وأخيرا أقول: إن حرصنا على نصر دين الله، وشدة محبتنا لظهوره على الدين كله يجب ألا تكون مخرجة لنا عن الالتزام بالمنهج الشرعي، فإن الغاية لا تبرر الوسيلة.
صور النصر العاجل والآجل في القرآن
جاء النصر في القرآن على عدة صور، أشرت إليها سابقا، ولكن أحببت أن أذكرها مجتمعة باختصار؛ لتكون واضحة أمام الدعاة، ولئلا يتعجلوا وعد الله، فكل شيء عنده بمقدار، فلا يعجله حرص حريص، ولا يردّه كره كاره، وهو العليم الحكيم.
1 -من الأنبياء من أذاه قومه، فنصره الله عليهم، فأهلكهم وأقام الدين في حياته، كموسى ومحمد، عليهما أفضل الصلاة والسلام.
2- ومنهم من ولاه الله الملك - وهذا نصر عظيم- كداود وسليمان، عليهما السلام.
3- ومنهم من أذاه قومه ولم يؤمنوا به، سوى قليل منهم فنجاه الله ومن معه، وأهلك عدوه، ثم لم يبين لنا القرآن ماذا حدث للنبي بعد ذلك، أي: هل آمن به قوم آخرون، أو بقي على من آمن معه ومن آمن من ذرياتهم، كنوح وهود وصالح ولوط.
4-ومنهم من قتله قومه، أو حاولوا قتله، فانتقم الله له بعد حين، كيحيى وعيسى، ومن أرسل لأصحاب القرية (إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ)(1) [سورة يس، الآية: 29].
5- ومنهم من يئس من قومه فتركهم، فعاقبه الله، ثم عفا عنه، ولما عاد إليهم، نصره الله نصرا مؤزرا، وظهر الدين وهو يونس (2).
6- ومن الدعاة من قتله قومه فآمن به بعض قومه فقتلوا وحرّقوا، ولكن لا نعلم ماذا حل بهؤلاء القتلة، سوى أن الله دعاهم للتوبة، وتوعدهم إن لم يتوبوا بعذاب جهنم وعذاب الحريق في الآخرة.
وهؤلاء هم أصحاب الأخدود (3)
ولا يعنى هذا أنهم لم ينصروا في الدنيا، فقد بينت أوجه النصر عند ذكر قصتهم.
إن استحضار هذه الصور في ذهن الداعية عامل مساعد في تخطي الصعاب، وتجاوز العقبات الحسية والمعنوية، وتزيد من إيمان الداعية بربه في تحقق موعوده، (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(4) [سورة يوسف، الآية: 21].
وقفة مع قصة يونس عليه السلام.
قال الله -سبحانه وتعالى-: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ)(5) [سورة القلم، الآية: 48]. لقد وردت قصة يونس، عليه السلام، في القرآن في عدة مواضع، منها في سورة الأنبياء:
(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)(6) [سورة الأنبياء، الآية: 87].
وأطول قصة له وردت في الصافات (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ)(7) [سورة الصافات، الآيات: 139-148]. ووردت في سورة القلم: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ)(8) [سورة القلم، الآيات: 48 - 50]. قد وردت قصة يونس بروايات متعددة، واختلف المفسرون حول سبب تركه لقومه، ومعنى قوله -تعالى-: (إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً)(9) على قولين:
1- قيل ذهب مغاضبا لربه.
2- قيل ذهب مغاضبا لقومه.
وقد روى الطبري عن ابن عباس والضحاك أنه ذهب مغاضبا لقومه.
وروى عن الشعبي، وسعيد بن أبي الحسن، وسعيد بن جبير أنه ذهب مغاضبا لربه.
وقد رجّح الإمام الطبري بعد ذكر عدة روايات، أنه ذهب مغاضبا لربه، فقال:
وهذا القول -أعني قول من قال إنه ذهب مغاضبا لربه- أشبه بتأويل الآية، وذلك لدلالة قوله: (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ)(10) على ذلك، على أن الذين وجهوا تأويل ذلك إلى أنه ذهب مغاضبا لقومه، إنما زعموا أنهم فعلوا ذلك استنكارا منهم أن يغاضب نبي من الأنبياء ربه، واستعظاما له، وهم بقيلهم أنه ذهب مغاضبا لقومه قد دخلوا في أمر أعظم مما أنكروا. (11)
__________
(1) - سورة يس آية: 29.
(2) - هناك خلاف حول سبب تركه لقومه سيأتي بيانه بعد صفحات.
(3) - انظر كتاب معالم في الطريق ص180، وفي ظلال القرآن تفسير سورة البروج 6/3873.
(4) - سورة يوسف آية: 21.
(5) - سورة القلم آية: 48.
(6) - سورة الأنبياء آية: 87.
(7) - سورة الصافات آية: 139.
(8) - سورة القلم آية: 48-50.
(9) - سورة الأنبياء آية: 87.
(10) - سورة الأنبياء آية: 87.
(11) - انظر تفصيل ذلك في تفسير الطبري 17/76.(/25)
والذي يعنينا -هنا- أن يونس، عليه السلام، سواء كان قد ذهب مغاضبا لربه أو لقومه، فإنه قد استعجل الأمر، ولم يصبر كما قال -تعالى- لمحمد، صلى الله عليه وسلم (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ)(1) فإنه لم يصبر، وسواء كان، عليه السلام، استعجل إيمانهم أو استعجل العذاب لهم (2) لأنهم قد كذبوه، والإيمان انتصار، وتعذيب المكذبين انتصار للداعية، فإنه قد استعجل الانتصار، عليه السلام، ولذلك عاقبه الله، بأن ابتلعه الحوت، وهو مليم، أي: مذنب.
ولكن الله عفا عنه وكفر له بعد أن نادى في الظلمات واعترف بذنبه، عليه السلام، بل اجتباه ربه فجعله من الصالحين.
فلما رجع إلى قومه بأمر من الله، آمنوا كلهم، (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ)(3) [سورة الصافات، الآيتان: 147، 148]. وهذا من أعظم الانتصار.
قال الإمام الطبري في تفسير قوله -تعالى-: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ)(4) [سورة القلم، الآية: 48]. يقول -تعالى- ذكره لنبيه محمد، صلى الله عليه وسلم فاصبر يا محمد لقضاء ربك وحكمه فيك، وفي هؤلاء المشركين، بما أتيتهم به من القرآن وهذا الدين، وامض لما أمرك به ربك، ولا يثنينك عن تبليغ ما أمرت بتبليغه تكذيبهم إياك وأذاهم لك.
(وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ)(5) قال قتادة: لا تعجل كما عجل، ولا تغضب كما غضب، "وهو مذموم" أي: مذنب أو مليم.
قال الطبري: أي لا تكن كصاحب الحوت فيعاقبك ربك على تركك تبليغ ذلك، كما حبس يونس في بطن الحوت (6).
إنه أمر عظيم حري بالدعاة أن يفقهوه.
وقفات مهمة
أولا: إذا فهم الداعية حقيقة الانتصار، فإن هذا لا يعني أن يتساهل الداعية في أمر الدعوة، وفي السعي الحثيث لإزالة المنكرات، والجد في محاولة هداية الناس، وذلك أن الشيطان قد يوسوس له فيقول:
أنت مهمتك البلاغ، أما النتائج فليست لك -وهذا حق- فإذن لماذا تحزن أو تتعب نفسك فيما ليس لك. ثم يوسوس له أن هؤلاء الناس لا خير فيهم، ويكفي أنك بيّنت مرة أو مرتين، أو ثلاثا، فإذا لم يستجيبوا فإنك معذور، ولا داعي للاستمرار والإصرار، لأن جهودك ضائعة، ولو استفدت من وقتك في غير هذا الأمر لكان أحسن.
ثم يبدأ الداعية يتراخى شيئا فشيئا، حتى يترك الدعوة وينعزل عن الناس وشأنهم وليس هذا هو المراد، ولكن إدراك حقيقة الانتصار يزيد من حماس الداعية -مع الانضباط- سعيا وراء تحقيق هذا المطلب الذي عز مناله، سواء أكان انتصارا ظاهرا لدين الله، أو كان انتصارا للداعية نفسه -كما سبق تفصيله-.
وعلى الداعية أن يحزن ويفرح، ولكن لا بد أن يكون حزنه وفرحه إيجابيا فعالا.
فحزنه يزيد من حرصه وإصراره على إنقاذ أمته، وهداية قومه، وتعبيد الناس لله جل وعلا.
وفرحه يقوي عزيمته ويشد من أزره للمضي قدما في تحقيق أهدافه متلذذا بنشوة الانتصار وحب الخير للناس.
ثانيا: كل داعية يجب أن يرسم لنفسه منهجا يسير عليه ويحدد أهدافا يسعى لتحقيقها، يستمد ذلك من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مراعيا حاجة المجتمع الذي يعيش فيه، والواقع الذي يعاصره ولكن بعض الدعاة عندما يسير زمنا في دعوته، ثم يرى ما تحقق على يديه، فيلحظ أنه لم تتحقق الأهداف التي رسمها، ولكن تحقق جزء منها، يشعر أنه فشل في مهمته، وخسر في دعوته، فييئس ثم يتوقف.
وهذا أمر خطير، فإذا كان بعض الأنبياء لم يتحقق على أيديهم هداية رجل واحد، ومع ذلك لم يشكوا في دعوتهم أو يتوقفوا في طريقهم، فكيف برجل ليس نبيا، ومع ذلك حقق بعض ما يدعو إليه؟! ولذلك فقول الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي: " فوالله لئن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم " (7). يدل علي أن هداية رجل واحد انتصار عظيم للداعية، فكيف يكون الداعية مثاليا، إما كل شيء، أو لا شيء؟!
ولذلك فإن كلمة سيد -رحمه الله- "خذوا الإسلام جملة أو دعوه". تحتاج إلى تفصيل، ولا تؤخذ على إطلاقها، فبعض وجوه معانيها حق، وهناك وجوه أخرى فسرت بها هذه الكلمة، يستشهد بها بعض الدعاة، مما يخالف المنهج الصحيح.
__________
(1) - سورة القلم آية: 48.
(2) - انظر تفسير الطبري 17/76 وما بعدها.
(3) - سورة الصافات آية: 147-148.
(4) - سورة القلم آية: 48.
(5) - سورة القلم آية: 48.
(6) - انظر تفسير الطبري 29/44.
(7) - أخرجه البخاري (2942) مسلم، (2406).(/26)
ثالثا: من أهم أنواع الانتصار هو الانتصار على النفس بل لا يمكن أن يتحقق له أي نوع من أنواع النصر إلا إذا انتصر على نفسه وشهواتها (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)(1) [سورة آل عمران، الآية: 165]. (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)(2) [سورة النازعات، الآيتان: 40، 41]. (وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ)(3) [سورة النساء، الآية:79]. (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ)(4) [سورة المائدة، الآية: 30]. (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)(5) [سورة الرعد، الآية: 11]. إلى غير ذلك من الآيات.
ومن هنا فإذا تأخر النصر فلنبدأ في بحثنا عن سبب ذلك من أنفسنا، فمِن مأمنه يؤتى الحذر.
الخاتمة
وبعد أن عشنا (6) مع هذا الموضوع وعايشناه، نصل إلى خاتمة المطاف فأقول:
مما سبق اتضح لنا أن حقيقة انتصار الداعية تتمثل فيما يلي:
1- التجرد لله والإخلاص له (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)(7) [سورة الأنعام، الآيتان: 162، 163]. وقال سبحاله: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)(8) [سورة البينة، الآية: 5]. والعمل الذي لا يصاحبه الإخلاص حري بالرد وعدم القبول.
2- سلامة المنهج، وهو أن يكون وفق ما كان عليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم وصحابته، وهذا هو منهج أهل السنة والجماعة، وهو منهج الطائفة المنصورة، والفرقة الناجية، الذين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله، قال -سبحانه-: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)(9) وقال صلى الله عليه وسلم " تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك " وقال: " تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا: كتاب الله وسنتي " (10).
3- الالتزام التام بما يدعو إليه والثبات على الطريق حتى يلقى الله، قال -سبحانه-: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)(11) [سورة الزخرف، الآية: 43]. وقال: (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)(12) [سورة لقمان، الآية: 22]. وقال: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ)(13) [سورة البقرة، الآيتان: 44، 45]. فالثبات على الطريق، من أقوى عوامل النصر وعلاماته.
بل إن صاحب الباطل إذا ثبت على باطله فغالبا ما ينتصر (14) فكيف بمن هو على الحق المبين؟.
__________
(1) - سورة آل عمران آية: 165.
(2) - سورة النازعات آية: 40-41.
(3) - سورة النساء آية: 79.
(4) - سورة المائدة آية: 30.
(5) - سورة الرعد آية: 11.
(6) - أنا والقراء.
(7) - سورة الأنعام آية: 162-163.
(8) - سورة البينة آية: 5.
(9) - سورة الأنعام آية: 153.
(10) - رواه الحاكم في المستدرك وصححه الألباني في صحيح الجامع رقمه 2937.
(11) - سورة الزخرف آية: 43.
(12) - سورة لقمان آية: 22.
(13) - سورة البقرة آية: 44-45.
(14) - أي يحقق أهدافه في الدنيا.(/27)
4- الصدع بالحق، وعدم المداهنة أو الخوف من غير الله قال-تعالى-: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ)(1) [سورة الحجر، الآيتان: 94، 95]. وقال: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)(2) [سورة الكهف، الآية: 29]. وقال -سبحانه- (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)(3) [سورة المائدة، الآية: 67]. وقال: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ)(4) [سورة آل عمران، الآية:187]. وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ)(5) [سورة المائدة، الآية: 8]. إلى غير ذلك من الآيات التي توجب الصدع بالحق والدعوة إليه.
5- الصبر وعدم اليأس والإيقان الجازم بوعد الله ونصره لعباده (6) قال -سبحانه-: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)(7) [سورة الصافات، الآيات: 171، 172، 173]. وقال: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)(8) [سورة غافر، الآية: 51]. وقال: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا)(9) [سورة يونس، الآية: 110]. وقال: (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)(10) [سورة يوسف، الآية: 87]. وقال: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ)(11) [سورة الأحقاف، الآية: 35]. وقال: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ)(12) [سورة القلم، الآية: 48]. وقال: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ)(13).
(وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ)(14) [سورة الروم، الآية: 60]. وقال: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ)(15) [سورة السجدة، الآية: 24]. وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(16) [سورة آل عمران، الآية: 200].
فإذا تحققت هذه المقومات، جاء النصر، فوعد الله لا يتخلف أبدا، بل إن تحقق هذه الأركان في فرد أو جماعة نصر عظيم، وما يأتي بعد ذلك من نصر هو أثر من آثار هذا الانتصار.
__________
(1) - سورة الحجر آية: 94-95.
(2) - سورة الكهف آية: 29.
(3) - سورة المائدة آية: 67.
(4) - سورة آل عمران آية: 187.
(5) - سورة المائدة آية: 8.
(6) - ذكر الطبري وابن كثير أن ابن جريج قال إن موسى عليه السلام -لما دعا على فرعون بقوله: (ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم). قال الله تعالى: (قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون). [سورة يونس، الآية: 89.] قال ابن جريج: إن فرعون مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة، قبل أن يهلكه الله بالغرق. انظر تفسير الطبري 11/161 وتفسير ابن كثير 2/429.
(7) - سورة الصافات آية: 171-172-173.
(8) - سورة غافر آية: 51.
(9) - سورة يوسف آية: 110.
(10) - سورة يوسف آية: 87.
(11) - سورة الأحقاف آية: 35.
(12) - سورة القلم آية: 48.
(13) - سورة الروم آية: 60.
(14) - سورة الروم آية: 60.
(15) - سورة السجدة آية: 24.
(16) - سورة آل عمران آية: 200.(/28)
وختاما: نقول: (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)(1) [سورة البقرة، الآية: 250]. (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)(2) [سورة آل عمران، الآية: 8]. (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)(3) [سورة آل عمران، الآية: 147]. (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)(4) [سورة البقرة، الآية: 286].
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) - سورة البقرة آية: 250.
(2) - سورة آل عمران آية: 8.
(3) - سورة آل عمران آية: 147.
(4) - سورة البقرة آية: 286.(/29)
بسم الله الرحمن الرحيم
حقيقة الانتماء و الموقف من أصحاب الانتماءات المخالفة
الحمد لله و كفى و الصلاة و السلام على نبيّه المصطفى ، و آله و صحبه أجمعين و بعد :
فقد تلقّيت من بعض الإخوة المقيمين في الديار الإيرلنديّة عن رأيي في التسمي بالسلفية أو غيرها ، و قولي في الانتماء إلى إحدى الجماعات الإسلاميّة العاملة في الساحة كجماعة الإخوان المسلمين أو حزب التحرير أو غيرها ؟ أو الخروج مع جماعة التبليغ بقصد الدعوة إلى الله تعالى ؟ و رأيي في التعامل مع المنتسبين إلى بعضها في شيء من أمور الدنيا أو مجالستهم و بدئهم بالسلام ؟
فقلت مستعيناً بالله تعالى :
يسعنا في هذا الباب ما وسع سلفنا ، أهلَ السنّة و الجماعة فالتزموه و تواصو به ، و هو لزوم الجماعة , و هي ما كان عليه السلف الصالح ، و ربّما عرفوا بأهل السنّة أو أصحاب الحديث أو السلفيّون أو غير ذلك من المسمّيات إذ إنّ العبرة بالمقاصد و المعاني لا بالألفاظ و المباني كما نصّت القائدة المعروفة عند الفقهاء .
روى الآجري في ( الشريعة ) و اللالكائي في ( شرح أصول الاعتقاد ) بإسناد صحيح أن الإمام أبا بكر بن عيَّاش رحمه الله سُئل ( ت 191هـ ) : مَن السُنِّيُّ ؟ فقال : (( الذي إذا ذُكِرت الأهواء لم يتعصَّب لشيءٍ منها )) .
و لفظ الجماعة لغةً مشتق من الجَمْعِ و هو : تأليف المفترق (كما في القاموس المحيط و لسان العرب ) .
... قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ( في مجموع الفتاوى : 3 / 157 ) : (( الجماعة هي الاجتماع ، وضدها الفرقة ، و إن كان لفظ الجماعة قد صار اسماً لنفس القوم المجتمعين )) .
... و اصطلاح أهل السنة و الجماعة ، مُقتبس من مجموع ما ورد في كتاب الله و سنة رسوله ، من الآيات ، و الأخبار الواردة في الحثّ على الاعتصام بالسنة ، و ملازمة الجماعة ، و النهي عن الابتداع و الفُرقة و الاختلاف في الدين .
... فمن ذلك قوله سبحانه و تعالى : { و لا تتبعوا السبل فتفرَّق بكم عن سبيله } [ الأنعام : 153 ] .
... و قوله : { أن أقيموا الدين و لا تتفرَّقوا فيه } ] الشورى : 13 [.
... روى الطبراني بإسناد حسن في تفسيره عن ابن عبَّاس - رضي الله عنه - في هاتين الآيتين قوله: (( أمر الله المؤمنين بالجماعة و نهاهم عن الاختلاف و الفرقة ، و أخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله )) .
... أما الأخبار الواردة في هذا الباب فكثيرة جداً و منها :
... قوله صلى الله عليه و سلّم في وصيته لحذيفة بن اليمان رضي الله عنه التي رواها الشيخان :
... (( تلزم جماعة المسلمين وإمامهم )) ، قال حذيفة : قُلتُ : فإن لم يكن لهم جماعةٌ و لا إمام ؟ فقال :
... (( فاعتزل تلك الفرق كلَّها ، و لو أن تعضَّ بأصل شجرةٍ حتى يُدركك الموت ، وأنت على ذلك )) .
... و روى الشيخان أيضاً من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنّ النبي صلى الله عليه و سلّم قال :
... (( ليس أحدٌ يفارق الجماعة شبراً فيموت إلا مات ميتةً جاهليَّةً )) .
... و في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه المشهور ، أن رسول الله صلى الله عليه و سلّم وعظهم موعظةً قال فيها :
... (( عليكم بسنتي و سنة الخلفاء الراشدين المهديين ، تمسكوا بها ، وعضوا عليها بالنواجذ ، و إياكم و مُحدثات الأمور فإنَّ كلَّ محدثةٍ بدعة ، و كلَّ بدعة ضلالة )) .
... و لأهميَّة لزوم الجماعة ، و عظيم شأنها ، بوَّب الشيخان كلٌّ في صحيحه ، و النسائيُّ , و الترمذي ، كلٌّ في سننه ، على لزومها .
... فقال البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب و السنة من صحيحه : باب قوله تعالى : { و كذلك جعلناكم أمَّةً وسَطاً } و ما أمر النبي صلى الله عليه و سلّم بلزوم الجماعة و هم أهل العلم .
... و قال الإمام مسلم في كتاب الإمارة من صحيحه : باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن ، و في كل حال ، و تحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة .
... و عَنوَن النسائي في سننه : قتلُ من فارق الجماعة ، و ذِكرُ الاختلاف على زياد بن عِلاقة عن عَرْفَجَةَ فيه .
... وعقد الترمذي في سننه باباً سمَّاه : باب ما جاء في لزوم الجماعة .
... قلتُ : و الجماعة التي يجب على المسلم لزومها ، و يحرم الخروج عليها ، ويستحق الوعيد من فارقها ، هم أهل الحقِّ في كل عصرٍ و مِصرٍ ، و إن قَلُّوا .
... قال أبو شامة المقدسي رحمه الله ( كما في شرح أصول الاعتقاد للالكائي و تاريخ دمشق لابن عساكر ) :
... (( حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة ، فالمراد به لزوم الحق و اتِّباعه ، و إن كان المستمسك به قليلاً ، و المخالف كثيراً )) .
... ثم استدل بقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : (( إن الجماعة ما وافق الحق ، و إن كنت وَحدَك )) .
... و في ( تاريخ دمشق ) أيضاً أنّ نعيم بن حمَّاد رحمه الله قال : (( إذا فسدت الجماعة ، فعليك بما كانت عليه قبل أن تفسد ، و إن كنت وحدك ، فإنَّك الجماعة حينئذٍ )) .(/1)
... و قال أبو عيسى الترمذي رحمه الله تعالى في سننه ( 4 / 476 ) : (( و تفسير الجماعة عند أهل العلم هم أهل الفقه و العلم و الحديث )) .
... و قول الترمذي هذا موافقٌ لما تقدّم معنا قبل قليلٍ قول الإمام البخاريِّ رحمه الله في معنى الجماعة : هم أهل العلم .
... و قال الشاطبي في ( الاعتصام 2 / 260 و ما بعدها ) : اختلف الناس في معنى الجماعة المرادة في الأحاديث على خمسة أقوالٍ :
أحدها : إنها السواد الأعظم من أهل الإسلام .
و الثاني : جماعة أئمة العلماء المجتهدين .
و الثالث : الصحابة على الخصوص .
و الرابع : جماعة أهل الإسلام إذا أجمعوا على أمر .
و الخامس : جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير .
و ذهب بعض المتأخرين كابن تيمية , و من وافقه إلى استعمال اصطلاح
( السلف الصالح ) كمرادف لاصطلاح ( أهل السنة ) ، و كثر في كلامهم ذكر عقيدة السلف ، و منهجهم ، و مذاهبهم ، و ما إلى ذلك مما يُراد به ما كان عليه أهل السنة و الجماعة رضوان الله عليهم أجمعين .
... وإذا أطلق لفظ السلف الصالح أريد به غالباً من عاش إلى نهاية القرن الثالث الهجري ، و قد كان ابن تيمية رحمه الله يحدُّهم فيجعل آخرهم الإمام ابن جرير الطبري ، وابن المنذر ( كما في منهاج السنة : 6 / 52،53 و 7/ 13 ) .
... و قال البربهاريُّ رحمه الله ( في السنّة 2 / 36 ) في تعريف الجماعة المذكورة في الأحاديث : (( هم جماعة الحق و أهله )) .
... و مال إلى هذا الرأي الحافظ ابن كثير في ( النهاية ) ، و هو أولى الأقوال بالقبول فيما يظهر لي ، لكونه يشملها جميعاً ، و الله أعلم .
... و بعدُ ، فيسعنا الآن - و قد بيَّنا المراد من اصطلاحي السنَّة ، و الجماعة كلٍّ على حدة - القول :
... إنَّ اصطلاح أهل السنة و الجماعة يُطلق على أهل الحق ، في مُقابل أهل الضلال و البدع و الشقاق ، انطلاقاً من القول بأنَّ السنة تعني : (( ما كان عليه النبيُّ صلى الله عليه و سلّم و أصحابه اعتقاداً ، و اقتصاداً ، و قولاً ، و عملاً )) كما في ( مجموع الفتاوى : 19 / 306,307 ) .
... و أوَّل ظهور للتسمية بأهل السنّة كان في عهد الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين ، أواخر عهد الخلافة الراشدة .
... روى مسلم في مقدّمة صحيحه محمد بن سيرين رحمه الله قال : (( لم يكونوا - أي الصحابة - يسألون عن الإسناد ، فلما وقعت الفتنة ، قالوا : سمُّوا لنا رجالكم ، فيُنظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم ، و يُنظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم )) .
... و قد اشتهر إطلاق هذه التسمية على ما يُقابل الرافضة خاصةً ، حيث يكثر
أن يُقال : انقسمت الأمة إلى سُنة و شيعة ، إضافة إلى المعروف عند أهل العلم من إطلاقه على أهل السنة المحضة .
... قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ( في منهاج السنّة 2 / 221 ) :
... (( فلفظ السنة يراد به من أثبت خلافة الخلفاء الثلاثة ، فيدخل في ذلك جميع الطوائف إلاَّ الرافضة . . . و قد يراد به أهل الحديث و السنة المحضة ، فلا يدخل فيه إلاَّ من أثبت الصفات لله تعالى ، و يقول إنَّ القرآن غير مخلوق )) . ثمّ ساق جملة من عقائد أهل السنة و الجماعة التي باينوا فيها أهل البدع .
... و الذي يعنينا في هذا المقام هو الإطلاق الثاني ، و عليه يمكن تعريف أهل السنة و الجماعة بأنهم : (( الثابتون على اعتقاد ما نقله إليهم السلف الصالح رحمهم الله ، عن الرسول صلى الله عليه و سلّم أو عن أصحابه رضوان الله عليهم ، فيما لم يثبت فيه نصٌّ في الكتاب ، و لا عن الرسول صلى الله عليه و سلّم )) ، كما قرره أبو نصر السجزي ( في الرد على من أنكر الحَرف , ص : 99 ) .
... و لأهل السنة و الجماعة ألقابٌ أخرى يُعرفون بها فهُم الفرقة الناجية ، و الطائفة المنصورة الثابتة على الحق في زمن الغربة ، لا يضرُّها من خذلها ، حتى تلقى الله و هي كذلك ، و قد ثبت وصفهم بذلك عن نبينا الأمين عليه الصلاة و السلام في الصحيحين و غيرهما ، حيث بوَّب الشيخان ، كلٌ في صحيحه على الطائفة المنصورة .
... فقال البخاريُّ ( كما أسلفنا ) في كتاب الاعتصام بالكتاب و السنة : باب قول النبي صلى الله عليه و سلّم : لا تزال طائفةٌ من أمتي على الحق ، و هم أهل العلم .
... و في كتاب الإمارة من صحيح مسلم : باب قوله صلى الله عليه و سلّم : لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، لا يضرُّهم من خالفهم .
... و في الصحيحين من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه و سلّم قال :
... (( لا تزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله ، لا يضرُّهم من خذلهم ، و لا من خالفهم ، حتى يأتي أمر الله و هم كذلك )) .
... و عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ، أنَّ رسول الله صلى الله عليه و سلّم قال :(/2)
... (( تفترق أمتي على ثلاثٍ و سبعين ملَّة ، كلُّهم في النار إلاَّ ملَّة واحدةٌ )) ، قالوا : و من هي يا رسول الله ؟ قال : (( ما أنا عليه و أصحابي )) ، أخرجه الترمذي و غيره بإسناد حسن .
... قال ابن كثير رحمه الله ( في تفسيره : 4 / 433 ) : (( هم أهل السنة و الجماعة المتمسكون بكتاب الله و سنة رسوله صلى الله عليه و سلّم ، و بما كان عليه الصدر الأول من الصحابة و التابعين ، وأئمة المسلمين )) .
... و لمَّا كان أهل الحديث خاصةً أثبت الناس على السنة ، و أكثرهم تمسكاً و اعتصاماً بما كان عليه النبي صلّى الله عليه و سلّم و صحابته الكرام ، ذهب غير واحدٍ من أهل العلم و التحقيق إلى الجزم بأن أهل السنة و الجماعة ، و الطائفة المنصورة ، هم أهل الحديث و الأثر .
... أخرج الخطيب ( في شرف أصحاب الحديث , ص : 26 ) أنّ عبد الله بن المبارك رحمه الله قال : (( هم عندي أصحاب الحديث )) .
... و في ( ص : 25 و 27 منه أيضاً ) روى عن الإمام أحمد رحمه الله قوله : (( إن لم يكونوا أصحاب الحديث ، فلا أدري من هم )) .
... و قال الإمام الترمذي رحمه الله في كتاب الفتن من سننه : سمعت محمد بن إسماعيل – يريد البخاري - يقول : سمعت علي بن المديني يقول ، وذكر هذا الحديث عن النبي : (( لا تزال طائفةٌ من أمتي ظاهرين على الحق )) : هم أهل الحديث .اهـ .
... و ذكر الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله ( في الغنية : 1 / 71 ) ، أنه ليس لأهل السنة إلا اسم واحدٌ يُعرفون به ، و هو أصحاب الحديث .
... و رُوي مثل هذا عن غير واحدٍ من السلف رحمهم الله ، ورضي عنهم .
... و إنَّما حاز أهل الحديث هذا الشرف العظيم ، لكونهم جمعوا بين الرواية والدراية ، إلى جانب العمل بما جاء في الأثر ، عن خير البشر عليه الصلاة و السلام ، و اعتقاد ما أرشد إليه .
أمّا من خالفت روايته عقيدته و منهجه و عمله فلا يسلم من الابتداع ، و في هذا السياق جاء قول أبي عمرو بن الصلاح رحمه الله ( كما في الفتاوى و المسائل , ص : 213 ) : (( قد يكون الإنسان من أهل الحديث و هو مبتدع )) .
... و قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ( في مجموع الفتاوى : 4 / 95 ) :
... (( و نحن لا نعني بأهل الحديث ، المقتصرين على سماعه ، أو كتابته ، أو روايته ، بل نعني بهم كلَّ من كان أحقَّ بحفظه ، و معرفته ، و فهمه ، ظاهراً ، وباطناً واتباعه باطناً ، و ظاهراً ، و كذلك أهل القرآن ، و أدنى خصلة في هؤلاء محبة القرآن و الحديث ، و البحث عنهما ، و عن معانيهما ، و العمل بما علموه من موجَبهما )) .
... و قد سمي أهل السنة ِ أهلَ الحديث ، لأنهم حفظته ، و نقلته ، و حَمَلته . قال اللالكائي ( في شرح أصول الاعتقاد : 1 / 22 ) :
... (( لم نجد في كتاب الله و سنة رسوله ، و آثار صحابته ، إلا الحثَّ على الاتباع ، و ذم التكلف و الاختراع ، فمن اقتصر على هذه الآثار كان من المتبعين و كان أولاهم بهذا الوسم ، و أخصهم بهذا الرسم أصحاب الحديث ، لاختصاصهم برسول الله صلى الله عليه و سلّم , و اتباعهم لقوله ، و طول ملازمتهم له ، و تحملهم علمه )) .
... و الفرق التي تزعم الانتساب إلى أهل السنة و الجماعة ، و تدعي الاعتصام بخير الهديِ ، هديِ محمد صلى الله عليه و سلّم في أصول الدين و فروعه ، كثيرة جداً ، (( غير أن الله أبى أن يكون الحق و العقيدة الصحيحة إلا مع أهل الحديث و الآثار ، لأنهم أخذوا دينهم و عقائدهم ، خلفاً عن سلف ، و قرناً عن قرن ، إلى أن انتهوا إلى التابعين ، و أخذه التابعون عن أصحاب رسول الله عليه الصلاة و السلام عن رسول الله صلى الله عليه و سلّم ، و لا طريق إلى معرفة ما دعا إليه رسول الله الناس من الدين القويم ، و الصراط المستقيم ، إلاَّ هذا الطريق الذي سلكه أصحاب الحديث ، أمَّا سائر الفرق ، فطلبوا الحديث لا بطريقه فحادوا عن الحق ، و زاغوا عنه )) ، كما قرر ذلك الأصفهاني ( في الحجة في بيان المحجّة : 2 / 22 و ما بعدها ) .
و بعد هذا العرض المسهب لبيان أهل الحق أرى من المناسب أن أردفه بجملة من المسائل تعميماً للفائدة ، و تقريراً لما أدين الله تعالى به ، و ما كنت لأخالف في شيء من ذلك منهج أهل السنّة و الجماعة أو أخالف أهل العلم أتباع الكتاب و السنّة على فهم السلف من أهل العلم المعاصرين الأجلاء .
المسألة الأولى : حول تسمية أهل الحق ، فقد عرفوا منذ عصر صدر الإسلام زمن الخلفاء الراشدين بأهل السنّة ثم احتيج لتحديد المراد بهذا الوصف بعد أن زعم بعض المبتدعة الانتساب إلى السنّة ، فقيل هم أهل العلم ، و قيل هم أهل الحديث ، و قيل هم الجماعة ، و قيل غير ذلك و كل ذلك حقّ لا مرية فيه إذ إنّ العبرة بالمنهج و ليس بالمسمّيات .(/3)
و في العصر الحديث قال محدث الديار الشاميّة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله[ في إجابته على سؤالي له عن التسمّي بالسلفيّة ] : ( لما صار أهل البدع ينسبون أنفسهم إلى السنة ، و صار من أدعيائها الأشاعرة و الماتريديّة و كثير من الصوفيّة اضطُرَّ أهل الحق إلى تمييز أنفسهم فانتسبوا إلى السلفيّة و قالوا نحن سلفيّون ) و قال : رحمه الله في مقام آخر : إن اصطلاح السلفيّة جاء بديلاً عن اسم أهل السنّة و الجماعة المتمسكين بالكتاب و السنّة على فهم السلف الصالح ، بمعنى أنّه اختصار لهذه العبارة الطويلة .
و كلام الشيخ في هذا المجال كثيرٌ مشهور ، و له ما يبرره ، فهو كلامٌ وجيه ، غير أنّي لا أعلم أحداً سبق الشيخ ناصر في الدعوة للتسمّي بالسلفيّة ، و الذي أعرفه عن علماء نجد كالشيخين عبد العزيز بن باز و محمد بن صالح العثيمين رحمهما الله ، أنّهما لا يرون بأساً بالتسمي بالسلفيّة ، و لا يأمرون به و لا ينهون عنه ، و لا يفضلونه على التسمّي بمذهب أهل السنّة و الجماعة ، بل ذهبوا أبعد من ذلك في التأكيد على أن لا عبرة للتسميات المحدثة ، بل العبرة بما تصدق عليه هذه التسميات ، فإن كان المراد منها الحق فالحق أحق أن يُتّبَع ، و إن لم تكن الأسماء سائغة عند المخالفين .
و من هذا المنطلق لم يستنكر الشيخ ابن باز رحمه الله تسمية أتباع دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهّاب ( السلفيّة ) بالوهّابيّة و لم ير غضاضةً في ذلك ، بل اعتبر لقب الوهّأبية لقباً شريفاً عظيماً إذا أُطلِق على أهل التوحيد الخالص , فقال بعد أن أثنى على الشيخ محمد بن عبد الوهّاب و عرّف بدعوته : ( فصارت دعوته تجديدية إسلامية عظيمة ، نفع الله بها المسلمين في الجزيرة العربية وفي غيرها رحمه الله رحمة واسعة ، و صار أتباعه و من دعا بدعوته و نشأ على هذه الدعوة في نجد يسمى بالوهابي ، و كان هذا اللقب علما لكل من دعا إلى توحيد الله ، و نهى عن الشرك و عن التعلق بأهل القبور، أو التعلق بالأشجار و الأحجار، و أمر بالإخلاص لله وحده و سمي وهابيا، فهو لقب شريف عظيم يدل على أن من لقب به فهو من أهل التوحيد ، و من أهل الإخلاص لله ، و ممن ينهى عن الشرك بالله ، و عن عبادة القبور و الأشجار و الأحجار والأصنام و الأوثان , هذا هو أصل هذه التسمية و هذا اللقب ، هو نسبة إلى الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي التميمي الحنبلي الداعي إلى الله عز و جل رحمه الله رحمة واسعة ) .
و هذه الفتوى معروفة مشهورة منشورة ، و هي مثبتتة على الرابط التالي في شبكة المعلومات الدولية ( الانترنت ) التالي :
http://www.ibnbaz.org/Display.Asp?f=nor00007.htm&print=on
و كما أسلفت فإن الشيخ رحمه الله لا يوصي بالتسمي بالانتساب إلى السلفيّة ، و لا ينهى عنه عند ذكر المنتسبين إلى السلف الصالح ، و من الانصاف أن أورد مثالاً على ذكره للسلفيين في معرض الثناء ، حيث وُجّه إليه السؤال التالي :
كثرت الطوائف و الفرق التي تزعم أنها هي الطائفة المنصورة ، و اشتبه على كثير من الناس الأمر ، فماذا نفعل خاصة أن هناك فرقا تنتسب للإسلام كالصوفية و السلفية و نحو ذلك من الفرق فكيف نميز بارك الله فيكم ؟
فأجاب قائلاً : ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة- يعني كلها في النار إلا واحدة وهم أتباع موسى- وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة- والمعنى أن كلها في النار إلا واحدة وهم التابعون لعيسى عليه السلام- قال وستفترق هذه الأمة- يعني أمة محمد عليه الصلاة والسلام- على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة قيل : يا رسول ال له ، من هي الفرقة الناجية ؟ قال : " الجماعة " و في لفظ : ما أنا عليه وأصحابي .
هذه هي الفرقة الناجية ، الذين اجتمعوا على الحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم و استقاموا عليه ، و ساروا على نهج الرسول صلى الله عليه و سلم و نهج أصحابه ، و هم أهل السنة و الجماعة ، و هم أهل الحديث الشريف السلفيون الذين تابعوا السلف الصالح ، و ساروا على نهجهم في العمل بالقرآن و السنة ، و كل فرقة تخالفهم فهي متوعدة بالنار .اهـ .
و هذه الفتوى مثبتتة على الرابط التالي في شبكة المعلومات الدولية ( الانترنت ) :
http://www.binbaz.org.sa/Display.asp?f=nor00004
قلتُ : لا أحسبني أجانب الصواب أو أخالف الحق إذا آثرت الانتساب إلى أهل السنة و الجماعة ، فلم أزد في التعريف بنفسي على أن أقول : مسلمٌ سنّي و كفى .
مع أني أعذر من آثر التسمية بالسلفي أو الأثري أو الانتساب إلى السلفيّة أو الأثريّة أو أهل الحديث إذا رأى في ذلك مصلحة شرعيّةً ، و أرانا على الجادّة ذاتها التي درج عليها أهل السنة و الجماعة ، و سار عليها السلف الصالح ، و إن اختلفنا في التسمية أو فيما يسوغ فيه الخلاف من مسائل الفروع .(/4)
و ممّا يحفزني للتمسّك بالأصل أنّ مبرر التسمي بالسلفيّة الذي ذكره العلاّمة الألباني ، قد تكرر وجوده في المنتسبين إلى السلفيّة اليوم ، فكما أن المنتسبين إلى أهل السنّة دخل فيهم بعض أهل البدع ، فقد ادّعى السلفيّة اليوم بعض من خالف منهج السلف ، و آخر من انتسب إلى السلفيّة و أُنكر عليه أتباع محمود الحدّاد ، نزيل المدينة النبويّة – سابقاً – الذي ردّ عليه العلماء الأفذاذ ، و في صدارتهم فضيلة الشيخ ربيع بن هادي المدخلي حفظه الله و رعاه ، و ان شئت الاستزادة و التثبت من ذلك فارجع إلى الرابط التالي على الشبكة :
http://www.sahab.net/page/article.php?sid=123
و الخلاصة عندي أنّه إذا سُوّغ الانتساب إلى السلفيّة كبديل أو مرادف للنسبة لأهل السنّة و الجماعة بسبب ادّعاء الأدعياء أنّهم من أهل السُنّة ، فإن في ادّعاء آخرين للسلفيّة مع خروجهم ( من أو على ) منهج السلف في التبديع و قواعده ، مسوّغ للعودة إلى التسمية الأم ، و الانتساب إلى السنّة و الجماعة ، و حَسْب .
المسألة الثانية : فيما يتعلّق بالأحزاب و الجماعات الإسلامية ، فأقول :
أمّا الأحزاب و الجماعات الإسلاميّة العاملة في الساحة ، فرأيي فيها معروف ، إذ إنني دَأَبتُ على الدعوة إلى التعاون الشرعي بديلاً عن التعصّب الحزبي ، و حذّرتُ و أحذّر نفسي و إخواني من الأحزاب و التحزب و التحزيب ، و التعصب و الموالاة و المعاداة على الأسس الحزبية ، و في أُطُرٍ جماعيّة فاسدة ما أنزل الله بها من سلطان ، و ما فتئت أقرر ذلك و أدعو إليه في كتاباتي و مقالاتي و خطبي ، و آخر ذلك خطبة الجمعة الملقاة في مسجد دَبلِن في إيرلندا بتاريخ الخامس عشر من شهر الله المحرم عام 1423للهجرة ، بعنوان : ( واجب الآباء نحو الأبناء في الغرب ) و المثبتتة على الرابط التالي في شبكة المعلومات الدولية ( الانترنت ) التالي :
http://www.sahab.net/sahab/showflat.pl?Cat=&Board=islam&Number=276048&page=0&view=collapsed&sb=5
و التزاماً بما ارتضيت و انتهجت من إجلال أهل العلم و احترام آرائهم ، و الردّ إليهم فيما يعرض للمسلمين من نوازل و مسائل ، فإنني أثبت هنا رأي سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في حكم الانتماء إلى الجماعات الإسلاميّة ، حيث سُئِل عن حكم الانتماء للجماعات الإسلامية ، و الالتزام بمنهج جماعة معينة دون سواها ؟
فأجاب رحمه الله بقوله : الواجب على كل إنسان أن يلتزم بالحق ، قال الله عز وجل ، و قال رسوله صلى الله عليه و سلم ، و ألا يلتزم بمنهج أي جماعة لا إخوان مسلمين و لا أنصار سنة و لا غيرهم ، و لكن يلتزم بالحق ، و إذا انتسب إلى أنصار السنة و ساعدهم في الحق ، أو إلى الإخوان المسلمين و وافقهم على الحق من دون غلو و لا تفريط فلا بأس ، أما أن يلزم قولهم و لا يحيد عنه فهذا لا يجوز ، وعليه أن يدور مع الحق حيث دار ، إن كان الحق مع الإخوان المسلمين أخذ به ، و إن كان مع أنصار السنة أخذ به ، و إن كان مع غيرهم أخذ به ، يدور مع الحق ، يعين الجماعات الأخرى في الحق ، و لكن لا يلتزم بمذهب معين لا يحيد عنه و لو كان باطلا ، و لو كان غلطا ، فهذا منكر ، وهذا لا يجوز ، ولكن مع الجماعة في كل حق ، وليس معهم فيما أخطئوا فيه .اهـ .
و هذه الفتوى مثبتة في الجزء الثامن من مجموع فتاوى و مقالات متنوعة ، للشيخ ، و هي مثبتتة على الرابط التالي في شبكة المعلومات الدولية ( الانترنت ) التالي :
http://www.binbaz.org.sa/Display.asp?f=Bz01530.htm&print=on
و من الجلي في هذه الفتوى أنّ الشيخ رحمه الله تعالى يفرّق في الحكم بين منتسبٍ إلى جماعة ما لمساعدتهم على الحق بدون غلو أو تفريط أو تعصب فهذا ممّا لا بأس به عنده .
أما الذي ينتسب إلى جماعةٍ ما عن تعصّب يجعله يلتزم مذهباً لا يحيد عنه و لو كان باطلاً أو غَلَطاً ، فهذا منكرٌ لا يجوز .
و من المناسب هنا أن نثبت نصيحة الشيخ رحمه الله لأعضاء هذه الجماعات حيث سُئل ( كما في المجلّد الخامس من مجموع فتاواه و مقالاته المتنوعة ) بم ينصح الشباب داخل هذه الجماعات ؟
فأجاب قائلاً : أن يترسموا طريق الحق و يطلبوه ، و أن يسألوا أهل العلم فيما أشكل عليهم ، و أن يتعاونوا مع الجماعات فيما ينفع المسلمين بالأدلة الشرعية ، لا بالعنف و لا بالسخرية ، و لكن بالكلمة الطيبة و الأسلوب الحسن و أن يكون السلف الصالح قدوتهم ، و الحق دليلهم ، و أن يهتموا بالعقيدة الصحيحة التي سار عليها رسول الله صلى الله عليه و سلم و صحابته رضي الله عنهم .اهـ .
و هذه الفتوى منشورة على الرابط التالي في شبكة المعلومات الدولية ( الانترنت ) :
http://www.binbaz.org.sa/Display.asp?f=Bz00864.htm&print=on(/5)
أمّا المسألة الثالثة و الأخيرة في هذا المقام ، فعن التعامل مع المخالف ( و خاصّة المنتسبين أو المنسوبين إلى الجماعات و الأحزاب و المحسوبين عليها ) سواء منهم ذي البدعة الظاهرة التي يُجاهر بها ، أو من لم تظهر منه بدعة و لكن شُكّ في أمره بسبب صحبته و بطانته ، فأقول :
فقد قرّرت في رسالةٍ سابقةٍ لي كتبتها و نشرتها قبل أكثر من عشر سنين حول هجر المبتدعة مقرّراً أن هذا الهجر من أصول منهج أهل السنّة و الجماعة في التعامل مع المبتدع ، و لكن الأمر ليس على إطلاقه ، فلا يهجر المسلم لمجرد وقوعه في البدعة ، إذ إن البدعة لا تقع على من وقع فيها مطلقاً , بل لا بدّ من التفصيل و التبيين .
كما أنّه يرجع في باب الهجر إلى مراعاة المصالح و المفاسد ، فقد يعامل المبتدع بشدّة تفوق معاملة الكافر أحياناً ، إذا غلب على الظنّ إن في الغلظة عليه ردعٌ له عن بدعته ، تردّه إلى جادّة الصواب ، أمّا إن كان الهجر عديم الجدوى أو يؤدّي إلى مفسدةٍ أكبر فالأولى عدمه ، بل يعدل عن الهجر إلى ما قد يكون أبلغ في الزجر ، كالمناصحة و المحاجّة و المجادلة بالتي هي أحسن .
و بالجملة فإن أحكام الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر يُمكن أن تُنَزّل على مسألة الزجر بالهجر ، و يراعى هنا ما يراعى هناك من المصالح و جلبها ، و المفاسد و درئها .
و تفصيل هذه المسألة هو موضوع الحلقة الرابعة من الدراسات المنهجيّة التي نشرتها بعنوان : الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر : ضوابط و أحكام في مواجهة أهل الحوادث و البدع ، و هو مطبوعٌ و ينشر على الشبكة قريباً إن شاء الله .
غير أنّ ما لا يُقبل تأخير بيانه في هذا المقام هو ما سبق لي نشره على الرابط التالي في شبكة المعلومات الدولية ( الانترنت ) التالي :
http://www.sahab.net/sahab/showflat.pl?Cat=&Board=islam&Number=274769&page=8&view=collapsed&sb=5
و هو عن وجوب العدل في الحكم على المبتدعة ، و ما يترتب على ذلك من الموالاة و المعاداة ، حيث أمرنا الله تعالى بالعدل فقال سبحانه : ( يا أيّها الذين آمنوا كونوا قوّامين لله شهداء بالقسط و لا يجرمنّكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ) [ المائدة : 8 ] .
و إذا كنّا عادلين في باب البراءة من المبتدعة و بغضهم و مباينتهم ، فلا بد أن يكون ذلك بحسب البدعة المتَلبَّس بها ، مع موالاتهم و محبتهم لما فيهم من الخير و البر من جهات أخرى ، هذا في حال كون البدعة غير مكفّرة ، و غير منافيةٍ لأصول أهل السنّة و الجماعة المتفق عليها ، فيكون ( الحب و البغض بحسب ما فيهم من خصال الخير و الشر ، فإنّ العبد يجتمع فيه سبب الولاية و سبب العداوة ، و الحب و البغض ، فيكون محبوباً من وجه ، و مبغوضاً من وجه ، و الحكم للغالب )
[ شرح العقيدة الطحاويّة ، لابن أبي العز الحنفي ، ص : 434 ] .
و هذا مقتضى العدل ، و قد قرره شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله في قوله: ( إذا اجتمع في الرجل الواحد خير و شر ، و فجور و طاعة و معصية ، سنة و بدعة ، استحق من الموالاة بقدر ما فيه من الخير ، و استحق من المعاداة بقدر ما فيه من الشر ، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام و الإهانة ، فيجتمع له من هذا و من هذا ، كاللص الفقير نقطع يده لسرقته ، و يُعطى من بيت المال ما يكفي حاجته ، هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنّة و الجماعة ) .
[ مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية : 28/209 ].
و بناءً على ما تقدم ممّا هو مقرّر عند أهل السنة و الجماعة ، و هو ما أدين الله تعالى به أقول :
إنّ أهل البدع ليسوا على درجةٍ واحدةٍ ، ففيهم المبتدع الكافر ببدعته ، و فيهم الفاسق بتلبسه بها ، و فيهم الداعية إليها ، و غير الداعية ، و فيهم المعذور بجهله أو اجتهاده ، و غير المعذور شأنهم في ذلك شأن أهل الإيمان عند من قال إنّه يزيد بالطاعة و ينقص بالعصيان [ و هو مذهب جمهور أهل السنة خلافاً للحنفيّة . انظر : شرح الطحاويّة ، ص : 335 و ما بعدها ]
فلا بد أن يُنزل كلّ إنسان منزلته ، و يُحلَّ محلَّه ، و يأخذ حقّه من المعاملة ولاءً و براءً .
و هذا العموم في التعامل مع المخالفين لا بُدّ من تخصيصه إذا أريد تنزيله على الواقع المعاصر أو أعضاء و أتباع الأحزاب و الجماعات الإسلاميّة المعاصرة , و خير من تناول هذا الموضوع فشفى و وفى هو سماحة الشيخ العلاّمة عبد العزيز بن باز رحمه الله ، و من رسائله الكثيرة الوفيرة ، و فتاواه المنيرة التي يسدي فيها نصحه لأتباع الجماعات و الأحزاب ، و يوجّه إلى الآخرين إلى معاملتهم وفق الشريعة الغراء ، أقتطف الرسالة التالية وهي منشورة في الجزء السابع من ( مجموع فتاوى و مقالات متنوعة ، للشيخ رحمه الله ) ، و معروضة على الرابط التالي في شبكة المعلومات الدولية ( الانترنت ) :
http://www.ibnbaz.org/Display.asp?f=Bz01275.htm
و هي عبارة عن سؤال و جواب فيما يلي نصّهما :(/6)
السؤال : تعلم يا سماحة الشيخ ما حل في الساحة من فتن فأصبح هناك جماعات مثل جماعة التبليغ و جماعة الإخوان و السلفية و غيرهم من الجماعات و كل جماعة تقول : إنها هي التي على صواب في اتباع السنة من هم الذين على صواب من هذه الجماعات ومن نتبع منهم ؟ ونرجو منك أن تسميهم بأسمائهم ؟
الجواب : الجماعة التي يجب اتباعها والسير على منهاجها هم أهل الصراط المستقيم ، هم أتباع النبي و هم أتباع الكتاب و السنة الذين يدعون إلى كتاب الله وسنة رسوله قولا وعملا ، أما الجماعات الأخرى فلا تتبع منها أحدا إلا فيما وافقت فيه الحق . سواء كانت جماعة الإخوان المسلمين أو جماعة التبليغ أو أنصار السنة أو من يقولون إنهم السلفيون أو الجماعة الإسلامية أو من تسمي نفسها بجماعة أهل الحديث و أي فرقة تسمي نفسها بأي شيء فإنهم يطاعون و يتبعون في الحق و الحق ما قام عليه الدليل و ما خالف الدليل يرد عليهم و يقال لهم : قد أخطأتم في هذا ، فالواجب موافقتهم فيما يوافق الآية الكريمة أو الحديث الشريف أو إجماع سلف الأمة .
أما ما خالفوا فيه الحق فإنه يرد عليهم فيه فيقول لهم أهل العلم : قولكم كذا و فعلكم كذا خلاف الحق- هذا يقوله لهم أهل العلم فهم الذين يبصرون الجماعات الإسلامية . فأهل العلم العالمون بالكتاب و السنة الذين تفقهوا في الدين من طريق الكتاب و السنة ، هم الذين يعرفون تفاصيل هذه الجماعات و هذه الجماعات عندها حق و باطل فهي ليست معصومة و كل واحد غير معصوم و لكن الحق ما قام عليه الدليل من كتاب الله و سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو إجماع سلف الأمة سواء من هذه الجماعات أو من الحنابلة أو الشافعية أو المالكية أو الظاهرية أو الحنفية أو غيرهم - فما قام عليه الدليل فهو الحق و ما خالف الدليل من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الإجماع القطعي يكون خطأ و أما الذين يدعون إلى غير كتاب الله و سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فهؤلاء لا يتبعون و لا يقلدون ، إنما يطاع و يتبع من دعا إلى كتاب الله و سنة رسوله صلى الله عليه وسلم و أصاب الحق فإذا أخطأ فإنه يقال له : أحسنت إذا أحسن و أخطأت إذا أخطأ و يتبع في الصواب ، و يدعي له بالتوفيق ، و إذا أخطأ يقال له أخطأت في كذا و خالفت الدليل الفلاني و الواجب عليك التوبة إلى الله و الرجوع إلى الحق - هذا يقوله أهل العلم و أهل البصيرة - أما العامي فليس من أهل العلم و إنما العلماء هم العلماء بالكتاب و السنة المعروفون الذين يتبعون الكتاب و السنة فعلى العامي أن يسأل هؤلاء الذين عرفوا الكتاب و السنة عما أشكل عليه مثل أن يسألهم ما تقولون في دعوة فلان الذي يقول كذا و يقول كذا حتى يتبصر و يعرف الحق كما قال الله سبحانه : فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ و هم أهل العلم بكتاب الله و سنة رسوله أما أهل البدعة فليسوا من أهل الذكر ، والدعاة إلى البدعة ليسوا من أهل الذكر أيضا . و الله ولي التوفيق و صلى الله وسلم على نبينا محمد و آله و صحبه .اهـ .
قلت : فالواجب إذن مناصحة القوم و محاججتهم ، و عدم مجاملة أحدٍ منهم أياً كان بالسكوت على خطئه ، أو عدم إنكاره عليه ، و دعوته إلى التوبة منه ، و هذا واجب كفائي على أهل العلم و الفضل ، كما قال الشيخ ( هذا يقوله أهل العلم و أهل البصيرة- أما العامي فليس من أهل العلم و إنما العلماء هم العلماء بالكتاب و السنة المعروفون الذين يتبعون الكتاب و السنة ) .
و إنني إذ أعذر قوماً ذهبوا إلى الهجر مُطلقاً ، مرجحين أن في المخالطة أو السلام على الحزبيين ( على تنوّعهم ) أو من يُظَنّ أنّهم كذلك ردعاً و زجراً لهم ، و سلامة للهاجر من موت القلب أو استمراء البدع أو تبلّد الإحساس تجاه البدع و أهلها .
فإنني أنظر إلى المسألة على أنّها مما تدخل فيه مراعاة المصالح و المفاسد ، إضافة إلى مشروعيّة الخلاف في الحكم على الأشخاص الذين لمّا تُقم عليهم الحجّة بعد ، أو لا يجاهرون بما يخالف الحق .
هذا ما أدين الله به ، فإن أصبت فمن الله ، و إن أخطأت فمن نفسي و من الشيطان ، و أفوّض أمري إلى الله ، إنّ الله بصيرٌ بالعباد .
و الحمد لله ربّ العالمين
و صلّى الله و سلّم على نبيّه الأمين , و آله و صحبه أجمعين
و كتب
د . أحمد بن عبد الكريم نجيب
Dr.Ahmad-A-Najeeb
ahmadnajeeb@hotmail.com(/7)
حقيقة الدور الإيراني في العراق بعد الاحتلال
د. محمد عياش الكبيسي
أثارت تصريحات وزير الخارجية التركي عبد الله جول المنشورة في صحيفة السياسة الكويتية بتاريخ 3 / 3/ 2006 والتي جاءت تحت عنوان "تركيا تحذر من مخطط إيراني للسيطرة على العراق.." وقبل ذلك تصريحات وزير الخارجية السعودي "سعود الفيصل" حول نفس الموضوع، وتحذير المسئولين الأردنيين من الخطر الذي يتهدد هوية العراق ومستقبل المنطقة من الطرف الإيراني، أثارت تلك التصريحات تساؤلات كثيرة لاسيما أن تلك التصريحات كانت موجهة للأمريكان ومتهمة لهم بأنهم يسعون لتسليم العراق إلى إيران. ولتوضيح الصورة والإجابة على تلك التساؤلات أقدم هذه الورقة والتي تضم المحاور الآتية:
المحور الأول: أمريكا وإيران خلاف أم وفاق؟
لا شك أن الذي يتابع مسيرة (الثورة الإسلامية) على يد آية الله الخميني والحرب الإعلامية مع الولايات المتحدة الأمريكية (الشيطان الأكبر) وقضية الرهائن الأمريكان الذين احتجزوا من قبل (الطلاب السائرين على خط الإمام) الذي يتابع كل هذا لا شك أنه سيصل إلى أن هناك خلافات جوهرية بين الطرفين ليس من السهولة التقليل من شأنها، إلا أن بعض المراقبين سجل في الاتجاه المعاكس مؤشرات أخرى قد تكون من الناحية العملية أقوى في الدلالة، ومن هذه المؤشرات:
أ– سكوت الإعلام الأمريكي المطبق حول قضية الجزر الثلاث المتنازع عليها بين إيران وبين دولة تصنف على أنها قريبة من الولايات المتحدة رغم المطالبات المتكررة لدولة الإمارات العربية من خلال مجلس التعاون الخليجي لاسترداد هذه الجزر!!
ب– سكوت الأمريكان عن الوضع المأساوي الذي تعيشه الأقليات الإيرانية مثل السنة والأكراد والعرب والبلوش في ظل "الحكومة الإسلامية, بينما نذكر كيف استغلت هذه المسألة ضد العراق.
ج – تعامل الأمريكان مع المعارضة الإيرانية المسلحة (مجاهدي خلق) والتي كانت لها معسكرات معروفة داخل العراق وبعد دخول الأمريكان اتجهت القوات الأمريكية إلى هذه المعسكرات وحاصرتها وأجبرتها على نزع سلاحها، مع أن هذه المليشيا علمانية التوجه بخلاف الحكومة الإيرانية.
د– تخليص إيران من العدوين اللدودين (طالبان) في الشرق و (صدام حسين) في الغرب، نعم ربما تكون هذه فائدة غير مقصودة من قبل الأمريكان ولكن يبقى السؤال: هل كان "صدام" و"طالبان" أخطر على المشروع الأمريكي من إيران "الحكومة الإسلامية" ولماذا؟
هـ- عامل الأمريكان مع الأذرع الإيرانية في العراق بعد الاحتلال، حيث لا يخفى أن جلّ الأحزاب والمنظمات والمليشيات التي تعاونت مع الاحتلال وكانت رأس الرمح في غزو العراق كانت كلها مؤسسة ومدربة في إيران، مثل المجلس الأعلى للثورة الإسلامية "عبد العزيز الحكيم" وجناحه المسلح "فيلق بدر" وحزب الدعوة"إبراهيم الجعفري" وهؤلاء هم عصب النظام العراقي الجديد بعد الاحتلال، وحتى على مستوى المرجعيات الدينية قام الأمريكان بمساعدة الإيرانيين في تهميش كل المراجع الشيعية العراقية, مثل: آية الله العظمى "فاضل المالكي" وآية الله "أحمد البغدادي" وآية الله "جواد الخالصي" وغيرهم كثير وتم التعامل حصرًا مع "آية الله السيستاني"وهو إيراني الجنسية فارسي الأصل لا يمتلك أي وثيقة عراقية، وقد أعلن رفضه للجنسية العراقية التي منحتها إياه الجمعية الوطنية الحالية التي يسيطر عليها الاتجاه "الشيعي الإيراني" وهذا بحسب ما أعلنته وسائل الإعلام الرسمية!! واليوم تعلن الولايات المتحدة وإيران الموافقة على إجراء مفاوضات مباشرة بخصوص العراق استجابة لدعوة المجلس الأعلى "عبد العزيز الحكيم"!! وهذا اعتراف صريح بأن إيران هي الفاعل الأقوى في المشهد العراقي. ونسجل هنا اعتراض التيار الصدري الذي يمثل القاعدة الأعرض "للتشيع العروبي العراقي" على هذه المبادرة كما هو حال هيئة علماء المسلمين وكل القوى العراقية الوطنية.
و- وربما يشكل على كل هذه المؤشرات الأزمة الأخيرة حول "المفاعل النووي" ويمكن الجواب: أن الأمريكان يفكرون بالاستفادة من إيران ضمن سقف محدد لا يتعارض على الأقل مع سقف "الكيان الصهيوني" وربما لو كان أي نظام عربي آخر يفكر بما تفكر به إيران سيواجه بقوة أشد حتى لو لم يكن إسلاميًا، مثال "صدام" و "القذافي."
المحور الثاني: العراق وإيران
لا شك أن حرب الثماني سنوات بين "عراق صدام" و "إيران الخميني" أذكت تاريخًا طويلاً من الصراعات المريرة تعود إلى أيام الفتح الإسلامي الأول. والتي لا زال الإيرانيون يجاهرون بكراهتهم لقادة هذا الفتح، ومن المراقبين من يرجع بهذا الصراع إلى تاريخ "نبوخذ نصرّ" الملك العراقي الذي تمكن من أسر أمراء اليهود و"كورش" الملك الإيراني مسيح اليهود ومحررهم من العراقيين!!(/1)
لم يخف الإيرانيون رضاهم بما حصل للعراق على يد الأمريكان ومنهم من أعلن أن العراق ما كان له أن يسقط بيد الأمريكان لو لا مساعدة الإيرانيين!! فماذا تريد إيران من العراق اليوم؟! يمكن بهذا الصدد تسجيل الملاحظات الميدانية الآتية:
-1 تسعى إيران بقوة لتكريس مبدأ "الفيدرالية" في العراق تحقيقًا لمصلحتها الإقليمية في عراق مفتت ضعيف، والأحزاب الشيعية المرتبطة بإيران هي التي أصرت على هذا المبدأ رغم أنهم يدعون تمثيل الأغلبية "الشيعية" في العراق، والمتعارف عليه أن الأقليات هي التي تتوجس من الحكومة المركزية القوية ولذلك تلجأ إلى"الفيدرالية" لحماية ذاتها وخصوصيتها، وعلى هذا فحينما يطالب الأكراد بالفيدرالية تكون مطالبتهم مفهومة، أما أن تطالب الأكثرية بهذا فمعنى ذلك أن هذه الأكثرية إما أنها أكثرية وهمية، أو إنها تعمل لصالح أطراف أخرى.
-2 تسعى إيران بقوة ومن خلال التنظيمات الموالية لها أيضًا لتهجير العوائل السنية من بغداد، ومن منطقة "المدائن" بشكل خاص، كما أن الحكومة العراقية الحالية لم تخف رغبتها في تغيير محيط بغداد "ذي الأغلبية السنية" حيث صرّح موفق الربيعي "مستشار الأمن القومي": أن بغداد لا يصح أن تبقى محاطة بالإرهابيين، ولتحقيق هذه الغايات قامت وزارة الداخلية والمليشيات المرتبطة بها بحملات قتل وتعذيب وتشويه للجثث في هذه المناطق ولم يعد الأمر خافيًا بعد اكتشاف "السجون السرية" و"فرق الموت" واعترافات مدير "مشرحة بغداد" الذي أعلن عن وصول أكثر من سبعة آلاف جثة عليها آثار التعذيب وقد فرّ إلى خارج العراق! وكان من المضحك أن تجيب الحكومة رسميًا: أن هؤلاء الذين يقومون بهذه الجرائم هم رجال يرتدون ملابس وزارة الداخلية ويستخدمون سيارات وزارة الداخلية لكنهم غير منتسبين فعلاً لهذه الوزارة!! تجدر الإشارة أن وزير الداخلية هذا هو بيان صولاغ جبر المعروف بأنه أحد قيادي فيلق بدر الذي أشرفت على تأسيسه وتجهيزه المخابرات الإيرانية، والذي اعترف بالاشتراك مع القوات الإيرانية في قتالها للعراقيين إبان حرب الثماني سنوات، واليوم يفاخر بأنه يعمل جنبًا إلى جنب مع القوات الأمريكية في ضرب المقاومة العراقية. والمعارك الكبرى التي دارت في الفلوجة والنجف وسامراء.. الخ شاهدة على ذلك.
-3 موقف إيران من المقاومة العراقية: كان يفترض بإيران أن تستثمر المقاومة العراقية لصالحها في صراعها المعلن مع الولايات المتحدة الأمريكية. إلا أن الذي يجرى على الأرض بخلاف هذا تمامًا، حيث إن الذي يقوم باعتقال أفراد المقاومة أو المشتبه بعلاقته مع المقاومة هم الأذرع الإيرانية المعروفة، وحتى خطباء المساجد الذي يحثون الناس على الصمود يتم اعتقالهم وقتلهم بطريقة بشعة. وهناك إحصائيات كثيرة في هذا وبعض الذين أفرج عنهم صرحوا أن بعض ضباط التحقيق كانوا يتكلمون الفارسية!! وقد يقال إن هذا بدافع طائفي، ولكن الحقيقة أن موقف إيران هذا لم يختلف كثيرًا عن موقفها من مقاومة "الصدر" في النجف وبغداد والبصرة، حيث اشتركت القوات الموالية لإيران مع القوات الأمريكية في محاصرة الصدر، وبقيت إيران تمارس الضغط على مقتدى الصدر حتى أعلن أخيرًا عن انضمامه للمشروع السياسي تحت قائمة الائتلاف الذي يقوده "عبد العزيز الحكيم"!! وبهذا يكون موقف إيران من المقاومة لا يقل خطورة عن موقف الأمريكان أنفسهم!! إلا أن هناك فارقًا واحدًا يضاعف من خطورة إيران ألا وهو أن الاحتلال الأمريكي مدان عربيًا وإسلاميًا وحتى عالميًا، أما إيران فإنها تقوم بكل ما تقوم به وهي في وضع مريح جدًا حيث إنها أمنت أي ردة فعل عربية أو حتى سنية، وذلك للأسباب الآتية:
-1 إن الحرب الإعلامية بين إيران وأمريكا والتهديدات التي يطلقها الرئيس الإيراني الجديد ضد الكيان الصهيوني جعل من الصعب إدانة الإيرانيين، لأن إدانتهم تعني الاصطفاف مع الامبريالية الأمريكية، وبهذا يتم التغاضي بل وعدم الرغبة أصلاً في بحث حقيقة الدور الإيراني في العراق .
-2 إن الحركات الإسلامية والواجهات العلمية لا تريد أن تظهر بالمظهر الطائفي وقد ظهر هذا جليًا في الأحداث الأخيرة، حيث سارعت تلك الحركات والواجهات بإدانة تفجير مرقد الأماميين "علي الهادي والحسن العسكري" في سامراء بينما تغاضوا عن هدم مائتي مسجد من مساجد السنة وحرق المصاحف التي تناقلت صورها الكثير من وسائل الإعلام.(/2)
-3إن إيران تساعد بعض الحركات المقاومة في فلسطين ولبنان وإن كنا لا ندري حجم هذه المساعدات، لكن من الواضح أن هناك لقاءات رسمية متكررة، ومن هذه الناحية قد يفهم موقف هذه الحركات، لكن المفكرين والسياسيين في طول العالم الإسلامي وعرضه عليهم أن يسألوا الإيرانيين عن سر دعمهم لحركات المقاومة في لبنان وفلسطين ومحاربتهم للمقاومين في العراق، بل وتعظيمهم وتمجيدهم للذين تحالفوا مع المحتل الأجنبي حتى صرنا نسمع من الإيرانيين وحتى من بعض اللبنانيين مصطلح "شهيد المحراب"على "محمد باقر الحكيم" وهو الذي لعب دورًا خطيرًا في تسليم العراق للمشروع الصهيوني الأمريكي".
إن هذا التساؤل لن يؤثر على مستقبل الحركات المدعومة من إيران بل ربما ستجد إيران أفضل رد على هذه التساؤلات هو دعمها المباشر لهذه الحركات التي اكتسبت شرعية عامة في الأوساط العربية والإسلامية، وبنفس الوقت تحقق هذه التساؤلات هدفها في الضغط على إيران لتخفيف حملتها ضد العرب السنة والمقاومة بصورة خاصة.
وإذا كان البعض يفضل السكوت مراعاة لمصلحة تلك الحركات من مواجهة العدو المشترك "لمشروع الصهيوني الأمريكي" فإن تقارير المقاومة العراقية تؤكد أنه لو لا الدور الإيراني المتحالف مع الأمريكان لتمكنت المقاومة العراقية من كسر هذا المشروع مبكرًا، ولأعلنت أمريكا عن فشلها في العراق، وهذا بلا شك سيترك تداعيات مفصلية في مستقبل تلك الحركات المقاومة بل والمنطقة والعالم كله.
وأخيرًا:
فإذا كانت نتيجة هذه المواقف للجارة الكبرى إيران ستكون باتجاه تسليم العراق للمشروع الصهيوني الأمريكي، وتقاسم الكعكة فلأمريكا النفط ولإيران الهوية فإن الخاسر الأكبر هو الأمة العربية والإسلامية.
إن المطلوب من الأمة اليوم أن لا تدس رأسها في الرمال بدوافع عاطفية أو مصلحية ضيقة بل عليها أن تبحث عن الحقيقة كما هي لاتخاذ الموقف الصحيح، وربما تكون هذه المواقف أوراق ضغط مناسبة لإجبار الإيرانيين على التراجع والاصطلاح مع المشروع الكبير للأمة في حين أن السكوت واتخاذ المواقف الخجولة والمترددة قد يغري إيران بالاستمرار في طريقها هذا ، بحيث يصعب عليها فيما بعد مجرد التفكير بالتراجع أو التعديل(/3)
حقيقة العبادة في الإسلام
يتناول الدرس شرح وتفصيل الغاية التي خلق من أجلها الإنسان ألا وهي العبادة مبناً معناها واستعمالاتها في القرآن وأصناف الناس فيها وحقيقتها كما فهمها أهل التوحيد مبينا الضوابط الأساسية لفهم العبادة ومقاصد وصور العبادة وكذلك الضوابط في العبودية والعمل وطرح سؤالين مهمين وأجاب عليهما وختم بمراتب العبادة .
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
}وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[56]مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ[57]إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ[58]{'سورة الذاريات'. ولأهمية استقرار هذه حقيقة العبادة في نفس المؤمن؛ لابد من تفصيلها؛ لأنها غاية الحياة، ولأنها المبدأ الأول الذي أنزل الله كتبه، وبعث رسله لدعوة الناس إليه، وتذكيرهم به إذا نسوه أو ضلّوا عنه، ولكشف التحريف الذي صرف هذه الكلمة عن مدلولاتها وحقيقتها .. والله الموفق .
المعنى اللغوي للعبادة : العبودة، والعبودية، والعبدية تعني الخضوع والتذلل والطاعة، أي استسلام المرء وانقياده انقيادًا لا مقاومة له، ولا عدول عنه، ولا عصيان له.
استعمال كلمة العبادة في القرآن: كلمة العبادة وردت فيه-غالباً- بمعانٍ ثلاثة:
المعنى الأول : الطاعة مع الخضوع، كقوله تعالى:} إِيَّاكَ نَعْبُدُ[5]{ 'سورة الفاتحة' وقوله تعالى:} يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ[172]{'سورة البقرة' .
المعنى الثاني: التأله والتنسك، كقوله تعالى:} إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي[66]{ 'سورة غافر'. وقوله تعالى:} بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ[41]{ 'سورة سبأ'.
المعنى الثالث: اتخاذ الرجل عبدًا أو مملوكًا، ومعاملته معاملة العبد قال تعالى:}وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ[22]{'سورة الشعراء'. فمن الظاهر أنه ليست دعوة القرآن إلا أن تكون العبودية، والطاعة، والتأله، كل أولئك خالصًا لوجه الله تعالى، ومن ثَمَّ فإن حصر معاني كلمة 'العبادة' في معنى بعينه حصر لدعوة القرآن في معانٍ ضيقة، ومن نتائجه المحتومة أنّ من آمن بدين الله وهو يتصور دعوة القرآن هذا التصور الضيق المحدود؛ فإنه لن يتبع تعاليمه إلا اتباعًا ناقصًا محدودًا.
المعنى الشرعي للعبادة :
أولاً: هو الالتزام بما شرعه الله ودعا إليه رسله، أمرًا ونهيًا، وتحليلاً وتحريمًا، وهذا هو الذي يمثل عنصر الطاعة والخضوع لله .
ثانيًا: أن يصدر هذا الالتزام من قلب يحب الله؛ لأن العبادة المأمور بها تتضمن غاية الذل لله تعالى بغاية المحبة له، ومن خضع لإنسان مع بغضه له لا يكون عابدًا له، ولو أحب شيئًا ولم يخضع له لم يكن عابدًا له.
ثالثًا: التوجه إلى الله بكل عمل ابتغاء مرضاته وثوابه حتى تتميز العادة عن العبادة ففرق بين الإمساك عن الأكل والشرب؛ وقاية من الأمراض، أو لعدم القدرة على الأكل، وبين الإمساك عن الأكل والشرب والشهوات؛ احتسابًا لله عز وجل .
رابعًا: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة: كالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله، والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، وأمثال ذلك، هي من العبادات لله.
أصناف الناس في منفعة العبادة وحكمتها ومقصودها وغايتها:
الصنف الأول: الذين ينفون 'الحكمة والمقصود والغاية' من العبادة، ويردون الأمر بها لمحض مشيئة الله بلا سبب إلا لمجرد الأمر بها، من غير أن تكون سببًا لسعادة في الدنيا والآخرة في نفسها.
وهؤلاء لا يجدون حلاوة العبادة ولا لذتها ولا يتنعمون بها، ولهذا يسمونها 'تكاليف'.
الصنف الثاني: يثبتون نوعًا من الحكمة والتعليل والغاية للعبادة، ولكن يرجع إلى مجرد مصلحة المخلوق ومنفعته، فعندهم: أن العبادات شرعت أثمانًا لما يناله العباد من الثواب والنعيم، وأنها بمنزلة استيفاء أجرة الأجير.
الصنف الثالث: الذين زعموا أن فائدة العبادة: رياضة النفوس، وإعدادها لتلقي العلم، والتجرد من العيوب، ولتخلصها من آفاتها.
الصنف الرابع: وهم العارفون بالله وحكمته في أمره، وشرعه وخلقه، وأهل البصائر في عبادته، وغايتها.
فالأصناف الثلاثة محجوبون عن فهم حقيقة العبادة بما ران عليهم من الشبه الباطلة والقواعد الفاسدة، والعقول القاصرة، وعدم الاهتداء بنور النبوة والوحي. وطائفة أهل التوحيد والفهم لدين الله يعرفون معنى العبادة على حقيقتها وغايتها.(/1)
حقيقة العبادة وغاياتها كما فهمها أهل التوحيد والفهم لدين الله :
1 ـ افتقارنا إليه سبحانه وتعالى : فالله تبارك وتعالى لا تنفعه عبادة العابدين، ولا تضره معصية العاصين، ولا يزيد في ملكه حمد الحامدين، ولا ينقصه جحود الجاحدين: }يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ[15]{'سورة فاطر'. قال عز وجل في الحديث القدسي:' يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ'رواه مسلم وأحمد.
2 ـ العبادة حق الله على عباده : }يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[21]الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ[22]{ 'سورة البقرة'.
وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:' يَا مُعَاذُ أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَاد'ِ قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ:' أَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ وَلَا يُشْرَكَ بِهِ شَيْءٌ' رواه البخاري مسلم والترمذي وابن ماجه وأحمد .
3 ـ العبودية لله عين الحرية : فهي وحدها التي تعتق القلب من رق المخلوقين وتحرره من الذل والخضوع لكل ما سوى الله من أنواع الآلهة والطواغيت التي تستعبد الناس وتسترقهم أشد ما يكون الاسترقاق والاستعباد، وإن ظهروا صورة وشكلاً بمظهر السادة الأحرار، فما من عبدٍ استكبر عن عبادة الله؛ إلا وقع حتمًا في عبودية غيره.
4 ـ العبادة غذاء الروح : إن القلب الإنساني دائم الشعور بالحاجة إلى الله تعالى وهو شعور أصيل صادق، لا يملأ فراغه شيء في الوجود إلا حسن الصلة بالله، وهي ما سماها الرسول صلى الله عليه وسلم:'حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ' جزء من حديث رواه البخاري ومسلم وغيرهما. فَقُرَّةُ عين العابد في الصلاة والحج، وفرح قلبه وسروره ونعيمه في ذلك، وفي الصيام والذكر والتلاوة، وأما الصدقة فعجب من العجب، وأما الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله؛ فاللذة بذلك أمر آخر لا يناله الوصف، ولا يدركه من ليس له نصيب منه.
5 ـ العبادة ابتلاء إلهي يصقل الإنسان : قال تعالي:} تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[1]الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا[2]{ 'سورة الملك'. قال تعالي:} أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ[142]{ 'سورة آل عمران'.
فلا يمكن أن يستوي القاعدون والمجاهدون ولا يعقل أن يستوي الكسالى والعاملون.
بعض الضوابط الأساسية لفهم مفهوم العبادة :
لا عبادة إلا لله سبحانه: قال تعالي:} فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ[30]حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ[31]{'سورة الحج'.(/2)
سد الذرائع المفضية إلى الشرك : كاتخاذ القبور مساجدًا، والحلف والنذر لغير الله، والذبح لغير الله .. الخ.
تحرير العبادة من قيود المكان : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:'...وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ...'رواه البخاري ومسلم والنسائي والدارمي وأحمد .
الإخلاص أساس قبول العمل : قال تعالي: } قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ[11]{'سورة الزمر'. ويقول الرسول الله صلى الله عليه وسلم:' إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى...' رواه البخاري ومسلم وأبوداود والترمذي وابن ماجه والنسائي وأحمد .
لا يعبد الله إلا بما شرع : قال تعالي: } وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ[125]{'سورة النساء' وقال:} لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا[7]{ 'سورة هود، والملك آية [2]' . قال الفضيل بن عياض- مفسرًا هذه الآية-:} أَحْسَنُ عَمَلًا { يعني: أخلصه وأصوبه. قالوا يا أبا علي: ما أخلصه وما أصوبه؟ قال: إنه إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، ولا يقبل حتى يكون خالصًا صوابًا والخلاص، أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة:
'صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي'رواه البخاري .
و 'لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ'رواه ومسلم وأبوداود والنسائي وأحمد .
و' مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ'رواه البخاري ومسلم وأبوداود وابن ماجه وأحمد .
اليسر ورفع الحرج : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:' بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ'رواه أحمد.
مقاصد وصور العبادة:
يقول الإمام الشاطبي: 'العبادة لها مقصدان أصليان، ومقاصد تابعة، فالمقصد الأصلي منها هو التوجه إلى الواحد المعبود، وإفراده بالقصد إليه في كل حال، ويتبع ذلك قصد التعبد لنيل الدرجات في الآخرة، أو ليكون من أولياء الله تعالى، أو ما أشبه. ومن المقاصد التابعة للعبادة: صلاح النفس، واكتساب الفضيلة'.
ومن صور العبادة :
1 ـ عبادات اللسان: كالنطق بالشهادتين، وتلاوة القرآن وذكر الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم الجاهل، وأداء الشهادة، وصدق الحديث، وترك الدعوة إلى البدع والمحرمات كالقذف والسبب والغيبة والاستهزاء والكذب .. الخ.
2 ـ عبادات الجوارح : كالسمع والبصر واليدين والرجلين: فالسمع: كالإنصات لما يحبه الله ورسوله كالقرآن، والعلم النافع، وتجنب الإنصات للكفر والبدع وما ليس فيه مصلحة، أو استماع المعازف واللغو واللهو.
3 ـ عبادة النظر: كالنظر في المصحف، والكتب النافعة، والتفكر في مخلوقات الله، وتجنب النظر إلى الحرام. ويمكن القياس على هذا عبادة اليدين والرجلين والذوق والشم .. الخ.
سؤالان وجوابهما :
السؤال الأول:إذا كانت العبادة تشمل الدين كله ـ كما قال ابن تيميه ـ فلماذا عطف القرآن عليها غيرها من أوامر الدين ونواهيه، في مثل قوله تعالي: } وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى...[36] {'سورة النساء' وقوله على لسان شعيب:} يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ[59]{'سورة الأعراف'. وقال:} وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ[84]{'سورة هود' وقال:} وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ[85]{ 'سورة هود' .
فهذه الأشياء المعطوفة على العبادة تدل على أنها غيرها، فإن العطف يقتضي المغايرة، كما هو معلوم، فما تفسير ذلك؟
و الجواب هو : أن عطف الخاص على العام مألوف في العربية، ومأنوس لدى البلغاء، وذلك للتنبيه على مزية في الخاص اقتضت إفراده بالذكر، كأنه جنس مستقل، مع دخوله في أفراد العام، كما أن عكسه أيضًا معروف، وهو عطف العام على الخاص. ومن أمثلة ذلك: قوله تعالى:} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ[90]{'سورة النحل' فنص على إيتاء ذي القربى مع أنه يدخل في الإحسان. وكذلك خص الفحشاء بالذكر مع دخولها في عموم المنكر وكذلك البغي. وأمثلة هذا في القرآن كثيرة.
السؤال الثاني: إذا كان الدين كله عبادة، فلماذا قسم الفقهاء أحكام الشرع إلى 'عبادات و'معاملات'؟
و الجواب هو : أن تقسيم الفقهاء الأحكام الشرعية العملية إلى عبادات ومعاملات، إنما هو اصطلاح منهم؛ أرادوا به التفريق بين نوعين من الأحكام:(/3)
النوع الأول: يضم الصور والكيفيات المحددة التي شرعها الله تعالى، ليتقرب عباده إليه بأدائها. فالشارع هو المنشئ لها والآمر بها. وليس للعباد فيها إلا التلقي والتنفيذ. وتلك هي الشعائر التعبدية التي لا يخلو دين منها، وبها يمتحن الله عباده، وبها تظهر حقيقة العبودية، حيث لا يبدو للعباد فيها
حظ شخصي لأول وهلة.
أما النوع الثاني: فهو يشمل الأحكام التي تنظم علاقات الناس بعضهم ببعض في حياتهم ومعايشهم ومبادلاتهم. فهذه العلاقات والنشاطات لم ينشئها الشرع، بل هي موجودة قبله. ومهمة الشارع هنا : أن يُعدّلها، ويهذبها ويقر الصالح منها، والنافع، ويمنع الفاسد والضار.
وبهذا يتبين لنا أن موقف الشرع من النوع الأول الذي سماه الفقهاء 'العبادات' غير موقفه من النوع الثاني الذي سموه 'المعاملات': فهو في الأول منشيء مخترع، وليس من حق غيره أن ينشئ أو يبتدع صورًا للعبادة من عند نفسه لم يأذن بها الله. وقد جاءت بذلك الأحاديث:' مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ' رواه البخاري ومسلم وأبوداود وابن ماجه وأحمد . وقال:' وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ'رواه مسلم وابن ماجه والنسائي والدارمي وأحمد .
وهو في الثانية مُصلح لما أنشأه الناس وأوجدوه فعلاً, وبناءًا على هذا قرروا أن الأصل في العبادات الحظر والمنع، حتى لا يشرع الناس في الدين ما لم يأذن به الله. أما في العادات والمعاملات فالأصل فيها الإباحة.
وهناك فائدة أخرى لهذا التقسيم، نبه عليها الإمام الشاطبي وغيره، وهي: أن الأصل في جانب العبادات هو التعبد، دون الالتفات إلى المعاني والمقاصد. أما العادات أو المعاملات فالأصل فيها الالتفات إلى ما وراءها من المعاني والحكم والمقاصد. فإذا أمر الشارع مثلاً بذبح الهدي في الحج. فهذا أمر تعبدي لا يجوز تركه والتصدق بثمن الهدي؛ لما في ذلك من تعطيل هذه العبادة الشعائرية.
ولكن إذا حث الشارع على رباط الخيل واقتنائها والاهتمام بها لقتال الأعداء، ثم تغير الزمن وأصبح الناس يركبون للحرب الدبابات والمدرعات بدل الخيل، أصبح الاهتمام بهذه الأسلحة الجديدة هو التنفيذ العملي لما جاء من حث على رباط الخيل، بناء على رعاية المعاني والمقاصد التي تفهم من وراء ما جاءت به نصوص الشرع هنا.. فهذا هو سر تقسيم الفقهاء أحكام الفقه إلى عبادات ومعاملات، وهذا هو أثره. وإن كان التزام أحكام الشرع في كل المجالات هو عبادة بالمعنى الشامل الذي بيناه من قبل .
ضوابط في العبودية والعمل :
ينبغي تعلم حكم 'ما يقال أو يعمل' قبل صدوره كما قال ابن القيم: [العبد إذا عزم على فعل أمر فعليه أن يعلم أولاً: هل هو طاعة الله أم لا؟!
1- فإن لم يكن طاعة فلا يفعله إلا أن يكون مباحًا يستعين به على الطاعة وحينئذ يصبر طاعة 'أو عبادة'.
2- فإذا بان له أنه طاعة فلا يقدم عليه، حتى ينظر هل هو معان عليه أم لا؟ فإن لم يكن معانًا عليه فلا يقدم عليه فيذل نفسه وإن كان معانًا عليه بقي عليه نظر آخر.
3- وهو أن يأتيه من بابه، فإن أتاه من غير بابه أضاعه، أو فرّط فيه، أو أفسد منه شيئًا.
فهذه الأمور الثلاثة:'الطاعة والإعانة والهداية' أصل سعادة العبد وفلاحه، وهو معنى قول العبد لربه: }إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[5]اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ[6]{'سورة الفاتحة' فأسعد الخلق أهل العبادة، والاستعانة والهداية إلى المطلوب. وأشقاهم من عُدِم الأمور الثلاثة.
ومن يكون له نصيب من }إِيَّاكَ نَعْبُدُ{ونصيبه من }وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ{معدوم أو ضعيف فهذا مخذول مهين محزون.
ومن يكون نصيبه من }وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ {قويًا ونصيبه من} إِيَّاكَ نَعْبُدُ{ضعيفًا أو مفقودًا، فهذا له نفوذ وتسلط وقوة ولكن لا عاقبة له، بل عاقبته أسوأ عاقبة.
ومن يكون له نصيب من }إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[5]{ولكنّ نصيبه من الهداية إلى المقصود ضعيف جدًا، كحال من قل علمهم بحقائق ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق فهذا مصيره إلى الضياع.
مراتب في العبادة :
1 ـ عبادات خاصة: لله على كل أحد عبادة خاصة بحسب مرتبته، سوى العبادة العامة التي سوّى بين عباده فيها: [فعلى العالم من العبادة: نشر السنة والعلم الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم ما ليس على الجاهل، وعليه من العبادة بالصبر على ذلك، ما ليس على غيره. وعلى الحاكم من العبادة: إقامة الشرع والحق، وتنفيذه وإلزام من هو عليه به، والصبر على ذلك والجهاد عليه، ما ليس على غيره من سائر المحكومين. وعلى الغني من العبادة : أداء الحقوق التي من ماله ما ليس على الفقير. وعلى القادر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيده ولسانه ما ليس على العاجز فيهما ..].
2 ـ مراتب العبادة علمًا وعملاً:
مراتبها من حيث العلم مرتبتان:
إحداهما: العلم بالله .
والثانية: العلم بدينه.(/4)
فأما العلم به سبحانه، فخمس مراتب: العلم بذاته سبحانه وأنها لا تشابه ذات المخلوقين:} لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ[11] { 'سورة الشورى' . مع عدم التفكر فيها؛ لورود النهي عن ذلك. والعلم بصفاته: كما وصف نفسه، ووصفه رسوله صلى الله عليه وسلم . والعلم بأفعاله، وأسمائه، وتنزيهه عما لا يليق به.
والعلم بدينه مرتبتان:
إحداهما: العلم بما شرع الله عز وجل من أوامر ونواهٍ وحدود وواجبات ومحرمات. وهو الصراط المستقيم الموصل إليه، فلا يمكن فيه إلا بمتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
الثانية: الاعتقاد بالجزاء المتضمن ثوابه وعقابه، ويدخل في هذا العلم: العلم بملائكته وكتبه ورسله.
وأما مراتبها العملية فمرتبتان :
مرتبة للمقتصدين، ومرتبة للسابقين بالخيرات.
فأما مرتبة المقتصدين: فأداء الواجبات، وترك المحرمات، مع الإسراف في المباحات، وارتكاب بعض المكروهات، وترك بعض المستحبات.
وأما مرتبة السابقين: فالقيام بالواجبات والمندوبات، وترك المحرمات والمكروهات، زاهدين فيما لا ينفعهم في معادهم، متورعين عما يخافون ضرره، وقد انقلبت المباحات عندهم إلى طاعات وقربات بالنية. ولأهل هاتين المرتبتين درجات لا يحصيها إلا الله.
من 'سلسلة رسائل فتيان الدعوة' :' أولويات في تربية الناشئة'
بإشراف: الشيخ/ جاسم بن محمد بن مهلهل الياسين.. الشيخ/ أحمد بن عبد العزيز القطان(/5)
حقيقة العداوة بين المسلمين واليهود
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
فإن الأمة المسلمة تمرّ هذه الأيام بأحوال عصيبة وأحداث مؤلمة ومن أكبرها تسلّط اليهود على المسلمين في أرض فلسطين يقتّلون رجالهم وأبناءهم ويروّعون نساءهم وأطفالهم ويحرقون مساجدهم ويهدمون بيوتهم ويحاصرونهم ويجوّعونهم :
والمسلم ينطلق في رؤيته وحكمه على الأحداث من الكتاب والسنة ، ولنا مع هذه الأحداث الوقفات التالية نذكّر بها أنفسنا ونستبصر طريقنا ونعدّ العدّة لعدونا
لماذا نكره اليهود : نحن نكره اليهود لأجل ربنا ، ونبغضهم في الله لأنهم سبّوا الله وقتلوا أنبياءه وشتموهم .
- فهم الذين أخبرنا الله عنهم في كتابه بقوله : ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ .. الآية ) : المائدة 64
- وهم الذين قالوا : ( إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) آل عمران
- وهم الذين ادّعوا الولد لله : ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ ) التوبة 30 ، تعالى الله عن قولهم ( لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ( 2 ) .
- هؤلاء أنفسهم الذين قالوا في تلمودهم المزعوم : ليس الله - نستغفره سبحانه - معصوماً من الطيش والغضب والكذب .
- وفي تلمودهم أيضا : للحاخامات السيادة على الله , وعليه أجْراء ما يرغبون فيه .
- ويقولون : يقضي الله ثلاث ساعات من النهار يلعب مع ملك الأسماك .
تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا : ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِين َ(17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ(18) سورة الأنبياء
- وفي تلمودهم : اليهودي أحب إلى الله من الملائكة , فالذي يصفع اليهودي كمن يصفع العزة الإلهية .
- وقد أكذبهم الله فقال : ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ(18) سورة المائدة
- ومما قالوه في تلمودهم أيضا : إن الله يستشير الحاخامات على الأرض حين توجد معضلة لا يستطيع حلها في السماء . تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً
وهل يوجد شيء لا يقدر عليه الربّ ؟ سبحانه وتعالى وهو على كل شيئ قدير ، ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(82) سورة يس
- وقالوا في التلمود بوقاحة فاجرة : أن تعاليم الحاخامات لا يمكن نقضها أو تغييرها ولو بأمر الله .
سبحان الله وهو القائل عن اليهود : ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ) التوبة 31 ، وهؤلاء الذين قال الله عنهم : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) التوبة 34
- هؤلاء اليهود الذين يرون أنفسهم كل شيئا ولا يعدّون غيرهم شيئا ، ومن أقوالهم في غير اليهود كما جاء في تلمودهم :
· نطفة غير اليهودي كنطفة باقي الحيوانات
· يجب على كل يهودي أن يبذل جهده لمنع استملاك باقي الأمم في الأرض لتبقى السلطة لليهود وحدهم .
· لو لم يخلق الله اليهود لانعدمت البركة في الأرض .
· الخارجون عن دين اليهود خنازير نجسة .
· أرواح اليهود عزيزة عند الله , وبالنسبة لباقي الأرواح فالأرواح غير اليهودية أرواح شيطانية تشبه أرواح الحيوانات .
· اليهودي لا يخطئ إذا اعتدى على عرض غير اليهودية , لأن كل عقد زواج عند غير اليهود باطل , فالمرأة غير اليهودية تعتبر بهيمة , والعقد لا يقوم بين البهائم .
· لليهود الحق في اغتصاب النساء غير اليهوديات .
· الزنا بغير اليهود ذكورا كانوا أو إناثا لا عقاب عليه لأنهم من نسل الحيوانات
· ليس للمرأة اليهودية أن تشكوا إذا زنى زوجها بأجنبية في بيت الزوجية .
وليس بمستبعد أن يقولوا هذا الكلام وهم الذين قال الله فيهم : ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) سورة آل عمران(/1)
- ومن اعتقادهم في مصير غير اليهود في الآخرة ما نصّوا عليه في تلمودهم :
· النعيم مأوى أرواح اليهود ولا يدخل الجنة إلا اليهود .
وهذا موافق لما ذكره الله عنهم بقوله : ( وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) سورة البقرة
- وهؤلاء اليهود هم الذين قتلوا أنبياء الله وسبوهم وشتموهم وقالوا عن عيسى عليه السلام في تلمودهم : إنه ابن زنا وإن أمه حملت به خلال فترة الحيض وأنه مشعوذ ومضلل وأحمق وغشاش بني إسرائيل وأنّه صلب ومات ودفن في جهنم وأنه يعذّب فيها في أتون ماء منتن يغلي .
وقد قال الله تعالى في فريتهم على المسيح عليه السلام وأمه : ( فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا(156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) سورة النساء
- وهم الذين قالوا في تلمودهم في عداوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم : حيث أن المسيح كذاب وحيث أن محمدا اعترف به والمعترف بالكذاب كذاب مثله ، يجب أن نقاتل الكذاب الثاني كما قاتلنا الكذاب الأول .
( لبقية أقوالهم في التلمود ينظر : فضائح التلمود : آي براناتيس ص : 57 وما بعدها وكتاب دفائن النفس اليهودية : محمد الزعبي )
وهاهم اليوم يقولون إن الله ندم على خلق الفلسطينيين ، ويلفّون رأس خنزير في أوراق مصحف مكتوب عليها " محمد " لإلقائها في المسجد الأقصى إغاظة للمسلمين ، ورسموا خنزيرا على جدار وكتبوا عليه اسم نبينا ووقّعوا تحت ذلك بنجمة داود .
- فعداوتنا لهم إذا عداوة عقدية وليست سياسية ، إننا لا نبغضهم فقط لأنهم محتلين بل لأمر قبل ذلك هو أكبر بكثير كما تقدّم ، ثم نحن نبغضهم أيضا لجرائمهم في حقّ بيت الله المسجد الأقصى وقيامهم بإحراقه ومحاولات هدمه وحفر الأنفاق الكثيرة تحته ثم قتلهم إخواننا واستعمال الأسلحة الفتاكة التي تحفر رصاصاتها في رؤوس المسلمين ثم تنفجر داخلها :
- 10 شظايا وجدت في دماغ طفل مسلم ورصاص يُطلق من أسلحة كاتمة للصوت حتى لا ينتبه المسلمون أنّ أحدا من إخوانهم سقط جريحا فيسارعون إلى إسعافه وصواريخ تنفجر في أجساد المسلمين العزّل حتى لا تعرف عائلة أحدهم ملامحه ولا يستطيعون التعرّف عليه وغازات سامة يُزعم أنها لتفريق المظاهرات وهي في الحقيقة تصيب بالاختناق القاتل وإطلاق الرصاص على سيارات الإسعاف وقتلوا بعض رجال الإسعاف وجرحوا آخرين ومنعوا سيارة تقلّ امرأة مسلمة على وشك الوضع من إكمال طريقها إلى المستشفى حتى وضعت جنينها في السيارة وأطلقوا رصاص 500 و800 ورصاص الدمدم ففجّروا رؤوس الضحايا المسلمين : مائة وستون قتيلا وخمسة آلاف جريح ومئات المعوقين وأصحاب العاهات الذين باتوا لا يستطيعون الإنفاق على أسرهم . ومواد كيماوية في خزانات مياه الشرب في فلسطين لتعقيم النساء المسلمات وإصابتهن بعدم القدرة على الإنجاب وتغيير المناهج الدراسية للمسلمين في فلسطين حذفا وإضافة بما يوافق أهواءهم .
- إننا نؤمن أنّه ليس في أفعاله تعالى شرّ محض بل لا بدّ أن يكون في خير بوجه من الوجوه كما هو معتقد أهل السنة والجماعة ، فها نحن رأينا خلال الأحداث الدامية على أرض فلسطين مظاهر إيجابية صدرت من المسلمين تبشّر بمستقبل مشرق ونصر قادم بإذن الله فمن ذلك :
- وجود القناعة العظيمة عند جماهير المسلمين بأنّ الطريق الوحيد لهزيمة اليهود هو الجهاد في سبيل الله فعظمت المطالبة بإقامة هذه الفريضة وذروة سنام الإسلام .
- سقوط الرايات القومية والثورية والوطنية والديموقراطية وكلّ الطّرق الجاهلية وارتفاع رايات لا إله إلا الله بأيدي المسلمين
- وجود الجرأة العجيبة والشجاعة الكبيرة لدى الجموع المسلمة الغفيرة في فلسطين للتصدي لليهود بدباباتهم ومركباتهم وأسلحتهم وعدتهم وعتادهم
- عودة قاعدة الجسد الواحد إلى جموع هذه الأمة وبوادر التطبيق العملي للصورة التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر : حديث صحيح(/2)
- وقد تجلى ذلك في هذه الصدقات العظيمة المبذولة من المسلمين لإخوانهم ، والبوادر الطيبة في نقل بعض الجرحى لعلاجهم وعيادة المسلمين لهم ، وأدعية القنوت المرفوعة في طول البلاد الإسلامية وعرضها ، وتعبير جموع المسلمين بشتى مستوياتهم عن وقوفهم بجانب إخوانهم ، بل محاولة بعض أطفال المسلمين الذّهاب إلى أرض فلسطين لإلقاء الحجارة على اليهود !!
- وضوح المنطلق الإسلامي للقضية عند الكثيرين من المسلمين وتجلّى ذلك في شعاراتهم المبيّنة لإسلامية القضيّة ومكانة المسجد الأقصى عند المسلمين وكان أشدّ ما آذى اليهود - كما اعترف بعض منظّريهم - شعار : خيبر خيبر يا يهود جيش محمد سوف يعود ، وقال أحد اليهود : علينا أن نعي حراجة الوضع الذي نحن فيه ، فهؤلاء لا يقصدون أنّ جيش محمد سيأتي فقط من مدن الضفّة الغربية وقطاع غزّة ، إنهم يقصدون أنّ هذا الجيش سيأتي من كل مكان فيه من يحترم محمدا ويصدّق أنه نبي ، فلا تتحدّثوا بعد ذلك عن السلام .
- توقّف عملية التطبيع مع اليهود أو تباطئها وهي من أشدّ الأخطار على الأمّة ، وخفتت أصوات دعاة السلام مع اليهود وهم يرونهم ينقضون مواثيقهم واتفاقياتهم وعهودهم عهدا بعد عهد ، مصداقا لقول الله تعالى فيهم : ( أَو َكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ(100) سورة البقرة
وإننا بالرغم ما رأينا من المظاهر العظيمة التي تدعو إلى التفاؤل فإننا يجب أن لا ننسى ما يلي :
- أن سبب هذا الذلّ والهوان الذي نعيشه هو حالنا نحن ، وأنّ كلّ ما أصابنا من سيئات فمن أنفسنا ، وإذا أردنا أن يرفع الله عنا الذلّ فلا بدّ من العودة إليه سبحانه : ( إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم ) . وأنّ الأمة يجب أن تتوب مما وقعت فيه من الشّرك والبدع والمعاصي والموبقات .
- أنّ هناك غبشا لا يزال عند البعض في طلب النّصرة من المشركين والاعتماد على الكفّار والوقوع في الخلط بين الرايات الإسلامية ورايات أهل الشّرك ، ومن شروط النصر أن يزول هذا الخلط : ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ) . وأنّ طريقنا يبدأ بكلمة التوحيد حتى يصل إلى توحيد الكلمة بناء على منهج الرسل صلوات الله وسلامه عليهم .
- أنّ بيننا وبين إعداد العدّة التي أمر الله بها بونا شاسعا ، فأين العمل بقوله تعالى : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءَاخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ(60)
وأخيرا فإننا نسأل الله تعالى أن ينجيّ المستضعفين من المؤمنين وأن يذلّ اليهود والمشركين وأن ينصر الموحدّين ويخرج اليهود من بيت المقدس أذلة صاغرين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
كتبه :
محمد صالح المنجد(/3)
حقيقة الكلمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحقيقة !!!!
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير.
وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان.
(يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله حق تقاته، ولا تموتنا إلا وأنتم مسلمون).
أما بعد: عبد الله،
عقلك عقلكَ، وسمعك وقلبك، أعرنيهما وأرعنيهما لحظات قد تطول راجيا أن يتسع صدرك احتسابا لما أقول، ثم حلق معي بخيالكَ متخيلا ما هو واقعُ، ومتصورا ما هو حقيقةٌ على الحقيقةِ.
تخيل وليداً عمرُه شهرٌ واحد، قضى اللهُ أن لا يعيشَ سوى هذا الشهرَ فقبضَهُ ديانُ يومُ الدين، وقبرَ مع المقبورين، وبينما هم في قبورِهم:
إذ نفخَ في الصور، وبُعثرَتِ القبور، وخرج المقبور، وكان في من خرجَ ذلكم الصبيُ ذو الشهرِ الواحد، حافياً عاريا أبهمَ، نظر فإذا الناسُ حفاةٌ عراةٌ رجالاً والنساء كالفراشِ المبثوث.
الجبالُ كالعهنِ المنفوش، السماءُ انفطرت ومارت وانشقت وفتحت وكشطت وطويت.
والجبالُ سيرت ونسفت ودكت، والأرضُ زلزلة ومدت وألقت ما فيها وتخلت.
العشار عطلت، الوحوشُ حشرت، البحارُ فجرت وسجرت.
الأمم على الرُكبِ جثت وإلى كتابها دُعيت، الكواكبُ انتثرت، النجومُ انكدرت.
الشمسُ كورت ومن رؤوسِ الخلائقِ أدنيت.
الأممُ ازدحمت وتدافعت، الأقدامُ اختلفت، الأجوافُ احترقت، الأعناقُ من العطشِ وحر الشمسِ ووهجِ أنفاسِ الخلائقِ انقطعت، فاض العرق فبلغ الحقوين والكعبين وشحمة الأذنين.
والناسُ بين مستظلِ بظلِ العرش، ومصهورٍ في حر الشمسِ.
الصحفُ نشرت، والموازينُ نصبت، والكتبُ تطايرت، صحيفةُ كلٍ في يده مُخبرةٌ بعمله، لا تغادرُ بليةً كتمها، ولا مخبأة أسرها.
اللسان كليلُ والقلبُ حسيرُ كسير، الجوارحُ اضطربت، الألوانُ تغيرت لما رأت، الفرائصُ ارتعدت، القلوبُ بالنداءِ قُرعت، والموءودةُ سألت، والجحيمُ سعرت، والجنةُ أزلفت.
عظمَ الأمر، وأشتدَ الهول، والمُرضعةُ عما أرضعت ذُهلت، وكلُ ذاتِ حملٍ حملها أوقعت.
زاغتِ الأبصارُ وشخصت، والقلوبُ الحناجرَ بلغت، وانقطعت علائقُ الأنسابِ.
وتراكمت سحائبُ الأهوالِ، وأنعجم البليغُ بالمقالِ وعنتِ الوجوهُ للقيوم.
واقتُصَ من ذي الظلمِ للمظلومِ وساوتَ الملوكُ للأجنادِ، وأُحضرَ الكتابُ والأشهادِ.
وشهدَ الأعضاءُ والجوارح، وبدت السوءاتُ والفضائح، وابتليت هنالك السرائرُ، وانكشفَ المخفيُ في الضمائر.
هنا، تخيل ذلك الوليدُ صاحبَ الشهرِ الواحد، ما اقترفَ ذنباً وما ارتكبَ جُرما والأهوالُ محدقةٌ به من بين يديه، ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، تخيلهُ مذعوراً قلبُه، اشتعل رأسُه شيبا في الحال لهولِ ما يرى، فيا لله لذلك الموقف.
يوم عبوس قنطرير شره……. وتشيب منه مفارق الولدان
هذا بلا ذنبُ يخاف مصيره…… كيف المصرُ على الذنوبِ دهورُ
قال اللهُ عز وجل ( فكيفَ تتقونَ إن كفرتم يوماً يجعلُ الولدانَ شيبا)
عباد الله:
في خضمِ هذه الأهوالِ التي تبيضُ منها مفارقُ الولدانِ، ما النجاة وما المخرج؟
إن النجاةَ والمخرجَ في أمرٍ لا غير، لا يصلحُ قلبٌ، ولا تستقيمُ نفسٌ ولا تسعدُ إلا به، خوطبَ به الخلقُ أجمعين، خصَ به المؤمنون، أُوصيَ به الأنبياءُ والمرسلون، وخاتَمَهم سيدُ ولد أدم أجمعين عليه وعليهم صلوات وسلام رب العالمين. أي أمرٍ هذا أيها المؤمنون؟
إنه وصية الله للأولين والأخرين:
( ولقد وصينا الذين اوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله).
تقوى اللهِ وكفى، قال جل وعلا :
(وينجي اللهُ اللذين اتقوا بمفارتهم لا يمسُهم السواءُ ولا هم يحزنون).
ويقول ( وإن منكم إلا واردَها كان على ربكَ حتماً مقضيا، ثم ننجي الذينَ اتقوا ونذرُ الظالمين فيها جثيا). أيُ تقوىً تُنجي بين يدي الله؟
أهي كلمةٌ تنتقى وتدبج في مقال؟
أم هي شعارٌ يرفعُ بلا رصيدٍ من واقع؟
كلا ما كلُ منتسبٍ للقولِ قوالُ:
ولو أن أسباب العفاف بلا تقى……..… نفعت لقد نفعت إذا إبليسُ
فهو القائل (إني بريء منك، إني أخاف الله رب العالمين).
لا ينجي واللهِ في تلك الأهوالِ إلا حقيقةٌ التقوى، لبُها كنهها ماهيتها مضمونُها.
فما حقيقةُ تلك الكلمة يا عباد الله؟
إنها هيمنةُ استشعارِ رقابةِ اللهِ على حياتِك أيها الفرد حتى كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك وتلك أعلى مراتب الإيمان وهي مرتبة الإحسان،
وتلك أعلاها لدى الرحمن
وهي رسوخ القلب في العرفان
حتى يكون الغيب كالعيان
بل هي هيمنةُ الدينِ على الحياة كلها عقيدةً وشريعة، عبادةً ومعاملةً، خُلقا ونظاماً، رابطةً وأخوة.
هيمنَةً كما أرادها الله تجعلُ الحياةَ خاضعة في عقيدة المسلم وتصوره لله، لا يند منها شاردة ولا واردة ولا شاذة ولا فاذة.(/1)
هيمنةُ تُسلم النفسَ كلَها لله، حتى تكونا أفكارَ ومشاعرَ وأحاسيسَ وسلوكاً، محكومةً بوحي الله فلا تخضع لغير سلطانه، ولا تحكم بغير قرأنه، ولا تتبعُ غير رسولِه، لا يحركُها إلا دينُ الله، تأتمرُ بأمر الله وتنتهي عن نهيه، متجردةً من ذاتها متعلقةً بربها وحالُ صاحبِها:
خضعت نفسيَ للباري فسدوا الكائنات……… أنا عبدُ الله لا عبدُ الهوى والشهوات
فهِم هذا أصحابُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، فصاغوه واقعاً حياً نابضا، انفعلت بهِ نفوسُهم فترجموه في واقعِ سلوكُهم، صِرتَ ترى شرع الله يدبُ على الأرضِ في صورةِ أناسٍ يأكلون الطعام ويمشونَ في الأسواق.
إذا ما دعو للهدى هرولوا…..…..وإن تدعهم للهوى قرفصوا
روى الإمام البخاري عن أنس رضي الله عنه أنه قال:
(كنتُ ساقي القوم في بيتِ أبي طلحة (يعني الخمر) وإني لقائمُ أسقي فلاناً وفلاناً وفلانا، إذ جاء رجلُ فقال هل بلغَكم الخبر، قالوا وما ذاك؟
قال لقد حُرمتِ الخمر، وقد أمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مناديا ينادي آلا إن الخمرَ قد حُرمت، فقالوا أهرق هذه القلال يا انس.
فما سألوا عنها، ولا راجعوها بعد خبرِ الرجل، وما دخلَ داخلٌ ولا خرجَ خارج حتى اهراقوا الشراب وكسرتِ القلال، ثم توضئ بعضهم واغتسل بعضهم ثم أصابوا من طيب أم سليم ثم خرجوا إلى المسجدِ يخوضونَ في الخمر قد جرت بها سكِك المدينة، فقد تواطئتُ المدينة كلُها على تحريمه)
فلما قرأت عليهم الآية:
( فهل أنتم منتهون )؟
بعض القوم كانت شربته في يده فلم يرفعها لفيه بل أراق ما في كأسه وصب ما في باقيته وقال انتهينا ربنُا انتهينا.
لم يقولوا تعودنا عليه منذ سنين و ورثناها عن آبائنا كما يفعل بعض مسلمي زماننا.
ما تكونت عصابات لتهريب المخدرات لأن الدين هيمن على حياتهم فاستشعروا رقابةَ ربِهم فبادروا في يسرٍ إلى تنفيذه امتثالاً لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.
إن النبيَ صلى الله عليه وسلم، يأمر أهلَ المدينة أن لا يكلموا كعباً حين تخلف عن تبوك.
فإذا الأفواه ملجمةٌ لا تنبسُ ببنت شفةٍ، وإذا الثغور لا تفترُ حتى عن بسمة.
بل إن أبن عمه وحميمَه وصديقَه أبا قتادة، نعم لما آتاه ليسلمَ عليه كعب ما رد عليه السلام، فاستعبرت عينا كعبٍ رضي الله عنه ورجع كسير البال كاسف الحال.
فأمرُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عند هؤلاء القوم فوق كل خُلة.
ثم انظر إليهم لما نزلت توبةُ اللهِ على هذا الرجل، على كعبٍ رضي الله عنه وأرضاه.
تتحركُ المدينةِ وتنتفضُ عن بكرةِ أبيها إلى كعب فإذا الأفواه تلهج له بالتهنئةِ وقد كانت ملجمة، وإذا الثغور تفتروا عن بسمات مضيئة صادقة وقد كانت عابسة.
نفوس لا يحركها إلا دينُ الله حالها:
ما بعت نفسي إلا لله عز وجلَ…….…..فمن تولى سواه يوله ما تولىَ
إنهم لم يقفوا عند امتثال أمره واجتناب نهيه بل تابعوا أفعال المصطفى صلى الله عليه وسلم ولاحظوا تصرفاته بكل دقة وشوق وحرص على الإقتداء حتى إذا ما فعل شيئا سارعوا إلى فعله مباشرة لأنهم يعلمون أن سنته سفينة نوح من ركبها نجى ومن تخلف عنها هلك.
ثبت عند أبي دؤود في سننه عن سعيد الخدري قال:
(بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فألقاهما عن يساره.
فلما رأى ذلك أصحابه رضوان الله عليهم القوا نعالهم.
فلما قضى صلى الله عليه وسلم صلاته قال ما حملكم على إلقاء نعالكم؟
قالوا رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا). توحيد في الإتباع:
فمن قلد الآراء ضل عن الهدى……... ومن قلد المعصوم في الدين يهتدي
بل كان الناس إذا نزلوا منزلا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسفاره تفرقوا في الشعاب والأودية فقال لهم صلى الله عليه وسلم إن تفرقكم في هذه الشعاب والأودية إنما ذلكم من الشيطان.
فما نزلوا بعد ذلك منزلا إلا انظم بعضهم إلى بعض حتى لو وضع عليهم بساط لعمهم.
تنفيذ في يسر وطاعة وامتثال، وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب.
هم ذلك السلف الذين لسانهم……….….تنحط عنه جميع اللسنة الورى
تلك العصابة من يحد عن سبيلها…….حقا يقال لمثله أطرف كرى
مما سمعتم أيها المؤمنون يتجلى لنا مظهرُ أفرادِ المجتمعِ المسلم في ظلِ إدراكهمُ الصحيحُ لمفهوم الإسلام، فليستِ المسألةُ عندَهم فرائضَ يفرِضها هذا الدين على الناس بلا موجبٍ إلا رغبةُ التحكمِ في العباد.
بل هيَ مسألة وجودِ الإنسانِ إذا رغبَ أن يكونَ إنسانٍ حقا، لا مجردَ كائنٍ يأكلُ الطعامَ ويشربَ الشرابَ، ويقضي أيامَه على الأرضِ كيفما أتفق، بل هيَ وضعُ للإنسانِ في وضعه الصحيح كإنسان يستشعر رقابة المولى وتلك هي حقيقةُ التقوى.
عباد الله:
هل استشعرَ رقابةَ الله؟
واتقى اللهَ حقيقةً من يشهدُ أن لا إله إلا الله، ويصبح دائبا مجداً مجتهداً في مطعمِ حرام وملبس حرام وغذاءِ حرام؟ يصبحُ وقد ضربَ هذا وشتمَ هذا وأكلَ مالَ هذا وسفك دم هذا ووقعَ في عرضِ ذاكَ وذا.
يصغّر ذا بأراجيفه….… ويرجو بذلك أن يكبرا(/2)
ولو عاش في عالم أمثل……. لكان من الحتم أن يصغرا
هل استشعرَ رقابةَ الله؟
من يجلبُ النار ليحرقَ بيتَه وأهله، من يُخربَ بيتَه بيده بوسائلَ لا تزال تُمطره بوابلٍ أو طل من أغاني وأفلامِ ماجنة وقصص سافلة، وترويض للنفوسِ على الكذبِ والنفاقِ وقلب الحقائق؟ قائماً على هدمِ بيتهِ كالدودة التي تخرج من الميت ثم لا تأكل إلا ذلك الميت؟
ألم يستشعرَ أنه لو مات َ على حالته تلك مات غاشاً لرعيته خائنا لأمانته.
حاملاً وزرَه ووزرَ ما جلبه لبيته على ظهره يوم القيامة بقدرِ ما أفسدت هذه الوسائلُ في نفوس أبنائه وأهله من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا.
واللهِ لا يعفيك من حساب الله ولا من لوم الناس ولا تأنيبَ الضمير أن تقول أنا ضحية، وما البديل وما البدل وما المبدل منه؟
وبيتك حقل لاستقبال الأفكارِ والاوضار والأقذارِ تنبتُ فيه وتترعرع، وأنت تسأل ماذا افعل؟
لا يفل الحديد إلا الحديد، والباب الذي يأتيك منه القبيح لا حيلة فيه إلا بسده لتستريح.
آلا إن الشراب له إناء …….فإن دنسته دنس الشراب
أما في هذه الدنيا آمور………….…سوى الشهوات تحرزها الطلاب
أما في هذه الدنيا أُسود…….كما في هذه الدنيا كلاب؟
هل استشعرَ رقابةَ الله؟
من يتعبدُ بأعمالٍ ليس عليها أمرُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وحجته ازديادُ الخيرِ وحبُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وكم من مريدٍ للخير لا يصيبه.
أي فتنةٍ أعظم من أن ترى أنك خصصت بفضلٍ لم يخصَ به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه.
( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم )
هل استشعرَ رقابةَ الله؟
من ليلُه سهرٌ على ما حرم الله، ويصبحُ مجاهراً بمعصيةِ ؟
من إذا وصل إلى بيئةٍ أجنبيةٍ لا يعرف أمن اليهودِ هو أم من النصارى والمجوس والذين أشركوا:
كلفظ ما له معنى……. كتمثال من الجبس
يسير لغير ما هدف….. ويصبح غير ما يمسي
……………………………………………………………………
حقيقة الكلمة لجؤ إلى الله:
وتعرفُ عليه في الشدةِ والرخاء لا على سواه عرافاً كانَ أو ساحراً أو كاهنا أو مقبورا:
لا قبة ترجى ولا وثن ولا قبر….. ولا نصب من الأنصاب….الله ينفعني ويدفع ما بي.
بالله ثق وله أنب وبه استعن…….….. فإذا فعلت فأنت خير معان.
ها هوَ سيدُ المتقين صلوات اللهِ وسلامهُ عليه في الشدةِ والرخاء، لا تراهُ إلا أواباً منيباً مخبتاً إلى ربه فبهداه يهتدي المقتدون.
(ثبت عند ابن حبان في صحيحه عن عطاءٍ رضي الله عنه قال دخلتُ أنا وعبيدُ بنُ عميرٍ على عائشةَ رضي اللهُ عنها، فقال عبيد:
( حدثينا بأعجبِ شيء رأيتهِ من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فبكت وقالت قام ليلةً من الليالي فقال يا عائشةَ ذريني أتعبدُ لربي،
قالت فقلتُ واللهِ إني لأحبُ قربك، وأحبُ ما يسرُك، فقام وتطهرَ ثم قام يصلي فلم يزل يبكي حتى بل حجرَهُ، ثم لم يزل يبكي حتى بل الأرض من حولِه.
وجاء بلالُ رضي الله عنه يستأذنه لصلاة الفجر، فلما رآه يبكي بكى وقال يا رسولَ الله بأبي أنت وأمي تبكي وقد غفرَ لك،!!
وقال يا رسولَ الله بأبي أنت وأمي تبكي وقد غفرَ لك،!!
قال يا بلال أفلا أكون عبداً شكورا،
آياتٍ أنزلت على الليلةَ ويلُ لمن قرأها ثم لم يتفكر فيها، ويلُ لمن قرأها ثم لم يتفكر فيها:
(إن في خلق السماواتِ والأرض و اختلافِ الليلِ والنهار لآياتٍ لأولي الألباب، الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار).
هذا في رخائه صلى الله عليه وسلم
يا نائما مستغرقا في المنام…..……. قم واذكر الحي الذي لا ينام
وفي الشدةِ تنقلُ لنا أمُ المؤمنين عائشة رضي الله عنه أيضا كما ثبت في البخاري أنها قالت لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم (هل أتى عليكَ يومُ كان أشدَ من يومِ أحد؟، قال لقد لقيتُ من قومِك ما لقيت، وكان أشدُ ما لقيتُ منهم يوم العقبةِ إذ عرضت نفسي على ابن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقتُ وأنا مهمومٌ على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب)
يا لله يعيشُ قضيتهَ بكل أحاسيسه ومشاعره.
همُ بلغَ برسولِ الله صلى الله عليه وسلم أن لا يشعرَ بنفسه من الطائفِ إلى السيلِ الكبير.
بما كان يفكر؟ ترى بما استغرقَ هذا الاستغراقَ الطويل؟
لعلَه كان يفكرُ في أمر دعوته التي مضى عليها عشرُ سنينَ ولم يستطع نشر الإسلام بالحجمِ الذي كان يتمنى، لعلَه كان يفكرُ كيف سيدخلُ مكةَ فهو بين عدوين.
عدوٍ خلفّه وراء ظهرهِ أساء إليه ولم يقبل دعوته، وعدوٍ أمامهُ ينتظرَه ليوقِع به الأذى.(/3)
(يقول صلى الله عليه وسلم، فإذا أنا بسحابةٍ قد أظلتني فنظرة فإذا فيها جبريلُ عليه السلام ( لطفُ الله ورحمةُ الله في لمن يتعرفونَ عليه في الرخاء)، فناداني فقال إن الله قد سمِع قول قومِك وما ردوا عليك، وقد بعث اللهُ إليك ملكُ الجبالِ لتأمرَه بما شاءت، فناداني ملكُ الجبالِ فسلمَ علي ثم قالَ يا محمد ذلك فيما شئت، إن شاءتَ أن أطبقَ عليهمُ الأخشبين)
الله ينصر من يقوم بنصره…….…والله يخذل ناصر الشيطان
كان صلى الله عليه وسلم رحيماً بقومه، فما أرسلَ إلا رحمةً للعالمين، الأمل في هدايتِهم يفوقُ في إحساسهِ الشعورُ بالرغبةِ في الانتقامِ من أعدائهِ والتشفي من قومِه اللذينَ أوقعوا به صنوفَ الأذى.
(فقال صلى الله عليه وسلم لملكَ الجبال ، كلا بل أرجو أن يخرجَ اللهُ من أصلابِهم من يعبدُ اللهَ وحدَه لا يشركُ به شيئا). وكان ما رجاه وأملَه بذرة طيبة في أرض خصبة لم تلبث أن صارت شجرة مورقة.
يبني الرجال وغيره يبني القرى…..شتان بين قرى وبين رجال
رخاءُ وشدةٌ لله وتلك حقيقةٌ تقوى الله.
حقيقة الكلمة أن تكون كراكب على ظهرِ خشبةٍ في عرضِ البحرِ:
تتقاذفُك الأمواجُ والأثباج وأنت تدعُ يا رب يا ربِ لعل اللهَ أن ينجيك.حالك ومقالك:
يا مالك الملك جد لي بالرضاء كرما…….فأنت لي محسن في سائر العمر
يا رب زدنيَ توفيقا ومعرفة…………...وحسن عاقبة في الورد والصدر
حقيقة الكلمة أن لا تنطقَ بكلمةٍ:
ولا تتحرك حركةٍ ولا تسكنَ سكوناً إلا وقد أعددتَ لهُ جواباً بين يدي الله فإنك مسؤولٌ فأعدَ لسؤالِ جواباً صوابا.
وعندها يثبت المهيمن ….. بثابت القول الذين أمنوا
ويوقن المرتاب عند ذلك……….بإنما مورده المهالك
حقيقة الكلمة حذارك أن يأخُذَك الله وأنت على غفلةٍ:
أن لا يحضرَ حقٌ لله إلا وأنت متهيء له، أن لا تكونَ عدواً لإبليسَ في العلانيةِ صديقاً له في السر.
حقيقة الكلمة استشعار قدرَةِ الله:
خصوصاً عند إرادةِ الظلم لعبادِ الله، عاملاً أو خادماً كائناً من كان، يحسبُ المرء أنه يُعجزُ اللهَ فيلهو ويملئ الأرض ظلماً.
روى الإمام مسلم رحمه الله عن أبي مسعودٍ البدريَ قال:
(كنتُ أضربُ غلاماً لي بالسوط، فسمعتُ صوتاً من خلفي ينادي "اعلم أبا مسعود" فلم أفهمِ الصوت من الغضب.
فلما دنى مني فإذا هوَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقول "اعلم أبا مسعود" ، "اعلم أبا مسعود".
فألقيتُ السوطَ من يدي هيبةً من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم و إذا به يكرر:
اعلم أبا مسعود لله أقدرُ عليك منك على هذا الغلام.
قال فقلت لا أضربُ مملوكاً بعد اليومِ أبدا يا رسول الله،هوَ حرٌ لوجه الله.
فقال صلى الله عليه وسلم ، أما أنك لو لم تفعل ذلك للفحتك النار أو لمستك النار)
من سارا في درب الردى غاله الردى…….ومن سار في درب الخلاص تخلصا
ثبت عن عبد اللهِ ابن اونيسٍ كما في المسند أن الرسولَ صلى الله عليه وسلم قال:
( يحشرُ الناسَ يومَ القيامة عراةً غُرلا فيناديهِم اللهُ نداءً بصوت يسمعه من بعُد كما يسمعَه من قرُب أنا الملك أنا الديان لا ينبغيَ لأحدٍ من أهلِ الجنةِ أن يدخلَ الجنة ولأحدٍ من أهلِ النارِ عندَه مظلمة حتى اللطمة، ولا ينبغيَ لأحدٍ من أهلِ النارِ أن يدخلَ النار ولأحدٍ من أهلِ الجنةِ عندَه مظلمةُ حتى اللطمة)
من يعمل السوء سيجزى مثلها….….أو يعمل الحسنى يفوز بجنان
خلقَ الظلمُ أمه قلتُ الدين وسوءٌ الأخلاقِ أبوه.
حقيقة الكلمة نصرة ونجدة المظلومين:
وإنصافهم عند القدرة من الظالمين، ومن نصر أخاه بظهر الغيب نصره الله في الآخرة، وليس من شأن المسلم المتقي الله حقا أن يدع أخاه فريسة في يد من يظلمه أو يذله وهو قادر على أن ينصره.
(من أذل عنده مؤمن فلم ينصره وهو قادر على أن ينصره أذله الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة)
ثبت عند ابن ماجة في سننه عن جابر قال:
( لما رجعت مهاجرة البحر (مهاجر الحبشة) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
آلا تحدثوني بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة؟
قال فتية منهم بلى يا رسول الله، بينما نحن جلوس مرت بنا عجوز من عجائز رهابينهم تحمل على رأسها قلة من ماء، فمرت بفتى منهم فجعل إحدى يديه بين كتفيها ثم دفعها فخرت على ركبتيها فانكسرت قلتها فلما قامت التفتت إليه وقالت " سوف تعلم يا غدر إذا وضع الله الكرسي وجمع الله الأولين والآخرين وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون كيف يكون أمري وأمرك عنده غدا".
فقال صلى الله عليه وسلم صدقت، صدقت كيف يقدس الله أمة لا يأخذ لضعيفهم من شديدهم.
أبغوني الضعفاء فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم). بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم.
إن من الضعفاء من لو أقسم على الله لأبره، فإذا استنصروكم فعليكم النصر.
كم يستغيثون، كم هم يئنون.
كم يستغيث بنا المستضعفون وهم قتلى وأسرى فما يهتز إنسان.
والعالم اليوم شاهد بهذا، فالمستذل الحر، والمزدرى عالي الذرى والاوضع الاشرف.(/4)
كم في المسلمين من ذوي حاجة، وأصحاب هموم وصرعى مظالم وفقراء وجرحى قلوب في فلسطين وغيرها من بلاد المسلمين أنّا اتجهت:
كبلوهم قتلوهم مثلوا ……………..بذوات الخدر عاثوا باليتامى
ذبحوا الأشياخ والمرضى ولم ……يرحموا طفلا ولم يبقوا غلاما
هدموا الدور استحلوا كل ما ……….حرم الله ولم يرعوا ذماما
أين من أضلاعنا أفئدة …………تنصر المظلوم تأبى أن يضاما
نسأل الله الذي يكلأنا……….. نصرة المظلوم شيخا أو أياما
لا تكن العصافير أحسن مرؤة منا، إذا أوذي أحد العصافير صاح فاجتمعت لنصرته ونجدته كلها، بل إذا وقع فرخ لطائر منه طرنا جميعا حوله يعلمنه الطيران فأين المسلم الإنسان؟
إذا أخصبت أرض وأجدب أهلها……فلا أطلعت نبتا ولا جادها السماء
انصر الحق والمظلوم حيث كان ولا تطمع بوسام التقوى حقيقة إلا أن كنت فاعلا متفاعلا نصيرا بكلمة بشفاعة بإعانة بإشارة خير بدعاء بعزم ومضاء:
عبئ له العزم واهتف ملئ مسمعه….لا بد لليل مهما طال من فلق
هذا عرينك لكن أين هيبته…….والليث ليث فتي كان أو هرما
على الليالي على الأيام في ثقة……نّقل خطاك وإلا فابتر القدما
كالسيل منطلقا، كالليل مهتدما….. حتى ترى حائط الطغيان منهدما
حقيقة الكلمة إيثار رضاء الله:
على رضاء أي أحد وإن عظمت المحن وثقلت المؤن وضعف الطول والبدن.
تقديم حب الله على حب كل أحد إن كان أبا أو أخا أو زوجا أو ابنا، أو غيره مالا سكنا. نعم:
( قل إن كان آبائكم و أبنائكم و إخوانكم و أزواجكم وعشيرتكم وأموالا اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهادا في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره).
لما بلغت الدعوة في مكة نهايتها واستنفذت مقاصدها، أذن الله تعالى لرسوله بالهجرة إلى المدينة وللمسلمين معه فما تلكئوا ولا ترددوا بل خرجوا يبتغون فضلا من الله ورضوان.
تركوا الأهل والوطن تركوا المال والولد ولم يبقى منهم إلا مفتون أو محبوس أو مريض أو ضعيف.
وقد كانت الهجرة عظيمة شاقة صعبة على المسلمين الذين ولدوا في مكة ونشئوا بها.
ومع هذا هاجروا منها استجابة لأمر الله تعالى ولأمر رسوله صلى الله عليه وسلم ولسان حالهم:
مرحبا بالخطب يبلوني إذا……. كانت العلياء فيه السبب.
ثم مرضوا في المدينة، أصابتهم الحمى فأباحوا بأشعار وأقوال خلال المرض تدل على صعوبة ما لاقوه وعانوه على نفوسهم.
فها هي عائشة تأتي إلى أبيها رضي الله عنهما وقد أصيب بالحمى يرعد كما ترعد السعفة في مهب الريح، فتقول له كيف تجدك يا أبي؟
فيقول :كل امرؤ مصبح في أهله….….والموت أدنى من شراك نعله.
فتقول عائشة والله ما يدري أبي ما يقول.
وبلال رضي الله عنه محموم فيسائل نفسه، هل سيرى سوق مجنة ومجاز وجبال مكة كشامة وطفيل ونباتها كا الإذخر والجليل ثم يرفع عقيرته فيقول:
آلا ليت شعري هل أبيتنا ليلة……..…بواد وحول إذخر وجليل
وهل أردن يوما مياه مجنة………... وهل يبدوا لي شامة وطفيل
ولما رءا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بأصحابه أمضه ذلك وآلمه إذ كان يعز عليه معاناتهم فدعا ربه (اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد وبارك لنا في مدها وصاعها وأنقل حماها إلى مهيعة أو إلى الجحفة). فكانت بعدها من أحب البلدان إلى أصحابه حالهم:
اختر لنفسك منزلا تعلو به……..…..أو مت كريما تحت ظل القسطل
وإذا نبا بك منزل فتحول.
أخيرا هذه مشاعر مسلم حول الهجرة هو أبو أحمد ابن جحش رضي الله عنه وأرضاه يصورها مع زوجته في أسلوب عظيم يبين فيه أنه يطلب ويرغب ما عند الله في هجرته ولو كان ذلك في شدة مشقة وتعب ونصب وكد، راجيا أن لا يخيبه الله كما يروى فيقول:
ولما رأتني أم أحمد غاديا………….…بذمة من أخشى بغيب وأرهب
تقول فإما كنت لا بد فاعل………..فيمم بنا البلدان ولُتنأ يثرب
فقلت بل يثرب اليوم وجهنا…………..وما يشأ الرحمن فالعبد يركب
إلى الله وجهي يا عذولي ومن يقم…..إلى الله يوما وجهه لا يخيب
فكم قد تركنا من حميم وناصح……ونائحة تبكي بدمع وتندب
ترى أن موتا نأينا عن بلادنا…………ونحن نرى أن الرغائب نطلب
في هذا ما يصور قساوة الخروج من أرضهم لكنه خروج في سبيل ربهم فماذا يضرهم والله مولاهم.
حنوا إلى أوطانهم واشتاقوا إلى خيام اللؤلؤ في جنة مولاهم فغلبوا الأعلى على الأدنى والأنفس على الأرخص والأسمى على الأخس:
شتان بين امرأ في نفسه حرم قدس……… وبين امرأ في قلبه صنم
خذني إلى بيتي، أرح خدي على…… عتباته وأقّبل مقبض بابه
خذني إلى وطن أموت مشردا……… إن لم اكحل ناضري بترابه
إنه الجنة والذي نفسي بيده لو كنت أقطع اليدين والرجلين مذ خلق الله الخلق تسحب على وجهك إلى يوم القيامة، ثم كان مأواك الجنة ما رأيت بؤسا قط.
فأسمع وعي، لا تأثر الأدنى على الأعلى فتحرم ذا وذا، يا ذلة الحرمان.
آلا ربّ مبيض ثيابه اليوم مدنس لدينه،
آلا ربّ مكرم لنفسه اليوم مهين له غدا،
أدفعُ سيئات الأمس بحسنات اليوم:
( إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين).(/5)
ومن حقيقة هذه الكلمة أن لا تنظر إلى صغر الخطيئة:
بل تنظر إلى عظم من عصيت إنه الله الجليل الأكبر الخالق البارئ والمصور،
كم من ذنب حقير استهان به العبد فكان هلاك له:
(وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم).
ثبت عند أنس ابن مالك رضي الله عنه أنه قال(كانت العرب تخدم بعضها بعضا في الأسفار.
وكان مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما رجل يخدمهما.
فناما واستيقظا وهو نائم لم يهيأ لهما طعاما.
فقالَ أحدُهما لصاحبه إن هذا لنؤم (يعني كثير النوم).
ثم أيقظاه فقالا إئتي سولَ الله صلى الله عليه وسلم فقل له:
إن أبا بكرٍ وعمرَ يقرئانكَ السلام وهما يستأدمانك (أي يطلبان منك الايدام).
فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره.
فقال أقرئهما السلام وأخبرهما أنكما قد إئتدما.
فرجع وأخبرهما أن الرسولَ صلى الله عليه وسلم يقولُ إنكما قد ائتدمتما.
ففزعا فجاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقلا يا رسولَ الله بعثنا إليك نستأدمك، فقلت قد أئتدمنا.
فبأي شيء أئتدمنا؟ قال بلحم أخيكما.
والذي نفسي بيده إني لأراء لحمه بين أنيابكما.
قالا فأستغفر لنا يا رسولَ الله.
قال عليه الصلاة والسلام بل أمروه هوَ أن يستغفرَ لكما)
عباد الله إن أبا بكرٍ وعمرَ ما نظرا إلى ما قالا، فقد كانت كلمةً قد نقولُ أكبر منها مئات المرات.
لكنهما نظرا إلى عظمةِ من عصوا إنه الله، وتلكَ حقيقة تقوى الله، فإياكم ومحقراتِ الذنوب فأنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه، وإن لها من اللهِ طالبا.
لا تحقرنَ صغيرةً إن الجبال من الحصى
والقطرُ منه تدفقِ الخلاجانِ.
حقيقة الكلمة الحذر من استحلالِ محارمِ الله:
بالمكرِ والاحتيال، وليعلم العبدُ أنه لا يخلّصُه من الله ما أظهره مكرا من الأقوالِ والأفعال.
فأن لله يوماً تكعُ فيه الرجالُ وتشهدُ فيه الجوارح والأوصال.
وتجري أحكامُ الله على القصودِ والنيات، كما جرت على ظاهرِ الأقوالِ والحركات.
يومَ تبيضُ وجوهٌ بما في قلوبِ أصحابِها من الصدق والإخلاصِ للكبير المتعال.
وتسودُ وجوهٌ بما في قلبِ أصحابِها من الخديعةِ والمكرِ والاحتيال.
هناك يعلمُ المخادعون أنهم لأنفسَهم يخدعون وبها يمكرون:
(وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون، والدار الآخرة خير للذين يتقون، أفلا تعقلون).
هذه بعض حقائق الكلمة.
اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم انك حميد مجيد.
اللهم آتي نفوسنا تقواها.
اللهم زكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولها. وأنت أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأنصر عبادك الموحدين.
اللهم ارحم من لا راحم له سواك، ولا ناصر له سواك ولا مأوى له سواك، ولا مغيث له سواك.
اللهم ارحم سائلك ومؤملك لا منجأ له ولا ملجئ إلا إليك.
اللهم كن للمستضعفين والمضطهدين والمظلومين.
اللهم فرج همهم ونفس كربهم وارفع درجتهم واخلفهم في أهلهم.
اللهم أنزل عليهم من الصبر أضعاف ما نزل بهم من البلاء.
يا سميع الدعاء
الله ارحم موتى المسلمين، اللهم إنهم عبيدك بنوا عبيدك بنو إمائك احتاجوا إلى رحمتك وأنت غني عن عذابهم، الله زد في حسناتهم، وتجاوز عن سيئاتهم أنت أرحم بهم وأنت أرحم الراحمين.
سبحان ربك رب العزة عن ما يصفون وسلام على المرسلين
والحمد لله رب العالمين.
فضيلة الشيخ / علي عبد الخالق القرني(/6)
حقيقة توحيد الحاكمية
سؤال:
ما رأيكم في إنكار توحيد الحاكمية، وهل إفراده بقسم مستقل خروج عن مذهب السلف، وفي أي أنواع التوحيد يدخل هذا القسم ؟.
الجواب:
الحمد لله
توحيد الحاكمية ، لا يجوز إنكاره ، فهو نوع من أنواع التوحيد ، ولكنه داخل في توحيد العبادة بالنسبة للحاكم نفسه كشخص ، أما بالنسبة له فهو يعني : التوحيد، فهو داخل في توحيد الربوبية، لأن الحاكم هو الله تعالى .
فيجب أن يكون الرب المتصرف هو الذي له الحكم فهو يكون داخلاً في توحيد الربوبية من حيث الحكم والأمر والنهي والتصرف ، أما من حيث التطبيق والعمل فالعبد مكلف باتباع حكم الله فهو من توحيد العبادة من هذه الجهة .
وجعله قسماً رابعاً ليس له وجه ، لأنه داخل في الأقسام الثلاثة ، والتقسيم بلا مقتضى يكون زيادة كلام لا داعي له ، والأمر سهل فيه على كل حال ، إذا جعل قسماً مستقلاً فهو مرادف ، ولا محذور فيه.(/1)
حقيقة لا إله إلا الله
د.سفر الحوالي
قال الله تعالى في محكم التنزيل: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ?15? إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ?16? وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ? [فاطر:15-17].
والافتقار إلى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- شأن كل مخلوق في هذه الحياة، والله –تعالى- يقول: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاء? [فاطر:15] فخاطب بها الناس جميعًا، فالملوك فقراء إلى الله –تعالى-، وأصحاب الأموال الطائلة فقراء إلى الله –تعالى-، والشباب والكبار، والعبيد والصغار فقراء إلى الله، وكل مَن على هذه الأرض فهو فقير بالذات إلى الله –تعالى-، والله هو المتفرد بالغنى المطلق، وهو الذي يقول: (يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم) [مسلم عن أبي ذر عن النبي –صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن رب العزة].
ومع حاجتنا جميعًا إلى أن يطعمنا ربنا، ويكسونا، وأن يهدينا الصراط المستقيم، ثم بعد ذلك بيَّن -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- غناه المطلق عنا جميعًا فقال:(يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي! لو أنَّ أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا -ثم بين سبحانه كمال غناه في الرفق وفي الخير والعطاء فقال:- يا عبادي! لو أنَّ أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته، ما نقص ذلك من ملكي شيئًا إلا كما ينقص المِخْيَطْ إذا أدخل البحر) [مسلم عن أبي ذر عن النبي –صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن رب العزة].
فانظروا إلى كمال غناه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- غنىً مطلقًا من جميع الوجوه، وانظروا إلى شدة افتقارنا إليه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، فهو فقر من جميع الوجوه، فنحن مفتقرون إليه في غذائنا، وفي لباسنا، وفي هدايتنا، وفي كل شيء، فما هي حياتك يا بن آدم؟ ما هي أنفاس تدخل وتخرج! إن توقفت لم يعد هذا النفس، وقالوا: رحم الله فلانًا، أصابته سكتة قلبية فمات، فإمَّا أن يصعد الهواء فلا يدخل، وإمَّا أن يدخل فلا يخرج، فهذا هو حال الذي يسير وكأنَّه يخرق الأرض، أو يبلغ الجبال طولًا، فهذه هي حالنا وهذا هو فقرنا وحاجتنا إليه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وهذا هو غناه المطلق عنا -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.
فتح أبواب التوبة
ومع هذا الغنى المطلق، يعاملنا الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- كما في الحديث: (إنَّ الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل) [مسلم عن أبي موسى]، وقال في الحديث السابق: (يا عبادي! إنكم تذنبون في الليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا، فاستغفروني أغفر لكم) [مسلم عن أبي ذر عن النبي –صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن رب العزة] فسبحان الله! مع غناه عنا يقبل منا التوبة من الذنوب ويغفرها لنا، ومع ذلك (فإن الله تعالى أشد فرحًا بتوبة العبد إذا تاب من رجل فقد دابته في الخلاء، حتى يأس منها، وقال: أنام تحت شجرة حتى يدركني الموت فاستيقظ فإذا دابته أمامه وعليها متاعه، فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح) [البخاري مختصرًا، ومسلم عن أنس] أي: أنه فتح عينه وإذا بدابته وعليها غذاؤه وطعامه واقفة أمامه، فسبحان الله ما أغناه وما أحلمه وما أكرمه!(/1)
انظروا إليه كيف يعامل العصاة -وكلنا عصاة إلا من عصمه الله تبارك وتعالى- ثم انظروا كيف يغذو أممًا ويجود عليهم، وكيف يفتح لهم الأبواب ليتوبوا إليه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وهم الذين عذبوا أولياءه وأحبابه، كما في قصة أصحاب الأخدود، تلك القصة التي وردت في سورة البروج، التي تحكي أنَّ أناسًا يحرقون عباد الله بالنار، ويرمونهم فيها، ويخدون الأخاديد، ويحفرون الحفر العميقة في الأرض ويقذفون عباد الله –تعالى- فيها لأنهم يقولون، كما حكى الله عنهم بقوله: ?وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ? [البروج:8]؛ لأنهم قالوا: آمنا بالله وكفرنا بك أيها الملك الذي تقول: أَنَا إله من دون الله، فقال تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ? [البروج:10] فيفتح باب التوبة لمن يحرق أولياءه الموحدين بالنار وهم أحياء، فهذه معاملته للعصاة، كما يقول جل شأنه: ?فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُون ?45? فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ? [الأنعام:45-46].
يفتح عليهم أبواب كل شيء ليستدرجهم بها، ولو تابوا لأخذوا هذه النعم، وأخذوا نعيم الآخرة، لو تابوا حتى عند وقوع العذاب أو قرب وقوع العذاب لمتعهم في النعم ولكنهم: ?فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ? [الأنعام:43] فهذه هي القسوة التي نشكوها إلى الله -تبارك وتعالى-، ولا تزال تصاحب الإنسان حتى وقت حلول العذاب، ولكن لو آمن قبيل أن يأتي العذاب لكان الحال كما قال تعالى: ?فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يونس لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ? [يونس:98] فقوم يونس -عليه السلام- آمنوا في آخر اللحظات التي انتهت فيها النذارة، وما بقي فيها إلا تحقق الوعيد، فآمنوا فأنجاهم الله من العذاب لأنهم آمنوا، فهذا على مستوى الأمم.
وأمَّا على مستوى الأفراد فيفتح الله باب التوبة والرحمة: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) [الترمذي(3537)، ابن ماجه(4253)، أحمد(2/153) عن عبد الله بن عمر] فما دامت الروح لم تبلغ الحلقوم فباب التوبة مفتوح، فتب إلى الله، تب من الربا، وتب من الزنا، وتب من الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وتب من الحسد، ومن الغيبة، من النميمة، وقطيعة الأرحام، ومن أذى الجار، ومن كل الذنوب التي أنت أعلم بها، فتب إلى الله –تعالى- فالباب مفتوح.
كما أنَّه لا يقف الأمر عند هذا الحد، ولا يقف الأمر عند حد أن يتوب هذا العبد المذنب المخطئ المحتاج الفقير إلى الله فيعفو الله ويتجاوز عنه، بل هناك درجة أعظم من هذا ?فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمً? [الفرقان:70] فسبحان الله! سجلات الإنسان حين يتوب إلى الله عز وجل -وهي سجلات ودواوين من المعاصي- يَقلبها الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- دواوين من الحسنات، فهذا غاية الكرم ولا يفعل هذا إلا الله؛ لأنه هو صاحب الغنى المطلق وهو الكريم واسع الكرم.
فإذا تبت وصدقت مع الله وأخلصت في الإنابة إلى الله، فلا تنظر إلى الماضي، ولا تصدق الشيطان وأعوانه، الذين يقولون لك: أَبَعد أن بلغت السبعين من عمرك وفعلت كذا وكذا، تريد أن تتوب، لا تنفع توبتك، كأمثال قطاع الطريق، فهم أعداؤك وأعداء الله، فتب إلى الله في أي لحظة ما دمت لم تغرغر، وما دامت الشمس لم تطلع من مغربها، لأنَّك حين تتوب إلى الله تجد أنَّ الدواوين التي يخوفونك بها تنقلب إلى دواوين من حسنات بفضل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.
أساس التوبة
نعيم الله لا ينفذ وغناه مطلق، ولكن هل هناك من أساس للتوبة؟
أقول: نعم لابد من أساس لهذه التوبة، ولا بد من أساس للاستقامة، ولقبول العمل، وأعظم شيء وأساس كل شيء هو: عبادة الله وحده لا شريك له وأن يوحد الله. -أي: أن نقول: أشهد أن لا إله إلا الله- ونحن صادقين في هذه الشهادة، فنحقق هذه الشهادة، فهذا الكرم الذي رأيتموه، يكون لأهل التوحيد، ولأهل النجاة، ولمن حقق الشهادة.(/2)
أمَّا مَن أشرك بالله -عافانا الله وإياكم- فلا ينفعهم مِن أعمالهم شيئًا، وإن اجتهد في الصلاة، والصيام، والإنفاق، والبر والطاعة، ما دام يشرك بالله –تعالى-، ويدعو ويسأل غير الله، ويستعين بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، ويطيع أمر غير الله ويعصي أمر الله، ويعلم أنَّ هذا تشريع أو قانون مخالف لما أمر الله، فكل أنواع الشرك، هي الخطر العظيم، وهي التي تجعل كرم الجبار ونعمته وسعة جوده تنقلب غضبًا ومقتًا وطردًا ولعنًا عافانا الله وإياكم.
فمع وجود الشرك: ?إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَار? [المائدة:72] فإذا سمعنا أحدًا يتكلم في أنواع الشرك فليكن الواحد منا كله أذن صاغية، وإذا سمعنا أحدًا يتحدث عن التوحيد فلنلقي إليه بأسماعنا وقلوبنا لنعرف معنى التوحيد ونحقق ذلك التوحيد لأن المسألة ليست هينة.
فإذا كان كرم الله تعالى لا يكون إلا لهؤلاء، وكتب أنَّه لن يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، وحرَّم الجنة على المشركين، ونحن لا نريد إلا الجنة، وكل ساعٍ يسعى من عباد الله في هذه الحياة إنما يريد وجه الله ويريد الجنة، ونعوذ بالله أن تكون نهاية هذا الكدح هي النار نسأل الله أن يعافينا من سوء المصير.
التوحيد أساس العمل
التوحيد هو سبيل النجاة في الدنيا والآخرة، للكافر وللمؤمن، ولكن قد يقول القائل: علمنا كيف يكون التوحيد سبيل نجاة للمؤمن، لكن كيف يكون للكافر هذه الخاصية في التوحيد؟
فأقول: إنَّ المشركين إذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين، حتى إذا جاءتهم ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان -فعندها- دعوا الله مخلصين له الدين، فينجيهم الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، بالتوحيد الذي هو مناط النجاة، فهو المفزع الذي يفزع إليه حتى الكافر: ?أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ? [النمل:62].
فالمضطر أيًّا كان، مسلمًا كان أو يهوديًا أو نصرانيًا، فهو يدعو الله إذا انقطعت به كل الحيل، فيستجيب له الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: ?فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ? [العنكبوت:65] أو ?إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ? [الروم:33] لماذا؟ لأنهم نسوا الله لما نجوا إلى البر.
فالتوحيد ثمرته وفائدته تتحقق حتى في الكافر إذا أخلص في هذه الحياة الدنيا، وإن كان لا يواظب عليها، فبالله كيف نتوقع أن يكون للمؤمن؟ وكيف ينبغي لنا؟! نحن الذين نقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، هذه الكلمة العظيمة، التي نسأل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أن يجعلها آخر كلمات حياتنا وأن يميتنا عليها وعلى تحقيق معناها، ويحيينا عليها إنه سميع مجيب.
حقيقة الشهادة
إنَّ شهادة أن لا إله إلا الله ليست مجرد كلمة أو مجرد عبارات، لكن حقائق هذه الكلمة التي بعث الله تبارك وتعالى بها أنبياءه جميعًا ?وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ? [الأنبياء:25] ?وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ? [النحل:36]، ?فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى? [البقرة:256].
فقد بعث الله الأنبياء جميعًا بشهادة أن لا إله إلا الله، ومعنى لا إله إلا الله: أن يكفر بالطاغوت ويعبد الله وحده، كما قال تعالى: ?فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى? [البقرة:256]، والعروة الوثقى هي: شهادة أن لا إله إلا الله فلا تقبل الصلاة من غير لا إله إلا الله، كما قال الله تعالى: ?وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورً? [الفرقان:23] فلا يقبل الله العمل أبدًا، بل هو كرمادٍ اشتدت به الريح في يوم عاصف؛ لأنه ليس مبنيًا على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وعلى توحيد الله تبارك وتعالى.
والتوحيد الذي هذا ثمرته ليس أي كلام، فالإيمان والتوحيد يتفاوت وله حقائق، فالإسلام إن كان وراثيًا عن آبائنا وأجدادنا فهذا شيء حسن، ولكن هذا لا يكفي لأنه يحتاج إلى الإيمان الذي إذا جاءته شدة، وإذا جاءت الشهوة من المال الحرام ومن النساء الحرام وأعرضنا عنها ابتغاء وجه الله فهناك نكون موحدين، وإذ جاء الداعي ليدعوك بتأخير الصلاة، أو إلى التهاون بأمر الله وتركته استجابة لأمر الله فهنا اختبر توحيدك، وإن سمعت آيات الله، ووجدت خشوعًا ورّقةً في قلبك فاختبر توحيدك هنا، فإن وجدتها لا تصبر على ما حرم الله من اللهو والغناء وتتلذذ به وتعرض عن سماع القرآن، فاعلم أن توحيدك ناقص أو أنه مفقود.
سحرة فرعون(/3)
لابد أن نعلم أن السحرة الذين وحدوا الله وآمنوا بالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، كيف كان توحيدهم؟ وكيف كان إيمانهم؟ لما ألقوا حبالهم وعصيهم فألقى موسى عليه السلام عصاه ?فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ?117? فوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ? [الأعراف:117-118].
فما كان منهم لمَّا أن رأوا الآيات البينات الباهرات التي لا يمكن إلا أن يذعن لها القلب ويستسلم لها إلا أن قَالُوا ?آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَموسى? [طه:70]، آمنوا بالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فأجابهم الطاغوت بالتهديد -فرعون-: ?قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى? [طه:71].
فأخذ يتوعدهم ويهددهم كما ورد في آيات كثيرة من كتاب الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، فماذا قال السحرة؟ وانظروا إلى حقيقة التوحيد من أول لحظة: ?قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ?72? إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى? [طه:72-73].
فهذا هو التوحيد، وهذه هي حقيقته، فهناك القتل وهناك الصلب، من جبار طاغوت يملك ذلك، ويتوعد عليه، وأول الأمر كانوا يقولون له: ?أَإِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ?41? قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ? [الشعراء:41-42] إن انتصرتم على موسى فلكم الأجر ولكم الجوائز وإنكم من المقربين، ثم لحظات وإذا به يقول: أقتل وأفعل وأفعل، وهم يقولون: ?قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ? [طه:72] فهو لن يخوفنا أبدًا؛ فمن عرف حقيقة الإيمان وحقيقة التوحيد، فلا يخاف إلا الله عز وجل ولا يبالي في دينه ?فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَ? [طه:72].
فكانت نهاية فرعون الغرق، ومنذ أن وضع رجله في البحر انتهى فرعون ?إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَ? [طه:72] فإنك إن ملكت الجسد لتقطعه فممكن، لكن هل تملك القلب؟ وهل تملك الإيمان؟ وهل تملك أن تنتزع التوحيد؟ لا، فهذه قلوبنا قد وجدت الله، وآمنت، وتعلقت بالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، والله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هو الذي سوف يطهرها ويغفر لها الخطأ الذي كنت تكرهها عليه من السحر، ومما حرم الله تبارك وتعالى.
فخوفهم من عذاب الآخرة، جعلهم ينسون عذاب فرعون وصلبه وأمره كله ?فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَ? [طه:72].
الترقي في درجات التوحيد
كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه من الذين ضربوا المثل الأعلى في تحقيق التوحيد لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وما جاهد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قريشًا ثلاث عشرة سنة إلا ليحقق شهادة أن لا إله إلا الله، فهذا أمر ليس هينًا، فما نزلت الصلاة إلا لتكمل ولتزيد شعبة من شعب لا إله إلا الله.
وأمَّا في المدينة فنزلت الزكاة والصيام وهما شعبتان من شعب لا إله إلا الله، ومن شعب الإيمان أيضًا لتكون كل حركات، وسكناته المرء لله ?قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ?162? لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ? [الأنعام:162-163].
فهكذا يجب أن يكون المؤمن، ولهذا يقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (الإيمان بضع وستون شعبة فأعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان) [البخاري(9)، ومسلم(35) عن أبي هريرة].
فكل أعمال البر وكل أعمال الخير -كما هو في مذهب أهل السنة والجماعة- شعب من شعب الإيمان، فإذا حققت ما أمر الله في توحيده -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فيما بينك وبينه، وفيما بينك وبين الناس، وفيما بينك وبين نفسك في كل أمر، فأنت في ذلك تحقق التوحيد وترتقي في درجات الإيمان والتوحيد.(/4)
وهكذا أوصانا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقوله: (اتق الله حيثما كنت) [رواه أحمد(5/153-158)، الترمذي(41/312) عن أبي ذر وذكره الألباني (96)] فهذا هو جانب المعاملة مع الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، فضع هذا في حسبانك، واتق الله حيثما كنت، وأينما كنت في سرك وعلنك في بيتك وفي المسجد أو في أي مكان (اتق الله حيثما، كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحه) [رواه أحمد(5/153-158)، الترمذي(41/312) عن أبي ذر وذكره الألباني (96)].
فكلما راودتك نفسك وعملت المعصية -وهي أمارة بالسوء وهي لا بد فاعلة- فأتبع السيئة حسنة تمحو لك تلك السيئة، وأما مع الناس فعاملهم بخلق حسن، فإذا أصلحت سريرتك، وإذا حققت هذا فأنت ترتقي في درجات الإيمان والتوحيد، حتى تصبح من المحسنين الذين قال فيهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهو يبين درجة الإحسان حين قال له جبريل عليه السلام: (فاخبرني عن الإحسان، قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) [مسلم (8) عن عمر بن الخطاب].
أي: أن تعبد الله كأنك تراه، فحين تصلي ولا أحد من الناس يتهمك في شيء لأنك تصلي ولكن أن شيئًا من هذه الصلاة -ولو قل- لغير الله فتحاسب نفسك، لماذا كان شيء من هذه الصلاة في غير ما أمر الله ولم يكن لله؟ وأيضًا حين تنفق المال وأخرجت منه درهمًا أو دينارًا لغير الله، فتذكر أن هذا لغير الله، وحين تطلب العلم تعلمًا أو تعليمًا فعليك أن تنظر وأن تتفكر في نفسك هل هذا الشيء لله أو لغير الله؟ نسأل الله أن يجعل أعمالنا جميعًا خالصةً لوجهه الكريم فهذا هو تحقيق التوحيد.
توحيد الرعيل الأول
التوحيد من شدة صفائه ونقائه أن أدنى شيء يؤثر فيه ويخدشه، لأنه أنقى وأعظم الأشياء، والناس كثيرًا ما يرتكبون المعاصي اغترارًا منهم بأنهم محققون للإيمان والتوحيد، أو أن هذه المعاصي لا يبرح منها أحد، أو لأنها قد وقعت فيمن قبلنا، وهذا من غرور الشيطان ومن تزيينه.
فالصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- لو وقع في زمانهم شيء من هذه المعاصي مع أنَّ إيمانهم وتوحيدهم كان كالبحر العظيم، الذي مهما تلقي فيه بنجاسة من بول أو غائط فلا يؤثر فيه؛ لأنه بحر خضم كبير، ولديهم من قوة الإيمان ومن أعمال الخير والبر الشيء الكثير، فوقع في زمانهم أن فلانًا زنا وأن فلانة زنت، وأن فلانًا شرب الخمر، ولكن أين نحن منهم؟ إنما نحن كبركة صغيرة إن وقع فيها شيء من النجاسة تنجست.
فهذه الأمور تؤثر في القلب بقدر ما في القلب من إيمان من حقائق الإيمان والتوحيد، ولذلك الزاني الذي يزني في هذا الزمان هل فيه -وهو أعلم- من الإيمان مثل المرأة التي زنت في عهد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ تأتي إليه فيردها وهي حامل، ثم يردها ثم تأتي إليه بالولد وبيده كسرة خبز لتُبِرهن له -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على أنه يأكل وأنه مستغنٍ عنها، لأنها تريد أن يطهرها ثم يرجمها، ويقول: (لقد تابت توبة لو وزعت على أهل المدينة أو أهل الأرض لوسعتهم) [مسلم (1696) عن عمران بن حصين].
فهذه التوبة وهذا الصدق مع الله -سبحانه تعالى- إذا وقع معه الزنى فعلًا، فنقول: إنما هو مثل ما لو ألقيت النجاسة في البحر فلا يضره، فهذا إيمان قوي في هذا العمق، ولم يكن حالهم كحال الذين يزنون ويعصون، ويقولون: عندنا توحيد، فأين التوحيد وأين الإيمان مع الانهماك في المعاصي، ومع مجاهرة الله تعالى؟!
الحياء من التوحيد
ولقد أمر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- المؤمن بالحياء كما في الحديث: (والحياء شعبة من الإيمان)[البخاري(9)، ومسلم (35) عن أبي هريرة] فأين نحن من الإيمان بهذه الشعبة -شعبة الحياء- التي نص عليها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ فهل عندنا حياء من الله؟! الإنسان منا يأكل والمزمار يُغني أين هذا من حياة السلف الصالح ؟
هذا نافع يُحدِّث عن ابن عمر أنه كان ماشيًا فسمع مزمارًا فوضع ابن عمر يديه على أذنيه، فقال له نافع : لم فعلت هذا؟ قال له ابن عمر: (مرَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وإذا براع وبيده قصبة فوضع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يده هكذ) فوضع نافع يده -وهو لا يدري بالحكم وكان صغيرًا.
فهذا جيل يبلغ الحياء من الله بالرجل منهم أنه لا يسمع، ويعتزل المعازف حتى المرء الصغير منهم، ونحن نسمع المعازف والأغاني ونحن نأكل نعم الله، وننام في صحة وعافية، فماذا يقول الإنسان في هذه الحالة؟!
أيقرأ الأذكار الواردة؟!
أيحمد الله، وينام على السرير؟!
وفي السجون وغيرها، فهل يقول: الحمد لله؟
وهل يدعو بالأدعية الواردة أو بدلًا من ذلك يسمع الغناء؟(/5)
فأين إيمانه وأين حياؤه؟ ينظر الإنسان إلى امرأة لا تحل له في تلفاز أو مجلة أو في الشارع وهي تعمل وتقوم بما تقوم به من حركات، وتقول: هذا مؤمن، فأين الحياء من الله؟ هذا التعري وهذا التبرج يتنافى مع الحياء تمام المنافاة، وهو الذي حرص عليه إبليس منذ أن أخرج أبوينا من الجنة ووسوس إليهما ?لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا? [الأعراف:20] فهذه هي الخطة الشيطانية القديمة، فإذا نزع الحياء انتهى كل شيء (إن من مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى، إذا لم تستح فاصنع ما شئت) [البخاري(5769)، أبو داود (4797) عن أبي مسعود].
وإذا لم يوقفنا إيماننا في هذه الشعبة، فأين حياؤنا من الله عز وجل، إذا وجدنا صاحب منكر ولم ننكر عليه، ونمر بأصحاب المنكرات كأن يكون فاتحًا للمتجر والناس يصلون ولا نقول له: صلِّ، فأين حياؤنا من الله؟ وليكن تغييره بالأسلوب الحسن، فالمهم أن تدخل الإيمان في قلبه، ولا نريد تخويفًا ولا ترهيبًا، وإنما نريد أن ندخل الإيمان في قلبه، فهل فعلنا ذلك؟ بل ذهب بنا ضعف الحياء إلى أن نؤيد صاحب المنكر على منكره.
فهذا غاية الجرأة على الله وغاية التجاوز لحدود الله أن نتعاون على الإثم والعدوان ولا نتعاون على البر والتقوى، فلو اختبرنا إيماننا، وتوحيدنا عند شهوة أو فتنة لسقط فيه إلا من رحم الله.
فهذا كتاب الله بين أيدينا، هل فيه آية واحدة علَّق الله فيها دخول الجنة على الإسلام، أو جعل الإسلام شرطًا في دخول الجنة، أو وعد المسلمين أنهم من أهل الجنة؟ لا تجدونه يقول: ?إِلَّا الَّذِينَ آمَنُو? [الشعراء:227] إيمان وليس مجرد الإسلام، والإيمان درجة أعلى والحياء شعبة منه، فهل نحن فعلًا مؤمنون؟ هل نطمع بجنة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-؟ وهل طَمَعُنَا ورجاؤنا فيها وهم وخيال، أم هو على شيء؟
فيجب أن نراجع أنفسنا، ويجب أن نحاسبها على كل صغيرة وكبيرة، ونحن قادمون على موسم عظيم وهو موسم الحج، وهذه العبادة كغيرها من العبادات إنما بنيت وركّبت وأسست على التوحيد، وهذا البيت أول من جدده إبراهيم عليه السلام، فإبراهيم إمام الموحدين، فقام هذا البيت على التوحيد.
وكان هذا البيت قبلة المسلمين جميعًا للتوحد، مبدأ واحد، وغاية واحدة، ومقصد واحد إلى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: ?وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئً? [الحج:26] فأول شيء لا تشرك بي ?وَطَهِّرْ بَيْتِيَ? [الحج:26] ثم ابنِ البيت، فبني البيت على أساس التوحيد الخالص لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.
فيجب علينا أن نكون في أعمالنا جميعًا منطلقين من منطلق تحقيق التوحيد، وتحقيق متابعة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولا يتحقق هذا إلا بهذا، فنصلي كما صلّى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ونحج كما حج رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ونذكر الله كما ذكره رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وندعو إلى الله كما دعا إليه رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وفي كل أمر من الأمور نتمثل نهج رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، هذا تحقيق التوحيد والشطر الأول أشهد أن لا إله إلا الله.
والشطر الثاني من تحقيق التوحيد هو: أشهد أنَّ محمدًا رسول الله، فإذا اتخذنا غيره قدوة، فصلينا على غير طريقته ومنهجه، وذكرنا الله على غير طريقته صلى الله عليه وسلم ومنهجه، فما حققنا شهادة أنَّ محمدًا رسول الله، وكأننا نشهد أن الشيخ فلان أو علان هو الذي يتبع، وهو الذي يُقتدى به، وهو الأسوة، وإن كنا نقول باللسان: أشهد أنَّ محمدًا رسول الله.
فتحقيق التوحيد هو أعظم مطلب، وهو الذي به تنال رحمة الله، وتنال النجاة والفوز في الدنيا والآخرة، ولا يكون هذا الفوز إلا بأن يُعبد الله وحده لا شريك له، وأن يُعبد الله بما شرع، وبما عمله رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فهو القدوة، والأسوة، الذي نسأل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أن يحيينا ويميتنا على سنته والاهتداء بهديه والاقتداء به، إنَّه سميع مجيب.(/6)
حقيقةُ الشكر د. محمد عمر دولة*
لقد مَدَحَ الله عزَّ وجَلَّ مَن أقبلَ على ربِّه شاكِراً ذاكِراً، و(قال ربِّ أوزِعْنِي أنْ أشكُرَ نِعمتَك التي أنعَمتَ عليَّ وأن أعملَ صالحاً ترضاه).[1] وأثْنَى الله جَلَّ جلالُه على نوحٍ عليه السلام بقولِه: (إنه كان عَبْداً شَكُوراً)،[2] وقال عزَّ وجَلَّ عن خَلِيلِه إبراهيم عليه السلام: (إنَّ إبراهيمَ كان أُمَّةً قانِتاً لله حَنِيفاً ولم يك مِن المشركين شاكِراً لأنعُمِه اجتباه وهداه إلى صِراطٍ مستقيم).[3]
ووَعَدَ تعالى عِبادَه الشاكِرِين نِعْمَ الجزاء، فقال جلَّ جلالُه: (وسيَجْزِي الله الشاكِرين)،[4] وقال عز وجلَّ: (لئن شَكَرْتُم لأزِيدنَّكم)،[5] وقال تعالى: (وكذلك فَتنَّا بعضَهم ببعضٍ لِيَقولُوا أهؤلاء مَنَّ الله عليهم مِن بَيْنِنا أليس الله بأعْلَمَ بالشاكِرِين).[6] وقد روى أنس رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنّ الله لَيَرْضَى عن العبدِ يأكل الأكْلة؛ فيَحمدُه عليها، ويشربُ الشَّرْبة؛ فيَحمدُه عليها).[7]
ولو تساءلَ أحدُنا: كيف أكونُ عَبداً شَكُوراً؟ لكان الجوابُ: باستِحْضارِ عَظمةِ نِعَمِ اللهِ التي تُحيطُ بنا مِن كلِّ جانب، كما قال يوسف عليه السلام: (ذلك مِن فَضْلِ الله علينا وعلى الناسِ ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يَشكُرُون).[8] وتذكُّرِ أنَّ هذه النِّعَمَ مِن فَضلِ الله؛ لِيَبتلِيَ العبدَ: هل يكون من الشاكرين أم الجاحدين؟ كما قال سليمان عليه السلام لما رأى عرشَ بلقيس مُستقِراً عنده: (قال هذا من فضلِ ربِّي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومَن شكرَ فإنَّما يَشكُرُ لنفسِه ومَن كَفرَ فإنَّ ربِّي غَنِيٌّ حَمِيدٌ).[9] ثم الاجتهاد في إرضاءِ الله عزَّ وجلَّ بالشُّكرِ على النِّعَمِ والحذرِ مِن كُفْرِها وجُحُودِها؛ كما قال تعالى: (إنْ تكفُرُوا فإنَّ الله غَنِيٌّ عنكم ولا يَرْضَى لِعِبادِه الكُفرَ وإنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لكم).[10]
وينبغي كذلك أن نُصَحِّحَ فقهَنا للشكرِ؛ فليس قاصِراً على شُكرِ اللسانِ؛ بل يكونُ الشُّكرُ أيضاً بِعَملٍ ناجِحٍ ومَوقفٍ صالِحٍ؛ وقد قال الله عزَّ وجَلَّ: (اعمَلُوا آلَ داودَ شُكْراً وقَلِيلٌ مِن عِبادِي الشَّكُور).[11] قال القرطبي: "الشُّكرُ حَقِيقتُه: الاعتِرافُ بالنعمةِ لِلمُنعِم، واستعمالُها في طاعتِه، والكفرانُ استِعمالُها في المعصِية، وقليلٌ مَن يفعلُ ذلك؛ لأن الخير أقلُّ مِن الشرِّ والطاعة أقل من المعصية بحسب سابق التقدير. وقال مجاهد: لما قال الله تعالى (اعْمَلُوا آلَ داودَ شُكْراً) قال داود لسليمان: إن الله عز وجل قد ذكرَ الشُّكرَ؛ فاكْفِنِي صَلاةَ النهارِ أكفِك صلاةَ الليلِ، قال: لا أقدر قال: فاكفني إلى صلاة الظهر! قال: نعم، فكفاه. وقال الزهري (اعملوا آل داود شكرا) أي: قولوا الحمد لله و(شُكْرا) نصب على جهة المفعول: أي اعملوا عملا هو الشكر؛ وكأنَّ الصلاةَ والصيامَ والعبادات كلها هي في نفسِها الشكر؛ إذْ سَدَّتْ مَسَدَّه، ويبين هذا قوله تعالى: (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليلٌ ما هم)، وهو المراد بقوله: (وقليلٌ مِن عِبادِي الشَّكُور)، وقد قال سفيان بن عيينة في تأويل قوله تعالى: (أن اشكر لي) أنَّ المرادَ بالشكرِ الصلواتُ الخمس. وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل؛ حتى تفطر قدماه، فقالت له عائشة رضي الله عنها: أتصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: أفلا أكون عبداً شكوراً). انفرد بإخراجه مسلم فظاهر القرآن والسنة أنَّ الشكرَ بِعَملِ الأبدانِ دون الاقتصارِ على عَملِ اللِّسانِ، فالشكر بالأفعالِ عَمَلُ الأركان والشُّكرُ بالأقوال عَمَلُ اللسان".[12]
وقد ظهرَ هذا واضِحاً في مَوقِفِ النجاشي حينما رَدَّ هدايا مُشْرِكِي قريشٍ؛ لِيُسلِّمَهم المستضعَفِين مِن المؤمنين؛ فقال رضي الله عنه: "رُدُّوا عليهما هَداياهما فلا حاجةَ لنا بها؛ فواللهِ ما أخَذَ اللهُ منِّي الرشوةَ حين ردَّ عَلَيَّ مُلْكِي فآخُذ الرشوةَ فيه"![13] ورحم الله الجنيد؛ فقد ذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء قوله: (والشكر أن لا تستعين بنعمة الله على معصيته).
فينبغي للعبدِ أن يستحي من الله عز وجلَّ أن يقابل خيرَه بالشرِّ والكفرِ والجحود؛ ورحم الله السعدي حيث قال في تفسير قولِ الله تعالى: (إنَّ في خَلقِ السمواتِ والأرضِ واختلافِ الليلِ والنهار):[14] "أليس مِن القَبيحِ بالعبادِ أن يَتمتَّعُوا بِرِزقِه, ويعيشُوا ببرِّه, وهم يستعِينُون بذلك على مَساخِطِه ومَعاصِيه؟! أليس ذلك دليلاً على حِلْمِهِ وصَبْرِه وعَفْوِه وصَفْحِه وعَمَيمِ لُطفِه؟! فله الحمدُ أولاً وآخِراً, وظاهِراً وباطِناً"![15](/1)
ولا شكَّ أنَّ مَن عَرَفَ اللهَ عزَّ وجَلَّ، وأدرك آلاءَه العظيمة ونَعْماءه الجسيمة؛ أكثرَ مِن حَمْدِ الله جلَّ جلالُه؛ حتى يَصِيرَ ذلك دَيْدَنه فيكون مِن الشاكِرِين. قال القرطبي رحمه الله: "رُوي عن ابن عباس أنه قال: (الحمد لله) كلِمةُ كلِّ شاكرٍ، وإنَّ آدمَ عليه السلام قال حين عطسَ: الحمد لله، وقال الله لنوح عليه السلام: (فقل الحمدُ لله الذي نَجَّانا مِن القومِ الظالِمِين)، وقال إبراهيم عليه السلام: (الحمدُ لله الذي وَهَبَ لي على الكِبَرِ إسماعيلَ وإسحق)، وقال في قصةِ داود وسليمان: (الحمدُ لله الذي فَضَّلَنا على كثيرٍ مِن عِبادِه المؤمنين)، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : (وقلِ الحمد لله الذي لم يتخِذْ وَلَداً)، وقال أهلُ الجنة: (الحمدُ لله الذي أذْهَبَ عنَّا الْحَزَنَ)، (وآخَرُ دَعْواهم أن الحمدُ للهِ ربِّ العالَمِين)؛ فهي كَلِمةُ كلِّ شاكرٍ".[16]
وإنَّ العبدَ إذا صارَ قلبُه عامراً بشُكرِ الله وذِكْرِ نعمائه؛ ازدادَ سَعادةً ونِعْمةً؛ فتنهال البشائر عليه، وتزدادُ النِّعَمُ الباهرةُ بين يديه؛ كما قال عزَّ وجل: (وإذْ تأذَّنَ ربُّكم لئن شَكَرْتُم لأزِيدنَّكم).[17] وقال تعالى: (فاذكُرُوني أذْكُرْكم واشْكُروا لي ولا تَكْفُرُون)، [18] قال السعدي رحمه الله: "ذِكْرُ الله تعالى أفضلُ ما تواطأ عليه القلبُ واللِّسان، وهو الذِّكْرُ الذي يُثْمِرُ معرفةَ الله، ومَحبَّتَه، وكثرةَ ثَوابِه. والذِّكرُ هو رأسُ الشُّكر؛ فلهذا أمَرَ به خُصُوصاً، ثم مِن بعده أمَرَ بالشُّكرِ عُموماً فقال: (واشْكُروا لي): أي على ما أنعمتُ عليكم بهذه النعم، ودفعتُ عنكم صُرُوفَ النِّقَم. والشُّكرُ يكون بالقلبِ إقراراً بالنِّعَمِ واعتِرافاً، وباللِّسان ذِكْراً وثناءً، وبالجوارح طاعةً لله، وانقياداً لأمرِه، واجتناباً لِنَهيِه، فالشُّكرُ فيه بقاءُ النعمةِ الموجودة، وزيادةُ في النعم المفقودة. قال تعالى: (لئن شكرتم لأزيدنّكم)"![19]
وما أحْسَنَ ما قِيل:
الشكرُ أفضلُ ما حاولتَ مُلتمساٍ*** به الزيادةَ عند الله والناس!
- -- -- --- ---
[1] الأحقاف 15.
[2] الإسراء 3.
[3] النحل 120-121.
[4] آل عمران 144. وقال عزَّ وجلَّ: (وسنجزي الشاكرين)، آل عمران 145.
[5] إبراهيم 7.
[6] الأنعام 53.
[7] رواه مسلم
[8] يوسف 38.
[9] النمل 40.
[10] الزمر 7.
[11] سبأ 13.
[12] الجامع لأحكام القرآن 14/276-277.
[13]مسند أحمد 5/292. المكتب الإسلامي بيروت.
[14] البقرة 164.
[15] ص 79
[16] الجامع لأحكام القرآن 1/134.
[17] إبراهيم 7.
[18] البقرة 152.
[19] تيسير الكريم الرحمن ص 74.(/2)
حكم أكل الدجاج الغير مذبوح
الشيخ الأمين الحاج محمد أحمد السؤال
أقيم مع زوجي الذي يدرس بالصين، لمدة عامين لم نذق طعم الدجاج وذلك لعدم وجود سوق إسلامي وصعوبة الحصول عليه حياً ثم ذبحه، لأننا نقيم داخل الجامعة ولا يسمحون لنا بذلك، لم نأبه لهذا الأمر لمدة عامين، ولكنني في الصيف الماضي حضرت للسودان وقابلت شيخاً معروفاً لأسأله أسئلة تتعلق بالصعوبات التي نواجهها في أمر الطعام هناك، فأخبرني أنه لا ذبح في الدجاج ويحل أكل الدجاج الذي يذبحه الصينيون ولا يوجد حديث يمنع ذلك فهو مباح، ولكن عندما عدت إلى الصين أخبرني جمع غفير أن هذا لا يصح ولا يحل وهم عاديون وليسوا علماء وذلك شيخ معروف، فهل آكل بدون ذبح أم لا؟
الإجابة
الحمد لله، زادك الله حرصاً وأعانك على أكل الحلال. ما قاله لك الشيخ السوداني –سامحه الله- غير صحيح. والحق ما أفتاك به إخوانك المسلمون في الصين وذلك للآتي:
أولاً: لا يباح أكل حيوان مقدور عليه ولا طير إلاّ بذكاة –أي ذبح شرعي- إلاّ الجراد والسمك وما يعيش في الماء.
ثانياً: تحل ذبائح أهل الكتاب –اليهود والنصارى- إذا كان أهل الكتاب محافظين على أصول الذكاة الشرعية من إراقة الدم ونحو ذلك، لأن أصول الذكاة في الشرائع السماوية متحدة. أما إذا تركوا هذه الأصول فلا تحل لنا ذبائحهم –نحو الصعق الكهربائي.
ثالثاً: تحرم ذبائح المشركين من عُبّاد الأوثان ومنكري الأديان كالشيوعيين وغيرهم.
رابعاً: الأدلة على ذلك كثيرة منها: (وطعام الذين أوتوا الكتاب حلّ لكم)، وما خرجه البخاري في صحيحه ((أن يهودية أهدت إلى النبي صلى الله عليه وسلم عام خيبر شاة مسمومة فأكل منها))، وقوله تعالى: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) الآية.
خامساً: ذهب ابن العربي المالكي رحمه الله وقلّده بعض أهل العلم منهم الشيخ محمد صديق خان ومحمد عبده وغيرهما إلى أنه لا يشترط في أهل الكتاب أن يتقيدوا بما يتقيد به المسلمون من التسمية وقطع الأوداج وغيرها، فلو ذبح الكتابي بدون تسمية حلّت ذبيحته وكذلك لو خنقها. وهذا قول مردود شاذ وقد نهينا أن نتبع زلات أهل العلم وسقطاتهم، وقال السادة العلماء: ليس كل خلاف يستراح له ويعمل به.
والله أعلم.(/1)
حكم إمامة المرأةِ بالرجال في الصلاة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين - أما بعد :-
فقد ظهرت بادرة خطيرة في زماننا هذا من تسلط الكافرين على المسلمين ومحاولتهم طمس هوية المسلمين وتغيير دينهم؛ حتى ظهر بعض النسوة من أبناء جلدتنا يتكلمن بلغتنا وينسبن أنفسهن إلى ديننا ممن يُردن مساواتهن بالرجال في كل صغيرة وكبيرة بما في ذلك الإمامة في الصلاة، فتقدمت إحداهن - في بلاد أمريكا - لتؤذِّن للناس بالصلاة، وتقدمت أخرى للصلاة بهم؛ فلما أُنكِر عليهن، قلن : إن هذا الفعل بهذه الطريقة جائز شرعاً، وأن هذا من ديننا وليس محرماً، فأحببت أن أبحث هذه المسالة لبيان الحق فيها، وحتى لا يكون هؤلاء وأمثالهم مرجعاً لبيان الأحكام؛ وإنما يتبين الحكم ببيان أهل العلم، والله يقول :? فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ? [النحل:43]، ولسنا في حاجة لأمريكا ولا لأذنابهم لمعرفة أحكام ديننا؛ فأقول مستعيناً بالله رب العالمين، وهو حسبي ونعم الوكيل:-
إن فقهاء المذاهب الإسلامية المشهورة المتبوعة في سائر بلاد المسلمين قد نصوا على حرمة أن تؤم النساءُ الرجالَ، وعلى بطلان صلاة الرجال الذين يأتمون بالنساء، وإليك أقوالهم :
فأما الحنفية، فقد ذكر السرخسي في المبسوط أن مذهبهم في هذه المسألة هو : أن المرأة لا تصلح لإمامة الرجال(1)، وذكر في فقه العبادات أن الذكورة المحققة شرط من شروط صحة صلاة الجماعة،قال : (فخرج بذلك الخنثى - لأن ذكورتها غير محققة - والمرأة. فلا تصح إمامة النساء للرجال مطلقاً لا في فرض ولا في نفل)(2).
وأما المالكية، فقد ذكر ابن رشد الحفيد في بداية المجتهد أن مذهبهم كمذهب الشافعية والحنابلة والحنفية والمالكية وهو أنه لا يجوز أن تؤم المرأةُ الرجالَ (3)، ونص في الفواكه الدواني على بطلان صلاة الرجل خلفه(4).
وأما الشافعية، فقال القفال الشاشي : (ولا تصح إمامة المرأة للرجال)(5)، ونقل النووي اتفاق الشافعية على ذلك(6)، وسواء في منع ذلك عندهم إمامة المرأة للرجال في صلاة الفرض أو التراويح أو سائر النوافل، قالوا : فإن صلى خلفها ولم يعلم ثم علم لزمه الإعادة - بلا خلاف - لأن عليها أمارة تدل على أنها امرأة، فلم يعذر في صلاته خلفها (7).
وأما الحنابلة، فقد قال ابن قدامة : (لا يصح أن يأتم رجل بامرأة في الصحيح من المذهب وهو قول عامتهم، قال البيهقي : وعليه الفقهاء السبعة والتابعون)(8)، وقال المرداوي : (ولا تصح إمامة المرأة للرجل هذا المذهب مطلقاً)(9)، وعلى هذا يجب على من صلى خلفها من الرجال الإعادة. وعن أحمد رواية أخرى وهي : صحة إمامتها في النفل، وعنه : تصح في التراويح نص عليه وهو الأشهر عند المتقدمين (10) من أصحابه، وقيل : إنما يجوز إمامتها في القراءة خاصة دون بقية الصلاة (11). وخصّ بعض الحنابلة الجواز : بذي الرحم، وخصه بعضهم : بكونها عجوزاً، وخصه آخرون : بأن تكون أقرأ من الرجال(12)، ومن قال بالصحة منهم قال : تقف خلفهم ويقتدون بها في جميع أفعال الصلاة؛ لأنه أستر لها ويقتدون بها (13).
وأما الزيدية، فقد نص في الأزهار على بطلان الصلاة، قال في سياق ذكره لعدم المشروعات في الصلاة : (وامرأة برجل أو العكس إلا مع رجل)(14)، قال في التاج المذهب : (والحال الرابع : أن تصلي امرأة برجل فإن ذلك لا يصح سواء كان الرجل محرماً لها أم لا)(15). وهذا ما ذكره الشوكاني في السيل الجرار(16)، ونسبه في نيل الأوطار إلى العترة(17).
وأما الظاهرية، فقال ابن حزم :(ولا يجوز أن تؤم المرأة الرجلَ ولا الرجال وهذا ما لا خلاف فيه، وأيضاً؛ فإن النص قد جاء بأن المرأة تقطع صلاة الرجل إذا فاتت أمامه)(18).
والقول بالحرمة وعدم صحة الصلاة هو ما درجت عليه اللجنة الدائمة في فتاواها (19).
إلا أن شيخنا العلامة : عبد الكريم زيدان – حفظه الله – في كتابه المفصل في أحكام المرأة ذهب إلى رأي مخالف حيث قال : (والراجح جواز أن تؤم المرأة الرجل مع أهل بيتها في دارها إذا كانت المرأة هي الأولى بالإمامة من الرجل لكونها أقرأ وأفقه فقد روى أبو داود في سننه حديث أم ورقة برواية جاء فيها " وكانت – أم ورقة – قد قرأت القرآن فاستأذنت النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تتخذ في دارها مؤذناً.. " وكان مؤذنها شيخاً كبيراً كما جاء في الحديث الذي ذكرناه في الفقرة السابقة، وهذا يدل على عدم قدرته على الإمامة وأن أم ورقة كانت أقدر منه وأكفأ في الإمامة. أما إمامة المرأة للرجل أو للرجال في المسجد فلا يجوز إتباعاً لمذهب الجمهور، والذي يؤيده أنه لم ينقل إلينا ولو لمرة واحدة، أن المرأة صارت إماماً في الصلاة لجماعة الرجال لا في عهد الصحابة ولا في عهد من جاء بعدهم من التابعين)(20).
أدلة الجمهور على المنع :
وإنما اتفق الجمهور على منعها أن تؤم الرجال لأدلة منها :(/1)
1. أنه قد ورد ما يدل على أنهن لا يصلحن لتولي شيء من الأمور، وهذا من جملة الأمور بل هو أعلاها وأشرفها، فعموم قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة "(21) يفيد منعهن من أن يكون لهن منصب الإمامة في الصلاة للرجال(22).
2. ولحديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال : خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " لا تؤمن امرأةٌ رجلاً "(23).
3. ولحديث " أخروهن حيث أخرهن الله "(24)
4. ولأنه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في جواز إمامة المرأة بالرجل أو الرجال شيء، ولا وقع ذلك في عصره ولا في عصر الصحابة والتابعين من ذلك شيء(25).
5. ولأنه لو كانت إمامتهن جائزة لنقل ذلك عن الصدر الأول(26)، لاسيما والصلاة من مسائل العبادات والأمر فيها مبني على التوقف(27).
6. ولأن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قد جعل صفوفهن بعد صفوف الرجال؛ وذلك لأنهن عورات وائتمام الرجل بالمرأة خلاف ما يفيده هذا (28). وحيث كانت سنتهن في الصلاة التأخير عن الرجال عُلِم من ذلك أنه لا يجوز لهن التقدم على الرجال(29).
7. ولأن الإمامة خطة شريفة في الدين ومن شرائع المسلمين(30)، ولا يُعرف طريقها إلا عن المشرِّع وحده، والمشرِّع ذكر لنا إمامة الرجال فقط.
القائلين بالجواز :
حُكي عن أبي ثور وابن جرير الطبري أنهما يجيزان إمامة المرأة بالرجال في صلاة التراويح إذا لم يكن هناك قارئ غيره(31)، وتقف خلف الرجال(32)، ونقل ابن رشد والنووي عنهما جواز إمامتها على الإطلاق(33).
أدلة المجيزين لإمامتها :
وقد استدلا بما رواه أبو داود والدارقطني والبيهقي وغيرهم عن أم ورقة " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -كان يزورها في بيتها وجعل لها مؤذناً يؤذن لها وأمرها أن تؤم أهل دارها ".
طرق الحديث :
الحديث له روايات عديدة تلتقي جميعها في الوليد بن جميع، وإليك هذه الطرق :
1. روى أبو داود عن الوليد بن جميع عن عبد الرحمن بن خلاّد عن أم ورقة بلفظ " وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزورها في بيتها وجعل لها مؤذناً يؤذن لها وأمرها أن تؤم أهل دارها " قال عبد الرحمن فأنا رأيت مؤذنها شيخاً كبيراً (34).
2. روى الدارقطني عن الوليد بن جميع عن أمه عن أم ورقة " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذِن لها أن يؤذن لها ويقام وتؤم نساءها " (35) .
3. روى الدارقطني والبيهقي عن الوليد بن جميع حدثتني جدتي عن أم ورقة - وكانت تؤم – " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذن لها أن تؤم أهل دارها "(36).
4. روى أبو داود أيضاً عن الوليد بن عبد الله بن جميع قال حدثتني جدتي وعبد الرحمن بن خلاّد الأنصاري عن أم ورقة بنت نوفل: وفيه " وكانت قد قرأت القرآن فاستأذنت النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تتخذ في دارها مؤذناً فأذن لها " (37).
5. روى الحاكم والبيهقي عن الوليد بن جميع عن ليلى بنت مالك وعبد الرحمن بن خالد الأنصاري عن أم ورقة الأنصارية : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " كان أمر أن يؤذن لها ويقام وتؤم أهل دارها في الفرائض "(38).
تراجم رجال السند :
1. الوليد بن عبد الله بن جميع الزهري الكوفي :
روى له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي. قال أبو داود وعبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه : ليس به بأس، وقال إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين : ثقة، وكذلك قال العجلي، وقال أبو زرعة : لا بأس به، وقال أبو حاتم : صالح الحديث، وقال عمرو بن علي : كان يحيى بن سعيد لا يحدثنا عن الوليد بن جميع فلما كان قبل موته بقليل حدثنا عنه، وذكره بن حبان في كتاب الثقات (39). قال ابن حجر : (وذكره أيضاً في الضعفاء، وقال : ينفرد عن الأثبات بما لا يشبه حديث الثقات؛ فلما فحش ذلك منه بطل الاحتجاج به، وقال ابن سعد : كان ثقة له أحاديث، وقال البزار : احتملوا حديثه وكان فيه تشيع، وقال العقيلي : في حديثه اضطراب، وقال الحاكم : لو لم يخرج له مسلم لكان أولى (40)، وقال في التقريب : صدوق يهم ورمي بالتشيع (41)، وقال المنذري في " مختصره " : الوليد بن جميع فيه مقال وقد أخرج له مسلم (42). وقد نقل الألباني توثيق ابن معين وغيره له (43).
2. عبد الرحمن بن خلاد الأنصاري :
(ذكره بن حبان في كتاب الثقات روى له أبو داود) (44)، وقال أبو الحسن بن القطان حاله مجهول (45)، وبمثله قال ابن حجر في التقريب (46)، وهذا الحديث ذكره في تلخيص الحبير وقال عنه : وفي إسناده عبد الرحمن بن خلاّد وفيه جهالة (47)، (وقال ابن القطان في كتابه " الوليد بن جميع، وعبد الرحمن بن خلاّد لا يعرف حالهما، قال الزيلعي : ذكرهما ابن حبان في الثقات) (48). قال الألباني : (لكن هو مقرون بليلى فأحدهما يقوي رواية الآخر؛ لاسيما والذهبي يقول في فصل النسوة المجهولات : وما علمت في النساء من اتهمت ولا من تركوها)(49).
3. ليلى بنت مالك : قال في التقريب : لا تعرف(50).(/2)
4. أم ورقة بنت عبد الله بن الحارث بن عويمر بن نوفل الأنصارية :
لها صحبة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزورها ويسميها الشهيدة وكان أمرها أن تؤم أهل دارها فكانت تؤمهم، وكانت امرأة من الأنصار، روى لها أبو داود.(51)
ذكر من صحح الحديث ومن ضعفه :
الحديث حسنه الألباني، ونقل عن العلامة العيني أنه قال : (حديث صحيح)(52). وإلى تصحيح الحديث مال الزيلعي في نصب الراية (53)، والحاكم في المستدرك ووافقه الذهبي (54)، والشوكاني في السيل الجرار(55). وأما ابن حجر فقد مال في التلخيص إلى تضعيف الحديث(56)، ومثله ابن الملقن في البدر المنير(57).
الترجيح :
من خلال ما سبق يتبيَّن لنا أن الحديث يرتقي إلى درجة الاحتجاج عند الأكثر، إلا أن هنا مسألة لم أر من ذكرها من أهل العلم، وهو أن في طريق الحاكم والبيهقي عبد الرحمن بن خالد الأنصاري، بخلاف الطرق الأخرى فهو عبد الرحمن بن خلاّد الأنصاري، فلا أدري هل هذا من التصحيف أم أنهما رجلان مختلفان؟. فهذا الكلام عن الحديث من ناحية السند.
وأما من حيث المتن، فالحديث في طرقه كلها أنها كانت تؤم أهل دارها في بيتها، إلا الرواية الأولى للدارقطني فإن فيها " وتؤم نساءها "، قال الدارقطني : (إنما أذن لها أن تؤم نساء أهل دارها)(58)، وعلى ذلك فإن إطلاق الروايات الأخرى مقيَّد بهذه الرواية؛ وعليه فلا يجوز للمرأة أن تكون إماماً في الصلاة إلا على بني جنسها من النساء فقط، والله أعلم.
ولكن هنا أمراً ينبغي التنبه له، وهو أن الإجماع قد انعقد على حرمة إمامتها بالرجال، وبطلان صلاة من صلى خلفها قبل أن يخالف أبو ثور أو الطبري أو غيرهما، فالإجماع منعقد على هذا في العصور المتقدمة قبل أن يأتي عصر المخالفين،كما انعقد الإجماع أيضاً بعد عصر المخالفين.
الخلاصة :
1. اتفقت المذاهب الإسلامية المتبوعة أن إمامة المرأة بالرجال غير جائزة، وأن من صلى خلفها من الرجال فصلاته باطلة.
2. شذ في صحة صلاتهم وراءها أبو ثور والطبري، ونسب هذا إلى المزني(59)، وبعض الحنابلة على خلاف بينهم في تفاصيل ذلك. على أن الإجماع قد انعقد على الحرمة، وعلى بطلان الصلاة من قبل ومن بعد خلاف هؤلاء.
3. عمدة ما استدل به المجيزون هو حديث أم ورقة في أبي داود والبيهقي والدارقطني وغيرهم، أنها كانت تؤم أهل دارها.
4. هذا الحديث في سنده مقال، ولكن الظاهر أنه يرقى إلى درجة الاحتجاج.
5. جاء في الدارقطني ما يقيِّد إطلاق بعض الروايات من أنها كانت تؤم أهل دارها بأنها كانت تؤم النساء منهن وهذا لا إشكال فيه.
6. إن الكيفية التي فعلها هؤلاء النساء في بلاد أمريكا من تقدم إحداهن لتصلي بالرجال، كيفية باطلة على جميع المذاهب الإسلامية، وجميع الأقوال الفقهية المعتبرة وغير المعتبرة، حيث لم يقل أحد ممن أجاز إمامتها أنها تتقدم على الرجال، كما لم يقل أحد بجواز صلاتها بهم، وهي جاهلة بالقرآن، لا تستطيع قراءته بشكل صحيح، ولا تعرف من أحكام التلاوة والتجويد شيئاً.
7. على المرء أن يبتعد عن الشبهات حتى يستبرِأ لدينه وعرضه، وعليه بالمحجَّة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
8. الرجوع في مسائل الشريعة والدين، لأهل الاختصاص والفتوى، من العلماء العاملين المتقين.
9. الأصل في المسلم أن ينقاد ويذل لأمر الله وأمر رسوله حتى وإن كان في ذلك مخالفة لهواه، ولا يجوز له بأي حال أن يتبرم من الشرع ثم ينطلق للبحث عن الأقوال الشاذة التي توافق هواه والله تعالى يقول : ? أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ?[الجاثية: 23]، وعَنْ النَّوَّاسِ بْنِ سِمْعَانَ الْأَنْصَارِيِّ – رضي الله عنه - قَالَ : سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ، فَقَالَ :" الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ "(60) وفي رواية " وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَإِنْ أَفْتَاكَ عَنْهُ النَّاسُ " (61).
والحمد لله رب العالمين
وهو الهادي إلى سواء السبيل
وهو حسبنا ونعم الوكيل
وسبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
كتبه الفقير إلى عفو ربه العلي
علي بن عبد الرحمن بن علي دبيس
الثلاثاء – 18 ربيع الآخر 1427هـ، 16/5/2006م
(1) المبسوط (جزء 1 - صفحة 179).
(2) فقه العبادات (جزء 1 - صفحة 109) .
(3) بداية المجتهد (جزء 1 - صفحة 227)، وانظر الفواكه الدواني ج: 1 ص: 205.
(4) الفواكه الدواني ج: 1 ص: 205 .
(5) حلية العلماء ج: 2 ص: 170، وانظر المجموع ج: 4 ص: 223.
(6) المجموع ج: 4 ص: 223.
(7) انظر المجموع ج: 4 ص: 223.
(8) المبدع ج: 2 ص: 72.(/3)
(9) الإنصاف للمرداوي ج: 2 ص: 263.
(10) انظر الإنصاف للمرداوي ج: 2 ص: 264، وانظر المبدع ج: 2 ص: 72.
(11) الإنصاف للمرداوي ج: 2 ص: 265، وانظر المبدع ج: 2 ص: 72.
(12) انظر المبدع ج: 2 ص: 72 .
(13) انظر الإنصاف للمرداوي ج: 2 ص: 264، وانظر المبدع ج: 2 ص: 72
(14) الأزهار ص 43.
(15) التاج المذهب لأحكام المذهب 1/ 111.
(16) السيل الجرار ج: 1 ص: 250 .
(17) نيل الأوطار (جزء 3 - صفحة 199).
(18) المحلى ج: 3 ص: 125.
(19) فتاوى اللجنة الدائمة 7/391 .
(20) المفصل في أحكام المرأة ج1: ص252.
(21) صحيح البخاري (جزء 4 - صفحة 1610)، سنن النسائي (جزء 8 - صفحة 227).
(22) السيل الجرار ج: 1 ص: 250 .
(23) انظر فقه العبادات (جزء 1 - صفحة 109)، والحديث في سنن ابن ماجه (جزء 1 - صفحة 343) قال الألباني : ضعيف، في إسناده علي بن زيد بن جدعان، وعبد الله بن محمد العدوي، وهما ضعيفان (انظر تهذيب التهذيب:جزء 6 - صفحة 19).
(24) الحديث في المعجم الكبير (جزء 9 - صفحة 295)، صحيح ابن خزيمة (جزء 3 - صفحة 99) موقوف على ابن مسعود قال الألباني : إسناده صحيح موقوف ويبدو أن في المتن سقطا أهـ، وانظر بداية المجتهد (جزء 1 - صفحة 227)، المبسوط (جزء 1 - صفحة 179) .
(25) انظر السيل الجرار ج: 1 ص: 250 .
(26) بداية المجتهد (جزء 1 - صفحة 227)، فتاوى اللجنة الدائمة 7/391.
(27) فتاوى اللجنة الدائمة 7/391 .
(28) انظر السيل الجرار ج: 1 ص: 250.
(29) بداية المجتهد (جزء 1 - صفحة 227) .
(30) الفواكه الدواني ج: 1 ص: 205 .
(31) انظر نيل الأوطار (جزء 3 - صفحة 199)، حلية العلماء ج: 2 ص: 170.
(32) انظر حلية العلماء ج: 2 ص: 170.
(33) بداية المجتهد (جزء 1 - صفحة 227)، المجموع ج: 4 ص: 223.
(34) سنن أبي داود (جزء 1 - صفحة 217)، قال الشيخ الألباني : حسن.
(35) سنن الدارقطني (جزء 1 - صفحة 279).
(36) سنن الدارقطني (جزء 1 - صفحة 403)، سنن البيهقي الكبرى (جزء 3 - صفحة 130)، قال الألباني: حسن. انظر: مختصر إرواء الغليل - (ج 1 / ص 99).
(37) سنن أبي داود (جزء 1 - صفحة 217)، قال الشيخ الألباني : حسن.
(38) المستدرك (جزء 1 - صفحة 320) وقال الذهبي : احتج مسلم بالوليد، سنن البيهقي الكبرى (جزء 1 - صفحة 406) .
(39) تهذيب الكمال (جزء 31 - صفحة 36)، تهذيب التهذيب (جزء 11 - صفحة 122).
(40) تهذيب التهذيب (جزء 11 - صفحة 122).
(41) تقريب التهذيب (جزء 1 - صفحة 582) .
(42) نصب الراية (جزء 2 - صفحة 21).
(43) إرواء الغليل (جزء 2 - صفحة 256) .
(44) تهذيب الكمال (جزء 17 - صفحة 82) .
(45) تهذيب التهذيب (جزء 6 - صفحة 153) .
(46) تقريب التهذيب (جزء 1 - صفحة 339) .
(47) التلخيص الحبير (جزء 2 - صفحة 27) .
(48) نصب الراية (جزء 2 - صفحة 21) .
(49) إرواء الغليل (جزء 2 - صفحة 255) .
(50) تقريب التهذيب (جزء 1- صفحة 763).
(51) انظر تهذيب الكمال (جزء 35 - صفحة 390)، تهذيب التهذيب (جزء 12 - صفحة 508).
(52) إرواء الغليل (جزء 2 - صفحة 256).
(53) نصب الراية (جزء 2 - صفحة 21).
(54) المستدرك (جزء 1- صفحة 320) .
(55) السيل الجرار (جزء 1 - صفحة 251) .
(56) التلخيص الحبير (جزء 2 - صفحة 27) .
(57) البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير ج4: ص392) .
(58) نيل الأوطار (جزء 3 - صفحة 199).
(59) نيل الأوطار (جزء 3 - صفحة 199)، المفصل في أحكام المرأة ج1: ص251.
(60) صحيح مسلم ج 12 / ص 403، سنن الترمذي ج 8 / ص 401.
(61) مسند أحمد ج 36 / ص 436 ، قال الألباني: صحيح. انظر: تحقيقه لمشكاة المصابيح - (ج 3 / ص 100).(/4)
حكم استخدام جوزة الطيب
الكاتب: الشيخ د.نايف بن أحمد الحمد
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ،،، وبعد :
فقد كثر السؤال عن حكم استخدام ( جوزة الطيب ) ويسمى عند بعض المتقدمين ( جَوْز بَوَّا ) وَهُوَ فِي مِقْدَارِ الْعَفْصِ سَهْلُ الْمَكْسَرِ رَقِيقُ الْقِشْرِ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ .(1)
وجوزة الطيب : نوع من أنواع التوابل تستعملها بعض ربات البيوت وأصحاب المطاعم كمادة منكهة للأكل بأنواعه أو القهوة حيث يضاف قطعة صغيرة من جوزة الطيب الكبيرة ولونها بني مخططة بخطوط بيضاء ، وقد ذكر بعض المعاصرين أن جوزة الطيب تحتوي على مادة دهنية مائلة للاصفرار تعرف بدهن الطيب ويحتوي هذا الدهن على نحو 4% من مادة مخدرة .
وجوزة الطيب إذا استخدمت بكميات كبيرة أو استخدمت بطريقة عشوائية فإنها تسبب بعض المضار كالهلوسة وقد منعت الجهات المسئولة في السعودية بيعها بسبب ما ظهر من أضرارها وللعلماء المتقدمين قولان في حكم تناولها بناء على ما بلغهم من محتواها وأضرارها فقد نص جمع من العلماء على تحريمها وقد سئل ابن حجر الهيتمي رحمه الله تعالى عن جوزة الطيب فأجاب " الذي صرح به الإمام المجتهد شيخ الإسلام ابن دقيق العيد إنها مسكرة" ، ونقله عنه المتأخرون من الشافعية والمالكية واعتمدوه وناهيك بذلك بل بالغ ابن العماد فجعل الحشيشة مقيسة على الجوزة المذكورة ، وذلك أنه لما حكى عن القرافي نقلا عن بعض فقهاء عصره أنه فرق في إنكاره الحشيشة بين كونها ورقا أخضر فلا إسكار فيها بخلافها بعد التحميص فإنها تسكر .
قال : والصواب إنه لا فرق ; لأنها ملحقة بجوزة الطيب والزعفران والعنبر والأفيون والشيكران بفتح الشين المعجمة وهو البنج وهو من المخدرات المسكرات ذكر ذلك ابن القسطلاني في تكريم المعيشة ، فتأمل تعبيره والصواب جعله الحشيشة التي أجمع العلماء على تحريمها لإسكارها وتخديرها مقيسة على الجوزة تعلم أنه لا مرية في تحريم الجوزة لإسكارها أو تخديرها وقد وافق المالكية والشافعية على إسكارها الحنابلة بنص إمام متأخريهم ابن تيمية وتبعوه على أنها مسكرة وهو قضية كلام بعض أئمة الحنفية ففي فتاوى المرغيناني منهم المسكر من البنج ولبن الرماك أي أناثي الخيل حرام ولا يحد شاربه قال الفقيه أبو حفص ونص عليه شمس الأئمة السرخسي
وقد علمت من كلام ابن دقيق العيد وغيره أن الجوزة كالبنج فإذا قال الحنفية بإسكاره لزمهم القول بإسكار الجوزة فثبت بما تقرر أنها حرام عند الأئمة الأربعة الشافعية والمالكية والحنابلة بالنص والحنفية بالاقتضاء أنها إما مسكرة أو مخدرة .
وأصل ذلك في الحشيشة المقيسة على الجوزة على ما مر والذي ذكره الشيخ أبو إسحاق في كتابه التذكرة والنووي في شرح المهذب وابن دقيق العيد إنها مسكرة قال الزركشي ولا نعرف فيه خلافا عندنا وقد يدخل في حدهم السكران بأنه الذي اختلط كلامه المنظوم وانكشف سره المكتوم , أو الذي لا يعرف السماء من الأرض ولا الطول من العرض .
ثم نقل عن العراقي أنه خالف في ذلك فنفى عنها الإسكار وأثبت لها الإفساد ثم رده عليه وأطال في تخطئته وتغليظه وممن نص على إسكارها أيضا العلماء بالنبات من الأطباء وإليهم المرجع في ذلك وكذلك ابن تيمية وتبعه من جاء بعده من متأخري مذهبه والحق في ذلك خلاف الإطلاقين الإسكار إطلاق وإطلاق الإفساد وذلك أن الإسكار يطلق ويراد به مطلق تغطية العقل وهذا إطلاق أعم ويطلق ويراد به تغطية العقل مع نشأة وطرب وهذا إطلاق أخص وهو المراد من الإسكار حيث أطلق فعلى الإطلاق الأول بين المسكر والمخدر عموم مطلق إذ كل مخدر مسكر وليس كل مسكر مخدرا فإطلاق الإسكار على الحشيشة والجوزة ونحوهما المراد منه التخدير ومن نفاه عن ذلك أراد به معناه الأخص وتحقيقه أن من شأن السكر بنحو الخمر أنه يتولد عنه النشأة والطرب والعربدة والغضب والحمية ومن شأن السكر بنحو الحشيشة والجوزة أنه يتولد عنه أضداد ذلك من تخدير البدن وفتوره ومن طول السكوت والنوم وعدم الحمية .
وبقولي من شأن فيهما يعلم رد ما أورده الزركشي على القرافي من أن بعض شربة الخمر يوجد فيه ما ذكر في نحو الحشيشة وبعض أكلة نحو الحشيشة يوجد فيه ما ذكر من الخمر ووجه الرد أن ما نيط بالمظنة لا يؤثر فيه خروج بعض الأفراد كما أن القصر في السفر لما نيط بمظنة المشقة جاز وإن لم توجد المشقة في كثير من جزئياته فاتضح بذلك أنه لا خلاف بين من عبر في نحو الحشيشة بالإسكار ومن عبر بالتخدير والإفساد والمراد به إفساد خاص هو ما سبق .(/1)
فاندفع به قول الزركشي أن التعبير به يشمل الجنون والإغماء لأنهما مفسدان للعقل أيضا فظهر بما تقرر صحة قول الفقيه المذكور في السؤال إنها مخدرة وبطلان قول من نازعه في ذلك لكن إن كان لجهله عذر وبعد أن يطلع على ما ذكرناه عن العلماء متى زعم حلها , أو عدم تخديرها وإسكارها يعزر التعزير البليغ الزاجر له ولأمثاله بل قال ابن تيمية وأقره أهل مذهبه من زعم حل الحشيشة كفر فليحذر الإنسان من الوقوع في هذه الورطة عند أئمة هذا المذهب المعظم وعجيب ممن خاطر باستعمال الجوزة مع علمه بما ذكرناه فيها من المفاسد والإثم لأغراضه الفاسدة على تلك الأغراض التي يحصل جميعها بغيرها .
فقد صرح رئيس الأطباء ابن سينا في قانونه بأنه يقوم مقامها وزنها ونصف وزنها من السنبل فمن كان يستعمل منها قدرا ما ثم استعمل وزنه ونصف وزنه من السنبل حصلت له جميع أغراضه مع السلامة عن الإثم والتعرض لعقاب الله سبحانه وتعالى على أن فيها بعض مضار بالرئة ذكرها بعض الأطباء وقد خلي السنبل عن تلك المضار وقد حصل به مقصودها وزاد عليها بالسلامة من مضارها الدنيوية والأخروية والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب (2) .
قال الطحطاوي رحمه الله تعالى " وصرح ابن حجر المكي بتحريم جوزة الطيب بإجماع الأئمة الأربعة .
ولعل حكاية الإجماع محمولة على حالة السكر " (3) .
وجاء في حاشية ابن عابدين " ومثل الحشيشة في الحرمة جوزة الطيب فقد أفتى كثير من علماء الشافعية بحرمتها , وممن صرح بذلك منهم ابن حجر نزيل مكة في فتاواه والشيخ كمال الدين بن أبي شريف في رسالة وضعها في ذلك , وأفتى بحرمتها الأقصراوي من أصحابنا , وقفت على ذلك بخطه الشريف لكن قال حرمتها دون حرمة الحشيش (4)
وقد رخص بعض العلماء باستخدام القليل منها مما لا يضر استخدامه قال ابن فرحون : وأما العقاقير الهندية فإن أكلت لما تؤكل له الحشيشة امتنع أكلها , وإن أكلت للهضم وغيره من المنافع لم تحرم ولا يحرم منها إلا ما أفسد العقل وذكر قبل هذا أن الجوزة وكثير الزعفران والبنج والسيكران من المفسدات , قليلها جائز وحكمها الطهارة .
وقال البرزلي : أجاز بعض أئمتنا أكل القليل من جوزة الطيب لتسخين الدماغ واشترط بعضهم أن تختلط مع الأدوية , والصواب العموم (5)
وسئل الشيخ الرملي رحمه الله تعالى عن أكل جوز الطيب هل يجوز أو لا ؟ ( فأجاب ) نعم يجوز إن كان قليلا , ويحرم إن كان كثيرا .(6)
وقال الطيب آبادي رحمه الله تعالى " وأما الجوز الطيب والبسباسة والعود الهندي فهذه كلها ليس فيها سكر أيضاً وإنما في بعضها التفتير، وفي بعضها التخدير، ولا ريب أن كل ما أسكر كثيره فقليله حرام سواء كان مفرداً أو مختلطاً بغيره، وسواء كان يقوى على الإسكار بعد الخلط أو لا يقوى، فكل هذه الأشياء الستة ليس من جنس المسكرات قطعاً بل بعضها ليس من جنس المفترات ولا المخدرات على التحقيق، وإنما بعضها من جنس المفترات على رأي البعض ومن جنس المضار على رأي البعض، فلا يحرم قليله سواء يؤكل مفرداً أو يستهلك في الطعام أو في الأدوية. نعم أن يؤكل المقدار الزائد الذي يحصل به التفتير لا يجوز أكله لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كل مفتر ولم يقل إن كل ما أفتر كثيره فقليله حرام.
فنقول على الوجه الذي قاله صلى الله عليه وسلم ولا نحدث من قبلي شيئاً، فالتحريم للتفتير لا لنفس المفتر فيجوز قليله الذي لا يفتر (7)
وعلى كل حال فإن ثبت أن هذه الجوزة تشتمل على مواد مسكرة أو مفترة وهذا يقرره أهل الاختصاص فإنها محرمة لحديث أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قالت : نهى رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن كل مُسْكِرٍ وَمُفَتِّرٍ . (8)
وعن جَابِرِ بن عبد اللَّهِ رضي الله عنهما قال : قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ( ما أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ )(9) ، وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره )(10)
لذا فالذي ينبغي ترك هذه المادة حتى ثبوت خلوها مما ذكرته فعن النُّعْمَانِ بن بَشِيرٍ رضي الله عنه قال سمعت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول ( إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ من الناس فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ في الشُّبُهَاتِ وَقَعَ في الْحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فيه )(11) .
والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
=================
1. ... ( انظر : المغرب في ترتيب المعرب وجامع الأدوية لابن البيطار حرف الجيم )
2. ... الفتاوى الفقهية 4/229 الزواجر عن اقتراف الكبائر 1/354
3. ... حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح 1/363 وانظر حاشية البجيرمي على الخطيب 1/104 سبل السلام 2/451(/2)
4. ... حاشية ابن عابدين 6/458 عون المعبود 10/96
5. ... مواهب الجليل 1/90 وانظر شرح مختصر خليل للخرشي 1/84
6. ... فتاوى الرملي 4/71
7. ... رواه النسائي ( 5608) وأبو يعلى (694) وصححه ابن حبان (5370)
8. ... رواه أحمد (14744) وأبو داود (3681)
9. ... عون المعبود 10/118
10. ... عون المعبود 10/118
11. ... رواه البخاري (1946) ومسلم ( 1599) واللفظ له .(/3)
حكم استفتاء المتساهل و تصدره للفُتيا
السؤال :
أنا أحد أفراد الجاليةِ المسلمة المقيمة في إيرلندا منذ بِضعِ سنوات ، و بحكم إقامتنا في الغَرب تَعرِض لنا بعض الإشكالات الشرعيّة ، و نحتاج إلى معرِفة حُكم الشرع فيها ، و لكن ليس لدينا من نستفتيه من أهل العلم سوى إمامَي المسجدين الموجودَين في دَبلن ، و لا ثالث لهما ، عِلماً بأنّ أحدَهما مهندس زراعي في الأصل ، و ليس من العلماء بالشريعة و لا أهل الاختصاص ، و هو يُقرّ بذلك ، و لكنّه من حملة القرآن الكريم ، و له مطالعات في العلوم الشرعيّة ، و الآخر أزهري معروف بتبنّيه منهج التيسير في الفتوى على نحو لم نعُد نطمئن معه إلى أنّ ما يُفتينا به هو الحكم الشرعي الفصل فيما يُعرَض عليه .
فما هي نصيحتكم لنا في هذه الحال ، هل نأخُذ ديننا عن هؤلاء ، أم نرجع إلى الكتب القديمة رُغمَ ندرتها و عدم قُدرتنا على الاستنباط منها مباشرةً ، أم نلجأ إلى مفتين في بلاد أخرى إذا احتجنا لفتوى في أمور معيشتنا اليوميّة ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
من حيث المبدأ لا أحبّذ وجود مرجعيّة وحيدة للفتوى في أيّ زمان أو مكان ، لأنّ حصر الإفتاء في فردٍ أو فئة معيّنة ( سواءً كانت مجلساً أو مجمعاً أو لجنةً أو غير ذلك ) ذريعةٌ إلى إغلاق باب الاجتهاد الفسيح في الفقه الإسلامي ، و قد تعيدنا إلى عصر الجمود الذي قيّد الأمّة لقرون عديدة من الزَمَن .
و لا يعني هذا أننا نؤيّد فتح باب الاجتهاد على مصراعيه أمام من هبّ و دبّ ، من حاز ملكته و استوفى شروطه ، و من لم يتأهّل له من حُدثاء الأسنان ، و صغار طلبة العلم ، و قليلي الخبرة ، ممّن حالُهم يُبكي المتأخّرين كما أبكى المتقدّمين .
روى ابن عبد البرّ عن الإمام مالك أنّه دَخل على شيخه ربيعة الرأي فوجده يبكي فقال له : ما يبكيك ، أمصيبة نزلت بك ؟ قال : لا ، و لكن استُفتي من لا علم له ، و وقع في الإسلام أمر عظيم ، و لَبعض من يُفتي هاهنا أحق بالسجن من السُرَّاق ) [ أدب المفتي و المستفتي ، للنووي ، ص : 85 ] .
و الناس في باب الاجتهاد طرَفان و وسط ، و خير الأمور أواسطها ، و من التوسّط أن يتبوّأ كلٌّ مكانه ، فللاجتهاد أهله من العلماء الراسخين ، و للتقليد أهلوه الذين لا يَسعُهم غيرُه ، و لا يَصدُرون إلاّ عنه .
و ما ذَكره السائل من أنّ أحد الإمامَين في بلد إقامته غير مختصٍّ في العلوم الشرعيّة ليس حجّة في الانصراف عن سؤاله عمّا يعلمه بدليله ، و لا يُبرّر ردّ كلّ ما عنده ، لأنّ العلم ليس بالشهادات و لا الدَرَجات الأكاديميّة المعروفة في هذا العصر ، و إنّما هو بالطَلب و الحِرص و التحصيل ، فمن أخذه فقد أخَذ بحظّ وافر .
بل يتعيّن على المُستَفتَى أن يُفتي باجتهاده فيما عَرَف فيه الحقّ بدليله ، و لو كان ذلك في مسائل أو حالات معدودة .
قال شمس الدين ابن القيّم رحمه الله : ( الاجتهاد حالة تقبل التجزؤ والانقسام فيكون الرجل مجتهدا في نوع من العلم مقلدا في غيره أوفي باب من أبوابه كمن استفرغ وسعه في نوع العلم بالفرائض وأدلتها واستنباطها من الكتاب والسنة دون غيرها من العلوم أوفي باب الجهاد أو الحج أو غير ذلك فهذا ليس له الفتوى فيما لم يجتهد فيه و لا تكون معرفته بما اجتهد فيه مسوغة له للإفتاء بما لا يعلم في غيره .
... فإن قيل : ما تقولون فيمن بذل جهده في معرفة مسألة أو مسألتين هل له أن يفتي بهما ؟ قيل نعم يجوز في أصح القولين وهما وجهان لأصحاب الإمام أحمد ، و هل هذا إلا من التبليغ عن الله و عن رسوله ؟ و جزى الله من أعان الإسلام و لو بشطر كلمة خيراً ، و منعُ هذا من الإفتاء بما عَلِمَ خطأ محض ) [ إعلام الموقعين : 4 / 216 و 217 ] .
و إذا فُرِضَ جَدَلاً صحّة ما ذَكره السائل من عَدَم وُجود مفتٍ مؤَهّل موثوقٍ في دينه و منهجه يُرجَعُ إليه في بَلدٍ ما وجبَ على أهل ذلك البلد أن ينتدبوا منهم من يطلُب العلم ، و ذلك في حقّهم واجبٌ على الكفاية ؛ إن قام به من يكفي فبها و نِعمَت ، و إلا لَحِقَهُم الإثم جميعاً ، قال تعالى : ( فَلَولا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) [ التوبة : 122 ] .
و إلى أن يقوم بينَ ظهرانيهم من تقوم به الحجّة ، و تتضح بفتاواه معالمُ المَحَجَّة يَجب عليهم ردُّ ما وقع فيه الخلاف بينهم إلى من عُرِف بذلك من أهل العلم و لو كان مُقيماً في ديارٍ غير ديارهم .
و ينبغي لمن يُتَّخذُ مفتِياً أن يكون معروفاً إلى جانبِ علمِه بتزكيةِ العلماء له ، و ثنائهم عليه ، و شهادَتهم بكفاءته .(/1)
قال الإمام مالك رحمه الله : ما أفتيت حتى شهِدَ لي سبعون أني أهلٌ لذلك ) ، و في روايةٍ : ( ما أفتيتُ حتى سألتُ من هو أعلم مني : هل يراني موضعاً لذلك ؟ ) ، و قال أيضاً : ( لا ينبغي لرجُلٍ أن يرى نفسَه أهلا لشيءٍ ، حتى يَسألَ من هو أعلم منه ) [ آداب الفتوى للنووي ص : 18 ] .
أمّا اتّخاذ التيسير منهجاً في الفتوى ، على النحو الذي نراه اليَوم من بعض المشائخ ، فهو ممّا عمّت به البلوى ، و ابتلي به كثير من المسلمين ، و بخاصةٍ أولئك الذين اجتمعت عليهم غربةُ الزمان و المكان في الغرب ، و في النفس من هذا المنهج أشياءٌ و أشياءٌ .
و هاهُنا جُملة مسائل ذات صلةٍ بموضوع التساهل و التيسير في الفُتيا أرى لزاماً عليّ بيانُها في هذا المقام ، إذ إنّ تأخير البيان عن وقتِ الحاجة لا يجوز شرعاً ، و لا يسوغ عقلاً ، و من أراد الاستزادة أحَلنَاهُ إلى كُتُب الأقدمين ، و إن أرادَ خُلاصتها فعليه برسالتنا المسمّاة ( الفتاوى المُعاصرة .. بين التيسير و المسايرة ) ففيها مزيد بيان للمسائل التالية و غيرها :
المسألة الأولى :
الإفتاء منصب خطير ، و لذلك كان أورَعُ الناس أزهدَهم فيه ، و إذا كان الأجرؤ على الفتوى الأجرأَ على النار ، فلا غَروَ في أن يعزُفَ عنها خيار السلفِ و الخَلَف ، ما لم تصير عليهم مُتعيّنةً ، خشيةً أن يشملهم عموم قول الله عز و جلَّ : ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَ حَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ) [ يونس : 59 ] .
قال أبو القاسم الزمخشري رحمه الله : ( كفى بهذه الآية زاجرة زجراً بليغاً عن التجوُّز فيما يُسأل عنه من الأحكام ، و باعثةً على وجوب الاحتياط فيه ، و أن لا يقول أحد في شيءٍ جائزٍ أو غيرَ جائزٍ ؛ إلا بعد إيقانٍ و إتقانٍ ، و من لم يوقِن فليتَّق الله ، و ليصمِت ، و إلا فهو مفترٍ على الله ) [ الكشّاف : 2 / 242 ].
و أخرج الدار مي في مقدّمة سننه عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى جَعْفَرٍ مرسلاً أنّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال : « أَجْرَؤُكُمْ عَلَى الْفُتْيَا أَجْرَأُكُمْ عَلَى النَّارِ » .
و قال الإمام النووي رحمه الله : اعلم أن الإفتاء عظيم الخطر كبير المَوقِع ، كثيرُ الفضلِ ؛ لأن المفتي وارثُ الأنبياءِ صلوات الله و سلامه عليهم و قائم بفرض الكفاية لكنه معرض للخطأ .(/2)
و لهذا قالوا : المفتي مُوقِّعٌ عن الله تعالى ، و رُوِّينا عن ابنِ المُنكدِر قال : العالمُ بينَ اللهِ تعالى و خَلْقِهِ ، فلينظُر كيف يدخُل بينَهم ، و رُوِّينا عن السلف و فضلاء الخَلَف مِنَ التوقُّف عن الفُتيا أشياء كثيرة معروفة نذكر منها أحرُفا تبركاً و رُوّينا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال أدركت مائةً و عشرين من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يُسأل أحدهم عن المسألة ؛ فيردها هذا إلى هذا و هذا إلى هذا حتى ترجِعَ إلى الأول ، و في روايةٍ : ما مِنهُم من يُحدِّث بحديث إلا وَدَّ أن أخاهُ كفاهُ إيَّاهُ ، و لا يُستفتَى عن شيءٍ إلا ودَّ أن أخاه كفاه الفُتيا ، و عن ابن مسعود و ابن عباس رضي الله عنهم : من أَفْتَى في كُلِّ ما يُسأل فهو مجنون ، و عن الشَّعبي ، و الحَسَن ، و أبي حُصَين التابعِيَّيْن قالوا : إنَّ أحدكم ليُفتي في المسألة ، و لَو وَرَدَت على عُمَر بنِ الخطاب رضي الله عنه ؛ لجمع لها أهل بدر ، و عن عطاءِ بنِ السائب التابعيِّ : أدركتُ أقواماً يُسأل أحدهم عن الشيء فيتكلم و هو يَرْعَدُ ، و عن ابن عباسٍ ، و محمد بن عجلان : إذا أَغْفَلَ العالِمُ لا أدري أُصيبَتْ مَقَاتِلُه ، و عن سُفيَان بن عيينة ، و سَحنُون : أَجسَرُ النّّاسِ على الفُتيا أقَلُّهم عِلماً ، و عن الشافعي ، و قد سُئِل عن مسألةٍ فلم يُجِب ، فَقِيلَ له ، فقال : حتى أدري أنَّ الفضلَ في السكوتِ أو في الجواب . و عن الأثرَمِ : سمعتُ أحمدَ بنَ حنبل يُكثِر أن يقول : لا أدري ، و ذلك فيما عَرَفَ الأقاويلَ فيه ، و عن الهيثم بنِ جميلٍ : شهدتُ مالكاً سُئِلَ عن ثمانٍ و أربعينَ مسألةٍ ، فقال : في ثِنتَين و ثَلاثين منها : لا أدري ، و عن مالكٍ أيضاً أنَّهُ رُبَّما كان يُسأل عن خمسين مسألة فلا يُجيب في واحدةٍ منها ، و كان يقول : مَن أجاب في مسألةٍ فينبغي قبلَ الجواب أن يعرِضَ نفسَه على الجنَّةِ و النّار ، و كيفَ خَلاصُهُ ، ثُمّ يُجيب ، و سُئِل عن مسألة ، فقال : لا أدري ، فقيل : هي مسألةٌ خفيفة سهلة ، فغضب و قال : ليس في العلم شيءٌ خفيفٌ ، و قال الشافعي : ما رأيتُ أحداً جمعَ الله تعالى فيه من آلةِ الفُتيا ما جَمَع في ابن عُيَيْنَة أسكتَ منهُ على الفُتيا ، و قال أبو حنيفة : لولا الفَرَق ( و هو الخوف ) مِن الله تعالى أن يَضيعَ العلم ؛ ما أفتيت ، يكون لهم المَهْنأ و علَيَّ الوِزرُ ، و أقوالُهُم في هذا كثيرة معروفة .اهـ. [ آداب الفتوى ، للإمام النووي ، ص : 13 و ما بعدها ] .
و لعلّ من المناسب في هذا المقام أن أذكّر نفسي و إخواني بما أورده الشيخ منصور بن يونس البهوتي [ في كشاف القناع في الفقه الحنبلي : 6 / 299 ] من توجيه سديد يُزهّد في التصدّر للفتوى لمن لا قبل له بها ، و من لم يستوفِ شروطها ، و ترشد من تبوّأها إلى ما ينبغي أن تكون عليه حاله فيها ، بعدَ أن ذَكرَ بعضَ ما أورَده الإمام النووي فيما نقلناه آنِِفاً ، إذ قال : و أنكر الإمام أحمد و غيره على من يهجُمَ على الجواب لخَبَرِ : ( أجرؤُكم على الفتيا أجرؤكم على النار ) .
و قال أحمد : ( لا ينبغي أن يجيب في كل ما يُستَفْتَى فيه ) .
و قال : ( إذا هابَ الرجلُ شيئاً لا ينبغي أن يُحمَل على أن يقول ) .
و قال : ( لا ينبغي للرجل أن يُعَرِّضَ نفسَهُ للفُتيا حتى يكون فيه خمس خصال :
• إحداها : أن تكون له نيّةٌ ، أي : أن يُخلص في ذلك لله تعالى ، و لا يقصد رياسةً ، و لا نحوَها ، فإن لم يكن له نيّةٌ لم يكن عليه نُورٌ ، و لا على كلامه نور ، إذ الأعمالُ بالنيّات ، و لكل امرئ ما نوى .
• الثانية : أن يكون له حِلمٌ و وَقار و سكينة ، و إلا لم يتمكن من فعل ما تصدى له ؛ من بيان الأحكام الشرعية .
• الثالثة : أن يكون قويّاً على ما هو فيه ، و على معرفَتِهِ ، و إلا فقد عرَّض نفسه لعظيم .
• الرابعة : الكفايةُ ، و إلا أبغَضَهُ الناسُ ، فإنّه إذا لم تكن له كفايةٌ احتاج إلى الناس ، و إلى الأخذِ ممّا في أيديهم ؛ فيتضررون منه .
• الخامسة : معرفةُ الناس ؛ أي : ينبغي له أي للمفتي أن يكون بصيرا بمكر الناس و خِداعِهِم ، و لا ينبغي له أن يُحسِن الظن بهم ، بل يكون حذِراً فَطِناً مما يصورونه في سؤالاتهم ، لِئَلا يوقِعُوه في المكروه .اهـ من كشّاف القناع .
و ممّا جاء في تحرّز السلف من الإفتاء ما أورده الحافظ المناوي رحمه الله [ في فتح القدير : 1 / 158 ] ، و منه بعض ما تقدّمَ ، و زاد عليه :
و كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إذا سُئِل قال : ( اذهب إلى هذا الأمير الذي تقلَّد أمرَ الناس فضعها في عنقه ) ، و قال أيضاً : ( يُريدون أن يجعلونا جسراً يمُرُّونَ علينا إلى جهنم ) .(/3)
فرضي الله عنهم ما أورَعهم و ما أبعَدَهم عن التكلّف و التطلّع و استشراف النفس إلى ما تُخشى عواقبه في الدين و الدنيا ، و ما أحسن تعليق الإمام المناوي على ما أورَد من أخبارهم بقوله : ( و بما تقرّر يُعلَمُ أنّه يَحرُم على المُفتي التساهل ) .
قلتُُُُ : و يوافق قولَ النووي : ( قالوا : المفتي مُوقِّعٌ عن الله تعالى ) المتقدّمَ فِعلُ ابنِ القيّم حيث سمّى كتابه الشهير إِعلام ( و ضُبِطَ : أَعلام ) الموقّعين عن ربّ العالمين .
و كذا قول الإمام الشاطبي رحمه الله : ( المفتي قائمٌ في الأمّة مقام النبيّ صلى الله عليه و سلّم ) [ الموافقات : 4 /140 ] .
المسألة الثانية :
يحرُم التساهل في الفتوى بدعوى التيسير ، كما يَحرُمُ استفتاء من عُرِف بالتساهل ، ما لم يَكُن المفتي صادراً عن دليلٍ شرعيٍّ ( من الكتاب أو السنّة أو الإجماع أو القياس ) منضبط .
قال الإمام الشافعي رحمه الله: ( لا يجوز لمن استأهل أن يكون حاكماً أو مفتياً أن يحكم و لا أن يفتي إلا من جهةِ خبرٍ لازمٍ ... و ذلك الكتاب و السنة ، أو ما قاله أهل العلم لا يختلفون فيه ، أو قياس على بعض هذا ، و لا يجوز له أن يحكم و لا يُفتي بالاستحسان ) [ الأم : 7 / 298 ] .
وقال النووي رحمه الله : ( يحرم التساهل في الفتوى و من عُرِف به حرم استفتاؤه ) [ آداب الفتوى و المفتي ، ص : 37 ] .
و قال ابن الصلاح رحمه الله : ( لا يجوز للمفتي أن يتساهل في الفتوى , و من عرف بذلك لم يجز أن يُستفتى , و ذلك قد يكون بأن لا يَتثبَّت و يسرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر و الفِكر, و ربّما يحمله على ذلك توهمه أن الإسراع براعةٌ , و الإبطاءَ عجزٌ و منقصة ، و ذلك جهلٌ ، و لأن يُبطئ و لا يخطئ , أجمل به من أن يَعْجَلَ فيضلَّ و يَضِلَّ ) [ فتاوى ابن الصلاح : 1 / 46 ، و انظره في أدب المفتي و المستفتي 1 / 111 ] .
و قال ابن مفلح الحنبلي رحمه الله : ( يحرم تساهل مُفتٍ في الفتيا ، و تقليد معروفٍ به ) [ الفروع : 6 / 379 ] .
و قال في موضع آخر : ( يحرم التساهل في الفتيا ، و استفتاء من عُرف بذلك ) [ المبدع : 10 / 25 ، و نقله عنه البهوتي في كشاف القناع : 6 / 300 ] .
المسألة الثالثة :
إن السلَف الصالح ( و منهم من بَلَغَنا خبَرُهم من الصحابة و الأئمّة الأربعة و غيرهم ) رضوان الله عليهم أجمعين دأبوا على التحذير من تتَبّع الرخَص في الفتوى ، و اعتبروا ذلك من علامات فساد دين فاعله ، و حذَّروا منه أشدّ التحذير ، و من ذلك قول الإمام النووي المتقدّم : ( لو جاز اتّباع أي مذهب شاء لأفضى إلى أن يلتقط رُخَص المذاهب متبعاً لهواه ، و يتخير بين التحليل ، و التحريم ، و الوجوب ، و الجواز ، و ذلك يؤدي إلى الانحلال من ربقة التكليف ) . [ المهذّب شرح المجموع : 1 / 5 ] .
و ذكر الإمام الشاطبي رحمه الله التلفيق بين المذاهب ، فذمّه بقوله : ( يُفضي إلى تتبّع رُخَص المذاهب من غير استنادٍ إلى دليلٍ شرعيٍ ) [ الموافقات : 4 / 72 ] ، ثمّ روى عن ابن حزم حكاية الإجماع على ( أنّ ذلك فِسقٌ لا يَحِلّ ) . [ الموافقات : 4 / 74 ] .
و قال الحافظ الذهبي : ( من تتبع رخص المذاهب و زلات المجتهدين ؛ فقد رَقَََّ دينُه كما قال الأوزاعي و غيره : من أخذ بقول المكيين في المتعة ، و الكوفيين في النبيذ ، و المدنيين في الغناء ، و الشاميين في عِصمة الخلفاء ؛ فقد جمع الشر .
و كذا من أخذ في البيوع الربوية بمن يتحيل عليها ، و في الطلاق و نكاح التحليل بمن توسع فيه ، و شِِبه ذلك ، فقد تعرض للانحلال فنسأل الله العافية و التوفيق ) [ سير أعلام النبلاء : 8 / 90 ] .
روى الحافظ ابن عبد البر عن سليمان التيمي قال: ( لو أخذت برخصة كل عالم اجتمع في الشر كله ) ، ثمّ قال ابن عبد البر : و هذا إجماع لا أعلم فيه خلافاً . اهـ . [ جامع بيان العلم و فضله : 2 / 112 ] .
المسألة الرابعة :
إنَّ في تتبّع التخفيفات ، و العزوف عن العزائم إلى الرخَص ، مذمومٌ لما فيه من مجاراة اليهود الذين غَضِبَ الله عليهم و لعنهم ، و جَعلَ منهم القردة و الخنازير .
روى القرطبي في تفسير قول الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَ إِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ) [ المائدة : 41 ] عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه ، قال : زنى رجل من أهل فَدَك ، فكتب أهل فدك إلى ناسٍ من اليهود بالمدينة ؛ أن سلوا محمداً عن ذلك فإن أمركم بالجلد فخذوه وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه ... فنزلت . [ تفسير القرطبي : 6 / 177 ](/4)
و في سنن أبي داود عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ : زَنَى رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ وَ امْرَأَةٌ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ : اذْهَبُوا بِنَا إِلَى هَذَا النَّبيِّ فَإِنَّهُ نَبِيٌّ بُعِثَ بِالتَّخْفِيفِ فَإِنْ أَفْتَانَا بِفُتْيَا دُونَ الرَّجْمِ قَبِلْنَاهَا وَاحْتَجَجْنَا بِهَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْنَا فُتْيَا نَبيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِكَ .
المسألة الخامسة :
تشبّثَ دُعاة التيسير من المفتين المُعاصِرين بجملة من الشُبَه ، انتصاراً لمذهبهم ، و من ذلك :
شبهتهم الأولى و ردُّها : استدلالهم بعموم النصوص الدالّة على أنّ التيسير و رَفع المشقّة مقصد من مقاصَد التشريع الإسلامي ، كقوله تعالى :
( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) [ البقرة : 185 ] .
و يغفلون عن صدر هذه الآية الذي فيه رَفعُ رُخصة الفطر في رَمضان مع الكفّارة لمن قدِرَ على الصوم ، و هو ما ثبتَ بقوله تعالى في الآية السابقة لها : ( وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ) .
رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ سَلَمَة بْن الأَكْوَع أَنَّهُ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ ( وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ) ، كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِر و يَفْتَدِي حَتَّى نَزَلَتْ الآيَة الَّتِي بَعْدهَا فَنَسَخَتْهَا.
قلتُ : و هذا من قبيل النسخ بالأشد ، و هو من التشديد و ليس من التيسير ، في شيءٍ ، فتأمّل !
و مثل ذلك استدلالهم بقوله تعالى : ( وَ مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) [ الحج : 78 ] ، متغافلين عن صدر الآية ذاتها ، و هو قوله تعالى : ( وَ جَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ ) مع أنّه لا مشقّة تفوق مشقّة الجهاد و التكليف به ، فبقي أن يُحمل رَفع الحرج على ما رُفِعَ بنصّ الشارع الحكيم سبحانه ، لا بآراء المُيَسّرين .
و من هذا القبيل ما رواه الشيخان في صحيحيهما ، و أبو داود في سننه , و أحمد في مسنده ، عَنْ أم المؤمنين عَائِشَةَ رضى الله عنها ، قَالَتْ : ( مَا خُيِّرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلاَّ اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا ، مَا لَمْ يَأْثَمْ ، فَإِذَا كَانَ الإِثْمُ كَانَ أَبْعَدَهُمَا مِنْهُ ) .
و ما رواه البخاري في كتاب العلم من صحيحه ، و مسلم في الجهاد و السير عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه , عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ : « يَسِّرُوا و لاَ تُعَسِّرُوا ، و بَشِّرُوا و لاَ تُنَفِّرُوا » .
و في روايةٍ للبخاري في كتاب الأدب : « يَسِّرُوا و لاَ تُعَسِّرُوا ، و سَكِّنُوا و لاَ تُنَفِّرُوا » .
و روى مسلم و أبو داود عَنْ أَبِى مُوسَى رضي الله عنه قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا بَعَثَ أَحَداً مِنْ أَصْحَابِهِ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ قَالَ : « بَشِّرُوا و لاَ تُنَفِّرُوا و يَسِّرُوا و لاَ تُعَسِّرُوا » .
قلتُ : جميع ما تقدّم من نصوص الوحيَين ، و كثيرٌ غيره ممّا يقرّر قيام الشريعة الغرّاء على اليُسر و نفي الضرر ، و رفع الحَرَج ، فهِمَه الميسّرون على غير وجهه ، و حمّلوه ما لا يحتمل ، متعنّتين في توجيهه لنُصرة شُبهَتهم القاضيةَ بجَعل التيسير في الفتوى منهاجاً رَشَداً ، و فيما يلي نقضُ غَزلهم ، و كشف شبههم إن شاء الله :
أوّلاً : ثمّة فرقٌ لغويٌ بين اليُسر و التيسير ، فاليُسر صفةٌ لازمةٌ للشريعة الإسلاميّة ، و مقصدٌ من مقاصدها التشريعيّة جاء به الكتاب و السنّة ، و أنزله النبيّ صلّى الله عليه و سلّم و السلفُ الصالحُ منزلَتَه ، أمّا التيسير فهو من فِعل البشر ، و يعني جَعلَ ما ليس بميسَّرٍ في الأصل يسيراً ، و هذا مَوطِنُ الخَلل .
ثانياً : إن اختيار النبيّ صلّى الله عليه و سلّم للأيسر في كلّ أمرين خُيِّرَ بينهما ، كما في حديث عائشة رضي الله عنها المتقدّم فيه أربع نكات لطيفةٍ :
الأولى : أنَّ الاختيار واقع منه صلّى الله عليه و سلّم فيما خُيّر فيه ، و ليس في كلّ ما أوحيَ إليه أو كُلّف به ، هو أو أمّته ، و مثال ذلك الاختلاف في صيَغ الأذان ، و تكبيرات العيد ، و ما إليه حيث لا يعيبُ من أخَذ بهذا على من أخذَ بذاك من العلماء ، لثبوت الروايات بالأمرين كليهما .
و الثانيّة : تقييد التخيير بما لم يكُن إثماً ، و لا شكّ أنّ العدول عن الراجح إلى المرجوح ، أو تعطيل ( و من باب أولى رد ) ما ثبت من الأدلّة الشرعيّة إثمٌ يُخشى على صاحبه من الضلال ، فلا وَجه لاعتباره من التيسير المشروع في شيء .(/5)
و الثالثةُ : أنّ التخيير المذكور في الحديث يُحمل على أمور الدنيا لا الدِّين ، و هذا ما فهمه أهل العِلم قَبلَنا ، و منهم الحافظ ابن حجر ، حيث قال رحمه الله في الفتح : ( قولُه بين أمرين : أي من أمور الدنيا. لأن أمور الدين لا إثم فيها ... و وقوع التخيير بين ما فيه إثم و ما لا إثم فيه من قِبَل المخلوقين واضح ، و أمَّا من قبل الله ففيه إشكال ؛ لأن التخيير إنما يكون بين جائِزَين ) [ فتح الباري : 6 / 713 ] .
و الرابعة : أنّ هذا الخبر ما لم يُقيّد بما سبق سيكون معارضاً باختيار النبيّ صلّى الله عليه و سلّم الأشقَّ على نفسه ، كقيامه الليل حتّى تتشقق قدَماه مع أنّ الله تعالى قد غَفَر له ما تقدّم من ذنبه و ما تأخّر . قال الحافظ في الفتح : ( لكن إذا حملناه على ما يفضي إلى الإثم أمكن ذلك بأن يخيره بين أن يفتح عليه من كنوز الأرض ما يخشى مع الاشتغال به أن لا يتفرغ للعبادة مثلاً ، و بين أن لا يُؤتِيَه من الدنيا إلا الكفاف ، و إن كانت السعة أسهل منه ، و الإثم على هذا أمر نسبي ، لا يراد منه معنى الخطيئة لثبوت العصمة له ) [ فتح الباري : 6 / 713 ].
ثالثاً : لا تكليف بدون مشقّة ، و أن كانت المشقّة الحاصلة بكلِّ تكليفٍ بحَسَبه ، و هي متفاوتة ، فإذا جاز لنا تخيّر أيسر المذاهب دفعاً لكلّ مشقّةٍ ، ترتّبَ على ذلك إسقاط كثيرٍ من التكاليف الشرعيّة ...
قال الإمام شمس الدين ابن القيّم رحمه الله : ( لو جاز لكل مشغول وكل مشقوق عليه الترخيص ضاع الواجب واضمحل بالكلية ) [ إعلام الموقعين 2 / 130 ].
و قال أيضاً في مَعرض كلامه عن رُخَص السفَر : ( إنَّ المشقة قد عُلِّقَ بها من التخفيف ما يناسبها ، فإن كانت مشقة مرض و ألم يُضِرُّ به جاز معها الفطر و الصلاة قاعداً أو على جنب ، و ذلك نظير قصر العدد ، و إن كانت مشقّةَ تعبٍ فمصالح الدنيا و الآخرة منوطةٌ بالتعب ، و لا راحة لمن لا تعب له بل على قدر التعب تكون الراحة فتناسبت الشريعة في أحكامها و مصالحها بحمد الله و مَنِّه ) [ إعلام الموقعين 2 / 131 ].
شبهتهم الثانية و ردُّها : زعموا أنّهم مُقلّدون في اختيارهم للأيسر ، و اعتمادهم إيّاه في الفتوى ، و أنّ لهم سَلفٌ فيما أفتوا به ، و لو كان قولاً ضعيفاً ، أو شاذّاً ، أو مَرجوحاً ، بل صاروا ينكِرون على من خالَفهم بغير دليل ، لا لشيءٍ سوى لأنّه لم يذهَب مَذهبَهُم ، و لم يَصِر إلى ما صاروا إليه من الإفراط في التيسير ، و لو بتعطيل أو إغفال أدلّة مخالفيهم .
و هُم في هذا مَحجوجون بانعقاد الإجماع على خلاف منهجهم ، فقد قال الإمام القرّافي رحمه الله ( أمّا الحُكم و الفتيا بالمرجوح فهو خلاف الإجماع ) [ مواهب الجليل : 6 / 91 ] .
و قال الإمام النووي : ( لو جاز اتّباع أي مذهب شاء لأفضى إلى أن يلتقط رخص المذاهب متَّبِعاً لهواه ، و يَتخيَّرَ بين التحليل و التحريم و الوجوب و الجواز ، و ذلك يؤدي إلى الانحلال من رِبقة التكليف ) [ المهذّب : 1 / 5 ] .
و قال الإمام الشاطبي رحمه الله : ( رُبَّما وقع الإفتاء في المسألة , فيقال : لِمَ تمنع و المسألة مختلف فيها ؟ فيجعل الخلاف حجة في الجواز لمجرد كونها مختلفا فيها , لا لدليل يدل على صحة الجواز, ولا لتقليد من هو أولى بالتقليد من القائل بالمنع ، و هو عين الخطأ على الشريعة حيث جعل ما ليس بمعتمد معتمداً , و ما ليس بحجة حجة ) [ الموافقات : 4 / 78 ] .
و قال السيخ منصور البهوتي الحنبلي : ( و ليس لمن انتسب إلى مذهب إمام إذا استفتى في مسألة ذات قولين أو وجهين ، بأن يتخير و يعمل بأيّهما شاء ، بل يُراعي ألفاظَ الأئمة و متأخرهما و أقربهما من الكتاب و السنة ) [ كشاف القناع : 6 / 300 ] .
شبهتهم الثالثة و ردُّها : تذرّعوا بما روي عن السلف و الأئمة المتّبعين بإحسان ، من استحباب الأخذ بالرُخص ، و من ذلك ، قول قتادة رحمه الله : ( ابتغوا الرخصة التي كَتَب الله لكم ) [ انظره في : تحفة المولود ، ص : 8 ] .
و قول سفيان الثوري رحمه الله : ( إنَّما العلم عندنا الرخصة من ثقة , فأما التشديد فيُحسنه كل أحد ) [ آداب الفتوى للنووي ، ص : 37 ] .
و قول شيخ الإسلام ابن تيميّة : ( إذا فعل المؤمن ما أُبيح له قاصداً العدول عن الحرام لحاجته إليه فإنّه يثاب على ذلك ) [ مجموع الفتاوى : 7 / 48 ] .
و قول ابن القيّم : ( الرخص في العبادات أفضل من الشدائد ) [ شرح العمدة : 2 / 541 ] .
إلى غير ذلك ممّا وقفوا عليه فاحتجّوا به ، أو غاب عنهم فأغفلوه .
و لو تأمّلنا ما أوردناه ( و لا أعلَم لهم استدلالاً بغيره من أقوال الأئمّة ) لما رأينا فيه دليلاً على التيسير الذي يُدندنُ حَوله المعاصرون ، فقتادةُ يدعوا إلى الترخّص حيث شرع الله الرخصة ، و لا يقول : رخِّصوا باستحسانكم ، أو لمجرّد التخفيف عن العباد أو مسايرتهم .(/6)
و ابن تيميّة يذكر الاستغناء بالحلال عن الحرام ، و ليس الإفتاء بعدَم حُرمةِ الحرَام أصلاً ، أو اختيار قول من يعدل عن التحريم إلى التحليل أو مجرّد الكراهة ، و إن ضَعُفَت حُجّته ، و وَهت شُبهته .
أمّا ابن القيّم فكلامه في الرخص في العبادات ، و هذا لا خلاف فيه ، أمّا دُعاة التيسير فقد وقعوا في تحليل الحرام ، و تفي الكراهة عن المكروه ، و شتّان ما بين المذهبين .
و ما يُروى عن سفيان رَحمه الله لا يؤخذ منه الترخيص بإسقاط الواجب ، أو تحليل المحرّم ، و لكنّه موجّه إلى ما ينبغي أن يفتيَ به العالم من وَقع في حرَج متيقّن ليعينه على القيام بما وَجَبَ عليه ، لا ليُسقِطه عنه .
قال النووي : ( و أما من صحَّ قصدُه , فاحتَسَبَ في طلب حيلةٍ لا شُبهةَ فيها , لتخليصٍ من ورطة يمينٍ و نحوها , فذلك حسن جميل ، و عليه يُحمل ما جاء عن بعض السلف من نحو هذا , كقول سفيان : إنَّما العلم عندنا الرخصة من ثقة , فأما التشديد فيُحسنه كل أحد ) [ آداب الفتوى للنووي ، ص : 37 ] .
و الله أعلم .
المسألة السادسة :
التساهل في الفتيا بغير مستندٍ شرعيٍ مذمومٌ كُلُّه ، و إن كانت بَعضُ صوره أشنع من بعض ، و ذلك بحسب الباعث على التيسير ، و قد ذكر بعض أهل العلمِ صوراً من التيسير المذموم ، و من ذلك قول الإمام النووي رحمه الله : ( و من التساهل أن تحمله الأغراض الفاسدة على تتبع الحيل المحرمة أو المكروهة , و التمسُّكِ بالشبه طلباً للترخيص لمن يروم نفعَه أو التغليظَ على من يريد ضُرَّه ) [ آداب الفتوى للنووي ، ص : 37 ] .
و أشنع أنواع التيسير ما يفتي به المتزلّفون المتملّقون للحكّام من تبرير المنكرات ، أو التهوين من شأن الواجبات ، تبعاً للأغراض و الشهوات .
قال محدّث المغرب أبو الفضل عبد الله بن الصديق الغماري رحمه الله : ( أمَّا الذين يُسارعون إلى إباحة بعض المحرمات , و يصدرون فتاوى يُرضون بها رؤساء بعض الحكومات ، و قد تختلف فتاواهم بالتحليل و التحريم حسب اختلاف الأغراض و الشهوات , فهؤلاء مجتهدون في محو الدين , مُجدّون في تغيير أحكامه ، و لن يُفلتوا من عقاب الله تعالى ، و لا من شديد انتقامه ، و ما الله بغافل عما يعملون ) [ خواطر دينيّة و بحوث غالية لابن الصديق الغماري ، ص : 161 ].
المسألة السابعة :
بقيَ أنّ نبيّن المنهج الحق في الإفتاء و الترجيح و العمل ، و هو الذي نوصي به أنفسنا و إخواننا ، و ليسَ إلا اتباع الكتاب و السنّة ، و ما شهدا بصحّته من الأدلّة الشرعيّة ( الإجماع و القياس المنضبط ) ، و تقرير ذلك مبسوطٌ في كتب الأئمّة ، و لا حاجة لتقصّيه في هذه العُجالة ، بل نكتفي منه بقول الحافظ الذهبي : ( من بلغ رتبة الاجتهاد ، وشهد له بذلك عدة من الأئمة، لم يسغ له أن يقلد ، كما أن الفقيه المبتدئ و العامي الذي يحفظ القرآن أو كثيراً منه لا يسوغ له الاجتهاد أبداً ، فكيف يجتهد و ما الذي يقول ؟ وعلام يبني ؟ و كيف يطير ولما يُريِّش ؟ و القسم الثالث: الفقيه المنتهي اليقظ الفهم المحدث ، الذي قد حفظ مختصراً في الفروع ، و كتاباً في قواعد الأصول و قرأ النحو ، و شارك في الفضائل ، مع حفظه لكتاب الله و تشاغله بتفسيره و قوة مناظرته ، فهذه رتبة من بلغ الاجتهاد المقيَّد ، و تأهل للنظر في دلائل الأئمة ، فمتى وضح له الحق في مسالة و ثبت فيها النص و عمل بها أحد الأئمة الأعلام ... فليتبع فيها الحق و لا يسلك سبيل الرخص ، و ليتورع ، و لا يسعه فيها بعد قيام الحجة عليه تقليد ) . [ سير أعلام النبلاء : 18 / 191 ] .
و الله نسأل أن يوفّقنا ، و الأخ السائل ، و سائر من بلغه كتابُنا هذا إلى خير القول و العمَل ، و أن يعصمنا بمنّه و فضله من الضلالة و الزلل .
و الحمد لله ربّ العالمين .(/7)
حكم الأخوة بين المسلمين والكافرين.....الإمام ابن باز ...
...
28-02-2004
[حكم الأخوة بين المسلمين والكافرين]
لا أخوة بين المسلمين والكافرين ولا دين حق غير دين الإسلام
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد: فقد نشرت صحيفة عكاظ في عددها 3031 الصادر بتاريخ 27 / 8 / 1394هـ خبرا يتعلق بإقامة صلاة الجمعة في مسجد قرطبة وذكرت فيه أن الاحتفال بذلك يعد تأكيدا لعلاقات الأخوة والمحبة بين أبناء الديانتين الإسلام والمسيحية. انتهى المقصود.
كما نشرت صحيفة أخبار العالم الإسلامي في عددها 395 الصادر بتاريخ 29 / 8 / 1394هـ الخبر المذكور وذكرت ما نصه: (ولا شك أن هذا العمل يعتبر تأكيدا لسماحة الإسلام وأن الدين واحد) إلى آخره.
ونظرا إلى ما في هذا الكلام من مصادمة الأدلة الشرعية الدالة على أنه لا أخوة ولا محبة بين المسلمين والكافرين، وإنما ذلك بين المسلمين أنفسهم، وأنه لا اتحاد بين الدينين الإسلامي والنصراني، لأن الدين الإسلامي هو الحق الذي يجب على جميع أهل الأرض المكلفين اتباعه, أما النصرانية فكفر وضلال بنص القرآن الكريم؛ ومن الأدلة على ما ذكرنا قول الله سبحانه في سورة الحجرات: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [سورة الحجرات، الآية: 10] وقول الله عز وجل في سورة الممتحنة: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ الآية. [سورة الممتحنة. الآية:4]
وقوله سبحانه في سورة المجادلة: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة المجادلة، الآية: 22]، وقوله تعالى في سورة التوبة: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [سورة التوبة، الآية: 71]، وقوله سبحانه في سورة المائدة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [سورة المائدة، الآية: 51].
وقوله عز وجل في سورة آل عمران: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [سورة آل عمران، الآية:19] وقوله تعالى في السورة المذكورة: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [سورة آل عمران، الآية: 85]، وقوله عز وجل في سورة المائدة: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [سورة المائدة، الآية: 72] وقوله سبحانه في سورة المائدة أيضا: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ [سورة المائدة، الآية:73] وقوله تعالى في سورة الكهف: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [سورة الكهف، الآيات: 103-105]. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره ولا يخذله ولا يكذبه الحديث رواه مسلم، ففي هذه الآيات الكريمات والحديث الشريف وما جاء في معنى ذلك من الآيات والأحاديث ما يدل دلالة ظاهرة على أن الأخوة والمحبة إنما تكون بين المؤمنين أنفسهم.(/1)
أما الكفار فيجب بغضهم في الله ومعاداتهم فيه سبحانه، وتحرم موالاتهم وتوليهم حتى يؤمنوا بالله وحده ويدعوا ما هم عليه من الكفر والضلال. كما دلت الآيات الأخيرة على أن الدين الحق هو دين الإسلام الذي بعث الله به نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وسائر المرسلين وهذا هو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: نحن معاشر الأنبياء ديننا واحد رواه البخاري في صحيحه، أما ما سواه من الأديان الأخرى سواء كانت يهودية أو نصرانية أو غيرهما فكلها باطلة وما فيها من حق فقد جاءت شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم به أو ما هو أكمل منه؛ لأنها شريعة كاملة عامة لجميع أهل الأرض، أما ما سواها فشرائع خاصة نسخت بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم التي هي أكمل الشرائع وأعمها وأنفعها للعباد في المعاش والمعاد كما قال الله سبحانه يخاطب نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [سورة المائدة، الآية: 48].
وقد أوجب الله على جميع المكلفين من أهل الأرض اتباعه والتمسك بشرعه كما قال تعالى في سورة الأعراف بعد ذكر صفة محمد عليه الصلاة والسلام: فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة الأعراف، الآية: 157].
ثم قال عز وجل بعدها: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [سورة الأعراف، الآية: 158] ونفى الإيمان عن جميع من لم يحكمه فقال سبحانه في سورة النساء: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [سورة النساء، الآية: 65].
وحكم على اليهود والنصارى بالكفر والشرك من أجل نسبتهم الولد لله سبحانه واتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله عز وجل بقوله تعالى في سورة التوبة: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [سورة التوبة، الآيات: 30-33].
ولو قيل إن هذا الاحتفال يعتبر تأكيدا لعلاقات التعاون بين أبناء الديانتين فيما ينفع الجميع لكان ذلك وجيها ولا محذور فيه، ولواجب النصح لله ولعباده رأيت التنبيه على ذلك لكونه من الأمور العظيمة التي قد تلتبس على بعض الناس.
وأسأل الله أن يوفقنا وسائر المسلمين للأخوة الصادقة في الله والمحبة فيه ومن أجله، وأن يهدي أبناء البشرية جميعا للدخول في دين الله الذي بعث به نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم والتمسك به وتحكيمه ونبذ ما خالفه؛ لأن في ذلك السعادة الأبدية والنجاة في الدنيا والآخرة، كما أن فيه حل جميع المشاكل في الحاضر والمستقبل إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه.(/2)
حكم الأغاني و الموسيقى ...
بسم الله الرحمن الرحيم
{ قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب }
الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه المصطفى وآله المستكملين الشرفا، ثم أما بعد:
يعيش أهل الإسلام في ظل هذا الدين حياة شريفة كريمة، يجدون من خلالها حلاوة الإيمان، وراحة اليقين والاطمئنان، وأنس الطاعة، ولذة العبادة، وتقف تعاليم هذا الدين حصنا منيعا ضد نوازع الانحراف وأهواء المنحرفين، تصون الإنسان عن نزواته، وتحميه من شهواته، وتقضي على همومه وأحزانه، فما أغنى من والى دين الله وإن كان فقيرا، وما أفقر من عاداه وإن كان غنيا.
وإن مما يحزن المسلم الغيور على دينه أن يبحث بعض المسلمين عن السعادة في غيره، ويبحثون عن البهجة فيما عداه، يضعون السموم مواضع الدواء، طالبين العافية والشفاء في الشهوات والأهواء. ومن ذلك عكوف كثير من الناس اليوم على استماع آلات الملاهي والغناء، حتى صار ذلك سلواهم وديدنهم، متعللين بعلل واهية وأقوال زائفة، تبيح الغناء وليس لها مستند صحيح، يقوم على ترويجها قوم فتنوا باتباع الشهوات واستماع المغنيات.
وكما نرى بعضهم يروج للموسيقى بأنها ترقق القلوب والشعور، وتنمي العاطفة، وهذا ليس صحيحا، فهي مثيرة للشهوات والأهواء، ولو كانت تفعل ما قالوا لرققت قلوب الموسيقيين وهذبت أخلاقهم، وأكثرهم ممن نعلم انحرافهم وسوء سلوكهم.
عباد الله من كان في شك من تحريم الأغاني والمعازف، فليزل الشك باليقين من قول رب العالمين، ورسوله صلى الله عليه وسلم الأمين، في تحريمها وبيان أضرارها، فالنصوص كثيرة من الكتاب والسنة تدل على تحريم الأغاني والوعيد لمن استحل ذلك أو أصر عليه، والمؤمن يكفيه دليل واحد من كتاب الله أو صحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف إذا تكاثرت وتعاضدت الأدلة على ذلك. ولقد قال سبحانه و تعالى في كتابه العزيز: { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا }
ونظرا لخطورة الأغاني، وأنها سبب من أسباب فتنة الناس وإفسادهم وخاصة الشباب منهم، أحببت أن أجمع لكم هذا البحث المختصر والذي يحتوي على موقف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأئمة أهل العلم من الغناء والموسيقى.
وهذه المادة هي محاولة أردت بها خدمة دين الله عز وجل، ومنفعة المسلمين، سائلا الله تبارك وتعالى أن ينفع بها وأن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم، وهو حسبنا و نعم الوكيل.
أدلة التحريم من القرآن الكريم:
قوله تعالى: { ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين } [سورة لقمان: 6]
قال حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنهما: هو الغناء، وقال مجاهد رحمه الله: اللهو: الطبل (تفسير الطبري) وقال الحسن البصري رحمه الله: "نزلت هذه الآية في الغناء والمزامير" (تفسير ابن كثير).
قال ابن القيم رحمه الله: "ويكفي تفسير الصحابة والتابعين للهو الحديث بأنه الغناء فقد صح ذلك عن ابن عباس وابن مسعود، قال أبو الصهباء: سألت ابن مسعود عن قوله تعالى: { ومن الناس من يشتري لهو الحديث } ، فقال: والله الذي لا إله غيره هو الغناء - يرددها ثلاث مرات -، وصح عن ابن عمر رضي الله عنهما أيضا أنه الغناء.." (إغاثة اللهفان لابن القيم).
وكذلك قال جابر وعكرمة وسعيد بن جبير ومكحول وميمون بن مهران وعمرو بن شعيب وعلي بن بديمة و غيرهم في تفسير هذه الآية الكريمة. قال الواحدي رحمه الله: وهذه الآية على هذا التفسير تدل على تحريم الغناء (إغاثة اللهفان).
ولقد قال الحاكم في مستدركه عن تفسير الصحابي: "ليعلم طالب هذا العلم أن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي و التنزيل عند الشيخين حديث مسند". وقال الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه إغاثة اللهفان معلقا على كلام الحاكم: "وهذا وإن كان فيه نظر فلا ريب أنه أولى بالقبول من تفسير من بعدهم، فهم أعلم الأمة بمراد الله من كتابه، فعليهم نزل وهم أول من خوطب به من الأمة، وقد شاهدوا تفسيره من الرسول علما وعملا، وهم العرب الفصحاء على الحقيقة فلا يعدل عن تفسيرهم ما وجد إليه سبيل".
وقال تعالى: { واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا } [سورة الإسراء:64]
جاء في تفسير الجلالين: (واستفزز): استخف، (صوتك): بدعائك بالغناء والمزامير وكل داع إلى المعصية و هذا أيضا ما ذكره ابن كثير والطبري عن مجاهد. وقال القرطبي في تفسيره: "في الآية ما يدل على تحريم المزامير والغناء واللهو..وما كان من صوت الشيطان أو فعله وما يستحسنه فواجب التنزه عنه".(/1)
و قال الله عز وجل: { والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما } [الفرقان: 72].
وقد ذكر ابن كثير في تفسيره ما جاء عن محمد بن الحنفية أنه قال: الزور هنا الغناء، وجاء عند القرطبي والطبري عن مجاهد في قوله تعالى: { والذين لا يشهدون الزور } قال: لا يسمعون الغناء. وجاء عن الطبري في تفسيره: "قال أبو جعفر: وأصل الزور تحسين الشيء، ووصفه بخلاف صفته، حتى يخيل إلى من يسمعه أو يراه، أنه خلاف ما هو به، والشرك قد يدخل في ذلك لأنه محسن لأهله، حتى قد ظنوا أنه حق وهو باطل، ويدخل فيه الغناء لأنه أيضا مما يحسنه ترجيع الصوت حتى يستحلي سامعه سماعه" (تفسير الطبري).
وفي قوله عز وجل: { و إذا مروا باللغو مروا كراما } قال الإمام الطبري في تفسيره: { وإذا مروا بالباطل فسمعوه أو رأوه، مروا كراما. مرورهم كراما في بعض ذلك بأن لا يسمعوه، وذلك كالغناء }
أدلة التحريم من السنة النبوية الشريفة:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر و الحرير و الخمر و المعازف، و لينزلن أقوام إلى جنب علم، يروح عليهم بسارحة لهم، يأتيهم لحاجة، فيقولون: ارجع إلينا غدا، فيبيتهم الله، ويضع العلم، ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة » (رواه البخاري تعليقا برقم 5590، ووصله الطبراني والبيهقي، وراجع السلسلة الصحيحة للألباني 91).
وقد أقرّ بصحة هذا الحديث أكابر أهل العلم منهم الإمام ابن حبان، والإسماعيلي، وابن صلاح، وابن حجر العسقلاني، وشيخ الإسلام ابن تيمية، والطحاوي، وابن القيم، والصنعاني، وغيرهم كثير.
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: "ولم يصنع من قدح في صحة هذا الحديث شيئا كابن حزم نصرة لمذهبه الباطل في إباحة الملاهي، وزعم أنه منقطع لأن البخاري لم يصل سنده به". وقال العلامة ابن صلاح رحمه الله: "ولا التفات إليه (أى ابن حزم) في رده ذلك..وأخطأ في ذلك من وجوه..والحديث صحيح معروف الاتصال بشرط الصحيح" (غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب لإمام السفاريني).
وفي الحديث دليل على تحريم آلات العزف والطرب من وجهين:
• أولاهما قوله صلى الله عليه وسلم: "يستحلون"، فإنه صريح بأن المذكورات ومنها المعازف هي في الشرع محرمة، فيستحلها أولئك القوم.
• ثانيا: قرن المعازف مع ما تم حرمته وهو الزنا والخمر والحرير، ولو لم تكن محرمة - أى المعازف - لما قرنها معها" (السلسلة الصحيحة للألباني 1/140-141 بتصرف). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فدل هذا الحديث على تحريم المعازف، والمعازف هي آلات اللهو عند أهل اللغة، وهذا اسم يتناول هذه الآلات كلها" (المجموع).
وروى الترمذي في سننه عن جابر رضي الله عنه قال: « خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عبد الرحمن بن عوف إلى النخيل، فإذا ابنه إبراهيم يجود بنفسه، فوضعه في حجره ففاضت عيناه، فقال عبد الرحمن: أتبكي وأنت تنهى عن البكاء؟ قال: إني لم أنه عن البكاء، وإنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نغمة لهو ولعب ومزامير شيطان، وصوت عند مصيبة: خمش وجوه وشق جيوب ورنة » (قال الترمذي: هذا الحديث حسن، وحسنه الألباني صحيح الجامع 5194).
وقال صلى الله عليه و سلم: « صوتان ملعونان، صوت مزمار عند نعمة، و صوت ويل عند مصيبة » (إسناده حسن، السلسلة الصحيحة 427)
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « ليكونن في هذه الأمة خسف، وقذف، ومسخ، وذلك إذا شربوا الخمور، واتخذوا القينات، وضربوا بالمعازف » (صحيح بمجموع طرقه، السلسلة الصحيحة 2203)
قال صلى الله عليه وسلم: « إن الله حرم على أمتي الخمر، والميسر، والمزر، والكوبة، والقنين، وزادني صلاة الوتر » (صحيح، صحيح الجامع 1708). الكوبة هي الطبل، أما القنين هو الطنبور بالحبشية (غذاء الألباب).
وروى أبي داوود في سننه عن نافع أنه قال: « سمع ابن عمر مزمارا، قال: فوضع أصبعيه على أذنيه، ونأى عن الطريق، وقال لي: يا نافع هل تسمع شيئا؟ قال: فقلت: لا ! قال: فرفع أصبعيه من أذنيه، وقال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فسمع مثل هذا! فصنع مثل هذا » (حديث صحيح، صحيح أبي داوود 4116).
و علق على هذا الحديث الإمام القرطبي قائلا: "قال علماؤنا: إذا كان هذا فعلهم في حق صوت لا يخرج عن الاعتدال، فكيف بغناء أهل هذا الزمان وزمرهم؟!" (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي).
أقوال أئمة أهل العلم:(/2)
قال الإمام عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه: الغناء مبدؤه من الشيطان وعاقبته سخط الرحمن (غذاء الألباب)، ولقد نقل الإجماع على حرمة الاستماع إلى الموسيقى والمعازف جمع من العلماء منهم: الإمام القرطبي وابن الصلاح وابن رجب الحنبلي. فقال الإمام أبو العباس القرطبي: الغناء ممنوع بالكتاب والسنة وقال أيضا: "أما المزامير والأوتار والكوبة (الطبل) فلا يختلف في تحريم استماعها ولم أسمع عن أحد ممن يعتبر قوله من السلف وأئمة الخلف من يبيح ذلك، وكيف لا يحرم وهو شعار أهل الخمور والفسوق ومهيج الشهوات والفساد والمجون؟ وما كان كذلك لم يشك في تحريمه ولا تفسيق فاعله وتأثيمه" (الزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر الهيثمي). وقال ابن الصلاح: الإجماع على تحريمه ولم يثبت عن أحد ممن يعتد بقوله في الإجماع والاختلاف أنه أباح الغناء..
قال القاسم بن محمد رحمه الله: الغناء باطل، والباطل في النار.
وقال الحسن البصري رحمه الله: إن كان في الوليمة لهو –أى غناء و لعب-، فلا دعوة لهم (الجامع للقيرواني).
قال النحاس رحمه الله: هو ممنوع بالكتاب والسنة، وقال الطبري: وقد أجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء، والمنع منه. و يقول الإمام الأوزاعي رحمه الله: لا تدخل وليمة فيها طبل ومعازف.
قال ابن القيم رحمه الله في بيان مذهب الإمام أبي حنيفة: "وقد صرح أصحابه بتحريم سماع الملاهي كلها كالمزمار والدف، حتى الضرب بالقضيب، وصرحوا بأنه معصية توجب الفسق وترد بها الشهادة، وأبلغ من ذلك قالوا: إن السماع فسق والتلذذ به كفر، وورد في ذلك حديث لا يصح رفعه، قالوا ويجب عليه أن يجتهد في أن لا يسمعه إذا مر به أو كان في جواره" (إغاثة اللهفان) وروي عن الإمام أبي حنيفة أنه قال: الغناء من أكبر الذنوب التي يجب تركها فورا. وقد قال الإمام السفاريني في كتابه غذاء الألباب معلقا على مذهب الإمام أبو حنيفة: "وأما أبو حنيفة فإنه يكره الغناء ويجعله من الذنوب، وكذلك مذهب أهل الكوفة سفيان وحماد وإبراهيم والشعبي وغيرهم لا اختلاف بينهم في ذلك، ولا نعلم خلافا بين أهل البصرة في المنع منه".
وقد قال القاضي أبو يوسف تلميذ الإمام أبى حنيفة حينما سئل عن رجل سمع صوت المزامير من داخل أحد البيوت فقال: "ادخل عليهم بغير إذنهم لأن النهي عن المنكر فرض".
أما الإمام مالك فإنه نهى عن الغناء و عن استماعه، وقال رحمه الله عندما سئل عن الغناء و الضرب على المعازف: "هل من عاقل يقول بأن الغناء حق؟ إنما يفعله عندنا الفساق" (تفسير القرطبي). والفاسق في حكم الإسلام لا تقبل له شهادة ولا يصلي عليه الأخيار إن مات، بل يصلي عليه غوغاء الناس وعامتهم.
قال ابن القيم رحمه الله في بيان مذهب الإمام الشافعي رحمه الله: "وصرح أصحابه - أى أصحاب الإمام الشافعى - العارفون بمذهبه بتحريمه وأنكروا على من نسب إليه حله كالقاضي أبي الطيب الطبري والشيخ أبي إسحاق وابن الصباغ" (إغاثة اللهفان). وسئل الشافعي رضي الله عنه عن هذا؟ فقال: أول من أحدثه الزنادقة في العراق حتى يلهوا الناس عن الصلاة وعن الذكر (الزواجر عن اقتراف الكبائر).
قال ابن القيم رحمه الله: "وأما مذهب الإمام أحمد فقال عبد الله ابنه: سألت أبي عن الغناء فقال: الغناء ينبت النفاق بالقلب، لا يعجبني، ثم ذكر قول مالك: إنما يفعله عندنا الفساق" (إغاثة اللهفان). وسئل رضي الله عنه عن رجل مات وخلف ولدا وجارية مغنية فاحتاج الصبي إلى بيعها فقال: تباع على أنها ساذجة لا على أنها مغنية، فقيل له: إنها تساوي ثلاثين ألفا، ولعلها إن بيعت ساذجة تساوي عشرين ألفا، فقال: لاتباع إلا أنها ساذجة. قال ابن الجوزي: "وهذا دليل على أن الغناء محظور، إذ لو لم يكن محظورا ما جاز تفويت المال على اليتيم" (الجامع لأحكام القرآن). ونص الإمام أحمد رحمه الله على كسر آلات اللهو كالطنبور وغيره إذا رآها مكشوفة، وأمكنه كسرها (إغاثة اللهفان).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "مذهب الأئمة الأربعة أن آلات اللهو كلها حرام...ولم يذكر أحد من أتباع الأئمة في آلات اللهو نزاعا" (المجموع). وقال أيضا: "فاعلم أنه لم يكن في عنفوان القرون الثلاثة المفضلة لا بالحجاز ولا بالشام ولا باليمن ولا مصر ولا المغرب ولا العراق ولا خراسان من أهل الدين والصلاح والزهد والعبادة من يجتمع على مثل سماع المكاء والتصدية لا بدف ولا بكف ولا بقضيب وإنما أحدث هذا بعد ذلك في أواخر المائة الثانية فلما رآه الأئمة أنكروه" وقال في موضع آخر: "المعازف خمر النفوس، تفعل بالنفوس أعظم مما تفعل حميا الكؤوس" (المجموع)(/3)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في بيان حال من اعتاد سماع الغناء: "ولهذا يوجد من اعتاده واغتذى به لا يحن على سماع القرآن، ولا يفرح به، ولا يجد في سماع الآيات كما يجد في سماع الأبيات، بل إذا سمعوا القرآن سمعوه بقلوب لاهية وألسن لاغية، وإذا سمعوا المكاء والتصدية خشعت الأصوات وسكنت الحركات وأصغت القلوب" (المجموع).
قال الألباني رحمه الله: "اتفقت المذاهب الأربعة على تحريم آلات الطرب كلها" (السلسلة الصحيحة 1/145).
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "إنك لا تجد أحدا عني بالغناء وسماع آلاته إلا وفيه ضلال عن طريق الهدى علما وعملا، وفيه رغبة عن استماع القرآن إلى استماع الغناء". وقال عن الغناء: "فإنه رقية الزنا، وشرك الشيطان، وخمرة العقول، ويصد عن القرآن أكثر من غيره من الكلام الباطل لشدة ميل النفوس إليه ورغبتها فيه". وقال رحمه الله:
حب القرآن وحب ألحان الغنا ... ... في قلب عبد ليس يجتمعان
والله ما سلم الذي هو دأبه ... ... أبدا من الإشراك بالرحمن
وإذا تعلق بالسماع أصاره ... ... عبدا لكل فلانة وفلان
و بذلك يتبين لنا أقوال أئمة العلماء واقرارهم على حرمية الغناء والموسيقى والمنع منهما.
الاستثناء:
ويستثنى من ذلك الدف - بغير خلخال- في الأعياد والنكاح للنساء، وقد دلت عليه الأدلة الصحيحة، قال شيخ الإسلام رحمه الله: "ولكن رخص النبي صلى الله عليه وسلم في أنواع من اللهو في العرس ونحوه كما رخص للنساء أن يضربن بالدف في الأعراس والأفراح، وأما الرجال على عهده فلم يكن أحد على عهده يضرب بدف ولا يصفق بكف، بل ثبت عنه في الصحيح أنه قال: التصفيق للنساء والتسبيح للرجال، ولعن المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء" (المجموع). وأيضا من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "دخل علي أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت به الأنصار في يوم بعاث قالت وليستا بمغنيتين فقال أبو بكر أبمزمور الشيطان في بيت النبي صلى الله عليه وسلم وذلك في يوم عيد الفطر فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا" (صحيح، صحيح ابن ماجه 1540).
الرد على من استدل بحديث الجاريتين في تحليل المعازف:
قال ابن القيم رحمه الله: "وأعجب من هذا استدلالكم على إباحة السماع المركب مما ذكرنا من الهيئة الاجتماعية بغناء بنتين صغيرتين دون البلوغ عند امرأة صبية في يوم عيد وفرح بأبيات من أبيات العرب في وصف الشجاعة والحروب ومكارم الأخلاق والشيم، فأين هذا من هذا، والعجيب أن هذا الحديث من أكبر الحجج عليهم، فإن الصديق الأكبر رضي الله عنه سمى ذلك مزمورا من مزامير الشيطان، وأقره رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه التسمية، ورخص فيه لجويريتين غير مكلفتين ولا مفسدة في إنشادهما ولاستماعهما، أفيدل هذا على إباحة ما تعملونه وتعلمونه من السماع المشتمل على ما لا يخفى؟! فسبحان الله كيف ضلت العقول والأفهام" (مدارج السالكين)،
وقال ابن الجوزي رحمه الله: "وقد كانت عائشة رضي الله عنها صغيرة في ذلك الوقت، و لم ينقل عنها بعد بلوغها وتحصيلها إلا ذم الغناء ، قد كان ابن أخيها القاسم بن محمد يذم الغناء ويمنع من سماعه وقد أخذ العلم عنها" (تلبيس إبليس).
ابن حزم و إباحة الغناء
من المعروف والمشهور أن ابن حزم رحمه الله يبيح الغناء، كما هو مذكور في كتابه المحلى.
لكن الذي نريد أن ننبه عليه أن الناس إذا سمعوا أن ابن حزم أو غيره من العلماء يحللون الغناء، ذهب بالهم إلى الغناء الموجود اليوم في القنوات والإذاعات وعلى المسارح والفنادق وهذا من الخطأ الكبير. فمثل هذا الغناء لا يقول به مسلم، فضلا عن عالم؛ مثل الإمام الكبير ابن حزم. فالعلماء متفقون على تحريم كل غناء يشتمل على فحش أو فسق أو تحريض على معصية.
ونحن نعلم حال الغناء اليوم وما يحدث فيه من المحرمات القطعية، كالتبرج والاختلاط الماجن والدعوة السافرة إلى الزنى والفجور وشرب الخمور، تقف فيه المغنية عارية أو شبه عارية أمام العيون الوقحة والقلوب المريضة لتنعق بكلمات الحب والرومانسية. ويتمايل الجميع رجالا ونساء ويطربون في معصية الله وسخطه.
ولذلك نقول: إن على من يشيع في الناس أن ابن حزم يبيح الغناء، أن يعرف إلى أين يؤدي كلامه هذا إذا أطلقه بدون ضوابط وقيود، فليتق الله وليعرف إلى أين ينتهي كلامه؟! وليتنبه إلى واقعه الذي يحيا فيه.
ثم أعلم كون ابن حزم أو غيره يبيح أمرا جاء النص الصريح عن النبي صلى الله عليه وسلم بتحريمه لا ينفعك عند الله،
قال سليمان التيمي رحمه الله: لو أخذت برخصة كل عالم، أو زلة كل عالم، اجتمع فيك الشر كله.
وقد قال الله جل وعلا: { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } [الحشر:7]،
وقال أيضا: { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } [ النور:63].
ولله در القائل:(/4)
العلم قال الله قال رسوله إن صح ... ... والإجماع فاجهد فيه
وحذار من نصب الخلاف جهالة ... ... بين الرسول وبين رأي فقيه
أما حكم الأناشيد الإسلامية الخالية من الموسيقى فهو كالأتى:
صح أن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام رضوان الله عليهم قد سمعوا الشعر وأنشدوه واستنشدوه من غيرهم، في سفرهم وحضرهم، وفي مجالسهم وأعمالهم، بأصوات فردية كما في إنشاد حسان بن ثابت وعامر بن الأكوع وأنجشة رضي الله عنهم ، وبأصوات جماعية كما في حديث أنس رضي الله عنه في قصة حفر الخندق، قال: فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بنا من النصب والجوع قال: « اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة » . فقالوا مجيبين: نحن الذين بايعوا محمدا، على الجهاد ما بقينا أبدا" (رواه البخاري 3/1043).
وفي المجالس أيضا؛ أخرج ابن أبي شيبة بسند حسن عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: "لم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منحرفين ولا متماوتين، كانوا يتناشدون الأشعار في مجالسهم، وينكرون أمر جاهليتهم، فإذا أريد أحدهم عن شيء من دينه دارت حماليق عينه" (مصنف ابن أبي شيبة 8/711).
فهذه الأدلة تدل على أن الإنشاد جائز، سواء كان بأصوات فردية أو جماعية، والنشيد في اللغة العربية: رفع الصوت بالشعر مع تحسين وترقيق (القاموس المحيط). وهناك ضوابط تراعى في هذا الأمر وضعها لنا أهل العلم وهي: عدم استعمال الآلات والمعازف المحرمة في النشيد، عدم الإكثار منه وجعله ديدن المسلم وكل وقته وتضييع الواجبات والفرائض لأجله، أن لا يكون بصوت النساء، وأن لا يشتمل على كلام محرم أو فاحش، وأن لا يشابه ألحان أهل الفسق والمجون، وأن يخلو من المؤثرات الصوتية التي تنتج أصواتا مثل أصوات المعازف. وأيضا يراعى أن لا يكون ذا لحن يطرب به السامع ويفتنه كالذين يسمعون الأغاني.
وللاستزادة يمكن مراجعة: كتاب الإعلام بنقد كتاب الحلال والحرام للشيخ العلامة صالح بن فوزان الفوزان، وكتاب السماع لشيخ الإسلام ابن القيم، وكتاب تحريم آلات الطرب للشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله.
وختاما..
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه إغاثة اللهفان: "اعلم أن للغناء خواص لها تأثير في صبغ القلب بالنفاق، ونباته فيه كنبات الزرع بالماء.
فمن خواصه: أنه يلهي القلب ويصده عن فهم القرآن وتدبره، والعمل بما فيه، فإن الغناء والقرآن لا يجتمعان في القلب أبدا لما بينهما من التضاد، فإن القرآن ينهى عن اتباع الهوى، ويأمر بالعفة، ومجانبة شهوات النفوس، وأسباب الغي، وينهى عن اتباع خطوات الشيطان، والغناء يأمر بضد ذلك كله، ويحسنه، ويهيج النفوس إلى شهوات الغي فيثير كامنها، ويزعج قاطنها، ويحركها إلى كل قبيح، ويسوقها إلى وصل كل مليحة ومليح، فهو والخمر رضيعا لبان، وفي تهييجهما على القبائح فرسا رهان..إلخ".
فيا أيها المسلمون: نزهوا أنفسكم وأسماعكم عن اللهو ومزامر الشيطان، وأحلوها رياض الجنان، حلق القرآن، وحلق مدارسة سنة سيد الأنام، عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، تنالوا ثمرتها، إرشادا من غي، وبصيرة من عمي، وحثا على تقى، وبعدا عن هوى، وحياة القلب، ودواء وشفاء، ونجاة وبرهانا، وكونوا ممن قال الله فيهم: { والذين هم عن اللغو معرضون }.
وفق الله المسلمين للتمسك بدينهم والبصيرة في أمرهم إنه قريب مجيب.
و الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات..
كتبه حامدا و مصليا
ابن رجب السلفي(/5)
حكم الأناشيد الإسلامية
السؤال :
ما حكم الشرع في الإنشاد و استماع الأناشيد الإسلاميّة ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
النشيد عبارةٌ عن شعرٍ مُلحّن ، و الشعرُ كلامٌ حَسَنُه حسنٌ ، و سيّئه سيّئ .
فإذا كان الكلام حسناً ، و اللحنُ خالٍ من الخُضوع و الخنوع ، و غير مصحوبٍ بمحرّم كالاختلاط و أصوات المعازف على تنوّعها و نحو ذلك ؛ فلا بأس في أدائه و لا في سماعه إن شاء الله .
أمّا ما ذهب إليه بعض المعاصرين من اعتبار النشيد من شعارات أهل التصوّف ، و حمل نهي الأئمّة عن ( السماع ) عليه ، فغيرُ مسلّمٍ به ، لأنّ النشيد معروفٌ مشهورٌ عند الصوفيّة و غيرهم ، و ليس حكراً على أحد ، و إن أكثر عند أهل البِِِدَع فلا يعدّ من شعاراتهم لمجرّد ذلك .
و قد عُرف الحِداء عن السلف ، و عُرِفَ عنهم الرجَز في الجهاد ، و ما هذا و ذاك إلا من الشعر الملحّن ( الإنشاد ) ، و لم يُنكره أحدٌ لذاته ، و لكن أنكره من أنكره لما قد يرافقه من منكرات لا تكاد تخلو منها مجالس السماع عند المتصوّفه و من وافقهم .
و الترخيص في الإنشاد و سماع الأناشيد هو المختار لدى معظم أهل التحقيق من المعاصرين ، و تعميماً للفائدة أذكر أقوال طائفة منهم .
فقد قال محدّث الديار الشاميّة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله ( إذا كانت هذه الأناشيد ذات معانٍ إسلامية ، و ليس معها شيء من المعازف و آلات الطرب كالدفوف و الطبول و نحوِها ، فهذا أمرٌ لا بأس به ، و لكن لابد من بيان شرطٍ مهم لجوازها ، و هو أن تكون خالية من المخالفات الشرعية ؛ كالغلوّ ، و نَحوِه ، ثم شرط آخر ، و هو عدم اتخاذها دَيدَناً ، إذ ذلك يصرِفُ سامعيها عن قراءة القرآن الذي وَرَدَ الحضُّ عليه في السُنَّة النبوية المطهرة ، و كذلك يصرِفُهُم عن طلب العلم النافع ، و الدعوة إلى الله سبحانه ) [العدد الثاني من مجلة الأصالة ، الصادر بتاريخ 15 جمادى الآخرة 1413هـ ، ص : 73 ] .
و قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله : ( الأناشيد الإسلامية مثل الأشعار؛ إن كانت سليمة فهي سليمة ، و إن كانت فيها منكر فهي منكر ... و الحاصل أن البَتَّ فيها مطلقاً ليس بسديد ، بل يُنظر فيها ؛ فالأناشيد السليمة لا بأس بها ، والأناشيد التي فيها منكر أو دعوة إلى منكرٍ منكرةٌ ) [ راجع هذه الفتوى في شريط أسئلة و أجوبة الجامع الكبير ، رقم : 90 / أ ] .
و قال الشيخ محمد الصالح العثيمين رحمه الله : ( الأناشيد الإسلامية كثُرَ الكلام حولها، و أنا لم أستمع إليها منذ مدة طويلةٍ ، و هي أول ما ظهرت كانت لا بأس بها ، ليس فيها دفوف ، و تُؤدَّى تأديةً ليس فيها فتنة ، و ليست على نغمات الأغاني المحرمة ، لكن تطورت و صارَ يُسمع منها قرع يُمكن أن يكون دُفاً ، و يمكن أن يكون غيرَ دُفٍّ. كما تطورت باختيار ذوي الأصوات الجميلة الفاتنة ، ثم تطورت أيضاً حتى أصبحت تؤدى على صفة الأغاني المحرمة ، لذلك: أصبح في النفس منها شيء و قلق ، و ل ايمكن للإنسان أن يفتي بإنها جائزة على كل حال و لا بإنها ممنوعة على كل حال ، لكن إن خلت من الأمور التي أشرت إليها فهي جائزة ، أما إذا كانت مصحوبة بدُفٍ ، أو كانت مختاراً لها ذوو الأصوات الجميلة التي تَفتِن ، أو أُدِّيَت على نغمات الأغاني الهابطة ، فإنّه لايجوز الاستماع إليها ) [ انظر : الصحوة الإسلامية ، ص : 185 ] .
و اعتَبَرَت اللجنةُ الدائمةُ للإفتاءُ الأناشيدَ بديلاً شرعيّاً عن الغناء المحرّم ، إذ جاء في فتاواها ( يجوز لك أن تستعيض عن هذه الأغاني بأناشيد إسلامية ، فيها من الحِكَم و المواعظ و العِبَر ما يثير الحماس و الغيرة على الدين ، و يهُزُّ العواطف الإسلامية ، و ينفر من الشر و دواعيه ، لتَبعَثَ نفسَ من يُنشِدُها ومن يسمعُها إلى طاعة الله ، و تُنَفِّر من معصيته تعالى ، و تَعَدِّي حدوده ، إلى الاحتماءِ بحِمَى شَرعِهِ ، و الجهادِ في سبيله .
لكن لا يتخذ من ذلك وِرْداً لنفسه يلتزمُه ، و عادةً يستمر عليها ، بل يكون ذلك في الفينة بعد الفينة ، عند و جود مناسباتٍ و دواعيَ تدعو إليه ، كالأعراس و الأسفار للجهاد و نحوه ، و عند فتور الهمم ، لإثارة النفس و النهوض بها إلى فعل الخير ، و عند نزوع النفس إلى الشر و جموحها ، لردعها عنه وتنفيرها منه .
و خيرٌ من ذلك أن يتخذ لنفسه حزباً من القرآن يتلوه ، و وِرداً من الأذكار النبوية الثابتة ، فإن ذلك أزكَى للنفس ، و أطهر ، و أقوى في شرح الصدر، و طُمأنينة القلب .(/1)
قال تعالى : ( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ) [ الزمر : 23 ] ، و قال سبحانه : ( الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ * الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ ) [ الرعد : 28 ، 29 ] .
و قد كان دَيدَن الصحابة و شأنهم رضي الله عنهم العناية بالكتاب و السنة حفظاً و دِراسةً و عملاً ، و مع ذلك كانت لهم أناشيد و حداء يترنمون به في مثل حفرِ الخندق ، و بناء المساجد ، و في سيرهم إلى الجهاد ، و نحو ذلك من المناسبات ، دون أن يجعلوه شعارهم ، و يعيروه جلّ همهم و عنايتهم ، لكنه مما يروحون به عن أنفسهم ، و يهيجون به مشاعرهم ) [ انظر النص الكامل لهذه الفتوى في كتاب : فتاوى إسلامية لأصحاب الفضيلة العلماء ، جمع وترتيب محمد بن عبدالعزيز المسند : 4 / 533 ] .
و في فتوى اللجنة إشارةٌ إلى ما رواه مسلم و ابن ماجة و أحمد عن أَنَسَ بْنِ مَالِكٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ : « اللَّهُمَّ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الآخِرَةِ » . قَالَ شُعْبَةُ : أَوْ قَالَ : « اللَّهُمَّ لاَ عَيْشَ إِلاَ عَيْشُ الآخِرَهْ فَأَكْرِمِ الأَنْصَارَ وَ الْمُهَاجِرَهْ » .
و ما رواه الشيخان عَنْ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ ، وَ هُوَ يَنْقُلُ التُّرَابَ حَتَّى وَارَى التُّرَابُ شَعَرَ صَدْرِهِ ، وَ كَانَ رَجُلاً كَثِيرَ الشَّعَرِ ، وَ هُوَ يَرْتَجِزُ بِرَجَزِ عَبْدِ اللَّهِ :
اللَّهُمَّ لَوْ لا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا
وَ لا تَصَدَّقْنَا وَ لا صَلَّيْنَا
فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا
وَثَبِّتْ ا لاقْدَامَ إِنْ لاقَيْنَا
إِنَّ ا لاعْدَاءَ قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا
إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا
يَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ ) .
و نحو ه ما رواه البخاريّ أيضاً عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر فسرنا ليلا فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع : ألا تُسمعنا من هنيهاتك ؟ قال : و كان عامر رجلاً شاعراً ، فنزل يحدو بالقوم يقول :
اللهم لولا أنت ما اهتدينا
و لا تصدقنا ولا صلينا
فاغفر فداء لك ما اقتفينا
و ثبت الأقدام إن لاقينا
و ألقين سكينة علينا
إنا إذا صيح بنا أتينا
و بالصياح عوِّلوا علينا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من هذا السائق ؟ ) ، قالوا : عامر بن الأكوع ، فقال عليه الصلاة و السلام : ( يرحمه الله ) .
و في سُُُنَن النسائي رحمه الله أنّ سلمةَ بن الأكوع ارتجز بأبيات أخيه هذه بين يدي رسول الله صلّى الله عليه و سلّم ، فثدّقه رسول الله عندما قال :
اللهم لولا أنت ما اهتدينا
و لا تصدقنا ولا صلينا
و روى مُسلِم حديث إياس بن سلمة ابن الأكوع ، و فيه رَجزه :
وَأَنَا ابْنُ الْأَكْوَعِ
وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ
و رَجز عمِّه عامر بن الأكوع المتقدّم و قولَه أيضاً في مبارزة مَرحَب ملك يهود :
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي عَامِرٌ
شَاكِي السِّلَاحِ بَطَلٌ مُغَامِرٌ
حتّى إذا رَجَعَ سيفُ عامر رضي الله عنه عليه فقتله ، برزَ عليٌّ لِمَرحب فضَرَبَ رأسه ، فقتله و هو يقول :
أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَهْ
كَلَيْثِ غَابَاتٍ كَرِيهِ الْمَنْظَرَهْ
أُوفِيهِمُ بِالصَّاعِ كَيْلَ السَّنْدَرَهْ
و لم يُنكر رسول الله صلى الله عليه و سلّم شيئاً من ذلك ، فكان بمثابة إقراره ، بل يؤخذ منه اسْتِحْبَاب الرَّجَز فِي الْحَرْب ، كما قرّره النووي في شرح صحيح مسلم .
و قال الحافظ في ( الفتح ) بعد أن ذكر أقوال العلماء في الغناء عند شرح حديث البراء المتقدّم : ( نَقَل ابنُ طاهر في " كتاب السماع " الجوازَ عن كثيرٍ من الصحابة , لكن لم يثبت من ذلك شيء إلا في النصب ( و هو الحداء ) المشار إليه أولاً .
قال ابن عبد البر : الغناء الممنوع ما فيه تمطيط و إفساد لوزن الشِعر طلباً للطرب وخروجاً من مذاهب العرب . و إنما وَرَدت الرخصة في الضرب الأول دون ألحان العجم .
و قال الماوردي : هو الذي لم يزل أهل الحجاز يُرَخِّصُون فيه من غير نكير إلا في حالتين : أن يُكثِرَ منه جداً ، و أن يصحبه ما يمنعه منه .
و احتج من أباحه بأن فيه ترويحاً للنفس , فإن فعله ليقوى على الطاعة فهو مطيع ، أو على المعصية فهو عاص , و إلا فهو مثل التنزه في البستان و التفرج على المارة .(/2)
و أطنب الغزالي في الاستدلال , و مُحصَّله أن الحِداء بالرَجَز و الشعر لم يزل يُفعل في الحضرة النبوية , و ربَّما التمس ذلك , و ليس هو إلا أشعار توزن بأصوات طيبة و ألحان موزونة , و كذلك الغناء أشعار موزونة تؤدى بأصوات مستلذة و ألحان موزونة ) .
و الخلاصة أنّ الأناشيد منها ما هو مشروع و منها ما هو محظور ، فما خالطه المنكر حُرّم لأجله ، و ما سَلِم من المنكر بكافّة صُوَره ، و صَفَت نيّة صاحبه ، فلا بأس فيه ، و الله تعالى أعلم(/3)
حكم الإحتفال بالمولد النبوي
سئل فضيلة الشيخ العلامة محمد بن صالح بن عثيمين حفظه الله كما في " فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين " إعداد وترتيب أشرف عبد المقصود ( 1 / 126 ) : ما الحكم الشرعي في الاحتفال بالمولد النبوي ؟
فأجاب فضيلته :
نرى أنه لا يتم إيمان عبد حتى يحب الرسول صلى الله عليه وسلم ويعظمه بما ينبغي أن يعظمه فيه ، وبما هو لائق في حقه صلى الله عليه وسلم ولا ريب أن بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام ولا أقول مولده بل بعثته لأنه لم يكن رسولاً إلا حين بعث كما قال أهل العلم نُبىءَ بإقرأ وأُرسل بالمدثر ، لا ريب أن بعثته عليه الصلاة والسلام خير للإنسانية عامة ، كما قال تعالى : ( قل يأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورَسُولِهِ النبي الأمي الذين يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون ) ( الأعراف : 158 ) ، وإذا كان كذلك فإن من تعظيمه وتوقيره والتأدب معه واتخاذه إماماً ومتبوعاً ألا نتجاوز ما شرعه لنا من العبادات لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفى ولم يدع لأمته خيراً إلا دلهم عليه وأمرهم به ولا شراً إلا بينه وحذرهم منه وعلى هذا فليس من حقنا ونحن نؤمن به إماماً متبوعاً أن نتقدم بين يديه بالاحتفال بمولده أو بمبعثه ، والاحتفال يعني الفرح والسرور وإظهار التعظيم وكل هذا من العبادات المقربة إلى الله ، فلا يجوز أن نشرع من العبادات إلا ما شرعه الله ورسوله وعليه فالاحتفال به يعتبر من البدعة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " كل بدعة ضلالة " قال هذه الكلمة العامة ، وهو صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بما يقول ، وأفصح الناس بما ينطق ، وأنصح الناس فيما يرشد إليه ، وهذا الأمر لا شك فيه ، لم يستثن النبي صلى الله عليه وسلم من البدع شيئاً لا يكون ضلالة ، ومعلوم أن الضلالة خلاف الهدى ، ولهذا روى النسائي آخر الحديث : " وكل ضلالة في النار " ولو كان الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم من الأمور المحبوبة إلى الله ورسوله لكانت مشروعة ، ولو كانت مشروعة لكانت محفوظة ، لأن الله تعالى تكفل بحفظ شريعته ، ولو كانت محفوظة ما تركها الخلفاء الراشدون والصحابة والتابعون لهم بإحسان وتابعوهم ، فلما لم يفعلوا شيئاً من ذل علم أنه ليس من دين الله ، والذي أنصح به إخواننا المسلمين عامة أن يتجنبوا مثل هذه الأمور التي لم يتبن لهم مشروعيتها لا في كتاب الله ، ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولا في عمل الصحابة رضي الله عنهم ، وأن يعتنوا بما هو بيّن ظاهر من الشريعة ، من الفرائض والسنن المعلومة ، وفيها كفاية وصلاح للفرد وصلاح للمجتمع .
وإذا تأملت أحوال هؤلاء المولعين بمثل هذه البدع وجدت أن عندهم فتوراً عن كثير من السنن بل في كثير من الواجبات والمفروضات ، هذا بقطع النظر عما بهذه الاحتفالات من الغلو بالنبي صلى الله عليه وسلم المؤدي إلى الشرك الأكبر المخرج عن الملة الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه يحارب الناس عليه ، ويستبيح دماءهم وأموالهم وذراريهم ، فإننا نسمع أنه يلقى في هذه الاحتفالات من القصائد ما يخرج عن الملة قطعاً كما يرددون قول البوصيري :
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به
إن لم تكن آخذاً يوم المعاد يدي
فإن من جودك الدنيا وضرتها
سواك عند حدوث الحادث العمم
صفحاً وإلا فقل يا زلة القدم
ومن علومك علم اللوح والقلم
مثل هذه الأوصاف لا تصح إلا لله عز وجل ، وأنا أعجب لمن يتكلم بهذا الكلام إن كان يعقل معناه كيف يسوغ لنفسه أن يقول مخاطباً النبي عليه الصلاة والسلام : ( فإن من جودك الدنيا وضرتها ) ومن للتبعيض والدنيا هي الدنيا وضرتها هي الآخرة ، فإذا كانت الدنيا والآخرة من جود الرسول عليه الصلاة والسلام ، وليس كل جوده ، فما الذي بقي لله عز وجل ، ما بقي لله عز وجل ، ما بقي له شيء من الممكن لا في الدنيا ولا في الآخرة .
وكذلك قوله لله : ( ومن علومك علم اللوح والقلم ) ومن : هذه للتبعيض ولا أدري ماذا يبقى تعالى من العلم إذا خاطبنا الرسول عليه الصلاة والسلام بهذا الخطاب .
ورويدك يا أخي المسلم .. إن كنت تتقي الله عز وجل فأنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلته التي أنزله الله .. أنه عبد الله ورسوله فقل هو عبدالله ورسوله ، واعتقد فيه ما أمره ربه أن يبلغه إلى الناس عامة : ( قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لك إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي ) ( الأنعام : 50 ) ، وما أمره الله به في قوله : ( قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً ) ( الجن : 21 ) ، وزيادة على ذلك : ( قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحداً ) ( الجن : 22 ) ، حتى النبي عليه الصلاة والسلام لو أراد الله به شيئاً لا أحد يجيره من الله سبحانه وتعالى .(/1)
فالحاصل أن هذه الأعياد أو الاحتفالات بمولد الرسول عليه الصلاة والسلام لا تقتصر على مجرد كونها بدعة محدثة في الدين بل هي يضاف إليها شئ من المنكرات مما يؤدي إلى الشرك .
وكذلك مما سمعناه أنه يحصل فيها اختلاط بين الرجال والنساء ، ويحصل فيها تصفيق ودف وغير ذلك من المنكرات التي لا يمتري في إنكارها مؤمن ، ونحن في غِنَى بما شرعه الله لنا ورسوله ففيه صلاح القلوب والبلاد والعباد
فتوى الشيخ :
محمد بن عثيمين حفظه الله
في حكم الاحتفال بالمولد(/2)
حكم الإحتفال بشم النسيم
إعداد: د. طلعت زهران
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، أما بعد:
فإنه يوجد في مصر أعياد بدعية، وأبرزها:
1. عيد ميلاد المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، والذي يحرص ملايين النصارى (وبعضُ جهَّال المسلمين) على إظهار حفاوتهم به عبر تزيين الأشجار وإرسال بطاقات عيد الميلاد إلى الأصدقاء والأقارب، مع نشر الدُّمى والصور التي ترمز إلى ما يسمى ( البابا نويل). ومن عادة كثير من النصارى التجمع ليلة عيد الميلاد في ( بيت لحم ) حيث يذكرون أن المسيح قد ( وُلِد ) هناك، لإقامة قدَّاس منتصف الليل.
2. عيد شم النسيم وهو من أعياد الفراعنة، بدءوا احتفالهم به رسمياً عام 2700 ق.م أي في أواخر الأسرة الفرعونية الثالثة، وحددوا ميعاده بالانقلاب الربيعي، وهو اليوم الذي يتساوى فيه الليل والنهار وقت حلول الشمس في برج الحمل. ويقع في الخامس والعشرين من شهر برمهات –وكانوا يعتقدون أن ذلك اليوم هو أول الزمان، أو بدء خلق العالم. وكان يشترك فيه جميع طبقات الشعب كما كان الفرعون، وكبار رجال الدولة يشاركون فيه.
ثم نقله عنهم بنو إسرائيل، بعد خروجهم مع موسى عليه السلام، وأطلقوا عليه اسم عيد الفصح، والفصح كلمة عبرية معناها (الخروج) أو (العبور)، كما اعتبروا ذلك اليوم – أي يوم بدء الخلق عند الفراعنة- رأساً لسنتهم الدينية العبرية تيمناً بنجاتهم، وبدء حياتهم الجديدة. ثم انتقل إلى الأقباط بعد ذلك، وجعلوه موافقاً لما يزعمونه قيامة المسيح، ولما دخلت النصرانية مصر أصبح عيدهم يلازم عيد الفراعنة- ويقع دائماً في اليوم التالي لعيد الفصح أو عيد القيامة.
وصار في العصر الحاضر عيداً شعبياً يحتفل به كثير من أهل مصر من أقباط ومسلمين وغيرهم. ومن مظاهر الاحتفال به:
خروج المحتفلين بعيد شم النسيم جماعات إلى الحدائق والحقول والمتنزهات؛ ليكونوا في استقبال الشمس عند شروقها، معهم طعامهم وشرابهم، ومعهم أدوات لعبهم، ولهوهم، ويحمل الأطفال سعف النخيل المزين بالألوان والزهور، فتقام حفلات الرقص الزوجي والجماعي على أنغام الناي والمزمار والقيثار، ودقات الدفوف، تصاحبها الأغاني والأناشيد الخاصة بعيد الربيع.
وكان لشم النسيم أطعمته التقليدية المفضلة، (البيض-والفسيخ-والبصل-والخس-والملانة) * أما البيض: فكان مظهراً من مظاهر عيد شم النسيم، من بداية العيد الفرعوني أو عيد الخلق؛ لأنه يرمز عندهم إلى خلق الحياة. وكان الفراعنة ينقشون على البيض الدعوات والأمنيات ويعلقونه في أشجار الحدائق حتى تتلقى بركات نور الإله عند شروقه –حسب زعمهم- فيحقق دعواتهم ويبدأون العيد بتبادل التحية (بدقة البيض)، وهي العادات التي ما زال أكثرها متوارثاً إلى الآن –نعوذ بالله من الضلال-.
أما عادة تلوين البيض بمختلف الألوان وهو التقليد المتبع في جميع أنحاء العالم، فقد بدأ في فلسطين بعد زعم النصارى صلب اليهود للمسيح –عليه السلام- الذي سبق موسم الاحتفال بالعيد، فأظهر النصارى رغبتهم في عدم الاحتفال بالعيد؛ حداداً على المسيح، وحتى لا يشاركوا اليهود أفراحهم. ولكن أحد القديسين أمرهم أن يحتفلوا تخليداً لذكرى المسيح وقيامه، على أن يصبغوا البيض باللون الأحمر ليذكرهم بدمه الذي سفكه اليهود.
ثم انتقلت تلك العادة إلى مصر وحافظ عليه الأقباط بجانب ما توارثوه من العادات والشعائر الفرعونية. ومنهم انتقلت عبر البحر الأبيض إلى روما، وانتشرت في أنحاء العالم النصراني في أوربا وأمريكا، وقد تطورت تلك العادة إلى صباغة البيض بمختلف الألوان وأصبحت الطابع المميز لأعياد شم النسيم والفصح والربيع حول العالم.
*أما الفسيخ (السمك المملح): فكان من بين الأطعمة التقليدية في العيد في الأسرة الفرعونية الخامسة عندما بدأ الاهتمام بتقديس النيل: نهر الحياة، (الإله حعبى) عند الفراعنة الذي ورد في متونه المقدسة عندهم أن الحياة في الأرض بدأت في الماء ويعبر عنها بالسمك الذي تحمله مياه النيل الذي ينبع من الجنة–حسب زعمهم-.
وكانوا يفضلون نوعاً معيناً لتمليحه وحفظه للعيد، أطلقوا عليه اسم (بور) وهو الاسم الذي حور في اللغة القبطية إلى (يور) وما زال يطلق عليه حتى الآن.
أما البصل: فقد ظهر ضمن أطعمة عيد شم النسيم في أواسط الأسرة الفرعونية السادسة وارتبط ظهوره بما ورد في إحدى أساطيرهم التي تروى أن أحد ملوك الفراعنة كان له طفل وحيد، وكان محبوباً من الشعب، فأصيب الأمير الصغير بمرض غامض عجز الأطباء والكهنة والسحرة عن علاجه، وأقعد الأمير الصغير عن الحركة، ولازم الفراش عدة سنوات، امتُنِع الناس خلالها عن إقامة الأفراح والاحتفال بالعيد؛ مشاركة للملك في أحزانه.(/1)
واستدعى الملك الكاهن الأكبر لمعبد آمون، فنسب مرض الأمير الطفل إلى وجود أرواح شريرة تسيطر عليه، وتشل حركته بفعل السحر. وأمر الكاهن بوضع ثمرة من ثمار البصل الأخضر، تحت رأس الأمير، في فراش نومه عند غروب الشمس بعد أن قرأ عليها بعض التعاويذ، ثم شقها عند شروق الشمس في الفجر ووضعها فوق أنفه ليستنشق عصيرها.
كما طلب منهم تعليق حزم من أعواد البصل الأخضر فوق السرير وعلى أبواب الغرفة وبوابات القصر لطرد الأرواح الشريرة.
وغادر الطفل فراشه، وخرج ليلعب في الحديقة وقد شفى من مرضه، فأقام الملك الأفراح في القصر لأطفال المدينة بأكملها، وشارك الشعب في القصر في أفراحه، ولما حل عيد شم النسيم شارك الملك وعائلته، وكبار رجال الدولة الناس في العيد، كما قام الناس –فرحاً منهم بشفاء الأمير- بتعليق حزم البصل على أبواب دورهم. فاحتل البصل الأخضر مكانه على مائدة شم النسيم بجانب البيض والفسيخ.
*أما الخس: فقد عرف ابتداء من الأسرة الفرعونية الرابعة حيث ظهرت صوره من سلال القرابين التي يقربونها لآلتهم من دون الله –تعالى- بورقه الأخضر الطويل وعلى موائد الاحتفال بالعيد، وكان يسمى الهيروغليفية (حب) كما اعتبره الفراعنة من النباتات المقدسة الخاصة بالمعبود (من) إله التناسل، ويوجد رسمه منقوشاً دائماً تحت أقدام الإله في معابده ورسومه –تعالى الله عن إفكهم وشركهم-.
*أما الحمص: فقد أطلق عليه الفراعنة اسم (حور –بيك) أي رأس الصقر؛ لأن الثمرة تشبه رأس حور الصقر المقدس عندهم. وكانوا يعتبرون نضج الثمرة وامتلاءها إعلاناً عن ميلاد الربيع، وهو ما أخذ منه اسم الملانة أو الملآنة.
وكانت الفتيات يصنعن من حبات الملانة الخضراء عقوداً، وأساور يتزين بها في الاحتفالات بالعيد.
* أما التزين بزهور الياسمين وهو محرف من الاسم الفرعوني القديم (ياسمون) وكانوا يصفون الياسمين بأنه عطر الطبيعة التي تستقبل به الربيع، وكانوا يستخرجون منه في موسم الربيع عطور الزينة وزيت البخور لقرابين المعابد عند الاحتفال بالعيد.
**حكم الاحتفال بعيد شم النسيم:
كما هو واضح فإن نشأة هذا العيد وأصله فرعوني، انتقل إلى بني إسرائيل بمخالطتهم للفراعنة، فأخذوه عنهم، ومنهم انتقل إلى النصارى، وحافظ عليه الأقباط –ولا يزالون-.
فالاحتفال به فيه مشابهة للأمة الفرعونية في شعائرها الوثنية، والله تعالى حذرنا من الشرك ودواعيه وما يفضي إليه؛ ولقد قضى الله سبحانه –وهو أحكم الحاكمين- بأن من مات على الشرك فهو مخلد في النار؛ كما قال سبحانه: { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً } [النساء: 116].
والنبي –صلى الله عليه وسلم- يقول: « من تشبه بقوم فهو منهم » رواه أحمد (3/50) وأبو داود (5021).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله تعالى_: (هذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم كما في قوله تعالى: "ومن يتولهم منكم فإنه منهم" أ.هـ (الاقتضاء 1/314).
وقال الصنعاني –رحمه الله تعالى-: (فإذا تشبه بالكفار في زي واعتقد أن يكون بذلك مثله كفر، فإن لم يعتقد ففيه خلاف بين الفقهاء: منهم من قال: يكفر، وهو ظاهر الحديث، ومنهم من قال: لا يكفر ولكن يؤدب) سبل السلام (8/248).
وهذه الاعتقادات التي يعتقدونها في طعام عيد شم النسيم وبيضه وبصله مناقضة لعقيدة المسلم، فكيف إذا انضم إلى ذلك أنها مأخوذة من عباد الأوثان الفراعنة؟ لا شك أن حرمتها أشد؛ لأنها جمعت بين الوقوع في الاعتقاد الباطل وبين التشبه المذموم.
* ذكر الشيخ علي محفوظ رحمه الله تعالى - عضو هيئة كبار العلماء في وقته في مصر: (وناهيك ما يكون من الناس من البدع والمنكرات والخروج عن حدود الدين والأدب في يوم شم النسيم، وما أدراك ما شم النسيم؟ هو عادة ابتدعها أهل الأوثان لتقديس بعض الأيام تفاؤلاً به أو تزلفاً لما كانوا يعبدون من دون الله، فعمرت آلافاً من السنين حتى عمت المشرقين، واشترك فيها العظيم والحقير، والصغير والكبير..) إلى أن قال: (فهل هذا اليوم –يوم شم النسيم- في مجتمعاتنا الشرعية التي تعود علينا بالخير والرحمة؟ كلا، وحسبك أن تنظر في الأمصار بل القرى فترى في ذلك اليوم ما يزري بالفضيلة، ويخجل معه وجه الحياء من منكرات تخالف الدين، وسوءات تجرح الذوق السليم.
فأجدر به أن يسمى يوم الشؤم والفجور!! ترى المركبات والسيارات تتكدس بجماعات عاطلين يموج بعضهم في بعض بين شيب وشبان ونساء وولدان ينزحون إلى البساتين والأنهار، ترى السفن فوق الماء مملوءة بالشبان يفسقون بالنساء على ظهر الماء، ويفرطون في تناول المسكرات، وارتكاب المخازي، فاتبعوا خطوات الشيطان في السوء والفحشاء في البر والبحر، وأضاعوا ثمرة الاجتماع فكان شراً على شر، ووبالاً على وبال.(/2)
تراهم ينطقون بما تصان الأذان عن سماعه، ويخاطبون المارة كما يشاؤون من قبيح الألفاظ، وبذيء العبارات؛ كأن هذا اليوم قد أبيحت لهم فيه جميع الخبائث، وارتفع عنهم فيه حواجز التكليف ( أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون ).
فعلى من يريد السلامة في دينه وعرضه أن يحتجب في بيته في ذلك اليوم المشؤوم، ويمنع عياله وأهله، وكل من تحت ولايته عن الخروج فيه حتى لا يشارك اليهود والنصارى في مراسمهم، والفاسقين الفاجرين في أماكنهم، ويظفر بإحسان الله ورحمته) أ.هـ من الإبداع في مضار الابتداع (275-276).
وبناء على ما قرره شيخ الإسلام فإنه لا يجوز للتجار المصريين من المسلمين أو في أي بلاد يحتفل فيها بشم النسيم أن يتاجروا بالهدايا الخاصة بهذا العيد من بيض منقوش، أو مصبوغ مخصص لهذا العيد، أو سمك مملح لأجله، أو بطاقات تهنئة به، أو غير ذلك مما هو مختص به؛ لأن المتاجرة بذلك فيها إعانة على المنكر الذي لا يرضاه الله تعالى ولا رسوله –صلى الله عليه وسلم-. كما لا يحل لمن أهديت له هدية هذا العيد أن يقبلها؛ لأن في قبولها إقراراً لهذا العيد، ورضاً به.
ولا يجوز تبادل التهاني بعيد شم النسيم؛ لأنه عيد للفراعنة ولمن تبعهم من اليهود والنصارى، وليس عيداً للمسلمين، وإذا هنئ المسلم به فلا يرد التهنئة، قال ابن القيم –رحمه الله-: (وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق مثل: أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم فيقول: عيد مبارك عليك أو تهنأ بهذا العيد ونحوه، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب، بل ذلك أعظم عند الله وأشد مقتاً من التهنئة بشرب الخمر، وقتل النفس، وارتكاب الفرج الحرام ونحوه، وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك وهو لا يدري قبح ما فعل، فمن هنأ عبداً بمعصية أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه) أ.هـ (أحكام أهل الذمة 1/441-442).
كما ينبغي توضيح حقيقة عيد شم النسيم وأمثاله من الأعياد التي عمت في هذا الزمن، وبيان حكم الاحتفال بها لمن اغتر بذلك من المسلمين، والتأكيد على ضرورة تميز المسلم بدينه، ومحافظته على عقيدته، وتذكيره بمخاطر التشبه بالكفار في شعائرهم الدينية كالأعياد، أو بما يختصون به من سلوكياتهم وعاداتهم؛ نصحاً للأمة، وأداءً لواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي بإقامته صلاح البلاد والعباد.
والواجب على علماء مصر أن يحذروا المسلمين من مغبة الاحتفال بعيد شم النسيم، أو مشاركة المحتفلين به، أو إعانتهم بأي نوع من أنواع الإعانة على إقامته، وحث الناس على إنكاره ورفضه؛ لئلا يكون الدين غريباً بين المسلمين.
ولذا فإننا نرى المسلم يأنف من لبس الصليب؛ لأنه شعار النصارى الديني بينما نراه يحتفل بأعيادهم أو يشارك المحتفلين بها، وهذا مثل هذا إن لم يكن أعظم، لأن الأعياد من أعظم الشعائر التي تختص بها الأمم.
وكون عيد شم النسيم تحول إلى عادة كما يقوله كثير من المحتفلين به وهم لا يعتقدون فيه ما يعتقده أهل الديانات الأخرى لا يبيح الاحتفال به؛ ودليل ذلك ما رواه ثابت بن الضحاك –رضي الله عنه- قال: "نذر رجل على عهد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أن ينحر إبلاً ببوانة، فأتى النبي –صلى الله عليه وسلم- فقال: إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة، فقال النبي –صلى الله عليه وسلم-: "هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا، قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا، قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم" رواه أبو داود (3313) وصححه شيخ الإسلام في الاقتضاء (1/436) والحافظ في البلوغ (1405).
فيلاحظ في الحديث أن النبي –صلى الله عليه وسلم- اعتبر أصل البقعة، ولم يلتفت إلى نية هذا الرجل في اختيار هذه البقعة بعينها، ولا سأله عن ذبحه لمن يكون: أهو لله –تعالى- أم للبقعة، لأن ذلك ظاهر واضح، وإنما سأله النبي –صلى الله عليه وسلم- عن تاريخ هذه البقعة: هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ وهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ فلما أجيب بالنفي أجاز الذبح فيها لله تعالى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: "وهذا يقتضي أن كون البقعة مكاناً لعيدهم مانع من الذبح بها وإن نذر، كما أن كونها موضع أوثانهم كذلك، وإلا لما انتظم الكلام ولا حسن الاستفصال، ومعلوم أن ذلك إنما هو لتعظيم البقعة التي يعظمونها بالتعييد فيها أو لمشاركتهم في التعييد فيها، أو لإحياء شعار عيدهم فيها، ونحو ذلك؛ إذ ليس إلا مكان الفعل أو نفس الفعل أو زمانه،.. وإذا كان تخصيص بقعة عيدهم محذوراً فكيف نفس عيدهم؟"أ.هـ (الاقتضاء 1/443).
** الخلاصة(/3)
حيث أننا في وقت إقامة النصارى لاحتفالاتهم: فينبغي أن يُعلم أن جميع ما لدى النصارى وما لدى عموم الكفار من تلك الأعياد بدعة وضلالة، فوق ما عندهم من الكفر بالله، قال الله تعالى { وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ } [ الحديد: 27].
وقد أغنى الله أهل الإسلام بما شرع لهم من عيدي السنة: الفطر والأضحى، وبما جعل لهم من العيد الأسبوعي في يوم الجمعة، وهي أعياد فرح وعبادة لله تعالى، فليس بعد هذا الحق إلا الضلال، ولأجل ذلك نبه العلماء إلى تحريم مشاركة الكفار في شيء من أعيادهم، سواءً أكان ذلك بحضورها أو التشبه بهم في أعمالهم فيها، أو بإعانتهم عليها، أو بتهنئتهم بها. فكل ذلك مما يخالف ما جاءت به الشريعة من وجوب مفاصلة الكفار والحذر من مشابهتهم أو موافقتهم في أعيادهم وعباداتهم.
والله جلَّ شأنه قد شرع لعباده المؤمنين من الأعياد ما يستغنون به عن تقليد غيرهم؛ فقد روى أبو داود والنسائي وغيرهما بسند صحيح عن أنس رضي الله عنه قال: قدِم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: " قد أبدَلَكُم الله تعالى بهما خيراً منهما:يومَ الفطر والأضحى". قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: واستنبط منه كراهة ( تحريم) الفرح في أعياد المشركين والتشبه بهم.
* قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فأما بيع المسلم لهم في أعيادهم ما يستعينون به على عيدهم من الطعام واللباس والريحان ونحو ذلك، أو إهداء ذلك لهم فهذا فيه نوع إعانة على إقامة عيدهم المحرم.
* وقال: وكما لا يتشبه بهم في الأعياد؛ فلا يُعَانُ المسلم المتشبه بهم في ذلك، بل يُنهى عن ذلك، فمن صنع دعوة مخالفة للعادة في أعيادهم لم تجب إجابة دعوته، ومن أهدى للمسلمين هدية في هذه الأعياد مخالفة للعادة في سائر الأوقات غير هذا العيد، لم تقبل هديته، خصوصاً إن كانت الهدية مما يستعان بها على التشبه بهم.
وبهذا يُعلم خطأ عدد من إخواننا وأخواتنا أهل الإسلام الذين يتساهلون بهذه المسألة لينزلقوا في مشاركة الكفار أعيادهم بأي صورةٍ كانت، مع ما فيها من الخلل بالعقيدة.
والأنكى من ذلك أن يذهب وفد من إخواننا؛ فيدخلون عليهم في كنائسهم يهنئونهم بمناسبة ميلاد اللهّّّ!!! والعياذ بالله. وهم بذلك يناقضون مقتضى قول الله: { لم يولد، ولم يولد}.
روى البيهقي بإسناد صحيح في باب كراهية الدخول على المشركين يوم عيدهم في كنائسهم والتشبه بهم يوم نيروزهم ومهرجانهم عن عطاء بن دينار عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "لا تعلموا رطانة الأعاجم ، ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم فإن السخط يتنزل عليهم".
أجمع جميع فقهاء المسلمين على تحريم التشبه بالكفار وحضور أعيادهم وذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك:
أ) قال ابن القاسم من المالكية : من ذبح بطيخة يوم عيدهم فكأنما ذبح خنزيرا .
- ب) وقالت الحنفية : من أهدى إلى رجل في يوم النيروز بيضة فقد كفر. (فذلك مشاركة لهم في الكفر وتعظيم لعيدهم على سبيل الإهداء ).
- فمن كتاب الله تبارك وتعالى وسنة رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين ، ومما ورد من فعل الصحابة الكرام والسلف الصالح وكلام الفقهاء جميعا نستنتج ما يدل دلالة قطعية صريحة على تحريم الاحتفال بأعياد الكفار ومشاركتهم فيها، وأن هذه المشاركة هي مشاركة لهم في الكفر وهي مشاركة لهم في شعيرة من شعائرهم، وهو كفر عملي. وإذا اقترن بهذا العمل اعتقاد أن دينهم حق وأن ما هم عليه صحيح وإقرارهم بذلك، فلا شد أنه يصبح كفرا أكبر مخرجا من الملة والعياذ بالله(/4)
حكم الإحتفال بعيد الميلاد ( رأس السنة )
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، أما بعد:
فإن للنصارى أعياد متوالية في رأس السنة الإفرنجية، وأبرزها عيد ميلاد المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، والذي يحرص ملايين النصارى (وبعضُ جهَّال المسلمين) على إظهار حفاوتهم به عبر تزيين الأشجار وإرسال بطاقات عيد الميلاد إلى الأصدقاء والأقارب، مع نشر الدُّمى والصور التي ترمز إلى ما يسمى ( البابا نويل). ومن عادة كثير من النصارى التجمع ليلة عيد الميلاد في ( بيت لحم ) حيث يذكرون أن المسيح قد ( وُلِد ) هناك، لإقامة قدَّاس منتصف الليل.
وحيث أننا في وقت إقامة النصارى لاحتفالاتهم: فينبغي أن يُعلم أن جميع ما لدى النصارى وما لدى عموم الكفار من تلك الأعياد بدعة وضلالة، فوق ما عندهم من الكفر بالله، قال الله تعالى { وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ } [ الحديد: 27].
وقد أغنى الله أهل الإسلام بما شرع لهم من عيدي السنة: الفطر والأضحى، وبما جعل لهم من العيد الأسبوعي في يوم الجمعة، وهي أعياد فرح وعبادة لله تعالى، فليس بعد هذا الحق إلا الضلال، ولأجل ذلك نبه العلماء إلى تحريم مشاركة الكفار في شيء من أعيادهم، سواءً أكان ذلك بحضورها أو التشبه بهم في أعمالهم فيها، أو بإعانتهم عليها، أو بتهنئتهم بها. فكل ذلك مما يخالف ما جاءت به الشريعة من وجوب مفاصلة الكفار والحذر من مشابهتهم أو موافقتهم في أعيادهم وعباداتهم.
ولا ريب أن الأعياد من أعظم شعائر الدين والمناسك، التي قال الله سبحانه: { لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ } (الحج: 67). فالموافقة فيها موافقةٌ في أخصِّ شرائع الكفر.
وقد كانت عناية الشرع بهذا الأمر بليغة ومؤكدة، فإن الله وصف عباده المؤمنين بمجانبة الكفار في أعيادهم،وذلك قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [ الفرقان: 72] فالمراد بالزور ـ الذي لا يشهده عبادُ الله المؤمنون ـ في هذه الآية هو: أعياد الكفار. وروى البيهقي بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهما، أنه قال:
"من بنى ببلاد الأعاجم، فصنع نيروزهم ومهرجانهم، وتشبه بهم حتَّى يموت وهو كذلك ؛ حُشِر معهم يوم القيامة".
والله جلَّ شأنه قد شرع لعباده المؤمنين من الأعياد ما يستغنون به عن تقليد غيرهم،كما تقدم، فقد روى أبو داود والنسائي وغيرهما بسند صحيح عن أنس رضي الله عنه قال: قدِم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: " قد أبدَلَكُم الله تعالى بهما خيراً منهما:يومَ الفطر والأضحى ". قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: واستنبط منه كراهة ( تحريم) الفرح في أعياد المشركين والتشبه بهم.
* قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فأما بيع المسلم لهم في أعيادهم ما يستعينون به على عيدهم من الطعام واللباس والريحان ونحو ذلك، أو إهداء ذلك لهم فهذا فيه نوع إعانة على إقامة عيدهم المحرم.
*وقال: وكما لا يتشبه بهم في الأعياد ؛ فلا يُعَانُ المسلم المتشبه بهم في ذلك، بل يُنهى عن ذلك، فمن صنع دعوة مخالفة للعادة في أعيادهم لم تجب إجابة دعوته، ومن أهدى للمسلمين هدية في هذه الأعياد مخالفة للعادة في سائر الأوقات غير هذا العيد، لم تقبل هديته، خصوصاً إن كانت الهدية مما يستعان بها على التشبه بهم.
وبهذا يُعلم خطأ عدد من إخواننا وأخواتنا أهل الإسلام الذين يتساهلون بهذه المسألة لينزلقوا في مشاركة الكفار أعيادهم بأي صورةٍ كانت، مع ما فيها من الخلل بالعقيدة.
والأنكى من ذلك أن يذهب وفد من إخواننا؛ فيدخلون عليهم في كنائسهم يهنئونهم بمناسبة ميلاد اللهّّّ!!! والعياذ بالله. وهم بذلك يناقضون مقتضى قول الله: { لم يولد، ولم يولد}.
روى البيهقي بإسناد صحيح في باب كراهية الدخول على المشركين يوم عيدهم في كنائسهم والتشبه بهم يوم نيروزهم ومهرجانهم عن عطاء بن دينار عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "لا تعلموا رطانة الأعاجم ، ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم فإن السخط يتنزل عليهم".
أجمع جميع فقهاء المسلمين على تحريم التشبه بالكفار وحضور أعيادهم وذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك:
أ) قال ابن القاسم من المالكية : من ذبح بطيخة يوم عيدهم فكأنما ذبح خنزيرا .
- ب) وقالت الحنفية : من أهدى إلى رجل في يوم النيروز بيضة فقد كفر. (فذلك مشاركة لهم في الكفر وتعظيم لعيدهم على سبيل الإهداء ).(/1)
- فمن كتاب الله تبارك وتعالى وسنة رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين ، ومما ورد من فعل الصحابة الكرام والسلف الصالح وكلام الفقهاء جميعا نستنتج ما يدل دلالة قطعية صريحة على تحريم الاحتفال بأعياد الكفار ومشاركتهم فيها، وأن هذه المشاركة هي مشاركة لهم في الكفر وهي مشاركة لهم في شعيرة من شعائرهم، وهو كفر عملي . وإذا اقترن بهذا العمل اعتقاد أن دينهم حق وأن ما هم عليه صحيح وإقرارهم بذلك ، فلا شد أنه يصبح كفرا أكبر مخرجا من الملة والعياذ بالله .(/2)
فضيلة الشيخ سليمان بن ناصر العلوان حفظه الله
لي أخت قد أحرمت بالنقاب ولم تعلم بحرمة ذلك إلا بعد نهاية العمرة فماذا عليها ؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الجواب : النقاب محرم على المرأة المحرمة فقد روى البخاري في صحيحه ( 1838 ) من طريق الليث بن سعد حدثنا نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تتنقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين .
وقالت عائشة رضي الله عنها . المحرم تلبس من الثياب ما شاءَت إلا ثوباً مسه ورس أو زعفران ولا تبرقع ولا تلثم وتسدل الثوب على وجهها إن شاءَت . رواه البيهقي في السنن ( 5 / 47 ) وعلقه البخاري في صحيحه بصيغة الجزم بصحته .
وقد ذهب إلى هذا القول أكثر أهل العلم فمنعوا المرأة المحرمة من النقاب وأجازه طائفة من العلماء وفيه نظر والصحيح منعه غير أن من لبسته جهلاًَ بالحكم أو نسياناً فلا فدية عليها في أصح قولي العلماء فقد رفع الله الحرج عن المخطىء والناسي قال تعالى ( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) .
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله إعلام الموقعين ( 2 / 31 ) (( من تطيب أو لبس أو غطى رأسه أو حلق رأسه أو قلم ظفره ناسياً فلا فدية عليه ... ) والجاهل في حكم الناسي والمرأة والرجل في ذلك سواء غير أنه يجب على كل مسلم ومسلمة تعلم أحكام الحج والعمرة فإن ذلك من فروض الأعيان لمن شرع فيهما والله أعلم .
أخوكم
سليمان بن ناصر العلوان
8 / 11 / 1421هـ(/1)
حكم الإلتزام
بطريقة الرسول صلى الله عليه وسلم بإقامته للدولة الإسلامية
سؤال أجاب عليه:
الشيخ إبراهيم بن عبد العزيز بركات
رئيس الدعوة والإرشاد بجمعية أهل السنة الخيرية
إصدار وتوزيع: جمعية أهل السنة الخيرية
القدس / بيت حنينا – طلعة حزما
هاتف –5849670 فاكس 5849829
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:
فضيلة الشيخ حفظك الله تعالى:
يتناقل بعض الأشخاص مسألة إتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في طريقته لإقامة الدولة الإسلامية ويجعلون تلك الطريقة الشرعية الوحيدة التي يجب على المسلمين إتباعها ويحرم عليهم مخالفتها، فهل صحيح ما يقولون ؟ مع ذكر الأدلة على ذلك ونشر الإجابة لحاجة الناس إليها.
علماً بأني أنوب بهذا السؤال عن مجموعة من طلبة العلم.
سائلين المولى عز وجل أن يحفظك وينفع بعلمك أمين.
* * *
الحمد لله رب العالمين، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فاعلم أخي الحبيب، أن الواجب ما أوجبه الله سبحانه في كتابه، وأوجبه رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، وما أجمعت الأمة على وجوبه وما دون ذلك فيعرض على الكتاب والسنة ولا عبرة في مخالفة المخالف ولا كرامة قال تعالى: ( وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُون).
وهذه المسألة التي نحن بصددها من المسائل التي وقع الخلاف فيها، وافترقت الأمة لأجلها ولو ردت إلى الكتاب والسنة لرفع الخلاف وقضي الأمر قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً).
ونحن أخي الحبيب نبين حكمها لأمرين، الأول: استجابة لطلبكم الكريم. والثاني: بياناً للعلم الذي توعد الله من كتمه بالعذاب الأليم إذ قال: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).
وعليه نقول مستعينين بالله متوكلين عليه:
إن ما ينادون به من وجوب إتباع طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم في إقامة الدولة الإسلامية وهي ما يقسمونه إلى ثلاث مراحل، التثقيف السري، التفاعل الفكري، طلب النصرة، خطأ فادح وجهل عظيم بقواعد الشريعة الحنيفية، وتقوّل على الله بغير علم وذلك للأمور التالية:
* * *
أولاً: إن هذه الطريقة لم تكن طريقة لإقامة الدولة الإسلامية، بل كانت مراحل لنشر الإسلام وتمكينه، فإن الدولة الإسلامية بحد ذاتها مرحلة من مراحل تمكين الدين وهي تهدف إلى توحيد المسلمين تحت إمرة خليفة واحد، وإقامة الحدود، وحمل الناس على التزام أحكام هذا الدين، ومن هنا تبعها الجهاد في سبيل الله لنشر الدعوة في شتى بقاع الأرض، وليس الخلاف متعلقاً بوجوب العمل لإقامة الدولة، إنما بالتزام هذه الطريقة وجعلها شرطاً أساسياً للعمل، وهذا ما نخالفه ولا نسلم به.والمدقق في هذه المراحل يجدها مراحل أساسية لا تستغني عنها الجماعة الأولى للأسباب التالية:
1) المرحلة السرية:(/1)
وهي مرحلة سبقت مرحلة الجهر بالدعوة وذلك بغية تأسيس أفراد مؤمنين تحصلوا على حقيقة الإيمان بما دعاهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلا لن يستطيعوا الدفاع عن هذه الدعوة والعمل على نشرها وتمكينها، خاصة وأن وسائل الصد عنها ستكون شديدة للغاية وهذا ما ظهر جلياً في المرحلة بعدها، فلو جهر المسلمون بدعوتهم مباشرة قبل أن تترسخ العقيدة في نفوسهم لسهل عليهم الرجوع عنها وعدم الثبات عليها لذا كان من الضروري أن يؤمن بهذه العقيدة الحقة من التزمها بعيداً عن أعين وترقب الكافرين ليصبح قادراً على الثبات عليها والقيام بها على أكمل وجه، فإن قال قائل: الأمة اليوم بحاجة إلى هذه السرية للتوافق بين الواقعين واقع الرسول صلى الله عليه وسلم، وواقع الأمة اليوم. نقول: هذا قياس مع الفارق، فإن الدعوة بداية الأمر لم تكن مكتملة أو محفوظة بل جاءت على مراحل حتى أتم الله سبحانه هذا الأمر وحفظه من الباطل قال تعالى: ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون). وقال سبحانه: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيم). فقد حفظ الله سبحانه دينه وأكمله وأتمه وأقام له فئة تنصره وتظهره إلى يوم الدين كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح.
قال صلى الله عليه وسلم:(لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمرالله) رواه مسلم. وقال صلى الله عليه وسلم:(إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم، ولا تزال طائفة من أمتي منصورين، لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة). صحيح رواه أحمد .
وهذا ما لم يتحقق في المرحلة الأولى في الجماعة الأولى، فكما ذكرت أن المسلمين بداية الأمر كانوا قلة وبحاجة إلى تثبيت لدعوتهم وأنفسهم، على خلاف واقع اليوم فإن الدين محفوظ بحفظ الله له وقد أكمله الله سبحانه وأتمه.
2) لقد جاءت المرحلة الثانية ناسخة للمرحلة الأولى ومبطلة لها:
وذلك من خلال قوله سبحانه: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِين). فبعد أن أصبح حول الرسول صلى الله عليه وسلم فئة مؤمنة ثابتة لا تقدم الدنيا على الآخرة أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بالجهر بدعوته مبطلاً بذلك ما سبق من سرية الدعوة، وكان ذلك من خلال أمرين:
الأول: الجهر بالدعوة.
الثاني: إظهار أصحابها.
كما جاء في السيرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم حين نزلت عليه الآية الكريمة خرج بالمؤمنين صفين يجوب بهم شعاب مكة مجهرين بدعوتهم، ومن الجدير ذكره أن الصراع الذي أطلق عليه الصراع الفكري لم يكن فيما بين المسلمين إنما كان بين المسلمين والكافرين، وعليه لم تكن دعوة المسلمين للكافرين متعلقة بالتحاكم إلى شرع الله سبحانه، بل كانت دعوة لهم لاعتناق الإسلام وهذا واضح للغاية على خلاف أصحاب هذه النظرية فهم يجعلون الصراع صراعاً داخلياً، أي صراعاً داخل دائرة الإسلام مما جعلهم يخرجون عن حقيقة الإتباع، وبهذا يتبين لك ما قدمناه من كون طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم لم تكن لإقامة الدولة إنما مرحلة من مراحل نشر الإسلام.
فادعاء وجوب التزام طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم في العمل لإقامة الدولة الإسلامية إدعاء مجرد عن الدليل لا يسار إليه إذ إن الطريقة التي التزمها رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن إلا مرحلة صراع بين الإيمان والكفر لا علاقة لها بتطبيق النظام إذ لا يعقل أن يدعو الرسول صلى الله عليه وسلم الكفار إلى تطبيق النظام دون وجود النظام، فتنبه لذلك فهو نفيس جداً.
3) وهو ما يتعلق بطلب النصرة:
وقد ثبت ذلك بفعله صلى الله عليه وسلم إذ عرض نفسه على القبائل طالباً منهم نصرة دينه وحماية المسلمين، والمتأمل في طريقة القوم يجدها مخالفة لفعله صلى الله عليه وسلم فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يطلب النصرة من المسلمين ولم يشترط ذلك، فقد كان يطلبها من المشركين ويشترط عليهم الإسلام، وأما هؤلاء فهم يحصرون القضية في المسلمين ولا يخرجون عن نطاقهم متذرعين بأن استجابة المسلمين أقرب، وهذا تبرير لا أصل له إذ هم من أوجب إتباع طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم ويعرفون الإتباع بقولهم: أن يفعل مثل فعله على وجه فعله لأجل فعله.
وما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم هو طلب النصرة من الكافرين مع اشطراته عليهم دخول الإسلام.
وهم لا يطلبون النصرة إلا من المسلمين مخالفين بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو قالوا بأننا سنطلب النصرة من الكافرين ونشترط عليهم دخول الإسلام كما فعل ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لعلم جهلهم وفساد مذهبهم فتأمل ذلك يرحمك الله تعالى.
* * *(/2)
ثانياً: إن الطريقة التي التزمها صلى الله عليه وسلم لا دليل على وجوبها فزيادة على ما ذكرنا من أدلة، فأنه لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر الصحابة بذلك ولم يؤثر عن أحدهم أنه شارك الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا العمل، ولو كان الأمر واجباً لطلب منهم ذلك.
وكما هو مقرر في الأصول فإن الواجب ينقسم من حيث الأداء إلى قسمين لا ثالث لهما، واجب العين، وواجب الكفاية، والفرق بين الواجبين، أن واجب العين يتحتم على كل فرد مسلم بعينه لا ينوب عنه غيره، وأما واجب الكفاية، فإن قام به البعض سقط عن الباقين، ومعنى "قام به البعض" أي تحقق قيامه، ومن المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يطلب من الصحابة مشاركته في الأمر، ولم يؤثر عن الصحابة أنهم شاركوه في الأمر رغم طول الفترة وشدة الحال، مما يجعلنا نوقن بأن الأمر خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم ولا يطلب ذلك من المسلمين، فإن فعله صلى الله عليه وسلم ينقسم إلى قسمين فقد يكون فعله خاصاً به كالقضية التي نحن بصددها، وقد يكون عاماً وهو أقسام، أن يكون الفعل واجباً إما على العين أو الكفاية، وإما أن يكون مندوباً، وإما أن يكون مباحاً، وكل فعل من هذه الأفعال يحتاج إلى دليل خاص إذ لا يعرف حكم فعله صلى الله عليه وسلم إلا بقرينة، على خلاف قوله، ولا قرينة هنا تدل على الوجوب، بل الدليل القاطع يدل على أن كون الفعل خاصاً بالرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يقال إن إصرار الرسول على هذا الأمر يعتبر دليلاً على وجوبه، وذلك من أمرين:
الأول: أن مجرد الفعل لا يدل على الوجوب فهنالك أعمال كثيرة كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحرص عليها كركعتي الفجر، وصلاة الوتر، ومع ذلك لم يقل أحد من أهل العلم بوجوبهما لعدم ترك الرسول صلى الله عليه وسلم لهما.
الثاني: أن الأمر لو كان واجباً لطلب صلى الله عليه وسلم من المسلمين مشاركته إذ القاعدة الشرعية تدل على أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، خاصة وأن المسلمين كانوا أشد الحاجة إلى الأمن والتمكين، بل لمّا هاجر المسلمون إلى الحبشة لم يأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يطلبوا النصرة للمسلمين منه رغم معرفته صلى الله عليه وسلم بملك الحبشة وأنه لا يظلم عنده أحد، وبهذا يتبين لك أن ما قام به صلى الله عليه وسلم من عرض نفسه على القبائل طالباً النصرة فعل خاص به لا يتعدى غيره.
* * *
ثالثاً: اعلم يرحمك الله أن الواجب تقديم التربية على الحكم، وهذا ما قد دلت عليه النصوص الشرعية منها قوله تعالى: ( كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ ). فقد قدم الله سبحانه التزكية على الحكم وذلك أن الله سبحانه لا ينصر ويستخلف إلا المؤمنين كما في قوله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ). وقال سبحانه: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ). وقال سبحانه: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين). وقال سبحانه: ( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ).
فهذه آيات دالة على أن الله سبحانه لا يستخلف إلا المؤمنين بل قد جاءت الأحاديث واضحة بأنه إذا كثر الفساد في الأمة فما يترتب عليها هو الهلاك وذلك فيما روى البخاري ومسلم في صحيحيهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دخل فزعا يقول لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد أقترب، قيل: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ فقال: نعم إذا كثر الخبث).
وفي حديث آخر يبن صلى الله عليه وسلم أن الأمة لو تركت ما عليها من واجبات واتبعت الشهوات والملذات يترتب عليها الهلاك ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم (والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم) رواه البخاري ومسلم.
وفي صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم: (إذا فتحت عليكم فارس والروم، أي قوم أنتم؟ قال عبد الرحمن بن عوف: نقول كما أمرنا الله، قال رسول صلى الله عليه وسلم: أو غير ذلك: تتنافسون، ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون، ثم تتباغضون).(/3)
فلا تستخلف الأمة مع وجود عوامل الهلاك بل قد دلت النصوص على نقيض ذلك كما بينا، فالإيمان مقدم على العمل، ولا نصر إلا بالإيمان وهذا ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قدم الإيمان على العمل ثم بعد ذلك تفرع. ويظهر ذلك واضحاً من هذين الأثرين:
الأول: عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (أول ما نزل منه سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدا، لقد نزل بمكة على محمد (صلى الله عليه وسلم) وإنى لجارية ألعب: (بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر). وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده).
والثاني: عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه قال: (لقد عشنا برهة من دهرنا وإن أحدنا ليؤتى الإيمان قبل القرآن وتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم فنتعلم حلالها وحرامها وما ينبغي أن يوقف عنده منها كما تتعلمون أنتم القرآن اليوم ولقد رأينا اليوم رجالاً يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته ما يدري ما أمره ولا زجره ولا ما ينبغي أن يوقف عنده منه) .
ومن خلال ما ذكرنا ندرك أن الأمة حتى يتحقق لها النصر لا بد أن تتحقق على الإيمان، وهذا ما لا نراه في هذه الطريقة إذ يعكف أصحابها على العمل لاستلام الحكم من غير أن يكون الوضع العام مهيأ وهذا ما لا يتم لهم أبداً من بابين:
الأول: مخالفتهم لهدي النبي صلى الله عليه وسلم.
والثاني: لكثرة الفساد المنتشر في الأمة، وهل كان هدم الخلافة الإسلامية إلا نتيجة ذلك ؟ وفقك الله لما يحبه ويرضاه.
* * *
رابعاً: لقد ذكرنا فيما مضى أن الإسلام دين كامل لم يترك شاردة ولا واردة إلا وأعطاها حكمها حتى أبسط ما يحتاج إليه الناس، فكيف يغفل عن مسألة عظيمة كهذه تتوقف عليها أمور كثيرة عظيمة من أبرزها تعطيل الحدود، وتضييع الفرائض، وتفرق الأمة، وما إلى ذلك، فالتحاكم إلى شرع الله واجب ولا يتم ذلك إلا من خلال الدولة الإسلامية التي تطبق النظام على الناس وهذا من المسائل المعلومة من الدين بالضرورة.
ولما كانت الخلافة عرضة للسقوط كما دلت على ذلك أحاديث كثيرة، منها قوله صلى الله عليه وسلم: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون مُلكاً عاضاً فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون مُلكاً جبرياً فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة تعمل في الناس بسنة النبي ويلقى الإسلام جراءة في الأرض يرضى عنها ساكن السماء وساكن الأرض لا تدع السماء من قطر إلا صبته مدراراً، ولا تدع الأرض من نباتها ولا بركاتها شيئاً إلا أخرجته). ذكره حذيفة مرفوعاً ورواه الحافظ العراقي من طريق أحمد وقال هذا حسن صحيح.
فهذا الحديث يدل على ذهاب الحكم الشرعي ويصبح حكماً جبرياً وهذا ما نعايشه اليوم ولا يشك أحد بذلك.
وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم الطريق الذي يجب على الأمة أن تنتهجه إذا ترك الحكم بما أنزل الله سبحانه ويتضح ذلك من خلال تقسيم الحكام إلى ثلاثة أقسام كما في النصوص الصحيحة وهي: الخلفاء الراشدون. والأئمة الظالمون، والحكام الذين أظهروا الكفر البواح ودليل ذلك التقسيم.
أولاً: الخلفاء الراشدون: ودليله ما رواه العرباض بن سارية، قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلّم يوماً بعد صلاة الغداة موعظة بليغة، ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب. فقال رجل: إن هذه موعظة مودّعٍ، فماذا تعهد إلينا يا رسول الله؟ قال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن عبد حبشي، فإنه من يعش منكم يرى اختلافاً كثيراً، وإياكم ومحدثات الأمور فإنها ضلالة، فمن أدرك ذلك منكم فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديّين، عضّوا عليها بالنواجذ). رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح.
وأما دليل القسم الثاني، وهم الأئمة الظالمون: فقوله صلى الله عليه وسلم: (ستكون أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع، قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلوا).
وأما دليل القسم الثالث: فقوله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه: قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله)، وقال: (إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان). أخرجه مسلم.
فالحاكم إما أن يكون خليفة راشداً، وإما أن يكون إماماً مسلماً يخلط بين العدل والظلم، وإما أن يكون مظهراً للكفر البواح.(/4)
فأما الخليفة الراشد: فطاعته واجبة والخروج عليه محرم بل يهدر دم الخارج على الخليفة الراشد لمفارقته للجماعة، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمامان البخاري ومسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة).
وأما الخليفة الظالم: فقد اختلف أهل العلم هل يخرج عليه إذا عم ضرره واستطار شرره وأصبح ميئوساً من إصلاحه على قولين أرجحهما تحريم الخروج لما يترتب على ذلك من فساد عظيم، ومن الأدلة على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (تسمع وتُطيع للأمير، وإن ضُرِبَ ظهرُك وأُخذ مالُك، فاسمع وأطع). رواه مسلم في صحيحه من حديث حذيفة رضي الله عنه. وهذه الزيادة صحيحة ولطريقها متابعان، انظر تخريجهما في السلسلة الصحيحة (4/399-400) ولها شاهد من حديث عبادة رضي الله عنه وأثر عن عمر. عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اسمع وأطع، في عُسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرة عليك، وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك). رواه الإمام أحمد في المسند وابن حبان في صحيحه وابن أبي عاصم في السنة والديلمي في مسنده وسنده صحيح.
وعن سُويد بن غَفَلَة قال: قال لي عمرُ: يا أبا أمية، إني لا أدري لعلي أن لا ألقاك بعد عامي هذا، فاسمع وأطع، وإن أُمِّر عليك عبد حبشي مجدَّع فاسمع له وأطع، إن ضربك فاصبر، وإن حرمك فاصبر ، وإن أراد أمراً ينتقص دينَكَ فقل: سمعٌ وطاعةٌ، دمي دون ديني، ولا تفارق الجماعة). رواه ابن أبي شيبة والخلال في السنة، والآجري في الشريعة، والبيهقي في السنن الكبرى وغيرهم.
وأما القسم الثالث، وهم الذين أظهروا الكفر البواح: فإن الخروج عليهم واجب كما دل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح حين سئل هل ننابذهم بالسيف قال: (لا إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان).
والحكام في هذا الزمان لا يخرجون عن هذه الأقسام الثلاثة، فإن كانوا خلفاء راشدين فطاعتهم واجبة ويحرم الخروج عليهم بإطلاق، وإن كانوا ظالمين، فالواجب الصبر عليهم وعدم الخروج لما أسلفنا من أدلة، إلا أنه لا يمنع من محاسبتهم والإنكار عليهم كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (سيكون أمراء تعرفون وتنكرون، فمن نابذهم نجا، ومن اعتزلهم سَلِم، ومن خالطهم هلك" وقوله صلّى الله عليه وسلّم: "إنه يُستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتُنكِرون، فمن كَرِهَ فقد بَرِئ، ومن أنكر فقد سَلِم، ولكن من رضي وتابع).
وأما إن كانوا مظهرين للكفر البواح فوجبت منابذتهم بالسلاح.
وعليه فالواجب إن كان الحكام كفاراً أن نخرج عليهم لا أن نرجع إلى طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم كما يدعي أولئك.
وإن قال قائل: هذا الحكم متعلق بكون الحاكم مسلماً ثم كفر، لا بمن يكون كافراً ابتداء.
أقول: هذا قول ساقط يدل على جهل قائله فالحديث صريح بأن الحاكم إذا أظهر الكفر البواح وجب الخروج عليه ولا يدل الدليل على كفره، فحكمنا على المسألة شيء، وحكمنا على المعين شيء آخر، فلا يشترط من كون الحاكم مظهراً للكفر البواح أن يكون كافراً إلا إذا انتفت عنه موانع التكفير الأربعة وهي: الجهل، التأويل، الإكراه، الخطأ، فإذا انتفت عنه هذه الموانع بعد قيام الحجة عليه حكم بكفره.
وموضوع بحثنا متعلق بإظهاره للكفر إذ قوله صلى الله عليه وسلم: (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان). متعلق بما يظهر لنا منه ولا عبرة بما يبطن، فالرؤيا هنا الرؤيا العينية وليست الرؤيا القلبية فبواحاً نعت للكفر وليس مفعولاً ثانياً لتروا فتنبه لذلك، وثمة أمر آخر وهو أننا لا نستطيع أن نحكم بالكفر على المعين قبل صدور الكفر عنه أي كيف نحكم على الحاكم بالكفر قبل توليه للحكم ؟! فنحن نحكم بالكفر على الحاكم لكونه لا يحكم بما أنزل الله سبحانه وهذا لا يكون إلا بعد تسلمه الحكم.
بل هذا مخالف حتى لقواعدهم التي يبنون عليها، فهم يعرفون الإيمان بأنه: تصديق جازم مطابق للواقع عن دليل. فهم يخرجون العمل عن مسمى الإيمان معتمدين بذلك على قواعد المرجئة الذين لا يجعلون العمل من الإيمان وهذا ما يظهر جلياً من خلال تعريفهم للإيمان، فهو عندهم تصديق جازم أي من صدق تصديقاً جازماً بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فهو مؤمن وإن ترك العمل، لذا فهم لا يكفرون بمجرد العمل أو الترك.
وعليه فهم لا يستطيعون أن يكفروا الحاكم لمجرد تركه للحكم بل لا بد من تحقق كفره وهذا لا يكون إلا بالاعتقاد فهم أمام حالتين:
الأولى: أن يكونوا قد شقوا عن قلب الحاكم فعلموا ما بطن في نفسه من الكفر، وهذا مستحيل.
الثانية: أن يكون الحاكم قد صرح بالكفر، وهذا ما لم نسمعه من أحد الحكام.
إذن فلا سبيل لهم لتكفير الحاكم، فينتقض قولهم حتى على مذهبهم وإن كنت لا أشك بكون معظمهم لا يدركون ذلك.(/5)
وعليه، فالواجب على الأمة إذا رأت من الحاكم الكفر البواح أن تنابذه بالسيف لا أن ترجع إلى طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى تقيم الدولة.
* * *
خامساً: إن هذا القول - وجوب إتباع طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم بإقامة الدولة الإسلامية- : قول لا سلف لهم به وهو قول مردود، إذ لو كان الأمر كما يقولون لذكر العلماء ذلك خاصة وأن الأحاديث الصحيحة أرشدت إلى إمكانية ضياع الخلافة ، وعليه يكون قولهم لا أصل له وهو يندرج تحت باب البدع التي حذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم من الوقوع فيها.
ومن ذلك: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد). متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح: (إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة).
وعليه فلا يلتفت إلى مذهبهم لمخالفته للنصوص الصريحة، وعدم ثبوته في أقوال أهل العلم المعتبرين من أهل السنة والجماعة، والله سبحانه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
تنبيه: اعلم يرحمك الله تعالى: أن العمل لإقامة الدولة الإسلامية واجب على كل مسلم ومسلمة، والأدلة على ذلك كثيرة معلومة، ولا يكون ذلك إلا من خلال التوطئة والعمل الدؤوب بما يتوافق مع النصوص الثابتة من أبرزها ترسيخ العقيدة الحقة في النفوس المسلمة، والبعد عن كل ما يخالف النصوص الشرعية من خلال التربية والتزكية، وليس موضوعنا البحث في كيفية العمل، إنما الرد على السؤال في حكم التزام طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم بإقامته للدولة الإسلامية.
هذا وبالله التوفيق
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
29 ذو القعدة 1424 هـ / القدس
تم تنزيل هذه المادة من
شبكة أهل السنة الإسلامية
http://www.asunnah.net(/6)
حكم الاحتفال بالمولد النبوي
ابن باز
( الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه .
أما بعد :
فقد تكرر السؤال من كثير عن حكم الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم ، والقيام له في أثناء ذلك ، وإلقاء السلام عليه ، وغير ذلك مما يفعل في الموالد .
والجواب أن يقال :
لا يجوز الاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا غيره ؛ لأن ذلك من البدع المحدثة في الدين ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعله ، ولا خلفاؤه الراشدون ، ولا غيرهم من الصحابة ـ رضوان الله على الجميع ـ ولا التابعون لهم بإحسان في القرون المفضلة ، وهم أعلم الناس بالسنة ، وأكمل حباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومتابعة لشرعه ممن بعدهم .
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " ، أي : مردود عليه ، وقال في حديث آخر : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة " .
ففي هذين الحديثين تحذير شديد من إحداث البدع والعمل بها .
وقد قال الله سبحانه في كتابه المبين : ( ومآ ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) ( سورة الحشر : 7 ) ، وقال عز وجل : ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ) ( سورة النور : 63 ) ، وقال سبحانه : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً ) ( سورة الأحزاب : 21 ) ، وقال تعالى : ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذالك الفوز العظيم ) ( سورة التوبة : 100 ) ، وقال تعالى : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ) ( سورة المائدة : 3 ) .
والآيات في هذا المعنى كثيرة .
وإحداث مثل هذه الموالد يفهم منه : أن الله سبحانه لم يكمل الدين لهذه الأمة ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبلغ ما ينبغي للأمة أن تعمل به ، حتى جاء هؤلاء المتأخرون فأحدثوا في شرع الله ما لم يأذن به ، زاعمين : أن ذلك مما يقربهم إلى الله ، وهذا بلا شك فيه خطر عظيم ، واعتراض على الله سبحانه ، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم ، والله سبحانه قد أكمل لعباده الدين ، وأتم عليهم النعمة .
والرسول صلى الله عليه وسلم قد بلغ البلاغ المبين ، ولم يترك طريقاً يوصل إلى الجنة ويباعد من النار إلا بينه للأمة ، كما ثبت في الحديث الصحيح ، عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما بعث الله من نبي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم ، وينذرهم شر ما يعلمه لهم " رواه مسلم في صحيحه .
ومعلوم أن نبينا صلى الله عليه وسلم هو أفضل الأنبياء وخاتمهم ، وأكملهم بلاغاً ونصحاً ، فلو كان الاحتفال بالموالد من الدين الذي يرضاه الله سبحانه لبيَّنه الرسول صلى الله عليه وسلم للأمة ، أو فعله في حياته ، أو فعله أصحابه رضي الله عنهم ، فلما لم يقع شيء من ذلك علم أنه ليس من الإسلام في شيء ، بل هو من المحدثات التي حذر الرسول صلى الله عليه وسلم منها أمته ، كما تقدم ذكر ذلك في الحديثين السابقين .
وقد جاء في معناهما أحاديث أُُخر ، مثل قوله صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة : " أما بعد : فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة " رواه الإمام مسلم في صحيحه .
والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة .
وقد صرح جماعة من العلماء بإنكار الموالد والتحذير منها ؛ عملاً بالأدلة المذكورة وغيرها .
وخالف بعض المتأخرين فأجازها إذا لم تشتمل على شيء من المنكرات ؛ كالغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكاختلاط النساء بالرجال ، واستعمال آلات الملاهي ، وغير ذلك مما ينكره الشرع المطهر ، وظنوا أنها من البدع الحسنة .
والقاعدة الشرعية : رد ما تنازع فيه الناس إلى كتاب الله ، وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم .
كما قال الله عز وجل : ( يآأيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً ) ( سورة النساء : 59 ) ، وقال تعالى : ( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ) ( سورة الشورى : 10 ) .(/1)
وقد رددنا هذه المسألة ـ وهي الاحتفال بالموالد ـ إلى كتاب الله سبحانه ، فوجدنا يأمرنا باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به ويحذرنا عما نهى عنه ، ويخبرنا بأن الله سبحانه قد أكمل لهذه الأمة دينها ، وليس هذا الاحتفال مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، فيكون ليس من الدين الذي أكمله الله لنا وأمرنا باتباع الرسول فيه ، وقد رددنا ذلك ـ أيضاً ـ إلى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم فلم نجد فيها أنه فعله ، ولا أمر به ولا فعله أصحابه رضي الله عنهم ، فعلمنا بذلك أنه ليس من الدين ، بل هو من البدع المحدثة ، ومن التشبه بأهل الكتاب من اليهود والنصارى في أعيادهم .
وبذلك يتضح لكل من له أدنى بصيرة ورغبة في الحق وإنصاف في طلبه أن الاحتفال بالموالد ليس من دين الإسلام ، بل هو من البدع المحدثات التي أمر الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم بتركها والحذر منها .
ولا ينبغي للعاقل أن يغتر بكثرة من يفعله من الناس في سائر الأقطار ، فإن الحق لا يعرف بكثرة الفاعلين ، وإنما يعرف بالأدلة الشرعية ، كما قال تعالى عن اليهود والنصارى : ( وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) ( سورة البقرة : 111 ) ، وقال تعالى : ( وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ) ( سورة الأنعام : 116 ) .
ثم إن غالب هذه الاحتفالات بالموالد مع كونها بدعة لا تخلو من اشتمالها على منكرات أخرى ؛ كاختلاط النساء بالرجال ، واستعمال الأغاني والمعازف ، وشرب المسكرات والمخدرات ، وغير ذلك من الشرور ، وقد يقع فيها ما هو أعظم من ذلك وهو الشرك الأكبر ، وذلك بالغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو غيره من الأولياء ، ودعائه والاستغاثة به وطلبه المدد ، واعتقاد أنه يعلم الغيب ، ونحو ذلك من الأمور الكفرية التي يتعاطاها الكثير من الناس حين احتفالهم بمولد النبي صلى الله عليه وسلم وغيره ممن يسمونهم بالأولياء .
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إياكم والغلو في الدين ، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين " ، وقال صلى الله عليه وسلم : " لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم إنما أنا عبده ، فقولوا : عبد الله ورسوله " أخرجه البخاري في صحيحه من حديث عمر رضي الله عنه .
ومن العجائب والغرائب : أن الكثير من الناس ينشط ويجتهد ي حضور هذه الاحتفالات المبتدعة ، ويدافع عنها ، ويتخلف عما أوجب الله عليه من حضور الجمع والجماعات ، ولا يرفع بذلك رأساً ، ولا يرى أنه أتي منكراً عظيماً ، ولا شك أن ذلك من ضعف الإيمان وقلة البصيرة ، وكثرة ما ران على القلوب من صنوف الذنوب والمعاصي ، نسأل الله العافية لنا ولسائر المسلمين .
ومن ذلك : أن بعضهم يظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحضر المولد ؛ ولهذا يقومون له محيين ومرحبين ، وهذا من أعظم الباطل وأقبح الجهل ، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يخرج من قبره قبل يوم القيامة ، ولا يتصل بأحد من الناس ، ولا يحضر اجتماعاتهم ، بل هو مقيم في قبره إلى يوم القيامة ، وروحه في أعلى عليين عند ربه في دار الكرامة ، كما قال الله تعالى في سورة المؤمنون ( 15 ـ 16 ) : ( ثم إنكم بعد ذلك لميتون * ثم إنكم يوم القيامة تبعثون ) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أنا أول من ينشق عنه القبر يوم القيامة ، وأنا أول شافع ، وأول مُشَفَّعٍ " عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام .
فهذه الآية الكريمة والحديث الشريف وما جاء في معناهما من الآيات والأحاديث ، كلها تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأموات إنما يخرجون من قبورهم يوم القيامة ، وهذا أمر مجمع عليه بين علماء المسلمين ليس فيه نزاع بينهم ، فينبغي لكل مسلم التنبه لهذه الأمور ، والحذر مما أحدثه الجهال وأشباههم من البدع والخرافات التي ما أنزل الله بها من سطان . والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا به .
أما الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي من أفضل القربات ، ومن الأعمال الصالحات ، كما قال تعالى : ( إن الله وملائكته يصلون على النبي يآ أيها الذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً ) ( سورة الأحزاب : 56 ) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " من صلى عليَّ واحدة صلى الله عليه بها عشراً " ، وهي مشروعة في جميع الأوقات ، ومتأكدة في آخر كل صلاة ، بل واجبة عند جمع من أهل العلم في التشهد الأخير من كل صلاة ، وسنة مؤكدة في مواضع كثيرة ، منها بعد الأذان ، وعند ذكره عليه الصلاة والسلام ، وفي يوم الجمعة وليلتها ، كما دلت على ذلك أحاديث كثيرة .
والله المسؤول أن يوفقنا وسائر المسلمين للفقه في دينه والثبات عليه ، وأن يمن على الجميع بلزوم السنة والحذر من البدعة ، إنه جواد كريم .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وآله وصحبه )(/2)
من رسالة " حكم الاحتفال بالمولد النبوي " للشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله .
-------------------------
يقول السائل: ما حكم المولد النبوي؟ وما حكم الذي يحضره؟ وهل يعذب فاعله إذا مات وهو على هذه الصورة؟
الجواب: المولد لم يرد في الشرع ما يدل على الاحتفال به؛ لا مولد النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره، فالذي نعلم من الشرع المطهر وقرره المحققون من أهل العلم أن الاحتفالات بالموالد بدعة لا شك في ذلك، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أنصح الناس وأعلمهم بشرع الله، والمبلغ عن الله لم يحتفل بمولده صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، لا خلفاؤه الراشدون، ولا غيرهم، فلو كان حقا وخيرا وسنة لبادروا إليه ولما تركه النبي صلى الله عليه وسلم ولعلمه أمته أو فعله بنفسه ولفعله أصحابه، وخلفاؤه رضي الله عنهم، فلما تركوا ذلك علمنا يقينا أنه ليس من الشرع، وهكذا القرون المفضلة لم تفعل ذلك، فاتضح بذلك أنه بدعة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد وقال عليه الصلاة والسلام: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد في أحاديث أخرى تدل على ذلك.
وبهذا يعلم أن الاحتفالات بالمولد النبوي في ربيع الأول أو في غيره، وكذا الاحتفالات بالموالد الأخرى كالبدوي والحسين وغير ذلك؛ كلها من البدع المنكرة، التي يجب على أهل الإسلام تركها، وقد عوضهم الله بعيدين عظيمين: عيد الفطر وعيد الأضحى ففيهما الكفاية عن إحداث أعياد واحتفالات منكرة مبتدعة.
وليس حب النبي صلى الله عليه وسلم يكون بالموالد وإقامتها، وإنما حبه صلى الله عليه وسلم يقتضي اتباعه والتمسك بشريعته، والذبِّ عنها، والدعوة إليها، والاستقامة عليها، هذا هو الحب الصادق كما قال الله عز وجل: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران: 31]، فحب الله ورسوله ليس بالموالد ولا بالبدع.
ولكن حب الله ورسوله يكون بطاعة الله ورسوله وبالاستقامة على شريعة الله، وبالجهاد في سبيل الله، وبالدعوة إلى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيمها والذب عنها، والإنكار على من خالفها، هكذا يكون حب الله سبحانه وحب الرسول صلى الله عليه وسلم ويكون بالتأسي به؛ بأقواله وأعماله، والسير على منهاجه عليه الصلاة والسلام، والدعوة إلى ذلك، هذا هو الحب الصادق الذي يدل عليه العمل الشرعي، والعمل الموافق لشرعه.
وأما كونه يعذب أو لا يعذب هذا شيء آخر، هذا إلى الله جل وعلا، فالبدع والمعاصي من أسباب العذاب، لكن قد يعذب الإنسان بسبب معصيته وقد يعفو الله عنه؛ إما لجهله، وإما لأنه قلد من فعل ذلك ظنا منه أنه مصيب، أو لأعمال صالحة قدمها صارت سببا لعفو الله أو لشفاعة الشفعاء من الأنبياء والمؤمنين أو الأفراط.
فالحاصل أن المعاصي والبدع من أسباب العذاب، وصاحبها تحت مشيئة الله جل وعلا إذا لم تكن بدعته مكفرة، أما إذا كانت بدعته مكفرة من الشرك الأكبر فصاحبها مخلد في النار -والعياذ بالله-، لكن هذه البدعة إذا لم يكن فيها شرك أكبر وإنما هي صلوات مبتدعة، واحتفالات مبتدعة، ليس فيها شرك، فهذه تحت مشيئة الله كالمعاصي، لقول الله سبحانه في سورة النساء: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ
وأما الأشخاص الذين يجعلون لأنفسهم عيدا لميلادهم فعملهم منكر وبدعة كما تقدم، وهكذا إحداث أعياد لأمهاتهم أو لآبائهم أو مشايخهم كله بدعة يجب تركه والحذر منه.
الشيخ عبد العزيز بن باز
المصدر/ موقع الشيخ ابن باز
----------------------------
حكم الاحتفال بالمولد النبوي
فتوى الشيخ محمد بن عثيمين في حكم الاحتفال بالمولد النبوي
سئل فضيلة الشيخ العلامة محمد بن صالح بن عثيمين حفظه الله كما في " فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين " إعداد وترتيب أشرف عبد المقصود ( 1 / 126 ) : ما الحكم الشرعي في الاحتفال بالمولد النبوي ؟
فأجاب فضيلته :(/3)
( نرى أنه لا يتم إيمان عبد حتى يحب الرسول صلى الله عليه وسلم ويعظمه بما ينبغي أن يعظمه فيه ، وبما هو لائق في حقه صلى الله عليه وسلم ولا ريب أن بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام ولا أقول مولده بل بعثته لأنه لم يكن رسولاً إلا حين بعث كما قال أهل العلم نُبىءَ بإقرأ وأُرسل بالمدثر ، لا ريب أن بعثته عليه الصلاة والسلام خير للإنسانية عامة ، كما قال تعالى : ( قل يأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورَسُولِهِ النبي الأمي الذين يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون ) ( الأعراف : 158 ) ، وإذا كان كذلك فإن من تعظيمه وتوقيره والتأدب معه واتخاذه إماماً ومتبوعاً ألا نتجاوز ما شرعه لنا من العبادات لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفى ولم يدع لأمته خيراً إلا دلهم عليه وأمرهم به ولا شراً إلا بينه وحذرهم منه وعلى هذا فليس من حقنا ونحن نؤمن به إماماً متبوعاً أن نتقدم بين يديه بالاحتفال بمولده أو بمبعثه ، والاحتفال يعني الفرح والسرور وإظهار التعظيم وكل هذا من العبادات المقربة إلى الله ، فلا يجوز أن نشرع من العبادات إلا ما شرعه الله ورسوله وعليه فالاحتفال به يعتبر من البدعة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " كل بدعة ضلالة " قال هذه الكلمة العامة ، وهو صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بما يقول ، وأفصح الناس بما ينطق ، وأنصح الناس فيما يرشد إليه ، وهذا الأمر لا شك فيه ، لم يستثن النبي صلى الله عليه وسلم من البدع شيئاً لا يكون ضلالة ، ومعلوم أن الضلالة خلاف الهدى ، ولهذا روى النسائي آخر الحديث : " وكل ضلالة في النار " ولو كان الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم من الأمور المحبوبة إلى الله ورسوله لكانت مشروعة ، ولو كانت مشروعة لكانت محفوظة ، لأن الله تعالى تكفل بحفظ شريعته ، ولو كانت محفوظة ما تركها الخلفاء الراشدون والصحابة والتابعون لهم بإحسان وتابعوهم ، فلما لم يفعلوا شيئاً من ذل علم أنه ليس من دين الله ، والذي أنصح به إخواننا المسلمين عامة أن يتجنبوا مثل هذه الأمور التي لم يتبن لهم مشروعيتها لا في كتاب الله ، ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولا في عمل الصحابة رضي الله عنهم ، وأن يعتنوا بما هو بيّن ظاهر من الشريعة ، من الفرائض والسنن المعلومة ، وفيها كفاية وصلاح للفرد وصلاح للمجتمع .
وإذا تأملت أحوال هؤلاء المولعين بمثل هذه البدع وجدت أن عندهم فتوراً عن كثير من السنن بل في كثير من الواجبات والمفروضات ، هذا بقطع النظر عما بهذه الاحتفالات من الغلو بالنبي صلى الله عليه وسلم الموديء إلى الشرك الأكبر المخرج عن الملة الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه يحارب الناس عليه ، ويستبيح دماءهم وأموالهم وذراريهم ، فإننا نسمع أنه يلقى في هذه الاحتفالات من القصائد ما يخرج عن الملة قطعاً كما يرددون قول البوصيري :
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حدوث الحادث العمم
إن لم تكن آخذاً يوم المعاد يدي صفحاً وإلا فقل يا زلة القدم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم
مثل هذه الأوصاف لا تصح إلا لله عز وجل ، وأنا أعجب لمن يتكلم بهذا الكلام إن كان يعقل معناه كيف يسوغ لنفسه أن يقول مخاطباً النبي عليه الصلاة والسلام : ( فإن من جودك الدنيا وضرتها ) ومن للتبعيض والدنيا هي الدنيا وضرتها هي الآخرة ، فإذا كانت الدنيا والآخرة من جود الرسول عليه الصلاة والسلام ، وليس كل جوده ، فما الذي بقي لله عز وجل ، ما بقي لله عز وجل ، ما بقي له شيء من الممكن لا في الدنيا ولا في الآخرة .
وكذلك قوله لله : ( ومن علومك علم اللوح والقلم ) ومن : هذه للتبعيض ولا أدري ماذا يبقى تعالى من العلم إذا خاطبنا الرسول عليه الصلاة والسلام بهذا الخطاب .
ورويدك يا أخي المسلم .. إن كنت تتقي الله عز وجل فأنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلته التي أنزله الله .. أنه عبد الله ورسوله فقل هو عبدالله ورسوله ، واعتقد فيه ما أمره ربه أن يبلغه إلى الناس عامة : ( قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي ) ( الأنعام : 50 ) ، وما أمره الله به في قوله : ( قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً ) ( الجن : 21 ) ، وزيادة على ذلك : ( قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحداً ) ( الجن : 22 ) ، حتى النبي عليه الصلاة والسلام لو أراد الله به شيئاً لا أحد يجيره من الله سبحانه وتعالى .
فالحاصل أن هذه الأعياد أو الاحتفالات بمولد الرسول عليه الصلاة والسلام لا تقتصر على مجرد كونها بدعة محدثة في الدين بل هي يضاف إليها شئ من المنكرات مما يؤدي إلى الشرك .(/4)
وكذلك مما سمعناه أنه يحصل فيها اختلاط بين الرجال والنساء ، ويحصل فيها تصفيق ودف وغير ذلك من المنكرات التي لا يمتري في إنكارها مؤمن ، ونحن في غِنَى بما شرعه الله لنا ورسوله ففيه صلاح القلوب والبلاد والعباد ) .
الشيخ محمد بن عثيمين(/5)
حكم الاحتفال بليلة النصف من شعبان
القسم : إملاءات > رسائل
عقيدة
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة، والصلاة والسلام على نبيه ورسوله محمد نبي التوبة والرحمة.
أما بعد: فقد قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا}[1] الآية من سورة المائدة، وقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}[2] الآية من سورة الشورى وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبة الجمعة: ((أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة)) والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وهي تدل دلالة صريحة على أن الله سبحانه وتعالى قد أكمل لهذه الأمة دينها، وأتم عليها نعمته، ولم يتوف نبيه عليه الصلاة والسلام إلا بعدما بلغ البلاغ المبين، وبين للأمة كل ما شرعه الله لها من أقوال وأعمال.
وأوضح صلى الله عليه وسلم أن كل ما يحدثه الناس بعده وينسبونه إلى دين الإسلام من أقوال أو أعمال، فكله بدعة مردود على من أحدثه، ولو حسن قصده، وقد عرف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر، وهكذا علماء الإسلام بعدهم، فأنكروا البدع وحذروا منها، كما ذكر ذلك كل من صنف في تعظيم السنة وإنكار البدعة كابن وضاح ، والطرطوشي، وأبي شامة وغيرهم.
ومن البدع التي أحدثها بعض الناس: بدعة الاحتفال بليلة النصف من شعبان، وتخصيص يومها بالصيام، وليس على ذلك دليل يجوز الاعتماد عليه، وقد ورد في فضلها أحاديث ضعيفة لا يجوز الاعتماد عليها، أما ما ورد في فضل الصلاة فيها، فكله موضوع، كما نبه على ذلك كثير من أهل العلم، وسيأتي ذكر بعض كلامهم إن شاء الله وورد فيها أيضا آثار عن بعض السلف من أهل الشام وغيرهم، والذي أجمع عليه جمهور العلماء أن الاحتفال بها بدعة، وأن الأحاديث الواردة في فضلها كلها ضعيفة، وبعضها موضوع، وممن نبه على ذلك الحافظ ابن رجب، في كتابه: (لطائف المعارف) وغيره، والأحاديث الضعيفة إنما يعمل بها في العبادات التي قد ثبت أصلها بأدلة صحيحة، أما الاحتفال بليلة النصف من شعبان، فليس له أصل صحيح حتى يستأنس له بالأحاديث الضعيفة.
وقد ذكر هذه القاعدة الجليلة الإمام: أبو العباس شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. وأنا أنقل لك: أيها القارئ، ما قاله بعض أهل العلم في هذه المسألة، حتى تكون على بينة في ذلك، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن الواجب: رد ما تنازع فيه الناس من المسائل إلى كتاب الله- عز وجل، وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما حكما به أو أحدهما فهو الشرع الواجب الاتباع، وما خالفهما وجب اطراحه، وما لم يرد فيهما من العبادات فهو بدعة لا يجوز فعله، فضلا عن الدعوة إليه وتحبيذه، كما قال سبحانه في سورة النساء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}[3] وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ}[4] الآية من سورة الشورى، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}[5] ، الآية من سورة آل عمران، وقال عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا}[6] والآيات في هذا المعنى كثيرة، وهي نص في وجوب رد مسائل الخلاف إلى الكتاب والسنة، ووجوب الرضى بحكمهما، وأن ذلك هو مقتضى الإيمان، وخير للعباد في العاجل والآجل، وأحسن تأويلا: أي عاقبة.
قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله- في كتابه: (لطائف المعارف) في هذه المسألة- بعد كلام سبق- ما نصه: (وليلة النصف من شعبان كان التابعون من أهل الشام؛ كخالد بن معدان، ومكحول، ولقمان بن عامر وغيرهم، يعظمونها ويجتهدون فيها في العبادة، وعنهم أخذ الناس فضلها وتعظيمها، وقد قيل: إنه بلغهم في ذلك آثار إسرائيلية، فلما اشتهر ذلك عنهم في البلدان، اختلف الناس في ذلك فمنهم من قبله منهم، ووافقهم على تعظيمها، منهم طائفة من عباد أهل البصرة وغيرهم، وأنكر ذلك أكثر علماء الحجاز، منهم: عطاء، وابن أبي مليكة، ونقله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن فقهاء أهل المدينة، وهو قول أصحاب مالك وغيرهم، وقالوا:(/1)
لك كله بدعة واختلف علماء أهل الشام في صفة إحيائها على قولين:
أحدهما: أنه يستحب إحياؤها جماعة في المساجد. كان خالد بن معدان ولقمان بن عامر وغيرهما يلبسون فيها أحسن ثيابهم، ويتبخرون ويتكحلون، ويقومون في المسجد ليلتهم تلك، ووافقهم إسحاق بن راهويه على ذلك، وقال في قيامها في المساجد جماعة: ليس ذلك ببدعة، نقله حرب الكرماني في مسائله.
والثاني: أنه يكره الاجتماع فيها في المساجد للصلاة والقصص والدعاء، ولا يكره أن يصلي الرجل فيها لخاصة نفسه، وهذا قول الأوزاعي إمام أهل الشام وفقيههم وعالمهم، وهذا هو الأقرب إن شاء الله تعالى، إلى أن قال: ولا يعرف للإمام أحمد كلام في ليلة نصف شعبان، ويتخرج في استحباب قيامها عنه روايتان: من الروايتين عنه في قيام ليلتي العيد، فإنه (في رواية) لم يستحب قيامها جماعة لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واستحبها (في رواية)، لفعل عبد الرحمن بن يزيد بن الأسود لذلك وهو من التابعين، فكذلك قيام ليلة النصف، لم يثبت فيها شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه، وثبت فيها عن طائفة من التابعين من أعيان فقهاء أهل الشام)
انتهى المقصود من كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله، وفيه التصريح منه بأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضي الله عنهم شيء في ليلة النصف من شعبان، وأما ما اختاره الأوزاعي رحمه الله من استحباب قيامها للأفراد، واختيار الحافظ ابن رجب لهذا القول، فهو غريب وضعيف . لأن كل شيء لم يثبت بالأدلة الشرعية كونه مشروعاً، لم يجز للمسلم أن يحدثه في دين الله، سواء فعله مفردا أو في جماعة، وسواء أسره أو أعلنه. لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم : ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) وغيره من الأدلة الدالة على إنكار البدع والتحذير منها،
وقال الإمام أبو بكر الطرطوشي رحمه الله في كتابه: (الحوادث والبدع) ما نصه: (وروى ابن وضاح عن زيد بن أسلم، قال: ما أدركنا أحداً من مشيختنا ولا فقهائنا يلتفتون إلى النصف من شعبان، ولا يلتفتون إلى حديث مكحول، ولا يرون لها فضلاً على ما سواها).
وقيل لابن أبي مليكة : إن زيادا النميري يقول: (إن أجر ليلة النصف من شعبان كأجر ليلة القدر)، فقال: (لو سمعته وبيدي عصا لضربته) وكان زياد قاصاً، انتهى المقصود.
وقال العلامة:الشوكاني رحمه الله في: (الفوائد المجموعة) ما نصه: (حديث: يا علي من صلى مائة ركعة ليلة النصف من شعبان يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب وقل هو الله أحد عشر مرات قضى الله له كل حاجة إلخ وهو موضوع، وفي ألفاظه المصرحة بما يناله فاعلها من الثواب ما لا يمتري إنسان له تمييز في وضعه، ورجاله مجهولون، وقد روي من طريق ثانية وثالثة كلها موضوعة ورواتها مجاهيل) ، وقال في: (المختصر): (حديث صلاة نصف شعبان باطل) ، ولابن حبان من حديث علي : (إذا كان ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها، وصوموا نهارها)، ضعيف وقال في: (اللآلئ): (مائة ركعة في نصف شعبان بالإخلاص عشر مرات مع طول فضله، للديلمي وغيره موضوع) ، وجمهور رواته في الطرق الثلاث مجاهيل ضعفاء قال: (واثنتا عشرة ركعة بالإخلاص ثلاثين مرة موضوع وأربع عشرة ركعة موضوع).
وقد اغتر بهذا الحديث جماعة من الفقهاء كصاحب (الإحياء) وغيره وكذا من المفسرين، وقد رويت صلاة هذه الليلة- أعني: ليلة النصف من شعبان على أنحاء مختلفة كلها باطلة موضوعة، ولا ينافي هذا رواية الترمذي من حديث عائشة لذهابه صلى الله عليه وسلم إلى البقيع، ونزول الرب ليلة النصف إلي سماء الدنيا، وأنه يغفر لأكثر من عدة شعر غنم بني كلب، فإن الكلام إنما هو في هذه الصلاة الموضوعة في هذه الليلة، على أن حديث عائشة هذا فيه ضعف وانقطاع، كما أن حديث علي الذي تقدم ذكره في قيام ليلها، لا ينافي كون هذه الصلاة موضوعة، على ما فيه من الضعف حسبما ذكرناه) انتهى المقصود.
وقال الحافظ العراقي : (حديث صلاة ليلة النصف موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذب عليه).
وقال الإمام النووي في كتاب: (المجموع): (الصلاة المعروفة بصلاة الرغائب، وهي اثنتا عشرة ركعة بين المغرب والعشاء، ليلة أول جمعة من رجب، وصلاة ليلة النصف من شعبان مائة ركعة، هاتان الصلاتان بدعتان منكرتان، ولا يغتر بذكرهما في كتاب: (قوت القلوب)، و(إحياء علوم الدين)، ولا بالحديث المذكور فيهما، فإن كل ذلك باطل، ولا يغتر ببعض من اشتبه عليه حكمهما من الأئمة فصنف ورقات في استحبابهما، فإنه غالط في ذلك) .
وقد صنف الشيخ الإمام: أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي كتاباً نفيساً في إبطالهما، فأحسن فيه وأجاد، وكلام أهل العلم في هذه المسألة كثير جداً، ولو ذهبنا ننقل كل ما اطلعنا عليه من كلام في هذه المسألة، لطال بنا الكلام، ولعل فيما ذكرنا كفاية ومقنعاً لطالب الحق.(/2)
ومما تقدم من الآيات والأحاديث وكلام أهل العلم، يتضح لطالب الحق أن الاحتفال بليلة النصف من شعبان بالصلاة أو غيرها، وتخصيص يومها بالصيام بدعة منكرة عند أكثر أهل العلم، وليس له أصل في الشرع المطهر، بل هو مما حدث في الإسلام بعد عصر الصحابة رضي الله عنهم، ويكفي طالب الحق في هذا الباب وغيره قول الله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}[7] وما جاء في معناها من الآيات، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) وما جاء في معناه من الأحاديث، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا تخصوا يومها بالصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم)) فلو كان تخصيص شيء من الليالي، بشيء من العبادة جائزا، لكانت ليلة الجمعة أولى من غيرها. لأن يومها هو خير يوم طلعت عليه الشمس، بنص الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما حذر النبي صلى الله عليه وسلم من تخصيصها بقيام من بين الليالي، دل ذلك على أن غيرها من الليالي من باب أولى، لا يجوز تخصيص شيء منها بشيء من العبادة، إلا بدليل صحيح يدل على التخصيص.
ولما كانت ليلة القدر وليالي رمضان يشرع قيامها والاجتهاد فيها، نبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وحث الأمة على قيامها، وفعل ذلك بنفسه، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم علي أنه قال: ((من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)) فلو كانت ليلة النصف من شعبان، أو ليلة أول جمعة من رجب أو ليلة الإسراء والمعراج يشرع تخصيصها باحتفال أو شيء من العبادة، لأرشد النبي صلى الله عليه وسلم الأمة إليه، أو فعله بنفسه، ولو وقع شيء من ذلك لنقله الصحابة رضي الله عنهم إلى الأمة، ولم يكتموه عنهم، وهم خير الناس، وأنصح الناس بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ورضي الله عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرضاهم، وقد عرفت آنفا من كلام العلماء أنه لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا عن أصحابه رضي الله عنهم شيء في فضل ليلة أول جمعة من رجب، ولا في ليلة النصف من شعبان، فعلم أن الاحتفال بهما بدعة محدثة في الإسلام، وهكذا تخصيصها بشيء من العبادة، بدعة منكرة، وهكذا ليلة سبع وعشرين من رجب، التي يعتقد بعض الناس أنها ليلة الإسراء والمعراج، لا يجوز تخصيصها بشيء من العبادة، كما لا يجوز الاحتفال بها، للأدلة السابقة، هذا لو علمت، فكيف والصحيح من أقوال العلماء أنها لا تعرف، وقول من قال: أنها ليلة سبع وعشرين من رجب، قول باطل لا أساس له في الأحاديث الصحيحة، ولقد أحسن من قال:
وخير الأمور السالفات على الهدى وشر الأمور المحدثات البدائع
والله المسؤول أن يوفقنا وسائر المسلمين للتمسك بالسنة والثبات عليها، والحذر مما خالفها، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
________________________________________
[1]- المائدة الآية 3.
[2]- الشورى الآية 21.
[3]- النساء الآية 59.
[4]- الشورى الآية 10.
[5]- آل عمران الآية 31.
[6]- النساء الآية 65.
[7]- المائدة الآية 3.(/3)
حكم الاحتفال بيوم الهَلَوِين
الحمد لله و كفى ، و الصلاة و السلام على عباده الذين اصطفى ، و بعد
فإنّ الأيّام القادمة حُبلى بموسمٍ من مواسم الشرّ ينبغي لنا أن نحذَره و نحذّر منه ، ذلكم هو ما يُعرَف عند أهله بيوم الهَلَوِين ، اليوم الأخير من شهر أكتوبر ( تشرين الأوّل ) كلّ عام .
يومٌ ورثت أوروبا النصرانيّة الاحتفال به عن الوثنيّة الإيرلندية التي كانت تعظّمه قبل الميلاد بزمنٍ طويل ، باعتباره أحد الطقوس الوثنيّة الموغلة في القِدَم ، و تحكي أساطيرُهم قصصاً عن منشأ الاحتفال بهذا اليوم ، أشهرها تلك التي تعتبر اليوم الأول من شهر نوفمبر ( تشرين الثاني ) يوم تتلاقى فيه شهور الحياة و شهور الموت كلّ عام ، فتخرج الأرواح ، و تنتشر الأشباح ، و تروج شعوذات السحرة ، و طلاسم المشعوذين الفجرة .
و يٌغلِق الناس على أنفسهم الأبواب خوفاً من الأرواح الشرّيرة ليلاً ، و يخرجون في اليوم التالي ذرافاتٍ و وِحداناً في مسيرات تنكّرية هستيريّة ، يلبسون فيها الأقنعة ، و يقرعون الأجراص و الطبول ، و يعزفون الأنغام الصاخبةَ الطاردة للأرواح الشريرة في زعمهم .
أمّا في البيوت ؛ فيعدّون أصنافاً محدّدةً من الأطعمة و الحلوى ، أشهرها ، و يضعون أمام باب كل بيتٍ من بيوتهم قرعةً رطبةً ، أخرجوا لبّها ، و بَقروا قشرها ليصنعوا منها هيكلاً يشبه وجه الإنسان ، فإذا طَرَق بابهُم طارقٌ من الصبيان خَرجوا إليه ببعض ما صنعوه من الحلوى بهذه المناسبة ، إرضاءً له ، و خشية أن يكون روحاً شريرة قادمة من عالم الموتى متنكراً في صورة طفل صغيرٍ ، يلحق بهم الأذى ما لَم يُرضوه .
و في هذه المناسبة الوثنيّة تعطّل دوائر الدولة و المؤسسات العامّة يوماً ، و المدارس و المعاهد أسبوعاً ، لإتاحة الفرصة أمام من يحتفون و يحتفلون بهذه المناسبة .
و لا ريب في أنّ مشاركة المسلم في هذه الاحتفالات من كبرى المحرّمات ، لما فيها من اللغو و الزور ، و دأب المؤمنين أنّهم ( لا يشهدون الزور و إذا مروا باللغو مرّوا كِراماً ) ، و قد روي عن كثيرٍ من السلف قولهم في تفسير قوله تعالى : ( لا يشهدون الزور ) أنّها أعياد المشركين .
و روى أبو داود و النسائي و غيرهما بإسناد على شرط مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، قال : قدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة و لهم يومان يلعبون فيهما ، فقال : ( ما هذان اليومان ؟؟ ) قالوا : كنّا نلعب فيهما في الجاهلية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنّ الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما يوم الأضحى ، و يوم الفطر )
فانظروا رحمكم الله كيف نهى أصحابه عن اللعب في يوم لعبهم في الجاهليّة تأكيداً على تميّز المجتمع المسلم و عدم مشاركة المشركين ، فضلاً عن تقليدهم و متابعتهم في أعيادهم و مناسباتهم .
و إذا كان عمر بن الخطّاب رضي الله عنه منع أهل من إظهار أعيادهم في بلاد المسلمين ، و وافقه على ذلك الصحابة فكان إجماعاً سكوتيّاً منهم على ذلك ، فإنّ قياس الأولى يتّجه إلى تحريم مشاركة المسلم لأهل الذمّة في أعيادهم في ديار الإسلام ، و أشنع منهم و أغلظ في التحريم مشاركتهم في ذلك في دار الكفر أو الحرب .
هذا ، و الله الموفق ، و عليه الاتكال ، و به المستعان
و صلى الله و سلم على نبينا محمد ، و آله و صحبه أجمعين .(/1)
حكم الاستعانة بغير المسلم
أضيفت بتاريخ : 03 - 04 - 2003 نقلا عن : خاص بإذاعة طريق الإسلام نسخة للطباعة القراء : 14829
هذا الموضوع يتضمن أمرين:
الأمر الأول: حكم تعاون المعارضة العراقية مع الأمريكان، لإسقاط نظام صدام
الأمر الثاني: خطورة هذا الأمر على مستوى العراق والأمة الإسلامية
وستتضمن الإجابة بيان خمسة محاور:
المحور الأول: السبب الذي تعلنه المعارضة لتسويغ تحالفها مع الحكومتين الأمريكية والبريطانية، وبيان مدى شرعيته
المحور الثاني: حكم الاسنعانة بغير المسلمين على غير المسلمين.
المحور الثالث: حكم الاستعانة بغير المسلمين على المسلمين.
المحور الرابع: حكم تحالف المسلمين مع غير المسلمين.
المحور الخامس: الأخطار المترتبة على هذا التحالف.
المحور السادس: الحل الشرعي.
وإلى تفصيل المحاور المذكورة.
المحور الأول..
السبب الذي تعلنه المعارضة لتسويغ تحالفها مع الحكومتين الأمريكية والبريطانية، وبيان مدى شرعيته
إن السبب المعلن من قبل المعارضة العراقية، لتحالفها مع الحكومتين الأمريكية والبريطانية، ومن دار في فلكهما من الأتباع، يتكون من البنود الآتية:
البند الأول: استبداد حاكم العراق بالأمر في الشعب العراقي، واستئثاره بجميع مرافق الشعب وخيراته.
البند الثاني: ظلم هذا الحاكم لشعبه، سجنا وتشريدا وقتلا بشتى أنواع الأسلحة الفتاكة.
البند الثالث: إشعاله الحروب في المنطقة، ومنها حربا الخليج الماضيتين في وما ترتب عليهما من آثار مدمرة.
البند الرابع : اعتداؤه على جيرانه واحتلال أرضهم، كما حصل في الكويت.
وهذه البنود كلها صحيحة، ولكن يجب هنا الإجابة على الأسئلة الخمسة الآتية
السؤال الأول: هل أطراف المعارضة بريئة من المشاركة في هذا السبب ببنوده الأربعة، أو أن كثيرا منهم قد شاركوا فيه بصورة مباشرة أو غير مباشرة؟
معلوم أن كثيرا من المعارضين اليوم، كانوا من أركان نظام حاكم بغداد، وأنهم من المسئولين عن كثير من المآسي والمظالم التي حلت بالشعب العراقي، وأن معارضتهم ليست في حقيقتها توبة نصوحا إلى الله وندما على ما اقترفته أيديهم من عدوان.
وكثير منهم من أجهزة المباحث والاستخبارات التي وطدت أركان الحكم الظالم، ولهم ارتباطاتهم بأجهزة الاستخبارات الأجنبية التي ظلوا يتعاملون معها فترة طويلة من الزمن، وهم اليوم يتفيئون في ظلالها، وينعمون بضيافتها، وقد أصبحت هذه الوظيفة عادة متمكنة في نفوسهم، يصعب عليهم الانفكاك عنها؟
السؤال الثاني: هل هدف أطراف المعارضة العراقية إزالة الأسباب التي ارتكبها حاكم بغداد، من الاستبداد، والظلم، وإشعال الحرب في المنطقة، والاعتداء على الجيران؟
إنه من الظلم أن ننفي هذا الهدف عن جميع أطراف المعارضة، ففي المعارضة رجال صالحون، شديدو الرغبة في القضاء على تلك الأسباب التي أعلنت لمعارضة حاكم العراق.
ولكن هذه الفئة التي تريد تحقيق هذا الهدف، بعيدة كل البعد عن التحالف مع الأمريكان والبريطانيين، لأنها ترى أن الأيدي الطاهرة المؤمنة الوطنية، لا يمكن أن تعقد صفقة ضد شعبها مع اليهود والصليبيين.
إن غالب المتحالفين مع الأمريكان والبريطانيين، هدفهم الوصول إلى السلطة على دبابات الجيوش الأجنبية التي ستدمر الشعب ومصالحه وقواته، ثم تسيطر عليه وتنهب بتروله وخيراته، وتفرض الوصاية على نظامه المستسلم الجديد، الذي تريد له أن يكون توأما لنظام "كابل"!
السؤال الثالث: هل سيختفي الظلم والسجن والقتل والتشريد عن الشعب العراقي، بعد أن يتربع على كرسي الحكم نظام مفروض من محاربين أجانب؟
ومن سيضمن ما يعد به المحاربون الأجانب من نشر الديمقراطية وتثبيت العدل كما يزعمون؟ ومن سيضمن وحدة الشعب العراقي وعدم تمزيقه إلى دويلات، أو تمكين قلة من الأطراف المتنازعة من الحكم وتسليطها على الأغلبية، كما هو المعتاد من الدول الأجنبية التي تحتل بلدان المسلمين؟ كما فعلت بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وهولندا والبرتغال في غالب بلدان العالم، ولا زالت تلك البلدان تتجرع غصص ذلك المكر الاستعماري البغيض، ومنها بعض الدول المجاورة للعراق.
السؤال الرابع : هل سيطفئ الغزو الأمريكي البريطاني للعراق نار الحروب، ويقضي على العداوات والأحقاد بين طوائف الشعب العراقي وأحزابه المتصارعة؟
أو سيكون بداية لانفجار حروب طاحنة بين طوائف دينية وأحزاب سياسية، ومجموعات عرقية، يصعب وقفها والقضاء عليها، بل ألا يخشى من أن يصب العدو والمحتل الزيت على النار ليقوي الشقاق والنزاع والانقسام، تحقيقا للترتيب الاستعماري الجديد الذي قرر إضعاف الدول العربية وتقوية الدولة اليهودية؟
السؤال الخامس : هل ستمحو أمريكا باحتلالها للعراق، وتنصيبها نظاما جديدا فيه، النزعة العدوانية على بعض البلدان المجاورة.
وهل سيستمر النظام الجديد المفروض فرضا على العراق في الحكم وفي السمع والطاعة لأمريكا؟(/1)
أو سترفضه القوى المطرودة التي ستصبح هي المعارضة الجديدة، وستعيد السيرة الأولى "العدوان على بعض الجيران" بعزم أقوى وحقد أشد مما كانا عليه؟
بل هل ستضمن الدول المجاورة التي تتظاهر أمريكا اليوم أنها تدافع عنها، أن تقلب لها أمريكا ظهر المجن، فتدخلها في الترتيب الظالم الجديد؟ إذا رأت أن مصلحتها في ذلك؟
هذه الأسئلة وغيرها ترد على الأسباب التي تعلنها طوائف المعارضة العراقية، وتسوغ بها تحالفها مع الأمريكان والبريطانيين.
إن الأسباب التي تعلنها المعارضة العراقية وتسوغ بها التحالف مع دول الكفر، لإسقاط نظام بغداد الحالي، وإقامة نظام جديد، تنصبه أمريكا، هذه الأسباب ليست خاصة بالنظام العراقي، بل تتصف بغالب تلك الأسباب أنظمة في الدول العربية، وأنظمة في كثير من الشعوب الإسلامية، بنسب متفاوتة، فهل يعد ذلك مسوغا لاستدعاء أعداء الإسلام من اليهود والصليبيين لتغيير تلك الأنظمة بالقوة، وإحلال أنظمة محلها، تقيمها هي تحت عينها وبصرها؟!
إن معنى هذا أن تعطي الجماعات والأحزاب المعارضة في كل دولة، الغطاء الشرعي لاحتلال لدول الأجنبية تلك الدول والسيطرة عليها، وإنزال ظلم أشد على أهلها من الظلم الذي أنزله بها بعض أبنائها، وهو أمر لا يمكن أن يرضى به ذو عقل سليم؟
المحور الثاني..
حكم الاستعانة بغير المسلمين على غير المسلمين.
إن الموضوع الذي ذكر العلماء فيه الاختلاف في الاستعانة بغير المسلمين، كان في استعانة المسلمين بالمشركين على المشركين، والنصوص التي فهم منها جواز الاستعانة أو عدمها، هي في هذا المعنى، وليست في استعانة المسلمين بالكفار على المسلمين.
ولهذا يجب على علماء العصر، عندما يذكرون الحكم الشرعي، جوازا أو عدم جواز، أن يحرروا محل النزاع، حتى لا يختلط على الناس الأمر.
النصوص دالة على النهي عن الاستعانة بالمشركين على المشركين، ومن قال بذلك من العلماء
منها حديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أنها قالت: « خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بدر، فلما كان بحرة الوبرة أدركه رجل قد كان يذكر منه جرأة ونجدة، ففرح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوه، فلما أدركه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: جئت لأتبعك وأصيب معك.قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تؤمن بالله ورسوله)؟ قال: لا، قال: (فارجع فلن أستعين بمشرك)
قالت: ثم مضى حتى إذا كنا بالشجرة، أدركه الرجل فقال له كما قال أول مرة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم كما قال أول مرة قال (فارجع فلن أستعين بمشرك) قال ثم رجع فأدركه بالبيداء، فقال له كما قال أول مرة: (تؤمن بالله ورسوله)؟ قال: نعم. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (فانطلق) » [صحيح مسلم، برقم (1817)]
ومنها حديث خبيب بن عبد الرحمن عن أبيه عن جده رضي الله عنه، قال: « خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، في بعض غزواته فأتيته أنا ورجل قبل أن نسلم، فقلنا: إنا نستحيي أن يشهد قومنا مشهدا، فقال (أأسلمتما)؟ قلنا: لا. قال: (فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين) فأسلمنا وشهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتلت رجلا وضربني الرجل ...فتزوجت ابنته فكانت تقول: لا عدمت رجلا وشحك هذا الوشاح. فقلت لا عدمت رجلا عجل أباك إلى النار »
[أخرجه الحاكم في المستدرك، برقم (2563) وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" وخبيب بن عبد الرحمن بن الأسود بن حارثة، جده صحابي معروف وله شاهد عن أبي حميد الساعدي"]
ومنها حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه، قال: « خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا خلف ثنية الوداع، إذا كتيبة، قال: (من هؤلاء)؟ قالوا بنو قينقاع، وهو رهط عبد الله بن سلام، قال: (وأسلموا)؟ قالوا: لا بل هم على دينهم، قال: (قل لهم فليرجعوا فإنا لا نستعين بالمشركين) » [نفس المصدر، برقم (2564)]
من قال بعدم جواز الاستعانة بالمشركين.
المالكية:
"في الاستعانة بالمشركين على قتال العدو قلت : هل كان مالك يكره أن يستعين المسلمون بالمشركين في حروبهم ؟ قال : سمعت مالكا يقول : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لن أستعين بمشرك » قال : ولم أسمعه يقول في ذلك شيئا , قال ابن القاسم : ولا أرى أن يستعينوا بهم يقاتلون معهم إلا أن يكونوا نواتية أو خداما , فلا أرى بذلك بأسا . ابن وهب عن الفضيل بن أبي عبد الله عن عبد الله بن نيار الأسلمي عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم , أنها قالت : خرج رسول الله صلى الله..." [ثم أورد حديث عائشة السابق. المدونة (/)(/2)
"( واستعانة بمشرك لا لكخدمة ) من المدونة قال ابن القاسم : لا يستعان بالمشركين في القتال لقوله صلى الله عليه وسلم : « لن أستعين بمشرك » . ولا بأس أن يكونوا نواتية وخدمة . ابن رشد : ولا بأس أن يستعار منهم السلاح... وأجاز ابن حبيب أن يقوم الإمام بمن سالمه من الحربيين على من لم يسالمه . وروى أبو الفرج عن مالك : لا بأس للإمام أن يستعين بالمشركين في قتال المشركين إذا احتاج إلى ذلك" التاج والإكليل لمختصر خليل"
( و ) حرم علينا ( استعانة بمشرك ) والسين للطلب فإن خرج من تلقاء نفسه لم يمنع على المعتمد ( إلا لخدمة ) منه لنا كنوتي أو خياط أو لهدم حصن . ( قوله : بمشرك ) المراد به مطلق الكافر لا خصوص من يشرك مع الله إلها آخر فهو من إطلاق الخاص , وإرادة العام ( قوله : لم يمنع على المعتمد ) [حاشية الدسوقي]
نصوص دالة على الاستعانة بالمشركين، على المشركين ومن قال بذلك من العلماء
منها الاستعانة بهم في أخذ السلاح منهم، وهذا أمر مباح مشروع، ولا حرج فيه سواء كان بيعا، أو إعارة، مالم يكن مشروطا بشروط تضر المسلمين.
ومن ذلك استعارة الرسول صلى الله عليه وسلم، أدرع صفوان بن أمية، كما حديث جابر الطويل في قصة غزوة حنين: « ...بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صفوان بن أمية، فسأله أدراعا، مائة درع وما يصلحها من عدتها، فقال: أغصبا يا محمد؟ قال: ( بل هي مضمونة حتى نؤديها إليك ) ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم سائرا » [أخرجه الحاكم في المستدرك، برقم (4369) وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه]
عن بن شهاب قال: "غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم، غزوة الفتح فتح مكة، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه المسلمين، فاقتتلوا بحنين فنصر الله دينه والمسلمين، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يومئذ صفوان بن أمية مائة من النعم ثم مائة ثم مائة، قال بن شهاب: حدثني سعيد بن المسيب، أن صفوان قال: والله لقد أعطاني رسول الله ما أعطاني، وإنه لأبغض الناس إلي، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي" [مسلم، برقم (2313)]
ومن ذلك حديث عائشة رضي الله عنها، في قصة استئجار الرسول صلى الله عليه وسلم، عبد الله بن أريقط الديلي الليثي، ليدله على الطريق في هجرته إلى المدينة، وكان مشركا على دين قومه.
قال البخاري رحمه الله: "باب استئجار المشركين عند الضرورة، أو إذا لم يوجد أهل الإسلام...... عن عائشة رضي الله عنها: « واستأجر النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الديل ثم من بني عبد بن عدي، هاديا خريتا.... وهو على دين كفار قريش، فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما، ووعداه غار ثور بعد ثلاث ليال، فأتاهما براحلتيهما صبيحة ليال ثلاث، فارتحلا وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل الديلي فأخذ بهم أسفل مكة وهو طريق الساحل » [البخاري، برقم (2144)
ومنها حديث ابن عمر في إقرار الرسول يهود خيبر على العمل في أرض خيبر، فقد روى ابن عمر: "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ظهر على خيبر أراد إخراج اليهود منها وكانت الأرض حين ظهر عليها لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين وأراد إخراج اليهود منها فسألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقرهم بها أن يكفوا عملها ولهم نصف الثمر فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: « نقركم بها على ذلك ما شئنا فقروا بها حتى أجلاهم عمر إلى تيماء وأريحاء » [البخاري (2213) ومسلم (1551)
ومن ذلك حديث عائشة في قصة استعانة الرسول صلى الله عليه وسلم، بعبد الله بن أريقط الديلي الليثي، ليدله على الطريق عند هجرته إلى المدينة، قالت عائشة رضي الله عنها: « لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، من الغار مهاجرا ومعه أبو بكر، وعامر بن فهيرة مردفه أبو بكر، وخلفه عبد الله بن أريقط الليثي فسلك بهما أسفل من مكة ثم مضى بهما حتى هبط بهما على الساحل أسفل من عسفان...الحديث » [الحاكم في المستدرك، برقم (4272) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه]
من قال بجواز الاستعانة بالمشركين
الحنفية:
قال الجصاص الحنفي:(/3)
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا } فيه نهي عن الاستنصار بالمشركين ; لأن الأولياء هم الأنصار . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم « أنه حين أراد الخروج إلى أحد جاء قوم من اليهود وقالوا : نحن نخرج معك , فقال : إنا لا نستعين بمشرك » , وقد كان كثير من المنافقين يقاتلون مع النبي صلى الله عليه وسلم المشركين . وقد حدثنا عبد الباقي بن قانع قال : حدثنا أبو مسلم : حدثنا حجاج : حدثنا حماد عن محمد بن إسحاق عن الزهري : « أن ناسا من اليهود غزوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقسم لهم كما قسم للمسلمين » . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضا ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا مسدد ويحيى بن معين قالا : حدثنا يحيى عن مالك عن الفضل عن عبد الله بن نيار عن عروة عن عائشة قال يحيى : « إن رجلا من المشركين لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم ليقاتل معه فقال : ارجع ثم اتفقا فقال : إنا لا نستعين بمشرك » . وقال أصحابنا : لا بأس بالاستعانة بالمشركين على قتال غيرهم من المشركين إذا كانوا متى ظهروا كان حكم الإسلام هو الظاهر , فأما إذا كانوا لو ظهروا كان حكم الشرك هو الغالب فلا ينبغي للمسلمين أن يقاتلوا معهم . ومستفيض.." [أحكام القرآن]
وقال في موضع آخر: " قوله تعالى : { بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين } قيل في معنى قوله { أولياء من دون المؤمنين } أنهم اتخذوهم أنصارا وأعضادا لتوهمهم أن لهم القوة والمنعة بعداوتهم للمسلمين بالمخالفة جهلا منهم بدين الله ; وهذا من صفة المنافقين المذكورين في الآية , وهذا يدل على أنه غير جائز للمؤمنين الاستنصار بالكفار على غيرهم من الكفار ; إذ كانوا متى غلبوا كان حكم الكفر هو الغالب ; وبذلك قال أصحابنا"
الشافعية:
قال الشافعي وإن كان مشرك يغزو مع المسلمين وكان معه في الغزو من يطعيه من مسلم أو مشرك وكانت عليه دلائل الهزيمة والحرص على غلبة المسلمين وتفريق جماعتهم لم يجز أن يغزو به وإن غزا به لم يرضخ له لأن هذا إذا كان في المنافقين مع استتارهم بالإسلام كان في المكتشفين في الشرك مثله فيهم أو أكثر إذا كانت أفعاله كأفعالهم أو أكثر ومن كان من المشركين على خلاف هذه الصفة فكانت فيه منفعة للمسلمين القدرة على عورة عدو أو طريق أو ضيعة أو نصيحة للمسلمين فلا بأس أن يغزي به [الأم (4/166)]
الحنابلة
قال ابن قدامة: "فصل ولا يستعان بمشرك وبهذا قال ابن المنذر والجوزجاني وجماعة من أهل العلم وعن أحمد ما يدل على جواز الاستعانة به وكلام الخرقي يدل عليه أيضا عند الحاجة وهو مذهب الشافعي .." (9/207)
وقد لخصت الموسوعة الفقهية مذاهب العلماء في الجمل الآتية:
"الاستعانة بأهل الكتاب في القتال"
ذهب الحنفية , والحنابلة في الصحيح من المذهب , والشافعية ما عدا ابن المنذر , وابن حبيب من المالكية , وهو رواية عن الإمام مالك إلى : جواز الاستعانة بأهل الكتاب في القتال عند الحاجة . ..... وصرح الشافعية والحنابلة بأنه يشترط أن يعرف الإمام حسن رأيهم في المسلمين ويأمن خيانتهم , فإن كانوا غير مأمونين لم تجز الاستعانة بهم ; لأننا إذا منعنا الاستعانة بمن لا يؤمن من المسلمين مثل المخذل والمرجف , فالكافر أولى .
كما شرط الإمام البغوي وآخرون شرطا آخر , وهو : أن يكثر المسلمون , بحيث لو خان المستعان بهم , وانضموا إلى الذين يغزونهم , أمكنهم مقاومتهم جميعا .
وشرط الماوردي : أن يخالفوا معتقد العدو, كاليهود والنصارى . ويرى المالكية ما عدا ابن حبيب , وجماعة من أهل العلم , منهم ابن المنذر والجوزجاني : أنه لا يجوز الاستعانة بمشرك ; لقوله عليه الصلاة والسلام: « فارجع فلن أستعين بمشرك » . ولا بأس أن يكونوا في غير المقاتلة , بل في خدمات الجيش ..."
فأنت ترى من النصوص وأقوال العلماء، أن محل الخلاف إنما هو في استعانة المسلمين بالمشركين على أعدائهم من المشركين، وأن القائلين بالجواز اشترطوا شروطا تمنع ما قد يتوقع من ضرر يلحق بالمسلمين من الاستعانة بهم، كما هو واضح.
وقد يدعي المعارضون للنظام العراقي، أن القصد من هذه الحرب، ليس الشعب العراقي المسلم، وإنما المراد بها الرئيس العراقي ونظامه، وهو كما يصرح كثير منهم نظام كافر، فهم إنما يستعينون بكافر طارئ، على كافر متمكن، والطارئ ينتهي وجوده بالقضاء على الكافر المتمكن، فهو من ارتكاب أخف الضررين.
وهي دعوى باطلة لا يخفى بطلانها على عاقل، للأمور الآتية:
الأمر الأول: أن الحكم بالكفر على معين يعلن إسلامه، يحتاج إلى محققين من أهل الفقه في الدين، يطبقون عليه قواعد التكفير، وليس ذلك كلأ مباحا لكل الناس، وبخاصة الخصم الذي كثيرا ما يعتدي على خصمه.(/4)
الأمر الثاني: أن كثيرا من المعارضين لا فرق بينهم وبين رأس النظام هذا، بل كانوا له شركاء في كل ما يتهمونه به الآن، وما ينطبق عليه ينطبق عليهم.
الأمر الثالث: أن بعض أحزاب المعارضة، هم من ذوي المذاهب الدينية المتعصبة التي تحمل حقدا شديدا على خصمها المخالف لها، بل تحكم عليه بالكفر في واقع الأمر، وإن أظهرت غير ذلك خداعا وتضليلا.
ولهذه الأحزاب أهداف تخطط لها من زمن بعيد في داخل العراق وخارجها، تدعمها في ذلك قوى خارجية، وإذا حققت هذه الأهداف، أحدثت في المنطقة من الشرور والمفاسد ما هو أشد من الشرور الحالية، وإنه لمن المؤسف حقا أن كثيرا من الناس يجهلون هذا الأمر ولا يلقون له بالا.
الأمر الرابع: أنه ليس من السهولة بمكان، أن تسقط الحرب بأسلحتها المعاصرة، النظام العراقي، بدون أن تزهق الكثير من الأرواح من المدنيين والعسكريين، وتسيل كثيرا من الدماء، وتحدث الإعاقات السيئة بكثير من البشر، وتحطم غالب مرافق البلد وتقضي على خيراته، ليصبح شعبا مدمرا يحتاج إلى عقود كثيرة من الزمن ليستعيد شيئا من ضرورات حياته.
هي إعانة وليست استعانة
ومع ذلك يجب أن يعلم أن الحالة التي يجري البحث فيها الآن، وهي العدوان الأمريكي على العراق، وما سيعقبه من أخطار، ليس فيه استعانة مسلمين بكفار في الحقيقة، بل فيه إعانة من يدعون الإسلام للكفار على الشعب العراقي المسلم، فالكفار هم الذين أعدوا العدة لهذه الحرب، وهم الذين دعوا المعارضين للنظام إلى الانضمام إليهم، ليتخذوهم ذريعة يضفون بها شرعية على عدوانهم، وإعانة المسلم للكافر على أخيه المسلم أشد جرما من استعانة المسلم بالكافر، فالأمريكان والمعارضون العراقيون، شبيهون بـ(المحلل والمحلل له) في باب النكاح، وحكم ذلك معروف.
رجحان مصلحة المسلمين فيما جرى من استعانتهم بغيرهم
ثم إن الحالات التي استعان فيها الرسول ببعض المشركين، واضح رجحان مصلحة المسلمين فيها، لأن المستعان به إما أن يكونوا أفرادا مأموني الجانب، كما هو الحال في قصة عبد الله بن أريقط الديلي، دليل الرسول صلى الله عليه وسلم في الهجرة، وإما أفرادا في جيش عرمرم من المسلمين، كما في قصة صفوان بن أمية وأصحابه في غزوة حنين، وإما طائفة تحت قيادة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما في قصة بني قينقاع التي روي فيها استعانة الرسول صلى الله بهم، فقد كانوا محكومين بالوثيقة المشهورة التي عقدها الرسول صلى الله عليه وسلم مع كافة سكان المدينة، من الأنصار بقبيلتيهم، الأوس والخزرج، والمهاجرين، واليهود بقبائلهم الثلاث، بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة.
وكان مرد أهل الوثيقة كلهم هو الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، كما يظهر من النص الآتي: (وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم، وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها، وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم " [السيرة النبوية (3/35)]
وسبق أن الذين أجازوا للمسلمين الاستعانة بالمشركين على المشركين، وليس على المسلمين، اشترطوا بـ"أن يعرف الإمام حسن رأيهم في المسلمين ويأمن خيانتهم , فإن كانوا غير مأمونين لم تجز الاستعانة بهم ; لأننا إذا منعنا الاستعانة بمن لا يؤمن من المسلمين مثل المخذل والمرجف, فالكافر أولى". كما اشترطوا " أن يكثر المسلمون, بحيث لو خان المستعان بهم, وانضموا إلى الذين يغزونهم, أمكنهم مقاومتهم جميعا".
فماذا يقول الذين يعينون الكفار على الشعب المسلم في العراق؟ هل الصليبيون واليهود مأمونون على المسلمين؟ وهل عندهم قدرة على مقاومة الأمريكان وأعوانهم الذين لا يشك في خيانتهم مسلم يؤمن بالله وباليوم الآخر؟!
المحور الثالث: حكم الاستعانة بغير المسلمين على المسلمين.
ظاهر مما سبق، أن اختلاف العلماء في جواز الاستعانة بالمشركين، يشروطها، أو عدم جواز ذلك، إنما هو في استعانة المسلمين بالمشركين على المشركين.
وعلى هذا فإن استعانة المسلمين بالمشركين على المسلمين، هو من اتخاذ الكافرين بطانة من دون المؤمنين، ومن موالاة أعداء الله الكافرين على عباده المؤمنين، ومعلوم حكم من يفعل ذلك.
تحريم الولاء للكفار و اتخاذهم بطانة منهم
معلوم أن الواجب على المؤمنين، أن يكون الله تعالى هو وليهم، وأن يكون بعضهم أولياء بعض، يتحابون ويتناصرون، كما قال تعالى: { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا... } الآية [المائدة ()](/5)
قال ابن جرير رحمه الله: " القول في تأويل قوله تعالى { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون } يعني تعالى ذكره بقوله: { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا } ليس لكم أيها المؤمنون ناصر إلا الله ورسوله والمؤمنون الذين صفتهم ما ذكر تعالى ذكره، فأما اليهود والنصارى الذين أمركم الله أن تبرءوا من ولايتهم، ونهاكم أن تتخذوا منهم أولياء، فليسوا لكم أولياء ولا نصراء، بل بعضهم أولياء بعض ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا " [جامع البيان في تأويل آي القرآن (6/287)]
ومعلوم كذلك حرمة موالاة المؤمنين لأعداء الله الكافرين، قال تعالى: { يا أيها الذين ءامنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين } [المائدة (51)]
قال القرطبي رحمه الله: " قوله تعالى: { ومن يتولهم منكم } أي يعضدهم على المسلمين { فإنه منهم } بين تعالى أن حكمه كحكمهم، وهو يمنع إثبات الميراث للمسلم من المرتد، وكان الذي تولاهم ابن أبي، ثم هذا الحكم باق إلى يوم القيامة في قطع المولاة.
وقد قال تعالى: { ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار } وقال تعالى في آل عمران: { لا تتخذوا بطانة من دونكم } وقد مضى القول فيه.
وقيل: إن معنى بعضهم أولياء بعض أي في النصرة، { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } شرط وجوابه، أي لأنه قد خالف الله تعالى ورسوله، كما خالفوا، ووجبت معاداته كما وجبت معاداتهم، ووجبت له النار كما وجبت لهم فصار منهم أي من أصحابهم" [الجامع لأحكام القرآن (6/217)]
و من أهم الأهداف التي يتخذ المنتسبون للإسلام الكفار أولياء من دون المؤمنين، ظنهم أنهم ينالون من موالاتهم العزة في الدنيا، كما قال تعالى: { الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا } [النساء (139)] وهم لا ينالون في الحقيقة إلا نقيض قصدهم، وهي الذلة، لأنهم طلبوا العزة من غير العزيز الذي لا يملك العزة سواه.
قال القرطبي رحمه الله: "قوله تعالى: { الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين } الذين نعت للمنافقين، وفي هذا دليل على أن من عمل معصية من الموحدين ليس بمنافق، لأنه لا يتولى الكفار، وتضمنت المنع من موالاة الكافر وأن يتخذوا أعوانا على الأعمال المتعلقة بالدين، وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها، أن رجلا من المشركين لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم يقاتل معه، فقال له: « ارجع فإنا لا نستعين بمشرك » [الجامع لأحكام القرآن (5/416)]
وقال ابن كثير رحمه الله: "وقوله تعالى: { من كان يريد العزة فلله العزة جميعا } أي من كان يحب أن يكون عزيزا في الدنيا والآخرة، فليلزم طاعة الله تعالى، فإنه يحصل له مقصوده، لأن الله تعالى مالك الدنيا والآخرة وله العزة جميعا، كما قال تعالى: { الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا } وقال عز وجل: { ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا } وقال جل جلاله: { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون } [تفسير القرآن العظيم (2/550)]
تحريم اتخاذ غير المؤمنين بطانة من دونهم
قال تعالى: { يا أيها الذين ءامنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون } [(118)]
ومعنى قوله { بطانة من دونكم } دخلاء من غيركم، وبطانة الرجل وأخلاؤه أهل سره ممن يسكن إليه ويثق بمودته .. مشتقة من البطن { لا يألونكم خبالا } أي فسادا يعني لا يقصرون في فساد دينكم، والعرب تقول ما ألوته خيرا أي ما قصرت في فعل ذلك به، وكذلك ما ألوته شرا ،كل حلف فيه ضرر على المسلمين فهو محرم [التبيان في غريب القرآن]
قال القرطبي رحمه الله: "نهى الله عز وجل المؤمنين بهذه الآية أن يتخذوا من الكفار واليهود وأهل الأهواء دخلاء وولجاء يفاوضونهم في الآراء، ويسندون إليهم أموالهم .... لا يألونكم خبالا يقول فسادا، يعني لا يتركون الجهد في فسادكم، يعني أنهم وإن لم يقاتلوكم في الظاهر، فإنهم لايتركون الجهد في المكر والخديعة ... لا آلو جهدا أي لا أقصر وألوت آلوا قصرت، قال امرؤ القيس:
وما المرء ما دامت حشاشة نفسه ،،،،،،،،،،، بمدرك أطراف الخطوب ولا آل
والخبال: الخبل، والخبل الفساد، وقد يكون ذلك في الأفعال والأبدان والعقول .... " وقيل لعمر رضي الله عنه: إن ههنا رجلا من نصارى الحيرة، لا أحد أكتب منه ولا أخط بقلم، أفلا يكتب عنك؟ فقال: "لا آخذ بطانة من دون المؤمنين". فلا يجوز استكتاب أهل الذمة، ولا غير ذلك من تصرفاتهم في البيع والشراء والاستنابة إليهم.(/6)
قلت وقد انقلبت الأحوال في هذه الأزمان، باتخاذ أهل الكتاب كتبة وأمناء، وتسودوا بذلك عند الجهلة الأغبياء من الولاة والأمراء، وروى البخارى عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (ما بعث الله من نبي، ولا استخلف من خليفة، إلا كانت له بطانتان، بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، فالمعصوم من عصم الله تعالى) [تفسير القرطبي (4/(4/178...)]
تأمل قول عمر في كاتب نصراني: "لا آخذ بطانة من دون المؤمنين".وقارن بينه وبين من يعين الكفار على تحقيق أهدافهم في اغتصاب ديار المؤمنين وانتهاك حرماتهم، ونهب خيراتهم وإزهاق أرواحهم!
و قال ابن كثير رحمه الله: "يقول تبارك وتعالى ناهيا عباده المؤمنين عن اتخاذ المنافقين بطانة، أي يطلعونهم على سرائرهم وما يضمرونه لأعدائهم، والمنافقون بجهدهم وطاقتهم لا يألون المؤمنين خبالا، أي يسعون في مخالفتهم وما يضرهم بكل ممكن وبما يستطيعون من المكر والخديعة، ويودون ما يعنت المؤمنين ويحرجهم ويشق عليهم، وقوله تعالى لا تتخذوا بطانة من دونكم أي من غيركم من أهل الأديان، وبطانة الرجل هم خاصة أهله الذين يطلعون على داخلة أمره [تفسير القرآن العظيم (1/399)]
المحور الرابع: حكم تحالف المسلمين مع غير المسلمين.
الحلف قسمان:
القسم الأول: حلف لا يخالف شرع الله، بل يحقق مصالح للمسلمين وغيرهم، كحلف الفضول الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: « لو ادعى به في الإسلام لأجبت » ويمكن تطبيق هذا الحلف اليوم بين المسلمين وغيرهم من الأمم، ما دام يحقق العدل ونصر المظلوم، ودفع العدوان.
قال القرطبي: في قوله تعالى: { وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون } [النحل (91)]:
"فيه ثلاث مسائل:
الأولى قوله تعالى: { وأوفوا بعهد الله } لفظ عام لجميع ما يعقد باللسان ويلتزمه الإنسان من بيع أو صلة أو مواثقة في أمر موافق للديانة، وهذه الآية مضمن قوله: { إن الله يأمر بالعدل والإحسان } لأن المعنى فيها افعلوا كذا وانتهوا عن كذا، فعطف على ذلك التقدير.
وقد قيل إنها نزلت في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام، وقيل نزلت في التزام الحلف الذي كان في الجاهلية وجاء الإسلام بالوفاء به، قاله قتادة ومجاهد وابن زيد.
والعموم يتناول كل ذلك كما بيناه. روى الصحيح عن جبير بن مطعم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية، لم يزده الإسلام إلا شدة) يعني في نصرة الحق والقيام به والمواساة. [الحديث رواه بهذا اللفظ مسلم، برقم (2530)] وهذا كنحو حلف الفضول الذي ذكره ابن إسحاق، قال: اجتمعت قبائل من قريش في دار عبد الله بن جدعان لشرفه ونسبه، فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها أو غيرهم، إلا قاموا معه حتى ترد عليه مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول، أي حلف الفضائل، والفضول هنا جمع فضل للكثرة كفلس وفلوس، روي ابن إسحاق عن ابن شهاب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم لو أدعى به في الإسلام لأجبت) [الجامع لأحكام القرآن القرطبي (10/169)]
فلو أن الأمم المتحدة، وبخاصة مجلس الأمن، التزمت بحلف من الأحلاف يتحقق به هذا المعنى الذي أثنى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال فيه: « لم يزده الإسلام إلا شدة » لكان ذلك مما لا ينبغي للمسلمين التأخر عن المشاركة فيه.
القسم الثاني: حلف يخالف حكم الله تعالى، سواء أكان بين المسلمين، أم بينهم وبين غيرهم، من اليهود والنصارى والوثنيين.
مثال الحلف المخالف لحكم الله: الحلف الذي كان معمولا به في الجاهلية، حيث يختص يتعاقد المتحالفون على التناصر على الحق والباطل، وعلى لتوارث بينهم دون الأقارب، وكذلك التوارث بالهجرة، الذي كان معمولا به في المدينة بين المهاجرين والأنصار، عندما آخى بينهم الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم نسخ الله تعالى ذلك، ورد الإرث على الأقارب، كما فصل ذلك في سورة النساء، وأبقى تعالى بين المهاجرين والأنصار وكافة المؤمنين، التناصح و التناصر والمواساة.
والذي نسخ التوارث بين غير الأقرباء، قوله تعالى: { والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم } [الأنفال (75)]
قال أبو بكر الجصاص: "قال الله تعالى : { والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم } فلم يختلف المفسرون أنهم في أول الإسلام قد كانوا يتوارثون بالحلف دون النسب، وهو معنى قوله: ((والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم)) إلى أن جعل الله ذوي الأرحام أولى من الحليف بقوله: { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين }.
فقد كان حلف الإسلام على التناصر والتوارث ثابتا صحيحا.(/7)
وأما قوله : "لا حلف في الإسلام" فإنه جائز أن يريد به الحلف على الوجوه التي كان عليها الحلف في الجاهلية, وكان هذا القول منه بعد نسخ التوارث بالحلف.
وقد كان حلف الجاهلية على وجوه: منها الحلف في التناصر, فيقول أحدهما لصاحبه إذا حالفه: "دمي دمك وهدمي هدمك وترثني وأرثك" فيتعاقدان الحلف على أن ينصر كل واحد منهما صاحبه، فيدفع عنه ويحميه بحق كان ذلك أو بباطل; ومثله لا يجوز في الإسلام; لأنه لا يجوز أن يتعاقدا الحلف على أن ينصره على الباطل، ولا أن يزوي ميراثه عن ذوي أرحامه ويجعله لحليفه; فهذا أحد وجوه الحلف الذي لا يجوز مثله في الإسلام..." [أحكام القرآن تفسير الآية الأولى من سورة المائدة { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } ]
ويدخل في هذا القسم – الحلف المخالف لشرع الله – دخولا أوليا، تحالف بعض المسلمين مع بعض، على ظلم غيرهم من المسلمين أو غيرهم، وأشد جرما من ذلك، تحالف بعض المسلمين مع الكفار من اليهود والنصارى، على مسلمين، كما يحصل اليوم من التحالف مع الأمريكان على الشعب العراقي.
وقد يستمر هذا التحالف الآثم على بلدان إسلامية أخرى، لأن الحكومة الأمريكية عازمة على الاعتداء على كثير من بلدان المسلمين... لتكمل سيطرتها على المسلمين، وتتصرف في مصالحهم المادية والمعنوية كما تشاء.
وهو يعود بالنقض على تعاون المسلمين على البر والتقوى، ويقوي التعاون على الإثم والعدوان، والله تعالى يقول: { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان }
وقال النووي رحمه الله: "وأما المؤاخاة في الإسلام والمحالفة على طاعة الله تعالى والتناصر في الدين والتعاون على البر والتقوى وإقامة الحق، فهذا باق لم ينسخ، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث: « وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة » وأما قوله صلى الله عليه وسلم: « لا حلف في الإسلام » فالمراد به حلف التوارث والحلف على ما منع الشرع منه والله أعلم" [شرح النووي على مسلم (16/82)]
المحور الخامس: الأخطار المترتبة على هذا التحالف.
الأخطار كثير وشديدة، وذات امتداد زماني ومكاني:
1-الأخطار التي تهدد العراق:
الخطر الأول: إزهاق الأرواح المدنية والعسكرية بالأسلحة الفتاكة التي سيكون كثير منها من الأسلحة الجديدة التي جرت عادة أمريكا أن تجرب في كل حرب ما لم يستعمل منها في حروب سابقة، أو تم تطويره وإن كان قد استعمل من قبل، ومعلوم ما تحدثه الحرب إذا اندلعت في أي زمان، وبخاصة في ومننا هذا الذي تمت فيه صناعة أنواع من الأسلحة ما لم يعهد له نظير.
الخطر الثاني: تدمير مقومات الشعب العراقي الاجتماعية والاقتصادية والصناعية والعسكرية والإعلامية والثقافية والزراعية والتجارية، من العدوان الأمريكي، ومن الاقتتال الذي سينشب بين الأحزاب والطوائف العراقية المتعددة، التي غرست في نفوس بعضها على البعض الأحقاد، بسبب النزاعات والثارات السابقة الطويلة الأمد، لأن هذه الحرب إذا اندلعت، وستحاول أمريكا إشعال نار الفتنة ودعمها لتخفف على جيوشها من الضربات الشعبية والرسمية المتوقعة، التي ستكون أشد عليها من الضربات التي تلقتها في بلدان أخرى، كفيتنام والصومال وما يجري الآن في أفغانستان.
وستشتعل الحرب بين الأحزاب والطوائف والقبائل العراقية التي تملك كلها من الأسلحة الثقيلة والخفيفة، ما يكفي لطول تناحرها واقتتالها.
الخطر الثالث: نزوح سكان العراق من مدنهم وقراهم التي تشتد فيها المعارك، وتشردهم بنسائهم وأطفالهم وشيوخهم ومرضاهم طلبا للمأوى والأمن والإعاشة، وسينالهم ما نال غيرهم من البلدان التي اشتعلت فيها الحروب، في أفغانستان والدول الأفريقية، وسيلقى كثير منهم حتفه، من البرد أو الحر، والجوع والعطش، وستنتشر فيهم الأمراض المعدية والقاتلة.
الخطر الرابع: تفتيت الشعب العراقي، وتقسيمه إلى دويلات، باسم الفيدرالية، ليكون أشد ضعفا وأكثر انصياعا للمطالب الأمريكية، وتعميق معاني القوميات العرقية والدينية، التي تجعل كل قومية أو طائفة أشد عداء مما هي عليه الآن.
الخطر الخامس: إقامة حاكم عسكري أمريكي، تحت مظلة فرض الأمن، ثم فرض الغزاة نظاما جديدا بتنصيب حاكم جديد، يكون عميلا لأمريكا، على غرار كرازاي في أفغانستان، تحميه قوة عسكرية وأمنية أمريكية، تحت مظلة الأمم المتحدة، لينفذ المخططات الأمريكية الشاملة، التي تريد ترتيبها في العراق، لتكون منطلقا للتغيير في المنطقة المسماة بـ(الشرق الأوسط) وبخاصة دول الخليج التي هي الهدف الأول من الغزو الأمريكي الظالم.
وسيكون من أهم المقاصد التي لها الأولوية في العراق، تضليل عقول أجيال العراق، بتغيير ثقافتهم ومفهوماتهم الإسلامية والتاريخية والاجتماعية والوطنية والجغرافية، عن طريق وضع مناهج تعليم وبرامج إعلام، يحاولون بها تحقيق ذلك المقصد.(/8)
الخطر السادس: الهيمنة على الدول الصناعية التي تشتد حاجتها إلى البترول، كبعض الدول الأوربية واليابان والصين وتايوان وكوريا... لتكون أكثر دورانا في الفلك الأمريكي وتأييدا لسياساته الظالمة،،، ثم لتؤثر على المنظمة البترولية العالمية [الأوبك] لتفكيكها أو التلاعب في أسعارها لتناسب الإرادة الأمريكية...
الخطر السابع: السيطرة الأمريكية على بترول العراق ونهب عائداته، باسم التعويضات عن ميزانية الحملة العسكرية الظالمة، وإعادة إعمار البلد بعد تدميره، والإنفاق على القوات الأجنبية التي سترابط فيه باسم حفظ الأمن، وسيجعل ذلك غالب سكان العراق في فقر مدقع.
2-الأخطار التي تهدد الأمة الإسلامية
الخطر الأول: إدخال النظام الجديد في الشعب العراقي ضمن الدول العربية التي اعترفت اعترافا كاملا بالدولة اليهودية، بالشروط اليهودية، وبذلك يتم الضغط على بقية الدول العربية المجاورة، وبخاصة دول الخليج التي قد تبادلت بعضها العلاقات الممهدة للاعتراف الكامل باليهود (المسمى بالتطبيع) وبدأت في تنفيذ تلك الشروط، ومنها التبادل التجاري و مراجعة مناهج التعليم لتغييرها بما يحقق الأهداف اليهودية من ذلك التغيير.
الخطر الثاني: تطبيق المخطط الأمريكي الذي ينفذ في العراق، على بقية الدول العربية، وبخاصة دول الخليج وسوريا ولبنان– وربما إيران – بتغيير الأنظمة، وتقسيم الدول، وإشعال نار الفتنة بين مناطقها وطوائفها، بذلك يضمنون تمزيق الدول العربية لتكون أشد ضعفا مما هي عليه الآن، وتكون أنظمتها أكثر استجابة لتنفيذ الأوامر الأمريكية.
الخطر الثالث: تحقيق الحلم اليهودي الصليبي بإقامة دولة ما يسمى بـ"إسرائيل الكبرى" التي تريد التهام أراضي الدول المجاورة، "من النيل إلى الفرات" ولهم في الجزيرة العربية حقوق مدعاة، لا يمكن أن ينسوها، وما الذي يحول بينهم وبين تحقيق ذلك الحلم إذا أعيد "ترتيب الشرق الأوسط من جديد" كما قال وزير الخارجية الأمريكي "باول" مقتديا بـ"بيريز" الذي سمى كتابه "نحو شرق أو سط جديد"؟ ما الذي يمنعهم من ذلك إذا حققوا أهداف حملتهم الظالمة؟
الخطر الرابع: فتح باب اعتراف جميع دول الشعوب الإسلامية بالدولة اليهودية، التي تنتظر بفارغ الصبر استكمال الدول العربية للاعتراف الرسمي الواضح... وبذلك يمتد الخطر المكاني والزماني على الأمة الإسلامية.
ومعلوم هو المكر اليهودي الذي يملك ما لا يملكه العرب، في داخل فلسطين وفي العالم الخارجي، من خبرة اقتصادية ووفرة مالية، وتجارة اقتصادية، ومعاملات بنكية ومصرفيه، وصناعات مدنية وعسكرية، وخبرات سياسية واستخبارية وإدارية، وتضليل إعلامي، إضافة إلى الدعم الأمريكي والغربي القوي، وسيزداد إذا تحققت الأهداف الأمريكية قوة...
الخطر الخامس: تجهيل أجيال الأمة الإسلامية، بسلب فقهها لدينها ومقومات عزتها، ومعرفة تاريخا وثقافتها، ومعرفة أعدائها على حقيقتهم، ومعرفة جغرافية بلدانها، بتغيير مناهج تعليمها الذي يصر عليه اليهود والصليبيون، بحجة أن ما بقي من المواد الإسلامية في المناهج التعليمية، هو السبب في ما يسمونه بـ"الإرهاب".
وقد طبقت ذلك بعض الدول العربية التي تم اعترافها بالدولة اليهودية، وكثير من الدول العربية التي لم تعترف باليهود رسميا، بدأت تراجع تلك المناهج، لتكون جاهزة عندما يحين وقت الاعتراف الرسمي.
وهذا الخطر في الحقيقة هو أشد من جميع الأخطار التي ذكرت والتي لم تذكر، لأن جهل الأمة بالمصالح التي يجب أن تحافظ عليها، والمفاسد التي يجب عليها أن تجتنبها، يدمرها وهي لا تشعر بذلك.
والذي يعرف انه مريض يسعى لمعالجة مرضه، والذي لا يشعر به يهلكه وهو في غفلة عنه.
الخطر السادس: ما يجيده اليهود من الاستعانة بمرضى القلوب من المنافقين على المسلمين، كما كانوا يفعلون ذلك مع المنافقين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد فصلت ذلك آيات القرآن الكريم، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته، وما يجيدونه كذلك من تأليب إخوانهم الكفار على المسلمين، كما فعلوا مع المشركين في جمعهم على العدوان على الرسول وأصحابه في غزوة الأحزاب....
ومكرهم وخداعهم معلوم في حقب التاريخ كلها، ومع جميع الأمم، كما أن أساليبهم معلومة كذلك.
ولهذا اجتهدت الدول الغربية في إنشاء دولة لهم في فلسطين، ليجلوهم من بلدانهم التي عاثوا فيها فسادا، ليأمنوا شرهم بعد أن شعروا بخطرهم ومكرهم، ومن تلك البلدان أمريكا...
المحور السادس: الحل الشرعي
وكان في إمكان حكومات الشعوب الإسلامية أن تمنع هذه الشرور التي نزلت بشعوبها، ومنها الحملات الأمريكية والبريطانية الظالمة وغيرهما من الدول المتحالفة معهما على العدوان، لو أتلك الحكومات طبقت شرع الله تعالى في شعوبها، وفيما بينها.(/9)
فقد رسم القرآن الكريم للمسلمين الحل الشرعي، لإنهاء النزاعات والخصومات فيما بينهم، وهو القيام بالصلح بالعدل ببين الطائفتين المقتلتين من المسلمين، وإذا بغت إحداهما على الأخرى ورفضت الصلح العادل، فالفرض على المسلمين قتال الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله، كما قال تعالى: { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين } [الحجرات (9)]
فقد أوجب الله في هذه الآيات أن يقوم المسلمون بالصلح بين أي طائفتين منهم حصل بينهما خلاف بالعدل، فإذ لم يقبلوا الصلح بالعدل، فإنه عندئذ يجب على المسلمين أن يقاتلوا الفئة الباغية حتى تعود إلى صف المسلمين، وفي هذا اهتمام عظيم بالقضاء على أسباب الخلاف والشقاق بين المسلمين.
قال القرطبي رحمه الله: "قال العلماء: لا تخلوا الفئتان من المسلمين في اقتتالهما، إما أن يقتتلا على سبيل البغي منهما جميعا أو لا.. فإن كان الأول فالواجب في ذلك أن يمشي بينهما بما يصلح ذات البين ويثمر المكافة والموادعة، فإن لم يتحاجزا ولم يصطلحا وأقامتا على البغي صير إلى مقاتلتهما.
وأما إن كان الثاني، وهو أن تكون إحداهما باغية على الأخرى، فالواجب أن تقاتل فئة البغي إلى أن تكف وتتوب، فإن فعلت أصلح بينها وبين المقضي عليها بالقسط والعدل، فإن التحم القتال بينهما لشبهة دخلت عليهما، وكلتاهما عند أنفسهما محقة، فالواجب إزالة الشبهة بالحجة النيرة، والبراهين القاطعة على مراشد الحق، فإن ركبتا متن اللجاج ولم تعملا على شاكلة ما هديتا إليه ونصحتا به في اتباع الحق بعد وضوحه لهما، فقد لحقتا بالفئتين الباغيتين" [الجامع لأحكام القرآن: 16/317].
ولقد أهمل حكام الشعوب الإسلامية هذا الحكم، كغالب الأحكام الشرعية، فترتب على إهمالهم هذه الفتن التي نزلت بالأمة.
والعجيب أن كثيرا من هذه الدول، تهمل الإصلاح بين حكام أي دولة وبعض رعاياها عندما يحصل بينهما نزاع، وتسوغ إهمالها بأنها لا تريد التدخل في الشئون الداخلية لغيرها من الدول، والغالب أن كثيرا من تلك الدول تتدخل في شئون دول أخرى، بطرق خفية أو ظاهرة، سياسية أو دبلوماسية أو اقتصادية، بل وعسكرية إذا لزم الأمر، ولو كانت ظالمة في تدخلها إذا ظنت أن فيه مصلحة لها.
ولقد لمسنا تجربة صلح قامت بها المملكة العربية السعودية، بين المتقاتلين اللبنانيين الذين قامت الحرب بينهم فترة طويلة من الزمن، فجمعت الأطراف المتحاربة في الطائف، ومنحتهم فرصة الحوار والمشاورة، وخرجوا في النهاية بحل وقف به نزيف الدم.
واليوم يمكن للدول العربية إذا اتفقت وصدقت، أن تجمع الأطراف المتنازعة، من العراقيين من حكومة ومعارضين، في أي بلد عربي، وتقوم بما أوجب الله تعالى عليها من الصلح بالعدل بين الطوائف المختلفة، وهذا الصلح ليس سهلا، ولكنه ليس مستحيلا، إذا خلصت النيات و استعين عليه بالصبر.
ولو قامت الدول العربية بهذا الحل الشرعي، ووقفت كلها وقفة صادقة، وتعاونت مع بقية حكومات الشعوب الإسلامية، على هذا الأمر ورفضت إعانة الأمريكان بصفة مباشرة أو غير مباشرة على عدوانها لوقت شعوبها ويلات الحروب التي تأكل الأخضر واليابس.
{ يا أيها الذين ءامنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين } [المائدة (51)]
{ فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين } [المائدة (52)](/10)
حكم الاستفتاء الشعبي
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ أصول الفقه /السياسة الشرعية
التاريخ ... 28/09/1425هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أود السؤال عن حكم عملية الاستفتاء الشعبي، والتي هي في الحقيقة طلب رأي الشعب في مسألة من المسائل كالاستفتاء على اختيار الحاكم، أو عزله، أو الاستفتاء على تعديل الدستور، أو الاستفتاء على أفضل أغنية، فما الحكم الشرعي في المشاركة في ذلك؟
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
المراد بالاستفتاء طلب الرأي والمشورة في أمر يهم الجماعة والمجتمع، وسمي استفتاءً لشبهه بالفتوى بين السائل والمفتي، والاستفتاء في الأمور المباحة من أمر الدين والدنيا جائز شرعًا، والناس منذ القدم وإلى يومنا هذا يسأل بعضهم بعضًا، ويستفتي الجاهل العالم، ويسأل من يجهل الأمر من هو أعلم به منه، وما زال الناس على هذا دون نكير؛ لأن الأصل في الأشياء الإباحة، ولا تحريم إلا بنص من الشارع، فإذا كان الاستفتاء على شيء محرم كالاستفتاء على إباحة الربا أو تحريمه، أو جواز الزنا والشذوذ الجنسي، أو منعه، أو تحليل الغناء أو تحريمه، ونحو ذلك، فهذا حرام لا يجوز، وهو تشريع بما لم يأذن به الله، قال تعالى: (أَ مْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ...)[الشورى:21].
وقال تعالى: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ
يُوقِنُونَ)[المائدة:50]. وإذا كان الاستفتاء على الدستور في جملته، وهو دستور وضعي لا يعتمد الشريعة في مواده وأحكامه، فيجوز الاستفتاء عليه؛ لأنه عمل بشري دنيوي، وإن كان يعتمد الشريعة في فصوله وأبوابه ومواده، فلا يجوز الاستفتاء عليه حينئذ؛ لأنه متضمن أحكامًا شرعية قطعية واجب العمل بها، ولا يجوز طرحها للاستفتاء، أما الاستفتاء لاختيار الحاكم أو بعض نوابه فيجوز ذلك؛ لأن الأمر يخص الناس، وعليهم التشاور، ومنه الاستفتاء باختيار الأفضل والأمثل، والدليل على هذا أن عبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنه، لما توفي عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، بقي يشاور الناس ثلاثة أيام، وكان يشاور النساء العذارى في خدورهن، ثم أخبر أن الناس لا يعدلون بعثمان، رضي الله عنه. (منهاج السنة 6/350)، وذكر ابن كثير في (البداية والنهاية) أن عبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنه، كان بقي ثلاثة أيام يستشير الناس في عثمان وعلي، رضي الله عنهما، حتى خلص إلى النساء المخدّرات في حجالهن، وحتى سأل الولدان في المكاتب، وحتى سأل من يرد من الركبان والأعراب إلى المدينة (البداية 6/160). وإذا جاز الاستفتاء (التشاور) على اختيار الحاكم جاز على عزله من باب أولى. والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد.(/1)
حكم الاعتكاف
الاعتكاف : عبادة وسنة وأفضل ما يكون في رمضان في أي مسجد تقام فيه صلاة الجماعة ، كما قال تعالى : " ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد " فلا مانع من الاعتكاف في المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف ، من الرجل والمرأة ، إذا كان لا يضر بالمصلين ولا يؤذي أحداً فلا بأس بذلك ، والذي على المعتكف أن يلزم معتكفه ويشتغل بذكر الله والعبادة ، ولا يخرج إلا لحاجة الإنسان كالبول والغائط ونحو ذلك أو لحاجة الطعام إذا كان لم يتيسر له من يحضر له الطعام فيخرج لحاجته فقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يخرج لحاجته ، ولا يجوز للمرأة أن يأتيها زوجها وهي في الاعتكاف ، وكذلك المعتكف ليس له أن يأتي زوجته وهو معتكف ؛ لأن الله تعالى قال : " ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد " والأفضل له ألا يتحدث مع الناس كثيراً بل يشتغل بالعبادة والطاعة ، لكن لو زاره بعض إخوانه أو زار المرأة بعض محارمها أو بعض أخواتها في الله وتحدثت معهم أو معهن فلا بأس ، وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – يزوره نساؤه في معتكفه ويتحدث معهن ثم ينصرفن فدل ذلك على أنه لا حرج في ذلك.
والاعتكاف هو المكث في المسجد لطاعة الله تعالى سواء كانت المدة كثيرة أو قليلة ؛ لأنه لم يرد في ذلك فيما أعلم ما يدل على التحديد لا بيوم ولا بيومين ولا بما هو أكثر من ذلك ، وهو عبادة مشروعة إلا إذا نذره صار واجباً بالنذر وهو في حق المرأة والرجل سواء ، ولا يشترط أن يكون معه صوم على الصحيح فلو اعتكف الرجل أو المرأة وهما مفطران فلا بأس في غير رمضان .
مجموع فتاوى الشيخ/ عبد العزيز بن باز –رحمه الله- ،الجزء الخامس عشر ، ص (440) .
شروط الاعتكاف
يشرع الاعتكاف في مسجد تقام فيه صلاة الجماعة، وإن كان المعتكف ممن تجب عليهم الجمعة ويتخلل مدة اعتكافه جمعة فالاعتكاف في مسجد تقام فيه الجمعة أفضل، ولا يلزم له الصوم، والسنة ألا يزور المعتكف مريضاً أثناء اعتكافه، ولا يجيب دعوة، ولا يقضي حوائج أهله، ولا يشهد جنازة، ولا يذهب إلى عمله خارج المسجد؛ لما ثبت عن عائشة –رضي الله عنها- أنها قالت:"السنة على المعتكف ألا يعود مريضاً، ولا يشهد جنازة، ولا يمس امرأة، ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه".
[اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (10/410-411)].
الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة
يجوز الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة – المسجد الحرام ومسجد النبي – صلى الله عليه وسلم -، والمسجد الأقصى.
ودليل ذلك: عموم قوله تعالى: "وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ" [البقرة: 187].
فإن هذه الآية خطاب لجميع المسلمين، ولو قلنا إن المراد بها المساجد الثلاثة، لكان أكثر المسلمين لا يخاطبون بهذه الآية؛ لأن أكثر المسلمين خارج مكة والمدينة والقدس.
وعلى هذا فنقول: إن الاعتكاف جائز في جميع المساجد، وإذا صح الحديث بأنه "لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة" فالمراد أنه الاعتكاف الأكمل والأفضل، ولا شك أن الاعتكاف في المساجد الثلاثة أفضل من غيره، كما أن الصلاة في المساجد الثلاثة أفضل من غيرها.
فالصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة في المسجد النبوي خير من ألف صلاة فيما عداه إلا المسجد الحرام، والصلاة في المسجد الأقصى بخمسمائة صلاة.
هذا – أي الأجر – فيما يفعله الإنسان في المساجد، كصلاة الجماعة في الفريضة، وفي صلاة الكسوف، وكذلك تحية المسجد، وأما الرواتب والنوافل التي تفعلها غير مقيد بالمسجد فصلاتك في البيت أفضل.
ولهذا نقول في مكة: صلاتك الرواتب في بيتك أفضل من صلاتك إياها في المسجد الحرام.
وكذلك الأمر بالنسبة للمدينة؛ لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال وهو بالمدينة: "أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" وكان – صلى الله عليه وسلم – يصلي النوافل في بيته.
أما التراويح، فإنها من الصلوات التي تشرع في المساجد، لأنها تشرع فيها الجماعة.
[فتاوى ابن عثيمين (1/548 – 549)].(/1)
حكم الاكتتاب في بنك البلاد
أعضاء فريق العمل الشرعي في بنك البلاد 3/1/1426
12/02/2005
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فقد درس فريق العمل الشرعي في بنك البلاد في اجتماعه (المائة) المنعقد يوم الخميس 01/01/1426هـ، ما ورد إليه من أسئلة عديدة حول حكم الاكتتاب في بنك البلاد، وقرر ما يأتي:
أولاً: يجوز الاكتتاب في بنك البلاد؛ لأن البنك يخضع لسياسة شرعية تلزمه بعرض جميع أعماله على الهيئة الشرعية والالتزام بقراراتها، ومراقبة تطبيقها من خلال إدارة الرقابة الشرعية، وتنص السياسة الشرعية للبنك على ما يأتي: "بتوفيق من الله التزم بنك البلاد على نفسه منذ بداية تأسيسه تطبيق الشرع المطهر في جميع معاملاته. كما يحمل على عاتقه مراعاة مقاصد الشريعة وغايات الاقتصاد الإسلامي. ولتحقيق هذا الهدف السامي التزم في نظامه بوجود هيئة شرعية مستقلة عن جميع إدارات البنك، يعرض عليها البنك جميع أعماله؛ للتأكد من مدى موافقتها لأحكام الشريعة الإسلامية. وتجدر الإشارة في هذا المقام إلى الآتي:
1. قرارات الهيئة الشرعية ملزمة لكل إدارات البنك.
2. لا يقدم أي منتج للعملاء إلا بعد عرضه على الهيئة الشرعية، وموافقتها عليه.
3. تقوم الهيئة بمراقبة أعمال البنك؛ للتأكد من موافقة الأعمال لقراراتها. وتتولى ذلك إدارة الرقابة الشرعية.
4. تعمل الهيئة الشرعية على تطوير المنتجات بما يتفق مع القواعد الشرعية، ويحقق أهداف الاقتصاد الإسلامي وغاياته.
5. على الهيئة الشرعية تحمل مسؤولية نشر الوعي المصرفي الإسلامي في البنك، وفي مختلف جهات المجتمع." أ.هـ نص السياسة الشرعية للبنك.
وقد بدأ فريق العمل الشرعي في تنفيذ هذه السياسة منذ تشكيله في شهر ربيع الآخر لعام 1425هـ فدرس النظام الأساسي للبنك، وعقد التأسيس، ونشرة الاكتتاب المفصلة، ونشرة الاكتتاب المختصرة، ونموذج الاكتتاب، واتفاقية البنوك المشاركة في الاكتتاب، واتفاقية البنك مع مدير الاكتتاب؛ فلم يجد فيها ما يمنع من جواز الاكتتاب فيه والتعامل معه.
هذا وقد فرغ فريق العمل الشرعي من دراسة عدد من عقود البنك وإجازتها، وأنهى عدداً من الضوابط الشرعية لمعاملاته.
ثانياً: يجوز بيع أسهم البنك وشراؤها وتداولها بعد الإذن بتداول الأسهم في السوق؛ لأنه يملك موجودات ذات قيمة معتبرة شرعاً، ومنها: التراخيص الممنوحة للعمل كبنك، ووجود مبنى رئيس للإدارة العامة للبنك، وعدد من الفروع العاملة للبنك بتجهيزاتها يعمل فيها أكثر من ستمائة موظف، فضلاً عن وجود العديد من الأنظمة والأجهزة، إضافة للعلاقات التعاقدية مع مؤسسة النقد العربي السعودي، ومع أكثر من مئة بنك مراسل على مستوى العالم، ولأن التغيرات في قيمة السهم بعد بدء التداول لا ترتبط ارتباطا كليا بالتغير في قيمة الموجودات العينية للشركة أو مطلوباتها فحسب، بل يؤثر فيها عوامل أخرى كالعرض والطلب على الأسهم والمؤشر العام، والحقوق المعنوية وغير ذلك.
ثالثاً: لا يجوز للمكتتب أن يستعمل اسم شخصٍ آخر في الاكتتاب، سواء أكان ذلك بعوض يدفعه لصاحب الاسم أم بغير عوض، لما في ذلك من تجاوز الحد المستحق له نظاما، وتعديه على حق غيره ممن التزم بالنظام، إذ إن مقتضى العدالة أن تتكافأ فرص المساهمين في الحصول على الأسهم، ولا يتحقق ذلك إلا بأن يحدد لكل واحد من المكتتبين سقف أعلى لا يتجاوزه، فالمنع من استخدام الشخص اسم غيره من السياسة الشرعية التي تتفق مع مقاصد الشريعة من جعل المال دولة بين الناس كلهم فقيرهم وغنيهم، لا أن يكون محصوراً بأيدي فئة قليلة. وفضلا عن ذلك، فإن هذا التصرف نوع من التدليس، وهو مظنة الخلاف والخصومة بين الأطراف.
رابعاً: يجوز للمكتتب اقتراض قيمة الاكتتاب بقرضٍ حسنٍ يرده للمقرض بمثله بدون زيادة، فإن كان القرض مشروطاً بزيادة يدفعها المقترض للمقرض فهو محرم، سواء أكانت الزيادة المشروطة نسبية أم بمبلغ مقطوع، وسواء سمي ذلك تمويلاً أم تسهيلات بنكية أم غير ذلك، لأنه من الربا. وعوضاً عن ذلك يجوز للمكتتب الذي لا يجد ما يكفي من المال الدخول مع صاحب المال في عقد مشاركة، وما يتحقق من ربح بعد بدء التداول يتقاسمانه بينهما بحسب اتفاقهما. ويشترط أن تكون الحصة المشروطة لكل منهما من الربح شائعة كأن يقول: خذ هذا المال وما كان من ربح فيه فلك 20% منه، ولي 80%، أما لو حددت حصة الواحد منهما بمبلغ مقطوع فلا يجوز كما لو قال: خذ هذا المال فاكتتب به ولك ألف ريال من الربح ولي ما زاد على ذلك؛ لأن هذا يؤدي إلى قطع المشاركة في الربح، فقد لا تربح تلك الأسهم إلا المبلغ المذكور أو أقل، أو قد تربح أرباحا كبيرة فيشعر بالغبن.(/1)
ولا يخفى أن دخول صاحب المال في عقد مشاركة مع من سيسجل السهم باسمه أقرب إلى تحقيق العدل بينهما من استئثار صاحب المال بكامل الربح، لاسيما أن هذه المشاركة لا يظهر ما يمنع منها نظاماً، فقد نص نظام الشركات على جواز أن يكون السهم مملوكاً بالاشتراك لشخصين فأكثر، على أن يكون مسجلاً باسم شخص واحد في مقابل الشركة.
وفي الختام، نسأل الله أن يوفق القائمين على بنك البلاد للاستمرار بالالتزام بأحكام الشريعة، كما نحث القائمين على الشركات المساهمة على البعد عن المعاملات المحرمة في التمويل والاستثمار وغيرهما، ونحث المتعاملين في سوق المال على دعم الشركات المساهمة التي تلتزم بأحكام الشريعة الإسلامية.
وفق الله الجميع لهداه، وجعل العمل في رضاه، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أعضاء فريق العمل الشرعي في بنك البلاد:
الشيخ أ.د عبدالله بن موسى العمار
الشيخ د. عبدالعزيز بن فوزان الفوزان
الشيخ د. محمد بن سعود العصيمي
الشيخ د. يوسف بن عبدالله الشبيلي(/2)
حكم البكاء بسبب المرض والتحدث عنه مع الآخرين
القسم : فتاوى > أخرى
السؤال :
الأخت التي رمزت لاسمها ب : أ - ع من الرياض تقول في سؤالها أنا مريضة وأحيانا أبكي لما صارت إليه حالتي بعد مرضي فهل هذا البكاء معناه اعتراض على الله عز وجل وعدم الرضا بقضائه وهذا الفعل خارج عن إرادتي وكذلك هل التحدث مع المقربين عن المرض يدخل في ذلك ؟
الجواب :
لا حرج عليك في البكاء إذا كان بدمع العين فقط لا بصوت لقول النبي صلى الله عليه وسلم لما مات ابنه إبراهيم : ((العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي الرب وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون)) والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ولا حرج عليك أيضا في إخبار الأقارب والأصدقاء بمرضك مع حمد الله وشكره والثناء عليه وسؤاله العافية وتعاطي الأسباب المباحة نوصيك بالصبر والاحتساب وأبشري بالخير لقول الله سبحانه وتعالى : {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[1] له تعالى : {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}[2]ولقول النبي صلى الله عليه وسلم : ((لا يصيب المسلم هم ولا غم ولا نصب ولا وصب وهو المرض ولا أذى حتى الشوكة إلا كفر الله بها من خطاياه)) وقوله عليه الصلاة والسلام : ((من يرد الله به خيرا يصب منه)) نسأل الله أن يمن عليك بالشفاء والعافية وصلاح القلب والعمل إنه سميع مجيب .
________________________________________
[1] - سورة الزمر الآية 10.
[2] - سورة البقرة الآية 155-157.
المصدر :
مجموع فتاوى ومقالات متنوعة الجزء الرابع(/1)
حكم البيع و الشراء بالتقسيط مع الزيادة في الثمن
السؤال :
هل يجوز البيع و الشراء بالتقسيط بزيادة في كل قسط ، كأن أشتري مثلاً سيارة و يطلب البائع دفع جزءاً من ثمنها ، و الباقي يدفع بالتقسيط ، و لكن بزيادة في كل قسط ، فهل هذه الزيادة تعتبر من الربا ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
البيع بالتقسيط لا بأس به من حيث الأصل ، بل هو عقدٌ صحيح و إن كان في الثمن زيادة عن سعر البيع نقداً ، و لكن ينبغي الاحتياط خشيةَ الوقوع في الربا ، أو الصيرورة إليه بحيلةٍ ما .
و قد أوجز أعضاء مجمع الفقه الإسلامي [ كما في ص : 109 من فتاوى المجمع المطبوعة ] في ما يلي :
أولاً : تجوز الزيادة في الثمن المؤجل عن الثمن الحال ، كما يجوز ذكر ثمن المبيع نقداً ، و ثمنه بالأقساط لمدد معلومة ، و لا يصح البيع إلا إذا جزم العاقدان بالنقد أو التأجيل ، فإن وقع البيع مع التردد بين النقد و التأجيل بأن لم يحصل الاتفاق الجازم على ثمن واحد محدد ، فهو غير جائز شرعاً .
ثانياً : لا يجوز شرعاً في بيع الأجل ، التنصيص في العقد على فوائد التقسيط ، مفصولة عن الثمن الحال ، بحيث ترتبط بالأجل ، سواء اتفق العاقدان على نسبة الفائدة أم ربطها بالفائدة السائدة .
ثالثاً : إذا تأخر المشتري المدين في دفع الأقساط عن الموعد المحدد فلا يجوز إلزامه أي زيادة على الدين بشرط سابق أو بدون شرط ، لأن ذلك ربا محرم .
رابعاً : يحرم على المدين المليء أن يماطل في أداء ما حل من الأقساط ، و مع ذلك لا يجوز شرعاً اشتراط التعويض في حالة التأخر عن الأداء .
خامساً : يجوز شرعاً أن يشترط البائع بالأجل حلول الأقساط قبل مواعيدها ، عند تأخر المدين عن أداء بعضها ، ما دام المدين قد رضي بهذا الشرط عند التعاقد .
سادساً : لا حق للبائع في الاحتفاظ بملكية المبيع بعد البيع ، ولكن يجوز للبائع أن يشترط على المشتري رهن المبيع عنده لضمان حقه في استيفاء الأقساط المؤجلة .
سابعاً : الحطيطة من الدين المؤجل لأجل تعجيله ، سواء أكانت بطلب الدائن أو المدين ( وضع تعجيل ) جائزة شرعاً ، لا تدخل في الربا المحرم إذا لم تكن بناء على اتفاق مسبق ، و ما دامت العلاقة بين الدائن والمدين ثنائية ، فإذا دخل بينهما طرف ثالث لم تجز ، لأنها تأخذ عندئذ حكم حسم الأوراق التجارية .
ثامناً : يجوز اتفاق المتداينين على حلول سائر الأقساط عند امتناع المدين عن وفاء أي قسط من الأقساط المستحقة عليه ما لم يكن معسراً .
تاسعاً : إذا اعتبر الدين حالاًّ لموت المدين أو إفلاسه أو مماطلته فيجوز في جميع هذه الحالات الحط منه للتعجيل بالتراضي .
عاشراً : ضابط الإعسار الذي يوجب الإنظار : ألا يكون للمدين مال زائد عن حوائجه الأصلية يفي بدينه أو عيناً . اهـ . [ هذه الضوابط نشرها موقع الإسلام سؤال و جواب نقلاً عن المجمع المذكور ] .
قلت : فإذا كان العقد منضبطاً بالضوابط الشرعيّة المذكورة في هذا القرار ، فلا بأس فيه إن شاء الله .
و الله أعلم .(/1)
حكم التحزب في الإسلام
بقلم : إبراهيم بن عبد العزيز بركات
رئيس قسم الدعوة والإرشاد بجمعية أهل السنة الخيرية
الطبعة الأولى
1425هـ 2004 م
إصدار وتوزيع : جمعية أهل السنة الخيرية
القدس بين حنينا –طلعة حزما
هاتف 5849670 فاكس 5849829
http://www.asunnah.net
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
فضيلة الشيخ حفظك الله تعالى ما صحة القول بوجوب العمل ضمن حزب أو جماعة إسلامية إذ يستدل أصحاب هذا الرأي بقوله تعالى : (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) . آل عمران 103 .
وهل المخالف لذلك يعتبر آثماً وفقك الله لما يحبه ويرضاه .
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد :
فأعلم يرحمك الله تعالى أن هذا القول لا أصل له ، بل هو مخالف للكتاب والسنة وما أجمع عليه أهل السنة والجماعة ،وذلك لما يلي :
أولاً : إن الآية لا تدل على ما ذهبوا إليه لا من قريب ولا من بعيد ، بل هو مخالف لما تتضمنه من أحكام ، فالآية صريحة الدلالة على وجوب القيام بأعمال ثلاثة وهي ، الدعوة إلى الخير ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، ومن المعلوم بالضرورة لكل ذي عقل وفهم أن المتصدي لهذه الأمور لا بد أن يكون عالماً بها ، إذ لا يستطيع الجاهل التصدي إلى أعظم الأمور التي تقوم عليها مصالح العباد في الدنيا والآخرة ، وهذا ما ذهب إليه جمهور العلماء ،ونستطيع أن ندلل على صحة هذا القول من خلال النقاط التالية :
1 : لفظ أمة له مدلول خاص فهو مشتق من الأم بفتح الهمزة وهو القصد ، ولذلك جاء في دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام :) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) . (127) البقرة
وكذلك في قوله تعالى :( وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) . ((158) الأعراف وقال سبحانه عن إبراهيم عليه السلام :( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) . (119) النحل
وبذلك يتبين لك أن لفظ أمة له مدلول أخص من مدلول الجماعة ، ويؤكد ذلك الأمر اقتران هذا اللفظ بالأعمال التي نصت عليها الآية الكريمة وهي الدعوة إلى الخير ،والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر .
2 : إن الواجب لا يدل على قيام الجماعة ، بل يدل على وجوب التزام ما أنيط بالجماعة من أعمال ،فلو قامت جماعة ولم تقم بما طلب منها من أعمال لا يتحقق الهدف من قيامها وعليه يكون قيامها وعدمه سيان .
3 : من المعلوم أن هذه الأعمال وهي الدعوة إلى الخير ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ،تحتاج إلى علم بقواعد الشريعة ولا يستطيعها إلا من عرف هذه الأحكام وكيفية التزامها ، وما يترتب عليها من مصالح ومفاسد ،ولا ريب أن الجاهل فاقد لذلك كله ، فتعين المراد من هذه الأمة وهم أهل العلم لا غير ويؤكد ذلك المعنى ما ثبت عن الضحاك رضي الله عنه قال : ( وهم الصحابة والرواة خاصة ) .وهذا ما ذهب إليه جمهور العلماء .
تنبيه قد يتوهم البعض أن مرادي من جمهور العلماء معظم العلماء أي هنالك علماء يقولون بقولهم .
فأقول إن المقصود بجمهور العلماء القائلين بأن المراد من الأمة طائفة العلماء خاصة وهم الذين قالوا إن( من ) للتبعيض ، وأما المخالفون فقالوا إن ( من ) لبيان الجنس ،وهذا من منطلق قولهم إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل مسلم بعينه .(/1)
ثانياً : لو كان فهمهم للآية فهماً صحيحاً ، لكان لهم سلف في ذلك ، خاصة في عهد الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، فهم أحرص الناس على الإتباع والقيام بما أوجب الله سبحانه حق القيام،خاصة وأن الآية مدنية أي نزلت في المدينة المنورة في ظل حكم إسلامي ، وهذا ما لم يثبت عنهم لا بدليل صحيح ، ولا بدليل ضعيف ،فلم يقم الصحابة رضي الله تعالى عنهم حزباً أو أحزاباً بعد نزول الآية الكريمة ، بل لم ينقل عن أحدهم أن المراد بالآية إقامة حزب أو أحزاب سياسية أو منهجية ، وهذا واضح للغاية ، ولا يقال : إن الصحابة لم يفعلوا ذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم ،إذ إن العبرة في عموم الأمر ، بل الأمر ابتداء موجه إلى الصحابة رضي الله تعالى عنهم والناس تبع لهم وما كان واجباً على الصحابة فهو واجب على سائر الأمة ، وما كان واجباً على الأمة فهو واجب على الصحابة ، فلا فرق بيننا وبين الصحابة رضي الله تعالى عنهم من حيث التزام أحكام الله سبحانه ، وكذلك لا يقال : إن الصحابة لم يفعلوا ذلك لوجود الدولة الإسلامية . وهذا القول أيضاً لا يخفى ضعفه ، فإن الآية نزلت في المدينة المنورة أي في ظل الدولة الإسلامية وهي عامة لا تخصص بزمان ،ويدلنا على هذا القول ما تعلق بالآية الكريمة من أحكام شرعية ، وهي الدعوة إلى الخير ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، ولا أظن أحداً من المسلمين يقول : إن هذه الأعمال لا تجب إلا في ظل الخلافة الإسلامية ، وعليه يكون مذهبهم مذهباً محدثاً قام على غير أصول يعتد بها لذا فهو يندرج تحت محدثات الأمور .
ثالثاً : إن القول بوجوب تعدد الأحزاب في الأمة الإسلامية مخالف لقواعد الشريعة الآمرة بوجوب التوحد ، ويتضح ذلك من عموم الأدلة الدالة على ذلك منها قوله تعالى:(وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) . (102) آل عمران
وقال سبحانه : (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ ) .3 الصف وقال سبحانه : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون) .َ9)) .الحجرات
وقال :: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً ). متفق على صحته من حديث أبي موسى الأشعري . وروى البخاري و مسلم من طريق زكريا عن الشعبي عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد . إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) . وفي رواية عند مسلم ( المسلمون كرجل واحد . إن اشتكى عينه اشتكى كله وإن اشتكى رأسه اشتكى كله ) .
فهذه الأحاديث دليل واضح على وجوب وحدة الأمة ،وهي دليل أيضاً على تحريم كل الأمور التي تحول دون الوحدة الكاملة ،فإن تمثيل الرسول المؤمنين بالجسد الواحد وكذلك بالبنيان الذي يشد بعضه بعضاً ،لدليل ما بعده دليل على حرمة التباغض والتدابر ، وقد حرص كل الحرص على توثيق الأخوة الإيمانية بين المسلمين ليكونوا أمة واحدة متعاضدة متراحمة ، على خلاف ما هي عليه اليوم من التباغض والتدابر ، ولا شك أن تعدد الأحزاب في الأمة يسهم إسهاماً كبيراً في تفرقها وعدم وحدتها ، بل وفي تخالف قلوبها وتشتيت جهودها ،وقد وصف الله سبحانه المؤمنين بأعظم صفات التلاحم والتوافق والتآخي فقال سبحانه : (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ) . (29)الفتح وقال سبحانه : (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). (63) الأنفال(/2)
فأين هذه الصفات في الأمة اليوم ؟ بل أين الأمة التي تحقق فيها معنى الأخوة القائمة على الحب في الله والبغض في الله ؟ حتماً قد أصبحت هذه الصفات في ذاكرة التاريخ الإسلامي بعيداً عن الواقع العملي إلا فيمن رحم ربي سبحانه وهم قلة قليلة وصفهم صلى الله عليه وسلم بالغرباء . ولا ريب بأن الأحزاب الإسلامية لعبت دوراً واضحاً في تفريق المسلمين وتشتيت جهودهم ، وضياع سلطانهم ،إذ لا يشك عاقل بأن تعددهم ما هو إلا نتيجة الاختلافات القائمة بينهم المفضية إلى التنازع المؤدي إلى الفشل قال تعالى : (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِين ) .َ (46) الأنفال
رابعاً : إن التحزب نتيجة التفرق بين الأمة الواحدة ، وقد نهى الله سبحانه الأمة عن التفرق والاختلاف ،وتوعد أصحابه بالعذاب العظيم في الدنيا والآخرة ، قال تعالى : (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) . (105) آل عمران وقال سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ) . (159)الأنعام
قال الطبري في تفسير هذه الآية : والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إن الله أخبر نبيه أنه بريء ممن فارق دين الحق ، وفرقه وكانوا فرقاً فيه وأحزاباً . جامع البيان . وقال مجاهد : إن الذين فرقوا دينهم من هذه الأمة ، هم أهل البدع والشبهات . واعلم أن المراد من الآية الحث على أن تكون كلمة المسلمين واحدة ، وأن لا يتفرقوا في الدين ولا يبتدعوا البدع . تفسير الفخر الرازي وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في تفسير قوله تعالى : ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء ) . قال : هم الخوارج . وقيل أصحاب البدع ، والظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين الله وكان مخالفاً له ، فإن الله بعث محمداً بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ،وشرعه واحد لا اختلاف فيه ولا افتراق فمن اختلف فيه : ( وكانوا شيعاً ) أي فرقاً كأهل الملل والنحل والأهواء والضلالات ، فإن الله تعالى قد برأ رسوله مما هم فيه . تفسير ابن كثير
وقال الشوكاني في هذه الآية : إنها تشمل الكافرين والمبتدعين لأن اللفظ يفيد العموم فيدخل فيه طوائف أهل الكتاب ، وطوائف المشركين ، وغيرهم ممن ابتدع من أهل الإسلام ، ومعنى شيعاً ،فرقاً وأحزاباً ، فتصدق على كل قوم كان أمرهم في الدين واحداً مجتمعاً ثم اتبع كل جماعة منهم رأي كبير من كبرائهم يخالف الصواب ، ويباين الحق . فتح القدير .
وقد كثرت الأحاديث عن رسول الله في حرمة التفرق والاختلاف من ذلك ما رواه أبوهريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله (( ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا )) . متفق عليه وخرج الحاكم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيّ صلي الله عليه وسلم قال ((سيصيب أمتي داء الأمم قالوا يا نبي الله وما داء الأمم قال الأشر والبطر والتكاثر والتنافس في الدنيا والتباغض والتحاسد حتى يكون البغي ثم الهرج )) المستدرك وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية كان في أمتي من يصنع ذلك وإن بني إسرائيل تفرقوا على اثنتين وسبعين ملة وتفرق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة قالوا من هي يا رسول الله قال ما أنا عليه وأصحابي ) رواه الترمذي وحسنه ورواه الحاكم وغيرهما .
فهذه الأحاديث تدل دلالة واضحة على حرمة التفرق والاختلاف ، ولا يقال هنا إن المقصود بالتفرق والاختلاف ما كان متعلقاً بأصل من أصول الشريعة ، أما ما كان متعلقاً بفرع فلا يدخل في هذا الباب ، أقول هذا القول صحيح إذا قيد بقيود وهي :
1 : أن لا يتعارض مع مسألة ثابتة بالكتاب والسنة ، أو قام الإجماع عليها ، وهي ما تتعلق بالبدع المحرمة التي تعارض الشريعة الحقة .لقوله ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) متفق على صحته وقوله ، ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) أخرجه مسلم في صحيحه ، وقوله ، صلى الله عليه وسلم ، في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال : قال ( فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ) رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه بسند صحيح ،والأحاديث في هذا المعنى كثيرة .(/3)
2 : أن لا تحدث تفرقاً وتنازعاً بين المسلمين لما جاء في الحديث عن النَّزال بن سبرة قال سمعت عبد الله بن مسعود قال: سمعت رجلا قرأ آية سمعت من النبي خلافها فأخذت بيده فأتيت به رسول الله فقال : ( كلاكما محسن فاقرآ ) قال شعبة – أحد رواة الحديث – أكبر علمي أن النبي قال : (فإن من كان قبلكم اختلفوا فأُهلكوا ) . رواه البخاري .والحديث صريح بأن الخلاف الذي يكون أصله جائزاً إذا أدى إلى وقوع الخلاف بين المسلمين فهو يحرم لا لذاته ولكن لما يترتب عليه من معاداة وتباغض بين المسلمين ، ولا يشك مسلم بأن نشر العداوة والبغضاء بين المسلمين هو مدخل من مداخل الشيطان ، قال تعالى : (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُون ) .َ (91) المائدة
فالشيطان يهيج الأمة على المنكرات من أجل إيقاع العداوة والبغضاء بينهم ويصدهم عن سبيل الله المستقيم ، لذا جاءت الأحاديث مشددة على ذلك ، ومبينة عاقبة العداوة والبغضاء بين المسلمين ومن ذلك ما رواه أبو هُريرةَ رضي اللهُ عنه قال: قال رسوُل الله ::(لا تَحَاسَدُوا، ولا تَنَاجَشُوا، ولا تَباغَضُوا، ولا تَدَابَرُوا، ولا يَبعْ بَعْضُكُمْ على بَيْعِ بَعْضٍ، وكُونُوا عِبادَ اللهِ إخْوَاناً، المُسْلمُ أَخُو المُسْلمِ: لا يَظْلِمُهُ، ولا يَكْذِبُهُ، ولا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى ههُنا - ويُشِيرُ إلى صَدْرِه ثَلاثَ مَرَّاتٍ - بِحَسْبِ امْرِىءٍ مِنَ الشَّرِّ أن يَحْقِرَ أخاهُ المُسْلِمِ، كُلُّ المُسْلِمِ على الْمسْلِم حَرَامٌ: دَمُهُ ومالُهُ وعِرْضُه ) . رواه مسلم
وقال : (دب إليكم داء الأمم قبلكم، البغضاء والحسد، والبغضاء هي الحالقة: ليس حالقة الشعر، ولكن حالقة الدين، والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أنبئكم بما يثبت لكم ذلك، أفشوا السلام بينكم) أخرجه الإمام أحمد والترمذي وحسنه الألباني .
3 : أن لا يجعل المسائل الفرعية أصلاً لفكره بحيث يقيم الولاء والبراء فيها ،أو يعتقد أن نفسه على الحق المبين ، وأن غيره مبتدعاً قال تعالى في وصف أهل الضلال : (فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ) . آل عمران 7 وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: (فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ) . الآية
قالت : قال رسول الله : : ( فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم ) . رواه البخاري وغيره . وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري أيضاً قال : قال : ( الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهة، فمن ترك ما شبه عليه من الإثم كان لما استبان أترك، ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان، والمعاصي حمى الله، من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه).
فإن وقع في شيء من ذلك يكون ممن ينطبق عليهم قول الرسول في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من خرج من الطاعة ، وفارق الجماعة ، فمات ، مات ميتةً جاهلية ، ومن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبة ، أو يدعو إلى عصبة ، أو ينصر عصبة ، فقتل فقتلة جاهلية ، ومن خرج على أمتي يضرب برها ، وفاجرها ، ولا يتحاشى من مؤمنها ، ولا يفي لذي عهد عهده ، فليس مني ولست منه ) .
وبذلك نكون قد ميزنا بحمد الله وفضله بين الاختلاف الممدوح ، والاختلاف المذموم ، وهو ما يعرف عند أهل العلم باختلاف التنوع والتضاد .(/4)
وقد رأيت من المفيد أن أورد كلام الإمام الشاطبي في هذا الباب : قال الامام الشاطبي رحمه الله : ولهؤلاء الفرق خواص وعلامات في الجملة ، وعلامات في التفصيل . فأما علامات الجملة فثلاث :إحداها الفرقة التي نبه عليها قوله تعالى " إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء " وقوله " ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا " وغير ذلك من الأدلة . قال بعض المفسرين صاروا فرقا لاتباع أهوائهم وبمفارقة الدين تشتت أهواؤهم فافترقوا ، وهو قوله "إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا " ثم برأه الله منهم بقوله "لست منهم في شيء " وهم أصحاب البدع والكلام فيما لم يأذن الله فيه ولا رسوله . قال ووجدنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعده قد اختلفوا في أحكام الدين ولم يفترقوا ولم يصيروا شيعا لأنهم لم يفارقوا الدين وإنما اختلفوا فيما أذن لهم من اجتهاد الرأي والاستنباط من الكتاب والسنة فيما لم يجدوا فيه نصا . واختلفت في ذلك أقوالهم فصاروا محمودين لأنهم اجتهدوا فيما أمروا به كاختلاف أبي بكر وعمر وزيد في الجد مع الأم وقول عمر وعلي في أمهات الأولاد وخلافهم في الفريضة المشتركة وخلافهم في الطلاق قبل النكاح وفي البيوع وغير ذلك مما اختلفوا فيه وكانوا مع هذا أهل مودة وتناصح ، أخوة الإسلام فيما بينهم قائمة فلما حدثت الأهواء المردية التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم وظهرت العداوات وتحزب أهلها فصاروا شيعا دل على أنه إنما حدث ذلك من المسائل المحدثة التي ألقاها الشيطان على أفواه أوليائه . قال فكل مسألة حدثت في الإسلام فاختلف الناس فيها ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء ولا فرقة علمنا إنها من مسائل الإسلام . وكل مسألة طرأت فأوجبت العداوة والتنافر والتنابز والقطيعة علمنا إنها ليست من أمر الدين في شيء وإنها التي عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند تفسير الآية .( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ) . وقد تقدمت فيجب على كل ذي دين وعقل أن يجتنبها . ودليل ذلك قوله تعالى " واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا " فإذا اختلفوا وتقاطعوا كان ذلك لحدث أحدثوه من اتباع الهوى هذا ما قالوه . وهو ظاهر في أن الإسلام يدعو إلى الألفة والتحاب والتراحم والتعاطف فكل رأي أدى إلى خلاف ذلك فخارج عن الدين . وهذه الخاصية موجودة في كل فرقة من تلك الفرق ، ألا ترى كيف كانت ظاهرة في الخوارج الذين أخبر بهم النبي عليه الصلاة والسلام في قوله " يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان " وأي فرقة توازي هذا إلا الفرقة التي بين أهل الإسلام وأهل الكفر . وهكذا تجد الأمر في سائر من عرف من الفرق أو من ادعى ذلك فيهم.)من كتاب الموافقات صفحة 104 - 106 من المجلد الرابع .(/5)
وكذلك قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : وليس للمعلمين أن يحزبوا الناس ويفعلوا ما يلقى بينهم العداوة والبغضاء، بل يكونوا مثل الإخوة المتعاونين على البر والتقوى.. وليس لأحد منهم أن يأخذ على أحد عهداً بموافقته على كل ما يريده، وموالاة من يواليه، ومعاداة من يعاديه، بل من فعل هذا كان من جنس جنكيز خان، وأمثاله الذين يجعلون من وافقهم صديقاً ولياً، ومن خالفهم عدواً باغياً . وقال رحمه الله تعالى: ومن حالف شخصاً على أن يوالي من والاه، ويعادي من عاداه كان من جنس التتر المجاهدين في سبيل الشيطان، ومثل هذا ليس من المجاهدين في سبيل الله تعالى، ولا من جند المسلمين، ولا يجوز أن يكون مثل هؤلاء من عسكر المسلمين، بل هؤلاء عسكر الشيطان".نقلا عن مجموع الفتاوى 28\5-9. وقال رحمه الله تعالى : كثير من الناس يخبر عن هذه الفِرَق بحكم الظن والهوى؛ فيجعل طائفته والمنتسبة إلى متبوعه الموالية له هم أهل السنة والجماعة، ويجعل من خالفها أهل البدع، وهذا ضلال مبين، فإن أهل الحق والسنة لا يكون متبوعهم إلا رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فهو الذي يجب تصديقه في كل ما أخبر، وطاعته في كل ما أمر، وليست هذه المنزلة لغيره من الأئمة، بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ، فمن جعل شخصاً من الأشخاص غير رسول الله من أحبه ووافقه كان من أهل السنة والجماعة، ومن خالفه كان من أهل البدعة والفرقة، كان من أهل البدع والضلال والتفرق. وبهذا يتبين أن أحق الناس بأن تكون هي الفرقة الناجية أهل الحديث والسنة، الذين ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله وهم أعلم الناس بأقواله وأحواله وأعظمهم تمييزاً بين صحيحها وسقيمها، وأئمتهم فقهاء فيها وأهل معرفة بمعانيها واتباعاً لها: تصديقاً وعملاً وحباً وموالاةً لمن والاها ومعاداةً لمن عاداها، الذين يردون المقالات المجملة إلى ما جاء به من الكتاب والحكمة، فلا ينصبون مقالة ويجعلونها من أصول دينهم وجمل كلامهم إن لم تكن ثابتة فيما جاء به الرسول، بل يجعلون ما بُعث به الرسول من الكتاب والحكمة هو الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه. وما تنازع فيه الناس من مسائل الصفات والقدر والوعيد والأسماء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك يردونه إلى الله ورسوله، ويفسرون الألفاظ المجملة التي تنازع فيها أهل التفرق والاختلاف، فما كان من معانيها موافقاً للكتاب والسنة أثبتوه، وما كان منها مخالفاً للكتاب والسنة أبطلوه، ولا يتبعون الظن وما تهوى الأنفس، فإن اتباع الظن جهل، واتباع هوى النفس بغير هدى من الله ظلم . وقال أيضاً : وكذلك التفريق بين الأمة وامتحانها بما لم يأمر الله به ولا رسوله: مثل أن يقال للرجل: أنت شكيلي أو قرفندي. فإن هذه أسماء باطلة ما أنزل الله بها من سلطان، وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ، ولا في الآثار المعروفة عن سلف الأئمة لا شكيلي ولا قرفندي، والواجب على المسلم إذا سئل عن ذلك أن يقول: لا أنا شكيلي ولا قرفندي، بل أنا مسلم متبع لكتاب الله وسنة رسوله. بل الأسماء التي قد يسوغ التسمي بها مثل انتساب الناس إلى إمام كالحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي، أو إلى شيخ كالقادري والعدوي ونحوهم، أو مثل الانتساب إلى القبائل: كالقيسي واليماني، وإلى الأمصار كالشامي والعراقي والمصري. فلا يجوز لأحد أن يمتحن الناس بها، ولا يوالي بهذه الأسماء ولا يعادي عليها، بل أكرم الخلق عند الله أتقاهم من أي طائفة كان. فكيف يجوز مع هذا لأمة محمد أن تفترق وتختلف، حتى يوالي الرجل طائفة ويعادي طائفة أخرى بالظن والهوى بلا برهان من الله تعالى، وقد برأ الله نبيه ممن كان هكذا.فهذا فعل أهل البدع كالخوارج الذين فارقوا جماعة المسلمين واستحلوا دماء من خالفهم. وأما أهل السنة والجماعة؛ فهم معتصمون بحبل الله، وأقل ما في ذلك أن يفضل الرجل من يوافقه على هواه وإن كان غيره أتقى لله منه، وإنما الواجب أن يقدم من قدمه الله ورسوله، ويؤخر من أخره الله ورسوله، ويحب ما أحبه الله ورسوله، ويبغض ما أبغضه الله ورسوله، وينهى عما نهى الله عنه ورسوله، وأن يرضى بما رضي الله به ورسوله، وإن يكون المسلمون يداً واحدة، فكيف إذا بلغ الأمر ببعض الناس إلى أن يضلل غيره ويكفره، وقد يكون الصواب معه وهو الموافق للكتاب والسنة، ولو كان أخوه المسلم قد أخطأ في شيء من أمور الدين؛ فليس كل من أخطأ يكون كافراً ولا فاسقاً، بل قد عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، وقد قال تعالى في كتابه في دعاء الرسول والمؤمنين: (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إنْ نَسينا أوْ أخْطَأنا ) .وثبت في الصحيح أن الله قال: قد فعلت. وكيف يجوز التفريق بين الأمة بأسماء مبتدعة لا أصل لها في كتاب الله ولا سنة رسوله ؟! وهذا التفريق الذي حصل من الأمة، علمائها ومشائخها، وأمرائها وكبرائها، هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها، وذلك بتركهم العمل(/6)
بطاعة الله ورسوله، كما قال تعالى: (وَمِنَ الذينَ قالوا إنَّا نَصَارى أخَذْنا ميثاقَهُمْ فَنَسَوْا حَظّاً مِمَّا ذُكِّروا بِهِ فأغْرَيْنا بَيْنَهُمُ العداوَةَ والبَغْضاءَ). فمتى ترك الناس بعض ما أمرهم الله به وقعت بينهم العداوة والبغضاء، وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا، فإن الجماعة رحمة والفرقة عذاب .
رد شبة : يعتقد البعض أن المقصود بهذه الفرق التي جاء ذكرها في الحديث الصحيح خارجة من الملة لقوله صلى الله عليه وسلم : ( كلها في النار ) فقالوا هذه قرينة تدل على خروجها من الإسلام . أقول هذا غير صحيح ، فكون الرسول صلى الله عليه وسلم حكم في دخولها النار ، لا يدل لا من بعيد ولا من قريب على كفرها ، إنما على عظيم الإثم الذي ارتكبته فكان سببا في دخولها النار ،إذ لا يعتبر كل من توعده الله سبحانه بدخول النار كافراً ودليل ذلك قوله تعالى : (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً ) . (93) النساء فقد توعد الله قاتل النفس ظلماً بجهنم ومع ذلك فلا يعتبر ذلك الحكم تكفيراً له ، وعلى مثل هذا تتنزل المسألة ، قال الشاطبي رحمه الله تعالى : في كتابه الإعتصام وأما رواية من قال في حديثه: (كلها في النار إلا واحدة) فإنما يقتضى إنفاذ الوعيد ظاهراً، ويبقى الخلود وعدمه مسكوتاً عنه، فلا دليل فيه على شيء مما أردنا، إذ الوعيد بالنار قد يتعلق بعصاة المؤمنين كما يتعلق بالكفار على الجملة، وإن تبايناً في التخليد وعدمه.(/7)
خامساً : إن التفرق والاختلاف في الأمة نوع من أنواع العقاب الذي ينزله الله سبحانه على الأمة حال بعدها عن الكتاب والسنة قال سبحانه : ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُون ) . َ (65) الأنعام . قال الطبري في كتابه جامع القول في تأويل قوله تعالى : { أَوْ يَلْبِسكُمْ شِيَعًا وَيُذِيق بَعْضكُمْ بَأْس بَعْض } .يقول تعالى ذكره: أَوْ يخلطكم شِيَعًا : فِرَقًا واحدتها شيعة، وأما قوله: { يَلْبِسكُمْ } فهو من قولك : لَبِسْت عليه الأمر, إِذَا خلطت, فَأَنَا أَلْبِسهُ . وَإِنَّمَا قُلْت إِنَّ ذلك كذلك , لِأنه لا خلاف بين الْقُرَّاء في ذلك بِكسر الباء , ففي ذلك دليل ييِّن على أَنّه من لَبَسَ يَلبِس , وذلك هو معنى الخلط . وإِنَّما عني بِذَلك : أَو يخلطكم أَهواء مختلفة وأَحزابًا مفتَرقَة . وبِنحو الَذي قلنا في ذلك قَال أَهل التّأْويل أهـ . والمتأمل للآية الكريمة يجدها متعلقة بأنواع ثلاثة من العذاب وهي ، من فوقكم ، ومن تحت أرجلكم ،أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض . ولا ريب أن الاختلاط شيعاً نوع من أنواع العذاب وهو واقع في الأمة ، ولا ريب أن هذا الوصف ينطبق على تعدد الأحزاب في الأمة .وقد جاء في الحديث الصحيح قال : ( وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة، وأن لا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال: يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، وأن لا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها أو قال من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً ). رواه مسلم في صحيحه وفي رواية ثانية من حديث جابر رضي الله عنه قال : لما نزلت هذه الآية: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ ) .الأنعام:65. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعوذ بوجهك))، قال:(أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) قال: (أعوذ بوجهك) (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ) . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا أهون أو هذا أيسر) رواه البخاري في صحيحه . قال ابن حجر: "الإعاذة المذكورة في حديث جابر وغيره مقيدة بزمان مخصوص، وهو وجود الصحابة والقرون الفاضلة، وأما بعد ذلك فيجوز وقوع ذلك فيهم" فتح الباري 8/293. وعن أبي بصرة الغفاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : :( سألت ربي عز وجل أربعاً فأعطاني ثلاثاً ومنعني واحدة . سألت الله عز وجل أن لا تجتمع أمتي على ضلالة فأعطانيها . وسألت الله عز وجل أن لا يهلكهم بالسنين كما أهلك الأمم قبلهم فأعطانيها . وسألت الله عز وجل أن لا يظهر عليهم عدواً فأعطانيها . وسألت الله عز وجل أن لا يلبسهم شيعاً ويذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها ) . رواه أحمد والطبراني وفيه راو لم يسم . وهذه النصوص دليل على أن التفرق في الأمة نوعاً من أنواع العذاب ويؤكد ذلك المعنى قوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم ٌ ) . (63) النور . قال ابن كثير في تفسير هذه الآية : ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره ) . أي عن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وهو سبيله ومنهاجه وطريقته وسنته وشريعته ، فتوزن الأقوال والأعمال بأقواله وأعماله فما وافق ذلك قبل ، وما خالفه فهو مردود على قائله وفاعله كائناً من كان كما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) . أي فليحذر وليخش من خالف شريعة الرسول باطناً وظاهراً ( أن تصيبهم فتنة ) أي في قلوبهم من كفر أو نفاق أو بدعة ، ( أو يصيبهم عذاب أليم ) أي في الدنيا بقتل أو حد أو حبس أو نحو ذلك كما روى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب اللآئي يقعن في النار يقعن فيها ، وجعل يحجزهن ويغلبنه فيتقحمن فيها – قال فذلك مثلي ومثلكم أنا أخذ بحجزكم عن النار هلمّ عن النار فتغلبوني فيها ) . أخرجاه من حديث عبد الرزاق أ هـ(/8)
سادساً:الواجب على المسلمين إتباع الجماعة المسلمة الظاهرة على الحق ، وهي جماعة واحدة لا تتعدد بعقيدتها أو منهاجها ، وإن تعدد أفرادها ، وهذا ما دلت عليه النصوص الثابتة فعن المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون ) . البخاري وغيره قال السدي شارح سنن ابن ماجه رحمه الله تعالى :قوله ( لا تزال طائفة) الطائفة : الجماعة من الناس والتنكير للتقليل أو التعظيم لعظم قدرهم ووفور فضلهم ويحتمل التكثير أيضا فإنهم وإن قلوا فهم الكثيرون فإن الواحد لا يساويه الألف بل هم الناس كلهم قوله(منصورين)أي بالحجج والبراهين أو بالسيوف والأسنة فعلى الأول هم أهل العلم وعلى الثاني الغزاة وإلى الأول مال المصنف فذكر الحديث في هذا الباب فإنه المنقول عن كثير من أهل العلم قال أحمد بن حنبل في هذه الطائفة إن لم يكونوا هم أهل الحديث فلا أدري من هم أخرجه الحاكم في علوم الحديث قال عياض وإنما أراد أهل السنة والجماعة ومن يعتقد مذهب أهل الحديث وقال البخاري في صحيحه هم أهل العلم قال السيوطي بعد نقله أي المجتهدون لأن المقلد لا يسمى عالما واستدل به على استمرار الاجتهاد إلى قيام الساعة انتهى قال النووي يحتمل أن تكون هذه الطائفة مفرقة في أنواع المؤمنين ممن يقوم لله من المجاهدين وفقيه ومحدث وزاهد وآمر بالمعروف وغير ذلك من أنواع الخير ولا يجب اجتماعهم في مكان واحد بل يجوز أن يكونوا مفترقين في أقطار الأرض قوله ( من خذلهم ) أي لم يعاونهم ولم ينصرهم من الخلق فإنهم منصورون بالله لما فيهم من الخير ( إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ) أي فلا يضرهم عدم نصر الغير قوله ( حتى تقوم الساعة) أي ساعة موت المؤمنين بمجيء الريح التي تقبض روح كل مؤمن وهي الساعة في حق المؤمنين وإلا فالساعة لا تقوم إلا على شرار خلق الله .ويؤكد هذا المعنى قول الرسول في الحديث الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله: قال : (تفرقت اليهود على إحدى وسبعين أو اثنتين وسبعين فرقة والنصارى مثل ذلك وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ) . رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم وصححه , ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره . أ هـ بتصريف يسير .جاء في تحفة الأحوذي :المراد من أمتي أمة الإجابة وفي حديث عبد الله بن عمرو الآتي : كلهم في النار إلا ملة واحدة , وهذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم ; لأنه أخبر عن غيب وقع . قال العلقمي قال شيخنا ألف الإمام أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي في شرح هذا الحديث كتابا قال فيه : قد علم أصحاب المقالات أنه صلى الله عليه وسلم لم يرد بالفرق المذمومة المختلفين في فروع الفقه من أبواب الحلال والحرام وإنما قصد بالذم من خالف أهل الحق في أصول التوحيد وفي تقدير الخير والشر , وفي شروط النبوة والرسالة وفي موالاة الصحابة ، وما جرى مجرى هذه الأبواب ، لأن المختلفين فيها قد كفر بعضهم بعضا ، بخلاف النوع الأول فإنهم اختلفوا فيه من غير تكفير ولا تفسيق للمخالف فيه ، فيرجع تأويل الحديث في افتراق الأمة إلى هذا النوع من الاختلاف . وقد حدث في آخر أيام الصحابة خلاف القدرية من معبد الجهني وأتباعه ، ثم حدث الخلاف بعد ذلك شيئا فشيئا إلى أن تكاملت الفرق الضالة اثنتين وسبعين فرقة والثالثة والسبعون هم أهل السنة والجماعة وهي الفرقة الناجية ، انتهى باختصار يسير . أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم وصححه ، ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره . أ هـ وفي رواية عند الإمام أحمد وأبي داود عن معاوية بن أبي سفيان ، أخرجه أحمد وأبو داود فيه : ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة ، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة . وهذه الأحاديث مجتمعة تدلنا على معنى واحد وهو :عدم تعدد الجماعات على اعتبار العقيدة والمنهاج ، فقوله ( طائفة) و( جماعة ) و( إلا واحدة ) دليل واضح على عدم تعدد أهل الحق إلى فرق وجماعات مختلفة في العقيدة والمنهاج ، وقد جاءت الألفاظ مقيدة بتحديد الجماعة وهي : ( ما أنا عليه اليوم وأصحابي ) وبالتالي فإن الجماعة الحقة موافقة لما كان عليه الرسول وأصحابه رضي الله تعالى عنهم ، وقد جاءت النصوص الشرعية محذرة من مخالفة ما كان عليه الرسول وأصحابه من ذلك قوله تعالى : (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً ) . النساء ( (115ولا شك أن المقصود بسبيل المؤمنين هو سبيل الصحابة والذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين قال تعالى : (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ(/9)
اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) . (100) التوبة . وعليه فإن الطائفة المنصورة لا تتعدد كما ذكرنا من حيث تعدد الأفكار والمفاهيم ، وإن كانت تتعدد من حيث الأفراد ، والمعنى ، قد يكون في الأمة الإسلامية جماعات متعددة كتعدد الدول والأقطار ، ولكنها تجتمع على العقيدة والمنهاج ، ويكون التعاون بينها متواصلاً قائماً على المحبة والنصح ، وأما تعدد الجماعات من منطلق الفكر والمنهاج فهذا خلاف لما عليه الطائفة المنصورة ، بل هذا تفرق واختلاف مذموم والحق فيه واحد لا يتعدد ويؤكد ذلك المعنى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بقوله : وأما رأس الحزب فإنه رأس الطائفة التي تتحزب أي تصير حزباً فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان فهم مؤمنون لهم ما لهم وعليهم ما عليهم وإن كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم سواء كان على الحق والباطل فهذا من التفرق الذي ذمه الله تعالى ورسوله فإن الله ورسوله أمرا بالجماعة والائتلاف ونهيا عن التفرقة والاختلاف وأمرا بالتعاون على البر والتقوى ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان . وفي الصحيحين عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر " . وفي الصحيحين عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً " وشبك بين أصابعه . مجموع فتاوى ابن تيمية جزء 11 .
ونخرج مما سبق بقضية يغفل عن فهمها كثير من الناس ، وهي ما يتعلق بالعمل الجماعي ، إذ تبين النصوص الصريحة وجود طائفة ظاهرة على الحق وبلا شك أن العمل ضمن هذه الطائفة واجب ، وأن كل طائفة خالفتها بمعتقد أو بمنهج فهي من الفرق الضالة التي توعدها الله سبحانه بجهنم ، وكذلك فإن اعتزال هذه الطائفة وعدم التعاون معها أو خذلها من الكبائر سواء كان ذلك على النطاق الجماعي أو الفردي ، إلا أن هذا القول قد يشكل على كثير من الناس ، فلا بد له من ضابط يميز المرء من خلاله الطائفة التي يجب أن يعمل معها ، وبين الطوائف التي يجب اعتزالها ، ونستطيع أن نميز الطائفة التي هي على الحق من غيرها بضابطين اثنين :
الأول : أن هذه الطائفة تتصف بصفة الاستمرارية ، فقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تزال) يقتضي وجود هذه الطائفة في كل عصر دون انقطاع ، ولا شك أن بدايتها الرعيل الأول من هذه الأمة ، وهم الصحابة رضي الله تعالى عنهم ثم من سار على نهجهم إلى يوم الدين ، وقد بينا هذا ملخصاً من خلال الأدلة المحكمة ، ويدل هذا القول على أن الجماعات المحدثة لا تتصف بصفة الاستمرارية التي تتصف بها الطائفة المنصورة وعليه فلا تكون هي المرادة من هذا الحديث .
الثاني : أنه يجب على كل مسلم أن يكون بهذه الطائفة ، فهي طائفة توحد الأمة ولا تفرقها ، على خلاف الطوائف الأخرى فهي تفرق الأمة ولا توحدها ، وحتى تتوحد الأمة لا بد من أمور تعين على التوحد ، وهذا لا يكون إلا من خلال قيام هذه الطائفة على النصوص المحكمة التي لا يراد منها إلا ظاهر اللفظ دون تأويل ودليل ذلك قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59) النساء . فالآية واضحة بأنه إذا حدث نزاع بين المسلمين ، فالواجب عليهم رد ما تنازعوا فيه إلى الكتاب والسنة حتى يرتفع التنازع ، وإننا نرى الفرق والأحزاب متنازعة وإن كان جميعهم يقولون بأننا نعتمد بأفهامنا على الكتاب والسنة ،ومع ذلك فالخلاف بين هذه الجماعات واضح ، والفجوة بينهم كبيرة ، والسبب في ذلك راجع إلى أن كل فرقة من هذه الفرق تعتمد على النصوص المتشابهة وتفهمها من منطلق قواعدها التي قعدت لها ، ومن هنا يأتي الخلاف بحيث تحمل كل طائفة من هذه الطوائف الأدلة الشرعية على فهمها بعيداً عن موافقة غيرها من الطوائف ، ولو ردت كل طائفة من الطوائف ما اختلفت فيه إلى ما أحكم من الكتاب والسنة ، وألحقت الفرع على الأصل لرفع الخلاف من الأمة ولتوحدت على الحق جهود المسلمين ، ولكن الحال كما قال تعالى : (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِين ) .َ (119) هود(/10)
سابعاً : إن الواجب على الأمة أن تكون تحت إمرة الخليفة الشرعي وفي جماعته ويحرم على أي فرد من أفراد الأمة الخروج عن الجماعة أو مخالفتها أو الخروج عليها ، وهذا الحكم عام ،والأصل في المسلمين أن تكون لهم دولة ويكون لهم إمام ، والأدلة على ذلك كثيرة منها قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ).
والأحاديث في ذلك كثيرة منها قول الرسول صلى الله عليه وسلم : (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات، مات ميتة جاهلية ) . أخرجه مسلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم : (من فارق الجماعة شبرا فكأنما خلع ربقة الإسلام من عنقه). أخرجه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان .
ولا شك أن المقصود من هذه الجماعة ، الجماعة التي تجتمع على طاعة الإمام كما ذكر الشاطبي في ( الاعتصام 2 / 260 و ما بعدها ) : اختلف الناس في معنى الجماعة المرادة في الأحاديث على خمسة أقوالٍ : أحدها : إنها السواد الأعظم من أهل الإسلام، و الثاني : إنها جماعة أئمة العلماء المجتهدين . و الثالث : إنها الصحابة على الخصوص .الرابع : إنها جماعة أهل الإسلام إذا أجمعوا على أمر . و الخامس : إنها جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير .
وكل هذه التعرفات تدل على معنى واحد وهو اتباع الحق الذي يجمع بين المسلمين ولا يفرقهم ،ولذا اختلفت عبارات العلماء في تحديد الجماعة على أقوال متعددة ترجع كلها إلى ما ذكرنا ، وإليك بعضاً من هذه الأقوال المنسوبة إلى أهل العلم : بوَّب الشيخان كلٌّ في صحيحه ، و النسائيُّ , و الترمذي ، كلٌّ في سننه ، على وجوب لزومها .فقال البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب و السنة من صحيحه : باب قوله تعالى : ( و كذلك جعلناكم أمَّةً وسَطاً ) وما أمر النبي صلى الله عليه و سلّم بلزوم الجماعة و هم أهل العلم .و قال الإمام مسلم في كتاب الإمارة من صحيحه : باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن ، و في كل حال ، و تحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة .و عَنوَن النسائي في سننه : قتلُ من فارق الجماعة ، و ذِكرُ الاختلاف على زياد بن عِلاقة عن عَرْفَجَةَ فيه .وعقد الترمذي في سننه باباً سمَّاه : باب ما جاء في لزوم الجماعة .قلتُ : و الجماعة التي يجب على المسلم لزومها ، و يحرم الخروج عليها ، ويستحق الوعيد من فارقها ، هم أهل الحقِّ في كل عصرٍ و مِصرٍ ، و إن قَلُّوا .قال أبو شامة المقدسي رحمه الله ( كما في شرح أصول الاعتقاد للالكائي و تاريخ دمشق لابن عساكر: حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة ، فالمراد به لزوم الحق و اتِّباعه ، و إن كان المستمسك به قليلاً ، و المخالف كثيراً . ثم استدل بقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : إن الجماعة ما وافق الحق ، و إن كنت وَحدَك .و في ( تاريخ دمشق ) أيضاً أنّ نعيم بن حمَّاد رحمه الله قال : إذا فسدت الجماعة ، فعليك بما كانت عليه قبل أن تفسد ، و إن كنت وحدك ، فإنَّك الجماعة حينئذٍ . و قال أبو عيسى الترمذي رحمه الله تعالى في سننه ( 4 / 476 ) : و تفسير الجماعة عند أهل العلم هم أهل الفقه و العلم و الحديث.و قول الترمذي هذا موافقٌ لما تقدّم معنا قبل قليلٍ . وقال الإمام البخاريِّ رحمه الله في معنى الجماعة : هم أهل العلم .
وبهذا نتيقن بأن المقصود بالجماعة هم أهل الحق ،ولا شك بأن أهل الحق مذعنون بالطاعة والانقياد إلى أمير الجماعة ، وهو الخليفة ما لم يظهر الكفر البواح ، وعليه فلا وجود لهذه الجماعات المتنافرة المتدابرة لأنه من خرج عن طاعة الإمام إلى طاعة غيره فهو خارجي مهدور الدم فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله :: ( لا يحل دم إمرىء مسلم يشهد أن لا إله ألا الله وإني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة ) . رواه البخاري ومسلم
وهذا الحديث صريح الدلالة بأن الذي يفارق الجماعة يكون قد فارق دينه وإن أتى بالشهادتين ، ولا خلاف في أن المقصود بالجماعة جماعة الإمام .(/11)
ولا يقال بأن جماعة الإمام غير موجودة اليوم ، لذا فالواجب على المسلمين أن يقيموا جماعات من أجل إعادة الخلافة . أقول إن هذا القول غير صحيح لمخالفته للنص الصريح وهو ما جاء في الحديث عن حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه قال : ( كان الناس يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني فقلت يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال "نعم" قلت فهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال "نعم وفيه دخن" قلت ما دخنه؟ قال "قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر" قلت فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال "نعم" دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها" قلت يا رسول الله صفهم لنا قال "هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا" قلت فما تأمرني يا رسول الله إن أدركني ذلك؟ قال لتلزم جماعة المسلمين وإمامهم" قلت فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري .
قال ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى في شرح هذا الحديث :هو كناية عن لزوم جماعة المسلمين وطاعة سلاطينهم ولو عصوا . قال البيضاوي : المعنى إذا لم يكن في الأرض خليفة فعليك بالعزلة والصبر على تحمل شدة الزمان ، وعض أصل الشجرة كناية عن مكابدة المشقة كقولهم فلان يعض الحجارة من شدة الألم ، أو المراد اللزوم كقوله في الحديث الآخر " عضوا عليها بالنواجذ " ويؤيد الأول قوله في الحديث الآخر " فإن مت وأنت عاض على جذل خير لك من أن تتبع أحدا منهم " وقال ابن بطال : فيه حجة لجماعة الفقهاء في وجوب لزوم جماعة المسلمين وترك الخروج على أئمة الجور ، لأنه وصف الطائفة الأخيرة بأنهم " دعاة على أبواب جهنم " ولم يقل فيهم " تعرف وتنكر " كما قال في الأولين ، وهم لا يكونون كذلك إلا وهم على غير حق ، وأمر مع ذلك بلزوم الجماعة . قال الطبري : اختلف في هذا الأمر وفي الجماعة ، فقال قوم : هو للوجوب والجماعة السواد الأعظم ، ثم ساق عن محمد بن سيرين عن أبي مسعود أنه وصى من سأله لما قتل عثمان " عليك بالجماعة فإن الله لم يكن ليجمع أمة محمد على ضلالة " . وقال قوم : المراد بالجماعة الصحابة دون من بعدهم ، وقال قوم : المراد بهم أهل العلم لأن الله جعلهم حجة على الخلق والناس تبع لهم في أمر الدين . قال الطبري : والصواب أن المراد من الخبر لزوم الجماعة الذين في طاعة من اجتمعوا على تأميره , فمن نكث بيعته خرج عن الجماعة ، قال : وفي الحديث أنه متى لم يكن للناس إمام فافترق الناس أحزابا فلا يتبع أحدا في الفرقة ويعتزل الجميع إن استطاع ذلك خشية من الوقوع في الشر ، وعلى ذلك يتنزل ما جاء في سائر الأحاديث ، وبه يجمع بين ما ظاهره الاختلاف منها أ هـ . فتح الباري ( كتاب الفتن جزء 13 ) .
فالحديث واضح بأنه يجب على المسلمين التزام جماعة المسلمين وإمامهم ، وأنه إذا لم يكن لهم جماعة ولا إمام فالواجب عليهم اعتزال الفرق كلها ،وعدم الانتماء إلى أي جماعة من الجماعات ، وهذا واضح للغاية فقوله صلى الله عليه وسلم حين سأله حذيفة رضي الله تعالى عنه – إذا لم يكن لهم جماعة ولا إمام – يفهم منه أحد وجهين ، الأول ، أن لا يكون هنالك مسلمون أصلاً ، وهذا غير مراد ، الثاني أن يكون هنالك مسلمون ، ولكنهم جماعات متفرقة كما هو الحال اليوم ، لذا قال صلى الله عليه وسلم : ( فاعتزل تلك الفرق كلها ) . ولو كان الواجب هو العمل ضمن فرقة من هذه الفرق لقال صلى الله عليه وسلم ،فالتزم فرقة من هذه الفرق إذ القاعدة الشرعية تنص على إنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وهذا ظاهر أيضاً .
وثمّ أمر آخر وهو ، أن من أبرز أسباب ضياع الخلافة الإسلامية هو التفرق والاختلاف الناتج عن التحزب ،لقوله تعالى : (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِين ) .َ (46) الأنفال
وعليه فلا يكون العمل لإقامة الدولة الإسلامية من خلال التحزب والتفرق ، إنما بالعمل الجماعي المنبثق عن فهم السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين .(/12)
ثامناً : إن القول بتعدد الأحزاب قول محدث لا دليل عليه لا من الكتاب ، ولا من السنة ، ولم ينقل عن أحد ممن يعتد بقوله ، بل إن ما ذهبوا إليه من استدلال لغوي بأن أمة نكرة والنكرة تفيد التعدد قول مستغرب للغاية ،فإن النكرة تفيد العموم ، أي إذا قلت جاء رجل ، فيفهم من قولي أن رجلاً واحداً قد أتى ، ولا يفهم منه أنه جاء رجلان ، ولكن الذي لا يفهم هو ، حال الرجل وتعينه ، وكذلك لو قلت اشتريت ساعتين ، فلا يفهم من هذا القول إني اشتريت ثلاث ساعات ولا أربع ، بل يفهم من ذلك تحديد العدد ، وما يبهم هو الوصف والتعيين ، أضف إلى ذلك أن كلمة أمة في الآية الكريمة وهي قوله تعالى:(وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون ) .َ (104)آل عمران ليست موغلة بالنكارة بل هي نكرة موصوفة ، والنكرة في اللغة إذا وصفت خصصت ، فعلى سبيل المثال لو قلت : جاء رجل طويل ، يخرج من هذا الوصف كل رجل قصير ، ولو قلت جاء رجل طويل عالم ،لدل الأمر على رجل خاص فانقضى العموم ، وفي هذه الآية الكريمة بين الله سبحانه المراد بكلمة أمة ، من خلال ما أناط بها من أعمال وهي الدعوة إلى الخير ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر، وقد مضى القول بأن هذا المعنى لا يراد منه إلا أهل العلم ،أضف إلى ذلك أن كلمة أمة تتضمن هذا المعنى وإن لم توصف ، فكيف الأمر وقد وصفت ؟ ومن باب آخر فإن هنالك فرقاً بين الحزب والجماعة وإليك الفرق :الجماعة لغة مجموعة من الناس ، وهذا المعنى يطلق على الحزب أيضاَ ، فكل لفظ من لفظي الحزب والجماعة يدل على معنى واحد ألا وهو الجماعة من الناس ، إلا أن بينهما عموماً وخصوصاً ، فقد يطلق لفظ الجماعة ويراد به الحزب ، وكذلك العكس ، فالجماعة مجموعة من الناس قد تشترك على أمر واحد ، وقد لا تشترك على خلاف الحزب فإن فيه معنى الاشتراك كما في الحديث الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم : ( كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ) . أي أشتد عليه ، فيفهم من التحزب معنى الشدة ، وهو التعاضد والتناصح الذي يكون في الجماعة الواحدة وهي الحزب ، وهذا المعنى لا يشترط في الجماعة ، فقد يجتمع بعض الناس على غير تعاضد وتناصح ومع ذلك لا يخرجون عن كونهم مجتمعين ، إذن فالحزب فيه معنى الترابط وهو لازم له ، على خلاف الجماعة فقد يكون الترابط موجوداً وقد لا يكون كما مثلنا في ذلك ، فالحزب على هذا المعنى أخص من الجماعة والجماعة أعم ،والأصل في المسلمين أن يكونوا حزباً واحداً كما جاء في الحديث الصحيح عن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ) .رواه مسلم وغيره لذا نهى الإسلام عن كل ما يحول دون تحقق هذا المعنى في المسلمين جميعاً ،ومن ذلك التفرق والاختلاف وقد جاء في الحديث ما ينهى عن التحزب الخاص في الأمة والذي يؤدي إلى تفريقها فقد أخرج الشيخان عن عاصم الأحول قال: قلت لأنس: أبلغك أن النبي صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله قال: (لا حلف في الإسلام ) . فقال أنس بن مالك: "قد حالف النبي صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله بين قريش والأنصار في داري ). يقول ابن الأثير رحمه الله: أصل الحلف: المعاقدة والمعاهدة على التعاضد والتساعد والإتفاق، فما كان منه في الجاهلية على الفتن، والقتال بين القبائل، فذلك الذي ورد عنه النهي في الإسلام بقوله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله: "لا حلف في الإسلام"، وما كان منه في الجاهلية على نصرة المظلوم، وصلة الأرحام، كحلف المطيبين، وما جرى مجراه، فذلك الذي قال فيه صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله: "وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلاّ شدة" يريد من المعاقدة على الخير، ونصرة الحق، وبذلك يجتمع الحديثان، وهذا هو الحلف الذي يقتضيه الإسلام والممنوع منه ما خالف حكم الإسلام، وقيل: المحالفة كانت قبل الفتح، وقوله: "لا حلف في الإسلام" قاله زمن الفتح فكان ناسخاً. أ هـ(/13)
والمتأمل في هذا الحديث يعلم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد حرم الحلف في الإسلام ، فقوله : ( لا حلف ) يقتضي العموم إذ جاء اللفظ نكرة في سياق النفي فدل على العموم ولا يستثنى منه إلا ما كان موافقاً لأصول الشريعة ، وهو التناصح على البر والتقوى وإصلاح ذات البين ، وغير ذلك ، وأما إن كان متعلقاً بجماعة دون جماعة فهذا لا يجوز البتة ، بل يعتبر أصحابه آثمين مفرقين للأمة ينطبق عليهم ما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي: أنه قال : (من خرج من الطاعة ، وفارق الجماعة ، فمات ، مات ميتةً جاهلية ، ومن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبة ، أو يدعو إلى عصبة ، أو ينصر عصبة ، فقتل فقتلة- جاهلية ، ومن خرج على أمتي يضرب برها ، وفاجرها ، ولا يتحاشى من مؤمنها ، ولا يفي لذي عهد عهده ، فليس مني ولست منه ) . ولا يختص هذا الحكم بمن انتسب إلى جماعة أو حزب ، بل هو عام في كل من تعصب لمذهب أو شيخ أو جماعة ، أو فكر ، فهنالك الكثير من الناس لا ينتمون إلى أي حزب ، بل يحرمون ذلك ، ولكنا نراهم في الوقت ذاته يتعصبون إلى شيوخهم ، وأفكارهم التي بنيت على الاجتهاد المحتمل للصحة والخطأ ، ويضللون المخالفين لهم وإن كان الحق معهم ، وهذا بلا شك من التعصب المذموم ، وقد بينت ذلك في النقاط السابقة .
وخلاصة الأمر : إن التحزب الذي يؤدي إلى تفريق الأمة ، وخروج بعضها على بعض ، ويكون سبباً في دب العداوة والبغضاء بين الأمة الواحدة فهو تحزب محرم مذموم ، وأما إن كان تعدد الجماعات مبنياً على القواعد الثابتة غير مخالف للأصول المتفق عليها ،والتي تقوم على منهج أهل السنة والجماعة ، فلا يعتبر تفرقاً أصلاً ، بل هو تفرق باعتبار التنوع لا باعتبار التضاد ، وعليه فلا منافاة بين الأحاديث التي دلت على لزوم الجماعة ، وبين الأحاديث الدالة على تحريم التفرق والاختلاف . ، وأما استشهادهم بالآية الكريمة فضعيف خاصة وأن الآية وقعت بين آيتين ، الأولى قوله تعالى : ( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ) . والثانية قوله تعالى : ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم ) . وكلا الآيتين قد نهت عن التفرق والاختلاف الذي هو سبب دب العداوة والبغضاء في الأمة ، وهذا الذي نراه في هذه الأحزاب اليوم نسأل الله لنا ولهم الهداية والتوفيق إنه سميع مجيب .
وكتب إبراهيم بن عبد العزيز بركات
22/محرم/1425 هـ
14/3/2004م
إن التحزب الذي يؤدي إلى تفريق الأمة ، وخروج بعضها على بعض ، ويكون سبباً في دب العداوة والبغضاء بين الأمة الواحدة فهو تحزب محرم مذموم ، وأما إن كان تعدد الجماعات مبنياً على القواعد الثابتة غير مخالف للأصول المتفق عليها ،والتي تقوم على منهج أهل السنة والجماعة ، فلا يعتبر تفرقاً أصلاً ، بل هو تفرق باعتبار التنوع لا باعتبار التضاد ، وعليه فلا منافاة بين الأحاديث التي دلت على لزوم الجماعة ، وبين الأحاديث الدالة على تحريم التفرق والاختلاف ، وإن كانت هذه الرسالة تئط مضاجع المتحزبين ، وتعكر عليهم صفو تلبيسهم على العامة ، مما يدفع المتعصبين منهم للتعرض إلى صاحبها بالظلم والتهم والاعتداء ، وهذا سلاح من لا علم عنده ،ولكن الله نسأل أن يبصر المسلمين بالحق المبين ، وينفع بها المخلصين ، ويجعلها نبراس خير لمن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن ، وأن ينفع صاحبها بها في الدنيا والآخرة فهو حسبنا ونعم الوكيل .
المؤلف(/14)
حكم التصفيق
السؤال :
ما حكم التصفيق للرجال ؟ و هل هو من قبيل التشبه بالكفار ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
إن كلَّ مَن حَكم على التصفيق بالكراهة أو التحريم ، عدَّه مِن التشبه بالنساء اللائي أُمرنَ بالتصفيق إن نابهنَّ شيءٌ في الصلاة ، أو مِن التشبه بالمشركين في صلاتهم عند البيت الحرام .
فمن عدَّه تشبهاً بالنساء أثبت كونه من فعل النساء بالسنة ، و استدل على النهي عنه كراهةً أو تحريماً بما جاء في السنة أيضاً من تحريم التشبه بالنساء و لعن فاعليه .
أما كونه من فعل النساء فدليله ما ثبت في الصحيح و غيره عن سهل بن سعد الساعدي ، أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليُصلح بينهم ، فحانت الصلاة ، فجاء المؤذن إلى أبي بكر ، فقال : أتصلي للناس فأقيم ؟ قال : نعم ، فصلى أبو بكر ، فجاء رسول الله صلى الله عليه و سلم و الناس في الصلاة ، فتخلص حتى وقف في الصف ، فصفَّق الناس ، و كان أبو بكر لا يلتفت في صلاته ، فلما أكثر الناس التصفيق الْتَفَتَ ، فرأى رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم أن أمكث مكانك . فرفع أبو بكر رضي الله عنه يديه ، فحمد الله على ما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك ، ثم استأخر أبو بكر حتى استوى في الصف ، و تقدم رسول الله صلى الله عليه و سلم فصلى ، فلما انصرف قال : ( مَا مَنَعَكَ أَنْ تَثْبُتَ إِذْ أَمَرْتُكَ ؟ ) . فقال أبو بكر: ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( مَا لِي رَأَيْتُكُمْ أَكْثَرْتُمْ التَّصْفِيقَ ؟ مَنْ رَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلاتِهِ فَلْيُسَبِّحْ ، فَإِنَّهُ إِذَا سَبَّحَ الْتُفِتَ إِلَيْهِ ، و إِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ ) .
و ظاهر هذا الحديث قَصرُ التصفيق على النساء ، لاستهلاله بأداة الحصر ( إنَّما ) فيكون معناه : لا تصفيق إلا للنساء . قال الشوكاني [ في نيل الأوطار ] : ( قوله : " إنما التصفيق للنساء " يدل على منع الرجال منه مطلقاً ) .
غير أنَّ ظاهر الحديث لا دليل فيه على أن نهي الرجال عن التصفيق يسوي في الحكم بين كونه داخل الصلاة أو خارجها ، و إن كان ذلك محتملاً ، و القاعدة تقول : إذا وقع الاحتمال بطل الاستدلال .
بل الظاهر أن الترخيص في التصفيق للنساء مقتصر على كونهن في الصلاة إذا نابهن فيها شيء ، أما خارج الصلاة فهن و الرجال في الحكم سواء ، و النهي عن التصفيق خارجها يحتاج إلى دليل خاص ، و الله أعلم .
أما مَن عدَّ التصفيق تشبهاً بالمشركين في صلاتهم عند البيت العتيق فقد استند في حكمه إلى قوله تعالى : ? وَ مَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً و َتَصْدِيَةً? [ الأنفال : 35 ] .
و المشهور عند أهل التفسير أن المراد بالمكاء هو التصفير ، و المراد بالتصدية هو التصفيق ، و أصله في اللغة كما قال الإمام الطبري في تفسيره من مَكَا يَمْكُو مَكْوًا وَمُكَاء , وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ الْمَكْو : أَنْ يَجْمَع الرَّجُل يَدَيْهِ ثُمَّ يُدْخِلهُمَا فِي فِيهِ ثُمَّ يَصِيح ، و هذا هو الصفير ، وَ أَمَّا التَّصْدِيَة فَإِنَّهَا التَّصْفِيق ، يُقَال مِنْهُ : صَدَّى يُصَدِّي تَصْدِيَة ، وَ صَفَّقَ وَ صَفَّحَ بِمَعْنىً وَاحِد .
غير أن في النفس شيءٌ من اعتبار مطلق التصفيق تشبهاً بما يفعله المشركون أو كانوا يفعلونه في صلاتهم عند البيت ، لأن التشبه لا بد فيه من النية ، و في الواقع صور من التصفيق تقع من أناسٍ لا عِلمَ لهم أصلاً بأن أهل الجاهلية كانوا يصفقون عند البيت ، فكيف ننسبهم إلى التشبه بالمشركين مع أن ذلك لم يدُر في خَلَدهم قط !!
و عليه فلا بد في هذا المقام من تقرير أن الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره ، و حيث إنَّ صُوَرُ التصفيق تختلف باختلاف نية المصفقين و حالهم ، فإن حكمه يختلف من حال إلى حال ، بحسب التفصيل التالي :
أولاً : اتخاذ التصفيق عبادة في ذاته ، أو التصفيق أثناء عبادة مشروعة الأصل ، حرامٌ مطلقاً ، لما فيه من التشبه بالكفار في عبادتهم من جهة ، و لأنه بدعة محدثة من جهة أخرى .
و كثيراً ما يقع التصفيق في مجالس الذكر البدعية على نحو ما يفعله غلاة الصوفية ، و قد ذمَّ العلماء هذا النوع من التصفيق ، و شنعوا على فاعله ، و بالغوا في إنكاره ، سواء كان بباطن الأكف ، أو بظاهرها ، أو بباطنٍ على ظاهرٍ ، أو العكس .(/1)
قال سلطان العلماء العز بن عبد السلام رحمه الله : ( و من هاب الإله و أدرك شيئا من تعظيمه لم يتصور منه رقص و لا تصفيق ، و لا يصدر التصفيق و الرقص إلا من غبي جاهل ، و لا يصدران من عاقل فاضل ، و يدل على جهالة فاعلهما أن الشريعة لم ترد بهما في كتاب و لا سنة ، و لم يفعل ذلك أحد الأنبياء و لا معتبر من أتباع الأنبياء ، و إنما يفعل ذلك الجهلة السفهاء الذين التبست عليهم الحقائق بالأهواء ، و قد قال تعالى : ? وَ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ ? و قد مضى السلف و أفاضل الخلف و لم يلابسوا شيئا من ذلك ، و من فعل ذلك أو اعتقد أنه غرض من أغراض نفسه و ليس بقربة إلى ربه ، فإن كان ممن يقتدى به و يعتقد أنه ما فعل ذلك إلا لكونه قربة فبئس ما صنع لإيهامه أن هذا من الطاعات ، و إنما هو من أقبح الرعونات ) . [ قواعد الأحكام : 2/220 و ما بعدها ] .
ثانياً : تصفيق المرء ابتهاجاً بأمر مباح أو مستحسنٍ ـ عقلاً أو نقلاً ـ بَلَغَهُ ، أو رآه ، أو سمعه . أو تشجيعاً لمن صدر منه ، فهذا أمر لم يقم الدليل على تحريمه ، و لكن الواجب أن يزم بزمام الشريعة ، فلا يسوغ إلا إذا انتظمت فيه ثلاثة شروط :
أولها : أن لا يعتقد فاعله أنه مما يستحب شرعاً ، لأن الاستحباب الشرعي توقيفي لا يقال به إلا بدليل .
و ثانيها : أن لا يضاهي بفعله سنةً كالتكبير أو التسبيح عند استحسان الأمور ، أو نحو ذلك ، لأن مضاهاة المشروع من أمارات البدع المنكرة .
و ثالثها : أن لا يراد بفعله مجاراة الكافرين أو التشبه بهم على سبيل استحسان ما هم عليه أو تفضيله على ما هو معروف عند أهل الإسلام في مثل محله .
فائدة : تكلم بعض أهل العلم في صِيَغ التصفيق ، ففرَّق بين ما كان عبارةً عن ضَرب باطن الكفين ببعضهما ، و بين ما كان عبارةً عن ضرب باطن كفٍّ بظهر الأُخرى .
قال الإمام النووي في المجموع [ 1 / 196 ] : ( و يسنّ لمن نابه شيءٌ في صلاته كتنبيه إمامه لنحو سهوٍ ، و إذنه لداخل استأذن في الدخول عليه ، و إنذاره أعمى مخافة أن يقع في محذورٍ ، أو نحو ذلك ؛ كغافلٍ و غير مُمَيِّز ، و مَن قَصَدَه ظالمٌ أو نحوُ سَبُعٍ ؛ أن يسبح و تصفق المرأة ، و مِثْلها الخنثىِ ، بضرب بطن اليمين على ظهر اليسار ، أو عكسهِ ، أو بضرب ظهر اليمين على بطن اليسارِ ، أو عكسهِ ... و أما الضرب ببطن إحداهما على بطن الأخرى ؛ فقال الرافعي : لا ينبغي فإنه لعبٌ ، و لو فَعَلَتْه على وجه اللعب عالمةً بالتحريم بطلت صلاتها و إن كان قليلاً ؛ فإن اللعب ينافي الصلاة ) .
قلتُ : و لا أعرف دليلاً على هذا التفريق في صفة التصفيق إلا أن يكون خروجاً مِنْ ذَمِّهِ عند من عدَّه لعباً ، و ذلك بالردِّ إلى لغة العرب ، حيث ذهب بعضهم إلى أنَّ ضربَ باطِنِ الكفٍّ بظهر الأخرى يسمَّى تصفيحاً لا تصفيقاً ، فلا يُذمُّ فاعِلُه ، و قد رأيت من المتصوفة في حلب من يفعله و يعدُّه تصفيحاً لا تصفيقاً في مجالس الذكر ، أو حينما يَطرَبُ لنشيدٍ و قصيدٍ و نحوه .
و لهم رواية ( إنما التصفيح للنساء ) في الصحيحن و غيرهما ، بدَل رواية ( التصفيق للنساء ) المتقدمة .
و عند أبي داود ( بإسناد قال عنه الشيخ الألباني : صحيح مقطوع ) : عن عيسى بن أيوب قال : قوله : " التصفيح للنساء " تضربُ بإصبعين من يمينها على كفها اليسرى . ا هـ .
قال الإمام النووي [ في شرح صحيح مسلم : 4 / 146 ] : ( السنة لمن نابه شيءٌ في صلاته ؛ كإعلام من يستأذن عليه ، و تنبيه الإمام و غير ذلك أن يسبح إن كان رجلاً ؛ فيقول : سبحان الله ، و أن تُصفِّق و هو التصْفيح إن كانتْ امرأةً ؛ فتضرب بطن كفها الأيمن على ظهر كفها الأيسر ، و لا تضرب بطن كفٍّ على بطن كفٍّ على وجه اللعب و اللهو ، فإن فعلت هكذا على جهة اللعب بطلت صلاتها لمنافاته الصلاة ) .
و قال الإمام الشوكاني رحمه الله [ في نيل الأوطار ] : ( قوله " فإنما التصفيق للنساء " هو بالقاف . و في رواية لأبي داود " فإنما التصفيح " . قال زين الدين العراقي : و المشهور أن معناهما واحد ، قال عقبة : و التصفيح التصفيق ، و كذا قال أبو علي البغدادي ، و الخطابي ، و الجوهري . قال ابن حزم : لا خلاف في أن التصفيح و التصفيق بمعنى واحد و هو الضرب بإحدى صفحتي اليدين على الأخرى . قال العراقي : و ما ادعاه من نفى الخلاف ليس بجيد بل فيه قولان آخران : إنهما مختلفا المعنى ؛ أحدهما : أن التصفيح الضرب بظاهر إحداهما على الأخرى ، و التصفيق الضرب بباطن إحداهما على الأخرى ، حكاه صاحب الإكمال ، و صاحب المُفهِم . و القول الثاني : أن التصفيح الضرب بإصبَعَين للإنذار والتنبيه ، و بالقاف بالجميع للهو و اللعب ) .
هذا ، و الله أعلم و أحكم ، و ما توفيقي إلا بالله ، عليه توكلت و إليه أنيب .(/2)
حكم التطهّر لقراءة القرآن الكريم و مس المصحف
الحمد لله ربّ العالمين ، و الصلاة و السلام على نبيّه الأمين ، و آله و صحبه أجمعين ، و بعد ..
فقد سُئلتُ مسائلَ عديدةً عن حكم التطهّر من الحدثين لقراءة القرآن الكريم و مس المصف ، فقلت مستعيناً بالله تعالى :
لا بد من توضيح خمسة مسائل للوقوف على حُكم الشرع فيما وَرَد السؤال عنه :
المسألة الأولى : لا تجب الطهارة لقراءة القرآن الكريم عن ظهر قلب ، لعموم الأدلّة باستثناء الجنابة ، فإنّ رَفعها واجب قبل القراءة .
روى أحمد و الحُمَيدي كلٌّ في مسنده و أبو داود و النسائي كلٌّ في سننه عن عبد الله بن سلِمة ( بكسر اللام ) قال : أتيت علياً أنا و رجلان ، فقال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من الخلاء فيقرأ القرآن و يأكل معنا اللحم و لم يكن يحجبه عن القرآن شيء ليس الجنابة . قال الخطابي : معناه غير الجنابة .
و روى هذا الحديث أبو ماجة و الترمذي مختصراً بنحوه . و اختُلفَ في إسناده فضعَّفَه بعض أهل العلم ، و صححه الترمذي و ابن حبّان ، و قال ابن حجر في ( الفتح ) : ( الحق أنه من قبيل الحَسَن يصلح للحجة ) ، و هذا هو الظاهر ، و الله أعلم .
جاء في ( عون المعبود ) : و الحديث يدل على جواز القراءة للمحدث بالحدث الأصغر و هو مجمع عليه لم نر فيه خلافا ، و على عدم الجواز للجنب ... قال الخطابي : في الحديث من الفقه أن الجنب لا يقرأ القرآن و كذلك الحائض لا تقرأ لأن حدثها أغلظ من حدث الجنابة . و قال مالك في الجنب إنه لا يقرأ الآية و نحوها , و قد حكي أنه قال تقرأ الحائض و لا يقرأ الجنب لأن الحائض إن لم تقرأ نسيت القرآن لأن أيام الحيض تتطاول و مدة الجنابة لا تطول ، و روي عن ابن المسيب و عكرمة أنهما كانا لا يريان بأسا بقراءة الجنب القرآن و أكثر العلماء على تحريمه. اهـ .
قلتُ : و ذهاب بعض العلماء إلى قياس الحيض و النفاس على الجنابة في الحكم ، و حظْرِهم على المتلبّسة بهما قراءة القرآن الكريم ، غير مسلّم ، بل الظاهر أنّ حكمهما مختلف لوجود الفارق بين الحالتين ، إذ يُفرَّقُ بين الجنابة و بين الحدث الأكبر الحاصل بالحيض و النفاس ، بكون رفع الجنابة مقدوراً عليه في كلّ وقت ، بخلاف ما يعرِض للمرأة من شئون النساء التي لا ترتفع إلا لأجل الله أعلم به .
و لِمَا ثبت في الصحيحين ، عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لعائشة لما حاضت في الحج : ( افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري ) و معلوم أنّ الحاج يقرأ القرآن ، و لم يستثنه النبي صلى الله عليه وسلم ، فدل ذلك على جواز القراءة لها ، و قال مثل ذلك لأسماء بنت عميس لمّا ولدت محمد بن أبي بكر في الميقات في حجة الوداع ، فدل هذا على أن الحائض والنفساء لهما قراءة القرآن ، لكن من غير مسٍ للمصحف .
المسألة الثانية : اختلف العلماء في حكم مسّ المُمَيّز المُحدِث للمصحف على ثلاثة أقوال :
القول الأول : أنه يجوز له ذلك ، و هو مذهب الحنفية ، و المالكية ، و الشافعية في أصح القولين عندهم ، و روايةٌ مرجوحة عند الحنابلة .
و القول الثاني : أنه يكره له مسّ المصحف . كراهة تنزيه ، و هو قول لبعض الحنفية ، و المالكية .
و القول الثالث : أنه يحرم عليه مسه . و هو قول للشافعية ، و الراجح عند الحنابلة .
و الراجح عندنا جواز مس الصبي المميز للمصحف حال تلبسه بالحدث الأصغر ، لأنّه دون سنّ التكليف ، و لم يَجرِ عليه القلم ، مع عموم البلوى في حقّه إذ يصعب عليه الاحتياط من الحدث في سن الحفظ و التعلُّم ، مع ما في إلزامه بالوضوء للقراءة كل وقت من العسر و المشقّة ، و المشقة تجلب التيسير كما في القاعدة الفقهيّة ، و الله أعلم .
المسألة الثالثة : اتفق العلماء على تحريم مس المصحف على المتلبس بحدثٍ أكبر ( جنابة أو حيض أو نفاس ) ، ولم يخالف في ذلك إلا الظاهرية ، و لا يُعتد بخلافهم لضعف أدلّتهم .
المسألة الرابعة : اختلف العلماء في حكم مس المصحف للبالغ حال تلبُّسه بالحدث الأصغر ( و هو ما يُرفَع بالوضوء أو التيمم ) ، على قولين :
القول الأول : أنه لا يجوز له ذلك ، و هو المذهب المنقول عن جمع من الصحابة منهم علي بن أبي طالب ، و عبد الله بن مسعود ، و سعد ابن أبي وقاص ، و عبد الله بن عمر ، و سعيد بن زيد ، و سلمان الفارسي ، وغيرهم ، و لا يعرف لهم مخالف ، و قال به جمهور التابعين و منهم : عطاء بن أبي رباح ، و ابن شهاب الزهري ، و الحسن البصري ، و طاووس بن كيسان ، و النخعي ، و الفقهاء السبعة ، و هو مذهب الأئمة الأربعة .
القول الثاني : أنه يجوز له مس القرآن ، و إليه ذَهَب بعض التابعين ، و هو مذهب الظاهرية .
و الراجح عدم جواز مس المصحف للبالغ المُحدِث حَدَثاً أصغر ، و ذلك للأدلّة التالية :
• أولاً : قال الله عز وجل : ( إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون تنزيل من رب العالمين ) [الواقعة : 77-80] .(/1)
و قد جاءت الآية بصيغة الحصر فاقتضى ذلك حصر الجواز في المطهرين من الأحداث والأنجاس من بني آدم .
والأصل في الطهارة المطلقة في العرف الشرعي : هي الطهارة من الحدثين الأصغر والأكبر ، و هذا ما فهمه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يحفظ عن أحد منهم - فيما نعلم - أنه مس المصحف و هو على غير طهارة ، أو قال بجوازه .
• ثانيًا : روى الدارقطني و البيهقي و الحاكم بإسناد صححه و وافقه الذهبي عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال : ( لما بعثني رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى اليمن قال : (لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر) .
• ثالثاً : روى الدارقطني و الهيثمي في المجمع و الطبراني في الكبير بإسناد وثَّقا رجالَه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم : ( لا يمس القرآن إلا طاهر ) ، و جوّد اسناد هذا الحديث ابن حجَر في الفتح ، و نقل تصحيح إسناده عن بعض أهل العلم ( في إعلاء السنن ) .
• رابعاً : روى أبو داود في ( المصاحف ) ، و الهيثمي في مجمع الزوائد ، و عزا إلى معجم الطبراني الكبير عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال : وفدنا على رسول الله صلى الله عليه و سلم فوجدوني أفضلهم أخذًا للقرآن ، و قد فَضَلتُهم بسورة البقرة ، فقال النبي صلى الله عليه و سلم : ( قد أمّرتُك على أصحابك و أنت أصغرهم ، و لا تمس القرآن إلا و أنت طاهر ) .
• خامساً : روى عبد الرزاق في مصنفه ، و مالك في موطئه ، وأبو داود في المصاحف ، و الدارمي في سننه ، و الحاكم في مستدركه ، و الدارقطني و البيهقي كلٌّ في سننه ، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده قال : كان في كتاب النبي صلى الله عليه و سلم لعمرو بن حزم : ( لا يُمَسُّ القرآنُ إلا على طُهرٍ ) ، قال البغوي : سمعت أحمد بن حنبل ، وقد سُئل عن هذا الحديث فقال : أرجو أن يكون صحيحًا ) ، و قال أيضًا : ( لا أشك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كتبه ) .
قلتُُُ : إنّ الأحاديث الدالّة على تحريم مس المصحف على المحدث لا يخلو إسناد كلٍ منها بمفرده من مقال إلا أنها بمجموع طرقها ترقى في أقل أحوالها إلى درجة الحَسَن ، و يقتضي ذلك صحّة الاحتجاج بها ، و وجوب العمل بمقتضاها .
فإذا أضيف إلى هذه الأدلّة إجماع الصحابة السكوتي على القول بعدم جواز مس المحدث البالغ للمصحف ، لزمنا القول بقولهم و اتبّاع مذهبهم في التحريم ، و هذا مذهب الجمهور ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( و أما مس المصحف فالصحيح أنه يجب له الوضوء كقول الجمهور ) [ مجموع الفتاوى : 21/288 ] .
و ذهب الحافظ ابن عبد البر أبعدَ من ذلك فقال : ( أجمع فقهاء الأمصار الذين تدور عليهم الفتوى و على أصحابهم بأن المصحف لا يمسه إلا طاهر ) [ الاستذكار ، 8/10 ] .
المسألة الخامسة : اخْتَلَف العلماء فِي حكم مَسِّ المصحف بِحَائِلٍ , كَغِلافٍ أَوْ كُمٍّ أَوْ خِرقة أو نَحْو ذلك . فذهب الْمَالِكِيَّةُ وَ الشَّافِعِيَّةُ إلى القول بِالتَّحْرِيمِ مُطْلَقًا فقَالَ الشَّافِعِيَّةُ : يحرم مس المصحف بدون طهارة وَ لَوْ كَانَ الْحَائِلُ ثَخِينًا سميكاً , لأنّه يُعَدُّ مَاسًّا في العرف .
وَ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِحُرْمَةِ مَسِّ الْمُصْحَفِ وَإِنْ مَسَّهُ بِقَضِيبٍ و نَحْوِهِ وَ كَذَلِكَ مَسُّ جِلْدِ الْمُصْحَفِ أوَ حَمْلُهُ وَ إِنْ كان الحمل بِعَلاقَةٍ أَو وِسَادَةٍ و استثنوا كون المصحف داخلاً في أَمْتِعَةٍ قَصَدَ حَمْلَهَا جميعاً .
وَ ذهب الْحَنَابِلَةِ إلى القول بجَوَازِ مَسّ المُحْدِثِ للمُصْحَف إذا كان المس من وراء حَائِلٍ مِمَّا لا يَتْبَعُهُ فِي الْبَيْعِ عادة كَالكِيسٍ وَالكُمٍّ ، لأنَّ النَّهْيَ وَرَدَ عَنْ مَسِّ المصحف , وَ مَعَ الْحَائِلِ إنَّمَا يَكُونُ الْمَسُّ له و ليس للْمُصْحَفِ لعَدَم مباشرته .
وَ فَرَّقُ الْحَنَفِيَّةِ بَيْنَ الْحَائِلِ الْمُنْفَصِلِ وَ الحائل الْمُتَّصِلِ فَقَالُوا : يَحْرُمُ مَسُّ الْمُصْحَفِ لِلْمُحْدِثِ إلا أن يكون له غلاف مُتَجَافٍ عنه - أَيْ منفصل و غير مخيط به - أَوْ أن يكون في صُرَّةٍ فيمسّها و المصحف بداخلها , أمّا إذا كان الغلاف متّصلاً بالمصحف فلا يجوز مسّه لأنَّ الْمُتَّصِلَ بالشيء جزءٌ مِنْهُ عُرفاً .
و لعدم تفريق الدليل بين مس المصحف بحائل أو بدون حائل ، و بين حائل و آخر من جهةٍ أخرى نرجّح الرجوع إلى العُرف في التفصيل ، فإذا مسّه من خلال ما يعتبر في عُرف الناس حائلاً ، بحيث لا يُقال لمن مسّه إنّه مسّ ما بداخله جاز ، و إن اعتبر ماسّاً لما بداخله عُرفاً ، فحُكمه حكم مس المصحف من حيث اشتراط الطهارة لجوازه و الله أعلم .
المسألة السادسة : لا بأس في مس كتب التفسير على غير طهارة ، و إن كانت متضمنة لآيات القرآن الكريم و سوَرِه عند المالكيّة – غير ابن عَرَفة - و الحنابلة مطلقاً ، لأنه لا يُطلق عليها اسم القرآن عُرفاً ، فلا تأخذ حُكمُه .(/2)
و اعتبر أكثر الحنَفيّةُ و الشافعيّة بالقلة والكثرة في الحكم ، فإن كان القرآن مماثلاً لنص التفسير أو أكثر منه كما في بعض كتب غريب القرآن ، و مختصرات التفاسير حرم مسه على غير طهارة ، و إن كان التفسير أكثر جاز مسّه مع الحَدَث .
و هذا هو الراجح بحُكم العُرف الذي يُرجّحُ الغالبَ ، و لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث دحية الكلبي بكتاب فيه آية إلى قيصر ، كما في الحديث المتفق على صحته عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما .
و عليه فلا بأس في مسّ المحدث كُتُبَ التفسير إذا كان معظمها من غير القرآن الكريم ، كالموسوعات و المطوّلات ، إذ إنّ المتعارف عليه كونه كتباً ، و ليست مصاحف ( على المعنى الاصطلاحي ) ، أمّا كتب الغريب ، و مفردات القرآن ، و مختصرات التفاسير ( كالجلالين و نحوه ) فحكمها حُكم المصاحف ، و لا يحلّ مسّها إلا لطاهر ، و الله تعالى أعلم و أحكم .
و الحمد لله الذي بحمده تتم الصالحات ، و صلى الله و سلّم و بارك على نبيّنا محمّد و آله و صحبه أجمعين .(/3)
حكم التطيب بالبخور
السؤال :
يتورع البعض عن استعمال البخور بدعوى أنه من سَنَن غير المسلمين ، فهل هذا صحيح ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
مما لا شك فيه أن البخور يستعمل عند غير المسلمين تعبداً ، فهو من الطقوس ( الشعائر ) التعبدية في معظم الديانات الوثنية المعروفة اليوم ، و خاصة في دول شرق آسيا و جنوبها ، حيث يكثر استعماله في المعابد و بين أيدي الكهنة و السحرة و المشعوذين ، و لا تكاد تخلو شعيرة من شعائرهم من استعماله بأنواعه المختلفة .
و عند الهندوس ـ خاصةً ـ يعتبر البخور طيباً مقدساً يوجبون استعماله في أفراحهم و أتراحهم بما في ذلك إحراق موتاهم به .
و عند النصارى يقوم الرهبان و القساوسة بتطييب الحضور به في القدّاسات ( الاحتفالات الدينية ) و الجُنَّازات ( مراسم تجهيز و دفن الموتى ) ، و قد رأينا هذا بكثرة عند طوائفهم المختلفة ، و خاصة في احتفالات أعياد الميلاد .
و ليس اعتبار البخور من الشعائر الدينية عند النصارى بالخفي ، بل هو من أبرز ما يظهر في مناسباتهم ، و من قُدِّر له أن يرَ شيئاً منها مصوراً أو عياناً لم يخفَ عليه ذلك .
لذلك أفتيت مع من أفتى سابقاً بأن التطيب بالبخور مكروه في أقل أحواله ، إذ فيه من التشبه بالكفار في بعض شعائرهم الدينية ما لا يخفى .
ثم رجعت عن القول بكراهته فضلاً عن تحريمه في حق من لا يستعمله بنية التشبه بالكافرين في عاداتهم أو عباداتهم ، نزولاً على مقتضى الأثر ـ رغم ما في النفس ـ لأن التطيب به كان معروفاً في زمن النبي صلى الله عليه و سلم و لم ينكره ، و لم ينه عنه .
فقد روى الشيخان أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال في المحرم الذي مات : ( اغسلوه بماء و سدر و كفنوه في ثوبيه ، و لا تحنطوه و لا تخمروا رأسه ؛ فإنه يبعث يوم القيامة مُلبياً ) .
و التحنيط كالتجمير و هو تبخير الميت ، أي تطييبه بالبخور .
فإن قيل : إن هذا الحديث ينهى عن تحنيط الميت ، فكيف يستدل به على المراد بالنسبة للحيِّ ؟
قلنا : ما يراد إثباته في هذا المقام هو أن استعمال البخور كان معروفاً على عهد النبي صلى الله عليه و سلم ، و لم ينكره أو ينهَ عنه . أمَا و قد جاء النهي عن تحنيط الميت المحرم خاصة ، فبدلالة المخالفة ينتفي النهي عن تحنيط المسلم حياً ، و غير المحرِم من موتى المسلمين ، و الله أعلم .
يضاف إلى ذلك أن بعض أهل العلم استحبوا إجمار ( تبخير ) الميت ما لم يكن حاجّاً ، لما رواه أبو يعلى و الحاكم في المستدرك و البيهقي في الكبرى ، أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ( إذا أجمرتم فأوتروا ) .
و كذلك ما رخص فيه للمرأة المعتدة من وفاة زوجها ، فقد روى مسلم في صحيحه و أحمد في مسنده ، عن أم عطية رضي الله عنها ، قالت : ( كُنَّا نُنْهَىَ أَنْ نُحِدَّ عَلَىَ مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ ، إِلاَّ عَلَىَ زَوْجٍ ، أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ و عَشْراً ، و لاَ نَكْتَحِلُ ، و لاَ نَتَطَيَّبُ ، و لاَ نَلْبَسُ ثَوْباً مَصْبُوغاً ، و قَدْ رُخِّصَ لِلْمَرْأَةِ فِي طُهْرِهَا ، إِذَا اغْتَسَلَتْ إِحْدَانَا مِنْ مَحِيضِهَا ، فِي نُبْذَةٍ مِنْ قُسْطٍ و أَظْفَارٍ ) .
قال النووي رحمه الله [ في شرح صحيح مسلم : 10 / 119 ] : ( أمَّا القسط فبضمِّ القاف ، و يقال فيه : كست بكاف مضمومة بدل القاف و بتاء بدل الطَّاء ، و هو والأظفار نوعان معروفان من البخور و ليسا من مقصود الطِّيب رخَّص فيه للمغتسلة من الحيض لإزالة الرَّائحة الكريهة تتبع به أثر الدَّم لا للتَّطيّب ، و الله أعلم ) .
قلتُ : ما رُخِّص فيه للمعتدة ، مع ما يجب عليها أثناء عدتها من البعد عن الطيب و الزينة ، أولى بأن يُرَخَّص فيه لغيرها .
و عليه فلا بأس ـ و الله أعلم ـ في التطيب بالبخور و نحوه على سبيل العادة لا العبادة ، خاصة إذا انتفت نية و شبهة التشبه بغير المسلمين .
هذا ، و الله أعلم و أحكم .
و صلى الله و سلم على نبينا محمد و آله و صحبه أجمعين .(/1)
حكم التظاهر بالكفر لإنقاذ أسير مسلم
السؤال :
أمر قائد مجموعة جهادية أحد المجاهدين بالتنكر في لباس قسيس و لبس الصليب و الدخول إلى كنيسةٍ في إحدى بلاد الكفر ، و الصلاة فيها بصلاة النصارى ؛ و ذلك ليقوم بإنقاذ حياة أحد المسلمين الأسرى ، و قد قام بتنفيذ الأوامر كاملةً ، و تم إنقاذ حياة المسلم .
السؤال : هذا المجاهد قد ارتكب عملاً كفرياً ( لِبسُ لِباس القسيس ، و تعليقُ الصليب ، و الصلاة النصرانية ) ، و هو يَعتَبِرُ ذلك عملاً كُفرياً ، و لم يفعله إلا لإنقاذ أخيه المسلم ، و لخداع من كان يريد قتله ، فما حُكمُ الشرع في هذا العمل ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
لا أعلَم فيما وقفتُ عليه من النصوص الشرعيّة ما يصلُح دليلاً على جواز التظاهر بالكفر ( قولاً أو عمَلاً ) لغير المُكرَه مع اطمئنان قلبه بالإيمان ، و هذا لا خلاف في جواز تظاهره بالكُفر لدلالة النص القطعيِّ على ذلك .
قال تعالى : ( مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَ لَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) [ النحل : 106 ] .
قال ابن جرير في تفسير هذه الآية : ( من كفر بالله من بعد إيمانه , إلا من أكره على الكفر ، فنطق بكلمة الكفر بلسانه ، و قلبُه مطمئن بالإيمان , موقِِِنٌ بحقيقته ، صحيح عليه عزمُه ، غير مفسوح الصدر بالكفر ; لكن من شرح بالكفر صدراً ، فاختاره و آثره على الإيمان ، و باح به طائعا , فعليهم غضب من الله ، و لهم عذاب عظيم . و بنحو الذي قلنا في ذلك ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله : ( وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ) فأخبر الله سبحانه أنه من كفر من بعد إيمانه , فعليه غضب من الله ، و له عذاب عظيم . فأما من أكره فتكلم به لسانه و خالفه قلبه بالإيمان لينجو بذلك من عدوه , فلا حرج عليه , لأن الله سبحانه إنما يأخذ العباد بما عُقِدَت عليه قلوبهم ) .
و روى ابن ماجة بإسناد صحيحٍ عَنْ أَبِى ذَرٍّ الْغِفَاريِّ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم : « إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَ النِّسْيَانَ وَ مَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ » .
و في رواية في سنن ابن ماجة أيضاً ، و سنن الدارقطني بإسناد صحيح عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه و سلم قَالَ : « إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَ النِّسْيَانَ وَ مَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ » .
و ذكر جماعة من أهل التفسير ( منهم الطبري و القرطبي و ابن كثير و غيرهم ) في سبب نزول آية النحل أنَّها نزلت في عمّار بن ياسر رضي الله عنهما حينما نطقَ بالكفر مكرهاً ، ليُفلِت من فتك المشركين ، فلمّا بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلَّم سأَلَ عمّار : ( كيف تجد قلبك ؟ ) قال : أجد قلبي مطمئناً بالإيمان ، قال : ( فإن عادوا فعُد ) ، و في ذلك نزلت الآية .
و مع ذلك فإنَّ صبر المؤمن على الأذى ، حتى لو قُتِلَ صابراً محتسباً خيرٌ له ، و أحرى به من التلفُّظ بالكفر ظاهراً ، و لو كان الإيمان في قلبه راسخاً .
أمّا إن كان المكرَهُ غيرَه ، أو كان تظاهُرُهُ بالكفر لإنقاذ غيره من الموت ـ على نحو الصورة المذكورة في السؤال ـ فليس في أدلّة الترخيص في التلفّظ بالكفر مع اطمئنان القلب بالإيمان ما يدلّ عليه ، و قد أَبعَد النَجعة ، و بالَغَ في التعسّف في إعمال النصوص مَن رخّص فيه من المعاصرين ، و لعلّهم مستأنسون فيما ذهبوا إليه بمذهب ابن حزم الظاهري القائل ـ رحمه الله ـ : ( والإكراه هو كل ما سمي في اللغة إكراها ، وعرف بالحس أنه إكراه ، كالوعيد بالقتل ممن لا يؤمن منه إنفاذ ما توعد به ، و الوعيد بالضرب كذلك ، أو الوعيد بالسجن كذلك ، أو الوعيد بإفساد المال كذلك ، أو الوعيد في مسلم غيره بقتل أو ضرب أو سجن أو إفساد مال ، لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم المسلم أخو المسلم لا يظلمه و لا يسلمه ) [ المحلى : 8 / 330 ] .
قلتُ : و لا وَجهَ لمن استدلّ على جواز التظاهر بالكفر لإنقاذ أسير مسلمٍ أو نحوه بالقياس على ما أخبر الله تعالى به في قصّة خليله إبراهيم عليه و على نبيّنا الصلاة و السلام حين قال عن الكوكب و القمر و الشمس ( هذا ربّي ) [ الأنعام : 76 و 77 و 78 ] لأنّ هذا شرع متقدّمٌ مخالفٌ لما جاءت به شريعة الله الخاتمة من ناحية ، و لأنّ قول خليل الرحمن ذلك ـ من ناحية أخرى ـ هو من قبيل التهكّم و التقريع ، و تنبيه الغافل و تذكير الناسي ببطلان ما عليه قومه من عبادة الأوثان ، و ليس من التظاهر بالكفر في شيء ، بدليل قوله عليه السلام في نهاية الحوار : ( يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكون ) [ الأنعام : 78 ] .(/1)
و قد أصاب من قال في توجيه قول خليل الرحمن عليه السلام في الكواكب : المعنى هذا ربي على زعمكم ; كما قال تعالى : ( أين شركائي الذين كنتم تزعمون ) [ القصص : 74 ] . و قال : ( ذق إنك أنت العزيز الكريم ) [ الدخان : 49 ] أي عند نفسك ، كما رواه القرطبي في تفسيره ، و الله أعلم .
و لا وَجه أيضاً لاستدلال من جوّزَ التظاهر بالكفر لإنقاذ أسير مسلمٍ بما ثبت في قصّة قتل كَعبِ بن الأشرف على يد محمّد بن مسلمة رضي الله عنه التي رواها الشيخان و غيرهما عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( من لكعب بن الأشرف ، فإنه قد آذى الله و رسوله ) ، فقام محمد بن مسلمة ، فقال : يا رسول الله أتحب أن أقتله ؟ قال : ( نعم ) ، قال : فأذن لي أن أقول شيئا . قال : ( قل ) ، فأتاه محمد بن مسلمة ، فقال : إن هذا الرجل قد سألنا صدقة ، و إنه قد عنانا ، و إني قد أتيتك أستسلفك ، قال : و أيضا و الله لتَمَلُّنَّهُ . قال : إنا قد اتبعناه فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه ، و قد أردنا أن تُسْلِفَنا وَسَقاً أو وَسَقَيْن ... الحديث .
فهذا الحديث ـ على فَرَض التسليم بأنَّ ما قالَه محمّد بن مسلمة كفرٌ ـ لا دليل فيه على تجويز التظاهر بالكفر لإنقاذ أسير أو نحوه ، بل غاية ما يدلُّ عليه هو جواز التظاهر بالكفر لتخليص الأمّة من طاغوت أو رأسٍ من رؤوس الكفر ، و هذا لا إشكال فيه ، بل هو من باب ارتكاب أدنى المفسدتين لدرء أعظمهما ، إعمالاً للقاعدة الفقهيّة : ( إذا تعارضَت مفسدتان روعيَ أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفّهما ) و للبحث في هذه الجزئيّة من مسائل التظاهر بالكفر مقام آخر يطول فيه الكلام .
و الخلاصة أن التظاهر بالكفر لا يجوز إلا للمكرَه ، و من توسّع في هذا الباب يعوزه الدليل ، مع أنّ الصبر على البلاء ، و عدَم الرضوخ إلى الإكراه المفضي إلى التلفّظ بالكفر ، أو العمل به – ظاهراً – هو الأولى لما رواه ابن ماجة عن أبي الدرداء رضي الله عنه ، أنّه قال : أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم : ( أن لا تُشرك بالله شيئاً و إن قُطعت أو حُرِّقت ) ، و هذا حديث حسنٌ بشواهده .
و أختم – تتميماً للفائدة - بقول الشيخ محمد بن عبد الوهّاب رحمه الله عقب تعداد نواقض الإيمان : ( و لا فَرق في جميع هذه النواقض بين الهازل ، و الجادّ ، و الخائف ، إلاّ المُكرَه ) ، و قال رحمه الله أيضاً : ( أعظَم أهل الإخلاص ، و أكثرُهُم حَسَنات ، لو يقول كلمة الشرك مع كراهيته لها ، ليقود غيره بها إلى الإسلام حبِطَ عَمَلُه ، و صار من الخاسرين ، فكيف بمَن أظهَر أنّه منهم ، و تكلّم بمائة كلمة لأجل تجارة ، أو لأجل أنّه يحُجّ لمّا مُنِعَ الموحّدون من الحجّ ) [ الدرر السنيّة : 1 / 127 ، 128 ] .
هذا ، و الله الموفّق ، و هو الهادي إلى سواء السبيل .
و الحمد لله ربّ العالمين .(/2)
حكم التعامل مع المصارف الربويّة
السؤال :
ما حكم التعامل مع المصارف الربويّة بقصد التوفير و الاستثمار ، و حفظ المال من الضياع ؟
الجواب :
التعامل مع المصارف الربويّة لا يجوز ، سواءً أخذ العميل الفائدة لنفسه ، أو أنفقها على غيره ، أو تركَها للبنك و لم يأخذ منها شيئاً ، لأنّ التحريم يشمل أكل الربا ، و إعطاءه ، و التعامل به .
و الحكم بالتحريم ثابت للربا بجميع صوره ، و أبوابه و هي كأبواب الشرك ، بضعٌ و سبعون باباً ، كما صح بذلك الخبر ، الذي رواه الحافظ المنذري بإسنادٍ صحيحٍ في ( الترغيب و الترهيب ) .
وليحذر المتعاملون مع المصارف الربويّة من الوقوع تحت طائلة حرب لا هوادة فيها ، أعلنها الله تعالى عليهم ما لم يبادروا بالتوبة ، فقد قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ (279) وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) [ البقرة ] .
روى ابن كثير في تفسير هاتين الآيتين قول ابْن عَبَّاس فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ أَيْ : اِسْتَيْقِنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّه وَ رَسُوله ، و قَولَه : فَمَنْ كَانَ مُقِيمًا عَلَى الرِّبَا لا يَنْزِع عَنْهُ كَانَ حَقًّا عَلَى إِمَام الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْتَتِيبهُ فَإِنْ نَزَعَ وَإِلا ضَرَبَ عُنُقه ، وَ روى ابن أَبِي حَاتِم عَنْ الْحَسَن وَابْن سِيرِينَ أَنَّهُمَا قَالا : وَ اَللَّه إِنَّ هَؤُلاءِ الصَّيَارِفَة لأكَلَة الرِّبَا وَ إِنَّهُمْ قَدْ أَذِنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّه وَ رَسُوله وَ لَوْ كَانَ عَلَى النَّاس إِمَام عَادِل لاسْتَتَابَهُمْ فَإِنْ تَابُوا وَ إِلا وَضَعَ فِيهِمْ السِّلاح . وَ قَالَ قَتَادَة : إِيَّاكُمْ وَ مُخَالَطَة هَذِهِ الْبُيُوع مِنْ الرِّبَا فَإِنَّ اللَّه قَدْ أَوْسَعَ الْحَلال وَ أَطَابَهُ فَلا تُلْجِئْنَكُمْ إِلَى مَعْصِيَتِهِ فَاقَةٌ .
و ممّا لا ريب فيه أن جلَّ التعاملات المصرفيّة المعاصرة ذاتُ شائبةٍ ربويّةٍ ، ما لم تكن من الربا المحض ، باستثناء تعاملات المصارف الإسلاميّة في الغالب .
و من المعاملات المحرّمة في هذا الباب إيداع الأموال في المصارف و الاقتراض منها من غير ضرورة ، أو تجاوز الضرورات إلى الكماليّات ، كالتوسع في شراء المساكن و المراكب و الأثاث ، و تسديد قيمته بزيادةٍ ربويّة عليها ، فليحذر الذين تورّطوا في شيء من ذلك ، و ليتقوا الله ، فلا يَطْعَموا حراماً ، أو يُطعموه من يعولون من الأهلين و البنين .
و لا يظن أحدٌ أنّ تنازله عن الزيادة الربويّة لصالح المصرف أو إخراجَها في وجه من وجوه البر و الصلة بدون توبةٍ ، يخرجه من المحظور ، و يبيح له متابعة تعامله مع ذلك المصرف ، لأنّ التعامل بالربا أو المساعدة عليه أو المساهمة فيه سواءٌ في الحرمة ، فقد روى مسلم و الترمذي و أحمد عَنْ جَابِر بن عبد الله رضي الله عنه ، قَال : لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَقَالَ : ( هُمْ سَوَاءٌ ) .
و من ترك شيئاً لله عوّضه الله خيراً منه ، و في الحلال ما يُغني عن الحرام ، لمن أحسن التدبير ، و الله الموفّق .(/1)
حكم التعطر بالعطور المشتملة على الكحول
أجاب على الفتوى: فضيلة الشيخ حسن قاطرجي
السؤال:
هل يجوز التعطر بالعطور المشتملة على الكحول؟
الجواب:
يكثر السؤال من قِبَل كثير من الناس عن حكم التعطّر بالعطور المشتملة على الكحول وعن نجاستها وبالتالي حكم الصلاة بها، ونظراً لأهمية الموضوع وتعلُّقِه بأعظم ركن عملي في الدين ألا وهو الصلاة، ولأهميته بشكل خاص للمرأة لاهتمامها بالتزيّن والتعطُّر، كان من الضروري المساهمة في تبصير المسلمين عموماً والمسلمات خصوصاً بحكم هذه العادة المنتشرة جداً بين الناس.
الفتوى الصادرة عن (المنظّمة الإسلامية للعلوم الطبيّة)
وقد كنتُ جَمَعْتُ أقوال أهل العلم وحقَّقتُ المسألة بأدلتها ـ بحسب ما تفضّل الله عليّ ـ ورأيت من أهمية نشر هذا الموضوع لتعم الفائدة إن شاء الله تعالى، خاصة بعدما شاركتُ في حضور ندوة في بيروت أذاع فيها أحد فُضَلاء أهل العلم أن (المنظّمة الإسلامية للعلوم الطبّيّة) أصدرت فتوى في أحد مؤتمراتها تنصّ على طهارة الكولونيا المشتملة على الكحول التي هي المادّةُ المسكرةُ في الخمر وعلّةُ تحريمها ـ مع أنه كان قد نَقَل عن المذاهب الفقهية القول بنجاستها!! ـ وقد توهّم السامعون من الرجال والنساء أن هذا الرأي الذي صدر عن المنظّم متّفقٌ عليه، مما تسبَّب بحصول لَغَط.
وتتالت الأسئلة عن حقيقة ذلك المؤتمر وما دار فيه وما صدر عنه. وكان بودّي الاستفسار من ذلك العالِم عن ذلك كله ولكن لم يتسع الوقت لذلك لتأهُّبه للسفر عقب الندوة مباشرة.
اعتراض عدد من الفقهاء عليها:
وريثما كنت أُعِدّ العُدّة لنشر فتوى أهل العلم المحقِّقين في هذه المسألة حضر إلى بيروت فضيلة الشيخ الدكتور أحمد الحَجِّي الكُردي لمناقشة رسالة ماجستير في كليّة الإمام الأَوْزاعي فوجدتُ ضالّتي كوني كنتُ أعرف أنه حفظه الله كان أحد المشاركين في مؤتمر المنظمة المذكورة الذي انعقد في ذي الحِجّة من عام 1416 هـ، ولما استفسرتُه عن حيثيّات الفتوى أخبرني أنه صدرت فتوى عن المنظمة في ذلك المؤتمر تنصّ على طهارة المادّة الكحولية في الخمر والسبيرتو والكولونيا، ولكن ليس بالإجماع وإنما بالأكثرية وكان هو وعدد من الفقهاء معارضين للفتوى ولّما لم يُتَحْ له تنفيذها بإسهاب داخل المؤتمر نشر مقالة في جريدة (القبس) الكويتية أثر انتهاء المؤتمر نقض فيها الفتوى بالأدلة الشرعية والنُّقُول الموثَّقة من المذاهب الفقهية المعتبرة.
وقد سرّه ـ جزاه الله خيراً وأسعِده دنيا وآخرة ـ كتابتي في الموضوع وتوضيحي للمسألة ونَقْلي عن المذاهب الأربعة فتواهم المعتمدة المتفق عليها بينهم، وقرأتُ عليه ما كتبت قبل نشره فوافقني عليه جملة وتفصيلاً موافقة تامّة وهذا من فضل الله وتوفيقه. وفيما يلي نصّ ما قرأتهُ عليه.
قبل كل شيء ينبغي معرفة أن المدخل للكلام عن هذا الموضوع هو بيان القول الصحيح في نجاسة الخمر ثم تحديد العلاقة بين الخمر والكحول. أما بالنسبة للنقطة الأولى فإن الخمر عند جماهير العلماء ـ ومنهم أئمّة المذاهب الأربعة المتبوعة رضوان الله عليهم ـ نجسة. واستدلوا على ذلك بأدلة، منها: استدلال بعضهم بدليل القرآن المتضمِّن وصفها بأنها رِجْس (أي نَجَس) وأنها من عمل الشيطان اللازمِ اجتنابُهُ، حيث قال تعالى: {رِجْسٌ مِنْ عملِ الشِّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوه} علماً بأنّ الأمر بالاجتناب أشدَّ صِيَغ التنفير والتحريم في القرآن الكريم بدليل أنه استُعمل في (الأوثان، والطاغوت، وقول الزُّور...). ومنها: استدلال جمهورهم بدلالة حديث صحيح على نجاستها وهو حديث الصحابي أبي ثَعْلَبَةَ الخُشَني رضي الله عنه حين سأل النَّبيّ صلى الله عليه وسلّم عن قُدُور أهل الكتاب التي يطبخون فيها الخنزير وآنيتهم التي يشربون فيها الخمر، فأجابه عليه الصلاة والسلام: "إن وجدتم غيرَها (أي غير تلك القدور والآنية) فكلوا منها واشربوا وإن لم تجدوا فاحْضُورها ـ أي اغسلوها ـ بالماء". هذا لفظ أبي داود في سننه 3/363، وبنحوه أخرجه التَّرْمذي في ثلاثة مواضع من سننه وصححه، وأصل الحديث في الصحيحين. وممن استدلّ من العلماء بهذا الحديث على نجاسة الخمر: الإمام الخطّابي الشافعي في "معالم السنن" 4/257 وهو شرح على سنن أبي داود، والإمام المالكي والشافعي ابن دقيق العيد في كتابه "الإمام في أحاديث الكلام" كما في "نصب الراية" 1/95، والفقيه الحنفي الإمام ابن الهُمام في "فتح القدير" 1/51، وكذلك أورده الإمام الحنبلي مجد الدين بن تيمية (جَدُّ الإمام ابن تيمية المشهور) مستدلاً به على نجاسة الخمر في كتابه "منتقى الأخبار" في كتاب الطهارة في (تعيُّن الماء لإزالة النجاسة).(/1)
ومن يريد التوسّع في الأدلة فليرجع إلى مقالة سماحة الشيخ العلاّمة المحقِّق عبد الفتّاح أبو غُدّة رحمه الله تعالى النفيسة المسهبة التي نشرها في مجلة "الوعي الإسلامي" الكويتية بعنوان: دليل نجاسة الخمر من السُّنّة المطهّرة. ولذلك لا يزول العجب مما ذكره الأستاذ سيد سابق في "فقه السنّة" من أنّ من ادّعى نجاسة الخمر فعليه بالدليل!!
يجدر التنبيه إلى أن لأهل العلم على كتابه المذكور ـ مع ما فيه من محاسن ومزايا ـ العديد من المآخذ والأخطاء والشذوذات الفقهية والحديثية.
التركيب الكيميائي للمادة المسكرة في الخمرة:
هذا بالنسبة للنقطة الأولى، وأما بالنسبة للنقطة الثانية فإنه ينبغي العلم بأن المادة المسكرة في الخمر ـ والتي هي علّة تحريمها ونجاستها ـ هي الكحول أو بالتّعبير الكيميائي الإيثانول أو إيثيل ألكهول = C2H5OH، مما يعني أن الموادّ الكحولية الأخرى كالـ "ميثانول أو ميثيل ألكهول = CH3OH أو: البريبانو C3H7OH" ليست مسكرة. ومن طرائف المعرفة ما ذكره الشيخ علي الطنطاوي حفظه الله من أن كلمة كحول أصلها عربي قرآني وهي محرّفة عن كلمة "الغَوْل" المذكورة في القرآن: {لاَ فيها ـ أي خمر الجنة ـ غَوْل ولاّ هُمْ عَنْها يَنْزِفُون} وفي عصر النهضة الأوروبية تُرجمت الكتب العربية وخاصة الطبية ولمّا لم يكن في حروفهم حرف الغين نطقوا الغَوْل: "ألْكْول". ثم نطقها الأتراك: "ألْكحول". وبما أن الغَوْل هو المادة المسكرة في الخمر، فهي روح الخمر وخلاصتها، ولذلك تُسَمَّى بالإيطالية سبرتو Spirito وهي مثل Espirit بالفرنسية أو Spirit بالإنكليزية ومعناها روح. والإسبيرتو المعروفة المتداولة سُمِّيت بذلك من هنا، ذلك أنها تحتوي على نسب عالية ومركّزة (ما بين 60% ـ 90%) من الإيثيل. وهي تُستعمل في التعقيم وقتل الجراثيم ومن هنا شاع الوصف الطبي بأنها مطهِّرة مما يُحْدث الالتباس عند الكثيرين ولكن لا علاقة لذلك بالوصف الشرعي لها بأنها نجسة. ولذلك إذا وُجد دواء يقوم مقامها كالأوكسيجين يتعيَّن استعمالُه في العلاج الطبّي دونها.
أما آراء أهل العلم في العطور المشتملة على هذه المادة بالنسبة لاستعمالها وحكم الصلاة بها، ففي الحقيقة وقع خلاف بين الفقهاء المعاصرين في هذه المسألة باعتبار أن الأئمة السابقين ليس لهم فيها كلام إذا لم تكن هذه العطور مستعملة. ومردّ خلافهم إلى ثلاثة أمور:
ـ الأمر الأول: وهو القول الموجود عند الأحناف بطهارة المسكرات غير الخمر بناءً على التفريق بين الخمر وسائر المسكرات عندهم.
ـ الأمر الثاني: وهو قول الجمهور بنجاسة الخمر عموماً دون التفريق بين الخمر وسائر المسكرات إذ كلُّ المسكرات خمر.
ـ الأمر الثالث: وهو قول شاذ قال به عدد قليل جداً وهو طهارة الخمرة عموماً أيضاً.
شذوذ القول بطهارة الخمر:
أما القول بطهارة الخمر عموماً فقد بنى عليه بعض المعاصرين فتواهم بجواز استعمال تلك العطور وصحة الصلاة بها. وأصحاب هذا القول مقلِّدين لمن سبقهم من الذين شذوا عن قول الجمهور وهم: الإمام ربيعةُ الرأي وابن حزم ثم من بعدهما ابن تيمية والصَّنْعاني والشَّوْكاني وصِدِّيق حسن خان. وفي مقدمة القائلين بهذا القول من المعاصرين الشيخ محمد رشيد رضا المتوفَّى عام 1935م. وقولهم هذا مردود ولن نتوقف في مناقشته طويلاً إذ فيما أوردته من أدلة الجمهور غنية لغير المتخصص، أما المتخصص فهو يعرف كيف يرجع إلى المطولات من كتب الفقه. وعلى أي حال فإن اجتماع المذاهب الأربعة بأئمتها وفقهائها عبر القرون المتطاولة على حكم مسألة يعطيه قوة ورجاحة خاصة وأن أئمة هذه المذاهب: أبا حنيفة ومالكاً والشافعيَّ وأحمد هم أئمة الدنيا وجبال الفقه والحفظ وبحور العلم وشيوخ الإسلام الذين اتفقت الأُمة على إمامتهم وفضلهم ونبوغهم وذكائهم الباهر وأهليتهم للاجتهاد المطلق، بالإضافة إلى ما اتفق لمذاهبهم من التدوين والتحرير والانتشار الواسع في العالم الإسلامي مما لم يتفق لغيرها.
وما أجدر المسلم بالتوقف طويلاً أمام كلمة الإمام الفقيه الحافظ ابن رجب الحنبلي في رسالته النافعة الماتعة "فضل علم السلف على الخلف": (وليكن الإنسان على حذر مما حدث بعدهم ـ أي بعد الأئمة ـ فقد حدث بعدهم حوادث كثيرة وحدث من انتسب إلى السُّنّة والحديث من الظاهرية ونحوهم، وهو أشد مخالفة لها ـ أي للسُّنّة ـ لشذوذه عن الأئمة وانفراده عنهم بفهم يفهمه أو بأخذٍ لم يأخذ به الأئمة من قبله).
العطور المشتملة على الكحول نجسة:(/2)
وبناءً على ما تقدّم فإنّ القول بنجاسة الخمر عموماً بكل أنواعها أو بمعنى آخر كل ما اشتمل على المادة المسكرة الإيثانول ينبني عليه القول بحرمة استعمال تلك العطور لأنها نجسة واستعمال النجاسة لا يجوز إلا لحاجة كما قرر الفقهاء، ومن المعلوم أن التعطر ليس من الحاجات ـ إذ هي التي يحصل بفواتها مشقة ـ وليس ذلك فحسب بل تبطل باستعمالها الصلاة عند أكثر الفقهاء طهارة البدن والثوب ومكان الصلاة من النجاسة. وهذا القول يفتي به كثير من الفقهاء المعاصرين. وللشيخ يوسُف النَّبْهاني الشافعي (من المعاصرين) المتوفى عام 1932م فتوى في هذه المسألة يقول فيها: "اعلم أن جميع الأعطار الإفرنجية متنجِّسة فإنها بمقتضى صنعتها لا بد من دخول السبيرتو فيها... وقد ابتُلي فيها كثير من عوّام المسلمين من النساء والرجال إما لجهلهم وإما لعدم مبالاتهم بالحلال والحرام، بل كثير من تجارها مسلمون مع معرفتهم أنه لا بد من دخول السبيرتو فيها، ولكنهم يجهلون نجاستها ويقولون إنها تطير، وهي ولو طارت فإن العطر قد تنجس بها فلا يجوز استعماله". انتهى.
بقي توضيح قول من يفرق بين الخمر وبين سائر المسكرات وهو قول فقهاء المذهب الحنفي وما انبنى على هذا القول من وجود رواية (من ثلاث روايات في المذهب) تقول بطهارة المسكرات ومنها تلك العطور، بينما تبقى الخمر ـ وهي قاصرة عندهم على المتخذ من عصير العنب ـ نجسة. ثم بيان قيمة تلك الرواية من حيث ترجيحها والفتوى بها، لنرى ما إذا كان ينفتح بتلك الرواية منفذ ـ ولو ضيِّقاً ـ للتيسير على الناس، أو على الأقل العوام منهم لئلا يتورطوا بالوقوع في الإثم وبطلان صلواتهم.
وهنا يجدر لفت الأنظار إلى أنّ المذاهب الثلاثة الأخرى وجمهور الفقهاء لا يفرقون بين الخمر وبين المسكر المتخذ من غير عصير العنب إذ كل مسكر يسمى شرعاً خمراً لثبوت ذلك بالأحاديث الصحيحة. وليس الآن مجال عرض وجهة نظر المذهب الحنفي في هذا التفريق والأدلة التي استند عليها.
رواية طهارة المسكرات في المذهب الحنفي: ضعيفة.
أما روايات المذهب الحنفي الثلاث فقد عرضها العلاّمة الحَصْكَفي في كتابه "الدُّرّ المختار" 1/213، فقال: "وفي باقي الأشربة (أي المسكرة سوى الخمر) روايات ثلاث: التغليظ، والتخفيف، والطهارة. ورجّح في البحر (من كتب الفقه الحنفي) الأول (أي التغليظ)، ورجّح في النهر (من كتب الفقه الحنفي أيضاً) الأوسط (أي التخفيف)". انتهى كلامه، وما بين الأقواس شروح إضافية. ونلاحظ أنه وإن وُجدت رواية في المذهب بطهارة المسكرات غير الخمر إلا أن الترجيح دائر بين رواية التغليظ وبين رواية التخفيف.
ولذلك اقتصر الإمام المَرْغِيناني الحنفي في كتابه المشهور "الهداية" ـ 4/110 ـ على روايتي التغليظ والتخفيف فقط، وكذلك العلامة القُهُسْتاني كما نقل عنه ابن عابدين عمدة المفتين من متأخِّري فقهاء المذهب وقد رجّح للفتوى رواية التغليظ على ما ذكره في حاشيته المشهورة بحاشية ابن عابدين 1/231 التي عليها الاعتماد في الفتوى على المذهب الحنفي.
والفرق بين النجاسة المغلّظة وبين النجاسة المخفَّفة عند الأحناف هو في قَدْر المعفوّ عنه منهما لصحة الصلاة والذي لا يجب إزالته ولكن يستحب. فما حكموا بنجاسته نجاسة مغلّظة كالبول والخمر يُعفى عن قدر عرض الكفّ منه، وما حكموا بنجاسته نجاسة مخفَّفة يُعفى عما دون ربع العضو المصاب إن كان بدناً أو ربع الطرف المصاب إن كان ثوباً.
إلا أن وجود رواية في المذهب تقول بطهارة المسكرات غير الخمر وإفتاء بعض الفقهاء المذهب الحنفي المعاصرين بها كما نقل الشيخ عبد الفتاح أبو غدّة ـ رحمه الله وجعل الجنّة مثواه ـ في تعليقةٍ له على "فتح باب العناية" 1/258، هو ما عنَيْتُه بالمنفذ الضيّق الذي ينفتح للعوّام، وإن كنتُ لا أتحمّل مسؤولية الإفتاء بتلك الرواية لأنها غير معتمدة في المذهب كما تبيَّن، ثم إن الشيخ عبد الفتاح قال بعدما نقل إفتاء فقيهَيْن حنفيَّيْن من المعاصرين بها: (ولا ريب أن التنزّه عن استعمالها ـ أي الإسبيرتو والعطور الحكولية ـ لمن استطاع أَوْلى).
حرمة استعمال العطور المشتملة على الكحول وبيعُها وشراؤها:
وبذلك تكون قد عرضنا بأمانة إن شاء الله جميع الآراء فيما يتعلّق بالعطور (ومثلها الروائح التي ترشّ في المنازل) المشتملة على الكحول سواء استُعملت لليدين أو للإبطين أو لغير ذلك من مواضع البدن. ولا شك بأن التقوى تقتضي الاحتياط في الدين والبُعْد عما فيه احتمالُ الوقوع في الإثم وبطلان الصلاة به وفي حرمة بيعه وشرائه (لأن ما حرُم استعماله حرُم بيعه وشراؤه) خاصة مع قوة هذا الاحتمال، لاعتماده على حديث صحيح، وإفتاء كثير من الفقهاء به.(/3)
وبعد، فإنّ من المفيد ختم الكلام بذكر هاتين الحادثتين: إحداهما حصلت مع السيدة عائشة رضي الله عنها حينما جاءتها مجموعة من النسوة من حِمْص للزيارة وقالت امرأة منهنّ: لي بنات أمشِّطهنّ بهذا الشراب. فقالت عائشة: بأيّ الشراب؟ قالت: الخمر، فقالت لها: أفكنت طيِّبةَ النفس أن تمشطي بدم خنزير؟!
قالت: لا. فقالت لها السيدة عائشة رضي الله عنها: فإنه مثلُه. أخرجها الحاكم في المستدرك 4/289، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ووافقه الحافظ الذهبيّ على ذلك.
وأما الثانية فهي ما رواه الإمام ابن جرير الطَّبري في تاريخه 4/204، في حوادث سنة 17 هـ من أن عمر بن الخطاب رضي الله عنها بلغه أن خالد بن الوليد دخل الحمّام فتدلّك بمادّة معجونة بخمر، فكتب إليه: (بلغني أنك تدلّكت بخمر، وإن الله قد حرّم ظاهر الخمر وباطنه كما حرّم ظاهر الإثم وباطنه، وقد حرّم مسّ الخمر إلا أن تُغسل كما حرّم شُرْبَها، فلا تُمِسُّوها أجسادَكم فإنها نَجَس، وإن فعلتُم فلا تعودوا). انتهى.
والحمد لله رب العالمين(/4)
حكم التوسل بالأولياء والصالحين
دار الوطن
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده
وبعد:
فإنه نتيجة لبعد كثير من المسلمين عن ربهم وجهلهم بدينهم في هذا الزمن فقد كثرت فيهم الشركيات والبدع والخرافات، ومن ضمن هذه الشركيات التي انتشرت بشكل كبير تعظيم بعض المسلمين لمن يسمونهم بالأولياء والصالحين ودعاؤهم من دون الله واعتقادهم أنهم ينفعون ويضرون، فعظموهم وطافوا حول قبورهم.
ويزعمون أنهم بذلك يتوسلون بهم إلى الله لقضاء الحاجات وتفريج الكربات، ولو أن هؤلاء الناس الجهلة رجعوا إلى القرآن والسنة وفقهوا ما جاء فيهما بشأن الدعاء والتوسل لعرفوا ما هو التوسل الحقيقي المشروع؟
إن التوسل الحقيقي المشروع هو الذي يكون عن طريق طاعة الله وطاعة رسوله بفعل الطاعات واجتناب المحرمات، وعن طريق التقرب إلى الله بالأعمال الصالحة وسؤاله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، فهذا هو الطريق الموصل إلى رحمة الله ومرضاته.
أما التوسل إلى الله عن طريق: الفزع إلى قبور الموتى والطواف حولها، والترامي على أعتابها وتقديم النذور لأصحابها، لقضاء الحاجات وتفريج الكربات فليس توسلا مشروعا بل هذا هو الشرك والكفر بعينه والعياذ بالله.
فكل من غلا في حيٍ، أو رجل صالح، أو نحوه، وجعل له نوعا من أنواع العبادة مثل أن يقول إذا ذبح شاة: باسم سيدي، أو يعبده بالسجود له أو يدعوه من دون الله تعالى مثل أن يقول: يا سيدي فلان أغفر لي أو ارحمني أو انصرني أو ارزقني أو أغثني، أو نحو ذلك من الأقوال والأفعال التي هي من خصائص الرب والتي لا تصلح إلا الله تعالى، فقد أشرك بالله شركا أكبر، فإن الله تعالى إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب لنعبد الله وحده لا شريك له ولا نجعل مع الله إلها آخر.
والذين كانوا يدعون مع الله آلهةً أخرى مثل اللات والعزى وغيرها لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق، أو أنها تنزل المطر، وإنما كانوا يعبدونها ويقولون: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى ويقولون: هم شفعاؤنا عند الله.
فأرسل الله رسله تنهى أن يُدعى أحد من دونه لا دعاء عبادة، ولا دعاء استغاثة، وقال تعالى: قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا [الإسراء:56]، وقال تعالى: قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له [سبأ:22]، فأخبر سبحانه: أن ما يُدعى من دون الله ليس له مثقال ذرة في الملك وأنه ليس له من الخلق عون يستعين به.
ولقد نهى النبي عن اتخاذ القبور مساجد، فقال في مرض موته: { لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا }، وكان ذلك سدا لذريعة الوقوع في الشرك فإن من أكبر أسباب عبادة الأوثان كان بسبب تعظيم القبور بالعبادة ونحوها.
وأما ما جاء في توسل عمر بن الخطاب بالعباس رضي الله عنهما، الذي قد يحتج به البعض، فإن عمر توسل بدعاء العباس لا بشخصه، والتوسل بدعاء الأشخاص غير التوسل بشخصهم بشرط أن يكونوا أحياء؛ لأن التوسل بدعاء الحي نوع من التوسل المشروع بشرط أن يكون المتوسل بدعائه رجلا صالحا. وهذا من جنس أن يطلب رجل الدعاء من رجل صالح حي ثم يطلب من الله أن يقبل دعاء هذا الرجال الصالح الحي له.
أما الميت الذي يذهب إليه السائل ليسأل الله ببركته ويطلب منه العون قد أصبح بعد موته لا يملك لنفسه شيئا ولا يستطيع أن ينفع نفسه بعد موته فكيف ينفع غيره؟! ولا يمكن لأي إنسان يتمتع بذرة من العقل السليم يستطيع أن يقرر أن الذي مات وفقد حركته وتعطلت جوارحه يستطيع أن ينفع نفسه بعد موته فضلا عن أن ينفع غيره، وقد نفى النبي قدرة الإنسان على فعل أي شيء بعد موته فقال: { إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له }، فتبين من الحديث أن الميت هو الذي بحاجة إلى من يدعو له ويستغفره له، وليس الحي هو الذي بحاجة إلى دعاء الميت، وإذا كان الحديث يقرر انقطاع عمل ابن آدم بعد موته، فكيف نعتقد أن الميت حي في قبره حياة تمكنه من الاتصال بغيره وإمداده بأي نوع من الإمدادات؟ كيف نعتقد ذلك؟! وفاقد الشيء لا يعطيه والميت لا يمكنه سماع من يدعوه مهما أطال في الدعاء قال تعالى: والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير، إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم [فاطر:13،14]، فنفى الله عنهم الملك وسماع الدعاء ومعلوم أن الذي لا يملك لا يعطي، وأن الذي لا يسمع لا يستجيب ولا يدري، وبينت الآية أن كل مدعو من دون الله كائنا من كان فإنه لا يستطيع أن يحقق لداعيه شيئا.(/1)
وكل معبود من دون الله فعبادته باطلة، قال تعالى: ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين، وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله [يونس:106،107]، ويتبين من هذه الآية أن كل مدعو من دون الله لا ينفع ولا يضر، فإذا ما الفائدة من عبادته ودعائه، وهذا فيه تكذيب لأهل الخرافة الذين يقولون ذهبنا للقبر الفلاني أو دعونا الولي الفلاني وتحصل لنا ما نريد، فمن قال ذلك فقد كذب على الله، ولو فرض أن حصل شيء مما يقولون فإنه حصل بأحد سببين:
1- إن كان الأمر مما يقدر عليه الخلق عادة فهذا حصل من الشياطين لأنهم دائما يحضرون عند القبور، لأنه ما من قبر أو صنم يعبد من دون الله إلا تحضره الشياطين لتعبث في عقول الناس.
وهؤلاء المتوسلون بالأولياء لما كانوا من جنس عباد الأوثان صار الشيطان يضلهم ويغويهم كما يضل عباد الأوثان قديما فتتصور الشياطين في صورة ذلك المستغاث به وتخاطبهم بأشياء على سبيل المكاشفة، كما تخاطب الشياطين الكهان وقد يكون بعض ذلك صدقاً، ولكن أكثره كذب، وقد تقضي بعض حاجاتهم وتدفع عنهم بعض ما يكرهون مما يقدر عليه البشر عادة، فيظن هؤلاء السذج أن الشيخ، أو الولي هو الذي خرج من قبره وفعل ذلك، وإنما هو في الحقيقة الشيطان تمثل على صورته ليضل المشرك المستغيث به، كما تدخل الشياطين في الأصنام وتكلم عابديها وتقضي بعض حوائجهم.
2- أما إن كان الأمر مما لا يقدر عليه إلا الله كالحياة والصحة والغنى والفقر، وغير ذلك مما هو من خصائص الله، فهذا انقضى بقدر سابق قد كتبه الله ولم يحصل ذلك ببركة دعاء صاحب القبر كما يزعمون.
فينبغي على الإنسان العاقل ألا يصدق مثل هذه الخرافات، وأن يعلق قلبه بالله وينزل حاجته به حتى تقضي ولا يلتفت إلى الخلق لأن الخلق ضعفاء مساكين فيهم الجهل والعجز، وكيف يطلب الإنسان حاجته من مخلوق مثله؟ وقد يكون ذلك المخلوق ميتا أيضا لا يسمع ولا يرى ولا يملك شيئا، ولكن الشيطان يزين للناس ما كانوا يعملون.
الكرامات المزعومة
لقد اختلطت الأمور على كثير من الناس اختلاطا عجيبا جعلهم يجهلون حقيقة المعجزات والكرامات، فلم يفهموها على وجهها الصحيح، ليفرقوا بين المعجزات والكرامات الحقيقية التي تأتي من الله وحده إتماما لرسالته إلى الناس وتأييدا لرسله أو إكراما لبعض أوليائه الصالحين الحقيقيين، لم يفرقوا بينها وبين الخرافات والأباطيل التي يخترعها الدجالون ويسمونها معجزات وكرامات ليضحكوا بها على عقول الناس وليأكلوا أموالهم بالباطل.
ولقد ظن الجهلة من الناس أن المعجزات والكرامات من الأمور الكسبية والأفعال الاختيارية التي تدخل في استطاعة البشر، بحيث يفعلونها من تلقاء أنفسهم وبمحض إرادتهم، وبهذا الجهل اعتقدوا أن الأولياء والصالحين يملكون القدرة على فعل المعجزات والكرامات في أي وقت يشاءون، وما ذلك إلا بجهل الناس بربهم وبحقيقة دينهم.
ونقول لهؤلاء إن تصوير ما يحدث من هؤلاء الدجالين على أنها معجزة أو كرامة لهذا الولي أو ذلك كذب، وإنما هذه الحوادث كلها من عبث الشياطين أو من اختراع عقلية ماكرة اصطنعت تلك الحوادث الوهمية وسمتها كرامات ومعجزات لتضفي على أصحاب هذه القبور مهابة وإجلالا فتجعل لهم بركات ليعظمهم الناس.
ولا يمكن لأي عاقل يحتفظ بفطرته السليمة أن يصدق أن الميت يمكنه القيام بأي عمل بعد أن خرجت روحه من بدنه وبطلت حركته وأكل الدود جسمه وأصبح عظاما بالية، من الذي يصدق مثل هذه المزاعم المفضوحة إلا إنسان جاهل ساذج!! لأن هذه المزاعم التي يزعمونها مما يستحيل أن يفعلها الأحياء فضلا عن الأموات! فهل نلغي عقولنا التي منحنا الله لنصدق مثل هذه الخرافات؟ إن العقول المستنيرة والفطرة السليمة ترفض بشدة تصديق مثل هذه الخرافات لما في ذلك من مخالفة لسنن الله الشرعية والكونية. قال تعالى: ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون اله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون، ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون [آل عمران:79،80].
المشركون قديما وحديثاً
إن الكثيرين من الناس من مرتادي القبور والمزارات يقولون: إن المشركين في الجاهلية كانوا يعبدون الأصنام، أما نحن فلا أصنام عندنا نعبدها، بل لدينا قبور لبعض المشايخ والصالحين لا نعبدها ولكننا فقط نسأل الله أن يقضي حاجاتنا إكراما لهم، والعبادة غير الدعاء.(/2)
ونقول لهؤلاء إن طلب المدد والبركة من الميت هو في الحقيقة دعاء، كما كانت الجاهلية تدعو أصنامها تماما ولا فرق بين الصنم الذي يعبده المشركون قديما وبين القبر الذي يعبد الناس ساكنه حديثا، فالصنم والقبر والطاغوت كلها أسماء تحمل معنى واحدا وتطلق على كل من عبد من دون الله سواء كان إنسانا حيا أو ميتا أو جمادا أو حيوانا أو غير ذلك، ولما سئل المشركون قديما عن سبب توسلهم بالأصنام ودعائهم لها كان جوابهم: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى [الزمر:3]، أي وسطاء بيننا وبين الله لقضاء حاجتنا، ومن ذلك يتبين أنه لا فرق بين دعوى الجاهلية الأولى وبين عباد القبور الذين ينتسبون إلى الإسلام اليوم فغاية الجميع واحدة وهي الشرك بالله ودعاء غير الله.
شرك المحبة
إن مجرد انصراف القلب والمشاعر كلها إلى مخلوق بالحب والتعظيم فيما لا يجوز إلا الله يعتبر عبادة له، فالذين يزعمون أنهم يحبون الموتى من الأولياء والصالحين لكنهم يعظمونهم ويقدسونهم بما يزيد عن الحد الشرعي هم في الحقيقة يعبدونهم لأنهم من فرط حبهم له انصرفوا إليهم فجعلوا لهم الموالد والنذور وطافوا حول قبورهم كما يطوفون حول الكعبة واستغاثوا بهم وطلبوا المدد والعون منهم، ولولا التقديس والغلو فيهم ما فعلوا كل ذلك من أجل الموتى.
ومن غلوهم يهم أيضا أنهم يحرصون على أن يحلفوا بهم صادقين بينما لا يتحرجون من أن يحلفوا بالله كاذبين هازلين، والبعض منهم قد يسمع من يسب الله تعالى فلا يغضب لذلك ولا يتأثر بينما لو سمع أحدا يسب شيخه لغضب لذلك غضبا شديدا أليس في ذلك غلو في أوليائهم ومشايخهم أكثر من تعظيمهم لله؟ وأن محبتهم لهم غلبت محبة الله، قال تعالى: ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله [البقرة:165].
الله قريب من عباده
إن الله تعالى قريب من عباده وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون [البقر:186]، فليس بين الله وبين عباده ما يمنع من مناجاته واللجوء إليه وطلب الحاجة منه مباشرة حتى يلجأ الإنسان إلى قبور الموتى يتوسل بهم ويدعوهم ليشفعوا له عند الله ويسألهم مالا يملكون ويطلب منهم ما لا يقدرون عليه.
بل يجب على الإنسان أن يلجأ إلى ربه مباشرة، ويتوسل إليه التوسل المشروع وذلك بالتقرب إليه بالطاعات والأعمال الصالحة ودعائه بأسمائه الحسنى وصفاته العلا وأن يكون معتقدا تمام الاعتقاد أن الله تعالى هو المعز المذل المحيي المميت الرازق النافع المدبر لشؤون الحياة كلها وأن بيده وحده النفع والضر، قال : { واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك بشيء إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك }، فالفرد سواء كان حيا أو ميتا من باب أولى لن ينفع ولن يضر أحد إلا بشيء قد كتبه الله.
لذا فيجب على كل من ابتلي بمثل هذه الشركيات وهذه البدع والخرافات من طواف حول القبور وتعظيمها وسؤال أصحابها الحاجات وتفريج الكربات أن يتوب إلى الله من هذا العمل الفاسد الذي هو في الحقيقة شرك بالله وصاحبه مخلد في النار والعياذ بالله. قال تعالى: إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار [المائدة:72]، وأن يخلص العبادة لله وحده لا شريك له في كل شأن من شؤون حياته وأن يعبد الله بما شرعه إن كان صادقا في إسلامه وألا يلتفت لأحد من الخلق كائنا من كان لا في دعاء ولا غيره مما لا يقدر عليه إلا الله وأن يلتزم كتاب الله وسنة رسوله وألا يخالط أهل البدع وأهل الشرك لئلا يتأثر بهم ويقلدهم فيهلك معهم ويخسر الدنيا والآخرة والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/3)
حكم الحج وفضله
أولاً: تعريف الحج:
1- لغة.
2- شرعاً.
3- أنواع الأنساك.
ثانياً: مشروعية الحج:
1- الكتاب.
2- السنة.
3- الإجماع.
ثالثا: متى فرض الحج؟
رابعا: فضل الحج.
مسألة: هل التطوع بالحج أفضل أم الصدقة؟
خامسا: بعض حِكم الحج ومنافعه.
سادسا: وصايا تهم الحاج.
سابعا: كيف تحج؟
أ- صفة الحج ملخصا.
ب- صفة حجة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثامنا: مسائل متعلقة بحكمه:
1- شروطه.
2- هل يجب على الفور أم على التراخي؟
أولاً: تعريفه:
1- الحج لغة: قال ابن منظور رحمه الله: "الحج: القصد. حج إلينا فلان أي: قدم، وحجّه يحُجُّه حجاً: قصده. وحججتُ فلاناً واعتمدته أي: قصدته، ورجل محجوج أي: مقصود"([1]).
2- الحج شرعا: "قصد بيت الله تعالى بصفة مخصوصة، في وقت مخصوص، بشرائط مخصوصة"([2]).
3- أنواع الأنساك: الأنساك ثلاثة: تمتع وإفراد وقرآن.
أ- فالتمتع: أن يحرم بالعمرة وحدها في أشهر الحج، فإذا وصل مكة، طاف وسعى للعمرة، وحلق أو قصر، فإذا كان يوم التروية، وهو اليوم الثامن من ذي الحجة أحرم بالحج وحده، وأتى بجميع أفعاله.
ب- والإفراد: أن يحرم بالحج وحده، فإذا وصل مكة، طاف للقدوم، ثم سعى سعي الحج، ولا يحلق ولا يقصّر ولا يحلّ من إحرامه، بل يبقى محرماً حتى يحل بعد رمي جمرة العقبة ليوم العيد، وإن أخّر سعي الحج إلى ما بعد طواف الحج فلا بأس.
ج- والقِران: أن يحرم بالعمرة والحج جميعاً، أو يحرم بالعمرة أولاً ثم يدخل الحج عليها قبل الشروع في طوافها، وعمل القارن كعمل المفرد سواء، إلاّ أن القارن عليه هدي، والمفرد لا هدي عليه"([3]).
([1]) لسان العرب (3/52).
([2]) التعريفات للجرجاني (ص 111). وانظر: مغني المحتاج للشربيني (1/459)، وشرح منتهى الإرادات للبهوتي (1/472).
([3]) المنهج لمريد الحج والعمرة للشيخ ابن عثيمين (ص 116)، ضمن المجموع المفيد لكتب الحج.
ثانياً: مشروعيته:
دل الكتاب والسنة والإجماع على وجوب الحج مرة واحدة في العمر.
دليل الكتاب: قال الله تعالى: {وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97].
قال ابن جرير رحمه الله: "يعني بذلك جل ثناؤه: وفرض واجب لله على من استطاع من أهل التكليف السبيل إلى حج بيته الحرام الحجُ إليه"([1])، وقال في تفسير قوله: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}: "يعني: ومن جحد ما ألزمه الله من فرض حج بيته، فأنكره وكفر به، فإن الله غني عنه وعن حجه وعمله، وعن سائر خلقه من الجن والإنس"([2]).
وقال ابن العربي: "قال علماؤنا: هذا من أوكد ألفاظ الوجوب عند العرب، إذا قال العربي: لفلان علي كذا فقد وكده وأوجبه، قال علماؤنا: فذكر الله سبحانه الحج بأبلغ ألفاظ الوجوب، تأكيداً لحقه، وتعظيماً لحرمته، وتقوية لفرضه"([3]).
وقال القرطبي رحمه الله: "فذكر الله الحج بأبلغ ألفاظ الوجوب تأكيداً لحقه وتعظيماً لحرمته، ولا خلاف في فريضته، وهو أحد قواعد الإسلام، وليس يجب إلا مرة في العمر"([4]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وحرفُ (على) للإيجاب، لا سيما إذا ذكر المستحق فقيل: لفلان على فلان، وقد أتبعه بقوله: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} ليبين أن من لم يعتقد وجوبه فهو كافر، وأنه وضع البيت وأوجب حجه {لّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:28]، لا لحاجة إلى الحجاج كما يحتاج المخلوق إلى من يقصده ويعظمه؛ لأن الله غني عن العالمين"([5]).
وقال ابن كثير رحمه الله: "هذه آية وجوب الحج"([6]).
وقال الشوكاني رحمه الله: "فذكر الله سبحانه الحج بأبلغ ما يدل على الوجوب تأكيداً لحقه، وتعظيماً لحرمته، وهذا الخطاب شامل لجميع الناس لا يخرج عنه إلا من خصصه الدليل"([7]).
وقال في تفسير قوله تعالى: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}: "قيل: إنه عبر بلفظ الكفر عن ترك الحج تأكيداً لوجوبه وتشديداً على تاركه، وقيل: المعنى: ومن كفر بفرض الحج ولم يره واجباً، وقيل: إن من ترك الحج وهو قادر عليه فهو كافر. وفي قوله: {فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} من الأدلة على مقت تارك الحج مع الاستطاعة وخذلانه وبعده من الله سبحانه ما يتعاظمه سامعه ويرجف له قلبه، فإن الله سبحانه إنما شرع لعباده هذه الشرائع لنفعهم ومصلحتهم، وهو تعالى شأنه وتقدس سلطانه غني لا تعود إليه طاعات عباده بأسرها بنفع"([8]).
وقال ابن سعدي رحمه الله: "أوجب الله حجه على المكلفين المستطيعين إليه سبيلاً... ومن كفر فلم يلتزم حج بيته، فهو خارج عن الدين {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}"([9]).
وأما دليل السنة: فقد وردت أحاديث كثيرة تدل على ذلك منها:(/1)
1- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان))([10]).
2- وفي حديث جبريل المشهور وفيه: ما الإسلام؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً)) الحديث([11]).
3- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا)) فقال رجل: أكلّ عام يا رسول الله؟ فسكت. حتى قالها ثلاثاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو قلت: نعم، لوجبت، ولما استطعتم))([12]).
وأما دليل الإجماع: فقال ابن المنذر رحمه الله: "وأجمعوا أن على المرء في عمره حجة واحدة"([13]).
وممن نقله كذلك ابن عبد البر([14])، وابن قدامة([15])، وابن تيمية([16])، وابن كثير([17])، وغيرهم رحمهم الله تعالى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فكل من لم يَر حج البيت واجباً عليه مع الاستطاعة فهو كافر باتفاق المسلمين"([18]).
([1]) جامع البيان (7/37).
([2]) جامع البيان (7/47).
([3]) أحكام القرآن (1/285).
([4]) الجامع لأحكام القرآن (4/142).
([5]) شرح العمدة (1/76- المناسك).
([6]) تفسير القرآن العظيم (2/66).
([7]) فتح القدير (1/547).
([8]) فتح القدير (1/548).
([9]) تيسير الكريم الرحمن (1/259).
([10]) أخرجه البخاري في: الإيمان، باب: دعاؤكم إيمانكم (8) واللفظ له، ومسلم في: الإيمان، باب: بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام (16).
([11]) أخرجه مسلم في: الإيمان، باب: بيان الإيمان والإسلام والإحسان ... (8) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
([12]) أخرجه مسلم في: الحج، باب: فرض الحج مرة في العمر (1337).
([13]) الإجماع (ص16).
([14]) انظر: التمهيد (21/52).
([15]) انظر: المغني (5/6).
([16]) انظر: شرح العمدة (1/87 – المناسك).
([17]) انظر: تفسير القرآن العظيم (2/66).
([18]) التفسير الكبير لابن تيمية (3/227).
ثالثا: متى فرض الحج؟
اختلف العلماء في ذلك، فقيل: فرض سنة ست، وقيل: سنة سبع، وقيل: سنة ثمان، وقيل: سنة تسع، وقيل: سنة عشر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وسورة آل عمران إنما نزل صدرها متأخراً لما قدم وفد نجران بالنقل المستفيض المتواتر، وفيها فرض الحج، وإنما فرض سنة تسع أو عشر، لم يفرض في أول الهجرة باتفاق"([1]).
قال ابن القيم رحمه الله: "لا خلاف أنه لم يحج بعد هجرته إلى المدينة سوى حجة واحدة، وهي حجة الوداع، ولا خلاف أنها كانت سنة عشر. ولما نزل فرض الحج بادر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحج من غير تأخير. فإن فرض الحج تأخر إلى سنة تسع أو عشر"([2]).
([1]) التفسير الكبير (7/471).
([2]) زاد المعاد (2/101)، وانظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (4/144)، والروض المربع (3/499).
رابعا: فضل الحج:
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: ((إيمان بالله ورسوله)). قيل: ثم ماذا؟ قال: ((جهاد في سبيل الله))، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((حج مبرور))([1]).
قال النووي رحمه الله: "الأصح الأشهر أن المبرور: هو الذي لا يخالطه إثم، مأخوذ من البر وهو الطاعة، وقيل: هو المقبول. ومن علامة القبول أن يرجع خيرا مما كان ولا يعاود المعاصي. وقيل: هو الذي لا رياء فيه. وقيل: الذي لا يعقبه معصية. وهما داخلان فيما قبلهما"([2]).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "قال ابن خالويه: المبرور المقبول، وقال غيره: الذي لا يخالطه شيء من الإثم، ورجحه النووي، وقال القرطبي: الأقوال التي ذكرت في تفسيره متقاربة المعنى، وهي أنه الحج الذي وفيت أحكامه ووقع موقعاً لما طلب من المكلف على الوجه الأكمل، والله أعلم"([3]).
2- عن عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل العمل، قال: ((لكن أفضل الجهاد حج مبرور))([4]).
قولها: (نرى الجهاد أفضل العمل) هو: بفتح النون أي نعتقد ونعلم؛ وذلك لكثرة ما يسمع من فضائله في الكتاب والسنة([5]).
قوله: ((لكن أفضل الجهاد))، قال ابن حجر رحمه الله: "اختلف في ضبط ((لكن)) فالأكثر بضمّ الكاف خطاب للنسوة، قال القابسي: وهو الذي تميل إليه نفسي. وفي رواية الحموي ((لكِن)) بكسر الكاف وزيادة ألف قبلها بلفظ الاستدراك، والأول أكثر فائدة؛ لأنه يشتمل على إثبات فضل الحج وعلى جواب سؤالها عن الجهاد، وسماه جهاداً لما فيه من مجاهدة النفس"([6]).
3- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه))([7]).(/2)
قال النووي رحمه الله: "قال القاضي: هذا من قوله تعالى: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ} [البقرة:197]، والرفث اسم للفحش من القول، وقيل: هو الجماع. وهذا قول الجمهور في الآية، قال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة:187]، وقيل: الرفث التصريح بذكر الجماع. قال الأزهري: هي كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من المرأة. وكأن ابن عباس يخصصه بما خوطب به النساء"([8]).
قوله: ((ولم يفسق)) أي: لم يأت بسيئة ولا معصية([9]).
وقوله: ((رجع كيوم ولدته أمه)) أي: بغير ذنب، وظاهره غفران الصغائر والكبائر والتبعات([10]).
قال ابن باز رحمه الله: "الرفث: هو الجماع قبل التحلل، وما يدعو إلى ذلك من قول وعمل مع النساء كله رفث، والفسوق جميع المعاصي القولية والفعلية يجب على الحاج تركها والحذر منها"([11]).
4- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة))([12]).
قال النووي رحمه الله: "ومعنى: ((ليس له جزاء إلا الجنة)): أنه لا يُقْتَصَر لصاحبه من الجزاء على تكفير بعض ذنوبه، بل لا بد أن يدخله الجنة، والله أعلم"([13]).
وقال ابن باز رحمه الله: "وهذا يدل على الفضل العظيم للحج والعمرة، وأن العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، وأن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة. فجدير بأهل الإيمان أن يبادروا بحج بيت الله، وأن يؤدوا هذا الواجب العظيم أينما كانوا إذا استطاعوا السبيل إلى ذلك"([14]).
5- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة))([15]).
قال الطيبي رحمه الله: "أي: إذا حججتم فاعتمروا، أو إذا اعتمرتم فحجوا، وإزالته الفقر كزيادة الصدقةِ المالَ، {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَةٍ مّاْئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:261]، مثّل متعة الحج والعمرة في إزالة الذنوب بإزالة النار خبث الذهب الإبريز الذي استصحبه من معدنه؛ لأن الإنسان مركوز في جبلته القوة الشهوانية والغضبية، يحتاج إلى رياضةٍ تزيلها عنه، هذا إذا كان معصوماً، فكيف بمن تابع هوى النفس، خليع العذار، منهمكاً في المعاصي؟! والحج جامع لأنواع الرياضات من إنفاق المال، وجهد النفس بالجوع والعطش والسهر، وقطع المهامة واقتحام المهالك، ومفارقة الأوطان، ومهاجرة الإخوان والأخدان"([16]).
وقال المباركفوري: "قوله: ((تابعوا بين الحج والعمرة)) أي: قاربوا بينهما، إما بالقران أو بفعل أحدهما بالآخر ... ((فإنهما)) أي: الحج والاعتمار، ((ينفيان الفقر)) أي: يزيلانه، وهو يحتمل الفقر الظاهر بحصول غنى اليد، والفقر الباطن بحصول غنى القلب، ((والذنوب)) أي: يمحوانها، وقيل: المراد بهما الصغائر، ولكن يأباه قوله: ((كما ينفي الكير)) وهو ما ينفخ فيه الحداد لاشتعال النار للتصفية، ((خبث الحديد والذهب والفضة)) أي: وسخها"([17]).
6- عن ماعز رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سُئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: ((إيمان بالله وحده، ثم الجهاد، ثم حجة برة تفضل سائر الأعمال كما بين مطلع الشمس إلى مغربها))([18]).
7- عن ابن شماسة قال: حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقه الموت، فبكى طويلاً... وفيه قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((أما علمت يا عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله))([19]).
8- عن الحسين بن علي رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني جبان، وإني ضعيف، فقال: ((هلمّ إلى جهاد لا شوكة فيه: الحج))([20]).
9- عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الغازي في سبيل الله والحاج والمعتمر وفد الله، دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم))([21]).
قال المناوي رحمه الله: "الحاج والمعتمر وفد الله أي: قادمون عليه امتثالاً لأمره، دعاهم إلى الحج والاعتمار فأجابوه، وسألوه فأعطاهم ما سألوه، ومقصود الحديث بيان أن الحاج حجاً مبروراً لا ترد دعوته"([22]).
10- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وفد الله ثلاثة: الغازي، والحاج، والمعتمر))([23]).
11- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما أهل مهل قط، ولا كبر مكبر قط، إلا بشر بالجنة))([24]).(/3)
12- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاثة في ضمان الله عز وجل: رجل خرج إلى مسجد من مساجد الله عز وجل، ورجل خرج غازياً في سبيل الله تعالى، ورجل خرج حاجاً))([25]).
13- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: جاء رجل من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، كلمات أسأل عنهن، قال: ((اجلس)). وذكر الحديث. وفيه قال صلى الله عليه وسلم عن الحاج: ((فإن له حين يخرج من بيته، أن راحلته لا تخطو خطوة إلا كتب له بها حسنة، أو حطت عنه بها خطيئة، فإذا وقف بعرفة فإن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا، فيقول: انظروا إلى عبادي شعثاً غبراً، اشهدوا أني قد غفرت لهم ذنوبهم، وإن كان عدد قطر السماء ورمل عالج، وإذا رمى الجمار لا يدري أحد ما له حتى يوفاه يوم القيامة، وإذا حلق رأسه فله بكل شعرة سقطت من رأسه نور يوم القيامة، وإذا قضى آخر طوافه بالبيت خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه))([26]).
14- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من خرج حاجاً فمات كتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة، ومن خرج معتمراً فمات كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة، ومن خرج غازياً فمات كتب له أجر الغازي إلى يوم القيامة))([27]).
15- عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من يوم عرفة، وإنه ليدنوا ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ماذا أراد هؤلاء؟))([28]).
مسألة: هل التطوع بالحج أفضل أم الصدقة؟
قال ابن رجب الحنبلي: "قال أبو الشعثاء: نظرت في أعمال البر، فإذا الصلاة تجهد البدن دون المال، والصيام كذلك، والحج يجهدهما فرأيته أفضل.
وروى عبد الرزاق بإسناده عن أبي موسى الأشعري: أن الحاج يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، فقال له رجل: يا أبا موسى، إني كنت أعالج الحج، وقد كبرت وضعفت، فهل من شيء يعدل الحج؟ فقال له: هل تستطيع أن تعتق سبعين رقبة مؤمنة من ولد إسماعيل؟! فأما الحل والرحيل فلا أجد له عدلاً أو قال: مثلا.
وبإسناده عن طاوس أنه سئل: هل الحج بعد الفريضة أفضل أم الصدقة؟ قال: فأين الحل والرحيل، والسهر والنصب، والطواف بالبيت، والصلاة عنده، والوقوف بعرفة وجمع، ورمي الجمار؟! كأنه يقول: الحج أفضل".
قال ابن رجب الحنبلي: "قد اختلف العلماء في تفضيل الحج تطوعاً أو الصدقة:
فمنهم من رجّح الحج كما قاله طاوس وأبو الشعثاء وقاله الحسن أيضاً.
ومنهم من رجّح الصدقة وهو قول النخعي.
ومنهم من قال: إن كان ثَمَّ رحمٌ محتاجة أو زمنُ مجاعةٍ فالصدقة أفضل، وإلا فالحج أفضل وهو نص أحمد، وروي عن الحسن معناه، وأن صلة الرحم والتنفيس عن المكروب أفضل من التطوع بالحج"([29]).
([1]) أخرجه البخاري في: الحج، باب: فضل الحج المبرور (1519).
([2])شرح مسلم (9/126-127).
([3]) فتح الباري (3/487).
([4]) أخرجه البخاري في: الحج، باب: فضل الحج المبرور (1520).
([5]) انظر: فتح الباري لابن حجر (3/487).
([6]) فتح الباري (3/487).
([7]) أخرجه البخاري في: الحج، باب: فضل الحج المبرور (1521) واللفظ له، ومسلم في الحج، باب: في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة (1350).
([8]) شرح مسلم (9/127)، وانظر: فتح الباري (3/382).
([9]) انظر: فتح الباري لابن حجر (3/488).
([10]) انظر: فتح الباري لابن حجر (3/488).
([11]) انظر مجلة التوعية الإسلامية في الحج. (ص16) العدد (208)، ذو الحجة (1414هـ).
([12]) أخرجه البخاري في: العمرة، باب: وجوب العمرة وفضلها (1773)، ومسلم في: الحج، باب: في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة (1349).
([13]) شرح مسلم (9/126-127).
([14]) انظر: مجلة التوعية الإسلامية في الحج (ص12). العدد (208)، ذو الحجة (1414هـ).
([15]) أخرجه أحمد (1/25)، والترمذي في: الحج، باب: ما جاء في ثواب الحج والعمرة (810)، والنسائي في: الحج، باب: فضل المتابعة بين الحج والعمرة (2631) قال الترمذي: "حسن صحيح"، وصححه ابن خزيمة (2512)، وابن حبان (3693).
([16]) شرح المشكاة (5/227).
([17]) تحفة الأحوذي (3/454).
([18]) أخرجه أحمد (4/342)، والطبراني في الكبير (20/344). قال المنذري في الترغيب (2/110): "ورواة أحمد إلى ماعز رواة الصحيح"، وقال الهيثمي في المجمع (3/207): "ورجال أحمد رجال الصحيح". وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1103).
([19]) أخرجه مسلم في: الإيمان، باب: كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة (121).
([20]) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (5/807)، والطبراني في الكبير (3/135) والأوسط (4/309)، قال المنذري في الترغيب (2/108): "ورواته ثقات"، وكذا قال الهيثمي في المجمع (3/206). وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1098).(/4)
([21]) أخرجه ابن ماجه في: المناسك، باب: فضل دعاد الحاج (2893) واللفظ له، والطبراني في الكبير (12/422). وصححه ابن حبان (10/474-4613)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (1108).
([22]) فيض القدير (4/409).
([23]) أخرجه النسائي في: مناسك الحج، باب: فضل الحج (2625)، وصححه ابن خزيمة (2511)، وابن حبان (3692) والحاكم (1/608)، والألباني في صحيح الترغيب (1109).
([24]) أخرجه الطبراني في الأوسط (7779) وقال المنذري في الترغيب (2/138) والهيثمي (3/224)، "رواه الطبراني في الأوسط بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح". وصححه الألباني في الصحيحة (1621).
([25]) أخرجه الحميدي (2/466)، وأبو نعيم في الحلية (9/251). وصححه الألباني في الصحيحة (598).
([26]) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (8830)، والطبراني (13566)، والبيهقي في الدلائل (6/294). وصححه ابن حبان (2/205-1887). وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1360).
([27]) أخرجه أبو يعلى (1/105)، والطبراني في الأوسط (5/282)، قال المنذري في الترغيب (2/111): "رواه أبو يعلى من رواية محمد بن إسحاق، وبقية رواته ثقات"، وقال الهيثمي في المجمع (5/282): "رواه أبو يعلى، وفيه ابن إسحاق وهو مدلس، وبقية رجاله ثقات". وقال أيضاً (3/208): "رواه الطبراني في الأوسط، وفيه جميل بن أبي ميمونة، وقد ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، وذكره ابن حبان في الثقات"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1114).
([28]) رواه مسلم في الحج ، باب: فضل الحج والعمرة ويوم عرفة (1348).
([29]) لطائف المعارف (244-245).
خامسا: بعض حِكَم الحج ومنافعه:
قال تعالى: {لّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:28، 29].
قال ابن جرير رحمه الله: "وأولى الأقوال بالصواب قول من قال: عنى بذلك: ليشهدوا منافع لهم من العمل الذي يرضى الله والتجارة، وذلك أن الله عمّ لهم منافع جميع ما يشهد له الموسم، ويأتي له مكة أيام الموسم من منافع الدنيا والآخرة، ولم يخصص من ذلك شيئاً من منافعهم بخبر ولا عقل، فذلك على العموم في المنافع التي وصفت"([1]).
وقال القرطبي رحمه الله: "{مَنَافِعَ لَهُمْ} أي: المناسك؛ كعرفات والمشعر الحرام، وقيل: المغفرة، وقيل: التجارة، وقيل: هو عموم، أي: ليحضروا منافع لهم، أي: ما يرضي الله تعالى من أمر الدنيا والآخرة... فإنه يجمع ذلك كله من نسك وتجارة ومغفرة ومنفعة دنيا وأخرى"([2]).
وقال الشوكاني رحمه الله: "المنافع: هي التي تعمّ منافع الدنيا والآخرة"([3]).
وقال ابن سعدي رحمه الله: "أي: لينالوا ببيت الله منافع دينية من العبادات الفاضلة والعبادات التي لا تكون إلا فيه، ومنافع دنيوية من التكسب وحصول الأرباح الدنيوية، وكل هذا أمر مشاهد، كُلٌّ يعرفه"([4]).
وقال الشنقيطي رحمه الله: "{مَنَافِعَ} جمع منفعة، ولم يبين هنا هذه المنافع ما هي؟ وقد جاء بيان بعضها في بعض الآيات القرآنية، وأن منها ما هو دنيوي، وما هو أخروي، أما الدنيوي فكأرباح التجارة... ومن المنافع الدنيوية ما يصيبونه من البُدن والذبائح"([5]).
وقال ابن باز رحمه الله: "فأوضح سبحانه في هذه الآيات أنه دعا عباده للحج ليشهدوا منافع لهم، ثم ذكر سبحانه منها أربع منافع: الأولى: ذكره عز وجل في الأيام المعلومات، وهي عشر ذي الحجة وأيام التشريق. الثانية والثالثة والرابعة: أخبر عنها سبحانه بقوله: {ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}. وأعظم هذه المنافع وأكبرها شأناً ما يشهده الحاج من توجه القلوب إلى الله سبحانه، والإقبال عليه والإكثار من ذكره بالتلبية وغيرها من أنواع الذكر، وهذا يتضمن الإخلاص لله في العبادة، وتعظيم حرماته والتفكر في كل ما يقرب لديه ويباعد من غضبه.
ومن منافع الحج وفوائده العظيمة: أنه يذكر الآخرة ووقوف العباد بين يدي الله يوم القيامة؛ لأن المشاعر تجمع الناس في زيٍّ واحد، مكشوفي الرؤوس من سائر الأجناس، يذكرون الله سبحانه ويلبون دعواته، وهذا المشهد يشبه وقوفهم بين يدي الله يوم القيامة في صعيد واحد حفاةً عراةً غرلاً خائفين وجلين مشفقين، وذلك مما يبعث في نفس الحاج خوف الله ومراقبته، والإخلاص له في العمل... وفي الحج فوائد أخرى ومنافع متنوعة خاصة وعامة، ويطول الكلام بتعدادها"([6]).
إعلاء شعار التوحيد والبراءة من الشرك:(/5)
قال الشيخ ابن باز رحمه الله: "فالحج بأعماله وأقواله كله ذكر لله عز وجل، وكله دعوة إلى توحيد والاستقامة على دينه والثبات على ما بعث به رسوله محمداً عليه الصلاة والسلام، فأعظم أهدافه توجيه الناس إلى توحيد الله والإخلاص له، والاتباع لرسوله صلى الله عليه وسلم فيما بعثه الله به من الحق والهدى في الحج وغيره، فالتلبية أول ما يأتي به الحاج والمعتمر يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، يعلن توحيده وإخلاصه لله وأن الله سبحانه لا شريك له".
فيه دربة على الجهاد في سبيل الله:
فتحمل المشاق فيه، وبذل الغالي والنفيس في سبيل تحقيق الحج دليل واضح على تعويد الإنسان على تحمل المشاق في سبيل الله.
أنه ميدان خصب للدعوة إلى الله:
فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف على القبائل في منى يدعوهم إلى توحيد الله ونصرة دينه.
قال ابن باز رحمه الله: "فالحجاج في أشد الحاجة إلى الدعوة والتوجيه إلى الخير والإعانة على الحق، فإذا التقى مع إخوانه من سائر أقطار الدنيا وتذكروا فيما يجب عليهم مما شرع الله لهم كان ذلك من أعظم الأسباب في توحيد كلمتهم واستقامتهم على دين الله، وتعارفهم وتعاونهم على البر والتقوى. فالحج فيه منافع عظيمة فيه خيرات كثيرة، فيه دعوة إلى الله، وتعليم وإرشاد وتعارف وتعاون على البر والتقوى بالقول والفعل المعنوي والمادي"([7]).
وقال رحمه الله: "ولا ريب أن الحجاج في أشد الحاجة إلى الدعوة والتوجيه والإرشاد، فالواجب أن تكون دعوتهم بالأساليب الحسنة التي يرجى منها قبول الحق وترك الباطل، قال الله جل وعلا: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ} [النحل:125]"([8]).
أنه مؤتمر عالمي للمسلمين:
قال ابن باز رحمه الله: "إن الله عز وجل جعل موسم الحج مؤتمراً لعباده يجتمعون فيه من أنحاء الدنيا، ومن سائر أجناس البشر، يريدون القربة إلى الله وسؤاله والضراعة إليه، ويطلبون حطَّ ذنوبهم وغفران سيئاتهم، يرفعون إليه جميع حوائجهم ويسألونه سبحانه من فضله، ويتوبون إليه من تقصيرهم وذنوبهم، ويتعارفون فيه، ويتشاورون فيه، ويتناصحون ويأتمرون بالمعروف ويتناهون عن المنكر، وذلك من جملة المنافع التي أشار إليها سبحانه في قوله عز وجل: {وَأَذّن فِى النَّاسِ بِالْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ * لّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ} [الحج:27، 28]"([9]).
وقال الشيخ عبد الله البسام: "فهو ـ أي: الحج ـ مجمع حافل كبير يضم جميع وفد المسلمين من أقطار الدنيا في زمن واحد، ومكان واحد، فيكون فيه التآلف والتعارف والتفاهم مما يجعل المسلمين أمة واحد وصفاً واحداً فيما يعود عليهم بالنفع في أمر دينهم ودنياهم"([10]).
ويمكن تصنيف هذه الفوائد والمنافع إلى:
أ- فوائد الحج الدينية:
1- أنه يكفر الذنوب، ويطهّر النفس من شوائب المعاصي.
2- يقوي الإيمان، ويعين على تجديد العهد مع الله، ويساعد على التوبة الخالصة الصدوق، ويهذب النفس، يرقق المشاعر ويهيّج العواطف.
3- بالحج يؤدي العبد لربه شكر النعمة: نعمة المال، ونعمة العافية، ذلك لأن العبادات بعضها بدنية، وبعضها مالية، والحج عبادة لا تقوم إلا بالبدن والمال، ولهذا لا يجب إلاّ عند وجود المال وصحة البدن، فكان فيه شكر النعمتين، وشكر النعمة ليس إلاّ استعمالها في طاعة المنعم، وشكر النعمة واجب عقلاً وشرعاً.
4- في الحج إظهار للعبودية، لأن الحاج في حال إحرامه، يظهر الشعث، ويرفض أسباب التزين والارتفاق، ويظهر بصورة عبدٍ سخط عليه مولاه، فيتعرض بسوء حاله لعطف مولاه([11]).
ب- الفوائد الشخصية:
1- الحج يعوّد الإنسان الصبر، وتحمّل المتاعب، ويعلّم الانضباط، والتزام الأوامر، فيستعذب الألم في سبيل إرضاء الله تعالى، ويدفع إلى التضحية والإيثار.
2- يطهّر النفس ويعيدها إلى الصفاء والإخلاص، مما يؤدي إلى تجديد الحياة، ورفع معنويات الإنسان، وتقوية الأمل، وحسن الظن بالله.
3- يذكّر الحجّ المؤمن بماضي الإسلام التليد، وبجهاد النبي صلى الله عليه وسلم، والسلف الصالح، الذين أناروا الدنيا بالعمل الصالح.
4- توطين القلب على فراق الأهل والولد، إذ لا بد من مفارقتهم، فلو فارقهم فجأة يلزمه أمرٌ عظيم عند صدمة الفراق.
5- نزع مادة الشحّ عن صدر الشحيح، فإن المبتلى بالشح إذا خرج إلى هذا السفر لا يمكنه أن يبخل على نفسه، لخوف التلف، فيعتاد الجود على نفسه، فيتعدى عادته منه إلى غيره، فينال محمدة الأسخياء، وهذا أمرٌ معتاد، أن من كان من أبخل الناس، متى خرج في هذا السفر يعتاد الجود.(/6)
6- أن يعتاد التوكل بأنه لا يمكنه أن يحمل مع نفسه جميع ما يحتاج إليه، فلا بدّ من التوكل على الله تعالى، فيما لم يحمله مع نفسه، فيتعدى توكله إلى ما يحتاج في الحضرة.
7- أن الحاج وإن اشتدت مشقته، وبعدت شقته فإذا وقع بصره على بيت الله زال الكلال فلا كلال ولا ملال، وكذا في يوم القيامة، وإن طال اليوم وعاين الأهوال، واشتدت الأهوال، فإذا نظر إلى ربه المتعال زال ما به نزل، وكأنه في روح وراحة لم يزل، فسبحان الله يزول الكلال والعي والتعب ممن رأى البيت فكيف بمن رأى خالق البيت؟!([12]).
ج- فوائد الحج الاجتماعية:
1- أنه يؤدي بلا شك إلى تعارف أبناء الأمة على اختلاف ألوانهم ولغاتهم وأوطانهم.
2- المذاكرة في شؤون المسلمين العامة.
3- التعاون صفاً واحداً أمام الأعداء.
4- يُشعر الحجّ بقوة الرابطة الأخوية مع المؤمنين في جميع أنحاء الأرض، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، ويحسّ الناس أنهم حقاً متساوون، لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود إلاّ بالتقوى.
5- يساعد الحج على نشر الدعوة الإسلامية، ودعم نشاط الدعاة في أنحاء المعمورة، على النحو الذي بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم نشر دعوته بلقاء وفود الحجيج كل عام.
6- إمكان تبادل المنافع الاقتصادية الحرة فيما بينهم([13]).
أصحاب السلع والتجارة يجدون في موسم الحج سوقاً رائجة، حيث تجبى إلى البلد الحرام ثمرات كل شيء من أطراف الأرض، ويقدم الحجيج من كل فجٍ، ومن كل قطر، ومعهم من خيرات بلادهم ما تفرق في أرجاء الأرض في شتى المواسم، يتجمع كله في البلد الحرام، في موسم واحد، فهو موسم تجارة، ومعرض نتاج، وسوق عالمية في كل عام([14]).
د- عبر ودروس ومواعظ في الحج:
1- عند السفر:
ليتذكر المسافر باليوم الذي يعيّنه لسفره اليوم الذي فيه حلول أجله، وسفره إلى آخرته، وبما بين يديه من وعثاء السفر وخطره ومشقّاته ما بين يديه في سفر الآخرة من أهوال الموت، وظُلمة القبر وعذابه، وسؤال منكر ونكير، وأهوال يوم القيامة وخطرها، وليستودع ربه ما خلّفه من أهل ومال وولد، بإخلاص وصدق نيّة([15]).
2- عند ركوب الدابة:
ليتذكر عند ركوب الدابة المركب الذي يركبه إلى دار الآخرة، وهي الجنازة التي يحمل عليها، وما يدريه لعلّ الموت قريب، ويكون ركوبه للجنازة قبل ركوبه للجمل([16]).
3- إذا جنّ الليل في السفر:
تذكّر إذا جن الليل ـ وأنت بعيد عن أهلك ومن كان يؤنسك ـ مبيتك في ظلمة القبر مفرداً عن أهلك، ومن كان يؤنسك، غريباً بين جيرانك، واحرص على فراغ قلبك للاعتبار والذكر، وتعظيم الشعائر، وعلى قطع العلائق الشاغلة عن الله، وتوجّه بقلبك كله إلى ربك، كما تتوجّه بظاهرك إلى بيته، فإن المقصود ربّ البيت([17]).
4- التأمل في مخلوقات الله:
المسافر يتأمل، ثم يتدبّر ثم يخشى، كل ذلك حينما يرى عجيب صنع الله وعظيم قدرته، وقد أنكر الله عزوجل على أناسٍ يسيحون في الأرض ولا يتأملون في خلقه فيعرفون حقه، قال تعالى: {وَكَأَيّن مِن ءايَةٍ فِى السَّمَاواتِ وَالأرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف:105].
قال الشاعر:
تأمّل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لُجين شاخصات بأحداق هي الذهب السبيك
على قضب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك([18])
5- الميقات:
ليتذكر الحاج بوصوله إلى الميقات أن الله تعالى قد أهلّه للقدوم عليه، والقرب من حضرته، فليلزم الأدب معه ليصلح لإقباله عليه بمزيد الإحسان إليه([19]).
وليتذكر فيها ما بين الخروج من الدنيا بالموت إلى ميقات يوم القيامة، وما بينهما من الأهوال والمطالبات([20]).
6- الإحرام ولبس الإزار والرداء:
فليتذكر عنده الكفن، ولفه فيه، فإنه سيرتدي ويتزر بثوبي الإحرام عند القرب من بيت الله عز وجل، وربما لا يتم سفره إليه، وأنه سيلقى الله عز وجل ملفوفاً في ثياب الكفن لا محالة، فكما لا يلقى بيت الله عز وجل إلاّ مخالفاً عادته في الزي والهيئة، فلا يلقى الله عز وجل بعد الموت إلاّ في زي مخالف لزيّ الدنيا، وهذا الثوب قريب من ذلك الثوب، إذ ليس فيه مخيط كما في الكفن([21]).
7- التلبية:
"لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة، لك والملك، لا شريك لك".
إن هذه الكلمات بمنزلة النشيد الذي ينشده الجند في ساحة الحرب، فتشع فيهم روح الحماسة والإقدام، والغاية من ترديد هذه التلبية أن يلقي الإنسان مقادته لله، وأن يتحطم كبرياؤه، لكي يعيش كما أمره الله أن يعيش مخلوقاً وديعاً، واقفاً عند الحدود التي شرعها له([22]).
وللتلبية فوائد أخر، ذكر منها ابن القيم إحدى وعشرين فائدة([23]).
8- دخول مكة:
إذا دخلت مكة فأحضر في نفسك تعظيمها وأمنها وشرفها([24]).(/7)
فليتذكر عندها أنه قد انتهى إلى حرم الله تعالى آمناً، وليرج عنده أن يأمن بدخوله من عقاب الله عز وجل، وليخش أن لا يكون أهلاً للقرب، فيكون بدخوله الحرم خائباً، ومستحقاً للمقت، وليكن رجاؤه في جميع الأوقات غالباً، فالكرم عميم، والرب رحيم، وشرف البيت عظيم، وحقّ الزائر مرعيّ، وذمام المستجير اللائذ غير مضيع([25]).
9- الطواف:
ينبغي للطائف أن يستشعر بقلبه عظمة من يطوف ببيته، فيلزم الأدب في ظاهره وباطنه، وليحذر من الإساءة في ذلك المحل الشريف.
وانْوِ إذا رملت في الطواف أنك هارب من ذنوبك، وإذا مشيت فترج من ربك الأمن من عذاب ما هربت منه بقبول توبتك([26]).
10- السعي:
وأما السعي بين الصفا والمروة في فناء البيت فإنه يضاهي تردد العبد بفناء دار الملك جائياً وذاهباً مرة بعد أخرى، إظهاراً للخلوص في الخدمة، ورجاءً للملاحظة بعين الرحمة، كالذي دخل على الملك، وخرج وهو لا يدري ما الذي يقضي به الملك في حقه من قبول أو ردّ، فلا يزال يتردد على فناء الدار مرة بعد أخرى يرجو أن يُرحم في الثانية إن لم يُرحم في الأولى([27]).
ومثِّل الصفا والمروة بكفتيّ الميزان، ناظراً إلى الرجحان والنقصان، متردداً بين خوف العذاب ورجاء الغفران([28]).
11- يوم الوقوف بعرفة:
أمّا الوقوف بعرفة فاذكر بما ترى من ازدحام الخلق، وارتفاع الأصوات، واختلاف اللغات، وإتباع الفرق أئمتهم في الترددات على المشاعر، اقتفاء لهم، وسيراً بسيرهم، عرصات القيامة، وإذا تذكرت ذلك فالزم قلبك الضراعة، والابتهال إلى الله عز وجل فتحشر في زمرة الفائزين المرحومين([29]).
وتذكّر بانتظار غروب الشمس انتظار أهل المحشر فصل القضاء بشفاعة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم([30]).
ومن حكم الوقوف بعرفة تجديد الشخصية، والانخلاع من الماضي المشوب بالإثم والباطل، وتجديد العهد مع الله على استئناف حياة نظيفة مستقيمة([31]).
12- رمي الجمار:
وتذكر عند رمي الجمار كلما رميتها رمي الشيطان، والتحصن منه بكلمات الله التامات وطاعاته، فإنك في الظاهر ترمي الحصى إلى الجمرة، وفي الحقيقة ترمي به وجه الشيطان وتقصم به ظهره، إذ لا يحصل إرغام أنفه إلاّ بامتثال أمر الله تعالى تعظيماً لمجرد أمره من غير حظ للنفس فيه([32]).
13- ذبح الهدي:
ويربط بين الهدي الذي ينحره الحاج وتقوى القلوب؛ إذ أن التقوى هي الغاية من مناسك الحج وشعائره، وهذه المناسك والشعائر إن هي إلاّ رموز تعبيرية عن التوجّه إلى ربّ البيت وطاعته، وقد تحمل في طياتها ذكريات قديمة من عهد إبراهيم عليه السلام، وما تلاه. وهي ذكريات الطاعة والإنابة، والتوّجه إلى الله منذ نشأة هذه الأمة المسلمة([33]).
14- الحلق والتقصير:
التحلل من الإحرام بالحلق، فالحلق في الإحرام بمنزلة السلام في الصلاة، فعند الحلق يزول عن ظاهره كل ما عليه من التفث، ومكروه الطبع بأمر الله تعالى، فكأنه يقول عبدي، أزلت عن ظاهرك ما تكرهه بأمري، فأولى أن أزيل عن باطنك ما أكرهه من المعاصي بعفوي([34]).
وانْوِ عند حلق شعرك أنك قد أسقطت عنك التبعات، وأدناس الخطيئات، وفارقت أصحابك في غير التقوى والطاعات([35]).
15- طواف الوداع:
إذا أراد الرجوع إلى وطنه يطوف بالبيت، كأنه يستأذن بالرجوع، فإن الضيف إذا نزل يرتحل بأمر المضيف، هذا باب الله العزيز الوهّاب، نزل العبدُ على بابه، وتعلق بحجابه بأمره، فلا يمكنه الرجوع إلاّ بإذنه، فمن رجع من ضيافة السلطان يرجع بخلعة، فمن رجع من بيت الرحمن فأدناه أن يرجع بالمغفرة([36]).
16- الفدية والدم:
إن الحاج كلما جنى جناية على إحرامه لزمه دم، فإن نقائص الحج تجبر بالدم، يشير هذا إلى أن سبيل المحبة إراقة الدم، وبذل الروح، وترك الوطن، وفراق الأهل والولد، ومجانبة الشهوات، فمن قدر على إراقة الدم أراق الدم، ومن لم يقدر أطعم، ومن لم يقدر صام للرب الأكرم([37]).
([1]) جامع البيان (10/147).
([2]) الجامع لأحكام القرآن (12/41).
([3]) فتح القدير (3/642).
([4]) تيسير الكريم الرحمن (3/317).
([5]) أضواء البيان (5/489-490).
([6]) انظر: مجلة التوعية الإسلامية في الحج (ص 11/14). العدد (209) من ذي الحجة (1414هـ).
([7]) انظر: مجلة البحوث الإسلامية العدد (29)، (ص 13-14).
([8]) انظر: مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، جمع الشويعر (16/325).
([9]) انظر: مجموع فتاوى ابن باز، إعداد: الطيار وأحمد ابن باز (5/2/37).
([10]) توضيح الأحكام من بلوغ المرام (3/244).
([11]) انظر: الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور وهبة الزحيلي (3/11-13).
([12]) انظر: محاسن الإسلام لأبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن البخاري (ص 28-29).
([13]) انظر: الفقه الإسلام وأدلته للزحيلي (3/13-14).
([14]) في ظلال القرآن لسيد قطب (4/2418-2419)، وانظر: التبصرة لابن الجوزي (2/152)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (2/413).(/8)
([15]) هداية السالك لابن جماعة الكناني (1/139). وانظر: إحياء علوم الدين للغزالي (1/355).
([16]) إحياء علوم الدين (1/354).
([17]) هداية السالك (1/150).
([18]) المنهاج للمعتمر والحاج للشريم (ص 11-12).
([19]) هداية السالك (1/152).
([20]) إحياء علوم الدين (1/355).
([21]) إحياء علوم الدين (1/354-355).
([22]) روح الدين الإسلامي لعفيف طبارة (ص 263).
([23]) انظر: تهذيب السنن (2/337-340).
([24]) هداية السالك (1/156).
([25]) إحياء علوم الدين (1/356).
([26]) هداية السالك (1/159-160).
([27]) إحياء علوم الدين (1/357).
([28]) هداية السالك (1/165).
([29]) إحياء علوم الدين (1/357) باختصار.
([30]) هداية السالك (1/165).
([31]) روح الدين الإسلامي (ص 264).
([32]) هداية السالك (1/168).
([33]) في ظلال القرآن (4/2422).
([34]) محاسن الإسلام (ص 33).
([35]) هداية السالك (1/169).
([36]) محاسن الإسلام (ص 34).
([37]) محاسن الإسلام (ص 32).
سادسا: وصايا تهمّ الحاج:
1- يستخير الله عز وجل إذا هم بالسفر.
2- ويكتب وصيته([1]).
3- أن يتعلّم أحكام الحج والعمرة، ويسأل عن ما يشكل عليه حتى لا يقع في الخطأ.
4- أن يستصحب معه كتاباً من كتب المناسب التي كتبها من هم مشهود لهم بالعلم.
5- أن يحذر من شراء ما يسمّى بـ"كتب المناسك" والتي تباع عند المواقيت، أو داخل مكة، وذلك لأن فيها مخالفات كثيرة كتخصيص أدعية لأشواط الطواف والسعي([2]).
6- أن يبدأ بالتوبة إلى الله.
7- رد المظالم، وقضاء الديون، وردّ الودائع.
8- إعداد النفقة اللازمة، ويستصحب من المال الحلال ما يكفيه لذهابه ورجوعه من غير تقتير، على وجه يمكنه معه التوسع في الزاد.
9- يستصحب ما يصلحه كالسواك، والمشط، والمرآة، والمكحلة.
10- ينبغي أن يلتمس رفيقاً صالحاً محباً للخير معيناً عليه، إن نسي ذكّره، وإن ذكّر أعانه، وإن ضاق صدره صبّره.
11- أن يؤمّر الرفقاء عليهم أحسنهم خلقاً، وأرفقهم بالأصحاب، لينتظم التدبير.
12- ينبغي للمسافر تطييب الكلام، وإطعام الطعام، وإظهار محاسن الأخلاق، فإن السفر يخرج خفايا الباطن.
13- ينبغي له أن يودّع رفقاءه وإخوانه المقيمين، ويلتمس دعاءهم.
14- يستعمل الأدعية والأذكار المأثورة عند خروجه من منزله، وفي ركوبه ونزوله([3]).
([1]) المنهاج للمعتمر والحاج للشيخ سعود الشريم (ص 14-15) باختصار.
([2]) من مخالفات الحج والعمرة والزيارة للشيخ عبد العزيز السدحان (ص 7) باختصار.
([3]) مختصر منهاج القاصدين للمقدسي (ص 50-51) باختصار.
سابعا: كيف تحج؟
أ- صفة الحج ملخصاً:
1- يلبس الحاج ثياب الإحرام، ويهل بالحج من ميقات بلده، أو من حيث هو إذا كان دون المواقيت، وفي يوم التروية وهو اليوم الثامن من ذي الحجة يذهب إلى منى فيبيت بها ويصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر كل صلاة في وقتها بلا جمع مع قصر الرباعية إلى ركعتين.
2- وفي اليوم التاسع يذهب إلى عرفة بعد الشروق، ويصلي الظهر والعصر جمعاً وقصراً بأذان واحد وإقامتين مع التأكد من التواجد داخل حدود عرفة.
3- يقف بعرفة يذكر ويدعو إلى غروب الشمس، فإذا غربت دفع بهدوء إلى مزدلفة، فيصلي المغرب والعشاء جمعاً بأذان وإقامتين مع قصر العشاء إلى ركعتين، ويبيت بمزدلفة ويصلي بها الفجر، ويذكر الله عند المشعر الحرام، ويجوز لأهل الأعذار الدفع منها بعد منتصف الليل.
4- ينصرف من مزدلفة قبل الشروق إلى منى، وهذا يوم العيد، فيرمي الجمرة الكبرى بسبع حصيات مكبراً مع كل حصاة.
5- يذبح هديه بمنى أو بمكة يوم العيد، ويأكل ويهدي ويتصدق، فإن لم يمتلك ثمن الهدي صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله.
6- يحلق شعره أو يقصره وبهذا يتحلل التحلل الأول، فيجوز له كل شيء حرم عليه بالإحرام إلا زوجته.
7- يتوجه إلى مكة ليطوف طواف الإفاضة ويسعى بعده إن كان متمتعاً أو غيره ولم يكن سعى مع طواف القدوم، وبهذا يتحلل التحلل الثاني فيحل له كل شيء حتى النساء.
8- ثم يرجع إلى منى فيبيت بها ليالي التشريق مع رمي الجمرات الثلاث: الصغرى والوسطى والكبرى في تلك الأيام.
9- إذا أراد الخروج من مكة طاف طواف الوداع بلا سعي وسافر مباشرة([1]).
ب- صفة حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم:(/9)
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين([2]) لم يحج، ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج. فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعمل مثل عمله، فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر. فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف أصنع؟ قال: ((اغتسلي واستثفري([3]) بثوب وأحرمي)). فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد. ثم ركب القصواء([4]) حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماش وعن يمينه مثل ذلك وعن يساره مثل ذلك ومن خلفه مثل ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله وما عمل به من شيء عملنا به. فأهل بالتوحيد([5]): ((لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك))، وأهل الناس بهذا الذي يُهلّون به فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم شيئاً منه ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبية. قال جابر رضي الله عنه: لسنا ننوي إلا الحج، لسنا نعرف العمرة حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام فقرأ: {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125] فجعل المقام بينه وبين البيت. فكان أبي([6]) يقول: "ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم": كان يقرأ في الركعتين (قل هو الله أحد، وقل يا أيها الكافرون). ثم رجع إلى الركن فاستلمه. ثم خرج من الباب([7]) إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158]. أبدأ بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له. له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، ثم دعا بين ذلك، قال مثل هذا ثلاث مرات.
ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت([8]) قدماه في بطن الوادي سعى حتى إذا صعدتا([9]) مشي حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا، حتى إذا كان آخر طوافه على المروة فقال: لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة. فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله! ألعامنا هذا أم لأبد؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى وقال: ((دخلت العمرة في الحج مرتين، لا بل لأبد أبد)).(/10)
ويقدم عليٌّ من اليمن ببدن([10]) النبي صلى الله عليه وسلم فوجد فاطمة رضي الله عنها ممن حل ولبست ثياباً صبيغاً واكتحلت، فأنكر ذلك عليها. فقالت: إن أبي أمرني بهذا. قال: فكان علي يقول بالعراق: فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم محرشاً([11]) على فاطمة للذي صنعت مستفتياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكرت عنه فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها. فقال: صدقت صدقت. ماذا قلت حين فرضت الحج؟ قال: قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسولك. قال: فإن معي الهدي فلا تحل. قال: فكان جماعة الهدي الذي قدم به علي من اليمن والذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم مائة. قال: فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي. فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر. ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة([12]) فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام([13])، كما كانت قريش تصنع في الجاهلية فأجاز([14]) رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة. فوجد القبة قد ضربت له بنمرة. فنزل بها. حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت([15]) له. فأتى بطن الوادي([16]) فخطب الناس وقال: ((... إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله. فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه. فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به. كتاب الله وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟)) قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: ((اللهم اشهد، ثلاث مرات)). ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئا. ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات([17])، وجعل جبل المشاة([18]) بين يديه واستقبل القبلة، فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص وأردف أسامة خلفه ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شنق([19]) للقصواء الزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك([20]) رحله ويقول بيده اليمنى: أيها الناس السكينة السكينة. كلما أتى حبلاً من الحبال أرخى لها قليلاً حتى تصعد حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئاً، ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله ووحده فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً فدفع قبل أن تطلع الشمس وأردف الفضل بن عباس وكان رجلاً حسن الشعر أبيض وسيماً فلما دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرت به ظعن([21]) يجرين فطفق الفضل ينظر إليهن فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من الشق الآخر على وجه الفضل يصرف وجهه من الشق الآخر ينظر حتى أتى بطن محسر فحرك قليلاً ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى حتى أتى الجمرة عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها - حصى الخذف - رمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثاً وستين بيده ثم أعطى علياً فنحر ما غبر([22]) وأشركه في هديه ثم أمر من كل بدنة ببضعة([23])، فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت([24])، فصلى بمكة الظهر فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم فقال انزعوا([25]) بني عبد المطلب! فلولا أن يغلبكم الناس([26]) على سقايتكم لنزعت معكم. فناولوه دلواً فشرب منه"([27]).
([1]) مختصر شرح أركان الإسلام لبعض طلبة العلم، مراجعة الشيخ عبد الله الجبرين (ص 173-174) بتصرف.
([2]) مكث تسع سنين: أي بالمدينة.
([3]) الاستثفار: أن تشد في وسطها شيئاً وتأخذ خرقة عريضة تجعلها على محل الدم وتشد طرفيها من قدامها ومن ورائها في ذلك المشدود في وسطها لمنع سيلان الدم.
([4]) القصواء: اسم ناقة النبي صلى الله عليه وسلم.
([5]) أهل بالتوحيد: الإهلال رفع الصوت بالتلبية.
([6]) هذا من كلام بعض رواة الحديث.(/11)
([7]) ثم خرج من الباب: أي من باب بني مخزوم وهو الباب الذي يسمى أيضاً باب الصفا وخروجه عليه السلام منه لأنه أقرب الأبواب إلى الصفا.
([8]) حتى إذا انصبت قدماه: أي انحدرت.
([9]) حتى إذا صعدتا: أي ارتفعت قدماه عن بطن الوادي.
([10]) ببدن: هو جمع بدنة.
([11]) محرشاً: التحريش الإغراء والمراد هنا أن يذكر له ما يقتضي عتابها.
([12]) بنمرة: وهي موضع بجنب عرفات وليست من عرفات ورجح بعضهم أنها من عرفات.
([13]) ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام: معنى هذا أن قريشاً كانت في الجاهلية تقف بالمشعر الحرام وهو جبل في المزدلفة يقال له قزح، وقيل إن المشعر الحرام كل مزدلفة، وكان سائر العرب يتجاوزون المزدلفة ويقفون بعرفات فظنت قريش أن النبي صلى الله عليه وسلم يقف في المشعر الحرام على عادتهم ولا يتجاوزه فتجاوزه النبي صلى الله عليه وسلم إلى عرفات لأن الله تعالى أمره بذلك في قوله تعالى: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} أي سائر العرب غير قريش وإنما كانت قريش تقف بالمزدلفة لأنها من الحرم وكانوا يقولون نحن أهل حرم الله فلا نخرج منه.
([14]) فأجاز: أي جاز المزدلفة ولم يقف بها بل توجه إلى عرفات.
([15]) فرحلت: أي وضع عليها الرحل.
([16]) بطن الوادي: هو وادي عرنة وليست عرنة من أرض عرفات على أحد الأقوال.
([17]) الصخرات: هي صخرات مفترشات في أسفل جبل الرحمة وهو الجبل الذي بوسط أرض عرفات فهذا هو الموقف المستحب.
([18]) جبل المشاة: أي مجتمعهم.
([19]) شنق: أي ضم وضيق.
([20]) المورك: الموضع الذي يثني الراكب رجله عليه قدام واسطة الرحل إذا مل من الركوب.
([21]) ظعن: جمع ظعينة وهي البعير الذي عليه إمرأة ثم سميت به المرأة مجازاً لملابستها البعير.
([22]) ما غبر: أي بقي.
([23]) البضعة: أي القطعة من اللحم.
([24]) فأفاض إلى البيت: أي طاف بالبيت طواف الإفاضة ثم صلى الظهر.
([25]) انزعوا: أي استقوا بالدلاء وانزعوها بالرشاء (الحبال).
([26]) لولا أن يغلبكم الناس: معناه لولا خوفي أن يعتقد الناس ذلك من مناسك الحج ويزدحمون عليه بحيث يغلبونكم ويدفعونكم عن الاستقاء لا ستقيت معكم لكثرة فضيلة هذا الاستقاء.
([27]) هذا الحديث العظيم رواه مسلم في الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم (1218).
ثامنا: مسائل متعلقة بحكمه:
1- شروطه:
وشروط الحج خمسة: الإسلام، والعقل، والبلوغ، والحرية، والاستطاعة.
قال ابن قدامة رحمه الله: "لا نعلم في هذا كله اختلافاً"([1]).
أ- الإسلام:
فلا يجب الحج على الكافر، ولا يصح منه لقوله تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة:54].
قال ابن سعدي رحمه الله: "الأعمال كلها، شرط قبولها الإيمان، فهؤلاء لا إيمان لهم ولا عمل صالح"([2]).
ب- العقل:
لأن العقل شرط للتكليف، قال صلى الله عليه وسلم: ((رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المعتوه حتى يعقل))([3]).
ج- البلوغ:
للحديث السابق، فلا يجب على الصبي ولكن يصحّ منه فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: رفعت امرأة صبياً لها فقالت: يا رسول الله ألهذا حج، قال: ((نعم، ولكِ أجر))([4]).
قال الترمذي رحمه الله: "أجمع أهل العلم أن الصبي إذا حج قبل أن يدرك فعليه الحج إذا أدرك، لا تجزئ عنه تلك الحجة عن حجة الإسلام"([5]).
وقال ابن المنذر رحمه الله: "أجمع أهل العلم ـ إلا من شذ عنهم ممن لا يعتدّ بقوله خلافاً ـ على أن الصبي إذا حج في حال صغره ثم بلغ أن عليه حجة الإسلام، إذا وجد إليها سبيلاً"([6]).
د- الحرية:
فالعبد المملوك "غير مستطيع؛ لأن السيد يمنعه بشغله بحقوقه عن هذه العبادة، وقد قدم الله سبحانه وتعالى حق السيد على حقه رفقاً بالعباد ومصلحة لهم"([7]).
قال الترمذي رحمه الله: "أجمع أهل العلم ... وكذلك المملوك إذا حج في رقه ثم أعتق فعليه الحج إذا وجد إلى ذلك سبيلاً، ولا يجزئ عنه ما حج في حال رقّه"([8]).
وقال ابن المنذر: "أجمع أهل العلم ـ إلا من شذ عنهم ممن لا يعتد بقوله خلافاً ـ أن العبد إذا حج في حال رِقه ثم عتق أن عليه حجة الإسلام، إذا وجد إليه سبيلاً"([9]).
هـ- الاستطاعة:
أجمع أهل العلم على أن الاستطاعة شرط لوجوب الحج([10])، لقوله تعالى: {وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران:97]، ولأن التكليف بما لا يطاق منتف شرعاً وعقلاً([11]).
وقد اختلف العلماء رحمهم الله في الاستطاعة العامة على قولين:
القول الأول: أن الاستطاعة هي: الزاد والراحلة، وممن ذهب إلى ذلك الحنفية([12])، والشافعية([13])، والحنابلة([14]).(/12)
واستدلوا: بحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، ما يوجب الحج؟ قال: ((الزاد والراحلة))([15]).
والقول الثاني: أنه لا يشترط وجود الزاد والراحلة، بل يجب الحج على القادر على المشي إن أمكنه الوصول بلا مشقة عظيمة زائدة على مشقة السفر العادية، وهو الصحيح من مذهب المالكية([16]).
وقالوا: إن الحديث الذي فيه ذكر الزاد والراحلة لا يثبت.
قال ابن العربي موضحاً معنى الاستطاعة: "فإن السبيل في اللغة هي الطريق، والاستطاعة ما يكسب سلوكها وهي صحة البدن ووجود القوت لمن يقدر على المشي، ومن لم يقدر على المشي فالركوب زيادة على صحة البدن ووجود القوت..."([17]).
وقال القرطبي: "وأما المستطيع بنفسه وهو القوي الذي لا تلحقه مشقة غير محتملة في الركوب على الراحلة فإن هذا إذا ملك الزاد والراحلة لزمه فرض الحج بنفسه، وإن عدم الزاد والراحلة أو أحدهما سقط عنه فرض الحج..."([18]).
وقال الشوكاني: "وقد اختلف أهل العلم في الاستطاعة ماذا هي؟ فقيل: الزاد والراحلة وإليه ذهب جماعة من الصحابة، وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم، وهو الحق... ومن جملة ما يدخل في الاستطاعة دخولاً أولياً أن تكون الطريق إلى الحج آمنة بحيث يأمن الحاج على نفسه وماله الذي لا يجد زاداً غيره، أما لو كانت غير آمنة فلا استطاعة لأن الله سبحانه يقول: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران:97]، وهذا الخائف على نفسه أو ماله لم يستطع إليه سبيلاً بلا شك ولا شبهة..."([19]).
وقال الشنقيطي رحمه الله: "الذي يظهر لي والله تعالى أعلم أن حديث الزاد والراحلة، وإن كان صالحاً للاحتجاج لا يلزم منه أن القادر على المشي على رجليه بدون مشقة فادحة لا يلزمه الحج إن كان عاجزاً عن تحصيل الراحلة، بل يلزمه الحج لأنه يستطيع إليه سبيلا، كما أن صاحب الصنعة التي يحصل منه قوته في سفر الحج، يجب عليه الحج لأن قدرته على تحصيل الزاد في طريقه كتحصيله بالفعل.
فإن قيل: كيف قلتم بوجوبه على القادر على المشي على رجليه دون الراحلة، مع اعترافكم بقبول تفسير النبي صلى الله عليه وسلم السبيل بالزاد والراحلة، وذلك يدل على أن المشي على الرجلين ليس من السبيل المذكور في الآية؟
فالجواب من وجهين:
الأول: أن الظاهر المتبادر أنه صلى الله عليه وسلم فسر الآية بأغلب حالات الاستطاعة، لأن الغالب أن أكثر الحجاج أفقيون، قادمون من بلاد بعيدة، والغالب عجز الإنسان عن المشي على رجليه في المسافات الطويلة وعدم إمكان سفره بلا زاد، ففسر صلى الله عليه وسلم الآية بالأغلب، والقاعدة المقررة في الأصول أن النص إذا كان جارياً على الأمر الغالب لا يكون له مفهوم مخالفة، ولأجل هذا منع جماهير العلماء تزويج الرجل ربيبته التي لم تكن في حجره قائلين: إن قوله تعالى: {اللَّاتِى فِى حُجُورِكُمْ} [النساء:23] جرى على الغالب، فلا مفهوم مخالفة له كما قدمناه مراراً، وإذا كان أغلب حالات الاستطاعة الزاد والراحلة، وجرى الحديث على ذلك، فلا مفهوم مخالفة له، فيجب الحج على القادر على المشي على رجليه، إما لعدم طول المسافة، وإما لقوة ذلك الشخص على المشي، وكذلك يجب على ذي الصنعة التي يحصل منها قوته في سفره، لأنه في حكم واجد الزاد في المعنى، والعلم عند الله تعالى.
الوجه الثاني: أن الله جل وعلا سوى في كتابه بين الحاج الراكب والحاج الماشي على رجليه. وقدم الماشي على الراكب، وذلك في قوله تعالى: {وَأَذّن فِى النَّاسِ بِالْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ} [الحج:27]"([20]).
وخصال الاستطاعة التي تشترط لوجوب الحج قسمان: شروط عامة للرجال والنساء، وشروط تخص النساء.
فأما الشروط الخاصة بالنساء فهي: وجود المحرم، وأن لا تكون معتدةً عن طلاق أو فاة.
قال الكاساني رحمه الله: "وأما الذي يخص النساء فشرطان، أحدهما: أن يكون معها زوجها أو محرم لها، فإن لم يوجد أحدهما لا يجب عليها الحج. والثاني: أن لا تكون معتدة عن طلاق أو وفاة"([21]).
وقسم بعض أهل العلم([22]) هذه الشروط إلى ثلاثة أقسام:
1. شرطان للوجوب والصحة وهما: الإسلام والعقل، فلا يجب الحج ولا يصح من كافر ولا مجنون.
2. شرطان للوجوب والإجزاء وهما: البلوغ وكمال الحرية، فلو حج صبي أو رقيق صح منهما ولا يجزئ ذلك عن حجة الإسلام.
3. شرط وجوب: وهو الاستطاعة، فلا يجب على غير المستطيع، لكن لو تكلّف من استوفى باقي الشروط صحّ منه وأجزأ عنه.
2- هل الحج واجب على الفور أم على التراخي؟
اختلف العلماء رحمهم الله في ذلك إلى قولين:
القول الأول: أنه يجب على الفور، وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف([23])، والمالكية في أصح القولين([24])، والحنابلة([25]). وإليه ذهب ابن تيمية([26])، وابن باز([27])، وابن عثيمين([28]).
واستدلوا بما يلي:
1- قوله تعالى: {وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97].(/13)
2- وقوله صلى الله عليه وسلم: ((أيها الناس: إن الله كتب عليكم الحج فحجوا))([29]).
قالوا: والأصل في الأمر أن يكون على الفور، ولهذا غضب النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية حين أمرهم بالإحلال وتباطؤوا.
3- ولأن الإنسان لا يدري ما يعرض له، فقد يكون الآن قادراً على أن يقوم بأمر الله عز وجل، وفي المستقبل يكون عاجزاً.
4- ولأن الله أمر بالاستباق إلى الخيرات فقال: {فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ} [المائدة:48]، والتأخير خلاف ما أمر الله به([30]).
القول الثاني: أن وجوبه على التراخي، وبه قالت الشافعية ([31])، ومحمد بن الحنفية([32]).
واستدلوا بما يلي:
1- قالوا: إن الله فرض الحج في السنة السادسة، ولم يحج النبي صلى الله عليه وسلم إلا في السنة العاشرة.
2- وقالوا: إن الله فرض الحج وجعل فرضه مطلقاً.
3- القياس على الصلاة في الوقت إن شئت صلها في أول الوقت، وإن شئت فصلها في آخره، والعمر هو وقت الحج، فإن حج أول العمر، وإن شاء أخره.
والراجح ـ والله أعلم ـ القول الأول.
([1]) المغني (5/6). وانظر: بداية المجتهد لابن رشد (1/139). وبدائع الصنائع (2/120-123، 160). والمجموع للنووي (7/17-25)، ومغني المحتاج (1/461-465)، وكشاف القناع (2/440-450).
([2]) تيسير الكريم الرحمن (2/255).
([3]) أخرجه أحمد (1/154)، وأبو داود في: الحدود، باب: في المجنون يسرق أو يصيب حداً (4403) من حديث علي رضي الله عنه، قال الترمذي (4/32): "والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم". وصححه الألباني في الإرواء (297).
([4]) أخرجه مسلم في: الحج، باب: صحة حج الصبي، وأجر من حج به (1336).
([5]) سنن الترمذي (3/256).
([6]) انظر: المغني لابن قدامة (5/44) بتصرف.
([7]) من كلام ابن العربي في أحكام القرآن (1/287).
([8]) سنن الترمذي (3/257).
([9]) انظر: المغني (3/257) بتصرف.
([10]) انظر: شرح العمدة لشيخ الإسلام (2/124- المناسك).
([11]) انظر: بدائع الصنائع (2/121)، بداية المجتهد (1/327)، المجموع (7/48) كشف القناع (2/386).
([12]) انظر: بدائع الصنائع (2/121-125)، اللباب (1/177)، الدر المختار (2/194-199).
([13]) انظر: مغني المحتاج (1/463-470)، المهذب (1/196-198).
([14]) انظر: المغني (5/8-9)، كشاف القناع (2/450-454).
([15]) أخرجه الترمذي في: الحج، باب ما جاء في إيجاب الحج بالزاد والراحلة (813)، وابن ماجه في المناسك، باب: ما يوجب الحج (2896)، والبيهقي في الكبرى (5/58)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن، والعمل عليه عند أهل العلم، أن الرجل إذا ملك زاداً وراحلة، وجب عليه الحج". وله طرق كثيرة فصّل القول فيها الشيخ الألباني في الإرواء (4/160-167)، وقال الحافظ في الفتح (3/443): "قال ابن المنذر: لا يثبت الحديث الذي فيه ذكر الزاد والراحلة"، وقال ابن تيمية في شرح العمدة (1/129 – المناسك): "فهذه الأحاديث مسندة من طرق حسان ومرسلة وموقوفة تدل على أن مناط الوجوب وجود الزاد والراحلة"، وقال الشوكاني في النيل (5/13): "ولا يخفى أن هذه الطرق يقوي بعضها بعضاً، فتصلح للاحتجاج"، وقال الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان (5/89-91) ما حاصله: "الذي يظهر لي والله تعالى أعلم أن حديث الزاد والراحلة المذكور ثابت لا يقل عن درجة الاحتجاج، ويؤيد ذلك أن مشهور مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد الاحتجاج بالمرسل، ويؤيده أيضاً الأحاديث المتعددة التي ذكرنا وإن كانت ضعافاً لأنها تقوي غيرها، ولا سيما حديث ابن عباس، فإنا قد بينا أنه لا يقل عن درجة الاحتجاج"، وقال الألباني رحمه الله: "وخلاصة القول: إن طرق هذا الحديث كلها واهية، وبعضها أوهى من بعض، وأحسنها طريق الحسن البصري المرسل، وليس في شيء من تلك الموصولات ما يمكن أن يجعل شاهداً له لوهائها، خلافاً لقول البيهقي بعد أن ساق بعضها".
([16]) انظر: الشح الكبير (2/5-10)، الشرح الصغير (2/10-13)، بداية المجتهد (1/309)، أضواء البيان.
([17]) أحكام القرآن لابن العربي (1/288).
([18]) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (4/148).
([19]) فتح القدير للشوكاني (1/362).
([20]) أضواء البيان (5/92-93).
([21]) بدائع الصنائع (2/123-124) باختصار.
([22]) انظر: المجموع للنووي (7/19-49)، وحاشية ابن قاسم على الروض (3/503-504).
([23]) انظر: الدر المختار (2/191) وما بعدها، بدائع الصنائع (2/119).
([24]) انظر: الشرح الصغير (2/4).
([25]) انظر: كشاف القناع (2/65)، والمغني (3/218) وما بعدها، حاشية الروض (3/505).
([26]) انظر: شرح العمدة (2/198- المناسك).
([27]) انظر: فتاوى ومقالات متنوعة لابن باز، جمع الشويعر (16/348 و358).
([28]) انظر: الشرح الممتنع (7/16).
([29]) أخرجه مسلم في الحج، باب: فرض الحج مرة في العمر (1337) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
([30]) الشرح الممتع (7/15-16).
([31]) انظر: المجموع (7/82) وما بعدها، مغني المحتاج (1/460 و470).(/14)
([32]) انظر: بدائع الصنائع (2/119).(/15)
حكم الخلوة بالأجنبية والأحكام الفقهية في ذلك
المقدمة :
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وبعد:
لقد جاء الإسلام لحفظ الضروريات الخمس ومنها حفظ النسل فصان العرض وحماه بمنع اختلاط الأنساب ومنع الفاحشة المؤدية إلى ذلك فقال سبحانه: ? وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً ? [الإسراء:32] .
ولما كان للزنا وسائله وذرائعه فقد حرم كل وسيلة موصلة إليه باعتبار أن المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها فالطرق والأسباب نقد تابعة لها في الحرمة فوسائل الحرمات والمعاصي يكون حكمه في المنع والكراهية بحسب إفضائها إلى غاياتها فإذا حرم الله تعالى شيئاً فإنه يحرم طرقه ووسائله التي تفضي إليه وذلك سداً للذرائع المفضية إلى المحارم ومن هذه الذرائع ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم، من تحريم الخلوة بالأجنبية ومن في حكمها ولو في إقرار القرآن والسفر بها ولون في الحج وذلك سداً لذريعة ما يخشى منه من الوقوع في الفتنة وحسماً لمادة وسائل الفساد ودفعاً لها متى ما كان الفعل وسيلة للمفسدة وإن كان فيها سالماً من فترة من الفترات.
ولو نظرنا إلى واقعنا اليوم لرأينا أن النساء المصاحبات لمحارمهن أكثر حشمة ووقاراً، بل تمتنع نظرات الغير من متابعتهن فضلاً عن ملاحقتهن ومطاردتهن، بخلاف النساء اللاتي يتجولن في الأسواق بدون محارم .
ومن أجل ذلك فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن خروج المرأة أو سفرها بدون محرم بقوله صلى الله عليه وسلم " لا يحل لمرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفراً يكون ثلاثة أيام فصاعداً إلا ومعها أبوها أو ابنها أو زوجها أو أخوها أو ذو محرم منها" (1) .
فالمحافظة على أعراض المسلمين من الأمور التي جاءت الشريعة لتحقيقها ولقد سد باب الذرائع الموصلة لانتهاكها، فالوسيلة الموصلة إلى الحرام تعتبر حراماً، إذ للوسائل حكم الغايات، والخلوة بالمرأة الأجنبية هو ومن في حكمها يعد من الأمور المحرمة: لأنها تفضي إلى الوقوع في الحرام.
ولقد تحدثت في الفصل الأول : عن أحكام الخلوة بالمرأة الأجنبية وأنها تشمل الخلوة لغرض التعليم، والعلاج، وبينت المراد بالمرأة الأجنبية، وهل المرأة الكبيرة تعد في حكم الأجنبية؟ وبينت الأدلة الشرعية لتحريم الخلوة بالأجنبية، وحكم خلو الرجل بأكثر من امرأة أو العكس.
وتحدثت في الفصل الثاني: عن أنواع الخلوات وأنها تشمل ، خلوة المرأة بمملوكها والسفر معه، وبينت حكم الخلوة بإماء الغير، وهل تصح الخلوة بالمرأة المطلقة ثلاثاً، وبينت حكم الخلوة بالخنثى المشكل والسفر معه بعد أن ذكرت آراء العلماء في ذلك وسند كل منهم .وتحدثت في الفصل الثالث: عن حكم السفر بالمرأة الأجنبية وبينت الأدلة الشرعية الصحيحة على حرمة الخلوة وأن هذه الحرمة تشمل السفر والحضر ولا فرق بين ذلك في حج وغيره.
وتحدثت في الفصل الرابع: أن الخلوة مشروعة بالزوجة وذوات المحارم فتصح الخلوة والسفر بأي منهم، وأوضحت أثر الخلوة بالزوجة على استحقاق المهر والعدة وكما بينت حرمة الخلوة بالمطلقة ثلاثاً لأنها تعتبر في حكم الأجنبية
خطة البحث :قد قسمت البحث إلى مقدمة و أربعة فصول وخاتمة
الفصل الأول : أحكام الخلوة بالمرأة الأجنبية وأدلتها الشرعية .
البحث الأول : تعريف الخلوة بالمرأة الأجنبية .
المبحث الثاني: الخلوة بالأجنبية
المطلب الأول: المراد بالمرأة الأجنبية .
المطلب الثاني: حكم الخلوة بالمرأة الأجنبية .
المطلب الثالث: الخلوة لغرض التعليم والعلاج.
المطلب الرابع: الخلوة بالمرأة الكبيرة.
المطلب الخامس: خلوة الرجل بأكثر من امرأة أو العكس.
المبحث الثالث : الأدلة الشرعية لتحريم الخلوة بالأجنبية.
الفصل الثاني : الخلوات وأنواعها
المبحث الأول : خلوة المرأة بمملوكها والسفر معه
المبحث الثاني: الخلوة بإماء الغير.
المبحث الثالث: الخلوة بالمرأة المطلقة ثلاثاً.
المبحث الرابع: الخلوة بالخنثى المشكل والسفر معه.
الفصل الثالث: حكم السفر بالمرأة الأجنبية .
الفصل الرابع: الخلوة والسفر بالزوجة وذات المحارم
المبحث الأول : حكم الخلوة والسفر بالزوجة وذات المحارم
المبحث الثاني : حكم مباشرة الزوجة من غير خلوة .
المبحث الثالث: أثر الخلوة بالزوجة على المهر والعدة.
المبحث الرابع: أثر الخلوة بالمطلقة طلاقاً رجعياً على الرجعة.
الخاتمة: أهم محتويات البحث.
الفصل الأول
أحكام الخلوة بالمرأة الأجنبية
المبحث الأول
تعريف الخلوة بالمرأة الأجنبية(/1)
الخلوة في اللغة: يقال خلا المكان والشيء إذا لم يكن فيه أحد ، ويقال: خلا الرجل إذا وقع في موضع لا يزاحم فيه ، كما يقال: أخل بأمرك أي تفرد به وتفرغ له، وخلا الرجل بصاحبه وإليه ومعه ، والخلوة الاجتماع معه في خلوة قال الله سبحانه وتعالى : ? وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ ? [البقرة:14]، ويقول الرجل للرجل: أخل معي حتى أكلمك أي كن معي خالي (2) والخلوة مكان الانفراد بالنفس أو بغيره (3) .
والخلوة الصحيحة في الفقه: إغلاق الرجل الباب على زوجته وانفراده بها: (الخلوة هي التي تكون في البيوت أما الخلوة في الطرقات فلا تعد من ذلك) (4). ويدخل في ذلك حكم البيوت كل مكان فيه مانع لدخول الغير .
المبحث الثاني
الخلوة بالأجنبية
المطلب الأول
المراد بالمرأة الأجنبية
المرأة الأجنبية : هي من ليست بزوجة ولا ذات قرابة محرمة للنكاح بسبب مباح أو نسب. ولذلك نرى العلماء جعلوا زوجة الأخ في حكم الأجنبية (5). وكذلك بنت الزنا سواء كانت من مائه أو من ماء غيره، والمخطوبة تعد هي الأخرى في حكم الأجنبية، فلا تصح الخلوة بهن لعدم المحرمية، والمخطوبة لم يرد الشرع إلا بحل النظر إليها. أما الخلوة بها فبقيت على التحريم، لأنه لا يؤمن مع الخلوة وقوع المحظور، لاسيما في زمن يقل فيه وازع الإيمان والدين ، ويكثر فيه الفساد. ولقد حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليست معها ذو محرم منها فإن ثالثهما الشيطان" (6).
ومما يعد أيضا في حكم الأجنبيات بنات العم، وبنات الخال، فلا يحل لأي مما مضى الخلوة بهن، أو الدخول عليهن، إلا إذا دخل مع غيره من المحارم من غير خلوة ولا ريبة (7).
المطلب الثاني
حكم الخلوة بالمرأة الأجنبية
اتفق جميع الفقهاء على حرمة خلو الرجل بمرأة ليست له زوجة، ولا ذات رحم محرم، وهذه الحرمة على الإطلاق، سواء أمنت الفتنة أم لم تؤمن، وسواء وجدت العدالة أو لم توجد (8). (ويحتسب على الرجل والمرأة إذا كانا في خلوة وكانا أجنبيين:.. إلا إذا كان له على المرأة حق، فله أن يلازمها ويجلس معها، ويقبض على ثيابها، وهذا ليس بحرام، فإن هربت، ودخلت الخربة فأراد الرجل أن يدخل تلك الخربة لا بأس به، إذا كان الرجل يأمن على نفسه من ذلك، فيكون بعيداً عنها يحفظها بعينه، لأن هذه الخلوة ضرورة) وقد أوجب العلماء نهي النساء عن اجتماعهن مع الرجال اجتماع ملاصقة، لأن ذلك كله محرم ، وأطلقوا حرمة الخلوة مع الشهوة فحرموا الخلوة بكل حيوان يشتهي المرأة وتشتهيه كالقرد) والخلوة بشهوة لرجل مع رجل أو امرأة مع امرأة (9).ومن ذلك حرموا خلوة النساء بعضهن ببعض إذا خيف عليهن المساحقة (10).
المطلب الثالث
الخلوة لغرض التعليم والعلاج
طلب العلم يعد من الأمور المشروعة لكن إذا صاحبة أمر محرم، لا لذاته، وإنما للأمر المحرم المصاحب له. ولذا نرى العلماء من المالكية يرون حرمة مباشرة الرجال للنساء لغرض تعليمهن، وقالوا: إن مسئولية تعليم البنت على أبيها ثم على زوجها ولا يجوز لهما إنابة الأجنبي في ذلك، لأن مثل هذه الإنابة لا تصح مطلقاً، ولا يعني هذا منعهن من سؤال العلماء فالسؤال جائز لكن من وراء حجاب كما أمر الله تعالى، فالعالم لا بأس أن تأتيه الأجنبية إلى منزله، فتسأله بمحضر زوجته أو ابنته فيجيبها بما عنده، وهو يكف بصره عن النظر إليها بشرط أن لا يسمع منها إلا ما لسماعه ضرورة من حديثها، ويرى الشافعية حرمة الخلوة بالأجنبية لغرض التعليم مع الشهوة مطلقاً وإن وجد محرم وأجازوها بوجود محرم إذا أمنت الفتنة (11).
أما الخلوة للعلاج فحرم عندهم، إذ قالوا بعدم جواز الخلوة بالمرأة للعلاج إلا بحضور محرم أو زوج أو امرأة ثقة على القول الراجح عندهم بجواز الخلوة بالأجنبي بمرأتين (12).
والحنابلة، منعوا الخلوة بالمرأة لغرض التعليم أو العلاج إلا بحضور محرم أو زوج لأنه لا يؤمن مع الخلوة مواقعة المحظور لما ورد مرفوعاً من حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليس معها ذو محرم فإن ثالثهما الشيطان" ومما مضى نعلم أن الفقهاء قرروا حرمة الخلوة بالمرأة الأجنبية لغرض التعليم والعلاج غير أن الشافعية أجازوا الخلوة لأجل التعليم لأكثر من امرأة إذا أمنت الفتنة.
المطلب الرابع
الخلوة بالمرأة الكبيرة
ذهب الحنفية إلى أن العجوز الشوهاء تعد في حكم الأجنبية فيحرم على الرجل الشاب الخلو بها كما يحرم على غيره (13).
وبهذا قال الشافعية فلم يعتبروا الجمال، لأن الطبع يميل إليها فضبط التحريم بالأنوثة (14) ، وهو القول الصحيح عند الحنابلة. إذ قالوا بحرمة الخلوة بالأجنبية ولو كانت عجوز شوهاء (15)
أما المالكية فيرون خلوة الشيخ الهرم بالمرأة الشابة أو المتجالة (16) ، وكذلك خلوة الشاب بالمرأة المتجالة (17) وهذا هو القول الثاني عند الحنابلة (18).(/2)
وضبط حرمة الخلوة بالأجنبية أولى لانضباط العلة فهي لا تختلف باختلاف محالها، ومن السهل التحقق من وجودها، أما الجمال فلا يمكن ضبطه لاختلافه باختلاف الأحوال والأشخاص بل ويختلف في نظرة الناس، باعتبار هذا إجمالاً أو ليس بجمال فالجميل قد يكون عند البعض قبيحاً ، والقبيح قد يكون عند الآخر جميلاً ، وكما يقال لكل ساقطة من الحي لاقطة.
المطلب الخامس
خلوة المرأة بأكثر من رجل والعكس
ذهب الحنفية إلى حرمة خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية وإن كان معها أخرى.
وفي إمامة البحر عن الإسيجاتي (ويكره أن يؤم النساء في بيت وليس معهن رجل ولا محرم، ولا امرأة هو محرم لها) فعلة الكراهة التحريمية هي الخلوة وهذا النص يفيد أن الخلوة لا تنتفي بوجود امرأة أخرى ولا تعتبر من محارم الرجل مما يدل على عدم صحة خلوة الرجل بالمرأة إذا لم يوجد معها امرأة ثقة (19) ، ومنع الشافعية الخلوة بالمرأة إذا لم يوجد معها امرأة ثقة (20) ، وعند الحنابلة يحرم خلوة الرجل مع عدد من النساء ، وأجاز المالكية خلوة الرجل بالمرأتين .
وقيد الشافعية الجواز يكون مع الرجل امرأة ثقة فقالوا بجواز الخلوة للعلاج ونحوه لأن المرأة تستحي من الأخرى، فلا تمكن من نفسها بحضرة غيرها، فاستحياؤها أكثر من استحياء الرجل، بشرط أن تكون المرأة ثقة، فالمرأة قد لا تستحي من غير الثقة فإذا لم يكن ثقات فلا تصح الخلوة.
والجواز قول عند الحنفية إذا وجدت امرأة ثقة، وعلى القول باشتراط المرأة الثقة لإباحة الخلوة لابد من شرطين آخرين:
أ ـ الحاجة لهذه الخلوة فإن لم توجد حاجة فلا تصح.
ب ـ تعذر وجود المحرم بسبب مشروع وإلا فالقول بالحرمة المطلقة أولى.
المبحث الثالث
الأدلة الشرعية لتحريم الخلوة بالأجنبية
ومما سبق يتبين تحريم الخلوة بالمرأة الأجنبية باتفاق المسلمين وقد دلت على ذلك النصوص الشرعية ومنها:
1 ـ ما ورد عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليس لها محرم فإن ثالثهما الشيطان" في هذا الحديث بيان أن من مقتضى الإيمان عدم الخلوة بالأجنبية، لاسيما وأن في الخلوة مشاركة للشيطان في هذا الاجتماع، وهو لا يوجد إلا ليوقع في الحرام، مما يدل على حرمة الخلوة بالمرأة الأجنبية.
2 ـ عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ألا لا يبتن رجل عند امرأة ثيب إلا أن يكون ناكحاً أو ذا محرم" (21) ففي هذا الحديث نهى عن المبيت عند امرأة أجنبية والمبيت يقتضي الخلوة مما يدل على حرمة الخلوة بالأجنبية.
3 ـ عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إياكم والدخول على النساء ،فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أفرأيت الحمو قال الحمو الموت" (22)
ففي هذا الحديث نهي عن الدخول عن النساء والدخول يعني الخلوة بهن والنهي يقتضي التحريم، ومما يدل على حرمة الخلوة بالمرأة الأجنبية ، دخول الحمو (23) عليها يفضي إلى موت الدين، أو إلى موتها بطلاقها عند غيرة الزوج أو برجمها إن زنت معه فقد بالغ الإمام مالك في هذا الباب حتى منع ما يجر إلى التهم كخلوة امرأة بابن زوجها، وإن كانت جائزة، والخوف من الحمو بهذا النهي جاء لأن الخوف من الحمو أكثر من غيره والشر يتوقع منه؛ ولأن الأصل كلما كان سبباً للفتنة ينبغي حسم مادته، وسد ذريعته ودفع ما يفضي إليه إذا لم يكن منه مصلحة راجحة (24).
الفصل الثاني
أنواع الخلوات
المبحث الأول
خلوة المرأة بمملوكها والسفر معه
ذهبت الحنفية والحنابلة إلى أن المملوك لا يصح أن يكون محرماً لها في السفر (25) ، ولا يعد من المحارم في ذلك (26) ، سواء كان فحلاً أو مجبوباً أو خصياً (27) ، وذهب الشافعية إلى أن مملوك المرأة يصح أن يكون محرماً لها على الأصح عند الأكثرين فله الخلوة بها والمسافرة بها (28) إن كان ثقة وممسوحاً لم يبق فيه شهوة للنساء والمقصود بذلك الملكية التامة.
واستدل الشافعية بما يلي:
1 ـ قوله تعالى: ? ولَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ? ثم قال سبحانه: ?أو ما ملكت أيمانهن? [النور:31]، ففي هذه الآية ذكر سبحانه المملوك مع ذوي المحارم والأرحام في إباحة النظر مما يدل على أنه يأخذ حكمهم في الخلوة أيضاً (29) .
2 ـ عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم " أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها قال وعلى فاطمة ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما تلقى قال: "إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك" (30).
ففي هذا الحديث السابق دلالة على إباحة النظر مما يدل على حل الخلوة والمسافرة بها ويجاب على الاستدلالين السابقين:
بأن إباحة النظر لا تكفي لحل الخلوة والسفر، لأن النظر أجتيز للحاجة كالشاهد والخاطب وكفيف أولي الإربة فلهم النظر وليس لهم السفر والمحرمية (31).(/3)
3 ـ إن المملوك يحرم عليه الزواج بسيدته فكان محرماً كالأقارب (32) ، ويجاب عن ذلك بأن الحرمة المؤقتة هذه لا تقتضي النظرة الطبيعية بدليل السيد مع أمته وبالتالي فلا يؤمن عليها مما يدل على عدم صحة القياس على الأقارب.
واستدل الحنفية والحنابلة بما يلي:
1 ـ بما روى عنه ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " سفر المرأة مع عبدها ضيعة" (33) .
ففي هذا الحديث بيان بأن بيان بأن سفر المرأة مع عبدها ضياغ للمرأة، وما يؤدي إلى ضياعها لا يجوز، فإخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك دليل على تحريم سفر العبد بسيدته وخلوته بها.
2 ـ أنه لا يحل له أن يستمتع بها كما يفعل السيد وأمته، فزوج الأخت لا يعد لها محرماً فكذلك العبد مع سيدته.
3 ـ أنه لا يعد محرماً لها على التأبيد فله أن يتزوج بها إذا أعتق.
4 ـ أنه غير مأمون عليها لعدم وفرة المحرمية كما هو مع المحارم (34) .
المبحث الثاني
الخلوة بإماء الغير
ذهبت الحنابلة إلى حرمة خلوة الرجل غير المحرم بأمة غيره، لأنه لا يؤمن عليها، وبهذا قال الحنفية في المختار عنهم (35) .
أما المالكية فجعلوا مدار الحل والحرمة في خلو الرجل بخادم زوجته حسب الأشخاص فإن وثق بنفسه جاز (36) .
وذهبت الحنفية في قول آخر لهم إلى إباحة الخلوة والمسافرة بهن كما في ذوات المحارم واستدلوا لهذه الرواية بما يلي (37):
1ـ أن المولى قد يبعثها في حاجته من بلد إلى بلد ولا تجد محرماً ليسافر معها ، ويجاب على ذلك بأن بعث المولى ليس حجة شرعية والواجب أن يتقيد بالأحكام الشرعية ولا يبعثها إن كان سيترتب على هذا الكلام محظور.
2 ـ أن جارية المرأة قد تخلوا بزوجها ولا يمنع أحد ذلك .
ويجاب عن ذلك بأن الأصل كون الخادمة مصاحبة لسيدتها وبالتالي قد لا تتصور خلوة الأمة مع زوج السيدة، لكن أفعال الناس لا تعد حجة شرعية، ولذا الأولى أن لا يكون الرجل في خلوة مع خادمة زوجته .
3 ـ أن سائر الناس لها كذوي المحارم للحرائر ولذا جاز لهم السفر بهن (38) ويجاب عن ذلك بأن دعوى السفر منازع فيها وسائر الناس ليسوا محارم لهن وتنزيلهم هذه المنزلة بني على غير دليل شرعي.
واستدل الجمهور فيما ذهبوا إليه بما يلي:
1 ـ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يحل لمرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة ثلاث ليال إلا ومعها ذو محرم" .
ففي هذا الحديث نفي حل سفر المرأة بدون محرم والأمة امرأة ونفي الحل يقتضي التحريم مما يدل على حرمة سفر المرأة دون محرم مطلقاً سواء كانت حرة أو أمة.
2 ـ عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليس معها ذو محرم منها فإن ثالثهما الشيطان"
ففي هذا الحديث نهي عن الخلوة بالمرأة مطلقاً، سواء كانت حرة أم أمة. والنهي يقتضي التحريم، مما يدل على حرمة الخلوة بالأمة.
3 ـ أن علة النهي عن الخلوة واحدة سواء في الحرة أم في الأمة وبالتالي لن يؤمن عليها (39) .
4 ـ أن الفسقة الإرواء فسقهم لمن يتورعوا عن ارتكاب الحرام لا سيما إذا كانت الأمة جميلة فاتنة فيبعث الشيطان النفس الأمارة بالسوء لذلك، ولذلك فإن القول المحرم بالخلوة بإماء الغير أو السفر بهن هو الراجح والله أعلم.
المبحث الثالث
الخلوة بالمرأة المطلقة ثلاثاً
لا يصح للمطلق طلاقاً بائناً أن يختلي بمطلقته لأنها بمنزلة الأجنبية عنده (40) وفي حالة سكناها عند من يوجبها على الزوج:
فيرى الحنفية أن يكون بينهما سترة واكتفى بالحائل لاعتراف الزوج بالحرمة وإن كان فاسقاً يخاف عليها منه.
وإن جعل القاضي بينهما امرأة ثقة تقدر على الحيلولة فهو حسن لبقاء إمكانية استحياء الرجل من العشيرة، ولإمكان الاستعانة بجماعة المسلمين إذا اعتدى الزوج المطلق (41) .
قال ابن عابدين ومرادهم بالثقة (أن تكون عجوزاً لا يجامع مثلها مع كونها قدرة على الدفع عنها وعن المطلقة) .
والشافعية يقولون: ليس للزوج مساكنتها ولا مداخلتها، لكن يجوز له مساكنتها إذا كان في الدار محرم لها مميز ذكر أو عند الرجل زوجة أو أنثى أخرى، أو أمة، أو امرأة أجنبية ثقة حذراً من الخلوة .
ويجوز مساكنتها ولو بدون محرم إن كانت المرافق غير متحدة والممر غير مشترك، لأنها والحال هذه في حكم الدارين المتجاوزين .
والمطلقة ثلاثاً هي في حكم الأجنبية فلا ينبغي لها مساكنة الزوج في داره وإن وجد محرم مميز أو أنثى على ما ذكر وإن اضطرت إلى السكنى عنده لعدم تخصيص سكن محدد لها ولا محرم لها موجود فتعامل كمعاملة الأجنبيات وتسكن مع غيرها من النساء الثقات على أن يمنع الرجل من الدخول عليها في الحالة هذه.
المبحث الرابع
الخلوة بالخنثى المشكل والسفر معه
ذهبت الحنفية إلى كراهية الخلوة به ممن ليس بمحرم له وهي كراهة تحريم وإلى هذا ذهبت الشافعية (42) والحنابلة (43) .(/4)
قال الحنفية: وإذا خلا الخنثى برجل، فمن الجائز أنه امرأة فتكون هذه خلوة رجل لمرأة أجنبية ، وإذا خلا بامرأة فمن الجائز أنه ذكر خلا بأجنبية، والمراهقة في المنع من هذه الخلوة كالبالغة، لأن المنع لخوف الفتنة.
وقال الشافعية ولا يجوز أن يخلو به أجنبي ولا أجنبية، ولو كان مملوكاً لمرأة (44) .
وقال الحنابلة تحرم الخلوة بالخنثى المشكل لغير محرم من رجل أو امرأة تغليباً لجانب الحظر في أي من الحالتين واستدلوا على حرمة الخلوة به بالحديث الذي روي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلو بامرأة ليس معها ذو محرم فإن ثالثهما الشيطان .
والاحتمال أنه امرأة فحرم خلوة الرجل به والعكس بالعكس.
أما السفر به فعاملوه معاملة المرأة (الأجنبية) فقال الحنفية: لا بأس أن يسافر الخنثى مع محرم من الرجال.
أما الشافعية فقالوا بجواز سفره لحج مع امرأتين، لأنه إذا جاز ذلك للرجل فالخنثى المحتمل للرجولة أو لا ، وليس سفره معهن مضنة الخلوة، بأي منهن على حدة.
أما الحنابلة فسبق أن منعوا السفر للأجنبية بدون محرم ولو مع عدد من النساء ولاحتمال كون الخنثى امرأة فلا يصح سفره بدون محرم .
والأولى منع الخلوة والسفر به بدون محرم وهذا أحوط من القول بالجواز إلا إذا ظهرت علامات تغليب جانب المذكورة فيجوز له السفر بدون محرم.
الفصل الثالث
حكم السفر بالمرأة الأجنبية
سفر المرأة بدون محرم لها لابد أن يقتضي خلوة الغير بها إما أثناء السفر أو بعده فالسفر مظنة الخلوة وإن سافرت مع عدد من النساء أو الرجال في الطائرة أو القطار أو السيارة لذا يحسن بنا أن نعرف مدى حكم سفر المرأة بدون محرم لها.
ذهب الحنفية إلى أنه لا يجوز للحرة أن تسافر بدون محرم، فسفرها مع غير محرم خلوة محرمة وبهذا قال المالكية (45) وقيدوا التحريم بالمرأة الشابة أما المتجالة فيجوز لها السفر بدون محرم ومنع الشافعية سفر المرأة بدون محرم لها وبذلك قال الحنابلة (46) حتى مع الأمن فقالوا يحرم على الجرل بالسفر بأخت زوجته ولو كانت أختها برفقتها مع زوجها ويرى الحنفية لسفر المرأة ثلاثة أيام فما فوقها بدون محرم واختلفت الروايات عندهم فيما دون ذلك.
قال أبو يوسف رحمه الله: أكره لها أن تسافر يوماً بغير محرم وهكذا روي عن أبي حنيفة رحمه الله ، وقال الفقيه أبو جعفر واتفقت الروايات في الثلاث أما دون الثلاث فهو أهون من ذلك (47).
والأولى منع السفر بدون محرم ولو دون الثلاث، لأن الأزمان تتغير فيكثر الفساق وتنتشر الذئاب الآدمية، والمرأة لا بد لها من حصن يحفضها وكيف لها ذلك بدون محرم يمنع عنها الردى وتعدى الفساق.
ولذلك قال الحنفية : لا يجوز للمرأة أن تسافر مع نساء ثقات لخشية وقوع الفتنة معهن لعدم إمكان استعانتهن بالمفازة بأحد من جماعة المسلمين فما دون الثلاث مفازة.
أما سفر المرأة للحج بدون محرم فبعض الحنفية يرى جواز سفر المرأة للحج مع رجال صالحين وأجاز المالكية سفرها بدون محرم للحج خاصة وقالوا إذا لم يكن لها محرم تخرج مع جماعات النساء وقيد بعضهم الجواز أن تكون الرفقة مأمونة وإلا لم يجوز.
وبهذا قال الشافعية فيصح للمرأة أن تسافر للحج مع نساء ثقات بأن بلغت وجمعت صفات العدالة وإن كن إماء، بانقطاع الأطماع باجتماعهن، فلا تكفي مراهقات إلا أن جعل معهن الأمن، وغير الثقات لا يصح أن تسافر معهن للحج لأن الفاسقة لا تألف من منع محرمها بخلاف الرجل وقيل لابد من ثلاث نسوة وقيل يكفي اثنتان غيرها .
والقول الأخير لا يصح إذ أنه بذهاب واحدة منهن يخشى على الباقية (48) .
وقرر الشافعية أن الواجب عليها الخروج مع واحدة لغرض الحج والعمرة، بل أجازوا خروجها لوحدها إذا تيقنت الأمن وهو محمل الأخبار الدالة على حل سفرها.
أما سفرها لغير فرض الحج فحرام مع النسوة مطلقاً، وإن قصر السفر وإن كانت شوها، إذ لا واجب هنا حتى يفتقر لمصلحة تحصيله الاكتفاء بأدنى مراتب الأمن .
وأما الحنابلة فيرون حرمة سفر المرأة مع محرمها مطلقاً للحج أو لغيره، فلا يحل للمرأة أن تسافر إلا مع ذي محرم (49) .
ومن يرى أن المرأة يجوز لها السفر للحج بلا محرم فقد استدل بما يلي:
أولاً: بما روى عن ابن عمر رضي الله عنه (50) قال : " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: ما يوجب الحج قال: الزاد والراحلة" .
قالوا فإذا قدرت المرأة على الاستطاعة وجب أن يلزمها الحج ولو بدون محرم ويتأولون خبر النهي على الأسفار التي هي مقطوعة بها دون السفر الواجب إذ لا يشترط له محرم.
ويجاب عنه ذلك بما يلي:
1- هذا الحديث قد تكلم فيه فإبراهيم الخوزي ـ وهو أحد رواته متروك الحديث وقد روى ذلك عن طريق الحسن مرسلاً وهو لا يتحجج به عند الشافعي وهو ممن لا يرى اشتراط المحرمية في الحج (51).(/5)
2- أن الحديث في اشتراط الزاد والراحلة خاص بالرجل دون المرأة إذ يشترط للمرأة خروج غيرها معها وهذا لا يشترط في الرجل فجعل ذلك الغير محرماً للمرأة وبينه صلى الله عليه وسلم في الأحاديث المشترطة للمحرمية.
3- يحتمل أنه أراد اشتراط الزاد والراحلة لوجوب الحج مع كمال بقية الشروط الأخرى، ولذلك اشترطوا تخلية الطريق وإمكان السير وقضاء الدين ونفقة العيال.
واشترط المالكية إمكان الثبوت على الراحلة وهو غير مذكور في الحديث وهذه الشروط ليست واردة لا في الكتاب لا في السنة وإنما شرط المحرمية وارد في السنة فهو أولى بالاشتراط.
4- لو قدر التعارض فاشتراط الزاد والراحلة عام بما خصص من اشتراط المحرمية.
ثانياً: بما روى عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لتوشكن الضعينة من الحيرة تؤم البيت لا جوار معها لا تخالف إلا الله" .
ففي الحديث هذا إخبار بأن المرأة تسافر للحج من الحيرة إلى البيت ولا محرم معها مما يدل على عدم اشتراطه للحج.
ويجاب عن ذلك: بأن حديث عدي يدل على وجود السفر لا على جوازه، ولذلك لم يجز في غير الحج المفروض ولم يذكر فيه خروج غيرها معها ، وقد اشترطوا هاهنا خروج غيرها معها .
ثالثاً: أنه سفر واجب فلم يشترط له المحرمية كالمسلمة إذا تخلصت من أيدي الكفار وكذا الكافرة إذا أسلمت في دار الحرب فإنه يجب السفر إلى بلاد الإسلام بلا محرم فكذلك الحج .
ويجاب عن ذلك : بأن السفر المسلمة والكافرة إذا أسلمت في بلاد الكفر سفر ضرورة لا يقاس عليها حالة الاختيار ولذلك تخرج منه وحدها ولأنها تدفع ضرراً متيقناً يتحمل الضرر المتوهم، لذا لا يلزم تحمل ذلك من غير ضرر أصلاً (52) .
ثم لو سلمنا بمساواة جواز سفرها للحج بما ذكروه لجاز لها أن تحج وحدها كما تفعل المسلمة والأسيرة، فإذن لم اشترطوا وجود امرأة ثقة للحج أو جماعة صالحة؟ فلما لم يبح لها في الحج أن تخرج وحدها لا في حج ولا في غيره (53) .
ومما سبق يتبين أن سفر المرأة لوحدها عرضة لفساد دينها خلقها بما قد تتعرض له أثناء الطريق أو الإقامة في البلدان التي تمر عليها ففي السفر مظنة حصول الخلوة فالطائرة قد يحصل بها بعض العطل فتضطر للنزول ومن هنا لا محرم مما قد يجبر الرجل إلى الخلوة بها في الفندق المهيأ للانتظار للركاب.
وفي السفينة قد يدعوها قبطانها أو أحد الركاب في غرفته فتحصل الخلوة لهذا فإن عين المحرمية متابعة ومراقبة دائمة ، والذئب إنما أكل القاصية من الغنم التي لا حارس لها يحرسها ولا حامي يحميها.
وإذا سقط الحج عن المريض والعاجز عن الزاد والراحلة فلئن يسقط عن المرأة التي لم تجد محرماً من باب أولى.
ولو نظرنا إلى واقعنا اليوم لرأينا أن النساء المصاحبات لمحارمهن أكثر حشمة ووقاراً، بل تتبع نظرات الغير من متابعتهن، فضلاً عن ملاحقتهن ومطاردتهن بخلاف النساء اللاتي يتجولن في الأسواق والشوارع بدون محارم أو مع سائقين من أصحاب الشهوات والقلوب المريضة.
واجتماع النسوة لا يمنع الغير من مضايقتهن ومحاولة تدنيس خلقهن وإيقاعهن فيما منعن منه وإذا كان هذا في الحضر فكيف بالسفر لوحدهن مما يؤكد عدم حل سفر المرأة مع غيرها محرمها من زوج أو قريب مهما كان نوع السفر ومدته.
ويؤيد ما ذهب إليه الحنابلة من الحرمة المطلقة عموم الأدلة الواردة في منع سفر المرأة وحدها سواء أكان لحج أم غيره.
ومنها:
1- عن أبي سعيد الخدر رضي الله عنه قال سمعت أربعاً من النبي صلى الله عليه وسلم فأعجبني قال: " لا تسافر المرأة مسيرة يومين إلا ومعها زوجها أو ذو محرم" (54) .
2- عن ابن عباس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يخلو رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم" (55).
3- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر بسيرة ثلاث ليال إلا ومعها ذو محرم" .
4- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر يوماً وليلة إلا مع ذي محرم من أهلها" .
ففي هذه الأدلة نهي عن سفر المرأة بدون محرم والنهي يقتضي التحريم مما يدل على عدم حل سفر المرأة وحدها مهما كانت مدة السفر ، قال النووي (56) قوله لا تسافر المرأة ثلاثاً إلا ومعها ذو محرم وفي رواية لأبي داود ولا تسافر بريداً والبريد مسيرة نصف يوم.
قال العلماء: اختلاف هذه الألفاظ لاختلاف السائلين واختلاف المواطن وليس في النهي عنه عن الثلاثة تصريح بإباحة اليوم أو الليلة أو البريد.
ولا ينبغي التفريق بين نوع السفر فالحرمة واحدة سواء كان السفر للحج أم لغيره، فالمرأة إذا لم تجد المحرم سقط عنها الحج، لأنه من السيل الذي ذكره الله تعالى.(/6)
في قوله ? وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ? [آل عمران:97] ، فإذا لم يكن لها محرم، فلا تستطيع إلى هذا السبيل .
قال الإمام مالك وأرى أنه يكره خروج المرأة للحج مع ابن زوجها وإن كان ذا محرم منها (57) .
وإذا كان مالك يكره ذلك مع ابن الزوج وهو محرم، فالقول بالحرمة مع الغير مع غير المحرم أولى.
ولا وجه للتفريق بين المرأة الشابة والمتجاهلة لأن مناط النهي للتحريم كما في الأحاديث كونها امرأة وهو وصف منضبط يصلح لأن يكون علة للتحريم بخلاف كونها شابة أو متجاهلة، خاصة وأن بعض النفوس قد تتعلق بالمرأة المتجالة أيضاً فكل ساقطة في الحي لها لاقطة .
ومما يؤيد حرمة سفر المرأة بدون محرم للحج ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:يا رسول الله إني كتبت في غزوة كذا وكذا وامرأتي حاجة قال ارجع وحج مع امرأتك" (58).
ففي هذا الحديث دلالة على تقديم الأهم من الأمور المتعارضة، لأنه لما تعارض سفره في الغزو وفي الحج معها رجح الحج معها، لأن الغزو يقوم غيره مقامه بخلاف الحج معها وهذا يدل على أن المحرم لا ينوب عنه جماعة المسلمين الصالحين أو النساء الثقات، وإلا لما أمره صلى الله عليه وسلم بالرجوع عن الجهاد والتخلف عنه لاسيما وأن من يتخلف عنه منافق معلوم النفاق.
الفصل الرابع
الخلوة والسفر بالزوجة وذات المحارم
المبحث الأول
حكم الخلوة والسفر بالزوجة وذات المحارم
يصح للرجل أن يخلو ويسافر بزوجته وذوات محارمه ولهذا قال جميع العلماء فيصح خلوة الرجل بأي امرأة من وذات محارمه بنسب كالأمهات والجدات وبنات الأخ وبنات الأخت وكل امرأة محرمة عليه بالقرابة على التأبيد والمحرمة بالرضاع أو بالمصاهرة وأن يسافر بهن (59) ، وفي الدر المختار: (والخلوة بالمحرم مباحة إلا الأخت رضاعاً والصهرة الشابة) ، وفي حاشية ابن عابدين: (وينبغي لأخ من الرضاع أن لا يخلو بأخته من الرضاع، لأن الغالب هناك الوقوع في الجماع ، قال العلامة البيري: (أن ينبغي معناه الوجوب) (60) ، والمالكية يرون أن لا بأس للرجل أن يسافر بأخته من الرضاع وحكمها حكم ذوي المحارم (61) وهو ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة ، والصحيح أن الأخت من الرضاع تعد من المحارم لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" (62)
ففي والحديث السابق دلالة على أن القرابة من الرضاع تأخذ حكم القرابة من النسب مما يدل على حل الخلوة والسفر بالأخت من الرضاع غير أنه إن خاف الرجل على نفسه من الخلوة بامرأة ذات محرم ينسب أو نكاح فلا يحل له أن يسافر بها أو يخلو فيها ولا ينبغي للمرأة إن خافت ذلك منة أن تخلو معه في بيت ولا تسافر معه.
قال محمد صاحب أبي حنيفة : (وإن أمن على نفسه فلا بأس أن يسافر بها ويكون محرماً لها وتسافر معه ولا محرم معها غيره، فإن كان يخاف على نفسه فلا يسافرون معها ولا يخلون معها ولا ينبغي لها إن خافت ذلك منه أن يخلو به في بيت ولا تسافر معه، فأما إذا أمنا ذلك أو كان عليه أكبر رأيهما فلا بأس بالخلوة معها والسفر بها).
والبنت المنفية باللعان محرم على نافيها الزواج منها عند الشافعية وتتعدى الحرمة إلى سائر محارمه، ولكن هذا لا يعني حل الخلوة بها فالخلوة محرمة احتياطاً وقيل يصح عندهم الخلوة والسفر بها (63) .
أما الحنابلة فقالوا: ليست من محارم الرجل وألحقوا بها في الحرمة أم المزنى بها وابنتها وبنت الموطوءة بشبهة وأمنها .
وكذا قال الشافعية في الموطوءة بشبهة فتحرم على الواطئ أمهاتها وبناتها وتحرم على آبائه وأبنائه تحريماً مؤبداً بالإجماع لتنزيله منزلة عقد النكاح غير أن هذا التحريم لا يحل الخلوة بهن أو المسافرة بهن (64) .
والشافعية يحرمون أي خلوة ولو كانت مع ذي محرم متضمنة وجود الشهوة من أي منهما سواء رجل مع رجل، أو امرأة مع امرأة (65) .
ودليل مشروعية جواز الخلوة والسفر بالزوجة وذات المحرم ما يلي:
1- عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليس معها ذو محرم منها فإن ثالثهما الشيطان" ، ففي هذا الحديث نهي عن الخلوة بالمرأة من غير ذوات المحارم مما يدل على إباحته في ذوات المحارم.
2- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفراً يكون ثلاثة أيام فصاعداً إلى ومعها أبوها أو ابنها أو زوجها أو أخوها أو ذو محرم منها" ، ففي هذا الحديث نهي عن سفر المرأة أو أخوها بدون محرم. والنهي يقتضي التحريم مما يدل على جواز سفر المرأة مع محرمها، وبدلالة الاستثناء الوارد في الحديث.(/7)
3- عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا لا يبيتن رجل عند امرأة ببيت إلا أن يكون ناكحاً أو ذا محرم" ، ففي الحديث هذا نهي عن المبيت عند الأجنبية لغير الناكح، والمحرم، والإذن لهما يدل على حل خلوتهما، أو أحدهما بها.
فمما سبق نعلم أن الخلوة والسفر بالزوجة وذات المحارم أمر جائز بضوابطه الشرعية كخوف مواقعة المحظور.
المبحث الثاني
حكم مباشرة الزوجة من غير خلوة
يحرم على الرجل أن جامع أهله في مرأى الغير، بل يتعين عليهما الخلوة (66) وكره المالكية الوطء في ليل في البيت ومعه صغير أو كبير غير أنه يجوز نوم الرجل مع امرأته بالإجماع بحضرة آخر غير أنه يشترط أن يكون من محارمها (67) .
وقال الحنفية: (لا بأس أن يدخل على الزوجين محارمهما وهما في الفراش من غير وطء باستئذان، ولا يدخلون بغير إذن) وكذا الخادم حين يخلو الرجل بأهله، وكذا الأمة (68) ، واستدلوا بذلك بما روى عن ابن عباس رضي الله عنه : " أنه بات ليلة عند ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهي خالته فاضطجعت في عرض الوسادة واضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله في طولها" (69) ، ففي هذا دلالة على إباحة نوم الغير من المحارم مع الزوجين في غير حالة الجماع.
المبحث الثالث
أثر الخلوة بالزوجة على المهر والعدة
ذهب الحنفية ورواية عن الحنابلة أن الخلوة بالمرأة بعد عقد النكاح عليها يجوز وبعده المهر وحد الخلوة الموجبة لذلك عند الحنفية أن لا يكون هناك مانع يمنع من الوطء طبعاً ولا شرعاً كالمرض وصيام رمضان والحيض فإن وجد فلا خلوة لقيام المانع طبعاً وشرعاً .
وعند الحنابلة كل امرأة فارقت زوجها في الحياة قبل المسيس والخلوة فلا عدة عليها، وإن خلا بها وهو عالم بها وهي مطاوعة فعليها العدة، سواء كان بهما أو بأحدهما مانع من الوطء كالإحرام والصيام والحيض والنفاس والمرض والجب والعنة أو لم يكن ، وهذا هو المذهب مطلقاً سواء كان المانع حسياً أم شرعياً .
وقيل: لا عدة بخلوة مطلقاً وعنه لا عدة بخلوة مع وجود مانع شرعي كالإحرام والصيام والحيض والنفاس والظهار والإيلاء والاعتكاف.
وحكي عن الإمام الشافعي أن الخلوة بدون مسيس لا توجب المهر والعدة لقوله تعالى: ? وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً ? [ البقرة: 237]والمراد بالمسيس الجماع ولأن هذه خلوة خلت عن الإصابة فلا توجب المهر والعدة كالخلوة الفاسدة .
ـ ويستقر المهر كاملاً إذا خلا الرجل بامرأته بشرطين يكون عالماً بوجودها عنده وأن يكون الزوج ممن يطأ مثله وليس عندهما مميز، وهذا هو المذهب.
ـ واستدلوا بقوله تعالى: ? وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً ? [ النساء:21]
ـ ففي الآية نهى عن استرداد بشيء من الصداق بعد الخلوة فإن الإقضاء عبارة عن الخلوة، ومنه يسمى المكان الخالي فضاء. وروى الإمام أحمد والأثرم عن زرارة بن أوفى، قال (قضى الخلفاء الراشدون والمهديون أن من أغلق باباً أو أرض شر فقد وجب المهر ووجبت العدة) ولأنها سلمت نفسها التسليم الواجب عليها فاستقر لها المهر والصداق.
المبحث الرابع
أثر الخلوة بالمطلقة طلاقاً رجعياً على الرجعة
يرى الحنفية أن الخلوة والمسافرة بالمطلقة طلاقاً رجعياً لا تكون رجعة إلا عند زفر وأبي يوسف ، ويرى المالكية أن المرأة المطلقة طلاقاً رجعياً يكره للزوج أن يخلو بها أو أن يدخل عليها إلا بإذنها وإن كان لغرض الرجعة، لأن الرجعة لا تكون إلا بالقول (70) ، وذهب الحنابلة إلى أن الرجعية مباحة لزوجها فله السافر بها والخلوة معها غير أن الخلوة لا تعد رجعة وإن كان معها شهوة، لأن تحريم المصاهرة لا يثبت بها وهذا هو الصحيح من المذهب ، ويرى بعضهم أن الخلوة مع الشهوة تكون رجعة، لأنه محرم من غير الزوجة فأشبه الاستمتاع (71) .
الخاتمة :
ختام هذا البحث اسأل الله العلي القدير أن يكون قد وفقت في هذا البحث والله أسال التوفيق والسداد في عملي ، واطلب من المولى أن يكتب اجر من علمني ومن ساعدني في أتمامه، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
تأليف : عبد الله محمد عبد الله محمد السادة
مراجعة وتعليق: عبد الوهاب الشرعبي
---------------
(1) أخرجه مسلم ،ج2/977، برقم 1340 .
(2) لسان العرب ج14/ 237 مادة "خلا" .
(3) المعجم الوسيط: مادة خلو .
(4) انظر : الفروع لابن مفلح ج5 /153 .
(5) انظر : مجموع فتاوى ابن تيمية ج32/9 .
(6) أخرجه أحمد في مسنده 3/399 ،برقم 14692.
(7) انظر: المغني لابن قدامة 6/553 ومجموع فتاوى ابن تيمية ج11/505 .
(8) انظر: بدائع الصنائع، وانظر: مجموع فتاوى ابن تيمية ج 32/11 .
(9) انظر: الإقناع في حل ألفاظ ابن شجاع ج2/121 .
(10) انظر: إعلام الموقعين ج4/338 .(/8)
(11) انظر: الإقناع في حل ألفاظ بن شجاع ج2/121 .
(12) انظر: الإقناع ج2/120 .
(13) انظر: الإنصاف : 9/314 .
(14) انظر: فتح الجواد ج 2/71 .
(15) انظر: الإنصاف ج 9/314 .
(16) المتجالة هي المرأة المسنة .
(17) انظر: الإنصاف ج 9/314 .
(18) انظر: الإنصاف ج 9/314 .
(19) انظر: حاشية ابن عابدين ج 6/368 .
(20) انظر : مغني المحتاج ج3 /133 .
(21) أخرجه مسلم شرح النووي ج2/ 1086، برقم 715 .
(22) أخرجه مسلم ج4/1711،برقم 2172.
(23) الحمو : هو أخو الزوج.
(24) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية، ج28/380 .
(25) انظر: مسائل الإمام أحمد ج1/139 مجموع فتاوى ابن تيمية ج22/111 .
(26) انظر: الكافي ج3/6 .
(27) انظر: فيض القدير ج6/150 .
(28) انظر: مغني المحتاج ج6/190 .
(29) مجموع فتاوى ابن تيمية ج22/111 .
(30) أخرجه أبو داود ج2/ 460، برقم 4106 وصححه الألباني في الإرواء ،ج6/ 206.
(31) مجموع فتاوى ابن تيمية ج22/111 .
(32) انظر: المغني لابن قدامة ج6/557 .
(33) أخرجه الطبراني ج6/ 368 وضعفه الألباني ،ج1/702،برقم 7012.
(34) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية ج22/112 .
(35) انظر: حاشية ابن عابدين ج6/368 .
(36) انظر: حاشية العدوي ج2/422 .
(37) انظر: بدائع الصنائع ج5/122 .
(38) انظر: حاشية ابن العابدين ج6/368 .
(39) انظر: بداية المجتهد ج2/85 ، مجموع فتاوى ابن تيمية ج32/11 .
(40) انظر: بداية المجتهد ج2/85 .
(41) انظر: حاشية ابن عابدين ج6/368 .
(42) انظر: الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع ج2/122 .
(43) انظر: الكشاف القناع 5/15 .
(44) انظر: الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع ج2/122 .
(45) انظر: الكافي ج2/134 .
(46) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية ج28/373 .
(47) انظر: حاشية ابن عابدين ج 6/368 .
(48) انظر: إعانة الطالبين ج 2/283 .
(49) انظر: مسائل الإمام أحمد ج1/142 .
(50) أخرجه الترمذي ،ج5/225، برقم 2998 وضعفه الباني في ضعيف الترمذي ، ج3/ 93، رقم 133.
(51) انظر: معالم السنن 2/144 .
(52) انظر: المغني لابن قدامة ج 3/237 -238 .
(53) انظر: معالم السنن ج2/145 .
(54) أخرجه البخاري في كتاب الصوم ج 20/249 ومسلم في كتاب الحج.
(55) أخرجه مسلم في كتاب الحج صحيح مسلم بشرح النووي.
(56) انظر: النووي في شرحه على صحيح مسلم ج9/103 .
(57) انظر: شرح الزرقاني على موطأ مالك ج2/402 .
(58) أخرجه البخاري ، ج3/1114، برقم 2896 .
(59) انظر: والمبسوط للسرخسي ج30 /49 وبدائع الصنائع ج5/120 .
(60) انظر: ابن عابدين ج 6/369 .
(61) انظر: هامش مواهب الجليل ج 1/500 .
(62) أخرجه البخاري ج2/935، برقم 2502 .
(63) انظر: الإمتاع في حل ألفاظ أبي شجاع 2/130 .
(64) انظر: الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 2/131 .
(65) انظر: الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 2/130 .
(66) انظر: القوانين الفقهية ص141 والفروع ج 5/324 .
(67) انظر: الفروع ج5/324 .
(68) انظر: الفتاوى العقدية ج 5/328 .
(69) أخرجه البخاري 1/78، برقم 181 .
(70) انظر: فتح القدير ج 4/16 .
(71) انظر: الكافي لابن قدامه ج 3/229 والمقنع ج 3/222 ، ومنتهى الإرادات ج 2/313 .(/9)
حكم الزواج العرفي و الإجهاض للضرورة
السؤال :
لي أخ له عقد قرانه عرفياً على فتاة دون الدخول بها إلى غاية الصيف المقبل إن شاء الله حيث تم هذا العقد بجميع شروطه إلى غاية إقامة العقد القانوني في البلدية لكنه و أثناء التقائه بها في الأيام الفارطة قاما بما لا يجب القيام به إلا بعد الزفاف النهائي حيث جامعها ، و نتج عنه الحمل ، فأردت التدخل لتسوية الوضع مع أهلها كي نقيم الزفاف في أقرب الآجال و أبلغنا أمها بالموضوع فرفضت رفضاً قاطعاً أن نبلغ أخوها الوصي عليها مخافة أن يقوم بقتلها أو أي شيء من هذا القبيل فأضطر أخي بعد محاولات عدة إلى القيام بعملية الإجهاض و ذلك ما تم بعد أن بلغ الجنين عمر الشهرين فأود منكم من فضيلتكم الإجابة على هذا السؤال لأن ضميري بات يؤنبني خوفاً من أن يكون أخي قد قام بعملية قتل لابنه و الرجاء بيان حكم الشرع فيما قام به ، و ما يجب عليه القيام به بعد هذه المشكلة للتكفير عن ذنبه .
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
هذا السؤال ذو شائبتين لكلٍ منهما حكمها الخاص ، و هما :
أوّلاً : حكم ما بات يُعرف بالزواج العُرفي ، و هو زواجٌ صحيح إذا توّفّرت فيه الشروط الشرعيّة ، و هي الإيجاب و القبول ( موافقة الطرفين ) و إقرار ولي أمر الفتاة ، و تسمية ( تحديد ) الصداق ( المهر ، و إشهادُ ذَوَي عدلٍ .
فإذا توفّرت هذه الشروط في العقد كان النكاح مشروعاً ، حتى و إن لم يُعلَم به أحدٌ غير الشاهدين ، و لم يُسجّل في الدوائر الرسميّة ( كمكتب المأذون أو المحكمة أو سجل الأحوال الشخصيّة أو غير ذلك ) .
و عليه فإنّ ما جرى بين الزوجين المقصودين في السؤال حقّ شرعي لهما ، و حملُ المرأة من زوجها لا إثم فيه و لا غُُُبار عليه ما دام العقدُ مستوفياً للشروط الشرعيّة .
ثانياً : حكم الإجهاض ، فقد ذهب جمهور الفقهاءِ إلى حُرْمَةِ الإقدام عليه عَمداً إلا لعذر شرعيِّ ، و لم يفرّقوا في ذلك بين كونه قبل نفخ الروح في الجنين أو بعد نفخها ، نظراً لما ينطوي عليه الإجهاضُ المتعمَّد من أضرار بالغة على الأم والجنين ، ولأنَّ الجنينَ يعدُّ حياً من بداية الحمل ، و حياتُهُ محترمةٌ في كافَّةِ أدوارها و بخاصة بعد نفخ الروح فيه ( في نهاية الشهر الرابع ) .
أمّا إذا ما دعت ضرورةٌ معتبَرةٌ شرعاً لإجهاض الجنين ، كأن يكون في بقائه خطر محقق على حياة الأم ، جازَ إجهاضُه أخذاً بحكم الضرورة .
و الحالة المذكورة في السؤال تدلّ على وجود ضررٍ سيلحق بالمرأة على سبيل التيقّن أو غَلبة الظنّ ، حيث قد يُقدِم و ليّها على قتلها لاعتقاده أنّ عقد الزواج العرفي المستوفي للشروط الشرعيّة لا يبيح للزوجين أن يفضي بعضهم إلى بعضٍ ، فلا بأسَ في هذه الحال من الإجهاض ، خاصّة و قد كان قَبل نفخ الروح في الجنين ، و هو ما يبيحه بعض أهل العلم حتى مع عَدَم وجود الضرورة ، فكيفَ و قد وُجدت ؟ و النبيّ صلى الله عليه و سلّم قضى بأن : « لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ » كما في حديث عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه الذي رواه ابن ماجة و مالك و أحمد بإسنادٍ صحيح .
و عليه فلا شيء عليك و لا على أبوَي الجنين الذي تمّ إجهاضه في الظروف المذكورة في السؤال خاصّة ، و لكن حذار من التوسّع في هذا الباب ، لأنّ الضرورة تقدّر بقَدَرها .
و الله من وراء القصد ، و صلى الله و سلّم و بارك على نبيّنا محمّد و آله و صحبه أجمعين .(/1)
حكم الزواج العرفي
الشيخ الأمين الحاج محمد أحمد السؤال
ما حكم الزواج العرفي؟
الإجابة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله:
الزواج العرفي من المصطلحات الحديثة وقد ظهر لأول مرة بمصر وهو نوعان:
الأول: زواج صحيح وهو الذي تتوفر فيه كل أركان الزواج, وهي العاقدان والقبول والإيجاب. وسائر شروطه من الولي والشهود والمهر وربما الإعلان ورضا الزوجين وتعينهما. إلا أن الجهات الرسمية لا توثقه, لأنه يكون زواجاً ثانياً لمن له زوجه, ولا توافق الجهات الرسمية في مصر على توثيق الزواج الثاني إلا برضا الأولى الذي يعتبر من المستحيلات وفي عدم توثيق مثل هذا النوع من الزواج ظلم بيِّن ومخالفة شرعية ومحاداة لقوله تعالى: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع).
الثاني: زواج فاسد باطل وهو الذي ظهر في الجامعات المصرية وانتقلت هذه العدوى الخبيثة إلى الجامعات السودانية وهو يتم عن طريق اتفاق الشاب والشابة على الزواج من غير الرجوع إلى الولي الذي يعتبر هو أسُّ شروط صحة الزواج لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل) ولقول عائشة رضي الله عنها: "الزانية هي التي تزوج نفسها" ولهذا فهو باطل فاسد وهو أخو الزنا وأخو نكاح المتعة الذي هو عبارة عن اسم آخر للزنا.
ولا ينبغي لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتزوج بهذه الطريقة وأن يتلاعب بأعراض المسلمين ونسأل الله أن يحفظنا ويحفظ شبابنا وشاباتنا من التقليد الأعمى ومن هذه الممارسات المحرمة(/1)
حكم الزواج و كيف يفعل من منع منه
السؤال :
والدي حرّم عليّ الزواج لكوني - حسب رأيه - غيرَ قادر على القيام بمسؤوليات الزواج ، و لا أملك المال اللازم له ، و نتيجة لضعف الإيمان و كثرة البنات أصبحت أعاني معاناة رهيبة ، و أصبت بالشبق الجنسي ، وأصبحت أخاف على نفسي من الوقوع في الزنا .
فمالعمل ؟ هل يمكنني الزواج عرفياً أو الزواج بالمُُُتعة رغم حرمته لأحصّن نفسي ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
يختلف حكم الزواج باختلاف حال من عَرَض له ، فقد يكون واجباً على من خشي على نفسه الفتنة ، و قد يكون حراماً على المرأة في عدّتها ، و قد يكون بين هذا و ذاك بحسب حال المُقدِم عليه .
قال ابن قدامة الحنبلي رحمه الله في المغني : ( من يخاف على نفسه الوقوع في محظور إن ترك النكاح ، فهذا يجب عليه النكاح في قول عامة الفقهاء ، لأنه يلزمه إعفاف نفسه ، و صونها عن الحرام ، و طريقُهُ النكاح ... و يستحب لمن له شهوة يأمن معها الوقوع في محظور ، فهذا الاشتغال له به أولى من التخلي لنوافل العبادة ، و هو قول أصحاب الرأي . و هو ظاهر قول الصحابة رضي الله عنهم ، و فعلهم … وساق بعض الآثار التي أوردنا طرفاً منها ) .
و قال الإمام القرطبي في تفسيره : ( المستطيع الذي يخاف الضرر على نفسه و دينه من العزوبة لا يُختلف في وجوب التزويج عليه ) .
وقال المرداوي رحمه الله في الجزء الثامن من كتابه الإنصاف : ( مَنْ خَافَ الْعَنَتَ . فَالنِّكَاحُ فِي حَقِّ هَذَا : وَاجِبٌ ؛ قَوْلا وَاحِدًا ، و الْعَنَتُ هُنَا : هُوَ الزِّنَا . عَلَى الصَّحِيحِ . وَ قِيلَ : هُوَ الْهَلاكُ بِالزِّنَا ) .
و قال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله : ( إن احتاج الإنسان إلى النكاح و خشي العنت بتركه قدّمه على الحج الواجب و إن لم يخف قدم الحج ) .
و قال ابن رشد : ( فأما النكاح فإنه في الجملة مرغب فيه و مندوب إليه ... و أما من احتاج إلى النكاح و لم يقدر على الصبر دون النساء ، و لا كان عنده ما يتسرى به و خشي على نفسه العَنَت إن لم يتزوج ، فالنكاح عليه واجب ) .
هذا عن حُكم النكاح بشكلٍ عام ، و الذي يظهر من حال السائل أنّه يعاني عنتاً شديداً بسبب منعه من الزواج ، و ربّما خشي على نفسه الوقوع في الفاحشة تحت تأثير الشبَق الجنسي الذي يُعاني منه ، و لذلك فالزواج في حقّه واجب ، و يجب على والده أن يُعينه عليه إن كان قادراً .
لذلك نوصي الأب بتيسير سُبُل الزواج أمام ابنه ، فإن لم يستطع أن يُعينه عليه فعلى أقل تقدير يجب عليه الكفّ عن منعه عنه ، كي لا يتسبب في انحراف ولده ، فيحمل مثل وِزره .
و على الابن أن يتلطّف لأبيه في عَرض حاجته ، لعلّ الله تعالى أن يقذف في قلبه من الرحمة و الشفقة ما يُغيّر موقفه ، فإن أبى و أصرّ على منعه ، و وَجد الابن في نفسه الباءة ( القدرة الماديّة و الجسميّة ) على الزواج فليُقدِم عليه ، و لا بأسَ في أن يكون زواجاً عُرفياً إذا استوفى الشروط الشرعيّة ( و هي الإيجاب و القبول ، و موافقة وليّ أمر الزوجة ، و تسمية المهر ، و إشهاد ذَوَي عدلٍ على العقد ) ، لأنّ العقد إذا استوفى شروطه صحّ شرعاً ، و إن لم يُوثَّق رسمياً.
أمّا زواج المتعة فهو حرام ، و لا عبرة بما يروّج له بعض المبتدعة من أنّه مباح ، لأنّ أدلّة الإباحة منسوخة ، و قد حرّمه النبي صلى الله عليه و سلّم في حجّة الوداع ، و عليه فإنّ التلبّس به ضربٌ من الزنا في الحُكم و الأثر .
هذا و بالله التوفيق .(/1)
حكم الصلاة بدون إقامة
السؤال :
من نسي الإقامة في وقت ما ، هل صلاته مقبولة ؟
الجواب :
إقامة الصلاة سنّة و ليست فريضةً و لا شرطاً لصحة الصلاة ، فمن صلى بدون إقامة ناسياً أو متعمّداً فصلاته صحيحة و لا شيء عليه إن شاء الله .
و بالله التوفيق .(/1)
حكم الصلاة خلف المبتدع
السؤال :
ما حكم امامة المبتدع ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
البدعة كما عرّفها الإمام الشاطبي [ في الاعتصام : 1 / 37 ] هي : طريقةٌ في الدين مُخترعةٌ ( أي محدثة ) تضاهي الشرعيّة ( أي العبادة الشرعيّة ) يُقصَد بالسلوك عليها ما يُقصَد بالطريقة الشرعيّة ، أو المبالغة في التعبّد لله تعالى .
و تنقسم إلى بدعةٍ عقَديّة ( في أصول الدين ) ، و بدعة عمَليّة ( في الفروع و العبادات ، و تَبَعاً لهذا التقسيم يختلف الحكم عليها و على من وَقَعَ فيها .
و أخطَر البدع ما يكفرُ صاحبها بتلبّسه بها ، كبدعة إنكار القَدَر في العصور المتقدّمة ، و بدعة تقديم العقل على النقل و تحكيم القوانين في العصر الحاضر ، فمن تلبّس بشيء من ذلك و أقيمت عليه الحجّة فلم يرجع حُكِم بكفره و خروجه من الملّة ، و من كان هذا حاله فلا يقدّم للإمامة أصلاً ، و إن تقدّم فلا تصح الصلاة خَلفَه بحال .
و روي مثل ذلك في حكم الصلاة خلف المتلبّس بشيء من البدع الكبيرة التي تميّزت بها الفرق الضالة فالأصح عدم الصلاة خلف صاحبها و إن لم يُكفّر بها ، و من ذلك ما رواه السيوطي [ في ص : 22 من كتاب الأمر بالاتباع ] عن عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل ، عن أبيه ، أنّه سُئل عن الصلاة خلف القائل بخَلقِِِ القرآن ، فقال : ( لا يُصلى خَلفَه الجمعة و لا غيرها ، إلا أنّه – أي المصلي – لا يَدَع إتيانها ، فإن صلّى أعاد الصلاة ) .
قلتُ : و الواجب على المنصف أن يتريّث في تنزيل حُكم الكفر على من تلبّس ببدعة في أصول الدين أو فروعه ، لأنّ التكفير مزلق خطير إلى الهلاك .
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله [ في مجموع الفتاوى : 12 / 180 ] :
( الصواب أنّه من اجتهد من أمّة محمد صلى الله عليه و سلّم و قَصَدَ الحقَّ فأخطأ لم يكفُر ، بل يُغفَر له خطأه .
و من تبيّن له ما جاء به الرسول فشاقّ الرسول من بعد ما تبيّن له الهدى و اتّبع غير سبيل المؤمنين فهو كافر .
و من اتّبع هواه و قصّر في طلَب الحقّ ، و تكلّم بلا عِلمٍ ؛ فهو عاصٍ مذنب ، ثمّ قد يكون فاسقاً و قد تكون له حسناتٌ ترجح على سيئاته .
فالتكفير يختلف بحسب اختلاف حال الشخص ، فليس كلّ مخطئ ، و لا مبتدع ، و لا جاهل ، و لا ضال ؛ يكون كافراً ، بل و لا فاسقاً ، بل و لا عاصياً ) .
فإذا تقرّر هذا فاعلم أخي السائل أن كلّ ما جاء من نهي السلف الصالح عن الصلاة خلف المبتدع محمول على صاحب البدعة المكفرة ، و أئمّة الضلال و دعاته و أنصاره كالجهميّة و القدريّة و الروافض ، أمّا عامّة المسلمين فيصلى خلفهم ، حتى و إن صدرت عنهم بدعة ، خاصةً و أنّهم قد يكونون معذورين بجهلٍ أو تأوّل .
و قد أحسَن التفصيل في هذه المسألة شيخ الإسلام فقال [ في مجموع الفتاوى : 23 / 355 ] :
وأما الصلاة خلف المبتدع فهذه المسألة فيها نزاع وتفصيل فاذا لم تجد اماما غيره كالجمعة التى لا تقام الا بمكان و احد و كالعيدين و كصلوات الحج خلف امام الموسم فهذه تفعل خلف كل بر و فاجر باتفاق أهل السنة و الجماعة و انما تدع مثل هذه الصلوات خلف الأئمة أهل البدع كالرافضة و نحوهم ممن لا يرى الجمعة و الجماعة إذا لم يكن فى القرية إلا مسجد واحد فصلاته فى الجماعة خلف الفاجر خير من صلاته فى بيته منفرداً لئلا يفضى إلى ترك الجماعة مطلقا و أما إذا أمكنه أن لا يصلى خلف المبتدع فهو أحسن و أفضل بلا ريب لكن إن صلى خلفه ففى صلاته نزاع بين العلماء و مذهب الشافعى و أبى حنيفة تصح صلاته و أما مالك و أحمد ففى مذهبهما نزاع و تفصيل و هذا إنما هو فى البدعة التى يعلم أنها تخالف الكتاب و السنة مثل بدع الرافضة و الجهمية و نحوهم فاما مسائل الدين التى يتنازع فيها كثير من الناس فى هذه البلاد مثل مسألة الحرف و الصوت و نحوها فقد يكون كل من المتنازعين مبتدعا و كلاهما جاهل متأول فليس امتناع هذا من الصلاة خلف هذا بأولى من العكس فأما إذا ظهرت السنة و علمت فخالفها واحد فهذا هو الذى فيه النزاع .اهـ .
وفقني الله و إياك لما فيه الخير ، و الحمد لله ربّ العالمين
و الله أعلم و الحمد لله رب العالمين و صلى الله على محمد و آله وصحبه وسلم(/1)
حكم العمل في القضاء بغير ما أنزل الله
السؤال :
ما هو الحكم الشرعي في العمل في مجال القضاء حالياً حيث أنني أعمل قاضياً وأجد حرجاً شديداً عندما أصدر حكماً يخالف شرع الله ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
إنّ الحكم بما أنزل الله فريضة شك فيها و لا ريب ، قال تعالى : ( إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ) [ النساء : 5 ] .
و قال سبحانه : ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ) [ النساء : 58 ] .
و قد وصف الله تعالى من لم يحكم بحُكمهِ العدلِ بالكفر و الظلم و الفسوق ، في معرض الوعيد الشديد فقال تعالى : ( و َمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) ، و قال : ( وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) و قال أيضاً : ( وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) [ المائدة : 44-45-47 ] .
و أقلّ ما يُحمَل عليه الوصف بهذه الصفات هو الفسق ، و العياذ بالله .
و الأحاديث الواردة في التحذير من القضاء بخلاف الشرع ، أو بما يوافقه و لكن عن جهلٍ كثيرةٌٌٌ ، و من أشهرها ما رواه الترمذي و أبو داود و ابن ماجة عَنِ عبد الله بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : « الْقُضَاةُ ثَلاَثَةٌ وَاحِدٌ فِى الْجَنَّةِ وَاثْنَانِ فِى النَّارِ فَأَمَّا الَّذِى فِى الْجَنَّةِ فَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ و رَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَجَارَ فِى الْحُكْمِ فَهُوَ فِى النَّارِ وَ رَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِى النَّارِ » .
جاء في عون المعبود في شرح سنن أبي داود تعليقاً على هذا الحديث : و الحديث دليل على أنه لا ينجو من النار من القضاة إلا من عرف الحق و عمل به , و العمدة العمل , فإن من عرف الحق و لم يعمل فهو و من حكم بجهل سواء في النار , و ظاهره أن من حكم بجهل و إن وافق حكمه الحق فإنه في النار لأنه أطلقه و قال : ( فقضى للناس على جهل ) فإنه يصدق على من وافق الحق و هو جاهل في قضائه أنه قضى على جهل , و فيه التحذير من الحكم بجهل أو بخلاف الحق مع معرفته .اهـ .
و جاءت السنّة المطهّرة بالتحذير من ولاية القضاء لمن لا يقدر على إنفاذ حكم الله تعالى فيما شجر فيه الخلاف بين المتخاصمين ، فقد روى الترمذي و أبو داود و ابن ماجه و أحمد و الدارقطني و الحاكم و البيهقي بإسناد حسن عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : « مَنْ وَلِىَ الْقَضَاءَ أَوْ جُعِلَ قَاضِياً بَيْنَ النَّاسِ فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ » .
قال صاحب التحفة : ( فقد ذُبح ) بصيغة المجهول ( بغير سكين ) قال ابن الصلاح : المراد ذبح من حيث المعنى لأنه بين عذاب الدنيا إن رشد وبين عذاب الآخرة إن فسد . وقال الخطابي ومن تبعه إنما عدله عن الذبح بالسكين ليعلم أن المراد ما يخاف من هلاك دينه دون بدنه وهذا أحد الوجهين . والثاني أن الذبح بالسكين فيه إراحة للمذبوح , وبغير السكين كالخنق وغيره يكون الألم فيه أكثر فذكر ليكون أبلغ في التحذير .
و هذا كلّه قبل أن تُبتلى الأمّة بإقصاء الشريعة عن الحكم ، و تبنِّي قوانين الغرب المستوردة ، و شرائع البشر ، فكيف بما آلت إليه أحوال المسلمين اليوم .
فاحذر أخي الكريم من الركون إلى الوظائف المفضية إلى الحكم بغير ما أنزل الله ، و منها تولي القضاء على الصفة التي ذكرتها في سؤالك ، مع عدم قدرتك على التغيير أو الصدع بالحق ، و اعلم أن الإقدام على تولي القضاء بغير الشريعة من كبائر الذنوب في أقلّ أقوال أهل العلم ، و قد يكون كفراً أكبر إذا اعتقد من تلبّس به أنّه جائز أو فضّله على الشريعة الغراء أو ساواه بها ، مع أن الراجح الذي ندين الله تعالى به ، و نتعبّده بإظهاره و الجهر به هو القول بكفر من حكم بغير ما أنزل الله مطلقاً سواء كان ذلك بالتشريع أو المشاركة فيه تحت قباب البرلمانات المعاصرة ، أو بالتنفيذ في القضاء ، أو الفتيا ، أو أيّ صورةٍ من صور الحكم بغير ما أنزل الله ، أو التحاكم إليه ، إعمالاً لظاهر النصوص ، و إعمال النص أولى من إهماله ، و الله الموفق .
و إنّي أربأ بنفسي و بإخواني أن نكون مطيّة للحكام الظلمة ، أو المشرّعين المبدّلين ، أو أعواناً لهم على الحكم بغير ما أنزل الله ، كي لا نُذبَح بغير سكّين .
و الله المستعان ، و صلى الله و سلّم و بارك على نبيّنا محمّد و آله و صحبه أجمعين .(/1)
حكم العمل في تصنيع المحرّمات أو الاتجار فيها
السؤال :
يعمل والدي في شركة تصنِّعُ الدُخان ، فهل كسبه حرام ؟ و هل يجوز أن أذهب للعمرة على هذه النفقات ؟ مع العلم أنّه ليس لدي مصدر آخر للكسب .
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
لا شك عندنا في تحريم التدخين ( تعاطي الدخان ) ، لما يترتب عليه من الإضرار بالصحّة ، و إضاعة المال ، و إيذاء الجلساء و المجاورين ، و وجود أحد هذه الأمور في الفعل كافٍ لتحريمه ، فكيف بها جميعاً ؟!
و من المقرر عند أهل العلم أنّ الله تعالى إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه ، و من ذلك تحريم ثمن الكلب ، و مهر البغيّ ، و حلوان الكاهن ، الثابت في سنن أبي داود و النسائي و مسند أحمد بإسنادٍ صحيح .
و مثل ذلك لعنُ عشرةٍ بسبب الخمرة ، فقد روى الترمذي و ابن ماجة و أحمد عن عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : « لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْخَمْرِ عَشَرَةً : عَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَشَارِبَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ وَسَاقِيَهَا وَبَائِعَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا وَالْمُشْتَرِىَ لَهَا وَالْمُشْتَرَاةَ لَهُ » .
و روى مسلم و الترمذي و أحمد عَنْ جَابِر بن عبد الله رضي الله عنه ، قَال : لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَقَالَ : ( هُمْ سَوَاءٌ ) .
و يُستفاد من مجموع هذه الأخبار أنّ من أعان على حرامٍ فعليه مثل وِزر فاعله ، كما أنّ من أعان على خيرٍ فله مثل أجر فاعله .
فما دام التدخين حراماً فإن ثمنه حرامٌ أيضاً ، و كذلك العمل في تصنيعه ، أو تعليبه ، أو نقله ، أو تسويقه ، أو تقديمه على سبيل الضيافة أو الإهداء ، و كلّ ما ترتّب على هذه الأعمال من عائدٍ مادي ( ثمناً أو إجارةً أو نحو ذلك ) فهو حرام .
و على من ابتُلي بشيءٍ من ذلك أن يتوب إلى الله تعالى ، و يُقلِع عنه على الفور إلا أن يكون مضطراً ، و يلتمس رزقه في بابٍ آخَر ، فأبواب الخير كثيرةٌ ، و من ترك شيئاً لله عوّضه الله خيراً منه .
و إذا أراد الحج أو العمرة فليتخيّر لنفقته فيهما أطيَب ماله ، لأنّ الله طيّبٌ لا يَقبلُ إلا طيّباً ، فإن لم يجد من المال الحلال ما يكفيه مؤونة الزاد و الراحلة فليصبر حتى يوسّع الله عليه ، و ما ذلك على الله بعزيز .(/1)
حكم العمليات الاستشهاديّة
السؤال :
ما حكم الشرع في من يفجّر نفسَه بين ظهرانَي الكفرة المحاربين ، ليوقع فيهم القتل و الرُّعب و يُشرّد بهم من خَلفَهم ، و هل يُعتبَر فِعلُه هذا انتحاريّاً أم استشهاديّاً ؟
الجواب :
الحمد لله ربّ العالمين ، و الصلاة و السلام على نبيّه الأمين ، و آله و صحبه أجمعين و بَعد :
فإنني أرى العمل المسؤول عنه من أفضل الجهاد ، و أحتسب لمن قام به الشهادة ، و فيما يلي توضيح ذلك :
أوّلاً : ما دام الحقّ تعالى قد ( اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) فلا فرق عند من باع نفسه لربّه ، بين رصاصة يستقبلها في صدرِ مقبلٍ غير مدبر ، أو حزام ينسف به الأعداء و إن قطع النياط و مزّق الأشلاء ، ما دام طعم الشهادة واحداً .
روى النسائي و ابن ماجة و أحمد و الدارمي و الترمذي بإسنادٍ صحيح عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : « مَا يَجِدُ الشَّهِيدُ مِنْ مَسِّ الْقَتْلِ إِلاَّ كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ مِنْ مَسِّ الْقَرْصَةِ » .
و قد عرف الصحابة الكرام فمن بعدهم صنوف التضحية بالنفس فأكبروا همّة من من قام بها ، و أوسعوه مدحاً و ثناءً ، و حمَل عددٌ منهم قوله تعالى : ( و من الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضات الله و الله رؤف بالعباد ) على من حمل على العدو الكثير لوحده وغرَّر بنفسه في ذلك ، كما قال عمر بن الخطاب و أبو أيوب لأنصاري و أبو هريرة رضي الله عنهم كما رواه أبو داود و الترمذي و ابن حبان و صححه و الحاكم .
ثانياً : استقرّت القاعدة الفقهيّة ، على أنّ الأعمال بالنيّة ، لما رواه البخاري في الصحيح و مسلم في المقدمة و أبو داوود و ابن ماجة في سننهما عن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رضى الله عنه - قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : « إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى » ، و من التجنّي و مجاوزة الحق ؛ أن نحكم بالانتحار على من يريد الشهادة و يبذل نفسه في سبيل الله ، تحكّماً في نيّته ، و حكماً على ما في قلبه بغير علم ، مع علمنا أنّه لو أراد الانتحار لسلك إليه طرقاً أخرى و ما أكثرها و أيسرها .
قال الحافظ ابن حَجَر في الفتح [8/185 و ما بعدها ] : أما مسألة حمل الواحد على العدد الكثير من العدو ، فصرح الجمهور بأنه إن كان لفرط شجاعته ، و ظنه أنه يرهب العدو بذلك ، أو يجرئ المسلمين عليهم ، أو نحو ذلك من المقاصد الصحيحة فهو حسن ، ومتى كان مجرد تهوّر فممنوع ، ولا سيما إن ترتّب على ذلك وهن في المسلمين ، واللّه أعلم .
و إذا كانت النفس البشريّة مُلكٌ لبارئها و خالقها ، و أنّ العبد مؤتَمَنٌ عَليها ، ليس له أن يتعدّى عليها فيؤذيها أو يزهقها بغير حقّ ، فإن أداء الأمانة في أسمى صُوَرها ، يكون بِبَذلِها لصاحبها و مالكها ، فمن جاد بنفسه طواعيةً في سبيل الله فقد أدّى ما عليه و أمره إلى الله .
ثالثاً : لم يَرَ مُعظم أهل العلم المتقدمين بأساً في الاقتحام و لو أدى إلى مهلكة ، و قرروا ذلك بما روي من أخبار و ما صح من أثار ، و فيما يلي أقوال طائفةٍ منهم مقرونة بطائفة من الأدلّة الشرعيّة :
انتصر لذلك الإمام الشافعي رحمه الله حيث قال ( لا أرى ضيقاً على الرجل أن يحمل على الجماعة حاسراً ، أو يبادر الرجل و إن كان الأغلب أنه مقتول )
و في كلام الشافعي إشارة إلى ما رواه مسلم في صحيحه و أحمد في مسنده عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُفْرِدَ يَوْمَ أُحُدٍ في سَبْعَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ وَرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ فَلَمَّا رَهِقُوهُ قَالَ : « مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ أَوْ هُوَ رفيقي في الْجَنَّةِ » . فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ ثُمَّ رَهِقُوهُ أَيْضاً فَقَالَ : « مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ أَوْ هُوَ رفيقي في الْجَنَّةِ » . فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ السَّبْعَةُ فطوبى لهم مرافقة نبيّهم في الجنّة .
قال الإمام الغزّالي ( لا خلاف في أن المسلم الواحد له أن يهجم على صف الكفار و يقاتل ، و إن علم أنه يقتل .... و إنما جاز له الإقدام إذا علم أنه لا يُقْتل حتى يَقْتل ، أو علم أنه يكسر قلوب الكفار بمشاهدتهم جرأته ، واعتقادهم في سائر المسلمين قلة المبالاة ، وحبهم للشهادة في سبيل اللّه ، فتكسر بذلك شوكتهم ) .(/1)
و في الصحيحين قصّة حملِ سلمة ابن الأكوع و الأخرم الأسدي و أبو قتادة لوحدهم على عيينة بن حصن و من معه ، و ثناء الرسول صلى الله عليه و سلم عليهم بقوله : « كَانَ خَيْرَ فُرْسَانِنَا الْيَوْمَ أَبُو قَتَادَةَ وَخَيْرَ رَجَّالَتِنَا سَلَمَةُ » .
و روى أحمد في المسند عَنْ أَبِى إِسْحَاقَ قَالَ قُلْتُ لِلْبَرَاءِ الرَّجُلُ يَحْمِلُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَهُوَ مِمَّنْ أَلْقَى بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ قَالَ لاَ لأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بَعَثَ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ ( فَقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ ) إِنَّمَا ذَاكَ في النَّفَقَةِ .
و نقل ابن النحاس [ في مشارع الأشواق : 1 / 588 ] عن المهلب قوله : قد أجمعوا على جواز تقحم المهالك في الجهاد ، و نقل عن الغزالي في الإحياء قوله : ولا خلاف في أن المسلم الواحد له أن يهجم على صف الكفار ويقاتل وإن علم أنه يقتل .
و نقل الإمام النووي رحمه الله [ في شرح مسلم : 12 / 187 ] الاتفاق على التغرير بالنفس في الجهاد .
و قال الإمام القرطبي : ( و الصحيح عندي جواز الاقتحام على العساكر لمن لا طاقة له بهم , لأنّ فيه أربعة وجوه :
الأول: طلب الشهادة .
الثاني: وجود النكاية .
الثالث : تجرئة المسلمين عليهم .
الرابع : ضعف نفوسهم ليروا أنّ هذا صنع واحد فما ظنك بالجمع ) .
و في سير السلف الصالح من لدُن الصحابة الكرام فمن بعدهم رضي الله عنهم أجمعين صورٌ رائعة ، و نماذج فريدة ، و أدلةٌ ساطعة على العمل الاستشهاديّ و مشروعيّته ، و من ذلك :
ما جاء في قصّة تحصن بني حنيفة يوم اليمامة في بستان لمسيلمة كان يُعرف بحديقة الموت , فلمّا استعصى على المسلمين فتحه ، قال البراء بن مالك ( و هو ممّن إذا أقسم على الله أبَرّه ، كما في سنن الترمذي بإسناد صحيح ) لأصحابه : ضعوني في الجحفة وألقوني إليهم فألقوه عليهم فقاتلهم حتى فتح الباب للمسلمين [رواه البيهقي في سننه الكبرى: 9/44 ، و القرطبي في تفسيره : 2 / 364 ] .
و هذا الفعل ليس له في لغة الإعلام المعاصر تسمية يعرف بها إلا أن يكون عمليّة استشهادية يسميها العلمانيون فدائيّة أو انتحاريّة .
رابعاً : لو نظرنا إلى المسألة بمنظار المصالح و المفاسد لرأينا أنّ الحرص على الشهادة يعوّض نقص العدة و العدد , و يؤثر في العدو أبلغ الأثر المادي و المعنوي ، و من أمثلة ذلك ما نشهده في بيت المقدس و أكناف بيت المقدس ، و ما شهدناه في جنوب السودان من عمليات الدبابين التي ترجمت واقعياً أنّ حبّ المسلم للشهادة يفوق تمسّك الكافر بالحياة .
و لا يمنع من ذلك ما يراه الناظر بعينٍ واحدة ، من همجيّة الرد ، و عنجهيّة العدو ، فإنّ هذه سنّة الله في عباده ، و لنا العزاء في قوله تعالى : ( إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ و تِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ) [ آل عمران : 140 ] و قوله سبحانه : ( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) [ آل عمران : 173 ] ، و قوله جلّ شأنه : ( إن تكونوا تألمون فإنّهم يألمون كما تألمون و ترجون من الله ما لا يرجون ) .
خامساً : من أهل العلم المعاصرين من له في المسألة قولان كالشيخ محمد الصالح العثيمين رحمه الله ، و ما أحد قوليه بأولى من الآخر إذ إنّّّه يبني حكمه على مراعاة المصالح و المفاسد ، فقد سُئل [ في اللقاء الشهري العشرين ] عن شابًّ مجاهد فجّر نفسه في فلسطين فقتل و أصاب عَشرات اليهود ، هل هذا الفعل يعتبر منه انتحاراً أم جهاداً ؟ فأجاب بقوله : ( هذا الشاب الذي وضع على نفسه اللباس الذي يقتل ، أول من يقتل نفسه ، فلا شك أنه هو الذي تسبب في قتل نفسه ، و لا تجوز مثل هذه الحال إلا إذا كان في ذلك مصلحة كبيرة للإسلام ، فلو كانت هناك مصلحة كبيرة ونفع عظيم للإسلام ، كان ذلك جائزاً ) .
فانظر - رحمك الله - كيف راعى المصالح في حُكمه ، و بنى على تحقيق مصلحة كبيرةٍ و نفع عظيم للإسلام قوله ( كان ذلك جائزاً ) ، و اضبط بهذا الضابط سائر كلامه و فتاواه و إن كان ظاهرها التعارض ، فإن الجواب بحسب السؤال ، و الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوّره .(/2)
و مثل هذا الكلام يقال عن موقف العلامّةِ الألباني رحمه الله ، و قد تعرّض رحمه الله إلى تطاول السفهاء و المتعالمين فنسبوا إليه زوراً و بهتاناً أنّه حكم على من يُقتل في عمليّة تفجير استشهاديّة يقوم بها في صفوف العدو بالانتحار ، و الشيخ بريء من ذلك ، و من فتاواه النيّرة في هذا الباب ما هو مثبت بصوته [ في الشريط الرابع و الثلاثين بعد المائة من سلسلة لهدى والنور ] حيث سُئل رحمه الله سؤالاً قال صاحبه : هناك قوات تسمى بالكوماندوز ، فيكون فيها قوات للعدو تضايق المسلمين ، فيضعون – أي المسلمون - فرقة انتحارية تضع القنابل و يدخلون على دبابات العدو، و يكون هناك قتل... فهل يعد هذا انتحاراً ؟
فأجاب بقوله : ( لا يعد هذا انتحاراً ؛ لأنّ الانتحار هو: أن يقتل المسلم نفسه خلاصاً من هذه الحياة التعيسة ... أما هذه الصورة التي أنت تسأل عنها ... بل هذا جهاد في سبيل اللّه... إلا أن هناك ملاحظة يجب الانتباه لها ، وهي أن هذا العمل لا ينبغي أن يكون فردياً شخصياً ، إنما هذا يكون بأمر قائد الجيش ... فإذا كان قائد الجيش يستغني عن هذا الفدائي ، ويرى أن في خسارته ربح كبير من جهة أخرى ، وهو إفناء عدد كبير من المشركين و الكفار، فالرأي رأيه ويجب طاعته، حتى ولو لم يرض هذا الإنسان فعليه الطاعة... ) .
إلى أن قال رحمه الله : ( الانتحار من أكبر المحرمات في الإسلام ؛ لأنّ ما يفعله إلا غضبان على ربه ولم يرض بقضاء اللّه ... أما هذا فليس انتحاراً ، كما كان يفعله الصحابة يهجم الرجل على جماعة من الكفار بسيفه ، و يعمل فيهم بالسيف حتى يأتيه الموت و هو صابر ، لأنه يعلم أن مآله إلى الجنة ... فشتان بين من يقتل نفسه بهذه الطريقة الجهادية و بين من يتخلص من حياته بالانتحار، أو يركب رأسه ويجتهد بنفسه ، فهذا يدخل في باب إلقاء النفس في التهلكة ) .
قلتُ : و لا أزعم – يا عباد الله - في هذه العجالة إجماعاً على مشروعية الاقتحام و التغرير بالنفس للإنكاء بالعدو و ما يقاس عليها من عمليات الاستشهاديين ، بل المسألة خلافيّة ، و نحن نذهب فيها مذهب الجمهور في القول بمشروعيتها و جواز الإقدام عليها.
و أخيراً أوصي إخواني المرابطين في بيت المقدس و أكناف بيت المقدس بأن يبذلوا ما وَسِِِعَهم للإثخان بالعدو ، بأيّ صورةٍ كان الإثخان و على الأمّة قاطبةً يقع واجب النصرة و المؤازرة و لو لادعاء ، و البذل و العطاء .
روى الستّة و أحمد عن زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ الجهني - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ « مَنْ جَهَّزَ غَازِياً فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ غَزَا ، وَمَنْ خَلَفَ غَازِياً فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا » ، فإن فاتنا شَرف الرباط فلا يفوتنا شرف الإمداد ، و لنكن متعاونين على الخير ، متسابقين إليه ، فـ ( لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) كما قال تعالى ، و ( ما نَقَص مالٌ من صدقة ) كما قال نبينا الأمين صلى الله عليه و سلّم في ما رواه مالك و أحمد و الترمذي ، و قال حديث حسن صحيح عن أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه .
و الله المستعان ، و لا حول و لا قوّة إلا بالله العلي العظي(/3)
حكم العمليات الاستشهاديّة
بسم الله الرحمن الرحيم
السؤال :
ما حكم الشرع في من يفجّر نفسَه بين ظهرانَي الكفرة المحاربين ، ليوقع فيهم القتل و الرُّعب و يُشرّد بهم من خَلفَهم ، و هل يُعتبَر فِعلُه هذا انتحاريّاً أم استشهاديّاً ؟
الجواب :
الحمد لله ربّ العالمين ، و الصلاة و السلام على نبيّه الأمين ، و آله و صحبه أجمعين و بَعد :
فإنني أرى العمل المسؤول عنه من أفضل الجهاد ، و أحتسب لمن قام به الشهادة ، و فيما يلي توضيح ذلك :
أوّلاً : ما دام الحقّ تعالى قد ( اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) فلا فرق عند من باع نفسه لربّه ، بين رصاصة يستقبلها في صدرِ مقبلٍ غير مدبر ، أو حزام ينسف به الأعداء و إن قطع النياط و مزّق الأشلاء ، ما دام طعم الشهادة واحداً .
روى النسائي و ابن ماجة و أحمد و الدارمي و الترمذي بإسنادٍ صحيح عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : « مَا يَجِدُ الشَّهِيدُ مِنْ مَسِّ الْقَتْلِ إِلاَّ كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ مِنْ مَسِّ الْقَرْصَةِ » .
و قد عرف الصحابة الكرام فمن بعدهم صنوف التضحية بالنفس فأكبروا همّة من من قام بها ، و أوسعوه مدحاً و ثناءً ، و حمَل عددٌ منهم قوله تعالى : ( و من الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضات الله و الله رؤف بالعباد ) على من حمل على العدو الكثير لوحده وغرَّر بنفسه في ذلك ، كما قال عمر بن الخطاب و أبو أيوب لأنصاري و أبو هريرة رضي الله عنهم كما رواه أبو داود و الترمذي و ابن حبان و صححه و الحاكم .
ثانياً : استقرّت القاعدة الفقهيّة ، على أنّ الأعمال بالنيّة ، لما رواه البخاري في الصحيح و مسلم في المقدمة و أبو داوود و ابن ماجة في سننهما عن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رضى الله عنه - قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : « إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى » ، و من التجنّي و مجاوزة الحق ؛ أن نحكم بالانتحار على من يريد الشهادة و يبذل نفسه في سبيل الله ، تحكّماً في نيّته ، و حكماً على ما في قلبه بغير علم ، مع علمنا أنّه لو أراد الانتحار لسلك إليه طرقاً أخرى و ما أكثرها و أيسرها .
قال الحافظ ابن حَجَر في الفتح [8/185 و ما بعدها ] : أما مسألة حمل الواحد على العدد الكثير من العدو ، فصرح الجمهور بأنه إن كان لفرط شجاعته ، و ظنه أنه يرهب العدو بذلك ، أو يجرئ المسلمين عليهم ، أو نحو ذلك من المقاصد الصحيحة فهو حسن ، ومتى كان مجرد تهوّر فممنوع ، ولا سيما إن ترتّب على ذلك وهن في المسلمين ، واللّه أعلم .
و إذا كانت النفس البشريّة مُلكٌ لبارئها و خالقها ، و أنّ العبد مؤتَمَنٌ عَليها ، ليس له أن يتعدّى عليها فيؤذيها أو يزهقها بغير حقّ ، فإن أداء الأمانة في أسمى صُوَرها ، يكون بِبَذلِها لصاحبها و مالكها ، فمن جاد بنفسه طواعيةً في سبيل الله فقد أدّى ما عليه و أمره إلى الله .
ثالثاً : لم يَرَ مُعظم أهل العلم المتقدمين بأساً في الاقتحام و لو أدى إلى مهلكة ، و قرروا ذلك بما روي من أخبار و ما صح من أثار ، و فيما يلي أقوال طائفةٍ منهم مقرونة بطائفة من الأدلّة الشرعيّة :
انتصر لذلك الإمام الشافعي رحمه الله حيث قال ( لا أرى ضيقاً على الرجل أن يحمل على الجماعة حاسراً ، أو يبادر الرجل و إن كان الأغلب أنه مقتول )
و في كلام الشافعي إشارة إلى ما رواه مسلم في صحيحه و أحمد في مسنده عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُفْرِدَ يَوْمَ أُحُدٍ في سَبْعَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ وَرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ فَلَمَّا رَهِقُوهُ قَالَ : « مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ أَوْ هُوَ رفيقي في الْجَنَّةِ » . فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ ثُمَّ رَهِقُوهُ أَيْضاً فَقَالَ : « مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ أَوْ هُوَ رفيقي في الْجَنَّةِ » . فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ السَّبْعَةُ فطوبى لهم مرافقة نبيّهم في الجنّة .
قال الإمام الغزّالي ( لا خلاف في أن المسلم الواحد له أن يهجم على صف الكفار و يقاتل ، و إن علم أنه يقتل .... و إنما جاز له الإقدام إذا علم أنه لا يُقْتل حتى يَقْتل ، أو علم أنه يكسر قلوب الكفار بمشاهدتهم جرأته ، واعتقادهم في سائر المسلمين قلة المبالاة ، وحبهم للشهادة في سبيل اللّه ، فتكسر بذلك شوكتهم ) .(/1)
و في الصحيحين قصّة حملِ سلمة ابن الأكوع و الأخرم الأسدي و أبو قتادة لوحدهم على عيينة بن حصن و من معه ، و ثناء الرسول صلى الله عليه و سلم عليهم بقوله : « كَانَ خَيْرَ فُرْسَانِنَا الْيَوْمَ أَبُو قَتَادَةَ وَخَيْرَ رَجَّالَتِنَا سَلَمَةُ » .
و روى أحمد في المسند عَنْ أَبِى إِسْحَاقَ قَالَ قُلْتُ لِلْبَرَاءِ الرَّجُلُ يَحْمِلُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَهُوَ مِمَّنْ أَلْقَى بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ قَالَ لاَ لأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بَعَثَ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ ( فَقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ ) إِنَّمَا ذَاكَ في النَّفَقَةِ .
و نقل ابن النحاس [ في مشارع الأشواق : 1 / 588 ] عن المهلب قوله : قد أجمعوا على جواز تقحم المهالك في الجهاد ، و نقل عن الغزالي في الإحياء قوله : ولا خلاف في أن المسلم الواحد له أن يهجم على صف الكفار ويقاتل وإن علم أنه يقتل .
و نقل الإمام النووي رحمه الله [ في شرح مسلم : 12 / 187 ] الاتفاق على التغرير بالنفس في الجهاد .
و قال الإمام القرطبي : ( و الصحيح عندي جواز الاقتحام على العساكر لمن لا طاقة له بهم , لأنّ فيه أربعة وجوه :
الأول: طلب الشهادة .
الثاني: وجود النكاية .
الثالث : تجرئة المسلمين عليهم .
الرابع : ضعف نفوسهم ليروا أنّ هذا صنع واحد فما ظنك بالجمع ) .
و في سير السلف الصالح من لدُن الصحابة الكرام فمن بعدهم رضي الله عنهم أجمعين صورٌ رائعة ، و نماذج فريدة ، و أدلةٌ ساطعة على العمل الاستشهاديّ و مشروعيّته ، و من ذلك :
ما جاء في قصّة تحصن بني حنيفة يوم اليمامة في بستان لمسيلمة كان يُعرف بحديقة الموت , فلمّا استعصى على المسلمين فتحه ، قال البراء بن مالك ( و هو ممّن إذا أقسم على الله أبَرّه ، كما في سنن الترمذي بإسناد صحيح ) لأصحابه : ضعوني في الجحفة وألقوني إليهم فألقوه عليهم فقاتلهم حتى فتح الباب للمسلمين [رواه البيهقي في سننه الكبرى: 9/44 ، و القرطبي في تفسيره : 2 / 364 ] .
و هذا الفعل ليس له في لغة الإعلام المعاصر تسمية يعرف بها إلا أن يكون عمليّة استشهادية يسميها العلمانيون فدائيّة أو انتحاريّة .
رابعاً : لو نظرنا إلى المسألة بمنظار المصالح و المفاسد لرأينا أنّ الحرص على الشهادة يعوّض نقص العدة و العدد , و يؤثر في العدو أبلغ الأثر المادي و المعنوي ، و من أمثلة ذلك ما نشهده في بيت المقدس و أكناف بيت المقدس ، و ما شهدناه في جنوب السودان من عمليات الدبابين التي ترجمت واقعياً أنّ حبّ المسلم للشهادة يفوق تمسّك الكافر بالحياة .
و لا يمنع من ذلك ما يراه الناظر بعينٍ واحدة ، من همجيّة الرد ، و عنجهيّة العدو ، فإنّ هذه سنّة الله في عباده ، و لنا العزاء في قوله تعالى : ( إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ و تِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ) [ آل عمران : 140 ] و قوله سبحانه : ( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) [ آل عمران : 173 ] ، و قوله جلّ شأنه : ( إن تكونوا تألمون فإنّهم يألمون كما تألمون و ترجون من الله ما لا يرجون ) .
خامساً : من أهل العلم المعاصرين من له في المسألة قولان كالشيخ محمد الصالح العثيمين رحمه الله ، و ما أحد قوليه بأولى من الآخر إذ إنّّّه يبني حكمه على مراعاة المصالح و المفاسد ، فقد سُئل [ في اللقاء الشهري العشرين ] عن شابًّ مجاهد فجّر نفسه في فلسطين فقتل و أصاب عَشرات اليهود ، هل هذا الفعل يعتبر منه انتحاراً أم جهاداً ؟ فأجاب بقوله : ( هذا الشاب الذي وضع على نفسه اللباس الذي يقتل ، أول من يقتل نفسه ، فلا شك أنه هو الذي تسبب في قتل نفسه ، و لا تجوز مثل هذه الحال إلا إذا كان في ذلك مصلحة كبيرة للإسلام ، فلو كانت هناك مصلحة كبيرة ونفع عظيم للإسلام ، كان ذلك جائزاً ) .
فانظر - رحمك الله - كيف راعى المصالح في حُكمه ، و بنى على تحقيق مصلحة كبيرةٍ و نفع عظيم للإسلام قوله ( كان ذلك جائزاً ) ، و اضبط بهذا الضابط سائر كلامه و فتاواه و إن كان ظاهرها التعارض ، فإن الجواب بحسب السؤال ، و الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوّره .(/2)
و مثل هذا الكلام يقال عن موقف العلامّةِ الألباني رحمه الله ، و قد تعرّض رحمه الله إلى تطاول السفهاء و المتعالمين فنسبوا إليه زوراً و بهتاناً أنّه حكم على من يُقتل في عمليّة تفجير استشهاديّة يقوم بها في صفوف العدو بالانتحار ، و الشيخ بريء من ذلك ، و من فتاواه النيّرة في هذا الباب ما هو مثبت بصوته [ في الشريط الرابع و الثلاثين بعد المائة من سلسلة لهدى والنور ] حيث سُئل رحمه الله سؤالاً قال صاحبه : هناك قوات تسمى بالكوماندوز ، فيكون فيها قوات للعدو تضايق المسلمين ، فيضعون – أي المسلمون - فرقة انتحارية تضع القنابل و يدخلون على دبابات العدو، و يكون هناك قتل... فهل يعد هذا انتحاراً ؟
فأجاب بقوله : ( لا يعد هذا انتحاراً ؛ لأنّ الانتحار هو: أن يقتل المسلم نفسه خلاصاً من هذه الحياة التعيسة ... أما هذه الصورة التي أنت تسأل عنها ... بل هذا جهاد في سبيل اللّه... إلا أن هناك ملاحظة يجب الانتباه لها ، وهي أن هذا العمل لا ينبغي أن يكون فردياً شخصياً ، إنما هذا يكون بأمر قائد الجيش ... فإذا كان قائد الجيش يستغني عن هذا الفدائي ، ويرى أن في خسارته ربح كبير من جهة أخرى ، وهو إفناء عدد كبير من المشركين و الكفار، فالرأي رأيه ويجب طاعته، حتى ولو لم يرض هذا الإنسان فعليه الطاعة... ) .
إلى أن قال رحمه الله : ( الانتحار من أكبر المحرمات في الإسلام ؛ لأنّ ما يفعله إلا غضبان على ربه ولم يرض بقضاء اللّه ... أما هذا فليس انتحاراً ، كما كان يفعله الصحابة يهجم الرجل على جماعة من الكفار بسيفه ، و يعمل فيهم بالسيف حتى يأتيه الموت و هو صابر ، لأنه يعلم أن مآله إلى الجنة ... فشتان بين من يقتل نفسه بهذه الطريقة الجهادية و بين من يتخلص من حياته بالانتحار، أو يركب رأسه ويجتهد بنفسه ، فهذا يدخل في باب إلقاء النفس في التهلكة ) .
قلتُ : و لا أزعم – يا عباد الله - في هذه العجالة إجماعاً على مشروعية الاقتحام و التغرير بالنفس للإنكاء بالعدو و ما يقاس عليها من عمليات الاستشهاديين ، بل المسألة خلافيّة ، و نحن نذهب فيها مذهب الجمهور في القول بمشروعيتها و جواز الإقدام عليها.
و أخيراً أوصي إخواني المرابطين في بيت المقدس و أكناف بيت المقدس بأن يبذلوا ما وَسِِِعَهم للإثخان بالعدو ، بأيّ صورةٍ كان الإثخان و على الأمّة قاطبةً يقع واجب النصرة و المؤازرة و لو لادعاء ، و البذل و العطاء .
روى الستّة و أحمد عن زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ الجهني - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ « مَنْ جَهَّزَ غَازِياً فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ غَزَا ، وَمَنْ خَلَفَ غَازِياً فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا » ، فإن فاتنا شَرف الرباط فلا يفوتنا شرف الإمداد ، و لنكن متعاونين على الخير ، متسابقين إليه ، فـ ( لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) كما قال تعالى ، و ( ما نَقَص مالٌ من صدقة ) كما قال نبينا الأمين صلى الله عليه و سلّم في ما رواه مالك و أحمد و الترمذي ، و قال حديث حسن صحيح عن أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه .
و الله المستعان ، و لا حول و لا قوّة إلا بالله العلي العظيم .
كتبه
د . أحمد عبد الكريم نجيب
Dr.Ahmad Najeeb
alhaisam@msn.com
===============
بسم الله الرحمن الرحيم
تعيّن الجهاد و مشروعيّة عمليّات الاستشهاد (1)
احصل على نسخة من الخطبة
الخطبة الأولى
أمّة الإسلام !
يوماً بعد يوم تُمتهن كرامة الأمة ، و تهون دماء أبنائها و ديارهم و أعراضهم و مقدساتهم على الأعداء ، و تتداعى عليهم الأمم من كلّ حدب و صوب ، تصوّب سهامها إلى نحورهم ، و تلِغ في دمائهم ، و نحن حيارى بلا خيار ، و سكارى بلا قرار .
يستصرخنا القدس و أهله ، تتحشرج في نفوسهم الحسرة ، و تعتلج في حناجرهم الكلمات ، فيغصون بالدموع ، و يبكون الأمس و اليوم و الغد المجهول .
حتّام يا قُدساه جرحُكِ يَنزفُ *** و إلامَ يَرشُف من دماكِ الأسقُفُ ؟
خمسون عاماً قد مضينَ و نيّفُ *** و العُرب صرعى و المدافع تقصفُ
أيّها المسلمون !
إنّ الله تعالى كتب الجهاد على هذه الأمّة ، و جعله فريضةً قائمة على التعيين أو الكفاية ، ماضيةً إلى يوم القيامة مع كلّ برّ و فاجر لتكون كلمة الله هي العليا و كلمة الذين كفروا السفلى .
و من أعظم ما ابتليت به الأمّة في عصرنا الحاضر ، غياب فريضتين جليلتين تردّت الأمّة بفقدها في دَرَكات الذل و الهوان ، و تداعت عليها الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها ، و هما تنصيب الإمام العادل خليفة المسلمين ، و النفرة للجهاد في سبيل الله تعالى ، لفتح البلاد و قلُوب العباد ، و الإثخان في أهل الكفر و الإلحاد و العناد .(/3)
و تعيّن الجهاد في عدد من الأمصار الإسلاميّة فهبّ المسلمون لنصرة أهلها ، و نفروا خفافاً و ثقالاً ، يدفعون عن إخوانهم صولة العدوّ ، و يشاركونهم شَرف الذود عن حُرُمات المسلمين ، و الإثخان في العتاة المجرمين ، فمنهم من قضى نحبَه و منهم من ينتظر مرابطاً على الثغور في أفغانستان و الشيشان و الفلبين و الصومال و البوسنة و غيرها .
و مع ما تمخّض عنه الجهاد من خيرات رُغم قلّة النصير ، و كثرة النكير ، فإنّ جراحات المسلمين لا تزال نازفة في شرق العالم الإسلاميّ و غَربه ، و لا يكاد يلتئم جُرحٌ حتى يُثلَم ثغر جديد هنا أو هناك ، فيهب لسدّه شبابٌ باعوا نفوسهم لله ، و ذاقوا حلاوة التضحية و الجهاد ، فغبّروا أقدامهم في سبيله ، و عفّروا جباههم بتراب الرباط في ميادينه و على ثغوره ، غير آبهين أو مبالين بصَلَف الطغاة ، و ملاحقة البغاة ، و تخويل بعض الدعاة .
بل تراهم رهباناً في الليل ، فرساناً في النهار ، يقارعون الباطل ، و يصرخون في وجه أهله ( قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ ) [من سورة التوبة الآية 52] .
و إذا لهث القاعدون حول حطام الدنيا ، و تزاحموا بالأكتاف و الأقدام على أبواب الرزق و أسبابه رأيت أهل الثغور أكثر اطمئناناً و إيماناً و تسليماً ، يستحْلون مرارة الرباط ، و يحتملون شظف العيش ، و لا يلتمسون من الدنيا و حطامها إلا ما يلقون تحت ظلال الرماح ، يحدو ركبهم خير البشر ، و أمير الظفر ، الذي قال فيما رواه البخاري معلّقاً و أحمد بإسناد صحيح عَنِ عبد الله ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم : « جُعِلَ رِزْقِى تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِى ، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِى » . فطوبى لمن بايعه على ذلك أو بايع من بايع عليه . ثبت في الصحيحين و سنن النسائي و الترمذي و مسند الإمام أحمد أن يَزِيدَ بْنِ أَبِى عُبَيْدٍ سأل سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ رضي الله عنه : عَلَى أَيِّ شَيءٍ بَايَعْتُمْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ ؟ قَالَ : عَلَى الْمَوْتِ .
فيا حُسنَها من بَيعةٍ ، و يا طِيبَها من مِيتة ، ترى الواحد ممّن ارتضوها يمني نفسه و يؤمّل صاحبه في النصر و التمكين ، و يشدّ على يديه مبايعاً على الصبر و الثبات ، فلا يهولهم جَلل المُصاب ، و لا يسوؤهم الوصف بالعنف و الإرهاب ، و لا يزعزع عزائمهم ، أو يفت في عضُدهم ، سفك الدماء و تطاير الأشلاء ، ما دام ذلك في سبيل الله ، ابتغاءَ مَرضاته ، و رَجاء رِضاه .
و لستُ أُبالي حينَ أُقْتَل مُسلماً *** على أيّ جنبٍ كان في الله مَصرَعي
و ذلك في ذات الإله و إن يشأ *** يبارك على أجزاء شِلوٍ مُمَزّعِ
و إذا كان الحقّ تعالى قد ( اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) فلا فرق عند من باع نفسه لربّه ، بين رصاصة يستقبلها في صدرِ مقبلٍ غير مدبر ، أو حزام ينسف به الأعداء و إن قطع النياط و مزّق الأشلاء ، ما دام طعم الشهادة واحداً .
إني بذلت الروح دون كرامتي *** و سلكتُ دَربَ الموتِ أبغي مَفْخَرا
و غَرَستُ في كفّ المنيّة مُهجتي *** و رَوَيْتُ بالدم ما غَرَستُ فأزهرا
هذا فداء القدس أن يُجدي الفِدا *** و لتُربِ كابولٍ أقدّمُه قِرى
روى النسائي و ابن ماجة و أحمد و الدارمي و الترمذي بإسنادٍ صحيح عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : « مَا يَجِدُ الشَّهِيدُ مِنْ مَسِّ الْقَتْلِ إِلاَّ كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ مِنْ مَسِّ الْقَرْصَةِ » .
غير أنّ من بايعوا الشهيد على هذه الطريق و خَلفوه عليه ، يعزّ عليهم فراقه ، فيبكيه رفاقه ، و يسوؤهم أن لا تُوارى بين ظهرانيهم رُفاته ، و يسوؤنا أكثَر سماع من يشكك في مشروعيّة عَمَله ، و يصدّ الناس عن بلوغ هدفه ، بدعوى أن فعلته انتحاريّة ، و أن ميتته جاهليّة .
و كيف تكون كذلك و قد عرف مثلها عن السلف فأكبروا همّة من من قام بها ، و أوسعوه مدحاً و ثناءً ، و حمَل عددٌ منهم قوله تعالى : ( و من الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضات الله و الله رؤف بالعباد ) على من حمل على العدو الكثير لوحده وغرَّر بنفسه في ذلك ، كما قال عمر بن الخطاب و أبو أيوب لأنصاري و أبو هريرة رضي الله عنهم كما رواه أبو داود و الترمذي و ابن حبان و صححه و الحاكم .(/4)
استقرّت القاعدة الفقهيّة ، على أنّ الأعمال بالنيّة ، لما رواه البخاري في الصحيح و مسلم في المقدمة و أبو داوود و ابن ماجة في سننهما عن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رضى الله عنه - قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : « إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى » ، و من التجنّي و مجاوزة الحق ؛ أن نحكم بالانتحار على من يريد الشهادة و يبذل نفسه في سبيل الله ، تحكّماً في نيّته ، و حكماً على ما في قلبه بغير علم ، مع علمنا أنّه لو أراد الانتحار لسلك إليه طرقاً أخرى و ما أكثرها و أيسرها .
قال الحافظ ابن حَجَر في الفتح [8/185 و ما بعدها ] : أما مسألة حمل الواحد على العدد الكثير من العدو ، فصرح الجمهور بأنه إن كان لفرط شجاعته ، و ظنه أنه يرهب العدو بذلك ، أو يجرئ المسلمين عليهم ، أو نحو ذلك من المقاصد الصحيحة فهو حسن ، ومتى كان مجرد تهوّر فممنوع ، ولا سيما إن ترتّب على ذلك وهن في المسلمين ، واللّه أعلم .
و إذا كانت النفس البشريّة مُلكٌ لبارئها و خالقها ، و أنّ العبد مؤتَمَنٌ عَليها ، ليس له أن يتعدّى عليها فيؤذيها أو يزهقها بغير حقّ ، فإن أداء الأمانة في أسمى صُوَرها ، يكون بِبَذلِها لصاحبها و مالكها ، فمن جاد بنفسه طواعيةً في سبيل الله فقد أدّى ما عليه و أمره إلى الله .
عباد الله !
لم يَرَ مُعظم أهل العلم المتقدمين بأساً في الاقتحام و لو أدى إلى مهلكة ، و ممّن انتصر لذلك الإمام الشافعي رحمه الله حيث قال ( لا أرى ضيقاً على الرجل أن يحمل على الجماعة حاسراً ، أو يبادر الرجل و إن كان الأغلب أنه مقتول )
و في كلام الشافعي إشارة إلى ما رواه مسلم في صحيحه و أحمد في مسنده عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُفْرِدَ يَوْمَ أُحُدٍ في سَبْعَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ وَرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ فَلَمَّا رَهِقُوهُ قَالَ : « مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ أَوْ هُوَ رفيقي في الْجَنَّةِ » . فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ ثُمَّ رَهِقُوهُ أَيْضاً فَقَالَ : « مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ أَوْ هُوَ رفيقي في الْجَنَّةِ » . فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ السَّبْعَةُ فطوبى لهم مرافقة نبيّهم في الجنّة .
قال الإمام الغزّالي ( لا خلاف في أن المسلم الواحد له أن يهجم على صف الكفار و يقاتل ، و إن علم أنه يقتل .... و إنما جاز له الإقدام إذا علم أنه لا يُقْتل حتى يَقْتل ، أو علم أنه يكسر قلوب الكفار بمشاهدتهم جرأته ، واعتقادهم في سائر المسلمين قلة المبالاة ، وحبهم للشهادة في سبيل اللّه ، فتكسر بذلك شوكتهم ) .
و من منظار المصالح و المفاسد أيضأ ، نرى أنّ الحرص على الشهادة يعوّض نقص العدة و العدد , و يؤثر في العدو أبلغ الأثر المادي و المعنوي ، و من أمثلة ذلك ما نشهده في بيت المقدس و أكناف بيت المقدس ، و ما شهدناه في جنوب السودان من عمليات الدبابين التي ترجمت واقعياً أنّ حبّ المسلم للشهادة يفوق تمسّك الكافر بالحياة .
و في الصحيحين قصّة حملِ سلمة ابن الأكوع و الأخرم الأسدي و أبو قتادة لوحدهم على عيينة بن حصن و من معه ، و ثناء الرسول صلى الله عليه و سلم عليهم بقوله : « كَانَ خَيْرَ فُرْسَانِنَا الْيَوْمَ أَبُو قَتَادَةَ وَخَيْرَ رَجَّالَتِنَا سَلَمَةُ » .
و روى أحمد في المسند عَنْ أَبِى إِسْحَاقَ قَالَ قُلْتُ لِلْبَرَاءِ الرَّجُلُ يَحْمِلُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَهُوَ مِمَّنْ أَلْقَى بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ قَالَ لاَ لأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بَعَثَ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ ( فَقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ ) إِنَّمَا ذَاكَ في النَّفَقَةِ .
و نقل ابن النحاس [ في مشارع الأشواق : 1 / 588 ] عن المهلب قوله : قد أجمعوا على جواز تقحم المهالك في الجهاد ، و نقل عن الغزالي في الإحياء قوله : ولا خلاف في أن المسلم الواحد له أن يهجم على صف الكفار ويقاتل وإن علم أنه يقتل .
و نقل الإمام النووي رحمه الله [ في شرح مسلم : 12 / 187 ] الاتفاق على التغرير بالنفس في الجهاد .
و قال الإمام القرطبي : ( و الصحيح عندي جواز الاقتحام على العساكر لمن لا طاقة له بهم , لأنّ فيه أربعة وجوه :
الأول: طلب الشهادة .
الثاني: وجود النكاية .
الثالث : تجرئة المسلمين عليهم .
الرابع : ضعف نفوسهم ليروا أنّ هذا صنع واحد فما ظنك بالجمع ) .
و في سير السلف الصالح من لدُن الصحابة الكرام فمن بعدهم رضي الله عنهم أجمعين صورٌ رائعة ، و نماذج فريدة ، و أدلةٌ ساطعة على العمل الاستشهاديّ و مشروعيّته ، و من ذلك :(/5)
ما جاء في قصّة تحصن بني حنيفة يوم اليمامة في بستان لمسيلمة كان يُعرف بحديقة الموت , فلمّا استعصى على المسلمين فتحه ، قال البراء بن مالك ( و هو ممّن إذا أقسم على الله أبَرّه ، كما في سنن الترمذي بإسناد صحيح ) لأصحابه : ضعوني في الجحفة وألقوني إليهم فألقوه عليهم فقاتلهم حتى فتح الباب للمسلمين [رواه البيهقي في سننه الكبرى: 9/44 ، و القرطبي في تفسيره : 2 / 364 ] .
و هذا الفعل ليس له في لغة الإعلام المعاصر تسمية يعرف بها إلا أن يكون عمليّة استشهادية يسميها العلمانيون فدائيّة أو انتحاريّة .
فإذا سلّمنا بهذا فلا ننسى الوقوف إلى جانب إخواننا في بيت المقدس و أكنافه في الظروف العصيبة التي يمرون بها اليوم ، حيث تراق الدماء و تنتهك الحرمات و تدنّس المقدّسات ، و لو بالدعاء أو العطاء .
أقول قولي هذا و أستغفر الله لي و لكم فاستغفروه و توبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية
أمّة الإسلام !
إن الأصل في المسلم أن لا يكفّ عن تحديث نفسه بالجهاد ، و تهيئة نفسه له إعداداً و استعداداً ، و التطلّع إلى الشهادة في سبيل الله ، فقد روى أبو داوود بإسناد صحيح عن أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : « مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِالْغَزْوِ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ » .
النَفسُ تَبغي في الحياةِ مُناها *** فإلامَ نَلهثُ يا أخيَّ وراها
مَنَّيْتُها دارَ الخلود فأيْقَنَت *** أنْ لستُ أتْبَعُ في الحياة مُناها
يا ضربةً بالسيف تفلِقُ هامةً *** في اللهِ بين عشيّةٍ و ضُحاها
تُرقي إلى الجنّات صاحبَ همّةٍ *** عَلياءَ كلُّ الخَيرِ دونَ عُلاها
و من واظب على ذلك ، فلن يدّخر وسعاً في السعي إلى نيل مناه ، و ربّما دَفعه حبّ الشهادة و التطلّع إليها ، إلى أن يجود بنفسه في عمليّة يغلب على ظنّه أن تُقِلّه إلى مراتب الشهادة في سبيل الله ، ليلقى ربّه محباً للقائه ، روى الشيخان و الترمذي و النسائي و أحمد عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : « مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ » ، و حاشاه تعالى أن يُخلف وعده ، أو يكره لقاء عبدٍ جاد بنفسه في سبيله تعالى .
و لا أزعم – يا عباد الله - في هذه العجالة إجماعاً على مشروعية الاقتحام و التغرير بالنفس للإنكاء بالعدو و ما يقاس عليها من عمليات الاستشهاديين ، بل المسألة خلافيّة ، و تقدّم عرض الإمام القرطبي لقول المخالف فيها ، و ذهابه مذهب الجمهور في القول بمشروعيتها و جواز الإقدام عليها.
و من أهل العلم المعاصرين من له في المسألة قولان كعلامّة نجد الشيخ محمد الصالح العثيمين رحمه الله ، و ما أحد قوليه بأولى من الآخر إذ إنّّّه يبني حكمه على مراعاة المصالح و المفاسد ، فقد سُئل [ في اللقاء الشهري العشرين ] عن شابًّ مجاهد فجّر نفسه في فلسطين فقتل و أصاب عَشرات اليهود ، هل هذا الفعل يعتبر منه انتحاراً أم جهاداً ؟ فأجاب بقوله : ( هذا الشاب الذي وضع على نفسه اللباس الذي يقتل ، أول من يقتل نفسه ، فلا شك أنه هو الذي تسبب في قتل نفسه ، و لا تجوز مثل هذه الحال إلا إذا كان في ذلك مصلحة كبيرة للإسلام ، فلو كانت هناك مصلحة كبيرة ونفع عظيم للإسلام ، كان ذلك جائزاً ) .
فانظر - رحمك الله - كيف راعى المصالح في حُكمه ، و بنى على تحقيق مصلحة كبيرةٍ و نفع عظيم للإسلام قوله ( كان ذلك جائزاً ) ، و اضبط بهذا الضابط سائر كلامه و فتاواه و إن كان ظاهرها التعارض ، فإن الجواب بحسب السؤال ، و الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوّره .
و مثل هذا الكلام يقال عن موقف محدّثِ الديار الشاميّة العلامّةِ الألباني رحمه الله ، و قد تعرّض رحمه الله إلى تطاول السفهاء و المتعالمين فنسبوا إليه زوراً و بهتاناً أنّه حكم على من يُقتل في عمليّة تفجير استشهاديّة يقوم بها في صفوف العدو بالانتحار ، و الشيخ بريء من ذلك ، و من فتاواه النيّرة في هذا الباب ما هو مثبت بصوته [ في الشريط الرابع و الثلاثين بعد المائة من سلسلة لهدى والنور ] حيث سُئل رحمه الله سؤالاً قال صاحبه : هناك قوات تسمى بالكوماندوز ، فيكون فيها قوات للعدو تضايق المسلمين ، فيضعون – أي المسلمون - فرقة انتحارية تضع القنابل و يدخلون على دبابات العدو، و يكون هناك قتل... فهل يعد هذا انتحاراً ؟(/6)
فأجاب بقوله : ( لا يعد هذا انتحاراً ؛ لأنّ الانتحار هو: أن يقتل المسلم نفسه خلاصاً من هذه الحياة التعيسة ... أما هذه الصورة التي أنت تسأل عنها ... بل هذا جهاد في سبيل اللّه... إلا أن هناك ملاحظة يجب الانتباه لها ، وهي أن هذا العمل لا ينبغي أن يكون فردياً شخصياً ، إنما هذا يكون بأمر قائد الجيش ... فإذا كان قائد الجيش يستغني عن هذا الفدائي ، ويرى أن في خسارته ربح كبير من جهة أخرى ، وهو إفناء عدد كبير من المشركين و الكفار، فالرأي رأيه ويجب طاعته، حتى ولو لم يرض هذا الإنسان فعليه الطاعة... ) .
إلى أن قال رحمه الله : الانتحار من أكبر المحرمات في الإسلام ؛ لأنّ ما يفعله إلا غضبان على ربه ولم يرض بقضاء اللّه ... أما هذا فليس انتحاراً ، كما كان يفعله الصحابة يهجم الرجل على جماعة من الكفار بسيفه ، و يعمل فيهم بالسيف حتى يأتيه الموت و هو صابر ، لأنه يعلم أن مآله إلى الجنة ... فشتان بين من يقتل نفسه بهذه الطريقة الجهادية و بين من يتخلص من حياته بالانتحار، أو يركب رأسه ويجتهد بنفسه ، فهذا يدخل في باب إلقاء النفس في التهلكة ) .
من و لا يمنع من ذلك ما يراه الناظر بعينٍ واحدة ، من همجيّة الرد ، و عنجهيّة العدو ، فإنّ هذه سنّة الله في عباده ، و لنا العزاء في قوله تعالى : ( إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ و تِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ) [ آل عمران : 140 ] و قوله سبحانه : ( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) [ آل عمران : 173 ] ، و قوله جلّ شأنه : ( إن تكونوا تألمون فإنّهم يألمون كما تألمون و ترجون من الله ما لا يرجون ) .
عباد الله !
روى الستّة و أحمد عن زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ الجهني - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ « مَنْ جَهَّزَ غَازِياً فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ غَزَا ، وَمَنْ خَلَفَ غَازِياً فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا » ، فإن فاتكم شَرف الرباط فلا يفوتنّكم شرف الإمداد ، و لنكن متعاونين على الخير ، متسابقين إليه ، فـ ( لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) كما قال تعالى ، و ( ما نَقَص مالٌ من صدقة ) كما قال نبيكم الأمين في ما رواه مالك و أحمد و الترمذي ، و قال حديث حسن صحيح عن أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه .
وفّقني الله و إيّاكم لخيرَيْ القول و العمَل ، و عضمنا من الضلالة و الزلل
و صلّى الله و سلّم و بارك على نبيّّّه محمّد و آله و صحبه أجمعين
---------
(1) ( خطبة الدكتور أحمد بن عبد الكريم نجيب في مسجد دَبلِن بإيرلندا في التاسع و العشرين من شهر الله المحرّم عام 1423 للهجرة ، الموافق للثاني عَشَر من نيسان 02 20 للميلاد )
كتبه
د . أحمد عبد الكريم نجيب
Dr.Ahmad Najeeb
alhaisam@msn.com(/7)
حكم القروض الزراعيّة
السؤال :
تقوم الحكومة الجزائرية بدعم الفلاحين في بعض المشاريع الزراعيّة بتقديم نسبة مئوية من تكلفة المشروع للفلاح ، و على الفلاّح أن يدفع النسبة الباقية من تكلفة المشروع بنفسه .
و إن كان غير قادر على ذلك اقترضها من البنك بدون فوائد .
و يتمّ إنجاز المشروع ( كحفر الأبار مثلا ) من طرف مقاول يختاره الفلاح و إن كان قادرا على إنجازه بنفسه مع عمال قام بذلك ( كغرس النخيل مثلا ) .
لكن لا تقوم الحكومة بدفع النسبة المذكورة أعلاه إلا عن طريق البنك المذكور حيث يأخذ من تكلفة المشروع نسبة 3 بالمائة معتبراً إياها - خدمات و مرتبات للموضفين و نحو ذلك .
كما يشترط على الفلاح المدعوم تأمين المشروع و فتح حساب بنكي بمبلغ يقدر بثلاثة آلاف دينار جزائؤي في البنك الوسيط .
ملاحظات :
1- لا يوجد أي نشاط في البلاد لا يخضع للتأمين حتى مرتبات الموظفين .
2- البنك الوسيط يتعامل بالربا وبغير الربا .
فما حكم الشرع في هذه المعاملة ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
ما ذكره الأخ السائل في مطلع سؤاله من إمكانيّة الحصول على قرض غير ربوي ( بدون فوائد ) ، لا إشكال فيه ، و له أن يقترض ما شاء ممّن شاء إذا تيقّن خلوَّ العقد من الربا المحرّم .
و إذا كانت الدولة أو غيرها من الجهات الدافعة لا تؤدّي إليك حقّك إلا عن طريق مصرِفٍ يقتطع من المبلغ المستحق نسبةً مئويّة قلّت أو كثُرَت ، و أنت مُكره لا خيار لك في ذلك ، فلست آكلاً للربا و لا موكلاً له ، و الإثم على معطيه و آخِذه .
و ما مَثل هذه الحالة إلا كمثل ما تقوم به بعض الحكومات و الشركات الكبرى التي تؤدّي رواتب الموظّفين و العمّال عن طريق المصارف الربويّة حصراً ، فتشترط على الموظّف فتح حسابٍ جارٍ باسمه ، و تودع راتبَه الشهريّ في حسابه مباشرةً ، و لا تُعطيه حقّه نقداً ( يداً بيدٍ ) و إن طلب ذلك و أصرَّ عليه ، فلا يقَع الإثم عليه في هذه الحال ، و عليه أن يَقبضَ ما يودَع في حسابه من مال فورَ تمكّنه كي لا تترتب عليه زيادةٌ رِبويّة عائدةٍ له أو للمصرِف .
و عليه فإذا كان للأخ السائل خيارٌ في استلام القرض مباشرةً من المقرِض ، فلا يجوز له غير ذلك ، أمّا إن أُكرهَ على القَبض عن طريق المصرف ، فلا بأس في ذلك ، و الإثم على من ألجأه إليه ، و أكرهه عليه .
ثمّ لا أدري إن كانت زيادة الثلاثة في المائة ( المذكورة في السؤال ) تُدفَع مرّة واحدة خلال مدة العقد التي قد تطول ، أو تُدفع مرّةً كلّ سنةٍٍٍ ، فإن كانت تؤدى مرّةً واحدةً لِقاء خدمات مُحدّدةٍ معلومة ، لا يؤثّر فيها تأخر السداد ، فقد يكون الأمر لقاء خدمات مصرفيّة حقّاً ، و مع ذلك فلا بدّ من التأكد قبل إجراء العقد ، فإذا انتفى الربا يقيناً ، و تمّ الاتفاق على أجرةٍ للخَدمات المقدَّمة من المصرف حقيقةً لا تحايلاً فلا بأس في العقد في هذه الحال و الله أعلم .
أمّا إن كانت هذه الزيادة ، تُدفَع سنوياً ، أو تزيد في حال التأخّر عن السداد ، أو كانت هناك زيادة أخرى - مهما كان مقدارها – يدفعها المقترض مقابل الأجل ؛ فالزيادة في هذه الحال رِبَويّة و لا أثر لتسميتها فوائد أو رسوم خدمات أو غير ذلك في الحكم ، إذ إنّ العبرة في العقود بالمقاصد و المعاني ، لا بالألفاظ و المباني كما هو مقرّر عند أهل العلم .
و على من أراد الحصول على قَرضٍ للزراعة ( الفِلاحة ) أو غيرها أن يحتاط من الربا ، و لا يتوسّع في باب الضرورات ، لأنّ الضرورة تُقدّر بقَدَرِها ، و من ترك شيئاً لله عوّضه الله خيراً منه .
أمّا قول السائل : ( لا يوجد أي نشاط في البلاد لا يخضع للتأمين حتى مرتبات الموظفين ) فالظاهر فيه أنّ التأمين إجباريٌّ في بلد السائل ، و إذا كان كذلك فلا إثمَ على الأفراد المكرهين عليه ، ما لم يُقدموا عليه اختياراً .
أمّا التأمين الاختياري فالبحث فيه يطول ، و الخلاف في آحاد مسائله مشهور ، و ليس هذا مقامَ بيانِه ، لعدَم السؤال عنه .
و كونُ المصرف الوسيط يتعامل بالربا و بغير الربا ، كافٍ لوجوب الشبهة في تعاملاته ، خاصّةً و أنّ بعض المصارف تودِعُ أموال المستثمرين في حسابات تزعم أنّها لا تتعامل فيها بالربا ، بل تعيد إليهم رؤوس أموالهم عندَ الطَلَب بدون زيادةٍ أو نُقصان ، و لا يعني هذا أنّها أبقَت هذه الأموال مجمّدةً في خَزَائنِها ، بل ربّما أُقرِض بعضها و ترتّبت على إقراضه زيادات ربويّة استأثر بها المصرف ، و لم يؤدّها إلى المودِع ، و هذا لا يُخرج المعاملة من دائرةِ المحرّمات ، لوجود الربا فيها و إن لم يقبضه المودِع .(/1)
و لذلك أرى أنّ التعامل مع المصرِف الرِبويِّ محرّمٌ شَرعاً ، لأنّ في ذلك إعانةٌٌٌ على الربا و إن لم يكُن أكلاً مباشراً له ، لأنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَعَنَ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَقَالَ : ( هُمْ سَوَاءٌ ) فيما رواه مسلم و الترمذي و أحمد عَنْ جَابِر بن عبد الله رضي الله عنه .
و بالجملةِ فلا بأس من الحصول على قرضٍ من الدولة إذا خلا من الربا يقيناً ، و إلاّ فلا ، و الله تعالى أعلم .
و أسأل الله تعالى أن يوفقنا و الأخ السائل ، و سائر المسلمين لما فيه صلاح الدنيا و الدين .
و الحمد لله ربّّّ العالمين ، و صلى الله و سلّم و بارك على نبيّنا محمّد و آله و صحبه أجمعين .(/2)
حكم الله يجب تطبيقه ولو كان يعيش مع المسلمين أقلية من غيرهم
تاريخ الفتوى : 07 ذو القعدة 1421 السؤال
هل صحيح أن الحدود الشرعية لا يمكن تطبيقها في دولة متعددة الأديان حتى وإن كان الحكم بيد المسلمين وحتى إن كانت الأغلبية من المسلمين بنسبة 85 بالمئه. لقد أفتى العلماء هنالك بما ذكرت آنفاً أفيدوني جزاكم الله خيراً
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن الواجب على ولي أمر المسلمين - سواء كانوا قلة أم كانوا كثرة - أن يقيم حدود الله تعالى فيهم، ولا يجوز له تعطليها - ولو كانوا قلة - بحجة أن تطبيقها يؤدي إلى مفسدة أعظم، لأن الذي وضع الحدود وخلق العباد هو الله، وهو أعلم بما يصلحهم (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) [الملك :14]، وهو أرحم بهم من أن يكلفهم بما لا يمكن، وهل هناك مفسدة أعظم من سفك الدماء المتزايدة يوما بعد يوم والاعتداء على الأعراض واختلاط الأنساب وإفساد العقول التي هي ميزة الإنسان وخصوصيته التي فضله الله بها على ما سواه من المخلوقات. ولا شك أن تعطيل حدود الله تعالى يزيد في معدل الجريمة ويهون أمرها كما يحصل اليوم في ظل تعطيل حدود الله، والاستعاضة عنها بقوانين وضعية لا تقوم على أي أساس من الحق ولا من العدل، ومما يجدر التنبه له أن تطبيق هذه الحدود، أو أكثرها مقصور على من يعيشون تحت ظل الدولة من المسلمين، أما من يعيشون تحت ظلها من غير المسلمين فلا تطبق عليهم هذه الحدود إلا فيما إذا ترافعوا فيما يجرى بينهم إلى محاكم المسلمين، فلها أن تحكم بينهم ولها أن تعرض عنهم وإذا حكمت بينهم فلتحكم بالقسط.
ولم تخل دولة الإسلام خلال حكمها لشؤون المسلمين ثلاثة عشر قرناً من طوائف من غير المسلمين يعيشون تحت حكمها محفوظة حقوقهم محقونة دماؤهم، أحرار في عباداتهم وفق ضوابط لا يتسع المجال لذكرها، وهي مبسوطة في كتب الفقه، بل إنها قد صنفت فيها كتب تخصها، منها ما يحمل هذا العنوان ( أحكام أهل الذمة ). والله أعلم.(/1)
حكم المشاركة في المجلس التشريعي ...
...
20-03-2005
السؤال: شيخنا الفاضل حفظك الله ورعاك ونفع بعلمك، ما هو حكم المشاركة في الإنتخابات التشريعية الفلسطينية وغيرها من التشريعات الوضعية وجزاك الله خيراً ؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
فليس غريباً أن يرفع بعض المنسلخين عن الشريعة الداعين إلى الخروج عن الأخلاق والقيم راية الكفر والزندقة، ولكن المستغرب حقاً أن تدخل بعض الجماعات التي ترفع راية التوحيد في صفوف الداعين إلى تطبيق أنظمة الكفر والشرك والنفاق على المسلمين، وقد علم هؤلاء يقيناً أن الواجب على المسلم هو الانقياد إلى حكم الله ورسوله ظاهراً وباطناً قال سبحانه: ( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً ). (65) النساء
فهذه الآية الكريمة تدل دلالة واضحة على وجوب الانقياد لحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في كل صغير وكبير، فقوله تعالى: ( فيما شجر ) يتناول الأمور كلها دون استثناء، وقد جعل الله سبحانه هذه الآية شرطاً في صحة الإيمان، أي إن كان إيمانكم إيماناً صحيحاً فهو يقودكم إلى التحاكم إلى الكتاب والسنة ظاهراً وباطناً، ومخالفة ذلك الأمر دليل على عدم صحة الإيمان ، وقد أكد المولى سبحانه على هذا الحكم بالقسم إذ قال سبحانه: ( فلا وربك ) أي يقسم الله سبحانه بنفسه المقدسة أن الزاعمين للإيمان لا يؤمنون حقيقة حتى يخضعوا لحكم الله سبحانه ظاهراً وباطناً، ولم يكتف بذلك أيضاً حتى لا يجدوا في أنفسهم حرجاً من قضاء النبي صلى الله عليه وسلم، ويسلموا له تسليماً فالمؤمن الصادق هو الذي لا يرضى بغير حكم الله حكماً، فهو على علم ويقين بأنه لا يجوز له أن يتخير في مسألة حكم الله سبحانه فيها، قال سبحانه: ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً ). (36) الأحزاب
ففي هذه الآية الكريمة ينفي الله سبحانه عن المؤمنين الخيرة من أمرهم إذا جاءهم الحكم من عند الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومفهوم المخالفة أن الذين يتخيرون بين حكم الله سبحانه وحكم غيره ليسوا بمؤمنين على الحقيقة.
ومن الأمور التي ألزم الله سبحانه بها المؤمنين، التحاكم إلى شرعه المشتمل على كل خير قال سبحانه: ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ). (50) المائدة
فهذه الآيات الكريمة تبين أن الناس إما أن يكونوا خاضعين لحكم الله الحق العدل، وإما أن يكونوا متبعين لأهوائهم غارقين في جاهليتهم، ولا شك من أن المسلم الحق يكون متبعاً لحكم الله سبحانه غير مارق منه، على خلاف أهل الباطل والشبهات فهم متبعون لأهوائهم الجاهلية.
وقد بين الحق سبحانه أن التحاكم إلى غير شرعه كفر وردة قال سبحانه: ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ). (44) المائدة.
وقال سبحانه: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً ). (61) النساء(/1)
والمتتبع لآيات الله سبحانه المتعلقة بالحكم يجد أن الله سبحانه قد حكم على المخالفين لحكمه المتبعين لغير أمره، بالكفر، والظلم، والفسق، والنفاق، أو بعدم الإيمان، وكل هذا يدل على أن مسألة الحكم لا تتعلق بمسائل فرعية، بل هي مسألة من صميم العقيدة لا يزيغ عنها إلا أصحاب الأهواء والشبهات الباطلة الذين لم يترسخ الإيمان في قلوبهم الذين يصفهم الله سبحانه بصريح العبارة بالنفاق والكفر، وذلك أن الخضوع لغير حكم الله خضوع لحكم الطاغوت الذي أمرنا باجتنابه ، قال سبحانه: ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ). (36) النحل
وقال سبحانه: ( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ) . (18) الزمر
بل إن الكفر بالطاغوت شرط لصحة الإيمان وذلك لقوله تعالى: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ). (256) البقرة
فقدم الله سبحانه الكفر بالطاغوت على الإيمان به من باب ارتباط الأمر بلازمه، أي لا يصح الإيمان إلا بالكفر بالطاغوت، فمن لم يكفر بالطاغوت لا يكون مؤمناً في حقيقة الأمر. وهذا ما بينه صلى الله عليه وسلم بقوله: (من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه ). حديث صحيح رواه مسلم
فالذي ينتفع بالشهادة، هو الذي يعبد الله سبحانه وحده، ويكفر بكل ما سواه، ومن تحاكم إلى غير حكم الله سبحانه عالماً غير جاهل، راضياً غير مكره، فقد وقع في الكفر والشرك أعاذنا الله سبحانه من ذلك، ذلك أن التحاكم إلى غير الشرع عبادة لغيره سبحانه قال تعالى: (مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ). (40) يوسف
ففي هذه الآية الكريمة ربط المولى سبحانه الحكم بالعبادة: ( إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ). وقد دل سياق الآية على الحصر، أي لا يكون الحكم إلا لله، فلا يكون لغيره بأي حال أو تحت أي ظرف، بل الواجب على المسلمين أن يُرجعوا الأمور المتنازع فيها إلى حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال سبحانه: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ). (59) النساء
وعليه لا يكون الحكم إلا لله سبحانه، وإن خلاف ذلك كفر وردة عن الإسلام، - لازم هذا القول ليس بلازم أي لا يلزم من قولي هذا إنني أكفر كل من يتحاكم إلى غير شرع الله، فالحكم على المسألة شيء، والحكم على المعين شيء آخر-.
فكل حكم يخالف حكم الله ورسوله فهو كفر، ومن ذلك ما يسمى بالديمقراطية والعلمانية وغيرها من المسميات التي ما أنزل الله بها من سلطان، بل هي محض حكم الطاغوت الذي أُمر المسلمون أن يكفروا به، فلا يُتصور من مسلم فاسق يتحاكم إلى غير شرع الله، لأن ذلك كما بين الله سبحانه كفر، وشتان بين الكفر والمعصية، فالكفر أكبر من الكبائر، فكيف بالمسلم المتبع؟!
وما يسمى بالانتخابات التشريعية، من الكفر لأن ذلك تحاكم إلى غير شرع الله، فهي تعني أن السيادة المطلقة للشعب، فالشعب هو الذي يختار الأحكام التي تطبق عليه، فإن أراد الإسلام يحكم به، وإن أراد غيره فله الخيار، وإن اختلف الشعب في الأمر يرجع الحكم إلى رأي الأغلبية، أي أغلبية الشعب، وهذا لا شك من الكفر البواح وذلك للأمور التالية:
أولاً: أن المؤمن ملزم بالتحاكم إلى شرع الله سبحانه فهو غير مخير في المسألة قال سبحانه: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً ). (36) الأحزاب(/2)
قال ابن كثير: فهذه الآية عامة في جميع الأمور، وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء، فليس لأحد مخالفته ولا اختيار لأحد هاهنا، ولا رأي ولا قول، كما قال تعالى: ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ). النساء:65 وفي الحديث: ( والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به). ولهذا شدد في خلاف ذلك، فقال: ( ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا )، كقوله تعالى: ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ) النور:63. تفسير القرآن العظيم.
وقال الطبري رحمه الله تعالى: يقول تعالى ذكره: لم يكن لمؤمن بالله ورسوله، ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله في أنفسهم قضاء أن يتخيروا من أمرهم غير الذي قضى فيهم، ويخالفوا أمر الله وأمر رسوله وقضاءهما فيعصوهما، ومن يعص الله ورسوله فيما أمرا أو نهيا (فقد ضل ضلالا مبينا) يقول: فقد جار عن قصد السبيل، وسلك غير سبيل الهدي والرشاد. جامع البيان للطبري.
فهذه الآية تبين أنه ليس للمؤمن الخيار إذا قضى الله ورسوله أمراً، بل مخالفة أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ضلال مبين، وجعل الأمر راجعاً إلى رأي الأغلبية يعتبر خروجاً عن أحكام الله سبحانه، فقد بين الله في محكم التنزيل أن الحكم لا يكون إلا له قال سبحانه: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ). (40) يوسف. ويأتي هؤلاء ليقولوا لنا: إن الحكم الذي يطبق علينا هو رأي الأغلبية، فهل بعد ذلك من ضلال؟
ثانياً: جعل الشعب هو مصدر التشريع منازعة لله سبحانه، فالله هو المشرع، ولا حكم مع حكمه، ولا قضاء مع قضائه، قال سبحانه: (وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ). (88) القصص.
وهذا السياق يقتضي الحصر، إذ تقديم ما حقه التأخير، على ما حقه التقديم، من موجبات الحصر، فكما أن العبادة لله سبحانه لا تكون لغيره، كذلك الحكم لا يكون إلا لله، ومن نصّب نفسه مشرعاً من دون الله فقد ضل ضلالاً مبيناً، قال سبحانه: ( أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ). (21) الشورى.
قال ابن كثير: وقوله: ( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ) أي: هم لا يتبعون ما شرع الله لك من الدين القويم، بل يتبعون ما شرع لهم شياطينهم من الجن والإنس، من تحريم ما حرموا عليهم، من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وتحليل الميتة والدم والقمار، إلى نحو ذلك من الضلالات والجهالة الباطلة، التي كانوا قد اخترعوها في جاهليتهم، من التحليل والتحريم، والعبادات الباطلة، والأقوال الفاسدة. تفسير القرآن العظيم لابن كثير.
وقال ابن عاشور رحمه الله تعالى: ومعنى الاستفهام تقضيه ( أم ) التي للإضراب هو هنا للتقريع والتهكم، فالتقريع راجع إلى أنهم شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله، والتهكم راجع إلى من شرعوا لهم من الشرك، فسئلوا عمن شرع لهم دين الشرك: ألهم شركاء آخرون اعتقدوهم شركاء لله في الإلهية وفي شرع الديان كما شرع الله للناس الأديان؟ وهذا تهكم بهم لأن هذا النوع من الشركاء لم يدعه أهل الشرك من العرب. وهذا المعنى هو الذي يساعد تنكير ( شركاء ) ووصفه بجملة ( شرعوا لهم من الدين ). أهـ تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور.
ثالثاً: وضع دستور للشعب من تلقاء نفسه، يعتبر تحاكماً إلى الطاغوت الذي أُمر المسلمون أن يكفروا به قال سبحانه: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً ). (61) النساء.(/3)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في هذه الآيات: ( لكل فريق طواغيت يريدون أن يتحاكموا إليهم وقد أمروا أن يكفروا بهم. وما أشبه حال هؤلاء المتكلمين بقوله سبحانه وتعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60)وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً). (62) النساء.
فإن هؤلاء إذا دعوا إلى ما أنزل الله من الكتاب وإلى الرسول - والدعاء إليه بعد وفاته هو الدعاء إلى سنته - أعرضوا عن ذلك وهم يقولون: إنا قصدنا الإحسان علماً وعملاً بهذه الطريق التي سلكناها والتوفيق بين الدلائل العقلية والنقلية. أ هـ الفتاوى 5/18 .
وقال في تفسير قوله تعالى : ( وَيَقُولُونَ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ(47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ(48)وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ(49)أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ(50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) النور ـ 47 ـ 51.
فبين سبحانه أن من تولى عن طاعة الرسول وأعرض عن حكمه فهو من المنافقين، وليس بمؤمن، وأن المؤمن هو الذي يقول: سمعنا وأطعنا، فإذا كان النفاق يثبت ويزول الإيمان بمجرد الإعراض عن حكم الرسول وإرادة التحاكم إلى غيره، مع أن هذا تركٌ محض، وقد يكون سببه الشهوة، فكيف بالتنقص والسب ونحوه؟ أهـ الصارم المسلول.
قال ابن القيم في أعلام الموقِّعين (1/85): ( ثم أخبر سبحانه أن من تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به الرسول فقد حكّم الطاغوت وتحاكم إليه، والطاغوت كل ما تجاوز به العبد حدَّه من معبود أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله أو يعبدونه من دون الله أو يتبعونه على غير بصيرة من الله أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة له ).أهـ
وقال أيضاً: ( أقسم سبحانه بنفسه على نفي الإيمان عن العباد حتى يُحكِّموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الدقيق والجليل ولم يكتف في إيمانهم بهذا التحكيم بمجرده حتى ينتفي عن صدورهم الحرج والضيق عن قضائه وحكمه ولم يكتف منهم أيضاً بذلك حتى يسلِّموا تسليماً وينقادوا انقياداً ). أهـ إعلام الموقعين 1/86.
وقد أوضحت ذلك في رسالتي – عقيدتنا بين الولاء والبراء –.
رابعاً : إن غير حكم الله سبحانه هو حكم الجاهلية التي أنقذ الله سبحانه المؤمنين منها، قال سبحانه: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ). (103) آل عمران
قال الطبري رحمه الله تعالى في قوله تعالى: (وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ) يعني بقوله جل ثناؤه وكنتم، يا معشر المؤمنين، من الأوس والخزرج، على حرف حفرة من النار. وإنما ذلك مثل لكفرهم الذي كانوا عليه قبل أن يهديهم الله للإسلام. يقول تعالى ذكره: وكنتم على طرف جهنم بكفركم الذي كنتم عليه قبل أن ينعم الله عليكم بالإسلام، فتصيروا بائتلافكم عليه إخوانا، ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا أن تموتوا على ذلك من كفركم، فتكونوا من الخالدين فيها، فأنقذكم الله منها بالإيمان الذي هداكم له. أهـ جامع البيان للطبري.
ولا شك أن الحكم بغير ما أنزل الله سبحانه جاهلية، قال سبحانه: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ). (50) المائدة.(/4)
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: وقوله: ( أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ) .ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات، التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيزخان، الذي وضع لهم اليساق وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها عن شرائع شتى، من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعاً متبعاً، يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ومن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله، حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير، قال الله تعالى: (أفحكم الجاهلية يبغون ) أي: يبتغون ويريدون، وعن حكم الله يعدلون. (ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ) أي: ومن أعدل من الله في حكمه لمن عقل عن الله شرعه، وآمن به وأيقن وعلم أنه تعالى أحكم الحاكمين، وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها، فإنه تعالى هو العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، العادل في كل شيء. أهـ تفسير ابن كثير.
خامساً: التحاكم إلى غير شرع الله سبحانه كفر وشرك: قال تعالى: ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ). (44) المائدة
قال الطبري في تفسير هذه الآية: يقول تعالى ذكره: ومن كتم حكم الله الذي أنزله في كتابه وجعله حكماً بين عباده، فأخفاه وحكم بغيره، كحكم اليهود في الزانيين المحصنين بالتجبيه والتحميم، وكتمانهم الرجم، وكقضائهم في بعض قتلاهم بدية كاملة وفي بعض بنصف الدية، وفي الأشراف بالقصاص، وفي الأدنياء بالدية، وقد سوى الله بين جميعهم في الحكم عليهم في التوراة ( فأولئك هم الكافرون ) يقول: هؤلاء الذين لم يحكموا بما أنزل الله في كتابه، ولكن بدلوا وغيروا حكمه، وكتموا الحق الذي أنزله في كتابه ( هم الكافرون ) يقول: هم الذين ستروا الحق الذي كان عليهم كشفه وتبيينه، وغطوه عن الناس، وأظهروا لهم غيره، وقضوا به، لسحت أخذوه منهم عليه. أهـ جامع البيان.
سادساً: الحكم بغير ما أنزل الله سبحانه اتباع للهوى قال سبحانه: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) . (48) المائدة
قال ابن كثير رحمه الله في هذه الآية: وقوله: (ولا تتبع أهواءهم ) أي: آراءهم التي اصطلحوا عليها، وتركوا بسببها ما أنزل الله على رسوله؛ ولهذا قال: (ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق ) أي: لا تنصرف عن الحق الذي أمرك الله به إلى أهواء هؤلاء من الجهلة الأشقياء. أهـ تفسير ابن كثير.
سابعاً: الحكم بغير ما أنزل الله سبحانه ظلم وفسق، قال سبحانه: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ). (45) المائدة
وقال سبحانه: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ). (47) المائدة
فكل هذه أدلة قاطعة على حرمة التحاكم إلى غير شرع الله سبحانه، فكيف بمن ينصب نفسه مشرعاً من دون الله، أو يرضى بالتشريعات الوضعية التي تناقض شرع الله سبحانه من كل وجه، وتفتح أبواب الضلال والفساد؟
ورغم تلك الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة نجد بعض الجماعات الإسلامية تنادي بالمشاركة في المجالس التشريعية متذرعة بمبررات هي أوهى من خيوط العنكبوت منها:
1 : قصة يوسف عليه السلام:
يستدل هؤلاء بقصة يوسف عليه السلام التي تدل على أن يوسف عليه السلام عمل في حكم الملك الكافر واستلم منصباً وزارياً، واستغله في باب الإصلاح، ونحن موافقون في هذا الأمر لنبي الله يوسف عليه السلام، ولو كان الأمر محرماً لما وقع ذلك من نبي معصوم.(/5)
أقول: سبحان الله كيف يستدلون على مسألة عظيمة بما لا يعرفون، فهم يوفقون بين عمل نبي الله يوسف عليه السلام، وبين دخولهم في المجالس التشريعية ويجعلون الحكم في المسألتين واحداً. ومن كانت عنده مسكة علم بما جاء به الأنبياء يعلم يقيناً أن دعوتهم تتفق على دعوة الناس إلى عبادة الله سبحانه وحده لا شريك له، والتبرؤ من كل ما يعبد من دونه، قال سبحانه: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ). (36) النحل
ومن الطاغوت الذي دعا الأنبياء عليهم السلام إلى اجتنابه، التحاكم إلى غير شرع الله، فهو كما بينت شرك وكفر، فكيف يجوز على نبي من أنبياء الله أن يقع في الكفر والشرك وما أرسله الله سبحانه إلا للدعوة إلى التوحيد؟
ومن ناحية ثانية، فالله سبحانه قال على لسان يوسف عليه السلام: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ). (40) يوسف
فيوسف عليه السلام يدعو صاحبيه إلى توحيد العبادة مبيناً لهما أن الحكم لا يكون إلا لله سبحانه، ثم يقع هو فيما ينهاهما عنه، فهل يقول بذلك مؤمن؟
وأما ما فعله يوسف عليه السلام فلا دخل له بقضية التشريع، فالتشريع شرك لا يقع بمثله عامة من وقر الإيمان في قلوبهم، فكيف بأنبياء الله سبحانه؟
وما أعجبني ذلك الرد الذي قالوا فيه، إن شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا، وهذا الرد أسخف مما قبله إذ لا يكون الشرك جائزاً في ملة الأنبياء السابقين، وهو محرم في شرعة رسولنا صلى الله عليه وسلم، بل الشرك ومنه الحكم بغير ما أنزل الله سبحانه محرم في دين الله عموماً.
2 : الأخذ بالمصالح المرسلة :
ومن أدلة القوم، الأخذ بالمصالح المرسلة، ويعتبرون الغاية مبررة للوسيلة، فهم يدخلون المجالس التشريعية على نية إصلاح الفساد المنتشر في الأنظمة الكفرية، وعليه يجوزون الدخول في تلك المجالس الفاسدة.
أقول وبالله التوفيق: إن هذا التعليل عليل، بل هو أكثر علة من العليل، فإن الغاية لا تبرر الوسيلة أي لا يجوز السير في الطريق المعوج من أجل تحصيل مصلحة شرعية، خاصة إذا كانت القضية متعلقة بمسألة من مسائل العقيدة، وقد بين الله سبحانه أن الواجب على المسلم هو اجتناب الطاغوت لا الانخراط في صفوف الطواغيت من أجل الإصلاح قال سبحانه: ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ ). النحل
واجتناب الشيء هو أن تجعله في ناحية غير الناحية التي تكون فيها، لا أن تلوث نفسك في خبائثه، وعليه لا يجوز للمسلم بأي حال من الأحوال أن يجاري الطواغيت ويركن إليهم، قال سبحانه: ( وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً ) . (75) الإسراء
قال الطبري رحمه الله تعالى: يقول تعالى ذكره: ولولا أن ثبتناك يا محمد بعصمتنا إياك عما دعاك إليه هؤلاء المشركون من الفتنة ( لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا ) يقول: لقد كدت تميل إليهم وتطمئن شيئا قليلاً وذلك ما كان صلى الله عليه وسلم هم به من أن يفعل بعض الذي كانوا سألوه فعله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكر حين نزلت هذه الآية، ما حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا سليمان، قال: ثنا أبو هلال، عن قتادة، في قوله (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تكلني إلى نفسي طرفة عين.
القول في تأويل قوله تعالى: ( إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا ). (75) يقول تعالى ذكره: لو ركنت إلى هؤلاء المشركين يا محمد شيئاً قليلاً فيما سألوك إذن لأذقناك ضعف عذاب الحياة، وضعف عذاب الممات. أهـ جامع البيان.
وقال سبحانه: (فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ) (9) القلم.(/6)
قال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى في تفسيره: يقول الله تعالى، لنبيه صلى الله عليه وسلم: ( فلا تطع المكذبين ) الذين كذبوك وعاندوا الحق، فإنهم ليسوا أهلاً لأن يطاعوا، لأنهم لا يأمرون إلا بما يوافق أهواءهم، وهم لا يريدون إلا الباطل، فالمطيع لهم مقدم على ما يضره، وهذا عام في كل مكذب، وفي كل طاعة ناشئة عن التكذيب، وإن كان السياق في شيء خاص، وهو أن المشركين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم، أن يسكت عن عيب آلهتهم ودينهم، ويسكتوا عنه، ولهذا قال: (ودوا )أي: المشركون ( لو تدهن ) أي: توافقهم على بعض ما هم عليه، إما بالقول أو الفعل أو بالسكوت عما يتعين الكلام فيه، ( فيدهنون ) ولكن اصدع بأمر الله، وأظهر دين الإسلام، فإن تمام إظهاره، بنقض ما يضاده، وعيب ما يناقضه. أهـ تفسير السعدي.
فإذا كان مجرد الركون والمداهنة إثماً عظيماً يستحق أصحابه عليه غضب الله ولعنته، فكيف بمشاركتهم والتعامل معهم بل ومعاونتهم؟.
والقاعدة التي بنى عليها القوم مذهبهم على غير ما يظنون، فالأخذ بالمصالح المرسلة جائزة إذا ما تعارضت مع النصوص الشرعية، أو ما كان في أصله مباحاً يتوصل به إلى العبادة الشرعية، نحو رفع المآذن في المساجد بغية إيصال الصوت إلى أبعد مدى، أو المنبر الذي يوضع للخطيب وغير ذلك من الوسائل التي يستعان بها على فعل الطاعة، أما إن كانت هذه المصالح في أصلها محرمة، فإن العمل بها محرم شرعاً، فهي تفتح أبواب الشرور على أهلها والعياذ بالله، وتؤدي إلى تميع الأحكام الشرعية والتهاون بها، والواجب على المسلمين هو الصدع بدعوتهم وبيان أحكام دينهم من غير خوف أو تردد أو مداهنة أو مداراة قال سبحانه: ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ). (95) الحجر
وهذه الآية الكريمة تضمنت أمرين، الأول: الصدع بالدعوة، والثاني: الإعراض عن المشركين وخطاب الله سبحانه لرسوله، خطاب لأمته، فالواجب على المسلمين أن يصدعوا بما أمروا به من عبادة الله سبحانه، والتبرؤ مما سوى ذلك، ولا ريب أن مشاركة الطواغيت في مثل هذا الأمر العظيم يعتبر كتماناً للحق، ومداهنة للظالمين، وقد علمت أخي الحبيب ما أعد الله سبحانه للمداهنين.
3 : المحافظة على وحدة الصف:
ومن أدلتهم التي يستندون إليها في إباحتهم المشاركة في انتخابات المجلس التشريعي، وحدة الصف واجتماع الكلمة، متذرعين بأن عدم المشاركة يؤدي إلى وقوع فتنة بين المسلمين.
أقول: وهذا قول باطل مخالف لقواعد الحق، فإن الواجب على المسلمين إقامة الولاء والبراء في الحق، لا في الأباطيل، وإقامة الولاء على أساس الوطن أو ما شابهه، من الجاهلية التي أمرنا الله سبحانه ورسوله باجتنابها، فهي مشروع فاشل يبغضه الله ورسوله وصالح المؤمنين، فليس الولاء في الأمة على الأسس الوطنية الواهية النتنة التي من شأنها أن تفرق المسلمين وتخالف بينهم، بل الولاء في المسلمين يقوم على أساس العقيدة قال سبحانه: ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ). (71) التوبة
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: لما ذكر الله تعالى صفات المنافقين الذميمة، عطف بذكر صفات المؤمنين المحمودة، فقال: (بعضهم أولياء بعض ) أي: يتناصرون ويتعاضدون، كما جاء في الصحيح: ( المؤمن للمؤمن كالبنان يشد بعضه بعضا) وشبك بين أصابعه. وفي الصحيح أيضا: ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر). وقوله: ( يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) كما قال تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ):104 آل عمران. وقوله تعالى: ( ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة )أي: يطيعون الله ويحسنون إلى خلقه، (ويطيعون الله ورسوله ) أي: فيما أمر، وترك ما عنه زجر، (أولئك سيرحمهم الله ) أي: سيرحم الله من اتصف بهذه الصفات، (إن الله عزيز حكيم )أي: عزيز، من أطاعه أعزه، فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، (حكيم ) في قسمته هذه الصفات لهؤلاء، وتخصيصه المنافقين بصفاتهم المتقدمة، فإن له الحكمة في جميع ما يفعله، تبارك وتعالى. أهـ تفسير ابن كثير.
وثبت في الأحاديث الصحيحة أن أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعاداة في الله منها ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله ).(/7)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً: ( أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعاداة في الله والحب في الله والبغض في الله ). رواه الطبراني وهو حديث حسن.
فعلى هذا تُبنى العلاقات بين المسلمين، تبنى على الوحدة على أساس العقيدة، لا على أساس القومية والوطنية، بل جعل الله سبحانه كل من يقيم مودته على اعتبار الوطن والقربى من الظالمين قال سبحانه: (لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ). (22) المجادلة.
قال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: أي: لا يجتمع هذا وهذا، فلا يكون العبد مؤمناً بالله واليوم الآخر حقيقة، إلا كان عاملاً على مقتضى الإيمان ولوازمه، من محبة من قام بالإيمان وموالاته، وبغض من لم يقم به ومعاداته، ولو كان أقرب الناس إليه. وهذا هو الإيمان على الحقيقة، الذي وجدت ثمرته والمقصود منه، وأهل هذا الوصف هم الذين كتب الله في قلوبهم الإيمان أي: رسمه وثبته وغرسه غرساً، لا يتزلزل، ولا تؤثر فيه الشبه والشكوك. وهم الذين قواهم الله بروح منه أي: بوحيه، ومعونته، ومدده الإلهي وإحسانه الرباني. وهم الذين لهم الحياة الطيبة في هذه الدار، ولهم جنات النعيم في دار القرار، التي فيها من كل ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، وتختار، ولهم أكبر النعيم وأفضله، وهو أن الله يحل عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم أبدا، ويرضون عن ربهم بما يعطيهم من أنواع الكرامات، ووافر المثوبات، وجزيل الهبات، ورفيع الدرجات بحيث لا يرون فوق ما أعطاهم مولاهم غاية، ولا فوقه نهاية. وأما من يزعم أنه يؤمن بالله واليوم الآخر، وهو مع ذلك مواد لأعداء الله، محب لمن ترك الإيمان وراء ظهره، فإن هذا إيمان زعمي لا حقيقة له، فإن كل أمر لا بد له من برهان يصدقه، فمجرد الدعوى، لا تفيد شيئاً ولا يصدق صاحبها.أهـ تفسير السعدي.
وقال سبحانه: ( قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ). (24) التوبة
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: أمر الله تعالى بمباينة الكفار به، وإن كانوا آباء أو أبناء، ونهى عن موالاتهم إذا (استحبوا ) أي: اختاروا الكفر على الإيمان، وتوعد على ذلك كما قال تعالى: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار )الآية: (22 )المجادلة.
وروى الحافظ أبو بكر البيهقي من حديث عبد الله بن شوذب قال: جعل أبو أبي عبيدة بن الجراح ينعت له الآلهة يوم بدر، وجعل أبو عبيدة يحيد عنه، فلما أكثر الجراح قصده ابنه أبو عبيدة فقتله، فأنزل الله فيه هذه الآية: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر )الآية: 22 المجادلة.
ثم أمر تعالى رسوله أن يتوعد من آثر أهله وقرابته وعشيرته على الله وعلى رسوله وجهاد في سبيله، فقال: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها ) أي: اكتسبتموها وحصلتموها (وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها ) أي: تحبونها لطيبها وحسنها، أي: إن كانت هذه الأشياء (أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا ) أي: فانتظروا ماذا يحل بكم من عقابه ونكاله بكم؛ ولهذا قال: (حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين ).
وقال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا ابن لهيعة، عن زهرة بن معبد، عن جده قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال: والله لأنت يا رسول الله أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه). فقال عمر: فأنت الآن والله أحب إلي من نفسي. فقال رسول الله: (الآن يا عمر)(/8)
انفرد بإخراجه البخاري، فرواه عن يحيى بن سليمان، عن ابن وهب، عن حيوة بن شريح، عن أبي عقيل زهرة بن معبد، أنه سمع جده عبد الله بن هشام، عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا وقد ثبت في الصحيح عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين) وروى الإمام أحمد، وأبو داود - واللفظ له - من حديث أبي عبد الرحمن الخراساني، عن عطاء الخراساني، عن نافع، عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم بأذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم).
وروى الإمام أحمد أيضا عن يزيد بن هارون، عن أبي جناب، عن شهر بن حوشب أنه سمع عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو ذلك وهذا شاهد للذي قبله، والله أعلم. أهـ تفسير ابن كثير.
فالواجب على المسلمين بغض ومعاداة المشاقين لله ولرسوله لا المحافظة عليهم والعمل في أُطرهم، قال سبحانه: (( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ). (4) الممتحنة.
وفقد بينت حكم موالاة الظالمين في رسالتي عقيدتنا بين الولاء والبراء بما يغني عن الإعادة.
ثم يأتي هؤلاء ليقيموا دولتهم على الوحدة الوطنية الجاهلية التي تنسف قواعد الولاء والبراء التي تقوم عليها عقيدة التوحيد.
4 : العمل على تقليل الضرر قدر المستطاع:
يعتبر أولئك القوم أن المشاركة في المجلس التشريعي تؤدي إلى دفع الضرر عن المسلمين قدر المستطاع، فهم يدخلون تلك المجالس - الفاجرة- عملاًً بقاعدة وجوب درء الفتنة عن الأمة.
أقول وبالله التوفيق : إن هذا القول فيه مخالفة صريحة لنصوص الوحيين، الكتاب والسنة، فإن أدلة الكتاب والسنة تدل على أن رفع الضرر عن الأمة لا يكون إلا بتمسكها بالكتاب والسنة، لا بخروجها عن الكتاب والسنة ورضاها بالحلول الجزئية المنطلقة من المداهنة والركون إلى أعداء الله سبحانه، قال سبحانه: (إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ). (120) آل عمران
يقول ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: يرشدهم تعالى إلى السلامة من شر الأشرار وكيد الفجار، باستعمال الصبر والتقوى، والتوكل على الله الذي هو محيط بأعدائهم، فلا حول ولا قوة لهم إلا به، وهو الذي ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. ولا يقع في الوجود شيء إلا بتقديره ومشيئته، ومن توكل عليه كفاه. تفسير ابن كثير.
وقال الطبري رحمه الله تعالى: وأما قوله:( وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا) . فإنه يعني بذلك جل ثناؤه: وإن تصبروا، أيها المؤمنون، على طاعة الله واتباع أمره فيما أمركم به، واجتناب ما نهاكم عنه: من اتخاذ بطانة لأنفسكم من هؤلاء اليهود الذين وصف الله صفتهم من دون المؤمنين، وغير ذلك من سائر ما نهاكم ( وتتقوا) ربكم، فتخافوا التقدم بين يديه فيما ألزمكم وأوجب عليكم من حقه وحق رسوله (لا يضركم كيدهم شيئا)، أي: كيد هؤلاء الذين وصف صفتهم.
ويعني بـ (كيدهم)، غوائلهم التي يبتغونها للمسلمين، ومكرهم بهم ليصدوهم عن الهدى وسبيل الحق.جامع البيان للطبري.
فهذه الآية يبين الله سبحانه فيها، أن المؤمنين إذا صبروا على دينهم، واتقوا ربهم في ما أمرهم به، ونهاهم عنه، لن يضرهم كيد الكافرين شيئاً، و- شيء - اسم جنس جاء في سياق الشرط فدل على عموم، أي لن يضر كيد الكافرين المؤمنين لا بقليل ولا بكثير، ومفهوم المخالفة، أن كيد الكافرين يصيب المؤمنين إذا تخلوا عن الصبر والتقوى.
وقال سبحانه: (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ). (141) النساء(/9)
قال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: أي: تسلطا واستيلاء عليهم، بل لا تزال طائفة من المؤمنين على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، ولا يزال الله يحدث من أسباب النصر للمؤمنين، ودفع لتسلط الكافرين، ما هو مشهود بالعيان. حتى إن (بعض) المسلمين الذين تحكمهم الطوائف الكافرة، قد بقوا محترمين لا يتعرضون لأديانهم ولا يكونون مستصغرين عندهم، بل لهم العز التام من الله، فله الحمد أولا وأخراً، وظاهرا وباطنا.أهـ تفسير السعدي.
والقول في هذه الآية، كالقول في الآية قبلها، فإن - سبيلا- اسم جنس نكرة جاء في سياق النفي فدل على عموم، أي لن يكون هنالك من سبيل للكافرين على المؤمنين، وهذا مع الإيمان الصحيح، ويؤيد ذلك ما رواه مسلم في صحيحه وغيره عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها أو قال من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا).
فالحديث صريح الدلالة بأن الرسول صلى الله عليه وسلم سأل ربه ألا يسلط على أمته عدواً مما سوى أنفسهم، فاستجاب المولى سبحانه دعوة نبيه صلى الله عليه وسلم، وعصم أمة نبيه من تسلط الأعداء عليها حتى يكون ذلك بسبب ذنوبها وغفلتها كما قال سبحانه: ( أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ). (165) آل عمران
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: يقول تعالى: (أولما أصابتكم مصيبة) وهي ما أصيب منهم يوم أحُد من قتلى السبعين منهم، (قد أصبتم مثليها) يعني يوم بدر فإنهم قتلوا من المشركين سبعين قتيلاً، وأسروا سبعين أسيراً (قلتم أنى هذا) أي من أين جرى علينا هذا؟ (قل هو من عند أنفسكم)، عن عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم أحد من العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء، فقتل منهم سبعون، وفر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه، وسال الدم على وجهه، فأنزل اللّه (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنّى هذا قل هو من عند أنفسكم) بأخذكم الفداء رواه ابن أبي حاتم، وهكذا قال الحسن البصري وقوله (قل هو من عند أنفسكم) أي بسبب عصيانكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمركم أن لا تبرحوا من مكانكم فعصيتم، يعني بذلك الرماة، (إن اللّه على كل شيء قدير) أي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا معقب لحكمه. أهـ تفسير ابن كثير.
وقال سبحانه : (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ). (30) الشورى
فهذه الآيات المذكورة تدل على أن ما أصاب المسلمين إنما هو بما كسبت أيديهم، بل ترك لنا القرآن عبرة في غزوة أحد إلى يوم القيامة قال سبحانه: ( وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ). (152) آل عمران
جاء في تفسير القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة: قال محمد ابن كعب القرظي: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد أحد وقد أصيبوا قال بعضهم لبعض: من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر! فنزلت هذه الآية. وذلك أنهم قتلوا صاحب لواء المشركين وسبعة نفر منهم بعده على اللواء، وكان الظفر ابتداء للمسلمين غير أنهم اشتغلوا بالغنيمة، وترك بعض الرماة أيضا مركزهم طلبا للغنيمة فكان ذلك سبب الهزيمة.(/10)
روى البخاري عن البراء بن عازب قال: لما كان يوم أحد ولقينا المشركين أجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم أناسا من الرماة وأمَّر عليهم عبدالله بن جبير وقال لهم: (لا تبرحوا من مكانكم إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا وإن رأيتموهم قد ظهروا علينا فلا تعينونا عليهم) قال : فلما التقى القوم وهزمهم المسلمون حتى نظرنا إلى النساء يشتددن في الجبل، وقد رفعن عن سوقهن قد بدت خلاخلهن فجعلوا يقولون: الغنيمة الغنيمة. فقال لهم عبدالله: أمهلوا! أما عهد إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تبرحوا، فانطلقوا فلما أتوهم صرف الله وجوههم وقتل من المسلمين سبعون رجلا. ثم إن أبا سفيان بن حرب أشرف علينا وهو في نشز فقال: أفي القوم محمد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تجيبوه) حتى قالها ثلاثا. ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ ثلاثا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تجيبوه) ثم قال: أفي القوم عمر بن الخطاب؟ ثلاثا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تجيبوه) ثم التفت إلى أصحابه فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا. فلم يملك عمر رضي الله عنه نفسه دون أن قال: كذبت يا عدو الله! قد أبقى الله لك من يخزيك به. فقال: اعْلُ هُبَل؛ مرتين. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أجيبوه) فقالوا: ما نقول يا رسول الله؟ قال: (قولوا الله أعلى وأجل). قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، (أجيبوه). قالوا: ما نقول يا رسول الله؟ قال: قولوا (الله مولانا ولا مولى لكم). قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، أما إنكم ستجدون في القوم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني.
وفي البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد القتال. وفي رواية عن سعد: عليهما ثياب بيض ما رأيتهما قبل ولا بعد. يعني جبريل وميكائيل. وفي رواية أخرى: يقاتلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد القتال ما رأيتهما قبل ذلك اليوم ولا بعده. وعن مجاهد قال: لم تقاتل الملائكة معهم يومئذ، ولا قبله ولا بعده إلا يوم بدر. قال البيهقي: إنما أراد مجاهد أنهم لم يقاتلوا يوم أحد عن القوم حين عصوا الرسول ولم يصبروا على ما أمرهم به. وعن عروة بن الزبير قال: وكان الله عز وجل وعدهم على الصبر والتقوى أن يمدهم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين: وكان قد فعل؛ فلما عصوا أمر الرسول وتركوا مصافهم وترك الرماة عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ألا يبرحوا من منازلهم، وأرادوا الدنيا، رفع عنهم مدد الملائكة، وأنزل الله تعالى (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه): آل عمران 152. فصدق الله وعده وأراهم الفتح، فلما عصوا أعقبهم البلاء. وعن عمير ابن إسحاق قال: لما كان يوم أحد انكشفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسعد يرمي بين يديه، وفتى ينبل له، كلما ذهبت نبلة أتاه بها. قال ارم أبا إسحاق. فلما فرغوا نظروا من الشاب؟ فلم يروه ولم يعرفوه. وقال محمد بن كعب: ولما قتل صاحب لواء المشركين وسقط لواؤهم، رفعته عمرة بنت علقمة الحارثية؛ وفي ذلك يقول حسان:
فلولا لواء الحارثية أصبحوا يباعون في الأسواق بيع الجلائب
و ( تحسونهم) معناه تقتلونهم وتستأصلونهم. (بإذنه) بعلمه، أو بقضائه وأمره. (حتى إذا فشلتم) أي جبنتم وضعفتم. يقال فشل يفشل فهو فشِل وفشْل. وجواب (حتى) محذوف، أي حتى إذا فشلتم امتحنتم. ومثل هذا جائز كقوله (فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء): الأنعام 35 فافعل. وقال الفراء: جواب (حتى)، (وتنازعتم) والواو مقحمة زائدة؛ كقوله (فلما أسلما وتله للجبين. وناديناه): 103 - 104 الصافات أي ناديناه (وعصيتم). أي حتى إذا فشلتم وتنازعتم عصيتم. وعلى هذا فيه تقديم وتأخير، أي حتى إذا تنازعتم وعصيتم فشلتم. وقال أبو علي: يجوز أن يكون الجواب (صرفكم عنهم)، و- ثم- زائدة، والتقدير حتى إذا فشلتم وتنازعتم وعصيتم صرفكم عنهم.(/11)
وجوز الأخفش أن تكون زائدة؛ كما في قوله تعالى (حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم): 118 التوبة. وقيل (حتى) بمعنى - إلى- وحينئذ لا جواب له، أي صدقكم الله وعده إلى أن فشلتم، أي كان ذلك الوعد بشرط الثبات. ومعنى(تنازعتم) اختلفتم؛ يعني الرماة حين قال بعضهم لبعض: نلحق الغنائم. وقال بعضهم: بل نثبت في مكاننا الذي أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالثبوت فيه. (وعصيتم) أي خالفتم أمر الرسول في الثبوت. (من بعد ما أراكم ما تحبون) يعني من الغلبة التي كانت للمسلمين يوم أحد أول أمرهم؛ وذلك حين صرع صاحب لواء المشركين على ما تقدم، وذلك أنه لما صرع انتشر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وصاروا كتائب متفرقة فحاسوا العدو ضربا حتى أجهضوهم عن أثقالهم. وحملت خيل المشركين على المسلمين ثلاث مرات كل ذلك تنضح بالنبل فترجع مغلوبة، وحمل المسلمون فنهكوهم قتلا. فلما أبصر الرماة الخمسون أن الله عز وجل قد فتح لإخوانهم قالوا: والله ما نجلس ههنا لشيء، قد أهلك الله العدو وإخواننا في عسكر المشركين. وقال طوائف منهم: علام نقف وقد هزم الله العدو؟ فتركوا منازلهم التي عهد إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ألا يتركوها، وتنازعوا وفشلوا وعصوا الرسول فأوجفت الخيل فيهم قتلا. وألفاظ الآية تقتضي التوبيخ لهم، ووجه التوبيخ لهم أنهم رأوا مبادئ النصر، فكان الواجب أن يعلموا أن تمام النصر في الثبات لا في الانهزام. ثم بين سبب التنازع. فقال (منكم من يريد الدنيا) يعني الغنيمة. قال ابن مسعود : ما شعرنا أن أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا وعرضها حتى كان يوم أحد. (ومنكم من يريد الآخرة) وهم الذين ثبتوا في مركزهم، ولم يخالفوا أمر نبيهم صلى الله عليه وسلم مع أميرهم عبدالله بن جبير؛ فحمل خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل عليه، وكانا يومئذ كافرين فقتلوه مع من بقي، رحمهم الله. والعتاب مع من انهزم لا مع من ثبت، فإن من ثبت فاز بالثواب، وهذا كما أنه إذا حل بقوم عقوبة عامة فأهل الصلاح والصبيان يهلكون؛ ولكن لا يكون ما حل بهم عقوبة، بل هو سبب المثوبة. والله أعلم
قوله تعالى (ثم صرفكم عنهم ليبتليكم) أي بعد أن استوليتم عليهم ردكم عنهم بالانهزام. ودل هذا على أن المعصية مخلوقة لله تعالى. وقالت المعتزلة: المعنى ثم انصرفتم؛ فإضافته إلى الله تعالى بإخراجه الرعب من قلوب الكافرين من المسلمين ابتلاء لهم. قال القشيري: وهذا لا يغنيهم؛ لأن إخراج الرعب من قلوب الكافرين حتى يستخفوا بالمسلمين قبيح ولا يجوز عندهم، أن يقع من الله قبيح، فلا يبقى لقوله (ثم صرفكم عنهم) معنى. وقيل: معنى (صرفكم عنهم) أي لم يكلفكم طلبهم.(/12)
قوله تعالى (ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين) أي لم يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة. والخطاب قيل هو للجميع. وقيل: هو للرماة الذين خالفوا ما أمروا به، واختاره النحاس. وقال أكثر المفسرين: ونظير هذه الآية قوله (ثم عفونا عنك): 52 البقرة. (والله ذو فضل على المؤمنين) بالعفو والمغفرة. وعن ابن عباس قال: ما نصر النبي صلى الله عليه وسلم في موطن كما نصر يوم أحد، قال: وأنكرنا ذلك، فقال ابن عباس: بيني وبين من أنكر ذلك كتاب الله عز وجل، إن الله عز وجل يقول في يوم أحد (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه) - يقول ابن عباس: والحَس القتل – (حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين) وإنما عنى بهذا الرماة. وذلك أن النبّي صلى الله عليه وسلم أقامهم في موضع ثم قال: (احموا ظهورنا فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا). فلما غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأباحوا عسكر المشركين انكفأت الرماة جميعا فدخلوا في العسكر ينتهبون، وقد التقت صفوف أصحاب النبّي صلى الله عليه وسلم، فهم هكذا - وشبك أصابع يديه - والتبسوا. فلما أخل الرماة تلك الخلة التي كانوا فيها دخلت الخيل من ذلك الموضع على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فضرب بعضهم بعضا والتبسوا، وقتل من المسلمين ناس كثير، وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أول النهار حتى قتل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعة، وجال المسلمون نحو الجبل، ولم يبلغوا حيث يقول الناس: الغار، إنما كانوا تحت المهراس وصاح الشيطان: قتل محمد. فلم يشك فيه أنه حق، فما زلنا كذلك ما نشك أنه قتل حتى طلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين السعدين، نعرفه بتكفئه إذا مشى. قال: ففرحنا حتى كأنا لم يصبنا ما أصابنا. قال: فرقي نحونا وهو يقول: (اشتد غضب الله على قوم دموا وجه نبيهم). وقال كعب بن مالك: أنا كنت أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين؛ عرفته بعينيه من تحت المغفر تزهران فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين! ابشروا، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقبل. فأشار إليّ أن اسكت. الجامع لأحكام القرآن- بتصرف يسير -.
فالصحابة رضي الله تعالى عنهم فشلوا في غزوة أحد كما هو ظاهر القرآن ( فشلتم ) بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أنه صلى الله عليه وسلم أصيب في تلك الغزوة، والمتتبع لهذا الحادث الجلل، يدرك أن سبب فشل المسلمين في غزوة أحد، ما وقعوا فيه من مخالفة للرسول صلى الله عليه وسلم، والمخالفون بالنسبة لمجموع المجاهدين قلة، فكيف بزماننا هذا الذي كثرت فيه الفتن، وعظمت فيه المحن، وأصبح فيه المعروف منكراً، والمنكر معروفاً وفي الحديث عن زينبوبنت جحش أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فزعاً محمراً وجهه يقول: ( لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح من اليوم من ردم يأجوج مثل هذه وحلق بإصبعين الإبهام والتي تليها، قالت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال : نعم ، إذا كثر الخبث). رواه البخاري.
فالأمة إذا كثر الفساد فيها يترتب عليها الهلاك لا النجاة، وطريق نجاتها لا يكون إلا برجوعها إلى دينها لما جاء في الحديث الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلَّط الله عليكم ذلاً، لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم) أخرجه أبو داود.
بل ما كان تسلط أعدائها عليها إلا بسبب ضعف الإيمان في قلوب أبنائها كما في حديث ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يوشك الأممُ أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها)، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: (بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيل، ولينزعنَّ الله من صدور عدوّكم المهابةَ منكم، وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوهن))، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: (حبّ الدنيا وكراهية الموت) أخرجه أبو داود.
وعليه فإن طريق النجاة، هو الرجوع إلى الكتاب والسنة، لا مشاركة الظالمين في ظلمهم، فقد جاء في الحديث الصحيح عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: ( والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليوشكن اللّه أن يبعث عليكم عقاباً من عنده ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم ). رواه أحمد والترمذي.
وفي رواية قال رسول الله أنه قال: (كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق ولتقصرنه على الحق قصرا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض وليلعننكم كما لعنهم). أخرجه الترمذي أيضا.(/13)
فهذه الأحاديث تدل على وجوب الأخذ على يدي الظالم، لا مشاركته والانطواء تحت رايته إن أرادت الأغلبية ذلك، الواجب على المسلم الحق أن يعتزل أهل الباطل، فإن الله سبحانه لعن بني إسرائيل بسبب عدم تناهييهم عن المنكر كما بين ذلك المولى سبحانه بقوله: ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (78) كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ). (81) المائدة
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: يخبر تعالى أنه لعن الكافرين من بني إسرائيل من دهر طويل، فيما أنزل على داود نبيه، عليه السلام، وعلى لسان عيسى ابن مريم، بسبب عصيانهم لله واعتدائهم على خلقه. قال العوفي، عن ابن عباس: لعنوا في التوراة و في الإنجيل وفي الزبور، وفي الفرقان. ثم بيّن حالهم فيما كانوا يعتمدونه في زمانهم، فقال: (كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون )أي: كان لا ينهي أحد منهم أحدا عن ارتكاب المآثم والمحارم، ثم ذمهم على ذلك ليحذر أن يركب مثل الذي ارتكبوا، فقال: (لبئس ما كانوا يفعلون )؛ وقال الإمام أحمد، رحمه الله: حدثنا يزيد حدثنا شريك بن عبد الله، عن علي بن بذيمة عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي، نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم - قال يزيد: وأحسبه قال: وأسواقهم- وواكلوهم وشاربوهم. فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا فجلس فقال: (لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرا ).
وقال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي، حدثنا يونس بن راشد، عن علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا، اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك. ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قال: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ) إلى قوله: (فاسقون ) ثم قال: ( كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا -أو تقصرنه على الحق قصرا ). وكذا رواه الترمذي وابن ماجه، من طريق علي بن بذيمة، به وقال الترمذي: حسن غريب. ثم رواه هو وابن ماجه، عن بندار، عن ابن مهدى، عن سفيان، عن علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة مرسلا. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج وهارون بن إسحاق الهمداني قالا حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن العلاء بن المسيب، عن عبد الله بن عمرو بن مرة، عن سالم الأفطس، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل من بني إسرائيل كان إذا رأى أخاه على الذنب نهاه عنه تعذيرا، فإذا كان من الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وخليطه وشريكه -وفي حديث هارون: وشريبه، ثم اتفقا في المتن-فلما رأى الله ذلك منهم، ضرب قلوب بعضهم على بعض، ولعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون). ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد المسيء، ولتأطرنه على الحق أطرا أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض، أو ليلعنكم كما لعنهم)، والسياق لأبي سعيد. كذا قال في رواية هذا الحديث. أهـ تفسير ابن كثير.
فالواجب علينا إذا أردنا أن ينصرنا الله سبحانه، هو الأخذ على يدي الظالم، والعمل على إصلاح أنفسنا لا مناصرة الظالمين والدخول فيهم، والركون إليهم بحجة واهية قامت الأدلة على خلافها.
ثم إن الأمر لو كان كما ذهبوا إليه، أي الحصول على مناصب من أجل إصلاح المجتمع، لقبل بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم حين عرض عليه قومه الملك كما جاء ذلك في سيرته صلى الله عليه وسلم، ولكنه قال قوله المشهور: ( والله يا عم: لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه ).
فهذا ما علمنا إياه رسولنا صلى الله عليه وسلم، وهذا ما يجب أن نتأسى به، لا بنيات الأفكار، وحثالة الآراء المخالفة لسبيل المؤمنين.
5 : وجوب طاعة الأمير:(/14)
لقد سمعنا عدداً من الأحباب، ينكرون قضية الدخول في مجلس التشريع المشؤوم، لكنهم يشاركون إخوانهم في الانتخابات تحت ذريعة وجوب طاعة الأمير فيما فيه مصلحة الجماعة.
أقول: إن طاعة الأمير منوطة بطاعته لله سبحانه قال سبحانه: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ). (59) النساء.
وفي الحديث الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ) صححه الألباني في الصحيح الجامع. فطاعة الحكام منوطة بطاعتهم لله ورسوله، فإن خرجوا عن طاعة الله ورسوله فلا طاعة لهم، ويؤكد ذلك ما رواه ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( سيلي أموركم بعدي رجال يطفئون السنة، ويعملون بالبدعة، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فقلت: يا رسول الله إن أدركتهم كيف أفعل؟ قال: تسألني يا ابن أم عبد ماذا تفعل ؟! لا طاعة لمن عصى الله ).
فالطاعة لا تكون إلا بالمعروف، وأما طاعة الأمراء فيما يحلون ويحرمون من غير دليل من الكتاب والسنة، أو في مخالفتهما فهو من الشرك المحذور الذي عاب الله سبحانه على أصحابه قال سبحانه: (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ). (31) التوبة
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: وقوله: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم ). روى الإمام أحمد، والترمذي، وابن جرير من طرق، عن عدي بن حاتم، رضي الله عنه، أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فر إلى الشام، وكان قد تنصر في الجاهلية، فأسرت أخته وجماعة من قومه، ثم من رسول الله صلى الله عليه وسلم على أخته وأعطاها، فرجعت إلى أخيها، ورغبته في الإسلام وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم عدي المدينة، وكان رئيسا في قومه طيئ، وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم، فتحدث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنق عدي صليب من فضة، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم. فقال: ( بلى إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا عدي، ما تقول؟ أيفرك أن يقال: الله أكبر؟ فهل تعلم شيئا أكبر من الله؟ ما يفرك؟ أيفرك أن يقال لا إله إلا الله؟ فهل تعلم من إله إلا الله )؟ ثم دعاه إلى الإسلام فأسلم، وشهد شهادة الحق، قال: فلقد رأيت وجهه استبشر ثم قال: ( إن اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون). وهكذا قال حذيفة بن اليمان، وعبد الله بن عباس، وغيرهما في تفسير: ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) إنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا. وقال السدي: استنصحوا الرجال، وتركوا كتاب الله وراء ظهورهم.أهـ تفسير ابن كثير.
وقال البغوي رحمه الله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا ) أي: علماءهم وقراءهم، والأحبار: العلماء، وأحدها حبر، وحبر بكسر الحاء وفتحها، والرهبان من النصارى أصحاب الصوامع فإن قيل: إنهم لم يعبدوا الأحبار والرهبان؟ قلنا: معناه أنهم أطاعوهم في معصية الله واستحلوا ما أحلوا وحرموا ما حرموا، فاتخذوهم كالأرباب. روي عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال لي: ( يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك). فطرحته ثم انتهيت إليه وهو يقرأ: ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) حتى فرغ منها، قلت له: إنا لسنا نعبدهم، فقال: ( أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتستحلونه ؟) قال قلت: بلى، قال: ( فتلك عبادتهم) .أهـ تفسير البغوي.
ففي هذه الأخبار، جعل المصطفى صلى الله عليه وسلم طاعة الأكابر في معصية الله، عبادة لهم، وهذه الآيات وإن كانت في حق اليهود والنصارى إلا أنها عامة في كل من وقع في ذلك من منطلق عموم الأدلة الدالة على أن الله سبحانه هو وحده المعبود المطاع، وكل طاعة لغيره فيما نهى عنه أو أمر به، هي عبادة لغيره وهي بذلك شرك.
وعليه فالواجب على كل مسلم أن يتبع الكتاب والسنة وأن لا يتعداهما بحال، فهما الحق المبين، وهما الصراط المستقيم، والله سبحانه أعلم.
فإن قيل لنا: إذا ما شاركنا القوم في ضلالهم وغيهم، هل نقف مكتوفي الأيدي نتفرج؟ أم يجب علينا أن نعمل وإن وقعنا في بعض المخالفات الشرعية من باب الأخذ بقاعدة أخف الضررين.(/15)
أقول: أ : إن المشاركة في الانتخابات التشريعية، هي رضى بالكفر، ولا يجوز أن يقع الإنسان في الكفر في حال إلا إذا أكره وقلبه مطمئن بالإيمان لقوله تعالى: ( مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ). (106)النحل
وهذه الآية واضحة الدلالة بأنه لا يجوز الوقوع في الكفر إلا لمن أكره وقلبه مطمئن بالإيمان بالقول دون العمل، ولا بد أن يكون الإكراه ملجأ وإلا فلا، ولا شك من أن الأمر ما وصل إلى درجة التفكير ناهيك عن الوقوع فيه فعلاً ، بل إن المدقق في الواقع العام المحقق لفقهه يجد أن المصلحة الشرعية تقتضي عدم المشاركة إن كانت المشاركة مباحة، فكيف إذا كانت محرمة؟
ب: إن ما يعقده الفلسطينيون من عقود بينهم وبين يهود، عقود لا يعول عليها، إذ لا عهد ليهود قال سبحانه: ( أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ). (100) البقرة وقال الحسن البصري في قوله: (بل أكثرهم لا يؤمنون ) قال: نعم، ليس في الأرض عهد يعاهدون عليه إلا نقضوه ونبذوه، يعاهدون اليوم، وينقضون غدا. نقلاً عن تفسير ابن كثير.
فاليهود لا عهود لهم، وما تقوم عليه الأسس التشريعية الفلسطينية هو على ما يتم الاتفاق عليه بين الجانبين – الفلسطيني واليهودي – فهو قائم على شفا جرف هار لا أسس له، فكيف بجماعة تؤمن بكلام الله سبحانه الدال على عدم إيفاء اليهود بعهودهم، ثم يبرمون معهم عهوداً مغلظة في أكثر القضايا تعقيداً ؟
ج: من المعلوم لكل ذي بصيرة بدينه، أن من المستحيل أن يوافق اليهود على استلام أي جماعة من الجماعات الإسلامية زمام الأمور إن قدر لها الفوز في الانتخابات الباطلة، بل هم يسعون جاهدين من أجل القضاء على المظاهر الإسلامية، والحيلولة دون رجوع المسلمين إلى سابق عهدهم المجيد، وها نحن نراهم ينفقون الأموال، ويحركون أذنابهم في كل مكان من أجل إخراج الناس من النور إلى الظلمات، وتثبيت عروشهم وهيمنتهم على العالم أجمع، وهم يدركون خطورة استلام أي جماعة صادقة زمام الأمور، لأن في ذلك تهديداً لوجودهم، وعليه فلن يسمح اليهود بشكل من الأشكال أن تفوز جماعة إسلامية في ما يسمى بالانتخابات المزعومة الباطلة، وإن حصل لها الفوز، فسيعمل اليهود على نقض ما أبرموا من عهود، ويعملوا على تغير سياستهم حفاظاً على أمنهم، ويدّعون بعد ذلك أنهم يريدون السلام، وإبرام عهود مع أناس غير إرهابيين مما يؤدي ذلك إلى الضغط على عملائها للتسبب في زعزعة داخلية تؤول نهاية إلى حرب أهلية يذهب ضحيتها العديد من أبناء هذا الشعب، كما هو الحال في الجزائر نسأل الله العفو والعافية.
وما أقوله هو قراءة لحقيقة الواقع ـ وهي ما لا يختلف عليه أهل فلسطين ، فهل بعد ذلك من عذر لمن يشارك في الانتخابات التشريعية بحجة رفع الضرر عن المسلمين في فلسطين من خلال أعمال تساعد على تأجج الواقع لا رفع الضرر والحرج عنه.
وخلاصة الأمر:
إن المشاركة في الانتخابات التشريعية لا تجوز بأي حال من الأحوال على ما ذكرنا من أدلة شرعية من أبرزها: أن الانتخابات هي حكم الشعب للشعب، وهذا مبدأ كفري يقوم على أساس السيادة للشعب لا لله سبحانه، وعليه لا يجوز لأي مسلم المشاركة فيها، أو الدعوة إليها، أو بذل أي عون يؤدي إلى عقدها والله سبحانه أعلى واعلم.
وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم
وكتب: إبراهيم بن عبد العزيز بركات
9 صفر 1426 هـ(/16)
حكم المشاركة في المجلس التشريعي الفلسطيني
(دراسة فقهية)
الحمد لله الذي هدانا لخير دين ، فأزال به ظلمات الكفر والشرك، وأضاء لنا به القلوب والعقول، ووفقنا لإتباع خير هدي، هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي أقام هذا الدين باذلاً الغالي والنفيس، مبتغياً وجه ربه، وعلى من اتبع هداه، وبعد: يقول الله تعالى:- ] فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [. [التوبة/ 122] فأرشد سبحانه إلى ضرورة أن يكون في الأمة من يفقهها في دينها، ويبين لها الحق من الباطل، وأناط ذلك بأهل العلم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ). [البخاري ومسلم]. والفقه دقة الفهم. وقال أيضا: ( ألم يكن شفاء العي السؤال ). [عبد الرزاق في المصنف]. ومعنى العي: الجهل.
لقد كان لقرار المشاركة في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني الذي اتخذته حركة المقاومة الإسلامية - حماس - أصداء واسعة، على جميع المستويات، الشرعية والسياسية والاجتماعية. ونود في هذه النشرة أن نبين لكم الحكم الشرعي في قرار المشاركة، حتى تكونوا على بينة من أمر دينكم، ولنضعكم أمام مسؤولياتكم.
إن الحكم الشرعي في المشاركة في انتخابات المجالس النيابية أو البرلمانية أو التشريعية في العالم العربي والإسلامي، قد وقع فيه خلاف فقهي بين العلماء، فالمسألة ليس فيها نص قاطع بالإباحة أو الحظر، وعليه فاختلاف الآراء فيها أمر لا غرابة فيه، فالصحابة اختلفوا في فهم أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم- ( لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة ). فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيهم. وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منا ذلك. فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يعنف واحدا منهم. [البخاري:3/125]. وكيف يعنف أحداً وهو القائل: ( إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب، فله أجران، وإذا حكم فأخطأ فله أجر واحد ). [البخاري ومسلم]. وفيما يلي بيان وجهتي نظر المانعين والمجيزين، مع عرض أدلة كل فريق، وبيان الرأي الراجح في المسألة.
أولاً: المانعون وأدلتهم
أشهر القائلين بالمنع هم حزب التحرير وجماعات السلفية الجهادية وجماعات التكفير والهجرة. وجملة قولهم: إن هذه المجالس جزء من نظام جاهلي، لا يحكم بشريعة الإسلام، ويَسُنّ القوانين الوضعية، ويحارب الدعاة، ويتطاول على الدين ويستهزئ به. فالمشاركة في مجالس هذه صفتها حرام شرعا. ويستدلون لذلك بالقرآن والسنة والمعقول.
أدلتهم من القران:
1. قال الله تعالى: ] إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [. [يوسف/40]. فالحكم والتشريع لله وحده، وهذه المجالس من مهامها تشريع القوانين، فكيف يجوز دخول مثل هذه المجالس وهي تعتدي على مقام الألوهية بتشريع الأحكام؟! وكيف يرضى دعاة مسلمون أن يكونوا جزءا من المشرعين من دون الله؟!!
وهذا غير مُسَلَّم لهم: حقاً إن التشريع لله وحده، وإن غير شريعة الإسلام باطلة، لكننا نقول: إن الدعاة المشاركين في هذه المجالس لا يُقِرّون ما يخالف شريعة الإسلام، بل يعارضونه وينكرونه، ويعملون على تغييره بألسنتهم وأيديهم ما وسعهم الجهد. يقول الشهيد سيد قطب: ( إن منازعة الله الحكم تخرج المنازع من دين الله، وهذا هو الشرك الذي يخرج أصحابه من دين الله، وكذلك الذين يُقرّون المُنازِعَ على ادعائه، ويدينون له بالطاعة وقلوبهم غير منكرة لاغتصابه سلطان الله وخصائصه، فكلهم سواء في ميزان الله ). [الظلال: 4/242]. فهل الذي يشارك في هذه المجالس لينكر ويغير، يسمى مقِرّاً لهؤلاء على باطلهم؟!!!
ثم إن القوانين التي تُسَنّ في المجالس التشريعية أو البرلمانات على ثلاثة أنواع:
أولا: قوانين تخالف الدين الإسلامي، وهذه لا يسع المسلم المتمسك بدينه إلا أن ينكرها لأنها منكر، فإذا أيد أو سكت فهو مشارك لأهلها في الإثم، كإباحة الخمر.
ثانيا: قوانين مشروعة بنص الكتاب والسنة، وهذه لا يسع المسلم إلا أن يدعمها ويوافق عليها، كبعض أحكام المعاملات، وأحكام الأحوال الشخصية.
ثالثا: قوانين سكت الشرع عنها، فلا هو منعها ولا أمر بها، وهذه يجب على النائب المسلم الذي جعل القران والسنة دليله أن يعرضها على الشرع، فما وافقه أيده، وما عارضه أنكره.
وهكذا نرى أن دعوى المانعين من المشاركة في المجلس التشريعي ليست مسلّمة لهم على إطلاقها، فكما يسع المسلم أن ينكر ما يخالف الشرع في البيت والعمل والشارع والمسجد، فكذلك يمكنه إنكاره في المجالس التشريعية أو البرلمانية، بل إن الإنكار فيها أجدى وأبعد أثرا في الناس والمجتمع.(/1)
2. قوله تعالى: ] وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا [. [النساء/140]. وهذه المجالس فيها أناس يتطاولون على شرع الله ويستهزؤون به ويخوضون في آيات الله، كونها تضم شرائح حزبية متعددة، وبجلوس المسلم معهم يكون مثلهم.
وهذا لا حجة لهم فيه: يقول الشيخ سيد قطب في تفسير هذه الآية: ( فمن سمع الاستهزاء بدينه في مجلس فإما أن يدفع، وإما أن يقاطع المجلس وأهله، فأما التغاضي والسكوت فهو أول مراحل الهزيمة ). [الظلال:2/262].
إذن، فالنهي عن مجالسة المستهزئين هو المقرون بالسكوت عن استهزائهم وكفرهم، أما الرد عليهم وتسفيه أقوالهم وأحلامهم، فهذا واجب المسلم في أي مجلس. ثم يقول: ( وقصر النهي على المجالس التي يكفر فيها بآيات الله ويستهزأ بها، وعدم شموله لكل علاقات المسلمين بهؤلاء المنافقين يبين طبيعة الفترة التي كانت تجتازها الجماعة المسلمة إذ ذاك، والتي يمكن أن تتكرر في أجيال أخرى، كما تبين طبيعة المنهج في أخذ الأمر رويداً رويداً... مع الخطو المطرد نحو تبديل هذا الواقع ). [الظلال:2/262]
3. وقوله سبحانه: ] وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [ [الأنعام/68]. ووجه الدلالة في هذه الآية كالتي قبلها.
ويجاب على هذا الاستدلال بأن النهي عن مجالسة المستهزئين ليس على إطلاقه، بل متى رآهم يخوضون في آيات الله. يقول الشهيد سيد قطب: ( كان الأمر بألا يجلس الرسول - صلى الله عليه وسلم - مجالس الكافرين متى رآهم يخوضون في آيات الله، ويذكرون دينه بغير توقير، ويجعلون الدين موضعا للهزأ والسخرية ) [الظلال:3/272].
ومن ينظر إلى واقع هذه المجالس يرى أن المستهزئين بالدين قلة، والمجال لا يمكنهم من الطعن والغمز في آيات الله، ثم إن المسلم يجب عليه أن يرد عليهم، أو ينسحب من الجلسة حتى يخوضوا في حديث غيره. والتغيير لا يأتي بضربة واحدة، بل بالعمل المتواصل المضني الذي لا يتقنه إلا الرجال الرجال.
4. قوله تعالى: ] وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ [. [هود/113]. والمشاركة في هذه المجالس مع ما فيها من مخالفات لمنهجية هذا الدين، يعد مجاراة للظالمين، وركونا ومساندة لهم، وهذا حرام بنص كتاب الله.
وهذا حق، لكن أين هذا من محل الخلاف؟!! فالنهي منصب على الركون والمساندة، قال الإمام القرطبي:
( الركون حقيقته: الاستناد والاعتماد، والسكون إلى الشيء والرضى به ). [تفسير القرطبي/9/88]. والذي يدخل هذه المجالس للجهر بالحق وإحقاقه، وإنكار المنكر وقمعه، ومحاسبة الظالمين وتكبيتهم، لا يوصف بأنه اعتمد أو رضي.
5. قوله تعالى: ] إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ [. [المائدة/55]. والنواب الذين سيدخلون البرلمان يطلب مهم أداء قسم المحافظة على الدستور والنظام، والدستور والنظام مخالفان للشرع الإسلامي، فما موقف النائب المسلم حين يطلب منه ذلك؟!!!
نقول: يمكن أن يضاف إلى القسم ما يجعله متلائماً مع الشرع، كأن يقول: أقسم بالله العظيم أن أحافظ على الدستور والنظام في غير معصية الله، أو بما لا يخالف دين الدولة الرسمي، وهو الإسلام حسب الدستور نفسه، وقد فعل ذلك النواب الإسلاميون الذين دخلوا هذه المجالس، ولم يثر هذا أدنى مشكلة مع النظم الحاكمة.
أدلتهم من السنة:
يقولون: لم يشارك الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مثل هذه المجالس، فقد كان عند قريش دار الندوة، وهي تشبه المجالس التشريعية والبرلمانية.
ويَرِدُ على هذا الاستلال أمران:
أ) إن مشاركة النبي - صلى الله عليه وسلم - في دار الندوة كان يقتضي منه أن يترك دعوته في تسفيه أحلام قريش وأصنامها، مع أنهم كانوا يودون صده عن الدعوة كلها لولا عمه أبو طالب، ولا يقول أحد ذلك لمن يدخل هذه المجالس، بل نرى أن النائب يقول ما يشاء، حتى لو كان ضد نظام الحكم.
ب) إن المجتمع المكي آنذاك كان كافراً كفراً صريحاً بأفراده ونظامه، وليس مجتمعنا اليوم كذلك، فأفراده مسلمون، والقول بغير هذا يستلزم تكفير المجتمع كله.
أدلتهم من المعقول:(/2)
• المشاركة تكريس للنظام الحاكم الذي يحكم بغير ما أنزل الله. وهذا لا حجة لهم فيه، لأن العمل في أي جهاز وظيفي في الدولة، أو القيام بأي نشاط اقتصادي تقوية للنظام، فالإنسان يسهم في بناء المكان الذي يتحرك فيه بنسب متفاوتة.
• لا يمكن إقامة حكم الله في الأرض عن طريق المشاركة في هذه المجالس، لأن النظم الحاكمة ومن خلفها القوى الاستعمارية، لا يمكن أن تسمح للدعاة بذلك، حتى لو كانوا أغلبية، بل إنهم سينقلبون على نتائج الانتخابات كما حدث في الجزائر.
وهذا الكلام خطأ من ناحيتين:
• أولاً: لم نسمع عن أحد من الدعاة الذين دخلوا هذه المجالس أعلن أنه سيقيم دولة الإسلام من خلال هذه المجالس، كل ما يقولونه: إنهم سيعملون على الجهر بالحق، ومساندة الخير والإصلاح، ودعم الإيجابيات، وتقديم الحلول الإسلامية لمشاكل المجتمع، وإنكار المنكر، ومحاربة الظلم والفساد، ، وقمع الانحلال. بالإضافة إلى تحقيق بعض المصالح للدعوة الإسلامية والدعاة، كحرية العمل الدعوي، ورفع الظلم والبطش عنهم.
• ثانياً: وأما أن النظم الحاكمة ومن يساندها سينقلبون على نتائج الانتخابات، فإن الله قد كلفنا بالعمل ولم يطالبنا بالنتائج، فالكل ينثر الحب ويرجو رحمة ربه. قال الإمام النووي: ( فما كُلِف به المسلم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا فعله ولم يَمْتَثل المُخَاطَب، فلا عتب بعد ذلك على الفاعل، لكونه أدى ما عليه، فإنما عليه الأمر والنهي ).[شرح النووي على مسلم:2/22].
ثانياً: المجيزون وأدلتهم:
هم جمهور علماء الأمة، وعلى رأسهم الإمام الشهيد حسن البنا، والإمام أبو الأعلى المودودي، والعلامة الشيخ عبد العزيز بن باز، والإمام محمد أبو زهرة، والشيخ محمد عبد الله الخطيب، والشيخ علي الخفيف، والعلامة الشيخ مناع القطان، والعلامة الدكتور يوسف القرضاوي، والدكتور عمر سليمان الأشقر، والشيخ حسن الهضيبي، والشيخ عمر التلمساني، والشيخ مصطفى مشهور، والشيخ فتحي يكن، والدكتور محمد عبد القادر أبو فارس، والشيخ عباسي مدني، والدكتور سالم البهنساوي، وغيرهم كثير.
كذلك على رأس القائلين بجواز المشاركة في انتخابات المجالس البرلمانية، كبرى الحركات الإسلامية العاملة، "جماعة الإخوان المسلمون" والجماعة الإسلامية في الباكستان وفي ماليزيا وتركيا غيرها. وقد استدلوا على قولهم بالقرآن والسنة والمصلحة.
أدلتهم من القرآن:
1. قوله تعالى: ] وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [. [آل عمران /104]. ووجه الدلالة في الآية: أن هذه المجالس منبر للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تماماً كمنبر المسجد والتلفاز والمجلة، بل هي أجدى وأقوى وأبعد أثراً في حياة المجتمعات. ولا يعقل أن نترك مكانا كهذا - مع ما له من تأثير في الحياة العامة للأمة - يعتدى فيه على الشرع، ويقرر فيه نقيضه، دون أن نأمر بالمعروف وندعمه، وننهى عن المنكر ونقمعه. قال الإمام القرطبي:( فإذا تركوا التغيير وتواطئوا على المنكر، زال عنهم اسم المدح ولحقهم اسم الذم، وكان ذلك سببا لهلاكهم ).[تفسير القرطبي:4/152].
2. قوله تعالى: ] ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [. [النحل/125]. قال الإمام الطبري: ( يقول تعالى لنبيه: ادع يا محمد من أرسلك ربك إليهم إلى طاعته وإلى شريعته التي شرعها لخلقه، وهو الإسلام ). [تفسير الطبري: 8/194].
فإذا أمكن للحركات الإسلامية أن تعلن حكم الشرع في المسائل المعروضة على رؤوس الأشهاد في تلك المجالس، وتدعو إلى تطبيق شريعة الله، وتنقل ذلك وسائل الإعلام للأمة كلها، كان حينئذ لزاماً علينا فعل ذلك.
3- قوله تعالى: ] لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [. [المائدة/63]. فالآية ذمت هؤلاء لعدم قيامهم بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال الإمام ابن كثير: (أي كان لا ينهى أحد منهم أحدا عن ارتكاب المآثم والمحارم، ثم ذمهم على ذلك، ليحذر أن يركب مثل الذي ارتكبوه فقال: [لبئس ما كانوا يفعلون]).[تفسير ابن كثير:2/618]. والمشاركون في هذه المجالس من الدعاة المسلمين سينهون عن المنكر والمأثم قطعاً، فهم يصرحون بأن مشاركتهم قائمة على أساس الأمر والنهي.
أدلتهم من السنة:
1. قول الرسول - صلى الله عليه وسلم- : ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) . [أحمد ومسلم والترمذي والنسائي].(/3)
فما دام التغيير في مقدورنا، فعلينا القيام به، وهذه المجالس لا يتيسر إزالة أو إنكار المنكر الذي يعلن فيها إلا لمن دخلها، فكيف نترك الأمر والنهي في هذه المجالس مع عظيم تأثيرها في الأمة. قال الإمام النووي: ( ثم إنه قد يتعين - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - كما إذا كان [المنكر] في موضع لا يعلم به إلا هو، أو لا يتمكن من إزالته إلا هو ). [شرح النووي على مسلم:2/24].
2. قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ( ما من قوم يُعمل فيهم بالمعاصي، يَقْدِرون على أن يُغيِّروا ثم لا يغيروا، إلا يوشك أن يَعُمَّهم الله منه بعقاب ). [أبو داود]. قال الإمام النووي: ( وإذا كثر الخبث عم العقاب الصالح والطالح، وإذا لم يأخذوا على يد الظالم أوشك أن يعمهم الله - تعالى - بعقابه). [شرح النووي على مسلم:2/24].
هذا والجميع يرى أن للنواب في هذه المجالس حق الكلام والمناقشة لكل مسئول في الدولة، وحق الاعتراض على كل ما تقوم به الحكومة، وهذا تغيير للمنكر باللسان. وإذا كان النواب الملتزمون بالشرع لهم اليد العليا في المجلس، أمكنهم حينئذ تغير المنكر باليد.
3. فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - : حيث عمد إلى الاستفادة من نظم المجتمع الجاهلي التي كان يتحاكم إليها أهل الجاهلية في إفادة الدعوة الإسلامية، والأمثلة على ذلك كثيرة نقتصر على أهمها:
أ) إجارة أبي طالب للنبي صلى الله عليه وسلم: حيث ظل النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى الإسلام تحت حماية عمه دون أن تمسه قريش بسوء قرابة عشر سنوات، ولم يتخل أبو طالب عن ابن أخيه، أو يرفض ابن أخيه حمايته. [سيرة ابن هشام:1/264].
ب) حماية النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوة السلاح الجاهلي في شعب أبي طالب: فعندما رأت قريش إصرار أبي طالب مع بني هاشم وبني المطلب على حماية النبي - صلى الله عليه وسلم - عمدت إلى مقاطعتهم، وتمالأ على ذلك الأحلاف وهم: بنو عبد الدار وبنو جمح وبنو مخزوم وبنو سهم وبنو عدي، وحصروا بني هاشم وبنو المطلب جميعا مسلمهم وكافرهم في الشعب، مطالبينهم بتسليم النبي لهم ليقتلوه. وكان أبو طالب في الشعب يحتاط لحفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يأمر أحد بنيه بالنوم في فراش النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي رآه الناس يستلقي فيه تمويها عليهم. [سيرة ابن هشام:1/351].[الرحيق المختوم/98].
ج) دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة في جوار المطعم بن عدي عندما عاد من الطائف: حيث إن قريشاً منعت النبي - صلى الله عليه وسلم - من دخول مكة بعد عودته من الطائف، فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الأخنس بن شريق وسهيل بن عمرو والمطعم بن عدي تباعا ليدخل في حماية أحدهم، فرفض الأخنس وسهيل لأسباب تتعلق بقانون الإجارة الجاهلي، وأجاب المطعم بن عدي، حيث أمر بنيه وقومه بني نوفل بحمل السلاح وقال لهم: أني قد أجرت محمداً، فكونوا عند أركان البيت بسلاحكم، ثم نادى في قريش يعلمهم إجارته للنبي - صلى الله عليه وسلم -. ثم دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة فطاف بالبيت وصلى ركعتين ثم دخل منزله. [سيرة ابن هشام:1/381]. كل ذلك وسيوف المشركين من بني نوفل مشرعة تحميه من مشركي قريش.
وتعقيباً على كل ذلك نقول:
إن واقع الحركات الإسلامية يتطلب منها حسن الاستفادة من النظم القائمة لتحقيق بعض المنجزات لدعوة الإسلام ودعاته، أو حماية الدعوة من الفناء والهلاك، اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يسمى هذا العمل من قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - رضىً بأحكام الكفر، أو رضىً بما يشرعونه من دون الله، أو ركوناً ومساندة للذين ظلموا. وإن دخول المجالس التشريعية لا يخرج عن هذا المعنى، فلا يقال لمن عمد إلى الاستفادة من نظم لا تحكم بالإسلام دون الرضى بها: إنه رضي بالكفر وقوانين الكفر، وأن هذا كفر.
د) توجيه النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابة بالهجرة إلى الحبشة: حيث قال لهم موجهاً: ( لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه ). [سيرة ابن هشام:1/321].
والنجاشي ملك الحبشة كان نصرانياً، وحكمه قائم على أسس من التوراة والإنجيل، غير أن هذا لم يمنع من الاستفادة من ميزة العدل في نظام حكمه الجاهلي. ومما يذكر في تاريخ الدعوة المعاصر، أن الحكومة المصرية لما اعتقلت الداعية الكبير محمد قطب عام 1966م، أقام الشهيد سيد قطب دعوى على الحكومة المصرية لخرقها قانون الدولة أثناء اعتقال أخيه. والشهيد سيد هو من هو في تحرره من فكرة الاحتكام إلى الجاهلية وقوانينها. وهذا هو الفقه العظيم للشهيد حين يفرق بين القناعة بنظام حكم كافر، وبين الاستفادة من نظام حكم كافر لحماية الدعوة وشبابها ورجالها.[المنهج الحركي للسيرة النبوية/73].
استدلالهم بالمصلحة(/4)
وقبل أن نبين طريقة الاستدلال بالمصلحة على موضوعنا، نتقدم بمقدمة موجزة نُعَرِّف فيها المصلحة، ومن قال بها من أهل العلم.
المصلحة في اللغة: الخير والصلاح، وهي خلاف الشر والفساد، والمصلحة كاسمها شيء فيه صلاح قوي، والذي حققه العلامة ابن عاشور في تعريفها أنها: ( وصف للفعل يحصل به الصلاح - أي النفع منه - دائماً أو غالباً للجمهور أو الآحاد ). [مقاصد الشريعة الإسلامية/65]. وقد استقرأ العلماء أحكام الشريعة فوجدوا أنها إنما وضعت لتحقيق مصالح العباد، يقول الإمام الشاطبي: ( المعلوم من الشريعة أنها شُرِعَت لمصالح العباد، فالتكليف كله إما لدرء مفسدة، وإما لجلب مصلحة، أو لهما معا ). [الموافقات:1/199]. ويقول ابن القيم: ( فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحِكْمَة كلها ).[أعلام الموقعين:3/11].
والمصلحة ثلاثة أنواع:
1- معتبرة: وهي التي اعتبرها الشرع ورعاها، فشرع الأحكام الموصلة إليها، كالجهاد لحفظ الدين، والقصاص لحفظ النفس، وحد الشرب لحفظ العقل، والرجم والجلد لحفظ العرض، وحد السرقة لحفظ المال.
2- ملغاة: وهي التي أهدرها الشرع ولم يعتد بها فيما شرعه من أحكام، كتحريم الخمر والميسر مع ما فيهما من مصالح للناس، نظراً لأن الفساد المترتب عليها أكبر من المصالح.
3- مرسلة: وهي المصلحة التي لم ينص الشرع على اعتبارها بعينها أو إلغائها، فهي مصلحة لأنها تجلب نفعا وتدفع ضرا، وهي مرسلة لأنها مطلقة عن اعتبار الشرع أو إلغائه لعينها. وقد اختلف العلماء في حجيتها وجعلها دليلاً من أدلة الأحكام، فالظاهرية ألغوها مطلقاً لعدم قولهم بالقياس أصلاً. ونسب للحنفية والشافعية القول بإنكارها، ولكننا نجد في فقههم اجتهادات قامت على أساس المصلحة، كقول الحنفية بجواز حرق الغنائم إذا عجز المسلمون عن حملها لئلا ينتفع بها الأعداء. وكقول الشافعية بجواز إتلاف الحيوانات التي يقاتل عليها الأعداء إذا كان القتال يتطلب ذلك، وكذلك جواز رمي الكفار وإن تترسوا بأسرى من المسلمين إذا خيف انتصار الكفار أو فوات النصر على المسلمين.
والخلاصة في المصلحة المرسلة: أنها مقصود شرعي عرف بشهادة الشرع الإجمالية، وليست بأصل معين، فالشرع دعا إلى الخير والصلاح بإطلاق، وبهذا المفهوم عمل العلماء. وأشهر من اعتبر المصالح مصدراً من مصادر التشريع له حجيته، هم المالكية والحنبلية والإمام الغزالي. وهذا الخلاف يراجع في كتب أصول الفقه لمن أراد التفصيل. والاستدلال بالمصلحة على هذه المسألة التي نحن بصددها عائد - كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – إلى : ( ترجيح خير الخيرين، وشر الشرين، وتحصيل أعظم المصلحتين، بتفويت أدناهما ودفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما ).
فاستدل المجيزون للمشاركة في هذه المجالس بما يتحقق للدعوة ولعموم المسلمين من مصالح راجحة على مفاسد المشاركة، هذا مع عدم إنكار وجود بعض المفاسد في هذه المشاركة، لكنها أخف - بلا شك - من المفاسد المترتبة على عدم المشاركة.
وفي هذه الحالة تطبق القاعدة الفقهية: ( إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما )، والقاعدة القائلة: ( يزال الضرر الأشد بالأخف ). وهنا تُقَدَّم المصلحة الراجحة على المفسدة المرجوحة، على الرغم من تفاوت إمكان تحقيق هذه المصالح من بلد لآخر.
ويمكن إجمال أهم المصالح المترتبة على المشاركة بالآتي:
1- الاعتراض على القوانين المخالفة للشرع، وهذا من إنكار المنكر.
2- تقديم مشاريع قوانين موافقة للشرع الإسلامي، تسهم في تغيير القوانين المخالفة للشرع، وهذا من الأمر بالمعروف.
3- محاربة الفساد والمفسدين، وقمع الظلم والظالمين، حسب القدرة بالقلب أو اللسان أو اليد.
4- دعم الخير وأهله، ومحاربة الشر وأهله، على جميع المستويات السياسية والاجتماعية والتربوية والاقتصادية، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - عن حلف المطيبين الجاهلي - الذي أسس لدعم الخير ومحاربة الشر -: ( لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت ). [سيرة ابن هشام:1/134]
5- تحقيق الحرية لعمل بعض الدعاة من خلال الحصانة البرلمانية، وتخفيف القيود المفروضة على تحرك الدعاة عموماً، فلا يتعرضون للإجراءات التعسفية تحت مبررات الإرهاب كما يحدث، وكشف ما يحاك في الخفاء ضد الدعوة والدعاة، والعمل على إفشال ذلك. وقد رأينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يستفيد من قوانين الجاهلية ونظمها لتحقيق ذلك.
6- إعادة الثقة بالإسلام والمسلمين بتقديم النموذج القوي الأمين للناس والمجتمع، وإثبات أن الإسلام دين كامل شمولي قادر على تنظيم حياة الناس الخاصة والعامة عملياً لا كلاماً فقط، ولا يكون ذلك إلا من خلال المشاركة الفعالة للدعاة في هذه المجالس لإحقاق الحق وإبطال الباطل.(/5)
7- دفع شر البديل عن الحركة الإسلامية إذا هي تركت الساحة لهم، الذين سيسخرون كل إمكانياتهم لمحاربة الحركات الإسلامية.
8- محاسبة الوزراء واستجوابهم، بل وطلب سحب الثقة منهم، لأن كل وزير مسئول أمام المجلس عن عمل وزارته.
بعد هذا العرض التفصيلي لآراء العلماء والحركات الإسلامية في موضوع المشاركة في انتخابات المجالس البرلمانية أو التشريعية، وعرض أدلتهم، نخرج بالنتائج والتوصيات التالية:
1- منذ ظهور هذه المجالس في عالمنا العربي والإسلامي، لم يكن في هذه المسألة سوى رأيين فقهيين فقط، أحدهما يمنع المشاركة ويحرمها، والآخر يجيزها.
2- ليس في المسألة نص قاطع يحسم الموضوع لأي من الفريقين، فالمسألة خاضعة لاجتهاد العلماء، والاختلاف فيها مقبول شرعاً. وإنه يسعنا ما وسع السلف الصالح، اختلفوا فكان خلافهم رفيعاً أديباً، وكان رائدهم رضوان الله ونصر الإسلام.
3- الراجح في المسألة بعد عرض الأدلة جواز المشاركة، وهذا قول جماهير أهل العلم، وعليه عمل الحركة الإسلامية في العالم الإسلامي، كما في مصر والجزائر والمغرب والسودان والأردن ولبنان والكويت واليمن وباكستان وبنغلاديش وتركيا وغيرها.
4- المشاركة يجب أن تخضع لضوابط المصلحة، وعلى الحركات الإسلامية التي تجيز المشاركة مراجعة هذه المصالح وضوابطها بين فترة وأخرى، لمعرفة ما يترتب على المشاركة من مصالح ومفاسد وتقييمها للموازنة بينها، ومن ثم اتخاذ القرار بالمشاركة أو عدمها بناء على ذلك، بعيداً عن الأهواء و العصبية.
5- نؤكد على أننا حينما نسعى لتحقيق بعض مصالح الأمة والشعب من خلال المشاركة في الانتخابات، لا يعني أننا نتنازل عن أي من مبادئنا الشرعية، وعلى رأسها: أن الحاكمية لله وحده، وأنه لا شرع فوق شرع الله. ومشاركتنا لا تعني موافقتنا على مواد الدستور والقوانين، بل إننا نرفض كل نص دستوري أو قانوني يخالف شرع الله.
6- ظهر في ثمانينيات القرن العشرين نابتة في الفقه والعمل الإسلامي، قليل عددهم، ضعيف جهدهم، عال صوت جعجعتهم، أطلقوا لفظ الكفر على من أجاز المشاركة في هذه المجالس. ولم يوافقهم أحد من أهل العلم المعتبرين - على اختلافهم مناهجهم في الفقه - على قولهم هذا، بل رأينا أهل العلم يتصدون لهذا القول مبينين ومرشدين.
7- نعجب أن ينبري حزب التحرير اليوم ليعلن حرمة المشاركة في هذه المجالس، رغم أنه شارك فيها في الماضي بترشيح بعض قياداته لها، ففي الأردن رشح الحزب الشيخ عبد القديم زلوم، والشيخ أحمد الداعور، والشيخ عبد العزيز الخياط، والشيخ فارس إدريس، والشيخ يوسف الزغير، والشيخ أسعد بيوض التميمي، السيد محمد موسى عبد الهادي، والسيد غانم عبده. وفي لبنان رشح كلاً من الشيخ عثمان صافي، والسيد يوسف بعدراني، والسيد علي فخر الدين. وفي سوريا رشح السيد عبد الرحمن المالكي.
وكان الحزب كذلك قد أصدر نشرات فقهية بتاريخ: [16/5/1990م] يبين فيها جواز المشاركة في هذه المجالس إذا كان بغرض الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ومحاسبة الحكام على أساس الأحكام الشرعية. فلماذا تغير الحكم الشرعي عند الحزب بعد ذلك؟!!!!! فيقول: بعدم جواز تغير الأحكام بتغير الزمان. [ راجع ملف النشرات الفقهية لحزب التحرير/ص:62-63].
8- نؤكد على ضرورة التزام أدب العلماء في الاختلاف، وندعو لأنفسنا ولإخواننا بالهداية والرشاد والسداد. وإنه من غير المقبول أن يصف أحد الفريقين الآخر بالسفه أو الضلال، أو يتهمه في دينه وعقيدته.
9- ضرورة أخذ العلم عن أهله، وهم من حازوا صفتي التقوى والعلم، والتقوى تعرف بسلوك المرء، والعلم يعرف بشهادة العلماء، فليس كل دَعِيٍّ يُصَدق في نسبه.
10- نوصيكم بتقوى الله العظيم - سبحانه - وطاعته، ونحذركم من مغبة عصيانه ومخالفة أمره، فإن التقوى رأس الأمر، وعليها مدار الفلاح.
والله من وراء القصد(/6)
حكم المشاركة في المجلس التشريعي
بقلم؛ إبراهيم بن عبد العزيز
بسم الله الرحمن الرحيم
السؤال: شيخنا الفاضل حفظك الله ورعاك ونفع بعلمك، ما هو حكم المشاركة في الإنتخابات التشريعية الفلسطينية وغيرها من التشريعات الوضعية وجزاك الله خيراً ؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
فليس غريباً أن يرفع بعض المنسلخين عن الشريعة الداعين إلى الخروج عن الأخلاق والقيم راية الكفر والزندقة، ولكن المستغرب حقاً أن تدخل بعض الجماعات التي ترفع راية التوحيد في صفوف الداعين إلى تطبيق أنظمة الكفر والشرك والنفاق على المسلمين، وقد علم هؤلاء يقيناً أن الواجب على المسلم هو الانقياد إلى حكم الله ورسوله ظاهراً وباطناً قال سبحانه: ( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً ) (65) النساء.
فهذه الآية الكريمة تدل دلالة واضحة على وجوب الانقياد لحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في كل صغير وكبير، فقوله تعالى: ( فيما شجر ) يتناول الأمور كلها دون استثناء، وقد جعل الله سبحانه هذه الآية شرطاً في صحة الإيمان، أي إن كان إيمانكم إيماناً صحيحاً فهو يقودكم إلى التحاكم إلى الكتاب والسنة ظاهراً وباطناً، ومخالفة ذلك الأمر دليل على عدم صحة الإيمان ، وقد أكد المولى سبحانه على هذا الحكم بالقسم إذ قال سبحانه: ( فلا وربك ) أي يقسم الله سبحانه بنفسه المقدسة أن الزاعمين للإيمان لا يؤمنون حقيقة حتى يخضعوا لحكم الله سبحانه ظاهراً وباطناً، ولم يكتف بذلك أيضاً حتى لا يجدوا في أنفسهم حرجاً من قضاء النبي صلى الله عليه وسلم، ويسلموا له تسليماً فالمؤمن الصادق هو الذي لا يرضى بغير حكم الله حكماً، فهو على علم ويقين بأنه لا يجوز له أن يتخير في مسألة حكم الله سبحانه فيها، قال سبحانه: ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً ) (36) الأحزاب.
ففي هذه الآية الكريمة ينفي الله سبحانه عن المؤمنين الخيرة من أمرهم إذا جاءهم الحكم من عند الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومفهوم المخالفة أن الذين يتخيرون بين حكم الله سبحانه وحكم غيره ليسوا بمؤمنين على الحقيقة.
ومن الأمور التي ألزم الله سبحانه بها المؤمنين، التحاكم إلى شرعه المشتمل على كل خير قال سبحانه: ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) (50) المائدة .
فهذه الآيات الكريمة تبين أن الناس إما أن يكونوا خاضعين لحكم الله الحق العدل، وإما أن يكونوا متبعين لأهوائهم غارقين في جاهليتهم، ولا شك من أن المسلم الحق يكون متبعاً لحكم الله سبحانه غير مارق منه، على خلاف أهل الباطل والشبهات فهم متبعون لأهوائهم الجاهلية.
وقد بين الحق سبحانه أن التحاكم إلى غير شرعه كفر وردة قال سبحانه: ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون ) (44) المائدة.
وقال سبحانه: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً ) (61) النساء.(/1)
والمتتبع لآيات الله سبحانه المتعلقة بالحكم يجد أن الله سبحانه قد حكم على المخالفين لحكمه المتبعين لغير أمره، بالكفر، والظلم، والفسق، والنفاق، أو بعدم الإيمان، وكل هذا يدل على أن مسألة الحكم لا تتعلق بمسائل فرعية، بل هي مسألة من صميم العقيدة لا يزيغ عنها إلا أصحاب الأهواء والشبهات الباطلة الذين لم يترسخ الإيمان في قلوبهم الذين يصفهم الله سبحانه بصريح العبارة بالنفاق والكفر، وذلك أن الخضوع لغير حكم الله خضوع لحكم الطاغوت الذي أمرنا باجتنابه ، قال سبحانه: ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) (36) النحل.
وقال سبحانه: ( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ) (18) الزمر.
بل إن الكفر بالطاغوت شرط لصحة الإيمان وذلك لقوله تعالى: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (256) البقرة.
فقدم الله سبحانه الكفر بالطاغوت على الإيمان به من باب ارتباط الأمر بلازمه، أي لا يصح الإيمان إلا بالكفر بالطاغوت، فمن لم يكفر بالطاغوت لا يكون مؤمناً في حقيقة الأمر. وهذا ما بينه صلى الله عليه وسلم بقوله: (من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه ). حديث صحيح رواه مسلم
فالذي ينتفع بالشهادة، هو الذي يعبد الله سبحانه وحده، ويكفر بكل ما سواه، ومن تحاكم إلى غير حكم الله سبحانه عالماً غير جاهل، راضياً غير مكره، فقد وقع في الكفر والشرك أعاذنا الله سبحانه من ذلك، ذلك أن التحاكم إلى غير الشرع عبادة لغيره سبحانه قال تعالى: (مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) (40) يوسف.
ففي هذه الآية الكريمة ربط المولى سبحانه الحكم بالعبادة: ( إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ). وقد دل سياق الآية على الحصر، أي لا يكون الحكم إلا لله، فلا يكون لغيره بأي حال أو تحت أي ظرف، بل الواجب على المسلمين أن يُرجعوا الأمور المتنازع فيها إلى حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال سبحانه: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) (59) النساء.
وعليه لا يكون الحكم إلا لله سبحانه، وإن خلاف ذلك كفر وردة عن الإسلام، - لازم هذا القول ليس بلازم أي لا يلزم من قولي هذا إنني أكفر كل من يتحاكم إلى غير شرع الله، فالحكم على المسألة شيء، والحكم على المعين شيء آخر-.
فكل حكم يخالف حكم الله ورسوله فهو كفر، ومن ذلك ما يسمى بالديمقراطية والعلمانية وغيرها من المسميات التي ما أنزل الله بها من سلطان، بل هي محض حكم الطاغوت الذي أُمر المسلمون أن يكفروا به، فلا يُتصور من مسلم فاسق يتحاكم إلى غير شرع الله، لأن ذلك كما بين الله سبحانه كفر، وشتان بين الكفر والمعصية، فالكفر أكبر من الكبائر، فكيف بالمسلم المتبع؟!
وما يسمى بالانتخابات التشريعية، من الكفر لأن ذلك تحاكم إلى غير شرع الله، فهي تعني أن السيادة المطلقة للشعب، فالشعب هو الذي يختار الأحكام التي تطبق عليه، فإن أراد الإسلام يحكم به، وإن أراد غيره فله الخيار، وإن اختلف الشعب في الأمر يرجع الحكم إلى رأي الأغلبية، أي أغلبية الشعب، وهذا لا شك من الكفر البواح وذلك للأمور التالية:
أولاً: أن المؤمن ملزم بالتحاكم إلى شرع الله سبحانه فهو غير مخير في المسألة قال سبحانه: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً ) (36) الأحزاب.(/2)
قال ابن كثير: فهذه الآية عامة في جميع الأمور، وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء، فليس لأحد مخالفته ولا اختيار لأحد هاهنا، ولا رأي ولا قول، كما قال تعالى: ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ). النساء:65 وفي الحديث: ( والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به). ولهذا شدد في خلاف ذلك، فقال: ( ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا )، كقوله تعالى: ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ) النور:63. تفسير القرآن العظيم.
وقال الطبري رحمه الله تعالى: يقول تعالى ذكره: لم يكن لمؤمن بالله ورسوله، ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله في أنفسهم قضاء أن يتخيروا من أمرهم غير الذي قضى فيهم، ويخالفوا أمر الله وأمر رسوله وقضاءهما فيعصوهما، ومن يعص الله ورسوله فيما أمرا أو نهيا (فقد ضل ضلالا مبينا) يقول: فقد جار عن قصد السبيل، وسلك غير سبيل الهدي والرشاد. جامع البيان للطبري.
فهذه الآية تبين أنه ليس للمؤمن الخيار إذا قضى الله ورسوله أمراً، بل مخالفة أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ضلال مبين، وجعل الأمر راجعاً إلى رأي الأغلبية يعتبر خروجاً عن أحكام الله سبحانه، فقد بين الله في محكم التنزيل أن الحكم لا يكون إلا له قال سبحانه: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) (40) يوسف. ويأتي هؤلاء ليقولوا لنا: إن الحكم الذي يطبق علينا هو رأي الأغلبية، فهل بعد ذلك من ضلال؟
ثانياً: جعل الشعب هو مصدر التشريع منازعة لله سبحانه، فالله هو المشرع، ولا حكم مع حكمه، ولا قضاء مع قضائه، قال سبحانه: (وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (88) القصص.
وهذا السياق يقتضي الحصر، إذ تقديم ما حقه التأخير، على ما حقه التقديم، من موجبات الحصر، فكما أن العبادة لله سبحانه لا تكون لغيره، كذلك الحكم لا يكون إلا لله، ومن نصّب نفسه مشرعاً من دون الله فقد ضل ضلالاً مبيناً، قال سبحانه: ( أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (21) الشورى.
قال ابن كثير: وقوله: ( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ) أي: هم لا يتبعون ما شرع الله لك من الدين القويم، بل يتبعون ما شرع لهم شياطينهم من الجن والإنس، من تحريم ما حرموا عليهم، من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وتحليل الميتة والدم والقمار، إلى نحو ذلك من الضلالات والجهالة الباطلة، التي كانوا قد اخترعوها في جاهليتهم، من التحليل والتحريم، والعبادات الباطلة، والأقوال الفاسدة. تفسير القرآن العظيم لابن كثير.
وقال ابن عاشور رحمه الله تعالى: ومعنى الاستفهام تقضيه ( أم ) التي للإضراب هو هنا للتقريع والتهكم، فالتقريع راجع إلى أنهم شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله، والتهكم راجع إلى من شرعوا لهم من الشرك، فسئلوا عمن شرع لهم دين الشرك: ألهم شركاء آخرون اعتقدوهم شركاء لله في الإلهية وفي شرع الديان كما شرع الله للناس الأديان؟ وهذا تهكم بهم لأن هذا النوع من الشركاء لم يدعه أهل الشرك من العرب. وهذا المعنى هو الذي يساعد تنكير ( شركاء ) ووصفه بجملة ( شرعوا لهم من الدين ). أهـ تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور.
ثالثاً: وضع دستور للشعب من تلقاء نفسه، يعتبر تحاكماً إلى الطاغوت الذي أُمر المسلمون أن يكفروا به قال سبحانه: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً ) (61) النساء.(/3)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في هذه الآيات: ( لكل فريق طواغيت يريدون أن يتحاكموا إليهم وقد أمروا أن يكفروا بهم. وما أشبه حال هؤلاء المتكلمين بقوله سبحانه وتعالى: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60)وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً). (62) النساء.
فإن هؤلاء إذا دعوا إلى ما أنزل الله من الكتاب وإلى الرسول - والدعاء إليه بعد وفاته هو الدعاء إلى سنته - أعرضوا عن ذلك وهم يقولون: إنا قصدنا الإحسان علماً وعملاً بهذه الطريق التي سلكناها والتوفيق بين الدلائل العقلية والنقلية. أ هـ الفتاوى 5/18 .
وقال في تفسير قوله تعالى : ( وَيَقُولُونَ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ(49)أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) النور ـ 47 ـ 51.
فبين سبحانه أن من تولى عن طاعة الرسول وأعرض عن حكمه فهو من المنافقين، وليس بمؤمن، وأن المؤمن هو الذي يقول: سمعنا وأطعنا، فإذا كان النفاق يثبت ويزول الإيمان بمجرد الإعراض عن حكم الرسول وإرادة التحاكم إلى غيره، مع أن هذا تركٌ محض، وقد يكون سببه الشهوة، فكيف بالتنقص والسب ونحوه؟ أهـ الصارم المسلول.
قال ابن القيم في أعلام الموقِّعين (1/85): ( ثم أخبر سبحانه أن من تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به الرسول فقد حكّم الطاغوت وتحاكم إليه، والطاغوت كل ما تجاوز به العبد حدَّه من معبود أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله أو يعبدونه من دون الله أو يتبعونه على غير بصيرة من الله أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة له ).أهـ
وقال أيضاً: ( أقسم سبحانه بنفسه على نفي الإيمان عن العباد حتى يُحكِّموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الدقيق والجليل ولم يكتف في إيمانهم بهذا التحكيم بمجرده حتى ينتفي عن صدورهم الحرج والضيق عن قضائه وحكمه ولم يكتف منهم أيضاً بذلك حتى يسلِّموا تسليماً وينقادوا انقياداً ). أهـ إعلام الموقعين 1/86.
وقد أوضحت ذلك في رسالتي – عقيدتنا بين الولاء والبراء –.
رابعاً : إن غير حكم الله سبحانه هو حكم الجاهلية التي أنقذ الله سبحانه المؤمنين منها، قال سبحانه: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) (103) آل عمران.
قال الطبري رحمه الله تعالى في قوله تعالى: (وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ) يعني بقوله جل ثناؤه وكنتم، يا معشر المؤمنين، من الأوس والخزرج، على حرف حفرة من النار. وإنما ذلك مثل لكفرهم الذي كانوا عليه قبل أن يهديهم الله للإسلام. يقول تعالى ذكره: وكنتم على طرف جهنم بكفركم الذي كنتم عليه قبل أن ينعم الله عليكم بالإسلام، فتصيروا بائتلافكم عليه إخوانا، ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا أن تموتوا على ذلك من كفركم، فتكونوا من الخالدين فيها، فأنقذكم الله منها بالإيمان الذي هداكم له. أهـ جامع البيان للطبري.
ولا شك أن الحكم بغير ما أنزل الله سبحانه جاهلية، قال سبحانه: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) (50) المائدة.(/4)
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: وقوله: ( أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ) .ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات، التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيزخان، الذي وضع لهم اليساق وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها عن شرائع شتى، من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعاً متبعاً، يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ومن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله، حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير، قال الله تعالى: (أفحكم الجاهلية يبغون ) أي: يبتغون ويريدون، وعن حكم الله يعدلون. (ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ) أي: ومن أعدل من الله في حكمه لمن عقل عن الله شرعه، وآمن به وأيقن وعلم أنه تعالى أحكم الحاكمين، وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها، فإنه تعالى هو العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، العادل في كل شيء. أهـ تفسير ابن كثير.
خامساً: التحاكم إلى غير شرع الله سبحانه كفر وشرك: قال تعالى: ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) (44) المائدة.
قال الطبري في تفسير هذه الآية: يقول تعالى ذكره: ومن كتم حكم الله الذي أنزله في كتابه وجعله حكماً بين عباده، فأخفاه وحكم بغيره، كحكم اليهود في الزانيين المحصنين بالتجبيه والتحميم، وكتمانهم الرجم، وكقضائهم في بعض قتلاهم بدية كاملة وفي بعض بنصف الدية، وفي الأشراف بالقصاص، وفي الأدنياء بالدية، وقد سوى الله بين جميعهم في الحكم عليهم في التوراة ( فأولئك هم الكافرون ) يقول: هؤلاء الذين لم يحكموا بما أنزل الله في كتابه، ولكن بدلوا وغيروا حكمه، وكتموا الحق الذي أنزله في كتابه ( هم الكافرون ) يقول: هم الذين ستروا الحق الذي كان عليهم كشفه وتبيينه، وغطوه عن الناس، وأظهروا لهم غيره، وقضوا به، لسحت أخذوه منهم عليه. أهـ جامع البيان.
سادساً: الحكم بغير ما أنزل الله سبحانه اتباع للهوى قال سبحانه: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) (48) المائدة.
قال ابن كثير رحمه الله في هذه الآية: وقوله: (ولا تتبع أهواءهم ) أي: آراءهم التي اصطلحوا عليها، وتركوا بسببها ما أنزل الله على رسوله؛ ولهذا قال: (ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق ) أي: لا تنصرف عن الحق الذي أمرك الله به إلى أهواء هؤلاء من الجهلة الأشقياء. أهـ تفسير ابن كثير.
سابعاً: الحكم بغير ما أنزل الله سبحانه ظلم وفسق، قال سبحانه: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (45) المائدة.
وقال سبحانه: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) (47) المائدة.
فكل هذه أدلة قاطعة على حرمة التحاكم إلى غير شرع الله سبحانه، فكيف بمن ينصب نفسه مشرعاً من دون الله، أو يرضى بالتشريعات الوضعية التي تناقض شرع الله سبحانه من كل وجه، وتفتح أبواب الضلال والفساد؟
ورغم تلك الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة نجد بعض الجماعات الإسلامية تنادي بالمشاركة في المجالس التشريعية متذرعة بمبررات هي أوهى من خيوط العنكبوت منها:
1 : قصة يوسف عليه السلام:
يستدل هؤلاء بقصة يوسف عليه السلام التي تدل على أن يوسف عليه السلام عمل في حكم الملك الكافر واستلم منصباً وزارياً، واستغله في باب الإصلاح، ونحن موافقون في هذا الأمر لنبي الله يوسف عليه السلام، ولو كان الأمر محرماً لما وقع ذلك من نبي معصوم.(/5)
أقول: سبحان الله كيف يستدلون على مسألة عظيمة بما لا يعرفون، فهم يوفقون بين عمل نبي الله يوسف عليه السلام، وبين دخولهم في المجالس التشريعية ويجعلون الحكم في المسألتين واحدا. ومن كانت عنده مسكة علم بما جاء به الأنبياء يعلم يقيناً أن دعوتهم تتفق على دعوة الناس إلى عبادة الله سبحانه وحده لا شريك له، والتبرؤ من كل ما يعبد من دونه، قال سبحانه: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) (36) النحل.
ومن الطاغوت الذي دعا الأنبياء عليهم السلام إلى اجتنابه، التحاكم إلى غير شرع الله، فهو كما بينت شرك وكفر، فكيف يجوز على نبي من أنبياء الله أن يقع في الكفر والشرك وما أرسله الله سبحانه إلا للدعوة إلى التوحيد؟
ومن ناحية ثانية، فالله سبحانه قال على لسان يوسف عليه السلام: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) (40) يوسف.
فيوسف عليه السلام يدعو صاحبيه إلى توحيد العبادة مبيناً لهما أن الحكم لا يكون إلا لله سبحانه، ثم يقع هو فيما ينهاهما عنه، فهل يقول بذلك مؤمن؟
وأما ما فعله يوسف عليه السلام فلا دخل له بقضية التشريع، فالتشريع شرك لا يقع بمثله عامة من وقر الإيمان في قلوبهم، فكيف بأنبياء الله سبحانه؟
وما أعجبني ذلك الرد الذي قالوا فيه، إن شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا، وهذا الرد أسخف مما قبله إذ لا يكون الشرك جائزاً في ملة الأنبياء السابقين، وهو محرم في شرعة رسولنا صلى الله عليه وسلم، بل الشرك ومنه الحكم بغير ما أنزل الله سبحانه محرم في دين الله عموماً.
2 : الأخذ بالمصالح المرسلة:
ومن أدلة القوم، الأخذ بالمصالح المرسلة، ويعتبرون الغاية مبررة للوسيلة، فهم يدخلون المجالس التشريعية على نية إصلاح الفساد المنتشر في الأنظمة الكفرية، وعليه يجوزون الدخول في تلك المجالس الفاسدة.
أقول وبالله التوفيق: إن هذا التعليل عليل، بل هو أكثر علة من العليل، فإن الغاية لا تبرر الوسيلة أي لا يجوز السير في الطريق المعوج من أجل تحصيل مصلحة شرعية، خاصة إذا كانت القضية متعلقة بمسألة من مسائل العقيدة، وقد بين الله سبحانه أن الواجب على المسلم هو اجتناب الطاغوت لا الانخراط في صفوف الطواغيت من أجل الإصلاح قال سبحانه: ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ ). النحل
واجتناب الشيء هو أن تجعله في ناحية غير الناحية التي تكون فيها، لا أن تلوث نفسك في خبائثه، وعليه لا يجوز للمسلم بأي حال من الأحوال أن يجاري الطواغيت ويركن إليهم، قال سبحانه: ( وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً ) (75) الإسراء.
قال الطبري رحمه الله تعالى: يقول تعالى ذكره: ولولا أن ثبتناك يا محمد بعصمتنا إياك عما دعاك إليه هؤلاء المشركون من الفتنة ( لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا ) يقول: لقد كدت تميل إليهم وتطمئن شيئا قليلاً وذلك ما كان صلى الله عليه وسلم هم به من أن يفعل بعض الذي كانوا سألوه فعله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكر حين نزلت هذه الآية، ما حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا سليمان، قال: ثنا أبو هلال، عن قتادة، في قوله (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تكلني إلى نفسي طرفة عين.
القول في تأويل قوله تعالى: ( إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا ). (75) يقول تعالى ذكره: لو ركنت إلى هؤلاء المشركين يا محمد شيئاً قليلاً فيما سألوك إذن لأذقناك ضعف عذاب الحياة، وضعف عذاب الممات. أهـ جامع البيان.
وقال سبحانه: (فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ) (9) القلم.(/6)
قال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى في تفسيره: يقول الله تعالى، لنبيه صلى الله عليه وسلم: ( فلا تطع المكذبين ) الذين كذبوك وعاندوا الحق، فإنهم ليسوا أهلاً لأن يطاعوا، لأنهم لا يأمرون إلا بما يوافق أهواءهم، وهم لا يريدون إلا الباطل، فالمطيع لهم مقدم على ما يضره، وهذا عام في كل مكذب، وفي كل طاعة ناشئة عن التكذيب، وإن كان السياق في شيء خاص، وهو أن المشركين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم، أن يسكت عن عيب آلهتهم ودينهم، ويسكتوا عنه، ولهذا قال: (ودوا ) أي: المشركون ( لو تدهن ) أي: توافقهم على بعض ما هم عليه، إما بالقول أو الفعل أو بالسكوت عما يتعين الكلام فيه، ( فيدهنون ) ولكن اصدع بأمر الله، وأظهر دين الإسلام، فإن تمام إظهاره، بنقض ما يضاده، وعيب ما يناقضه. أهـ تفسير السعدي.
فإذا كان مجرد الركون والمداهنة إثماً عظيماً يستحق أصحابه عليه غضب الله ولعنته، فكيف بمشاركتهم والتعامل معهم بل ومعاونتهم؟.
والقاعدة التي بنى عليها القوم مذهبهم على غير ما يظنون، فالأخذ بالمصالح المرسلة جائزة إذا ما تعارضت مع النصوص الشرعية، أو ما كان في أصله مباحاً يتوصل به إلى العبادة الشرعية، نحو رفع المآذن في المساجد بغية إيصال الصوت إلى أبعد مدى، أو المنبر الذي يوضع للخطيب وغير ذلك من الوسائل التي يستعان بها على فعل الطاعة، أما إن كانت هذه المصالح في أصلها محرمة، فإن العمل بها محرم شرعاً، فهي تفتح أبواب الشرور على أهلها والعياذ بالله، وتؤدي إلى تميع الأحكام الشرعية والتهاون بها، والواجب على المسلمين هو الصدع بدعوتهم وبيان أحكام دينهم من غير خوف أو تردد أو مداهنة أو مداراة قال سبحانه: ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) (95) الحجر.
وهذه الآية الكريمة تضمنت أمرين، الأول: الصدع بالدعوة، والثاني: الإعراض عن المشركين وخطاب الله سبحانه لرسوله، خطاب لأمته، فالواجب على المسلمين أن يصدعوا بما أمروا به من عبادة الله سبحانه، والتبرؤ مما سوى ذلك، ولا ريب أن مشاركة الطواغيت في مثل هذا الأمر العظيم يعتبر كتماناً للحق، ومداهنة للظالمين، وقد علمت أخي الحبيب ما أعد الله سبحانه للمداهنين.
3 : المحافظة على وحدة الصف:
ومن أدلتهم التي يستندون إليها في إباحتهم المشاركة في انتخابات المجلس التشريعي، وحدة الصف واجتماع الكلمة، متذرعين بأن عدم المشاركة يؤدي إلى وقوع فتنة بين المسلمين.
أقول: وهذا قول باطل مخالف لقواعد الحق، فإن الواجب على المسلمين إقامة الولاء والبراء في الحق، لا في الأباطيل، وإقامة الولاء على أساس الوطن أو ما شابهه، من الجاهلية التي أمرنا الله سبحانه ورسوله باجتنابها، فهي مشروع فاشل يبغضه الله ورسوله وصالح المؤمنين، فليس الولاء في الأمة على الأسس الوطنية الواهية النتنة التي من شأنها أن تفرق المسلمين وتخالف بينهم، بل الولاء في المسلمين يقوم على أساس العقيدة قال سبحانه: ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (71) التوبة.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: لما ذكر الله تعالى صفات المنافقين الذميمة، عطف بذكر صفات المؤمنين المحمودة، فقال: (بعضهم أولياء بعض ) أي: يتناصرون ويتعاضدون، كما جاء في الصحيح: ( المؤمن للمؤمن كالبنان يشد بعضه بعضا) وشبك بين أصابعه. وفي الصحيح أيضا: ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر). وقوله: ( يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) كما قال تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ):104 آل عمران. وقوله تعالى: ( ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة )أي: يطيعون الله ويحسنون إلى خلقه، (ويطيعون الله ورسوله ) أي: فيما أمر، وترك ما عنه زجر، (أولئك سيرحمهم الله ) أي: سيرحم الله من اتصف بهذه الصفات، (إن الله عزيز حكيم ) أي: عزيز، من أطاعه أعزه، فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، (حكيم ) في قسمته هذه الصفات لهؤلاء، وتخصيصه المنافقين بصفاتهم المتقدمة، فإن له الحكمة في جميع ما يفعله، تبارك وتعالى. أهـ تفسير ابن كثير.
وثبت في الأحاديث الصحيحة أن أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعاداة في الله منها ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله ).(/7)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً: ( أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعاداة في الله والحب في الله والبغض في الله ). رواه الطبراني وهو حديث حسن.
فعلى هذا تُبنى العلاقات بين المسلمين، تبنى على الوحدة على أساس العقيدة، لا على أساس القومية والوطنية، بل جعل الله سبحانه كل من يقيم مودته على اعتبار الوطن والقربى من الظالمين قال سبحانه: (لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (22) المجادلة.
قال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: أي: لا يجتمع هذا وهذا، فلا يكون العبد مؤمناً بالله واليوم الآخر حقيقة، إلا كان عاملاً على مقتضى الإيمان ولوازمه، من محبة من قام بالإيمان وموالاته، وبغض من لم يقم به ومعاداته، ولو كان أقرب الناس إليه. وهذا هو الإيمان على الحقيقة، الذي وجدت ثمرته والمقصود منه، وأهل هذا الوصف هم الذين كتب الله في قلوبهم الإيمان أي: رسمه وثبته وغرسه غرساً، لا يتزلزل، ولا تؤثر فيه الشبه والشكوك. وهم الذين قواهم الله بروح منه أي: بوحيه، ومعونته، ومدده الإلهي وإحسانه الرباني. وهم الذين لهم الحياة الطيبة في هذه الدار، ولهم جنات النعيم في دار القرار، التي فيها من كل ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، وتختار، ولهم أكبر النعيم وأفضله، وهو أن الله يحل عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم أبدا، ويرضون عن ربهم بما يعطيهم من أنواع الكرامات، ووافر المثوبات، وجزيل الهبات، ورفيع الدرجات بحيث لا يرون فوق ما أعطاهم مولاهم غاية، ولا فوقه نهاية. وأما من يزعم أنه يؤمن بالله واليوم الآخر، وهو مع ذلك مواد لأعداء الله، محب لمن ترك الإيمان وراء ظهره، فإن هذا إيمان زعمي لا حقيقة له، فإن كل أمر لا بد له من برهان يصدقه، فمجرد الدعوى، لا تفيد شيئاً ولا يصدق صاحبها.أهـ تفسير السعدي.
وقال سبحانه: ( قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) (24) التوبة.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: أمر الله تعالى بمباينة الكفار به، وإن كانوا آباء أو أبناء، ونهى عن موالاتهم إذا (استحبوا ) أي: اختاروا الكفر على الإيمان، وتوعد على ذلك كما قال تعالى: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار ) الآية: (22 ) المجادلة.
وروى الحافظ أبو بكر البيهقي من حديث عبد الله بن شوذب قال: جعل أبو أبي عبيدة بن الجراح ينعت له الآلهة يوم بدر، وجعل أبو عبيدة يحيد عنه، فلما أكثر الجراح قصده ابنه أبو عبيدة فقتله، فأنزل الله فيه هذه الآية: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر ) الآية: 22 المجادلة.
ثم أمر تعالى رسوله أن يتوعد من آثر أهله وقرابته وعشيرته على الله وعلى رسوله وجهاد في سبيله، فقال: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها ) أي: اكتسبتموها وحصلتموها (وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها ) أي: تحبونها لطيبها وحسنها، أي: إن كانت هذه الأشياء (أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا ) أي: فانتظروا ماذا يحل بكم من عقابه ونكاله بكم؛ ولهذا قال: (حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين ).
وقال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا ابن لهيعة، عن زهرة بن معبد، عن جده قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال: والله لأنت يا رسول الله أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه). فقال عمر: فأنت الآن والله أحب إلي من نفسي. فقال رسول الله: (الآن يا عمر).(/8)
انفرد بإخراجه البخاري، فرواه عن يحيى بن سليمان، عن ابن وهب، عن حيوة بن شريح، عن أبي عقيل زهرة بن معبد، أنه سمع جده عبد الله بن هشام، عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا وقد ثبت في الصحيح عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين) وروى الإمام أحمد، وأبو داود - واللفظ له - من حديث أبي عبد الرحمن الخراساني، عن عطاء الخراساني، عن نافع، عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم بأذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم).
وروى الإمام أحمد أيضا عن يزيد بن هارون، عن أبي جناب، عن شهر بن حوشب أنه سمع عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو ذلك وهذا شاهد للذي قبله، والله أعلم. أهـ تفسير ابن كثير.
فالواجب على المسلمين بغض ومعاداة المشاقين لله ولرسوله لا المحافظة عليهم والعمل في أُطرهم، قال سبحانه: (( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) (4) الممتحنة.
وفقد بينت حكم موالاة الظالمين في رسالتي عقيدتنا بين الولاء والبراء بما يغني عن الإعادة.
ثم يأتي هؤلاء ليقيموا دولتهم على الوحدة الوطنية الجاهلية التي تنسف قواعد الولاء والبراء التي تقوم عليها عقيدة التوحيد.
4 : العمل على تقليل الضرر قدر المستطاع:
يعتبر أولئك القوم أن المشاركة في المجلس التشريعي تؤدي إلى دفع الضرر عن المسلمين قدر المستطاع، فهم يدخلون تلك المجالس - الفاجرة- عملاًً بقاعدة وجوب درء الفتنة عن الأمة.
أقول وبالله التوفيق : إن هذا القول فيه مخالفة صريحة لنصوص الوحيين، الكتاب والسنة، فإن أدلة الكتاب والسنة تدل على أن رفع الضرر عن الأمة لا يكون إلا بتمسكها بالكتاب والسنة، لا بخروجها عن الكتاب والسنة ورضاها بالحلول الجزئية المنطلقة من المداهنة والركون إلى أعداء الله سبحانه، قال سبحانه: (إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ) (120) آل عمران.
يقول ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: يرشدهم تعالى إلى السلامة من شر الأشرار وكيد الفجار، باستعمال الصبر والتقوى، والتوكل على الله الذي هو محيط بأعدائهم، فلا حول ولا قوة لهم إلا به، وهو الذي ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. ولا يقع في الوجود شيء إلا بتقديره ومشيئته، ومن توكل عليه كفاه. تفسير ابن كثير.
وقال الطبري رحمه الله تعالى: وأما قوله:( وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا) . فإنه يعني بذلك جل ثناؤه: وإن تصبروا، أيها المؤمنون، على طاعة الله واتباع أمره فيما أمركم به، واجتناب ما نهاكم عنه: من اتخاذ بطانة لأنفسكم من هؤلاء اليهود الذين وصف الله صفتهم من دون المؤمنين، وغير ذلك من سائر ما نهاكم ( وتتقوا) ربكم، فتخافوا التقدم بين يديه فيما ألزمكم وأوجب عليكم من حقه وحق رسوله (لا يضركم كيدهم شيئا)، أي: كيد هؤلاء الذين وصف صفتهم.
ويعني بـ (كيدهم)، غوائلهم التي يبتغونها للمسلمين، ومكرهم بهم ليصدوهم عن الهدى وسبيل الحق.جامع البيان للطبري.
فهذه الآية يبين الله سبحانه فيها، أن المؤمنين إذا صبروا على دينهم، واتقوا ربهم في ما أمرهم به، ونهاهم عنه، لن يضرهم كيد الكافرين شيئاً، و- شيء - اسم جنس جاء في سياق الشرط فدل على عموم، أي لن يضر كيد الكافرين المؤمنين لا بقليل ولا بكثير، ومفهوم المخالفة، أن كيد الكافرين يصيب المؤمنين إذا تخلوا عن الصبر والتقوى.
وقال سبحانه: (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) (141) النساء.(/9)
قال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: أي: تسلطا واستيلاء عليهم، بل لا تزال طائفة من المؤمنين على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، ولا يزال الله يحدث من أسباب النصر للمؤمنين، ودفع لتسلط الكافرين، ما هو مشهود بالعيان. حتى إن (بعض) المسلمين الذين تحكمهم الطوائف الكافرة، قد بقوا محترمين لا يتعرضون لأديانهم ولا يكونون مستصغرين عندهم، بل لهم العز التام من الله، فله الحمد أولا وأخراً، وظاهرا وباطنا.أهـ تفسير السعدي.
والقول في هذه الآية، كالقول في الآية قبلها، فإن - سبيلا- اسم جنس نكرة جاء في سياق النفي فدل على عموم، أي لن يكون هنالك من سبيل للكافرين على المؤمنين، وهذا مع الإيمان الصحيح، ويؤيد ذلك ما رواه مسلم في صحيحه وغيره عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها أو قال من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا).
فالحديث صريح الدلالة بأن الرسول صلى الله عليه وسلم سأل ربه ألا يسلط على أمته عدواً مما سوى أنفسهم، فاستجاب المولى سبحانه دعوة نبيه صلى الله عليه وسلم، وعصم أمة نبيه من تسلط الأعداء عليها حتى يكون ذلك بسبب ذنوبها وغفلتها كما قال سبحانه: ( أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (165) آل عمران.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: يقول تعالى: (أولما أصابتكم مصيبة) وهي ما أصيب منهم يوم أحُد من قتلى السبعين منهم، (قد أصبتم مثليها) يعني يوم بدر فإنهم قتلوا من المشركين سبعين قتيلاً، وأسروا سبعين أسيراً (قلتم أنى هذا) أي من أين جرى علينا هذا؟ (قل هو من عند أنفسكم)، عن عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم أحد من العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء، فقتل منهم سبعون، وفر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه، وسال الدم على وجهه، فأنزل اللّه (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنّى هذا قل هو من عند أنفسكم) بأخذكم الفداء رواه ابن أبي حاتم، وهكذا قال الحسن البصري وقوله (قل هو من عند أنفسكم) أي بسبب عصيانكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمركم أن لا تبرحوا من مكانكم فعصيتم، يعني بذلك الرماة، (إن اللّه على كل شيء قدير) أي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا معقب لحكمه. أهـ تفسير ابن كثير.
وقال سبحانه : (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ) (30) الشورى.
فهذه الآيات المذكورة تدل على أن ما أصاب المسلمين إنما هو بما كسبت أيديهم، بل ترك لنا القرآن عبرة في غزوة أحد إلى يوم القيامة قال سبحانه: ( وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) (152) آل عمران.
جاء في تفسير القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة: قال محمد ابن كعب القرظي: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد أحد وقد أصيبوا قال بعضهم لبعض: من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر! فنزلت هذه الآية. وذلك أنهم قتلوا صاحب لواء المشركين وسبعة نفر منهم بعده على اللواء، وكان الظفر ابتداء للمسلمين غير أنهم اشتغلوا بالغنيمة، وترك بعض الرماة أيضا مركزهم طلبا للغنيمة فكان ذلك سبب الهزيمة.(/10)
روى البخاري عن البراء بن عازب قال: لما كان يوم أحد ولقينا المشركين أجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم أناسا من الرماة وأمَّر عليهم عبدالله بن جبير وقال لهم: (لا تبرحوا من مكانكم إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا وإن رأيتموهم قد ظهروا علينا فلا تعينونا عليهم) قال : فلما التقى القوم وهزمهم المسلمون حتى نظرنا إلى النساء يشتددن في الجبل، وقد رفعن عن سوقهن قد بدت خلاخلهن فجعلوا يقولون: الغنيمة الغنيمة. فقال لهم عبدالله: أمهلوا! أما عهد إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تبرحوا، فانطلقوا فلما أتوهم صرف الله وجوههم وقتل من المسلمين سبعون رجلا. ثم إن أبا سفيان بن حرب أشرف علينا وهو في نشز فقال: أفي القوم محمد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تجيبوه) حتى قالها ثلاثا. ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ ثلاثا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تجيبوه) ثم قال: أفي القوم عمر بن الخطاب؟ ثلاثا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تجيبوه) ثم التفت إلى أصحابه فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا. فلم يملك عمر رضي الله عنه نفسه دون أن قال: كذبت يا عدو الله! قد أبقى الله لك من يخزيك به. فقال: اعْلُ هُبَل؛ مرتين. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أجيبوه) فقالوا: ما نقول يا رسول الله؟ قال: (قولوا الله أعلى وأجل). قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، (أجيبوه). قالوا: ما نقول يا رسول الله؟ قال: قولوا (الله مولانا ولا مولى لكم). قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، أما إنكم ستجدون في القوم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني.
وفي البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد القتال. وفي رواية عن سعد: عليهما ثياب بيض ما رأيتهما قبل ولا بعد. يعني جبريل وميكائيل. وفي رواية أخرى: يقاتلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد القتال ما رأيتهما قبل ذلك اليوم ولا بعده. وعن مجاهد قال: لم تقاتل الملائكة معهم يومئذ، ولا قبله ولا بعده إلا يوم بدر. قال البيهقي: إنما أراد مجاهد أنهم لم يقاتلوا يوم أحد عن القوم حين عصوا الرسول ولم يصبروا على ما أمرهم به. وعن عروة بن الزبير قال: وكان الله عز وجل وعدهم على الصبر والتقوى أن يمدهم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين: وكان قد فعل؛ فلما عصوا أمر الرسول وتركوا مصافهم وترك الرماة عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ألا يبرحوا من منازلهم، وأرادوا الدنيا، رفع عنهم مدد الملائكة، وأنزل الله تعالى (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه): آل عمران 152. فصدق الله وعده وأراهم الفتح، فلما عصوا أعقبهم البلاء. وعن عمير ابن إسحاق قال: لما كان يوم أحد انكشفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسعد يرمي بين يديه، وفتى ينبل له، كلما ذهبت نبلة أتاه بها. قال ارم أبا إسحاق. فلما فرغوا نظروا من الشاب؟ فلم يروه ولم يعرفوه. وقال محمد بن كعب: ولما قتل صاحب لواء المشركين وسقط لواؤهم، رفعته عمرة بنت علقمة الحارثية؛ وفي ذلك يقول حسان:
فلولا لواء الحارثية أصبحوا يباعون في الأسواق بيع الجلائب
و ( تحسونهم) معناه تقتلونهم وتستأصلونهم. (بإذنه) بعلمه، أو بقضائه وأمره. (حتى إذا فشلتم) أي جبنتم وضعفتم. يقال فشل يفشل فهو فشِل وفشْل. وجواب (حتى) محذوف، أي حتى إذا فشلتم امتحنتم. ومثل هذا جائز كقوله (فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء): الأنعام 35 فافعل. وقال الفراء: جواب (حتى)، (وتنازعتم) والواو مقحمة زائدة؛ كقوله (فلما أسلما وتله للجبين. وناديناه): 103 - 104 الصافات أي ناديناه (وعصيتم). أي حتى إذا فشلتم وتنازعتم عصيتم. وعلى هذا فيه تقديم وتأخير، أي حتى إذا تنازعتم وعصيتم فشلتم. وقال أبو علي: يجوز أن يكون الجواب (صرفكم عنهم)، و- ثم- زائدة، والتقدير حتى إذا فشلتم وتنازعتم وعصيتم صرفكم عنهم.(/11)
وجوز الأخفش أن تكون زائدة؛ كما في قوله تعالى (حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم): 118 التوبة. وقيل (حتى) بمعنى - إلى- وحينئذ لا جواب له، أي صدقكم الله وعده إلى أن فشلتم، أي كان ذلك الوعد بشرط الثبات. ومعنى(تنازعتم) اختلفتم؛ يعني الرماة حين قال بعضهم لبعض: نلحق الغنائم. وقال بعضهم: بل نثبت في مكاننا الذي أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالثبوت فيه. (وعصيتم) أي خالفتم أمر الرسول في الثبوت. (من بعد ما أراكم ما تحبون) يعني من الغلبة التي كانت للمسلمين يوم أحد أول أمرهم؛ وذلك حين صرع صاحب لواء المشركين على ما تقدم، وذلك أنه لما صرع انتشر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وصاروا كتائب متفرقة فحاسوا العدو ضربا حتى أجهضوهم عن أثقالهم. وحملت خيل المشركين على المسلمين ثلاث مرات كل ذلك تنضح بالنبل فترجع مغلوبة، وحمل المسلمون فنهكوهم قتلا. فلما أبصر الرماة الخمسون أن الله عز وجل قد فتح لإخوانهم قالوا: والله ما نجلس ههنا لشيء، قد أهلك الله العدو وإخواننا في عسكر المشركين. وقال طوائف منهم: علام نقف وقد هزم الله العدو؟ فتركوا منازلهم التي عهد إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ألا يتركوها، وتنازعوا وفشلوا وعصوا الرسول فأوجفت الخيل فيهم قتلا. وألفاظ الآية تقتضي التوبيخ لهم، ووجه التوبيخ لهم أنهم رأوا مبادئ النصر، فكان الواجب أن يعلموا أن تمام النصر في الثبات لا في الانهزام. ثم بين سبب التنازع. فقال (منكم من يريد الدنيا) يعني الغنيمة. قال ابن مسعود : ما شعرنا أن أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا وعرضها حتى كان يوم أحد. (ومنكم من يريد الآخرة) وهم الذين ثبتوا في مركزهم، ولم يخالفوا أمر نبيهم صلى الله عليه وسلم مع أميرهم عبدالله بن جبير؛ فحمل خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل عليه، وكانا يومئذ كافرين فقتلوه مع من بقي، رحمهم الله. والعتاب مع من انهزم لا مع من ثبت، فإن من ثبت فاز بالثواب، وهذا كما أنه إذا حل بقوم عقوبة عامة فأهل الصلاح والصبيان يهلكون؛ ولكن لا يكون ما حل بهم عقوبة، بل هو سبب المثوبة. والله أعلم.
قوله تعالى (ثم صرفكم عنهم ليبتليكم) أي بعد أن استوليتم عليهم ردكم عنهم بالانهزام. ودل هذا على أن المعصية مخلوقة لله تعالى. وقالت المعتزلة: المعنى ثم انصرفتم؛ فإضافته إلى الله تعالى بإخراجه الرعب من قلوب الكافرين من المسلمين ابتلاء لهم. قال القشيري: وهذا لا يغنيهم؛ لأن إخراج الرعب من قلوب الكافرين حتى يستخفوا بالمسلمين قبيح ولا يجوز عندهم، أن يقع من الله قبيح، فلا يبقى لقوله (ثم صرفكم عنهم) معنى. وقيل: معنى (صرفكم عنهم) أي لم يكلفكم طلبهم.(/12)
قوله تعالى (ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين) أي لم يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة. والخطاب قيل هو للجميع. وقيل: هو للرماة الذين خالفوا ما أمروا به، واختاره النحاس. وقال أكثر المفسرين: ونظير هذه الآية قوله (ثم عفونا عنك): 52 البقرة. (والله ذو فضل على المؤمنين) بالعفو والمغفرة. وعن ابن عباس قال: ما نصر النبي صلى الله عليه وسلم في موطن كما نصر يوم أحد، قال: وأنكرنا ذلك، فقال ابن عباس: بيني وبين من أنكر ذلك كتاب الله عز وجل، إن الله عز وجل يقول في يوم أحد (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه) - يقول ابن عباس: والحَس القتل – (حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين) وإنما عنى بهذا الرماة. وذلك أن النبّي صلى الله عليه وسلم أقامهم في موضع ثم قال: (احموا ظهورنا فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا). فلما غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأباحوا عسكر المشركين انكفأت الرماة جميعا فدخلوا في العسكر ينتهبون، وقد التقت صفوف أصحاب النبّي صلى الله عليه وسلم، فهم هكذا - وشبك أصابع يديه - والتبسوا. فلما أخل الرماة تلك الخلة التي كانوا فيها دخلت الخيل من ذلك الموضع على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فضرب بعضهم بعضا والتبسوا، وقتل من المسلمين ناس كثير، وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أول النهار حتى قتل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعة، وجال المسلمون نحو الجبل، ولم يبلغوا حيث يقول الناس: الغار، إنما كانوا تحت المهراس وصاح الشيطان: قتل محمد. فلم يشك فيه أنه حق، فما زلنا كذلك ما نشك أنه قتل حتى طلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين السعدين، نعرفه بتكفئه إذا مشى. قال: ففرحنا حتى كأنا لم يصبنا ما أصابنا. قال: فرقي نحونا وهو يقول: (اشتد غضب الله على قوم دموا وجه نبيهم). وقال كعب بن مالك: أنا كنت أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين؛ عرفته بعينيه من تحت المغفر تزهران فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين! ابشروا، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقبل. فأشار إليّ أن اسكت. الجامع لأحكام القرآن- بتصرف يسير -.
فالصحابة رضي الله تعالى عنهم فشلوا في غزوة أحد كما هو ظاهر القرآن ( فشلتم ) بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أنه صلى الله عليه وسلم أصيب في تلك الغزوة، والمتتبع لهذا الحادث الجلل، يدرك أن سبب فشل المسلمين في غزوة أحد، ما وقعوا فيه من مخالفة للرسول صلى الله عليه وسلم، والمخالفون بالنسبة لمجموع المجاهدين قلة، فكيف بزماننا هذا الذي كثرت فيه الفتن، وعظمت فيه المحن، وأصبح فيه المعروف منكراً، والمنكر معروفاً وفي الحديث عن زينبوبنت جحش أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فزعاً محمراً وجهه يقول: ( لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح من اليوم من ردم يأجوج مثل هذه وحلق بإصبعين الإبهام والتي تليها، قالت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث). رواه البخاري.
فالأمة إذا كثر الفساد فيها يترتب عليها الهلاك لا النجاة، وطريق نجاتها لا يكون إلا برجوعها إلى دينها لما جاء في الحديث الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلَّط الله عليكم ذلاً، لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم) أخرجه أبو داود.
بل ما كان تسلط أعدائها عليها إلا بسبب ضعف الإيمان في قلوب أبنائها كما في حديث ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يوشك الأممُ أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها)، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: (بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيل، ولينزعنَّ الله من صدور عدوّكم المهابةَ منكم، وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوهن))، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: (حبّ الدنيا وكراهية الموت) أخرجه أبو داود.
وعليه فإن طريق النجاة، هو الرجوع إلى الكتاب والسنة، لا مشاركة الظالمين في ظلمهم، فقد جاء في الحديث الصحيح عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: ( والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليوشكن اللّه أن يبعث عليكم عقاباً من عنده ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم ). رواه أحمد والترمذي.
وفي رواية قال رسول الله أنه قال: (كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق ولتقصرنه على الحق قصرا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض وليلعننكم كما لعنهم). أخرجه الترمذي أيضا.(/13)
فهذه الأحاديث تدل على وجوب الأخذ على يدي الظالم، لا مشاركته والانطواء تحت رايته إن أرادت الأغلبية ذلك، الواجب على المسلم الحق أن يعتزل أهل الباطل، فإن الله سبحانه لعن بني إسرائيل بسبب عدم تناهييهم عن المنكر كما بين ذلك المولى سبحانه بقوله: ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (78) كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ) (81) المائدة.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: يخبر تعالى أنه لعن الكافرين من بني إسرائيل من دهر طويل، فيما أنزل على داود نبيه، عليه السلام، وعلى لسان عيسى ابن مريم، بسبب عصيانهم لله واعتدائهم على خلقه. قال العوفي، عن ابن عباس: لعنوا في التوراة و في الإنجيل وفي الزبور، وفي الفرقان. ثم بيّن حالهم فيما كانوا يعتمدونه في زمانهم، فقال: (كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون )أي: كان لا ينهي أحد منهم أحدا عن ارتكاب المآثم والمحارم، ثم ذمهم على ذلك ليحذر أن يركب مثل الذي ارتكبوا، فقال: (لبئس ما كانوا يفعلون )؛ وقال الإمام أحمد، رحمه الله: حدثنا يزيد حدثنا شريك بن عبد الله، عن علي بن بذيمة عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي، نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم - قال يزيد: وأحسبه قال: وأسواقهم - وواكلوهم وشاربوهم. فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا فجلس فقال: (لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرا ).
وقال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي، حدثنا يونس بن راشد، عن علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا، اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك. ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قال: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ) إلى قوله: (فاسقون ) ثم قال: ( كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا - أو تقصرنه على الحق قصرا ). وكذا رواه الترمذي وابن ماجه، من طريق علي بن بذيمة، به وقال الترمذي: حسن غريب. ثم رواه هو وابن ماجه، عن بندار، عن ابن مهدى، عن سفيان، عن علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة مرسلا. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج وهارون بن إسحاق الهمداني قالا حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن العلاء بن المسيب، عن عبد الله بن عمرو بن مرة، عن سالم الأفطس، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل من بني إسرائيل كان إذا رأى أخاه على الذنب نهاه عنه تعذيرا، فإذا كان من الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وخليطه وشريكه - وفي حديث هارون: وشريبه، ثم اتفقا في المتن- فلما رأى الله ذلك منهم، ضرب قلوب بعضهم على بعض، ولعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون). ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد المسيء، ولتأطرنه على الحق أطرا أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض، أو ليلعنكم كما لعنهم)، والسياق لأبي سعيد. كذا قال في رواية هذا الحديث. أهـ تفسير ابن كثير.
فالواجب علينا إذا أردنا أن ينصرنا الله سبحانه، هو الأخذ على يدي الظالم، والعمل على إصلاح أنفسنا لا مناصرة الظالمين والدخول فيهم، والركون إليهم بحجة واهية قامت الأدلة على خلافها.
ثم إن الأمر لو كان كما ذهبوا إليه، أي الحصول على مناصب من أجل إصلاح المجتمع، لقبل بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم حين عرض عليه قومه الملك كما جاء ذلك في سيرته صلى الله عليه وسلم، ولكنه قال قوله المشهور: ( والله يا عم: لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه ).
فهذا ما علمنا إياه رسولنا صلى الله عليه وسلم، وهذا ما يجب أن نتأسى به، لا بنيات الأفكار، وحثالة الآراء المخالفة لسبيل المؤمنين.
5 : وجوب طاعة الأمير:(/14)
لقد سمعنا عدداً من الأحباب، ينكرون قضية الدخول في مجلس التشريع المشؤوم، لكنهم يشاركون إخوانهم في الانتخابات تحت ذريعة وجوب طاعة الأمير فيما فيه مصلحة الجماعة.
أقول: إن طاعة الأمير منوطة بطاعته لله سبحانه قال سبحانه: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) (59) النساء.
وفي الحديث الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ) صححه الألباني في الصحيح الجامع. فطاعة الحكام منوطة بطاعتهم لله ورسوله، فإن خرجوا عن طاعة الله ورسوله فلا طاعة لهم، ويؤكد ذلك ما رواه ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( سيلي أموركم بعدي رجال يطفئون السنة، ويعملون بالبدعة، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فقلت: يا رسول الله إن أدركتهم كيف أفعل؟ قال: تسألني يا ابن أم عبد ماذا تفعل ؟! لا طاعة لمن عصى الله ).
فالطاعة لا تكون إلا بالمعروف، وأما طاعة الأمراء فيما يحلون ويحرمون من غير دليل من الكتاب والسنة، أو في مخالفتهما فهو من الشرك المحذور الذي عاب الله سبحانه على أصحابه قال سبحانه: (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (31) التوبة.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: وقوله: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم ). روى الإمام أحمد، والترمذي، وابن جرير من طرق، عن عدي بن حاتم، رضي الله عنه، أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فر إلى الشام، وكان قد تنصر في الجاهلية، فأسرت أخته وجماعة من قومه، ثم من رسول الله صلى الله عليه وسلم على أخته وأعطاها، فرجعت إلى أخيها، ورغبته في الإسلام وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم عدي المدينة، وكان رئيسا في قومه طيئ، وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم، فتحدث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنق عدي صليب من فضة، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم. فقال: ( بلى إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا عدي، ما تقول؟ أيفرك أن يقال: الله أكبر؟ فهل تعلم شيئا أكبر من الله؟ ما يفرك؟ أيفرك أن يقال لا إله إلا الله؟ فهل تعلم من إله إلا الله )؟ ثم دعاه إلى الإسلام فأسلم، وشهد شهادة الحق، قال: فلقد رأيت وجهه استبشر ثم قال: ( إن اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون). وهكذا قال حذيفة بن اليمان، وعبد الله بن عباس، وغيرهما في تفسير: ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) إنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا. وقال السدي: استنصحوا الرجال، وتركوا كتاب الله وراء ظهورهم.أهـ تفسير ابن كثير.
وقال البغوي رحمه الله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا ) أي: علماءهم وقراءهم، والأحبار: العلماء، وأحدها حبر، وحبر بكسر الحاء وفتحها، والرهبان من النصارى أصحاب الصوامع فإن قيل: إنهم لم يعبدوا الأحبار والرهبان؟ قلنا: معناه أنهم أطاعوهم في معصية الله واستحلوا ما أحلوا وحرموا ما حرموا، فاتخذوهم كالأرباب. روي عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال لي: ( يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك). فطرحته ثم انتهيت إليه وهو يقرأ: ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) حتى فرغ منها، قلت له: إنا لسنا نعبدهم، فقال: ( أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتستحلونه؟) قال قلت: بلى، قال: ( فتلك عبادتهم). أهـ تفسير البغوي.
ففي هذه الأخبار، جعل المصطفى صلى الله عليه وسلم طاعة الأكابر في معصية الله، عبادة لهم، وهذه الآيات وإن كانت في حق اليهود والنصارى إلا أنها عامة في كل من وقع في ذلك من منطلق عموم الأدلة الدالة على أن الله سبحانه هو وحده المعبود المطاع، وكل طاعة لغيره فيما نهى عنه أو أمر به، هي عبادة لغيره وهي بذلك شرك.
وعليه فالواجب على كل مسلم أن يتبع الكتاب والسنة وأن لا يتعداهما بحال، فهما الحق المبين، وهما الصراط المستقيم، والله سبحانه أعلم.
فإن قيل لنا: إذا ما شاركنا القوم في ضلالهم وغيهم، هل نقف مكتوفي الأيدي نتفرج؟ أم يجب علينا أن نعمل وإن وقعنا في بعض المخالفات الشرعية من باب الأخذ بقاعدة أخف الضررين.(/15)
أقول: أ : إن المشاركة في الانتخابات التشريعية، هي رضى بالكفر، ولا يجوز أن يقع الإنسان في الكفر في حال إلا إذا أكره وقلبه مطمئن بالإيمان لقوله تعالى: ( مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (106) النحل.
وهذه الآية واضحة الدلالة بأنه لا يجوز الوقوع في الكفر إلا لمن أكره وقلبه مطمئن بالإيمان بالقول دون العمل، ولا بد أن يكون الإكراه ملجأ وإلا فلا، ولا شك من أن الأمر ما وصل إلى درجة التفكير ناهيك عن الوقوع فيه فعلاً ، بل إن المدقق في الواقع العام المحقق لفقهه يجد أن المصلحة الشرعية تقتضي عدم المشاركة إن كانت المشاركة مباحة، فكيف إذا كانت محرمة؟
ب: إن ما يعقده الفلسطينيون من عقود بينهم وبين يهود، عقود لا يعول عليها، إذ لا عهد ليهود قال سبحانه: ( أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ) (100) البقرة. وقال الحسن البصري في قوله: (بل أكثرهم لا يؤمنون ) قال: نعم، ليس في الأرض عهد يعاهدون عليه إلا نقضوه ونبذوه، يعاهدون اليوم، وينقضون غدا. نقلاً عن تفسير ابن كثير.
فاليهود لا عهود لهم، وما تقوم عليه الأسس التشريعية الفلسطينية هو على ما يتم الاتفاق عليه بين الجانبين – الفلسطيني واليهودي – فهو قائم على شفا جرف هار لا أسس له، فكيف بجماعة تؤمن بكلام الله سبحانه الدال على عدم إيفاء اليهود بعهودهم، ثم يبرمون معهم عهوداً مغلظة في أكثر القضايا تعقيداً ؟
ج: من المعلوم لكل ذي بصيرة بدينه، أن من المستحيل أن يوافق اليهود على استلام أي جماعة من الجماعات الإسلامية زمام الأمور إن قدر لها الفوز في الانتخابات الباطلة، بل هم يسعون جاهدين من أجل القضاء على المظاهر الإسلامية، والحيلولة دون رجوع المسلمين إلى سابق عهدهم المجيد، وها نحن نراهم ينفقون الأموال، ويحركون أذنابهم في كل مكان من أجل إخراج الناس من النور إلى الظلمات، وتثبيت عروشهم وهيمنتهم على العالم أجمع، وهم يدركون خطورة استلام أي جماعة صادقة زمام الأمور، لأن في ذلك تهديداً لوجودهم، وعليه فلن يسمح اليهود بشكل من الأشكال أن تفوز جماعة إسلامية في ما يسمى بالانتخابات المزعومة الباطلة، وإن حصل لها الفوز، فسيعمل اليهود على نقض ما أبرموا من عهود، ويعملوا على تغير سياستهم حفاظاً على أمنهم، ويدّعون بعد ذلك أنهم يريدون السلام، وإبرام عهود مع أناس غير إرهابيين مما يؤدي ذلك إلى الضغط على عملائها للتسبب في زعزعة داخلية تؤول نهاية إلى حرب أهلية يذهب ضحيتها العديد من أبناء هذا الشعب، كما هو الحال في الجزائر نسأل الله العفو والعافية.
وما أقوله هو قراءة لحقيقة الواقع ـ وهي ما لا يختلف عليه أهل فلسطين ، فهل بعد ذلك من عذر لمن يشارك في الانتخابات التشريعية بحجة رفع الضرر عن المسلمين في فلسطين من خلال أعمال تساعد على تأجج الواقع لا رفع الضرر والحرج عنه.
وخلاصة الأمر:
إن المشاركة في الانتخابات التشريعية لا تجوز بأي حال من الأحوال على ما ذكرنا من أدلة شرعية من أبرزها: أن الانتخابات هي حكم الشعب للشعب، وهذا مبدأ كفري يقوم على أساس السيادة للشعب لا لله سبحانه، وعليه لا يجوز لأي مسلم المشاركة فيها، أو الدعوة إليها، أو بذل أي عون يؤدي إلى عقدها والله سبحانه أعلى واعلم.
وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم
وكتب : إبراهيم بن عبد العزيز بركات
18 محرم 1426 هـ(/16)
حكم المشي بالنعلين بين القبور
السؤال : ما حكم لبس النعال أو خلعه أثناء زيارة المقابر ، و المشي بين القبور ؟ و هل يؤذي ذلك أهلها ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
اختلف العلماء في حكم لبس النعلين أثناء زيارة المقابر على أقوال :
• أولها : النهي مطلقاً ، لحديث بشير بن الحصاصية رضي الله عنه قال : بينما أنا أُماشي النبيَّ صلى اللّه عليه و سلم نظرَ فإذا رجلٌ يمشي بين القبور عليه نعلان فقال : ( يا صَاحبَ السِّبْتِيَّتَيْنِ ! وَيْحَكَ أَلْقِ سِبْتِيَّتَيْكَ ) .
رواه أبو داود و ابن ماجة و النسائي و أحمد و الحاكم ، و قال : ( هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه ) ، و حسَّنه الألباني .
و النعال السبتية بكسر السين المهملة هي التي لا شعر فيها ، و غالباً ما تتخذ من جلود البقر المدبوغة بالقرظ ، و سميت النعال بذلك لأن شعرها سَبَتَ عنها ؛ أي حُلِق و أزيل ، كما قرَّر أهل اللغة .
و ليست السبتية من النعال مقصودة بالتحريم بذاتها لعدم الفارق بين نعل و آخر في العلة – و إن لم تذكر – كما قال الشوكاني في نيل الأوطار ، و ربما ذكرت النعلان السبتيتان دون غيرهما هنا لتنبيه صاحبهما بما يستدعي انتباهه ، أو لبيان واقع الحال عند ورود النهي .
و هذا الحديث نص في النهي ، و النهي مفيد للتحريم بظاهره ، ما لم يصرفه عنه صارف .
• القول الثاني : استحباب خلع النعال عند زيارة القبور ، و هو اختيار ابن قدامة في المغني حيث قال رحمه الله :
لذلك قال الإمام أحمد رحمه الله : إسناد حديث بشير بن الخصاصية جيد ، أذهب إليه إلا من علة . اهـ .
قلت : و لعل العلة المقصودة ما يبلغ ضرره ، و يصعب تجنبه بغير الانتعال كالشوك ، و النجاسة ، و هوامِّ الأرض ، و نحو ذلك مما يوجد أو يكثر وجوده في المقابر ، و غير المعمور من الأرض .
• و ثالث أقوال أهل العلم هو الإباحة مطلقاً ، و دليلهم على ذلك ما رواه أصحاب الكتب الستة و غيرهم عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ قَالَ : ( الْعَبْدُ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَ تُوُلِّيَ وَ ذَهَبَ أَصْحَابُهُ حَتَّى إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ ) .
قلت : قوله : ( تُوُلِّيَ ) بالمبني للمجهول لفظ البخاري ، و معناه أن الملائكة تولت أمر سؤاله و حسابه كما قال الحافظ في الفتح ، و رواه مسلم و غيره بلفظ : ( تَوَلَّى عنه أصحابه ) بالمبني للمعلوم ، و معناه على هذه الرواية ظاهر جلي ؛ أي تركوه و أسلموه لما يستقبل و قفلوا عنه راجعين .
و وجه استدلالهم بحديث أنس على جواز المشي بالنعال بين القبور أن النبي صلى الله عليه و سلم ذكره و أقرَّه ، و لو كان مما ينهى عنه لنهى عنه عند ذكره ، إذ إنَّ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ، كما هو مقرر عند الأصوليين .
و إلى هذا القول ذهب الإمام النسائي و الطحاوي و غيرهما .
و قال ابن قدامة المقدسي رحمه الله : ( أكثر أهل العلم لا يرون بذلك بأسا ، قال جرير بن حازم : رأيت الحسن ، و ابن سيرين يمشيان بين القبور في نعالهما ) .
• و القول الرابع : هو التفريق بين النعال السبتية و غيرها ، و قصر التحريم على السبتية ، و هذا مذهب الإمام المحقق أبي محمد بن حزم الظاهري رحمه الله ، فقد قال في المحلى : ( وَ لاَ يَحِلُّ لأَحَدٍ أَنْ يَمْشِيَ بَيْنَ الْقُبُورِ بِنَعْلَيْنِ سِبْتِيَّتَيْنِ ؛ وَ هُمَا اللَّتَانِ لاَ شَعْرَ فِيهِمَا ، فَإِنْ كَانَ فِيهِمَا شَعْرٌ : جَازَ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا بِشَعْرٍ ، وَ الأُخْرَى بِلاَ شَعْرٍ جَازَ الْمَشْيُ فِيهِمَا ) .
ثمَّ ذكر حديث أنس رضي الله عنه في سماع الميت قرع نعال أصحابه إذا تولَّوا عنه ، و عقَّبَ عليه بقوله : ( فَهَذَا إخْبَارٌ مِنْهُ عليه السلام بِمَا يَكُونُ بَعْدَهُ ، وَ أَنَّ النَّاسَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ سَيَلْبَسُونَ النِّعَالَ فِي مَدَافِنِ الْمَوْتَى إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، عَلَى عُمُومِ إنْذَارِهِ عليه السلام بِذَلِكَ ، وَ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ ، وَ الأَخْبَارُ لاَ تُنْسَخُ أَصْلاً ) .
قال أبو الخطاب : يشبه أن يكون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما كره للرجل المشي في نعليه لما فيهما من الخيلاء فإن نعال السبت من لباس أهل النعيم ، فقد قال عنترة في ميميته مفاخراً بما صنع و هو يصف الفارس الذي أرداه بأبيات منها :
بطلٌ كأن ثيابه في سرحةٍ *** يحذي نعال السبت ليس بتوأم
الترجيح :(/1)
قال الإمام المحقق ابن قدامة المقدسي : ( و لنا أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الخبر الذي تقدم ، و أقل أحواله الندب ، و لأن خلع النعلين أقرب إلى الخشوع و زي أهل التواضع ، و احترام أموات المسلمين و إخبار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأن الميت يسمع قرع نعالهم لا ينفي الكراهة ، فإنه يدل على وقوع هذا منهم ، و لا نزاع في وقوعه و فعلهم إياه مع كراهيته فأما إن كان للماشي عذر يمنعه من خلع نعليه مثل الشوك يخافه على قدميه ، أو نجاسة تمسهما لم يكره المشي في النعلين . قال أحمد في الرجل يدخل المقابر و فيها شوك يخلع نعليه ؟ : هذا يضيق على الناس حتى يمشي الرجل في الشوك ، و إن فعله فحسن هو أحوط وإن لم يفعله رجل يعني لا بأس ، و ذلك لأن العذر يمنع الوجوب في بعض الأحوال ، و الاستحباب أولى ، و لا يدخل في الاستحباب نزع الخفاف ؛ لأن نزعها يشق ، و قد روي عن أحمد أنه كان إذا أراد أن يخرج إلى الجنازة لبس خفيه ، مع أمره بخلع النعال ، و ذَكر القاضي أن الكراهة لا تتعدى النعال إلى الشمشكات ، و لا غيرها لأن النهي غير معلل ، فلا يتعدى محله ) .
قلتُ : و ما ذهب إليه ابن قدامة رحمه الله بيِّنُ الرجحان لأن فيه إعمال للنصوص ، حيث إن نهي النبي صلى الله عليه وسلم ثابت ، و هو في أقل حالاته يفيد كراهة المنهي عنه ، و أمره يفيد الندب في أقل أحواله ، و نظراً لوجود المعارض ( في حديث أنس المتقدم ) لحمل الأمر على الوجوب و النهي على التحريم ، لزم أن يصار إلى الجمع بين الأدلة ، و مقتضاه الندب إلى خلع النعال في المقابر ، و النهي عن ذلك كراهةً لا تحريماً كما قرره ابن قدامة و اختاره الإمام أحمد رحمهما الله .
كما إن في هذا القول رفع للحرج الواقع بغلبة الظن حال وجود المشقة في خلع النعال بسبب الأشواك و نحوها ، لذلك روعي رفع الحرج في الترجيح ، و الله تعالى أجل و أعلى و أعلم و أحكم .
هذا و الله الهادي إلى سواء السبيل ، و بالله التوفيق .(/2)
حكم الملابس التي تحمل صوراً و شعارات و الصلاة فيها
السؤال :
إن معظم الملابس الرياضية التي يلبسها الشباب نجد عليها بعض الصور أو الشعارات فهل يجوز لبسها و الصلاة فيها ؟
الجواب :
حكم التصوير واحد في اللباس و غيره ، و هو على الأرجح التحريم لغير ضرورة ، و الحكم سواء في تعليق الصور على الجُدران ، أو طباعتها على ملابس الإنسان ، أو غير ذلك ممّا فيه دلالةٌ صريحة أو ضمنيّة على تعظيم الصُوَر أو أصحابها .
و الأدلّة الناهية عن التصوير ، و المغلّظة في حُكم من استحلّه بدون ضرورةٍ ملجئة ، لا تفرّق بين نوعٍ و آخر منه ، و لكنّها تستغرق التصوير المعهود ، و إن اختلفت أوصافه و أدواته .
==
أمّا الشعارات التي تُطبَع على ملابس الرياضيين و المشجّعين فإن كانت مقتصرة على رقم اللاعب ، أو اسم النادي الذي ينتسب إليه ، أو شعاره ، أو اسم الشركة المصنّعة للملابس الرياضيّة ، أو شعارها ، فلا بأس فيها ، و لا محظور في لبسها و لا في الصلاة فيها .
و إن كان الشعار يحمل عَلَمَ دولةٍ أو جماعةٍ كافرةٍ ، أو فيه مُظاهرةٌ للكفّار أو اعتزازٌ بهم أو تكثيرٌ لسوادِهم برفع شعارهم ( كالصليب شعاراً للنصارى المطرقة و المنجل شعاراً للشيوعيّة ، أو الشمعدان و النجمة السداسيّة شعاراً للصهيونيّة أو اليهوديّة ، أو ما تتخذه الماسونيّة و النازيّة و أمثالهما من رموزٍ و شعارات ) فهذا حرامٌ قطعاً ، بل هو من الأفعال الكفريّة ، التي لا يُعذر فيها أحدٌ ما لم يكُن جاهلاً بالحكم .
و الصلاة في ملابس تحمل هذا النوع من الشعارات باطلةٌ ، و لا وجه للقول بصحّتها أصلاً .
و الله تعالى أعلم و أحكم ، و صلّى الله و سلّم و بارك على نبيّنا محمّدٍ و آله و صحبه أجمعين .(/1)
حكم الملك دينه 20/6/1426
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد، لا زالت الوقفات متصلة مع آيات سورة يوسف، نستلهم منها المعاني، ونأخذ منه الدروس والعبر، وأقف اليوم مع قول الحق _سبحانه وتعالى_: "كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ" والذي يظهر أن دين الملك هو أن يؤخذ المسروق فيرجع إلى صاحبه، ويعاقب السارق، ولو أخذ يوسف _عليه السلام_ بسياسة الملك وشريعته لما تم له المراد، الذي هو أخذ بنيامين وضمه إليه، فلحكمة يعلمها الله، ولعلم يوسف بشريعة يعقوب _عليه السلام_، أرجع الأمر إليهم "قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ"، فقالوا: إن السارق عندنا يؤخذ هو ويدفع إلى المسروق منه، "قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ"، ولهذا قال الله _تعالى_: "مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ".
وفي هذه الآية لفتة مهمة جداً قال: "مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ"، والمقصود بدين الملك في حكم الملك، فسمى الحكم ديناً.
وعندما تكلم يوسف مع السجناء، فقال لهم: "إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ"، وصف عبادة الله وحده؛ والتي منها تحكيم أمره فيما شجر، بقوله معقباً: "ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ"، فسمى الحكم ديناً.
وهذا يوصلنا إلى حقيقة واضحة وهي أن تحكيم شريعة الله _جل وعلا_ دين، كما أن الصلاة دين، بل كما أن التوحيد والأمر بعبادة الله وحده دين، فتحكيم شريعة الله دين، وانظر إلى هذا الاقتران "إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ".
إن الذين يريدون أن يفصلوا ويفرقوا بين تحكيم شريعة الله _جل وعلا_، وبين العبادات ويقولون: هذا شيء وذاك شيء، فدع ما لله لله وما لقيصر لقيصر قد جانبوا الصواب فإن قيصر وماله لله والحكم يجب أن يكون لله "إن الحكم إلاّ لله أمر ألا تعبدوا إلاّ إياه".
وكما جاءت النصوص بأن تارك الصلاة يكفر، فقد جاء قول الله _تعالى_: "وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ"، "فلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً".
وأما قوله _تعالى_: "وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ"، وفي الآية الأخرى: "وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ"، فلا تعارض بينه وبين ما قد سبق فالمشرك ظالم والكافر ظالم، "يا بني إن الشرك لظلم عظيم"، وكذلك المشرك فاسق، والكافر كفراً أكبراً فاسق فسوقاً أكبراً "ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلاّ الفاسقون".
ولعله يحسن التنبيه هنا إلى أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفراً أكبراً وفسقاً مخرجاً من الملة وظلم عظيم، وقد يكون دون ذلك، وليس المراد هنا تحرير ذلك، وإنما الإشارة إلى أن تحكيم شريعة الله دين فمن لم يحكم بشريعة الله فقد عارض الدين، كما أن من لم يحقق إخلاص العبادة له _سبحانه وتعالى_ وحده قد عارض الدين، وكما أن من ترك صلاة أو صلوات أو الصلاة كلها فقد عارض الدين.
وهذا كلام فيه شيء من الإجمال تفصيله في مظانه ومواقعه وما كتبه العلماء، وفيما يتعلق بتحكيم شريعة الله _جل وعلا_ فمن أفضل ما اطلعت عليه من الرسائل المختصرة في موضوع تحكيم الشريعة، رسالة للشيخ الإمام/ محمد بن إبراهيم آل الشيخ – رحمه الله – (مفتي الديار السعودية سابقاً)، له رسالة طبعت باسم (الرسالة الذهبية في تحكيم القوانين الوضعية) وهي صفحات مختصرة مفيدة بيَّن فيها متى يكون الحكم بغير ما أنزل الله كفراً، ومتى لا يكون كفراً وهذه المسألة ضل فيها ناس بين إفراط وتفريط، فهناك المرجئة الذين ضيّعوا هذا الحكم العظيم، حتى زعموا أن التشريع وتبديل حكم الدين بالقانون الأثيم ليس كفراً.
وهناك الخوارج الذين أنزلوا قول الله _تعالى_: "إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ"، على من لم يغير حكم الله أصلاً، بل لم يخالفه، ولهذا حجهم ابن عباس _رضي الله عنه_ في تكفيرهم بمسألة التحكيم بأن ذلك من حكم الله وقد كان في مثل قوله _تعالى_: "فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها". ولم يتعن إثبات أن الحكم بغير ما أنزل الله أقسام، فعلي _رضي الله تعالى_ عنه لم يقع في كفر أصغر ولا أكبر وحاشاه.(/1)
والناس اليوم بين إفراط وتفريط بين مرجئة وبين خوارج وأهل الحق وسط بينهما، أسأل الله أن يرزقني وإياكم ديناً وسطاً لا ذاهباً شطوطاً، ولا هابطاً هبوطاً، والحمد لله أولاً وأخيراً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم بإحسان وترضى عنهم إلى يوم الدين.(/2)
حكم النظر إلى الأجنبيات المتبرجات في الوسائل الحديثة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ؛ نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد : -
فقد ظهرت الفتن في زماننا هذا وعمت وانتشرت حتى أصبح الدين غريباً بين أهله ،وساد الجهل وطغى على الناس ، ورغب الناس في الأموال والعيال ، وانصرفوا عن العلم والعلماء ، وتكلم الحمقاء ، وأُسكت الفقهاء ، وتصدر الجهلاء ، وضاع الناس في الظلمات والنورُ بين أيديهم ، وتسلط الكافرون وتخاذل المسلمون ، ورفع النصارى لواء الحرب الصليبية من جديد ، ورفع أذنابهم رايات الاستسلام ، وتبعوهم في كل صغيرة وكبيرة حذو القُذة بالقُذة ؛ فلا يلِغُون في جيفة إلا وزاحموهم عليها ، ولا يتمرغون في قذرة إلا ونافسوهم فيها ، ولا يلِجون في جحور الحيوان إلا ولَجوا وراءهم حتى وصل الحال بالكافرين أنهم يتسافدون تسافد الحيوان في الطرقات ، وسارعوا إلى التبرج والتعري مسارعتهم إلى المأكولات والمشروبات ، وأصبحوا يتسابقون في نشر آخر الصور الثابتة منها والمتحركة بشتى الوسائل والأساليب ؛ سواء كان ذلك عن طريق الصور الفوتغرافية أو الصحف والمجلات أو الفيديو كليب أو القنوات الفضائية أو الديجيتال أو الانترنت أو غيرها من الوسائل الحديثة أو القديمة وتبعهم في ذلك كله أذنابهم من المنافقين ممن لا خلاق له ، ولقد وصل الأمر ببعضهم إلى التجسس على عورة أخيه المسلم وتراه يتصيد غفلته ليقوم بتصوير عوراته ونشرها في هذه الوسائل للنكاية به أو فضيحته أو تشويهه بل ربما لغرض إمتاع المشاهدين بهذه الصور .
وأمر هذه الصور وإن كان واضحاً في حرمتها عند القاصي والداني إلا أني أحببت أن أذكر حكمها ، وأدلة تحريمها خشيةً من أن يطول بالناس الزمان وهم على هذه الحال ؛ فيأتي إليهم شياطينهم فيُفتونهم بأن هذه الصور مباحة ، وأنها جائزة شرعاً ؛ فأقول مستعيناً بالله ، وهو حسبي ونعم الوكيل :
سعى الإسلام في تشريعه إلى الحفاظ على الضروريات الخمس ، وهي الدين والنفس والعقل والنسل والمال ، وشرع لذلك تشريعاً عظيماً مداره على الحفاظ على هذه الخمس لدوام حياة الفرد والجماعة ، وعلى تحسينها وتجميلها لتحقيق الرفاهية ولجريانها على السهولة واليسر بعيداً عن العنت والمشقة ؛ ولذا فإنه حرّم على المرء كل ما يضره وأمره بفعل كل ما ينفعه . ومع ذلك فليس كل ضرر معتبرٌ ، وليست كل مصلحة معتبرةٌ ؛ بل إن المصلحة المعتبرة هي التي حددها الشارع الحكيم وكذلك المفسدة ، حتى لا تكون المصالح والمفاسد مبنية على الأمزجة والأهواء ، وإلا لساد الهرج والمرج ولدبّ الصراع بين الناس ، ومن هنا كان لا بد على العبد إن أراد تحقيق مصلحته أن تكون موافقة لمراد الشارع الحكيم ، ولا بد في درء المفسدة عنه أن تكون موافقة لمراد الشارع أيضاً .
والنظر إلى عورة الأجنبية عموماً - سواء كان مباشرة أو في الوسائل الحديثة من تلفاز أو صور فوتوغرافية أو فيديو كليب أو تصوير حصري أو غيرها من وسائل – هذا النظر لا يخلو من أن يحقق مصلحة أو لا .
فأما أن هذه النظرة قد حققت مصلحة ، فهو غير وارد لأن هذه المصلحة المتوهمة ملغاة ؛ لأنها مصلحة عاجلة حققت نفعاً مؤقتاً للمكلف من إشباع شهوته وإمتاع نظره ولكنها قد عارضتها مفسدة أكبر منها ؛ وهي المعصية التي لحقت العبد بهذه النظرة التي نهى الله عنها ؛ مع ما يعقب ذلك من حسرة وندامة وألم معنوي بالغ يلحقه بسبب تعديه على حدود الله ، قال تعالى: ? وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ? [الطلاق :1] ، وقد عُلِم عند من له أدنى معرفة بالشريعة أن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة ، وإذا تعارضت مفسدة في الدنيا مع مفسدة في الآخرة قُدِم درء مفسدة الآخرة .(/1)
وأما أن هذه النظرة قد جلبت مفسدة على المكلف فهو أمر واضح لأن الله قد حرمها ، والله لا يحرم إلا ما فيه مفسدة على العبد ، قال القرطبي : (البصر هو الباب الأكبر إلى القلب ، وأعمر طرق الحواس إليه، وبحسب ذلك كثر السقوط من جهته ووجب التحذير منه، وغضه واجب عن جميع المحرمات ، وكل ما يخشى الفتنة من أجله ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - " إياكم والجلوس على الطرقات " فقالوا : يا رسول الله مالنا من مجالسنا بُدٌ نتحدث فيها . فقال " فإذا أبيتم إلا المجالس فأعطوا الطريق حقه " قالوا : وما حق الطريق يا رسول الله . قال " غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " رواه أبو سعيد الخدري خرجه البخاري ومسلم (1)، وقال - صلى الله عليه وسلم - لعلي " لا تتبع النظرةَ النظرةَ فإنما لك الأولى وليست لك الثانية )(2)، وقال ابن كثير :( ولما كان النظر داعية إلى فساد القلب كما قال بعض السلف: النظر سهم سم إلى القلب ولذلك أمر الله بحفظ الفروج كما أمر بحفظ الأبصار التي هي بواعث إلى ذلك، فقال تعالى : ? قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ? [النور:30] أهـ)(3)
ومن الأدلة على تحريم هذه الصور وعلى تحريم النظر إليها ما يلي :
أولاً:
الأدلة من القرآن الكريم :
1- قوله تعالى :? قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ? [النور:30،31] ، فقد دلت على حرمت النظر إلى العورات من الرجال والنساء على حد سواء على العموم سواء كان ذلك نظراً مباشراً أو نظراً بواسطة ، وفي البخاري وقال سعيد بن أبي الحسن للحسن : إن نساء العجم يكشفن صدورهم ورءوسهن . قال : اصرف بصرك ، يقول الله تعالى :? قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ? [النور:30] ، قال قتادة : عما لا يحل لهم، قال تعالى: ? وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ? [ النور:31] ، ويقول تعالى: ? يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ ? [غافر: 19] ، من النظر إلى ما نهي عنه )(4). قال ابن كثير :( هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين أن يغضوا أبصارهم عما حُرِّم عليهم فلا ينظروا إلا إلى ما أباح لهم النظر إليه وأن يغضوا أبصارهم عن المحارم )(5). وقد ذكر الطبري عن ابن زيد قال :( يغض من بصره أن ينظر إلى ما لا يحل له إذا رأى ما لا يحل له غض من بصره لا ينظر إليه )(6) . قال القرطبي : ( ولم يذكر الله تعالى ما يغض البصر عنه ويُحفظ ؛ لأن ذلك معلوم بالعادة وأن المراد منه المحرم دون المحلل )(7).
2- قوله تعالى : ? وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ? [ النور :30 ] ،وقوله تعالى : ? وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ?[ النور :31 ] ، والأمر بحفظ الفروج دليل على حرمة النظر إليها . قال القرطبي :( أي يستروها عن أن يراها من لا يحل ، وقيل : ويحفظوا فروجهم أي عن الزنا .. قال : والصحيح أن الجميع مراد واللفظ عام ،وقد روى بهز بن حكيم بن معاوية القشيري عن أبيه عن جده قال : قلت يا رسول الله : عوراتنا ما نأتي منها وما نذر ؟ قال " احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك " قال : الرجل يكون مع الرجل ؟ قال " إن استطعت ألا يراها فافعل " قلت : فالرجل يكون خالياً ؟ فقال : " الله أحق أن يستحيا منه من الناس " (8)، والنساء مثل الرجال في هذا ، ولا شك أن الأمر بحفظ الفروج إنما كان لئلا يراها أحد ؛ بصرف النظر عن وسيلة الرؤية ، ولا شك أن النظر إلى هذه الصور داخل في مسمى الرؤية والنظر الوارد في هذه الآية ؛ فالتحريم على هذا شامل له .
كما أن الآية قد بيّنت أن الأمر بغض البصر وحفظ الفروج إنما هو لطلب زكاة النفوس ، ولا شك أن النظر إلى هذه الصور الخليعة – التي تُبَث في الوسائل الحديثة بكل أشكالها - لا يحقق هذه التزكية المنشودة فالنظر إليها محرم إذاً كالنظر إلى الخلاعة مباشرة لاشتراكهما في العلة .
كما أن الاستثناء في قوله تعالى: ? وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ.. ?[النور:31] يدل على أن الأصل هو أن تُخفي المرأة زينتها عن الأجانب إلا ما لا يمكن إخفاؤه عنهم لتعذره ؛ فإن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها ، أو لعدم الفتنة في إظهاره - كالوجه واليدين - على الخلاف في اعتبارهما من الزينة أم لا .(/2)
والآية أيضاً قد نهت النساء عن ضرب الأرض بأقدامهن ليُعلَم ما يُخفين من زينتهن وذلك في قوله تعالى : ? وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ?[النور:31]، فإذا كان هذا لئلا يُعلم ما يُخفين من زينتهن فكيف إذا أظهرن هذا المخفي بالصور أو غيرها ؟! فهو بالتحريم أولى.
3- الأمر بخفض الصوت وعدم إِلانة الحديث عند التخاطب مع الرجال، قال تعالى : ? يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ إِنْ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً ?[الأحزاب:32] ، (أي لا تُلِنَّ القول ؛ أمرهن الله أن يكون قولهن جزلاً وكلامهن فصلاً، ولا يكون على وجه يظهر في القلب علاقة بما يظهر عليه من اللين كما كانت الحال عليه في نساء العرب من مكالمة الرجال بترخيم الصوت ولينه مثل كلام المريبات والمومسات فنهاهن عن مثل هذا )(9)، ( قال السدي وغيره : يعني بذلك ترقيق الكلام إذا خاطبن الرجال ؛ ولهذا قال تعالى : ? فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ?[الأحزاب:32]، أي دَغَل، وقال تعالى : ? وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً ? [الأحزاب: 32] قال ابن زيد : قولاً حسناً جميلاً معروفاً في الخير، ومعنى هذا أنها تخاطب الأجانب بكلام ليس فيه ترخيم ، أي لا تخاطب المرأة الأجانب كما تخاطب زوجها )(10)، قال الطبري : ( يقول فلا تَلِنَّ بالقول للرجال فيما يبتغيه أهل الفاحشة منكن )(11) .
وهذه الآية قد بيَّنت حرمة التأسي بالمومسات وأهل الفاحشة في إِلانة الحديث وترخيمه، ومثله أيضاً التأسي بهن في تبرجهن وسفورهن، وكذا تصويرهن في هذه الوسائل وهُنَّ على هذه الحال المزرية ؛ فإذا حرُم تصويرهن وهُنَّ على هذه الحال فكذا النظر إليهن ؛ لأن ما يتم الحرام به فهو حرام .
4- قوله تعالى : ? وَالْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ ?[الأحزاب:60] ، فإذا كان الكبيرات في السن قد أُمِرن بعدم التبرج فبالأولى والأحرى الشابات منهن ، والمعنى : ( غير مظهرات ولا متعرضات بالزينة ليُنظر إليهن ؛ فإن ذلك من أقبح الأشياء وأبعده عن الحق ، والتبرج : التكشف والظهور للعيون )(12)، وقال الطبري :( التبرج : هو أن تظهر المرأة من محاسنها ما ينبغي لها أن تستره )(13).
5- قوله تعالى : ? يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ ?[الأحزاب:59]، أي لتنقطع الأطماع عنهن ؛ لأنه إذا كان زيُّهن حسناً لم يطمع فيهن المنافقون ولا من في قلبه مرض . قال القرطبي :(أمر الله سبحانه جميع النساء بالستر وأن ذلك لا يكون إلا بما لا يصف جلدها؛ إلا إذا كانت مع زوجها فلها أن تلبس ما شاءت ؛ لأن له أن يستمتع بها كيف شاء)(14) ( والجلباب هو الرداء فوق الخمار، قاله ابن مسعود وعبيدة وقتادة والحسن البصري وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وعطاء الخراساني وغير واحد ، وهو بمنزلة الإزار، قال الجوهري : الجلباب المِلحفة )(15) .
6- قوله تعالى : ? إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ?[النور:19] ، (والفاحشة : الفعل القبيح المفرط القبح ، وقيل : الفاحشة في هذه الآية : القول السيئ )(16)، ولا شك أن مثل هذه الصور الخليعة ونشرها داخل في معنى إشاعة الفاحشة ؛ فإن مثل هذا الفعل من القبح بمكان ؛ هذا على القول بأن الفاحشة هي الفعل القبيح ، وأما على القول الثاني فإن هذه الصور تستوي في تحريمها مع القول السيئ في الحرمة ؛ لأن ما يفتن المرء عن طريق آذانهم مثلُ الذي يفتنهم عن طريق أبصارهم .
كما لا يوجد شك أيضاً أن هذه الصور ونشرها من طرائق الشيطان ومسالكه وخطواته ،وهو من الفحشاء والمنكر، والله يقول :? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ?[النور: 21] ، وعليه فالنظر إلى هذه الصور حرام ؛ لأن الوسائل تأخذ حكم المقاصد .
7- قوله تعالى : ? إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ? [البروج :10] ، وقد قيل أن الآية عامة في كل من آذى المؤمنين ليفتنهم عن دينهم ويردهم عنه بأي أنواع الفتنة والتعذيب(17).
ثانياً :(/3)
الأدلة من السنة النبوية :
1- عن أم الدرداء – رضي الله عنها - قالت : لقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد خرجت من الحمام فقال " من أين يا أم الدرداء ؟ " فقالت : من الحمام . فقال " والذي نفسي بيده ، ما من امرأة تضع ثيابها في غير بيت أحد من أمهاتها إلا وهي هاتكة كل ستر بينها وبين الرحمن عز وجل" (18) ، وعن عائشة – رضي الله عنها -قالت : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يقول " ما من امرأة تضع أثيابها في غير بيت زوجها إلا هتكت الستر بينها وبين ربها" (19) فقد دل الحديثان على حرمة أن تخلع المرأة ثيابها في غير بيت زوجها أو أهلها، وهذا في الخلع المجرد فضلاً عن أن يصحب ذلك تصويراً لمفاتنها فإن هذا بالتحريم أولى .
2- وعن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- " أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية " (20) والحديث قد دل على حرمة استمالة الرجال بحاسة الشم ، ومثل ذلك في الحرمة استمالتهم بحاسة البصر. ويلزم من هذا التحريم أيضاً تحريم النظر إليها على العموم سواء كان ذلك بواسطة – كهذه الوسائل الحديثة - أو بدون واسطة .
3- وعن أبي هريرة – رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال : " إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة ، فزنا العين النظر ، وزنا اللسان المنطق ، والنفس تتمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه " (21) وهذا الحديث قد دل على حرمة النظر إلى المحرمات على العموم ، ومن لازم ذلك حرمة تصوير مفاتن المرأة عبر الوسائل الحديثة .
4- وعن أبي هريرة – رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " صنفان من أهل النار لم أرهما : قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا "(22)، وإنما استحق هؤلاء النسوة دخول النار للتعري المجرد فكيف باللواتي يصورن منهن وهن على هذه الحال ؟ ، ولا شك أنهن قد وقعن في هذا الوعيد بسبب أنهن يستملن الرجال إليهن ، ولا شك أن هذا التصوير الذي نتحدث عنه مما يستميل الرجال .
5- وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم – " لا تباشر المرأةُ المرأةَ فتنعتُها لزوجها كأنه ينظر إليها "(23) ، وهذا الحديث قد دل على حرمة أن تصف المرأةُ محاسنَ المرأةِ ومفاتنَها لزوجها أو غيره وقد اعتبر الحديث وصفها هذا مشبهاً بالنظر إليها ، وبالأولى منه في الحكم أن تصورها له أو لغيره في هذه الوسائل الحديثة فهو بذلك ينظر إليها ويراها رأي العين ، وإذا كان الحديث قد ذكر مجرد التخيل المحدود بوقت قصير فكيف بالتخيل المصحوب بالمشاهدة ولوقت أطول غالباً ؟ .
ثالثاً:
الاستقراء :
قد عُلِم من خلال استقراء نصوص الشريعة – إضافةً إلى ما سبق - أنها لا تجد باباً للفتنة إلا أغلقته ولا طريقاً للشر إلا قطعته ؛ ولذلك نهى النبي - صلى الله عليه وسلم – عن سفر المرأة بغير محرم لئلا تتعرض للفتنة ، ونهى عن الاختلاط ومزاحمة الرجال للنساء ومزاحمة النساء للرجال ، كما نهى أيضاً عن تشبه النساء بالرجال وعن تشبه الرجال بالنساء ، واعتبر الإسلام الحمو : الموت ؛ لأن دخوله إلى بيت أخيه لا ريبة فيه مع كونه من الأجانب، ونهى الإسلامُ المرأةَ أن تأذن لأحد بدخول بيت زوجها إلا بإذنه ، ونهى المؤمنَ أن ينكح الزانية كما نهى المؤمنةَ أن تنكح الزاني ، كما نهى الإسلام عن مصافحة المرأة للأجانب والعكس ، ونجد الإسلام قد رغَّب المرأة في الصلاة في بيتها وجعل صلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد ؛ لأن خروجها إلى المسجد يعرِّضها للرجال ، وجعل مع ذلك صفوف النساء في الصلاة متأخرة عن صفوف الرجال ، وجعل خير صفوف الرجال أولها؛ لأنها بعيدة عن صفوف النساء ، وخير صفوف النساء آخرها ؛ لأنها بعيدة عن صفوف الرجال ، كما نجد الإسلام قد اعتبر خروج المرأة من بيتها متعطرة مظنة ودليلاً على فسادها ؛ ولذلك نهى عن هذا الفعل كما تقدم ، كما نهى الإسلام المرأة أن تنظر إلى الرجل حتى ولو كان أعمى لا يبصرها.(/4)
بل إن من حِكَم مشروعية الجهاد رد الفتنة عن الناس قال تعالى : ? وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ ? [ البقرة :193]، وقد قيل إن المراد بالفتنة في الآية (المحنة التي تنزل بالإنسان في نفسه أو أهله أو ماله أو عرضه)(24)،وكشف العورات وتصويرها من الفتن التي تلحق الناس في أعراضهم ولا يكاد يجادل في هذا إلا من أنكر عقله ، بل إن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – قد أعلن الحرب على يهود بني قينقاع لأنهم أرادوا فتنة المسلمين بكشف عوراتهم ، ولا شك أن من ستتصور وهي متعرية في هذه الوسائل لا شك أنها ستكشف عوراتها .
كما لا شك فيه أيضاً أن من صوّر عوراته ونشرها أنه قد آذى المسلمين بفعله هذا ، والله يقول : ? وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً ?[الأحزاب: 58] ، فإذا كان المسلم قد مُنِع من أذية المسلمين في أمور دنياهم ومعاشهم فبالأولى والأحرى أن يؤذيهم في دينهم وفي أعراضهم ، وقد علم من نصوص الشريعة التشديد في الحفاظ على الأعراض عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول - صلى الله عليه وآله وسلم – خطب الناس يوم النحر فقال :" يا أيها الناس أي يوم هذا ؟ قالوا : يومٌ حرام، قال : فأي بلد هذا ؟ قالوا : بلدٌ حرام . قال : فأي شهر هذا ؟ قالوا : شهرٌ حرام . قال : فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا ؛ فأعادها مراراً ؛ ثم رفع رأسه فقال : اللهم هل بلغت ؟ اللهم هل بلغت ؟ " قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: فوالذي نفسي بيده إنها لوصيته إلى أمته .(25) ، ولأجل الحفاظ على الأعراض شُرِع الزواج حتى لا يتطلَّع المسلم إلى أعراض الغير ، وحُرِّم الزنا وجعل له حد قاسٍ يصل إلى القتل رجماً على المحصن أو الجلد على غير المحصن ، بل حتى لو حصل هذا الزنا فإن الإسلام حرص على الستر، فجعل نصاب الشهود فيه أربعة شهود بما لم يجعله في غيره من الشهادات ،كما حرم الإسلام القدح في أعراض المسلمين بغير برهان فأوجب حد القذف واعتبره من السبع الموبقات . قال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم – " اجتنبوا السبع الموبقات . قيل : يا رسول الله وما هن ؟ قال :" الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات.."(26) واستحق فاعله بذلك اللّعنة في الدنيا والآخرة ، والعذاب العظيم ، قال تعالى : ? إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ? [النور: 23] ، واعتبر الإسلام سباب المسلم فسوقاً ومن الحِكَم في ذلك ألا يتعود الناس سماع الكلام البذيء والفاحش فيؤدي ذلك إلى الاستهانة بالأعراض فتشيع الفاحشة ، واعتَبر أنَّ من تمام إسلام العبد أن يكفَّ أذاه عن المسلمين كما قال رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم –: " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده " (27)، وإذا كان المسلم مطالبٌ ألا يُعرِّض نفسه للفتنة فكيف له أن يُعرِّض غيره ، ولا شك أن هذه الصور تناقض ما تقدم من الحفاظ على الأعراض ، بل أنها مما يساعد على الاعتداء على الأعراض وقد علم أن الوسائل تأخذ حكم المقاصد .
ومن خلال ما سبق كله يتبين لنا أن تصوير هذه الصور ونشرها والترويج لها من المحرمات التي لاشك في حرمتها لما تقدم من النصوص الشرعية الكثيرة المتضافرة على ذلك ، ولأنها لا تتفق ومقاصد الشريعة من الحفاظ على النسل والعرض وسد باب الفتن عن الناس ؛ والله أعلم .
والحمد لله رب العالمين
وهو الهادي إلى سواء السبيل ، وهو حسبنا ونعم الوكيل
وصلى الله على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين
كتبه الفقير إلى عفو ربه العلي
علي بن عبد الرحمن بن علي دبيس
الثلاثاء – 11ربيع الآخر 1427هـ ، 9/5/2006م
(1) صحيح البخاري [ جزء 2 صفحة 870 ] ، صحيح مسلم [ جزء 3 صفحة 1675 ].
(2) تفسير القرطبي ج: 12 ص: 223 ، والحديث في سنن أبي داود [ جزء 1 صفحة 652 ] قال الألباني : حسن .
(3) تفسير ابن كثير ج: 3 ص: 283 .
(4) تفسير القرطبي ج: 12 ص: 222 ، وانظر صحيح البخاري [ جزء 5 صفحة 2299 ].
(5) تفسير ابن كثير ج: 3 ص: 282 .
(6) تفسير الطبري ج: 18 ص: 117 .
(7) تفسير القرطبي ج: 12 ص: 222 .
(8) تفسير القرطبي ج: 12 ص: 223 ، وبنحوه في تفسير ابن كثير ج: 3 ص: 283 ، والحديث في سنن الترمذي [ جزء 5 صفحة 97]، سنن أبي داود [جزء 2 صفحة 437] قال الألباني : حسن .
(9) تفسير القرطبي ج: 14 ص: 177
(10) تفسير ابن كثير ج: 3 ص: 483 .
(11) تفسير الطبري ج: 22 ص: 2.
(12) تفسير القرطبي ج: 12 ص: 309.
(13) تفسير الطبري ج: 18 ص: 167.(/5)
(14) تفسير القرطبي ج: 14 ص: 243.
(15) انظر تفسير ابن كثير ج: 3 ص: 519.
(16) تفسير القرطبي ج: 12 ص: 206.
(17) انظر أضواء البيان ج:9 ص:147
(18) مسند أحمد ج: 6 ص: 361 ، قال الألباني : صحيح ، انظر: صحيح الترغيب والترهيب [ جزء 1 - صفحة 40 ]
(19) سنن الترمذي ج: 5 ص: 114 ، سنن أبي داود ج: 4 ص: 39 ، سنن ابن ماجه ج: 2 ص: 1234 ، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب ، ج1/40.
(20) سنن النسائي ج: 8 ص: 153 ، مسند أحمد ج: 4 ص: 413 ، وبنحوه في سنن الترمذي ج: 5 ص: 106، وصححه الألباني في الصحيح الجامع ، ج1/33 .
(21) صحيح البخاري ج: 5 ص: 2304 ، وبنحوه في صحيح مسلم ج: 4 ص: 2046
(22) صحيح مسلم ج: 3 ص: 1680 ، وبنحوه في مسند أحمد ج: 2 ص: 355
(23) صحيح البخاري ج: 5 ص: 2007 ، وبنحوه في سنن الترمذي ج: 5 ص: 109
(24) فتح القدير 1/ 293
(25) صحيح البخاري ج: 2 ص: 619 ، وبنحوه في صحيح مسلم ج: 3 ص: 1306
(26) صحيح البخاري ج: 3 ص: 1017 ، صحيح مسلم ج: 1 ص: 92
(27) صحيح البخاري ج: 1 ص: 13 ، صحيح مسلم ج: 1 ص: 65(/6)
حكم بطاقات الائتمان
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته الاخوة الفضلاء القائمون على الموقع الموقر تحية من عند الله مباركة طيبة السؤال : لى حساب فى البنك ولى كارت فيزا، فهل كارت الفيزا حرام ؟ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الجواب :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، و بعد
فإنّ موضوع التعامل ببطاقات الاعتماد أو الائتمان ( و منها : فيزا و ماستر كارد و أميريكان إكسبريس و غيرها ممّا اتّحد وصفُه و اختلف مُسمّاه ) من الأمور المصرفيّة المعقّدة غاية التعقيد ، و من أسباب ذلك أنّ شروط إصدارها قد تختلف من مصرف إلى مصرف ، أو باختلاف النظام النقدي من بلد إلى بلد ، أو الاختلاف في حدّ الصرف و مهلة السداد بين عميل و عميل ، و حسب سعة ذات يده أو ضيقها ، و مقدار ما يودعه في المصرف ، و قد عُرضت هذه المسألة على مجامع و لجان فقهيّة عديدة فلم يحظ أيٌّ من آرائها على إجماع .
و إليك خلاصة ما أراه فيصلاً بين الحلال و الحرام في هذه المسألة :
أوّلاً : إذا كان تعاملك مع مصرف إسلامي معروف بتحكيم الشرع في تعاملاته الاقتصاديّة ، من خلال لجنة شرعيّة ترسم سياساته ، و توجّه تعاملاته ، فالأمر فيه سعة إذ إنّ هذه المصارف لا ترتّب على عملائها زيادةً ربويّةً و إن تأخّروا في تسديد ما بذمتهم من ديون لها ، بل غاية ما تلجأ إليه هو الاقتطاع التلقائي من حساب العميل لاستيفاء الدين الثابت في ذمّته من جرّاء الشراء أو السحب النقدي بواسطة بطاقته الائتمانيّة ، فإن لم يفِ رصيده بدَينه أوقِفَت بطاقته لحين السداد .
ثانياً : المعروف عن المصارف الإسلاميّة أنّها تقبض مبلغاً رمزيّاً مقطوعاً على كلّ عمليّة سحب نقدي بواسطة بطاقة الاعتماد ، و هذا المبلغ إن كان محدداً مهما اختلف المبلغ المسحوب فلا بأس ، لأنّه من باب الجعالة ، و يأخذ حُكم أجرة تحويل المال أو إيصاله من بَلَدٍ إلى بَلد ، أمّا إن اشترط المصرف نسبةً مئويّةً تتأثر بالمبلغ المسحوب زيادةً و نُقصاناً ، فهذه صورة من صور الربا ، و لا يجوز التعامل بها ألبتّة ، و الله أعلم .
ثالثاً : الغالب في تعاملات المصارف و شركات الاستثمار الربويّة أنّها تشترط لإصدار بطاقات الاعتماد لعملائها واحداً – على الأقل – من الأمور الثلاثة التالية :
• إمّا أن يكون لديه حسابٌ جارٍ يتم الإيداع فيه بشكل دَوريٍّ دائم كالراتب الشهري ، أو الدخل المستمر ( و من أمثلته الإيجار و عائد الضمان الاجتماعي و النفقة المُلزِمة ) .
• أو أن تكون لديه وديعة استثماريّة محدودة الأجل في المصرف ، بحيث لا يحق له السحب منها إلاّ بعد مضيّ الأجل المتفق عليه ، و أقلّه – فيما أعلم – ثلاثة أشهر .
• أو أن يحبس مبلغاً من حساب التوفير ( أو الادّخار ) العائد له لدى المصرف ، فلا يكون له حق التصرّف فيه بالسحب أو التحويل إلاّ بعد إجازة قسم البطاقات الائتمانيّة للعمليّة , أو مضي أجل على إنتهاء صلاحيّة بطاقته ، أو إلغاء اشتراكه فيها ، أو توقيفها بسبب السرقة أو الضياع .
و يهدف المصرف من اشتراط توفر أحد هذه الأمور أو أكثر ضمان استرداد حقّه ، في حال تأخر العميل عن السداد أو تهرّبه منه أو تنكّره له .
و عليه فإن أوّل الشروط للحصول على البطاقة من مصرف رِبَوي هي التعامل مع ذلك المصرف بفتح حسابٍ أو أكثر فيه ، و إيداع مبلغ نقدي لا يقل عن الرصيد المتاح لمستخدم البطاقة في ذلك الحساب ، و هذا حرام لا يجوز إلاّ لمضطر ، و الضرورة تقدّر بقَدَرها ، و لا يجوز التوسّع فيها بحال .
أضف إلى ذلك أنّ المصرف يُفرّق بين تعاملات عميله بالبطاقة ، حيث يشترط نسبةً مقطوعة محددة على كلّ عمليّة سحب نقدي يجريها العميل ببطاقته ( و هي تتراوح غالباً بين رُبع العُشر و نِصفِه ) و هذا عين الربا .
أمّا في عمليّات الشراء فغالباً ما يقتصر المصرف على اقتطاع المبلغ المصروف بدون زيادةٍ و نقصان ، و لا مُراباة في ذلك .
و بناءً على ما تقدّم فلو كان الحصول على البطاقة مشروعاً ( و هذا ما لا أتوقّعه من مصرف يتعامل بالربا ) ، و ليس فيه حُرمةٌ أو ما يترتب على عمليّة محرّمة ؛ فلحاملها أن يستخدمها في عمليات الشراء فقط ، شريطة أن لا يتأخّر في السداد عن المدّة المسموح بها ، و أن لا يؤدي ذلك إلى سداد أي مبالغ زائدة عن المبلغ الذي أنفقه ثمناً لمشترياته ، أو للخدمات الأخرى ( غير السحب النقدي ) .(/1)
و ليحذر المتعاملون مع المصارف الربويّة من الوقوع تحت طائلة حرب أعلنها الله تعالى عليهم ما لم يبادروا بالتوبة ، فقد قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ (279) وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) [ البقرة ] .
و لا يظن أحدٌ منهم أنّ تنازله عن الزيادة الربويّة لصالح المصرف أو إخراجها في وجه من وجوه البر و الصلة بدون توبةٍ ، يخرجه من المحظور ، و يبيح له متابعة تعامله مع ذلك المصرف ، لأنّ التعامل بالربا أو المساعدة عليه أو المساهمة فيه سواءٌ في الحرمة ، فقد روى مسلم و الترمذي و أحمد عَنْ جَابِر بن عبد الله رضي الله عنه ، قَال : لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَقَالَ ( هُمْ سَوَاءٌ ) .
هذا و اللهَ أسأل أن يغنيني و السائل و المسلمين بحلاله عن حرامه ، و بطاعته عن معصيته ، و بفضله عمّن سواه .
و الحمد لله الذي بحمده تتم الصالحات .(/2)
حكم تارك الصلاة
محمد بن صالح العثيمين
دار الوطن
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن كثيراً من المسلمين اليوم تهاونوا بالصلاة، وأضاعوها حتى تركها بعضهم تركاً مطلقاً تهاوناً، ولما كانت هذه المسألة من المسائل العظيمة الكبرى التي ابتلى بها الناس اليوم، واختلف فيها علماء الأمة، وأئمتها، قديماً وحديثاً أحببت أن اكتب فيها ما تيسر.
ويتلخص الكلام في فصلين:
الفصل الأول: في حكم تارك الصلاة.
لفصل الثاني: فيما يترتب على الردة بترك الصلاة أو غيرها.
نسأل الله تعالى لأن نكون فيها موفقين للصواب.
الفصل الأول: حكم تارك الصلاة
إن هذه المسألة من مسائل العلم الكبرى، وقد تنازع فيها أهل العلم سلفاً وخلفاً، فقال الإمام أحمد بن حنبل: "تارك الصلاة كافر كفراً مخرجاً من الملة، يقتل إذا لم يتب ويصل". وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: "فاسق ولا يكفر". ثم اختلفوا فقال مالك والشافعي: "يقتل حداً..". وقال أبو حنيفة: "يعزز ولا يقتل.."
وإذا كانت هذه المسألة من مسائل النزاع، فالواجب ردها إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله . لقوله تعالى: وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله [الشورى:10]، وقوله: فإن تنازعتم في شيء،فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويل [النساء:59]. ولأن كل واحد من المختلفين لا يكون قوله حجة على الآخر، لأن كل واحد يرى الصواب معه، وليس أحدهما أولى بالقبول من الآخر، فوجب الرجوع في ذلك إلى حكم بينهما وهو كتاب الله تعالى، وسنة رسوله . وإذا رددنا هذا النزاع إلى الكتاب والسنة، وجدنا أن الكتاب والسنة كلاهما يدل عل كفر تارك الصلاة، الكفر الأكبر المخرج عن الملة.
أولا: من الكتاب:
قال تعالى في سورة التوبة: فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين [التوبة:11]. وقال في سورة مريم: فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا، إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً، فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئاً [مريم:59،60].
فوجه الدلالة من الآية الثانية، آية سورة مريم، أن الله قال: في المضيعين للصلاة، المتبعين للشهوات: إلا من تاب وآمن فدل، على أنهم حين إضاعتهم للصلاة، واتباع الشهوات غير مؤمنين. ووجه الدلالة من الآية الأولى، آية سورة التوبة، أن الله تعالى اشترط لثبوت الأخوة بيننا وبين المشركين، ثلاثة شروط:
1- أن يتوبوا من الشرك.
2- أن يقيموا الصلاة.
3- أن يؤتوا الزكاة.
فإن تابوا من الشرك، ولم يقيموا الصلاة، ولم يؤتوا الزكاة، فليسوا بإخوة لنا. وإن أقاموا الصلاة، ولم يؤتوا الزكاة، فليسوا بإخوة لنا. والأخوة في الدين لا تنتفي إلا حيث يخرج المرء من الدين بالكلية، فلا تنتفي بالفسوق والكفر دون الكفر.
ألا ترى إلى قوله تعالى: في آية القصاص من القتل: فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان [البقرة:178]، فجعل الله القاتل عمداً أخاً للمقتول، مع أن القتل عمداً من أكبر الكبائر، لقول الله تعالى: ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً [النساء:93]. ثم ألا تنظر إلى قوله تعالى في الطائفتين من المؤمنين إذا اقتتلوا: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما} إلى قوله: إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم [الحجرات:9-10]، فأثبت الله تعالى الأخوة بين الطائفة المصلحة والطائفتين المقتتلتين، مع أن قتال المؤمن من الكفر، كما ثبت في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره عن ابن مسعود أن النبي قال: { سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر }. لكنه كفر لا يخرج من الملة، إذ لو كان مخرجا من الملة، ما بقيت الأخوة الإيمانية معه. الآية الكريمة قد دلت على بقاء الأخوة الإيمانية مع الاقتتال.
وبهذا علم أن ترك الصلاة كفر مخرج عن الملة، إذ لو كان فسقا أو كفرا دون كفر، ما انتفت الأخوة الدينية به، كما لم تنتف بقتل المؤمن وقتاله.
فإن قال قائل: "هل ترون كفر تارك إيتاء الزكاة كما دل عليه مفهوم آية التوبة؟"(/1)
قلنا: (كفر تارك إيتاء الزكاة، قال به بعض أهل العلم - وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى -). ولكن الراجح عندنا أنه لا يكفر، لكنه يعاقب بعقوبة عظيمة، ذكرها الله تعالى في كتابه، وذكرها النبي في سنته، ومنها ما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي ، ذكر عقوبة مانع الزكاة، وفي آخره، ثم يرى سبيله، إما إلى الجنة وإما إلى النار، وقد رواه مسلم بطوله في: باب "إثم مانع الزكاة"، وهو دليل على أنه لا يكفر، إذ لو كان كافرا ما كان له سبيل إلى الجنة. فيكون منطوق هذا الحديث مقدما على مفهوم آية التوبة، لأن المنطوق مقدم على المفهوم، كما هو معلوم في أصول الفقه.
ثانيا: من السنة:
1- قال : { إن بين الرجل وبين الشرك، والكفر، ترك الصلاة } [رواه مسلم في كتاب الإيمان عن جابر بن عبد الله، عن النبي ].
2- وعن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله ، يقول: { العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر} [رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه].
والمراد بالكفر هنا، الكفر المخرج عن الملة، لأن النبي ، جعل الصلاة فصلا بين المؤمنين والكافرين، ومن المعلوم أن ملة الكفر غير ملة الإسلام، فمن لم يأت بهذا العهد فهو من الكافرين.
3- وفي صحيح مسلم، عن أم سلمة رضي الله عنها، أن النبي ، قال: { "ستكون أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع"، قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: "لا ما صلوا" }.
4- وفي صحيح مسلم أيضا، من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه، أن النبي ، قال: { "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم"، قيل: يا رسول الله: أفلا ننابذهم بالسيف؟ قال: "لا ما أقاموا فيكم الصلاة" }.
ففي هذين الحديثين الأخيرين، دليل على منابذة الولاة، وقتالهم بالسيف، إذا لم يقيموا الصلاة، ولا تجوز منازعة الولاة وقتالهم، إلا إذا أتوا كفرا صريحا، عندنا فيه برهان من الله تعالى، لقول عبادة بن الصامت رضي الله عنه: { "دعانا رسول الله ، فبايعناه، فكان فيما أخذ علينا، أن بايعنا على السمع والطاعة، في منشطنا، ومكرهنا، وعسرنا، ويسرنا، وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله"، قال: "إلا أن تروا كفرا بواحاً عندكم من الله فيه برهان" } [متفق عليه]. وعلى هذا فيكون تركهم للصلاة الذي علق عليه النبي ، منابذتهم وقتالهم بالسيف كفرا بواحاً عندنا فيه من الله برهان.
ولم يرد في الكتاب والسنة أن تارك الصلاة ليس بكافر أو أنه مؤمن، وغاية ما ورد في ذلك نصوص تدل على فضل التوحيد، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وثواب ذلك، وهي إما مقيدة بقيود في النص نفسه يمتنع معها أن يترك الصلاة، وإما واردة في أحوال معينة يعذر الإنسان فيها بترك الصلاة، وإما عامة فتحمل على أدلة كفر تارك الصلاة، لأن أدلة كفر تارك الصلاة خاصة والخاص مقدم على العام.
فإن قال قائل: "ألا يجوز أن تحمل النصوص الدالة على كفر تارك الصلاة على من تركها جاحدا لوجوبها؟!". قلنا: (لا يجوز ذلك لأن فيه محذورين:
الأول: إلغاء الوصف الذي اعتبره الشارع وعلق الحكم به.
فإن الشارع علق الحكم بالكفر على الترك دون الجحود. ورتب الأخوة في الدين على إقام الصلاة، دون الإقرار بوجوبها لم يقل الله تعالى: فإن تابوا وأقروا بوجوب الصلاة، ولم يقل النبي بين الرجل وبين الشرك والكفر جحد وجوب الصلاة. أو العهد الذي بيننا وبينهم الإقرار بوجوب الصلاة، فمن جحد وجوبها فقد كفر. ولو كان هذا مراد الله تعالى ورسوله لكان العدول عنه خلاف البيان الذي جاء به القرآن الكريم، قال الله تعالى: ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء [النحل:89]. وقال تعالى مخاطبا نبيه: وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم [النحل:44].
الثاني: اعتبار وصف لم يجعله الشارع مناطا للحكم:
فإن جحود وجوب الصلوات الخمس موجب لكفر من لا يعذر بجهله فيه سواء صلى أم ترك. فلو صلى شخص الصلوات الخمس وأتى بكل ما يعتبر لها من شروط، وأركان، وواجبات، ومستحبات، لكنه جاحد لوجوبها بدون عذر له فيه لكان كافرا مع أنه لم يتركها.
فتبين بذلك أن حمل النصوص على من ترك الصلاة جاحدا لوجوبها غير صحيح، وأن الحق أن تارك الصلاة كافرا كفرا مخرجا عن الملة، كما جاء ذلك صريحا فيما رواه ابن أبي حاتم في سننه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال: أوصانا رسول الله : { لا تشركوا بالله شيئا، ولا تتركوا الصلاة عمدا، فمن تركها عمدا متعمدا فقد خرج من الملة }.
وأيضا فإننا لو حملناه على ترك الجحود لم يكن لتخصيص الصلاة في النصوص فائدة، فإن هذا الحكم عام، في الزكاة، والصيام، والحج، فمن ترك منها واحدا جاحدا لوجوبه كفر إن كان غير معذور بجهل. وكما أن كفر تارك الصلاة مقتضى الدليل السمعي الأثري، فهو مقتضى الدليل العقلي النظري.(/2)
فكيف يكون عند الشخص إيمان مع تركه للصلاة التي هو عمود الدين والتي جاء من الترغيب في فعلها ما يقتضي لكل عاقل مؤمن أن يقوم بها ويبادر إلى فعلها. وجاء من الوعيد على تركها ما يقتضي لكل عاقل مؤمن أن يحذر من تركها وإضاعتها؟ فتركها مع قيام هذا المقتضى لا يبقى إيمانا مع التارك.
فإن قال قائل: "ألا يحتمل أن يراد الكفر في تارك الصلاة كفر بالنعمة لا كفر بالملة؟ أو أن المراد به كفر دون الكفر الأكبر؟!". فيكون كقوله : { اثنتان بالناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة في الميت }، وقوله: { سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر }، ونحو ذلك.
قلنا: هذا الاحتمال والتنظير له لا يصح لوجوه:
الأول: أن النبي جعل الصلاة حدا فاصلا بين الكفر والإيمان، وبين المؤمنين والكفار. والحد يميز المحدود ويخرجه عن غيره. فالمحدودان متغايران لا يدخل أحدهما في الآخر.
الثاني: أن الصلاة ركن من أركان الإسلام، فوصف تاركها بالكفر يقتضي أنه الكفر المخرج من الإسلام.. لأنه هدم ركنا من أركان الإسلام، بخلاف إطلاق الكفر على من فعل فعلاً من أفعال الكفر.
الثالث: أن هناك نصوصا أخرى دلت على كفر تارك الصلاة كفرا مخرجا من الملة.. فيجب حمل الكفر على ما دلت عليه لتتلاءم النصوص وتتفق.
الرابع: أن التعبير بالكفر مختلف.. ففي ترك الصلاة قال: { بين الرجل وبين الشرك والكفر }، فعبر بأل الدالة على أن المراد بالكفر حقيقة الكفر بخلاف كلمة - كفر - منكرا أو كلمة -كفر- بلفظ الفعل فإنه دال على أن هذا من الكفر، أو أنه كفر في هذه الفعلة وليس هو الكفر المطلق المخرج عن الإسلام.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب (اقتضاء الصراط المستقيم) ص 70 ط السنة المحمدية على قوله : { اثنتان في الناس هما بهم كفر }. قال: "فقوله: { هما بهم كفر } أي هاتان الخصلتان هما - كفر - قائم بالناس فنفس الخصلتين - كفر - حيث كانتا من أعمال الكفر، وهما قائمتان بالناس، لكن ليس كل من قام به شعبة من شعب الكفر يصير بها كافرا الكفر المطلق، حتى تقوم به حقيقة الكفر. كما أنه ليس كل من قام به شعبة من شعب الإيمان يصير بها مؤمنا حتى يقوم به أصل الإيمان وحقيقته. وفرق بين الكفر المعرف باللام كما في قوله : { ليس بين العبد وبين الكفر، أو الشرك إلا ترك الصلاة، وبين كفر منكر في الإثبات }" أ. هـ. كلامه.
فإذا تبين أن تارك الصلاة بلا عذر كافر كفرا مخرجا من الملة بمقتضى هذه الأدلة، كان الصواب فيما ذهب إليه الإمام أحمد بن حنبل وهو أحد قولي الشافعي كما ذكره ابن كثير في تفسير قوله تعالى: فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات [مريم:59[. وذكر ابن القيم في "كتاب الصلاة" أنه أحد الوجهين في مذهب الشافعي، وأن الطحاوي نقله عن الشافعي نفسه.
وعلى هذا القول جمهور الصحابة، بل حكى غير واحد إجماعهم عليه.
قال عبد الله بن شقيق: { كان أصحاب النبي لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة } [رواه الترمذي والحاكم وصححه على شرطهما].
وقال إسحاق بن راهويه الإمام المعروف: "صح عن النبي ، أن تارك الصلاة كافر، وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي ، إلى يومنا هذا، أن تارك الصلاة عمدا من غير عذر حتى يخرج وقتها كافر".
وذكر ابن حزم، أنه قد جاء عن عمر وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة قال: "ولا نعلم لهؤلاء مخالفا من الصحابة. نقله عنه المنذري في (الترغيب والترهيب) وزاد من الصحابة: عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله وأبا الدرداء رضي الله عنهم". قال: "ومن غير الصحابة أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وعبد الله بن المبارك والنخعي والحكم بن عتيبة وأيوب السختياني، وأبو داود الطيالسي، وأبو بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب وغيرهم". أ. هـ.
فإن قال قائل: ما هو الجواب عن الأدلة التي استدل بها من لا يرى كفر تارك الصلاة؟
قلنا: الجواب أن هذه الأدلة لم يأت فيها أن تارك الصلاة لا يكفر، أو أنه مؤمن أو أنه لا يدخل النار، أو أنه في الجنة. ونحو ذلك. ومن تأملها وجدها لا تخرج عن خمسة أقسام كلها لا تعارض أدلة القائلين بأنه كفر.
القسم الأول: أحاديث ضعيفة غير صريحة حاول موردها أن يتعلق بها ولم يأت بطائل.
القسم الثاني: ما لا دليل فيه أصلا للمسألة. مثل استدلال بعضهم، بقوله تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [النساء:48]. فإن معنى قوله تعالى: ما دون ذلك ما هو أقل من ذلك، وليس معناه ما سوى ذلك، بدليل أن من كذب بما أخبر الله به ورسوله، فهو كافر كفراً لا يغفر له وليس ذنبه من الشرك. ولو سلمنا أن معنى ما دون ذلك ما سوى ذلك، لكان هذا من باب العام المخصوص بالنصوص الدالة على الكفر بما سوى الشرك والكفر المخرج عن الملة من الذنب الذي لا يغفر وإن لم يكن شركا.(/3)
القسم الثالث: عام مخصوص بالأحاديث الدالة على كفر تارك الصلاة. مثل قوله في حديث معاذ بن جبل: { ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد عبده ورسوله إلا حرمه الله على النار }. وهذا أحد ألفاظه وورد نحوه من حديث أبي هريرة وعبادة بن الصامت وعتبان بن مالك رضي الله عنهم.
القسم الرابع: عام مقيد بما لا يمكن معه ترك الصلاة. مثل قوله ، في حديث عتبان بن مالك: { فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله } [رواه البخاري]. وقوله ، في حديث معاذ: { ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صدقا من قلبه إلا حرمه الله على النار } [رواه البخاري].
فتقييد الإتيان بالشهادتين بإخلاص القصد، وصدق القلب، يمنعه من ترك الصلاة، إذ ما من شخص يصدق في ذلك، ويخلص إلا حمله صدقه، وإخلاصه على فعل الصلاة. ولا بد فإن الصلاة عمود الإسلام، وهي الصلة بين العبد وربه، فإذا كان صادقا في ابتغاء وجه الله، فلا بد أن يفعل ما يوصله إلى ذلك، ويتجنب ما يحول بينه وبينه، وكذلك من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صدقا من قلبه، فلا بد أن يحمله ذلك إلى الصدق على أداء الصلاة مخلصا بها لله تعالى متبعا فيها رسول الله ، لأن ذلك من مستلزمات تلك الشهادة الصادقة.
القسم الخامس: ما ورد مقيدا بحال يعذر فيها بترك الصلاة. كالحديث الذي رواه ابن ماجة عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله : { يدرس الإسلام كما يدرس الثوب } - الحديث - وفيه. وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز يقولون: "أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله فنحن نقولها" فقال له صلة: "ما تغني عنهم لا إله إلا الله وهم لا يدرون ما صلاة، ولا صيام، ولا نسك، ولا صدقة" فأعرض عنه حذيفة ثم ردها عليه ثلاثا كل ذلك يعرض عنه حذيفة ثم أقبل عليه في الثالثة فقال: "يا صلة تنجيهم من النار" ثلاثاً.
فإن هؤلاء الذين أنجتهم الكلمة من النار، كانوا معذورين بترك شرائع الإسلام، لأنهم لا يدرون عنها، فما قاموا به هو غاية ما يقدرون عليه، وحالهم تشبه حال من ماتوا قبل فرض الشرائع، أو قبل أن يتمكنوا من فعلها، كمن مات عقيب شهادته، قبل أن يتمكن من فعل الشرائع، أو أسلم في دار الكفر فمات قبل أن يتمكن من العلم بالشرائع.
والحاصل أن ما استدل به من يرى كفر تارك الصلاة لا يقاوم ما استدل به من يرى كفره، لأن ما استدل به أولئك، إما أن يكون ضعيفا غير صريح وإما ألا يكون فيه دلالة أصلا، وإما أن يكون مقيدا بوصف لا يتأتى معه ترك الصلاة، أو مقيدا بحال يعذر فيها بترك الصلاة، أو عاما مخصوصا بأدلة تكفيره!.
فإذا تبين كفره بالدليل القائم السالم عن المعارض المقاوم، وجب أن تترتب أحكام الكفر والردة عليه، ضرورة أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.
الفصل الثاني: فيما يترتب على الردة بترك الصلاة أو غيره
يترتب على الردة أحكام دنيوية وأخروية:
أولا: من الأحكام الدنيوية:
1- سقوط ولايته: فلا يجوز أن يولى شيئاً يشترط في الولاية عليه الإسلام، وعلى هذا فلا يولى على القاصرين من أولاده وغيرهم، ولا يزوج أحدا من مولياته من بناته وغيرهن.
وقد صرح فقهاؤنا رحمهم الله تعالى في كتبهم المختصرة والمطولة: أنه يشترط في الولي الإسلام إذا زوج مسلمة، وقالوا "لا ولاية لكافر على مسلمة". وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لا نكاح إلا بولي مرشد، وأعظم الرشد وأعلاه دين الإسلام، وأسفه السفه وأدناه الكفر والردة عن الإسلام. قال الله تعالى: ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه [البقرة:130].
2- سقوط إرثه من أقاربه: لأن الكافر لا يرث المسلم، والمسلم لا يرث الكافر، لحديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما، أن النبي ، قال: { لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم } [أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما].
3- تحريم دخوله مكة وحرمهما: لقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا [التوبة:28].
4- تحريم ما ذكاه من بهيمة الأنعام: (الإبل والبقر والغنم) وغيرها مما يشترط لحله الزكاة. لأن من شروط الذكاة: أن يكون المذكي مسلما أو كتابيا (يهوديا أو نصرانيا)، فأما المرتد والوثني والمجوسي ونحوهم فلا يحل ما ذكاه.
قال الخازن في تفسيره: "أجمعوا على تحريم ذبائح المجوس وسائر أهل الشرك من مشركي العرب وعبدة الأصنام ومن لا كتاب له". وقال الإمام أحمد: "لا أعلم أحدا قال بخلافه إلا أن يكون صاحب بدعة".(/4)
5- تحريم الصلاة عليه بعد موته، وتحريم الدعاء له بالمغفرة والرحمة: لقوله تعالى: ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون [التوبة:84]. وقوله تعالى: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم. وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه، إن إبراهيم لأواه حليم [التوبة:113-114].
ودعاء الإنسان بالمغفرة والرحمة لمن مات على الكفر بأي سبب كان كفره اعتداء في الدعاء، ونوع من الاستهزاء بالله، وخروج عن سبيل النبي والمؤمنين. وكيف يمكن لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يدعو بالمغفرة والرحمة لمن مات على الكفر وهو عدو لله تعالى؟! كما قال عز و جل: من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال، فإن الله عدو للكافرين . فبين الله تعالى في هذه الآية الكريمة أن الله تعالى عدو لكل الكافرين.
والواجب على المؤمن أن يتبرأ من كل كافر. لقوله تعالى: وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون. إلا الذي فطرني فإنه سيهدين [الزخرف:26-27]. وقوله تعالى: قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم، والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده [الممتحنة:4]. وليتحقق له بذلك متابعة رسول الله ، حيث قال الله تعالى: وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله [التوبة:3].
ومن أوثق عرى الإيمان: أن تحب في الله، وتكره في الله، وتوالي في الله، وتعادي في الله، لتكون في محبتك، وكراهيتك، وولايتك، وعداوتك، تابعا لمرضاة الله عز وجل.
6- تحريم نكاحه المرأة المسلمة: لأنه كافر والكافر لا تحل له المرأة المسلمة بالنص والإجماع. قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن [الممتحنة:10].
قال في المغني 592/6: "وسائر الكفار غير أهل الكتاب لا خلاف بين أهل العلم في تحريم نسائهم، وذبائحهم) قال: والمرتدة يحرم نكاحها على أي دين كانت، لأنه لم يثبت لها حكم أهل الدين الذي انتقلت إليه في إقرارها عليه ففي حلها أولى".
وقال في باب المرتد 130/8: "وإن تزوج لم يصح تزوجه لأنه لا يقر على النكاح، وما منع الإقرار على النكاح منع انعقاده كنكاح الكافر المسلمة" (وفي مجمع الأنهر للحنفية آخر باب نكاح الكافر ص 202 ج1: "ولا يصح تزوج المرتد ولا المرتدة أحداً" لإجماع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين).
فأنت ترى أنه صرح بتحريم نكاح المرتدة، وأن نكاح المرتد غير صحيح، فماذا يكون لو حصلت الردة بعد العقد؟!.
قال: في المغني 298/6: "إذا ارتد أحد الزوجين قبل الدخول انفسخ النكاح في الحال، ولم يرث أحدهما الآخر، وإن كانت ردته بعد الدخول انفسخ النكاح في الحال، ولم يرث أحدهما الآخر، وإن كانت ردته بعد الدخول ففيه روايتان: إحداهما: تتعجل الفرقة. والثاني تقف على انقضاء العدة".
وفي المغني ص 639/6: "أن انفساخ النكاح بالردة قبل الدخول قول عامة أهل العلم، واستدل له وأن انفساخه في الحال إذا كان بعد الدخول قول مالك، وأبي حنيفة وتوقفه على انقضاء العدة قول الشافعي".
وهذا يقتضي أن الأئمة الأربعة متفقون على انفساخ النكاح بردة أحد الزوجين. لكن إن كانت الردة قبل الدخول انفسخ النكاح في الحال، وإن كانت بعد الدخول فمذهب مالك وأبي حنيفة الانفساخ في الحال، ومذهب الشافعي، الانتظار إلى انقضاء العدة. وعن أحمد روايتان كالمذهبين.
وفي ص 640 منه: "وإن ارتد الزوجان معا، فحكمهما حكم ما لو ارتد أحدهما إن كان قبل الدخول تعجلت الفرقة، وإن كان بعده فهل تتعجل أو تقف على انقضاء العدة على روايتين؟ وهذا مذهب الشافعي ثم نقل عن أبي حنيفة أن النكاح لا ينفسخ استحسانا، لأنه لم يختلف بهما الدين، فأشبه ما لو أسلما، ثم نقض صاحب المغني قياسه طردا وعكسا".
وإذا تبين أن نكاح المرتد لا يصح من مسلم سواء كان أنثى أم رجلا، وأن هذا مقتضى دلالة الكتاب والسنة، وتبين أن تارك الصلاة كافر. بمقتضى دلالة الكتاب والسنة، وقول عامة الصحابة، تبين أن الرجل إذا كان لا يصلي وتزوج امرأة مسلمة، فإن زواجه غير صحيح، ولا تحل له المرأة بهذا العقد، وأنه إذا تاب إلى الله تعالى ورجع إلى الإسلام وجب عليه تجديد العقد. وكذلك الحكم لو كانت المرأة هي التي لا تصلي.(/5)
وهذا بخلاف أنكحة الكفار حال كفرهم، مثل أن يتزوج كافر بكافرة، ثم تسلم الزوجة فهذا إن كان إسلامها قبل الدخول انفسخ النكاح، وإن كان إسلامها بعده لم ينفسخ النكاح، ولكن ينتظر فإن أسلم الزوج قبل انقضاء العدة، فهي زوجته، وإن انقضت العدة قبل إسلامه فلا حق له فيها، لأنه تبين أن النكاح قد انفسخ منذ أن أسلمت.
وقد كان الكفار في عهد النبي يسلمون مع زوجاتهم، ويقرهم النبي ، على أنكحتهم، إلا أن يكون سبب التحريم قائما، مثل أن يكون الزوجان مجوسيين وبينهما رحم محرم، فإذا أسلما حينئذ فرق بينهما لقيام سبب التحريم.
وهذه المسألة ليست كمسألة المسلم الذي كفر بترك الصلاة، ثم تزوج مسلمة فإن المسلمة لا تحل للكافر بالنص والإجماع، كما سبق ولو كان الكافر أصليا غير مرتد، ولهذا لو تزوج كافر مسلمة فالنكاح باطل، ويجب التفريق بينهما فلو أسلم وأراد أن يرجع إليها، لم يكن له ذلك إلا بعقد جديد.
7- حكم أولاد تارك الصلاة من مسلمة تزوج بها: فأما بالنسبة للأم فهو أولاد لها بكل حال. وأما بالنسبة للمتزوج فعلى قول من لا يرى كفر تارك الصلاة فهو أولاده يلحقون به بكل حال لأن نكاحه صحيح. وأما على قول من يرى كفر تارك الصلاة وهو الصواب على ما سبق تحقيقه في - الفصل الأول - فإننا ننظر:
- فإن كان الزوج لا يعلم أن نكاحه باطل، أو لا يعتقد ذلك، فالأولاد أولاده يلحقون به، لأن وطأه في هذه الحال مباح في اعتقاده، فيكون وطء شبهة ووطء الشبهة يلحق به النسب.
- وإن كان الزوج يعلم أن نكاحه باطل ويعتقد ذلك، فإن أولاده لا يلحقون به، لأنهم خلقوا من ماء من يرى أن جماعه محرم لوقوعه في امرأة لا تحل له.
ثانيا: الأحكام الأخروية المترتبة على الردة:
1- أن الملائكة توبخه، وتقرعه، بل تضرب وجوههم وأدبارهم: قال الله تعالى: ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة، يضربون وجوههم وأدبارهم، وذوقوا عذاب الحريق، ذلك بما قدمت أيديكم، وأن الله ليس بظلام للعبيد [الأنفال:50-51].
2- أنه يحشر مع أهل الكفر والشرك لأنه منهم: قال الله تعالى: احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم [الصافات:22-23]. والأزواج جمع (زوج) وهو (الصنف) أي احشروا الذين ظلموا ومن كان من أصنافهم من أهل الكفر والظلم.
3- الخلود في النار أبد الآبدين: لقوله تعالى: إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا. خالدين فيها أبدا لا يجدون ولياً ولا نصيراً، يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا [الأحزاب:64-66].
وإلى هنا انتهى ما أردنا القول فيه في هذه المسألة العظيمة التي ابتلي بها كثير من الناس.
وباب التوبة مفتوح لمن أراد أن يتوب. فبادر أخي المسلم إلى التوبة إلى الله عز وجل مخلصا لله تعالى، نادما على ما مضى، عازما على ألا تعود، مكثراً من الطاعات. فمن تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات، وكان الله غفوراً رحيماً، ومن تاب وعمل صالحاً فإنه يتوب إلى الله متابا .
أسأل الله تعالى أن يهيئ لنا من أمرنا رشدا، وأن يهدينا جميعا صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين، والشهداء، والصالحين، غير المغضوب عليهم ولا الضالين.(/6)
حكم تداول أسهم شركة الصحراء
د. أحمد بن محمد الخليل 21/7/1425
06/09/2004
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد.
تتميز الشركات حديثة التأسيس بأن أغلب موجوداتها من النقود، وقد يكون مع هذه النقود بعض الموجودات الأخرىمن الأعيان، أوالمنافع، أو الحقوق.
ومن هنا نشأ الإشكال في حكم تداول أسهم هذه الشركات؛ لأن تداولها يعني تداول نقد بنقد معه أعيان، ومنافع، وإن كان هذا الإشكال لا يختص بالشركة التي نشأت حديثاً، بل يشمل كل شركة بقية غالب موجوداتها من النقود ولم يبدأ تشغيل واستثمار تلك النقود.
وأُحب في هذه الكلمات المختصرة بيان حكم تداول هذه الأسهم، راجياً من الله التوفيق والسداد، فأقول مستعيناً بالله.
من أهم الأمور التي تحتاج إلى بيان وإيضاح في هذه الشركات ما يتعلق بالنقد الموجود فيها هل هو مقصود أم لا ؟
وإذا نظر الإنسان إلى النقد الموجود في هذه الشركات وجده مقصوداً لعدة اعتبارات :
أولاً: قوام هذا النوع من الشركات في هذا الوقت هو النقد الذي تملكه الشركة، فهو مهم جداً في هذه المرحلة من مراحل الشركة؛ لأن المشروعات الإنتاجية التي ستقوم تعمتد بالدرجة الأولى على هذا النقد، بل ربما احتاجت الشركة إلى الاقتراض لزيادة هذا النقد.
ثانياً: الجزء غير المقصود في السلعة من خصائصه أنه تبع لا يؤثر فقده على السلعة، ولو فقدت الأموال النقدية لهذه الشركة بأي سبب من الأسباب لسقطت سقوطاً ذريعاً، ولأصبح سهمها لا قيمة له فكيف يقال مع ذلك أن النقود غير مقصودة؟!
وبالمقابل لو فقدت بعض الأعيان، أو المنافع، أو الحقوق، لم تؤثر على الشركة تأثير فقد النقود.
وأنا لا أقول لا قيمة لهذه الأعيان، والحقوق، بل لها قيمة، لكن النقود أيضاً مقصودة ومهمة في هذه المرحلة للشركة.
ثالثاً: هذه النقود هي الغالب في موجودات الشركة فكيف يكون غالب السلعة ليس مقصوداً ؟
رابعاً: عندما تحدث الفقهاء عن قاعدة (التابع تابع) ذكروا من أمثلتها :جلد الحيوان، والجفن والحمائل للسيف, ونحوها.
فهل نسبة الأموال النقدية للشركة كنسبة الحمائل للسيف؟ إن في التسوية بينهما بعداً لا يخفى.
خامساً: المساهم الذي يشتري السهم يقصده كله بنقده وموجوداته الأخرى غير النقدية كالموجودات العينية, والحقوق المعنوية ونحوها.
فإن قيل إنه لايقصد النقد ولايخطر بباله
فالجواب أنه لايقصد أيضا الموجودات الأخرى غير النقدية، وهذا يدل على أنه يقصد سهم الشركة بموجوداته جملة من غير تعيين(1) .
وكون الشركة في الأصل تريد استثمار هذه النقود في المستقبل، لا ينفي أن ننظر إليها الآن(2) باعتبار حقيقتها، وهي أنها نقود وأعيان؛ لأن الحكم يدور مع علته وجوداً و عدماً.
فإذا ثبت أن أسهم الشركات حديثة التأسيس تشتمل على أموال وأعيان كلاهما مقصود صارت هذه المسألة تدخل في مسألة "مد عجوة ودرهم" التي ذكرها الفقهاء.
ولا أريد هنا الإطالة بذكر الخلاف مع الأدلة والترجيح في هذه المسألة، ، إنما سأذكر الأقوال فقط ثم أذكر بعد ذلك حكم مسألتنا.
وقد اختلف فيها الفقهاء على ثلاثة أقوال:
القول الأول: لا يجوز بيع الربوي بجنسه، ومع إحداهما، أو معهما، من غير جنسهما، كمد عجوة ودرهم بمدين، أو بدرهمين، أو بمد ودرهم، وهذا قول جماهير أهل العلم(3).
القول الثاني: يجوز إن لم يكن الذي معه مقصوداً، كالسيف المحلى(4)،وهو رواية لأحمد، وأحد قولي شيخ الإسلام، واختارها ابن قاضي الجبل(5).
القول الثالث: يجوز بشرط ألا يكون حيلة على الربا، وأن يكون المفرد أكثر من الذي معه غيره، أو يكون مع كل واحد منهما من غير جنسه، وهو مذهب الأحناف، وحماد بن أبي سليمان، ورواية لأحمد، وأحد قولي شيخ الإسلام(6)، ولهذا القول شرط آخر سيأتي تفصيله.
فإذا عرفت الأقوال في هذه المسألة فأقول:
على القول الأول لا يجوز تداول أسهم الشركات حديثة التأسيس لعدم جواز بيع الربوي بجنسه ومع أحدهما من غير جنسهما.
وعلى القول الثاني أيضاً لا يجوز تداول هذه الأسهم، باعتبار أن النقد الذي فيها مقصود، على ما سبق بيانه .
وإنما يتصور الجواز على القول الثالث فقط.
والصواب أنه لا يجوز تداول أسهم هذه الشركات، حتى على القول الثالث؛ لأن لهذا القول شرطاً يمنع من الجواز.
ذلك؛ لأن الفقهاء الذين أخذوا بالقول الثالث إنما يجيزون بيع الربوي بجنسه، ومعه من غير جنسه إذا كان المفرد أكثر بشرط وهو المقابلة.
ومعنى المقابلة تقسيم الثمن على المثمن، فمثلاً إذا باع درهمين بدرهم ومد، فإن المد مقابل الدرهم والدرهم مقابل الدرهم.
قال حرب: قلت لأحمد: دفعت ديناراً كوفياً ودرهماً وأخذت ديناراً شامياً وزنهما سواء، قال: لا يجوز إلا أن ينقص الدينار فيعطيه بحسابه فضة(7).(/1)
وذكر شيخ الإسلام أن الفضة إذا كان معها نحاس وبيعت بفضة خالصة "والفضة المقرونة بالنحاس أقل، فإذا بيع مائة درهم من هذه بسبعين مثلا من الدراهم الخالصة فالفضة التي في المائة أقل من سبعين، فإذا جعل زيادة الفضة بإزاء النحاس جاز على أحد قولي العلماء الذين يجوزون مسألة " مد عجوة "، كما هو مذهب أبي حنيفة، وأحمد في إحدى الروايتين"(8) .
ولزيادة الإيضاح أنقل كلاماً نفيساً للحافظ ابن رجب، حول حكم مسألة مد عجوة ودرهم، قال ابن رجب:
"ومنها مسألة مد عجوة وهي قاعدة عظيمة بنفسها فلنذكر هاهنا مضمونها ملخصا: إذا باع ربويا بجنسه ومعه من غير جنسه من الطرفين أو أحدهما كمد عجوة ودرهم بمد عجوة أو مد عجوة ودرهم بمدي عجوة أوبدرهمين ففيه روايتان أشهرهما بطلان العقد وله مأخذان:
أحدهما: وهو مسلك القاضي وأصحابه أن الصفقة إذا اشتملت على شيئين مختلفي القيمة يقسط الثمن على قيمتهما وهذا يؤدي هاهنا إما إلى يقين التفاضل وإما إلى الجهل بالتساوي وكلاهما مبطل للعقد في أموال الربا. وبيان ذلك : أنه إذا باع مدا يساوي درهمين ودرهما بمدين يساويان ثلاثة دراهم كان الدرهم في مقابلة ثلثي مد ويبقى مد في مقابلة مد وثلث ذلك ربا وكذلك إذا باع مدا يساوي درهما ودرهمين بمدين يساوين ثلاثة دراهم فإنه يتقابل الدرهمان بمد وثلث مد ويبقى ثلثا مد في مقابلة مد , وأما إن فرض التساوي كمد يساوي درهما , ودرهم بمد يساوي درهما ودرهم فإن التقويم ظن وتخمين فلا يتيقن معه المساواة والجهل بالتساوي هاهنا كالعلم بالتفاضل فلو فرض أن المدين من شجرة واحدة أو من زرع واحد وإن الدرهمين من نقد واحد ففيه وجهان ذكرهما القاضي في خلافه احتمالين : أحدهما : الجواز لتحقق المساواة . والثاني : المنع لجواز أن يتغير أحدهما قبل العقد فتنقص قيمته وحده وصحح أبو الخطاب في انتصاره المنع قال ; لأنا لا نقابل مدا بمد ودرهما بدرهم بل نقابل مدا بنصف مد ونصف درهم , وكذلك لو خرج مستحقا لاسترد ذلك وحينئذ فالجهل بالتساوي قائم , هذا ما ذكره في تقريره هذه الطريقة . وهو عندي ضعيف ; لأن المنقسم هو قيمة الثمن على قيمة المثمن لا إجراء(9) أحدهما على قيمة الآخر ففيما إذا باع مدا يساوي درهمين ودرهما بمدين يساويان ثلاثة لا نقول درهم مقابل بثلثي مد بل نقول ثلث الثمن مقابل بثلث المثمن فنقابل ثلث المدين بثلث مد وثلث درهم ونقابل ثلث المدين بثلثي مد وثلثي درهم فلا تنفك مقابلة كل جزء من المدين بجزء من المد والدرهم. ولهذا لو باع شقصا وسيفا بمائة درهم وعشرة دنانير لأخذ الشفيع الشقص بحصته من الدراهم والدنانير , نعم نحتاج إلى معرفة ما يقابل الدرهم أو المد من الجملة الأخرى إذا ظهر أحدهما مستحقا أو رد بعيب أو غيره ليرد ما قابله من عوضه حيث كان المردود هاهنا معينا مفردا , أما مع صحة العقد في الكل واستدامته فإنا نوزع أجزاء الثمن على أجزاء المثمن بحسب القيمة وحينئذ فالمفاضلة المتيقنة كما ذكروه منتفية , وأما أن المساواة غير معلومة فقد تعلم في بعض الصور كما سبق"(10).
فهذا الكلام نقلته لبيان أن العلماء يرون أنه في مسألة مد عجوة ودرهم لا بد من انقسام أجزاء أحدهما على قيمة الآخر على طريقة القاضي.
أو انقسام قيمة الثمن على قيمة المثمن على طريقة ابن رجب.
وعلى كلٍ لا بد من هذا التقسيم.
وقد نقلت هذا للإيضاح كما سبق، وإلا فإن هذا التفصيل كله يتعلق بالرواية الأولى وهي المنع. ونأتي الآن إلى الرواية الثانية يقول ابن رجب:
"والرواية الثانية : يجوز ذلك بشرط أن يكون مع الربوي من غير جنسه من الطرفين، أو يكون مع أحدهما ولكن المفرد أكثر من الذي معه غيره نص عليه أحمد في رواية جماعة، جعلا لغير الجنس في مقابلة الجنس، أو في مقابلة الزيادة , ومن المتأخرين كالسامري من يشترط فيما إذا كان مع كل واحد من غير جنسه من الجانبين التساوي جعلا لكل جنس في مقابلة جنسه، وهو أولى من جعل الجنس في مقابلة غيره، لا سيما مع اختلافهما في القيمة، وعلى هذه الرواية فإنما يجوز ذلك ما لم يكن حيلة على الربا، وقد نص أحمد على هذا الشرط في رواية حرب ولا بد منه . وعلى هذه الرواية يكون التوزيع هاهنا للأفراد على الأفراد، وعلى الرواية الأولى هو من باب توزيع الأفراد على الجمل، أو توزيع الجمل على الجمل"(11) .
إذاً على هذه الرواية ـ الجواز ـ يكون التوزيع للأفراد على الأفراد، أي نجعل غير الجنس في مقابلة الجنس، أو في مقابلة الزيادة، كما تقدم عن ابن رجب، وإذا اختل هذا المبدأ حرمت المعاملة.
وإذا أردنا أن نطبق هذه المقابلة، أو التقسيم، على مسألتنا فإنه ينتج من ذلك عدم الجواز.
ولبيان ذلك أقول:
طرحت شركة الصحراء أسهمها للإكتتاب بقيمة (50) ريالاً للسهم الواحد(12).
وصُرف جزء يسير من هذه ألـ (50) في شراء أعيان، أو منافع ولنفرض أنها تشكل 10% من قيمة السهم، فبقي من الأموال النقدية 45 ريالاً.(/2)
ثم ارتفعت قيمة الأسهم لتصل إلى (220) ريالاً للسهم الواحد.
فإذا أردنا تطبيق مبدأ مد عجوة ودرهم فنقول:
ألـ(45) ريالاً من الثمن أي (220) مقابل ألـ(45) من المثمن (النقد في الشركة) ويبقى من الثمن 220ـ45=175
فهذا المبلغ المتبقي من الثمن وهو (175) لا يمكن أن يكون كله مقابل الأعيان والمنافع فقط لما يلي:
- هذه الأعيان والمنافع لا يعرفها كثير من المساهمين أصلاً، بل كثير من الناس لا يعرف عن هذه الشركة إلا أنها ما زالت نقوداً، وإذا كان المساهمون الذين رفعوا السهم لا يعرفون فيه هذه الحقوق والمنافع، بل قد تكون معرفتهم بوجود النقد أكثر من معرفتهم بها، فكيف نجعل سبب إرتفاع الأسهم منحصراً في أشياء لا يعرفونها، أو معرفتهم بها قليلة.
ـ هذه القيمة قد ترتفع أو تنزل في دقائق، مما يدل أنها قيمة سوقية للسهم كله، نقده، وأعيانه، وحقوقه؛ لأن قيمة هذه الأعيان والحقوق لن ترتفع في دقائق بمفردها، بل الذي يرتفع هو السهم بكل موجوداته العينية, والنقدية، وغيرها, ولا يوجد مطلقاً ما يدل على أن هذا الإرتفاع إنما هو في قيمة الأعيان والمنافع فقط, بل هذه غاية في البعد، عند تصور حقيقة المعاملة.
إذ إن القول بأن هذه الأسهم ارتفع سعرها نظراً للموجودات غير النقدية, وسمعت الشركة, ونحو ذلك, قول بعيد عن حقيقة ما يقع في أسواق تداول الأسهم؛ فإن المساهمين في الغالب لا يعرفون شيئاً كثيراً عن الشركات، لا سيما الحديثة منها، إنما يتحكم في إرتفاع سعر الأسهم أو هبوطها ما يجري على الأسهم من مضاربات بين المتداولين، أو ظهور الإشاعات، أو تحركات كبار المساهمين، ونحو هذه الأسباب.
والمضاربات هي العنصر الأهم في إرتفاع قيم الأسهم, والمضاربون يرفعون قيم الأسهم من خلال الأساليب المتنوعة في العرض والطلب، وذلك كله بعيداً عن مراعات شئ معين من موجودات الشركة من الحقوق والمنافع والأعيان والنقود، فإذا ارتفع السهم فهو يرتفع بكل موجوداته ولا يقصد منها شيئاً معيناً
ولا أدل على ذلك من أن أسهم بعض الشركات ترتفع رغم إعلانها الخسارة ووجود انطباع سيء عن أدائها عند المساهمين، وهذا كله يفترض أن يؤدي إلى تدني قيم الحقوق والموجودات العينية، ولكن مع ذلك ترتفع أسهمها بسبب المضاربات السوقية.
ومع ما سبق ما الذي يجعلنا نفترض أن الزيادة في قيمة السهم في مقابل تلك الموجودات (الأعيان والحقوق والمنافع) فقط.
وقد عرفنا أن هذا الارتفاع سببه الحقيقي المضاربات على الأسهم، وهي لا تفرق بين موجودات الشركة من النقود، والحقوق، والأعيان، وغيرها فهي في الواقع مقابل السهم برمته نقده وموجوداته.
فالزعم أن سبب الارتفاع هوالموجودات غير النقدية فقط يخالف الواقع.
وخلاصة ما سبق أن هذا الارتفاع لا يقابل هذه الحقوق والمنافع فقط، بل يقابل السهم كله نقده وحقوقه ومنافعه.
ونخلص من هذا إلى أن جزء من هذا المبلغ المتبقي (أي ألـ 175) مقابل للنقد الموجود في الشركة بالإضافة إلى ألـ (45) الأولى من الثمن أي أنه اشترى (45) ريالاً بـ(45) وزيادة وهذا هو ربا الفضل.
وبهذا يتبين أنه حتى على القول بجواز مسألة مد عجوة ودرهم فإنها لا تنطبق على شركة الصحراء لعدم تحقق شرط الجواز على ما سبق تفصيله.
هذا ما ظهر لي في هذه المسألة والله تعالى أعلم بالصواب.
وصل الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
لمزيد من الدراسة حول الموضوع:
(حكم تداول أسهم الشركات التي في مرحلة التأسيس)
(1) وسيأتي مزيد إيضاح لهذه النقطة إن شاء الله.
(2) أي قبل بدء النشاط.
(3) القوانين الفقهية ص166، مغني المحتاج 2/28، المغني 6/93.
(4) أي كبيع سيف محلى بفضة فإن الفضة التي في السيف ليست مقصودة.
(5) الشرح الكبير مع الإنصاف 12/79.
(6) البناية 7/518، المبسوط 12/189, المغني 6/93، الإنصاف مع الشرح الكبير 12/79.
(7) الشرح الكبير 12/78.
(8) مجموع الفتاوى 29/452.
(9) هكذا في المطبوعة والمحققة ولعل صوابها: (أجزاء) وذكر في المحققة نسخة ( إجزاء ) هكذا.
(10) قواعد ابن رجب 2/478.
(11) قواعد ابن رجب 2/480.
(12) سيكون التطبيق على سهم واحد ليسهل فهم المسألة وتصورها.(/3)
حكم تربية اليتيم أو اللقيط و نسبته إلى غير أبيه
السؤال :
تزوّجت منذ 12 عاماً و لم أرزَق بأولاد ، و أنا أعيش في بلاد الغربة ، و أريد أن أتبنى طفلةً لأربيها على الطريقة الإسلامية علَّ الله عز و جل أن يجعل فيها الخير ، فتكون لنا منها دعوة صالحة بعد الموت .
و لكن التبني هنا يوجب أن تسجله باسمِك و إلا فلا يسمح لك أن تأخذ الطفل الذي تريد تبنيه و تربيته ، و هنا آلاف الأطفال بدون آباء .
لذلك أريد توضيح حُكم الشرع في التبني على هذه الصفة ، و الله الموفق .
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
كان التبني معروفاً في الجاهليّة ، و صدر الإسلام إلى أن نزل تحريمه في قوله تعالى : ( ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَ مَوَالِيكُمْ ) [ الأحزاب : 5 ] .
قال القرطبي في تفسير هذه الآية : ( قال النحاس هذه الآية ناسخة لما كانوا عليه من التبني وهو من نسخ السنة بالقرآن فأمر أن يدعوا من دعوا إلى أبيه المعروف فإن لم يكن له أب معروف نسبوه إلى ولائه فإن لم يكن له ولاء معروف قال له يا أخي يعني في الدين قال الله تعالى إنما المؤمنون اخوة ) [ تفسير القرطبي : 14 / 119 ] .
و عليه فإن التبني لا يجوز بحالٍ من الأحوال ، و هو بخلاف كفالة الأيتام التي حثّنا عليها الإسلام ، لما روى البخاري و الترمذي و أبو داود و أحمد عَنْ سَهْلٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم : « أَنَا وَ كَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا » . وَ أَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَ الْوُسْطَى ، وَ فَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئاً ، و رواه بنحوه مسلم و أحمد و مالك عن أبي هريرة رضي الله عنه .
قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم : ( كافل اليتيم القائم بأموره من نفقة وكسوة وتأديب وتربية وغير ذلك , و هذه الفضيلة تحصل لمن كفله من مال نفسه , أو من مال اليتيم بولاية شرعية ) .
و من حُرِمَ الذرّية فليحتسب الأجر عند الله تعالى ، فإنّ هذا ابتلاءٌ لا مردّ له ، قال تعالى : (وَ يَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً ) [ الشورى : 50 ] . و لو بادر إلى كفالة يتيم يربيه و يرعاه لحاز الأجر العظيم في الآخرة ، و لأنس و البركة في الدنيا ، و لكن عليه أن يحتاط لدينه فيراعي الأمور التالية :
• لا يجوز لمن كفل ابن غيره ( سواءً كان يتيماً أو لقيطاً أو غير ذلك ) أن ينسبه إليه ، بل يُنسبُ إلى أبيه الصلبي ( الحقيقي ) ، فإن لم يعرِف أباه نسبه إلى ما يُعرف به ( كأن يُقال : فلان الشامي نسبةً إلى الشام أو المقدسي نسبةً إلى القدس أو غير ذلك ) ، أو دعاه بأخوّة الإسلام .
• و إذا كان لا بدّ له من ذكر اسم أبيه في السجلات الرسميّة فيُنسَب إلى عبد الله أو عبد الرحمن مثلاً ، إذ إنّ العباد كلّهم عباد الله ، و أبوه منهم .
• إذا ربّى الرجل بنتاً من غير صُلبه و لا محارمه بالنسب أو الرضاع ، فإنّها تظلّ أجنبيّةً عنه ، و يجب عليها أن تحتجب عنه بعد البلوغ ، ما لم تكن بنتاً لزوجته التي دخل بها .
• و إذا ربّت المرأة ابناً من غير أبنائها نسباً أو رضاعاً و لا أبناء زوجها أو محارمها ، فليس لها أن تنكشفَ عليه إذا بلغ الحلُم ، بل يجب عليه أن تحتاط من ذلك ، و ربّما رفع عنها الحرج إذا أرضعته بنفسها ، أو أرضعته أختها أو أمّها أو بنتها ، لأنّها تصير بذلك أماً أو أختاً أو خالةً له من الرضاع .
هذا ، و الله الموفّق ، و هو الهادي إلى سواء السبيل .
و الحمد لله ربّ العالمين .(/1)
حكم تعلم التجويد
الشيخ/ د.مساعد الطيار (عضو هيئة التدريس بكلية المعلمين بالرياض) 10/7/1424
07/09/2003
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه إلى يوم الدين،
أما بعد: فإن التجويد من جهة العموم يراد به تحسين القراءة، وأن لا يُخرج به عن حدِّ اللفظ العربي في النطق. ويمكن أن يقال: إنَّ التجويد إنما هو وصف للقراءة النبوية التي ورد ضبطها وحفظها من طريق أئمة القراءة كنافع وعاصم والكسائي وغيرهم.
وهؤلاء الكرام قد نقلوا حروف القرآن وكيفية نطق هذه الحروف (أي: التجويد)، وهما أمران متلازمان لا يمكن أن ينفكَّ أحدهما عن الآخر ، فمن قَبِلَ عنهم نقل الحروف لزمه أن يقبل عنهم نقل الأداء (أي : التجويد). وإذا صحَّت هذه المقدمة، فإن قراءة القرآن وأداءه بما نُقِلَ عن هؤلاء الأئمة سنة يلزم الأخذ بها ، ولا تصحُّ مخالفتها أو تركها إلا بدليل قويِّ يعترض به المعترض على علم التجويد، وبما أنه قد كَثُرَ الكلام عن هذا العلمِ بما لا طائل تحته، فإني سأذكر جُمَلاً أراها نافعةً ـ إن شاء الله ـ في تأصيل هذا العلم الذي جفاه بعض طلبة العلم، وضعُفَ في بحثه وتحرير أصوله المتخصصون إلا القليل منهم، فأقول وبالله التوفيق:
أولاً: نزل القرآن بلغة العرب ، ولها طريقة في أداء حروفها ، ولم يرد أن القرآن خالف هذا الأداء من جهة الحروف، فمن قرأ: " الحمد لله" قراها: الهمد لله قيل: إنه قد لحن لحنًا جليًا لأنه لم ينطق بالمنَزَّل على وجهه الذي نزل به، ومن قرأ:" صراط الذين أنعمت عليهم" بضم التاء من انعمت ، فإنه قد لحن لحنًا جليًا يخلُّ بالمعنى ، ولا يكون قد قرأ المنَزَّل على وجهه الذي نزل به، ومن ثَمَّ فإنه يلزم قارئ القرآن أن يعرف نطق الحروف عربيةً حتى لا يُخلَّ بشيء من أداء القرآن. ويحصل ضبط الحروف من هذه الجهة بمعرفة مخارج الحروف وصفاتها، وأخص ما يُدرسُ في صفات الحروف ما له أثر في النطق ، كالهمس والجهر، والشدة والرخاوة والتوسط والاستفال والاستعلاء، والقلقلة . أما غيرها مما لا أثر له في النطق، خصوصًا صفة الذلاقة والإصمات، فإنها مما لا يدخل في النطق ، وليس لها أي أثر فيه. وليُعلم أن دراسة مخارج الحروف وصفاتها ليس مما يختص به علم التجويد، بل هو مما يُدرس في علم النحو واللغة؛ لأن كلَّ كلام عربي (من كلام العرب أو كلام الرسول –صلى الله عليه وسلم- أو كلام الله سبحانه) لا يخرج عن هذين الموضوعين، ولهذا تجد أن أعظم كتابٍ في النحو، وهو كتاب سيبوية قد فصَّل هذه المسألة ، ومن تكلم في المخارج والصفات وما يترتب عليهما من الإدغام ، فهم عالة عليه. والذي يتخلَّصُ من هذا : أن دراسة المخارج والصفات لازمة لكل كلام عربيٍّ ، لكي يُنطق به على وجه العربية.
ثانيًا: أن هذا العلم ككل العلوم الإسلامية من جهة ظهور التأليف فيه ، إذ ليس كل العلوم الإسلامية مما قد تشكَّل وظهرت مسائله في جيل الصحابة –رضي الله عنهم- أو التابعين وأتباعهم، بل إن بعضها مما تأخر ظهوره، ولم يُكتب فيه إلا متأخرًا ، وإن كانت أصوله مما هو معروف محفوظ عند السلف، سواءً أكان ذلك مما هو مركوز في فطرهم ومن طبائع لغتهم كعلم البلاغة، أم كان مما تكلموا في جملة من مسائله ، ثم دون العلم فيما بعد ، كعلم الأحكام الشرعية.
وعلم التجويد مما كان مركوزًا عندهم بالفطرة والتعلم ، فالفطرة؛ لأنهم عربٌ خُلَّصٌ، والتعلم ، لقوله –صلى الله عليه وسلم- :"خذوا القرآن عن أربعة..." رواه البخاري
(3808)، ومسلم (2464)، من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- فظهر أنَّ الرسول –صلى الله عليه وسلم- لم يكتفِ بسليقتهم العربية في قراءة القرآن، بل أرشدهم إلى قراءته على الهيئة التي نزل بها، ولذا قال:"من أحب أن يقرأ القرآن غضًّا كما أًُنزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبدٍ" رواه ابن ماجة (138)، وغيره من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، وهذا يدل على أنَّ له هيئة قرائية مخصوصة يعلمها بعض الصحابة –رضي الله عنهم- دون بعض ، وفيها زيادة عما يعرفونه من سليقتهم العربية، وإلا لما كان لتخصيص الأربعة –رضي الله عنهم- ولا لتخصيص ابن مسعود –رضي الله عنه- في الحديث الآخر أيُّ مزيَّة على بقية الصحابة-رضي الله عنهم- والله أعلم. ومن زعم أنه لا يجب الأخذ بالتجويد، وأن العربي في هذا العصر تجوز له القراءة على سليقته العربية، فإنه يشبه من سيزعم أنه لا يلزم الناس تعلم النحو، وأنهم عرب، فيجوز لهم أن يتكلموا بسليقتهم.(/1)
فإن قيل: إنَّ ألسنة الناس قد فسدت منذ جيل التابعين ومن بعدهم، وصار تعلم النحو لازمًا لمن أراد أن يعرف العربية ، وأن من يزعم اليوم أنه عربي ، ولا يلزمه تعلم النحو إنما هو ذو رأي فائل، وقول باطل. فيقال: إن فساد ألسنة الناس بالعربية قد جرَّ إلى فساد ألسنتهم في أداء القرآن، ولئن كان الإنكار على من لا يرى دراسة النحو اكتفاءً بعربيته المعاصرة فإن الإنكار على من يزعم أنه يكفي في قراءته عربيته المعاصرة كذلك.
ثمَّ يقال له: من أين لك في عربيتك أن تقرأ برواية حفص عن عاصم مجراها بالإمالة؟
فإن قال: لأنها هكذا رويت عنه ، وأن أقرأ بقراءته؟ قيل له فقد روي عنه الأداء بالتجويد الذي تخالف فيه ولا تراه علمًا، فَلِمَ قبلت روايته في هذا وتركتها في ذا؟ أليس هذا من قبيل التَّحكُّم، والتَّحكُّم كما قال الطبري ـ: لا يعجز عنه أحد.
ثالثًا:إنَّ بعض علم التجويد (الأداء) لا يمكن أخذه من طريق الصُّحِفِ البتة؛ لأنه علم مشافهة، وما كان من طريق المشافهة فإنه مما ينقله الآخر عن الأول، ولا مجال للرأي في المشافهة، واعلم أن مما يميِّز بحث القراء المجودين في هذا المجال عما تجده في كتب النحويين واللغويين أن ما عند المجودين منقول بالمشافهة إلى يومنا الحاضر، أما ما يذكره النحويون واللغويون من المباحث اللفظية التي يذكرونها مما يتعلق بكيفية النطق فإنه لا يمكن معرفة كيفية النطق بها؛ لأنه مما لا يُعرف بالقياس ولا يُدرك بغير المشافهة، وليس لك فيها إلا نقل الكلام المدون دون كيفية نُطقِه.
رابعًا: إن علم التجويد كغيره من العلوم الإسلامية التي دوَّنَها علماء الإسلام وضبطوا أصولها، فتجد أن تقسيم العلم ومصطلحاته الفنية مما يدخلها الاجتهاد. ثمَّ إن هذا العلم قد دخله الاجتهاد في بعض مسائله، وذلك من دقائق ما يتعلق بهذا العلم، ومما يحتاج إلى بحث ومناقشة وتحرير من المتخصصين في هذا العلم، وذلك في أمرين:
الأول: المقادير، والمقصود بذلك مقدار الغنة والمدود والسكت وغيرها، مما يُقدَّر له زمن بالحركات أو بقبض الأصبع أو بغيرها من موازين المجودين للزمن المقدَّر، وليس القول بدخول الاجتهاد في المقادير يعني أنه لا أصل لها ،بل لها أصل، لكن تقدير الزمن بهذا الحد بالذات مما تختلف فيه الطبائع، ويصعب ضبطه ، فيقدره هذا بذاك العدد ، ويقدره آخر بغيره من العدد، لكنهم كلهم متفقون على وجود مقدار زائدٍ عن الحدِّ الطبيعي لنطق الحرف المفرد. فاتفاقهم على وجود هذا القدر الزائد مسألة ، واختلافهم في مقداره مسألة أخرى، لذا لا يُجعَل اختلافهم في المقدار سبيلاً إلى الإنكار ، كما لا يُجعَلُ مقدارٌ من هذه المقادير المختلف فيها ملزمًا لعامة الناس ما داموا يأتون بشيءٍ منه، إذ ليس كل امرئ مسلم يستطيع بلوغ الإتقان في القراءة.
الثاني: التحريرات، والمراد بها الوجوه القرائية الجائزة عند القراءِ عند جمع القراءات، أو عند قراءة سورة ووصلها بما بعدها، فإن ما يُذكر من الأوجه القرائية إنما هو على سبيل القياس للأوجه الجائزة، ولا يلزم أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قرأ بكل هذه الأوجه المذكورة، كما يقال: لك في وصل الفاتحة بالبقرة ثلاثة أوجه: قطع الجميع، ووصل الجميع، وقطع الأول ووصل الثاني بالثالث، فهذا من التحرير للأوجه الجائزة، وليس من بيان الأوجه الواردة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد أشار إلى هذين النوعين (التقديرات والتحريرات) الشيخ المحقق الدكتور عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري في كتابه العظيم (حديث الأحرف السبعة، ط: مؤسسة الرسالة:( 129 ـ 130).
خامسًا: إن مما يدعو إلى التأمل والنظر في صحة ما تُلُقِّي من هذا العلم عبر القرون اتفاق المجودين شرقًا وغربًا بلا اختلاف بينهم ، سوى في كيفيات أداء معدودة، وهي في غالبها مما يدخل في محيط الاجتهاد. وهذا الاتفاق يشير بقوة إلى أن لهذا العلم أصلاً ثابتًا مُتلقًا جيلاً عن جيل من لدن الرسول –صلى الله عليه وسلم- حتى عصرنا هذا، ولو كان علم التجويد من المحدثات لوقع فيه مثل ما وقع في محدثات الصوفية من كثرة الطرق المتباينة ، وكثرة الأوراد المتغايرة، ولما لم يقع مثل هذا الاختلاف عُلِم أنَّ المشكاة التي صدر عنها واحدة، وهي التي صدر عنها نقل حروف القرآن جيلاً عن جيل.(/2)
سادسًا:إن ما يُعاب به التجويد من وجود بعض المتنطعين في القراءة أو المتشددين في التلقين، أو المغالين في تأثيم الناس بعدم قراءتهم بالتجويد ، فإنه لا ينجرُّ على أصل العلم، ولا يجعله علمًا حادثًا لا أصل له، وهؤلاء الأصناف موجودون في كل عصر ومِصر ، وقد أشار إليهم المحققون من أعلام القراءة ؛ كالداني ( ت : 444 )، وأبو العلاء الهمذاني (ت: 569) وغيرهم، وهؤلاء المتنطعون لا يقاس عليهم ، ولا يحكم على العلم بهم، ولو سار سائر على بعض العلوم كعلم النحو والبلاغة والأصول ، وبعض مسائل الفقه، وبعض تعصبات الفقهاء لمذاهبهم وأخذ ينقدها بقول المتنطعين فيها لما سَلِم من العلوم إلا القليل، ولخرج بعض العلوم من أن تكون علومًا معتبرةً ، وذلك ما لا يقول به طالب علم ، ولا عالم قد مارس العلوم وتلقاها.
سابعًا:إذا تبين ما تقدَّم فإنه يقال: إن تعلم التجويد من السنن التي دأب عليها المسلمون جيلاً بعد جيلٍ، ومن ترك تعلمه مع القدرة عليه ، فقد أخلَّ بشيء من سنن القراءة، وكفى بذلك عيبًا.والله اعلم
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصبحه وسلم(/3)
حكم تعليق التمائم ...
تعريف التمائم :
هي جمع تميمة وهي كلُ ما علق من أجل دفع شر متوقع حصوله من مرض أو عين أو رفع شر وقع فعلا سواء كان المعلق خرزات أو أخشاب أو خيوط أو أوراق أو غير ذلك .
التمائم في الجاهلية :
كان المذهب السائد عند أهل الجاهلية أن تعليق التمائم يدفع عنهم المقادير ويحميهم مما يتوقعونه من أخطار فتعلقوها لحماية أنفسهم ودوابهم من الأمراض وللتغلب على الأرواح الشريرة – بزعمهم – واتقاء الإصابة بالعين وغير ذلك من الأضرار .
التمائم في الإسلام :
لما كان اعتقاد الجاهليين في تعليق التمائم فيه من اللجوء إلى غير الله في جلب الخير ودفع الضر بما لم يجعله الله سببا شرعيا لذلك واعتقاد هذا جهل وضلال وإشراك بالله إذ لا مانع ولا دافع غير الله .
ولما في ذلك من تعلق القلوب والغفلة عن الله سبحانه ولمنافاة هذا العمل للتوحيد أنكره الإسلام عليهم وزجرهم عنه وشدد وغلظ في هذا الموضوع لما فيه من الشرك وهذه بعض الأحاديث الواردة في المنع من هذا الأمر :
- عن قيس بن السكن الأسدي قال : دخل عبدالله بن مسعود رضي الله عنه على امرأة فرأى عليها خرزا من الحمرة فقطعه قطعا عنيفا ثم قال : إن آل عبدالله عن الشرك أغنياء وقال : كان مما حفظنا عن النبي صلى الله عليه وسلم : إن الرُّقى والتمائم والتِّولة شرك .
رواه الحاكم وقال : صحيح الإسناد ووافقه الذهبي .
وذكره الألباني في الصحيحة برقم 331 .
الرقى: جمع رقية والمقصود بأنها شرك هنا إذا كانت بغير ما ورد به الشرع كالاستعاذة بالجن أو لا يفهم معناها أما ما ورد به الشرع فليست من الشرك .
والتمائم سبق تعريفها ، ويدخل في التمائم تعليق بعضهم نعل الفرس على باب الدار أو في صدر المكان وتعليق بعض السائقين نعلا في مقدمة السيارة أو مؤخرتها أو الخرز الأزرق على مرآة السيارة التي تكون أمام السائق من الداخل كل ذلك من أجل العين زعموا وغير ذلك مما عمَّ وطم َّ بسبب الجهل بالتوحيد وما ينافيه من الشركيات والوثنيات التي ما بُعثَ الرسل ولا أنزلت الكتب إلا من أجل إبطالها والقضاء عليها فإلى الله المشتكى من جهل المسلمين اليوم وبُعدِهم عن الدين .ا.هـ. كلام الألباني بتصرف .
والتِّوَلَة : شيء يعلقونه على الزوج يزعمون أنه يحبب الزوجة إلى زوجها والزوج إلى امرأته وهذا شرك ومثل ذلك الدبلة ، والدبلة خاتم يُشترى عند الزواج يوضع في يد الزوج وإذا ألقاه الزوج قالت المرأة : إنه لا يحبها فهم يعتقدون فيه النفع والضرر ويقولون : إنه ما دام في يد الزوج فإنه يعني أن العلاقة بينهما ثابتة والعكس بالعكس فإذا وجدت هذه النية فإنه من الشرك الأصغر وإن لم توجد هذه النية ففيه تشبه بالنصارى فإنها مأخوذة منهم .
متى تكون التمائم شركا أكبر ومتى تكون شركا أصغر ؟
التمائم الشركية تختلف حسب الأحوال وحسب المعلق لها فقد تكون شركا أكبر وقد تكون شركا أصغر فالذي يعلق شيئا ويعبده من دون الله فهذا يكون شركا أكبرا أما إذا اعتقد أنها سبب للسلامة من العين فهذا من الشرك الأصغر .
حكم التمائم من القرآن :
التمائم التي من الآيات القرآنية هي على أشكال مختلفة منها ما يكتب في أوراق ثم تحاط بجلد صغير ، ومنها مصاحف تطبع بحجم صغير جدا أحيانا تعلق في الرقبة ، ومن الناس من يحملها معه بدون تعليق ، ومنها كتابة بعض الآيات القرآنية في قطع ذهبية أو فضية أو غيرهما وغالبا ما تعلق في أعناق الصبيان وعلى السيارات وغير ذلك من الصور المختلفة .
وهذا النوع من التمائم التي ليس فيها إلا قرآن قد اختلف العلماء في تعليقه فمنهم من منعه ومنهم من أجازه واليك أقوالهم :
القول الأول :
وهم القائلون بمنع التعليق لهذه التمائم واستدلوا بما يلي :
1- عموم النهي الوارد في تحريم التمائم ولم يأت ما يخصص هذا العموم .والقاعدة الأصولية تقول : إن العام يبقى على عمومه حتى يرد دليل بالتخصيص . قال صلى الله عليه وسلم : " من علق تميمة فقد أشرك " . رواه أحمد (4/156) . السلسة الصحيحة حديث (492) .
وقال : " إن الرقى والتمائم والتولة شرك " رواه أحمد . السلسة الصحيحة حديث (331) .
قالوا : فهذه الأحاديث دلت بعمومها على منع التعليق مطلقا ولم يرد ما يخصص التمائم التي من القرآن أو غيره فالواجب حملها على عومها .
2- لو كان هذا العمل مشروعا لبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته إذ البيان لا يؤخر عن وقت الحاجة والمتتبع للسنة يرى أن جميع الأحاديث الواردة في الأذكار والدعوات وردت بلفظ من قال كذا أو من قرأ كذا ولم يرد في حديث واحد من كتب كذا أو علق كذا .
وفي ذلك قال ابن العربي : وتعليق القرآن ليس من السنة وإنما السنة فيه الذكر دون التعليق .(/1)
3- سد الذرائع ، وهذا أمر عظيم في الشريعة ومعلوم أنا إذا قلنا بجواز تعليق التمائم التي من الآيات القرآنية والدعوات النبوية انفتح باب الشرك واشتبهت التميمة الجائزة بالممنوعة وتعذر التمييز بينهما إلا بمشقة عظيمة ، ولاستغل هذا الباب دعاة الضلال والخرافات وأيضا فإن هذه التمائم تعرض القرآن للنجاسات والأماكن التي يجب أن ينزه القرآن عنها ومن علقه يتعذر عليه المحافظة على ذلك خاصة عندما يعلق على الأطفال .
القول الثاني :
وهم القائلون بالجواز ، واستدلوا بما يلي :
1- بقوله صلى الله عليه وسلم : " من تعلق شيئا وُكل عليه أو إليه "رواه أحمد . غاية المرام حديث (297) .
وجه الدلالة : أن من علق التمائم الشركية وكل إليها ، ومن علق القرآن تولاه الله ولا يكله إلى غيره لأنه تعالى هو المرغوب إليه والمتوكل عليه في الاستشفاء بالقرآن . وأجيب عن ذلك صحيح أن المرغوب إليه والمتوكل عليه في الاستشفاء بالقرآن هو الله عز وجل ولكن يكون ذلك حسب ما ورد في الشرع والذي ورد هو الاستشفاء به عن طريق الرقى لا التعليق له ، وترجع الاستعاذة بالقرآن إلى الاستعاذة بالله حين يتلوه المسلم حق تلاوته فيؤمن به ويتبعه وينفذ شرائعه فيحصل له بذلك العافية الحقيقية والأمن والسلام ، ولا يكون ذلك بتعليق ورقه وجلده .
ولو كان من تعلق القرآن وكل إليه لكفانا إذا أن نتعلق بالقرآن وما جاء من أذكار الصباح والمساء ، ولا داعي لقراءته وقراءة تلك الأذكار وفي ذلك تعطيل لما ثبت في السنة من الرقى ثبوتا صحيحا بشيء لم يثبت أصلا . ونجد أن من تعلق القرآن طالما التفت قلبه عن الله فلو نزعت تلك التميمة التي عليه لتغير وخاف من حصول المكاره والأخطار فلو كان قلبه متعلق بالله لكان واثقا بالله تمام الثقة ولم يلجأ إلى شيء لم ترد السنة به فهو لم يتعلق بالقرآن حقيقة وإنما تعلق بتلك الأوراق وما عليها من الجلود.
بعد عرض الأدلة لكل من القولين يتبين لنا أن الراجح هو القول الأول القائل أصحابه بعدم جواز تعليق التمائم وذلك لقوة أدلتهم ولما فيه من حماية جناب التوحيد من أي شائبة تشوبه وهذا هو المقصد والغاية.
علاقة الأسباب بالتمائم :
إن التميمة جماد لا تأثير له ولا علاقة له بالشفاء فعلى هذا فإن المعلق لها جعلها سببا شرعيا وضابط السبب الشرعي أن يثبت بالدليل وهذه التميمة لم يثبت دليل على أنها سبب شرعي .
هذا ما جاء في هذا الموضوع المهم من مواضيع العقيدة ومن أراد المزيد فعليه بكتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبدالوهاب والشروح لهذا الكتاب النفيس ومن الشروح لهذا الكتاب تيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب وكتاب فتح المجيد للشيخ عبدالرحمن بن حسن بن محمد بن عبدالوهاب وكتاب تحقيق التجريد للشيخ عبدالهادي بن محمد بن عبدالهادي البكري العجيلي وكتاب القول المفيد على كتاب التوحيد للشيخ محمد بن صالح العثيمين .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .(/2)
حكم تناول الأدوية التي تحتوي على نسبة من الكحول
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ...
التاريخ ... 13/1/1423
السؤال
ما حكم تناول علاج للسعال يحتوي الكحول، علماً أن معظم علاج السعال يحتوي الكحول ؟
الجواب
يجوز شرب علاج السعال وإن كان فيه نسبة من الكحول المحرمة في الأصل، لاسيما أن نسبتها ليست كبيرة، وعامة الأدوية تدخل الكحول في تركيباتها، واستخدام مثل هذا الشراب جائز من باب الضرورة الشرعية المعتبرة، والأحاديث الناهية عن شرب الخمر ( الكحول ) إنما جاءت لتحريمها لذات الشرب بغرض الإسكار لا لغرض العلاج، وقد أفتى بجواز مثل هذه الحالة جمع غفير من العلماء، وعدد من المجامع العلمية الفقهية، وفق الله الجميع إلى كل خير(/1)
حكم جلوس أهل الميت في بيت ليقصدهم الناس بالتعزِية ...
السؤال :
ما حكم جلوس أهل الميت في بيتٍ ليَقْصدهم الناس بالتَّعْزِية ؟
الجواب :
في المسألة قولان مشهوران :
أولهما : جواز ذلك ، مع كون الأَوْلى عدمُهُ . وهو رواية عن أحمد ـ كما في : "الإنصاف" (6/272) ـ ومذهب الحنفية ، قال ابن الهمام رحمه الله في : "شرح فتح القدير" (2/150) : (( ويجوز الجلوس للمصيبة ثلاثة أيام ، وهو خلاف الأَولى ، ويُكره في المسجد )) أ.هـ. ، وقال في : "الفتاوي الهندية" (1/183) : (( ولا بأس لأهل المُصِيْبة أن يَجْلِسوا في البيت ـ أو في المسجد ـ ثلاثة أيام ، والناس يأْتُوْنَهم ويُعَزُّونهم . ويُكْرَه الجلوس على باب الدار . وما يُصْنَع في بلاد العجم من فَرْش البُسُط ، والقيام على قوارع الطُرق من أقبح القبائح . كذا في : "الظهيرية" . وفي : "خزانة الفتاوي" : والجلوس للمصيبة ثلاثة أيام رخصة ، وتركه أحسن . كذا في : "معراج الدراية" )) أ.هـ. وقال الحَصْكَفي رحمه الله في : "شرح تنوير الأبصار" (3/173ـ176) : (( ولا بأس … بالجلوس لها ـ أي : التعزية ـ في غير مسجد ثلاثة أيام )) أ.هـ. وشرحه ابن عابدين رحمه الله ـ كما في : "حاشية ابن عابدين" (3/176) ـ بقوله : (( قوله: (وبالجلوس لها) أي: للتعزية . واستعمال (لا بأس) هنا على حقيقته ؛ لأنه خلاف الأَوْلى . كما صَرَّح به في : "شرح المنية" )) . أ.هـ المراد .
والثاني : كراهة ذلك دون تحريم . وعليه جمهور الفقهاء وأكثرهم ، وهو مذهب الشافعية والحنابلة . قال النووي رحمه الله في : "المجموع شرح المُهَذَّب" (5/278) : (( وأما الجلوس للتعزية فنص الشافعي والمصنف وسائر الأصحاب : على كراهته . ونقله الشيخ أبو حامد في : "التعليق" وآخرون : عن نص الشافعي . قالوا : يعني (بالجلوس لها) : أن يجتمع أهل الميت في بيت فيقصدهم من أراد التعزية . قالوا : بل ينبغي أن ينصرفوا في حوائجهم فمن صادفهم عَزّاهم ، ولا فَرْق بين الرجال والنساء في كراهة الجلوس لها . صَرَّح به الحاملي ، ونقله عن نص الشافعي رحمه الله . وهو موجود في : "الأم" )) أ.هـ. المراد . وقال المرداوي رحمه الله في : "الإنصاف" (6/272) : (( قوله : (ويُكرَه الجلوس لها ـ أي : للتعزية ـ ) . هذا المذهب ، وعليه أكثر الأصحاب ، ونَصّ عليه ـ أي : الإمام أحمد رحمه الله ـ . قال في : "الفروع" : اختاره الأكثر . قال في : "مجمع البحرين" : هذا اختيار أصحابنا . وجزم به في : "الوجيز" وغيره. وقَدَّمه في : "الفروع" وابن تميم و"الرعايتين" و"الحاويين" وغيرهم )) أ.هـ المراد.
تنبيه :ـ
عَزَى جَمْعٌ الكراهة للمالكية ، ومنهم العثماني في : "رحمة الأُمة" (ص/156) حيث قال رحمه الله : (( والجلوس للتعزية مكروه عند مالك والشافعي وأحمد)) أ.هـ. مع أن الخرشي رحمه الله في : "الحاشية" (2/349) ، والصاوي رحمه الله في : "بلغة السالك" (1/225) في آخرين أطلقوا الجواز ! لكن قال ابن مفلح رحمه الله في : "الفروع" (2/296) : (( وادَّعى بعضهم أن مذهب مالك : لا يكره جلوسهم لها )) أ.هـ .
وممن ذهب إلى الكراهة : كثير من الحنفية كما في : "الإمداد" ، حيث قال ابن عابدين في : "الحاشية" (3/176) وفي : "الإمداد" : (( وقال كثير من متأخرين أئمتنا : يكره الاجتماع عند صاحب البيت . ويكره له الجلوس في بيته حتى يأتي إليه من يعزّي ، بل إذا فرغ ورجع الناس من الدفن : فليتفرقوا ويشتغل الناس بأمورهم وصاحب البيت بأمره )) أ.هـ.
والأصح جواز ذلك مع الكراهة دون تحريم ، وبه جزم أئمة ، ومنهم الموفق ابن قدامة رحمه الله في : "الكافي" (2/75) بقوله : (( ويكره الجلوس لها ـ أي : التعزية ـ ؛ لأنه محدث )) أ.هـ. وكذا ابن قيم الجوزية رحمه الله ، كما يفيده ظاهر قوله في : "زاد المعاد" (1/527) ، حيث قال : (( وكان من هديه صلى الله عليه وسلم تعزية أهل الميت ، ولم يكن من هديه أن يجتمع للعزاء ، ويقرأ له القرآن ، لا عند قبره ولا غيره ، وكل هذا بدعة حادثة مكروهة)) أ.هـ.
ودليل الكراهة شيئان :
أولهما : الخبر . وذلك ما أخرجه أحمد في : "المسند" (برقم:6905) وابن ماجه في : "السنن" (1/490) من حديث جرير بن عبد الله البَجَلي رضي الله عنه أنه قال : (( كُنَّا نَعُدّ (وفي رواية : نرى) الاجتماع إلى أهل الميت ، وصنيعة الطعام بعد دَفْنه : من النياحة )) . قال السندي رحمه الله ـ كما في : "عون المعبود" (8/282) ـ : (( قوله : (كنا نرى) هذا بمنزلة رواية إجماع الصحابة رضي الله عنهم ، أو تقرير من النبي صلى الله عليه وسلم . وعلى الثاني فحكمه الرفع ، وعلى التقديرين فهو حجة )) أ.هـ.(/1)
والخبر صححه النووي رحمه الله في : "المجموع" (5/320) ، وقال السندي ـ كما في : "عون المعبود" (8/282) ـ : (( وهذا الحديث سنده صحيح ورجاله على شرط مسلم )) أ.هـ. وقال الشوكاني رحمه الله في : "نيل الأوطار " (2/791) : (( وحديث جرير : أخرجه أيضاً ابن ماجه ، وإسناده صحيح )) أ.هـ. وقال البوصيري رحمه الله في : "الزوائد" ـ كما في : "سنن ابن ماجه" (1/514) تعليق : عبد الباقي ـ : (( إسناده صحيح . رجال الطريق الأول على شرط البخاري . والثاني على شرط مسلم)) أ.هـ لوجوده من طريقين عند ابن ماجه .
والثاني : النظر . وذلك أن الاجتماع عند أهل الميت يُهَيِّج على الحزن، قال ابن عقيل رحمه الله كما في : "الشرح الكبير" (6/272) لابن أبي عمر رحمه الله : (( يُكره الاجتماع بعد خروج الروح؛ لأن فيه تَهْييجاً للحَزَن)) أ.هـ.
وقال ابن عَلاَّن رحمه الله في : "الفتوحات الربانية" (2/142) : (( ولأنه يُجَدِّد الحزن ، ويُكلِّف المُعَزَّى )) أ.هـ .
وَصْلٌ : خبر جرير البجلي رضي الله عنه وإن كان ظاهره يفيد التحريم كما قاله القاري رحمه الله في : "مرقاة المفاتِيح" (4/96) إلا أن غاية المحفوظ عن الفقهاء : حَمْله على الكراهة ، مع حكم جمهورهم على الجلوس للعزاء بأنه بدعة ، وهو مشهور ، ومن ذلك قول ابن عَلاَّن في : "الفتوحات الربانية" (2/144) : (( قوله ـ أي : النووي ـ: (يكره الجلوس للتعزية) قالوا ـ أي : الشافعية ـ : لأنه مُحدَث ، وهو بدعة )) أ.هـ المراد . وقال المُنَجَّى التَّنُوْخِي رحمه الله في : "المُمْتِع في شرح المقنع" (2/73) : (( وأما كون الجلوس لها يكره : فلأنه مُحْدَث، مع ما فيه من تهييج الحزن )) أ.هـ. وكذا ذُكِر في كتب البدع ، كـ "الأمر بالاتباع" (ص/288) للسيوطي رحمه الله ، و"إصلاح المساجد" (ص/163) للقاسمي رحمه الله .
فائدة :ـ
قال النووي رحمه الله في : "المجموع" (5/279) بعد ذكره للمسألة : (( وقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : ( لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قَتْلُ ابن حارثة وجعفر وابن رواحة رضي الله عنهم جلس يعرف فيه الحزن ، وأنا أنظر من شق الباب ، فأتاه رجل فقال : إن نساء جعفر ـ وذكر بكائهن ـ فأمره أن ينهاهن ) رواه البخاري ومسلم )) أ.هـ . إلا أن ابن عَلاَّن في : "الفتوحات" (3/142) قال : (( وما ثبت عن عائشة من أنه صلى الله عليه وسلم لما جاء خبر قتل زيد بن حارثة وجعفر وابن رواحة جلس في المسجد يعرف في وجهه الحزن ـ فلا نُسَلِّم أن جلوسه كان لأجل أن يأتوه الناس فيعزوه ، فلم يثبت ما يدل عليه" أ.هـ.
فائدة :ـ
اختار المَجْد أبو البركات رحمه الله : جواز اجتماع أهل الميت دون غيرهم، وهي رواية عن الإمام أحمد رحمه الله كما في : "الإنصاف" (6/272ـ273) ، وفيه قال المرداوي رحمه الله : (( وعنه ـ أي : أحمد ـ : الرخصة لأهل الميت ولغيرهم ؛ خوفَ شدة الجزع . وقال الإمام أحمد : أما والميت عندهم : فأكرهه . وقال الآجري : يأثم إن لم يمنع أهله . وقال في : "الفصول" : يُكره الاجتماع بعد خروج الروح ؛ لأن فيه تهييجاً للحزن)) أ.هـ.
تنيبه :ـ
إذا انْضَمَّ للجلوس للعَزَاء ما يُوْجِب تحريمه ـ كبدعة مُحَرَّمة ـ كان حراماً. قال النووي رحمه الله في : "الأذكار" (ص/210) : (( وهذه كراهة تنزيه إذا لم يكن معها مُحْدَث آخر ، فإن ضُمّ إليها أمر آخر من البدع المحرمة ـ كما هو الغالب منها في العادة ـ كان ذلك حراماً من قبائح المحرمات ؛ فإنه مُحْدَث ، وثبت في الحديث الصحيح : " إن كل مُحْدَث بدعة ، وكل بدعة ضلالة " )) أ.هـ.
لَحَقٌ :ـ
الاجتماع عند أهل الميت على طعام يصْنَعونه لِمن أتاهم فيه روايتان عن الإمام أحمد ـ رحمه الله تعالى ـ حكاهما في : "الإنصاف" ( 6/264 ) :ـ
أما الأولى : فكراهة ذلك دون تحريم . قال في : "الإنصاف" (6/264): "وهذا المذهب مطلقاً ، وعليه أكثر الأصحاب" أ.هـ. وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية . فأما الحنفية فقَرَّره ابن الهمام رحمه الله في : "شرح فتح القدير" (2/150) بقوله : "ويكره اتخاذ الضيافة من الطعام من أهل الميت ؛ لأنه شُرِع في السرور لا في الشرور . وهي بدعة مستقبحة" أ.هـ .
وأما المالكية فقرره الدسوقي رحمه الله في : "حاشية الشرح الكبير" (1/664) بقوله : "وأما جمع الناس على طعام بيت الميت : فبدعة مكروهة" أ.هـ . وأما الشافعية فقرره الشمس الرملي رحمه الله في : "نهاية المحتاج في شرح المنهاج" (3/43) بقوله : "ويكره كما في : "الأنوار" وغيره ، أخذاً من كلام الرافعي والمصنف ـ أنه بدعة لأهله صنع طعام يجمعون الناس عليه قبل الدفن وبعده" أ.هـ .(/2)
وأما الثانية : فكراهة ذلك إلا لحاجة فلا كراهة . ومن الحاجة أن يَنْزل على أهل الميت ضيوف من قرى بعيدة . قال الموفق ابن قدامة رحمه الله في: "المغني" (3/497) : "فأما صنع أهل الميت طعاماً للناس : فمكروه … وإن دعت الحاجة إلى ذلك جاز ، فإنه ربما جاءهم من يحضر مَيّتهم من القرى والأماكن البعيدة ، ويَبْيتُ عندهم ، فلا يُمْكِنهم أن لا يُضَيّفوه" أ.هـ . وقال ابن أبي عمر رحمه الله في : "الشرح الكبير" (6/264) : " فأما إصلاح أهل البيت طعاماً للناس : فمكروه … وإن دعت الحاجة إلى ذلك جاز ؛ فإنه ربما جائهم من يَحْضُر ميتهم من أهل القرى البعيدة . ويبيت عندهم ، فلا يمكنهم إلا أن يُطْعِموهُ " أ.هـ .
وظاهر تقرير الموفق وابن أبي عمر رحمهما الله اختيار الرواية الثانية لكن قال في : "الإنصاف" (6/264) : "قوله : "ولا يُصْلِحون هم طعاماً للناس" يعني: لا يُسْتحب بل يُكره . وهذا المذهب مطلقاً ، وعليه أكثر الأصحاب وجزم به في : "الوجيز" و"المغني" و"الشرح" وغيرهم ، وقَدَّمه في : "الفروع" وغيره . وعنه : يكره إلا لحاجة" أ.هـ المراد.
ودليل صحة الكراهة شيئان :
أولهما : خبر جرير بن عبدالله ـ وسبق ـ . قال النووي رحمه الله في : "المجموع شرح المهذب" (5/290) : "ويستدل لهذا ـ يعني : كراهة صنع أهل الميت طعاماً ـ بحديث جرير بن عبدالله رضي الله عنه قال : "كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصَنِيْعةَ الطعام بعد دفنه من النياحة" رواه أحمد بن حنبل وابن ماجه بإسناد صحيح وليس في رواية ابن ماجه : (بعد دفنه)" أ.هـ .
والثاني : ما ذكره الموفق رحمه الله في : "المغني" (3/497) بقوله : "فأما صنع أهل الميت طعاماً للناس : فمكروه ؛ لأن فيه زيادة على مصيبتهم ، وشُغلاً لهم إلى شُغلهم، وتشبهاً بصنيع أهل الجاهلية . ورُوي أن جريراً وَفَد على عمر فقال : هل يُبَاحُ على مَيّتكم ؟ قال : لا . قال : فهل يَجْتمعون عند أهل الميت ويَجْعلون الطعام ؟ قال : نعم . قال : ذاك النَّوْح" أ.هـ .
فَائِدَةٌ :ـ
هناك قول آخر في المسألة حكاه المرداوي رحمه الله في : "الإنصاف" (6/264) بقوله : "وقيل : يحرم" أ.هـ . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ـ كما في : "مجموع الفتاوي" (24/316) ـ : " وأما صنعة أهل الميت طعاماً يدعون الناس إليه : فهذا غير مشروع وإنما هو بدعة ، بل قد قال جرير بن عبدالله رضي الله عنه : " كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعتهم الطعام للناس من النياحة" أ.هـ . ونصَّ ـ غير من سبق ـ على بدعية ذلك الأئمة ، ومنهم : ابن الحاج رحمه الله في : "المدخل" (3/275) ، والقرطبي رحمه الله في : "التذكرة" (1/158) ، والطرطوشي رحمه الله في : "الحوادث والبدع" (ص/170) .
فَائدَةٌ :ـ
يُسْتَحب أن يُصْلَح لأهل الميت طعام يُبْعَث به إليهم . قال في : "الإنصاف" (6/263) : "بلا نزاع ـ أي : عند الحنابلة ـ وزاد المجد وغيره: (ويكون ذلك ثلاثة أيام) . وقال : ( إنما يُستحب إذا قُصِد أهل الميت . فأما لما يَجْتمع عندهم : فيُكْره ؛ للمساعدة على المكروه) انتهى " أ.هـ .
وجزم بالاستحباب أيضاً الحنفية ـ كما في :"شرح فتح القدير" (2/151) لابن الهمام ـ ، والمالكية ـ كما في : "الشرح الكبير" (1/664) للدردير ـ ، والشافعية ـ كما في : "نهاية المحتاج" (3/42) للشمس الرملي ـ لكنّهم ـ أي : المذاهب الثلاثة ـ خالفوا الحنابلة في جَعْل الاستحباب مُتَعَلَّقاً باليوم الأول ؛ وأما الحنابلة فهو عندهم مُتَعَلَّق بالأيام الثلاثة . والمقصود إشباعهم في ذلك اليوم أو الثلاثة أيام ، سواء أكان من جيرانهم أم من أقاربهم ؛ وإن بَعُدَت دارهم .(/3)
ودليل ذلك ما أخرجه الإمام أحمد في : "المسند" (1/25) وأبو داود (برقم : 3132) والترمذي (برقم : 998) وابن ماجه (برقم : 161) من حديث عبدالله بن جعفر قال : لما جاء نَعْي جعفر حين قتل قال النبي صلى الله عليه وسلم : "اصنعوا لآل جعفر طعاماً، فقد أتاهم ما يَشْغلهم" وحسنه الترمذي . وصححه الحاكم في : "المستدرك" (1/372) ووافقه الذهبي . قال علي القاري رحمه الله في : "المرقاة شرح المشكاة" (4/96) : "(فقد أتاهم) أي : من موت جعفر . (ما يشغلهم) بفتح الياء والغين . وقيل : بضم الأول وكَسْر الثالث . القاموس : شَغَلَه كمنعه شغلاً ، ويُضَم . وأشغله لغة جيدة ، أو قليلة أو رديئة . والمعنى : جائهم ما يَمْنعهم من الحزن عن تهيئة الطعام لأنفسهم ، فيحصل لهم الضرر وهم لا يشعرون. قال الطِّيْبي : (دل على أنه يستحب للأقارب والجيران تهيئة طعام لأهل الميت) أ.هـ . والمراد طعام يُشْبعهم يومهم وليلتهم ، فإن الغالب أن الحزن الشاغل عن تناول الطعام لا يَسْتر أكثر من يوم . وقيل : يحمل لهم طعام إلى ثلاثة أيام مدة التعزية ، ثم إذا صُنِع لهم ما ذُكِرَ سُنّ أن يُلِحّ عليهم في الأكل ؛ لئلا يَضْعفوا بتركه استحياء ، أو لفرط جزع . واصطناعه من بعيد أو قريب للنائحات شديد التحريم؛ لأنه إعانة على المعصية . واصطناع أهل البيت له لأجل اجتماع الناس عليه : بدعة مكروهة"أ.هـ .
ثم إن صُنْع الطعام لأهل الميت فيه من الحِكَم الجميلة ، والأخلاق الجليلة : الكثير . يقول ابن القيم رحمه الله في : "زاد المعاد" (1/528) : "وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن أهل الميت لا يَتَكلّفون الطعام للناس ، بل أمر أن يَصْنع الناسُ لهم طعاماً يرسلونه إليهم . وهذا من أعظم مكارم الأخلاق والشِّيم ، والحمل عن أهل الميت، فإنهم في شغل بمصابهم عن إطعام الناس" أ.هـ .
والخلاصة :
أن الجلوس في بيتٍ للعزاء مكروه كراهة تنزيه في أصح قَوْلَيْ الفقهاء ، وعليه جمهورهم . وأما إن انضَمَّ إلى ذلك محرم ـ فيكون حراماً ، وتسقط الكراهة عند الاحتياج ، على ما قرره الفقهاء . والله أعلم .
الشيخ صالح بن محمد الأسمري(/4)
حكم دخول الحائض والجنب المسجد لسماع الدروس والمحاضرات
أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان [عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً]. 10/8/1426
14/09/2005
جاء في سنن أبي داود وابن ماجه والبيهقي وصحيح ابن خزيمة، عن عائشة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " لا أحل المسجد لحائض ولا جنب" والحديث وارد على سبب، وذلك أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- جاء ووجوه بيوت أصحابه شارعة [مقابلة] في المسجد، فقال: وجهوا هذه البيوت عن المسجد، ثم دخل النبي –صلى الله عليه وسلم- ولم يصنع شيئًا؛ رجاء أن تنزل فيهم رخصة، فخرج إليهم بعدُ، فقال: "وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب"، وحيث إن هذا الحديث هو عمدة من يمنع دخول الحائض المسجد، فمن المتعين بيان درجته من حيث القبول والرد، فأقول مستعيناً بالله: إن إسناد هذا الحديث بجميع طرقه ضعيف لا يحتج به، ففي إسناده: جسرة بنت دجاجة، قال فيها البخاري: عندها عجائب، وقال البيهقي: فيها نظر، كما في إسناده أيضاً (أُفلت) أو فليت بن خليفة عن جسرة عن عائشة، وفليت هذا مجهول، ذكره ابن أبي حاتم في كتابه الجرح والتعديل. ورواه ابن ماجه في سننه من حديث أبي الخطاب البحري عن محدوج الذهلي عن جسرة بنت دجاجة عن أم سلمة، وهذا خطأ، و الصحيح عن عائشة، وأبو الخطاب ومحدوج مجهولان، قاله الحافظ ابن حجر.
وقال البخاري في محدوج الذهلي: فيه نظر، وقال ابن حزم: ساقط يروي المعضلات عن جسرة، وقال الذهلي له حديث مقطوع هو هذا الحديث.
وأبو الخطاب البحري قال فيه البخاري مجهول، وقال الذهبي: متماسك، ولينه الحافظ ابن حجر واتهمه جمال الدين المزي بالتشيع مع شيخه ابن عقدة.
هذا عن رجال إسناده، أما الحديث جله فقد ضعفه كل من الخطابي في (معالم السنن)، وابن القيم في (تهذيب السنن)، والنووي في (المجموع) وابن حزم في (المحلى)، وقال إنه منكر مردود، وتبعه الألباني في (إرواء الغليل).
آية النساء (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا.." نصت على من أصابته جنابة – ذكراً كان أو أنثى- وكان مسافراً أن لا حرج عليه أن يمر بالمسجد إن احتاج لذلك.
قال ابن عباس: " لا يصح لأحد أن يقرب الصلاة "ومن لازم المسجد وهو جنب إلا بعد الاغتسال إلا المسافر فإنه يتيمم" وقال به النووي والشافعي، وبهذا قال أبو حنيفة والنووي وابن راهويه وهو رواية عن أحمد: أما إذا أراد الجنب دخول المسجد فعليه أن يتيمم، وقال الجمهور من العلماء: يجوز لمن عليه جنابة دخول المسجد للحاجة مطلقاً، واستدلوا بحديث أبي هريرة المتفق عليه لما سأله الرسول – صلى الله عليه وسلم - عندما افتقده، فقال: يا رسول الله إني كنت نجساً قد أجنبت، فقال له الرسول (إن المسلم لا ينجس) قال ابن المنذر: وبه نقول. فأنكر على أبي هريرة اعتزاله المسجد، وحضور مجلس العلم بعلة الجنابة، وبين له أن المسلم لا ينجس.
ومعلوم أن الكافر المشرك يجوز له دخول المساجد كلها إلا المسجد الحرام؛ لقوله تعالى " إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا..."وبوب البخاري في صحيحه: (باب دخول المشرك المسجد) وساق فيه حديث ثمامة بن أثال لما ربطه الرسول –صلى الله عليه وسلم- في سواري المسجد، ولا يكاد يجهل أحد أن المشركين كانوا يغدون على الرسول – صلى الله عليه وسلم- وهو في المسجد – لغرض الإسلام أو لتبليغ رسالة إليه، أو لغرض المجادلة والحاجة كما حصل من وفد نصارى نجران، فقد بقوا أياماً ضربوا أخبيتهم في جانب من المسجد، بل كان نصارى الحبشة يلعبون فيه بالحراب بمرأى ومسمع من الرسول – صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فإذا جاز هذا مع المشرك النجس مهما تطهر وتنظف فكيف لا يجوز للحائض والجنب المسلمين دخول المسجد لسماع المواعظ والتذكير وتعلم القرآن وتعليمه، وإذا جاز للجنب ومن في حكمه
- كالحائض – المرور بالمسجد للحاجة الخاصة من نوم أو استظلال وراحة فدخولهما له لغرض طلب العلم أو تعليمه من باب أولى.
- وحدث الحيض كحدث الجنابة في الجملة، فلا تصح الصلاة من الحائض والجنب ما داما متلبسين، به ودليل هذا في الجنب آية النساء السابق ذكرها، ودليل عدم صلاة الحائض قول رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ( فإذا أقبلت حيضتك تدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك وصلي).
ويفارق الجنب الحائض بأمور منها: أن من عليه جنابة لا يجوز له أن يقرأ القرآن، بخلاف الحائض فلا مانع أن تقرأ القرآن نظراً أو حفظاً على الصحيح من أقوال أهل العلم، وبه أفتت اللجنة الدائمة لهيئة كبار العلماء برئاسة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله- وما ورد في منع الحائض من قراءة القرآن لحديث ( لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن) فلا يصح، فقد ضعف طرقه ابن القيم في ( إعلام الموقعين) والحافظ ابن حجر في (التلخيص الحبير).(/1)
ومما يخالف فيه الجنب الحائض أن الجنب يصح صيامه بخلاف الحائض. كما يختلف الحدثان( الجنابة والحيض) في الاغتسال منهما، فمن عليه جنابة لابد من تعميم الماء على جميع جسده وشعره فإن تحت كل شعرة جنابة، أما الحائض عند الاغتسال منه فلا يلزمها نقض شعر رأسها بل يكفيها أن تحثو عليه ثلاث حثيات من الماء، وأيضاً فإن من عليه جنابة فرفع حدثه بيده متى شاء اغتسل.
أما المرأة الحائض فرفغ حدثها أو ابتداؤه ليس إليها لحديث " إن حيضتك ليست بيدك" فحدثها قد يطول، حيث أقل الحيض يوم وليلة، وأكثره خمسة عشر يوماً من الشهر، وهذا معنى الحديث الصحيح في نقصان دين المرأة: أنها ( تجلس شطر دهرها لا تصلي) فمنع الحائض من قراءة القرآن ودخول المسجد للتعليم والتعلم يتسبب في حرمانها من خير كثير طوال نصف عمرها الزمني.
- وتأسيساً على ما سبق فإن الجنب والحائض على وجه الخصوص لا يجوز منعهما من دخول المسجد لسماع المواعظ وحضور الدروس والندوات والمحاضرات العلمية النافعة، ومنع الحائض من ذلك قد يسبب لها نسيان ما حفظته من القرآن، ويحرمها من طلب العلم النافع علاوة على ما فيه من كسر خاطرها، وكبح همم وعزائم ذوات النبوغ من النساء.
- ثم إذا أبيح للجنب دخول المسجد للحاجة كما لو كان في سفر (إلا عابري سبيل ...) فإن الحائض أشد منه حاجة، كأن يطلبها عدو لأخذ مالها أو التحرش بها جنسياً فلها أن تدخل المسجد وتمكث فيه، والقاعدة الشرعية تقول: ( الحاجة تنزل منزلة الضرورة عند الانتفاء)، وطلب العلم في المسجد إن لم يكن بالفعل فرض عين تدعو إليه الضرورة لإحياء رسالة المسجد للمسلمين جميعاً، فلا أقل أن يكون حاجة تنزل منزلة الضرورة.
- وإذا كانت العلة من منع الحائض من دخول المسجد والمكث فيه للحاجة عند من يقول بالمنع هي خوف تلويثه بالنجاسة (الدم) فإن وسائل النظافة والتحفظ عند النساء اليوم أكثر منه في زمان مضى، حيث تتحفظ المرأة في بيتها – فضلاً عن المسجد- لا يلحق الدم مهما عظم شيئاً من ملابسها، ثم إن المستحاضة (غير الحائض) تصوم وتصلي وتشهد مجامع الخير ولو خرج منها الدم. فقد جاء في صحيح البخاري من حديث عائشة، قالت:" اعتكف مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعض نسائه وهي مستحاضة ترى الدم، فربما وضعت الطست تحتها من الدم" فإن كانت علة المنع للحائض هي التلويث للمسجد فهي نفسها في دم الاستحاضة، وليست مساجدنا بأفضل من مسجد رسول الله – صلى الله عليه وسلم- بل حاجة نساء اليوم إلى طلب العلم الشرعي وتوخي سبله النافعة – أشد من حاجة نساء الأمس وأمهات المؤمنين خاصة.
- وثبت من حديث أم عطية في الصحيحين أنها قالت: " أمرنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم- في العيدين أن نخرج العواتق والحيض ليشهدن الخير ودعوة المسلمين ويجتنبن الحيض المصلى) فكأن اجتناب النساء الحيض للمصلى مخافة التلويث بالدم النجس، وسبق أن أجبنا عن هذه العلة المدعاة، أما التعليل في خروجهن إلى صلاة العيدين فقد نص عليه بالحديث (ليشهدن الخير ودعوة المسلمين) من سماع الخطبة والموعظة والتأمين على الدعاء ونحو ذلك، وهذا هو عين الموجود في الدروس العلمية المقامة في المسجد من الرجال والنساء طوال العام، وفي شتى الفنون العلمية النافعة.
ثم إن منع الحيض من حضور مثل هذه الدروس والحلقات العلمية لا يتفق مع قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم- " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وليخرجن تفلات" أي بثياب العادة دون زينة أو طيب، بل في بعض روايات حديث أم عطية السابقة أنها سألت عن مثل هذا الخروج أهو عزيمة أو رخصة، حين قالت ( أعلى إحدانا بأس إذا لم يكن لها جلباب ألا تخرج؟ فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم- مشيراً إلى أن الخروج في مثل هذه الحال هو أشبه بالعزيمة قال" لتلبسها صاحبتها من جلبابها" قال الحافظ ابن رجب في شرحه لصحيح البخاري " الأظهر أن أمر الحيض باعتزال المصلى إنما هو حال الصلاة ليتسع المصلى على النساء الطاهرات مكان صلاتهن، ثم يختلطن بهن في سماع الخطبة" والنهي عن تلويث المسجد بدم الحيض أو دم الاستحاضة على السواء، ولهذا قال الحافظ ابن حجر في الفتح في شرح حديث المستحاضة التي اعتكفت مع الرسول – صلى الله عليه وسلم -: " فيه جواز مكث المستحاضة في المسجد، وصحة اعتكافها وصلاتها وجواز حدثها في المسجد عند أمن التلويث، ويلتحق بها دائم الحدث ومن به جرح يسيل" وقال ابن الملقن في شرحه لعمدة الأحكام: " أُمر الحيّض باعتزال مصلى المسلمين ليس للتحريم، بل إما مبالغة في التنزيه لمحل العبادة، أو لكراهة جلوس من لا يصلي مع المصلين في محل واحد في حال إقامة الصلاة، أو هو للاحتراز وصيانتهن من مقاربة الرجال من غير حاجة ولا صلاة".(/2)
- وقول النبي – صلى الله عليه وسلم – عن الحائض في الحج: " تقضي المناسك كلها غير أن لا تطوف بالبيت" دليل على دخولها المسجد الحرام للدعاء والصدقة والاستغفار لمضاعفة الحسنة فيه بمائة ألف إلا الصلاة والطواف فيه فلا يصح منها.
الخلاصة:
بعد النظر والتأمل في النصوص وأقوال أهل العلم فيظهر لي – والله أعلم - جواز دخول الجنب والحائض المساجد كلها إذا أمن التلويث لأرض المسجد وفرشه، ودعت حاجة غير الصلاة في المساجد أو الطواف بالبيت – ولا حاجة أكبر وأهم من حضور مجالس الذكر وحلق العلم تعلماً وتعليماً التي تعقد بين الحين والآخر في عموم مساجد المسلمين، والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد.(/3)
حكم دراسة القانون الوضعي و العمل في مجاله
السؤال : أنا شاب أدرس بالفرقة الثالثة في كلية الحقوق ، و بالطبع ندرس قوانين الغرب الكافرة ، فما حكم استمراري في دراسة هذه القوانين ، و ما حكم عملي بعد التخرج في مجال المحاماة أو النيابة أو القضاء ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
فأحسب أن الأخ السائل لا يخالفني في الحكم بكفر من لم يحكم بما أنزل الله سواء كان مبدلاً أو مشرعاً أو قاضياً بغير الشريعة الغراء .
فقد قال تعالى في معرض الوعيد الشديد لمن أعرض عن حكمه العدل الفصل إلى ما سواه : ( و َمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) ، و قال : ( وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) و قال أيضاً : ( وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) [ المائدة : 44-45-47 ] .
و أقل هذه الأوصاف هي الفسق ، و الموصوف بها هو من يحكم بغير الشريعة في المسألة الواحدة لهوى في النفس ، دون أن ينصب نفسه مشرعاً من دون الله ، يقضي و يفصل بما لا يرضي مولاه .
أما الحكم العام للحاكم بغير ما أنزل الله فالأصل فيه أنه كفر ، و حكم الكفر لا يرفعه إلا الإكراه ، و لا أظن من يقدم طواعية لدراسة القانون أو العمل في القضاء الوضعي أو النيابة أو المحاماة يقدم على أيٍّ من هذه الأمور مكرهاً ، فتنبه !
فإذا تقرر كفر من هذه حاله و العياذ بالله ، وجب التنبيه على أمور تتعلق بدراسة القانون الوضعي و العمل في مجاله بعد التخرُّج فيما يلي بيانها :
• أولاً : الوسائل تأخذ حكم الغايات ، و القاعدة الفقهية تقول : ( الأمور بمقاصدها ) فمن درس القانون الوضعي متذرِّعاً به إلى العمل في المحاكم الوضعية قاضياً أو نائباً أو مدعياً أو نحو ذلك ، فهذه كلها ذرائع إلى الحكم بغير ما أنزل الله ، و هي السبيل إلى الكفر الصراح ، و العياذ بالله .
• ثانياً : إن مجرد تلقي علوم القانون في المعاهد و الجامعات مع العلم بكفر من يحكم بها ، دون اقتران دراستها ببيان مفاسدها ، أو مقارنتها بالشريعة الربانية لبيان البديل الشرعي الراجح على ما سواه بالحجج العقلية و النقلية ، فالدراسة محرمة في هذه الحال ؛ لأنها قد تفضي بقلب الطالب إلى أن يُشرَبَ الفتنة ، أو تَتَمَكَّنَ منه الشُبهة .
• ثالثاً : في مقابل الحالة السابقة هناك من يدرس القانون الوضعي لمعرفة مفاسده و أخطاره على عقائد الناس و حقوقهم ، فهذا من قبيل معرفة الشر للحذر و التحذير منه ، و بيان مفاسده ، و مثل هذا مثل من يدرس في كلية الاقتصاد ليقف على تفاصيل بعض التعاملات الربوية و ما يقابلها من البدائل الشرعية المتاحة ، فهو بذلك قد يكون عوناً للمسلمين على الخير ، و دالاً على ما يستحق أجر فاعله ، إذ إن الدال على الخير كفاعله .
• رابعاً : إذا كان الطالب متذرعاً بدراسة القانون إلى كسب يحرزه ، أو دنيا يصيبها ، فكسبه من هذا الباب حرامٌ كله ، فضلاً عما يلحقه من الخطر العظيم ، خطرِ الردة بعد الإسلام ، و الكفر بعد الإيمان .
• خامساً : تدرِّس بعض الجامعات المعاصرة مواد القانون الوضعي إلى جانب المواد الشرعية في كليات الشريعة ( و منها كلية الشريعة في جامعات دمشق و بغداد و الإمارات و غيرها ) و إن كان بعض تلك الكليات يحمل اسم كلية الشريعة و القانون للدلالة على منهجها المختلط .
و الدراسة في هذه الكليات مشروعة بحكم الأصل إذا سلمت النية فيها ، لأن الأصل في مقرراتها و مناهج الدراسة فيها هو العلوم الشرعية ، و علوم اللغة العربية ، و نحو ذلك مما يعرف بعلوم الآلة ، إلى جانب مواد القانون التي يتم تدريسها كمقررات ثانوية ، يمكن للطالب المرور عليها مرور الكرام ، و الوقوف على ما فيها من فساد يمكن عرضه على ما في المناهج الشرعية من سداد ، و مج باطله في مستنقعات الباطل الأثيم ، دون أن يؤثر في الطالب أو غيره .
• من درس القانون لمعرفة ما فيه من شر تمكن مقاومته ، و سعى إلى إبراء ذمته بالتحذير من حكم البشر ، و الدعوة إلى تطبيق الشريعة الربانية ، و العمل على ذلك ، بالوسائل المشروعة فهو مأجور على مسعاه ، و بوسعه أن يستعين بما تعلمه في إنصاف المظلومين ، كالدفاع عن المعتقلين و المتهمين زوراً و بهتاناً بما بات يسمى إرهاباً ، حيث إن المحاكم التي تنظر في قضاياهم لا تقر بالوحي مصدراً للتشريع ، و لا بالشريعة حكماً فيما شجر و يشجر بين الخلق من خلاف ، فإن استغل معرفته بالقانون الوضعي للدفاع عن هؤلاء و إنصافهم و فك رقابهم فنعم الفعل فعله ، و لا غضاضة فيه و لا حرج ، بل هو مأجور غير موزور إن شاء الله ، و الله أعلم .
و بالجملة – أخي السائل الكريم – أسأل الله تعالى أن يستعملك في طاعته ، و أن ييسر لك سبل مرضاته ، و أن يكفيك بالخير عن الشر ، و بفضله عن الغير .(/1)
فالتمس رضاه فيما أحل لك ، و إياك و مضلات الهوى ، و موردات الردى في باب الحكم بغير ما أنزل الله ، و غيره من الأبواب التي يستشرف من ولَجَها الشيطان .
و أذكرك بما جاء في السنّة المطهّرة من التحذير و التنفير من ولاية القضاء لمن لا يقدر على إنفاذ حكم الله تعالى فيما شجر فيه الخلاف بين المتخاصمين ، فقد روى الترمذي و أبو داود و ابن ماجه و أحمد و الدارقطني و الحاكم و البيهقي بإسناد حسن عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : « مَنْ وَلِىَ الْقَضَاءَ أَوْ جُعِلَ قَاضِياً بَيْنَ النَّاسِ فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ » .
قال صاحب التحفة : ( فقد ذُبح ) بصيغة المجهول ( بغير سكين ) قال ابن الصلاح : المراد ذبح من حيث المعنى لأنه بين عذاب الدنيا إن رشد وبين عذاب الآخرة إن فسد . وقال الخطابي ومن تبعه إنما عدله عن الذبح بالسكين ليعلم أن المراد ما يخاف من هلاك دينه دون بدنه وهذا أحد الوجهين . والثاني أن الذبح بالسكين فيه إراحة للمذبوح , وبغير السكين كالخنق وغيره يكون الألم فيه أكثر فذكر ليكون أبلغ في التحذير .
هذا و الله الهادي إلى سواء السبيل ، و بالله التوفيق .(/2)
حكم راتب من يتمارض للحصول على إجازة
رقم الفتوى
11536
تاريخ الفتوى
30/4/1426 هـ -- 2005-06-08
السؤال
أختكم تعمل في وظيفة حكومية وتتقاضى عليها راتباً شهرياً... تمر على أيام اشعر بالضيق والتعب النفسي حيث لايمكني الاستمرار بالوظيفة
فاخذ إجازة مرضية لمدة يومان أو ثلاثة
وأحيانا لا أوقعها بنفسي من الدكتور أوكل غيري لان مابي من تعب نفسي لايمكن شرحه للدكتور..
هنا سؤالي ماحكم الراتب الذي أتقاضاه في وقت اخذي للإجازة الطبية وكيف لي أن استرد الحقوق إلى أهلها ويشهد على الله أن كل أيام العمل أكابر على نفسي وأتحمل ما يواجهني من تعب إلا أن أيام يضيف الكيل بي..أفتوني لاحرمكم الله الأجر
الإجابة
الجواب: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
إذا كان في نظام التعاقد على هذه الوظيفة الحكومية بند ينص على حق الموظف بالاستمتاع بالإجازة المرضية من غير أن يخصم عليه شيء فحينئذ لا حرج عليك إذا ألم بك مرض يستدعي عدم قدرتك على الذهاب إلى العمل أن تأخذي هذه الإجازة وراتبها لأن نظام العقد يجيز ذلك وإن كان نظام التعاقد لا يسمح بذلك فلا يجوز أخذ راتب الإجازة وما أخذ منه يسترد لأصحابه
وبهذه المناسبة أنصح الأخت السائلة بأن يكون عملها في بيتها وأن لا تخرج من بيتها للعمل إلا إذا احتاجت حاجة شديدة ولم يكن لها من ينفق عليها فحينئذ تقدر الحاجة بقدرها وبشرط أن لا تكون في عمل مختلط مع الرجال فإذا لم يمكن ذلك فلا ينبغي لها العمل في وسط مختلط، والله تعالى يقول:{ ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب}
والله أعل(/1)
حكم سب الأموات
السؤال :
ما حكم الشرع فيمن يسب الأموات ، أو يذكرهم بسوء ، أو يكشف سوءاتهم و يتتبع عوراتهم ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
إن الله تعالى جعل حرمة المسلم من أكبر الحُرمات ، و أوجب صونها على المسلمين و المسلمات ، و هذا ما فهمه السلف قبل الخلف ؛ فقد روى ابن حبان و الترمذي بإسنادٍ حسن أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما نظر يوماً إلى الكعبة فقال : ( ما أعظمَكِ و أعظمَ حُرمتِكِ ! و المؤمنُ أعظم حُرْمةً مِنْكِ ) .
و حرمة المسلم غير مقيدة بحياته ، بل هي باقية في الحياة و بعد الممات و يجب صونها و الذب عنها في كلّ حال ، و على كلّ حال .
روى البخاري أن عبد الله بْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما شهد جِنَازَةَ مَيْمُونَةَ أم المؤمنين رضي الله عنها بِسَرِفَ فَقَالَ : ( هَذِهِ زَوْجَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ فَإِذَا رَفَعْتُمْ نَعْشَهَا فَلا تُزَعْزِعُوهَا وَ لا تُزَلْزِلُوهَا و ارْفُقُوا ) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله [ كما في فتح الباري : 9 / 113 ] : يُستفاد من هذا الحديث أنَّ حرمة المؤمن بعد موته باقية كما كانت في حياته ، و فيه حديث ( كسْرُ عَظْمِ المؤمن ميْتاً كَكَسرِهِ حياً ) أخرجه أبو داود و ابن ماجه و صححه ابن حبان . اهـ .
قلت : هذا الحديث حسَّن الجلال السيوطي في الجامع الصغير إسناده عن أم سلمة رضي الله عنها ، و ليس كما قال ، و سكت عن بيان درجة إسناده عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ، و هو إسناد صحيح ، فتنبه .
و من المعلوم أن نصوص الشريعة جاءت بتحريم سب المسلم على الإطلاق و لم تفرِّق في النهي بين الأحياء و الأموات ، و شددت في الوعيد لمن سبَّ مسلماً و من ذلك قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ : ( سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَ قِتَالُهُ كُفْرٌ ) رواه الشيخان و غيرهما عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .
قال الحافظ ابن حجر : ( في الحديث تعظيم حق المسلم ، و الحكم على من سبه بغير حق بالفسق ) .
و روى مسلم في صحيحه و أبو داود و الترمذي كل في سننه ، و أحمد في مسنده ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ، قال : ( المستبان ما قالا فعلى البادئ ، ما لم يعتد المظلوم ) .
أي أنَّ إثم ما يقع من سباب المتسابَّيْن ينوء به الأول ، لأنه المتعدِّي ، و المتسبب في الإثم فيبوء به كلُّه ، إلا إن تطاول المنافح عن نفسه فزاد في الانتصار لنفسه عن القدر المشروع في دفع الظلم ، فيلحقه حينئذٍ إثم الزيادة و التعدي ، كما نص على ذلك الإمام النووي رحمه الله و غيره من شراح الحديث .
و هذه النصوص و غيرها تراعي حرمة المسلم دون تفريق بين حال حياته ، و ما بعد مماته ، و يستفاد منها مجتمعة أن سبَّ المسلم على العموم كبيرة مفسّقة .
فإذا أضيف إليها ما جاء في النهي عن سبِّ الأموات على الخصوص ، صار التحريم آكَد و النهي أبلغ .
روى البخاري و النسائي و أحمد عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : قال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا تَسُبُّوا الأَمْوَاتَ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا ) ، و قد بوَّب البخاري على هذه الحديث في الصحيح ، فقال : ( باب ما ينهى من سبِّ الأموات ) .
و علَّل بعض أهل العلم النهي عن سبِّ الأموات بما يلحق الأحياء بسببه من الأذى الذي لا يبلُغ الميت بحال .
قال ابن حبان في صحيحه : ذكر البعض من العلة التي من أجلها نهى عن سب الأموات ، ثم روى بإسناده إلى زياد بن علاقة أنه سمع المغيرة بن شعبة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء ) [ صحيح ابن حبان : 3022 ] .
قلتُ : و روى هذا الحديث الترمذي في سننه ، و أحمد في مسنده ، و حسنه الطبراني في معجمه الصغير ، و ليس كما قال ، بل في إسناده مقال ، و إن كان معناه صحيحاً محتملاً ، و الله أعلم .
ثُمَّ ؛ إذا كان السبُّ يصدق على مطلق الشتم أو الطعن في الخصم بالقول ، فقد أشكل تحريم سب المسلم بعد موته على من تعارضت في نظره النصوص ؛ ففي مقابل ما تقدم من الأدلَّة على التحريم ، نقف على ما رواه الشيخان و غيرهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال حين مرت به جنازة فأثني عليها خير فقال : ( وجبت وجبت وجبت ) . ثم مر عليه بأخرى فأثني عليها شر فقال : ( وجبت وجبت وجبت ) . فقال عمر : فدى لك أبي و أمي ، مر بجنازة فأثني عليها خير فقلت : ( وجبت وجبت وجبت ) و مر بجنازة فأثني عليها شر فقلت : ( وجبت وجبت وجبت ) ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة و من أثنيتم عليه شراً وجبت له النار ، أنتم شهداء الله في الأرض ، أنتم شهداء الله في الأرض ، أنتم شهداء الله في الأرض ) .(/1)
و ظاهر هذا الحديث يدل على جواز ذكر الميت بالسوء – الذي يدخل في مسمى السبِّ – ففي إقرار النبي صلى الله عليه وسلَّم لمن فعله بين يديه ، و ترتيبه الحُكم بوجوب النار عليه ، ما يدلُّ على جوازه ، و لذلك أشكل القول بالتحريم المطلق على من تعسَّر عليه الجمع بين هذه النصوص .
و مَن جَمَع بين النصوص ذهب إلى التفريق بين حال و أخرى من أحوال سب الميت أو غيبته ، و لعل صاحب الصحيح أشار إلى اختلاف الحكم بحسب اختلاف حال الميت حينما قال : ( باب ما يُنْهى من سبِّ الأموات ) ، حيث استعمل ( مِن ) التبعيضية ، و كأنَّه يشير إلى ورود النهي عن سب الأموات في بعض الأحوال فقط ، و ليس على الإطلاق .
و ذهب بعض أهل العلم إلى التفريق بين السب و بين مطلق الذكر بالشر ، حمله على ذلك الجمع النصوص .
قال الإمام المناوي رحمه الله في فتح القدير : ( السب غير الذكر بالشر ، و بفرض عدم المغايرة فالجائز سب الأشرار و المنهي سب الأخيار ) .
قلتُ : و من خضم هذا الخلاف نخرج بأن النهي عن سب الأموات و الوقوع فيهم بالغيبة ، و النيل من أعراضهم بالحط و الغمز و اللمز ؛ حكمه حكم نظيره الواقع في حق الأحياء ، فمن جازت غيبته و مسبته حياً ؛ جاز ذلك في حقه ميتاً ، و هو الكافر ، و المنافق ، و الفاسق المجاهر بفسق أو بدعةٍ أو الداعي إلى شيءٍ من ذلك ، فيُذْكَر هذا بما فيه من شرٍ متعدٍِ ، شهادةً بما فيه ، و تنبيهاً لغيره ، و تنفيراً منه ؛ ليحذره الناس ، و لا يكون ذلك إلا ببيّنة و برهان ، لا ريبة فيهما و لا ارتياب ، لأن الكلام في المسلم حياً أو ميتاً بما ليس فيه من البهتان المحرم ، و إن كان بما فيه من غير وجود مبرر و مقتضٍ شرعيٍ لذكره فهو من الغيبة المحرمة ؛ و كلا الأمرين من الكبائر الموبقة .
أما سائر المسلمين ، و عموم الموحدِّين ؛ فلا يجوز انتهاك حرماتهم أو التعرض لهم بالسب أو الشتم أو السعي بالغيبة و النميمة أحياءً و لا أمواتاً ، و ليحذر من يخوض في أعراض المسلمين متجنياً من أن يسوق بريئاً خصماً له بين يدي ملك الملوك ، و أحكَم الحاكمين ، و مُنصف المظلومين .
قال الإمام النووي رحمه الله [ في شرحه لصحيح مسلم : 7 / 20 ] : ( فان قيل : كيف مكنوا بالثناء بالشر مع الحديث الصحيح في البخاري و غيره في النهي عن سب الأموات ؟ فالجواب : ( أن النهي عن سب الأموات هو في غير المنافق و سائر الكفار ، و في غير المتظاهر بفسق أو بدعة ، فأما هؤلاء فلا يحرم ذكرهم بشر للتحذير من طريقتهم ، و من الاقتداء بآثارهم و التخلق بأخلاقهم . و هذا الحديث محمول على أن الذي أثنوا عليه شراً كان مشهوراً بنفاق أو نحوه مما ذكرنا ، هذا هو الصواب في الجواب عنه ، و في الجمع بينه و بين النهي عن السب ) .
هذا ، و لا عاصم إلا من عصمه الله ، و ما توفيقي إلا بالله .(/2)
حكم سب الله أو الدين أو الرسول أو الصحابة
عبدالملك القاسم
دار القاسم
حكم سب الله، سب الدين، سب الرسول و سب الصحابة رضي الله عنهم
الحمد لله الذي هدانا للإسلام و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين، نبين محمد و على آله و صحبه أجمعين و بعد:
فإن نعم الله عظيمة و آلاءه جسيمة و أعظم النعم و أجلها منزلة نعمة الإسلام التي من الله بها علينا و خصنا بها.
و مع الغزو الإعلامي المكثف و ليونة الدين في القلوب ظهر على ألسنة البعض أمر خطير و منكر و كبير هو: سب الله عز و جل أو الدين أو النبي محمد و أصحابه الكرام.. و في هذه الورقات بيان لعظم الأمر و خطورته حتى ننصح من نراه يفعل ذلك و نعلمه موطن الخير و ندله على طريق التوبة.
أخي المسلم: الإيمان بالله مبني على التعظيم و الإجلال للرب عز و جل و لا شك أن سب الله عز و جل و الاستهزاء به يناقض هذا التعظيم.
قال ابن القيم: و روح العبادة هو الإجلال و المحبة فإذا تخلى أحدهما عن الآخر فسدت فإذا اقترن بهذين الثناء على المحبوب المعظم فذلك حقيقة الحمد و الله أعلم.
و السب كما عرفه ابن تيمية: هو الكلام الذي يقصد به الانتقاص و الاستخفاف و هو ما يفهم منه السب في عقول الناس على اختلاف اعتقاداتهم كاللعن و التقبيح و نحوه.
و لا ريب أن سب الله عز وجل يعد أقبح و أشنع أنواع المكفرات القولية و إذا كان الاستهزاء بالله كفراً سواء استحله أم لم يستحله فإن السب كفر من باب أولى.
يقول ابن تيمية: إن سب الله أو سب رسوله كفر ظاهراً و باطناً سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم أو كان مستحيلاً أو كان ذاهلاً عن اعتقاده.
و قال ابن راهويه: قد أجمع المسلمون أن من سب الله أو سب رسول الله أنه.. كافر بذلك
و إن كان مقراً بما أنزل الله.
قال تعالى: إن الذين يؤذون الله و رسوله لعنهم الله في الدنيا و الآخرة و أعد لهم عذاباً مهيناً، و الذين يؤذون المؤمنين و المؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً و إثماً مبينا ً فرق الله عز و جل في الآية بين أذى الله و رسوله وبين أذى المؤمنين و المؤمنات فجعل على هذا أنه قد احتمل بهتاناً و إثماً مبيناًو جعل على ذلك اللعنة في الدنيا و الآخرة و أعد له العذاب المهين و معلوم أن أذى المؤمنين قد يكون من كبائر الإثم و فيه الجلد و ليس فوق ذلك إلا الكفر و القتل.
قال القاضي عياض: لا خلاف أن ساب الله تعالى من المسلمين كافر حلال الدم.
و قال أحمد في رواية عبد الله في رجل قال لرجل: يا ابن كذا و كذا – أعني أنت و من خلقك -: هذا مرتد عن الإسلام تضرب عنقه.
و قال ابن قدامة: من سب الله تعالى كفر، سواء كان مازحاً أو جاداً.
سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز السؤال التالي:
ما حكم سب الدين أو الرب؟ - استغفر الله رب العالمين – هل من سب الدين يعتبر كافراً أو مرتداً و ما هي العقوبة المقررة عليه في الدين الإسلامي الحنيف؟ حتى نكون على بينة من امر شرائع الدين و هذه الظاهرة منتشرة بين بعض الناس في بلادنا افيدونا افادكم الله.
فأجاب حفظه الله:
سب الدين من أعظم الكبائر و من أعظم المنكرات و هكذا سب الرب عز و جل، و هذان الأمران من أعظم نواقض الإسلام، و من أسباب الردة عن الإسلام، فإذا كان من سب الرب سبحانه و تعالى أو سب الدين ينتسب إلى الإسلام فإنه يكون بذلك مرتداً عن الإسلام و يكون كافراً يستتاب، فإن تاب و إلا قتل من جهة ولي أمر البلد بواسطة المحكمة الشرعية، و قال بعض أهل العلم: إنه لا يستتاب بل يقتل، لأن جريمته عظيمة، و لكن الأرجح أنه يستتاب لعل الله يمن عليه بالهداية فيلزم الحق، و لكن ينبغي أن يعزر بالجلد و السجن حتى لا يعود لمثل هذه الجريمة العظيمة، و هكذا لو سب القرآن أو سب الرسول أو غيره من الأنبياء فإنه يستتاب فإن تاب و إلا قتل، فإن سب الدين أو سب الرسول أو سب الرب عز و جل من نواقض الإسلام، و هكذا الاستهزاء بالله أو برسوله أو بالجنة أو بالنار أو بأوامر الله كالصلاة و الزكاة، فالاستهزاء بشيء من هذه الأمور من نواقض الإسلام، قال الله سبحانه و تعالى: قل أبالله و آياته و رسوله كنتم تستهزءون، لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم نسأل الله العافية.
و سئل فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين السؤال التالي:
ما حكم في رجل سب الدين في حالة غضب هل عليه كفارة و ما شرط التوبة من هذا العمل حيث أني سمعت من أهل العلم يقولون بأن زوجتك حرمت عليك؟
فأجاب فضيلته:(/1)
الحكم فيمن سب الدين الإسلامي يكفر، فإن سب الدين والاستهزاء به ردة عن الإسلام و كفر بالله عز و جل و بدينه، و قد حكى الله عن قوم إستهزؤوا بدين الإسلام، حكى الله عنهم أنهم كانوا يقولون: إنما كنا نخوض و نلعب، فبين الله عز و جل أن خوضهم هذا و لعبهم استهزاء بالله و آياته و رسوله و أنهم كفروا به فقال تعالى: و لئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض و نلعب قل أبالله و آياته و رسوله كنتم تستهزءون، لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم فالاستهزاء بدين الله، أو سب دين الله او سب الله و رسوله، أو الاستهزاء بهما، كفر مخرج من الملة. أهـ
و أحذر أخي المسلم من مجالسة هؤلاء القوم حتى لا يصيبك إثم و تحل بدارك العقوبة.
سئل الشيخ محمد بن عثيمين السؤال التالي:
هل يجوز البقاء لي بين قوم يسبون الله عز و جل؟
فأجاب حفظه الله:
لا يجوز البقاء بين قوم يسبون الله عز و جل لقوله تعالى: و قد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها و يستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم إن الله جامع المنافقين و الكافرين في جهنم جميعاً .
حكم سب الرسول :
للرسول مكانة عظيمة في نفوس أهل الإيمان، فقد بلغ الرسالة، و أدى الأمانة و نصح للأمة و جاهد في الله حق جهاده، و نحن نحب الرسول كما أمر، محبة لا تخرجه إلى الإطراء أو إقامة البدع التي نهى الرسول عنها و حذر منها. بل له المكانة السامية و المنزلة الرفيعة نطيعه فيما أمر، و نجتنب ما نهى عنه و زجر.
و لنحذر من سب الرسول فإن ذلك من نواقض الإيمان، التي توجب الكفر ظاهراً و باطناً، سواء استحل ذلك فاعله أو لم يستحله.
يقول ابن تيمية رحمه الله: إن سب الله أو سب رسوله كفر ظاهراً و باطناً، سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم، أو كان مستحلاً له، أو كان ذاهلاً عن إعتقاده.
و الأمر في ذلك يصل إلى حتى مجرد لمز النبي في حكم أو غيره كما قال رحمه الله في حكمه أو قسمه فإنه يجب قتله، كما امر به في حياته و بعد موته.
فأحذر أخي المسلم من هذا المزلق الخطر و الطريق السيئ و تجنب ما يغضب الله عز و جل.
سب الصحابة:
الصحابة هم صحابة رسول الله و رفقاء دعوته الذين أثنى الله عليهم في مواضع كثيرة من القرآن قال تعالى: و السابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار و الذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم و رضوا عنه و أعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم . قال تعالى: محمد رسول الله و الذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله و رضواناً و من سبهم بعد هذه الآيات فهو مكذب بالقرآن.
و الواجب نحوهم محبتهم و الترضي عنهم و الدفاع عنهم، و رد من تعرض لأعراضهم، و لا شك أن حبهم دين و إيمان و إحسان، و بغضهم كفر و نفاق و طغيان، و قد أجمع العلماء على عدالتهم، أما التعرض لهم و سبهم و ازدرائهم.
فقد قال ابن تيمية رحمه الله: إن كان مستحلاً لسب الصحابة رضي الله عنهم فهو كافر.
و قد حذر النبي من ذلك بقوله: { من سب أصحابي فعليه لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين } [السلسلة الصحيحة:2340].
و قال عليه الصلاة و السلام: { لا تسبوا أصحابي، لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسه بيده لو أن أحداً أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم أو نصيفه } [رواه البخاري].
قال الشيخ محمد ابن عبد الوهاب: فمن سبهم فقد خالف ما أمر الله من إكرامهم، و من اعتقد السوء فيهم كلهم أو جمهورهم فقد كذب الله تعالى فيما أخبر من كمالهم و فضلهم و مكذبه كافر.
و سئل الإمام أحمد عمن يشتم أبا بكر و عمر و عائشة رضي الله عنهم أجمعين فقال: ما أراه على الإسلام.
و قال الإمام مالك رحمه الله: من شتم أحداً من أصحاب محمد أبا بكر أو عمر أو عثمان أو معاوية أو عمرو ابن العاص، فإن قال كانوا على ضلال و كفر قتل.
أما من قذف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فإنه كذب بالقرآن الذي يشهد ببراءتها، فتكذيبه كفر، و الوقيعة فيها تكذيب له، ثم إنها رضي الله عنها فراش النبي و الوقيعة فيها تنقيص له، و تنقيصه كفر.
قال ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا و الآخرة و لهم عذاب عظيم و قد أجمع العلماء رحمهم الله قاطبة على أن من سبها بعد هذا و رماها بما رماها به بعد هذا الذي ذكر في الآية فإنه كافر، لأنه معاند للقرآن.
ساق اللالكائي بسنده أن الحسن بن زيد، لما ذكر رجل بحضرته عائشة بذكر قبيح من الفاحشة، أمر بضرب عنقه، فقال له العلويون: هذا رجل من شيعتنا فقال معاذ الله، هذا رجل طعن على النبي ، قال الله عز و جل: الخبيثات للخبيثين و الخبيثون للخبيثات و الطيبات للطيبين و الطيبون للطيبات أولئك مبرءون مما يقولون لهم مغفرة و رزق كريم فإن كانت عائشة رضي الله عنها خبيثة فالنبي خبيث، فهو كافر فاضربوا عنقه، فضربوا عنقه.
أخي المسلم:(/2)
إن سب الصحابة رضي الله عنهم يستلزم تضليل أمة محمد و يتضمن أن هذه الأمة شر الأمم، و أن سابقي هذه الأمة شرارها، و كفر هذا من يعلم بالاضطرار من دين الإسلام.
اللهم ارزقنا حبك و حب دينك و كتابك و نبيك و صحابته الكرام، ربنا اغفر لنا و لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان و لا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا و صلى الله على نبيه محمد و على آله و صحبه أجمعين.(/3)
حكم سب الله ، سب الدين ، سب الرسول صلى الله عليه و سلم و سب الصحابة رضي الله عنهم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا للإسلام و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين ، نبين محمد و على آله و صحبه أجمعين و بعد :
فإن نعم الله عظيمة و آلاءه جسيمة و أعظم النعم و أجلها منزلة نعمة الإسلام التي من الله بها علينا و خصنا بها .
و مع الغزو الإعلامي المكثف و ليونة الدين في القلوب ظهر على ألسنة البعض أمر خطير و منكر و كبير هو : سب الله عز و جل أو الدين أو النبي محمد صلى الله عليه و سلم و أصحابه الكرام .. و في هذه الورقات بيان لعظم الأمر و خطورته حتى ننصح من نراه يفعل ذلك و نعلمه موطن الخير و ندله على طريق التوبة .
أخي المسلم : الإيمان بالله مبني على التعظيم و الإجلال للرب عز و جل و لا شك أن سب الله عز و جل و الاستهزاء به يناقض هذا التعظيم .
قال ابن القيم : و روح العبادة هو الإجلال و المحبة فإذا تخلى أحدهما عن الآخر فسدت فإذا اقترن بهذين الثناء على المحبوب المعظم فذلك حقيقة الحمد و الله أعلم .
و السب كما عرفه ابن تيمية : هو الكلام الذي يقصد به الانتقاص و الاستخفاف و هو ما يفهم منه السب في عقول الناس على اختلاف اعتقاداتهم كاللعن و التقبيح و نحوه .
و لا ريب أن سب الله عز وجل يعد أقبح و أشنع أنواع المكفرات القولية و إذا كان الاستهزاء بالله كفراً سواء استحله أم لم يستحله فإن السب كفر من باب أولى .
يقول ابن تيمية : إن سب الله أو سب رسوله كفر ظاهراً و باطناً سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم أو كان مستحيلاً أو كان ذاهلاً عن اعتقاده .
و قال ابن راهويه : قد أجمع المسلمون أن من سب الله أو سب رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه .. كافر بذلك
و إن كان مقراً بما أنزل الله .
قال تعالى { إن الذين يؤذون الله و رسوله لعنهم الله في الدنيا و الآخرة و أعد لهم عذاباً مهينا ً ، و الذين يؤذون المؤمنين و المؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً و إثماً مبينا ً } فرق الله عز و جل في الآية بين أذى الله و رسوله وبين أذى المؤمنين و المؤمنات فجعل على هذا أنه قد احتمل بهتاناً و إثماً مبيناًو جعل على ذلك اللعنة في الدنيا و الآخرة و أعد له العذاب المهين و معلوم أن أذى المؤمنين قد يكون من كبائر الإثم و فيه الجلد و ليس فوق ذلك إلا الكفر و القتل .
قال القاضي عياض : لا خلاف أن ساب الله تعالى من المسلمين كافر حلال الدم .
و قال أحمد في رواية عبد الله في رجل قال لرجل : يا ابن كذا و كذا – أعني أنت و من خلقك - : هذا مرتد عن الإسلام تضرب عنقه .
و قال ابن قدامة : من سب الله تعالى كفر ، سواء كان مازحاً أو جاداً .
سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز السؤال التالي :
ما حكم سب الدين أو الرب ؟ - استغفر الله رب العالمين – هل من سب الدين يعتبر كافراً أو مرتداً و ما هي العقوبة المقررة عليه في الدين الإسلامي الحنيف ؟ حتى نكون على بينة من امر شرائع الدين و هذه الظاهرة منتشرة بين بعض الناس في بلادنا افيدونا افادكم الله .
فأجاب حفظه الله :
سب الدين من أعظم الكبائر و من أعظم المنكرات و هكذا سب الرب عز و جل ، و هذان الأمران من أعظم نواقض الإسلام ، و من أسباب الردة عن الإسلام ، فإذا كان من سب الرب سبحانه و تعالى أو سب الدين ينتسب إلى الإسلام فإنه يكون بذلك مرتداً عن الإسلام و يكون كافراً يستتاب ، فإن تاب و إلا قتل من جهة ولي أمر البلد بواسطة المحكمة الشرعية ، و قال بعض أهل العلم : إنه لا يستتاب بل يقتل ، لأن جريمته عظيمة ، و لكن الأرجح أنه يستتاب لعل الله يمن عليه بالهداية فيلزم الحق ، و لكن ينبغي أن يعزر بالجلد و السجن حتى لا يعود لمثل هذه الجريمة العظيمة ، و هكذا لو سب القرآن أو سب الرسول صلى الله عليه و سلم أو غيره من الأنبياء فإنه يستتاب فإن تاب و إلا قتل ، فإن سب الدين أو سب الرسول صلى الله عليه و سلم أو سب الرب عز و جل من نواقض الإسلام ، و هكذا الاستهزاء بالله أو برسوله أو بالجنة أو بالنار أو بأوامر الله كالصلاة و الزكاة ، فالاستهزاء بشيء من هذه الأمور من نواقض الإسلام ، قال الله سبحانه و تعالى { قل أبالله و آياته و رسوله كنتم تستهزءون (65) لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } نسأل الله العافية .
و سئل فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين السؤال التالي :
ما حكم في رجل سب الدين في حالة غضب هل عليه كفارة و ما شرط التوبة من هذا العمل حيث أني سمعت من أهل العلم يقولون بأن زوجتك حرمت عليك ؟
فأجاب فضيلته :(/1)
الحكم فيمن سب الدين الإسلامي يكفر ، فإن سب الدين والاستهزاء به ردة عن الإسلام و كفر بالله عز و جل و بدينه ، و قد حكى الله عن قوم إستهزؤوا بدين الإسلام ، حكى الله عنهم أنهم كانوا يقولون : إنما كنا نخوض و نلعب ، فبين الله عز و جل أن خوضهم هذا و لعبهم استهزاء بالله و آياته و رسوله و أنهم كفروا به فقال تعالى { و لئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض و نلعب قل أبالله و آياته و رسوله كنتم تستهزءون ( 65) لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } فالاستهزاء بدين الله ، أو سب دين الله او سب الله و رسوله ، أو الاستهزاء بهما ، كفر مخرج من الملة . أه
و أحذر أخي المسلم من مجالسة هؤلاء القوم حتى لا يصيبك إثم و تحل بدارك العقوبة .
سئل الشيخ محمد بن عثيمين السؤال التالي :
هل يجوز البقاء لي بين قوم يسبون الله عز و جل ؟
فأجاب حفظه الله :
لا يجوز البقاء بين قوم يسبون الله عز و جل لقوله تعالى { و قد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها و يستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم إن الله جامع المنافقين و الكافرين في جهنم جميعاً }
حكم سب الرسول صلى الله عليه و سلم :
للرسول مكانة عظيمة في نفوس أهل الإيمان ، فقد بلغ الرسالة ، و أدى الأمانة و نصح للأمة و جاهد في الله حق جهاده ، و نحن نحب الرسول صلى الله عليه و سلم كما أمر ، محبة لا تخرجه إلى الإطراء أو إقامة البدع التي نهى الرسول عنها و حذر منها . بل له المكانة السامية و المنزلة الرفيعة نطيعه فيما أمر ، و نجتنب ما نهى عنه و زجر .
و لنحذر من سب الرسول صلى الله عليه و سلم فإن ذلك من نواقض الإيمان ، التي توجب الكفر ظاهراً و باطناً ، سواء استحل ذلك فاعله أو لم يستحله .
يقول ابن تيمية رحمه الله : إن سب الله أو سب رسوله كفر ظاهراً و باطناً ، سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم ، أو كان مستحلاً له ، أو كان ذاهلاً عن إعتقاده .
و الأمر في ذلك يصل إلى حتى مجرد لمز النبي صلى الله عليه و سلم في حكم أو غيره كما قال رحمه الله في حكمه أو قسمه فإنه يجب قتله ، كما امر به صلى الله عليه و سلم في حياته و بعد موته .
فأحذر أخي المسلم من هذا المزلق الخطر و الطريق السيئ و تجنب ما يغضب الله عز و جل .
سب الصحابة :
الصحابة هم صحابة رسول الله صلى الله عليه و سلم و رفقاء دعوته الذين أثنى الله عليهم في مواضع كثيرة من القرآن قال تعالى { و السابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار و الذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم و رضوا عنه و أعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم }. قال تعالى { محمد رسول الله و الذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله و رضواناً } و من سبهم بعد هذه الآيات فهو مكذب بالقرآن .
و الواجب نحوهم محبتهم و الترضي عنهم و الدفاع عنهم ، و رد من تعرض لأعراضهم ، و لا شك أن حبهم دين و إيمان و إحسان ، و بغضهم كفر و نفاق و طغيان ، و قد أجمع العلماء على عدالتهم ، أما التعرض لهم و سبهم و ازدرائهم .
فقد قال ابن تيمية رحمه الله : إن كان مستحلاً لسب الصحابة رضي الله عنهم فهو كافر .
و قد حذر النبي صلى الله عليه و سلم من ذلك بقوله " من سب أصحابي فعليه لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين " السلسلة الصحيحة 2340 .
و قال عليه الصلاة و السلام " لا تسبوا أصحابي ، لا تسبوا أصحابي ، فوالذي نفسه بيده لو أن أحداً أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم أو نصيفه " رواه البخاري .
قال الشيخ محمد ابن عبد الوهاب : فمن سبهم فقد خالف ما أمر الله من إكرامهم ، و من اعتقد السوء فيهم كلهم أو جمهورهم فقد كذب الله تعالى فيما أخبر من كمالهم و فضلهم و مكذبه كافر .
و سئل الإمام أحمد عمن يشتم أبا بكر و عمر و عائشة رضي الله عنهم أجمعين فقال : ما أراه على الإسلام .
و قال الإمام مالك رحمه الله : من شتم أحداً من أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم أبا بكر أو عمر أو عثمان أو معاوية أو عمرو ابن العاص ، فإن قال كانوا على ضلال و كفر قتل .
أما من قذف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فإنه كذب بالقرآن الذي يشهد ببراءتها ، فتكذيبه كفر ، و الوقيعة فيها تكذيب له ، ثم إنها رضي الله عنها فراش النبي صلى الله عليه و سلم و الوقيعة فيها تنقيص له ، و تنقيصه كفر .
قال ابن كثير عند تفسير قوله تعالى { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا و الآخرة و لهم عذاب عظيم } و قد أجمع العلماء رحمهم الله قاطبة على أن من سبها بعد هذا و رماها بما رماها به بعد هذا الذي ذكر في الآية فإنه كافر ، لأنه معاند للقرآن .(/2)
ساق اللالكائي بسنده أن الحسن بن زيد ، لما ذكر رجل بحضرته عائشة بذكر قبيح من الفاحشة ، أمر بضرب عنقه ، فقال له العلويون : هذا رجل من شيعتنا فقال معاذ الله ، هذا رجل طعن على النبي صلى الله عليه و سلم ، قال الله عز و جل { الخبيثات للخبيثين و الخبيثون للخبيثات و الطيبات للطيبين و الطيبون للطيبات أولئك مبرءون مما يقولون لهم مغفرة و رزق كريم } فإن كانت عائشة رضي الله عنها خبيثة فالنبي صلى الله عليه و سلم خبيث ، فهو كافر فاضربوا عنقه ، فضربوا عنقه .
أخي المسلم :
إن سب الصحابة رضي الله عنهم يستلزم تضليل أمة محمد صلى الله عليه و سلم و يتضمن أن هذه الأمة شر الأمم ، و أن سابقي هذه الأمة شرارها ، و كفر هذا من يعلم بالاضطرار من دين الإسلام .
اللهم ارزقنا حبك و حب دينك و كتابك و نبيك صلى الله عليه و سلم و صحابته الكرام ، ربنا اغفر لنا و لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان و لا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا و صلى الله على نبيه محمد و على آله و صحبه أجمعين .
عبد الملك القاسم
المملكة العربية السعودية(/3)
حكم ظهور ومشاركة المرأة المتحجِّبة حجاباً شرعياً في الوسائل الحديثة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: -
ففي خِضم الثورة العلمية الواسعة في زماننا هذا، والتطور التكنولوجي الهائل الذي لا يزال يتسع يوماً بعد يوم، والذي أعقب ذلك تطوراً في وسائل الاتصال بين الشعوب، حتى أصبحت وسائل الإعلام – سواء كانت صحفاً ومجلات، أو قنوات فضائية مشفرة وغير مشفرة، أو مواقع في الانترنت أو غيرها ..- أصبحت من أهم الأسباب لقيام ونهوض الأمم والدول، وحتى أقيمت الحروب والمعارك الحامية، أو أخمدت بهذه الوسائل، وأصبح البعيد قريباً، وأصبح شبه المستحيل ممكناً، وأصبح العالَم اليوم كقرية واحدة، وأصبح اتصال الشرق بالغرب والشمال بالجنوب أمراً حاصلاً في غمضة عين، وأصبحت هذه الوسائل الوسيلة العظمى في إظهار الحضارات وتبادل الأفكار والمعلومات، بل وأصبحت من الوسائل الهامة في التربية والتعليم، بل إن التربية والتعليم قد أوكِل إليها في كثير من الأحيان، ولقد نُشِر في هذه الوسائل من الجرائم والمصائب والصور الفاضحة ما يندى له الجبين، ولكنّ بعض الغيورين على دينهم قد انبرى لهذه الوسائل، وأقام منابر للدعوة والتعليم ونشر الدين عبر هذه الوسائل، واستدعى الأمر - في بعض الأحيان- إلى ظهور النساء وتصدُّرِهن في هذه المنابر الدعوية والعلمية، وإقامتهن للبرامج والندوات، وربما استدعى الأمر – في بعض الأحيان - إلى الأسفار والرحلات؛ وعليه فقد احتاج الأمر إلى بيان وضبط بضوابط الشرع، حتى لا تقع هذه المنابر فيما وقع فيه غيرها من التبرج والسفور، وحتى تقوم هذه المنابر بالدور الفاعل والمهم في نشر الإسلام لسائر شعوب الأرض، وإظهاره بالصورة الحقيقية والمرضية لله رب العالمين، وانطلاقاً من هذا الأمر فقد طُلِب مني أن أبيِّن حكم ظهور ومشاركة المرأة التي تدعو إلى الإسلام في هذه الوسائل الحديثة، فاستجبت لهذا الطلب بما فتح المولى عليّ من العلم، فأقول مستعيناً بالله رب العالمين، وهو الهادي إلى سواء السبيل، وعليه اتكالي واعتمادي:
إن الأصل هو قعود المرأة في بيتها وعدم خروجها إلا لحاجة، قال تعالى: ? وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ? [الأحزاب:33] ، قال القرطبي: (معنى هذه الآية الأمر بلزوم البيت، وإن كان الخطاب لنساء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى، هذا لو لم يرد دليل يخص جميع النساء كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن والانكفاف على الخروج منها إلا لضرورة؟)(1)، عن أنس بن مالك – رضي الله عنه - قال : أتين النساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلن : يا رسول الله ، ذهب الرجال بالفضل والجهاد ، فمرنا بعمل ندرك به فضل الجهاد في سبيل الله ، فقال : " مهنة إحداكن في بيتها، تدرك به عمل المجاهد في سبيل الله "(2) وقد ذكر القرطبي أن سودة – أم المؤمنين رضي الله عنها - قيل لها:لم لا تحجِّين ولا تعتمرين كما يفعل أخواتك؟! فقالت: قد حججت واعتمرت، وأمرني الله أن أقرَّ في بيتي. قال الراوي: فوالله ما خرجت من باب حجرتها حتى أُخرِجت جنازتها(3)،فهذا هو الأصل، إلا أن المرأة يمكن أن تخرج من بيتها للحاجة؛ ومنها: إظهار شعائر الدين، قال ابن كثير في الآية المتقدمة: ( أي إلزمن بيوتكن فلا تخرجن لغير حاجة، ومن الحوائج الشرعية الصلاة في المسجد بشرطه)(4)، فقد اعتبر إظهار شعائر الدين – ومنها الصلاة - من الحاجة التي يمكن للمرأة الخروج من أجلها، ولكن بشرطه.
ومن الحاجة التي يمكن للمرأة أن تخرج من بيتها لأجلها: حضور مجالس العلم والعلماء، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه – قال: جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله ذهب الرجال بحديثك فاجعل لنا من نفسك يوماً نأتيك فيه تعلمنا مما علمك الله. قال:" اجتمعن يوم كذا وكذا "، فاجتمعن فأتاهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعلمهن مما علمه الله، فوعدهن يوماً لقيهن فيه، فوعظهن وأمرهن، فكان فيما قال لهن:" ما منكن من امرأة تقدم بين يديها من ولدها ثلاثة إلا كان لها حجاباً من النار." فقالت امرأة: واثنين واثنين واثنين؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:" واثنين واثنين واثنين "(5)(/1)
كما أن من الحاجة التي يمكن للمرأة أن تخرج من بيتها لأجلها: طلب الرزق والمعاش، إن لم تجد من ينفق عليها، أو كانت النفقة – المقدور عليها - غير كافية، ولكن ذلك أيضاً بضوابط وشروط بطريق الأولى والأحرى، عن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنها - قالت: " تزوجني الزبير وما له في الأرض من مال ولا مملوك ولا شي غير ناضح وغير فرسه فكنت أعلف فرسه وأستقي الماء وأخرز غربه وأعجن ولم أكن أحسن أخبز وكان يخبز جارات لي من الأنصار وكن نسوة صدق وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم- على رأسي وهي مني على ثلثي فرسخ فجئت يوما والنوى على رأسي فلقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه نفر من الأنصار فدعاني ثم قال ( إخ إخ ) . ليحملني خلفه قاستحييت أن أسير مع الرجال وذكرت الزبير وغيرته وكان أغير الناس فعرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أني قد استحييت فمضى فجئت الزبير فقلت لقيني رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وعلى رأسي النوى ومعه نفر من أصحابه فأناخ لأركب فاستحييت منه وعرفت غيرتك فقال والله لحملك النوى كان أشد علي من ركوبك معه قالت حتى أرسل إلي أبو بكر بعد ذلك خادم يكفيني سياسة الفرس فكأنما أعتقني "(6).
والحاصل أن الأصل أن تقر المرأة في بيتها إلا إن وجدت حاجة لخروجها كأن تخرج لإظهار شعائر الدين - ومثله الدعوة إليه -، ولحضور مجالس العلم والعلماء - على العموم -، وكطلب الرزق والمعاش، إن لم يوجد من الرجال من يكفيها ذلك، ومثل ذلك ما كان لأجل ضرورة كخروجها للعلاج ونحوه... ففي هذه الحالات لا مانع من خروجها، ولكن ذلك مشروط بشروط وضوابط، فمتى التزمت المرأة بها جاز خروجها - لما تقدم - وإلا فلا. وإليك بيان هذه الضوابط.
ضوابط خروج المرأة من بيتها عند الحاجة:
1. أن تغضَّ من بصرها، وأن تحفظ فرجها عن الفواحش، وعما لا يحل لها، وعن الزنا(7)، قال تعالى : ? وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ?[النور:31] عن نبهان مولى أم سلمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها ولميمونة، وقد دخل عليها ابن أم مكتوم: " احتجبا "، فقالتا: إنه أعمى. قال: " أفعمياوان أنتما، ألستما تبصرانه "(8)، وعن معاوية القشيري - رضي الله عنه - قال: قلت يا رسول الله: عوراتنا ما نأتي منها وما نذر ؟ قال " احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك " قال: الرجل يكون مع الرجل ؟ قال " إن استطعت ألا يراها فافعل " قلت: فالرجل يكون خالياً ؟ فقال " الله أحق أن يستحيا منه من الناس "، (9)وأخرج الحاكم وصححه عن حذيفة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " النظرة سهم من سهام إبليس مسمومة، فمن تركها من خوف الله أثابه الله إيماناً يجد حلاوته في قلبه "(10)
2. ستر شعرها وعنقها وقرطها(11)، عن عائشة - رضي الله عنها - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت: يرحم الله النساء المهاجرات الأول ! لما أنزل الله ? وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ? [النور:31] شققن أكثف مروطهن(12)، فاختمرن به.
3. ألا تسعى في الأرض بالفتنة، نحو أن تضرب رجلها بالأرض لتفتن الناس، قال تعالى: ? وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ ? [النور:31]، قال الطبري: (أي لا تضرب المرأة برجلها إذا مشت؛ لتسمع صوت خلخالها، فإسماع صوت الزينة كإبداء الزينة وأشد، والغرض التستر.. وسماع هذه الزينة أشد تحريكاً للشهوة من إبدائها، قاله الزجاج)(13).
4. ألا تتعطر ولا تتطيب عند خروجها من بيتها فيجد الرجال - عموماً - ريحها(14)، عن أبي موسى - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:" كل عين زانية، والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا يعني زانية "(15)
5. عدم التبرج والاختلاط، ويدخل في ذلك أيضاً ألا تمشي في وسط الطريق(16)، عن أبي أسيد الأنصاري- رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول وهو خارج من المسجد، وقد اختلط الرجال مع النساء في الطريق، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للنساء:" استأخرن؛ فإنه ليس لكن أن تحتضِنّ الطريق، عليكن بحافات الطريق "، فكانت المرأة تلصق بالجدار؛ حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به"(17)(/2)
6. عدم إظهار زينتها للعاملين في المؤسسات القائمة على هذه الوسائل، وكذا عدم إظهارها للمشاهدين، قال تعالى: ? وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ?[النور:31] ، وقد وقع الخلاف بين العلماء في معنى قوله ? إلا ما ظهر منها ? على أقوال هي: -
أ - الثياب الظاهرة، وبه قال ابن مسعود وإبراهيم والحسن(18)، ونسبه ابن كثير لابن سيرين وأبي الجوزاء وإبراهيم النخعي(19). وعليه فلا حرج على هذه المذيعة أن تظهر للناس بثيابها، بشرط ألا يكون في هذه الثياب زينة، وألا تتشبه بالكافرات في لباسها، وأن تكون ثيابها ساترة لجميع بدنها، لا ضيقة تصف بدنها، ولا شفافة؛ لقوله تعالى : ? يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ ? [الأحزاب:59]؛ ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم –: " صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا "(20).
ب - الوجه والكفين، وبه قال ابن عباس وعطاء والأوزاعي والضحاك وسعيد بن جبير(21)، ونسبه ابن كثير لابن عمر وعكرمة وأبي الشعثاء وإبراهيم النخعي(22)، ويلزم منه ظهور الكحل والخاتم والسواران والخضاب، وبه قال ابن عباس والمسور بن مخرمة وقتادة ومجاهد وابن زيد ورجحه الطبري، واستدل له (بإجماع الجميع على أن على كل مصلٍ أن يستر عورته في صلاته، وأن للمرأة أن تكشف وجهها وكفيها في صلاتها، وأن عليها أن تستر ما عدا ذلك من بدنها إلا ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أباح لها أن تبدي من ذراعها إلى قدر النصف، وعليه فلها أن تبدي من بدنها ما لم يكن عورة،كما أن ذلك للرجل؛ لأن ما لم يكن عورة فغير حرام إظهاره وإذا كان لها إظهار ذلك كان معلوماً أنه مما استثناه الله تعالى ذكره بقوله: ? إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ?؛ لأن كل ذلك ظاهر منها)(23). وعن عائشة - رضي الله عنها - أن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنها - دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليها ثياب رقاق؛ فأعرض عنها، وقال: " يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا، وأشار إلى وجهه وكفيه "(24)، وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: دخلت عليَّ ابنة أخي لأمي عبد الله بن الطفيل مزينة، فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - فأعرض، فقالت عائشة: يا رسول الله؛ إنها ابنة أخي وجارية. فقال: إذا عركت المرأة لم يحل لها أن تظهر إلا وجهها وإلا ما دون هذا، وقبض على ذراع نفسه، فترك بين قبضته وبين الكف مثل قبضة أخرى"(25) ، ولكن هذا مقيد بكون المرأة عجوزاً أو غير جميلة أو يُخشى من كشف وجهها وكفيها الفتنة، وإلا فعليها ستر ذلك، قال ابن خويز منداد: (إن المرأة إذا كانت جميلة وخيف من وجهها وكفيها الفتنة فعليها ستر ذلك، وإن كانت عجوزاً أو مقبَّحة جاز أن تكشف وجهها وكفيها)(26). وعلى هذا القول يمكن لهذه المذيعة أن تكشف وجهها وكفيها فقط أمام هذه الوسائل، بشرط ألا يكون في إظهارهما فتنة.
ت - الوجه والثياب، وبه قال الحسن، ونسبه الشوكاني لسعيد بن جبير(27). ومن الجيِّد هنا أن نسوق كلام ابن عطية – رحمه الله - حيث يقول: (ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية أن المرأة مأمورة بألا تبدي، وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة، ووقع الاستثناء فيما يظهر بحكم ضرورةِ حركةٍ فيما لا بد منه أو إصلاحِ شأنٍ ونحو ذلك فـ ? مَا ظَهَرَ ? على هذا الوجه مما تؤدي إليه الضرورة في النساء فهو المعفو عنه)(28). وقال القرطبي في تفسيره: (الزينة على قسمين: خلقية، ومكتسبة، فالخلقية وجهها؛ فإنه أصل الزينة، وجمال الخلقة، ومعنى الحيوانية، لما فيه من المنافع وطرق العلوم. وأما الزينة المكتسبة فهي ما تحاوله المرأة في تحسين خلقها،كالثياب والحلي والكحل والخضاب)(29).(/3)
7. ألا يؤدي ذلك إلى إظهار زينتها لغير المسلمة لقوله في الآية السابقة :? أَوْ نِسَائِهِنَّ ?[النور:31] ، عن ابن عباس - رضي الله عنه – قال: (هن المسلمات، لا تبديه ليهودية ولا نصرانية، وهو النحر والقرط والوشاح وما لا يحل أن يراه إلا محرم)(30).
8. ألا تتشبه بالرجال في كلامها أو أفعالها أو حركاتها أو لباسها، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: " لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال " (31).
9. ألا تسافر المرأة - بسبب هذه المهنة - بغير محرم، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم والآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم "(32) .
10. ألا تصافح الأجانب، عن عروة أن عائشة - رضي الله عنها - أخبرته عن بيعة النساء، قالت: " ما مسَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده امرأة قط إلا أن يأخذ عليها، فإذا أخذ عليها فأعطته، قال: " اذهبي فقد بايعتك " (33)
11. ألا تختلي بأجنبي، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم "(34)، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما – قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم "(35)
12. ألا تلين في كلامها أبداً، سواء كان ذلك مع العاملين أو مع المشاهدين، قال تعالى ? يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ إِنْ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً ? [الأحزاب: 32] ، أي لا تُلِنَّ القول؛ أمرهن الله أن يكون قولهن جزلاً وكلامهن فصلاً ولا يكون على وجه يظهر في القلب علاقة بما يظهر من اللين كما كانت الحال عليه في نساء العرب من مكالمة الرجال بترخيم الصوت ولينه مثل كلام المريبات والمومسات فنهاهن عن مثل هذا )(36)
13. ألا يؤدي ذلك إلى خلع ثيابها في غير بيتها، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يقول " ما من امرأة تضع أثيابها في غير بيت زوجها إلا هتكت الستر بينها وبين ربها"(37)، وعن أم الدرداء - رضي الله عنها - قالت: لقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد خرجت من الحمام فقال " من أين يا أم الدرداء ؟ " فقالت: من الحمام. فقال " والذي نفسي بيده، ما من امرأة تضع ثيابها في غير بيت أحد من أمهاتها إلا وهي هاتكة كل ستر بينها وبين الرحمن عز وجل"(38)
14. ألا تكون ملابس شهرة عن ابن عمر قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: " من لبس ثوب شهرة، ألبسه الله يوم القيامة ثوب مذلة "(39)، قال السندي في تفسير معنى ثوب الشهرة: (أي من لبس ثوباً يقصد به الاشتهار بين الناس سواء كان الثوب نفيسًا يلبسه تفاخرًا بالدنيا وزينتها، أو خسيسًا يلبسه إظهارًا للزهد والرياء)(40)، وقال الشوكاني: (والمراد أن ثوبه يشتهر بين الناس لمخالفة لونه لألوان ثيابهم فيرفع الناس إليه أبصارهم ويختال عليهم بالعجب والتكبر)(41).
فمتى التزمت المرأة بهذه الضوابط؛ جاز لها أن تظهر وتشارك في وسائل الإعلام الحديثة هذه، ومتى لم تلتزم بهذه الضوابط الشرعية لم يجز لها الظهور ولا المشاركة في هذه الوسائل ولا في غيرها. ومع ذلك كله فالأفضل لها أن تقرَّ في بيتها، وألا تخرج إلا لحاجة، والله أعلم .
ومع هذا كله، فليس هذا تضييقاً للمرأة، ولا حصاراً لها، وإنما هو تبصيرٌ لها بمراد ربها، والذي ينبغي لها وللرجل - على حد سواء- الامتثال له، قال تعالى :? وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً ? [الأحزاب: 36]، وقال تعالى ? إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِيهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ ? [النور:51،52]؛ فإن الخير كله في هذا، وليس هناك حرية مطلقة لأحد من البشر – رجلاً كان أو امرأة - بأن يفعل في الأرض ما يشاء، بل الكل محكومٌ بأمر الله ومراده وشرعه، ومع ذلك كله فإن الناظر إلى هذه الضوابط والشروط يجد أن فيها حماية للمجتمع كله – والمرأة أحد أفراده - وفيها أيضاً صيانة لها من النفوس الخبيثة التي تسعى في الأرض بالفساد، والله محيط بالكافرين، وإليه المرجع والمآب .
والحمد لله رب العالمين
وهو الهادي إلى سواء السبيل ، وهو حسبنا ونعم الوكيل
وصلى الله على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين(/4)
كتبه الفقير إلى عفو ربه العلي
علي بن عبد الرحمن بن علي دبيس
الثلاثاء – 28 ربيع الآخر 1427هـ ، 26/5/2006م
(1) تفسير القرطبي ج: 14 ص: 158.
(2) المعجم الأوسط للطبراني (ج 6 / ص 370) برقم 2914، مسند أبي يعلى الموصلي (ج 7 / ص 435) برقم 3321، شعب الإيمان للبيهقي (ج 18 / ص 252) برقم 8483 وقال: تفرد به روح. وهو ابن المسيب الكلبي. قال ابن حجر: (روح بن المسيب الكلبي: عن ثابت وغيره. قال ابن عدي: أحاديثه غير محفوظة، وقال ابن معين: صويلح، وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الثقات، لا تحل الرواية عنه، وقال أبو حاتم الرازي: هو صالح ليس بالقوي، ووثقه البزار في مسنده وقال: لا نعلم من رواه عن ثابت غير روح وهو مشهور). انظر: لسان الميزان (ج 1 / ص 399).
(3) انظر: تفسير القرطبي ج: 14 ص: 181.
(4) تفسير ابن كثير ج: 3 ص: 483 .
(5) صحيح البخاري ج: 1 ص: 50 برقم 101، صحيح مسلم ج: 4 ص: 2028 برقم 2633، واللفظ له.
(6) صحيح البخاري ج: 5 ص: 2002 برقم 4926، صحيح مسلم ج: 4 ص: 1716 برقم 2182 .
(7) انظر تفسير ابن كثير [جزء 3 صفحة 378] .
(8) سنن الترمذي ج: 5 ص: 102 برقم 2778، سنن أبي داود ج: 4 ص: 63 برقم 4112 ، قال الألباني: ضعيف. انظر: إرواء الغليل (ج 6 / ص 211) .
(9) تفسير القرطبي ج: 12 ص: 223، وبنحوه في تفسير ابن كثير ج: 3 ص: 283، والحديث في سنن الترمذي ج: 5 ص: 97 برقم 2769، سنن أبي داود ج: 4 ص: 40 برقم 4017، قال الألباني: حسن. انظر: إرواء الغليل (ج 6 / ص 212) .
(10) المستدرك على الصحيحين ج: 4 ص: 349 برقم 7875، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، المعجم الكبير ج: 10 ص: 173 برقم 10362. قال الألباني:ضعيف جداً . انظر: السلسلة الضعيفة (ج 3 / ص 64).
(11) تفسير الطبري [جزء 9 صفحة 302]، والقرْطُ: الذي يعلَّق في شحمة الأذن. انظر: الصحاح في اللغة (ج 2 / ص 71).
(12) المِرْطُ (بالكسر): واحد المروطِ، وهي أكسيةٌ من صوف أو خَزٍّ كان يؤتزر بها. انظر: الصحاح في اللغة (ج 2 / ص 166)
(13) تفسير الطبري [جزء 9 – صفحة 205]، وانظر فتح القدير [جزء 4 صفحة 34].
(14) تفسير ابن كثير [جزء 3 صفحة 378] .
(15) سنن النسائي ج: 8 ص: 153 برقم 5126، سنن الترمذي ج: 5 ص: 106 برقم 2786، قال الألباني: حسن. انظر: صحيح وضعيف سنن النسائي (ج 11 / ص 198).
(16) تفسير ابن كثير [جزء 3 صفحة 378] .
(17) سنن أبي داود ج: 4 ص: 369 برقم 5272، المعجم الكبير ج: 19 ص: 261 برقم 580. ، قال الألباني: حسن. انظر: السلسلة الصحيحة مختصرة (ج 2 / ص 511).
(18) تفسير الطبري [جزء 9 صفحة 302]، تفسير القرطبي [جزء 12 صفحة 205]، فتح القدير [جزء 4 صفحة 34].
(19) تفسير ابن كثير [جزء 3 صفحة 378] .
(20) صحيح مسلم ج: 3 ص: 1680 برقم 2128، وبنحوه في مسند أحمد ج: 2 ص: 355 برقم 8650. قال النووي في شرح الحديث: (قِيلَ : مَعْنَاهُ كَاسِيَات مِنْ نِعْمَة اللَّه عَارِيَات مِنْ شُكْرهَا ، وَقِيلَ : مَعْنَاهُ تَسْتُر بَعْض بَدَنهَا ، وَتَكْشِف بَعْضه إِظْهَارًا بِحَالِهَا وَنَحْوه ، وَقِيلَ : مَعْنَاهُ تَلْبَس ثَوْبًا رَقِيقًا يَصِف لَوْن بَدَنهَا .وَأَمَّا ( مَائِلَات ) فَقِيلَ : مَعْنَاهُ عَنْ طَاعَة اللَّه ، وَمَا يَلْزَمهُنَّ حِفْظه . (مُمِيلَات) أَيْ يُعَلِّمْنَ غَيْرهنَّ فِعْلهنَّ الْمَذْمُوم ، وَقِيلَ : مَائِلَات: يَمْشِينَ مُتَبَخْتِرَات ، مُمِيلَات لِأَكْتَافِهِنَّ . وَقِيلَ : مَائِلَات: يَمْشُطْنَ الْمِشْطَة الْمَائِلَة ، وَهِيَ مِشْطَة الْبَغَايَا . مُمِيلَات: يَمْشُطْنَ غَيْرهنَّ تِلْكَ الْمِشْطَة . وَمَعْنَى ( رُءُوسهنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْت ) أَنْ يُكَبِّرْنَهَا وَيُعَظِّمْنَهَا بِلَفِّ عِمَامَة أَوْ عِصَابَة أَوْ نَحْوهمَا. انظر: شرح النووي على مسلم (ج 7 / ص 244) .
(21) تفسير الطبري [جزء 9 صفحة 302]، فتح القدير [جزء 4 صفحة 34] .
(22) تفسير ابن كثير [جزء 3 صفحة 378] .
(23) تفسير الطبري [جزء 9 صفحة 302] .
(24) سنن أبي داود ج: 4 ص: 62 برقم 4104، لكن قال أبو داود وأبو حاتم الرازي هذا مرسل خالد بن دريك لم يسمع من عائشة رضي الله عنها .انظر: تفسير ابن كثير [جزء 3 صفحة 378]، سنن البيهقي الكبرى ج: 2 ص: 226 برقم 3034، وقال الألباني: حسن لغيره. انظر: صحيح الترغيب والترهيب (ج 2 / ص 223) .
(25) أورده الطبري في تفسيره [جزء 9 صفحة 302]، ولم أجده في كتب الحديث، وعَرَكَتِ المرأةُ تَعْرُكُ عُروكاً، أي حاضت. انظر: الصحاح في اللغة (ج 1 / ص 465).
(26) تفسير القرطبي [جزء 12 صفحة 205] .
(27) تفسير الطبري [جزء 9 صفحة 302]، فتح القدير [جزء 4 صفحة 34] .
(28) تفسير القرطبي [جزء 12 صفحة 205]، وانظر فتح القدير [جزء 4 صفحة 34] .
(29) تفسير القرطبي [جزء 12 صفحة 205] .(/5)
(30) تفسير ابن كثير[جزء 3 صفحة 378] والوِشاحُ: شيء ينسج من أديمٍ عريضاً ويرصَّع بالجواهر، وتشده المرأة بين عاتقَيها. يقال: وِشاحٌ وإشاحٌ ووُشاحٌ وأُشاحٌ؛ والجمع الوُشُحُ والأوْشِحَةُ. ووَشَّحْتُها تَوْشيحاً فتوَشَّحَتْ هي، أي لبِسَته. انظر: الصحاح في اللغة (ج 2 / ص 279)
(31) صحيح البخاري ج: 5 ص: 2207 برقم 5546، سنن الترمذي ج: 5 ص: 105 برقم 2784.
(32) صحيح البخاري ج: 1 ص: 369 برقم 1038 ، صحيح مسلم ج: 2 ص: 977 برقم 1339 واللفظ له.
(33) صحيح البخاري ج: 2 ص: 967 برقم 2564، صحيح مسلم ج: 3 ص: 1489 برقم 1866 واللفظ له.
(34) صحيح البخاري ج: 5 ص: 2005 برقم 4935، صحيح مسلم ج: 2 ص: 978 برقم 1341.
(35) صحيح البخاري ج: 2 ص: 658 برقم 1763 .
(36) تفسير القرطبي ج: 14 ص: 177. قال ابن منظور: (وامرأَةٌ مُومِسٌ ومُومِسَةٌ، فاجرة زانية تميل لمُرِيدِها... مُومِسات والمُومِسات الفواجر مجاهرة. انظر: لسان العرب (ج 6 / ص 258).
(37) سنن الترمذي ج: 5 ص: 114 برقم 2803، سنن أبي داود ج: 4 ص: 39 برقم 4010، سنن ابن ماجه ج: 2 ص: 1234 برقم 3750 ، قال الألباني: صحيح. انظر: صحيح الترغيب والترهيب (ج 1 / ص 40) .
(38) مسند أحمد ج: 6 ص: 361 برقم 27083، قال الألباني: صحيح. انظر: صحيح الترغيب والترهيب (ج 1 / ص 40) .
(39) - سنن أبي داود ج: 4 ص: 43 برقم 4029، سنن ابن ماجه ج:2 ص: 1192 برقم 3608 واللفظ له، قال الشيخ الألباني : حسن.
(40) - حاشية السندي على ابن ماجه - (ج 7 / ص 23).
(41) - نيل الأوطار - (ج 3 / ص 100) .(/6)
حكم عيد الحب د. عبد الحي يوسف السؤال
ما رأي فضيلتكم في عيد الحب عيد القديس فالنتين، والذي يحتفل به في منتصف شهر فبراير من كل عام، ويتم فيه الاختلاط بين الشباب من الجنسين وتبادل كلمات الحب والهيام، ورسائل العشق والغرام، كما يتم تبادل الورود الحمراء والقلوب الحمراء؟
الإجابة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
فهذا العيد المسمى عيد الحب هو من أعياد النصارى، بل هو أقذر أعيادهم حيث يتجهزون فيه لممارسة الجنس على أوسع نطاق، وتوزع الأكياس الواقية على المدارس الثانوية والجامعات في أوروبا وأمريكا لارتكاب فاحشة الزنا في دورات المياه وغيرها، وقد نسبوا هذا العيد إلى ذلك القسيس لأنه ـ بزعمهم ـ كان يقوم بإبرام عقود الزواج سراً للجنود في الوقت الذي منعتهم فيه الدولة الرومانية على أيام كلايديس الثاني من الزواج بدعوى أنه يربط الجندي بعائلته فيشغله عن تنفيذ مهامه القتالية، فقبض على ذلك القس ونفذ فيه حكم الإعدام في يوم 14/فبراير عام 270ميلادي. ومن ذلك اليوم سموه عيد الحب وصاروا يتبادلون فيه البطاقات والورود الحمراء ويمارسون ما حرم الله عليهم جهلاً منهم وإسرافاً على أنفسهم، فقلدهم سفهاء المسلمين وساروا على دربهم حذو القذة بالقذة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولبيان حكم الإسلام في هذا العيد أذكر بهذه الحقائق:
1ـ أن العيد عنوان يميز كل أمة عن غيرها، وهو نابع من دينها وعقيدتها؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم {إن لكل قوم عيداً، وإن عيدنا هذا اليوم} متفق عليه، فالمسلم الذي يحتفل بأعياد الكفار ويشاركهم فيها إنما ينادي على نفسه بتميع عقيدته وفساد تصوره وقلة اكتراثه بتراثه.
2ـ عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: {ما هذان اليومان؟} قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {إن الله أبدلكم بهما خيراً منهما: يوم الأضحى يوم الفطر} رواه أبو داود والنسائي، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقر أهل المدينة على احتفالهم بما عهدوه أيام جاهليتهم، بل ذكرهم بنعمة الله عليهم في عيدين عظيمين قد ارتبط كل منهما بعبادة عظيمة تقرب إلى الله تعالى، مع أننا نجزم أن أهل المدينة رضي الله عنهم ما كانوا يصنعون في ذينك اليومين شيئاً مما يصنعه هؤلاء الكفرة الفجرة في عيدهم هذا الذي سموه عيد الحب.
3ـ أن ذلك من التشبه بهم حيث يهنئ بعضهم بعضاً في ذلك اليوم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم {من تشبه بقوم فهو منهم} رواه أحمد وأبو داودـ ومعنى ذلك تنفير المسلمين عن موافقة الكفار في كل ما اختصوا به، وقد كان عليه الصلاة والسلام يكره موافقة أهل الكتاب في كل أحوالهم حتى قالت اليهود: إن محمداً يريد أن لا يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه.
4ـ أنه لم يكن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم مشاركة غير المسلمين في عيدهم، ولا أصحابه رضي الله عنهم من بعده كذلك وقد علمنا أن اليهود كانوا يساكنونه المدينة، ولو حدث ذلك لنقل إلينا، مثلما نقل أنه عاد يهودياً لما مرض وأكل من طعام يهودية وقبل هدية بعض النصارى كالمقوقس.
5ـ ثم إن اقتران هذه المناسبة الكفرية بتلك الضلالات التي يمارسها أولئك الشهوانيون من اختلاط ومجون وفسق كافٍ في أن ينتهي أولو النهى والأحلام عن مشاركتهم والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا { وقد قال الله عز وجل: وما رأيت في ديارنا هذه من يحتفل بهذا العيد إلا بقية ممن يتبعون } كراما الشهوات ويبررون لأنفسهم كل حرام، نعوذ بالله من الخذلان.
وبعد. فقد يقول قائل: إن هؤلاء الذين تسمونهم كفاراً يشاركوننا في أعيادنا ويحتفلون بها معنا فلمَ لا نشاركهم؟ والجواب: أننا محكومون بالشرع لا بالأهواء وليست مشاركتهم لنا مبيحة مشاركتنا إياهم، فليست المكافأة لازمة بكل حال، ولو أنهم دخلوا مساجد المسلمين وصلوا صلاتهم أنكافئهم بدخولنا كنائسهم وأن نشاركهم صلاتهم؟ ولو أن النصراني عصى الله فسقى مسلماً خمراً إن الواجب على المسلم أن } ما لكم كيف تحكمون { أيحل للمسلم أن يسقيه الخمر؟ يعظم الأيام التي أمره الله بتعظيمها ويعرض عما سوى ذلك مما ابتدعه الكفار وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل { بجهلهم، ولا يغتر بكثرة الهالكين أسأل الله أن يرد المسلمين إلى دينهم رداً جميلاً وأن يختم لنا } الله بالحسنى إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، والله تعالى أعلم.(/1)
حكم قبول الاعتذار ممن سب النبي المختار؟
الحمد لله رب العالمين وصلى الله عليه وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
فعند ما استهزئ برسول الله صلى الله عليه وسلم في المرة الأولى في الصور في الصحف الدنماركية ارتفعت أصوات تطالب بما يسمى بالاعتذار عما فعل هؤلاء المجرمون في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم .. واليوم قام اكبر عابد للصليب كبيرهم الذي علمهم الشرك قام بسب رسول الله ، بطريقة أظهرت ما في قلبه من الحقد والبغض لمحمد صلى الله عليه وسلم ولأمته، وتكرر نفس الكلام بالمطالبة باعتذار .. والسؤال الآن هل يجوز قبول الاعتذار فضلا عن طلبه ممن فعل هذه الجريمة النكراء؟
وقبل الجواب ، لابد من التذكير بأمور :-
1- أن مقام النبي صلى الله عليه وسلم أعظم مقام والتعدي عليه بالسب والشتم أعظم من التعدي على غيره ، فالأنبياء وان كان سبهم أو سب واحد منهم ردة عن الإسلام بالنسبة للمسلم ، ويترتب عليه أحكام كثيرة سواء بما يتعلق بالمسلم أو الكافر الأصلي ، ومع ذلك فسبه صلى الله عليه وسلم أعظم جرما وإثما من سب إخوانه من الأنبياء من أولهم آدم عليه السلام الى آخرهم وهو عيسى عليه السلام ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو سيد ولد آدم عليه السلام ، وكل نبي يبعث يؤخذ عليه العهد والميثاق لأن بعث محمد صلى الله عليه وسلم وهو حي ليؤمنن به وليتبعنه ، ولذلك إذا نزل عيسى عليه الصلاة والسلام في آخر الزمان فانه لا يحكم بالتوراة ولا بإنجيل بل يحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ((ليوشكن أن ينزل فيكم عيسى بن مريم حكما مقسطا وإمامكم منكم)).
وقال تعالى : ((وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ )) (آل عمران : 81) .
فكل نبي يبعث يأخذ الله عليه العهد والميثاق لأن بعث محمد صلى الله عليه وسلم ليؤمنن به وليتبعنه كما فسر الآية بذلك علي وابن عباس رضي الله عنهم وغيرهم من المفسرين ..
2- أن نعل النبي صلى الله عليه وسلم التي لامست جلده وغبرها في سبيل الله أفضل عند الله وعند المؤمنين من النصارى الصليبيين من أولهم الى آخرهم ، فكيف يمكن لعلج من علوجهم أن يقبل منهم مجرد اعتذار لجرأته على سب النبي صلى الله عليه وسلم ..
3- أن مسألة حق النبي صلى الله عليه وسلم ومقامه الشريف بأبي هو وأمي ، تقع في أصل عقيدة كل مسلم وليست فرعا، وانه لا طريق الى مرضاة الله ولا الى جنته إلا بإتباعه صلى الله عليه وسلم وان الله فرض على الثقلين الجن والأنس إتباعه وطاعته وان من لم يؤمن به ولم يتبعه من أي ملة من الملل فانه كافر ومن أهل النار إن مات على ما هو عليه ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ((والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الملة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار))[1].
والمقصود أن هذه المسألة وهي حق النبي صلى الله عليه وسلم من أصول العقيدة فلا يجوز الكلام فيها إلا بعلم ودليل عن الله أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم ، وليس بمجرد الرأي والهوى والذوق ، فمن قال في هذه المسألة بمجرد رأيه فانه تكلم عن الله بلا علم ، وقد جعل الله القول عليه بلا علم في مرتبة فوق مرتبة الشرك قال تعالى : ((قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)) (الأعراف : 33) .
فيحرم على كل مسلم ومسلمة أن يتكلم ويقول على الله بلا علم لافي أصول الدين ولا فروعه وإلا فيكون قد ارتكب إثما عظيما..
4- إن العمدة في الكلام في مسائل الشرع هي الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة لا مجرد الرأي والهوى ، والذين تكلموا في هذه المسألة لم يأتوا بدليل لا من كتاب ولا سنة ولا قول صحابي أو تابعي أو عالم من العلماء المعتبرين عند الأمة سلفا وخلفا ، بل تكلموا كلاما -وهم ينتسبون الى العلم-مجرد كلام ورأي هو أشبه بكلام العامة الذين يزين الأمور بمجرد الرأي والهوى إلا من عصم الله..(/1)
5- وهنا بيت القصيد كما يقال ، ايتونا يا من تدعون بطلب وقبول الاعتذار من ساب النبي صلى الله عليه وسلم ، دليل من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو قول صاحب أو تابعي أو إمام من أئمة الدين والهدى من السلف أو الخلف على هذا ، ليكون قولكم له قيمة وإلا فأنتم قلتم على الله بلا علم أو كتمتم ما تعلمونه من الحق وكلا الأمرين أحلاهما مر وشر..، وأقول بناء على ما تقدم إن هذه المسالة ليست من مسائل الدنيا أو حقوق المؤمنين والمؤمنات التي يطلب ويقبل فيها الاعتذار بل هو حق يتعلق بأصل الدين -كما تقدم- فليس لأحد أن يتنازل عنه أو يفاوض عليه ، لأنه لا أحد مفوض من النبي صلى الله عليه وسلم ليتنازل عن حقه ، وإنما دور الأمة أن تسعى لأخذ حق رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن تعدى عليه ولا يملك احد كائنا من كان أن يتنازل عن حقه صلى الله عليه وسلم، ولو سعى المسلمون وضغطوا وحاولوا القصاص من الخنزير الدنماركي الأول لما تجرأ الخنزير الألماني الثاني .
6- من المعلوم لكل ذي بصيرة أن الخير كله في إتباع الشرع وتنفيذ أحكامه وان بدا لضعيف البصيرة أن في هذا شر عليه ، وان الشر كله بترك الشرع والإعراض عنه بدعوى المصالح والمفاسد فيترتب على هذا من الشر إضعاف أضعاف ما قد يظن من تنفيذ حكم الله ،ومن الأمثلة أن قطع يد السارق فيه مضرة على السارق بإبانة عضو من أعضائه ولكن يترتب على ذلك حفظ أموال الناس من السرقة ، وهكذا إقامة الحد على القاتل ، وان كان فيه مفسدة عليه بإزهاق نفسه ولكن فيه مصلحة عظيمة بحفظ نفوس كثيرة وهكذا فرض الجهاد مكروه للنفوس لما فيه من المشقة وقتل بعض المؤمنين ولكن يترتب عليه من الخير ما لا يعلمه إلا الله ولذلك قال تعالى : ((كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ )) (البقرة : 216) .
وهذا كثير في الشرع ..
7- إن المعلوم من الأدلة الشرعية أن ساب النبي صلى الله عليه وسلم يجب قتله سواء كان مسلما أم كافرا ثبت ذلك في الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين والنظر الصحيح كما قرر ذلك شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله في كتابه الصارم المسلول على شاتم الرسول وتنتقض عهود الكفار ويكونوا من المحاربين قال تعالى : ((وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ)) ( التوبة : 12) .
ومن قال بغير هذا القول بأنه يقبل مجرد الاعتذار فعليه بدليل ينقض الأدلة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين وإلا فهو متبع غير سبيل المؤمنين قال تعالى : (( وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا )) ( النساء : 115) .
وختاماً: أعود إلى أصل الموضوع فأقول يا من تطالبون هذا عابد الصليب وآكل الخنزير بندكت رأس عباد الصلبان تطالبونه بالاعتذار عما فعل من جريمة كما طالبتم الخنزير الدنمركي الأول بالاعتذار هل عندكم من علم فتخرجوه لنا أم تقولون على الله مالا تعلمون؟ هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين
اللهم سلط على هذا الصليبي أعوانه وكلبا من كلابه ومكن الموحدين منه، اللهم أعزنا بطاعتك ولا تذلنا بمعصيتك ..آمين
_____________________
[1] رواه مسلم في صحيحه.(/2)
حكم قتال العراقيين للأمريكان
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ الجهاد ومعاملة الكفار/مسائل متفرقة في الجهاد ومعاملة الكفار
التاريخ ... 28/1/1424هـ
السؤال
ما حكم قتال العراقيين للكفرة الغزاة؟ وهل يشترط في كون الجهاد شرعياً أن يكون تحت راية إسلامية؟ أو أن يأذن فيه الحاكم؟ نرجو التفصيل في القول، وجزاكم الله خيرا.
الجواب
من المعلوم أن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة وهو نوعان:
جهاد طلب وجهاد دفع، فجهاد الطلب أن يغزو المسلمون بلاد الكفار، لتبليغهم الإسلام ودعوتهم إليه فمن دخل فيه بنعمة الله دخل، ومن امتنع عن الدخول عرض عليه أن يدفع الجزية إن كان من أهل الكتاب (اليهود والنصارى) وله ما لنا وعليه ما علينا والجزية إنما شرعت في مثل هذه الحال مقابل حمايته وحقن دمه.هذا كله إذا كانت الدولة المسلمة قوية مهابة الجانب قادرة على مثل هذا الجهاد، وهو الذي يسمى بجهاد الطلب، أما إذا كانت الأمة الإسلامية ضعيفة أمام العدو فيلزمها الصبر والمصابرة وعدم التعرض والمساكنة للعدو والكافر المتغلب، وقد اختفى الجهاد الطلبي في – سبيل الله- منذ زمن طويل لتخلف المسلمين وتفوق عدوهم عليهم في وسائل الإعداد وفي العُدد، ولم يبق أمام المسلمين في مقاتلة الأعداء غير جهاد الدفع والمدافعة إذا اعتدي عليهم، وهذا النوع من الجهاد لا يشترط له ما يشترط للنوع الآخر، - جهاد الطلب- فإذا دهم العدو بلداً من بلاد المسلمين وجب على أهل تلك البلاد المغزوة -وجوباً عينياً عن كل مكلف رجلاً كان أو امرأة- مقاتلة الكفار المعتدين كل بحسبه، ولا يشترط حينئذ إذن الوالي (الحاكم) أو الوالدين أو الزوج، بل يخرج الجميع حاملين السلاح في وجه العدو، وإن لم يأذن الأولياء في ذلك، وأيضاً جهاد الدفع لا يشترط فيه اتحاد الراية بأن تكون إسلامية، بل لو قاتلوا تحت راية حزبية كقومية أو بعثية جاز لهم ذلك، وإن أمكن أن يتحد المسلمون العراقيون تحت راية إسلامية واحدة، وينسقوا مع الرايات الحزبية الأخرى في الميدان لكان حسناً، وإن لم يكن فلا شيء عليهم إن شاء الله، وسيبعثون على نياتهم كما جاء في الحديث. انظر البخاري (2118)، ومسلم (2884)، ولعله من الواضح البين أن الأحزاب الإلحادية التي تحكم بعض الدول كالعراق مثلاً تهتم بتكثير سواد العضوية للحزب أكثر من اهتمامها بتطبيق مواد دستور الحزب، والداخلون في الحزب ليسوا كلهم كفاراً، ولا ملحدين، إذ الدافع لعدد من الناس أن يدخلوا في الحزب، لا رغبة فيه وإنما لطلب العيش والارتزاق وتسهيل مهماتهم الحياتية والوظيفية والتي احتكرت كلها، أو معظمها لمن ينتسب إلى الحزب لا غير، وعلى هذا لا ينبغي أن يعمم الكفر على جميع أعضاء حزب البعث والصحيح من أقوال أهل العلم أنه لا يشترط إذن الإمام الحاكم في الجهاد في – سبيل الله- عامة وفي جهاد الدفع خاصة لمن دهم الكفار بلاده؛ لقوله تعالى: "أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِير الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ" [الحج:40]، وذكر الشيخ عبد الرحمن بن حسن أحد أئمة الدعوة في نجد، في رده على من اشترط وجود الإمام أو إذنه للجهاد في سبيل الله فقال: بأي كتاب أم بأية حجة أن الجهاد لا يجب إلا مع إمام متبع هذا من الفرية في الدين والعدول عن سبيل المؤمنين. والأدلة على إبطال هذا القول أشهر من أن تذكر... ولا يكون الإمام إماماً إلا بالجهاد، لا أنه لا يكون جهاداً إلا بالإمام، وقصة أبي بصير لا تكاد تخفى على البليد لما جاء مهاجراًُ فطلبت قريش من رسول الله – صلى الله عليه وسلم- أن يرده إليهم بالشرط الذي كان بينهم في – صلح الحديبية- فانفلت منهم حين قتل المشركين اللذين أتيا في طلبه، ورجع إلى الساحل واستقل بحرب قريش يتعرض لقافلتهم إذا أقبلت من الشام فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: لما سمع خبره "ويل أمه مسعر حرب لو كان معه غيره" البخاري (2734).
وانضم معه بعض المسلمين الذين خرجوا من مكة ولم يصلوا إلى المدينة مخافة أن يردهم كما رد أبا بصير، فهل قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم- أخطأتم في قتال قريش لأنكم لستم مع إمام؟! – سبحان الله – ما أعظم مضرة الجهل على أهله... وإذا كان هناك طائفة مجتمعة لها منعة وجب عليها أن تجاهد في – سبيل الله – بما تقدر عليه لا يسقط عنها فرضه بحال ولا عند جميع الطوائف. الدرر السنية 5/97-99.(/1)
والواجب المتعين على جميع العراقيين داخل العراق أو خارجه محاربة العدو الأمريكي وحلفائه كل حسب استطاعته؛ تحقيقاً لقول الرسول – صلى الله عليه وسلم-"قاتلوا المشركين بأنفسكم وأموالكم وألسنتكم" النسائي (3096)، وأبو داود (2504)، وأحمد (12246)، وعليهم بالصبر والمصابرة والاجتماع وتوحيد الصف والحذر كل الحذر من الخلاف والنزاع في جبهات القتال "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم" [الأنفال: 46]، وعلى المسلمين عامة أن يناصروا إخوانهم المسلمين في العراق، فيرفعوا من معنوياتهم ولا يخذلوهم في ساعات هم أحوج ما يكونون إليها، ولا أقل من أن يناصروهم في الدعاء بالقنوت في الصلوات لعل الله أن ينصرهم ويرد كيد الأعداء في نحورهم آمين.(/2)
حكم لبس الذهب للرجال
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن إبراهيم
إلى من يراه من إخواننا المسلمين ، رزقني الله وإياهم القيام بما أوجبه علينا من الدين ، ومن علينا جميعاً بتحليل حلاله وتحريم حرامه ، طاعة لله ولرسوله سيد المرسلين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وبعد :
فقد بلغني - بل تحققت - أنه يوجد من لعب عليه الشيطان ، فزين له التختم بالذهب وعدم المبالاة بالوعيد والتغليظ الأكيد فيه . فتعين على أن أبين لهم النصوص الشرعية الثابتة في ذلك عن رسول الله ((صلى الله عليه وسلم)) الدالة على غلظ تحريم التختم بالذهب براءة للذمة ونصيحة للأمة . فعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : (( نهى رسول الله ((صلى الله عليه وسلم)) عن لبس القسي والمعصفر وعن تختم الذهب وعن قراءة القرآن في الركوع )) رواه مسلم . وعن عبدالله بن عباس (( أن النبيّ ((صلى الله عليه وسلم)) رأى خاتماً من ذهب في يد رجل فنزعه فقال : يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده فقيل للرجل بعد ما ذهب رسول الله ((صلى الله عليه وسلم)) خذ خاتمك فانتفع به قال : لا والله لا آخذه أبدا وقد طرحه رسول الله )) رواه مسلم . وعن أبي موسى الأشعري أن النبيّ ((صلى الله عليه وسلم)) تقال : (( أحل الذهب والحرير للإناث من أمتي ، وحرم على ذكورها )) رواه الترمذي والنسائي ، وقال الترمذي : إنه حديث حسن صحيح ) وعن أبي سعيد (( أنه قدم من نجران إلى رسول الله وعليه خاتم من ذهب فأعرض عنه رسول الله ((صلى الله عليه وسلم)) قال : إنك جئتني وفي يدك جمرة من النار )) رواه النسائي ، وعن أبي إمامة أنه سمع رسول الله ((صلى الله عليه وسلم)) يقول : (( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبس حريراً ولا ذهباً )) (رواه أحمد ورواته ثقات).وعن عبدالله بن عمر عن النبيّ ((صلى الله عليه وسلم)) أنه قال : ((من مات من أمتي وهو يشرب الخمر حرم الخمر حرم الله عليه شربها في الجنة ، ومن مات من أمتي وهو يتحلى بالذهب حرم الله عليه لباسه في الجنة )) رواه أحمد ورواته ثقات ، ورواه الطبراني ) فهذه أحاديث رسول الله ((صلى الله عليه وسلم)) في بعضها نهيه الصريح عن التختم بالذهب المفيد لتحريمه على الذكور ، وفي بعضها الوعيد الشديد الدال على تغليظ تحريمه . فالناصح لنفسه من يعظم نهى الله ورسوله بالمبادرة إلى اجتناب محارمه وهذا من أوجب الواجبات ، بل ها هنا واجب فوق هذا الواجب وهو قيام المسلمين لله بإنكار هذا المنكر وغيره من سائر المنكرات وإن كان هذا الواجب يختلف باختلاف الناس .
فيجب على أرباب العلم والمقدرة والنفوذ أكثر مما يجب على غيرهم من بيان الحق في ذلك والمنع من ارتكاب المحارم والحيلولة بين من استولت عليهم الشهوات وبين شهواتهم التي حرم الله ورسوله وأن يقوم المسلمون لله مثنى وفرادى ويتفكروا فيما ألم بهم مما طغى سيل طوفانه حتى اجترف أصول الغيرة لله من قولهم إلاّ من شاء الله وأن يعتصموا بحبل الله جميعاً في بذل الأسباب في حصول دواء هذا الداء العضال بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ما توجبه الشريعة من غير تقصير في ذلك ولا تجاوز للحد الشرعي فيما هنالك ، وأن يأخذوا على أيدي سفهائهم من قبل أن يعاقبوا على ترك هذا الفرض العظيم بقسوة القلوب وعدم الاكتراث من معضلات المعاصي والذنوب .
فإذا قام المسلمون بهذا الواجب منحهم الله في علومهم وأفهامهم ودنياهم ودينهم وآخرتهم ما يحبون . وإن أعرضوا عنه ، والعياذ بالله ، فإنهم لا يزالون في نقص في علومهم وأفهامهم ودنياهم ودينهم ، وسفال وتعثر في شتى مساعيهم .
اللهم أرنا وإخواننا المسلمين الحق حقاً . ووفقنا لاتباعه . وأرنا الباطل باطلا وأعنا على اجتنابه . إنك على كل شيء قدير . وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(/1)
حكم مس الصبي للمصحف بدون وضوء
السؤال :
هل يجوز للصبي المميز مس المصحف و قراءة القرآن الكريم بدون وضوء ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
اختلف العلماء في حكم مسّ المُمَيّز المُحدِث للمصحف على ثلاثة أقوال :
القول الأول : أنه يجوز له ذلك ، و هو مذهب الحنفية ، و المالكية ، و الشافعية في أصح القولين عندهم ، و روايةٌ مرجوحة عند الحنابلة .
و القول الثاني : أنه يكره له مسّ المصحف . كراهة تنزيه ، و هو قول لبعض الحنفية ، و المالكية .
و القول الثالث : أنه يحرم عليه مسه . و هو قول للشافعية ، و الراجح عند الحنابلة .
و الراجح عندنا جواز مس الصبي المميز للمصحف حال تلبسه بالحدث الأصغر ، لأنّه دون سنّ التكليف ، و لم يَجرِ عليه القلم ، مع عموم البلوى في حقّه إذ يصعب عليه الاحتياط من الحدث في سن الحفظ و التعلُّم ، مع ما في إلزامه بالوضوء للقراءة كل وقت من العسر و المشقّة ، و المشقة تجلب التيسير كما في القاعدة الفقهيّة ، و الله أعلم .(/1)
حكم مس المصحف بحائل بدون وضوء
السؤال :
هل يجوز للمكلّف مس المصحف بحائل بدون وضوء ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
اخْتَلَف العلماء فِي حكم مَسِّ المصحف بِحَائِلٍ , كَغِلافٍ أَوْ كُمٍّ أَوْ خِرقة أو نَحْو ذلك . فذهب الْمَالِكِيَّةُ وَ الشَّافِعِيَّةُ إلى القول بِالتَّحْرِيمِ مُطْلَقًا فقَالَ الشَّافِعِيَّةُ : يحرم مس المصحف بدون طهارة وَ لَوْ كَانَ الْحَائِلُ ثَخِينًا سميكاً , لأنّه يُعَدُّ مَاسًّا في العرف .
وَ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِحُرْمَةِ مَسِّ الْمُصْحَفِ وَإِنْ مَسَّهُ بِقَضِيبٍ و نَحْوِهِ وَ كَذَلِكَ مَسُّ جِلْدِ الْمُصْحَفِ أوَ حَمْلُهُ وَ إِنْ كان الحمل بِعَلاقَةٍ أَو وِسَادَةٍ و استثنوا كون المصحف داخلاً في أَمْتِعَةٍ قَصَدَ حَمْلَهَا جميعاً .
وَ ذهب الْحَنَابِلَةِ إلى القول بجَوَازِ مَسّ المُحْدِثِ للمُصْحَف إذا كان المس من وراء حَائِلٍ مِمَّا لا يَتْبَعُهُ فِي الْبَيْعِ عادة كَالكِيسٍ وَالكُمٍّ ، لأنَّ النَّهْيَ وَرَدَ عَنْ مَسِّ المصحف , وَ مَعَ الْحَائِلِ إنَّمَا يَكُونُ الْمَسُّ له و ليس للْمُصْحَفِ لعَدَم مباشرته .
وَ فَرَّقُ الْحَنَفِيَّةِ بَيْنَ الْحَائِلِ الْمُنْفَصِلِ وَ الحائل الْمُتَّصِلِ فَقَالُوا : يَحْرُمُ مَسُّ الْمُصْحَفِ لِلْمُحْدِثِ إلا أن يكون له غلاف مُتَجَافٍ عنه - أَيْ منفصل و غير مخيط به - أَوْ أن يكون في صُرَّةٍ فيمسّها و المصحف بداخلها , أمّا إذا كان الغلاف متّصلاً بالمصحف فلا يجوز مسّه لأنَّ الْمُتَّصِلَ بالشيء جزءٌ مِنْهُ عُرفاً .
و لعدم تفريق الدليل بين مس المصحف بحائل أو بدون حائل ، و بين حائل و آخر من جهةٍ أخرى نرجّح الرجوع إلى العُرف في التفصيل ، فإذا مسّه من خلال ما يعتبر في عُرف الناس حائلاً ، بحيث لا يُقال لمن مسّه إنّه مسّ ما بداخله جاز ، و إن اعتبر ماسّاً لما بداخله عُرفاً ، فحُكمه حكم مس المصحف من حيث اشتراط الطهارة لجوازه و الله أعلم .(/1)
حكم مس المكلّف للمصحف بدون وضوء
السؤال :
هل يجوز للمكلّف مس المصحف و قراءة القرآن الكريم بدون وضوء ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
اختلف العلماء في حكم مس البالغ حال تلبُّسه بالحدث الأصغر ( و هو ما يُرفَع بالوضوء أو التيمم ) للمصحف ، على قولين :
القول الأول : أنه لا يجوز له ذلك ، و هو المذهب المنقول عن جمع من الصحابة منهم علي بن أبي طالب ، و عبد الله بن مسعود ، و سعد ابن أبي وقاص ، و عبد الله بن عمر ، و سعيد بن زيد ، و سلمان الفارسي ، وغيرهم ، و لا يعرف لهم مخالف ، و قال به جمهور التابعين و منهم : عطاء بن أبي رباح ، و ابن شهاب الزهري ، و الحسن البصري ، و طاووس بن كيسان ، و النخعي ، و الفقهاء السبعة ، و هو مذهب الأئمة الأربعة .
القول الثاني : أنه يجوز له مس القرآن ، و إليه ذَهَب بعض التابعين ، و هو مذهب الظاهرية .
و الراجح عدم جواز مس المصحف للبالغ المُحدِث حَدَثاً أصغر ، و ذلك للأدلّة التالية :
• أولاً : قال الله عز وجل : ( إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون تنزيل من رب العالمين ) [الواقعة : 77-80] .
و قد جاءت الآية بصيغة الحصر فاقتضى ذلك حصر الجواز في المطهرين من الأحداث والأنجاس من بني آدم .
والأصل في الطهارة المطلقة في العرف الشرعي : هي الطهارة من الحدثين الأصغر والأكبر ، و هذا ما فهمه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يحفظ عن أحد منهم - فيما نعلم - أنه مس المصحف و هو على غير طهارة ، أو قال بجوازه .
• ثانيًا : روى الدارقطني و البيهقي و الحاكم بإسناد صححه و وافقه الذهبي عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال : ( لما بعثني رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى اليمن قال : (لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر) .
• ثالثاً : روى الدارقطني و الهيثمي في المجمع و الطبراني في الكبير بإسناد وثَّقا رجالَه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم : ( لا يمس القرآن إلا طاهر ) ، و جوّد اسناد هذا الحديث ابن حجَر في الفتح ، و نقل تصحيح إسناده عن بعض أهل العلم ( في إعلاء السنن ) .
• رابعاً : روى أبو داود في ( المصاحف ) ، و الهيثمي في مجمع الزوائد ، و عزا إلى معجم الطبراني الكبير عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال : وفدنا على رسول الله صلى الله عليه و سلم فوجدوني أفضلهم أخذًا للقرآن ، و قد فَضَلتُهم بسورة البقرة ، فقال النبي صلى الله عليه و سلم : ( قد أمّرتُك على أصحابك و أنت أصغرهم ، و لا تمس القرآن إلا و أنت طاهر ) .
• خامساً : روى عبد الرزاق في مصنفه ، و مالك في موطئه ، وأبو داود في المصاحف ، و الدارمي في سننه ، و الحاكم في مستدركه ، و الدارقطني و البيهقي كلٌّ في سننه ، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده قال : كان في كتاب النبي صلى الله عليه و سلم لعمرو بن حزم : ( لا يُمَسُّ القرآنُ إلا على طُهرٍ ) ، قال البغوي : سمعت أحمد بن حنبل ، وقد سُئل عن هذا الحديث فقال : أرجو أن يكون صحيحًا ) ، و قال أيضًا : ( لا أشك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كتبه ) .
قلتُُُ : إنّ الأحاديث الدالّة على تحريم مس المصحف على المحدث لا يخلو إسناد كلٍ منها بمفرده من مقال إلا أنها بمجموع طرقها ترقى في أقل أحوالها إلى درجة الحَسَن ، و يقتضي ذلك صحّة الاحتجاج بها ، و وجوب العمل بمقتضاها .
فإذا أضيف إلى هذه الأدلّة إجماع الصحابة السكوتي على القول بعدم جواز مس المحدث البالغ للمصحف ، لزمنا القول بقولهم و اتبّاع مذهبهم في التحريم ، و هذا مذهب الجمهور ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( و أما مس المصحف فالصحيح أنه يجب له الوضوء كقول الجمهور ) [ مجموع الفتاوى : 21/288 ] .
و ذهب الحافظ ابن عبد البر أبعدَ من ذلك فقال : ( أجمع فقهاء الأمصار الذين تدور عليهم الفتوى و على أصحابهم بأن المصحف لا يمسه إلا طاهر ) [ الاستذكار ، 8/10 ] .
و الحمد لله ربّ العالمين ، و صلى الله و سلّم على نبيّنا محمّد و آله و صحبه أجمعين .(/1)
حكم ممارسة المرأة للرياضة
د. عبد الرحمن بن أحمد الجرعي 20/3/1427
18/04/2006
الحمد لله وحده الصلاة والسلام على من لا نبي بعده .
وبعد : فإن موضوع ممارسة المرأة للرياضة من الموضوعات المثارة على الساحة اليوم , مع وجود بعض المطالبات بتخصيص حصص دراسة لهذه الرياضة أسوة بالذكور, والمطالبة كذلك بفتح النوادي الرياضية النسائية أيضاً.
وفي هذه الكلمات الآتية محاولة لتلمس الموقف الشرعي من هذه القضية وسأتكلم عن هذا الموضوع في المباحث الآتية :
المبحث الأول: تعريف الرياضة:
فالرياضة هنا هي الرياضة البدنية التي تعني القيام بحركات خاصة, تكسب البدن قوة ومرونة (1).
المبحث الثاني : حكم الرياضة في الإسلام عموما :
حكم الرياضة في الإسلام عموما: الجواز والاستحباب لما كان منها بريئاً هادفاً إلى ما فيه التدريب على الجهاد, وتنشيط الأبدان وتقوية الأرواح (2). على الأرجح من أقوال أهل العلم
المبحث الثالث : ضوابط ممارسة الرياضة عموما :
لقد تنوعت الرياضات في عصرنا هذا ودخلها كثير من المخالفات الشرعية إما في نظام الرياضة ذاتها أو في كيفية أدائها مما hستدعى معرفة الضوابط الشرعية في ممارسة الرياضة , ولعل من أهمها ما يلي :
1. ألا تلهي الرياضة عن واجب شرعي:
كإقامتها في وقت الصلاة المكتوبة أو ما يقارب وقتها فإن ذلك لا يجوز بحال , وهو من المنكرات الواجب إنكارها , وحكمه في ذلك حكم ما يُلهي عن ذكر الله وعن الصلاة(3).
2. مراعاة المقاصد الحسنة " الشرعية " عند مزاولة الرياضة :
فالرياضة إما أن تكون وسيلة للإعداد لجهاد الأعداء, وهي أرفع صور الرياضة من حيث المشروعية, أو تكون وسيلة لتقوية الأبدان وتنشيطها, والاستجمام المباح ؛ لتعين المسلم على القيام بالواجبات المنوطة به في الحياة , فينبغي مراعاة المقصد الحسن عند مزاولة الرياضة ؛ حتى يُؤْجَر المرء فإنه قد تقرر عند الفقهاء رحمهم الله أن " الأمور بمقاصدها " (4), استدلالاً بقوله –صلى الله عليه وسلم-: "إنما الأعمال بالنيات" (5) وهذه قاعدة عظيمة تدخل فيها كل تصرفات المسلم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :
"وسائر ما يتلهى به البطالون , من أنواع اللهو, وسائر ضروب اللعب مما لا يستعان به في حق شرعي , فهو حرام .. "(6).
3. وجوب ستر العورات , والبعد عن مواطن إثارة الغرائز :
ستر العورة واجب عند أداء الرياضة, وبعض الرياضات, يكثر فيها كشف العورات, على وجه مثير للفتنة, وهذا لا يجوز.
ومن الرياضات ما يمارسه النساء فقط, ويكشفن فيه المواطن التي نهى الشرع عن كشفها، سواءً كان ذلك الكشف بحضرة رجال أو نساء, وكل ذلك محظور شرعاً وبعض الرياضات تشتمل على ما يثير الغرائز, كالاختلاط المحرم الذي يمكن أن يحدث أثناء ممارسة الرياضة, والنصوص الشرعية تؤكد على خطورة اختلاط الرجال بالنساء(7).
ومما يثير الغرائز أيضا: أداء الرياضة على أنغام الموسيقى, كرياضة الباليه, وهذا فعل محرم (8)فلا يجوز ممارسة هذه الرياضات المشتملة على هذه المحرمات.
4. عدم اشتمال الرياضة على خطر محقق أو غالب :
فإن إلقاء النفس إلى التهلكة محرم, كما قال تعالى: "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة"[البقرة:195].
وقال تعالى: "ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما" [النساء:29] .
وقال صلى الله عليه وسلم : " لا ضرر ولا ضرار " .
فإن كانت الرياضة خطرة , أو يغلب على الظن وجود الخطر فيها , سواءً كان هذا الأذى والضرر يلحق باللاعب أو يلحقه هو بغيره , فإنها ممنوعة ؛ لأن مفهوم الرياضة يقوم على أساس التمرين دون إيذاء أو ضرر .
5. البعد عن المكاسب المحرمة في الرياضة :
مثل القمار , وأخذ العوض المحُرَّم في الرياضات التي لا يجوز أخذ العوض في مسابقاتها .
6. ألا يترتب على إقامة المسابقات الرياضية موالاة أو معاداة بسبب تلك المسابقات :
فإن الموالاة والمعاداة إنما تكون من أجل الدين قال تعالى : "والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض" [التوبة:71] .
قال القرطبي: "أي قلوبهم متحدة , في التواد والتحاب والتعاطف"(9).
المبحث الرابع : حكم ممارسة المرأة للرياضة :
الأصل عموم الأحكام الشرعية للرجال والنساء وقد سبق أن الأصل في الرياضة الجواز . ومما يدل على أن هذا هو الأصل في ممارسة الرياضة للنساء ما ورد في سنن أبي داود (10) ومسند أحمد (11) عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر قالت : فسابقته فسبقته على رجلي فلما حملت اللحم سابقته فسبقني . فقال : " هذه بتلك السبقة " وقال عنه الألباني (12)" صحيح " .
قال الخطابي في معالم السنن(13)" وفي الحديث دليل واضح على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من كرم الأخلاق وحسن المعاشرة مع الأهل وتطييب قلوبهم " .
وبناءً على هذا الأصل فإن للمرأة أن تمارس من الرياضة ما تحتاج إليه في تنشيط جسمها , فإن للرياضة أثراً في نشاط البدن وحيويته .(/1)
إلا أنه لا بد من التنبيه إلى طبيعة المرأة من حيث وجوب الستر وعدم كشف العورات , ومراعاة الضوابط لخروج المرأة من بيتها , ووجوب البعد عن الرجال في ممارسة الرياضة , والبعد عن مواطن الفتنه , فإن الفتنة بالنساء عظيمة كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال ( ما تركت بعدي فتنةً أضر على الرجال من النساء ) (14) ويتلخص لنا مما سبق أنه يجوز للمرأة في بيتها أن تمارس الرياضة التي تتناسب مع طبيعة جسمها كأنثى دون الرياضة التي تلحق الأذى بها عاجلا أو آجلا . مع مراعاة الضوابط العامة المذكورة في المبحث الثالث .
المبحث الخامس : ممارسة المرأة للرياضة خارج بيتها ( في النوادي والمدارس مثلاً ) :
يحرص الشرع على ستر المرأة، وأن تنفصل قدر الإمكان عن الاحتكاك بالرجال، وبالتالي فقد حبذ لها الشرع البقاء في بيتها، وألا تخرج إلا وهي محتشمة وغير مبدية للزينة الظاهرة وغير متطيبة مع عدم الضرب بالأرجل ليعلم ما تخفي من زينتها .
كل ذلك من أجل صيانتها عن أن تنتهبها الأعين الزائغة .
قال تعالى : "وقرن في بيوتكن ولا تبرجن" [الأحزاب:33].
قال صلى الله عليه وسلم في أمر الخروج إلى الصلاة وهي شعيرة دينية ( لا تمنعوا نساءكم المساجد وبيوتهن خير لهن ) (15).
وجعل صلى الله عليه وسلم خير صفوف النساء آخرها ، وشرها أولها (16).
كل ذلك لتتجنب المرأة مواطن الفتنة .
وبناءً على ما سبق فإن الأولى والأفضل للمرأة أن تمارس الرياضة المناسبة لها في بيتها، وإن احتاجت إلى ممارسة الرياضة خارج البيت فلابد من مراعاة الضوابط الآتية :
1. أن يكون المكان الذي تمارس فيه المرأة الرياضة خالياً من الرجال ومستوراً عن الأعين وأن يتأكد من عدم تركيب كاميرات التصوير التي قد يضعها بعض ضعاف النفوس لأن المرأة حال ممارسة الرياضة لا تكون في حال الاحتشام غالباً .
2. عدم كشف مالا يحل كشفه من العورات وألا تظهر المرأة مواضع الفتنة منها .
3. أن تكون الوسيلة التي توصل المرأة إلى موضع ممارسة الرياضة مأمونةً بحيث لايكون هناك خلوة وأن يكون الموصل لها-إلى مكان ممارسة الرياضة- من الثقات .
4. أن تمارس المرأة مالا يتعارض مع طبيعة جسمها من الرياضات المناسبة لأنوثتها بعيداً عن الرياضات العنيفة التي تؤثر على جسمها وربما أفقدتها بعض الخصائص التي أودعها الله فيها .
5. وجوب التستر والاحتشام عند الدخول والخروج من مكان مزاولة الرياضة .
6. أن يقوم الثقات من النساء على مثل هذه المناشط مع المتابعة التامة وملاحظة التجاوزات لدفعها وتلافيها
7. وجوب مراعاة الضوابط العامة المذكورة في المبحث الرابع .
8. يجب أن يعلم أن مقصد الشارع من حفظ الأعراض مقصد ضروري والرياضة على العموم لا تخرج عن المقصد التحسيني وبالتالي فإن خُشي على المقصد الضروري من الفوات فوت التحسيني في سبيل المحافظة على الضروري .
وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
________________________________________
(1) انظر المعجم الوسيط ص 382 .
(2) فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم 8 / 115 .
(3) ( انظر : مجموع الفتاوى 32 / 218 ، وفتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم 8 / 114 والاختيارات الجلية 3 / 163 .
(4) انظر الأشباه والنظائر لابن نجم ص 27 .
(5) أخرجه البخاري 1 / 13 .
(6) الاختيارات الفقهية ص 160 .
(7) ومن ذلك ما رواه عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه – أنه قال : " المرأة عورة " فإذا خرجت استشرفها الشيطان " أخرجه الترمذي في جامعه , كتاب الرضاع , باب : استشراف الشيطان المرأة إذا خرجت 3 / 476 , وقال الترمذي " هذا حديث حسن غريب " .
(8) انظر : فتاوى إسلامية , لمجموعة من هيئة كبار العلماء ص 84 , جمع وترتيب محمد بن عبدالعزيز المسند .
(9) تفسير القرطبي 8 / 203 .
(10) سنن أبي داود 3 / 65 .
(11) ومسند أحمد 6 / 39 .
(12) إرواء الغليل 5 / 327 .
(13) معالم السنن 3 / 66 .
(14) مختصر صحيح مسلم , للمنذري , بتحقيق الألباني ص 550 .
(15) رواه أحمد وأبو داود عن ابن عمر وصححه الألباني كما في صحيح الجامع 2 / 1242
(16) مختصر صحيح مسلم للمنذري ص 77 .(/2)
حكم من أوصى بعدم النظر إليه عند الغسل
رقم الفتوى
10920
تاريخ الفتوى
2/12/1425 هـ -- 2005-01-13
السؤال
أوصت جدتي عند وفاتها ألا تدخل عليها خالتي عند غسلها ولكن أمي اجتهدت وأذنت لخالتي بالدخول تفادياً للمشاكل فهل أمي آثمة ؟ وهل عليها كفارة ؟
الإجابة
الحمد لله وبعد :
لو أن السائل نفذ وصية جدته بأسلوب مناسب لكان أفضل وأولى أما وإن أمه اجتهدت ورأت أن في منع أختها من الدخول على والدتها عند غسلها مشاكل وضغائن فأرجو أن الله عز وجل يعذرها في ذلك وأن لا يلحقها إثم من ذلك ولا كفارة عليها
والله أعلم(/1)
حكم من حكم بغير ما أنزل الله
تاريخ الفتوى : 12 صفر 1422 السؤال
ما حكم من يقول: إن أي حكومه لا تقوم ولا تحكم بشرع الله فهي كافرة يجب أن تزال ويستدلون بقول الله: (إن الحكم الا لله) فهل هذا القول صحيح؟.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم أما بعد:
من حكم بغير ما أنزل الله له حالان.
أن يحكم بغير ما أنزل الله جحوداً أو استحلالاً، فهذا كافر كفرا أكبر.
والثاني : أن يحكم بغير بما أنزل الله معتقداً وجوب الحكم بما أنزل الله ، ولكن غلبه هواه فحكم في قضية معينة بخلاف ذلك مع اعترافه بخطئه وإثمه، فهذا كافر كفرا أصغر لا يخرج عن الملة.
ويدخل في النوع الأول من سن تشريعا يحل فيه الحرام أو يحرم فيه الحلال، أو رضي بذلك وأقره وألزم الناس به . والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه(/1)
حكم من مات قبل الإسلام
رقم الفتوى
10908
تاريخ الفتوى
2/12/1425 هـ -- 2005-01-13
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مامصير الناس الذين توفاهم الله قبل الاسلام او بعده ولكنهم لم يسمعوا شئ عن الاسلام؟افتونى مأجورين
الإجابة
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد :
من توفي قبل الإسلام أو بعده من الكفار إن كانوا قد سمعوا بالإسلام والتوحيد وأعرضوا عنه فهم كفار في الدنيا والآخرة ومن لم يسمع عن الإسلام والتوحيد شيئا ومات على الشرك الأكبر جهلا فمثل هذا له في الدنيا حكم المشركين فلا يصلى عليه ولا يتزوج منه ولا تؤكل ذبيحته وغير ذلك من الأحكام المترتبة على شركه وأما في الآخرة فقد قال الله تعالى ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) لذا فإن مثل هذا يمتحنه الله يوم القيامة مع من لم تبلغه الدعوة فمن أطاعه دخل الجنة ومن عصاه دخل النار لقوله صلى الله عليه وسلم ( أربعة يحتجون يوم القيامة : رجل أصم لا يسمع شيئا ورجل أحمق ورجل هرم ورجل مات في فترة فأما الأصم فيقول رب قد جاء الإسلام وما أسمع شيئا وأما الأحمق فيقول رب قد جاء الإسلام والصبيان يحذفونني بالبعر وأما الهرم فيقول رب لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئا وأما الذي مات في فترة فيقول رب ما أتاني من رسول فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل عليهم أن ادخلوا نارا فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت بردا وسلاما رواه الإمام أحمد وهو حديث صحيح(/1)
حكم من مات قبل البعثة ، أو قبل أن يصله الدين
د. عبد العزيز بن أحمد البجادي الأستاذ بجامعة الإمام فرع القصيم 13/9/1423
18/11/2002
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فقد كان السلف يتحاشون الخوض في مسألتي أهل الفترة، وأطفال المشركين ، حتى لقد روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما – وبعضهم يرفعه – أنه قال : " لا يزال أمر هذه الأمة مواتياً أو مقارباً حتى يتكلموا أو ينظروا في الأطفال والقدر " ، وكان ابن المبارك لما سمع قول ابن عباس - رضي الله عنهما - هذا قال : " أفيسكت الإنسان على الجهل ؟ " فقيل له: فتأمر بالكلام؟ فسكت ، ولما تكلم ربيعة الرأي في أطفال المشركين قال القاسم بن محمد " إذا الله انتهى عن شيء فانتهوا وقفوا عنده" قال الراوي : " فكأنما كانت ناراً فانطفأت ".
وكأن من منع الخوض في ذلك رأى أن العلم فيه مشتبه ، ومتى اشتبه العلم وجب الإمساك بإجماع أهل السنة ، ولهذا قال ابن القيم - رحمه الله - عن قول ابن عباس - رضي الله عنهما-: " وبالجملة فإنما يدل على ذم من تكلم فيهم بغير علم ، أو ضرب الأحاديث فيهم بعضها ببعض، كما فعل مع الذين أنكر كلامهم في القدر ، وأما من تكلم فيهم بعلم وحق فلا يذم".
إذا علم ذلك فقد تحصل من أقوال العلماء في مسألتي أهل الفترة، والأطفال ما يزول به الاشتباه ، ويندفع الحرج عن البحث فيه ، فأقول مستعيناً بالله :
المسألة الأولى :الحكم فيمن مات قبل البعثة ، فمن كانت هذه حاله فهو من أهل الفترة ، ويلحق به من مات قبل أن يصله الدين ، والفترة هي الزمن الذي يكون بين رسولين ، فلم يدخل أهلها في رسالة الأول ، ولم يدركوا رسالة الثاني ، قال تعالى : (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير) ، وقد كانت الفترة بين عيسى ومحمد -صلى الله عليه وسلم- ستمائة سنة على ما في صحيح البخاري.
فمن كان من أهل الفترة فإما أن يكون قد بلغته دعوة نبي سابق ، وإما أن لا يكون كذلك ، فإن كان قد بلغته وآمن بها كقس بن ساعدة ، وزيد بن عمرو بن نفيل كان من أهل التوحيد بلا نزاع ، وقد جاء عند البيهقي بإسناد صحيح عن أسماء أنها قالت : رأيت زيد بن عمرو بن نفيل وهو مسند ظهره إلى الكعبة ، وهو يقول : ما منكم اليوم أحد على دين إبراهيم غيري ، وكان يقول : إلهي إله إبراهيم ، وديني دين إبراهيم ، قال : وذكره النبي صلى الله عليه وسلم فقال :" يبعث يوم القيامة أمة وحده بيني وبين عيسى"
وإن كان ممن بلغته الدعوة فلم يؤمن بها ، كعمرو بن لحي الخزاعي فهو من أهل النار ، وقد جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعاً : " رأيت عمرو بن عامر بن لحي الخزاعي يجر قصبه في النار وكان أول من سيب السوائب"
وأما من لم تبلغه دعوة نبي ففي الحكم عليه بالنار قولان:
القول الأول : أنه في النار ، وهو قول المعتزلة، وجه في مذهب أبي حنيفة قال به بعض أصحابه الماتريدية ، واحتجوا لذلك بأمور :
أحدها : عموم الآيات القاضية بأن من مات كافراً فهو في النار ، كقول الله -تعالى -:(ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذاباً أليماً ) ، وقوله -تعالى -:( إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به) ، وقوله تعالى : ( إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون ، وقوله تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء).
والجواب :أن هذه العمومات مخصوصة بقول الله تعالى : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً ) وبغير ذلك مما يأتي بيانه -إن شاء الله- .
الثاني :حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند مسلم مرفوعاً : " استأذنت ربي أن أستغفر لأمي ، فلم يأذن لي ، واستأذنته أن أزور قبرها ، فأذن لي " ، فلو لم تكن من أهل النار لأذن له .
والجواب: أن منع الاستغفار لكونها مشركة ، ولا نزاع في أنها مشركة ، لكن النزاع في مصير مشركي أهل الفترة.
الثالث:حديث أنس عند مسلم : أن رجلاً قال : يا رسول الله أين أبي ؟ قال : " في النار " ، فلما قفا دعاه ، فقال : " إن أبي وأباك في النار" ، ففي هذا الحديث تصريح بأن كافر أهل الفترة في النار
الجواب: أن الحديث متناول لاثنين فقط ، فيحتمل أنهما حصل لهما اطلاع على دعوة نبي سابق خارج الجزيرة أو في أطرافها ، ولا يبعد ذلك عمن عرف بالرحلة للتجارة أو لغير ذلك ، وأما ما عدا هما من مشركي أهل الفترة فباقون على حكم قول الله -تعالى -"( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً )
القول الثاني: أنه ناج وهو قول جمهور السلف، الأئمة الأربعة وغيرهم وأبي الحسن الأشعري وأصحابه ، وابن تيمية ، وابن القيم ،وابن كثير ، وابن حجر ، وغيرهم ، واحتجوا لقولهم بأمرين:(/1)
أحدها :عموم الآيات الدالة على أن ا لله لا يعذب أحداً قبل ورود الرسل ، كقوله تعالى : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً ) ، وقوله تعالى : ( رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) ، وقوله تعالى : ( كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير ) ، وقوله تعالى : ( يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا ) ، وقوله تعالى : ( يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير )
الثاني : حديث سعد بن عبادة في الصحيحين مرفوعاً :" ولا أحد أحب إليه العذر من الله ، ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين "
ثم إن هؤلاء القائلين بنجاتهم مختلفون هل يدخلون الجنة أو يمتحنون في عرصات القيامة، فيؤجج لهم نار ، فيؤمرون بدخولها ، فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً ، ومن لم يدخلها فقد عصى الله ، فيدخله الله فيها ؟
وسبب خلافهم حديث الأسود بن سريع عند أحمد مرفوعاً :" أربعة يوم القيامة : رجل أصم لا يسمع شيئاً ، ورجل أحمق، ورجل هرم ، ورجل مات في فترة " فأما الأصم فيقول : ربي لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئاً ، وما الأحمق فيقول : رب لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر ، وأما الهرم فيقول : رب لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئاً ، وأما الذي مات في الفترة فيقول : رب ما أتاني لك رسول ، فيأخذ مواثيقهم ليطيعُنه ، فيرسل إليهم : أن ادخلوا النار " قال : فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاماً ".
فلو ثبت هذا الحديث لكان فاصلا في النزاع الأول والنزاع الثاني ، ولكنه معتل المتن والإسناد، أما اعتلال المتن فهو أن فيه تكليفاً بالمحال ، وهو دخول النار، والله سبحانه لا يكلف نفساً إلا وسعها ، وأما اعتلال الإسناد فهو الاختلاف على معاذ بن هشام ، فقد رواه مرة عن أبيه عن قتادة ، عن الأحنف ، عن الأسود بن سريع ومرة عن أبيه ، عن الحسن ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة وكلتا الروايتين عند أحمد ، وعلى التسليم بعدم الاختلاف فإن قتادة والحسن ثقتان مدلسان وقد عنعنا في روايتهما .
وأما ما ورد في معنى هذا الحديث مرفوعاً عن أنس عند أبي يعلى والبزار ، وعن أبي سعيد عند البزار ، وعن معاذ عند الطبراني ، فلم يسلم إسناد أحدهما من ضعيف أو متروك. وبذلك يظهر أن الدليل مع من حكم بنجاة أهل الفترة دون امتحان لهم في الآخرة ، لأن الأصل عدمه ، ولم يثبت في شيء من نصوص الوحيين ، لا سيما وقد تضمن تكليفاً بالمحال ، بل قال القرطبي :" إنه لا يقتضي ما تعطيه الشريعة من أن الآخرة ليست دار تكليف "، وقال الحليمي:" ليس هذا الحديث بثابت ، وهو مخالف لأصول المسلمين، لأن الآخرة ليست بدار امتحان" والله -تعالى- أعلم.
المسألة الثانية: حكم من مات طفلا، فليس بين العلماء نزاع في أن الطفل من أطفال المسلمين إذا مات أنه في الجنة ، نقل الإجماع في ذلك الإمام أحمد ، وأكده جماعة كابن تيمية وغيره ، إلا أن النووي نقله إجماع من يعتد به ، وكأنه نظر إلى نزاع الحمادين وابن المبارك وإسحاق وبعض المتكلمة ، فقد نقل عنهم التوقف في ذلك ، لحديث عائشة - رضي الله عنها - عند مسلم قالت : توفي صبي من الأنصار ، فقلت : طوبى له ، عصفور من عصافير الجنة ، لم يعمل بالسوء ، ولم يدركه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أو غير ذلك يا عائشة ! إن الله خلق للجنة أهلاً ، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم ، وخلق للنار أهلاً ، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم .
وقد أجاب جماعة من العلماء بأن الحديث محمول على الزجر عن التسرع في القطع من غير دليل ، أو بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك قبل علمه أنهم في الجنة ، ثم قال : ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الجنة بفضل رحمته إياهم "، أخرجه البخاري من حديث أنس.
ولم يتنازع العلماء أن من مات من أطفال المسلمين له في الدنيا حكم المسلمين ، وإنما خالف مالك في ذلك إذا كان أبوه كافراً وأمه مسلمة فلم يجعل له حكم المسلم ، والجمهور على أنه له حكم المسلم ما دام أحد والديه مسلماً.
وأما من يموت من أطفال المشركين فلم يشتهر بين السلف خلاف في الحكم عليهم بالكفر ، وإنما الخلاف المشهور عنهم في الحكم عليهم بالنار أو الجنة ، والمأثور عنهم في ذلك أقوال ، لكنها تجتمع عند التأمل في قولين:
القول الأول : أنهم في النار ، وهو قول جماعة من المتكلمة وأهل التفسير ، وخطّأ السبكيُ النوويَ في نسبته هذا القول إلى الأكثر ، وغلّط ابن تيمية من عزاه إلى أحمد ، وإنما هو قول أبي يعلى من أصحابه ، ودليل هذا القول أمور :(/2)
أحدها : قول الله -تعالى- : ( وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً ، إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً ) ، فإذا كان الكافر لا يلد إلا كافراً كان الوالد والمولود في النار .
والجواب : أن نوحاً -عليه السلام- يئس من أن يلقى أحداً من قومه يؤمن بما جاء به ، ومعلوم أن الأطفال لا يعرض عليهم الدين صغاراً حتى يكبروا ، وإنما أيقن نوح أن كل من يلده قومه يرد رسالة ربه بعدما يبلغ الحنث، فأطلق وصف الكفر عليه باعتبار ما سيكون.
الثاني :قول النبي صلى الله عليه وسلم : " الوائدة والموؤودة في النار " ، وفي لفظ : " إلا أن تدرك الوائدة الإسلام ، فيغفر الله لها ؟"
ومعلوم أن الموؤدة من أطفال المشركين وقد حكم عليها النبي صلى الله عليه وسلم بالنار .
والجواب : أن الحديث أخرجه أبو داود من طريق زكريا بن أبي زائدة ، عن الشعبي مرسلاً ، ثم علقه أبو داود عن زكريا ، عن أبي إسحاق السبيعي عن الشعبي ، عن علقمة عن ابن مسعود مرفوعاً ،- وبهذا لو لم يكن معلقاً - وهو كذلك عند الطبراني في الكبير من طريق ضعيفة – لما صح الاحتجاج به لاختلاط أبي إسحاق ، لا سيما وقد خالفه داود بن أبي هند عند أحمد ، فجعله من مسند سلمة بن يزيد ، لا من مسند ابن مسعود ، وكأن حديث ابن أبي هند حرياً بالقبول لولا أن إسماعيل بن أبي خالد خالفه – كما في علل الدار قطني – فرواه عن الشعبي عن ابني أبي مليكة ، دون ذكر لعلقمة ولا لابن مسعود ، وله طرق عن غير الشعبي عند أحمد والبزار وغيرهما مضطربة ، فتبين بذلك أنه لا يصح له إسناد.
لكن لو سلم بصحة إسناده فإنه – كما يقول ابن عبد البر- محتمل أن يكون خرج على جواب السائل في عين مقصوده ، فكانت الإشارة إليها، يريد أنها مثل الغلام الذي قتله الخضر، وهو كذلك فإنه برواية أحمد بلفظ: "إن أمنا مليكة كانت تصل الرحم ، وتقري الضيف ، وتفعل وتفعل ، هلكت في الجاهلية فهل ذلك نافعها شيئاً؟ قال: "لا"، قال : فإنها كانت وأدت أختاً لنا في الجاهلية ، فهل ذلك نافعها شيئاً ، قال : الوائدة والموؤدة في النار، إلا أن تدرك الوائدة الإسلام فبعفو الله عنها ".
الثالث :حديث عائشة عند أحمد : أنها ذكرت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أطفال المشركين ، فقال : " إن شئت أسمعتك تضاغيهم في النار: أي أصواتهم.
الجواب : أنه من رواية أبي عقيل بن المتوكل عن بُهَيَّة ، عن عائشة ، وأبو عقيل ضعيف فلا حجة في حديثه.
الرابع: حديث علي ، قال : سألت خديجة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ولدين لها في الجاهلية فقال : "هما في النار " ، فلما رأى الكراهية في وجهها قال : " لو رأيت مكانهما أبغضتهما "، قالت : يا رسول الله فولداي منك ؟ قال : " في الجنة " ، ثم قال : رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: " إن المسلمين وأولادهم في الجنة ، وإن المشركين وأولادهم في النار" ثم قرأ : ( والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين".
والجواب :أن هذا الحديث أخرجه أحمد من طريق محمد بن عثمان بن أبي شيبة عن زاذان ، عن علي ، ومحمد بن عثمان مجهول ، وزاذان لم يدرك علياً فلا حجة في هذا الحديث.
القول الثاني :أنهم ناجون ، وهو قول مالك ، وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة وأحمد ، واختاره كثير من المحققين ، كالبخاري ، وابن حزم وابن تيمية وابن القيم وابن حجر ، وغيرهم ودليلهم أمور
أحدها : عموم الآيات القاضية بأن الله لا يعذب من لم يرسل إليه رسولاً ، وقد تقدم سردها .
الثاني :قول الله -تعالى-: ( ولا تزر وازرة وزر أخرى)، فكيف يعذب الله الأطفال لأجل شرك آبائهم ؟
الثالث :حديث سمرة عند البخاري مرفوعا : " والشيخ في أصل الشجرة إبراهيم عليه السلام ، والصبيان حوله فأولاد الناس " ، وأولاد الناس " لفظ عام يشمل أولاد المسلمين وأولاد المشركين.
وقد اختلف أصحاب هذا القول ، هل يدخلون الجنة ، أو يمتحنون بنار تؤجج لهم ، كما في المسألة السابقة ؟ والقول في هذه استدلالاً وجواباً كالقول في تلك، وقد ترجح هناك أن الامتحان لم يثبت بدليل صحيح فلا يصح القول به، وهو كذلك هنا، وقد قال ابن عبد البر في الحديث المسوق هناك : " ليس من أحاديث الأئمة الفقهاء ، وهو أصل عظيم ، والقطع فيه بمثل هذه الأحاديث ضعيف في العلم والنظر ، مع أنه عارضها ما هو أقوى منها".
هذا وقد نقل عن بعض المتقدمين التوقف عن اختيار قول في هذه المسألة ، فسكت بعضهم، وقال آخرون : الله أعلم بهم ، وقال آخرون : هم تحت المشيئة، تأولاً لحديث أبي هريرة في الصحيحين مرفوعاً :" الله أعلم بما كانوا عاملين " ، وليس السكوت عند المحققين قولاً ، ثم إن المراد بالحديث : أن الله يعلم ما سيعملونه لو عاشوا ، أو أن الله يعلم ما سيعملونه عند الامتحان في الآخرة ، على القولين في إثبات الامتحان وليس المراد به أن النبي صلى الله عليه وسلم قد توقف في أمرهم .(/3)
وأما ما نقل عن بعضهم أن أطفال المشركين من أهل الأعراف ، فليس قولاً مخالفاً للقولين المتقدمين ، لأن الأعراف ليست قراراً ، فأهلها يؤولون إما إلى الجنة ، وإما إلى النار .
قال ابن تيمية :" لا أعرفه عن خبر ، ولا أثر ، ولا يعارضه ما مر من قوله تعالى : ( ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً ) لأنه مختص بحي عاش منهم إلى أن يبلغ" ، وقال السبكي : " هذا القول لا أعرفه ، ولا أعرف حديثاً ورد به ، ولا قاله أحد من العلماء فيما علمت".
وأما ما نقل عن بعضهم أنهم خدم لأهل الجنة فليس قولاً ، وإنما فيه حديث عن أنس وسمرة مرفوعاً ، وعن سلمان موقوفاً ، وعن طاؤوس مرسلاً ، ولم يصح فيه شيء ،فأما حديث أنس فأخرجه أبو داود الطيالسي وأبو يعلى من طريق يزيد الرقاشي ، عن أنس ، والرقاشي ضعيف ، وأخرجه الطبراني في الأوسط من طريق مقاتل بن سليمان ، عن قتادة ، عنه ، ومقاتل قد أجمعوا على تركه ، وأما حديث سمرة فأخرجه الطبراني في الكبير والأوسط من طريق عباد بن منصور ، عن أبي رجاء ، عنه ، وعباد ضعيف ، وأما حديث سلمان فأخرجه معمر في الجامع عن قتادة ، عن الحسن ، عنه ، وقتادة والحسن قد عنعنا في الإسناد وهما مدلسان ، ولو صح فهو موقوف على سلمان ، وأما حديث طاؤوس فأخرجه معمر في الجامع عن ابن طاؤوس عن أبيه ، وهو مرسل، قال بن القيم :" روي فيه حديث لا يثبت".
والحاصل : أن القول الثاني أظهر القولين ، وهو أنهم ناجون ، وأنه لا يصح الجزم بأنهم يمتحنون يوم القيامة ، بل التحقيق نفي وقوعه ،والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه(/4)
حكم منتجات البحر الميت
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ السيرة والتاريخ والتراجم/أسانيد الحوادث التاريخية
التاريخ ... 30/3/1424هـ
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم.
ما حكم بيع منتجات البحر الميت للتجميل؟ علماً أني صاحب صيدلية وعندي كميات هائلة من المستحضرات وسمعت من يقول: إنه لا يجوز استخدامها لخسف قوم لوط فيه وللأحاديث الواردة في ذلك، وإذا كانت لا تجوز فماذا أعمل فيما عندي من تلك المستحضرات؟ أفيدونا أفادكم الله.
الجواب
تسمية هذا البحر بالميت ليس لها أصل في الشرع، وتسميته ببحر (لوط) إنما ذكرها أهل التاريخ فقط، ولم أجد أحداً من علماء التفسير أو الحديث والفقه حدد مكان عقوبة قوم لوط بهذا البحر؛ بل ذكر بعضهم أسماء قرى قوم لوط – عليه السلام- بأسمائهم كـ (سدوم) و (دوما) ونحوها، وقوم لوط –عليه السلام- لم يخسف بهم، وإنما ذكر في بعض الآثار أن جبريل –عليه السلام- اقتلع قرى قوم لوط – عليه السلام- بجناحه حتى سمع أهل السماء صياح الديكة ونباح كلابهم فقلبها وأتبعهم الله بحجارة من سجيل منضود، كما قال –تعالى- فيهم:"فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد" [هود: 82-83] وعليه فإن قوم لوط – عليه السلام- لم يخسف بهم، وإنما ذكر الخسف في القرآن في حق (قارون) قال تعالى:"فخسفنا به وبداره الأرض" [القصص: 81] فمنتجات البحر الميت كمنتجات سائر البحار في الجواز والحل، وقد امتن الله بفضله على بني آدم بما يستخرج منها، قال تعالى:"وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً وتستخرجوا منه حلية تلبسونها" [النحل: 14]، وهذا الامتنان دليل صريح على الحل والإباحة، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.(/1)
حكم موالاة الطاغوت الصفوي ، كحكم موالاة الطاغوت الصهيوصليبي وأذنابه
حامد بن عبدالله العلي
لا ها الله، ما أبعده عن الحقّ ، من يحسب الطاغوت الصفوي المتحالف مع الطاغوت اللاّديني البعثي ، على جهاد أمّتنا ، كما إرتكس في الضلالة من ينصر الطاغوت الصيهوصليبي وأولياءه من طواغيت العرب الذين أسلموا الأمّة لأعدائها ، بل ولغُوا مع الأعداء في دماءها ، وساموها سوء العذاب .
حتى صار "مفكِّرون" يُلقون بزمام عقولهم ، وأزمّة عواطفهم ، إلى أيّ مخلّص مزعوم ، حتى لو كان يأخذهم من جاهليّة إلى جاهليّة ، وينقلهم من رقّ إلى رق ، ويخدعهم بشعارات زائفة ، تهتف بالتغيير ، وتدعو إلى التحرير ، وهي في حقيقتها تغرير أيّ تغرير.
ياللأسى ، إنهّم تحت تأثير نفس المخدّر ، يُخدعون به ، كما خدعتهم حماسة القوميّة الغابرة ، تحت رايات البعث ، والناصرية ..إلخ ، واليوم جاء دور راية النفاق الأكبر ، راية الصفويين الروافض ، الذين لم يغسلوا أيديهم بعد من خياناتهم ، التي بها جلبوا حماةَ الصهاينة إلى بلاد الإسلام .
تُرى ،، ما هو السبب الذي جعل بعض "المفكّرين" يفقدون إتّزانهم ، ونحن نقصد هنا غير المحسوبين على المشروع الصفوي بلا ريب ، فالتابع تابع !
ماالذي جعلهم يفقدون إتّزانهم ، وينسون :
أنّّه لما قاد المجاهد أبو مصعب الزرقاوي ، وغيره من قادة الكتائب الجهاديّة المباركة ، الرجال في العراق ، يحطِّمون المشروع الصهيوصليبي ، وينازلونه منازلة الأبطال ، فأثخنوا فيه غاية الإثخان ، أضعاف ما يسقط من الصهاينة بصواريخ حزب الثورة الخمينية في لبنان .
أنّ الذي كان ، ولازال ، يحارب هذا الجهاد المبارك ، هم نفس الزاعمين اليوم التصدّي للصهاينة !!
هذا الطاغوت الصفويّ الخميني الذي كان ، ولازال ، في خندق الصليبيّة إن أراد الكيد بالأمّة ، يسفك معها دماء المجاهدين ، بل كان ـ كما لم يزل ـ أشدّ حرصا على الفتك بهم ، وأدْهى مكراً ، وأخبث طويّة .
والعجب أنّ ذلك المجاهد البطل، أبا مصعب الزرقاوي ، الذي أعلن البراءة من جميع الجاهليّة ، ودعا إلى إلحاق الأذناب الطاغوتية الصغيرة في بلادنا ، مع الطاغوت الصفوي الحاقد ، بالطاغوت الأكبر الأمريكي.
العجب أنّ ذلك البطل ، لم ينل من هؤلاء "المفكرين" ما ناله جندي الطاغوت الصفوي من التأييد ، والدعم ، والدعاء !
لك الله يا أبا مصعب ، من كلّ هذه الأرض الفسيحة المترامية الأطراف ، بخلوا أن يعطوك منها قامة رجل ، يُعرف بها قبر مسلم جاهد في الله حقّ جهاده ، ليدعو له من عرف حقيقة الخيانة الخمينيّة لأمّتنا ، قائلا : هنا يرقد البطل الذي جاهد لتحرير أرض الخلافة التي دنّسها الصفيون العلاقمة، والصليبون الصهاينة ، جاهد تحت راية التوحيد ، من غير فضائيات تمجِّده زورا ، ولاتحت مظلة طاغوت صفوي عنصري خائن ! فاللهم ارحمه ، واجزه عن أمّة التوحيد ،خير ما جزيت مجاهدا من المسلمين .
وقد جبن هؤلاء "المفكِّرون" أن يطالبوا بأدنى بحقوق المسلم ، حفرة يوارى بها جثمانه ، أو يُظهروا له شيئا من الدعم الذي يستحقّه ، ثمّ ظهرت شجاعتهم فجأة في دعم الجيش الصفوي في لبنان !!
فلا أدري أكانوا يخشون إستبداد النظام الصفوي الدموي العنصري الوحشي ، الذي لايختلف عن بقية الأنظمة الإستبدادية العربية ، لكنّه يزيد عليهم ، بشعوبيّته الحاقدة البغيضة ، ودين الرفض السبئي.
أم كانوا يخشون أمريكا وأذنابها فتواصوْا بالكتمان !
كلاّ ليس تنكّرهم لذلك الجهاد المبارك ، حتى حرّم بعضهم الإنضمام إليه ، من أجل ما جرى من وقوع ضحايا بسببه بغير قصد ، داخل ، أو خارج العراق .
فالصفويون وحسن نصر جندي مخلص من جنودهم ، غاصُوا إلى آذانهم في دماء الأبرياء من مسلمي العراق ، وقبلها أفغانستان ، بل داخل إيران من أهل السنّة ، وكذا خارجها في الدول المجاورة، عبر سنين من مدة حكمهم ،
ولم يشكّل هذا أيّ مشكلة، للتعاطف مع الجيش الصفوي في لبنان !
وكذلك ،، كلاّ ليس تنكّرهم ، بسبب اتهامهم القاعدة بالمغامرات التي تجلب الدمار ، فعلى الأقل ما تقوم به القاعدة ، ضرباتٌ موجعة لتحطيم أكبر طاغوت جاثم على صدر الأمّة ، الطاغوت الأمريكي ، ثم إنه في أفغانستان لم يتدمّر شيئ ، إلا بيوت من طين !!
بينما مغامرة حسن نصر كانت لإنقاذ سمير القنطار ، وبعض أسرى، هم في النهاية جنود ، يمكن أن يخدموا في العراق لقتل المجاهدين مثلا ، أوفي أيّ بلد فيه خطة خبيثة للثورة الخمينيّة ، ثم إنّ هذه المغامرة قد أثمرت دمارا هائلا على لبنان ، وتشريد أكثر من مليون لبناني ،أما مزارع شبعا فهاهم رضوا ، أخيرا ، أن توضع تحت وصاية الأمم المتحدة ، وما هي سوى دمية بيد الغرب الصليبي !
ومع ذلك لم يشكّل هذا كلّه ، أيّ مشكلة ، دون دعمه ، وتأييده ، لدى هؤلاء "المفكّرين" !!(/1)
ولم يجرؤ أحد من " المفكرين" أن يلوذ بقاعدتهم المفضّلة دائما عن تعارض المصالح والمفاسد ، فيُنكر على الحزب الصفوي في لبنان ما فعله من مغامرات غير محسوبة النتائج !!
ولا يستطيع أحدٌ منهم أن يزعم أنّ مغامرة جيش الخميني في لبنان ، تستحق الثمن ، لأنهّا كانت من أجل تحرير كامل التراب الفلسطيني،
كلاّ وألف كلاّ .
فلم تصدر فتوى من مراجع حزب حسن نصر القابعين في قم ، أو النجف ، توجب على أتباعهم التوجّه لهذا الهدف ، ولن تصدر ، حتى يضمنوا أن تكون فلسطين تابعة لهم ، لا أن ترجع إلى أمتنا ، وإلاّ فلن يهريقوا من أجلها قطرة دم ، فإن كانت العقيدة قبل الأرض فلا قيمة لسعيهم إذاً ، وإن كانت الأرض قبل العقيدة ، فشأنكم وأرض أقيموا عليها أحكام الطاغوت ، فنحن من ذلك براء !!
إذن ما هو السبب الذي جعل " بعض المغامرين مع مغامرة حسن نصر " ، هناك يُشيحون بوجوههم عن جهاد أبطال واجهوا طواغيت الأرض كلّها ، اغربت أقدامهم في أرض المعركة ، وأهريقت دماؤهم ، وتقطّعت أشلاؤهم ، وسقطوا شهداء فيها ، بينما هنا أقبلوا يزفِّون إلى مغامرات حسن نصر ، وهندامه الراقي وراء الشاشة ؟!!
نبّئوني بعلم إن كنتم تعلمون !!
أم أنبّئكم ؟!
أنبّئكم كيف غدا مفكّرون دعاةٌ للحريّة ، ومحاربون للإستبداد ، ومناهضون للإمبرياليّة الغربية ، كيف غَدوْا مطبّلين لإمبرياليّة شرقيّة أسوء ، ولاستبداد أقبح ، ولنظام صفوي أشدّ من كلّ الأنظمة العربية المستبدة خبثا ، وأطغى منها جميعا ، وألعن من سابع ملعون فيها ؟!
إسمعوا الجواب ، وعُوه :
أولاً : إستغلال الطاغوت الصفوي خلوّ الساحة من مشاريع النهضة الشاملة ، في ظلّ أنظمة خانعة لاتحمل رسالة ، فألقى بحيّاته ، وثعابينه ، مستعينا بسحر الإعلام ، ملوّحا لجنوح أمّتنا إلى ركوب العاطفة ، لاسيما في قضية صراع الأمّة مع الصهاينة ، فخُيّل إلى بعض "المفكّرين" من سحرها أنها تسعى ! وهي إن سعت ، فإلى حلمها ، لا إلى آمال أمّتنا .
ثانياً : ضحالة الإحاطة بالواقع ، ومما فاجأني حقا، أنّ بعض الكتّاب المتحمّسين للطاغوت الصفوي ، وذنبه في جنوب لبنان ، لا يدري عن مشروع الصفويين شيئا ، ولا عن تاريخهم ، وحتّى ما يجري في العراق ، كان يظن أنها حربٌ أهلية ، لا شأن لإيران بها ،
جاهلا جهلا مطبقا بأنّه صراع بالوكالة بين الإمبريالية الصفوية ، والإمبريالية الصهيوصليبية ، كما في لبنان تماما ، ويدمّر هذا الصراع العراق ، كما يدمّر لبنان ،
فهؤلاء الطواغيت لايهمّهم تدمير البلاد ، وإهلاك العباد، بل تحقيق أحلام الهيمنة والإستبداد التي تتراقص تراقص السكارى ، في رؤوس مصاصي دماء الشعوب ، القابعين على سدة الأنظمة الطاغوتية !
ثالثا : قلّة البضاعة في العلم الشرعي ، ذلك أنّه كيف يسوغ شرعا ، أن ندعو الأمّة إلى أن تتبنّى مشروع نظام صفوي طاغية ، محارب لأمّتنا ، خائن لها ، يتبنّى مشروعا يدّعي أنه لصالح الأمة ـ لم يشاورها فيه أصلا والحقيقة أنه يدافع عن مكتسباته فحسب ـ دون ضمان عاقبة هذا التأييد المصلحيّة لأهل الإسلام ، بعقد يحقق منفعة المسلمين ، ويدرأ الضرر عنهم ؟!
فهل المأخذ الشرعي لدعم هذا الطاغوت ، عمليّا ، وتأييّده ، وإظهاره بطلا ، مجرد دخوله في مواجهة مع عدوّ آخر للأمّة ! هل هذا يكفي ؟ فنعطيه العطايا ، ونسخّر الأمّة له مجانا؟!!
سلّمنا ! فكيف إذا كان هو نفسه يسفك دماء الأمّة ، ويقتل أبناءها ، ويعبث بمقدراتها ، ويُعمل الوهن فيها ، ويمكر بها مكر السوء ؟! ثم يدعونا إلى الوقوف معه في مشروع يغذّي نفس مؤامرته على الأمّة ؟!
ما هذا الفقه الغريب ،وكيف يجري على مجاري علوم الشريعة ؟!
فإنْ قيل : إنما دعونا إلى تأييّده ، لمواجهته عدوّ أشدّ ، يريد أن يزيد الأمّة تمزقا !
فياللعجب ، من الذي مزّق الأمّة وجلب إليها العار ، مع طواغيت العرب ، سوى هذا الطاغوت الصفوي ، ومن الذي لم يزل يكيد لها المؤامرات ، ويصنع لها الدسائس سواه ، ومن الذي زادها تمزّقا الآن بالفعل ، بإقحامه مشروع غريب على أمّتنا في لبنان ، وتحويلها إلى مرتع للإمبرياليّة الصفويّة ، يشتتّها كما شتَّت العراق .
أهو هو ، الذي يحرص الآن على لمّ شمل أمتنا ؟! ومنذ متى كان هذا مبلغ نصحه ؟! منذ ابن العلقمي ؟!!
ألا هو الحقّ ، أحبّه من أحبّه ، وكرهه من كرهه :
حكم موالاة الطاغوت الصفوي ، كحكم موالاة الطاغوت الصهيوصليبي وأذنابه ،
وخطر الإمبرياليّة الصفوية الحاقدة ، كخطر الإمبريالية الصهيوصليبية الخبيثة .
ولسنا هنا نقصد ، الشعوب المنكوبة الواجب إغاثتها ، سواء شعب لبنان ، أم العراق ، أم أهلنا في فلسطين ، الذين غدوْا ضحية متاجرة الطواغيت في أحلامهم ، كما لا نقصد المذهب العقدي الشيعي على ما فيه من طّامات.
بل نعني بالتحديد : نظاما سياسيّا له مشروع توسّعي خطير ، وهو نظام مستبدّ طاغية ، يرزح تحته شعب يعاني من طغيانه ، يتمدّد كالأخطبوط في بلادنا ، وامتدّ إجرامه الذي لايُوصف بشاعة إلى جيرانه ،(/2)
قد تحالف بغير رادع من حضارته الدمويّة البشعة ، مع طغاة مثله ، ويحلم بهيمنةٍ ، إذا حققها ، أباد أمّتنا ، وتنكّر لجميع ما تعرف من مقومات هويّتها ، وثقافتها .
فمن والاه ، وأيّده ، وسار في ركابه ، وأعانه بأيّ نوع من أنواع الإعانة ، في أيّ مكان ، فحكمُه في شريعة التوحيد ، حكمُ من أعان المشروع الصيهوصليبي سواء .
ونصوص الوحي الناطقة بهذا الحكم لا تميّيز فيها بين طاغوت ، وطاغوت .
ومن يعلم منطلقات الطاغوت الصفوي التي بها يرسم سياسته ، ويحدد أهدافه ، ومن يطّلع على مرجعيته الفكرية ، وعدوانه على الأمّة في الواقع ، ثمّ لايتبيّن له أنّه طاغوت يهدد أمّتنا، فقد بلغ مبلغا لاينفع معه الحوار ، أو أنّه ينطلق من غير عقيدة التوحيد ، فليولّه الله تعالى ما تولّى ، وعاقبتُه عاقبة من تولّى .
أما الذين يقولون هذا الذي تقولونه هو حق ، ولكنّ ليس هو وقته ! كأنما يتخيّلون كتائب الأمّة التي تريد قتال الصهاينة تتأهب للإنقضاض عليها ، فألهيناهم عن ذلك !!
فنقول لهم : فمتى ليت شعري يأتي وقتُه ، عندما تخرج الأمّة من أحضان استبداد إلى آخر ، ومن رقّ طاغوت إلى طاغوت أحقد منه ، ولات حين آذان صاغية !
بل هذا أوان التحذير من الشرّين ، وفضح مكايد الطاغوتين ، إبراءً للأمة ، ونصحا لها ، فإن أصاخت آذانها، كان بها ونعمت ، وإلاّ فمعذرة إلى ربهم ولعلّهم يتقون .
اللهم إنّي قد بلّغت ، اللهم فاشهد ، اللهم إني اجعل هذا البيان ، في عهدة جلالِ عظمتك ، راجيا به جزيل عطاءِك ، منافحا به عن دين نبيّك محمد صلى الله عليه وسلم ، وعن حرمة أصحابه الأبرار ، وعرض أمّهات المؤمنين ، وإنجازات حضارتنا التي توارد على بناء صرحها ، خيرة الخلفاء ، والملوك النجباء ، والقادة العظماء .
اللهم برّأنا من الشرك والنفاق ، وأعذنا من شرور الطواغيت ، وأهل الشقاق ، واجعل عاقبة أمرنا رشدا ، حسبنا الله ونعم الوكيل ، نعم المولى ونعم النصير.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السّبِيلْ
إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ)(/3)
حكم نبش القبور
السؤال :
ما حكم نبش القبور ؟ وما هي تلك الحالات التي تستدعي أو تستوجب نبش القبور ؟ وهل يتغير أو يرتبط الحكم بالواقع و الظروف ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى بعد حمده و الصلاة و السلام على رسوله و آله :
إن الله تعالى جعل حرمة المسلم من أكبر الحُرمات ، و أوجبها صوناً على المسلمين و المسلمات ، و هذا ما فهمه السلف قبل الخلف ؛ فقد روى ابن حبان و الترمذي بإسنادٍ حسن أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما نظر يوماً إلى الكعبة فقال : ( ما أعظمَكِ و أعظمَ حُرمتِكِ ! و المؤمنُ أعظم حُرْمةً مِنْكِ ) .
و حرمة المسلم غير مقيدة بحياته ، بل هي باقية في الحياة و بعد الممات و يجب صونها و الذب عنها في كلّ حال ، و على كلّ حال .
روى البخاري أن عبد الله بْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما شهد جِنَازَةَ مَيْمُونَةَ أم المؤمنين رضي الله عنها بِسَرِفَ فَقَالَ : ( هَذِهِ زَوْجَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ فَإِذَا رَفَعْتُمْ نَعْشَهَا فَلا تُزَعْزِعُوهَا وَ لا تُزَلْزِلُوهَا و ارْفُقُوا ) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله [ كما في فتح الباري ] : يُستفاد من هذا الحديث أنَّ حرمة المؤمن بعد موته باقية كما كانت في حياته ، و فيه حديث ( كسْرُ عَظْمِ المؤمن ميْتاً كَكَسرِهِ حياً ) أخرجه أبو داود و ابن ماجه و صححه ابن حبان . اهـ .
و لا شك أن في نبش القبور و نقل ما فضل من آثار الموتى في الألحاد ، انتهاك حرمةٍ أوجب الله تعالى حفظها و صيانتها و الدفاع عنها .
و عليه فإن التحريم هو الأصل في نبش قبور المسلمين ، و لا يُعدَل عن هذا الأصل إلا في حالات بيّنها أهل العلم و هي على نوعين :
النوع الأول : نبش القبر لغاية محددة لا يجوز التوسع فيها عن مقدار الضرورة ، و يجب إعادة دفن رفاة الميت في نفس الموضع الذي نُبِشَ فور بلوغ الغاية المبرِّرَة لنبشه .
و تندرج تحت هذا القسم حالات نُمَثِّل لها فيما يلي :
أولاً : إذا سقط في القبر أو نُسي فيه أثناء الدفن مالٌ مقوّم كالنقدين و مسحاة الحفَّار ، أو كان فيه شيئ مغصوب من كفن و نحوه ؛ فإنه يجوز نبشه لإخراج ما فيه من مالٍ ، و يجب على من نبشه أن يواري الميت الثرى ثانية عقب استخراج ما سقط في القبر أو نُسيَ فيه .
قال ابن قدامة المقدسي رحمه الله [ كما في المغني : 2/412 ] : ( و إن وقع في القبر ما له قيمة نُبِشَ و أُخْرِج . قال أحمد : إذا نسي الحفّار مِسحاته في القبر جاز أن ينبش عنها ، و قال في الشيء يسقط في القبر مثل الفأس و الدراهم يُنبَش ؟ قال : إذا كانت له قيمةٌ … ] .
و قال الخطيب الشربيني [ كما في مغني المحتاج ] : ( إذا دفن في أرض أو في ثوب مغصوبين و طالب بهما مالكهما فيجب النبش ، و لو تغير الميت ، و إن كان فيه هتك حرمة الميت ليصل المستحق إلى حقه ) .
ثانياً : إذا كان مع المدفون مالٌ مقوّم غير يسير فينبش قبره ، و يستخرج المال الذي معه ، ثمّ يسوى عليه القبر ثانية .
و قد استدل بعض أهل العلم على جواز نبش القبر لاستخراج مالٍ دُفن مع الميت بما رواه أبو داود عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : سَمِعْتُ رَسُولُ الله صلى الله عليه و سلم يَقُولُ حِينَ خَرَجْنَا مَعَهُ إلَى الطّائِفِ فَمَرَرْنَا بِقَبْرٍ : ( هَذَا قَبْرُ أبي رِغَالٍ ، وَ كَانَ بِهَذَا الْحَرَمِ يُدْفَعُ عَنْهُ ، فَلَمّا خَرَجَ أصَابَتْهُ النّقْمَةُ الّتِي أصَابَتْ قَوْمَهُ بِهَذَا المَكَانِ فَدُفِنَ فِيهِ ، وَ آيَةُ ذَلِكَ أنّهُ دُفِنَ مَعَهُ غُصْنٌ مِنْ ذَهَبٍ ، إنْ أنْتُمْ نَبَشْتُمْ عَنْهُ أصَبْتُمُوهُ مَعَهُ ) . فابتدره الناس ، فاستخرجوا الغصن .
قلت : هذا الحديث ضعيف . و من أوجَهِ أوجُهِ الاستدلال على جواز نبش القبر لاستخراج متاع نفيس أو مالٍ مقوَّمٍ قياسُ الأولى ، حيث يقال : إذا شرع نبش القبر لاستخراج خاتم الحفار و مسحاته و نحوهما ؛ فمن بابٍ أولى أن يكون ذلك مشروعاً لاستخراج مالٍ كثير من النقدين و غيرهما سواء كان مما يرجع ملكه للميت في حياته ، أو لغيره ، و الله أعلم .
ثالثاً : الاضطرار إلى تشريح الجثة لمعرفة صاحبها إن لم يكن معروفاً عند الدفن أو قبله ، أو للتثبت من وقوع جنايةٍ ما و تحديد الجناة الذين تسببوا في قتل النفس المدفون صاحبها بغير وجه حق ، على ما يجري عليه العمل في العصر الحاضر ، و في هذه الحال لا بد من الرجوع إلى رأي طبيب مسلمٍ ثقةٍ في عمليه النبش و و التشريح ، كما ينبغي الرجوع إلى إذن ولاة المتوفى ( المقتول غالباً ) قبل انتهاك حرمته ، و الله أعلم .
قلت : و هذه الصورة على وجه الخصوص جديرة بالدراسة و البحث للوصول إلى أدق الضوابط الشرعية للتصريح بنبش القبر بقصد تشريح الجثة ، كي لا تكون حرمات المسلمين محل عبث العابثين و تساهل المتساهلين ، و بالله التوفيق .(/1)
النوع الثاني : نبش القبر بقصد نقل ما فيه من جثمان أو رفاة إلى موضعٍ آخر مغاير لمدفنه الأصلي ، لمصلحة شرعية تتعلّق بالميت نفسه ، أو بغيره من الأحياء ، و يتضح هذا القسم في ثلاث صور ذكرها أهل العلم ، و هي :
أوّلاً : إذا كان نقل الرفاة من قبرٍ إلى قبرٍ آخر لمصلحة الميت نفسه ، كأن يكون في أرضٍ سبخةٍ أو ذات مفاوِزَ و أغوار ، أو مجرى لنجاسة و نحوها ، أو عرضة لنبش السباع الضارية ، أو للتوسعة على الميت في لحده أو قبره .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله [ كما في مجموع الفتاوى 24: /303 ] : [ لا ينبش الميت من قبره إلا لحاجة ؛ مثل أن يكون المدفن الأول فيه ما يؤذي الميت فينقل إلى غيره كما نقل بعض الصحابة في مثل ذلك ] .
و لعل شيخ الإسلام رحمه الله يحيل في كلامه هذا إلى ما رواه البخاري في :[ باب هل يُخرَج من القبر و اللحد لعلّةٍ ، من جامعه الصحيح بسنده إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، أنه قال : ( لَمَّا حَضَرَ أُحُدٌ دَعَانِي أَبِي مِنْ اللَّيْلِ فَقَالَ : مَا أُرَانِي إِلاّ مَقْتُولاً فِي أَوَّلِ مَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ وَ إِنِّي لا أَتْرُكُ بَعْدِي أَعَزَّ عَلَيَّ مِنْكَ غَيْرَ نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ ، فَإِنَّ عَلَيَّ دَيْنًا فَاقْضِ ، وَ اسْتَوْصِ بِأَخَوَاتِكَ خَيْرًا ، فَأَصْبَحْنَا ، فَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ ، وَ دُفِنَ مَعَهُ آخَرُ فِي قَبْرٍ ، ثُمَّ لَمْ تَطِبْ نَفْسِي أَنْ أَتْرُكَهُ مَعَ الآخَرِ ؛ فَاسْتَخْرَجْتُهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ؛ فَإِذَا هُوَ كَيَوْمِ وَضَعْتُهُ هُنَيَّةً غَيْرَ أُذُنِهِ ) .
قال ابن حجر رحمه الله : قوله : ( باب هل يخرج الميت من القبر و اللحد لعلة ) أي لسبب ، و أشار بذلك إلى الرد على من منع إخراج الميت من قبره مطلقاً ، أو لسبب دون سبب ، كمن خص الجواز بما لو دفن بغير غسل أو بغير صلاة ، فإن في حديث جابر الأوّل دلالة على الجواز إذا كان في نبشه مصلحة تتعلق به من زيادة البركة له ... وفي حديث جابر الثاني دلالة على جواز الإخراج لأمر يتعلق بالحي لأنه لا ضرر على الميت في دفن ميت آخر معه، وقد بين ذلك جابر بقوله " فلم تطب نفسي " .اهـ.
قلت : و يدخل تحت ما تقدم نقل الميت المسلم من مقابر الكفار إلى مقابر المسلمين ، و العكس .
ثانياً : أن تكون الأرض التي دُفن فيها الميت مغصوبة ، فيجب إزالة القبر منها بنقله إلى مكان آخر ، و تمكين صاحبها الأصلي منها إلاّ أن يصّدَّق ( يتنازل ) عن طيب نفس .
ثالثاً : إذا كانت القبور عاديةً ( دارسةً ) و كان في نقلها مصلحة راجحة لعامّة المسلمين ، كتوسعة مسجدٍ أو شق طريق لا بديل عنه ، أو بناء سدٍ في وجه سيل عارمٍ أو ريحٍ عاتية ، أو نحو ذلك من الضروريات المتحتمات .
و يدل على مشروعية هذا الأمر في حدود ما تُلجِئُ إليه الضرورة ما رواه البخاري في صحيحه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في قصة بناء مسجد النبي صلى الله عليه و سلَّم في المدينة ، و فيه أنه صلى الله عليه و سلّم ( أمر ببناء المسجد ؛ فأرسل إلى ملأ بني النجار فقال : يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا . قالوا : و الله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله تعالى . فقال أنس : فكان فيه ما أقول لكم : قبور المشركين ، و فيه خِرَب ، و فيه نخلٌ ؛ فأمر النبي e بقبور المشركين فنُبِشَت ، ثُم بالخِرَب فسُوِّيَتْ ، و بالنخل فقطع ، فصفوا النخل قبلة المسجد ، و جعلوا عَضادَتَيْهِ الحجارة ... ) الحديث .
قال الحافظ ابن حجر [ كما في الفتح ] : ( في الحديث جواز التصرف في المقبرة المملوكة بالهبة و البيع ، و جواز نبش القبور الدارسة إذا لم تكن محترمة ، و جواز الصلاة في مقابر المشركين بعد نبشها و إخراج ما فيها ، و جواز بناء المساجد في أماكنها ) .
قلتُ : و ممّا ابتلي به المسلمون في بعض البلدان اليوم أن سلطات تنظيم المُدُن و تخطيط الأحياء كثيراً ما تعمد إلى إزالة مقابر دارسةٍ لغير ضرورة تذكر ، و ربَّما كانت القبور المراد نبشها غير دارسة أصلاً ، فتنقل أو يعطى ذوو المدفونين فيها فسحة قصيرةً من الزمن لنقل رفاة موتاهم ، و إلا سُوِّيَت المقبرة ، و نقل ما في جوفها من رفاة بطريقة عشوائية ، لإقامة حدائق – و ربَّما كنُفٍ و مراحيضَ - عامة ، أو محطات حافلات ، أو شق طريق في مكانها مع عدم الإضطرار إلى ذلك ، و أشنع من هذا و ذاك ما بلغني أنه في بعض البلاد تمت إزالة مقبرة كاملة لإقامة نُصب تذكارية لبعض الحكام أو الرموز الوطنية أو القومية ( كما تحلو للبعض تسميتهم ) ، مع ما في ذلك من اعتداء سافر على حُرُمات الأموات التي أمر الله تعالى بحفظها و صونها و الدفاع عنها .
و هذا الفعل شنيع عقلاً و عرفاً ، علاوة على كونه منكرٌ شرعاً ، بل هو من الكبائر الموبقة الموجبة لعذاب الله تعالى .(/2)
لذلك وجب إنكار هذا العمل بقدر المستطاع ، و حرُمت المساهمة فيه بالرأي أو المشورة أو الحِرفة ، و حتى السكوت عليه .
بل و يحرم – لغير الضرورة - الانتفاع بالمرافق المبنية على أنقاض مقابر المسلمين التي نبشت جزافاً بدون مبرر شرعي ، لأن حكمها حكم الأرض المغتصبة التي لا يقرُّ مغتصبها بوضع يده عليها .
و الله أعلم ، و لا حول و لا قوة إلاّ بالله العلي العظيم .(/3)
حكم نمص شعر حاجبَي المرأة
السؤال :
ما الحكم الشرعي في تنظيف البشرة من الشعر الزائد ، كزوائد الحاجبين ، و خاصّةً إذا كان ذلك بأمرٍ من الزوج الذي يرى فيهما قُبحاً تجب إزالته ؟
الجواب :
إزالة شعر بَدَن المرأة جائزٌ في الأصل ، و لم يرِد النهي عن شيئٍ منه سوى نمص ( نتف ) شعر الحاجبيَن .
و تحريم النمص مستفاد من نهي القرآن الكريم عن تغيير خلق الله ، كما في قوله تعالى حكاية عن إبليس : ( و لأمرنهم فليغيرن خلق الله ) .
قال ابن العربي في تفسير هذه الآية ، بعد ذِكر ما يؤيّدها من السنّة :
( النامصة : هي ناتفة الشعر تتحسن به ) ، و قال أيضاً : ( و هذا كله تبديل للخلقة و تغيير للهيئة و هو حرام . و بنحو هذا ، قال الحسن في الآية ) .
أمّا أدلّة تحريم النَّمص في السنّة فمنها ما رواه مسلم في صحيحه و الترمذي و أبو داود و أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ : ( لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَ الْمُسْتَوْشِمَاتِ وَ النَّامِصَاتِ وَ الْمُتَنَمِّصَاتِ وَ الْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ ) ، فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ يَعْقُوبَ وَ كَانَتْ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَأَتَتْهُ فَقَالَتْ مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ لَعَنْتَ الْوَاشِمَاتِ وَ الْمُسْتَوْشِمَاتِ وَ الْمُتَنَمِّصَاتِ وَ الْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : ( عَبْدُ اللَّهِ وَمَا لِي لا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) .
قال ابن الأثير : ( النمص : ترقيق الحواجب و تدقيقها طلباً لتحسينها . و النامصة : التي تصنع ذلك بالمرأة ، و المتنمصة : التي تأمر من يفعل ذلك بها . والمِنماص : المنقاش ) .
و قال النووي في شرح صحيح مسلم : ( و أما النامصة فهي التي تزيل الشعر من الوجه , و المتنمصة التي تطلب فعل ذلك بها , و هذا الفعل حرام إلا إذا نبتت للمرأة لحية أو شوارب , فلا تحرم إزالتها , بل يستحب عندنا ... و إن النهي إنما هو في الحواجب و ما في أطراف الوجه , ويقال للمنقاش مِنماص بكسر الميم ) .
ثمّ ذكر روى عن ابن جرير الطبري قوله في تحريم النمص لما ينبت من شعر على الوجه مطلقاً .
قلتُ : و العلّتان المذكورتان في الحديث هما : طَلبُ الحُسن ، و تغيير خلق الله ، و يجبُ استصحابهما في الحُكم الشرعي على النامصة و المتنمّصة ، إذ لا ريب في أن الله تعالى خَلَق الإنسان فسوّاه فعَدَله ، فمن عَمَد إلى تغيير خلقِ الله ظنّاً منه أنّ في ذلك تحسينٌ للخِلقة فقد أساء ، و وَقعَ في المحظور .
جاء في تحفة الأحوذي بشرح سنن الترمذي : ( مبتغيات للحسن ) أي طالبات له حالٌ عن المذكورات ( مغيرات خلقَ الله ) هي أيضا حالٌ و هي كالتعليل لوجوب اللعن ) .
أمّا إذا كان ذلك للتداوي ( كما في إزالة السنّ و التالول و الاصبَع الزائد ) فلا بأس به عند الجمهور ، و إن لم يكن في بقائه ألمٌ أو أذىً ظاهر ، خلافاً لما ذهب إليه ابن جرير و من وافقه من اشتراط وقوع الضرر و التأذّي به .
و لا أرى بأساً في إزالة ما بين الحاجبين من شَعر ، لأنّهما ليسا من الحاجبين في العرف ، فلا يأخذان حكمهما في الشرع ، و الله أعلم .
و لا عبرة لرضا الزوج في تحريم النمص ، و لا تجب مجارات رغباته باقتراف ما حرّم الله ، إذ لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصية الخالق ، و لكنّ الطاعة في المعروف .
روى الشيخان و أبو داود و النسائي و أحمد عنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه و سلم قَالَ : « إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ » .
و بالله التوفيق ، و عليه الاتكال(/1)
حكمة إباحة تعدد الزوجات
بسم الله الرحمن الرحيم
ان الله سبحانه بعث نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بدين كامل وشرع شاف شامل ، قد نظم حياة الناس أحسن نظام في مجتمعهم وفيما بين أهلهم وعيالهم بالحكمة ومراعاة المصلحة والعدل والاحسان مبني على جلب المصالح ودفع المضار ، فهو عدل الله في أرضه ، ورحمته لجميع عباده . يقول الله : ( وما ارسلناك الا رحمة للعالمين ) فهو دين الفطرة السليمة والطريقة المستقيمة قد نسخ جميع الشرائع ورفع الاصار والاغلال وأباح للناس الطيبات من الحلال ، ( قل من حرم زينة الله التي اخرج لعباده الطيبات من الرزق ، قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة ) .
فلا يشرع شيئاً من الاعمال والمباحات الا ومصلحته راجحة ومنفعته واضحة ولا يحرم شيئاً من المحرمات الا ومضرته واضحة ومفسدته راجحة .
فهو دين الكمال والنظام وشريعته منزلة على جلب المصالح ودفع المضار ، غير أن اعداء الاسلام قد شوهوا سمعة الاسلام والبسوه أثواباً من الزور والبهتان . فهم ينكرون كل ما ليس معروفاً عندهم ، وما ليس بمعهود في بلدهم فينكرون حكم الله في القصاص وفي قطع يد السارق واقامة الحدود الشرعية على الجناة لتقليل الجرائم ، ومنه انكارهم لتعدد الزوجات ( ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والارض ومن فيهن ) .
لكنهم عندما يبتلون بالكوارث وانتشار الفواحش من القتل والنهب والسرقة وهتك الاعراض وكثرة النساء الايامى اللائي ليس لهن ازواج ، فعند ذلك يندبون الاسلام ويقولون سلام الله على شريعة الاسلام التي تحكم بقتل القاتل وقطع يد السارق والقبض على ايدي الجناة وحتى اباحة تعدد الزوجات فقد رجع بعض عقلائهم إلى استحسانه بعد انكارهم له ، لانهم في هذه الازمان لما انتبهوا لمصالح نسائهم ورأوا البنات يجلن في الاسواق كالقطعان من الغنم كلهن او أكثرهن ايامى ليس لهن ازواج ، اخذوا يدعون قومهم وينادون باباحة التعدد بين الزوجات ، اذ هو خير من بقاء البنات ايامى طول الحياة . ومثله الطلاق فقد كانوا ينحون بالملام على الاسلام في مشروعية الطلاق ، وعندما رأوا كثرة البغاء وعزوف الرجال عن الزواج الشرعي فراراً من مسئوليته ولأن القانون لا يمكنه من طلاقها متى ساءت العشرة بينهما فصاروا يفضلون التمتع بالمرأة على سبيل السفاح . فلأجله اضطروا الى الرجوع الى شريعة الاسلام فصاروا يوقعون الطلاق على أدنى سبب فتوسعوا في الاسراف فيه ، وصار احدهم يفضل العزوبة على تحمل مؤنة الزوجة ونفقتها ونفقة عياله منها ، ولا يزال الناس يرجعون بداعي الضرورة الى العمل بشريعة الاسلام لانها شريعة للناس اجمعين ورحمة للعالمين . فيعودون يعترفون للاسلام بفضله بعد ان شبعوا من ثلبه . فهم وان لم يطبقوا العمل به لكنهم يعترفون بصلاحية الحكم به في كل زمان ومكان .
ولا يزال الناس يحتاجون بداعي الضرورة الى الرجوع اليه في المشاكل العظام ، سيما عند ظهور الفتن في آخر الزمان التي تقضي بفناء الرجال وناهيك بمفاسد فتنة لبنان وكيف قضت بحصاد عشرات الالوف أو مئات الالوف من الرجال من سوى الجلاء الذي يؤول بهم الى الفناء مع قضائها على مشيد المنازل والعمران والفنادق والقصور العظام والنهب والقتل وهتك الأعراض . وهذه الحروب هي مصداق ما اخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوقوعها في آخر الزمان حيث قال : ( تظهر الفتن ويقل العلم ويثبت الجهل ويقل الرجال وتكثر النساء حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد ) كما في البخاري عن انس رضي الله عنه قال : ( لاحدثنكم حديثاً لا يحدثكم به أحد بعدي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من اشراط الساعة أن يقل العلم ويظهر الجهل ويظهر الزنا وتكثر النساء ويقل الرجال حتى يكون لخمسين ارمأة القيم الواحد ) .
ان الاسلام يجمع بين مصالح الدنيا والدين وبين مصالح الروح والجسد ليس بحرج ولا اغلال ولا يقيد عقل مسلم عن الحضارة ولا التوسع في التجارة المباحة والتمتع بأنواع الزينة المباحة يقول الله : ( قل من حرم زينة الله التي اخرج لعباده والطيبات من الرزق ، قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة ) والنساء هن من افضل زينة الدنيا ومن أفخر اللذائذ يقول الله ( زين للناس حب الشهوات من النساء ) والمزين هو الله . والنبي صلى الله عليه وسلم قال : ( حبب الى من دنياكم الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة ) . رواه الامام احمد والنسائي في حديث أنس .(/1)
واقتضت حكمة الباري سبحانه ان يكون الرجل مستعداً للنسل ولو بلغ ثمانين سنة وان المرأة اذا بلغت الخمسين من عمرها يئست من الحمل والحيض وقيل خمساً وخمسين . ومن نظر بعين الاعتبار إلى التباين بين الرجل والمرأة يجد المرأة أكثر شغلا وتعباً من الرجل في الحياة المنزلية لقيامها بأعباء الحمل والولادة والرضاع وتربية الاولاد وشغل البيت من اصلاح الطعام وغيره من المتاعب التي تقتضي الحط من قوتها وصحتها حتى قيل : انه لن ينبت عمر الا وقد أكل عمراً . أضف الى ذلك انها قد تكون عقيماً وزوجها يحب ان تكون له ذرية ، وقد تصاب بمرض معد يقتضي بعدها عن زوجها وبعده عنها زماناً طويلاً .
لهذا صار الرجل في الاسلام يجوز له الجمع بين المرأتين والثلاث متى علم من نفسه القدرة على القيام عليهن بالعدل لما في ذلك من العون على العفاف وتكثير النسل المطلوب شرعاً وعرفاً والذي يباهي به النبي صلى الله عليه وسلم سائر الأنبياء ، وحتى يكون المسلمون بكثرة نسلهم أكثر عدداً من عدوهم فيظهر بذلك فضلهم وعظمتهم ، امام عدوهم كما قال تعالى : ( ثم رددنا لكم الكرة عليهم وامددناكم باموال وبنين وجعلناكم اكثر نفيراً ) فكثرة المسلمين خير من قلتهم مع ما فيه من حفظ النوع الانساني الذي يترتب عليه عمار الكون في الدنيا .
والتعدد فيه محاسن ومساوئ . فبعض الخواص من الناس قد شارك في موضوع التعدد لسبب يقتضيه . لكنه دخل فيه بعدل واعتدال وحسن سيرة وسياسة في الأهل والعيال فصار قرير العين به سليماً من الانكاد والاكدار وذلك ببركة العدل بين الزوجات . اذ ان حكمة الله فوق رأي كل حكيم . " فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة " .
النصارى يحرّمون التعدّد قانونا ويجيزونه عادة وعرفا
ان النصارى والمبشرين يشنعون على الاسلام والمسلمين في تعدد الزوجات وينسبونه الى مجرد التشهي والتنقل في اللذات وينتقدون الاسلام نفسه في مشروعية ذلك وما منهم احد الا وله خليلة وخليلتان يخلو بهما سراً عن زوجته فهم يحرمونه قانوناً ويحلونه عادة وعرفاً ولا يعدون الزنا جريمة ، وقد بدأ النصارى رجالا ونساء يعرفون وجه الحاجة بداعي الضرورة الى التعدد واخذوا ينادون باباحته قانوناً في صحفهم ومحاضراتهم وأنديتهم كما أخذوا يعترفون بفضل دين الاسلام في مشروعيته وانه الدين الصالح لكل زمان ومكان ينظم حياة الناس أحسن نظام ، فهو الكفيل بحل مشاكل الخاص والعام . ودونك الشاهد والمشاهد لاحوالهم وعمالهم .
قال جوستاف لبون وهوالعالم الشهير عندهم " ان نظام تعدد الزوجات هو في الحقيقة نظام مستقل وجد قبل محمد صلى الله عليه وسلم بين شعوب الشرق واممه وكان مشروعاً بين الفرس ومسنوناً بين اليهود وسارياً بين العرب فلم يكن في مقدرة أي دين من الأديان ، وان اوتى قدرة كبرى على تغيير الآداب والانظمة والاخلاق ان يلغي نظاماً مثل هذا النظام الذي جاء به دين القرآن ويعمل على ابطاله لانه النتيجة الضرورية للجو والغاية المجتمعة لمزاج الشرق ونوع الحياة التي يعيشها .
أما عن تأثير الجو فلا حاجة الى البسط فيه والشرح وحسبك ان مطالب الامومة والولادة والاوجاع والامراض وغيرها تضطر المرأة الى ان تظل أغلب دهرها بعيدة عن زوجها وهذه العزوبة الوقتية للرجل مستحيلة تحت جو كجو الشرق ومزاج كمزاج الشرق . وهذا هو الذي جعل تعدد الزوجات اوجب الضروريات .
أما عن العرب وان كان الجو أهدأ تأثيراً والطبائع أخف حرارة الا أنك مع ذلك قل ان تلقى فرداً مقتنعاً بفردية الزوجية الا في القوانين فقط . وأما في العادات والآداب فما أقل العناية بها وما أندره .
ومعنى ذلك ان الاقتصار على زوجة واحدة لا يوجد في اوروبا الا في القوانين ولا يعمل به الا الاقلون وان تعدد الزوجات واقع في الغرب بين أهله وان لم يكن مشروعاً عندهم .
إلى أن قال :
لا أعرف لماذا يعتبر هذا التعدد الشرعي للزوجات عند الشرقيين أحط منزلة من هذا التعدد الفاحش عند الغربيين ، وان كنت أعلم جد العلم بالأسباب التي تجعل الاول أسمى مكاناً وارفع قدراً من الآخر . أما وقد فهمنا الأسباب التي عملت على تشريع هذا التعدد في الشرق فليس من الصعب علينا ان نفهم السبب الذي حمل الدين على الاقرار عليه والاعتراف به .
ان رغبة الشرقيين في الاكثار من النسل وذوقهم المعترف به في عيشة الاسرة ، وعواطف العدل التي تتنازعهم ولا تسمح لهم بهجران المرأة التي لم تعد تعجبهم ، هي الاسباب التي جعلت الدين يقر على هذا النظام الناشيء عن الآداب والطبائع . انتهى " .
فقد عرفت مقالة هذا الكاتب الخبير وان النصارى يستبيحون التعدد حراماً وينكرونه حلالا .
ان الاسلام دين السماحة والسهولة واليسر ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) ولكونه ليس المقصود من النكاح هو التمتع بالشهوة الجنسية فإنها من الشيء المشترك بين الانسان وبين بهائم الحيوان .(/2)
وإنما القصد هو كثرة النسل المطلوب شرعاً والمرغب فيه عرفاً والذي يباهي به النبي صلى الله عليه وسلم سائر الانبياء ، ثم هو يحفظ به نوع الانسان وكانت بعض الحكومات تدفع مرتبات شهرية للنسل للترغيب في كثرته ، وفي الحديث ان النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( تزوجوا الولود الودود فاني مكاثر بكم الامم يوم القيامة ) .
والقصد من النكاح ايضاً احصان كل من الرجل والمرأة فإحصان المرأة بكفالة الرجل لها وقيامه بكفاية مؤنتها وحسن عشرته لها ، ويسعى عليها بكل ما تشتهي من الحاجات والنفقات ويجعلها سيدة بيت وسيدة عشيرة وام بنين وبنات كما ان المرأة كرامة ونعمة للرجل ، تجلب اليه الانس والسرور والغبطة والحبور ، وتقاسمه الهموم والغموم ، ويكون بوجودها بمثابة الملك الخدوم ووالسيد المحشوم .
اذا رمتها كانت فراشاً يقلني وعند الفراغ منها خادم يتملق
لهذا كانت المرأة عند بعض الامم تبذل للرجل المهر على ان تكون زوجة له تحت عصمته ورعايته وتشاطره النفقة ، لعلمها بحاجتها الى كفالته وكفايته وانها بانفرادها عن الزوج ذليلة ذميمة كما قيل : مسكينة مسكينة امرأة بلا زوج وتدعى الأيم والأرملة .
فالشريعة الاسلامية الصادرة من الحكيم العليم تنظر الى حالة جميع الناس وحاجتهم في حاضرهم ومستقبلهم نظرة رحمة واحسان الى جميعهم ( ان ربكم لرؤوف رحيم ) .
لهذا أباح الله التعدد رحمة منه لجميع الناس ، ذكرهم وانثاهم لانه من المشاهد بالعقل والثابت بالنقل ان النساء في كل بلد أكثر من الرجال ، طبق ما اخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من ان الرجال يقلون وتكثر النساء حتى يكون لخمسين المرأة القيم الواحد ، يلذن به وذلك عند ظهور الفتن والحروب التي تحصد الرجال حصداً في آخر الزمان .
افترى شرع الاسلام المبني على مصالح الخاص والعام ، يهمل جانب هؤلاء النساء الأيامى فلا يجعل لهن حضاً ولا نصيباً من العلوق مع الرجال بطريق مباح شرعي لكون الرجل اقوى واقدر على العمل وسائر وسائل الكسب من المرأة أفلا يخفف هذا الضغط باباحة التعدد بنكاح من ترغب في نكاحه ويرغب في نكاحها بطريق مشروع غير محظور .
اذ هذا أصلح وأحب الى الله من ان تبقى ايماً تذهب نضارتها طول حياتها او تتاجر ببضعها ، بحيث تكون عرضة وطعمة لكل ساقط ولاقط ، بدون زوج تأنس بها ، ولو سألنا الأيامى العوانس : هل الافضل لهن البقاء على حالتهن الرهنة من العزوبة أو العلوق مع الرجال بطريق المشاركة مع الضرائر ، لاخترن العلوق بكلمة الاجماع ، لانه أنفع وأصلح لهن . والشرع ينظر الى حالة وحاجة جميع الناس ، لا الى امرأة واحدة تحب الحجر على زوجها في حضنها وحضانتها ولا تريد الاشتراك معها في مودته والتمتع به ، لكون الثانية تدعى الضرة ، وهي من أخطر ما يكون على الاولى لحيث تخشى ان تنفرد بمودته عنها فهي تكره المشاركة معها فيه ، والنبي صلى الله عليه وسلم قد حذر المرأة أن تشترط على الخاطب طلاق زوجته الاولى ففي البخاري ومسلم ، نهى رسول الله أن تسأل المرأة طلاق اختها لتكفأ ما في انائها أي من المحبة والغبطة بزوجها فمصلحة التعدد لا يخرجه عن كونه رحمة للعالمين ما حصل على هذه المرأة من مضرة مشاركة الضرة لها في زوجها ، فان المضار الجزئية الفردية تغتفر في ضمن المصالح العمومية أشبه قتل القاتل وقطع يد السارق ، واقامة الحد على شارب الخمر .
وقد وجد في هذا الزمان ومن قبل ازمان كثيرون من الادباء والكتاب والكاتبات من النصارى ، يدعون قومهم الى اباحة التعدد بمقتضى القانون ، وذلك حينما رأوا أكثر النساء الأيامى يمشين في الاسواق كالقطعان من البقر وحينما رأوا الزنا قد فشى وانتشر بكثرة هائلة ، مما سبب قلة نسلهم . وحينما رأوا الرجال يعدلون عن النكاح الشرعي الى الزنا ، وقد ثبت بطريق المشاهدة والتجربة ان منع التعدد قد وسع في بلدانهم من خطورة الزنا لكون النفوس متى ضيق عليها في منع مشروعها اقتحمته الى محظورها بشغف وحرص كما قيل . :
منعت شيئاً فأكثرت الولوع به احب شيء الى الانسان ما منعا
من ذلك ما قاله الفيلسوف الانجليزي ( سبنسر ) في كتابه اصول علم الاجتماع : " ان التعدد ضرورة للأمة التي يفنى رجالها في الحروب ، ولم يكن لكل رجل من الباقين الا زوجة واحدة . فاذا طرأت على الأمة حال اجتاحت رجالها الحروب وبقي نساء عديدات بلا ازواج فانه ينتج عن ذلك نقص في المواليد لا محالة .
فاذا تقاتلت امتان احداهما لا تستفيد من جميع نسائها بالاستيلاء فانها لا تستطيع أن تقاوم خصيمتها التي يستولد رجالها جميع نساءها بمقتضى التعدد للزوجات . وتكون النتيجة ان الامة الموحدة للزوجة تفنى امام الامة المعددة للزوجات " . أ هـ(/3)
وكأن هذا هو السبب في الضرر الذي ابتليت به الدول الأوروبية ومن على شاكلتهم حينما تساهلوا في انتشار الزنا ولم يعتبروه جريمة ، ويعدونه من كنال الحرية للمرأة ، فظهر عليهم اثر ضرره وسوء عاقبته بشكل ينادي بقلة عددهم وتقويض دعائم صنائعهم ، واعمالهم لكون النسل جيل المستقبل وقد أصبح عاطلا عن العمل وعن الزواج الشرعي من رجل وأمرأة ، ويكتفون بالزنا بدله ولا شك ان المرأة المسافحة يقل نسلها لكون أحد الرجال يفسد حرث الآخر .
ان ضرورة قلة النسل وانتشار الفساد في الارض هو اعظم من ضرورة التعدد بكثير .
فهؤلاء الذين يبالغون في التشنيع على المسلمين في وصف مفاسد التعدد للزوجات ما منهم احد يكتفي بزوجة واحدة يقتصر عليها .
بل لكل واحد منهم خليلة وخليلتان يخلو بهما سراً عن زوجته الشرعية فأكثرهم مسافحون ومتخذوا أخدان كما ان اكثر نساءهم مسافحات ومتخذات أخدان ، حتى ان رجالهم أخذوا ينفرون من الزواج الشرعي لكونها بزعمه لا تقتصر عليه وحده ، وتحدث له عداوة الاغيار الذين يشاركونه في التمتع بها ويقول بعضهم : كيف تطيب نفسي ان اتزوج امرأة ثم ارى رجلا يأخذ بيدها ويذهب بها كيف شاء وأنا لا استطيع صدها عنه ولا صرفه عنها ؟ ثم انه يراها بمثابة الغل في عنقه ، والقيد في رجله ، متى اشتدت كراهيته لها ، ولم يتمكن بمقتضى القانون من طلاقها .
فكانوا يتمتعون بالزنا ويؤثرونه على النكاح الشرعي وكان هذا هو السبب في انتشار الزنا وقلة النسل يقول الله ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق )
تعصب النصارى ضد الاسلام وضد النبي محمد عليه الصلاة والسلام
إن غلاة النصارى من المبشرين والقسيسين قد صار التعدد موضع لجاج وجدال منهم مع المسلمين ، حتى صار جل حديثهم في محاضراتهم وأنديتهم وفي صحفهم وكتبهم . ولا نعلم قضية كثر فيها اللجاج والجدال كهذه القضية . على أنها قضية واضحة جلية . وانه لا يمكن أن يعيش مجتمع بدونها سواء كان التعدد عن طريق مشروع أو محظور .
فهم يبالغون في انكار التعدد على شريعة الاسلام وعلى خاصة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام في جمعة لتسع نسوة . فيعبرون عن انكاره بأبشع تعبير ، من كل ما ينفر الكبير والصغير عن الاسلام وعن التصديق بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام . لاعتقادهم ان ما هم عليه من الانفراد بواحدة هو الحسن الجميل وان ما عليه الاسلام هو شيء قبيح . فهم يتوارثون التعصب ضد الاسلام وضد النبي عليه الصلاة والسلام جيلا بعد جيل .
والحق ان النبي محمد صلى الله عليه وسلم ليس ببدع من الرسل فيه فقد مضى للرسل أمثالها وما هو أكثر منه فيها .
فقد كان لنبي الله داوود تسع وتسعون زوجة وكان لنبي الله سليمان كما جاء في التوراة سبمائة زوجة من الحرائر وثلاثمائة من الجواري وكن أجمل أهل زمانهن وكذلك انبياء بني اسرائيل معددون للزوجات من لدن ابراهيم عليه السلام .
وروى البخاري : " قال سليمان بن داود عليه السلام لاطوفن الليلة بمائة امرأة تلد كل امرأة غلاماً يقاتل في سبيل الله ، فقال له الملك : قل انشاء الله . فلم يقل ونسي ، فأطاف بهن فلم تلد منهن الا امرأة نصف انسان .
قال النبي صلى الله عليه وسلم : لو قال انشاء الله لم يحنث وكان أرجى لحاجته " .
وعلماء النصارى يعرفون هذا كله ويصدقون به فلا وجه للانكار على النبي محمد فيه .
ان الله سبحانه يختص برحمته من يشاء وقد خص الله انبياءه بمزايا لا يشاركهم فيها غيرهم أهمها نزول الوحي الذي هو أفضل المزايا على الاطلاق . ثم جمع النبي صلى الله عليه وسلم لتسع نسوة كما جمع الانبياء قبله أكثر منهن . يقول الله ( وامرأة مؤمنة أن وهبت نفسها للنبي ان اراد النبي ان يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين ) فأباح الله لنبيه في هذه الآية ما لم يبحه لسائر المؤمنين . ولما أسلم غيلان بن سلمة وكان تحته عشر نسوة أسلمن معه فأمره النبي صلى الله عليه وسلم ان يختار منهن أربعاً ويفارق الباقي .
ولما نزلت آية التخيير وهي قوله : ( يا أيها النبي قل لأزواجك ان كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين امتعكن واسرحكن سراحاً جميلاً وان كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فان الله اعد للمحسنات منكن اجراً عظيماً ) .
فلما خيرهن واخترن الله ورسوله والدار الآخرة اكرمهن الله بأن أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن لا يفارقهن ولا يتزوج عليهن . فقال تعالى : ( لا يحل لك النساء من بعد ولا ان تبدل بهن من ازواج ولو أعجبك حسنهن ) فانتهى رسول الله الى امر الله واقتصر عليهن .
الاقتصار على زوجة واحدة أفضل من التعدد(/4)
اننا لا نشك ولا ننكر ان الاقتناع بزوجة واحدة متى حصل المقصود منها انها افضل من التعدد لان الله سبحانه حينما اباح تعدد الزوجات لم يبحه بطريق التوسع فيه على حسب التشهي والتنقل في اللذات ، وتنوع المشتهيات ، وانما اباحه بشرط العدل بين الزوجات ( فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ) لان العدل قوام الدنيا والدين وصلاح المخلوقين ، وله وضعت الموازين ، وهو الألف المألوف تتألف به القلوب وتلتئم به الشعوب ويشملهم الصلاح وأسباب النجاح والفلاح .
فالقناعة بزوجة واحدة هي الاصل في تسميتها زوج ، وكما يسمى الرجل زوج . وفي الحديث ان النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الدنيا متاع وخير المتاع الزوجة الصالحة التي اذا نظر اليها سرته ، وان أمرها أطاعته ، وان غاب عنها حفظته في نفسها وماله ) وبذلك يسلم من التنكيد والتكدير عليه في حياته من كل ما يثيره احقاد الضرائر كما قيل :
ومن جمع الضرات يطلب لذة فقد بات في الاضرار غير سديد
ونحن معشر المسلمين على دين وسط بين طرفين وهدى بين ضلالتين بين الغالي فيه والجافي عنه .
فالذواقون الذين يتنقلون في مراتع الشهوات من واحدة الى اخرى تمشياً مع رغبتهم ، ودواعي شهواتهم ، ليسوا بمحمودين على عملهم ، وربما يدخلون بمقصدهم في نكاح المتعة المحرم في الاسلام ، متى تزوجها ومن نيته ان يطلقها ولا يستديم بقاءها ، وقد ورد الوعيد الشديد في الذواقين من الرجال والذواقات من النساء ، ومن كانت هذه سجينته فلن تدوم صحبته .
ومن طبيعة النفوس متى استرسل صاحبها معها في تنقلها في اللذات وتنوع المشتهيات ، فإنها لن تشبع نفسه ابداً ، بل كلما تزوج بامرأة جميلة يحسن السكوت على مثلها ثم ذكر له اخرى غيرها تاقت نفسه لاخذها . حتى قيل : انه لو كان عند رجل جميع نساء العراق فقدمت امرأة من الشام ووصف له جمالها فانها تتوق نفسه لأخذها ولا يقنع بما عنده كما قيل :
لا يشبع النفس شيء حين تحرزه ولا يزال لها في غيره وطر
ولا تزال وان كانت لها سعة لها الى الشيء لم تظفر به نظر
والنفس من صاحبها فان اطمعها تاقت وطعمت وان سلاها سلت وسمحت .
وما النفس الا حيث يجعلها الفتى فان اطعمت تاقت والا تسلت
وقد قيل : الجدة تذهب اللذة ، وما كل ما فوق البسيطة كافي وان قنعت فكل شيء كافي فأهنأ العيش وأسعده هو ما أرشد اليه القرآن الكريم في قوله : ( ومن آياته ان خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا اليها وجعل بينكم مودة ورحمة ) وهذه المودة والرحمة لا تدرك ولا تتفق غالباً الا في حالة انفراد الزوج بزوجة واحدة يأنس بها وتأنس به ويطمئن اليها ، وهذا هو الذي ارشد اليه القرآن الكريم بقوله : ( وانكحوا الايامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله ) والايامى هم كل من لا زوج له من رجل وامرأة ، اذ هذا هو الاصل في تسمية الزوج والزوجة .
غير ان الشريعة الاسلامية السمحة اباحت التعدد بشرط التزام العدل وهو من تمام محاسنها وعموم مصالحها . وقد اخبر النبي صلى الله عليه وسلم بداء التوسع في المشتهيات من النساء كما اخبر بطريق علاجه فقال : ( اذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته فليذهب الى امرأته فان معها الذي معها ) رواه الدارمي عن ابن مسعود ورواه مسلم عن جابر .
ثم انه يتضاعف ضرر التعدد على الفقير وكل من كان مرتبه حقيراً لأن لكل زمان أحوالاً واعمالاً تناسبه ، من السهولة واليسر ومن الشدة والعسر فقد مضى على الناس زمان يكتفون فيه بالقليل من القوت والغذاء والملابس ، وكان غالب ما يأكلونه ويستعملونه هو من نتاج بلدهم ، وكان عمدة قوت الكثير منهم البر والتمر ولا يحتاجون الى شيء من الخارج ما عدا اللباس الذي عسى ان يستعمل احدهم الثوب الواحد غالب السنة لا يجد له بديلا .
لهذا كان التعدد بين الزوجات لا يشق عليهم أبداً وربما يساعدنه في سعة رزقه بما تستعمله احداهن من المهنة كخياطة ونشازة وشئون الحرث والزراعة حتى قيل : امرأة الصعلوك احدى يديه .
أما الآن وفي هذا الزمان فقد تبدلت الحالات وتجددت الحاجات وصار كل شهر يتجدد لهم حوائج ومؤن لا يجدون بداً منها من مكيفات وغسالات وثلاجات ومفروشات فضلا عن السيارات ، وكل امرأة تطالب بحقها من ذلك حسب عرف البلد وعادة الناس وبذلك يتزايد الصرف ويشتد ضرره وتتراكم الديون عليه من حيث لا يحتسب ويصعب عليه الخروج منها لان دخوله في تعدد الزوجات بشهوة وشهامة ثم يعود عليه بالملامة والغرامة ، فالذين ينقادون مع شهواتهم الى استحسان التعدد بدون تفكير في عواقبه هم يقعون غالباً في سوء العاقبة والمصير .(/5)
ثم أن بعض هؤلاء متى استجد احدهم نكاح امرأة ووقعت في نفسه موقع الحظوة والرغبة ، أقبل عليها بكليته ووحدها باتصاله وصلته وقطع صلته بالاولى وقطع نفقته عليها وعلى عياله منها حتى يدعها معلقة لا هي ذات زوج ولا مطلقة فيتضاعف عليها الضرر من كل الحالات ، لعجز الزوج عن القيام بكفاءة المرأتين لا في البيت ولا في المبيت ولا في النفقة وان مثل هذا يستحق ان لا يسمح له بالتعدد لعجزه عن القيام بواجبه ، ولإخلاله بشرطه لقوله تعالى : ( فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة ) .
ان العقل المعيشي يعقل الرجل المقل عن التعدد لغير ضرورة لما يترتب عليه من الارهاق في الانفاق ثم هو يزرع زرعاً من العيال لا يستطيع سقيه ولا القيام بمؤنة كلفته .
كما ان التعدد يترتب عليه الارهاق في صحته بسبب المباضعة التي هي هدم في قوته ، فان ماءه يخرج من سلالة جسمه وقد وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه " مخ ساقيه ونور عينيه " فهو روح نشاطه وقوته كما قيل :
أقلل نكاحك ما استطعت فانه ماء الحياة يصب في الارحام
سيما اذا كان شيخاً طعن في السن ، وقد تزوج بكراً ، فانه ان وفاها حقها انهك جسمه وان قصر عنها ابغضته .
حكمة مشروعية الطلاق
بما ان الله سبحانه قد شرع النكاح لعموم منفعته وشمول مصلحته التي أهمها بقاء النوع الانساني لما يترتب عليه من عمار الكون فكذلك شرع فسخ هذا النكاح عند وجود ما يقتضيه من وقوع الشقاق وعدم الوفاق او شدة كراهية الزوج لزوجته او كراهيتها له ، يقول الله : ( فأمسكوهن بمعروف او سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا ) . والطلاق بغيض الى الله لما روى ابن عمر ان النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ابغض الحلال الى الله الطلاق ) رواه ابو داوود وابن ماجه وصححه الحاكم . وانما كان بغيضاً إلى الله من اجل أنه يسبب العداوة والبغضاء بين الاصهار ولما يعقبه من تشتت الشمل وانقطاع النسل بين الزوجين لكنه بمثابة الدواء الكريه المر يعالج به ما لا بد منه . لانه متى ساءت الطباع وفسدت الاوضاع بين الزوج والزوجة واستمر بينهما الشقاق وأعيت الحيل في الوفاق فما احسن الفراق اذا لم تلاءم الاخلاق فانه لا عيش ولا انس ولا سعادة مع شدة كراهية احد الزوجين لصاحبه وهذا يعد من محاسن الاسلام الذي جعل الله فيه للمؤمن من كل ضيق فرجاً ومخرجاً ولم يجعل الزوجة الكريهة في نفسه حرجاً وغلا في عنقه لا تنفك عنه حتى يموت احدهما كزوجة النصارى ولهذا رجع النصارى مضطرين الى العمل بشريعة الاسلام في الطلاق ، ومن أجل منع القانون لوقوعه بدون سبب صار أحدهم يفضل العزوبة على تحمل مؤنة الزوجة ونفقتها ونفقة عياله منها ولا يزال الناس يرجعون بداعي الضرورة الى العمل بشريعة الاسلام لانها شريعة الله للناس أجمعين ورحمة للعالمين .
فيعودون يعترفون بفضل الاسلام في مشروعيته بعد ان شبعوا من ثلبه والطعن في أحكامه فهم وان لم يطبقوا العمل بموجبه لكنهم يعترفون بفضله وصلاحية الحكم به في كل زمان ومكان
إزالة الشقاق بعملية الوفاق او الفراق
انها متى ساءت الطباع فسدت الأوضاع ثم ساءت النتيجة وقد جعل الله في الشريعة الاسلامية للمؤمن من كل ضيق مخرجاً ومن كل هم فرجاً .
ونحن نعتقد ولا شك بأن الشريعة الاسلامية عدل الله في ارضه ورحمته لعباده وقد اباحت الزواج باربع نسوة متى علم من نفسه القدرة التامة على القيام بالعدل والكفاية في النفقة وسائر الواجبات الزوجية ، وذلك في وجوب القسم في الدخول والمبيت والنفقة الواجبة بخلاف ميل القلب بالمحبة وما يستدعيها من الشهوة الجنسية فانها لا تدخل في مسمى القسم لانها ليست من امكانية الشخص كما قال تعالى : ( ولن تستطيعوا ان تعدلوا بين النساء ولوحرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة ) سميت معلقة لكونها لا ذات زوج ولا مطلقة . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لنسائه ويعدل ويقول : ( اللهم هذا قسمي فيما املك تلمني فيما لا املك ) ، يعني القلب ودواعيه .
وكان النبي في حالة مرضه يحمل الى منزل كل امرأة من نسائه وكان يقول : اين انا غداً . يريد يوم عائشة فاذن له ازواجه ان يمرّض في بيت عائشة فكانت تقول : توفي رسول الله بين سحري ونحري .
أما اذا لم يستطع اعطاء كل واحدة منهن حقها اما لفقره او لعجزه عن المباشرة الجنسية او عدم عدله في قسمه ونفقته الواجبه . فان تنازلت إحداهما عن حقها من ذلك فهو صحيح ويسقط حقها باختيارها متى خيرها زوجها على البقاء معه بدون قسم او الطلاق فان اختارت البقاء بدون قسم فلا بأس اذ القسم من حقها ولها اسقاطه للمصلحة الراجحة من استدامة بقائها في عصمته بدون قسم فقد وهبت سودة قسمها لعائشة . فكان النبي يقسم لعائشة رضي الله عنها يومها ويوم سودة .
أما اذا طالبت بحقها من ذلك كله فانه يحكم لهابه وعند امتناعه يعتبر ظالماً لها بحيث تستحق الفسخ من عصمته بطلبها .(/6)
فاذا لم يستطع اعطاء امرأة منهن ما تستحقه من النفقة الواجبة أو المباضعة او عدم قسمه لها فانها تعتبر الحالة هذه اسيرة تحت قهره وظلمه لكون الرجل لا يستحق استدامة القوامية عليها الا بالنفقة عليها مع قيامه بسائر واجباتها يقول الله : ( الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما انفقوا من أموالهم ) .
ولما كان من حالة عيش النبي صلى الله عليه وسلم ما هو معروف من القلة فكان يمضي عليهم الشهر والشهران وما اوقد في بيت من بيوته نار فاجتمع نساءه يطالبنه بالنفقة عالية اصواتهن عليه فسمع عمر أصواتهن وزجرهن وقال : " يا عدوات اتهبني ولم تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم " فانزل الله سبحانه آية التخيير : ( يا أيها النبي قل لازواجك ان كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين امتعكن واسرحكن سراحاً جميلاً ، وان كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فان الله اعد للمحسنات منكن أجراً عظيماً ) فقلن كلهن : نريد الله ورسوله والدار الآخرة ولن نعود الى المطالبة بالنفقة بعد اليوم .
وفيه دليل على جواز مطالبة المرأة بالفسخ عند قطع النفقة عنها بلا سبب يوجبه منها وكونها تجب اجابتها الى ذلك لكونه لا يستحق القوامية عليها الا ببذل النفقة التامة ، فمتى كان هذا التخيير النازل في القرآن وقع في حق الرسول مع زوجاته ، مع العلم بواسع عذره من عوزه وقلة موجوده ، فما بالك بمن قطع نفقته عن زوجته اضراراً وعناداً أفلا تستحق المطالبة بفسخ نكاحها واجابة دعوتها في تخليصها من عصمته اذ لا حق له في استدامة نكاحها اذ هذا من الضرر الذي يجب ازالته .
أما اذا اتصف بالجنف ومال الى واحدة دون الأخرى فانه ينهدم نظام منزله وتسوء معيشة عائلته ويحتقب افراد عائلته العداوة له ، ثم العداوة من بعضهم لبعض فيتبدلون الألفة بالنفرة والمحبة بالبغض كله من اجل الجنف الذي عامل به احدى نسائه على الأخرى وانه عندما يشتد النزاع ويستمر الشقاق ويتعذر الوفاق بينهما فقد جعل الله لهن سبيلا ، فقد انزل الله آية التخيير في حق الرسول مع زوجاته امهات المؤمنين ثم انزل الله ( وان خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من اهله وحكماً من اهلها ان يريدا اصلاحاً يوفق الله بينهما ) وهذان الحكمان يريدان الاصلاح من الوفاق والانفاق او الفراق فهما حكمان مستقلان بنص الكتاب بحيث يقرران الفراق عند تعذر الحيلة في الوصول الى الوفاق ، او يقدمان اقتراحهما الى القاضي ويحكم بتنفيذه سواء كان على عوض مالي او بدون عوض ، والدليل الثالث ما روى البخاري عن ابن عباس " أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس اتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ثابت بن قيس لا اعيب عليه في خلق ولا دين ولكني أكره الكفر في الاسلام . فقال رسول الله ، أ تردين عليه حديقته ؟ قالت : نعم . فقال : أقبل الحديقة وطلقها تطليقة " وفي رواية قالت : إني لا أطيقه بغضاً ، فجعل لها النبي فرجاً ومخرجاً مما وقعت فيه من البغض الشديدالذي سبب الشقاق وتعذر معه الوفاق فما بالك بالقضاة الذين يحكمون على مثل هذه المرأة بهجرانها وقطع النفقة عنها كل السنين الطويلة مع أن الله سبحانه قد جعل لها مخرجاً مما وقعت فيه ، ( فامسكوهن بمعروف او سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا ) .
وفي نفس هذا المقام وما يقتضيه من الاحكام فانني اذكر الناس فضيلة العدل وحسن ما يترتب عليه من صلاح الاهل والمال والعيال ، فان العدل قوام الدنيا والدين وصلاح المخلوقين وهو الالف والمألوف المؤمن من كل مخوف به تتألف القلوب وتلتئم الشعوب ، ويشملهم الصلاح وأسباب النجاح والفلاح فقد رأينا اناساً من أهل الصلاح والتقى يتزوج أحدهم باثنتين وثلاث ويتمتع بهن متاعاً حسناً في عيشة راضية مرضية وأخلاق كريمة زكية بدون تنكيد ولا تكدير ، وذلك كله من بركة العدل وحسن الخلق ، وعلى اثره ينشأ الاولاد متحابين متجانسين متوانسين كأنهم بنو أب وأم واحدة والعدل يمن والجنف والجور شؤم .
ان من مساوئ عدم العدل في القسم او النفقة وقوع الضجر عليه من كثرة التشكي والمطالبة بالحقوق مما عسى ان يضجره كثرة هذا القلق والشقاق والاضطراب سيما اذا كان ضيق الصدر سيء الخلق ، فيوقع الطلاق على زوجته ام اولاده وبناته على اثر المشاجرة فيكون طلاقه بمثابة الصاعقة النازلة عليها في بيتها فينهدم البيت ويتفرق شمل العيال فيندم حيث لا ينفعه الندم كما قيل :
ندمت وما تغني الندامة بعد ما خرجن ثلاثاً ما لهن رجيع
ثلاث يحرمن الحلال على الفتى ويصد عن شمل الدار وهو جميع
فتخرج من بيته ودمعها يسيل على خدها حزينة على فراق زوجها وعلى فراق عيالها وانه لا اسوأ من حالة ام العيال متى خرجت وليس لها من تأوي اليه ولا من يصبر على عيالها من اهلها فيشتد حزنها واسفها سيما متى علمت ان زوجته الجديدة تعامل عيالها بالسوء وخشونة التربية من الطرد والتقريع وسوء المعيشة .(/7)
اننا بتولينا للقضاء كل السنين الطويلة قد عرفنا من حالة الناس ما لا يعرفه من لا يبتلي بالقضاء .
لقد عرفنا ان القاضي الشرعي يكلف الزواج بالنفقة على مطلقته ان كانت حاملا حتى تضع حملها ثم ينفق نفقة الرضاع لقول الله تعالى : ( وان كن اولات حمل فانفقوا عليهن حتى يضعن حملهن فان ارضعن لكم فآتوهن اجورهن ) فينفق عليها وعلى عياله منها ما داموا في حضانتها لاعتبار أنها لهم بمثابة الخادم لاصلاح امرهم وحسن تربيتهم .
وكل ما اوجب الانفاق يوجب السكنى فهو وان كلفته المحكمة الشرعية بأن تحكم عليه بذلك طبق ما أوجبه الله عليه في قوله : ( وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن ) لكن اكثر الناس من اجل عدم العدل والانصاف لا يستجيبون لهذا الحكم ولا ينقادون لتسليم ما وجب عليهم الا مكرهين وأكثر الناس وان تسموا بأنهم مسلمون لكنهم لا ينصفون من انفسهم وحتى بعض العلماء وبعض القضاة رأينا احدهم يهمل عياله مع كثرتهم عند امهم ويقطع نفقتهم عنها ويتركها تقاسي مرارة اكدارهم بدون نفقة ولا اهتمام بامرهم .
والمرأة لا تستطيع ان تطالب بحقها عند الحاكم الشرعي في كل شهر فلا تقدر على الذهاب الى المطالبة في المحكمة ، وتختار ان يذهب حقها ولا تبرز للمطالبة والشكوى لهذا تبقى حائرة حزينة ان ارسلت عيالها الى ابيهم ضاعوا وان استدامت بقاءها بهم عند اهلها سئموا وملوا ، وحتى الخطاب يمتنعون عن الزواج بها مهما كان من حسنها وجمالها من أجل عيالها لعلمهم انهم يكونون عبئاً ثقيلاً عليهم فتبقى أيما مدة شبابها تتجرع غصص الفاقة والذل في سبيل تربية عيالها وصار زوجها بمثابة من حملها ثم أهملها .
وفي الحديث ان النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( كفى بالمرء اثماً أن يضيع من يمون ) فهذه معاملة غالب الناس في حال التزوج بالجدد من النساء ووقوع الطلاق منه على ام عياله كأنهم لم يفهموا حكمة الله في مشروعية الطلاق والانفاق وهؤلاء يعتبرون من النذلاء الرذلاء الذين ساءت طباعهم وفسدت اوضاعهم فلا اخلاق ولا انفاق ولا كرم وفاق .
ويستثنى من ذلك ذوو الشرف واليسار ومن لهم حظ ونصيب من الكرم والاخلاق فانهم قد ينفقون النفقات الكثيرة على مطلقاتهم واولادهم اتباعاً لاداء ما وجب عليهم وزيادة في الفضل وهؤلاء يندر وجودهم وهذا كله يعود الى التخلق بمحاسن الاخلاق ، لان الله سبحانه فاوت بين الخلق في الاخلاق كما فاوت بينهم في الارزاق ومن الدعاء المأثور : اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لاحسنها الا أنت واصرف عني سيئها لا يصرف عن سيئها الا أنت والله اعلم ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
حرر في 4 جمادى الآخرة سنة 1396هـ(/8)
حكمة إرسال الرسل
الشيخ : محمد صالح العثيمين
لما كان العقل البشري لا يتمكن من عبادة الله - تعالى - على الوجه الذي يرضاه ويحبه، وكذلك لا يستطيع التنظيم والتشريع المناسب للأمة على اختلاف طبقاتها؛ إذ لا يحيط بذلك إلا الله وحده؛ كان من حكمة الله ورحمته أن أرسل الرسل وأنزل الكتب لإصلاح الخلق وإقامة الحجة عليهم، قال - تعالى -: (رُسُلاً مُّبَشِّرِينَ ومُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء: 165].
فحكمة إرسال الرسل تتلخص في: الأول: إقامة الحجة على الخلق حتى لا يحتج أحد على الله فيقول (لَوْلا أَرْسَلْتَ إلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ ونَخْزَى) [طه: 134]، لقد قطع الله هذه الحجة من أساسها بإرسال الرسل وتأييدهم بالآيات البينات الدالة على صدقهم وصحة نبوتهم وسلامة طريقتهم.
الثاني: توجيه الناس وإرشادهم لما فيه الخير والصلاح لهم في دينهم ودنياهم؛ فإن الناس مهما أوتوا من الفهم والعقل والذكاء لا يمكنهم أن تستقل عقولهم بالتنظيم العام المصلح للأمة بأكملها كأمة متماسكة متكافئة متساوية في إعطاء ذي الحق حقه، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (مثلي كمثل رجل استوقد ناراً فلما أضاءت ما حولها جعل الفَرَاش - وهي الدواب التي تقع في النار - يقعن فيها وجعل يحجزهن ويغلبنه فيها فأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها ) رواه البخاري.
فالرسل يذودون الناس عما يضرهم ويدعونهم إلى ما ينفعهم.
الثالث: جمع الأمة على دين واحد ورجل واحد، فإن انقياد الناس لما يشاهدونه من الآيات المؤيدة للأنبياء أسرع وأقوى وأشد تماسكاً؛ فإنهم يجتمعون عليه عن عقيدة راسخة وإيمان ثابت فيحصل الصلاح والإصلاح.
تأييد الرسل بالآيات وكوْنها من جنس ما شاع في عصرهم: لو جاء رجل من بيننا وقال إنه نبي يُوحَى إليه، وأن طاعته فرض، وأن من عصاه فله النار، ومن أطاعه فله الجنة، ثم نظم قوانين، وسن سنناً، وقال امشوا على هذه النظم، وإلا فلكم النار؛ ما كان أحد ليقبل منه - مهما بلغ في الصدق والأمانة - حتى يأتي ببرهان يدل على صدقه، فلو رد أحد دعوة هذا المدعي الذي لم يأتِ ببرهان على صدقه ما كان ملوماً، فالقضية التي تسلم بها العقول أن المدعي عليه البينة وإلا فلا يجب قبول مدَّعاه.
وإتماماً لإقامة الحجة بالرسل على الخلق أيد الله رسله بالآيات المبينات الدالة على صدقهم، وأنهم رسل الله حقاً، فاصطفى الله للرسالة من الناس من يعلم أنه أهل للرسالة وكفؤ لها ومستطيع للقيام بأعبائها والصبر على مكائد أعدائها (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) [الحج: 75]، (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) [الأنعام: 124]، فاصطفى الرجال الكُمَّل الأقوياء أهل الحضارة واللين والفهم (ومَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ القُرَى) [يوسف: 109] (أي أهل المدن)، فإن القرية هي المدينة كما سمى الله مكة قرية (وكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَتِي أَخْرَجَتْكَ) [محمد: 13]، وسماها أم القرى (لِتُنذِرَ أُمَّ القُرَى ومَنْ حَوْلَهَا) [الأنعام: 92].
وما بعث الله رسولاً إلا أيده بالآيات على صدق رسالته وصحة دعواه، قال الله - تعالى -: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ) [الحديد: 25]، أي بالآيات البينات الواضحات التي لا تدع مجالاً للشك في صدق ما جاء به الرسول المرسل؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ما من نبي من الأنبياء إلا قد أُعطي من كل الآيات ما آمن على مثله البشر) رواه البخاري ومسلم.(/1)
وهذا من حكمة الله العليا ورحمته بعباده أن أيد الرسل بالآيات لئلا يبقى أمرهم مشكلاً؛ فيقع الناس في الحيرة والشك ولا يطمئنون إلى ما جاءوا به، وهذه الآيات التي جاء بها الرسل لابد أن تكون خارجة عن طوق البشر؛ إذ لو كانت في استطاعتهم ما صح أن تكون آية لإمكان البشر أن يدَّعي الرسالة ويأتي بها إذا كانت تحت قدرته، ولكن آيات الرسل لا يمكن للبشر أن يأتوا بمثلها وقد جاءت كبريات الآيات من جنس ما برز به أهل العصر الذي بعث فيه ذلك الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما قرر ذلك أهل العلم، واستشهدوا على ذلك بآيات موسى وعيسى ومحمد - عليهم الصلاة والسلام - فإن عهد موسى ترقَّى فيه السحر حتى بلغ السحرة الغاية في المهارة والحذق؛ فكان من أكبر الآيات التي جاء بها موسى ما يربو على فعل السحرة وهو يشبه في ظاهره السحر وإن كان يختلف اختلافاً كبيراً؛ لأن ما جاء به موسى حقيقة ما يراه الناظر، بخلاف السحر فإنه يخيَّل للناظر وليست حقيقته كما يراه، فكان من الآيات التي جاء بها موسى عصاه التي يلقيها فتكون حية ثعباناً، ويأخذها فتعود في يده عصاه الأولى، وقد ألقاها عند فرعون حين دعاه إلى الإيمان بالله، وكذلك كان موسى يُدخل يده في جيبه فتخرج بيضاء من غير سوء، أي من غير عيب وبرص، وقد أخرجها كذلك عند فرعون حين دعاه إلى الإيمان بالله، فلما رأى فرعون هاتين الآيتين كابر وقال للملأ حوله: (إنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) [الأعراف]، وقد ألقى موسى عصاه كذلك عندما ألقى السحرة حبالهم وعصيهم في المجتمع العظيم الذي قرره موسى حسب طلب فرعون أن يجعل بينه وبينه موعدا ليغالبه في سحره كما زعم فلما اجتمع السحرة وألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون؛ فجاءوا بسحر عظيم حتى كانت تلك الحبال والعصي يخيل إلى رائيها أنها تسعى؛ ألقى موسى عصاه بأمر الله - تعالى - فإذا هي تلقف ما يأفكون فتلْتهم هذه الحبال والعصي عن آخرها، فعلم السحرة - وهم أهل السحر وأعلم الناس به - أن ما جاء به موسى ليس بسحر وإنما هو من الأمور التي لا يمكن للبشر معارضتها (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ العَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وهَرُونَ) [الشعراء: 46-48].
وكذلك كان لهذه العصا مجال آخر حينما كان موسى يستسقي لقومه فيضرب بها الحجر فيتفجر منه اثنتا عشرة عيناً بقدر قبائل بني إسرائيل.
وكان لها مجال آخر أيضاً حينما وصل موسى وقومه إلى البحر وخلفهم فرعون بجنوده فأوحى الله إليه أن اضرب بعصاك البحر فانفلق اثني عشر طريقا فسلكه موسى وقومه فنجوا.
وفي زمن عيسى - عليه الصلاة والسلام - كان علم الطب مترقياً إلى حد كبير؛ فجاءت آياته بشكل ما كان مترقياً في عهده من الطب إلا أنه أتى بأمر لا يستطيع الطب مثله، فكان يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فتكون طيراً بإذن الله، والناس يشاهدون ذلك، وكان أيضاً يبرىء الأكمه - وهو الذي خُلق أعمى - ويبرىء الأبرص بإذن الله - تعالى - وهذان المرضان من الأمراض التي لا يستطيع الأطباء في ذلك الوقت - وإلى هذا الوقت فيما أعلم - أن يبرئوهما، بل قال بعض العلماء إنه إنما سمي المسيح؛ لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برِىء وذكر في القرآن أن عيسى يحيي الموتى بإذن الله، وفى آية أخرى يُخرج الموتى وهذان عملان مختلفان؛ العمل الأول إحياء الموتى قبل دفنهم، والثاني إحياؤهم وإخراجهم من قبورهم بعد الدفن، ولا ريب أن هذه الآيات التي أُعطيها عيسى - عليه الصلاة والسلام - يعجز عن مثلها البشر؛ فتأييده بها دليل وبرهان على أنه رسول من الله الخالق القادر عليها.
وقد يؤيد الله الرسل بآيات أخرى ولكن أبرز الآيات وأعظمها يكون من جنس ما شاع في عصر الرسول؛ ولذا أيد الله رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - بآيات كثيرة أبرزها وأعظمها هذا القرآن الكريم، الذي هو كلام رب العالمين، (لا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ولا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فُصلت: 42]؛ لأنه شاع في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - فن البلاغة والفصاحة وصار البيان والفصاحة معترك الفخر والسيادة كما يعلم ذلك من تتبع التاريخ.
معجزات الأنبياء: معجزات الأنبياء هي الآيات التي أعجزوا بها البشر أن يأتوا بمثلها، والله - تعالى - يسميها آيات، أي علامات دالة على صدق الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - فيما جاءوا به من الرسالة.
والمعجزة - في اصطلاح العلماء -: (أمر خارق للعادة (أي جارٍ على خلاف العادة الكونية التي أجراها الله - تعالى - في الكون)، سالم عن المعارضة، يُظهره الله - تعالى - على يد الرسول تأييداً له)، مثل انشقاق القمر، ونبع الماء من أصابع يد النبي - صلى الله عليه وسلم - وغير ذلك مما سيمر بك.(/2)
فالأمر الجاري على وفق العادة لا يسمى معجزة، كما لو قال قائل أريكم معجزة أن لا يمضي ساعة حتى تطلع الشمس، وكان ذلك قبل طلوع الشمس بأقل من ساعة، فإن الشمس إذا طلعت في زمن طلوعها لا يعد طلوعها معجزة لهذا القائل؛ لأن طلوعها في وقته على وفق العادة وليس خارقاً للعادة.
وإذا كان الشيء الخارق للعادة غير سالم من المعارضة فلا يسمى معجزة، مثل الأمور التي تقع من السحرة والمشعبذين ونحوهم؛ لأن الأمور التي يأتون بها يمكن معارضتها بفعل ساحر أو مشعبذ آخر.
وإذا كان الشيء الخارق للعادة جارياً على يد ولي من الأولياء فلا يسمى معجزة اصطلاحاً، وإنما يسمى كرامة، ولكن هذه الكرامة الحاصلة للولي هي في الواقع معجزة للرسول الذي كان الولي متبعا له؛ إذ الكرامة دليل على صحة طريقة ذلك الولي.
فوائد آيات الأنبياء ومعجزاتهم: إن الآيات التي جاء بها الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ذات فوائد كثيرة نلم منها بما يلي: 1- بيان قدرة الله - تعالى - فإن هذه الآيات لابد أن تكون أمورا خارقة للعادة كشاهد دليل على صحة ما جاء به الرسل، وإذا كانت خارقة للعادة كانت دليلاً على قدرة الخالق وأنه قادر على تغيير مجرى العادة التي كان الناس يألفونها، ولذا تجد المرء يندهش عند هذه الآيات ولا يمكنه إلا أن يصدق برسالة الرسول الذي جاء بها حيث جاء بما لا يقدر عليه أحد سوى الله - عز وجل -.
2 - بيان رحمة الله بعباده؛ فإن هذه الآيات التي يرونها مؤيدة للرسل تزيد إيمانهم وطُمأنينتهم لصحة الرسالة ومن ثم يزداد يقينهم وثوابهم ولا يحصل لهم حيرة ولا شك ولا ارتباك.
3 - بيان حكمة الله البالغة؛ حيث لم يرسل رسولاً فيدعه هملاً من غير أن يؤيده بما يدل على صدقه وإن المرء لو أرسل شخصاً بأمر مهم من غير أن يصحبه بدليل أو أَمارة على صحة إرساله إياه لعُدّ ذلك سفهاً وموقفاً سلبياً من هذا الرسول، فكيف برسالة عظيمة من أحكم الحاكمين؟ !، إنها لابد أن تكون مؤيدة بالبراهين والآيات البينات.
4 - رحمة الله بالرسول الذي أرسله الخالق؛ حيث ييسر قبول رسالته بما يجريه على يديه من الآيات ليتسنى إقناع الخلق بطريقة لا يستطيعون معارضتها ولا يمكنهم ردها إلا جحوداً وعناداً؛ قال الله - تعالى - (فَإنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ)، أي لما يرون من الآيات الدالة على صدقك، (ولَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) [الأنعام: 33].
5 - إقامة الحجة على الخلق؛ فإن الرسول لو أتى بدون آية دالة على صدقه لكان للناس حجة في رد قوله وعدم الإيمان به، فإذا جاء بالآيات المقنعة الدالة على رسالته لم يكن للناس أي حجة في رد قوله.
بيان أن هذا الكون خاضع لقدرة الله وتدبيره، ولو كان مدبراً لنفسه، أو طبيعة تتفاعل مقوماتها وتظهر من ذلك نتائجها وآثارها - لما تغيرت فجأة واختلفت عادة بمجرد دعوى شخص لتؤيده بما ادعاه.
فانظرْ إلى الأكوان الفلكية التي لا تتغير بعوامل الزمن إلا بإرادة الله، ولقد أجراها الله - تعالى - كما قدر لها أن تجري منذ خلقها الله حتى يأذن بانتهائها.
آيات النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -: قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في كتابه (الجواب الصحيح لمن بدَّل دين المسيح): (والآيات والبراهين الدالة على نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- كثيرة وهى أكثر وأعظم من آيات غيره من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ويسميها من يسميها من النظار (معجزات)، وتسمى (دلائل النبوة) و (أعلام النبوة) ونحو ذلك، وهذه الألفاظ التي سميت بها آيات الأنبياء كانت أدل على المقصد من لفظ المعجزات؛ ولهذا لم يكن لفظ المعجزات موجوداً في الكتاب والسنة، وإنما فيه لفظ الآية والبينة والبرهان).
قال - رحمه الله -: (والآيات نوعان منها ما مضى وصار معلوما بالخبر، ومنها ما هو باقٍ إلى اليوم كالقرآن والإيمان والعلم اللذيْن في أتباعه، وكشريعته التي جاء بها..).
ومن هذه الآيات:
1- القرآن الكريم وهو أعظم آيات النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه الآية السابقة الباقية، فمنذ أوحى الله إليه به حتى اليوم وهو آية شاهدة على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
فالقرآن كلام الله - تعالى - لفظاً ومعنى، تكلم الله به نفسه كلاماً حقيقياً؛ فأوحاه إلى جبريل، ثم نزل به جبريل على قلب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فوعاه وحفظه، وتكفل الله له بحفظه؛ حيث قال: (إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وقُرْآنَهُ (17) فَإذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) [القيامة: 17-19].
وإذا كان الله قد تكفل ببيانه؛ فمعناه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - سيحفظه ويعيه حتى يبلغه للناس ويبينه لهم، قال - تعالى -: (إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر: 9].(/3)
والقرآن آية من آيات النبي - صلى الله عليه وسلم - الدالة على صدقه من عدة أوجه: الأول: عجز الخلق كلهم أن يأتوا - مجتمعين أو منفردين - بمثل هذا القرآن؛ قال الله - تعالى -: (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنسُ والْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ولَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [الإسراء: 88]، يعني لا يمكن أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم معيناً لبعض؛ وذلك لأن القرآن كلام الله ولا يمكن أن يماثله شيء من كلام المخلوقين، لا من حيث اللفظ، ولا من حيث المعنى، ولا من حيث التأثير، ولا من حيث الثمرة والآثار الحميدة.
الثاني: من حيث اللفظ في قوته ورصانته وتركيبه وأسلوبه ونظمه وبيانه ووضوحه وشموله للمعاني العديدة الواسعة التي لا تزال تظهر عند التأمل والتفكير، حتى إنك لتسمع الآية التي ما تزال تقرؤها فينقدح لك منها معنى جديد كأنك لم تسمع الآية من قبل وكأن الآية نزلت لتوّها من أجله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (نفس نظْم القرآن وأسلوبه عجيب بديع، ليس من جنس أساليب الكلام المعروفة، ولم يأتِ أحد بنظير هذا الأسلوب، فإنه ليس من جنس الشعر ولا الرجز ولا الرسائل ولا الخطابة، ولا نظمه نظم شيء من كلام الناس عربهم وعجمهم، ونفس فصاحة القرآن وبلاغته هذا عجيب خارق للعادة ليس له نظير في كلام جميع الخلق).
وقال الشيخ محمد رشيد رضا - في كتابه (الوحي المحمدي): (إن القرآن لو أُنزل بأساليب الكتب المألوفة المعهودة وترتيبها لفقد بهذا الترتيب أخص مراتب إعجازه المقصود بالدرجة الثانية).
وقال: (لو كان القرآن مرتباً مبوباً - كما ذكر - لكان خالياً من أعظم مزاياه شكلاً وموضوعاً، يعلم هذا وذاك مما نبينه من فوائد نظمه وأسلوبه الذي أنزله به رب العالمين العليم الحكيم الرحيم، وهو مزج تلك المقاصد كلها بعضها ببعض، وتفريقها في سوره الكثيرة الطويلة منها والقصيرة بالمناسبات المختلفة، وتكرارها بالعبارات البليغة المؤثرة في القلوب المحركة للشعور المنافية للسآمة والمَلَل)...
إلى أن قال: (والقابلة لأنواع أخرى من الإلقاء الخطابي في الترغيب والترهيب والتعجب والتعجيب والتكريه والتحبيب والزجر والتأنيب واستفهام الإنكار والتقرير والتهكم والتوبيخ بما لا نظير له في كلام البشر من خطابة ولا شعر ولا رجز ولا سجع، فبهذا الأسلوب الرفيع في النظم البديع وبلاغة التعبير الرفيع كان القرآن كما ورد في معنى وصفه، لا تبلى جدته ولا تخلقه كثرة الترديد). اهـ.
الوجه الثالث من إعجاز القرآن من حيث أهدافه العالمية وآدابه الكاملة وتشريعاته المُصلحة، فقد جاء بإصلاح العقيدة من الإيمان بالله وبما له من الأسماء والصفات والأفعال، والإيمان بجميع ملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وما يتعلق بذلك، وجاء بإخلاص العبادة لله وتحرير الفكر والعقل والشعور من عبادة غير الله والتعلق به خوفاً ورجاءً ومحبة وتعظيماً.
وجاء بالآداب الكاملة - التي يشهد بكمالها وصلاحها وإصلاحها كل عقل سليم - أمر بالبر والصلة والصدق والعدل والرحمة والإحسان، ونهي عن كل ما يخالف ويناقض من الظلم والبغي والعدوان..
أما تشريعاته فناهيك بها من نظم مصلحة للعباد والبلاد في المعاش والمعاد، وإصلاحاً في العبادة، وإصلاحاً في المعاملة في الأحوال الشخصية والاجتماعية والاقتصادية والفردية والكمالية، فيما لو اجتمع الخلق كلهم على سنّ نظم تماثلها أو تقاربها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
الوجه الرابع من إعجاز القرآن قوة تأثيره في النفوس والقلب؛ فإنه ينفذ إلى القلب نفوذ السهم في الرمية، ويسيطر على العقول سيطرة الشمس على أفق الظلام، كما شهد بذلك المُوالي والمعادي، حتى إن الرجل العادي - فضلاً عن المتعلم - لَيسمع القرآن فيجد من نفسه جاذبية عظيمة تجذبه إليه قسراً، يعرف أن ليس هذا من كلام البشر، وقصة سماع الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة له معروفة في السيرة.
ولقد كان بعض الكبراء من قريش يأتون ليلاً خفية يستمعون إلى تلاوة النبي - صلى الله عليه وسلم - للقرآن كما جرى ذلك لأبي جهل وأبي سفيان وغيرهما.
وهذه القصص وأمثالها تدل دلالة ظاهرة على تأثير القرآن في النفوس وأخْذه بمجامع القلوب.
ولكن هذا التأثير قد لا يظهر لكل أحد، إنما يظهر لمَن كان له ذوق ومعرفة بأساليب الكلام وبلاغة اللسان. ومن يكُ ذا فم مر مريض *** يجد مُراً به الماء الزُّلالا
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - بعد أن ذكر أنواعاً من إعجاز القرآن: (وهذه الأمور مَن ظهرت له من أهل العلم والمعرفة ظهر له إعجازه من هذا الوجه ومن لم يظهر له ذلك اكتفى بالأمر الظاهر الذي يظهر له ولأمثاله كعجز جميع الخلق عن الإتيان بمثله مع تحدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وإخباره بعجزهم فإن هذا أمر ظاهر لكل أحد).(/4)
الوجه الخامس من إعجاز القرآن تلك الآثار الجليلة التي حصلت لأمة القرآن باتباعه والعمل بأهدافه السامية وتعاليمه الرشيدة، فقد ارتقى بأمة القرآن التي اعتنت به لفظاً وفهماً وتطبيقاً، ارتقى بها إلى أوج العُلى في العبادة والآداب والكرامة والعزة، لقد عرف سلف هذه الأمة قيمة هذا القرآن الكريم فكانوا لا يتجاوزون عشر آيات حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل؛ فتعلموا القرآن والعلم والعمل جميعاً، فسادوا جميع العالم، وصارت لهم العزة والغلبة والظهور والتمكين في الأرض والعلوم النافعة، مع أنهم كانوا قبل ذلك متفرقين ضالين أُميين مغلوبين بين الأمم، ولن يعود لأمة القرآن ذلك العز والظهور والغلبة حتى يرجعوا إلى المَعين الذي روي به أسلافهم، فيأخذوا منه صافيا من غير كدر، لن يعود لهم ذلك حتى يرجعوا إلى كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويتفهموها ويطبقوها، اعتقاداً وقولاً وعملاً فعلاً وكيفاً، مؤمنين بذلك، معتقدين أن هذا هو طريق الصلاح والإصلاح والسلامة.
وإن من المؤسف حقاً أن ترى الكثير من المسلمين اليوم لا يلتفتون إلى الكتاب والسنة ولا يتفهمونها، بل أكثرهم لا يقرأ من القرآن في عامه كله إلا ما يقرؤه في صلاته هذا مع قلة تفهم في اللغة العربية وآدابها وأساليبها، وليس عندهم ذوق لُغوي شرعي لكتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنا لنرجو من الله - تعالى - أن يهيئ لأمة القرآن من أمرها رشداً، وأن يبعث لها قادة فكر وسياسة لما فيه الخير والصلاح والرجوع إلى ما كان عليه السلف الصالح؛ فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها.
2-ومن آيات النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أظهره الله شاهداً على صدقه من الآيات الأفقية؛ كما قال - تعالى -: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [فصلت: 53]، ولذلك أمثلة: المثال الأول: انشقاق القمر، فقد انشق القمر وصار فرقتين، وشاهد الناس ذلك وقد أشار الله إلى ذلك في القرآن؛ قال الله - تعالى -: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وانشَقَّ القَمَرُ * وإن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا ويَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ * وكَذَّبُوا واتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ) [القمر: 1-3] وقد أجمع العلماء على وقوع ذلك في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الهجرة، وقد رآه الناس بمكة وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - حين رآه -: (اشهدوا اشهدوا)، وقدِم المسافرون من كل وجه فأخبروا أنهم رأوه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وجعل الآية في انشقاق القمر دون الشمس وسائر الكواكب؛ لأنه أقرب إلى الأرض من الشمس والنجوم، وكان الانشقاق فيه دون سائر أجزاء الفلك؛ إذ هو للجسم المستنير الذي يظهر الانشقاق فيه لكل من يراه ظهوراً لا يُتمارى فيه وأنه إذا قبِل الانشقاق فقبول محله أَوْلى بذلك وقد عاينه الناس وشاهدوه وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ هذه السورة في المجامع الكبار مثل صلاة العيدين، كل الناس يقر بذلك ولا ينكره ولو لم يكن قد انشق لأسرع الناس إلى تكذيب ذلك) اهـ.
وقد استبعد أُناس وقوع انشقاق القمر وحاولوا تحريف معنى القرآن في ذلك وقد أخطأوا خطأً كبيرا في هذا الإنكار؛ فالقرآن لا يتحمل المعنى الذي حرفوه إليه، والنصوص الثابتة الكثيرة من الأحاديث صريحة في انشقاقه انشقاقاً حسياً مشهوداً، ولا يقدح في ذلك ما زعمه بعضهم من كونه لم يُنقل في تاريخ غير التاريخ الإسلامي، فإن نقله في التاريخ الإسلامي كافٍ في ذلك، وقد جاء به القرآن الكريم، ولعل الناس الذين لم ينقلوه لم يشاهدوه، لعله وقع وهم نيام أو كانوا في النهار ولم يشعروا به، أو كان في تلك الساعة مانع من سحاب أو غيره، وقد أخبر المسافرون الذين قدموا مكة بمشاهدته وهو لم يستمر فيما يظهر وإنما كان آية شاهدها الناس ثم عاد إلى حاله الأولى.
المثال الثاني: المعراج: فإنه من أكبر الآيات؛ فلقد أُسري بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في ليلة واحدة إلى بيت المقدس، واجتمع هناك بالأنبياء، وصلى بهم، ثم عرج به جبريل حتى بلغ سدرة المنتهى فوق سبع سموات، وأوحى الله - تعالى - إليه ما أوحى، وشاهد - صلى الله عليه وسلم - من آيات الله الكبرى ما شاهد ومر بالأنبياء في كل سماء، ورجع إلى مكة، كل ذلك في ليلة واحدة، مع بُعد المسافة الأرضية بين مكة وبين بيت المقدس، ثم البعد العظيم بين السماء والأرض، وبين السماء الدنيا وما فوقها إلى سدرة المنتهى.
وقد أخبر الله - تعالى - في القرآن عن الإسراء في سورة الإسراء، وعن المعراج في سورة النجم إذا هوى.(/5)
المثال الثالث: نزول المطر باستسقائه مباشرة وإقلاع المطر باستصحائه مباشرة، ففي صحيح البخاري وصحيح مسلم عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: أصابت سنة - أي جدب - على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فَبَيْنَا النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب في يوم الجمعة قام أعرابي فقال: يا رسول الله!، هلك المال وجاع العيال، فادعُ الله لنا؛ فرفع يديه وما نرى في السماء قزعة - أي قطعة سحاب - فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحاور على لحيته، فمُطرنا يومنا ذلك ومن الغد ومن بعد الغد، حتى الجمعة الأخرى، وتام ذلك الأعرابي أو غيره فقال: يا رسول الله!، تهدَّم البناء وغرق المال فادعُ الله لنا، فرفع يديه وقال: اللهم حوالينا ولا علينا، فما يشير إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت فأقلع المطر وخرجنا نمشي في الشمس ".
ومن آيات النبي - صلى الله عليه وسلم - ما رواه البخاري وغيره عن جابر - رضي الله عنه - قال: عطش الناس يوم الحديبية، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين يديه ركوة (إناء للماء) فتوضأ منها ثم أقبل الناس نحوه فقالوا: ليس عندنا ماء نتوضأ به ونشرب إلا ما في الركوة التي عندك، فوضع النبي - صلى الله عليه وسلم - يده في الركوة، فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون، قال: فشربنا وتوضأنا، قيل لجابر: كم كنتم؟، قال: لو كنا مائة ألف لكفانا!، كنا ألفاً وخمسمائة!.
ومن آيات النبي - صلى الله عليه وسلم - تكثير الطعام كما جرى ذلك يوم الخندق وجرى ذلك لأبي هريرة مع أهل الصفة.
ومن آيات النبي - صلى الله عليه وسلم - ما وقع مطابقاً لما أخبر به - صلى الله عليه وسلم - من أمور الغيب التي وقعت في عهده وبعده ولذلك أمثلة أيضاً: المثال الأول: ما رواه مسلم عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرينا مصارع أهل بدر قبل ابتداء القتال، يقول هذا: مصرع فلان غداً إن شاء الله، هذا مصرع فلان، فوالذي بعثه بالحق ما أخطأوا الحدود التي حددها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -).
المثال الثاني: إخباره - صلى الله عليه وسلم - عن ظهور نار في أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببُصرَى، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى، فقد خرجت هذه النار في جُمادَى الآخرة سنة 654 شرق المدينة فأقامت نحواً من شهر، وملأت الأودية وشاهد الناس أعناق الإبل ببصرى (وهى بلدة بالشام)، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " وهذه النار كانت تحرق الحجر! ".
ومن أمثلة ذلك ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - مما سيكون من الفتن وتغير أحوال الناس وغير ذلك.
وآياته - صلى الله عليه وسلم - كثيرة جداً وقد ذكر أهل العلم من ذلك الشيء الكثير ومن أوسع ما رأيت في ذلك تاريخ ابن كثير - رحمه الله - حيث كتب في آيات النبي مجلداً كبيراً، وذكر أن جميع آيات الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - قد جرى مثلها للنبي - صلى الله عليه وسلم - أو ما هو أعظم منها.
وهذه الآيات التي يجريها الله على أيدي أنبيائه وأوليائه كلها شاهدة بما له - تعالى - من كمال العلم والقدرة والرحمة، وأن الأمور كلها بيده يجريها كما يشاء، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون.
فلله الحمد والمنة، - سبحانه - لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
http://www.albayan-magazine.com المصدر:(/6)
حكمة التوازن في خلق الكون وفي سنن الله الثابتة
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
التوازن ليس في فطرة الإنسان وحده. ولكن التوازن قائم في خلق الله كله، قائم في الكون كله : في السموات والأرض، في النجوم والشمس والقمر، في الجبال والوديان، في اليابسة والبحار، في الرياح والأمطار، في الثروات الموزعة في الأرض. إنه يكشف لنا دقّة التوازن وعدالته في حكمة ربانية بالغة، وإعجاز رباني بالغ.
لقد خلق الله الكون كله سمواته وأرضه على موازنة ربانية وحكمة بالغة، لتكون مسخّرة للإنسان وحياته وهدايته :
( ألم تروا أن الله سخّر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل في الله بغير علمٍ ولا هدى ولا كتاب منير )
[ لقمان : 20 ]
فهذه حكمة ربانية. أنّى التفتنا في هذا الكون نرى الآيات البينات. ويعرض القرآن الكريم في معظم سوره آياته المبثوثة في الكون ليتدبّرها الإنسان ويخشع أمام عظمة الخالق الذي لا إله إلا هو، ويرى عظمة التوازن في كلِّ ما خلق الله :
( قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك ربُّ العالمين. وجعل فيها رواسي من فوقها وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين. ثم استوى إلى السماء وهي دخانٌ فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين. فقضاهنّ سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينّا السماء الدنيا بمصابيح وحفظاً ذلك تقدير العزيز العليم )
[ فصّلت : 9ـ12 ]
وتمتدُّ الآيات الكريمة تكشف لنا صوراً شتى من التقدير الرباني المعجز :
( وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزِّله إلا بقدر معلوم )
[ الحجر : 21 ]
(.. وكلّ شيء عنده بمقدار )
[ الرعد : 8 ]
( إنا كلّ شيء خلقناه بقدر )
[ القمر : 49 ]
وخلق الله في الكون متقن غاية الإتقان، مقدّر أعظم التقدير، على أحسن تقويم :
( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم )
[ التين : 4 ]
( الذي أحسن كلَّ شئ خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين )
[ السجدة : 7 ]
( وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمرُّ مرَّ السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون )
[ النمل : 88 ]
وهكذا نرى خلق الله كله : تقدير وتقويم وإحسان وإتقان، يحمل دقة الموازنة في كل أمر.
الهواء وتركيبه ونسبة كل غاز فيه، حركة الأرض ودورانها وبعدها وموقعها بالنسبة لسائر النجوم والكواكب، النجوم والكواكب والمجرّات في كونٍ ممتد لا ندرك أطرافه ولا نهايته. الجبال الراسيات، البحار والأنهار، الليل والنهار. وبتلاوة كتاب الله يظل المؤمن مع عظمة هذا التوازن الذي يقوم عليه الكون. إنه الحقّ ! واستمع إلى هذه الآيات البيّنات :
( تبارك الذي نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً. الذي له ملك السموات والأرض ولم يتَّخذْ ولداً ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيءٍ فقدّره تقديراً )
[ الفرقان : 1،2]
وتدبّرْ هذه الآيات الكريمة :
( سبْحَان الذي خلق الأزواج كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الأرضُ ومِنْ أنفُسِهم وَمَمَّا لا يعلمون. وآيةٌ لَّهُمُ الليلُ نَسْلخُ مِنْه النهار فإذا هُم مُظْلِمون. والشمس تجرِي لمُستقَرٍ لها ذلك تقدير العزيز العليم. والقمر قدَّرناه منازل حتى عاد كالعُرْجون القديم. لا الشمس ينبغي لها أن تُدرِك القمر ولا الليلُ سابقُ النّهارِ وكُلٌّ في فلكٍ يسبحُون )
[ يس : 36 ـ 40 ]
ونلمح التوازن هنا في كلمة : " الأزواج، تجري لمستقرٍّ لها، قَدّرْناه منازل، لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر... "
( الله يَعْلمُ ما تحْمِلُ كُلُّ أنثى ومَا تَغيضُ الأرحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وكلّ شَيء عِندهُ بمِقْدَارٍ )
[ الرعد : 8 ]
وما تغيض الأرحام وما تزداد، وكل شي عنده بمقدار، تحمل كل ظلال التوازن.
( والأرض مَدَدناها وألقينا فِيها رواسي وأنبتنا فيها من كُلِ شَيء موزون. وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم لهُ برازقين. وإن من شيءٍ إِلا عندنا خزائِنه وما نُنزِلُه إلا بقدرٍ مّعلومٍ. وأرسلنا الرياح لواقِح فأنزلنا من السماء ماءً فأسقيناكموه وما أنتم له بِخازنين. وإنا لنحنُ نُحيي ونُمِيت ونحن الوارِثُون. ولقد عَلِمنا المستقدمين مِنكم ولقد علِمنا المستأخرين.
[ الحجر : 19-24 ]
جولة واسعة تعرض التوازن في الكون والحياة حتى شملت الموت والحياة، والمستقدمين والمستأخرين. وفي مد الأرض توازن، وفي إرساء الجبال، وفي كل ما تنبت الأرض، وكلُّ شيء موزون. وعند الله خزائن كلِّ شيء وما ينزله إلا بقدر معلوم، وبقدرٍ يحفظ التوازن ويُمضي سنن الله في الكون. ونلاحظ هنا عظمة الشمول في إِعجاز التعبير القرآني : " وإن من شيء إلا عندنا خزائنه... ". والموت والحياة يمضيان على سنن لله في كل ما فيها من توازن : " وإنا لنحن نحي ونميت ونحن الوارثون ".(/1)
يمضي القرآن الكريم يعرض لنا صوراً متعددة من آيات الله البينات في هذا التوازن في خلقه كله. وتمضي جهود الإنسان تضرب في آفاق الحياة لتكتشف آية بعد آية، وسنّة بعد سنّة، وتوازناً يمسكه توازن.
وجولة قرآنية أخرى :
( الرحمن.علم القرآن. خلق الإنسان. علّمه البيان. الشمس والقمر بحسبان. النجمُ والشجر يسجُدان. والسماء رفعها ووضع الميزان. ألا تطغوا في الميزان. وأقيموا الوزن بالقسط ولا تُخْسرُوا الميزان. والأرض وضعها لِلأنام )
[ الرحمن : 1-10 ]
" الشمس والقمر بحسبان " توازن محسوب وتقدير معلوم. إنه تقدير رباني ونقله واسعة " : والسماء رفعها ". ولكنه رفع على تقدير وحساب : " ووضع الميزان. ألا تطغوا في الميزان.. ". هذا التوازن الذي جعله الله من سننه ومشيئته في الكون كله، كيف يخرج عنه الإنسان بسلوكه وعمله... ؟ فكان أمر الله إليه : " ألا تطغوا في الميزان... " وسنعود لهذه الآيات الكريمة مرة أخرى.
وإِنا لَنَرى التوازن والحكمة البالغة في سنن الله الثابتة في الكون والحياة :
لقد قدّر الله سنناً ماضية في الكون والحياة، جعلها الله ثابتة رحمة منه بعباده، حتى يتعرَّفوا عليها حيناً بعد حين، فيروا التوازن والحكمة البالغة فيها :
( سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً )
[ الأحزاب : 62 ]
( هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلاً وأجلٌ مسمى عنده ثم أنتم تمترون )
[ الأنعام : 2 ]
وأيضاً : ( كلُّ نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشرّ والخير فتنة وإلينا ترجعون )
[ الأنبياء : 35 ]
( وكذلك نولّي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون )
[ الأنعام : 129 ]
( ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون )
[ الأنعام : 131 ]
وآيات بيّنات كثيرة تكشف لنا دقّة السنن الربانيّة وثباتها وعدالتها وموازنتها على حكمة ربانية بالغة. ولولا ثباتها لما عرفها الإنسان، ولا استقامت له حياة. ولا يستطع الإنسان أن يقيم موازنة له في حياته إلا إذا عرف السنن الربانيّة واستجاب لها دون أن يُصادمَها.
1ـ التوازن في سنّة الله في الحياة والموت :
لقد كان من أهم مظاهر التوازن في هذا الكون، سنّة الله في الحياة والموت، وبين الحياة الدنيا والآخرة، على حكمة ربّانية بالغة :
( تبارك الذي بيده الملك وهو على كلّ شيء قدير. الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور. )
[ تبارك : 1، 2 ]
فالحياة الدنيا دار ابتلاء وتمحيص، حتى تقوم الحجّة يوم القيامة على كل إنسان أو تقوم له. وعلى أساس ذلك يمضي الإنسان في حياته فإما إلى جنّةٍ وإما إلى نار.
( كلُّ نفس ذائقة الموت وإنما توفّون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور. )
[ آل عمران : 185 ]
هذه هي الدنيا، دار ابتلاء، ومتاع الغرور، ولعب ولهو، وزينة وتفاخر لا بقاء له. والآيات الكريمة والأحاديث الشريفة كثيرة تلحُّ بهذه القضية كأساس للتصوّر الإيماني :
( وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون )
[ الأنعام : 32 ]
وهكذا قدّر الله الحياة الدنيا والآخرة على أعظم تقدير وأحكمه وأعدله فجعل الحياة الدنيا مرحلة انتقال أو مرور إلى دار الخلود. وجعل في الحياة الدنيا مهمة على الإنسان أن يوفي بها. وأمانة عليه أن يؤديها، وعبادة عليه أن يقوم بها، وخلافة عليه أن ينهض لها لعمارة الأرض بحضارة الإيمان وبشرع الله ودينه. فما يصيب الإنسان من بلاء فإنه بما كسبت يداه لا يظلمه الله أبداً :
( إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون )
[ يونس : 44 ]
( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير )
[ الشورى : 30 ]
وتتوالى الآيات لتفصّل في هذه القضية أوسع تفصل ولتلحَّ بها كلَّ الإلحاح. وإذا كانت سنن الحياة الدنيا تمضي بقدر من الله على أدقّ موازنة وأعدلها، فإنَّ الدار الآخرة كذلك يمضي بها قدر الله على أدق موازنة وأعدل تقدير، حيث توضع الموازين القسط ولا تظلم نفسٌ شيئاً :
( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تُظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبَّة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين )
[ الأنبياء : 47 ]
وكذلك : ( والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خَفّت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون )
[ الأعراف : 9،8 ]
يحاسَب الإنسان يوم القيامة على ما عمل في الحياة الدنيا، وعلى مدى وفائه بالعهد الذي أخذه الله منه في عالم الغيب، وعلى مدى وفائه بالعبادة والأمانة والخلافة والعمارة ! ولا يمكن للإنسان أن يقيم موازنة أمينة عادلة في حياته إذا كان لا يعرف مهمته في الحياة الدنيا، ولا يعرف كيف يكون مصيره في الآخرة.
2ـ الموازنة أساس الوفاء بالأمانة والعهد :(/2)
إن الله سبحانه وتعالى جعل للإنسان مهمّة يؤديها ويوفي بها في الحياة الدنيا، وسيحاسَب على أدائها ومدى الوفاء بها يوم القيامة، كما ذكرنا قبل قليل. فالقضية الأساسية هي الوفاء بالعهد مع الله والأمانة التي حملها الإنسان والمهمّة التي خُلق الإنسان للوفاء بها في الحياة الدنيا.
إن هذه المهمّة هي تكاليف ربّانيّة تمثل أساس العهد والأمانة والعبادة. تكاليف يجب على الإنسان أن يقوم بها ويؤديها ويوفي بها.
والله هو الذي قدَّر التكاليف وفرضها على عباده، وهو الذي قدَّر الليل والنهار والوقت كله، وهو الذي قدّر وُسْعَ الإِنسان بعامَّة، ووُسْع كلِّ إنسان، وهو الذي قدّر أحداث الحياة وسنن الابتلاء في الواقع، قدّر ذلك كله أدقَّ تقدير وأعدله. وبالإضافة إِلى ذلك، فإن الله سبحانه وتعالى وفَّر برحمته لعباده كلّ العوامل التي تُعينهم على الوفاء حتى لا يبقى لأحد عذر في نقض عهد أو نكوص عن الوفاء أو كفر وضلال، وفتنة وفساد، أو الإدبار عن المهمة التي خُلِق للوفاء بها، أو عدم إقامة الموازنة في حياته.
وجاءت سنن الله في هذه الحياة الدنيا تبتلي الإنسان وتمحّصه حتى يُجلى أمره وتقوم الحجة له أو عليه. ومن خلال هذا الابتلاء من الله يُخيّل لبعض الناس أن هناك عقبات تصدُّهم عن الوفاء بالعهد والأمانة، والعبادة والخلافة، وعمارة الأرض بحضارة الإيمان، أو الموازنة في أمور حياتهم. كلاّ ! إِنها ليست عقبات تصدُّ عن الوفاء بالعهد ولكنها ابتلاء وتمحيص ليرى الله من يعدل بالموازنة.
من أجل ذلك تصبح مسؤولية الإنسان بعامّة والمؤمن بخاصة أن يقيم " الموازنة الأمينة " في حياته بين مختلف التكاليف الربانيّة التي تمثل حقيقة العهد مع الله، وحقيقة العبادة والأمانة، والخلافة والعمارة، من خلال سنّة الابتلاء.
فتصبح " الموازنة الأمينة " أساساً في حياة المؤمن وفي ممارسته الإِيمانيّة، وفي ممارسة منهاج الله في الواقع البشري، عن إيمان صادق وتوحيد صاف وعلم صادق بمنهاج الله يَرُدّ إليه الواقع لِيُفْهمَ من خلاله(/3)
حكمة الدهر
عمر بهاء الدين الأميري
لا تُضِعْ لمحةً من العمرِ iiهَدراً
وتقدّسْ بحملِ همِّ iiالبرايا
وتفاهمْ والدَّهر فهوَ iiحكيمٌ
رُبَّ عُسرٍ شكوتَ منهُ مُلِحّاً
فتشبَّثْ مُسلِّماً iiلقضاءِ ... وارتفعْ عن كثافةِ الأرضِ iiقَدْرا
واسألِ اللهَ فوقَ صبركَ iiصَبرا
لا تقلْـ: جارَ! إنه بك iiأدرى
يُضمرُ الدَّهرُ في خفاياهُ iiيُسرا
اللهِ وادأبْ في السعي –يا عبدُ- حُرّاً(/1)
حل ..... لكنه كارثة!! [2]
وكأنني بك عزيزي الشاب قد أصابك بعض اليأس والإحباط وأنا أغلق عليك منافذ الحل للنجاة من هذه الضغوطات المتلاحقة من الداخل والخارج وأنت تتساءل أليس هناك من حل؟
وهنا يمكنني الإجابة على السؤال الأول: هل هذا هو الحل حقًا؟
وتعالى نجتمع على مجموعة من المسلمات:
1ـ قال تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً} [النساء:147]، فالله تعالى لم يخلقنا ليعذبنا وليجعلنا نعاني وبالتالي فلم يخلق الشهوة فينا بدون خلق المسالك التي تصرف فيها طاقتها.
2ـ بلغت صور الفساد والانحلال الأخلاقي قبل البعثة وفي عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حدًا عظيمًا والأدلة كثيرة منها:
أـ إحاطة أمة الفرس والروم بأمر العرب وانتشار الزنا والانحلال حتى عرفت عند العرب صاحبات الرايات الحمر، وهي بعض أشكال تقنين الزنا وإباحته.
ب ـ أنواع ا لزواج ويتضح من خلال حديث أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ حيث أخبرت أنه على أربعة أشكال:
1ـ نكاح الناس اليوم.
2ـ الرجل يأمر امرأته بعد طهرها بالنوم مع رجل آخر ثم يعتزلها حتى يتبين حملها فإن شاء أصابها، والغرض منه نجابة الولد!!! 'نكاح الاستبضاع'.
3ـ اجتماع الرجال أقل من العشرة على امرأة يصيبونها وتلحق ولدها بمن تحب.
4ـ البغايا يدخل عليهن من شاء ثم يلحقن الولد بمن يحدد القائف [أو من يعرف الشبه].
ج ـ الحديث عن الزنا وحده وعقوبته في الدنيا والآخرة والتحذير منه عشر مرات في القرآن الكريم.
د ـ استئذان الصحابة للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الاختصاء [وهو إزالة الخصيتين لإيقاف الشهوة] واستئذان الشاب في الزنا كما في حديث البخاري.
إذن فضغط الشهوة كان شديدًا على عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا أننا نفاجئ بعدم التوجيه من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للصحابة إلى الاستمناء أو العادة السيئة كوسيلة للتخفيف من هذا الضغط.
3ـ ينبغي كذلك التنبيه أن القدرة على الزوج لم تكن بالسهولة التي يتخيلها البعض ممن يحبون أن يشعروا أنهم في زمن صعب لم يكن له مثيل فمع أن تكاليف الزواج وأعبائه في الماضي لم تكن تبلغ حجمها في الحاضر إلا أننا نفاجئ أن حال الشباب لم يكن يختلف كثيرًا عن حاله اليوم، ويتضح ذلك من مشاهد كثيرة من السيرة النبوية لصحابة يزوجهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما يحفظون من القرآن أو بخاتم من حديد أو بدرع وسلاح كما فعل مع علي بن أبي طالب، إذن فقد كان هناك شباب تحيط بهم الفتن وهم في أوج قوتهم وشهوتهم مع التأكيد كذلك أن الحجاب لم يفرض إلا في السنة الثانية من الهجرة، وهو للحرائر ويلزم الإماء كشف وجوههن ورءوسهن.
4ـ ليست جديدة: لقد كان العرب يعرفون العادة السيئة منذ زمن، فقد نجد البعض اليوم ينادون بأنها لم تكن معروفة لهم لذا لم يتم التوجيه النبوي لها، كلا فقد كانت معروفة باسم 'جلد عميرة' وهو اسم غريب في معناه ومبناه ولكنهم كانوا ينظرون إليها على أنها منقصة ودلالة على عدم اكتمال الرجولة الذي كانوا يعتبرورن الزنا مقياسًا لاكتماله ودلالة على الفحولة.
5ـ قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً....}[النحل: 97] هذا الوعد من الله تعالى لمن عمل صالحًا بتحصيل الحياة الطيبة كفيل بالتأكيد على إيجاد هذا الحل لهذه الأمة الحقيقية أزمة الشهوة والتعامل معها.
6ـ قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ [[ما أنزل الله من داء إلا وأنزل له دواء ....]] إذن فالمشكلة أنا لم نحسن البحث عن الحل أو بالأصح لم نبحث عنه في مكانه السليم، أو كنا غير راغبين في بذل الجهد للبحث عن الصواب.
7ـ {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ} {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ} {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّه} ...
أين نحن من الدعاء بالعفة والطهارة، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: [[من لم يسأل الله يغضب عليه]].
8ـ لا بد من التأمل في التوجيهات الربانية القرآنية وكذا النبوية في السنة للحلول الجذرية لمسألة الشهوة.
أـ قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ...ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [النساء:25].
ب ـ قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ[5]إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ[6]فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:5ـ7].
فهو الزواج أو ملك اليمين وليس غيرهما إلا الاعتداء والتجاوز.(/1)