ذلك .. لكنه استعاذ من الشيطان ليبعد هذه الفكرة من عقله .. لكنه لم يفلح ..
وفي اليوم التالي .. استمر النقاش في المدرسة على هذا المنوال .. وكان العام الدراسي في أواخره .. وانتهت المناقشات بذهاب كل أستاذ إلى بلده عندما حانت العطلة الصيفية ..
* * * * * * * * *
وفي العام التالي ركب الأستاذ عادل والأستاذ سعيد الحافلة ذاهبين إلى المدرسة في القرية ..
وكان الأستاذ عادل قد نسي الموضوع تماماً .. مع أنه هو الذي اخترع القضية وأشاعها ..
لكنه انتبه إلى الأستاذ سعيد وهو يتمتم بلسانه بأذكار وأدعية عندما اقتربوا من دوار القرية ..
وكم كانت دهشتهم كبيرة عندما وصلوا إلى الدوار .. فوجدوا بناءاً جميلاً لمقام الشيخ بركات ينتصب شامخاً على الدوار .. وبجانبه مسجد كبير فخم على الطراز المعماري التركي ..
ابتسم الأستاذ عادل وعلم أن الناس مساكين سفهاء .. وأن الشيطان قد أفلح في نشر الشرك بينهم ..
فالتفت إلى الأستاذ سعيد .. ليشاركه التبسم ..
لكنه فوجئ أن الأستاذ سعيد كان غائباً في ادعيته .. بل صاح سعيد بالسائق .. طالباً منه أن يتوقف قليلاً .. ثم رفع يديه وقرأ الفاتحة على روح الشيخ بركات ..( بتصرف من مقال في مجلة البيان العدد : ، للأستاذ : علي محمد ) .
* * * * * * * * *
ماذا يفعلون هناك ؟
يقصد كثير من القبوريين الأضرحة حاملين معهم الأغنام والأبقار .. والسكر والقهوة والشاي .. وأنواع الأطعمة إضافة إلى الأموال .. ليقدموها قرباناً إلى صاحب الضريح.. وقد يذبحون الأنعام تقرباً أيضاً للولي أو الشيخ.. ويطوفون بالقبر وبتمرغون بترابه.. ويطلبون قضاء الحوائج وتفريج الكربات منه..
بل تجد أن هؤلاء المفتونين .. يحلفون بالأموات والمقبورين .. فإذا أراد أحدهم أن يحلف على شيء لم يقبلوا منه أن يحلف بالله .. بل لو حلف بالله وقال : والله العظيم .. أو أقسم بالله .. ما قبلوا منه ولا صدقوه .. فإذا حلف باسم ولي من أوليائهم قبلوه وصدقوه ..
وقد آل الأمر ببعض هؤلاء إلى أن شرعوا للقبور حجاً.. ووضعوا له مناسك.. حتى صنف بعض غلاتهم في ذلك كتاباً وسماه : (مناسك حج المشاهد) مضاهاة منه بالقبور للبيت الحرام..
* * * * * * * * *
بل إنهم مبالغة منهم في البدعة والشرك .. جعلوا لزيارة الضريح آداباً ..
فينبغي أن يخلع الزوار نعالهم الضريح .. احتراماً لصاحب الضريح ..
ويتم دخول القبة بإذن من حارسها..
كما يتولى خادم الضريح (تطويف) الزوار حول الضريح كما يطوف المسلمون حول الكعبة ..
ويتبرك الزوار بالضريح والقبة بطرق شتى : فمنهم من يأخذ من ترابها.. ومنهم من يضع يديه على السياج المعدني الذي حول القبر ويتمسح بها.. ثم يمسح على جسده وملابسه.
وإذا دخلت الضريح رأيت أعاجيب العبادة لغير الله ..
دعاء المقبور والاستعانة به والإلحاح عليه في الدعاء ..
بل ترى المرأة ترفع طفلها .. وتهزه وهي تخاطب الشيخ المقبور راجية منه البركة في صغيرها ..
ترى من يسجد وهو مستقبل القبر ..
إضافة إلى تقديم النذور عند هذه القباب ..
ومن الناس من يعكف عند القبر أياماً وشهوراً .. التماساً للشفاء أو لقضاء حاجة .. وقد أُلحقت ببعض القباب غرف انتظار الزائرين لهذا الغرض ..
كما يظهر على الزائر الخشوع والسكينة والتأثر الذي قد يصل إلى حد البكاء..
فصار هؤلاء المقبورون آلهة من دون الله .. والله لا يرضى أن يعبه نبي ولا ملك .. فكيف إذا عُبد معه غيرهم ..
* * * * * * * * *
تشابهت قلوبهم ..
هؤلاء المقبورون لا يستطيعون نصر أنفسهم .. ولا نفعها ,, فضلاً عن نفع غيرهم ..
وما أقرب حال من يعظمونهم ويخافونهم .. من حال وفد ثقيف لما أسلموا فخافوا من صنم عندهم .. وهو لا يضر ولا ينفع ..
فقد ذكر موسى بن عقبة :
لما تمكن الإسلام في الناس .. بدأت القبائل ترسل وفودها لتعلن إسلامها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ..
فأقبل بضعة عشر رجلاً من قبيلة ثقيف .. إلى النبي صلى الله عليه وسلم .. فأنزلهم المسجد ليسمعوا القرآن ..
فلما أرادوا إعلان إسلامهم .. نظر بعضهم إلى بعض فتذكروا صنمهم الذي يعبدون .. وكانوا يسمونه الربة ..
فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم .. عن الربا والزنا والخمر فحرم عليهم ذلك كله ..
فأطاعوا .. ثم سألوه عن الربة .. ما هو صانع بها ؟(/21)
قال : اهدموها .. قالوا : هيهات !! لو تعلم الربة أنك تريد أن تهدمها .. قتلت أهلها .. ومن حولها ..
فقال عمر رضي الله عنه : ويحكم ما أجهلكم !! إنما الربة حجر ..
قالوا : إنا لم نأتك يا ابن الخطاب ..
ثم قالوا : يا رسول الله .. تولَّ أنت هدمها . أما نحن فانا لن نهدمها أبدا ..
فقال صلى الله عليه وسلم : سأبعث إليكم من يكفيكم هدمها .. فاستأذنوه أن يرجعوا إلى قومهم ..
فدعوا قومهم إلى الإسلام .. فأسلموا ومكثوا أياماً .. وفي قلوبهم وجل من الصنم ..
فقدم عليهم خالد بن الوليد والمغيرة بن شعبة في نفر من الصحابة ..
فأقبلوا إلى الصنم وقد اجتمع الرجال والنساء والصبيان ..
وهم يرتجفون .. وقد أيقنوا أنها لن تنهدم .. وسوف تقتل من يمسها ..
فأقبل عليها المغيرة بن شعبة .. فأخذ الفأس .. وقال لأصحابه :
والله لاضحكنكم من ثقيف .. فضربها بالفأس ..
ثم سقط يرفس برجله .. فصاح الناس .. وظنوا أن الصنم قتله ..
ثم قالوا لخالد بن الوليد ومن معه : من شاء منكم فليقترب ..
فلما رأى المغيرة فرحتهم بنصرة صنمهم .. قام فقال : والله يا معشر ثقيف .. إنما هي لكاع .. حجارة ومدر .. فاقبلوا عافية الله واعبدوه .. ثم ضربها فكسرها .. ثم علا الصحابة فوقها فهدموها حجراً حجراً ..
واليوم .. جميع هذه الأضرحة والقبور .. لو جاءها موحّد فهدما على رؤوس أصحابها لما استطاعت الانتقام لنفسها ..
* * * * * * * * *
كيف نشأ الشرك ..؟!
لو تأملت كيف نشأ الشرك على الأرض .. لوجدت أنه الغلو في الصالحين ورفعهم فوق منزلتهم ..
ففي قوم نوح ..كان الناس موحدين ..يعبدون الله وحده لا شريك له .. ولم يكن شرك على وجه الأرض أبداً
وكان فيهم خمسة رجال صالحين .. هم وُد وسواع ويغوث ويعوق ونسر .. وكانوا يتعبدون .. ويعلمون الننس الدين .. فلما ماتوا .. حزن عليهم قومهم .. وقالوا : ذهب الذين كانوا يذكروننا بفضل العبادة .. ويأمروننا بطاعة الله ..
فوسوس الشيطان لهم .. قائلاً : لو صوّرتم صورهم .. على شكل تماثيل .. ونصبتموها عند مساجدكم .. فإذا رأيتموهم ذكرتم العبادة فنشطتم لها ..
فأطاعوه .. فاتخذوا الأصنام رموزاً .. لتذكرهم بالعبادة والصلاح..!..
فكانوا فعلاً .. يرون هذه الأصنام فيتذكرون العبادة .. ومضت السنين .. وذهب هذا الجيل .. ونشأ أولادهم من بعدهم .. وكبروا وهم يرون آباءهم يثنون على هذه التماثيل والأصنام .. ويعظمونها .. لأنها تذكرهم بالصالحين ..
ثم نشأ قوم بعدهم .. فقال لهم إبليس: ( إن الذين كانوا من قبلكم كانوا يعبدونها .. وكانوا إذا أصابهم قحط أو حاجة لجئوا إليها ) فاعبدوها..
فعبدوها .. حتى بعث الله إليهم نوحاً عليه السلام .. فدعاهم ألف سنة إلا خمسين عاماً .. فما آمن معه إلا قليل .. فغضب الله على الكافرين .. فأهلكهم بالطوفان ..
هذا ما حدث في قوم نوح عليه السلام ..
فكيف نشأ الشرك في قوم إبراهيم ؟ كانوا يعبدون الكواكب والنجوم .. ويرون أنها تتحكم في الأكوان .. تكشف الكربات .. وتجيب الدعوات .. وتهب الحاجات ..
يعتقدون أن هذه الكواكب ( وسطاء ) بين الله وخلقه .. وأنهم موكول إليهم تصريف هذا العالم ..
ثم لم يلبثوا أن صنعوا أصناماً .. على صور الكواكب والملائكة ..
وكان أبوه يصنع الأصنام فيعطيها أولاده فيبييعونها .. وكان يلزم إبراهيم للخروج لبيع الأصنام .. فكان إبراهيم ينادي عليها : من يشتري ما يضره ولا ينفعه ؟
فيرجع إخوته وقد باعوا أصنامهم .. ويرجع إبراهيم بأصنامه كما هي ..
ثم دعا أباه وقومه إلى نبذ هذه الأصنام .. فلم يستجيبوا له ..
فحطم أصنامهم .. فحاولوا إحراقه فأنجاه الله من النار ..
الوارثون للشرك ..؟؟
هذا حال قوم نوح وإبراهيم ..
واليوم نأتي إلى القبوريين فنسأل : كيف تبدأ علاقتهم بالقبر أو الضريح ؟ وكيف تنتهي بهم إلى الشرك ؟
تبدأ العلاقة بتقديس الأشخاص .. ذوي الصلاح والتقوى ..
ومن ثم : تستحب زيارة تلك البقاع .. ليس لتذكر الموت والآخرة .. بل لتذكر الشيخ الصالح والاعتبار به .. ثم دعاء الله عندها رجاء الإجابة .. ثم لمس القبر وتقبيله .. والتمسح به ..
ثم اتخاذه ( واسطة ) و ( وسيلة ) للاستشفاع به عند الله .. ويزعمون أن صاحب الضريح طاهر مكرم .. مقرب معظم .. له جاه عند الله .. بينما صاحب الحاجة متلطخ بالذنوب .. لا يصلح أن يدعو الله مباشرة .. فلا بدَّ أن يجعل صاحب القبر واسطة بينه وبين الله !!
ثم يقذف الشيطان في قلوب الزائرين .. يقول لهم :
ما دام هذا المقبور مكرماً فقد يعطيه الله تصرفاً وقدرة ..
فيبدأ الزائر يعظم المقبور في نفسه .. ويهابه .. ويرجوه ..
ثم بعد ذلك يدعوه .. ويستغيث به .. ثم يبني عليه مسجداً .. أو قبة وضريحاً ..(/22)
ويوقد فيه القناديل .. ويعلق عليه الستور .. ويعبده بالسجود له .. والطواف به .. وتقبيله واستلامه.. والحج إليه.. والذبح عنده.. ثم ينسجون حوله الكرامات .. والقصص والحكايات .. فهذه امرأة دعته فرزقت زوجاً .. والثانية أنجبت ولداً .. وهكذا ..
وبعضهم يردد قائلاً .. من زار الأعتاب ما خاب .. أي: من زار الأضرحة والأعتاب ( المقدسة ) .. قضيت حاجته ونال مراده..
بل سئل أحد التجار: لماذا تقسم للزبائن بضريح الشيخ .. ولا تقسم بالله ؟
فقال : إنهم هنا لا يرضون بالقسم باسم الله.. ولا يرضون إلا بالقسم بضريح سيدنا فلان ..
فانظر كيف صار تعظيمهم للضريح أكبر من تعظيمهم لله !!
وما دام الأمر كذلك .. فما الفرق بين كوم تراب .. وحجارة وأخشاب .. أو ضريح ومقام .. أو صور وأصنام .. أو أي شيء من المخلوقات؟.. لا فرق.. المهم وجود (السر) والتوجه إلى صاحبه!.. واعتقاد أنه يضر وينفع .. ويغني ويشفع ..
وما أقرب حال هؤلاء بما حكاه أبو رجاء العطاردي رضي الله عنه .. لما قال :
كنا في الجاهلية نعبد الأصنام .. والأحجار والأشجار ..
فكان أحدنا يعبد حجراً .. فإذا رأى حجراً آخر أمثل منه .. ألقى حجره وعبد الآخر ..
فإذا لم نجد حجراً جمعنا جُثوة من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبناه عليه ثم طفنا به..
فخرجنا مرة في سفر .. ومعنا إلهنا الذي نعبده .. حجر قد جعلناه في خُرج .. فكنا إذا أشعلنا ناراً لطعام فلم نجد حجراً ثالثاً للقدر .. وضعنا إلهنا .. وقلنا : هو أدفأ له إذا اقترب من النار ..
فنزلنا منزلاً يوماً .. وأخرجنا الحجر من الخُرج ..فلما ارتحلنا صاح صائح من قومي فقال : ألا إن ربكم قد ضل فالتمسوه ..
فركبنا كل بعير صعب وذلول نبحث عن ربنا ..
فبينما نحن نبحث إذ سمعت صائحاً آخر من قومي يقول : ألا إني قد وجدت ربكم .. أو رباً يشبهه ..
فرجعت إلى موضع رحالنا .. فرأيت قومي ساجدين عند صنم .. فأتينا فنحرنا عنده الإبل ..
فاعجب من جهلهم في جاهلية ما قبل الإسلام .. واعجب أكثر من جاهليتهم اليوم ..
بالله عليك ما الفرق بين يعبد حجراً .. ومن يعبد قبراً ..
بين من ينزل حاجاته بأصنام .. ومن ينزلها برفات وعظام ..
بين من يتعبد لقبور الأولياء .. ومن يتعبد لطين وماء ..
نعم كل هؤلاء يقولون : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ..
وهذا ما أوقع القبوريين في وثنية صريحة لا شك فيها ولا خفاء ..
* * * * * * * * *
أربعة اعتراضات ..
الأول :
قد يقول بعض المتعلقين بالقبور .. الداعين لها .. أنتم تشددون علينا .. فنحن لا نعبد الأموات .. لكن هؤلاء المقبورين أولياء صالحون .. لهم عند الله جاه ومكان .. فهم يشفعون لنا عند الله ..
فنقول : هذا هو شرك كفار قريش في عبادتهم للأصنام ..
فمشركو العرب كانوا مقرين بتوحيد الربوبية .. وأن الخالق الرازق المدبر هو الله وحده لا شريك له .. كما قال تعالى : ( قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ ) [يونس: 31].
ومع ذلك قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم .. واستحل دماءهم .. وأموالهم .. لأنهم لم يفردوا الله عز وجل بجميع أنواع العبادة ..
والآيات القرآنية .. والأحاديث النبوية .. التي حذرت من عبادة غير الله .. بينت أن الشرك بالله هو أن يجعل العبد لله نداً شريكاً في العبادة سواءً كان صنماً أو حجراً .. أو نبياً أو ولياً أو قبراً ..
نعم الشرك هو أن يفعل لغير الله شيئاً يختص به الله سبحانه سواءً أطلق على ذلك الغير ما كان تطلقه عليه الجاهلية كالصنم والوثن .. أو أطلق عليه اسماً آخر كالولي والقبر والمشهد ..
ولو ظهرت علينا اليوم فرقة جديدة من الفرق .. وادعت أن لله صاحبة وولداً لصار حكمهم حكم النصارى .. وانطبقت عليهم الآيات التي نزلت في النصارى .. وإن لم يسموا أنفسهم نصارى .. لأن حكمهما واحد .. فكذلك عباد القبور اليوم ..
* * * * * * * * *
الثاني ..
وقد يعترض بعض المتعلقين بالقبور .. ويقولون :
نحن نتقرب إلى المقبورين .. من الأولياء والصالحين .. من أجل طلب الشفاعة.. فهؤلاء الموتى قوم صالحون كانوا في الدنيا صوامين في النهار .. بكائين في الأسحار .. فلهم جاه وقدر عند الله .. نحن نطلب منهم أن يشفعوا لنا عند الله ..
فنقول لهم .. يا قوم .. ويحكم أجيبوا داعي الله وآمنوا به ..
إن الله قد سمَّى اتخاذ الشفعاء شركاً .. فقال سبحانه : ( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) [يونس: 18].(/23)
ونقول لهم أيضاً .. نحن نؤمن معكم .. بأن الله تعالى أعطى الأنبياء والأولياء الشفاعة .. وهم أقرب الناس إليه .. لكن ربنا نهانا عن سؤالهم ودعائهم ..
نعم .. الأنبياء والأولياء والشهداء .. لهم شفاعة عند الله .. ولكنها ليست بأيديهم يشفعون لمن شاؤوا .. ويتركون من شاؤوا .. كلا .. بل لا يشفعون إلا بعد أن يأذن الله لهم .. ويرضى عن المشفوع ..
* * * * * * * * *
الثالث ..
وقد يعترض بعض المتعلقين بالقبور فيقولون ..
إن الكثير من المسلمين في القديم والحديث يبنون على القبور.. ويتخذون المشاهد والقباب.. ويتحرون الدعاء عندها .. فهل الأمة كلها على باطل .. وأنتم على الحق ..
فنقول لهم : أكثر هذه المشاهد والأضرحة مكذوبة .. لا تصح نسبتها إلى أصحابها.. كما تقدم ..
وأيضاً .. فإن البناء على القبور وتحري الدعاء عندها .. من البدع المنكرة ..
كما في قوله صلى الله عليه وسلم : ( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذّر ما صنعوا ) متفق عليه ..
* * * * * * * * *
الرابع ..
وهنا شبهة .. قد يقذفها الشيطان في بعض القلوب ..
وهي أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم قد ضُمّن المسجد النبوي دون نكير.. ولو كان ذلك حراماً لم يدفن فيه.. كما يحتجون بوجود القبة على قبره صلى الله عليه وسلم ..
والجواب: أن النبي صلى الله عليه وسلم دفن حيث مات .. والأنبياء يدفنون حيث يموتون كما جاءت بذلك الأحاديث ..
فدفن في حجرة عائشة رضي الله عنها .. فلم يدفن في المسجد .. وإنما دفن في الحجرة .. هذا في أول الأمر ..
والصحابة رضي الله عنهم دفنوه في حجرة عائشة كي لا يتمكن أحد بعدهم من اتخاذ قبره مسجداً .. كما في حديث عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه : ( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد .. قالت : فلولا ذلك أُبرِزَ قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً ) أخرجه البخاري ومسلم ..
نعم دفن أول الأمر في بيت عائشة .. وكان بيت عائشة ملاصقاً للمسجد من الجهة الشرقية ..
ومضت السنوات .. والناس يكثرون .. والصحابة يوسعون المسجد من جميع الجهات .. إلا من جهة القبر ..
وسعوه من جهة الغرب والشمال والجنوب .. إلا الجهة الشرقية فلم يوسعوه منها لأن القبر يحجزهم عن ذلك ..
وفي سنة ثمان وثمانين .. أي بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بسبع وسبعين سنة .. وبعدما مات عامة الصحابة الذين كانوا بالمدينة .. أمر الخليفة الوليدُ بن عبد الملك بهدم المسجد النبوي لتوسعته .. وأمر بتوسعته من جميع الجهات .. وإضافة جميع حُجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم .. عندها وسع من الجهة الشرقية .. وأدخلت فيه الحجرةَ النبويةَ حجرةَ عائشة رضي الله عنها .. فصار القبر بذلك في المسجد .. ( انظر: الرد على الأخنائي، ص 184، ومجموع الفتاوى، 27 ـ 323 ، تاريخ ابن كثير، 9/74 ) ..
فهذه قصة القبر والمسجد ..
إذن .. لا يصح لأحد أبداً .. أن يحتج بما وقع بعد الصحابة رضي الله عنهم .. لأنه مخالف للأحاديث الثابتة .. وما فهمه سلف الأمة.. وقد أخطأ الوليد بن عبد الملك – عفا الله عنه - في إدخاله الحجرة النبوية ضمن المسجد.. لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بناء المساجد على القبور .. وكان الأصل أن يوسَّعَ المسجد من الجهات الأخرى دون أن يتعرض للحجرة النبوية ..
وكذلك القبة التي فوق قبره صلى الله عليه وسلم .. فإنها ليس بناؤها منه صلى الله عليه وسلم .. ولا من الصحابة رضي الله عنهم ولا من تابعيهم ولا تابعي التابعين ولا من علماء أمته وأئمة ملته.. بل هذه القبة المعمولة على قبره صلى الله عليه وسلم من أبنية بعض ملوك مصر المتأخرين .. وهو قلاوون الصالحي المعروف بالملك المنصور في سنة 678هـ..(انظر: تحذير الساجد للألباني، ص 93، وصراع بين الحق والباطل، لسعد صادق ، ص 106 ، تطهير الاعتقاد، ص 43 ) .
* * * * * * * * *
نداء .. نداء ..
أقول للمتعلقين بالمقبورين .. يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به ..
بالله عليكم .. هل تعلمون أن السلف الصالح كانوا يجصصون قبراً.. أو يرجون بشراً ؟ أو يتوسلون بضريح ومقام ؟ ويغفلون عن الملك العلام ؟
وهل تعلمون أن واحداً منهم وقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو قبر أحد من أصحابه وآل بيته.. يسأله قضاء حاجة من الحاجات .. أو تفريج كربة من الكربات ؟
وهل تعلمون أن الرفاعي والدسوقي والجيلاني والبدوي أكرم عند الله وأعظم وسيلة إليه من الأنبياء والمرسلين.. والصحابة والتابعين ؟
وانظر إلى الصحابة في عهد عمر رضي الله عنه في المدينة النبوية .. لما أجدبت الأرض .. وانقطع القطر .. وشكوا ذلك إلى عمر رضي الله عنه .. خرج بهم ثم صلى صلاة الاستسقاء .. ثم رفع يديه وقال :(/24)
اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا بدعاء نبينا لنا فأسقيتنا .. اللهم وإنا نتوسل إليك بدعاء عم نبيك صلى الله عليه وسلم .. ثم التفت إلى العباس رضي الله عنه وقال : قم يا عباس فادعُ الله أن يسقينا .. فقام العباس ودعا الله تعالى .. وأمن الناس على دعائه وبكوا وابتهلوا .. حتى اجتمع فوقهم السحاب وأمطروا ..
فانظر إلى الصحابة الكرام .. وهم أكثر منا فقهاً .. وأعظم محبة للنبي صلى الله عليه وسلم .. لما أصابتهم الحاجات .. ونزلت بهم الكربات .. ما ذهبوا إلى قبر نبيهم صلى الله عليه وسلم .. وقالوا : يا رسول الله !! اشفع لنا عند الله .. كلا .. فهم يعلمون أن دعاء الميت لا يجوز وإن كان نبياً مرسلاً .. أو ولياً مقرباً ..
فهم إذا أرادوا الحاجات .. التمسوا كشف الكربات بالدعوات الصالحات ..
فآهٍ ثم آهٍ .. لمساكين اليوم يزدحمون على عظام ورفات .. يلتمسون منها المغفرة والرحمات ..
يا قومنا .. ويحكم ..
هل تعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما نهى عن إقامة الصور والتماثيل .. نهى عنها عبثاً ولعباً .. أم أنه خاف أن تعيد للمسلمين جاهليتهم الأولى ؟ بعبادة الصور والتماثيل ؟
وأي فرق بين من يعظم الصور والتماثيل .. وبين من يعظم الأضرحة والقبور .. ما دام كل منها يجر إلى الشرك.. ويفسد عقيدة التوحيد ؟
* * * * * * * * *
ومن وسائل الشرك .. الحلف بغير الله :
فلا يجوز الحلف بالكعبة .. ولا بالأمانة .. ولا بالشرف .. ولا ببركة فلان .. ولا بحياة فلان ..ولا بجاه النبي .. ولا بجاه الولي .. ولا بالآباء والأمهات .. كل ذلك حرام .. لأن الحلف تعظيم لا يصح إلا لله ..
وقد روى أحمد عن ابن عمر مرفوعاً : \"من حلف بغير الله فقد أشرك\" ..
وقال صلى الله عليه وسلم : من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت ..
فإذا حلف بغير الله .. وكان الحالف يعتقد أن عظمة المحلوف به كعظمة الله فهو شرك أكبر .. وإن اعتقد أن المحلوف به أقل من الله .. فهو شرك أصغر ..
ومن جرى على لسانه شيء من هذا بغير قصد .. فكفارته أن يقول : لا إله إلا الله ، كما روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من حلف فقال في حلفه باللات والعزى فليقل : لا إله إلا الله ) ..
ومن كان الحلف بغير الله يجرى على لسانه .. فيجب أن يجاهد نفسه على تركه ..
وبعضهم يحلف بالله كاذباً .. ولا يجترئ أن يحلف بشيخه كاذباً ..
ومن شرك الألفاظ الذي يجري على ألسنة بعض الناس ..
كقول بعضهم : ما شاء الله وشئت .. أو : لولا الله وفلان .. أو : مالي إلا الله وأنت .. وهذا من بركات الله وبركاتك ..
والصواب أن يقول : ما شاء الله ثم فلان .. ولولا الله ثم فلان ..
* * * * * * * * *
ومن وسائل الشرك :
تعليق التمائم والحروز والأوراق والحجب .. خوفاً من العين وغيرها .. فإذا اعتقد أن هذه مجرد أسباب وطرق لرفع البلاء أو دفعه .. فهذا شرك أصغر ..
أما إن اعتقد أنها تتحكم وتدفع البلاء بنفسها .. فهذا شرك أكبر لأنه تعلق بغير الله .. وجعل لغير الله تصرفاً في الكون مع الله ..
والتمائم نوعان :
من القرآن : كمن يعلق قماشاً أو جلداً .. أو قطعة ذهب .. أو غيرها قد كتب عليه آيات من القرآن .. وهذه لا تجوز .. لأنها لم يرد فعلها عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه .. وقد تجر إلى تعليق غيرها ..
والنوع الثاني : من غير القرآن .. كمن يعلق ما كتب عليه أسماء الجن .. ورموز السحرة .. وهذا من وسائل الشرك عياذاً بالله ..
قال ابن مسعود : من قطع تميمة من إنسان .. فكأنما أعتق رقبة ..
ورأى حذيفة بن اليمان رجلاً قد علق في يده حلقة من صفر ( حديد ) .. فقال له : ما هذا ؟
قال : من الواهنة .. أي خوف العين ..
فقال : انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهناً .. لو متَّ وهي عليك ما أفلحت أبداً ..؟؟؟
* * * * * * * * *
وكذلك الرقى .. وهي الأذكار والأوراد التي تقرأ على المريض ..
فالجائز منها ما كان بكلام الله أو بأسماء الله وصفاته .. مثل أن يقرأ الفاتحة والمعوذات على المريض .. أو يدعو بشيء مما ورد في السنة النبوية ..
أما ترديد أسماء الجن ..أو حتى ترديد أسماء الملائكة والأنبياء والصالحين ..فهذا دعاء لغير الله وهو شرك أكبر..
وكيفيتها : أن يقرأ وينفث عل المريض .. أو يقرأ في ماء ويسقاه المريض ..
* * * * * * * * *
ومن الشرك : ادعاء علم الغيب ..
فلا يعلم الغيب إلا الله وحده.. قال تعالى : { قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله } ..
فلا يمكن لأحد أبداً .. أبداً .. أن يعلم الغيب .. لا ملك مقرب .. ولا نبي مرسل ..ولا ولي متعبد .. ولا إمام متبع .. كلا .. كلا .. لا يعلم الغيب إلا الله ..
إلا أن يكون رسولاً يوحى الله إليه شيئاً من المغيبات .. كما أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بمكائد الكفار له .. وأشراط الساعة .. ونحو ذلك ..(/25)
فمن ادعى علم الغيب بأي وسيلة من الوسائل .. كقراءة الكف أو الفنجان .. أو النظر في النجوم .. أو الكهانة أو السحر ..فهو كاذب كافر ..
وما يحصل من المشعوذين والدجالين من الإخبار بالمفقودات أو الغائبات .. وعن أسباب بعض الأمراض .. إنما هو باستخدام الجن والشياطين ..
وقد يذهب بعض ضعاف الإيمان إلى المنجمين فيسألهم عن مستقبله وعن زواجه .. وهذا حرام .. ومن ادعى علم الغيب أو صدق من يدعيه فهو مشرك كافر ..
ومن ذلك اللجوء إلى أبراج الحظ في الجرائد والمجلات .. أو الاتصال هاتفياً على بعض من يدعي معرفة الغيب .. أو سؤالُهم .. كل ذلك حرام ..
* * * * * * * * *
ومن وسائل الشرك : السحر والكهانة والعرافة ..
والسحر هو : عزائم وكلام وأدوية وتدخينات .. وله حقيقة .. وقد يؤثر في القلوب والأبدان .. فيمرض .. ويقتل .. ويفرق بين المرء وزوجه ..
وهو من أعظم الذنوب : قال صلى الله عليه وسلم:(اجتنبوا السبع الموبقات قالوا : وما هي ؟ قال : الإشراك بالله والسحر )..
فالسحر فيه استخدام الشياطين .. والتعلق بهم .. والتقرب إليهم بما يحبونه .. ليقوموا بخدمة الساحر .. وفيه أيضاً ادعاء علم الغيب .. وهذا كفر وضلال ..
لذا قال تعالى : { إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } ..
وحكم الساحر القتل .. كما فعل جماعة من الصحابة رضي الله عنهم ..
والعجب أننا أصبحنا في زمان .. تساهل الناس فيه بالسحر .. وربما عدوا ذلك فناً من الفنون التي يفتخرون بها .. ويمنحون الجوائز لأصحابها ..
ويقيمون للسحرة الحفلات..والمسابقات..ويحضرها آلاف المتفرجين والمشجعين ..وهذا من التهاون بالعقيدة
وما أجمل أن يصنع بالساحر ما صنعه أبو ذر الغفاري رضي الله عنه ..
فإنه دخل على أحد الخلفاء فرأى بين يديه ساحراً .. يلعب بسيف في يده .. ويخيل للناس أنه يضرب يقطع رأس الرجل ثم يعيده ..
فجاء أبو ذر من اليوم التالي .. وقد لبس رداءه .. وخبأ سيفه تحته .. ثم دخل على الخليفة .. فإذا الساحر بين يديه يلعب بالسيف .. ويسحر أمام الناس .. وهم في عجب وإعجاب ..
فاقترب منه أبو ذر .. ثم أخرج سيفه فجأة ورفع وهوى به على رقبة هذا الساحر .. فأطار رأسه ..
فسقط الساحر صريعاً .. وقال أبو ذر : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : حد الساحر ضربة بالسيف ..
ثم التفت إليه أبو ذر وقال : أحيي نفسك .. أحيي نفسك .. ؟؟؟
* * * * * * * * *
وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ) .
ومما يجب التنبه له : أن السحرة والكهان والعرافين يعبثون بعقائد الناس .. بحيث يظهرون بمظهر الأطباء .. فيأمرون المرضى بالذبح لغير الله .. بأن يذبحوا خروفاً صفته كذا وكذا .. أو دجاجة ..
وأحياناً يكتبون لهم الطلاسم الشركية .. والتعاويذ الشيطانية ..
بصفة حروز يعلقونها في رقابهم .. أو يضعونها في صناديقهم .. أو في بيوتهم ..
وبعضهم يظهر بمظهر الولي الذي له خوارق وكرامات .. كأن يضرب نفسه بالسلاح .. أو يضع نفسه تحت عجلات السيارة ولا تؤثر فيه ..
أو غير ذلك من الشعوذات .. التي هي في حقيقتها سحر من عمل الشيطان .. يجريه على أيديهم ..
وشياطينهم تخنس عند ذكر الله ..
كما ذكر أحد الشباب أنه سافر يوماً إلى إحدى الدول .. ودخل أحد مسارحها .. وأخذ ينظر إلى ما يسمى السيرك ..
قال : وبينما نحن ننظر إلى الألعاب المتنوعة .. فإذا بامرأة تأتي ثم تمشي على حبل بقدرة عجيبة .. ثم قفزت على الجدار .. ومشت عليه كما تمشي البعوضة .. والناس قد أخذ منهم العجب منها كل مأخذ .. فقلت في نفسي .. لا يمكن أن يكون ما تفعله حركات بهلوانية تدربت عليها .. صحيح أنا عاص .. لكني موحّد .. لا أرضى بمثل هذا فتحيرت ماذا أفعل ؟
فتذكرت إني حضرت خطبة جمعة عن السحر والسحرة .. وكان مما ذكر الشيخ أن السحرة يستعملون الشياطين .. وأن الشياطين يبطل كيدها .. وتفنى قوتها إذا ذكر الله ..
فقمت من على كرسيي .. ومضيت أمشي متجهاً إلى خشبة المسرح .. والناس يصفقون معجبين .. ويظنوني لفرط إعجابي .. أقترب من الساحرة ..
فلما وصلت إلى المسرح .. وصرت قريباً من هذه الساحرة .. وجهت نظري إليها ثم قرأت آية الكرسي : ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم .. ) .. فبدأت المرأة تضطرب .. وتضطرب .. فوالله ما ختمت الآية إلا وقعت على الأرض .. وأخذت تنتفض .. وقام الناس وفزعوا .. وحملوها إلى المستشفى ..
وصدق الله إذ قال ( إن كيد الشيطان كان ضعيفاً ) .. وقال : ( ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ) ..
* * * * * * * * *
ومن وسائل الشرك : تعظيم التماثيل والنصب التذكارية ..
والتماثيل جمع تمثال .. وهو الصورة المجسمة على شكل إنسان أو حيوان ..
والنصب التذكارية : تماثيل يقيمونها على صور الزعماء والعظماء .. وينصبونها في الميادين والحدائق ونحوها ..(/26)
وما وقع الشرك في الأرض إلا بسبب هذه التماثيل ..
أما ترى قوم نوح لما صنعوا تماثيل لرجال منهم .. لم يمض عليهم زمن حتى عبدوهم من دون الله ..
لذا نهى صلى الله عليه وسلم عن نصب التماثيل .. وعن تعليق الصور .. لأن ذلك وسيلة إلى الشرك ..
بل لعن صلى الله عليه وسلم المصورين .. وأخبر أنهم أشد الناس عذابا يوم القيامة .. وأمر بطمس الصور .. وأخبر أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة ..
* * * * * * * * *
ومن وسائل الشرك : التوسل البدعي :
كالتوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم .. أو بذوات المخلوقين أو حقهم .. أو بطلب الدعاء والشفاعة من الأموات .. فلا يجوز أن يقول في دعائه : اللهم إني اسألك بجاه نبيك .. أو بحق فلان .. أو بروح الميت فلان .. كل هذا لا يجوز ..
والتوسل الجائز المشروع .. هو التوسل إلى الله بأسمائه وصفاته .. كأن يقول : يا رحيم ارحمني .. يا غفور اغفر لي ..
وكذلك التوسل إلى الله تعالى بالإيمان والأعمال الصالحة .. كأن يقول اللهم بإيماني بك وتصديقي لرسلك .. أدخلني جنتك ..
والتوسل إلى الله بدعاء الصالحين الأحياء .. كأن يطلب من عبد صالح حي .. أن يدعوا الله له .. فإن دعاء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجاب .. أما طلب الدعاء من ميت في قبره .. فلا يجوز ..
* * * * * * * * *
فكل ما سبق هو من حقوق الله على عباده .. لا يجوز صرفه لغير الله تعالى ..
ومن الإيمان بالله أيضاً :
اعتقاد أن الله رب كل شيء وأنه المستحق للعبادة ..
وله الأسماء الحسنى والصفات العلى .. { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السّمِيعُ الْبَصِيرُ } ..
ونؤمن بأن الله يتكلم متى شاء بما شاء كيف شاء .. كما قال : { وكلم الله موسى تكليما } .. والقران وجميع الكتب السماوية .. هي كلام الله ..
ونؤمن بأن الله عالٍ على خلقه بذاته وصفاته ..
وبأنه خلق السموت والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش .. واستواؤه على العرش يليق بجلاله وعظمته لا يعلم كيفيته إلا هو عز وجل ..
ومع أنه عالٍ على عرشه .. إلا أنه يعلم أحوال خلقه .. ويسمع أقوالهم .. ويرى أفعالهم .. ويدبر أمورهم ..
ونؤمن بأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة .. قال تعالى : { وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة } ..
وكل ما أخبر الله به في كتابه وما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات ربنا فنحن مؤمنون بها .. مصدقون بحقيقتها .. على الوجه اللائق به عز وجل ..
* * * * * * * * *
والإيمان بالملائكة :
أن الله خلقهم من نور .. ووكلهم بأعمال يقومون بها ..
وهم عباد لا يعصون الله ما أمرهم .. ويفعلون ما يؤمرون .. هم أكثر منا عدداً .. وأكثر خوفاً وتعبداً ..
روى البخاري ومسلم أن في السماء بيتاً يسمى بالبيت المعمور يدخله كلَّ يوم سبعون ألف ملك فيصلون ثم يخرجون منه .. ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة ..
وصحّ عند أبي داود والطبراني أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( أُذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله عز وجل من حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرةُ سبعمائة عام ) ..
ولبعض الملائكة أعمال خاصة .. فجبريل موكل بالوحي إلى الأنبياء .
وميكائيل بالمطر والنبات .. وإسرافيل بالنفخ في الصور عند قيام الساعة ..
وملك الموت موكل بقبض الأرواح .. ومالك خازن النار ..
ولله ملائكة موكلون بالأجنة في الأرحام .. وآخرون موكلون بحفظ بني آدم .. ومنهم موكلون بكتابة أعمال بني آدم .. وملائكة موكلون بسؤال الميت في قبره .. وغير ذلك ..
* * * * * * * * *
هؤلاء هم الملائكة .. وهم عالم غيبي .. نؤمن بوجودهم وإن كنا لا نراهم ..
وهناك مخلوقات أخرى غائبة عنا أيضاً .. وهم :
الجن .. وهم مخلوقون من نار .. وخلقهم الله قبل خلق الإنس .. كما قال تعالى :
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مّنْ حَمَإٍ مّسْنُونٍ * وَالْجَآنّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نّارِ السّمُومِ } .
وهم مكلفون مأمورون بالعبادة .. فمنهم المؤمن ومنهم الكافر .. ومنهم المطيع .. ومنهم العاصي ..
وهم يعتدون على الإنس أحياناً .. كما يعتدي الإنس عليهم أحياناً ..
ومن عدوان الإنس عليهم أن يستجمر الإنسان (أي يمسح فرجه بعد البول والغائط ) بعظم أو روث .. ففي مسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم عن العظم والروث : ( لا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم من الجن ) ..
ومن عدوان الجن على الإنس .. تسلطهم بالوسوسة .. وتخويفهم .. وصرعهم ..
ويمكن للمسلم أن يتحصن منهم بالأذكار الشرعية .. كقراءة آية الكرسي .. والمعوذات .. والأذكار الشرعية الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم .. أما التقرب إليهم بالذبح لهم ودعائهم لاتقاء شرهم فهذا من صور الشرك ..(/27)
ولا شك أن الجن والشياطين ضعفاء .. وكيدهم ضعيف .. ولكن الإنسان إذا كثرت معاصيه .. وصار ينظر إلى الحرام .. ويسمع المعازف .. وضعف إيمانه .. وقلَّ تعلقه بربه .. وغفل عن ذكر الله .. وعن التحصن بالأذكار الشرعية استطاعوا التسلط عليه ..
قال تعالى عن الشيطان وجنده : { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } ..
* * * * * * * * *
والإيمان بالكتب :
وهي الكتب التي أنزلها على أنبيائه .. هداية للخلق .. وهي كثيرة .. نؤمن بها كلها ..
وقد أخبرنا الله بأربعة منها ..
فالقرآن أنزله الله على محمد .. والتوراة على موسى .. والإنجيل على عيسى .. والزبور على داود .. عليهم الصلاة والسلام ..
وكلها كلام الله تعالى .. والقرآن هو آخرها وأعظمها .. جمع الله فيه ما في الكتب السابقة .. قال تعالى : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } ..
* * * * * * * * *
والإيمان بالأنبياء والرسل .. عليهم السلام ..
فقد بعث الله في كل أمة رسولاً يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له .. وأول الرسل : نوح وأخرهم محمد عليهم الصلاة والسلام ..
والرسل عددهم كثير .. منهم من أخبرنا الله باسمه .. وقص علينا خبره .. ومنهم من لم يخبرنا به ..فنؤمن بهم كلهم ..قال تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ مِنْهُم مّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مّن لّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ}..
وهم بشر مخلوقون لا فرق بينهم وبين الناس إلا أنهم يوحى إليهم..{ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ }..
نعم .. هم بشر يأكلون ويشربون .. ويمرضون ويموتون ..
ويجب الإيمان بهم جميعاً فمن كفر برسالة واحد منهم فقد كفر بالجميع ..
قال الله عن قوم نوح : { كَذّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ } .. وقال عن قوم هود ( كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ ) .. مع أن كل أمة لم تكذب إلا نبيها .. ولكن لأن رسالة جميع الأنبياء واحدة فمن كذب بواحد منهم فقد كذب بالجميع ..
وعلى هذا فالنصارى الذين كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم ولم يتبعوه هم مكذبون للمسيح بن مريم ..
لأنه بشرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وأمرهم باتباعه .. فلم يطيعوه .. وقل مثل ذلك في اليهود .. وغيرهم ..
* * * * * * * * *
والإيمان باليوم الآخر ..
وهو التصديق بما ذكر الله في كتابه .. وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم .. بما يقع بعد الموت ..
فتؤمن أولاً بعذاب القبر ونعيمه .. وهو ثابت بالكتاب والسنة ..
قال تعالى : { وحاق بآل فرعون سوء العذاب * النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } ..
وقال تعالى عن المنافقين : { سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم } .. قال ابن مسعود وغيره : العذاب الأول في الدنيا .. والثاني عذاب في القبر .. ثم يردون إلى عذاب عظيم في النار ..
أما الأحاديث في إثبات عذاب القبر ونعيمه .. فهي كثيرة .. بل قد صرح ابن القيم وغيره أنها متواترة .. وفي السنة أكثر من خمسين حديثاً في ذلك ..
منها ما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بقبرين .. فقال : إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان لا يستتر من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة ) ..
ومنها ما في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه : ( اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر .. ) ..
وعذاب القبر ونعيمه أمور غيبية .. لا تقاس بالعقل ..
* * * * * * * * *
ومن الإيمان باليوم الآخر ..
الإيمان بالبعث وإحياء الموتى حين ينفخ في الصور .. فيقومون حفاة عراة غرلاً ( غير مختوننين ) .. كما قال تعالى : { ثُمّ إِنّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيّتُونَ * ثُمّ إِنّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ } ..
والإيمان بالحساب والجزاء .. قال الله : { إِنّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ * ثُمّ إِنّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ } ..
والإيمان بالجنة والنار .. فالجنة .. دار المتقين .. فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ..
والنار هي دار العذاب .. فيها من العذاب والنكال مالا يخطر على البال ..
وتؤمن كذلك بأشراط الساعة الصغرى .. والكبرى .. كخروج الدجال .. ونزول عيسى عليه السلام من السماء .. وطلوع الشمس من مغربها .. وخروج دابة الأرض من موضعها .. وغير ذلك ..
ونؤمن .. بالشفاعة .. والحوض والميزان .. ورؤية الله تعالى .. وغير ذلك من أمور الآخرة ..
* * * * * * * * *
والإيمان بالقدر خيره وشره :
فتؤمن بأن الله قبل أن يخلق الخلق .. علم كل شيء جملة و تفصيلاً .. وكتبه في اللوح المحفوظ .. وخلق جميع الكائنات { اللّهُ خَالِقُ كُلّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } ..(/28)
ولا يحدث في هذا الكون شيء إلا وقد علم الله حدوثه .. وأذن به..قال الله : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ }
وكل إنسان له مشيئة وقدرة .. يختار بهما فعل الشيء أو تركه .. فهو إن أراد توضأ وصلى .. وإن أراد ضل وزنى .. لذا هو محاسب ومجازى .. ولا يجوز أن يحتج بالقدر على ترك الواجبات .. أو فعل المحرمات ..
* * * * * * * * *
ومما يقدح في الإيمان ..
الاستهزاء بالدين .. فهو ردة عن الإسلام .. قال الله :
{ قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } ..
ومثل هذا ما يقوله بعضهم : إن الإسلام دين قديم لا يصلح لعصرنا .. أو إنه تأخر ورجعية .. أو يقول : إن القوانين الوضعية أحسن من الإسلام .. أو يقول في من يدعو إلى التوحيد وينكر عبادة القبور والأضرحة : هذا متطرف .. أو هذا وهابي .. أو يفرق المسلمين ..
* * * * * * * * *
ومن أكبر القوادح في الإيمان .. الحكم بغير ما أنزل الله ..
فمن مقتضى الإيمان بالله الحكم بشرعه ..
في الأقوال والأفعال .. والخصومات والأموال .. وسائر الحقوق ..
فيجب على الحكام أن يحكموا بما أنزل الله .. ويجب على الرعية أن يتحاكموا إلى ما أنزل الله .. ولا يجتمع الإيمان مع التحاكم إلى غير ما أنزل الله .. فقال تعالى :
{ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً } .. وقال : ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) ..
فلا بد من الحكم بما أنزل الله .. في كل شيء في البيع والشراء .. والسرقة .. والزنا .. وغيرها .. وليس في أحكام الطلاق والزواج والأحوال الشخصية فقط ..
ومن شرع قوانين للناس .. وزعم أن هذه القوانين أنسب وأفضل من حكم الله فهو كافر .. نعم كافر ..
قال الله : { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } .. وقال الله : { أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون } ..
وفي الصحيح أنه لما أنزل الله : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } .. قال عدي بن حاتم رضي الله عنه : يا رسول الله .. لسنا نعبدهم .. قال : ( أليس يحلون لكم ما حرم الله فتحلونه .. ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه ؟ ) .. قال : بلى . قال صلى الله عليه وسلم : \"فتلك عبادتهم \" ..
* * * * * * * * *
ومن القوادح في الإيمان .. موالاة الكفار .. أو معاداة المؤمنين ..
ولا شك .. أنه يجب على المسلمين أن يعادوا الكافرين من اليهود والنصارى وسائر المشركين .. وأن يحذروا مودتهم .. كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ } ..
بل حرم الله محبة الآباء والإخوان .. إن كانوا كفاراً .. قال تعالى : { لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } ..
والآيات في هذا المعنى كثيرة .. تدل كلها على وجوب بغض الكفار ومعاداتهم .. لكفرهم بالله .. وعدائهم لدينه .. ومعاداتهم لأوليائه .. وكيدهم للإسلام وأهله ..
كما قال تعالى : { قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ * هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } ..
وواقع اليهود والنصارى اليوم لا يخفى .. في كيدهم للإسلام .. ومحاربة أهله والتنفير منه .. وإنفاق الأموال الضخمة للصد عن سبيله ..
ومن صور موالاة بعض المسلمين للكافرين اليوم : مخالطتهم وموادتهم من غير قصد الدعوة ، أو مساكنتهم في بلادهم ، أو السفر إليهم من غير ضرورة .. والتشبه بهم في اللباس ، أو المظهر ، أو طريقة الحياة .. أو التكلم بلغتهم من غير حاجة ..
* * * * * * * * *
ومن أكبر القوادح في الإيمان ..
تنقص أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.. أو سبهم .. أو تنقص أهل بيته الكرام ..
فنحب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .. ولا نغلوا في حب أحد منهم .. لا في علي رضي الله عنه .. ولا في غيره ..
ولا نتبرأ من أحد منهم .. ونبغض من يبغضهم ..(/29)
ولا نذكرهم إلا بخير .. قال تعالى:{ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } ..
ومذهب أهل السنة والجماعة فيما حدث بينهم من خلافات أو حروب .. الإمساك عن ذلك كله .. فهم بشر يخطئون ويصيبون .. وكما عصم الله سيوفنا عن الدخول في تلك الفتن فلنعصم منها ألسنتنا .. ونقول : هم بشر لهم رب يجمعهم يوم القيامة ويحكم بينهم ..
ونثبت الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر .. تفضيلاً له وتقديماً على جميع الأمة .. ثم لعمر .. ثم لعثمان .. ثم لعلي رضي الله عنهم ..
* * * * * * * * *
ومن القوادح في الإيمان ..
ما استحدثه بعض المسلمين من بدع يزعمون أنها تقربهم إلى الله ..
كالاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم .. والقيام له في أثناء ذلك .. وإلقاء السلام عليه ..
أو الاحتفال بمولد غيره من الأولياء والصالحين ..
وذلك كله من البدع الدين .. لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم .. ولا الصحابة رضي الله عنهم ..
وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) أي مردود عليه ..
وقال : ( كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ) ..
وقال تعالى { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } ..
وإحداث مثل هذه الموالد يفهم منه أن الله لم يكمل الدين .. حتى جاء المتأخرون فأحدثوا عبادات زعموا أنها تقربهم إلى الله .. وهذا اعتراض على الله ورسوله ..
فلو كان الاحتفال بالموالد من الدين الذي يرضاه الله لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم للأمة ..
وقد صرح العلماء بإنكار الموالد .. لأنها عبادة مبتدعة محدثة ..
خاصة إذا وقع فيها غلو في الرسول صلى الله عليه وسلم .. واختلاط النساء بالرجال .. أو استعمال آلات الملاهي ..
وقد يقع فيها الشرك الأكبر بدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم .. والاستغاثة به .. وطلبه المدد .. واعتقاد أنه يعلم الغيب .. ونحو ذلك من الأمور الكفرية ..
كما يردد بعضهم قول البوصيري :
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به *** سواك عند حدوث الحادث العمم
إن لم تكن آخذا يوم المعاد يدي *** صفحا وإلا فقل يا زلة القدم
فإن من جودك الدنيا وضرتها *** ومن علومك علم اللوح والقلم
ومثل هذه الأوصاف : علم الغيب .. والمغفرة يوم القيامة .. والتحكم في الدنيا والآخرة .. لا تصح إلا لمن بيده ملكوت السموات والأرض ..
وهذه تقع كثيراً .. في الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم .. أو مولد غيره من الأولياء ..
فإن قيل .. إن هذه الموالد يذكر فيها الرسول .. وتقرأ سيرته .. قلنا ..
هذا كلام حسن .. ولكن يمكن أن يذكر الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته من غير تحديد موعد معين كل سنة .. فيذكر على المنابر .. أو في المحاضرات .. أو المجالس العامة .. وغيرها ..
وقد قال تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } ..
وقد رددنا الاحتفال بالموالد إلى كتاب الله فوجدناه يأمرنا باتباع نبينا .. ويخبرنا بأن الدين كامل ..
ورددنا الاحتفال بالموالد إلى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم فلم نجد فيها أنه فعله ولا أمر به ولا فعله أصحابه .. فعلمنا أنه ليس من الدين .. بل هو من البدع المحدثة ..
بل هو من التشبه باليهود والنصارى في أعيادهم ..
ولا ينبغي للعاقل أن يغتر بكثرة من يفعله من الناس .. قال تعالى { وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } ..
ومن العجائب :
أن بعض الناس يجتهد في حضور الاحتفالات المبتدعة .. ويتخلف عن الجمع والجماعات ..
وبعضهم يظن أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر المولد .. ولذا يقومون مرحبين ..
وهذا باطل وجهل .. فإن الرسول صلى الله عليه وسلم في قبره .. لا يخرج منه قبل يوم القيامة .. وروحه في عليين عند ربه في دار الكرامة .. قال صلى الله عليه وسلم : ( أنا أول من ينشق عنه القبر يوم القيامة ) ..
أما الصلاة والسلام عليه .. فهي من أفضل القربات .. قال تعالى : { إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما } ..
ونعلم جميعاً أنه لا يتم إيمان عبد حتى يحب الرسول صلى الله عليه وسلم .. ويعظمه ..
ومن تعظيمه وتوقيره .. اتخاذه إماما متبوعاً ..
فلا نتجاوز .. ما شرعه من العبادات ..
قال الله : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ..
* * * * * * * * *
ومن البدع الظاهرة :
الاحتفال بليلة 27 من رمضان :
فهدي النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان الإكثار من العبادات .. وكان في العشر الأخير يزيد الاجتهاد ..(/30)
وقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين : من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه .. ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ..
هذا هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في رمضان وفي ليلة القدر .. وأما الاحتفال بليلة سبع وعشرين على أنها ليلة القدر فهو
مخالف لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم فالاحتفال بها بدعة .. خاصة أن ليلة القدر قد تكون ليلة السابع والعشرين .. وقد تكون غيرها من الليالي ..
* * * * * * * * *
ومن البدع أيضاً :
الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج ..
ولا ريب أن الإسراء والمعراج من الدلائل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ..
وقد ثبت الإسراء والمعراج في الكتاب والسنة ..
والليلة التي حصل فيها الإسراء والمعراج لم يأت في الأحاديث الصحيحة تعيينها لا في رجب ولا غيره ..
ولو ثبت تعيينها لم يجز تخصيصها بشيء من عبادة أو احتفال ..
لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم لم يحتفلوا بها .. ولم يخصوها بشيء ..
والنبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ الرسالة .. وأدى الأمانة .. فلو كان تعظيم هذه الليلة والاحتفال بها من دين الله لبينه لنا ..
* * * * * * * * *
ومن البدع :
الاحتفال بليلة النصف من شعبان وتخصيص يومها بالصيام ..
وليس على ذلك دليل يجوز الاعتماد عليه .. وقد ورد في فضلها أحاديث ضعيفة لا يجوز الاعتماد عليها ..
أما ما ورد في فضل الصلاة فيها فكله موضوع .. كما نبه على ذلك ابن رجب ..
وروى ابن وضاح عن زيد بن أسلم قال :
ما أدركنا أحداً من مشيختنا ولا فقهائنا يلتفتون إلى النصف من شعبان ..
* * * * * * * * *
وختاماً ..
ذكر العلماء أن المسلم قد يرتد عن دينه بأنواع كثيرة من النواقض التي تحل دمه وماله .. ويكون بها خارجاً عن الإسلام ..
ومن أخطرها وأكثرها وقوعاً عشرة نواقض :
الأول : الشرك في عبادة الله تعالى .. كما تقدم ..
الثاني : من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة ويتوكل عليهم فقد كفر إجماعاً .
الثالث : من لم يكفر المشركين أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم كفر .
الرابع : من اعتقد أن غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه .. أو أن حكم غيره أحسن من حكمه .. كالذي يفضل حكم الطواغيت على حكمه – فهو كافر .
ويدخل في ذلك: من اعتقد أن الأنظمة والقوانين التي يسنها الناس أفضل من شريعة الإسلام أو أنها مساوية لها .. أو أنه يجوز التحاكم إليها ( حتى لو اعتقد أن الحكم بالشريعة أفضل ) .. أو اعتقد أن نظام الإسلام لا يصلح تطبيقه في القرن العشرين .. أو أنه كان سبباً في تخلف المسلمين .. أو أنه يحصر في علاقة المرء بربه دون أن يتدخل في شئون الحياة الأخرى .
وكذلك من يرى أن إنفاذ حكم الله في قطع يد السارق أو رجم الزاني المحصن لا يناسب العصر الحاضر .
وكذلك : كل من اعتقد أنه يجوز الحكم بغير شريعة الله في المعاملات أو الحدود أو غيرهما .. وإن لم يعتقد أن ذلك أفضل من حكم الشريعة .. لأنه بذلك يكون قد استباح ما حرم الله إجماعاً .. وكل من استباح ما حرم الله مما هو معلوم من الدين بالضرورة .. كالزنى .. والخمر والربا والحكم بغير شريعة الله .. فهو كافر بإجماع المسلمين ..
الخامس : من أبغض شيئاً مماجاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولو عمل به فقد كفر .. لقول تعالى { ذلك بأنهم كرهوا ما أنزال له فأحبط أعمالهم } [محمد : 9 ].
السادس : من استهزأ بشيء من دين الرسول صلى الله عليه وسلم أو ثوابه أو عقابه كفر .. والدليل قوله تعالى : { قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } [التوبة 65 –66 ].
السابع : السحر .. ومنه الصرف ( وهو أن يعمل لأحد الزوجين ما يبغضه في الآخر ) والعطف ( وهو أن يعمل لأحد الزوجين ما يحببه في الآخر ) .. فمن فعله أو رضي به كفر .. والدليل قوله تعالى : { وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر } [البقرة : 102] .
الثامن : مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين .. والدليل قوله تعالى { ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين } [المائدة :51].
التاسع : من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم كما وسع الخضر الخروج من شريعة موسى عليه السلام .. وكما يعتقد بعض الصوفية أنهم تسقط أنهم التكاليف الشرعية .. – فهو كافر لقوله تعالى : { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين } [آل عمران :85] .
العاشر : الإعراض عن دين الله .. لا يتعلمه ولا يعمل به .. والدليل قوله تعالى : { ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون } [السجدة:22 ].
* * * * * * * * *
وقفة :
إن الجريمة الكبرى .. والداهية العظمى ..أن يترك المرء الصلاة ..
فتاركو الصلاة هم أنصار الشيطان .. وأعداء الرحمن .. وخصوم المؤمنين .. وإخوان الكافرين ..(/31)
الذين يحشرون مع فرعون وهامان ..ويتقلبون معهم في النيران ..
وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم : \"بين الرجل وبين الكفر أو الشرك ترك الصلاة \" ..
وصح عند الترمذي والحاكم عن عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة ..
قال الشيخ ابن عثيمين : وإذا حكمنا على تارك الصلاة بالكفر .. فهذا يقتضي أنه تنطبق عليه أحكام المرتدين .. فلا يصح أن يُزوَّج .. فإن عُقد له وهو لا يصلي فالنكاح باطل .. وإذا ترك الصلاة بعد أن عُقد له فإن نكاحه ينفسخ ولا تحل له الزوجة .. وإذا ذبح لا تؤكل ذبيحته لأنها حرام .. ولا يدخل مكة .. ولو مات أحد من أقاربه فلا حق له في الميراث .. وإذا مات لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن مع المسلمين .. ويحشر يوم القيامة مع الكفار .. ولا يدخل الجنة .. ولا يحل لأهله أن يدعوا له بالرحمة والمغفرة لأنه كافر ..
وحال تاركي الصلاة عند الموت أدهى وأفظع ..
ذكر ابن القيم :
أن أحد المحتضرين .. كان صاحب معاص وتفريط .. فلم يلبث أن نزل به الموت .. ففزع من حوله إليه .. وانطرحوا بين يديه .. وأخذوا يذكرونه بالله .. ويلقنونه لا إله إلا الله ..
وهو يدافع عبراته .. فلما بدأت روحه تنزع .. صاح بأعلى صوته .. وقال : أقول : لا إله إلا الله !!
وما تنفعني لا إله إلا الله ؟!! وما أعلم أني صليت لله صلاة !! ثمّ أخذ يشهق حتى مات ..
أمّا عامر بن عبد الله بن الزبير .. فلقد كان على فراش الموت .. يعد أنفاس الحياة .. وأهله حوله يبكون ..
فبينما هو يصارع الموت .. سمع المؤذن ينادي لصلاة المغرب .. ونفسه تحشرج في حلقه .. وقد أشتدّ نزعه .. وعظم كربه ..
فلما سمع النداء قال لمن حوله : خذوا بيدي ..!!
قالوا : إلى أين ؟ .. قال : إلى المسجد .. قالوا : وأنت على هذه الحال !! قال : سبحان الله .. !! أسمع منادي الصلاة ولا أجيبه .. خذوا بيدي .. فحملوه بين رجلين .. فصلى ركعة مع الإمام .. ثمّ مات في سجوده .. نعم .. مات وهو ساجد ..
وقال عطاء بن السائب : أتينا إلى أبي عبدالرحمن السلمي .. وهو مريض في مصلاه في المسجد .. فإذا هو قد اشتد عليه الأمر .. وقد بأت روحه تنزع .. فأشفقنا عليه .. وقلنا له : لو تحولت إلى الفراش .. فإنه أوثر وأوطأ .. فتحامل على نفسه وقال :
حدثني فلان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يزال أحدكم في صلاة ما دام في مصلاه ينتظر الصلوة .. فأنا أريد أن أقبض على ذلك ..
فمن أقام الصلاة .. وصبر على طاعة مولاه .. ختم له برضاه ..
كان سعد بن معاذ رضي الله عنه .. صالحاً قانتاً .. متعبداً مخبتاً .. عرفه الليل ببكاء الأسحار .. وعرفه النهار بالصلاة والاستغفار ..
أصابه جرح في غزوة بني قريظة..فلبث مريضاً أياماً ثم نزل به الموت..
فلما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم .. قال لأصحابه : انطلقوا إليه .. قال جابر :
فخرج وخرجنا معه .. وأسرع حتى تقطعت شسوع نعالنا .. وسقطت أرديتنا .. فعجب أصحابه من سرعته .. فقال :
إني أخاف أن تسبقنا إليه الملائكة فتغسله .. كما غسلت حنظلة ..
فانتهى إلى البيت فإذا هو قد مات .. وأصحاب له يغسلونه .. وأمه تبكيه .. فقال صلى الله عليه وسلم : كل باكية تكذب إلا أم سعد .. ثم حملوه إلى قبره .. وخرج صلى الله عليه وسلم يشيعه .. فقال القوم : ما حملنا يا رسول الله ميتاً أخف علينا منه ..
فقال صلى الله عليه وسلم : ما يمنعه أن يخف وقد هبط من الملائكة كذا وكذا لم يهبطوا قط قبل يومهم .. قد حملوه معكم .. والذي نفسي بيده لقد استبشرت الملائكة بروح سعد .. واهتز له العرش ..
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا }
* * * * * * * * *
ومن أكبر المعاصي .. منع الزكاة .. فهي الركن الثالث من أركان الإسلام ..
وفي صحيح مسلم أنه قال : ( ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار ) ..
وروى البخاري أنه قال : ( من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثّل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه – يعني شدقيه – ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك. ثم تلا النبي الآية: ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ) ..
* * * * * * * * *
وأخيراً .. يا أخي الكريم .. وأختي الكريمة ..
يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به .. يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ..(/32)
والله إني لك ناصح .. وهذا الحق قد تبين لك .. وعرفت أن الدين واحد لا يتعدد .. فهو الله لا إله إلا هو .. حي قيوم .. فرد صمد .. لا يرضى أن يشرك معه أحد ..
ولا تكن من أولئك الذين يقولون : ( إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ) .. بل قل : إنا موحّدون طائعون متبعون ..
ولا تغتر بكثرة من يذبح عند القبور .. أو يشرك بالله عندها ..
ولا تأخذك كثرة الأحاجي والقصص التي ينسجها هؤلاء عن مقبوريهم .. أنهم يكشفون الكربات .. ويجيبون الدعوات ..
وانظر إلى أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم .. الذي كان مصدقاً بأن النبي صلى الله عليه وسلم حق .. وأن الدين الحق هو الإسلام .. ونبذ عبادة الأصنام .. حتى إنه كان يردد دائماً قوله :
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا
ودعوتني وعلمت أنك ناصحي فلقد صدقت وكنت فينا أمينا
وعرضت دينا قد عرفت بأنه من خير أديان البرية دينا
لولا الملامةُ أو حذارِ مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبينا
ولكن منعه من اتباع الحق .. خوفه من مخالفة الآباء والأجداد ..
بل انظر إليه .. وهو على فراش الموت .. شيخ كبير قد رق عظمه .. وضعف جسده .. وحانت منيته ..
والنبي صلى الله عليه وسلم واقف عند رأسه يدافع عبراته .. ويقول : يا عمّ قل لا إله إلا الله .. قل لا إله إلا الله ..
وعند رأسه قد وقف كفار قريش .. فكلما أراد أن يتلفظ بشهادة التوحيد قالوا له : أترغب عن ملة عبد المطلب .. أترغب عن ملة عبد المطلب ..
ولم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يناشده أن يلفظ الشهادتين .. وهم يحثونه على البقاء على ملة آبائه وأجداده ..
حتى مات .. وهو على دين آبائه وأجداده .. على عبادة الأصنام .. والشرك بالملك العلام ..
مات .. وارتحل من هذا الدنيا ومقره إلى جهنم وبئس المصير .. والله قد حرم الجنة على الكافرين ..
وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم سئل فقيل له : يا رسول الله إن عمك كان يحوطك وينصرك فهل أغنيت عنه شيئاً ؟
فقال : نعم .. وجدته في غمرات من النار .. فأخرجته إلى ضحضاح من نار .. تحت قدميه جمرتان من نار يغلي منهما دماغه ..
* * * * * * * * *
بل .. انظر إلى محطم الأصنام .. وباني البيت الحرام .. إبراهيمَ عليه السلام ..
الذي ابتلي في مولاه..وعذب في سبيل الله..لا يستطيع يوم القيامة أن ينفع أباه..لأن أباه مات مشركاً بالله..
فعند البخاري : قال صلى الله عليه وسلم : يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة .. وعلى وجه آزر قترة وغبرة ..
فيقول له إبراهيم : ألم أقل لك لا تعصيني ؟! فيقول له أبوه : فاليوم لا أعصيك ..
فيقول إبراهيم : يا رب .. إنك وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون .. وأي خزي أخزى من أبي الأبعد ؟
فيقول الله : إني حرمت الجنة على الكافرين ..
ثم يقال : يا إبراهيم .. ما تحت رجليك .. فينظر فإذا هو بذيخ ( أي ذئب ) متلطخ ..
فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار .. فتنبه لهذا كله وتذكر ( يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحبته وبنيه * لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ) .. ( يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم ) ..
وكن رجاعاً إلى الحق .. ناصحاً لغيرك .. داعياً إلى التوحيد ..
أسأل الله للجميع الهدى والرشاد .. والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله ..
كتبه / د. محمد بن عبد الرحمن العريفي
دكتوراه في العقيدة والمذاهب المعاصرة
arefe@arefe.com
000000000000000000
دلائل الإيمان في القرآن
سليمان حمدالعودة
ملخص الخطبة
1- عظمة صنع الله لمخلوقاته المبثوثة حول الإنسان. 2- دعوة للتفكر في مخلوقات الله الدالة على عظمة الخالق. 3- دورة الرياح والمطر وعجائب خلق الله.
الخطبة الأولى
أما بعد:
أوصيكم ونفسي بتقوى الله، ولزوم طاعته، فتلك وصية الله للأولين والآخرين ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنياً حميداً [النساء:131].
أيها المسلمون: ويقلب العقلاء أفئدتهم وأبصارهم في ملكوت الله العظيم فيزيدهم ذلك إيمانا بعظمة الخالق، ودقة الصانع: إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التى تجرى في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا بها الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون [البقرة:164].
ويتأمل المختصون بعلوم البحار في عالم البحار، وقاع المحيطات فيرون في اختلاف مياهها ملوحة أو عذوبة، حرارة أو برودة وأنواعا من الحيتان تختلف أشكالها، وطعومها، وأحجامها، وخلقا آخر، وجواهر، ودررا لا يحيط بها إلا من خلق وهو اللطيف الخبير.(/33)
فمن أقام بين البحرين حاجزا، وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا؟ ومن أزجى الفلك وسيرها على ظهره وأجرى الرياح وسخرها ليبتغي الناس من فضله؟ أوليس الله رب العالمين … فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور أو يوبقهن بما كسبوا ويعفو عن كثير [الشورى:32-34].
ويقرأ العالمون بالفلك ويرى غيرهم في عالم السماء كيف رفع الله السبع الشداد بلا عمد، وجعل فيها أنواعا من المخلوقات لا يعلمها إلا الله، وأودع فيها من الغيوب والأرزاق ما اختص الله بعلمه، وينزل للناس في حينه بقدر، ويبصر الناس، كل الناس، كيف زين الله السماء الدنيا بمصابيح يهتدي بها المسافرون، ويرجم بها الشياطين، وجعل للنجوم مواقع، وللشمس والقمر منازل بها يستدل الحاسبون، ويعرف الناس الأزمان والشهور .. ترى من أجراها على الدوام وسخرها، وأغطش ليلها وأخرج ضحاها؟ إنه الله الولي الحميد.
قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ومن رحمته جعل لكم اليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون [القصص:71-73].
ويح أولئك الذين لا يشكرون، وما أكثر الذين هم بنعم ربهم غافلون الذي خلق سبع سموات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر فهل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير [الملك:3-5].
أيها المسلمون: ويبحث علماء الجغرافيا أو الجيولوجيا في طبقات الأرض العلوية أو السفلية، فيرون مختلف الجبال وأنواع الصخور، فهذه جدد بيض وتلك حمر مختلف ألوانها، وثالثة غرابيب سود، ويلفت نظرهم قمم الجبال العالية وبطون الأودية السحيقة، وبين هذا وذاك تنبت أنواع من النباتات وتنتشر أنواع من الحيوانات، وإذا اعتدل الهواء في المناطق المتوسطة باتت قمم الجبال العالية السوداء بيضاء من الثلوج النازلة، وفى حين تنعدم الحياة في المناطق الاستوائية لشدة الحرارة .... ترى من قدر لهذه وتلك قدرها .. وهل في إمكان البشر أن ينقلوا جو هذه إلى تلك أو العكس ... أو يبعثوا الحياة في الأرض الميتة..؟!
كلا بل هو الله العلي القدير، ويدرك العالمون أكثر من غيرهم أن جوف الأرض يحتفظ بأنواع من المياه الجوفية تختلف في مخزونها، وفى مذاقها، وقربها أو بعدها، فمن يمسك البنيان إذ يبنى على ظهر الماء؟ ومن يمنع الأرض أن تتحول إلى طوفان بطغيان الماء في أعلاها وأسفلها إلا الله الذي أنزل من السماء ماء بقدر فأسكنه في الأرض، وهو القادر على أن يذهب به متى يشاء.
وعلى سطح البسيطة تنتشر أنواع من البشر، تختلف في ألوانها وألسنتها، وتختلف في عوائدها وطرائق حياتها، فمن بثها وبعث الحياة فيها وألهم كل نفس فجورها وتقواها؟ إنه الله يعرفه ويخشاه العالمون، ولا يكفر به إلا الظالمون المعاندون.
ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور [فاطر:27-28].
إخوة الإيمان: ودلائل الإيمان تبدو للإنسان نفسه حتى وإن كان أميا، وهو يتأمل في نفسه، ويبصر عظمة الخلق فيها، كيف خلقها الله ابتداء من ماء مهين، ثم كانت بهذا الشكل القويم، وأدوع فيها من أسرار الخلق ما يعجز الطب عن كنهه، ويبقى الأطباء في حيرة منه ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً [الإسراء:85].
وهذا نموذج للإعجاز والتحدي.
ترى من يرعى دقات قلب المرء في حال اليقظة والنوم؟ وأقرب الناس إليه لا يملك من أمره شيئا، بل وهل يملك الإنسان نفسه التصرف في حركة التنفس؟ فيتنفس متى يشاء، ويوقف أنفاسه إذا لم يشاء، ألم يرى الإنسان كيف يدخل الطعام مدخلا ثم يخرجه الله مخرجا آخر؟ أله في ذلك قدرة وشأن؟ وما حيلته لو اختنق النفس أو احتبس البول؟ كم في جسم الإنسان من جهاز وطاقة؟ وكم فيه من أعضاء وخلية؟ أيملك التصرف بشيء منها؟ وصدق الله وهو أصدق القائلين وفي أنفسكم أفلا تبصرون وهو القائل لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم [التين:4].
إن القرآن يا عباد الله كتاب مفتوح للتأمل في ذات الإنسان وفي ملكوت الله، وخلقه الآخر، وكم تلفت آيات القرآن النظر للتأمل والعبرة، وتدعو للتفكر، وتشنع على العقول الخاملة، والقلوب الميتة، وكم في القرآن من مثل ودعوة ..... وكم من مثل قوله تعالى أفلا تفكرون ، أفلا تذكرون ، أفلا تعقلون ، أفلا تؤمنون ...
فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور [الحج:46].(/34)
فهل يزداد المسلم إيمانا حين يتلو آيات القرآن؟ وهل يتعاظم الإيمان في قلبه حين يطلق لفكره وقلبه التأمل في مخلوقات الله العظام؟
إن العلم يدعو إلى الإيمان، وإن دلائل القرآن تؤكد نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، فمن أين لمحمد الأمي أن يخبر عن حركات الأمواج في الظلمات في البحار اللجية، ويقول للناس: أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور [النور:40].
ترى أركب البحر محمد صلى الله عليه وسلم، أم توفر له في حينه ما توفر في عالم اليوم من الغواصات والآلات؟ كلا إن هو إلا وحي يوحى [النجم:4].
بل ومن أين لمحمد صلى الله عليه وسلم الذي عاش في بيئة يقل فيها العلم، وينتشر فيها الجهل أن يخبر عن أطوار خلق الجنين في بطن أمه، كما قال تعالى : يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فانى تصرفون [الزمر:6].
وإذا لم يعلم محمد صلى الله عليه وسلم بهذه الظلمات قبل تعليم الله إياه، أفتراه يعلم أو يقول من ذات نفسه عن خلق الإنسان ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين [المؤمنون:12-14].
ترى هل مارس محمد صلى الله عليه وسلم الطب أم كان على صلة بالأطباء، وهل كان الأطباء حينها يعلمون ذلك؟ كلا، بل هو كما قال تعالى وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون [العنكبوت:48-49].
نفعني الله وإياكم بهدي الكتاب وسنة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، أعطى كل شىء خلقه ثم هدى، وأشهد أن لا إله إلا ألله وحده لاشريك له، أمات وأحيا، وخلق الزوجين من نطفة إذا تمنى، أمسك السموات والأرض أن تزولا، وأهلك عاد الأولى، وثمود فما أبقى، والمؤتفكة أهوى، فغشاها ما غشى، فبأى آلاء ربك تتمارى...
وأشهد أن محمد عبده ورسوله أنزل الله عليه من البينات والهدى ما تخشع له الصخور الصم، وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون... اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر االنبيين.
عباد الله: ويجد المتدبر لكتاب الله ألواناً من المواعظ والعبر، تدعوه إلى الإيمان إن كان في بحثه صادقا، وتثبت إيمانه وتزيده إن كان من قبل مؤمنا، وقل أن يستفيد من وقفات القرآن من يهذه هذّ الشعر أو يقرؤه كما يقرأ الكتاب أو الجريدة، كحال من يحفظون القرآن وهم لا يفقهون منه شيئا ..
إن أثر القرآن عظيم في النفوس حين تقشعر منه الجلود، ثم تلين له القلوب، وإن مواعظه وعبره أكثر من أن تحصى حين يقرأ بتأمل وتدبر... وحسبنا في هذه الوقفة أن نذكر بمنهج القرآن في تثبيت الإيمان من خلال دلائل الكون في الأنفس والآفاق، ومن عظمة القرآن أن تبقى مواعظه صالحة نافعة في كل زمان ومكان، أبى الله أن يبلى كتابه، أو يخلق من كثرة الترداد على تعاقب الأجيال.
وإليكم نموذجا يلفت فيه ربنا تبارك وتعالى أنظارنا من خلال آي القرآن إلى التأمل والاعتبار، في مشاهد تتكرر في كل آن، ونراها رأي العيان، ومع ذلك فقد نغفل عنها كثيرا، أو لا تدعونا لمزيد من الإيمان ... للجهل بها أو لكثرة إلفها، أو لثباتها، علما بأن في ثباتها واستمرارها دليلا على بقاء موجدها على الدوام.
تأملوا الحدث واستلهموا العبرة، وجددوا الإيمان، يقول تبارك وتعالى: ألم ترى إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكناً ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً ثم قبضناه إلينا قبضاً يسيراً وهو الذي جعل لكم الليل لباساً والنوم سباتاً وجعل النهار نشوراً وهو الذي أرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهوراً لنحيي به بلدة ميتاً ونسقيه مما خلقنا أنعاماً وأناسي كثيراً ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفوراً ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً فلا تطع الكافرون وجاهدهم به جهاداً كبيراً وهو الذي مرج البحرين هذا عذاب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخاً وحجراً محجوراً وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً وكان ربك قديراً ويعبدون من دون الله ما لاينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيراً [الفرقان:54-55].
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآيات: من هاهنا شرع سبحانه وتعالى في بيان الأدلة الدالة على وجوده وقدرته التامة على خلق الأشياء المختلفة والمتضادة.(/35)
ونقل عن ابن عباس وابن عمر وغيرهم أن المقصود بالظل في الآية هو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، ولو شاء لجعله ساكنا، أي مستمرا، ولولا أن الشمس تطلع عليه لما عرف ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً ثم يقبض الله الظل حتى لايبقى منه في الأرض إلا ما كان تحت سقف أو شجرة ( تفسير ابن كثير عند آيات الفرقان ).
يقول صاحب الظلال: هذا التوجيه إلى تلك الظاهرة التي نراها كل يوم، ونمر بها غافلين هو طرف من منهج القرآن في استحياء الكون دائما في ضمائرنا، وفى إحياء شعورنا بالكون من حولنا، وفي تحريك خوامد إحساسنا التي أفقدها طول الإلفة إيقاع المشاهد الكونية العجيبة، وطرف من ربط العقول والقلوب بهذا الكون الهائل العجيب (2).
أيها المسلمون، كم في إرسال الرياح وإنزال المطر من آية تدل على أن مرسلها ومنزل المطر بعدها واحد قادر، والرياح كما يقول العلماء أنواع في صفات كثيرة من التسخير:
فمنها ما يثير السحاب، ومنها ما يحمله، ومنها ما يسوقه، ومنها ما يكون بين يدي السحاب مبشرا، ومنها ما يكون قبل ذلك تقم الأرض، ومنها ما يلقح السحاب ليمطر، وإلى ذلك أشار ربنا في قوله: وهو الذي أرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته [الفرقان:48]. وآيات غيرها في القرآن كثير.
فإذا أنزل الله المطر أحيا به الأرض، روى عكرمة قال: ما أنزل الله من السماء قطرة إلا أنبتت بها في الأرض عشبة، أو في البحر لؤلؤة.
ومع هذه القدرة البالغة، فلله القدرة كذلك على تصريفه من مكان لآخر، وسقى هذه الأرض أو البلد دون تلك ولقد صرفناه بينهم ليذكروا .
قال ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم: ليس عام بأكثر مطر من عام، ولكن الله يصرفه كيف يشاء، ثم قرأ هذه الآية لقد صرفناه بينهم ليذكروا والقدرة هنا مذكرة بالقدرة على إحياء الموتى بعد أن كانت عظاما ورفاتا، أو ليذكر من مُنع المطر أنما أصابه ذلك بذنب أصابه، فيقلع عما هو فيه... كذا نقل الحافظ ابن كثير رحمه الله في معنى الذكرى هنا (2).
عباد الله:
ومن ماء السماء إلى ماء الأرض يقص علينا القرآن عجائب قدرة الله وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج فالحلو منها كالأنهار والعيون والآبار، قاله ابن جريج واختاره ابن جرير، وقال ابن كثير: وهذا المعنى لا شك فيه فإنه ليس في الوجود بحر ساكن وهو عذب فرات ..
أما الملح الأجاج فهو هذه البحار والمحيطات الكبيرة في المشارق والمغارب، وهذه البحار حين أراد الله أن تكون ساكنة لا تجري، بل تتلاطم أمواجها وتضطرب، أو يحصل فيها المد والجزر بقدرة الله وهي ثابتة في أماكنها ... حين أراد الله لهذه المياه الغامرة لجزء كبير من سطح الأرض أن تكون بذلك القدر، وله الحكمة البالغة، أن تكون مياهاً مالحة... أتدرون لماذا؟
قال أهل العلم: خلقها الله مالحة لئلا يحصل بسبها نتن الهواء فيفسد الوجود بذلك، ولئلا تجوى الأرض بما يموت فيها من الحيوان، ولما كان ماؤها ملحا كان هواؤها صحيحا وميتتها طيبة (1) .. أليس ذلك تقدير العزيز العليم؟
بل قيل في حكمة الله وتقديره لعدم اختلاط البحرين: أن مجاري الأنهار غالبا أعلى من سطح البحر، ومن ثم فإن النهر العذب هو الذي يصب في البحر الملح، ولا يقع العكس إلا نادرا، وبهذا التقدير الدقيق لا يطغى البحر، وهو أضخم وأغزر، على النهر الذي منه الحياة للناس والأنعام والنبات، فتبارك الله أحسن الخالقين(2).
أيها المسلمون، وثمة ماء ثالث هو أعجب من ماء السماء وماء البحر .. إنه ماء الحياة .. إنه الماء المهين الذي ينشأ منه البشر أجمعون، وتنتشر فيه الحياة والأحياء، وتأملوا القدرة الإلهية في قوله: وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً وكان ربك قديراً فالمخلوق في ابتداء أمره ولد نسيب، ثم يتزوج فيصير صهرا، ثم يصير له أصهار وأختان وأقرباء ... وكل ذلك من ماء مهين...
تلكم من عجائب قدرة الله ... وتلكم أدلة على وحدانية الله .. ألا وإن فيها بواعث للإيمان واليقين لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. . .
--------------------------------------------------------------------------------
(2) الظلال 5 / 2569 .
(2) تفسير آيات القرآن 3 / 513 .
(1) تفسير ابن كثير ...
(2) في ظلال القرآن.(/36)
خطبة إبليس في النار ...
قال تعالى: {وقال الشيطان لمّا قُضيَ الأمرُ إنّ الله وعدَكُم وعدَ الحقِّ ووعدّتُكم فأخلفتُكم وما كان ليَ عليكم من سلطانٍ إلا أن دعوتُكم فاستجبْتُم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسَكم, ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمُصرِخِيِّ إنّي كفرتُ بما أشركتموني من قبلُ إنّ الظالمين لهم عذابٌ أليم}.إبراهيم22.
تذكرة:
مما يجب تحريره في تصوّر حقيقة الصراع في هذه الدنيا أن يعلم المسلم أنّ عدوّه الحقيقي هو الشيطان, وهو كائنٌ مخلوق, وما من شرّ في هذه الدنيا إلاّ وهو منبثقٌ من زمزمته وهمزه ولمزه, وهو أستاذ أهل الشرّ, وهو إمامهم وقائدهم, يحادثهم ويحادثونه {يوحي بعضُهم إلى بعضٍ زُخرُفَ القولِ غروراً} ويبثّ فيهم من تعاليمه وأفكاره ما يجعلهم عباداً لدينه وشريعته.
وقد كتب بعض مشايخنا في تعريف الأمة لحقيقة هذه الصراع وطبيعته وأهدافه وأسلحته كتاباً ماتعاً رائعاً لا ينبغي لطالب العلم أن يفوّت قراءته, هذا الكتاب هو: (عندما ترعى الذئاب الغنم) للشيخ رفاعي سرور, وحتى لا أكرّر ما يقوله فضيلة الشيخ فإنّي أنصح إخواني بقراءته ودراسته, وهو من الكتب القليلة التي تخرجها مطابع اليوم وتستحقّ النظر والاحترام. وكتب الشيخ كلّها نافعة جليلة, منها: قدر الدعوة وحكمة الدعوة, وأصحاب الأخدود. فجزى الله الشيخ خير الجزاء.
هذا العنوان -خطبة إبليس في النار- قاله الإمام العلاّمة أبو الفداء ابن كثير في تفسيره. وفي هذا العنوان -في ظنّي- ما يحتاج إلى بعض المراجعة لتصويب ما يقع في خلد القارئ من تمثّل للطريقة التي يلقي فيها الشيطان خطبته, وهذا التمثّل له أهمّية في تحقيق المعنى النفسي لقارئ هذه الآية العظيمة, فإنّ تصوّر المسلم لخطيب فوق منبر, شامخ بأنفه, دافع لصدره, معتزٌ بنفسه, تلقي ظلالاً من الهيبة على معاني الكلمات التي يخرجها, وتكسب الألفاظ قوّة زائدة, كما هو شأن حركة اليد للخطيب أو المدرّس أو الواعظ.
وهذا الموقف الذي سيخطب فيه الشيطان خطبته ليس فيه أيّ قدر من هذه المعاني, بل هو على الضدّ منها من كلّ وجه. فإذا كان شأن الخطيب أن يخطب على مستمعيه من على فوق درجة أو درجات, فإنّ الشيطان هاهنا يخطب من سفل تحت دركات، وإذا كان الخطيب فوق منبره يقرّر ويعظ ويعلّم, فإبليس هنا يتنصّل ويبكت ويَخزَى ويُخزِي، وإذا كان الخطيب يرفع رأسه ليراه الناس وليكسو ألفاظه معنى الهيبة والقوة, فإنّ إبليس هنا ينكمش ويتصاغر لأن جموع الطالبين بالحقوق منه هادرة غاضبة صادخة وتطلب التفسير والجواب. فإبليس في خطبته هذه قابع في الدرك الأسفل, بل في أسفل دركة, خائب حسير, تلفحه النار والعذاب من كل مكان, وملائكة العذاب تضربه من كلّ جانب, وصراخُ وعويلُ أتباعه تزيده آلاماً فوق ما هو عليه, ورؤيته للفقراء والمساكين الذين كان يستهزئ بهم ويتعالى عليهم وهم ملوك في الجنان تأكل قلبه وتشعل ندمه.
هكذا يجب أن نقرأ هذه الخطبة, وإلا وقعنا في الكثير من الأخطاء في فهمنا لما يقوله الله تعالى
وهذا الذي أقوله مع علمي بما رُويَ عن الحسن البصريّ رحمه الله تعالى أنّه قال: يقف إبليس خطيباً في جهنّم على منبرٍ من نار يسمعه الخلائق جميعاً فيقول: إنّ الله وعدكم وعد الحقّ.
ولا أدري إلا أن الذي يُطالب من قبل أتباعه أن يُصرخهم (ينقذهم) وينفذ وعوده فينكص ويعترف بكذب وعوده, ويقرّ بعجزه عن عدم نصرتهم, إلا أنّه في الحالة التي وصفت, وعلى كلّ حال فلو صحّ ما قاله إمامنا الحسن رحمه الله فليس فيه إلا أنّه على منبر من نار, ومن يقوم على هذا المنبر باختياره؟ فوجه ما قاله الإمام -والله أعلم- أنّه أُقيم رغم أنفه على منبر محاكمة وعذاب ولم يقم باختياره, فلا يبعد أبداً عن المعنى الذي قلناه والله الموفّق.
وهذه الآية عن خطبة الشيطان قيلت في كتاب الله تعالى بعدما أخبرنا الله تعالى عن تبرّي الأسياد من الأتباع: {وبرزوا لله جميعاً فقال الضعفاء للذين استكبروا إنّا كنّا لكم تَبَعاً فهل أنتم مغنون عنّا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص وقال الشيطان..}.(/1)
والمناسبة بين الآيتين واضحة جليّة, فإنّ سياق الآيتين حديث عن قضيّة مهمة وهي قضية الخول والأتباع, وأنّه لا حجة لهم عند الله تعالى بكونهم كانوا مستضعفين في قوّتهم وعقولهم, رضوا لأنفسهم بالتسليم, وتعليق ما هم عليه من الكفر والضلال على مشجب أسيادهم, رافعين عن أنفسهم التهمة, واجدين لها العذر والحجّة, وهي حجّة تتكرّر على مرّ الأزمان والدهور, يقولها الناس بصيغ متعدّدة وبألفاظ متباينة لكنّها تدور على معنىً واحد وهو: {كنّا مستضعفين في الأرض}, والله تعالى قد قطع هذه الحجّة في الدنيا وقطعها في الآخرة, أمّا في الدنيا فإنّ الله تعالى قد أهلك أتباع الفراعنة والطواغيت مع أسيادهم, ولم يستثنهم من العذاب والهلاك, قال تعالى عن فرعون: {فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليمّ}القصص40. ودمّر صنيع الآمر والمأمور قال تعالى: {ودمّرنا ما كان يصنع فرعون وجنوده وما كانوا يعرشون}، وأمّا في الآخرة فكما هو قوله سبحانه وتعالى في هذه الآية التي بين أيدينا , وكما في غيرها من الآيات الكثيرة.
وقد ذكر الإمام ابن القيّم رحمه الله تعالى في كتابه (طريق الهجرتين) مراتبَ المكلّفين, وذكر مرتبة من هذه المراتب هي مرتبة بهائم البشر من المقلّدين للكفّار والطواغيت, يُرجع إليها لأهمّيتها.
والآيات في هذا الباب فيها التحذير من التقليد, ومن عدم استعمال المرء لما وهبه الله تعالى من نعمة العقل والنظر, وفيها الدعوة إلى عدم قَبول الاستضعاف, وإن الاستضعاف والذلّة هي طريق الكفر والضلال, فتبكيت التقليد, أي تقليد أتباع الكفر لأسيادهم فيها الدعوة لتحرّر العقل من أغلاله وتحرّر الإرادة من معوّقاتها, وهذا هو الإنسان لا غير علم وإرادة, وما جاء الإسلام إلاّ لتحريرهما من الأغلال والقيود والموانع, وإنّ تقدّم أي أمّة من الأمم لا يكون إلا بتصويب العلم وتحرير الإرادة, وصدق الشافعيّ رحمه الله تعالى حين مدح نفسه بأنّه يرى المذلّة كفراً كما هو في ديوانه.
وما تَراجُعُ أمّتنا وتخلُّفُها وارتكاستُها في مراتب الذلّ والهوان إلا بسبب الجهل والذي منه التقليد, وبسبب تحطّم إرادتها بقيود الشهوات والأفكار الباطلة كالجبرية والصوفيّة.
ولذلك من مهمّات الدعاة إلى الله تعالى ومن مهمّات الجماعات العاملة لإعادة دين الله تعالى إلى الأرض -إن أحسنوا الطريق- أن ينشروا العلم وينبذوا التقليد, وأن يفتحوا المجال للحركة المبدعة التي تنطلق لتحقيق غايات الإسلام العظيمة.
{وقال الشيطان لمّا قُضِي الأمر}:
لا بدّ من حركة يتصوّرها المرء لتسبق قول الشيطان, إنّها حركة الأتباع والعبّاد له, ذلك أنّهم تشاوروا فيما بينهم واتّفقوا على محاسبته ومطالبته بتنفيذ وعوده, فتدافعوا كالموج يطالبون الشيطان أن يبرر لهم هذا المستقرّ الذي آلوا إليه, وصرخوا بملء أفواههم: أيّها الشيطان... إبليس... أين ما وعدّتنا..؟ أين ما زيّنت لنا..؟ أين ما أقسمت لنا من صدق القول وصواب الحديث إنّهم يصطرخون فيها... ليس صراخاً.. إنّه اصطراخ.
وزيادة المبني تدلّ على زيادة في المعنى, فإمّا أنّهم جرجروه حتّى أقاموه فوق منبر من نار.. وإمّا أنّه تصاغر وأطلق كلماته هذه محاولاً قدر استطاعته أن يُخفي خزيه وعاره, ولم يبقَ له من عذرٍ فقد قُضي الأمر, وآب الناس إلى منازلهم: هو وحزبه إلى النار وحزب الله إلى الجنّة.
{إنّ الله وعدكم الحقّ ووعدّتكم فأخلفتُكم}:
ومثل هذه الآية في المعنى قوله سبحانه: والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن شيئاً حتّى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفّاه حسابه.
فالله قد وعد, ووعده حقّ, وهو القادر سبحانه وتعالى أن ينفّذ وعده, لا يعجزه شيء إذا أراده, ثمّ تفكّر بهذه الصيغ الرحيمة التي ينادي الله تعالى بها عباده في هذه الدنيا, إنّها كلمات الرحمة, أُنظر وتفكّر في قوله سبحانه {قل يا عباديَ الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله. إنّ الله يغفر الذنوب جميعاً, إنّه هو الغفور الرحيم} فتفكّر فيها المرّة تلو المرّة, ثمّ تفكّر أنّ الذي يناديكم بهذه الكلمات هو خالقك وربّك, وهو الغنيّ عن العالمين, لا يزيدون ملكه شيئاً إذا عبدوه, ولا ينقصون ملكه شيئاً لو كفروه, سبحانه ما أرحمه, وما أرأفه, فله الحمد على جميل صفاته.. جلَّ في علاه.(/2)
إنّ من وعد الحقّ أن ينصر الله عباده فنصرهم, وإنّ من وعد الحقّ أن يملأ قلوبهم بالرضا والاطمئنان فأرضاهم, وكشف عنهم غمّهم, وإنّ من وعده أن يخفّف عنهم سكرات الموت فكان لهم ذلك, وأن يجعل عليهم قبورهم جنّة من الجنان فيها روح وريحان فذاقوا من ذلك ألواناً, وإنّ من وعد الحقّ أن يؤمّنَهم يوم الفزع الأكبر فأمَّنهم, وإنّ من وعد الحقّ أن يجعل لهم نوراً في قبورهم ويوم بعثِهم وفوق الصراط فكان لهم النور, وإنّ من وعد الحقّ أن يدخلهم الجنان فدخلوها, وإنّ من وعد الحقّ وهو أعلى الوعود وأشرفها أن يروا ربّهم فتجلّى لهم من فوقهم ورأوه كما يرون البدر في الليلة الصافية وقالوا الحمد لله الذي صدَقَنا وعده وأورثنا الأرض نتبوّء من الجنّةحيث نشاء فنعم أجر العاملين.
فماذا فعل الشيطان بوعوده..؟ {فأخلفتكم} هكذا ظهر سراب وعوده, تكشّف كذبها, وبانت على حقيقتها, لقد تلاشت كلّها تحت كلمة الشيطان (فأخلفتكم).. لقد بحثوا عنه في كلّ موطن أقسم لهم أن يكون لهم فيه, ونادوا عليه بكل أصواتهم حتّى كلّت وبحّت, لكنه لم يكن هناك, لقد تخلّف لقد أقسم لأبينا آدم {وقاسمهما إنّي لكما من الناصحين} وكذب في قسمه. لقد أوعدهم الفقر إن أنفقوا فكان ما نصحهم به هو الفقر بعينه.
لقد وعد أولياءه في بدر وقال: لا غالب لكم اليوم من الناس, وإنّي جار لكم, فما هي إلا لحظات حتّى صدق الله وعده للمؤمنين وأنزل ملائكته تؤيّدهم وتثبّتهم وتقاتل معهم فما كان من الشيطان إلا أن نكص على عقبيه وقال إنّي بريء منكم.. إنّي أرى ما لا ترون, إنّي أخاف الله والله شديد العقاب.
فأخلفتكم, كلمة لم تبقِ لهم في نفوسهم أملاً, وقطّعت كلّ أمانيهم, ولم يبقِ لهم من رجاء, وإذا كان للشيطان أن يصدق قليلاً فإنّ صدقه هنا لم يكن سوى تصوير لحقيقة الأمر التي لا دافع لها. ولله الأمر من قبل ومن بعد. ثمّ بكلمات يسيرة خاطفة, ككلّ خطبة, قذف البراءة والتبرّي في وجوههم: {وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي}.
والسلطان ههنا اختلف العلماء في تفسيره, فأكثرهم على أنّه الحجّة والدليل, أي لم يكن لي من دليل ولا حجّة على ما دعوتكم له من الشرك والكفر والمعصية, بل بمجرّد أن رفعت لكم لواء الشهوات حتّى أقبلتم إليها دون تفكّر بالعواقب, ودون نظر صحيح.
وقال بعض أهل العلم إنّما السلطان هو القوّة والقهر, أي لم أقهركم على الكفر والشرك إنّما أقبلتم إلى ذلك بمحض إرادتكم, ولا يبعد أنّ المراد بالسلطان هو هذا وهذا، بل كلمة السلطان أشمل من ذلك, فإنّ الشيطان يريد أن يبرّئ نفسه, وأن يحمّل الأتباع نتيجة ما أتوا وعملوا, ولكنّه استدرك وبيّن ما كان منه من عمل: {إلا أن دعوتكم}, وهكذا أخفى كلّ ما يقوم به من تزيين للباطل ونصرة للشر والنفخ والهمز في قلوب الناس بكلمة واحدة: دعوتكم.
وأقول: أخفى لأنّ في كلمته هذه تزييف للحقيقة, فإنّها كلمة سريعة فلو كان أمام قضاء غير ما هو فيه لما استحقّ عليها عقاباً, لكنّها يوم القيامة تحمل حقيقة المعنى وذلك لتحقّق الجزاء, وهي كلمة تَبرّي: نعم, لكنها كلمة تبكيت وتحقير لأتباعه وعباده, وهي بلا شكّ ستملأ قلوبهم حسرة وندامة الشيطان.
دعاهم, وزيّن لهم, ووسوس لهم, ووعدهم, وأوحى لهم, ورماهم بسهامه, وقذف في طريق الحقّ ألف معوّق ومعوّق, وصاحب قلوبهم في السر والعلن وكان ممّا قال لربّه يوم لعنه: {أرأيتك هذا الذي كرَّمتَ عليّ لئن أخّرتنِ إلى يوم القيامة لاحتنكنّ ذرّيته إلا قليلاً}الإسراء62.
فقال الله تعالى له: {اذهب فمن تبعك منهم فإنّ جهنّم جزاؤكم جزاءً موفوراً * واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم, وما يعدهم الشيطان إلا غروراً * إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربّك وكيلاً}.
فقارن بين هذه الأفعال: دفع الناس بالصوت والنداء إلى الكفر والشرك والمعصية, والجلب عليهم بالخيل والرجال والمشاركة في الأموال والأولاد, والوعود الكاذبة, ثمّ انظر إلى قوله {لأحتنكنّ ذرّيته} أي لأشدّنهم إلى الشرّ من الحنك وأسوقنّهم إليه بكلّ قوّة, وبين قوله: {دعوتكم} ترى كيف ما زال الشيطان كاذباً ومراوغاً في كلّ موطن, نعم: صدق, دعاهم فقط, كلّ ما فعله اختزله في كلمة واحدة, أمّا تحقيقها على أرض الواقع فهي تحتاج إلى شروح وشروح. {دعوتكم فاستجبتم} وهكذا يتمّ التقريع والتبكيت, لقد استجبتم لنداء الشيطان بمجرّد أن دعاكم.(/3)
لكن هل سكتوا؟ اسمع ماذا قال الله عن جواب الأتباع للأسياد بعد قول الأسياد: {قال الذين استكبروا للذين استُضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم, بل كنتم مجرمين} فردّ الأتباع: {وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً}. نعم: إنّه مكر الليل والنهار, والتخطيط الدؤوب بترتيب الخطوات -خطوات الشيطان- ليتمّ الانزلاق, {فلا تلوموني ولوموا أنفسكم}: إذاً كان ممّا صرخوا في وجهه أنّهم لاموه على ما زيّن لهم, ولكنّه يردّ لومهم.
لكن السؤال الذي يوجّه له: لماذا لا يلوموه؟ أليس هو الذي دعاهم, وقد اعترف بذلك؟! أم أنّه يعتبر أنّ هذه ليست بالجريمة التي تستحقّ العقاب ولا حتّى اللوم.
نعم: ليس لهم عذر عند الله بأنّهم اتّبعوا الشيطان وصدّقوا وعوده, بل سيعاقبون على كلّ ما فعلوا واقترفوا وبيّتوا.
لكن أصحيح أنّه لا لوم على الشيطان؟ إنّها نصف الحقيقة, وكما أنّها الكلمة البريئة: دعوتكم فاستجبتم, وهي اعتراف بالحق مع المجاهدة القصوى لإمرارها سريعاً دون تفصيل يؤدّي إلى إثبات الجرم, فكذلك هنا: {فلا تلوموني ولوموا أنفسكم} إنّها نصف الحقيقة تتكرّر, لكن كما قال الله عن الأسياد والأتباع: {لكلٍّ ضعفٌ} أي من العذاب, وذلك بعد قولهم: {ربّنا هؤلاء أضلّونا فآتِهم عذاباً ضعفاً من النار قال لكلٍّ ضعفٌ ولكن لا تعلمون}. {ما أن بمصرخكم وما أنتم بمصرِخِيّ}. وهكذا تدرّج في حديثه حتّى وصل إلى هذه الحقيقة, لن أستطيع إنقاذكم ولا نجدتكم, كما أنّكم لا تستطيعون إنقاذي ولا نجدتي, والعرب تقول للنجدة والمغيث والمعين: الصارخ, والصراخ هو الصياح, لأن طلب الغوث وكذا المغيث لا يخلو منه غالباً، قال أميّة بن أبي الصلت: ولا تجزعوا إنّي لكم غير مصرخ، وليس لكم عندي غناءٌ ولا نصر، أي لست لكم بمغيث.
وهكذا لم يجدوا عنده إلا السراب الخادع, والأماني الكاذبة, والوعود الباطلة.
وقوله سبحانه وتعالى على لسان الشيطان {ما أنا بمصرخكم} دليل على أنّ حديث أهل النار هو الصراخ -وهم يصطرخون فيها- ولا شكّ أنّ حالهم يدعوا لذلك, نعوذ بالله من عذابه وناره.
والمرء لا يقدّم إلا ما يقدر عليه, وههنا لا يقدر الشيطان على إنقاذ نفسه, فكيف يقدر على إنقاذ غيره؟! ثمّ متى استطاع الشيطان أن يقدّم لعباده وأتباعه شيئاً؟! ومتى صدق في وعد قطعه على نفسه لهم.
ألا ما أشقى من يتّبع الشيطان ويثق به ويصدّق وعوده. {إنّي كفرت بما أشركتموني من قبل}. وها هو يردّ عبادتهم له في وجوههم, ويرميها خلقة بالية, فقد كفر بعبادتهم, وتبرّأ من إشراكهم إياه مع الله تعالى, فقد كفر بشركهم, وهو اعتراف منه أنّ تألّهه على أتباعه هو تألّه باطل, وأنّ عبادتهم إيّاه عبادة باطلة, وأنّ كل طاعة قدّموها له رجاءَ خيرٍ منه أو جزاء ذهبت سراباً ولم تك شيئاً. وهكذا تبيَّن للأتباع من عباده الذين نراهم يملؤون السهل والواد, ويأخذون عنه شريعتهم, ويدمّرون فطرتهم بالانقياد له, ويعرضون عن أمر ربّهم وشريعته, وسنّة النبيّ وهديه, تبيّن لهم: أنّ وعوده كاذبة, وأنّ نهاية العلاقة بينهما هي التبريّ والقطيعة, وأنّه لن ينصرهم في أيّ مقام من مقاماتهم التي يحتاجون فيها إلى النصرة والتأييد.
والله قوله الحقّ, ووعده الحقّ, وما أخبرنا بهذا إلا رحمة بنا, وإخباراً لما سيقع يقيناً من أجل الاتّعاظ قبل فوات الوقت, فيومها: إنّ الظالمين لهم عذاب أليم, فليعجّل الناس بوصل حبالهم مع الله تعالى, وليقطعوا حبالهم مع الشيطان وجنده, وليسمعوا قوله سبحانه {ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألاّ تعبدوا الشيطان إنّه لكم عدوٌّ مبين. وأن اعبدوني هذا صراطٌ مستقيم}يس60-61.
أمّا المؤمنون فقد قال الله تعالى عقب ذلك: {وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربّهم تحيّتهم فيها سلام}إبراهيم23.
وهي كلمات فيها كلّ الجواب على من سأل: فماذا فعل الله بعبيده, وبأتباع الأنبياء, نعم هذه خطبة إبليس في عبيده وأتباعه, وأما قول الله لعبيده وأحبابه في الجنان يقول لهم: اليوم أُحلّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً, ثمّ يتجلّى لهم فيرونه وهم جلوس على منابر النور واللؤلؤ والذهب وكثبان المسك.
إنّها حقائق لا محيد للناس عنها, فويلٌ للقاسية قلوبهم من ذكر الله(/4)
خطبة الحاجة أصلها ومدلولها
د. محمد بن عبد الله القناص 26/7/1426
31/08/2005
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
وردت خطبة الحاجة من طريق عدد من الصحابة منهم: ابن مسعود أخرج حديثه الأمام أحمد ح ( 3536 )، والترمذي ح ( 1023) وصححه، والنسائي ح ( 1387 ) ، أبو داود ح ( 1809 ) قال: " عَلَّمَنَا النبي صلى الله عليه وسلم خُطْبَةَ الْحَاجَةِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ثُمَّ يَقْرَأُ ثَلَاثَ آيَاتٍ: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) ، ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) ، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ) ثُمَّ تَذْكُرُ حَاجَتَكَ، واللفظ لأحمد .، ويشهد له حديث عبد الله بن عباس، أخرجه مسلم ح ( 868 )، وأحمد في مسنده ح ( 2613 )، قال: " إنَّ ضِمَادًا قَدِمَ مَكَّةَ وَكَانَ مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ وَكَانَ يَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ فَسَمِعَ سُفَهَاءَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يَقُولُونَ إِنَّ مُحَمَّدًا مَجْنُونٌ فَقَالَ لَوْ أَنِّي رَأَيْتُ هَذَا الرَّجُلَ لَعَلَّ اللَّهَ يَشْفِيهِ عَلَى يَدَيَّ قَالَ فَلَقِيَهُ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنِّي أَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ وَإِنَّ اللَّهَ يَشْفِي عَلَى يَدِي مَنْ شَاءَ فَهَلْ لَكَ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَمَّا بَعْدُ قَالَ فَقَالَ أَعِدْ عَلَيَّ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ فَأَعَادَهُنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ قَالَ فَقَالَ لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ وَقَوْلَ السَّحَرَةِ وَقَوْلَ الشُّعَرَاءِ فَمَا سَمِعْتُ مِثْلَ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ وَلَقَدْ بَلَغْنَ نَاعُوسَ الْبَحْرِ قَالَ فَقَالَ هَاتِ يَدَكَ أُبَايِعْكَ عَلَى الْإِسْلَامِ قَالَ فَبَايَعَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى قَوْمِكَ قَالَ وَعَلَى قَوْمِي قَالَ فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً فَمَرُّوا بِقَوْمِهِ فَقَالَ صَاحِبُ السَّرِيَّةِ لِلْجَيْشِ هَلْ أَصَبْتُمْ مِنْ هَؤُلَاءِ شَيْئًا فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ أَصَبْتُ مِنْهُمْ مِطْهَرَةً فَقَالَ رُدُّوهَا فَإِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمُ ضِمَادٍ . واللفظ لمسلم .
ويشهد لخطبة الحاجة أيضاً ما أخرجه مسلم ح ( 867 )، والنسائي ح ( 1560 ) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ النَّاسَ يَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ يَقُولُ مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَخَيْرُ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ وَعَلَا صَوْتُهُ وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ .
وهذه الخطبة تسمى خطبة الحاجة لقول عبد الله بن مسعود : " عَلَّمَنَا النبي صلى الله عليه وسلم خُطْبَةَ الْحَاجَةِ: ... " فيشرع للإنسان أن يأتي بها عند كل حاجة مثل عقد النكاح والموعظة ونحو ذلك، وقد اشتهر عند أهل العلم أنها تقال عند عقد النكاح، ولهذا يذكرون حديث ابن مسعود في كتاب النكاح، وخطبة الحاجة على وجازة ألفاظها تضمنت معاني عظيمة وكلمات جامعة، وفيها إظهار العبودية والافتقار والتذلل لله تبارك وتعالى، وهذا تحليل موجز لمضامين هذه الخطبة الجامعة:(/1)
1- تضمنت هذه الخطبة كلمة التوحيد، وهي الشهادة لله بالوحدانية والإقرار له بالألوهية، وللنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وأنه عبد لله ففي قوله صلى الله عليه وسلم: " أشهد أن لا إله إلا الله " شهادة بنفي العبادة عما سوى الله، وإثباتها لله سبحانه وتعالى، يعني: إبطال عبادة كل ما سوى الله وإثبات العبادة لله، فعلى هذا معنى لا إله إلا الله: لا معبود – بحق أو لا معبود حقاً – إلا الله سبحانه وتعالى، لأن المعبودات على قسمين: معبود بحق، ومعبود بالباطل، المعبود بحق هو الله، والمعبود بالباطل هو ما سوى الله من كل المعبودات، قال تعالى: ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ )، وكلمة ( لا إلا الله ) كلمة عظيمة، جاءت في أكثر من موضع في القرآن الكريم بلفظها وبمعناها، كما في قوله تعالى: ( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ )، وقوله تعالى: ( إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ )، وكلمة التوحيد هي أفضل الذكر وهي كلمة التقوى والإخلاص، ودعوة الحق، وهي براءة من الشرك، ولأجلها خُلق الخلق، وأرسلت الرسل، ، وأُنزلت الكتب، وأعدت دار الثواب ودار العقاب في الآخرة، فمن قالها وعمل بمقتضاها كان من أهل الجنة، ومن ردها وعمل بما يناقضها كان من أهل النار، ومن أجلها شرع الجهاد، من قالها عصم ماله ودمه، وهي مفتاح دعوة الرسل، وهي تمحو الذنوب، وتجدد ما درس من الإيمان في القلب . والشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة معناها الإيمان بأنه رسول من الله تجب طاعته واتباعه والاقتداء به وتوقيره ومحبته
2- الاعتراف بأن الله هو الذي يستحق الحمد دون سواه، والتعبد لله بحمده والثناء عليه، ومعنى الحمد: الثناء على الله تبارك وتعالى لما اتصف به من صفات الكمال والجلال والجمال ، ولنعمه وآلائه على عباده ، فهو المستحق للحمد دون سواه و " ال " في الحمد للاستغراق أي جميع أصناف الحمد له سبحانه وتعالى . قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " فإن الله سبحانه أخبر أن له الحمد ، وأنه حميد مجيد، وأن له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم ونحو ذلك من أنواع المحامد . والحمد نوعان: حمد على إحسانه إلى عباده، وهو من الشكر، وحمد لما يستحقه هو بنفسه من نعوت كماله، وهذا الحمد لا يكون إلا على ما هو في نفسه مستحق للحمد، وإنما يستحق ذلك من هو متصف بصفات الكمال ..... " مجموع الفتاوى (6/83- 84)، والشكر مثل الحمد إلا أن الحمد أعم منه، قال القرطبي : " الحمد ثناء على الممدوح بصفاته من غير سبق إحسان، والشكر ثناء على المشكور بما أولى من الإحسان وهذا قول علماء اللغة" النهج الأسمى ( 1/272 )، وقال ابن القيم: " والفرق بين الحمد والشكر: أن الشكر أعم من جهة أنواعه وأسبابه، وأخص من جهة متعلقاته، والحمد أعم من جهة المتعلقات وأخص من جهة الأسباب، ومعنى هذا أن الشكر يكون بالقلب خضوعاً واستكانة وباللسان ثناءً واعترافاً ، وبالجوارح طاعة وانقياداً، ومتعلقاته: النعم دون الأوصاف الذاتية، فلا يقال: شكرنا الله على حياته وسمعه وبصره وعلمه وهو المحمود على إحسانه وعدله والحمد يكون على الإحسان والنعم، فكل ما يتعلق به الشكر يتعلق به الحمد من غير عكس، وكل ما يقع به الحمد يقع به الشكر من غير عكس، فإن الشكر يقع بالجوارح والحمد يقع بالقلب واللسان "(/2)
3- طلب الاستعانة من الله، والاستعانة: الثقة بالله والاعتماد عليه، والعبد محتاج للاستعانة بالله على مصالح دينه ودنياه، فهو محتاجٌ إليها في فعل المأمورات وترك المحظورات، وفي الصبر على المقدورات، كما قال يعقوب عليه السلام: ( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ )، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " تأملت أنفع الدعاء فإذا هو: سؤال العون على مرضاته، ثم رأيته في الفاتحة في: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) "، ومن أسماء الله الحسنى المستعان، وقد ورد في القرآن الكريم مرتان ، في قوله عز وجل: ( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ )، وفي قوله تعالى: ( قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ)، والمستعان معناه: الذي يُطْلَبُ منه العون، والعون الظهير على الأمر، وهو سبحانه غني عن الظهير والمعين والشريك، فهو سبحانه يُعين عباده ولا يستعين بأحد منهم لا في الأرض ولا في السماوات قال تعالى: ( قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ )، قال الحافظ ابن رجب – رحمه الله – عند شرح قوله صلى الله عليه وسلم: " وإذا استعنت فاستعن بالله " قال: " الاستعانة بالله وحده منتزع من قوله تعالى: ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )، وهي كلمة عظيمة جامعة يقال: إن سر الكتب الإلهية كلها ترجع إليها وتدور عليها، وفي استعانة الله وحده فائدتان: إحداهما: أن العبد عاجز عن الاستقلال بنفسه في عمل الطاعات، والثانية: أنه لا معين له على مصالح دينه ودنياه إلا الله عز وجل ، فمن أعانه الله فهو المعان، ومن خذله الله فهو المخذول، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز " [ أخرجه مسلم ح ( 2664 ) ] وأمر معاذ بن جبل أن لا يدع في دبر كل صلاة أن يقول: " اللهم أعني على ذكر وشكرك وحسن عبادتك، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم " يا رب أعني ولا تعن علي " [ أخرجه أبو داود ح ( 1522 ) ] .(/3)
4- طلب الاستغفار من الله، والاستغفار والمغفرة أصلها الغفر: أي التغطية والستر، وغفر الله له ذنوبه أي سترها، فالاستغفار من الذنوب هو طلب المغفرة، والعبد أحوج ما يكون إليه لأنه يخطئ بالليل والنهار، وقد تكرر في القرآن ذكر التوبة والاستغفار، والأمر بهما، والحث عليهما، وحث النبي صلى الله عليه وسلم على طلب المغفرة واستغفار الله سبحانه وتعالى، أخرج أحمد ح ( 17577 ) عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ فَإِنِّي أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ وَأَسْتَغْفِرُهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ .... " ، وأخرج البخاري ح ( 6307 ) من حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً، وأخرج مسلم ح (2702 ) من حديث الْأَغَرَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ فَإِنِّي أَتُوبُ فِي الْيَوْمِ إِلَيْهِ مِائَةَ مَرَّةٍ ، وأخرج الإمام أحمد ح ( 4496 ) من حديث ابن عمر قال: " إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَجْلِسِ يَقُولُ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ مِائَةَ مَرَّةٍ " والله سبحانه وتعالى سمى نفسه بالغفور في إحدى وتسعين آية، وسمى نفسه بالغفار في خمس آيات، فورود الغفور في القرآن أكثر من الغفار، وكلاهما من أبنية المبالغة، قال تعالى: ( أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ )، وقال تعالى: ( نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ )، وقال تعالى: ( وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ) وقوله تعالى: ( أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ )، وقوله تعالى: ( رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ )، وقوله تعالى:( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً )، وأما الغافر فقد ورد مرة واحدة في القرآن، وذلك في قوله تعالى: ( غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ )، فالله – سبحانه وتعالى – هو الغفور والغفار والغافر الذي يغفر الذنوب جميعاً ويسترها، وفي هذا حث لعباده أن يطلبوا منه المغفرة وستر الذنوب والتجاوز عن السيئات .(/4)
5- الاستعاذة بالله، والاستعاذة معناها الالتجاء والاستجارة بالله في دفع كل مكروه، وقد جاء في هذه الخطبة الاستعاذة من شرور الأنفس وسيئات الأعمال، فالنفس أمارة بالسوء، وفيها أخلاق رديئة وطباع غير لائقة تحتاج إلى تزكية وتهذيب، والذنوب والسيئات لها آثار وخيمة على القلب والبدن، ولا يعيذ من شرور الأنفس وسيئات الأعمال وينجي من عواقبها إلا الله عز وجل، فهو الذي يؤتي النفوس تقواها ويزكيها وهو خير من زكاها، وقد ذكرت مادة " التعوذ " أو الاستعاذة في القرآن الكريم نحو خمس عشرة مرة، ودلنا التنزيل الحميد على أن التعوذ أمر مطلوب في كثير من المواقف والأحوال ، وهو أيضاً من صفات الأنبياء والرسل فجاء في سورة هود عن نوح عليه السلام: ( قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ )، وقال موسى عليه السلام: ( أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ )، ويوسف عليه السلام يذكر القرآن الكريم أنه تحلى بفضيلة التعوذ فقال: ( مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ )، وقال: ( مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظَالِمُونَ )، وفي السنة النبوية كان الرسول صلى الله عليه وسلم يكثر من التعوذ بالله ، وكان من تعوذه صلى الله عليه وسلم ما أخرجه مسلم ح ( 486 ) من حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: فَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً مِنْ الْفِرَاشِ فَالْتَمَسْتُهُ فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ .. وقوله صلى الله عليه وسلم: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْكَسَلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَرَمِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْبُخْلِ " أخرجه البخاري ح (6371) ، ومسلم ح (2706) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: " أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ وَشَرِّ عِبَادِهِ وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَنْ يَحْضُرُونِ " [ أخرجه الترمذي ح ( 3451 ) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وقال: حديث حسن غريب ]، ومنه أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ " [ أخرجه البخاري ح ( 6369 ) ، ومسلم ح ( 2706 ) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه ] ، قال ابن القيم رحمه الله: " حديث: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن تضمن الاستعاذة من ثمانية أشياء كل اثنين منها قرينان مزدوجان، فالهم والحزن أخوان، والعجز الكسل أخوان، والجبن والبخل أخوان، وضلع الدين وغلبة الرجال أخوان، فأن المكروه المؤلم إذا ورد على القلب فإما أن يكون سببه أمراً ماضياً، فيُوجب له الحزن، وإن كان أمراً متوقعاً في المستقبل، أوجب الهم، وتخلفُ العبد عن مصالحه وتفويتها عليها إما أن يكون من عدم القدرة وهو العجز، أو من عدم الإرادة وهو الكسل، وحبس خيره ونفعه عن نفسه وعن بني جنسه، إما أن يكون منع نفعه ببدنه فهو الجبن، أو بماله فهو البخل، وقهرُ الناس له إما بحق فهو ضَلع الدين أو بباطل فهو غلبة الرجال فقد تضمن الحديث الاستعاذة من كل شر " [ زاد الميعاد ( 4/208 ) ] هذا وقد طلب الله سبحانه وتعالى أن نتعوذ بالله من الشيطان الرجيم عند قراءة القرآن الكريم قال تعالى: ( فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ )، قال ابن كثير: " ومن لطائف الاستعاذة أنها طهارة للفم مما كان يتعاطاه من اللغو والرفث وتطيب له، وهو لتلاوة كلام وهي استعانة بالله واعتراف له بالقدرة وللعبد بالضعف والعجز عن مقاومة هذا العدو المبين الباطني والذي لا يقدر على منه ودفعه إلا الله الذي خلقه ولا يقبل مصانعة ولا يداري بالإحسان ، بخلاف العدو من نوع الإنسان "(/5)
6- طلب الهداية من الله، فجميع الخلق مفتقرون إلى الله تعالى في أمور دينهم ودنياهم، والله سبحانه وتعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء، فمن هداه الله تعالى للإيمان فبفضله وله الحمد، كما قال تعالى: ( وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ )، وقوله تعالى: ( وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِين )، ومن أضله فبعدله، قال سبحانه: ( وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ )، وقال عز وجل: ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ )، وقوله: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )، وقد جعل الله سبحانه وتعالى للهداية سبلاً وطرقاً فمن أخذ بأسبابها هداه الله، ومن أخذ بأسباب الضلال أضله الله، قال تعالى: ( إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً )، وقال: ( وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ )، قال ابن رجب : " الإنسان يولد مفطوراً على قبول الحق، فإن هداه الله سبب له من يعلمه الهدى، فصار مهتدياً بالفعل بعد أن كان مهتدياً بالقوة، وإن خذله الله قيض له من يعلمه ما يغير فطرته... والهداية نوعان هداية مجملة وهي الهداية للإسلام والإيمان وهي حاصلة للمؤمن وهداية مفصلة وهي هداية إلى معرفة تفاصيل أجزاء الإيمان والإسلام وإعانته على فعل ذلك وهذا يحتاج إليه كل مؤمن ليلا ونهارا ولهذا أمر الله عباده أن يقرأوا في كل ركعة من صلاتهم قوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ )، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه بالليل اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم " [ جامع العلوم والحكم (2/40 ) ]، والهداية نوعان: هداية إرشاد وبيان وهي التي يملكها الرسل وأتباعهم والتي ذكرها الله تعالى بقوله: ( وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى )، وهداية توفيق وهي التي بيد الله تعالى ، ومن أسمائه تبارك وتعالى الهادي فهو الذي هدى الخلق إلى معرفته وربوبيته، وهدى عباده إلى الصراط المستقيم، وقد ورد هذا الاسم في آيتين من الكتاب العزيز وهما قوله تعالى: ( وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )، وقوله تعالى: ( وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً )، ولا يمكن أن يكون المسلم مهتدياً إلا بإتباع الرسول الكريم كما قال تعالى: ( وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ )، واتباع هديه أحد شرطي قبول العمل الصالح، وهما : المتابعة والإخلاص، وجعل الله سبحانه وتعالى الكتب المنزلة هداية للناس ونوراً وفرقاناً بين الحق والباطل قال تعالى: ( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ )، وقال عن عيسى: ( وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ )، وغير ذلك من الآيات الكثيرة، فالهداية أكبر نعمة ينعم بها الله سبحانه وتعالى على العبد، وبقدر هدايته تكون سعادته في الدنيا والآخرة، والأنبياء عليهم السلام هم أكمل البشر هداية، وكانوا يسألون الله سبحانه وتعالى الهداية ومن ذلك قوله موسى عليه السلام: ( عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ )، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر في دعائه من طلب الهداية من الله ومن ذلك ما أخرجه مسلم ح (770 ) من حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ اللَّهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ " وما أخرجه أيضاً ح (2721) من حديث عبد الله بن مسعود عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى "، وأمرنا الله سبحانه وتعالى بطلب الهداية منه في كل ركعة من صلاتنا فقال تعالى: ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ )، قال ابن القيم: " ولما كان سؤال الله الهداية إلى الصراط المستقيم أجل المطالب ونيله أشرف المواهب علم الله عباده كيفية سؤاله وأمرهم أن يقدموا بين يديه حمده والثناء عليه وتمجيده ثم ذكر عبوديتهم وتوحيدهم فهاتان وسيلتان إلى مطلوبهم: توسل إليه بأسمائه وصفاته وتوسل إليه بعبوديته وهاتان الوسيلتان لا يكاد يرد معهما الدعاء .... وقد جمعت الفاتحة الوسيلتين وهما التوسل بالحمد والثناء عليه وتمجيده والتوسل إليه بعبوديته وتوحيده ثم جاء سؤال أهم المطالب وأنجح الرغائب وهو الهداية بعد(/6)
الوسيلتين فالداعي به حقيق بالإجابة " [ مدارج السالكين ( 1/23 – 24 ) ] ، وهداية الله سبحانه وتعالى وسعت كل المخلوقات، فقد هدى سبحانه وتعالى جميع الأحياء إلى جلب مصالحها ودفع مضارها، قال تعالى: ( رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)، وقال تعالى: ( وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى )، فهدى سبحانه كل مخلوق إلى ما لابد منه في قضاء حاجاته.
7- ختمت هذه الخطبة بثلاث آيات فيها الأمر بالتقوى والحث عليها، وتقوى الله هي أن يفعل العبد ما أمر الله سبحانه وتعالى به، ويجتنب ما نهى عنه، وهي وصية الله سبحانه وتعالى لعباده الأولين والآخرين قال تعالى: ( وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ )، وقد أمر الله بتقواه في آيات كثيرة من كتابه الكريم ورتب على التقوى خير كثير في العاجل والآجل، فرتب عليها حصول العلم النافع قال تعالى: ( وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ )، ورتب عليها حياة القلوب وتمييزها بين الحق والباطل، قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ )، ووعد سبحانه المتقين بأن يجعل لهم من الشدائد والمحن مخرجاً ويرزقهم من حيث لا يحتسبون قال تعالى: ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً الطلاق وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ )، فقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) معناه: يا أيها المؤمنون تمسكوا بتقوى الله ومراقبته وخشيته حتى يأتيكم الموت وأنتم على ذلك، روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال في معنى ( اتقوا الله حق تقاته ): أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر، أما قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )، فالمراد بالنفس الواحدة هنا آدم عليه السلام، وكلمة (مِنْهَا) للتبعيض، والمراد بقوله تعالى: (زَوْجَهَا) حواء فإنها أخرجت من آدم عليه السلام، وقوله : (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ) المعنى: واتقوا الله الذي يسأل بعضكم بعضاً به، بأن يقول له على سبيل الاستعطاف: أسألك بالله أن تفعل كذا، أو أن تترك كذا، واتقوا الأرحام أن تقطعوها فلا تصلوها بالبر والإحسان، فإن قطعها وعدم صلتها مما يجب أن يتقى ويبتعد عنه، قوله: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) أي حافظاً يحصي عليكم كل شيء ، و مطلع على جميع أحوالكم وأعمالكم، أما قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا )، فالقول السديد هو القول الصواب المتضمن للحق والصدق، مأخوذ من قولك: سدد فلان سهمه يسدده، إذا وجهه بإحكام إلى المرمى الذي يقصده فأصابه، ومنه قولهم: سهم قاصد إذا أصاب الهدف ، والمعنى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وراقبوه وخافوه في كل ما تأتون وما تذرون، وفي كل ما تقولون وما تفعلون، وقولوا قولاً كله الصدق والصواب، فإنكم إن فعلتم ذلك (يُصْلِحْ ) الله تعالى (لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) بأن يجعلها مقبولة عنده (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) أي يتجاوز عن ذنوبكم بتقواكم واستقامتكم في أقوالكم وأفعالكم، ( وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) أي بامتثال الأمور واجتناب النواهي (فَقَدْ فَازَ) في الدارين ( فَوْزًا عَظِيمًا ) أي ظفر بخيري الدنيا والأخرة . هذا والله أعلم(/7)
خطبة الوداع إعلان إسلامي لحقوق الإنسان
علاء سعد حسن
alaasaad19@hotmail.com
خطبة الوداع ذلك اللقاء الأخير بين سيد البشر محمد بن عبد الله رسول الله وبين هذه الجموع الغفيرة من الأمة الإسلامية .. ها هو النبي ص يلتقي اليوم في ضاحية من ضواحي مكة .. مكة التي خرج منها مطارداً ثاني اثنين إذ هما في الغار قبل عشر سنوات، يلتقي اليوم في عرفات بجموع هائلة من مختلف أنحاء الجزيرة العربية، جموع هائلة يقدرها كتاب السير بين مائة وعشرين ألفاً ومائة وأربعين ألفاً(1)، يحتشدون خلف النبي الخاتم يأخذون عنه مناسكهم ويزيلون عن أنفسهم آخر أدران الجاهلية لينعموا بروعة الإيمان .. لقد كانت خطبة الوداع لقاءً خالداً فريداً بعد دعوة وجهاد ومحنة وابتلاء وثبات وبطولة ودماء وأشلاء وتربية وبناء دامت ثلاثة وعشرين عاماً كاملة، فماذا يدور في هذه اللحظات بخلد القائد الأعظم والنبي الخاتم وهو يتابع هذه الجموع الحاشدة التي تسد الآفاق وتملأ الوادي الرحيب؟ وتمر بخاطره ذكريات دار الأرقم بن أبي الأرقم والمسلمون الأول يتخفون بصلاتهم في الشعاب، ويخفّون في جنح الظلام إلى الدار ليأخذوا عن النبي الكريم معالم الدين الجديد ولم يتجاوز عددهم الأربعين(2)..
وتتتابع ذكريات خباب بن الأرت يستنصر الرسول ص والدماء تسيل من جسده ووجهه، وسمية وياسر حيث الصمود الخالد والنبي يدعوهما للصبر ويبشرهما بالجنة، وبلال بن رباح في رمضاء مكة مطروحاً على البطحاء يكوى بالحجارة المحرقة ونداؤه الخالد (أحد أحد)، وتمر بالذهن لقطة عابرة لفتيان قريش وهم يترصدون باب النبي ينتظرون خروجه ليقتلوه فيخرج من بين أيديهم بحفظ المولى وفداء علي ورفقة الصديق يشق طريقاً جديداً لدين الله في أرض الله ..
رسالتنا تغييرية تربوية: اليوم يقف النبي ص في وادي عرنة وحوله فرسانه وفيهم الصناديد الذين طالما حاربوه وآذوه وصدوا عن دعوته، يقفون اليوم بين يديه يتلقون عنه معالم الطريق ويأتمرون بأمره ويفدونه بأرواحهم وما يملكون، يقف النبي فوق ناقته القصواء وحوله خالد بن الوليد وأبوسفيان بن حرب وسهيل بن عمرو وعكرمة ابن أبي جهل وربيعة بن أمية بن خلف .. اليوم يبلغ خطبة النبي ص إلى الجموع المحتشدة ربيعة بن أمية بن خلف صائحاً فيهم مبلغاً ما ينطق به رسول الله ص(3 )!! ابن أمية بن خلف أحد زعماء الكفر الذين طالما أرهقوا النبي وعذبوا أتباعه!!!
أو تذكرون ؟! عندما اشتد ضغط قريش على رسول الله في عام الحزن فتحرك إلى الطائف فكذبه أهلها وأخرجوه وقذفوه بالحجارة، وعرض عليه ملك الجبال أن يطبق عليهم الأخشبين فأطلق النبي ص قولته الخالدة وأمله الباهر ونبوءته النابغة ومنهجه الأصيل: بل أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً(4).
اليوم يشرق الأمل وتتحقق النبوءة وتتضح عبقرية منهج الإسلام.. اليوم في خطبة الوداع تتجلى عظمة الرسالة والرسول وتفرد القائد.. إن أي زعيم حين تتوافر له أسباب القوة والبطش يستطيع أن ينتصر على أعدائه وأن يقهر مخالفيه فيحقق انتصاراً مادياً قد يكون ساحقاً أو ماحقاً، قد يبيدهم أو يستذلهم .. لكن الانتصار الكبير الذي حققه رسول الله لم يكن قهراً مادياً، ولا ذلاً للرجال والشعوب، لقد فتح النبي القلوب قبل أن يفتح الدروب، فخضعت النفوس طائعة مختارة لحكم الله، واستعلت بالإيمان وعزت بالإسلام وباتت تفدي النبي الكريم بكل ما في الحياة ..
من غير محمد ص في التاريخ قديمه وحديثه استطاع أن يحول أعداءه إلى أتباع بررة وجنود أشاوس! وأي دين غير الإسلام استطاع أن يحول أعداء الدين والدعوة إلى أبطال الدين ورجال الدعوة وحملة الرسالة؟!
لقد حمل الرسول ص الرسالة إلى هؤلاء وصبر على جهلهم وجاهليتهم حتى أخرج منهم على عين الله رسلاً ينطلقون برسالة الإسلام إلى العالمين، يقف الواحد منهم على أعتاب المدائن الفارسية فيجيب القائد الأعلى لجيش فارس: بأن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله رب العباد(5)، وهكذا تحول أعداء الأمس إلى شركاء يحملون الرسالة يداً بيد وقلباً بقلب.
خطبة الوداع ويوم الحج الأكبر شاهد تاريخي لا يكذب على رشد منهج النبوة وتفرد أسلوب الإسلام، فما نزل الدين إلى الأرض ليطبق على الناس الأخشبين ولا ليزيلهم من الوجود، بل نزل الدين إلى الأرض ليزكي النفوس الجاحدة فينقلها على يد رسول كريم ومربٍ عظيم من قاع الكفر إلى قمة الإيمان، ومن وهدة الجاهلية إلى نور الهداية ..فرسالتنا تغييرية تربوية لا نسفية تدميرية .
إجمال بعد تفصيل(/1)
اليوم يقف الحبيب المصطفى فوق ناقته القصواء يخطب في زهاء مائة وأربعين ألفاً من المسلمين تمتلئ بهم الآفاق وقد طهرت جزيرة العرب كلها من رجس الجاهلية، فماذا يدور في خلد الرسول ص وهو يشعر أنه يودع تلك الأمة الخالدة؟ وأي رسالة يريد أن ينهي بها مشوار رسالته الطويل الشاق؟ وما هي الأمانة التي يريد أن يحملها تلك الجموع الغفيرة لتنقلها بعده إلى الأرض قاطبة؟
إن تلك الكلمات النورانية التي توشك أن تنبلج على لسان رسول الله ص لابد أن تلخص قيم الإسلام التي ظل النبي يؤصلها في حياة الناس ثلاث وعشرين عاماً كاملة ..
هذا هو أكبر تجمع عرفه الإسلام في تاريخه منذ البعثة إلى ذلك اليوم، فكان على النبي أن يعالج آخر تصورات الجاهلية العالقة في بعض الأذهان ويزيل من الوجود آخر أذيالها المهترئة، وهو ينتقل في خطابه الخالد من الصفوة التي طالما رباها وخاطبها في دار الأرقم ثم في دار الهجرة مهاجرين وأنصاراً، ينتقل من تلك الصفوة المنتقاة إلى العامة التي جاءت من كل فج عميق وألوف مؤلفة منهم حديثي عهد بجاهلية لم يفقهوا من الإسلام وتعاليمه الكثير .. لقد كان النبي ص يؤكد خلال هذه الخطبة الخالدة على حقائق رسخها الإسلام بالفعل خلال عقدين كاملين من الزمان، فجاءت فيها الإشارات الأساسية إجمالاً موجزاً بعد تفصيل استغرق حياة النبوة كلها .. كانت خطبة الوداع معالم عامة على طريق الإسلام العظيم، وجاءت كلمات الرسول فهرساً عاماً لكتاب الإسلام الخالد الذي عاشه منذ البعثة وأقامه في حياة البشر، ورؤوس أقلام مختصرة موجزة، فمن أراد من هذه الجموع المحتشدة أو من الأجيال التالية أن يستزيد علماً ومعرفة في باب من تلك الأبواب فعليه أن يقرأ الباب كاملاً من خلال تعاليم القرآن الكريم وتطبيق النبي الأمين خلال سيرته العطرة كلها.
يقول البوطي: ويريد رسول الله ص أن يلتقي بهؤلاء الحشود المسلمة الذين جاءوا ثمرة جهاد استمر ثلاثة وعشرين عاماً، ليلخص لهم تعاليم الإسلام ونظامه في كلمات جامعة وموعظة مختصرة يضمنها كوامن وجدانه ونبرات محبته لأمته ... (6).
أما المعالم الرئيسة التي تناولها النبي ص في خطبة الوداع فهي:
1 حرمة الدماء والأموال والأعراض وعصمتها(7) : "أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا"(8) ..
2 البراءة من قيم الجاهلية وأهمها إراقة الدماء وأكل الربا، وهما الطريقتان الأساسيتان اللتان يأكل بهما القوي الضعيف حيث يستبيح دمه بالقتل ويأكل ماله بالربا فيزداد القوي الغني قوة وغنى، ويزداد الضعفاء الفقراء ضعفاً على ضعف وفقراً فوق فقر "ألا وأن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ودماء الجاهلية موضوعة، وربا الجاهلية موضوع".
3 عدل الإسلام المطلق والمساواة الحقيقية والشفافية النزيهة، فلا حصانة ولا استثناء، إن كان الربا قد حرمه الله فأول ربا محرم هو ربا العباس عم النبي ص، وإن كانت دماء الجاهلية موضوعة فأول دم يضعه النبي تحت قدمه هو دم بن ربيعة بن الحارث عم النبي ص"وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، وأول ربا أضع ربا العباس بن عبد المطلب".. فهل عرفت الدنيا عدلاً مثل ذلك العدل!
يصدر القانون النبوي فيكون أول تطبيق عملي له على أهل بيت النبوة.. إن كثيراً من القوانين التي تصدر اليوم هنا وهناك قد تكون صالحة من الناحية النظرية لكنها تفقد مصداقيتها وتسقط من حياة الشعوب لغياب القدوة التطبيقية من ناحية ولتعدد الاستثناءات المزهقة لها من ناحية أخرى، لكن القانون في الإسلام عبادة وطاعة يحرص المسلم عليه مع القدرة على تخطيه لتحقيق العدل والمساواة وهما من دعائم بناء المجتمع المسلم، والشفافية الكاملة داخل المجتمع المسلم الذي أسسه النبي فكل ما يدور في بيت أهله معلوم للجميع سواء كان على المستوى الاقتصادي (ربا العباس)، أو كان على الصعيد الاجتماعي (دم ابن ربيعة بن الحارث)، ولقد رأينا من قبل العلاقات الأسرية داخل بيت النبي القائد تناقش على الملأ في صراحة مذهلة (9)، فلا مجال لإشاعة مغرضة، ولا مداراة لحقيقة قائمة .. بيت القائد بيت من زجاج لا يخفي خطأ ولا يتستر على فساد. (10) وهو حق القبيلة والعائلة والأسرة إلى مفهوم القصاص وهو حق المجتمع "دم الجاهلية موضوع"، فمفهوم الثأر الذي هو دماء الجاهلية مفهوم جاهلي لا يتوافر فيه العدل ولا التحقيق المنصف مع الجاني ولا البحث في أسباب الجريمة وخلفياتها، بينما القصاص وهو القانون الذي يحكم المجتمع وتقوم على تطبيقه الدولة في إطار من التحقق والتثبت يلغي الفوضى الجاهلية ويؤمن المجتمع المسلم ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون (179) (البقرة).(/2)
5 التحذير من مكر الشيطان وحيله .. لقد انتهت الوثنية الصريحة العارية من الأرض الإسلامية أبداً، لكن حيل الشيطان ستتخذ أشكالاً جديدة أكثر خبثاً وأقل حدة ووضوحاً لتصرف الناس عن الطريق السوي المستقيم، "إن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبداً ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضي به مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم".
6 النسيء تبديل لقوانين الله وتضليل للناس عن المبادئ والمفاهيم العالمية، "إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله ويحرموا ما أحل الله، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم: ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان"، فلم تكن أشهر العام تقويماً إسلامياً مقصوراً على المسلمين وحدهم، لقد عُرف التقويم قبل الإسلام وبعده، فالتاريخ والتقويم وأشهر العام من حقائق الوجود الثابتة ومعاييره الراسخة: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض .. فالزمان وتقويمه من سنن الله الكونية الثابتة منذ الخليقة وإن التبديل في تلك القيم الثابتة وقلبها على أعقابها هو زيادة في الكفر والضلال.
ولعل النسيء الزماني المقصود هنا قد انتهى من الوجود إلى غير رجعة، لكن النسيء القيمي مازال جاثماً مخيماً على حياة البشر، فالقوى الأكبر تفرض على الناس تبديلاً في القيم الإنسانية الثابتة التي ترتبط بالبشرية أكثر مما ترتبط بأي شرع أو دين، فصار حق الشعوب المغلوبة على أمرها التي احتلت أراضيها واعتدى على كرامتها وسيادتها في المقاومة إرهاباً ، وأصبح المعتدي صاحب حق وطالب سلام، والمدافع عن حقه مجرماً يعرقل السلام والاستقرار العالمي! كما ظل الكيل بمكيالين هو ديدن تلك القوى، فكما كان هؤلاء يحرمون النسيء عاماً ويحلونه عاماً وفق أهوائهم ومصالحهم، فإن أولئك يتلاعبون بالقيم الإنسانية وفق الأهواء والمصالح، وهكذا انتهى النسيء الزماني بينما بقيت أنواع أخرى من النسيء يكبل بها القوي الضعفاء ويشل حركتهم ..
7 حقوق المرأة في الإسلام تخصيصاً بعد تعميم وإجمالاً بعد تفصيل: "اتقوا الله في النساء، فإنكم إنما أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، إن لكم عليهن حقاً ولهن عليكم حقاً"، فحقوق المرأة في الإسلام مرتبطة بحقوق الرجل، فلقد جاء الإسلام ليحرر البشر كل البشر أو الإنسان كل الإنسان من رق العبودية بمعانيها المختلفة سواء المادية منها أو النفسية أو الجسدية، ولم تكن المرأة استثناءً من هذه القاعدة بوصفها إنساناً جاء الإسلام لتحريره وتكريمه وصيانة حقوقه العامة والخاصة، لقد جاء الإسلام ليحرر الإنسان من رق المادة وقيم المادة الطاغية ليصبح للإنسان المجرد بوصفه روحاً ونفساً وجسداً بغض النظر عن مستواه الاقتصادي وطبقته الاجتماعية قيمة حقيقية في هذا الوجود فجعل الإسلام العبد الحبشي بلالاً والرومي صهيباً والمرأة الضعيفة سمية أئمة الهدى وقدوات البشر.
ولا يخفى أن الجاهلية سواء القديمة منها أو الحديثة لم تعل من قيمة المرأة أو تخفض منها إلا على ضوء ما تملكه من مادة ومال ومكانة وطبقة اجتماعية، ولذا رأينا في المجتمع الجاهلي الذي تقوم ثقافته على وأد البنات، نساءً يشار إليهن بالبنان يقدرهن المجتمع وينحني أمام مالهن ومكانتهن مثل خديجة رضي الله عنها التي كانت سيدة في قومها قبل الإسلام، وكذلك هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان التي كانت ترفع معنويات الفرسان في القتال، ولقد كانت إحدى المحركات الأساسية للمشركين في غزوة أحد، والشاعرة المجيدة الخنساء، وغيرهن ..(/3)
الجاهلية تعبد المادة المجردة، فهي لا تئد من الإناث ولا تحقر إلا من كانت فقيرة ضعيفة، أما الإسلام الذي جاء ليرفع قيم الإنسانية المجردة فوق قيم المادة الطاغية، فقد كان تكريمه للمرأة خطاً طبيعياً منسجماً مع قيم الحضارة التي أقامها على الأرض، فساوى الإسلام بين الرجال والنساء في وحدة المنشأ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء (النساء:1)، وساوى بينهما في الأجر والثواب فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى" بعضكم من بعض (آل عمران 195)، وجعل النساء شقائق الرجال، ووحد بينهما في علاقة الولاية التي عبرت عنها الآية الكريمة: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض (التوبة71)(11)، ثم ساوى بينهم في الحقوق والواجبات ومنها الكرامة الإنسانية العامة، وحرمة الدماء والأموال، وأعطى النساء حق الاختيار للزوج والعشير وخول لها إدارة مالها، وحملها أمانة نشر رسالة الإسلام مع الرجل سواء بسواء، وحثها على العلم والتعلم، ووزع الأدوار بينها وبين الرجل بما يضمن اتساق حركة المجتمع، ورغم كون حرمة الدماء والأموال والأعراض في بداية الخطبة كانت تشمل النساء ضمنا مع الرجال، إلا أن قرب عهد الناس من الجاهلية جعل الرسول ص يخص النساء بفقرة خاصة من فقرات خطبته رفعة لمكانتهن وتأكيداً على حقوقهن ، مع ملاحظة أن ما جاء في هذه الخطبة بشأن المرأة كان تلخيصاً موجزاً لواقع ضخم شاده الإسلام في العدل والمساواة فكان أول من آمن بالإسلام من العالمين امرأة هي خديجة رضي الله عنها، وأول من استشهد في سبيل الإسلام سمية رضي الله عنها (12)، فلقد شاركت المرأة المسلمة في بناء صرح هذا الدين مع الرجل مشاركة الشقيق للشقيق ..
8 التمسك بالكتاب والسنة هو ضمان العصمة من الزلل والضلال والانحراف عن منهج الإسلام القويم، فبهما معاً نفهم الإسلام، وبتحكيمهما معاً يطبق الإسلام ويسود، فما كانت السنة إلا تفسيراً عملياً للقرآن الكريم، وما كان القرآن الكريم إلا دستور المسلمين الخالد الذي أنزله الله لهم هادياً ومرشداً وقائداً لما فيه سعادة الدارين معاً، "لقد تركت فيكم ما لم تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله وسنة رسوله".
9 طاعة الأمراء واجبة لكنها مشروطة باتباع الكتاب والسنة، فالطاعة للحكام إنما هي طاعة لله ولأوامره ابتدءاً وانتهاء، وهي على هذا لا تكون للحاكم بقدر وجاهته الشكلية ولا مكانته الاجتماعية، لكن الطاعة تكون للحاكم بقدر تمسكه واعتصامه بالكتاب والسنة مصدري التشريع، فالطاعة في الإسلام طاعة مبصرة عاقلة ناصحة مسترشدة "اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشي مجدّع ما أقام فيكم كتاب الله تعالى" ..
10 حقوق الرقيق والضعفاء، وهو تأكيد على مبدأ المساواة البشرية التي أقامها الإسلام في الأرض وتأكيداً على هذه المساواة المطلقة فالناس متساوون في الحقوق والواجبات كأسنان المشط، ولا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى والتقوى محلها القلب ومردها إلى الله تعالى، يحاسب عليها في الآخرة، أما حقوق الناس في الدنيا فهي مكفولة بالعدل والمساواة ولا يخرج هذا التأكيد المنفصل على حق الرقيق عن كونه تخصيصاً بعد تعميم وإجمالاً بعد تفصيل رأيناه واقعاً معاشاً في حياة النبوة كلها .."أرقاءكم أرقاءكم أطعموهم مما تأكلون واكسوهم مما تلبسون، وإن جاءوا بذنب لا تريدون أن تغفروه فبيعوا عباد الله ولا تعذبوهم".
11 الأخوة الإسلامية العالمية أساس من أسس الإسلام استحق التأكيد مرة بعد مرة، فلقد استهل النبي ص خطبته بالتأكيد على حرمة الدماء والأموال والأعراض ثم ختمها بتأكيده على معنى الأخوة الإسلامية الجامعة، وحذر من قتال المسلمين بعضهم البعض معتبرا إياه ضلالاً بعد هدى ورجعية بعد إيمان .. "تعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم، وأن المسلمين إخوة، فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمن أنفسكم، وستلقون ربكم فلا ترجعوا بعدي ضلالاً يضرب بعضكم رقاب بعض".(/4)
وبعدما ألقى رسول الله خطبته الجامعة الخالدة، حمل المسلمين أمانتهم في تنفيذ بنودها ونقلها إلى العالمين من بعده، فأخذ عليهم العهد والميثاق بإبلاغ شاهدهم الغائبين منهم، واستشهدهم على إبلاغه إياهم تلك التعاليم النورانية فشهدوا، "ألا ليبلغ الشاهد الغائب، فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه، وأنتم تُسألون عني فما أنتم قائلون؟ .. قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: اللهم اشهد". .. ونحن نشهد أن النبي ص قد بلغ وأدى ونصح، ونشهد لهؤلاء الصحابة رضي الله عنهم أنهم أدوا وبلغوا بنقلهم هذه الخطبة الخالدة إلى الأجيال المتعاقبة من بعدهم، ونشعر أن في أعناقنا أمانة تطبيق لبنود هذه الخطبة، كما أن في أعناقنا أمانة تبليغ لها لمن بعدنا، فالبلاغ والتبليغ والدعوة مهمة عامة انتدب لها النبي ص عامة المسلمين ولم يقصرها على طبقة الصفوة من أهل العلم والثقافة، ولكنه جعلها مهمة المسلمين جميعا "ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب"، ولقد أطلقها من قبل "بلغوا عني ولو آية".
وأمانة التبليغ تدعونا أن نعترف أن لكل عصر وسائل مكافئة لتبليغ الرسالة، فلقد أصبح الإنترنت والفضائيات اليوم الوسيلة المكافئة للقيام بمهمة التبليغ، فهل ندرك هذه الحقيقة ونعمل على توظيفها التوظيف الأمثل لأداء أمانة التبليغ التي حملنا إياها النبي ص؟!
لم تكن هذه الإشارات العامة الموجزة في خطبة الوداع إعلان مبادئ ودعائم يقام عليها المجتمع المسلم لكنها كانت تلخيصاً لما تم بناؤه بالفعل من دعائم راسخة كالجبال الرواسي على أرض الواقع، وهكذا تكون المقارنة الأخيرة بين منهج النبوة وإعلانه الدعائم الأساسية للمجتمع المسلم وإعلان حقوق الإنسان في الإسلام، وبين أي إعلان آخر حديث أو قديم لحقوق الإنسان في أن ما أعلنه المصطفى ص في خطبة الوداع كان ملخصاً لواقع حقيقي أقامه فعلياً على أرض الواقع، بينما كل الإعلانات الأخرى لا تتعدى أن تكون طموحات وآمالاً أغلبها نظري لا يصمد للتطبيق العملي، هذا إن لم يقصد معلنوها التمويه على الرأي العام العالمي، وما قضية حظر الحجاب بفرنسا عنا ببعيدة.
الهوامش
(1) الرحيق المختوم للمباركفوري 459 المنهج الحركي للغضبان 2-199
(2) ابن هشام 1-262 الرحيق 90
(3) ابن هشام 2-605 الرحيق 460
(4) صحيح البخاري 1-458
(5) إتمام الوفاء في سيرة الخلفاء محمد الخضري ص 100 فقه السيرة للبوطي 78
(6) فقه السيرة للبوطي ص 341
(7) المنهج الحركي ص200
(8) جميع النصوص الخطبة التي وردت في هذا البحث نقلناها كاملة عن البوطي ص 338 339 وهي من صحيح مسلم والبخاري وابن إسحق وابن سعد.
(9) في حادثة الإفك وغيرها من قصص سيرته ص مع زوجاته.
(10) الغضبان ص 200.
(11) من مقال بعنوان القوامة بين السلطة الأبوية والإدراة الشورية للباحثة هبة رؤوف عزت من موقع إسلام اون لاين.
(12) المنهج الحركي 1-122.(/5)
خطبة بمناسبة العام الدراسي الجديد
بمناسبة افتتاح العام الدراسي الجديد واندفاع مئات الألوف من الطلاب والطالبات على المدارس يحسن بنا أن نقف مع التعليم والتربية وقفة تأمل وتفكر هل نحن في تعليمنا وتربيتنا نسير وفقاً لما أراد الله لنا، فإن الله أناط بأمة الإسلام أن تكون الموجهة والفائدة والمعلمة لسائر الأمم كما قال الله جل ذكره ?وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ?[ البقرة: 143] فأمة الإسلام هي مصدر الأصالة والتوجيه للعالم أجمع، هكذا أراد الله لها إن هي استقامت على النهج وقامت بالحق وأخذت بميراث النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه الأمة التي رفع الله شأنها وأعلى مكانتها ليس لها أن تنحدر إلى مستنقع التقليد والتبعية يغويها كل مبطل ويصيح بها كل ناعق .
إن أهل الإسلام هم مفصل الحق ومأرز الإيمان رسالتهم التي أكرمهم الله بها عالمية وهي الدعوة إلى عبادة الله وتوحيده، حملهم الله أمانة المحافظة عليها ، وتبليغها في كل عصر ، وفي كل مصر .
وإنما تبقى الأمة محافظة على أصولها وثوابتها محافظة على كيانها ووجودها، مستشعرة لمسئوليتها ، إذا عُلِّم أجيالها ووجودها، مستشعرة لمسئوليتها، إذ عُلِّم أجيالها ورُبُّوا على الدين والأخلاق.
وحين يربى الصغار على ذلك ليكونوا ورثة صالحين مصلحين أمناء على ميراث النبي ونهجه، تعيش الأجيال على الإسلام ومكارم الأخلاق وتعيش في الحياة لتحقيق رسالتها العظيمة في الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله عقيدة راسخة تكافح من أجلها وتنقلها إلى الأجيال المتعاقبة صافية نقية بواسطة التربية والتعليم.
أيها المؤمنون إن التربية والتعليم لباس يفصل على قامة الشعوب ومقامها، منبثقاً من عقائدها منسجماً مع أهدافها وآدابها.
فمناهج التربية والتعليم يجب أن تكون قائدة إلى الإيمان، قاصدة إصلاح الأنفس، وتهذيب الأخلاق إن مظاهر القوة المادية وحدها لا تغني شيئاً، إذا تداخلت في العقول الثقافات المتناقضة والنظريات المتنافرة، فتفرقت بطلابها السبل وتنازعتها التيارات والأهواء .
ليس مقياس النجاح مجرد معرفة القراءة والكتابة، وليس دليل التفوق كثرة دور العلم وأفواج الخريجين، مع انحراف التوجه وذهاب الإيمان وفساد الأخلاق، هذا النوع من التعليم المادي الجاف البعيد عن الله المقطوع الصلة بالخالق جل وعلا هو ما يروج له ويفرضه الملحدون الذين يتحكمون في البشرية التائهة الغارقة في الضلالة والغفلة ويصيغون لها الأهداف والمناهج والوسائل والأساليب الرامية إلى تشكيك الأجيال في المبادئ الصحيحة، والحقائق الواضحة والبديهيات الجلية المعلومة.. فكان ناتج ذلك هو هذا الواقع الذي تعيشه البشرية اليوم إلا من رحم الله وعصم.. لقد ساد التفسخ الخلقي بين البشر وفقدت الغيرة والحمية الدينية، وأفرز ذلك هذه الحضارة المادية التي تبنى فيها ناطحات السحاب من المباني على أنقاض الأخلاق والفضيلة واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير .
ومن المؤسف له أن كثيراً من البلاد الإسلامية في القرن الماضي خسرت أكثر مما ربحت ، حيث ظنت أن مبادئ التربية وأصول التعليم تستورد كما تستورد البضائع، وضلت حين ظنت أنها تقايض في معاملات تجارية، لتكسب علماً أو تمحو أمية أو تبني مجداً أو تحقق نصراً .
أيها المؤمنون لا فائدة في علم لم ينبثق من دوحة الإيمان والقرآن، ولا خير في علم لم يُكْسَ بخلق، ولا جدوى من تربية لا تثمر استقامة وعملاً صالحاً ولا خير في معارف تحشى بها الأذهان تورث بلبلات فكرية، ولا نفع في ثقافات آسنة تشكك في الصحيح من المعتقدات .. وتستخف بالدين والأخلاق والقيم كيف يكون مستقبل الأمة التي تنبت فيها مثل هذه الثوابت، ويرضع أبناؤها من هذا الكدر الآسن ولهذا فإن من الواجبات اللازمة على الأمة أن تحافظ على أصولها وثوابتها ودينها وأخلاقها وقيمها وآدابها فلا ترسم خطة ، ولا يوضع منهج، إلا من الإدراك الجازم بأن هذه الأمة، وهذا النشء هم غرس المصطفى محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وثمرة دعوته وجهاده وأحقاد أصحابه المؤمنين رضوان الله عليهم أجمعين، لتنسجم المناهج في كل ذلك وتعيش في ظله ، لتبقى محصنة بدينها ، متماسكة بقوته ، مرتبطة بحبله بعيدة عن كل فوضى فكرية أو صراعات مذهبية وحزبية وأن تنقى من عوامل الفساد وأسباب الزيغ والإلحاد، أو اتجاهات الزندقة والتحلل .
هذا ما يجب أن يكون عليه المسلمون في كل مكان الذين رضوا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً ونبياً.(/1)
أما من لم تطب نفسه الخبيثة بهذا الدين، ولم ينشرح صدره لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وإمامته ، وآمن بفلسفات أجنبية يهودية أو نصرانية أو وثنية ، فليس له محل بين المسلمين، ولا يحل أن تتاح له الفرص، أو تهيأ له الوسائل لتوجيه العقول، وتربية النفوس، ولا يجوز أن تقدم له فلذات الأكباد، ليفسد فطرها ويعبث بعقولها ويسلخها من عقيدتها وذاتها وقيمها وأخلاقها.
أن المدارس ودور العلم في كافة مستوياتها هي محاضن الجيل، وهي الحصن الحصين تكمن فيها حماية الأمة والحفاظ على أصالتها وبقائها ونقائها وقوتها وعزها، إن هذه الدور تحوي أثمن ما تملكه الأمة إنها تحتضن الثروة البشرية رجال الغد وجيل المستقبل ثروة تتضاءل أمامها كنوز الأرض جميعها.
وشر ما يطرأ على هذه المعاقل والحصون أن تؤتى من قبل من وكل إليهم رعايتها وصيانتها، وتكون الخيانة العظمى حين يتنكرون لدينهم وأمتهم ويبيعون الحصون والقلاع التي تحمي الأمة بثمن بخس منقذين بذلك مخططات اليهود والنصارى الرامية إلى تغيير هوية الأمة وعقيدتها وأخلاقها.
لقد كانت خطط اليهود والنصارى تهدف إلى تغيير مناهج التربية والتعليم في البلاد الإسلامية، فقد كبر على الاستعمار الذي استولى على بلاد المسلمين أن يترك للمسلمين دينهم بعد أن استولى على بلاد المسلمين أن يترك للمسلمين دينهم بعد أن استولى على أرضهم.. وكان من أعظم ما خطط له المستعمرون هو أن يجهّل المسلمون بدينهم .. وكان من ضمن الخطوات التي قام بها المستعمرون محاربة التعليم الديني ومحاصرته مادياً ومعنوياً وآخر ما يطالبنا به اليهود والنصارى اليوم هو تجفيف منابع الإسلام وإلغاء التعليم الديني ومحاربة القرآن. مع نشر التعليم العلماني وإقامة المدارس الأجنبية والكليات والجامعات غير الإسلامية والسماح له بالانتشار في بلدان المسلمين وغالباً ما يتخرج منها أناس يزدرون بالإسلام واللغة العربية وبالمسلمين ويمجدون الكفار ويرفعون شأنهم.
ومن طرقهم التي استخدموها هو الابتعاث إلى خارج البلدان الإسلامية حيث يزداد الطالب جهالة بدينه وانهزامية من داخله وتنكراً لقيمه وأخلاقه، حيث يعود بعضهم إلى بلدان المسلمين وقد تشرب بأفكار اليهود والنصارى وتشبع بأخلاقهم وأنماط حياتهم.
ومماأحدثه المستعمرون في مجال التربية والتعليم أنهم دعوا إلى اختلاط التعليم بين الذكور والإناث بغية إفساد الدين والأخلاق ونشر الإباحية والفساد والتحلل من أحكام الإسلام ونبذ توجيهات القرآن ولكن محاولتهم ستبوء بالفشل وستتحطم خططهم أمام هذا الدين العظيم.
اتقوا الله وتعلموا من العلم ما تعرفون به ربكم ويستقيم دينكم وتستنير به قلوبكم، وتصلح به دنياكم وآخرتكم، لأن العلم نور يخرج من الظلمات، وتزول به الشبهات، وتستقيم به الأعمال، فإن العلم بلا عمل ضلال ووبال. وللعلم فضائل كثيرة، أعظمها معرفة الرب سبحانه بأسمائه وصفاته، ومنها أن العلم طريق إلى الجنة كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سلك الله له به طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات والأرض حتى الحيتان في السماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر" فرضوان الله عز وجل ودخول الجنة لا يوصل إليهما إلا بالعلم النافع والعمل الصالح، وذلك من أيسر الطرق، وأما من سلك طريقاً يظنه طريق الجنة بغير علم فقد سلك أعسر الطرق وأشقها.
فلا طريق إذاً إلى معرفة الله والوصول إلى رضوانه والفوز بقربه ومجاورته في الآخرة إلا بالعلم النافع الذي بعث الله به رسله ، وأنزل به كتبه، فهو الدليل عليه، وبه يهتدي في ظلمات الجهل والشبهات والشكوك، وقد سمى الله كتابه الذي أنزله على رسوله نوراً يُهتدَى به من الظلمات، كما قال سبحانه: ? قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ?[ المائدة:15-16]
فهذا العلم هو العلم بالله ورسوله والطريق الموصل إلى رضوان الله والجنة هو العلم الممدوح الذي امتدح الله ورسوله أهله وذويه فقال سبحانه ? شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ?[ آل عمران:18]
وقال تعالى : ? إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ?[ فاطر: 28](/2)
وقال : ? قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الأَلْبَابِ ?[ الزمر: 9].
وقال: ? يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ?[ المجادلة: 11] .
وقد شبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حمل العلم، الذي جاء به بالنجوم التي يهتدى بها في الظلمات كما جاء في المسند وغيره أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " إن مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم في السماء يهتدي بها في ظلمات البر والبحر فإذا طمست النجوم أوشك أن تضل الهداة" .
فالعلماء بما أنزل الله على رسوله هم الأدلاء الذين يُهْتَدَى بهم في ظلمات الجهل والشبه والضلال، فإذا فُقِدوا ضل الناس، وقد شبه العلماء بالنجوم، ومن فوائد النجوم أنه يهتدى بها في ظلمات البر والبحر في الليالي المظلمة وهي زينة للسماء، ورجوم للشياطين، والعلماء الربانيون في الأرض تجتمع فيهم هذه الأوصاف، فيهم يهتدى بهم في ظلمات هذه الحياة، وهم زينة للأرض وأمان لها ، وهم رجوم للشياطين الذين يخلطون الحق بالباطل ويلبسون على الناس دينهم ويغوونهم عن صراط الله المستقيم وما دام العلم باقياً في الأرض فالناس في هدى ونور، وبقاء العلم ببقاء حملته، فإذا ذهب حملته وقع الناس في الضلال كما جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا".
فخذوا حظكم أيها المؤمنون من ميراث النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي جاءكم به وتعلموا من العلم ما تعرفون به ربكم ودينكم ونبيكم وهذا القدر من العلم وطلبه فريضة على كل مسلم ومسلمة كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "طلب العلم فريضة على كل مسلم".
أيها المؤمنون إن قوى الكفر والطغيان وجنود الشيطان يحاولون بكل ما يملكون طمس معالم هذا الدين ومنع تعلمه وتعليمه في المؤسسات التعليمية ولهم مطالب وإملاءات على الحكام في البلدان الإسلامية لإلغاء هذا العلم والتضييق عليه... فعليكم مسئولية عظيمة أمام الله وسوف يسألنا جميعاً عنها؛؛ هذه المسئولية هي وجوب المحافظة على هذا الدين والمحافظة على القرآن وسنة النبي عليه الصلاة والسلام ووجوب تعليمها ونشرها وتحصين الأجيال ضد الانحراف والفساد بدروس علمية نافعة من كتاب الله وسنة نبيه لتصحح أفكارهم وتصلح قلوبهم وتستقيم أخلاقهم ويتعرفون على رسالتهم في الحياة، ويدركون كيد الأعداء ومؤامراتهم .
راجعه/ علي عمر بلعجم.
عبد الحميد أحمد مرشد.
ـ أخرجه أبو داود في السنن 2/341, برقم: 3641, والترمذي في السنن 5/48, برقم: 2682, وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة 1/43, برقم: 182, وأول الحديث (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سلك الله له به طريقاً إلى الجنة) أخرجه البخاري في صحيحه 1/37, ومسلم في صحيحه 4/2074, برقم: 2699.
ـ أخرجه أحمد في المسند 3/157, برقم: 12621, وعلق عليه شعيب الأرنؤوط بأن إسناده ضعيف, وضعفه الألباني في الجامع الصغير 1/479, برقم: 4783.
ـ أخرجه البخاري في صحيحه 1/50, برقم: 100, ومسلم في صحيحه 4/2058, برقم: 2673.
ـ أخرجه ابن ماجة في سننه 1/81, برقم: 224, والطبراني في الكبير 10/195, برقم:10439, والأوسط1/7, برقم: 9, والبيهقي في شعب الإيمان2/253, برقم: 1665, وصححه الألباني في الجامع الصغير 1/736, برقم: 7360, وفي صحيح الترغيب والترهيب 1/17, برقم: 72.(/3)
خطر إدمان النظر
د. نايف بن أحمد الحمد 12/6/1427
08/07/2006
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد فإن القارئ لعدد من الصحف والمجلات الصادرة في بلادنا فضلا عن غيرها يجد تهاونا كبيرا في نشر صور النساء المتبرجات والسافرات وإبراز مفاتنهن ومتابعة حياتهن الشخصية وغيرها ومع كون هذا العمل مخالفا للأنظمة القاضية بمنع نشر مثل هذه الصور فإن العلماء مجمعون على حرمة نشر هذه الصور ومطالعتها ولتساهل كثير من الناس في اقتنائها والاشتراك فيها مما يُعين هذه المجلات على الاستمرار وهذا من التعاون المحرم قال تعالى ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإْثمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )(المائدة :2) وكل ما حرم تناوله حرم بيعه وشراؤه فقد لعن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الخمر عشرة عاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وساقيها وبائعها وآكل ثمنها والمشتري لها والمشتراة له . رواه الترمذي (1295) وابن ماجه (3381) والضياء (2188) من حديث أنس -رضي الله عنه - ورواه الحاكم 4/161 من حديث ابن عباس –رضي الله عنهما- وصححه . و عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نظر إلى السماء وقال : ( قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها وإن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه ) رواه أحمد 1/293وابن حبان ( 4938) وأصله في الصحيحين قال الحافظ ابن رجب –رحمه الله تعالى - : " وهذه كلمة عامة جامعة تَطَّرِدُ في كل ما كان المقصود من الانتفاع به حراما وهو قسمان : أحدهما : ما كان الانتفاع به حاصلا مع بقاء عينه كالأصنام فإن منفعتها المقصودة منها الشرك بالله وهو أعظم المعاصي على الإطلاق ويلتحق بذلك ما كانت منفعته محرمة ككتب الشرك والسحر والبدع والضلال وكذلك الصور المحرمة وآلات الملاهي المحرمة " ا.هـ جامع العلوم والحكم2/447 ولقوله صلى الله عليه وسلم ( الدين النصيحة ) قلنا : لمن؟ قال : ( لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ) رواه مسلم ( 55) من حديث تميم الداري -رضي الله عنه- فقد رأيت لزاما الكتابة في ذلك -مع كثرة الكتابات المحذرة- إبراءً للذمة ونصحا للأمة ومشاركة في دفع هذا الوباء فأقول مستعينا بالله مذكرا بحكم وأضرار مطالعة واقتناء هذه المجلات :
أولا : قال تعالى ( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (النور:31) قال الطبري-رحمه الله تعالى- " يقول تعالى ذكره لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- قل للمؤمنين بالله وبك يا محمد ( يغضوا من أبصارهم ) يقول : يكفوا من نظرهم إلى ما يشتهون النظر إليه مما قد نهاهم الله عن النظر إليه "ا.هـ جامع البيان 18/116
وقال القرطبي –رحمه الله تعالى – في التفسير 12/227 : " وبدأ بالغض قبل الفرج لأن البصر رائد للقلب كما أن الحمى رائدة الموت وأخذ هذا المعنى بعض الشعراء فقال :
ألم تر أن العين للقلب رائد*** فما تألف العينان فالقلب آلف " ا.هـ
وقال ابن القيم –رحمه الله تعالى - : " وأمر الله تعالى نبيه أن يأمر المؤمنين بغض أبصارهم وحفظ فروجهم وأن يعلمهم أنه مشاهد لأعمالهم مطلع عليها يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ولما كان مبدأ ذلك من قبل البصر جعل الأمر بغضه مقدما على حفظ الفرج فإن الحوادث مبدأها من النظر كما أن معظم النار مبدأها من مستصغر الشرر ثم تكون نظرة ثم تكون خطرة ثم خطوة ثم خطيئة ولهذا قيل من حفظ هذه الأربعة أحرز دينه، اللحظات والخطرات واللفظات والخطوات، فينبغي للعبد أن يكون بواب نفسه على هذه الأبواب الأربعة ويلازم الرباط على ثغورها فمنها يدخل عليه العدو فيجوس خلال الديار ويتبر ما علوا تتبيرا " ا.هـ الجواب الكافي / 105(/1)